المناظر الناظره فی احکام العتره الطاهره : کتاب الطهاره

اشارة

سرشناسه : علوی گرگانی، سیدمحمدعلی، 1317 -

عنوان قراردادی : شرایع الاسلام فی مسائل الحلال والحرام .برگزیده .شرح

عنوان و نام پدیدآور : المناظر الناظره فی احکام العتره الطاهره : کتاب الطهاره/ لمولفه محمدعلی العلوی الحسینی.

مشخصات نشر : قم : فقیه اهل بیت (ع)، 1395.

مشخصات ظاهری : 10ج.

شابک : 1500000 ریال: دوره:978-600-8363-14-9 ؛ ج.1:978-600-8363-04-0 ؛ ج.2:978-600-8363-05-7 ؛ ج.3:978-600-8363-06-4 ؛ ج.4:978-600-8363-07-1 ؛ ج.5:978-600-8363-08-8 ؛ ج.6:978-600-8363-09-5 ؛ ج.7:978-600-8363-10-1 ؛ ج.8:978-600-8363-11-8 ؛ ج.9:978-600-8363-12-5 ؛ ج.10:978-600-8363-13-2

وضعیت فهرست نویسی : فیپا

یادداشت : عربی.

یادداشت : این کتاب شرحی است بر شرایع الاسلام فی مسائل الحلال والحرام محقق حلی

یادداشت : کتابنامه.

موضوع : محقق حلی، جعفربن حسن، 602 - 676ق . شرایع الاسلام فی مسائل الحلال والحرام -- نقد و تفسیر

موضوع : فقه جعفری -- قرن 7ق.

موضوع : *Islamic law, Ja'fari -- 13th century

موضوع : طهارت (فقه)

موضوع : *Taharat (Islamic law)

شناسه افزوده : محقق حلی، جعفربن حسن، 602 - 676ق . شرایع الاسلام فی مسائل الحلال والحرام. شرح

رده بندی کنگره : BP182/م3ش4023716 1395

رده بندی دیویی : 297/342

شماره کتابشناسی ملی : 4223362

ص: 1

المجلد 1

اشاره

ص:2

ص:3

بسم الله الرحمن الرحیم

ص:4

ص:5

وبه نستعین

الحمد للّه ربّ العالمین ، والصلاة والسلام علی خیر خلقه وأشرف بریّته محمّد وآله الطیّبین الطاهرین ، لا سیّما بقیّة اللّه فی الأرضین وحجّته علی العالمین ، واللعنة علی أعدائهم أجمعین إلی قیام یوم الدِّین .

أما بعد : _ فهذا جزء مبارک من المباحث الفقهیة من دراسات مرحلة الخارج حیث قد جعلنا تعلیقتنا وبیان مستنبطاتنا علی متن کتاب المحقّق الأوّل _ أعلی اللّه مقامه الشریف _ المسمّی ب_ «شرائع الإسلام» لسهولة تناوله وکثرة التعلیقات علیه من فقهائنا رضوان اللّه علیهم أجمعین . ونسأل اللّه تبارک وتعالی التوفیق والسداد ، والهدایة إلی طریق الخیر والرشاد ، ونعوذ به من الزلل فی الأقدام ، والاعوجاج فی الافهام «وَهُوَ القَاهِرُ فَوقَ عِبادِه وَیُرْسِلُ عَلَیکُم حَفَطَةً» . ونسأله بحق أولیائه المقربین ، لا سیما بقیة اللّه فی الأرضین ، أن یحفظنا وینصرنا ویوفّقنا لبلوغ ما هو الحقّ والرضا عنده ، وأن لا یجعل الدنیا أکبر همّنا ولا مبلغ علمنا ، ولا یسلط علینا من لا یرحمنا ، بجاه محمّد وآله الطاهرین ، صلوات اللّه علیه وعلیهم أجمعین ، آمین یا رب العالمین .

وقد کان تاریخ الشروع یوم الأربعاء لخمس مضین من شهر ذی الحجّة الحرام ، سنة ألف وأربعمائة وأربعة للهجرة النبویّة الشریفة .

بید الأقل

محمّد علی العلوی الحسینی الگرگانی

ص:6

کتاب الطهارة

قال المحقّق قدس سره : الطهارة اسم للوضوء أو الغسل أو التیمّم علی وجه له تأثیر فی استباحة الصلاة .(1)

(1) الطهارة فی اللغة هی النظافة والنزاهة ، ویطلق علیها فی الفارسیة ب «پاکیزگی و پاکی» ، ویقابلها «القذارة» ، وهی بمعنی النجاسة ، المعبّر عنها فی الفارسیة ب «پلیدی» ، والتی ینفر عنها طبع الإنسان ویعرض عنها کما فی «القاموس» و«الطرار» و«المنجد» وغیرها من المعاجم اللغویة . الطهارة مصدر ، وهی أحد المصادر الثلاثة من طَهُر (بضم العین) أو طَهَر (یفتحها) ، والمصدران الآخران هما : طهر وطهور ، ویطلق علی الأوّل اسم المصدر أیضا کما فی «الجواهر» . فثبت من قول أهل اللّغة ، أن الطهارة فی استعمالها الحقیقی : النظافة والنزاهة مطلقا ، وإن استعملت اللّفظة کثیرا فی لسان أهل الشرع والعرف فی خصوص الطهارة عن الحدث ، بل لقد کثر استعمالها فی ذلک بحیث توهم البعض کونها منحصرة فی معنی الطهارة عن الحدث .

وعلی هذا لابدّ من ملاحظة حال الاستعمالین : وهل هو حقیقة فی کلیهما ؟ أو حقیقة فی الطهارة عن الخبث فقط ، ومجاز فی غیرها ؟

أو تکون حقیقة مستعملة فی القدر المشترک بینهما ، بحیث یکون الاشتراک معنویا لا لفظیا ، کما هو الحال فی الأوّل ؟

تعریف الطهارة

فیه وجوه وأقوال ، أولاها الثانی ، لوضوح أنّه لم یکن للطهارة بالمعنی الثانی قبل جعل الشارع المقدّس وتشریعه لها ، عینٌ ولا أثر ، والشارع المقدّس استعملها مجازا ، وکثر الاستعمال فی ذلک بحیث لا یبعد دعوی صیرورته حقیقة متشرعة فی المعنی الثانی فی غیر زمان الشارع لو لم نسلم الحقیقة الشرعیة فی

ص:7

مثل تلک الألفاظ . وأمّا کونها حقیقة فی المعنیین ، فقد ظهر ممّا ذکرنا فساده ، لعدم کون المعنی الثانی عند أهل اللغة معهودا حتی یوضع علیه اللّفظ ، کما لا یخفی . فلو استعمل فیه فقط ، أو فی القدر المشترک ، کان مجازا أو منقولاً ، کما ادّعاه البعض ، کالهمدانی فی «مصباح الفقیه» فی الأوّل منهما .

وإن کان الثانی أولی عند صاحب «الجواهر» قدس سره دون أن یشیر إلی أنّه کان مجازا فیه أو لم یکن .

فإذا بلغ الکلام إلی هنا ، فلا بأس من الإشارة إلی الوجوه أو الأقوال الموجودة ، فنقول :

الأوّل : وهو الذی ذهب إلیه کثیر من الأصحاب ، أنّ الطهارة فی لسان الشرع وإطلاقاته ضد النجاسة بمعناها المتعارف عند المتشرِّعة .

الثانی : أنّ المراد منهما أعمّ مما سبق ، بأن تشمل الطهارة ما ذکر ومن الأثر الشرعی الحاصل من الوضوء وغیره ، یعنی النظافة المعنویة الموجبة لإباحة الصلاة .

الثالث : أنّ المراد خصوص الآثار الشرعیة المترتّبة علی الوضوء وغیره بل کثیرا ما یراد من استعمالات أهل الشرع لهذا اللفظ ، خصوص هذه الأفعال : أی الوضوء والغسل والتیمّم ، بحیث صار حقیقة فی ذلک عندهم .

الرابع : أنها اسم لهذه الأفعال لا مطلقا ، بل إذا کان لها تأثیرا فی إباحة الصلاة ، کما تری ذلک فی کلام المصنف ، والمحقّق فعلیه یلزم أن لا تشمل لمثل وضوء الحائض ، والجنب ، والأغسال المندوبة علی المشهور ، والتیمّم للنوم ، وإن استعمل فیها علی الظاهر ، کان من باب تسمیة المسبب باسم سببه ، أی تکون هذه الأمور سببا للاستباحة .

والخامس : أن تکون الطهارة اسما منقولاً لخصوص الطهارة المبیحة للصلاة .

وهذا هو المستفاد من ظاهر کلام صاحب «المصباح» . فعلیه یلزم أن یکون

ص:8

المعنی الأوّل مهجورا ، بل قد یقرّر فی محلّه بأنّ أثر النقل کون الاستعمال فی المعنی المنقول عنه مجازا . ولا یخفی أنّ الثانی من هذه الوجوه یتصوّر علی وجهین :

تارةً تستعمل فی الأعمّ ، أی القدر المشترک والجامع ، فیمّسی مشترکا معنویا .

وأخری : تستعمل فیه ، بمعنی تعدّد الاستعمال حقیقة حتی یکون مشترکا لفظیّا .

والأوّل هو مختار العلاّمة والشهید الثانی ، وبعض شرّاح الألفیة .

والثانی هو المستفاد من ظاهر کلام المحقّق قدس سره کما فی «مفتاح الکرامة» .

هذا إذا ثبت وتحقّق القول بأحد الاُمور السابقة ، ولم یحصل الشک فی تعیین أحد المصادیق السابقة من الأدلّة الموجودة عند کلّ من یدّعی وجها من الوجوه . وأمّا لو شککنا فی ذلک ، ولم نقف علی حقیقة معنی الطهارة واستعمالها فی إحدی المعانی المذکورة ، فلابدّ حینئذ من الرجوع إلی الأصل الجاری فی مثل هذه الأمور . والظاهر أنّ کون المعنی الأوّل ، هو الحقیقی اللغوی الأوّلی ممّا لا إشکال فیه ، ولعلّه ممّا تسالم علیه الجمیع ، کما یشهد مراجعة کتب أهل اللغة . کما لا إشکال فی وقوع استعمال لفظ الطهارة فی غیر المعنی الأوّل أی المعنی الثانی ، وهو الطهارة بمعنی الوضوء وغیره بأیّ وجه من الوجوه المذکورة ، وإنمّا الإشکال والکلام فی أنّ الاستعمال فی غیر المعنی الأوّل هل هو حقیقیٌ أم مجازی ؟

والظاهر عندنا کونه مجازا لغویا ، وانْ یعدّ حقیقة شرعیة إذا استعمل فی الثانی ، لو سلّمنا بوجودها فی مثل هذه الألفاظ ، کما یظهر من کلام البعض ، أو حقیقة متشرّعة بنحو المنقول ، أو مجازا مشهورا إنْ لم نقل بوجود الحقیقة الشرعیة . وذلک لصعوبة إثبات کون الاستعمال فی الوجه الثانی یکون علی نحو الوضع والحقیقة اللغوی ، والأصل عدمه عند حصول الشک ، کما ان الأصل عدم النقل عن المعنی الأوّل إلی المعنی الثانی ، أی الطهارة بمعنی هذه الأفعال بما لها من الأثر المعنوی .

ص:9

فثبت ممّا ذکرنا أن أحسن الوجوه ، هو القول بکون الاستعمال فی غیر المعنی الأوّل مجازا لغویا ، سواء کان بنحو الحقیقة الشرعیة _ لو قیل بها _ أو بنحو الحقیقة المتشرعة ، لو لم نقل بها _ کما هو الظاهر _ واللّه أعلم .

تنبیه : ظهر ممّا ذکر أنّ ما یقابل الطهارة فی اللغة ، هو القذارة والنجاسة ، والقذارة هی ما کانت النفوس متنفِّرة عنها کالبول والعذرة وأمثال ذلک وهی تنقسم إلی قسمین ، کما هو الحال فی الطهارة ، إذ القذارة تنقسم إلی خبثیّة وحدثیّة .

والأولی منهما : قد تکون ذاتیّة ، أی بنفسها قذرة ونجسة کالبول والعذرة ، والمنی ، وإن کان المنقول عن بعض العامة ، وهو الشافعی القول بطهارة المنی ، حیث استدل بأن القول بنجاسته منشأ تکون الإنسان توجب نجاسة نفس الإنسان ، لکنه غفل عن کون الاستحالة تعدّ من المطهّرات کما سیأتی فی محلّه إن شاء اللّه تعالی .

وقد تکون عرضیة ، أی تعرض لها القذارة بواسطة الملاقاة مع القذر ومنها سمیت بالعرضیة .

هذا کله فی القذارة بمعنی الخبث ، المصطلح علیه عند المتأخرین ، والمشهور منهم بالنجاسة الجسمانیة .

والثانیة : وهی القذارة الحَدَثیة ، وهی نجاسة باطنیّة بحیث إذا ابتلی بها المکلف بواسطة تحقّق شیء من أسبابها کالبول والمنی وغیرها من الأحداث ، حصل له قذارة معنویة ، یمتنع معها التقرب إلی اللّه بإتیان الصلاة والصوم ، إلاّ فی بعض الموارد الخاصة علی احتمال مثل الفاقد للطهورین .

ثمّ إنّ الحدث ینقسم إلی قسمین :

الحدث الأکبر : الحاصل من تحقّق الجنابة والحیض والنفاس .

والحدث الأصغر : الحاصل من خروج البول والریح ونظائرهما .

ص:10

فبذلک ظهر أنّ إزالة کل واحد من القسمین _ سواءً الحدث الأکبر أو الأصغر _ بماله من الشرائط تسمی طهارة .

کیفیّتة تقابل الطهارة و القذارة

ثمّ إنّه بناءً ذکرناه یثبت أنّ الطهارة تنقسم إلی قسمین : طهارة خبیثة وطهارة حدثیة ، وهو المستفاد من الآیة النازلة فی غزوة بدر ، وهی قوله تعالی : «وإذ یُغشِّکُمُ النّعاسُ أَمَنةً منه ویُنزِّلُ عَلَکُم مِنَ السَّماءِ ماءً لیُطَّهرکُم به ویُذْهِبَ عنکم رِجْزَ الشَّیطان وَلِیَرْبِط علی قُلُوبِکُم ویُثّبِتَ بهِ الأقدام»(1) ، حیث نزلت فیما کان المؤمنون قد نزلوا فی أرض رخوة رملیة فی أرض متربة صلبة فاستوحش المؤمنون لرخاوة موضع أقدامهم دون الکفار ، فأرسل اللّه علی المؤمنین النعاس _ أی النوم الخفیف _ فأحسوا الأمن من الخصم أو من اللّه ، فصاروا مجنبین محدثین فأنزل اللّه علیهم الماء _ أی المطر _ من السماء _ أی العلو والارتفاع _ لیطهروا من الخبث والحدث ، أو لیطهروا باتیان الغسل فقط .

«لیُطَهِرَّکُم به» أی عن الخبث بسبب نزول الماء ، «ویُذْهِبَ عنکم رِجْزَ الشَّیطان»أی الجنابة بواسطته ، هذا بحسب الطهارة من القسمین «وَلِیَرْبِط علی قُلُوبِکُم» أی برفع الاستیحاش من رخاوة أرضهم وصلابة أرض خصمهم ، حیث صارت القضیة معکوسة ، إذ صَلبت أرض الرمل وتلبدت بنزول المطر علیها ، ورخوت أرض التراب وصارت طینا ووحلت ، ولذا قال تعالی : «ویُثّبِتَ بهِ الأقدام» .

وتوهم کونها فی خصوص المطر واضح الردّ والبطلان ، لعدم خصوصیة فیه ، فیلغی ذلک قطعا ، کما تلغی خصوصیة کونها نازلة فی غزوة بدر ، للقطع بعدم الخصوصیة فی المورد ، کما قیل الاعتبار بعموم الوارد لا بخصوص المورد ، وهو


1- سورة الأنفال : آیة 10 .

ص:11

واضح ، فلفظ الطهارة یراد منه إمّا خصوص رافع الحدث _ کما احتمله فی «مجمع البیان» و«المیزان» أو هو مع الخبث _ کما هو الظاهر _ أو علی ما أحتمله البروجردی قدس سره هو خصوص الخبث والحدث ، المستفاد من قوله «ویُذْهِبَ عنکم رِجْزَ الشَّیطان» ، والآیة مشتملة لأمور تشریعیة من الطهارة ، وتکوینیة من تثبیت الأقدام ، وإذهاب الوسوسة عنهم .

تذییل : قد عرفت فی صدر البحث أن الطهارة متقابل للقذارة ، لکن السؤال أنّه هل التقابل بینهما من باب تقابل الضدین کالسواد والبیاض ، أو التقابل بنحو الإیجاب والسلب ، أو تقابل العدم والملکة _ کما عن الشیخ الأنصاری فی الطهارة _ للطهارة الحدثیة بل الخبیة أیضا ؟

وبعبارة اُخری: هل الطهارة والقذارة أمران وجودیان ؟ أو وجودی وعدمی بالایجاب والسلب ؟ أو وجودی وعدمی بالملکة ؟

والحق الموافق للتحقیق هو التفصیل بین الطهارتین الخبثیة والحدثیة ، إذ الطهارة فی الخبث هی عبارة عن إزالته ورفعه ، فهی أمر عدمی والقذارة حینئذ تکون أمرا وجودیا ، هذا بخلاف الطهارة الحدیثة حیث أن الطهارة فیها أمر وجودی ، لأنها عبارة عن حالة متحققة من الوضوء والغسل والتیمّم ، یمکن معها الدخول فی العبادة ، أو یحصل الکمال المشروط بها ، الحاصلة مع قصد القربة وکان الأمر موجودا فی الروح لا الجسم والجسد . والشاهد علی کون الطهارة الحدثیة أمرا وجودیا ، الحدیث المصحح لابن أبی عمیر عن بعض أصحابنا عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال : «إذا سمّیت فی الوضوء طَهُر جسدک کلّه ، وإذا لم تُسمّ لم یطهر من جسدک إلاّ ما مَرّ علیه الماء»(1) .


1- وسائل الشیعة : الباب 26 من أبواب الوضوء، الحدیث 5 .

ص:12

ولا یتوهّم أنّ الحدیث صریح فی خلاف ما ذکر ، لأنّه قد ذکر الطهارة للجسد لا الروح ، لأنّه واضح الرد ، لمعلومیة عدم سرایة الماء فی الوضوء إلی جمیع البدن ، فلیس ذلک إلاّ من جهة ملاحظة عالم الروح الشامل للجسد والجسم وهو واضح ، کما لا یخلو من الدلالة علی ما ذکرنا من کون الطهارة أمرا وجودیا ، الحدیث المشهور علی ألسنة الفقهاء بأنّ : «الوضوء علی الوضوء نور علی نور» ، کما نقله الصدوق قدس سره عن الصادق علیه السلام (1) ، خلافا للشیخ حیث جعل الطهارة عن الحدث فی التقابل کالطهارة عن الخبث ، وکالموت والتذکیة من الاعدام المقابلة للملکات .

تحقیق کلام المحّقق فی تعریف الطهارة

نعم یحتمل أن تکون الاحداث أیضا من الاُمور الوجودیة ، أی أنّه یتحقّق القذارة المعنویة بواسطة تحقّق أحد الأسباب الموجوبة لها ، فیستلزم حینئذ کون التقابل علی هذا التقدیر بین الطهارة والقذارة فی الحدث هو التقابل بین الضدین ، وهو غیر بعید . ولکن الأظهر هو الأوّل ، واللّه العالم .

کما یمکن استظهار ذلک اجمالاً عن مثل خبر محمّد بن سنان الوارد فی «علل الشرائع»(2) عن الرضا علیه السلام فمیا کتبه إلیه وأجاب علیه السلام عنه بقوله : «علّة غُسل الجنابة للنظافة وتطهیر الإنسان نفسه ممّا أصابه أذاه _ وتطهیر سائر جسده _ » الحدیث ، وخبر الفضل بن شاذان(3) .

وهاهنا نرجع إلی أصل التعریف الذی ذکره المصنف بقوله : «الطهارة : اسم للوضوء أو الغسل أو التیمّم علی وجهٍ له تأثیرٌ فی استباحة الصلاة» . والظاهر أنّه


1- وسائل الشیعة : الباب 8 من أبواب الوضوء، الحدیث 8 .
2- علل الشرائع : الباب 195 ص266 .
3- وسائل الشیعة : الباب 1 من أبواب الوضوء، الحدیث 9 .

ص:13

أراد من ذلک بیان الطهارة الشرعیة ، التی قد عرفت کونها حقیقة شرعیة أو متشرعة فی الطهارة عن الحدث ، فلا یشمل الطهارة عن الخبث ، مع أنّه لا یبعد صحّة إطلاق الطهارة شرعا علی ذلک أیضا فلابدّ من دخول هذا القسم فی التعریف .

ثمّ إنّه قد ذکر قدس سره بأنّها اسم للثلاثة ، إشارة إلی أنّ التعریف لفظی لا حقیقی ، کما هو الظاهر فی مثل هذه الاُمور ، التی اعتبرها الشارع ولاحظها فسماها طهارة ، کغیرها من العناوین الشرعیة .

ثمّ فی ذکر القید : بأنّ (له تأثیرٌ فی استباحة الصلاة) اشکالٌ :

أوّلاً : أنّه موجب لخروج بعض أفراد الثلاثة ، مثل وضوء الحائض والجنب ، حیث لا تباح به الصلاة ، بل وکذا الوضوء التجدیدی ، لأنّ الإنسان بعد التوضوء یصیر متطهرا ، ویکون دخول الصلاة مباحا له ، فلا معنی لحصول الاستباحة له ثانیا ، لأنّه تحصیل للحاصل ، وهو محال . إلاّ أن یراد من التأثیر الأعم من الفعلیة ، کما فی أنواع الوضوء المتعارفة أو الشأنیة ، کما فی التجدیدی لولا الوضوء السابق علیه ، ووضوء الحائض والجنب لولا الحیض والجنابة ، کما احتمل ذلک صاحب «کشف اللثام» فی معرض تعلیقه علی کلام العلاّمة فی «القواعد» وهو غیر بعیدٍ ، إلاّ أنّ العبارة قاصرة عن ذلک کما لا یخفی .

وثانیا : أن ذکر خصوص الصلاة موجب لخروج بعض ما لا یکون کذلک ، مثل وضوء الجُنب للنوم ، والحائض للجلوس فی مصلاّها وأمثال ذلک .

ولو سلّمنا بدفع الإشکال لذکر خصوص الصلاة دون الطواف بکونه للمثال ولا خصوصیة فیها ، کان الأولی أن یذکر لفظ العبادة فی مکان الصلاة لتشمل جمیع الأفراد . کما أنّ الأولی أن یضاف إلیها أنّ له تأثیرٌ للاستباحة فی دخول العبادة ، أو حصول الکمال بها ، لیشمل مثل وضوء الجنب والحائض ، حیث یحصل لهما الکمال المخصوص بذلک . الأحسن فی تعریف الطهارة

ص:14

فإن قلت : وضوؤها _ أی الحائض _ لیس بطهارة ، کما یشهد بذلک صحیحة محمّد بن مسلم : قال : «سألت أبا عبداللّه علیه السلام عن الحائض تطهر یوم الجمعة وتذکر اللّه ؟ قال : أمّا الطُّهر فلا ، ولکنّها تتوضأ فی وقت الصلاة»(1) .

فلا وجه لإدخال ذلک فی عنوان الطهارة ، فهکذا یکون فی الجنب لوحدة ملاکهما وهو وجود المانع عن حصول الطهارة .

قلت : إنّ الاُمور نسبیة ، والطهارة بالنسبة للحائض تتصوّر هکذا : أی الفرق بین من لم تتوضأ منهنّ ومن توضأت واضح ، ولو کان للجلوس ، فالطهارة النسبیة حاصلة لها بذلک المعنی ، أی صار الجلوس لها فی مصلاّها مع هذه الحالة مطلوبا للشارع . وهکذا الحال فی وضوء الجنب للنوم وغیره .

نعم ، لیست بطهارة حقیقیة بمعنی المبیحة لإتیان العبادة فعلاً ، کما هو المراد من النفی الوارد فی الحدیث ، لأنّ الأئمّة علیهم السلام کانوا فی صدد تعلیم الناس وتفهیمهم بأنّ الحائض لا تطهر بالوضوء کسائر الناس ، ولذلک قال علیه السلام : «أمّا الطُّهر فلا) .

فالأحسن والأولی فی تعریف الطهارة ما نذهب إلیه ، لأنّه أقلّ إشکالاً من سائر التعاریف ، وهو : «أنّ الطهارة شرعا عبارة عن الغسل بالماء ، أو المسح بما یصح أن یتیمّم به علی وجهٍ له تأثیر فی استباحة الدخول فی العبادة ، أو فی حصول الکمال المشروطین بهما ولو بالقوّة» .

وهو وإن لم یخل من إشکال من جهة شموله لبعض أجزاء الوضوء والغسل ، قبل حصول أرکانه وشرائطه ، مثل النیة ، لأنّه یصدق أنّه طهارة بالقوة ، أی عند فرض تحقّق مجرد النیة وقبل الفراغ وقبل وجود سائر أجزائه فإنّه لا یصدق


1- وسائل الشیعة : الباب 40 من أبواب الحیض ، الحدیث 4 .

ص:15

علیه الوضوء شرعا .

ولکنه مع ذلک کلّه خالٍ من سائر الإشکالات الکثیرة الواردة علی سائر التعاریف .

فالطهارة علی هذا التعریف تشمل الطهارة بکلا قسمیها من الخبث والحدث ، کما تشمل جمیع الأقسام الثلاثة من الوضوء والغسل والتیمّم کما لا یخفی .

وکما أنّ التعریف یشمل الثلاثة الغیر المتعارفة أی وضوء الحائض والجنب والتیمّم ، کذلک إن قلنا بجواز إتیان التیمّم مکان الوضوء والغسل . وهذا التعریف قریبٌ ممّا ذکره العلاّمة فی «القواعد» مع زیادة لیست فی تعریفه ، واللّه أعلم بالصواب .

مسألة فرعیة مستتبعة : ذکر فی «الجواهر» ما مضمونه : أنّ ذکر الاستباحة فی کلام المصنّف قدس سره کان فی مقابل الحرمة التشریعیة ، ویقتضی منه عدم حصول الطهارة للصبی الممیّز ، وذلک أما لأنّ عباداته تمرینیة ، أو لم تحصل منه الطهارة الشرعیة _ کما فی وضوء الحائض _ بأن تکون الشرعیة من الصبی والحائض أعم من کونها طهارة . ثمّ ذکر احتمالاً آخر ، وهو أنّ المراد من الاستباحة هی الصحّة ، فتحصل الطهارة للصبی أیضا .

انقسام کلّ من الطهارات الثلاث الی واجب و ندب

ولکنّ الحقّ علی ما حققّناه کون وضوء الحائض وأمثاله یعدّ من الطهارة الشرعیة ، لأنّ الطهارة بالنسبة إلی حال کل أحد متناسب مع ملاحظة فقد هذا المقدار من الطهارة منه ، ولذلک نشهد الفرق _ وجدانا _ بین الحائض التی قد توضأت والتی لم تتوضأ ، وهکذا فی الجنب وهذا هو الذی قد رغب الشارع باتیانه للحصول علی تلک المراتب الکمالیة ، فعلیه یمکن أن یکون الوضوء _ بل مطلق الطهارة المتحقّقة من الممیّز _ من هذا القبیل ، فیصدق علیه أنّه قد أتی بوضوء اُجیز له الدخول به فی العبادة بالنسبة إلی حاله ، فعلی مسلکنا تصح العبارة علی نحوین :

أحدهما:أن یکون المرادمن الاستباحة هیالصحّة ،کما احتمله صاحب«الجواهر» قدس سره

ص:16

وکل واحد منها ینقسم إلی واجب وندب ، فالواجب من الوضوء ما کان لصلاة واجبة ، أو طواف واجب ، أو لمسّ کتابة القرآن إنْ وجب.(1) الوضوء

ثانیهما : أن تکون طهارته متناسبة مع شأنه ، وتکون شرعیة کما هو الحقّ إن قلنا به . نعم لو قلنا بأنّ عبادات الصبی تمرینیة محضة ، فیوجب الخروج عن مورد العبارة . والتحقیق فی أنّ عباداته شرعیة أو تمرینیة موکول إلی محلّه ، وقد بحثنا عنها فی التعلیق علی المسألة الرابعة من مسائل نجاسة عرق الجنب من الحرام فی «العروة الوثقی» .

(1) ولا تطلق باقی الأحکام ، من الحرمة والکراهة والإباحة علیه إلاّ علی نحو من الاعتبار ، کما قد یقال بأنّ الوضوء من الماء المغصوب حرام ، حیث أنّه واضح فی التسامح ، إذ المراد هو التصرف فی الماء المغصوب ولو کان فی ضمن أمر عبادی مثل الوضوء ، والحال کذلک فی بقیة الإطلاقات . والظاهر أن ذکر الصلاة کان من جهة کون وجوبها بالأصل ، وفی الطواف بواسطة دلیل التنزیل ، بقوله علیه السلام : «الطواف بالبیت صلاةٌ» . وفی مسّ کتابة القرآن بالعَرَض ، من جهة عروض عارض ٍ موجب للمس .

ثمّ قد یُنسب الخلاف إلی البعض فی أنّ الوضوء هل واجب شرعی غیری أو یکون واجبا نفسیا ؟

والأوّل هو مورد قبول علمائنا ، بل قیل إنّ علیه الإجماع ، کما نقله الشهید الثانی رحمه الله . نعم قد نُسب الخلاف إلی الشهید الأوّل فی «الذکری» بالعبارة المشهورة منه حیث أنّه بعد أن ذکر الکلام فی الغسل بالنسبة إلی الوجوب النفسی والغیری ، قال : «وربما قیل بطروّ الخلاف فی کلّ الطهارات ، لأنّ الحکمة ظاهرة فی شرعیتها مستقلة» ، وفی «الجواهر» یظهر للمتأمِّل کون هذا القول لغیرنا ،

ص:17

ولعلّه أراد ذلک من جهة ذکر الاستحسان بأن الحکمة ظاهرة . . . إلی آخره . حیث یفهم أنّ ذلک صدر عن غیرنا ، إذ أنّ فقهائنا رضوان اللّه علیهم لا یستدلون بالاستحسانات ولکن فی کلامه غموض . انقسام کلّ من الطهارت الثلاث الی واجب و ندب

اقول: وکیف کان ، فقد نسب فی «القواعد» الثانی إلی بعض العامة ، لکن لم نعثر علی مستند لقوله برغم تتبعنا وفحصنا فی «مفتاح الکرامة» و«مصباح الهدی» . فبلغ الکلام بذلک إلی أن ندّعی الإجماع عند أعیان فقهاء الشیعة والعامة علی وجوب الوضوء وجوبا شرعیا غیریا شرطیا ، ولیس نفسیا ، کما ادُّعی أو احتمل . والذی یدل علی کونه واجبا شرعیا غیریا لا نفسیا ، مما قیل أو یمکن أن یقال اُمور :

الأوّل : الوجوب المستفاد من قوله تعالی : «إذا قُمْتُم إلی الصَّلاة فَاغْسِلُوا وُجُوهَکُم وَأیدِیَکُم» . . . الآیة(1) ، حیث تدل بمفهوم الشرط الذی هو حجة ، علی کون وجوب الصلة عند وجوب شرطها .

ولا یقال : هو أعمّ من کونها واجبة لأنّها قد تکون نافلة ، فیستفاد من الآیة الوجوب الشرطی لا التکلیفی ، أی إنّ من أراد الإتیان بالصلاة کان شرطها تحصیل الوضوء ، وأما کونه واجبا نفسیا أو غیریا ، أو مستحبا نفسیا أو عدم کونه شیئا من ذلک ، فلابدّ من استفادته من دلیلٍ آخر غیر هذه الآیة .

لأنّا نقول : لو لم نقل بما أجاب به صاحب «الجواهر» من العهدیة الذهنیة للصلاة الواجبة من لفظ الصلاة ، فلا تشمل النافلة ، بل قلنا بالتعمیم لکلا قسمهما ، لکن نقول لا إشکال فی استفادة أنّ الصلاة لم تتحقق إلاّ بالوضوء ، فإذا کانت الصلاة واجبة فمن الضروری أن یکون وضوءها أیضا واجبا ، لأنّه لا یعقل


1- سورة المائدة : آیة 6 .

ص:18

أن تکون الصلاة واجبة بوجوب مطلق _ کما علیه الضرورة الدینیة ، للقطع بفساد احتمال کونها وجبا مشروطا کالحجّ بالنسبة إلی الاستطاعة _ ووضوءها غیر واجب . نعم یمکن أن یقال حینئذ إنّ الواجب للوضوء لیس شرعیا ، بل هو عقلی کما قاله صاحب «الکفایة» فی الواجب التعبدی ، وذلک لحکم العقل بأن الصلاة الواجبة لا تتحقق إلاّ به ، فیحکم بوجوب إتیان شرائطها ومنها الوضوء ، فلیس هذا إلاّ وجوبا عقلیا لا غیریا کما هو المطلوب .

ولکن الانصاف _ علی ما یشهد به العرف _ أن المستفاد من الآیة هو بیان حکم الوضوء للصلاة الواجبة من جهتین ، من الحکم الشرطی والشرعی ، غایة الأمر تکون فی النافلة من جهة واحدة ، وهی بحسب الأدلّة الخارجیة یکون حکما شرطیا فقد لا وجوبا شرعیا . مضافا إلی أنّه لو قلنا بوجوب المقدّمة وجوبا شرعیا لا عقلیا فقط ، علی ما فی بحث الواجب التعبدی من «الکفایة» ، کان الوضوء أیضا واجبا غیریا لا نفسیا .

وما توهمه صاحب «مفتاح الکرامة» ، وتبعه علیه صاحب «الجواهر» ، بل زاد علیها فی «المفتاح» من احتمال عدم الوجوب ، عند عدم الشرط بلحاظ شرطه ، فلا ینافی وجوبه لکونه واجبا نفسیا ، ومن احتمال عدم حجیّة المفهوم فی المقام ، لوجود فائدة التنبیه علی شرطیة الوضوء للصلاة ، ومن احتمال أن یکون المفهوم أنّه عند عدم القیام لا وجوب للوضوء ، ولو فی بعض الأحیان ، کما لو کان متطهِّرا ، وأمثال ذلک ، فلا ینافی وجوبه عند فقد الطهارة .

کلّها مدفوعة ، بکون ذلک خلافا بالاستظهارات العرفیة عن مثل تلک القضایا الشرطیة ، فلا نطیل الحدیث بذکر الأجوبة عن کلّ واحد واحد .

هذا مضافا إلی الاجماعات المنقولة ، بل لا یبعد التحصیل له ، کما یظهر لمن تتبع کلام القوم ، بل وهکذا بحسب القاعدة ، من جهة سیرة المتشرعة ، إذ لم یعهد

ص:19

منذ زمن النبی صلی الله علیه و آله ، والصحابة والتابعین ، مع شدة اعتنائهم لمثل هذه الأمور الحکم بلزوم استمرار الوضوء وتحصیله متعاقبا للحدث ، مع وجود الظنّ بالوفاة ، بل حتی مع القطع بالموت . ومضافا إلی إمکان استفادة عدم الوجوب بالأولویة القطعیة ، بمعنی أنّه إذا استظهرنا فی الغسل للجنابة والحیض وغیرهما ، کون الوجوب وجوبا غیریا لا نفسیا ، مع کونه طهارة عن الحدث الأکبر ، فعدم وجوب الطهارة عن الحدث الأصغر یکون بطریق أولی ، مع إمکان استفادة ذلک أیضا من حکم الفقهاء بعدم الوجوب فی التیمّم قطعا ، وذلک من جهة البدلیة وعموم منزلتها فیقتضی عدم الوجوب فی الوضوء أیضا .

الوضوءات المندوبة

هذا کله ، مضافا إلی أنّه لو لم نُسلّم استفادة الوجوب الشرطی الشرعی الغیری من الآیة المذکورة ، ولم نقل بوجوب مقدّمة الواجب ، فلیس لنا طریقٌ لاثبات وجوب شرعی غیری ، فضلاً عن وجوب النفسی للوضوء من مثل هذه الآیة ، لإمکان دعوی دلالتها علی جهة شرطیة الوضوء للصلاة ، أی لا یمکن الإتیان بها إلاّ معه ، المستلزم بحسب حکم العقل بلزوم إتیان الشرط من جهة وجوب الصلاة ، وأنّی لک بإثبات وجوب شرعی غیری للوضوء لأجل الصلاة وغیرها ، إلاّ أن الانصاف بحسب الاستظهار العرفی من الآیة أنّ المفهوم منها ومن نظائرها هو الوجوب الغیری الشرعی ، مضافا إلی وجوب المقدّمة فی مقدّمة الواجب إن قلنا به .

(1) فظهر ممّا ذکرنا عدم وجوب دلیل مقنع تام علی إثبات الوجوب للوضوء بالوجوب النفسی ، فحینئذٍ لا محیص لنا إذا رأینا فی حدیث من ذکر لفظ الوجوب علی الطهارة أو علی الوضوء ، إلاّ من حمله علی معنی آخر ، مثل اللزوم والثبوت وغیره ، وهو کما تری فی مثل صحیح زید الشحام ، وعبد الرحمان بن الحجاج عن الصادق علیه السلام : «إنّ علیّا علیه السلام کان یقول : مَنْ وجد طعم النوم قاعدا

ص:20

والمندوب ما عداه(1)

أو قائما فقد وجب علیه الوضوء»(1) .

وصحیح زرارة فی حدیث : «فإذا نامت العین والاُذن والقلب فقد وجب علیه الوضوء»(2) .

وغیر ذلک من الأخبار ، حیث تحمل علی العهد الذهنی فی الوضوء ، من جهة بیان وجوبه لإتیان الصلاة لا وجوبه لنفسه ، أو یحمل علی معنی الثبوت واللزوم بواسطة حدوث الحدث . ولا یمکن رفع الید عن مثل تلک الأدلّة بواسطة هذه الأخبار ، مع عدم کون هذه المحامل بعیدة أیضا ، کما لا یخفی ، کما وردت هذه التعابیر فی أمثال ما نحن فیه ، کما فی الأمر بغسل الأوانی والثیاب المتنجسات ، مع أنّه لم یقل أحد بالوجوب فیها أصلاً ، وهذا واضح .

(1) أی ما عدا الوضوء المأتی به لأمرٍ واجب یکون مندوبا ، وهو علی قسمین :

قسمٌ : یستحب له الوضوء ، أی تکون الغایة المستحبة موجبة لاستحباب الوضوء ، وأمثلته کثیرة مثل الوضوء لقراءة القرآن ، والصلاة المندوبة ، والطواف المندوب ، ولدخول المساجد ، وغیر ذلک ، وربما یُعدّ إلی العشرین .

وآخر: یستحب منه الوضوء ، أی إذا صدر منه عملٌ یستحب ویندب أن یقدم علی الوضوء ، کالضحک فی الصلاة ، والظلم ، واکثار انشاء الشعر الباطل ، وخروج الودی وغیر ذلک وهو أیضا قد یعد إلی قریب العشرین .

ثمّ یکون الوضوء تارة رافعا للحدث ، وآخر محصِّلاً للکمال مع الحدث أو بدونه .

بقی البحث عن مسائل مندوبات الوضوء وهی کثیرة وقد تعرض لذکرها


1- وسائل الشیعة : الباب 3 من أبواب نواقض الوضوء ، الحدیث 8 _ 9 .
2- وسائل الشیعة : الباب 1 من أبواب نواقض الوضوء ، الحدیث 1 .

ص:21

صاحب «الجواهر» فنترکها إلاّ بعض ما یهمنا من مسائلها حیث نذکرها فی ضمن مسائل وهی :

المسألة الأولی : لا یخفی علیک أنّ بعض ما ذکر من الوضوءات المستحبة ، لم یکن علیه دلیل معتبر ، فهل یثبت الاستحباب بمجرد قول بعض أصحابنا بوجود نص معتبر علیه _ کما هو الحال فی «الذکری» ، فانه بعد ما یحصی الوضوءات المندوبة ، یقول : کل ذلک للنص _ أم لا یثبت إلاّ بدلیل من الحدیث وغیره کالدلیل الاجتهادی أو الأصل الفقهی ؟

والذی یظهر من صاحب «المدارک» قدس سره هو الثانی ، فإنه بعدما یذکر أقسام المندوبات من الوضوء ، یقول : «وقد ورد بجمیع ذلک روایات إلاّ أن فی کثیر منها قصورا من حیث السند ، وما قیل من أن أدلّة السنن یتسامح فیها بما لا یتسامح فی غیرها فمنظور فیه ، لأن الاستحباب حکمٌ شرعی فیتوقف علی الدلیل الشرعی کسائر الأحکام» ، انتهی .

ولکن فی «الجواهر» و«المصباح» قد اختار الأوّل بکفایة إرسال «الذکری» فی إثبات استحباب الوضوء ، بل قد ردّ صاحب «المصباح» علی «المدارک» بقوله : «بأن أدلّة التسامح الواردة فی مثل ذلک بقوله صلی الله علیه و آله : «مَنْ بلغه ثوابٌ علی عملٍ فعمله التماس ذلک الثواب اوتیه ، وإن لم یکن الأمر کما بلغه» کافیةٌ فی إثبات استحباب کلّ ما ورد فیه روایة ، ولو لم یکن فیها شرائط الحجّیة ، مضافا إلی شهادة العقل لحسن إتیان ما یحتمل کونه محبوبا للّه تعالی ، وإنْ لم یثبت بذلک العنوان المخصوص وکونه مستحبا شرعا حتی یترتب علیه آثار الاستحباب ، ثمّ مثَّل ذلک بقوله : بأنّه لو قلنا أن کلّ غسل مستحب مثلاً یرفع أثر الجنابة ، فوردت روایة ضعیفة دالة علی استحباب غسل خاص ، فلا یترتب علیه ذلک الأثر ، لأن الغسل بهذا العنوان لم یثبت استحبابه حتی یترتب علیه کل الآثار» ، انتهی

ص:22

ملخص ما فی «المصباح» .

نیّة الغایات المترتّبة علی الوضوء

ولکن الانصاف مع التأمل فی أخبار «من بلغ . .» یفهم أن الحق مع صاحب «المدارک» لو لم نقل بامکان الجمع بین العَلَمین ، وکان رجوع النزاع بینهما لفظیا .

وتوضیح ذلک : أن ظاهر قوله علیه السلام فی حدیث عمران : «مَنْ بلغه ثواب من اللّه علی عمل فعمله التماسا لذلک الثواب اوتیه»(1) أنّه کان من باب التفضیل ، أی لا یخیبه اللّه فی رجائه ، حیث قد أتی طمعا بذلک الثواب ، وأما صیرورة العمل بذلک البلوغ محبوبا واقعا ، فیصیر مستحبا شرعیا فغیر معلوم ، بل دعوی عدم استفادة المرغوبیة بین ذلک التعبیر ، بحیث یرغب الناس فی الإتیان بالعمل إذا صارت الحال کذلک فغیر بعیدة ، إلاّ أن یستظهر ذلک من جهة أنّه إذا کان اللّه عز وجل کریما علی الإطلاق ، حتی أنّه یعطی عبادة الثواب بهذه الصورة ، کان من مناسبة الحکم والموضوع من حسن تحصیل الثواب والحسنات ، أنّ للعباد أن یحصلوا ولو کان کذلک ، فله وجه جید لا یخلو من لطافة . بل قد یمکن أن یدعی ان المقصود من الاستحباب فی کلام صاحب «الجواهر» و«المصباح» أیضا هو المحبوبیة بما قد ذکرنا ، حیث أنّ صاحب «المدارک» قدس سره أیضا لعله لا یمنع عن ذلک المقدار ، ولذا صرح صاحب «المصباح» بعد ترتب الآثار المترتبة علی العنوان المخصوص ، فلیس هذا إلاّ لما مرّ ذکره . إلاّ أنّه خلاف ظاهر کلام «المصباح» بحسب ما أورده من الکلام ، واللّه الهادی إلی سواء السبیل .

المسألة الثانیة : لا یخفی علیک أنّ الغایات المترتبة علی الوضوء قد تکون کلها واجبة ، وقد تکون کلها مندوبة ، وقد تکون مرکبة منها .

ثمّ فی مقام القصد أیضا ینقسم إلی ثلاثة أقسام :


1- وسائل الشیعة : الباب 18 من أبواب مقدّمة العبادات الحدیث 7 .

ص:23

فتارة : یقصد تمام الغایات المتعددة المتحدة وصفا من حیث الوجوب .

واُخری : مثلها من حیث الندب .

وثالثة : مختلفة منها .

وهذا کله إذا فرضنا تعدد الغایات لا وحدتها ، وإلاّ تکون الأقسام أزید من ذلک .

ولا إشکال فی صحّة الوضوء والإتیان به لکل غایة واجبة ، إذا قصدها ولو لم تکن تلک الغایة بالخصوص مقصودة ، بل قصد غایة اُخری واجبة ، نعم لو أراد تحصیل الثواب المخصوص المربوط بغایة خاصة ، فلا یحصل علیه إلاّ أن یقصد بها بخصوصها ، لأن الثواب من أثر الامتثال ، ولا امتثال للأمر إلاّ أن یقصد الأمر المتعلق لتلک الغایة المترشح منه إلی مقدمته ، وهو الوضوء علی الوجوب المقدمی الغیری إن قلنا بوجوبها ، أو تعلق نفس الأمر بأمر شرعی غیری للوضوء ، حتی یکون واجبا للغیر إن لم نقل بوجوب المقدّمة ، وسلّمنا تعلق الأمر بخصوصه ، وإلاّ یکون واجبا غیریا عقلیا لا شرعیا کما عرفت احتماله .

وکیف کان ، فلا إشکال فی صحته لکل غایة واجبة فی الفرض المزبور ، لکونه امتثالاً منبعثا عن الأمر الوجودی ، وإنْ کان متعلقا بفرد آخر غیر ما قصده ، کما هو کذلک أیضا فی الغایات المتعددة المندوبة ، لما عرفت من الوجه مضافا إلی وجود الأولویة القطعیة ، بمعنی أنّه إذا فرضنا الصحّة والامتثال فی الأمر الوجوبی مع شدة الاهتمام به ، ففی الأمر الندبی یکون بطریق أولی ، وهو واضح .

وبقی الإشکال فیما لو تفاوتت الغایة المترتبة من الوجوب والندب ، مثلاً لو ترتبت فی الوضوء غایة واجبة کالصلاة الیومیة ، وغایة مندوبة کصلاة النافلة ، فقد یکون المکلف فی مقام الامتثال ویقصد کلتا الجهتین ، أی الغایة الواجبة والمندوبة ، فحینئذٍ لا إشکال فی صحّة الوضوء والإتیان به لصلاة واجبة ومندوبة .

ولکن یبقی سؤال وهو هل یمکن الجمع بین الأمرین المتفاوتین من الوجوب

ص:24

والندب ، أو لیس هنا إلاّ أمر وجوبی لعدم مورد للندبی عند وجود أمر وجوبی ، کما ادعاهُ بعض ؟

وآخر یقصد خصوص غایة واجبة ولکن رتب علی الوضوء جهة مندوبة ، بلا ترتب أثر للوجوب ، وأتی بنافلة ابتداء بلا نظر إلی إتیان الفریضة .

وثالثا : یکون عکس ذلک ، بأن قصد الغایة المندوبة فأتی بالفریضة بلا توجه للنافلة ، فهل یصح مثل ذلک الوضوء ؟

والسؤال فی هذا المورد ، خصوصا فی الاخیر یکون عن أمرین :

أحدها : ما عرفت من صحّة وجود الأمر الندبی مع وجود الأمر الوجوبی ، أو لا یمکن تأثیره وتحققه مع أمر وجوبی .

ثانیها : علی فرض تسلیم وجوده ، أو إمکان تأثیره ولو بملاکه ، فهل یصح الوضوء حتی لاتیان الفریضة ، ولو لم یقصد الغایة الواجبة منه ، لوجود أصل المحبوبیة فی ذلک ، ولو فی ضمن الأمر الندبی ، أم لابدّ من قصد الغایة الواجبة فی صحّة الإتیان بالفریضة ؟ فی «الجواهر» أن الاقوال ستة :

قول : صحّة الوضوء مطلقا ، ویجوز الإتیان بالفریضة فی الفرض المذکور ، وقد نسب إلی المحقّق أنّه مال إلیه ، بل عن بعض أنّه الظاهر من الأصحاب ، کما ادعی علیه الإجماع من آخر .

قول فی مقابله : وهو عدم ارتفاع الحدث به مطلقا ، کما نُقل ذلک عن الشیخ الطوسی قدس سره فی جواب المسائل الحلبیات .

قول : بصحته أیضا ، إلاّ إذا نوی الوضوء مطلقا ، أی بلا نظر إلی غایته أصلاً ، فحینئذ لا یصح هذا کما فی «المنتهی» .

قول : بصحته لما یستحب له الوضوء لا لأجل الطهارة کقرائة القرآن ، بخلاف ما استحب لا للطهارة عن الحدث بل لتحصیل الکمال کالتجدیدی ، کما علیه

ص:25

العلاّمة فی «التذکرة» .

قول : بصحته ان کان استحبابه للحدث ، وکان من قصده الکمال ، فلو أتی لا لرفع الحدث کالتجدیدی ، أو أتی بقصد رفع الحدث ، ولکن لم یقصد الکمال فلا ، هذا کما علیه العلاّمة فی «النهایة» .

قول : بالصحة فی الصلاتین ، وهما ما لو أتی بالوضوء لما یکون الطهارة مکملة له ، أو قصد الکون علی الطهارة ، وإلاّ فلا یصح ، هذا کما علیه الشهید فی «الذکری» .

ونحن نزید علیها قولاً سابعا : وهو التفصیل بین ما لو أتی بذلک بنحو الخطأ فی التطبیق ، أو مع العمد حتی مالو قصد غایة مخصوصة مندوبة دون اُخری واجبة ، وأتی بواجب لم یقصد غایته أصلاً ، إذا لم یقیده بأنه لو کان أمر الواجب موجودا لم یأت به فیصح ، وبین صورة التقیید بما قد عرفت تفسیره ، فلا یصح هذا ، کما علیه السیّد فی «العروة» والحکیم فی «تعلیقته» علیها ، و«مصباح الهدی» فی هذه المسألة ، وهی مالو أتی بالوضوء التجدیدی ، بزعم أن له الأمر الندبی بذلک ، فظهر محدثا بالاصغر وکان الوضوء علیه واجبا .

ولکن الأقوی عندنا هو الصحّة عن کل فرض من الفروض ، حتی فی صورة التقیید ، ان فرضنا تحقّق قصد القربة منه له فی ذلک ، وکان الوضوء رافعا للحدث ، إنْ کان محدثا . فلا بأس بذکر تحقیقه حتی یتضح الحال بتأیید من اللّه العزیز المتعال ، فنقول :

لا یذهب علیک أنّ المتوضی ء فی الواقع تارة قد یکون محدثا وملتفتا إلیه ، واخری لا یکون کذلک .

فعلی الأوّل : لا إشکال فی أن الشارع جعل هذا العمل _ أی الغسلتان والمسحتان مع قصد القربة ولو بملاک محبوبیته الذاتیة لو قیل بها _ موجبا لرفع

ص:26

الحدث ، ولو لم یکن من الأمر المخصوص المتوجه إلی العمل ، کما یشیر إلیه فی الخبر المروی عن الفضل بن شاذان کما فی «علل الشرایع» ، و «عیون الأخبار» علی ما نقله صاحب «وسائل الشیعة» عن الرضا علیه السلام قال : «إنّما أمر بالوضوء وبدی ء به لأنْ یکون العبد ظاهرا إذا قام بین یدی الجبار عند مناجاته إیّاه مطیعا له فیما أمره نقیا من الأدناس والنجاسة» الحدیث(1) .

من حیث أنّ الوضوء إذا تحقّق ، یکون رافعا للحدث والنجاسة المعنویة بأیّ موجب وغایة حصل ، فلو نوی إحدی الموجبات معینا من المندوبات یحصل منه رفع الحدث لو کان ، فاذا ارتفع یصح منه الدخول فی الصلاة ، کما أنّه لو نوی أصل رفع الحدث من مجموع موجباته ، فهو أیضا یکفی فی رفعه وتحقّق الطهارة ، ویصح له الدخول فیها ، لوضوح أنّه لا یتعدّد الحدث بتعدد موجباته ، بل إذا تحقّق بأحد الأسباب تدریجا أو بمجموعها إذا تحقّقت دفعة واحدة _ لعدم تعقل تأثیر کلّ سبب مستقلاًّ فی تحقّقه ، بل لابدّ أن یکون المؤثّر فیه أمرا وحدانیا وهو الجامع بین الأسباب ، کما هو کذلک فی أسباب حصول القتل ، إذا فرضنا قابلیة کل سبب للتأثیر مستقلاً _ فیرتفع باتیان الوضوء المطلوب بأی غایة حصل .

کما أنّ التحقیق المطابق للحق هو عدم لزوم النیة لرفع الحدث فی حصول الرفع ، بل یکفی فی تحققه وجود الغسلتین والمسحتین مع قصد القربة ، فبعد وضوح هاتین المقدمتین ، فلا مانع فی البین عن صحّة هذا الوضوء ، وجواز الدخول به فی الصلاة ولو کانت فریضة ، إلاّ توهم أنّه إذا لم یقصد الأمر المتوجه إلی الصلاة ، الموجب لوجوب الوضوء بوجوب غیری _ علی حسب الاحتمالات المذکورة فی محلها ، مع فرض وجود هذا الأمر والجهة اللزومیة


1- وسائل الشیعة : الباب 1 من أبواب الوضوء، الحدیث 9 .

ص:27

بسبب الملاک فی الواقع _ فکیف یصح الإتیان بالفریضة ؟

قلنا : إنّ قصد امتثال الأمر والتوجه ، إنّما یعتبر فی حصول الثواب من هذا الطریق ، أی لو لم یقصده لم یحصل امتثال ذلک بالخصوص وما لم یتحقّق الامتثال لم یستحق المثوبة من تلک الناحیة ، وان حصل له الثواب والامتثال من قصد الأمر الندبی وملاکه المفروض وجوده هنا .

فبلغ أوان أن یقال : کیف یمکن الجمع بین الملاکین ؟ فهل یصح أن تکون جهة وجوب الوضوء وجهة ندبه مجتمعتین فی محل واحد ، مع أنّ بین الاحکام بعضها مع البعض نسبة التضاد کما قیل ، فکیف یمکن الاجتماع ؟ فلابد حینئذ من الالتزام بوجود احدی الجهتین ، وحیث کان المتحقق فی عالم القصد هو الندب دون الوجوب ، فلا وجه لبقاء وجود ملاک الوجوب والحکم بصحته .

اللهم إلاّ أن یقال : بأن المورد من قبیل موارد اجتماع الأمر والنهی من جهة تعدد العنوان ، وقلنا بکفایة تعدد الجهة فی رفع مجذور التضاد ، وقلنا فی ذلک بامکان الاجتماع وجواز ذلک ، کما هو الظاهر المستفاد من السیّد قدس سره فی «العروة» فی تلک المسألة . ولکن الذی یقوی فی النفس ، کما علیه الحکیم قدس سره فی «المستمسک» والآملی فی «مصباح الهدی» هو عدم وجود التضاد بین الوجوب والاستحباب ، وإمکان اجتماع ملاکهما ، لأنّ الوجوب لیس إلاّ طلب للفعل مع المنع من الترک ، المنتزع من الطلب الشدید ، والندب هو هذا الطلب للفعل مع جواز ترکه من ناحیة ، فجهة الاقتضاء فی کل منهما هی الطلب ، وبینهما کمال الملائمة ، ولا تنافی بین ذلک أصلاً ، وأما الفصل هو المنع من الترک فی الوجوب وجواز الترک من طرف الندب ، فهو أیضا مما لا یزاحم بینهما ، لان المنع من الترک له اقتضاء من ناحیته حیث أنّه یمنع عن ترکه ویحکم علی تارکه باستحقاق العقاب عند ذلک من جهة ملاک وجوبه . بخلاف جواز الترک من ناحیة

ص:28

الاستحباب ، حیث أنّه لا اقتضاء له بأن یحکم بالترک ، بل یکون مفاده الترخیص وعدم المنع من ناحیة نفسه ، وهذا لا ینافی ممنوعیته من جهة عروض عارض آخر ، وهو الوجوب فی المقام ، کما هو کذلک لو کانت تلک الغایة المندوبة متعلقا للنذر والعهد ، حیث أنّه یصیر حینئذ واجبا ولا یجوز ترکه ، ولکنه لا مانع من أن یکون بنفسه مستحبا . بل زعم بعض المحققین وهو آیة اللّه الخمینی _ کما هو الحق عندنا أیضا _ : أنّه لا یتحقّق الامتثال بالامر الوجوبی للنذر إلاّ أن ینوی فی الوضوء فی الفرض المزبور ، ماهو المتعلق للامر الندبی الذی وقع موردا للوفاء بالنذر ، ولیس هذا إلاّ من جهة وجود ملاک الاستحباب فیه ، وهکذا یکون فی المقام .

فعلی ما ذکرنا یصح القول باجتماع الملاکین هاهنا ، ولو قلنا فی بحث اجتماع الأمر والنهی بالامتناع ، وعدم کفایة تعدد الجهة فی رفع الاستحالة .

وان أبیت عن التحقیق الذی ذکرناه هناک ، ذکرنا فی المقام وسلمنا وجود التضاد بین الوجوب والاستحباب ، واستحالة اجتماعهما فی مورد واحد ، فهل یکفی فی رفع استحالته هنا وجود تعدد الجهة والعنوان _ کما قیل بذلک فی مثل الصلاة والغصب _ حتی یرتفع المحذور فی المقام بذلک ، أم لا یکفی فیما نحن فیه ، وان کان صحیحا فی مثل المثال ؟

والحق هو الثانی ، لوضوح الفرق بین الممثل والممثل به ، اذ قد تعلق کل حکم بعنوان نفسه بلا توجه إلی الآخر ، غایة الأمر أنّه قد اضطر المکلف فی مقام الامتثال فی حصول الاتحاد فی الخارج بین العنوانین ، مثل : صل ولا تغصب ، فوقع المکلف فی مورد قد تنجّز علیه التکلیف المتعلق بالعنوانین ، فحینئذ قد یمکن أن یقال بأنه ترتفع الاستحالة بینهما من جهة کفایة تعدد الجهة فی رفع التضاد بینهما .

هذا بخلاف المقام ، اذ متعلق العنوانین من الوجوب والاستحباب یکون فی

ص:29

موضوع واحد ، وهو الوضوء ، کأن یقول : «توضأ لقراءة القرآن وتوضأ لصلاة الفریضة» ، حیثُ یکون مرکز الأمرین فی کلا الموردین هو الوضوء ، فعلی فرض التضاد بین الحکمین یوجب هاهنا استحالة اجتماع الضدین فی محل واحد .

نعم یمکن أن یفرض فی المقام ما یوجب رفع الاستحالة بتعدد الجهة ، فیما إذا فرض تعلق النذر بالوضوء الندبی ، کالوضوء لتلاوة القرآن إذا وقع محلاً للنذر ، فمثله حینئذ کمثل الصلاة والغصب ، فیأتی فیه ما یأتی فی الممثل به . ولکن نحن قد استرحنا من ذلک بالتحقیق الذی ذکرنا .

فتبین من جمیع ما ذکرنا اُمور :

الأوّل : _ صحّة الوضوء الذی قصد غایته المندوبة للدخول فیما شرطه الطهارة ، سواء کان المشروط بها أمرا واجبا کصلاة الفریضة ، أو مندوبا کالنافلة ، أو أتی بذلک الوضوء بأمرٍ کان کماله مشروطا بالوضوء کما فی تلاوة القرآن ودخول المساجد ، حیث یتحقّق ذلک الکمال ، ولو کان قد قصد فی الوضوء غیرهما من الأمور المندوبة ، لأن الغرض حصول الطهارة بذلک ، فعند تلاوة القرآن ودخول المسجد یکون هو متطهرا وحاصلاً للطهارة ، فما نحن فیه لا یکون فاقدا لشیء من رفع الحدث وقصد القربة المعتبرین فی الوضوء ، حتی یحکم بعدم جواز الدخول به فی الفریضة .

الثانی : _ ان تحصیل الثواب من کل أمر موقوف علی صدق امتثال ذلک الأمر ، فعلیه ، یلزم أن یکون الثواب مترتبا علی الغایات التی قد قصدها ، بلا فرق بین غایة الوجوب أو الندب ، کما قد عرفت وجهه فلا نعید .

الثالث : _ ان رفع الحدث لا یحتاج إلی نیة بخصوصه ، بل یتحقّق ولو لم یکن ملتفتا إلیه ، سواء کان موجب الحدث متحدا أو متعددا ، کما أن تعدد موجباته لا یوجب تعدد الحدث ، بل کان التعدد فیه عند حصول صورة التدریجی بلا أثر ،

ص:30

ویکون الحدث متحققا بأول وجود من موجبه وغیره یکحون موجبا تقدیریا أی لو کان متطهرا لکان موجبا لا فعلیا ، وإن کان حصول المتعدد دفعیا ، فالموجب حقیقة هو الجامع فیهما کما قد عرفت فلا نعید .

الرابع : _ قد عرفت إمکان تحقیق الملاکین ووجودهما من الوجوب والندب هاهنا ، ولو لم نقل بامکان ذلک فی اجتماع الأمر والنهی من حیث کونه ممتنعا ، ولم نقل بکفایة تعدد الجهة فی رفع الاستحالة ، لما قد عرفت من عدم وجود التضاد بین الوجوب والاستحباب من جهة الطلب وقیده بما لا نعیده .

وقد عرفت أیضا أنّه لو لم نسلّم ذلک ، فلا یکون المورد من قبیل اجتماع الأمر والنهی ، حتی یکفی تعدد الجهة فی رفع الاستحالة وهذا هو الذی ذهب إلیه الحکیم قدس سره فی «المستمسک» والآملی قدس سره فی «مصباح الهدی» ، خلافا للسید قدس سره فی «العروة» ، بل قد یستظهر من صاحب «الجواهر» قدس سره أیضا ما ذکرناه ، وإن کان یحتمل اختیاره لما اختاره السیّد من إمکان اجتماع جهة الوجوب والاستحباب .

ونحن نزید فی ذلک ونقول : بل یمکن أن یحکم بالصحة بناءاً علی ما حققناه ، حتی فی الصورة التی فرضت بأن کن الموجب لاتیان الوضوء غایته المندوبة ، ولکن کان علی نحو التقیید ، بحیث لو توجه أن المورد کان من مصادیق موجبات الوجوب لم یأت بهذا الوضوء فعلاً ، لما قد عرف من حصول رفع الحدث بذلک ، ووجود قصد القربة کما علیه الفقیه الهمدانی قدس سره فی «المصباح» .

ولکن الأحوط فی هذه الصورة عدم الاکتفاء بذلک ، لوجود الشبهة من جهة قصد القربة ، إذ المفروض أنّه یقصد التقرب إلی اللّه عند فرضٍ دون غیره ، ولعله لذلک قد أفتی السیّد قدس سره وتبعه الحکیم والآملی بعدم الصحّة ، فتأمل .

فی الاستحباب النفسی للوضوء و عدمه

فظهر مما ذکرنا حکم صورة عدم الالتفات _ وهو القسم الثانی _ أی من لم یکن متوجها بکونه محدثا ، بل زعم خلافه من صحّة الدخول فی الفریضة حتی

ص:31

بذلک الوضوء الذی لم یقصد به حین العمل رفع الحدث ، مثل الوضوء التجدیدی ، والوضوء المجامع للحدث الأکبر ، والوضوء للقیء والرعاف ، إذا ظهر بعد الوضوء فساد الوضوء الذی کان قبله ، وبان له أنّه کان محدثا بالحدث الأصغر ، لان المفروض تحقّق رفع الحدث بذلک ، لعدم إمکان اجتماعهما ، لما قد حققناه بأن تقابلهما أما علی نحو تقابل الإیجاب والسلب فیکونان متناقضین ، أو تقابل التضاد فیکونان متضادین ، فالقول بعدم تحقّق الوضوء مع إیجاد أفعاله مع النیة خارجا واضح الفساد . کما أنّ القول بوجود الحدث بعد الوضوء أفسد ، ولذا لم یقل أحدٌ بعدم جواز مس کتابة القرآن ، وإتیان الصلاة المندوبة مع هذا الوضوء ، مع أنّه لا خلاف فی کونهما مشروطین بالطهارة أیضا ، وإن لم تحصل الطهارة به ، فلم یجوز المس ، فاذا حصلت الطهارة فیجوز الدخول فی الفریضة أیضا ، إذ لا فرق بین الفریضة وغیرها من حیث شرطیة الطهارة ، مضافا إلی إمکان الاستظهار لذلک من حدیث الجعفریات : «قال : أخبرنا محمّد ، حدّثنی موسی ، حدّثنا أبی ، عن أبیه ، عن جدّه جعفر بن محمّد ، عن أبیه ، عن جدّه : أنّ علی بن أبی طالب کان یتوضأ لکلّ صلاة ویقرأ «إِذَا قُمْتُمْ إِلَی الصَّلاَةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَکُمْ» . . . الآیة»(1) . ومثله حدیث القطب الراوندی قدس سره (2) .

توضیح ذلک : أنّه یظهر من هاتین الروایتین محبوبیة الوضوء لکلّ صلاة ، فاذا توضأ للصلاة بتخیل کونه متوضا أولاً فبان الخلاف فلا إشکال فی صحّته ، لأنّه علی کل حال أوقع الوضوء وأوجده لاتیان الصلاة غایة الأمر أن الفرق ببینهما أنّه لو کان ملتفتا بعدم کونه متوضأ أتی به للصلاة وجوبا ، إن کانت واجبة ومندوبا إن


1- مستدرک وسائل الشیعة : الباب 7 من أبواب أحکام الوضوء، الحدیث 1 .
2- مستدرک وسائل الشیعة : الباب 8 من أبواب أحکام الوضوء الحدیث 4 .

ص:32

کانت مندوبة ، وحیث کان غیر متلفت فیأتی بالوضوء للصلاة أیضا مندوبة من جهة امتثال الأمر التجدیدی ، فهو أیضا للصلاة ، فلم لا یصح ؟ فاذا فرض صحّة الدخول فی الفرض المذکور بالخصوص _ أی ما أتی به للصلاة بذلک الاستدلال _ فیتم فی غیر الفرض المذکور ، وهو کما إذا توضأ لا لخصوص الصلاة بل للکون علی الطهارة مثلاً ، بعد القول بالفصل ، یعنی کل من قال بالکفایة فی الأوّل یقول بها فی الثانی ، ومن لم یذهب إلی الکفایة فی الثانی لم یذهب إلیها فی الأوّل أیضا ، ولم نشاهد من أحد التفصیل بین الفرضین .

فثبت من ذلک کله إمکان الاکتفاء بذلک الوضوء حتی للفریضة أیضا ، کما لا یخفی ، وهکذا یکون فی غیر التحدیدی من الضوءات التی أتی بها لغیر الطهارة .

وأما ما استدل به فی «الجواهر» بما دل علی کون الوضوء التجدیدی کان لجبران الخلل فی الوضوء الأوّل ، فله وجهٌ وجیه ، ولکن لم نجد فی الخبر ما یشیر إلی ذلک أصلاً ، حتی یستدل به علی المطلب بکون مشروعیته لذلک . فراجع وتتبع لعلک تجد ما لم نجد ، وقد قیل إنّ عدم الوجد أن لا یدل علی عدم الوجود ، واللّه یهدی من یشاء إلی سبیل الرشاد .

المسألة الثالثة : لا یخفی علیک وقوع الخلاف بین الفقهاء فی أنّ الوضوء هل هو مستحبٌ بنفسه وبذاته أو لا ؟ کما وقع الخلاف فی تفسیره أیضا ، لأنّه قد یفسر بالوضوء المستحبی علی الوضوء للکون علی الطهارة ، وآخر یفسره بما کان نفس الفعل وهما الغسلتان والمسحتان راجحا بذاته بلا توجه إلی الکون علی الطهارة أو غیره من الغایات .

ولکن الحق _ وفاقا لأهل التحقیق ، بل قد ادّعی علیه الإجماع ، کما عن الطباطبائی ، بل ولا خلاف فیه کما فی «کشف اللثام» _ هو کون الوضوء بالمعنی الأوّل مستحبا قطعا ، إمّا من جهة کونه احدی الغایات _ کما ادُّعی _ أو کونه من

ص:33

آثار الوضوء بالمعنی الثانی ، وکیف کان فلابد أن یتوجه الإشکال إلی المعنی الثانی منهما ، فحینئذ یقال : هل الوضوء بنفسه راجحٌ مع قطع النظر عن قصد الکون علی الطهارة _ کما علیه السیّد قدس سره فی «العروة» من عدم الاستبعاد ، والحکیم وغیرهما _ أو غیر راجح ، بل قد یدعی حرمته وبطلانه کما یظهر من الشیخ الانصاری قدس سره والآملی وغیرهما کما یشیر إلیه ظاهر کلام الفاضلین والشهید فی «الذکری» بقولهم : «لو نوی الُمحْدِث بالأصغر وضوءا مطلقا مقابلاً للوضوء للغایات حتی الکون علی الطهارة کان باطلاً» . حیث فهم منه الشیخ کون المراد بنفسه راجحا ، بلا ملاحظة غایة من الغایات ، ولذا حکم بالبطلان وأنّه حرام لکونه تشریعا .

وقد تمسک کل فریق لاثبات مرامه بوجوهٍ ، لا بأس بالتعرض لها ، وبیان ما هو الواصل إلیه نظرنا القاصر ، واللّه هو المعین ، فنقول :

استدل للاول بعدة أخبار : مثل الحدیث القدسی الذی رواه الدیلمی قدس سره فی «الارشاد» : «من أحدث ولم یتوضا فقد جفانی» . ومثل المرسلة المرویة فی «الفقیه» بقوله : «الوضوء علی الوضوء نور علی نور»(1) . ومکاتبة أمیر المؤمنین علیه السلام لمحمد بن أبی بکر لمّا ولاّه مصر : «الوضوء نصف الإیمان»(2) . وقول الصادق علیه السلام فی خبر السکونی : «الوضوء شطر الإیمان»(3) . ومثل قوله علیه السلام فی حدیث سعد : «إنّ الوضوء بعد الطهور عشر حسنات»(4) .

حیث یفهم من مجموع هذه الأخبار کون نفس الوضوء مطلوبا ومرغوبا ، لا


1- وسائل الشیعة : الباب 8 من أبواب الوضوء، الحدیث 8 .
2- مستدرک وسائل الشیعة : الباب 15 من أبواب أحکام الوضوء الحدیث 8 .
3- وسائل الشیعة : الباب 1 من أبواب الوضوء، الحدیث 5 .
4- وسائل الشیعة: الباب 8 من أبواب الوضوء ،الحدیث 3 .

ص:34

للکون علی الطهارة ، ولیس الوضوء إلاّ الغسلتان والمسحتان ، فهو المطلوب .

وأجاب القائلون بالقول الثانی : بأن المراد من الوضوء فی هذه الأخبار هو مامعناه الکون علی الطهارة ، ولذلک تری هذه الأخبار مذیلة بذیل یکون قرینة علی کون المراد من الصدر هو الطهارة ، لما تری من تذییل الخبر الأوّل : بأنه لو توضأ ولم یغسل فقد جفانی ، حیث یدلی علی أنّ المطلوب هو رفع الحدث ، وتحصیل الطهارة ، لا نفس العمل ، وهکذا ذیل الخبر الثانی : حیث کان فی «تطهّروا» ، الظاهر کون هو المراد من الصدر .

مضافا من الانصراف إلی الکون علی الطهارة من الأخبار المطلقة ، فیحمل علیه کما أطلق ، وهو واضح . هذا فضلاً عن إمکان الاستدلال لذلک بالتعلیل الوارد من ثامن الأئمّة علیهم السلام فی خبر «العلل»(1) بقوله : «وإنّما أمر بالوضوء وبدء به لأن یکون العبد طاهرا إذا قام بین یدی الجبار» ، حیث یفهم منه کون تمام المقصود هو الکون علی الطهارة ، لا نفس العمل ، کما لا یخفی .

بل قد استدل لذلک بقوله تعالی : «إنّ اللّه یحبُ التَّوابینَ وَیُحبُّ المُتَطهرین»(2)، وبقوله تعالی : «فیه رجالٌ یُحبُّونء أن یَتَطهروا وَاللّه ُ یُحبُّ المُتَطهرین»(3) .

ولکن یمکن الخدشة فیهما ، بأن ظاهر التطهیر فی الآیتین هو الطهارة من الذنوب والرذائل النفسانیة ، وذلک بمناسبة الحکم والموضوع ، کما یفهم ذلک من تصدر ما بالتوابین فی الأولی ، والمحبة للطهارة باکتساب الفضائل فی الثانیة .

اللهم إلاّ أن یقال : إنّ انطباق الکبری علی بعض الأفراد لا یوجب الانحصار ،


1- وسائل الشیعة : الباب 1 من أبواب الوضوء، الحدیث 9 .
2- سورة البقرة : آیة 222 .
3- سورة التوبة : آیة 107 .

ص:35

فکأنّ الآیة فی صدد بیان أنّ اللّه تعالی کما یُحبُّ التوابین یحب المتطهرین بأی نوع من الطهارة ، فیشمل بإطلاقه جمیع أفرادها من الطهارة الحدثیة والخبثیة والصفات الرذیلة النفسانیة ، فعلی ذلک یتمّ الاستدلال ، فتکون الآیتان جاریتان مجری التعلیل ، فکأنه جواب عن السؤال : بأنّ طلب الطهارة وإظهار المحبّة لها هل هو ممدوح أم لا ؟ فیجاب نعم ، لأنّ اللّه تعالی یحبّ المتطهِّرین ، فإطلاقه شامل لجمیع أفرادها .

کما یؤیّد ذلک الأخبار الدالّة علی استحباب التسمیة فی الوضوء وهی : «بسم اللّه وباللّه اللّهم اجعلنی مِنَ التوابین واجْعلنی من المتطهِّرین» .

بل قد استدل أیضا للقول الثانی بما ورد فی «أمالی الصدوق» قدس سره عن رسول اللّه صلی الله علیه و آله : «یا أنس أکثر من الطهور یزد اللّه فی عمرک ، وإنْ استطعتَ أن تکون باللیل والنهار علی طهارة فافعل ، فإنّک إذا مت علی طهارة مت شهیدا»(1).

فحینئذ لا یبعد إمکان الاستدال بما عن «النوادر» للراوندی عن أمیر المؤمنین علیه السلام : «کان أصحاب رسول اللّه صلی الله علیه و آله إذا باتوا توضؤا أو تیمّموا ، مخافة أن تدرکهم الساعة _ أی ساعة الموت _ فیفوتهم ثواب الشهادة من جهة فقد الطهارة» ، حیث یفهم منه مطلوبیة أصل الطهارة ، کما لا یخفی .

والإنصاف أن یقال : إنّه إنْ فرضنا بأنّ الوضوء بذاته رافع للحدث ومحصل للطهارة ، ولا یحتاج رفع الحدث الحاصل منه إلی القصد کما هو الحقّ الموافق للتحقیق ، فحینئذ لا یمکن التفکیک بین الغسلتین والمسحتین فی الخارج مع قصد القربة ، ووجود الطهارة برفع الحدث ، فیکون ذلک من الأسباب التولیدیة


1- وسائل الشیعة : الباب 11 من أبواب الوضوء، الحدیث 3 .

ص:36

القهریة ، سواء کان ملتفتا إلی حصول أثره أم لا .

وحیث کان الأمر کذلک فلا یبعد أن یقال إنّ المطلوب الأولی للشارع هو حصول الطهارة للعبد ، کما تری حسن الاستدلال لذلک فی کلام الإمام علی بن موسی الرضا علیه السلام ، إلاّ إنّه لما کان ذلک أثر اللزوم وغیر المنفک عن الغسلتین والمسحتین مع قصد القربة لذا قد یعبر فی الأخبار بما یدلّ علی حسن التوضئ وذلک لقوله علیه السلام : «الوضوء نور علی نور وهو شطر الإیمان أو نصف الإیمان» . فلهذا لا یبعد دعوی محبوبیة العمل من جهة محبوبیة حصول الطهارة ، من باب محبوبیّة المقدّمة بواسطة ذیها ، فلا یمکن فرض حصول العمل مع قصد القربة ، ولا یحصل معه الطهارة ، حتی یقال إنّه مضافا إلی عدم کونه مستحبّا کان حراما تشریعیا کما فی کلام الشیخ الأنصاری قدس سره .

وجوب الغُسل نفسی أم غیری؟

فثبت من ذلک أنّ العمل مستحبٌ أی محبوب بواسطة محبوبیّة الأثر المترتب علیه وغیر المنفّک عنه ، وهو الطهارة ، فحینئذٍ ینتج صحّة ما قاله الحکیم قدس سره أنّه لو أتی بالوضوء غافلاً عن قصد الکون علی الطهارة بداعی محبوبیة العمل کان ومستحبا ، ولعله هو مراد صاحب «مصباح الفقیه» فالاستحباب للوضوء بذلک المعنی أمرٌ مقبول ووجیه .

نعم ، یشکل ذلک لمن زعم : أنّ رفع الحدث لا یتحقّق إلاّ بالنیّة ، لأنّه حینئذ إن لم یقصد من العمل الکون علی الطهارة ، لم یتحقّق رفع الحدث ، فاستحباب نفس العمل حینئذٍ لا وجه له ، لأنّ المفروض عدم ترتب أثر علی العمل خارجا ، واستفاد محبوبیة نفس الغسلتین والمسحتین مع قصد القربة ، ولو مع عدم ترتّب أثر علیه من تلک الأخبار ، مشکل جدّا .

ص:37

والواجب من الغسل ما کان لأحد الأمور الثلاثة ، أو لدخول المساجد أو لقراءة العزائم إنْ وجبا (1).

(1) لا یخفی أنّ الظاهر من کلام المصنّف _ کما علیه عددٌ من الفقهاء کما عن الحلّی والمحقّق والکرکی ، والشهیدین بل أکثر المتأخرین ، کما فی «جامع المقاصد» بل هو المشهور مطلقا کما فی «الحدائق» _ کون وجوب الغَسل من الجنابة والحیض والنفاس وغیرها غیریا لا نفسیا ، خلافا لعدد آخر من الفقهاء ، حیث ذهبوا إلی الوجوب النفسی ، کما نسب ذلک لابن شهر آشوب ، وابن حمزة فی «الوسیلة» والعلاّمة فی «المنتهی» و«التحریر» و«المختلف» والراوندی والأردبیلی ، وصاحب «المدارک» و«الذخیرة» و«الکفایة» وغیرهم .

نعم قد نسب التوقّف فی ذلک أیضا إلی المحقّق المذکور فی مبحث الغسل ، کما فی «مفتاح الکرامة» و«القواعد» و«التذکرة» و«النهایة» للعلاّمة ، بل هو ظاهر الأردبیلی فی «آیات الأحکام» ، ومولانا المجلسی علی ما نقل عنه ، فصارت الأقوال حینئذٍ ثلاثة ، فلا بأس بالاشارة إلی وجوه التی استدلّ بها کل قوم ولو بما یمکن الاستشهاد لهم ، وإن لم یتمسکوا به ولم یشیروا إلیه ، وثمّ نسوق البحث إلی کلّ غسل مستقلاً ، حتّی ینظهر فی أدلته فی الجملة ، وإن کان یمکن أن نوکل بعض مباحثها إلی المحلّ المناسب لکلّ غسل ، فنقول وباللّه الاستعانة :

أمّا غُسل الجنابة : فقد تمسّک واستدلّ أو یمکن أن یستدلّ لوجوبه النفسی بأمور :

الأوّل : بالآیة وهی قوله تعالی : «إذا قُمْتُم إلی الصَّلاة فَاغْسِلُوا وُجُوهَکُم . . .

ص:38

وإن کنتم جُنُبا فاطَّهروا»(1) بکون الواو للاستئناف ، فصارت جملة مستقلّة ، أو عاطفة عطفا علی جملة شرطیة «إذا قُمْتُم إلی الصَّلاة» ، فحینئذ تدلّ علی وجوب تحصیل الطهارة عند حصول الجنابة ، سواء ترتبت علیه غایة من الغایات الواجبة أو لا .

هذا ، ولکنه مخدوش أولاً : بأنّ التصدیر بقوله تعالی : «إذا قُمْتُم إلی الصَّلاة» یفهم منه العرف أنّ تحصیل الطهارة کان لأجل الصلاة ، کما أنّ ذیلها أیضا الذی کان مربوطا بالتیمم متعلق بکلا الأمرین من الضوء والغسل ، ولا إشکال فی کون الوضوء للصلاة وکذلک یکون الغسل والتیمّم ، لوحدة السیاق ، لوضوح عدم المتانة فی جعل الجملة المعترضة المستقلّة للغسل فی وسط الآیة بین الضوء والتیمّم المفروض کونهما متعلِّقین للصلاة فتکون قوله : «وإنْ کُنتم»عطفا علی «فَاغْسِلوا» لا علی قوله «إذا قُمتم»حتی لا تدل علی المطلوب ، خلافا لصاحب «مستند الشیعة» حیث ذکر الاحتمالین ولم یعیّن أحدهما ، فراجع .

فحینئذ لو لم نقل بدلالة الآیة علی الوجوب الغیری الشرطی للغسل ، کما هو الظاهر ، غایته دلالتها علی أصل الشرطیة ، بأنّ الصلاة شرطها هو الطهارة من الجنابة أیضا ، فیکون ساکتا عن حکم نفس الغسل من الوجوب والاستحباب ، بل یکون فی ذلک تابعا لحکم الصلاة ، کما قلنا ذلک فی الوضوء أیضا .

لکنّه مخدوشٌ بأنّه لو لم نقل بوحدة السیاق ، وما سیأتی من المؤیّدات علی الوجوب الغیری ، لما کان لذکر دلالته علی بیان الشرطیة وجه ، لأنّها جملة مستقلّة ، وظهور الأمر فی الوجوب النفسی واضح .

بل قد یؤیّد ما ذکرنا آیة اُخری واردة فی الجنابة ، وهو قوله تعالی : «یا أیّها


1- سورة المائدة : آیة 6 .

ص:39

الّذینَ آمَنُوا لا تَقْربُوا الصَّلاة وأنتُم سُکاری حتّی تَعْلَموا ما تَقُولُون ولا جُنُبا إلاّ عابری سبیل حَتّی تَغْتَسلوا»(1) حیث تکون دلالتها علی کون الجنابة مانعة من الدخول فی الصلاة وشرطها الغسل ، أی باعتبار کون المشی إلی مواضع الصلاة هی المساجد ، أی لا تتوجّهوا مع الجنابة إلی المساجد للصلاة ، إلاّ أنْ تکونوا عابرین أو مجتازین ، هذا هو أحد المعنیین .

والآخر : أن یکون المراد بأنّ الدخول فی الصلاة من شرطها الغسل عن الجنابة ، إلاّ أن یکون مسافرا لا یقدر علی ذلک ، حیث أنّه یتیمّم حینئذٍ فیکون المراد من قوله : «عابری سبیل» أی یکون مسافرا .

وفی «مجمع البیان» أن الأوّل أقوی ، لأن معنی الثانی یوجب التکرار فی ذیل الآیة من بیان حکم التیمّم .

ولکن الظاهر اقوائیة الثانی ، لأنّه لم یتعرض بصدرها حکم وجوب التیمّم ، بل کان متعرّضا لجهة عدم وجوب الغسل فقط ، وأمّا کون وظیفته التیمّم أوّلاً ؟ فهو مستفاد من ذیلها فلا یکون تکرار .

وکیف کان ، فدلالتها علی کون وجوب الغُسل للصلاة واضحة _ کما أنّ الدلالة فی الآیة الاولی کانت أوضح _ فاستفاد الوجوب النفسی من الآیتین _ کما احتمله بعض ویظهر من کلماتهم _ مشکلٌ جدا .

بل قد یؤیّد بما ورد فی ذیل الآیة الواردة فی سورة المائدة وهی قوله تعالی : «ما یُریدُ اللّه َ لِیجْعَلَ علیکم مِنْ حرجٍ ولکن یُرید لیطهِّرکمُ» الآیة ، لوضوح أنّ الحکم بالوجوب النفسی _ حتی بنحو الموسع _ کان أصعب ، خصوصا مع احتماله الفوت بحصول الموت فی کل ساعة ، وهذا بخلاف ما لو کان مستحبا فی


1- سورة النساء : آیة 43 .

ص:40

نفسه وبذاته ویجب لغایة واجبة فهو أسهل بمراتب من الوجوب النفسی .

الثانی : مما استدل به للوجوب النفسی بطوائف من الأخبار :

طائفة منها : تدل علی ذلک ، لما یشمل اطلاف لفظ الواجب أو الوجوب أو الفریضة علی غسل الجنابة ، کما تری ذلک فی مثل ما روی عن أبی الحسن موسی ابن جعفر علیه السلام فی حدیث قال : «غُسل الجنابة فریضة»(1) .

ومثله خبر سماعة عن الصادق علیه السلام : «غسل الجنابة واجب ، وغسل الحائض إذا طهرت واجب ، وغسل المستحاضة واجب . . .»(2) الحدیث .

ومثله حدیث مرسل یونس عن بعض رجاله عن الصادق علیه السلام قال : «الغسل فی سبعة عشر موطنا ، منها الفرض ثلاثة» . فقلت : جُعلتُ فداک ما الفرض منها ؟ قال : «غسل الجنابة ، وغسل من مس میتا ، والغسل للاحرام»(3) حیث دل ظاهر الخبرین علی وجوب الغسل نفسیا لا غیریا ، کما هو واضح .

وطائفة اُخری من الأخبار : ما تمسّکوا بکون الغسل یترتب علی التقاء الختانین ، أو علی الإنزال ، أو علی الدخول أو الجنابة ، وذلک مثل خبر محمّد بن مسلم عن أحدهما علیهماالسلام قال : «سألته متی یجب الغسل علی الرجل والمرأة ؟» فقال : «إذا أدخله فقد وجب الغسل والمهر والرجم»(4) . وحدیث ابن بزیع عن الرضا علیه السلام فی حدیثٍ : «متی یجب الغسل ؟ فقال : إذا التقی الختانان فقد وجب الغسل» الحدیث(5) .


1- وسائل الشیعة : الباب 1 من أبواب الجنابة، الحدیث 1 .
2- وسائل الشیعة : الباب 1 من أبواب الجنابة، الحدیث 3 .
3- وسائل الشیعة : الباب 1 من أبواب الجنابة، الحدیث 4 .
4- وسائل الشیعة : الباب 6 من أبواب الجنابة، الحدیث 1 .
5- وسائل الشیعة : الباب 6 من أبواب الجنابة، الحدیث 2 .

ص:41

وخبر عبید اللّه الحلبی قال : «سألت أبا عبداللّه عن المفخذ علیه غسلٌ ؟ قال : نعم إذا أنزل»(1) .

وأمثال ذلک کثیرة فی الأخبار .

وجه الدلالة : أنّه قد علق وجوب الغسل علی هذه الاُمور ، بلا اشارة إلی جهة اخری یکون الغسل شرطا لها ، فظهر أنّ وجوبه نفسی .

وطائفة اخری : هی الأخبار الدالّة علی تغسیل المیّت جُنبا ، بل وجوب نیة غسل الجنابة له أیضا ، لخروج المنی عنه بالموت ، فیفهم من ذلک وجوب الغُسل ولو لم یترتب علیه شیء من الغایات ، کما هو کذلک فی المیّت ، کما فی خبر عبدالرحمن بن حمّاد ، قال : سألت أبا ابراهیم علیه السلام : «عن المیّت لم یُغسَّل غُسل الجنابة فذکر حدیثا فیه : فاذا مات سالت منه النطفة بعینها ، یعنی التی خلق منها ، فمِنْ ثمَّ صار المیّت یُغسّل غُسل الجنابة»(2) .

ونظیر ذلک کثیر فی ذلک الباب ، فلا نذکره خوفا من الاطالة .

وجه الاستدلال : أنّه له لم یکن واجبا نفسیا ، یحکم بتغسیل المیّت ، ولم یکن حکمه إلاّ من جهة ان الجنابة موجبة لوجوب الغسل ، ولو لم یکن الغیر علیه واجبا کما هو کذلک فی المیّت .

بل وخبر عیص ، قال : «قلت لأبی عبداللّه علیه السلام : الرجل یموت وهو جنب ؟ قال : یغسل من الجنابة ثمّ یُغسَّل بعد غُسل المیّت»(3) .

وغیره من الأخبار الواردة فی هذا الباب من الحکم باتیان غسل الجنابة ، غایة


1- وسائل الشیعة : الباب 7 من أبواب الجنابة، الحدیث 1 .
2- وسائل الشیعة : الباب 4 من أبواب غسل المیّت، الحدیث 8 .
3- وسائل الشیعة : الباب 31 من أبواب غسل المیّت، الحدیث 7 .

ص:42

الأمر کفایة غسل واحد عن الغسلین من غسل الجنابة وغسل المیّت ، بل یکفی أکثر من ذلک من الحیض والنفاس أیضا ، کما لا یخفی لمن راجع الأخبار .

بل قد یستدل بصحیح عبدالرحمن بن أبی عبداللّه ، قال : «سألت أبا عبداللّه علیه السلام : الرجل یواقع أهله أینام علی ذلک ؟ قال : اللّه یتوفی الأنفس فی منامها ولا یدری ما یطرقه من البلیّة ، إذا فرغ فلیغتسل»(1) الحدیث .

وجه الاستدلال : أنّه لو لم یکن واجبا نفسیا لما یحکم بذلک ، فحیثُ أمر بالغسل خوفا من درک الموت وهو جنبٌ ، یفهم منه الوجوب النفسی .

الثالث : حکم الفقهاء بوجوب إتیان الغسل قبل وقت الواجب الموقت کالصوم ، من أن الواجب الذی هو ذو المقدّمة مالم یدخل الوقت لم یجب ، فکیف یکون وجوب مقدمته وهو الغسل قبله ؟ فلیس هذا إلاّ من جهة کونه واجبا نفسیا . بل قد استدل الحکیم قدس سره بخبر معاذ أیضا حیث سأل الصادق علیه السلام : «بالدین الذی لا یقبل اللّه غیره من العباد ؟ فأجاب علیه السلام وعدّ امورا منها : والغُسل من الجنابة»(2) .

هذه جملة ما استدل بها فی الوجوب النفسی للغسل من الجنابة .

ولکن الانصاف عدم تمامیة شیء منها لاثبات الوجوب النفسی قطعا ، فلابد من الترعض لکلّ واحد منها بالخصوص ومناقشتها . فنقول وباللّه الاستعانة :

أما الجواب عن الطائفة الأولی من الأخبار فیمکن أن یقال :

أولاً : إطلاق الفریضة علی غسل الجنابة ، کان باعتبار ان وجوبه قد ذکر فی القرآن ، إذ قد یطلق الفریضة علی ذلک وما قابله هو وجوب السُّنة ، أی کان


1- وسائل الشیعة : الباب 25 من أبواب الجنابة، الحدیث 4 .
2- وسائل الشیعة : الباب 1 من أبواب مقدّمة العبادات، الحدیث 38 .

ص:43

وجوبه قد بلغنا بواسطة سنته صلی الله علیه و آله لا عن طریق القرآن ، کما یشهد لذلک خبر حسین بن النضر الأرمنی قال : «سألت أبا الحسن الرضا علیه السلام عن القوم یکونون فی السفر ، فیموت منهم میتٌ ومعهم جنبٌ ، ومعهم ماءٌ قلیل قدر ما یکفی أحدهما ، أیهما یبدء به ؟ قال : یغسل الجنب ویترک المیّت ، لأنّ هذا فریضة وهذا سنة»(1) .

وفی «وسائل الشیعة» فی ذیله : المراد بالسنة ما علم وجوبه من جهة السنة ، وبالفرض ما علم وجوبه من القرآن ، کما عن الشیخ الطوسی فی ذیل حدیث سعد بن أبی خلف(2) فیحمل الفریضة فی المورد علی ذلک لا بمعنی الوجوب النفسی .

لا یقال : کیف یمکن أن یحمل علیه ، مع ملاحظة انضمام غسل الحیض والاستحاضة مع غسل الجنابة فی الأخبار ، مع عدم وجودهما فی القرآن مثل غسل الجنابة .

لأنا نقول : أما غسل الحیض فقد أتی حکمه فی القرآن بقوله تعالی : «یَسْألُونَکَ عن المَحِیض قُل هو أذیً فاعْتزلوا النساء فی المحیض فلا تَقْربُوهن حَتّی یَطْهُرن فإذا تَطهَّرن فأتُوهُنَّ مِن حیثُ أمَرَکُم اللّه» الآیة(3) .

وجه الاستدلال: هو النهی عن المقاربة حتی یطهرنّ ، بناء علی معنی الغسل لا النقاء فقط ، فینضم ذلک مع وجوب المجامعة فی کلّ أربعة أشهر ، فینتج وجوب الغسل علیها عند حصول المقاربة ، وهو المطلوب .

وأمّا غُسل الاستحاضة الذی یکون فی صورة کثرتها ، لا یبعد أن تکون هی


1- وسائل الشیعة : الباب 1 من أبواب الجنابة، الحدیث 10 .
2- وسائل الشیعة : الباب 1 من أبواب الجنابة، الحدیث 11 .
3- سورة البقرة : آیة 222 .

ص:44

مرتبة ضعیفة للحیض ، کما یشعر بذلک مادّة اشتقاقها ، حیث تکون مأخوذة من مادّة الحیض ، فعلیه یدخل فی الآیة بعمومها بنحو الإجمال ، فعلیه یمکن أن یکون المراد من الوجوب فی بعض الأخبار هو هذا المعنی ، بقرینة تلک الأخبار ، مضافا إلی عدم وجود إطلاق الفریضة علیهما حتی نحتاج إلی تأویل .

وثانیا : إنّه لا یمکن إرادة الوجوب النفسی فی غسل الجنابة ، لاقترانه بمثل غسل الحیض والاستحاضة ، حیث قد ادعی فی «الجواهر» الإجماع _ بکلا قسمیه من المحصل والمقول _ علی عدم الوجوب النفسی فی المحیض ، ففی الاستحاضة یکون بطریق أولی ، فکیف یمکن الافتراق بین جزئین من جملة واحدة ، من الحکم بالوجوب النفسی فی واحد دون الآخر ، وهو واضح .

هذا بخلاف ما لو حمل علی الوجوب الغیری ، حیث یصح فی تمام الأقسام من الجنابة والحیض والاستحاضة ، کما لا یخفی .

وسنزید توضیحا لهذا الإشکال انضمام غسل مس المیّت والاحرام فی مرسلة یونس إلی غسل الجنابة ، مع القطع بعدم وجوب غسل الاحرام حتی فی الحجّ الواجب ، کما هو واضح ، فلابد له من تأویل آخر .

وثالثا : یمکن أن یکون إطلاق الوجوب علیه محمولاً علی العهد الذهنی فی الخارج ، من کونه شرطا لمثل الصلاة ، کما قلنا بمثل ذلک فی الوضوء ، فیساعد ذلک علی الوجوب الغیری لا النفسی ، أو کان الوجوب والواجب بمعناه اللغوی ، وهو الثبوت واللزوم ، لا الوجوب الاصطلاحی الفقهی کما أشرنا إلیه فی باب الوضوء .

وهذا الجواب یمکن اسراءه إلی الطائفة الثانیة من الأخبار ، حیث أنّ الغسل قد تعلق علی الادخال أو الانزال أو غیرهما ، فالحکم بالوجوب کان بمعنی الثبوت أو اللزوم ، أی ثبت ذلک بهذه الأسباب ، کما یثبت لذلک بالنسبة إلی المهر والرجم الموجودان فی خبر محمّد بن مسلم ، أی قد ثبت المهر والرجم ان کان

ص:45

الدخول مع الاجنبیة . فضلاً عن أنّ هذه الأخبار هی فی صدد بیان أصل إثبات حکم الغسل بهذه الأمور ، أما کون وجوبه نفسیا أو غیریا فخارج عن لسان الدلیل ، أی أن الدلیل لیس فی صدد بیانه کما هو واضح لمن أنصف وتأمل فیها .

أما الجواب عن الطائفة الثالثة من الأخبار : هو أنّ الخطاب فی ذلک متوجه إلی الغاسل والولی لا إلی المیّت الجُنُب ، حتی یستفاد مه الوجوب النفسی لعروض الجنابة علی من عرض له ذلک ، فلا منافاة بین أن یکون التغسیل للمیّت الجنب واجبا علی الغاسل دون من کان جنباً حیّاً ، کما هو مفروض البحث .

مضافا إلی أنّه کیف ینتقل التکلیف بوجوب غسل الجنابة بوجوب نفسی من المیّت إلی الغیر ، بل هو وجوب مستقلٌ علی حده متوجه إلی الغاسل .

مضافا إلی أنّه لم یفتِ أحد من الفقهاء فی ذلک بوجوب غَسل المیّت غسلاً آخر بعنوان الجنابة ، بل یکفی غسله الذی کان واجبا لکل میت عن ذلک .

وأما کون علة وجوب تغسیله بهذه الجهة ، کما أشیر إلیها فی بعض الأخبار ، وهو أمر آخر ، لإمکان أن یکون بواسطة أنّه عرج إلی لقاء اللّه فأراد اللّه تعالی طهارته عن کل دنس وقذارة ، وهو غیر مرتبط بالجنب الحی ، الذی لا یقصد ذلک ، لعدم کون فی وقت واجب شرطه الطهارة ، ولا فی حال یرید لقاءه تعالی ، فلا یبعد القول حینئذٍ بحسن ذلک ومحبوبیته بنحو الاستحباب ، لا الوجوب النفسی .

کما أنّه یمکن الجواب عن صحیح عبد الرحمن : بأنه لم یسمع عن أحد من الفقهاء الحکم بوجوب غسل الجنابة بعد الفراغ ، فلا یکون معمولاً به عند الأصحاب ، ولکن ذلک لا ینافی حمله علی الاستحباب ومطلوبیة الغسل بنفسه ، کما قد یشعر ذلک بیان التعلیل الوارد بقوله : «لا یدری ما یطرقه من البلیّة» ، حیث یستظهر منه کون ذلک ترغیبا وتحریکا علی استعجال ذلک ، فهو مما لا یُنکر کما لا یخفی .

ص:46

کما یشهد خلافه فی صحیحتی سعید الأعرج ، وسماعة(1) حیث أجاز تأخییر الغسل إلی بعد النوم وعند الیقظة ، فراجعهما .

وأمّا الجواب عن الدلیل الثالث فلأنّا نقول : وجوب الغسل فیما قبل وقت الواجب فی مثل غسل المستحاضة الصائمة لصوم غدها ، حیث یجب قبل دخول وقت الصوم وهو طلوع الفجر ، یمکن أن یکون بأحد من الأمور الأربعة :

إمّا علی نحو ما قاله صاحب «الفصول» فی الواجب المعلق من کون الوجوب حالیا والواجب استقبالیا ، فیترشح من ذلک الوجوب وجوبٌ لتلک المقدّمة .

أو یقال : بکون وجوبه بواسطة حکم العقل بذلک ، لأنّه یحکم فیما یعلم تقویت الواجب لو لم تحصل مقدمته قبل دخوله بوجوب إتیان المقدّمة قبل الوقت .

أو یقال : بما احتمله صاحب «الکفایة» قدس سره بأنه إذا علمنا من دلیل الخارج وجوب إتیان هذه المقدّمة قبل الوقت ، فیکشف بطریق إلانّ بأن وجوب فی هذا المورد بخصوصه یکون واجبا غیریا شرعیا ، بوجوبٍ حالی ، لاستحالة وجوب المقدّمة قبل وجوب ذیها .

أو یقال : بما احتمله صاحب «الکفایة» _ علی ما أظنّ _ وهو منسوب إلی صاحب «المدارک» قدس سره بکون الوجوب فی ذلک وجوبا نفسیا ، کأنه هو واجب برزخی بین وجوب الواجب النفسی الذی یقول به القائل ، وبین الوجوب الغیری .

فمع وجود إحدی هذه الاحتمالات ، لا وجه للحمل علی کون وجوب الغسل قبل الوقت واجبا نفسیا ، کما لا یخفی . هذا تمام الکلام فی أدلّة الوجوب النفسی .

والآن نشرع فی بیان أدلّة من ذهب إلی کون وجوبه غیریا وهذا کما هو المشهور بل عن «السرائر» دعوی اجماع المحققین من الأصحاب علیه ، وعن


1- وسائل الشیعة : الباب 25 من أبواب الجنابة، الحدیث 5 _ 6 .

ص:47

«الذکری» نسبته إلی ظاهر الأصحاب ، وعن المحقّق أنّ علیه فتوی الأصحاب .

فمن الأدلّة : الآیتان اللّتان قد عرفت دلالتهما علی الوجوب الغیری ، لا سیما الآیة المذکورة فی سورة النساء ، حیثُ لا یرد علیها ما أورده الآملی قدس سره علی الآیة الأولی من عدم دلالتها علی الوجوب الغیری ، ولا تنفی الوجوب النفسی ، لما قد عرفت دلالة الثانیة علی کون وجوبه للصلاة واضحة ، فبضمیمة عدم دلیل یدل علی الوجوب النفسی ینتج انحصار الوجوب فی الوجوب الغیری ، کما یساعده الاعتبار أیضا .

ومنها : خبر زرارة عن الصادق علیه السلام : «إذا دخل الوقت وجب الطهور والصلاة ، ولا صلاة إلاّ بطهور»(1) .

حیث یظهر منه _ بناءاً علی شمول إطلاق لفظ الطهور للغسل أیضا ، بل قف یکون شموله بالأولویة ، لأنّه إذا وجب تحصیل الطهارة عن الحدث الأصغر فی الوقت للصلاة فعن الحدث الأکبر یکون بطریق أولی _ أنّ وجوب الغسل والوضوء یکون بواسطة وجوب الصلاة ونظائرها ، کما یدل علیه ذیله .

فبانضمام ما ذکرنا آنفا من عدم الدلیل علی الوجوب النفسی ، یتم الاستدلال کما لا یخفی . بل لولا ذیله لأمکن القول بأنه یدل علی وجوب الطهور بعد دخول الوقت دون قبله ، بدون التعرض لغیریته ، فیمکن عدّه نفسیأ ، لکنه مدفوع بوجهین :

الأوّل : علی هذا التقدیر یلزم التفصیل فی الوجوب النفسی بکونه کذلک فی الوقت دون غیره ، وهو مخالف للاجماع المرکب ، لأن الفقهاء بین قائل بالوجوب النفسی مطلقا وعدمه مطلقا فلا قائل بالتفصیل .

الثانی : بناء علیه یشمل الطهور للوضوء قطعا ، مع أنّه لا قائل بالوجوب


1- وسائل الشیعة: الباب 14 من أبواب الجنابة، الحدیث 2 .

ص:48

النفسی فیه فی الوقت وخارجه .

فالقول بالجوب النفسی یکون غیر معمول به عند الأصحاب ، بخلاف حمله علی الوجوب الغیری ، إذ هو خال عن الإشکال .

ومنها : خبر عبد اللّه بن یحیی الکاهلی قال : «سألت أبا عبداللّه علیه السلام عن المرأة یجامعها الرجل فتحیض وهی فی المغتسل فتغتسل أم لا ؟ قال : قد جاءها ما یفسد الصلاة فلا تغتسل»(1) .

فان النهی عن الاغتسال معللاّ بأنه جاءها ما یفسد الصلاة ، یدل علی ارتباط الغسل بالصلاة ، وذلک لوضوح أنّه لو لا الارتباط لما حسن التعلیل بذلک بل قد علل بأمر آخره . فما أورده الآملی قدس سره من إمکان أن یکون المنع عن اغتسال الحائض ، لعدم تمکنها منه لحدث الحائض لا لکون وجوب الغسل علیها غیریا ، غیر وارد . لأنّه علی أی تقدیر یدل علی عدم الوجوب النفسی فی حال الحیض ، ولو لعلة وجود حدث الحیض .

ونحن نضیف إلیه عدم الوجوب النفسی لغیر حال الحیض أیضا ، لعدم القول بالفصل فی الوجوب النفسی بین حال الحیض وغیره ، فیتم المطلوب .

فتوهم أنّ النهی یدل علی عدم الجواز مدفوعٌ ، بأنّ النهی المتعقب للأمر یفید الجواز ، کما یکون کذلک للأمر المتعقب للنهی ، فیفهم أنّه یجوز علیها الإتیان بغسل الجنابة فی حال الحیض أیضا کما یجوز لها ترکه ، کما یدل علی ذلک خبر عمار الساباطی ، عن أبی عبداللّه علیه السلام ، قال : سألته عن المرأة یواقعها زوجها ثمّ تحیض قبل أن تغتسل ؟ قال : «إن شاءت أن تغتسل فعلت ، وإن لم تفعل فلیس


1- وسائل الشیعة : الباب 14 من أبواب الجنابة، الحدیث 1 .

ص:49

علیها شیء ، فإذا طهرت اغتسلت غسلاً واحدا للحیض والجنابة»(1) .

مع أنّه علی ما ذکره الآملی یلزم کون النهی إرشادیا ، فکأنّه أراد من النهی بأنّه لا تقدر علی الإتیان ، فینافی ما قد عرفت صراحة خبر عمّار علی الإمکان والجواز .

ومنها : الأخبار الکثیرة التی وردت لبیان وجوب غسل الجنابة للصوم قبل الوقت بحیث لو ترک الغسل متعمدا من غیر عذر وجب علیه قضاء الصوم ، کما تری فی أخبار الباب 15 من أبواب ما یمسک عنه الصائم فی «وسائل الشیعة» .

بل قد یستفاد الوجوب الغیری من صراحة بعض الأخبار ، من الحکم بالغسل ثمّ الصلاة والصوم ، کما فی خبر ابن رئاب ، قال : سئل أبو عبداللّه وأنا حاضر ، عن الرجل یجنب باللیل فی شهر رمضان فینام ولا یغتسل حتی یصبح ؟ قال : «لا بأس یغتسل ویصلی ویصوم»(2) .

ومثله خبر إسماعیل بن عیسی فی حدیثٍ عن الرضا علیه السلام : عن رجل أصابته جنابة فی شهر رمضان . . . إلی أن قال : «یغتسل إذا جاءه ثمّ یصلی»(3) .

حیث حکم بعد المجیء إلی الماء بالغسل ثمّ أمر بالصلاة .

والحاصل : إنّ الأخبار الدالّة علی الوجوب متواترة ، ولذلک تری القول بالوجوب الغیری حتی عمن قال بالوجوب النفسی فی غسل الجنابة ، کما ادعاه الآملی قدس سره وصاحب «الجواهر» . بل قد عرفت أنّه موافق للأصل إذا فرض وجوب للغیر المشروط بالغسل ، وترددنا أن وجوبه غیری فقط ، أو هو مع الوجوب النفسی ، فالأصل یقتضی الغیری ، لأنّه القدر المتیقن ، کما أن أصل


1- وسائل الشیعة : الباب 43 من أبواب الجنابة، الحدیث 7 .
2- وسائل الشیعة : الباب 13 من ما یسمک عنه الصائم، الحدیث 7 .
3- وسائل الشیعة : الباب 14 من ما یسمک عنه الصائم، الحدیث 2 .

ص:50

البراءة یقتضی نفی أصل الوجوب لو لم یکن الغیر المشروط به واجبا ، کما إذا کان فی خارج الوقت . هذا کله بعد فرض عدم وجود إطلاق یقتضی أصل الوجوب ، کما هو المفروض فی المقام ، فهذا واضح لا یحتاج إلی مزید بیان .

فثبت من جمیع ما ذکرنا ان الوجوب فی غسل الجنابة غیری ، ولیس له وجوب نفسی . ولا یخفی علیک أن القائل بالوجوب النفسی ملتزم به مع الوجوب الغیری ، أی لا ینفی شرطیة غسل الجنابة للصلاة والصوم ، کما تدل علی ذلک مراجعة کلماتهم فی هذا الباب ، ولکن قد عرفت عدم تمامیة أدلّة الوجوب النفسی ، فلایبقی حینئذ إلاّ الوجوب الغیری وهذا هو المدعی المطلوب فی غسل الجنابة .

بقیّة الأغسال الواجبة

وأما غسل الحیض والنفاس والاستحاضة : فلا إشکال فی وجوب الأغسال الثلاثة للصلاة والصوم ، فتکون واجبا غیریا ، وإن لم یتعرض القدماء من الفقهاء لشرطیة غسل الحیض والنفاس للصوم ، ولکنه هو المستفاد من الأخبار قطعا وسیأتی توضیح ذلک بعد إن شاء اللّه تعالی . والظاهر الموافق للمهشور _ بل کاد أن یکون اجماعا ، لعدم مشاهدة الخلاف فی ذلک ، إلاّ عن العلاّمة فی «المنتهی» واحتمال القوة فی ذلک عن صاحب «المدارک» _ کون غسل الحیض واجبا غیریا فقط ، لا غیریا ونفسیا کما ادّعاه العلاّمة ، فاحتمال وجود الخلاف فیه کما عن «الذکری» بعید وضعیف . بل قد ادّعی فی «المصابیح» نفی الخلاف فیه ، بل الإجماع قائم کما عن المحقّق الثانی والشهیدین والعلاّمة فی «نهایة الاحکام» علی الوجوب الغیری فقط ، ومثله غسل النفاس لوجود الإجماع علی الاشتراک بینهما فی کثیر من الاحکام ، فإذا ثبت الإجماع علی عدم وجوبه فی الحیض فالنفاس یکون کذلک بطریق أولی .

مضافا إلی عدم وجود قائل بالوجوب النفسی فی النفاس والمستحاضة ،

ص:51

فدعوی الإجماع علی عدم الوجوب النفسی فیهما یکون بلا إشکال ، فالأولی صرف الکلام عن ذلک وعدم الاطالة فیه ، وإحالة تفصیل الکلام فی کون الغُسل فی الحیض شرطا فی تمام الخمسة المذکورة فی کلام المصنف ، أو یکفی النقاء عن الدم فی مثل الدخول فی المساجد وقراءة العزائم _ کما ذکر احتماله فی «المدارک» عن بعضٍ وقواه ، غایته جعل قول المشهور هو الأقرب إلی محلّه ، وخلاصته قوة کلام المصنف کما علیه المشهور لو لم یکن اجماعیا .

وأما غُسل مسّ المیّت : فنبحث عنه من خلال عدة أمور :

الأمر الأوّل : فی وجوبه : لا إشکال فی کونه واجبا ، کما علیه المشهور ، بل کاد أن یکون اجماعیا ، کما ادعی ذلک الشیخ قدس سره فی «الخلاف» ، ولم یخالف فی وجوبه إلاّ السیّد المرتضی قدس سره . نعم نسب الوقف إلی «الوسیلة» و«المراسم» ، ولکن الشیخ الانصاری قدس سره قد نقل عبارة «الوسیلة» بحیث تدل علی الوجوب . وکیف کان ، فإن حکم الوجوب مسلّم بین الفقهاء قدیما وحدیثا ، فلا یحتاج إلی مزید بیان .

الأمر الثانی : أن الوجوب فیه هل هو نفسی أو غیری ؟

والظاهر هو الثانی ، کما علیه المشهور ، بل لم یعرف فیه خلاف إلاّ عن صاحب «المدارک» قدس سره حیث قد توقف فیه ، واحتمل أن یکون وجوبه نفسیا کغسل الجمعة والاحرام عند من أوجبهما . ثمّ قال : نعم إن ثبت کون المس ناقضا للوضوء اتجه وجوبه للامور الثلاثة ، إلاّ أنّه غیر واضح ، انتهی .

وفی «الجواهر» قال : قد تبعه فی ذلک بعض متأخری المتأخرین . ثمّ قال: مؤیدا له وهو صحیح الحلبی ، عن أبی عبداللّه علیه السلام : «أنّه سُئل رجل أمّ قوما فصلی به رکعة ثمّ مات . قال : یقدّمون رجلاً آخر ویعتدون بالرکعة ، ویطرحون

ص:52

المیّت خلفهم ویغتسل من مسّه»(1) .

وإن أشکل فی دلالته ، من عدم صراحته ، وإمکان أن یکون الاغتسال مندوبا ، لکون المیّت حینئذٍ لم یبرد جسمه . إلاّ أن الانصاف عدم دلالته رأسا علی فرض المسألة ، إذ لیس المراد من طرحهم للمیّت خلفهم ، هو مسّهم له حتی یتمّ ما قاله صاحب «الجواهر» ، بل المراد هو أن یترکوا المیّت ، ویستمرّوا فی صلاتهم ، غایة الأمر لمّا کان مقتضی المقام السؤال عن حکم مسّه ؟ قال : یغتسل ، فلا ینافی أن یکون بمعنی الوجوب إذا کان باردا ، کما لا ینافی أن یکون مسه ناقضا للوضوء إنْ قلنا به ، فحمل الاغتسال _ فیه _ مع کونه الجملة فعلیة وظاهرة فی الوجوب _ علی الاستحباب کما فعله فی غایة الضعف ، کما هو واضح لمن تأمّل .

کما یؤیّد ما ذکرنا ما فی الخبر الذی رواه الطبرسی فی «الاحتجاج» وهو مطابق لمضمون الخبر السابق و هو: فی حدیثٍ عن صاحب الأمر _ عجل اللّه فرجه _ خرج إلی محمّد بن عبد اللّه بن جعفر الحمیری ، حیث کتب إلیه : «روی لنا العالم علیه السلام أنّه سُئل عن إمام قوم یُصلّی بهم بعض صلاتهم ، وحدثت علیه حادثة ، کیف یعمل مَنْ خلفه ؟ فقال : یؤخر ، ویتقدم بعضهم ، ویتم صلاتهم ، ویغتسل مَنْ مسّه.

التوقیع: لیس علی من مسّه إلاّ غَسل الید ، وإذا لم تحدث حادثة تقطع الصلاة تتم صلاته عن القوم»(2) .

حیث أنّ الإمام علیه السلام بین کلام العالم (أی موسی بن جعفر علیه السلام ) من أنّ المراد من یغتسل مَنْ مسه هو غسل الید لا الغسل المتعارف ، وذلک لعله لما احتمله صاحب «الجواهر» هو کون بدنه حارا ، کما هو المتعارف فی المیّت حین موته


1- وسائل الشیعة : الباب 43 من أبواب الجماعة، الحدیث 1 .
2- وسائل الشیعة : الباب 3 من أبواب غسل المس، الحدیث 4 .

ص:53

حیث لا یکون باردا ، فلا یجب علی الماس الغُسل . وأما غَسل الید یمکن أن لا یکون واجبا ، فیکون المعنی هکذا : إنْ أراد الماس أن یفعل شیئا لیس علی الماس إلاّ غسل الید لنفرة الطبع عن ملامسة الحیّ یده مع المیّت ، فلا یکون مرتبطا بما نحن بصدده ، کما لا یخفی .

وأما الاستدلال علی کونه واجبا غیریا ، مضافا إلی دعوی الإجماع فبأمور :

الأوّل : أصالة البراءة عن الوجوب فی الوقت قبل فعل ما یشترط فیه الطهارة أو بعده ، أو کان قبل الوقت ، کما عرفت مثله فی مبحث غسل الجنابة .

وثانیا : أصالة الاشتغال والاحتیاط ، لاحتمال عدم رفع التکلیف بالنسبة إلی المشروط به لو أتی به بغیر هذا الغسل ، فالشُّغل الیقینی یقتضی فراغه یقینا ، وهو یکون باتیان الغُسل بعنوان الوجوب الغیری ، أو أن الوجوب الغیری هو المتیقّن ، فلابد من الفراغ منه باتیانه کذلک .

وثالثا : بالمحکی عن «فقه الرضا» عن الرضا علیه السلام : «وإنْ نسیتَ الغُسل وذکرته بعد ما صلیت ، فاغتسل وأعد صلاتک»(1) .

حیث یفهم منه کون الغُسل المتحقق من المس واجبا للصلاة .

ولیس عندنا دلیلٌ صریح علی کونه شرطا إلاّ هذا الحدیث ، لأنّ الأخبار مع کثرتها فی هذا الباب جاءت لأصل وجوب الغسل ، ولا صراحة فیها علی کونها للصلاة . فبانضمام هذا الحدیث ، مع الخبرین فی بیان العلّة لغُسل مسّ المیّت ، مثل روایتی الفضل بن شاذان ومحمّد بن سنان عن الرضا علیه السلام : «إنّما أُمر من یغسّل المیّت بالغُسل لعلّة الطهارة مما أصابه من نضح المیّت ، لأن المیّت إذا


1- مستدرک وسائل الشیعة : الباب 8 من أبواب غسل المس، الحدیث 1 .

ص:54

خرجت منه الروح بقی أکثر آفته»(1) .

وزیادة فی الثانیة وهی : «فلذلک یتطهر منه ویطهر» .

ویفهم منهما أنّ المس موجبٌ لحصول قذارة معنویة فی بدن الماس ، لا ترتفع إلاّ بالغسل خاصة ، أو هو مع الوضوء لو اشترطناه معه ، کما أنّه کذلک یفهم من الأمر بالغسل للثوب والبدن الملاقی للنجاسة ، أنّ الغُسل یصیر واجبا للصلاة المشروط بالطهارة ، هکذا یکون فی المقام أی یفهم من قبیل هذا السیاق کون الوجوب غیریا .

ورابعا : ممّا فی خبر زرارة عن الصادق علیه السلام : «إذا دخل الوقت وجب الطهور والصلاة ولا صلاة إلاّ بطهور»(2) .

حیث أنّه بالمفهوم یدلّ علی عدم وجوب إحداث الطهور قبل الوقت للمکلف ، بل یعدّ الملاک وجوب إحداث الطهور بأیّ قسم منه حین دخول الوقت ، ولیس ذلک إلاّ للصلاة ، کما یشیر إلیه ذیله بقوله : «لا صلاة إلاّ بطهور» .

خامسا : بخبر شهاب بن عبد ربه ، قال : سألتُ أبا عبداللّه علیه السلام عن الجنب یغسّل المیّت ، أو من غَسّل میتا له أن یأتی أهله ثمّ یغتسل ؟ فقال : سواء ، لا بأس بذلک ، إذا کان جنبا غسل یده وتوضأ ، وغسل المیّت وهو جنب ، وإنْ غسل میّتا توضأ ثمّ أتی أهله ، ویجزیه غسلٌ واحد لهما»(3) .

حیث یدل علی أنّ الوضوء لمن مس المیّت موجب لتخفیف الحدث ، کما أنّ الوضوء بعد الجنابة قبل غسل المیّت موجب لتخفیف حدث الجنابة ، فیستظهر


1- وسائل الشیعة : الباب 1 من أبواب غسل المس، الحدیث 11 _ 12 .
2- وسائل الشیعة : الباب 14 من أبواب الجنابة، الحدیث 2 .
3- وسائل الشیعة : الباب 43 من أبواب الجنابة، الحدیث 3 .

ص:55

منه أنّ مس المیّت مستلزمٌ للحدث ، وإلاّ لم یکن للحکم بالوضوء _ ولو استحبابا _ قبل الجنابة وجه ، فدلالته علی حدثیة المس واضحة ، غایة الأمر یستفاد من الحکم بالغسل للمس ، أنّ حدثیته تکون أشدّ . لأنّه لو کان بالأقلّ لارتفع بالوضوء المزیل للحدث الأصغر ، وحیث قد حکم بالغسل بعد الوضوء والجنابة بغسل واحد لهما ، یفهم أنّ الحدث المتولد من المس یکون بالأشدّ ، کما لا یخفی .

سادسا : بالسیرة المستمرة المستقرّة فی تمام الأمصار وجمیع الأعصار من أهل الشرع ، علی عدم فعل شیء ممّا یشترط فیه الطهارة _ کالصلاة والطواف _ إلاّ بعد غسل المس ، حیث یفهم أنّهم یعاملون معه معاملة المحدث فی عدم الإتیان بالصلاة ، إلاّ بعد رفعه بالغسل ، وهو واضح .

لکنّها مخدوشة بأنّه متولّدة من فتاوی الفقهاء رضوان اللّه تعالی علیهم أجمعین ، ولیس ذلک بنفسه دلیلاً ، کما کان کذلک فی مثل باب المعاملات ، حیث کانت الأمر ثابتة عند العقلاء الذین کانوا فی عصر الشارع والمعصوم ، ولم یثبت صدور الردع ، فحینئذٍ یکون تقریر الشارع موجبا لحجیّتها ، وهو واضح .

فما فی «الجواهر» من التمسّک بها لا یخلو من إشکال .

سابعا : ربما یتمسک لاثبات کونه واجبا غیریا _ کما فی «المصابیح» وغیره _ بمرسلة ابن أبی عمیر ، عن رجل ، عن أبی عبداللّه علیه السلام : قال : «کل غسل قبله وضوء ، إلاّ غسل الجنابة»(1) . وخبر حمّاد بن عثمان أو غیره عن الصادق علیه السلام قال : «فی کلّ غسل وضوء إلاّ الجنابة»(2) .

وجه الدلالة : أنّه قد حکم بالوضوء فی کلّ غسل ، فیظهر منه تحقیق الحدث


1- وسائل الشیعة : الباب 35 من أبواب الجنابة، الحدیث 1 .
2- وسائل الشیعة : الباب 35 من أبواب الجنابة، الحدیث 2 .

ص:56

حیث یرتفع بالضوء مع الغسل ، ومنه مسّ المیّت ، فإذا تحقّق الحدث فیکون المس ناقضا للوضوء ، فیجب رفعه عند إرادة الصلاة ، ولیس ذلک إلاّ بالغسل بالوضوء _ لو لم نقل بکفایة الغسل عن الوضوء _ وهذا هو المطلوب .

وهکذا یمکن تقویة استدلال من تمسّک بالخبرین ، بخبرین آخرین وهما :

أحدهما : فی «فقه الرضا» عن الرضا علیه السلام : «الوضوء فی کلّ غسل ما خلا غسل الجنابة ، لأن غسل الجنابة فریضة تجزیه عن الفرض الثانی ، ولا تجزیه سائر الأغسال عن الوضوء ، لأنّ الغسل سُنّة والوضوء فریضة ، ولا تجزی سُنّة عن فرض ، وغُسل الجنابة والوضوء فریضّتان ، فإذا اجتمعا فأکبرهما یجزی عن أصغرهما ، وإذا اغتسلت بغیر جنانبة فابدأ بالوضوء ثمّ اغتسل ، ولا یجزیک الغسل عن الوضوء ، فإن اغتسلت ونسیت الوضوء ، فتوضأ وأعد الصلاة»(1) .

ومثله خبر الصدوق فی «الهدایة» ، إلاّ أنّ فیه زیادة وهی : «وغسل الحیض فریضة»(2) . ولیس فیه حکم إعادة الصلاة فی صورة نسیان الوضوء .

ومثله خبر آخر مرویٌ فی «فقه الرضا» : «إذا اغتسلت غسل المیّت ، فتوضّأ ثمّ اغتسل کغسلک من الجنابة ، وإن نسیت الغسل فذکرته بعدما صلیت ، فاغتسل وأعد صلاتک»(3) .

والثانی : «غوالی اللئالی» عن النبی صلی الله علیه و آله : «کلّ غسل لابدّ فیه من الوضوء إلاّ مع الجنابة»(4) .

کفایة غسل مسّ المیّت عن الوضوء و عدمها

بل صرّح فی «الجواهر» بأنه یدل علی شرطیة غسل المس للصلاة ، حتی ولو


1- مستدرک وسائل الشیعة : الباب 25 من أبواب الجنابة، الحدیث 1 .
2- مستدرک وسائل الشیعة : الباب 25 من أبواب الجنابة، الحدیث 2 .
3- مستدرک وسائل الشیعة : الباب 8 من أبواب غسل الأموات، الحدیث 1 .
4- مستدرک وسائل الشیعة : الباب 25 من أبواب الجنابة، الحدیث 3 .

ص:57

کان وجوبه لها أیضا غیریأ ، کما فی ذیل حدیث «فقه الرضا» ، أی خبره الثانی المذکور هنا بقوله : «وإن نسیت الغسل فذکرته . . . إلی آخر» ، حیث أنّه یحکم بوجوب إعادة الصلاة حینئذٍ .

هذه جملة من الأخبار المتمسّک بها للدلالة علی کون الغسل واجبا غیریا .

الأمر الثالث : فی أنّ المس ناقض للوضوء أم لا ؟ وهل یجب مع الغسل للمس وضوء للصلاة أم لا ؟ ویتصور الافتراق فیما بینهما بأن یکون ناقضا للطهارة والوضوء ولکن یکفیه غسله ، کما یمکن القول بلزوم الوضوء مع الغسل وعدم کفایته عنه .وأمّا إنْ قلنا بعدم ناقضیته فمعناه کون وجوب غسل المس تعبدیا ، فلا معنی حینئذٍ للحکم بوجوب الوضوء مع الغسل للصلاة أصلاً .

والمشهور بین المتقدمین والمتأخرین ، بل المعاصرین ومن قاربهم ، هو الحکم بعدم کفایة غسل المس عن الوضوء غایة الأمر أنّ بعضهم یفتی بذلک جزما کالمتقدمین ، مثل السیّد قدس سره فی «العروة» والعلاّمة البروجردی والاصطهباناتی ، والآملی ، والمیرزا عبد الهادی الشیرازی ، حیث یظهر منهم کون المس ناقضا . بل فی «مصباح الهدی» : کل ما یجوب الحدث الأکبر فهو موجب للأصغر أیضا ، کما یشعر بذلک کلام الحکیم قدس سره فی «المستمسک» . وبعضهم یحکم بالاحتیاط _ کأکثر من عاصرناه _ وجوبا أو استحبابا ، حیث یفهم منهم وجود الشهبة عندهم فی الناقضیة للوضوء ، ومن أراد الاستزادة فلیراجع .

والذی یمکن أن یستدل به علی ذلک ، أوّلاً : هو الخبر الذی مرّ ذکره عن «فقه الرضا» بکلا فردیه ، مضافا إلی صراحته بعد کفایة الغسل عن الوضوء ، کما کان هذا الکلام منقولاً عن الصدوق قدس سره فی «الهدایة» ، الموجب لحصول الاطمئنان فی الجملة ، کما ذکره «مصباح الفقیه» فی باب عدم کفایة غسل الحیض عن الوضوء بأن أفتی علی طبق مذهب مثل الصدوق رضوان اللّه علیهم نقلاً عن

ص:58

صاحب «الحدائق» . ودلالته عن الناقضیة من جهة الحکم بلزوم الإعادة للصلاة عند نسیان الوضوء واضحة ، وتوهم ضعف سند حدیث «فقه الرضا» مخدوش بأمور :

أوّلاً : بأنّه معتبر عند کثیر من الأصحاب ، بل قد اعتبروه من الأخبار القویة وهذا هو المترائی من الأستاذ الأکبر البهبهائی قدس سره ، وصاحب «الحدائق» والنراقی والفاضل الهندی والمجلسیین . وبعضهم یتمسّک بأخباره عند عدم وجود خبر معارض له أقوی منه ، وکان منجبرا بالشهرة وعمل الأصحاب وفی المقام تری أنّ الخبر لا معارض له ، کما قاله الشیخ الأنصاری قدس سره ، وصاحب «المستدرک» وصاحب «الجواهر» ، بل وکثیر من الفقهاء المعاصرین . فالقول برد الخبر بدعوی مجهولیة مؤلفه ، أو دعوی کونه هو کتاب «الشریعة» لعلی بن بابویه الذیکتبه لابنه الصدوق ، واشتبه عنوان علی بن موسی الذی هو اسم لوالد الصدوق بالامام علی بن موسی الرضا علیه السلام ، لانصراف الاسم المطلق إلی أبرز مصادیقه فی غایة الضعف ، وقد ذکر المحدث النوری شرطه فی خاتمة المستدرک فراجعه(1) .

وأمّا کون نص الخبر منقول عن علی بن موسی الرضا علیه السلام أو منه ومن بعض أصحابه ، کما حقّقه صاحب «المستدرک» ففیه کلامٌ . وکیف کان فإنّ اعتباره فی الجملة مسلمٌ عند الفقهاء .

وثانیا : أنّ الخبرین هاهنا سالمان من وجود معارض فی خصوص هذا الحکم ، وهو الوضوء للصلاة فی خصوص غسل المس ولزوم الإعادة عند النسیان ، وإن کان فی جهة کون الوضوء قبل الغسل موردا للمعارضة ، لدلالة عدّة أخبار علی عدم لزوم کون الوضوء قبل الغسل بل ولا بعده ، وصریح بکفایته عن الوضوء ، سواء کان قبله أو بعده ، کما فی خبر عمّار الساباطی حیث قال : «سُئل


1- المستدرک: ج 3 ص 336 ط حجریّة.

ص:59

أبا عبداللّه علیه السلام عن الرجل إذا اغتسل من جنابة أو یوم جمعة أو یوم عید هل علیه الوضوء قبل ذلک أو بعده ؟ فقال : لا لیس علیه قبل ولا بعد قد أجزاه الغسل ، والمرأة مثل ذلک إذا اغتسلت من حیض أو غیر ذلک فلیس علیها الوضوء ولا قبل ولا بعد ، قد أجزاها الغسل»(1) .

حیث یتوهّم التعارض مع أصل الوضوء ، لأنّه یحکم بکفایة الغسل عنه ، فعمومه شامل لمثل غسل المس .

لکنّه مدفوع ، بأنّه لا عموم فیه علی نحو یشمل ذلک ، لأنّه قد صرح بالأغسال التی تکفی عن الوضوء ، لو قلنا بالکفایة فی مثل الجنابة والجمعة والعید ، کما صرّح للمرأة أیضا فیالحیض ولفظ ذلک یمکن أن یکون متعلقا للحیض وسائر الأغسال المتعلِّقة بالمرأة ، مثل النفاس والاستحاضة ، فلا یشمل غسل مس المیّت ، فلا تعارض بینهما .

اللّهم إلاّ أن یقال : إنّ ثبوت «الکفایة» عن الوضوء فیما نحن فیه _ لو قلنا بالکفایة فی مثل غسل الجمعة والعید الذی کان مستحبّا _ یکون بطریق أولی ، لأنّه یکون واجبا غیریا ، فهو أولی بذلک .

ونقول : هذا صحیح ، لو لم یکن لنا نصٌ بالخصوص علی عدم الکفایة ، کما تری فی مثل الخبر المنقول فی «فقه الرضا» ، فعلیه لا مورد للتمسّک بالأولویّة ، کما لا یخفی . ولکن لا یمکن العمل بخصوصیة لزوم کون الوضوء قبل الغسل بل یکفی بعده ، ویُحمل علی کونه أفضل فردیة ، من وجوه :

الأوّل : من عدم وجود قید قبل الغسل فی الخبر الآخر من «فقه الرضا» وإن کان ظاهر الترتیب فی الکلام بل وجود لفظ (ثمّ) یقتضی کون الوضوء قبل


1- وسائل الشیعة : الباب 33 من أبواب الجنابة، الحدیث 3 .

ص:60

الغسل ، لکنّه لیس فیه إلاّ الظهور بخلاف خبره الأوّل حیث صرّح بذلک بقوله : «فابدأ بالوضوء» .

الثانی : إنّه قد حکم فی صورة نسیان الوضوء والإتیان بالصلاة ، بتحصیل الوضوء للصلاة وإعادتها ، حیث یظهر من ذلک أنّ قبلیة الوضوء من الغسل لا یکون شرطا لا فی الغسل وفی الوضوء ، وإلاّ لکان اللازم إعادة أصل الغسل ثمّ الوضوء بعده ، فیفهم من ذلک أنّ المقصود هو تحصیل الطهارة بالوضوء ، غایة الأمر أنّ تحصیله قبل الغسل أحسن .

اللّهم إلاّ أن یقال : وجوب قبلیّته ذکری لا واقعی ، بل قد یشیر الخبر الثانی المروی فی «الفقیه» بعدم اعتبار القبلیة ، حیث یحکم فی صورة إتیان الصلاة مع نسیان غسل مس المیّت باتیان الغسل وإعادة الصلاة ، بلا إشارة إلی لزوم الوضوء حینئذ قبله ، إذ لا یخلو الأمر حینئذٍ أمّا أنّه قد أتی بالوضوء من قبل وصلّی بدون الغسل ، فلازمه وقوع الغسل حینئذٍ بعد الوضوء ، إلاّ أنّه قد فصّل بالصلاة بینهما ، ولذا حکم بالبطلان ، فیفهم عدم شرطیة کونه الغسل بعده بلا فصل شیء فی صحّة الوضوء الواقع قبله ، وإلاّ لکان اللازم إعادة الوضوء أیضا .

أو لم یأت بالوضوء قبله ، کما إذا نسی الغسل ، وإن کان هذا بعیدا . فدلالته علی عدم اعتبار القبلیة یکون أوضح ، بل یدلّ حینئذ علی عدم اعتبار أصل الوضوء ، ولکن عرفت بُعد احتماله .

الثالث : یوجب أن یکون غیر معمول به عند الأصحاب ، لأنّهم بین قائل بعدم أصل الوضوء ، وقائل باعتباره مطلقا ، وأمّا لزوم اعتباره قبل الغسل فلم نجد من صرح بذلک من الأصحاب ، کما هو واضح لمن راجع کلامهم .

وثانیا : هو ما عرفت من حسنة شهاب بن عبد ربه عن ابن هاشم(1) حیث دلّ


1- وسائل الشیعة : الباب 43 من أبواب الجنابة، الحدیث 3 .

ص:61

الحکم بالوضوء بعد المسّ للإتیان بالأهل أنّه تخفیف للحدث کوضوء الجنب للنوم ، مضافا إلی دلالته علی کون المس موجبا للحدث الأکبر لا الأصغر ، لوجهین :

أحدهما : أنّه لو کان للأصغر ، لکان الوضوء وحده کافیا ، ولا حاجة للحکم بالغسل مع أنّه حکم به .

الثانی : من الحکم باجزاء غسل واحد منهما ، حیث یفهم منه أنّ حدثیّته تکون کحدثیة الجنابة ، من جهة لزوم الغسل ، وهو یغتسل للجنابة والمس لاتیان ما یعدّ مشروطا بالطهارة ، وهو واضح .

والثالث : یمکن الاستفادة لذلک من الخبرین المذکورین سابقا ، وهما مرسلة ابن أبی عمیر ، وحمّاد بن عثمان(1) ، حیث ورد فی الأوّل منهما شرطیة کلّ غسل قبله الوضوء إلاّ الجنابة ، وفی الثانی : «فی کلّ غسل وضوء إلاّ الجنابة» ، حیث یفهم منهما کون ما یوجب الغسل وهو الحدث الأکبر موجبا لحدوث الأصغر ، فلا یزول الأصغر بعد تحقّقه إلاّ بالوضوء فی غیر غسل الجنابة ، حیث أنّه یکفی عنه .

فما یتوهّم _ کما فی «مستند الشیعة» _ بأنّ ذلک مستلزم لتخصیص الأکثر ، لعدم کون الأغسال المسنونة کذلک ، أی بنفسها لا تقتضی الوضوء ، فلو کان الشخص متطهِّرا بالوضوء قبله لا یوجب حصول أسباب الغسل المستحب إتیان الوضوء ثانیا قبل الغسل أو بعده ، فتخصیصه بغیر الأغسال المسنونة لیس بأولی من الحکم بعد لزوم الوضوء أصلاً ، حتی فی مس المیّت فلا یکون ناقضا .

ومدفوع ، بأن العرف یفهم من سیاق هذه العبارة _ خصوصا مع ذیله المشتمل علی الاستثناء للجنابة _ أن المقصود من الغُسل فی الصدر لیس إلاّ ما یوجب الحدثیة ، لا کلّ غسل ولو کان مسنونا غیر موجب للحدث .


1- وسائل الشیعة : الباب 35 من أبواب الجنابة، الحدیث 1 _ 2 .

ص:62

فبذلک یصح أن یقال : کأنه یرید أن یقول بأنّ کلّ حدث کبیر یجب الوضوء معه للصلاة إلاّ الجنابة ، فیشمل ذلک بعمومه مس المیّت أیضا إذا ثبت بأدلّة غسله بأنّه حدث أکبر ، کما هو الظاهر .

ما یجب له غسل مسّ المیّت

مع أنّه یمکن أن یقال : بأن الأمر دائر بین ورود أحد القیدین ، أمّا من جهة حفظ عموم الاستغراق لکلّ غسل من الواجب والمندوب ، وإضافة قید أنّه لو کان غیر متوضئ یرفع الید عن لزوم الوضوء ، کما ذهب إلیه صاحب المستند قدس سره .

أو القول بتقیید الغسل بالواجب ، بلا تصرّف فی إطلاق حال الشخص ، أی یجب الوضوء مع کلّ غسل واجب، ولو کان متوضیا قبله، فیکون الإطلاق حینئذٍ محفوظا.

ولیس القول بالتقیید علی النحو الأوّل ، بأولی من التقیید علی النحو الثانی .

والإشکال من جهة ذکر قبلیة الوضوء للغسل المذکور فی مرسلة أبی عمیر قد عرفت جوابه فیما قبل . مضافا إلی معارضته بإطلاق خبر حماد بن عثمان ، وإن أمکن التقیّد به لولا ما ذکرنا سابقا من الشواهد علی عدم وجوب قبلیة الوضوء .

مع أنّه یمکن أن یقال بالتصرف فی الهیئة ، مع فرض وجود الشواهد والقرائن علی إطلاق وجود الوضوء ، فیحمل الحکم بقبلیة الوضوء علی الأفضلیة ، کما یقال فی قولنا : (أعتق رقبة) مع ملاحظة دلیل (اعتق رقبة مؤمنة) ، وإن کان أعمال التقیید فی المادّة لولا الشواهد أولی . فثبت من جمیع ما ذکرنا أنّ المس ناقض للطهارة ، وموجب لتحقّق الحدث الأکبر ، ولابدّ فی رفعه من الغُسل والوضوء ، وإن کان إتیان الوضوء قبل الغسل أفضل وأوفق بدلالة الأخبار جمیعها ، واللّه العالم بحقائق الاُمور .

وممّا ذکرنا یظهر حکم مسألة أخری ، وهی : أنّه لا یکون غسل المس والوضوء ضرورین للصلاة فحسب _ کما یظهر ذلک من النراقی فی «المستند» _ بل لازم وضروری لکل ما یکون الطهارة عن الحدث الأصغر فیه شرطا ، مثل

ص:63

الطواف ومس القرآن وأمّا دخول المسجدین ، والمکث فی المساجد ، وقراءة سور العزائم لا یکون مشروطا بالطهارة ، فیجوز لماس المیّت إتیان هذه الأمور قبل غسل المس والوضوء .

لا یقال : بأنّ المستفاد من البحوث السابقة والتحقیقات الآنفة ، کون المس مشتملاً علی الحدثین الأصغر والأکبر ، فمع تحقّق الحدث الأکبر ، کیف یجوز الإتیان بالغایات المذکورة بلا غسل ، کما لا یجوز تلک الغایات للجنب والحائض قبل الغسل ؟!

لأنّا نقول : لم تثبت الملازمة شرعا بین وجود الحدث الأکبر والمنع عن الإتیان بهذه الأمور ، إذ من الممکن التفکیک بینهما کما تری ذلک فی مثل المستحاضة الکثیرة التی وجب علیها الغسل والوضوء معا ، فمع کونها محدثة بالحدثین قطعا _ لو لم نقل بأنّها أشد حدثا عمّا فیما نحن فیه لما تری من وجوب الوضوء لکلّ صلاة فقد _ ذهب جماعة من الفقهاء کصاحب «المدارک» و«الذخیرة» و«شرح المفاتیح» و«کشف الغطاء» و«الجواهر» _ قدس اللّه أسرارهم _ إلی جواز الإتیان بتلک الغایات للمستحاضة ، قبل الإتیان بوظیفتها من الغسل والوضوء وتغییر القطنة ، وإن کان المشهور علی خلافهم . فیفهم من ذلک إمکان دعوی التفکیک وعدم الملازمة .

ونحن نقول بذلک فی المقام ، بأنّه إذا ثبت عدم الملازمة ، فلابدّ فی إثبات المنع مع إقامة دلیل من طرف الشرع ، خصوصا لمثل هذه الأمور التی کانت موردا للابتلاء کثیرا ، ومحلاًّ للاهتام ، مع ذلک لیس فی الأخبار والآثار المرویّة فی ذلک عین ولا أثر ، فیفهم جواز الإتیان إلاّ ما نص علی خلافه ، أو یفهم منه ذلک أو عند حصول الشک فی حرمة إیجاد هذه الأمور بلا غسل ، فحینئذ یمکن الرجوع إلی أصالة البراءة أیضا ، لأنّه حینئذ یعدّ من موارد الشک فی التکلیف

ص:64

وقد یجب إذا بقی لطلوع الفجر من یومٍ یجبُ صومه بقدر ما یغتسل الجنب(1)

وأنّه هل یجب الغسل لمثل هذه الاُمور أم لا ؟ فالأصل یقتضی عدمه ، ولذلک ذهب المشهور من الفقهاء قدیما وحدیثا إلی ذلک ، بل فی «السرائر» دعوی الإجماع علیه ، خلافا لظاهر إطلاق «الشرائع» و«القواعد» بل قد ادّعی علیه الإجماع ، لکنّه غیر ثابت .

والحق هو ما ذکرناه ، وفاقا للمتأخِّرین والمعاصرین ، وإن کان الأولی تحصیل الطهارة لذلک أیضا ، وهو واضح لا سترة .

(1) بلا فرق بین کون وجوب الصوم لذلک الیوم مضیّقا أو موسعا ، فیصحّ نیّة الوجوب للغسل ، إنْ أثبتنا عدم تحقّق الصوم مع الجنابة ، غایته وجوبه من تلک الجهة کوجوب الصوم . ثمّ لا خصوصیة فی غسل الجنابة لمماثلته مع الحیض والنفاس ، فلعلّه کان من باب التشابه کما سیأتی بحثه إن شاء اللّه تعالی . والقول بوجوب الغسل لذلک ، وعدم جواز تأخیره عنه ، هو المشهور من المتقدمین والمتأخرین ، بل قد ادّعی الإجماع علیه ، بل فی «الجواهر» أنّ علیه الإجماع محصّلاً ، بل فی «الریاض» دعوی تواتر الأخبار الدالّة علیه . وممّن ذهب إلیه السیّد فی «الانتصار» وهو منقول عن «الخلاف» و«السرائر» و«الوسیلة» و«الغنیة» ، و«کشف الرموز» و«حواشی التحریر» و«الریاض» و«المقاصد العلیة» و«کشف اللثام» وفی «المعتبر» و«المنتهی» و«التذکرة» نسبته إلی علمائنا ، وفی «کنز العرفان» إلی أصحابنا وفی «المهذب البارع» أنّ القول بخلاف ذلک منقرض ، إلی غیر ذلک من الأقوال . خلافا للصدوقین فی «المقنع» للثانی منهما ، والسیّد میر الداماد فی «شرح النجاة» أو «الرسالة الرضاعیة» والأردبیلی فی «آیات الاحکام» و«شرح الإرشاد» والکاشانی فی «المعتصم» ،

ص:65

حیث ذهبوا إلی عدم وجوب ذلک قبل الطلوع .

وجوب غسل الجنابة قبل الفجر من یوم یجب صومه

والذی تمسک به القوم للأوّل ، أو یمکن أن یتمسّک عدة أمور :

الأمر الأوّل : الإجماع المذکور لو لم یکن محصّلاً کما فی «الجواهر» ، ولا أقلّ من الشهرة العظیمة من المتقدمین والمتأخرین ، بل لم نجد خلافا من متأخِّری المتأخِّرین من المعاصرین وغیرهم ، وکأنّه صار عندهم من ثوابت الفقه ، وهو واضح .

الأمر الثانی : عدة أخبار تدل علی ذلک ، بحیث تبلغ فی الکثرة حدّ الاستفاضة لو لم نقل بکونها متواترة ، کما ادّعاه صاحب «الریاض» ، فبعضها صریحة وبعضها ظاهرة فی الحکم ، کما أنّ بعضها صحیح وبعضها موثّق . ففی موثّق أبی بصیر ، عن أبی عبداللّه علیه السلام : «فی رجل أجنب فی شهر رمضان باللیل ، ثمّ ترک الغسل متعمدا حتی أصبح ؟ قال : یعتق رقبة أو یصوم شهرین متتابعین أو یطعم ستین مسکینا» الحدیث(1) .

واحتمال کون الکفّارة لثبوت المعصیة ، لا لإثبات القضاء الملازم للبطلان ، مندفعٌ بما قد عرفت دعواه من الملازمة ، هذا کما فی «المصباح» .

ولکنّنا نقول : لو لم نقل بالملازمة ، ولم یثبت القضاء بذلک أصلاً ، وحکمنا بصحة صومه ، لکن دلالته علی المعصیة کافیة لإثبات المدعی من وجوب تحصیل الغسل ، لأن ثبوت المعصیة لیس إلاّ لذلک ، وهو بقاءه علی الجنابة بلا غسل إلی أن أصبح ، فثبت المطلوب .

لکنه مخدوش ، بأنه یقتضی کون الغسل واجبا نفسیا ، وهو خلاف المطلوب ، إذ الأمر الغیری لا یترتب علیه العصیان إلاّ بواسطة ترک الغیر ، المفروض انتفاءه علی الفرض . فالحقّ هو ما ذهب إلیه الآملی قدس سره من لزوم ثبوت الملازمة بین


1- وسائل الشیعة : الباب 16 من أبواب ما یمسک عن الصائم، الحدیث 2 .

ص:66

الکفارة والقضاء الملازم للبطلان . ولا یبعد استفادة ثبوت الملازمة بینهما من الأخبار الواردة فی تضاعیف مفطرات الصوم ، کما تری فی مثل خبر سماعة :

قال : «سألته عن رجل أتی أهله فی شهر رمضان متعمدا ؟ قال : عتق رقبة أو اطعام ستین مسکینا أو صوم شهرین متتابعین ، وقضاء ذلک الیوم ، ومِنْ أین له مثل ذلک الیوم»(1) .

ومثله خبر المشرقی ، عن أبی الحسن علیه السلام فی حدیث فکتب : «من أفطر یوما من شهر رمضان متعمدا فعلیه عتق رقبة مؤمنة ویصوم صوما بدل یوم»(2) .

وممّا یدلّ علی قول المشهور ، وثبوت الملازمة المذکورة ، خبر سلیمان ابن جعفر (حفص) المروزی عن الفقیه علیه السلام قال : «إذا أجنب الرجل فی شهر رمضان بلیل ، ولا یغتسل حتی یصبح ، فعلیه صوم شهرین متتابعین مع صوم ذلک الیوم ، ولا یدرک فضل یومه»(3) .

وهذا أیضا یمکن أن یخدش فیه ، بأنّه لا صراحة بل لا ظهور فی وجوب القضاء ، لامکان أن یکون المراد من قوله : «مع صوم ذلک الیوم» هو وجوب حفظ الصوم والامساک ولا یبطل بذلک ، غایته فَعَل حراما ولا یدرک فضله .

اللّهم إلاّ أن یکون بطلان الصوم بذلک معلوما من الخارج وهو أوّل الکلام فی المقام ، کما هو واضح . ثمّ یثبت الحکم المذکور بواسطة ثبوت الملازمة من دلیل خارج ، کما عرفته ، فیثبت وجوب القضاء علیه ، فیدل علی المطلوب ، کما لا یخفی .

الأمر الثالث : ولدلالة بعض الأخبار التی تدلّ علی المطلوب نحو الأولویّة ، یعنی إذا کان البقاء علی الجنابة نوما موجبا للبطلان وبثوت الکفارة ، ففی صورة


1- وسائل الشیعة : الباب 8 من أبواب ما یمسک عنه الصائم، الحدیث 13 .
2- وسائل الشیعة : الباب 8 من أبواب ما یمسک عنه الصائم، الحدیث 11 .
3- وسائل الشیعة : الباب 16 من أبواب ما یمسک عنه الصائم، الحدیث 3 .

ص:67

العمد والیقظة یکون بطریق أولی ، وهو مثل خبر عبد الحمید عن بعض موالیه فی حدیث : «فمن أجنب فی شهر رمضان ، فنام حتی یصبح ، فعلیه عتق رقبة أو اطعام ستّین مسکینا وقضاء ذلک الیوم ، ویتمّ صیامه ولن یدرکه أبدا»(1) .

فدلالته علی کلا الأمرین واضحة ، ولکن لا یدل علی بطلان الصوم ، لأنّه حکم بإتمام صیامه .

اللّهم إلاّ أن یقال : إنّه لیس بصوم حقیقة ، بل لعلّه یکون عقوبة من حیث الحکم بالإمساک وإلاّ فلا وجه للحکم بوجوب الاداء والقضاء کلیهما اجماعا ، إلاّ علی نحو ما ذکرناه ، کما یکون مثل ذلک فی الحج أیضا .

وصحیح الحلبی عن أبی عبداللّه علیه السلام ، أنّه قال : «فی رجل احتلم أوّل اللیل ، أو أصاب أهله ، ثمّ نام متعمِّدا فی شهر رمضان حتی أصبح ؟ قال : یتم صومه ذللک ، ثمّ یقضیه إذا أفطر من شهر رمضان ، ویستغفر ربه»(2) .

حیث یدلّ بالصراحة علی القضاء فی صورة التعمّد بالترک للغسل فی اللیل حتی أصبح . واحتمال دخالة النوم فی ذلک الحکم لا التعمّد فی الترک فی غایة الضعف . والکلام فی تمامیة صوم ذلک الیوم کما فی سابقه . نعم ظاهر الحدیث انحصار الحکم بخصوص شهر رمضان لا غیره .

ومثله صحیح أبی نصر البزنطی ، عن أبی الحسن علیه السلام قال : «سألته عن رجل أصاب من أهله فی شهر رمضان ، أو أصابته جنابة ثمّ ینام حتی یصبح متعمِّدا ؟ قال : یتمّ ذلک الیوم وعلیه قضاءه»(3) .

الأمر الرابع : أنّه یمکن استظهار ذلک ، من الحکم بالبطلان ، فی صورة البقاء


1- وسائل الشیعة : الباب 16 من أبواب ما یمسک عنه الصائم، الحدیث 4 .
2- وسائل الشیعة : الباب 16 من أبواب ما یمسک عنه الصائم، الحدیث 1 .
3- وسائل الشیعة : الباب 15 من أبواب ما یمسک عنه الصائم، الحدیث 4 .

ص:68

علی الجنابة إلی الفجر فی قضاء شهر رمضان ، بسبب الأخبار الواردة فی ذلک الباب ، مثل الصحیح المروی عن ابن سنان ، وهو عبداللّه : «أنّه سأل أبا عبداللّه علیه السلام عن الرجل یقضی شهر رمضان ، فیجنب من أوّل اللیل ولا یغتسل ، حتی یجیء آخر اللیل ، وهو یری أنّ الفجر قد طلع ؟ قال : لا یصوم ذلک الیوم ویصوم غیره»(1) .

وغیرها من الروایات الدالّة بظاهرها من جهة النهی عن صوم ذلک الیوم علی بطلانه ، حیث یفهم منها أنّه لیس إلاّ من جهة البقاء علی الجنابة متعمِّدا إلی الفجر ، فیستفاد من ذلک أنّ بقاء تلک الحالة مناف مع طبیعة الصوم الواجب مطلقا ، أو لا أقلّ فی مثل شهر رمضان وقضائه ، کما هو المذکور صراحة فی الأخبار .

فإن قلت : لعل هناک فرق بین أداء الصوم وقضائه من شهر رمضان من حیث الوقت ، لأنّه مضیق بوقته ، ولا یجوز التأخیر عنه ، بخلاف القضاء فهو أولی بالحکم بالصحّة من القضاء الذی یکون موسّعا غالبا ، فبذلک یظهر إمکان القول بالتفریق بینهما فی البطلان وعدمه .

قلت أولاً : ظاهر إطلاق بعض الأخبار وشمولها ، حتی صورة ما لو صار القضاء مضیقا ، لو لم نقل بذلک للاطلاق فی الجمیع ، لدعوی إمکان ظهور لفظة (صم غدا) مثلاً علی التوسع ، وهو کما فی خبر سماعة ابن مهران فی حدیثٍ ، قال : «قلت : إذا کان ذلک من الرجل وهو یقضی رمضان ؟ قال : فلیأکل یومه ذلک ، ولیقض فإنّه لا یشبه رمضان شیء من الشهور»(2) .

حیث أنّه لا یدل إلاّ علی وجود التنافی بین البقاء علی الجنابة ، مع صحّة


1- وسائل الشیعة : الباب 19 من أبواب ما یمسک عنه الصائم، الحدیث 1 .
2- وسائل الشیعة : الباب 19 من أبواب ما یمسک عنه الصائم، الحدیث 3 .

ص:69

الصوم حتی إذا صار مضیقا . واحتمال ظهور لفظة (ولیقض) علی بقاء الوقت وسعته ، مندفعٌ بامکان أن یکون المراد من القضاء هو الأعم ولو بعد هذه السنة ، لا أن یکون المراد خصوص القضاء قبل رمضان عام آخر حتی ینافی ما ذکرناه .

وثانیا : یستفاد ذلک من التعلیل الوارد فی ذیل خبر سماعة ، من عدم تشابه رمضان مع بقیة الشهور ، وأنّ الحکم بالبطلان یکون فی صورة الاداء أولی من القضاء بظهور هذا التعبیر من عظم هذا الشهر المنتسب إلی اللّه سبحانه وتعالی فإذا سلمنا ذلک _ أی منافاته مع قضائه _ فأدائه یکون بطریق أولی . مضافا إلی إمکان استفادة ذلک من الحکم بالقضاء علی مَنْ نسی غسل الجنابة من الأخبار ، کخبر إبراهیم بن میمون وغیره(1) . وهذا المقدار کاف فی إثبات ذلک المطلب .

مضافا إلی عدم صراحة الخلاف فی أصل المسألة ممّن أشرنا إلیه من الفقهاء ، وعدم قوّة استدلالهم من الأدلّة التی تمسّکوا بها ، کما سنذکره إن شاء اللّه ، فالمسألة واضحة بحمد اللّه . فحینئذٍ نشرع فی ذکر أدلّة من یقول بصحة الصوم فی الفرض المذکور ، أی البقاء علی الجنابة إلی طلوع الفجر من شهر رمضان .

فممّا استدل به الآیتان الواردتان فی الصوم وهما فی الحقیقة تعدّان آیة واحدة ، وهما قوله تعالی : «أُحِلَّ لَکُمْ لَیْلَةَ الصِّیام الرَّفَثُ إلی نسائکم» وقوله تعالی «فالآنَ باشِرُوهنَّ وابتَغُوا ما کَتَب اللّه ُ لَکُم وکُلُوا واشْرَبُوا حتّی یَتَبَیَّنَ لَکُمْ الخَیطُ الأبیض من الخیط الأسود من الفَجر»(2) . بناءً علی شمول الغایة بقوله : «حَتّی یَتَبین» للمباشرة أیضا ، ولا تکون متعلِّقة بخصوص الأکل والشرب ، فعلیه تفید الآیتان _ صدرا وذیلاً _ بإطلاقهما جواز مباشرة النساء فی


1- وسائل الشیعة : الباب 17 من أبواب ما یمسک عنه الصائم، الحدیث 1 .
2- سورة البقرة : آیة 186 .

ص:70

تمام الأجزاء من اللیل حتی الجزء الأخیر منه المتّصل بالفجر ، بحیثُ لا یبقی منه وقت للغسل أیضا .

هذا لکنّه مخدوش أولاً : بأنّ الجواز کذلک بملاحظة الحکم أولی ، وهذا لا ینافی الحکم بلزوم وقوع الغُسل قبل الفجر ، لأنّ النظر فی الحکم بالجواز إنّما کان بملاحظة أصل الموضوع ، مع الغضّ عن أنّ بعض موارده من جهة بعض المقدّمات الخارجیة تحتاج إلی فترة زمنیة کما هو الحال فی الأکل والشرب أیضا ، فإن الحکم بجواز الأکل فی اللیل کلّه لا ینافی کون المکلف علی حال لا یقدر من الأکل إلاّ بقدر من الوقت ، بحیث لو أتی فی آخر جزء من اللیل مع تلک الحالة لوقع أکله أو بعض آثره المبطلة ما بعد طلوع الفجر ، فإنّه یجب علیه ترک أکله قبل ذلک بواسطة الأدلّة الدالّة علی مبطلیة الأکل بعد الفجر ، حتی بمفاد حکم الغایة المستفاد من سیاق الکلام أیضا .

ثانیا : أنّ الآیتان لیستا بصدد بیان الحکم إلاّ من جهة أصل الجواز ، کما هو کذلک فی مثل نظائرها ، خصوصا فی الآیة الأولی ، وخاصة إذا لاحظنا أنّ شأن نزولها کان لأجل المنع عن المباشرة فی اللیل أوّلاً ثمّ أجیز وأحلّ بعد ذلک ، حیث یؤیّد ما ذکرناه ، فلا یجوز ملاحظة إطلاق الآیة فی تلک الجهة قطعا .

مضافا إلی الإشکال فی الآیة الثانیة من جهة احتمال کون الغایة راجعة إلی الجملة الأخیرة ، لا إلی المجموع ، کما ادعاه الآملی قدس سره فی «المصباح» .

وثالثا : لو سلمنا إطلاق الآیتین للجواز حتی للجزء الأخیر من اللیل ، فنقیّده بذلک بواسطة الأخبار الخاصة الکثیرة ، الّتی قد بلغت فی الکثرة إلی حد الاستفاضة _ لو لم نقل بالتواتر _ والإجماعات المدّعاة من الفقهاء علی بطلان الصوم لو بقی علی الجنابة مصبحا ، کما لا یخفی بمثل ما نقید غیرها من الإطلاقات .

وممّا استدلّ به أیضا علی الصحّة : الأخبار الواردة فی ذلک ، مضافا إلی

ص:71

الأصل ، وهو البراءة عن الوجوب والشرطیة للغسل لصحّة الصوم ، ومنها صحیح حبیب الخثعمی ، عن أبی عبداللّه علیه السلام قال : «کان رسول اللّه صلی الله علیه و آله یصلّی صلاة اللیل فی شهر رمضان ، ثمّ یجنب ، ثمّ یؤخِّر الغُسل متعمِّدا حتی یطلع الفجر»(1) .

الخبر المنقول فی «المقنع» عن حمّاد بن عثمان : «أنّه سأل أبا عبداللّه علیه السلام عن رجل أجنب فی شهر رمضان من أوّل اللّیل وأخَّر الغسل حتی یطلع الفجر ؟ فقال : کان رسول صلی الله علیه و آله یجامع نسائه من أوّل اللیل ثمّ یوخّر الغسل حتی یطلع الفجر ، ولا أقول کما یقول هؤلاء الأقشاب یقضی یوما مکانه»(2) .

فیمکن أن تکون قوله علیه السلام : «کان رسول . . .» إلی قوله «هؤلاء الأقشاب» مقولة قول هؤلاء العامة ، فترجع جملة «یقضی یوما مکان» إلی موضوع السؤال وکان هذا صحیحا .

أو یمکن أن یکون المراد من «هؤلاء الأقشاب» هم الخاصة تقیةً فأراد علیه السلام الطعن فی الخاصة فتکون جملة «یقضی یوما» مقولة قول الخاصة المطعونة ظاهرا ، فصارت الجملة واردة مورد التقیة ، واحتمال الأوّل أولی ، واللّه العالم .

وصحیح عیص بن القاسم ، قال : «سألت أبا عبداللّه علیه السلام عن رجل أجنب فی شهر رمضان فی أوّل اللیل ، فأخّر الغُسل حتی طلع الفجر ؟ فقال : یتم صومه ولا قضاء علیه»(3) .

وخبر سلیمان بن أبی زینبة ، قال : «کتبتُ إلی أبی الحسن موسی بن جعفر علیه السلام أسأله عن رجلٍ أجنب فی شهر رمضان من أوّل اللیل ، فأخّر الغُسل


1- وسائل الشیعة : الباب 16 من أبواب ما یمسک عنه الصائم، الحدیث 5 .
2- وسائل الشیعة : الباب 13 من أبواب ما یمسک عنه الصائم، الحدیث 3 .
3- وسائل الشیعة : الباب 13 من أبواب ما یمسک عنه الصائم، الحدیث 4 .

ص:72

حتی طلع الفجر ؟ فکتب إلیَّ بخطّه أعرفه مع مصارف : یغتسل من جنابته ویتمّ صومه ولا شیء علیه»(1) .

وخبر إسماعیل بن عیسی ، قال : «سألت الرضا علیه السلام عن رجل أصابته جنابة فی شهر رمضان ، فنام عمدا حتی یصبح أی شیء علیه ؟ قال : لا یضر هذا ، ولا یفطر ولا یبالی ، فإنّ أبی علیه السلام قال : قالت عائشة إنّ رسول صلی الله علیه و آله أصبح جنبا من جماعٍ غیر احتلام . قال : لا یفطر ولا یبالی» الحدیث(2) .

نعم قد تمسک الآملی قدس سره فی سیاق هذه الأخبار بخبر أبی سعید القماط : «أنّه سئل أبو عبداللّه علیه السلام عمّن أجنب فی شهر رمضان فی أوّل اللیل ، فنام حتی أصبح ؟ قال : لا شیء علیه ، وذلک أنّ جنابته کانت فی وقت حلال»(3) . ولم یذکره أحد غیره ، ولعلّه لإمکان الفرق بکونه واردا فی مورد النوم متعمِّدا مع الجنابة ، فلم یوجب البطلان ، بخلاف من کان فی حال الیقظة وأصبح عامدا جنبا .

اللهم إلاّ أن یکون مقصوده التمسّک بذیله المذکور علی صور التعلیل ، بأنه حیث وقعت الجنابة فی وقتٍ حلالٍ فلا یضر ، فعمومیته تشمل المقام أیضا .

لکنه لا یخلو عن تعسف کما لا یخفی .

هذه جملة من النصوص الدالّة بظاهرها _ لولا التأویل _ علی مختاراتهم . ولا یخفی علی المتأمل ضعف تمام هذه الأدلّة ، مع ملاحظة تلک الأخبار ولابدّ فیها من اعمال ضرب من التأویل .

فأمّا الجواب عن الأصل : فلوضوح أنّه لا مورد له مع وجود الأخبار الصریحة


1- وسائل الشیعة : الباب 13 من أبواب ما یمسک عنه الصائم، الحدیث 5 .
2- وسائل الشیعة : الباب 13 من أبواب ما یمسک عنه الصائم، الحدیث 6 .
3- وسائل الشیعة : الباب 13 من أبواب ما یمسک عنه الصائم، الحدیث 1 .

ص:73

فی وجوب الغسل قبل الفجر ، وعدم جواز التأخیر حتی یصبح ، وهو واضح .

وأمّا الأخبار : فحملها علی التقیّة هو الأقرب ، وفی بعضها قرینة علی ذلک من نقل الإمام علیه السلام عن أبیه عن عائشة ، والحال أنّه بعید جدا عن شأن الإمام علیه السلام مثل ذلک ، وذکر لفظ (کان) الظاهر استمراریة عمل رسول اللّه صلی الله علیه و آله إذ یعدّ مبعدا آخر لا یعقل منه صلی الله علیه و آله فی شهر اللّه الأکبر أن یبقی بحال الجنابة إلی الفجر ، حتی بعد طلوعه ، وتأخیره صلاة الصبح عن أوّل وقته .

وأمّا الإشکال بوجوب صلاة اللیل علیه صلی الله علیه و آله وأنّه لا یتناسب مع بقائه جنبا ، لاستلزامه لترک ما هو الواجب علیه .

فمندفع ، بما ذکر فی خبر الخثعمی من احتمال کون الجنابة واقعة بعد صلاة اللیل ، کما صرح فی هذا الخبر بذلک ، فلا یوجب حینئذٍ ترک الواجب .

وقرینة اُخری فی بعضها ، وهی الإشارة إلی قول العامّة ، بقوله علیه السلام : «لا أقول کما یقول هؤلاء الأقشاب یقضی یوما مکانه» . هذا فضلاً عن أنّ مسلک العامّة أیضا کذلک من الحکم بالصحّة فی الفرض وهو أولی من سائر التأویلات التی لا تخلو عن غرابة فی الجملة ، من احتمال کون الحکم المذکور فی هذه الأخبار منسوخا أو من خصائص النبی صلی الله علیه و آله کما احتملها صاحب «وسائل الشیعة» قدس سره ، أو الحمل علی صورة العذر ، أو علی غیر صورة العمد ، أو علی الاستفهام الانکاری والتعجب ، فکأنه یقال : هل یمکن أن یکون کذلک أو التأخیر إلی قریب الفجر قبل طلوعه ، أو الفجر الکاذب الأوّل لا الثانی الصادق . مع عدم مساعدته مع بعضها ، حیث قد صرح فیه بلفظ الصبح کما فی خبر إسماعیل : «قالت عائشة : إنّ رسول اللّه أصبح جنبا» فحمله علی الصبح الکاذب حملٌ علی ما هو غیر متعارف فی الاستعمال ، کما لا یخفی .

فثبت أن أحسن الوجوه هو الحمل علی التقیة ، ولا یکون مع ذهاب العامّة إلی

ص:74

ذلک حملاً بعیدا . هذا مضافا إلی عدم القطع بصحّة استناد الحکم بالصحة حزما إلی الصدوقین وغیرهما ، کما ذکره صاحب «الجواهر» والحکیم فی «المستمسک» . وهکذا ثبت _ بعد ما ذکرناه _ وضوح الحکم فی المقام ، أنّه یجب الغسل قبل دخول الوقت قطعا ، ولا یجوز تأخیره إلی طلوع الفجر ، واللّه العالم .

هاهنا عدة فروع وهی :

الفرع الأوّل : هل یلحق الحیض والنفاس بالجنابة أم لا ؟ المشهور علی الأوّل ، کما عن کتاب «الطهارة» للشیخ الانصاری قدس سره ، بل حُکی عن «المقاصد العلیة» نفی الخلاف فیه ، ولکن کتب القدماء خالیة من ذکر هذا الشرط ، ونقله صاحب «الجواهر» عن «المصابیح» سوی ابن عقیل ، ولذلک ذهب صاحب «المدارک» والأردبیلی ومحکی «النهایة» إلی عدم الالتحاق ، ونُسب إلی «جمل» السیّد و«مبسوط» الشیخ قدس سره أیضا کما فی «المصباح» ، بل استظهره «کاشف اللثام» عن العلاّمة فی «القواعد» من جهة التقیید بالجُنب فقط . فعلی هذا ، لا یبعد أن یکون هذا هو المراد من التقیید فی کلام «الشرائع» أیضا ، لو لم یحمل علی التمثیل . بل نقل فی «کشف اللثام» التردد عن العلاّمة والمحقّق فی «المنتهی» و«المعتبر» ، خلافا للعلاّمة فی «المختلف» و«التذکرة» و«التحریر» . وکیف کان ، الأقوی عندنا الالحاق ، کما علیه المتأخرون والمعاصرون لوجوه وهی :

الأوّل : دلالة موثّق أبی بصیر ، عن أبی عبداللّه علیه السلام ، قال : «إنْ طهرتْ بلیلٍ من حیضها ، ثمّ توانت أن تغتسل فی رمضان ، حتّی أصبحت ، علیها قضاء ذلک الیوم»(1) .

فهی تدل علی وجوب القضاء ، فیدل علی البطلان وهذا الخبر هو العمدة فی المقام .

واحتمال ضعف سنده بواسطة علی بن حسن بن فضال ، وعلی بن أسباط ،


1- وسائل الشیعة : الباب 21 من أبواب ما یسمک عنه الصائم، الحدیث 1 .

ص:75

حیث ورد فی حقّهما غمزٌ ، وأنّ روایتهما غیر صحیحة .

مندفع ، بوقوع التوثیق من المشهور ، إذ شهدوا علیهما بالتوثیق کما فی «کشف اللثام» فی هذا المقام ، وتمسّکوا به ، مضافا إلی الأمر الوارد من الأخذ بروایات ابن فضال بقوله علیه السلام : «خذوا ما رووا وذروا ما رأوا» ، کما فی «المستمسک» ، هذا فضلاً عن أنّه منجبرٌ بعمل الأصحاب من الاعتماد تصریحا أو تلویحا .

الثانی : ممّا فی «الجواهر» من الغلبة بمشارکة الحیض مع الجنابة فی کثیر من الأحکام ، بل قد یُدّعی الأولویة بواسطة بعض الأخبار بأنّ الحیض یکون أعظم الوارد فیمن حاض بعد الجنابة ، فإذا کان البقاء علی الجنابة متعمِّدا موجبا للبطلان ، فالحیض یکون بطریق أولی ، بل وهکذا أنّ الحیض إذا وقع ولو بغیر اختیار موجبٌ لبطلان الصوم ، بخلاف الجنابة ، کما أنّه لو احتلم فی یوم رمضان مثلاً حیث لا یوجب البطلان ، فکیون الحیض أشدّ حالاً من الجنابة ، کما فی «مصباح الهدی» . أو بما فی «کشف اللثام» من وجود التنافی بین طبیعة الحیض مع الصوم کالجنابة معه فیوجب الإلحاق .

ولکن قد استشکل علیه فی «کشف اللثام» قائلاً : بأنّه ممنوع . وفی «المصباح» بأنه لا یخفی من الغرابة بأن الأشدّیة إنّما کانت بالنسبة إلی نفس الحیض ، لا ما هو یبقی أثره بعد زوال نفسها ، والکلام إنما هو فی الثانی لا الأوّل .

ولکن الإنصاف شمول الحدیث الدال علی أنّه أعظم لأثره الباقی بعد انقطاع الدم ، لان المفروض کونها محدثة بعده أیضا ، ولذا یجب الغسل عنه للصلاة والصیام لمن أراد الإتیان بهما . مضافا إلی أنّه لو لم نقل أنّه أعظم ، فلا أقل من التساوی . فما ذکره «کاشف اللثام» من المنع لا یخلو عن منع ، فالتمسّک بهذا الوجه من الدلیل لا یخلو عن وجه .

ص:76

الثالث : تمسکا بالأصل فی وجه ، سیما أنّ جعل الکف عنه داخلاً فی ماهیة الصوم ، کما فی «الجواهر» ولعلّ المراد أنّ جعل الصوم عنوانا محصلاً عن الترک والکف والإعراض ، مع انضمام النیّة ، فصار کالطهارة علی قول ، فحینئذ إذا شکّ فی شرطیة شیء أو جزئیته ، یرجع شکّه إلی الشکّ فی المحصِّل والمحصَّل ، فالأصل فیه هو الاشتغال لا البراءة ، وهذا بخلاف ما لو جعل الصوم هو نفس التروک لا أمرا محصلاً عنه ، فحینئذٍ یرجع الشک إلی الشک فی التکلیف ، فالمرجع هو البراءة لا الاشتغال ، ولولا ذلک لما بقی للأصل المذکور المقتضی للاشتغال وجها ، فتأمل .

الفرع الثانی : هل یلحق النفاس بالحیض أم لا ؟ الأقوی هو الأوّل ، للقاعدة المجمع علیها من مشارکته مع الحیض فی الأحکام ، بل قد یدعی فی المقام _ أی الصوم _ الإجماع ، أی من قال بوجوب غُسل الحیض للصوم ، قال به بالنسبة إلی غسل النفاس أیضا . مضافا إلی إمکان دعوی الاتّحاد موضوعا لا حکما ، لأنّ دم النفاس هو دم الحیض ، إلاّ أنّه احتبس لتکون الولد . فالحکم واضح ، لا کلام فیه ، ولم نشهد مخالفا فیه .

الفرع الثالث : هل یلحق به غُسل مسّ المیّت أم لا ؟ الأقوی عدم الالتحاق ، بل هو المسلم بین الأصحاب ، ولم ینقل خلاف إلاّ دلالة کلام والد الصدوق قدس سره فی الالحاق ، من جهة الحکم بالبطلان فی صورة النسیان للغسل للصلاة والصیام . ولکن فی «الجواهر» : لعلّه وهمٌ من الناقل ، لکونه کذلک فی النسخ ، مضافا إلی أنّ الصدوق یفتی عادة علی طبق نص «فقه الرضا» والأخبار ، والحال أنّه لیس فیهما من ذلک أثرا .

قضاء شهر رمضان کأدائه فی مسألة البقاء علی الجنابة و...

مضافا إلی ما عرفت من وجود السیرة المستمرّة إلی زمام المعصوم علیه السلام من وقوع المسّ فی أیام شهر رمضان ، ولم ینبّهوا الناس من ضرورة لزوم الغسل عنه

ص:77

لو وقع فی اللیل ، حذرا من إبطال الصوم ، مع أنّه لو قیل وکان لاشتهر وبان .

فثبت القطع بعدم اشتراط صحّة الصوم به ، مضافا إلی وجود الأصل أیضا هو البراءة من شرطیة ذلک ، وهو واضح .

النوع الرابع : الظاهر إلحاق قضاء صوم رمضان فی ذلک الحکم بالأداء ، أی البقاء علی الجنابة ، بل الحیض والنفاس موجب لبطلان صوم ذلک الیوم ، کما هو المشهور المنصور ، کما ادّعی ، ویدل علیه أمور :

الأمر الأوّل : الروایات الخاصة الواردة فی قضاء صوم شهر رمضان ، وهذه الأخبار التی سنتعرض لها ، وإن کانت واردة فی الجنابة ، إلاّ أنّه قد عرفت بأنّ الحیض والنفاس لو لم یکن أعظم ، فلا أقل من التساوی فلا نعید ، فإذا أثبتنا الحکم فی الجنابة فیثبت فی غیرها أیضا .

وممّا یدلّ علی ذلک صحیح عبد اللّه بن سنان :

«أنّه سأل أبا عبداللّه علیه السلام عن الرجل یقضی شهر رمضان ، فیجنب من أوّل اللیل ولا یغتسل حتی یجیء آخر اللیل ، وهو یری أنّ الفجر قد طلع ؟ قال : لا یصوم ذلک الیوم ویصوم غیره»(1) .

وخبر ابن سنان ، یعنی عبداللّه ، قال : «کتب أبی إلی أبی عبداللّه علیه السلام وکان یقضی شهر رمضان ، وقال : إنّی أصبحتُ بالغسل ، وأصابتنی جنابة ، فلم أغتسل حتی طلع الفجر ؟ فأجابه علیه السلام : لا تصم هذا الیوم وصم غدا»(2) .

فهو یدلّ علی المطلوب إمّا بالمنطوق إنْ کان منتبها إلی الصبح ، أو بالأولویة إن کان قد نام وأصبح .


1- وسائل الشیعة : الباب 19 من أبواب ما یمسک عنه الصائم، الحدیث 1 .
2- وسائل الشیعة : الباب 19 من أبواب ما یمسک عنه الصائم، الحدیث 2 .

ص:78

وذیل موثّق سماعة بن مهران فی حدیثٍ : «فقلت : إذا کان ذلک من الرجل ، وهو یقضی رمضان ؟ قال : فلیأکل یومه ذلک ولیقض ، فانه لا یشبه رمضان شیء من الشهور»(1) . حیث ان صدره وارد فیمن أصابته جنابة فی جوف اللیل فی رمضان فنام ، وقد علم بها ، ولم یستیقظ حتی أدرکه الفجر .

فی الجواب عمّایرد علی وجوب الغسل قبل الفجر

ویفهم الحکم المزبور بنحو الأولویة فیمن ترک الغسل متعمِّدا إلی أن یطلع الفجر ، بلا نوم أصلاً ، لامکان أن یکون النوم لمن أراد الاغتسال بعد الانتباه ولکن لم یستیقظ . مضافا إلی ظاهر التعلیل ، حیث أنّه یمکن ارجاعه إلی وجوب الاتمام لصوم ذلک الیوم فی الأداء دون القضاء ، کما احتمله الآملی فی «مصباح الهدی» . أو یکون المراد بیان حکم البطلان لذلک الصوم ، حتی یکون فی صدد بیان امتیاز شهر رمضان وقضائه عن سائر الشهور . فعلیه لا تخلو الروایة عن دلالة عدم منافاة الجنابة مثلاً لصیام غیر رمضان أداءً وقضاءً .

الأمر الثانی : أنّ الظاهر أنّ القضاء لیس إلاّ نفس الواجب ، إلاّ أنّه قد أتی به فی خارج الوقت ، ولذلک لابدّ له من الشرائط ورفع الموانع بکل ما یکون فی أدائه وإلاّ لولاه لما کان لنا فی القضاء بالخصوص لکلّ من الشرائط ودفع الموانع دلیل ، لا سیما إنْ جعلنا الأمر فی الأداء علی نحو تعدّد المطلوب ، فعلیه لا یکون القضاء إلاّ نفس ذلک الواجب المأمور به فی الوقت ، إلاّ أنّه وقع فی خارجه ، فالادلة الواردة فی الأداء إذا فرضنا قصور أیدینا عن دلیل فی باب القضاء _ کافیة فی إثبات المطلب ، کما لا یخفی علی المتأمل . مضافا إلی إمکان دعوی قیام الشهرة العظیمة من المتقدمین والمتأخرین والمعاصرین ، بل لم نجد من صرّح بنقل خلاف من أحد . نعم قد نقل التردد عن «المنتهی» والمیل إلی العدم عن


1- وسائل الشیعة : الباب 19 من أبواب ما یمسک عنه الصائم، الحدیث 3 .

ص:79

«المعتبر» ، کما عن «المستمسک» ، فصارت المسألة قریبة من الاتفاق فی ذلک ، فلیجعل ذلک ثالث الأدلّة . بل قد یدعی إمکان الاستظهار عن مجموع الأخبار الواردة فی هذه المسألة وأشباهها ، أنّ الجنابة ونظائرها من الأحداث منافیة کلّها مع ماهیة الصوم ، سواء کان واجبا أو مندوبا ، وسواء کان معینا أو غیر معین ، وسواء کان شهر رمضان أو غیره ، أداءً أو قضاءً ، إلاّ ما ثبت بالدلیل الخروج من ذلک ، کما ادّعی فی المندوب بواسطة وجود بعض الأخبار الخاصّة منه .

ولیست هذه الدعوی ببعیدة ، ولا أقلّ من حسن الاحتیاط ، فإنّه حسن علی کل حال ، لا سیما فی الواجب منه _ أی الصوم _ فلا یترک ، وتفصیل الکلام فیه موکول إلی محلّه إن شاء اللّه .

الفرع الخامس : إذا عرفت وجوب غسل الجنابة والحیض والنفاس لأجل الصوم الواجب ، وکان شرطا فی صحته ، ولم نجوّز وقوعه فیما بعد طلوع الفجر _ کما علیه المقدس الأردبیلی قدس سره وغیره _ بل لابدّ من إتیانه قبل الطلوع ، فحینئذٍ یقع الإشکال فی أنّ الصوم حیث لا یکون واجبا إلاّ من أوّل وقت الطلوع ، ولا یجب قبله ، فکیف یمکن تحقّق وجوب الغُسل الذی هو مقدّمة للصوم قبل وجود وجوب الصوم ، إلاّ یعدّ هذا من باب لزوم تقدم المعلول علی العلّة الذی ثبت محالیة ؟ فکیف التخلص عن ذلک ؟

قلنا : الأقوال فیه کثیرة ومضطربة ، فقد استخلص بعضٌ مثل ابن إدریس الحلی ومن تبعه بجعل الوجوب المتعلّق به وجوبا نفسیا ، فلا ینافی کونه واجبا قبل الصوم .

ویرد علیه : أنّه یلزم أن یکون وجوبه غیر منوط بآخر الوقت ، کما یظهر ذلک من کلام المحقّق فی «الشرائع» بقوله : «یجب قبل طلوع الفجر لیوم یجب صومه بقدر ما یغتسل الجنب ، بل لو أراد الإتیان فی الیوم الذی کان قبله کان واجبا

ص:80

أیضا» وهو واضحٌ مع عدم وجود دلیل علی ذلک ، کما عرفت تفصیله سابقا فلا نعید ، هذا أحد الأقوال .

وقولٌ بکونه واجبا غیریّا شرعیّا بوجوب المتعلق علی الصوم ، إلاّ أن وجوبه مطلق حالی والواجب استقبالی ، والزمان یکون ظرفا للواجب لا الوجوب ، فیصیر هذا هو الواجب المعلّق ، کما ذکره صاحب «الفصول» ، لا الواجب المشروط الذی کان وجوبه أیضا مشروطا ، فیترشّح من ذلک الوجوب المطلق وجوبٌ لتلک المقدّمة قبل وقت الواجب ، وهذا هو الظاهر من کلام صاحب «الجواهر» و«مصباح الفقیه» مع فرق بینهما من جهة أنّ صاحب «الجواهر» یجعل الغُسل قریبا بوقت الصوم شرطا لصحّته ، فهو واجب بذلک الوجوب لا مطلق الغسل الواقع قبله بوقت وسیع ، خلافا للفقیه والهمدانی فإنّه یحکم بما یقتضی لازم کلامهما من کون الغُسل فی وقت وسیع أیضا واجبا غیریا ، ولذا استشهد بعدم جواز النوم فی أوّل اللیل لمن یعلم عدم الانتباه فیصبح جنبا . فی الجواب عمّایرد علی وجوب الغسل قبل الفجر

وقول بکونه واجبا نفسیا تهیئیا وهو ما اختاره صاحب «المدارک» قدس سره فی وجوب التعلّم للأحکام الشرعیة قبل البلوغ ، أو قبل وقت الواجب ، حتی یکون متهیّئا بایقاع الواجب صحیحا فی الوقت ، وهکذا الأمر فی المقام .

فعلیه لا یکون الغسل واجبا إلاّ فی آخر الوقت الذی یصدق علیه النهی عرفا ، کما لا یخفی .

وقولٌ بکونه واجبا شرعیا غیریا ، بحیث یستفاد من الأدلّة وجوبه کذلک ، أی قبل دخول الوقت الواجب ، فعلیه یکونو أیضا مستفادا من الدلیل مستقلاً لا من نفس دلیل وجوب ذی المقدّمة ، فعلیه یکون أیضا واجبا مضیّقا لا موسعا . وهذا هو الظاهر من کلام صاحب «الکفایة» فی الأصول .

وقولٌ بأن یکون وجوبه وجوبا عقلیا عقلائیا ، إذ العقل والعقلاء إذا فهموا

ص:81

ولصوم المستحاضة إذا غمس دمها القطنة(1)

الملازمة بین ترکه فی ذلک وبین ترک الواجب وتفویته ، کما أوجبوا تحصیلاً لمصلحة الواجب اتیانه قبل الوقت ، وإنْ کان الفرض قصور دلیل وجوب الصوم عن شموله للإشکال المقدم ، وهو تقدم المعلوم علی علته ، فلا یبعد القول بأحد الوجهین الأخیرین ، لو لم نسلّم بما ذکره صاحب «الجواهر» وغیره .

وقولٌ _ وهو أضعفها _ بأن یکون العلم باتیان الواجب فی محلّه ، وعدم إمکان استدراکه إلاّ باتیانه قبله موجبا لصیرورته واجبا ، وهذا لا محصل له ، إلاّ أن یرجع إلی ما ذکرناه ، وهو غیر مرتبط بالعلم بذلک ، کما لا یخفی .

(1) ظاهر کلام المصنف هو الإطلاق من جهة السیلان وعدمه ، فیشمل کلامه المستحاضة الکثیرة والمتوسطة .

قیل : الذی لا غسل فیه قطعا ، هی القلیلة ، وهو مسلّم بین الفقهاء ، کما لا إشکال فی وجوبه فی الکثیرة ، بل قد ادّعی علیه الإجماع ، وإنّما الخلاف فی المتوسطة ، حیث أنّ الظاهر من کلام المحقّق وغیره هو الوجوب ، بل قد ادّعی صاحب «حواشی التحریر» و«منهج السداد» و«الروض» علیه الإجماع ، مع التصریح بالتعمیم ، بل علیه الفقهاء المتأخرین والمعاصرین . وتفصیل الکلام وتحقیقه موکول إلی محلّه .

وما استدل فی «الجواهر» من صحیح علی بن مهزیار _ حیث ورد فیه السؤال عمن ترک ما تعمل المستحاضة من الغسل لکلّ صلاتین ؟ فأجاب الإمام علیه السلام بقضاء الصلاة دون الصوم ، وعلّل بأنّ رسول اللّه صلی الله علیه و آله کان یأمر فاطمة والمؤمنات من نساءه بذلک(1) _ إنّما یکون مورد السؤال صورة الکثرة ، وساکت عن صورة


1- وسائل الشیعة : الباب 18 من أبواب ما یمسک عنه الصائم، الحدیث 1 .

ص:82

والواجب من التیمّم ، ما کان لصلاةٍ واجبة عند تضییق وقتها ، وللجُنب فی أحد المسجدین لیخرج به.(1)

التیمّم الواجب للغیر

غیرها ، فلا ینافیه . بناءً علی هذا لنا دلیل علی إثبات الحکم للمتوسطة ، فالمرجع هو الأصل ، لو لم یکن عندنا نص . اللّهم إلاّ أن یکون الإجماع المنقول ، أو الشهرة العظیمة ، موجبا لحصول الظنّ أو الاطمئنان بوجوب الغسل ، فلا یعتمد علی الأصل . ولا یسع المقام أن یبحث أزید من هذا .

ثمّ لا إشکال فی توقف صحّة الصوم علی غُسل الفجر ، وإن کان الغُسل بعد الفجر قبل الصلاة وکان سببه متقدِّما قبل الطلوع ، وهذا اتفاقی وکأنّه لا خلاف فیه .

وأمّا توقّفه علی الأغسال الفجریة والنهاریة معا فمحل خلاف ، ذهب المشهور _ کما نسب إلی «المدارک» _ کما علیه العلاّمة والشهید وجماعة ، ولکن العلاّمة فی «النهایة» احتمل توقفه علی الفجر فقط .

وأمّا توقّفه علی مطلق الأغسال من النهاریة واللیلیة المستقبلة ، وإن اقتضت إطلاقات کلامهم إلاّ أنّه صرح بعضهم علی خلافه ، فإثباته موکول إلی محلّه .

(1) ظاهر إطلاق الماتن قدس سره یشمل تام افراد التیمّم للصلاة الواجبة ، سواء کان بدلاً عن الوضوء أو الغسل ، وسواء کان الغسل عن الجنابة ، أو الحیض أو النفاس ، أو المس . والحکم الثابتٌ ومجمعٌ علیه ، اجماعا محصلاً ومنقولاً من الکتاب والسنة . نعم قد خرج عن ظاهر کلامه الطواف ، ومس کتابة القرآن ، وقراءة العزائم انْ وجبا ، والصوم للغُسل خاصة ، کما صرح بالخروج العلاّمة فی «المنتهی» کما نقله والده الفخر ، بل قد صرح بذلک صاحب «المدارک» للأخیر أیضأ ، لأنّه لابدّ له من نوع خاص من الطهارة ، فبدلیة التیمّم عنه تحتاج إلی دلیل خاص ، وحیث لم یکن فالمرجع الأصل ، بخلاف ما کان شرطه الطهارة المطلقة

ص:83

من الحدث الأکبر والأصغر ، فیصح بدلیته عنه . کما أنّ الظاهر من کلام العلاّمة دعوی الرجوع إلی الأصل ، فیما لا دلیل بالخصوص للموارد المذکورة ، ولا تکون الأدلّة واردة إلاّ فی خصوص الصلاة .

هذا ولکن الأقوی _ کما علیه الشیخ فی «المبسوط» و«الدروس» ، وجماعة کثیرة من القدماء ، بل المتأخِّرین والمعاصرین _ کون التیمّم بدلاً عن الطهارة المائیة مطلقا بجمیع أقسامها . ویدلّ علی ذلک _ مضافا إلی ذهاب أکثر القدماء والمتأخِّرین _ مشروعیة التیمّم لکل ما یجب له الطهارة المائیة ویبیحه عند تعذرها ، کما عن الشیخ فی «المبسوط» و«الجمل والعقود» و«المصباح» و«المعتبر» و«الشرائع» و«الجامع» و«المنتهی» و«التذکرة» و«القواعد» و«البیان» و«الروضة» والکرکی ، بل فی «المعتبر» علیه اجماع فقهاء الإسلام ، وفیه نقل الإجماع عن الفاضل أیضا ، بل فی موضع من «الحدائق» دعوی الشهرة ، وفی آخر منه أنّ علیه الأصحاب ، وفی «التذکرة» نفی الخلاف عن استباحته للمسّ والتلاوة .

مضافا إلی روایة «فقه الرضا» بقوله : «والتیمّم غسل المضطر ووضوءه» ، المنجبر ضعفه بعمل الأصحاب ، حیث أنّ من یجب علیه شرط الطهارة المائیة مضطر ، فیدخل تحت العموم فی الخبر .

فی کون التیمّم بدلا عن الطهارة المائیّة

ومضافا إلی استفادة ذلک من الآیتین الواردتین فی ذلک ، الأولی قوله تعالی : «وَلاَ جُبُنا إلاّ عَابِری سَبیل حَتّی تَغْتَسِلُوا وإنْ کُنتُم مَرْضی أو عَلی سَفَرٍ أو جَاءَ أحدٌ مِنکُم مِنَ الغَائط أو لا مَسْتُمُ النِّساءَ فَلَمْ تَجِدوا ماءً فَتَیمّموا صَعِیدا طیّبا » الآیة(1) . بناء علی أحد المعنیین ، وعلیه الخبر بکون المراد من


1- سورة النساء : آیة 43 .

ص:84

«عابری سبیل» هو الاجتیاز عن المسجد ، فلا یجوز إقامة الصلاة فیه إلاّ أن یکون متیمّما فیجوز .

بل أولی منها من جهة الدلالة من حیث إشعار التعلیل بالطهارة ، وهی الآیة الثانی قوله تعالی : «وإنْ کُنتم جُنُباً فاطَّهروا وإنْ کُنتُم مَرْضی أو عَلی سَفَرٍ أو جَاءَ أحدٌ مِنکُم مِنَ الغَائط أو لا مَسْتُمُ النِّساءَ فَلَمْ تَجِدوا ماءً فَتَیمّموا صَعِیدا طیّبا فَامْسَحُوا بوجُوهِکُم وَأیدِیکُم منه ما یریدُ اللّه لیَجْعَلَ علَیْکُم مِنْ حَرَجٍ ولکن یُریدُ لیطَّهرکُم»الآیة(1) . حیث تفید أنّ الطهارة فی حال الاضطرار لیس إلاّ التیمّم ، فلا یکون مورده وهو الصلاة فی کلتا الآیتین مخصصا ، فالعبرة بعموم التعلیل لا بخصوص المورد .

کما تفید الأخبار المستفیضة الواردة فی إثبات البدلیة للتیمّم عن الطهارة المائیة ، وکون التراب بمنزلة الماء ، وإنْ شئت تفصیل ذلک فانظر إلی خبر حمّاد بن عثمان ، قال : «سألت أبا عبداللّه علیه السلام عن رجل لا یجد الماء یتیمم لکل صلاة ؟ فقال : لا هو بمنزلة الماء»(2) .

وخبر زرارة عن الصادق علیه السلام : «فی رجل یتیمّم ؟ قال : یجزیه ذلک إلی أن یجد الماء»(3) .

وخبر السکونی عن الصادق علیه السلام عن جدّه رسول اللّه صلی الله علیه و آله قال : «یا أبا ذرّ یکفیک الصَّعید عشر سنین»(4) .


1- سورة المائدة : آیة 6 .
2- وسائل الشیعة : الباب 20 من أبواب التیمّم، الحدیث 3 .
3- وسائل الشیعة : الباب 20 من أبواب التیمّم، الحدیث 2 .
4- وسائل الشیعة : الباب 20 من أبواب التیمّم، الحدیث 7 .

ص:85

وخبر زرارة فی حدیثٍ عن الباقر علیه السلام قال : «فإنّ التیمّم أحد الطهورین»(1) .

وخبر محمّد بن مسلم ، فی حدیث : «ولا ینقضها» ، لمکان أنّه دخلها وهو علی طهر بتیمّم(2) .

وخبر محمّد بن مسلم أیضا عن الصادق علیه السلام ، قال : «سمعته یقول : إذا لم تجد ماءً وأردت التیمّم ، فأخّر التیمّم إلی آخر الوقت ، فإن فاتک الماء لم تفتک الأرض»(3).

وحدیث محمّد بن حمران عن جمیل بن دراج ، جمیعا عن الصادق علیه السلام : «إن اللّه جعل التراب طهورا ، کما جعل الماء طهورا»(4) .

وخبر محمّد بن مسلم عن الصادق علیه السلام قال : «إنّ رب الماء هو رب الصعید ، فقد فعل أحد الطهورین»(5) .

حیث تری دلالة الکلّ علی ما ادعیناه ، فیوجب حصول القطع ، ولا أقلّ من حصول الاطمئنان علی صحّة ما ادعیناه ، من کفایة التیمّم بدلا عن الماء ، فی کلّ ما یجب فیه الطهارة المائیة .

مضافا إلی إمکان دعوی الأولویة _ کما فی «مستند الشیعة» _ فإنّه إذا کفی للصلاة التی هی من أعظم العبادات ، ففی غیرها یکون بطریق أولی .

ومضافا إلی ملاحظة الأخبار الواردة فی التیمّم لذوی الأعذار ، وکلّ ذلک یزیل التردّد عن الفقیه إن شاء اللّه ، فالمسألة واضحة وللّه الحمد .

ومن ذلک یظهر فرعان آخران وهما :


1- وسائل الشیعة : الباب 21 من أبواب التیمّم، الحدیث 1 .
2- وسائل الشیعة : الباب 21 من أبواب التیمّم، الحدیث 4 .
3- وسائل الشیعة : الباب 22 من أبواب التیمّم، الحدیث 1 .
4- وسائل الشیعة : الباب 23 من أبواب التیمّم، الحدیث 1 .
5- وسائل الشیعة : الباب 23 من أبواب التیمّم، الحدیث 6 .

ص:86

الفرع الأوّل : ما فی المتن من إیجاب التیمّم للجنب فی أحد المسجدین ، لیخرج به ، لما قد عرفت من الأدلّة السابقة منضما إلی حصول الإجماع القطعی ، بل وعدم الخلاف _ إلاّ عن ابن حمزة ، حیث حکم بالاستحباب علی وجوبه للمحتلم فی المسجدین ، بل مطلق الجنب فیهما ، کما علیه ظاهر المحقّق فی المتن و«الجامع» و«القواعد» ، بل قد یُدعّی الإطلاق حتی لمن دخل جنبا عمدا أو سهوا فیهما ، مع کون حصول الجنابة فی غیرهما ، کما یظهر ذلک من «الارشاد» و«الدروس» و«البیان» وغیرها . وفی المورد نص خاص ، فقد ورد الحکم المذکور فی صحیح ومرفوع أبی حمزة ، عن أبی جعفر علیه السلام : «إذا کان الرجل نائما فی المسجد الحرام أو مسجد الرسول صلی الله علیه و آله فاحتلم ، فأصابته جنابة ، فلیتیمّم ولا یمر فی المسجد إلاّ متیمّما» الحدیث(1) . إذ یدلان علی وجوبه ولذلک ذکره المحقّق بالخصوص ، فلعلّه شاهد دلیلاً آخرا علی أنّه یجب التیمّم فی غیر الصلاة والجنب فی المسجد . ولکن قد عرفت ضعفه ، فإشکال الشهید فی «المسالک» علیه فی ذیل قوله : «المندوب ما عداه» یکون واردا خلافا ل_ «کشف اللثام» حیث یحمله علی ما یکون واجبا بذاته وبالأصالة .

الفرع الثانی : ما فی المتن أیضا حیث قال بعد ذلک بقوله : «والمندوب ما عداه» إذ قد عرفت من التحقیق الذی ذکرناه عموم البدلیة لکلّ ما یستحب له الطهارة المائیة ، وإنّه یمکن أن یجعل التیمّم موضوعه عند تعذرها ، إذ التراب بدل الماء وبمنزلته ، حتی فی الوضوء التجدیدی ، وما لا یکون رافعا للحدث کوضوء الحائض والجنب وغیرهما ، کما سیأتی تفصیله فی موضعه إن شاء اللّه .


1- وسائل الشیعة : الباب 15 من أبواب الجنابة، الحدیث 3 _ 6 .

ص:87

وقد تجب الطهارة بنذر وشبهه(1)

من العهد والیمین ، ولابدّ من تحصیل الشرط المعتبر فی کلّ واحد منهما ، مثل الرجحان فی متعلّق النذر وأمثال ذلک ، فحینئذ لا بأس بالإشارة إلی بعض (1) الفروع المتفرعة علی هذه المسألة ، تبعا لصاحب «الجواهر» قدس سره و«کاشف اللثام» وغیرهما ، فنقول :

الفرع الأوّل : لو نذر طهارة غیر مشروعة ، فلا یصح کالطهارة المتکررة لغسل الجنابة ، أو قصد الوضوء معه لا بقصد التجدیدی ، إنْ قلنا بجواز الوضوء مع حصول الطهارة بغسل الجنابة . لکنّه مشکل فلا یجوز مطلقا أو التیمّم مع عدم تعذّر الطهارة المائیة وأمثال ذلک .

فروع تتعلّق بوجوب الطهارة بالنذر و شبهه

ووجه البطلان واضح ، إذ یعدّ فاقدا لشرط النذر وهو رجحان المتعلّق ، لأنّ الطهارة فیما ذکرنا من الأمثلة محرّمة بالحرمة التشریعیة . وزاد فی «الجواهر» إلاّ أن یقصد فی نذره إتیان صورة ذلک لینعقد ، وتظهر ثمرته فی ثبوت الکفارة لدی المخالفة ، لأنّه لا یخلو عن إشکال ، لأنّ المعتبر فی النذر إحراز رجحان المتعلق ، لا عدم إحراز المرجوحیة حتی یجتمع مع الشک فی الرجحان أیضا ، ففی الفرض لو لم نقل بعدم رجحانه قطعا ، فلا أقل من الشکّ ، فدعوی القطع براجحیة إتیان الصورة بلا قصدٍ لأحد الأمور الواقعیة تکون عهدتها علی مدعیها .

الفرع الثانی : لو أطلق النذر للطهارة ، ولم یعین فردا منها ، فالظاهر صحّة إتیان أحدهما ، أی الأمور الثلاثة لو لم یکن للاطلاق حینئذٍ منصرفا إلی أحدها بخصوصه ، کما لا صحّة لدعواه للوضوء ، بلا فرق فی ذلک بین ثبوت الحقیقة الشرعیة وغیره . نعم ، غایته عند ثبوتها لا یبعد أن یحمل علیها ، لولا انصرافها إلی غیرها .

واستشکل فی «الجواهر» فیصورة عدم الانصراف ، وعدم قصد عموم

ص:88

الاشتراک ، والقول بأن لفظ (الطهارة) مشترکٌ لفظی ، بعد ذکر احتمال الصحّة والتخییر فی انتخاب أحد الأفراد .

لکنا لم نعرف للاشکال وجها ، فأیُّ فرقٍ بین أخذ لفظ (الطهارة) مشترکا لفظیا ، وبین أخذ لفظ کان له ثلاثة أفراد حقیقةً عند الشرع ، کما لو نذر الإتیان بکفارة افطار صوم شهر رمضان ، وقلنا بعدم القرینة بین أفرادها ، وکونه مخیرا بینها ، فلا إشکال فی تخییره بین أفراد حقیقة واحدة کعتق رقبة مثلاً بین افرادها ، فالأقوی الصحّة والتخییر بین الأفراد .

مضافا إلی إمکان التمسّک بعموم وجوب الوفاء بالنذر فی رفع شرطیة التعیین ، ولو فی الجملة ، کما لا یخفی .

الفرع الثالث : أنّه لا یذهب علیک أنّ النذر من جهة سعة وقت الوفاء وضیقه منوط بکیفیّة نذر الناذر ، فإنْ ضیقه بوقت خاص یُضیّق ، وإلاّ فمطلق ویکون ممتثلاً فی أی وقت أتی به . نعم لابدّ أن یجعل وقتا یکون قادرا للامتثال فیه ، فلو لم یکن کذلک ، بأن جعله فی وقت یمتنع الامتثال فیه شرعا ، مع العلم بذلک ، فلا ینعقد أصلاّ ، کما لو نذر إتیان الطهارة الشرعیة الرافعة للحدث _ مثل غسل الحیض فی حال عدم انقطاع دم الحیض _ لما عرفت من عدم صحّته للتشریع المحرم ، فإن لم یعلم ، ثمّ ظهر عدم تمکنه ، کشف عن فساده ، لانکشاف عدم القدرة ، المعتبرة قطعا . وأما لو کان قادرا لتحصلیها فی ذلک الوقت مثلاً مع الواسطة ، کما لو نذر الطهارة الرافعة للحدث فی ساعة کذا ، وکان متطهّرا ، فهل یجب علیه نقضها وتحصیل الطهارة المنذورة أم لا ؟

ففی العروة فی مسألة الأولی من أقسام الوضوء المنذور ، حَکَم بوجوب النقض أوّلاً ، ثمّ أشکل وتأمّل فی صحّة إطلاقه ، ولعلّه کان من جهة أنّه تارةً یقصد بذلک تحصیل الطهارة ، مثل الوضوء الرافع لکل صلاة إنْ کان محدثا ،

ص:89

فلازمه أن یکون من قبیل الاستطاعة للحج من الواجب المشروط ، أی کان وجوبه مشروطا بتحقق الحدث ، فلا یجب تحصیله .

وإن أُخذ علی نحو الواجب المطلق ، بحیث یشمل ما لو کان متطهّرا ، فالحکم بالصحة حینئذٍ مشکل ، لعدم الرجحان فی نقضها ، وإن کان أصل الطهارة بعد النقض راجحا إلاّ أنّه حیث کان المنذور ملازما حینئذ لإیجاد أمر غیر راجح ، فصحّته مشکل ، کما علیه الآملی فی «المصباح» ، والحکیم قدس سره فی «المستمسک» ، والبروجردی قدس سره وغیرهم ، کما هو الحال بالنسبة إلی من نذر التیمّم کذلک ، لا یکون موجبا لوجوب إراقة الماء حتی یتعذّر فیصحّ التیمّم ، أو نذر الغُسل للجنابة ، فإنّه لا یجب علیه اجناب نفسه حتی یغتسل ، وأمثال ذلک .

الفرع الرابع : لو نذر وضوءا تجدیدیا لکلّ صلاة فریضة وجب ، ویلزم الکفارة فقط عند المخالفة ، لا بطلان الصلاة ، لأنّ المفروض وجود الطهارة المبیحة بالطهارة الأولی .

نعم ، قد یشکل وجوب الوضوء ثانیا ، فیما لو صلّی هذه الصلاة ثانیةً بالجماعة ، لأنّ المفروض تحقّق ما هو الفریضة فی الوقت مع الوضوء التجدیدی النذری ، فلا تتکرّر ، بلا فرق بین أن تکون الصلاة المعادة مستحبّة والأولی فریضة ، أو تکون أحدهما لا بعینها فریضة .

ولکن احتمل صاحب «کشف اللثام» وتبعه صاحب «الجواهر» وجوب الوضوء للجماعة أیضا ، علی الفرض الثانی ، لأنّها صارت فریضة ، ولو من جهة کونها وسیلة لتحصیل ما هو الواقع المردد فی الفریضة .

نعم ، لو استظهرنا من حدیث : (إنّ اللّه یختار أحبهما إلیه) کون الثانیة فریضة احتسابا لا الأولی ، فلا إشکال حینئذٍ فی وجوب وضوء آخر لها أیضا لکونها فریضة .

نعم فی «الجواهر» أنّه یشمل صورة النذر للطهارة ، حتی مثل الوضوء

ص:90

الصوری ، کوضوء الجُنب والحائض ، ثمّ احتمل العدم وقوّاه ، أمّا من جهة کون الوضوء حقیقة فی غیره ، أو للانصراف إلی غیره ، وإن کان حقیقة فیه .

ولکن الحقّ عدم الأجزاء بالصوری فی مطلق الطهارات ، لو لم یقصد الناذر عمومیته لمثله ، وذلک للانصراف المذکور . کما أنّ الظاهر عدم الاجتزاء عند الإطلاق بالطهارة المنذورة بالتجدیدی من الوضوء ، بواسطة انصراف الإطلاق إلی المحصل رفع الحدث لا التجدیدی وإن اخترنا سابقا صدق الطهارة بالنسبة إلی کلّ من التجدیدی والصور¨ أیضا .

وفی المقام فروع اُخری متناسبة مع إعادة الصلاة وتکرارها قد ذکرها صاحب «الجواهر» قدس سره تبعا ل_ «کاشف اللثام» ولکن ترکناها ووکلنا بحثها إلی محلّها إن شاء اللّه تعالی .

* * *

ص:91

تعریف الماء المطلق و المضاف

البحث فی المیاه

أقول: مجموع أبحاث هذا الکتاب یعتمد علی أربعة أرکان ، والأربعة المذکورة عبارة عن : العبادات ، والأحکام ، والعقود ، والإیقاعات .

ووجه الحصر هو أنّ الأمور : أمّا أن تکون من الضروریة الدینیة ، أو من الدنیویة .

فالأول : هو العبادات .

والثانی : قد لا یحتاج فی تحقیقه إلی الصیغة واللفظ ، أو یحتاج إلیها .

فالأول : هو الأحکام من الحدود والدیات والقصاص والمیراث .

والثانی : قد یحتاج إلی الصیغة من الطرفین ، فهو العقود کالبیع وغیره .

ومنه ما یکفی من طرف واحد فهو الایقاعات ، کالطلاق والعتاق .

وجمیع أبحاث الفقه ینقسم إلی هذه الأقسام الأربعة . ولذلک بنی المصنّف کتابه علیها . وإذا عرفت ذلک فنقول : قال المصنّف قدس سره :

ص:92

الرکن الأوّل: فی المیاه ، وفیه أطراف :

الأوّل : فی الماء المطلق ، وهو : کل ما یستحق إطلاق اسم الماء علیه من غیر إضافة .(1) تعریف الماء المطلق و المضاف

(1) اعلم أنّه لما کان الماء منشأ حیاة کلّ شیء حیث یعدّ الماء أصل کلّ شیء کما أشیر إلیه فی قوله تعالی : «وَجَعَلْنا مِنَ الماء کُلّ شیء حَیّ أفلا یؤمنون»(1) . وبما أنّه منشأ لتحقق الحیاة فی العبادة إذا کانت مصبوغة بصبغة زبانیة ، أی منضّمة إلی قصد القربة إلی اللّه ، ومنه یحصل التطهر عن جمیع الرذائل الظاهریة والباطنیة ، قدّم المصنّف بحثه علی سائر المباحث ، وجعل بحثه فیه من جهات متعدِّدة وأطراف عدیدة ، ولذلک قال المصنّف : «وفیه أطراف» :

الأوّل : فی الماء المطلق ، وقد عرّفه بما عرفت ، وأورد علیه بشمول التعریف ما یوجب الدور ، لأنّ المعرف (بالکسر) مشتمل علی لفظ الإطلاق الموجود فی المعرَّف (بالفتح) ، المقصود تعریفه ، ومعلوم أنّ معرفة الشیء إذا کان متوقِّفا علی معرفة الآخر فإنّه یوجب الدور .

وأُجیب عنه بأنّ مقصود المصنّف مجرّد کشف معنی الاسم ، وإبدال اللفظ المجهول بلفظ معلوم فلا دور ، ولعلّه أراد بیان أنّه لیس بتعریف حقیقی حتی یرد علیه ذلک بل هو شرح للاسم ، لأنّه من أوضح المفاهیم العرفیة ، ولا یحتاج إلی البیان .

مضافا إلی إمکان أن یقال : بأنّ الإطلاق لیس مأخوذا فی حقیقة تعریفه ، بل أخذ ذلک لذکر الامتیاز عمّا یشابه ذلک فی الاستعمالات ، وأراد من ذلک تعیین ما هو المقصود منه ، فلا محیص عن الاستفادة من قبیل هذه الألفاظ .


1- سورة الأنبیاء : آیة 30 .

ص:93

ثمّ لا یخفی علیک أنّ الإضافة الملحقة بلفظ الماء متفاوتة ، لأنّ المضاف قد یکون معتصرا من الأجسام ، کماء الرمّان والعنب وأمثال ذلک ، أی فی الحقیقة لیس بماء ، بل یصح سلبه عنه عند العرف ، ولذلک لا یستعمل إلاّ مع الإضافة ، بحیث لو ذُکر لفظ الماء بلا ذکر جهة الإضافة ، کما لو قیل : «جئنی بماء» واُرید منه ذلک حقیقة ، لخطّاءه أهل العرف واللغة لأنّه خارج عنه حقیقة معناه .

نعم یصح إطلاق لفظ الماء علیه بنوع من العنایة ، کأن یرید من الماء ما یکون مائعا سائلاً رقیقا ، وبه یستعمل علیه بما لا یصح استعماله علی الدهن کذلک .

وقد یکون ممتزجا کالماء الذی صار مالحا بالملح وموحلاً بالتراب ، وأمثال ذلک ، حیث أنّه فی الحقیقة ماء ، إلاّ أنّه یمکن أن یبلغ فی زیادة إضافته إلی مرتبة لا یصدق علیه ذلک العنوان ، ومن هنا یظهر ویتحقّق الفرد المشکوک من المصادیق .

وقد تکون الإضافة غیر داخلة فی حقیقة الماء ، بل تکون من الأمور الخارجیة والممیزة عن أنواع الماء وأقسامه ، باعتبار ما یؤخذ منه ویضاف إلیه ، کاضافته إلی البحر والبئر وأمثال ذلک ، فلا إشکال فی إطلاق اللفظ علی هذا القسم من الإضافة حیث أنّه ماء مطلق حیقیة ، بخلاف الإضافة الموجودة فی السابقین . وأما جعل المتصاعد من الابخرة من أفراد الماء المضاف ، قبل تبدل البخار إلی المقطر ، حیث یصیر ماءاً _ إنْ کان بخارا _ أو غیره ان کان من غیره _ کالبول وأمثاله _ کما عن الآملی قدس سره فلا یخلو من إشکال ، إذا العرف لا یساعده ، کما اعترف به أیضا فی آخر کلامه . فالماء حقیقة عبارة عمّا لا یحتاج إلی انضمام قید إلیه ، بل کان استعماله بلا زیادة شیء ، مفهوما عند العرف ومتبادرا منه افراده ، وهو واضح .

فدعوی صاحب «دلیل العروة» کون إطلاق الماء علی قسمیه من المطلق والمضاف بنحو الحقیقة علی نحو القدر المشترک المعنوی بإطلاق ، لا یخلو عن

ص:94

وکله طاهرٌ مزیلٌ للحدث والخبث(1)

ضعف ، لما قد عرفت من التفصیل فی المضاف . نعم ، ما یکون من قبیل القسم الثالث منه ، أو بعض أفراد القسم الثانی ، فهو صحیح ، إذ لیس إلاّ نفس الماء .

ثمّ ما ذکرناه إنّما یکون فیما لو علم صدق عنوان الماء ومفهومه علیه وعلم أیضا أنّه مصداقه . وأما لو شک ، ففی الأوّل لو کان منشأ الشک عروض عارضٍ خارجی علیه ، مع صدق العنوان علیه قطعا قبل العروض ، فإن أجرینا الاستصحاب فی مثل تلک الالفاظ العرفیة ، فلا إشکال فی جریانه والحکم بترتّب الآثار علیه . وهکذا فی الشک فی المصداق ، أی فی الشبهة الموضوعیة لا المفهومیة ، بلا فرق فی کون الحالة السابقة أمرا وجودیا _ کما عرفت _ أو عدمیا أی عدم المائیة .

الماء طاهر و مطّهر

وأما ان لم یکن مقطوعا سابقا أو کان ولم نقل بجریان الاستصحاب فیه ، فحینئذ فما لم یشترط فی جواز استعماله إحراز عنوان المائیة فیجوز مثل استعماله للشرب مثلاً وأمثال ذلک ، لاصالة البرائة ، وهی جاریة فی کلا قسمی الشک فیه .

وإنْ أخذ إحراز العنوان شرطا ، کان مقتضی الأصل هو أصالة الاشتغال کما لا یخفی ، ویتوافق هذا الأصل مع استصحاب بقاء الحدث والخبث الذی کان شرط زواله هو التطهیر بالماء المعلوم أنّه ماء .

(1) وأمّا کون الماء طاهرا ومطهِّرا ، فیدلّ علیه الأدلّة الأربعة من الکتاب والسنة والإجماع والعقل ، بل هو من الضروریات فی الدِّین من تلک الجهة ، ومن مطهریته للغیر کما فی «الجواهر» ردّا علی مذهب سعید بن المسیب حیث لم یجوّز الوضوء بماء البحر ، لکونه إنکارا للضرورة . کما أنّ الإجماع بکلا قسمیه

ص:95

من المحصّل والمنقول موجودٌ فی المقام ، بل لم نعرف مخالفا فیه إلاّ عمّن لا یعبأ به . فبقی حینئذ دلالة الکتاب والسنة :

أمّا الأوّل : فالآیتان ، الاُولی منهما قوله تعالی : «إذْ یُغشّیکُمُ النُّعاسُ أمَنةً وَیُنزّل علیکم مِنَ السَّماء ماءً لُیطهرکم به وَیُذهب عَنکم رِجْز الشّیطان» الآیة(1) . علی ما عرفت فی تفسیرها من الاحتمالین فی أوائل بحث الطهارة ، وعلمت أن المراد من التطهیر ، إمّا خصوص الطهارة من الخبث ، والمراد من الرجز هو الحدث ، أو کان المراد من التطهیر هو ما یشمل الخبث والحدث کلاهما ، وکان المراد من الرجز هو الوسوسة الشیطانیة .

وعلی کلّ تقدیر ، إذا ثبت مطهریة الماء للآخر _ خبثا أو هو مع الحدث فإنّه یثبت طهارته بالملازمة العرفیة ، من جهة أنّ فاقد الشیء کیف یکون معطیا ؟! أو بالملازمة الشرعیة المستفادة من الآیة .

واحتمال خصوصیة المورد من جهة نزول الآیة أثناء غزوة بدر ، أو فی کونه فی خصوص المطر ، ساقطة بالاجماع ، کما لا یخفی .

مضافا إلی ما فی «الجواهر» من إمکان دعوی کون المراد من السماء بلحاظ أنّه کان جمیع الماء من السماء ، کما تری ذلک فی قوله تعالی : «وأنزَلْنا مِنَ السَّماء ماءُ بقدر فأسکناه فی الأرض» الآیة(2) .

الثانی : قوله تعالی : «وأنزلنا مِنَ السَّماء ماء طهورا»(3) . ودلالتها علی المقصود موقوفة علی معرفة صیغة «طهور» علی وزن فعول ، فنقول : إنّ هذه


1- سورة الانفال : آیة 11 .
2- سورة المؤمنون : آیة 18 .
3- سورة الفرقان : آیة 48 .

ص:96

الصیغة من جهة التصور والاحتمال علی أربعة صور ، وذهب إلی کل منها ذاهب فی الجملة :

دلالة الکتاب علی أنّ الماء طاهر و مطهّر

الأولی : أن یکون المراد منه هو «اسم الفاعل» ، بأن یکون (الطهور) بمعنی الطاهر ، إذ الطاهر غیر متعد ، والطهور کذلک وعلیه عدّة من اللغویین کما فی «الجواهر» فراجع .

الثانیة : أن یکون (الطهور) بمعنی المصدر ، فهو یدعی من جهة کیفیة حرکة مادته بفتح الطاء وآخر بضمه ، بل قد قیل بأن المصدر لا یکون إلاّ بالثانی ، کما أن اسم الآلة یکون بالأول ، فیکون حینئذ حمل الطهور علی الماء نظیر حمل (عدل) علی (زید) من جهة کثرة المبالغة فی طهارته ، فیکون حملاً ادعائیا أو مجازیا .

لکنه مردود بعدم وجود حمل هاهنا ، بل جیء به علی نحو الوصفیة بقوله : «ماء طهورا» .

الثالثة : أن یکون بمعنی المبالغة «کالغفور والودود» فحینئذ قد یدعی بأن الطهارة أیضا من المفاهیم المشککة ، وتکون فیه الشدة والضعف کما ادعاه بعض ، ومثّل له بالوضوء بالماء المشمس والآجن ، حیث یکون مکروها ، بخلاف الماء المطلق البارد الغیر الموصوف بذلک ، وإن کان مثاله لا یخلو عن إشکال ، فیکون معنی المبالغة حینئذٍ متصورة فیه من جهة شدّة الطهارة وزیادتها .

وآخر یدعی أنّها تکون مثل الملکیة والزوجیة من الأحکام الوضعیة حیث لا تتصور فیها الزیادة والنقیصة ، بل أمرها دائر بین الوجود والعدم کما هو الأقوی عندنا ، فحینئذ لا معنی للمبالغة إلاّ من جهة التکرار فی مطهریته للأشیاء .

وصحّة الاستعمال کذلک فی معنی المبالغة لا یخلو عن مسامحة .

نعم قد استعمل لفظ المبالغة فی الآیة(1) ، بصورة أطهر ، حیث أنّه ظاهر فی


1- سورة الأحزاب: آیة 53 .

ص:97

وجود المراتب فیه ، لکنّه وارد بالنسبة إلی حال القلب والروح لا الطهارة بلحاظ الحدث والخبث ، فراجع الآیات .

الرابعة : أن یکون بمعنی اسم الالة کفطور وسحور ، أی آلة ما یفطر ویسحر به ، فهاهنا آلة الطهارة ، کما ورد ذلک فی اللّغة أیضا ، وانْ أردت تفصیلها فراجع «الجواهر» .

دلالة السنّة علی أنّ الماء طاهر و مطهّر

والذی یختلج بالبال واللّه عالم بحقیقة الحال ، هو أن یقال : إنّ هذا اللفظ استعمل فی الآیة الثانیة فی أحد أمرین :

اما أن یکون بالمعنی الأوّل ، أی أنزلنا من السماء ماء طاهرا ، بلا نظر إلی کونه مطهرا ، وتکون الآیة حینئذ فی مقام الامتنان . وهذا لا ینافی ما ذکرنا ، لأنّ فی طهارة الماء أیضا امتنانا ، کما یشهد بذلک الدعاء الوراد فی حق من شاهد ماءً لتحصیل الوضوء یستحب أن یقرأ : «الحمد للّه الذی جَعَل الماء طَهُورا ولم یجعله نَجسا» ، حیث یحتمل أن یکون العطف تفسیریا وتوضیحیا لما سبق ، أی جعل الماء طاهرا غیر نجس .

واحتمال المطهریة فی هذا اللفظ علی هذا المعنی لا یخلو عن تعسف ، کما لا یخفی .

وأما کون الماء مطهرا أیضا فیستفاد من الآیة الأولی فی قوله تعالی : «وأنزَلْنا مِنَ السّماء ماءً لِیُطهرکم به» . فعلی هذا الاحتمال ، یکون المتحقق بانضمام الآیتین معا ، هو إثبات کون الماء طاهرا فی نفسه ومطهرا لغیره ، مضافا إلی ما عرفت من ثبوت الملازمة العرفیة أو الشرعیة فی إثبات الأمرین فی نفس الآیة الأولی .

بل نقول بأنّ الأخبار الکثیرة وردت فی استعمال الطهور فی الشرع بمعنی المطهریة للغیر أیضا ، وبأنه مجاز منقول شرعی ، ونذکر لذلک بعض ما یدل علیه من الأخبار :

فمنها : الحدیث النبوی صلی الله علیه و آله : «جُعِلَتْ لی الأرضُ مسجدا وطهورا ، وأیّما

ص:98

رجل مِنْ اُمتی أراد الصلاة فلم یجد ماءً ووجد الأرض لقد جُعِلتْ له مسجدا وطهورا»(1) .

وقوله علیه السلام : «أطل فانّه طهورٌ»(2) .

وقول الصادق علیه السلام : «کان بنو إسرائیل إذا أصابتهم قطرة من بول قرضوا لحومهم بالمقاریض ، وقد وسّع اللّه علیهم بماءٍ من السماء والأرض ، وجعل لکم الماء طهورا»(3) .

وبناء علی ذلک یمکن أن یکون المراد من (الطهور) فی قوله تعالی : «وَسَقاهُم رَبّهم شَرابا طهورا »(4) هو الطاهر ، لا بمعنی المنظف ، بالتأویل الذی ذکره صاحب «الجواهر» قدس سره بأنّ أهل الجنة یشربون الماء والشراب ، فیخرج بذلک عرقا من مسام أبدانهم دفعا لما أکلوا ، فإنّ هذا أبعد ما قد یخطر إلیه ذهن الإنسان .

أو یراد من (الطهور) المعنی الواقع ، أی آل الطهارة ، أی ما یتطهّر به ، کما قوّاه الحکیم فی «المستمسک» ، والحلّی فی «دلیل العروة» ، بل قد یظهر تسلیمه فی «الجواهر» لأحد الاحتمالین الذی اختارهما .

والإشکال فیه أنّه قد ورد وصفا للماء والشراب فی الآیتین ، والحال أنّ اسم الآلة یکون جامدا .

اللّهم إلاّ أن یقال : إنّ الجمود علی اللفظ فیما لم یکن نفس اللفظ مسوقا لحال الوصفیة بخلاف ما نحن فیه ، یقتضی ذلک أی تکون بحالة الوصفیة آلة ، أی جعلنا الماء ما یتطهّر به .

الفرق بین الحدث و الخبث


1- وسائل الشیعة الباب 7 من أبواب التیمّم، الحدیث 3 .
2- وسائل الشیعة : الباب 32 من أبواب آداب الحمام، الحدیث 3 .
3- وسائل الشیعة : الباب 1 من أبواب الماء المطلق، الحدیث 4 .
4- سورة الإنسان : آیة 21 .

ص:99

ولکن الإنصاف قوّة الاحتمال الأوّل .

هذا کلّه فی ما دلّ علی طاهریة الماء ومطهریّته من الکتاب .

أما السنة : مضافا إلی ما عرفت من الأخبار مثل خبر بنی إسرائیل وغیره ، یمکن الاستدلال علی طاهریة الماء بصراحة حدیث حمّاد بن عثمان عن الصادق علیه السلام قال : «الماء کلّه طاهر ، حتّی یعلم أنّه قذر»(1) .

ومثله مرسلة الصدوق ، عن الصادق علیه السلام : «کل ماء طاهر إلاّ ما علمت أنّه قذر»(2) .

وحدیث محمّد بن حمران ، وجمیل بن دراج عن الصادق علیه السلام قال : «إن اللّه جعل التراب طهورا کما جعل الماء طهورا»(3) .

حیث یحتمل أن یکون المراد هو الطاهریة أو هو مع المطهریة .

وحدیث الذی رواه المحقّق فی «المعتبر» قال ، قال علیه السلام : «خَلَق اللّه الماء طهورا ولا ینجسه شیء»(4) .

مضافا إلی الأخبار الکثیرة التی وردت آمرة لتطهیر الأوانی والثیاب بقوله : «اغسل بالماء» ، حیث یفهم طهارة الماء ومطهریته .

کما یدل علی مطهریته أیضا حدیث الصادق علیه السلام مرسلاً بقوله : «الماء یطهر ولا یطهر»(5) .

ومثله فی التعبیر حدیث السکونی ، عن الصادق علیه السلام عن رسول اللّه صلی الله علیه و آله :


1- وسائل الشیعة : الباب 1 من أبواب الماء المطلق، الحدیث 5 .
2- وسائل الشیعة : الباب 1 من أبواب الماء المطلق، الحدیث 2 .
3- وسائل الشیعة : الباب 1 من أبواب الماء المطلق، الحدیث 1 .
4- وسائل الشیعة : الباب 1 من أبواب الماء المطلق، الحدیث 9 .
5- وسائل الشیعة : الباب 1 من أبواب الماء المطلق، الحدیث 3 .

ص:100

«الماء یطهر ولا یطهر»(1) .

فالمسألة واضحة والحمد اللّه ولا تحتاج إلی مزید بیان .

ثمّ إنّه قیل فی معنی الحدث والخبث ، بأن الحدث ما لایدرک والخبث ما یدرک .

وقیل بأنّ ما یحتاج فی رفعه إلی النیة هو الأوّل ، وما لا یحتاج إلیها هو الثانی .

وإن أشکل علیهما فی «المسالک» وقال : بأنّهما غیر تام ، لأنّه یمکن أن یجاب علی الأوّل بإمکان درک حالة الحدث أیضا فی الجنابة والحیض ، حیث تشمئز النفس بعد عروض الحالة وتحس بنقاهة خاصة ، فهو ربما أولی بالدرک من الثانی .

ویمکن النقض للثانی أیضا ، بمثل بعض الطهارات التی لا تکون مع النیّة رافعة أیضا کالتیمّم مثلاً ، حیث لا یرفع الحدث مع اعتبار النیّة فیه لکنّه مبیح للصلاة ، وهکذا فی وضوء الجنب والحائض .

تطهیر الماء للمایعات المضافة و عدمه

اللّهم إلاّ أن یجاب : بأنّه رافع أیضا بالنسبة إلی منعه عن الدخول فیالصلاة مثلاً ، أو حصول المترتّبة الکاملة للنوم مع الجنابة والحیض بالوضوء ، فیرفع تلک الحضاضة . ولکنّه لا یخلو عن تکلف .

والأولی أن یقال فی جهة الفرق بینهما : أنّ الحدث حالة نفسانیة تحصل _ کغیرها من الأمور الباطنیة _ بواسطة وجود أحد أسبابه الظاهریة من البول والمنی والدم ، فهو من باب تسمیة المسبب باسم السبب الذی یناسب معناه اللغوی أیضا ، من جهة کونه متحققا بعد ما لم یکن قد حدث أی حدث وتحقّق تلک الحالة أو البول بعد ما لم تکونا . هذا بخلاف الخبث ، فانه من الاُمور الظاهریة التی یتنفر الطبع عنه کنفس البول والمنی وغیرهما من النجاسات ، حیث تکون طهارتها تارةً بزوالها ظاهرا ، واُخری بأزید من ذلک ، کتکرّر الغَسل


1- وسائل الشیعة : الباب 1 من أبواب الماء المطلق، الحدیث 6 .

ص:101

اللازم فی البول أو التعفیر ، أو التکرار اللازم فی الولوغ حیث یزیلها واقعا ، وهذا هو الفرق بینهما ، واللّه العالم بحقائق الاُمور .

بقی هنا شیء ، وهو أنّه إذا ثبت طاهریة الماء المطلق ومطهریته ، فهل تکون مطهریته مخصوصا بالأحداث والأخباث خاصة ، أو یکون له العمومیة والشمول حیث لمثل المایعات المضافة المتنجسة کماء الورد المتنجس ، وماء العنب والرمان إذا تنجسا ، بحیث تحصل طهارتها للاتصال بالماء المطلق ، بحث لو شککنا فی مصداق یرجع إلی عموم من الحکم بالتطهیر ؟

ظاهر العلاّمة هو الحکم بالثانی ، أی الحکم بالطهارة فیالفرض المذکور لمجرّد الاتصال بالماء الکثیر ، ولو لم یخرج عن حال الإضافة .

وظاهر الشیخ الأنصاری قدس سره فی کتاب «الطهارة» وصاحب «مصباح الهدی» والحکیم والسیّد فی «العروة» وغیرهم قدس اللّه أسرارهم هوالأوّل ، إذ لا دلیل علی العموم إلاّ حدیث السکونی ، کما أشار إلیه الشیخ قدس سره عن الصادق علیه السلام عن رسول اللّه صلی الله علیه و آله قال : «الماء یطهر ولا یطهر»(1) .

ومثله فی اللفظ حدیث مسعدة بن الیسع(2) کما تمسک به الآملی .

وکذا مثله حدیث الصدوق فی «الفقیه»(3) ، وزاد علیه الآملی فی «المصباح» حدیث الکاهل ، عن رجل عن أبی عبداللّه علیه السلام فی حدیثٍ : «کل شیء یراه ماء المطهر فقد طهر»(4) . حیث یدل علی عمومیة المطهریة لکل شیء .

ونحن نزید علی ذلک إمکان الاستفادة من حدیث بنی إسرائیل ، وهو خبر بن


1- وسائل الشیعة : الباب 1 من أبواب الماء المطلق، الحدیث 6 .
2- وسائل الشیعة : الباب 1 من أبواب الماء المطلق، الحدیث 7 .
3- وسائل الشیعة : الباب 1 من أبواب الماء المطلق، الحدیث 3 .
4- وسائل الشیعة : الباب 1 من أبواب الماء المطلق، الحدیث 5 .

ص:102

داود بن فرقد ، عن الصادق علیه السلام بقوله : «وقد وسّع اللّه علیکم ما وسّع ما بین السماء والأرض ، وجعل لکم الماء طهورا»(1) بناء علی کون الطهور هنا بمعنی المطهر ، کما أشرنا إلیه آنفا .

تقسیم الماء باعتبار وقوع النجاسة فیه

ولکن قد أشکل ویمکن أن یقال فی جمیع ما ذکر بأنّه لا یخلو عن مناقشة :

فأما حدیث السکونی وأمثاله فی التعبیر ، وخبر داود بن فرقد ، فقد وردت فی مقام بیان أصل الطهارة والمطهریة ، فی قبال السلب الکلّی المطلق ، بقرینة ذیله الوارد فیه : «ولا یطهر» ، بل وهکذا اللفظ فی خبر بنی إسرائیل بمناسبة المورد من ذکر حالهم ، والتوسّع فی هذه الأمة من تلک الجهة ، وهذا لا ینافی أنْ یکون التطهیر بالماء مخصوصا لبعض الأشیاء دون بعض کما لا یکون متعرّضا لکیفیة التطهیر . نعم قد یمکن استفادة هذه الجهة من الفهم العرفی إنْ سُلّم دلالته علی عمومیة مطهریته ، لکنه قد عرفت خلافه . فلم یبق هاهنا إلاّ خبر الکاهلی ، الذیکان أتّمها دلالة ، خصوصا مع وجود لفظ (کل) ، لصراحته فی استغراق .

ولکن یرد علیه أولاً : کونه مرسلاً ، من جهة عدم معلومیة الرجل الذی نقل عنه الکاهلی .

وثانیا : اعراض المشهور عنه بل الأصحاب ، کما فی «المصباح» بأن ظاهر الأصحاب عدم طهره بالاتصال ، فحینئذ یکون استصحاب حالة النجاسة التی کانت فیه قبل الاتصال محکّم .

فما اختاره العلاّمة ، بل استوجهه فی «الجواهر» بعد الاستبعاد ، لا یخلو عن إشکال .


1- وسائل الشیعة : الباب 1 من أبواب الماء المطلق، الحدیث 4 .

ص:103

وباعتبار وقوع النجاسة فیه ، ینقسم إلی : جارٍ ومحقونٍ وماء بئر(1)

أقسام المیاه وأحکامه

أمّا الجاری فلا ینجس إلاّ باستیلاء النجاسة علی أحد أوصافه(2)

(1) واعلم أنّ هذا التقسیم الثلاثی انما یکون بالنظر إلی ملاقاة الماء المطلق للنجس ، اذ قد یکون کالجاری ، فلا یتنجس إلاّ بالتغیّر بأحد الأوصاف للنجاسة ، أو کالمحقوق من تنجسه بهإذا کان أقل من من الکر ، أو کماء البئر الذی وقع فیه التردد من لزوم الکُرّیة أم لا ، وإلاّ فإنّ أقسام الماء أکثر من ذلک ، إذ ینضم إلیها الماء الذی له مادّة کالنابع من الأرض بعد حفرها ، والماء الجاری الذائب من الثلوج ، والنابع عن المادّة بحالة ارشح الذی یُسمّی النزیز ، والثمد المجتمع منه تحت الرمل ، وماء الحمام ، ولعلّه یکون من هذا القبیل الماء المتعارف الذی یضخ فی الأنابیب . وسیظهر حکم کلّ واحد من تلک الأقسام الثلاثة المذکورة إن شاء اللّه .

(2) والکلام فیه یقع من جهتین :

فی تعریف الماء الجاری

تارة : فی موضوعه .

واُخری : فی حکمه . وسیلحق به فیضمن البحث عن هاتین الجهتین ما کان کالجاری ، فنقول وباللّه الاستعانة :

أما موضوعه : فتارةً یلاحظ فیه قول اللغویین ، واُخری قول الفقهاء والمجتهدین رضوان اللّه تعالی علیهم أجمعین .

أمّا أهل اللغة : فقد عرّفوه کما فی «مصباح المنیر» و«مجمع البحرین» وغیرهما بأنّه : (المتدافع فی انحدار واستواء ، وما کان سائلاً علی الأرض) ، کما اشیر إلیه فی الکتب نقلاً عن أهل اللغة ، کما فی «الجواهر» و«طهارة» الشیخ الانصاری وغیرهما . کما أنّ العرف العام یری ویعدّ الجاری فوق الأرض کالنهر ، أو تحتها کالقنوات أنّه جاریا ، وهو واضح ولا کلام فیه .

ص:104

وأما الفقهاء : فقد وقع الخلاف فی تعریفه بینهم إلی أربعة أقوال :

القول الأوّل : یعتبر فیه : الجریان فقط ، سواءً کان له نبع ومادّة أم لا ، کما استظهره «الجواهر» عن بعض العبائر ، حیث اکتفوا فی تحدیده بالجریان فقط .

القول الثانی : یعتبر فیه وجود النبع سواء جری أم لا ، کما صرح به الشهید الثانی فی «المسالک» ، وعللّ فیه وجه إطلاق لفظ الجاری مع ظهوره فی الجریان ، أنّه کان إمّا من باب التغلیب ، أو من الحقیقة العرفیة خاصة .

والقول الثالث : باعتبار السیلان والنبع ، کما علیه المشهور من المتقدمین والمتأخرین .

والقول الرابع : باعتبار الجریان مع أحد الأمرین ، أمّا المادّة ولو لم یکن نابعا فی بعض مصادیقه ، کالجاری من الثلوج الذائبة فی موسم معیّن ومدّة متعارفة ، أم مع النبع کما هو کذلک غالبا ، بل هو الحقیقة فیه أوّلاً .

والأقوی هو الأخیر ، کما علیه صاحب «مستند الشیعة» ونسب فی «المصباح» الرضوی إلی بعض السادة من أساتیذه ، ومال هو إلیه قدس سره فی صورة الصدق العرفی عن الماء الذائب الجاری کما نحن نقول به کذلک ، وإلاّ یصعب فی بعض أفراده ، کما لو فرض قلّة الماء الخارج من ذوبان الثلوج المذابة بحیث لا یساعد علیه العرف فی إطلاق الجاری علیه ، هذا بخلاف ما یکون فی بعض الأنهار الجاریة التی تستمد ماءها من ذوبان الثلوج المتراکمة علی الجبال الرواسی لا من تحت الأرض ، فإخراج مثل هذه الأنهار عن عنوان الجاری عرفا ولغة مشکل جدا .

فعلی هذا ، یظهر فساد توهم النقض بالماء المجتمع فی الأوانی إذا صب ماؤها فی الأرض وجری ، کما عن الشیخ وغیره ، لوضوح أنّه لا یطلق علی مثل هذا الجاری عنوان ذی المادّة الجاری ، ولا النابع الجاری عرفا کما لا یخفی . فکل ما

ص:105

لا یکون کذلک ، إمّا ملحقٌ بالمحقون حکما أوالبئر کذلک ، وإن لم یکن منهما موضوعا .

فإذا ثبت هذا ، ظهر أنّ الماء الراکد _ الغدران والحیاض والثمد والیعون التی لها مادّة ، ولم تجر علی الأرض ، والماء الجاری من الرشیح الذی یقال له النزیز کما فی «الجواهر» _ ان لم یطلق علیه الجاری ، یکون من حیث الحکم ملحقا بالماء المحقون ، فینجس بالملاقاة إذا کان أقلّ من الکر ولم یکن له دفع ، أو بماء البئر من جهة التردد فی تنجسه وعدم کما سیظهر ان شاء اللّه تعالی ، إن لم نقل فی القسمین الأخیرین کونهما ملحقین بالجاری حکما ، وإن لم یکونا منه موضوعا . کما یمکن الاستظهار لذلک من الخبر الوارد فی ماء الحمام ، وهو حدیث عبدالرحمن بن أبی نجران ، عن داود بن سرحان قال : «قلت لأبی عبداللّه علیه السلام ما تقول فی ماء الحمام ؟ قال : هو بمنزلة الماء الجاری»(1) .

وأظهر منه من حیث الدلالة ، فی کون وجود المادّة مستلزما لذلک الحکم هو خبر بکر بن حبیب ، عن أبی جعفر علیه السلام ، قال : «ماء الحمام لا بأس إذا کانت له مادّة»(2) .

بل قد یستفاد من کلام صاحب «الجواهر» أنّهما ملحقان بالجاری ، وهو الأقوی إن صدق الاتصال بالمادّة عرفا ، أی إذا لم یکن الرشیح بقدر یضرّ عن العرف فی صدق الاتصال .

ومن هنا ثبت حکم ماء النافورة إذا فرض له الاتصال بالمادة ولو کان رشیحا ، کما هو الحال فی بعض حیاض الحمامات ، فحینئذ یکون محکوما بحکم الماء الجاری ، ولا ینجس ، ما لم یتغیّر بأحد أوصاف النجاسة .


1- وسائل الشیعة : الباب 7 من أبواب الماء المطلق، الحدیث 1 .
2- وسائل الشیعة : الباب 7 من أبواب الماء المطلق، الحدیث 4 .

ص:106

وهاهنا فرعان :

الفرع الأوّل : لو شک فی ماء أنّه هل یعدّ جاریا موضوعا أو حکما ، سواء کان لشبهة مفهومیة أو مصداقیة ، فهل یقتضی العموم أو الأصل الطهارة والمطهریة أم لا یقتضی شیئا منهما ، بل ینجس بالملاقاة إذا کان أقلّ من الکرّ بلا دفع ، أو یُفصَّل بین الطهارة والمطهریة بالإثبات فیالأوّل والنفیفیالثانی ؟وجوه :

فإن کان له حالة سابقة متیقنة من وصف الجریان ، أو الطهارة والمطهریة ، الذی کان من حالات ذلک الوصف ، فیستصحب فی ناحیة الموضوع إلی أن یعلم الخلاف .

بل وهکذا لو علم أنّه کان مطهّرا قطعا بالملاقاة ، ولم یعلم جهته الخاصة أنّه کان بواسطة کونه جاریا أو بحکمه کالعیون ، أو کونه کرا والآن یشکُ فی بقائه ، فیستصحب ویحکم بمطهریته . کما یحکم بالنجاسة إذا کانت حالته السابقة معلومة بالقلّة وعدم الجریان ، وإن لم تکن له حالة سابقة متیقنة کذلک .

ففی «الجواهر» ما یظهر منه الرضا بما قیل فی ذلک من الحکم بالطهارة والمطهریة ، بدلالة عموم کون المیاه کذلک إذا لم یتغیر ، واعتبار الکریة انما کان فیغیر المیاه الجاریة وماله مادّة ، مضافا إلی وجود قاعدة الطهارة ، مع فرض الشک فی حکمه ، للشکل فی اندراجه فی الموضوع الذی ینجس بالملاقاة .

هذا خلاصة ما قیل فی المقام .

عاصمیّة الماء الجاری و ما هو بمنزلته

أقول : العجب منه أنّه کیف صرّح بذلک هنا ، مع ما عرفت منه سابقا وآنفا أنّه لیس لنا دلیل عام یدل علی کون مطلق الماء مطهرا ، حتی یُرجع إلیه عند الشک ، فکیف ارتضی بذلک ، فاثبات المطهریة فی الافراد المشکوکة لابدّ له من دلیل خاص یدل علی ذلک ، إلاّ أن یحرز دخوله تحت عنوان خاص من العناوین المطهرة . نعم ، قد نقول بطهارة الماء بعد الملاقاة ، وهل هو طاهر أو یتنجس بالملاقاة ؟ فیمکن الحکم بالطهارة بدلالة استصحاب الطهارة ، کما أنّ استصحاب

ص:107

النجاسة فی المتنجس یقتضی بقاء النجاسة أیضا بعد التطهیر بذلک الماء ، نظیر تحصیل الطهارة عن الخبث بواسطة الماء المشکوک الطهارة ، حیث قد مثّل الشیخ الأنصاری فی «الرسائل» وحکم بطهارة الموضع المقتضی لطهارة الماء ، وحکم ببقاء الحدث المقتضی لنجاسته بالاستصحابین ولا مانع منه لأنّه یکون بالملازمة کما فی الحکم الظاهری کما لا یخفی ، فهکذا یکون فی المقام .

اللّهم إلاّ أن یدعی أنّ العرف لا یساعد علی التشکیک فیما نحن فیه ، بین الحکم ببقاء الطهارة للماء ، وبین مطهریته فیقال بعدم التطهیر ، بل إذا ثبتت طهارته فیثبت مطهریته فی الفرض ، لأنّ عاصمیته لا تکون إلاّ بواسطة کونه جاریا أو بمنزلته ، فاذا ثبت ذلک بواسطة الأصل والقاعدة فقد ثبت مطهریته أیضا .

لکنه لا یخلو عن إشکال لأنّه لابدّ فی إثبات مطهریته من إحراز أحد العناوین الذی یثبت بذلک هذه الجهة ، هو غیر محرزٍ هنا بالأصل والقاعدة کما لا یخفی ، وإن کان الأحوط الاجتناب عن مثل ذلک الماء الملاقی للنجس ، إذا کان أقل من الکر .

الفرع الثانی : لو جری البئر بعد ما تنجس بالملاقاة مثلاً وقلنا به ، أو کان محقونا أقل من الکر وتنجس ثمّ جری ، ففی کلا القسمین هل یستلزم نفس تحقّق الجریان علی الأرض لطهارتهما ، أم لابدّ من زوال تمام ذلک الماء ، وحدوث ماء آخر لکی تحصل الطهارة ؟

أو قلنا فی البئر بالتفصیل إن جری وذهب الماء بقدر ما یتطهر بالنزح فالباقی منه طاهر ، وإلاّ فلا .

والأقوی عندنا هو الأوّل فی کلیهما ، کما فی «الجواهر» لما عرفت عند الاستظهار من الأخبار بأنّ الجریان والاتصال بالمادة یکفی من الحکم بطهارته ومطهریته ، إذا لم یکن متصفا بأحد الأوصاف للنجاسة .

وأما الکلام فی المقام الثانی : وهو حکم الماء الجاری وما بمنزلته وحکمه ،

ص:108

فنقول ومن اللّه الاستعانة :

قد وقع الخلاف فی عاصمیة الماء الجاری ، إذا لاقی نجسا أو متنجسا من اعتبار کونه بمقدار الکرّ بحیث لو کان أقل منه یتنجس ، إن لم یکن متغیرا بالنجاسة _ هذا کما علیه العلاّمة ومن تبعه _ أم لا یعتبر ذلک ، بل ما لم یتغیر بأحد الأوصاف الثلاثة ، لا یحکم بالنجاسة کما علیه المشهور . والأخیر هو الأقوی عندنا ، بل قد ادعی علیه الإجماع ، وإن نوقش فیه فی نجاسة الماء فی جمیع الموارد بالتغیر ، لمخالفته فی ماء الاستنجاء فانه طاهر ، وهو کما تری ، لعموم قول النبی صلی الله علیه و آله والصادق علیه السلام _ کما فی «الجواهر» _ فی الخبر الذی رواه صاحب «وسائل الشیعة» نقلاً عن المحقّق فی «المعتبر» وعن ابن إدریس فی «السرائر» مرسلاً ، بقوله : «خلق اللّه الماء طهورا ، لا ینجّسه شیء ، إلاّ ما غیّر لونه أو طعمه أو ریحه»(1) . والخبر مروی عن النبی صلی الله علیه و آله فی مصادر العامة ، فقد روی ابن ماجة فی «السنن» کتاب الطهار ، باب الحیاض ، من حدیث أبی امامة الباهلی ، عن النبی صلی الله علیه و آله قال : «إنّ الماء لا یُنجّسه إلاّ ما غلب علی ریحه وطعمه ولونه» .

ورواه الطبرانی فی «الأوسط» و«الکبیر» أیضا ، کما فی «مجمع الزوائد» ، وأخرجه البیهقی فی «الطبقات الکبری»(2) .

ورواه الدار قطنی فی «السنن» من حدیث ثوبان ، عن النبی صلی الله علیه و آله أنّه قال : «الماء طهور إلاّ ما غلب علی ریحه أو علی طعمه» کما فی «الجامع الکبیر» .

فالخبر مروی فی مصادر الفریقین ، بل فی «السرائر» : أنّه من المتفق علی روایته ، عن ابن أبی عقیل أنّه متواتر عن الصادق علیه السلام بل عن «الذخیرة» أنّه قد


1- وسائل الشیعة : الباب 1 من أبواب الماء المطلق، الحدیث 9 .
2- الطبقات الکبری : 1 / 259 .

ص:109

عملت الاُمّة بمدلوه وقبلوه ، حیث یشمل الماء الجاری وما بحکمه فیخرج منه خصوص الماء القلیل ، لما سیأتی من انفعاله بالملاقاة مع النجس .

وهکذا یمکن التمسّک بحدیث «دعائم الاسلام» عن أمیر المؤمنین علیه السلام قال :

«فی الماء الجاری ، یمر بالجیف والعذرة والدم ، یتوضأ ویشرب ، ولیس ینجّسه شیء ، ما لم یتغیر أوصافه طعمه ولونه وریحه»(1) .

بل وهکذا بخبر «فقه الرضا» عن الرضا علیه السلام : «کل غدیر فیه من الماء أکثر من کرّ لا ینجّسه ما یقع فیه من النجاسات ، إلاّ أن یکون فیه الجیف ، فتغیر لونه وطعمه ورائحته ، فإن غیّرته لم تشرب منه ، ولم تطهر»(2) .

وعن «دعائم الإسلام» عن الصادق علیه السلام : «أنّه سُئل عن غدیرٍ فیه جیفة ؟

فقال : «إن کان الماء قاهرا لا یوجد فیه ریحها فتوضأ»(3) .

وحدیثه الآخر عنه علیه السلام قال : «إذا مرّ الجُنب بالماء وفیه الجیفة أو المیتة ، فإن کان قد تغیّر لذلک طعمه أو ریحه أو لونه ، فلا یشرب منه ولا یتوضأ ولا یطهر منه»(4) .

وحدیثه الآخر عن أمیر المؤمنین علیه السلام أنّه قال : «لیس ینجس الماء شیء»(5) .

فانه یدل علی الماء ومطهریته ، وعدم انفعاله بالملاقاة ، للملازمة بین عدم انفعاله ومطهریته خارجا ، لأن النجاسة مسریة مع الرطوبة ، إلاّ إذا لاقی ما یطهره وهو المطلوب .

وما تری من التفکیک بین عدم الانفعال بالملاقاة وعدم مطهریته فی مشکوک


1- مستدرک وسائل الشیعة الباب 3 من أبواب الماء المطلق، الحدیث 1 .
2- مستدرک وسائل الشیعة الباب 3 من أبواب الماء المطلق، الحدیث 7 .
3- مستدرک وسائل الشیعة الباب 3 من أبواب الماء المطلق، الحدیث 2 .
4- مستدرک وسائل الشیعة الباب 3 من أبواب الماء المطلق، الحدیث 3 .
5- مستدرک وسائل الشیعة الباب 3 من أبواب الماء المطلق، الحدیث 5 .

ص:110

الجریان _ کما ذکرناه سابقا _ فهو إنّما یکون فی مرتبة الحکم الظاهری ، بواسطة الأصل المقتضی لذلک ظاهرا ، بخلاف الواقع فانه محکومٌ بأحد الحکمین علی الیقین ، کما لا یخفی .

ویدل علی ذلک أیضا خبر حریز بن عبداللّه ، عن الصادق علیه السلام قال : «کلما غلب الماء علی ریح الجیفة فتوضأ من الماء واشرب ، فإذا تغیّر الماء وتغیّر الطعم ، فلا تتوضأ منه ولا تشرب»(1) .

فعمومه یشمل جمیع أقسام المیاه منها الجاری ، إلاّ القلیل لدلالة دلیله علی انفعاله .

وخبر أبی بصیر عن الصادق علیه السلام : «أنّه سُئل عن الماء النقیع تبول فیه الدواب ؟ فقال : «إنْ تغیّر الماء فلا تتوضأ منه ، وإنْ لم تغیّره أبوالها فتوضأ منه ، وکذلک الدم إذا سال فی الماء وأشباهه»(2) .

بناء علی عموم الدواب ، حتی یشمل غیر مأکول اللحم ، کما یدل علیه ذیله من تشبیه الدم به ، وإلاّ لکان منعه من جهة اضافته .

وخبر العلاء بن الفضیل ، قال : «سألت أبا عبداللّه علیه السلام عن الحیاض یبال فیها ؟

قال : لا بأس إذا غلب لون الماء لون البول»(3) .

بناء علی شمول البول لغیر المأکول ، وکان قد اتفق البول فیها .

وخبر محمّد بن إسماعیل ، عن الرضا علیه السلام قال : «ماء البئر واسعٌ لا یفسده شیء ، إلاّ أن یتغیر ریحه أو طعمه فیُنزح حتّی یذهب الریح ویطیب طعمه ، لأنّ له مادّة»(4) .


1- وسائل الشیعة : الباب 3 من أبواب الماء المطلق، الحدیث 1 .
2- وسائل الشیعة : الباب 3 من أبواب الماء المطلق، الحدیث 36 .
3- وسائل الشیعة : الباب 3 من أبواب الماء المطلق، الحدیث 7 .
4- وسائل الشیعة : الباب 3 من أبواب الماء المطلق، الحدیث 12 .

ص:111

حیث یکون التعلیل إمّا راجعا لخصوص الصدر وهو عدم افساده ، ویکون واسعا ، أو إلی الذیل فقط ، وهو النزح إلی أن یذهب التغیر ، أو إلی کلیهما .

فالأوّل أولی ، ثمّ الأخیر ، خلافا لمن ذهب إلی الثانی فقط ، وأسقطه عن الاستدلال ، مع أنّه خلاف ظاهر کلامه ، لأنّ الظاهر رجوعه إلی مجموع جملة المستثنی منه والمستثنی ، فیدل بعمومه للمقام أیضا .

ومثله _ بلا ذکر التعلیل _ خبرٌ آخر لمحمد بن إسماعیل بن بزیع ، عن الرضا علیه السلام قال : «ماء البئر واسعٌ لا یفسده شیء ، إلاّ أن یتغیر»(1) .

وبالمفهوم من أحد الطرفین ، امّا من جهة الإنفعال ، کما فی خبر سماعة عن الصادق علیه السلام قال : «سألته عن الرجل یمر بالماء ، وفیه دابة میتة قد أنتنت ؟ قال : إذا کان النتن الغالب علی الماء فلا تتوضأ ولا تشرب»(2) . یکون بمفهومه عدم الانفعال ، إنْ لم یکن النتن غالبا .

أو من جهة الانفعال بما فی خبر الصدوق ، قال : «سأل الصادق علیه السلام عن غدیر فیه جیفة ؟ فقال : إن کان الماء قاهرا لها لا یوجد الریح فیه بتوضأ واغتسل»(3) .

یکون مفهومه عدم التوضأ إنْ کان الماء مقهورا من حیث الریح . بل قد یستأنس لذلک ، لو لم نقل بدلالته ، کما تمسک به المحقّق الخوانساری فی «جامع المدارک» .

وکذلک خبر داوود بن سرحان ، قال : «قلت لأبی عبداللّه علیه السلام : ما تقول فی ماء الحمام ؟ قال : هو بمنزلة الماء الجاری»(4) . حیث یستظهر منه أنّ الجریان فی الماء له خصوصیة من جهة عدمانفعاله ، حیث یُنّزل ماء الحمام علیه .


1- وسائل الشیعة : الباب 3 من أبواب الماء المطلق، الحدیث 10 .
2- وسائل الشیعة : الباب 3 من أبواب الماء المطلق، الحدیث 6 .
3- وسائل الشیعة : الباب 3 من أبواب الماء المطلق، الحدیث 13 .
4- وسائل الشیعة : الباب 7 من أبواب الماء المطلق، الحدیث 1 .

ص:112

واحتمال اهماله من جهة التنزیل من حیث عدم الانفعال وغیره ، واضح الدفع ، لما یفهم ذلک من سیاق هذه الألفاظ . نعم ، یشکل من جهة عدم دلالته ، بأنّ ما هو المعتبر فی الماء الجاری المنزّل علیه هل هو الکر أولاً ؟ کما عن الآملی قدس سره فی «المصباح» ولکنه لا یخلو عن اشعار بعدم الانفعال ، لأنّ الغالب ظهوره فی وجود الماء الجاری الغیر المنفعل فی الخارج بحیث ینصرف إلیه ، وکونه هوالمتبادر إلی الاذهان ، غیر بعید ، فلا یفید الاستدلال علی المطلوب ، کما زعمه الخوانساری رحمه الله .

ومثله حدیث «فقه الرضا» بقوله : «ماء الحمام سبیله سبیل الماء الجاری ، إذا کانت له مادّة»(1) . ویرجع القید إلی صدره .

بل قد یستدل لذلک من جهتین : من الحکم بالانفعال بالتغیّر وعدمه بعدمه ، بصحیح شهاب بن عبد ربه . قال : «أتیتُ أبا عبداللّه علیه السلام أسأله ، فابتدأنی ، فقال : إنْ شئت فاسئل یاشهاب ، وإنْ شئت أخبرناک بما جئت له . قلت : أخبرنی . قال : جئت تسألنی عن الغدیر ، تکون فی جانبه الجیفة أتوضأ منه أو لا ؟ قال : نعم . قال : توضأ من الجانب الآخر ، إلاّ أن یغلب الماء الریح فینتن . وجئت تسأل عن الماء الراکد من الکُرّ فما لم یکن فیه تغیر أو ریح غالبة . قلت : فما التغیر ؟ قال : الصُّفرة فتوضأ منه ، وکلما غلب کثرة الماء فهو طاهر»(2) . حیث یدل بمنطوقه ، وعموم ذیله ، علی طهارة الماء مع فرض ملاقاته النجاسة ، المستفادة من مفاد الحدیث.

وحدیث الجعفریات ، عن جعفر بن محمّد ، عن أبیه ، عن علی علیه السلام ، قال : «الماء الجاری لا ینجسه شیء»(3) .


1- مستدرک وسائل الشیعة الباب 7 من أبواب الماء المطلق، الحدیث 2 .
2- وسائل الشیعة : الباب 9 من أبواب الماء المطلق، الحدیث 11 .
3- مستدرک وسائل الشیعة : الباب 5 من أبواب الماء المطلق، الحدیث 1 .

ص:113

وحدیث «فقه الرضا» عن الرضا علیه السلام قال : «اعلموا أنّ کل ماء جار لا ینجسه شیء»(1) .

وحدیث ابن أبی یعفور عن الصادق علیه السلام قال : «قلت : أخبرنی عن ماء الحمام یغتسل منه الجنب والصبی والیهودی والنصرانی والمجوسی ؟ فقال : إنّ ماء الحمام کماء النهر یطهر بعضه بعضا»(2) .

فدلالته علی المقصود _ وهو مطهریة الماء الجاری ، ولو لم یکن کرا _ قویة ، وإنْ أبیت فلا أقل من التأیید .

وقد أورد علیه بایراداتٍ غیر واضحة :

أولاً : بأنّ الظاهر منه هو إثبات طهارته ، وعدم انفعال الماء بورود النجاسة فیه کالیهودی وغیره ، أی لا ینفعل بها ، لا المطهریة وهو دفع القذارة .

وفیه : قد عرفت منّا سابقا بأنه إذا لم ینفعل الماء بالنجاسة ، فیلازم المطهریة ، لعدم الانفکال واقعا بین کونه طاهرا بالملاقاة مع النجس وکونه رافعا لها ، فإذا فرض أنّ ماء الحمام إذا لم ینفعل بالملاقاة لأنّه یعصم بعضه بعضا کماء النهر ، فیطهر النجاسة الواردة علیه قهرا ، فیما یمکن التطهیر فیه ، ویزول النجاسة به ، بخلاف ما لو کانت النجاسة عینیة ذاتیة کالیهودی والنصرانی ، فانه خارج عن البحث ، لعدم امکن تحصیل الطهارة فیها إلاّ بکلمة الإخلاص ، مضافا إلی إمکان عدم ورودهم فیه بل کان بمثل الدفع من کون الماء المأخوذ منه متصلاً بمادة ، کما فی زماننا هذا کما یشیر إلیه فی الحدیث الوراد فی «فقه الرضا» الذی مرّ ذکره بقوله : «إذا کانت له مادّة» .


1- مستدرک وسائل الشیعة : الباب 5 من أبواب الماء المطلق، الحدیث 6 .
2- وسائل الشیعة : الباب 7 من أبواب الماء المطلق، الحدیث 7 .

ص:114

وثانیا : بأن الظاهر من لفظ النهر هو الماء الواسع الملازم للکثرة المتساویة للکر أو أزید ، فلا یشمل ما دونه حتی یدل علی المطلوب .

هذا کما عن الشیخ الأعظم قدس سره فی کتاب «الطهارة» بقوله : «بناء علی شموله للصغیر» واستجوده الحکیم فی «المستمسک» وبذلک یُسقطه عن الاستدال ، بل وهکذا المحقّق الهمدانی فی «المصباح» یدعی الانصراف عن الصغار ، بل شموله للنهر الصغیر خلاف للظاهر ، کما ادعاه الآملی فی «مصباح الهدی» .

هذا ، وفیه أنّ هذا الإشکال وإن کان لا یخلو عن قوة بملاحظة ظهور لفظ (النهر) فی اللغة ، کما فی «المنجد» وغیره فی ذلک ، خلافا ل_ «مجمع البحرین» من اطلاقه ، بقوله : «هو الماء الجاری المتّسع مقابل الساقیة المساوق للنهر الکبیر الذی یکون خارجا عن حد الکر» ، إلاّ أنّه مع لحاظ مناسبة الحکم للموضوع ، للممثّل والممثل علیه _ کما عن «مصباح الفقیه» _ هو افهام أنّ ماء الحماء له اعتصام ، فلا ینجس بالملاقاة من جهة وجود المادّة ، کما لا ینجس النهر ویطهر بواسطة اعتصامه ، وهذه الدعوی لا تکون بعیدة .

فاحتمال إثبات المقصود من طریق الاولویة القطعیة _ أی إذا فرض کون الماء مطهرا ورافعا للنجاسة ، فعدم انفعاله بالدفع یکون بطریق أولی لأنّ الدفع أیسر وأهون من الرفع _ مدفوعٌ ، بأنه لیس المقصود إلاّ دعوی ظهور الحدیث لإفادة اعتصام المائین ، سواء کان بالرفع أو الدفع ، لا اثباته بالأولویة حتّی یقال لا معنی لاجراء ذلک فی الأمور التعبدیة .

مضافا إلی إمکان ان یقال : إنّ المطهر بعضه بعضا یشمل للرفع بالنسبة إلی الماء المتغیر ، والدفع بالنسبة إلی سائر المیاه ، فهکذا یکون بالنظر إلی الید المتنجسة مثلاً ، أی رفع بالنسبة إلیها ودفع بالنسبة إلی الماء ، کما لا یخفی .

وحدیث محمّد بن مسلم قال : «سألت أبا عبداللّه علیه السلام عن الثوب یصیبه

ص:115

البول ؟ قال : اغسله فی المرکن مرتین ، فان غسلته فی ماء جار فمرة واحدة»(1) .

حیث دلالته علی عاصمیة الماء الجاری بالملاقاة ، وعدم انفعاله ، بل ومطهریته للنجاسة واضحة ، لاسیما إذا شرطنا فی مطهریته الماء القلیل وروده علی النجاسة دون العکس ، فدلالته علی عدم الانفعال عکس ما لو کان الماء القلیل بورود النجاسة علیه تکون أقوی ، وهکذا لو اعتبرنا التعدد فی غیر المعتصم .

ودعوی ابتناء الاستدلال علیهما کما فی «المستمسک» غیر واضح ، کما علیه المحقّق الهمدانی .

أو دعوی انصراف الماء الجاری إلی ما هو أکثر من الکر لا أقل غیر واضحة ، مع ملاحظة کثرة الصغار ، لو لم نقل أکثر ، خصوصا إذا فرضنا فی اعتبار عاصمیة الکر تساوی سطح الماء لا مطلقا فحینئذ تکون الدعوی المذکورة غریبة جدا .

مضافا إلی إمکان الاستدلال بخبر سماعة بقوله : «سألته عن الماء الجاری یبال فیه ؟ قال : لا بأس به»(2) . بناء علی فرض کون السؤال عن حال الماء لا عن حکم البول فیه فیکون أیضا دلیلاً علی عدم الانفعال بالملاقاة .

هذه جملة الأخبار التی یمکن أن یستدل ، أو یؤتی بها ، تأییدا علی عدم انفعال الماء الجاری .

مضافا إلی إمکان الاستفادة _ ولو استیناسا _ من أبواب مختلفة فی إثبات المطلوب ، ومن هنا فإنه یکفی خبر ابن بزیع بتعلیله ، وحدیث التنزیل ، والنهر والتغسیل فی الماء الجاری ، مع أخبار واردة فی «دعائم الاسلام» و«فقه الرضا» ومن الرواندی وغیرهم .


1- وسائل الشیعة : الباب 2 من أبواب النجاسات، الحدیث 1 .
2- وسائل الشیعة : الباب 5 من أبواب الماء المطلق، الحدیث 4 .

ص:116

والذی یمکن أن یستدل به العلاّمة لاثبات الکریة فی الماء الجاری ، عموم الأدلّة الدالّة علی انفعال الماء بالملاقاة مع النجاسة ، إذا لم یکن کرا ، فیکون الدلیل بالمنطوق دالاً علیه ، بل وهکذا بالمفهوم من خبر محمّد بن مسلم وأمثاله فی قوله : «إذا کان الماء قدر کر لم ینجسه شیء»(1) . حیث یفید المفهوم فی القضیة الشرطیة المعتبر عند القوم دون غیره الانفعال فی الماء الذی لم یکن قدر کر مطلقا ، حتی إذا کان جاریا .

هذا ، لکنه مدفوع ، أمّا عن الأوّل :

أولاً : بأن تلک الأدلّة واردة فی الموارد الخاصة مثل الحیاض والغدران ، ولا عموم لها حتی تشمل لمثل الجاری ، وتحقیق ذلک موکول إلی محلّه .

وثانیا : لو سلّمنا شمول عمومه لمثل الجاری ، فإن غایة دلالته الظهور وهو حجة فیما لم یعارض بما هو أظهر ، والأخبار التی تفید عدم انفعال الماء الجاری مع کثرتها ، تکون دلالتها أظهر من ذلک العموم ، لما قد عرفت من شمول بعضها لذکر التعلیل للحکم ، فبذلک یحکم بالتخصیص للعموم .

ولو أبیتم عن جمیع ذلک ، فنهایة الأمر حدوث التعارض بینهما والتساقط فیکون المرجع حینئذ عموم ما یدل علی الطهارة ، ولو کان من جهة الحکم بعد الانفعال للماء الجاری ، فتثبت المطهریة حینئذ له للملازمة العرفیة الشرعیة بین طاهریته ومطهریته ، وإلاّ فالمرجع إلی مقتضی الاُصول العملیة من قاعدة الطهارة أو استصحابها ، إنْ کانت له حالة سابقة متیقنة للطهارة ، فحینئذ لا یمکن إثبات مطهریته بالملازمة ، لعدم حجیة مثبتات الاصول .

اللهم إلاّ أن یُدّعی أنّه لا یثبت ذلک بالأصل حتی یکون مثبتا ، إذ الأصل لا


1- وسائل الشیعة : الباب 9 من أبواب الماء المطلق، الحدیث 1 .

ص:117

یثبت إلاّ الطهارة فقط ، فثبتت الملازمة بینهما وبین المطهریة من لسان الأدلّة المختلفة فی الموارد المتشتة .

وأما الثانی : فنجیب عند أولاً : بالمنع عن کون الشرط هو العلّة المنحصرة فی القضایا الشرطیة ، حتی یستفاد منه ان الذی یوجب الطهارة بکلا معنییها لیس إلاّ الکر ، بل یمکن أن یکون شیئا شیء آخر .

وثانیا : لو لم نقل بکون القضیة الشرطیة هنا علی نحو القضیة الشرطیة المتحققة للوجود ، نظیر قولنا : «إنْ رزقت ولدا فاختنه» ، حیث لا مفهوم لها حینئذ ، وسیأتی الکلام عند محلّه إن شاء اللّه .

وثالثا : لو سّلمنا کون القضیة الشرطیة لها مفهوم ، وأنّ الشرط هو العلّة المنحصرة المقتضیة للمفوم حینئذ فمع تسلیم تمام ذلک والتسلیم بعموم المفهوم الشامل للماء الجاری ، برغم کل ذلک فلا تکون دلالته أقوی من دلالة عموم المنطوق الوارد فی الأدلّة السابقة ، فإذا فرضنا التخصیص فی المنطوق ، فإجراءه فی عموم المفهوم یکون بطریق أولی لاظهریة أدلّة الطهارة لمساق التعلیل الموجود فیها .

ورابعا : لو أغمضنا عن جمیع ذلک ، فإنّ غایته وقوع التعارض بین عموم المفهوم ودلالة تلک الأدلّة ، فی عدم انفعال الماء الجاری ولو کان قلیلاً وتکون النسبة حینئذ عموم من وجه ، فالتعارض یکون فی صورة ما لو کان الماء الجاری أقل من الکر ، فالمرجع حینئذ یکون إلی عموم اجتهادی آخر لو کان ، وإلاّ فالأصل العملی کما عرفت ، لا الحکم باشتراط الکُرّیة جزما والانفعال إذا کان أقل منه ، کما علیه العلاّمة وغیره .

مضافا إلی إمکان أن یقال : إنّه لا یکون مثل تلک الأدلّة المثبتة للطهارة وعدم الانفعال للماء الجاری ، وذلک لخصوصیة الجریان ، والدلیل الوارد فی اشتراط

ص:118

الکرّیة فی الاعتصام إلاّ مثل تعدد الشرط واتحاد الجزاء ، نظیر قوله : «إذا خفی الأذان فقصّر» و«إذا خفیت الجدران فقصر» حیث یکون المراد هو کفایة وجود أحد الشرطین لترتّب الجزاء ، لا لزوم الجمع أو التعارض بینهما ، وسیأتی تحقیق الکلام فی محلّه إن شاء اللّه .

فینتج فی المقام أنّه یعتبر فی الاعتصام والتطهیر أحد الأمرین أو الاُمور ، وهو الکریة أو الجریان أو غیرهما ، کما سیأتی بعد ذلک .

إذا عرفت ماحققناه ، تعرف فساد دعوی أن االأدلّة الواردة فی الماء الدالّة علی الانفعال بالملاقاة ، تکون اقتضائیا ، بخلاف ما ورد ف¨ی الماء الجاری حیث لا یکون مقتضیا ، إلاّ عدم انفعاله بالملاقاة ، وأما کونه مطهرا فلا اقتضاء له ومعلوم أنّه لا تعارض بین الاقتضاء واللا اقتضاء ، فیقدم الحکم بعد وقوع التطهیر بالماء الجاری . وذلک لوضوح أنّ مقتضی لسان تلک الأدلّة ، هو المطهریة ، فضلاً عن الطهارة ، فالتعارض إنْ تحقّق کان بین الاقتضائیین ، وقد عرفت تحقیقه فلا نعید .

وهل مراد العلاّمة ومن تعبعه ، من اعتبار الکریة فی الماء الجاری ، اعتبارها فی الماء الخارج عن المادّة ، أو فی المجموع منه ومن المادّة ، أو فی خصوص المادّة وحدها ؟ الذی یظهر ممن یحکی عنه فی «المنتهی» هو الإطلاق فی اعتبار الکریة فی الجاری ، بلا تصریح لأحد الأمور الثلاثة ، ولکن الذی استظهره العلماء هو الأوّل ، أو الثانی کما احتمله الحکیم قدس سره ، والمحقّق الهمدانی ، بخلاف الحلی فی «دلیل العروة» .

أما الاحتمال الثالث إن لم نقل بلحوق الثانی به _ کما فی «دلیل العروة» فلا قائل به بین الفقهاء ، بل استظهر الحلّی فی ذیل کلامه عدم اعتباره من القوم .

نعم ، یمکن استفادته من کلام الشیخ الأعظم قدس سره من جهة استنباطه وذلک بصورة الاحتمال ، عن حدیث التنزیل لماء الحمام بمنزلة الماء الجاری من لزوم

ص:119

الکریة فی مادّة الجاری ، کما یعتبر ذلک فی مادّة الحمام وذلک من جهة المماثلة ، ولذلک أشکل علیه المحققّ الهمدانی قدس سره بأنّه قلَّ ما یتّفق وجود الکریة فی المادّة بحیث تکون اجزاءه متّصلة بعضها مع البعض بنحو المتعارف ، فکیف یمکن القول باعتبارها مضافا إلی عدم تحقّق إحراز ذلک ولو کان فی الواقع کرا .

ولکن قد تأمل صاحب «دلیل العروة» فی عدم اعتبار الکریة فی المجموع أو المادّة وحدها ، وقد استغرب القول بالتطهیر بالماء الجاری الذی لو اتفق بانقطاعه عن المادّة أقل من الکر ولم یکن مجموع ما فی المادّة الذی خرج مع ما فی الخارج بقدر الکر ، إذا لا وجه له إلاّ أن یدعی الخصوصیة فی ذلک .

ثمّ نقض بوجود ذلک فی ماء المطر ، حیث یکون املاء بعد انقطاع القطرات قلیلاً بخلاف الحال اتصاله ، فلو اتفق قطعه قبل أن یبلغ المجموع کرا ، فأجب بأنّه یکون علی خلاف القاعدة ، فنرتکبه لوقوعه فی النص بخلاف المقام ، ورد ما أجابه الحکیم قدس سره من أنّه لو اعتبر الکریة فی المادّة ، لسقطت فائدة الحکم بالطهارة بوجود المادّة ، لأنّ الغالب عدم إحراز الکثرة فی المادّة ، وأنّ سقوط الفائدة إنما یکون إذا لم تکن الغلبة فی المادّة کثرتها ، وإحلال أنّه کذلک.

ونحن نقول : کم فرقٌ بین دعوی المحقّق الهمدانی من کون الغالب عدم کریة المادّة بنحو المتعارف ، وبین دعواه من کون الغالب فی المادّة کریتها ؟!

ولکن الانصاف أن یقال : بأنّ الحکم فی المقام هو الحکم بالطهارة والمطهریة فی الماء النابع عن المادّة ، إذا کان یصدق علیه الجاری أو ما بحکمه ، حتی إذا اتفق قطعه بعد التطهیر بما إذا لم یکن الماء الخارج وما لحق به عن المادّة کرا ، وذلک من جهة شمول الأدلّة السابقة لمثل ذلک ، وعدم ورود أمر من الإمام علیه السلام فی مورد بلزوم ملاحظة أنّه هل یقطع الماء عن المادّة أم لا ؟ وهل یکون المجموع بمقدار کر أم لا ؟ بل المتعارف فی الخارج عدم إحراز کونه کرا ، کما هو

ص:120

المقتضی لعموم التعلیل وشبهه ، بقوله : «لأنّ له مادّة» أو «إذاکانت له مادّة» وأمثال ذلک .

بعبارة اُخری : نقول فی الماء الجاری ، المفروض _ کما قاله الحلی فی ماء المطر _ کما أنّه یکون بواسطة دلالة النص علیه ، هکذا یکون فی المقام فإن الحکم یستفاد من النص الوارد فیه ، کما لا یخفی .

وإن أبیت ما قلناه ، فلابد فی الفرض المزبور إذا لاقی نجسا وکان سطح الماء مع المادّة مساویا وأقل من الکر ، هوالحکم بالطهارة للماء من جهة استصحاب الطهارة وقاعدتها ، مضافا إلی جریان استصحاب الموضوع ، وهو الجریان قبل القطع بخلاف ما بعده ، والنجاسة للمتنجس بواسطة استصحابها ، ولم نقل بالملازمة المذکورة حینئذ _ کما هو الأحوط _ لأن الملازمة لم یشر إلیها أحد من الفقهاء ، ولم یظهر من کلماتهم ، کما لا یخفی .

وکیف کان ، فقد ظهر من جمیع ما ذکرنا طهارة الماء الجاری ومطهریته ، ولو کان أقل من الکر ، إلاّ أن یتغیر أوصافه بالنجس ، ریحا أو طعما أو لونا ، فحینئذ ینجس کما أشار إلیه المصنف قدس سره فی عبارته بقوله : «لا ینجس إلاّ باستیلاء النجاسة علی أحد أوصافه» ، وبناء علی هذا فلابد من البحث فیه ضمن عدّة اُمور :

الأمر الأوّل : هل یعتبر حدوث الاوصاف الثلاثة المذکورة فقط ، أو یکون مطلقا ولوکان بالحرارة والبرودة والثخانة وغیرها ؟ الأقوی هو الأوّل ، فانه مضافا إلی دعوی الإجماع علیه _ کما عن «مصباح الفقیه» نقلاً عن بعض _ یدل علیه الأخبار الکثیرة التی کادت أن تکون متواترة ، وکان بعضها صحیحا وجمیعها تتضمن الثلاثة معا أو منفصلاً بعضها عن بعض ، فبذلک یقید الخبر المطلق فی التغیر _ إن وجد فی بعض الأخبار مطلقا _ مع إمکان دعوی الانصراف فیها ، بناء علی کونها أظهر الافراد .

ص:121

وحمل الأخبار المشتملة علی الثلاثة علی المثال ، یعدّ خلافا للظاهر ، لأن فی المثال بحسب النوع یکتفی بفرد أو بفردین لا بالثلاثة کا هو کذلک فی أخبار کثیرة ، نشیر إلیها إن شاء اللّه تعالی ، لاسیما مع ملاحظة الحصر المستفاد من النفی والاستثناء بکونه هو الملاک فی الحکم بالنجاسة لا غیره ، وذلک واضح لا غبار فیه . کما لا یعتنی إلی ما قیل باعتبار غیر اللون من الأوصاف ، لوقوعه فی الخبر الصحیح بخلافه ، لما ستعرف من وجود اللون فیه ، مثل صحیح شهاب .

الأمر الثانی : هل یعتبر أن یکون التغیر بوصف عین النجس من الثلاثة _ کما علیه صاحب «الجواهر» والحکیم ؟ أو یکون الاستناد إلی النجس ولو لم یتصف الماء بأحد أوصاف النجس ؟ بل حتی لو اتصف بصفة ثالثة غیر وصفی الماء والنجس یصیر نجسا ، کما علیه الشیخ الأعظم قدس سره والمحقّق الآملی ، أوّلاً یعتبر شیء منهما ، بل إذا حصل التغیر بالملاقاة _ ولو لم یستند إلاّ من جهة اخری ولو منضما إلی النجس _ یصیر نجسا ؟

وبعبارة اخری : یکفی فی حصول النجاسة کونها علة ناقصة فی ذلک .

والذی یظهر من أخبار الباب هو الثانی ، کما تری فی الحدیث الوارد بقوله : «خلق اللّه الماء طهورا لا ینجسه شیء إلاّ ما غیر لونه أو طعمه أو ریحه»(1) . لوضوح أن المراد من الشیء والموصول ، هو عین النجس ، لا الأعم منه والمتنجس ، لأن الظاهر _ بقرینة السیاق _ کون المراد ما هو نجسٌ بالذات لا بالعرض کالمتنجس ، فبذلک یفهم أن فاعل التغیر کان هو النجس فقط لا شیء آخر ، ولا هو مع الآخر ، کما لا یخفی .

ومثله فی الدلالة خبر حریز ، عن الصادق علیه السلام حیث قال : «کلما غلب الماء


1- وسائل الشیعة : الباب 1 من أبواب الماء المطلق، الحدیث 9 .

ص:122

علی ریح الجیفة ، فتوضأ من الماء واشرب ، فإذا تغیر الماء وتغیر الطعم فلا تتوضأ منه ولا تشرب»(1) . حیث اسند التغیّر إلی النجس ، وبقرینة المقابلة من غلبة الماء علی ریح الجیفة یفهم کون الریح المغلوب مستندا إلی نفس الجیفة .

کما أنّه یشتمل علی الوصفین من الثلاثة وهما الریح والطعم .

کما لا یحتمل شمول لفظ التغییر باللون ، بدعوی إمکان حصول ذلک من الانفساخ فیه ، لکنه ضعیف .

کما ان احتمال کون التغیّر المطلق الوارد فی قوله : «إذا تغیر الماء» مطلق الأوصاف ، حتی غیر الثلاثة أضعف ، لامکان أن یکون العطف بعده تفسیریا ، فیکون المراد من التغیر هو التغیر فی الطعم فقط ، أو المراد تغیّره فی الریح أیضا بقرینة ذکره فی الصدر ، واللّه العالم .

وهکذا مثله خبر أبی بصیر فی حدیثً قال : قال الصادق علیه السلام : «إنْ تغیر الماء فلا تتوضأ منه ، وإن لم یغیره أبوالها فتوضأ منه ، وکذلک الدم إذا سال فی الماء وأشباهه»(2) . لظهور لفظ (الأبوال) الواقع فی السؤال والجواب کون التغیر من جهة الطعم واللون لا مطلقا ، کما ذکره الشیخ الأعظم قدس سره خصوصا أنّ ذکر الدم فی ذیله تکون قرینة اُخری للتقیید ، بل لا یبعد عدم الإطلاق من أوّل الأمر للانصراف إلیه بدوا ، کما لا یخفی .

ولا فرق فیما ذکرنا کون المراد من الدواب خصوص الأنعام التی کانت أبوالها طاهرة ، حتّی یکون المنع عن الوضوء بالماء المخلوط بها ، لصیرورته مضافا لا نجسا ، أو الأعم حتی یشمل غیر المأکول فیکون نجسا ، لما عرفت من وجود


1- وسائل الشیعة : الباب 3 من أبواب الماء المطلق، الحدیث 1 .
2- وسائل الشیعة : الباب 3 من أبواب الماء المطلق، الحدیث 3 .

ص:123

لفظ (الدم) الظاهر فی النجس ، وهو یکفی للاستدال .

ویدل علیه أیضا خبر علاء بن الفضیل ، فی حدیثٍ قال : «لا بأس إذا غلب لون الماء لون البول»(1) . فإنه صریحٌ فی خصوص اللون .

وضعف سنده بمحمد بن سنان من عدم توثیقه فی الرجال مدفوع ، کما عن الشیخ الأعظم قدس سره وذلک لرواته الأجلاّء ممّن لا یروون إلاّ عن الثقات کصفوان بن یحیی عنه ، مضافا إلی انجباره بالاجماعات المستفیضة والشهرة المتحققة وعمل الأصحاب .

وکذلک یدل علیه صحیح ابن بزیع عن الرضا علیه السلام بقوله : «ماء البئر واسع لا یفسده شیء ، إلاّ أن یتغیر ریحه أو طعمه ، فینزح حتی یذهب الریح ویطیب طعمه ، لأن له مادّة»(2) . فبذکره لمصادیق التغیر من حیث الطعم والریح یقید خبره الآخر(3) الذی ورد فیه عنوان التغیّر مطلقا .

والخبر الآخر الذی یدل علی ذلک هو صحیح شهاب بن عبد ربه فی حدیثٍ قال : «توضأ من الجانب الآخر ، إلاّ أن یغلب الماء الریح فینتن ، وجئت تسأل عن الماء الراکد من الکر مما لم یکن فیه تغیر أو ریح غالبة ؟ فقلت : فما التغیر ؟ قال : الصفرة ، فتوضأ منه ، وکلما غلب کثرة الماء فهو طاهر»(4) ، حیث أنّه یشمل علی الریح واللون ، بل یکون هذا مفسرا ومبینا بأن التغیر إذا أطلق بلا قید ، کان المراد هو التغیر فی اللون ، فهذا یکون شارحا للتغیر الوارد فی خبر ابن بزیع وخبر حریز اللذین مرّ ذکرهما .


1- وسائل الشیعة : الباب 3 من أبواب الماء المطلق، الحدیث 7 .
2- وسائل الشیعة : الباب 3 من أبواب الماء المطلق، الحدیث 12 .
3- وسائل الشیعة : الباب 3 من أبواب الماء المطلق، الحدیث 10 .
4- وسائل الشیعة : الباب 9 من أبواب الماء المطلق، الحدیث 11 .

ص:124

کما یدل علی المطلوب خبر سماعة ، فی حدیثٍ : «إذا کان النتن الغالب علی الماء ، فلا تتوضأ ولا تشرب»(1) .

مضافا إلی ما عرفت من الخبر الوارد فی «دعائم الإسلام» المشتمل علی الأوصاف الثلاثة فی واحد منهما ، وعلی الریح فی الآخر .

فمع کثرة الأدلّة وتواترها ، بل وشمولها للَّون أیضا ، لا یبقی شک للفقیه فی أنّ حدوث التغیر فی الماء بأحد تلک الاوصاف یکون منجسا لا غیرها من سائر الاوصاف ، وإلاّ لکان علی الإمام علیه السلام الاشارة إلیها فی مورد من الموارد مع کثرتها ، مع کون المقام مقام حاجة والبیان .

کما أنّ الظاهر المستفاد من الأخبار کون التغیر مستندا إلی النجاسة ، أی کانت النجاسة هی العلّة التامة فی التأثیر والتغیر ، ولو لم یکن بوصف النجس أیضا ، کما لو أوجب خلط الدم فی الماء تغیّر الماء وتکونه بلون الأصفر .

والاستناد لوصف النجس فی بعض الأخبار _ کما فی خبری حریز وعلاء ابن الفضیل _ یکون منجهة الغلبة من الخارج ، لا سیما فی مثل الجیفة من الریح .

کما أنّه یشهد للدلالة علی کون التغیّر ملحوظا بالنسبة إلی الماء صرحة الأخبار الواردة من النبوی وابن بزیع و«دعائم الاسلام» حول الاوصاف الثلاثة ، واضافتها إلی الماء لا النجاسة ، وهو واضح لا یحتاج إلی مزید بیان .

ثمّ إنّه هل یعتبر فی الحکم بالنجاسة بالتغیّر ، أن یکون حسیّا مطلقا ، کما یظهر من «الجواهر» ومصنفات غیره من الفقهاء ، کما فی «العروة» وکلمات جماعة من المحشین .

أو یکون ولو تقدیریا مطلقا ، کما عن العلاّمة وولده الفخر وجمع من الفقهاء .

أو التفصیل بین ما یکون مستندا إلیه ولو بعد الملاقاة ، _ أی ولو لم یکن حین


1- وسائل الشیعة : الباب 3 من أبواب الماء المطلق، الحدیث 6 .

ص:125

الملاقاة حسیا فعلیا _ فیحکم بالنجاسة ، وبین ما لا یکون کذلک فلا ، کما عن الحکیم قدس سره فی «المستمسک» .

أو التفصیل فیما بین افراد التقدیر أیضا ، بأن یکون فی بعضه محکوما بالنجاسة _ کما لو وجد الوصف فی شخص الماء بحیث صار مانعا عن تحقّق التغیر بذلک المقدار من النجس مع أنّه لو لا ذلک لتأثر کما لو احمّر الماء بطاهر ، ثمّ اختلط مع الدم ولم یظهر فیه أثر بواسطة إیجاد المانع فیه وهو الاحمرار ، بحیث لو لم یکن ذلک فیه لکان متغیرا بوصف الدم _ وهوم محکوم بالنجاسة .

هذا بخلاف ما لو کان لون الماء بحسب خلقته الأصلیة من نوعه أو صفته کذلک ، حیث لا یکون الملاک فی نجاسته إلاّ التغیر الحسی ، کما فی ماءالنفط ، وماء بعض المعادن ، حیث یعدّ متلونا بلون تلک المادّة بحسب خلقته الأصلیة الصنفیة .

وکیف کان ، إنّ الملاک فی التغیّر هو الاوصاف الثابتة فی الماء بحسب الخلقة الأصلیة لنوعه أو صنفه ، لا لشخصه العارضة ، لأنّ الظاهر من الأخبار اعتبار التغیر الحاصل فی لون الماء المستند إلی ذاتا لا بالعرض ، هذا کما علیه المحقّق الخوانساری قدس سره فی «المشارق» کما نقل عنه الشیخ الأعظم قدس سره ، بل یظهر من الشیخ أسد اللّه التستری قدس سره ، کما هوالمستفاد من ظاهر بعض کلماته وان استشعر الخلاف عن بعضها الآخر ، فلیتأمل .

وقد وافقنا فی المصادیق مع البروجردی والشاهرودی کما هو مذکور فی حاشیة «العروة» فی ذیل المسألة .

نعم ، لا یعتبر ذلک فی النجاسة أی لو حدث بعض ما یؤثّر فی شدة ریح المیتة مثلاً أو ضعفها بحیث لا یضر فی صدق الاستناد إلیه عرفا ، ولو کان بسبب جعله فی موضع سبّب المنع عن التأثیر ، کالثلاجة المتعارفة فی عصرنا حیث یوضع فیها اللحم وغیره فانه لولاها لتغیر لون اللحم وغیره وهکذا فی الماء فإنه لو

ص:126

أضیف إلیه ما یمنع عن تغیّر لونه ، ولکن لم یضر عرفا صدق الاستناد إلی تاما کان منجسا للماء ، وإن کانت الأوصاف فی بعض هذه الأمور عرضیة ، کما لا یخفی ، لعدم أخذ الوصف بحسب الذات الاصلیة للنجاسة ، أی لم یضف إلیه إلاّ فی بعض الأخبار ، وقد عرفت کونه لأجل الغلبة ، فیشمل إطلاق بعض الأخبار لمثل الفروض المذکورة ، کما لا یخفی .

فبناءاً علی ما ذکرنا ، یظهر تفاوت الحکم بین المائین کانا فی حوضین وکانا أزید من الکر ، وکان أحدهما من ماء البئر حیث یکون أقل استعدادا لقبول الانفعال بملاقاة النجاسة لونا أو طعما أو ریحا بمقدار من النجس ، عن الماء الآخر الذی کان من الجاری ، أو لا یتغیر بذلک المقدار لشدة استعداده ، فیحکم بالنجاسة فی الأوّل منهما دون الثانی ، لکون التفاوت فی الانفعال وعدمه تکون مستندا لأمر ذاتی للماء موجود فی کلیهما .

هذا بخلاف ما لو فرض ماء فی حوضین ، ولکن کان قد أضیف لأحدهما مقدارا من العطر فصار معطرا ، ولذلک لم یتأثر بما وقع فیه من الجیفة ، بخلاف الماء الآخر حیث انفعل بذلک المقدار ، فإنه یحکم بالنجاسة فیهما ، لأن المانع فی الماء المعطر کان مانعا عارضیا لا ذاتیا نظیر الاحمرار بالذات إذا اختلط مع الدم ، کما مثّله السیّد قدس سره فی «العروة» حیث حکم بالطهارة ، کما هو الحق ، خلافا للعلاّمة البروجردی والشاهرودی حیث حکما بالنجاسة منها .

ولکن لا ینقضی تعجبی منهما ، أنّه کیف حکما بالنجاسة مطلقا فی المثال الأوّل والثالث ، ولم یحکما بها فیما لو وقعت المیتة فی الماء المتعفن أصلاً ، بحیث لو لم یکن نتنا لغیّرته ، أو الدم المختلط بالماء الأحمر بالذات بحیث لم تغیره بواسطة وجود اللون فیه .

نعم ، یصح الإشکال إذا کانا ذلک بعلاج کما عرفت ، فلا نعید .

ص:127

فقد ظهر مما ذکرنا عدم تمامیة کلام صاحب «الجواهر» قدس سره من کون الحسی هو القدر المتیقن ، ومن أنّ الطعم للنجس غیر معلوم مثلاً ، وذلک لامکان الاستظهار من بعض أفراد التقدیر لمساعدة فهم العرف بذلک ، کما عرفت ، ولأنّ الطعم المتغیر لم یستند إلی النجس ، حتی یقال بما قاله بل کان مستندا إلی الماء وعلمنا طهارته ، ولذا ورد فی خبر ابن بزیع اشتراط أن یکون ذهاب الریح وطیب الطعم مستندا إلی الماء ، فهو أمر صحیح کما لا یخفی .

* * *

فی تغیّر الماء الجاری و ما هو بمنزلته بمجاورة النجس

بحث حول حصول النجاسة بالتغیر بالمجاورة وعدمه

هل یعتبر فی الحکم بالنجاسة للماء المتغیر _ الجاری أو الکثیر _ من الملاقاة بشرط وجود عین النجاسة أو یکفی فی ذلک حصول التغیر للماء بسبب تلک النجاسة ولو بالمجاورة دون الملاقاة .

والذی یمکن أن یتوهم لکفایة الثانی هو أن یقال :

إنّ المستفاد من الأخبار کفایة کون التغیّر مستندا إلی النجاسة کیف اتفق ، سواء لاقی معها أم لا ، فحینئذ لو جاورت المیتة الماء فصار الماء جائفا ، فلیس ذلک إلاّ بواسطة هذه النجاسة ، ولو من جهة المجاورة ، حیث انتقلت ریحها إلیه ، وکان ذلک سببا لحصول التغیر .

هذا ، ولکنه مخدوش لوضوح أن ظاهر لسان الأخبار من النبوی وخبر ابن بزیع وخبر «دعائم الاسلام» من قوله : «لا ینجسه شیء» ، هو کون ذلک مع الملاقاة للشیء النجس عرفا ، إذ لا یتبادر عند العرف إلاّ هذا المعنی ، فبذلک یفهم کون المراد أن یکون التغیّر مستندا إلیه بالملاقاة لا بالمجاورة .

ولو سلّمنا کون ألفاظ الأخبار مطلقة ولا دلالة فیها بالخصوص ، فانه نقول انّ

ص:128

صراحة بعض الأخبار الواردة فی الباب ، مثل خبر علاء بن الفضیل ، وخبر أبی بصیر ، وخبر سماعة ، بقوله : «کذلک الدم إذا سال فی الماء» ، وقوله : «فی الحیاض یبال فیها» ، وقوله فی الثالث : «یمر بالماء وفیه دابة میتة» وأمثال ذلک فإنها تقید إطلاق الأخبار السابقة . مضافا إلی اعراض الأصحاب عنه فی المجاورة ، بل فی «الجواهر» ادعی الإجماع علی عدم التنجس بالتغیّر بالمجاورة ، ونحن أیضا لم نجد من ذهب إلی النجاسة من القدماء والمتأخرین والمعاصرین ، فهو مقطوع به عند الأصحاب .

وإذا عرفت ما ذکرنا ، فإن المقام یقتضی بعض الفروع المتفرعة علیه :

الفرع الأوّل : ما لو کان التغیّر مستندا إلی الملاقاة والمجاورة معا .

فتارة : یکون علی نحو العلّة التامة فی کل منهما ، أی لولا الآخر لکان ذلک کافیا فی التغیّر ، کما لو فرض وقوع جزء من المیتة فی الماء ، وبقی جزءها الآخر خارجا عنه ، وکان التغیّر مستندا إلی الجزء الداخل فی الماء والخارج عنه بنحو العلّة التامة ، فلا إشکال حینئذٍ فی نجاسته ، لاستکمال جمیع الشروط اللازمة فی التنجیس ، من الاستناد ، والملاقاة ، وحصول التغیر ، کما هو واضح لا کلام فیه .

وأخری : یکون الداخل بنحو العلّة التامة دون الخارج ، فهو واضح للحکم بالنجاسة لجمیع ما عرفت ، فلا نعید .

وثالثة : أن یکون عکس ذلک ، فقد ذکر الآملی قدس سره فی «المصباح» وجهین :

تارة : الحکم بالنجاسة من جهة صدق الاستناد والتغیّر المستند ، والملاقاة ، وهو کاف فی ذلک .

واخری : عدمه ، لأنّ الملاک _ مضافا إلی جمیع ذلک _ لزوم کون الاستناد إلی الداخل بنحو العلّة التامة ، وهو مفقود فی المقام .

لکنه رحمه الله اختار الأوّل ، والأقوی عندنا هو الثانی ، أی الحکم بالطهارة وعدم

ص:129

النجاسة ، وإنْ کان الاحتیاط لا یخلو عن وجه ، کما علیه الگلپایگانی والاصطهباناتی وغیرهما ، وکما أن مقتضی استصحاب الطهارة وقاعدتها ، هو الحکم بالطهارة فی کل مورد شک فیها ، کما لا یخفی ، فما حکم فی «العروة» فی المسألة الخامسة عشرة بالنتنجس بنحو الإطلاق ، لا یخلو عن إشکال .

ومن ذلک یظهر الحکم ، فیما لو کان بعض الأجزاء الصغیرة للمیتة فی الماء ، وکان التغیّر مستندا إلی الأجزاء الخارجة بنحو العلّة التامة _ حیث ادعی الحکیم قدس سره انصراف الاطلاقاتعن ذلک المورد _ لأنّه أیضا أحد مصادیق ما عرفت فی السابق حکمه .

الفرع الثانی : هل یعتبر فی الحکم بنجاسة المتغیر ، أن یکون بملاقاة عین النجاسة ووصفها ، فلا یکفی التغیّر بالمتنجس مطلقا ، ولو تغیّرت بوصف النجاسة لکن کانت أجزاء النجاسة موجودة مستهلکة فی المتنجس ودون عینها حتی یکون تغییره للماء الملاقی له منجسا له فلا یتنجس ؟

الأخیر هو الظاهر من کلام صاحب «الجواهر» قدس سره ، لأنّه استظهر من الأخبار لزوم وجود عین النجاسة فی التغیّر المنجس ، وفی مقابله القول بالنجاسة للماء ، بسبب حصول التغیر ، ولو بوصف المتنجس ، وإن لم تکن عین النجاسة موجودة فیه ، وهذا هو القول الثانی الذی نسب للشیخ فی «المبسوط» و«الخلاف» والمحقّق فی «المعتبر» والعلاّمة فی «التحریر» .

وقد وقع الکلام فی صحّة کلامهم ، وصحّة الانتساب الیهم .

أو یقال بالنجاسة ، إذا کان الملاقی المتغیّر بسبب تلاقیه مع المتنجس المتغیّر حاملاً لأوصاف النجس ، ولو لم تکن أجزاؤها فیه ، بخلاف ما لو تغیّر بأوصاف غیر النجس ، بل اتّصف بوصف المتنجس مثلاً أو غیره ، فإنه لا ینجس .

هذا هوالذی ذهب إلیه الشیخ الانصاری ، والسیّد فی «العروة» والحلی فی

ص:130

«دلیل العروة» ، والمحقّق الآملی فی «المصباح» قدس اللّه أسرارهم .

أو یقال : بأنّ الملاک هو الصدق العرفی ، بأن یکون التغیر مستندا إلی عین النجس ، ولو کانت فی المتنجس ، وذلک لا یصدق إلاّ فیما إذا کانت أجزاء النجس موجودة ی المتنجس الملاقی ، ولو کانت مستهلکة علی نحو لا یضر بالصدق العرفی ، سواء کان التغیّر حینئذ فی الماء الملاقی له علی نحو وصف النجس أو غیره ، فانّه حینئذ محکوم بالنجاسة . هذا بخلاف مالو لم یکن کذلک .

ولو فرض وجود وصف النجس فی الماء الملاقی له ، کما لو صار الماء متنجسا بواسطة الجیفة ، وصار جائفا ، فصب ذلک الماء الکذائی بدون وجود عین النجس فی المتنجس علی الماء الملاقی له ، فصار الماء الثانی أیضا منتنا ومتعفنا بعفونة الجیفة ، فلا یکون هذا الماء الأخیر نجسا ، کما علیه ظاهر کلام العلاّمة البروجردی والگلپایگانی . وهذا هو الحق عندنا ، وان کان الاحوط الاجتناب عنه أیضا ، لأنّک قد عرفت ظهور الأخبار وصراحتها فی کون ملاک التنجّس هو التغیّر ، المستند عرفا إلی عین النجس وهذه الأخبار مثل خبر علاء وأبی بصیر والقماط والمذکور فی «فقه الرضا» وغیرها ، مما لا شبهة فیها من الصراحة بأن المناط هو التغیّر بعین النجس وکونه مستندا إلیه ، فبذلک نقید إطلاقات الخبر النبوی وابن بزیع و«دعائم الاسلام» _ لو سلّم العموم والإطلاق فیها _ بواسطة کلمة ما الموصول او لفظ (الشیء) للنجس والمتنجس ، بأن یقال کأنه أراد بیان أن ما هو قابل للتنجیس فی غیر الماء ینجس فیه بالتغیّر ، فهو کما یشمل النجس المتنجس أیضا .

وکیف کان ، فاستفادة إطلاق الحکم من الأخبار بنجاسة الماء الثانی الملاقی مع المتنجس الأوّل الحامل لوصف النجس کالریح بدون وجود أجزاء النجاسة فیه فی غایة الإشکال .

ص:131

نعم ، قد یستدل لاثبات النجاسة لذلک الماء ، بأن المتغیر المتنجس إذا اختلط مع الماء الطاهر مع حفظ تغیّره ، فحینئذ قد یقال بصیرورة الماء الثانی أیضا متنجسا ، وهو المطلوب ، وإلاّ یلزم حصول أحد الأمرین المقطوع بفساده اجماعا ، وهما :

إمّا القول بصیرورة المتنجس المتغیّر مع تغیره طاهرا وهو مقطوع العدم والفساد اجماعا .

فی ما لوانقطع الماء الجاری بعضه عن بعض بسبب التغیّر بالنجس

أو القول ببقاء کل ماء بحکمه من الطهارة والنجاسة ، فهو أیضا خلاف الإجماع ، لقیامه علی عدم إمکان اشتمال ماء واحد ، صار بالاتصال واحدا شخصیا ، علی حکمین متضادین من الطهارة والنجاسة ، لأن المفروض عدم تمیّز کل منهما بحدوده ، اذ التغیّر کان بالریح لا اللون حتی یمکن التمیز بینهما فی الخارج ، فلا محیص الاّ القول بالنجاسة .

هذا ، ولکن الحلی قدس سره فی «دلیل العروة» قد أجاب عنه ، بأن مقتضی استصحاب طهارة الماء هو الطهارة ، واستصحاب نجاسة الماء هو النجاسة ، فمع ملاحظة ذلک الإجماع فی الماء الواحد ، یوجب التعارض بینهما ، فیسقط ویکون المرجع قاعدة الطهارة .

هذا ، ولکنه مخدوش بأنه لا شک فی نجاسته لماء المتغیر مع بقاء تغیّره ، وحینئذ لا حاجة للاستصحاب حتی یوجب التعارض .

نعم ، الشک موجود فی الماء الطاهر ، باعتبار ملاقاته مع هذا المتغیر المتنجس ، لو للاستظهار الطهارة من الأدلّة السابقة ، کما لا یخفی ، وان یمکن هذا الاستدلال فی الجملة ، إلاّ أنّه یوجب الحکم بالاجتناب فی هذه الصورة من باب الاحتیاط أیضا ، واللّه العالم .

الفرع الثالث : إذا فرض انقطاع الماء الجاری بعضه عن بعض ، بواسطة

ص:132

ویطهر بکثرة الماء الطاهر علیه متدافعا حتی یزول تغیّره(1)

کیفیّة تطهیر الماء الجاری و ما هو بمنزلته بعد زوال التغیّر

حصول التغیّر فی حجم الماء عرضا وعمقا ، فما حکم المائین الواقعین فی حافتی المتغیر ؟

فنقول : یجب أن نبحث تارة عن الماء الواقع فی طریق المادّة ، والظاهر طهارته ، وإن کان أقل من الکر ، منفردا أو مع المادّة ، وسواء کان واقعا فی سطح واحد متساو ، أو کان هو فی طرف العلو ، وکلّ ذلک لما عرفت من کون المادّة بنفسها عاصمة للماء ، فلا نعید .

وأخری : فی الماء المقابل ، فانه طاهر أیضا لو کان بمقدار کر ، بخلاف مالو کان أقل منه ، فانه ینجس بذلک ، ولو کان فی سطح غیر متساو مع المتغیر ، لأنّ المفروض وقوع المتغیر فی طرف العلو ، کما هو المتعارف .

فما احتمله صاحب «الجواهر» فی صدق عنوان الجاری علی هذا الماء المتصل مع المتغیر ، بالماء المقابل فی طرف المادّة ، وأنّه یمکن الفصل بینهما فی الحکم ، وأنّه عند الشک یمکن الرجوع إلی قاعدة الطهارة فی غایة الضعف ، لوضوح أنّه فی العرف کان بمنزلة الحائل بینهما ، ولزوم اتصاله بالماء الطاهر لا المتنجس ، وهو واضح لا کلام فیه .

(1) لا إشکال فی عدم عود الطهارة للماء الذی زال تغیّره بنفسه ومن دون ان یتصل بماء عاصم من الکر أو المادّة أو المطر ، لوضوح أنّ الزوال العارض للمتغیر لا یعدّ من المطهرات شرعا ، کما لا یخفی . إلاّ أنّ الإشکال فیما لو کان متصلاً بالمادة کما فی الجاری وما بحکمه ، فحینئذ هل یکفی مجرّد الاتصال مقارنة مع الزوال مطلقا ، أم لابدّ من الامتزاج بینهما ، بحیث لا یکون زوال تغیّره مع الاتصال بها غیر کاف فی طهارته مطلقا ، أو یُفصّل فیما بین ذی المادّة من کفایة الزوال مع

ص:133

الاتصال ، بخلاف غیره کالکر مثلاً ، إذ لابدّ فیه مضافا إلیه من الامتزاج أیضا ، وجوهٌ وأقوال :

وقد نسب الاحتمال الأوّل إلی المتقدّمین ، بل قد قیل أنّه لم یسمع ذلک عن المتقدمین عن المحقّق الأوّل فی «المعتبر» کما علیه شارح «الروضة» أیضا .

بل قد نسب إلی المشهور تارةً ، وإلی الأشهر أُخری ، وقد نسب الثانی أیضا إلی المشهور ، کما عن الشیخ الأنصاری فی «کتاب الطهارة» .

وقول بالتفصیل فیما بین الجاری وما حکمه من المطر وغیره ، من عدم الاعتبار ، وفی غیرهما من الکر من اعتبار الامتزاج .

وقد یحتمل قول رابع : وهو التفصیل بین الجاری وماء الحمام ، من اشتراط الامتزاج فیهما ، وبین غیرهما من عدم الاعتبار _ عکس الثالث _ .

ونسب هذا القول إلی ظاهر «المنتهی» و«النهایة» و«التحریر» و«الموجز» وشرحه .

أمّا وجه عدم اعتبار الامتزاج _ : مضافا إلی التمسّک بالاُصول العملیة ، من أصالة عدم الاعتبار المستند الأصالة العدم الأزلی _ لو قلنا باعتباره _ وأصالة البراءة من الاشتراط وضعا وتکلیفا ، من جهة وجوب الاجتناب ، وأصالة الطهارة _ هی الأدلّة الواردة فی ذلک ، وهو صحیحة ابن بزیع ، قال علیه السلام : «ماء البئر واسع لا یفسده شیء ، إلاّ أن یتغیر ریحه أو طعمه ، فینزح حتی یذهب الریح ویطیب الطعم ، لأنّ له مادّة»(1) . بأن تکون العلّة متعلِّقة بلفظ (فینزح) أی وجوب النزح فی صورة التغیّر إنّما کان بلحاظ وجود المادّة . أو یکون متعلقا بالجملة الثانیة والاولی ، وهی واسعیة ماء البئر معا ، فیفید أیضا ما ذکرنا من عدم لزوم الامتزاج .

بل یمکن أن یقال : بأنّ الحکمة المقتضیة لذکر العلّة بعد الجملتین ، هی إمکان


1- وسائل الشیعة : الباب 3 من أبواب الماء المطلق، الحدیث 12 .

ص:134

رجوع ذلک إلی کل من الدفع والرفع المستفاد من الصدر والذیل ، بحیث یفهم منه عاصمیة ماءه بواسطة المادّة فی کلیهما ، فمع ضمیمة عمومیة التعلیل حتی لغیر مورد البئر یثبت المطلوب ، وهو کفایة الاتصال بالمادّة مع زوال التغیّر .

واحتمال رجوع العلّة إلی جهة ذهاب التغیّیر بالنزح ، کأنّه قیل کیف یزول تغیّره بالنزح ، فأجاب علیه السلام : «لأنّ له مادّة» . کیفیّة تطهیر الماء الجاری و ما هو بمنزلته بعد زوال التغیّر

مدفوعٌ بأنّه أمر عرفی وخارج عن وظیفة الإمام علیه السلام ، بخلاف الحال فی الاحتمال الأوّل ، حیث أنّه کان فی مورد بیان الاحکام الذی یعدّ وظیفته ، کما لا یخفی . نعم ، قد یحتمل أیضا أن یکون الملاک فی الحکم بالنزح ، هو حصول الامتزاج به ، لحدوث تجدد الماء فیه واختلاطه مع التغیر ، فیوجب الطهارة .

إلاّ أنّه مع ملاحظة اهمیة ذلک ، وأنّه کان الامتزاج حقیقة شرطا فی تطهیر المتغیر ، لکان علی الأئمّة علیهم السلام بیانه فی موارد عدیدة وبعبارات صریحة ، فبذلک یوجب الظنّ القویّ بعدم اعتباره .

وقد تمسّک أیضا بمعتبرة ابن أبی یعفور فی حدیثٍ ، قال علیه السلام : «إنّ ماء الحمام کماء النهر یُطهّر بعضه بعضا»(1) . بناءً علی کونه فی مورد الرفع ، أی کما أنّ ماء النهر یطهر بعض ماءه المتغیر بزوال تغیّره _ مع العلم بأنّ نفس الزوال بلا اتصال بالمادّة أو الکثرة لا یکون مطهّرا _ فکذلک فی المقام ، فیتمّ المطلوب .

قلنا : وإنْ کان ظاهر العبارة هو الرفع ، لأنّ التطهیر لا یستعمل الاّ فی الرفع ، إلاّ أنّه بملاحظة وروده فی مورد الدفع ، الواقع فی صدر الحدیث ، من دخول الیهودی والنصرانی وغیرهم من الافراد المحکوم بنجاستهم فی الحمام ، یسئل عن حال تنجس الماء بهم ؟ فأجاب علیه السلام عنه وشبّه ماء الحمام بماء النهر ، أی کما


1- وسائل الشیعة : الباب 7 من أبواب الماء المطلق، الحدیث 7 .

ص:135

أنّه لا ینفعل بالنجاسة الحاصلة لبعضه بل قد یطهر ، هکذا یکون ماء الحمام أیضا ، فاحتمال اختصاصه بالرفع کاحتمال اختصاصه بالدفع ضعیف جدا .

نعم ، قد یرد علیه : أنّه لیس فی مقام بیان التطهیر ، حتی یفهم من اطلاقه عدم اعتبار الامتزاج .

کما یؤیّد هذا أنّه لو ورد دلیل آخر یدل علی اشتراط الامتزاج ، لما کان منافیا ومعارضا مع هذا الدلیل ، حتی یوجب تقیّده أو لزوم إهماله . فبذلک یسقط عن الاستدلال . ومثل هذا الإشکال یرد أیضا علی مثل العمومات الموجودة فی النبوی المشهور وهی : «خلق اللّه الماء طهورا لا ینجسه شیء» . وهکذا عموم قوله صلی الله علیه و آله : «الماء یطهر ولا یطهر» . وأمثال ذلک ، فلیس لنا دلیل علی عدم الاعتبار أوفی وأمتن من حدیث ابن بزیع ، کما هو واضح .

فمن جمیع ما ذکرنا ، یظهر وجهان آخران للقولین الآخرین لأنّ من ذهب إلی اعتبار الامتزاج قد تمسک بحکومة استصحاب نجاسة المتغیّر مالم یقم دلیلٌ اجتهادی علی خلافه ، ولیس هو إلاّ خبر ابن بزیع ، فزعم أنّه لا یدل الاّ علی الاعتبار ، لإرجاع العلّة إلی جهة زوال التغیّر ، کما عرفت ، أو یکون راجعا إلی صدر الحدیث فقط ، فهو الدفع لیس الاّ ، فلا یشمل لصورة الرفع ، کما أنّ تلک الاُصول السابقة غیر قابلة للمعارضة مع الاستصحاب لتقدمه علی تلک الاُصول .

مضافا إلی إمکان جریان قاعدة الاشتغال هاهنا ، لکونه شکّا فی المحصِّل والمحصَّل ، لأنّ الذی وجب تحصیله علینا کانت الطهارة وهی مشکوکة مع ذلک الماء . هذا ، کما فی «مصباح الهدی» للآملی قدس سره .

فنحن نقول : هذا صحیح إذا فرضنا حصول الطهارة من الخبث أو الحدث فیه ، بخلاف مالو شک فی حصول الطهارة فی نفسه بزوال تغیّره بلا جهة الامتزاج ، فلا أصل هاهنا إلاّ الاستصحاب ، کما لا یخفی .

فی عاصمیّة ماء الحمّام اذا کان له مادّه

ص:136

ویلحق بحکمه ماء الحمام إذا کان له مادّة(1)

کما أنّ من ذهب إلی التفصیل فیما بین ذی المادّة _ بعدم الاعتبار _ وبین غیره بالاعتبار ، بأنّ ذلک کان علی خلاف القاعدة ، فیکتفی علی موضع الیقین ، وهو الذی کان فی مورد النص فلا یسری إلی غیره ، فانه علی هذا التقدیر یلزم الحکم باعتبار الامتزاج فی مثل ماء الکر ، بخلاف الجاری والبئر وما بحکمهما .

فالاقوی عندنا هو عدم الاعتبار ، وان کان الاحوط اعتباره ، بلا فرق فی ذلک بین ذی المادّة وغیره ، لوضوح أنّه لا خصوصیة فی المادّة إلاّ من جهة عاصمیتها ، فهی موجودة فی الکر أیضا ، وإن کان مورد الاحتیاط فی مثل الکر أقوی ، لما قد عرفت من احتمال جریان قاعدة القدر المتیقن فیه دون الجاری وما بحکمه ، کما لا یخفی .

(1) الظاهر من کلام المصنّف هو إلحاقه بالجاری مطلقا _ أی سواء کان ما فی الحیاص کرا ، أو هو مع ما فی المادّة ، أو لم یکن کذلک أصلاً _ فکأنّ الحمام له خصوصیة فی الاعتصام إذا کان له مادّة . وذهب إلی ذلک صریحا صاحب «الجواهر» قدس سره تبعا للمحقّق وصاحب «المستند» وبعض آخر من المتأخِّرین . بل هو مقتضی إطلاق فتاوی المتقدمین ، کما فی «کشف اللثام» . ولم یتعرض أحد منهم الاّ من شذ وندر فی طرفی الاثبات أو النفی ، خلافا لأکثر المتأخِّرین ، وبل وجلّ المعاصرین من المحشِّین علی «العروة» من اعتبار الکریة ، إمّا فی المادّة وحدها کما عن بعض ، أو المجموع مع ما فی الحیاض کرا ، کما عن السیّد فی «العروة» وکلّ من علّق علیها علی ما حقّقناه ، وهذا هو الأقوی عندنا .

فلنا هاهنا دعویان :

الدعوی الاُولی : کون ماء الحمام بمنزلة الجاری ، إذا کانت له مادّة ، وقد قام

ص:137

علیه الإجماع تحصیلاً ونقلاً ، بل لم نعرف خلاف ذلک من أحد ، لما دلّت علیه الأخبار الکثیرة بحیث صارت مستفیضة ، وبعضها صحیحا ومعتبرا وبعضها الآخر منجبرا بعمل الأصحاب ومصححا بنقل أصحاب الإجماع عنه مطلقا ، کصفوان بن یحیی وداود بن سرحان حیث قالا : «قلت لأبی عبداللّه علیه السلام : ماتقول فی ماء الحمام ؟ قال : بمنزلة الماء الجاری»(1) .

وخبر قرب الاسناد ، عن اسماعیل بن جابر ، عن أبی الحسن الأوّل علیه السلام قال : «ابتدانی فقال : ماء الحمام لا ینجسه شیء»(2) .

وخبر ابن أبی یعفور فی حدیثٍ : «إنّ ماء الحمام کماء النهر یطهر بعضه بعضا»(3) .

وخبر الهاشمی ، قال : «سُئل عن الرجال یقومون علی الحوض فی الحمام ، لا أعرف الیهودی من النصرانی ، ولا الجُنب من غیر الجُنب ؟ فقال : تغتسل منه ولا یغتسل من ماء آخر فانه طهور»(4) .

هذه جملة أخبار مطلقة غیر مقیّدة بقید المادّة . خلافا لعدة أخبار دالة علی التقیید ، کما فی خبر بکر بن حبیب عن أبی جعفر علیه السلام قال : «ماء الحمام لا بأس به إذا کان له مادّة»(5) .

وخبر «فقه الرضا» علیه السلام : «إنّ ماء الحمام سبیله سبیل الماء الجاری إذا کان له مادّة»(6) .


1- وسائل الشیعة : الباب 7 من أبواب الماء المطلق، الحدیث 1 .
2- وسائل الشیعة : الباب 7 من أبواب الماء المطلق، الحدیث 8 .
3- وسائل الشیعة : الباب 7 من أبواب الماء المطلق، الحدیث 7 .
4- وسائل الشیعة : الباب 7 من أبواب الماء المطلق، الحدیث 6 .
5- وسائل الشیعة : الباب 7 من أبواب الماء المطلق، الحدیث 4 .
6- مستدرک وسائل الشیعة : الباب 7 من أبواب الماء المطلق، الحدیث 2 .

ص:138

فقد یقال بتقیید تلک الإطلاقات بهاتین الروایتین ، فلازمه أن ماء الحمام _ أی الماء الموجود فی الحیاض الصغار _ إذا کان أقل من الکر _ کما هو کذلک بحسب المعهود المتعارف _ واتصل بالمادة یکون عاصما دون غیره . فبناء علی ذلک یفهم ان المراد من ماء الحمام لیس الماء الموجود فی الخزانة والاحواض الکبیرة ، بل المراد منه ماء الحیاض الصغار فیحمل الأخبار المطلقة علیه أیضا .

نعم ، قد یشکل بعدم إمکان التقیید لضعف هذین الخبرین سندا ، لجهالة بکر بن حبیب ، وعدم توثیقه فی کتب الرجال ، کما ادّعاه صاحب «المدارک» ، ویشهد له عدم ورود توثیق له فی کتاب «جامع الرواة» ، وعدم ثبوت الاعتبار لکتاب «فقه الرضا» لوقوع الخلاف فیه .

لکنه مدفوع ، أوّلاً : بما عن الأوّل بإمکان أن یکون المراد من بکر بن حبیب هو بکر بن محمّد بن حبیب کما عن «طهارة» الشیخ الانصاری ، وهو من أجلّة علماء الإمامیة ، وقد وثّقه الکشی والعلاّمة فی «الخلاصة» وغیرهما .

لکنه مخدوش ، کما ذکر فی «جامع الرواة» وتبعه «المستمسک» بأن بکر بن محمّد هو أبو عثمان المازنی المتوفی سنة مأتین وثمانیة وأربعین ، فلا یقارب زمانه بحیث یمکنه ان یروی عن أبی جعفر الباقر علیه السلام أو یروی عنه منصور بن حازم ، إلاّ أنّه وقع فی سلسلة سنده صفوان بن یحیی الذی یعدّ من أصحاب الإجماع ، فیکون معتبرا .

وثانیا : إنّه لو سلّمنا ضعفه ، لکنه منجبرٌ بعمل الأصحاب ، بل کما فی «حبل المتین» لشیخنا البهائی أنّ الأصحاب تلقوا روایته بالقبول ، وبذلک نجیب عن الخبر الثانی أیضا . مضافا إلی ما عرفت منّا سابقا من اعتبار کتاب «فقه الرضا» خصوصا إذا وافق مع فتاوی الأصحاب ، کما لا یخفی . فالتقیید للإطلاقات بهما یعدّ من المسلّمات ، ولا إشکال فیه .

ص:139

الدعوی الثانیة : بأنّه هل یعتبر کون المادّة بنفسها کرّا _ کما ادّعاه المشهور أو الأکثر ، کما فی «مصباح الهدی» _ أو یکفی کریّة مجموع المادّة وما فی الحیاض والمجری ، کما عن السیّد قدس سره فی «العروة» ، بل وأکثر المتأخّرین والمحشّین «للعروة» ، أو لا یعتبر شیئا منهما ، بل یکفی نفس الاتصال بالمادة ، ولو لم یکن المجموع بمقدار الکرّ ، فضلاً عن خصوص المادّة ، بلا فرق بین کون سطح المادّة مساویا لسطح ما فی الحیاض ، أم لا ، وسواء کان فی الدفع أو الرفع ؟

هذا هو الظاهر من إطلاق کلام المحقّق فی «الشرائع» ، بل صریح «المعتبر» و«الحدائق» ، وهو الظاهر من «السرائر» ، کما عن صاحب «الجواهر» ، بل قد اختاره صاحب «الجواهر» وقوّاه ، وإنْ احتاط فی آخر کلامه ، وذهب إلی اعتبار الکریة . وقد فصلّ بعض بین الرفع والدفع ، فی اعتبار الکریة فی المادّة وحدها فی الأوّل وفی المجموع فی الثانی .

هذه هی الاقوال فی المسألة . والأقوی عندنا هو القول الثانی فی غیر الرفع ، وفیه یعتبر کریة غیر المتغیر منه ومن الموجود فی المادّة وغیره من المجری ، بلا فرق بین استواء سطحهما وعدمه . نعم ، قد یشکل فیما لو کان سطح المائین مختلفین ، وکان المجموع من الماء العالی والسافل کرا ، فحینئذ هل یتقوی السافل بالعالی بلحاظ الاتصال به فی دفع النجاسة أم لا ، کما کان کذلک فی المتساویین أم لا یتقوی ، لعدم کفایة هذا الاتصال ، مع فرض کون السافل أقلّ من الکر ؟ الظاهر _ کما هو المتبادر _ کون الملاک صدق الوحدة العرفیة بذلک الاتصال ، حتی یحکم بالعاصمیة ، والاّ فإنّه یصعب الحکم . فلابد من الرجوع إلی أصل البحث ، وهو إثبات ما ادعیناه من بین الاقوال ، فنقول ومن اللّه الاستعانة :

إنّ الذی یتمسّک به لإثبات العاصمیة لماء الحمام ، إذا کان له مادّة مطلقا ، ولو کان أقل من الکر ، هو إطلاقات الأدلّة من الحکم بالطهارة بلا تقیید إلی جهة لزوم

ص:140

الکریة للمادة ، نظیر الإطلاق الموجود فی الماء الجاری کما عرفت تحقیقه .

هذا ، ولکنه مخدوش بوجوه :

أوّلاً : إمکان منع دعوی الإطلاق للفظ (المادّة) هنا ، کما فی إطلاق لفظ ماء الحمام علی نحو القضیة الحقیقیة ، لوضوح ان هذه الالفاظ فی مثل تلک الاُمور ، ناظرة إلی ما هو المعهود والمتعارف فی الخارج فی عصر الأئمّة علیهم السلام ، ومن المعلوم ان المتعارف کان وجود أکرار من الماء فی الخزانة ، وفرض کونها أقلّ من الکر فی غایة الندرة ، لان صاحب الحمام بحسب المتعارف کان یمنع عن نقصان الماء فی المخزن ، خصوصا مع ملاحظة سعة سطح الخزانة ونشر الماء فی ذلک السطح فانه إذا کان بمقدار کر فإنّه یقلّ ویضعف نزوله فی الأنابیب ، ولذلک کانوا یجرون الماء الحادث والجدید فیها ، فمع ملاحظة ذلک لا یبقی لذلک اللفظ وهو (المادّة) إطلاق بحیث یشمل ما هو الأقلّ من الکر ، لوجود الانصراف عنه ، فبذلک یظهر الفرق فیما بین لفظ (المادّة) هنا من عدم الإطلاق ، وبین لفظها فی الجاری من وجود الإطلاق ، لعدم انصرافه فی ذلک إلی ما هو المتعارف علی نحو القضیة الخارجیّة ، بل کانت علی نحو القضیة الحقیقیّة ، بخلاف المقام کما عرفت .

ثانیا : إمکان استفادة الکثرة من بعض الأخبار ، کما یشهد لذلک الخبر الذی رواه ابن أبی یعفور ، بقوله : «ان ماء الحمام کماء النهر یطهر بعضه بعضا» .

حیث یفهم أنّ الإمام علیه السلام أراد رفع الشبهة والوسوسة عمّن کان یظن أنّه ینجس بملاقاته بالنجاسة ، ببیان أنّه لیس کذلک ، لأنّ ماء الحمام کثیر کماء النهر ، الذی قد عرفت فی السابق اطلاقه للماء الکثیر من الجاری لا مطلقا ، فکما ان کثرة ماء النهر تمنع عن الانفعال ، هکذا یکون ماء الحمام .

لا یقال : بأنّ ماء الحمام _ علی ما استظهر بواسطة قرینة المادّة _ لا یطلق الاّ علی الماء الموجود فی الحیاض الصغار ، وهو لیس بکثیر ، فکیف یقاس بماء النهر الکثیر ؟

ص:141

ولو مازجه طاهر فغیّره ، أو تغیّر مِنْ قِبل نفسه ، لم یخرج عن کونه مطهرا ، ما دام إطلاق اسم الماء باقیا علیه(1)

لأنّا نقول : وإن کان المراد من ماء الحمام ، هو ما فی الحیاض ، الاّ أنّ کثرته کانت بواسطة اتّصاله بالمادة الکثیرة ، فکأنّه علیه السلام أراد التنبیه لذلک ، بأنّه بسبب هذا الاتصال کان کثیرا فلا ینفعل ، وهو واضح .

ثالثا : مع ملاحظة هذه الأخبار فإنّه لا یخطر ببال الفقیه بأن یکون الحمام له خصوصیة تعبدیة فی قبال سائر المیاه من الکر والجاری والمطر والبئر ، بل لیس المنظور فی التنزیلات الواردة فی الأخبار من کونه بمنزلة الجاری ، الاّ افهام أنّه لیس له خصوصیة معینّة ، بل کان وجه عاصمیته هو کثرته المساوقة مع کریته ، کما لا یخفی .

فبناء علی هذا ، نتمشی فی کلّ ما یتعلق به إلی ما تقتضیه القاعدة ، وهو لیس الاّ الحکم بکفایة کونه کرا ، ولو فی المجموع ، إذا کان فی مورد الدفع ، وکان سطح المائین متساویا ، أو کون المادّة بنفسها ، أو هی مع المجری أو معهما وبعض ما فی الحیاض بمقدار کر ، ولو فی حین السیلان ، فلا یکفی کریة المجموع مع الماء المتغیر ، کما لا یخفی ، بلا فرق فی ذلک _ أی العاصمیة _ بین تساوی سطحهما وغیره ، إلاّ من جهة الإشکال فی المتبقی منه فی الحیاض إذا اختلف سطحهما ، کما عرفت فی ابتداء البحث ، واللّه أعلم بحقیقة الحال .

وأما مسألة اشتراط الامتزاج فی تطهیر المتغیر هنا ، فانّه بمنزلة المتغیر فی الکر من قوة الاشتراط لا المتغیر فی الجاری ، لما قد عرفت من عدم الإطلاق فی المادّة هنا دون المادّة فی الجاری .

(1) لا فرق فی هذا الحکم بین الجاری وغیره ، إنّما ذکره هنا لمناسبة بیان

ص:142

حال التغیّر قبله ، کما لا خلاف ظاهرا منا فی ذلک ، وإن أوهم الخلاف فیما نسبه «الذکری» إلی المشهور ، بل وعبارة «المقنعة» و«المبسوط» ، لکن الظاهر إرادة غیر المقام ، ولذلک ادعی الإجماع فی «الغنیة» و«المنتهی» وغیرهما .

نعم ، قد حکی الإشکال والاحتیاط فی التطهیر بالمیاه المتغیرة عن صاحب «المشارق» ولعله أراد دلالة إطلاق بعض الأخبار علی ذلک ، وهو کما فی خبر أبی بصیر ، عن الصادق علیه السلام : «أنّه سأل عن الماء النقیع تبول فیه الدواب ؟ فقال : إن تغیّر الماء فلا تتوضأ منه ، وانْ لم تغیره أبوالها فتوضأ منه ، وکذلک الدم إذا سال فی الماء وأشباهه»(1) .

فی تغیّر الماء بغیر النجس

وخبر «فقه الرضا» : عن الرضا علیه السلام : «کلّ ماء مضاف أو مضاف إلیه فلا یجوز التطهیر به ، ویجوز شربه مثل ماء الورد وماء القرع ومیاه الریاحین والعصیر والخل ، ومثل ماء الباقلی ، وماء الزعفران ، وماء الخلوق وغیره ممّا یشبههما ، وکلّ ذلک لا یجوز استعمالها إلاّ الماء القراح وإلاّ التراب»(2) .

والنبوی المنقول عن رسول اللّه صلی الله علیه و آله : «خلق الماء طهورا لا ینجسه شیء إلاّ ما غیر لونه أو طعمه أو رائحته»(3) .

لکن فی جمیع ذلک إشکال :

أمّا فی الخبر الأوّل ، فلما قد عرفت منا سابقا من کون المراد من الدّواب : بقرینة ذیله وهو الدم _ هو نجس العین ، فتکون أبوالها نجسا أیضا . أو یراد مطلق الدواب ، فیشمل بول مأکول اللحم . أو یراد خصوص المأکول . فحینئذ یمکن أن


1- وسائل الشیعة : الباب 3 من أبواب الماء المطلق، الحدیث 3 .
2- وسائل الشیعة : الباب 1 من أبواب الماء المضاف، الحدیث 1 .
3- وسائل الشیعة : الباب 3 من أبواب الماء المطلق، الحدیث 10 .

ص:143

وأمّا المحقون ، فما کان منه دون الکرّ ، فإنّه ینجس بملاقاته النجاسة

یکون وجه عدم الجواز هو صیرورة الماء بذلک مضافا ، نظیر ما یدخل الشیاة الکثیرة فی الماء ، وتقع فضلتها فی الماء ، فلا یمکن رفع الید عن تلک الأدلّة بواسطة ذلک کما لا یخفی .

کما ان حدیث «فقه الرضا» ، لو سلّمنا دلالته علی المنع من استفادة الماء المتغیر للتطهیر ، لا یمکن الفتوی علی طبقه ، لأن العمل علی ذلک موقوفٌ علی عدم اعراض الأصحاب عنه ، مع أنّک قد عرفت اعراضهم لضعف سنده فلا یجوز الاعتماد علیه .

کما أنّ المراد من الشیء فی الحدیث الثالث أیضا بقرینة السیاق من لفظ «لا ینجسه» ، هو الشی النجس ، لا مطلق الأشیاء ، فعلیه یکون المراد من الموصول أیضا هو الشیء النجس .

ولو سلّمنا کون الظاهر هو مطلق الأشیاء ، لکنه یحمل علی ما ذکرنا حذرا من الوقوع فی مخالفة الأصحاب والإجماع ، کما هو واضح .

(1) هل الماء المحقون _ أی المحبوس _ إذا کان أقلّ من الکر ولو جاریا وسائلاً بدون وجود المادّة ، ینفعل بمجرد ملاقاته مع النجاسة والمتنجس أم لا ، أو تفصیل بین النجس فینفعل بملاقاته بخلاف المتنجس ؟

فی انفعال الماء القلیل بملاقاة النجس و المتنجّس

والذی ذهب إلیه جمیع الأصحاب من المتقدمین والمتأخرین هو الأوّل ، بل الإجماع بکلا قسمیه من المحصل والمنقول قائم علیه ، بل لم نعرف خلافا فی ذلک ، إلاّ من ابن أبی عقیل الملقب بالعمّانی ، ومعلومٌ أنّ خلافه لا یوجب الوهن فی الإجماع ، لأنّه علی ما نقله العلاّمة البروجردی قدس سره (کان فی بلدة یسکن فی عمّان ولم یکن عنده الکتب الأربعة ، ولم یکن علی علمٍ بجمیع الأخبار الصادرة

ص:144

عن الأئمّة علیهم السلام ). والمحدّث الکاشانی والفتّونی حیث ذهبا إلی أن الماء القلیل ، لا ینفعل إلاّ بالتغیّر کالکر والجاری ، کما أنّه نُقل عن المحقّق الخراسانی قدس سره علی ما حکاه الحکیم قدس سره فی «المستمسک» التفصیل بین النجس وأنّه ینفعل بالماء القلیل بخلاف المتنجس فانه لا ینفعل به ، إلاّ إذا تغیر بأحد الأوصاف الثلاثة .

والتحقیق الموافق للأقوال ، وعمل الأصحاب ، هو القول الأوّل ، کما تدل علیه أخبار کثیرة ، بحیث بلغت فی کثرتها حد التواتر ، بل قیل تبلغ إلی مأتی حدیث ، علی ما نقله صاحب «الریاض» ، أو إلی ثلاثمائة علی ما نقله العلاّمة الطباطبائی أثناء درسه ، بل قلّ ما تتفق فی مسألة فقهیة تکون لها روایات کثیرة مثلما ورد فی الماء القلیل کما لا یخفی ، فحینئذ الأولی تقدیم الأخبار الصحاح من بینها الموجودة هاهنا ، الدالّة علی الانفعال ، سواء کان بالمنطوق أو المفهوم ، فنقول ومن اللّه الاستعانة :

منها : صحیحة محمّد بن مسلم ، عن أبی عبداللّه علیه السلام : «سُئل عن الماء تبول فیه الدواب وتلغ فیه الکلاب ویغتسل فیه الجنب ؟ قال : إذا کان الماء قد کر لم ینجسه شیء»(1) . حیث أنّ دلالته متوقفة علی ثبوت المفهوم للقضیة الشرطیة ، فحینئذ لا فرق بین کون المفهوم علی نحو الإیجاب الکلّی فیصیر معناه أنّ الماء القلیل ینجسه کل شیء ، کما علیه صاحب «هدایة المسترشدین» فی مفهوم السلب الکلّی ، خلافا للشیخ الأنصاری قدس سره ، وبین کونه بنحو الإیجاب الجزئی ، أی ینجسّه شیء ، کما علیه الشیخ الأعظم قدس سره ، لأنّ المقصود هو إثبات نجاسة الماء القلیل فی الجملة ، وإن وجدت التفاوت بین المفهومین ، من جهة إمکان عدم شمول المتنجس فی الثانی دون النجس ، إذ هو القدر المتیقن فی ذلک ، کما


1- وسائل الشیعة : الباب 9 من أبواب الماء المطلق، الحدیث 1 .

ص:145

سیأتی بحثه ان شاء اللّه . فی انفعال الماء القلیل بملاقاة النجس و المتنجّس

نعم ، یمکن أن یقال بعدم وجود المفهوم هاهنا ، لامکان أن یکون الشرط هنا علی نحو القضیة الشرطیة المحققة للموضوع ، نظیر ما لو قیل : (إن رکب الأمیر فخذ رکابه) و(إنْ رزقت ولدا فاختنه) ، بأن یکون المراد هنا هو الاشارة إلی ما هو الموجود فی الخارج ، فکأنه قیل : (هذا الماء الموجود قدر کر لم ینجسه شیء) ، الموضوع لا وجوده بغیر کر .

نعم ، لو کان اللفظ الوارد هکذا : (الماء إذا بلغ قدر کر حکمه کذا) فله مفهوم ، لأنّ البلوغ یُفهم وجود الموضوع ، وحصول تدرج مراتب الماء حتی یبلغ قدر الکر ، ومثل هذا التعبیر غیر موجود فی الأخبار ، وانما ورد فی کلمات العلماء ، کما تری فی کلام صاحب «دلیل العروة» وغیره .

هذا ، ولکن الإنصاف _ مع ملاحظة مورد السؤال فی الحدیث حیث سُئل عن الماء الذی تبول فیه الدواب . . . إلی آخره _ افادة المفهوم مع الشرطیة فی ذیله ، حیث فهم السائل مطلبه وأخذ جوابه وعرف بأنّ الملاک فی الحکم بالطهارة والنحاسة هو الکریة وعدمها ، لعدم تناسب الابهام فی جواب ذلک السائل للامام علیه السلام ، فعلی هذا کان القول بالمفهوم للقضیة هو أقوی عندنا .

والظاهر کون المفهوم علی نحو الإیجاب الجزئی ، أی غیر الکرّ ینجسه شیء ، لا الإیجاب الکلّی حتی یفید أنّه ینجسه کل شیء ، وهذا هو منشأ الاختلاف الشدید فیما بین العَلَمین ، الشیخ محمّد تقی صاحب «الهدایة» القائل بالاول ، والشیخ الانصاری القائل بالثانی .

ومثله دون الصدر الذی فیه السؤال ، صحیح معاویة بن عمار(1) .


1- وسائل الشیعة : الباب 9 من أبواب الماء المطلق، الحدیث 2 .

ص:146

والکلام فیه کما فی سابقه .

ومنها : صحیحة علی بن جعفر ، فی حدیثٍ عن أخیه موسی بن جعفر علیه السلام : «وسألته عن خنزیر یشرب من اناء کیف یصنع به ؟ قال : یغسل سبع مرات»(1) . فان دلالته علی نجاسة ماء الإناء بملاقاته مع الخنزیر واضحة .

ومنها : صحیحة محمّد بن مسلم ، عن أبی عبداللّه علیه السلام : «قال : سألته عن الکلب یشرب من الإناء ؟ قال : اغسل الإناء»(2) . فلا یکون وجه الحکم بالغسل إلاّ من جهة انفعال الماء القلیل بذلک ، کما لا یخفی .

ومنها : صحیحة علی بن جعفر ، عن أخیه موسی بن جعفر علیه السلام قال : «سألته عن الدجاجة والحمامة وأشباههما ، تطأ العذرة ثمّ تدخل فی الماء ، یتوضأ منه للصلاة ؟ قال : لا، إلاّ أن یکون الماء کثیرا قدر کر من ماء»(3) .

واحتمال کون الحکم مختصا للوضوء فقط دون غیره من سائر الاستعمالات بعید جدا ، بل ودلالته علی المطلوب أوضح من المفهوم الواقع فی الخبرین الاولین ، کما لا یخفی .

ومنها : صحیحة إسماعیل بن جابر ، قال : «سألت أبا عبداللّه علیه السلام عن الماء الذی لا ینجسه شیء ؟ فقال : الکر» الخبر(4) .

فمفهومه یدل علی انفعال القلیل ، ولو علی نحو الإیجاب الجزئی .

ومنها : صحیح لأبی بصیر : قال : «سألت أبا عبداللّه علیه السلام عن الحیاض التی ما بین مکّة إلی المدینة تردها السباع ، وتلغ فیها الکلاب ، وتشرب منها الحمیر ،


1- وسائل الشیعة : الباب 13 من أبواب النجاسات، الحدیث 1 .
2- وسائل الشیعة : الباب 12 من أبواب النجاسات، الحدیث 3 .
3- وسائل الشیعة : الباب 9 من أبواب الماء المطلق، الحدیث 4 .
4- وسائل الشیعة : الباب 9 من أبواب الماء المطلق، الحدیث 7 .

ص:147

ویغتسل فیها الجنب ویتوضأ منها ؟ قال : وکم قدر الماء ؟ قال : إلی نصف الساق وإلی الرکبة . فقال : توضأ منه»(1) .

فی الروایة قرینتان تدلان علی کون ماء الحیاض أکثر من قدر الکر ، فلذلک جوّز التوضوء منه ، وهما :

أحدهما : کون الحیاض الکذائیة الواقعة فی طریق المسافرین فی المراکز المعدة لهم ، علی نحو المذکور ، کما فی الحدیث ، یفهم منه أنّه کثیر ، اذ لیس من شأن القلیل وقوعه کذلک .

وثانیهما : من سؤال الإمام علیه السلام عن قدره ، وجواب السائل بحدیه من نصف الساق إلی الرکبة ، وکون ذلک فی الحوض ، یوجب الاطمئنان بکونه کثیرا فلا ینفعل لأجل ذلک ، وهو واضح .

ومنها : صحیحة البزنطی قال : «سألت أبا الحسن علیه السلام عن الرجل یُدخل یده فی الإناء وهی قذرة ؟ قال : یکفی ء الإناء»(2) .

قال فی القاموس : «کفاءه کمنعه : کبّه وقَلَبه کأکفاه» .

فی «وسائل الشیعة» : المراد اراقة مائه ، وهو کنایة عن التنجیس .

فإنّ المراد من القذارة هو مطلق النجاسة ، لا خصوص ما ینفره الطبع ، ولو لم یکن نجسا ، فإنّ الأمر بالاکفاء لیس إلاّ من جهة انفعال الماء الموجود فی الإناء ، المساوق لقلته ، کما هو واضح .

ومنها : صحیحة شهاب بن عبد ربه عن أبی عبداللّه علیه السلام : «فی الرجل الجنب یسهو فیغمس یده فی الإناء قبل أن یغسلها ؟ أنّه لا بأس إذا لم یکن أصاب یده


1- وسائل الشیعة : الباب 9 من أبواب الماء المطلق، الحدیث 12 .
2- وسائل الشیعة : الباب 8 من أبواب الماء المطلق، الحدیث 7 .

ص:148

شیء»(1) ، فإنّ المراد بالشیء ، بقرینة السیاق هو النجاسة ، فعلی هذا یدل علی المطلوب بالمفهوم ، بأنّه إذا کانت فی یده شیء ففیه بأس ، وهذا لا یکون إلاّ من جهة الانفعال .

ومنها : صحیحة أبی بصیر ، عن أبی عبداللّه علیه السلام قال : «سألته عن الجنب یحمل الرکوة أو التور (والتور إناء صغیر من زخرف) فیدخل اصبعه فیه ؟ قال : إن کانت یده قذرة فاهرقه ، وإن کان لم یصبها قذر فلیغتسل منه ، هذا ممّا قال اللّه تعالی : «ما جُعِلَ عَلَیکُم فی الدّین مِنْ حَرَج» »(2) .

التوهّم بأنّ استدلال الإمام بآیة نفی الحرج ، قد یفهم أنّه کان فی مقام بیان حکم الضرورة والاضطرار ، فکأنه أراد بیان ان الحکم باهراق الماء القلیل عند إصابته الید کان لمقام الضرورة .

مدفوع بأن المقصود من الاستدلال بالآیة هو عنوان مجموع العمل ، أی یحکم بالاهراق والإتیان بالتیمم مثلاً ، لان اللّه قد مَنّ علی العباد برفع الحرج عنهم ، فمقتضاه تجویز التیمّم فی مثل ذلک ، کما لا یخفی .

ومنها : صحیحة علی بن جعفر ، عن أخیه أبی الحسن موسی بن جعفر علیه السلام ، قال : «سألته عن رجل رعف فامتخط فصار بعض ذلک الدم قطعا صغارا فأصاب اناءه ، هل یصلح له الوضوء منه ؟ فقال : ان لم یکن شیئا یستبین فی الماء فلا بأس ، وان کان شیئا بیّنا فلا تتوضأ منه . قال : وسألته عن رجل رعف وهو یتوضأ فتقطر قطرة فی اناءه هل یصلح الوضوء منه ؟ قال : لا»(3) .


1- وسائل الشیعة : الباب 8 من أبواب الماء المطلق، الحدیث 3 .
2- وسائل الشیعة : الباب 8 من أبواب الماء المطلق، الحدیث 11 .
3- وسائل الشیعة : الباب 8 من أبواب الماء المطلق، الحدیث 1 .

ص:149

فهو بصدره وذیله یدل علی المطلوب ، غایة الأمر دلالة ذیله أوضح ، لما قد احتمل بعض _ کما سیأتی ان شاء اللّه _ من الفرق فی الانفعال فی القلیل بین ما یکون النجس فیه بیّنا فینجس ، وإلاّ فلا ینجس بواسطة هذا الخبر ، فسیأتی جوابه فی محلّه .

ثمّ توهّم أنّ لفظ الصلاح وعدمه ظاهر فی الاستحباب والکراهة ، ضعیف فی الغایة ، لکثرة استعماله فی الوجوب والحرمة ، بل هو المتعارف عند عرف الناس .

ومنها : مصحّحة إسماعیل بن جابر ، عن صفوان بن یحیی _ علی روایة الشیخ دون الصدوق حیث أرسله ، قال : «قلت لأبی عبداللّه علیه السلام الماء الذی لا ینجسه شیء ؟ قال : ذراعان عمقه فی ذراع وشبر وسعة (سعته)(1) دلالته تکون بالمفهوم کما عرفت فی نظائره فلا نعید ، فراجع حتی یستبین لک الأمر .

ومنها : صحیحة الفضل أبی العباس البقباق ، قال : «سألت أبا عبداللّه علیه السلام عن فضل الهرّة والشاة والبقرة والإبل والحمار والخیل والبغال والوحش والسباع ، فلم أترک شیئا إلاّ سألته عنه ؟ فقال : لا بأس به ، حتّی انتهیت إلی الکلب . فقال : رجسٌ نجس ، لا تتوضأ بفضله ، واصبب ذلک الماء ، واغسله بالتراب أوّل مرّة ثمّ بالماء»(2) . وقد ورد ذیل الحدیث فی باب آخر(3) .

فان الحکم باهراق الماء الذی لاقاه الکلب بواسطة شربه ، والحکم بعدم التوضیء عن سؤره وفضله ، لا یکون إلاّ فی الماء القلیل لانفعاله ، لأنّه یصدق ذلک العنوان علیه ، لا ما هو قدر کر . مضافا إلی ظهور الأمر بتغسیله بالتراب فیه


1- وسائل الشیعة : الباب 10 من أبواب الماء المطلق، الحدیث 1 .
2- وسائل الشیعة : الباب 11 من أبواب النجاسات، الحدیث 1 .
3- وسائل الشیعة : الباب 12 من أبواب النجاسات، الحدیث 2 .

ص:150

أیضا ، فکله یکون من جهة حصول الانفعال بشربه ، وهذا هو المطلوب .

ومنها : صحیحة شهاب بن عبد ربه قال : «أتیتُ أبا عبداللّه علیه السلام أسأله فابتدانی ، فقال : إنْ شئت فاسأل یا شهاب ، وإنْ شئتَ أخبرناک بما جئت به ؟ قال : قلت له : أخبرنی جُعلت فداک . قال : جئتَ تسألنی عن الجنب یسهو فیغمر یده فی الماء ، قبل أن یغسلها ؟ قلت : نعم . قال : إذا لم یکن أصاب یده شیء فلا بأس»(1) الحدیث . فان المراد ب(الشیء) کما عرفت ، هو النجاسة ، فبالمفهوم یدل علی المطلوب .

ومنها : صحیحة علی بن جعفر ، عن أبی الحسن الأوّل علیه السلام ، قال : «سألته عن الرجل یصیبه الماء فی ساقیه أو مستنقع ، أیغتسل منه للجنابة ، أو یتوضأ منه للصلاة ، إذا کان لا یجد غیره ، والماء لا یبلغ صاعا للجنابة ، ولا مدا للوضوء ، وهو متفرق ، فکیف یصنع ، وهو یتخوف أن تکون السباع قد شربت منه ؟ فقال : إن کانت یده نظیفة ، فلیأخذ کفا من الماء بید واحدة فلینضحه خلفه» ، الحدیث(2) .

فدلالته تکون بالمفهوم ، لوضوح أنّ المراد من النظافة فی قبال القذارة ، والساقیة والمستنقع یکون الماء فیها قلیلاً عادةً فینفعل بالملاقاة .

ومنها : صحیحة زرارة ، قال : قال أبو جعفر علیه السلام : «ألا أحکی لکم وضوء رسول اللّه صلی الله علیه و آله ؟ فقلنا : بلی ، فدعا بقعب فیه شیء من ماء فوضعه بین یدیه ثمّ حسر عن ذراعیه ثمّ غمس فیه کفه الیمنی ثم قال : هکذا إذا کانت الکف طاهرة» الحدیث(3) . وجه الدلالة یکون بالمفهوم .


1- وسائل الشیعة : الباب 45 من أبواب الجنابة، الحدیث 2 .
2- وسائل الشیعة : الباب 10 من أبواب الماء المضاف، الحدیث 1 .
3- وسائل الشیعة : الباب 15 من أبواب الوضوء، الحدیث 2 .

ص:151

هذه کلّها من الصحاح أو شبهها ، وقد بلغ عددها ستة عشر روایة ، جمیعها تدلّ بالمنطوق أو المفهوم علی انفعال الماء القلیل بملاقاة النجاسة .

وأمّا الأخبار الواردة فی ذلک من غیر الصحاح وشبهها ، فکثیرة جدّا ، وذکرها تفصیلاً یوجب الملال ، فلا بأس بذکر بعض ما تکون دلالته أظهر وأبین ، فنقول:

منها : حسنة زرارة عن إبراهیم بن هاشم ومضمرته ، قال : «قلت : کیف یغتسل الجنب ؟ فقال : ان لم یکن أصاب کفه شیء غمسها فی الماء» الحدیث(1) . فالشیء کما عرفت هو النجاسة لمناسبة المورد ، کما لا یخفی . کما أن الظاهر کون الماء أقلّ من الکر صحةً للسؤال ، لأنّ الکر لا وجه له فی السؤال عن ذلک ، لکن الظاهر کون السؤال عن کیفیة الغسل ، کما یدل علیه الجواب ، غایة الأمر ذکر الإمام هذا الشرط تفضلاً .

ومنها : موثقة سماعة ، عن أبی عبداللّه علیه السلام ، قال : «إذا أصاب الرجل جنابة فأدخل یده فی الإناء ، فلا بأس إذا لم یکن أصاب یده شیء من المنی»(2) . فتدل بالمفهوم علی البأس ، إذا کانت یده ملوثة بالمنی ، کما هو واضح .

ومنها : خبر عمار الساباطی ، أنّه سأل أبا عبداللّه علیه السلام : «عن رجل یجد فی أناءه فأرة ، وقد توضأ من ذلک الإناء مرارا ، أو اغتسل منه ، أو غسل ثیابه ، وقد کانت الفأرة متسلخة ؟ فقال : ان کان رآها فی الإناء قبل أن یغتسل أو یتوضأ أو یغسل ثیابه ، ثمّ یفعل ذلک بعد ما رآها فی الإناء ، فعلیه أن یغسل ثیابه ویغسل کل ما أصابه ذلک الماء ، ویعید الوضوء والصلاة» الحدیث(3) .


1- وسائل الشیعة : الباب 26 من أبواب الجنابة، الحدیث 2 .
2- وسائل الشیعة : الباب 8 من أبواب الماء المطلق، الحدیث 9 .
3- وسائل الشیعة : الباب 4 من أبواب الماء المطلق، الحدیث 1 .

ص:152

فدلالته علی نجاسة الماء القلیل بذلک واضحة ، ولذلک حکم بلزوم غسل الثیاب وغسل کل ما أصابه .

ومنها : خبر عمار بن موسی ، عن الصادق علیه السلام قال : «سُئل عما تشرب منه الحمامة ؟ فقال : کل ما أُکل لحمه فتوضأ من سؤره واشرب . وعن ماء شرب منه باز أو صقر أو عقاب ؟ فقال : کل شیء من الطیر یتوضأ مما یشرب منه ، إلاّ أن تری فی منقاره دما ، فان رأیت فی منقاره دما فلا تتوضأ منه ولا تشرب»(1) .

فان عدم تجویز الوضوء مما یشرب ، إذا کان فی منقاره دما ، لیس إلاّ من جهة الانفعال ، وهو لا یکون إلاّ فی غیر الکر وأشباهه لوضوح عدم انفعاله . ومثله فی الدلالة خبرین آخرین(2) واردین فی الاسئار ، فلا نطیل بذکرهما فراجع «وسائل الشیعة» .

بل ومثلهما فی الدلالة مرسل الصدوق أیضا(3) ، فلاحظه حتی تری صدق المقال والانتساب .

ومنها : خبرا سماعة وعمّار الساباطی(4) من الحکم باهراق المائین فی الإنائین المردّدین فی وقوع النجاسة فی أحدهما ولزوم الإتیان بالتیمّم ، فانظر متن أحد الحدیثین ، وهو هکذا : عن الساباطی ، عن الصادق علیه السلام فی حدیث ، قال : «سئل عن رجل معه إناءان فیهما ماء وقع فی أحدهما قذر ، لا یدری أیّهما هو ، وحضرت الصلاة ، ولیس یقدر علی الماء غیرهما ؟ قال : یهریقهما جمیعا ویتیمّم» . فلولا انفعال الماء القلیل لما کان للحکم المذکور وجه ، فدلالته علی المطلوب فی غایة المتانة .


1- وسائل الشیعة : الباب 4 من أبواب الاسئار، الحدیث 2 .
2- وسائل الشیعة : الباب 8 من أبواب الماء المطلق، الحدیث 6 _ 2 .
3- وسائل الشیعة : الباب 8 من أبواب الماء المطلق، الحدیث 6 _ 2 .
4- وسائل الشیعة : الباب 4 من أبواب الاسئار، الحدیث 3 _ 4 .

ص:153

ومنها : حسنة زرارة علی ما فی «الجواهر» ، ومضمرته ، قال : قال أبو جعفر علیه السلام : «إذا کان الماء أکثر من روایة ، لم ینجسه شیء ، تفسّخ فیه أو لم یتفسخ ، إلاّ أن یجی ء له ریح تغلب علی ریح الماء»(1) .

هذا بناء علی کون الروایة بمقدار الکرّ ، فحینئذ یدل علی کون الانفعال وعدمه علی کون الماء قدر الکر وعدمه ، فبالمفهوم یدل علی المطلوب .

ومنها : موثق أبی بصیر ، عن أبی عبداللّه علیه السلام ، قال : «لیس بفضل السنور بأس أن یتوضّأ منه ویشرب ، ولا یشرب سؤر الکلب إلاّ أن یکون حوضا کبیرا یستقی منه»(2) .

فان الحکم بالبأس للکلب ، لا یکون إلاّ من جهة نجاسة الماء بمباشرته ، ویکون الاستثناء بلحاظ کون ذلک المقدار حدّ الکر وأزید منه ، ولذلک قیّد الإمام علیه السلام الحوض بالکبیر .

فی ما استدلّ به علی عدم انفعال الماء القلیل

ومنها : خبر معاویة بن شریح ، قال : «سئل عذاقر أبا عبداللّه علیه السلام وأنا عنده ، من سؤر السنور والشاة والبقرة والبعیر والحمار والفرس والبغل والسباع ، یشرب منه أو یتوضأ منه ؟ فقال : نعم ، اشرب منه وتوضأ منه . قال : قلت له الکلب ؟ قال : لا . قلت : ألیس هو سبع ؟ قال : لا ، واللّه إنّه نجس ، لا واللّه إنّه نجس»(3) .

فإنّ النهی عن سؤر الکلب إذا کان ماءا ، بقرینة الشرب والوضوء لیس إلاّ من جهة الانفعال .

والأخبار الدالّة علی ذلک کثیرة جدا ، فی أبواب مختلفة من الفقه ، وان أردنا ذکرها تفصیلاً فانه توجب الاطالة بما لا ضرورة فیه ، ولقد استقصی عدة منها


1- وسائل الشیعة : الباب 3 من أبواب الماء المطلق، الحدیث 9 .
2- وسائل الشیعة : الباب 1 من الاسئار، الحدیث 7 .
3- وسائل الشیعة : الباب 1 من الاسئار، الحدیث 6 .

ص:154

صاحب «الجواهر» فی کتابه ، شکر اللّه مساعیه الجمیلة .

وإذا عرفت ولاحظت تلک الأخبار من الصحاح وغیرها ، دلالتها جمیعا بالمنطوق أو المفهوم علی انفعال الماء القلیل بالملاقاة ، فهل یبقی للمتفقة _ فضلاً عن الفقیه _ شکٌ وریب فی ذلک ، والعهدة علی مدعیه .

نعم ، یبقی هنا ملاحظة عدة أخبار تدل علی خلاف ما ادعیناه ، وملاحظة کیفیة الجمع والتوفیق مع تلک الطائفة من الأخبار ولابدّ من التعرض لذلک حینئذ ، فقد استدل للقول الآخر _ وهو عدم الانفعال مطلقا _ بأمور :

أوّلاً : بعدة أخبار ، تدل بظاهرها علی خلاف ما عرفت ، وهی فی الجملة کثیرة .

منها : عمومات طهارة الماء ، مثل النبوی المشهور : «خلق اللّه الماء طهورا ولا ینجسه شیء إلاّ أن یتغیر»(1) .

حیث یدل بالاطلاق بأن الحکم فی المستثنی منه والمستثنی کان لکل ماء فیشمل القلیل أیضا .

ومنها : نبوی آخر منقول عن الصادق علیه السلام بواسطة السکونی : «الماء یطهر ولا یطهر»(2) . وجه دلالته کما فی سابقه . فیما استدلّ به علی عدم انفعال الماء القلیل

والجواب عنهما : لو سلّمنا دلالتهما بالاطلاق علی ذلک ، لا سیما الحدیث الأوّل ، فغایته افادة الإطلاق وهو یتقید بتلک الأخبار ، ولا یوجب التقیید والتخصیص بالاکثر الاستهجان لکثرة ما بقی تحته .

مضافا إلی الإشکال فی الثانی ، بما قد عرفت سابقا منانه لیس فی صدد بیان الإطلاق من هذه الجهة من ان الماء بأی قسم منه کان کذا ، کما لا إطلاق له من


1- وسائل الشیعة : الباب 1 من أبواب الماء المطلق، الحدیث 9 .
2- وسائل الشیعة : الباب 1 من أبواب الماء المطلق، الحدیث 6 .

ص:155

جهة کیفیة التطهیر ، فالتمسک به کان أفحش وهنا من الأوّل ، کما لا یخفی .

ونظیره التمسّک باطلاقات طهارة الماء الواردة فی الآیات الکریمة .

وما قد قیل فی الجواب عن خبر السکونی : بأنه لا یدل علی عدم انفعال القلیل ، لامکان أن یکون حال الماء القلیل المنفعل حال ماء المتغیر ، أی لا یتطهر إلاّ بالاستهلاک .

فغیر تام ، لأنّ القائل یدعی الإطلاق فی أصل الشمول ، بأن یکون حکم ماء القلیل حکم ماء الکر مثلاً ، فلا ینفعل أصلاً إلاّ بالتغیر ، فلا یحتاج أن تصل النوبة إلی مقام تطهیره ، حتی یقال لا یحصل إلاّ بالاستهلاک .

ومنها : صحیح حریز بن عبداللّه ، عن الصادق علیه السلام ، قال : «کلما غلب الماء ریح الجیفة ، فتوضأ من الماء واشرب ، فإذا تغیّر الماء وتغیّر الطعم فلا تتوضأ ولا تشرب»(1) .

ومنها : خبر أبی بصیر ، عن الصادق علیه السلام : «أنّه سأل عن الماء النقیع تبول فیه الدواب ؟ فقال : إنْ تغیر الماء فلا تتوضأ منه ، وإن لم تغیره أبوالها فتوضأ منه ، وکذلک الدم إذا سال فی الماء وأشباهه»(2) . وأمثال ذلک من الأخبار الظاهرة فی کون تمام الملاک فی الطهارة وعدمها هو التغیر وعدمه مطلقا ، حتی فی الماء القلیل . ومثلهما خبر أبی خالد القماط(3) ، وغیرها ، کما نقله صاحب «الجواهر» .

والجواب عنهما : _ مضافا إلی عدم استبعاد دعوی ظهورهما ، لا سیما الخبر الثانی فی الماء الکثیر کما یظهر من لفظ : (النقیع تبول فیه الدواب) بصیغة الجمع _ أنّه یکون صرف إطلاق یشمل المورد ، فلا بأس بالتقیید بواسطة تلک الأخبار


1- وسائل الشیعة : الباب 3 من أبواب الماء المطلق، الحدیث 1 .
2- وسائل الشیعة : الباب 3 من أبواب الماء المطلق، الحدیث 3 .
3- وسائل الشیعة : الباب 3 من أبواب الماء المطلق، الحدیث 4 .

ص:156

الدالّة علی انفعال ماء القلیل ، کما لا یخفی .

ومنها : حنسة محمّد بن میسر ، قال : «سألتُ أبا عبداللّه علیه السلام عن الرجل الجنب ینتهی إلی الماء القلیل فی الطریق ، ویرید أن یغتسل منه ، ولیس معه اناء یغرف به ، ویداه قذرتان ؟ قال : یضع یده ثمّ یتوضأ ثمّ یغتسل ، هذا مما قال اللّه تعالی : «ما جعل علیکم فی الدین من حرج» »(1) .

بناء علی کون المراد من القلیل أقل من کر ، والقذارة هی النجاسة لا الوساخة ، والوضوء هو الاصطلاحی منه لا التطهیر والتنظیف ، کما قد یستعمل ، فحینئذ یدل علی مسلک سلاّر ومن تبعه ، ولعله أحسن دلیل من الأدلّة المؤیدة بقوله هذا .

وقد اجیب عنه بأجوبة لا تخلو من مناقشة ، مثل حمل القلیل علی القلیل العرفی ، الصادق علی الکر أو أزید . أو کون المراد من (القذارة) هو الوساخة وأمثال ذلک . بل الأولی أن یقال : إنّه محمولٌ علی التقیة ، لأنّه قد قیل _ کما عن «المصباح» _ إنّه قد حکم کثیر من العامة علی ذلک عند الاضطرار ، کما قد یؤیّد ذلک انضمام الوضوء مع غُسل الجنابة ، حیث یساعد ذلک مع مذهبهم لا مذهبنا ، وهو غیر مستنکر ان کان المراد من الوضوء ما هو المصطلح شرعا .

وانْ کان المراد منه هو التنظیف فلا یشاهد فیه أصلاً .

کما قد یحتمل أن یکون المراد ، بیان إمکان تحصیل الوضوء والغسل ، بلا ارتباط بمورد الحدیث ، من حصول الجنابة حتی یفهم منه لزوم الجمع بین الوضوء والغسل ، فخرج عن مسلکنا ، لاسیما علی النسخة التی وردت بلفظ (الواو) لا (ثمّ) ، کما هو الحال فی بعض النسخ . فیما استدلّ به علی عدم انفعال الماء القلیل

ولکن الانصاف عدم ثبوت الحقیقة الشرعیة فی لفظ القلیل ، بل المراد منه هو


1- وسائل الشیعة : الباب 8 من أبواب الماء المطلق، الحدیث 5 .

ص:157

القلیل العرفی ، فهو مطلق ویشمل ما لو کان أزید من الکر ، لاسیما مع فرض کونها فی الفلاة والصحاری . فاحتمال اختصاصه بما هو أزید من الکر فقط غیر وجیه . فحینئذ قد یحتمل أن یکون الاستدلال بآیة نفی الحرج تأییدا علی المراد من القلیل هو ما دون الکر ، لأنّه المناسب بذلک الاستدلال ، وأنّه أرید بذلک حال الاضطرار والضرورة ، فیرجع إلی دلالته علی عدم انفعال القلیل عند الضرورة والاضطرار ، کما استوجه هذا الاحتمال صاحب «مصباح الهدی» ، والمحقّق الهمدانی قدس سره . فلا محیص حینئذ:

إما من القول بالحمل علی التقیة _ کما احتمله صاحب «وسائل الشیعة» وغیره _ أو طرح الحدیث رأسا ، لمخالفته مع تلک الأخبار الکثیرة ، ومعارضته مع أخبار تدل بالخصوص علی نجاسة الماء القلیل حتی فی حال الضرورة ، نظیر خبری الاهراق للماء المردد ولزوم تحصیل التیمّم ، کما عرفت .

أو یقال بالاطلاق للقلیل ، فیشمل صورة الأقل من الکر ، إلاّ أنّه یقید بواسطة تلک الأخبار ، فیخص مورده بعد ذلک بصورة الکر وأزید ، وان کان یبعده الاستدلال بالآیة .

إلاّ أن یقال _ علی ما قاله المحقّق الخوئی فی «التنقیح» : بأنه أراد أنّ عدم تجویز الغسل والوضوء عن مثل تلک المیاه فی الفلاة ، موجب للحرج ، والحال أنّه قال تعالی : «ما جعل علیکم فی الدین من حرج» وفیه ما لایخفی من الغرابة ، واللّه العالم .

ومنها : خبر أبی مریم الأنصاری ، قال : «کنت مع أبی عبداللّه علیه السلام فی حائطٍ له ، فحضرت الصلاة ، فنزح دلوا للوضوء من راکی له ، فخرج علیه قطعة عذرة یابسة ، فاکفأ رأسه وتوضأ بالباقی»(1) .


1- وسائل الشیعة : الباب 8 من أبواب الماء المطلق، الحدیث 12 .

ص:158

وحمله علی کون الدلو علی مقدار کر بعیدٌ غایته ، لعدم إمکان حمله ورفعه من البئر کما لا یخفی . کما یبعد حمل لفظ «الباقی» علی باقی ماء البئر ، لأن الظاهر من اکفاء رأسه ، هو عدم قلب جمیع الماء ، فیکون الباقی بقرینة ذلک باقی ماء الدلو لا البئر . مضافا إلی ظهوره کون التوضئ بالباقی بلا واسطة ، مع أنّه لو کان المراد منه هو باقی ماء البئر فالظاهر منه عدم امکانه إلاّ بالنزح المجدد المقدر ، فهو خلاف الظاهر ، کما هو واضح .

کما یبعد حمل لفظ (العذرة) علی عذرة مأکول اللحم ، إلاّ أنّه لیس غرابته بمثل سابقه لما قد یستعمل العذرة للمأکور أیضا ، کما قد جُمع فی مثل قوله : «لا بأس ببیع العذرة» مع دلیل (ثمن العذرة سحتٌ) فی باب المکاسب ، بنحو الحمل علی القدر المتیقن فی کل منهما ، وهو المأکول للأول وغیره للثانی ، فحمله علی ذلک بحسب مقتضی الجمع ، مع تلک الأخبار یخرجه عن الغربة ، وان کان لا یخلو عن مخالفة طاهرة فی الجملة .

مضافا إلی الإشکال فی سنده ، من جهة التردد فی البشیر الراوی ، بین کونه موثوقا وغیره ، فلا یقدر المقاومة مع تلک الأخبار .

مضافا إلی بُعد ذلک من جهة شأن الإمام علیه السلام من شدة الاهتمام للوضوء من ذلک الماء الذی ینفر منه الطبع ، کما ذکره الشیخ الأعظم قدس سره ونعم ما ذکره ، بل قد یعارضه مرسل علی بن حدید ، عن بعض أصحابنا ، قال : «کنت مع أبی عبداللّه علیه السلام فی طریق مکة ، فصرنا إلی بئر فاستقی غلام أبی عبداللّه علیه السلام دلوا ، فخرج فیه فأرتان . فقال أبو عبد اللّه علیه السلام : ارقه ، فاسقی آخر ، فخرج فیه فأرة . فقال أبو عبداللّه علیه السلام : ارقه . قال : فاستقی الثالث ، فلم یخرج فیه شیء . فقال : صبّه فی الإناء ، فصبه فی الإناء»(1) .


1- وسائل الشیعة : الباب 14 من أبواب الماء المطلق، الحدیث 14 .

ص:159

فإنّ الأمر بالإهراق لا یکون إلاّ للنجاسة ، لبعد احتمال کون الفأرة غیر میّتة فیه ، کما لا یخفی .

ومنها : صحیحة زرارة ، عن أبی عبداللّه علیه السلام قال : «سألته عن الحبل یکون من شعر الخنزیر ، یستقی به الماء من البئر ، هل یتوضأ منه ذلک الماء ؟ قال : لا بأس»(1) .

فدلالته علی عدم الانفعال انما یکون من جهة تقاطر الماء عنه إلی ماء الدلو ، فمع ذلک حَکَم بجواز التوضئ ، کما لا یخفی .

وقد اجیب عنه أولاً : من إمکان أن یکون وجه السؤال من جهة توهم حرمة استعمال ما یکون نجس العین مثل الکلب ، ولو لغیر ما یشترط فیه الطهارة ، فأجاب إنّه لا بأس به ، ولا یضرّ بعمله العبادی وهو الوضوء ، فلا یکون حینئذ مرتبطا بما نحن نبحث عن ، وإن لم یدل علی جواز أصل الاستعمال أیضا ، کما استدلّ به بعض لإمکان أن یکون الجواب ناظرا إلی صحّة الوضوء ، لعدم اتّحاده مع الحرام ، حتی یستلزم البطلان .

وثانیا : من إمکان أن یکون وجه عدم البأس ، من جهة أنّه لم یعلم تماس الشعر للماء ، حتی یُفرض التقاطر ، فکأنّه أراد بیان أنّه متی لا یعلم الملاقاة فلا إشکال فی طهارته . ولا أقلّ من اطلاقه ، فیقید بما إذا لم یعلم ، ما إذا علم بالملاقاة ، فیحکم بالنجاسة حینئذ بواسطة تلک الأخبار .

وثالثا : لعلّه کان من جهة کون الشعر ممّا لا تحلّه الحیاة ، فلا یدخل تحت حکم أجزاء نجس العین ، کما قاله السیّد المرتضی قدس سره ، مستدلاً بهذه الصحیحة ، فحینئذ لا یعارض بما ذکرنا ، کما لا یخفی .

رابعا : من إمکان الحمل علی التقیّة ، لأنّ الحنفیة والمالکیة ذهبا إلی طهارة


1- وسائل الشیعة : الباب 14 من أبواب الماء المطلق، الحدیث 2 .

ص:160

الکلب والخنزیر بتمام أجزاءهما من الشعر والوبر والوصف ، غایة الأمر حَکَم الحنفیة بذلک إذا کان الکلب حیّا ، فحملُ الحدیث علی التقیة بوجود شخص منهم فی المجلس أمر غیر بعید ، فلا یمکن رفع الید عن هذا الخبر بما ذکرنا من الأخبار والإجماعات ، وهو واضح .

ومنها : روایة زرارة ، عن أبی جعفر علیه السلام قال : «قلت له : راویة من ماء سقطت فیه فأرة أو جرد أو صعوبة میتة ؟ قال : إذا تفسخ فیها فلا تشرب من مائها ولا تتوضأ وصبها ، وان کانت غیر متفسخ فاشرب منه وتوضأ ، واطرح المیتة إذا أخرجتها طریة ، وکذلک الجرة وحب الماء والقربة وأشباه ذلک من أوعیة الماء»(1) .

دلالته واضحة ، خصوصا بملاحظة ذیله من الحاق سائر الأوعیة بالراویة . لکنه مخدوش ، أولاً : بضعف سنده من جهة علی بن حدید ، حیث ضعّفه الشیخ الطوسی فی رجاله ، وإن قیل بعد تضعیفه فی بعض الموارد ، بل قیل إنّه یظهر من «الکافی» أیضا تضعیفه ، والمعروف أنّه کان فطحی المذهب .

وکیف کان ، لو لم نقل بضعفه ، لکن لم یوثّقه أحد أیضا ، حتی یعتمد علیه .

وثانیا : إنّه مشتمل علی تفصیل لا یلتزم به الخصم أیضا ، وهو الفرق بین التفسخ وعدمه فی الراویة وغیرها ، مع أنّ ابن أبی عقیل لم یذهب إلیه . کما فی «التنقیح» وغیره .

ولکن یمکن دفعه: بأنّ التفسخ والانتشار فی الأوانی الصغیرة ، موجبا لحصول التغیّر ، ولو من جهة رائحته نوعا ، فکأنه أراد التفصیل فیما بین حصول التغیّر بالانفساخ وعدمه ، فهو موافق لرأی ابن أبی عقیل . نعم ، لو فرضت الراویة بمقدار الکر _ کما نقله فی حاشیة «التنقیح» ، بل واحتمله صاحب


1- وسائل الشیعة : الباب 3 من أبواب الماء المطلق، الحدیث 8 .

ص:161

«وسائل الشیعة» _ فاحتمال حصول التغیّر بالانفساخ بمثل الفأرة بعید جدا .

وثالثا : بأنّه مع ملاحظة ذیله ، حیث جعل الملاک فی عدم التنجیس زیادته عن الراویة بقوله : «إنْ کان أکثر من راویة ، فلا ینجسه شیء ، تفسّخ أو لم یتفسخ»(1) . کما أن ملاحظة صدره یفید أنّ الملاک فی عدم الانفعال مطلقا من جهة کونه أزید من راویة ، أو یحدها مع عدم الانفساخ ، بخلاف ما لو کان أقل من راویة فینفعل ، فهو لا یساعد مع مذهب ابن أبی عقیل ، إذ لم یلتزم بهذا التفصیل أحدٌ خصوصا مع ملاحظة زیادة کلمة (سائر الأوعیة) إلی الروایة ، کما لا یخفی .

مضافا لما قد عرفت من ضعف سنده ، فلا یمکن رفع الید عن تلک الأخبار مع کثرتها وشهرتها بهذا الخبر .

هذه جملة الأخبار العامة والخاصة ، التی قد تمسک بها المحدّث الکاشانی وغیره للدلالة علی مذهبه فی القول بعدم انفعال الماء القلیل ، وان أمکن وجد ان أکثر من ذلک فی الدلالة أو التأیید ، إلاّ أنّه قابل للتوجیه والجمع مع الأدلّة السابقة ، کما لا یخفی ، نظیر الأخبار المفصلة بین الضرورة فی عدم الانفعال وعدمها بالانفعال ، التی کانت علی خلاف مسلک الخصم أیضا .

مضافا إلی معارضتها فی خصوص موردها ، بما هو أقوی منها ، مثل خبر اهراق الماء والتیمّم ، کما هو واضح .

والان تصل النوبة لذکر وجوه اُخر التی اُقیمت دلیلاً أو تأییدا لذلک المذهب ، والجواب عنها إن شاء اللّه ، فنقول ومن اللّه الاستعانة :

فمنها : وهی العمدة ، أنّ الماء القلیل إن انفعل بالملاقاة ، فلا یمکن تطهیر النجس فیه أصلاً ، لأنّه بمحض التلاقی ینجس الجزء الملاقی وغیره من الأجزاء


1- وسائل الشیعة : الباب 3 من أبواب الماء المطلق، الحدیث 9 .

ص:162

المستعلیة ، التی لا دخل لها فی تطهیره ، مضافا إلی أنّه یتنجس أیضا باتّصاله مع ذلک الجزء المتنجس بالملاقاة ، وهکذا الجزء الثالث والرابع وهلم جرا ، فمن ذلک یظهر عدم إمکان الحکم بطهارة ماء الاستنجاء بواسطة ذلک .

ولو قیل : إنّه ینجس بالانفصال ، ویطهر الموضع .

فهو بعید غایته ، وذلک لانه کیف یمکن أن یکون الانفصال دخیلاً فی تحقیق الطهارة للموضع والنجاسة للغسالة .

هذا ، ولکن یمکن الجواب عنه :

اولا : بامکان القول بالفرق بین ورد النجاسة علی الماء ، فإنّه ینجّسه ، وبین وروده علیها فلا ینجس ، ولذلک حکم بطهارة الماء للنجس ، وإن کان فی صحّته وعدمه بحث یوکل إلی محلّه .

ثانیا : لو سلّمنا عدم الفرق بینهما أیضا ، فیمکن أن یلتزم بأنّ اندفاع الماء من العلوّ موجبٌ لإزالة النجاسة عن الشیء ، کما تری ذلک فی تصرّف العرف فی إزالة بعض العوالق عن الید وغیره ، من إزالتها بواسطة بعض المزیلات کالنفط ، حیث یَحمل المایع ذلک الوسخ بنفسه مع تحقّق التطهیر والتنظیف فی الید ، فهکذا یفرض فی الشرع أیضا .

مضافا إلی أنّ الماء لا یکون حاله أهون من الأحجار التی تستعمل للاستنجاء ، حیث یطهر الموضع وتحمل نفسها النجس وینجس .

ثالثا : لو سلّمنا الإشکال من حصول النجاسة للماء هاهنا بحکم أولی ، فلا مانع بأن یکون الشارع قد استثنی فی هذه الموارد ، من باب رفع الحرج وتخصیص الحکم الأوّلی فی هذه الموارد ، کما قلنا بالتخصیص فی ماء الاستنجاء أیضا ، إلاّ إذا کان حاملاً لعین النجاسة ، فلا بعد للالتزام بنجاسة الغسالة مثلاً بالانفصال ، وحصول الطهارة للموضع بذلک .

ص:163

رابعا : ان الحکم بکون الجزء الملاقی نجسا ، إنّما کان بملاقاته لعین النجاسة ، واما سائر اجزاءه العالیة من الماء _ مضافا إلی ما عرفت من کون العلو والدفع مانعا عن السرایة والنجاسة _ فإنّه نقول بأنّ الحکم بنجاستها منوط بإثبات کون التلاقی مع الشیء المتنجس _ وهو الجزء الأوّل من الماء _ منجسا أیضا ، مع إمکان المنع فی ذلک ، فلا یکون الإشکال علی إطلاقه بصحیح .

ومن ذلک یظهر الجواب عن وجه آخر ، قد ذُکر تأییدا لهذا القول لو انفعل الماء القلیل بالملاقاة ، وهی : فإنّه یلزم الحکم بنجاسة المیاه الموجودة فی کلّ من مکة والمدینة فی عصر النبی صلی الله علیه و آله التی کانت قلیلة قطعا ، لأنّ مباشرة الأفراد الکثیرین من المسافرین غیر المجتنبین عن النجاسة _ لعدم اطّلاعهم علی المسائل الشرعیة _ یوجب الحکم بالنجاسة لجمیع المیاة ، فلیس هذا إلاّ موجبا للحکم بالوساوس ، هذا بخلاف ما لو قلنا بعدم الانفعال .

وجه الظهور هو ما عرفت ، بأنّ ذلک مبنیٌ علی کون الملاقی للمتنجس منجسا أیضا ، وإلاّ لما یوجب نجاسة المیاه ، لأنّ أغلب أنواع المباشرة إنّما تقع بالمتنجّسات لا الأعیان النجسة ، کما لا یخفی .

مضافا إلی أنّه لولا امتنان الشارع فی الحکم باصالة الطهارة فی کلّ ما لم یعلم النجاسة والقذارة ، لوجب أن نقول بعدم الانفعال فی المیاه القلیلة ، فماذا یقول الخصم لمباشرة النجاسة بواسطة الصبیان والمجانین ، أو ممّن لا یبالی بالطهارة والنجاسة من المؤمنین لسائر المایعات المضافة والأطعمة ، حیث لا إشکال فی تنجسها بالملاقاة ؟ فلا محیض إلاّ عمّا ذکرنا من ورود التسهیل عن الشارع من الحکم بالطهارة ما لم یحصل العلم بالخلاف ، وهذا هو المطلوب .

ومنها : أنّ ما یدلّ علی الانفعال کان بالمفهوم ، وما یدلّ علی خلافه کان بالمنطوق ، وهو مقدَّم علی الأوّل .

ص:164

فجوابه واضح ، أوّلاً : بما قد عرفت من وجود الدلیل علیه منطوقا ومفهوما ، ومن أراد التأکّد فلیراجع .

وثانیا : لو سلّمنا ذلک ، فلا نُسلّم کون المنطوق _ ولو کان أضعف ظهورا عن المفهوم _ مقدَّما علیه ، وإن کان أقوی ، مضافا إلی قوّة المفهوم من جهة کثرة الأخبار وشهرتها ، کما لا یخفی علی من لاحظ الآثار .

ومنها : وجود الاختلاف فی بیان مقدار الکر من جهة الوزن والمساحة ، من کونه سبعة وعشرین شبرا ، أو ستة وثلاثین ، أو اثنین وأربعین إلاّ ثمن الشبر ، فان جمیعها یدل علی استحباب ذلک ، نظیر الحمل علی الاستحباب فی الاختلاف الموجود فی مقدار النزح لماء البئر .

هذا ، لکنّه مخدوش بأنّه لا وجه لذلک ، بل یؤخذ بالقدر المتیقّن ، ویحکم بالنسبة إلی غیره علی الاستحباب ، لا أن یرفع الید عن کلّ ما یدلّ علی الانفعال .

وغیر ذلک من الوجوه التی قد ذکر تفصیلها صاحب «الجواهر» قدس سره ، تبعا للسید المهدی الذی صنّف رسالة مستقلة فی هذا البحث والمسألة فلا نطیل الکلام فی المورد والمقام أکثر من هذا فی بیان امتیاز حکم المیاه بالنسبة إلی الوضوء والغسل عن غیرها ووجود خصوصیة زائدة فیها من جهة صرفها فی أمر عبادی ، ولذلک یحکم بالاجتناب لا من حیث النجاسة ، أو من إمکان حمل هذه الأخبار علی الکراهة أو الاستحباب ، وغیر ذلک من الوجوه وعلی من أراد الاطلاع علیها ، فلیراجع المطولات من الفقه .

أما القول الثالث : وهو التفصیل بین النجس والمتنجس ، بأن قیل بانفعال الماء القلیل بملاقاته مع الأوّل دون الثانی .

فأوّل من أبدع هذا الاحتمال هو المحدّث الکاشانی قدس سره ، برغم أنّه لم یکن مختاره من جهة وجود الإجماع علی خلافه . ولکن اختاره _ علی ما نقله

ص:165

الحکم قدس سره فی «المستمسک» _ المحقّق الخراسانی قدس سره صاحب «الکفایة» ، وتبعه _ علی ما نقله الخوئی فی «التنقیح» _ المحقّق الاصفهانی قدس سره .

ومجموع ما تمسک به لهذا القول ، هو عبارة عن دعوی عدم شمول الإجماع الموجب للقطع للمتنجس ، لکونه دلیلاً لبیا ، فیکتفی فیه بالقدر المتیقن وهو النجس . کما أنّ شمول الأدلّة العامة ، والأخبار المطلقة للمتنجس مشکل ، لانّ ظاهر القضیة الشرطیة فی قوله : «الماء إذا کان قدر کر لا ینجسه شیء» ، هو سلب العموم ، وتعلیقه لا تعلیق کل فرد من أفراده العام وهو الماء ، حتی یستفاد منه نجاسة القلیل بکلّ شیء ، فیکون مفهوم السلب الکلّی هو الإیجاب الکلّی ، بل کان مفهومه هو الإیجاب الجزئی ، فیکون معناه أنّ القلیل ینجس بعین نجسة ولو بفرد منها ، غایته بانضمام عدم القول بالفصل بین أفراد النجس ، یوجب العموم لکلّ عین نجسة ، فهو القدر المتیقن ، فأمّا شموله للمتنجس فلا .

بل لو شک فی الشمول وعدمه ، فالمرجع حینئذٍ هو عموم قوله : «خلق اللّه الماء طهورا لا ینجسه شیء» . هذا بالنسبة إلی الأخبار العامة .

وأمّا الخاصّة ، فیقال : إنّ الإطلاق للشیء بحیث یشمل المتنجس ممنوع ، بل القدر المتیقّن ، لولا دعوی ظهور بعضها مثل خبر أبی بصیر ، عنهم علیهم السلام ، قال : «إذا أدخلتَ یدک فی الإناء قبل أن تغسلها ، لا بأس إلاّ أن یکون أصابها قذر أو بول أو جنابة ، فان أدخلت یدک فی الماء ، وفیها شیء من ذلک فاهرق ذلک الماء»(1) .

دعوی کون الشیء هو البول والجنابة المعهودان بالذکر ، لا المطلق من النجس وغیره ، بل هو عین النجس فقط ، فلا داعی علی حمله علی المطلق . فعلی هذا یکون التفصیل بینهما أولی . فضلاً عن وجود استصحاب الطهارة بعد


1- وسائل الشیعة : الباب 8 من أبواب الماء المطلق، الحدیث 4 .

ص:166

الملاقاة مع المتنجس وقاعدتها ، کما لا یخفی .

بل قد یؤیّد ذلک بالخبر الدالّ علی لزوم الغسل للبول فی المرکن بمرّتین ، وفی الجاری بمرّة واحدة ، وهو معتبرة محمّد بن مسلم ، قال : «سألت أبا عبداللّه علیه السلام عن الثوب یصیبه البول ؟ قال : اغسله فی المرکن مرّتین ، فإن غسلته فی ماء جار فمرّة واحدة»(1) .

قال الجواهری : المرکن : الإجانة التی تُغسل فیها الثیاب .

حیث استند إلیها المحدث الکاشانی قدس سره فی الاستدلال علی التفصیل ، علی ماحکاه المحقّق الآملی قدس سره فی «المصباح» ولعلّه أراد أنّه بعد غسله مرّة واحدة فی المرکن ، الذی هو أقلّ من الکر ، صار ملاقیا مع المتنجس ، فلو صار متنجِّسا بذلک کیف یجوز غسله به ثانیا ، فیدلّ علی عدم انفعاله به ؟

ونحن نزید علیه من إمکان الاستدلال أو التأیید بخبر «قرب الاسناد» و«المسائل» عن علی بن جعفر علیه السلام ، قال : «وسألته عن جُنبٍ أصابت یده من جنابة ، فمسحه بخرقة ، ثمّ أدخل یده فی غسله قبل أن یغسلها ، هل یجزیه أن یغتسل من ذلک الماء ؟ قال : إن وجد ماءً غیره فلا یجزیه أن یغتسل ، وإن لم یجد غیره أجزأه»(2) .

ووجهه أنّ النهی عن الاغتسال به عند وجدان الماء ، لعلّه کان من جهة أنّه أراد عدم استعمال الماء الذی أصاب بالخبث لرفع الحدث من الأکبر والأصغر ، لصیرورته بذلک متنجّسا ، مع عدم کونه ملاقیا إلاّ بالمتنجس ، بقرینة مسح یده بالخرقة ، کما یشهد لذلک تجویزه لصورة عدم الوجدان ، لوضوح أنّه لو کان


1- وسائل الشیعة : الباب 2 من أبواب النجاسات، الحدیث 1 .
2- البحار الانوار : ج 18 باب نجاسة البول والمنی الحدیث1 .

ص:167

متنجسا بذلک فلم یکن الاضطرار والضرورة مطهرا له ، کما لا یخفی .

هذا غایة ما یمکن الإقامة علی الاستدلال أو التأیید لذلک القول .

ولکن کلّها مخدوشة ، وقد اُجیب عنها ونحن أیضا نتصدی للجواب عنها بإرادة اللّه تعالی وتأییده ، فنقول :

أمّا الجواب عن الإجماع : فلا إشکال فی وجوده هاهنا بأقسامه الثلاثة من المحصّل والمنقول والمرکب .

فأمّا الأوّل : فواضح ، لعدم مشاهدة الخلاف فی القول بالانفعال ، إلاّ من ابن أبی عقیل المشهور نسبه والمعروف حاله ، ومن بعض متأخِّری المتأخِّرین الذین لا یضرّ خلافهم بالإجماع .

کما أنّ وجود الثانی أیضا واضح لما تری من کثرة نقل الإجماع فی المقام عن الفقهاء الکبار رضوان اللّه تعالی علیهم أجمعین .

کما أنّ الثالث قد ادّعاه المحدِّث الکاشانی نفسه حسب ما نقله المحقّق الآملی قدس سره من القول بالتفصیل بین النجس والمتنجس ، خلافا للطائفتین ، لأنّ القائلین بالانفعال یقولون به مطلقا ، کما أنّ القائلین بعدمه أیضا یقولون کذلک .

وثانیا : الأخذ بالقدر المتیقّن صحیحٌ ، فیما إذا لم یصرّح المجمعون بعدم الفرق بالتعمیم بین النجس والمتنجس ، مع أنّ الفحص فی کلماتهم ینتج القطع للفقیه علی ما ادّعیناه .

وأمّا الجواب عن الأدلّة العامة والأخبار المطلقة ، فهو :

أوّلاً : وقوع الخلاف فی أنّ مفهوم القضیة الشرطیة إذا وقعت بصورة النکرة فی سیاق النفی ، هل یکون علی نحو الإیجاب الکلّی أو علی نحو الإیجاب الجزئی ؟

المشهور وقوع الخلاف بین العلمین من الشیخ الأعظم قدس سره والشیخ محمّد تقی صاحب «الحاشیة» ، وإن کان قد ذهب الأکثر إلی الثانی ، کما هو الأقوی عندنا

ص:168

أیضا بحسب المرتکز العرفی فی المحاورات ، کما لو قیل : «إذا جائنی زید فلم یدعو للضیافة أحدا» ، فلیس مفهومه إلاّ أنّه إذا لم یجئنی زید فلا مانع من دعوة من یشاء ولو بفرد أو فردین ، لا أن یکون مفهومه لزوم دعوة کلّ أحدٍ ، ولو فرض فی مورد یمکن دعوتهم جمیعا إذا کان الافراد محصورین من أوّل الأمر .

إلاّ أنّه قد ذهب إلیه جماعة تبعا لعلماء المعانی والبیان ، حیث یقولون بأن المفهوم یتبع المنطوق فی السعة والضیق ، وقد مال إلیه صاحب «الجواهر» ، وإنْ تأمّل أخیرا ، بل قد صرّح الحلّی فی «دلیل العروة» بصحّته ، هذا أوّلاً .

وثانیا : لو سلّمنا ذلک ، فلا نسلّمه فی المقام ، لوقوع القضیة الشرطیة فی مورد کان موضع السؤال فیه عن کل فرد فرد من أفراد العام کما هو الحال فی خبر محمّد بن مسلم ، عن أبی عبداللّه علیه السلام : «وسُئل عن الماء تبول فی الدواب وتلغ فیه الکلاب ویغتسل فیه الجنب ؟ قال : إذا کان الماء قدر کر لم ینجسه شیء»(1) .

فإنّ جواب الإمام یکون علی نحو القضیة الشرطیّة السالبة الکلّیة بتبع سؤال السائل عن أفراد من المیاه ولو علی نحو الإطلاق ، بحیث یشمل الحکم ما لو حدث فی کلّ ماء علی حاله ما هو المذکور فی الخبر ، کما یشمل ما لو کان فی ماء واحد شاملاً لجهات ثلاث ، یوجب کون المقام فی المفهوم ، إثبات الحکم الجزئی بفرد فرد من الأفراد ، أی کلّ ماءٍ یقع فیه ما سُئِلَ عنه ، إذا لم یکن کرّا ینجّسه شیء ، وهذا هو المطلوب .

وأمّا الجواب عن الأخبار الخاصّة : بأنّ الأخذ بالقدر المتیقّن والحمل علیه إنّما یکون إذا کان فی مقام التخاطب ، لا فی کلّ مورد من الإطلاقات ، وإلاّ لم یبق لنا إطلاق أصلاً ، لأنّ کلّ إطلاق لا أقلّ من انطباقه علی بعض الافراد علی نحو


1- وسائل الشیعة : الباب 9 من أبواب الماء المطلق، الحدیث 1 .

ص:169

الیقین ، لکن الالتزام بذلک کما تری . کما أنّ دعوی الإطلاق فی قوله علیه السلام : «إن کان أدخلت یدک فی الماء ففیها شیء من ذلک» ، الواقع فی خبر أبی بصیر السابق ، وإن کان لا یخلو عن بُعد فی الجملة ، إلاّ أنّه مع ملاحظة العموم الموجود فی مرجع الإشارة ، بکون البول فی الید ، قد یکون بعینه وآخر أثره ، کما هو الأکثر وقوعا ، یوجب رفع الاستبعاد المذکور ، کما لا یخفی .

کما أنّه یجیب عن مثل خبر محمّد بن مسلم الدالّ علی الحکم بلزوم الغسل مرّتین فی المرکن ، بناءً علی عدم کون المرکن بقدر الکرّ کما هو الظاهر ، أوّلاً : بأنّه کیف فرض الثوب الذی أصابه البول متنجّساً ، حتّی یحتمل عدم انفعال الماء القلیل به ، إذ من الممکن أن یکون نفس رطوبة البول موجودة غایته الإطلاق الشامل لکلا فردیه .

فنقول : کیف یصحّ فیما إذا کانت عین البول موجودة ، الغسل فی المرکن مرّتین مع فرض وجود الماء القلیل فیه ، حیث یوجب فی أوّل ملاقاته سرایة نجاسته إلی الماء حتّی علی مذاق الخصم ، لتحقّق الملاقاة مع النجاسة العینیّة ، کما لایخفی .

وثانیاً : من إمکان أن یکون المراد هو الغسل للثوب مع ظرفه معاً ، أی یصیب الماء القلیل حتّی یسری فیصیر کلاهما طاهراً ، فحینئذٍ لا یکون الأمثل سائر التطهیرات بالماء القلیل ، مع اشتماله للدفع فیظهر ، ولو لاقی نجساً فضلاً عن المتنجّس . هذا کما احتمله فی «الجواهر» فراجع .

وثالثاً : الأقوی عندنا هو أن یکون حرف (فی) فی قوله (فی المرکن) بمعنی الباء ، کما یکثر ذلک فی استعمالات العرب ، کما نقله صاحب «معجم النحو»(1) ،


1- معجم النحو : 267 .

ص:170

وذلک إلی شهرة مثل هذا الاستعمال واستشهد علی ذلک بشعر زید الخیل :

ویرکب یوم الروع منّا فوارس یصیرون فی طعن الأباهر والکلی

حیث استعمل (فی) بمعنی الباء .

فعلی هذا یکون فی المقام بحذف المضاف ، وهو الماء ، أی اغسله بماء المرکن مرّتین ، وإن غسلته فی ماء جار فمرّة واحدة ، ویکون المرکن ، حینئذٍ من باب المثال لاستعماله کثیراً فی غسل الثیاب .

کما أنّ الماء الجاری لا خصوصیّة فیه ، بل یکون من باب المثال أیضاً حیث یتّحد حکمه مع حکم الکرّ والمطر أیضاً ، کما لا یخفی .

بل قد یستأنس لما ذکرنا ، ما ورد فی النصّ من قوله : «اغسله مرّتین» ولم یقل «إن غسلته فی المرکن مرّتین» وهذا بخلاف الجاری ، ولعلّ علی وجه الفرق هو فرض ورود النجاسة علی الجاری وعکسه فی المرکن ، فحینئذٍ لا یکون الحدیث مخالفاً لکلام المجمعین .

فی تفصیل المحقّق الخوئی (ره)فی انفعال الماء القلیل

کما أنّ خبر علیّ بن جعفر _ مضافاً علی اشتماله لما یکون مخالفاً للخصم من التفصیل بین الوجدان وعدمه _ مجملٌ أیضاً لأنّه یحتمل أن یکون وجه المنع هو کونه مستعملاً للخبث ، فهکذا یحتمل أن یکون بلحاظ تنجّسه بملاقاته مع المتنجّس ولو فی خصوص حال الوجدان فیلحق حال غیر الوجدان به ، بضمیمة عدم القول بالفصل ، فترفع الید عن دلالة فقرته الثانیة بذلک ، فمع وجود الإجمال والاحتمال یبطل الاستدلال ، کما لا یخفی . فلم یبق من الأدلّة إلاّ الاستصحاب والقاعدة ، وهما غیر قادران علی مقاومة الأخبار الکثیرة المطلقة الدالّة علی حصول التنجّس بالملاقاة مطلقاً ، سواء کان بالنجس أو بالمتنجّس .

بقی تفصیل ثان فی المقام ، فنقول :

إذا سلّمنا الإطلاقات المذکورة ، وعمّمنا المفهوم فی القضیّة الشرطیّة لکلّ فرد

ص:171

من أفراد الماء ، سواء لاقی نجساً أو متنجِّساً ، فلا یبقی وجه حینئذٍ للتفصیل الصادر عن المحقّق الخوئی فی تقریراته «التنقیح» ، فی المتنجّس بلا واسطة من الانفعال ، أی إذا لاقی الماء القلیل للمتنجّس الملاقی مع النجس فإنّه یوجب الانفعال ، بخلاف المتنجّس مع الواسطة ، أی کان الماء ملاقیاً للمتنجّس الذی یتنجّس بملاقاة المتنجّس لا النجس ، حیث تخیّل عدم النجاسة ، وأنّه لولا الإجماع لذهب إلیه ، ولا مانع عنه إلاّ فی موردین :

أحدهما : الخبران الواردان فی الکلب وهما صحیح العبّاس البقباق حیث ورد فیه قوله : «رجس نجسٌ لا تتوضّأ بفضله»(1) ، الحدیث .

وصحیح معاویة بن شریح ، حیث ورد فیه قوله : «قلت له الکلب ؟ قال : لا ، قلت : ألیس هو بسبع ؟ قال : لا واللّه إنّه نجس ، ذکره مرّتین»(2) .

فأجاب عن الأوّل بعدم اشتماله علی التعلیل ، وعدم صدق الرجس علی المتنجّس بالواسطة . والعجب أنّه مثّل لذلک بأنّه لا یقال لرجل عالم هاشمی تنجّس بدنه أنّه رجس ، ولم أقف علی مدخلیة کونه عالماً هاشمیّاً فی عدم صدق ذلک ، لأنّه من الواضح أنّه لو أطلق الرجس کان بلحاظ تنجّس بدنه لا لشخصه حتّی یُستنکر . بل یضیف أنّه لو اُرید الإصرار علیه لوجب الالتزام باختصاصه لخصوص الکلب ، مع أنّ لازمه القول بلزوم التعفیر فی کلّ ما لاقی المتنجّس بالکلب ، وهو کما تری .

والثانی : وإن کان مشتملاً علی التعلیل ، إلاّ أنّه مردود بضعف خبر معاویة بن شریح ، وأمّا خبر زرارة فی حکایة وضوء رسول اللّه صلی الله علیه و آله وفیه أنّه قال : «هکذا إذا کانت الکفّ طاهرة»(3) حیث یفید بالإطلاق فی طرف المفهوم من عدم کونه


1- وسائل الشیعة : الباب 1 من أبواب الاسئار ،، الحدیث 4 _ 6 .
2- وسائل الشیعة : الباب 1 من أبواب الاسئار ،، الحدیث 4 _ 6 .
3- وسائل الشیعة : الباب 15 من أبواب الوضوء ،، الحدیث 2 .

ص:172

متنجّساً ولو بالواسطة .

فأجاب عنه بأنّه مجمل أیضاً ، لإمکان أن یکون الوجه فی الاشتراط هو أن لا یکون مستعملاً فی رفع الخبث ، حتّی علی القول بطهارته ، هذا ملخّص کلامه . فی تفصیل المحقّق الطوسی (ره) فی انفعال الماء القلیل

ولکن قد عرفت من کفایة الإجماع والأدلّة السابقة فی ذلک ، مضافاً إلی أنّ الحکم بکون الکلب رجساً فی الخبرین المذکورین لیس من جهة بیان أنّه هل ینجس المتنجّس أیضاً أم لا ، حتّی یقال فی الماء القلیل بما ذکره . کما أنّ إطلاق خبر زرارة فی لزوم کون الکفّ طاهرة ، یکفی فی ردّ الاحتمال المذکور ، لأنّ احتمال کون وجه المنع من جهة کونه مستعملاً للخبث ، لا یوجب أن یطلق بلفظ الطهارة ، کما لایخفی .فالأولی صرف الکلام عن ذلک والاکتفاء بما ذکرناه ، واللّه الهادی إلی سواء السبیل .

وقد حان الوقت أن نذکر تفصیلاً آخر فی المقام ، وهو القول الخامس المنقول عن الشیخ الطوسی قدس سره فی «الاستبصار» _ بل فی «دلیل العروة» نسبته إلی المحقّق فی «الشرائع» ، بل قد نسب «غایة المراد» هذا القول إلی أکثر الناس ، وفی صحّة نسبته کلام _ وهو التفصیل بین انفعال الماء القلیل إذا أصابه الدم بما یدرکه الطرف ، بخلاف ما لم یدرکه ولم یستبین ، فإنّه طاهر .

وقد استدلّ لذلک بصحیح علیّ بن جعفر ، عن أخیه أبی الحسن موسی بن جعفر علیه السلام قال : «سألته عن رجلٍ رعف فامتخط فصار بعض ذلک الدم قطعاً صغاراً ، فأصاب إنائه ، هل یصلح له الوضوء منه ؟ فقال : إنْ یکن شیئاً یستبین فی الماء فلا بأس ، وإن کان شیئاً بیّناً فلاتتوضّأ منه . قال : وسألته عن رجل رعف وهو یتوضّأ فتقطر قطرة فی إنائه هل یصلح الوضوء منه ؟ قال : لا»(1) .


1- وسائل الشیعة : الباب 8 من أبواب الماء المطلق ،، الحدیث 1 .

ص:173

وجه الدلالة واضح من حیث وجود التفصیل بین الاستبانة وعدمه ، فی الحکم بالطهارة وعدمها ، والذی قیل فیه من الاحتمالات والأقوال ثلاثة :

الأوّل : قول بالتفصیل بین الصورتین المذکورتین ، فهو المنقول عن الشیخ الطوسی قدس سره ، ومن عرفت .

الثانی : وقول بأن یکون مورد الحدیث صورة ما لو کان الشکّ من جهة التردّد بین إصابته الدم للماء الواقع فی الإناء أو فی خارج الإناء ، الخارج عن محلّ الابتلاء ، فالحکم بالطهارة یکون مطابقاً للقاعدة ، لکون الشکّ حینئذٍ فی التکلیف ، لعدم تنجیزه للدم الواقع فی الخارج علی احتمال .

وهذا هو ما ذهب إلیه الشیخ الأنصاری قدس سره ، کما نسبه إلیه فی «التنقیح» ، بل قد یظهر صحّة احتماله عن صاحب «الجواهر» ، حیث جعل ذلک الاحتمال بأن یکون المراد هو الشکّ بالإصابة أصلاً مقدّماً علی احتمال الشیخ الطوسی قدس سره إنْ أراد طرف الآخر من الشکّ هو الخارج ، وإلاّ یصیر موافقاً للقول الثالث الذی یأتی بعد ذلک .

الثالث : القول بأن یکون المراد هو العلم بالإصابة للإناء قطعاً ، ولکن شکّ فی إصابته للماء ، فحینئذٍ یکون الشکّ فی الماء بدویاً ، فالمرجع هو البراءة . وهذا هو الذی احتمله صاحب «وسائل الشیعة» وشیخ الشریعة الاصفهانی قدس سره ، علی ما فی «النقیح» .

والأقوی عندنا هو هذا الاحتمال ، لأنّ الإمام علیه السلام أراد بیان أنّه لا یجوز رفع الید عن الیقین بطهارة الماء بسبب الشکّ بالإصابة ، إلی أن یعلم بذلک بعد استبانة الدم فی الماء ، وهنا یقع معنی الاستصحاب أی لا تنقض الیقین بالشکّ بل انقضه بیقین آخر ، فعلی هذا التقدیر لا حاجة لارتکاب التجویز فی إرادة الماء من الإناء ، کما یلزمه علی مذهب الشیخین . مضافاً إلی ضعف احتمال الشیخ الأنصاری لو قلنا بأنّ السائل قد فرض مقطوعیة إصابة الإناء ، فحینئذٍ لو قصد

ص:174

منه للزم القول بما ذهب إلیه الشیخ الطوسی لا محالة لعدم إمکان فرض طهارة الماء المصیب له الدم إلاّ بما قاله ، کما لا یخفی ، بخلاف ما لو ذهبنا إلی ما احتملناه فهو صحیح بلا إشکال . مضافاً إلی أنّ الشیخ الأنصاری فی «طهارته» جعل احتمال الشیخ الطوسی أظهر ممّا مختاره .

بل قد یؤیّد ما ذکرنا ما ورد فی ذیل الخبر ، حیث یسأل السائل بعده عن حکم تقطر قطرة فی حال الوضوء ، فیفهم أنّه کان فرض السؤال عن صورة العلم بالإصابة ، لا أن تکون خصوصیّة القطرة بکبرها موضوعاً للحکم بالنجاسة .

کما أنّ الظاهر أنّه لا خصوصیّة للوضوء فی الحکم ، بل إنّما ذکر ذلک لمناسبة الحکم والموضوع ، وهو تجویز استفادة الماء للوضوء وعدمه ، کما لایخفی .

ومن هنا یظهر ضعف الاحتمال الذی ذکره الحکیم قدس سره بأن لا یصدق عرفاً علی القطع الدم الصغار التی لا یدرکها الطرف أنّه دم ، نظیر أجزاء الماء المنتشرة فی البخار ، حیث لا یطلق علیه الماء ، فحینئذٍ یمکن أن یکون وجه حکم الإمام بالطهارة من تلک الحیثیّة . لأنّه من الواضح أنّه خلاف ما فرض فی الحدیث من کونه دماً ، ولهذا أطلق السائل علیه عنوان الدم ، وقال : «فصار بعض ذلک الدم قطعاً صغاراً» ، ولیس المقام مورداً للاستحالة والانقلاب حتّی یصحّ ذلک ، کما هو الحال فی الماء المستحیل إلی البخار ، وأمثال ذلک .

وأمّا تعلیل الشیخ الطوسی قدس سره فی «المبسوط» بأنّ الدم الذی لا یدرکه الطرف ، ممّا لا یمکن التحرّز منه ، وأنّه معفو عنه . فقد اُجیب أنّه غیر صحیح ، کما عن الشیخ قدس سره ، والمحقّق الهمدانی قدس سره .

ولکن یحتمل أن یکون مراد الشیخ أنّ الدم الذی لا یدرکه الطرف ، إذا وقع علی شیء ، ولم یعلم ولم یظهر ، فلابدّ من القول بعفوه إذا کان فی الواقع موجوداً ولم یعلم به ، لعدم إمکان التحرّز عن مثل هذه النجاسات فی بعض الأوقات ، لا

ص:175

أن یکون حینئذٍ مخالفاً للمشهور فی أصل الحکم ، فکأنّه أراد بذلک بیان عدم إمکان حصول العلم بالملاقاة للماء ، حتّی یُقال إنّه نجس ، فیکون مرجع رأی الشیخ ما ذهب إلیه المشهور ، وهذا غیر بعید ، کما لا یخفی .

وهنا تفصیلٌ آخر عن السیّد المرتضی وابن إدریس وتبعهما جماعة من متأخِّری المتأخِّرین ، وهو الانفعال إذا کانت النجاسة واردة علی الماء دون العکس . والذی یدّعیه هؤلاء العَلَمین هو أنّه لولاه للزم أن لا یمکن التطهیر بالماء القلیل ، لأنّه بالملاقاة ینفعل ، فکیف یتمّ التطهیر بالمتنجّس ، کما هو صریح استدلال السیّد قدس سره .

هذا ، ولکن الإنصاف أنّ الدلیل أخصّ من المدّعی ، لإمکان القول بالتخصیص فی هذه الموارد ، کما هو کذلک فی ماء الاستنجاء وماء المطر _ بشروط وهما محلّ وفاق _ وماء الحمّام والغسالة _ وهو محلّ خلاف _ فلا یوجب ذلک ، القولَ بعدم الانفعال مطلقاً ، کما قد اعتذر السیّد لاحقاً عن فتواه بقوله : (والذی یقوی فی النفس ، قبل أن یقع التأمّل لذلک ، هو صحّة ما ذهب إلیه الشافعی من الفرق بین الورودین) . بل قد یظهر من السیّد نفسه خلافه من فتاویه الاُخری ، وهو علی ما نقله العلاّمة رحمه الله فی «التحریر» فی مسألة الماء المستعمل فی رفع الحدث الأصغر والأکبر ، أنّه یجوز أن یجمع الإنسان وضوءه من الحدث ، أو غسله من الجنابة ، فی إناءٍ نظیف ویتوضّأ ویغتسل به مرّة اُخری ، بعد أن لا یکون علی بدنه شیء من النجاسة ، فإنّ اشتراط النظافة للإناء ظاهرٌ فی أنّه لو لم یکن کذلک لتنجّس الماء .

وأمّا قید أن لا یکون علی بدنه شیء من النجاسة ، فهو وإنْ احتمل کونه لتنجّس الماء ، إلاّ أنّه یمکن أن یکون من جهة أنّ الماء المستعمل لرفع الخبث ، لا یجوز استعماله لرفع الحدثین ، کما هو المشهور ، وعلیه الإجماع . کما نُقل مثله

ص:176

عن الحلّی أیضاً ، من أنّه اشترط نظافة الإناء أیضاً . بل عن «التذکرة» و«الذکری» : أنّ کلام السیّد والحلّی کان فی خصوص التطهیر لا مطلقاً ، والأخبار الواردة فی الماء القلیل وإن کانت فی مقام بیان صورة ورود النجاسة علی الماء ، إلاّ أنّ العرف إذا لاحظها _ کما فی نظائرها من المایعات المضافة والجوامد _ یفهم أنّ الملاک فی الانفعال وعدمه ، هو الملاقاة ولا یقبل التفصیل بین الورودین .

نعم ، قد تمسّک لذلک القول بالخبر المرویّ عن عمر بن یزید ، قال : «قلت لأبی عبداللّه علیه السلام : أغتسل فی مغتسل یُبال فیه ، ویغتسل من الجنابة ، فیقع فی الإناء ماء ینزو من الأرض ؟ فقال : لا بأس»(1) . حیث أنّ الحکم بعدم البأس لماء النزو ، مع وقوعه علی الأرض النجسة ، لیس إلاّ لعدم الانفعال .

لکنّه مخدوش ، أوّلاً : بضعف سنده بمعلّی بن محمّد ، وإنْ قیل باعتباره بوقوعه فی أسانید «کامل الزیارات» لابن قولویه .

وثانیاً : إنّ کون النزو من مکان النجس غیر معلوم ، لاحتمال أن یکون من الموضع الطاهر ، لعدم القطع بنجاسة جمیع المکان . مضافاً إلی أنّه لیس المراد من قوله : «مغتسل یُبال فیه» أنّ المکان کان مُعدّاً لذلک ، بل المراد أنّه إذا بال فیه أیضاً ، فهل یوجب النزو منه نجاسة الإناء ؟ فقد یمکن أن یکون الماء المستعمل للحدث قد طهّر المکان من البول قبل ذلک ، کما لایخفی .

مضافاً إلی أنّه لا یعلم إصابته للماء ، بل تردّد الأمر فیه بین أن یکون مصیباً للإناء _ فهو خارج عن محلّ الابتلاء _ أو الماء _ فهو یرجع إلی الشکّ فی التکلیف وهو البراءة _ .

فی تفصیل السیّد المرتضی (ره) فی انفعال الماء القلیل

اقول: ولنا فی ردّ کلام السیّد ومن تبعه وجوهٌ کثیرةٌ تدلّ جمیعها علی الانفعال


1- وسائل الشیعة : الباب 9 من أبواب الماء المضاف، الحدیث 7 .

ص:177

مطلقاًو فلا بأس بالإشارة إلیها .

منها : الإجماعات المستفیضة _ التی ادّعاها الحلّی _ والأخبار علی نجاسة غسالة ماء الحمّام ، مع کون الماء وارداً فیها ، وقد علّل فی أخبارها بأنّ الیهودی والنصرانی والناصبی یغتسلون فیه .

ومنها : انّه یلزم طهارة الماء المنفعل ، إذا وقع علیه الماء القلیل الطاهر ، مع أنّه لا خلاف فی عدم تطهیره بذلک .

ومنها : خبر الأحول ، أنّه قال لأبی عبداللّه علیه السلام فی حدیثٍ : «الرجل یستنجی ، فیقع ثوبه فی الماء الذی استنجی به ؟ فقال : لا بأس . فسکت ، فقال : أوَتدری لماذا صار لا بأس به ؟ قال : قلت : لا واللّه ، فقال : إنّ الماء أکثر من القذر»(1) .

حیث أنّ الإمام علیه السلام قد جعل العلّة کثرة ورود الماء علی القذر ، مع أنّه لو کان الماء الوارد علی النجاسة غیر منفعل ، للزم أن یجعله تعلیلاً للکلام ، کما لایخفی .

ومنها : ما ورد فی لزوم غَسل إناء الخمر ، ومن ثمّ صبّ الماء فیه کما فی خبر عمّار بن موسی عن أبی عبداللّه علیه السلام ، فی حدیثٍ ، قال : «سألته عن الإبریق وغیره ، یکون فیه خمراً أیصلح أن یکون فیه ماءً ؟ قال : إذا غُسل فلا بأس . وقال : فی قدحٍ أو إناء یشرب فیه الخمر ؟ قال : تغسله ثلاث مرّات . وسئل : أیجزیه أن یصبّ فیه الماء ؟ قال : لا یجزیه ، حتّی یدلکه بیده ویغسله ثلاث مرّات»(2) .

فدلالته واضحة لا سترة فیها ، إذ لو کان الماء الوارد مطهّراً بنفسه ، فلِمَ أجاز صبّ الماء فیه بعد الغسل .

ومنها : خبر محمّد بن مسلم(3) وهو حدیث المرکن ، حیث کان فیه : «اغسله


1- وسائل الشیعة : الباب 13 من أبواب الماء المضاف، الحدیث 2 .
2- وسائل الشیعة : الباب 51 من أبواب النجاسات، الحدیث 1 .
3- وسائل الشیعة : الباب 2 من أبواب النجاسات، الحدیث 1 .

ص:178

فی المرکن مرّتین» ، بناءً علی کون «فی» بمعنی الباء ، ویکون المضاف وهو الماء محذوفاً ، فیدلّ علی المطلوب ، حیث أنّه أمر بلزوم الغَسل المرّتین فی البول ، فإنّه لولا انفعال الماء بالملاقاة فی المرحلة الاُولی ، وعدم صیرورته منفعلاً ، کان اللازم حصول الطهارة له ، لاستبعاد القول بالتفکیک بین طهارة الماء وبین عدم حصول التطهیر به .

مضافاً إلی أنّه جواب للخصم من عدم وجود دلیل یدلّ علی ورود الماء علی النجاسة ، إذ هو علی ما ذکرنا ، یکون کذلک ، کما لایخفی .

وغیر ذلک من الأدلّة التی تدلّ علی کون الماء القلیل ینفعل بالملاقاة ، سواء کان وارداً أو مورداً ،

فی ما یعتبر فی تطهیر الماء المتنجّس

کما تدلّ هذه الأدلّة علی الانفعال ، بلا فرق بین استقرار الماء القلیل فی النجاسة وعدمه ، کما تری هذا التفصیل علی ما نقله الشیخ الأعظم قدس سره فی «طهارته» عن بعض الفحول ، حیث ذهب إلی الانفعال بالاستقرار ، فینجس الماء القلیل الوارد فی الماء المنفعل القلیل ، ولا یطهّره للاستقرار ، هذا بخلاف وقوع الماء القلیل علی الثوب النجس للتطهیر ، فإنّه لا ینفعل لعدم الاستقرار .

فأجاب عنه الشیخ : بأنّ الاستقرار فی الجملة أیضاً موجودٌ هاهنا ، والامتناع عن حصول الانفعال بذلک المقدار من الاستقرار یعدّ دعوی بلا دلیل .

ولکن نحن نقول : بأنّ الأدلّة تکفی فی الجواب عنه ، إذ بإطلاقها تشمل صورة عدم الاستقرار أیضاً .

نعم ، لو قصد بعض الفحول من عدم الاستقرار ، الاستثناء فی صورة التطهیر عن حکم الانفعال بواسطة أدلّة حصول التطهیر بذلک ، ووجود الدفع لورود الماء علی النجس ، کما هو المتعارف فعلاً فی إزالة الأشیاء القذرة بمسح الموضع أو غمسه ببعض المزیلات النفطیة أو الکیمیاویة ، فله وجه وجیه ، لکنّه أمر

ص:179

ویطهر بإلقاء کُرّ علیه فما زاد دفعة ، ولا یطهر بإتمامه کُرّاً علی الأظهر (1).

علی حده ، لوضوح أنّه خارج حکماً لا موضوعاً ، لشمول إطلاق الأدلّة لمثله أیضاً ، کما لا یخفی .

وربما کان یقصد السیّد قدس سره هذا المعنی ، فلا یکون مخالفاً لما ذهب إلیه المشهور .

وممّا یؤیّد ذلک أنّ «کاشف اللثام» جعل کلام السیّد وابن إدریس فی المورد مؤیّداً لما ذهب إلیه العلاّمة فی «القواعد» من قوله : «ینبغی فی الغسل ورود الماء علی النجس ، فلو عکس نجس الماء» حیث قال فی شرحه _ کما فی «الناصریات» و«السرائر» _ : (لیقوی علی إزالة النجاسة ویطهّرها . . . . وإنّما لا ینفعل مع الورود للحرج والإجماع) . انتهی . فهو کما تری یعضد ما ادّعیناه من حمل کلام السیّد ومن تبعه ، واللّه أعلم بحقیقة الأحوال .

(1) والکلام فیه یقع من جهات :

الجهة الاُولی : فی لزوم الإلقاء ، الظاهر فی کون المطهر مستعلیاً ، وعدم لزومه ، بل یکفی ولو کان مساویاً ، أو یکون سافلاً علی صورة تأتی الإشارة إلیها ؟ فی ما یعتبر فی تطهیر الماء المتنجّس

الثانیة : فی لزوم کون الملقی _ باسم المفعول _ کرّاً ، أو لابدّ من کونه أزید من الکرّ حتّی یطهر ؟

الثالثة : فی لزوم کون الإلقاء بالدفعة ، أو یکفی بالتدریج والدفعات ، بل یکفی ما لو اتّصل بالکرّ ، ثمّ انقطع بدون ورود جمیع الکرّ فیه ؟

والذی یظهر من کلام المصنّف هو اعتبار الإلقاء وذلک بمقدار الکر دفعة .

وتحقیق الکلام فیه ، وإثبات ما هو الحقّ یتوقّف علی تعیین المبنی فی مسألة الامتزاج ، وهکذا مسألة تقوّی السافل بالعالی ، فمن ذهب إلی اعتبار الامتزاج فی التطهیر ، وتقوّی السافل المتنجّس بالعالی ، فلا وجه لأن یشترط الإلقاء ، لأنّه

ص:180

مع فرض وجود الإلقاء إن لم یمتزج بذلک ، فلا یطهر ، فالأولی عنده حصول شرطه ، وهو الامتزاج ، بأی طریق اتّفق ، ولو بعلاج مصنوعی کالید والخشب مثلاً ، إلاّ أن یکون مراده من هذا التعبیر بیان لزوم الامتزاج ، فکأنّه أراد إفهام أنّه بالإلقاء یحصل هذا الشرط .

لکنّه مخدوش ، أوّلاً : إذ لا یتوقّف حصول الامتزاج علی مجرّد الإلقاء ، لإمکان کثرة الماء المتنجّس ، وکونه أزید من الماء الطاهر ، وحینئذٍ لا یحصل الامتزاج بالإلقاء لجمیع الماء ، إلاّ أن لا نعتبر الامتزاج للجمیع ، بل نقول بکفایة حصول الامتزاج فی تطهیر الماء المتنجّس ولو فی بعض الماء ، وحینئذٍ لا داعی لإتیان لفظ یوجب ذلک .

وثانیاً : لم نعرف مصدر هذا القید الوارد فی کلامه ، وإن کان الظاهر من کلام المصنّف _ فی بحث الماء المتغیّر ، التدافع وهنا الإلقاء والدفعة _ هو اعتبار الامتزاج ، وبرغم ذلک فإن لم نعرف مصدر هذا القید الوارد فی کلامه ، من لا یعتبر الممازجة ولا یقول بإلقاء الکر دفعة ، هو المحقّق الثانی فی «جامع المقاصد» .

کما أنّ من لم یشترط الامتزاج ، ولم یقل بتقوّی السافل بالعالی ، بل یذهب إلی لزوم تساوی سطح المائین ، فإنّ علیه أن یقول بلزوم الإلقاء حتّی یکون بواسطة حصول التساوی للمائین من جهة السطح وصدق الوحدة بعد الإلقاء مطهراً ، فما لم یصل إلی هذه المرتبة لم یحصل الطهارة .

قلنا : بأنّ اشتراط الامتزاج _ خصوصاً إذا قلنا باعتباره لجمیع الماء _ مغنٍ عن هذا القید ، إذ لا امتزاج مع الجمیع إلاّ مع تساوی السطح وصیرورة المائین ماءً واحداً ، کما لا یخفی . وأمّا لو لم یشترط ، کما هو المفروض ، فیمکن اعتبار الإلقاء ، لحصول التساوی بذلک ، إلاّ أنّه لا ینحصر به ، بل لو حصل اتّصال بین المائین فی الحوضین وتساوی سطحهما کان بینهما حاجباً فرفع الحاجب ،

ص:181

وصارا ماءً واحداً ، فإنّه یصدق علیه العنوان وتحصل الطهارة بذلک ، من دون حاجة للإلقاء أصلاً کما لا یخفی .

مع أنّه لو کان العالی أزید من کر ، فحصل الامتزاج ببعضه ، وبقی العالی بعد حصول الامتزاج علی کریته فهو مطهر قطعاً . وأمّا لو لم یتغیّر الامتزاج _ کما قوّینا عدم اعتباره ، واستفدناه من أخبار الباب من صحیحة ابن بزیع ، وقلنا بتقوّی السافل المنفعل بالعالی العاصم _ فلا إشکال فی عدم اعتبار الإلقاء ، بل یعدّ الاتّصال کافیاً للطهارة .

الجهة الثانیة : فی أنّه هل یعتبر فی الماء العاصم أن یکون أزید من الکرّ أو یکفی ذلک ؟ لأنّه مقدار من الماء إذا أصاب المتنجّس ینفعل مقدار سطح جدار الماء الطاهر بالملاقاة ، فإذا کان الباقی بعد ذلک کرّاً فیعصمه وإلاّ فلا ، وإنْ کان المجموع کرّاً ،

فی ما یعتبر فی تطهیر الماء المتنجّس

ولکنّه مخدوش أوّلاً : من جهة أنّه لا یعقل أن یتنجّس سطح جدار الماء الطاهر ، بل الأمر عکس ذلک ، إذ المفروض کون المجموع کرّاً وعاصماً ، کما أنّ الید المتنجّس إذا لاقته تطهر ، فهکذا الماء المتنجّس ، والالتزام بالتأثیر من جانب المتنجّس دون المعتصم أمر عجیب ، والحال أنّ المعتصم أولی بالرعایة والتقدّم .

وثانیاً : ولو سلّم ذلک فإنّه لابدّ من الالتزام بالزیادة علی الکرّ فی جمیع الموارد التی اُرید تطهیر النجس بالکر ، إذ بالملاقاة ینفعل مقدار من الماء المماس للنجس ، فبذلک ینقص عن الکر ، واللازم باطل قطعاً ، لمنافاته مع أخبار الکر الدالّة بقوله : «الماء إذا کان قدر کر لا ینجسه شیء» فالملزوم مثله .

فالحقّ کفایة مقدار الکر لتطهیر الماء المتنجّس ، وإن کان المتنجّس سافلاً ولم یتحقّق الإلقاء بل حصل الاتّصال بینهما .

الجهة الثالثة : وهو اعتبار الدفعة الموجودة فی کلام المصنّف قدس سره والعلاّمة

ص:182

والشهید فی «التذکرة» و«الدروس» ، وإنْ نقل صاحب «المدارک» عن العلاّمة فی «المنتهی» و«التحریر» من حصول الطهارة بالتواصل بین الغدیرین ، إذا کان أحدهما کراً ، حیث یفید عدم اعتبار الدفعة .

ولکن یمکن الدفاع عن کلام العلاّمة بأنّه یلتزم باعتبار الدفعة عند اختلاف سطح المائین ، وکون المطهر عالیاً لا مطلقاً حتّی فی صورة التساوی .

وکیف کان فقد نسب الشهید فی «الروضة» اعتبار الدفعة إلی المشهور بین المتأخِّرین . فالأولی حینئذٍ صرف الکلام فی الوجوه التی ذکرت ، لاعتبار الدفعة ولو إجمالاً .

فالأوّل : أن یکون الوجه فی اعتبارها هو حصول الامتزاج ، الذی هو شرط فیه کما صرّح بذلک المحقّق الخوانساری فی «حاشیة الروضة» .

وفیه : أنّه قد عرفت من الإشکال فی بحث الإلقاء عدم صحّته من وجهین :

أوّلاً : من عدم کلیّته فی تمام الموارد ، ولعدم الملازمة بین الدفعة والامتزاج إنْ اعتبرنا الممازجة فی جمیع الماء ، ومن حصول الشرط ولو بمعنی الدفعة لو التقی بالممازجة ، ولو فی الجملة .

وثانیاً : قد عرفت أنّ المحقّق الثانی مع عدم قوله بشرطیة الممازجة ، ذهب إلی ضرورة الإلقاء والدفعة .

الثانی : أن یکون الاعتبار بلحاظ التحرّز عن صورة اختلاف سطح الماء الطاهر مع الماء المتنجّس ، حیث أنّه لابدّ من الدفعة فی ذلک ، ولا یکفی مجرّد الاتّصال .

وفیه أوّلاً : هذا لا یصحّ إلاّ علی القول بعدم تقوّی السافل المتنجّس بالعالی المعتصم ، مع أنّ الحقّ خلافه .

وثانیاً : إنّه یصحّ علی فرض لزوم الممازجة ، وإلاّ فإنّ من لا یعتبر ذلک ویقول بالتقوّی المذکور ، فإنّه لا یحتاج إلی اعتبار الدفعة . مضافاً إلی أنّه کیف یستثنی

ص:183

صورة تساوی سطح المائین ، فإنّه لا معنی له إلاّ بالاتّصال لمن یقول بکفایته ، دون من یقول بالامتزاج لمن یذهب إلی الممازجة ، وذلک واضح .

الثالث : أن یکون الوجه فی اعتبارها ، هو وجود نصّ فیه وتصریح فی الأصحاب کما ادّعاه المحقّق الثانی فی «جامع المقاصد» ، وأورد علیه صاحب «المدارک» بأنّا لم نقف علی نصّ ، ولم نطّلع علی أحد یدّعیه وینقله ، أمّا تصریح الأصحاب إذا لم یکن مستنده نصّ فلیس بحجّة ، لکن أورد صاحب «الجواهر» قدس سره علی «المدارک» بقوله : إنّ عدم الوجدان لا یدلّ علی عدم الوجود ، إذ یعدّ المحقّق بمنزلة الإرسال ، ویجبره عمل الأصحاب .

هذا ، ولکن الإنصاف کما علیه المحقّق الآملی قدس سره فی «المصباح» : أنّ الإرسال لا یثبت إلاّ بوجود نصّ بألفاظه مرسلاً ، لا ما یدّعی وجوده دون نصّ ثابت .

ولکن أقول : إنّ دعواه لا یخلو عن مسامحة ، لأنّه إذا وجد عین النصّ ، ووجدنا عمل الأصحاب بحیث یوافق ذلک فهو ینجبر ، ولعلّه من جهة إمکان کشف ذلک عن الاستناد فی الجملة ، إذا لم یکن فی ذلک نصّ غیره .

نعم ، إشکاله بأنّ شهرة القدماء هی الجابرة لا المتأخِّرین ، فی غایة المتانة ، وأمّا تحسینه لتوجیه المحقّق الهمدانی للنصّ ، بکون المراد هو النصّ الوارد فی ماء الحمّام ، فمّما لا وجه له ، لوضوح عدم استفادة اعتبار الدفعة فی ماء الحمّام ، إذ لا یکون الماء الموجود فی المادّة مندفعاً علی ماء الحیاض أصلاً ، بل یکون وروده عادةً تدریجیّاً ، کما لا یخفی .

فالأظهر عدم وجود نصّ إلاّ ما اُستفید من القواعد المتداولة بین الفقهاء .

الرابع : کون وجه الاعتبار ، هو الإجماع علی حصول التطهیر بها ، إذ مع الشکّ فی حصول الطهارة بدون الدفعة ، یکون المرجع استصحاب النجاسة والاحتیاط .

وأورد علیه الشیخ الأعظم قدس سره بأنّ حصول الطهارة بدون الممازجة لم یکن

ص:184

إجماعیّاً ، بل الإجماع قائم علیها .

وقد أورد المحقّق الآملی قدس سره علی الشیخ الأعظم ، بإمکان الجواب للخصم بأنّ حصول الدفعة بدون الامتزاج أیضاً لیس بإجماعی فی الطهارة .

وفیه : أنّ الشیخ لم یقصد حصول الدفعة بلا امتزاج ، بل مقصوده أنّ مجرّد حصول الدفعة _ کما اشترطه المستدلّ فی کلامه _ لا یثبت الإجماع علی الطهارة ، إلاّ أن ینضمّ إلیه الامتزاج أیضاً ، فحینئذٍ یحصل الإجماع علی الطهارة ، لأنّه القدر المتیقّن من توافق کلمات القوم ، کما لا یخفی .

فثبت من جمیع ما ذکرنا ، عدم العثور علی دلیل یدلّ علی حکم وجوب الإلقاء دفعة ، ولذلک تری عدم التمسّک بهذه التعابیر فی استدلالات المتأخّرین وفتاویهم .

اقول: والذی یخطر بالبال ، هو القول بکفایة الاتّصال ، وصدق الوحدة العرفیّة ، بلا فرق بین تساوی المائین سطحاً أو اختلافهما ، وبلا فرق بین إلقاء الکر علیه دفعة أو تدریجاً ، مثل اتّصال الحیاض الصغار بالکر والمخزن بواسطة الأنابیب ، کما هو المتعارف فی زماننا هذا ، بحیث یصدق عرفاً اتّصاله بالکر ، فإنّه یطهر لولا وجود المانع فی الماء القلیل من التغیّر مثلاً .

وقد یمکن الاستدلال علیه بأخبار ماء الحمّام حیث ینزّل بمنزلة الجاری ، إذا کانت له مادّة ، ومن الواضح أنّه لا خصوصیّة للحمّام بحیث لو حصل الاتّصال فی غرفة تسمّی بالحمّام لحکم بطهارة الماء فیها وإن لم یکن فی البیت الکذائی فلا ، حتّی یکون الحکم فی الحمّام أمراً تعبّدیاً ، إذ هو بعید جدّاً . فحینئذٍ لا إشکال فی أنّ کیفیّة التطهیر فی الحیاض الصغار لا یکون إلاّ بالاتّصال بما فی المادّة بواسطة الأنابیب أو بواسطة السواقی الصغیرة ، فهکذا یکون فی غیر الحمّام من نظائره . والمحکم فی مثل هذه الموارد هو العرف حیث یری الاتّصال . فعلی هذا التقدیر ، صارت الأقسام کلّها داخلة فی حکم المسألة من ورود الکرّ علی القلیل ، أو

ص:185

ورود القلیل علی الکر ، أو کان بین سطحیهما تساویاً ، أو برفع الحاجب بینهما وحصول الاتّصال . إلاّ أنّه یعتبر فی ورود القلیل علی الکر أن یکون علی نحو تصدق فیه الوحدة العرفیة مع الماء العاصم ، لأنّه إذا لم یکن کذلک ، وکان النجس عالیاً واندفع إلی الأسفل فإنّ العالی لا یطهّر السافل حینئذٍ ، لأنّ بالتدافع لا یمکن حصول السرایة والاعتصام . نعم ، إذا صدق علی المائین وحدة عرفیة فإنّه یحکم بالطهارة . فما أفتی به السیّد قدس سره فی المسألة الثالثة بعدم طهارة المتنجّس باتّصاله مع الأسفل وإن کان کراً صحیح ، ومن هنا وافقه أغلب المعلّقین والمحشّین لکتابه . فظهر من ذلک أنّه لو کان الماء المتنجّس فی العلو والطاهر فی الأسفل وکان بینهما مانع ثمّ اندفع العالی علی السافل فإنّه یطهر بالاتّصال لصدق الوحدة العرفیة بینهما ، إذ لا یساعده العرف بأن یحکم فی ماء واحد بحکمین مختلفین من الطهارة والنجاسة .

فی تتمیم الماء المتنجّس کرّا

فثبت بذلک أنّ إطلاق کلام السیّد قدس سره لیس بجیّد ، بل لابدّ أن یقیّد بأنّ العالی لا یطهر بوروده علی الأسفل إذا لم یصدق الوحدة العرفیة بینهما ، وإلاّ یطهّره .

کما ظهر ممّا ذکرنا حکم ما لو کان الماء الطاهر فی الأسفل ولکنّه اختلط مع النجس نتیجة لتدفّقه علیه کالنافورة ، فإنّه یوجب تطهیره إذا صدق بذلک الوحدة العرفیّة ، وإلاّ فیصعب الحکم بطهارته فی بدایة الأمر وابتداء اتّصاله ، خاصّة إذا کان الاندفاع والدفق عبر انبوب دقیق لا یتدفّق منه الماء إلاّ نزراً یسیراً .

کما ظهر أنّ اتّصال الماء النجس العالی مع الماء الطاهر الواقع فی الأسفل بصورة النبعان یطهره ، إذا کان النبع من مادّة کمادّة الجاری ، فلا وجه لتقیّدها بالکریة ، لما قد عرفت منّا فی محلّها من عدم کریتها فی الجاری ، وهکذا یکون فی المقام خلافاً للعلاّمة هناک ، حیث اعتبر الکریة ، وأمّا إذا لم یکن النبع إلاّ عن مادّة محدودة لا طبیعیّة ، فلا إشکال فی حصول التطهیر بها مع وجود الکریة فیها ، وإلاّ فلا أثر لها .

ص:186

ولا یطهر بإتمامه کرّاً علی الأظهر (1).

(1) والأقوال فیها ثلاثة :

الأوّل : النجاسة مطلقاً ، کما علیه المشهور ، لاسیّما المتأخّرین منهم ، بل لم نجد خلافاً من المعاصرین ، فلاحظ کلام السیّد قدس سره فی «العروة» ومن علّق علیها .

الثانی : عدم النجاسة مطلقاً ، وهو صریح کلام الحلّی وابن إدریس ، وظاهر إطلاق جماعة .

الثالث : التفصیل بین الطهارة ، إذا کان المتمّم بالکر ظاهراً ، والنجاسة إذا کان نجساً ، وهذا هو الظاهر من کلام السیّد المرتضی ، وابن حمزة فی «الوسیلة» ، بل قد نسب إلی الشیخ فی «المبسوط» . فی تتمیم الماء المتنجّس کرّا

ثمّ لا یخفی أنّ المتمّم کراً مشتمل علی أقسام :

إذ قد یکون کلا المائین المتواصلین نجساً ، أو أحدهما نجساً والآخر طاهراً ، فهو أیضاً علی قسمین بلحاظ المتمّم والمتمَّم ، کما أنّ فرض المتمّم مثلاً قد یکون ماءً طاهراً أو متنجّساً ، أو عیناً نجساً ، کما قد یکون ماءً مطلقاً ، وآخر ماءً مضافاً ، بشرط أن یخرج عن إضافته بعد الدخول فی المتمّم (بالفتح) .

هذه فروض المسألة ، وهی بجمیعها مشترکة فی الاستدلال والمناقشة إلاّ ما شذّ وندر ، ولذلک نتعرّض للاستدلال علی جمیعها باستدلال واحد ، وإن کان فی بعضها زیادة کلام نذکره فی محلّه .

فلنتعرّض أوّلاً لأدلّة من یقول بعدم الانفعال ، والجواب عن أدلّتهم ، وبه یظهر الجواب عن القول بالتفصیل ، فیثبت المطلوب وهو النجاسة ، فنقول:

قد استدلّ ، أو یمکن أن یستدلّ علی عدم الانفعال مطلقاً ، أو بالتفصیل بوجوه :

الوجه الأوّل : الخبر المرسل النبوی ، کما نقله الحلّی فی «السرائر» بقوله : (هذا

ص:187

ممّا نقله المخالف والمؤالف ، وهو قوله صلی الله علیه و آله : «إذا بلغ الماء کراً لم یحمل خبثاً _ أو لم یحمل نجاسة » _ کما فی «المبسوط» . الظاهر أنّ بلوغ مقدار الکر موجب لعدم الانفعال ، بلا فرق بین الدفع والرفع ، وینجبر ضعف سنده بالشهرة) .

الوجه الثانی : العمومات والإطلاقات الموجودة مثل قوله صلی الله علیه و آله : «خلق اللّه الماء طهوراً لم ینجسه شیء» .

أو قوله : «الماء یطهِّر ولا یطهر» ، حیث أنّ إطلاقهما یشمل طهارة الجمیع ، إلاّ ما خرج مثل الماء القلیل الذی لم یتمّم بالکریة .

الوجه الثالث : دعوی السیّد المرتضی ، والشیخ فی «المبسوط» الإجماع علی طهارة الماء الذی کانت فیه النجاسة ثمّ بلغ الکر ، ولم یعلم أیّهما تقدّم علی الآخر ، فلولا الحکم بطهارة الماء المتمّم بالطهارة کراً لما یحصل الإجماع علی طاهریّته .

الوجه الرابع : دعوی الملازمة بین الدفع والرفع فی الکریة ، أی کلّما کان الکر دافعاً عن النجاسة فهکذا یکون رافعاً أیضاً للنجاسة الموجودة ، والمفروض أنّ الدفع هنا ثابت ومسلّم ، فکذلک یکون الرفع أیضاً .

الوجه الخامس : بعد التنزّل عن جمیع ما ذکرنا ، نقول : إنّ مقتضی استصحاب نجاسة الماء المتمِّم (بالکسر) مثلاً هو نجاسة جمیع الماء ، ومقتضی استصحاب طهارة الماء المتمَّم (بالفتح) هو طهارة الجمیع ، فیتعارضان ، وهکذا عکسه خصوصاً مع ملاحظة الإجماع القائم علی عدم إمکان کون الماء الواحد مشتملاً لحکمین من الطهارة والنجاسة ، فنرجع إمّا إلی العمومات الفوقانیة الواردة کما أشرنا إلیه ، أو إلی العمومات التی استدلّ بها المحقّق الخوئی فی «التنقیح» مستفیداً من الأخبار الفارقة بین ما إذا تغیّر الماء بالطعم والریح فینجس ، وإلاّ فلا ، والذی قد خرج منه بالخصوص الماء القلیل غیر المتمّم کرّاً ، فیبقی الباقی تحته .

أو إلی قاعدة الطهارة من قوله : «کلّ شیءٍ لک طاهر حتّی تعلم أنّه قذر» .

ص:188

بل وهکذا فیما إذا کان الماءان المتواصلان نجسین أیضاً ، وصارا کراً ، إذ یجری استصحاب النجاسة فی کلا الطرفین ، فیحکم بالنجاسة حتّی بعد الاتّصال وصیرورته کرّاً .

إلاّ أنّ دلیل الکریة یدفعهما ، فیحکم بالطهارة من جهة ومن جهة قاعدة الطهارة .

هذا ویمکن المناقشة فی جمیعها :

أمّا الوجه الأوّل : فلأنّ النصّ الذی ادّعاه لم یوجد فی جوامعنا الروائیة بهذا التعبیر أصلاً ، إلاّ ما عرفت سابقاً من التعبیر بأنّ (الماء إذا کان قدر کر لم ینجسه شیء) أو (لا ینجّسه شیء) ، بل لم ینقل من العامّة العمل علی طبقه ، إلاّ عن ابن حی وهو زیدی منقطع المذهب ، کما ادّعاه المحقّق قدس سره فی «المعتبر» ، والعجب من الحلّی رحمه الله العمل بذلک الخبر ، مع أنّ مبناه عدم حجّیة الخبر الواحد .

وثانیاً : لو سلّمنا ورود الحدیث ، وجبره بالشهرة ، مع القطع بخلافه ، وبرغم ذلک فإنّنا نقول بعدم دلالته علی المطلوب أصلاً ، لأنّ ظاهر قوله لم یحمل هو تجدّد الفعل لا ما هو الحاصل فی السابق ، أی یدلّ علی الدفع فقط دون الرفع ، أو هو مع الدفع ، مع عدم إمکان الجمع بینهما بلحاظ واحد وکلام فارد ، لأنّ الرفع یکون فیما فرض وجود النجاسة قبله ، بخلاف الدفع حیث یمنع عن الوجود ، فکیف یمکن الجمع بین ما هو الموجود وما هو المعدوم ، إلاّ أن یستعمل فی لفظ مشترک معنوی ، أی یستعمل فی معنی جامع ، والمفروض انتفاءه هنا .

وتوهّم أنّ معنی (لم یحمل خبثاً) هو أنّه لا یتّصف کما نقل عن المحقّق الخوئی فی «التنقیح» ، مضافاً إلی کونه خلاف الظاهر ، أنّه لا یرفع الإشکال والمحذور إذا لاحظنا ما ذکرناه سابقاً . فصار الحدیث من حیث الدلالة ، کصحیح زرارة الوارد فیه : «إذا کان الماء قدر کر لم ینجسه شیء»(1) مختصّاً بصورة الدفع .


1- وسائل الشیعة : الباب 9 من أبواب الماء المطلق، الحدیث 1 .

ص:189

نعم یمکن أن یکون حکم الرفع مستفاداً من أدلّة خاصّة ، وفی موارد مخصوصة .

وأمّا الوجه الثانی : فلما قد عرفت منّا کراراً تبعاً للشیخ الأکبر قدس سره وغیره ، عدم کون الإطلاقات فی صدد بیان هذه الجهة ، ولا کیفیّة التطهیر ، کما نرد بذلک عن ما ذکره الخوئی من العمومات بأنّ الظاهر من تلک الأحادیث بیان أنّ التغییر موجب للنجاسة ، وأمّا کونه علّة منحصرة فقط دون غیره ، حتّی یفهم منه العموم ، ویخرج منه ما دلّ الدلیل بخصوصه علی انفعاله فلا .

وأمّا الوجه الثالث : ففیه أنّه یمکن أن یکون دعوی الإجماع علی طهارة الماء المشکوک بالملاقاة للنجاسة والکریة تقدّماً وتأخّراً لوجهین آخرین :

أحدهما : ما ذکره المحقّق الآملی قدس سره هو أنّ وجه الحکم بالطهارة کان من جهة استصحاب عدم الملاقاة للنجاسة إلی زمان الکریة .

لا یقال : إنّه معارض مع استصحاب عدم بلوغه کراً إلی زمان الملاقاة .

لأنّه یقال : بأنّ الأثر الذی یُراد ترتّبه علیه ، هو انفعال الماء الذی لایترتّب علی عدم بلوغ الماء کرّاً إلی زمان الملاقاة ، الذی هو أمر عدمی ، بل إنّما یترتّب علی کون الملاقاة وقعت قبل بلوغ الکریة ، وهو لا یمکن إحرازه بأصالة عدم بلوغ الماء کراً إلی زمان الملاقاة ، إلاّ علی القول بالأصل المثبت ، من باب عدم انفکاک عدم الکریة حین الملاقاة عن وقوع الملاقاة حین القلّة ، انتهی کلامه .

فتکون الطهارة حینئذٍ من جهة ذلک الأصل .

ثانیهما : ملاحظة تعارض استصحاب عدم کلّ مع وجود الآخر ، کما هو کذلک فی الأصل الجاری بین الحادثین الذی نجهل تاریخ تقدّمهما وتأخّرهما ، فبالتعارض یسقط ، فیکون المرجع قاعدة الطهارة ، فلا ارتباط بما ذکره المستدلّ من عدم انفعال المتمّم الطاهر للمتنجّس ، وهو واضح .

وأمّا الوجه الرابع : فلأنّا نقول لا مثبت لهذه الدعوی أصلاً ، نعم یمکن استفادة

ص:190

ذلک من الأدلّة الواردة فی الموارد المختلفة ، وأمّا دعوی إمکان دلالة مثل الحدثین وأمثالهما علی الملازمة بینهما ، فهو ممّا لا دلیل علیه .

مضافاً إلی ما عرفت من عدم إمکانه من دالّ واحد بعنوانین .

مضافاً إلی عدم وجود دلیل یشمل صورة الدفع فی المقام أی المتمّم کراً ، کما لایخفی .

وأمّا الوجه الخامس : فإنّه أوّلاً : مبنیٌّ علی صحّة دعوی الإجماع المذکور ، مع أنّه فی غیر صورة وحدة المائین من جهة الامتزاج والاستهلاک باطل قطعاً .

أمّا صحّة الأوّل : لأنّه بالامتزاج یتداخل کلّ جزء مع آخر ، فلا یصحّ دعوی اختلاف الماء من جهة الحکم من الطهارة والنجاسة ، فدعوی عدم استنکاره عن «الجواهر» بعیدة جدّاً ، إذ لا یقبل الذوق السلیم بأن یحصل الغسل لمن اغتسل فیه مع حصول النجاسة لبدنه .

وأمّا بطلانه فی غیرها ، لما قد عرفت من ذهاب السیّد قدس سره إلی عدم نجاسة الماء الوارد علی النجاسة ، بل ما عرفت من ذهاب العمّانی قدس سره إلی عدم انفعال الماء القلیل ، کاشف عن عدم وجود الإجماع هاهنا .

هذا ، مع أنّه یمکن أن یُقال بوجود ذلک فی الماء المتغیّر الذی کان متّصلاً بالکر ، ولم یذهب التغیّر بعد فی ناحیة أصلاً ، فإنّ الماء کان واحداً مع وجود الاختلاف فی الحکم من الطهارة والنجاسة .

وثانیاً : عدم وجود التعارض هاهنا ، لأنّ استصحاب النجاسة فی الماء المتّصف بذلک _ سواء کان متمِّماً أو متمَّماً _ یقتضی نجاسة جمیع الماء حتّی الطاهر منه ، لأنّ مقتضی بقاء النجاسة تنجّس ما یلاقیه ، إذا کان قلیلاً ، وهذا بخلاف استصحاب الطهارة فی الآخر ، حیث لا یقتضی طهارة جمیع الماء ، ولا یکون ذلک أثره .

ص:191

نعم ، هو أثر حصول الکریة ، بانضمام الطاهر للنجس ، فإثبات الطهارة بواسطة الکریة به لا یکون إلاّ أصلاً مثبتاً ، فحینئذٍ لا یکون الأصل الجاری هنا إلاّ استصحاب النجاسة ، بلا وجود معارض له ، فهو یؤیّد قول المشهور .

هذا ، مضافاً إلی أنّ الملاقاة هنا تکون علّة لمعلولین ، وهو التنجیس والکریة .

واحتمال أن یکون أحدهما مقدّماً علی الآخر ، حتّی یکون طولیّاً ، کما احتمله بعض ، یعنی بأن تکون الملاقاة موجباً للتنجیس ابتداءاً ، ثمّ تحصل الکریة ، لا یخلو عن إشکال ، لأنّ الظاهر کما أنّ الاتّصال بین المائین موجب لحصول النجاسة ، هکذا موجب لحصول الکریة ، إلاّ أن یشترط فی الکریة من الامتزاج وصدق الوحدة وأمثال ذلک ، فحینئذٍ قد یمکن حصول الترتّب والتعقّب بین النجاسة والکریة .

فعلی المختار من کونهما فی عرض واحد ، فمع ذلک نقول : أنّه یحکم فی المورد بالنجاسة ، لأنّ المحمول لابدّ أن یکون بعد فرض وجود الموضوع ، فی قوله : «إذا کان الماء قدر کر لم ینجّسه شیء» ، فحینئذٍ یشترط فی عدم حصول الانفعال لزوم تقدّم الکریة علی الملاقاة للنجاسة ، وهو هنا مفقود ، ولذلک یکون قول المشهور هو الأقوی .

مضافاً إلی وجود إطلاقات دلیل انفعال الماء القلیل بالملاقاة ، الشامل لجمیع هذه الأقسام ، وقد خرج عنه خصوص ما اُحرز کونه کراً فلاقی بعده النجاسة ، ویبقی الباقی تحته .

فی حکم الماء المشکوک کرّیّتة

بل قد استدلّ علی القول المشهور ، بالأخبار الواردة فی نجاسة غسالة ماء الحمّام ، مثل حدیث ابن أبی یعفور ، عن أبی عبداللّه علیه السلام فی حدیثٍ ، قال : «وإیّاک أن تغتسل من غسالة الحمّام ، فإنّ فیها تجتمع غسالة الیهودی والنصرانی والمجوسی ، والناصب لنا أهل البیت فهو شرّهم ، فإنّ اللّه تبارک وتعالی لم یخلق

ص:192

وما کان منه کراً فصاعداً لا ینجس ، إلاّ أن تغیّر النجاسة أحد أوصافه (1).

ماء الکرّ وأحکامه

خلقاً أنجس من الکلب ، والناصب لنا أهل البیت لأنجس منه»(1) .

ومن الواضح أنّه لو کان الماء الذی بلغ الکر وصار طاهراً فلا وجه للمنع عن الاغتسال بتلک الغسالة ، إلاّ لکونها نجسة ، کما یشعر بذلک التعلیل بنجاسة الناصبی .

اللّهم إلاّ أن یقال : لعلّ منعه کان من جهة منع الماء المستعمل للخبث فی استعمال الحدث ؟

لکنّه مع ملاحظة التعلیل بعید جدّاً ، ولذلک لم یشر إلیه أحد من المستدلّین بهذا الحدیث ، کما یستبعد احتمال کون الماء المجتمع أقلّ من الکر .

فبعد هذه الأدلّة ، وتضعیف أدلّة القائلین بالطهارة بما قد عرفت ، لا یبقی حینئذٍ وجه للقول بالتفصیل فیما بین کون المتمّم طاهراً أو نجساً ، غایة الأمر کان الأمر بالثانی من جهة أوضح ، کما هو واضح لا خفاء فیه .

(1) وأمّا حکم عدم تنجّس الکر بالنجاسة ، فهو أمر مسلّم ومتّفق علیه بین العلماء ، وعلیه الإجماع بکلا قسمیه ، بل قد یدلّ علیه صریح أخبار الباب فإنّ بعضها معتبرة مثل خبر محمّد بن مسلم ، فی حدیث : «إذا کان الماء قدر کر لم ینجسه شیء»(2) . وغیر ذلک من الأخبار ، فهذا لا کلام فیه .

کما أنّ ظاهر کلام المحقّق ، هو کون النجاسة إذا کانت سبباً لحصول التغیّر یوجب النجاسة دون المتنجّس ، إلاّ أن یرید الاستناد إلی النجس ولو مع الواسطة ، لکنّه بعید عن ظاهر الکلام .


1- وسائل الشیعة : الباب 11 من أبواب الماء المضاف، الحدیث 5 .
2- وسائل الشیعة : الباب 9 من أبواب الماء المطلق، الحدیث 1 .

ص:193

والحکم بعدم انفعال الکر بالملاقاة ، قد عرفت أنّه إجماعی ، ولا خلاف فیه إلاّ عن المفید وسلاّر ، حیث یوهم ظاهر کلامهما خلافه ، إلاّ انّه غیر معلوم ، إذ لعلّهما أرادا ماء الحیاض والأوانی ، فطهارة الکر بعد الملاقاة ومطهریّته ثابتٌ ولا تردید فیه . وإنّما الکلام فی الماء الذی شکّ فی کریته ، فهل یحکم بالانفعال بالملاقاة _ کما علیه الشیخ الأنصاری قدس سره ، وتبعه بعضهم _ أم لا ینفعل به فیکون طاهراً ، أو لا یکون مطهّراً للخبث الواقع فیه ، بخلاف ما لو استعمل علی نحو الماء القلیل فیکون مطهّراً بخلاف الحدث فإنّه مطهّر له ، لکونه طاهراً ، کما علیه صاحب «الجواهر» قدس سره ، وتبعه السیّد فی «العروة» فی المسألة السابعة وإن اختلط استحباباً بالاجتناب ، وأکثر المحشّین موافق لما ذهب إلیه صاحب «الجواهر» قدس سره ؟ فلا بأس بالإشارة إلی أدلّة الانفعال المستفادة من کلام الشیخ وغیره ، والجواب عنهما ، حتّی یظهر الحقّ إن شاء اللّه تعالی .

وقد استدلّ علی الانفعال بوجوه وهما :

الوجه الأوّل : أن یثبت الانفعال من قاعدة المقتضی والمانع .

تقریب الاستدلال علی ما ذکره الشیخ قدس سره : ظاهر النصّ والفتوی کون الکریة مانعة عن نجاسة الماء ، أمّا النصّ فلأنّ المستفاد من الصحیح المشهور : «إذا کان الماء قدر کر لم ینجسه شیء» هو أنّ الکریة علّة لعدم التنجّس ، ولا نعنی بالمانع إلاّ ما یلزم من وجوه العدم ، فمقتضی بعض الأدلّة مثل قوله : «خلق اللّه الماء طهوراً لا ینجسه شیء» ، وأن یفید أنّ العلّة شرطاً فی النجاسة للماء ، علی أنّ القلیل قد خرج عن عمومه ، فلابدّ من إحرازها فی الحکم ، فعند الشکّ فیها لابدّ من الرجوع إلی العمومات ، إلاّ انّه لمّا کانت أخبار الکر دالّة علی کونه مانعاً ، ونفس الملاقاة سبباً ، بل هذه الأخبار بنفسها دالّة علی هذا المعنی ، حیث أنّ الخارج منها هی القلّة ، وهی أمر عدمی باعتبار ، فعلیها یرجع الأمر فی النهایة إلی

ص:194

مانعیّة الکثرة التی هی مفاد الأخبار الکثیرة ، فکان اللازم تقیید الماء فی هذه الأخبار بالکثرة ، وجعل الکثرة جزءاً داخلاً فی موضوع الماء المحکوم بعدم الانفعال ، فتلک العمومات لیست من قبیل ما کان عنوان العام مقتضیاً للحکم ، وعنوان المخصّص مانعاً .

هذا کلّه مضافاً إلی ما دلّ بعمومه علی انفعال الماء ، خرج منه الکر ، مثل قوله : فی الماء الذی دخلته الدجاجة الواطئة للعذرة ، أنّه لا یجوز التوضئ منه ، إلاّ أن یکون کثیراً قدر کر من الماء ، الواقع فی خبر علیّ بن جعفر عن أخیه(1) .

وقوله : (فیما شرب منه الکلب إلاّ أن یکون حوضاً کبیراً یستقی منه(2) الواقع فی حدیث أبی بصیر . فإنّ ظاهرهما کون الملاقاة للنجاسة سبباً لمنع الاستعمال ، وأنّ الکریة عاصمة . ومن هنا یظهر أنّه لابدّ من الرجوع إلی أصالة الانفعال عند الشکّ فی الکریة شطراً أو شرطاً )، انتهی کلامه .

وفی کلامه قدس سره إشکال من جهة الکبری والصغری ، من عدم تمامیّة أصل القاعدة ، إذ لا نسلم کونها قاعدة عقلائیة ، کما ذهب إلی ما ادّعیناه نفس الشیخ الأکبر قدس سره فی الاُصول علی ما حُکی عنه . ثمّ علی تقدیر صحّتها لا تکون منطبقة علی ما نحن فیه .

فأمّا الدعوی الاُولی : فلأنّ خلاصة الکلام فیها هو أن یُقال : إنّ وجه تأثیر المقتضی فی الکر هو لوجود المقتضی (بالفتح) لیس إلاّ من جهة تأثیر العلّة فی وجود المعلول ، ومن المعلوم أنّه لیست العلّة هنا هی المقتضی فقط ، إذ لیس البحث فی العلّة البسیطة ، بل الکلام فی العلّة المرکّبة ، لأنّ المفروض أنّه متی کان


1- وسائل الشیعة : الباب 9 من أبواب الماء المطلق، الحدیث 4 .
2- وسائل الشیعة: الباب 9 من أبواب الماء المطلق، الحدیث 3 .

ص:195

المقتضی له شرطاً فإنّه یفید عدم وجود المانع ، فإذا کانت العلّة أمراً مرکّباً من هذه الاُمور ، أی من وجود المقتضی ووجود الشرط وعدم المانع ، فیرجع الکلام إلی أنّ إحراز وجود المعلول موقوفٌ علی إحراز تمام أجزاء العلّة ، من المقتضی ووجود الشرط وفقد المانع ، ولو بالعلم ، أو العلمی ، أو بأصل معتبر عند العقلاء ، فما دام لم یحرز عدم المانع ، لا تؤثّر العلّة فی وجود المعلول ، کما لا یؤثّر فیه إذا شکّ فی وجود الشرط ، أو شکّ فی وجود المقتضی . وهذا لیس معناه کون عدم المانع مؤثّراً فی تأثیر العلّة حتّی یقال : بأنّه کیف یمکن تأثیر العدم فی الأمر الوجودی وهو العلّة ، بل المقصود أنّ العلّة لا یمکن أن تؤثّر إلاّ فی ظرف وجود الشرط وفقد المانع ، هذا کلّه فی أصل القاعدة .

وأمّا الدعوی الثانیة : فلو سلّمنا تمامیّة القاعدة ، فهی لا تنطبق علی المورد ، لأنّ مستند هذا الکلام مبنیٌّ علی کون المستفاد من الأدلّة هو أنّ الکریة أمر وجودی ویکون مانعاً عن النجاسة ، والقلّة أمرٌ عدمیّ فیحکم بانفعال الماء ما دام لم یحرز المانع ، فیکون التقابل بین العلّة والکریة التقابل بین الوجود والعدم ، وإن لم یصرّح أنّه تقابل الإیجاب والسلب أو العدم والملکة ، والظاهر هو الثانی ، لو قلنا بما ذهب إلیه الشیخ لإمکان صیرورة القلیل کراً شأناً ، لکنّه مخدوش من أصله ، لأنّ الحقّ هو کون القلّة والکریة کلیهما أمران وجودیان ، کما ذهب إلیه صاحب «الجواهر» تبعاً لصاحب «الحدائق» قدس سره ، وقد اعترف الشیخ أیضاً بذلک ، فعلی هذا کما أنّ الحکم بعدم الانفعال متوقّف علی إحراز عنوان الکریة ، کما ادّعاه الشیخ ، هکذا یکون فی طرف الانفعال ، فیکون الحکم به منوطاً بإحراز القلّة ، فلا ترجیح لأحدهما علی الآخر ، فیکون التقابل بینهما هو التضادّ ، فالحکم بالانفعال ما لم یحرز الکریة خالٍ عن الدلیل علی ما حقّقناه ، لأنّه لم یثبت القلّة أیضاً المتوقّف علیه حکم الانفعال أیضاً ، وهذا واضح لا غبار علیه .

ص:196

الوجه الثانی : هو التمسّک بالعمومات ، بأن یقال : إنّ مقتضاها انفعال الماء کلّه إلاّ ما خرج عنه بإحراز الکریة أو غیرها من المیاه العاصمة ، فإذا شکّ فی فرد أنّه کر أم لا ، فالمرجع إلی عموم أدلّة الانفعال بالملاقاة ، المستفاد من الخبرین السابقین .

هذا ، وفیه أنّ التمسّک بتلک العمومات فی الشبهة الموضوعیة ، یکون من باب التمسّک بالعام فی الشبهة المصداقیّة لنفس العام ، وهو ممنوع کما لایخفی .

وأمّا إنْ کان الشکّ فی الشبهة الحکمیّة من جهة الشبهة فی مفهوم الکر أو شرائطه ، من الامتزاج وتساوی السطوح وغیرهما ، فحینئذٍ وإنْ کان ذلک من قبیل التمسّک بالعام فی الشبهة المصداقیّة للمخصّص لا العام ، والحقّ الموافق للتحقیق جریانه وجوازه ، إلاّ أنّه سیأتی عن قریب أنّه لیس لنا عموم کذلک یدلّ علی نجاسة کلّ ماء إلاّ ما أحرز فیه الکریة ، فانتظروا إنّی معکم من المنتظرین .

الوجه الثالث : هو التمسّک بالأصل ، وهو أصالة عدم الکریة ، لأنّه یشک فی أنّه هل وجدت الکریة لهذا الماء أم لا ؟ فالأصل العدم ، فیترتّب علیه الانفعال بالملاقاة ، إذ هو أثر شرعی مترتّب علیه ، فلازمه ثبوت الانفعال ، لأنّ الملاقاة حصلت مع الذی لم یکن کرّاً . هذا ،

وفیه أوّلاً : إنّه إن اُرید من أصالة العدم ، هو العدم المحمولی ، أی العدم الأزلی الذی هو مفاد لیس التامّة ، فإنّه وإن کان له حالة سابقة عدمیّة ، إلاّ أنّه بالاستصحاب وإثبات عدم الکریة لهذا الماء _ الذی کان عدمه نعتیّاً ، أی مفاد لیس الناقصة _ یکون أصلاً مثبتاً ، إذ هذه الملازمة تثبت بحکم العقل ، ولا یکون الاستصحاب بالنسبة إلی تلک الآثار بحجّة .

وإن اُرید استصحاب نفس العدم النعتی ، أی عدم الکریة لهذا الماء ، فهو وإن کان یثبت هذا الحکم ، إلاّ انّه غیر جار ، لاختلال أحد أرکانه ، وهو عدم العلم بالحالة السابقة ، لأنّه لم یکن هذا الماء موجوداً فی زمان یعلم بعدم کریته ، حتّی

ص:197

یشک فیه فی الحال حتّی یستصحب .

وثانیاً : إنّه لا یبعد أن یُقال بأنّ الکریة لیست من الأوصاف والحالات الواردة علی الماء ، حتّی یستصحب عدمها ، بل الکریة عبارة عن وجود السعة لطبیعة الماء ، فعلی هذا التقدیر لا وجه لاستصحاب العدم النعتی ، فیکون الاستصحاب حینئذٍ منحصراً فی استصحاب العدم الأزلی ، فإجراءه وإثبات عدم وجود الکر فی الماء الموجود فی المکان مثبت ، کما لایخفی .

الوجه الرابع : وهو الذی ذکره المحقّق النائینی قدس سره وجماعة ، وهو أنّه إذا علّق حکم فی دلیل علی عنوان وجودی ، لابدّ فی إثبات ذلک الحکم عند العرف بحسب الدلالة الالتزامیة العرفیّة من إحراز ذلک العنوان ، وذلک لیس بمعنی أنّ الموضوع فی الحکم فی لسان الدلیل أُخذ علی نحو الإحراز جزءاً للموضوع أو تمامه ، ولا بمعنی وجود الملازمة بین ثبوت الحکم الواقعی مع الثبوت فی الحکم الظاهری أیضاً ، بل أنّ العرف یفهم من تعلیق الحکم علی عنوان وجودی هذا الوجه ، کما فی قوله : «لا یحلّ مال امری ءٍ مسلم إلاّ بطیب نفسه» ، حیث یفهم أنّ الملاک فی جواز التصرّف فی مال الغیر هو إحراز رضا صاحبه ، وهکذا فی حلّیة أکل اللحوم ، حیث قد عُلّقت حلّیتها علی عنوان التذکیة فی قوله تعالی : «حُرِّمَتْ عَلَیْکُمْ الْمَیْتَةُ وَالدَّمُ . . . وَمَا أَکَلَ السَّبُعُ إِلاَّ مَا ذَکَّیْتُمْ»(1) . فلابدّ من إحرازها ، وإنْ کان الإحراز طریقاً إلیه عند العرف ، إلاّ أنّه لابدّ من تحصیله ، فهکذا یکون فی المقام ، إذ الحکم بعدم الانفعال فی قوله : «لم یُنجسه شیء» قد عُلّق علی ما کان قدر کر ، فلابدّ من تحصیل ذلک بالإحراز ، فما لم یحرز لم یحکم بالطهارة .


1- سورة المائدة : الآیة 3 .

ص:198

یرد علیه بوجهین :

الأوّل : إنّه یلزم علی ذلک أنّه لو لاقی النجاسة الماء المشکوک کریته ، یحکم بنجاسته ، ولو کان فی الواقع کراً ، مع أنّه لیس کذلک قطعاً ، فیفهم أنّ الکریة وعدمه فی الانفعال وعدمه أمر واقعی لا إحرازی .

ولا ینتقض بمثل التذکیة والأصل فیها ، لأنّ المشکوک فیها هو عدم التذکیة ، فیلزم الحکم بعدمها عند الشکّ فیها ، هذا بخلاف ما نحن فیه حیث أنّ الأصل عند الشکّ هنا هو الطهارة لا النجاسة ، کما لا یخفی .

کما لا یستبعد دعوی کون وجه صحّة الطلاق عند العدلین هو العدالة المحرزة لا الواقعیّة ، کما لا یبعد دعوی أن تکون الحلیّة للتصرّف فی مال الغیر هو واقع الرضا ، لا ما علم أنّه کذلک ، کما ذکره الشیخ الأنصاری قدس سره فی أوّل بحث الفضولی من بیع «المکاسب» .

هل یعتبر تساوی السطح فی عاصمیّة الکرّیة؟

والثانی : إنّا لا نضایق عن کون ثبوت الطهارة فی هذا الدلیل بقوله : «إذا کان الماء قدر کر لم ینجسه شیء ، معلّقاً علی ثبوت الکریة ، ولکنّه لا ینافی إثبات الطهارة للماء المشکوک أیضاً من دلیل آخر ، وهو قاعدة الطهارة مثلاً ، أو استصحاب الطهارة ، وأمّا کون الوصف المعلّق علیه فی ذلک الدلیل هو العلّة المنحصرة فی الحکم بالطهارة ، فممنوع جدّاً ».

لا یقال : لا وجه لذکر الکرّیة للحکم بالطهارة حینئذٍ .

لأنّا نقول : بإمکان أن یکون لشدّة الاهتمام بافهام أنّ الکرّیة تکون من أحد الأفراد العاصمة عن الانفعال ، کما لا یخفی .

فثبت من جمیع ما ذکرنا أنّ ما ذهب إلیه صاحب «الجواهر» قدس سره وغیره من المتأخّرین والمعاصرین حقّ وصحیح ، وهو طهارة الماء المشکوک کریته بملاقاة النجاسة ، وعدم کونه مطهّراً للخبث ، لعدم إحراز ما یوجب التطهیر تطهیره عن

ص:199

الخبث ، علی نحو الماء القلیل ، أی بصورة الدفع . وهکذا رفع الحدث ، فإنّه یجوز لأنّ شرطه طهارة الماء ، وهو موجود ومحرز بالأصل أو بالقاعدة علی المفروض .

نعم ، استصحاب بقاء الخبث یوجب الحکم ببقاء النجاسة للمغسول به ، کما أنّ استصحاب طهارة الماء المغسول به یحکم بطهارته ، وهو غیر مستنکف لإجراء کلّ أصل ظاهری علی طبق مقتضاه ، ونظائره موجودة فی الموارد الکثیرة المشابهة لما نحن فیه .

وإن ثبت الدلیل علی ما ادّعیناه ، فنقول : إنّ منطوق قوله : «إذا کان الماء قدر کرّ لم ینجسه شیء» ، هو ثبوت العاصمیّة للماء الکرّ ، فیکون مفهومه عدم ثبوت العاصمیّة لماء هو أقلّ من کرّ ، سواء اُحرز عدم الکریة أو شکّ فیها فإنّه لا یکون عاصماً عن الانفعال قطعاً ، إلاّ أنّ التمسّک بعموم هذا المفهوم لإثبات الانفعال المشکوک یکون من قبیل التمسّک بالعام فی الشبهة المصداقیّة له ، وهو غیر جائز ، فهذا یرجع إلی عموم قوله : «خَلَق اللّه الماء طهوراً لم یُنجّسه شیء» ، حیث یشمل بالإطلاق اللفظی صورة المشکوک ، فیحکم بالطهارة لذلک الماء ، فما لم یحرز القلّة یمکن التمسّک به علی إثبات الطهارة .

مضافاً إلی ما قد عرفت من استصحاب الطهارة أو قاعدتها ، کما عرفت توضیحها فلا نعید .

فحینئذٍ قد یُقال : لو اغتسل المُحْدِث الذی کان بدنه نجساً ، بمثل ذلک الماء کان غسله صحیحاً ، ولکن یبقی بدنه علی نجاسته ، لأنّ الماء کان طاهراً فیوجب صحّة غسله ، ولم یکن مطهّراً فتبقی نجاسته .

لکنّه لا یخلو عن إشکال ، لأنّ شرط حصول الغُسل ، هو الطهارة للبدن حال الغُسل ، فإذا فُرض بقاء نجاسة البدن حال الغسل فحینئذٍ لا یمکن تحصیل الغسل مع ذلک الوصف . نعم ، صحّة الغسل والوضوء مسلّم ، إذا کان البدن طاهراً ، کما هو

ص:200

واضح لا یحتاج إلی ذکره .

ثمّ یأتی البحث عن أنّ الکرّیة هل هی عاصمة فی صورة تساوی سطح الماء المجتمع ، أو عاصمیّته مطلقاً ، أی سواء کان متساویاً أو مختلفاً ، وسواء کان الاختلاف علی نحو الإنحدار أو التسنم أو التسریح ؟ فلا بأس بالإشارة إلی هذه الصور منفردة بعضها عن بعض ، وبیان حکم کلّ واحد منها ، مستقلاًّ . فنقول :

الصورة الاُولی : هی ما لو کان سطح الماء مساویاً ، فلا إشکال فی عاصمیّة الکرّ حینئذٍ ، ولا خلاف لأحدٍ من الفقهاء إلاّ عن صاحب «المعالم» ، والشیخ المفید فی «المقنعة» وسلار فی «المراسم» ، حیث حکموا بنجاسة الحیاض والأوانی وإن کان کثیراً بمقدار کر ، والظاهر أنّهم حکموا بذلک بملاحظة الأخبار الدالّة علی أنّ الماء الموجود فی الحیاض والأوانی ینفعل بالملاقاة .

لکن الإنصاف أنّ ملاحظة لسان تلک الأدلّة ولفظ (الإناء) الواردة حیث لا یستعمل غالباً إلاّ فیما هو أقلّ من الکرّ ، یفید أنّه لا ینبغی الإشکال فی کون المراد غیر ما هو مقدار الکرّ ، کما لا یخفی علی المتأمِّل .

وکیف کان ، فهذا هو القدر المتیقّن من الأدلّة الدالّة علی عاصمیّة الکرّ ، فلایمکن الخروج عن مثل ذلک فی أدلّة الکرّ .

الصورة الثانیة : هی ما کان الاختلاف علی نحو الانحدار ، بحیث کان شبیهاً بالمتساوی ، فإنّ حکمها أیضاً کحکم الصورة الأولی من جهة صدق الوحدة العرفیّة فی ذلک ، وشمول الأدلّة المذکورة أیضاً ، کما لا یخفی .

الصورة الثالثة : هی ما لو کان الاختلاف علی نحو التسنّم أو التسریح ، نظیر الماء المنحدر عن المیزاب أو الجدول القائم ، مع عدم کون کلّ واحد من العالی والسافل کرّاً علی حدة . ففی تقوّی کلّ منهما بالآخر مطلقاً ، أو عدمه مطلقاً ، أو التفصیل بین السافل بتقوّیه بالعالی بخلاف العکس ، أو التفصیل فیما بین صدق

ص:201

الوحدة العرفیة فیما بینهما فیتحقّق بکلیهما ، وما لا یصدق الوحدة العرفیة فلا ، ولو کان سطح الماء مساویاً ، وجوه وأقوال :

فقد ذهب الشهید الأوّل قدس سره فی «الدروس» ، والشهید الثانی فی «الروض» ، وصاحب «المدارک» إلی الأوّل علی حسب ظاهر کلامهم .

واستدلّوا بإطلاق حدیث الکر من قوله علیه السلام : «إذا کان الماء قدر کرّ لم ینجسه شیء ، لکلتا الحالتین من الاختلاف ، بل وهکذا إطلاق کلمات الأصحاب ، وفتاویهم ، حیث لم یقیّدوا الکریة بلزوم استواء سطوح الماء ».

هذا ، ولکن یشکل ما ذکروه من عدم الإطلاق لذلک الدلیل ، بحیث یشمل ما لو یصدق علیه الوحدة العرفیة ، نظیر ما مثّلوه بما إذا کان ماء فی إبریق علی منارة وکان تحت الإبریق ثقباً ضعیفاً اتّصل بماء واقع فی الحوض تحته ، فإنّ مجموع هذه المیاه الموجودة فی الإبریق ، وما فی الثقب ، وفی الطریق ، والحوض لا یکون واحداً عرفاً ، وإن کان متّصلاً بعضها مع بعض ، فلا إشکال فی انصراف الدلیل عن مثله .

کما أنّ دعوی إطلاق کلمات الأصحاب لا یخلو عن إشکال ، لأنّهم بین من لم یتعرّض لصورة المسألة أصلاً ، وبین من صرّح بعدم الکفایة ، کما ستعرف ، إنْ شاء اللّه .

وذهبَ غیرُ واحدٍ إلی الثانی ، وهو المحکیّ عن بعض کلمات العلاّمة والشهید وصریح المحقّق الثانی فی «جامع المقاصد» ، حیث قال ما خلاصته : إنّ اشتراط الکرّیة إنّما کان مع عدم تساوی سطوح الماء ، وإلاّ یصدق کون المجموع کرّاً ، ویکفی بذلک.

واستدلّ لهم تارةً : بقاعدة أصالة الانفعال بملاقاة النجاسة ، إلاّ ما خرج ، للشکّ فی صدق العنوان مضافاً إلی عدم شمول إطلاق حدیث الکرّ لذلک أیضاً .

واُخری : بما ورد فی لزوم کون ماء الحمّام عن مادّة ، حیث أنّه ینصرف _ ولو

ص:202

بحکم الغلبة _ إلی ما کانت کرّاً ، ومفهومه عدم الاعتصام إذا لم یکن المجموع کرّاً ، فإذا ثبت عدم الاعتصام فیه ، ففی غیره یکون بالإجماع والأولویّة ، لأنّ الحمّام أولی بالتسهیل من غیره .

وثالثة : بأنّ قوله : «ماء الحمّام لا ینجّسه شیء إذا کانت له مادّة» ، یفهم منه أنّ المادّة هی العلّة للاعتصام ، لأنّها تکون علی حدّ الکرّ ، فلازمه عدم الاعتصام إذا کانت أقلّ من کرّ ، فیکون الماء القلیل الواقع فی الحیاض مع المادّة منفعلاً ، فیتعدّی منه إلی غیره ، یعنی کلّ قلیل له مادّة کرّ لا ینفعل ، وما لا یکون کذلک ینفعل ، ولو کان المجموع دون المادّة کرّاً .

وفیه ما لا یخفی ، أمّا عن الأوّل : فمن عدم أصل یقتضی الانفعال فی کلّ ماء حتّی یشمل لمثل ذلک .

وأمّا عن الثانی : فبأنّ ماء الحمّام _ قد عرفت سابقاً _ إنّما یکون بحسب کونها فی الخارج شاملاً للکر أو أزید منه ، وأمّا اعتبار الکریة فی أصل المادّة فغیر معلوم ، فمن ذلک یظهر الجواب عن الثالث أیضاً .

وذهب جمعٌ من المحقّقین إلی التفصیل وهو الوجه الثالث ، وهو تقوّی السافل بالعالی دون العکس ، وهو المنسوب إلی «التذکرة» وکثیر من المتأخِّرین والمعاصرین من المحشّین علی «العروة» ، وکان ذلک من جهة صدق الاتّحاد فی السافل مع العالی .

هذا ، وفی «الجواهر» أنّه لا معنی للفرق فی صدق الاتّحاد وعدمه عرفاً بین الصورتین .

فأجاب الشیخ الأعظم قدس سره بأنّ المراد هو الفرق بینهما من جهة الحکم لا الموضوع ، حتّی یقال بعدم صحّة ذلک . وادّعی صاحب «مصباح الفقیه» أنّه لا استبعاد فی دعوی صدق الوحدة فی طرفٍ دون آخر موضوعاً لا حکماً ، لأنّه

ص:203

لیس أمراً عقلیّاً حتّی یکون مستحیلاً .

ولکن الإنصاف أنّ ما ذکره صاحب «المصباح» لا یخلو عن مسامحة ، لأنّ العرف إذا شاهد صدق الوحدة مع هذا الاختلاف من جهة العالی والسافل ، فلا یفرّق بین العالی والسافل فی ذلک ، وإنْ لم یصدق الوحدة بواسطة الاختلاف المذکور ، فالفرق بین صورتیه مشکلٌ کما لا یخفی .

والحقّ الموافق للتحقیق هو القول الرابع ، من التفصیل بین صدق الوحدة وعدمه ، فی الانفعال وعدمه ، وذلک لوضوح أنّ الدلیل الوارد بأنّ «الماء إذا کان قدر کرّ لم ینجّسه شیء» موجّهٌ إلی العرف ، فإذا صدق عرفاً بأنّ مختلفی السطح یعدّ ماءً واحداً من جهة أنّ الوحدة الاتّصالیة مساوقة للوحدة الشخصیّة ، کذلک یکون بالنسبة إلی طرفیه بلا تفاوت أصلاً عرفاً فإنّه یثبت الحکم ویترتّب علیه الأثر ، کما لا یخفی .

وعلی هذا ، فربّ ماء یکون متساوی السطح ، ولیس عند العرف موضوعاً لصدق الوحدة ، کما لو کان الماء واقعاً فی الحوضین فی سطح واحد ، لکن کان الاتّصال بینهما بثقب صغیر ، یصعب صدق الوحدة علیه ، فحینئذٍ لا یکون عاصماً ومعتصماً .

کما أنّه ربّ ماء یکون فی سطوح مختلفة ، مع اتّصال بعضه ببعض علی نحو تصدق الوحدة ، نظیر ما لو کان الماء فی ظرف مستطیل بحیث یصدق لأعلاه مع أسفله أنّه ماء واحد ، وکان المجموع کرّاً ، فحینئذٍ یعدّ الماء معتصماً .

نعم ، یختلف الحکم من جهة النجاسة بالملاقاة فیما بین العالی والسافل ، حیث أنّه إذا لاقی عالیه یوجب نجاسة السافل دون العکس ، وذلک من جهة أنّ الحکم بالنجاسة کان من جهة السرایة ، ولا یتحقّق إلاّ من طرف العالی دون السافل ، وهذا غیر مرتبط بمسألة الاعتصام الذی کان محلّ الکلام ، لأنّ الملاقاة فی النجاسة مستلزمٌ للسرایة ، وهو لا یجتمع مع الدفع فی اختلاف سطح الماء ، فلا یُقاس ذلک بالاعتصام ، کما لا یخفی .

ص:204

ویطهر بإلقاء کرّ علیه فکرّ حتّی یزول التغیّر ، ولا یطهر بزواله من نفسه ، ولا بتصفیق الریاح ، ولا بوقوع أجسام طاهرة فیه تُزیل عنه التغیّر (1).

(1) فإنّ الکرّ المتغیّر الذی صار نجساً بذلک ، إذا اُرید إزالة النجاسة عنه لابدّ أن یکون بواسطة أحد الأفراد المعتصمة عن الانفعال ، وهی إلقاء الکرّ الطاهر علیه ، أو الاتّصال بالجاری ، أو المطر . ولعلّ ذکر (الکرّ) دون غیره فی کلام المصنّف کان من باب المثال ، لا لخصوصیّة فیه ، فعلی هذا التقدیر ، لو فرض تغییر جزء من ماء الحوض الذی هو بمقدار الکرّ دون جزء آخر منه هو أقلّ من الکرّ فحینئذٍ لو تمّمه من الماء القلیل ، فإنّه لا یوجب حصول الطهارة له ، لأنّ المفروض کونه نجساً بواسطة الماء المتغیِّر ، فصیرورته کرّاً لا یوجب طهارته ، حتّی یطهر الماء المتغیّر .

نعم ، إنْ کان کرّاً أو أزید فیوجب طهارة المتغیّر بعد زوال تغیّره بذلک ، کما لایخفی .

فی کیفیّة تطهیر الکرّ المتغیّر بالنجّس

فثبت ممّا ذکرنا أنّ زوال التغیّر بنفسه أو بعلاج غیر ما ذکر ، لا یوجب الطهارة ، وهذا ممّا لا خلاف فیه ، إلاّ عن «الجامع» للقاضی یحیی بن سعید حیث یقول بطهارته بزواله بنفسه ، وعن «نهایة» العلاّمة التردّد فیه ، مع أنّ المحکی عن «المنتهی» حکایة القول بطهارته بمجرّد زوال تغیّره عن الشافعی وأحمد ، من غیر نسبة إلی أحد من أصحابنا .

وفی «المدارک» و«المعتبر» : أنّه یقول بذلک کلّ من ذهب إلی طهارة المتمّم کرّاً ، لکنّه لا یخلو عن تأمّل .

نعم ، إنْ کان دلیلهم هی المرسلة المشهورة : «إذا بلغ الماء کرّاً لم یحمل خبثاً» ، فحسنٌ ، حیث یکون ذلک دلیلاً لکلا الفرعین السابقین ، ولکن لعلّهم تمسّکوا فی

ص:205

المقام بإطلاقات النصوص لا بالمرسل فقط ، فلا ملازمة بینهما حینئذٍ ، کما لایخفی .

وقد استدلّ للطهارة بوجوه ثلاثة :

أحدها : کون عنوان النجاسة معلّقاً علی عنوان التغیّر حدوثاً وبقاءً ، فکما أنّ التغیّر یعدّ علّة لحدوث النجاسة یکون علّة لبقائها أیضاً ، فإذا زال طهر من عند نفسه ، فدلیل «إذا تغیّر فلا تتوضّأ ولا تشرب» الواقع فی خبری حریز وأبی بصیر(1) یدلاّن علی جواز الوضوء والشرب ، إذا زال تغیّره .

هذا ، لکنّه مدفوع بأنّ الظاهر کون هذه الأوصاف من العلّة المحدثة لعروض النجاسة لا المبقیّة ، لوضوح أنّ النجاسة والطهارة کالملکیّة والزوجیّة والرقیة ، إذا وجدت تبقی إلی أن یزیلها الرافع ، فیکون التغیّر علّة لحدوثها فقط ، کما هو واضح .

ثانیها : قد تمسّکوا بإطلاق المرسل النبوی : «الماء إذا بلغ کرّاً لم یحمل خبثاً»(2) ، حیث یشمل إطلاقه الأحوالی من حال التغیّر وعدمه ، فخرج التغیّر بحسب أدلّته فیبقی الباقی تحته ، وذلک لا یوجب التخصیص الافرادی ، بل یوجب التخصیص الأحوالی ، کما هو واضح .

فیجیب عنه أوّلاً : عدم شمول الحدیث لمثل الرفع ، بل شامل للدفع فقط نظیر الخبر الآخر القریب منه .

وثانیاً : إنّ إطلاق مثل هذه الأدلّة _ کما سیأتی فی توضیحه قریباً _ بالنسبة إلی الأحوال مشکل جدّاً .

ثالثها : قد تمسّکوا بحدیث ابن بزیع عن الرضا علیه السلام : «ماء البئر واسعٌ لا یفسده شیء ، إلاّ أن یتغیّر ریحه أو طعمه ، فینزح حتّی یذهب الریح ویطیب الطعم ، لأنّ


1- وسائل الشیعة : الباب 3 من أبواب الماء المطلق، الحدیث 1 _ 3 .
2- علی ما نقله ابن إدریس الحلّی فی «السرائر» .

ص:206

له مادّة»(1) . بناءً علی أنّ لفظ «حتّی» للتعلیل لا الانتهاء والغایة ، فیکون المعنی : إنّ النزح کان لأجل حصول ذهاب الریح المطلوب لحصول الطهارة ، فحینئذٍ یحصل ذلک ولو من قبل نفسه .

والجواب عنه : إنّ الظاهر کون (حتّی) للانتهاء والغایة لا التعلیل ، کما احتمله الشیخ البهائی قدس سره ، وسیأتی توضیحه . مضافاً إلی أصالة الطهارة ، ولعلّ المراد قاعدة الطهارة لا استصحابها ، کما لایخفی .

والجواب : أنّه محکوم باستصحاب النجاسة ، الذی سیأتی توضیحه .

هذا تمام ما یمکن الاستدلال للطهارة .

وأمّا القول المشهور ، وهو النجاسة ، فیمکن الاستدلال له بوجوه :

الوجه الأوّل : التمسّک باستصحاب النجاسة ، لأنّه بعد زوال التغیّر یشکّ فی نجاسته وعدمه ، والأصل بقاءها .

لا یقال : إنّه غیر جار هنا ، لعدم اتّحاد الموضوع فی المستصحب ، لأنّ الموضوع فی السابق کان هو کان هو المتغیّر ، والآن زال التغیّر عنه ، فلا یجری فیه الاستصحاب .

لأنّا نقول : یشترط فی الاستصحاب وحدة الموضوع عرفاً لا علی نحو الدقّة العقلیة ، فلا إشکال فی عدم الجریان لتعدّد الموضوع ، کما أنّه إذا لوحظ الموضوع بحسب فهم العرف من لسان الدلیل ، فإنّه حینئذٍ یمکن جریان الاستصحاب إنْ أخذ التغیّر تارةً فی لسان الدلیل علی نحو الشرط ، بأن یقال : الماء إذا تغیّر ینجس ، حیث یمکن القول بکون الموضوع هو الماء ، أمّا التغیّر فیعدّ من أحواله .


1- وسائل الشیعة : الباب 3 من أبواب الماء المطلق، الحدیث 12 .

ص:207

واُخری علی نحو الموضوع ، کما لو قیل : المتغیّر نجس ، فإنّه حینئذٍ یمکن عدم جریانه ، لأنّه إذا خرج عن التغیّر فقد تغیّر الموضوع ، فلا یجری فیه الاستصحاب . هذا ، بخلاف ما لو کان المناط فی وحدة الموضوع والمستصحب هو فهم العرف ، وارتکازهم فحینئذٍ إذا أطلق العرف ورأی الموضوع واحداً برغم تبدّل بعض الصفات فإنّه لا إشکال فی جریان الاستصحاب ، وهذا هو المختار فی باب الاستصحاب ، وما نحن فیه یکون من هذا القبیل ، کما لا یخفی .

لا یقال : الاستصحاب هنا غیر جار ، لأنّ الشکّ فی المقتضی ، راجع فی الواقع إلی أنّه هل التغیّر یعدّ موجباً للنجاسة دائماً ، حتّی مع زوال التغیّر ، أو أنّه جعل مقیّداً ، أی إذا کان التغیّر موجوداً فهو موجب للنجاسة ، بخلاف ما لو زال فلا اقتضاء له حینئذٍ ؟

لأنّا نقول ؛ أوّلاً : إنّه مبتن علی عدم جریان الاستصحاب مع الشکّ فی المقتضی ، والتحقیق فی ذلک موکول إلی محلّه فی الاُصول .

وثانیاً : لو سلّمنا ذلک ، فلا یرد هذا الإشکال هنا ، لأنّ تصنیف النجاسة والطهارة کالملکیّة والزوجیّة من الاُمور التی إذا تحقّقت فلا تزول إلاّ برافع ، نظیر ما لو لاقی النجس شیئاً وأدّی إلی تنجیس الملاقی فإنّه لا ترتفع نجاسته إلاّ برافع خارجی ، وهکذا فی المقام ، فلو سلّمنا عروض الشکّ فی البقاء وعدمه ، فلا إشکال فی جریان الاستصحاب هنا من جهة الشکّ فی عروض الرافع ، لا فی المقتضی ، یعنی یشکّ فی أنّ زوال التغیّر مع بقاء وصف الکرّیة ، هل هو موجب لحصول الطهارة أم لا ؟ فیستصحب النجاسة بلا إشکال .

کما أنّ الإشکال فی جریان الاستصحاب بأنّه یجری فی الأحکام الکلّیة فی حین أنّه غیر جار _ کما ذکره المحقّق الخوئی فی «التنقیح» _ مخدوش من أصله ، والبحث عن حقیقته موکول إلی محلّه فی الاُصول .

ص:208

فثبت من جمیع ما ذکرنا صحّة جریان الاستصحاب هنا ، لولا وجود دلیل اجتهادی جار فی المقام ، کما سیأتی إن شاء اللّه تعالی .

الوجه الثانی : إنّ النجاسة قد وردت بوارد وهو التغیّر ، فلا یزول إلاّ بوارد آخر ، وهو الماء المعتصم کالکریة وأمثالها .

هذا ، ولکن هذا بالاستحسان أشبه ، وبالتأیید ألیق ، کما قاله صاحب «الجواهر» وصاحب «مصباح الهدی» ، فلا یحتاج إلی إطالة کلام فی ذلک .

الوجه الثالث : صحیحة محمّد بن إسماعیل بن بزیع(1) عن الرضا علیه السلام حیث أنّ الظاهر کون کلمة (حتّی) فیها للانتهاء لا التعلیل ، لأنّ الثانی یستعمل فیما لایمکن استمرار ما قبلها لما بعدها ، کما فی قولنا : «أسلم حتّی تَسلم» حیث لایمکن استمرار الإسلام بدون استمرار السلامة ، هذا بخلاف ما لو کانت للغایة ، فإنّه یصحّ الاستمرار لما قبلها بلا استمرار بعدها ، کما فی المقام ، حیث یمکن استمرار النزح بلا تحقّق الذهاب ، فجعلها للغایة أولی من جعلها للتعلیل .

فعلی هذا یکون النزح بواسطة حصول الذهاب ، لأنّ وجود المادّة یوجب نشر الماء فیه ، فالنتیجة یُحصِّل الذهاب ، فیفهم أنّه کان بواسطة دخول ماء من المادّة فیه ، وهو عاصمٌ ، فبدونه لا تحصل الطهارة ، کما لایخفی .

الوجه الرابع : الإطلاق الاحوالی فی خبری حریز وأبی بصیر(2) ، وابن بزیع بقوله : «فإذا تغیّر فلا تتوضّأ ولا تشرب» ، أو قوله : «إلاّ أن یتغیّر ریحه وطعمه» فإنّه یدلّ علی أنّه موجب للنجاسة ، سواء زال أم لا ، نظیر إطلاقه فی أنّه أشرقت علیه الشمس أم لا ؟


1- وسائل الشیعة : الباب 12 من أبواب الماء المطلق، الحدیث 3 .
2- وسائل الشیعة : الباب 3 من أبواب الماء المطلق، الحدیث 1 .

ص:209

والکرّ ألف ومائتا رطل بالعراقی علی الأظهر (1).

ولکن الإنصاف عدم تمامیّة ذلک ، لأنّ ظاهر الدلیل هو إثبات النجاسة عند وجود هذا الوصف ، وأمّا دلالته علی البقاء حتّی لما بعد الزوال فلا ، لاسیّما هذا الوصف الذی وقع فی طول الوصف الموجود ، وهو التغیّر ، بخلاف الحالات الواقعة فی عروض ذلک الوصف ، مثل إشراق الشمس وعدمه ، وبالنسبة إلی البرودة والحرارة وأمثال ذلک .

(1) إنّ البحث یقع من جهات متعدِّدة :

تارةً : من حیث المقدار ، هل هو ذلک ، أو أقلّ منه وهو ستّمائة رطل کما فی بعض الأخبار ؟

فی مقدار الکرّ بحسب الموازین

واُخری : فی بیان المراد من الرطل ، هل هو العراقی أو المدنی أو المکّی ؟

وثالثة : فی بیان مقدار نفس الرطل من حیث الوزن ؟

وأمّا الکلام فی الجهة الاُولی : فبعد مراجعة الأخبار یظهر أنّ المذکور فیها _ سواء کانت بالصراحة أو غیرها _ یکون علی أنواع ، ففی بعضها صریح بکون الکرّ هو المذکور فی کلام المصنّف ، وکما فیما رواه الشیخ صحیحاً عن ابن أبی عمیر ، ومرسلاً عن عدّةٍ بقوله : عن بعض أصحابنا عن أبی عبداللّه علیه السلام قال : «الکرّ من الماء الذی لا ینجسه شیء ألف ومأتا رطل»(1) .

وهو من جهة الاسناد معتبرة علی المشهور ، و من جهة أنّ مراسیل ابن أبی عمیر کمسانیده ، خلافاً للخوئی ، لأنّه قال قد شوهد نقله عن غیر موثوق ولو للاشتباه والخطأ فی الاعتقاد ، وهو لا یخلو عن مسامحة ومناقشة ، والحقّ مع


1- وسائل الشیعة : الباب 11 من أبواب الماء المطلق، الحدیث 1 .

ص:210

المشهور ، إذ الاحتمال المذکور یجری فی حقّ جمیع من الرواة کما لایخفی ، مضافاً إلی کون ذلک مقتضی عنوان أصحاب الإجماع ، والتصحیح بهم .

وأمّا من جهة الدلالة ، فواضح أنّه یدلّ بالصراحة علی مقدار الکرّ ، وهو ألف ومأتا رطل ، دون الإشارة إلی نوعیّة الرطل .

وفی بعض آخر : یدلّ علی خلاف ذلک ، وهو کما فی الصحیح المروی عن محمّد بن مسلم ، عن أبی عبداللّه علیه السلام فی حدیث : «إنّ الکرّ ستمائة رطل» الحدیث(1) .

وصدره ، فی حدیثٍ عن أبی عبداللّه علیه السلام ، قال : «قلت له : الغدیر فیه ماء مجتمع تبول فیه الدواب وتلغ فیه الکلاب ، ویغتسل فیه الجنب ؟ قال : إذا کان قدر کرّ لم ینجسه شیء»(2) . فسنده ودلالته من حیث المقدار تامّان لا کلام فیها . فی مقدار الکرّ بحسب الموازین

ومثله فی الدلالة خبر آخر لابن أبی عمیر ، قال : «روی لی عن أبی عبداللّه ابن المغیرة یرفعه إلی أبی عبداللّه علیه السلام ، أنّ الکرّ ستّمائة رطل»(3) .

ثمّ إنّه لا إشکال فی إطلاق الرطل علی الرطل العراقی فی بعض الأخبار ، کما فی خبر الکلبی النسّابة فی حدیثٍ قال : «فقلت : وکم کان یسع الشن ماء ؟ فقال : ما بین الأربعین إلی الثمانین إلی ما فوق ذلک . فقلت : بأیّ الأرطال ؟ فقال : أرطال مکیال العراق»(4) .

کما أطلق الرطل علی المدنی والمکّی ، علی ما هو الشائع المعروف فی ألسنة الفقهاء رضوان اللّه تعالی علیهم أجمعین ، ویقولون بأنّ مقدار المدنی یکون أزید من العراقی بثلث ، والمکّی یکون أزید منه بضعف ، فعلی هذا التقدیر یکون ألف


1- وسائل الشیعة : الباب 11 من أبواب الماء المطلق، الحدیث 3 .
2- وسائل الشیعة : الباب 9 من أبواب الماء المطلق، الحدیث 5 .
3- وسائل الشیعة : الباب 11 من أبواب الماء المطلق، الحدیث 2 .
4- وسائل الشیعة : الباب 2 من أبواب الماء المضاف، الحدیث 2 .

ص:211

ومأتا رطل عراقی ، مساویاً لستّمائة مکّی وتسعمائة مدنی ، فالأولی ملاحظة الأخبار بعضها مع بعض مع غضّ النظر عن کلمات الفقهاء ، ومقتضی الجمع یفید کون المراد من الرطل فی خبر ابن أبی عمیر هو العراقی ، وفی خبر محمّد بن مسلم هو المکّی ، إن کان ضعف العراقی ، لأنّه ورد فی خبر علیّ بن جعفر ، عن أخیه علیه السلام قال : «سألته عن جرّة ماء فیه ألف رطل ، وقع فیه أوقیة بول ، هل یصلح شربه أو الوضوء منه ؟ قال : لا یصلح»(1) .

فالخبر ینهی عن الوضوء والشرب عن ماء کان مقداره ألف رطل ، وحمله علی صورة التغیّر _ یعنی أنّه متنجّس من جهة التغییر بعد بلوغه ذلک المقدار _ بعید ، کما یستبعد أن یکون المراد من عدم الصلاح الکراهة . فیدلّ علی نجاسة الماء ألف رطل ، إذا وقع فیه أوقیة من البول ، فإنّ المراد وإن کان هو العراقی ، والمراد من خبر ابن أبی عمیر هو العراقی أیضاً فلا تعارض بینهما ، بل بینهما کمال الملائمة . کما لا یتعارض مع خبر محمّد بن مسلم إنْ کان المراد منه هو الرطل المکّی ، الذی قد عرفت اشتهار کونه ضعف العراقی ، إذ تکون حینئذٍ ستّمائة رطل مکّی مساویة مع ألف ومأتا رطل عراقی ، فهذا الجمع عرفی ، وموافق لدلالة الأخبار وفتاوی الفقهاء لأنّ المشهور منهم من المتقدِّمین وجمیع المتأخِّرین ذهبوا إلی ذلک ، خلافاً للسیّد المرتضی والصدوقین ، حیث حملوا خبر ابن أبی عمیر علی الرطل المدنی بحیث یکون مقداره _ بناءً علی الرطل العراقی _ هو ألف وتسعمائة رطل ، لما قد عرفت کونه أزید من العراقی بثلث ، کما یدلّ علی هذه الزیادة مکاتبة جعفر بن إبراهیم بن محمّد الهمدانی ، قال : «کتبتُ إلی أبی الحسن علیه السلام علی ید أبی : جعلتُ فداک إنّ أصحابنا اختلفوا فی


1- وسائل الشیعة : الباب 8 من أبواب الماء المطلق، الحدیث 16 .

ص:212

الصاع ، بعضهم یقول الفطرة بصاع المدنی ، وبعضهم یقول بصاع العراقی ؟ قال : فکتب إلی : الصاع بستّة أرطال المدنی ، وتسعة أرطال العراقی ، قال : وأخبرنی أنّه یکون بالوزن ألفاً ومأتا وسبعین وزنة»(1) .

والوزنة بالکسر تعنی الدرهم ، فیکون الرطل العراقی پالذی هو تسع المجموع مائة وثلاثین درهماً ، کما سیأتی بحثه إن شاء اللّه تعالی .

ومثله فی بیان المقدار خبر علیّ بن بلال ، قال : «کتبتُ إلی الرجل علیه السلام أسأله عن الفطرة ، وکم تدفع ؟ قال : فکتب علیه السلام : ستّة أرطال من تمر بالمدنی ، وذلک تسعة أرطال بالبغدادی»(2) . فی مقدار الکرّ بحسب الموازین

فبناءً علی ما ذهبوا إلیه یقع التعارض بین خبر علیّ بن جعفر الدالّ علی نجاسته بألف رطل ، وبین خبر محمّد بن مسلم بالطهارة للأزید من ستمائة ، فیدور الأمر حینئذٍ بین طرح أحدهما رأساً ، أو رفع الید عن ذلک المحمل ، والحمل علی أحد معانی المشترک اللفظی ، الذی یطابق معنی الآخر ، فلا إشکال فی تقدّم الثانی وأولویته ، کما لا یخفی .

نعم ، لا یتعارض حینئذٍ مع خبر ابن أبی عمیر ، لأنّهما متوافقان فی الحکم بالنجاسة مع الألف ، سواءً کان عراقیّاً أو مدنیّاً أو مکّیاً ، کمنا یقع التعارض بین خبری محمّد بن مسلم ، وعلیّ بن جعفر بالأولویّة ، ولو اُرید بالرطل فیهما المکّی ، وذلک واضح لا خفاء فیه ، لأنّه أزید من المدنی بثلث أیضاً .

هذا کلّه مضافاً إلی موافقة الجمع الأوّل لفتاوی الفقهاء ، بلا مخالفة للإجماع القطعی ، هذا بخلاف سائر المحامل ، فإنّه لو حمل الأخبار من حیث العمل علی


1- وسائل الشیعة : الباب 7 من أبواب زکاة الفطرة، الحدیث 1 .
2- وسائل الشیعة : الباب 7 من أبواب زکاة الفطرة، الحدیث 2 .

ص:213

طبق خبر محمّد بن مسلم ، وهو ستّمائة رطل ، وحمل الرطل علی العراقی أو علی المدنی ، فیطرح خبر ابن أبی عمیر لما هو ألف ومأتا رطل ، فیلزم کونه مخالفاً للإجماع فی الأوّل ، ومخالفاً للمشهور فی الثانی ، وإن کان یقرب لما ذکره السیّد المرتضی والصدوقان ، وما احتمله شیخنا البهائی .

کما أنّ حمل خبر ابن أبی عمیر فی ألف ومأتا رطل علی المکّی ، أو علی المدنی یوجب مخالفة الإجماع أیضاً ، بناءً علی هذا الأولی فی الاستدلال هو حمل خبر محمّد بن مسلم علی المکّی ، وخبر ابن أبی عمیر علی العراقی ، ویوافق العمل علی طبق کلّ الأخبار ، لیصحّ علی ذلک حکم النجاسة الواقع فی خبر علیّ بن جعفر ، بواسطة ألف رطل ، بأن یکون المراد هو العراقی منه لا المدنی والمکّی .

وأمّا توجیه کون الرطل عراقیّاً فی خبر ابن أبی عمیر ، لکونه کان عراقیّاً ، وفی محمّد بن مسلم مکّیاً لکونه من طائفة بنی ثقیف وهم أهل الطائف ، فکأنّ الجواب کان علی طبق عرف السائل ، کما فی «الجواهر» لا یخلو عن استیناس ، ولکنّه لا یعدّ دلیلاً یمکن الاستدلال به ، لمشاهدة خلافه أیضاً فی بعض الأخبار ، مثلاً کان زرارة من أهل العراق وبرغم ذلک أجابه الإمام علیه السلام ، بقوله : «إنّ الوضوء بمدّ والغسل بصاع ، والمد رطل ونصف ، والصاع ستّة أرطال»(1) .

ومن الواضح أنّ ستّة أرطال مساویة للصاع المدنی لا العراقی ، لأنّه تسعة أرطال . فدخالة جنسیة السائل فی الجواب لا تعدّ قاعدة کلّیة فی جمیع الأجوبة ، مضافاً إلی إمکان الإشکال بأنّ الملاک فی الکلام هو عرف المتکلِّم لا المخاطب ، إلاّ أن یعلم أنّه لم یفهم فیفهمه بعرفه .


1- وسائل الشیعة : الباب 50 من أبواب الوضوء، الحدیث 1 .

ص:214

فمن جمیع ما ذکرنا فی الجهة الاُولی ، ظهر الکلام فی الجهة الثانیة ، وأنّ المراد من الرطل هو العراقی فی خبر الألف لابن أبی عمیر ، والمکّی فی خبر الستّمائة لما قد عرفت من موافقة المشهور ، وعدم مخالفته للإجماع المقطوع به بین الأصحاب . فی مقدار الکرّ بحسب الموازین

هذا کلّه مضافاً إلی أنّ ما ذکرناه هو المناسب لما سیأتی من تحدید الکر بالمساحة ، سواء قلنا بثلاثة أشبار فی مثلها ، حتّی یکون الجمع سبعة وعشرین شبراً ، أو القول الآخر وهو ستّة وثلاثین ، أو أربعون شبراً ، بل فی «التنقیح» : نحن وزناه مکرّراً ، فبلغ مقدارهما علی ما یوافق بالمساحة لثلاثة أشبار .

هذا بخلاف ما لو قیل بکون المراد من الستّمائة هو العراقی ، فإنّه یوجب کونه أقلّ من تلک المقادیر بکثیر . نعم ، قد یتوافق مع قول الراوندی بأنّ ملاحظة الکرّ من حیث المساحة تفید أنّها عشرة أشبار ونصف ، کما لا یساعد مع تلک المقادیر حمل خبر الألف علی المدنی أو المکّی ، فهذا واضح بحمد اللّه .

وأمّا الکلام فی الجهة الثالثة : وهی فی بیان مقدار کلّ من الرطل العراقی والمدنی والمکّی ، فنقول : قد عرفت من مطاوی ما ذکرنا ، ومن مکاتبة جعفر بن إبراهیم تفصیلاً أنّ الرطل المدنی أزید من العراقی بثلث ، وظهر أنّ الصاع المدنی یکون تسعة أرطال بالعراقی ، وأنّه من جهة الدرهم تعادل ألف ومائة وسبعین درهماً ، فإذا قسّمناه علی التسع یصیر کلّ رطل عراقی معادلاً لمائة وثلاثین درهماً . هذا هو الصحیح کما علیه «الجواهر» والشیخ الأنصاری ، والمشهور .

فما ذکره العلاّمة فی زکاة الغلاّت فی «المنتهی» و«التحریر» بأنّ الرطل العراقی عبارة عن مائة وثمانیة وعشرین درهماً وأربعة أسباع الدرهم ، تبعاً لبعض أهل اللغة ، مثل «مجمع البحرین» و«المصباح المنیر» ؛ لیس بوجیه :

أوّلاً : لمخالفته مع کلامه قدس سره فی هذه المسألة فی «المنتهی» وفی زکاة الفطرة

ص:215

فی الثانی ، والمختار هو ما ذهب إلیه المشهور .

وثانیاً : لأنّه لا یمکن رفع الید عن دلالة صریح الخبر ، وکلمات الأصحاب بواسطة بعض قول اللغویّین ، مع احتمال أن یکون المقدار فی زمانه کان کذلک ، لکنّه بعید جدّاً .

والدرهم عبارة عن نصف المثقال شرعی وخمسه ، فکلّ عشرة دراهم تعادل سبعة مثاقیل شرعیة ، والمثقال الشرعی یعادل ثلاثة أرباع المثقال الصیرفی ، فکلّ مثقال صیرفی یعادل مثقالاً شرعیّاً وثلث .

والحاصل ممّا ذکرنا : أنّ کلّ رطل عراقی یعادل واحداً وتسعین مثقالاً شرعیّاً وثمانیة وستّون وربع المثقال الصیرفی ، فالکرّ علی رأی المشهور یعادل مئة وتسعة آلاف ومأتین مثقالاً شرعیّاً ، وبالمثاقیل الصیرفیة یبلغ إحدی وثمانین ألف وتسعمائة مثقالاً . وبالمنّ التبریزی المتعارف فی بلاد إیران فی زماننا هذا ، حیث حیث کلّ مَنّ یعادل تسعمائة وأربعین مثقالاً صیرفیّاً ، فیبلغ الکرّ بالمنّ مائة وثمان وعشرون إلاّ عشرین مثقالاً صیرفیّاً . وبالکیلو یکون الکرّ معادلاً لثلاثمائة وثلاث وثمانین کیلو وتسعمائة وستّة غرامات .

هذا تمام الکلام فی مقدار الکرّ ، علی حسب الموازین المتعارفة فی هذا الزمان . فنحن نوافق مسلک المشهور الذی قد ادّعی الإجماع علیه فی الفقه ، بل قیل أنّه لا خلاف فیه وإنْ خالف فیه السیّد المرتضی والصدوقان حیث ذهبا إلی تحدید الکرّ بألف ومأتا رطل بالمدنی لا العراقی ، لکن عرفت ضعفه وأنّه لا شاهد له من الأخبار ، وأمّا التمسّک بالاُصول هنا کما ذکره صاحب «الجواهر» قدس سره والشیخ قدس سره فی «طهارته» فمّما لا ضرورة لذکره ، لما قد عرفت تفصیل المناقشة فیه فی مشکوک الکریة فلا نعید ، ومن أراد الاطتلاع علیه ومعرفة الخلاف الواقع بین العَلمین المذکورین ، فلیرجع إلی محلّه .

ص:216

أو ما کان کلّ واحد من طوله وعرضه وعمقه ثلاثة أشبار ونصفاً ، ویستوی فی ذلک میاه الغدران والحیاض والأوانی علی الأظهر (1).

فی مقدار الکرّ بحسب المساحة

(1) فإذا تبیّن مقدار الکرّ من جهة الکم المنفصل وهو الوزن ، وعرفت موافقتنا لمذهب المصنّف والمشهور ، فلنرجع إلی بیان مقداره بحسب الکم المتّصل ، وهو المساحة ، فنقول : الأقوال فی المسألة _ علی ما تتبّعناه من المتقدِّمین والمتأخِّرین _ ثمانیة :

الأوّل : وهو المشهور أو الأشهر _ علی ما ذکره المحقّق الهمدانی ، بل قد ادّعی علیه الإجماع فی «مصباح الفقیه» واختاره صاحب «الجواهر» والشیخ فی «طهارته» وصاحب «مصباح الفقیه» والسیّد فی «العروة» والعلاّمة البروجردی وکثیر من المتأخِّرین قدّس اللّه أسرارهم ، کما سیظهر لک إن شاء اللّه کونه أقوی عندنا _ ثلاث وأربعون شبراً إلاّ ثُمن شبر .

الثانی : کون الکرّ سبعة وعشرین شبراً ، وهو مختار العلاّمة والشهید والمحقّق النائینی والمحقّق الأردبیلی تبعاً للقمیّین _ وهما الصدوقان _ وقد نسب إلی البهائی ، بل هو مختار الحکیم والمحقّق الخوئی قدس سره ، بجعل المقدار الناتج من حاصل ضرب ثلاثة أشبار فی ثلاثة أشبار فی مثله من العمق بلا زیادة نصف ، والملاحظ زیادة التحدید علی القول السابق فی تمام أبعاده الثلاثة .

الثالث : کونه ستّة وثلاثین شبراً ، وهو الذی اختاره صاحب «المدارک» ، ومال إلیه المحقّق فی «المعتبر» من جعل المساحة ثلاثة أشبار طولاً وعرضاً فی أربعة عمقاً ، فحینئذٍ یبلغ مکسره ستّة وثلاثین .

ورابع : کونه ثلاثة وثلاثین شبراً وخمسة أثمان الشبر ونصف الثمن ، وهو من الأقوال المستحدثة عند المتأخّرین ، ذهب إلیه الحلّی قدس سره فی «دلیل العروة» من

ص:217

العمل علی ثلاثة أشبار ونصف عرضاً فی ثلاثة أشبار ونصف عمقاً علی نحو المستدیرة ، بتقریب قد تحمله من الضروب فی الدائرة .

الخامس : کونه مائة شبر ، کما ذهب إلیه ابن الجنید ، أی ما کان مکسره ومضربه ذلک ، ولم یوافقه أحد من الفقهاء بعده .

السادس : کونه بمساحة عشرة أشبار ونصف ، وهذا هو قول الراوندی قدس سره ، ولعلّه یوافق المشهور ومسلکهم ، علی احتمال سیجیء بیانه إن شاء اللّه .

السابع : قول بالتخییر بین العمل بکلّ واحد من الروایات الواردة فی الکرّ بحسب المساحة ، وهو الذی اختاره السیّد ابن طاووس قدس سره ولم یوافقه علیه أحد .

الثامن : هو أن یقال إنّ الکرّ ما کان من الماء بمقدار من الکثرة لو وقع شیء فی وسطه لم یتحرّک طرفاه ، وهو الذی اختاره الشلمغانی ، والمعروف عند الإمامیّة فساد مذهب الشلمغانی وآراءه .

هذا ما وجدناه من الأقوال ، فلنشرع حینئذٍ بذکر أدلّة المسألة .

أمّا مدرک المشهور ومستندهم ، فقد استدلّ بخبرین :

أحدهما : خبر حسن بن صالح الثوری ، عن أبی عبداللّه علیه السلام قال : «إذا کان الماء فی الرکی کرّاً لم ینجسه شیء ، وقلت : وکم الکرّ ؟ قال : ثلاثة أشبار ونصف عمقاً فی ثلاثة أشبار ونصف عرضاً»(1) . فی مقدار الکرّ بحسب المساحة

هذا علی ما نقله «الکافی» والشیخ فی «التهذیب» ، ولکن فی «الاستبصار» زیادة فی الخبر بقوله : «ثلاثة أشبار ونصف طولها فی ثلاثة أشبار ونصف عمقها . . . إلی آخره» ، فعلی النسخة الثانیة تکون دلالته علی المطلب واضحاً من ضرب أحدهما فی الآخر بحیث یبلغ مضربه اثنی عشر شبراً مع ربع شبر ، ثمّ


1- وسائل الشیعة : الباب 9 من أبواب الماء المطلق، الحدیث 8 .

ص:218

یضرب ذلک الحاصل فی ثلاثة أشبار ونصف ، فیبلغ ثلاثة وأربعین شبراً إلاّ ثُمن شبر .

وقد أورد علی الاستدلال بهذا الخبر من جهات :

الجهة الاُولی : أنّه قد اعترض علیه فی «التنقیح» من حیث السند بضعف الحسن بن صالح ، ولعلّ وجهه کونه علی مذهب الزیدیة علی ما فی «جامع الرواة» ، وکان من أصحاب الباقر علیه السلام ، نقلاً عن «خلاصة» العلاّمة .

وفیه أوّلاً : إنّه کان من فقهائهم وأجلاّئهم ، کما عن العلاّمة البروجردی قدس سره ، بل قد نقل عن بعض الثقات المقاربین لعصره توثیقه ، فلا أقلّ کون تکون الروایة موثّقة کما عن «مصباح الفقیه» لا ضعیفة .

وثانیاً : لو سلّمنا ضعفها ، فینجبر بعمل الأصحاب والشهرة ، لأنّه معمولٌ بها کما فی «مصباح الفقیه» . هذا ولکنّه غیر معلوم ، لأنّه یشتمل علی الرکی ، فیمکن أن لا یکون عملهم إلاّ بروایة أبی بصیر الآتیة ، اللّهم إلاّ أن یقال _ کما هو المستفاد من کلام «الجواهر» قدس سره _ : أنّه مع الإجماع علی عدم عملهم بعنوان الکریة والدوران والرکی _ أی البئر _ لعدم اشتراط الکریة فیه ، فیحمل الخبر علی غیر المدور فیکون معمولاً به ، هذا ، لکنّه لا یخلو عن تأمّل .

الجهة الثانیة : من جهة اضطراب المتن والدلالة ، لما قد عرفت من اختلاف الشیخ من حیث الزیادة فی «الاستبصار» المشتمل علی الأبعاد الثلاثة ، بخلاف نسخة «الکافی» و«التهذیب» ، فیوجب الإجمال والتردّد فیسقطه عن درجة الاعتبار .

وقد اُجیب عنه أوّلاً ، کما فی «التنقیح» : قد اُشیر إلی هذه الزیادة نقلاً عن نسخة وردت ذکرها فی الطبعة الأخیرة من «وسائل الشیعة» نقلاً عن «الکافی» و«التهذیب» . فی مقدار الکرّ بحسب المساحة

لکنّه غیر مسموع ، لأنّه قد نقلت هذه الزیادة عن «الاستبصار» عن جمیع

ص:219

الفقهاء المعاصرین ، وعن صاحب «الجواهر» والشیخ وغیرهم ممّن سبقهما ، فلو کان الأمر کما ذکر ، لکان المفروض وجود نسخة «وسائل الشیعة» المشتملة علی هذه الزیادة ، نقلاً عن «الکافی» و«التهذیب» عند أحدهم .

کما لا یبعد أیضاً ما نقل عن ابن المشهدی فی هامش «الاستبصار» أنّ الروایة غیر مشتملة علی تلک الزیادة فی النسخة المخطوطة لأنّه ینقل أنّه یمتلک نسخة من «الاستبصار» قد صحّحها والده ولیس فیها هذه الزیادة المدّعاة .

ولکن قد عرفت وجود هذه الزیادة فی جمیع نسخ «الاستبصار» المتداولة .

وثانیاً : ولو سلّمنا هذا ولکنّه لا یضرّ بالاستدلال ، لأنّ الأمر یدور حینئذٍ بین کون الزیادة فی «الاستبصار» صدرت خطاءً أو کانت النقیصة فی «الکافی والتهذیب» خطاءً ، فلا إشکال فی تقدّم أصالة عدم الزیادة علی أصالة عدم النقیصة ، لأنّ النقص کثیراً ما یتّفق فی النسّاخ ، کما هو الحال فی هذه الأزمنة فی أکثر الموارد ، بخلاف الزیادة فإنّ وقوعها فی غایة الندرة ، فحینئذٍ یکون الاعتبار علی ما فی نسخة «الاستبصار» .

نعم ، قد یرد الإشکال من جهة أنّ الکلینی رحمه الله قد اشتهر أنّه أضبط من الشیخ الطوسی رحمه الله فی کتابیه «الاستبصار» و«التهذیب» هذا أوّلاً .

وثانیاً : إنّ تدوین «الاستبصار» متأخّرٌ عن «التهذیب» ، بل قد أخذ أصله منه ، فحینئذٍ إذا لم تکن الزیادة فی أصله موجودة ، فلا معنی لوقوعها فی فرعه ، فغایته الإجمال والاضطراب ، وسقوطه عن الدلالة ، هذا کما فی «مصباح الهدی» للمحقّق الآملی قدس سره .

هذا ، ولکن برغم جمیع ذلک ، فأصالة عدم الزیادة فی مثل نقل الشیخ قدس سره تکون محکمة لما ذکروا ، وإن أمکن الاستیناس للخطأ من أنّ تصوّر مشابهته ذِکْر العرض والعمق لذکر الأبعاد الثلاثة أوجب توهّمه بذکر الثلاثة .

ص:220

لکن هذا بعید غایته عن مثل الشیخ قدس سره .

وکیف کان ، لا یخلو عن کلام وإشکال ، ولو فی الجملة ، بأن یزیل عن النفس الاطمئنان القوی فی الاستدلال به ، إلاّ بمعونة بعض الوجوه والمحتملات ، کما لا یخفی .

وثالثاً : لو سلّمنا سقوط الزیادة ، فإنّه یمکن الاستدلال به من جهة کون المراد من العرض هو السِّعة ، حتّی یشمل کلا البُعدین ، نظیر العرض فی قوله تعالی : «عَرْضُهَا کَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالاْءَرْضِ»(1) .

الجهة الثالثة : اشتماله علی قرینة توجب عدم إمکان العمل علی طبقه ، هی لفظ (الکرکی) وهو بمعنی البئر ، الذی تکون فوهته مدوّرة . مضافاً لاشتماله علی ما لا یفتی به أحد إلاّ من شذ ، وهو لزوم کون عدم انفعال ماء البئر لأجل اشتماله لمقدار الکر ، مع أنّ الأصحاب یقولون بعاصمیّته من جهة المادّة لا من جهة الکریة کما فی الروایة . هذا ، مع أنّ لفظ (الکر) بحسب أصله مأخوذٌ عن مکیال العراق ، وهو کان مدوّراً ، فیؤیّد موافقته الکر أیضاً .

ولکن قد اُجیب عنه أوّلاً : بإمکان الحمل _ بانضمام إجماع الأصحاب من عدم العمل علی طبقه مجرّد کونه دائریّاً _ علی غیره ، لأنّه یلزم أن یکون مقداره بحسب المضرب فی المدور من ضرب بعدین منه ، لعدم وجود طول وعرض فیه حینئذٍ ، وهو ثلاثة وثلاثین شبراً وخمسة أثمان الشبر ونصف ثُمن الشبر .

وقد أورد هذا الاحتمال العلاّمة الأکبر البهبهانی فی حاشیته علی «المدارک» تبعاً للمجلسی ، واختاره من حیث الفتوی فی زماننا هذا المحقّق الحلّی کما عرفت فی نقل الأقوال .

ولکن یورد علیه أنّه لا قائل به من أصحابنا غیره ، ففی «الجواهر» أنّه لابدّ


1- سورة الحدید : آیة 21 .

ص:221

حینئذٍ من تعمیم الخبر من صورة المدور إلی غیره ، من الربع الذی کان له أبعاد ثلاثة ، حتّی یوافق مضربه ما قاله المشهور .

وثانیاً : من المحتمل أن یکون الخبر مشتملاً علی حکمین :

أحدهما : کون الرکی طهارته منوطةً بصورة کونها کرّاً ، ثمّ حینما سأل السائل عن مقدار الکرّ أجاب علیه السلام عن تحدیده باعتبار المساحة من جهة المکعب علی مثل المربّع ، فکأنّه أراد علیه السلام بیان أنّ اللاّزم فی ماء البئر وجود هذا المقدار من الماء ، لا أن یکون التقدیر بذلک ملحوظاً بلحاظ البئر المدور ، حتّی یلزم أن یکون قدره أقلّ ممّا حدّده المشهور .

کما أنّه اُجیب عن الإشکال الثانی : بأنّ البئر وإن لم یشترط فی طهارته الکرّیة لأنّ له مادّة ، کما فی خبر محمّد بن إسماعیل بن بزیع بقوله : «ماء البئر واسع لا یفسده شیء لأنّ له مادّة» ، إلاّ أنّه لم یرد ذکر لهذا الشرط فی ظاهر الخبر ، بل کأنّه أخبر عن أنّ البئر إذا کان مشتملاً علی مقدار الکرّ فلا ینجسه شیء مطلقاً ، سواء کان له مادّة أم لا ، کما أنّ البئر إذا کانت له مادّة لم ینجسه شیء سواء کان بلغ مقدار الکر أم لا ، نظیر قوله : «إذا خفی الأذان فقصّر» و«إذا خفیت الجدران فقصّر» .

بناءً علی هذا یدلّ مع ملاحظتها کفایة حصول أحد الأمرین فی تحقّق الطهارة . مضافاً إلی ما قیل بأنّ سقوط الخبر عن الاستدلال ، فی فقرة خاصّة ، هو البئر من عدم اعتبار لزوم الکریة فیها ، لا یوجب سقوطها ، بل یستدلّ به بالنسبة إلی بیان مقدار الکر .

هذا ، لکنّه یصحّ إن سلّمنا ما ذکره ، بأن یکون الخبر مشتملاً علی أمرین وجهتین ، وإلاّ فلا یمکن التفکیک بینهما ، لأنّ المفروض أنّه قدر الکرّ علی ما یخالف قول المشهور ، أی بحسب سعة البئر الذی لا یشتمل علی الأبعاد الثلاثة .

اللّهم إلاّ أن یلتزم بما قد ذکره صاحب «الجواهر» من حمله _ بواسطة إجماع

ص:222

الأصحاب _ علی ما یوافقه ، أو ما احتملنا من عدم کون الرکی مدوراً وتابعاً ، کما احتمله صاحب «وسائل الشیعة» بل کان علی مثل بعض الغدران الصغیرة التی یحفرونها فی المنازل لحفظ المیاه ، وقد فسّره فی «المنجد» الرکی بالحوض ، فلا یبعد أن یکون الرکی هنا غیر ما هو المعهود فی الذهن ، حتّی لا یساعد قول المشهور . ولکنّه لا یخلو عن تأمّل فی الجملة .

وکیف کان ، الاستدلال بهذا الحدیث لا یخلو عن مناقشة وکلام وإشکال فی الجملة ، إلاّ مع بعض التوجیهات ممّا لا یقبله العقل ابتداءً ، کما لا یخفی ، إلاّ أن نقول بالتفکیک بین صدره وذیله ، وأنّ المراد من العرض هو السعة فیوافق المشهور ، وأمّا کون الدلیل علیه خبر آخر وهو حدیث أبی بصیر بقوله : «سألت أبا عبداللّه علیه السلام عن الکرّ من الماء ، کم یکون قدره ؟ قال : إذا کان الماء ثلاثة أشبار ونصف فی مثله ، ثلاثة أشبار ونصف فی عمقه فی الأرض فذلک الکرّ من الماء»(1) ، فقد أورد علیه من جهة السند من جهات ثلاثة :

تارة : من ضعفه بواسطة کون الراوی الوسیط هو أحمد بن محمّد بن یحیی ، وهو مجهول الحال ، کما ذکره صاحب «المدارک» ، وشیخنا البهائی علی ما قیل .

وقد اُجیب عنه : کما فی «الحدائق» ، بأنّ هذا الإشکال یرد علی سند الشیخ فی «التهذیب» حیث قد نقل عن أحمد بن محمّد بن یحیی ، بخلاف سند «الکلینی» رحمه الله فإنّه صحیح ، لأنّه قد روی _ کما فی «وسائل الشیعة» _ عن محمّد بن یحیی ، عن أحمد بن محمّد ، عن عثمان بن عیسی ، عن ابن مسکان ، عن أبی بصیر ، والظاهر أنّ أحمد بن محمّد هو أحمد بن محمّد عیسی _ لروایة محمّد بن یحیی عنه ، وروایته أیضاً عن عثمان بن عیسی ، وهو ثقة جلیل القدر _ لا أحمد


1- وسائل الشیعة : الباب 10 من أبواب الماء المطلق، الحدیث 6 .

ص:223

ابن محمّد بن یحیی الضعیف ، کما فی «التهذیب» .

ویؤیّد أنّ المراد هو أحمد بن محمّد بن عیسی ، لا یحیی کما فی نسخ «التهذیب» ، أنّ العلاّمة لم یطعن فی الروایة ، إلاّ من جهة ابن عثمان وأبی بصیر کما سیأتی . مضافاً إلی بُعد زمان أحمد بن محمّد بن یحیی عن عثمان بن عیسی بکثیر ، کما فی «جامع الرواة» ، فلا یمکن أن یروی عن عثمان بن عیسی لأنّه لیس من طبقته .

وکیف کان ، فالحدیث لا یکون ضعیفاً من جهة أحمد بن محمّد بن یحیی ، بما قد عرفت من طریق «الکلینی» وکذلک «الاستبصار» الذی یتّحد سنده مع سند الکلینی .

واُخری : ضعفه من جهة عثمان بن عیسی ، الذی کان واقفیّاً .

لکنّه أیضاً مخدوش ، بأنّ الشیخ قدس سره نقل فی «عدّة الاُصول» الإجماع علی العمل بروایته ، بل روی عن الکلینی أنّه عدّد جماعةً وقال أنّه ممّن أجمعت العصابة علی تصحیح ما یصحّ عنهم . وأیضاً نُقل أنّه تاب ورجع من الوقف . مضافاً إلی أنّه ثقة برغم وقفه ، وهو کاف فی الأخذ بخبره ، إلاّ علی مسلک صاحب «المدارک» ، حیث یعتبر فی العمل کون الراوی إمامیّاً .

هذا مضافاً إلی أنّه یؤیّد توثیقه بنقل ابن قولویه عنه فی أسانید «کامل الزیارات» . فالإشکال من هذه الجهة أیضاً مدفوع کما لا یخفی .

وثالثاً : من جهة أبی بصیر ، لأنّه مشترک بین لیث المرادی أبو البختری ویحیی بن القاسم الأسدی . وأمّا احتمال کونه یوسف بن الحارث فمحلّ تأمّل ، لأنّه کان من أصحاب الباقر علیه السلام ولم یرو عن الصادق علیه السلام لعدم ذکره فی «جامع الرواة» من أصحابه وروایته عنه . فإذا تردّد بینهما بأن یکون هو اللیث المعتبر _ بل قد قیل أنّه من أصحاب الإجماع فیکون موثّقاً قطعاً _ أو یحیی بن القاسم الواقفی الذی وقع الکلام فیه ، فإذا لم یُعلم أحدها علی الیقین فلا یمکن الاعتماد علیه .

ص:224

هذا ، ولکنّه مخدوش بأنّ الظاهر کونه هو اللیث ، کما ذکره صاحب «الجواهر» لأنّ ابن مسکان یکثر النقل عنه ، والمراد من ابن مسکان غالباً هو عبداللّه بن مسکان الذی کان من أصحاب الإجماع ، فهو أمر آخر یوجب توثیقه ، ولو لم یکن لیثاً ، ولذلک لم یطعن العلاّمة فی «المنتهی» بضعف سند الحدیث ، إلاّ أنّه من جهة عثمان بن عیسی . مضافاً إلی أنّ الاستاذ الأکبر البهبهانی فی حاشیة «المدارک» جعل کلّ من یُسمّی ب_ أبی بصیر موثّقاً وإن تعدّدوا ، وإن نقل عن الخوئی فی تقریره ، فی ذیل کلامه بأنّه قد رجع عن عقیدته .

وکیف کان ، فضعف السند لا یعبأ به . مضافاً إلی انجباره بعمل الأصحاب قطعاً ، لأنّ دلالته علی ما اختاره کان أوضح وأصحّ من خبر حسن بن صالح .

وأمّا الإشکال من جهة الدلالة : فإنّ قوله «فی مثله» یحتمل أن یرجع إلی المقدار الواقع فیما قبله من ثلاثة أشبار ونصف ، حتّی یفهم منه البعدان ، وثلاثة أشبار ونصف فی عمقه حتّی یکون متمِّماً لأبعاده الثلاثة ، وهکذا یحتمل أن یکون فی مثله متعلِّقاً لما بعده من ثلاثة أشبار ونصف ، أی بأن یکون العدد المذکور بعده بیاناً لمثله ، وفی عمقه یکون حالاً لثلاثة وأشبار ونصف أو صفة لذلک ، فحینئذٍ لا یتعرّض إلاّ لبُعدین من العرض ، أی السعة والعمق ، فینطبق مع الدائرة ، فیبلغ مضربه حینئذٍ 65/23 شبراً .

وقال الخوئی : بأنّ هذا الاحتمال متعیّن ، لأنّ الاحتمال الأوّل یوجب التکلّف من وجهین :

أحدهما : هو الحذف فی متعلّق (مثله) من جهة المقدار .

والثانی : تقدیر کلمة (فی) بعد لفظ (مثله) ، فغایته الإجمال والاحتمال ، فإذا جاء الاحتمال بطل الاستدلال ، کما فی «مصباح الهدی» .

هذا ، ولکن الإنصاف عدم الإجمال والاحتمال ، وظهوره فی الاحتمال الأوّل

ص:225

کما احتمله الشیخ البهائی قدس سره ، لأنّ العرف یفهم من هذه التعابیر أنّ ثلاثة أشبار ونصف فی مثله هو فرض هذا المقدار فی طرفی السطح المسمّی بالعرض والطول اصطلاحاً ، لأنّه فی الحقیقة لا طول فی المربع ، بل هو فی المستطیل ، ولعلّه لذلک یحمل کلمة (العرض) فی القرآن والأخبار علی السِّعة لا علی العرض فی مقابل الطول ، ومن هنا جعل بعضٌ الفارق بین الطول والعرض بأنّ ما یلاحظ تقدیره وحدّه أوّلاً هو الطول وما یلیه هو العرض .

وبناءً علی ذلک لا تقدیر حینئذٍ حتّی یرجع ضمیر (مثله) إلی المقدار المستفاد من العدد المذکور فیما قبله ، والتفوّه بذلک من قبل القائل عجیب ، لأنّه یکون من قبیل رجوع الضمیر فی قوله تعالی : «اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَی»(1) إلی العدل المستفاد من اعدلوا ، وهذا أمر مطابق للقواعد العربیّة ، ولیس کالتقدیر فی سائر الموارد ، بل هو إرجاع معنوی فی الضمیر . بل إنّ حسن التعبیر فی المقام یقتضی کذلک ، حذراً من التکرار ، إذ یفهم المعنی بعبارة موجزة واضحة ، وفی غایة الفصاحة والبلاغة . کما أنّ إشکاله فی حذف حرف (فی) لما بعد (مثله) ، ممّا لا وقع فیه ، لأنّه یفهم ذلک بمناسبة المقام .

مع إمکان أن یُقال به أیضاً ، بأنّه لو سلّمنا کون ذکر المقدار بعد (مثله) متعلِّقاً وبیاناً للمثل لا للعمق ، فمع ذلک نقول بأنّه تعرض للطول والعرض بالصراحة ، وللعمق بالإشارة ، من جهة عدم ذکر متعلّق العمق من حیث المقدار ، فیفهم أنّ المقصود هو القدر المذکور فیما قبله ، وهذا أمر عرفی ، والتقدیر لمثل ذلک أمرٌ حسن ، فبناءً علی ذلک تکون دلالة خبر أبی بصیر علی تحدید الکرّ فی ثلاثة أشبار ونصف فی الأبعاد الثلاثة عندنا واضحة جدّاً .


1- سورة المائدة : آیة 8 .

ص:226

ودعوی الإجمال کما فی «مصباح الهدی» ، أو الظهور فی الدائرة من تعرض البعدین فقط من السطح والعمق ، کما فی «التنقیح» و«المستمسک» وغیرهما لایخلو عن مسامحة ومناقشة ، فنحن نوافق المشهور فی ذلک ، وهو أیضاً الموافق للاحتیاط .

ودعوی أنّه یزید عن الکر بمقدار الوزن ، وهو ألف ومأتا رطل ، مدفوعة ، أوّلاً : باختلاف النقل فی الوزن ، من أنّه قد یبلغ مقدار سبعة وعشرین شبراً کما نقله الحکیم قدس سره عن بعض الأفاضل ، وهو منقول عن جماعة فی ماء النجف الأشرف أنّه بلغ مقدار ثمانیة وعشرین شبراً ، ونقل عن المجلسی فی «مرآة العقول» أنّه یساوی ثلاثة وثلاثین شبراً تقریباً ، ونُقل عن المحدّث الاسترآبادی بأنّه یساوی ستّة وثلاثین شبراً تقریباً ، فمع وجود هذه الاختلافات ، کیف یمکن الاعتماد علی ذلک ؟!

وثانیاً : یمکن أن یقال : بأنّ الشارع قد لاحظ جانب الاحتیاط رعایة للناس ، وجعل المقدار الزائد ملاکاً للکرّ ، بحسب المساحة ، للعلم بتحصیل ما هو المقدار فی الکرّ من حیث الوزن ، لأنّ أغلب الناس یتسامحون فی اُمور دینهم ، فجعل الشارع ما هو المتیقّن فی حصول الکرّ میزاناً للتطهیر ، مع معلومیّة اختلاف أشبار الناس بعضهم مع بعض ، فاحتاط فی ذلک بحیث یدخل من کان شبره قصیراً بالقیاس إلی غیره فی الجملة .

مضافاً إلی إمکان أن یکون الاحتیاط من جهة اختلاف وزن المیاه ثقلاً وخفّةً ، فجعل الأکثر ملاکاً للعلم بالحصول فی جمیع الموارد ، فهذا هو الأقوی عندنا .

وقد جعل صاحب «الجواهر» الخبر المرسل المروی فی «المقنع» للصدوق قدس سره من المؤیّدات _ قال : «روی أنّ الکرّ ذراعان وشبر ، فی ذراعین وشبر ، بناءً علی کون المراد من الذراع هنا عظم الذراع ، وهو یزید عن الشبر

ص:227

یسیراً ، فیکون فی عشرة ونصف» . هذا ، وقد تبعه فی ذلک صاحب «وسائل الشیعة» فی ذیل خبر المقنع(1) ، فیوافق حینئذٍ مفاد خبر أبی بصیر .

لکن الإنصاف أنّه لا یخلو عن تکلّف ، أوّلاً : لکونه خلاف اصطلاح الذراع عند الفقهاء والعرف ، حیث یستعمل فی مجموع العظم مع الأصابع .

وثانیاً : من عدم تعرّضه للأبعاد الثلاثة .

اللّهم إلاّ أنْ یقال إنّه یحمل علی هذا ، لعدم مطابقته مع أحد الأقوال السابقة ، ویوجب کونه خلاف الإجماع ، فیکون هذا أحسن المحامل ، فهو وجه وجیه مانع عن طرح الخبر رأساً ، کما لا یخفی .

وأمّا الأخبار التی اُشیر فیها إلی الحاویات الموجودة فی الخارج کالحُبّ والقُلّة والجَرّة وغیرها ، فلا تتعارض مع ما اخترناه ، وإن ادّعی بعضهم أنّه قد یوافق من حیث الوزن بما یقرب لقول القمیّین من سبعة وعشرین شبراً .

لأنّ ذلک أوّلاً : فی مثل خبر عبداللّه بن المغیرة ، عن بعض أصحابنا عن الصادق علیه السلام ، قال : «الکرّ من الماء نحو حبی» . هذا وأشار إلی حُبّ من تلک الحباب التی کانت بالمدینة(2) ، وأشار إلی جهة خارجیّة فلا یکون له إطلاق ، إلاّ ما هو الموجود فی الخارج ، فکما یمکن أن یکون موافقاً لما ذکروه ، هکذا یمکن خلافه بأن یکون مساعداً لما اخترناه .

وثانیاً : لما ورد فی الخبر کما فی وسائل الشیعة فی ذیل خبر آخر لعبداللّه بن المغیرة عن بعض أصحابه ، عن أبی عبداللّه علیه السلام ، قال : «إذا کان الماء قدر قُلتین


1- وسائل الشیعة : الباب 10 من أبواب الماء المطلق، الحدیث 3 .
2- وسائل الشیعة : الباب 10 من أبواب الماء المطلق، الحدیث 7 .

ص:228

لم ینجّسه شیء ، والقُلّتان جَرّتان»(1) .

عن المحقّق فی «المعتبر» : أنّه نقل عن ابن الجنید أنّه قال : الکُرّ قلّتان ، ویبلغ وزنة ألف ومأتا رطل . فحینئذٍ لا ینافی ما ذکرنا ، لأنّ غایة ذلک رجوعه إلی مقدار الکرّ بحسب الوزن ، فیرجع إلی ما عرفت من الجمع بین الوزن والمساحة من الاختلاف .

نعم ، ما یکون مخالفاً لما اخترناه لاختیارنا من موافقة المشهور عدّة أخبار ، هی مستند لسائر الأقوال ، فلا بأس بالإشارة إلیها والجواب عنها .

منها : خبر الکلینی ، عن محمّد بن یحیی ، عن أحمد بن محمّد ، عن البرقی ، عن ابن سنان ، عن إسماعیل بن جابر ، قال : «سألت أبا عبداللّه علیه السلام عن الماء الذی لا ینجسه شیء ؟ قال : کر . قلت : وما الکرّ ؟ قال : ثلاثة أشبار فی ثلاثة أشبار»(2) . وقد نقل عن الشیخ بطریقین آخرین کما فی «وسائل الشیعة» .

فهذا الخبر وإنْ کان فی دلالته فی الجملة إبهام ، لعدم تعرّضه للأبعاد الثلاثة ، فیمکن حمله علی الدائرة ، بأن یکون المراد فی ثلاثة أشبار هی السعة ، وفی آخر هو العمق ، فیبلغ حینئذٍ من حیث المساحة من جهة مضربه إلی 19 / 21 إحدی وعشرون شبراً وکسر من الشبر ، لکنّه خلاف الإجماع قطعاً ، إذ لم یقل بذلک أحد من الفقهاء . قد حمل علی الأبعاد الثلاثة ، لما قیل بأنّه من المعمول عند العرف ذکر طرفی الأبعاد فی المکعّبات ، ویُقال إنّه أربع فی أربع ، أو خمسة فی خمسة ، حیث یقصد به الأبعاد الثلاثة ، والعجب عمّن یدّعی هذا کالخوئی والحکیم ، کیف لا یدّعی ذلک فی مثل خبر أبی بصیر ، فلا یحمله علی المربعات ،


1- وسائل الشیعة : الباب 10 من أبواب الماء المطلق، الحدیث 8 .
2- وسائل الشیعة : الباب 9 من أبواب الماء المطلق، الحدیث 7 .

ص:229

بل قد تکلّفوا أنفسهم بأن فرضوه فی الدائرة کما عرفت .

وکیف کان ، فلا یبعد لما ذکرنا صحّة حمله علی ما عرفت ، فحینئذٍ لا یبقی الإشکال فیه إلاّ من جهة السند ، لما قیل إنّه منقولٌ عن البرقی عن ابن سنان ، وهو مردّد بین محمّد بن سنان الضعیف وعبداللّه بن سنان الثقة ، فعلی هذا لا یمکن الاستدلال به .

هذا ، وإن ذکر صاحب «الجواهر» وجوهاً مؤیّدة لکونه هو محمّد بن سنان نقلاً عن البهبهانی قدس سره فی «حاشیة المدارک» ، مضافاً إلی استبعاد أن ینقل البرقی عن عبداللّه بن سنان بالمشافهة خصوص هذا الحدیث ، إلاّ أنّه وثّقه اعتماداً علی توثیق الاستاذ الأکبر اعتماداً علی نقل المفید فی «الإرشاد» . ثمّ قال : إنّه کان لحسن ظنّه به ، ثمّ یضیف وللبحث فیه مقام آخر . خلافاً لما ذهب إلیه الآخرون _ مثل الشیخ البهائی _ حیث نفی الاستبعاد کونه هو عبداللّه بن سنان .

وکیف کان ، قد ذهب بعض مثل المحقّق الخوئی إلی صحّة خبره من جهة توثیقه لمحمّد بن سنان . فالأولی رفع الید عن ذلک ، والرجوع إلی أمر آخر فی ردّ هذا الحدیث ولیس ذلک إلاّ من جهة کونه مخالفاً للمشهور وفتاوی الأصحاب ، وإن ذهب إلیه جمعٌ کثیر فی الجملة کما عرفت فی صدر المسألة .

وثانیاً : صراحة الخبرین السابقین فی لزوم زیادة النصف علی الثلاثة ، فیدور الأمر بین هاتین الطائفتین من الزیادة سهواً أو خطأً أو النقیصة کذلک ، فأصالة عدم الخطأ فی الزیادة أولی من أصالة عدم الخطأ فی النقیصة ، کما لایخفی .

بل قد یمکن أن یجعل المذکور فی الخبر الثانی من الموهنات لخبر إسماعیل بن جابر خلاف ما نقله عن الإمام أوّلاً .

هذا کما فی خبر الشیخ قدس سره بإسناده عن محمّد بن أحمد بن یحیی ، عن أیّوب بن نوح ، عن صفوان عن إسماعیل بن جابر ، قال : «قلت لأبی عبداللّه علیه السلام : الماء

ص:230

الذی لا ینجسه شیء ؟ قال : ذراعان عمقه فی ذراع وشبر وسعة (سعته)»(1) .

بما أنّ سنده کان أصحّ من خبره الأوّل ، فقد أفتی به السیّد فی «المدارک» والمحقّق فی «المعتبر» ، لولا مخالفته لعمل الأصحاب علی ما نقل عن الأوّل ، فیدلّ بمضمونه بما یختلف من حیث المساحة بما کان مذکوراً فی الخبر السابق ، وإن أتعب نفسه الخوئی لإرجاعه إلی الأوّل غایة الاتعاب ، وارتکب فیه خلاف الظاهر ، حیث جعل الابعاد فی الأوّل بنحو المکعّب المربّع وفی الثانی بنحو الحجم المدوّر مع الإغماض عن حدوث اختلاف یسیر فی کون القطر ثلث المحیط بشیء یسیر بحیث یتسامح فی ذلک ، أی القطر تکون نسبته تسعة من اثنین وعشرین ، حیث ینقص عن الثلث بیسیر ، ولکنّه یأخذ ملاک المضروب وهو الثلث ، ثمّ یضرب نصف القطر وهو واحد ونصف الشبر فی نصف المحیط الذی هو تسعة فیکون أربعة ونصف شبر ، فیصیر المجموع سبعة أشبار إلاّ ربع شبر ، ثمّ یضربه فی أربع أشبار الحاصل من ذراعین ، فیبلغ ستّة وعشرین شبراً ، فیکون معادلاً مع الوارد فی الحدیث الآخر مع فرض المکعب المربع حاصل ضرب ثلاثة فی ثلاثة وتحصل تسعة فیضرب ثلاثة فیحصل سبعة وعشرین .

ولکنّه مخدوش جدّاً لا یقبله الذوق السلیم ، أوّلاً : بأنّ التسامح فی مقدار من نسبة نصف القطر مع نصف المحیط غیر صحیح ولا یمکن التسامح فیه لأنّ حاصل ضرب الأعشار بعضها فی البعض یکون کبیراً ممّا لا یعقل التسامح فیه ، یعنی یبلغ مضربه فی الفرض المذکور وهو من ضرب نصف نصف القطر فی نصف المحیط أکثر من سبعة أشبار ، فلو ضرب فی أربعة أشبار التی عبارة عن ذراعین ، بلا زیادة علی مبناه فیصیر المجموع أزید من ثمانیة وعشرین شبراً فی الجملة ،


1- وسائل الشیعة : الباب 10 من أبواب الماء المطلق، الحدیث 1 .

ص:231

فهو ممّا لا یقول به أحدٌ من الفقهاء ، فیخالف ما کان فی خبره الآخر ، کما لایخفی .

وثانیاً : کیف فرّق بین الخبرین من جهة بیان الأبعاد ، ولیس ما یمکن أن یتخیّل فی وجه الفرق إلاّ وجود لفظ (السعة) فی الثانی وهل هو لفظ یستعمل علی سطح المحیط بلا إشارة فیه لخصوصیّة الدائرة أو المربع ؟!

اللّهم إلاّ أن یُقال إنّه یرید الحمل علی ذلک بمقتضی الجمع بین الخبرین ، فلذلک یحمل کلّ علی ما یقابل الآخر من جهة السعة فی الدائرة من المدور والمربّع ، فمع ذلک لا یرتفع الإشکال الأوّل ، کما لا یخفی .

فثبت الاختلاف فی خبری إسماعیل بن جابر من جهة الملاک فی المساحة ، وهذا یوجب الاستبعاد أن یکون قد نقل إسماعیل مرّتین عن الإمام بنحوین مختلفین ، بحیث یکون المقدار فی الأوّل سبعة وعشرین شبراً فی المربع وفی الدائری ، وفی الثانی یصیر ستّة وثلاثین فی المربّع وأزید من ثمانیة وعشرین فی الدائری . فهذا وهن آخر لذلک القول _ وهو قول القمیّین _ من سبعة وعشرین ، کما یکون وهناً لقول صاحب «المدارک» أیضاً ولعلّه لأجل هذا الاختلاف الفاحش فی خبر فارد وراوٍ واحد أعرض الأصحاب عن خبری إسماعیل بن جابر .

فإذا عرفت هذا یظهر الجواب عن الخبر المرسل الذی رواه الصدوق فی «المجالس» ، قال : «روی أنّ الکرّ هو ما یکون ثلاثة أشبار طولاً فی ثلاثة أشبار عرضاً فی ثلاثة أشبار عمقاً»(1) .

لإمکان أن یکون المدرک هو خبر إسماعیل بن جابر ، وأنّه استفاد منه ذلک ، مضافاً إلی مخالفته لما روی فی «المقنع» بحسب الظاهر ، وإن أمکن الجمع بینهما بحمل ذلک علی خلاف فی لفظ (الذراع) کما عرفت فلا نعیده .


1- وسائل الشیعة : الباب 10 من أبواب الماء المطلق، الحدیث 2 .

ص:232

وأمّا ماء البئر ، فإنّه ینجس بتغیّره بالنجاسة إجماعاً ، وهل ینجس بالملاقاة ؟ فیه تردّد ، والأظهر التنجیس (1).

ماء البئر وأحکامه

فإذا ظهر بطلان القول الثانی الذی کان قد ذهب إلیه کثیر من المتقدِّمین والمتأخِّرین والمعاصرین ، فبطلان سائر الأقوال من جهة عدم وجود دلیل علی ما ذهبوا إلیه واضح ، لا یحتاج إلی إطالة الکلام فی کلّ واحد منها .

وأمّا حکم اختلاف المقدار من حیث الوزن مع المساحة بتفاوت فاحش ، فیمکن الرجوع إلی ما قلناه مفصّلاً من کفایة وجود أحد التقریرین فی الحکم بالطهارة ، وکان التقدیر تحقیقیّاً لا تخمینیّاً وتقریبیّاً کما احتمله بعض .

کما لا نذهب إلی ما صدر عن صاحب «الجواهر» من نسبة صدور الخطأ من الإمام علیه السلام ، بل أجری اللّه الحکم علیه کذلک ، فنحن نعتقد خلافه فی حقّ الأئمّة أرواحنا وأرواح العالمین لهم الفداء لأنّ علمهم مقتبس من نور اللّه العلیّ العظیم ، فلا نطیل البحث فی ذلک ، بل هو موکول إلی محلّه .

ثمّ لا فرق فی حکم ماء الکرّ من الحیاض والغدران والأوانی ، لإطلاق الأدلّة ، وعدم خصوصیّة فی الوعاء المشتمل للماء ، فما نسب خلافه إلی المفید وسلار _ لو صحّت النسبة _ ممّا لا دلیل علیه ، هذا فضلاً عن إعراض جُلّ الأصحاب لولا الکلّ عنه .

(1) فأمّا نجاسة ماء البئر بالتغیّر بأحد أوصاف النجاسة ، من اللون والطعم والریح ، واضحٌ لا سترة فیه لما قد عرفت من الأدلّة السابقة لجمیع أقسام المیاه ، بکون التغیّر علّة لحدوث النجاسة .

فی تعریف ماء البئر و حکمه

وأمّا نجاسته بالملاقاة بدون التغیّر ، فیقع البحث فیه من خلال اُمور ثلاثة :

تارة : من جهة موضوع ماء البئر .

ص:233

واُخری : من جهة حکمه من الطهارة والنجاسة .

وثالثة : من جهة الشکّ فیه بکونه ماء البئر أو لا ؟ أی الشکّ فی مصداق ماء البئر حتّی تشمله الأدلّة .

أمّا الأمر الأوّل : والظاهر أنّ لفظ (البئر) یکون من الأسماء الواضحة عند العرف حیث یصدق علی حفر خاصّ صادق علیه ذلک ولو لم یکن فیه ماء أصلاً ، وهذا ممّا لا خلاف فیه . إنّما الکلام وقع من جهة العناوین الموجودة فی الأخبار ، من عنوان ماء البئر ، کما فی خبر محمّد بن إسماعیل بن بزیع (ماء البئر واسع لا یفسده شیء) وأمثال ذلک ، فهذا إمّا حقیقة شرعیّة أو حقیقة عرفیّة ، وأنّه هل أخذ فیها جهة خاصّة عند الشرع ، وصارت بمنزلة حقیقة متشرّعة أم لا ؟

وقد نقل عن الشهید أنّه : مجمع ماء نابع لا یتعدّاها غالباً ، ولا یخرج عن مسمّاها عرفاً . وکیف کان ، لا إشکال بل ولا خلاف فی کون ماء البئر إذا کان مشتملاً علی الماء النابع من تحت الأرض دون أن یجری یصدق علیه أنّه ماء البئر قطعاً ، بل هو القدر المتیقّن من مصادیقه ، وهو واضح .

کما لا إشکال ظاهراً فی صدقه أیضاً ، فیما إذا کان مثله إلاّ أنّه قد جری خارج البئر ، سواء کان من تحت الأرض _ کما فی بعض القنوات _ أو جری فی وجه الأرض _ کما هو کذلک فی بعض الآبار وفی بعض الأمصار وخلال بعض المواسم کالشتاء ، کما لا یخفی .

وأمّا القسم الثالث : هو ما لو لم یکن نابعاً أصلاً ولو قلیلاً ، ولکن اشتمل علی حفرة ودخل فیها الماء وجری عنها کما فی بعض الآبار الواقعة فی طریق القنوات لتصفیة الماء ، فصدق ماء البئر علیه حینئذٍ مشکل جدّاً . کما لا إشکال فی عدم صدق العنوان إذا کان الماء مجتمعاً فی الحفیرة من الماء النازل من المطر أو بالآلات وأمثال ذلک ، بدون النبع دون أن یکون نابعاً من البئر نفسه فإنّه حینئذٍ لا

ص:234

إشکال فی عدم ترتیب آثار ماء البئر الوارد فی لسان الشرع علیه ، فلا إشکال فی شرطیّة الکرّ لمطهریّته ، لأنّه داخل تحت المیاه المتعارفة . کما لا یبعد دعوی صدق ماء البئر إذا کان الماء المجتمع فیه ناتجاً من ذوبان الثلج یصدق علیه عرفاً أنّه ماء البئر . هذا هو الذی یخطر ببالی ، واللّه أعلم بحقائق الاُمور .

فی ما استدلّ به علی انفعال ماء البئر

وأمّا الأمر الثانی : وهو حکم ماء البئر ، فقد اختلف فیه علی أقوال :

بالانفعال مطلقاً ، کما علیه المشهور من القدماء .

أو عدمه مطلقاً ، کما علیه جمیع المتأخّرین ، بل جُلّ المعاصرین .

وقول بالتفصیل بین الکرّ وعدمه ، بالانفعال فی الثانی دون الأوّل ، کما علیه حسن بن محمّد البصیروی .

ثمّ علی قول المتأخّرین من عدم الانفعال فإنّهم یقولون باستحباب المنزوحات خلافاً للشیخ فی «التهذیب» والعلاّمة فی «المنتهی» فإنّهما برغم عدم ذهابهما إلی الانفعال ، یقولان بوجوب المنزوحات تعبّداً .

فقد استدلّ من ذهب إلی الانفعال بعدّة اُمور :

الأوّل : بالأخبار المطلقة الواردة فی باب 8 من الماء المطلق من «وسائل الشیعة» فإنّ الإطلاقات تدلّ علی نجاسة الماء بالملاقاة مطلقاً ، خرج منها ما علم الکریة فیه فمنها ماء البئر .

ثانیاً ؛ بمنطوق عدّة أخبار دالّة علی ذلک بالخصوص ، منها خبر محمّد بن إسماعیل بن بزیع ، قال : «کتبتُ إلی رجل أسأله أن یسأل أبا الحسن الرضا علیه السلام عن البئر ، تکون فی المنزل للوضوء ، فیقطر فیه قطرات من البول أو دم ، أو یسقط فیها شیء من عذرة کالبقرة ونحوها ، ما الذی یطهّرها ، حتّی یحلّ الوضوء منها للصلاة ؟ فوقع علیه السلام بخطّه فی کتابی : ینزح دلاء منها»(1) .


1- وسائل الشیعة : الباب 14 من أبواب الماء المطلق، الحدیث 21 .

ص:235

حیث وقّع فی السؤال عمّا یطهّرها فیفهم منه أنّه کان نجساً بذلک فی ذهن السائل ، وقد قرّره الإمام علیه السلام فی ذلک ، ولم یردعه عنه .

ومنها : صحیح علی بن یقطین ، عن أبی الحسن موسی بن جعفر علیه السلام قال : «سألته عن البئر تقع فیها الحمامة والدجاجة أو الکلب أو الهرّة ؟ فقال : یجزیک أن تنزح منها دلاء ، فانّ ذلک یطهّرها إنْ شاء اللّه تعالی»(1) .

فهو أوضح من سابقه ، لوقوع لفظ التطهیر فی کلام الإمام علیه السلام .

ومنها : خبر حسن ، عن زرارة عن إبراهیم بن هاشم ، ومحمّد بن مسلم وأبی بصیر کلّهم ، قالوا : «قلنا له : بئر یتوضّأ منها ، یجری البول قریباً منها أینجّسها ؟

قال : فقال : إن کانت البئر فی أعلی الوادی ، والوادی یجری فیه البول من تحتها ، فکان بینهما قدر ثلاث أذرع أو أربعة أذرع لم ینجس ذلک شیء ، وإن کان أقلّ من ذلک نجّسها . قال : وإن کانت البئر أسفل الوادی ویمرّ الماء علیها وکان بین البئر وبینه تسعة (سعة) أذرع لم ینجّسها ، وما کان أقلّ من ذلک فلا یتوضّأ منه»(2) .

فإنّ التصریح بالنجاسة فیما کان أقلّ من ثلاث أو أربع أذرع فی الأوّل ، کما أنّه إذا کان أقلّ من تسعة ، قال إنّه (لم یتوضّأ) ، یفهم منه حکم النجاسة ، کما لایخفی. فی ما استدلّ به علی انفعال ماء البئر

ومنها : خبر عبداللّه بن یعفور ، وعنبسة بن مصعب ، جمیعاً عن أبی عبداللّه علیه السلام قال : «إذا أتیت البئر وأنت جنب ، فلم تجد دلواً ولا شیئاً تغرف به ، فتیمّم بالصعید ، فإنّ رب الماء هو ربّ الصعید ، ولا تقع فی البئر ولا تفسد علی القوم مائهم»(3) .

حیث یدلّ علی أنّ دخول الجنب فیه موجب للإفساد والنجاسة ، فلذلک


1- وسائل الشیعة : الباب 17 من أبواب الماء المطلق، الحدیث 2 .
2- وسائل الشیعة : الباب 24 من أبواب الماء المطلق، الحدیث 1 .
3- وسائل الشیعة : الباب 3 من أبواب التیمّم، الحدیث 2 .

ص:236

حکم علیه السلام بالتیمّم فی هذا المورد ، لغلبة نجاسة الجنب ، ولو بموضع إنزال المنی .

وثالثاً : ما یدلّ بمفهومه _ کما تمسّک به الخوئی فی «التنقیح» وقبله الشیخ الأنصاری _ خبر أبی بصیر ، قال : «سألت أبا عبداللّه علیه السلام عمّا یقع فی الآبار ؟ فقال : أمّا الفأرة وأشباهها فینزح منها سبع دلاء ، إلاّ أن یتغیّر الماء ، فینزح حتّی یطیب ، فإن سقط فیها کلبٌ فقدرت أن تنزح ماءها فافعل ، وکلّ شیء وقع فی البئر لیس له دمٌ مثل العقرب والخنافس وأشباه ذلک فلا بأس»(1) .

حیث یدلّ بالمفهوم بأنّ ما له دم ونفس سائلة فیه بأس . بل یدلّ بالمنطوق علی النجاسة ، فی قوله بالنسبة إلی الکلب من لزوم النزح للجمیع لدی القدرة ، خصوصاً إذا لاحظنا صیغة الأمر بقوله «فافعل» .

بل قد استدلّ الشیخ الأنصاری قدس سره بموثّقة عمّار الساباطی عن أبی عبداللّه علیه السلام فی حدیثٍ طویل ، قال : «وسُئل عن بئر یقع فیها کلب أو فأرة أو خنزیر ؟

قال : تنزف کلّها . ثمّ قال أبو عبداللّه علیه السلام : فإن غلب علیه الماء فینزف یوماً إلی اللیل ، یقام علیها قوم یتراوحون اثنین اثنین فینزحون یوماً إلی اللیل وقد طهرت»(2) .

حیث یدلّ ذیلها من حصول الطهارة بنزح الجمیع ، أو بالتراوح فی یوم إلی اللیل ، أنّه قد تنجّس بالملاقاة .

هذا مضافاً إلی نقل الإجماع بالنجاسة _ کما عن «مصریات» المحقّق الأوّل ، ونفی الخلاف عن «السرائر» ، وأنّه من دین الإمامیّة کما عن الآملی ، وعلیه فتوی الفقهاء ، من زمان النبیّ صلی الله علیه و آله إلی زماننا هذا ، کما عن «کاشف الرموز» وذهاب کثیر من القدماء کالصدوقین والمشایخ الثلاثة وأتباعهم والحلّی وابن سعید


1- وسائل الشیعة : الباب 17 من أبواب الماء المطلق، الحدیث 11 .
2- وسائل الشیعة : الباب 23 من أبواب الماء المطلق، الحدیث 1 .

ص:237

والمحقّق والفاضل فی بعض کتبه ، والشهیدین و«الاقتصاد» و«الغنیة» وظاهر التهذیبین . هذا غایة ما یمکن الاستدلال به لذلک ، ووجدناه فی مصنّفات أصحابنا .

ولکن یمکن الجواب عنه _ کما ذکره ممّن تقدّمنا ، مع إضافات منّا لم ترد فی کلمات أصحابنا _ فنقول ومن اللّه الاستعانة :

فأمّا الجواب عن الأخبار المطلقة للنجاسة : فقد عرفت منّا سابقاً عدم وجود دلیل صریح أو ظهور ، فی کون الملاقاة للنجاسة موجباً لنجاسة جمیع المیاه کلّها إلاّ ما خرج ، خلافاً للشیخ الأنصاری قدس سره حیث ذهب إلیه ، وأفتی فی مسألة الماء المشکوک الکرّیة ، لأنّ نوع تلک الأخبار صادرة بالنسبة إلی موارد معیّنة کالأوانی وغیرها ، فلا نعید ولا نُطیل بذکرها .

فالعمدة هو الجواب عن الأخبار الخاصّة . فی ما استدلّ به علی انفعال ماء البئر

فأمّا خبر محمّد بن إسماعیل بن بزیع ، فنقول أوّلاً :

إنّ ذکر الدلاء بصورة الإطلاق ، بلا بیان المقدار ، مع اختلاف ما ذکر فی صدره من النجاسة وغیرها نظیر البعرة ، کما فی بعض النسخ من إطلاق العذرة علیها ، وفی بعض آخر من غیرها کالبعرة للبعیر ، وکیف کان فإنّ البعرة هی فضلة البعیر ، وهی طاهرة ، إلاّ إذا کان جلاّلاً أو موطوءً ، وإرادتهما هنا لا یخلو عن بُعد . فلا محیص إلاّ أن یکون ذکر النزح بنحو الإطلاق ، إمّا من جهة أنّه أراد إفهام ما یمکن التطهیر به ، دون ملاحظة المقدّر والمقدار وإن شئت ذلک فاطلب من موضع آخر .

أو إرادة أنّ النزح واجب فی الجملة ، خصوصاً مع ملاحظة استعمال صیغة الجمع (الدلاء) فیکون أقلّه ثلاثة ، فلابدّ منه ، وأمّا الزائد عنه فوجوبه غیر معلوم .

هذان الوجهان مضافاً إلی بُعدهما عن فهم السائل فی سؤاله ، یکون خلاف الإجماع ، لأنّه لا یفتی بذلک أحد من الفقهاء .

وثانیاً : إنّ الکلینی قدس سره فی «الکافی» نقل هذا الحدیث ، ثمّ ذیّله بخبر آخر عن

ص:238

محمّد بن إسماعیل بن بزیع الذی هو صریحٌ فی طهارة ماء البئر وذلک بقوله : «لا یفسده شیء» ، فکأنّه أراد إفهام السائل بأنّ البئر لا ینجس بذلک ، بل کان النزح للتنزیه ورفع استقذار الطبع . مضافاً إلی أنّ إمکان احتمال وجود التقیّة فی المکاتبة ، أزید من غیرها ، فلا یبعد أن یکون کذلک ، لکونه موافقاً للعامّة ، کما لایخفی .

وأمّا الجواب عن الخبر الصحیح لعلیّ بن یقطین ، مضافاً إلی ما عرفت من إطلاق النزح ، فهو إمّا أن یکون مجمل ومبهم ، أو یکون علی خلاف الإجماع ، علی ما عرفت أنّه قد جمع فی الحکم بین الکلب النجس العین مع الحمامة والدجاجة ، فهما وإن کانتا نجستین أیضاً بلحاظ کونهما میتة ، إلاّ أنّه یکون فی مراتب النجاسة اختلاف فی الشدّة والضعف ، هذا أوّلاً .

وثانیاً : یعارض ما ورد فی الکلب مع موثّقة عمّار الذی قد عرفت دلالته علی وجوب النزح للماء کلّه إن قدر ، وإلاّ بالتراوح ، فکیف الجمع بینه وبین الخبر المذکور ؟

لایقال : یمکن أن یکون بنحو الإطلاق والتقیید ، بأن یکون النزح بالدلاء مثلاً بحیث یبلغ بالنزح للماء کلّه .

لأنّا نقول : هذا خلاف لظاهر قوله : (ینزح دلاء) من حیث کون الماء باقیاً بعد نزح دلاء ، فلا یشمل لمثل المفروض ، فلا إطلاق له حینئذٍ حتّی یقیّد بذلک ، کما لا یخفی .

مضافاً إلی إمکان التأیید بلفظ (یجزیک) من الخطاب مع ذیله بقوله : «یطهّرها إن شاء اللّه» حیث یفید أنّه لا یکون إلاّ أمراً استحبابیّاً لا إیجابیّاً ، واللّه العالم .

وأمّا الجواب عن حسنة زرارة ومحمّد بن مسلم وأبی بصیر ، فإنّ دلالته علی النجاسة لدی الملاقاة وإن کان لا یخلو عن قوّة کما قاله الشیخ الأنصاری قدس سره ووافق الإنصاف إلاّ أنّه یمکن أن یقال : بأنّ الشارع جعل هذه المقادیر أمارة طریقیّة لعدم وصول البول إلیه ، فکأنّه لو کان أقلّ من ذلک فربما یتّصل ویسری ، فلا یبعد کون النجاسة حینئذٍ لا لمجرّد الملاقاة بل من جهة حصول التغیّر نوعاً

ص:239

بحسب استعداد البالوعة من البول والغائط وسرایة المیاه النتنة إلی الماء الخالص الزلال فی البئر ، فبذلک ینجس قطعاً ، لأجل ذلک بیّن الإمام ما یوجب الخلاص عن السرایة والاختلاط وحینئذٍ یکون الخبر معارضاً لما نحن فیه وبصدده کما لایخفی . فی ما یدلّ علی عدم انفعال ماء البئر

وأمّا الجواب عن خبر عبداللّه بن یعفور ، فدلالته علی عکس المطلوب للخصم أوضح من دلالته علی النجاسة ، کما التفت إلی ذلک الشیخ الأنصاری وغیره ، لوضوح أنّه لو کان الإفساد هنا بمعنی النجاسة ، لکان الأولی فی التعلیل فی وجوب التیمّم هو هذا ، أی یصیر نجساً بذلک ، مع أنّه لم یذکره ولم یشر إلیه أصلاً ، بل علّل (أنّ رب الماء هو رب الصعید) .

مضافاً إلی أنّه لم یفرض کون الجنب نجساً أیضاً ، فلابدّ من فرض عدم طهارته ، مضافاً إلی عدم حسن إسناد الإفساد إلی القوم ، بل لابدّ أن یکون مسنداً إلی نفسه من النجاسة مثلاً ، مع إمکان کون البئر لخصوص الجنب ، لکونه فی منزله ولم یکن لعامّة الناس ، کما هو واضح .

فیظهر من جمیع ذلک أنّه کان فی مقام بیان استقذار الطبع بمثل هذا الماء المستعمل فی الحدث الأکبر ، أو لإثارة الوحل فی البئر أو غیر ذلک من الوجوه ، ولذلک یستفاد منه أنّه لو أراد الغَسل بماء البئر کان جائزاً ، لأنّه رفع الید عن الحکم بالغسل لملاحظة هذه الاُمور ، ولهذا قلنا بأنّ دلالته علی الطهارة أوضح .

وأمّا الجواب عن خبر أبی بصیر ، فهو وإن کان ظهوره فی النجاسة لا یخلو عن قوّة کما ذهب إلیه الشیخ ، إلاّ أنّه یمکن أن یقال مضافاً إلی ما عرفت من خبر علیّ بن یقطین من الحکم بنزح دلاء فی الکلب ، إنّه یقع فیه الإشکال من جهة السند أیضاً ، بما عرفت سابقاً فی ابن سنان المطلق حیث لا یعلم أنّه عبداللّه أو محمّد ، وإنْ قوّینا کونه هو الأوّل ، لنقل ابن مسکان عنه غالباً فراجع ، فلا أقلّ من رفع المعارضة مع الأخبار الکثیرة الدالّة علی الطهارة من الحمل علی الاستحباب ،

ص:240

وکأنّ المراد من البأس المستفاد من المفهوم هو من جهة نفرة الطبع وما لا تقبله الطبائع ، مضافاً إلی موافقته للعامّة أیضاً .

ومن ذلک یظهر الجواب عن موثّقة عمّار الساباطی أیضاً ، من الجمع بین الفأرة والکلب من وحدة الحکم ، فهو خلاف الإجماع إلاّ أن یحمل بالنسبة إلی الفأرة إلی التغییّر للماء ، وهذا مضافاً إلی بعده ، لا یتناسب مع وحدة السیاق فی الخبر بین أفراده من التغییر فی الفأرة دون غیرها ، کما لایخفی . إلاّ أن یفرض التغیّر فی الجمیع ، کما حمله الشیخ ، فیعارض مع ما عرفت من خبر أبی بصیر من لزوم نزح الجمیع للکلب مع القدرة . وحمله علی التغیّر فیه أیضاً بعید ، لأنّه قد فرض التغیّر قبله فی الفأرة ، فیظهر أنّه أراد فی الکلب من الإطلاق کما لایخفی .

هذا مضافاً إلی أنّ إطلاقات الأخبار فی انفعال ماء البئر بالملاقاة یخالف مع صریح خبر حسن بن صالح فی الرکی ، وأنّه إذا کان کرّاً لم ینجسه شیء(1) .

هذا کلّه هو الجواب من الأخبار الخاصّة الواردة فی نجاسة ماء البئر بالملاقاة .

ونزید علی ذلک کلّه وجود القرائن والشواهد علی أنّ النزح فیها للندب لا للوجوب ، وهی وجود الاختلاف الفاحش فی مقادیره فی عنوان واحد ، حیث لا یمکن حمله علی مراتب التأکید ، کما هو الحال فی مثل الکلب والفأرة .

کما أنّ الإجماع المدّعی عن القدماء علی النجاسة لا یضرّنا ، ولا یمنعنا من الحکم بعدم الانفعال ، لوضوح أنّ حکم أولئک متّخذ من تلک الأحادیث ، ونقطع بعدم وجود دلیل آخر یکون قد بلغهم ولم یصلنا حتّی یکون کاشفاً عن وجود قول المعصوم ، ومن المعلوم عدم حجّیة الإجماع المدرکی ، مضافاً إلی وجود أخبار صحیحة أکثر وأزید وأصرح ممّا عرفت ، دالّة علی عدم الانفعال ، فضلاً


1- وسائل الشیعة : الباب 9 من أبواب الماء المطلق، الحدیث 8 .

ص:241

عن ذهاب کثیر من الفقهاء من القدماء وغیرهم علی خلافهم کما لا یخفی .

والآن نذکر أدلّة الرأی الآخر وهو الحکم بطهارة ماء البئر ، وإنْ کان أقلّ من کر إذا کانت له مادّة ، وهی : فی ما یدلّ علی عدم انفعال ماء البئر

وجود أخبار کثیرة منها الصحیح ومنها الموثّق ، والضعیف فیها قلیل ، کما أنّ دلالتها علی الطهارة أصرح من تلک الأخبار الدالّة علی النجاسة .

فمنها : صحیحة محمّد بن إسماعیل بن بزیع المشتمل علی جهات متعدّدة ، دالّة علی الطهارة وهی : عن الرضا علیه السلام ، قال : «ماء البئر واسع لا یفسده شیء ، إلاّ أن یتغیّر ریحه أو طعمه فینزح ، حتّی یذهب الریح ویطیب الطعم ، لأنّ له مادّة»(1) .

فدلالتها من جهات ، عدیدة منها لفظ (الواسع) ، و(عدم الإفساد) و(التغیّر) ، الظاهر جمیعها فی انحصار تحقیق النجاسة به دون غیره فیما إذا کان له مادّة .

فما قیل ودوّن فی الکتب من أنّ المراد من (الواسعة) هو الکثرة ، والمراد من (عدم الإفساد) هو ما لا یمکن الانتفاع به ، إلاّ أن ینزح الجمیع ، خلافاً لصورة عدم التغیّر ، حیث یکون فساده بما یرفع بنزح ما عدا الجمیع ، کما فی «الاستبصار» للشیخ قدس سره ، وکون المراد من التعلیل قیداً لحصول الطهارة بالنزح ، لا لعدم تحقّق الانفعال ، وغیرها من التأویلات البعیدة ، غیر مقبول ، بل کان الأولی أن نذهب إلی طرح الخبر رأساً دون أن نعلن عن هذه الإیرادات البعیدة .

ولذلک أعرضنا عن ذکر تفصیلها ، ومن أراد الاطّلاع علیها فلیراجع ویلاحظ مصادرها .

ومنها : صحیحة علیّ بن جعفر ، عن أخیه موسی بن جعفر علیه السلام قال : «سألته عن بئر ماء وقع فیها زنبیل من عذرة رطبة أو یابسة ، أو زنبیل من سرقین ، أیصلح


1- وسائل الشیعة : الباب 14 من أبواب الماء المطلق، الحدیث 6 .

ص:242

الوضوء منها ؟ قال : لا بأس»(1) . فدلالته علی الطهارة واضحة .

وما ذکر فیها من احتمال کون العذرة غیر عذرة الإنسان ، أو کان الذی أصابه الماء الزنبیل دون ما فیه من العذرة ، فی غایة الضعف والسخافة ، خصوصاً مع تقابل السرقین للعذرة ، فضلاً عن انصراف العذرة لفضلات الإنسان ، کما فی «غریب الحدیث» لابن الأثیر ، وأنّه تکفینا دلالة ترک الاستفعال فی الإطلاق فی ذلک ، کما یجری هذا المعنی فی الإصابة لنفس العذرة أیضاً ، وذلک واضح لاسیما مع ملاحظة شأن السائل الذی هو علیّ بن جعفر الذی یعدّ من الفقهاء .

ومنها : صحیحة معاویة بن عمّار ، عن الصادق علیه السلام ، قال : «سمعت یقول : لا یغسل الثوب ، ولا تعاد الصلاة ، ممّا وقع فی البئر ، إلاّ أن ینتّن ، فإن انتّن غَسل الثوب وأعاد الصلاة ونزحت البئر»(2) .

فإنّ إطلاقه یشمل جمیع أقسام النجاسات والحیوانات ، وحیث علّق الإمام حکم غسل الشرب وإعادة الصلاة علی التغیّر ، وهو المطلوب .

ومنها : صحیحته الاُخری ، عن أبی عبداللّه علیه السلام : «فی الفأرة تقع فی البئر فیتوضّأ الرجل منها ویصلّی ، وهو لا یعلم ، أیعید الصلاة ویغسل ثوبه ؟

فقال : لا یعید الصلاة ولا یغسل ثوبه»(3) .

وقد احتمل الآملی عدم دلالته علی المطلوب ، لإمکان أن یکون وجه عدم الإعادة عدم العلم بالنجاسة حال الصلاة ، وذلک لا ینافی کون الماء نجساً بوقوع الفأرة فیه .


1- وسائل الشیعة : الباب 20 من أبواب الماء المطلق، الحدیث 6 .
2- وسائل الشیعة : الباب 14 من أبواب الماء المطلق، الحدیث 10 .
3- وسائل الشیعة : الباب 14 من أبواب الماء المطلق، الحدیث 9 .

ص:243

هذا ، ولکن صحّة هذا الاحتمال مبنیٌّ علی کون عدم العلم هنا بمعنی الجهل بوقوع الفأرة فی البئر ، وأمّا لو کان المراد منه السهو حال التوضّئ ، یعنی کان عالماً بوقوعها فیه ، إلاّ أنّه قد سها وغفل حال التوضئ ، فحینئذٍ یدلّ علی المطلوب . لکن حمل عدم العلم علی ذلک المعنی ، لا یخلو عن مسامحة فی الجملة ، هذا أوّلاً .

وثانیاً : ما احتمله الآملی صحیح بالنسبة إلی عدم إعادة الصلاة ، وأمّا حکمه بعد ذلک بعدم غسل الثوب یفهم منه صریحاً دلالته علی المطلوب ، لوضوح أنّ الطهارة والنجاسة الخبثیة لا یتبعان العلم والجهل ، کما لا یخفی ، فدلالته علی عدم النجاسة واضحة ، إلاّ أن یحمل علی ما سیأتی بیانه .

ومنها : صحیحة محمّد بن مسلم ، عن أبی جعفر علیه السلام : «سأله عن البئر تقع فیها المیتة ؟ فقال : إن کان لها ریح ینزح منها عشرون دلواً»(1) .

وقد تمسّک به صاحب «الجواهر» قدس سره ، لکنّه لا یخلو عن خفاء ، لإمکان أن یکون المفهوم أنّه إنْ لم یکن لها ریح لا یلزم النزح هذا المقدار ، وأمّا کونه طاهراً بلا نزح أصلاً فلا . کما أنّه یمکن الإشکال فیه من جهة منطوقه ، من حیث کون دلالته علی لزوم النزح _ فیما إذا کان لها ریح ، الذی هو أعمّ من أن یوجب حصول الریح فی الماء أم لا _ تکون أقوی ، فیحتمل أن یکون لزوم النزح أمراً تعبّدیاً ، کما یحتمل أن یکون من جهة تحصیل الطهارة بذلک ، فیکون دلیلاً علی الخصم ، فالأولی رفع الید عن هذا الخبر فی المقام .

ومنها : موثّقة أو صحیحة علی ما قیل) أبان بن عثمان ، عن الصادق علیه السلام قال :


1- وسائل الشیعة : الباب 22 من أبواب الماء المطلق، الحدیث 1 .

ص:244

«سئل عن الفأرة تقع فی البئر لا یعلم بها إلاّ بعد أن یتوضّأ منها ، أیعاد الوضوء ؟

فقال : لا»(1) .

فحکمه بعدم لزوم إعادة الوضوء لیس إلاّ من جهة طهارة الماء .

إلاّ أنّ احتمال کون الحکم بعدم الإعادة من جهة إمکان أن یکون الوقوع بعد التوضّی ، فحیثُ لا یعلم ، فالأصل یقتضی ذلک غیر بعید ، لأنّ أصالة عدم الوقوع إلی حین وضوءه یحکم بصحّة الوضوء ، لأنّه من أثره .

لا یقال : یتعارض مع أصالة عدم تحقّق الوضوء إلی زمان الوقوع ، لأنّه لا أثر شرعی بلا واسطة له ، إلاّ بنحو الأصل المثبت ، یعنی أن یکون أثر عدم التوضّی إلی حین الوقوع ، کون الماء نجساً حال الوضوء ، أمر یقف علیه العقل ، ولا یکون أثراً شرعیّاً لنفس عدم التوضّی بلا واسطة کما لا یخفی ، وإن کان الإنصاف یفید ظهوره فی کون عدم العلم متعلِّقاً للوقوع بعد التوضّی ، وأنّه وقع فیه قبله ، لا أنّه تعلّق العلم بأصل الوقوع بلا ملاحظة کون الوقوع قبل التوضّی أو بعده ، کما هو المفروض فیما قبله .

ونظیر هذه المناقشة تأتی فی الخبر القادم وهو موثّقة أبی بصیر ، قال : «قلت لأبی عبداللّه علیه السلام : بئر یستقی منها ویتوضّأ به وغسل منها الثیاب ویعجن به ، ثمّ علم أنّه کان فیها میّت ؟ قال : لا بأس ولا یغسل منه الثوب ولا تعاد منه الصلاة»(2).

وما ذکرنا من الاحتمالین یکون جاریاً فی صحیحة معاویة بن عمّار الذی سیأتی ذکرها .

ومنها : موثّقة أبی اُسامة وأبی یوسف یعقوب بن میثم ، عن أبی عبداللّه علیه السلام ،


1- وسائل الشیعة : الباب 14 من أبواب الماء المطلق، الحدیث 11 .
2- وسائل الشیعة : الباب 14 من أبواب الماء المطلق، الحدیث 5 .

ص:245

قال : «إذا وقع فی البئر الطیر والدجاجة والفأرة فانزح منها سبع دلاء . قلنا : فما تقول فی صلاتنا ووضوءنا وما أصاب ثیابنا ؟ فقال : لا بأس به»(1) .

فهی وإن تشتمل علی الحکم بالنزح فیوهم النجاسة ، إلاّ أنّ الحکم بعدم البأس یرفع الإجمال ، فیفهم أنّ النزح لیس إلاّ استحباباً أو أمراً تعبّدیّاً ایجابیّاً ، کما احتمله الشیخ .

ومنها : خبر محمّد بن القاسم ، عن أبی الحسن علیه السلام : «فی البئر یکون بینها وبین الکنیف خمسة أذرع أو أقلّ أو أکثر یتوضّأ منها ؟ قال : لیس یکره من قرب أو بُعد ، یتوضّأ منها ویغتسل ما لم یتغیّر الماء»(2) .

فدلالته واضحة من جواز التوضوء والاغتسال إلی أن یتغیّر ، فیفهم عدم تنجّسه بقربه من الکنیف ، کما لا یخفی .

ومنها : مرسلة علیّ بن حدید ، عن بعض أصحابنا ، قال : «کنتُ مع أبی عبداللّه علیه السلام فی طریق مکّة ، فصرنا إلی بئر ، فاستقی غلام أبی عبداللّه علیه السلام دلواً فخرج فیه فأرتان . فقال أبو عبداللّه علیه السلام : أرقه ، فاستقی آخر ، فخرج فیه فأرة .

فقال علیه السلام : أرقه . قال : فاستقی الثالث ، فلم یخرج فیه شیء . فقال علیه السلام : صبه فی الإناء ، فصبّه فی الإناء»(3) .

فإنّ قبول الإمام للدلو الثالث ، وأمره بصبّه فی الإناء ، یدلّ علی عدم تنجّس ماء البئر بذلک ، وإلاّ کان الأولی أن یأمر بالنزح بالمقدار المفروض فی المورد ، وهو واضح .

ومنها : مرسلة الصدوق ، عن مسعدة _ علی ما نقله الشیخ الأنصاری قدس سره _ عن الصادق علیه السلام : «إنّه کان فی المدینة بئر وسط مزبلة ، فکانت الریح تهب وتلقی فیها


1- وسائل الشیعة : الباب 14 من أبواب الماء المطلق، الحدیث 3 ، 4 .
2- وسائل الشیعة : الباب 14 من أبواب الماء المطلق، الحدیث 3 ، 4 .
3- وسائل الشیعة : الباب 14 من أبواب الماء المطلق، الحدیث 3 ، 4 .

ص:246

القذر ، وکان النبیّ صلی الله علیه و آله یتوضّأ منها»(1) .

هذا بناءً علی کون القذر هی عذرة الإنسان ، أو لا أقلّ من التعمیم حتّی یشملها ، وأمّا احتمال خصوص عذرة المأکول لا یخلو عن مناقشة ، کما هو واضح . مع أنّ القذر قد یُراد منه مطلق الزبالة ، لا ما هو النجس وغیره من العذرة .

ومنها : عدّة أخبار لا تخلو عن إشعار علی المطلوب ، وإن لم یمکن الاستدلال بها فمنها خبر زرارة قال : «سألت أبا عبداللّه علیه السلام عن جلد الخنزیر یجعل دلواً یستقی به الماء ؟ قال : لا بأس»(2) .

بناءً علی أن یکون السؤال عن الماء الذی یقع فیه الجلد ، وکون المراد من متعلّق الماء ، بحسب ظهور لفظ الاستقاء نوعاً ، هو البئر ، وأنّ وجه السؤال کان عن حکمه من الطهارة والنجاسة ، لا من حیث استعمال جلد نجس العین ، لما قد قیل فی حرمته ، فلذلک لا یمکن الاستدلال به .

وخبر آخر لزرارة ، قال : «عن أبی عبداللّه علیه السلام : سألته عن الحبل یکون من شعر الخنزیر ، یستقی به الماء من البئر ، هل یتوضّأ من ذلک الماء ؟ قال : لا بأس»(3) .

بناءً علی کون المراد من السؤال هو ملاقاة الحبل للماء الذی فی البئر .

وأمّا لو کان المراد منه هو احتمال وقوع القطرة فی ماء الدلو ، أو من جهة احتمال حرمة استعمال شعر الخنزیر ، فإنّ الخبر حینئذٍ لا یرتبط بما نحن نبحث عنه .


1- وسائل الشیعة : الباب 14 من أبواب الماء المطلق، الحدیث 20 .
2- وسائل الشیعة : الباب 14 من أبواب الماء المطلق، الحدیث 16 .
3- وسائل الشیعة : الباب 14 من أبواب الماء المطلق، الحدیث 2 .

ص:247

وخبر عمّار ، قال : «سئل أبو عبداللّه علیه السلام عن البئر یقع فیها زبیل عذرة یابسة أو رطبة ؟ فقال : لا بأس إذا کان فیها ماء کثیر»(1) .

فدلالته مبنیّة علی عدم کون المراد من الکثرة هو الکرّ وما زاد ، بل یشمل ما هو الأقلّ منه ، وهو لا یخلو عن بُعد . فی مایؤیّد عدم انفعال ماء البئر

وخبر أبی عیینة ، فی حدیث : «سُئل عن الصادق علیه السلام عن الفأرة تقع فی البئر ، فلا یعلم بها أحد إلاّ بعد أن یتوضّأ منها ، أیعید وضوءه وصلاته ویغسل ما أصابه ؟

فقال : لا ، قد استعمل أهل الدار ورشوا» .

وفی روایة اُخری : «قد استقی منها أهل الدار ورشوا»(2) .

فهو لا یخلو عن الدلالة ، من جهة أنّه لو کان ماء البئر قد تنجّس بواسطة الملاقاة ، فلابدّ من القطع بالطهارة بواسطة النزح ، إلاّ أنّه قد حُمل علی ما یتحقّق النزح من أهل الدار نوعاً ، فیفهم أنّ النزح کان أمراً مطلوباً ، فلا ینافی حمله علی الاستحباب ، وهو ربما یقع بواسطة أهل الدار .

هذه جملة من الأخبار التی استدلّ بها علی المطلوب .

هذا ، کلّه مضافاً إلی إمکان استفادة التأیید للطهارة بعدّة وجوه قد ذکرت ، مثل قاعدة نفی الحرج ، کما ادّعاه شیخ المشایخ الشیخ جعفر کاشف الغطاء ، وادّعی أنّ الحکم بالنجاسة موجب للحرج العظیم خاصّة لأهل البادیة والناس الذین تتوقّف حیاتهم علی ماء البئر وکثیراً ما یقع فیها شیء نجس ، ووافقه المحقّق الهمدانی والشیخ الأنصاری ، وصاحب الجواهر قدس سرهم .

وقد أشکل علیه المحقّق الآملی قدس سره فی «مصباح الهدی» ، فقال : «لکن الإنصاف عدم سلامته عن الخدشة ، لما حقّقناه فی غیر المقام ، أنّ الحرج الذی


1- وسائل الشیعة : الباب 14 من أبواب الماء المطلق، الحدیث 15 ، 13 .
2- وسائل الشیعة : الباب 14 من أبواب الماء المطلق، الحدیث 15 ، 13 .

ص:248

یصحّ للفقیه أن یستدلّ بقاعدته ، هو الحرج الشخصی ، الذی یستدلّ بقاعدته لرفع الحکم الثابت لولاه ، وأمّا الحرج النوعی الذی هو المناط فی مقام جعل الأحکام ، فهو ممّا یکون بنظر الجاعل لا الفقیه المستنبط للمجعول ».

وبعبارة أوضح : هو واسطة فی الثبوت ، ولیس طریقاً للإثبات ، وبعد أن ثبت بالدلیل جعل الشارع حکماً بمناطه یتبع ، لکنّه یحتاج إلی دلیل فی مقام الإثبات ، کما فی باب السواک ، ولیس هو بنفسه دلیلاً فی مقام الإثبات ، فلایمکن بالحرج لجعل ما یلزم الحرج من عدم جعله ما یلزم الحرج من جعله . انتهی کلامه ، رفع مقامه .

ولکن الإنصاف فی خلافه ، وعدم تمامیّة ما أتعب نفسه فیه ، لأنّه إن أراد بذلک نفی تحقّق الحرج العظیم نوعاً للناس ، خصوصاً فی البلاد والقری التی لا ماء لها إلاّ من البئر ، فیکفیه رجوع وجدانه الشریف ، وملاحظة الحال بدلاً عن الجواب .

وإنْ أراد التسلیم لذلک ، إلاّ أنّه یدّعی عدم رفع الحکم فهی دعوی بلا دلیل ، لوضوح أنّه إذا فرض کون الحرج الشخصی موجباً لرفع الحکم _ مع أنّه قد یکون خلافاً ، کما نری من مسامحة الناس فی الاُمور الشخصیة فی بعض الموارد ، برغم ذلک قد مَنَّ الشارع علیهم وجعل رفع الحکم بیده _ فمثل هذا الحرج النوعی الموجب لاختلال نظام الناس فی بعض الموارد ، لو لم یکن فی المقام کذلک ، کان ألیق للمراعاة ، فلایبعد أن یجعل ذلک ، مع ملاحظة الأخبار موجباً لاطمئنان النفس علی الحکم بطهارة ماء البئر ، حیث مَنَّ اللّه تعالی علی العباد بذلک وحکم بالطهارة ، ولو کان أقلّ من الکرّ ، لأنّ تحصیله والعلم بحدوده من حیث الوزن والمساحة بالنسبة إلی الآبار یعدّ من الاُمور الصعبة نوعاً ، وإن أمکن تحصیله بالتخمین فی الجملة فی بعض الموارد .

کما قد یؤیّد ذلک ، أنّه کیف یمکن القول بأنّ ماء الکرّ إذا کان فی وجه الأرض عُدّ طاهراً ومطهّراً ، أمّا إذا وجد نفس الماء فی باطن الأرض فإنّه لا یکون له ذلک

ص:249

الأثر ، وهذا أمرٌ عجیب بأن تؤثّر الفوقیّة والتحتیّة للماء المحدود بالکرّ فی الطهارة والنجاسة . فیما لوشکّ فی صدق عنوان ماء البئر

لا یقال : نحن بإمکاننا إعادة السؤال علیک فی الماء الأقلّ من الکرّ وأنّه کیف یکون طاهراً ومطهّراً إذا کانت تحت الأرض ، بخلاف ما لو کان فوقها ؟

لأنّا نقول : إنّا لم نقل بطهارة الماء القلیل إذا کان فی البئر وتحت الأرض مطلقاً ، بل إذا کان له مادّة نابعة ومتّصلاً بها ، فهو المائز بین الحالتین ، وهو أمر غیر بعید ، کما حکمنا بذلک فی ماء الحمّام أیضاً بالنسبة إلی الحیاض الصغار ، کما لایخفی .

مضافاً إلی وجود قاعدة الطهارة واستصحابها ، وعمومات الأدلّة لو عمّمنا دلالتها ، والإجماع ، وغیر ذلک من الوجوه ، ولا أقلّ من جواز وإمکان الرجوع إلیها عند التعارض بین أدلّة الطائفتین ، وعدم إمکان إثبات الترجیح لأحدهما ، حیث تکون الاُمور المذکورة هی المرجع .

فالأقوی عندنا هو الحکم بطهارة ماء البئر ، سواء کان کرّاً أم لا ، خصوصاً مع ملاحظة اختلاف الأخبار فی مقدار النزح ، حتّی فی عنوان واحد ، مع انضمام الاختلاف الفاحش فی مقدار الدلاء المنزوحة من جهة الحجم ، وعدم التعرّض لذلک ، ونظائر ذلک یوجب القطع بما ذکرناه ، لاسیما فی الکر من الآبار ، لأنّه المتیقّن من الأخبار المطلقة مثل قوله علیه السلام : «ماء البئر واسع لا یفسده شیء» ، بناءً علی أنّ الوسعة هی الکثرة الشرعیّة ، أی الکرّ فیدخل فی مضمون الخبر لو لم نقل بتعمیمه للکثرة العرفیة الشاملة للأقلّ من الکرّ ، فیکون هذا هو المراد من الکثرة الواردة فی خبر عمّار ، کما عرفت تفصیله .

مضافاً إلی شمول إطلاقات أدلّة الکرّ لمثل ماء البئر أیضاً ، وعدم تمامیّة الأخبار الدالّة علی النجاسة فی ماء البئر للتخصیص ، مع کفایة صراحة خبر حسن بن صالح الثوری ، عن أبی عبداللّه علیه السلام قال : «إذا کان الماء فی الرکی کرّاً لم

ص:250

ینجسه شیء» الحدیث(1) .

فی عدم نجاسته إذا کان بمقدار کرّ . فحینئذٍ لا یبقی للفقیه شکّ فی طهارة وعدم انفعال هذا القسم قطعاً ، مع ما عرفت من دلالة الأخبار علی أصل عدم الانفعال فی مطلق ماء البئر ، إذا کان له مادّة ، وهذا ممّا علیه الفتوی ، فما ذکره الشیخ الأنصاری قدس سره من التردید من الذهاب إلی التفصیل المذکور _ لولا إعراض الأصحاب عنه _ لا یخلو عن ضعف ومناقشة واللّه العالم بحقائق الاُمور .

هذا فضلاً عن دلالة خبر «فقه الرضا» : «وکلّ بئر عمقها ثلاثة أشبار ونصف فی مثلها ، فسبیلها سبیل الجاری ، إلاّ أن یتغیّر لونها أو طعمها أو ریحها»(2) .

وأمّا الأمر الثالث : وهو الکلام فی صورة الشکّ فی صدق عنوان ماء البئر الموجود فی الأدلّة ، لأجل الشکّ فی مفهومه ، أو الشک فی مصداقه .

یعنی تارةً : یکون الشکّ فی أنّه هل یعتبر جریان الماء فیه بحیث یکون کالنبع حتماً ، أو یکفی ولو کان رشحاً ، فالشکّ یکون من باب الشکّ فی المفهوم .

فی استحباب النزح عند ملاقاة البئر للنجاسة

واُخری : لو سلّمنا اعتبار النبع ، وعدم کفایة الرشح فی صدقه ، ولکن یشکّ فی أنّ الماء الموجود فی البئر یعدّ من أیّ قسم منها ، فهو من باب الشکّ فی المصداق . وکیف کان ، فهل الحکم حینئذٍ من حیث القاعدة والأصل هو الطهارة أو النجاسة أم لا ؟ فلا بأس بالإشارة علی مقتضی کلّ مسلک من المسالک ، فنقول :

علی القول بالانفعال فی ماء البئر مطلقاً ، قد یکون الماء الموجود فی الخارج معلوم الکریة ، واُخری معلوم القلّة ، وثالثة مردّداً بینهما .

فعلی الأوّل : لا إشکال فی شمول إطلاق دلیل الکریة علیه ، فخروجه عنه


1- وسائل الشیعة : الباب 9 من أبواب الماء المطلق، الحدیث 8 .
2- المستدرک : الباب 13 من أبواب الماء المطلق، الحدیث 3 .

ص:251

مشکوکٌ سواء کان بالمفهوم أو بالمصداق ، إذ التمسّک بأدلّة انفعال ماء البئر لمثله یکون تمسّکاً بالعام فی الشبهة المصداقیّة له .

أمّا من جهة الشبهة المفهومیّة أو الفردیّة ، فلا یبقی هنا إلاّ الحکم بالطهارة من جهة کریته ، مضافاً إلی قاعدة الطهارة واستصحابها .

وعلی الثانی : لا إشکال فی نجاسته ، لعدم دلیل یقتضی عاصمیّته ، إذ المفروض عدم شمول دلیل الکر له ، وعدم اقتضاء أدلّة ماء البئر إلاّ الانفعال ، کما هو مقتضی قلّته أیضاً ، فلا یبقی حینئذٍ مورد للتمسّک بالقاعدة أو الاستصحاب ، کما لایخفی .

وعلی الثالث : یکون هذا من قبیل المیاه التی یشکّ فی کریتها ، وقد عرفت منّا سابقاً الحکم بالطهارة بنفسه بعد الملاقاة ، بواسطة استصحاب الطهارة وقاعدتها ، ولکن لا یکون مطهّراً ، لعدم دلیل یقتضی ذلک ، إلاّ بالملازمة العرفیة بینهما ، وهی غیر ثابتة فی مثل ذلک ، بلا فرق فی ما ذکرنا من الأحکام فی الأقسام الثلاثة من کون الشکّ فی المفهوم أو المصداق .

وأمّا علی القول بعدم انفعال ماء البئر مطلقاً ، ففی صورة معلوم الکریة یحکم بالطهارة والمطهّریة قطعاً ، لوجود دلیل الکرّ ، وشموله له قطعاً ، مع احتمال شمول دلیل ماء البئر له أیضاً ، کما هو واضح .

وأمّا فی صورة معلوم القلّة ، فلا إشکال فی عدم شمول دلیل الکریة له ، وأمّا دلیل ماء البئر الذی کان مشکوکاً _ مفهوماً أو مصداقاً _ فإنّه لا یمکن التمسّک به من جهة کونه شکّاً فی مصداقه ، فیکون من قبیل التمسّک بالعام فی الشبهة المصداقیّة ، فحیث کان المورد من الشکّ فی الانفعال وعدمه من جهة احتمال کونه ماء بئر ، فلا ینفعل بالملاقاة ، فیمکن التمسّک فیه بقاعدة الطهارة واستصحابها ، فیحکم بطهارته .

ص:252

وأمّا إثبات مطهّریته فلا ، لعدم وجود دلیل یقتضی ذلک ، فیکون من قبیل الماء المشکوک الکریة ، ومن ذلک یظهر حکم مشکوک الکریة والقلّة هنا ، لأنّه یکون احتمال عدم انفعاله من وجود ملاکین من کونه ماء بئر ، علی احتمال ، وکرّاً علی احتمال آخر ، فالحکم فیه کما فی سابقه ، کما لایخفی ، بلا فرق فی جمیع ذلک بین کون الشکّ فی المفهوم أو فی المصداق .

وإذا عرفت ذلک علی المسلکین ، یظهر لک الحکم بکلا طرفیه علی مسلک التفصیل بین الکرّ وعدمه ، فلا نذکره خوفاً من الإطالة ، فعلیک بالتأمّل تجده واضحاً .

وأمّا مسألة النزح : فعلی القول بعدم الانفعال مطلقاً کما قوّیناه ، فهل هو واجب نفسی تعبّدی ، وإن لم یکن دخیلاً فی مطهّریته ، کما علیه الشیخ الطوسی فی کتبه ، ویظهر من العلاّمة أیضاً فی «المنتهی» ، أو یکون واجباً شرطیّاً فی الطهارة ، أو لم یکن واجباً أصلاً ، بل هو أمر مستحب شرعی کما هو المشهور ، لوضوح أنّ الوجوب الشرطی یرجع مقتضاه إلی الحکم بالنجاسة بدون النزح ؟ فهو قد عرفت جوابه فلا نعید .

وأمّا الوجوب النفسی التعبّدی ، فهو فی غایة البُعد ، لأنّه لیس أمراً عبادیّاً یقتضی ذلک ، حتی فیما لو لم یرد الاستفادة من ماء البئر ، وإن حکم بذلک عند إرادة الاستفادة من البئر ، فهو مضافاً إلی مخالفته لمقتضی إطلاق أدلّته ، أنّه لا یفید مع الاختلاف الموجود فی المقادیر المعیّنة فی الأخبار ، إذ لا یمکن إحالة الناس فیی أمر واجب إلی ما هو مختلف فیه بحسب المقدار والحدّ ، فتمام ذلک یؤیّد کون الحکم استحبابیّاً ، کما لا یخفی ، هذا فضلاً عن أنّه شرطی لا نفسی ، یعنی یستحبّ النزح لمن أراد استعماله ، سواء کان استعماله فی أمر عبادی مثل الوضوء والغسل ، أو توصّلی کتطهیر الموضع من الخبث .

فی کیفیّة تطهیر البئر

ص:253

وإذا تغیّر أحد أوصاف مائها بالنجاسة ، قیل ینزح حتّی یزول التغیّر ، وقیل ینزح جمیع مائها، فإن تعذّر لغزارته تراوح علیها أربعة رجال ، وهی الأولی(1).

فعلی هذا ظهر أنّ المقدرات الواردة فی المنزوحات ، بل التراوح أو نزح الجمیع فیما لا نصّ فیه ، أو فیه النصّ کذلک ، تعدّ جمیعها مستحبّةً ، ولاینبغی ترکها فیما اُرید استعماله من ماء البئر .

فحیث اخترنا الاستحباب فی جمیع ذلک ، فلنصرف الکلام عن تعرّض کلّ واحد واحد منها فی المقام ، خوفاً من الإطالة ، خاصّة إذا لاحظنا قلّة أهمّیة هذا البحث فی هذه الأزمنة وضرورة توجیه اهتمامنا إلی ما یهمّ المجتمع الإسلامی .

بناءً علی ما ذکرنا وتبعاً للمتأخّرین من الفقهاء کالسیّد فی «العروة الوثقی» ، ومن تبعه من المحشّین من الفقهاء والمعاصرین ، نطرح من مباحث ماء البئر الکثیرة ، مسألة حصول التغیّر فیه بالنجاسة وکیفیّة تطهیره ، کما تعرّض لها السیّد قدس سره فی «العروة» بقوله :

(1) إذا عرفت حکم ماء البئر الملاقی للنجس من دون التغیّر ، وأنّه لا ینفعل کما حقّقناه بحمد اللّه ، تصل النوبة الآن إلی ما لو حصل له التغیّر بأحد أوصاف النجس کلّه أو بعضه ، فلا إشکال فی تنجّسه بالنسبة إلی المتغیّر ، إلاّ أنّ الکلام والإشکال وقع فی کیفیّة تطهیره ، علی أقوال ووجوه ، تبلغ إلی أزید من سبعة أو ثمانیة وهی :

الأوّل : تحصل الطهارة بنفس الزوال ، ولو لم ینزح منه شیئاً ، ولم یتجدّد من المادّة ماء ، بحیث لو زال تغیّره من عند نفسه من دون وقوع المطر فیه أو ماء آخر فهو یطهر ، لأنّ له مادّة متّصلة وهی عاصمة له . وهذا هو الذی ذهب إلیه صاحب «الجواهر» بقوله : «إذ لعلّ الاتصال بها کاف ، فتأمّل جیّداً» ، وصریح کلام

ص:254

الشهید قدس سره ومن تبعه کالحکیم والخوئی والآملی فی «مصباح الهدی» ، ولعلّه الأقوی ، وإن کان الاحتیاط فی خصوص البئر ، عدم ترک النزح للزوال فی المورد ، لوجه سیأتی عن قریب فی محلّه إن شاء اللّه . فیکیفیّة تطهیر البئر

الثانی : لابدّ من تطهیره بنزح الجمیع ، ولو لم یمکن فبالتراوح بأربعة رجال . وهذا هو مختار المصنّف ، بل نسبه فی «کشف اللثام» إلی القائلین بالنجاسة ، عدا المفید وابن زهرة وابن إدریس والبرّاج ، بل عن الصدوقین وسلاّر وابن حمزة .

الثالث : وهو المتوسّط بینها ، وهو لزوم النزح إلی أن یحصل الزوال ، ولو بنزح بعض الماء . وهذا هو الذی یظهر من المحقّق النراقی والشیخ الأنصاری قدس سره ، والمحقّق الهمدانی ، بل عن العلاّمة البروجردی من الحکم بالاحتیاط به ، وقد عرفت منّا أنّه موافق للاحتیاط ، فلا بأس حینئذٍ بالإشارة إلی الأخبار ثمّ نتعرّض لبقیّة الأقوال إن شاء اللّه تعالی .

فنقول : أصحّ الأخبار سنداً ودلالةً واستناداً هو صحیح محمّد بن إسماعیل بن بزیع ، عن أبی الحسن الرضا علیه السلام : «ماء البئر واسع لا یفسده شیء ، إلاّ أن یتغیّر ریحه أو طعمه ، فینزح حتّی یذهب الریح ویطیب الطعم ، لأنّ له مادّة»(1) .

وقد عرفت التحقیق منّا تفصیلاً فی بحث الماء الجاری المتغیّر ، من عموم التعلیل ، بکون المادّة بنفسها عاصمة ، وعدم کون النزح هنا أمراً تعبّدیاً صرفاً ، بل إنّما کان بواسطة رفع التغیّر به ، فیکون هو أیضاً أحد أسبابه المتعارفة السهلة ، إذ بحسب النوع لا یحصل الزوال سریعاً إلاّ بذلک ، فلأجله تذکر بهذا الطریق ، وهو أمر عرفی ارتکازی ، فاحتمال التعبّد بالنزح فقط ، بحیث لا یفید فی تطهیره بإلقاء الکرّ علیه أو المطر ، بعید غایته ، کما أنّ احتمال الخصوصیّة فی النزح ، لإتیان ماء


1- وسائل الشیعة : الباب 14 من أبواب الماء المطلق، الحدیث 6 _ 7 .

ص:255

جدید فیه ، بحیث لایکون الزوال الحاصل من عند نفسه بواسطة اتّصاله مع المادّة کافیاً ، أیضاً بعید ، وإن لم یبلغ بعده کسابقه ، کما لا یبعد القول به احتیاطاً ، مع التوجّه ملاحظة أخبار کثیرة واردة فی خصوص ماء البئر ، وإن لم نقل بتلک الجهة فی غیر ماء البئر ممّا له مادّة ، کماء الحمّام مثلاً ، حیث یکون زواله باتّصاله به ، وکذلک فی المتغیّر فی الکرّ إذا کان باقی الماء غیر المتغیّر کرّاً أیضاً ،

فحینئذٍ نتعرّض للأخبار الکثیرة الواردة فی النزح .

فمنها : موثّق سماعة فی حدیث ، عن أبی عبداللّه علیه السلام قال : «سألته عن الفأرة تقع فی البئر أو الطیر . . . ، إلی قوله فی جوابه علیه السلام : وإنْ أنتّن حتّی یوجد النتن فی الماء ، نزحت البئر حتّی یذهب النتن من الماء»(1) .

ومنها : صحیح زید الشحّام ، عن أبی عبداللّه علیه السلام : «فی الفأرة والسنور والدجاجة والکلب والطیر ؟ قال : فإذا لم یتفسّخ أو یتغیّر طعم الماء فیکفیک خمس دلاء ، وإن تغیّر الماء فخذ منه حتّی یذهب الریح»(2) .

ومنها : خبر زرارة قال : «قلت لأبی عبداللّه علیه السلام : بئر قطرت فیها قطرة دم أو خمر ؟ قال علیه السلام : فی حدیثٍ : فإن غلب الریح نزحت حتّی تطیب»(3) .

ومنها : صحیح معاویة بن عمّار ، قال : «سمعته یقول : لا یغسل الثوب ولا تعاد الصلاة ممّا وقع فی البئر إلاّ أن ینتن ، فإن أنتن غسل الثوب وأعاد الصلاة ونزحت البئر»(4) .

ولیس فیه ذکر (حتّی یذهب) حتّی یحمل کون النزح طریقاً منحصراً إلی تحقّق الزوال سریعاً ، فیحتمل فی مثل هذا الخبر من اعتبار کون الزوال حاصلاً من


1- وسائل الشیعة : الباب 17 من أبواب الماء المطلق، الحدیث 4 .
2- وسائل الشیعة : الباب 17 من أبواب الماء المطلق، الحدیث 7 .
3- وسائل الشیعة : الباب 15 من أبواب الماء المطلق، الحدیث 3 .
4- وسائل الشیعة : الباب 14 من أبواب الماء المطلق، الحدیث 10 .

ص:256

النزح الموجب غالباً لخروج ماء جدید فیه ، وهذا لا ینافی کون المطهر له أیضاً شیئاً آخراً بدلیله مثل المطر الوارد فی الحدیث بقوله : «کلّ ما یراه المطر فهو طاهر» إن دلّ علی ذلک ، أو الکرّ بمقتضی خبره بقوله : «لم ینجّسه شیء» ، حیث یفهم منه رفع النجاسة أیضاً . هذا ، بخلاف ما لو لاقی ماء البئر شیئاً من تلک الاُمور ، بلا تحقّق الزوال بنفسه بواسطة اتّصاله بالمادّة ، فهو وإن اقتضی إطلاق التعلیل فی صحیحة ابن بزیع طهارته أیضاً ، إلاّ أنّه بملاحظة مثل الخبر الذی ذکر لا یبعد القول بالاحتیاط ، کما علیه العلاّمة البروجردی .

لا یقال : وهناک بعض الأخبار تدلّ علی لزوم نزح الجمیع ، کما فی خبر أبی خدیجة عن أبی عبداللّه علیه السلام قال : «سُئل عن الفأرة تقع فی البئر ؟ قال : إذا ماتت ولم تنتن فأربعین دلواً ، وإذا انتفخت فیه أو نتنت نزح الماء کلّه»(1) .

فعلی ما ذکرتم یحتمل کون الحکم هو نزح الجمیع ، لا أن یزول التغیّر .

لأنّا نقول : إنّه مشتمل علی ما لم یفت به أحدٌ من الأصحاب من أربعین دلواً فی الفأرة ، ولذا یحمل علی الاستحباب کما ذکره صاحب «وسائل الشیعة» نقلاً عن الشیخ الطوسی ، فلعلّه کان قرینة لحمل ذیله أیضاً علی الاستحباب والأفضلیة .

کما أنّه یمکن أن یکون فی مورد لا یزول إلاّ بنزح الجمیع ، لقلّة ماءه ، بکون الألف واللام فی البئر للعهد الخارجی ، کما هو غیر بعید ، بل یشعر بذلک خبر منهال ، قال : «قلت لأبی عبداللّه علیه السلام : العقرب تخرج من البئر میّتة ؟ قال : استق منها عشرة دلاء ، قال : قلت : فغیرها من الجیف ؟ قال : الجیف کلّها سواء ، إلاّ جیفة قد اخیفت ، فإن کانت جیفة قد اخیفت فاستق منها مأة دلو ، فإن غلب علیها الریح بعد مأة دلو فانزحها کلّها»(2) .

فی فروعات نزح البئر


1- وسائل الشیعة : الباب 19 من أبواب الماء المطلق، الحدیث 4 .
2- وسائل الشیعة : الباب 22 من أبواب الماء المطلق، الحدیث 7 .

ص:257

فظهر ممّا ذکرنا إمکان الفرق بین القول بلزوم النزح لحصول ماء جدید بواسطة الأخبار ، وبین نزح الجمیع فی بعض تلک الأخبار ، کما لا یخفی .

والظاهر أنّ النزح لا یکون تعبّداً صرفاً ، بل لحصول ماء جدید ، فیکفی ولو بدون النزح ، کما لو نبع الماء الجدید فی فصل الربیع ، حتّی امتلأ البئر ، فیکفی فی طهارته إذا زال تغیّره بذلک .

وممّا یدلّ علی النزح للزوال ، موثّق أبی بصیر ، قال : «سألت أبا عبداللّه علیه السلام عمّا یقع فی الآبار ؟ فقال : أمّا الفأرة وأشباهها فینزح مها سبع دلاء ، إلاّ أن یتغیّر الماء فینزح حتّی یطیب»(1) .

ومنها : مرسلة الصدوق فی «المقنع» ، بعد قوله : «وإنْ وقعت فی البئر قطرة دم . . . . وإن تغیّر الریح فانزح حتّی یطیب»(2) .

ومنها : خبر «فقه الرضا» : «فإن تغیّرت نزحت حتّی تطیب»(3) .

ومثله الخبران المنقولان عن «فقه الرضا» فی «المستدرک» .

فهذه جملة من الأخبار قد عثرت علیها ، واشتملت علی لزوم النزح عند حصول التغیّر ، أی یکون شرط التطهیر هو هکذا ، فالحکم بالنزح احتیاطاً لا یخلو عن قوّة ، وإلاّ لولاها کان ما ذهب إلیه صاحب «الجواهر» قدس سره من قبلُ قویّاً ، واللّه العالم .

هذا کلّه بناءً علی المختار ، ومن وافقنا فی عدم انفعال ماء البئر بالملاقاة فقط بدون حصول التغیّر .


1- وسائل الشیعة : الباب 17 من أبواب الماء المطلق، الحدیث 11 .
2- مستدرک وسائل الشیعة : الباب 22 من أبواب الماء المطلق، الحدیث 1 .
3- مستدرک وسائل الشیعة : الباب 21 من أبواب الماء المطلق، الحدیث 2 .

ص:258

والرابع من الأقوال : هو وجوب نزح أکثر الأمرین من المقدّر ، وما یزول به التغیّر من غیر المنصوص بنزح الجمیع ، وأمّا فیه وفیما لا نصّ فیه ، فیجب نزح الجمیع إن لم یتعذّر ، وإلاّ فبالتراوح ، کما علیه ابن زهرة وابن إدریس والعلاّمة فی «المختلف» ، والشهید الثانی فی «الروضة» ، واختاره صاحب «الجواهر» بمقتضی الجمع بین الأدلّة .

الخامس : نزح ما یزیل التغیّر أوّلاً ، ثمّ نزح المقدّر تماماً ، إنْ کانت النجاسة ممّا لها مقدّر ، وإلاّ فالجمع ، فإن تعذّر فبالتراوح .

السادس : الاکتفاء بأکثر فیما له مقدّر ، وفی غیر المنصوص یرجع إلی زوال التغیّر .

السابع : وجوب نزح الجمیع ، ولعلّه المشهور بین القائلین بالتنجّس .

ثمّ القائلون بذلک انقسموا إلی قسمین عند تعذّره :

فبعضهم یقول : عند تعذّر نزح الجمیع فبالتراوح .

وآخرون : إلی زوال التغیّر .

وثالثةً : بمراعاة أکثر الأمرین .

فصارت الأقوال حینئذٍ ثمانیة بل تسعة ، وبما أنّ مسألة طهارة البئر واضحة عند المتأخّرین فی غیر صورة التغیّر ، ووضوح لزوم زواله عند حصوله بأیّ جهة اتّفقت ، ولم نقل بوجوب تعبّدی لخصوص النزح ، بل إنْ عُدّ واجباً کان طریقاً متعارفاً لتحصیل الطهارة ، غایة الأمر لایبعد القول بوجوبه ، لو لم یخرج الماء الجدید ، إلاّ به کما هو کذلک نوعاً .

وأمّا لو فرض تحقّق زواله بواسطة نبعان ماء جدید فیه ، حتّی بلغ الماء لکثرته إلی فم البئر ، کما فی بعض الفصول ، فبواسطته زال تغیّره ، فلایبعد القول بطهارته ، فبناءً علی هذا ، تطهر فروع کثیرة نذکرها إجمالاً .

الفرع الأوّل : إنّه لا اعتبار فی ملاحظة کیفیّة الدلو من الصغیر وغیره ، أو من

ص:259

لزومه أوّلاً ، لما قد عرفت من عدم الخصوصیّة لذلک ، بل المناط إیجاد عملٍ یوجب خروج ماء جدید ، ولو کان بواسطة المکائن المتعارفة فی زماننا ، بل وقد عرفت کفایة خروجه بنفسه بمقتضی الفصول ، فضلاً عن خروجه بعلاج ، وهو واضح . فیفروعات نزح البئر

الفرع الثانی : وممّا ذکرنا ظهر حکم طهارة الآلآت بعد زوال تغیّره ، بل وهکذا حواشی البئر وما یلاقیها بالملازمة ، نظیر ما یقال بذلک فی صیرورة الخمر خلاًّ ، بل فی ذهاب ثلثی العصیر العنبی فی الغلیان وأمثال ذلک فی الشرع ، لأنّه ثبت ذلک بالملازمة القهریة ، وإلاّ لما أمکن التطهیر أصلاً ، وصار الحکم بالتطهیر بواسطة النزح لغواً .

والمراد من طهارة الآلآت ، هو طهارة الجدار الخارجی منها المتّصلة بماء البئر فی الدفعة الأخیرة المطهّرة للماء ، فإنّه لوم کان نجساً ومنجساً _ خصوصاً لمن یقول بالانفعال _ وجب لغویة النزح ،

الفرع الثالث : ظهر ممّا ذکرنا عدم إضرار وقوع قطرات المنفصلة عن ماء الدلو حتّی الماء الأخیر منه ، لما قد عرفت من عدم إمکان التفکیک بینهما عرفاً ، وإلاّ لکان علیهم علیهم السلام البیان ، فهو واضح لا خفاء فیه ، حتّی یحتاج إلی مزید کلام .

الفرع الرابع : عدم لزوم کون النزح والتراوح عن نیّة أو کفّ من إنسان ، بل الملاک حصول النزح ولو من غیر ذی شعور ، کما قد یتّفق فی زماننا هذا من الآلآت والمکائن الکهربائیة إذا تحرّکت بنفسها وأخرجت الماء من البئر ، حتّی زال به التغیّر ، فلا إشکال فی حصول الطهارة به ، کما لایخفی .

الفرع الخامس : یظهر من تضاعیف کلماتنا ومشابهة الأدلّة بعضها مع بعض ، حکم ما لو تغیّر بعض ماء البئر ، حیث أنّه یطهر بالنزح الموجب للزوال قطعاً ، بل لا یبعد القول بحصول طهارته بزواله بنفسه ، إذا کان الماء غیر المتغیّر الباقی فی البئر بمقدار الکرّ ، فالحکم بطهارته هاهنا بنفسه وبزواله أقوی من صورة الزوال

ص:260

وإذا حکم بنجاسة الماء ، لم یجز استعماله فی الطهارة مطلقاً ، ولا فی الأکل ولا فی الشرب ، إلاّ عند الضرورة(1).

فی حکم استعمال الماء المتنجّس

للمتغیّر بواسطة الاتّصال بالمادّة ، لأنّ دلیل الکرّ یشمل صورة ما نحن فیه قطعاً ، واحتمال تخصیص دلیل البئر له ضعیف جدّاً ، مضافاً إلی ما عرفت من وجود دلیل مخصوص للبئر علی نحو الإطلاق ، کما فی مرسلة علیّ بن حدید ، فلا نعید .

(1) ولا إشکال فی کون المراد من عدم الجواز هو الحرمة ، فی مثل الأکل والشرب ، کما یجوز فی حال الضرورة بلا إشکال . کما أنّ المراد من الإطلاق ، هو ما یقابل الطرف الآخر ، أی کون عدم جوازه فی الطهارة حال الضرورة وغیرها . وإنّما الکلام والإشکال وقع فی القسم الأوّل ، وهو استعماله فی الطهارة من الحدث والخبث ؟ والظاهر عدم الإشکال فی عدم حرمة استعماله فی الطهارة عن الخبث ، لأنّه مع علمه بالنجاسة لا أثر فی استعماله لو لم یکن مزیداً فی نجاسته ، وإن أراد التشریع فی ذلک ، أی الاعتقاد بکونه غیر نجس ، لو أدّی إلی ذلک اجتهاده فهو أمر آخر غیر مرتبط بجهة الاستعمال .

لکن لو سلّمنا حرمته علی الفرض فی تسلیم صدق التشریع فی ذلک کان من جهة بناءه واعتقاده ، فلا خصوصیّة للاستعمال إلاّ کونه مظهراً لذلک ، کما لایخفی ، فتکون حرمته من جهة إدخال ما لیس من الدِّین فی الدِّین .

وأمّا الطهارة عن الحدث ، فالظاهر أیضاً عدم حرمته من جهة الاستعمال ، إلاّ من حیث التشریع إذا کان بعمله قاصداً التشریع المحرّم ، فلا یرتبط ذلک بجهة کون استعمال بنفسه حراماً ، لوضوح أنّ النهی عن استعمال الماء النجس للوضوء والغسل کان شرطیّاً للطهارة ومانعیّاً عن النجاسة ، یعنی تکون الأوامر والنواهی فی أمثال ذلک إرشاداً إلی عدم إمکان ذلک للطهارة بدون الشرط ، وأمّا کون العمل

ص:261

ولو اشتبه الإناء النجس بالطاهر ، وجب الامتناع منهما ، وإنْ لم یجد غیر مائهما یتیمّم(1).

بنفسه حراماً ولو لم یقصد التشریع ففی غایة الإشکال ، فما ذکره صاحب «کشف اللثام» بقوله : «إنّ استعماله فی صورة الطهارة أو الإزالة مع اعتقاد أنّهما لا یحصلان به لا إثم فیه ، ولیس استعمالاً له فیهما، انتهی ».

فما أورد علیه صاحب «الجواهر» قدس سره من عدم تأثیر الاعتقاد فی ذلک فی غیر محلّه .

ولا یخفی علیک أنّ هذا البحث لا ینحصر فی مسألة ماء البئر إذا صار نجساً ، بل یکون لمطلق ما یکون استعماله فی الطهارة ممنوعاً بواسطة نجاسته أو غصبیّته أو غیر ذلک ، من حیث حرمته من تلک الحیثیّة ، لا من جهة کونه مال الغیر ، ولا من حیث کون النهی عن العبادات دالاًّ علی الفساد قطعاً ، إذ الجهات فی البحث والکلام متفاوتة ، کما لا یخفی .

هذا جملة الکلام التی أردنا ذکرها فی بحث ماء البئر .

(1) ولا یخفی علیک أنّ هذه المسألة مشتملة علی شقوق کثیرة وفروع عدیدة ، ولا بأس بالتعرّض لها بما فیها من الضروب والأقسام لکثرة الفائدة المترتّبة علیها ، فأقول وباللّه الاستعانة :

فی الانائین المشتبهین بالنجاسة

إنّ المسألة تارةً : یبحث فیها من جهة وجوب الاجتناب عن المشتبهین بالنجاسة ، بحسب القاعدة ، بواسطة دلیل وجوب الاجتناب عنها ، واُخری : عن لزوم التیمّم حینئذٍ ، وعدم جواز استعمال أی واحد منهما .

وأمّا الکلام فی الأمر الأوّل : فقد وقع الخلاف فیه بین الفقهاء ، بل الأصولیّین أیضاً ، فی أنّ الحکم والقاعدة فی الشبهة المحصورة هل هو وجوب الموافقة القطعیّة ، أو حرمة المخالفة القطعیّة ، أو یکفی ویجوز المخالفة الاحتمالیة ، بل

ص:262

المخالفة القطعیّة تدریجاً بعد الاتّفاق منهم علی حرمة المخالفة القطعیّة دفعة ؟

والذی ذهب إلیه الأکثر _ بل قد ادّعی علیه الإجماع فی بعض الموارد کما فی المقام ، حیث ادّعاه المحقّق فی «المعتبر» والشیخ فی «الخلاف» وغیرهما فی «الغنیة» و«التذکرة» و«نهایة الاحکام» ، بل بغیر خلاف کما فی «السرائر» ، ولقد استدلّ علیه بوجوه کثیرة _ هو وجوب الموافقة القطعیّة کما علیه جمیع المتأخِّرین والمعاصرین علی ما ببالی . والذی استدلّ علیه أو یمکن أن یستدلّ _ وإن لم یذکره أحد _ هو أن یقال : إنّ المشتبهة المردّد بین الإنائین للنجاسة مثلاً :

تارةً : یفرض کون کلّ واحد من الإنائین معلوم الحال فی السابق .

واُخری : غیر معلوم .

فعلی الأوّل ، قد یعلم طهارتهما سابقاً والآن یعلم بنقض أحدهما غیر معیّن .

وآخر یکون عکس ذلک ، أی یعلم بنجاستهما سابقاً ، والآن یعلم بنقض أحدهما غیر معیّن .

وثالثاً : لا یعلم شیئاً .

کما أنّ المشتبه بالنسبة إلی الحالة السابقة ، ثمّ الاشتباه قد یکون ذاتیّاً ، کما لا یعلم من الأوّل وقوع النجاسة فی أحدهما .

أو عرضیّاً ، أی کان یعلم ابتداءً النجس والطاهر ، وقد اختلط سهواً بینهما ، ولا مایز حتّی یمیّز أحدهما عن الآخر .

وفی جمیع هذه التقادیر ، الحکم هو وجوب الاجتناب عن کلیهما ، وتحصیل الموافقة القطعیّة للتکلیف ، غایة الأمر یکون فی بعض الموارد مؤیّداً بأمور متعدّدة لذلک دون بعض آخر ، لولا یکون فی بعض الموارد الأصول علی خلاف مقتضاه ، کما سیأتی تفصیله إن شاء اللّه تعالی .

قد یقال فی وجهه کما عن المحقّق فی «المعتبر» : بأنّ الیقین بالطهارة معارض

ص:263

بیقین النجاسة ، ولا رجحان فیتحقّق المنع . وقد أوضحه صاحب «الجواهر» بقوله ما هو ملخّصه : (أنّ جریان الاستصحاب والعمومات فی کلّ منهما معارض بجریانه فی الآخر ، والعمل به فیهما مقطوع بعدمه ، والقول بتخییر المکلّف فی واحد منهما لا دلیل علیه ، لأنّه لیس کتعارض الروایات ، والقول بجواز استعمالها تدریجاً ربما یوجب القطع بعدمه ، ولذلک لم یلتزم به المخالف فی المقام) ، انتهی .

لا یقال : إنّ مقتضی تعارض الاستصحابین فیما إذا کانت حالته السابقة معلومة فی أحدهما بالطهارة والآخر بالنجاسة ، والآن اشتبه فیهما أو فی کلیهما هو التساقط ، فیرجع حینئذٍ إلی قاعدة الطهارة ، بقوله علیه السلام : «کلّ شیء طاهر حتّی تعلم أنّه قذر» ، فلا یقتضی المقام الحکم بالمنع بعد التعارض ».

لأنّا نقول : إن ثبت من ذلک أنّ النجاسة لا یجب عنها الاجتناب موضوعاً إلاّ بعد العلم التفصیلی بنجاسته ، یعنی إنْ اُرید أنّه لا یکون النجس نجساً إلاّ بعد العلم التفصیلی به ، فهو _ مضافاً إلی کونه خلاف الوجدان ، لوضوح أنّ النجاسة أمر واقعی یوجب تنفّر الطبع عنه کما حقّقناه فی أوّل بحث الطهارة ، ولیس ممّا یکون العلم التفصیلی موجباً لتحقّقه _ إنّه مستحیل لاستلزامه الدور وتوقّف الشیء علی نفسه ، لعدم النجاسة قبل العلم ولا علم قبل النجاسة .

وإن اُرید من جهة أنّ الحکم أی وجوب الاجتناب عنه لا یکون إلاّ بعد العلم التفصیلی ، فهو دعوی بلا دلیل ، ومخالفٌ لحکم العقل ، لأنّنا نشاهد من العقلاء دائماً أنّهم یحکمون بالاجتناب عن ما یوجب الخطر ، سواء علموا بعلم تفصیلی بذلک أو بعلم إجمالی ، کما لو رأی حیوانین یعلم إجمالاً أنّ أحدهما مفترس یهجم علیه ویقتله فلا إشکال فی أنّ علیه أن یحذر منه ویفرّ ، ولیس علیه التوقّف حتّی یعلم تفصیلاً أنّ أیّهما یکون متّصفاً بهذه الخصلة ، بل وهکذا الحال فی سائر الأوامر والنواهی العرفیّة . فحینئذٍ لا یبعد دعوی کون المورد من أفراد حکم

ص:264

المغیّی فی قاعدة الطهارة ، یعنی أنّه محکوم بالنجاسة إمّا واقعاً أو حکماً ، لو لم یکن کذلک موضوعاً .

هذا ، مضافاً إلی أنّه لو سلّمنا جریانهما ، فلو جری فی واحد منهما دون الآخر ، فإن کان ذلک معیّناً فهو ترجیح بلا مرجّح ، وإن کان لا بعینه لا أثر له خارجاً ، لأنّ طهارة أحدهما کان معلوماً قبل ذلک ، ولا یفید فی مقام الاستعمال ، وإن کان المراد هو التخییر الشرعی فهو غیر ثابت ، والعقلی إنّما یکون فی ما لا مندوحة فیه ، فی المورد الذی فیه الاحتیاط ، وإن جری فی کلّ واحد منهما ، فهو موجب للتناقض فی لسان الشرع ، بأن یقول أحدهما نجس قطعاً ویجب الاجتناب عنه بمقتضی العلم الإجمالی ، مع قوله إنّهما معاً طاهران لا یجب الاجتناب عنهما .

وبعبارة اُخری : لا تجتمع السالبة الجزئیة مع الموجبة الکلّیة ، لأنّ معنی کون أحدهما نجس هو وجوب الاجتناب وعدم جواز استعمال أحدهما ، ومعنی أنّ کلیهما طاهران أی استعمل إن شئت کلّ واحد منهما ، وهذا تناقض ، فلا یبقی هنا وجه للحکم بجواز الاستعمال لأحدهما أو کلیهما من هذه الحیثیّة .

فإن قلت : نتمسّک فی جواز استعمال أحدهما بالبراءة الشرعیّة من قوله : «رفع ما لا یعلمون» .

توضیح ذلک : إنّه لا إشکال فی کون الاستعمال لکلیهما لا یجامع مع العلم بالنجاسة ، فلابدّ من ترک استعمال أحدهما لذلک ، فنشکّ بعد ترک استعمال أحدهما إنّه هل یجب الاجتناب عن الآخر أیضاً أم لا ؟

فنقول : إنّ دلیل الرفع (رفع ما لا یعلمون) ، یحکم بجواز استعماله ، ولیس معنی الجواز هاهنا إلاّ الطهارة .

قلت : أوّلاً فی أیّ الفردین یجری ؟ فإن جری فی الفرد المعیّن لزوماً ، فإنّ

ص:265

المفروض انتفاءه ، لأنّه لا وجه للحکم بذلک تعییناً تکلیفیّاً ، إذ هو حکم بلا دلیل .

وإن کان فی واحد منهما تخییراً ، ففیه مضافاً إلی ما عرفت فی التخییر ، فلا دلیل شرعی هاهنا بالتخییر . اللّهم إلاّ أن یُقال بالتخییر العقلی فی ذلک ، فهل یوجب ذلک أن یتعیّن النجاسة شرعاً لواحد منهما إذا انتخب ، أو یجوز له التعویض والتبدیل تارةً بهذا واُخری بذاک ؟

فإن اُرید الأوّل ، فیسئل عن دلیله ، فلم یتعیّن بحیث لا یجوز الحکم بالطهارة إلاّ فیه ، ومن المعلوم انتفاء الدلیل فی ذلک .

وإن اُرید الثانی ، فیلزم أن یکون الشیء الواحد فی حالة واحدة بلا تغیّر له فی الخارج تارةً محکوماً بالطهارة واُخری بالنجاسة ، وهذا یؤدّی إلی حدوث فقد جدید لم یقل به أحد من الفقهاء ، هذا أوّلاً .

وثانیاً : إنّه لا یمکن إجراء البراءة لا شرعاً ولا عقلاً فی المورد ، لوضوح أنّ العلم الإجمالی من أقوی الأدلّة والحجج علی لزوم الاجتناب ، فلا تجری قاعدة قبح العقاب بلا بیان ، کما لا یجری حدیث ما لا یعلمون ، لأنّه علم وحجّة ، کما لایخفی .

وثالثاً : لو سلّمنا جریانهما وأغمضنا النظر عمّا ذکرنا ، فیلزم الإشکال الوارد فی التعارض للاستصحابین ، لأنّ کلّ واحد من الإنائین یمکن دخوله تحت قاعدة البراءة فیتعارضان ، والالتزام بجریانها فی أحدهما دون الآخر لیس له ما یعیّنه مع قابلیة طبع الدلیل للشمول وهذا ، لیس بأولی من الالتزام بعدم جریانها فی موارد العلم الإجمالی کما هو المعمول بین الأصحاب .

هذا کلّه لو اُرید من البراءة البراءة الجاریة المنطبقة علی کلّ واحد من الإنائین .

وإن اُرید من البراءة ، البراءة من حیث أصل الحکم ، یعنی أنّ دلیل الشارع یقوله یجب الاجتناب عن النجس فهل یشمل صورة المشتبه کذلک فیکون التکلیف باقیاً ، أو لا یشمل إلاّ خصوص ما یعلم النجاسة بخصوصها ، فالأصل

ص:266

البراءة من وجود التکلیف فی هذه الموارد .

وفیه أوّلاً : إنّ المرجع فی مثل ذلک هو إطلاق الدلیل الاجتهادی ، وملاحظة أنّه هل له إطلاق حتّی یشمل موارد الشبهة والشکّ أم لا ولزوم الرجوع إلی أصل البراءة ؟

وثانیاً : إنّه محکوم بدلیل الاستصحاب ، فیما إذا کان الاشتباه عارضاً بل مطلقاً ، لأنّ البحث فی أصل التکلیف بلا نظر إلی العوارض الخارجیّة .

فیکون تقریر الموضوع هکذا : إنّه بملاحظة دلیل وجوب الاجتناب عن النجس یلزمه هذا التکلیف فیما إذا کان المتعلّق معلوماً ، فیشکّ عند عروض الاشتباه فی أنّه هل التکلیف بعده باقیاً أم لا ؟ وحینئذٍ دلیل (لا تنقض الیقین بالشکّ) یحکم بالبقاء ، وهو مقدّم علی أصل البراءة ، إمّا وروداً أو حکومة کما حقّق فی محلّه .

فثبت من جمیع ما ذکرنا أنّه لا یمکن التمسّک لإثبات الطهارة لأحدهما بدلیل البراءة ، ولا غیرها من قاعدة الطهارة واستصحابها للتعارض وغیره .

قد یقال : فی وجه وجوب الاجتناب عن کلیهما ، ما ذکره العلاّمة فی «المختلف» بأنّ اجتناب النجس واجب ، ولا یتمّ إلاّ باجتنابهما ، وما لا یتمّ الواجب إلاّ به واجب ، انتهی کلامه .

وهذا الاستدلال مبنیّ أوّلاً : علی تسلیم وجود الإطلاق لدلیل وجوب الاجتناب بحیث یشمل حتّی صورة الشبهة والشکّ ، کما لایبعد صحّته .

وثانیاً : علی تسلیم کون مقدّمة الواجب واجبة ، فیکون المورد حینئذٍ من ذلک ، لأنّ ترک کلّ فرد منه یعدّ مقدّمة لترک تحقّق المعصیة والمخالفة لوجوب الاجتناب . فیالانائین المشتبهین بالنجاسة

وثالثاً : وعلی عدم وجدان دلیل یدلّ علی الجواز لأحدهما ، کما ادّعی أو احتمل نقله صاحب «الجواهر» قدس سره عن المحقّق الأردبیلی قدس سره ، وإلاّ لما یبقی لدلیل مقدّمة الوماجب مورد .

ص:267

فإذا ثبتت هذه الاُمور الثلاثة کان ما ذکره من الاستدلال تامّاً .

وقد أشکل الفاضل النراقی قدس سره فی «المستند» علی العلاّمة قدس سره بأنّا نمنع من کون الواجب هو الاجتناب عن النجس مطلقاً ، بل الثابت هو وجوب الاجتناب ما یعلم أنّه نجس عن استعمال نجس النجس وهو یحصل باجتنابهما معاً ، أی لزوم مراعاة الترک فی کلیهما بصورة المعیة کما هو المفروض ، وإن لم یجتنب عن کلّ منهما بدلاً .

هذا ، لکنّه لا یخلو عن مناقشة لأنّه لا إشکال فی أنّه إذا علم بوجود النجس فی البین ، فقد شغل ذمّته بالتکلیف ، وهو وجوب الاجتناب عنه ، فمقتضی شغل الذمّة تعیینیّاً _ بحسب حکم العقل _ هو البراءة عنه تعیینیّاً ، أی لابدّ من تحصیل المؤمّن عن العقوبة عند حصول المخالفة واقعاً لدی ارتکابه ، ومن المعلوم انتفاءه ، لأنّه إن خالف واستعمل أحدهما وصادف الواقع النجس ، فإنّه یحسن عقلاً عقابه فلا یقبل الاعتذار منه بعدم العلم تفصیلاً بالنجاسة بخصوصه أو بالمجموع . ولعلّ هذا هو مراد الشیخ الطوسی قدس سره فیما قاله فی «الخلاف» کما نقله الشیخ فی کتاب «الطهارة» بأنّه متیقّن بالنجاسة فی أحدهما ولا یؤمن من الإقدام علی استعماله .

وبعبارة اُخری : إنّ العقل یحکم بقبح الإقدام علی ما لا یؤمن من العقوبة والمفسدة ، کما یقبح فیما یقطع فیه بذلک . فلیس ما یتصوّر فیه المؤمّن إلاّ أصل البراءة _ بما قد عرفت تقریرها وجوابها _ أو قاعدة الطهارة _ وقد علمت الردّ علیها _ أو استصحابها _ فقد مضت شبهتهما فلا نعید .

وبالجملة لا نسلّم دعوی کون حرمة المخالفة القطعیّة ولا وجوب الموافقة القطعیّة محقّقة وثابتة ، بل الحقّ الحریّ بالتصدیق عند العقل والوجدان هو وجوب الموافقة القطعیّة للتکلیف ، إلاّ فیما یلزم العسر والحرج ، أو الضرر من

ص:268

العوارض والعناوین الثانویة ، أو إذا دلّ دلیل بالخصوص علی عدم وجوب الموافقة القطعیة ، وکفایة الاحتمالیة ، کما هو الحال فی أطراف الشبهة الغیر المحصورة ، لأحد من الوجهین المذکورین . کما أنّ إشکاله أیضاً علی کلام المحقّق بما هو لفظه : «فبأنّ مورد یقین النجاسة أحدهما لا بعینه ، ومورد الطهارة کلّ منهما معیّناً لا بدلاً ، فاختلف المحلّ ، فلا یتحقّق التعارض ، مع أنّ أصالة الطهارة الشرعیّة عن المعارض خالیة) انتهی کلامه ». فیالانائین المشتبهین بالنجاسة

فی غیر محلّه ، لأنّه من العجب أنّه کیف أخذ الیقین بالنجاسة بالنسبة لما یعلم وقوعها فی البین ، وأمّا فی طرف الطهارة فإنّ قاعدة الطهارة جاریة فی کلّ واحد من الطرفین ، مع أنّ التعارض لابدّ أن یلاحظ فی کلّ منهما مع ما هو مسانخة ، وهو أن یقال : کما أنّ المکلّف یعلم بوجود النجاسة واقعاً فی أحدهما ، غیر معلوم عنده فی واحد معیّن خارجاً بلا رجحان لأحدهما علی الآخر ، فکما أنّ مقتضی الشکّ فی خصوص کلّ طرف موجب لجریان قاعدة الطهارة فی کلّ منهما ، یوجب وقوع التعارض بینهما بالعرض ، أی مع ملاحظة العلم الإجمالی بوجود النجس فی البین ، بحیث لو لم یکن هذا العلم موجوداً لجری الأصل الشرعی بالطهارة فی کلّ واحد بلا تعارض ویحکم بطهارتهما . کما أنّ هذا العلم الإجمالی موجبٌ لإیجاد التعارض بین الاستصحابین أیضاً ، إذا کانت حالتهما السابقة هی الطهارة أو النجاسة .

فمّما ذکرنا ظهر الجواب عن کلامه الثانی ، من خلوّ الأصل الشرعی الحاکم بالطهارة هنا عن وجود المعارض ، کما هو واضح .

فتلخّص من جمیع ما ذکرنا أنّ الحقّ الموافق للتحقیق ، هو مختار المشهور لو لم نقل بوجود الإجماع ، کما هو کذلک عند المتأخّرین من وجوب الاجتناب عن أطراف الشبهة المحصورة فی العلم الإجمالی ، ولا اختصاص بالمورد فقط ، بل

ص:269

هو جار فی کلّ مورد إلاّ فیما یفرضه عنوان یوجب خروجه عن هذا الحکم ، أو یقوم الدلیل علی جواز ترک الامتثال فی أحدهما . والوجه فی ذلک هو الشمول الثابت فی إطلاق الخطابات الواردة فی تلک الموارد لها ، یعنی إطلاق خطاب (اجتنب عنا لنجس) یشمل صورة الشبهة المحصورة ، کما یشمل صورة العلم التفصیلی بالنجس .

لا یقال : إنّه یکون من قبیل التمسّک بالعام فی الشبهة المصداقیّة وهو غیر جائز ، لأنّه لم یحرز فی کلّ منهما أنّه نجس حتّی یشمله الدلیل .

لأنّا نقول : إنّما یلزم ذلک لو أردنا إثبات النجاسة لکلّ واحد من الإنائین ، بأن یقال إنّ کلّ واحد منهما نجس ، فیجب اجتنابه ، فحینئذٍ یرد علیه الإشکال المذکور ، بخلاف ما لو قلنا بأنّ مقتضی خطاب (اجتنب عن النجس) بحسب حکم العقل والعقلاء ، هو الاحتراز عن کلّ واحد منهما لتحصیل الاجتناب عن النجس الواقعی فی البین ، ولو یعلم إجمالاً بطهارة أحدهما ، وکونه باقیاً علی حاله من الطهارة .

وبعبارة اُخری : إنّه یجب علیه ترتیب آثار النجاسة وأحکامها من الاجتناب والاحتراز ، لا ما یکون اعتباره نجساً واقعاً .

وتظهر الثمرة فیما لو نذر علی نفسه أنّه لو وضع یده علی نجس علیه أن یتصدّق ، ففی المقام لو وضع یده علی واحد معیّن منهما فقط ، فحینئذٍ یمکن القول بعدم وجوب العمل بالنذر ، لأنّه لم یحرز حینئذٍ تحقّق وجود الشرط حتّی یجب علیه المشروط ، مع أنّه لو کان هذا الواحد نجساً واقعاً بمقتضی دلیل (اجتنب) کان اللازم علیه فی الفرض المذکور وجوب الصدقة . فیالانائین المشتبهین بالنجاسة

ثمّ لا یخفی حکم العقل أیضاً بوجوب تحصیل الموافقة القطعیة للتکلیف ، کما یحکم بحرمة المخالفة القطعیّة للتکلیف ، بما قد عرفت بأنّ الشغل الیقینی یقتضی الفراغ الیقینی .

ص:270

وقد عرفت من جمیع ما ذکرناه وحقّقناه عدم وجود مانع عن تنجّز هذین الحکمین من الشرع والعقل ، ودفع کلّ ما یتوهّم مانعیّته من الاستصحاب وقاعدة الطهارة والبراءة وأمثال ذلک . فظهر أنّ الحکم بالاجتناب فی المقام _ کما علیه جلّ الأصحاب _ هو علی وفق مقتضی القاعدة . مضافاً إلی ما سیأتی من وجود دلیل شرعی بالخصوص فی المقام وغیره ، یوافق ما حقّقناه ، وهاهنا فروع عدیدة ینبغی ذکرها لتضمّنها فوائد فقهیّة وهی :

الفرع الأوّل : لا یذهب علیک أنّه بعد الفراغ عن کون وجوب الموافقة القطعیّة واجب عقلاً وشرعاً ، بحسب مقتضی القاعدة الأوّلیة ، فقد وقع الخلاف بین الأعلام فی أنّه هل یجوز عقلاً وشرعاً تجویز المخالفة الاحتمالیة بارتکاب الخلاف فی أحد طرفی العلم الإجمالی ، وجعل الفرد الآخر بدلاً عن الواقع ومورداً للامتثال ، کما علیه الشیخ الأنصاری قدس سره فی «الرسالة» والمحقّق النائینی والآملی ، أم لا یجوز کما علیه جماعة اُخری ؟

أقول : برغم أنّ مجال البحث عنه هو الأصول لکن لابأس بالبحث عنه هنا .

یتبادر إلی ذهنی فعلاً هو عدم وجود محذور عقلی فیه ، لو صرّح الشارع بذلک ، فحینئذٍ لا یخلو الحال من وقوع أحد الأمرین :

إمّا أن یکون ما ارتکبه مصادفاً لما یجوز ، فوقع الامتثال حقیقةً فی ترک المخالفة للتکلیف الموجود فی البین .

أو یکون بخلافه ، یعنی صادف الواقع من النجس ، أو ترک الواجب وفعل الحرام ، فیما یکون المشتبهة هو أحدهما .

فیکون معنی تجویز الشارع هو تخصیص عموم الدلیل ، وتقیید إطلاق (اجتنب) لمصلحة موجودة من جهة رفع الشبهة أو إیجاد التسهیل للأمّة وأمثال ذلک ، وهو غیر مستنکر ، کما تری فی مثل أطراف الشبهة الغیر المحصورة ، أو ما

ص:271

یکون أحد الأطراف خارجاً عن مورد الابتلاء ، فیجوز ارتکاب أحد الأطراف مع إمکان مصادفته ، أو فی موارد جریان قاعدة التجاوز والفراغ مع إمکان أن یکون إجرائهما مستلزماً لترک ما هو الواجب واقعاً ، أو فعل ما هو حرام کذلک ، هذا بحسب الثبوت .

وأمّا بحسب مقام الإثبات لابدّ من إحراز وجود دلیل شرعی بالخصوص ، أو عروض عنوان علی أحد الطرفین المستلزم دخوله تحت القاعدة المقتضیة لتجویز ترک الامتثال ، کما قد یوجب عروض ذلک العنوان _ مثل الضرر والحرج _ تجویز ترک الامتثال فی المعلوم بالتفصیل للأحکام کما لایخفی .

هذا تمام الکلام فی حکم الشبهة المحصورة من حیث مقتضی القاعدة من دون اختصاص بمقام دون مقام .

وأمّا الکلام من جهة وجود الدلیل الخاصّ فی المورد ، وهو الماء النجس المشتبه مع الطاهر ، کما فی المتن _ وأراد استعماله للشرب أو للطهارة عن الحدث والخبث ؟ فلا إشکال فی عدم جوازه بمقتضی القاعدة ، إلاّ أنّ الدلیل بالخصوص لکن ورد فی الحکم بالتیمّم ولزوم إهراقهما ، وهو خبر موثّقة سماعة ، قال : «سألت أبا عبداللّه علیه السلام عن رجل معه إناءان فیهما ماء ، وقع فی أحدهما قدر لا یدری أیّهما هو ، ولیس یقدر علی ماء غیره ؟ قال : یهرقهما جمیعاً ویتیمّم»(1).

وخبر موثّقة عمّار الساباطی ، عن أبی عبداللّه علیه السلام فی حدیثٍ قال : «سئل عن رجل معه إناءان فیهما ماء ، وقع فی أحدهما قذر لایدری أیّهما هو ، وحضرت الصلاة ، لیس یقدر علی ماء غیرهما ؟ قال : یهریقهما جمیعاً ویتیمّم(2) ».

وفی «المعتبر» نسبهما إلی عمل الأصحاب ، بل فی «المنتهی» : إنّ الأصحاب


1- وسائل الشیعة : الباب 8 من أبواب الماء المطلق، الحدیث 2 ، 14 .
2- وسائل الشیعة : الباب 8 من أبواب الماء المطلق، الحدیث 2 ، 14 .

ص:272

تلقّوا هذین الحدیثین بالقبول ، بل یظهر من جمیع الفقهاء المعاصرین والمتأخِّرین الإفتاء علی طبق الحدیثین بالحکم بالتیمّم ، ولعلّه کان لاعتمادهم علی هذین الحدیثین ، وإلاّ فإنّ الاحتیاط فی المقام یقتضی تحصیل الطهارة المائیة فی الجملة ، کما سیظهر لک إن شاء اللّه .

فظهر من مقتضی هذین الحدیثین أنّ الشارع لم یجوّز المخالفة والموافقة الاحتمالیة ، وإلاّ لما حکم بالتیمّم وجوّر الارتکاب فی أحدهما .

هذا ، ولکنّه یمکن أن یناقش فیه بأنّ الحکم بذلک فی مثل المقام لیس إلاّ من جهة أنّه لو أجاز تحصیل الطهارة بأحدهما ، فمع ذلک لا یمکن القطع بحصول الفراغ الیقینی عمّا هو الواجب ، وهو الصلاة بالنظر إلی مقتضی الاُصول الجاریة هنا ، کما سیتبیّن لک تفصیل البحث فیه .

وکیف کان ، لا یکون الخبران هاهنا دلیلاً علی عدم جواز ارتکاب المشتبهین المحصورین ، من جعل الأوّل للنجس الواقعی واحداً منهما لولا إشکال آخر من لزوم الترجیح بلا مرجّح وأمثال ذلک من الاُمور التی یمکن إجراءها فی المقام ، ومضی بحثها .

وحیث بلغ البحث إلی هنا ، لا بأس بصرف الکلام مفصّلاً فی موضوع الإنائین المشتبهین من جهة الحکم بإراقتهما ، ولزوم بالتیمّم کما علیه الفتوی ، وبیان الفروض التی یمکن أن یتصوّر فیها ، بعد الفراغ عن قلّة الماء الموجود فی الإنائین لا کریته ، کما یؤمی إلی ذلک التعبیر بالإناء الظاهر غالباً بما یکون أقلّ من الکرّ ، فحینئذٍ نقول : المسألة مشتملة لوجوه شتّی :

الوجه الأوّل : أن یفرض جواز استعمال أحدهما لتحصیل الطهارة المائیة عن الحدث ، فهل یمکن الالتزام به من جهة القاعدة والاُصول ، والحکم بالفراغ عن التکلیف بالصلاة المأتی بها بمثل هذه الطهارة ، أم لابدّ من تحصیل الطهارة

ص:273

الترابیة ، وعدم جواز الاکتفاء بالمائیة فقط ؟

والظاهر _ کما هو الأقوی _ هو الثانی ، لأنّ تحصیل الطهارة عن أحدهما _ مضافاً إلی ما عرفت من الإشکالات الواردة علیه ، من عدم کونه مشتملاً علی المرجّح ، حتّی یخرجه عن محذور الترجیح بلا مرجّح ، وعدم جریان استصحاب الطهارة وقاعدتها وأصالة البراءة الشرعیّة والعقلیّة ، لما قد علمت من کون جمیعها لها ما یعارضها بمثلها فی موردها ، ومضافاً إلی الإغماض عمّا سیأتی من احتمال کون الأمر بالإهراق لهما ، الشامل لذلک الإناء أیضاً ، موجب لحرمة استعماله ذاتاً ، کما احتمله بعض ، حتّی یصیر النهی المتعلِّق بتحصیل الطهارة الحدثیة ، المشتملة علی قصد القربة حینئذٍ موجباً لبطلانها ، لمنافاته مع قصد القربة ، إذ النهی المتعلّق بالعبادات موجب للفساد _ لا یوجب القطع بالفراغ الیقینی من الأمر المتعلّق للصلاة الواجبة ، لأنّ الماء المشتبه إذا لم یقدر الحکم بطهارته من جهة الاُصول من الاستصحاب وقاعدة الطهارة ، فحینئذٍ وإن لم یمکن الحکم بنجاسة البدن أیضاً بتحصیل الطهارة بماء واحد لوجود استصحاب طهارة البدن عن النجاسة المحتملة بلا تعارض ، إلاّ إنّه لا یمکن تحصیل الفراغ القطعی عن الصلاة ، بل مقتضی استصحاب عدم الإتیان بالطهارة الحدثیة ، وقاعدة الاشتغال بالصلاة هو عدم الکفایة ، کما لا یخفی .

فهذا الفرض واضح لا کلام فیه ، ولذلک لم یلتزم به أحد من الفقهاء علی ما فحصنا عنه . ویتفرّع علیه أنّه لو توضّأ من أحدهما لوضوء تجدیدی ، کان صحیحاً ، ویجوز له الدخول فی الصلاة مع ذلک ، لعدم القطع بنجاسة بدنه ، بل قد عرفت خلافه بالأصل .

الوجه الثانی: أن یفرض إتیان الطهارة عن کلا المائین ، بأن یتوضّئ من کلیهما.

فهو أیضاً تارةً : بأن یغسل أعضاءه بعد التوضّؤ بالماء الثانی ابتداءً ، ثمّ التوضّؤ بعده .

ص:274

واُخری أن لا یفعل ذلک ، بل یتوضّأ من کلیهما بلا تغسیل .

وقد یتوهّم الفرق بینهما : بأنّ الأوّل کان وضوءه حاصلاً ، ویجوز له الإتیان بالصلاة ، لأنّه إذا فرض التوضّئ بالماء الأوّل ، وکان نجساً مثلاً ، فبعد تغسیله ابتداءً بالماء الثانی فقد حصلت الطهارة ، فصار التوضّئ بالماء الثانی صحیحاً ورافعاً للحدث ، وإن فرض کون الماء الأوّل طاهراً فقد حصلت الطهارة عن الحدث به ، سواء توضّأ بالثانی أو لا .

وعلی کلّ حال قد حصل له الیقین بتحقّق الطهارة ، إمّا بالماء الأوّل أو الثانی .

هذا بخلاف ما لو لم یغسل بالماء الثانی ، حیث أنّه علی فرض کون الماء الأوّل نجساً ، فإنّ لازمه نجاسة الأعضاء ، فحینئذٍ لو توضّأ بالثانی بلا تغسیل ، یلزم بطلان الوضوء ، فلا یقطع بحصول الطهارة له .

ولکنّه فاسد ومندفع ، لأنّه قد یفرض هذه المسألة کون النهی الوارد فی الخبرین _ المستفاد من الأمر بإهراق الإنائین _ دلیلاً علی أنّ التوضّؤ منهما کان حراماً ذاتیاً ، نظیر حرمة صوم العیدین من الفطر والأضحی ، والصلاة للحائض ، واُخری یستفاد أنّه کان إرشادیّاً ، إلاّ أن یقصد بالعمل التشریع فیحرم له من هذه الحیثیّة ، لا أن یکون نفس العمل بذاته حراماً .

فعلی الأوّل لا إشکال فی بطلان کلا وضوئیه ، بلا فرق بین الصورتین ، ولا تحصل له الطهارة من الحدث قطعاً ، حتّی لو توضّأ من أحدهما ، لأنّه قد فعل حراماً ، فلا یمکن قصد التقرّب به ، فلا تصل النوبة إلی ملاحظة حاله بالنسبة إلی العلم الإجمالی بالنجاسة ، فیزید بناءً علی هذا إشکال آخر للوجه الأوّل _ مضافاً لما قد عرفت من عدم القطع بالفراغ _ هو کون أصل الوضوء باطلٌ حینئذٍ ، من جهة النهی إنْ کان کلاهما حراماً ، ومحتمل الحرمة والبطلان إنْ کانت الحرمة مرتبطة بالنجس فی البین ، لا استعمال کلّ واحد منهما .

ص:275

وإن فرضنا عدم حرمته ذاتاً ، بل دلالة النهی علی الإرشاد کما هو الأقوی ، وإن کان ظاهر جملة «یهریقهما» حیث کانت خبریة فی مقام الإنشاء هو الأوّل وقوّاه صاحب «الجواهر» إلاّ أنّه قال بعده ، وإن کان للنظر فیه مجال .

وکیف کان ، فنقول حینئذٍ : لا فرق بین الصورتین من حیث المقصود ، وإن کان یتفاوت بینهما فی الجملة ، کما سیتّضح لک إن شاء اللّه تعالی .

لأنّه وإن لم یکن هذا الفرض مثل الصورة الاُولی من کون الاستعمال حراماً ذاتاً ، ومن کون أمره دائراً بین الإتیان بالتکرار ، وفعل حرام لتحصیل الواجب ، وهو تحصیل الطهارة المائیة للصلاة ، وبین ترک التکرار والاستعمال حتی یترک فعل الحرام ، إلاّ إنّه یترک الواجب حینئذٍ وهو الإتیان بالطهارة المائیة ، فیدور أمره حینئذٍ بین فعل الحرام أو ترک الواجب ، وحیث أنّ الشارع قد جعل للواجب بدل شرعاً ، وهو الطهارة الترابیة _ بخلاف الحرام _ فحینئذٍ یقدّم ما لیس له بدل علی ما له بدل ، فیحکم حینئذٍ بوجوب التیمّم ، ویکون الخبرین واردین علی طبق القاعدة حینئذٍ ، ولا فرق فی ذلک بین تغسیل الأعضاء بالماء الثانی أو لا ، کما لایخفی ، ولا یکون وجه تقدّم ترک الاستعمال أیضاً من باب ترجیح جانب الحرمة علی الواجب ، کما توهّمه بعض علی ما فی «الجواهر» ، بل لما عرفت من الوجه المذکور .

بل کان وجه عدم الفرق فی الصورة الثانیة أیضاً ، هو من جهة أنّه إذا لاقی الماء الثانی بجسمه _ ولو بعنوان التغسیل _ یقطع حینئذٍ بحدوث النجاسة وتحقّقها فی جسمه أمّا بواسطة الماء الأوّل أوالثانی ، لأنّ التطهیر بالماء القلیل لا یکون إلاّ بعد انفصال غسالته عن المحلّ ، فقبل ذلک قطع بالنجاسة ، فیشکّ فی رفعها بعد ذلک بالماء الثانی الذی غَسل به ، لإمکان أن یکون هو نجساً دون الأوّل ، فیستصحب النجاسة ، فلا یقطع بمزیل یقینی للنجاسة الخبثیة ، وإن کان القطع بحصول الطهارة

ص:276

الحدثیّة هاهنا حاصلاً ، لأنّ الوضوء الصحیح إمّا هو حاصلٌ بواسطة الماء الأوّل إنْ کان طاهراً ، وإن تنجّس بدنه بعد ذلک بالماء الثانی ، أو کان الماا الثانی طاهراً ، فقد غَسل أعضائه ثمّ توضّأ به ، فکان طاهراً ووضوءه صحیحاً ، وهذا هو وجه الفرق بین صورة التغسیل ابتداءً وعدمه ، من حیث تحقّق الوضوء بذلک الفرض ، بخلاف ما لو لم یغسل الأعضاء ، إذ بوضوءه بالماء الثانی الطاهر یوجب نجاسة الماء بملاقاته مع نجاسة جسمه لو کان الماء الأوّل نجساً .

لکن لا فرق بینهما من جهة المقصود ، وهو عدم إمکان الإتیان بالصلاة بعد التوضّی ء منهما علی کلا التقدیرین ، إمّا لعدم حصول الطهارة عن الحدث لو لم یغسل ابتداءً ، وإمّا من جهة فقدان الطهارة عن الخبث ، بمقتضی استصحاب نجاسته المقطوعة الحصول ، والشکّ فی مزیلها ، کما عرفت توضیحها .

لا یقال : إنّه إذا فرض حصول الطهارة الحدثیة علی فرض التغسیل بالماء الثانی ، فیکون هذا من الموارد التی یمکن تحصیل الطهارة المائیة فلا یجوز معه التیمّم ، فلم یحکم حینئذٍ بالتیمّم دون الوضوء ؟

لأنّا نقول : لما قد عرفت من أنّه إذا دار الأمر بین ترک واجب لا بدل له ، وبین ترک واجب آخر له بدل ، فلا إشکال فی تقدّم الثانی علی الأوّل ، والمفروض کون المقام من هذا القبیل ، لأنّ ترک الطهارة الحدثیة له بدل وهو التیمّم ، وهذا بخلاف ترک الطهارة الخبثیة ، حیث لا بدل له فیحکم بتقدّمه علیه ، فیحکم بالتیمّم حفظاً للطهارة عن الخبث ، ومثله الفتوی فی مسألة دوران الأمر فی ماء قلیل ، فإنّه لا یکفی إلاّ بتحصیل إحدی الطهارتین ، فیحکم باستعماله للطهارة عن الخبث ، ویتیمّم بدل الطهارة المائیة عن الحدث ، ولا یکون ذلک إلاّ لما ذکرنا .

وفی «مصباح الهدی» للآملی قدس سره ما یستظهر منه وجه لفرق آخر بین صورتی التغسیل وعدمه ، وهو : إنّه لو لم یغسل بالماء الثانی ، لوجب عدم إمکان جریان

ص:277

استصحاب النجاسة حینئذٍ لوجهین :

الأوّل : لأنّه إنّما یجری فیما إذا کان المستصحب مشکوک البقاء فی المورد ، لا فیما إذا تردّد بین مقطوع البقاء أو مقطوع الارتفاع ، وهاهنا یکون کذلک ، لأنّه إن کان الماء الأوّل نجساً ، فقد قطع بالارتفاع بواسطة استعمال الماء الثانی ، وإن کان الثانی نجساً کان مقطوع البقاء ، فلا یبقی بعدهما زمان یکون فیه المستصحب مشکوک البقاء .

وثانیاً : إنّه معارض مع استصحاب الطهارة لموضع الوضوء ، لأنّه إن کان النجس هو الثانی فیقطع بحصول الطهارة للموضع بواسطة الماء الأوّل ، وإن کان الأوّل نجساً فیقطع حصولها بواسطة استعمال الثانی ، لأنّ المفروض طهارته ، فیظهر بذلک طهارة المواضع وبقاءها وعند الشکّ یستصحب الطهارة .

ولکنّه یعارض مع استصحاب النجاسة ، فیقول بعده یمکن فرض الکلام فی محلّ یسلم عن کلتا المناقشتین ، مثل فرض صورة حصول التغسیل بالماء الثانی ، فراجع إلی کلامه(1) .

وفی کلامه قدس سره نظر ، فأمّا عن الأوّل : فلأنّ المورد من قبیل القسم الثانی من أقسام الاستصحاب الکلّی ، لأنّه بملاقاة یده مع الماء الثانی فی الآن الأوّل وقبل انفصال الغسالة ، یقطع بحصول النجاسة ، مثل القطع بوجود الحیوان فی الدار ، فبعد الانفصال یشکّ فی بقاء النجاسة المتیقّن تحقّقها ، لأنّه إن کانت ثابتة بالماء الأوّل ، فقد ارتفعت قطعاً ، کما یقال هناک إنْ کان الحیوان هو البقة فقد هلک قطعاً ، وإنْ کان تحقّقها بالثانیة فقد کانت ثابتة فعلاً قطعاً ، کما یقال هناک إن کان الحیوان هو الفیل کان باقیاً فلا إشکال فی جریان استصحاب النجاسة ، فإذا کان


1- «مصباح الهدی» : ج1 / ص272 .

ص:278

استصحاب بقاء النجاسة فی تلک الحال موجوداً فی صورة التغسیل ، کما قال به الآملی قدس سره ، ففی عدم التغسیل بالماء الثانی یکون الحکم ببقاء الاستصحاب للنجاسة أولی ، لأنّ مجرّد الوضوء بالماء القلیل الثانی لا یکون مطهّراً ، إنْ کانت الأعضاء نجسة بالماء الأوّل ، إلاّ أنْ یکون بنحو التغسیل ، فهو رجوع إلی الفرض الأوّل والحال أنّه خلاف المفروض ، بل کان الحکم ببقاء النجاسة بالاستصحاب هنا أولی من صورة التغسیل ، لعدم عروض ما یوجب الشکّ فی زوال النجاسة ، إنْ تحقّقت بالماء الأوّل ، بخلاف صورة التغسیل .

فإشکاله قدس سره فی جریان الاستصحاب فی صورة عدم التغسیل من جهة کون المورد من حیث المستصحب فاقدٌ لوصف الشکّ فی البقاء ، بل أمر النجاسة دائر بین مقطوع الارتفاع _ إن کان الماء الأوّل نجساً _ أو مقطوع البقاء _ إن کان الثانی نجساً _ لا یخلو عن إشکال ، لوضوح کونه حینئذٍ نظیر القسم الثانی من أقسام الاستصحاب الکلّی کما عرفت توضیحه .

وأمّا عن الثانی : فلأنّا لم نفهم کیف استصحب طهارة مواضع الوضوء وجعله معارضاً مع استصحاب النجاسة ؟! لما قد عرفت أنّه فی الآن الأوّل من الملاقاة بالماء الثانی _ سواء کان بالتغسیل أو غیره _ یقطع بحدوث النجاسة للملاقاة بالماء الأوّل ، أمّا من جهة عدم ثبوت الطهارة لعدم انفصال الغسالة فی التغسیل ، أو دائماً لعدم تغسیل حتّی یحتمل طهره بالانفصال ، أو بالماء الثانی ، فکیف جعل أحد طرفی الاحتمال طهارة مواضع الوضوء بواسطة الماء الثانی القلیل ، خصوصاً فی صورة عدم التغسیل کما هو المفروض من کلامه .

فثبت أنّ استصحاب النجاسة یجری بلا معارض ، کما أنّه قد ثبت ممّا ذکرنا ، أنّ استصحاب النجاسة فی صورة عدم التغسیل أولی من صورة التغسیل ، لعدم وجود ما یزیل النجاسة فی الأوّل ، بخلاف الثانی وهو التغسیل وإن کان

ص:279

مشکوکاً ، للشکّ فی نجاسة ماءه وطهارته .

ثمّ إنّه قدس سره نقل عن بعض المحقّقین الذین عاصرهم قولهم بإمکان القطع بزوال النجاسة ، بأنّ المکلّف إذا فعل غسلین أو وضوئین ، فقد قطع بزوال النجاسة الحاصلة من ملاقاته مع المائین ، وذلک أنّه إذا توضّأ بالماء الأوّل ، ثمّ غسله بالماء الثانی وتوضأ ، فهنا یوجب الحکم ببقاء النجاسة من جهة جریان الاستصحاب ، ثمّ بعد التوضئ بالماء یغسل یده بالماء الأوّل ، فحینئذٍ یقطع بزوال النجاسة الحاصلة إمّا عن الماء الأوّل فترتفع بالتغسیل بالماء الثانی ، أو الحاصلة من الماء الثانی فترتفع بالماء الأوّل عند التغسیل .

واحتمال حدوث النجاسة ثانیةً بواسطة احتمال نجاسة الماء الأوّل ، وإنْ کان موجوداً ، لکنّه مدفوع لأنّه مجرّد شکّ ، فالمرجع حینئذٍ هو قاعدة الطهارة .

هذا ، وأُجیب عنه بما لا یخلو عن قوّة ، بأنّ النجاسة السابقة المقطوعة الحدوث ، المردّدة بین الماء الثانی قد زال بعد ذلک ، أی بعد حصول التغسیل بانفصال الماء الأوّل عن محلّ الید ، لأنّ النجاسة المستصحبة کانت باقیة إلی حین ملاقاة المحلّ للماء الأوّل وقبل انفصال الغسالة ، فلا یأتی هذا الحکم المستفاد من الاستصحاب بعد حصول التغسیل قطعاً ، لکن النجاسة المقطوعة الحاصلة والحادثة حین ملاقاة الید مع الماء الأوّل ، المردّد بین کون الماء الثانی نجساً أو هذا الماء ، لم یُقطع بزواله بعد التغسیل ، لعدم العلم بطهارة هذا الماء ، فیستصحب بقاء هذه النجاسة ، فلا مزیل له حینئذٍ ، کما لا یخفی ، فتأمّل حتّی لا یشتبه علیک الأمر .

الثالث من الوجوه : هو أن فرض فرض التوضّئ من کلا الإنائین ، وتغسیل الأعضاء بالماء الثانی والتوضّئ بعده ، ثمّ أداء الصلاة بعد کلّ وضوء فإنّه بعد تحقّق الصلاتین یقطع بوقوع صلاة صحیحة مع الطهارة عن الحدث والخبث منه ،

ص:280

لأنّه إمّا أن یکون الماء الأوّل طاهراً ، فقد صلّی به . أو الثانی فقد تطهّر به أوّلاً ثمّ توضّأ وصلّی ، ویکون قد أتی بطهارة حادثة عن کلیهما وصلّی ، فلا إشکال فی حصول الاحتیاط بذلک . ولأجل ذلک فقد أفتی بعض _ کالآملی _ بهذا الوجه ، مع التیمّم أیضاً من جهة مراعاة الاحتیاط .

هذا وإن کان الأمر کذلک فی صورة الإمکان ، وکفایة الماء للتغسیل لا مطلقاً ، کما قد یتّفق بما لا یقدر ذلک ، وأمره دائر بین الوضوئین بهما فقط وبین ترکهما والتیمّم ، إلاّ أنّه یبقی حکم استصحاب النجاسة المقطوعة ، حال ملاقاة الماء الثانی بالید قبل الانفصال ، لو قلنا بنجاسته کذلک ، فیستصحب بعد تمام الغسل ، لأنّه یشکّ فی طهارة الماء الثانی وعدمها ، فاستصحاب النجاسة یحکم بها ظاهراً ، فصلاته الثانیة یکون قد أتی بها مع هذه النجاسة التی کانت مقتضیة لذلک الأصل ، وإن کان فی نفس الأمر والواقع یعلم إجمالاً بفراغ ذمّته ، وهذا نظیر الصلاة إلی أربع جهات عند اشتباه القبلة ، حیث أنّ مقتضی أصالة عدم کون هذه الجهة بخصوصها قبلة ، عدم صحّة إتیان الصلاة إلی جهتها ، إلاّ انّه بعد الإتیان بها إلی الجهات الأربع یقطع بوقوع الصلاة ، إمّا إلی عین القبلة أو إلی جهتها فی أقلّ من مقدار ربع الدائرة ، فیقطع بحصول الفراغ .

هذا ، فعلیه یمکن القول بأنّ استصحاب النجاسة یوجب عدم جواز الإتیان بالصلاة فی غیر المورد من الصلاة الیومیّة ، فلعلّ الإمام علیه السلام لاحظ مشکلة المصلّی من إمکان عدم تحصیل الماء لتحصیل الطهارة عن الخبث ، حکم بالتیمّم . مضافاً إلی أنّ الحکم بالتفصیل فی النجاسة ، بین الصلاة الثانیة فی المقام _ من جواز الإتیان بها _ وبین الصلاة الآتیة _ من عدم جواز الإتیان بها _ لا یخلو عن بُعد ، لعدم قائل بمثل هذا التفصیل فی النجاسة . فالأولی بعد کون مقتضی القاعدة هو الاجتناب عن کلا الإنائین _ کما هو مقتضی دلالة الخبرین المقبولین _

ص:281

هو الحکم بکفایة التیمّم ، ورفع الید عن استعمالهما ، کما علیه الأصحاب ، واللّه تعالی هو العالم بحقائق الاُمور .

هذا کلّه فی حکم الصلاة مع الطهارة عن الحدث .

الفرع الثانی : وهو فی غیرها من الأکل والشرب ، من لزوم الطهارة عن الخبث فقط ، فلا إشکال فی کون مقتضی الأصل والقاعدة ، هو الاجتناب عن کلیهما ، لأنّ قوله : «اجتنب عن النجس» یقتضی ترکهما ، کما هو ظاهر إطلاق کلام المصنّف أیضاً ، حیث قال أوّلاً : «وجب الامتناع منهما» ، ثمّ أضاف بعده : «وإن لم یجد غیر مائهما تیمّم» ، حیث یشمل صورة الشرب وغیره . مع إمکان الاستفادة _ فی الجملة _ من دلالة الخبرین علی أنّ الصلاة مع أهمّیتها ولزوم تحصیل الطهارة عن الحدث لها ، إذا حکم بجواز ترکهما _ لو لم نقل بوجوب الترک کما احتمله بعض _ ففی غیرها یکون الجواز بطریق أولی .

نعم ، قد یمکن فرضه فی صورة احتمال وجوب استعمال المائین فی التغسیل ، وذلک إذا کان الماء الثانی کافیاً ، کما لو نذر قراءة القرآن مع الطهارة الحدثیّة ، فحدث له هذا الحادث ، فلا یبعد حینئذٍ الحکم بوجوب تحصیل الطهارة ، لأنّه حینئذٍ قد عرفت أنّه یحصل القطع بالطهارة بالتوضّئ بهما مع التغسیل ، إلاّ إنّه یحکم بنجاسة أعضائه ظاهراً بحکم الاستصحاب ، ومعلوم أنّ الطهارة عن النجاسة الخبثیّة لیس بشرط فی قراءة القرآن ، وإن کان الإشکال من جهة حصول النجاسة للبدن ظاهراً متحقّقاً ومانعاً للصلاة الآتیة ، إلاّ إنّه ینطبق علیه عنوان الاضطرار حینئذٍ فی وقته ، فیصلّی معه لو لم یکن قد حان وقت الصلاة ولم یأت بها ، وإلاّ لم یکن الحکم بوجوب التیمّم حینئذٍ ببعید ، لکونه داخلاً تحت إطلاق الخبرین . مع إمکان احتمال القول بجواز التیمّم فی الصورة الاُولی أیضاً ، بدعوی عدم استبعاد القول بإطلاق الحدثین من حیث الملاک

ص:282

والمناط ، لمثل وجوب الطهارة عن الحدث لقراءة القرآن ولو عرضاً ، واللّه العالم .

الفرع الثالث : حکم تطهیر النجس بواسطة هذین المائین ، فقد اختلفوا فیه علی ثلاثة أقوال :

القول الأوّل : وهو محتمل «النهایة» للعلاّمة ، علی ما نسبه إلیه فی «مفتاح الکرامة» ، من تجوز التطهیر بواحد منهما ، من غیر احتیاج إلی التکرار ، من جهة إطلاق دلیل : «اغسل ثوبک بالماء من بول ما لا یؤکل لحمه» الذی یشمل لمثل ذلک ، خرج منه خصوص ما علم نجاسته ، وبذلک یرتفع حکم استصحاب بقاء النجاسة .

لکنّه مخدوش من جهة عدم وجود إطلاق لتلک الأدلّة من هذه الجهة ، لأنّها فی صدد بیان لزوم التطهیر بالماء الطاهر ، فتحصیل هذا القید لازم . أمّا جوازه لمطلق المیاه ، حتّی المشکوک منه فمحلّ تأمّل ، فمقتضی الاستصحاب خلافه کما هو واضح .

القول الثانی : هو تکرار التطهیر من کلیهما فی صورة الإمکان ، کما علیه صاحب «الجواهر» قدس سره ، والعلاّمة الطباطبائی . لأنّه إن کان الماء الأوّل نجساً فلا یؤثّر فی تنجیسه ، لأنّ المتنجّس لا یتنجّس ، فالماء الثانی یطهّره . وإن کان الماء الأوّل طاهراً ، فقد حصلت الطهارة عن النجس الأوّل قطعاً ، أمّا صیرورته نجساً بالثانی فهو أمرٌ مشکوک فیه ، فمقتضی استصحاب الطهارة المتیقّنة الحاصلة ، هی الطهارة .

هذا ، لکنّه ضعیف أیضاً ، لأنّه إن اُرید الحکم باستصحاب الطهارة المطلقة ، الکلّی مع صرف النظر عن خصوصیّة کلّ طرف ، فهو معارض مع استصحاب النجاسة الکلّیة المتحقّقة فی البین قطعاً إمّا بقاءً للسابقة أو حادثاً بواسطة الماء الثانی .

وإن اُرید استصحاب الطهارة لخصوص کلّ فرد بواسطة احتمال طهارته ، فهو غیر مفید ، لکونه من قبیل استصحاب حکم الفرد المردّد ، فهو غیر جار قطعاً .

فلا یبقی هنا إلاّ اختیار القول الثالث .

ص:283

القول الثالث : وهو الاجتناب عن کلیهما ، لما قد عرفت فی باب الطهارة عن الحدث للصلاة ، من جریان استصحاب النجاسة المتیقّنة الحاصلة حین ملاقاة الماء الثانی قبل الانفصال ، إذا قلنا بنجاسة الماء قبل انفصال الغسالة ، وکانت الطهارة مشکوکة الحصول ، نظیر استصحاب الحیوان الموجود فی الدار ، کما عرفت تفصیله فلا نعیده . وهذا هو الأقوی ، کما اختاره المحقّق الآملی قدس سره .

الفرع الرابع : هو ما لو خرج أحد طرفی العلم الإجمالی عن حکم تنجّز التکلیف ، إمّا بخروجه عن مورد الابتلاء ، وإمّا بالاضطرار ، فهل یوجب ذلک جواز المخالفة للتکلیف فی الطرف الآخر ، الذی لم یبتل به أم لا ؟

وتحدید الحکم فی هذا المقام ، متفرّع علی تحدید مورده :

لأنّه تارةً : یکون الخروج عن مورد الابتلاء ، أو تعلّق الاضطرار به قبل تحقّق العلم الإجمالی بنجاسة أحدهما .

واُخری : یکون الخروج مع تحقّق العلم مقارناً له ، بلا تقدّم وتأخّر .

وثالثة : متأخراً عنه .

والظاهر عدم الإشکال فی جواز ترک التکلیف فی الطرف الآخر فی القسمین الأوّلین ، لأنّه لم یتحقّق زمان یتنجّز العلم الإجمالی فیه لکلا طرفیه حتّی یحکم ببقاءه . ومن المعلوم أنّ من شروط تأثیر العلم الإجمالی فی تنجّز التکلیف ، هو إمکان البعث أو زجر المکلّف نحو التکلیف إذا تعلّق بأحد الطرفین ، مع أنّه من الواضح عدم إمکانه فی الفرضین المذکورین ، إذا کان مورد التکلیف خارجاً عن مورد الابتلاء ، أو تعلّق به الاضطرار ، فکیف یمکن حینئذٍ تأثیر العلم الإجمالی المتحقّق بعده فی تأثیر التنجیز للتکلیف ؟ وهو واضح .

مضافاً إلی أنّه یعدّ شکّاً فی أصل التکلیف بالنسبة إلی الطرف الآخر ، فتجری فیه أصالة البراءة الشرعیّة والعقلیّة . کما لا إشکال فی تنجّز التکلیف فی الطرف

ص:284

الآخر ، إذا کان الخروج أو الاضطرار حادثاً بعد العلم الإجمالی ، لوضوح أنّ العلم قد تنجّز وأثّر فیما قبل ذلک . ومعلوم أنّه لیس عدم الخروج شرطاً فی صحّة التکلیف شرعاً ، وإن کان کذلک عقلاً ، وإلاّ لأمکن القول بإمکان إسقاط حکم العلم الإجمالی عن التأثیر بإراقة أحد الإنائین ، کما قاله «کشف اللثام» نقضاً وردّاً علی بعض العامّة ، من تجویز ترک التکلیف فی الآخر حینئذٍ ، وإنْ أشکل علیه صاحب «الجواهر» قدس سره بإمکان الفرق بین الموردین ، بما لا یخلو عن مسامحة ومناقشة ، لأنّه لا تفاوت بین صورتی الاختیار فی الإراقة وعدمه ، من حیث الملاک فی سقوط العلم الإمالی عن التأثیر فی التنجّز للثانی بعد ذلک کما هو مراد الناقض وإن فرضنا صحّة العقوبة بذلک .

کما لا فرق بین وجوب الموافقة التکلیفیّة وحرمة المخالفة الاحتمالیّة ، فی أطراف الشبهة المحصورة ، بین أحد الیومین ، فإنّه کما یجب علیه الصوم قبل الإتیان بواحد منهما ، فهکذا یجب الإتیان بالآخر إذا أتی بواحد منهما ، أی لایسقط العلم الإجمالی عن مقتضاه بمجرّد الإتیان بواحد منهما ، کما لایخفی ، ولذلک لم نشاهد مخالفاً من أصحابنا فی هذه المسألة _ کما نقله صاحب «الجواهر» ، ویدلّ علی أنّ الحکم کان مقطوعاً به عند الأصحاب .

فی ملاقی احد الانائین المشتبهین

الفرع الخامس : لا یذهب علیک أنّ الحکم التکلیفی ، وهو وجوب الاجتناب عنالنجس ، یمکن تعلّقه بکلّ واحد من المشتبهین ، من باب المقدّمة العلمیّة لتحصیل الموافقة القطعیّة للتکلیف الواقعی ، فیکون التکلیف متوجِّهاً ظاهراً إلی کلّ واحد منهما . وهذا بخلاف الحکم الوضعی ، وهو النجاسة ، فإنّه لا یمکن تعلّقه بغیر ما هو الواقع فی البین . فعلی هذا لایمکن الحکم فی الملاقی (بالکسر) لأحد المشتبهین بالنجاسة ، لکون النجاسة مشکوکة ، ولکن یمکن الحکم بوجوب الاجتناب إنْ تمّ الدلیل علیه . وحینئذٍ لا بأس بصرف الکلام فی بیان حکم

ص:285

الملاقی ، فی أنّه هل یحکم بوجوب الاجتناب عنه أم لا ؟ فنقول ومن اللّه الاستعانة :

لا إشکال ولا خلاف ظاهراً فی وجوب الاجتناب عنه ، إذا فرض ملاقاته لکلّ واحد من المشتبهین للقطع بملاقاته مع النجس فی البین ، وهو واضح لا خفاء فیه . کما لا إشکال فی نجاسته أیضاً ووجوب الاجتناب عنه ، فیما لو فرض ملاقاة فرد ثالث فی قباله لاقی مع الطرف الآخر فصار ملاقیاً للمشتبهین ، فیجب الاجتناب عنهما ، کما یجب الاجتناب عن المشتبهین الأصلیّین ، لتحقّق العلم الإجمالی بنجاسة أحدهما قطعاً ، کما فی أصلهما ، بلا فرق فی ذلک بین الوجوه المقصودة الآتیة . ولم أجد من خالف فی الحکمین المذکورین . وإنّما الکلام والإشکال فیما إذا لاقی أحد طرفی المشتبهین معیّناً أو غیر معیّن ، فهل یجب الاجتناب عن الملاقی مطلقاً ، _ کما نقل ذلک عن العلاّمة فی «المنتهی» ، وصحّت نسبته إلی السیّد أبو المکارم ابن زهرة من استدلاله بقوله تعالی : «وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ»(1) ، وصاحب «الحدائق» کما نقله الشیخ الأنصاری قدس سره _ أو طهارته مطلقاً _ . ولم أرَ من صرّح بالإطلاق ، وإن أمکن استفادته فی الجملة من صاحب «الجواهر» قدس سره ، ولکن صحّة الاستناد لا تخلو عن تأمّل _ أو القول بالتفصیل ، بما سنوضّح لک إن شاء اللّه تعالی ؟ ولا یخفی أنّ لنا هنا اُموراً ثلاثة :

الأوّل : العلم الإجمالی بنجاسة أحد المشتبهین .

والثانی : هو نفس الملاقاة الواقعة مع أحدهما المعیّن .

والثالث : هو العلم بالملاقاة . فیملاقی احد الانائین المشتبهین

فحینئذٍ تارةً یفرض جمیع الوجوه الثلاثة مع وجود الملاقی (بالفتح) ، واُخری مع فقده .


1- سورة المدّثر : آیة 5 .

ص:286

وأمّا صورة وجود الملاقی (بالفتح) ، مع وجود العلم الإجمالی والملاقاة والعلم بها :

فتارةً : یفرض تقدّم العلم الإجمالی بنجاسة أحدهما علی الملاقاة والعلم بها .

واُخری : یکون العلم الإجمالی مقروناً مع الملاقاة والعلم بها .

وثالثة : یکون العلم الإجمالی متأخِّراً عنهما ، مع کون متعلّقه أی النجاسة متقدِّماً علیهما کما تأتی هذه الصور فی فرض فقدان الملاقی أیضاً .

فالآن نفرض ما لو کان الملاقی (بالفتح) موجوداً وکان العلم الصورة الاُولی : کون النجاسة مقدّمةً علی الملاقاة والعلم بها . فهو مورد الکلام والنقض والإبرام ، والبحث عنها تبیّن حکم وجوه اُخری فی ضمنه ، فنقول :

القائل بوجوب الاجتناب عن الملاقی ، تارةً یتمسّک بالآیة المذکورة ، ففیه :

أوّلاً : إنّها تدلّ علی وجوب الهجر عن النجس ، لا عن مشکوکه ، فالاستناد بها لمشکوکه یکون من قبیل التمسّک بالعام فی الشبهة المصداقیة ، وهو غیر جائز .

وثانیاً : إنّها تحکم بوجوب الاجتناب عن النجس ، لا المتنجّس ، لوضوح أنّ الملاقی کان متنجّساً لا نجساً ، علی تقدیر ثبوت النجاسة فی الملاقی فی الواقع .

وثالثاً : قد عرفت أنّه لا یمکن إطلاق الحکم الوضعی ، کالنجاسة للمشکوک ، أی لا یکون وصف النجاسة إلاّ لما کان فی الواقع نجساً ، نعم یحکم بوجوب الاجتناب تکلیفاً ، ویصحّ ولو مع الشکّ ، إذا کان فی أطراف الشبهة المحصورة ، فالآیة غیر شاملة لما نحن فیه .

واُخری : یتمسّک بالدلالة الالتزامیّة بأن یقول : إنّ دلیل وجوب الاجتناب أو ما یحکم بالنجاسة إنّما یشمل بالمطابقة لخصوص النجس ، إلاّ انّه یشمل بدلالة الالتزام والسرایة للمتنجّس ، بأنّه لو لاقاه شیء یوجب سرایته وتنجّسه فیجب الاجتناب عنه أیضاً .

ص:287

وفیه : إنّه لا إشکال فی صدق السرایة للملاقی بذلک النجس ، إن کان نجساً فی الواقع ، لکن إثبات أنّه متی وجب الاجتناب عن النجس یجب الاجتناب عن متنجّسه مشکل جدّاً ، لإمکان التفکیک بین کون النجس واجب الاجتناب دون المتنجّس . مضافاً إلی ما عرفت من عدم إمکان الحکم بالنجاسة حتّی للملاقی المشکوک ، حتّی یوجب القطع بالسرایة ، وإن وجدت السرایة علی تقدیر کون نجاسة الملاقی .

وثالثة : قد یتمسّک لإثبات وجوب الاجتناب عن الملاقی بواسطة العلم الإجمالی ، بکون أحدهما نجساً یفید وجوب الاجتناب عنهما ، فیلزم وجوب الاجتناب عن ملاقیهما أیضاً ، ولو کان فی طرف واحد . فعلیه قد یتمشّی فی الحکم بوجوب تحصیل الموافقة القطعیة للتکلیف فی أطراف الشبهة المحصورة ، بما ذهب إلیه الشیخ الأنصاری قدس سره ، ووافقه علی ذلک المحقّق الخوئی فی أصل الدلیل من کون الملاک فی الحکم بالتنجیز ووجوب الموافقة هو تحقیق التعارض بین الاُصول الجاریة فی الأطراف وتساقطهما ، فلا محیص إلاّ من الاحتیاط والاجتناب عن کلا الطرفین .

أو یتمشّی بمسلک المحقّق الخراسانی قدس سره فی «الکفایة» من کون الملاک فی وجوب الاجتناب هو علیّة العلم الإجمالی بذلک ، بلا فرق بین کون الاُصول الجاریة فی الأطراف ، ساقطة بالتعارض ، أو لا ، لأنّ العلم الإجمالیی بالاجتناب لا یمکن الجمع بینه وبین الترخیص فی الاستعمال للطرفین أو أحدهما ، لحصول التناقض بذلک .

فعلی المسلک الأوّل ، لابدّ أن یقال فی المورد بطهارة الملاقی ، وعدم وجوب الاجتناب عنه ، لأنّ الاُصول الجاریة من استصحاب الطهارة أو استصحاب النجاسة _ فیما کانت حالتهما السابقة معلومة _ طهارة أو نجاسة _ أو قاعدة

ص:288

الطهارة أو البراءة فی کلّ واحد من الطرفین من الملاقی وصاحبه ، متعارضة فیتساقطان . وحیث کان الشکّ فی نجاسة الملاقی وعدمها مسبّباً عن الشکّ سببیّة الملاقاة للنجاسة ، فبعد تساقط الاُصول الجاریة فی السبب _ وهو الملاقی _ بواسطة التعارض ، یبقی الأصل الجاری فی المسبّب _ وهو الملاقی من استصحاب الطهارة أو قاعدتها _ سالماً من المعارض ومجاریاً ، فیحکم بعدم وجوب الاجتناب عنه .

ولا یفرّق الشیخ قدس سره ومن تبعه کصاحب «مصباح الفقیه» وغیره ، بین صورة تقدّم العلم الإجمالی بالنجاسة علی الملاقاة ، والعلم بها ، أو تقارنه ، أو کون العلم بالنجاسة بصورته الکاشف متأخّراً عن الملاقاة ، والمنکشف هو النجاسة کان متقدّماً ، وإلاّ لو کان المنکشف وهو النجاسة أیضاً متأخّرة عن الملاقاة لما استلزم نجاسة الملاقی قطعاً ، لکون الملاقی حین الملاقاة کان طاهراً ، کما هو واضح .

نعم ذهب الشیخ قدس سره ومن تبعه _ بناءً علی مسلکه بوجوب الاجتناب عن الملاقی دون الملاقی ، فیما إذا فرض کون الملاقی حین تحقّق العلم بالنجاسة لأحد الإنائین مثلاً مفقوداً ، فحینئذٍ یتحقّق العلم الإجمالیی بنجاسة الملاقی ، أو الطرف الآخر ، فعلیه یجب الاجتناب عن الملاقی ، کما یجب الاجتناب عن الطرف الآخر ، لوقوع المعارضة بین الاُصول الجاریة فی الملاقی مع الاُصول الجاریة فی الطرف الآخر ، فلا محیص إلاّ عن الاجتناب عن کلیهما ، فیما إذا فرض حدوث أصل النجاسة المشکوکة قبل الملاقاة ، ولکن علمه بذلک کان بعد فقدان الملاقی .

وأمّا علی مسلک المحقّق الخراسانی قدس سره والمسلک الثانی ، حیث أنّه یقول بعلّیة للعلم الإجمالی للتنجّز ، فإنّه فرض للمسألة أنحاء ثلاثة فی صورة وجود الملاقی .

لأنّه تارةً یحکم بوجوب الاجتناب عن الملاقی وصاحبه دون الملاقی ، وهذا

ص:289

فیما إذا کان العلم الإجمالی بنجاسة الملاقی (بالفتح) مع صاحبه متقدِّماً علی العلم الإجمالی بنجاسة الملاقی أو الطرف الآخر ، وبما أنّ العلم الإجمالی لا یتنجّز إلاّ إذا أمکن الحکم بتنجّز کلّ واحد من طرفیه لو کان التکلیف فیه ، بخلاف ما لو کان فی مورد وکان المعلوم فی ذلک الطرف ، فإنّه لا یمکن الحکم بالتنجیز ، ولو بلحاظ وجود التنجیز بالعلم الإجمالی الآخر ، کما فی المقام ، لأنّ الطرف الآخر قد تنجّز الحکم فیه من جهة کونه طرفاً للعلم الإجمالی للنجاسة ، أو الملاقی (بالفتح) ، فلا یمکن أن یقع متعلّقاً للعلم الإجمالی الثانی الموجود بینه وبین الملاقی (بالکسر) ، فحیث لا یتنجّز العلم بالنسبة إلیه ، یلزم جریان استصحاب الطهارة أو قاعدتهاو لو لم یکن الاستصحاب موجوداً وجاریاً فی الملاقی بلا إشکال فیحکم بطهارته ، لأنّ نجاسته کانت مستحدثة ، ولیست هی النجاسة الموجودة فی الملاقی حتّی یقال إنّهما واحد .

واُخری : یحکم بوجوب الاجتناب من الملاقی (بالکسر) والطرف الآخر دون الملاقی . وهو فیما لو فرض تقدّم حدوث العلم الإجمالی بنجاسة الملاقی _ وهو الید مثلاً _ التی قد لاقت مع ماء الإناء أو الطرف الآخر _ وهو ماء الإناء الذی یکون طرفاً للملاقی _ علی حدوث علم إجمالی بین نجاسة أحد الإنائین ، المسمّی أحدهما بالملاقی والآخر بالطرف ، فننقل هذا الکلام بعینه هاهنا _ عکساً _ أی بالنسبة إلی الملاقی ، إذ الطرف الآخر قد تنجّز العلم بالنسبة إلیه بواسطة العلم الإجمالی الواقع بینه وبین الملاقی ، فلا یمکن تعلّق التنجیز بواسطة العلم الإجمالی بینه وبین الملاقی ، فیصیر استصحاب الطهارة أو قاعدتها جاریة فی الملاقی بلا معارض ، کما لایخفی .

وثالثة : الحکم بوجوب الاجتناب عن الثلاثة ، وهو فیما لو تقارن حدوث العلم الإجمالی بنجاسة أحدهما مع العلم بالملاقاة .

ص:290

فإنّه حینئذٍ یتعلّق العلم فی طرف بالملاقی والملاقی کلیهما ، وفی طرف آخر بصاحب الملاقی وهو الطرف الآخر ، ولذلک یجب الاجتناب عنها .

هذا حاصل کلام المحقّق الخراسانی قدس سره .

لکن یرد علیه : أنّه إذا کانت النجاسة المتعلّقة بالملاقی متولّدة عن نجاسة الملاقی ، فلا فرق فی ذلک بین کون العلم متعلِّقاً بهما معاً أو متعاقباً ، لأنّ نجاسة الشیء الثانی متأخّرة عن الشیء الأوّل ، فحینئذٍ یکون الأصل الجاری فی الملاقی معارضاً مع الأصل الجاری فی الطرف الآخر . وقد عرفت أنّ العلم الإجمالی لا ینافی ترخیص الشارع لأحد الطرفین ، لو کان قد ورد فیه دلیلاً ، فالشیء المشتبه ملاقاته للمتنجّس ، الجاری فیه الأصل غیر المعارض ، یکون الترخیص فیه جائزاً بطریق أولی . فحیث کان العلم الإجمالی بالنجاسة لأحدهما بحسب التکلیف مقدّماً رتبةً علی العلم الإجمالی المتولّد منه _ وهو العلم الإجمالی المتعلّق بالملاقی والطرف الآخر _ وإن کان متأخّراً زماناً ، بأن تحقّق العلم بنجاسة الملاقی والطرف الآخر أولا ، ثمّ علم بنجاسة أحدهما ، وعلم أنّ نجاسة الملاقی _ لو حدثت _ یکون من جهة نجاسة الملاقی وبسبب الملاقاة .

ولذلک یحکم بتقدّم مقتضی ذلک العلم الإجمالی المتقدّم ، علی ما یقتضیه العلم الإجمالی الثانی رتبةً ، المتقدّم زماناً ، فیصیر ذلک أیضاً مثل الصورة الاُولی من الأنحاء الثلاثة التی ذکرها . فإذا کان الأمر فی هذه الصورة کذلک ، ففی التقارن یکون بطریق أولی .

والسرّ فی ذلک أنّ الملاک فی التقدّم والتأخّر ، إنّما یکون هو الواقع المنکشف من النجاسة فی العلم الإجمالی المتقدِّم رتبةً ، والملاقاة فی العلم الإجمالی المتأخّر رتبةً والمتقدّم زماناً ، فما ذهب إلیه المحقّق الخراسانی غیر وجیه عندنا . کما أنّ ما ذهب إلیه الشیخ الأنصاری قدس سره من التفصیل فی الاجتناب عن الملاقی

ص:291

وعدمه من صورة بقاء الملاقی وصاحبه ، وتحقّق العلم الإجمالی بالنجاسة والملاقاة _ حیث لا یجب الاحتراز عنه _ وبین ما لو کانت الملاقاة قبل العلم الإجمالی بالنجاسة ، ثمّ فُقد الملاقی ، ثمّ علم بنجاسة أحدهما من الملاقی المفقود وصاحبه ، حیث یجب الاجتناب عن الملاقی حینئذٍ وصاحب الملاقی ، لا یخلو عن إشکال وتأمّل . لأنّ الثابت فی علم الاُصول أنّ الاستصحاب أو الاُصول والقواعد الشرعیّة ، مثل قاعدة الطهارة والحلیّة ، إذا کانت لها أثر فی بقاء المستصحب ، أو الشیء المتعلّق لتلک القاعدة ، یکون کافیاً فی صحّتها وجواز إجرائها ، وإن لم یکن لهما أثر فی الحدوث ، هذا أوّلاً .

فی ما لو اشتبه أحد الانائین المشتبهین مع اناء ثالث

وثانیاً : لا یحتاج لترتّب أثر الأصل من بقاء مورد الأصل ، بل لو تلف محلّه ، وکان لجریان الأصل فی ذلک التلف أثراً شرعیّاً ، فحینئذٍ یصحّ جریان الأصل ، ویترتّب علیه أثره ، کما لو فرض العلم بملاقاة یده لشیء ، أو توضّأ من ماء إناء من دون التفات إلی حاله من الطهارة والنجاسة ثمّ بعد إراقته شکّ فی طهارته ونجاسته ، وکان للماء حالة متیقّنة وهی الطهارة ، فلا إشکال فی إجراء الاستصحاب فیه والحکم بترتیب أثره حینئذٍ وهو عدم لزوم إعادة الوضوء ، وطهارة الأعضاء وأمثال ذلک . وهکذا الحکم فی المقام ، لأنّ أثر إجراء الأصل من الطهارة استصحاباً أو القاعدة أوا لبراءة ، هو تحقّق التعارض فی مورده مع الأصل الجاری فی قباله من الطرف الآخر ، فیوجب التساقط ، فیکون أثر الحکم بطهارة ملاقیه بواسطة أصله الجاری فیه بلا معارض ، کما لا یخفی .

فظهر حینئذٍ وجود أثر للمستصحب والأصل وهو البقاء ، وهذا کاف فی صحّته .

نعم ، قد أفتی السیّد محمّد رضا الگلپایگانی فی حاشیته علی «العروة» ، وبعض آخر بلزوم الاجتناب عن الملاقی إن کان الملاقی محکوماً بالنجاسة بالاستصحاب لمعلومیّة حالته السابقة بالنجاسة . ولعلّه ظنّ أنّ أثر

ص:292

الاستصحاب ، وإن کان هو نجاسة ماء الإناء _ المسمّی بالملاقی الساقط بالمعارضة _ إلاّ أنّ سقوط أثره بالمعارضة فی خصوص مجراه مثلاً لا یوجب عدم ترتّب أثره الآخر الذی لا معارض له ، وهو نجاسة الملاقی ، ولذلک حکم بنجاسة الملاقی فی هذا المورد .

ولکن یمکن الجواب عنه : بأنّ الحکم بنجاسة الملاقی یکون من آثار الأصل الجاری فیه ، فإذا کان الأصل جاریاً وباقیاً فیه ، فللحکم ببقاء أثره وجه .

وأمّا إذا لم یجر الأصل فیه بواسطة المعارضة ، کما إذا لم یکن فی مورده أصل أصلاً ، فلا وجه لترتیب أثره الذی هو فرع لنفس الأصل . فالأقوی عندنا بحسب القاعدة ، طهارة الملاقی فی جمیع الصور ، کما هو ظاهر إطلاق صاحب «الجواهر» وبعض آخر ، وإن کان الحکم بالاجتناب عن الملاقی احتیاطاً فی الصورتین المذکورتین _ أحدهما ما فی کلام الشیخ من فقدان الملاقی ، وثانیهما ما فی کلام الگلپایگانی من استصحاب نجاسة الملاقی _ لا یخلو عن قوّة ، واللّه العالم بحقائق الاُمور .

الفرع السادس : لو اشتبه أحد المشتبهین من الإنائین مع إناء ثالث ، فهل یجب الاجتناب عن الثالث کما یجب عنهما أم لا ؟ فعلی القول بعدم التعدّی عن مورد النصّ ، یکون وجوب الاجتناب عن الثالث مبنیّاً علی أنّ وجوب الاجتناب عن المتنجّس المشتبه ، یکون کوجوب الاجتناب عن النجس المشتبهة واجباً ، بمعنی أنّه یجب الاجتناب عنه لما یشترط فیه الطهارة ،

النهی المستفاد من الأمر بالاراقة تحریمی ذاتی أو تشریعی؟

لکنّه لا یخلو عن تأمّل ، کما ذکره الشیخ الأنصاری قدس سره .

وأمّا علی القول بالتعدّی _ کما هو الحقّ ، لما قد عرفت موافقته للقاعدة ، ومن تنجّز العلم الإجمالی علی جمیع الأطراف ، ما لم یبلغ مرتبة الشبهة الغیر المحصورة _ فلا إشکال فی وجوب الاجتناب عنه أیضاً ، کما یجب عن

ص:293

الآخرین ، فیتیمّم عند الانحصار ، کما لایخفی .

الفرع السابع : لو اشتبه الإنائین بالإطلاق والإضافة ، فلا إشکال فی لزوم تحصیل الطهارة عن الحدث بهما ، لحصول القطع بها حینئذٍ ، لأنّ أحدهما لا إشکال فی کونه مطلقاً ، ووجوب التمییز فی کونه بعینه مطلقاً غیر لازم .

کما لا إشکال فی حصول الطهارة عن الخبث إذا تطهّر بالماء القلیل متعاقباً ومتدافعاً ، ولا یحتاج حینئذٍ إلی أن یتیمّم أصلاً ، إلاّ علی القول بلزوم التعیّن ، فحیث لا یمکن فیتعلّق التکلیف بالتیمّم .

لکنّه ضعیف جدّاً ، ومن هنا یظهر حکم ما لو أراق ماء أحد الإنائین فی هذا الفرض ، فحینئذٍ لا یجوز الاکتفاء بالتوضئ بالماء الباقی ، المشکوک کونه مطلقاً أو مضافاً ، لأنّ استصحاب بقاء الحدث بعد التوضئ ، یوجب الحکم بوجوب التیمّم أیضاً ، للقطع بکونه مخاطباً بأحد الخطابین من الطهارة المائیة أو الترابیة ، فیجب وجوباً بالعلم الإجمالی .

فما ذکره صاحب «المدارک» من عدم الوجه فی الجمع بین الطهارتین ، لأنّه إنْ کان الشرط کون الماء معلوم الإطلاق ، حتّی یجوز التوضئ ، فلازمه عدم جواز الوضوء ، بل یتیمّم حینئذٍ فقط . وإن کان المشروط هو عدم کونه معلوم الإضافة ، فلازمه جواز التوضّؤ فی المورد .

لا یخلو عن إشکال ، لأنّه یحتمل أن یکون الشرط هو إطلاق الماء واقعاً ، فهذا الاحتمال یوجب الحکم بالتوضئ ، وحیث أنّ الاکتفاء به لا یوجب القطع بالطهارة ، فلذلک یجب التیمّم أیضاً جمعاً بین الخطابین المحتملین بالعلم الإجمالی . کما یظهر الجواب عن کلام المحقّق الخوئی ، من الحکم بوجوب التیمّم فقط ، بمقتضی استصحاب بقاء الحدث فی صورة التوضئ ، لما قد عرفت من أنّ الاستصحاب یجری فی طرف التیمّم أیضاً .

ص:294

الفرع الثامن : هل النهی الوارد المستفاد من أمر الإمام علیه السلام بالإراقة هو نهی تحریمی ذاتی أو تشریعی ؟

وبعبارة اُخری : هل وجوب الإراقة وجوب تعبّدی صرف ، أو یکون وجوبها کنایة عن ترک الاستعمال ، أو أنّه وجوب شرطی ، أی یجب الإراقة للتیمّم وبدونه لا یقطع بوظیفته ، لاحتمال کونه واجد الماء ، فلا یکتفی بالتیمّم حینئذٍ ؟

الظاهر کون الوجوب علی النحو الثانی ، وإن کان الثالث أیضاً لا یخلو عن قوّة ، لو لم یعارضه رجحان شیء آخر ، من اضطرار لزوم الماء لرفع العطش وغیره.

فی ملاک المحصور و غیر المحصور

ولکن الحکم بالوجوب لا یخلو عن إشکال ، فما ذهب إلیه من الوجوب کما عن «المقنعة» و«النهایة» والصدوقین ، لا یخلو عن کلام .

ثمّ لا یذهب علیک أنّه علی القول بالحرمة الذاتیة ، تکون نتیجتها عدم صحّة الطهارة من الحدث ، لعدم تمشّی قصد القربة منه لو أتی بواحد منهما . نعم ، تصحّ الطهارة عن الخبث مع الإثم ، لکونه حراماً ، کما تصحّ الطهارة عن الحدث لو أتی بواحد منهما أو کلیهما نسیاناً أو اعتقاداً بالطهارة ، فإنّه تتحقّق الطهارة ، لولا سائر الإشکالات السابقة التی قد ذکرناها مفصّلاً فلا نُعید .

هذا ، بخلاف ما لو قلنا بالحرمة التشریعیّة ، فإنّه حینئذٍ لا یکون الإشکال فی الطهارة من الحدث والخبث ، إلاّ ما عرفت سابقاً من مقتضیات الاُصول .

والأقوی عندنا عدم کونه حراماً ذاتیّاً ، بل لو حرم کان تشریعیّاً ، ولا یوجب فساد العمل ، لأنّ الحرمة تکون باعتبار انطباقه خارجاً علی ذلک العمل ، وهو واضح لا خفاء فیه ، لا أن یکون نفس العمل حراماً حتّی یوجب فساده .

الفرع التاسع : ما قیل فی الفروع السابقة إنّما یکون فی المشتبه الذی کان محصوراً ، حیث کان العلم الإجمالی فیه منجّزاً ، فلو فرض المشتبه فی غیر المحصور ، فلا یجب الاجتناب عنه ، ولا یتنجّز العلم الإجمالی بواسطة وجود

ص:295

بعض الموانع من العسر والحرج فی بعض الموارد ، أو الخروج عن موضع الابتلاء فی بعض آخر وأمثال ذلک .

وحیث کان حکم وجوب الاجتناب عن النجس المشتبه وعدمه دائراً مدار تشخیص المحصور وغیره ، فلا بأس بالإشارة إلی وجوه متصوّرة فی معناه خارجاً ، والأقوال الموجودة فیها بعد وضوح مفهومهما .

والحقّ _ کما علیه المحقّق الآملی وجماعة اُخری من الفقهاء _ أنّ مرجع تشخیصه هو العرف ، فکلّ ما صدق عندهم أنّه محصور ، فیحکم فیه بالاجتناب قطعاً ، کما لا یجب الاجتناب عنه فیما لو ثبت عندهم أنّه غیر محصور .

أمّا لو شکّ فی بعض المصادیق أنّه معدود فی الشبهات المحصورة أو عدمها ، فالظاهر هو الوجوب أیضاً ، وذلک بمقتضی العلم الإجمالی ، والشکّ فی حصول الموانع ، والأصل عدمها .

ثمّ إنّ ما ذکره الشیخ الأنصاری قدس سره فی معناه ، هو الأقوی إنْ کان کلامه غیر ما ذکرنا ، لاحتمال أن یکون متّحداً بما قلنا _ کما قیل _ وهو کون الملاک فی غیر المحصور ، أن یکون احتمال وجود الحرام أو النجس فی الأفراد ضعیفاً عند العقلاء بحیث لا یعتنون به ، فالمحصور هو ما کان بخلاف ذلک .

فهنا خمسة أقوال لا بأس بالإشارة إلیها وهی :

القول الأوّل: أنّ المحصور ما کان عدّه وإحصاءه غیر مشکل ، بخلاف قرینه وبدیله .

وهذا هو الذی یظهر من الشهید الثانی والمیسی وصاحب «المدارک» ، وفی بعض وأضاف بعضهم إلی التعریف قیّد المدّة أی یصیب عدّة فی مدّة قصیرة .

القول الثانی : أنّ غیر المحصور ما یؤدّی إلی ترک جمیع الأفراد کترک الواجب ، أو ترک عمل نظیر ترک الصلاة فی الأمکنة المشکوکة ، أو ترک أکل لحم

ص:296

الشاة لاحتمال کونها أحدها الموطوءة .

وهذا هو الذی یظهر من «کاشف اللثام» ، واستصوبه صاحب «مفتاح الکرامة» .

القول الثالث : أن تکون الکثرة بحیث لو أراد المکلّف الإتیان بها لم یتمکّن عادةً من إتیانها ، ویکون علی نحو بحیث یبقی بعض الأفراد خارجاً عن محلّ الابتلاء ، ولذلک لا یتنجّز علیه العلم .

هذا هو المنقول عن المحقّق النائینی قدس سره .

القول الرابع : الإحالة إلی العرف ، إلاّ أن یکون وجودات کلّ واحد من الأفراد منحازاً ومستقلاًّ عن الآخر ، بأن یکون علی نحو یمکن الجمع بینهما نظیر قطرة بجوار القطرات ، وحبّة من الحنطة بجنب أطنان من الحنطة ، حیث یکون محصوراً حینئذٍ .

فی تعریف الماء المضاف و أقسامه

هذا هو المنقول عن المحقّق الشیخ ضیاء الدِّین العراقی .

القول الخامس : أنّه إذا کانت الأطراف والأفراد علی نحو لا یمکن ملاحظتها إلاّ تحت عنوان إجمالی مثل (شاة قریة) أو (شیاة هذا الراعی) واشتبه فی حرمة أحدها فهو غیر محصور ، وأمّا إذا لم یکن کذلک بل یمکن ملاحظته علی نحو غیر مجمل فهو معدود فی المحصور .

هذا هو الذی ذکره صاحب «مصباح الفقیه» مستفیداً من صاحب «الحدائق» قدس سره .

هذه هی الأقوال التی وجدناها بعد الفحص فی مظانّها ، وقد عرفت أنّ الأقوی ما ذکرناه .

وهذا تمام الکلام فی الشبهة المحصورة فیما یقتضیه المقام ، وسیأتی تتمّة له فیما ناسب طرحه إن شاء اللّه تعالی .

ص:297

الثانی : فی المضاف

وهو کلّ ماء اعتصر من جسم ، أو مزج به مزجاً یسلبه إطلاق الاسم(1).

الماء المضاف وأحکامه

(1) ولا یخفی علیک أنّ المصنّف رحمه الله لم یُدخل الماء المقطّر المتصاعد فی المضاف ، ولعلّه أدرجه فی المطلق ، وإن کان من الماء المضاف کماء الورد إذا صعد وصار مقطراً .

لکنّه بعید جدّاً ، إذ لا یساعده دلیله المذکور فی ذیل کلامه بقوله : «فی المزج ما یسلبه إطلاق الاسم» ، لوضوح أنّه لا خصوصیّة فی المزج ، لصحّة إطلاق صحّة السلب .

فی ما لو شکّ فیصدق الاطلاق و الاضافة

ومن الواضح عرفاً عدم صحّة إطلاق الماء بلا قید علی الماء المقطّر _ بلا إشکال _ ولا علی المتبدّل بالتقطیر ظاهراً ، وإن سلّم المحقّق الخوئی علی ما فی «التنقیح» صحّة إطلاق الماء علی الثانی ، وتأمّل المحقّق الآملی قدس سره فی «مصباحه» ، وحکم بالاحتیاط .

کما أشکل وتأمّل الحکیم قدس سره فی «المستمسک» فی إطلاق عدم صحّة الانطباق مطلقاً وفی جمیع الأفراد .

ولعلّ المصنّف أراد إدخاله تحت أفراد المضاف ، کما یشعر بذلک ما عرفت من ذیل کلامه .

وکیف کان لا إشکال فیی کون الماء المضاف علی أقسام ثلاثة :

القسم الأوّل : المعتصر من الأجسام ، وهو الفرد المجازی من لفظ الماء ، لأنّ إطلاق الماء علیه لا یکون إلاّ من جهة المشابهة المخصوصة لا مطلق التشابه ، ولذلک لا یطلق لفظ (الماء) علی الدهن والدبس المائعین .

کما یکون کذلک مجازاً فی القسم الثانی منها وهو المتقطّر منه ، لوضوح أنّ

ص:298

صحّة إطلاقه علیه ، کان بواسطة علاقة ما کان أو یکون أو ما یؤل إلیه ، من جهة أنّه سوف یصیر مشابهاً للماء المطلق ، بحیث کان انطباق إطلاق الماء المطلق علیه أشدّ من القسم الأوّل ، ولذلک تری ذهاب بعض الفقهاء إلیه .

وأمّا القسم الثالث : وهو الماء الممتزج بالشیء ، الذی کان إطلاق الماء علیه حقیقة ، لوجود أجزاء الماء فیه واقعاً ، حتّی بعد المزج کماء الملح وماء التراب ونظائرهما .

فثبت ممّا ذکرنا اُمور ثلاثة :

الأمر الأوّل : إطلاق الماء علی الأقسام الثلاثة یکون من باب الإطلاق الحقیقی أو المجازی ، لا من باب الاشتراک اللفظی ، _ کما یظهر عن بعض علی حسب ما نقله الآملی فی «مصباحه» .

فالمقسم فی کلام الفقهاء ، بأنّ الماء علی قسمین : مطلق ومضاف ، یکون المراد هو الأعمّ من الحقیقة والمجاز ، کما لایخفی علی المتأمِّل _ .

ولا علی الاشتراک المعنوی ، کما یظهر من الحلّی فی «دلیل العروة» فارجع .

الأمر الثانی : إنّ الملاک فی صحّة إطلاق الماء ، هل من جهة کون صحّة إطلاق استعمال الماء علیه بلا قید _ کما فی «مصباح الفقیه» للهمدانی قدس سره _ أو من جهة عدم صحّة سلب اسم الماء المطلق عنه ، کما هو موجود فی کلام کثیر من الفقهاء ؟

الأمر الثالث : أنّ الماء المقطّر أیضاً یعدّ عند العرف من أقسام المضاف ، وذلک من جهة صحّة إطلاق اسم ماء المطلق علیه ، ولکنّه أخفی من غیره .

فدعوی کونه من الماء المطلق _ کما عن الخوئی _ لا یخلو عن إشکال ، سیما قبل تقطیره بالماء المقطّر .

ثمّ لو شککنا فی مورد من جهة صدق الإطلاق والإنطباق ، فلابدّ من الرجوع حینئذٍ إلی الاُصول العملیّة من الموضوعیّة والحکمیّة ، لأنّه لو کان له حالة سابقة

ص:299

من الإضافة أو الإطلاق ، فتستصحب تلک الحالة إلی أن یعلم الخلاف .

یعنی لو کان مطلقاً فاختلط بالتراب ، إلی أن صار مشکوکاً ، فالمرجع حینئذٍ استصحاب إطلاقه .

فی حکم الماء المضاف

کما أنّه لو کان وحلاً ، فاختلط بالماء المطلق ، إلی أن صار مشکوکاً ، فالمرجع استصحاب حالته السابقة .

هذا إذا لم تکن الشبهة مفهومیّة ، وإلاّ لا یجوز ، لأنّه یعدّ حینئذٍ نظیر التمسّک بالعام فی الشبهة المصداقیة ، لأنّ المفهوم المردّد یکون نظیر الفرد المردّد ، لایجوز التمسّک بإطلاقه اللفظی المستفاد من ذلک المفهوم ، وهکذا فی استصحابه ، بل المرجع حینئذٍ هو الرجوع إلی الاستصحاب الحکمی ، أو سائر الاُصول الجاریة فی المورد من البراءة والاشتغال .

کما أنّها تکون المرجع فی کلّ مورد لیس فیه أصل موضوعی ، ولو من جهة عدم العلم بالحالة السابقة للشیء المشکوک ، وتفصیل الکلام موکول إلی محلّه .

هذا إذا کان منشأ الشکّ من جهة صدق العرفی للمشکوک ، بأنّه یکون من قبیل الماء المطلق أو الماء ؟ کما هو الملاک فی التشخیص لا أمر آخر من الکثرة والقلّة فی الخلیط ، بأنّه إذا کان الخلیط کثیراً أو أکثر من الماء فهو مضاف وإلاّ مطلق ، ومع التساوی یحکم بجواز الاستعمال للتطهیر ، کما عن الشیخ الطوسی قدس سره فی «المبسوط» ، أو المنع والاحتیاط کما عن القاضی ، تمسّکاً بقاعدة الاحتیاط .

لما قد عرفت بأنّ المعیار فی التشخیص هو العرف ، کما هو کذلک فیما لو فرض اختلاطه بمسلوب الصفات من الماء المضاف ، من دون ضرورة لفرض کونه واجداً للصفات ، کما یظهر عن العلاّمة قدس سره .

بل قد صرّح بلزوم ملاحظة الحدّ الوسط من الصفات ، لا حالته السابقة قبل السلب ، لأنّه لا دلیل علی ما ادّعاه ، ولم یأت بشیء یستفاد منه ذلک ، کما ذکره

ص:300

وهو طاهر ، لکن لا یزیل حدثاً إجماعاً ، ولا خبثاً علی الأظهر(1).

الشیخ الأنصاری قدس سره فی «طهارته» .

والحالة الاُخری هی العدول عنه ، ولا یحتاج إلی مزید بیان .

(1) وما ذکرناه فی البحث السابق یشتمل علی ثلاث حالات ومسائل :

أحدها : طهارة نفسه ، أی یعدّ المضاف طاهراً ، هذا إذا کان المضاف إلیه طاهراً ، لوضوح نجاسته فی غیره ، نظیر الماء المتّخذ من لحم الکلب أو من الشیء المتنجّس ، فیکفی فی ثبوت طهارته قاعدة الطهارة ، لقوله علیه السلام : «کلّ شیء نظیف حتّی تعلم أنّه قذر»(1) ، فی حدیث مصدق بن صدقة عن عمّار ، واستصحاب الطهارة ، لطهارته قبل ذلک فیستصحب .

فی عدم رافعیّة الماء المضاف للحدث

مضافاً إلی دلالة الأصل الأوّلی وهو الطهارة فی غیر ما ثبت نجاسته بالدلیل ، لاسیّما إن قیل بکون النجاسة أمراً عارضیّاً والطهارة تعدّ رفعها ، فالمسألة واضحة لا تحتاج إلی دلیل ، بعد قیام الإجماع علیها .

ثانیها : کون المضاف غیر رافع للحدث الأصغر والأکبر ، وما فی حکمهما من الأحداث الموجبة لاستحباب التوضئ والاغتسال ، کالسلس والمستحاضة .

بل ولا یکفی لما یوجب کمالاً ، لحصول الطهارة بعد الطهارة ، نظیر الوضوء علی الوضوء ، وأمثال ذلک ، بلا فرق بین حالتی الاختیار والاضطرار .

والمسألة إجماعیة ولا خلاف فیها ، إلاّ عن الصدوقین ، بل قد نسب للکاشانی فی الوضوء وغسل الجنابة فی خصوص ماء الورد ، بلا فرق بین الحالتین المذکورتین ، خلافاً لابن أبی عقیل المعروف بالعُمّانی حیث أجاز التوضّئ بماء


1- وسائل الشیعة : الباب 37 من أبواب النجاسات، الحدیث 4 .

ص:301

الورد وماء الزعفران فی خصوص حالة الاضطرار ، وإن کان لا یبعد احتمال أن یکون ذکره لماء الورد والزعفران من باب المثال کما فی «التنقیح» .

فقد استدلّوا علی عدم رافعیّته بأُمور :

الأمر الأوّل : دعوی الإجماع علیه سابقاً ولاحقاً ، خصوصاً من مثل الشیخ بقوله فی ردّ ما استدلّوا به : «إنّه خبر شاذ أجمعت العصابة علی ترک العمل بظاهره» ، وکفی بذلک موهناً کما فی «المستمسک» .

وإن أشکل علیه لکونه مدرکیّاً ، لا یکشف عن قول الإمام علیه السلام کما فی «التنقیح» ، إلاّ أنّه یوجب الوهن فی الدلیل ، لأنّه یفهمنا بعدم ذهاب الکلّ غیرهم إلی العمل بما استدلّوا ، کما سیأتی إن شاء اللّه ، فهو کاف لإثبات المطلوب ولو لم یکن الإجماع بنفسه دلیلاً مستقلاًّ .

مع إمکان الإشکال فی أصل الدعوی هاهنا ، لو لم نقل فی غیر هذا المورد .

الأمر الثانی : الآیة الواردة فی التیمّم وهی قوله تعالی : «فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَیَمَّمُوا صَعِیدا طَیِّبا»(1) .

حیث أنّ لفظ (الماء) إمّا موضوع لخصوص المطلق ، أو یکون منصرفاً إلیه ، فحینئذٍ یکون المعنی : ولم تجدوا ماءً مطلقاً فیجب التیمّم ، سواء کان المضاف موجوداً أو لا ، فیستفاد من الحصر عدم کفایته .

وقد یتمسّک بقوله تعالی : «فَاغْسِلُوا وُجُوهَکُمْ» ، باعتبار أنّ الغسل لا یکون إلاّ بالماء المطلق ، لکنّه مخدوش بأنّ إطلاق الغسل لغیر الماء من سائر المایعات کالنفط والبنزین فی زماننا هذا شایع ، وإن کان انصرافه البدوی مختصٌّ بالماء المطلق ، فالاستدلال بآیة التیمّم هو الأولی .


1- سورة النساء : آیة 43 ، سورة المائدة : آیة 6 .

ص:302

الأمر الثالث : بالسنّة ، وهی الأخبار الواردة الناهیة عن التوضّئ باللبن ، حتّی فی حال الضرورة ، ففی غیره یکون بطریق أولی ، وهو خبر أبی بصیر ، عن أبی عبداللّه علیه السلام : «فی الرجل یکون معه اللبن أیتوضّأ منها للصلاة ؟ قال : لا ، إنّما هو الماء والصعید»(1) .

وخبر عبداللّه بن المغیرة ، عن أحدهما علیه السلام : «قال : إذا کان الرجل لا یقدر علی الماء وهو یقدر علی اللبن ، فلا یتوضّأ باللبن ، إنّما هو الماء أو التیمّم» الحدیث(2) .

وقد استدلّ بها بوجهین : فیعدم رافعیّة الماء المضاف للحدث

أحدهما : یکون اللبن من أفراد المضاف ، فإذا لم یجز التوضّئ منه حتّی فی حال الضرورة ، فغیره من المضاف أیضاً کذلک .

مضافاً إلی عدم الفرق بینهما وهو مقتضی عدم القول بالفصل إثباتاً ونفیاً .

وفیه : أنّ صدق انطباق عنوان المضاف علی اللبن لا یخلو عن تأمّل ، إذ هو نظیر الدهن والدبس وأمثالهما ، حیث لا یطلق علیها عرفاً ماء مضاف ، بل یفهم من الحدیثین عدم جواز التوضّئ من تلک المایعات حتّی فی حال الضرورة .

ثانیهما : من ذیل الحدیثین ، من کلمة الحصر فی التوضّئ علی الماء والصعید ، ومن الواضح أنّ لفظ الماء بإطلاقه یراد به الماء المطلق قطعاً ، وضعاً أو انصرافاً ، کما هو الأقوی ، وفاقاً للشیخ الأنصاری فی «طهارته» .

کما أنّ إطلاق لفظ الوضوء فی حدیث عبداللّه بن المغیرة ، بلا إضافة کونه للصلاة ، یوجب عدم جواز التوضّئ بأیّ قسم من أقسام الوضوء ، سواء کان لرفع الحدث ، أو للاستباحة ، أو لتحصیل المرتبة والکمال ، فیکون ذکر الصلاة فی خبر أبی بصیر من باب ذکر الفرد الأجلی .


1- وسائل الشیعة : الباب 1 من أبواب الماء المضاف ،، الحدیث 1 _ 2 .
2- وسائل الشیعة : الباب 1 من أبواب الماء المضاف ،، الحدیث 1 _ 2 .

ص:303

ومن هنا یفهم عدم جواز الاغتسال أیضاً ، مضافاً إلی أنّ کلمة (التیمّم) الواردة فی آیة الوضوء(1) واردة فی ذیل کلّ من الوضوء والغسل ، وقد علّق بلفظ الفاء ، بقوله تعالی : «فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَیَمَّمُوا صَعِیدا طَیِّبا» ، علی الوضوء والغسل کلیهما ، بقوله تعالی : «إِذَا قُمْتُمْ إِلَی الصَّلاَةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَکُمْ» ، وقوله تعالی : «وَإِنْ کُنْتُمْ جُنُبا فَاطَّهَّرُوا» ، فلا یبعد أن یفهم من ذیل الحدیثین اشتراکهما فی هذه الحیثیّة ، من عدم تحقّقهما إلاّ بالماء والتراب .

کما أنّ القول بعدم الفصل أیضاً قد یکون متمِّماً للاستدلال ، لأنّه لم یشاهد من أحد من الفقهاء أن فصل بین الجواز وعدمه فی الوضوء والغسل ، إلاّ ما عرفت من الصدوقین ، والمحدّث الکاشانی علی نقل المحقّق الآملی ، ولکنّه خلاف ما نسبه الآخرون إلیهم من عدم التفصیل بینهما ، بل یحکمون بالجواز بماء الورد فی کلیهما ، کما ذکرناه فی أوّل البحث .

مع إمکان دعوی الأولویّة القطعیّة بحسب الظاهر ، ببیان أنّ رفع الحدث الأصغر إذا لم یجز إلاّ بالماء والتراب دون اللبن وأمثاله ، فالحدث الأکبر یکون بطریق أولی ، وإن کان ذلک لا یکون بقوّة الدلیلین السابقین علیه ، فتأمّل .

وما تری من التمسّک بقوله تعالی : «وَأَنزَلْنَا مِنْ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورا»(2) والأخبار المشتملة علی کفایة الماء للغسل ونظائره _ کما ذکره صاحب «الجواهر» قدس سره وناقش فیهما _ لا یخلو عن مناقشة ، لأنّ الظاهر عدم کون هذه الأدلّة فی مقام إفهام هذه العناوین ، بل المقصود فیها ، وفی کلّ واحد منها ، غیر ما أردناه فی المقام .


1- سورة المائدة : الآیة 6 .
2- سورة الفرقان: آیة 48.

ص:304

فتأمّل حتّی یظهر لک الحال وصدق المقال ، بعون اللّه القادر المتعال .

الأمر الرابع : یمکن الاستدلال بالاستصحاب ، وقاعدة الشکّ فی الشرط ، کما فی «الجواهر» .

بیان ذلک : أنّه لو فرض عدم وجود دلیل إطلاقی یمکن التمسّک به للجواز ، فحینئذٍ بعد تحصیل الطهارة مع أحد أفراد میاه المضاف ، یشکّ فی أنّ الحدث المقطوع الوجود من الأصغر والأکبر هل ارتفع بواسطة ذلک الوضوء والغسل أم لا ؟ فیعدم رافعیّة الماء المضاف للخبث

فالاستصحاب یحکم بالبقاء .

کما أنّ مقتضی دلیل الشرطیّة ، فی أدلّة اشتراط تحصیل الطهارة للصلاة ، تقتضی تحصیل القطع ولو بالحجّة الشرعیّة ، لوجود الشرط عند إرادة دخول الصلاة ، فمع الشکّ فی تحصیله _ کما فی المقام _ لا یحصل القطع بالفراغ من التکلیف المتوجّه للصلاة مثلاً ، وهو واضح .

فمع تمامیّة هذه الأدلّة ، لا یبقی للذهاب إلی ما اختاره الصدوقان والکاشانی وجه ، إلاّ ملاحظة وجود خبر ، وهو الذی رواه سهل بن زیاد ، عن محمّد بن عیسی ، عن یونس ، عن أبی الحسن الکاظم علیه السلام ، قال : «قلت له : الرجل یغتسل بماء الورد ویتوضّأ به للصلاة ؟ قال : لا بأس بذلک»(1) .

ولکن لایعتمد علیه من جهات :

أوّلاً : بما ذکره الشیخ قدس سره فی «التهذیب» بأنّه خبر شاذ وإن تکرّر وروده فی الکتب والاُصول ، فإنّما أصله عن یونس عن أبی الحسن علیه السلام ولم یروه غیره ، وقد أجمعت العصابة علی ترک العمل بظاهره ، انتهی .

بل قال علی ما نقله صاحب «وسائل الشیعة» عنه : یحتمل أن یکون المراد من


1- وسائل الشیعة : الباب 3 من أبواب الماء المضاف، الحدیث 1 .

ص:305

ماء الورد هو الماء الذی وقع فیه الورد ، فإنّ ذلک یسمّی بماء ورد ، وإن لم یکن معتصراً منه ، انتهی کلامه .

أو یکون المراد هو الورد (بالکسر) أی الماء الذی یدخل فیه الدواب ، فیصیر ذلک مظنّة للسؤال ، فهل یجوز التوضّی ء والاغتسال منه أم لا ؟ وهذه المحامل أحسن وأوجه من الحمل علی التقیّة ، أو الحمل علی خلاف ظاهر لفظ الوضوء من کونه للتنظیف وأمثال ذلک کما توهّم .

مضافاً إلی ضعف الحدیث من حیث السند بسهل بن زیاد الآدمی .

کما أنّ یونس بن یعقوب الذی عدّه الشیخ الطوسی من أصحاب الکاظم علیه السلام فهو واقفی وقیل إنّه فطحی ، کما فی «جامع الرواة» .

فمع هذه الإیرادات کیف تطمئن النفس للفتوی علی طبقه ؟

فما ذکره المشهور قویّ جدّاً .

وأمّا عدم الفرق بین الاضطرار وغیره ، للإطلاق الموجود فی الأدلّة ، خصوصاً مع المنع عند عدم القدرة الوارد فی خبری أبی بصیر وعبداللّه بن المغیرة .

فما ذهب إلیه العمانی قدس سره من التجویز فی حال الضرورة ، بلحاظ مقتضی قاعدة المیسور لا یخلو عن إشکال ، کما أنّ التمسّک بالخبر الوارد فی الوضوء بماء النبیذ عن عبداللّه بن المغیرة(1) متروک ومؤوّل ، کما سیأتی .

ثالثهما : فی أنّ الماء المضاف لا یرفع به الخبث ، کما هو الأظهر عند المصنّف قدس سره وثابت عند المشهور شهرة عظیمة کادت تبلغ حدّ الإجماع ، کما فی «الجواهر» ، بل یمکن دعوی الإجماع علیه أیضاً لما ثبت من أنّه لا یضرّ بالإجماع المخالف المعلوم النسب ، وهنا من هذا القبیل ، لعدم وجود مخالف فی


1- وسائل الشیعة : الباب 2 من أبواب الماء المضاف، الحدیث 2 .

ص:306

المسألة إلاّ المفید والسیّد المرتضی وصاحب «المفاتیح» وهو المحدّث الکاشانی علی احتمال ، لأنّه یقول : بأنّ التطهیر غیر موقوف علی الغسل بالماء ، بل یتحقّق بنفس إزالة النجاسة فی غیر ما ثبت من الدلیل لزوم غسله ، نظیر الثیاب والبدن ، وأمّا غیرها من الأجسام الصیقلیّة کالزجاج وغیره تکون طهارته بزوال عین نجاسته ، کما هو الحال فی نجاسة ظاهر أبدان الحیوانات والبواطن کالأنف والفم والاُذن .

فعلیه یکون هذا علی خلاف مسلک الشیخ المفید قدس سره والسیّد المرتضی قدس سره ، ولذلک قال الشیخ کاشف الغطاء فی «شرح القواعد» بأنّه قد أتی بفتوی غریبة ممّا لم یفت بذلک أحد .

فی ما یمکن أن ستدلّ به لجواز التهیر بالمضاف

فعلی مسلکه لا یکون التطهیر منحصراً فقط بالماء المطلق والمضاف ، بل یکون بالأعمّ منهما ومن إزالة العین ، بأیّ وجه اتّفق .

هذا ، بخلاف کلام العَلَمین فإنّهما یقولان بلزوم الغسل ، إلاّ أنّه مطلق ، فیشمل الماء المضاف ، بل مطلق المایعات .

نعم ، لو قیل فی وجه کلامهما أنّهما أرادا بأنّ الملاک فی التطهیر هی مجرّد الإزالة ، فهی تحصل بالمضاف وسائر المایعات أیضاً ، فلازمه انطباق قولهما مع قول المحدّث الکاشانی قدس سره .

وکیف کان ، فنبتدئ أوّلاً بذکر أدلّتهم علی الجواز ، ثمّ نتعرّض لکلام المشهور إن شاء اللّه ، فنقول :

قد ادّعی السیّد قدس سره قیام الإجماع علی دعواه ، مع أنّه لم نشاهد من أحد إلاّ ممّن عرفت موافقته .

هذا نظیر دعوی شیخنا المفید قدس سره ، وجود روایات من الأئمّة علیهم السلام بذلک ، ولهذا أورد علیه المحقّق فی «المعتبر» وطالبه بروایة صحیحة وصریحة دالّة علی ذلک .

ص:307

أمّا إجماع السیّد ، فقد قیل فی حقّه بکون المراد من الإجماع ، هو أنّ الحکم بالجواز کان مطابقاً للأصل والقاعدة أی البراءة .

توضیح ذلک : أنّ الشیء إذا لاقی نجساً ، فیلزم تطهیره ، ولا تحصل الطهارة إلاّ بالغسل أو الإزالة علی احتمال ، فحینئذٍ بعد تحقّق الغسل أو الإزالة یشکّ بأنّه هل یکون التکلیف أزید من ذلک _ أی لابدّ فی الغسل کونه بالماء المطلق _ أو یتحقّق ولو بالمضاف ؟

فالأصل البراءة من الزائد ، وهکذا یقرّر فی طرف الإزالة فلا نتکرّر .

کما یمکن إجراء هذا الأصل فی طرف الصلاة من جهة کون الشرط هو مطلق الغسل ، أو الغسل الخاص ، وهو کونه مع الماء ، فمقتضی البراءة عن الشرطیّة کفایة مطلق الغسل .

وهذا الحکم لم یکن من جهة المعنی المتعارف فی ألسنة الفقهاء ، من ذهاب عدد کبیر منهم إلیه ، کما ذهب إلیه السیّد قدس سره فی کثیر من استعمالاته .

وعلی کلّ حال ، یمکن الاستدلال لما ذهب إلیه العَلَمان بعدّة اُمور :

الأمر الأوّل : الاستدلال بالإطلاقات الواردة فی النجاسات ، من الأمر بالغسل عن النجس ، حیث أنّ الغسل یتحقّق ولو کان بالمضاف ، أو سائر المایعات ولذلک تری أنّ الناس یغسلون أیدیهم بالنفط والبنزین وغیرهما من المزیلات الکیمیاویّة ، مع عدم کونها مضافاً ، فضلاً عن مثل ماء الجلاب ، لاسیّما إذا فقدت عنه الصفات ، وإطلاقات الغسل تکون بملاحظة العادة .

الأمر الثانی : الآیة الواردة فی القرآن من الحکم بالتطهیر فی قوله تعالی : «وَثِیَابَکَ فَطَهِّرْ»(1) وهو مطلقٌ یشمل کلّ ما یزیل النجاسة ، ولو کان المزیل


1- سورة المدّثر : آیة 4 .

ص:308

ماءً مضافاً .

فی الجواب عمّا یمکن أن یستدلّ به لجواز التطهیر بالمضاف

الأمر الثالث : الأخبار الخاصّة الدالّة علی ذلک ، وهی مثل خبر غیاث بن إبراهیم ، عن أبی عبداللّه علیه السلام ، عن أبیه ، عن علیّ علیه السلام ، قال : «لا بأس أن یغسل الدم بالبصاق»(1) .

وصحیح حکم بن حکیم ابن أخی خلاّد الصیرفی :

أنّه سأل أبا عبداللّه علیه السلام ، فقال له : أبول فلا اُصیب الماء ، وقد أصاب یدی شیء من البول ، فأمسحه بالحائط وبالتراب ، ثمّ تعرق یدی فأمسح (فأمسّ) به وجهی أو بعض جسدی أو یُصیب ثوبی ؟

قال : لا بأس به)(2) .

حیث یدلّ علی إمکان تطهیر الشیء المتنجّس بغیر الماء مطلق من البصاق والحائط والتراب ، فلو کان الغسل بالماء المطلق لازماً ومعتبراً لما اقتصر علی ما ورد ذکره فی الحدیثین .

الأمر الرابع : هو الإجماع الذی ادّعاه السیّد ، وقد عرفت کونه بمعنی الأصل ، فهو یکون دلیلاً علی حده ، مضافاً إلی ما نقله صاحب «الجواهر» عن السیّد ، من مشاهدة إزالة النجاسة عن الثوب بغیر الماء ، وبأنّه لو کان الأمر کما یقولون ، لوجب المنع من غسل الثوب بماء الکبریت والنفط ، وحیث کان جائزاً علمنا عدم الاشتراط بالعادة ، وأنّ المراد بالغسل ما یتناوله اسمه حقیقة .

هذا جمیع ما یمکن أن یستدلّ به تأییداً للسیّد والمفید .

ولکن جمیعها مخدوشة :


1- وسائل الشیعة : الباب 4 من أبواب الماء المضاف، الحدیث 2 .
2- وسائل الشیعة : الباب 6 من أبواب النجاسات، الحدیث 1 .

ص:309

فأمّا الوجه الأوّل : فإنّ صدق الغسل علی غیر ما یکون بالماء أمرٌ مقبول عندنا ، کما أشرنا إلیه سابقاً ، إلاّ أنّ هذه الإطلاقات مقیّدة بالأخبار الخاصّة الواردة فی انحصار الغسل فی تطهیر النجاسات بالماء ، فی غیر ما نصّ فیه علی حصول التطهیر به بخصوصه ، نظیر الأرض والشمس والأحجار ، مثل خبر برید بن معاویة ، عن أبی جعفر علیه السلام : «إنّه یجزی من الغائط المسح بالأحجار ، ولا یجزی من البول إلاّ الماء»(1) .

ومثل الخبر الوارد فی الولوغ ، وهو حدیث فضل أبی العبّاس ، عن أبی عبداللّه علیه السلام فی حدیثٍ : «أنّه سأله عن الکلب ؟ فقال : رجس نجس لا یتوضّأ بفضله ، واصبب ذلک الماء واغسله بالتراب أوّل مرّة ، ثمّ بالماء»(2) .

وأمثال ذلک الواردة فی الموارد المختلفة ، والتی لو تتبّع الفقیه فإنّه یقف علی المزید منها .

مضافاً إلی إمکان دعوی الانصراف فی إطلاقات الغسل ، إلی الغسل بالماء ، کما هو مراد کثیر من الأخبار ، إذا لم یتحیّر السائل والمخاطب فی مورد من الموارد من الأمر بالغسل ، بأنّ المقصود هو الغسل بالماء المطلق أو غیره ، وهو واضح لا خفاء فیه .

وأمّا الوجه الثانی : فإنّ الأمر بالتطهیر مطلق ، إلاّ أنّه لیس بصدد بیان أنّه بماذا یحصل التطهیر حتّی یستفاد ویستنبط من إطلاقه جوازه ، ولو بالإزالة فقط ، بل هو محالٌ إلی ما هو المعیّن فی الشریعة من مواردها .

هذا ، لو لم نقل بکون المراد من التطهیر ، الکنایة عن تطهیر النفس عن الرذائل


1- وسائل الشیعة : الباب 30 من أبواب أحکام الخلوة، الحدیث 2 .
2- وسائل الشیعة : الباب 12 من أبواب النجاسات، الحدیث 2 .

ص:310

النفسانیة والصفات الخبیثة ، ولم نقل بأنّ ما ورد فی بعض الأخبار کنایة وإشارة إلی تشمیر الثیاب وتقصیرها عن إطالتها ، حتّی لا تجر علی الأرض ، وغیرهما من الاحتمالات البعیدة عن مساق الکلام فی المقام .

وأمّا الوجه الثالث : فبأنّ صدق ماء المضاف علی مثل البصاق مشکلٌ ، حتّی یوجب أن یکون دلیلاً للسیّد والمفید .

نعم ، یصحّ ذلک لما ذهب إلیه الکاشانی من کفایة زوال العین فی التطهیر ، هذا أوّلاً .

وثانیاً : لو سلّمنا صدقه علیه ، فهو یکون فی خصوص الدم والبصاق ، وذلک لعلّه لوجود خصوصیّة فی البواطن ، کما هو الحال فی باطن الأنف والاُذن ، ولو من جهة رفع الحرج والعسر لو أمر بتطهیره ، فذلک لا یوجب الحکم بوقوع التطهیر بالبصاق للدم ولو کان فی الخارج .

مضافاً إلی انحصاره لخصوص الدم فقط ، ولا یمکن التعدّی عنه ، لیتعیّن الحصر فیه فی خبره الآخر وهو المروی عن غیاث ، عن الصادق علیه السلام ، عن أبیه علیه السلام ، قال : «لا یغسل بالبصاق (بالبزاق) غیر الدم»(1) .

فیکون الدلیل حینئذٍ أخصّ من المدّعی ، من حیث البصاقیة والدمویة ، لإنحصار الدلیل فی إثبات خصوص هذین العنوانین لا مطلقاً .

وأمّا الإشکال فی سنده من ناحیة غیاث ، بکونه بُتَری المذهب وضعیفٌ فی روایته غیر معمول بها ، کما فی «الجواهر» و«المعتبر» و«الحدائق» ، فمخدوش من جهة توثیق النجاشی له ، وهو کاف فی وثاقته ، ولو کان بُتریاً والبُتریّة فرقة کانت تدعو الناس إلی ولایة علیّ علیه السلام ، ویخلطونها مع ولایة أبی بکر وعمر ، وکانوا یبغضون عثمان وطلحة والزبیر کما فی «مجمع البحرین» .


1- وسائل الشیعة : الباب 4 من أبواب الماء المضاف، الحدیث 1 .

ص:311

وأمّا خبر حکم بن حکیم ، فلا إشکال فی سنده ، وإنّما الإشکال فی مخالفته لعمل الأصحاب ، بل جمیع علماء المسلمین ، لأنّ مطهریة الأحجار أو التراب للبول والغائط تختصّ بالمخرجین لا مطلقاً ، فلابدّ من طرحه أو تأویله ، مضافاً إلی أنّه لا یدلّ علی تحقّق طهارة الید بالمسح ، بل غایته عدم تنجّس الوجه بعد مسح الید علی الحائط بملاقاة یده ، فهو لو کان معمولاً به ، کان من الأدلّة الدالّة علی عدم منجّسیة المتنجّس .

وأمّا الوجه الرابع : فإنّه مخدوش أیضاً ، لوضوح أنّ المورد لیس من مواضع إجراء البراءة فی قید الزائد من لزوم کون الماء مطلقاً ، کما لاتجری البراءة فی مقام الشکّ فی شرطیّة التطهیر بالماء من الإطلاق ، لأنّ المقام یکون من باب السبب والمسبّب ، حیث أنّنا مأمورون بتحصیل الطهارة عن النجاسة للصلاة ، فمع فقد الإطلاق ، نشکّ فی حصول الشرط _ وهو الطهارة _ فمقتضی القاعدة هو الاشتغال لا البراءة .

فثبت من جمیع ما ذکرنا ، عدم تمامیّة أدلّة من جوّز التطهیر بالماء المضاف للخبث ، فنرجع إلی أدلّة المشهور ، وممّا استدلّوا به فی المقام ، قوله تعالی : «وَیُنَزِّلُ عَلَیْکُمْ مِنْ السَّمَاءِ مَاءً لِیُطَهِّرَکُمْ»(1) ، وما فی الآیات من وکلمة الماء الواردة فی الآیة یستفاد منها الطهارة ، حیث یفهم منها کونه فی مقام الامتنان وحصر التطهیر بالماء .

ممّایستدلّ به أیضا لعدم جواز التطهیر بالمضاف

ولا إشکال فی کون المراد من الماء هو الماء المطلق ، لا المضاف ، ولا مطلق المایعات .

لکنّه مخدوش ، کما علیه فی «الجواهر» ، بما قد عرفت منّا سابقاً فی قوله


1- سورة الأنفال : آیة 11 .

ص:312

تعالی : «وَثِیَابَکَ فَطَهِّرْ» ، بعدم کون الإطلاق فی هذه المطلقات حجّة ، لعدم ورودها فی مورد الإطلاق من تلک الحیثیّة ، وأنّه لا ینافی ذلک کون الأرض والشمس تعدّان أیضاً من المطهّرات .

ومن الأخبار _ مضافاً إلی ما عرفت من الأخبار الدالّة علی انصراف مادّة الغسل الموجودة فی الأخبار العامّة مثل خبر زرارة (وأمّا البول فإنّه لابدّ من غسله)(1) إلی الغسل بالماء ، لأنّه المتبادر عند العرف _ ورود أخبارٍ فی موارد خاصّة تدلّ علی لزوم کون التطهیر بالماء المطلق فقط دون غیره ، وهی :

خبر برید بن معاویة ، عن أبی جعفر علیه السلام أنّه قال فی حدیث : «ولایجزی من البول إلاّ الماء»(2) .

وخبر الفضل أبی العبّاس ، فی حدیثٍ : «أنّه سأل أبا عبداللّه علیه السلام عن الکلب ، فقال : رجس نجس لا یتوضّأ بفضله ، واصبب ذلک الماء ، واغسله بالتراب أوّل مرّة ثمّ بالماء»(3) .

من انحصار الغسل بالماء فقط ، خصوصاً فی الأوّل ، ففی غیر البول والکلب أیضاً کذلک ، بانضمام عدم القول بالفصل .

والخبر الوارد فی الصلاة مع الثوب النجس إذا لم یجد ماءاً ، مع أنّه لو أمکن التطهیر بغیره فلابدّ من ذکره عقیب فرضه عدم الوجدان ، وکما فی مثل خبر علیّبن جعفر ، عن أخیه موسی بن جعفر علیه السلام ، فی حدیثٍ قال : «إنْ وجد ماءاً غسله ، وإن لم یجد ماءاً صلّی فیه ، ولم یصلِّ عریاناً»(4) .


1- وسائل الشیعة : الباب 9 من أبواب أحکام الخلوة، الحدیث 1 _ 6 .
2- وسائل الشیعة : الباب 9 من أبواب أحکام الخلوة، الحدیث 1 _ 6 .
3- وسائل الشیعة : الباب 12 من أبواب النجاسات، الحدیث 2 .
4- وسائل الشیعة : الباب 45 من أبواب النجاسات، الحدیث 5 .

ص:313

ومثله خبر محمّد بن علی الحلبی ، فی حدیثٍ عن الصادق علیه السلام : «فإذا وجد الماء غسله»(1) .

ومثله خبر عمّار الساباطی عن الصادق علیه السلام فی حدیثٍ ، قال : «یتمّم ویُصلّی ، فإذا أصاب ماءً غسله وأعاد الصلاة»(2) .

فبهذه الأخبار الخاصّة ، نقیّد الأخبار المطلقة الآمرة بالغسل بصورة الإطلاق ، بلا ذکر لفظ (الماء) فیها ، لو لم نقل ظهور مادّة (الغسل) علی الغَسل بالماء ، کما عرفت کونه منصرفاً إلیه لدی الإطلاق .

فمع وجود هذه الأدلّة ، والشهرة العظیمة ، والقاعدة والأصل ، لا یبقی للقول بکفایة غیر الماء من المایعات المضافة وجه .

بلا فرق فی ذلک بین صورتی الاختبار والاضطرار ، خلافاً لابن أبی عقیل ، حسب ما نُسب إلیه هنا أیضاً علی ما فی «مصباح الهدی» للآملی قدس سره ، وخلافاً لصاحب «الجواهر» وغیره ، حیث ینسبون مخالفة العمّانی فی التطهیر للحدث لا الخبث کما یتّضح لک بالمراجعة .

وکیف کان ، لعلّ وجه کلامه _ مضافاً إلی ما عرفت من جریان قاعدة المیسور ، لأنّه إذا لم یکن الماء مع وصف الإطلاق مقدوراً ، فلابدّ من الاکتفاء بأقلّه ، وهو أصل الماء ولو کان مضافاً ، ویصدق الغسل والماء علی المضاف أیضاً _ دلالة خبر عبداللّه بن المغیرة ، عن أحدهما علیه السلام فی حدیثٍ : «فإنْ لم یقدر علی الماء ، وکان نبیذ فإنّی سمعتُ حریزاً یذکر فی حدیثٍ أنّ النبیّ صلی الله علیه و آله قد توضّأ بنبیذ ، ولم یقدر علی الماء»(3) .


1- وسائل الشیعة : الباب 45 من أبواب النجاسات، الحدیث 1 _ 8 .
2- وسائل الشیعة : الباب 2 من أبواب الماء المضاف، الحدیث 1 .
3- وسائل الشیعة : الباب 45 من أبواب النجاسات، الحدیث 1 _ 8 .

ص:314

هذا ولکنّه باطل لوجوه عدیدة وهی :

فی الجواب عن تفصیل العمّانی فیالماء المضاف

أوّلاً : بدعوی الشیخ إجماع العصابة علی عدم جواز الوضوء بالنبیذ .

وثانیاً : بالأخبار الکثیرة الدالّة علی لزوم وقوع التطهیر _ بکلا قسمیه _ بالماء المطلق لا مطلقاً .

وثالثاً : بمنع کون قاعدة المیسور جاریة هنا ، لأنّا ندّعی بأنّ إطلاق لفظ الماء لیس إلاّ خصوص الماء المطلق لا بصورة التقیید ، أی کون الماء عبارة عن أصل الماء والإطلاق قیده الزائد ، حتّی یدخل تحت القاعدة .

ورابعاً : إمکان وجود التقیّة فی الحدیث ، من کیفیّة نقل الحدیث حیث أسند الإمام روایة الفعل إلی حریز ولم ینقله هو علیه السلام مباشرة .

وخامساً : من إمکان أن لا یکون المراد من النبیذ هو المسکر ، لوضوح أنّه نجس ، فکیف یمکن التطهیر به ، مضافاً إلی عدم صدق المضاف علیه ، کما لایخفی .

بل المراد هو الماء المطلق الذی توضع فیه تمرات حفظاً عن فساده ، بحیث لا یُخرج الماء عن الإطلاق .

کما یشعر بذلک ، وأنّ الماء یبقی علی إطلاقه برغم وضع التمرات فیه حدیث محمّد بن علی بنالحسین ، قال : «لا بأس بالوضوء بالنبیذ ، لأنّ النبیّ صلی الله علیه و آله قد توضّأ به ، وکان ذلک ماءً قد نبذت فیه تمرات ، وکان صافیاً فوقها فتوضّأ به»(1) .

ولذلک یجوز شربه والتطهیر به ، کما یومئ إلی ذلک خبر الکلبی النسّابة حیث فصل بین النبیذین ، وأجاز الشرب والتوضّی ء بالذی کان مطلقاً بخلاف ما کان خمراً ومنتناً ، حیث یقول بأنّه حرام لا یجوز شربه ، فراجع الحدیث(2) .


1- وسائل الشیعة : الباب 2 من أبواب الماء المضاف، الحدیث 3 .
2- وسائل الشیعة : الباب 2 من أبواب الماء المضاف .

ص:315

ویجوز استعماله فیما عدا ذلک ، ومتی لاقته النجاسة نجس قلیله وکثیره ، ولم یجز استعماله فی أکل ولا شرب (1).

فثبت أنّ الحقّ مع المشهور فی کلا الموردین ، من الطهارة ، ومن عدم الجواز مع المضاف مطلقاً ، واللّه العالم بحقائق الاُمور .

(1)إذا عرفت من المباحث السابقة طهارة الماء المضاف ، فلا بأس حینئذٍ باستعماله فی غیر الطهارة ، یعنی یجوز أکله وشربه وسائر الاستعمالات المترتّبة علی الأشیاء الطاهرة .

فی انفعال المضاف بملاقاة النجس

کما لا یجوز استعماله کذلک فیما إذا تنجّس بالملاقاة نظیر سائر المتنجّسات ، کما هو واضح أیضاً ولا کلام فیه .

نعم ، الذی ینبغی أن یبحث فیه اُمور ثلاثة ، وهی :

إنّه ینجس بالملاقاة ، ومن دون الفرق بین قلیله وکثیره ، وکون الملاقاة بأیّ صورة وقعت من العالی أو المساوی أو السافل ینجس أو بتفصیل بین الصور .

فالأمر الأوّل : قیام الإجماع علیه منقولاً بل تحصیلاً لعدم وجدان المخالف ، بل کان هو العمدة فی المسألة ، کما أشار إلیه صاحب «الجواهر» ، و«مستند الشیعة» وغیرهما من المستدلّین من المتأخِّرین ، ولم یعلم ولم یسمع خلافه من أحد ، مع أنّه لو کان لبان .

کما أنّ مقتضی میعانیته وسیلانیّته ذلک ، إذ به یفرق بین الجوامد والمایعات ، حیث لا ینفعل فی الجوامد إلاّ ما یلاقیه ، لعدم وجود الرطوبة المستلزمة للسرایة ، بخلاف المایعات حیث تسری النجاسة إلی جمیعها .

فبذلک یظهر إمکان الاستدلال بتنجّس المضاف بالملاقاة ، من الأخبار الدالّة علی نجاسة المایعات ، ولو لم یصدق علیه عنوان المضاف لوحدة الملاک بینهما وهو المیعانیّة .

ص:316

فما یتوهّم من تضعیف هذا الاستدلال بکونه مخصوصاً بالمایعات ، فی غیر محلّه .

فحان الأوان لأن نذکر الأدلّة الدالّة علی ذلک ، والذی استدلّ به ، أو یمکن أن یستدلّ ، عدّة أخبار دالّة علی ذلک بالصراحة أو بالملازمة ، مثل خبر السکونی ، عن جعفر ، عن أبیه علیهماالسلام : «إنّ علیّاً سُئل عن قدر طبخت ، وإذا فی القدر فأرة ؟

قال : یهرق مرقها ویغسل اللحم ویؤکل»(1) .

فإنّ المرق وهو المضاف یحکم بنجاسته وذلک لدلالة الحکم بالإهراق وتطهیر اللحم .

فی انفعال المضاف بملاقاة النجس

وخبر زکریا بن آدم ، قال : «سألت أبا الحسن علیه السلام عن قطرة خمر أو نبیذ مسکر قطرت فی قدر فیه لحم کثیر ومرق کثیر ؟ قال : یهرق المرق أو یطعمه أهل الذمّة أو الکلب ، واللحم اغسله وکُله» الحدیث(2) .

وخبر محمّد بن مسلم ، قال : «سألت أبا جعفر علیه السلام عن آنیة أهل الذمّة والمجوس ؟ فقال : لا تأکلوا فی آنیتهم ، ولا من طعامهم الذی یطبخون ، ولا فی آنیتهم التی یشربون فیها الخمر»(3) .

حیث یدلّ بالملازمة أنّ کلّما تکون فی أوانیهم _ حتّی من المضاف _ ینجس بنجاسة آنیتهم ، وإلاّ لما کان للنهی عن الأکل وغیره وجه .

وإطلاق خبر معاویة بن شریح ، عن الصادق علیه السلام فی حدیثٍ : «إنّه سُئل عن سؤر الکلب یشرب منه ویتوضّأ ؟ قال : لا ، قلت : ألیس هو سبع ؟ قال : لا واللّه إنّه نجس ، لا واللّه إنّه نجس»(4) .


1- وسائل الشیعة : الباب 5 من أبواب الماء المضاف، الحدیث 3 .
2- وسائل الشیعة : الباب 38 من أبواب النجاسات، الحدیث 8 .
3- وسائل الشیعة : الباب 14 من أبواب النجاسات، الحدیث 1 .
4- وسائل الشیعة : الباب 12 من أبواب النجاسات، الحدیث 6 .

ص:317

فإنّ السؤر یشمل ما لو کان مضافاً مثل المرق وماء العنب والرمّان ، کما لایخفی .

ومثله خبر الفضل أبی العبّاس ، قال : «سألت أبا عبداللّه علیه السلام عن فضل الهرّة والشاة إلی قوله : فلم أترک شیئاً إلاّ سألته عنه . فقال : لا بأس به ، حتّی انتهیت إلی الکلب ، فقال : رجس نجس» الحدیث(1) .

وکذلک یستفاد من أخبار سائر المایعات کما عرفت ، وهی مثل خبر عمّار الساباطی ، عن الصادق علیه السلام ، قال : «سئل عن الخنفساء والذباب والجراد والنملة وما أشبه ذلک یموت فی البئر والزیت والسمن ؟ قال : کلّ ما لیس له دم فلا بأس»(2) .

وخبر زرارة ، عن أبی جعفر علیه السلام ، قال : «إذا وقعت الفأرة فی السمن فماتت ، فإن کان جامداً فالقها وما یلیها ، وکلّ ما بقی ، وإن کان ذائباً فلا تأکله واستصبح به ، والزیت مثل ذلک»(3) .

وأمّا الأمر الثانی : وهو عدم الفرق بین الکثیر والقلیل ، فدلیله إطلاقات معاقد الإجماعات ، حیث لم یصرّح من الفقهاء المتقدّمین بالتفصیل بینهما .

نعم ، قد خطر هذا الإشکال عن بعض المتأخِّرین ، بل قد أفتی بعضهم بعدم نجاسة المضاف إذا کان کثیراً ، کما یظهر ذلک من الحکیم قدس سره فی «المستمسک» .

ولکن الإنصاف عدم اطمئنان النفس للحکم بعدم الانفعال ، لو لم نقل خلافه .

أمّا الدلیل المقتضی والمانع کما سلک به الشیخ الأنصاری فیه وفی نظائره ، بأنّ المیعان والذوبان له اقتضاء للانفعال فی کلّ مایع من المطلق والمضاف ، وسائر المایعات ، فخرج بواسطة الأدلّة الواردة فی الماء الکثیر المطلق إذا کان قدر کرّ


1- وسائل الشیعة : الباب 11 من أبواب النجاسات، الحدیث 1 .
2- وسائل الشیعة : الباب 35 من أبواب النجاسات، الحدیث 1 .
3- وسائل الشیعة : الباب 5 من أبواب النجاسات، الحدیث 1 .

ص:318

عن تحت هذه القاعدة حیث حکم بالطهارة فیه ، فیبقی الباقی فیها ومنه المقام .

ولکن قد مضی منّا سابقاً فی محلّه عدم تمامیّة ذلک ، فراجع .

فی انفعال المضاف بملاقاة النجس

وأمّا بواسطة إطلاق الأخبار السابقة ، من ترک التفصیل فی الحکم بالإهراق للمرق ، لاسیما إطلاق صیغة النهی فی مثل خبر محمّد بن مسلم(1) ، عن الأکل والشرب من آنیة المجوس ، وإن کانت الغلبة فی القلیل ، إلاّ أنّ غلبة الأفراد لا توجب الانصراف ، بل الملاک هو غلبة استعمال اللفظ فی موضوع ، مثلاً إذا قیل : (أکرم العلماء) فإنّ مجرّد کثرة الفقهاء من جهة الأفراد لا یوجب الانصراف الذی یمنع عن إفادة وجوب إکرام غیره ، بل تکون أصالة الإطلاق محفوظة .

هذا بخلاف الغلبة فی الاستعمال خارجاً ، نظیر الصلاة فی معنی الهیئة الخاصّة من العبادة ، حیث أنّه بالغلبة فی الاستعمال فیها صارت بمنزلة الحقیقة ، بحیث لا یخطر عند ذکر لفظة الصلاة معنی الدعاء فی الذهن أصلاً .

فما نحن فیه أیضاً هکذا إذ تکون غالب موارد الاستفادة واستعمالات الأوانی ونظائرها فی القلیل ، إلاّ أنّه لا یوجب هذا الانصراف عن الأخذ بالإطلاق الذی هو مقتضی کلّ دلیل ابتداءً .

مضافاً إلی ظهور خبر زکریا بن آدم(2) ، حیث صرّح بکون اللحم والمرق کثیراً ، ولا یأبی الکثرة أن تبلغ الکرّ أو أزید ، لاسیما لو لاحظنا الطعام الذی یعدّه شیوخ العشائر والزعماء حیث کانوا یعدّون محلاًّ ویسمّونه ب_ (المضیف) لاستقبال ضیوفهم ویطبخون الطعام فی توانی وقدور کبیرة قد تزید مرقه علی الکرّ . کما یشاهد من اطّلع علی عاداتهم ومفاخرتهم فی ذلک .


1- وسائل الشیعة : الباب 14 من أبواب النجاسات، الحدیث 1 .
2- وسائل الشیعة : الباب 38 من أبواب النجاسات، الحدیث 8 .

ص:319

وأمّا بواسطة أنّ الحکم بأنّ القلیل منفعل دون الکثیر ، یعدّ إحالة بأمر مجهول بل غیر مقدور ، لعدم معلومیّة المقدار المعیّن الذی ینفعل ، ثمّ کیف یظهر حصول الانفعال من مقداره فی الکثیر ، لأنّه إن قیل بعدم انفعاله أصلاً فهو مخالف للأدلّة المتقدِّمة ، وإن عیّن له حدّ فبکم یکون الحدّ من شبر أو أزید ؟ وما هو الدلیل علی هذا المقدار ؟ ففی الکلّ إشکال .

هذا کما فی «التنقیح» .

لکنّه مخدوش ، بأنّ من حکم بعدم الانفعال فی الکثیر ، یقول بعدم انفعال جمیعه لا فی مقدار منه ، حتّی یقع فی محذور السؤال عن حده .

وما ذکر بأنّه خلاف الأدلّة السابقة ، فمرجعه إلی کون الدلیل هو ما ذکر فی السابق ، فلیس هو دلیلاً مستقلاًّ فی المسألة ، کما لایخفی .

وکیف کان ، فالحکم بالانفعال فی الکثیر لا یخلو عن قوّة ، فحینئذٍ یکون النفط والبنزین فی زماننا هذا من المایعات التی تنفعل بالملاقاة ولو کان ألف کر أو أزید ، کما علیه السیّد قدس سره فی «العروة» ، والشیخ فی «کتاب الطهارة» ، بل هو ممّا تسالم فیه الأصحاب ، کما فی «الجواهر» ، واللّه هو العالم .

وأمّا الأمر الثالث : وهو کون الملاقاة التی توجب الانفعال هل التی من طرف العلوّ أو المساوی أو الأسفل مع الدفع والجریان أو عدمه أم لا ؟

لا إشکال ولا خلاف فی الحکم بالانفعال ، إذا کان التلاقی والاتّصال من طرف العلوّ أو من المساوی .

وإنّما الإشکال یرد فیما إذا کانت الملاقاة فی طرف السافل ، فیما إذا لم یصدق علیه الوحدة ، نظیر ما إذا کان المایع فی القارورة فوقعت النجاسة من أسفله وکان ثابتاً ، فلا إشکال فی صدق الوحدة الموجبة للانفعال بواسطة السرایة .

بل المقصود ما کان للمضاف علوّ علی النجس المساوق للدفع أو أقلّ من ذلک

ص:320

کالتسنّم والتسریع ، فهل توجب الملاقاة الانفعال أم لا ؟

فالأقوال فیهما ثلاثة :

فی تطهیر المضاف المتنجّس

قول : بعدم الانفعال مطلقاً ، أی سواء کان له جریان أم لا ، هذا کما یظهر من «المدارک» و«جامع المقاصد» وغیره من المتأخِّرین .

وقول : بالتردّد ، کما نقله صاحب «المستند» عن فقیه من الفقهاء .

وقول : بالتفصیل فیما إذا کان جاریاً فلا یسری ، ولا ینجّس فوقه ، وإلاّ ینجس ، وهذا کما علیه السیّد بحر العلوم والسیّد فی «العروة» وکثیر من المتأخِّرین .

وهذا هو الحقّ عندنا ، لوضوح أنّ العرف لا یساعد رأی من یقول بالانفعال للعالی إذا لاقی أسفله النجاسة ، وکان له دفع أیضاً ، إذ الدفع والجریان یمنعان الانفعال عرفاً ، ولهذا لو صبّ الجُلاب من إبریق علی ید کافر ، فلا وجه للحکم بنجاسة ما فی الآنیة بواسطة تماس أسفل الجلاب مع النجاسة ، لأنّ الدفع والجریان موجبان لرفع السرایة عرفاً ، کما لایخفی .

فلا فرق فی ذلک بین کون الدفع من العالی إلی السافل _ کما هو الأغلب _ أو کان بالعکس ، مع قدرة خارجیّة نظیر النافورة إذا لاقی مع النجاسة ، فإنّه لا یوجب انفعال سافله ، لوحدة الملاک بینهما ، کما لایخفی .

تتمیم : واعلم أنّ المصنّف قدس سره لم یتعرّض لکیفیّة تطهیر المضاف المتنجّس أو مطلق المایعات إذا لم یصدق علیه الإضافة کالدهن والدبس واللبن ، فلابأس بالإشارة إلیه وبیان حکمه ، کما ذکره الفقهاء رضوان اللّه علیهم أجمعین فی المقام .

فالأولی حینئذٍ الإشارة إلی ما فی «العروة» ، قال فی مسألة 6 : «المضاف النجس یطهر بالتصعید کما مرّ ، وبالاستهلاک فی الکرّ أو الجاری» .

ولا یخفی علیک أنّ ما ذهب إلیه ، هو المشهور بین الفقهاء ، ودلیلهم علی هذا الحکم هو :

ص:321

الأوّل : القطع بعدم حصول الامتزاج الحقیقی فی جمیع أجزاء الماء مع أجزاء المضاف بتمامها غایة الامتزاج ، فلابدّ من الالتزام بأحد الأمرین ، إمّا القول بطهارة المضاف بذلک فهو المطلوب ، أو نجاسة المعتصم ، وهو مخالف لأدلّة اعتصام الکرّ والجاری .

الثانی : استفادة الطهارة من الأدلّة الواردة فی وقوع الدم والبول فی الماء ، والحکم بطهارته لو لم تتغیّر أحد أوصاف الماء الثلاثة ، نظیر الأخبار الواردة فی أبواب مختلفة(1) .

إذ من المعلوم أنّ هذه النجاسات توجب إضافة الأجزاء المجاورة لها ولو بنحو یسیر ، بل ربما توجب صیرورة بعض أجزاء الماء مضافة ، وبرغم ذلک المطلق حکم الشارع بطهارته ، فلا یکون ذلک إلاّ من جهة الاستهلاک .

الثالث : من جهة انطباق عنوان ماء المطلق مع کثرته علیه ، فإذا صدق علیه مع الامتزاج وتلاشی أجزاء الإضافة ، فلِمَ لا یصدق علیه عنوان الإطلاق ، فیصیر حینئذٍ مثل الماء القلیل المنفعل حیث یطهر بملاقاته مع الکرّ خصوصاً مع الامتزاج .

واحتمال لزوم کون الامتزاج مع الکثیر فی حال صدق الإطلاق علی الإضافة قبل الامتزاج ، وهو غیر حاصل . فیتطهیر المضاف المتنجّس

مدفوع ، بأنّه خلاف الإجماع علی طهارة الماء الممتزج ، ولو لم یصدق علیه فعلاً الماء المطلق ، لأنّ الأجزاء المتلاشیة فی المطلق محکوم بالطهارة ، ولو لم یصدق علیه الإطلاق ، إلاّ بعد حصول الامتزاج ، کما تری کونه کذلک فی مثل النجاسات الواردة فی الماء الکثیر المطلق .


1- مثل ما فی باب 3 وباب 5 وباب 9 من أبواب الماء المطلق من وسائل الشیعة، الحدیث 3_ 7 وحدیث 6 ، وحدیث 14 علی الترتیب .

ص:322

مضافاً إلی أنّه لا وجه للحکم بالنجاسة ، لأنّه إن اُرید به الدلیل الوارد بکون الدم الوارد فی المضاف مثلاً صار متنجّساً بإضافته ، وأنّه محکوم بالنجاسة ، فإنّه نقول : بأنّ المفروض زوال ذلک العنوان ، إذ لا یصدق حینئذٍ علیه أنّه مضاف أو دم ، فإذا لم یشمله عنوان الدلیل ، فلا یبقی لنا للحکم بالنجاسة دلیل إلاّ الاستصحاب ، فهو أیضاً غیر جار هنا ، لأنّه منوط ببقاء الموضوع ، والمفروض عدم بقاءه عرفاً ، وإن کانت أجزاءه باقیة بالدقّة العقلیة ، إلاّ أنّ بناء الاستصحاب لا یکون إلاّ بالبقاء المسامحی العرفی ، کما هو مذکور فی محلّه .

فلو سلّمنا عدم شمول أدلّة الماء المطلقة الحاکمة بالطهارة علی المقام ، وشککنا فی طهارته ونجاسته ، فلا إشکال فی جریان قاعدة الطهارة هاهنا ، فیحکم بالطهارة ، بعد تعارض استصحاب الطهارة للماء المطلق والنجاسة للمضاف وتساقطهما ، وبعد تسلیم عدم إمکان الجمع بین الحکمین فی ماء واحد ، بلا فرق فی ذلک بین أن یکون الماء المتبدّل عن الإضافة إلی الإطلاق متغیِّراً بأحد الأوصاف من الرائحة والطعم واللون ، أو لم یتغیّر إن لم نقل _ کما علیه المشهور بنجاسة الماء المتغیّر بأحد أوصاف المتنجّس _ .

نعم ، إن قلنا بخروجه عن الاعتصام بهذا التصوّر ، فیلزم الانفعال حینئذٍ ، کما لایخفی .

کما لا فرق بین حصول الاستهلاک بواسطة الکرّ والجاری أو غیرهما من ماء المطر والبئر .

ولعلّ الاقتصار علیهما کان من باب المثال ، کما اعترف به الخوئی فی «التنقیح» .

أو کان من جهة کون الغالب فی الخارج هو تحقّق الاستهلاک بهما ، وقلّ ما یتّفق ، لاسیّما بالأخیر ، کما هو واضح ، هذا کلّه ما ذهب إلیه المشهور ، خلافاً للشیخ قدس سره فی «المبسوط» من الحکم بالطهارة بالاختلاط بالکثیر ، مشروطاً بعدم سلب اسم الإطلاق عن المطلق ، وعدم تغیّر أحد أوصافه ، ولزوم کون الکثیر

ص:323

أزید من الکرّ ، وفی بعض نسخه : (وإن غیّر أحد أوصافه) .

ومنشأ الاختلاف هو اشتراط الزیادة عن الکرّ ، مع عدم ذکر المشهور لهذا القید .

کما أنّ التغیّر بأحد الأوصاف إذا کان بوصف المتنجّس لا یؤثّر ، إذا لم نقل بالنجاسة مع هذا التغیّر ، کما هو المشهور المنسوب إلیهم علی الظاهر ، إذ لعلّه بتغیّره بذلک یخرج عن الإطلاق ، فلا یکون مطهّراً .

لکنّه غیر محتاج إلیه ، لخروج هذا الفرد بقید عدم سلب اسم الإطلاق عنه ، فمع الاختلاف فی النسخ لا ضرورة فی البحث عنه .

وأمّا إضافة قید (زیادته علی الکرّ) ، فالظاهر عدم لزومه ، کما لا نقول به فی مثل تطهیر الماء القلیل المتنجّس بالماء ، لأنّه إن اُرید بذلک أنّه بعد وقوع المضاف المتنجّس فیه یوجب تنجّس مقدار من الماء بالاتصال والمجاورة معه ، فهو أیضاً موجود فی الماء القلیل المتنجّس ، مع أنّه لم یلتزم به أحد من الفقهاء فیه .

وإن اُرید أنّه یصیر بالملاقاة مع المضاف مضافاً فی بعض الماء ، فیخرج عن الکریة فلا یعتصم .

قلنا : بأنّه خلاف الفرض ، لأنّا قد فرضنا عدم سلب الاسم عنه ، ولا فرق فی ذلک بین البعض والکلّ إاذ کان قد بلغ حدّ الکرّ .

نعم ، إذا کان أزید من الکرّ ، وعلم بعدم سلب الاسم عن مقدار الکرّ _ وإن سلب مقداره _ فلا یقدح فی طهارته مطلقاً ، حیث أنّ الجمیع متّفقون علیه .

نعم ، والذی ینبغی أن یُنسب إلیه مخالفته للمشهور ، هو العلاّمة ، حیث ذهب إلی طهارة الماء المضاف ، بل مطلق المضاف _ مثل المایعات _ لمطلق الاتّصال مع الکرّ ، بدون إضافة قید الاستهلاک ، وقد استدلّ تأییداً لکلامه بخبر السکونی ، عن أبی عبداللّه علیه السلام قال : «قال رسول اللّه صلی الله علیه و آله : الماء یطهر ولا یطهر»(1) ، ومثله


1- وسائل الشیعة : الباب 1 من أبواب الماء المطلق، الحدیث 6 .

ص:324

خبر مسعدة بن الیسع ، عن علیّ علیه السلام .

وبمرسلة الکاهلی ، عن الصادق علیه السلام فی حدیث : «کلّ شیء یراه ماء المطر فقد طهر»(1) .

وقد اُجیب عنهما هذه الأخبار لم تکن فی صدد بیان کیفیّة التطهیر ، بل هی فی مقام مطهریّة ماء المطر .

مع أنّه یلزم _ لو عمل بإطلاقهما _ الحکم بالطهارة وحصول التطهیر بهما کیف اتّفق ، ولو حصل الاتّصال فی أحد طرفی جسم الجامد الذی کان مجموعه نجساً بالماء أو المطر ، ولم یصل الماء إلی طرفه الآخر کما فی «التنقیح» .

ولکنّه باطل قطعاً ، إذ لم تدلّ الأخبار إلاّ علی المراد ، هو التطهیر المغروس فی الأذهان من حصول الاختلاط الموجب للاستهلاک لا مطلقاً ، کما هو دعوی الخصم .

وبهذا الجواب نردّ علی الجزء المرسل الذی استدلّ به العلاّمة فی «المختلف» ، نقلاً عن بعض علماء الشیعة من أنّه کان بالمدینة رجل یدخل إلی أبی جعفر محمّد بن علیّ علیه السلام وکان فی طریقه ماء فیه القذارة والجیف ، کان یأمر غلامه بحمل کوز من الماء یغسل به رجله إذا أصابه من ذاک الماء ، فأبصر به یوماً أبو جعفر علیه السلام فقال له : إنّ هذا لا یصیب شیئاً إلاّ طهّره ، فلا تعد إلی غسل رجلک ، فلا بأس حینئذٍ بتوضیح المقال فی المقام بعد الاستعانة باللّه الملک العلاّم ، فنقول :

بأنّ البحث تارةً یفرض فی الماء المضاف المتنجّس ، مثل ماء العنب والرمّان ونظائرهما .

واُخری ؛ فی مطلق المایعات ، مثل الدهن والعسل والدبس واللبن وأشباهها .

فأمّا القسم الأوّل ، فله أقسام متعدِّدة :


1- وسائل الشیعة : الباب 6 من أبواب الماء المطلق، الحدیث 5 .

ص:325

قسم : هو ما لو وقع الماء المضاف فی المطلق کان موجباً للاستهلاک فیه ، بحیث یصیر الماء کلّه مطلقاً ، ویصدق علیه ذلک العنوان فعلاً بدون حصول تغیّر فی الماء بعد ذلک .

وهذا لا إشکال فی طهارته ، وقد عرفت الأدلّة الدالّة علی الطهارة فلا نعیدها .

قسم آخر : وهو عکس ذلک ، بأن صار الماء المطلق بعد وقوع المضاف فیه وقبل استهلاکه فیه ماءً مضافاً ، بحیث یصدق علیه عنوان المضاف فعلاً ، فهو _ لو سلّم إمکان حصوله قبل الاستهلاک ، ووصول أجزاء المضاف إلی تمام أجزاء الماء المطلق ، ولو فی الجملة _ محکوم بالنجاسة ، أی یکون جمیع الماء محکوماً بها إذا لم یکن بین الملاقاة وتبدّله إلی المضاف فصلاً زمانیّاً ، مع أنّه مشکل جدّاً ، فلازم الإشکال هو الحکم بنجاسة الماء المضاف ، ما دام کونه مضافاً ، وطهارة الماء المطلق ما دام مطلقاً ، إذا قلنا بعدم طهارة الماء المضاف المتّصل مع المعتصم قبل الاستهلاک ، کما علیه المشهور ، خلافاً للعلاّمة حیث یقول بحصول الطهارة بمحض الملاقاة .

فحینئذٍ إذا استهلک ، وصار کلّ الماء مضافاً ، أو بدون الاستهلاک ، فیوجب نجاسة جمیع الماء ، لأنّه ما دام الباقی مطلقاً لم یجعل المضاف طاهراً ، حتّی یجعل الجمیع مضافاً ، بحیث یکون الملاقی (بالکسر) للمضاف المتنجّس نجساً قطعاً .

ولعلّه بذلک یستفاد من کلمات الفقهاء نجاسة الجمیع فی هذا الفرض ، بدون ذکر هذا التفصیل .

قسم آخر : وهو ثالث الأقسام ، وهو أن یکون الاستهلاک والإضافة للجمیع حاصلاً دفعة واحدة .

فعن السیّد قدس سره فی المسألة السابعة من «العروة» : «وإن حصل الاستهلاک والإضافة دفعة ، لا یخلو الحکم بعدم تنجّسه عن وجه ، لکنّه مشکل» .

ص:326

خلافاً للبروجردی قدس سره من الحکم بنجاسة الجمیع لو فرض إمکان ذلک .

ولکنّه یمتنع حصول ذلک کما اختاره أیضاً الشاهرودی قدس سره فی تعلیقته علی «العروة» ، والخوئی ، بل أکثر أصحاب التعالیق ، إلاّ الآملی حیث یختار کلام السیّد قدس سره .

والحقّ هو النجاسة إن فرض الإمکان ، وإلاّ فإنّه أمر مستحیل ، إذ لا یمکن عقلاً أن تصل تمام أجزاء المضاف إلی أجزاء المطلق دفعة واحدة حتّی یستهلک ، ویصیر المجموع مضافاً ، فمع فرض الإمکان _ ووحدة زمان وقوع الحادثین وهو الاستهلاک والإضافة ، فإنّ الملاک فی تطهیر المضاف بالاستهلاک فی الماء المطلق ، إنّما یکون إذا حصل الاستهلاک والملاقاة بالماء المطلق قبل حصول الإضافة فیه زماناً ، فتقدّم الاستهلاک علی الإضافة عقلاً ورتبةً یکون من باب تقدّم العلّة علی المعلول وهو غیر مقبول فی الفقه ، لأنّ مبانی الفقاهة مبنیّة علی المسامحات العرفیّة لا علی الدقّة العقلیّة ، کما لایخفی .

ومن جمیع ما ذکرنا ظهر حکم قسم الرابع أیضاً : وهو ما لو صار الماء المطلق مضافاً بعد فترة من الملاقاة والاستهلاک ، أی کان حال الاستهلاک وبعده مطلقاً ثمّ صار بعید ذلک مضافاً ، فهو طاهر بلا إشکال ، لأنّه حال الاستهلاک کان مطلقاً ، فیشمله دلیل الإطلاق ، وأدلّة الاعتصام بلا إشکال .

هذا کلّه مبنیّ علی کلام المشهور ، من لزوم الاستهلاک فی تطهیره .

وأمّا علی القول الذی ذکره العلاّمة قدس سره بکفایة الاتّصال فی تطهیره ، المؤیّد بتلک الأخبار المذکورة ، لاسیما إطلاق مرسلة الکاهلی _ الذی کان معمولاً به عند الأصحاب فی محلّه ، الموجب لرفع ضعفه بالإرسال _ الدالّة علی طهارة ما یصیبه المطر ، الشامل بعمومه للماء المضاف قطعاً .

ولا ینافی ذلک ما لو قام دلیل علی شرطیة شیء لشیء خاص ، مثل العصر فی بعض الأجسام إنْ اعتبرناه ، حیث یحکم بشأنیة ماء المطر للتطهیر ، فلو لم ینضمّ

ص:327

دلیل آخر لإثبات شرط آخر ، فیؤثّر فی فعلیّته ، وإلاّ یبقی فی مرحلة الشأنیة ، نظیر لزوم التعفیر فی ولوغ الکلب للإناء ، فهذا غیر ضار فی دلالته وعمومه .

منضمّاً إلی أنّ الماء المضاف یکون کالماء المطلق سیّالاً ، وتوجب السرایة لجمیع الماء ، ولذلک یحکم بنجاسته جمیعاً بمحض ملاقاة جزء منه للنجاسة ، فلازم ذلک طهارته أیضاً مع الاتّصال بالکر دون حاجة إلی الاستهلاک .

نعم ، الاستدلال بحدیث «الماء یطهر ولا یطهر» ، تأییداً للعلاّمة غیر تامّ ، حیث لا یکون فیه عمومٌ مثل الحدیث السابق ، ومن جهة أنّه لا یکون فی مقام الإطلاق حتّی فی مرحلة کیفیّة التطهیر فلا یمکن الاستدلال به ، کما لا یجوز الاستدلال بمرسلة العلاّمة ، لأنّها فضلاً عن إرساله وعدم انجباره بعمل الأصحاب بخصوصه ، فهی من حیث الدلالة أیضاً غیر تامّة ، حیث لا یعلم مقدار المشار إلیه من الماء وهل هو بقدر إطلاق قوله : الکرّ أو أنقص ؟

مع إمکان کونه جاریاً مثلاً ، حیث کان مجملاً من تلک الجهة فلا یمکن الاستدلال به .

نعم لو ثبت حجّیته ، لأمکن القول بأنّ إطلاق قوله : «أنّه لا یصیب شیئاً إلاّ طهّره» ، یشمل جمیع أفراد المیاه ، کما یشمل إطلاق (الشیء) لجمیع أقسامه ، فکلّ ما قام الدلیل علی عدم مطهّریته من المیاه _ کالماء القلیل _ یخرج عن إطلاقه وعمومهو فیبقی الباقی تحته ، فیشمل جمیع ما یکون عاصماً ، فبإطلاق لفظ (الشیء) الشامل للمضاف یتمّ المطلوب .

ولکن قد عرفت الإشکال فی سنده ، فلا یبقی فی المقام علی الحکم بطهارة الماء المضاف إلاّ مرسلة الکاهلی ودلیل السرایة .

اللّهم إلاّ أن یقال إنّه محفوف بالقرینة من العذرة والجیفة ، لکونه ماءاً عاصماً ، فلا یشمل القلیل ، لأنّه ینجس بهما .

ص:328

هذا کلّه صحیح ، لولا قیام الدلیل علی عدم قابلیة المضاف للتطهیر فی حال کونه مضافاً متنجِّساً ، والدلیل القائم هو المستفاد من الأخبار الواردة فی المرق المتنجّس ، من الحکم بالإهراق بدون الإشارة إلی إمکان تطهیره ولو بوقوع المطر علیه مثلاً ، أو مع أنّه یمکن أنّه کان بالإمکان التنبیه علی أنّه بالاتّصال مع الکرّ یطهر ، مع کونه المقام مقتضیاً لذلک ، من جهة المنع عن الإهراق المساوق للإسراف إن کان المفروض تطهیره بذلک ، برغم ذلک نری أنّ الإمام أمر بالإهراق کما ورد فی خبر السکونی ، عن جعفر ، عن أبیه علیه السلام : «إنّ علیّاً علیه السلام سُئل عن قدر طبخت وإذاً فی القدر فأرة ؟ قال : یهرق مرقها ویغسل اللحم ویؤکل»(1) .

وخبر زکریا بن آدم ، قال : «سألت أبا الحسن علیه السلام عن قطرة خمر أو نبیذ مسکر قطرت فی قدر فیه لحم کثیر ومرق کثیر ؟ قال : یهرق المرق أو یطعمه أهل الذمّة أو الکلب ، واللحم اغسله وکله» الحدیث(2) ، وغیرهما من الأخبار الناهیة عن استعمال آنیة أهل الذمّة والمجوس وطعامهم ، لنجاستهم ، حیث یفهم فیها الإشعار علی الحکم ، کما لایخفی .

ویؤیّد ما ذکرنا ، حکم الإمام بغسل اللحم وأکله ، حیث یکون بلحاظ عدم تحقّق الإسراف ، فلو کان المضاف قابلاً للتطهیر ، کان علی الإمام علیه السلام البیان لوجود المقتضی والحاجة . فیتطهیر غیر الماء من المایعات المتنجّسة

بل لولا دلالة الأدلّة السابقة علی طهارة المضاف المستهلک فی المطلق ، بما قد عرفت بما لا مزید علیه ، لکان ینبغی القول بعدم تحقّق الطهارة والتطهیر فی المضاف ومطلقاً ، حتّی مع الاستهلاک ، إلاّ انّه حیث یکون الاستهلاک بمعنی اعدام


1- وسائل الشیعة : الباب 5 من أبواب الماء المضاف، الحدیث 3 .
2- وسائل الشیعة : الباب 38 من أبواب النجاسات، الحدیث 8 .

ص:329

المضاف بحسب عنوان العرف ، فکأنّه لا یکون القول بتطهیره کذلک مخالفاً لتلک الأخبار ، کما لا یخفی ، هذا کلّه فی القسم الأوّل .

وأمّا القسم الثانی : وهو سائر المائعات ، کالدهن المتنجّس والدبس واللبن ونظائرها ، فهو أیضاً وإن کان مشترکاً مع القسم الأوّل فی کثیر من المباحث السابقة ، إلاّ أنّه یزید علیه من جهتین :

الجهة الاُولی : من جهة عدم تحقّق الاستهلاک فی بعض أقسامه کالدهن المتنجّس ، لأنّه لا یقبل الاستهلاک المعهود فی المضاف فیه ، لأنّ طبیعة الدهن تقتضی عدم تقبّله للماء وانّه لا یذوب فیه ولا یختلط معه وإن غلی بالحرارة ، کما هو الحال فی الدهن الموجود فی المرق ، فما کان حاله کذلک ، قد یقال بعدم إمکان تطهیره أصلاً ، فلا محیص فیه إلاّ الإهراق أو الاستصباح به ، کما اُشیر إلیه فی خبر زرارة ، عن أبی جعفر علیه السلام قال : «إذا وقعت الفأرة فی السمن فماتت فإن کان جامداً فالقها وما یلیها ، وکُلْ ما بقی ، وإن کان ذائباً فلا تأکله واستصبح به ، والزیت مثل ذلک»(1) .

هذا بخلاف مثل اللبن والدبس ، حیث لا یکونان مثل الدهن ، فیمکن فرض التطهیر فیهما ونظائرهما بالاستهلاک .

الجهة الثانیة : یقع البحث فی تطهیر المایعات وظروفها ، من جهة أنّه قد یقال بعدم سرایة النجاسة إلی سائر المواضع البعیدة عن النجس ، لعدم تحقّق السرایة فی مثل الدهن ،

فی تطهیر غیر الماء من المایعات المتنجّسة

وهذا خلاف الوجدان ، ولذلک تری صدور الحکم بنجاسة الجمیع ، إذا اتّصل بعض أطرافه بالنجاسة ، فإذا فرض وجود السرایة للمایعات أیضاً کالماء ،


1- وسائل الشیعة : الباب 5 من أبواب الماء المضاف، الحدیث 1 .

ص:330

فلازمه الحکم بطهارة الجمیع ، إذا اتّصل طرفها مع الکرّ ، نظیر اتّصال الماء القلیل بالکثیر ، فکیف یحکم بعدم طهارته إلاّ بالاستهلاک ؟

کما أنّ مقتضی طهارتها هو طهارة الظروف والأوانی الحاویة لها أیضاً ، کما یطهر ظرف الماء القلیل المتنجّس أیضاً معه .

فما ذکره صاحب «مصباح الهدی» قدس سره بقوله : «إن سلّمنا طهارة المظروف المایع بالاتّصال الکثیر ، ولکن لا یوجب طهارة ظرفها ، فلازمه کون ذلک طهارتها موقوفة علی حال اتّصالها بالکثیر ، فإذا انقطع یصیر کلّه نجساً بواسطة نجاسة ظرفه ، وهو نظیر الماء القلیل الموجود فی الظرف الذی کان من جلد المیتة ، حیث یوجب نجاسة الماء القلیل بعد قطع الاتّصال عن الکثیر ، إلاّ أن یقم دلیل یدلّ علی حصول طهارة الظرف مع مظروفه ، کما ورد ذلک فی أدوات الغسل فی غُسل المیّت ، حیث یحکم بالطهارة بالتبع ، ولولا قیام الدلیل علی ذلک بالخصوص لأمکن الاعتماد فی ذلک بالأدلّة العامّة کما لایخفی فی غیر محلّه ، لأنّه إذا سلّمنا کون الاتّصال مطهّراً للمایعات أیضاً نظیر مطهّریته للماء القلیل ، فکما یطهر المظروف بذلک الاتّصال فلابدّ من القول بطهارة ظرفه أیضاً ، وإلاّ لکان الحکم بالطهارة للمایعات لغواً ، لأنّه کما أنّ أجزاء المضاف المتنجّس المتّصل بالکثیر یوجب طهارة بقیّة أجزاءه مع کونه مضافاً طاهراً ، فهکذا یکون للظروف أیضاً ، کما یحکم بطهارة ظرف العصیر العنبی بواسطة طهارة العصیر بالغلیان ، وهکذا الخمر إذا صار خلاًّ ، وکذلک آلات المنزوحات فی البئر ، إنْ قلنا بنجاسة ماء البئر بالملاقاة للنجاسة» .

ولکن أصل الإشکال هو المستفاد من الأخبار الواردة فی نجاسة المایعات من الحکم بالإهراق ، حیث یفهم أنّه غیر قابل للتطهیر ، وإلاّ لکان المقتضی ذکره ،

ص:331

ولو مزج طاهره بالمطلق ، اعتبر فی رفع الحدث به إطلاق الاسم علیه (1).

وهو کما فی خبر زرارة ، عن أبی جعفر علیه السلام (1) . الذی ورد فیه الحکم بصرفه للاستصباح ، والنهی عن الأکل .

ولا یخفی أنّ الدهن إن کان قابلاً للتطهیر ، فیحکم باستعماله للاستصباح الذی یعدّ بمنزلة الإهراق والإتلاف کما لایخفی .

مضافاً إلی إمکان الاستفادة من فحوی الأدلّة الواردة فی لزوم إهراق المرق برغم صدق الماء المضاف علیه ، ففیما نحن فیه الذی لا یصدق ذلک ، یکون بطریق أولی .

فهذه الأدلّة الواردة فی المضاف والمایعات من الحکم بالإهراق والاستصباح ، تکون حاکمة علی إطلاق قوله : «کلّ ما یراه المطر فقد طهر» فی مرسلة الکاهلی ، لأنّها ناظرة إلی ذلک قطعاً ، فحکم الفقهاء بتطهیرها بالاستهلاک ، لیس إلاّ من جهة اعدام صورته النوعیة ، فیصیر مطلقاً فیما إذا أمکن ، کما فی غیر الدهن فیحکم بالطهارة .

لکنّه تعبیر مسامحی ، لأنّه لیس موجوداً حتّی یقال إنّه طاهر ، إذ الطهارة والنجاسة تصدقان فیما کان المحلّ قابلاً لهما فإذا کان المحلّ فاقداً للقابلیة فإنّ صدق الحکم لا یکون إلاّ بالمسامحة العرفیة . واللّه العالم .

(1) فما دام لم یخرج عن اسم الإطلاق ، یجوز التطهیر بالمضاف الطاهر الواقع فی المطلق ، بکلا قسمیه ، أی الطهارة من الحدث والخبث ، وإن لم یستهلک استهلاکاً حقیقیّاً ، لما قد عرفت بأنّه عرفی لا عقلی .

فی حکم الماء المشّمس


1- وسائل الشیعة : الباب 5 من أبواب الماء المضاف، الحدیث 1 .

ص:332

ویکره الطهارة بماء أسخن بالشمس فی الآنیة ، وبماء اُسخن بالنار فی غسل الأموات (1).

نعم ، قد علمت بأنّه یکون فی غیر مثل الدهن ، حیث لا یعقل المزج فی أجزاءه ، تتقبّل طبیعته الماء فی نفسه ، ولذلک تری بأنّ الید إذا صارت متلطّخة به لا یقبل الماء بل یجمع فی مواضع متعدّدة ، وهذا واضح ، ولذا قد أشکل بعض الفقهاء فی الوضوء والاغتسال إذا کان البدن قد أصابه الدهن ، لعدم وصول الماء إلی البشرة ، إذ هو یکون مانعاً عن الوصول إلیها .

(1) هنا مسألتان :

المسألة الاُولی : ثبوت کراهة استعمال الماء المسخّن بالشمس للطهارة فی الحدث ، کما فی «المعتبر» و«النافع» و«القواعد» و«الإرشاد» و«التحریر» وغیرها من المتأخِّرین کالسیّد فی «العروة» والفقهاء الذین علّقوا علی «العروة» ، بل فی «الذخیرة» أنّه مشهور بین الأصحاب .

بل فی «الخلاف» نقل الإجماع علی کراهة الوضوء به .

وفی «السرائر» : أنّه مکروه فی الطهارتین فحسب .

الفروع المتعلّقة بالماء المشمّس

والأصل فی ذلک _ مضافاً إلی نقل الإجماع بل وتحصیله لعدم مشاهدة الخلاف عن أحد من المتقدِّمین والمتأخّرین _ هو خبر إبراهیم بن عبدالحمید ، عن أبی الحسن علیه السلام ، قال : «دخل رسول اللّه صلی الله علیه و آله علی عائشة وقد وضعت قمقمتها فی الشمس ، فقال : یا حمیراء ما هذا ؟ قالت : اغسل رأسی وجسدی . قال : لا تعودی فإنّه یورث البرص»(1) .


1- وسائل الشیعة : الباب 6 من أبواب الماء المضاف، الحدیث 1 .

ص:333

والحدیث الوارد فی «علل الشرائع» عن السکونی ، عن جعفر علیه السلام ، عن أبیه ، عن آبائه ، قال : «قال رسول اللّه صلی الله علیه و آله : الماء الذی تسخنه الشمس ، لا تتوضؤا به ، ولا تغتسلوا به ، ولا تعجنوا به ، فإنّه یورث البرص»(1) .

وخبر إسماعیل بن أبی زیاد ، عن أبی عبداللّه علیه السلام : «قال رسول اللّه صلی الله علیه و آله : الماء الذی تسخنه الشمس لا تتوضّوا به ولا تغتسلوا به ولا تعجنوا به ، فإنّه یورث البرص»(2) .

والنهی الوارد فی هذه الأخبار یحمل علی الکراهة لوجود خبر مخالف لذلک ، مثل خبر محمّد بن سنان ، عن بعض أصحابنا ، عن أبی عبداللّه علیه السلام ، قال : «لا بأس بأن یتوضّأ الإنسان بالماء الذی یوضع بالشمس»(3) .

فإنّه یحکم بعدم البأس فی التوضّی ء به ، فیوجب التصرّف فی هیئة النهی فی تلک الأخبار .

مضافاً إلی التعلیل الموجود فی الخبرین الأولین ، فیفهم أنّ الحکمة فی ذلک هو إمکان تحقّق البرص .

مضافاً إلی الإجماع علی عدم الحرمة ، مع ضعف الأخبار الدالّة علی الکراهة ، فغایتها الکراهة لا الحرمة للتسامح فی الأدلّة .

واحتمال عدم الکراهة بالمرّة أو بالمرّتین ، لإمکان أن یکون قوله (لا تعوّدی) _ مشدّداً _ أی لا تجعلیها عادة ، فلا ینافی عدم الکراهة فیما لو اتّفقت مرّة أو أکثر .

یکون خلاف الظاهر جدّاً ، خصوصاً مع إطلاق النهی الظاهر فی مکروهیّته ولو لمرّة واحدة .

نعم ، أصل الکراهة للماء المشمس _ لولا الإجماع علیها _ محلّ تأمّل ، لظهور


1- الباب 194، الحدیث 2 ص266 .
2- وسائل الشیعة : الباب 6 من أبواب الماء المضاف، الحدیث 2 _ 3 .
3- وسائل الشیعة : الباب 6 من أبواب الماء المضاف، الحدیث 2 _ 3 .

ص:334

النهی فی الحرمة ، وإمکان الجمع بین خبر محمّد بن سنان وغیره ، علی أنّ الوضع فی الشمس یکون أعمّ من التسخین .

هاهنا فروع :

الفرع الأوّل : هل الکراهة مختصّة بالآنیة _ کما حُکی الإجماع عن «التذکرة» و«نهایة الاحکام» علی عدم الکراهة فی غیرها _ أم لا ؟

فإن تمّ الإجماع فهو ، وإلاّ فمقتضی خبری «علل الشرائع» وإسماعیل بن أبی زیاد ، هو العموم لغیر الآنیة ، بخلاف خبر إبراهیم حیث أنّه صریح فی الآنیة .

بل مقتضی التعلیل الموجود فی تمام الأخبار _ حتّی خبر إبراهیم _ هو الإطلاق ، وهذا هو الأقوی کما عرفت .

الفرع الثانی : وممّا ذکرنا ظهر حکم عدم اختصاصها للماء القلیل ، بل یشمل کلّ ماء أسخنته الشمس ، مثل الماء المجتمع فی البرک والمصانع والأنهار والحیاض ، کما هو المستفاد من الخبرین المذکورین ، ومن التعلیل الوارد فی جمیعها. الفروع المتعلّقة بالماء المشمّس

نعم ، ظهور خبر إبراهیم کان فی الماء القلیل ، لأنّه المنصرف إلیه ، لظهور کلمة (القمقمة) فی الآنیة الصغیرة المخصوصة ، فإلغاء الخصوصیّة عن مثله لا یکون إلاّ بما هو قریب منه لا إلی غیرها من الأنهار .

وکیف کان ، لو سلّمنا عدم الاختصاص بالآنیة ، فمثل ذلک داخل تحت الحکم ، کما لا یخفی .

الفرع الثالث : ظاهر «الخلاف» و«السرائر» لزوم القصد فی تحقّق الکراهة بالماء الساخن ، خلافاً «للمهذّب» و«النهایة» وغیرهما من الحکم بالکراهة مطلقاً ، وهذا هو الأقوی بملاحظة التعلیل الوارد ، حیث أنّ البرص أثر یترتّب علی الماء المتّصف بکذا ، ولا معنی أن یکون القصد موجباً له ، بخلاف صورة عدم القصد .

ص:335

فما ذکره صاحب «المصباح» بکون ظاهر خبر إبراهیم علی وجود القصد مخدوش ، بأن وضع القمقمة فی الشمس وإن کان ظاهراً فی القصد ، إلاّ أنّ ذکر التعلیل فی ذیله یرفع هذا الظهور فی دخالته فی الحکم .

الفرع الرابع : الظاهر المستفاد من التعلیل ، هو عدم اختصاص الحکم بخصوص التوضّی _ کما فی «الخلاف» _ أو الطهارتین فقط ، _ کما فی «السرائر» _ أو هما ومع العجین _ کما فی «الذکری» _ لما قد عرفت من ظهور التعلیل فی أنّ استفادة هذا الماء بما یوجب مباشرته للبدن ، ولو کان لرفع الأخباث ، لها تأثیر فی الإصابة بالبرص .

نعم ، لا یستلزم الکراهة إنْ لم یباشر بشرة البدن ، کما لو استفاد منه فی تطهیر الألبسة وإزالة الخبائث نظیر وسائل الشیعة الکهربائیة المتداولة فی عصرنا هذا فلا کراهیة فیه .

فدعوی الاختصاص بما قد ذکر مشکل جدّاً .

کما ظهر ضعف القول بکراهة مطلق الاستعمال ، ولو لم یباشر البدن ، کما عن «النهایة» و«المهذّب» و«الجامع» إن لم یکن مقصودهم صورة المباشرة ، کما هو المتعارف عند الاستعمال .

کما لا فرق فی الکراهة بین أقسام الوضوء والغسل .

الفرع الخامس : الظاهر أنّ ملاک الحکم بالکراهة ، هو حصول السخونة بالشمس ، سواء کان ذلک فی مدّة طویلة _ کما فی البلاد المعتدلة أو الباردة _ أو فی المدّة القصیرة _ کما فی البلاد الحارّة _ .

کما أنّ ظاهر الأخبار کون الملاک بالسخونة هی المنسوبة إلی الشمس بلا واسطة ، لا ما یسخن بواسطة سخونة الآنیة ، بأن لم یتوجّه حرارة الشمس للماء مستقیماً ، بل یتوجّه إلی الإناء أوّلاً فیسخن ، ثمّ یسخن الماء بواسطته ، فإنّه غیر

ص:336

مکروه بحسب الظاهر ، وإن کان ظاهر خبر إبراهیم الوارد فیه حکمة (القمقمة) وهی الآنیة الصغیرة المعدّة لحمل الماء فی السفر والتی تحتوی علی ماء قلیل یکفی لشخص واحد ، فإذا صار مثل هذا الماء المسخون بالشمس مکروهاً ، فلازمه ثبوت الکراهة لکلّ ماء مسخون بها ، ولو بواسطة سخونة الآنیة .

هذا إن کان المراد من (القمقمة) ما هی المتعارف بأیدینا فی زماننا .

وإن اُرید منها ما فی «مجمع البحرین» و«المنجد» من أنّها وعاء من النحاس ویسخن فیه الماء ، فلا یبعد أن تکون نوعاً من القدر المکشوف الرأس ، فلا یستبعد أن تکون کراهته بواسطة إصابة أشعّة الشمس إلیه بلا واسطة ، فلا یمکن حینئذٍ الاستدلال بمثله أیضاً . الفروع المتعلّقة بالماء المشمّس

فبعد تسلیم ما ذکرنا ، حیث یکون المستفاد من ظهور إسناد الفعل إلی الشمس ، مع کون الحکمة هو خوف البرص الحاصل فیما کان مستنداً إلی أشعّة الشمس هو عموم الحکم بلا فرق فی اختلاف الخصوصیّة الخارجیّة .

فلا یعتنی بالاستحسانات المذکورة فی «المنتهی» من ضعف تأثیر الشمس فی البلاد المعتدلة ، أو بأنّ الحدید والرصاص نتیجة لأثر أشعّة الشمس یحصل فیهما ریحٌ نتن ، بخلاف ما یشبه الذهب والفضّة فإنّهما لصفائهما لا یوجدان حدوث ما یحذر من حدوثه .

لما قد عرفت الملاک وظهور إطلاق الأخبار ، فی کون المناط هو التسخین بالشمس ، بأی صورة اتّفقت ، کما لایخفی .

نعم ، لا یتحقّق الکراهة ولو مع إصابة أشعة الشمس للماء مدّة طویلة ، إذا لم توجب الإصابة سخونة الماء لبرودة الهواء أو الماء .

فمن ذلک ظهر أنّ التسخین الحاصل عن طریق الآنیة التی کانت فی الشمس ثمّ وضع فیها الماء وسخن ، لا توجب الکراهة بطریق أولی ، لعدم استناد التسخین

ص:337

إلی الشمس مباشرةً ، وإن أطلق عرفاً علی هذا الماء بأنّه مسخّنٌ بالشمس ، لکن بما أنّ التسخین لم یکن مستنداً لحرارة الشمس فلا کراهة فی استعمال هذا الماء .

والعجب من صاحب «مستند الشیعة» من إطلاق الکراهة ، حتّی إذا حصلت الحرارة والتسخین بالمقاربة بها ، من دون إشراق الشمس علیه ، وهو بعید جدّاً .

الفرع السادس : هل الکراهة مختصّة بحال السخونة _ کما لا یبعد فی الجملة _ أو تکون ثابتة حتّی بعد زوال الوصف ، کما استظهرها جماعة کثیرة کصاحب «الجواهر» وغیره ممّن سبقه کالعلاّمة فی «المنتهی» ، واحتمله فی «التذکرة» ، وقطع به فی «الذکری» ، للاستصحاب عند الشکّ ، فضلاً عن إطلاق الروایتان الشاملتان لهذه الصورة ، لأنّه یصدق علیه بأنّ الشمس قد سخنه .

وأمّا کون المشتقّ حقیقة فی الأعمّ من بقاء المبدأ فیه فغیر معلوم ، لأنّ ذلک إنّما یکون فی المستقّات الخالیة عن الزمان ، فتحقیق الکلام فیه موکول إلی محلّه .

الفرع السابع : الظاهر عدم الفرق فی الکراهة بین صدور الفعل مرّة أو مرّتین أو أزید من ذلک ، خلافاً لصاحب «الحدائق» حیث ذهب إلی أنّ الکراهة مترتّبة علی المداومة لا المرّة والمرّتین ، خصوصاً إذا قلنا إنّ ضبط الحدیث یکون (تعوّدی) بالتشدید ، فیکون المعنی هو لا تجعلیها عادةً لک ، فلا ینافی وقوعها مرّة أو مرّتین .

لکنّه خلاف ظهور التعلیل ، والإطلاق الموجود فی الأخبار ، خصوصاً إذا لاحظنا الخبرین الأوّلیّن .

کما لا فرق فی التکرّر فی ماء واحد وفی آنیة واحدة ، أو التکرّر الحاصل باختلاف الأوانی ، لأنّ الملاک هو الاستعمال فی وحدة کلّ عمل وفعل ، فإذا أدخل یده مرّات عدیدة فی آنیة واحدة واستعمل ماءها لمرّات عدیدة لم یرتکب مخالفات عدیدة بل تحتسب کراهة واحدة .

ص:338

الفرع الثامن : هل الکراهة تختصّ فیما إذا کان للمستعمل ماء آخر یمکن استعماله أو هی مطلقة وتشمل حتّی صورة الانحصار .

المشهور _ کما عن «المستند» _ هو عدم الکراهة فی الثانی ، حیث یقول بأنّ الأکثر حکموا بزوال الکراهة عند الانحصار ، خلافاً للآخرین خصوصاً مثل الشهید فی «الروض» وجماعة من المتأخِّرین منهم صاحب «المستند» و«مصباح الهدی» ، خلافاً «لمصباح الفقیه» حیث لم یجوّز الجمع بین الحکمین ، بل یظهر الإشکال فیه أیضاً من الشیخ الأنصاری قدس سره فی «طهارته» .

والتحقیق : حیث أنّه کان المورد من الموارد التی تعلّقت الکراهة علی عنوان کلّی للاستعمال مطلقاً ، علی حسب ما اخترناه ، أی سواء کان للطهارة أم لا ، کما أنّ الأمر بالوضوء تعلّق بکلّی سواء کان منحصراً فیه أم لا ، فیصیر ذلک من قبیل اجتماع الأمر والنهی ، لا من قبیل الصوم فی یوم عاشوراء حیث لا یکون له بدل ، والنهی قد تعلّق بنفس الصوم ، کالصلاة فی الحمّام إلاّ أنّ لها بدل بخلاف الصوم . الفروع المتعلّقة بالماء المشمّس

فعلی هذا تکون النسبة فی المقام هی العموم والخصوص من وجه ، إذ النهی تعلّق بمطلق الاستعمال لا خصوص الطهارة ، کما أنّ الأمر بالوضوء تعلّق بالتوضی ء بالماء ، سواء کان ساخناً بالشمس أم لا ، مع انحصار الماء وعدمه حیث اجتمع فی الخارج عنوانا ، فمن کان مبناه فی الاُصول کفایة تعدّد الجهة والعنوان فی ذلک ، فیذهب إلی الجواز فی المقام ، ومن کان مبناه فی الاُصول امتناع ذلک ، فلازمه الامتناع هنا ، فلا محیص إلاّ القول بالوجوب فقط ، دون الکراهة فی الانحصار .

ولکن مع ذلک یقول فی «مصباح الهدی» بأنّ هاهنا أیضاً مثل الاجتماع ، لأنّ المرجوحیّة کانت بلحاظ الخصوصیّة الفردیة ، والراجحیّة کانت بلحاظ الطبیعة الأصلیة ، فالحقّ حینئذٍ یکون مع الشهید قدس سره ، هذا محصّل کلامه .

ص:339

ولکن الإنصاف أن یقال : بأنّ ظاهر التعلیل بکونه یورث البرص ، یقتضی عدم الفرق بین الانحصار وعدمه ، وانّ الأمر یعدّ من الاُمور الخارجیّة التکوینیّة ، حیث یصیر البرص من باشر استعمال هذا الماء ، سواء کان قد انحصر ماءه أم لا .

اللّهمّ إلاّ أن تکون الجملة تفید الحکمة لا العلّة ، کما هو الأقوی ، فتکون قد انحصر ماءه مختصّة بصورة عدم الانحصار .

ولکن بعد التأمّل فی معنی الکراهة _ وهو عنوان طلب الترک ومرجوحیّة الترک _ نفهم أنّه لا یمکن تحقّقه فی صورة الانحصار الذی أوجب الإتیان ، خصوصاً فیما إذا لم یکن الانحصار معلولاً لفعل المکلّف ، بل حصل من غیر اختیاره ، فحینئذٍ لا معنی للقول برجحان الترک ، بل یعدّ الفعل راجحاً مع المنع من الترک ، وهو معنی الوجوب .

نعم ، قد یصحّ من جهة إمکان انطباق العنوانین ، من جهة سوء اختیاره ، فیکون مثوباً من حیث أصل الطبیعة ، ومبغوضاً بنوع الکراهة من حیث إیجاد هذا الفرد ، ففی ذلک لا یبعد القول بصحّة ما اختاره الشهید قدس سره .

ولکن فی الحقیقة لم یجتمع مرکز العنوانین فی محلّ واحد هنا ، بل کان فی الحقیقة أحد الحکمین متعلِّقاً بأصل الوضوء الواجب للصلاة فی الانحصار ، والآخر بسوء اختیاره بإرادته ، فیستحقّ الثواب والعقاب ، کما هو الحال فی تصرّفات الموالی العرفیة والعبید ، فإنّه إذا أمره مولاه بإتیان الماء ، وکانت أفراد المیاه متعدّدة ، فإنّ أمره الوجوبی للإتیان بالماء یقتضی تطبیقه علی الأفراد المطلوبة مثل المیاه الباردة .

وأمّا إذا انحصر الماء فی الماء الحار ، وأراد المولی ذلک بإرادة جدّیة ، فلابدّ من إتیانه وإن کرهه بطبعه ، ولکن لا یمکنه أن یعاتب عبده ویقول : لِمَ أسقیتنی ماءً حارّاً ، لأنّ أمره اقتضی ذلک ولم یکن بسوء اختیار العبد .

ص:340

وأمّا إذا فعل ذلک باختیاره ، بأن أراق الماء البارد بعمد ، فلم یبق له إلاّ الماء الحار ، فحینئذٍ یحقّ للمولی أن یأمره بإتیان الماء الحار لرفع عطشه وبرغم ذلک یستحقّ العتاب ب_ : «لِمَ فعلت کذا» حتّی اضطررت إلی استعمال الماء الحار ، فهذا أمر وجدانی یقبله الذوق السلیم .

فعلی هذا ، لا یبعد القول بالتفصیل بین الصورتین ، إن لم نجوّز اجتماع الأمر والنهی فی عنوان واحد خارجاً ، وإن کان متعدِّداً جهة .

فعلی ما ذکرنا لم تتغیّر الکراهة عن المعنی المصطلح فیها ، حتّی یرد علیه بأنّه کیف یمکن انصراف الکراهة المطلقة المتعلِّقة بالماء المشمس فی بعض أفراده _ وهو الانحصار _ وحملها علی قلّة الثواب ، وفی غیر المعنی المصطلح علیها ؟ کما أورد ذلک صاحب «مصباح الفقیه» فی کتابه .

إلاّ أنّ حقیقة الإشکال هی فی عدم إمکان ورود الأمر الوجودی مع النهی التحریمی أو التنزیهی فی مقام الإرادة والکراهة الاستعمالیة ، أی لا یمکن الجمع بین قولی المولی : (ائت) و(لا تأت) ، وإن کان الجمع فی مقام الجد ممکناً ، کما عرفت ، أی یستحقّ الثواب لأنّه امتثل الأمر حقیقة ، کما یستحقّ العتاب والعقاب ، لأنّه قد تخلّف عمّا کان المطلوب منه ترکه جدّاً ، وإن لم یمکنه الإظهار لمزاحمته مع الأهمّ.

فالمسألة لا تخلو عن إشکال جدّاً ، کما اعترف الشیخ الأنصاری قدس سره بذلک ، فتأمّل.

حکم الماء المسخّن بالنار

المسألة الثانیة : فی کراهة غسل المیّت بالماء المسخن بالنار .

ولا خلاف فیه ، بل فی «الخلاف» : إجماع الفرقة وأخبارهم .

کما أنّ عبارة المصنّف صریحة فی کون الکراهة فی خصوص الغسل دون مقدّماته ، من تطهیر بدن المیّت وأمثال ذلک ، إلاّ أن یکون المراد هو الأعمّ من الغُسل ، حتّی یشمل مقدّماته ، لکنّه بعید ، أو یحتمل أن یکون بفتح الغین ، فیکون

ص:341

المراد هو الأعمّ من الغُسل بالضمّ ، فحینئذٍ لا یمکن دعوی الإجماع لوجود الخلاف فیه حینئذٍ .

وإن کان صاحب «المدارک» قد ادّعی الإجماع علی عدم الکراهة فیما إذا کان علی بدن المیّت نجاسة لا یرفعها إلاّ الماء الحارّ ، کما حکاه عن «المنتهی» ، فلازمه الکراهة فی صورة عدم کون الموضوع کذلک .

وسیجیء إن شاء اللّه الأخبار التی یستفاد منها الإطلاق ، وأنّه لا وجه للانحصار بخصوص الغُسل (بالضمّ) .

وقد حان أوان أن نذکر الأحادیث الدالّة علی الحکم المذکور ویدلّ علیه روایات ، منها :

صحیح زرارة ، قال : قال أبو جعفر علیه السلام : «لا یسخن الماء للمیّت»(1) .

وفی «الجواهر» زیادة قوله : «لا یعجل له النار» ، لکنّها مفقودة فی «وسائل الشیعة» فی هذا الباب وفی الباب 7 من أبواب الماء المضاف .

ومرسلة عبداللّه بن المغیرة ، عن الباقر والصادق علیهماالسلام ، قالا : «لا یقرب المیّت ماءً حمیماً»(2) .

وخبر یعقوب بن یزید ، عن عدّة من أصحابنا ، عن أبی عبداللّه علیه السلام ، قال : «لا یسخن للمیّت الماء ، ولا تعجل له النار ، ولا یحنّط بمسک»(3) .

ومرسلة الصدوق ، قال : «قال أبو جعفر علیه السلام : لا یسخن الماء للمیّت»(4) .

وفی حدیث آخر : «إلاّ أن یکون شتاءً بارداً فتوقی المیّت ممّا تُوقی منه نفسک»(5) .


1- وسائل الشیعة : الباب 10 من أبواب غسل المیّت، الحدیث 1 .
2- وسائل الشیعة : الباب 10 من أبواب غسل المیّت، الحدیث 2 .
3- وسائل الشیعة : الباب 10 من أبواب غسل المیّت، الحدیث 3 _ 4 .
4- وسائل الشیعة : الباب 10 من أبواب غسل المیّت، الحدیث 3 _ 4 .
5- وسائل الشیعة : الباب 10 من أبواب غسل المیّت، الحدیث 5 .

ص:342

والحدیث الوارد فی «فقه الرضا» کما فی «المستدرک» ، عن الرضا علیه السلام : «لا تسخن له الماء إلاّ أن یکون ماءً بارداً جدّاً ، فتوقی المیّت ممّا توقی منه نفسک ، ولا یکون الماء حارّاً شدید الحرارة ، ولیکن فاتراً»(1) .

والظاهر من هذه الأخبار هو النهی التحریمی ، لولا قیام الإجماع بکلا قسمیه علی الکراهة .

حکم الماء المسخّن بالنار لسائر الاستعمالات

وفی «مصباح الفقیه» ، قال : «لعلّ الکراهة کانت من جهة کون الماء الحار مستلزماً للتطیر والتشاؤم ، ولذلک حکم بالکراهة ، إذ حرمة المیّت تقتضی الاحتراز عن صیرورة الماء حارّاً من النار ، کما أشار إلیه قوله علیه السلام : (ولا تعجل علیه بالنار)» .

ولکن لا نقف علی وجه وجیه مقبول لما ذکره .

نعم ، لا یبعد أن یکون الحکم الکراهة من جهة التعریض علی العامّة ، حیث یجعلون حرارة الماء شعاراً لأنفسهم ، فیکون الرشد فی خلافهم ، کما ورد فی بعض الأخبار ، فهو أمر حسن قابل للقبول ، فلذلک یستحسن کلام الإمام علیه السلام بعدم التعجیل للنار ، کما أنّهم یعجّلون موتاهم .

وکیف کان ، لا إشکال ولا خلاف فی ثبوت أصل الکراهة دون الحرمة ، کما لا إشکال فی کون الکراهة فی غسله قطعاً ، بل مقتضی إطلاق الأخبار _ حیث لم یذکر فی واحد منها خصوص الغسل _ یوجب الظنّ القوی بکون الحکم عامّاً لمطلق غَسله (بالفتح) لا خصوص غُسله (بالضمّ) .

کما لا یبعد القول بعدم الکراهة ، فیما إذا اضطرّ إلی ذلک ، سواء کان الاضطرار من ناحیة الغاسل أو من ناحیة المیّت ، کما یومی إلیهما فی الجملة ذکر الوقایة للمیّت .


1- مستدرک وسائل الشیعة : الباب 10 من أبواب غسل المیّت، الحدیث 1 .

ص:343

کما تراعی لنفس الغاسل ، وإن کان ظهوره للمیّت أکثر ، ولذلک تری «المهذب» قد استثنی صورة تلیین الأعضاء والأصابع ، فکأنّه جعل الحاجة فی طرف المیّت مطلقاً ، سواء کان من جهة برودة الماء أو من جهة لینة الأعضاء .

ولکن الاستظهار العرفی یساعد تعلّق الاستثناء فی الاضطرار بالغاسل ، لأنّه ألیق بالرعایة لخوف الضرر علیه من برودة الماء ، وان تجب ملاحظة حال المیّت للزوم احترامه ، کما ذکره الشیخ فی «الطهارة» استحساناً .

بل فی «الجواهر» : أنّه لو توقّف دفع الضرر عن الغاسل الذی کان الفعل واجباً علیه ، وکذلک إزالة النجاسة علی التسخین ، ارتفعت منه الکراهة حینئذٍ ، فیظهر منه عدم جواز الجمع بین الکراهة والوجوب ، وملاحظة الاضطرار فی کلّ واحد من الغاسل والمیّت .

وأمّا کراهة استعمال الماء المسخّن بالنار لغیر غَسل الأموات ، من التوضی ء ، وغسل الأحیاء وسائر الاستعمالات ، فمّما لا دلیل علیه .

ودعوی دلالة صحیح محمّد بن مسلم الوارد فیه قوله : «قال : سألت أبا عبداللّه علیه السلام عن رجل تصیبه الجنابة فی أرض باردة ، ولا یجد الماء ، وعسی أن یکون الماء جامداً ؟ فقال : یغتسل علی ما کان . إلی أن قال : وذکر أبو عبداللّه علیه السلام : أنّه اضطرّ إلیه وهو مریض ، فأتوه به مسخّناً فاغتسل ، وقال : لابدّ من الغسل»(1) .

حکم الاستشفاء بالعیون الحارّة و استعمالها

ودعوی دلالته علی الکراهة من جهة فرض الاضطرار فی الجواز ، مدفوع ، بأنّ الاضطرار إنّما کان من جهة الغُسل لا من الحرارة فی الماء ، إلاّ أنّ التسخین کان من جهة مرضه ، وأمّا کونه ممنوعاً ولو بالکراهة فغیر معلوم ، کما قاله فی


1- وسائل الشیعة : الباب 7 من أبواب الماء المضاف، الحدیث 2 .

ص:344

«الجواهر» ، بل ولم یعلم من أحد الحکم بالکراهة فیه .

والظاهر عدم الفرق بین کون التسخین بالنار أو غیرها ، لظهور بعض الأخبار فی ذلک ، حیث عبّر بعدم تقریب الماء الحمیم إلی المیّت ، أو التعبیر بعدم تسخین الماء ، فیشمل ما یکون مسخّناً بالشمس أو بغیرها .

لکن الوارد فی کلمات القوم هو خصوص التسخین بالنار ، دون غیرهاو کما فی عبارة المصنّف ، بل الوارد فی بعض الأخبار التصریح بالنار فقط کما هو واضح ، ولعلّ مفاد دعوی الإجماع أیضاً کذلک .

وفی «الجواهر» : لعلّهم اکتفوا فی الکراهة للمشمس ، بما قد عرفت فی الفرع السابق ، فأورد علی نفسه أنّه مخصوص لغُسل الأموات ، مع أنّ المستفاد من الفرع السابق هو مطلق الاستعمال من جهة التعلیل .

ثمّ استدرک بقوله : نعم یکره للمستعمل المباشر بنفسه .

هذا ، لکنّه مخدوشٌ بأنّ الکراهة کانت للمستعمل بنفسه ، لظهور التعلیل فی کونه موجباً للبرص ، حیث لا یصدق ذلک إلاّ علی الغاسل دون المیّت .

أمّا لو فرضنا عدم مباشرة الغاسل لذلک الماء ، فهل التغسیل به للمیّت أیضاً مکروه أم لا ؟

فغیر معلوم ، إذ لابدّ فی إثباته من إقامة الدلیل ، کما لایخفی .

ثمّ إنّه یکره الاستشفاء بالحماة _ وهی العیون الحارّة التی تکون فی الجبال ، وتتصاعد منها عادةً رائحة الکبریت _ من جهة التعلیل الوارد فی الأخبار بأنّها مشابهة للحمیم والجهنّم ، وقد صرّح بهذا ابن إدریس ، وهو المنقول عن ابن بابویه کما فی «المنتهی» و«المعتبر» .

بل قد صرّح بذلک صاحب «الجواهر» والشیخ فی «طهارته» وکذلک فی «مصباح الفقیه» .

ص:345

الماء المستعمل فی غسل الأخباث نجسٌ، سواء تغیّر بالنجاسة أو لم یتغیّر(1).

والأخبار واردة فی الباب 12 من أبواب المضاف ومضمون جمیعها متقاربة ومتشابهة ، فنذکر واحداً منها ، وهو خبر مسعدة بن صدقة ، عن أبی عبداللّه علیه السلام قال : «نهی رسول اللّه صلی الله علیه و آله عن الاستشفاء بالحمات ، وهی العیون الحارّة التی تکون فی الجبال ، التی توجد فیها رائحة الکبریت ، فإنّها من فوج جهنّم»(1) .

ومثله خبر 1 ، 2 ، 4 من هذا الباب أیضاً فراجع .

وأمّا الوضوء ، أو سائر الاستعمالات من ذلک الماء ، فلا کراهة فیه ، مضافاً إلی عدم وجدان دلیل بالخصوص ، یمکن استظهاره کمرسلة الصدوق ، قال : «أمّا ماء الحمات فإنّ النبیّ صلی الله علیه و آله إنّما نهی أن یستشفی منها ولم ینه عن الوضوء بها ، قال : وهی المیاه الحارّة التی تکون فی الجبال یُشمّ منها رائحة الکبریت»(2) . فإذا جاز الاستعمال فی الوضوء الذی هو أمر عبادی مهمّ فإنّ فی غیره یجوز الاستعمالات بطریق أولی ، ولذلک صرّح صاحب «الجواهر» بذلک بقوله : «ولا یکره غیر ذلک» .

کما صرّح ابن إدریس بذلک أیضاً .

حکم غسالة الخبث

نعم ، شمول الکراهة لغسل الأموات غیر بعید ، لما ذکرنا من ظهور بعض الأخبار فی العموم ، کما یشعر بذلک بقوله : (فوج من جهنّم) حیث یناسب مع عدم استعماله للمیّت ، بأن لا یُعجّل له النار ، کما ورد التصریح به فی بعض الأخبار .

فالالتزام بذلک لیس ببعید ، وهو الهادی إلی سبیل الرشاد ، فنسأل اللّه التوفیق والسداد ، والحمد للّه من الآن إلی یوم المعاد .

(1) بلا فرق بین کونه مستعملاً فی النجاسة الحُکمیة _ کبدن الکافر إذا أسلم وأراد تطهیره بالماء _ أو النجاسة العینیّة . کما لا فرق بین کونه منفصلاً بالعصر أو


1- وسائل الشیعة : الباب 12 من أبواب الماء المضاف، الحدیث 3 _ 1 .
2- وسائل الشیعة : الباب 12 من أبواب الماء المضاف، الحدیث 3 _ 1 .

ص:346

بنفسه . کما لا فرق بین المتغیّر وغیره ، کما صرّح به المصنّف ، خلافاً لقوله السابق حیث کان بالإطلاق .

والأقوال فی ماء الغسالة کثیرة ، وغایتها ستّة ، بل «الجواهر» یوصلها إلی عشرة ، والعمدة منها ثلاثة ، لو لم نقل کونها اثنین وهی :

الأوّل : القول بالنجاسة مطلقاً ، کما هو المشهور بین المتأخِّرین بل المعاصرین ، ومن قارب عصرنا کالعلاّمة فی جمیع کتبه ، والشهیدین ، والمحقّق الأوّل فی «الشرائع» و«المعتبر» ، و«الإصباح» ، وظاهر «المقنع» ، و«کاشف اللثام» ، والشیخ الأنصاری ، والنراقی ، والمحقّق الهمدانی ، والبروجردی ، وفاقاً للسیّد فی «العروة» _ لغیر المزیل لعین النجاسة احتیاطاً وجوبیّاً _ والشاهرودی ، والخمینی ، والحکیم .

ما یدلّ علی نجاسة الغسالة مطلقا

بل ادّعی العلاّمة الإجماع فی الماء المستعمل فی الخبث والحائض ، إذا کان بدنها نجساً بنجاسة عینیّة ، کما فی «المنتهی» و«التحریر» .

والثانی : القول بالطهارة مطلقاً ، کما نسب صاحب «المعالم» إلی جماعة من المتقدِّمین ، منهم الشیخ فی «المبسوط» ، وابن حمزة ، والبصروی ، والمحقّق الثانی ، فی بعض فوائده ، والقاضی .

بل فی «إیضاح القواعد» أنّه الأشهر بین المتقدّمین ، ویشعر به کلام الصدوق ، ویمیل إلیه فی «الذکری» و«المدارک» ، کما فی «المستند» .

القول الثالث : هو القول بالتفصیل بین الغسلة التی تتعقّبها الطهارة _ کالأخیرة فی المتعدّدة نظیر البول ، والأولی فی غیره من الطهارة _ وبین ما لا تتعقّبها الطهارة کالغسلة الاُولی فی المتعدّد فهو نجس .

صرّح بذلک المحقّق الخوئی والگلپایگانی وفاقاً للنراقی الأوّل والآملی .

والأقوی هو القول بالنجاسة مطلقاً ویدلّ علیه الأدلّة عموماً وخصوصاً .

ص:347

فأمّا العموم : هو الأخبار الواردة التی تقدّم ذکرها ، الدالّة علی نجاسة الماء القلیل بالملاقاة مع النجس ، بلا فرق بین کونه وارداً علی النجس أو موروداً ، وإن کان أکثرها فی قسم ورود النجاسة علی الماء ، ومنها : الخبر الوارد فی الکرّ ، حیث یدلّ بالمفهوم علی نجاسة الماء إذا لم یکن کرّاً مثل صحیح محمّد بن مسلم(1) ونظائره .

وتوهّم أنّ الاستدلال علی ذلک موقوفٌ علی کون المفهوم مثل منطوقه عامّاً لکلّ من أقسام المیاه غیر الکرّ ، بحیث یشمل حتّی الماء القلیل مدفوع .

مع إمکان دعوی خلافه ، لأنّ نقیض السلب الکلّی (وهو لم ینجّسه شیء) یکون إیجاباً جزئیّاً أی (هو ینجسه شیء) لکنّه أی ماء ، فهو غیر معلوم ، لإمکان أن یکون الماء القلیل هو المورود لا الوارد ، فلا یستفاد منه نجاسة الماء القلیل بالملاقاة مطلقاً .

مضافاً إلی أنّ عموم المنطوق قد اُستفید من (الشیء) النکرة الواقعة فی تلو النفی ، المفقود ذلک فی طرف المفهوم ، فلا عموم له حتّی یستفاد منه حکم النجاسة للماء القلیل ، إذا کان وارداً علی النجس ، هذا غایة ما یمکن أن یُقال فی دفع الاستدلال عن مثل هذا الحدیث .

لکنّه مخدوش ، أوّلاً : بأنّ النزاع المعروف بین العَلَمین وهما الشیخ الأنصاری قدس سره _ من القول بکون المفهوم هو الإیجاب الکلّی ، نظیر المنطوق فی الکلّیة وهو السلب الکلّی _ والشیخ محمّد تقی صاحب «الحاشیة» _ من کون مفهوم السلب الکلّی هو الإیجاب الجزئی ، لأنّ نقیض ذلک یکون الجزئی لا الکلّی _ إنّما کان فیما إذا کان المقصود هو التمسّک بالعموم الافرادی للفظ الماء ،


1- وسائل الشیعة : الباب 9 من أبواب الماء المطلق، الحدیث 1 .

ص:348

کما کان کذلک فی لفظ (الشیء) المراد منه النجس ، مع أنّ المورد لیس إلاّ من جهة التمسّک بالعموم الاحوالی للفظ (الماء) ، من جهة حالتی الملاقاة من الورود . ما یدلّ علی نجاسة الغسالة مطلقا

توضیح ذلک : أنّ الماء إذا لاقی نجساً یتنجّس عرفاً بواسطة السرایة والملاقاة ، بلا فرق بین کونه وارداً علی النجس أو مورداً ، فخرج من ذلک الماء الذی له مانع من الانفعال ، وهو مثل الکریة أو الجریان وغیرهما ، فیبقی الباقی تحته ، فلیس لنا عموم افرادی حتّی یرد هذان القولان من النزاع هاهنا .

وثانیاً : أنّ النزاع المذکور لو سلّم جریانه ، کان فی لفظ (الشیء) من جهة کونه نکرة فی طرف المنطوق ، وموجباً للعموم إذا وقع تلو النفی ، وهذا بخلاف المقام ، حیث أنّه اُرید استفادة العموم من جهة الملاقاة الواقعة للماء مع النجس ، حیث لا یفرق العرف فی ذلک بین حالتی الملاقاة .

فالاستدلال بالمفهوم من جهة هذا الحدیث یکون وجیهاً .

مضافاً إلی وجود أخبار کثیرة دالّة علی نجاسة الماء القلیل بالملاقاة ، مثل صحیح البزنطی ، قال : «سألت أبا الحسن علیه السلام : عن الرجل یدخل یده فی الإناء وهی قذرة ؟ قال : یُکفی ء الإناء»(1) .

وموثّقة سماعة ، عن الصادق علیه السلام ، قال : «إذا أصاب الرجل جنابة فأدخل یده فی الإناء فلا بأس إذا لم یکن أصاب یده شیء من المنی»(2) .

واحتمال الفرق بین صورتی کون الملاقاة بقصد الغَسل فیکون طاهراً ، وبین عدم قصد الغسل فیکون نجساً .

ضعیفٌ للقطع بعدم توقّف صدق الغسل علی قصده عرفاً وإجماعاً ، ولذلک یحصل الغسل فی الکرّ ولو لم یقصد الغسل .


1- وسائل الشیعة : الباب 8 من أبواب الماء المطلق، الحدیث 7 و 9 .
2- وسائل الشیعة : الباب 8 من أبواب الماء المطلق، الحدیث 7 و 9 .

ص:349

فثبت من ذلک أنّ عموم أدلّة انفعال الماء القلیل تشمل المقام قطعاً .

وقد استدلّ الشیخ الأنصاری قدس سره بقاعدة جواز رفع الحدث بالماء الطاهر ، ولکن قد ثبت بالإجماع عدم جواز استعمال هذا الماء المستعمل فی غسل الأخباث فی رفع الحدث ، کما ادّعاه فی «المعتبر» و«المنتهی» ، وبالنصّ الوارد فیه مثل خبر عبداللّه بن سنان ، عن الصادق علیه السلام قال : «لا بأس بأن یتوضّأ بالماء المستعمل ، فقال : الماء الذی یغسل به الثوب أو یغتسل به الرجل من الجنابة لا یجوز أن یتوضّأ منه ، وأشباهه ، وأمّا الذی یتوضّأ الرجل به فیغسل به وجهه ویده فی شیء نظیف ، فلا بأس أن یأخذه غیره ویتوضّأ به»(1) .

فإنّه یفهم عکس النقیض وأنّه لیس إلاّ من جهة نجاسته ، وخروج الماء المستعمل للحدث الأکبر علی القول به ، وماء الاستنجاء .

ولکن مثل هذا لا یقدح فی العمومات اللفظیة ، یعنی برغم أنّ الماءان المذکوران کانا طاهرین ، فإنّه لم یجز استعمالها فی رفع الحدث ، فلا یدلّ ما ادّعاه علی ثبوت الملازمة .

فأجاب أنّ خروجهما کان بالدلیل ، فلا یضرّ بثبوت الملازمة .

ولکن الإنصاف عدم ثبوت الملازمة ، مع وجود أفراد خارجة عن ذلک ، حیث یفهمنا أنّه یمکن أن یکون الوجه فی الامتناع من الاستعمال ، وجود جهات اُخری غیر النجاسة ، کما لا یبعد دعواه عند التأمّل ، ولعلّه لذلک لم یتمسّک الفقهاء الذین تأخّروا عنه ، بل وأعرضوا عنه فی استدلالهم ، هذا کلّه فی الأدلّة العامّة الدالّة علی النجاسة .

وأمّا الأدلّة الخاصّة : الدالّة علی نجاسة ماء الغسالة ، فهی عدّة أخبار :


1- وسائل الشیعة : الباب 9 من أبواب الماء المضاف، الحدیث 13 .

ص:350

منها : خبر العیص بن القاسم المروی فی «الخلاف» و«المعتبر» و«المنتهی» و«الذکری» و«وسائل الشیعة» ، قال : «سألته عن رجل أصابته قطرة من طشت فیه وضوء ؟ ما یدلّ علی نجاسة الغسالة مطلقا

فقال : إن کان من بول أو قذر فیغسل ما أصابه(1) . وفی «الخلاف» زیادة فی الخبر وهی : «وإن کان من وضوء الصلاة فلا بأس» .

حیث یدلّ علی أنّ الغسالة من البول المغسول أو القذر ، إذا أصاب شیئاً یغسل ، فلقیس ذلک إلاّ لنجاستهما .

ومن المعلوم أنّه لا خصوصیّة فی البول والقذر ، بل یکون مطلق النجس حکمه هکذا .

کما یؤیّد ما قلنا الزیادة الواردة فی ذیل الخبر ، من الحکم بعدم البأس ، إذا کان ماء الغسالة طاهراً ، کماء الوضوء للصلاة .

وفیه : والإشکال فیه تارةً : فی أصله وسنده ، کما فی «المعالم» من جهة أنّ الخبر لم یذکر فی الکتب الأربعة المتداولة .

ومن جهة کونه مضمراً أیضاً حیث لم یذکر المرویّ عنه فی متن الحدیث .

واُخری : فی دلالته ، من إمکان أن یکون المراد ، القطرة من عین البول ، لا الماء الذی فیه بول .

أو کون المراد وجود نفس البول والقذر فی الطشت ، فلا یشمل ما لو لم یکن کذلک ، کما هو المقصود لإثبات النجاسة للغسالة ، کما لایخفی .

ویرد علیه ، أمّا عن الأوّل : مضافاً إلی عدم إضرار الإرسال والإضمار فی حجّیته ، إذا کان موثوق الصدور ، ومنجبراً بالشهرة المتحقّقة بین المتأخّرین ، أنّه یمکن أن یکون قد أخذه الشیخ الطوسی قدس سره بسنده عن الحسن عن العیض


1- وسائل الشیعة : الباب 9 من أبواب الماء المطلق، الحدیث 14 .

ص:351

عن کتابه بطریقة الوجادة .

وأمّا إضماره فإنّه یمکن أن یکون نتیجة تقطیع الأخبار وتبویبه إلی أبواب ، فاستهجن تکرار المروی عنه فی کلّ قطعة رواها فی کلّ باب ، مضافاً إلی جلالة شأن العیص والشیخ قدس سره وبُعدهما عن احتمال الکذب علی الإمام علیه السلام عن أن یجعل الحدیث . فالسند تامّ ولا تردید فیه .

وأمّا عن الدلالة : «مضافاً إلی منافاته مع إطلاقه ، حیث لم یفصل بین وجود عین البول والقذارة فیه ، فإطلاقه یشمل ما لو لم یکن موجوداً فیه ، لأنّ الغالب فی البول جفافه بعد فترة وتکون نجاسته حینئذٍ حکمیة ، فلیس له عین حتّی یحمل علیه ، کما لا یخفی ».

فما ذکره الآملی من أنّه إذا جاء الاحتمال فإنّه یصادم الظهور ، فلایجوز التمسّک به .

یکون فی غیر محلّه ، لظهوره فی الإطلاق حقیقةً ، لاسیما مع ملاحظة تأیید ذیل الحدیث من الحکم بالجواز فی غیرهما کما لایخفی .

فهذا الحدیث یعدّ من الأدلّة الخاصّة الواردة فی المقام ، کما سیتّضح لک الحال إن شاء اللّه تعالی .

ومنها : موثّقة عمّار الساباطی ، عن أبی عبداللّه علیه السلام ، قال : «سئل عن الکوز والإناء یکون قذراً کیف یغسل ، وکم مرّة یغسل ؟ قال : یغسلا ثلاث مرّات ، یُصبّ فیه الماء ، فیحرّک فیه ، ثمّ یفرغ منه ، ثمّ یُصبّ فیه ماء آخر ، فیحرّک فیه ، ثمّ یفرّغ ذلک الماء ، ثمّ یُصبّ فیه ماء آخر ، فیُحرّک فیه ، ثمّ یفرغ منه وقد طهر) الحدیث»(1) .


1- وسائل الشیعة : الباب 53 من أبواب النجاسات، الحدیث 1 .

ص:352

وجه الاستدلال : أنّه لو لم یکن ماء الغسالة نجساً ، فلم یکن للحکم بالصبّ وجه ، فلیس ذلک إلاّ من جهة النجاسة . واحتمال أن یکون تفریغ الإناء من جهة توقّف صدق الغسل علیه لا من جهة نجاسته . ما یدلّ علی نجاسة الغسالة مطلقا

مدفوعٌ ، بأنّه لو کان ذلک معتبراً فی صدق الغسل ، للزم أن یکون الحکم کذلک فی الغسل بالمطر والجاری ، مع أنّه لا إشکال فی صدق الغسل بمحض الاتّصال بهما ، ولو لم یفرغ الماء عن الإناء ، ولیس هذا إلاّ من جهة عدم توقّف صدق الغسل علی الإفراغ .

هذا ، کما عن الشیخ الأنصاری قدس سره والمحقّق الهمدانی وغیرهما .

ولکن فی النفس من هذا الجواب شیء ، لأنّ الغسل لا یصدق إلاّ إذا بلغ جمیع جوانب الإناء فی کلّ مرّة حتّی ما اشتمل علیه الماء ، فکما أنّه لو لم یفرغ الماء الموجود فی الإناء من الغسلة الاُولی والثانیة لم تتحقّق تعدّد الغسلة لموضع کان الماء المستعمل فیه ، فهکذا یکون الأمر فی الغسلة الثالثة .

والنقض بالغسلة بالماء المعتصم یکون فی غیر محلّه ، لأنّ الملاک فی الغسلة فی المعتصم ، لیس هو ذهاب الماء عن موضع النجس ، بل الغسل یکون صادقاً ، فیما لو استوعب الماء جمیع جوانب الإناء أو مرّ علیها الماء المعتصم ، ولذلک تری أنّ التعدّد فیه أیضاً لا یکون إلاّ بتکرّر هذا الاستیعاب أو الإمرار ثمّ إفراغ الإناء منه ، ثمّ صبّ الماء علیه مرّة اُخری أو إجراءه فیها بحیث یصل إلی جمیع أجزاءه وجوانبه .

فعلی هذا التقدیر لا یبعد أن یکون وجوب تفریغ الماء فی المرّة الثالثة لإیجاد تعدّد الغسلة لثلاث مرّات ، بمثل ما لزم الإفراغ فی المرّة الاُولی والثانیة أیضاً .

مضافاً إلی إمکان أن یکون وجه وجوب الإفراغ ، هو عدم کفایة استعمال الماء المستعمل فی غسل الخبائث فی غسل الخبث والتطهیر بعده ، إذ لو لم یفرغ

ص:353

الماء ، عُدّ تطهیر الإناء بالنسبة إلی ما وقع فیه ذلک الماء تطهیراً بالماء المستعمل ، وهو غیر جائز ولذلک حکم بالإفراغ .

فعلی ما ذکرنا ، لا یمکن الاستدلال بهذا الحدیث علی نجاسة الغسالة ، لإمکان أن تکون الغسالة طاهرة .

إلاّ أنّه حیث یجب تحقّق الغسل للإناء ثلاث مرّات _ لصراحة دلالة الحدیث ، بقوله : (یغسل ثلاث مرّات) حیث الجملة الخبریة تکون فی مقام الإنشاء _ ولما عرفت من عدم تحقّق الغسلات ثلاثاً فی الماء القلیل فی الإناا بالنسبة إلی کلّ أطرافه وجوانبه إلاّ بإفراغ الماء المستعمل کاملاً ، حکم بالإفراغ ، وهو أمر صحیح وجدانی وعرفی .

فبناءً علیه لا نحتاج فی ردّ الاستدلال به ، بما ذکره الشیخ الأنصاری قدس سره فی الماء الباقی بعد الغسلة الثالثة ، من أنّ العرف تستقذرها وتشمأز من شربها ورفع الخبث بها ، إذ هو لا یوجب الحکم بلزوم الإفراغ فیه ، کما أوجب ذلک فیما سبقه .

وهکذا سقط الحدیث عن الاستدلال عندنا ، واللّه العالم .

ومنها : خبر عبداللّه بن سنان المتقدِّم ، عن الصادق علیه السلام ، قال : «لا بأس بأن یتوضّأ بالماء المستعمل ، فقال : الماء الذی یغسل به الثوب أو یغتسل به الرجل من الجنابة لا یجوز أن یتوضّأ منه وأشباهه» الحدیث(1) .

والاستدلال به مبنیٌّ علی کون المراد من النهی عن الوضوء هو مطلق التنظیف ، أی لایجوز أن یتطهّر ویتنظّف بالغسالة ، وأمّا رفع الحدث بها فإنّ الخبر لا یشیر إلیه إذ أنّ عدم جواز رفع الخبث بها لا یستلزم الحکم بالنجاسة ، کما فی ماء الاستنجاء فإنّه برغم کونه طاهراً لا یجوز رفع الحدث به .


1- وسائل الشیعة : الباب 9 من أبواب الماء المضاف، الحدیث 13 .

ص:354

ولکنّه مخدوش من وجوه : ما یدلّ علی نجاسة الغسالة مطلقا

أوّلاً : من جهة سنده ، لوقوع أحمد بن هلال فی سنده ، وهو منسوب تارةً إلی النصب ، واُخری إلی الغلوّ ، بل ورد الذمّ فیه عن سیّدنا العسکری علیه السلام .

بل عن «جامع الرواة» نقلاً عن «خلاصة» العلاّمة : أنّ روایته غیر مقبولة عندی ، وإن توقّف فیه ابن الغضائری ، إلاّ فیما یرویه عن حسن بن محبوب ، أو ابن أبی عمیر من «نوادره» .

والخبر المستدلّ به فی المقام منقول بسنده عن حسن بن المحبوب .

وکیف کان ، ففی سنده کلام لو لم نقل بضعفه .

وثانیاً : من جهة الدلالة ، لما قد عرفت من أنّ غسل الثوب لا یلازم مع النجاسة خارجاً ، لإمکان أن یکون الغسل للنظافة کما هو الغالب ، فیمکن أن یکون النهی عن الوضوء ، بمعنی رفع الحدث لا التنظیف ، فکان نهیه من جهة قداسته للوضوء والغُسل ، وإن لم تکن الغُسالة نجسة ، کما ورد هذا النهی فی حقّ ماء الاستنجاء مع کونه طاهراً .

کما أنّ تقابله فی ذیل الخبر بقوله :

«وأمّا الذی یتوضّأ الرجل به فیغسل به وجهه ویده فی شیء نظیف فلا بأس أن یأخذه غیره ویتوضّأ به» .

لا یدلّ علی کون المراد بالجملة السابقة ، هو النجاسة ، بل المراد الإشارة إلی کون المغسول به الثوب وسخاً ، بخلاف ما لو کان مستعملاً فی غسل الوجه والید مع نظافته ونظافة إناءه ، فیجوز استعماله لعدم منافاته مع قداسة الوضوء ، کما کان فی الأوّل ، وهو واضح .

وثالثاً : کون المراد من التوضی ء منه هو التنظیف هاهنا خلاف الظاهر ، فلا یکون المراد منه هو النهی عن استعمال ذلک فی رفع الخبث کما قیل ، حتّی

ص:355

یستفاد منه کونه من جهة نجاسته .

مع إمکان دعوی أنّ ممنوعیّة الاستعمال لرفع الخبث لا یلازم کونه نجساً ، لأنّه لازم أعمّ لإمکان کونه طاهراً ، فمع ذلک لا یجوز ، کما لا یبعد القول بذلک فی ماء الاستنجاء .

وتفصیل الکلام موکول إلی محلّه .

فقد ظهر ممّا ذکرنا سقوط هذا الخبر أیضاً عن الاستدلال للنجاسة .

ومنها : قد استدلّ بالأخبار الواردة فی النهی عن الاغتسال بغُسالة الحمّام ، مثل خبر حمزة بن أحمد ، عن أبی الحسن الأوّل علیه السلام قال : «سألته ، أو سأله غیری عن الحمّام ؟ قال : ادخله بمئزر ، وغُضّ بصرک ، ولا تغتسل من البئر التی یجتمع فیها ماء الحمّام ، فإنّه یسیل فیها ما یغتسل به الجنب وولد الزنا والناصب لنا أهل البیت ، وهو شرّهم»(1) .

ومثله مرسلة علیّ بن الحکم ، عن أبی الحسن علیه السلام فی حدیثٍ ، أنّه قال : «لا تغتسل من غُسالة ماء الحمّام ، فإنّه یغتسل فیه من الزنا ، ویغتسل فیه ولد الزنا ، والناصب لنا أهل البیت وهو شرّهم»(2) . ما یدلّ علی نجاسة الغسالة مطلقا

وخبر عبداللّه بن یعفور ، عن أبی عبداللّه علیه السلام : «وإیّاک أن تغتسل من غُسالة الحمّام ففیها تجتمع غسالة الیهودی والنصرانی والمجوسی والناصب لنا أهل البیت ، فهو شرّهم ، فإنّ اللّه تبارک وتعالی لم یخلق أنجس من الکلب ، وأنّ الناصب لنا أهل البیت لأنجس منه»(3) .


1- وسائل الشیعة : الباب 11 من أبواب الماء المضاف، الحدیث 1 .
2- وسائل الشیعة : الباب 11 من أبواب الماء المضاف، الحدیث 3 .
3- وسائل الشیعة : الباب 11 من أبواب الماء المضاف، الحدیث 5 .

ص:356

وجه الاستدلال : هو أنّ النهی عن ذلک لیس إلاّ من جهة نجاسة الغسالة التی یخرج من بدن النجس ، وهو المطلوب وإلاّ لم یکن للنهی عن ذلک وجه ، خصوصاً مع ملاحظة غسالة الیهودی والنصرانی والمجوسی والناصبی ، حیث یعدّون من الأنجاس ، فغسالتهم تکون نجسة قطعاً ، کما لایخفی .

ولکن یمکن الخدشة فیها ، أوّلاً : بمعارضتها مع بعض الأخبار الدالّة علی نفی البأس بإصابة ثوبه غسالة الحمّام ، وهو کما فی مرسلة أبی یحیی الواسطی ، عن بعض أصحابنا ، عن أبی الحسن الماضی علیه السلام قال : «سُئل عن مجتمع الماء فی الحمّام من غسالة الناس یُصیب الثوب ؟ قال : لا بأس»(1) .

ولکن الإنصاف أنّ المراد من هذه الغسالة ، لیست هی المجتمعة فی البئر کما کان فی تلک الأخبار ، بل المقصود منها النضح عن ماء الغسالة فی نفس الحمّام الذی یستفید منه الناس ، _ سواء کان الغاسل یهودیّاً أو غیره _ فیترشّح علی الثوب کما لا یعلم حینئذٍ کون بدن الإنسان نجساً ، فیحکم بالطهارة .

هذا ، بخلاف الماء المجتمع فی البئر ، حیث تفید القرائن القطعیّة علی دخول الماء النجس فیه من الیهودی والنصرانی والمجنب ، فلذلک حکم بأنّ فیه بأس ، ولزوم الاجتناب منه ، فلا تعارض بین الحکم بالنجاسة فیه دون المجتمع فی الحمّام ، کما لا یخفی .

کما أنّ جواب المحقّق الآملی عن الخبر الدالّ علی الطهارة ونفی البأس عن الماء المجتمع فی البئر والمشتمل علی الکرّ والأکرار ، فی غیر محلّه ، مع ملاحظة قلّة المیاه فی تلک العصور ، خاصّة أنّهم کانوا عادةً یغرفون من الحیاض الصغار ، ویصبّون علی أنفسهم وأبدانهم ، وکانوا یتناوبون هذا العمل بحیث لایمکن فرض


1- وسائل الشیعة : الباب 9 من أبواب الماء المضاف، الحدیث 9 .

ص:357

وتصوّر امتلاء الحیاض الصغار وصیرورته وبلوغه قدر الکرّ ، فمع وجود النجاسة لا یمکن الحکم بطهارته .

نعم ، لو تحقّق الاتّصال مع الکرّ ، فإنّه یعتصم بعد إفراغ ما فیه من الماء ، لکن أمر آخر قلیل الاتّفاق ، کما هو واضح .

وثانیاً : وهو العمدة ، اشتمال الأخبار الناهیة علی ما یوجب أن لا یکون المقصود من النهی النجاسة ، بل یکون من جهة أمر عرفی صریح فی الاجتناب عن مثل هذه المیاه الخبیثة ، وإن لم تکن نجسة ، کما یشهد لذلک ذکر الاغتسال عن الزنا وولد الزنا ، مع عدم کونهما نجسین ، بل وفی بعض منها ذکر الجُنُب ، فإنّه وإن أمکن ملاحظة نجاسة أبدانهم من حیث القذارة ، إلاّ أنّ التعلیل بکونه ولد الزنا یفید أنّه إرشاد إلی أمر عقلائی وهو تنفّر الطبائع البشریة عن الاغتسال بذلک ، خصوصاً مع العدول فی التعلیل بالنجاسة إلی ما ذکر فی الأخبار ، إیماءٌ علی عدم نجاستها ، وإلاّ کان الأولی التعلیل بالنجاسة .

بل قد یؤیّد ما ذکرنا ما یستفاد من خبر محمّد بن علی بن جعفر ، عن أبی الحسن الرضا علیه السلام قال : «من اغتسل من الماء الذی قد اغتسل فیه ، فأصابه الجذام ، فلا یلومنّ إلاّ نفسه . فقلت لأبی الحسن علیه السلام : إنّ أهل المدینة یقولون إنّ فیه شفاء من العین ؟ فقال : کذبوا یغتسل فیه الجنب من الحرام ، والزانی ، والناصب الذی هو شرّهما ، وکلّ من خلق اللّه ، ثمّ یکون فیه شفاء من العین ؟»(1) .

بأنّ إیراد الاُمور المذکورة کان لأجل إثارة النفرة فی النفوس ، حیث یفهم بأنّ الملاک للنهی ، کان من تلک الجهات المذکورة فیه ، فتکون إشارة إلی أمر یتعلّق بصحّة الإنسان ، فدلالتها علی نجاسة کلّ الحمام مشکل جدّاً .


1- وسائل الشیعة : الباب 11 من أبواب الماء المضاف، الحدیث 2 .

ص:358

هذا کلّه فی الأدلّة الدالّة علی النجاسة عموماً وخصوصاً .

وقد اُضیف إلی ذلک دعوی الإجماع من العلاّمة فی «التحریر» و«المنتهی» علی نجاسة غسالة غُسل الجنب والحائض ، إذا کان بدنهما نجساً بنجاسة عینیّة .

ففی «الجواهر» : أنّ دعواه الإجماع یختصّ بمن استعمل الماء فی إزالة عین النجاسة عن جسمه ، ومن هنا فلا یثبت نجاسة مطلق الغسالة والماء المستعمل فی رفع الأخباث ، ولو کانت حُکمیة کالبول الجاف أو الغسلة الثانیة فیه ولو کان رطباً.

الجواب عمّا یتوهّم معارضته للقول بنجاسة الغسالة

هذا ، ولکن نحن نقول بأنّ الإجماع إذا کان قائماً علی نجاسة هذا القسم من الغسالة ، ویثبت ذلک به ، فنستدلّ بتنقیح المناط أنّه لیس إلاّ من جهة ملاقاة الماء القلیل للنجس ، حیث یوجب النجاسة ، فأیّ فرق فی ذلک بین الملاقاة مع عین النجاسة ، أو مع ما کان نجساً حقیقة شرعاً إلاّ أنّه لا عین له ، لو سلّمنا عدم تنجیس المتنجّس للطاهر ، مع وجود الإشکال فیه أیضاً ، فضلاً عن الملاقاة مع النجاسة الحُکمیة .

فثبت من جمیع ما ذکرنا أنّ أحسن الأدلّة فی المقام ، هو دلیل الملاقاة ، وخبر العیص المؤیّد بالإجماع مع تنقیح المناط ، کما عرفت .

فبقی هنا ملاحظة ما یتوهّم المعارضة مع القول بالنجاسة ، والجواب عنه ، وهی عدّة اُمور ، وقد أنهاها فی «الجواهر» إلی أربعة عشر وجهاً ، من الأدلّة والتأییدات التی لا ضرورة للتعرّض لها ، إلاّ لما هو المهمّ لنا ، فنقول :

منها : المنع عن شمول عموم أدلّة انفعال الماء القلیل بالملاقاة للمقام ، إمّا بدعوی المنع بناءً علی أصالة العموم والإطلاق ، کما ادّعاه صاحب «الجواهر» ، أو بدعوی انصرافها عن الملاقاة الموجبة للطهارة کما ادّعاه آخرون .

والجواب عنه : أنّه قد ظهر ممّا ذکرنا سابقاً ، من أنّ البحث فی نجاسة الغسالة وعدمها إنّما یکون بعد الفراغ عن تنجّس الماء القلیل بالملاقاة ، وإن لم یکن

ص:359

المبنی ذلک ، ووافقنا العمّانی فی رأیه من عدم تنجّس القلیل بالملاقاة .

أو قلنا بما قاله السیّد المرتضی قدس سره من عدم نجاسته إذا کان الماء وارداً علی النجس ، فلا إشکال حینئذٍ فی طهارته .

فإذا ثبت ذلک ، فلا وجه لدعوی عدم الإطلاق والعموم لتلک الأدلّة للمقام ، إلاّ أن یخرج المقام بدلیل خارج ، وهذا أمر آخر .

ومنها : أن یُدّعی وجود المانع العقلی لشمول المقام ، بعد التسلیم لمقتضاه ، لأنّه من المحال أن یکون المتأثّر بالنجاسة بواسطة الملاقاة ، موجباً لتطهیر المتنجّس من الأشیاء ، إذ المفروض هو الحکم بطهارة الثوب والبدن عن النجاسة بعد الغسل بهذا الماء المتنجّس ، وهو غیر ممکن عقلاً وشرعاً .

هذا کما علیه السیّد المرتضی ، وارتضاه الحلّی و«کاشف الالتباس» .

وفیه أوّلاً : من المعلوم بأنّ الطهارة والنجاسة تعدّان من الأحکام الشرعیّة ، ولیستا من الاُمور التکوینیّة العقلیّة ، حتّی یصیر مثل المورد من المحالات .

وما اشتهر عند بعض بأنّ المانع الشرعی یکون کالمانع العقلی باطل من أساسه ، لما تری إنْ شاء اللّه من وجود نظائر کثیرة من الخلاف لذلک فی الأحکام الشرعیّة ، فهی تعدّ من الاُمور الاعتباریة واعتبارها تکون بید معتبرها وله أن یعتبرها کیف یشاء ، وتأثیر الشیء فی ضدّه ونقیضه تعدّ من المحالات إنّما فی الاُمور التکوینیّة العقلیّة لا الشرعیّة ، فالطهارة الشرعیّة لم تحصل من نفس الماء فقط ، بل منه ومن حکم الشارع لذلک ، ولهذا تری بأنّ بعض الأشیاء وإن یعدّ أولی وأفضل للنظافة والتطهیر من الماء ، ولکن الشارع لم یحکم بمطهّریته ، فلا یقال بأنّه مطهّر ، فلیس هذا إلاّ من جهة تلک الحیثیّة ، فلا منافاة بین قول الشارع بطهارة المحلّ بذلک الغسل ، وصیرورة الماء نجساً به ، کما عرفت وجود نظائره فی الشرع ، کتطهیر محلّ الغائط بالأحجار ، حیث ینجس الحجر ، ولکن یطهر

ص:360

المحل ، وتطهیر باطن الخفّ والرجل .

وهکذا فی الماء القلیل المتنجّس إذا صار کرّاً بماء نجس آخر ، علی القول بطهارته فی المتمّم کرّاً ، وهو واضح .

ففی تمام هذه الموارد ، کانت العلّة هی ما عرفت ، کما لایخفی .

وثانیاً : إنّ تأثیر الماء فی المحلّ وجعله طاهراً ، وتأثیر المحلّ فیه وصیرورته نجساً ، لیس من قبیل تأثیر الشیء فی ضدّه أو نقیضه ، لوضوح أنّ هذا التأثیر تعدّ من الآثار العادیة حال للمرکّبات فی الطبیعة الخارجیة وذلک من جهة الفعل والانفعال کما هو المشاهد فی غیر الماء من السوائل المزیلة ، کالبنزین والنفط وغیرهما من المزیلات فی زماننا هذا ، التی تستعمل عادةً لتنظیف الأوساخ فتنتقل الوساخة من الید مثلاً إلی المادّة المزیلة وتؤثّر فیها فی صیرورتها کدرة فیحصل التأثیر والتأثّر هنا . وهذا بخلاف ما نحن فیه فإنّ الحالة التی تحصل حین التطهیر لم تشابه ما ذکرناه فی المزیلات ، خلافاً للشیخ رحمه الله حیث یقول بأنّ الحالة الحاصلة تکون من جهة صدق الملاقاة من الطرفین ، فلا بأس بنقل کلامه ، قال : «وأمّا قاعدة نجاسة الملاقی للنجس ، فلا ریب فی شمولها لکلّ من الماء والمحلّ ، إذ اللازم من نجاسة الماء بالمحلّ نجاسة المحلّ بالماء ، لحصول الملاقاة من الطرفین ، فالتزام عدم نجاسة الماء وإلاّ ینجس المحلّ ولم یطهّره ، لیس بأولی من التزام عدم نجاسة المحلّ به ، بل الأوّل أبعد ، لأنّ ما تأثّر من الشیء لا یؤثّر فیه ذلک الأثر . نعم ، لا یبعد أن یؤثّر فیه خلافه بنقل ما فیه إلی نفسه» ، انتهی کلامه .

فإنّه وإن کان یدلّ علی ما ذکرناه ، ولکن الظاهر أنّه أراد أن یجیب الخصم بجواب نقضی ، ولذلک عدل عنه واستدرک کلامه بقوله : نعم ، فکأنّه أراد بیان أنّ المحل الذی قد أثّر النجس فیه ، لا یمکن تأثیر ذلک الأثر _ وهو النجاسة _ فیه

ص:361

ثانیاً ، بخلاف ما یقابله من الماء ، حیث أنّه ینقل النجاسة بنفسه ، فتزول النجاسة عن المحلّ ، وهو أمر ممکن ، کما لایخفی .

فلنرجع إلی أصل الکلام ، فنقول : نعم ، إن کان الماء متنجِّساً قبل ذلک وسابقاً علیه ، وقلنا بتأثیره فی طهارة المحلّ ، یصیر حینئذٍ من قبیل تأثیر الشیء فی ضدّه أو نقیضه . ولکن ظهر ممّا ذکرنا فساد دعوی عدم الإمکان الشرعی عن شمول أدلّة الملاقاة هاهنا ، وترتیب أثر الطهارة ، لأنّه إذا لم یکن الالتزام بذلک ممنوعاً عقلاً ، فعدم امتناعه شرعاً مع وجود عموم لفظی فی أدلّة الانفعال ، وشمولها لمثل المقام بالإطلاق ، یکون بطریق أولی .

إلاّ أن یقوم دلیل مخصّص شرعی ، یدلّ علی طهارة ذلک الشیء ، کما ورد ذلک فی ماء الاستنجاء ، فإنّه یعتبر حکماً شرعیّاً تعبّدیّاً خرج عن العموم بنصّ خاصّ ، وهو مفقود فیما نحن فیه ، ولذا یعمل علی طبق عمومات الانفعال کما هو المطلوب .

ومنها : لزوم العسر والحرج ، فی الالتزام بنجاسة الغسالة ، لأنّ التحرّز عنها یوجب حرجاً شدیداً ، لاسیّما مع ملاحظة جریان الماء إلی غیر محلّ النجاسة وبالنسبة إلی المتقاطر والمقدار المتخلّف ، بل الصعوبة فی تعیین حدود المتقاطر بالانفصال والمتخلّف ، فی ملاک الطهارة والنجاسة .

هذا ، فضلاً عن أنّه یمکن دعوی انتساب المتحرّز عن تمام ماء الغسالة _ حتّی عمّا یتقاطر عن الوجه واللحیة وأمثال ذلک _ إلی الجنون ، وخارجاً عن سلک شریعة سیّد المرسلین ، کما فی «الجواهر» . ولکن نرد علیه بجوابین نقضاً وحلاًّ .

فأمّا النقض ، فنقول : ما تقول فی مثل الغسالة المزیلة للنجاسة ، التی قد قبلت بنجاستهما ؟ فلو کان صدور الفعل بنفسه مستهجنا ، فإنّه لا فرق فی ذلک بین قلّته وکثرته ، مع أنّه لا استهجان فی الاجتناب عنها أصلاً ، بل العرف عادةً یجتنبون عنها بحسب طبعهم وینفرون منها .

ص:362

وأمّا الحلّ : إن اُرید بالحرج الحرج النوعی ، فنقول : إن کان فی مقام الجعل والتشریع فلا ارتباط بنا ، فلابدّ ذلک عند ثبوته فی المقام من ملاحظة الجاعل لذلک ، والمنع عنه بالتذکّر والتنبّه ، وأنّی لکم بإثبات ذلک فی مقام الثبوت والواقع ، إذ لا دلیل إثباتی له فیه ، کما لایخفی .

وإن اُرید بالحرج الحرج الشخصی ، فهو موقوف علی ثبوته فی کلّ محل ولکلّ شخص ، وهو رافع لتکلیفه بلا إشکال ، من دون حاجة إلی الحکم بالطهارة فی جمیع الموارد .

وهکذا ثبت أنّ ما قیل فی المقام لا یسمن ولا یُغنی من جوع .

وأمّا بیان حدود ذلک فی الطهارة والنجاسة ، فهو ممّا یظهر من ملاحظة فهم العرف أیضاً ، إذ کلّ مورد یصدق علیه الانفصال فی حال الغسل ، فهو محکوم بالنجاسة ، وکلّ ما ینفصل بعد ذلک ، ولو کان بحال التقاطر فإنّه محکوم بالطهارة ، فما یتخلّف عن الید والوجه والثوب ، أو القطرات المتّصلة التی تصیر منفصلة بعد تمامیّة الغسل ، تعدّ طاهرة .

هذا ، بخلاف المیاه التی خرجت فی حال الغسل عن محلّ النجاسة ، وصارت منفصلة فهی نجسة ، ولا یلزم من ذلک محذورٌ أصلاً لا شرعاً ولا عرفاً ، بناءً علیه لا توجب هذه الاستدلالات الواهیة رفع الید عن القواعد والاُصول ، مع أنّها مذکورة فی «الجواهر» وعلیه أکثر الفحول کالمحقّق والشهید وغیرهما .

ومنها : الأخبار العدیدة التی تمسّک بها لإثبات طهارة الغسالة ، فلا بأس بالإشارة إلیها والجواب عنها ، وهی :

خبر الأحول ، أنّه قال لأبی عبداللّه علیه السلام فی حدیثٍ : «الرجل یستنجی ، فیقع ثوبه فی الماء الذی استنجی به ؟ فقال : لا بأس ، فسکت . فقال : أوَتدری لِمَ صار

ص:363

لا بأس به ؟ قال : قلت : لا واللّه . فقال : إنّ الماء أکثر من القذر»(1) .

وجه الاستدلال : أنّ الظاهر کون الحکم بالطهارة لیس من جهة وجود خصوصیّة فیه ، بل کان بملاک طهارة مطلق الغسالة ، فمنها ماء الاستنجاء ، لاسیما مع ملاحظة التعلیل حیث أراد إفهام اطراد الحکم والتعدّی لغیر ماء الاستنجاء أیضاً .

حکم ماء الاستنجاء

ومن المعلوم أنّ الأکثریة لیست من جهة کم الماء ، إذ لا مدخلیة فیه ، بل کان من جهة استهلاک القذارة فی الماء ، فیفیدان کلّ ما کان کذلک _ ولو فی غیر ماء الاستنجاء _ یکون حکمه الطهارة .

وفیه أوّلاً : نحن نتکلّم مع من یقول بنجاسة الماء القلیل بالملاقاة ، وإلاّ لما احتجنا للاستدلال علی الطهارة من التمسّک بهذه الأخبار إذ أنّ أصل الطهارة أمرٌ مفروغ منها فی کلّ المیاه القلیلة ، فبعد ذلک لابدّ للقائل بالطهارة لماء الاستنجاء :

إمّا القول بالتخصیص فی عموم دلیل انفعال الماء القلیل ، بأن لا یکون مثل هذه المیاه القلیلة المستعملة فی الاخباث نجسة ، فلازمه طهارة کلّ الغسالة المزیلة .

أو القول بالتخصیص بالنسبة إلی عموم نجاسة الغسالة ، التی کانت داخلة تحت عموم الانفعال ، فی الماء القلیل ، فلازمه حینئذٍ طهارة ماء الاستنجاء فقط .

ولا تردید فی أنّ الثانی أولی ، لأنّ أمره دائر بین التخصیص والخروج لأفراد کثیرة من عموم العام کما فی الأوّل ، أو التخصیص بالأفراد القلیلة من عموم العام ، ومن المعلوم أنّ أصالة الظهور فی عموم العام ما لم یعارضه ظهور أقوی هو المقدّم ، فیحکم بالتخصیص بالأقلّ ، وهو الثانی .

مضافاً إلی لزوم تعدّد التخصیص عرضاً فی الأوّل دون الثانی ، لأنّه إن اُرید


1- وسائل الشیعة : الباب 13 من أبواب الماء المضاف، الحدیث 2 .

ص:364

تخصیص عموم دلیل الانفعال ، فلابدّ من تخصیص الأدلّة الواردة فی نجاسة خصوص الغسالة أیضاً ، لأنّها بالخصوص تحکم بالنجاسة ، فیکون حینئذٍ فی المورد تخصیصان فی عرض واحد .

هذا بخلاف ما لو لم یخصّص عموم دلیل الانفعال بواسطة دلیل طهارة ماء الاستنجاء مباشرة ، بل ما هو یتخصّص به یکون عموم نجاسة ماء الغسالة ، فبعد تخصیصه بذلک ، یوجب تخصیص عموم أدلّة الانفعال طولاً لا عرضاً ، فلایبعد القول بأهونیة الثانی وأسهلیّته عن الأوّل ، ویتقدّم علیه .

وثانیاً : إنّ التعلیل المذکور لا یمکن أن یعتمد علی ظهوره وعمومه ، لأنّ التعلیل یوجب اطّراد الحکم لجمیع ما یکون مثله أی سواء کان أکثر کمّاً أو کیفاً من جهة الاستهلاک ، فلازمه شمول لمثل کلّ ماء قلیل لاقی نجساً أو لغیر التطهیر ، مع أنّ الخصم لا یلتزم به قطعاً ، فیلزم حینئذٍ لغویة عموم دلیل انفعال الماء القلیل إذا لاقی نجساً ، إذ قلّ ما یوجد مورد لا یکون فیه الماء کثیراً ، أو أکثر من النجس ، فیلزم تخصیصه بما إذا کان الماء أقلّ ، وهذا یوجب تخصیص الأکثر وهو مستهجن ، لقلّة الأفراد الباقیة تحت العام .

فبناءً علیه لابدّ من التصرّف فی التعلیل ، من جهة تحدید عمومه ، فحینئذٍ لِمَ لا یحدّد لخصوص مثل ماء الاستنجاء ، حتّی یکون ارتکاب خلاف الظاهر للأدلّة أقلّ من الفرض الآخر من تحدیده بالغسالة مطلقاً ، حیث تکون مخالفته للظاهر أکثر من سابقه .

ثالثاً : إمکان الاستیناس من نص الحدیث بکون الحکم مخصوصاً لماء الاستنجاء فقط ، من جهة ابتداء الإمام بالسؤال عن السائل عن سبب تعلیله وعلّته ، فإنّ إتیان کلمة (صار) مشعر بانتقال الحکم وتبدیله وصیرورته خلاف ما هو المتعارف فی غیره ، وغیر ذلک من الإیماءات والإشارات اللطیفة

ص:365

الموجودة فی کلام الإمام علیه السلام .

ومنها : الخبر الوارد فی غسالة ماء الحمّام ، وهو مرسلة الواسطی(1) الذی قد تقدّم ذکره ، من نفی البأس عمّا یصیب الثوب من الماء المجتمع فی الحمّام .

وجه الاستدلال : هو عدم الانفکاک غالباً عن النجاسة العینیّة أو الحُکمیّة فی الحمّامات الواقعة فی البلاد الکبیرة من جهة وجود الیهودی والنصرانی فیها ، فمع ذلک کلّه حَکم الإمام بطهارة المجتمع من غسالة الناس ، بقوله : لا بأس .

هذا ، ویرد علیه أوّلاً : أنّ الالتزام بإطلاق هذا الحدیث یلزم القول بطهارة الغسالة ، حتّی إذا کانت مزیلة لعین النجاسة أیضاً ، مع أنّ القائل لا یقول به ، لأنّه قد عرفت موافقته لنجاسة غُسالة الغَسلة المزیلة للإجماع القائم . فلا محیص للخصم أیضاً من التصرّف فی الحدیث بالتأویل أو التخصیص أو الحمل علی ما لا یعارض ذلک ، فلیس التخصیص بذلک أولی من الحمل علی ما لا یکون خلافاً للظاهر ، کما سیأتی إن شاء اللّه تعالی .

وثانیاً : قد احتمل الشیخ الأنصاری قدس سره إرادة صورة اتّصال الماء المجتمع بالمادّة ، کما یشهد به روایة حنّان ، قال : «سمعت رجلاً یقول لأبی عبداللّه علیه السلام : إنّی أدخل الحمّام فی السحر ، وفیه الجنب وغیر ذلک ، فأقوم وأغتسل فیتضح علی بعدما أفرغ من من مائهم ؟ قال : ألیس هو جار ؟ قلت : بلی ، قال : لا بأس»(2) .

فکأنّه أراد بیان أنّه إذا کان ماء الحمّام له مادّة ، یکفی فی الحکم بطهارة الماء ، لأنّه قد یکون متّصلاً بالمادّة کما هو المشاهد من امتلاء الحیاض الصغار عادةً وسیلان الماء من أطرافها فیوجب الجریان والاتّصال فیطهّر بعضه بعضاً .


1- وسائل الشیعة : الباب 9 من أبواب الماء المضاف، الحدیث 9 .
2- وسائل الشیعة : الباب 9 من أبواب الماء المضاف، الحدیث 8 .

ص:366

کما یؤیّده أیضاً حدیث ابن أبی یعفور ، عن أبی عبداللّه علیه السلام : «قلت : أخبرنی عن ماء الحمّام ، یغتسل منه الجنب والصبی والیهودی والنصرانی والمجوسی ؟

فقال : إنّ ماء الحمّام کماء النهر یطهّر بعضه بعضاً»(1) .

فیکون المراد ، هو أنّه لو فرض نجاسة بعض الماء بواسطة اتّصاله مع بدن النجس ودخوله فی المجتمع ، أو جریانه علی الأرض لکن بما أنّ للماء مادّة متّصلة بها فهو یوجب التطهیر .

فبعد هذا التوجیه یمکن أن یکون المراد من حدیث المروی عن بکر بن حبیب ، عن أبی جعفر علیه السلام ، قال : «ماء الحمّام لا بأس به إذا کانت له مادّة»(2) .

هو الإطلاق لماء الحمّام ، لشموله لماء الحیاض الصغار الموضوعة لأخذ المیاه منها ، والماء الخارج بعد الغسل والتطهیر أیضاً ، فیشمل الغسالة المنضوحة بما ذکرنا .

فحینئذٍ لا تکون هذه الأخبار فی صدد بیان کون غسالة النجس طاهرة أم لا ، کما هو المقصود فیما نحن فیه .

وثالثاً : نذهب إلی ما ذکرنا فی ذیل حدیث الواسطی سابقاً من صحّة نفی البأس فی الماء المجتمع وذلک من جهة عدم العلم بنجاسة من یغتسل فیه ، ویحصل الشکّ فی کون هذا الماء هل هو من غسالة النجس أو لا ؟ فقاعدة الطهارة تحکم بطهارته ، کما هو مختار الشیخ الأنصاری قدس سره .

بناءً علیه فإنّ المسألة وإن کانت خلافیة من حیث النجاسة والطهارة ، لکن الخبر یصیر دلیلاً علی الطهارة ، فلا تکون هذه الروایة من الأدلّة الدالّة علی طهارة


1- وسائل الشیعة : الباب 7 من أبواب الماء المضاف، الحدیث 7 .
2- وسائل الشیعة : الباب 7 من أبواب الماء المطلق، الحدیث 4 .

ص:367

مطلق الغسالة ، کما هو المقصود فی البحث .

وهذان الخبران الواردان فی الاستنجاء والحمّام کانا عمدة مستند القائلین بالطهارة ، وقد ثبت عدم تمامیّهما ، واللّه العالم .

ومنها : صحیح محمّد بن مسلم ، قال : «سألت أبا عبداللّه علیه السلام عن الثوب یصیبه البول ؟ قال : اغسله فی المرکن مرّتین ، فإن غسلته فی ماء حار فمرّة واحدة»(1) .

قال الجوهری : المرکن : الإجانة التی تغتسل فیها الثیاب .

وجه الاستدلال : أنّه لو کانت الغسالة نجسة ، فیلزم نجاسة المرکن ، فلا یطهر بالغسلة الثانیة ، خصوصاً مع ملاحظة عدم إحاطة الماء فی المرّة الثانیة بالثوب بمثل ما أحاطت الأولی به .

هذا بخلاف ما لو کانت الغسالة طاهرة ، فتطهّره الغسلة الثانیة .

وقد أُجیب عنه أوّلاً : بإمکان الالتزام بنجاسة الماء فی المرکن بواسطة نجاسة الثوب ، إلاّ أنّه یطهر فی الغسلة الثانیة ، بتبع طهارة الثوب ، نظیر الساجة التی یغتسل علیها المیّت ، ومثل ید الغاسل .

أمّا الخبر فلیس بصدد بیان طهارة الغسالة ونجاستها ، بل إنّما فی صدد بیان الفرق بین الماء القلیل والماء الجاری ، من لزوم التعدّد فیه دون الثانی ، کما عن الشیخ الآملی .

وثانیاً : من إمکان الالتزام بطهارة الثوب بذلک ، وإن کان الماء الباقی بعد التطهیر فی المرکن بنفسه نجساً یجب الاحتراز عنه ، نظیر طهارة الإناء الکبیر المأخوذ منه الماء ، مع کون الماء فی کلّ غسلة نجساً ، کما عرفت سابقاً .

هذا ، کما عن الشیخ الأنصاری قدس سره فی «طهارته» .


1- وسائل الشیعة : الباب 2 من أبواب النجاسات، الحدیث 1 .

ص:368

وثالثاً : لیس المراد بأن یکون المرکن مملوءاً من الماء ، ثمّ یوضع فیه الثوب النجس ، بل المراد عکس ذلک بأن یکون الثوب فی المرکن ویُصبّ علیه الماء القلیل ثمّ إخراجه عنه وعصره ، وإفراغ الماء من المرکن ، وهو کما عن الحلّی فی «دلیل العروة» .

ویحتمل أن یکون حرف «فی» فی الجملة الاُولی ، بمعنی «مع» ، کما هو مقتضی القواعد النحویة المستفادة من قوله تعالی : «قَالَ ادْخُلُوا فِی أُمَمٍ»(1) ، أی مع اُمم .

فیکون المراد فی المقام ، اغسله مع ماء المرکن مرّتین ، وفی الماء الجاری مرّة واحدة ، فحینئذٍ یناسب مع صبّ الماء علی النجس ، کما اُشیر إلیه فی بعض الأخبار فی الماء القلیل ، مثل خبر حسین بن أبی العلاء ، فی حدیثٍ ، قال : «سألت أبا عبداللّه علیه السلام عن الصبی یبول علی الثوب ؟ قال : تصبّ علیه الماء قلیلاً ثمّ تعصره»(2) .

فحینئذٍ لا یکون منافیاً لما ذهبنا إلیه من نجاسة الغسالة .

وکیف کان ، لا یعدّ الحدیث مخالفاً ومعارضاً لما قلنا ، کما لایخفی .

مع أنّ الخصم أیضاً لابدّ له من ارتکاب خلاف الظاهر بالنسبة إلی الغسالة فی الغسلة الثانیة ، لأنّ غسالة الغسلة الاُولی کانت غسالة الغسلة المزیلة ، وقد عرفت موافقة الخصم لنجاستها ، فحینئذٍ لا تطهر الغسلة الثانیة للغسالة ، إلاّ بعد الالتزام بطهارة المرکن والماء مع الغسلة الثانیة قهراً ، وإن کان لاقی النجاسة الموجودة فی الإناء والمرکن دون الصبّ ، مع أنّ الالتزام بطهارة الماء مع الملاقاة


1- سورة الأعراف : آیة 37 .
2- وسائل الشیعة : الباب 3 من أبواب النجاسات، الحدیث 1 .

ص:369

بدون الصبّ ، یکون خلافاً للمرتکز والأدلّة ، فهو خلاف للظاهر أیضاً ، کما هو واضح .

ومنها : خبر صبّ الماء علی الثوب الذی بال فیه الصبی ، وهو خبر الحسین بن أبی العلاء الذی مرّ ذکره قبل قلیل .

ومثله خبر الحلبی ، قال : «سألت أبا عبداللّه علیه السلام عن بول الصبی ؟ قال : تصبّ علیه الماء» الحدیث(1) .

وجه الاستدلال : هو أنّه یدلّ علی طهارة الغسالة ، وإلاّ کان اللازم الحکم بلزوم الانفصال لخروج ماء النجس .

وفیه : أنّ الوارد فی الخبر هو یحکم بالصبّ المستلزم لذهاب الماء عنه ، وزوال النجاسة ، فلاینافی عدم طهارة الغسالة بذلک ، ولهذا حکم بالعصر فی الخبر الأوّل ، وهو لا ینافی نجاستها ، کما لا یخفی ، وإن کان الثوب یصیر طاهراً بواسطته .

وأضعف منه التمسّک للدلالة علی الطهارة بالخبر الذی رواه أبو هریرة(2) ، وناقش ضعفه المحقّق فی «المعتبر» فی سنده ، والخبر رواه البخاری فی صحیحه ، عن أبی هریرة ، عن النبیّ صلی الله علیه و آله : «أنّه أمر بتطهیر المسجد من بول الأعرابی ، بصبّ ذنوب من الماء علیه»(3) .

والذنوب : أصغر من القِربة .

حیث استدلّ الشیخ الطوسی علی أنّ الغسالة لو کانت نجسة ، للزم تنجیس سائر المسجد بصبّ الماء علیه .

وجه الضعف : مضافاً إلی ما ضعّفه المحقّق کما عرفت ، فإنّها قضیة فی واقعة ،


1- وسائل الشیعة : الباب 3 من أبواب النجاسات، الحدیث 2 .
2- مستدرک وسائل الشیعة : الباب 52 من أبواب النجاسات، الحدیث 4 .
3- صحیح البخاری : ج1 ص45 .

ص:370

لعلّه کان من قبیل تطهیر الأرض برشّ الماء علیه وتجفیفه بالشمس ، لا من جهة تطهیره بالماء .

ومنها : خبر عمر بن یزید ، قال : «قلت لأبی عبداللّه علیه السلام : أغتسل فی مغتسل یُبال فیه ویُغتسل من الجنابة ، فیقع فی الإناء ما ینزو من الأرض ؟

فقال : لا بأس به»(1) .

وقد أجاب الحکیم قدس سره عنه بأنّه _ مضافاً لضعف سنده _ أنّه لا دلالة علی استقرار النجاسة فی الماء الذی ینزو ، حتّی یصیر نجساً ، فالتعدّی إلی ما نحن فیه وهو المستقرّ غیر ظاهر .

وفیه : أنّ أدلّة الانفعال الدالّة علی الحکم بالنجاسة عامّة تشمل کلتا الصورتین ، فما ذکره لا یخلو عن تأمّل .

کما قد أجاب عنه الحلّی بقوله : لعلّه من جهة أنّ إصابة القطرة الأرض المتنجّسة ، کانت من قبیل الشبهة المحصورة ، ولم یعلم کون القطرة من المحلّ النجس ، فلعلّها لاقت الأرض الطاهرة .

ثمّ قال : مضافاً إلی عدم اشتمال الروایة علی وجود الغسالة ، بل الموجود هو البول ، وغسالة الجنابة بتخیّل السائل کونهما نجساً .

وفیه : لا إشکال فی أنّ الترکیز فی السؤال کان من حیث الغسالة ومن جهة إصابتها الأرض المتلطّخة بالنجاسة ، لا السؤال عن نفس الغسالة التی تنزو فی الإناء وهل هی نجسة أم لا ؟ ولا من حیث إصابة نفس البول ، کما هو واضح .

بل الظاهر کون عدول السائل عن إصابة القطرات لماء الإناء إلی ما ینزو من الأرض ، یفهم خلاف استدلال القوم ، لأنّه یستفاد أن عدم نجاسة الغسالة کان


1- وسائل الشیعة : الباب 9 من أبواب الماء المضاف، الحدیث 7 .

ص:371

أمراً ثابتاً عند السائل حیث لم یسأل عنها .

غایة الأمر ، قد تخیّل صیرورة الغسالة نجسة بإصابتها الأرض الکذائیة ، فأجاب علیه السلام بأنّه لا بأس به . إمّا من جهة أنّ المتنجّس لا ینجس _ کما علیه بعض _ أو من جهة أنّه لم یعلم إصابته بما أصاب به البول ، أو ماء غسالة الجنب ، فتکون حینئذٍ قاعدة الطهارة محکمة .

ولعلّ وجه مفروغیّة عدم النجاسة للغسالة ، کانت من جهة أنّه لا یعلم کون الغاسل نجساً _ أی لم یفرض نفسه کذلک _ کما یحتمل کون موضوع نجاسة الغسالة فی صورة نجاسة بدنه مفروغاً عنه عنده نهایة الأمر ، فالمسألة من تلک الحیثیّة ساکتة ، لا یجوز التمسّک بها کما أراد الخصم .

مضافاً إلی إمکان دعوی حصول التطهیر للأرض المتنجّسة بالبول وغسالة الجنب ، بتطهیر موضع البول فی ذلک المحلّ ، وطهارة الجسم من آثار المنی الموجب لتطهیر الأرض بذلک بالغَسل مرّة أو مرّتین ، ومن ثمّ لا نعلم بوجود منجس علی الأرض وعند الشکّ نرجع إلی قاعدة الطهارة ، واللّه العالم .

ومنها : روایة إبراهیم بن عبد الحمید(1) فی إصابة الثوب بالبول ، حیث أمر الإمام بالنضح لما یصیبه البول من الثوب ، ولیس هذا الأمر إلاّ من جهة طهارة الغسالة ، وإلاّ لما أفاد النضح فیه شیئاً .

فأُجیب عنه : أنّه تطهیرٌ صوری تعبّدی ، ولیس من جهة نجاسته حتّی یستفاد طهارته .

هذا غایة ما یتوهّم الاستدلال به لطهارة الغسالة ، وقد عرفت عدم تمامیّتها .

فالأقوی عندنا ، هو نجاسة الغسالة مطلقاً ، سواء کانت للغسلة المزیلة للعین


1- وسائل الشیعة : الباب 5 من أبواب النجاسات، الحدیث 2 .

ص:372

أو لم تکن ، وسواء تغیّرت أو لم تتغیّر . واللّه العالم .

هاهنا فرعان فقهیّان :

فی حکم استعمال الغسالة علی القول بطهارتها

الفرع الأوّل : أنّه لو قلنا بنجاسة الغُسالة کما اخترناها ، فلا إشکال فی عدم جواز استعمالها فی رفع الحدث والخبث .

والاحتمالات الثلاث التی ذکرها صاحب «الجواهر» للماء المتخلّف علی الثوب والبدن : بأنّه هل یجوز رفع الحدث والخبث به مطلقاً ؟

أو تکون طهارته مفروضة دون المطهّریة ، لأنّه بمقتضی قاعدة العسر والحرج حُکم بالطهارة ، فیکتفی بقدر الضرورة وهو الطهارة بخلاف الطهوریّة أم لا ؟

أو التفصیل بین الحدث _ بعدم الجواز _ والخبث بالجواز .

فإنّ جمیعها یمکن فرضها وتصویرها ، لکنّها قلیلة الوقوع ، خصوصاً فی الأجسام الصیقلیة .

ولکن إذا أمکن تحصیل الماء بعصر الثوب ، فحینئذٍ لا إشکال عندنا فی طهارته بمقتضی الأدلّة ، فیجوز التطهیر به مطلقاً ، کما کان طاهراً حقیقة ، کما لایخفی .

إنّما الکلام والإشکال فی القول بطهارة الغسالة مطلقاً ، أو المتعقّبة للطهارة ، فهل هو طاهر ومطهّرٌ ، أو طاهر ولکنّه مطهّر للخبث فقط دون الحدث ، أو طاهر بلا طهور مطلقاً سواءٌ للحدث والخبث ؟

ذهب إلی کلّ واحد منهما جماعة .

فقد اختار الأوّل صاحب «الحدائق» والأردبیلی والخوئی .

والثانی الشیخ الأنصاری قدس سره ، والمحقّق الهمدانی ، والحکیم ، والحلّی .

والثالث صاحب «الجواهر» قدس سره .

والحقّ _ الموافق للاحتیاط _ هو مختار الشیخ ، أی القول الثانی ، لأنّه بالنسبة إلی رفع الحدث یقال بعدم الجواز من جهة الإجماع المدّعی الصادر من الفحول ،

ص:373

کالمحقّق والعلاّمة فی «المعتبر» و«المنتهی» ، وصاحب «الذخیرة» و«المعالم» ، وقد اعتمد علیه فحول المتأخِّرین کالشیخ الأنصاری وأکثر المعاصرین .

ومن دلالة خبر عبداللّه بن سنان الذی تقدّم ذکره(1) من النهی من التوضّؤ بما یغسل به الثوب ، أو یغتسل به الجنب ، وإن نوقش فی سنده من جهة أحمد بن هلال ، وقد مضی شرحه . کما نوقش دلالته أیضاً ، من احتمال أن یکون النهی بواسطة قداسة الوضوء والغسل مثلاً .

ولکن لا ینافی أن یکون النهی تحریمیّاً أیضاً ، بحسب ظهور النهی فیه ، ولعلّه لذلک أفتی الشیخ وغیره بعدم جواز رفع الحدث به ، کما هو مقتضی الاحتیاط ، بل هو مقتضی استصحاب بقاء الحدث أیضاً ، لأنّه بعد التوضی ء والاغتسال یشکّ فی حصول الطهارة من جهة النهی ، فالأصل یقتضی عدمها .

هذا کلّه بالنسبة إلی رفع الحدث بواسطة ماء الغسالة الطاهرة .

وأمّا بالنسبة إلی رفع الخبث بذلک :

فالظاهر هو الجواز ، للإطلاقات الدالّة علی أنّ الماء الطاهر مطهّر أیضاً .

ودعوی انصرافها لمثل غیر هذا الفرد ، غیر مسموعة ، لعدم وجود شاهد علیها.

فی حکم ملاقی الغسالة علی القول بنجاستها

وتوهّم المنع من خبر عمّار الساباطی الذی قد تقدّم شرحه وذکر شرطه(2) ، حیث أمر الإمام بإفراغ الماء من الإناء ثلاث مرّات ، ولم یکن ذلک إلاّ للمنع عن استعماله ثانیاً فی الغسل ، ولو بصبّه فی الإناء مرّة ثانیة وثالثة ، أو بتحریکه فی الإماء مرّتین بعد الأولی .

مدفوع ، بأنّ إرادة إدارة الماء فی نفس الإناء لا یساعد مع تعدّد الغسلة ، إذ


1- وسائل الشیعة : الباب 9 من أبواب الماء المضاف، الحدیث 13 .
2- وسائل الشیعة : الباب 53 من أبواب النجاسات، الحدیث 1 .

ص:374

الغسل المتعدّد لا یتحقّق إلاّ بالإفراغ .

وإن اُرید إفراغه وجمعه فی الخارج ثمّ صبّه ثانیاً ، فهو أمر غیر متعارف عند الناس ، فلم یکون الحدیث ناظراً للمنع عن هذا ، فنعمل فی ذلک علی طبق القاعدة ، وهی التمسّک بالإطلاقات ، وبها یندفع الاستصحاب الذی ادّعاه صاحب «الجواهر» من بقاء الخبث بعد التطهیر به .

فالأحوط عدم جواز رفع الحدث بالغسالة ، وإنْ قلنا بطهارتها ، بخلاف رفع الخبث ، فإنّه یجوز .

ولکن قد عرفت مختارنا فی الغسالة من الحکم بالنجاسة مطلقاً .

الفرع الثانی : حیث اخترنا نجاسة الغسالة ، فهل نجاستها تکون نظیر نجاسة الشیء قبل الغسل ، فیکون حینئذٍ حکم الملاقی مع تلک الغسالة ، حکم ملاقی تلک النجاسة مع وحدة الغسل وتعدّده ، فلازم ذلک أنّ الغسالة البولیة لابدّ لملاقیها التعدّد ، ولو کانت الغسالة من الغسلة الأخیرة کما کان کذلک فی الاُولی أیضاً ؟

أو تکون نجاستها کنجاسة المحلّ بعد تلک الغسالة ، فلازم ذلک أنّه إذا کانت الملاقاة مع غسالة الغسلة الاُولی ، فیجب فی الملاقی غسلة واحدة ، وإن کانت من الغسلة الثانیة فلا تجب غسلة أصلاً ، فتکون النتیجة التفصیل بین غسالة البول مثلاً وغیرها ، حیث أنّه یجب الحکم بنجاستها إذا کانت من الغسلة المتعدّدة أو الاُولی ، وبین غیر البول ، أو غیر الغسلة الأولی من البول بطهارتها حینئذٍ ، لأنّ المحلّ بعد الغسلة الثانیة صار طاهراً .

وثالثة : أن یقال بکون حکمها حکم مطلق النجاسات ، من وجوب الوحدة _ علی قول _ والتعدّد علی قول آخر أم لا ؟

وهذا هو الأقوی ، کما علیه أکثر الفقهاء ، _ کصاحب «الجواهر» _ بجعله أقوی ، وإن قوی وجه الأوّل أیضاً _ وصاحب «مصباح الفقیه» حیث جعله أقوی ،

ص:375

وإنْ کان الأشبه عنده هو الأوّل ، وجماعة من المعاصرین وممّن قارب عصرنا کصاحب «العروة» والبروجردی ، والخوئی ، والحکیم ، والخمینی ، خلافاً للشاهرودی ، والاصطهباناتی ، والگلپایگانی ، حیث یقولون بوجوب الاحتیاط والتعدّد فی غسالة الغسلة الاُولی من البول .

وقد استدلّوا علی ذلک _ مضافاً إلی قیام الإجماع _ بعدم صدق عنوان الولوغ لو سال لعاب الکلب فی إناء فلا یجب التعفیر فکذلک لا یصدق ذلک العنوان لغسالة الماء الذی یستعمله فی تطهیر الولوغ ، ولهذا لا یجب فیه التعفیر ، فکذلک لا یجب فیه التعدّد ، إذا کان من غسالة الغسلة البولیة ، إذ لا یطلق علیها أنّه تنجّس بالبول ، حتّی تشملها الأدلّة الواردة فی ملاقی البول .

فإن قلت : بأنّ ذلک مشتمل لأجزاء البول وعینه ، فیصدق أنّه تنجّس بنفس البول ، کما لو لاقاه مع نفس البول ، فیجب فیه التعدّد ، بخلاف الولوغ فإنّه حکم شرعی مستقلّ ، تابع لتحقّق ذلک فی المورد شرعاً .

هذا کما فی «الجواهر» . فیحکم ملاقی الغسالة علی القول بنجاستها

قلت : أوّلاً : قد عرفت سابقاً أنّه غالباً ما یکون البول قد جفّ بعد فترة قصیرة فتکون نجاسة موضعه نجاسة حکمیة .

فإن قلنا بالتفصیل بین صورة الجفاف _ من عدم وجوب التعدّد ولو فی غسالة الغسلة الاُولی _ وصورة ما لو کان رطباً _ من وجوب التعدّد فیه _ فهو مردود بالإجماع المرکّب ، إذ لا قائل من الفقهاء بهذا التفصیل ، کما لایخفی .

وثانیاً : لا یقال إنّ الغسالة تنجس لکن لا لملاقاتها للبول بل لملاقاتها مع المتنجّس .

لکنّه لا یخلو عن تأمّل ، لأنّها تکون جزءً من أجزاء ما لاقی بولاً ، فکأنّها بنفسها لاقت ، کما لایخفی .

هذا فضلاً عن أنّه تشمل إطلاقات النجاسة لمثل الغسالة .

ص:376

«فی حکم ماء الاستنجاء من الطهارة وغیرها»

عدا ماءالاستنجاء، فإنّه طاهر مالم یتغیّر بالنجاسة أوتلاقیه نجاسة من الخارج(1).

وبعبارة اُخری : إنّ أدلّة انفعال الماء القلیل تثبت النجاسة لها ، وأمّا کونها مثل البول من لزوم التعدّد فلا . فلیس لنا طریق لإثبات حکم التعدّد إلاّ بإحراز شمول أدلّة البول لها ، وقد عرفت خلافه .

فإذا ثبت تطابق نجاستها وضرورتها کنجاسة سائر المتنجّسات ، فتشملها حینئذٍ أدلّة التطهیر ، الشاملة لتطهیر سائر المتنجّسات من کفایة غسلة واحدة مثلاً لو قلنا بها ، أو لزوم التعدّد إنْ قلنا به .

فبذلک یندفع حکم استصحاب بقاء النجاسة بعد الغسلة الاُولی لملاقی الغسالة ، إذ هو أصل فیما لا یکون فی مورده دلیل اجتهادی .

نعم، لو لم یکن ما ذکرنا من الأدلّة تامّاً، لکان الاستصحاب مقدّماً علی قاعدة الطهارة.

مضافاً إلی إمکان التمسّک لکفایة الوحدة فی غسلتها بإطلاق حدیث عیص بن القاسم(1) _ لو أغمضنا النظر عن الإشکال الوارد فی سنده ودلالته کما عرفت تفصیله ، فلا نعید ، _ حیث حکم بلزوم غسل ما أصاب من ماء طشتٍ کانت فیه غسالة البول أو القذر .

(1) ولا یخفی علیک أنّ الحکم بعدم البأس فیه ، وعدم تنجیس ما یلاقیه قد قام الإجماع علیه تحصیلاً ومنقولاً ، نصّاً وظاهراً ، علی لسان جملة علمائنا ، بل علیه نصوص مستفیضة ومعتبرة ومقبولة عند الأصحاب ، فلا بأس حینئذٍ


1- وسائل الشیعة : الباب 9 من أبواب الماء المضاف، الحدیث 14 .

ص:377

بالإشارة إلیها من ذکر النصوص ومقدار دلالتها ، فنقول :

منها : مرسلة یونس بن عبد الرحمن ، عن رجلٍ ، عن الغیر (فی «المستمسک» : عن الغزار) أو عن الأحول ، أنّه قال لأبی عبداللّه علیه السلام ، فی حدیث : «الرجل یستنجی ، فیقع ثوبه فی الماء الذی استنجی فیه ؟ فقال : لا بأس ، فسکت . فقال : أوتدری لِمَ صار لا بأس به ؟ قال : قلت : لا واللّه . فقال : إنّ الماء أکثر من القذر»(1) .

فی حکم ماء الاستنجاء

فإنّه یدلّ علی عدم البأس فی ملاقاة الثوب لماء الاستنجاء . والظاهر عدم خصوصیّة للثوب فی ذلک ، فکذلک یکون الحکم للبدن وغیره ، فإنّه یکون من باب إلغاء الخصوصیّة . کما فی الرجل یشکّ بین الثلاث والأربع لغیره من المرأة .

بل ذکر عدم البأس فی الثوب ، مع کونه فی الإصابة أقلّ ، ففی مثل البدن الذی تکون الإصابة ووقع النضح علیه أکثر یکون عدم البأس بطریق أولی .

وقد قیل : بأنّ هذا الحدیث _ کما فی «المستمسک» _ أقوی دلیل علی الطهارة مع نفی البأس ، لاشتماله علی التعلیل ، لأنّه لو لم یکن مشتملاً علیه لأمکن القول بکون المراد من نفی البأس هو العفو عن النجاسة ، نظیر العفو عن الأقلّ من الدرهم من الدم فی الصلاة ، لرفع العسر والحرج ، من جهة کثرة الابتلاء فی کلّ الأوقات ، فمع ملاحظة التعلیل یکون ظهوره فی الطهارة قویّاً .

إلاّ أنّ الإشکال وهو أنّ التعلیل فی کلّ مورد یوجب تعمیم الحکم لغیر مورد النصّ أیضاً ، فکأنّه أراد إفهام أنّ کلّ مورد یکون الماء فیه أکثر من القذر حکمه کذا. فیحکم ماء الاستنجاء

مع أنّک قد عرفت فی الغسالة القلیلة من الحکم بنجاستها ، مع أنّ نوعها یکون ماءها أکثر ، فمع خروج کثیر من الموارد من أفراد الماء القلیل ، وانحصاره فی


1- وسائل الشیعة : الباب 13 من أبواب الماء المضاف، الحدیث 2 .

ص:378

خصوص ماء الاستنجاء ، یوجب استهجان التعلیل ، إذ لم یحکم بمقتضی عموم التعلیل فی غیر مورد النصّ .

اللّهم إلاّ أن یقال : إنّ مورد التعلیل لا ینحصر فی خصوص الماء القلیل ، حتّی یوجب ذلک ، بل لابدّ أن یقتضی إطلاقه شمول الحکم لجمیع الموارد التی تکون المیاه فیها کثیرة ، وأکثر من القذارة کالکرّ والجاری والمطر ، أمّا القلیل فقد خرج بمقتضی أدلّة عموم إنفعال الماء القلیل _ وهو فی غیر ماء الاستنجاء للنصّ _ فیبقی الباقی تحت عموم التعلیل ، فلا استهجان لبقاء أفراد کثیرة تحته .

فحینئذٍ دعوی ظهور عدم البأس بنفسه علی الطهارة عند العرف ، خصوصاً مع ملاحظة ما یترتّب علیه من الآثار ، من الدخول فی الصلاة مع هذا الثوب المتلطّخ وإصابة الید وغیر ذلک ، یفهمنا علی نحو القطع بکون المراد من نفی البأس هو الطهارة ، لا خصوص العفو فی المورد ، وإلاّ کان علی الإمام علیه السلام البیان فی المقام للحاجة إلیه ، کما أنّه یستفاد النجاسة من لفظ (البأس) الواردة فی هذه الموارد بمناسبته الحکم مع الموضوع .

والإشکال فی سندها بإرسالها ، وعدم تلقّی مرسلات یونس بن عبد الرحمن _ الذی کان من أصحاب الإجماع _ بالقبول عند القوم _ کابن أبی عمیر_ خصوصاً مع مجهولیّة (الغیر) أو (الغزار) غیر ضائر هاهنا ، للقطع بعمل الأصحاب بها ، ولو من جهة عدم البأس ، بمعنی العفو عن نجاسته ، خصوصاً إذا استظهرنا الطهارة من غیرهما من أخبار الباب .

نعم ، لو لم تدلّ تلک الأخبار إلاّ علی العفو ، واُرید إثبات الطهارة منها بالخصوص فی قبال القول الآخر ، فإنّه لا یخلو عن تأمّل .

إلاّ أنّ الشهرة العظیمة المتحقِّقة فی طرف الطهارة ، یوجب اطمئنان النفس علی العمل بمقتضاه ، وهی جابرة لضعف سندها ، کما لایخفی .

ص:379

ومنها : صحیح محمّد بن النعمان ، عن أبی عبداللّه علیه السلام ، قال : «قلت له : أستنجی ثمّ یقع ثوبی فیه وأنا جنب ؟ فقال : لا بأس به»(1) .

فإنّه مضافاً إلی اشتماله علی (عدم البأس) لماء الاستنجاء ، یدلّ علی عدم البأس إذا کان رأس الذکر ملوّثاً بالمنی .

وأمّا احتمال أن یکون ذکر الجنابة لبیان شرح حاله بحسب المتعارف ، من دون عنایة بخصوص الجنابة .

أو احتمال کون توهّم دخالة القذارة المعنویة من الجنابة فی تنجّس الماء .

أو احتمال کون الاستنجاء فیه لخصوص المنی فقط ، دون البول والغائط ، _ کما احتمله بعض علی ما نقله صاحب «الحدائق» ، والأوّل قویّاً کما فی «مصباح الهدی» ، أو الثانی علی ما نُقل .

هذه الاحتمالات ضعیفة عندنا ، ولا استبعاد عند العرف أن یکون منشأ الاحتمال والسؤال هو بیان أهمّیة الأمر فی وجود نجاسة المنی دون البول والغائط ، خصوصاً مع ملاحظة استحباب استبراء المنی بالبول ، حیث توجب شدّة هذا الاحتمال .

فیکون الخبر دلیلاً علی طهارة ماء الاستنجاء ، وإن کان مع البول نجاسة اُخری تخرج عادةً من المجری ، ولا یبعد الالتزام به ، کما سیأتی إن شاء اللّه .

فوجه الاستدلال به فی المقام ، هو ما عرفت من الاستظهار العرفی من کلمة (عدم البأس) مضافاً إلی الملازمة بین الطهارة وبین عدم البأس لملاقیه ، کما کانت الملازمة ثابتة فی البأس بالملاقاة مع النجاسة . واحتمال کون نفی البأس من جهة التخصیص لأدلّة منجّسیة المتنجّس ، کما احتمله بعضٌ . فیحکم ماء الاستنجاء


1- وسائل الشیعة : الباب 13 من أبواب الماء المضاف، الحدیث 4 .

ص:380

بعید جدّاً ، بل المراد هو الطهارة ، والتخصیص لعموم أدلّة الماء القلیل ، وإن کانت من جهة رفع الحرج من المکلّف ، واللّه العالم .

ومنها : صحیح عبد الکریم بن عتبة الهاشمی ، قال : «سألت أبا عبداللّه علیه السلام عن الرجل یقع ثوبه علی الماء الذی استنجی به ، أینجّس ذلک ثوبه ؟ قال : لا»(1) .

فإنّ السؤال عن تنجیسه لیس إلاّ من جهة أنّه توهّم کون غسالة ماء الاستنجاء تکون نجسة مثل سائر الغسالات من النجاسة ، من جهة أنّ انضمام قاعدة السرایة ، إلی قاعدة منجسّیة کلّ متنجّس مع الرطوبة ، توجب نجاسة الثوب .

فأجاب علیه السلام بقوله : لا ، فالنفی لیس لخصوص أنّه نجس لکنّه غیر منجس ، بل النفی متعلّق بأصل الموضوع ، أی لا یکون نجساً حتّی یوجب بمقتضی القاعدة سرایة النجاسة .

فاحتمال کون نفی البأس بلحاظ نجاسة الثوب ، أی کان نجساً لکنّه معفوّاً ، أو نفی البأس صدر من جهة ماء الاستنجاء ، أی أنّه نجس إلاّ أنّه لا یوجب تنجیس للملاقی ، تو صدر نفی البأس بلحاظ العفو عن نفس ماء الاستنجاء وأنّه نجس لکنّه معفو ، خلاف للظاهر جدّاً .

مع أنّ الحکم بالنجاسة ، مع عدم ترتیب شیء من آثار النجاسة علیه لا یخلو عن بشاعة ، کما هو واضحٌ لمن کان له أدنی تأمّل .

فدلالة هذه الأخبار علی الطهارة ، مع اشتمال کلّ لخصوصیّة موضحة لما قلناه ، قویّة جدّاً .

ومنها : مصحّح ابن أبی عمیر ، عن ابن اُذینة ، عن الأحول _ یعنی محمّد بن النعمان _ قال : «قلت لأبی عبداللّه علیه السلام : أخرج من الخلاء ، فأستنجی بالماء ، فیقع


1- وسائل الشیعة : الباب 13 من أبواب الماء المضاف، الحدیث 5 .

ص:381

ثوبی فی ذلک الماء الذی استنجیت به ؟ فقال : لا بأس به»(1) .

وفیما رواه الصدوق عن محمّد بن النعمان مثله ، وزاد : (لیس علیک شیء) .

طریقة الاستدلال به کسابقه ، مع زیادة وهی أنّ الحکم بالطهارة من الماء الذی وقع فی الکنیف الذی یکون نجساً عادةً ، _ أی أرض الکنیف الذی یحکم العلماء فیها بتقدّم حکم الظاهر وهو النجاسة عن الأصل وهو الطهارة من جهة الإطلاق وترک الاستفصال _ فمن ذلک یفهم توسعة الشارع فی أمر النجاسة والطهارة . وهذا هو معنی الخبر المنقول بأنّ الشریعة سهلة سمحة .

بل دلالته علی الطهارة تقوی من غیرها إذا لاحظنا الزیادة الواردة فی ذیلها علی ما نقلها الصدوق بقوله : (لیس علیک شیء) حیث یفید أنّه لا یتوجّه إلیه حکم من أحکام النجاسة أصلاً . مایشترط لطهارة ماء الاستنجاء

ومنها : مرسلة الکاهلی ، عن رجل ، عن أبی عبداللّه علیه السلام قال : «أمرّ فی الطریق ، فیسیل علیَّ المیزاب فی أوقاتٍ أعلم أنّ الناس یتوضّؤون ؟

قال : لیس به بأس ، لا تسأل عنه»(2) .

فی «وسائل الشیعة» : أنّ المراد من الوَضوء الاستنجاء . ولعلّ وجه هذا المعنی هو من جهة أنّ السائل لم یسأل عنه لو کان یعلم کونه ماء الوضوء المتعارف ، إذ لیس هو بنجس أصلاً ، حتّی یتوهّم ویوجب السؤال ، ولم یحتمل أحد نجاسته ، فلا یکون مراده من سؤاله إلاّ من جهة احتمال کونه ماء الاستنجاء ، کما کان الأمر متعارفاً فی تلک الأزمنة من التبوّل والاستنجاء علی أسطح الدور ، وبرغم ذلک حکم بنفی البأس ، فهو وإن کان یحتمل أن یکون حکمه بالطهارة من باب القاعدة


1- وسائل الشیعة : الباب 3 من أبواب الماء المضاف، الحدیث 1 .
2- وسائل الشیعة : الباب 3 من أبواب الماء المضاف، الحدیث 3 .

ص:382

فی باب الطهارة ، لعدم العلم التفصیلی کون الجاری من المیزاب هو ماء الاستنجاء ، _ وإن یعلم إجمالاً _ إلاّ أنّه یحتمل أن یکون مراد الإمام من الحکم بطهارته ، من جهة کون الماء والاستنجاء طاهراً ، کما لایخفی .

بل لعلّ وجه إعراض الأصحاب عن هذا الحدیث من جهة إجماله فی جهة الحکم ، من کونه للقاعدة أو للاستنجاء .

فثبت من جمیع الأخبار _ إذا لاحظنا بعضها مع بعض _ کون المراد من نفی البأس هو الطهارة ، فلا یلزم حینئذٍ إلاّ تخصیص عموم أدلّة انفعال الماء القلیل بملاقاته النجس ، وتخصیص ما دلّ بالخصوص علی نجاسة غسالة الماء القلیل ، حیث یشمل عمومه لماء الاستنجاء .

فحینئذٍ یبقی دلالة الأدلّة الدالّة علی أنّ کلّ متنجّس ینجس ، وهکذا عموم أدلّة عدم جواز أکل المتنجّس بالملاقاة وشربه ، وعدم جواز حمله فی الصلاة والطواف ، وعدم جواز استعماله فی رفع الخبث باقیاً ، بخلاف صورة الحکم بالنجاسة .

فإذا دار الأمر بین أحد الأمرین ، کان الأوّل أولی ، لقلّة التخصیص أوّلاً ، وعدم ترتیب جمیع آثار أدلّة انفعال الماء القلیل هنا _ لو سلّمنا کونه نجساً معفوّاً_ ثانیاً .

فعلی أیّ حال ، یکون التخصیص بالنسبة إلی بعض آثاره ، مثل عدم تنجیسه بالملاقاة ، وارداً علی عموم أدلّة الانفعال بالنسبة إلی ماء الاستنجاء .

هذا تمام الکلام فی طهارة ماء الاستنجاء .

فالحکم بطهارته عندنا قویّ .

فإذا عرفت الحکم بطهارته ، یتفرّع علیه فروع کثیرة ، لا بأس بصرف الکلام إلیها :

الفرع الأوّل : یشترط فی طهارته عدم تغیّره بأحد أوصاف النجاسة ، کما صرّح به المصنّف ، بل علیه المشهور ، بل عن بعضهم أنّه إجماعی ، بل عن الشیخ الأکبر أنّ العمدة فی الدلیل هو الإجماع ، بل لم نجد خلافاً من أحد من المتقدِّمین والمتأخِّرین .

ص:383

فبعد ثبوت الإجماع ، یمکن أن یستدلّ لنجاسة المتغیّر من الاستنجاء ، بعدّة اُمور : مایشترط لطهارة ماء الاستنجاء

أحدها : دعوی انصراف أخبار الاستنجاء عن مثل المتغیّر ، أی لا إطلاق لها فی ذلک .

هذا ، لکنّه لا یخلو عن منع ، لعدم ذکر التفصیل فیها ، مع أنّه قد یتّفق _ ولو نادراً _ خصوصاً إذا کان الماء قلیلاً متدرّجاً فی الصبّ ، ولکن الإنصاف الإشکال فی وقوعه خارجاً .

ولعلّه لذلک علّل فی خبر الأحول بکثرة الماء علی القذر ، بحسب المتعارف فی الاستنجاء ، وإلاّ کان الإطلاق شاملاً له .

ثانیها : الاستفادة من مفهوم التعلیل المذکور ، لأنّ کثرة الماء لا خصوصیّة فیها إلاّ من جهة وجود الملازمة بین الکثرة واستهلاک النجاسة فیه ، فیکون مفهومه أنّه لو کانت القذارة کثیرة ففیه بأس .

فهذا وجه قویّ لو عملنا بذلک الخبر ، کما قد یشاهد عمل الأصحاب به والاستناد إلیه ، لأنّ التعلیل کما أنّه یکون معمّماً للحکم ، من حیث المنطوق ، بحسب استظهار العرف ، هکذا یکون مخصّصاً فی طرف مفهومه ، فإذا قیل : «لا تأکل الرمّان لأنّه حامض» یفهم منه أنّه لو لم یکن حامضاً جاز أکله .

ولعلّه لذلک استدلّ به الشیخ الأعظم ، والحکیم ، وغیرهما ، کما لایخفی .

ثالثها : فحوی الأدلّة نصّاً وفتوی من نجاسة ماء الکرّ ، والجاری ، والمطر ، وماء البئر ، إذا تغیّر ، فماء الاستنجاء _ الذی یکون قلیلاً _ ینجس بطریق أولی .

والإطلاقات الواردة الدالّة علی طهارته ، غیر ناظرة إلی تلک الصورة ، لأنّها قد عرفت ندرة تحقّقها ، خلافاً لمن زعم کثرة وقوعها فی أوّل صبّ الماء علی الغائط مثلاً ، مع أنّه محلّ تأمّل ، إذ یحمل عین النجاسة مع نفسه ، وأمّا تغیّره بأحد أوصافه بعید جدّاً .

ص:384

رابعها : لو سلّمنا شمول إطلاقات المورد لصورة التغیّر ، فمقتضی ذلک هو الطهارة ، سواء کان متغیّراً أم لا .

ومقتضی إطلاقات أدلّة نجاسة الماء المتغیّر هو نجاسته ، سواء کان ماء الاستنجاء أو غیره ، فیتعارضان بالعموم والخصوص من وجه ، ومورد الاجتماع یکون محلّ التعارض بینهما ، فیقدّم حینئذٍ أخبار نجاسة المتغیّر من جهة رجحانها .

مضافاً إلی کونها آبیة عن التخصیص ، بحسب لسان أدلّتها ، فتکون دلالة تلک الأدلّة علی العموم وضعیّاً وبدلالة أداة العموم کما فی صحیح حریز بن عبداللّه ، عن أبی عبداللّه علیه السلام ، قال : «کلّما غلب الماء علی ریح الجیفة ، فتوضّأ من الماء واشرب ، فإذا تغیّر الماء وتغیّر الطعم ، فلا تتوضّأ منه ولا تشرب»(1) .

وخبر محمّد بن إسماعیل ، عن الرضا علیه السلام ، قال : «ماء البئر واسع لا یفسده شیء ، إلاّ أن یتغیّر ریحه أو طعمه» الحدیث(2) .

حیث أنّ فیه إشعار ، مع أنّ ماء البئر کان واسعاً لا یفسده شیء ، لأنّ له مادّة ، کمنا وقع فی ذیله وبرغم ذلک ینجسه التغیّر ، فغیره _ مثل ماء الاستنجاء _ یکون تنجّسه بطریق أولی .

ورجحانها بقیام الإجماع علی وفقه ، فهو أیضاً تعدّ من المرجّحات الخارجیّة الموجبة لتقدیم أحد الخبرین المتعارضین ، _ کما قرّر فی الاُصول _ بعد فقد المرجّحات الداخلیة . مایشترط لطهارة ماء الاستنجاء

فنجاسة الماء المتغیّر من الاستنجاء أمرٌ ثابت ومسلّم عندنا .

ولا فرق فی ذلک بین تغیّر الماء فی أوّل الصبّ أو بعده ، إلاّ أنّه مع استمرار صبّ الماء یتطهّر .


1- وسائل الشیعة : الباب 3 من أبواب الماء المطلق، الحدیث 1 _ 12 .
2- وسائل الشیعة : الباب 3 من أبواب الماء المطلق، الحدیث 1 _ 12 .

ص:385

واحتمال أنّه بعدما تنجّس الماء بالتغیّر ابتداءً ، فهی نجاسة خارجیة موجبة لتنجیس أطراف المخرج ونفسه ، فیستلزم صیرورة ماء الاستنجاء نجساً ، کما ذکره الشیخ الأکبر قدس سره ، فإذا وقع علی الأرض یوجب نجاستها ، وتنجیس کلّ ماء وقع بعده ، لکونه ماء استنجاء مشتمل علی نجاسة خارجیّة .

غیرُ وجیه ، لما قد عرفت من ندرته ، وعدم وقوعه إلاّ فی موارد نادرة ، خلافاً للشیخ حیث ادّعی وقوعها غالباً .

نعم ، لا یبعد وقوعه مع عدم یبوسة المزاج ، هذا أوّلاً .

وثانیاً : لو سلّمنا غالبیة ذلک ، فمع هذا قد أطلقوا الحکم بطهارته من دون تنبیه علیه مع کثرة ابتلاء الناس .

فالحکم بنجاسته إذا تغیّر یکون فی غایة البُعد .

وإن حُمل الإطلاقات علی صورة عدم التغیّر ، فیساعد مع ندرته کما احتملناه ولکن لا یساعد مع فرض الغالبیة ، لاستلزامه الحمل علی الفرد النادر _ وهو ما لو لم یتغیّر _ وهو بعیدٌ جدّاً ، کما اعترف بذلک الشیخ الأعظم قدس سره ، ومن هنا التزم بطهارة المحلّ ، ونجاسة الماء المتغیّر الباقی بتغیّره بعد وقوعه علی الأرض ، وهو واضح لمن تأمّل فی الأدلّة .

الفرع الثانی : أن لا تلاقیه نجاسة من خارج ، کما صرّح به المصنّف وغیره ، بل لم أعرف ولم نجد خلافاً من أحد من الفقهاء ، ولم ینسب ذلک لأحدهم .

والظاهر انقطاع هذا الاستثناء ، لوضوح عدم صدق الماء المستعمل فی هذه النجاسة کونه ماء استنجاء ، کما لایخفی .

نعم ، قد یقع البحث فی أنّ :

الأجسام الطاهرة التی لاقت موضع النجس من مخرج البول والغائط ، فصارت متنجِّسة .

ص:386

أو الأشیاء النجسة الخارجة مع أحد الأخبثین من البول والغائط .

بل ویمکن ذکر مثال للقسمین ، کخروج الوذی والودی حال البول أو قبله ، وکان أثره باقیاً ، أو بعده قبل تطهیره مثالاً للطاهر .

أو خروج المنی أو الدم مع البول أو قبله أو بعده مثالاً للنجس . وهکذا فی الغائط من خروج الدود أو بعض الأشیاء الطاهرة معه أو بعده ، قبل تطهیره .

أو الدم قبله أو معه ، أو بعده قبل التطهیر .

هل هذه الاُمور الحادثة توجب رفع الطهارة عن ماء الاستنجاء أم لا ؟

قد یفهم التردید بدواً من کلام صاحب «الجواهر» فی الأجسام الطاهرة ، وإن اختار نجاسته معها بعد ذلک .

بل قد نقول بإمکان استفادة طهارة ماء الاستنجاء ، حتّی مع خروج شیء من النجس مع أحد الأخبثین ، من صحیح محمّد بن النعمان ، عن أبی عبداللّه علیه السلام ، قال : «قلت له : أستنجی ثمّ یقع ثوبی فیه ، وأنا جنب ؟ فقال : لا بأس به»(1) .

بناءً علی الاحتمال الذی قوّیناه من قوله : «أنا جنب» ، بأنّه أراد کون ذکره ملوّثة بالمنی مثلاً ، وبرغم ذلک أجاب بأنّه لابأس به .

بل قد یؤیّد ذلک بالإطلاق الموجود فی الأخبار ، من الطهارة لماء الاستنجاء من دون تفصیل بما إذا لم یکن ملوّثاً بمثل المنی الذی یتعارف تواجده فی أطراف الذکر حالة الجنابة وبعدها .

ولکن الإنصاف عدم الاعتماد علی مثل هذا الاحتمال ، لأنّه قد عرفت بأنّ حکم طهارة ماء الاستنجاء ، إنْ قلنا بأنّه موافق للأصل والقاعدة ، یعنی حکمنا بطهارة غسالة المتنجس مطلقاً ، فحینئذٍ یمکن الاستدلال فی هذه الموارد ، بعد


1- وسائل الشیعة : الباب 13 من أبواب الماء المضاف، الحدیث 4 .

ص:387

صدق عنوان ماء الاستنجاء أو غیره علیها ، أنّه طاهر ، لعدم الفرق بین العنوانین فی الحکم بالطهارة ، فلا وجه لهذا البحث أصلاً .

وأمّا إذا فرضنا نجاسة ماء الغسالة ، فقد خرج ماء الاستنجاء عن شمول الأصل ، فلابدّ حینئذٍ من الاقتصار فیما خالف الأصل علی موضع الیقین ، فکلّ ما اُحرز أنّه یصدق علیه ماء الاستنجاء ، ویشمله إطلاق دلیله قطعاً ، فهو داخل فی الطهارة .

وأمّا إذا شکّ فی أصل صدق العنوان ، أو أحرزنا الصدق والانطباق ، ولکن حصل الشکّ فی إطلاقه من جهة احتمال الانصراف عنه ، فلا یشمله حکم الطهارة ، بل یدخل تحت الأصل العام وهو الحکم بالنجاسة .

فعلی هذا المبنی نذکر صوراً متعدّدة فی هذه المسألة :

تارةً : یفرض أن یکون الخارج عن المخرجین نجساً غیر البول والغائط ، فلا إشکال حینئذٍ کون الماء المستعمل لا یصدق علیه عنوان ماء الاستنجاء ، کما إذا خرج الدم منهما ، فحکمه واضح ، من الحکم بالنجاسة ، لأنّه خارج موضوعاً عن الاستنجاء .

واُخری : یفرض ملاقاة المَخرج ، قبل خروج أحد الأخبثین ، بإحدی النجاسات غیر العذرة الخارجة عن البطن ثمّ إذا لاقی أحدهما مع ذلک النجس أو المتنجّس ، فإنّ الماء المستعمل فی تطهیره وإن یصدق علیه الاستنجاء ، إلاّ أنّ الأخبار منصرفة عنه قطعاً ، لوضوح أنّها فی صدد بیان طهارة أصل ماء الاستنجاء المستعمل فی إزالة العذرة ، لا ما إذا عرضه عارض ، ولیس هو أمراً متعارفاً حتّی یشمله الإطلاق ، فلا محیص إلاّ الدخول تحت الأصل من الحکم بالنجاسة .

ومن ذلک یظهر حکم صورة ثالثة : هی ما لو لاقی مع إحدی النجاسات بعد الخروج وقبل الانفصال عن المخرج ، لاشتراکهما فی أصل الاستدلال ، کما هو کذلک إذا لاقی الماء المستعمل مع إحدی النجاسات .

رابعة : ما إذا خرج مع البول أو الغائط شیء، قد یکون طاهراً وقد یکون نجساً.

فی الماء المستعمل لتطهیر مخرج البول

ص:388

فأمّا إذا کان طاهراً _ کالدود والحصاة وشیء غیر منهضم من أجزاء الأطعمة _ وخرج مع الغائط أو بعده ، أو الودی والمذی والوذی مع البول أو بعده قبل تطهیره ، فالظاهر طهارة غسالته لعدم إحراز صدق العنوان ، وعدم المانع عن شمول إطلاقات الأدلّة ، کما علیه المحقّق الآملی قدس سره ، والسیّد فی «العروة» ، والبروجردی ، إلاّ الشیخ الأعظم حیث ادّعی شمول إطلاق عبارة المصنّف من عدم إصابته بنجسٍ من خارجٍ بمفهومه لذلک .

لکنّه مخدوش ، من حیث شمول إطلاقه أوّلاً ، وأصل الحکم ثانیاً ، ولذلک ذهب إلی الحکم بالطهارة المشهور من المتأخِّرین .

وأمّا إذا کان الخارج مع البول أو الغائط شیئاً نجساً ، کالدم والمنی ، أو خرج بعدهما قبل التطهیر ، بحیث یصدق أنّه خرج حین التخلّی ، أو کان خارجاً قبله کالمنی ، حیث یکون بحسب النوع کذلک .

فهو أیضاً قد یکون خروجه مع البول أو الغائط مستهلکاً ، بحیث لا یصدق علیه إلاّ البول والغائط ، کالأجزاء الصغیرة من الدم ، فلا یبعد صدق الاستنجاء معه ، وشمول إطلاقاته علیه ، فیحکم بطهارته ، کما علیه السیّد قدس سره فی «العروة» ، والخوئی ، والگلپایگانی والشاهرودی ، والآملی ، وغیرهم .

خلافاً للبروجردی ، والحکیم ، والخمینی ، وصاحب «الجواهر» قدس سرهم ، والشیخ الأعظم قدس سره .

وجه الإشکال فیه : هو عدم تعارف هذا الأمر فلا یشمله الإطلاق وتکون الأخبار منصرفة عنه ، لأنّ الأمزجة الصحیحة خالیة عن خروج أمثاله .

نعم ، لو تمسّکنا علی الطهارة بصحیح محمّد بن النعمان بناءً علی إحدی الاحتمالات فی قوله : (أنا جُنُب) من کونه متنجّساً بالمنیّ حین البول ، وقلنا إنّ الإمام قد حکم فی هذا الفرض بأنّه لا بأس ، لکان الحکم بالطهارة هنا _ فیما إذا

ص:389

کان النجس خرج مع أحد الأخبثین _ بطریق أولی .

إلاّ أنّه مجرّد احتمال إلی جانب ما عرفت من سائر الاحتمالات ، فلیس له ظهور عرفی فیه ، حتّی یمکن الاستدلال به ، خصوصاً مع ملاحظة کون الأصل الأوّلی هو النجاسة ، کما لایخفی .

فالحکم بالاحتیاط لا یخلو عن قوّة .

فإذا کان هذا هو حال المستهلک ، ففی غیر المستهلک یجب الحکم بالنجاسة قطعاً ، کما علیه أکثر من ذهب إلی طهارته فی الفرض السابق .

خلاصة الکلام : مختارنا فی جمیع الفروض ، أنّ الأقوی نجاسة ماء الاستنجاء المستعمل فیما کان الخارج من المخرجین نجساً ، غیر البول والغائط .

أو لاقی أحد الأخبثین ، أو مخرجهما قبل خروجهما ، أو بعد خروجهما قبل الانفصال نجساً ، أو خرج معهما نجساً غیر مستهلک ، خلافاً للمستهلک ، فالأحوط الاجتناب عنه أیضاً ، بخلاف ما لو خرج معهما شیء طاهر ، فالأقوی طهارة ماءه . فیالماء المستعمل لتطهیر مخرج البول

الفرع الثالث : فی أنّ الماء المستعمل فی غسل البول هل هو کالمستعمل فی الغائط ، فیکون محکوماً بالطهارة أم لا ؟

وجهان ، بل فیه قولان :

من جهة أنّ مادّة الاستنجاء مشتقّ من النجو ، وهو مخصوص لمخرج الغائط ، ویطلق علیه فقط ، فلا یکون محکوماً بحکمه ، لأنّ النجو فی الأصل بمعنی المکان المنخفض ، وقد سُمّی به الغائط لوقوعه غالباً فی المنخفض من الأرض ، تسمیة للحال باسم المحلّ ، ولا یبعد أن یکون إطلاق النجو باعتبار مخرج الغائط ، حیث یکون فی أسفل البدن ومستورٌ بالالیتین ، فجاءت التسمیة من باب تسمیة الحال باسم محلّ الخروج ، بعکس ما یُقال جری المیزاب ، حیث نسب

ص:390

الاستناد إلی المحلّ باعتبار الماء الجاری فیه .

ویشهد علی إطلاق هذا اللفظ لکلا الموردین فی لسان الفتاوی والأخبار خبر نشیط بن صالح ، عن أبی عبداللّه علیه السلام ، قال : «سألته کم یجزی من الماء فی الاستنجاء من البول ؟ فقال : مثل ما علی الحشفة من البلل»(1) .

وصحیح زرارة ، قال : «کان یستنجی من البول ثلاث مرّات»(2) الحدیث .

وصحیح عبد الملک بن عمرو ، عن أبی عبداللّه علیه السلام : «فی الرجل یبول ثمّ یستنجی ، ثمّ یجد بعد ذلک بللاً ؟ قال : إذا بال فخرط ما بین المقعدة والاُنثیین ثلاث مرّات ، وغَمز ما بینهما ثمّ استنجی ، فإنْ سال حتّی یبلغ الساق فلا یُبالی»(3) .

وقد صرّح بعضٌ بعدم الفرق بینهما _ کما علیه الأکثر _ وأطلق آخرون ، مضافاً إلی إمکان دعوی وجود الملازمة بین خروج الغائط وخروج البول ، لو لم تکن الملازمة موجودة فی عکسها .

وبرغم ذلک فقد دلّت الأخبار الواردة فی الاستنجاء علی طهارته ، من دون ذکر تفصیل بین البول والغائط ، وهذا یوجب حصول الاطمئنان للفقیه من الاشتراک بینهما فی الحکم .

وهذا هو الأقوی .

کما یستفاد عدم الفرق ، من عموم تعلیل أنّ الماء أکثر من القذر .

کما لا فرق فی طهارته بین کون ماء الاستنجاء فی الغسلة الاُولی للبول ، أو الغسلة الثانیة ، لعموم التعلیل ، خلافاً للشیخ فی «الخلاف» من الحکم بالنجاسة فی الاُولی ولا وجه له .


1- وسائل الشیعة : الباب 26 من أبواب أحکام الخلوة، الحدیث 5 _ 6 .
2- وسائل الشیعة : الباب 26 من أبواب أحکام الخلوة، الحدیث 5 _ 6 .
3- وسائل الشیعة : الباب 13 من أبواب نواقض الوضوء، الحدیث 2 .

ص:391

کما لا فرق بین کون خروج البول والغائط من المخرجین الطبیعیّین ، أو من غیرهما ، إذا کان معتاداً بذلک _ یعنی کان مخرجه المتعارف مسدوداً ، وکان له طریق آخر بحسب عادته الطبیعیّة من الخلقة _ لشمول إطلاق الأدلّة لمثل ذلک أیضاً .

نعم ، فیما لا یکون معتاداً ، کما قد یصیب بمرض فیفتح له فتحة اُخری أو ثقباً لخروج البول والغائط ، فالحکم بطهارة استنجاءه حینئذٍ مشکلٌ جدّاً ، لانصراف إطلاقات الأخبار عن مثله ، کما لا یخفی .

کما لا فرق أیضاً بین أن یلوّث البول والغائط أطراف مخرجه لکن لم یتجاوز عن حدّ المتعارف ، حتّی یوجب عدم شمول الإطلاقات ، أو لم یزد عنه ، لأنّ هذه الاُمور تتّفق ببعض مراتبها فی الخارج بما لا یکون خارجاً عن المتعارف ، فإطلاق الأدلّة یشمله .

بخلاف ما إذا خرج عنه ، فیکون الدلیل حینئذٍ منصرفاً عنه فلا یشمله ، فیحکم بنجاسته .

کما لا فرق بین سبق الید بالنجاسة قبل صبّ الماء أو عکسه ، لأنّه لو کان سبق الماء معتبراًقبل ملاقاة الید مع النجاسة ، کان اللازم علی الإمام التنبیه علیه ، فترک الاستفصال یوجب الحکم بذلک ، کما علیه الأکثر .

وإن احتاط بعضهم فی صورة تقدّم ملاقاة الید مع النجاسة .

نعم ، لو لاقت یده مع أحد الأخبثین حین الاستنجاء ، وأعرض ثمّ بدی له ذلک ، لایبعد الحکم بطهارة استنجاءه ، إن لم یفصل بینهما مدّة موجبة للانصراف فی شمول الأدلّة ، وإلاّ فإنّه یحکم بنجاسته ، واللّه العالم .

کما لا فرق _ بناءً علی طهارة ماء الاستنجاء _ بالنسبة إلی المستنجی ومایتعلّق به ، وبین غیره ، کما لو لاقی ثوب غیره مع ذلک الماء ، فلابدّ حینئذٍ من الحکم بالطهارة ، مضافاً إلی عموم التعلیل ، حیث یفهم منه عموم الحکم .

فی استعمال ماء الاستنجاء فیرفع الحدث

ص:392

هذا بخلاف ما لو التزمنا بالعفو عن نجاسته ، فیمکن دعوی اختصاصه بالمستنجی فقط ، وفی حال الاستنجاء ، وذلک بمقتضی قاعدة رفع العسر والحرج أو غیر ذلک من الأدلّة .

فالمدّعی لعموم العفو لکلّ أحد ، بل فی کلّ حال ، مطالبٌ بالدلیل .

کما أنّه لا فرق _ بناءً علی ما سلکناه من الطهارة _ بین الحکم بطهارة ملاقیه أو غیره ، من جواز استعماله فی بعض الاُمور کالشرب مثلاً ، إذا لم یکن فیه عین النجاسة ، إلاّ أن یکون حراماً ، لکونه من الخبائث .

هذا ، بخلاف صورة العفو عن نجاسته ، فیمکن دعوی اختصاصه بحالات معیّنة وخاصّة مثل عدم بأس ما یلاقیه فقط دون سائر الاستعمالات من الأکل والشرب وغیرهما .

فهذه جملة الفروق بین القولین ، حیث قد یوجّه فی بعضها اختیار القول بالطهارة کما اخترناه ، وعلیه الأکثر ، بل المشهور ، کما عرفت فلا نعید .

الفرع الرابع: فی بیان حکم جواز رفع الخبث والحدث بماء الاستنجاء وعدمه.

فبناءً علی القول بنجاسته المعفوّة ، فلا إشکال ظاهراً فی عدم الجواز فیهما ، لانحصار المعفوّ لخصوص ما یدلّ علیه الدلیل .

وقد عرفت أنّ من ادّعی العموم فی العفو ، یُطالب بالدلیل ولیس له ذلک .

وأمّا علی القول بالطهارة ، الظاهر جواز رفع الخبث به حینئذٍ ، کسائر المیاه المستعملة القلیلة ، کما هو مقتضی القاعدة بحسب حال الطهارة .

وهذا ممّا لا إشکال فیه ، ولم یعرف فیه خلاف من الفقهاء .

وإنّما الکلام والإشکال یکون فی رفع الحدث الأکبر والأصغر به ، فلا نمتلک علیه دلیلٌ إلاّ الإجماع المدّعی به عن العلاّمة فی «المنتهی» و«التحریر» ، و«المدارک» و«الذخیرة» و«المعالم» ، حیث تلقّاه بعض المتأخّرین کالحکیم

ص:393

وصاحب «الجواهر» وغیرهما بالقبول .

والروایة عن عبداللّه بن سنان ، عن أبی عبداللّه علیه السلام ، قال : «لا بأس بأن یتوضّأ بالماء المستعمل . فقال : الماء الذی یغسل به الثوب ، أو یغتسل به الرجل من الجنابة ، لایجوز أن یتوضّأ منه وأشباهه ، وأمّا الذی یتوضّأ الرجل به فیغسل به وجهه ویده فی شیء نظیف ، فلا بأس أن یأخذه غیره ویتوضّأ به»(1) .

فإنّ مقتضی هذین الدلیلین ، عدم جواز استعماله لرفع الحدث ، فإنّ الحدیث وإن کان مصرّحاً لخصوص الوضوء ، إلاّ أنّ غیره یلحق به إمّا من جهة کونه وأشباهه متعلِّقاً بالوضوء ، فیکون الغُسل بأقسامه داخلاً فیه .

وإمّا من جهة الأولویّة ، لأنّه إذا سلّمنا عدم الجواز فی الحدث الأصغر ، فالأکبر یکون بطریق أولی .

وأمّا اسلوب الاستدلال به ، هو أن یقال : بأنّ کلمة (أشباهه) یکون مربوطاً ومتعلِّقاً بقوله : (یغسل به الثوب) ، أی لا یکون هذا الحکم مخصوصاً بالثوب النجس ، بل یکون أشباهه ممّا یکون نجساً ویُغسل ، حکمه کذلک ، ومنه الاستنجاء ، لأنّ ماءه یغسل النجس .

لا یقال : لِمَ فرض الثوب نجساً ، حتّی یوجب إلحاق الاستنجاء به بقوله : أشباهه» ، إذ یمکن أن لا یکون الثوب نجساً ، فلا یلحق مثل الاستنجاء به حینئذٍ ، لحصول المفارقة بینهما بذلک ؟

لأنّا نقول : لابدّ أن یکون المراد منه ، هو الثوب النجس ، بقرینة تقابله مع غُسل الجنابة ، حیث یفهم أنّ النهی فیه لیس من جهة نجاسة بدن الجنب ، وإلاّ کان داخلاً فی أشباه الثوب النجس ، فلا وجه لذکره .


1- وسائل الشیعة : الباب 9 من أبواب الماء المضاف، الحدیث 13 .

ص:394

بل یکون منعه ، من حیث کونه مستعملاً فی غسل الجنابة ورفع الحدث ، فیصحّ حینئذٍ دلالة الجملتین علی أمرین :

أحدهما : عدم جواز استعمال الماء المستعمل فی رفع الخبث ، لرفع الحدث .

وثانیهما : عدم جواز استعمال الماء المستعمل فی رفع الحدث الأکبر لرفع الحدث ، فیدخل فی المطلب الأوّل نماء الاستنجاء ، وهو المطلوب .

هذا کلّه من جهة دلالة الحدیث .

وأمّا سنده : فقد عرفت شرحه مفصّلاً فی السابق ، من إمکان الاعتماد علیه لکونه موثوق الصدور .

ولکن الإنصاف عدم تمامیّة شیء منهما بالنسبة إلی ماء الاستنجاء ، ولو سلّمنا ذلک فی مطلق ماء المستعمل للنجس فی غیره .

فأمّا الإجماع : فمحصّله غیر حاصل ، لما تری من ذهاب جمع من الفقهاء بالصراحة إلی الجواز ، کصاحب «الحدائق» والمحقّق الأردبیلی فی «شرح الإرشاد» ، و«مستند الشیعة» للنراقی ، والخوئی ، بل قد قرّب ذلک صاحب «مصباح الفقیه» ، وقد تأمّل الشیخ الأکبر قدس سره فی عدم الجواز .

بل فی «الجواهر» علی إشکال .

فمع مخالفة هذه الفحول ، کیف یحصل الإجماع حینئذٍ ؟

وأمّا المنقول منه فغیر مفید هنا ، وإنْ سلّمناه فی الغسالة لسائر النجاسات ، لما قد عرفت من الحکم بالنجاسة فیها بخلاف ماء الاستنجاء ، حیث أنّه طاهر ، فلعلّ حکم المُجمعین بعدم الجواز کان بلحاظ حکمهم بنجاسة الغسالة المستعملة فی رفع الخبث ، کما أنّ المانعین فی المقام أیضاً سلکوا هذا المسلک .

وهکذا ظهر عدم ثبوت الإجماع فی المقام .

بل لعلّ المجمعین لو قالوا هناک بطهارة الماء المستعمل للخبث ، لما ذهبوا إلی

ص:395

عدم جواز استعماله فی رفع الحدث ، فإسراء ذلک الإجماع المدّعی هناک إلی الذی کان طاهراً لا یخلو من وهن ، کما لا یخفی ، فإثبات حجّیته هنا أیضاً مشکل جدّاً.

فی الغسالة المشکوکة أنهّا للاستنجاء أولسائر النجاسات

وأمّا وجه عدم تمامیّة الحدیث فی المورد فهو من جهة إمکان أن یکون المقصود من النهی عن استعمال الماء المستعمل فی الثوب ، باعتبار قذارة ماءه وتلوّثه فی مقابل قداسة عمل الوضوء الذی یعدّ أمراً عبادیّاً ، فلذلک نهی عنه ، کما کان کذلک فی غسل الجنابة أیضاً ، لو لم نقل بکونه نجساً غالباً .

کما قد یؤیّد هذا الاحتمال ، ذیل الحدیث حیث یجوّز استعمال الماء المستعمل فی التوضّی ء بالنسبة إلی الوجه والید ، إذا کان الوجه والید والشیء الذی وقع الماء فیه نظیفاً ، فیکون ذلک دلیلاً علی ردّ بعض العامّة _ حیث یزعمون أنّ کلّ ماء مستعمل لا یجوز _ ومؤیّداً لما ورد فی صدر الحدیث بقوله : «لا بأس بأن یتوضّأ بالماء المستعمل» ، أی فیما إذا استعمل فی شیء نظیف .

فحینئذٍ ، لا تنافی بین صدره وذیله .

فعلی هذا التقدیر ، وإن أمکن دخول ماء الاستنجاء فیه أیضاً بالأولویّة أو بجملة (وأشباهه) ، لکن لا علی الطریقة التی استدلّ بها سائر الفقهاء ، من کون الماء مستعملاً فی النجاسة ولذلک لا یجوز ، بل لما ذکرنا من وجه التفاوت فی الاستدلال ، إنّما یکون من حیث أنّه لو قلنا بما ذهب إلیه المستدلّ لأورد علیه :

أوّلاً : بأنّ الحکم بعدم الجواز فی الثوب النجس ، یمکن أن یکون من جهة نجاسة غسالته ، بخلاف ماء الاستنجاء ، حیث أنّه طاهر فلا یجری فیه هذا الحکم .

وثانیاً : إنّه یمکن أن یُقال بکون النهی هنا تنزیهی لا تحریمی ، لما ذکرناه ، لکنّه لا یمکن الاستدلال به فی صورة نجاسة الثوب ، لأنّ النهی حینئذٍ یکون تحریمیّاً قطعاً ، کما لایخفی .

مع أنّه لو سلّمنا کون المفروض فی السؤال هو الثوب النجس ، کما أصرّ علیه

ص:396

صاحب «مصباح الفقیه» فیه وفی غسل الجنابة ، خلافاً للسیّد الاصفهانی قدس سره فی «الروائع الفقهیّة» حیث یقول ، بقرینة تقابله مع الثوب کون المفروض فیه خصوص استعماله فی رفع الحدث الأکبر ، لا للنجاسة وإلاّ لا خصوصیّة فی الجنابة بذکرها ، مع ذلک نقول بإمکان عدم شمول الحدیث لموردنا ، مع فرض کون ماء الاستنجاء طاهراً ، نظیر سائر المیاه المتعارفة .

نعم ، لو قیل إنّه نجس معفوّ عنه _ کما علیه بعض _ فللحکم بعدم الجواز فیه وجه .

فثبت من جمیع ما ذکرنا ، عدم شمول الإجماع للمقام .

أمّا الحدیث فیشمله علی احتمال ، لکنّه یمکن أن یکون النهی حینئذٍ تنزیهیّاً لا تحریمیّاً ، أمّا مع احتمالکون النهی تحریمیّاً إلاّ أنّه غیر شامل له ، فما ذهب اخلیه بعض الفحول لا یخلو عن قوّة ، وإن کان الأحوط الاجتناب عنه .

فالأقوی جواز رفع الخبث بماء الاستنجاء ، بل وکذا رفع الحدث به ، وإن کان الأحوط الاجتناب عنه فی الثانی ، فیجوز حینئذٍ استعماله فی الوضوء والغسل المندوبین أیضاً ، مثل الرافعین للحدث ، وإلاّ فیشکل فیهما أیضاً ، کما فی الرافعین .

الفرع الخامس : فیما لو شکّ فی غُسالةٍ بأنّها هل غسالة سائر النجاسات حتّی تکون نجساً أو هی غسالة الاستنجاء حتّی تکون طاهرة .

ففیه فروض لا بأس بالإشارة إلیها ، لأنّ الشکّ الحاصل فیه :

تارة : یفرض من جهة الشبهة فی مفهوم الاستنجاء أو شرائطه ، کما لو کان الماء غسالة البول ، وشککنا فی کون المستعمل فیه هل هو استنجاء أم لا ، ولم نستظهر من أدلّته کونه ماء استنجاء ؟

فلا إشکال حینئذٍ من لزوم الرجوع إلی عموم أدلّة انفعال الماء القلیل بالملاقاة للنجس ، والحکم بنجاسته ، لأنّ التمسّک بالعام هنا لیس من التمسّک بالشبهة المصداقیّة ، بل المرجع عند إجمال الدلیل المخصّص هو عموم العام ، کما قُرّر فی الاُصول . فیالغسالة المشکوکة أنهّا للاستنجاء أولسائر النجاسات

ص:397

والظاهر من کلام السیّد فی «العروة» _ فی المسألة السابقة _ وغیره من الفقهاء غیر هذه الصورة ، وإلیک نصّ کلامه ، یقول : «إذا شکّ فی ماء أنّه غسالة الاستنجاء أو غسالة سائر النجاسات ، یحکم علیه بالطهارة ، وإنْ کان الأحوط الاجتناب» .

واُخری : أن یکون لنا ماء مقطوع العنوان ، وأنّه غسالة سائر النجاسات ، وماء آخر یکون مقطوع العنوان حیث نقطع بأنّه ماء الاستنجاء ، فنشکّ فی ماء ثالث قد وجد من أحدهما ، ولکن لا یعلم من أیّهما حصل فإن کان من الأوّل یکون نجساً قطعاً ، وإن کان من الثانی ، یکون طاهراً قطعاً ؟

قد یقال : بأنّ الأصل عدم کونه من الماء المستعمل فی النجس ، لأنّه کان قبل ملاقاته مع النجاسة _ بأیّ قسم منها _ طاهراً قطعاً ، فبعد الملاقاة نشکّ فی ملاقاته مع نجس یوجب تنجیسه ، فالأصل عدمه ، فلازمه الطهارة .

لا یقال : بأنّه أصل مثبتٌ لأنّه اُرید بذلک الأصل إثبات کون الملاقاة مع الآخر وهو ماء الاستنجاء ، فکان طاهراً ، وهذا یعدّ من اللوازم العقلیّة للأصل الجاری فی طرف غسالة النجس .

توضیح ذلک : إذا دار الأمر بین کون الملاقاة بأحدهما ، فإنّه ینتفی أحدهما المعیّن بأصل العدم ، فیتعیّن الآخر کما لایخفی ، وهذا أصل مثبت فلا یکون حجّة .

لأنّه نقول : لا نحتاج لإثبات طهارة هذا الماء الثالث ، من إثبات ملاقاته مع الطرف الآخر ، حتّی یقال إنّه أصل مثبت لکونه لازماً عقلیّاً لذلک الأصل ، بل یکفی فی الحکم بطهارته إثبات عدم ملاقاته مع النجس المسری ، سواء کان إحرازه بالوجدان _ کما فی غیر ما نحن فیه _ أو بالأصل کما فی المقام ، حیث یکون الأصل عدم ملاقاته معه ، فیکون محکوماً بالطهارة .

هذا ، ولکن الإشکال کان فیه من جهة اُخری ، وهو کون الأصل الجاری فی طرف غسالة النجس معارضاً مع أصل عدم الملاقاة لماء الاستنجاء أیضاً ، لأنّ ع

ص:398

دم الملاقاة کان ثابتاً علیه أیضاً قبل ذلک ، فتجری أصالة العدم فی کلّ منهما ، فیوجب التعارض بینهما فیتساقطان ، فالمرجع حینئذٍ یکون قاعدة الطهارة ، لقوله علیه السلام : «کلّ شیء طاهر حتّی تعلم أنّه قذر» واستصحابها .

ولعلّ وجه حکم السیّد قدس سره بالطهارة فی الغسالة المشکوکة هو ما ذکرنا ، وأراد بالفرع هذا القسم أیضاً ، وکان وجه احتیاطه من جهة ما قد ذکر فی بعض تعلیقات «العروة» ، من أنّ ملاقاة الماء مع النجاسة کان قطعیّاً ، فأدلّة انفعال الماء القلیل یشمله بعمومها ، إلاّ ما خرج عنه بواسطة إحراز عنوان الاستنجاء ، کما ورد فی الدلیل ، فحیث لم یُحرز الاستنجاء هنا ، فیحکم بالنجاسة ، لأنّ أصل الملاقاة کان بالوجدان ، وکونه غیر الاستنجاء یکون بناءً علی أصالة العدم ، لأنّه کان قبل ذلک غیر مستنجی به ، فنشکّ فی تحقّقه بالملاقاة ، فالأصل عدمه ، فیوجب الحکم بنجاسته ، لأنّ العام بعد التخصیص یکون من باب سلب الخاص ، یعنی بعد تخصیص (أکرم العلماء) ب_ (لا تکرم الفسّاق) یصیر متعلّق وجوب الإکرام العالم الذی لیس بفاسق ، لا العالم العادل أی العالم المتّصف بکونه غیر فاسق .

وهذا هو الذی ذهب إلیه أغلب المحشّین علی «العروة» ، وإن سلک بعض للحکم بالنجاسة مسالک اُخر ، کما عن الشیخ الأکبر قدس سره فی باب مشکوک الکریة ، حیث استدلّ بوجود المقتضی وفقد المانع ، وبما أنّه لم نحرز المانع نحکم بالنجاسة .

وکما عن المحقّق النائینی قدس سره من أنّ الترخیص الواقع علی العنوان وجودی أو العدمی الخارج عن عموم العام ، لابدّ من إحرازه ، فما دام لم یُحرز یکون المرجع عموم العام ، فیحکم هاهنا بالنجاسة أیضاً .

وکما عن السیّد صاحب «العروة» ، حیث جوّز التمسّک بالعام فی الشبهة المصداقیة للمخصّص ، حیث یکون لازم مسلکه هنا هو الحکم بالنجاسة جزماً لا احتیاطاً . فیالغسالة المشکوکة أنهّا للاستنجاء أولسائر النجاسات

ص:399

فهذه أقسام متصوّرة للحکم بالنجاسة للماء المشکوک .

ومن أنکر تعنون العام لعنوان من العناوین سواء کان وجودیّاً أو عدمیّاً ، وذهب إلی أنّ العام بعد التخصیص یصیر قسماً آخر غیر الخاصّ ، کما کان الخاص کذلک ، فحینئذٍ یکون الفرد المشکوک مردّداً فیما بین الفردین ، ولا یمکن الأخذ بأحدهما للتعارض بالآخر ، ومن اعتمد علی هذا علیه الرجوع أمّا إلی استصحاب الطهارة الموجودة قبل الملاقاة ، أو إلی قاعدة الطهارة .

وهذا هو الذی ذهب إلیه المحقّق الحلّی فی «دلیل العروة» ، وکلّ من أفتی بالطهارة فی تعلیقته علی «العروة» علی احتمال .

ولکن الذی یساعد علیه نظرنا فعلاً من جهة ملاحظة فهم العرف ، هو اختیار الوجه الأوّل من وجوه النجاسة ، کما علیه المحقّق الحکیم والآملی والخوئی ، وکلّ من اختار هذا المسلک فی العام المخصّص .

فالأولی هو الحکم بالنجاسة ، فلا یبقی مع وجود دلیل اجتهادی دال علی النجس ، مجال لجریان الاستصحاب والقاعدة الحاکمین بالطهارة .

وثالثة : یفرض الشکّ فی طهارة الغسالة ، من جهة أنّه لم یعلم هل تحقّق بصورة الاستنجاء أم لا ؟

کما لو فرض مثلاً عدم صدق الاستنجاء علی الماء المستعمل فی البول ، فیشکّ حینئذٍ فی الماء المستعمل واغسالة ، وهل هو غسالة البول حتّی یکون نجساً ، أو الغائط فیکون طاهراً ؟

فالکلام فیه من حیث الحکم یکون مثل الکلام فی سابقه ، إذ ملاقاته مع النجاسة قطعی بالوجدان ، وکونه مستعملاً فی الاستنجاء مشکوک ، فالأصل عدمه ، فیتحقّق العنوان المرکّب المتعلّق للحکم بالنجس ، أحدهما بالوجدان والآخر بالأصل ، والأصل العدمی هنا لا نقصد به الأصل العدم الأزلی

ص:400

فی حکم الماء المستعمل فی الوضوء

(فی حکم ماء المستعمل فی الوضوء)

والمستعمل فی الوضوء طاهر ومطهّر (1).

_ کنفی قرشیّة المرأة حتّی یناقش فی موضوعه _ بل هو أصل عدمی نعتی بمفاد کان الناقصة ، لوجود الماء فی زمان لم یکن مستعملاً أصلاً ، فالآن یشکّ فی وجوده مستعملاً فی الاستنجاء ، فالأصل عدمه ، فیحکم بالنجاسة حینئذٍ .

ولعلّ هذا هو المراد من نصّ کلام «العروة» ، إذ عبارته قابلة للحمل علی أحد المحملین الآخرین ، کما لا یخفی علی المتأمِّل البارع .

هذا علی القول بالطهارة لماء الاستنجاء .

وأمّا علی القول بنجاسته ، وکونه معفوّاً ، فالحکم بنجاسته ، وعدم کونه معفوّاً عنه فی المشکوک یکون بطریق أولی ، لعدم جریان استصحاب الطهارة وقاعدتها حینئذٍ ، فالمسألة واضحة لا تحتاج إلی مزید بیان .

فالماء المشکوک بین کونه ماء الاستنجاء أو غیره محکومٌ بالنجاسة ظاهراً .

(1) اعلم أنّ الماء المستعمل علی أقسام :

تارةً : یکون مستعملاً فی رفع الخبث ، وقد عرفت حکمه فی قسمیه ، من النجاسة فی غسالة غیر الاستنجاء ، والطهارة فیه .

واُخری : یکون مستعملاً فی رفع الحدث .

وثالثة : یکون مستعملاً فی تحصیل الطهارة المعنویّة ، ولو بالنسبة ، من دون رفع للحدث .

ففی الأوّل: قد یکون رافعاً للحدث الأصغر فقط ، أو للأکبر فقط ، أو منضمّاً معاً.

وفی الثانی : قد یکون رافعاً لتکلیف وجوبی أو لتکلیف ندبی ، وقد یکون

ص:401

مبیحاً ، وقد لا یکون ، سواء کان بصورة الوضوء أو بصورة الغُسل .

فلا بأس بالإشارة إلی جمیع هذه الصور مع الإشارة إلی کلام المصنّف قدس سره ، فنقول : أمّا الماء المستعمل فی الوضوء غیر الرافع لا انفراداً ولا منضمّاً ، _ کما سیأتی المراد منه إن شاء اللّه _ فلا إشکال فی أنّه طاهر ، وعلیه إجماع المسلمین کالوضوء التجدیدی والصوری ، أو الوضوء الندبی للغایات المستحبّة ، إذا لم نقل بکونه رافعاً للحدث .

بل وهکذا الماء المستعمل فی الأغسال المندوبة غیر الرافعة ، لدلالة أدلّة طهارة الماء بإطلاقها ما یصلح للحکم بطهارته ، وهو واضح .

وأمّا مطهّریته من الحدث الأصغر أو الأکبر أو الجنب ، فلولا وجود دلیل علی العدم ، کان مقتضی الإطلاقات الأوّلیة هو الجواز ، فلابدّ من إقامة دلیل علی الخلاف ولو علی الکراهة مثلاً .

وقد نسب للمفید قدس سره استحباب التنزّه عن الماء المستعمل فی الطهارة المندوبة من الغُسل والوضوء المندوبین ، بل المستعمل فی الغَسل (بالفتح) المستحبّ ، کما فی استحباب غسل الید لأکل الطعام .

هذا ، کما فی «التنقیح» ، بخلاف ما عن «الجواهر» نقلاً عن الشهید فی «الذکری» وعن المفید من استحباب التنزّه عن الماء ، فی خصوص المستعمل فی الوضوء ، من دون ذکر کونه رافعاً أو غیر رافع . فیحکم الماء المستعمل فیالوضوء

لکن ما نقل الشیخ الأعظم عن «المقنعة» موافق للسابق .

وکیف کان ، فقد أورد علیه الأصحاب بعدم الدلیل علی ما ادّعیاه کما فی «الجواهر» وغیره .

ونُقل عن شیخنا البهائی قدس سره فی «الحبل المتین» ردّه علی الأصحاب وإقامة الدلیل تأییداً للمفید قدس سره بقوله أنّه یکفی فی ذلک دلالة خبر محمّد بن علی بن

ص:402

جعفر ، عن أبی الحسن الرضا علیه السلام فی حدیثٍ ، قال : «من اغتسل فیه فأصابه الجذام ، فلا یلومنّ إلاّ نفسه»(1) .

فإنّ إطلاق الغُسل یشمل الواجب والمندوب .

ثمّ قال الشیخ البهائی : والعجب من الأصحاب کیف لم یلتفتوا ولم ینتبهوا لهذا الحدیث .

وأجابه صاحب «الحدائق» : بأنّ ذیل الحدیث قرینة علی کون المراد من ماء الغُسل فی الصدر هو ماء الحمّام ، إذ ورد فی ذیله قوله :

فقلت لأبی الحسن علیه السلام : إنّ أهل المدینة یقولون إنّ فیه شفاء من العین ؟

فقال : کذبوا ، یغتسل فیه الجنب من الحرام ، والزانی ، والناصب الذی هو شرّهما وکلّ مَنْ خلق اللّه ، ثمّ یکون فیه شفاء من العین ؟

ثمّ طعن رحمه الله علیه ، وقال : هذا من الآفات الحاصلة والناتجة من تقطیع الأحادیث والتفریق بین أجزاء الحدیث الواحد ، انتهی محصّل کلامه .

وفی «التنقیح» : أنّه یمکن دعوی عدم منافاة ذیله بکونه حکماً مستقلاًّ لا یضرّ بإطلاق الصدر ، فیدلّ علی الحکم ، أعمّ من کونه ماء حمّام مثلاً أو غیره ، فیکون دلیلاً لقول المفید .

لکن یمکن أن یکون وجه ردّ الأصحاب بعدم الدلیل ، کون الخبر فی مقام إرشاد للناس إلی لزوم مراعاة حفظ الصحّة بالاحتراز عن الماء الذی یکون حاله کذلک من اغتسال الجنب وغیره من المذکورین فی الحدیث ، الموجب لحصول الأمراض عند عدم الاحتراز منه ، فیکون ذلک من قبیل الإرشاد إلی سائر الاُمور الواردة فی الأخبار الإرشادیة التی تترتّب الفائدة علی العمل بها مثل استحباب


1- وسائل الشیعة : الباب 11 من أبواب الماء المضاف، الحدیث 2 .

ص:403

الجلوس فی اللیل لشرب الماء وأمثال ذلک ، لا یکون الأمر ولا النهی فیها مولویّاً حتّی یکون مستحبّاً أو مکروهاً .

فثبت أنّ الحقّ مع الأصحاب ، القائلین بعدم الدلیل علی ما ذهب إلیه المفید قدس سره ، انتهی خلاصة کلامه .

هذا ، ولکن الإنصاف إمکان الاستفادة من مثل هذا الحدیث للدلالة علی استحباب التنزّه تبعاً للمفید ، _ علی ما فی «التنقیح» _ والشهید والشیخ البهائی بالتقریب الذی نذکره ، وهو أن یقال :

بعد ملاحظة ما هو المتعارف فی عصر الأئمّة علیهم السلام ، حیث کانوا یغتسلون فی الماء القلیل الموجود فی الحیاض المتّصلة بالمادّة ، کما اُشیر إلیه فی عدد من الأخبار الواردة فی ماء الحمّام بقوله : «إذا کانت له مادّة» ، أنّه لیس المراد من قوله : «قد اغتسل فیه» الماء الکثیر الموجود فی الخزینة التی هی عبارة عن أحواض کبیرة کانوا یغتسلون فیها سابقاً .

فعلی هذا ، وإن کان مورد النهی المستفاد من الجملة الشرطیة ، هو خصوص الغسل لا الوضوء ، إلاّ أنّه یفهم من تعلیق الجزاء بقوله : «فأصابه الجذام» ، أنّ المقصود هو أفضلیة عدم الاستعمال وحُسن التحرّز عنه تنقیحاً للمناط .

فعلی هذا ، یصحّ دعوی شمول الإطلاق للغسل والوضوء حتّی الغسل (بالفتح) ، بلا فرق بین الواجب والمندوب .

فینضمّ إلیه بأنّ اختصاص ذیل الحدیث لماء الحمّام لا ینافی حکم صدره ، لکن لا لما ذکره الخوئی من کونهما حکمین مستقلّین ، بل من جهة أن یقال أنّه لا خصوصیة لماء الحمّام قطعاً إذ المقصود هو کون الماء مستعملاً بهذه الکیفیّة ، ولو کان کذلک فی خارج الحمّام .

نعم ، ذکر الحمّام کان من جهة وجود الشأنیة لذلک فی الحمّام دون غیره .

ص:404

فعلیه نقول : إنّ ما ادّعاه فی «التنقیح» من کون الحکم إرشادیاً لا مولویّاً ، ففی غایة البُعد ، إذ فیه :

أوّلاً : یلزم أن لا یکون لنا حکماً مستحبّاً أو مکروهاً ، فی کلّ مورد یحتمل أن یکون الأمر أو النهی فیه لمصلحة أو مفسدة دنیویة .

وثانیاً : أنّه لا إشکال فی کون جمیع أحکام الشرع أن یکون کذلک ، فإنّا لا نلمس أی منافاة بین کون الحکم مشتملاً علی المنافع الدنیویة وبرغم ذلک یکون مشتملاً علی المصالح الأخرویّة أیضاً ، من أمثال أمر المولی ونهیه ، وترتیب الثواب علیه .

فصدور مثل هذا الکلام من جنابه عجیب ، وأعجب منه إلحاق مثل شرب الماء فی اللیل قائماً وأمثال ذلک إلیه ، إذ بذلک یوجب تعطیل کثیر من أحکام المستحبّات والمکروهات .

فثبت من جمیع ما ذکرنا ، عدم استبعاد الحکم باستحباب التنزّه لولا قیام الإجماع علی خلافه .

وحیث کان الحکم فی الکراهة والاستحباب أسهل من سائر الأحکام ، فحقیق أن یصرف الکلام عنه .

وظهر أنّ الأقوی هو الحکم باستحباب التنزّه مطلقاً ، لا فی خصوص الوضوء ، کما فی «الجواهر» ، وإن کان إثبات حکم الماء المستعمل فی الغُسل من هذا الحدیث ، مع وجود شبهة التعلیل فیه مشکل جدّاً ، مضافاً إلی إمکان إثبات الجواز _ فیما سیأتی _ للوضوء .

فالأقوی استحباب التنزّه عن الماء المستعمل فی الغُسل والغَسل فی الطهارة ، وأمّا إثباته فی المستعمل فی الوضوء ، فإنّه مشکل ، کما أنّ الحکم بکون الأحنس الاجتناب عنه أشکل .

ص:405

وأمّا القسم الثانی : وهو الماء المستعمل فی الوضوء الرافع للحدث بانفراده ، فلا إشکال فی طهارته ، بل هو ضروری المذهب ، خلافاً لأبی حنیفة _ حیث ذهب إلی نجاسته بنجاسة مغلظة ، حتّی أنّه منع الصلاة فی الثوب الذی أصابه بمقدار أکثر من الدرهم _ وأبی یوسف ، حیث یقول بنجاسته نجاسة خفیفة ، ولکن یجوز الصلاة فی الثوب المذکور .

ویدلّ علی طهارته الأصل ، والإجماع ، وإطلاقات الأدلّة الدالّة علی طهارة الماء حتّی بعد استعماله فی رفع الحدث ، کما تقتضی تلک الإطلاقات أیضاً مطهّریته عن الخبث والحدث من الأصغر والأکبر ، کما کان یقتضیه الأصل والإجماع .

بل قد یدلّ علیه ذیل روایة عبداللّه بن سنان ، مع إطلاق صدرها ، حیث تشمله قطعاً وهی عن الصادق علیه السلام ، قال : «لا بأس بأن یتوضّأ بالماء المستعمل . . . إلی قوله : وأمّا الذی یتوضّأ الرجل به ، فیغسل به وجهه ویده فی شیء نظیف ، فلا بأس أن یأخذ غیره ویتوضّأ به»(1) .

وفی «الروائع الفقهیّة» : إنّ ظهور الصدر فی کون المراد من المستعمل ، هو کونه مستعملاً فی الوضوء بالخصوص لا بالإطلاق واضح ، لأنّ أمثال هذه الجملة ، مثل قوله : «لا تستنجی بالأحجار المستعملة ولا تتیمّم بالتراب المستعمل» ظاهرة فی الاستعمال فی الجهة المذکورة فی الکلام ، فهکذا یکون فی المقام ، فکأنّ المراد هو کونه مستعملاً فی الوضوء .

لا یخلو عن وجه فی الجملة ، إلاّ أنّه لا یساعد مع قوله التفصیل الذی یذکره الإمام علیه السلام من النهی عن المستعمل فی غَسل الثوب وغُسل الجنابة ، من جهة إبهام الإطلاق فیما وقع قبله ، لأنّه إذا فرض کونه ظاهراً فیه بالخصوص ، فلا وجه


1- وسائل الشیعة : الباب 9 من أبواب الماء المضاف، الحدیث 13 .

ص:406

للإیهام حینئذٍ أصلاً .

کما أنّ قوله وقول کلّ مَنْ قال بمقالته کالآملی والخوئی ، بأنّ ذیل الحدیث یدلّ علی الجواز لا یخلو عن مناقشة .

لأنّ الذیل محفوف بما یظهر منه کونه مستعملاً للغسل لا الوضوء الاصطلاحی ، وهو قوله : «یغسل به وجهه ویده فی شیء نظیف» فإنّ دلالته علی التطهیر بمعنی الغسل والتوضّی ء اللغوی أظهر . خصوصاً إذا قلنا بکون النظافة کانت فی قبال القذارة والوساخة لا النجاسة ، کما احتملناه سابقاً .

لکن الإنصاف دلالة صدره بإطلاقه علی الجواز فی المقام ، أقوی عندنا ، خاصّة إذا لاحظنا ورود الخبر فی مقام الردّ علی العامّة حیث لا یجوّزون التوضّی بالماء المستعمل ، فیکون من باب ذکر الإطلاق وإرادة أحد أفراده ، لأنّه قد خرج عنه بالتنصیص ما یستعمل فی غسل الثوب تحریماً أو تنزیهاً ، کما احتملناه ، وهکذا فی غُسل الجنابة أیضاً کما عرفت .

وبعد تنصیصه بالجواز فی خصوص الغسل مع النظافة یبقی الفرد الباقی تحت الإطلاق وهو الوضوء فقط ، فالحدیث بحسب صدره دالّ علی ما ذکره السیّد الاصفهانی قدس سره ، وهو الأقوی .

وقد استدلّ لذلک أیضاً بصحیح زرارة ، عن أحدهما علیهماالسلام ، قال : «کان النبیّ صلی الله علیه و آله إذا توضّأ أخذ ما یسقط من وضوءه فیتوضّؤون به»(1) .

بل ذهب النراقی فی «مستند الشیعة» إلی اختیار استحباب التوضّی ء بالماء المستعمل فی الوضوء ، تمسّکاً بهذا الحدیث .

ولکن یرد علیه باختصاص الحکم به دون غیره .


1- وسائل الشیعة : الباب 8 من أبواب الماء المضاف، الحدیث 1 .

ص:407

والظاهر أنّ دلالته علی الجواز غیر بعیدة ، لأنّه إن کان أصل ذلک ممنوعاً کان من وظیفته علیه السلام البیان کما فعل روحی له الفداء فی غیر هذا المورد من النهی عمّا لا یکون جائزاً .

واحتمال اختصاص الجواز به صلی الله علیه و آله بعیدٌ للغایة ، لأنّ المقام کان یقتضی بیان عدمه فی غیره ، وتنبیه الناس به ، فعدم ذکره دلیلٌ علی الجواز ، کما لایخفی .

وأمّا استفادة الاستحباب من ذلک لغیره صلی الله علیه و آله غیر معلوم ، لو لم یکن معلوم العدم .

ثمّ ، لا یخفی علیک أنّ مضمون حدیث زرارة قد رواه الصدوق فی «الفقیه» وهو حدیث صحیح بشهادة الصدوق نفسه فی دیباجة کتابه بأنّه لا یروی فیها إلاّ عن ثقة ویعتمد علیها فی فتواه ، وإلیک نصّ الحدیث برقم 20 فی الصفحة الرابعة من «من لا یحضره الفقیه» أبواب المیاه ، هذا نصّه : «وسُئل أبو الحسن موسی بن جعفر علیهماالسلام عن مجتمع الماء فی الحمّام من غسالة الناس ، یصیب الثوب منه ؟ فقال : لا بأس به ، ولا بأس بالوضوء بالمستعمل ، وکان النبیّ صلی الله علیه و آله إذا توضّأ أخذ الناس ما یسقط من وضوءه فیتوضّؤا به» .

وهذا الحدیث مصدرٌ بجملة : (ولا بأس بالوضوء المستعمل) فإنّها تؤیّد بأنّ عمل الناس من أخذ ماء وَضوء النبیّ صلی الله علیه و آله لم یکن مختصّاً به فقط ، لأنّه قد استشهد بهذه القضیة بقوله : «لا بأس . . .» .

مضافاً إلی کون الاستشهاد بقضیّة رسول اللّه صلی الله علیه و آله یفهم کون المراد من إطلاق قوله : «لا بأس بالوضوء بالمستعمل» هو المستعمل فی الوَضوء ، فیکون هذا الخبر قرینة علی خبر عبداللّه بن سنان فی إرادة هذا المعنی من تلک الفقرة ، واللّه العالم .

فإذا ثبت جواز رفع الخبث والحدث مطلقاً مع الماء المستعمل فی الوضوء الرافع ، فغیر الرافع منه یکون بطریق أولی .

فهذا هو السبب فی دعوانا الإشکال فی غیر الرافع ، ردّاً علی المفید والشهید

ص:408

فی «الذکری» فی خصوص الوضوء ، فلم یثبت لنا دلیل علی استحباب الترک أیضاً .

فالأقوی جواز استعمال الماء المستعمل فی الوضوء _ رافعاً کان أو غیره _ فی رفع الخبث والحدث الأصغر والأکبر ، بمقتضی دلالة الأدلّة .

ومن هنا یظهر حکم القسم الثالث وهو المستعمل فی الوضوء المنضمّ مع الغسل فی رفع الحدث ، کالوضوء فی غیر غُسل الجنابة من الحدث الأکبر من الحیض والنفاس والاستحاضة ، بناءً علی القول بکون الرافع هو الغسل والوضوء معاً ، لا انفراداً بالغسل فقط .

هذا مضافاً إلی إمکان الاستفادة من إطلاق أدلّة الجواز المذکورة آنفاً ، حیث یشمل لمثل ذلک .

بل إمکان دعوی الأولویّة الظنّیة إن لم تکن قطعیّة ، بأنّه إذا کان رافعاً للحدث بانفراده ، وبرغم ذلک لا مانع فیه عن استعماله ثانیاً ، فصورة الانضمام تکون بطریق أولی ، لکونه أضعف .

وإن أمکن الإشکال فیه ، من جهة کونه مستعملاً فیما کان الحدث فیه أکبر لا أصغر ، ولذلک یکون إحراز الأولویّة هاهنا صعب .

کما أنّه یمکن دعوی انصراف إطلاق الأدلّة الدالّة علی المنع ، عن المستعمل فی الحدث الأکبر الکذائی ، عن مثل هذا الوضوء ، وإن اعترف صاحب «الجواهر» فی کتابه «شرح النجاة» ونفی البعد عن شمول النزاع للمورد علی ما حُکی عنه ، لأنّ المفروض کون رفع الحدث الأکبر منوطاً بالغسل والوضوء .

بل یظهر عن الشیخ الأعظم ، دعوی الإجماع علی الجواز فی جمیع أقسام الوضوء فی کتاب «الطهارة» ، سواء کان رافعاً أم غیر رافع ، وسواء کان مع الانضمام أو الانفراد ، کما هو کذلک بحسب لسان الأدلّة کما عرفت ، فلا نعید .

ومن هنا ظهر جواز سائر أقسام الماء المستعمل فی الوضوء ، کما لو کان

ص:409

مستعملاً فی الوضوء المنذور ، أو المحلوف علیه ، أو غیره من المندوبات والواجبات ، لأنّ جمیعها التی تعدّ أهون من الوضوء تکون رافعة ، فإذا أجزنا فی المستعمل فیه لاستعماله ثانیاً فی رفع الخبث والحدث مطلقاً ، فغیره جائز قطعاً .

کما لا فرق فی الجواز بین أن یستعمله شخص المتوضّی ء ثانیاً ، أو غیره .

وتوهّم الفرق ، لاشتمال ذیل حدیث عبداللّه بن سنان علی قوله : «فلا بأس» الدالّ علی جواز أن یأخذ غیره فیتوضّأ به ، فلایشمل ما کان مستعملاً بنفسه ثانیاً ، مخدوش :

أوّلاً : بالقطع بعدم الفرق بینهما ، لعدم خصوصیّة لذلک فی الحکم ، وکان المقصود إفهام الحکم بحسب الغالب .

وثانیاً : أنّه مخالف للإجماع المرکّب ، لعدم وجود قول بالتفصیل أصلاً ، وهو واضح .

کما لا فرق فی الجواز أیضاً بین أن یستعمله فی رفع الحدث الأصغر أو الحدث الأکبر ، لما قد عرفت فی صدر المسألة بأنّ مقتضی إطلاقات الأدلّة هو الجواز ، إلاّ أن یقوم دلیل علی المنع ، فحیث لم یکن موجوداً فیعمل بتلک الإطلاقات .

فی طهارة الماء المستعمل فی الحدث الأکبر

وإنْ کانت الأدلّة المجوّزة الخاصّة ، من خبری ابن سنان وزرارة وغیرها ساکنة عن حکم استعماله فی الحدث الأکبر ، فضلاً عن وجود الإجماع علی الجواز ، إذ لم یعرف قائل بعدم الجواز ، مع إمکان دعوی صدق واجد الماء لمن کان یمتلک مثل هذا الماء المستعمل فی الوضوء ، وهو قادرٌ علی الاغتسال به فی الأغسال الواجبة مع ضیق الوقت ، فلابدّ له الغسل حینئذٍ ، والحکم بلزوم الاکتفاء بالتیمّم هنا مشکل جدّاً .

ولو جمع بین التیمّم والغسل کان أحسن وأوفق بالاحتیاط کما لایخفی .

هذا تمام الکلام فی الماء المستعمل فی الوضوء بأقسامه وأحکامه .

ص:410

وما استعمل فی الحدث الأکبر طاهر ، وهل یرفع به الحدث ثانیاً ؟ فیه تردّد ، والأحوط المنع (1).

وأمّا الماء المستعمل فی الحدث الأکبر وأحکامه فسیأتی البحث عنه فی المسألة القادمة .

(1) والبحث فیه یقع من جهات أربعة ، بل خمسة :

تارةً : فی أصل طهارته .

واُخری : فی مطهّریته من الخبث .

وثالثة : فی مطهّریته عن الحدث الأصغر .

ورابعة : فی مطهّریته عن الحدث الأکبر .

وخامسة : ویلحق بذلک بحثٌ فی جواز استعماله فی الأغسال والوضوءات غیر الرافعة وعدمه .

فی مطّهریة الماء المستعمل فی الحدث الاکبر عن الخبث

فلا بأس بالإشارة إلی کلّ واحد منهما علی حدة .

فأمّا الأوّل : فلا إشکال فی طهارته فیما لو کان بدن المغتسل طاهراً عن النجاسة النفسیّة والحکمیّة ، بلا فرق بین کون الغسل بنفسه رافعاً _ کما فی الجنابة _ أو مع الوضوء _ کما فیما عدا الجنابة من الأغسال فی الاحداث علی احتمال _ . وبلا فرق بین کون الماء کثیراً معتصماً ، _ کالکرّ والجاری والمطر _ أو قلیلاً .

ویدلّ علی طهارته اُمور :

الأوّل : الإجماع ، وهو بقسمیه قائم علیه ، ولا یعرف فیه خلاف أصلاً .

والثانی : الإطلاقات الواردة فی طهارة الماء ، حیث تشمل بإطلاقها لما بعد الاستعمال ، إذا لم یلاق نجساً ، واستعمل فی رفع الحدث الأکبر .

والثالث : وجود استصحاب الطهارة أیضاً ، لو شکّ فی طهارته بعد الغسل ، لأنّه

ص:411

کان قبله طاهراً ، فیشکّ بالاستعمال فی نجاسته ، فمقتضی «لا تنقض» هو الحکم ببقاء طهارته .

والرابع : وجود قاعدة الطهارة بقوله : «کلّ شیء لک طاهر حتّی تعلم أنّه نجس» ، حیث یشمل المقام . هذا کلّه مع إمکان استفادة الطهارة من بعض الأخبار علی احتمال ، وإن لم یکن منعتبراً ، وهو کما فی الخبر المنقول فی «عوالی اللئالی» ، عن ابن عبّاس ، قال : «اغتسلَ بعض أزواج النبیّ صلی الله علیه و آله فی جفنةٍ ، فأراد رسول اللّه أن یتوضّأ منها ، فقالت : یارسول اللّه إنّی کنتُ جنبة ؟

فقال صلی الله علیه و آله : الماء لا یجنب»(1) .

الجفنة ، والجفان : قصاع کبار واحدها جفنة ، ککلاب وکلبة ، ویجمع أیضاً علی الجَفَنات (بالتحریک) ، کما فی «مجمع البحرین» .

ویستفاد من الخبر أنّها کانت قد اغتسلت من إناء کبیر .

واحتمال کون ماءه علی مقدار الکرّ بعید غایته ، بل کانت الجفنة مثل الأوانی المتعارفة استعمالها الآن والتی تسمّی بالفارسیة : (سطل ، ولگن) أو أکبر منها ، فیظهر منه طهارة الماء .

فالمسألة واضحة لا تحتاج إلی مزید بیان .

وأمّا الثانی : لاشکّ فی مطهّریته من الخبث ، إذ مضافاً إلی وجود الأصل من الاستصحاب ، حیث کان قبل الاستعمال مطهّراً عنه قطعاً ، فبعده کذلک ، لدلالة قوله : «لا تنقض الیقین بالشکّ» فإنّه یدلّ علی ذلک إطلاقات الأدلّة الشاملة لمطهّریة الماء المطلق حتّی بعد استعماله فی الحدث الأکبر ، إلاّ ما ثبت وقام دلیل علی المنع ، وهو مفقود فی المقام .


1- مستدرک وسائل الشیعة : الباب 7 من أبواب الماء المضاف والمستعمل، الحدیث 2 .

ص:412

وکذلک الإجماع بکلا قسمیه ، لو لم نعتبر ما نقله «الذکری» عن «الخلاف» خلافاً .

جاء فی «مصباح الهدی» : «جوّز الشیخ والمحقّق إزالة النجاسة به ، لطهارته ، ولبقاء قوّة إزالته الخبث ، وإن ذهبت قوّة رفع الحدث .

وقیل : لا ، لأنّ قوّته استوفیت فالتحق بالمضاف» ، انتهی کلامه .

وقد تمسّک بعض المتأخّرین بهذه الجملة وجعلها مدرکاً للاعتراض علی مثل صاحب «الحدائق» والعلاّمة وفخر المحقّقین ، حیث ادّعوا الإجماع ونفی الخلاف فیه .

فی الوضوء بالماء المستعمل فی الحدث الأکبر

وإنْ تفطّن صاحب «المعالم» إلی ذلک وصرّح بکلام لا یبعد قوّته ، بأن یکون المقصود هو بعض المخالفین الذین یساعد هذا التعلیل مع مذاقهم دون أصحابنا ، إذ الخاصّة لم یعتمدوا فی إثبات الأحکام علی هذه الأوهام .

فدعوی الإجماع قویّة جدّاً .

إلاّ أنّه یظهر من کلام بعض الفقهاء ، مثل المفید فی «المقنعة» ، علی ما نقله الشیخ الأعظم قدس سره فی کتاب «الطهارة»(1) :

ولا ینبغی أن یرتمس الجنب فی الماء الراکد ، فإنّه إنْ کان قلیلاً أفسده ، ولم یطهر ، وإن کان کثیراً خالف السنّة بالاغتسال فیه ، ولا بأس بارتماسه فی الماء الجاری واغتساله فیه) انتهی .

ونجاسة الماء القلیل باستعماله فی الاغتسال محتملٌ ، لإمکان أن یکون مقصوده صورة نجاسة بدنه ، کما هو الغالب ، خصوصاً فی مثل تلک الأزمنة ، فلا یکون حینئذٍ مخالفاً .

وکذلک فی کلام ابن حمزة فی «الوسیلة» والشیخ فی «المبسوط» فی الماء


1- کتاب الطهارة : ص58 .

ص:413

المستعمل إذا تمّ کرّاً ، معلّلاً فی رفع المنع _ خصوصاً فی «المبسوط» _ بأنّه لا یحمل خبثاً .

هذا علی ما نقله الشیخ الأعظم فی کتاب «الطهارة» .

مع احتمال أن یکون المراد من المستعمل ، هو المستعمل فی الخبث لا مطلقاً ، حتّی یشمل مثل ما نحن فیه .

وکیف کان ، فما ذهب إلیه الأکثر من دعوی الإجماع فی المقام قویٌّ ، لعدم دلیل یمنع عن ذلک ، إلاّ إمکان الاستفادة من خبر عبداللّه بن سنان(1) ، من النهی عن التوضّی بالماء الذی یغتسل به الرجل من الجنابة ، علی أن یکون المراد هو مطلق التطهیر ، لإطلاق التوضّی ء علی ماء الاستنجاء کثیراً ، وعدم ثبوت حقیقة شرعیّة فی غیر لفظ (الوضوء) من سائر مشتقّاته ، علی ما نقله الشیخ الأعظم فی کتاب «الطهارة» ، فإنّه رحمه الله وإن ناقش فیه بأنّ الإنصاف مع ملاحظة صدرها وذیلها کونه مستعملاً فی غیر رفع الخبث .

إلاّ أنّا نقول : قد نضیف إلی ما ذکره قدس سره من إمکان کونه بلحاظ نجاسته ، لما قد عرفت من کون الغالب فی ذلک العصر هو نجاسة أبدانهم من الجنابة ، بل لعلّه کذلک فی زماننا أیضاً ، کما لایخفی .

وکیف کان ، فدعوی عدم التردید فی مطهّریته من الخبث ثابت ، واللّه العالم .

وأمّا الکلام فی القسم الثالث : فی أنّ المستعمل فی الحدث الأکبر هل یجوز استعماله فی رفع الحدث الأصغر أم لا ؟

ولا یخفی علیک أنّ الفقهاء رضوان اللّه تعالی علیهم أجمعین ، لم یفصّلوا بینهما فی الجواز والمنع والتردّد وغیرها ، وإن کان مقتضی استدلال بعضهم _ کالآملی _


1- وسائل الشیعة : الباب 9 من أبواب الماء المضاف، الحدیث 13 .

ص:414

هو التفصیل ، من الجواز فی الغسل دون الوضوء ، لکنّه قد استوحش فی مقام الاختیار والفتوی من بیان التفصیل .

فمع ذلک نذکر کلام ودلیل کلّ واحد منهم مستقلاًّ فی مقام الاستدلال ، حتّی یتّضح لنا الأمر فی هذه المسألة العویصة .

فنقول ومن اللّه الاستعانة :

والأقوال فی مسألة الوضوء ، علی ما حقّقناه أربعة :

قول : بالجواز وعلیه کثیر من الفقهاء ، من المتقدِّمین مثل صاحب «السرائر» والسیّد المرتضی ، وسلار ، وابن زهرة وابن سعید ، بل ومن المتوسّطین والمتأخّرین کما فی «القواعد» و«المنتهی» و«التحریر» و«المختلف» و«الذکری» و«المدارک» وإلیه ذهب الشهید الثانی ، وصاحب «الجواهر» و«مصباح الفقیه» ، والشیخ الأعظم ، والسیّد فی «العروة» ، والخوئی ، والخمینی والحکیم ، والگلپایگانی وغیرهم .

وقول : بالمنع وعلیه من القدماء جمعٌ کبیر ، بل قیل إنّه المشهور بینهم کالمفید ، والشیخ الطوسی ، والصدوقین ، وابن حمزة وابن البرّاج من القدماء ، والنراقی ، والسیّد الاصفهانی ، والآملی ، والبروجردی ، والشاهرودی ، وغیرهم من المنع ، ولو من جهة مراعاة الاحتیاط الوجوبی ، فراجع کتبهم .

وقول ثالث : وهو التوقّف والتردّد ، مع تأیید المنع بالاحتیاط ، فهو کما عن المصنّف هنا وفی «المعتبر» .

وقول رابع : هو التفصیل بین صورة الاضطرار من الجواز ، والمنع فی غیره ، وهذا هو المنقول عن الشیخ قدس سره فی «المبسوط» .

إذا عرفت الأقوال فی المسألة ، فالبحث فیها یکون :

تارةً : من جهة مقتضی الأصل العملی ، المسمّی بالدلیل الفقاهتی .

ص:415

واُخری : من جهة مقتضی الدلیل الاجتهادی .

فالأوّل : لا إشکال فی کون مقتضی الأصل _ وهو الاستصحاب _ مطهّریته من الحدث الأصغر ، لأنّه مقتضی الحکم بالإبقاء لما بعد استعماله فی رفع الحدث الأکبر ، بدلیل قوله : «لا تنقض الیقین بالشکّ» ، فیحکم بحصول الطهارة فیه .

فإن قلت : بعد التوضّی ء بمثل هذا الماء ، یشکّ فی أنّه هل ارتفع به الحدث أم لا ؟ فمقتضی استصحاب بقاء الحدث هو الحکم بالبقاء .

قلت : إنّ هذا الأصل محکوم بالاستصحاب الأوّل ، لأنّ الشکّ فی بقاء الحدث بعد التوضّی ء کان مسبّباً عن الشکّ فی جواز استعمال ذلک الماء ، فإذا حکم بجوازه بمقتضی الاستصحاب ، فیرتفع بذلک الشکّ فی بقاء الحدث لکونه مسبّباً عنه ، والأصل الجاری فی السبب رافعٌ للشکّ الموجود فی المسبّب .

هذا فضلاً عن وجود الإطلاقات الدالّة علی الجواز ، کما سیأتی بحثه إن شاء اللّه مفصّلاً .

فحیث قد عرفت أنّ مقتضی القاعدة الأوّلیة من الإطلاقات والأصل هو الجواز ، مضافاً إلی وجود دلیل خاصّ علیه أیضاً ، فلابدّ من تجسّس دلیل المنع ، فإن ثبت ذلک ، فبواسطته یخصّص عموم الأدلّة المجوّزة عموماً ، ویعارض الأدلّة الخاصّة خصوصاً ، وإلاّ فإنّ القاعدة تقتضی الحکم بمقتضی أدلّة الجواز ، کما لایخفی .

فالمانعون قد استدلّوا علی ذلک بخبر عبداللّه بن سنان ، عن الصادق علیه السلام ، قال : «لا بأس بأن یتوضّأ بالماء المستعمل ، وقال : الماء الذی یغسل به الثوب ، أو یغتسل به الرجل من الجنابة ، لا یجوز أن یتوضّأ منه ، وأشباهه ، وأمّا الذی یتوضّأ به الرجل فیغسل به وجهه ویده فی شیء نظیف ، فلا بأس أن یأخذه غیره ویتوضّأ به»(1) .


1- وسائل الشیعة : الباب 9 من أبواب الماء المضاف، الحدیث 13 .

ص:416

فالخبر صریح فی دلالته علی منع الوضوء من جهة النهی بقوله : «لا یجوز أن یتوضّأ منه» .

وقد أورد علیه بإیرادات عدیدة وهی :

أوّلاً : من المناقضة بین صدره وذیله ، لأنّه بصدره أجاز التوضّی ء بالماء المستعمل مطلقاً ، فیشمل مثل هذا الماء أیضاً ، وذیله ینفیه .

وثانیاً : یمکن أن یکون المنع عن التوضّی ء بالماء المستعمل فی الجنابة ، من جهة نجاسة البدن ، الموجب لتنجّس الماء ، لا لکونه مستعملاً فی رفع الحدث الأکبر ، حتّی یدلّ علی المنع المفروض فی المسألة .

وثالثاً : یحتمل کون النهی من جهة أنّه یمکن أن یکون القول بذلک بقرینة غسل الثوب ، حیث لا یکون غالباً نجساً ، فمع ذلک نهی عن التوضّی ء بغسالته المستعملة فی إزالة القذارة والأوساخ ، فیکون المراد من المستعمل فی الجنابة غیر النجس ، فیکون دالاًّ علی الکراهة لا الحرمة ، حتّی یستفاد منه المنع .

ورابعاً : بأنّ الحکم بالمنع عن التوضّی ء بالماء المستعمل فی رفع الحدث الأکبر موافق للعامّة ، بخلاف القول بالجواز ، فکأنّه یحتمل أن یکون وارداً مورد التقیة ، کما فی «الجواهر» .

هذا کلّه فی دلالة الحدیث .

کما أنّه یرد علیه أیضاً من جهة سنده لوجود أحمد بن هلال العبرتائی فیه ، وهو مرمی تارةً بالغلوّ ، وبالنصب اُخری ، بل علی قول الشیخ الأعظم فی «الطهارة» : بأنّ البُعد بین المذهبین یشهد بأنّه لا مذهب له أصلاً .

بل نقل عن سعد بن عبداللّه قوله : إنّا ما رأینا ولا سمعنا بمتشیّع رجع من تشیّعه إلی النصب إلاّ أحمد بن هلال .

بل ورد فی شأنه عن مولانا العسکری علیه السلام طعناً شدیداً ، فلا بأس بذکر

ص:417

الحدیث مفصّلاً علی ما فی «تنقیح المقال»(1) للممقانی ، نقلاً عن «رجال الکشی» فیما نقله عن القاسم بن العلاء ، أنّه خرج إلیه : «قد کان أمرنا نفذ إلیک فی المقفع بن هلال ، لا رحمه اللّه بما قد علمت ، لم یزل _ لا غفر اللّه له ذنبه ، ولا أقاله عثرته _ یداخل فی أمرنا بلا إذن منّا ، ولا رضی ، یستبدّ برأیه ، فیتحامی من ذنوب لا یمضی من أمرنا إیّاه إلاّ بما یهواه ویرید ، أرداه اللّه بذلک فی نار جهنّم ، فبصرنا علیه حتّی بتر اللّه بدعوتنا عمره ، وکنّا قد عرّفنا خبره قوماً من موالینا فی أیّامه لا رحمه اللّه ، وأمرناهم بإلقاء ذلک إلی الخاصّ من موالینا ، ونحن نبرأ إلی اللّه من ابن هلال لا رحمه اللّه ومن لا یبرأ منه ، واعلم الإسحاقی سلّمه اللّه وأهل بیته بما أعلمناک من حال هذا العاصی» ، انتهی موضع الحاجة» .

وأمّا الجواب عنها : فنبدأ أوّلاً بجواب الإشکال عن سنده ، فنقول :

إنّ ورود الطعن من العسکری علیه السلام فی حقّه مقبولٌ ، إلاّ أنّه لا یضرّ فی صحّة ما نقل عنه قبل إعوجاجه وانحرافه ، لاسیما مع ملاحظة نقل القمّیین مثل الصدوقین وابن الولید وسعد بن عبداللّه عنه ، مع کثرة تتبّعهم وشدّة احتیاطهم فی حال الرواة والنقل عنهم .

ولیس المقصود من ذلک وثاقة الرجل من جمیع الجهات ، بل المقصود أنّه إذا نقل الحدیث عن مثل هذا الرجل یفهم أنّه کان موثّقاً عندهم ، سواء کان هذا الاطمئنان حاصلاً لهم من وثاقته أو من القرائن الخارجیّة أو المحفوفة ، خصوصاً إذا کان منقولاً عن طریق الحسن بن محبوب ، حیث حُکی عن ابن الغضائری _ الطاعن فی کثیر من یطمئن علیه غیره _ أنّ الأصحاب لم یعتمدوا روایته إلاّ ما یرویه عن «مشیخة» ابن محبوب و«نوادر» ابن أبی عمیر ، حتّی أنّه قد حُکی عن


1- تنقیح المقال : 1 / 99 .

ص:418

السیّد میرداماد أنّ ما یرویه ابن هلال عن الکتابین کان ملحقاً بالصحاح ، بل کان الشیخ الأنصاری قدس سره أیضاً فیمن یقول بأنّ لروایته قرائن تکاد تلحقها بالصحاح .

بل عن الوحید البهبهانی فی «الحاشیة علی المدارک» الاعتماد علیه .

فیما أشکل المحقّق الخوئی فیه ، وبسط الکلام ، وأتعب نفسه فی ذلک ، لکن فی غیر محلّه ، لأنّه فضلاً عن رجوعه عمّا قاله أوّلاً من التضعیف ، کما نقل ذلک مقرّره فی ذیل «التنقیح» لوجود أحمد بن هلال فی سلسلة «کامل الزیارات» وغیر ذلک من المرجّحات ، التی کانت عنده مقبولة ، وقبول أکثر المتأخِّرین ذلک الخبر ، واعتمادهم علیه فی فتاواهم بالإفتاء ببعض مضامینه ، فلا یبقی حینئذٍ للشکّ والتردید فی اعتبار السند مجال .

فما ذکره بعضٌ کالمحقّق والعلاّمة فی «المعتبر» و«المنتهی» ومن تبعهما ، من الطعن فی سنده لا یعتنی به .

فالحدیث من حیث السند متلقاة بالقبول والاعتبار ، وقابل للتمسّک به فی مقام الاستدلال والاختیار .

وأمّا الجواب عن الإشکال فی دلالته : فأمّا عن المناقضة بین الصدر والذیل ، فلما عرفت أنّ المراد من (المستعمل) فی الصدر إمّا أن یکون خصوص الوضوء ، کما علیه السیّد فی «الروائع الفقهیّة» ، فیکون نفی البأس لخصوص المستعمل فی الوضوء ، والبأس فی الذیل للمستعمل فی الغَسل فلا مزاحمة بینهما حتّی یکون متناقضاً .

وأمّا أن یکون مطلقاً ، إلاّ أنّه أراد خصوص الوضوء بإخراج أفراده فرداً فرداً ، فیبقی المستعمل فی الوضوء تحت عموم نفی البأس ، والمستعمل فی الغَسل (بالفتح) فی (الشیء النظیف) المذکور بالخصوص فی ذیله ، والبأس یکون متعلِّقاً بالفردین ، وهما المستعمل فی غَسل الثوب وغُسل الجنابة ، فلا مناقضة فیه أیضاً .

ص:419

فالإشکال مندفع جدّاً .

کما أنّ الإشکال بأنّه موافق للعامّة _ الواقع فی رابع الإشکالات _ غیر وارد ، لأنّهم یقولون بالمنع فی جمیع أفسام الاستعمال ، خصوصاً فی الوضوء ، بخلاف ما هو مضمون الحدیث ، حیث یکون المنع فی خصوص ما استعمل فی رفع الخبث والحدث الأکبر ، ولم یعهد هذا القول من أحد من العامّة .

فأصالة الجهة جاریة هنا ، یعنی أنّ الأصل یقتضی عدم کونه صادراً علی نحو التقیّة ، حتّی لا یکون حجّة ، کما لایخفی .

فبقی من الإشکالات الأربعة إشکالان :

أحدهما : کون النهی بلحاظ نجاسة الماء ، لملاقاته مع نجاسة البدن غالباً ، فلایکون النهی حینئذٍ من حیث کونه مستعملاً فی الحدث الأکبر .

فأُجیب عنه : بأنّه وإن کانت الغلبة نجاسة البدن ، إلاّ أنّ الظاهر کون الحکم هنا حیثیّاً ، أی یکون النهی من حیث أنّه مستعمل فی الحدث الأکبر ، وهذا لا ینافی انضمام جهة اُخری ، مثل کونه ملاقیاً مع النجاسة أیضاً ، ومستعملاً فی رفع الحدث الأکبر ، فیکون النهی مطلقاً وإن لم یکن منضمّاً إلی هاتین الجهتین .

مضافاً إلی کونه معطوفاً بما استعمل فی غَسل الثوب ، الذی کان المفروض فیه النجاسة ، فلو کان المقصود فی المعطوف علیه ، هو فرض النجاسة أیضاً ، للزم أن یکون العطف عطفاً تفسیریّاً من باب عطف الخاص علی العام ، وهو بعید غایة البُعد ، کما فی «مصباح الهدی»(1) .

ونحن نزید علی الجواب عن الإشکال : بأنّه لو سلّمنا کون المفروض فی غسل الثوب کونه نجساً ، مع إمکان الإشکال فیه کما سیأتی ، لکنّه لا نُسلّم کون


1- مصباح الهدی : ص200 .

ص:420

الغالب فی الجنب النجاسة ، لأنّه من الواضح أنّه قل ما یتّفق بأن یغتسل الرجل من الجنابة مع اتّحاد غُسله مع غسله للنجاسة من حیث إجراء الماء ، بل کثیراً ما یبدأ المجنب أوّلاً بغسل العورة والبدن عن النجاسة ، ثمّ یغتسل للجنابة ، کما یشهد لذلک ما وقع فی بعض الأخبار من الحکم بغسل الفرج مع الماء مستقلاًّ ثمّ الغُسل للجنابة ، وکما ورد فیی خبر محمّد بن مسلم(1) ، عن أحدهما علیهماالسلام ، قال : «سألته عن غُسل الجنابة ؟ فقال : تبدأ بکفّیک فغتسلهما ، ثمّ تغسل فرجک ، ثمّ تصبّ علی رأسک ثلاثاً ، ثمّ تصبّ علی سائر جسدک مرّتین ، فما جری علیه الماء فقد طَهُر» .

وخبر زرارة ، قال : «قلت : کیف یغتسل الجنب ؟ فقال : إنْ لم یکن أصاب کفّه شیء غمسها فی الماء ، ثمّ بدأ بفرجه فأنقاه بثلاث غرف ، ثمّ صبّ علی رأسه ثلاث أکف» الحدیث(2) .

وغیر ذلک من أخبار هذا الباب .

فالغلبة المذکورة فی کلام أکثرهم ممنوعة جدّاً ، خصوصاً مع ملاحظة قلّة الماء ، حیث ربما یوجب انفعال الماء قطعاً ، فإیجاد الغَسل والغُسل مع هذا الماء دفعة واحدة یکون فی غایة الإشکال .

ولو سلّمناه فإنّه یکون فی مثل الماء المتّصل بالکرّ کما فی الأنابیب المتداولة فی زماننا . فعلیه یعلم أنّ النهی عن التوضّی ء بذلک ، لا یکون إلاّ من جهة کونه مستعملاً فی الحدث الأکبر کما لا یخفی ، فیکون هذا دلیلاً للمانعین .

وأمّا مع تسلیم کون الغالب من استعمال الماء فی غُسل الجنابة هو نجاسة بدنهم ، وقلنا بکون الغسالة فی رفع الخبث نجساً _ کما علیه الأکثر ، ونحن أیضاً


1- وسائل الشیعة : الباب 26 من أبواب الجنابة، الحدیث 1 .
2- وسائل الشیعة : الباب 26 من أبواب الجنابة، الحدیث 2 .

ص:421

قد اخترناه سابقاً _ فحینئذٍ یمکن أن یکون النهی فی الفقرة الثانیة من جهة إفهام السائل بأنّ المستعمل فی رفع الخبث یعدّ نجساً .

وکذلک یمکن أن یکون الإفهام أنّ الاستعمال فی رفع الحدث الأکبر مانع عن استعماله فی الوضوء .

فلا إشکال حینئذٍ فی کون الثانی أولی ، فراراً عن لغویة تکرار الحکم ، إذا فرض کون الثوب أیضاً نجساً ، ولعدم خصوصیّة لغسل الجنابة حینئذٍ فی الذکر بالخصوص .

هذا بخلاف ما لو قلنا بالاحتمال الثانی ، فإنّه یکون حینئذٍ حکماً مستقلاًّ غیر ما ذکره فی الثوب ، إذ الخبر فی هاتین الفقرتین حینئذٍ یکون مشتملاً علی حکمین ، وهما عدم جواز التوضّی ء من المستعمل فی النجاسة ، المفهوم من الفقرة الاُولی ، وعدم جواز التوضّی ء فی المستعمل فی رفع الحدث الأکبر .

ومن هنا ظهر فساد کلام الآملی من أنّه لو کان المقصود من النهی باعتبار نجاسة البدن للزم أن یکون العطف من باب عطف الخاص علی العام ، وذلک لأنّه لا عموم فی الأوّل حتّی یکون الثانی بالنسبة إلیه خاصّاً ، بل یکون من باب عطف فرد علی فرد آخر ، وهو غیر وجیه للفصیح ، لاسیما من مثل الإمام روحی له الفداء ، الذی یعدّ إمام الفصحاء ، إلاّ فی بعض الموارد لوجود مصلحة فی تکراره أو لأجل التمثیل ، کما لا یخفی .

وثانیهما : کون النهی فیه تنزیهیّاً ، بقرینة غَسل الثوب ، لعدم کونه غالباً نجساً ، فیکون النهی عن التوضّی ء بما استعمل فیه لکونه مستعملاً فی إزالة الأوساخ والقذارات ، فیکون حینئذٍ هو قرینة علی کون النهی عن التوضّی ء فی الماء المستعمل فی غسل الجنابة أیضاً تنزیهیّاً ، فیساعد ذلک ما عرفت من عدم غلبة نجاسة بدن الجنب حین الاغتسال ، فلا ینافی ذلک کون التوضّی ء عن الماء

ص:422

المستعمل فی کلا قسمیه مع نجاستهما غیر جائز ، لثبوت النجاسة فیه أیضاً .

بل قد یؤیّد هذا الاحتمال ما وقع فی آخر الحدیث _ من تجویز التوضی ء فی ماء یغسل به وجهه ویده فی شیء نظیف _ بما قد عرفت منّا سابقاً بقرینة تصریح الغسل بالخصوص فی الوجه والید ، مع کفایة فهم ذلک من لفظ (التوضی) ، لو کان المقصود منه هو الوضوء الاصطلاحی ، وإضافته إلی لفظ (النظافة) کون المراد هو مطلق التطهیر والتنظیف ، أی یجوز الوضوء بماء استعمل فی شیء نظیف ، أی لا کراهة فیه کما کانت فی سابقیه .

فعلی هذا التقدیر لا یکون الحدیث حینئذٍ دلیلاً للمانعین ، لأنّهم أرادوا إثبات المنع بمعنی عدم الجواز لا الکراهة .

هذا ، ولکنّه قد نوقش فیه _ کما فی «مصباح الهدی» ، و«المستمسک» و«مصباح الفقیه» بأنّ هذا الاحتمال ضعیف للغایة ، إذ لیس علیه دلیل أصلاً ، مع ظهور قوله : «الماء الذی یغسل به الثوب» ، فی کون غسله لإزالة خبثه ، کیف ولو جاز حمله علی الغسل لإزالة الأوساخ من غیر دلیل ، فلیحمل علی الغسل وإن لم یکن عن وسخ ، فلا یبقی معه محلٌّ للحمل علی الکراهة .

وهذا الحمل أوفق من حیث الجمود علی ظاهر اللفظ ، إذ لیس فیه ما یوجب الحمل علی إزالة الوسخ ، انتهی کلامه فی «مصباح الهدی»(1) .

ولکن الإنصاف عدم تمامیة هذه المناقشة ، لأنّ الدلیل هو ما عرفت من عدم وجود الغلبة فی نجاسة الثوب فی الخارج ، فحمله علی خصوص النجس منه لا یخلو عن بشاعة ، لکونه فرداً نادراً بالنسبة إلی سائر أفراد الثیاب القذرة ، کما لایخفی .

وأمّا جعل الحمل علی مطلق الغسل _ ولو من غیر وسخ _ أوفق وأولی ، حتّی


1- مصباح الهدی : ص199 .

ص:423

لا یکون النهی تنزیهیّاً فغیر وجیه ، لأنّ المناسبة بین الحکم والموضوع یوجب کون النهی حینئذٍ لوجود خصوصیّة فی الماء المستعمل عند العرف حیث ینهاه .

وأمّا فیما لم یکن فیه شیء أصلاً ، کما لو کان الثوب طاهراً أو نظیفاً ، وبرغم ذلک ینهی عنه ، فإنّه مضافاً لعدم مساعدته مع ما هو المذکور فی الذیل ، بإلقاء الخصوصیّة عن الوجه والید ، والشیء الذی هو کنایة عن الإناء أنّه لا یکون عند العرف والعقلاء فی استعماله نفرة حتّی یستلزم النهی عنه ولو تنزیهیّاً ، فأیّ خصوصیّة أجود وأحسن من ذلک! .

ولکن الحقّ الذی ینبغی أن لا نغفل عنه ، هو أنّ حمل النهی فی قوله : «لایجوز أن یتوضّأ منه وأشباهه» علی النهی الکراهتی هنا بعید غایته ، وإن لم یکن کذلک فی بعض الموارد ، وذلک لأنّ حمل النهی علی الکراهة فی سائر الموارد ، یکون بالتصرّف فی ظهور الهیئة وصرفها عمّا هو الظاهر فیها ، وهی الحرمة ، وهذا بخلاف ما نحن فیه ، حیث أنّ مادّة الجواز إذا وقع عقیب النهی ، یکون ظهوره فی الحرمة أقوی ، فحمله علی الکراهة بعید جدّاً ، فعلی هذا لابدّ من الحمل علی أحد أمرین :

إمّا القول بحرمة التوضّی ء من الماء المستعمل فی غسل الثوب الوسخ غیر النجس ، وفی غُسل الجنابة من دون نجاسة البدن أیضاً .

وأمّا القول بالحرمة فیهما مع فرض نجاستهما .

فحیث کان الحکم بالحرمة فی الاحتمال الأوّل فی المستعمل فی الثوب خلاف الإجماع ، وإن لم یکن فی الثانی کذلک ، إلاّ أنّ القول به لا یساعد مع وحدة السیاق ، فلابدّ من حمله علی الاحتمال الثانی ، حیث لا یکون حینئذٍ خلاف الإجماع لوجود القائل به ، بل ادّعی الإجماع علی عدم جواز التوضّی ء من الماء المتنجّس ، إنْ قلنا بنجاسة الغسالة .

ص:424

وهکذا لا یکون خلاف فی التوضّی ء بالماء المستعمل فی رفع الخبث .

فتعیّن الحمل علی الاحتمال الثانی حیث یوجب حفظ النهی فی ظهوره وهو الحرمة ، وإن کان هذا الحمل بعید أیضاً ، من جهة قلّة مورد نجاسة الثوب والبدن ، فلذلک تری أنّ کثیراً من الفقهاء لم یقیموا علی فتواهم بالمنع دلیلاً یوجب الاطمئنان علی الفتوی بالمنع أو الجواز جزماً ، کما لا یخفی .

نعم ، قد یمکن الاستدلال علی جواز الوضوء بالماء المستعمل بخبر الوارد فی «عوالی اللئالی»(1) ، عن ابن عبّاس ، قال : «اغتسل بعض أزواج النبیّ صلی الله علیه و آله فی جفنةٍ ، فأراد رسول اللّه أن یتوضّأ منها ، فقالت : یارسول اللّه إنّی کنت جنباً .

فقال صلی الله علیه و آله : إنّ الماء لا یجنب» .

والظاهر أنّ اغتسال بعض أزواج النبی کان فی داخل الجفنة ، وهی القصعة الکبیرة ، لا أخذ الماء منها والاغتسال فی خارجها ، کما یؤیّد ذلک إخبارهنّ له صلی الله علیه و آله بذلک ، حیث یفهم أنّه لو کان لتوهّم عدم جواز التوضی ء بالماء المستعمل فی الحدث الأکبر وإلاّ لما کان لتوهّمها بالنسبة إلی أخذ الماء منه وجهاً وجیهاً ، کما لایخفی .

وإنْ جعل بعض المحقّقین _ کالآملی قدس سره _ هذا الاحتمال مؤیّداً للجواز أیضاً ، من جهة لسان تعلیله صلی الله علیه و آله : «بأنّ الماء لا یجنب» .

ولکن یرد علیه من جهتین :

الجهة الاُولی : فی سنده ، لکونه مرسلاً ، ومنقولاً عن کتاب «عوالی اللئالی» _ والصحیح بالعین المهملة لا المعجمة کما عن «المستدرک» _ لابن أبی جمهور الاحسائی ، واسمه محمّد بن علی بن إبراهیم ابن أبی جمهور الاحسائی .


1- مستدرک وسائل الشیعة : الباب 6 من الماء المستعمل من المیاه، الحدیث 2 .

ص:425

والکلام وقع فیه أوّلاً فی شخصه ، وهو وإن کان عالماً متکلِّماً جامعاً للمعقول والمنقول ، إلاّ أنّه متّهم بالتصوّف ، وکان مفرطاً فیه کما نقله «المستدرک» عن صاحب «روضات الجنات» ، وقد وثّقه النوری فی «المستدرک» ، والمحدّث الجزائری ، حیث ألّف کتاباً سمّاه ب_ «الجواهر الغوالی فی شرح عوالی اللئالی» ، فراجع «المستدرک» .

وثانیاً : فی کتابه من جهة خلطه الأخبار بین غثّها وسمینها ، وصحیحها وسقیمها ، کما نقل ذلک فی «الروضات» عن الشیخ الحُرّ العاملی فی «وسائل الشیعة» .

بل وهکذا صاحب «الریاض» و«اللؤلؤة» والمجلسی فی «البحار» .

بل عن صاحب «الحدائق» : عدم الاعتماد بأخبار کتابه عند الأصحاب ، فالاعتماد علیه حینئذٍ منفرداً بنحو الدلیل والاستدلال لا التأیید والإکمال ، لا یخلو عن تأمّل خصوصاً مع إرساله ، ولو سلّمنا وثاقة الرجل بنفسه ، کما هو واضح لا خفاء فیه .

فی الاغتسال بالماء المستعمل فی الحدث الأکبر

الجهة الثانیة : فی دلالته :

أوّلاً : لیس فیه بأنّه صلی الله علیه و آله قد توضّأ فیه أم لا ، حتّی یکون فعله _ مضافاً إلی قوله _ مؤیّداً للجواز ، فلعلّه لم یتوضی ء بعد ذلک ، ولو لأجل الکراهة مثلاً ، لو لم نقل بالحرمة .

ثانیاً : وإن استبعدنا سابقاً کون الجفنة کبیرة تسع بقدر الکرّ ، إلاّ أنّه لا ینفی الاحتمال ، فإذا احتملنا کونه کرّاً ، فلا یکون حینئذٍ مفیداً لما نحن بصدده .

کما قد یؤیّد هذا الاحتمال ، کون الجفنة کبیرة بحیث کنّ قادرات علی الاغتسال فیها ، فاحتمال استیعابه بمقدار الکرّ لیس ببعید غایته ، کما لایخفی .

فالاعتماد علی هذا الحدیث علی حدّه ، لولا دلیل آخر ، مع وجود احتمال المنع من خبر ابن سنان _ کما عرفت _ فی غایة الإشکال ، بلا فرق فی المنع من الوضوء بین أقسامه .

ص:426

فالأحوط عدم جواز التوضی ء بالماء المستعمل فی الحدث الأکبر مطلقاً .

وأمّا الکلام فی القسم الرابع : وهو استعمال الماء الذی استعمل سابقاً فی رفع الحدث الأکبر ، فی رفع الحدث الأکبر مرّة اُخری .

ففیه أیضاً مثل الوضوء من جهة اختلاف الأقوال علی أربعة : من الجواز مطلقاً ، والمنع مطلقاً ، والتوقّف مع تأیید المنع بالاحتیاط ، والتفصیل بین حال الضرورة بالجواز وعدمها بالمنع .

وقد عرفت أنّ الفقهاء لم یفرقوا فی الحکم جوازاً ومنعاً وتفصیلاً بین الوضوء والغسل ، إلاّ أنّنا بحثنا عن کلّ واحد منها علی حدة .

فالآن نشرع فی بیان حکم الغسل بالماء الذی استعمل فی رفع الحدث الأکبر ، فنقول ومن اللّه الاستعانة :

قد استدلّ المانعون علی المنع بمقبولة عبداللّه بن سنان التی مرّت ، باحتمال أن یکون کلمة (وأشباهه) عطفاً علی الضمیر المجرور فی (منه) ، فیکون الخبر معنی حینئذٍ : أنّ الماء الذی یغسل به الثوب وأشباهه ، من بدن النجس ، والجسم النجس ، وما یغتسل به الجنب وأشباهه ، من بدن النجس ، والجسم النجس ، وما یغتسل به الجنب وأشباهه من المستعمل فی الحیض والنفاس والاستحاضة ، لا یجوز الوضوء منه ، فحینئذٍ لا یکون الخبر دالاًّ علی المنع بالنسبة إلی الغسل ، لکنّه داخل فیه بأحد الأمرین :

أمّا بالإجماع المرکّب ، لأنّ القائل بالتفصیل بین الوضوء _ بعدم الجواز _ والغسل بالجواز ، غیر موجود بین الأصحاب .

أو یلحق بالوضوء بطریق الأولویّة ، لأنّه إذا مُنع من استعمال الماء المستعمل فی الحدث الأکبر لرفع الحدث الأصغر ، ففی رفع الحدث الأکبر یکون منعه بطریق أولی .

ص:427

هذا کما فی «الروائع الفقهیّة» للسیّد قدس سره .

ولکن هذا الوجه لإثبات المنع فی الغسل قابل لورود إشکالات علیه :

أوّلاً : من جهة القاعدة النحویة الثابتة والمتّفق علیها بین النحاة ، من عدم جواز العطف علی الضمیر المجرور ، من دون إعادة الجار ، فلا یقال : «مررت به وزید» ، بل یقال : (وبزید) فلا یصحّ نسبة اللحن إلی الإمام علیه السلام .

والعجب من صاحب «مصباح الهدی» مع وقوفه علی هذا الإشکال ، فمع ذلک یقول بکونه أظهر بحسب العرف وأنّه لا ینافی کونه خلافاً للقاعدة! .

وثانیاً : من الإشکال فی الإجماع ، بإمکان القول فیه بأنّه عدمن القول بالفصل ، لا قولٌ بعدم الفصل ، حتّی لا یجوز الذهاب إلی خلافهم ، وإن کان هذا لا یخلو من إشکال .

وثالثاً : من إمکان الإشکال فی أصل الأولویّة ، کما فی «مصباح الهدی» ، بأن لا یکون الوضوء جائزاً ، بخلاف الغسل فیکون جائزاً ، وإن کان هذا المنع لا یخلو عن تأمّل .

فمع ورود هذه الإشکالات _ ولو علی نحو الاحتمال _ یستلزم أن نختار فی فقه الحدیث معناً یدلّ علی المنع فی الغسل أیضاً من دون ورود إشکال فیه ، وهو أن یکون کلمة (وأشباهه) عطفاً علی المصدر المشتقّ من (أن یتوضّأ) ومرفوعاً لکونه فی محلّ الفاعل لجملة لا یجوز ، فیکون التقدیر هکذا : «لایجوز الوضوء وأشباهه _ وهو الغسل _ عن مثل الماء المذکور فی الصدر» .

فیکون الخبر سالماً عن اللحن والمخالفة للقواعد العربیّة ، کما یسلم حکم منع الغسل عنه أیضاً عمّا ورد فی الاحتمال الأوّل .

فإن قلت : فعلیه لا یشمل الحدیث ، الماء المستعمل فی رفع الحدث الأکبر ، عند غُسل الجنابة مثل الحیض والنفاس ، بخلاف ما لو رجع کلمة (أشباهه) إلی

ص:428

غُسل الجنابة ، فإنّه یدخل مثل هذه المیاه فی الحکم .

وتوهّم دخول غیر غسل الجنابة فی حکم غسل الجنابة من جهة المشابهة فی الحدثیة مشکل .

کما أنّ دعوی وحدة حکمهما فی ذلک عند الفقهاء أشکل .

فهذا یوجب تقویة الاحتمال الأوّل علی الثانی ، هذا کما فی «التنقیح» .

قلت : لا موجب لأن نفسّر الحدیث بما یخالف القواعد العربیة لکن نحصل علی حکم عام یشمل کلّ الأحداث الکبیرة ، بل القاعدة تقتضی التعبّد بظهور الخبر بما هو فصیح بقدر ما یدلّ علیه ، فإن أمکن القطع بإلغاء الخصوصیّة عن المورد وإلحاق غیره إلیه لحکمنا به ، وإلاّ یکتفی بالحکم فی خصوص المورد ، خصوصاً فیما إذا کان المنع علی خلاف الأصل ، حیث یقتضی الاکتفاء علی القدر المتیقّن فیه ، وهو المستعمل فی غُسل الجنابة ، لو لنم نقل بالتعمیم من باب مناسبة الحکم والموضوع .

فثبت من جمیع ما ذکرنا أنّ الاحتمال الثانی أقوی .

فإن فرغنا من إثبات الحکم بالمنع فی الوضوء ، کان الغسل مثله أیضاً بلحاظ ورود النهی التحریمی لوجود لفظ (لا یجوز) ، ومن حکم الجواز ، بلحاظ عدم غلبة نجاسة الثوب والبدن فی الجنب ، ولذک حکمنا بالاحتیاط بالمنع فی الوضوء ، وکذلک فی الغسل .

مع ما عرفت من إمکان دعوی الأولویّة ، بل وجود الإجماع المرکّب هنا أیضاً ، کما لایخفی .

وقد استدلّ للمنع بعدّة أخبار لا بأس بذکرها والإشارة إلیها ، وملاحظة دلالتها :

فمنها : صحیح عبداللّه بن مسکان(1) قال : «حدّثنی صاحبٌ لی ثقة أنّه سأل


1- وسائل الشیعة : الباب 10 من أبواب الماء المضاف، الحدیث 2 .

ص:429

أبا عبداللّه علیه السلام عن الرجل ینتهی إلی الماء القلیل فی الطریق ، فیرید أن یغتسل ، ولیس معه إناء ، والماء فی وهدة ، فإن هو اغتسل رجع غسله فی الماء کیف یصنع ؟ قال : ینضح بکفّ بین یدیه وکفّاً من خلفه وکفّاً عن یمینه وکفّاً عن شماله ، ثمّ یغتسل» .

بیان دلالة الحدیث : هو تقریر الإمام علیه السلام لما هو المرتکز فی ذهن السائل من ممنوعیّة ورود (غَسله فی الماء) أو (غُسله فی الماء) _ وهو الماء المستعمل فی الغُسل کما فی «الوافی» _ إلی الوهدة ، _ وهی بمعنی المنخفض من الأرض _ .

هذا ، ولقد وقع الفقهاء فی غسر من فهم فقرات هذا الحدیث ، ووجّهوها بتوجیهات کثیرة لا یخلو بعضها عن تعسّفات باردة ، فلا بأس بذکرها ثمّ ذکر مختارنا فیها .

قیل : بأنّ المراد من قوله : «ینضح بکف بین یدیه ، وکفّاً من خلفه . . .» هو رشّ الأرض بجوانبها الأربعة ، لتجتمع أجزائها ، فیمنع عن انحدار الماء إلی الوهدة .

فأورد علیه فی «السرائر» بأنّ هذا لا یلتفت إلیه ، لأنّ الأرض إذا تبلّلت یوجب ازدیاد وسرعة من کونها جافّة انحدار الماء .

لکنّه یندفع بإمکان أن یقال : بأنّ مقصود القائل هو جعله طیناً بحیث تمنع عن رجوع الماء إلیه ، لا الرشّ الموجب لرطوبة الأرض ونداها الموجب لسرعة الرجوع .

وقیل : کما عن الشیخ الأعظم قدس سره ، بأن یکون المراد منها هو بلّ الجسد کذلک حتّی یوجب تسهیل البدن لقبول الماء بأقلّ من ذلک ، ممّا لا یوجب زائدة الرجوع إلی الماء القلیل .

فأُجیب عنه _ کما فی «مصباح الهدی» _ بأنّه مضافاً إلی بُعده ، کان الأولی أن یذکر کلمة (علی خلفه وأمامه) ، لا کلمة (عن وبین یدیه) الظاهرة فی الجوانب من الأرض .

ص:430

ونحن نردّه بما یأتی إن شاء اللّه من بیان هذه الفقرة من الحدیث بما قد یساعد هذا الاحتمال ، فانتظر ذلک .

وقیل : _ کما عن «المصباح» للآملی _ : بأنّ هذا الأمر بالرشّ کان من جهة خشیة السائل من نجاسة أطراف الوهدة ، وخوفه من رجوع الماء المتنجّس إلی الوهدة ، الموجبة لانفعال الماء ، فأراد الإمام علیه السلام بهذا العمل تطهیر الأطراف بالنضح علیها ، لکی لا ینفعل الماء الذی فی الوحدة بورود غسلة علیه ، ثمّ إنّه استدلّ بخبر الکاهلی الوارد فی الوضوء مثله .

وهو بعید جدّاً ، لوضوح أنّه کیف یتطهّر مع هذا المقدار من الماء الذی هو کفٌّ من الماء لمثل الأرض التی یحتاج فی تطهیرها _ نوعاً _ لماء کثیر عادةً ، إلاّ أن تکون صلبة ، فتأمّل .

ثمّ إنّه من أیّ طریق استفید کون الأرض نجسة ، مع عدم وجود ما یدلّ علی ذلک فی الخبر ، کما لایخفی .

وهذا الإشکال یرد أیضاً علی الخبر الذی ذکره ، وهو حدیث الکاهلی(1) ، قال : «سمعت أبا عبداللّه علیه السلام ، یقول : إذا أتیت ماء وفیه قلة ، فانضح عن یمینک وعن یسارک وبین یدیک وتوضّأ» .

وقیل : کما عن «الروائع الفقهیّة» ، واحتمله الخوئی ، بأنّ رشّ الجوانب الأربع من الأرض لعلّه کان من آداب الغسل والوضوء ، لورود ذلک فی أخبار اُخر ، ولعلّ حکمته کانت من جهة کون هذه الأرض فی معرض ملاقاة النجاسة لتردّد بعض الحیوانات النجسة فیها ، فکان النضح لأجل ذلک .

وقیل : یحتمل أن یکون المحذور عند السائل ، هو اختلاط الماء بالتراب ،


1- الوافی : باب الماء القلیل المشتبه ورفع الحدث به، الحدیث 1 ص13 .

ص:431

وسوقه فی الماء ، فیوجب صیرورة الماء وحلاً وهذا یحصل إذا لم تکن الأرض رطبة ، فأمر الإمام علیه السلام بعلاج ذلک ، بهذا الطریق حتّی لا یدخل التراب فیه .

لکنّه بعید غایته ، بل هو أبعد الوجوه .

فالأولی أن یقال : بأنّ هذا الخبر یشابه فی دلالته خبراً آخر وهو صحیح علیّ بن جعفر(1) ، فی حدیثٍ ، قال : «سألته عن الرجل یصیبه الماء فی ساقیة أو مستنقع أیغتسل فیه للجنابة . . . . وهو یتخوّف أن یکون السباع قد شربت منه ؟

فقال : إن کانت یده نظیفة ، فلیأخذ کفّاً من الماء بید واحدة ، فلینضحه خلفه ، وکفّاً أمامه ، وکفّاً عن یمینه ، وکفّاً عن شماله ، فإن خشی أن لا یکفیه ، غَسَل رأسه ثلاث مرّات ، ثمّ مسح جلده بیده ، فإنّ ذلک یجزیه »، الحدیث .

قال صاحب «الوافی» فی ذیله : (والثابت : خوفه من ورود وارد علیه ممّا أفسده ، من کلبٍ ونحوه من السباع ، المقتضی لوسوسة قلبه ، وریبة فی طهارته ، فأشار علیه السلام أوّلاً بما یزیل عن قلبه الریب فی نجاسته الموهومة ، بل لوهم رجوع الغسالة إلیه ، بنضح بعضه علی أطراف ساقیة المستنقع لتطیب بقیّته ، ولیجوز أن تکون القطرات الواردة علیه إنّما وردت من الأطراف المنضوحة دون البدن» ، انتهی موضع الحاجة من کلامه .

فظاهر کلامه رحمه الله ، أنّه أراد بیان احتمالین : نضح الماء للأطراف حتّی یوجب التطهیر ، کما أشار إلیه بقوله : «لتطیب بقیّته» أی الماء الراجع إلیه ، فیخرج الرجل عن الوسوسة ، لأنّه قد طهّره بذلک ، فکانت الکفّ کنایة عن إلقاء الماء علیه کذلک .

فهذا المعنی یشابه ما اختاره الآملی قدس سره .

والعجب منه أنّه نقل کلام «الوافی» ، ثمّ قال فی ذیله : بعد استبعاده مع ما فی


1- وسائل الشیعة : الباب 10 من أبواب الماء المضاف، الحدیث 1 .

ص:432

الأوّل _ یعنی هذا المعنی والوجه _ منهما من أنّه قدس سره لم یبیّن کیف یصیر نضح بعض الماء علی الجوانب الأربع موجباً لتطیب بقیّته ، مع أنّه نفسه قدس سره قد اختار هذا المعنی ، حیث قد عرفت منّا تضعیفه ، فکأنّه لم یفهم من کلامه ما ذکرنا .

والاحتمال الآخر وهو الأفصل والأجود أن یکون ذلک العمل لإیجاد الشبهة فی نفس المغتسل أو المتوضی ء ، کما فی حدیث وارد فی الوضوء بأنّه لو رأی رجوع الماء _ فی الجملة _ علی الماء الواقع فی الساقیة أو الوهدة یظنّ أنّه من ذلک الماء المنضوح فی الجوانب ، لا نفس الماء المستعمل ، حتّی یوجب حدوث وسوسة فی نفسه ولو من حیث الکراهة .

بناءً علی هذا لا یکون الأمر فی الخبر لأجل نجاسة الأطراف ، حتّی یرد ما قلناه من عدم دلالة متن الحدیث فی بعض الأخبار ، کالخبر الوارد فی الوضوء ، أو الوارد فی المقام علی نجاسة الأطراف بالسباع وغیرها ، هذا فضلاً عن وجود قاعدة الطهارة فی مثل هذه الموارد ، وملاحظة شدّة مخالفة الأئمّة لعمل الوسواس ، فکیف یصحّ إسناد عمل إلیهم علیهم السلام یؤیّد ویزید فی هذه الصفة ؟!

کما یقال إنّ اشتمال حدیث علیّ بن جعفر علی هذه الفقرة ، مع ذکر الغَسل بأن یبلّ جسده بعده ، بقوله : «فإن خشی أن لا یکفیه ، غَسل رأسه ثلاث مرّات ثمّ مسح جلده بیده» الحدیث .

یفهم أنّ المراد من الفقرة المعهودة ، هو بلّ الجسد کما ذکره .

بل واحتمله الشیخ الأعظم قدس سره وهو احتمالٌ لیس ببعید .

هذا ما خطر ببالنا ، واللّه العالم .

وکیف کان ، فدلالة الحدیث علی عدم جواز الغسل مع الماء المستعمل فی الحدث الأکبر مخدوشة من جهات عدیدة ، وإن کان بعضها ضعیفاً :

أوّلاً : من إمکان دعوی الإجمال ، من حیث الجهة المانعة التی دعت السائل

ص:433

إلی السؤال ، هل هی کانت من حیث کون الماء مستعملٌ .

أو کان من جهة کونه حاملاً للتراب ، وصیرورته فاسداً من حیث صیرورته وحلاً ، هذا کما فی «الروائع» .

أو لعلّ المحذور عنده مثلاً ، هو نجاسة الأطراف ، الموجبة لرجوع الماء إلیها ونجاسة ماء الوهدة ، کما علیه الآملی قدس سره .

فإذا صار الحدیث قابلاً لورود هذه الاحتمالات ، یصیر مجملاً ، ولا یمکن الاعتماد علیه فی الفتوی .

هذا ، وإنْ کان لا یخلو عن بُعد ، کما ذکرنا .

وثانیاً : عدم علمنا بأنّ تقریر الإمام علیه السلام لما توهّمه السائل من المنع ، هل هو کان باعتبار رجوع الماء المستعمل إلیها ، الموجب لحرمة الغسل والاغتسال به ، کما هو المقصود .

أو کان باعتبار الکراهة من الاغتسال بمثل هذا الماء ، فیکون مجملاً من هذه الجهة ، کما ذکره الشیخ الأعظم قدس سره ، وإنْ استبعده صاحب «مصباح الهدی» ، من جهة أنّ هذا العلاج لرفع الکراهة مثلاً ، مع بُعد کون الکراهة باعثة للسؤال عن ذلک .

وثالثاً : أنّ لزوم التعبّد بهذا الحدیث یعدّ أمراً مخالفاً لفتوی جمیع الأصحاب ، لأنّ دخول النضحات والرشحات فی الماء الذی یستعمل به للغَسل ، لایوجب صیرورة الماء متّصفاً بوصف الاستعمال المانع ، فیما إذا کان أقلّ من ذلک ، فضلاً عن مثل ماء الوهدة الذی کان فی الجملة کثیراً ، فلابدّ حینئذٍ من الحمل علی الکراهة .

مضافاً إلی عدم اشتماله علی کون الغَسل للجنابة ، إلاّ أن یکون هو المراد بواسطة الغلبة الموجودة فی الخارج ، مع أنّه لو کان غیره ممنوعاً ، ففیه یکون المنع بطریق أولی . فسقط الحدیث عن الاستدلال .

ص:434

ومنها : صحیح محمّد بن مسلم(1) عن أحدهما علیهماالسلام ، قال : «سألته عن ماء الحمّام ؟ فقال : ادخله بأزار ، ولا تغتسل من ماء آخر ، إلاّ أن یکون فیهم (فیه) جنبٌ أو یکثر أهله ، فلا یدری فیهم جنب أم لا» .

وجه الاستدلال : هو المنع من الاغتسال بالماء الذی اغتسل به الجنب قطعاً ، أو احتمالاً ، فلیس وجه المنع إلاّ من جهة نجاسة الماء المستعمل فی رفع الحدث الأکبر ، إن سلم غلبة النجاسة فی الجنب ، وإلاّ لکان من جهة کونه مستعملاً فی رفع الحدث الأکبر ، وهذا هو المطلوب .

وقد استشکل علیه بوجوه :

أوّلاً : بما نقل عن صاحب «المعالم» بأنّ الاستثناء عن النهی ، بقوله : «لا تغتسل من ماء آخر إلاّ أن یکون فیه جنبٌ» لا یوجب إلاّ نفی الحرمة ، لا إثبات وجوب الاغتسال عن الماء الآخر ، إذا کان فیه الجنب ، حتّی یثبت حرمة الاغتسال بذلک الماء .

وفیه ، وإن نوقش فی کلامه بما لا یخلو عن إشکال ، کما عن صاحب «الحدائق» ، من أنّ مقتضی الاستثناء عن النفی ، هو الإثبات ، وعن الإثبات هو النفی ، کما قاله نجم الأئمّة ، فلازمه کون الاستثناء عن الحرمة هو الوجوب ، أی یجب الاغتسال بماء آخر إذا کان فیه الجنب .

ووجه الإشکال هو المذکور فی القواعد العربیّة بأنّ الاستثناء لایوجب إلاّ نفی حکم المستثنی منه ، لا إثبات حکمٍ مضاد للمستثنی ، إلاّ أن یعلم من دلیل خارج خصوصیّة حکم معه ، فمعنی الاستثناء هو أنّ الحرمة لیست ثابتة بعد ذلک أی وجود الجنب فیه ، فحینئذٍ یکون حکم المستثنی من وجوب الاغتسال من ماء


1- وسائل الشیعة : الباب 7 من أبواب الماء المطلق، الحدیث 5 .

ص:435

آخر أو إباحته ، غیر مستفاد من ذلک لأحد الوجهین .

نعم ، یثبت أصل الجواز المطلق ، فلابدّ من تعیین فصله ، وإثباته بدلیل آخر یدلّ علی ذلک .

إلاّ أنّ الإشکال _ کما أشار إلیه المحقّق الهمدانی _ هو عدم کون النهی هنا فی قوله : «لا یغتسل من ماء آخر» نهیاً تحریمیّاً ولا تنزیهیّاً حتّی نحتاج إلی ما ذکره صاحب «المعالم» قدس سره ، بل الظاهر کون النهی إرشادیّاً ، کما هو المتعارف عند العرف بالنهی بذلک لنفی اللزوم ، أی لا یلزم أن یغتسل بماء آخر إلاّ إذا کان فی الماء جنباً ، أو یحتمل وجوده فیه ، وذلک لوضوح أنّ الغسل من ماء آخر لم یکن بحرامٍ قطعاً ، حتّی مع عدم وجود الجنب فیه ، حتّی یکون الاستثناء دلیلاً علی عدم الحرمة .

فعلی هذا التقریر یوجب أن یکون المعنی ، أنّه إذا کان فیه الجنب ، یلزم الاغتسال من ماء آخر ، فیرجع حینئذٍ إلی ما ذکره المستدلّ فیکون دلیلاً للمنع ، کما لایخفی .

وثانیاً : ما المراد من الذی کان قبل الاستثناء من النهی عن الاغتسال بماء آخر إذا کان فیه الجنب ؟

إذا کان المراد هو ماء الخزّان ، فهو خلاف المتعارف لسیرة المسلمین لعدم کون الغسل فیها متعارفاً أصلاً ، هذا أوّلاً .

ومن عدم معهودیّة المنع للاغتسال فیه به ، أو لغیره من النصّ والفتوی ، ثانیاً ، سواء کان بدن الجنب نجساً أم لا ، لکونه أزید من الکرّ بمراتب ، فهو أوضح من أن یخفی .

فما حمله الحکیم قدس سره علیه لا یخلو عن إشکال ، حتّی بالنسبة إلی الکراهة أیضاً.

وإن کان المراد هو الماء المجتمع عن غسالات الحمّام _ کما اختاره الخوئی

ص:436

فی «التنقیح» _ بأن یکون النهی متوجِّهاً إلی الاغتسال عنها، إلاّ إذا کان فی الحمّام جنبٌ، أو یحتمل وجوده فیه، فیجوز حینئذٍ الاغتسال عنها، فحینئذٍ یدلّ الحدیث علی أنّ المتعارف فی ذلک الزمان، کان الاغتسال بذلک الماء فنهی عنه الشارع، إلاّ فیما استثنی عنه .

ففیه أنّه مخدوش :

أوّلاً : بالمنع عن التعارف بالاغتسال بذلک الماء، وإن کان قد یتّفق ذلک کما یشهد لذلک احتمالاً سؤال بعض السائلین عن حکم هذا الماء، بأنّه هل هو طاهر أم لا ؟ مثل خبر حمزة بن أحمد(1) ، عن أبی الحسن الأوّل ، قال : «سألته أو سأله غیری عن الحمّام ؟ قال : ادخله بمئزر ، وغُضّ بصرک ، ولا تغتسل من البئر التی تجتمع فیها ماء الحمّام ، فإنّه یسیل فیها ما یغتسل فیه الجنب ، وولد الزنا ، والناصب لنا أهل البیت ، وهو شرّهم» .

بل ومن النهی الوارد عن الاغتسال منه ، الذی یساعد علی عدم مراعاتهم لذلک واغتسالهم فیه ، کما هو کذلک عند الأعراب .

وأمّا إثبات کونه کان متعارفاً عندهم بشهادة هذه الأخبار کما قاله الخوئی فی «التنقیح» ، فإنّه لا یخلو عن تأمّل ، لإمکان مساعدة الأخبار مع حدوثه نادراً أو قلیلاً .

وأمّا الخبر الدال علی المنع هو موثّقة ابن أبی یعفور(2) ، عن أبی عبداللّه علیه السلام : «إیّاک أن تغتسل من غسالة الحمّام ، ففیها تجتمع غسالة الیهودی» _ الحدیث .

وأمثال ذلک .

وثانیاً : إنّ الاستثناء عن ذلک النهی ، وإثبات الجواز _ ولو إباحةً _ أی ولو برفع


1- وسائل الشیعة : الباب 11 من أبواب الماء المضاف، الحدیث 1 .
2- وسائل الشیعة : الباب 11 من أبواب الماء المضاف، الحدیث 4 .

ص:437

الکراهة عن الاغتسال بهذا الماء ، فیما إذا کان فی الحمّام جنباً ، أو یحتمل کونه کذلک ، یکون فی غایة السخافة ، لوضوح أنّ هذا الماء یعدّ أخبث وأخسّ من ماء الحیاض المتعارف أخذ الماء منها والاغتسال به ، فلازمه احتمال وقوع الرشحات فیه مثلاً ، ولو من جهة نجاسته وهو غیر ممنوع لاتّصاله بالمادّة ، فکیف لم یجوّز الاغتسال به وأجاز الاغتسال بمثل هذا الماء القذر الذی تتنفّر عنه النفوس المتعارفة .

والعجب من المحقّق المذکور ، کیف أتعب نفسه لإثبات ذلک ، وسعی لجمع الشواهد والقرائن علیه ؟

أمّا إذا کان المراد من الماء ، هو ماء الحیاض الصغار الموجودة فی الحمّامات ، فإنّ المحقّق الهمدانی قدس سره أثبت أنّ هذا هو المراد من متعلّق الحکم فی الاغتسال ، فیما إذا کان فیه الجنب .

فهذا الاحتمال ، بملاحظة تعارف عمل الناس من الاغتسال به یعدّ وجهاً وجیهاً غایة الوجاهة ، إلاّ أنّ الإشکال فی أنّه لماذا منع عن الاغتسال بعد فرض وجود الجنب فیه ، مع أنّه لم یتعارف دخول الناس فی الحیاض لصغرها عادةً ، کما لایخفی . بل طریقة الاستفادة منه کانت محصورة بأخذ الماء منه للغسل ، فحینئذٍ لا یکون الماء مستعملاً للحدث حتّی یکون ممنوعاً من استعماله ثانیاً .

مضافاً إلی کونه متّصلاً بالمادّة ، فلا یوجب انفعاله حینئذٍ ، لا من حیث الخبثیة ولا الحدثیة ، کما لا یخفی .

فعلی هذا یعدّ توجبه المنع ولو علی الکراهة غیر معلوم ، کما لایخفی .

والذی ینبغی أن یقال : أنّ المراد من (ماء آخر) لیس ماءً خارجاً عن ماء الحمّام ، کما یفهم من کلام بعض ، بل یحتمل أن یکون المقصود ، غیر الماء الذی کان حوله الجنب ، أو یکثر من الناس فی الحیاض الصغار ، لأنّ المتعارف فی

ص:438

الحمّامات تعدّد الحیاض الصغار ، فعلیه یمکن أن یکون النهی هنا بالمعنی الذی ذکرناه ، من توهّم السائل بلزوم الاغتسال بغیر الماء الذی یغتسل منه الجنب ، حیث ینضح منه إلی البدن الآخر ، فیدخل الماء المستعمل فی الحدث _ بل فی الخبث أحیاناً _ فی ماء المغتسل ، ولذلک أرشده الإمام علیه السلام بأنّه لا یکون الغسل بالماء الآخر محبوباً ، إلاّ فیما إذا علم أنّه جنب یغتسل ، أو یحتمل من جهة وجود الجنب بحسب النوع فی الأفراد الکثیرة ، یعنی إذا کان الأمر بهذه الکیفیّة یعدّ الغسل بماء آخر واقع فی الحوض الصغیر أحسن وأرجح .

فحینئذٍ لا ینافی الرجحان کون وجود الجنب محتملاً فی الافراد ، فیکون ذکر ذلک قرینة علی کون ارتکاب الغسل مع وجود الجنب _ ولو محتملاً _ مرجوحاً ، فهو أمر مقبول غیر مستنکر لدی العقلاء .

وثالثاً : بأنّه کیف جمع بین کون وجود الجنب معلوماً ومشکوکاً ؟ مع أنّه لا إشکال أنّه لو سلّمنا ممنوعیّة الماء المستعمل فی الحدث ، أنّه إنّما کان فی معلومه أو مظنونه بالظنّ المعتبر ، لا ما إذا کان مشکوکاً .

مع کون مقتضی الأصل هو عدم کونه مستعملاً فی رفع الحدث .

فهذا أیضاً دلیل آخر علی عدم کون النهی للتحریم ، وإلاّ لما جمع بینهما .

قلنا : قد عرفت صحّة هذا الجمع وحسنه بما استفدناه من بیان الرجحان فی الماء القلیل ، بأن یغتسل من ماء غیر مشتبه فیه ، فلا یکون حینئذٍ هذا الخبر من أدلّة المانعین ، بمعنی التحریم وعدم الجواز .

هذا کلّه مع أنّه لیس فیه من الجنابة عینٌ ولا أثر .

وکون حکم ماء المستعمل فی مطلق الغسل ، ولو لغیر الرافع ، کحکم الماء المستعمل فی الرافع ، فی المنع عنه ، ولو بالنضح ، بعید غایته .

فهذا الخبر مع صحّة سنده ، ساقط عن الاستدلال من جهة الدلالة ، وکنّا فی

ص:439

ذلک موافقین للشیخ الأعظم قدس سره والمحقّق الهمدانی ، وغیرهما من الأعلام رضوان اللّه تعالی علیهم أجمعین .

ومنها : صحیح محمّد بن مسلم(1) ، عن أبی عبداللّه علیه السلام : «سُئل عن الماء ، تبول فیه الدواب ، وتلغ فیه الکلاب ، ویغتسل فیه الجنب ؟ قال : إذا کان الماء قدر کرّ لم ینجسه شیء» .

حیث یدلّ بالمفهوم علی أنّ الماء الذی یغتسل به الجنب ، إن لم یکن بقدر کرّ ، لا یجوز استعماله فی غُسل الجنابة وغیره .

هذا ، والخبر من حیث السند صحیح ، وأمّا من حیث الدلالة وإن کان بظاهره یدلّ علی تمامیّتها .

لکنّه مخدوش من وجهین :

لأنّه وإن کانت دلالته تامّة علی الجواز فی الکرّ ، ردّاً علی العامّة حیث یعتقدون بأنّ الماء ینجس إذا استعمل فی غسل الجنابة ولو کان کرّاً ، فأجاب علیه السلام : بأنّ الکرّ لا ینفعل بوجه أصلاً .

إلاّ أنّه فی دلالته علی عدم الجواز فی صورة عدم بلوغه کرّاً بالنسبة إلی ما یغتسل للجنابة إجمالٌ :

أوّلاً : بأنّه لا یعلم بأنّ وجه المنع هل کان بلحاظ کونه مستعملاً فی رفع الحدث ، حتّی یکون دالاًّ للمطلوب ، أو بلحاظ کون الماء المستعمل فی الجنابة منفعلاً بنجاسة بدن الجنب ولو کان من جهة غسله قبل الاغتسال ؟

وعلی أیّ حال ، یجتمع فی مجمع لم یبلغ کرّاً فیکون نجساً .

بل یحتمل کون الاحتمال الثانی أولی من جهة انضمام ذلک مع ولوغ الکلاب ،


1- وسائل الشیعة : الباب 9 من أبواب الماء المطلق، الحدیث 1 .

ص:440

حیث یفهم کون مورد السؤال من حیث النجاسة والطهارة ، لا من حیث کونه مستعملاً فی الحدث الأکبر أم لا .

وثانیاً : یکون ذیله قرینة علی کون مفروض سؤال السائل هو النجاسة والطهارة لا غیرها ، لما أجابه علیه السلام بأنّ الماء إذا بلغ قدر کرّ لم ینجسه شیء .

هذا ، مضافاً إلی إمکان کون المراد من فرض السؤال هو صورة جمع الأقسام الثلاثة ، بأن یکون الواو للعطف والجمع لا لبیان التنویع بأن یکون کلّ واحد منها مورداً للسؤال علی حده .

فحینئذٍ عدم الجواز فی الفرض المذکور یفید النجاسة قطعاً ، کما لایخفی .

ومنها : خبر حمزة بن أحمد(1) فقد مرّ ذکره بالتفصیل فلا نعیده .

وجه الدلالة : بناءً علی کون النهی عن الاغتسال من غسالة الحمّام الذی هو من غسالة الجنب والزنا والناصبی ، فیدلّ علی أنّ النهی کان بلحاظ أنّه مستعمل فی رفع الحدث الأکبر .

لکنّه مخدوش بما قد عرفت من ضعف سنده ، وأنّه بقرینة اقترانه مع الناصبی الذی حکم بنجاسته ، یفهم أنّه کان وجه السؤال بلحاظ نجاسته وطهارته لا بما کان بصدده .

مضافاً إلی أنّ ولد الزنا لم یکن نجساً ، والقول بنجاسته ضعیف غایته ، وإن احتمله بعض تمسّکاً بمثل هذا الخبر ، وخبر ابن أبی یعفور(2) ، عن أبی عبداللّه علیه السلام ، قال : «لا تغتسل من البئر التی یجتمع فیها غسالة الحمّام ، فإنّ فیها غسالة ولد الزنا ، وهو لا یطهر إلی سبعة آباء» ، الحدیث .


1- وسائل الشیعة : الباب 11 من أبواب الماء المضاف، الحدیث 1 .
2- وسائل الشیعة : الباب 11 من أبواب الماء المضاف، الحدیث 4 .

ص:441

إلاّ أنّ هذا الخبر بخلاف قوله أدلّ ، لوضوح أنّ ذلک کنایة عند العرف من التأثیرات البعیدة الناتجة من عدم طهارة مولده ، فحینئذٍ مع انضمام ذلک یوجب کون المقصود هو غیر النجاسة والطهارة ، خلافاً لانضمام الناصبی ، فلا بأس أن یکون النهی عن الاغتسال محمولاً علی الجامع بین الحرمة والکراهة ، نظیر ما یقال فی قوله علیه السلام : «اغتسل للجمعة والجنابة» من استعمال الأمر فی مطلق الرجحان والطلب لیشمل الجمعة ، منضمّاً مع جواز الترک ندباً ، وفی الجنابة مع المنع من الترک وجوباً ، فهکذا یقال هنا : بأنّ النهی استعمل فی مطلق رجحان الترک ، ففی مثل الماء المستعمل فی الناصبی یکون منضمّاً مع فصله هو المنع من الفعل فیکون حراماً ، وفی مثل غسالة ولد الزنا ، وغسالة الجنابة یکون منضمّاً مع فصله ، وهو جواز الفعل ، فیوجب الکراهة .

أو یکون فی غسالة الجنابة مجملاً بین الاحتمالین .

فعلی أیّ حال یسقط عن الاستدلال .

مضافاً إلی إمکان أن یکون بلحاظ اجتماع هذه المیاه التی کانت نجسة ، فیکفی فی نجاسة الباقی إذا لم یکن کرّاً أو متّصلاً بالکرّ ، وإلاّ یکون محمولاً علی الکراهة قطعاً ، لأنّه لو قیل بالحرمة فیها ، فإنّه یوجب کونه مخالفاً للإجماع ، کما لایخفی .

هذه جملة من الأخبار التی استدلّ بها المانعون ، وقد عرفت بأنّ أتمّها فی الدلالة ، هو معتبرة عبداللّه بن سنان مع وجود الإشکال فی دلالته فی الجملة .

وأمّا بقیّة الأخبار ، فلا تکون دلالتها علی النهی التحریمی تامّة ، مضافاً إلی ضعف سند بعضها ، فأصبحت النتیجة هی الحکم بالمنع احتیاطاً ، حتّی نلاحظ الأخبار الواردة فی الجواز وکیفیّة معارضتها مع هذه الأخبار المانعة .

فنقول : استدلّ المجوّزون بعدّة أخبار ، قیل إنّها تدلّ علی جواز الاغتسال

ص:442

بالماء المستعمل فی رفع الحدث الأکبر .

فمنها : صحیح محمّد بن مسلم(1) قال : «قلت لأبی عبداللّه علیه السلام : الحمّام یغتسل فیه الجنب وغیره ، أغتسل من ماءه ؟ قال : نعم لا بأس أن یغتسل منه الجنب ، ولقد اغتسلت فیه ثمّ جئت فغسلت رجلی ، وما غسلتهما إلاّ ممّا لزق بهما من التراب» .

وجه الدلالة ظاهرة إذ یجوز الغسل من الماء الذی اغتسل منه الجنب ، ولذلک جعل الحکیم قدس سره فی «مستمسکه» هذا الخبر معارضاً للخبر الدالّ علی المنع الوارد عن محمّد بن مسلم ، الذی قد عرفت توضیحه قبل ذلک .

مضافاً إلی دلالة الأصل علی الجواز ، بل ودلالة الإطلاقات الأوّلیة من مطهّریة الماء حتّی عن الحدث الأکبر ، ولو بعد استعماله فی غسل الجنابة ، کما هو واضح لا خفاء فیه .

لکنّه مخدوش ، بعدم ارتباطه لما نحن بصدده من وجهین :

أوّلاً : من إمکان أن یکون وجه سؤال السائل عن حکم ماء الغسل ، باعتبار حال نجاسته وطهارته ، بأنّه هل ینجس الماء بذلک _ لإمکان نجاسة بدن الجنب ، ولو باعتبار حاله قبل الاشتغال بالغسل _ أم لا ؟ فأجاب علیه السلام بأنّه طاهر لا یوجب ذلک نجاسته .

کما قد یؤیّد هذا الاحتمال ملاحظة مضمرة أبی الحسن الهاشمی(2) ، قال : «سئل عن الرجال یقومون علی الحوض فی الحمّام ، لا أعرف الیهودی من النصرانی ، ولا الجنب من غیر الجنب ؟ قال : تغتسل منه ولا تغتسل من ماء آخر ، فإنّه طهور» .


1- وسائل الشیعة : الباب 7 من أبواب الماء المطلق، الحدیث 2 .
2- وسائل الشیعة : الباب 7 من أبواب الماء المطلق، الحدیث 6 .

ص:443

حیث أنّه یفهم من کیفیّة سؤال السائل ، وجوب الإمام ، أنّ جهة السؤال کانت من حیث النجاسة والطهارة ، فعلی هذا التقدیر لا یکون الخبر مرتبطاً بالماء المستعمل فی رفع الحدث الأکبر، حتّی یکون حکم الإمام علیه السلام بالجواز بذلک الاعتبار.

وثانیاً : من إمکان أن یقال بأنّ الماء الذی یُسئل عنه ، إمّا هو الماء الموجود فی الخزّان کما یساعده ملاحظة کلمة (فی) من جهة القواعد النحویة بقوله : «یغتسل فیه الجنب» ، وهکذا قول الإمام علیه السلام : «ولقد اغتسلت فیه» فحینئذٍ یکون الحکم بالجواز مطابقاً للقاعدة فی الماء الکثیر ، حتّی وإن کان مستعملاً فی الحدث الأکبر ، لعدم وجود قائل بالمنع فیه ، غایته الکراهة ، وهو بعید جدّاً ، لعروض العسر والمشقّة لمن أراد أن لا یرتکب الکراهة فی ذلک ، کما لایخفی .

أو یکون المراد ماء الحیاض الصغار ، بأن یأخذ الجنب من حوله الماء للغسل ، فالحکم بالجواز أیضاً غیر مرتبط بما نحن فیه وبصدده ، لعدم کون ماءه مستعملاً فی رفع الحدث ، حتّی یوجب توهّم ممنوعیّته .

فاحتمال کون المراد من السؤال هو الاغتسال من غسالة الجنب _ کما یظهر ذلک من الحکیم قدس سره _ بعید غایته ، فلا یکون هذا الحدیث معارضاً لتلک الأدلّة .

کما أنّ الأصل والإطلاقات غیر قادرة علی المعارضة مع تلک الأدلّة لکونها دلیلاً اجتهادیاً ودلیلاً خاصّاً ومقیّداً للإطلاقات ، وهو واضح لمن کان له أدنی تأمّل .

ومنها : صحیح علی بن جعفر ، عن أخیه أبی الحسن الأوّل(1) ، قال : «سألته عن الرجل یصیبه الماء فی ساقیة أو مستنقع ، أیغتسل منه للجنابة أو یتوضّأ للصلاة ، إذا کان لا یجد غیره ، والماء لا یبلغ صاعاً للجنابة ولا مدّاً للوضوء ، وهو متفرّق کیف یصنع ، وهو یتخوّف أن تکون السباع قد شربت منه ؟


1- وسائل الشیعة : الباب 10 من أبواب الماء المضاف، الحدیث 1 .

ص:444

فقال : إن کانت یده نظیفة ، فلیأخذ کفّاً من الماء بید واحدة فلینضحه خلفه ، وکفّاً أمامه ، وکفّاً عن یمینه ، وکفّاً عن شماله ، فإن خشی أن لا یکفیه ، غَسل رأسه ثلاث مرّات ، ثمّ مسح جلده بیده ، فإنّ ذلک یجزیه ، وإن کان الوضوء غَسل وجهه ومسح یده علی ذراعیه ورأسه ورجلیه ، وإن کان الماء متفرّقاً فقدر أن یجمعه ، وإلاّ اغتسل من هذا ، ومن هذا ، وإن کان فی مکان واحد وهو قلیل ، لا یکفیه لغسله ، فلا علیه أن یغتسل ویرجع الماء فیه فإنّ ذلک یجزیه» .

قد استدلّ به علی جواز الاغتسال بالماء الراجع إلی الساقیة أو المستنقع ، مع کونه مستعملاً فی رفع الحدث الأکبر ، ویعدّ الخبر من جهة السند صحیحاً ومنقولاً بطرق متعدّدة معتبرة ، فبذلک ترفع الید عن تلک الأخبار المانعة ، مع ما عرفت من کثرة ورود الإشکالات علیها والتوجیهات البعیدة .

وهذا أحسن خبر یدلّ علی الحکم سنداً ودلالةً ، کما لایخفی .

والتحقیق فی ذلک موقوف علی تقدیم بیان فقه الحدیث ، فنقول ومن اللّه عزّوجلّ نستمد العون والهدایة :

فإنّ السائل قد یکون قصد من السؤال بحسب ظاهر الخبر جهات شتّی وهی :

تارةً : من حیث حکم ماء الساقیة والمستنقع ، للغسل والوضوء عند عدم وجدان ماء آخر .

واُخری : من عدم کفایة المدّ والصاع من الماء لإتیان الوضوء وآدابه المستحبّة .

وثالثة : من جهة تفرّق الماء وعدم کونه فی مکان واحد .

ورابعة : من جهة خوف نجاسة الماء بواسطة احتمال ورود السباع فیه للشرب وتنجیسه ، من جهة کونها نجس العین ، أو من جهة غیره کالبول .

وأمّا جواب الإمام علیه السلام ، فبعد التأمّل فیه ، یرجع إلی کلّ ما فی سؤال السائل ، مع زیادة ، والجواب مشتمل علی بیان خمسة أحکام :

ص:445

الأوّل : بیان رفع التوهّم عن النجاسة بواسطة النضح علی الجوانب الأربع ، علی احتمالٍ ، کما عرفت تفصیل هذه الفقرة فی خبر عبداللّه بن مسکان .

إمّا للمنع عن انحدار الماء إلی الساقیة ، أو من جهة إیجاد الشبهة من کون الماء الراجع هو المنضوخ مثلاً لا المغسول به .

الثانی : بیان حکم قلّة الماء عن مقدار یکفی لإتیان المندوبات وذلک بکفایة غسل رأسه ثلاث مرّات ، للاستحباب ، ثمّ مسح جلده بیده .

أو لعلّ المراد من غسل رأسه ثلاث مرّات لتلافی نقصان الماء ، حتّی یستطیع إیصاله لبقیّة الأعضاء ولو بالمسح بیده المبلّلة علی جلده ، وهو الأقوی .

ومنه یفهم ضمناً تجویز الغسل من الماء الراکد فی الساقیة أو المستنقع .

الثالث : یظهر منه حکم جواز الوضوء أیضاً ، ومن إمکان تحصیله منه ولو بالمسح علی ذراعیه فی صورة قلّة الماء ، فلا یُقدم علی فعل التیمّم .

الرابع : حکم تفرّق الماء ، بأنّه إن قدر من الجمع بین موارده فیجمعه فی مکان واحد ، حتّی یغتسل فی موضع واحد ، وإلاّ یجوز له الغسل بالتفریق وبماءین وذلک بأن یغسل مقدار منه بماء ، والآخر من ماء آخر إلی أن یتمّ الغسل ، ولا یضرّ الانفصال فی صحّة غُسله .

الخامس : وهو المقصود فیما نحن فیه ، وهو بیان حکم الماء إذا کان قلیلاً لا یکفیه لغسله علی النحو المذکور فی القسم الثانی ، فحَکم أنّه یجوز له أن یغتسل من الماء القلیل ، ویُرجع الماء الباقی إلی الموجود فی الساقیة ، ثمّ یأخذه ثانیاً إلی أن یتمّ الغسل بذلک ، فلازمه جواز الاغتسال بالماء المستعمل فی رفع الحدث ، وهو المطلوب .

ولقد أورد علیه ، تارةً : أنّه وإن کان الخبر ظاهرٌ فی تجویز ذلک ، إلاّ أنّه یختصّ بحال الضرورة والإضطرار ، لما قد فرض فیه من عدم کفایة الماء للغسل بنحو

ص:446

المتعارف ، ولو بنحو التدهین .

فما توهّمه بعض من وجود المناقضة بین فرضه بعدم الکفایة للغسل ، وبین حُکمه بالغسل ولو بالرجوع ، لا یخلو عن مسامحة .

فلا یستفاد منه جواز ذلک ، حتّی مع الاختیار ، ووجود الماء خارجاً کما هو المقصود ، لإمکان أن یکون ذلک من قبیل ما هو المعروف بین الفقهاء من أنّ الضرورات تبیح المحظورات ، کما لایخفی .

لکنّه مندفع ، بأنّه إن کان المورد من موارد الضرورة ، فلِمَ لم یحکم بالغَسل علی نحو التدهین الذی یوجب عادةً تقلیل صرف الماء ممّا ذکره بمراتب ، فیفهم أنّه لیس فی مقام بیان حال الضرورة ، فلو أمکن إثبات دلالة الحدیث مع ما ادّعاه المستدلّ ، فإنّه یکون دلیلاً علی الجواز فی حال الاختیار أیضاً .

واُخری : بأنّه خارج عن محلّ النزاع ، لأنّه إنّما فرض ممزوجیّة الماء الوارد الذی استعمل فیه الغسل ، مع الماء الراکد فی الساقیة ، خصوصاً إذا کان الراجع قلیلاً موجباً للاستهلاک فی الماء الثابت ، فلا یعدّ ذلک الماء ماءً مستعملاً فی رفع الحدث ، حتّی لا یجوز استعماله ثانیاً فی الغسل .

وبناءً علیه یکون حکم هذا الماء الراجع ، حکم الماء المنضوح حین الغسل فی الإناء ، حیث ورد التصریح فی الحدیث بنفی البأس عنه ، کما تری ذلک فی صحیح(1) الفضیل بن یسار ، عن أبی عبداللّه علیه السلام : «فی الرجل الجنب یغتسل فینضح من الماء فی الإناء ؟ فقال : لا بأس ، ما جُعِل علیکم فی الدِّین من حرج» .

وصحیح شهاب بن عبد ربه ، عن أبی عبداللّه علیه السلام ، أنّه قال : «فی الجنب یغتسل فیقطر الماء عن جسده فی الإناء ، فینضح الماء من الأرض فیصیر فی


1- وسائل الشیعة : الباب 9 من أبواب الماء المضاف، الحدیث 5 .

ص:447

الإناء ؟ إنّه لا بأس بهذا کلّه»(1) .

بل لا یخلو استدلال الإمام بآیة الحرج فی الماء المنضوح ، عن إشعار بأنّ وقوع هذا المقدار من المستعمل فی الماء الباقی ، لا یوجب الإشکال ، فیکون ما نحن فیه من هذا القبیل ، لأنّه من الواضح أنّ المواظبة علی عدم وقوع المنضوح فی الماء ، لیس إلاّ من قبیل العسر والحرج الشدیدین حتّی تصدق الضرورة والاضطرار فی ترکه ، فیفهم منه أنّ المراد من الحَرَج هو الحرج العرفی ، وهذا المعنی موجود فیما نحن فیه ، بالنسبة إلی رجوع الماء إلی الساقیة ثمّ الاغتسال به ، کما لایخفی .

فعلی هذا ، لا یمکن استفادة جواز الغسل بالماء المستعمل فی رفع الحدث الأکبر مطلقاً من هذا الخبر ، حتّی فیما لو لم یختلط مع ماء آخر ، غیر مستعمل فی رفعه ، کما هو المقصود ، لمن ذهب إلی الجواز .

وثالثة : علی فرض تسلیم دلالته علی الجواز ، نقول مورد الحدیث إنّما هو فیما إذا استعمل الماء المستعمل فی غسل بعض الأعضاء لبعض آخر قبل تمامیّة الغسل ، کما لا یبعد قبوله من حیث الاعتبار أیضاً ، لأنّ مقتضی الجمود علی عنوان (المستعمل فی رفع الحدث) ، هو أن یکون الماء مجتمعاً عن تمام الغسل فی محلّ واحد من إناء وغیره ، فأراد هو أو غیره الاغتسال بذلک الماء ، فتشمله حینئذٍ أدلّة المنع ، مثل خبر عبداللّه بن سنان ، الظاهر فیما یغتسل به الجنب المندرج فی خبر المنع ، فلا یشمل ما لو کان مستعملاً فی مقدارٍ من الغسل .

ویؤیّد ذلک ما لو فرض استعماله فی غسل بعض الأعضاء بنیّة الغسل ، ثمّ انصرف فی الأثناء ، فلا یکون استعماله مثل هذا الماء للوضوء أو الغسل ممنوعاً ، لعدم صدق کونه مستعملاً فی رفع الحدث ، فهکذا الأمر فی المقام .


1- وسائل الشیعة : الباب 9 من أبواب الماء المضاف، الحدیث 6 .

ص:448

فعلی هذا ، یظهر أنّه لا معارضة بین حدیث الجواز وحدیث المنع ، حتّی نرفع الید من أحدهما من جهة بعض المرجّحات الدلالیة ، إلاّ أن یدّعی دلالة کلّ واحد منهما علی الإطلاق فی البعض والکلّ منعاً وجوازاً ، لکنّه مشکل جدّاً .

فأصبحت النتیجة أنّ أدلّة المنع باقیة علی حالها بما ذکرناه من أدلّة الجواز ، فلابدّ من التأمّل فی دلالة الأخبار القادمة إن شاء اللّه .

فعلی ما ذکرنا إنّ قبول أحد الإشکالین الأخیرین ، بل کلیهما ، أولی ممّا قیل فی الجمع بینه وبین دلیل المنع ، تارةً : بحمل حدیث الجواز علی المغتسل نفسه ، إذا أراد الغَسل به ثانیاً ، فیجوز له ذلک ، بخلاف غیره فلا یجوز له لدلالة دلیل المنع .

والوجه هو أهونیّته ، أنّه من الواضح عدم إحراز خصوصیّة فارقة موجبة للحکم بذلک إلزاماً ، مع صدق العنوان علی کلیهما .

واُخری بحمل الجواز ، علی من لم یقصد الاغتسال حین الغسل بذلک الماء ، أو حمله علی الکراهة .

لما قد عرفت من عدم وجود ما یوجب الحمل علی أحد هذین الوجهین مع التمکّن ، إلی ما لا یلزم الحمل علی خلاف الظاهر ، کما لایخفی ، فتأمّل .

فقد ظهر من خلال کلماتنا ، وجه القائلین بالتفصیل بین حال الضرورة _ من الجواز _ وبین الاختیار من المنع ، کما هو الظاهر من الصدوق فی «الفقیه» ، والشیخ الطوسی فی مقام التعرّض للجمع بین الأخبار لا الفتوی ، لأنّهما لاحظا واعتمدا أوّلاً علی ظاهر هذا الحدیث ، والجمع بینه مع الأخبار المانعة بذلک التفصیل .

ولکن قد عرفت عدم وجود المعارضة بینهما حتّی یحتاج إلی مثل هذا الجمع .

ومنها : ما نقله المحقّق الهمدانی فی «المصباح» ، عن «أمالی الطوسی» وهو حدیث میمونة(1) ، قالت : «اجتنبت أنا ورسول اللّه صلی الله علیه و آله فاغتسلت من جفنة ،


1- وسائل الشیعة : الباب 7 من أبواب الاسئار، الحدیث 6 .

ص:449

وفضلت فیها فضلة ، فجاء رسول اللّه صلی الله علیه و آله یغتسل منها ، فقلت : یارسول اللّه إنّها فضلة منّی ، أو قالت : اغتسلت ؟! فقال صلی الله علیه و آله : لیس الماء جنابة» .

وتمسّک الهمدانی قدس سره مع التفاته إلی أنّ ظاهره فی الفضلة ، حیث یفهم أنّه لم تکن قد اغتسلت فی الجفنة ، بل کانت قد أخذها منها للاستعمال فی الغسل ، إلاّ أنّه رحمه الله یستدلّ بالتعلیل الوارد فی الخبر المشعر بأنّ الماء لا یتأثّر بذلک .

هذا ، ولکنّه لا یخلو عن مناقشة :

أوّلاً : من جهة سنده حیث أنّه خبر مرسل .

وثانیاً : إنّ قوله : «اغتسلت من جفنةٍ» حیث أتت بأداة «من» لا «فی» ظاهر فی کون الاغتسال قد وقع خارج الجفنة لا فیها ، خلافاً لما هو الموجود فی خبر ابن عبّاس کما قد تقدّم .

مضافاً إلی ما ذکرنا فی الجفنة من عدم استبعاد کونها بقدر الکرّ ، فحینئذٍ یکون التعلیل وارداً موردکون الغسل فی خارجه ، فکأنّه أراد صلی الله علیه و آله إفهامها بأنّ الماء لم یتأثّر بذلک حال کونه کرّاً ، فلا ینافی تأثیره بالدخول فیه ، وإذا لم یکن کرّاً فدلالتها علی الجواز مشکل جدّاً .

ومنها : خبر محمّد بن علی بن جعفر(1) ، عن أبی الحسن الرضا علیه السلام ، فی حدیثٍ ، قال : «من اغتسل من الماء الذی قد اغتُسل فیه ، فأصابه الجذام ، فلا یلومنّ إلاّ نفسه ، فقلت لأبی الحسن علیه السلام : إنّ أهل المدینة یقولون فیه شفاءٌ من العین ؟

فقال : کذبوا ، یغتسل فیه الجنب من الحرام ، والزانی ، والناصب الذی هو شرّهما» الحدیث .

وهو بظاهره وإن کان یدلّ ولو بالإشعار علی جواز الاغتسال بما یغتسل فیه


1- وسائل الشیعة : الباب 2 من أبواب الماء المضاف، الحدیث 2 .

ص:450

الجنب ، وإلاّ لما کان الغسل صحیحاً ، حتی یترتّب علیه الأثر من إصابة الجذام .

إلاّ أنّه یمکن أن یناقش فیه ، بأنّه لا یبعد أن یکون المقصود مذمّة الغسل فی ماء الخزّان الذی یغتسل فیه جمیع الأفراد ، فیکون وجه حکمه من حیث بیان حفظ الصحّة ، أی لا یصلح الغسل بمثل هذه المیاه ، لإمکان تعرّض المغتسل لبعض الأمراض والعاهات ، کما قد منع الأطبّاء فی زماننا هذا من الاستعمال کذلک ، ولو کان من جهة کونه مرجوحاً ، فعلیه لا یکون الخبر دخیلاً فی ما نحن بصدده ، من عدم المنع عن استعمال الماء المستعمل فی الحدث للغسل .

هذه جملة من الأخبار التی استدلّ بها ، أو یمکن الاستدلال بها للمسألة ، وعرفت عدم تمامیّة شیء منها للدلالة علی الجواز ، حتّی یتعارض مع الأخبار المانعة ، فیکون الحکم بالمنع موافقاً للاحتیاط .

نعم ، إثبات منع استعمال الماء المستعمل فی الغسل غیر الرافع فی الأغسال المندوبة والواجبة عرضاً مشکل جدّاً ، لقصور الأدلّة عن شموله .

ویلحق بذلک قسم خامس : وهو أنّه هل یجوز استعمال الماء المستعمل فی الحدث الأکبر فی الوضوءات المندوبة غیر الرافعة ، وفی الأغسال الاُخر من المندوبات، أو الأغسال الواجبة عرضاً _ کالمنذور والمحلوف علیه منهما _ أم لا؟ فیتنبیهات الاغتسال بالماء المستعمل فیالحدث الأکبر

الظاهر _ کما عرفت منّا سابقاً فی بحث الماء المستعمل فی الحدث الأصغر والاستنجاء _ أنّ الأدلّة المتکّفلة لبیان حکم الوضوء والغسل الرافعین من الشرائط والموانع إلاّ ما خرج بالدلیل ، ولذلک تری بأنّ نواقض الوضوء والغسل الرافع تکون نواقضاً لسائر الوضوءات والأغسال ، فإذا منعنا تحصیل الوضوء والغسل بمثل هذه المیاه ، فلا یبعد الحکم بالمنع فی مثل تلک الوضوءات والأغسال المندوبة والواجبة عرضاً .

مضافاً لاشتمال بعض الأدلّة علی ما یفهم منه التعمیم ، نظیر ما فی خبر محمّد

ص:451

بن علیّ بن جعفر(1) بقوله علیه السلام : «من اغتسل من الماء الذی قد اغتسل فیه فأصابه الجذام . . الحدیث» .

وصحیح محمّد بن مسلم(2) فیحدیثٍ : «ولا تغتسل من ماء آخر» ، فلیس فیه عنوان غُسل الجنابة .

مضافاً إلی إمکان تعمیم لفظ (التوضّی) وأشباهه ، الموجود فی خبر عبداللّه بن سنان(3) لتلک الوضوءات والأغسال کما لایخفی .

کما لا فرق فی المستعمل فی الحدث الأکبر بین أقسامه من الحیض والنفاس والاستحاضة ، بتنقیح المناط عن خصوصیّة الجنابة ، ولفظ (أشباهه) ، _ علی احتمالٍ _ فی خبرابن سنان ، إلی عدم وجود القول بالتفصیل .

فالأحوط عدم جواز التوضی ء والاغتسال بجمیع أقسامه ، بالماء المستعمل فی رفع الحدث الأکبر مطلقاً .

وینبغی التنبیه علی اُمور :

الأوّل : إنّه علی القول بعدم جواز الاستفادة من الماء المستعمل فی غسل الجنابة الصحیح، فهل یکون المستعمل فیالغسل الفاسد کالمستعمل فی الصحیح أو لا ؟ وجهان :

من صدق اغتسال الجنب منه فلا یجوز .

ومن أنّ العبرة هو رفع الحدث بذلک ، کما هو المستظهر من کلمات الأصحاب ، حیث جعل بعضهم العنوان فی کلامه المستعمل فی رفع الحدث .


1- وسائل الشیعة : الباب 11 من أبواب الماء المضاف، الحدیث 2 .
2- وسائل الشیعة : الباب 7 من أبواب الماء المطلق، الحدیث 5 .
3- وسائل الشیعة : الباب 9 من أبواب الماء المضاف، الحدیث 13 .

ص:452

بل یمکن دعوی ظهور خبر عبداللّه بن سنان ، بقوله : «أو یغتسل به الجنب» فی الغسل الصحیح ، فلا یشمل الفاسد .

وهذا هو الأقوی ، وإن توقّف الشیخ الأنصاری قدس سره فی «طهارته» حیث لم یختر أحد الوجهین بعد نقلهما ، الظاهر فی التوقّف .

الثانی : هل یعتبر فی صدق المستعمل الانفصال عن البدن مع تمامیّة الغسل ، أو یکفی فیه تمامیة الغسل ، ولو لم یکن الماء منفصلاً عن بدن المغتسل ؟

الظاهر أنّ الانفصال عن بدنه وعدمه لا خصوصیّة فیهما فی حکم المسألة ، إذ ربما یمکن أن یکون الماء غیر منفصل عن بدنه ، مع ذلک لایجوز الاغتسال منه ، لصدق عنوان کونه مستعملاً فی رفع الحدث ، وهو کما لو ارتمس فی الماء الذی کان أقلّ من الکرّ بمقدار یسیر ، ونوی الغسل خارج الماء وغمس فیه ، فحینئذٍ بالرمس قبل الخروج یصدق علی ذلک الماء أنّه مستعمل ، فلایجوز لغیره أن ینوی الغسل فیه واستعماله .

کما لایجوز لنفس المغتسل أن ینوی غسلاً واجباً آخر بنفس الماء الذی ارتمس فیه للغسل الذی هو أقلّ من الکرّ ، إلاّ أن یُشکل صدق الاستعمال بمثل هذا المقدار من الماء الذی هو أقلّ من الکرّ عند العرف ، کما لا یکون مطلق الانفصال موجباً للمنع ، کما لو فرض استعمال الماء فی غسل بعض أعضاءه ونوی ذلک ثمّ أراد بعده غسل بقیّة الأعضاء باستعماله ثانیاً للباقی ، فالظاهر من المبنی الذی اخترناه واستظهرناه ، من کون الملاک فی المنع هو صدق کون الماء مستعملاً فی رفع الحدث ، وذلک لا یصدق إلاّ بعد الإتمام .

مضافاً إلی أنّ العرف یری مجموع هذا الاستعمال من أوّل الغسل إلی آخره ، استعمالاً واحداً ، کما ذکره الشیخ الأعظم ، ونعم ما ذکره ، فلا یصدق لما یأخذه ثانیاً ویستعمله أنّه استعمالاً ثانیاً ، حتّی یکون ممنوعاً ، فیجوز الغسل به ، سواء

ص:453

کان لنفس المغتسل أو غیره .

فعلی هذا یظهر أنّ الغسل بالماء المستعمل فی غسل بعض الأعضاء ، مع قصد الغسل قبل إتمامه ، لایوجب المنع عن استعماله ثانیاً لنفس المغتسل ، لعدم صدق کونه مستعملاً فی الغسل ، إلاّ بعد إتمام الغسل ، کما قد استظهر ذلک من صحیح علی بن جعفر(1) ، علی احتمال .

فمجرّد الانفصال من دون صدق تمامیّة الغسل ، لا یضرّ فی جواز الاستعمال .

بل قد عرفت أیضاً ظهور خبر ابن سنان علی الغسل الرافع للحدث الحاصل من الغُسل التام لا خصوص غسل بعض الأعضاء ، فلازم ما ذکرنا هو جواز الغسل بالماء المستعمل فی غسل الجنابة ، إذا وقع فی أثنائه الحدث الموجب لبطلانه ، لأنّ ما استعمله لم یکن رافعاً ، حتّی یمنع عن الاغتسال به ، خلافاً للسیّد الاصفهانی قدس سره حیث حکم بالمنع من وجهین :

أوّلاً : صدق کونه مستعملاً فی غُسل الجنابة إذا استعمله بذلک القصد ولو لم یتمّ .

ثانیاً : من جهة أنّ الألفاظ الشرعیّة _ منها الغُسل _ موضوعة للأعمّ من الصحیح ، لا لخصوص الصحیح فقط ، حتّی لا یصدق الغسل هنا إذا فرض فساده . کما فی «الروائع»(2) .

نعم ، غایة ما یرد علی ما اخترناه ، هو أن یقال : إنّ الماء إذا انفصل عن أعضاء الجنب حین الغسل ، واجتمع فی أمکنة متعدّدة ، فلا یصدق علی کلّ واحد من الماء المصبوب منفرداً أنّه مستعمل ، لکونه مست عملاً فی بعض الأعضاء فیمکن الاغتسال بالماء المستقلّ فی مکان واحد علی حدة .


1- وسائل الشیعة : الباب 10 من أبواب الماء المضاف، الحدیث 1 .
2- الروائع الفقهیة : ص98 .

ص:454

فتطبیق العنوان وهو المستعملیّة ، علی خصوص الماء الأخیر لأنّه یصدق علیه ذلک دون غیره ، أو تطبیق العنوان علی جمیع أجزاء المیاه الواقعة فی الأمکنة المتعدّدة ، أو عدم انطباق العنوان علی أحد من المیاه _ لأنّ کلّ واحد إذا لوحظ مستقلاًّ کان مستعملاً فی الجزء من الغسل لا الکلّ _ وجوهٌ أقواها هو الثانی .

إلاّ أنّه یبعده القول بأنّه کیف یتعلّق علیه العنوان بعد حدوث فاصل زمانی إلی أن یتمّ الغسل ؟

وبعبارة اُخری : کان الاستعمال منه جائزاً حتّی إن أتمّ الغسل فصار ممنوعاً ، فلازمه صیرورة الماء بعد الانفصال ذا حکمین ، وهمنا الجواز قبل التمامیّة ، والمنع بعد التمامیّة ، وهو بعیدٌ جدّاً .

اللّهم إلاّ أن یقال : إنّه کان ممنوعاً واقعاً ، إذا کان فی الواقع ینضمّ إلیه بقیّة الغسل وهو لا یعلم ، فبعد الإتمام ینکشف المنع للجمیع من أوّل الأمر ، وإلاّ فلا .

وهو لا یخلو من وجه ، فعلیه یلزم المنع من استعمال الماء المستعمل فی بعض الأعضاء من جهة احتمال الانضمام .

نعم ، لو تجرّی واغتسل ولم یتمّ الغسل ، لا تبعد الصحّة ، لولا الإشکال من جهة قصد القربة .

فظهر من جمیع ما ذکرنا الجواب عن الوجهین المذکورین فی کلام السیّد ، لأنّا لا نسلّم صدق عنوان الغسل بالماء المستعمل فی بعض الأعضاء ، إذا لم ینضمّ إلیه غسل بقیّة الأعضاء ، نعم یصدق ذلک بعد الانضمام .

کما ظهر أیضاً أنّ ذلک الاستظهار عن خبر علیّ بن جعفر ، وخبر ابن سنان لایکون مربوطاً بباب وضع الألفاظ الشرعیّة بکونها للأعمّ أو الأخصّ ، وهو الصحیح لأنّه استظهار من لسان الدلیل ، لا من جهة صدق عنوان الغسل ، حتّی یقال إنّه موضوع للأعمّ من الصحیح .

ص:455

فتأمّل ، فیما ذکرنا ، فإنّه دقیق ، وبالتأمّل فیه حقیق .

والحاصل : أنّ الماء المستعمل فی غسل بعض الأعضاء یکون له صور متفاوتة ، لأنّه یکون :

تارةً : غیر منفصل عن بدن المغتسل ، وأراد إجراءه علی سائر الأعضاء .

فلا إشکال فی جوازه ، وعدم صدق الماء المستعمل الممنوع علیه ، وإلاّ للزم القول بوجوب استعمال ماء جدید لکلّ عضو من الأعضاء ، وهذا مخالف للأدلّة والفتوی ، وهو واضح لا غبار علیه .

واُخری : ما یکون مستعملاً فی البعض _ مثل الرقبة والرأس _ وانفصل الماء بعد الغسل ، ولکن لم یوفّق الغاسل بإتمام غسله لعروض مبطل له ، وهذا قد عرفت فیه أنّه لا یبعد القول بجواز الاغتسال به لنفس المغتسل ولغیره ، لعدم صدق العنوان علیه عندنا ، وإن کان قد منعه السیّد الاصفهانی قدس سره فی «الروائع الفقهیّة» ، وتوقّف فیه الشیخ الأعظم فی «طهارته» .

وثالثة : مثل الصورة الثانیة لکنّه استطاع الإتمام بعد ذلک .

فهو قد یلاحظ حاله قبل تمامیّة الغسل ، والآخر بعده .

وأمّا علی الأوّل : فصدق العنوان علیه معلّقٌ علی الشرط المتأخّر ، فلو قیل بالمنع لا یکون إلاّ من جهة احتمال تحقّق شرطه ، کما هو الظاهر عند العرف ، فکأنّه لم یحرز عدم کونه مستعملاً ، إلاّ بمثل الأصل ، وجریانه هنا لا یخلو عن إشکال ، لأنّ المفروض وجود هیئة اتّصالیة یوجب جریان استصحاب البقاء .

نعم ، تجری أصالة عدم الانضمام ، فیما إذا حصل انفصال بین غسل الأعضاء وشکّ فی إتیان بعض آخر بعده ، فیحکم بالأصل بعده ، من جهة إمکان وقوع الحدث فیالأثناء واختلال الاتّصال المعتبر فیه .

وکیف کان ، فلو قلنا بالجواز واغتسل ، ثمّ انکشف الانضمام بعضه مع بعض ،

ص:456

فلابدّ من إعادته .

کما أنّه إذا قلنا بالمنع وتجرّی وأتی به ، ثمّ انکشف عدم الانضمام ، فیجوز الاکتفاء به ، لو لم یکن الإشکال وارداً من جهة عدم تمشّی قصد القربة مع العلم بالمنع .

ولا فرق فی هذه الصورة منعاً وجوازاً للمغتسل نفسه أو غیره .

کما لا فرق فی نفس المغتسل بین أن یصرفه فی بقیّة هذا الغسل أو لغُسل آخر ، لاشتراک الملاک فی الجمیع ، کما لایخفی .

کما لا فرق بین القول بطهارة کلّ عضو بغسله ، أو بطهارته بعد تمام الغسل ، کما فیالوضوء .

نعم فی الأوّل المنع أوضح .

وأمّا حکم الثانی وهو کونه بعد إتمام الغسل ، فلا إشکال فی ممنوعیّته حینئذٍ للمغتسل وغیره ، لأنّه القدر المتیقّن من الماء المستعمل ، سواء کان ماء مجموع الغسل أو ماء بعض أعضاءه الذی کان قد غسله لأجل رفع الحدث ، کما هو واضح .

ولا فرق فیما ذکرنا من الوجوه والصور ، بین کونه قد استعمل الماء فی الغسل الترتیبی أو الارتماسی ، إذا کان فی الماء القلیل .

تذهیب وتفریع : واعلم أنّ الجُنبین إذا ارتمسا فی الماء القلیل ، بقصد الغُسل ، دفعة واحدة ، یرتفع حدثهما ، وکان صحیحاً ، لعدم صدق عوان الماء المستعمل حین غسلهما علیه .

هذا إذا لم یعلم التقدّم والتأخّر ، بل قد علم تقارنهما .

وأمّا لو علم تقدّم أحدهما علی الآخر ثمّ اشتبه ، فهو أیضاً یکون صحیحاً عن کلیهما ، لأنّ الأصل الجاری فی کلّ واحد منهما یحکم بصحّته ، من جهة عدم تأخّره عن الآخر ، وإلاّ یکون معارضاً بالأصل الجاری للطرف الآخر ، لأنّ متعلّق العلم الإجمالی منحصرٌ فی شخصین ، ولا یکون العلم حینئذٍ منجزاً لأحدهما ،

ص:457

ولا یکون الأصل معارضاً بالآخر ، فیحکم بالصحّة لکلّ منهما .

نعم ، لو اقتدی أحدهما بالآخر ، فیحکم ببطلان صلاة المأموم ، لعلمه ببطلان صلاته تفصیلاً ، إمّا بواسطة بطلان صلاة الإمام لبطلان غسله ، أو بطلان غسل نفسه ، فیصیر کواجدی المنی فیالثوب المشترک .

ولا یفید القول بصحّة عمل کلّ عند نفسه ، وکون اقتداءه بالصلاة الصحیحة عند الإمام . لما قد عرفت کون الإشکال من جهة علمه تفصیلاً ببطلان صلاته ، بتحقّق أحد الأمرین . نعم ، صلاة الإمام محکومٌ بالصحّة من جهة ما ذکرنا فی الحالة السابقة ، فلیتأمّل .

الثالث : إن قلنا بالمنع عن استعمال الماء المستعمل فی رفع الحدث الأکبر _ کما هو المختار احتیاطاً _ فهل یکون الماء المستعمل فی الحدث المشکوک ، کالمستعمل فی الحدث المتیقّن أم لا ؟ وجوه وصور :

تارةً : یکون الحدث المشکوک منفیاً بالأصل التعبّدی ، مثل استصحاب الطهارة _ لیقینه بحالته السابقة من الطهارة ، أو کان فی مورد لا یکون الأصل الجاری فی حقّه معارضاً بالمثل ، لعدم تنجّز العلم الإجمالی فی حقّه ، نظیر ما عرفت فی الفرع السابق ، کواجدی المنی فی الثوب المشترک ، فلا إشکال حینئذٍ فی جواز استعمال هذا الماء المستعمل فی الحدث المشکوک ، لأنّ مقتضی الأصل عدم کون الماء مستعملاً فی الحدث ، وهو واضح .

واُخری : أن یکون الماء مستعملاً فی الحدث الذی کان مقتضی الاحتیاط ، هو لزوم الغسل لا إثبات الحدثیّة واقعاً ، نظیر من یعلم بوجود الجنابة ، ولا یعلم تقدّم أحدهما علی الآخر ، وحکمنا حینئذٍ بوجوب الغسل له ثانیاً بمقتضی الاحتیاط ، فحینئذٍ هل یجوز له استعمال مثل هذا الماء أم لا ؟ وجهان :

من عموم مطهریة الماء للحدث ، الشامل لما نحن فیه ، وعدم القطع بما یزیل

ص:458

هذا العنوان ، واحتمال وجود المزیل له حینئذٍ ، یقتضی الأصل عدمه .

ومن أنّ الاحتیاط کما یحکم بأنّه ممنوعٌ لدخول الصلاة لاحتمال محدثیّته ، وعدم القطع بزواله ، فیکون محدثاً تعبّداً ، أی بواسطة العلم الإجمالی المقتضی للاحتیاط ، فکذلک یحکم بالممنوعیّة بالنسبة إلی ماءه لکونه مستعملاً .

وهذا هو مختار صاحب «الحدائق» علی ما حُکی عنه ، لأنّ الأحکام تترتّب علی الظاهر لا علی نفس الأمر والواقع ، وبناءً علیه فهو محدث ظاهراً بمقتضی الاحتیاط ، فیکون الماء مستعملاً فی الحدث الظاهری ، فیکون ممنوعاً .

ولکن الأقوی هو الأوّل ، لأنّه حتّی لو سلّمنا بوجوب الغسل علیه ثانیاً _ بمقتضی الاحتیاط _ للصلاة ، ولکن لا نُسلّم کون مقتضی ذلک ترتیب جمیع آثار المستعمل علیه ، مع کون الأصل الجاری فی طرفه _ وهی عدم کونه مستعملاً فی الحدث _ یکون بلا معارض ، فإثبات المنع هاهنا یکون فی غایة الإشکال .

وما ادّعاه صاحب «الحدائق» قدس سره لا یخلو عن إشکال ، لوضوح أنّ الأحکام الشرعیة مترتّب علی الواقع لا علی الظاهر ، غایة الأمر قد یکون الآثار المترتّبة علی الظاهر بواسطة وجود الاُصول المحرزة ، أو بواسطة تنجز العلم الإجمالی ، کما هو مقرّر تفصیلاً فی محلّه .

مضافاً إلی إمکان الاستظهار من خبر عبداللّه بن سنان ، کونه مستعملاً فی الحدث الواقعی ، أو کان بمنزلة الواقعی تعبّداً ، بواسطة الاُصول المحرزة الملحق بالحدث الیقینی ، کما لایخفی ، وفاقاً للآملی قدس سره فی «مصباح الهدی» فی الحکم بالجواز ، کما قلنا .

ثالثة : ما یکون مستعملاً فی الحدث المحرز بالأصل _ کاستصحاب الحدث _ فحینئذٍ لا یبعد القول بالمنع عن الماء المستعمل فیه ، لأنّه حینئذٍ وإن لم یکن محدثاً وجداناً وحقیقةً إلاّ أنّه حیث کان یصدق علیه أنّه محدث تعبّداً ، فیحکم بعدم الجواز للماء المستعمل فیه ، واللّه العالم بحقائق الاُمور .

ص:459

والمستعمل فی الوضوء طاهرٌ ومطهّرٌ(1)

طهارة الماء المستعمل فیالوضوء

(1) الماء المستعمل علی أقسام: إذ تارةً یکون مستعملاً فی رفع الخبث، وقد عرفت حکمه فی قسمیه، من النجاسة فی غُسالة غیر الإستنجاء، والطّهارة فیه .

واُخری یکون مستعملاً فی رفع الحَدَث .

وثالثةً: یکون مستعملاً فی تحصیل الطهارة المعنویّة، ولو نسبیّاً من دون رفع للحدث.

ففی الأوّل منهما: قد یکون رافعاً للحدث الأصغر فقط، أو للأکبر فقط، أو لهما .

وفی الثانی: قد یکون رافعاً لتکلیفٍ وجوبی، أو لتکلیف ندبی ، وقد یکون مبیحاً، وقد لا یکون ، سواء کان بصورة الوضوء أو بصورة الغسل .

فلا بأس بالإشارة إلی جمیع هذه الصور، مع المزج بکلام المصنّف قدس سره .

وأمّا الماء المستعمل فی الوضوء غیر الرافع، لا إنفراداً ولا منضمّاً، کما سیأتی المراد منه إن شاء اللّه، فلا إشکال فی أنّه طاهرٌ، وعلیه إجماع المسلمین، وهو کالوضوء التجدیدی والصُّوری (والوضوء الندبی للغایات المستحبّة، إذا لم نقل بکونه رافعاً للحدث ، بل وهکذا الماء المستعمل فی الأغسال المندوبة غیر الرافع) لدلالة أدلّة طهارة الماء بإطلاقها، وعدم ما یصلح للحکم بنجاسته، وهو واضحٌ .

وأمّا مطهّریّته من الحدث الأصغر، أو الأکبر، أو الخبث: فلولا وجود دلیلٍ علی العدم، کان مقتضی الإطلاقات الأوّلیة هو الجواز، فلابدّ من إقامة دلیلٍ علی الخلاف ولو مع الکراهة، مثلاً .

وقد نُسب للشیخ المفید قدس سره استحباب التنزّه، عن الماء المستعمل فی الطّهارة المندوبة، من الغُسل والوضوء المندوبین، بل المستعمل فی الغَسل (بالفتح) المستحب کاستحبابه فی الید لأکل الطعام .

هذا، کما فی «التنقیح» بخلاف ما عن صاحب «الجواهر» قدس سره نقلاً عن الشهید

ص:460

گفی «الذکری» والمفید، هو استحباب التنزّه فی الماء المستعمل فی الوضوء خاصة من دون ذکر کونه رافعاً أو غیر رافع ، بل نَقل الشیخ الأعظم عن صاحب «المقنعة» أنّه موافق للسابق .

وکیف کان، فقد أورد علیه الأصحاب، بعدم الدلیل علی ما أدّعیاه، کما فی «الجواهر» وغیره ، ونُقل عن شیخنا البهائی قدس سره فی «الحبل المتین» ردّ الأصحاب، وإقامة الدلیل تأییداً للمفید قدس سره ، بأنّه یکفی فی ذلک دلالة خبر محمّد بن علی بن جعفر عن أبی الحسن الرضا علیه السلام ، فی حدیث، قال : «مَنْ إغتسل من الماء الذی قد اغتسل فیه، فأصابه الجذام، فلا یلُومنّ إلاّ نفسه »(1) الحدیث .

فإنّ إطلاق الغَسل یشمل الواجب والمندوب .

ثمّ قال الشیخ البهائی : والعجبُ من الأصحاب، کیف لم یلتفتوا، ولم ینتبهوا إلی هذا الحدیث؟!

فأجابه صاحب «الحدائق»: بأنّ ذیل الحدیث، قرینةٌ علی کون المراد من ماء الغسل فی الصَّدر هو ماء الحمّام، إذ جاء فی ذیله، فقلت لأبی الحسن علیه السلام : «إنّ أهل المدینة یقولون إنّ فیه شفاءٌ من العین .

فقال : کذبوا یغتسل فیه الجُنُب من الحرام، والزّانی، والنّاصب: الّذی هو شرّهما، وکلّ من خلق اللّه ، ثمّ یکون فیه شفاءٌ من العین» .

ثمّ طعن رحمه الله وقال : هذا من الآفات التی تحصل من تقطیع الحدیث، انتهی محصّل کلامه .

وفی «التنقیح»: أنّه یمکن دعوی عدم منافاة ذیله، بکونه حکماً مستقلاًّ مع إطلاق الصدر، فیدلّ علی الحکم سواءٌ فی ماء الحمّام أو غیره، فیکون دلیلاً لقول


1- وسائل الشیعة: الباب 2 من أبواب الماء المضاف، الحدیث 2.

ص:461

المفید رحمه الله ، إلاّ أنّه یمکن أن یکون وجه ردّ الأصحاب بعدم الدلیل، کون الخبر فی مقام الإرشاد للنّاس، من جهة مراعاة حفظ الصحّة، بالاحتراز عن الماء الذی یکون حاله کذلک، من اغتسال الجنب وأضرابه، الذی یؤدّی إلی تفشّی الأمراض، عند عدم الاحتراز منه، فیکون ذلک من قبیل الإرشاد إلی سائر الاُمور التی تترتّب الفائدة علی العمل بها مثل شرب الماء قاعداً فی اللیل، وأمثال ذلک، حیث لا یکون الأمر والنهی مولویّاً، حتّی یکون مستحبّاً أو مکروهاً.

فثبت أنّ الحقّ مع الأصحاب، القائلین بعدم الدلیل علی ما ذهب إلیه المفید قدس سره ، انتهی ملخّص کلامه .

هذا ، ولکنّ الإنصاف إمکان الاستفادة من مثل الحدیث، لإستحباب التنزّه تبعاً للمفید رحمه الله علی ما فی «التنقیح» والشهید، والشیخ البهائی، بالتقریب الذی نذکره، وهو أن یقال، _ بعد ملاحظة ما کان متعارفاً فی عصر الأئمّة علیهم السلام ، حیث کانوا یغتسلون بالماء القلیل فی الحیاض المتّصلة بالخزّانات کما اُشیر إلیه فی عددٍ من أخبار ماء الحمّام، بقوله : «إذا کانت له مادّة» _ أنّه لیس المراد من قوله : «قد اغتسل فیه» _ الماء الکثیر الّذی فی المخزن، کما کان متعارفاً فی قدیم الزمان من الغسل فی الأحواض الکبیرة. طهارة الماء المستعمل فیالوضوء

فعلی هذا وإن کان مورد النهی المستفاد من الجملة الشرطیّة، هو خصوص الغسل لا الوضوء، إلاّ أنّه یُفهم من تعلیق الجزاء بقوله : فأصابه الجُذام أنّ المقصود هو عدم استعماله، والتحرّز عنه، تنقیحاً للمناط ، فعلی هذا، یصحّ دعوی الإطلاق للغُسل والوضوء، حتّی الغَسل (بالفتح)، بلا فرقٍ بین الواجب والمندوب، کما لایخفی .

ونضیف إلیه، بأنّ کون ذیل الحدیث لماء الحمّام، لا یُنافی حکم صدره، لا لما ذکره الخوئی فقط، من کونهما حکمین مستقلّین _ بل مضافاً إلی إمکان ذلک _ هو أن یُقال : لا ریب أنّه لا خصوصیّة لماء الحمّام قطعاً إذ المقصود هو کون الماء

ص:462

مستعملاً بهذه الکیفیّة، ولو کان خارج الحمّام .

نعم ، ذِکْرُ الحمّام کان من جهة وجود الشأنیّة لذلک فی الحمّام، دون غیره .

فعلیه نقول : إنّ ما ادّعاه فی «التنقیح» من کون الحکم إرشادیّاً لا مولویّاً، فی غایة البُعد، إذ فیه أوّلاً ، یلزم أنْ لا یکون لنا حکمٌ کراهتی أو استحبابی، فی کلّ موردٍ یحتمل أن یکون الأمر أو النهی فیه لمصلحةٍ أو مفسدة دنیویّة .

وثانیاً : أنّه لا إشکال فی کون جمیع أحکام الشرع أن تکون کذلک ، فإنّا لا نری أیّ منافاة بین کون الحکم مشتملاً علی المنافع الدنیویّة، والمصالح الاُخرویّة من أمثال أمر المولی ونهیه وترتّب الثّواب علیه.

هذا الکلام من جنابه عجیبٌ، وأعجبُ منه إلحاق مثل شرب الماء فی اللیل قائماً وأمثال ذلک إلیه، إذ بذلک یوجب تعطیل کثیرٍ من أحکام المستحبّات والمکروهات.

فثبت من جمیع ما ذکرنا، عدم استبعاد الحکم باستحباب التنزّه، لولا قیام الإجماع علی خلافه ، وحیثُ کان الحکم فی الکراهة والإستحباب أهون من سائر الأحکام، فحقیقٌ أن یُصرف عنه .

وهکذا ظهر أنّ الأقوی هو الحکم باستحباب التنزّه مطلقاً، لا فی خصوص الوضوء، کما فی «الجواهر»، وإنْ کان إثبات تساوی حکم الماء المستعمل فیالوضوء مع حکم المستعمل فی الغسل من هذا الحدیث _ مع وجود شّبهة التعلیل فیه _ مشکلٌ جدّاً ، مضافاً إلی إمکان إثبات الجواز، فیما سیأتی للوضوء .

والحاصل أنّ استحباب التنزّه عن الماء المستعمل فی الغُسل والغَسْل فی الطهارة، وإثباته فی المستعمل فی الوضوء مشکلٌ، کما أنّ الأحسن الاجتناب عنه أشکل.

وأمّا القسم الثانی: وهو الماء المستعمل فی الوضوء، الرافع للحدث بإنفراده،

ص:463

فلا إشکال فی طهارته، بل هو ضروری المذهب، خلافاً لأبی حنیفة، حیثُ ذهب إلی نجاسته بنجاسته مغلّظة، حتّی أنّه منع الصّلاة فی الثوب الذی أصابه بمقدارٍ أکثر من الدرهم، وأبی یوسف حیث یقول بنجاسته نجاسةً خفیفة، ویجوزُ الصَّلاة فی الثوب المذکور ،

الماء المستعمل فیالوضوء الرافع للحدث

فیدلّ علی طهارته: الدلیل، والإجماع وإطلاقات الأدلّة علی طهارة الماء حتّی بعد استعماله فی رفع الحدث، کما تقتضی تلک الإطلاقات أیضاً مطهّریته عن الخبث والحدث، ومن الأصغر والأکبر، کما یقتضیه الأصل والإجماع .

بل قد یدلّ علیه ذیل روایة عبداللّه بن سنان، مع إطلاق صدره حیث یشمله قطعاً وهو: عن الصادق علیه السلام ، قال : «لا بأس بأن تتوضّأ بالماء المستعمل... إلی قوله : وأمّا الذی یتوضّأ الرَّجُل به، فیغسل به وجهه ویده فی شیء نظیفٍ، فلا بأس أن یأخذ غیره ویتوضّأ به»(1) .

وفی «الروائع الفقهیّة»: أنّ ظهور الصدر فی کون المراد من المستعمل، هو کونه مستعملاً فی الوضوء بالخصوص لا بالإطلاق، واضحٌ، لأنّ أمثال هذه الجملة، مثل قوله : «لاتستنجی بالأحجار المستعملة، ولا تتیمّم بالتراب المستعمل» ، ظاهرةٌ فی الإستعمال فی الجهة المذکورة فی الکلام، فهکذا یکون فی المقام، فکأنّ المراد هو کونه مستعملاً فی الوضوء ، وقوله لا یخلو عن وجهٍ فی الجملة، إلاّ أنّه لا یساعد مع قوله : بأنّ التفصیل الذی یذکره الإمام علیه السلام من النهی عن المستعمل فی غَسل الثّوب، وغُسل الجنابة، کان من جهة إیهام الإطلاق فیما وقع قبله.

لأنّه إذا کان یقصد ظهوره فیه بالخصوص، فلا وجه للإیهام حینئذٍ أصلاً .


1- وسائل الشیعة: الباب 13، الحدیث 9.

ص:464

کما أنّ قوله : وکلّ مَنْ قال بمقالته، کالآملی والخوئی، بأنّ ذیل الحدیث یدلّ علی الجواز.

لا یخلو عن مناقشة ؛ لأنّ الذیل محفوفٌ بما یظهر من کونه مستعملاً للغَسل لا الوضوء الاصطلاحی، وهو قوله: «یغسل به وجهه ویده فی شیء نظیف»، حیثُ إنّ ظهوره یکون فی التطهیر بمعنی الغَسْل والتوضّی اللّغوی، خصوصاً إذا قلنا بکون النظافة کانت فی قبال القذارة لا النّجاسة، کما احتملناه سابقاً .

ولکنّ الإنصاف، أنّ دلالة صدره بإطلاقه علی الجواز فی المقام قویٌّ عندنا، لأنّه وارد فی مقام الردّ علی العامّة الذین لا یجوّزون الوضوء بالماء المستعمل، فیکون من باب ذکر الإطلاق وإرادة أحد أفراده، لأنّه قد خرج عنه بالتنصیص لما یستعمل فی غَسل الثّوب تحریمیاً أو تنزیهیّاً، کما احتملناه.

وهکذا فی غُسل الجنابة أیضاً، کما عرفت، وتنصیصه بالجواز فی خصوص الغَسل للنظافة ، فبقی الفرد فی تحت الإطلاق هو الوضوء فقط، فکأنّ الحدیث بحسب صدره دالٌّ إمّا علی ما ذکره السیّد الاصفهانی قدس سره أو بما قرّرناه وقویّناه.

وقد استدلّ لذلک أیضاً بصحیح زرارة: عن أحدهما علیهماالسلام : قال : «کان النبیّ صلی الله علیه و آله إذا توضّأ أُخذ ما یسقط من وَضوئه فیتوضّئون به»(1).

بل فی «مستند الشیعة» للنراقی قدس سره اختیار استحباب التوضّی بالماء المستعمل فی الوضوء، تمسّکاً بهذا الحدیث.

فیردّه بعدم کونه للتعمیم لغیره، فتدبّر .

والظاهر أنّ دلالته علی الجواز غیرُ بعیدٍ، لأنّه إن کان أصل ذلک ممنوعاً، کان علی الإمام علیه السلام البیان، کما فعل _ روحی له الفداء _ فی غیر هذا المورد، من النهی


1- وسائل الشیعة: الباب الأوّل، الحدیث 8.

ص:465

عن ما لا یکون جائزاً، کما هو شأنه ، واحتمال اختصاص الجواز به صلی الله علیه و آله بعیدٌ فی الغایة ؛ لأنّ المقام یقتضی بیان عدمه فی غیره، وتنبیهه النّاس علیه؛ فعدم ذکره دلیلٌ علی الجواز کما لایخفی ، وأمّا استفادة الإستحباب من ذلک لغیره صلی الله علیه و آله غیرُ معلومٍ، إن لم یکن معلومٍ العدم .

ثمّ لا یخفی علیک، أنّ مضمون حدیث زرارة قد نقله الصَّدوق رحمه الله جزماً عن الإمام علیه السلام ویعدّ الخبر معتبراً عنده لتصریحه فی بدایة کتاب «من لا یحضره الفقیه» بأنّه یفتی علی طبق الاخبار التی أوردها فی الکتاب وإلیک نصّ الخبر: وسُئل أبو الحسن موسی بن جعفر علیه السلام ، عن مجتمع الماء فی الحمّام، عن غُسالة النّاس، یُصیب الثّوب منه ؟ فقال : لا بأس به، ولا بأس بالوضوء بالمستعمل، وکان النبیّ صلی الله علیه و آله إذا توضّأ أخذ النّاس ما یسقط من وضوئه فیتوضّئوا به»(1) .

وقوله علیه السلام فی صدر الخبر: «ولا بأس بالوضوء بالمستعمل»، فإنّها تؤیّد بأنّ عمل النّاس مِنْ أخذ وَضوء النبیّ صلی الله علیه و آله ، لا یختصُّ به فقط، لأنّه ورد فی مقام الاستشهاد به فیما نحن فیه، وذلک بقوله : لا بأس... إلی آخره ، مضافاً إلی کون الاستشهاد بقضیة رسول اللّه یفهم منه کون المراد من إطلاق «لا بأس بالوضوء بالمستعمل» هو المستعمل فی الوضوء، فیکون هذا الخبر قرینة ومفسّرة لخبر عبداللّه بن سنان فی إرادة هذا المعنی، واللّه العالم .

فإذا ثبت جواز رفع الخبث والحدث مطلقاً، بالماء المستعمل فی الوضوء الرافع، فغیر الرافع منه یکون بطریق أولی.

فهذا هو السبب فی دعوانا الإشکال فی غیر الرافع، ردّاً علی الشهید فی «الذکری»، والمفید فی خصوص الوضوء، إذ لم یثبت لنا دلیل علی استحباب الترک أیضاً .


1- الفقیه: 4 / ح20.

ص:466

فنتیجة البحث الأقوی جواز استعمال الماء المستعمل فی الوضوء _ رافعاً کان أو غیره _ فی رفع الخبث والحدث الأصغر والأکبر بمقتضی دلالة الأدلّة.

وقوله إشارةٌ إلی القسم الثالث: وهو المستعمل فی الوضوء المنضمّ مع الغُسل، فی رفع الحدث کالوضوء، فی غیر الجنابة، من الحَدَث الأکبر، من الحیض والنفاس والاستحاضة، بناءً علی القول بکون الرافع هو الغسل والوضوء معاً لا بالغسل وحده .

وذلک _ مضافاً إلی إمکان الاستفادة من إطلاق أدلّة الجواز المذکورة آنفاً، حیث یشمل لمثل ذلک ، بل إمکان دعوی الأولویّة الظنّیة علی أقلّ تقدیر، لو لم تکن قطعیّة، بأنّه إذا کان رافعاً للحدث بإنفراده، فإنّه لایکون مانعاً عن استعماله ثانیاً ، فصورة الانضمام یکون بطریق أولی لکونه أضعف، وإن أمکن الإشکال فیه من جهة أنّه استعمل فیما کان الحدث فیه أکبراً لا أصغر، ولذلک فإنّه یصعب إحراز الأولویّة هاهنا _ .

إنّه یمکن دعوی انصراف إطلاق الأدلّة الدالّة علی المنع، عن المستعمل فی الحدث الأکبر عن مثل هذا الوضوء، وإن ذهب صاحب «الجواهر» قدس سره فی کتاب «شرح النجاة»، علی ما حکی عنه إلی نفی البُعد عن شمول النزاع للمقام، مستدلاًّ بأنّ المفروض کون رفع الحدث الأکبر منوطاً بهما _ أی الغسل والوضوء _ .

بل یظهر من الشیخ الأعظم دعوی الإجماع علی الجواز فی جمیع أقسام الوضوء فی کتاب «الطهارة» سواء کان رافعاً أم غیر رافع، وسواء کان مع الإنضمام أو الانفراد، کما هو کذلک بحسب لسان الأدلّة، کما عرفت فلا نعید .

من هنا ظهر حکم سائر أقسام الماء المستعمل فی الوضوء، مثل ما لو کان

ص:467

مستعملاً فی الوضوء المنذور، أو المحلوف علیه، أو غیره من المندوبات والواجبات، لأنّ جمیعها تعدّ أهون من الوضوء الرافع ، فإذا أجزنا فی المستعمل فیه استعماله ثانیاً فی رفع الخبث والحدث مطلقاً، فغیره جائزٌ بالأولویّة القطعیّة.

کما لا فرق فی الجواز، بین أن یستعمله شخص المتوضّی أوّلاً مرّة اُخری، أو یستعمل غیره .

وتوهّم الفرق، لاشتمال ذیل حدیث عبداللّه بن سنان ذلک، بقوله : «فلا بأس أن یأخذ غیره فیتوضّأ به»، فلا یشمل ما کان مستعملاً بنفسه ثانیاً .

مخدوشٌ ؛ أوّلاً : بالقطع بعدم الفرق بینهما، لعدم خصوصیّة لذلک فی الحکم، وکأنّ المقصود إفهام الحکم به بحسب الغالب .

وثانیاً : هو مخالفٌ للإجماع المرکّب، لعدم وجود قول بالتفصیل أصلاً ، وهو واضح .

وأیضاً لا فرق فی الجواز بین أن یستعمله فی رفع الحَدَث الأصغر، أو الحَدَث الأکبر، لما قد عرفت فی صدر المسألة، بأنّ مقتضی إطلاقات الأدلّة هو الجواز ، إلاّ أن یقوم دلیلٌ علی المنع، وحیث لم یکن موجوداً فیعمل بتلک الإطلاقات، وإن کانت الأدلّة المجوّزة الخاصّة، من خبری ابن سنان وزرارة وغیرهما، ساکتةً عن حکم استعماله فی الحدث الأکبر ، مضافاً إلی وجود الإجماع علی الجواز، إذ لم یعرف قائل بعدم الجواز، مع إمکان دعوی صدق واجد الماء، لمن کان عنده هذا الماء المستعمل فی الوضوء وإمکان الاغتسال به فی الأغسال الواجبة، حین ضیق الوقت، فلابدّ علیه أن یغتسل حینئذٍ، والحکم بکفایة مجرّد التیمّم هنا مشکلٌ جدّاً، ولو جمع بین التیمّم والغسل کان أحسن وأوفق بالاحتیاط، کما لا یخفی .

هذا تمام الکلام فی الماء المستعمل فی الوضوء، بأقسامه، وأحکامه .

ص:468

وما استعمل فی الحدث الأکبر طاهرٌ، وهل یرفع به الحدث ثانیاً؟ فیه تردّدٌ، والأحوط المنع (1).

(1) والبحثُ فیه یقعُ من جهاتٍ أربعة، بل خمسة : تارةً فی أصل طهارته .

مطهّریّة الماء المستعمل فیالحدث الأکبر عن الخبث

واُخری: فی مطهّریته من الخَبَث .

وثالثة: فی مطهّریته عن الحدث الأصغر .

ورابعة: عن الحدث الأکبر .

ویلحقُ بذلک بحثٌ فی جواز استعماله فی الأغسال والوضوءات غیر الرافع وعدمه، فلا بأس بالإشارة إلی کلّ واحدٍ منها علی حدة .

فأمّا الأوّل : فلا إشکال فیما لو کان بدن المُغتسل طاهراً عن النجاسة العینیّة والحکمیّة کونه طاهراً، بلا فرقٍ بین کون الغُسل بنفسه رافعاً کما فی الجنابة، أو مع الوضوء، کما فی ما عدا الجنابة من الأغسال فی الأحداث، علی احتمالٍ، وبلا فرق بین کون الماء کثیراً معتصماً کماء الکرّ والجاری والمطر، أو قلیلاً .

ویدلّ علی طهارته أمور :

الأوّل : الإجماع بقسمیه قائم علیه، ولا یُعرف فیه خلاف أصلاً .

الثانی : الإطلاقات الواردة فی طهارة الماء، حیثُ تشمل بإطلاقها لما بعد الإستعمال، إذا لم یلاق نجساً، واستُعمِل فی رفع الحدث الأکبر .

الثالث : استصحاب الطّهارة، فلو شکّ فی طهارته بعد الغُسل، لأنّه کان قبله طاهراً فیشکُّ بالإستعمال فی نجاسته ، فمقتضی (لا تَنقُض) هو الحُکم ببقاء طهارته .

ص:469

الرابع : وجود قاعدة الطّهارة من قوله علیه السلام : «کُلّ شَیء طاهرٌ حَتّی تَعلَم أنّه نجس»، حیث أنّه أیضاً یشمل المقام.

هذا کلّه، مع إمکان احتمال استفادة الطهارة من بعض الأخبار غیر المعتبرة مثل خبر «عوالی اللآلی» المرویّ عن ابن عبّاس، قال : «اغتسل بعض أزواج النبیّ صلی الله علیه و آله فی جفنةٍ، فأراد رسول اللّه صلی الله علیه و آله أن یتوضّأ منها، فقالت : یارسول اللّه إنّی کنت جنبة، فقال صلی الله علیه و آله : الماء لا یجنب»(1)، الجفنة والجِفان، قصاع کبار واحدها جفنة، ککلاب وکلبة، ویُجمع أیضاً علی الجفَنَات (بالتحریک) کما فی «مجمع البحرین» .

فکانت قد اغتسلت من إناء کبیر ، واحتمال کون ماءه بمقدار الکرّ بعیدٌ غایته، بل کانت هی بسعة الأوانی المعمولة بأیدینا الآن والتی تُسمّی بالفارسیّة (سطل ولگن ) أو أکبر منهما؛ فیظهر منه طهارة الماء .

فالمسألة واضحةٌ، لا تحتاج إلی مزید بیان .

والثانی: وأمّا مطهّریته من الخبث :

مضافاً إلی وجود أصل الإستصحاب، إذ کان قبل الاستعمال مطهّراً له قطعاً، فبعده کذلک، لأنّه لا یُنتقضُ الیقین بالشکّ.

وکذلک شمول إطلاقات الأدلّة لمطهّریة الماء المطلق، حتّی بعد استعماله فی الحدث الأکثر، إلاّ ما ثبت دلیل علی المنع، وهو غیر موجود.

والإجماع بکلا قسمیه _ لو لم نعدّ ما نَقَله «الذکری» من الخلاف خِلافاً _ وکلامه علی ما فی «مصباح الهُدی» هکذا: جوّز الشیخ والمحقّق إزالة النجاسة به لطهارته، ولبقاء قوّة إزالته الخبث، وإنْ ذهب قوّة رفعه الحدث. وقیل: لا، لأنّ قوّته


1- مستدرک وسائل الشیعة: الباب الثانی، الماء المستعمل، الحدیث 6.

ص:470

استوفیت فالتحق بالمضاف . انتهی کلامه .

وقد جعل بعض المتأخّرین کلامه مدرکاً للإعتراض، مثل صاحب «الحدائق»، والعلاّمة، وفخر المحقّقین، حیث ادّعوا الإجماع ونفی الخلاف فیه، وإن تفطّن صاحب المعالم، وصرّح بکلامٍ لا یبعد قوّته، وهو أن یکون المقصود بعض المخالفین، کما یساعد هذا التعلیل استدلالاتهم الواهیة إذ الخاصة لا یستدلّون فی إثبات الأحکام بهذه الأوهام .

فدعوی الإجماع قویّ جدّاً ، إلاّ أنّه یظهر من کلام بعض الفقهاء، مثل المفید رحمه الله فی «المقنعة» علی ما نقله الشیخ الأعظم قدس سره فی کتاب «الطهارة»(1) أنّه : «لاینبغی أن یرتمس الجُنُب فی الماء الراکد، فإنّه إنْ کان قلیلاً أفسده، ولم یطهر به، وإنْ کان کثیراً خالف السنّة بالإغتسال فیه، ولا بأس بارتماسه فی الماء الجاری، واغتساله فیه »، احتمال نجاسة الماء القلیل باستعماله فی الإغتسال، لإمکان أن یکون مقصوده صورة نجاسة بدنه، کما هو الغالب، خصوصاً فی مثل تلک الأزمنة، فلا یکون حینئذٍ مخالفاً .

وکذلک فی کلام ابن حمزة فی «الوسیلة» والشیخ فی «المبسوط» فی الماء المستعمل إذا تُمّم کرّاً، معلّلاً فی رفع المنع _ خصوصاً فی «المبسوط» _ بأنّه لا یحمل خبثاً .

هذا، علی نقل الشیخ الأعظم فی کتاب «الطهارة»، مع احتمال أن یکون المراد من المُستَعمل، هو المستَعملُ فی الخبث لا مطلقاً، حتّی یشمل لمثل ما نحن فیه .

وکیف کان، فما ذهب إلیه الأکثر من دعوی الإجماع فی المقام قویّ، لعدم دلیلٍ یمنع عن ذلک، إلاّ إذا ذهبنا إلی مانعیة خبر عبداللّه بن سنان فی النهی عن


1- کتاب الطهارة: ص58.

ص:471

التوضّی عن الماء الذی یَغتسل به الرجل من الجنابة(1)، علی أن یکون المراد هو مطلق التطهیر لإطلاق التوضّی علی ماء الاستنجاء کثیراً، وعدم ثبوت حقیقة شرعیّة فی غیر لفظ الوضوء من سائر مشتقّاته، علی ما نقله الشیخ الأعظم قدس سره فی کتاب «الطهارة»(2) فإنّه رحمه الله ناقش فیه وقال بأنّ الإنصاف _ مع ملاحظة صدرها وذیلها کونه مستعملاً فی غیر رفع الخبث _ .

إلاّ إنّا نقول : قد یضافُ إلی ما ذکره قدس سره من إمکان کونه بلحاظ نجاسته، لما قد عرفت من کون الغالب فی ذلک العصر هو نجاسة بدنهم بالجنابة، بل لعلّه کان کذلک فی زماننا أیضاً کما لایخفی .

وکیف کان، فدعوی مطهّریّته من الخبث یکون أمرٌ ثابتٌ ولا إشکال فیه، واللّه العالم .

وأمّا الکلام فی القسم الثالث: فی أنّ المستعمل فی الحدث الأکبر، هل یجوز استعماله فی رفع الحدث الأصغر أم لا ؟

ولا یخفی أنّ الفقهاء رضوان اللّه علیهم أجمعین لم یفصّلوا فی الحکم بالجواز والمنع والتردّد وغیرها بینهما، وإنْ کان مقتضی استدلال بعضهم _ کالآملی _ هو التفصیل بأنْ جوّز الغَسل دون الوضوء، إلاّ أنّه قد استوحش فی مقام الاختیار والفتوی من بیان التفصیل ، ونحن نستعرض کلّ واحد منهما فی مقام الإستدلال وذکر الدلیل مستقلاًّ، حتّی یتّضح لنا الأمر فی هذه المسألة العویصة، بعنایة من اللّه تبارک وتعالی، وما توفیقی إلاّ باللّه، علیه توکّلت وإلیه أُنیب.

فنقول ومن اللّه الإستعانة : الأقوال فی المسألة علی ما حقّقناه أربعة : قولٌ بالجواز، وهو مختار کثیرٍ من الفقهاء، من المتقدّمین مثل: «السرائر»، والسیّد


1- وسائل الشیعة: باب 13 الماء المضاف، الحدیث 9.
2- کتاب الطهارة: ص59.

ص:472

المرتضی، وسلاّر، وابنی زهرة، وسعید ، بل ومن المتوسّطین والمتأخّرین: «کالقواعد» و«المنتهی» و«التحریر» و«المختَلف» و«الذکری» و«المدارک»، والشهید الثانی، وصاحب «الجواهر»، و«مصباح الفقیه»، والشیخ الأعظم، والسیّد فی «العروة»، والخوئی والخمینی والحکیم والگلپایگانی، وغیرهم .

استعمال الماء المستعمل فی الحدث الأکبر فی الوضوء

وقول بالمنع، کما علیه جماعة کثیرةٌ من القدماء _ بل قیل: إنّه المشهور بینهم _ مثل: المفید، والشیخ الطوسی، والصدوقین، وابنی حمزة، والبرّاج، ومثل النراقی، والسیّد الإصفهانی، والآملی، والبروجردی، والشاهرودی وغیرهم، من المتأخّرین الذین قالوا بالمنع وإن علّلوه بالاحتیاط الوجوبی، فراجع کتبهم .

وقول ثالث، وهو التوقّف والتردّد من تأیید المنع بالاحتیاط، کما عن المصنّف هنا وفی «المعتبر» .

وقول رابع هو التفصیل بین صورتی الضَّرورة من الجواز، والمنع فی غیرها، وهذا هو المنقول عن الشیخ قدس سره فی «المبسوط» .

إذا عرفت الأقوال فی المسألة فلابدّ البحث فیها :

تارةً: من جهة مقتضی الأصل العملی، المسمّی بالدلیل الفقاهتی .

واُخری: من جهة مقتضی الدلیل الاجتهادی .

فالأوّل: لا إشکال فی کون مقتضی أصل الاستصحاب، مطهّریته من الحدث الأصغر، لأنّه مقتضی الحکم بالإبقاء لما بعد استعماله فی رفع الحدث الأکبر، بدلیل (لا تَنقُض الیقین بالشکّ)، فیحکم بحصول الطهّارة به .

فإن قلت : بعد التوضّی بمثل هذا الماء، یشکُّ فی أنّه هل رُفِع الحدث به أم لا ؟ فمقتضی استصحاب بقاء الحدث، هو الحکم بالبقاء ؟!

قلت : بأنّ هذا الدلیل محکومٌ باستصحاب سابق، لأنّ الشکّ فی بقاء الحدث بعد التوضّی، کان مُسبّباً عن الشکّ فی جواز استعمال ذلک الماء، فإذا حکم

ص:473

بجوازه بمقتضی الإستصحاب، یکون قد رفع بذلک الشکّ فی بقاء الحدث، لکونه مُسبّباً، ومعلوم أنّ الأصل الجاری فی السبب رافع للشکّ الموجود فی المسبّب .

هذا، فضلاً عن وجود الإطلاقات الدالّة علی الجواز، کما سیأتی بحثه إن شاء اللّه تعالی بالتفصیل.

فحیث قد عرفت أنّ مقتضی القاعدة الأوّلیة، من الإطلاقات والأصل، هو الجواز، مضافاً إلی وجود دلیل خاصّ علیه أیضاً، فلابدّ من تجسّس دلیل المنع، فإنْ ثبت ذلک، فبواسطته یُخصَّص عموم الأدلّة المجوّزة عموماً، ویعارض الأدلّة الخاصّة خصوصاً، وإلاّ یجب العمل بمقتضی أدلّة الجواز، کما لایخفی .

فالمانعون قد استدلّوا علی ذلک بخبر عبداللّه بن سنان: «عن الصّادق علیه السلام قال : لا بأس بأن یُتوضّأ بالماء المستعمل ، وقال : الماء الذی یُغسل به الثوب، أو یَغتسل به الرجل من الجنابة، لا یجوز أن یتوضّأ منه وأشباهه . وأمّا الذی یتوضّأ به الرجل، فیغسلُ به وجهه ویده فی شیء نظیف، فلا بأس أن یأخذه غیره ویتوضّأ به »(1).

فدلالته علی المنع من الوضوء یکون من جهة النهی فی قوله : لا یجوز أن یتوضّأ منه .

وقد أورد علیه:

أوّلاً : من المناقضة بین صدره وذیله، لأنّه بصدره أجاز التوضّی بالماء المستعمل مطلقاً، فیشمل مثل هذا الماء، ولکن ذیله ینهاه .

وثانیاً : یمکن أن یکون المنع عن التوضّی بالماء المستعمل فی الجنابة، لأجل نجاسة البدن، الموجب لتنجّس الماء، لا لکونه مستعملاً فی رفع الحدث الأکبر،


1- وسائل الشیعة: الباب 13 الماء المضاف، الحدیث 9.

ص:474

حتّی یدلّ علی المنع المفروض فی المسألة .

وثالثاً : یحتمل أن یکون النهی تنزیهیّاً، من جهة احتمال أن یکون القول بذلک بقرینة غسل الثوب، حیثُ لا یکون غالباً نجساً، وبرغم ذلک نهی عن التوضّی بغسالته المستعملة فی إزالة الوسخ، فیکون المراد من المستعمل فی الجنابة غیر النجس، فیکون دالاًّ علی الکراهة لا الحرمة، حتّی یستفاد منه المنع .

ورابعاً : الحکم بالمنع عن التوضّی بالماء المستعمل فی رفع الحدث الأکبر موافق لمذاهب العامّة بخلاف القول بالجواز، فکأنّه یحتمل أن یکون وارداً مورد التقیّة، کما فی «الجواهر».

هذا کلّه فی دلالة الحدیث.

کما أنّه یرد علیه أیضاً من جهة سنده بأحمد بن هلال، وهو مرمیٌّ تارةً بالغلوّ ، واُخری بأنّه لا مذهب له أصلاً کما صرّح به الشیخ الأعظم فی کتاب «الطهارة» ، بل نُقل عن سعد بن عبداللّه الأشعری قوله: إنّا ما رأینا ولا سمعنا بمتشیّعٍ رَجَع من تشیّعه إلی النصب، إلاّ أحمد بن هلال .

بل ورد فی شأنه عن مولانا العسکری علیه السلام طعناً شدیداً، فلا بأس بذکر الحدیث مفصّلاً علی ما فی «تنقیح المقال»(1) للمامقانی نقلاً عن الکَّشی، فیما نقله عن القاسم بن العلاء أنّه خرج إلیه : «قد کان أمرنا نفذ إلیک فی المتصنّع بن هلال لا رحمه اللّه بما قد علمت لم یزل لا غفر اللّه له ذنبه ولا أقاله عثرته یداخل فی أمرنا بلا إذن منّا ولا رضی یستبدّ برأیه فیتحامی من ذنوب لا یمضی من أمرنا إیّاه إلاّ بما یهواه ویرید أرداه اللّه بذلک فی نار جهنّم فصبرنا علیه حتّی بتر اللّه بدعوتنا عمره وکنّا قد عرّفنا خبره قوماً من موالینا فی أیّامه لا رحمه اللّه


1- تنقیح المقال: ج1 / 99.

ص:475

وأمرناهم بإلقاء ذلک إلی الخاصّ من موالینا ونحن نبرأ إلی اللّه من ابن هلال لا رحمه اللّه ومن لا یبرأ منه واعلم الإسحاقی سلّمه اللّه وأهل بیته بما أعلمناک من حال هذا الفاجر» انتهی موضع الحاجة .استعمال الماء المستعمل فیالحدث الأکبر فیالوضوء

وأمّا الجواب عنها: فنبدأ أوّلاً بجواب الإشکال عن سنده، فنقول : ورود الطّعن عن العسکری علیه السلام فی حقّه لا یضرّ بقبول ما نقل عنه قبل إنحرافه، لاسیّما مع ملاحظة نقل القُمیّین مثل الصدوقین، وابن الولید، وسعید بن عبداللّه عنه، مع کثرة دقّتهم فی حال الرّواة. ولا نقصد بهذا وثاقة الرجل من جمیع الجهات، بل نقصد أنّه یُفهم من نقل الحدیث عن مثل هذا الرجل، أنّه کان موثوق الصدور عندهم، سواء کان هذا الاطمئنان حاصلاً لهم من وثاقته، أو من القرائن الخارجیّة أو المحفوفة ، خصوصاً إذا کان منقولاً عن الحسن بن محبوب، حیثُ حَکی عن ابن الغضائری _ الطّاعن فی کثیرٍ ممّن یطمئن به غیره _ أنّ الأصحاب قد اعتمدوا علی روایته، إلاّ ما یرویه عن شیخه ابن محبوب، وعن «نوادر» ابن أبی عمیر، حتّی أنّه حُکی عن السیّد میرداماد أنّ ما یرویه ابن هلال عن الکتابین ملحقٌ بالصِّحاح ، بل کان الشیخ الأنصاری قدس سره أیضاً ممّن یعتقد بأنّ لروایته قرائن تکاد تلحقها بالصِّحاح ، بل عن الوحید البهبهانی فی «حاشیة المدارک» هو الاعتماد علیه، فما أشکل المحقّق الخوئی فیه، وبسط فی حقّه الکلام، وأتعب نفسه علیه، کان فی غیر محلّه ؛ لأنّه _ مضافاً إلی أنّه یعدّ رجوعاً عمّا حقّقه من التضعیف فیما بعد ذلک، کما نقله مقرّره فی ذیل «التنقیح» _ مع وجود أحمد بن هلال فی سلسلة رواة «کامل الزیارات»، وغیر ذلک من المرجّحات المعتبرة عنده، وقبول أکثر المتأخّرین ذلک الخبر، واعتمادهم علیه فی فتاویهم، بل الإفتاء ببعض مضامینه، فلا یبقی حینئذٍ للشکّ والتردید فی اعتبار السند مجال .

فما ذکره بعضٌ، کالمحقّق والعلاّمة فی «المعتبر» و«المنتهی»، ومَنْ تبعهما من

ص:476

الطّعن فی سنده لا یُعتنی به ، فالحدیث من حیث السند متلقّاة بالقبول والاعتبار، وقابل للتمسّک به فی مقام الإستدلال والاختیار .

وأمّا الجواب عن الإشکال فی دلالته: فأمّا عن المناقضة بین الصَّدر والذیل، فلما عرفت أنّ المراد من المستعمل فی الصدر ؛ إمّا یکون خصوص الوضوء _ کما علیه السیّد فی «الروائع الفقهیّة» _ فیکون نفی البأس لخصوص المستعمل فی الوضوء، والبأس فی الذیل للمستعمل فی الغُسل، فلا تعارض بینهما حتّی یکون متناقضاً .

وإمّا یکون مطلقاً، إلاّ أنّه اُرید خصوص الوضوء بإخراج أفراده فرداً فرداً، فیبقی تحت عموم نفی البأس مجرّد المستعمل فی الوضوء، والمستعمل فی الغَسل (بالفتح) فی الشیء النظیف المذکور بالخصوص فی ذیله _ ویختصّ البأس بفردین وهما: المستعمل فی غَسل الثوب، وغُسل الجنابة، فلا مناقضة فیه أیضاً ، وهکذا یندفع هذا الإشکال أیضاً .

کما أنّ الإشکال بأنّه موافق للعامّة، المذکور فی الإیراد الرابع غیر وارد، لأنّهم یقولون بالمنع فی جمیع أقسام المستعمل، خصوصاً فی الوضوء، بخلاف ما هو مضمون الحدیث حیث یفید المنع فی خصوص ما استُعمِل فی رفع الخَبَث والحدث الأکبر، ولم نَعهد هذا القول من أحدٍ من العامّة ، فأصالة الجهة غیر جاریة هنا، أی أنّ الأصل یقتضی عدم کونه صادراً علی نحو التقیّة، حتّی لا یکون حجّة، کما لایخفی .

فبقی الآن من الإیرادات الأربعة إشکالان :

أحدهما : کون النهی بلحاظ نجاسة الماء، بسبب ملاقاته مع نجاسة البدن غالباً فلا یکون النهی حینئذٍ لأجل کونه مستعملاً فی الحدث الأکبر .

فأُجیب عنه : بأنّه وإن کان الغلبة مع نجاسة البدن، إلاّ أنّ الظاهر کون الحکم

ص:477

هنا حیثیّاً، أی یکون النهی من حیث أنّه مستعملٌ فی الحدث الأکبر، وذلک لا ینافی انضمام جهة أُخری إلیه مثل کونه قد لاقی النجاسة أیضاً وکونه مستعملاً فی رفع الخبث الأکبر أیضاً، فیکون النهی مطلقاً ولو لم یکن منضمّاً إلی هاتین الجهتین .

هذا، مضافاً إلی کونه معطوفاً بما استعمل فی غسل الثوب، الذی کان المفروض فیه نجاسته، فلو کان المقصود فی المعطوف علیه هو فرض النجاسة أیضاً، لزم أن یکون العطف تفسیریّاً ومن باب عطف الخاصّ علی العامّ، وهو بعیدٌ غایة البُعد کما هو مذکورٌ فی «مصباح الهدی»(1).

ونحن نزید علی الجواب عن الإشکال: بأنّه لو سلّمنا کون المفروض فی غَسل الثوب کونه نجساً _ مع إمکان الإشکال فیه کما سیأتی _ لکنّه لا نُسلّم کون الغالب فی الجُنُب النجاسة، إذ من الواضح أنّه قلّ ما یتّفق بأن یغتسل الرجل من الجنابة، ویتزامن غُسله ویتّحد مع إزالة النجاسة من بدنه، بل من عادة الناس أن یغسلوا النجاسة أوّلاً ثمّ یشرعوا فی الغُسل ثانیاً، کما یشهد لذلک ما ورد فی بعض الأخبار من الحُکم بغَسْل الفَرْج مع الماء ثمّ الغُسل للجنابة أوّلاً مثل ما رواه محمّد بن مسلم عن أحدهما علیهماالسلام : قال : سألته عن غُسل الجنابة.

فقال : تبدأ بکفّیک فتغسلهما، ثمّ تغسل فرجک، ثمّ تصبّ علی رأسک ثلاثاً، ثمّ تصبّ علی سائر جسدک مرّتین، فما جری علیه الماء فقد طهر»(2) .

وخبر زرارة قال : «قلت : کیف یغتسل الجنب ؟ فقال : إن لم یکن أصاب کفّه شیء غمسها فی الماء، ثمّ بدأ بفرجه فأنقاه بثلاث غُرف، ثمّ صبّ علی رأسه ثلاث أکفّ . .»(3) الحدیث .


1- مصباح الهُدی: ص200.
2- وسائل الشیعة: الباب 1 الجنابة، الحدیث 26.
3- وسائل الشیعة: الباب 2 من الجنابة، الحدیث 26.

ص:478

وغیر ذلک من أخبار هذا الباب .

فالغلبة المذکورة فی کلام أکثرهم ممنوعةٌ جدّاً، خصوصاً مع ملاحظة قلّة الماء فی تلک الأزمنة، حیث یوجب انفعال الماء قطعاً، فإیجاد الغُسل والغَسْل مع هذا الماء دفعةً واحدةً یعدّ فی غایة الندرة.

ولو سلّمناه فی مثل الماء المتّصل بالکرّ، کما فی ماء الأنابیب المتعارفة فی زماننا هذا .

فعلیه یُعلم أنّ النهی عن التوضّی بذلک، لا یکون إلاّ من جهة کونه مستعملاً فی الحدث الأکبر کما لا یخفی، فیکون هذا دلیلاً للمانعین .

وأمّا مع قبول کون الغالب فی المستعمل فی غُسل الجنابة هو نجاسة بدنهم، والقول بکون الغسالة فی رفع الخبث نجساً _ کما علیه الأکثر وکان مختارنا سابقاً _ فحینئذٍ یمکن أن یکون النهی _ فی الفقرة الثانیة _ من جهة إفهام السائل بأنّ المستعمل فی رفع الخبث یعدّ نجساً ومانعاً، وأیضاً یمکن أن یکون لإفهام أنّ الاستعمال فی رفع الحدث الأکبر یعدّ مانعاً عن التوضّی أیضاً، فلا إشکال حینئذٍ فی أولویّة الاحتمال الثانی وذلک فراراً عن لغویّة تکرار الحکم، إذا فرض کون الثوب أیضاً نجساً، ولعدم خصوصیّة غُسل الجنابة حینئذٍ فی الذکر بالخصوص.

هذا، بخلاف ما لو قلنا بالإحتمال الثانی، فإنّه یکون حینئذٍ حکماً مستقلاًّ غیر ما ذکره فی الثوب، إذ الخبر حینئذٍ فی هاتین الفقرتین مشتملٌ علی حکمین، وهما عدم التوضّی من المستعمل فی النجاسة المستفاد من الفقرة الاُولی، وعدم التوضّی من المستعمل فی رفع الحدث الأکبر .

ومن هنا ظهر فساد کلام الآملی القائل بأنّه : لو کان المنظور، هو باعتبار نجاسة البدن قد نهی عنه، یلزم أن یکون العطف من باب عطف الخاصّ علی العامّ.

وذلک لأنّه لا عموم فی الأوّل حتّی یکون الثانی بالنسبة إلیه خاصّاً، بل یکون

ص:479

من باب عطف فردٍ علی فرد آخر، وهو غیر وجیه صدوره من الفصیح _ لاسیّما فی مثل الإمام روحی له الفداء، حیثُ کان إمام الفصحاء _ ، إلاّ فی بعض الموارد الذی تقتضی المصلحة تکراره وهو مفقودٌ فی المثال، کما لا یخفی .

وثانیها : کون النهی فیه تنزیهیّاً، بقرینة غَسْل الثوب، لعدم کونه غالباً نجساً، فیکون النهی عن التوضّی بما استعمل فیه، لکونه مستعملاً فی إزالة الوسخ والقذارة، فیکون حینئذٍ قرینة علی کون النهی عن التوضّی بالماء المستعمل فی غُسل الجنابة أیضاً تنزیهیّاً.

ویشهد علی ذلک ما عرفت من عدم غلبة نجاسة بدن الجُنُب حین الإغتسال، فلا ینافی ذلک أن یکون التوضّی بالماء المستعمل فی کلا قسمیه مع نجاستهما، غیر جائز، لثبوت النجاسة فیه أیضاً .

بل قد یؤیّد هذا الاحتمال، ما وقع فی آخر الحدیث، من تجویز التوضّی بماءٍ یغسل به وجهه ویده فی شیء نظیف، بما قد عرفت منّا سابقاً بقرینة تصریح الغَسْل بالخصوص فی الوجه والید، مع کفایة فهم ذلک من لفظ «التوضّی» لو کان الوضوء به هو الوضوء الاصطلاحی، وإضافة لفظ النظافة کون المراد هو مطلق التطهیر والتنظیف، أی یجوز الوضوء بماءٍ استعمل فی شیء نظیف، وأنّه لا کراهة فیه، کما کانت فی سابقیه .

فعلی هذا التقدیر، لا یکون الحدیث حینئذٍ دلیلاً یفید المانعین، لأنّهم أرادوا إثبات المنع، بمعنی عدم الجواز لا الکراهة .

هذا، ولکنّه قد نوقش فیه _ کما فی «مصباح الهدی»، و«المستمسک» و«مصباح الفقیه» _ بأنّ هذا الاحتمال ضعیفٌ غایته، إذ لیس علیه دلیلٌ أصلاً، مع ظهور قوله: «الماء الذی یغسل به الثوب» فی کون غَسله لإزالة خبثه، کیفَ ولو جاز حمله علی الغسل لإزالة وسخه من غیر دلیلٍ، فلیُحمل علی الغَسل وإن لم

ص:480

یکن عن وسخ، فلا یبقی معه مجالٌ للحمل علی الکراهة.

وهذا الحمل أوفق مع ملاحظة الجمود علی اللفظ، إذ لیس فیه ما یوجب الحمل علی إزالة الوسخ .

انتهی کلامه فی «مصباح الهدی»(1).

ولکن الإنصاف عدم تمامیّة هذه المناقشة، لأنّ الدلیل هو الذی سبق ذکره من عدم وجود الغلبة فی نجاسة الثوب فی الخارج، فحمله علی خصوص النجس منه لا یخلو عن بشاعة، لکونه فرداً نادراً بالنسبة إلی سائر أفراد الثیاب ذات الحامل للقذارة والوساخة، کما لایخفی .

وأمّا جعل الحمل علی مطلق الغَسْل _ ولو من غیر وسخ _ أوفق وأولی، حتّی لا یکون النهی تنزیهیّاً . استعمال الماء المستعمل فیالحدث الأکبر فیالوضوء

فغیرُ وجیهٍ، لأنّ المناسبة بین الحکم والموضوع توجب کون النهی حینئذٍ لوجود خصوصیّة فی الماء المستعمل عند العرف حیث ینهی عنه .

وأمّا فیما إذا لم یکن فیه شیء أصلاً _ کما لو کان الثوب طاهراً ونظیفاً _ وبرغم ذلک نهی عنه، فإنّه _ فضلاً عن عدم مساعدته مع ما هو المذکور فی الذیل بإلقاء الخصوصیّة عن الوجه والید والشیء الذی هو کنایة عن الظرف _ لا یکون عند العرف والعقلاء حزازة وکراهیة من استعماله حتّی یستلزم النهی عنه، ولو تنزیهیّاً ، فأیّ خصوصیّة أجود وأحسن من ذلک، کما لا یخفی .

ولکن الحقّ الذی ینبغی أن نراعیه، هو أنّ حمل النهی _ فی قوله : «لایجوز أن یتوضّأ منه»، وأشباهه _ علی النهی الکراهتی هنا بعیدٌ غایته، وإن لم یکن کذلک فی بعض الموارد ، وذلک لأنّ حمل النهی علی الکراهة فی سائر الموارد یکون


1- مصباح الهدی: ص199.

ص:481

بالتصرّف فی ظهور الهیئة، مِنْ صَرفها عمّا هو الظاهر فیها وهو الحرمة ، وما نحن فیه یختلف عنه حیث أنّ مادّة الجواز إذا وقع عقیب النهی یکون ظهوره فی الحرمة أقوی، فحمله علی الکراهة بعیدٌ جدّاً .

فعلی هذا لابدّ من اختیار أحد الحملین ؛ إمّا القول بحرمة التوضّی بالماء المستعمل فی الثوب الوسخ الطاهر، وغُسل الجنابة حینما یکون البدن طاهراً.

أو القول بالحرمة فیهما مع فرض نجاستهما .

فحیثُ کان الحکم فی الاحتمال الأوّل _ فی المستعمل فی الثوب _ بالحرمة خلاف الإجماع، وإن لم یکن فی الثانی کذلک ، إلاّ أنّ القول به لا یساعده وحدة السیاق ، فلابدّ من حمله علی الاحتمال الثانی، حیث لا یکون حینئذٍ خلاف الإجماع لوجود القائل ، بل الإجماعُ قائم علی عدم جواز التوضّی بالماء المتنجّس إن قلنا بنجاسة الغُسالة ، بل لا یکون خلاف الإجماع إن قلنا بطهارة الغُسالة أیضاً، لما قد عرفت من ثبوت القول بالحکم بالمنع عن التوضّی بالماء المستعمل فی رفع الخبث ، فراجع .

فیتعیّن الحمل حینئذٍ علی الاحتمال الثانی، ویُحفظ النهی فی ظهوره وهو الحرمة، وإن کان هذا الحمل بعیدٌ أیضاً من جهة قلّة موارد نجاسة الثوب والبدن، فلذلک تری أنّ کثیراً من الفقهاء لم یفتوا بالمنع صریحاً ، بل احتاطوا فی المورد بالاحتیاط الوجوبی، لعدم وضوح دلیل المنع _ من حیث الدلالة _ بما یوجب اطمئنان الفقیه بحیث یلزمه علی الفتوی بالمنع أو الجواز جزماً، کما لایخفی .

نعم ، قد یمکن الإستدلال علی جواز فی الوضوء بالماء المستعمل بخبر «غوالی اللئالی» المروی عن ابن عبّاس، قال : «اغتسل بعض أزواج النبیّ صلی الله علیه و آله فی جفنةٍ، فأراد رسول اللّه أن یتوضّأ منها ، فقالت : یارسول اللّه إنّی کنت جُنُباً .

ص:482

فقال صلی الله علیه و آله : إنّ الماء لا یُجنب»(1) .

والظّاهر أنّ اغتسال بعض أزواج النبی صلی الله علیه و آله کان فی جفنةٍ، وهی القصعة الکبیرة، لا الأخذ منها والاغتسال بماءها فی خارجها، کما یؤیّد ذلک إخبار بعض الأزواج له صلی الله علیه و آله ذلک، حیثُ یفهم أنّه کان لتوهّم عدم جواز التوضّی بالماء المستعمل فی الحدث الأکبر، ولولاه لما صحَّ توهمه بالنسبة إلی أخذ الماء منها وجهاً وجیهاً، کما لا یخفی، وإنْ جعل بعض المحقّقین وهو _ الآملی قدس سره _ هذا الاحتمال مؤیّداً للجواز أیضاً، معتمداً علی تعلیله صلی الله علیه و آله «بأنّ الماء لا یُجنب» _ والإشکال فیه یکون من جهتین : الجهة الاُولی: فی سند الخبر والکتاب المنقول فیه.

الأوّل : فی سنده، لکونه مرسلاً، ومنقولاً عن کتاب «غوالی اللآلی»(2) لأبی أبی جمهور الأحسائی، وهو محمّد بن علی بن إبراهیم بن أبی جمهور الاحسائی ، ویقع الکلام وقع فیه أوّلاً : من جهة شخصه، فهو وإن کان عالماً متکلِّماً جامعاً للمعقول والمنقول، إلاّ أنّه متّهم بالتصوّف، وکان مفرطاً فیه، کما نقله النوری فی «المستدرک» عن صاحب «روضات الجنّات» ، وإن وثّقه النوری فی «المستدرک»(3)، والمحدّث الجزائری، حیث ألّف کتاباً سمّاه ب _ «الجواهر الغوالی فی شرح عوالی اللآلی» فراجع.

الاغتسال بالماء المستعمل فیالحدث الأکبر

الثانی : فی کتابه، من جهة خلطه فی الأخبار بین غثّها وسمینها، وصحیحها وسقیمها، کما نقل ذلک فی «الروضات» عن الشیخ الحرّ العاملی فی «وسائل الشیعة» ، بل کذلک صاحب «الریاض» و«اللؤلؤة» والمجلسی فی «البحار» ، بل


1- مستدرک وسائل الشیعة: الباب 2 الماء المستعمل، الحدیث 6.
2- الصحیح بالعین المهملة لا المعجمة، کما عن «مستدرک وسائل الشیعة» ج3 / 364.
3- مستدرک وسائل الشیعة: 3 / 363.

ص:483

عن صاحب «الحدائق» عدم الاعتماد بأخبار کتابه عند الأصحاب .

فالإعتماد علیه حینئذٍ منفرداً بنحو الدلیل والاستدلال، لا التأیید والإستشهاد لا یخلو عن تأمّل، خصوصاً مع إرساله، وإن ذهبنا إلی وثاقة الرجل بنفسه، کما هو واضح لا خفاء فیه .

وثانیها : فی دلالته أوّلاً ؛ أنّه لیس فیه أنّه قد توضّأ رسول اللّه صلی الله علیه و آله منه أم لا حتّی یدلّ علی فعله ، مضافاً إلی أنّ قوله یؤیّد الجواز، فلعلّه لم یتوضّئ بعد ذلک منها، ولو کان لأجل الکراهة مثلاً لو لم نقل بالحرمة.

ثانیاً : قد استبعدنا سابقاً کون الجفنة کبیرة علی مقدار الکرّ، إلاّ أنّه لا ینفی الاحتمال فإذا احتملنا کونه کرّاً، فلا یکون حینئذٍ مفیداً لما نحن بصدده .

کما قد یؤیّد هذا الاحتمال کون الإناء کبیراً بحیث یمکن فیه الاغتسال، فاحتمال استعماله علی قدر الکرّ لیس ببعید غایته، کما لایخفی ، فالإعتماد علی هذا الحدیث علی حدة _ لولا دلیل آخرٍ، مع وجود احتمال المنع من خبر ابن سنان کما عرفت _ فی غایة الإشکال، بلا فرق فی المنع بین أقسام الوضوء.

فالأحوط عدم جواز التوضّی بالماء المستعمل فی الحدث الأکبر مطلقاً.

وأمّا الکلام فی التقسیم الرابع: وهو استعمال ماء المستعمل فی رفع الحَدَث الأکبر فی رفع الحدث الأکبر أیضاً.

ففیه أیضاً: مثل الوضوء من جهة الأقوال، بکونها أربعة: بین الجواز مطلقاً، والمنع مطلقاً، والتوقّف مع تأیید المنع بالاحتیاط، والتفصیل بین حال الضرورة بالجواز وعدمها بالمنع.

وقد عرفت أنّ الفقهاء لم یُفرّقوا فی الحکم جوازاً ومنعاً وتفصیلاً، بین الوضوء والغُسل، ولکنّا قد بسطنا البحث فی کلّ واحد منهما علی حدة.

فالآن نشرع ببیان حکم الغُسل بالماء المستعمل فی الحدث الأکبر .

ص:484

فنقول ومن اللّه الاستعانة : قد استدلّ المانعون علی المنع بمقبولة عبداللّه بن سنان السابقة، باحتمال أن یکون کلمة (وأشباهه) عطفاً علی الضمیر المجرور فی (منه)، فیکون الخبر حینئذٍ معناه أنّ الماء الذی یُغسل به الثوب وأشباهه، من بدن النجس، والجسم النجس، وما یغتسل به الجُنُب وأشباهه، من المستعمل فی الحیض والنفاس والإستحاضة، لا یجوزُ الوضوء منه ، فحینئذٍ لا یکون الخبر دالاًّ علی المنع بالنسبة إلی الغسل، إلاّ أنّه داخل فی أحد الأمرین: أمّا بالإجماع المرکّب، لعدم وجود قائل بالتفصیل بین الوضوء بعدم الجواز، والغُسل بالجواز فی أصحابنا.

أو یلحق بالوضوء بطریق الأولویّة، لأنّه إذا دلّ علی المنع من استعمال الماء المستعمل فی الحدث الأکبر لرفع حدث الأصغر، ففی رفع حدث الأکبر یکون منعه بطریق أولی، هذا کما فی «الروائع الفقهیة» للسیّد قدس سره .

ولکن هذا الوجه لإثبات المنع فی الغُسل، قابلٌ لأن یرد علیها إشکالات:

أوّلاً : من جهة مخالفته لقاعدة نحویّة متّفق علیها بین النحاة، من عدم جواز العطف علی الضمیر المجرور من دون إعادة الجارّ ، فلا یقال : مررت به وزید ، بل یقال : وبزیدٍ، فلا یصحّ نسبة اللّحن إلی الإمام علیه السلام ، فالعجب من صاحب «مصباح الهدی» أنّه برغم تنبّهه لهذا الإشکال فهو یذهب إلی أظهریته بحسب العرف وأنّه لاینافی کونه خلافاً للقاعدة !

وثانیاً : من الإشکال فی الإجماع، بإمکان القول فیه بأنّه عدم القول بالفصل، لا قولٌ بعدم الفصل، حتّی لا یجوز الذهاب إلی خلافهم، وإن کان هذا لا یخلو من إشکال .

وثالثاً : من إمکان الإشکال فی أصل الأولویّة، کما فی «مصباح الهدی»، بأن لا یکون الوضوء جائزاً دون الغسل فیکون جائزاً، وإن کان هذا المنع لا یخلو عن تأمّل .

فمع ورود هذه الإشکالات _ ولو احتمالاً _ یستلزم أن نختار فی فقه الحدیث

ص:485

بما یدلّ علی منع الغُسل أیضاً، من دون ورود إشکال فیه، وهو أن تکون کلمة (وأشباهه) عطفاً علی المصدر المشتقّ من (أن یتوضّأ) بالرفع، لکونه فی محلّ الفاعل لجملة (لا یجوز)، فیکون التقدیر هکذا لا یجوز الوضوء وأشباهه _ وهو الغسل _ عن مثل الماء المذکور فی الصدر، فحینئذٍ یکون الخبر بعیداً عن اللحن، کما یسلم حکم منع الغسل عنه أیضاً عن الإیراد الأوّل .

فإن قلت : فعلیه لا یشمل الحدیث للماء المستعمل فی رفع حدث الأکبر، مثل الحیض والنفاس بل تختصّ بغُسل الجنابة، بخلاف ما لو رجع (أشباهه) إلی غُسل الجنابة، فإنّه یدخل مثل هذه المیاه فی الحکم .

وتوهّم دخول غیر غسل الجنابة فی حکم غُسل الجنابة من جهة تشابه الجمیع فی عنوان الحدث مشکلٌ.

کما أنّ دعوی وحدة حکمهما فی ذلک عند الفقهاء ، أشکل، فهذا یوجب تقویته احتمال الأوّل وترجیحه علی الثانی، کما فی «التنقیح» .

قلت : لا ضرورة لأجل تحصیل حکم عمومی أن نقدم علی ارتکاب مخالفات للقواعد النحویة المتعارفة ، بل القاعدة تقتضی التعبّد بظهور الخبر بمقتضی قواعد الفصاحة، وبقدر ما یدلّ علیه، فإن أمکن القطع بإلغاء الخصوصیّة عن المورد، وإلحاق غیره إلیه فهو، وإلاّ یکتفی فی الحکم بخصوص المورد، خصوصاً فیما إذا کان المنع علی خلاف الأصل، حیث یقتضی الحکم الاکتفاء بالقدر المتیقّن منه، وهو المستعمل فی غُسل الجنابة، لو لم نقل بالتعمیم من باب مناسبة الحکم والموضوع.

فثبت من جمیع ما ذکرنا أنّ الاحتمال الثانی أقوی . ونکون قد أثبتنا ممنوعیّة استعماله فی الوضوء وکذلک الغُسل.

إلاّ أنّه قد عرفت ورود الإشکال من جهة وقوع المعارضة بین حکم المنع _ بلحاظ النهی من کونه تحریمیّاً لوجود لفظة (لا یجوز) ، وبین حکم الجواز _

ص:486

بلحاظ عدم غلبة نجاسة الثوب والبدن فی الجنب _ ولذلک حکمنا بالإحتیاط بالمنع فی الوضوء، وکذلک فی الغسل أیضاً .

مع ما عرفت من إمکان دعوی الأولویّة هنا، بل وجود الإجماع المرکّب أیضاً کما لایخفی .

وقد استدلّ للمنع بعدد من الأخبار، لا بأس بذکرها والإشارة إلیها، وملاحظة کیفیّتها .

فمنها: خبر صحیح عبداللّه بن مسکان.

قال : «حدّثنی صاحب لی ثقة أنّه سأل أبا عبداللّه علیه السلام عن الرجل ینتهی إلی الماء القلیل فی الطریق، فیرید أن یغتسل، ولیس معه إناء والماء فی وهدة، فإن هو اغتسل رجع غِسْله(1) فی الماء کیف یصنع ؟

قال : ینضح بکفّ بین یدیه وکفّاً من خلفه وکفّاً عن یمینه وکفّاً عن شماله ثمّ یغتسل»(2) .

وجه الاستدلال بهذا الحدیث، هو تقریر الإمام علیه السلام لفهم السائل من ممنوعیّة وروده إلی الوهدة _ بمعنی المنخفض من الأرض _ فلو لم یکن ذلک ممنوعاً، فلِمَ لم یصحّح الإمام فهمه؟

هذا، ولقد ذهب الفقهاء فی فهم فقرات هذا الحدیث إلی توجیهات کثیرة، لایخلو بعضها عن تعسّفات باردة _ فلا بأس بذکرها، ثمّ ذکر مختارنا فیه .

قیل : بأنّ المراد من قوله : «ینضح بکفّ بین یدیه وکفّاً من خلفه... إلی آخره» هو رشّ الأرض بجوانبها الأربعة، لتجتمع أجزائها، فیمنع عن انحدار الماء إلی الوهادة .


1- فی «الوافی»: غِسل الماء (بکسر الغین) أو غُسل الماء (بضمّها)، وهو الماء المستعمل فی الغُسل.
2- وسائل الشیعة: الباب 2 الماء المضاف، الحدیث 10.

ص:487

فأورد علیه فی «السرائر»: بأنّ هذا لا یلتفت إلیه، لأنّ الأرض إذا ندّت یوجب انحدار الماء أزید وأسرع من جفافها .

لکنّه یندفع بإمکان أن یقال : بأنّ مقصود القائل هو جعله طیناً، بحیث یصیر کجدارٍ وحجاب مانع عن رجوع الماء إلیه، لا الرشّ بالماء الموجب لرطوبة الأرض ونداها الموجب لسرعة الرجوع .

وقیل : کما عن الشیخ الأعظم قدس سره ، بأن یکون المراد منه بلّ الجسد کذلک، حتّی یوجب تسهیل البدن للغَسل وقبوله الماء بأقلّ المقدار، ممّا لا یوجب زائده الرجوع إلی الماء القلیل .

فأُجیب عنه _ کما فی «مصباح الهدی» _ : بأنّه مضافاً إلی بُعده، کان الأولی أن یذکر بکلمة (علی خلفه وأمامه)، لا کلمة (عن) (وبین یدیه) ، الظاهرة فی الجوانب من الأرض.

ونحن نردّه بما یأتی إن شاء اللّه، من بیان هذه الجملة فی حدیثٍ ممّا قد یساعد هذا الاحتمال ، فانتظر .

وقیل: کما عن «المصباح» للآملی، بأنّ هذا العمل کان من جهة خشیة السائل من نجاسة أطراف الوهدة، وخوفه برجوع الماء المتنجّس إلی الوهادة، الموجب لانفعال الماء، فأراد الإمام علیه السلام بهذا العمل تطهیر الأطراف بالنضح علیها، لکی لا ینفعل الماء الذی فی الوهدة بورود غُسله علیه، فنتمسّک فیه بخبر الکاهلی الوارد فی الوضوء مثله .

وهو بعیدٌ جدّاً، لوضوح أنّه کیف یمکن تطهیر الأرض بکفّ من الماء، ومعلومٌ أنّه نحتاج عادةً لتطهیرها إلی قدر کبیر من الماء. إلاّ أن تکون صلبة، وفیها تأمّل .

ثمّ إنّه من أیّ طریق استفید کون الأرض نجساً، مع عدم وجود ما یدلّ علی ذلک فی الخبر، کما لایخفی .

ص:488

ونفس هذا الإیراد یرد علی الخبر الآخر الذی تمسّک به أخیراً وهو حدیث الکاهلی: قال : «سمعت أبا عبداللّه علیه السلام یقول : إذا أتیت ماء وفیه قلّة، فانضح عن یمینک وعن یسارک وبین یدیک وتوضّأ»(1) کما لایخفی .

وقیل: کما عن «الروائع الفقهیّة»، واحتمله الخوئی، بأن یکون رشّ الجوانب الأربع من الأرض: من آداب الغسل والوضوء، لورود ذلک فیهما فی أخبار أُخر ، ولعلّه حکمة ذلک أنّ هذه الأرض کانت معرضةً لملاقاة النجاسة وشرب أیّ حیوان منه، فکان النضح واقعاً لهذا المعنی .

وقیل : یحتمل أن یکون المحذور عند السائل هو اختلاط الماء بالتراب، وصیرورة الماء وحلاً، وکان النضح مانعاً عنه، فأمر الإمام علیه السلام بعلاج ذلک بهذا الطریق حتّی لا یدخل التراب فیه.

لکنّه بعید غایته، بل هو أبعد الوجوه .

والأولی من الوجوه المذکورة أن یقال: _ کما عن «الوافی»(2) _ إنّ لنا خبراً آخر مماثلاً له الذی یأتی تفصیله وهو من الأخبار المستدلّ بها، وهو صحیح علیّ بن جعفر: فی حدیثٍ قال : «سألته عن الرجل یصیبه الماء فی ساقیة أو مستنقع أیغتسل منه للجنابة ... إلی قوله : وهو یتخوّف أن یکون السباع قد شربت منه ؟ فقال : إن کانت یده نظیفة، فلیأخذ کفّاً من الماء بید واحدة، فلینضحه خلفه وکفّاً أمامه وکفّاً عن یمینه وکفّاً عن شماله، فإن خشی أن لا یکفیه غَسَل رأسه ثلاث مرّات، ثمّ مسح جلد بیده فإنّ ذلک یجزیه»(3) الحدیث.


1- وسائل الشیعة: أبواب الماء القلیل، الحدیث 13.
2- الوافی: کتاب الطهارة / ص12.
3- وسائل الشیعة: الباب الأوّل من أبواب الماء المضاف، الحدیث 10.

ص:489

وقال فی ذیله : والثالث: الخوف من ورود وارد علیه ممّا أفسده من کلبٍ ونحوه من السباع، المقتضی لوسوسة قلبه، وریبه فی طهارته، فأشار علیه السلام أوّلاً بما یزیل عن قلبه الریب فی نجاسته الموهومة ، بل توهّم رجوع الغُسالة إلیه بنضح بعضه علی أطراف الساقیة والمستنقع، لتطیب بقیّته، ولیجوّز أن تکون القطرات الواردة علیه، إنّما وردت من الأطراف المنضوحة دون البدن .

انتهی موضع الحاجة من کلامه .

فظاهر کلامه رحمه الله أنّه أراد بیان احتمالین:

الاحتمال الأوّل: وهو نضح الماء للأطراف حتّی یوجب التطهیر، کما أشار إلیه بقوله : تطیّب بقیّته، أی الماء الراجع إلیه، فیخرج الرجل عن الوسوسة، لأنّه قد طهّره بذلک، فکانت الکفّ کنایة عن إلقاء الماء علیه کذلک، فهذا المعنی مطابق لاختیار الآملی قدس سره ، والتعجّب منه أنّه ذکر کلام «الوافی» بهذا الوجه .

ثمّ قال فی ذیله، بعد استبعاده منهما هذا المعنی والوجه: أنّه قدس سره لم یُبیّن کیف یصیر نضح بعض الماء علی الجوانب الأربع، موجباً لتطیّب بقیّته ، مع أنّ نفسه الشریفة قد اختار هذا المعنی، حیثُ قد عرفت منّا تضعیفه، فکأنّه لم یفهم من کلامه ما ذکرناه .

والاحتمال الآخر: الأحسن والأجود أن یکون ذلک العمل لإیجاد الشبهة فی نفس المغتسل أو المتوضّی، کما فی حدیث الوارد فی التوضّی، بأنّه لو کان قد رأی رجوع ماء فی الجملة علی الماء الواقع فی الساقیة أو الوهدة، کان من ذلک الماء المنضوح فی الجوانب، لا نفس الماء المستعمل، حتّی یوجب الإشکال ولو من حیث الکراهة، فحینئذٍ لا یکون قد لاحظ فیه نجاسة الأطراف، حتّی یرد ما قلناه من عدم دلالة متن الحدیث فی بعض الأخبار، کالخبر الوارد فی الوضوء، أو الوارد فی المقام علی تنجیس الأطراف بالسباع وغیرها، هذا فضلاً عن جریان

ص:490

قاعدة الطهارة فی مثل هذه الموارد، وأنّ الأئمّة علیهم السلام کانوا یشدّدون النکیر علی من کان قد ابتُلی بالوسوسة، فکیف یصحّ اسناد عمل إلیهم علیهم السلام توجب زیادة الوسوسة فیهم.

کما یقال: إنّ اشتمال حدیث علیّ بن جعفر علی هذه الفقرة مع ذکر الغسل بأن یبلل جسده أوّلاً ثمّ : «فإن خشی أن لا یکفیه غَسَل رأسه ثلاث مرّات، ثمّ مسح جلده بیده» الحدیث ، لا یبعد أن یفهم منه أنّ المراد من الفقرة المعهودة هو بلّ الجسد کما ذکره واحتمله الشیخ الأعظم قدس سره .

هذا ما خطر ببالنا ، والعلم عند اللّه والرسول وأُولی الأمر منهم علیهم السلام .

وکیف کان، فدلالة الحدیث علی عدم جواز الغُسل مع الماء المستعمل فی الحدث الأکبر مخدوشة من جهات _ وإن کان بعضها ضعیفاً _ :

أوّلاً: من إمکان دعوی الإجمال، من حیث أنّ الجهة المانعة التی دعت السائل إلی السؤال هل هی کانت من جهة کون الماء المستعمل بما أنّه مستعمل مانعاً، أو کان من جهة کونه حاملاً للتراب وصیرورة الماء فاسداً بعد تحوّله إلی الوحل _ کما فی «الروائع»؟ _ ونزید فیه ثالثاً وهو کون المحذور عنده لعلّه نجاسة الأطراف الناشئة من رجوع ماء الوهدة النجسة کما علیه الآملی قدس سره ؟

فإذا صار الأمر مردّداً بین هذه الاحتمالات، یصیر مجملاً ولا یمکن الاعتماد علیه فی الفتوی .

هذا، وإن کان هذا لا یخلو عن بُعد کما ذکرنا .

وثانیاً : إنّ تقریر الإمام علیه السلام لما توهّمه السائل من المنع، لا یکون معلوماً هل هو کان باعتبار أنّ رجوع الماء المستعمل موجباً لحرمة الغسل والاغتسال به، کما هو المقصود أو کان باعتبار کراهة الإغتسال بمثل هذا الماء، فیکون مجملاً من هذه الجهة کما ذکره الشیخ الأعظم قدس سره ، وإن استبعده صاحب «مصباح الهدی» وذهب إلی أنّ الحکم لعلّه لأجل العلاج ولرفع الکراهة، مع بُعد کون الکراهة

ص:491

باعثة لسؤال السائل عن ذلک .

وثالثاً : یلزم التعبّد بهذا الحدیث الالتزام بما یخالف فتوی جمیع الأصحاب، لأنّ دخول النضحات والرشحات فی الماء الذی یستعمل للغسل، لا یوجب صیرورة الماء متّصفاً بوصف الإستعمال المانع، فیما إذا کان أقلّ من ذلک، فضلاً عن مثل ماء الوهدة الذی یکون کثیراً عادةً ، فلابدّ حینئذٍ من الحمل علی الکراهة .

مضافاً إلی عدم اشتماله علی کون الغَسل للجنابة، إلاّ أن یکون هو المراد بواسطة الغلبة الموجودة فی الخارج، مع أنّه لو کان غیره ممنوعاً ففیه یکون بطریق أولی.

فسقط الحدیث عن الاستدلال .

ومنها : صحیح محمّد بن مسلم عن أحدهما علیه السلام : «قال : سألته عن ماء الحمّام؟ فقال : ادخله بإزار ولا تغتسل من ماء آخر إلاّ أن یکون فیهم (فیه) جنبٌ، أو یکثر أهله فلا یُدری فیهم جنبٌ أم لا»(1) .

وجه الاستدلال به، هو المنع عن الإغتسال بالماء الذی اغتسل به الجُنُب قطعاً أو احتمالاً، فلیس وجه المنع إلاّ من جهة نجاسة الماء المستعمل فی رفع الحدث الأکبر، إن سُلّم غلبة النجاسة فی الجنب، وإلاّ لکان من جهة کونه مستعملاً فی رفع الحدث الأکبر، وهذا هو المطلوب .

وقد أشکل علیه بوجوه :

أوّلاً : نُقل عن صاحب «المعالم» بأنّ الإستثناء عن النهی بقوله : «لا تغتسل من ماء آخر إلاّ أن یکون فیه جُنُبٌ»، لا یوجب إلاّ نفی الحرمة، لا إثبات وجوب الاغتسال عن الماء الآخر إذا کان فیه الجُنُب، حتّی یثبت حرمة الإغتسال بذلک


1- وسائل الشیعة: الباب 5 الماء المطلق، الحدیث 7.

ص:492

الماء ، کما لا یخفی .

وفیه : وإن نوقش فی کلامه بما لا یخلو عن إشکالٍ، وهو کما عن صاحب «الحدائق» من أنّ مقتضی الإستثناء عن النفی هو الإثبات، وعن الإثبات هو النفی، کما هو کلام نجم الأئمّة، فلازمه کون الإستثناء عن الحرمة یقتضی الوجوب، أی یجب الاغتسال بماءٍ آخر إذا کان فیه الجُنب .

وجه الإشکال: مخالفته لمقتضی قواعد العربیة من أنّ الاستثناء لا یوجب إلاّ نفی حکم المستثنی منه، لا إثبات حکمٍ مضادٍّ للمستثنی، إلاّ أن یُعلم من دلیلٍ خارج خصوصیّة حکمٍ معه، فمعنی الإستثناء هو أنّ الحرمة لیست ثابتة بعد ذلک، أی وجود الجنب فیه ، فحینئذٍ یکون حکم المستثنی من وجوب الاغتسال من ماء آخر أو إباحته، غیرُ مستفادٍ من ذلک لأحد الوجهین ، نعم یثبتُ أصل الجواز المطلق، فلابدّ من تعیین انفصاله عن الإثبات بدلیل آخر یدلّ علی ذلک .

إلاّ أنّ الإشکال _ کما أشار إلیه المحقّق الهمدانی _ هو عدم کون النهی فی قوله : «لا یغتسل من ماء آخر»، نهیاً تحریمیّاً وتنزیهیّاً، حتّی نحتاج إلی ما ذکره صاحب «المعالم» قدس سره ، بل الظاهر کون النهی إرشادیّاً، کما هو المتعارف عند العرف ومع هذا النهی ننفی اللزوم، ویفید أنّه لا یلزم أن یغتسل بماء آخر، إلاّ إذا کان فی ماء الحمّام جُنُباً أو یحتمل وجوده فیه، وذلک لوضوح أنّ الغسل من ماءٍ آخر لم یکن حراماً قطعاً، حتّی مع عدم وجود الجُنُب فیه، حتّی یکون الاستثناء دلیلاً علی عدم الحرمة .

فعلی هذا التقریر یوجب أن یکون المعنی، أنّه إذا کان فیه الجُنُب یلزم الإغتسال من ماء آخر، فیرجع حینئذٍ إلی ما ذکره المستدلّ، ویکون دلیلاً علی المنع کما لایخفی .

وثانیاً : ما هو المراد من الماء الذی کان قبل الإستثناء من النهی للاغتسال بماءٍ

ص:493

آخر إذا کان فیه الجُنُب؟ فإن کان المراد ماء الخزّان ، فهو مخالف لمتعارف سیرة صدر الإسلام، لعدم کون الغسل فیها مرسوماً أصلاً.

فضلاً عن عدم معهودیّة المنع للاغتسال فیه له أو لغیره من النصّ، سواء کان بدن الجنب نجساً أم لا لکونه أزید من الکرّ بمراتب، فهو أوضح من أن یخفی.

فما حمله الحکیم قدس سره علیه لا یخلو عن إشکال، حتّی بالنسبة إلی الکراهة أیضاً .

وإن کان المراد هو الماء المجتمع من غسالات الحمّام _ کما اختاره الخوئی فی «التنقیح» _ فإنّ النهی یکون متوجِّهاً إلی الاغتسال المتعارف، إلاّ إذا کان فی الحمّام جُنُب، أو یحتمل وجوده فیه، فیجوز حینئذٍ الإغتسال فیها ، ویدلّ الحدیث بأنّ المتعارف فی ذاک الزمان هو الاغتسال بذلک الماء، فنهاه الشارع عنه، إلاّ فیما استثنی عنه .

ففیه: أنّه مخدوشٌ أوّلاً بالمنع کون المعمول هو الاغتسال بذلک الماء، وإن کان قد یتّفق، کما یشهد لذلک إجمالاً سؤال بعض السائلین عن حکم هذا الماء، بأنّه هل هو طاهرٌ أم لا، مثل خبر حمزة بن أحمد عن أبی الحسن الأوّل علیه السلام : قال : «سألته أو سأله غیری عن الحمّام. قال : ادخله بمئزر، غضّ بصرک ولا تغتسل من البئر التی تجتمع فیها ماء الحمّام، فإنّه یسیل فیها ما یغتسل فیه الجُنُب، وولد الزنا، والنّاصب لنا أهل البیت، وهو شرّهم»(1).

بل ومن النهی الوارد عن الاغتسال فیه، الذی یفید کونهم غیر متوجّهین لذلک، وکانوا قد یغتسلون فیه مثل الأعراب.

وأمّا إثبات کونه متعارفاً لدیهم _ کما استشهد بهذه الأخبار الخوئی فی «التنقیح» _ لا یخلو من تأمّل، لإمکان مساعدة الأخبار مع الاتّفاق أیضاً دون


1- وسائل الشیعة: الباب 1 الماء المضاف، الحدیث 11.

ص:494

التعارف والاستمرار.

وأمّا الخبر الدالّ علی المنع هو موثّقة ابن أبی یعفور عن أبی عبداللّه علیه السلام : «إیّاک أن تغتسل من غُسالة الحمّام، ففیها تجتمع غسالة الیهودی»(1) الحدیث، وأمثال ذلک .

وثانیاً : أنّ الاستثناء عن ذلک النهی، وإثبات الجواز ولو بإثبات الإباحة، أی ولو برفع الکراهة عن الاغتسال بهذا الماء، فیما إذا کان فی الحمّام جُنُباً أو یُحتمل وجوده، فی غایة السخافة، لوضوح أنّ هذا الماء یعتبر أقذر وأخسّ من ماء الحیاض التی تعارف أخذ الماء منها والاغتسال به، فلازمه احتمال النجاسة من جهة وقوع الرشحات فیه، ولکن مثل هذا الماء غیر ممنوع لاتّصاله بالمادّة، فکیف لم یجز الاغتسال به مع أنّه قد أجاز الاغتسال بمثل هذا الماء القذر الذی تشمأزّ منه النفوس؟!

والعجب من المحقّق المذکور أنّه أتعب نفسه لإثبات ذلک.

بقی احتمال آخر وهو أنّه إذا کان المراد من الماء هو ماء الحیاض الصغار الموجودة فی الحمّامات السابقة، فإنّ المحقّق الهمدانی قدس سره أراد إثبات کون هذا هو المراد من متعلّق الحکم فی الاغتسال، فیما إذا کان فیه الجُنُب .

فهذا الاحتمال _ وإن کان بالنظر إلی کونه هو المعمول من الاغتسال به _ وإن کان وجیهاً غایة الوجاهة ، إلاّ أنّ الإشکال ما یتبادر إلی الذهن أنّه کیف منع عن الاغتسال بعدما فرض وجود الجنب فیها؟ مع أنّه لم یکن دخول الرجال فیها للغسل متعارضاً لملاحظة صغر الحیاض عادةً کما لا یخفی ، فانحصرت طریقة الاستفادة فیها بأخذ الماء منه للغسل، فحینئذٍ لا یکون الماء مستعملاً لإزالة


1- وسائل الشیعة: الباب 4 ماء المضاف، الحدیث 11.

ص:495

الحدث حتّی یکون ممنوعاً من استعماله ثانیاً، مضافاً إلی کونه متّصلاً بالمادّة، فلا یوجب انفعاله حینئذٍ، لا من حیث الخبثیّة ولا الحدثیّة، کما لایخفی ، فعلی هذا یعدّ وجه المنع _ ولو علی نحو الکراهة _ غیر معلومٍ ، کما لا یخفی .

والذی ینبغی أن یقال : إنّ المراد من (ماء آخر) لیس ماءاً خارجاً عن ماء الحمّام، کما یفهم من کلام البعض ، بل یحتمل أن یکون المقصود غیر ماء الحیاض الصغار الذی قد تجمع حوله الجُنُب أو الناس، لأنّ المرسوم فی الحمّامات تعدّد حیاض الصغار، فعلیه یمکن أن یکون النهی هنا بالمعنی الذی ذکرنا: من توهّم السائل لزوم الإغتسال بماء آخر غیر الماء الذی یغتسل منه الجنب، حیث ینتضح منه إلی بدن غیره فیدخل الماء المستعمل فی الحدث _ بل فی الخبث أحیاناً _ فی عنوان الماء المغتسل، ولذلک أرشده الإمام علیه السلام بأنّه لا یکون الغسل بالماء الآخر مرغوباً فیه، أن یکون النهی فیما إذا علم أن جُنباً یغتسل منه.

أو یُحتمل، من جهة وجود الأضرار الکثیرة فی الجنب بحسب النوع، یعنی إذا کان الوضع بهذه الکیفیّة، کان الغسل عن ماء آخر واقع فی الحوض الصغیرأحسن وأرجح ، فحینئذٍ لا ینافی الرجحان وجود الجنب محتملاً فی الأفراد، فیکون ذکر ذلک قرینةً علی أنّ إتیان الغسل مع وجود الجنب ولو محتملاً، فهو أمر مقبولٌ غیر مستنکر عند العقلاء .

وثالثاً: بأنّه کیف جَمَع بین کون وجود الجنب معلوماً ومشکوکاً، علی أنّه لو سلّمنا کون ممنوعیّة الماء المستعمل فی الحدث إنّما کان فی معلومه أو مظنونه بالظنّ المعتبر، لا ما إذا کان مشکوکاً، وبرغم ذلک لا تردید فی أنّ مقتضی الأصل هو عدم کونه مستعملاً فی رفع الحدث، فهذا أیضاً دلیل آخر علی عدم کون النهی للتحریم، وإلاّ لما جمع بینهما .

قلنا : قد عرفت صحّة هذا الجمع وحُسنه من الطریق الذی استفدناه عند بیان

ص:496

طریق الراجح فی الماء القلیل، بأن یغتسل من ماءٍ من غیر شبهة فی ذلک، فلا یکون حینئذٍ هذا الخبر من أدلّة المانعین، بمعنی التحریم وعدم الجواز.

هذا فضلاً عن أنّه لیس فیه من الجنابة عینٌ ولا أثر، وکون حکم ماء المستعمل فی مطلق الغسل _ ولو لغیر الرافع _ کحکم ماء المستعمل فی الرافع، فی المنع عنه _ ولو بالنضح _ بعید غایته.

فهذا الخبر مع صحّة سنده ساقطٌ عن الاستدلال، من جهة الدلالة، کما وافقنا فی ذلک الشیخ الأعظم قدس سره والمحقّق الهمدانی، وغیرهما من أصحابنا رضوان اللّه علیهم أجمعین .

ومنها : صحیح محمّد بن مسلم عن أبی عبداللّه علیه السلام . «وسُئل عن الماء تبول فیه الدوابّ، وتلُغ فیه الکلاب، ویغتسل فیه الجنب؟ قال : إذا کان الماء قدر کرّ لم ینجّسه شیء»(1).

حیث یفید مفهومه أنّ الماء الذی یغتسل فیه الجنب إن لم یکن بقدر کرّ لا یجوز استعماله فی غُسل الجنابة وغیره .

هذا والخبر من حیث السند صحیحٌ، وکذلک من حیث الدلالة الابتدائیة.

لکنّه مخدوش من جهتین :

الأولی: لأنّه وإن کان فی دلالته علی الجواز فی الکرّ ظاهر فی أنّه ردٌّ علی العامّة، حیث یعتقدون بأنّ الماء ینجس إذا استعمل فی غُسل الجنابة ولو کان کرّاً ، فأجاب علیه السلام : بأنّ الکرّ لا ینفعل بوجه أصلاً .

إلاّ أنّه فی دلالته علی عدم الجواز فی صورة عدم بلوغه کرّاً، بالنسبة إلی ما یغتسل للجنابة مجملٌ ، أوّلاً : بأنّه لا یُعلم بأنّ وجه المنع کان بلحاظ کونه


1- وسائل الشیعة: الباب 1 الماء المطلق، الحدیث 9.

ص:497

مستعملاً فی رفع الحدث، حتّی یکون دالاًّ للمطلوب، أو بلحاظ کون الماء المستعمل فی الجنابة منفعلاً بنجاسة بدن الجنب ولو کان من غَسْله قبل الإغتسال، وعلی أیّ حال یجتمع فی مجتمع لم یبلغ کرّاً فیکون نجساً ، وإن علی احتمال، کان الاحتمال الثانی أولی خاصّة إذا لاحظنا انضمام ذلک مع ولوغ الکلاب، حیث یفهم أنّ مورد السؤال کان من حیث النجاسة والطهارة، لا من حیث کونه مستعملاً فی الحدث الأکبر .

الثانیة : یکون ذیله قرینة علی کون مفروض سؤال السائل هو النجاسة والطهارة لا غیرها، ولذا أجابه علیه السلام : «بأنّ الماء إذا کان قدر کرّ لم ینجّسه شیء» .

هذا مضافاً إلی إمکان کون المراد من فرض السؤال هو صورة جمع الأقسام الثلاثة، فیکون الواو للعطف والجمع، لا لبیان التفریع وکون کلّ واحد منهما مورداً للسؤال علی حدة ، فحینئذٍ یکون عدم الجواز _ فی الفرض المذکور _ لنجاسته قطعاً ، کما لایخفی .

ومنها : روایة حمزة بن أحمد(1) وقد سبق ذکره فی ص37 فلا نعید.

وجه الدلالة: بناءً علی کون النهی عن الاغتسال من ماء غسالة الحمّام، کان لکلّ واحد من غسالة الجنب والزنا والناصبی، فیدلّ کون النهی بلحاظ أنّه مستعمل فی رفع الحدث الأکبر .

هذا، لکنّه مخدوش بما قد عرفت من ضعف سنده، وأنّه بقرینة اقترانه مع الناصبی، الذی حکم بنجاسته، یُفهم أنّه کان وجه السؤال بلحاظ نجاسته وطهارته، لا بما کنّا بصدده .

مضافاً إلی أنّ ولد الزنا لم یکن نجساً ، والقول بنجاسته ضعیف غایته، وإن


1- وسائل الشیعة: الباب الأوّل، من أبواب الماء المضاف، الحدیث 11.

ص:498

احتمله بعض فقهائنا تمسّکاً بمثل هذا الخبر .

منها: خبر ابن أبی یعفور عن أبی عبداللّه علیه السلام قال : «لا تغتسل من البئر التی یجتمع فیها غسالة الحمّام، فإنّ فیها غسالة ولد الزناء، وهو لا یطهر إلی سبعة آباء»(1) الحدیث .

إلاّ أنّ هذا الخبر یفید خلاف ما قاله، وهو أدلّ علی عدم صحّة قوله، لوضوح أنّه کان کنایة عند العرف من عدم طهارة مولده، وتأثیر ذلک فیه .

فحینئذٍ انضمام ذلک یوجب کون المقصود هو غیر النجاسة والطهارة، خلافاً لانضمام الناصبی، فلا بأس أن یکون النهی عن الاغتسال محمولاً علی الجامع بین الحرمة والکراهة، نظیر ما یقال فی قوله علیه السلام : «اغتسل للجمعة والجنابة» من استعمال الأمر فی مطلق الرجحان والطلب، حتّی یکون فی الجمعة منضمّاً مع جواز الترک ندبیاً، وفی الجنابة مع المنع من الترک وجوبیّاً، وکذلک یقال هاهنا: بأنّ النهی استعمل فی مطلق رجحان الترک، ففی مثل الماء المستعمل من الناصبی، یکون مع فصله هو المنع من الفعل، فیکون حراماً، وفی مثل غسالة ولد الزنا وغسالة الجنابة یفید مع فصله _ وهو جواز الفعل _ الکراهة، أو یکون فی غسالة الجنابة مجملاً بین الاحتمالین وفی کلّ الأحوال یسقط عن الاستدلال .

مضافاً إلی إمکان أن یکون بلحاظ اجتماع هذه المیاه التی کانت بعضها نجساً، فیکفی فی نجاسة الباقی إذا لم یکن کُرّاً ومتّصلاً بالکرّ ، وإلاّ یکون محمولاً علی الکراهة قطعاً،لأنّه لو قیل بالحرمة حتّی فیهما، یوجب کونه مخالفاً للإجماع، کما لا یخفی .

هذه جملة الأخبار التی استدلّ بها المانعون، وقد عرفت بأنّ أتمّها فی الدلالة


1- وسائل الشیعة: الباب 4 الماء المضاف، الحدیث 11.

ص:499

هو معتبرة عبداللّه بن سنان، مع وجود الإشکال فی دلالته فی الجملة ، وأمّا بقیّة الأخبار فلا تتمّ دلالتها علی النهی التحریمی، فضلاً عن ضعف سند بعضها.

فأصبحت النتیجة فعلاً هو الحکم بالمنع احتیاطاً، حتّی نلاحظ الأخبار الواردة فی الجواز، وکیفیّة معارضتها مع تلک الأخبار المانعة .

فنقول : استدلّ المجوّزون بعدّة أخبار تدلّ علی جواز الإغتسال بالماء المستعمل فی رفع الحدث الأکبر .

فمنها : صحیح محمّد بن مسلم: قال : «قلت لأبی عبداللّه علیه السلام : الحمّام یغتسل فیه الجنب وغیره اغتسل من مائه ؟ قال : نعم ، لا بأس أن یغتسل منه الجنب، ولقد اغتسلت فیه ثمّ جئت فغسلت رجلی وما غسلتهما إلاّ ممّا لزق بهما من التراب»(1) .

وجه الدلالة ظاهر، إذ یجوز الغسل من ماءه الذی اغتسل منه الجنب، ولذلک جعل الحکیم قدس سره فی «المستمسک» هذا الخبر ممّا یعارض الخبر الذی رواه محمّد بن مسلم الدالّ علی المنع، وعرفت توضیحه قبل ذلک .

مضافاً إلی وجود الدلیل علی الجواز، بل وإطلاقات الأوّلیة من مطهّریة الماء حتّی عن الحدث الأکبر، ولو بعد استعماله فی غسل الجنابة، کما هو واضح لا خفاء فیه .

لکنّه مخدوشٌ بعدم ارتباطه لما نحن بصدده من وجهین :

أوّلاً : من إمکان أن یکون وجه سؤال السائل، عن حکم ماء الغُسل باعتبار حال نجاسته وطهارته، بأنّه هل یتنجّس الماء بذلک _ لإمکان نجاسة بدن الجنب ولو باعتبار حال قبل الاشتغال بالغُسل _ أم لا؟ فأجاب علیه السلام بأنّه طاهر، لایوجب


1- وسائل الشیعة: الباب 2 الماء المطلق، الحدیث 7.

ص:500

ذلک نجاسته.

کما قد یؤیّد هذا الاحتمال ملاحظة مضمرة أبی الحسن الهاشمی: قال : «سُئل عن الرجال یقومون علی الحوض فی الحمّام، لا أعرف الیهودی من النصرانی، ولا الجُنب من غیر الجنب ؟

قال : تغتسل منه، ولا تغتسل من ماءٍ آخر فإنّه طهور»(1).

حیث أنّه یُفهم من کیفیّة سؤال السائل وجواب الإمام، أنّ جهة السؤال کانت من حیث النجاسة والطهارة.

فعلی هذا التقدیر لا یکون الخبر مرتبطاً بالماء المستعمل فی رفع الحدث الأکبر، حتّی یکون حکم الإمام علیه السلام بالجواز بذلک الاعتبار .

وثانیاً : من إمکان أن یُقال بأنّ الماء الذی یسأل عنه، إمّا هو الماء فی الخزانة، کما یساعده بلحاظ کلمة (فی) من جهة القواعد النحویة، بقوله : «یغتسل فیه الجنب»، وهکذا قول الإمام علیه السلام : «ولقد اغتسلت فیه» فحینئذٍ یکون الحکم بالجواز مطابقاً للقواعد فی الماء الکثیر حتّی بالنسبة إلی کونه مستعملاً فی الحدث الأکبر، لعدم وجود قائل بالمنع فیه، غایته الکراهة، وهو بعیدٌ جدّاً، لعروض العسر والمشقّة لمن أراد أن لا یرتکب الکراهة فی ذلک، کما لا یخفی .

أو یکون المراد ماء الحیاض الصغار، بأن یکون الجنب بالقرب منه، ویأخذ الماء منه للغسل، فالحکم بالجواز أیضاً غیر مرتبط بما نحن بصدده، لعدم کون ماءه مستعملاً فی رفع الحدث حتّی یوجب توهّم ممنوعیة .

فاحتمال کون المراد من السؤال، هو الاغتسال عن غُسالة الجنب _ کما یظهر ذلک من الحکیم قدس سره _ بعید غایته، فلا یکون هذا الحدیث معارضاً لتلک الأدلّة، کما


1- وسائل الشیعة: الباب 6 الماء المطلق، الحدیث 7.

ص:501

لایتمکّن الأصل والاطلاقات من المعارضة مع تلک الأدلّة، لکونها دلیلاً اجتهادیّاً ودلیلاً خاصّاً ومقیّداً للإطلاقات، وهو واضح لمن کان له أدنی تأمّل .

ومنها : صحیح علیّ بن جعفر عن أخیه أبی الحسن الأوّل.

قال : «سألته عن الرجل یصیبه الماء فی ساقیةٍ أو مستنقعٍ، أیغتسل منه للجنابة، أو یتوضّأ للصلاة، إذا کان لا یجد غیره، والماء لا یبلغ صاعاً للجنابة ولا مدّاً للوضوء، وهو متفرّقٌ کیف یصنع، وهو یتخوّف أن یکون السباع قد شربت منه ؟ فقال : إنّ کانت یده نظیفة فلیأخذ کفّاً من الماء بید واحدة، فلینضحه خلفه، وکفّاً أمامه، وکفّاً عن یمینه، وکفّاً عن شماله، فإنْ خشی أن لا یکفیه غَسل رأسه ثلاث مرّات، ثمّ مسح جلده بیده، فإنّ ذلک یُجزیه، وإن کان الوضوء، غَسل وجهه، ومسح یده علی ذراعیه ورأسه ورجلیه، وإن کان الماء متفرّقاً فقدر أن یجمعه، وإلاّ اغتسل من هذا ومن هذا، وإن کان فی مکان واحد وهو قلیلٌ لا یکفیه لغسله، فلا علیه أن یغتسل ویرجع الماء فیه فإنّ ذلک یجزیه»(1) .

وقد استدلّ به لجواز الاغتسال بالماء الراجع إلی الساقیة والمستنقع، مع کونه مستعملاً فی رفع الحدث الأکبر.

والخبر من جهة السند یعدّ صححیاً ومنقولاً بطرق متعدّدة معتبرة، فبذلک نرفع الید عن تلک الأخبار المانعة، مع ما عرفت من کثرة ورود الإشکال فیها، والتوجیهات البعیدة، وهذا أصحّ وأتمّ خبر یدلّ علی ذلک سنداً ودلالةً، کما لایخفی .

والتحقیق فی ذلک موقوف علی تقدیم بیان فقه الحدیث، ونستمدّ من اللّه عزّوجلّ الهدایة إلی ما هو الحقّ المصاب، اللائق لاُولی الألباب، فنقول: إنّ السائل قد کان یقصد من السؤال _ بحسب ظاهر الخبر _ جهات شتّی ؛ تارةً : من


1- وسائل الشیعة: الباب 1، الماء المضاف، الحدیث 10.

ص:502

حیث حکم ماء الساقیة والمستنقع للغسل والوضوء، عند عدم وجدان ماء آخر .

واُخری : من حکم مستحبّات الغُسل والوضوء عند عدم کفایة الماء الذی لم یبلغ الصاع والمدّ .

وثالثة : من جهة تفرّق الماء، وعدم کونه فی مکان واحد .

ورابعة: من جهة خوف نجاسة الماء، بواسطة احتمال ورود السباع فیه لشرب الماء، وتنجیسه من جهة کونها نجسة العین، أو من جهة البول وغیره .

وأمّا جواب الإمام علیه السلام فبعد التأمّل فیه یرجع إلی کلّ ما فی سؤال السائل مع زیاداتٍ.

والجواب مشتمل علی بیان خمسة أحکام :

الأوّل : بیان رفع توهّم النجاسة بواسطة النضح علی الجوانب الأربع علی احتمال کما عرفت تفصیل تلک الفقرة فی خبر عبداللّه بن مسکان ، أمّا للمنع عن انحدار الماء إلی الساقیة، أو من جهة إیجاد الشبهة من کون الماء الراجع لعلّه المنضوح لا المغسول به .

الثانی : بیان حکم قلّة الماء عن مقدار یکفی للعمل بالمستحبّات من کفایة غسل رأسه ثلاث مرّات، ثمّ مسح جلده بیده، أو کان المراد من غسل رأسه ثلاث مرّات لزیادة الماء حتّی یساعده لإیصال الماء إلی بقیّة الأعضاء ولو بالمسح بیده علی جلده، وهذا هو الأقوی، ومنه یفهم ضمناً تجویز الغسل من ذلک الماء الراکد فی الساقیة والمستنقع .

الثالث : یظهر منه حکم جواز الوضوء أیضاً، ومن إمکان تحصیله منه ولو بالمسح علی ذراعیه، فی صورة قلّة الماء، فلا یتوجّه إلی التیمّم .

الرابع : حکم تفرّق الماء، بأنّه إن قدر من الجمع بین موارده فیجمعه فی مکان واحد حتّی یغتسل فی موضع واحد، وإلاّ یجوز له الغسل، بأن یجعل مقداراً منه من ماء والآخر من ماء آخر، إلی أن یتمّ الغسل، ومعلومٌ أنّه لا یضرّ الانفصال فی

ص:503

عمل الغسل فی صحّته .

الخامس : وهو المقصود فیما نحن فیه، وهو بیان حکم الماء إذا کان قلیلاً لا یکفیه لغسله علی النحو المذکور فی القسم الثانی، فحَکَم أنّه یجوز علیه أن یغتسل من الماء القلیل، ویرجع الماء من الماء الموجود فی الساقیة، ثمّ یأخذه ثانیاً إلی أن یتمّ الغسل بذلک، فلازمه جواز الاغتسال بالماء المستعمل فی رفع الحدث، وهو المطلوب .

ولقد أورد علیه:

تارةً : أنّه وإن کان ظهوره فی تجویز ذلک ، إلاّ أنّه کان فی حال الضرورة والاضطرار، لما قد فرض فیه عدم کفایة الماء للغَسل بنحو المتعارف لا ولو بنحو التدهین ، فما توهّمه بعضٌ من وجود المناقضة بین فرضه بعدم الکفایة للغسل وبین حکمه بالغسل، ولو بالرجوع ، لا یخلو عن تسامحٍ.

فلا یستفاد منه جواز ذلک، حتّی مع الاختیار ووجود الماء خارجاً، کما هو المقصود، لإمکان أن یکون ذلک من قبیل ما هو المعروف بین الفقهاء من أنّ «الضرورات تبیح المحظورات»، کما لا یخفی .

لکنّه مندفعٌ، بأنّه إن کان المورد من موارد الضرورة، فلِمَ لم یحکم بصورة التدهین الذی کان مصرفه للماء أقلّ ممّا ذکره بمراتب، فیفهم أنّه لیس فی مقام بیان حال الضرورة، فلو أمکن إثبات دلالة الحدیث علی ما ادّعاه المستدلّ، یکون دلیلاً علی الجواز فی حال الاختیار أیضاً .

وأُخری: بأنّه خارج عن محلّ النزاع، لأنّه إنّما فرض ممزوجیّة الماء الوارد الذی استعمل فی الغسل مع الماء الراکد فی الساقیة، خصوصاً إذا کان الراجع قلیلاً موجباً للاستهلاک فی الماء الثابت، فلا یعدّ ذلک الماء ماءً مستعملاً فی رفع الحدث، حتّی لا یجوز استعماله ثانیاً فی الغسل، فعلیه یکون حُکم هذا الماء

ص:504

الراجع، حُکم الماء المنضوح حین الغسل فی الإناء، حیثُ قد جاء فی الحدیث صریحاً بنفی البأس عنه، کما تری ذلک فی صحیح الفضیل بن یسار عن أبی عبداللّه علیه السلام : «فی الرجل الجُنُب فینضح من الماء فی الإناء ؟ فقال : لا بأس، ما جُعِل علیکم فی الدِّین من حرج»(1) .

وصحیح شهاب ابن عبد ربّه عن أبی عبداللّه علیه السلام : أنّه قال: «فی الجُنب یغتسل فیقطر الماء عن جسده فی الإناء، فینضح الماء من الأرض، فیصیر فی الإناء، أنّه لا بأس بهذا کلّه»(2) .

بل قد یمکن أن یکون استدلال الإمام بآیة الحرج فی الماء المنضوح إشعاراً بأنّ وقوع هذا المقدار من المستعمل فی الماء الباقی، لا یوجب الإشکال، فیکون ما نحن فیه من هذا القبیل، لأنّه من الواضح أنّ مراقبة عدم وقوع المنضوح فی الماء لیس إلاّ من قبیل العُسر والحرج الشدیدین، حتّی یصدق الضرورة والاضطرار فی ترکه، فیفهم منه أنّ المراد من الحرج هو الحرج العرفی، وهذا المعنی موجود فیما نحن فیه بالنسبة إلی رجوع الماء إلی الساقیة، لإدامة تحصیل الغسل، کما لا یخفی .

فعلی هذا لا یمکن استفادة جواز الغُسل بالماء المستعمل فی رفع الحدث الأکبر مطلقاً، حتّی فیما لو لم یختلط مع ماءٍ آخر غیر مستعملٍ فی رفعه، عن مثل هذا الحدیث، کما هو المقصود لمن ذهب إلی الجواز .

وثالثة: علی فرض تسلیم دلالته علی الجواز ، نقول : مورد الحدیث إنّما کان فیما إذا استعمل الماء المستعمل فی غَسل بعض الأعضاء لبعض آخر، قبل تمامیّة


1- وسائل الشیعة: الباب 5، الماء المضاف، الحدیث 9.
2- وسائل الشیعة: الباب 6، الماء المضاف، الحدیث 9.

ص:505

الغُسل، کما لا یبعد قبوله من حیث الاعتبار أیضاً، لأنّ مقتضی الجمود علی عنوان المستعمل فی رفع الحدث، هو أن یکون الماء مجتمعاً عن تمام الغسل فی محلّ واحد من إناءٍ وغیره، فأراد الآخر _ أو نفسه _ الاغتسال من الماء، فیشمله أدلّة المنع، مثل خبر عبداللّه بن سنان، کما هو الظاهر من قوله علیه السلام : «من بما یغتسل به الجُنب» المندرج فی خبر المنع، فلا یشمل ما لو کان مستعملاً فی غَسل بعض الأجزاء.

ویؤیّد ذلک، ما لو فُرض استعماله فی غسل بعض الأعضاء فی الأثناء بنیّة مجرّد الغَسل، فلا یکون استعمال مثل هذا الماء للوضوء أو الغسل ممنوعاً، لعدم صدق کونه مستعملاً فی رفع الحدث، وکذلک فی المقام ، فعلی هذا یظهر أنّه لا معارضة بین حدیث الجواز وحدیث المنع، حتّی یرفع الید عن أحدهما بواسطة بعض المرجّحات الدلالیة ، إلاّ أن یُدّعی دلالة کلّ واحد منهما علی الإطلاق فی البعض والکلّ منعاً وجوازاً، لکنّه مشکلٌ جدّاً .

فأصبحت النتیجة أنّ أدلّة المنع باقیة علی حالها، لغایة ما نذکر بقیّة أدلّة الجواز، فلابدّ التأمّل فی دلالة ما یذکر بعد ذلک، إن شاء اللّه تعالی .

وعلی ما ذکرنا من قبول أحد الإشکالین الأخیرین بل کلیهما، کان أولی من بعض ما ذکر من الجمع بینه وبین دلیل المنع ؛ تارةً : بحمل حدیث الجواز علی المغتسل نفسه، إذا أراد اغتساله ثانیاً فیجوز، بخلاف غیره فلا یجوز لدلیل المنع ، والوجه فی أهونیته أنّه من الواضح عدم إحراز خصوصیّة فارقة موجبة للحکم بذلک إلزاماً، مع صدق العنوانین فی کلیهما .

واُخری: بحمل خبر الجواز علی من لم یقصد الاغتسال حین الغسل أوّلاً بذلک الماء ، أو حمله علی الکراهة، لما قد عرفت عدم وجود ما یوجب الحمل علی أحد هذین الوجهین، مع التمکّن إلی ما لا یلزم الحمل علی خلاف الظاهر،

ص:506

کما لایخفی ، فتأمّل .

فقد ظهر من مطاوی کلماتنا، وجه القائلین بالتفصیل بین حالتی الضرورة من الجواز، والاختیار من المنع، کما هو الظاهر من الصَّدوق فی «الفقیه»، والشیخ الطوسی فی مقام التعرّض للجمع بین الأخبار لا الفتوی، لأنّهما لاحظا واعتمدا علی ظاهر مثل هذا الحدیث بعد جمعه مع الأخبار المانعة التفصیل الذی مرّ ذکره، ولکن قد عرفت عدم المعارضة بینهما حتّی یحتاج إلی مثل هذا الجمع .

ومنها : ما نقله المحقّق الهمدانی فی «المصباح»(1) عن «الأمالی» للشیخ الطوسی ، عن میمونة: قالت : «اجتنبتُ فاغتسلت من جفنةٍ وفضلت فیها فضلة، فجاء رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم فاغتسل منها رسول اللّه. قلت : یارسول اللّه إنّها فضلة منّی (أو قالت : اغتسلت)؟! فقال صلی الله علیه و آله : لیس للماء جنابة» .

وتمسّک قدس سره _ مع التفاته بکون ظاهر فی الفضلة، حیث یفهم أنّه لم تکن قد اغتسلت فی الجفنة، بل کانت قد أخذتها للاستعمال فی الغُسل _ واستدل به بلسان التعلیل، حیث یُشعر بأنّ الماء لا یتأثّر بذلک.

هذا، ولکنّه لا یخلو عن مناقشة، أوّلاً: من جهة سنده، حیث یعدّ الخبر مرسلاً ، وثانیاً : أنّ قوله : «اغتسلت من جفنة» حیث أتت بکلمة (من) لا الظاهر فی أنّ الاغتسال کان خارجاً من الجفنة لا فیها، خلافاً لما هو الموجود فی خبر ابن عبّاس المتقدِّم ذکره.

مضافاً إلی ما ذکرنا فی الجفنة، من عدم استبعاد کونها بقدر الکرّ، فحینئذٍ یکون التعلیل وارداً مورد کون الغسل فی خارجه، فکأنّه صلی الله علیه و آله أراد إفهامها بأنّ الماء لم یتأثّر بذلک حال کونه کرّاً، فلا ینافی تأثیره بالدخول فیه إذا لم یکن کرّاً، فدلالتها


1- مصباح الفقیه: ص70، وسائل الشیعة: الباب 6 ، الحدیث 7.

ص:507

علی الجواز مشکل جدّاً .

ومنها : صحیح محمّد بن علی جعفر عن أبی الحسن الرضا علیه السلام .

فی حدیث، قال : «من اغتسل من الماء الذی قد اغتُسِل فیه، فأصابه الجذام فلا یلومنّ إلاّ نفسه . فقلت لأبی الحسن علیه السلام : إنّ أهل المدینة یقولون إنّ فیه شفاء من العین . فقال : کذبوا، یغتسل فیه الجنب من الحرام، والزانی، والنّاصب الذی هو شرّهما»(1) الحدیث .

وهو بظاهره _ وإن کان یدلّ ولو بالإشعار _ علی جواز الاغتسال بما یغتسل فیه الجنب، وإلاّ لما کان الغسل صحیحاً، حتّی یترتّب علیه الأثر من إصابة الجذام ، إلاّ أنّه یمکن المناقشة فیه بأنّه لا یبعد أن یکون المقصود مذمّة الغُسل فی ماء الخزانة الذی یغتسل فیه جمیع الأفراد، فیکون وجه حُکمه من حیث بیان حفظ الصحّة، أی لا یصلح الغسل بمثل هذه المیاه، لإمکان عروض بعض العوارض، کما قد منع الأطبّاء فی زماننا هذا عن استعمال مثل هذا الماء، ولو کان من جهة کونه مرجوحاً، فعلیه لا یکون الخبر دخیلاً فی ما نحن بصدده، من عدم المنع عن استعمال الماء المستعمل فی الحدث، فی الغُسل .

هذه جملة الأخبار التی استدلّ بها، أو یمکن الاستدلال بها للمسألة، وعرفت عدم تمامیّة شیء منها للدلالة علی الجواز، حتّی یتعارض مع الأخبار المانعة، فیکون الحکم بالمنع موافقاً للاحتیاط .

نعم إثبات المنع عن الماء المستعمل فی الغُسل غیر الرافع من الواجب بالعَرَض والمنذور مشکلٌ جدّاً، لقصور الأدلّة عن شموله .

فیلحق بذلک قسم خامس، وهو: أنّه هل یجوز استعمال ماء المستعمل فی


1- وسائل الشیعة: الباب 2، الماء المضاف، الحدیث 11.

ص:508

الحدث الأکبر، فی الوضوءات المندوبة غیر الرافع، وفی الأغسال الاُخر من المندوبات، أو الواجب بالعرض _ منهما کالمنذور والمحلوف علیه _ أم لا ؟

والظاهر _ کما عرفت منّا سابقاً فی بحث الماء المستعمل فی الحدث الأصغر والإستنجاء _ أنّ الأدلّة المتکفّلة لبیان حکم الوضوء والغُسل الندبی، محمولةٌ علی ما هو المتعارف فی الوضوء والغُسل الرافعین من الشرائط والموانع، إلاّ ما خرج بالدلیل، ولذلک تری بأنّ نواقض الوضوء، والغُسل الرافع تکون نواقضاً لسائر الوضوءات والأغسال، فإذا منعنا تحصیل الوضوء والغُسل من مثل هذه المیاه، فلا یبعد الحکم بالمنع فی مثل تلک الوضوءات والأغسال .

مضافاً إلی اشتمال بعض الأدلّة علی ما یفهم منه التعمیم، نظیر ما کان فی خبر محمّد بن علی بن جعفر عنه علیه السلام : «مَنْ اغتسل من الماء الذی قد اغتُسِل فیه فأصابه الجذام ...»(1) الحدیث .

وصحیح محمّد بن مسلم: فی حدیث: «ولا تغتسل من ماء آخر»(2).

فلیس فیه عنوان غُسل الجنابة .

مضافاً إلی إمکان التعمیم فی لفظ (التوضّی) وأشباهه الموجودة فی خبر عبداللّه بن سنان(3) لتلک الوضوءات والأغسال کما لا یخفی.

کما لا فرق فی المستعمل فی الحدث الأکبر بین أقسامه من الحیض والنفاس والاستحاضة من باب تنقیح المناط عن خصوصیة الجنابة، ولفظ (أشباهه) علی احتمال فی خبر ابن سنان ، مضافاً إلی عدم وجود القول بالتفصیل ، فافهم .

فالأحوط عدم جواز التوضّی والاغتسال بجمیع أقسامها بالماء المستعمل فی


1- وسائل الشیعة: الباب 2، الماء المضاف، الحدیث 110.
2- وسائل الشیعة: الباب 5، الماء المضاف، الحدیث 7.
3- وسائل الشیعة: الباب 13، الماء المضاف، الحدیث 13.

ص:509

رفع الحدث الأکبر مطلقاً.

وینبغی التنبیه علی أُمور :

تنبیهات استعمال الماء المستعمل فی الغسل

الأوّل : أنّه علی القول بعدم جواز الاستفادة عن الماء المستعمل فی غُسل الجنابة التامّ، فهل یکون المستعمل فی الغُسل الفاسد کالمستعمل فی الصحیح التامّ أم لا ؟ وجهان : من صدق اغتسال الجنب منه فلایجوز .

ومن أنّ العبرة هو رفع الحدث بذلک، کما هو المستظهر عن کلمات الأصحاب، حیث جعلوا العنوان فی کلامهم هو المستعمل فی رفع الحدث ، بل یمکن دعوی ظهور خبر عبداللّه بن سنان بقوله : «أو یغتسل به الجُنُب» فی الغسل الصحیح دون الفاسد.»

وهذا هو الأقوی، وإن توقّف الشیخ الأنصاری قدس سره فی طهارته، حیث لم یختر أحد الوجهین بعد نقلهما الظاهر منه فی التوقّف .

الثانی : هل یعتبر فی صدق المستعمل، هو الانفصال عن البدن، مع تمامیّة الغُسل، أو یکفی فیه تمامیّة الغُسل ولو لم یکن الماء منفصلاً عن بدن المغتسل ؟

والظاهر أنّ الانفصال عن البدن وعدمه لا خصوصیّة فیه فی حکم المسألة، إذ ربّما یمکن أن یکون الماء غیر منفصل عن بدنه، وبرغم ذلک لا یجوز الاغتسال منه، لصدق عنوان کونه مستعملاً فی رفع الحدث، وهو کما لو ارتمس فی الماء الذی کان قلیلاً عن مقدار الکرّ بیسیر، ونوی الغُسل خارج الماء، وغمس جسده فیه ، فحینئذٍ بالرمس قبل الخروج یصدق علی ذلک الماء أنّه مستعملٌ، فلا یجوز للآخر أن ینوی الغُسل واستعمال هذا الماء، کما لا یجوز لنفس المغتسل أن ینوی غُسلاً واجباً آخر تحت الماء الذی ارتمس فیه فی غُسله السابق.

إلاّ أن یُشکل صدق الاستعمال بمثل هذا المقدار من الماء _ الذی کان قلیلاً عن الکرّ بقلیل _ لکنّه لا یخلو عن تأمّل .

ص:510

کما لا یکون مطلق الانفصال موجباً للمنع، کما لو فُرض أنّه استعمل الماء فی بعض الأعضاء مع النیّة غسلاً، فمع ذلک أراد تغسیل بقیّة الأعضاء من هذا الماء متّصلاً ببدنه أو منفصلاً عنه بأن أراد استعماله ثانیاً للباقی .

فالظاهر من المبنی الذی اخترناه واستظهرناه، من کون الملاک صدق کون الماء مستعملاً فی رفع الحدث، وذلک لا یصدق إلاّ بعد الإتمام ، فلا یجوز.

مضافاً إلی أنّ العرف یری مجموع هذا الاستعمال _ من أوّل الغسل إلی آخره _ استعمالاً واحداً، کما ذکره الشیخ الأعظم _ ونِعم ما ذکره _ فلا یصدق لما یأخذه ثانیاً ویستعمله، أنّه استعمال آخر حتی یکون ممنوعاً، فیجوز الغُسل به، سواء کان لنفس المغتسل أو لغیره .

فعلی هذا یظهر أنّ الغُسل بالماء المستعمل فی غَسل بعض الأعضاء _ مع قصد الغسل _ قبل تمامه لا یوجب المنع عن استعماله ثانیاً لنفس المُغتسل، لعدم صدق کونه مستعملاً فی الغُسل إلاّ بعد تمام الغسل، کما قد استظهرنا احتمال ذلک من صحیح علیّ بن جعفر(1)، فمجرّد الانفصال دون صدق تمامیّة الغُسل لا یضرّ بجواز الاستعمال ، بل قد عرفت أیضاً ظهور خبر ابن سنان علی الغُسل الرافع للحدث الحاصل بالإتمام، لا خصوص غَسل بعض الأعضاء ، فلازم ما ذکرنا هو جواز الغُسل من الماء المستعمل فی غُسل الجنابة، إذا وقع فی أثنائه الحدث الموجب لبطلانه، لأنّ ما استعمله لم یکن رافعاً حتّی یمنع عن الاغتسال به ، خلافاً للسیّد الاصفهانی قدس سره حیث حکم بالمنع من وجهین : أوّلاً : لصدق کونه مستعملاً فی غُسل الجنابة، إذا استعمله بذلک القصد، ولو لم یتمّ .

وثانیاً : من جهة أنّ الألفاظ الشرعیّة _ منها الغُسل _ موضوعة للأعمّ من


1- وسائل الشیعة: الباب 1، الماء المضاف، الحدیث 10.

ص:511

الصحیح، ولا تختصّ بالصحیح حتّی لا یصدق الغُسل هنا إذا فرض فساده ، انتهی کلامه(1).

نعم ، غایة الإشکال _ علی ما اخترناه _ هو أن یقال: إنّ الماء إذا انفصل عن أعضاء الجنب حین الغُسل، وقع فی أمکنة متعدّدة، ففی کلّ واحد من الماء المصبوب منفرداً لا یصدق أنّه مستعملٌ، لکونه مستعملاً فی بعض الأعضاء ، وأمّا فی الماء المتجمع أخیراً فی مکان واحد الذی تمّ به الغُسل هل ینطبق العنوان _ وهو المستعملیّة علی خصوص الماء الأخیر فقط _ لأنّه یصدق علیه ذلک دون غیره، أو ینطبق العنوان علی جمیع أجزاء المیاه الواقعة فی الأمکنة المتعدِّدة ، أو لا ینطبق علی أیّ واحدٍ منها العنوان أصلاً، لأنّ کلّ واحد إذا لوحظ مستقلاًّ کان مستعملاً فی الجزء من الغسل لا الکلّ ؟

وجوهٌ أقواها هو الثانی.

إلاّ أنّه یستبعده أنّه کیف یتعلّق علیه العنوان بعد فصل زمان حتّی یتمّ الغسل ؟

وبعبارة اُخری: کان الاستعمال منه جائزاً إلی أن یتمّ الغسل، وحینذاک یصیر ممنوعاً، فلازمه صیرورة الماء بعد الانفصال ذا حکمین، وهو الجواز قبل التمامیة، والمنع بعد التمامیة، وهذا بعید جدّاً .

اللّهمّ إلاّ أن یقال : إنّه کان ممنوع واقعاً، إذا کان فی الواقع ینضمّ إلیه بقیّة الغَسل ، وهو لا یعلم، فبعد الإتمام ینکشف المنع للجمیع من أوّل الأمر، وإلاّ فلا ، وهو لا یخلو عن وجه، فعلیه یلزم المنع من استعمال الماء المستعمل فی بعض الأعضاء من جهة احتمال الانضمام .

نعم ، لو تجرّی واغتسل ولم یتمّ الغسل لا یبعد الصحّة، لولا الإشکال من جهة


1- الروائع الفقهیّة: ص98.

ص:512

قصد القربة .

فظهر من جمیع ما ذکرنا، الجواب عن الوجهین المذکورین فی کلام السیّد قدس سره ، لأنّا لا نسلّم صدق عنوان الغُسل بالماء المستعمل فی غَسل بعض الأعضاء، إذا لم ینضمّ إلیه بقیّة الأعضاء .

نعم ، یصدق ذلک بعد الانضمام، کما ظهر أیضاً أنّ ذلک الاستظهار من خبر علی بن جعفر، وخبر ابن سنان، أجنبی عن باب وضع الألفاظ الشرعیّة الموضوعة للأعمّ أو للأخصّ _ وهو الصحیح مثلاً _ ، لأنّه استظهار من لسان الدلیل، لا من جهة صدق عنوان الغَسل، حتّی یقال إنّه موضوع للأعمّ من الصحیح.

فتأمّل فیما ذکرناه، فإنّه دقیق، وبالتأمّل فیه حقیق .

والحاصل : أنّ الماء المستعمل فی غَسل بعض الأعضاء یکون له صور متفاوتة ، لأنّه یکون تارةً: غیر منفصلٍ عن بدن المغتسل وکان ینوی سحبه إلی سائر الأعضاء، فلا إشکال فی جوازه، وعدم صدق ماء المستعمل الممنوع علیه، وإلاّ لزم القول بوجوب استعمال ماء جدید لکلّ عضو من الأعضاء، وهذا مخالف للأدلّة والفتاوی، وهو واضح لا سُترة فیه .

وأُخری: ما یکون مستعملاً فی البعض _ مثل الرقبة والرأس _ ثمّ انفصل الماء بعد الغسل، ولکن لم یوفّق الغاسل بإتمام غَسله لعروض مبطل له، فهو قد عرفت أنّه لا یبعد القول بجواز الاغتسال به لنفس المغتسل ولغیره، لعدم صدق العنوان علیه عندنا، وإن کان قد منعه السیّد الاصفهانی قدس سره فی «الروائع الفقهیة»، وتوقّف الشیخ الأعظم فی طهارته .

وثالثة: نفس الفرض السابق لکنّه تمکّن من إتمام غسله بعد ذلک، فتارةً نلاحظ حاله قبل الإتمام، واُخری بعده.

أمّا علی الأوّل، فصدق العنوان علیه معلّق علی الشرط المتأخّر، فلو قیل

ص:513

بالمنع، لا یکون إلاّ من جهة احتمال تحقّق شرطه، کما هو الظاهر عند العرف، فکأنّه لم یحرز عدم کونه مستعملاً إلاّ بإجراء الأصل، وجریانه هنا لا یخلو عن إشکال، لأنّ المفروض وجود هیئة اتّصالیة الموجب لاستصحاب البقاء . نعم ، یجری أصالة عدم الانضمام، فیما إذا حصل فتورٌ بین غسل الأعضاء، وشکّ فی إتیان بعض آخر بعده، فیحکم الأصل بعدمه من جهة إمکان وقوع الحدث فی الأثناء واختلال الاتّصال المعتبر .

وکیف کان، فلو قلنا بالجواز واغتسل، ثمّ کشف انضمام بعضه مع بعض، فلابدّ من إعادته ، کما أنّه إذا قلنا بالمنع وتجرّی، وأتی به، ثمّ انکشف عدم الانضمام، فیجوز الاکتفاء به، لو لم یکن الإشکال وارداً من جهة عدم تمشّی قصد القربة مع علمه بالمنع .

ولا فرق فی هذه الصورة منعاً وجوازاً للمغتسل نفسه وغیره، کما لا فرق فی نفس المغتسل، بین أن یصرفه فی بقیّة هذا الغسل أو لغُسلٍ آخر، لاشتراک الملاک فی الجمیع کما لا یخفی .

کما لافرق بین القول بطهارة کلّ عضو بغسله أو بطهارته بعد تمام الغسل کما فی الوضوء .

نعم ، المنعُ فی الأوّل أوضح .

وأمّا حکم الثانی وهو کونه بعد إتمام الغسل، فلا إشکال فی ممنوعیّته حینئذٍ للمغتسل وغیره، لأنّه القدر المتیقّن من ماء المستعمل، سواء کان ماء مجموع الغَسل أو ماء بعض أعضائه الذی کان غَسله رافعاً للحدث، کما هو واضح .

ولا فرق فیما ذکرنا من الوجوه والصور، بین کون المستعمل استعمله فی الغُسل الترتیبی أو الارتماسی، إذا کان فی الماء القلیل .

*** تنبیهات استعمال الماء المستعمل فی الغسل

ص:514

تذنیبٌ وتفریعٌ: اعلم أنّ الجنبین إذا ارتمسا فی الماء القلیل بقصد الغُسل دفعة واحدة، یرتفع حدثهما، وکان غُسله صحیحاً، لعدم صدق ماء المستعمل فی حال الغُسل علیهما، ولا یعلم التقدّم والتأخّر، بل قد یعلم تقارنهما .

وأمّا لو علم تقدّم أحدهما علی الآخر واشتبه، فهو أیضاً یعدّ صحیحاً من کلیهما، لأنّ الأصل الجاری فی کلّ واحد منهما یحکم بصحّته من جهة عدم تأخّره عن الآخر ، ولولاه لکان معارضاً بالأصل فی الطرف الآخر، لأنّ متعلّق العلم الإجمالی یکون علی شخصین، ولا یکون العلم حینئذٍ منجزاً لأحدهما، ولا یکون الأصل معارضاً بالآخر، فیحکم بالصحّة علی کلّ منهما .

نعم ، لو اقتدی أحدهما بالآخر، فیحکم ببطلان صلاة المأموم، لعلمه ببطلان صلاته تفصیلاً، امّا بواسطة بطلان صلاة الإمام، لبطلان غسله، أو بطلان غسل نفسه، فیصیر کواجدی المنی فی الثوب المشترک.

ولا یکفی هنا القول بصحّة عمل کلّ واحد فی نفسه، فیلزم کون اقتدائه فی الصلاة الصحیحة مع الإمام، لما قد عرفت أنّ الإشکال من جهة علمه تفصیلاً ببطلان صلاته بتحقّق أحد الأمرین .

نعم ، صلاة الإمام یکون محکوماً بالصحّة بواسطة ما ذکرنا فی سابقه ، فلیتأمّل .

الثالث : فإن قلنا بالمنع عن استعمال ماء المستعمل فی رفع الحدث الأکبر _ کما هو المختار احتیاطاً _ فهل یکون الماء المستعمل فی الحدث المشکوک، کالمستعمل فی الحدث المتیقّن أم لا ؟ وجوهٌ:

تارةً: یکون الحدث المشکوک منتفیّاً بأصلٍ تعبّدی، مثل استصحاب الطهارة لیقینه بحالته السابقة من الطهارة، أو کان فی مورد لا یکون الأصل الجاری فی حقّه معارضاً بمثله لعدم تنجّز العلم الإجمالی فی حقّه، نظیر ما عرفت فی الفرع السابق _ کواجدی المنی فی الثوب المشترک _ فلا إشکال حینئذٍ فی جواز

ص:515

استعمال مثل هذا الماء المستعمل فی مثل الحدث المشکوک، لأنّ مقتضی الأصل عدم کون الماء مستعملاً فی الحدث، وهو واضح .

وأُخری: یکون الماء مستعملاً فی الحَدَث الذی، کان مقتضی الاحتیاط هو لزوم الغَسل لا إثبات الحدث واقعاً، نظیر مَنْ یعلم بوجود الجنابة والغُسل، ولا یعلم تقدّم أحدهما علی الآخر، فقد حکمنا حینئذٍ بوجوب الغُسل له ثانیاً، بمقتضی الاحتیاط ، فحینئذٍ هل یجوز استعمال مثل هذا الماء وجهان: من عموم مطهّریة الماء للحدث الشامل لما نحن فیه، وعدم القطع بما یزیل هذا العنوان، واحتمال وجود المزیل له حینئذٍ، یقتضی الأصل عدمه.

ومن أنّ الاحتیاط کما یحکم بأنّه ممنوعٌ له الدخول فی الصلاة، لاحتمال کونه محدثاً، وعدم القطع بزواله، فیکون محدثاً تعبّداً _ أی بواسطة العلم الإجمالی المقتضی للاحتیاط _ فکذلک یحکم بالممنوعیّة بالنسبة إلی ماءه، لکونه مستعملاً.

وهذا هو مختار صاحب «الحدائق» علی ما حُکی عنه، لأنّ الأحکام مترتّبة علی الظاهر لا علی نفس الأمر والواقع، فإنّه محدِثٌ ظاهراً بمقتضی الاحتیاط، فیکون الماء مستعملاً فی الحَدَث الظاهری، فیعدّ استعماله ممنوعاً .

ولکن الأقوی هو الأوّل، لأنّه لو سلّمنا بوجوب الغسل علیه ثانیاً _ بمقتضی الاحتیاط _ للصلاة، ولکن لا نُسلّم کون مقتضی ذلک ترتب جمیع آثار الماء المستعمل علیه، هذا فضلاً عن أنّ الأصل فی طرفه، من عدم کونه مستعملاً فی الحدث، یکون بلا معارض، فإثبات المنع هاهنا یکون فی غایة الإشکال .

وما ادّعاه صاحب «الحدائق» قدس سره لا یخلو عن إشکال، لوضوح أنّ الأحکام الشرعیّة مترتّبة علی الواقع لا علی الظاهر، غایة الأمر قد یکون الآثار المترتّبة علی الظاهر بواسطة وجود الأصول المحرزة، أو بواسطة تنجّز العلم الإجمالی، کما هو مقرّر تفصیلاً فی محلّه .

ص:516

هذا فضلاً عن إمکان الإستظهار من خبر عبداللّه بن سنان، کونه مستعملاً فی الحَدَث الواقعی، أو ما کان بمنزلة الواقعی تعبّداً، بواسطة الاُصول المحرزة الملحق بالحدث الیقینی، کما لا یخفی ، وفاقاً للآملی قدس سره فی «مصباح الهدی» بالحکم بالجواز کما قلنا .

ثالثة: ما یکون مستعملاً فی الحدث ال _ مُحرَز بالأصل _ کاستصحاب الحدث مثلاً _ فحینئذٍ لا یبعد القول بالمنع عن الماء المستعمل فیه، لأنّه حینئذٍ، وإن لم یکن محدثاً وجداناً، إلاّ أنّه حیث کان محدثاً تعبّداً، فیحکم بعدم جواز استعمال للماء المستعمل فیه، واللّه العالم بحقائق الأحکام .

***

إلی هنا تمّ بحث ما یتعلّق بالماء المستعمل الذی أردنا ذکره، ونحمد اللّه علی توفیقه إیّانا لإتمامه، ونسأل اللّه التوفیق فی فهم حقیقة الأحکام الشرعیّة الإلهیّة، وأن یهدینا إلی سبیل الحقّ والصّواب، بجاه محمّد وآله الأنجاب، علیه وعلیهم صلوات اللّه الملک الوهّاب، إلی یوم الحساب .

***

ص:517

«القول فی الأسئار»

الثالث فی الأسئار:

وهی کلّها طاهرة، عدا سؤر الکلب، والخنزیر، والکافر، وفی سؤر المسوخ تردّد، والطهارة أظهر (1).

(1) ولا یذهب علیک أنّ الاسئار جمع ل _ (سؤر)، الذی کان منه السائر، ومعناه فی اللّغة بمعنی البقیّة والباقی، واستعمال لفظ (السائر) فی الجمیع، کما یستعمل بذلک بین الخواصّ، یعدّ من الأغلاط والأوهام المشهورة .

ففی «المغرب»: السؤر هو بقیّة الماء التی یُبقیها الشارب فی الإناء أو الحوض، أو البقیّة بعد الشرب، کما عن الجوهری ، أو البقیّة من کلّ شیء کما عن «القاموس» ، بل عن الأزهری: اتفاق أهل اللغة علی أنّ سائر الشیء باقیه، قلیلاً أو کثیراً.

ما کان من الاسئار نجساً و حراماً

هذا کلّه بحسب اللغة . وأمّا فی اصطلاح الفقهاء رضوان اللّه علیهم أجمعین _ کما عن الشهید، ومن تأخّر عنه ، بل قد نُسب إلی ظاهر غیر واحدٍ منهم _ أنّه ماءٌ قلیل لاقی جسم حیوانٍ، سواء کان بالفمّ أو سائر أعضائه .

والظاهر أنّهم لم یریدوا جعل اصطلاح خاصّ لذلک فی قبال أهل اللغة ، بل قصدهم بیان ما هو الموضوع لترتّب الأحکام المستنبطة عن الأخبار، ونحن نقتفی أثرهم، فلا بأس لبیان عدّة أُمور فی هذا المقام، فنقول :

الأمر الأوّل : أنّ وجه ذکر الفقهاء ذلک فی قبال الماء المطلق والمضاف، لعلّه

ص:518

کان من جهة احتمال اختصاصه بحکم لا یکون فیهما، وهو الحکم بالمنع عن سؤر ما لا یؤکل لحمه، بالکراهة _ کما عن المشهور _ والتحریم کما عن الحلّی وغیره _ کما لایخفی .

ثمّ إنّهم أخذوا فی کلامهم خصوص ماء القلیل، مع أنّ المقتضی للحکم بالطهارة والنجاسة، من حیث مباشرة بدن الحیوان معه، هو اسراء الحکم وتعمیمه إلی سائر المایعات، بل مطلق ما کان رطباً من الأجسام، ولو کان من الطعام، کما أطلق علیه السؤر لذلک فی بعض الأخبار، کما سیجیء أیضاً .

الأمر الثانی : هو التعمیم من جهة مباشرة الفمّ إلی غیره، وإن کان مقتضی الجمود علی اللفظ یوجب الاختصاص ، والمستفاد من الأخبار فی کتب الأصحاب _ هو التعمیم کما صرّح بذلک شیخنا المفید قدّس اللّه سرّه فی «المقنعة» بقوله : «إنّ اسئار الکفّار هو ما فَضُل فی الأوانی ممّا شربوا منه، وتوضّأوا به، أو مسّوه بأیدیهم وأجسادهم» انتهی کلامه علی ما فی «الجواهر»، والحلّی فی «السرائر»، و«الذکری»، و«المسالک» و«الروض» و«المهذّب» وغیرها _ هذا بخلاف الأخبار الواردة فی هذا الباب حیثُ یستفاد منها خصوص مباشر الفم .

فإنْ قلنا بکون السؤر بحسب معناه فی اللغة والعرف هو هذا _ وإن عمّمنا معنی اللفظ لغیر الفمّ بحسبهما _ فتشمل الأخبار لغیره، إلاّ أنّ المتبادر من اللفظ هو خصوص الفضلة المستعمل فی الفمّ ، ولعلّ وجه التعمیم فی کلمات الفقهاء، إنّما هو من خلطٍ وقع فیما بینهم بین أصل حکم الطهارة والنجاسة _ حیث لا تتفاوت بین ملاقاته مع الفمّ أو غیره _ وبین حکم الکراهة أو التحریم فی خصوص فضلة الفمّ فی المأکل والمشرب، لا علاقة لها بالنجاسة والطهارة، وهذا هو المقصود فی السؤر الوارد فی الأخبار، بخلاف ما کان فی فتاوی الفقهاء، حیث أن مقصودهم هو الأعمّ .

ص:519

الأمر الثالث : یستفاد من فتاوی الأصحاب _ بل من مضامین الأخبار، ظهوراً أو تلویحاً _ اعتبار کون الماء قلیلاً، بخلاف سائر المایعات، حیثُ لا فرق فیهما بین القلیل والکثیر ، وأمّا الماء الکثیر فلم یلتزموا فیه بما التزموا فی القلیل ، ولکن الإنصاف أن یقال : بأنّ استظهار القلّة کان من جهة کون الغالب بحسب المتعارف فی الخارج هو القلّة، سواء کان فی الماء وغیره من المائعات والأطعمة، وإلاّ لیس فی الأخبار ما یدلّ علی ذلک صراحة ، بل یدلّ خبر أبی بصیر(1) علی خلافه، کما لایقتضی معناه اللغوی ، بل قد عرفت من الأزهری خلافه صریحاً .

غایة الأمر، حیثما قد عرفت بأنّ رأی الفقهاء ناظرٌ إلی الاُمور من حیث النجاسة والطهارة مضافاً إلی الکراهة، فلذلک التزموا فی الماء بالقلّة، بمعنی الأقلّ من الکرّ، لأنّه لا ینفعل بالملاقاة لأصل النجاسة مثلاً ، فیکون عدم انفعاله من هذه الجهة بطریق أولی .

إذا عرفت هذه الاُمور فی المسألة، فلا بأس أن نرجع إلی أصل المسألة وملاحظة الأخبار فی دلالتها لذلک .

فنقول : الاسئار من حیث الحکم التکلیفی تکون علی أربعة أقسام : نجس وحرام ، طاهر ومباح ، طاهر ومکروه ، طاهر ومندوب .

فالأوّل: هو سؤر نجس العین کالکلب والخنزیر والکافر، فإنّه نجس واستعماله حرام، لما علیه الإجماع المحصَّل والمنقول ، بل دلالة صریح الأخبار کما هو مقتضی قاعدة الملازمة بین نجاسة الشیء ونجاسة ملاقیه إذا کان رطباً، کما حقّق فی محلّه .

فیدلّ علی ذلک صحیح العبّاس البقباق فی حدیثٍ: «سئل عن الصادق علیه السلام


1- وسائل الشیعة: الباب 7، الاسئار، الحدیث 1.

ص:520

سؤر الحیوانات... : فلم أترک شیئاً إلاّ سألته عنه ؟ فقال : لا بأس به حتّی انتهیت إلی الکلب. فقال : رجس نجس لا تتوضّأ بفضله، واصبب ذلک الماء»(1) الحدیث .

وصحیح محمّد بن مسلم عن أبی عبداللّه علیه السلام : قال : «سألته عن الکلب یَشرب من الإناء ؟ قال : اغسل الإناء»(2) ، الحدیث .

وصحیح معاویة بن شریح فی حدیثٍ عن الصادق علیه السلام : «قال : قلت له : الکلب قال : لا ، قلت : ألیس هو سبع ؟ قال : لا واللّه إنّه نجس، لا واللّه إنّه نجس»(3) .

وموثّقة أبی بصیر عن الصادق علیه السلام فی حدیث : «ولا یشرب سؤر الکلب، إلاّ أن یکون حوضاً کبیراً یُستقی منه»(4) .

فهو کما تلاحظ من مفهوم الاستثناء یشمل ماء الکثیر، إلاّ أن یکون استثناءً من موضوع السؤر لا من حکمه .

ومثل الکلب حکم الخنزیر أیضاً ، فإنّه مضافاً إلی نجاسته العینیّة یدل علیها خبر علیّ بن جعفر عن موسی بن جعفر علیهماالسلام فی حدیث: «قال : وسألته عن خنزیر شرب من إناء کیف یصنع ؟ قال : یغسل سبع مرّات»(5) .

وکذلک الکافر _ مضافاً إلی ما عرفت من دلالة بعض الأخبار فی النهی عن سؤر الیهودی والنصرانی، الذی سیأتی الکلام فی نجاستهما، ففی غیرهما من المشرکین یکون بطریق أولی، لنجاستهم کما یدلّ قوله تعالی : «إِنَّمَا الْمُشْرِکُونَ نَجَسٌ فَلاَ یَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ»(6) _ للخبر الذی یدلّ علی النهی، هو خبر


1- وسائل الشیعة: الباب 4، الاسئار، الحدیث 1.
2- وسائل الشیعة: الباب 3، الاسئار، الحدیث 1.
3- وسائل الشیعة: الباب 6، الاسئار، الحدیث 1.
4- وسائل الشیعة: الباب 7، الاسئار، الحدیث 1.
5- وسائل الشیعة: الباب 2، الاسئار، الحدیث 1.
6- سورة التوبة (9) : 27 .

ص:521

حسن سعید الأعرج عن إبراهیم بن هاشم قال : «سألت أبا عبداللّه علیه السلام عن سؤر الیهودی والنصرانی؟ فقال : لا»(1).

فالمسألة فی هذه الثلاثة واضحة لا کلام فیها، کما لا یخفی ، مضافاً إلی إمکان استفادة ذلک للکافر، من جواب الإمام علیه السلام فی خبر معاویة بن شریح بقوله : «لا واللّه إنّه نجس»، حیث یفهم أنّ الحکم فی صورة ثبوت النجاسة واضح، من جهة ثبوت النجاسة أیضاً لما یلاقیه .

ووقوع الخلاف فی سؤر الیهودی والنصرانی ، لم یکن من جهة سؤرهما، بل الاختلاف نشأ من حیث حکم نفسهما من جهة النجاسة والطهارة، وأنّه هل هما نجسان أم لا؟، کما وقع الاختلاف فی الأخبار أیضاً .

وأمّا القسم الثانی: هو ما کان سؤره طاهراً ومباحاً، فهو عبارة عن سؤر ما یؤکل لحمه، کالبقر والغنم.

ما کان من الاسئار طاهراً و مکروهاً

ویمکن الاستدلال علی ذلک بأصل الطهارة واستصحاب الطهارة الموجود قبل أن یمسّ الحیوان الماء، وکذلک بأصالة حلّیة کلّ شیء کان مباحاً بالذات والأصالة فیستصحب حین الشکّ ، وکذلک الإجماع المحصّل والمنقول، بل لم یشاهد الخلاف فی حکمه من أحد .

أمّا الأخبار الواردة بالخصوص، فمنها خبر معاویة بن شریح السابق ، وصحیح البقباق، من التصریح باسمهما، ونفی البأس عنهما، وإطلاق موثّقة عمّار عن الصادق علیه السلام : «عن ماء یشرب منه الحمامة؟ فقال : کلّما یؤکل لحمه فتوضّأ من سؤره واشرب»(2) .


1- وسائل الشیعة: الباب 1، الاسئار، الحدیث 3.
2- وسائل الشیعة: الباب 2 ، الاسئار، الحدیث 4.

ص:522

ومثله موثّقته الاُخری(1) ، وکذلک خبر سماعة.

فحکم المسألة واضحٌ ولا خلاف فیها من حیث الفتوی والأخبار، وقد ورد ذکر الإبل والبقر والغنم فی جوابه علیه السلام فی خبر سماعة، وحَکَم بعدم البأس فیها وهکذا خبری جمیل بن درّاج(2) وعبداللّه بن سنان.

وأمّا القسم الثالث: هو ما کان سؤره طاهر ومکروه، فهو علی أقسام:

منها : کما علیه الأکثر، هو سؤر ما لا یؤکل لحمه مثل السباع، بل وهکذا منها ما یکون أکل لحمه مکروهاً، مثل الخیل البغال والحمیر ، وإن خالف ابن إدریس وحَکَم بنجاسة ما یمکن التحرّز عنه من حیوان الحضر غیر المأکول، بل عن «المبسوط» المنع عن الاستعمال، ولعلّ مقصوده النجاسة کما فی «السرائر» أو غیر ذلک، فیعدّ هذا حکماً تعبّدیاً صرفاً ولا علاقة له بالنجاسة _ کما احتمله الشیخ الأنصاریّ _ فیکون قولاً مستقلاًّ آخراً، لکنّه بعید کما عن بعض .

فالحقّ مع المشهور، ویدلّ علی ذلک بعد الأصل والقاعدة _ التی قد عرفتها سابقاً _ بل دلالة خبری شریح والبقباق من التصریح بعدم البأس فی الهرّة والوحش والسباع ، بل ظهور حدیث البقباق بقوله : «فلم أترک شیئاً إلاّ سألته عنه»، فمع ذلک حکم الإمام علیه السلام بعدم البأس، الظاهر فی شموله لجمیع الوحوش والطیور والسباع، غیر ما یکون نجس العین، حیث أنّه یکون خارجاً بالدلیل، کما هو واضح .

بل قد یمکن الاستدلال بمضمون تعلیل خبر أبی الصباح عن الصادق علیه السلام : «قال : کان علیّ علیه السلام یقول : لا تدع فضل السنور أن تتوضّأ منه، إنّما هو سبع»(3) .


1- وسائل الشیعة: الباب 4، الاسئار، الحدیث 4.
2- وسائل الشیعة: الباب 4، الاسئار، الحدیث 5.
3- وسائل الشیعة: الباب 2، الاسئار، الحدیث 4.

ص:523

وصحیح محمّد بن مسلم فی حدیثٍ: «وعن السنّور؟ قال : لا بأس أن تتوضّأ من فضلها إنّما هی من السباع »(1).

حیث یفهم بأنّ ما یکون سبعاً _ من أیّ قسم کان _ یجوز شرب ما فضل منه والتوضّی منه، لوجود الملازمة بینهما، المستفاد من بعض الأخبار، مثل موثّقة عمّار السابقة حیث جمع بین الشرب والوضوء .

مضافاً إلی ورود الروایة فی خصوص الهرّة والفأرة، من جواز الشرب والتوضئ بفضلهما، کما فی صحیح زرارة عن الصادق علیه السلام : «قال: فی کتاب علیّ : إنّ الهرّ سبعٌ ولا بأس بسؤره، وإنّی لأستحیی من اللّه تعالی أن أدع طعاماً لأنّ الهرّ أکل منه»(2) .

وموثّق إسحاق بن عمّار عن الصادق علیه السلام : «قال : إنّ أبا جعفر علیه السلام کان یقول : لا بأس بسؤر الفأرة إذا شربت من الإناء، أن یشرب منه ویتوضّأ منه»(3) .

وخبر الصدوق قال : «قال الصادق علیه السلام : إنّی لا أمتنع من طعامٍ طعم منه السنّور، ولا من شرابٍ شَرب منه»(4) .

فمع دلالة هذه الأخبار عموماً وخصوصاً علی الجواز، لا یبقی حینئذٍ للحکم بالمنع التحریمی _ کما عن الحلّی _ وجه .

نعم ، قد استدلّ علی ذلک بمفهوم ذیل موثّقة عمّار وخبر الصدوق وقد ذکرناهما، حیث ورد فیهما قوله: «کلّ ما یؤکل لحمه أو أُکل لحمه فلیتوضّأ من سؤره واشرب» «أو یتوضّأ منه ویُشرب» .


1- وسائل الشیعة: الباب 3، الاسئار، الحدیث 2.
2- وسائل الشیعة: الباب 2، الاسئار، الحدیث 2.
3- وسائل الشیعة: الباب 2، الاسئار، الحدیث 9.
4- وسائل الشیعة: الباب 7، الاسئار، الحدیث 2.

ص:524

بل قد استدلّ بمفهوم الوصف فی صحیح عبداللّه بن سنان عن الصادق علیه السلام : «قال : لا بأس أن تتوضّأ ممّا شرب منه ما یؤکل لحمه»(1).

حیث دلّ علی البأس فی سؤر ما لا یؤکل لحمه بمفهوم الوصف، أو کون القضیّة مفیدة لمعنی الشرط، من وجود الفاء فی خبر المبتدأ .

وقد أُجیب عنه تارةً _ کما عن الآملی _ بسقوط هذه الأخبار عن الحُجّیة، بواسطة إعراض الأصحاب عنه، بناءً علی مبناه رحمه الله بأن ترک علی الأصحاب مع صحّة سند الخبر موجب لزیادة الوهن فیه .

هذا، ولکنّه لا یخلو عن مناقشة فی المقام، وإن کان کبراه مقبولاً فی غیره، إذ لعلّ الأصحاب ترکوا العمل لأجل عدم حجّیة مفهوم الوصف، وعدم حجّیة مفهوم الشرط المستفاد ضمنیّاً من وجود الفاء فی خبر المبتدأ، أو لعلل أُخری سیأتی فی الأجوبة، فالاخبار باقیة علی دلالتها، وقابلة للتمسّک بها سنداً ، کما لایخفی .

وثانیاً : کما عن صاحب المعالم جواباً عن العلاّمة فی «مختلف الشیعة»، حیث قال علی ما نقله الشیخ الأعظم الأنصاری قدس سره فی کتاب «الطهارة» : بأنّ مقتضی مفهوم القضیة الموجبة الکلّیة، هو سلب الجزئی، یعنی یکفی أن یفید ما لا یؤکل لحمه حرمة البعض لا کلّه، فحینئذٍ یکون سؤر بعض ما لا یؤکل لحمه حراماً، وهذا نظیر ما ذکر فی مفهوم قوله: «إذا کان الماء قدر کرّ لم ینجّسه شیء» حیث یفید نجاسة بعض المیاه لا جمیعها.

فعلی هذا التقدیر، یتمّ قول ابن إدریس الذی ذهب إلی منع سؤر بعض ما لا یؤکل لحمه، وهو ما یمکن التحرّز عنه بخلاف بعض آخر، وهو ما کان أهلیّاً ولا یمکن التحرّز عنه مثل الهرّة والفأرة.


1- وسائل الشیعة: الباب 1، الاسئار، الحدیث 5.

ص:525

فأجاب عنه صاحب المعالم فی «الطهارة»: بأن فرض حجّیة المفهوم، یقتضی کون الحکم الثابت للمنطوق منفیّاً فی غیر محلّ الموضوع المتّصف فی محلّ النطق .

وبعبارة أُخری أعنی کلمة (ما) فی قوله : «کلّ ما» _ هو الحیوان، والقید المعتبر فیه وصفاً أو شرطاً: هو کونه مأکول اللحم، فصار الموضوع مأکول اللحم من کلّ حیوان، والحکم الثابت له هو جواز الوضوء والشرب من سؤره، هذا فی المنطوق .

وأمّا فی المفهوم فإنّه عبارة عن انتفاء هذا القید _ وهو کونه مأکول اللحم وصفاً أو شرطاً _ فینتفی حکمه الثابت، وهو جواز الوضوء والشرب، فیفید أنّ غیر المأکول من کلّ حیوان ینتفی عنه حکم الجواز، فیقتضی ثبوت المنع عن سؤر کلّ حیوان لا یؤکل لحمه، سواء کان قد فقد الوصف وصار غیر مأکول بواسطة ذاته، أو بالعرض، مثل کونه جلاّلاً أو موطوءاً وإلی ذلک اختار الشیخ الأعظم قدس سره بکون أثر المفهوم هو هذا الذی ذکرناه، ولولاه لوجد عندنا غیر مأکولٍ یجوز الوضوء بسؤره، فلم یکن حینئذٍ أکل اللحم سبباً منحصراً فی الجواز، لقیام غیره مقامه.

ومنع دلالة الجملة الشرطیّة علی انحصار السبب، یکون معناه إنکار المفهوم بعینه، وهذا ما اختاره المحقّق الآملی قدس سره فی «مصباح الهدی» .

هذا، ولکنّ الإنصاف عدم تمامیّة ذلک، کما مرّ تفصیل ذلک فی باب الکرّ فی النزاع بین العَلَمین _ الشیخ الأنصاری، والشیخ محمّد تقی صاحب «هدایة المسترشدین» _ واخترنا مسلک صاحب «الحاشیة» من أنّ مفهوم الموجبة الکلّیة، هو نفی الإیجاب بالسلب والکلّی بالجزئی، لأنّ نقیض کلّ شیء رفعه، لأنّه من الواضح عند عرف العقلاء أنّه إذا قیل: «إذا جاء الأمر أکرم کلّ أحد فی المجلس»، فیکون مفهومه أنّه إذ لم یجیء فلا یکون إکرام کلّ أحد واجباً، بل یجوز ترکه لبعض الأفراد، فنفی وجوب إکرام الکلّ یناسب مع وجوب إکرام

ص:526

البعض، ویساعد علی عدم وجوب الإکرام لأحدٍ أصلاً، لا أن یکون معناه نفی الوجوب عن الکلّ قطعاً، بمعنی السلب الکلّی بالخصوص، کما ذکره الشیخ الأنصاری قدس سره ، فلازم ما ذکرناه هو تأیید کلام صاحب «السرائر» قدس سره من الحُکم بعدم جواز سؤر بعض غیر مأکول اللحم، کما لایخفی .

وثالثاً : استفادة ما ذهب إلیه الحلّی، بأن یکون مفهومی الوصف أو الشرط علی نحو ترتّب الخبر بواسطة الفاء علی المبتدأ حجّة، مع أنّه لیس کذلک ، أمّا من جهة عدم حجّیة مفهوم الوصف، خصوصاً فی المفهوم غیر المعتمد علی الموصوف، أی کان الموصوف مع نفس الوصف متعلّقاً للحکم ، لأنّه قد یقال تارة : «أکرم العالم» فحینئذٍ لا یکون معتمداً ، ویقال أُخری : «أکرم الرجل العالم»، حیث یکون الوصف معتمداً علی الموصوف _ فإنّ حجیّة مفهوم الوصف فی الثانی أولی من الأوّل .

وفی «مصباح الهدی» یستشعر من کلامه کون المقام من القسم الأوّل، لکنّ الإنصاف أنّه من القسم الثانی، إذ ما هو متعلّق الحکم کلمة (ما) وهی عبارة عن الحیوان حیث وصفه بأنّه مأکول اللحم .

أو من جهة عدم حجیّة مفهوم الشرط وإن کان حجّة عند کثیرین، لکنه فی الشرط الذی کانت الجملة مشتملة علی أداة الشرط ، وأمّا وجود الفاء فی الخبر، وهذا یقتضی ترتب الخبر علی المقدار المفید لإثبات الحکم، لوجود الموضوع فی المنطوق فقط، نحو ترتّب المعلول علی العلّة، أمّا کونها علّة منحصرة حتّی یوجب المفهوم فلا .

ورابعاً : أنّه لو سلّمنا وجود المفهوم هنا، فلیس الحکم المستفاد هنا إلاّ بالمفهوم ، هذا بخلاف الأخبار الکثیرة الدالّة علی الجواز لسؤر مطلق غیر المأکول، وکانت بعضها صحاحاً ودالاً بالمنطوق، فلا إشکال فی تقدّمه علیه من جهة الظهور والحجّیة، لئلاّ یلزم تخصیص الأکثر منها .

ص:527

وخامساً : أنّ الأخبار المجوّزة هنا مشتملة علی بیان علّة الجواز، لکون ذی السؤر طاهراً، کما علّل فی أخبار سؤر النجس بکون ذیه نجساً، حیث یکون عموم التعلیل آبیاً عن التخصیص فی بعض أقسام ما لا یؤکل لحمه، کما عن الشیخ الأعظم قدس سره فی «طهارته» .

وسادساً : من جهة ضعف هذه الأخبار بالإرسال _ کما عن «الفقیه» _ وغایته کون الأخبار موثّقة کما فی خبری عمّار، وهذا بخلاف تلک الأخبار النی قد عرفت صحّة کثیر منها کما لا یخفی .

وسابعاً : فلو سلّمنا دلالة هذه الأخبار، وأغمضنا عن تمام الأجوبة المذکورة، فإنّه نقول : إنّ ما اختاره الحلّی من الجواز الخاص بما لا یمکن التحرّز عنه ممّا لا دلیل علیه، فإن قصد التمسّک بمثل عموم هذه الأخبار من حیث المفهوم، فلابدّ من الالتزام بالمنع فی کلّ ما لا یؤکل لحمه، إلاّ ما خرج بالدلیل، خصوصاً، سواء کان التحرّز منه سهلاً أم لا ، فعلیه یلزم دخول السباع والوحوش _ التی کانت جامعة لکثیرٍ من الأفراد _ فی صحیح البقباق وغیره .

اللّهمّ إلاّ أن یکون مقصوده إثبات ذلک من جهة الجمع بین الأخبار المانعة بالمفهوم عموماً، وما یدلّ علی رفع الحکم بما یوجب العسر والحرج، فیکون التحرّز من سؤر السنور والفأرة مثلاً من هذا القبیل، فلذلک یرفع الید عنه بالنسبة إلیهما وما شابههما ، ولکن إثبات دونه خرط القتاد، لوضوح عدم وجود العُسر والحرج علی نحو یسوّغ ذلک کما وجد فی سائر الموارد، فالالتزام بذلک مشکل جدّاً .

فالحقّ مع المشهور من الحمل علی الکراهة، بدلالة مفهوم هذه الأخبار، کما یشهد لذلک الجمع مرسلة الوشّاء عمّن ذکره، عن أبی عبداللّه علیه السلام : «قال: لأنّه کان یکره سؤر کلّ شیء لا یؤکل لحمه»(1) إن سلّمنا تداول لفظ الکراهة فی المکروه


1- وسائل الشیعة: الباب 2، الاسئار، الحدیث 5.

ص:528

فی عصر الأئمّة علیهم السلام ، وإلاّ لکان هذا الخبر دلیلاً علی کلام الحلّی لا شاهد جمع کما ذکره الآملی قدس سره ، کما لا یخفی ، هذا کلّه بالنسبة إلی ما لا یؤکل لحمه .

وأمّا حکم کراهة سؤر ما یکون لحمه مکروهاً، کالخیل والبغال والحمیر، فنؤخر البحث عنه متابعة للمصنّف ، فلذلک نتابع البحث علی ما فی «الشرائع»، فقد ذکر المصنّف بعد حکم نجس العین حکم المسوخ، وتردّد فی حکم سؤره، لکنّه اختار الطهارة بعده، فلا بأس بذکر أدلّته تفصیلاً .

أقول: وقع الخلاف بین الفقهاء فی طهارة سؤرها ونجاسته، وعن ابن الجنید الحکم بطهارة سؤر ما لا یؤکل لحمه إلاّ المسوخ، فاحتمل صاحب «المعالم» کون استثناءه بلحاظ أنّ مختاره نجاسة المسوخ، فحَکَم بنجاسة سؤره، لا الحکم بنجاسة ذات السؤر ولعابها، کما حَکی العلاّمة والمحقّق نجاسة مجرّد لعابها عن بعض الأصحاب ، بل قد حَکی المحقّق فی «المعتبر» عن الشیخ القول بنجاسة المسوخ، ونسب العلاّمة فی «المختلف» نجاستها إلی سلاّر وابن حمزة .

وکیف کان، فالظاهر عدم الخلاف فی طهارة سؤرها، إن قلنا بطهارتها وطهارة لعابها، فمنشأ الخلاف فی طهارة سؤرها هو من جهة الاختلاف فی نجاستها وطهارتها بنفسها أو بلعابها .

وحیث کان المشهور بین الأصحاب هو الحکم بطهارتها وطهارة لعابها، فلذلک حکموا بطهارة سؤرها، کما هو الأقوی إن قلنا بطهارتها، کما سیأتی بحثه إن شاء اللّه فی باب النجاسات .

ولکن لا یخفی علیک کراهة سؤره، لما قد عرفت من کونها ممّا لا یؤکل لحمه _ کالقردة وأمثال ذلک _ فیدخل تحت حکم الکراهة، بمقتضی الجمع بین الأخبار المانعة مفهوماً ومنطوقاً _ کخبر الوشاء _ وبین الأخبار المجوّزة کثیراً، فیشمل بعمومها مثل المسوخ أیضاً ، مضافاً إلی إمکان إثبات الکراهة من باب

ص:529

ومن عدا الخوارج والغلاة من أصناف المسلمین طاهر الجسد والسؤر (1).

ویکره سؤر الجلاّل، وسؤر ما أکل الجیف، إذا خلا موضع الملاقاة من عین النجاسة (2).

التسامح فی أدلّة السنن، إن عمّمنا دلیل التسامح، و «من بَلَغ» إلی الکراهة أیضاً، ولم یکن نخصّصه بباب المندوبات، کما یوهمه نزول أخبارها فیها .

(1) قد عرفت منّا سابقاً أنّ کلّ ما یکون نجاسته العینیّة ثابتاً بالأدلّة، فسئوره بل کلّ ما لاقی جسمه مع الرطوبة محکوم بالنجاسة، وذلک بمقتضی قاعدة الملازمة العرفیّة فی السرایة، وهذا غیر مختصّ بباب الاسئار، فحینئذٍ یکون البحث فی طهارة سؤره ونجاسته من تفرّعات نجاسته ذلک وطهارته، فحیث اعتقد المصنّف وغیره نجاسة الغلاة والنواصب _ منها الخوارج _ فیکون سؤرهما أیضاً نجساً ، کما أنّ سائر الفرق من أصناف المسلمین _ من الحنفیّة والشافعیة والمالکیة والحنبلیّة وغیرها _ حیث کانوا طاهرین، فیعدّ سئورهم وما لاقی جسدهم طاهراً .

فی سؤر الجلاّل و آکل الجیف

وأمّا من جهة الکراهة وعدمها فی سؤرهم، فیدخل کلٌّ فی موضوعه من کراهة سؤر ما لا یؤکل لحمه الشامل لهم أیضاً، کما یشمل للمؤمن أیضاً، إلاّ أنّه خارج بالدلیل، فیکون سؤرهم مکروهاً بلا فرق بین کونهم مأمونین أو متّهمین بعدم المبالاة .

(2) ولا یخفی علیک أنّ من أقسام ما الطاهر المکروه، سؤر الجلاّل وهو الحیوان الذی یتغذّی من عین النجاسة، من عذرة الإنسان کما هو القدر المتیقّن منه، وإن عمّم بعض لمطلق عین النجاسة، أو ما تنجّس بعذرة الإنسان وتغذّی منه .

والکلام فی سعة المفهوم وضیقه موکولٌ إلی محلّه، کما أنّ الظاهر کون المراد

ص:530

هو المأکول منه لا غیره . والذی ینبغی بحثه هنا هو بیان حکم کراهة سؤره وطهارته، أو الحکم بنجاسته وحرمته .

فقد وقع الخلاف فی ذلک، فعن المرتضی وابن الجنید و«مبسوط» الشیخ استثناءه من السؤر الذی یباح استعماله، ویقتضی ظاهر کلامهم الحکم بنجاسة سؤره مع طهارة عینه .

وقد استدلّ أیضاً لنجاسة سؤره، بأنّ رطوبة أفواهها تنشأ من نجاسة ما تأکله وهو عذرة الإنسان، فیوجب نجاسة سؤره .

ولا یخفی ما فیه، لأنّه إن اُرید أنّ لعابه نجسٌ، لکونه قد أکل النجاسة، فیکون المنع حینئذٍ للتنجّس الساری إلی الماء لا بما أنّه سؤر .

وإن کان بلحاظ کون لعابه طاهراً، مع ذلک یحکم بنجاسة سؤره، فهو ما لا دلیل علیه، کما عن صاحب «المعالم» أیضاً، إذ لا ملازمة بین أکل النجاسة ونجاسة اللعاب، کما لا ملازمة بین أکله النجاسة وعدم نجاسة ما یلاقی جسده مع الرطوبة، إذ حرمة أکل لحمه بواسطة الجلل، لا یوجب الحکم بترتیب آثار النجاسة علی ظاهر بدنه، کما لا یخفی .

فحینئذٍ إن قلنا بطهارة بدنه _ کما حقّق بحثه فی محلّه _ فإنّ لعابه وسؤره یعدّ طاهراً أیضاً، کما علیه المصنّف ، بل المشهور، ویدلّ علی طهارته إطلاق بعض الأخبار، من الحکم بعدم البأس بسؤر الحیوان المأکول أو غیر المأکول، من غیر تفصیل بین الجلاّل وغیره، کما فی عموم خبر عمّار عن الصادق علیه السلام : «کلّ شیء من الطیر یتوضّأ بما یشرب منه»(1) الحدیث .

حیث أنّ عمومه الاستغراقی یشمله .


1- وسائل الشیعة: الباب 2، الاسئار، الحدیث 4.

ص:531

واحتمال خروج ذلک عن العموم لکونه فرداً نادراً، مدفوع، أوّلاً : بما لا یجری فی مثل هذا العموم، الذی کان بأداة دالّة وضعاً علی الشمول .

وثانیاً : عدم ندرته فی مثل الفأرة الموجودة فی الکنیف حیث یتغذّون عذرة الإنسان، وبرغم ذلک فی سؤرهم کلامٌ، إذا لم یکن علی أفواههم عین النجاسة ، کما لا یخفی .

إلاّ أن یُقال: أنّه لا صدق (الجلاّل) لمثل هذه الحیوانات، لأنّ ظاهر هذا العنوان اختصاصه للحیوان المأکول إذا تغذّی بالعذرة، لا مثل الفأرة والسنور، حیث لا یکون الجلل علیهما صادقاً . فصدق الندرة لمثل الدجاجة والحمامة محلّ إشکال، فیشمله الدلیل أیضاً کما لا یخفی، فما مثّله صاحب «الجواهر» قدس سره بالغیر لا یخلو عن مسامحة .

وأمّا من جهة الحکم بالکراهة وعدمه، فقد یمکن أن یقال بکراهته من جهة کونه غیر مأکول اللحم، فیدخل تحت تلک الأخبار التی قد عرفت دلالتها علی المنع عن سؤره بواسطة المفهوم أو المنطوق کما فی خبر الوشاء، وبالتسامح فی أدلّة السنن، بأن یکون الإطلاق من جهة کونه غیر مأکول اللحم شاملاً لما هو کذلک، أصلیّاً کان أو عارضیّاً، مثل الجلاّل، کما عن الشیخ الأعظم قدس سره والآملی.

ولکنّه لا یخلو عن إشکال ؛ لإمکان أن یقال : إنّ الظاهر من تلک الأدلّة، هو ما کان غیر مأکول اللحم بالأصالة لا بالعرض فی مدّةٍ، إذ تلک الأدلّة ساکتة عن حکم العوارض، نظیر ما لو ورد فی کلام الإمام علیه السلام : بأنّ لحم الغنم حلالٌ، فان قوله علیه السلام لا یکون ناظراً إلی حلّیة لحم مطلق الغنم وان کان مغصوباً، لأنّ النظر فی أمثال ذلک إلی طبیعة الحکم الأوّلی من حیث هو هو، لا من حیث ما یعرض علیه من العوارض، فإثبات الکراهة فیه مشکل .

إلاّ أن یقال: إنّ الشهرة متحقّقة بین الأصحاب علی الکراهة، فیکفی ذلک فی

ص:532

إثبات کراهته من جهة التسامح فی أدلّة السنن، کما عرفت ، فلعلّه لذلک حکم المصنّف قدس سره بکراهته، کما لا یخفی .

وأمّا سؤر آکل الجیف، حیث حکم المصنّف بکراهته، بلا فرق بین کونه مأکول اللحم _ کما قد یتّفق فی الدجاجة والبطّ وغیرهما _ أو غیر المأکول _ کما هو الغالب _ فتکون الکراهة فیه من وجهین .

تارةً: لکونه غیر مأکول .

واُخری: لهذا الوصف ، ولابدّ له من اقامة دلیل علیه، مع أنّه لم نجد فی الأخبار لذلک عیناً ولا أثراً، کما هو الحال کذلک فی سؤر الجلاّل أیضاً ، ولعلّه لذلک أسقطه المتأخّرین هذا القسم عن باب المکروهات، إذ لیس فی «العروة» ولا فی تعلیقاتها من ذلک أثرٌ ولا خبرٌ ، وإن أمکن الاعتراض علیهم فی التفریق بینهما مع اشتراکهما فی عدم وجود دلیل فیهما بالخصوص .

نعم ، قد یمکن ذکر وجه الفرق، بأنّه قد استدلّ بعضٌ لکراهة سؤر الجلاّل بصحیح هشام بن سالم عن أبی عبداللّه علیه السلام : «قال : لا تأکلوا لحوم الجلاّلة، فإن أصابک من عَرَقها فاغسله»(1) .

بتقریب أن یُقال : إذا کان عَرقها نجساً _ کما یستفاد من هذا الخبر _ فربّما یمکن تأثّر فمه وبدنه بالعرق أیضاً _ رطباً کان جافّاً _ فلذلک حکموا بالکراهة، کما نقله صاحب «الجواهر» عن حاشیة «وسائل الشیعة» ، بل قد ادّعی الإجماع علی وحدة حکم العرق والسؤر فی الجلاّل ، ولذا ذکر العلماء حکم کراهة سؤر الجلاّل هذا بخلاف آکل الجیف، حیث لیس فیه دلیل أصلاً.

فإن کان استدلالهم بمثل هذا الخبر، فالحکم بالطهارة والکراهة لا یخلو عن


1- وسائل الشیعة: الباب 1، الاسئار، الحدیث 6.

ص:533

إشکال لأنّ الخبر دالٌ علی النجاسة .

نعم ، یعهد عن الشیخ الأعظم قدس سره أنّه قد تمسّک لکراهة سؤر الجلاّل وآکل الجیف بفحوی صحیح العیص بن القاسم الوارد فی سؤر الحائض: «قال : سألت أبا عبداللّه علیه السلام عن سؤر الحائض. فقال : لا تتوضاء منه، وتوضأ من سؤر الجنب إذا کانت مأمونة»(1) الحدیث.

فمن اشتراطه بکونها مأمونة، یفهم أنّ سؤر الجلاّل وآکل الجیف غیر مأمونین، ونحن نبحث عن خبر یفید مثل هذا فی المقام وهو خبر علیّ بن یقطین عن أبی الحسن علیه السلام : «فی الرجل یتوضّأ بفضل الحائض؟ قال : إذا کانت مأمونة فلا بأس»(2) ، حیث یفهم من مفهومه وجود البأس إذا لم تکن مأمونة، فلا فرق فی ذلک بین الحائض وغیرهما من الجلاّل وآکل الجیف ، فعلی هذا لم یبق وجهُ للفرق بینهما فی الذکر وعدمه لدی المتأخّرین .

اللّهمّ إلاّ أن یقال؛ بناءً علی الأخذ بفحوی مثل هذا المفهوم وغیره، یلزم سرایة الحکم إلی کلّ متّهم بعدم المأمونیّة، لا خصوص هذین الفردین، کما قالوا فی ذیل کلامهم: کراهة سؤر کلّ متّهم .

وکیف کان، فلا وجه للفرق إلاّ من جهة الخروج عن شُبهة الخلاف، فی مثل آکل الجیف وسؤر الجلاّل، من باب التسامح فی أدلّة السنن، وتعمیمه للکراهة أیضاً ، فحینئذٍ صار لذکرهما مستقلاًّ وجه دون للتفصیل فیهما من الذکر وعدمه، کما هو عند بعض المتأخّرین، فلیتأمّل .

تتمیمٌ: لا یخفی علیک أنّ القید الموجود فی کلام المصنّف، من خلوّ موضع


1- وسائل الشیعة: الباب 1، الاسئار، الحدیث 2.
2- وسائل الشیعة: الباب 5، الاسئار، الحدیث 8.

ص:534

الملاقاة من عین النجاسة، لا یبعد أن یرجع إلی کلّ من الجلاّل وآکل الجیف، کما هو المساعد لشأنهما، لا أن یکون قیداً للأخیر فقط .

ووجه ذکر القید إنّما هو من جهة أنّه إذا کان فی موضع الملاقاة عین النجاسة، أو ما کان عیناً متنجّساً، فإنّه یوجب تنجّس سؤره حینئذٍ قطعاً، بدلالة قاعدة تنجیس المنجّسات، وهذا واضح لا کلام فیه، والحکم بالنجاسة إذا لاقی السؤر عین النجاسة أو عین المتنجّس .

إنّما الکلام والخلاف وقع فیما إذا لم یکن موضع ملاقاتهما عیناً من النجاسة وغیرها ، ولکن کان ملاقاة فمهما أو بدنهما بالنجاسة ثابتة، ثمّ بعده شرب الماء مثلاً من دون وجود عین فی ما لاقاه ، فحینئذٍ هل یحکم بطهارة ما یلاقیه مطلقاً، سواء زالت بعد أکل النجس ثمّ شرب، أو کانت باقیة وشرب أم لا؟ وسواء علم بولوغ فمه بالماء الکثیر أو لم یعلم، بل ولو یعلم عدمه أم لا؟

والمشهور من المتقدِّمین والمتأخِّرین هو الحکم بالطهارة ، بل ولا یعلم خلاف إلاّ عن العلاّمة فی «النهایة» حیث الحکم بالنجاسة فی الفرض المذکور مشروطاً بعدم الزوال بعد الأکل أو الشرب، بخلاف ما لو زالت واحتمل ولوغه فی الماء المعتصم _ من الکرّ أو الجاری أو المطر _ فحینئذٍ یکون طاهراً .

بل وهکذا نقل عن «الموجز» لابن فهد دون «مهذّبه»، فوافق فیه المشهور .

وقد نسب صاحب «الحدائق» النجاسة إلی قیل، والشیخ الأعظم إلی بعض مشایخه فیما لو لم یعلم الولوغ بالماء المعتصم، ولو علم الغیبوبة ولم یعرف قائله .

نعم ، ذهب الأردبیلی قدس سره فی «مجمع البرهان» إلی إن رفع النجاسة المحقّقة حینئذٍ مع العلم بوجوده مشکل، إلاّ أن یزول بالعلم بالرفع ، هذا کلّه بحسب الأقوال .

وأمّا الکلام بحسب الإثبات والاستنباط من القواعد والأدلّة فنقول وعلی اللّه التکلان : لابدّ أن یلاحظ فی ذلک من وجهین :

ص:535

تارةً : بحسب مقتضی القواعد .

واُخری : بحسب الأدلّة الدالّة فی المقام .

فأمّا الأوّل: فلا إشکال فی أنّ المورد یجری فیه خمسة قواعد، ومقتضاها إثبات القول بالنجاسة لما یلاقیه: کما علیه الأردبیلی قدس سره ، وهذه القواعد هی: قاعدة الحکم بتنجّس جسد الحیوان عند ملاقاته مع النجس أو المتنجّس، من جهة قاعدة تنجیس النجاسات لما یلاقیها مطلقاً، ولو کان الملاقی جسم حیوان .

وقاعدة تنجیس المتنجّس، للطاهر، ولو کان من جسد الحیوان، فیحکم بنجاسة ما یلاقیه .

وقاعدة عدم زوال نجاسة المتنجّس، بمجرّد زوال عین النجاسة، ولو کان عن جسم الحیوان .

وقاعدة استصحاب نجاسة المتنجّس عند الشکّ فی بقائها، ولو کان مورد الشکّ فی جسم الحیوان .

وقاعدة حکومة هذا الاستصحاب علی استصحاب طهارة ملاقیه، إذا لاقی شیء طاهر لما یشکّ فی بقاء نجاسته، وجمیع هذه القواعد ثابتة فی محلّها مع أدلّتها، فمقتضی الجمع بینها هاهنا هو الکم بنجاسة سؤر الجلاّل وآکل الجیف فی جمیع الصور، إلاّ ما إذا علم رفع النجاسة بالمطهّر الخارجی، من ماء معتصمٍ کالکرّ والجاری، هذا کلّه بحسب القواعد .

وأمّا الثانی: أی البحث عن مفاد الأدلّة، واستنباط الحکم من مضامین الأخبار الواردة فی موارد مختلفة ، بل ومن السیرة المستمرّة بین المتشرّعة المنتهیة إلی زمان الأئمّة علیهم السلام ، بل نفس تصرفاتهم علیهم السلام فی بعض الموارد خلاف ما یقتضیه القواعد، یوجب حصول القطع والاطمئنان للفقیه علی الفتوی بخلاف ما ذکرناه، کما ستعرف تفصیله إن شاء اللّه .

ص:536

وقد استدلّ المشهور بعدّة أخبار فی موارد مختلفة وهی :

منها : ما ورد فیما یلاقیه منقار الحمامة والدجاجة، من التفصیل بین صورة معلومیّة الدم فی الماء، فیحکم بالنجاسة، وعدمها فیحکم بالطهارة، الشاملة حتّی ما لو علم عدم ولوغه مع المطهّر الشرعی فضلاً عن الشکّ والاحتمال، وهو کما فی موثّقة عمّار بن موسی عن أبی عبداللّه علیه السلام فی حدیث: «فقال علیه السلام : کلّ شیء من الطیر یتوضّأ ممّا یشرب منه إلاّ أن تری فی منقاره دماً، فإن رأیت فی منقاره دماً فلا تتوضّأ منه ولا تشرب»(1) .

بل فی «وسائل الشیعة» نقلاً عن الشیخ، بإسناده عن محمّد بن یعقوب بزیادة.

وهی: «وسئل عن ماء شربت منه الدجاجة ؟ قال : إن کان فی منقارها قذر لم یتوضّأ منه ولم یشرب، وإن لم یعلم أنّ فی منقارها قذراً توضّأ منه واشرب» .

وفی «الجواهر» اعترض بعدم وجود هذه الزیادة فی النسخة الموجودة ، ولکنّ الظاهر هو وجود هذه الزیادة فی «الفقیه» للصدوق، کما رواه «الوافی» عنها. وهکذا تکون الزیادة ثابتة. ومعها تکون الدلالة أوضح، لصراحتها بأنّ عدم العلم بذلک کاف فی الحکم بالطهارة، ولذلک أجاز التوضّی والشرب منه حینئذٍ .

واحتمال أنّ عدم رؤیة الدم فی منقاره، کان بلحاظ القطع بملاقاة منقاره للماء المعتصم، أو احتماله فحکم بالطهارة، فلا یشمل ما لو علم عدم ولوغه مطهّر أصلاً .

مدفوع أوّلاً : بما لا ملازمة بین عدم وجود الدم فی المنقار، مع العلم بملاقاة منقاره للمعتصم ولو شرب الماء، لإمکان أن یکون إطلاق الروایة یشمل ما لو أکل من جیفةٍ أو دمٍ، ولم یکن فی منقاره شیء، فشرب من الماء، فیحکم حینئذٍ بطهارة بدلالة ظهور الخبر، کما لا یخفی .


1- وسائل الشیعة: الباب 2، الاسئار، الحدیث 4.

ص:537

وثانیاً : أنّ فی هذا الاحتمال، یقتضی حکومة قاعدة استصحاب النجاسة علی أصالة الطهارة الحکم بنجاسته، وبرغم ذلک حکم بالطهارة خلافاً للاستصحاب، فلیس إلاّ من جهة کون الحکم خلاف ما یتمشّی فی غیر المقام، فالمسألة واضحة .

ومنها : صحیح علیّ بن محمّد جعفر عن أخیه علیه السلام فی حدیث قال : «سألته عن الفأرة والدجاجة والحمام وأشباهها تطأ العذرة ثمّ تطأ الثوب أیغسل ؟

قال : إن کان استبان من أثره شیء فاغسله، وإلاّ فلا بأس»(1) . فإنّ ترک الاستفصال من رطوبة العذرة والرِجل ویبوستهما، یوجب الاطمئنان علی عدم تنجّس ما یلاقیه بذلک، إلاّ أن یکون أثره معلوماً، فحینئذٍ ینجّسه ، فحمله علی خصوص صورة یبوسة العذرة أو الرِجْل الحامل لها أو کلیها ، مضافاً إلی غرابته، لا یعقل صدور مثل هذا السؤال عن مثل علیّ بن جعفر رحمه الله مع جلالة شأنه، فإطلاقه یکون قویّاً جدّاً .

کما أنّ حمله علی صورة طهارة رِجْله بماءٍ معتصم _ علماً أو احتمالاً _ الموجب لحصول طهارة موضع الملاقاة فیکون قد وطأ الثوب مع الطهارة، بعیدٌ بلحاظ حال السؤال عن مثله .

ومنها : صحیحه الآخر.

فی حدیث، قال : «وسألته عن فأرة وقعت فی حُبّ دهن، وأخرجت قبل أن تموت أیبیعه من مسلم ؟ قال : نعم ویدهن منه»(2) .

فإنّ الحکم بجواز بیعه والتدهین به، لیس إلاّ من جهة طهارته، مع أنّه لا إشکال فی نجاسة الفأرة من حیث دم الولادة، وخروج المنی حین السفاد، ونجاسته،


1- وسائل الشیعة: الباب 3، النجاسات، الحدیث 37.
2- وسائل الشیعة: الباب 1، الاسئار، الحدیث 9.

ص:538

فخرج البول والخرء أو دم الجرح، وبرغم ذلک ذلک حکم بطهارته، من حیث أنّ لوازم الحکم یوجب اطمئنان الفقیه بما ذکرنا .

واحتمال حصول الطهارة بوروده فی الماء المعتصم، وحصول الطهارة، مقطوع العدم هاهنا، خصوصاً فی مثل الفأرة، من جهة کثرة فضلاتها وتوالی فضلاتها.

کما أنّ احتمال عدم ملاقاة موضع البول والفضلة للدهن، وأمثال ذلک من المحامل، ممّا لا یقبله الذوق السلیم .

فالأصحّ هو القول بعدم حصول النجاسة بذلک، ولو بالقطع بعدم حصول المطهّرات لجسدها .

ومنها : الأخبار الواردة فی سؤر الهرّة والفأرة، من التجویز فی الأکل والشرب، خصوصاً مع ملاحظة کلام علیّ علیه السلام من الاستحیاء من اللّه بترک ما أکل من الهرّة، الکاشف عن استمراره علی ذلک عند المصادفة، وکذلک صحیح زرارة عن الصادق علیه السلام : «قال : فی کتاب علیّ علیه السلام أنّ الهرّ سبع، ولا بأس بسؤره وإنّی لأستحیی من اللّه أن أدع طعاماً ، لأنّ الهرّ أکل منه»(1) .

ومثله مرسلة الصدوق: قال الصادق علیه السلام : «إنّی لا أمتنع من طعام طعم منه السنّور، ولا من شراب شرب منه»(2).

حیث یدلّ علی دوام عملهم علیهم السلام مع سؤره معاملة الشیء الطاهر وقد عرفت وجه الاستدلال فی أشباهها واستبعاد محاملها .

واحتمال کون الحکم بنفی البأس من حیث الطهارة الذاتیّة، لا من جهة نجاسته العرضیّة، فلا ینافی طهارته مع کونها نجساً بالعرض .


1- وسائل الشیعة: الباب 2، الاسئار، الحدیث 2.
2- وسائل الشیعة: الباب 7، الاسئار، الحدیث 2.

ص:539

مدفوع : بأنّ عدم البأس یکون بالنظر إلی نجاسته الذاتیة والعرضیة معاً، لعدم إمکان إنفکاکها حین ولادتها عن النجاسة العرفیّة، وهو واضح .

بل وأتمّ منه فی الدلالة من حیث کون معاملتهم علیهم السلام معاملة الطاهر، هو مضمون الخبر الذی نقله صاحب «مستند الشیعة» عن «نوادر» الراوندی: قال علیّ علیه السلام : «بینا رسول اللّه صلی الله علیه و آله یتوضّأ إذ لاذ به هرّة البیت، وعرف رسول اللّه صلی الله علیه و آله أنّه عطشان فأصغی إلیه الإناء حتّی شرب منه وتوضّأ بفضله»(1) .

فإنّ فعلهم علیهم السلام کقولهم حجّة، لاسیّما فی مثل الوضوء الذی هو عمل قُربی عبادی ، ولو کان فی فم السنّور شبهة النجاسة لما فعل صلی الله علیه و آله وتوضّأ بفضله قطعاً، فهذا یوجب القطع بطهارة فمه .

مضافاً إلی أنّ الاقدام بغسل فمّ الحیوانات وتطهیرها فی بعض الموارد، ما یکون من سؤره، یعدّ فاعله من المجانین، ولا أقلّ من انتسابه إلی الوسوسة.

إذا عرفت هذا، فیدور الأمر حینئذٍ بین: القول بعدم نجاسة بدن الحیوانات بالملاقاة لعین النجاسة، وإن حُکم بنجاسة ما یلاقی نجاسة بدنها، کان التنجیس من حیث نفس النجس لا جسده المتنجّس .

والقول بتنجّس بدنه أیضاً کسائر الأجسام، إلاّ أن یکون التلاقی بنفس النجس، فهو ینجس به لا ببدنها المتنجّسة .

ففیه وجهان، بل قولان .

والذی یظهر من من مجموع الاستدلال الشیخ الأعظم هو تقویة الثانی، إذ استدلّ بأنّ التأثیر والتأثّر فی الأجسام مع النجاسة المشتملة علی الرطوبة أمر مسلّم عند الشرع، ولیس غیر ذلک معهوداً ، بخلاف ما لو قلنا بانفعال بدن


1- مستند الشیعة: ج1/ص 21.

ص:540

الحیوانات ، ولکنّه یطهر بالزوال، فإنّه أمر معهود فی الشرع کثیراً، مثل مطهّریة الشمس والأرض والإستحالة ، بل قد یؤیّد بذهاب کثیر من الفقهاء _ مثل السیّد المرتضی رحمه الله _ إلی طهارة کلّ جسم صیقل بذهاب عین النجس ، بل فی کلام الشیخ فی «التهذیب» و«الاستبصار» فی عظم المیتة إذا مضت علیه السنة، ولاقت وهی رطبة لا یجب غسله، فهو وإن کان ضعیفاً، إلاّ أنّه ذکر للاستئناس .

بل وجزم جماعة بذلک مثل الشهیدین والمحقّق الثانی فی «الجعفریّة» وشارحها، و«الموجز» وشارحه، من أنّهم عدّوا من المطهّرات العشرة زوال العین .

بل نحن نزید بأنّ مثل هذا التعبیر موجود فی کلام المتأخّرین أیضاً کالسیّد فی «العروة» وشراحها فی تعلیقتهم ، مضافاً إلی کون الزوال یعدّ مطهّراً فی البواطن، وغیر ذلک ممّا یوجب تقویة هذا الاحتمال .

أمّا صاحب «الجواهر» و«مصباح الهدی» و«الروائع الفقهیّة» للسیّد الاصفهانی وغیرهم ذهبوا إلی تقویت الحکم الأوّل، بأنّ بدن الحیوان لا ینفعل بالملاقاة، وما یوجب نجاسة الملاقی کان هو عین النجاسة والمتنجّس الموجود فی بدنه مع السرایة بالرطوبة .

والذی یمکن أن یُقال : أنّه لا إشکال فی لزوم المخالفة لإحدی القواعد الخمسة المذکورة بعضها، کما أنّه لا إشکال فی حسن عدم التخصیص فی القواعد فهما أمکن ، کما أنّه لو دار الأمر بین تخصیصٍ أکثر أو أقلّ کان الثانی أولی، عملاً بما یقتضیه القواعد ممّا یقبله العرف والعقلاء، إلاّ ما خرج بالدلیل قطعاً، فلا محیص فیه إلاّ بالمخالفة .

إذا عرفت هذه المقدّمة فنقول : لابدّ أن ینظر المسألة من جهتین .

تارةً : من حیث ظهور الأخبار الدالّة علی ذلک، بأنّ المستفاد منها ظاهراً هل هو القول الأوّل أو الثانی ؟

ص:541

وأُخری : ملاحظة ما ذکرناه آنفاً ومراعاته .

وأمّا ملاحظة دلالة الأخبار، حیث إنّه لیس فیها إشارة ولا ظهور لفظی علی کون زوال عین النجاسة فی الحیوان من المطهّرات ، بل لو استفید کان من قبیل ما ذکرنا فی الاسئار، وفی وقوع الفأرة فی الدهن وخروجها حیّةً، حیث یستفاد منها ومن أمثالها طهارة بدنها بالملازمة .

لکن اللازم هاهنا یکون أعمّ من کون الزوال مطهّراً أو لم یکن بدن الحیوان منفعلاً أصلاً، حتّی یحتاج إلی التطهیر بالزوال أو غیره، فإثبات الأوّل بخصوصه مشکل، فلا سبیل لنا إلاّ أن نرجع إلی ظهورات الأخبار وملاحظة أنّها هل تدلّ علی عدم انفعال بدنه بالملاقاة أو لا .

فقد قیل بدلالة مثل مفاد صحیح علی بن جعفر، حیث حکم بوجوب غسل الثوب عند استبانة العَذَرة فی الثوب بواسطة رِجْل الحیوان، فإن کان الرِجْل متنجّساً بالعذرة الرطبة، فلا وجه لتعلیق الحکم علی استبانة العذرة، بل یکفی کون الرِجْل مرطوباً ومنفعلاً بالنجاسة، فیوجب نجاسة الثوب، فیکشف منه عدم انفعال بدنه بها .

بل وهکذا مضمون خبر عمّار فی قوله : «فإن رأیت فی منقاره دماً فلا تتوضّأ منه ولا تشرب» لاسیّما مع ملاحظة ذیله علی ما فی بعض النسخ: «فإن لم یعلم فی منقاره قذراً فتوضّأ منه واشرب» ، حیث جعل حکم النجاسة وعدمه علی وجود نفس العین علی المنقار، مع أنّه لو کان الملاک هو ملاقاته مع النجس ولو متنجّساً،وکان بدنه کذلک، فلا یحتاج إلی وجود القذر، بل یکفی کون الملاقاة مع الرطوبة بنفس المنقار الذی کان منفعلاً إلاّ أن یقال باحتمال طهارته حینئذٍ بالزوال .

أقول : قد عرفت من عدم وجود دلیل یدلّ بخصوصیة علی ذلک، إلاّ أن یستفاد من هذه الأخبار ذلک، فیدور الاحتمال بین أحد الأمرین .

ص:542

إمّا القول بعدم الانفعال أصلاً، أو القول بالانفعال، وحصول الطهارة بالزوال.

وسیأتی إن شاء اللّه بأنّ الأوّل أولی .

نعم ، قد یشکل الإستدلال بمثل هذه الأخبار، لعدم الانفعال، بناءً علی ما اختاره بعض فی المتنجّسات بأنّها لا ینجّس الطاهر إذا کانت خالیة عن عین النجس، کما احتمله صاحب «مصباح الفقیه» فی باب السرایة، فعلی هذا استفادة طهارة بدن الحیوان بالملاقاة بمثل الاسئار، ووقوع الفأرة فی الدهن، وأمثال ذلک مشکل، لا مکان التفصیل بین کون جسدها منجساً فلا یجوز اتّخاذ جلده ثوباً للصلاة، ولکن لا ینجس الماء ونظائره، فلعلّ حکم الإمام بالنجاسة بوجوب عین النجاسة کان بملاک ذلک.

والتحقیق فی هذه المسألة موکول إلی محلّه، فمن لم یذهب إلی ذلک، فله اختیار أحد الأمرین، من عدم الانفعال، أو انفعاله وطهارته بالزوال .

والذی یقرب إلی الذهن هو کون الأوّل أولی، لما قد عرفت من حسن قلّة التخصیص ومطلوبیّته، والأوّل کذلک بخلاف الثانی .

توضیح: ذلک أنّه لو قلنا بعدم حصول الانفعال أصلاً فی جسد الحیوان _ کما لا ینفعل بواطن الإنسان بالملاقاة _ لا یلزم منه إلاّ التخصیص فی قاعدة ثابتة وهی أنّ الملاقاة مع عین النجاسة المرطوبة منجّسة، فیلزم به باللابدّیة بواسطة تلک الأخبار ، فحینئذٍ لا یلزم تخصیصاً فی قاعدة منجسیّة المتنجّسات، وقاعدة عدم زوال النجاسة بزوال عینها ، وقاعدة استصحاب النجاسة عند الشکّ فیطهارته ، وقاعدة حکومة استصحاب النجاسة الوارد فیه علی استصحاب طهارة الملاقی .

هذا بخلاف ما لو قلنا بتنجّس بدن الحیوان من عین النجاسة ، فمع ذلک یحکم بطهارة سؤره، إذا لم یکن فی فمه ومنقاره عین النجاسة، فلا محیص إلاّ القول بتخصیص عدم زوال النجاسة بزوال عینها، بدون مطهّرٍ آخر، المستلزم لعدم

ص:543

مورد لما یدلّ علی بقاء نجاسته السابقة المشکوکة البقاء، حیث یحکم بنجاسته استصحاباً، وهکذا یلزم التخصیص فی عدم منجّسیة المتنجّس للشیء الطاهر، إن لم یکن محکوماً بالطهارة بزوال العین ، بل کان محکوماً بتنجّسه مع عدم سرایته إلی شیء آخر، فلازمه حینئذٍ عدم حکومة استصحاب نجاسته لاستصحاب طهارة ملاقیه، فیکون التخصیص فیه وارداً أیضاً .

فتکون النتیجة هی: بأنّ القول بعدم تنجّس بدنه بملاقاته مع عین النجاسة _ کما قلناه _ أولی ، واللّه العالم بحقائق الاُمور .

وتظهر الثمرة فیما بین القولین فی عدّة أُمور :

الأوّل : فی عدم جواز إتیان الصلاة جلد الحیوان قبل تطهیره، إذا علم نجاسته بعین النجس، وحکمنا بنجاسة غیر مسریة، هذا بخلاف ما لو قلنا بعدم تحمّله للنجاسة، فیجوز الصلاة فیه أیضاً، أو طهارته بزوالها، فلا تکون ثمرة فی القولین لأنّه علی کلا القولین یجوز الصلاة فیه . نعم بین القولین وقول من لا یقول بتنجّس المتنجّس .

الثانی : فیما لو شکّ فی بقاء عین النجاسة، فإنّه یحکم بنجاسة ملاقیه، بناءً علی تنجّس جسد الحیوان بالنجاسة، لاستصحاب نجاسته المترتّب علیه نجاسة ملاقیه من دون واسطة، هذا بخلاف ما لو قلنا بعدم انفعاله، فإنّ جریان استصحاب النجس علی الحیوان لا یثبت ملاقاة الشیء لعین النجس، إلاّ بالأصل المثبت، إذ ملاقاته مع الجسد الذی کان علیه النجس، یفید إثبات نجاسة الملاقی هذه الثمرة المذکورة فی «الجواهر» .

هذا، لکنّه مخدوش بأنّ الحکم بنجاسة الملاقی فی الفرض الأوّل، وهو تنجیسه بالنجاسة صحیح، إذا لم نقل بعدم منجّسیة المتنجّسات، وإلاّ کانت الثمرة بلا فائدة، لأنّ بقاء النجاسة للجسم بالاستصحاب لا أثر له لإثبات حکم النجاسة

ص:544

للملاقی، کما لا یخفی .

فضلاً عن إمکان دعوی کون الواسطة فی إثبات النجاسة للملاقی، المستلزم لثبوت عین النجاسة خفیّةً .

الثالث : قد ذکر _ أنّه کما عن «مصباح الهدی» _ إذا لاقی شیء طاهر جسم حیوان مصاحباً مع النجاسة العینیّة، بحیث لا یلاقی ذلک الشیء تلک النجاسة ، بل الملاقاة کانت مختصّة بجسم الحیوان، الذی کان علیه النجاسة، فإنّه ینجّس الملاقی بناءً علی تنجیسه بملاقاة النجاسة، لأنّ طهره حینئذٍ إنّما بزوال النجاسة عنه المفروض عدمه ، ولا ینجّس بناءً علی عدم تنجّسه بها .

ثمّ قال : وإن کان وقوعه بعیداً .

ولکنّ الإنصاف بعد الدقّة، عدم إمکان وقوع ذلک خارجاً، لأنّ المفروض کان علیه عین النجاسة، فإذا لاقی ذلک الجسم _ ولو من تحته _ فما لم یصل إلی موضع فیه النجاسة _ ولو برطوبته _ لا یکون نجساً، لأنّ المفروض طهارته أمّا من سابقه أو من زوال النجاسة عنه، فإذا وصل الشیء الطاهر إلی ما یکون عین النجس فیه، فإنّه یکون الجسم أیضاً متنجّساً، إلاّ أنّه لاقی نفس العین أیضاً .

وبالجملة، ملاقاة الجسم مع وصف کونه متنجّساً، مع بقاء العین علیه، دون الملاقاة مع العین، غیرُ ممکنٍ عادة، لا صرف استبعاد محض، کما ذکره ، هذا أوّلاً .

فی سؤر الحائض التی لا تؤمن

وثانیاً : هذه الثمرة صحیحة بناءً علی قبول کون المتنجّس منجّساً، وإلاّ لما کان التلاقی مع الجسم المتنجّس موجباً للنجاسة للملاقی أصلاً، سواء کان الجسم متنجّساً أم لا . فکیف کان فالمسألة لا یخلو عن ثمرة فقهیّة فی الجملة .

فالحقّ مع المشهور، من طهارة سؤر الجلاّل، وآکل الجیف مطلقاً، إذا خلا موضع التلاقی عن عین النجاسة والمتنجّس، وکان سؤرهما مکروهاً لا نجساً وحراماً، کما عن بعض.

ص:545

والحائض التی لا تؤمن(1)

(1) ولا یخفی علیک أنّ الشیخ فی «المبسوط» والسیّد المرتضی کما فی «المصباح» حکما بکراهة سؤرها مطلقاً، من دون تقیید، خلافاً للمشهور، حیث حکموا مقیّداً ، تارةً : بما فی المتن کما هو الموجود فی الأخبار، وجعله فی «المدارک» و«التنقیح» أولی ممّا هو مذکور فی الکلمات .

وأُخری بقید المتّهمة، لأنّ غیر المأمونة قد تجتمع مع التهمة ، واُخری مع المجهولة .

وإنْ أورد علیهما فی «طهارة» الشیخ الأعظم، و«الجواهر» و«مصباح الفقیه» و«مصباح الهدی» بأنّ المتبادر عرفاً من غیر مأمونة هو المتّهمة، وإن کان بحسب القاعدة موافقاً لما علیه «المدارک» .

ولکن الإنصاف أن یقال : إن ذهبنا إلی لزوم الجمود علی ما فی الأخبار، فلابدّ أن یجعل الموضوع فی عدم الکراهة أو شدّتهما _ علی ما سیأتی _ معلّقاً علی أمر وجودی، وهو کونها مأمونة _ کما فی صحیح عیص _ أو إذا کانت تغسل یدیها، بأن تکون عبارة أُخری عن المأمونة _ کما فی خبر رفاعة _ فلازم ذلک وجود الکراهة أو شدّتها، إذا لم تتحقّق هذا العنوان الوجودی، فیساعد مع إحراز عدمه، أو لم تکن الحال مکشوفة ، فحینئذٍ ما اتّخذه المصنّف قدس سره فی المتن بالفعل المنفی، لا یخلو عن مسامحة .

وإن بنینا علی ما هو المتسامح عند العرف، من استعمال کلّ من المتّهمة وغیر المأمونة مکان الآخر، ولا عدم اعمال الدقّة فی مثل تلک العنوانین، لاسیّما فی مثل هذین الأمرین _ أی الکراهة والاستحباب _ حیث کان طبعهما علی الخفّة والتساهل، کما یشهد علی ذلک أدلّة التسامح والسنن ، فلا یبعد أن یکون الحقّ مع الشیخ، ومن سلک مسلکه، فیرجع الکلام إلی أنّ المکروه أو شدّته کان لمن

ص:546

ینسب إلی الاتّهام من الحائض وغیرها، کما یناسب ذلک مع الاعتبار، بل مع الأخبار الواردة لاستحباب التنزّه عمّن لا یتنزّه، الواقعة فی أخبار (باب الأطعمة والأشربة) .

وأمّا بیان موضوع الکراهة فی الحائض، بالنظر إلی الأخبار من الکراهة المطلقة _ کما علیه الشیخ الطوسی والسیّد فی «المصباح» _ أو المقیّدة _ کما علیه المشهور بأن لا یکون فی غیر المتّهمة _ أو الکراهة المطلقة فی الحائض وشدّتها فی المتّهمة _ کما علیه جمع من المتأخّرین، کما عن الحکیم فی «مستمسکه» والآملی فی «مصباحه» والخوئی فی «تنقیحه» وغیرهم ، وهذا هو الأقوی بحسب مقتضی الجمع بین الأخبار _ فنقول: فی عدد من الروایات قد أطلق فیها الکراهة، المستفاد منها ذلک بواسطة النهی عن التوضّی بسؤرها، کما فی خبر عنبسة عن أبی عبداللّه علیه السلام : «قال : اشرب من سؤر الحائض ولا تتوض منه»(1) .

وصحیح حسین بن أبی الع ء: «قال : سألت أبا عبداللّه علیه السلام عن الحائض یشرب من سؤرها . قال : نعم ولا تتوض منه»(2) .

وصحیح ابن أبی یعفور: «قال : سألت أبا عبداللّه علیه السلام أیتوضّأ الرجل من فضل المرأة ؟ قال : إذا کانت تعرف الوضوء، ولا تتوضّأ من سؤر الحائض»(3) .

والمراد من الوضوء، هو الاستنجاء (بفتح الواو) لا الوَضوء الإصطلاحی، لعدم ارتباط عرفانه بالمقصود، کما علیه «الوافی» والشیخ الأعظم ، بل یمکن أن یکون


1- وسائل الشیعة: الباب 1، الاسئار، الحدیث 8.
2- وسائل الشیعة: الباب 2، الاسئار، الحدیث 8
3- وسائل الشیعة: الباب 3، الاسئار، الحدیث 8

ص:547

المراد هو الوضوء المعروف، فکأنّ المراد من عرفانه کنایة عن کونها متعبّدة بالشرع، فتعرف الوضوء، وتراعی النجاسة والطهارة، فلا بأس حینئذٍ بسؤرها .

فعلیه، حینئذٍ یکون الخبر کنایة عن المأمونیّة، إلاّ أنّها تثبت فی مطلق المرأة، فیناسب مع أخبار إثبات الکراهة لمطلق المتّهم فی الجملة، وبالنسبة إلی الحائض بالخصوص یعدّ من الأخبار المطلقة ، کما لا یخفی .

وخبر علیّ بن جعفر فی کتابه عن أخیه موسی بن جعفر علیه السلام : «قال : سألته عن الحائض؟ قال : تشرب من سؤرها، ولا تتوضّأ منه» (1).

وخبر عنبسة بن مصعب عن أبی عبداللّه علیه السلام : «قال : سؤر الحائض تشرب منه ولا توضّأ»(2) .

ولا یبعد أن یکون هذا متّحداً مع الخبر الأوّل، غایته أنّه منقول بطریقین عن صفوان بن یحیی عن منصور بن حازم عن عنبسة .

وخبر أبی بصیر عن أبی عبداللّه علیه السلام : «قال : سألته، هل یتوضّأ من فضل وضوء الحائض ؟ قال : لا»(3) .

وخبر أبی هلال قال : «قال أبو عبداللّه علیه السلام : المرأة الطامث أشربُ من فضل شرابها، ولا أحبّ أن أتوضّأ منه»(4) .

هذه الأخبار المطلقة، حیث کان أکثرها صحیحاً وبعضها الآخر معتبراً فی الجملة یوجب الظنّ القویّ للفقیه، بل الاطمئنان علی وجوب الکراهة المطلقة، خصوصاً مع ملاحظة ظهور النهی فی الحرمة، لاسیّما لو لاحظنا خبر أبی بصیر


1- وسائل الشیعة: الباب 4، الاسئار، الحدیث 8
2- وسائل الشیعة: الباب 6، الاسئار، الحدیث 8
3- وسائل الشیعة: الباب 7، الاسئار، الحدیث 8
4- وسائل الشیعة: الباب 8، الاسئار، الحدیث 8

ص:548

حیث أعاد السؤال عن التوضی بسؤرها بقوله: لا .

ولذلک أوهم کلام الصدوق فی «المقنع» من ذکر متن الخبر ب _ : تتوضّأ، وهکذا الشیخ فی «التهذیب» و«الاستبصار» ب _ : لا یجوز إلی الحرمة .

إلاّ أنّ الاتّفاق قائم علی الکراهة، کما لا یبعد تأییده بما فی خبر أبی هلال بقوله علیه السلام : «لا أحبّ أن أتوضّأ منه » الظاهر فی کون النهی فی الأخبار محمولاً علی الکراهة لا الحرمة. فمع ذلک کلّه کان بعض الأخبار وارداً علی نحو التقیید . مثل خبر علیّ بن یقطین عن أبی الحسن علیه السلام : «فی الرجل یتوضّأ بفضل الحائض؟ قال : إذا کانت مأمونة فلا بأس»(1) .

وخبر رفاعة منها عن أبی عبداللّه علیه السلام : «قال : إنّ سؤر الحائض لا بأس أن تتوضّا منه، إذا کانت تغسل یدیها»(2) بأن کان المراد منه هو المأمونیة وأنّه کنایة عنها .

وصحیح عیص بن القاسم: «قال : سألت أبا عبداللّه علیه السلام عن سؤر الحائض؟ فقال : لا توضّأ منه، وتوضّأ من سؤر الجنب إذا کانت مأمونة ثمّ تغسل یدیها قبل أن تدخلها الإناء وقد کان رسول اللّه صلی الله علیه و آله یغتسل هو وعائشة فی إناء واحد، ویغتسلان جمیعاً»(3) .

هذا بحسب نقل الکلینی من النهی عن التوضّی بسؤر الحائض، خلافاً للشیخ الطوسی فی نسخة «التهذیب» و«الاستبصار» من عدم ذکر کلمة (لا)، فیکون أمراً للتفصی عن سؤرها، فیکون الخبر بناءً علی نقل الکلینی بالنهی، ورجوع القید بخصوص الحائض فقط دون الجنب، لإفراد فعل کانت وتأنیثها وتأنیث


1- وسائل الشیعة: الباب 5، الاسئار، الحدیث 8.
2- وسائل الشیعة: الباب 9، الاسئار، الحدیث 8.
3- وسائل الشیعة: الباب 1، الاسئار، الحدیث 7.

ص:549

صیغة المفعول بقوله : مأمونة ، لاسیّما مع قرینة ذیلها، بقوله : «ثمّ تغسل یدیها» الراجع إلی الحائض لا الجنب، کما یساعده الاعتبار تلوث یدها حین تبدیل القطنة، فیشهد ذلک کون المراد من السؤر هاهنا غیر ما هو المصطلح من فضل الماء، بل المراد هو الماء الملاقی جسدها، بقرینة ذکر غُسل عائشة مع رسول اللّه صلی الله علیه و آله من إناء واحد .

فعلی ما ذکرنا من التوجیهات علی نسخة «الکافی»، تکون النتیجة هی النتیجة أنّ التوضّی من سؤر الحائض منهیّ عنه، ولو کانت مأمونة أیضاً وافادة النهی مع عدم الائتمان یکون بطریق أولی .

إلاّ أنّ ما ذکرنا لا یساعد مع ذکر غُسل رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم مع عائشة، مع أنّ اطلاقه یشمل کون غُسل عائشة کان للحیض ، وإن کان لا یبعد ذکر الاقتران کون المراد من غسلهما هو الجنابة ، فحینئذٍ یناسب ذلک ذکره مع الجنابة، التی أجاز الوضوء من سؤره، الشامل بإطلاقه للرجل والمرأة .

إلاّ أنّ هذا الاحتمال وإن کان حسناً فی نفسه، إلاّ أنّه لا یدفع الإطلاق الشامل لغسل الحیض أیضاً .

هذا کلّه إن جعلنا الجُنب مطلقاً یشمل الرجل أیضاً .

ولکنّ الانصاف یقتضی جعل الجنب هنا للمرأة فقط لا الرجل، بقرینة وحدة السیاق مع سؤر الحائض، ومضافاً إلی إمکان رجوع فعل (کانت) إلیه بتأنیثها، فیکون معنی الخبر هکذا : لا تتوضّأ من سؤر الحایض مطلقاً، من دون تقیید، بخلاف المرأة المجنبة حیث یجوز التوضّی من سؤرها إذا کانت مأمونة، ثمّ استشهد لذلک بفعل رسول اللّه صلی الله علیه و آله وعائشة للجنابة لا لحیضها، فیکون الخبر حینئذٍ من الأخبار المطلقة الدالة علی النهی فی سؤر الحائض لا المقیّدة، کما توهّمه بعض ،فحینئذٍ یحکم بتقدّم نقل «الکافی»علی«التهذیب» و«الاستبصار»،

ص:550

لأنّ الکلینی یعدّ أضبط منهما ، أوّلاً .

وثانیاً : من دوران الأمر بین احتمال النقیصة أو الزیادة، تکون أصالة عدم الزیادة مقدّمة علی اصالة عدم النقیصة، لأنّ کثیراً ما یتّفق الخطأ فی النقیصة، ویبعد وقوع الخطأ بالزیادة، کما لا یخفی .

مضافاً إلی استبعاد الأمر بالتوضّی من سؤر الحائض، علی نسخة الشیخ، من دون تقیید بالمأمونیة، وإن کان الأمر هنا فی مقام توهّم الحظر، المستفاد منه الجواز، أی یجوز التوضّی منه من دون تقیید، لأنّ ثبوت الفعل یوجب رجوعه إلی خصوص الجنب ، ولکن لا یبعد إرجاع القید إلی کلّ من الحائض والجنب، بأن یکون الضمیر الموجود فی الفعل راجعاً إلی المرأة بجنبها الشاملة لکلا فردیها، أی إذا کانت المرأة مأمونة، وإن کان هذا الاحتمال لا یخلو عن بُعد، بحسب ما هو المتعارف من القواعد الأدبیّة .

وملاحظة هذه الإشکالات، یوجب الحکم بتقدیم ما هو المنقول فی «الکافی»، والحکم بالکراهة المطلقة لسؤر الحائض، سواء کانت مأمونة أو لا .

غایة الأمر یشتدّ کراهتها فی ما إذا کانت غیر مأمونة، لوجود الملاکین من الکراهة من الحیض وعدم الائتمان ، کما هو الأقرب، مع وجود الأخبار الکثیرة المطلقة الآبیة باستفاضتها وصحّة بعضها عن التقیید بخصوص المأمونیة .

کما یقرّب هذا الاحتمال أیضاً إمکان استعمال شبه التعلیل بالتنصیص، بأنّ احدی الملاکات فی الکراهة عدم المأمونیّة، أی کون الشخص متّهماً بعدم المبالاة، سواء کان هما حائضاً أو جنباً، کما منصوصین، أو غیرهما من سائر أفراد المکلّفین وغیرهم .

کما یؤیّد ذلک الأخبار الواردة فی استحباب الابتعاد عمّن لا یتنزّه فی باب الأطعمة والأشربة، لاحظ عن ذلک کتب الأحادیث.

ص:551

فثبت وجه إلحاق النفساء والمستحاضة إلیهما بما قد عرفت ، بقی هنا ما یظهر منه عدم الکراهة والبأس فی المأمونة، من المفهوم فی خبر علیّ بن یقطین، بقوله : «إذا کانت مأمونة فلا بأس» ، بکون الکراهة مختصّة لغیر المأمونة.

وهکذا صحیح رفاعة مِنْ نفی البأس إذا تغسل یدیها، أی لا کراهة حینئذٍ من التوضّی بمائها .

امّا الأوّل بضعف سنده، لأنّ طریق الشیخ إلی علیّ بن الحسن بن فضّال یکون بواسطة علیّ بن محمّد بن الزبیر، وهو لم یوثّقه أصحاب الرجال، فلا یقاوم صحیح عیص وغیره کما عرفت .

وأمّا الثانی وإن کان سنده صحیحاً ومعتبراً، إلاّ أنّه لا تنافی بین الحکم بالکراهة الحقیقیّة المستفاد من «لا أحبّ» الموجود فی خبر أبی هلال، مع عدم البأس فیه الموجود فی خبر رفاعة.

هذا فضلاً عن أنّ «تغسل یدیها» کنایة عن المأمونیّة لا أضیق منه، کما لا یبعد أن یکون کذلک، واللّه العالم بحقیقة الأمر .

تذنیبٌ

هل تشمل الکراهة الوضوء والغسل، بل سائر الاستعمالات، ولو لم یکن عبادیّاً أم لا ؟

فمع ملاحظة إلی مفاد الأخبار لا یکون حکم الکراهة إلاّ فی خصوص الوضوء، فشمولها لغیره مشکلٌ .

نعم ، یمکن دخول الغُسل فی الحکم، وکونه کالوضوء علی احتمال فی صحیح عیص، هو أن یرجع فعل «إذا کانت» إلی جنس المرأة، الشاملة للحائض والجنب، فکان عمل رسول اللّه مع عائشة فی الاغتسال من جهة مأمونیّتها مثلاً، فیفهم من مفهوم من الجملة الشرطیة أنّه إذا لم تکن مأمونة ففیها بأس، حتّی من

ص:552

حیث الغسل أیضاً ، مضافاً إلی استقرابه بکونه عملاً عبادیّاً، کالوضوء أو أهمّ منه ، مضافاً إلی استحباب التنزّه عمّن لا یتنزّه الشامل لمثله .

نعم ، إثبات الکراهة مطلقاً، حتّی للمأمونة مشکل، خصوصاً لغیر الغُسل من سائر الاستعمالات، مع صراحة الأخبار فی الجواز فی مثل الشرب ، إلاّ عن الوحید البهبهانی حیث ادّعی الاتّفاق علی عدم الانحصار فی الحکم بالکراهة لخصوص الوضوء .

فنقول حینئذٍ إثبات مطلق الکراهة لسؤرها، لجمیع الاستعمالات _ غیر الوضوء، من غیر الإجماع: مع وجود دلیل التسامح فی الأدلّة الشاملة للکراهة _ مشکل جدّاً لعدم دلالة دلیل ظاهر علیه کما لا یخفی .

فالأقوی عندنا ثبوت الکراهة لسئور الحائض مطلقاً، وفی غیر المأمونة منها أشدّ، کما ثبتت الکراهة لغیرها أیضاً من النفساء والمستحاضة، بل وفی کلّ متّهم فی الوضوء قطعاً، وفی غیره علی إشکال.

***

هذا تمام الکلام فی الجزء الأول . ونحمد اللّه علی ما وفّقنا لإتمامه؛ ونسأله تعالی التوفیق فی فهم حقیقة الأحکام الشرعیّة الإلهیّة ، وأن یهدینا إلی سبیل الحقّ والصواب ، بجاه محمّد وآله الأنجاب ، علیه وعلیهم صلوات اللّه إلی یوم الحساب ، إنّه سمیعٌ مجیب .

ص:553

الفهرست

الفهرست

تعریف الطهارة••• 6

کیفیّتة تقابل الطهارة و القذارة••• 10

تحقیق کلام المحّقق فی تعریف الطهارة••• 12

انقسام کلّ من الطهارات الثلاث الی واجب و ندب••• 15

الموضوءات المندوبة••• 19

نیّة الغایات المترتّبة علی الوضوء••• 22

الاستحباب النفسی للوضوء و عدمه••• 30

وجوب الغُسل نفسی أم غیری؟••• 36

وجوب غسل الجنابة نفسی أم غیری؟••• 37

وجوب غسل مسّ المیّت نفسی أم غیری؟••• 49

بقیّة الأغسال الواجبة••• 50

کفایة غسل مسّ المیّت عن الوضوء و عدمها••• 56

ما یجب له غسل مسّ المیّت••• 62

وجوب غسل الجنابة قبل الفجر من یوم یجب صومه••• 65

کأدائه قضاء شهر رمضان فی مسألة البقاء علی الجنابة••• 76

فی الجواب عمّایرد علی وجوب الغسل قبل الفجر••• 78

التیمّم الواجب للغیر••• 82

کون التیمّم بدلا عن الطهارة المائیّة••• 83

ص:554

فروع تتعلّق بوجوب الطهارة بالنذر و شبهه••• 87

تعریف الماء المطلق و المضاف••• 91

مطهّریة الماء••• 94

الماء طاهر و مطّهر••• 94

دلالة الکتاب علی أنّ الماء طاهر و مطهّر••• 96

دلالة السنّة علی أنّ الماء طاهر و مطهّر••• 97

الفرق بین الحدث و الخبث••• 98

تطهیر الماء للمایعات المضافة و عدمه••• 100

تقسیم الماء باعتبار وقوع النجاسة فیه••• 102

أقسام المیاه وأحکامه••• 103

فی تعریف الماء الجاری••• 103

عاصمیّة الماء الجاری و ما هو بمنزلته••• 106

فی تغیّر الماء الجاری و ما هو بمنزلته بمجاورة النجس••• 127

فیما لوانقطع الماء الجاری بعضه عن بعض بسبب التغیّر بالنجس••• 131

کیفیّة تطهیر الماء الجاری و ما هو بمنزلته بعد زوال التغیّر••• 132

فی عاصمیّة ماء الحمّام اذا کان له مادّه••• 135

فی تغیّر الماء بغیر النجس••• 142

فی انفعال الماء القلیل بملاقاة النجس و المتنجّس••• 143

فیما استدلّ به علی عدم انفعال الماء القلیل••• 153

تفصیل المحقّق الخوئی (ره)فی انفعال الماء القلیل••• 170

فی تفصیل السیّد المرتضی (ره) فی انفعال الماء القلیل••• 175

فی ما یعتبر فی تطهیر الماء المتنجّس••• 178

ص:555

ما یعتبر فی تطهیر الماء المتنجّس••• 181

فی تتمیم الماء المتنجّس کرّا••• 185

حکم الماء المشکوک کرّیّتة••• 191

ماء الکرّ وأحکامه••• 192

اعتبار تساوی السطح فی عاصمیّة الکرّیة••• 198

کیفیّة تطهیر الکرّ المتغیّر بالنجّس••• 204

مقدار الکرّ بحسب الموازین••• 209

مقدار الکرّ بحسب المساحة••• 216

ماء البئر وأحکامه••• 232

تعریف ماء البئر و حکمه••• 232

ما استدلّ به علی انفعال ماء البئر••• 234

استحباب النزح عند ملاقاة البئر للنجاسة••• 250

کیفیّة تطهیر البئر••• 252

فروعات نزح البئر••• 256

حکم استعمال الماء المتنجّس••• 260

فیالانائین المشتبهین بالنجاسة••• 261

ملاقی أحد الانائین المشتبهین••• 284

لو اشتبه أحد الانائین المشتبهین مع اناء ثالث••• 291

النهی المستفاد من الأمر بالاراقة تحریمی ذاتی أو تشریعی؟••• 292

ملاک المحصور و غیر المحصور••• 294

تعریف الماء المضاف و أقسامه••• 296

الماء المضاف وأحکامه••• 297

ص:556

الشک فیصدق الاطلاق و الاضافة••• 297

حکم الماء المضاف••• 299

عدم رافعیّة الماء المضاف للحدث••• 300

ما یمکن أن یستدلّ به لجواز التطهیر بالمضاف••• 306

الجواب عمّا یمکن أن یستدلّ به لجواز التطهیر بالمضاف••• 308

مّایستدلّ به لعدم جواز التطهیر بالمضاف••• 311

الجواب عن تفصیل العمّانی فیالماء المضاف••• 314

انفعال المضاف بملاقاة النجس••• 315

فیانفعال المضاف بملاقاة النجس••• 316

انفعال المضاف بملاقاة النجس••• 318

تطهیر المضاف المتنجّس••• 320

تطهیر غیر الماء من المایعات المتنجّسة••• 329

حکم الماء المشّمس••• 331

الفروع المتعلّقة بالماء المشمّس••• 332

حکم الماء المسخّن بالنار••• 340

حکم الماء المسخّن بالنار لسائر الاستعمالات••• 342

حکم الاستشفاء بالعیون الحارّة و استعمالها••• 343

حکم غسالة الخبث••• 345

ما یدلّ علی نجاسة الغسالة مطلقا••• 346

الجواب عمّا یتوهّم معارضته للقول بنجاسة الغسالة••• 358

حکم ماء الاستنجاء••• 363

حکم استعمال الغسالة علی القول بطهارتها••• 372

ص:557

حکم ملاقی الغسالة علی القول بنجاستها••• 373

حکم ماء الاستنجاء••• 377

الماء المستعمل لتطهیر مخرج البول••• 387

استعمال ماء الاستنجاء فیرفع الحدث••• 391

الغسالة المشکوکة أنهّا للاستنجاء أولسائر النجاسات••• 395

حکم الماء المستعمل فیالوضوء••• 400

طهارة الماء المستعمل فیالحدث الأکبر••• 409

مطّهریة الماء المستعمل فیالحدث الاکبر عن الخبث••• 410

الخلاف فیه الوضوء بالماء المستعمل فیالحدث الأکبر••• 412

الاغتسال بالماء المستعمل فیالحدث الأکبر••• 425

طهارة الماء المستعمل فیالوضوء••• 459

الماء المستعمل فیالوضوء الرافع للحدث••• 463

مطهّریّة الماء المستعمل فیالحدث الأکبر عن الخبث••• 468

استعمال الماء المستعمل فیالحدث الأکبر فیالوضوء••• 472

الاغتسال بالماء المستعمل فیالحدث الأکبر••• 482

تنبیهات استعمال الماء المستعمل فی الغسل••• 509

الاسئار النجسّة والمحرّمة••• 517

الاسئار الطاهرة والمکروهة••• 521

سؤر الجلاّل و آکل الجیف••• 529

سؤر الحائض التی لا تؤمن••• 544

المجلد 2

اشارة

ص: 1

تألیف

آیة اللّه العظمی الحاج السیّد محمّد علی العلوی الگرگانی

الجزء الثانی

ص:2

ص:3

بسم الله الرحمن الرحیم

ص:4

ص:5

حکم سؤر بعض الحیوانات

اشارة

قال رحمه الله : وسؤر البغال والحمیر والفأرة والحیّة (1).

(1) والعبارة تفید کراهة سؤر البغال والحمیر، حیث کانا مکروهی اللحم، من ذکر غیر الخیل معهما، بل والجاموس أیضاً، علی ما فی «الجواهر» من کراهة لحمه، فیردّ علی المصنّف قدس سره أنّه إن أراد بیان ما کان مکروه اللحم، فلِمَ لم یذکرهما ، وإن کان المقصود خصوصهما فقط، فلا یکون بخصوصهما دلیل .

فی سؤر البغال و الحمیر

اللّهمّ إلاّ أن یکون من باب المثال لمکروه اللحم ، فحینئذٍ لابدّ أن یثبت دلیل علی ثبوت الکراهة لسؤر مطلق مکروه اللحم ، فعلیه یمکن أن یکون وجه الحصر علی الأهلیّة _ کما عن «المدارک» والمیسی والکرکی والآملی والهمدانی وغیرهم _ کون لحم الوحشیّة غیر مکروه، کما لا یبعد أن یکون کذلک، فلابدّ من مراجعة ما یدلّ علیه فی مظانّه من البحث ، بل قد ادّعی الاتّفاق علی عدم إلحاق الوحشیّة، کما عن الآملی .

وکیف کان، فلابدّ من مراجعة الأدلّة لإثبات کراهة سؤر أهلیّتها، لعلّه المتبادر عند الاطلاق، فکان هو المقصود من إطلاق المصنّف، لا إثبات الکراهة حتّی للوحشیّة، کما نسب الشیخ الأعظم قدس سره ذلک إلی المصنّف .

هذا، وقد استدلّ علی الکراهة بعدّة أُمور .

تارةً : بکراهة لحمهما، فیکون لعابهما مکروهاً بالتبع، اذا عند شربهما یوجب وقوع لعابهما فی الماء، فیصیر مکروهاً .

وفیه: کبرویّاً یعدّ هذا من أوهن الوجوه دلیلاً للمنع، أی کون اللعاب والسؤر مکروهین بتبعیّة کراهة اللحم، أوّلاً من جهة عدم معلومیّة وقوع اللعاب فی الماء، وثانیاً صیرورته مستهلکاً فیه، فلا یشمله دلیل الکراهة، وثالثاً ، کون الدلیل أخصّ من المدّعی، لصدق السؤر المدّعی کراهته لما یباشر جسدهما دون الفمّ،

ص:6

مع عدم شمول الدلیل له رابعاً ، فلا یثبت به الکراهة .

واُخری: بالأخبار الدالّة علی ذلک مفهوماً أو منطوقاً، ومثل مضمرة سماعة وموثقته: «قال : سألته : هل یشرب سؤر شیء من الدواب ویتوضّأ منه ؟ قال : أمّا الإبل والبقر والغنم فلا بأس»(1) .

حیث یدلّ بالمفهوم علی وجود البأس فی غیر الثلاثة من الدوابّ، بلا فرق بین کونها من مأکول اللحم کالمعز، أو غیر المأکول إن صدق علیه الدوابّ، فیما لو جعل معناها اللغوی مراداً لا الاصطلاحی، وإلاّ لأشکل شموله لغیر المأکول من المحرّمات فی أکله لا ما کان مکروهاً .

کما أنّ المراد من البأس فی غیر الثلاثة هو الکراهة، بمقتضی الجمع بین هذا وبین ما یدلّ علی عدم البأس، إذا کان مأکولاً ، کما فی صحیح عبداللّه بن سنان: «عن أبی عبداللّه علیه السلام قال : لا بأس أن تتوضّأ ممّا شرب منه ما یؤکل لحمه»(2) .

بناءً علی شمول ذلک لما کان مأکولاً بالذات، ولو کان مکروهاً، لا ما یکون کذلک بالمتعارف.

ومثله فی الدلالة خبر عمّار : «وکلّ ما یؤکل لحمه فلیتوضّأ منه ولیشربه»(3) .

حیث أنّه یصدق علی الثلاثة _ البغل والحمار والخیل _ أنّها ممّا یؤکل لحمها لحلّیة أکل لحمها ولو کراهةً .

واحتمال أن یکون المراد من المأکول ما هو المعروف بین الناس من الإبل والغنم والبقر بعید جدّاً، لأنّه فی مقام بیان الأحکام، فلو کان المقصود هو ما ذُکر، لابدّ من بیان قرینة دالّة علیه، حتّی یخرج عن الإجمال والإبهام ، مع أنّه لو کان


1- وسائل الشیعة: الباب 5، الاسئار، الحدیث 3.
2- وسائل الشیعة: الباب 5، الاسئار، الحدیث 1.
3- وسائل الشیعة: الباب 4، الاسئار، الحدیث 4.

ص:7

المراد هو المتعارف، للزم أن لا یشمل الجاموس، لأنّه قیل _ کما فی «الجواهر» _ بکراهة لحمه، مع أنّ شمول الحدیثین له واضح، کما لا یخفی.

فیؤیّد ما ذکرنا، فیدخل مثل ما نحن فیه أیضاً فی مضمون الخبرین، یعنی کون الثلاثة ممّا یؤکل لحمهما .

ولکن الإنصاف _ مع ملاحظة الأخبار الواردة فی بول الثلاثة، من الحکم بالغُسل لما أصابه _ کونها معدوداً فی غیر المأکول لورود خبرٍ عن زرارة و هو حدیث حسن لمقام إبراهیم بن هاشم وفیه : لا تغسل ثوبک من بول شیء یؤکل لحمه» .(1)

یفید بأنّ بول المأکول لا یحتاج إلی الغَسل لو أصاب شیئاً .

فمع ذلک قد حکم بالغَسل عن بولها فی خبر محمّد بن مسلم: «قال : وسألته (أی عن أبی عبداللّه علیه السلام ) عن أبوال الدواب والبغال والحمیر؟ فقال : اغسله، فإن لم تعلم مکانه فاغسل الثوب کلّه، فإن شککت فانضحه»(2) .

نفهم أنّ المراد بالمأکول فی خبر زرارة هو المتعارف أی الأنعام الثلاثة، لا ما کان مکروهاً، کما یشهد لذلک ویوضّحه خبر زرارة أیضاً، عن أحدهما علیهماالسلام : «فی أبوال الدواب یصیب الثوب، فکرهه. فقلت : ألیس لحومها حلالاً ؟ فقال : بلی ، ولکن لیس ممّا جعله اللّه للأکل»(3).

حیث قد سئل زرارة _ الذی کان فقیهاً _ ذلک الإشکال فأجابه علیه السلام بکون المراد من مأکول اللحم هو الذی خلقه اللّه للأکل، لا ما یکون حلالاً ولو کراهة .

وبناءً علیه یحمل إطلاقات سائر الأخبار _ ما لم یدلّ علی کون المراد ما هو


1- وسائل الشیعة: الباب 9، النجاسات، الحدیث 4.
2- وسائل الشیعة: الباب 9، النجاسات، الحدیث 6.
3- وسائل الشیعة: الباب 9،النجاسات، الحدیث 7.

ص:8

مأکولاً بالذات _ علیه ، فلا یبعد أن تثبت الکراهة من مفهوم خبری عبد اللّه بن سنان وعمّار أیضاً، حیث غلّق نفی البأس فیهما علی ما یکون مأکولاً أی متعارفاً فی الأکل، والثلاثة المفروضة لیس منه، فیکون مکروهاً .

هذا کلّه فی دلالة الأخبار بالمفهوم .

وأمّا دلالته بالمنطوق علی الکراهة، فیمکن الاستدلال بعد التوضیح الذی مرّ ذکره فی المأکول وغیره من مرسل الوشاء، عمّن ذکره عن أبی عبداللّه علیه السلام : «أنّه کان یکره سؤر کلّ شیء لا یؤکل لحمه»(1) .

فتکون الثلاثة داخلة فیه، لأنّها غیر مأکول بما ذکرناه .

فحینئذٍ یبقی صراحة بعض الأخبار، لنفی البأس فی سؤر هذه الثلاثة مث صحیح العبّاس: «قال : سألت أبا عبداللّه علیه السلام عن فضل الهرّة والشاة والبقرة والإبل والحمار والخیل والبغار والوحش والسباع، فلم أترک شیئاً إلاّ وقد سألته عنه؟

فقال : لا بأس ، حتّی انتهیت إلی الکلب، فقال : رجس نجس لا تتوضّأ بفضله»(2) ، الحدیث .

فی سؤر الفأرة

ومثله فی الدلالة صحیح معاویة بن شریح(3)، فیعارض تلک الأخبار السابقة لکنّه مندفع بإمکان الجمع، بکون المراد من نفی البأس هو نفی الحرمة لا الکراهة، بقرینة ذکر الکلب فیهما، حیثُ یفهم کون ذلک فی قبال سؤر الکلب الذی کان نجساً وحراماً ، فإذا ثبتت الکراهة بما ذکرناه من الأدلّة، لا تصل النوبة إلی إثباتهابدلیل آخر، مثل الشهرة المتحقّقة، الموجب لثبوت الکراهة بواسطة التسامح فی أدلّة السنن، کما أشار إلیه المحقّق الآملی، وإن کان هذا لا یخلو عن تأیید للحکم أیضاً.


1- وسائل الشیعة: الباب 5، النجاسات، الحدیث 2.
2- وسائل الشیعة: الباب 1، النجاسات، الحدیث 4.
3- وسائل الشیعة: الباب 1، النجاسات، الحدیث 6.

ص:9

نعم إثبات الکراهة لسؤر الجاموس _ لو سلّمنا کراهة لحمه _ مشکل لأنّه یعدّ نوعاً من البقر، فلا یبعد شمول الأدلّة الدالّة علی نفی البأس کراهةً عن مثل البقر والغنم لمثل الجاموس أیضاً، وإن کان الاجتناب عن سؤره أیضاً لا یخلو عن حُسن، لأجل ما عرفت من التوهّم والإشکال، واللّه عالم بحقیقة الحال .

فظهر ممّا حقّقناه، عدم خلوّ کلام المصنّف، فی انحصار ذکر سؤر المکروه علی البغل والحمیر، من دون ذکر الفَرَس _ عن مسامحة، لعدم وجود وجه فی ترکه، ولذلک أضاف الخیل إلیهما صاحب «الجواهر» قدس سره .

کما أنّ تعمیم الحکم لکلّ دابّة کانت غیر مأکول اللحم _ أی متعارفاً فی الأکل _ لا یخلو عن وجه، إذا قلنا بوجود مثل هذه الدابة فلیتأمّل .

فالأقوی ثبوت الکراهة لسؤر الفرس والبغل والحمار لکراهة لحمها دون الجاموس ولو کان لحمه مکروهاً.

وأمّا حکم سؤر الفأرة: فقد ذهب المشهور من الفقهاء إلی الکراهة، خلافاً لظاهر «المقنعة» و«التهذیب» و«النهایة» و«المبسوط»، بل «الفقیه» أیضاً من وجوب غسل ما تلاقیه برطوبة، وإن کان کلامهم فی موضع آخر، خلاف ما ذکر فعلیک بالمراجعة، ولا داعی لذکره تفصیلاً .

فالأولی الرجوع إلی ما یقتضیه الأدلّة، وهو الکراهة، کما هو الأقوی بحسب مقتضی الأصل من استصحاب الحالة السابقة من الأحکام قبل صیرورته سؤراً، والبراءة عن احتمال الوجوب فی غَسل ما یلاقیه برطوبة ، من الأخبار علی ذلک صحیح الأعرج بناءً علی ما رواه الشیخ الطوسی، لا الکلینی حیث ذکر الکلب مع الفأرة.

قال : سألت أبا عبداللّه علیه السلام عن الفأرة یقع فی السمن والزیت، ثمّ یخرج منه حیّاً ؟

قال : لا بأس بأکله»(1) .


1- وسائل الشیعة: الباب 45، الأطعمة المحرّمة، الحدیث 2.

ص:10

حیث یدلّ علی عدم البأس بسؤره بالمعنی الأعمّ، الاصطلاحی الذی یدلّ علی فضل الماء الباقی فی شربها.

ومثله فی الدلالة صحیح علیّ بن جعفر فی حدیث: «وسألته عن فأرة وقعت فی حبّ دهن، وأُخرجت قبل أن تموت، أیبیعه من مسلم ؟ قال : نعم ویدهن منه»(1) .

فإنّ تجویزه للبیع والتدهین، یکون بلحاظ عدم البأس فیه، یعنی لا یجب الاجتناب عمّا لاقاه حیّاً .

وأمّا ثبوت الکراهة، لا یستفاد من الخبرین لو لم نقل بدلالة خبر الأوّل علی عدم الکراهة، ومثلهما خبر هارون بن حمزة(2).

وأوضح منهما فی الدلالة علی القصود خبر إسحاق بن عمّار.

عن أبی عبداللّه علیه السلام أنّ أبا جعفر علیه السلام کان یقول : لا بأس بسؤر الفأرة إذا شربت من الإناء، أن تشرب منه وتتوضّأ منه»(3) .

لاشتماله للسؤر بالمعنی الأخصّ .

ومثله فی ذلک خبر أبی البختری عن جعفر بن محمّد عن أبیه: «أنّ علیّاً علیه السلام قال : لا بأس بسؤر الفأرة أن تشرب منه ویتوضّأ»(4) .

هذا کلّه فی الأخبار الدالّة علی الجواز ونفی البأس عن سؤره بالأعمّ والأخصّ .

نعم قد یعارض ما ذکرنا عدّة أخبار أُخر، یدلّ علی البأس مثل خبر محمّد بن الحسین بن علی بإسناده عن شعیب بن واقد عن الحسین بن زید عن جعفر بن محمّد عن آبائه علیهم السلام : فی حدیث المناهی: «أنّ النبیّ صلی الله علیه و آله نهی عن أکل سؤر الفأرة»(5).


1- وسائل الشیعة: الباب 9، الاسئار، الحدیث 1.
2- وسائل الشیعة: الباب 4، الاسئار، الحدیث 9.
3- وسائل الشیعة: الباب 9، الاسئار، الحدیث 2.
4- وسائل الشیعة: الباب 9، الاسئار، الحدیث 8.
5- وسائل الشیعة: الباب 9، الاسئار، الحدیث 7.

ص:11

لکنّه مخدوش بضعف سنده من جهة عدم توثیق شعیب بن واقد فی الرجال، وذکره الصدوق فی مشیخة «من لا یحضره الفقیه» فی حدیث المناهی.

بل وهکذا لم یوثّق أحد الحسین بن زید بن علیّ بن الحسین، وإن کان یستفاد حُسنه ومدحه فی الجملة أنّ الصادق علیه السلام ربّاه، وزوّجه بنت الأقط، مع إمکان کون النهی تنزیهیّاً .

ومثله فی المعارضة صحیح علی بن جعفر عن أخیه موسی بن جعفر علیه السلام : «قال : سألته عن الفأرة والکلب إذا أکلا من الخبز أو شمّاه أیؤکل ؟

قال : یطرح ما شمّاه ویؤکل ما بقی»(1) .

فهذا وإن کان یفید الأمر بطرح ما شمّاه، ففی الأکل یکون بطریق أولی ، إلاّ أنّه مشتمل علی أمرین یوجب وهنه فیما هو المقصود : أوّلاً : من جهة اشتماله لصورة الاستشمام من الحکم بطرحه ، ممّا لم یقل به أحدٌ .

وثانیاً : جعل الفأرة مع الکلب الذی یعدّ نجس العین متّحداً فی الحکم ، إلاّ أن یراد من الکلب السباع .

هذا مع إمکان الإشکال فی صدق السؤر علی الخبز الباقی بعد أکلهما، لغلبة اطلاق السؤر علی الماء أو مطلق المایعات، فلا یشمل الجامد ، فمع ذلک کلّه لو أغمضنا عمّا ذکرنا، نقول بلزوم الحمل علی الکراهة بواسطة تلک الأخبار الدالّة علی الجواز، کما لا یخفی .

فإذا عرفت الجواب عن ذلک، تعرف الجواب عن خبر موثّق عمّار، عن أبی عبداللّه علیه السلام : «أنّه سُئل عن الکلب والفأرة أکلا عن الخبز وشبهه؟

قال : یطرح منه ویؤکل الباقی»(2) .

فی سؤر الحیّة


1- وسائل الشیعة: الباب 36، النجاسات، الحدیث 1.
2- وسائل الشیعة: الباب 36، النجاسات، الحدیث 3.

ص:12

وأمّا الأمر بالغسل لما یلاقیه الفأرة فی صحیح علیّ بن جعفر، عن أخیه موسی بن جعفر.

«قال : سألته عن الفأرة الرطبة قد وقعت فی الماء، فتمشی علی الثیاب ، أیصلّی فیها ؟ قال : اغسل ما رأیت من أثرها وما لم تره انضحه بالماء»(1) .

ولعلّه هو المدرک لمن عرفت کلامهم فی صدر المسألة ، فلابدّ أن یحمل الأمر علی الاستحباب، لأنّه مضافاً إلی اشتماله بالنضح فی صورة عدم معلومیّة أثره، _ حیث أنّه معلومٌ لا یوجب طهارته بعد علمه بوقوعه، لو کان الغَسل واجباً، خصوصاً مع کون المورد من أطراف الشبهة المحصورة _ مخالفٌ لفتوی الأصحاب، فیکون معرضاً عنه کما لا یخفی ، فصحّة الخبر موجب لزیادة سقوطه عن الاعتبار، لما ذکرنا بأنّ اعراض الأصحاب فی الفتوی عن الخبر المعتبر الذی کان موجوداً عندهم یوهنه ویوجب اطمئنان للفقیه علی إعراضهم، مع إمکان کون المراد من «الفأرة الرطبة قد وقعت فی الماء» هو الرطبة النجسة، فصار الماء القلیل نجساً، فأوجب نجاسة الثوب، فحکم بغسله.

لکنّه لا یخلو عن بُعد، وإن کان الحمل علیه أولی من الطرح رأساً، کما لایخفی .

وأمّا حکم سؤر الحیّة : والظاهر عدم الخلاف فی عدم المنع عن سؤره، کما فی «الجواهر» ، فحینئذٍ یکون الأقوال فی سؤرها ثلاثة : قول بالکراهة کما علیه المشهور . وقول بأفضلیة ترک الاستعمال، فیستفاد منه الاستحباب .

وقول بعدم الکراهة وعدم الأفضلیّة فی الترک، کما علیه «المدارک» صراحة ، وعن «المعتبر» و«المنتهی» ظهوراً .

والأقوی فی بادئ النظر هو الأوّل، بمقتضی الجمع بین صحیح علیّ بن جعفر عن أخیه موسی بن جعفر علیه السلام : «سألته عن الغطایة والحیّة والوزغ، یقع فی الماء


1- وسائل الشیعة: الباب 33، النجاسات، الحدیث 2.

ص:13

فلا یموت أیتوضّأ منه للصلاة ؟ فقال : لا بأس به»(1) .

من الحکم بعدم البأس .

وبین خبر أبی بصیر: «قال : سألت أبا عبداللّه علیه السلام عن حیّة دخلت حبّاً فیه ماء وخرجت منه. قال : إذا وجد ماء غیره فلیهرقه»(2) .

من الأمر بالإهراق لدی وجود ماء آخر، مع فرض حیاة الحیّة .

ولکنّ الإنصاف إثبات الکراهة فیها فی غایة الإشکال، لأنّه:

أوّلاً : کان الأمر بالإهراق مقیّداً بعدم وجود ماء آخر، فلا یشمل ما لو لم یکن کذلک .

مع أنّه لو کان منهیّاً عنه واقعاً، فلا فرق بین وجود ماء آخر أم لا ، إلاّ إذا کان فی مورد یجب الاستفادة منه للوضوء وغیره، فهو أمر آخر خارج عن الفرض .

وثانیاً : شمول عموم الأخبار الدالّة علی نفی البأس لما لا نفس سائلة له، مثل موثّق عمّار.

عن أبی عبداللّه علیه السلام قال : سُئل عن الخنفساء والذباب والجراد والنملة وما أشبه ذلک، یموت فی البئر والزیت وشبهه؟ قال : کلّ ما لیس له دم فلا بأس به»(3).

لما نحن فیه ، وإن أمکن أن یکون المراد من نفی البأس، عدم النجاسة کما هو المقصود من عدم الإفساد للماء الموجود، فی خبر حفص بن غیاث، عن جعفر بن محمّد علیه السلام : «لا یفسد الماء إلاّ ما کانت له نفس سائلة»(4) .

کما قد یؤیّده فرض صورة الموت لها ، إلاّ أنّ ذلک لا یوجب رفع الإطلاق لنفی البأس، حتّی یشمل عدم الکراهة .


1- وسائل الشیعة: الباب 33، النجاسات، الحدیث 1.
2- وسائل الشیعة: الباب 9، الاسئار، الحدیث 3.
3- وسائل الشیعة: الباب 20، النجاسات، الحدیث 1.
4- وسائل الشیعة: الباب 10، النجاسات، الحدیث 2.

ص:14

وما مات فیه الوزغ والعقرب، وینجُّسُ الماء بموت الحیوان ذی النفس السائلة دون ما لا نفس فیه (1).

وثالثاً : إمکان أن یکون الأمر بالإهراق إرشادیّاً، من جهة احتمال وجود السمّ فیالماء .

فمع وجود هذه الأُمور یکون الجزم بثبوت الکراهة مشکل، والتمسّک فی ذلک بالأخبار الواردة فیما لا یؤکل لحمه کما فی «الجواهر» ، لا یخلو من مسامحة، لانصرافها إلی ما یکون من شأنه مأکولاً بلحمه لولا النهی، لا ما یکون له لحماً أصلاً، فما ذهب إلیه «المدارک» لا یخلو عن قوّة، إلاّ أن یثبت الکراهة بالشهرة، منضمّاً إلی دلیل التسامح، فله فی الجملة وجه.

فلا فرق فیما ذکرنا بین کون الحیّة حیّاً _ کما هو المفروض فی خبر أبی بصیر، لفرض الخروج عن الماء، وصراحةً فی خبر علی بن جعفر _ أو میّتة لدلالة نفی البأس فی أخبار العامّة، لما لا نفس سائلة له علیه مع الموت أیضاً کما لایخفی.

وإن کانت الکراهة لو ثبتت فی الحیّ، ففی صورة الموت تکون ثبوتها بطریق أولی وأقرب إلی القبول ، فتأمّل .

والأقوی ثبوت الکراهة فی سؤر الفأرة الحیّة، وفی ثبوتها فی سؤر الحیّة فی غایة الإشکال.

(1) وأمّا حکم ما وقع فیه الوزغ والعقرب ، ففی «المقنعة» و«النهایة» بل وعن الصدوق منع استعماله ووجوب إهراقه، سواء کان حیّاً _ کما هو ظاهر الصدوق _ أو میّتاً _ کما عن الآخرین علی احتمال _ خلافاً للمشهور من الحکم بالکراهة مطلقاً، خلافاً للمصنّف من التقیید بصورة الموت .

والدلیل علی الکراهة، وجود الأصل بأقسامه علی عدم المنع، من الاستصحاب والبراءة فی نفس الماء وفیما یلاقیه .

ص:15

والأخبار الواردة فی ذلک مثل ما فی صحیح علی بن جعفر المتقدّم(1) حیث کان مشتملاً علی نفی البأس للوزغ أیضاً ، وفی العقرب تمسّکاً بخبر علیّ بن جعفر فی «قرب الاسناد» عن أخیه موسی بن جعفر علیه السلام : «قال : سألته عن العقرب والخنفساء وأشباههنّ، یموت العقرب فی الجرّة أو الدّن، یتوضّأ منه للصلاة ؟ قال : لا بأس به»(2) .

فی ماءٍ مات فیه الوزغ و العقرب

الشاملة علی نفی البأس فی العقرب بذلک، حیث یقتضی الجمع بینهما وبین ما یدلّ بالمنع فیه، مثل خبر هارون بن حمزة الغنوی فی خصوص الوزغ دون العقرب .

«عن أبی عبداللّه علیه السلام : قال : سألته عن الفأرة والعقرب وأشباه ذلک یقع فی الماء، فیخرج حیّاً، هل یشرب من ذلک الماء، ویتوضّأ به (منه) ؟ قال : یسکب منه ثلاث مرّات، وقلیله وکثیره بمنزلة واحدة ثمّ یشرب منه (ویتوضّأ منه) غیر الوزغ، فإنّه لا ینتفع بما یقع فیه»(3) .

هو الحمل علی الکراهة .

بل قد عرفت إمکان التمسّک بالأخبار الدالّة علی نفی البأس للحیوان الذی لیس له نفس سائلة، مثل خبر ابن مسکان.

«قال : قال أبو عبداللّه علیه السلام : کلّ شیء یسقط فی البئر، لیس له دمٌ مثل العقارب والخنافس وأشباه ذلک فلا بأس»(4) ، وغیر ذلک ممّا یشابهه، علی احتمال أن یکون المراد من نفی البأس هو المطلق لا خصوص عدم النجاسة، وإلاّ لا یکون مربوطاً بما نحن بصدده .


1- وسائل الشیعة: الباب 33، النجاسات، الحدیث 1.
2- وسائل الشیعة: الباب 9، الاسئار، الحدیث 1.
3- وسائل الشیعة: الباب 10، الاسئار، الحدیث 5.
4- وسائل الشیعة: الباب 10، الاسئار، الحدیث 3.

ص:16

بل قد یستشعر المنع علی احتمال فی الوزغ فقط من خبر عمّار: «قال : سُئل الصادق علیه السلام عن العظایة تقع فی اللبن؟ قال : یحرم ، وقال : إنّ فیها السمّ»(1) .

بناءً علی کون العظّایة نوعاً من الوزغ، لکن فی «مجمع البحرین» أنّه أکبر من الوزغ، فیکون خارجاً عن محلّ النزاع أوّلاً .

وعدم وجود سمّ فی الوزغ، فیکون المراد غیره، لعلّه کان عبارة عن الرُطیل، الذی فیه السَّم، فیکون الحکم بالحرمه بالنظر إلی سمّه فلا کلام فیه.

فلیس لنا فی الوزغ دلیلاً علی المنع ، إلاّ خبر هارون بن حمزة فضلاً عن صراحة نفی البأس فی العظایة أیضاً فی صحیح علیّ بن جعفر.

عن أخیه علیه السلام فی حدیث قال : «سألته عن العظایة والحیّة والوزغ یقع فی دهن، وأُخرجت قبل أن تموت فی الماء فلا یموت، أیتوضّأ منه للصلاة ؟ قال : لا بأس به»(2) .

وثانیاً : أنّ تقابلها مع الوزغ قرینة أُخری علی کونها غیره کمالا یخفی .

فدلیل إثبات الکراهة منحصر فی خبر هارون، وکان فی سنده یزید بن إسحاق حیث لم یوثّقه إلاّ العلاّمة فإنّه وثّق طریق الصدوق إلی هارون بن حمزة، وکان یزید فی سنده .

مضافاً إلی أن قوله «لا ینتفع» بالجملة الخبریّة ومادّة النفع، یوجب ظهور کون المنع بلحاظ أمر إرشادیّ، لا أن یکون النهی تنزیهیّاً .

وکیف کان، فإثبات الکراهة بذلک فی الوزغ، مع کثرة أخبار الجواز مشکلٌ،إلاّ أن یتمسّک بالشهرة معتضداً بالتسامح فی أدلّة السنن، فحینئذٍ له وجه، بلا فرق بین موته وحیاته، إذ لیس فی الأخبار ما یوجب اختصاص کراهته بالموت ، إلاّ أن یحمل خبر هارون فی الوزغ علی صورة الموت، والأخبار المجوّزة فیه علی


1- وسائل الشیعة: الباب 45، الأطعمة المحرمة، الحدیث 2.
2- وسائل الشیعة: الباب 9، الاسئار، الحدیث 1.

ص:17

صورة الحیاة، کما یشعر بذلک خبر علیّ بن جعفر، جمعاً بینهما وحذراً عن طرد العمل بخبر هارون، فلازم ذلک صحّة قول المصنّف من الاختصاص .

لکنّه لا یخلو عن وهن، لاشتمال خبر هارون علی ما یدلّ کون الوزغ المستثنی منه حیّاً أیضاً، لقوله فی صدره «فیخرج حیّاً»، فهو یرجع إلی کلّ ما هو المذکور فی اللفظ واشباهه، فخرج من ذلک الوزغ، مع کونه حیّاً أیضاً کما لا یخفی.

فالحقّ مع المشهور إن قلنا بالکراهة، أی بلا فرق فیها بین کونه حیّاً، أو میّتاً هذا کلّه فی الوزغ .

ومنه یظهر الحکم فی العقرب أیضاً، لما قد عرفت من وجود أخبار الجواز بالخصوص أو بالعموم، من نفی البأس لما لا نفس سائلة له، علی احتمال کما عرفت، فیعارضها ما یدلّ علی خلافه، مثل موثّق أبی بصیر عن أبی جعفر علیه السلام : «قال : سألته عن الخنفساء تقع فی الماء أیتوضّأ به ؟ قال : نعم ، لا بأس به ، قلت : فالعقرب ؟ قال : ارقه»(1) .

وموثّق سماعة «قال : سألت أبا عبداللّه علیه السلام عن جرّة وجد فیه خنفساء قد مات ؟ قال : القه وتوضّأ منه، وإن کان عقرباً فأرِق الماء وتوضّأ من ماء غیره»(2).

حیث اشتملا علی الأمر بالإراقة، فهو وإن أوجب الحکم بالاستحباب جمعاً بینهما وبین تلک الأخبار، إلاّ أنّه یکون بمعنی الکراهة ، إمّا من جهة أنّ ترک المستحبّ مکروه، أو أنّ الأمر بالإراقة نهیاً عن ترکه، فلازمه الکراهة فی عدم الاجتناب .

فإن سلّمنا ثبوت الکراهة فیه _ کما هو الأقرب بالقبول من الوزغ، من حیث الأدلّة ، بل ومساعدة الاعتبار فیه لإمکان احتمال مسمومیّة الماء منه دون الوزغ _ کانت الکراهة ثابتة مطلقاً، حیّاً أو میّتاً، لأنّه وإن کان خبر سماعة مشتمل علی قرینة


1- وسائل الشیعة: الباب 9، الاسئار، الحدیث 5.
2- وسائل الشیعة: الباب 9، الاسئار، الحدیث 6.

ص:18

وما لا یدرک بالطرف من الدم لا ینجّس الماء، وقیل ینجّسه، وهو الأحوط (1).

دالّة علی الموت، من حیث فرض الموت فی الخنفساء، الظاهر کونه مفروضاً فی العقرب أیضاً لوحدة السیاق ، إلاّ أنّ خبر أبی بصیر له إطلاق، یشمل صورة الحیاة أیضاً، فاختصاص المصنّف بخصوص المیتة فیه لا یخلو عن مناقشة .

فالأقوی ثبوت الکراهة فی سؤر الوزغ والعقرب حیّاً، کان أو میّتاً، إلاّ أنّ ثبوت الکراهة فی الوزغ لا یخلو عن إشکال فی الجملة.

وأمّا حکم نجاسة الماء بالحیوان ذی النفس السائلة، إذا مات دون غیره، فهو أمر قطعی بین أصحابنا ، کما أنّ عدم نجاسته بما لا نفس له مورد إجماع أیضاً، بلا فرق بین الماء وغیره من المائعات. وما ورد فی بعض الأخبار من ظهوره فی نجاسته بما لا نفس سائلة له، لابدّ من تأویله. فتحقیق الکلام موکول إلی محلّه، وهو باب النجاسات، فیذکر إن شاء اللّه تعالی فی موضعه .

(1) وقد سبق منّا بحثه فی الماء القلیل مفصّلاً، ذکرنا قول الشیخ فی «الاستبصار» و«المبسوط» وأنّه، تعدّی فی الثانی إلی کلّ نجس، وحکی الموافقة عن ابن حمزة خلافاً للمشهور من الحکم بالنجاسة، کما یدلّ علیه الأدلّة، وحَمَل ما یدلّ علی الخلاف علی ما یصحّ الجمع، مع الأخبار الکثیرة الدالّة علی النجاسة عموماً وخصوصاً، فالأولی ارجاع تفصیله إلی محلّه، إذ التکرار موجب للملال، وضیاع الوقت، خصوصاً مع قلّتها، وکثرة الآفات المانعة عن متابعة البحث فی الأحکام والآیات.

فی ماءٍ لاقی ما لا یدرک بالطرف من الدم

وهکذا تمّ البحث فی الرکن الأوّل من مبحث الطهارة من کتاب «الشرائع» ونرجو من اللّه التوفیق للورود فی الرکن الثانی وحسن الإختتام إن شاء اللّه تعالی .

اللّهمَّ وفّقنا بالفقه، وانفعنا بالعلم، وزیّنا بالحلم، وجمّلنا بالعافیة، وکرّمنا بالتقوی، بجاه محمّد وآله الأطهار .

ص:19

الرکن الثانی فی الطهارة المائیّة

اشارة

وهی: وضوءٌ وغسل، وفی الوضوء فصول :

الأوّل : فی الأحداث الموجبة للوضوء، وهی ستّة : خروج البول، والغائط، والریح من الموضع المعتاد (1).

(1) ولا یخفی علیک أنّ لنا هاهنا مطلبین :

فی معنی الحدث لغةً و عرفاً

أحدهما : فی معنی الحدث، وکونه فی قبال الطهارة علی نحو تقابل العدم والملکة، أو التضاد .

ومن الواضح کون معناه عرفاً ولغةً هو الفعل، وقد یقال بالاشتراک اللفظی علی الاُمور الموجبة للطهارة، وعلی الأثر الحاصل منها ، فحینئذٍ قد یکون الحدث مصدراً، بناءً علی معنی الفعل، وآخر اسم مصدر لو أطلق علی الأثر الحاصل منها .

ولا یبعد أن یکون وجه إطلاقه، علی ما صدر من الإنسان، من البول والغائط والنوم ، هو تحقّق هذا الفعل من بدن الإنسان، فصار معنی حَدَث الإنسان، أی صدر منه فعل لکن لا یراد منه مطلق الفعل ، بل أراد منه الفعل الخاصّ الذی اعتبر الشارع وجوده فی باب الوضوء والغسل ، فعلی هذا المعنی یکون الحدث حینئذٍ أمراً وجودیّاً، لأنّ ما صدر لا یکون إلاّ بالوجود، وهذا المعنی یطابق مع الارتکاز العرفی، فیکون إطلاق الحدث علی نفس البول والغائط غیر بعید عن المسامحة، إذ البول بنفسه لیس بحدث، بل إخراج البول عن نفسه حدث وفعل، وهکذا فی غیره من الأحداث .

کما أنّه کذلک یکون الحدث أمراً وجودیّاً، لو أُرید منه هو الأثر الحاصل من البول وغیره، فیکون إطلاق الحدث علی الاُمور من باب تسمیة الشیء باسم مسبّبه.

ص:20

هذا بحسب ما یقتضیه معنی لفظ «الحدث» لغةً وعرفاً، علی کلا الاحتمالین .

وأمّا احتمال الحدث أمراً عدمیّاً، ممّا لا یساعده العرف واللغة ، بل قد یؤیّد کونه أمراً وجودیّاً إطلاق الفقهاء لتلک الاُمور بأنّها ناقضة للطهارة .

فحینئذٍ ننقل الکلام فی الطهارة التی کانت فی قباله، هل هی أمر وجودی _ کما علیه صاحب «الجواهر» قدس سره _ أو أمر عدمی _ کما احتمله الشیخ الأنصاری قدس سره ، وجعل الطهارة عن الحدث، کالطهارة من الخبث وکالموت والتذکیة، بکونها أموراً عدمیّة.

واستدلّ لذلک بأمور لا یهمّنا إیرادها والجواب عنها .

ولکن الإنصاف کما قد حقّقنا ذلک فی أوّل مبحث الطهارة، کون التقابل بین الطهارة والحدث تقابل العدم والملکة، یعنی تعدّ الطهارة أمراً وجودیّاً بالنظر إلی ملاحظة الأخبار الواردة فی باب التسمیة فی الوضوء، وتکرار الوضوء، وأن الوضوء علی الوضوء نورٌ علی نور، کما فی روایة(1) أو قول الصادق علیه السلام : «إذا سمّیت فی الوضوء طهّر جسدک کلّه، وإذا لمن یسمّ لم یطهر من جسدک إلاّ ما مرّ علیه الماء»(2) .

وإن عدلنا عنه فی ذیل ذلک البحث، واحتملنا کون الحدث أیضاً أمراً وجودیّاً کالطهارة، فیکون التقابل تقابل التضادّ .

ولکن الآن نقول مع ملاحظة ما ذکرناه فی معنی الحدث، من کونه أمراً وجودیّاً بلحاظ إطلاق العرف واللغة، منضمّاً بما ذکرناه هناک من استفادة ذلک من خبر ابن سنان الوارد فی «علل الشرائع» عن الرضا علیه السلام ، فی الجواب عن علّة غُسل الجنابة: «قال : علّة غسل الجنابة للنظافة وتطهیر الإنسان نفسه فیما أصابه


1- وسائل الشیعة: الباب 8 ، أبواب الوضوء، الحدیث 8.
2- وسائل الشیعة: الباب 26، أبواب الوضوء، الحدیث 5.

ص:21

من أذاه وتطهیر سائر جسده»(1) ، الحدیث .

ما یطلق علیه الحدث فی لسان الفقهاء

فإنّه وإن کان یتحدّث عن الحدث الأکبر، ویمکن القول بافتراقه عن الحدث الأصغر فی ذلک ، إلاّ أنّه خلاف المرتکز العرفی، حیث لا یفرّقون بینهما من جهة الحدثیّة، وهذا ما یقوّی عندنا کون التقابل بینهما هو تقابل التضاد ، وإن أوجب ذلک الافتراق بین الطهارة الخبثیّة والحدثیّة فی کون التقابل فی الأوّل تقابل العدم والملکة، وفی الثانی هو التضادّ، ونلتزم به ولا غرو فیه، کما لا یخفی .

فینتج حینئذٍ أنّ المخلوق ساعةً، کآدم أبی البشر علی نبیّنا وآله وعلیه السلام، لابدّ له من تحصیل الطهارة لشرطیّتها فیه، ولاحتمال حصول حدث یعدّ مانعاً منه فیجوز حینئذٍ ان یصدق فی حقّه أن یقال : إنّه غیر محدث وغیر متطهّر فصار الحقّ حینئذٍ مع صاحب «الجواهر» ومن تبعه ، خلافاً للشیخ الأعظم، حیث جعل التقابل بالعدم والملکة، مع کون الطهارة أمراً عدمیّاً، وخلافاً للمحقّق الهمدانی حیث اختار ذلک التقابل، إلاّ أنّه جعل الحدث أمراً عدمیّاً والطهارة أمراً وجودیّاً، فاختیارهما لا یخلو عن مناقشة .

ثانیهما : فی بیان ما یطلق علی «الحدث» فی لسان الفقهاء:

تارةً: بالسبب، کما فی «القواعد» و«الذکری» و«البیان» .

واُخری: بالناقض، کما عن السیّد المرتضی فی «جُمل العلم» والشیخ فی «مبسوطه» و«نهایته»، وجماعة من المتقدِّمین .

وثالثة: بالموجب، کما عن المحقّق فی کتبه، والعلاّمة فی «التذکرة» و«المنتهی» .

ورابعة: کلّها مترادفة، کما فی «المدارک»، وظاهر «کاشف اللثام» وصاحب «الجواهر» .

قیل : أنّ القول بالسبب أولی من الآخرین، لکونه أعمّ منهما، إذ قد یکون


1- علل الشرایع: ص 266 باب 195.

ص:22

خروج البول سبباً للوضوء، ولیس بموجبٍ لعدم کونه فی وقت الصلاة، أو کان لکنّه قد أتی بصلاته الواجبة.

کما أنّه یمکن أن لا یکون ناقضاً، لعدم کونه قبل خروج البول متطهّراً .

لکنّه یندفع بأنّ ما ذکره صحیح، لو أُرید من الموجب هو المعنی الشرعی المشتقّ من الواجب ، وأمّا لو کان المراد منه، معناه اللغوی، وهو الثبوت، فلا یکون حینئذٍ معنی الموجب إلاّ بمعنی المقتضی والسبب، هذا أوّلاً .

وثانیاً : إنّ الأعمّیة ثابتة لو أُرید من الموجب ولو اصطلاحاً، موجباً فعلیّاً ، فحینئذٍ لا یصدق ذلک، لما ذکره من المثالین .

وأمّا لو اُرید منه الشأنیة فقط، أو الأعمّ منها، بحیث یشمل الفعلیّة والشأنیّة، فلا إشکال فی کون الحدث فیهما أیضاً موجباً شأناً، بمعنی أنّه لو کان فی الوقت، ولم یکن قد أتی بالتکلیف، لکان موجباً فما ذکره غیر تامٍ .

کما أنّه قیل أیضاً بکون التعبیر بالموجب وأولی من التعبیر بالناقص، لإمکان أن لا یکون حال الحدث مقصراً، کما فی الحدث بعد الحدث مع أنّه أیضاً کان موجباً إذا وقع فی وقت الصلاة غیر المأتی بها .

هذا، ویمکن الخدشة فیه أیضاً بما قد عرفت، بأنّه وإن صحّ ارادة الفعلی من الناقض، لکن لو أُرید منه الأعمّ منه حتّی یشمل الشأنی، فیکون مثال المفروض ناقضاً تقدیراً وشأناً کما لا یخفی .

کما أنّ القول بأنّ الموجب یکون مترادفاً للسبب والمقتضی، کما فی «الجواهر»، لکونه بمعنی الثبوت اللغوی لا الوجوب الاصطلاحی، حتّی لا یشمل صورتی الاستحباب وغیره ، لا یوجب رفع الإشکال أیضاً، لأنّ إطلاق الموجب علی الحدث یکون مجازاً لأنّ الموجب حقیقة ، أمّا یکون هو الشارع، أو ما یکون مشروطاً بالوضوء، کالصلاة والطواف وأمثالهما.

کما أنّ هذا الإشکال یجری علی القول بالسبب، کما لایخفی .

ص:23

فثبت من جمیع ما ذکرنا أنّ الأوّل فی التعبیر هو الناقض، وکون المراد من النقض هو الأعمّ من الفعلی، فیدخل فیه ولو کان الحدث بعد الحدث، أو کان طهارته غیر شرعیّة، کما فی الصبی والمجنون إذا تطهّرا حال صبابته وجنونه، وقلنا بعدم شرعیّة طهارتهما، فحینئذٍ یکون الحدث الصادر منهما ناقضاً فعلیّاً بالنسبة إلی طهارتهما، أو تقدیریّاً إذا لوحظ مع فرض صحّتهما، کما لایخفی .

بل مع ملاحظة لسان کثیر من الأخبار من تعبیر النقض بالنسبة إلی الحدث کما فی خبر معاویة بن عمّار: عن الصادق علیه السلام فی حدیث «فلا ینقض الوضوء إلاّ ریح تسمعها أو تجد ریحها»(1): قال : «سألته عمّا ینقض الوضوء؟ قال : الحدث تسمع صوته أو تجد ریحه»(2) .

وحدیث سعد: فی حدیث عن أبی عبداللّه علیه السلام : «قال : اذنان وعینان، تنام العینان ولا تنام الاُذنان، وذلک لا ینقض الوضوء، فإذا نامت العینان والاُذنان انتقض الوضوء»(3) .

کان ذلک التعبیر أولی وأحسن من غیره، فالحقّ فی جانب السیّد والشیخ وجماعة من المتقدِّمین، ولا یلزم فی الإطلاق مجازاً .

وحیث لا ثمرة مهمّة فی ذلک فیکفینا هذا المقدار من البحث، فالأولی صرف الکلام إلی موضوع الحدث .

فنقول: الحدث ینقسم إلی ستّة أقسام وهی: البول، والغائط، والریح من الموضع المعتاد... وما سیأتی ذکره إن شاء اللّه .

والإشکال فی الانحصار فیها، مع کون الموجب للوضوء أزید منها _ کالذی


1- وسائل الشیعة: الباب 1، نواقض الوضوء، الحدیث 3.
2- وسائل الشیعة: الباب 1، نواقض الوضوء، الحدیث 4.
3- وسائل الشیعة: الباب 1، نواقض الوضوء، الحدیث 8.

ص:24

یوجب الغسل والوضوء مثل الحدث الکبیر غیر الاستحاضة القلیلة المذکورة قسماً من الستّة ، وکان تیقّن الحدث وشکّ فی الطهارة، حیث یجب علیه الوضوء، وکالذی تیقّن بوجودهما وشکّ فی السابق منهما، إن قلنا بوجوب الوضوء حینئذٍ، وکالذی وجد الماء فی أثناء الوقت وکان قد تیمّم للصلاة حیث إنّ وجدان الماء یوجب الوضوء ونظائرها _ ، مدفوع عن مثل الأوّل، بأنّ المقصود هنا هو ما یوجبه بالخصوص، لا منضمّاً مع الغُسل فکأنّهم قصدوا بیان حکم المتمکن من الصلاة مع الوضوء لا غیره.

أمّا ما یرافق الوضوء من تحصیل الغُسل، کما فی حالات الحیض والنفاس والاستحاضة غیر القلیلة _ إن لم نقل بکفایة الأغسال المستحبّة عن الوضوء _ أو ما یکون الغُسل کافیاً عن الوضوء کغسل الجنابة _ إجماعاً _ وسائر الأغسال المندوبة _ علی قول من کفایتهما عنه فنقول : أمّا عن الثلاثة الاُخر غیر الأوّل، فالمرجع فی جمیعها فی الحقیقة إلی کون الحدث هو الموجب للوضوء، مع اختلاف فی طریق إثباته إذ قد یکون بالاستصحاب _ کالثانی _ وبالاحتیاط والعلم الإجمالی _ کما فی الثالث _ أو بالأدلّة _ کما فی الرابع _ فلیس وجه الوجوب فیها مختلفاً عمّا هو مذکور فی الستّة، کما لا یخفی .

إذا عرفت ذلک فنقول : أمّا کون خروج البول والغائط موجباً له، فهو ممّا قام علیه الإجماع نقلاً وتحصیلاً، بل قیل إنّه ممّا لا خلاف فیه بین المسلمین ، بل الأخبار دلّت علیه متواترة أو قریبة منها، فقبل أن نذکر بعض الأخبار، لابأس بالإشارة إلی أنّ المقصود من البول هاهنا هو الأعمّ من کونه بولاً موضوعاً أو حکماً _ کالبلل المشتبه الخارج عن الإنسان قبل الاستبراء _ کما أنّ تشخیص الموضوع فی البول والغائط یعدّ أمراً عرفیّاً، ففی موارد الشکّ فی کون الخارج بولاً أم لا، یحکم بالعدم فی غیر ما یکون محکوماً به، کما عرفت فی الفرض السابق، عند الشکّ فی أصل الخروج، حیث یحکم بعدمه، فتکون النتیجة هی أنّه

ص:25

لو کان متوضّیاً فیعدّ باقیاً علی حاله، وإنْ کان محدثاً فیکون محدثاً بالحدث الأوّل فلا یتحقّق به الاستبراء عن المنی مثلاً، إن کان المقصود ترتیب آثار ذلک علی مثله ، ولا یکون هو حدثاً بعد حدث ، کما أنّه أیضاً کذلک لو شکّ فی کون الخارج هل یعدّ من قسم النقض _ کالبول _ أو غیر ناقض _ کالمذی _ فإنّه حینئذٍ یحکم بعدم کونه ناقضاً .

کما لا فرق فی الوجوه المذکورة، بین وقوعها فی الأثناء أو بعد تمام الوضوء، کما هو الحال فی الغائط أیضاً عند الشکّ فی الخروج وعدمه، والشکّ فی کون الخارج هو ناقضٌ أو غیر ناقض، إلاّ ما یستظهر من لسان الأخبار أو فهم العرف أنّه بول أو غائط، أو کان متلوّثاً بهما بالرطوبة، إن قلنا بتنجّسه بذلک فی الباطن وخروجه رطباً، وهذا ما نتعرّض له لاحقاً إن شاء اللّه تعالی .

فلا بأس حینئذٍ باستعراض الأخبار فی أصل المسألة تبرّکاً وتیمّناً واستدلالاً، ومن اللّه التوفیق والاستعانة .

الأحداث الموجبة للوضوء / البول و الغائط

فممّا یدلّ علی ناقضیة البول والغائط ما رواه زرارة فی الصحیح، عن الصادق علیه السلام : «قال : لا یوجب الوضوء إلاّ من غائطٍ أو بولٍ أو ضرطةٍ تسمع صوتها أو فسوةٍ تجد ریحها»(1) .

وما رواه زرارة أیضاً فی الصحیح عن أحدهما علیهماالسلام : «قال : لا ینقض الوضوء إلاّ ما خرج من طرفیک أو النوم»(2) .

حیث یشمل باطلاقه البول والغائط وغیرهما، فبخروج بعض ما یأتی من المذی والوذی، أو خروج بعض ما لا یکون غائطاً، بواسطة بعض الأخبار، یکون الدلیل منحصراً فی البول والغائط .

وخبره المعتبر الثالث


1- وسائل الشیعة: الباب 1، نواقض الوضوء، الحدیث 2.
2- وسائل الشیعة: الباب 2، نواقض الوضوء، الحدیث 1.

ص:26

قال : «قلت لأبی جعفر وأبی عبداللّه علیهماالسلام : ما ینقض الوضوء ؟ فقالا : ما یخرج من طرفیک الأسفلین، من الذکر والدبر، من الغائط والبول»(1) ، الحدیث .

وخبر أدیم بن الحرّ: «أنّه سمع أبا عبداللّه علیه السلام یقول : لیس تنقض الوضوء إلاّ ما خرج من طرفیک الأسفلین»(2) .

وخبر سالم أبی الفضل عن الصادق علیه السلام : «قال : لیس ینقض الوضوء إلاّ ما خرج من طرفیک الأسفلین اللذین أنعم اللّه علیک بهما»(3) .

وخبر أبی بصیر عن الصادق علیه السلام فی حدیث : «إنّما الوضوء من طرفیک اللذین أنعم اللّه بهما علیک»(4) .

وخبر آدم بن زکریا: «قال : سألت الرضا علیه السلام عن الناصور، أینقض الوضوء ؟ قال : إنّما ینقض الوضوء ثلاث البول والغائط والریح»(5) .

وخبر فضل بن شاذان، عن الرضا علیه السلام : «قال : إنّما وجب الوضوء بما خرج من الطرفین خاصّة»(6) الحدیث .

وخبره الآخر: «قال : سأل المأمون الرضا علیه السلام عن محض الإسلام ، فکتب إلیه فی کتاب طویل : ولا ینقض الوضوء إلاّ غائط أو بول أو ریح أو نوم أو جنابة»(7) .

وغیر ذلک من الأخبار الدالّة علی ذلک، شبیهاً بهذه التعابیر أو غیرها ، فبالمراجعة إلی کتب الروایات تعرف وتعلم صحّة ما ذکرناه، فالأولی حینئذٍ


1- وسائل الشیعة: الباب 2، نواقض الوضوء، الحدیث 2.
2- وسائل الشیعة: الباب 2، نواقض الوضوء، الحدیث 3.
3- وسائل الشیعة: الباب 2، نواقض الوضوء، الحدیث 4.
4- وسائل الشیعة: الباب 2، نواقض الوضوء، الحدیث 5.
5- وسائل الشیعة: الباب 2، نواقض الوضوء، الحدیث 6.
6- وسائل الشیعة: الباب 2، نواقض الوضوء، الحدیث 7.
7- وسائل الشیعة: الباب 2، نواقض الوضوء، الحدیث 8.

ص:27

استعراض سائر الاُمور المرتبطة بهذه المباحث .

فنقول : إذا عرفت الأخبار الدالّة علی ناقضیّتها، فلا بأس بالإشارة إلی ما یوجب الشکّ فی کونه منها : فأمّا البلل المشتبه الخارج قبل الاستبراء عن البول، محکوم وسیأتی بالبولیّة، بحثه فی محلّه من الفروض المتصوّرة فیه.

وأمّا خروج أشیاء صحیحة من مخرج الغائط مثل بذر البطّیخ أو حبّ القَرْع أی الیقطین والخیار وغیرها: تارةً: یکون یابساً وغیر متلوثٍ بالغائط فلا إشکال فی أنّ خروجها کذلک، غیر ضائر بالطهارة، ولا یحکم بنجاسته، لکن فرضه مشکل جدّاً .

واُخری: یکون مرطوباً، فهو أیضاً تارةً کان معه جزءاً من الغائط أو العذرة، فلا إشکال فی کونه ناقضاً ونجساً، لأنّه _ مضافاً إلی شمول أدلّة العامّة بکون البول والغائط من النواقض للمورد _ قد ورد دلیل خاص فی المورد موثّق عمّار بن موسی: عن أبی عبداللّه علیه السلام «قال : سئل عن الرجل یکون فی صلاته فیخرج منه حبّ القرع، کیف یصنع ؟ قال : إن کان خرج نظیفاً من العذرة فلیس علیه شیء، ولم ینتقض وضوئه، وإن خرج متلطّخاً بالعذرة، فعلیه أن یعید الوضوء، وإن کان فی صلاته قطع الصلاة وأعاد الوضوء والصلاة»(1) .

حیث إنّه مشتمل علی جهتین من الحکم: من صورة عدم التلطّخ، الموجب أن لا یکون علیه شیء، حتّی یشمل مثل النجاسة أیضاً، ولا یوجب نقض الوضوء.

کما یدلّ علیه أیضاً صراحة خبر حسن فضیل.

عن أبی عبداللّه علیه السلام : «فی الرجل یخرج منه مثل حَبّ القرع؟ قال : لیس علیه وضوء»(2) .


1- وسائل الشیعة: الباب 5، نواقض الوضوء، الحدیث 5.
2- وسائل الشیعة: الباب 5، نواقض الوضوء، الحدیث 1.

ص:28

وخبر عبداللّه بن یزید: عن أبی عبداللّه علیه السلام ، قال : «لیس فی حبّ القرع والدیدان الصغار وضوء، إنّما هو بمنزلة القمّل»(1) .

ومرسل حریز عمّن أخبره عن الصادق علیه السلام : فی الرجل تسقط منه الدواب (الدود) وهو فی الصلاة؟ قال : یمضی فی صلاته، ولا ینقض ذلک وضوئه»(2) .

وما یری من الحکم بالنقض بخروج حبّ القرع فی خبر ابن أخی فضیل عن الصادق علیه السلام : «قال : قال فی الرجل یخرج منه مثل حبّ القرع؟ قال : علیه وضوء»(3) ، یحمل علی صورة التلوّث بالعذرة، جمعاً بینه وبین الأخبار السابقة .

وأُخری أن لا یکون معه أجزاء الغائط، إلاّ أنّه کان مرطوباً برطوبة العذرة ، فلا إشکال فی کونه نجساً .

وأمّا کونه ناقضاً أو لا؟ ففیه وجهان : وفی «الجواهر» أنّه لیس من الغائط عرفاً، فلا یکون حینئذٍ ناقضاً علی مذاقه .

ومن أنّه قد حکم بنجاسته، لیس إلاّ من جهة غائطیّة ومسّه بها، فیکون غائطاً وناقضاً.

والظاهر الموافق للاحتیاط، هو الحکم بناقضیة، خصوصاً إذا کان فیه بعض أثر الغائط _ کرائحته مثلاً _ والافتراق بین کونه محکوماً بالنجاسة دون الحدث، مشکلٌ جدّاً ، واللّه العالم .

یقع الکلام الآن فی موجبیّة البول والغائط وناقضیتهما، وأقسام ذلک:

فنقول : ینقسم خروجها إلی أقسام متعدّدة:

أحدها : أن یخرجا من المخرج الطبیعی لهما، ووهو المعتاد والمتعارف بحسب النوع والشخص ، فهذا هو أوضح الأفراد حکماً، ویعدّ القدر المتّفق علیه بین


1- وسائل الشیعة: الباب 5، نواقض الوضوء، الحدیث 3.
2- وسائل الشیعة: الباب 5، نواقض الوضوء، الحدیث 4.
3- وسائل الشیعة: الباب 5، نواقض الوضوء، الحدیث 6.

ص:29

الأصحاب، بل بین المسلمین، فهو واضح ولا یحتاج إلی مزید بیان، لدلالة صراحة الأخبار التی مرّت بعضها سابقاً، وافادت أکثرها بکونه ناقضاً وموجباً .

ثانیهما : أن یکون الخروج لهما أو لأحدهما من المخرج المعتاد، إلاّ أنّه لم یکن للشخص معتاداً، کما لو خرج البول من الذکر مرّةً واحدة فقط، فهل هو ناقض وموجب أو لا ؟ الظاهر أنّه یکون ذا وجهین، لأنّه: تارةً: قد انسدّ هذا المخرج، وانفتح غیره بعد ذلک .

وأُخری: لا یکون کذلک . قد ادّعی الآملی قدس سره فی «المصباح» نفی الخلاف فی کونه ناقضاً وموجباً فی الأوّل منهما .

وفی «الجواهر» _ وإن لم یصرّح بانسداد المخرج بعده _ یفرض خروجه منه مرّة ، ففی أوّل کلامه یُدخله فی ظاهر إطلاق النصّ والفتوی، بل علیه الإجماع عن شارح «الدروس» وأیضاً ینقل نقل عن «الریاض» نقل إجماع «المعتبر» و«المنهی» علیه.

إلاّ أنّ صاحب «الجواهر» اعتراض علی دعواهم الإجماع، من عدم ظهور کلامهم فیه، کما اعترض فی أصل دخول الفرض فی حکم الناقضیّة والموجبیّة، لإمکان دعوی انصراف الأدلّة إلی ما هو المعتاد للشخص، لا الخروج عن المعتاد النوعی، ولو لم یکن له معتاداً.

ثمّ یستظهر فی آخر الکلام منه شمول الإجماع له، فکأنّه لا یمتلک دلیلاً عامّاً إلاّ الإجماع ، کما یستظهر ذلک من الشیخ الأعظم، حیث یستشکل فی شمول الإطلاقات للمورد، من جهة انصرافها إلی صورة کون الخروج من المخرج معتاداً شخصاً، بل ویقوّی هذا الاحتمال إذا قیل بالانصراف إلی الاعتیاد من غیر المخرج، أی إذا کان خروجه عنه معتاداً، یحکم بموجبیّتهما لا مطلقاً . وإن اختار فی آخر کلامه دخوله فی الحکم من جهة اختیاره النقض مطلقاً، سواء کان معتاداً أو غیر معتاد .

ص:30

ولکن الإنصاف إمکان دعوی شمول الأدلّة بإطلاقاتها للمورد، ولا نسلّم دعوی الانصراف إلی کونه معتاداً للشخص، لأنّ خروجه عن الموضع أمر طبیعی وعادی، ولو خرج مرّة فإطلاق بعض الأخبار _ بما یخرج عن الأسفلین أو الطرفین ، بل فی بعض الأخبار، مثل معتبرة زرارة من التصریح بالذَکَر والدبر _ یشمل لما نحن فیه قطعاً، ولذلک لا یبعد دعوی صدق الناقضیة والموجبیّة، لمن کان خُنثی ذات عورتین، إلاّ أنّه خرج البول من إحدی عورتیه مرّة واحدة .

مضافاً إلی وجود الإجماع _ کما ادّعاه صاحب «الحدائق» _ ولعلّ الإجماع کان بلحاظ ما ذکرناه من شمول الأدلّة له، فذهبوا إلی اطلاق الحکم.

ودعوی الفرق بین المقام، وبین الخروج عن غیر المتبادر، بلزوم الاعتیاد فیه دون ما نحن فیه ، لیس ببعید، لشهادة العرف والوجدان بذلک الافتراق، فإذا ثبت حکم الناقضیّة والموجبیّة للخروج مرّة عن المخرج الطبیعی، مع انسداده بعده، ففی صورة انفتاحه من دون خروج، کان مساویاً له، لو لم یکن أولی منه، کما لا یخفی .

وأمّا الثالث: هو ما کان المخرج الطبیعی منه مفتوحاً، وخرج البول منه مرّةً أو لم یخرج، ولکن حصل له محلّ آخر لخروج البول والغائط، وصار معتاداً له فی غیره أو غیر معتاد ، فالأقوال فیها أربعة .

قول بالنقض مطلقاً، أی سواء کان المخرج فوق المعدة أو تحتها، وهو الأقوی والأحوط عندنا، وإن کان احتمال خلافه لا یخلو عن وجه ، بل أفتی علی النقض ابن إدریس والآملی فی «المصباح»، بل وصریح الشیخ الأعظم علیه، أی کونه ناقضاً مطلقاً، کما علیه العلاّمة فی «التذکرة» وغیر ذلک من الفقهاء .

وقولٌ بعدم النقض مطلقاً، کما علیه شارح «الدروس»، وقوّاه فی «الریاض» وذهب إلیه صاحب «الذخیرة» .

وقول بالتفصیل فیما بین کون الخروج عن فوق المعدة، فلا یکون ناقضاً، وتحته فیکون ناقضاً، وهو قول ذهب إلیه الشیخ فی «الخلاف» و«المبسوط»، بل

ص:31

عن ابن البرّاج فی «الجواهر» أیضاً مثله .

وقول بالتفصیل بین کون الخروج عن غیر الطبیعی بصورة الاعتیاد، فیوجب النقض، وفی غیره فلا ، وهذا قد ذهب إلیه المشهور من المتأخِّرین، کما علیه السیّد فی «العروة» والخوئی فی «تنقیحه» .

فلا بأس بالإشارة أوّلاً إلی وجه کلام المشهور، ثمّ المختار ثانیاً، فإذا أُجیب عن کلامهم یظهر منه الجواب عن القولین الآخرین، فلذلک نقول : إنّهم استدلّوا علی مختارهم بأن ما ورد مذاقهم فی بعض الأخبار من قوله علیه السلام : «ما خرج من طرفیک الأسفلین» لا یکون إلاّ لمجرّد الذکر دون خصوصیّة للسبیلین، فبعیدٌ جدّاً .

ویزید فی ذلک مضمون صحیح زرارة(1) من ذکر لفظ الذَکَر والدُبر بعد الأسفلین، حیث إنّه لو کان خصوصیّة السبیل ملغاتً منهما، وکان تمام الملاک نفس البول والغائط، فکان ذکر اسم العورتین لغواً، فیفهم من ذلک أنّ الخروج من السبیل له مدخلیة فی الانتقاض، دون الخروج من غیره .

ودعوی أنّ ما ذکر متفرّعٌ علی وجود المفهوم فی القیود المأخوذة فی الحکم، کما هو الحال فی القید بکونه من الأسفلین فی المقام، والحال أنّه لا مفهوم لها .

مدفوعة، بأنّ عدم المفهوم للقیود یکون فی غیر ما نحن فیه، لأنّ المورد _ کما فی خبر زرارة حیث یسأل عمّا ینقض الوضوء _ یفهم من السؤال والجواب فیه بأن ما یخرج عن السبیلین هو الحصر والانحصار، فیکون مفاده أنّ ما یخرج عن غیرهما لیس بناقض .

فضلاً عن وجود الانصراف إلی ما کان معتاداً، فما لیس بمعتاد، بل خرج مرّة واحدة عن سبیل غیر طبیعی _ من جهة الجرح، أو بواسطة الإبر المتعارفة فی هذه الأزمنة _ لا یکون بناقض.


1- وسائل الشیعة: الباب 2، النواقض، الحدیث 2.

ص:32

کما أنّ إطلاقات الأخبار، من تعلیق الحکم علی الثلاثة من البول والریح والغائط، وقوله تعالی : «أو جَاءَ أَحَدٌ مِنْکُمْ مِنْ الْغَائِطِ»(1) یشتمل ما یکون متعارفاً ومعتاداً وغیر معتاد، متقیّدة بما إذا کانت معتاداً أو غیر معتاد من الطرفین، لا ما یکون خارجاً عن غیرهما .

نعم ، ما یکون خارجاً من غیر الطریقین، وصار معتاداً منهما، فإنّه داخل تحت الإطلاقات، لعدم شمول الأخبار المقیّدة لذلک، لأنّ زرارة کان سلیم الطریقین، والخطاب فیه شخصیٌ، فلا تشمل الصحیحة للفرض المذکور، فتکون الإطلاقات شاملة له، فیحکم بناقضیّته ، فلازم ذلک هو القول بالتفصیل، کما علیه المشهور .

هذا غایة ما یمکن الاستدلال علی ما ذکروه .

وفیه أوّلاً : إنّ المطلقات من الأخبار ، بل وهکذا لسان قوله تعالی : «أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْکُمْ مِنْ الْغَائِطِ» _ وما أحسن تعبیرها وهو الحقّ کما عبّر سبحانه عن نفسه بقوله: «وَمَنْ أَصْدَقُ مِنْ اللّه ِ حَدِیثا»(2) ، _ من تعلیق حکم وجوب التیمّم علی مجیء الغائط، سواء کان المجیء من الطریقین المتعارفین، أو من غیرهما ، یمنعان عن التقیید والتخصیص، إذ بالتأمّل فی لسان الآیة الشریفة وأقوال الأئمّة علیهم السلام بقولهم فی روایة الفضل بن شاذان: «لا ینقض الوضوء إلاّ بول أو غائط أو ریح أو جنابة»(3) .

وخبر زکریا بن آدم: «إنّما ینقض الوضوء ثلاث : البول والغائط والریح» ، وغیرهما من الأخبار ، فإنّه یستفاد من إتیان الحکم بالنفی والإثبات أو بکلمة (إنّما) أنّه کان بصدد بیان ما هو الناقض، من دون نظر إلی عمّا یخرج، هل کان من


1- سورة النساء: آیة 43 .
2- سورة النساء: آیة 87 .
3- وسائل الشیعة: الباب 2، نواقض الوضوء، الحدیث 8.

ص:33

الطرفین أو غیرهما، فکأنّه قیل: کلّما خرج واحدٌ هذه الثلاثة من الإنسان، ممّا یصدق علیه عرفاً تلک العناوین، فإنّه ناقض وموجب، کما لایخفی .

وأمّا ثانیاً: لو سلّمنا عدم مانعیّة المطلقات بنفسها عن التقیید، لکنّها أبیة عن التقیید بالأخبار المقیّدة مثل صحیح زرارة عن أبی جعفر وأبی عبداللّه علیهماالسلام : «ما ینقض الوضوء؟ قالا : ما یخرج من طرفیک الأسفلین من الذکر والدبر، من الغائط والبول»(1).

وفی صحیحة أخری له : «لا ینقض الوضوء إلاّ ما خرج من طرفیک أو النوم»(2) .

وموثّقة أدیم بن الحرّ: «أنّه سمع أبا عبداللّه علیه السلام یقول : لا ینقض الوضوء إلاّ ما خرج من طرفیک الأسفلین اللذین أنعم اللّه علیک بهما»(3).

ومثله فی التعبیر خبر ابن بزیع(4) وغیر ذلک من الأخبار ، لأنّ الحصر فیها إضافی بالنسبة إلی غیرها ممّا یخرج عن الطرفین غیر هذه الثلاثة، أو الخارج من غیر الطرفین من غیر هذه الثلاثة، کما قد یشهد لذلک صحیح أبی بصیر عن أبی عبداللّه علیه السلام : «قال : سألته عن الرعاف والحجامة وکلّ دم سائل؟ فقال : لیس فی هذا وضوء إنّما الوضوء من طرفیک اللّذین أنعم اللّه بهما علیک»(5) فلیست هذه الأخبار فی صدد تقیید المطلقات، وأنّ ما یخرج من غیر المخرج المتبادر لو کان من أقسام هذه الثلاثة من البول والغائط والریح یکون غیر ناقض .

وإن شئت أن تقول بالانصراف فی المطلقات، معتضدة مع تلک المقیّدات، الموجب للحمل علی ما هو الخارج عن السببین ،


1- وسائل الشیعة: الباب 2، نواقض الوضوء، الحدیث 6.
2- وسائل الشیعة: الباب 2، نواقض الوضوء، الحدیث 2.
3- وسائل الشیعة: الباب 2، نواقض الوضوء، الحدیث 1.
4- وسائل الشیعة: الباب 2، نواقض الوضوء، الحدیث 9.
5- وسائل الشیعة: الباب 7، نواقض الوضوء، الحدیث 10.

ص:34

فنقول :

یلزم أن یکون هذا الانصراف موجوداً فی أصل نجاسة البول والغائط، بأن یدّعی بکون البول الخارج عن مخرج البول نجساً لا غیره، وهکذا الغائط، مع أنّه إطلاق الإجماع ، فلیس هذا إلاّ من جهة أنّه لا انصراف فی تلک المطلقات بحیث یشمل ذلک .

فظهر ممّا ذکرنا بأنّ الصلة التی أتی بها فی الأخبار المقیّدة، لیست فی صدد التقیید لإطلاق الموصول وعمومه، بل کانت فی مقام بیان ما کان معروفاً ومعهوداً فی الخارج، أی ما یکون خارجاً عن مثل هذین السبیلین، ومشیراً إلیهما، إلاّ أنّ الغلبة أوجبت معهودیّته بالإشارة إلیه، لا أن تکون الأخبار المقیّدة محمولة علی ما هو الغالب، کما قد یستشعر من العلاّمة فی «التذکرة»، حتّی یتوجّه إلیه إشکال الشیخ الأعظم قدس سره من أنّ الغلبة إن أوجبت الإنصراف، فکیف لا تکون هکذا فی المطلقات أیضاً ؟!

وثالثاً : بأن ذکر الطرفین _ من الذکر والدبر _ فی خبر زرارة، لیس لبیان الإحتراز عمّا هو خارج عن غیرهما، حتّی یدلّ علی مدّعی المشهور ، بل یمکن أن یکون ذکرهما لإفهام ما هو المتعارف، من بیان ما هو الموجود فی الخارج، وأنّه محلّ لذلک، أو ظرفاً له، کما قد یقال : بأنّ الماء الجاری فی النهر طاهرٌ مطهّرٌ وحیث أنّه یفهم منه عرفاً أن لیس المقصود منه کون النهر ملاکاً لطهارته ، بل کان الوصف بحسب ماهو موجودٌ فی الخارج بالفعل، فلذلک کان الجریان _ ولو فی غیر النهر أیضاً _ طاهراً ومطهّراً، ولا یکون ذکر النهر هاهنا لغواً، کما لا یخفی .

ورابعاً : یجاب عمّا ذکروه لخروج ما هو المعتاد فی غیر المخرج الطبیعی، بأنّه وإن لم تشمله الأخبار المقیّدة بالأسفلین، إلاّ أنّه داخل فی المطلقات، وجُعل وجه عدم شمول المقیّدات له، کون الخطاب شخصیّاً ومتوجِّهاً إلی زرارة، وهو کان سلیم المخرجین .

ص:35

وفیه أوّلاً : إن کان أکثر الأخبار _ لاسیّما ما مشتملةٌ علی کاف الخطاب، الموهم لما ذکر، إلاّ أنّه فی بعض الأخبار قد ورد ذکر الطرفین خالیاً عن کاف الخطاب، فلا یتوهّم کون الخطاب شخصیّاً، هذا کما فی خبر فضل بن شاذان عن الرضا علیه السلام : «قال : إنّما وجب الوضوء ممّا خرج من الطرفین خاصّة ومن النوم دون سائر الأشیاء، لأنّ الطرفین هما طریق النجاسة»(1) الحدیث.

فإنّه مع التوجّه إلی تعلیله بقوله: «لأنّ الطرفین هما طریق النجاسة» یوجب إفهام المعنی الوسیع للطرفین، وهو کلا ما یعدّ لخروجهما، بلا فرق بین کونه طبیعیّاً أم لا .

وثانیاً : إنّ کاف الخطاب فی مثل تلک الأخبار لیس المقصود الشخص الخارجی، کما فی صحیح زرارة المفروض کونه سلیم المخرجین، بل المقصود هو مافی نوع الإنسان ، غایة الأمر حیث کان الغالب فی الخارج، هو سلامة أفراد الإنسان بحسب النوع من جهة المخرج، فلذلک یخاطب بالشخص، ویقال طرفیک الأسفلین ، ولا ینافی ذلک أن یکون طریق فرد ما هو مجاور للمخرج الطبیعی، وکان خروج الأخبثین منه ، لاسیّما مع العنایة بقوله : «بما أنعم اللّه علیک بهما» ، حیث یفهم منه أنّ المقصود من الإنعام أنّه قد جعل اللّه له محلاًّ لخروج الأخبثین عن بدنه، سواء کان مخرجه الطبیعی أو غیره، لأنّ حیثیة الإنعام کان فی أصل الخروج، لا فی خصوصیة کونه من المخرج الطبیعی.

فعلی ما ذکرنا نقول : إنّ الأقوی شمول الأدلّة والأخبار بإطلاقاتها وتقییداتها _ وکذلک الآیة _ بذلک المورد مطلقاً، سواء کان الخروج من غیر الطبیعی معتاداً للشخص أو غیر معتاد .

والعجب منهم، أنّهم بعد تقیید المطلقات بالمقیّدات فی الطبیعی، کیف یبقون


1- وسائل الشیعة: الباب 2، نواقض الوضوء، الحدیث 7.

ص:36

إطلاق المطلقات فی المعتاد غیر الطبیعی ، مع أنّه بعد تقیید المطلقات، لا یبقی لنا إطلاق حتّی یتمسّک بها للمعتاد منه أیضاً، کما لا یخفی .

إذا عرفت وجه الاستدلال لکلام المشهور، والجواب عنه، یظهر لک أنّ مقتضی ما ذکرناه هو الحکم بالنقض والإیجاب، بخروج البول والغائط من غیر الطبیعی مطلقاً، من دون فرق بین الاعتیاد وغیره .

کما لا فرق فی ذلک إذا انطبق علی الخارج عنوان البول والغائط، بین کونه خارجاً عن فوق المعدة _ وهو غیر واقعٍ عادة، وإن حُکی وقوعه عن شخصٍ، کما فی «المصباح» للآملی قدس سره _ أو کان خروجه عن تحت المعدة، لعدم خصوصیّة فی ذلک لما نحن بصدده .

وقد یؤیّد جمیع ما ذکرنا، أنّه لو لم یکن البول والغائط الخارجان عن غیر الطبیعی ناقضین، یلزم أن یکون الإنسان _ الذی حاله کذلک _ ناقضه منحصراً فی النوم، لا الثلاثة الخارجة عن غیر الطبیعی، وهذا بعید غایته .

فالأقوی أنّ البول والغائط مطلقاً، سواء کان معتاداً أو غیر معتاد، وسواء کان خارجاً عن المخرج الطبیعی أو لم یکن، کان ناقضاً وموجباً.

لا یخفی أنّ البحث الواقع فی خروج البول أو الغائط، عن غیر المخرج المعتاد بغیر اعتیاد، إنّما کان فی ناقضیتهما وموجبهما ، وأمّا عن نجاستهما، فقد یظهر من قول صاحب «الحدائق» قدس سره بأنّه لم یفتر علی نصّ للأصحاب فی ذلک. ولکن فی «الجواهر» أنّ الحکم بالنجاسة ممّا لا ینبغی الشکّ والارتیاب فیه.

والتأمّل الظاهر من کلامه لیس علی ما ینبغی، کما أنّ الأقوی عندنا کذلک، لأنّ أدلّة إطلاقات النجاسة للبول والغائط، یشمل المورد أیضاً شمولاً قطعیّاً وإجماعیّاً، ولا یکون دعوی الانصراف إلی المتعارف مسموعاً، وهو واضح .

کما أنّه لا فرق فی ناقضیتهما بین الکثیر منهما أو القلیل، حتّی مثل القطرة من البول، بل الأقلّ منه، حتّی لو تلوّث رأس شیشة الإحتقان بالبول أو العذرة، إذا

ص:37

صدق علیهما اسمهما، لشمول إطلاقات الأدلّة لمثله.

ودعوی الانصراف إلی المتعارف ، مضافاً إلی دلالة خبر عمّار بن موسی(1) إلی ذلک، وقد عرفت توضیحه بقوله فی مورد حَبّ القرع : «وإن خرج متلطّخاً بالعذرة فعلیه أن یعید الوضوء، وإن کان فی صلاته قطع الصلاة، وأعاد الوضوء والصلاة» ، فالمسألة واضحة .

الأحداث الموجبة للوضوء / الریح

کما أنّ الظاهر وضوحها أیضاً فی مثل عدم ناقضیّة ما لا ینفصل عن الإنسان بالخروج ، بل کان جزءٌ من العذرة متّصلة بالمقعد وبقیّتها فی الباطن، ثمّ تخرج فإنّه غیر ناقض إلاّ باعتبار أصل خروجه الأوّل، الذی یصدق أنّه کان داخلاً وخرج .

کما قد یشکل الناقضیّة بما إذا أدخل البول فی المثانة بواسطة الإبرة المعمولة فی هذه الأزمنة، وخرج ولو عن مخرجه المعتاد، ویعلم أنّه لیس إلاّ البول الذی قد أُدخل فیه فإنّ صدق الم_ُح_ْدثیّة لذلک مشکل جدّاً، لانصراف الأدلّة عن مثله قطعاً، کما لا تشمل الفرض السابق من العذرة .

کما لا إشکال فی عدم ناقضیّة ما هو الخارج عن المخرج الطبیعی، غیر البول والغائط من الرطوبات الاُخر، من المذی والوذی، أو الرطوبات الباقیة فی مجری البول والغائط بعد التطهیر، ممّا لا یصدق علیها البول والغائط، لدلالة الأدلّة علی انحصار الناقضیّة بمثل البول والغائط والمنی، کما سیأتی إن شاء اللّه .

هذا تمام الکلام فی البول والغائط .

واعلم أنّ الکلام فی مسألة الریح، من حیث محلّ الخروج، من جهة کونه مساویاً أو غیر معتادٍ، أو کون خروجه عن المخرج الطبیعی أو غیره، هل یکون کالبول والغائط أم لا؟

المختار عندنا أنّ کلّ ریح، یصدق عرفاً أنّه ریحٌ، خرج عن مخرج الغائط


1- وسائل الشیعة: الباب 5، نواقض الوضوء، الحدیث 5.

ص:38

_ لا خصوص الدبر _ یعدّ ناقضاً بلا فرق بین کون خروجه منه معتاداً أو لا وکونه طبیعیّاً أو لا .

نعم ، لابدّ من صدق الضرطة والفسوة علیه، فحینئذٍ یقع الکلام فی أنّه هل یعتبر فی الناقضیّة الصوت أو الرائحة أم لا ؟

فقد یتوهّم اعتبار أحدهما علی البدلیّة، لدلالة صحیح زرارة، عن أبی عبداللّه علیه السلام : قال : لا یوجب الوضوء إلاّ من غائطٍ أو بولٍ أو ضرطةٍ تسمع صوتها، أو فسوة تجد ریحها»(1) .

وصحیح معاویة بن عمّار عن الصادق علیه السلام فی حدیث : «فلا ینقض الوضوء إلاّ ریح تسمعها أو تجد ریحها»(2) .

وخبر سماعة منها: «قال : سألته عمّا ینقض الوضوء ؟ قال : الحدث تسمع صوته أو تجد ریحه»(3) الحدیث .

وصحیح الصدوق، بإسناده عن عبد الرحمن بن أبی عبداللّه، أنّه قال للصادق علیه السلام : «أجد الریح فی بطنی، حتّی أظنّ أنّها قد خرجت ؟ فقال : لیس علیک وضوء، (إلاّ أن) تسمع الصوت أو تجد الریح . ثمّ قال : إنّ إبلیس یجلس بین الیتی الرجل فیحدث لیشکّکه»(4) .

ومارواه المحقّق فی «المعتبر» مرسلاً عنه علیه السلام : «قال : إذا وجد أحدکم فی بطنه شیئاً، فأشکل علیه أخَرَج منه شیء أم لا ، لم یخرج من المسجد حتّی یسمع صوتاً أو یجد ریحاً»(5) .


1- وسائل الشیعة: الباب 2، نواقض الوضوء، الحدیث 2.
2- وسائل الشیعة: الباب 1، نواقض الوضوء، الحدیث 3.
3- وسائل الشیعة: الباب 1، نواقض الوضوء، الحدیث 4.
4- وسائل الشیعة: الباب 1، نواقض الوضوء، الحدیث 5.
5- وسائل الشیعة: الباب 1، نواقض الوضوء، الحدیث 10.

ص:39

علی اعتبار أحد الأمرین، فلو علم بخروج ریحٍ لم یکن له صوت ولا ریح، فلیس بناقض أصلاً .

ولکن الإنصاف _ کما علیه اتّفاق الفقهاء ولم ینقل الخلاف من أحد _ بأنّ الصوت أو الریح لیس فیهما خصوصیة ، بل لا یکون ذکرهما إلاّ من جهة المعرفیّة والعلامیّة، علی أنّه الریح الناقض، لئلاّ یقع فی الوسوسة من الشیطان الرجیم، کما یشهد لذلک ما فی صدر خبر الصدوق بالظنّ للخروج ، فأجاب علیه بتلک العلامة، ثمّ قال فی ذیله بأنّ وجه عدم الاعتناء بالظنّ هو طرد وسوسة الشیطان الذی یجلس بین الیتی الرجل، کما یدلّ علیه بالصراحة أیضاً صدر صحیح معاویة بن عمّار، بقوله : «إنّ الشیطان ینفخ فی دبر الإنسان، حتّی یخیّل إلیه أنّه قد خرج منه ریح، فلا ینقض الوضوء إلاّ ریح تسمعها أو تجد ریحها»(1) . هذا أوّلاً .

وثانیاً : إنّه یبیّن کون الیقین بخروج الریح ناقضاً _ ولو لم یکن له صوت ولا ریح _ معتبرة «قرب الإسناد» ، عن علیّ بن جعفر، عن أخیه موسی بن جعفر علیه السلام : «قال : سألته عن رجل یتّکئ فی المسجد... إلی قوله : وسألته عن رجل یکون فی الصلاة، فیعلم أنّ ریحاً قد خرجت فلا یجد ریحها ولا یسمع صوتها؟ قال : یعید الوضوء والصلاة، ولا یعتدّ بشیء ممّا صلّی إذا علم ذلک یقیناً»(2) .

ومثله فی بیان هذا الأمر الحدیث المروی فی «فقه الرضا».

«ولا تغسل ثوبک إلاّ ممّا یجب علیک فی خروجه إعادة الوضوء، ولا تجب علیک إعادة إلاّ بین بول أو منی أو غائط أو ریح تستیقنها، فإن شککت فی ریح أنّها خرجت منک أو لم تخرج، فلا تنقض من أجلها الوضوء، إلاّ أن تسمع صوتها أو تجد ریحها، وإن استیقنت أنّها خرجت منک، فأعد الوضوء، سمعت وقعها أو لم


1- وسائل الشیعة: الباب 1، نواقض الوضوء، الحدیث 9.
2- وسائل الشیعة: الباب 1، نواقض الوضوء، الحدیث 2.

ص:40

تسمع، وشممت ریحها أو لم تشمّ»(1) .

فعلی ما ذکرنا، ظهر عدم وجود تعارض بین مضامین الأخبار، ومقتضی الجمع الحکم بأنّ الناقض هو أصل الریح، إذا علم به، سواء کان له صوت وریح أم لا، لکنّه أنّه إذا شکّ فان علیه أن یحکم بالعدم، حذراً عن الوسوسة، «إلاّ أن تسمع صوتها أو تجد ریحها» فإنّ أحد هذین الأمرین یعدّ علامة لوجودها .

فما عن «المدارک» من احتمال تقیید ناقضیّة الریح بوجود أحد الوصفین فیها، لیس إلاّ لبیان صِرْف الاحتمال، وإفهام وجود الأخبار بذلک، وإلاّ فإنّ مجموع الإجماع وإطلاق هذه الأخبار حجّة علیه، کما لایخفی .

ثمّ لا یذهب علیک أنّ الملاک فی ناقضیة الریح، هو ما یکون خارجاً عن مخرج الغائط، ولو لم یکن دبراً، لکن شرط أن یصدق علیه الضرطة والفسوة، فما یخرج عن غیره کالخارج عن قُبُل المرأة حین المجامعة وغیرها، أو من قُبُل الرجل إنْ أمکن تصوّره، فلا یعدّ ناقضاً بناقض .

واحتمال کون فرج المرأة له منفذٌ إلی المعدة _ کما عن بعضٍ _ کلام لا یُعبأ به ، بل لو سلّمنا ذلک، فإنّ إثبات الناقضیّة لمثله، من مضمون تلک الأخبار، مشکل جدّاً، لانصرافها إلی ما هو المعمول فی الخارج، الصادق علیه أحد العنوانین ، فما ذهب إلیه «المعتبر» و«التذکرة» و«شرح الموجز» من ناقضیّة الریح الخارجة من قُبُل المرأة بالتعلیل بکونه متّصلاً بداخل جوف المعدة ومنفذاً، لیس بشیء .

کما أنّ قول صاحب «الحدائق» بأنّ جملةٍ من الأصحاب قد صرّحوا بنقض الریح بالخروج من قُبُل الرجل والمرأة، من غیر تقیید بالإعتیاد، مع تقیید ناقضیّة البول والغائط به، لیس بوجیه، لعدم تصریح فی کلام الأصحاب بذلک، علی ما راجعنا مؤلّفاتهم.


1- مستدرک الوسائل: ج 1، ص 31.

ص:41

والنوم الغالب علی الحاسّتین(1)

بل ولو سلّم وجود التصریح به فلا یعبأ به، مع وجود الأدلّة علی خلافهم، کما هو واضح .

فقد ظهر ممّا ذکرنا أنّ قول المحقّق، فی جعل الموجب فی الثلاثة، لخصوص ما یخرج عن المعتاد لیس فی محلّه، فما ذکره بعده بقوله: «ولو خرج الغائط بما دون المعدة نقض فی قول» ، یکون صحیحاً لکنّه، خلافاً لمختار نفسه قدس سره بقوله : «والأشبه أنّه لا ینقض» .

کما أنّ القول بناقضیّة خروجها عن غیر الموضع المعتاد وکذا لو خرج عن جُرح ثمّ صار معتاداً، کما وقع فی کلامه بقوله : «ولو اتّفق المخرج فی غیر الموضع المعتاد نقض، وکذا لو خرج الحدث من جُرحٍ ثمّ صار معتاداً» . صحیحٌ، بل ولو لم یکن الخروج عن غیر المخرج الطبیعی معتاداً کما عرفت، بلا فرق فی جمیع ذلک بین البول والغائط والریح، کما لا فرق فی ناقضیة الریح بین کونه ذات صوت أو ریح وعدمهما، إذا علم بخروجه ، فافهم .

(1) ولا إشکال فی ناقضیّة النوم للوضوء فی الجملة، وهی مورد وفاق بین الفقهاء، لو لم نقل بین المسلمین، إلاّ عن بعض فی بعض أقسامه ، والأخبار المستفیضة، بل المتواترة، دالّة علیه، فلا بأس بالإشارة إلیها، حتّی یکون الناظر إلیها علی بصیرة من حکمه فیدلّ علی ناقضیّة النوم قوله تعالی : «إِذَا قُمْتُمْ إِلَی الصَّلاَةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَکُمْ وَأَیْدِیَکُمْ إِلَی الْمَرَافِقِ»(1) الآیة .

فإنّ ظاهرها یدلّ علی أنّ مطلق من قام للصلاة _ سواء کان عن حال قعود أو اضطجاع أو حال قیام لاُمور اُخر _ وأراد إتیان الصلاة _ إن اُرید من (القیام)


1- سورة المائدة: آیة 5 و 6.

ص:42

الکنایة عن إتیان الصلاة، لا القیام اللغوی _ فإنّه یوجب الوضوء بمقتضی الأمر المتعلّق لأجزاء الوضوء، فی قوله : «فَاغْسِلُوا وُجُوهَکُم» مطلقاً، سواء کان متطهّراً أو غیر متطهّرٍ .

الأحداث الموجبة للوضوء

فبالإجماع والضرورة، القائمین علی عدم وجوب الوضوء للمتطهّر، لابدّ أن یقول بأحد الأمرین .

أمّا القول بخروج المتطهّر عن مساق الآیة، فیبقی الأمر علی حاله من الظهور فی الوجوب .

أو القول بکون الأمر مستعملاً فی الجامع بین الوجوب والندب، أی مطلق رجحان الفعل، حتّی یکون فی غیر المتطهّر واجباً، وفیه مستحبّاً، وعلی هذا، القرینة وجود أخبار کثیرة دالة علی عدم وجوب الوضوء للمتطهّر، فیصیر حینئذٍ من قبیل قوله علیه السلام : «اغتسل للجمعة والجنابة» .

غایة الأمر علی هذا الوجه، لیس فی الآیة دلالة لناقضیّة النوم ولو اشارةً، بل مقتضی إطلاقها وجوب الوضوء أو استحبابه لمطلق القیام للصلاة، کما لا یخفی ، خلافاً للوجه الآخر المستفاد من بعض الأخبار، وإجماع المفسّرین مثل الشیخ الطوسی فی «التبیان» و«العلاّمة» فی «المنتهی»، وذلک لما ورد فی بعض الروایات علی کون المراد من القیام هو القیام عن النوم لا المطلق، أو هو، کما فی موثّقة (أو مصحّحة) ابن أبی عمیر عن ابن بکیر: قال : قلت لأبی عبداللّه علیه السلام : «قوله تعالی : «إِذَا قُمْتُمْ إِلَی الصَّلاَةِ» ما یعنی بذلک ؟ قال : إذا قمتم من النوم .قلت : ینقض النوم الوضوء ؟ فقال : نعم ، إذا کان یغلب علی السمع ولا یسمع الصوت»(1) .

وخبر بکیر بن أعین عن أبی جعفر علیه السلام : «فی قوله تعالی : «یَا أَیُّهَا الَّذِینَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَی الصَّلاَةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَکُمْ وَأَیْدِیَکُمْ إِلَی الْمَرَافِقِ» قلت : ما


1- وسائل الشیعة: الباب 3، نواقض الوضوء، الحدیث 7.

ص:43

عنی بها ؟ قال : من النوم»(1) .

وحدیث القطب الراوندی فی «آیات الأحکام» فی ذیل الآیة: روی أنّ الباقر علیه السلام : «سُئل : ما المراد من القیام إلیها ؟ قال : المراد به القیام إلی النوم»(2).

فهذه جملة من الأخبار الدالّة علی ذلک .

فعلی هذا یمکن أن یکون الأمر فی الآیة مستعملاً فی الوجوب، کما هو الظاهر من الأمر، فتدلّ علی کون النوم ناقضاً للوضوء، معتضدة بالأخبار الدالّة علی کون المراد من القیام هو القیام من النوم ، هذا بحسب الآیة .

وأمّا ثبوت الحکم بواسطة الأخبار : منها ما رواه زرارة فی الصحیح عن أحدهما علیهماالسلام : «قال : لا ینقض الوضوء إلاّ ما خرج من طرفیک أو النوم»(3) .

وخبر عبداللّه بن المغیرة ومحمّد بن عبداللّه: «قالا : سألنا الرضا علیه السلام عن الرجل ینام علی دابّته ؟ قال : إذا ذهب النوم بالعقل فلیعد الوضوء»(4) .

وصحیح عبد الحمید بن عوّاض عن أبی عبداللّه علیه السلام : قال : سمعته یقول : من نام وهو راکع أو ساجد أو ماش علی أیّ الحالات فعلیه الوضوء»(5) .

وصحیح إسحاق بن عبداللّه الأشعری عن أبی عبداللّه علیه السلام : «قال : لا ینقض الوضوء إلاّ حدث والنوم حدث»(6) .

وخبر سماعة قال : «سألت أبا عبداللّه علیه السلام عن الرجل ینام وهو ساجد؟ قال :


1- مستدرک الوسائل، الباب 3، نواقض الوضوء، ح4
2- مستدرک الوسائل، الباب 3، نواقض الوضوء، ح1
3- وسائل الشیعة: الباب 3، نواقض الوضوء، الحدیث 1.
4- وسائل الشیعة: الباب 3، نواقض الوضوء، الحدیث 2.
5- وسائل الشیعة: الباب 3، نواقض الوضوء، الحدیث 3.
6- وسائل الشیعة: الباب 3، نواقض الوضوء، الحدیث 4.

ص:44

ینصرف ویتوضّأ»(1) . وابن بکیر الذی مرّ ذکره(2) .

وصحیح زید الشحّام فی حدیث عن الصادق علیه السلام : «أنّ علیّاً علیه السلام کان یقول : من وجد طعم النوم، فإنّما أوجب علیه الوضوء»(3) .

وصحیح عبد الرحمن بن الحجّاج، فی حدیث عن الصادق علیه السلام : «قال : من وجد طعم النوم قائماً أو قاعداً، فقد وجب علیه الوضوء»(4) إلی غیر ذلک من الأخبار الدالّة بالصراحة أو الاشارة، وهذا المقدار یکفی فی ثبوت الحکم فی المقام .

فیقع الکلام حینئذٍ فی أُمور :

الأمر الأوّل : هل المراد من النوم، هو ذهاب العقل _ کما فی بعض الأخبار _ مثل خبر عبداللّه بن المغیرة، أو عدم سماع الصوت _ کما فی بعض آخر _ مثل خبر ابن بکیر، أو ما یغلب علی السمع والبصر _ کما فی خبر سعد: عن الصادق علیه السلام ، قال : اذنان وعینان، تنام العینان ولا تنام الاُذنان، وذلک لا ینقض الوضوء، فإذا نامت العینان والاُذنان انتقض الوضوء»(5) .

وفی بعض آخر إضافة القلب معهما کما فی صحیح زرارة ، عن الصادق علیه السلام فی حدیث: «فإذا نامت العین والاُذن والقلب وجب الوضوء»(6) .

وفی بعض آخر یکون لفظ النوم بصورة الإطلاق، من دون أن یکون مقیّداً بقید، کما فی کثیر من الأخبار الماضیة ؟

ولکن الظاهر أنّ ملاک الناقضیّة وجود أصل النوم، وحیث کان ذلک قد یشتبه


1- وسائل الشیعة: الباب 3، نواقض الوضوء، الحدیث 5.
2- وسائل الشیعة: الباب 3، نواقض الوضوء، الحدیث 7.
3- وسائل الشیعة: الباب 3، نواقض الوضوء، الحدیث 8.
4- وسائل الشیعة: الباب 3، نواقض الوضوء، الحدیث 9.
5- وسائل الشیعة: الباب 1، نواقض الوضوء، الحدیث 8.
6- وسائل الشیعة: الباب 1، نواقض الوضوء، الحدیث 1.

ص:45

مع مبادیه عند الناس، فلذلک جعل الشارع له معیاراً حتّی یُعرف به، فالظاهر هو کون وجوب النوم یؤثّر فی ذهاب العقل الناشئ من نوم القلب، وهو یعرف بنوم

الاُذن، بأن لا یسمع صوتاً، وأمّا نوم العین فهو من أهون مراتب آثار مبادئ النوم، ولیس بنوم، ولذلک لم یجعله بخصوصه من علائمه، إذ ربّما لا تبصر العین وتنوم ویفهم الکلام ویسمع، کما قد ینعکس الأمر فی بعض الأفراد فتکون عینه مفتوحة ولکن القلب والاُذن نائمین، فلا إشکال فی تحقّق النوم.

فیفهم من بیان التفصیل فی خبر زرارة، بقوله : «یا زرارة قد تنام العین ولا ینام القلب والاُذن»(1) أن تمام الملاک هو نوم الأذن من جهة أنّه دالٌ ومعرّف علی نوم القلب وذهاب العقل، فانضمام العین فی بعض الأخبار إلی الأُذن أو به مع القلب، کان لدفع توهّم کفایة نوم العین فقط، فالتعبیر بنوم الاذن یکفی عن الجمیع ، مضافاً إلی وضوح ذلک عند العرف، کما یفهم من خبر زید الشحّام، قال : «سألت أبا عبداللّه علیه السلام عن الخفقة والخفقتین؟ فقال : ما أدری ما الخفقة والخفقتین، إنّ اللّه تعالی یقول : «بَلْ الاْءِنسَانُ عَلَی نَفْسِهِ بَصِیرَةٌ»(2) إنّ علیّاً علیه السلام کان یقول : مَن وجد طعم النوم فإنّما أوجب علیه الوضوء»(3) ، فکأنّه من الواضحات، حیث یفهم الإنسان من عند نفسه أنّه قد نام أم لا، فالمسألة بحمد اللّه واضحة .

الأمر الثانی : فی أنّ النوم ناقض بأیّ وجه حصل سواء قاعداً أو قائماً أو مجتمعاً أو منفرجاً أو مضطجعاً، خلافاً لما نقل عن الصدوق، حیث نقل یدلاّن علی عدم ناقضیّته إلاّ فی حال الاضطجاع والانفراج، حیث أورد فی «الفقیه» بعض ما یدلّ علیه کما سننقله إن شاء اللّه .


1- وسائل الشیعة: الباب 1، نواقض الوضوء، الحدیث 6.
2- سورة القیامة : آیة 14 .
3- وسائل الشیعة: الباب 3، نواقض الوضوء، الحدیث 8.

ص:46

وأمّا الدلیل علی ما ادّعیناه هو دلالة صریح الأخبار الکثیرة وظهورها فی ذلک، أبینها وأظهرها صحیح عبد الحمید بن عواض، عن الصادق علیه السلام : «قال : سمعته یقول : من نام وهو راکع أو ساجد أو ماش علی أیّ الحالات فعلیه الوضوء»(1) .

وصحیح ابن المغیرة ومحمّد بن عبداللّه، قالا : «سألنا الرضا علیه السلام عن الرجل ینام علی دابّته . فقال : إذا ذهب النوم بالعقل فلیعد الوضوء»(2) .

وصحیح عبد الرحمان فی حدیث: «قال : من وجد طعم النوم قائماً أو قاعداً فقد وجب علیه الوضوء»(3) .

بل وهکذا إذا نام قاعداً مع العلّة، لصراحة دلالة خبر معمّر بن خلاّد: «قال : سألت أبا الحسن علیه السلام عن رجل به علّة لا یقدر علی الاضطجاع، والوضوء یشتدّ علیه، وهو قاعدٌ مستند بالوسائد، فربما أغفی وهو قاعد علی تلک الحال؟ قال : یتوضّأ . قلت له : إنّ الوضوء یشتدّ علیه لحال علّته؟ فقال : إذا خفی علیه الصوت فقد وجب علیه الوضوء»(4) ، الحدیث .

والإغفاء هو النوم کما فی «الصحاح» و«القاموس» علی ما فی «الجواهر»، أو النعسة کما عن «الوافی» أیضاً ، ولعلّ وجه إصرار الراوی، کان بلحاظ أنّه لعلّ الإمام أجازه فی تلک الحالة والعلّة _ کما علیه بعض العامّة من عدم ناقضیّته قاعداً مجتمعاً کما عن الشافعی ، بل مطلقاً کما عن أبی حنیفة _ .

وغیر ذلک من الأخبار تدلّ أیضاً علی المسألة .

فمع وجود هذه الأخبار، لا یعبأ بما نقل عن علیّ بن بابویه، من عدم ناقضیّته


1- وسائل الشیعة: الباب 3، نواقض الوضوء، الحدیث 3.
2- وسائل الشیعة: الباب 3، نواقض الوضوء، الحدیث 2.
3- وسائل الشیعة: الباب 3، نواقض الوضوء، الحدیث 9.
4- وسائل الشیعة: الباب 4، نواقض الوضوء، الحدیث 1.

ص:47

مطلقاً، وحصر النواقض بالبول وأخویه، للإمکان أن یکون مراده الحصر بالنسبة إلی سائر ما یخرج عن الإنسان من الماء، فیکون حصراً إضافیّاً لا فی قبال مثل النوم ، بل کیف یمکن ذلک مع نقل ولده الصَّدوق اتّفاق الإمامیّة علی ناقضیّته من دون أن یعبأ بکلام أبیه، مع کونه من رؤسائهم .

کما لا یُعبأ بما نقل عن الصدوق قدس سره من القول بعدم ناقضیة، إذا کان قاعداً،

لمجرّد وجود بعض ما یدلّ علی ما یوافقه، مثل خبر عمران بن حمران: «أنّه سمع عبداً صالحاً علیه السلام یقول : من نام وهو جالس لا یتعمّد النوم فلا وضوء علیه»(1) .

وخبر بکر بن أبی بکر الحضرمی: «قال : سألت أبا عبداللّه علیه السلام : هل ینام الرجل وهو جالس ؟ فقال : کان أبی یقول : إذا نام الرجل وهو جالس مجتمع، فلیس علیه وضوء، وإذا نام مضطجعاً فعلیه الوضوء»(2) .

ومضمرة سماعة: «أنّه سأله عن الرجل یخفق رأسه، وهو فی الصلاة قائماً أو راکعاً ؟ فقال : لیس علیه وضوء»(3) .

ومرسلة الصدوق: «قال : سُئل موسی بن جعفر علیه السلام عن الرجل یرقد وهو قاعد هل علیه وضوء ؟ فقال : لا وضوء علیه ما دام قاعداً إن لم ینفرج»(4) .

وخبر عبداللّه بن سنان: «عن أبی عبداللّه علیه السلام فی الرجل هل ینقض وضوئه إذا نام وهو جالس ؟ قال : إن کان یوم الجمعة فی المسجد فلا وضوء علیه وذلک أنّه فی حال ضرورة»(5) .

فإنّ فی بعضها موهونة من حیث السند، کما فی خبر عمران الأوزاعی، حیث


1- وسائل الشیعة: الباب 3، نواقض الوضوء، الحدیث 14.
2- وسائل الشیعة: الباب 3، نواقض الوضوء، الحدیث 15.
3- وسائل الشیعة: الباب 3، نواقض الوضوء، الحدیث 12.
4- وسائل الشیعة: الباب 3، نواقض الوضوء، الحدیث 11.
5- وسائل الشیعة: الباب 3، نواقض الوضوء، الحدیث 16.

ص:48

لم یوثّقه أحد من الرجال، ومثله بکر بن أبی بکر إضمار سماعة .

أو وهناً من حیث الدلالة، لإمکان أن یکون المقصود من قوله: «لا یتعمّد النوم» فی خبر عمران، الکنایة عن عدم تحقّقه لا حصوله من غیر اختیار، کما هو الظاهر بدواً، کما لا یبعد الحمل علیه خبر سماعة بقوله : «یخفق رأسه»، أن یکون کنایة عن عدم غلبة النوم، کما لا یأبی عن الحمل بذلک مرسلة الصدوق، کما یؤیّده قوله: «ما دام قاعداً إن لم ینفرج» حیث قیّد القعود بعدم الانفراج، فیعدّ

کنایة عن عدم غلبة النوم، لأنّه إذا غلب ینفرج الأعضاء.

فعلیه لا ینافی مع ما التزم فی أوّل کتاب «الفقیه» بالإفتاء بما یذکر فیه، مع إمکان أن یقال : إنّ هذه الجملة إنّما تصحّ فیما إذا ذکر خبراً من دون ذکر معارضه، بخلاف ما لو ذکر کلیهما، کما فی ما نحن فیه، لأنّه مضافاً إلی، نقل صحیحة زرارة الدالة علی ناقضیّة النوم للوضوء، فیکون المقصود من کلامه فی نقله المرسلة فی أمثال هذه المقامات، به مع ما یقتضیه الجمع بینه وبین ما یعارضه، إذ أن شأن الفقیه هو الفتوی، لا مجرّد سرد الأحادیث فإنّ ذلک من شأن المحدّثین.

أو وهناً من حیث الجهة، فلا یبعد أن یکون خبر بکر بن أبی بکر من هذا القبیل حیث ورد فیه أنّ أبی یقول : وهو مشعرٌ لذلک _ أی التقیّة _ إذا کان الخبر منقولاً عن الصادق علیه السلام ، حیث کان علیه السلام معاصراً الدال علی الشافعی، الذی کان متأخّراً عن الباقر علیه السلام ، ولا یبعد صدوره تقیةً.

وخبر عبداللّه بن سنان، الدال علی کونه فی المسجد فی یوم الجمعة، حیث کان ازدحم لصلاة الجمعة، وإرادة الخروج منه للوضوء مع نومه قاعداً یوجب له الخطر بحسب نظر العامّة، ولذلک أضاف فی ذیله بکونه فی حال الضرورة .

وأمّا وظیفته من جهة کفایة هذه الصلاة له أو لا؟ فإنّ الأخبار ساکتةٌ فی الجملة ، وهو العالم .

وهل یجیز فقیه لنفسه أن یفتی علی طبق مضمون هذه الأحادیث، التی قد

ص:49

عرفت حالها، مع وجود أخبار مستفیضة _ لو لم تکن متواترة _ علی ناقضیّة النوم مطلقاً، فی تمام الحالات؟

فإن دلالة الأخیرة الأقوی، بل علیه الفتوی جزماً، کما لا یخفی .

الأمر الثالث : فی أنّ النوم بنفسه ناقضٌ أو أنّه ناقضٌ من جهة أنّه موجب لاسترخاء الأعضاء، فیخرج منه مثل الریحٌ فیوجب نقض الوضوء ؟

والذی یظهر من بعض الأخبار هو الثانی، مثل خبر «العلل» و«عیون

الأخبار» ، فی حدیثٍ، عن الفضل عن الرضا علیه السلام (1)

وأمّا النوم فإنّ النائم إذا غلب علیه النوم، فانّ من الممکن استرخاء عضلات مخرجه وخروج ریح منه، فیوجب علیه الوضوء لهذه العلّة .

وخبر أبی الصباح الکنانی، عن أبی عبداللّه علیه السلام : «قال : سألته عن الرجل یخفق وهو فی الصلاة ؟ فقال : إن کان لا یحفظ حدثاً منه إن کان، فعلیه الوضوء وإعادة الصلاة، وإن کان یستیقن أنّه لم یحدث فلیس علیه وضوء ولا إعادة»(2) .

وکذلک الأخبار التی تدلّ علی حصر النواقض، فیما یخرج عن الطرفین ، مثل خبر سالم أبی الفضل بقوله : «لیس ینقض الوضوء إلاّ ما خرج من طرفیک الأسفلین»(3) ، الحدیث .

وخبر أبی بصیر، بقوله : «إنّما الوضوء من طرفیک الذین أنعم اللّه بهما علیک»(4).

وأمثال ذلک ، هذا ، ولکن الحقّ کون نفس النوم ناقضاً، لأنّه _ مضافاً إلی ما عرفت فی صدر المسألة من الأخبار التی تعدّ نفس النوم من النواقض _ ینافی ذلک مع ما فی صراحة صحیح إسحاق بن عبداللّه الأشعری ، عن أبی عبداللّه علیه السلام :


1- وسائل الشیعة: الباب 3،نواقض الوضوء، الحدیث 13.
2- وسائل الشیعة: الباب 3، نواقض الوضوء، الحدیث 6.
3- وسائل الشیعة: الباب 3، نواقض الوضوء، الحدیث 4.
4- وسائل الشیعة: الباب 3، نواقض الوضوء، الحدیث 5.

ص:50

وفی معناه کلّما أزال العقل من إغماء أو جنون أو سُکْرٍ(1)

«قال : لا ینقض الوضوء إلاّ حدث والنوم حدث»(1) .

وأمّا الجواب عمّا فی «العلل»: فیمکن أن یقال بکون ما ذکره هو الحکمة للجعل، إذ قد تُطلق العلّة علی الحکمة، فلا ینافی ذکر لفظ العلّة فی ذیلها، والفارق فیهما هو عدم العلیّة فی الحکمة، بل یجوز أن یکون حالة معیّنة غالبة کافیة فی جعل الحکم، وإن قطع فی مورد بعدم خروج ریح منه، بخلاف العلّة حیث یدور الحکم مدارها وجوداً وعدماً، کما لا یخفی .

وأمّا الجواب عن الخبر الثانی الذی کان فی صدد بیان الضابط لمعرفة غلبة النوم _ کما شهد علیه قوله : «إن کان لا یحفظ حدثاً منه إن کان»، هو أنّ من الواضح أنّ النوم لو کان موجباً لذلک، فلابدّ من أن یحکم بأنّه إذا غلب النوم فقد خرج منه الحدث، فوجب علیه الوضوء ، کما أنّ المراد من قوله: «وإن کان یستیقن أنّه لم یحدث فلیس علیه الوضوء»، أی استیقن بعدم تحقّق النوم، لإمکان حفظه الحدث لو أراد الخروج، فالحدیث ادلّ علی رأی الخصم من دلالته علی رأیه کما لا یخفی .

وأمّا الجواب عن الأخبار الحاصرة، فواضحة بکونها فی مقام ما یخرج من الطرفین من سائر المیاه، فیکون الحصر منافیاً لا حقیقیّاً .

فثبت أنّ النوم بنفسه ناقض، کما علیه الإجماع، لا بما أنّه موجب لخروج حدث، کما لا یخفی .

(1) ولا یخفی أنّه هو الخامس من الأحداث الستّة الناقضة، ولا إشکال عند

الفقهاء فیه وهو مورد تسالمهم ، بل عن «المنتهی» لا نعرف فیه خلافاً بین أهل


1- وسائل الشیعة: الباب 3، نواقض الوضوء، الحدیث 4.

ص:51

العلم، وعن «النهایة» نسبته إلی علمائنا ، وعن «الغنیة» و«المستدرک» و«الدلائل» و«الکفایة»: إجماع الأصحاب ، وعن «التهذیب»: إجماع المسلمین ، وعن «الخصال» للصدوق أنّه من دین الإمامیة ، وعن «البحار»: أکثر الأصحاب نقلوا الإجماع علی ناقضیّته :

الأحداث الموجبة للوضوء / کلّ ما أزال العقل

بل عن المحقّق الهمدانی قدس سره قال : قلّما یوجد فی الأحکام الشرعیّة موردٌ یمکن استکشاف قول الإمام، أو وجود دلیل معتبر من اتّفاق الأصحاب مثل المقام ، کما أنّه قلّما یمکن الاطّلاع علی الإجماع لکثرة ناقلیه، واعتضاد نقلهم بعدم نقل الخلاف، کما فیما نحن فیه ، انتهی موضع الحاجة من کلامه .

فمع وجود هذه الأقوال فی نقل الإجماع، فلا یعبأ بتردّد صاحبی «الحدائق» و«الوسائل» فی المسألة، مع إمکان أن یکون وجه قولهم هو عدم حجّیة الإجماع بکلا قسمیه عندهما، لکنّه لا یخلو عن تأمّل .

والحاصل : أنّ العمدة فی المسألة هو الإجماع وهو المعقد .

ولکن استدلّوا بوجوه من ظواهر الأخبار، ممّا لا یخلو عن إشکال، لإثبات ناقضیة الثلاثة، حیث لا یکون بعضها مثبتاً أصلاً، أو لا یکون شاملاً للثلاثة لو سلّم الدلالة فی الجملة ، فلا بأس بذکرها .

ومنها : صحیحتی زرارة وعبداللّه بن المغیرة ففی الأوّل بیان لما ینقض بقوله : «والنوم حتّی یذهب العقل»(1) وفی الثانی: «إذا ذهب النوم بالعقل»(2) .

لأنّهما یدلاّن بکون الملاک لناقضیة النوم هو ذهاب العقل ، مع أنّ النوم لا یُذهب العقل حقیقة _ کما سیأتی توضیحه _ بل یغطّیه، فإذا کان حکم النوم کذلک، فمثل السکر أو الجنون حیث یذهب بالعقل حقیقة یوجبان النقض بطریق أولی .


1- وسائل الشیعة: الباب 2، نواقض الوضوء، الحدیث 2.
2- وسائل الشیعة: الباب 3، نواقض الوضوء، الحدیث 2.

ص:52

هذا، ولکن الإنصاف أنّ فی هذین الخبرین إشعارٌ بذلک ، بل فوق الإشعارٌ إلاّ أنّ فی دلالتهما تأمّل، لإمکان أن یکون فی مقام بیان تحدید حدّ النوم، بأنّ الناقض فیه هو هذا الحدّ منه لا مطلقاً .

وأمّا کون العلّة حقیقةً هو ذهاب العقل، ولو لم ینطبق علیه النوم، فاستفادته استدلالاً منها فی غایة الإشکال، فإثبات الأولویّة حینئذٍ ظنّیاً فضلاً عن کونها قطعیّاً مشکل جدّاً .

ومنها : الاستدلال بصحیحة معمّر بن خلاّد(1) من جهات شتّی .

تارةً : فی مادّة إغفاء، بکون المراد منه هو الإغماء لا النوم، لأنّه یفرض المریض الذی عاجزٌ عن الاضطجاع لا النوم، إذ هو لا یحتاج إلی البیان _ کما فی التنقیح _ خصوصاً مع کلمة (ربّما) حیث یفهم منه الکثرة .

لکنّه مندفع بما قد عرفت فی معنی الإغفاء عن مثل «الصحاح» و«القاموس» بکونه بمعنی النوم لا الإغماء .

ولا نسلّم ما ذکره فی «التنقیح» من عدم عروض النوم للمریض الکذائی، بل کان الأمر بعکس ما ذکره، إذ المریض الذی یستند إلی الوسادة دائماً، عادة یعرضه النوم والنعاس کثیراً، کما لا یخفی، وهذا هو الذی یحتاج إلی السؤال، لا الإغماء الذی کان وجوده فی غایة الندرة .

وأُخری بالاستدلال عن إطلاق ذیله، بقوله: «إذا خفی علیه الصوت فقد وجب علیه الوضوء»، بالأخذ بإطلاقه، أی سواء کان الخفاء بواسطة النوم أو غیره ممّا یُذهب العقل، فیشمل الثلاثة أیضاً، هذا کما عن المحقّق الثانی قدس سره .

لکنّه مندفع بأنّ الظاهر کون مرجع الضمیر المجرور فی قوله علیه السلام «علیه» هو الرجل النائمٌ الذی کان مذکوراً فی سابقه .


1- وسائل الشیعة: الباب 4، نواقض الوضوء، الحدیث 1.

ص:53

نعم ، لو رجع الضمیر إلی مطلق الرجل والإنسان، فیصحّ ما ذکره، لکنّه خلاف الظاهر .

والحاصل: أنّ الظاهر هو کون الخفاء للصوت الناشئ عن النوم ناقضاً لا مطلق حصول خفاء الصوت ، هذا مضافاً إلی أنّه لو سلّمنا دلالته علی ذلک فیلزم شموله لخصوص الإغماء لا أخویه، فإلحاقهما بهما _ لعدم القول بالفصل _ رجوع إلی الإجماع، ولو أُجیز ذلک فلا نحتاج إلی مثل هذا الإجماع المرکّب الذی وقع الکلام فی حجّیته ، بل نرجع إلی الإجماع المحصّل الذی کان مقطوع الحجّیة عند الکلّ، کما لا یخفی .

ومنها : ما رواه الصدوق فی «العلل» و«العیون» عن الفضل بن شاذان بقوله فی حدیثٍ : «وأمّا النائم إذا غلب علیه النوم یفتح کلّ شیء منه واسترخی فکان أغلب الأشیاء علیه فیما یخرج منه الریح فوجب علیه الوضوء لهذه العلّة»(1) .

حیث أشار إلی هذا الاستدلال الشیخ الأعظم قدس سره من جهة وحدة الملاک، فیما بین الثلاثة والنوم ، لأنّ النوم کما یوجب استرخاء الأعضاء الموجب لخروج الحدث، فهکذا یکون فیها .

وفیه أوّلاً : أنّه قد عرفت سابقاً بأنّ هذه التعلیلات أشبه من أن بالحکمة تکون کلمة غیر مطّردة، فلا یکون الحکم دائراً مدار وجودها، فهی موضوعة لجعل الحکم والتشریع، ولذلک لا یحکم بنقض الوضوء لمن استرخی أعضائه، بحیث لم یحسّ لو خرج منه الریح، ما لم یخرج منه الحدث حقیقةً .

وثانیاً : لو سلّمنا ذلک، فإنّ الملاک موجودٌ فی مثل الإغماء فقط، دون المجنون والسکران، حیث لا یتراخی أعضائهما وتبقی حواسهما باقیة ، غایته أنّه لا شعور لهما ولا التفات، فالحاقهما بالإغماء بعدم القول بالفصل، قد عرفت أنّه رجوع إلی الإجماع .


1- وسائل الشیعة: الباب 3، نواقض الوضوء، الحدیث 13.

ص:54

ومنها : الخبر المرویّ عن دعائم الإسلام عن جعفر بن محمّد علیه السلام : عن آبائه علیهم السلام : «إنّ الوضوء لا یجب إلاّ مِنْ حدثٍ وأنّ المرء إذا توضأ صلّی بوضوئه ذلک ما شاء من الصلاة، ما لم یحدث أو ینم أو یجامع أو یغمی علیه، أو یکون منه ما یجب منه إعادة الوضوء»(1) .

فدلالة الحدیث لخصوص الإغماء تکون بالصراحة، فمن اعتمد علی الکتاب المذکور، أو اعتمد علی الأخبار الموجودة فیه المنجبرة بعمل الأصحاب، وکان الإجماع عنده جابراً لضعف سنده _ لو قلنا بالضعف فیه _ کان له أن یحکم بالناقضیّة لخصوص الإغماء فقط دون أخویه . إلاّ أن یلحقهما به بالإجماع، فهو أیضاً رجوع إلی إثبات الحکم بالإجماع، کما هو کذلک فی صورة جبره به أیضاً ، کما لا یخفی .

ومنها : ما استدلّ به السیّد الاصفهانی قدس سره فی تقریراته المسمّی ب_ «الروائع» بصحیح إسحاق بن عبداللّه الأشعری عن أبی عبداللّه علیه السلام : قال : لا ینقض الوضوء إلاّ حدث والنوم حدث»(2) ، بتقریب أنّ کلّ حدث یخرج عن بدن الإنسان یوجب الوضوء، فمنه الجنون والإغماء والسکر ، ثمّ أشکل علی نفسه بأنّه یلزم الوضوء لکلّ حدثٍ، حتّی مثل خروج دم الرعاف والحجامة ، فأجاب : بأنّا نلتزم به، إلاّ أنّه فی بعض الموارد ورد دلیل علی استحباب الوضوء، فیؤخذ به، وفی غیره یحکم بالوجوب .

هذا، لکنّه موهون جدّاً، لأنّه کیف یمکن الالتزام بالوضوء لکلّ حدث حتّی ندباً، لأنّ خروج العرق من الإنسان أیضاً حدثٌ، فیلزم الحکم باستحباب الوضوء عنده ، مع أنّه خلاف الإجماع، فلا یصار إلیه کما لا یخفی .

فثبت من جمیع ما ذکرنا عدم وجود دلیلٍ متیقّن لإثبات حکم الثلاثة


1- مستدرک الوسائل: ج 1 الباب 2 نواقض الوضوء، ح 4.
2- وسائل الشیعة: الباب 3، نواقض الوضوء، الحدیث 4.

ص:55

والاستحاضة القلیلة(1)

بالصراحة إلاّ الإجماع ، نعم لا بأس بأخذ ما ذکرنا من الأخبار من باب تأییداً الحکم، خصوصاً فی الإغماء .

فالحکم بناقضیّة الإغماء والجنون والسکر له مسلّمٌ.

تبصرةٌ: اعلم أنّ الفرق بین کلّ من الثلاثة مع الآخر، بحسب فهم العرف ظاهرٌ ، قال فخر المحقّقین فی محکی «شرح الإرشاد»: إنّ النوم والسکر مغطّیان للعقل، ولا یزیلانه، والجنون مزیل له قطعاً، وفی الإغماء احتمالان والأکثر علی أنّه أیضاً مزیل .

وقال الشهید الثانی فی «شرح الألفیّة»: النوم مغطّی للعقل خاصّة، ومعطّل للحواسّ، والإغماء معطّل لهما، وبتعطیله للحواس فارَقَ السُّکر، وبتغطیة السُّکر علی العقل خاصّة فارق الجنون .

فیثبت من کلام هذین العلمین، بأنّ التعبیر بما یزیل العقل للثلاثة _ کما فی عبارة المصنّف فی المتن وغیره _ لا یخلو عن مسامحة، لوضوح أنّ النوم والسکر یکونان مغطّیان للعقل لا مزیلهما، بخلاف الجنون والإغماء، فالأحسن _ کما فی «الجواهر» وغیره _ إضافة التغطیة، بأن یقال کلّما: أزال العقل أو غطّاه من الثلاثة، فحکمه کذا.

کما یظهر ممّا ذکرنا من عدم الدلیل علی ناقضیة الثلاثة إلاّ الإجماع، وهو أیضاً دلیلٌ لبّی، فیکتفی بالقدر المتیقّن من مصداقه، وهو لیس إلاّ فی الثلاثة، فمثل البهت المسمّی بالفارسیة ب_ (شُوک) لا یوجب نقض الوضوء، لعدم شمول الإجماع له وفی مورده، کما لا یخفی .

(1) وهی السادس من النواقض، والدلیل علیه الإجماع بکلا قسمیه، بل لا خلاف فیه ، إلاّ عن ابن أبی عقیل المعروف بالعُمّانی، من القول بعدم وجوب

الوضوء والغسل فیه ، وابن الجُنَید المعروف بالإسکافی، من إیجاب غسل واحد فی الیوم واللیلة .

الأحداث الموجبة للوضوء / الاستحاضة القلیلة

ص:56

والأخبار الصحیحة المعتبرة دالة علیه، مثل ما رواه زرارة فی الموثّق عن أبی جعفر علیه السلام : «قال : سألته عن الطامث، تقعد بعدد أیّامها، کیف تصنع ؟ قال : تستظهر بیوم ویومین، ثمّ هی مستحاضة فلتغتسل وتستوثق من نفسها، وتصلّی کلّ صلاة بوضوء ما لم ینفد (یثقب) الدم، فإذا نفد اغتسلت وصلّت» (1).

وصحیح معاویة بن عمّار، عن الصادق علیه السلام فی حدیثٍ: «وإن کان الدم لا یثقب الکرسف، توضّأت ودخلت المسجد، وصلّت کلّ صلاة بوضوء»(2) الحدیث .

بل یمکن الاستفادة لذلک من خبر حسین بن نعیم الصحّاف فی حدیثٍ عن الصادق علیه السلام : «إذا رأت الحامل الدم بعدما یمضی عشرون یوماً من الوقت الذی کانت تری فیه الدم من الشهر الذی کانت تعقد فیه، فإنّ ذلک لیس من الرحم، ولا من الطمث، فلتتوضّأ وتحتشی بکرسف وتصلّی»(3) ، الحدیث .

حیث لا یبعد أن یکون وجه الحکم بالوضوء من جهة هذا الدم، لا أنّ تکون محدّثة بحدث آخر .

وهکذا من خبر محمّد بن مسلم عن أحدهما علیهماالسلام فی حدیث الوارد فی الحامل: «قال : تلک الهراقة من الدم إن کان دماً أحمر کثیراً فلا تصلّی، وإن کان قلیلاً أصفر فلیس علیها إلاّ الوضوء»(4) .

وخبر محمّدبن مسلم فی حدیثٍ: «وإن رأت الصفرة فیغیر أیّامها توضّأت وصلّت»(5) .


1- وسائل الشیعة: الباب 1، الاستحاضة، الحدیث 9.
2- وسائل الشیعة: الباب 1، الاستحاضة، الحدیث 1.
3- وسائل الشیعة: الباب 3، الاستحاضة، الحدیث 30.
4- وسائل الشیعة: الباب 30، الاستحاضة، الحدیث 16.
5- وسائل الشیعة: الباب 4، الاستحاضة، الحدیث 1.

ص:57

ولا ینقض الطهارة مَذْیٌ ولا وَذْیٌ ولا وَدْیٌ(1)

وخبر علیّ بن جعفر عن أخیه موسی بن جعفر علیه السلام فی حدیث : «فإن رأت صفرة بعد غسلها فلا غسل علیها، یجزیها الوضوء عند کلّ صلاة، وتصلّی»(1) .

بناء علی حمل الأخیرین علی الملازمة غالباً بین الصفرة والقلّة، کما یؤیّد عدم إیجاب الغسل علیها ، ولو علی مرّة فی کلّ یومٍ ولیلة .

وکیف کان، ففی دلالة الأخبار والإجماع علیه غنیً وکفایة، فلا یُسمع حینئذٍ بالأصل المقتضی لعدم وجوب الوضوء، أو ناقضیة الاستحاضة، کما لا یعارضها الأخبار الحاصرة للنواقض بغیر الاستحاضة لما عرفت من کون الحصر إضافیاً فلا نُعید . فالاستحاضة القلیلة إحدی النواقض.

(1) الکلام فی الثلاثة، تارةً یکون فی مفهوماً لغةً وعرفاً فتعرّض فی کلّ واحد بخصوصه ، واُخری یکون فی حکمة من جهة الناقضیّة، فنقول :

أمّا الأوّل منها: وهو المذی، ففی «الصحاح» و«القاموس» و«مجمع البحرین»، هو ما یخرج عند الملاعبة والتقبیل ونحوهما، وإلیه یرجع بعض التعابیر کما عن الهروی، من أنّه أرقّ ما یکون من النطفة عنه الممازجة والتقبیل، کما هو کذلک عند العرف المسمّی بالفارسیة ب_ (آب نشاط) .

عدم نقض الطهارة بالمذی

وکیف کان، وهو من المفاهیم الواضحة، ولا یحتاج إلی مزید بیان، فلابدّ من صرف الکلام إلی بیان حکمه، فلا إشکال فی عدم ناقضیّته فی صورة خروجه بلا شهوة باتّفاق الکلّ، حتّی من ابن الجنید . نعم ، لو خرج بشهوة فینقض کما نُقل عنه، بل یظهر من «الحدائق» نقله عن بعض متأخّری المتأخِّرین، خلافاً للکلّ من غیرهما، فلا ینقض الوضوء، ولا یبطل الصلاة، ولا یُوجب غَسل ما أصابه من


1- وسائل الشیعة: الباب 4، الاستحاضة، الحدیث 7.

ص:58

البدن والثوب ، وذلک مضافاً إلی الإجماع _ بکلا قسمیه، لعدم اضرار مخالفة الإسکافی له، وذلک من جهة وجود أخبار کثیرة مستفیضة _ لو لم نقل بتواترها _ مع دلالة أخبار الحاصرة، بما یخرج من المخرجین من البول والغائط والریح للنقض، فلا بأس بذکر أخبار المسألة، وبیان معارضیها، ومقتضی الجمع بینهما، فنقول :

الأخبار فی المسألة تکون علی أربعة طوائف:

الطائفة الأولی: ما یدلّ علی عدم النقض مطلقاً، أی سواء کان خروج المذی بشهوة أو غیرها، وهو ما رواه فی الصحیح أو الحسن عن برید بن معاویة عن أحدهما: «قال : سألت عن أحدهما علیهماالسلام عن المذی؟ فقال : لا ینقض الوضوء ولا یغسل منه ثوب ولا جسد إنّما هو بمنزلة المخاط والبصاق»(1) .

والمخاط ماء الأنف، والبصاق ماء الفمّ .

«وفی التعلیل بالتشبیه إلیها إشعارٌ بعدم ناقضیّته مطلقاً، حتّی مع الشهوة .

وما رواه زرارة فی الصحیح أو الحسن عن الصادق علیه السلام : قال : إنّ سال من ذَکَرک شیء من مذی أو ودی، وأنت فی الصلاة، فلا تغسله، ولا تقطع له الصلاة، ولا تنقض له الوضوء ، وإن بلغ عقبیک فإنّما ذلک بمنزلة النخامة، وکلّ شیء خرج منک بعد الوضوء، فإنّه من الحبائل، أو من البواسیر ولیس بشیء، فلا تغسله من ثوبک إلاّ أن تقذره»(2) . الحبائل بمعنی عروق الظهر .

وما رواه فی الصحیح أو الحسن عن محمّد بن مسلم عن أبی جعفر علیه السلام : «قال : سألته عن المذی، یسیل حتّی یصیب الفخذ ؟ قال : لا یقطع صلاته، ولا یغسله من فخذه، إنّه لم یخرج من مخرج المنی، إنّما هو بمنزلة النخامة»(3) .


1- وسائل الشیعة: الباب 12، نواقض الوضوء، الحدیث 1.
2- وسائل الشیعة: الباب 12، نواقض الوضوء، الحدیث 2.
3- وسائل الشیعة: الباب 12، نواقض الوضوء، الحدیث 3.

ص:59

وخبر عنسبة بن مصعب قال : «سمعت أبا عبداللّه علیه السلام یقول : لا نری فی المذی وضوءاً ولا غسلاً، ما أصاب الثوب منه إلاّ الماء الأکبر»(1) .

وصحیح زید الشحّام: «قال : قلت لأبی عبداللّه علیه السلام : المذی ینقض الوضوء ؟

قال : لا ، ولا یغسل منه الثوب ولا الجسد، إنّما هو بمنزلة البزاق والمخاط»(2) .

ومرسلة ابن رباط عن بعض أصحابنا عن أبی عبداللّه علیه السلام : «قال : یخرج من الاحلیل المنی والوذی والمذی والودی، فأمّا المنی فهو الذی تسترخی له العظام، ویفتر منه الجسد، وفیه الغسل...»(3) .

والصحیح لإسحاق بن عمّار عن أبی عبداللّه علیه السلام : «قال : سألته عن المذی؟ فقال : إنّ علیّاً علیه السلام کان رجلاً مذّاءً، فاستحیی أن یسأل رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم لمکان فاطمة علیهاالسلام ، فأمر المقداد أن یسأله وهو جالس فسأله، فقال له النبیّ صلی الله علیه و آله : لیس بشیء»(4) .

حیث إنّه بإطلاقه یشمل المورد .

وخبر عمر بن حنظلة: «قال : سألت أبا عبداللّه علیه السلام عن المذی؟ فقال : ما هو عندی إلاّ کالنخامة»(5) .

وخبر عمر بن یزید: «قال : اغتسلت یوم الجمعة بالمدینة، ولبست أثوابی، وتطیّبت فمرّت بی وصیفة، ففخَذُت لها فأمذیت أنا وأمنت هی، فدخلنی من ذلک ضیق، فسألت أبا عبداللّه علیه السلام عن ذلک؟ فقال : لیس علیک وضوء ولا علیها غسل»(6).


1- وسائل الشیعة: الباب 12، نواقض الوضوء، الحدیث 4.
2- وسائل الشیعة: الباب 12، نواقض الوضوء، الحدیث 5.
3- وسائل الشیعة: الباب 12، نواقض الوضوء، الحدیث 6.
4- وسائل الشیعة: الباب 12، نواقض الوضوء، الحدیث 7.
5- وسائل الشیعة: الباب 12، نواقض الوضوء، الحدیث 8.
6- وسائل الشیعة: الباب 12، نواقض الوضوء، الحدیث 13.

ص:60

وصحیح عبداللّه بن سنان عن أبی عبداللّه علیه السلام فی حدیثٍ: «قال : والمذی لیس

فیه وضوء إنّما هو بمنزلة ما یخرج من الأنف»(1) .

وخبر الصدوق ، قال : «کان أمیر المؤمنین علیه السلام لا یری فی المذی وضوءاً ولا غَسل ما أصاب الثوب منه»(2) .

وهذه عشرة من الأخبار تدل علی عدم النقض مطلقاً، وهی مع کثرتها لا یبقی للفقیه شکّ فی ثبوت الحکم کما لا یخفی .

الطائفة الثانیة: یحکم بعدم النقض مع ورود التصریح بحال الشهوة أیضاً، مرسلة ابن رباط عن بعض أصحابنا، عن أبی عبداللّه علیه السلام فی حدیث : «وأمّا المذی یخرج من شهوة ولا شیء فیه»(3) الحدیث .

حیث بإطلاق قوله (عدم الشیء فیه) یشمل عدم وجوب الوضوء والغَسْل والغُسل وقطع الصلاة، کما لا یخفی .

ومرسلة ابن أبی عمیر، الذی نعدّها بالخصوص صحیحة حیث نقله عن غیر واحد من أصحابنا، فإنّه لا ریب بأنّ فیهم ثلّة من الثقاة قطعاً، وهو: عن أبی عبداللّه علیه السلام ، قال : لیس فی المذی من الشهوة ولا من الأنعاظ ولا من القُبلة ولا من مسّ الفرج ولا من المضاجعة وَضُوء، ولا یَغسل منه الثوب، ولا الجسد»(4) .

فإنّه مضافاً إلی صراحته فی خصوص خروجه عن شهوة، ذکر حالات أُخری تدلّ علی عدم النقض، فیصیر من الأخبار المطلقة أیضاً، کما لایخفی .

الطائفة الثالثة: تحکم بالنقض مطلقاً، من دون تقیید بخصوص الشهوة أصلاً،


1- وسائل الشیعة: الباب 12، نواقض الوضوء، الحدیث 14.
2- وسائل الشیعة: الباب 12، نواقض الوضوء، الحدیث 18.
3- وسائل الشیعة: الباب 12، نواقض الوضوء، الحدیث 6.
4- وسائل الشیعة: الباب 9، نواقض الوضوء، الحدیث 2.

ص:61

وذلک مثل خبر یعقوب بن یقطین: «قالت : سألت أبا الحسن علیه السلام عن الرجل یمذی فهو فی الصلاة من شهوة أو من غیر شهوة؟ قال : المذی فیه الوضوء»(1) .

وخبر محمّد بن إسماعیل بن بزیع: «قال : سألت الرضا علیه السلام عن المذی فأمرنی بالوضوء منه ، ثمّ أعدت علیه فی سنة أُخری، فأمرنی بالوضوء منه ، وقال : إنّ علیّاً علیه السلام أمر المقداد بن الأسود أن یسأل النبیّ صلی الله علیه و آله وسلم واستحیی أن یسأله فقال : فیه الوضوء»(2) .

والطائفة الرابعة: تفصّل فیما بین صورتی الخروج بشهوة فعلیه الوضوء، وعن غیر شهوةٍ فلا وضوء علیه، وذلک مثل ما رواه أبو بصیر، عن أبی عبداللّه علیه السلام : «قال : قلت له : المذی یخرج من الرجل ؟ قال : أحدّ لک فیه حدّاً ؟ قال : قلت : نعم جعلت فداک . قال : فقال : إن خرج منک علی شهوة فتوضّأ، وإن خرج منک علی غیر ذلک فلیس علیک فیه وضوء»(3) .

وما رواه علی بن یقطین، عن أبی الحسن علیه السلام : «قال : سألته عن المذی أینقض الوضوء ؟ قال : إن کان من شهوة نقض»(4) .

وما رواه الکاهلی عن أبی الحسن علیه السلام .

«قال : سألته عن المذی؟ فقال : ما کان منه بشهوة (لشهوة) فتوضّأ منه»(5) .

إذا عرفت الطوائف الأربع من الأخبار، فالقائل بالتفصیل ینظر إلی الأخبار الأخیرة ، لکنّه مخدوش، أوّلاً : بأنّه معارض مع صحیح ابن أبی عمیر عن غیر


1- وسائل الشیعة: الباب 12، نواقض الوضوء، الحدیث 16.
2- وسائل الشیعة: الباب 12، نواقض الوضوء، الحدیث 17.
3- وسائل الشیعة: الباب 12، نواقض الوضوء، الحدیث 10.
4- وسائل الشیعة: الباب 12، نواقض الوضوء، الحدیث 11.
5- وسائل الشیعة: الباب 12، نواقض الوضوء، الحدیث 12.

ص:62

واحدٍ من أصحابنا، حیث أنّه مضافاً إلی أنّ مراسیل هذا الرجل عند الفقهاء بمنزلة المسانید لاعتباره، ففی هذه المرسلة خصوصیّة حیث ورد فیها التعبیر بقوله عن غیر واحد من أصحابنا، حیث نقطع بوجود الثقة فیهم إذ لا یعقل أن ینقل مثل ابن أبی عمیر عن جماعة لیس فیهم نقد ثمّ یعبّر عنهم بأصحابنا کما لا یخفی، وهی صریحة فی عدم نقض الوضوء بالمذی عن شهوة ، بل مع ذکر تمام حالات إمکان

الخروج یفهم أنّه کان فی صدد بیان هذا المطلب، فتکون آبیة عن الحمل إلی غیر ظاهره . وکذلک یعارضه مرسلة ابن رباط من: «عدم شیء فی المذی الذی یخرج بشهوة، حیث یشمل باطلاقها الوضوء أیضاً» . عدم نقض الطهارة بالوذی

وثانیاً : الأخبار المطلقة فی عدم النقض، وکانت أکثرها صحاحاً، خصوصاً مع اشتمالها لشبه التعلیل، بقوله : «إنّما هو بمنزلة النخامة أو البزاق والبصاق»، حیث یفهم أنّه کان فی صدد بیان عدم ناقضیّته فی کلّ الأحوال، سیّما مع انضمام عدم النقض بعدم لزوم الغَسل للثوب والجسد، فکما لا یخصّص هذا الحکم بحالٍ من الأحوال، هکذا فی المذی أیضاً لوحدة السیاق، کما لا یخفی .

وثالثاً : مع ضعف سند بعضها مثل خبر أبی بصیر، من جهة عدم توثیق موسی بن عمر فی الرجال، ووجود قرائن التقیّة فی بعضها، کخبر علیّ بن یقطین، من صدوره أیّام الرشید وکان علیه السلام فی حال التقیّة، إذ قد کان فتوی فقهاء العامّة ناقضیّة المذی خصوصاً فی حال الشهوة، فإذا ظهر لک الحال فی مثل أخبار التفصیل، فیسقط أخبار الناقضیّة بالمذی مطلقاً عن الاعتبار من جهات شتّی :

أوّلاً : لمعارضتها مع هاتین الطائفتین .

وثانیاً : کونها قد أعرض عنها الأصحاب کلاًّ، لعدم قائل بالناقض مطلقاً _ یعنی حتّی بلا شهوة _ من الإمامیّة، فکیف یمکن الحکم علی طبقه .

وثالثاً : إذا عرفت الحال فی أخبار التفصیل مع صحّة سند بعضٍ منها، مثل خبر علی بن یقطین، فکیف یکون حال الأخبار الناقضة مطلقاً .

ص:63

ورابعاً : یمکن حمله علی الاستحباب، خصوصاً إذا خرج بشهوة، کما یشهد لذلک الحمل ، أنّ خبر محمّد بن إسماعیل بن بزیع الذی نقل حال علیّ علیه السلام ، حکم فیه بالوضوء مطلقاً کان شبیهاً لخبره الآخر، حیث ینقل ذلک ویحکم بالوضوء ثمّ جاء فی ذیله بأنّه إن لم یتوضّأ «فقال : لا بأس» ، فیکون هذا الحدیث(1) منه

شاهد جمع للحمل علی الاستحباب، لو لم نقل محمولاً علی التقیّة.

ولعلّه لما ذکرنا أفتی غیر واحد علی استحباب الوضوء عند خروج المذی، خصوصاً إذا کان الخروج بشهوة، ولا ضیر فیه، فالمسألة واضحة بحمد اللّه، ولا تحتاج إلی مزید بیان ، واللّه یهدی من یشاء إلی صراطٍ مستقیم .

وأمّا الثانی: وهو الذی یسمّی بالوذی (بالذال المعجمة الساکنة، والیاء المخفّفة) کما فی «مجمع البحرین»: حیث أضاف بعده: وعن الأموی: (بتشدید الیاء)، ماءٌ یخرج عقیب إنزال المنی، وفی الحدیث: هو ما یخرج من الادواء (بالدال المهملة)، جمع داء، وهو المرض ، وذکر الوذی مفقودٌ فی کثیر من کتب اللغة ، انتهی ما فی «المجمع».

والمراد من الحدیث هو مرسلة، عن بعض أصحابنا: عن أبی عبداللّه علیه السلام فی حدیثٍ : «وأمّا الوذی فهو الذی یخرج من الأدواء ولا شیء فیه»(2) .

وکیف کان، لا إشکال فیه من حیث الحکم، لدلالة الأخبار الحاضرة، وفی هذا الخبر من نفی الشیء علی المسمّی بهذا الاسم ، مضافاً إلی وجود الإجماع بکلا قسمیه علیه، مع دلالة الأصول حکماً وموضوعاً علی عدم ناقضیّته ، بل إثبات استحباب الوضوء بعده مشکلٌ، لعدم دلیلُ یثبته، مع ما عرفت من شمول إطلاق نفی الشیء علیه لمثل استحباب الوضوء أیضاً .


1- وسائل الشیعة: الباب 12، نواقض الوضوء، الحدیث 9.
2- وسائل الشیعة: الباب 12، نواقض الوضوء، الحدیث 6.

ص:64

نعم، فی الجواهر یمکن استفادة الاستحباب من مضمرة محمد بن عیسی: قال : کتبت إلیه رجلٌ هل یجب الوضوء ممّا خرج من الذَکَر بعد الاستبراء ؟ فکتب : نعم»(1) . وفیه أنّ حمل لفظ الوجوب علی الاستحباب ممّا لا شاهد له فی الاستعمالات، والحکم بمقتضی الظاهر یعدّ خلاف الإجماع، فحمله علی التقیّة _

کما عن شیخ الطائفة _ أولی ، مضافاً إلی إضماره ، وکیف کان فالأمر سهل .

وأمّا الثالث: وهو الودی (بالدال المهملة) ، وهو ماء ثخین یخرج عقیب البول، کما نصّ علیه جملة من علمائنا کما عن «المدارک» ، بل فی مرسلة ابن رباط.

«وأمّا الودی فهو الذی یخرج بعد البول»(2) .

فالموضوع منه مبیّن، کما أنّ حکمه أیضاً کذلک، لوجود الإجماع بکلا قسمیه علیه أوّلاً ، ووجود الاُصول العملیة حکماً وموضوعاً ثانیاً ، ودلالة الأخبار الحاصرة فی الثلاثة، من النواقض ثالثاً، والأخبار الخاصّة مثل ما فی صحیحة زرارة عن أبی عبداللّه علیه السلام : «قال : إن سال من ذکرک شیء من مذی أو ودی وأنت فی الصلاة فلا تغسله، ولا تقطع له الصلاة، ولا تنقض له الوضوء ، وإن بلغ عقبیک...»(3) الحدیث .

ومرسلة ابن رباط من نفی الشیء الشامل بإطلاقه مثل الوضوء علی الودی أیضاً رابعاً، مضافاً إلی خبر الصدوق بکون الودی بمنزلة البصاق(4) .

فعلیها فما جاء فی بعض الأخبار من الحکم بالوضوء، مثل خبر ابن سنان (أی عبداللّه) عن أبی عبداللّه علیه السلام : «قال : ثلاث یخرجن من الاحلیل، وهنّ المنی وفیه


1- وسائل الشیعة: الباب 13، نواقض الوضوء، الحدیث 9.
2- وسائل الشیعة: الباب 12، نواقض الوضوء، الحدیث 6.
3- وسائل الشیعة: الباب 12، نواقض الوضوء، الحدیث 2.
4- وسائل الشیعة: الباب 12، نواقض الوضوء، الحدیث 19.

ص:65

ولا دمٌ، ولو خرج من أحد السبیلین، عدا الدماء الثلاثة(1)

الغسل، والودی فیه الوضوء، لأنّه یخرج من دریرة البول»(1) ، الحدیث .

والمراد من دریرة البول محلّ سیّلانه، کما فی «الوافی» نقلاً عن الشیخ فی التهذیبین ، مضافاً إلی أنّ الشیخ والعلاّمة حمله علی صورة عدم الاستبراء عن البول، فیوجب الوضوء لأجل البول لا الودی .

وإن أشکل علیه صاحبی «الجواهر» و«مصباح الفقیه» بأنّ الحکم بالوضوء فی هذه الصورة کان للبلل المشتبه، لا فیما هو معلوم کونه ودیاً ، وحمل صاحب «الوسائل» هذا علی الاستحباب تارةً ، واُخری علی التقیّة، وهذا هو الأقوی، نظراً إلی هذا التعلیل، لوضوح أنّ هذه العلّة لو کانت مؤثّرة، فیلزم الحکم بالوضوء فی المذی أیضاً لأنّه أیضاً، یخرج عن محلّ سیلانه لو کان المراد منه الذکر، وإن اُرید منه هو المثانة ، فإنّه فضلاً عن استبعاده، یلزم أن یکون هو نفس البول ، مع أنّه لم یقل به أحد، فالحمل علی التقیّة هو الأوّل، إن کان القول بالاستحباب لا یخلو عن وجه، لمقتضی الجمع بین هذا الخبر والأخبار السابقة، ودلیل التسامح، فالمسألة واضحة بحمد اللّه . فثبت عدم ناقضیّة المذی والوذی والودی للوضوء وإن کان استحباب الوضوء فی غیر الثانی لا یخلو عن قوّة.

(1) والذی یدلّ علی عدم ناقضیّته أُمور :

منها : الإجماع بکلا قسمیه .

عدم نقض الطهارة بخروج الدم عدا الدماء الثلاثة

ومنها : الاُصول العملیّة، بکلا قسمیها من الموضوعیّة والحکمیّة، من استصحاب نفس موضوع الوضوء، أو استصحاب عدم وجوب الوضوء علیه

بذلک، واستصحاب صحّة الصلاة إن کان فی الصلاة وغیر ذلک من الاُصول .


1- وسائل الشیعة: الباب 12، نواقض الوضوء، الحدیث 14.

ص:66

ومنها : الأخبار العامّة الحاصرة للناقض بالثلاثة الخارجة من الطرفین .

ومنها : الأخبار الخاصّة بالخصوص لعدم ناقضیّة خروج مطلق الدم غیر الثلاثة، ومن الحیض والنفاس والاستحاضة، فلا بأس بالإشارة إلیها .

فنقول : ممّا یدلّ علی عدم ناقضیّة الدم خبر محمّد بن مسلم .

«قال : سألت أبا جعفر علیه السلام عن الرجل یأخذه الرعاف ... إلی قوله : ولیس علیه وضوء»(1) .

وخبر أبی قال : «سمعته یقول : إذا قاء الرجل... إلی أن قال : وإن رعف وهو علی وضوء فلیغسل أنفه فإنّ ذلک یجزیه ولا یعید وضوئه»(2) .

وخبر عبد الأعلی، عن أبی عبداللّه علیه السلام : «قال : سألته عن الحجامة أفیها وضوء ؟ قال : لا»(3) ، الحدیث .

وخبر أبی حبیب الأسدی، عن أبی عبداللّه علیه السلام : قال : سمعته یقول: فی الرجل یرعف وهو علی وضوء ؟ قال : یغسل آثار الدم ویصلّی»(4) .

وخبر سماعة قال : «سألته عن رجل أخذه تقطیر من قرحة (فرجه) إمّا دم وإمّا غیره ؟ قال : فلیصنع خریطة، ولیتوضّأ ولیصلِّ، فإنّما ذلک بلاء ابتلی به، فلا یعیدنّ إلاّ من الحدث الذی یتوضّأ منه»(5) .

فبقرینة الذیل یفهم أنّ الأمر بالوضوء فی الأوّل کان فی الفرض المتعارف، من عدم کونه متطهّراً، إلاّ من حیث ناقضیّة دم القرحة للوضوء، إذ صرّح فی ذیله بأنّه


1- وسائل الشیعة: الباب 7، نواقض الوضوء، الحدیث 1.
2- وسائل الشیعة: الباب 7، نواقض الوضوء، الحدیث 5.
3- وسائل الشیعة: الباب 7، نواقض الوضوء، الحدیث 6.
4- وسائل الشیعة: الباب 7، نواقض الوضوء، الحدیث 7.
5- وسائل الشیعة: الباب 7، نواقض الوضوء، الحدیث 9.

ص:67

یجب فیما کان من الحدث الموجب له، کما لا یخفی .

وخبر أبی بصیر عن أبی عبداللّه علیه السلام : «قال : سألته عن الرعاف والحجامة وکلّ دم سائل؟ فقال : لیس فی هذا وضوء، إنّما الوضوء من طرفیک الذین أنعم اللّه بهما علیک»(1) .

فهو صریح، خصوصاً اذا لاحظنا تعلیله فإنّ دلالته تکون أقوی .

وخبر الوشاء قال : «سمعنا أبا الحسن علیه السلام یقول : کان أبو عبداللّه علیه السلام یقول: فی الرجل یدخل یده فی أنفه فیصیب خمس أصابعه الدم؟ قال : ینقّیه ولا یعید الوضوء»(2) .

وصحیح علی بن جعفر عن أخیه علیه السلام : قال : «سألته عن رجل استاک، أو تخلّل، فخرج من فمه دم أینقض ذلک الوضوء ؟ قال : لا ، ولکن یتمضمض . قال : وسألته عن رجل کان فی صلاته فرماه رجل فشجّه فسال الدم ؟ فقال : لا ینقض الوضوء ولکنّه یقطع الصلاة»(3) .

وکذلک خبر إبراهیم بن أبی محمود(4) وعلیّ بن یقطین(5) .

فمع وجود هذه الأدلّة علی عدم تحقّق النقض بالدم الخارج بأیّ وجه کان غیر الثلاثة، فلا یعبأ بما ذهب إلیه ابن الجنید من القول بالنقض بالدم الخارج من السبیلین، إذا شکّ فی کونه مع النجاسة من البول والغائط، بخلاف ما لو علم بعدم امتزاجه بها، فلا یحکم بالنقض ، وذلک لأنّه مضافاً إلی عدم وجود دلیل لهذا


1- وسائل الشیعة: الباب 7، نواقض الوضوء، الحدیث 10.
2- وسائل الشیعة: الباب 7، نواقض الوضوء، الحدیث 14.
3- وسائل الشیعة: الباب 7، نواقض الوضوء، الحدیث 11.
4- وسائل الشیعة: الباب 6، نواقض الوضوء، الحدیث 6.
5- وسائل الشیعة: الباب 7، نواقض الوضوء، الحدیث 7.

ص:68

التفصیل بالخصوص، فانّ الدلیل من من استصحاب عدم النقض یکون علی خلافه، مع ما عرفت من الأخبار السابقة الدالّة علی ما قلناه، کما لا یخفی .

نعم ، قد یدلّ بعض الأخبار علی ناقضیّة خروج الدم من غیر تقیید بما ذکره،

وهو کما فی خبر الحسن بن علی بن بنت الیاس (الوشاء): قال : سمعته یقول : رأیت أبی صلوات اللّه علیه وقد رعف بعدما توضّأ دماً سائلاً، فتوضّأ»(1) .

وخبر عبید بن زرارة «قال : سألت أبا عبداللّه علیه السلام عن رجل أصابه دم سائل؟ قال : یتوضّأ ویعید . قال : وإن لم یکن سائلاً، توضّأ وبنی. قال : ویصنع ذلک بین الصفا والمروة»(2) .

إلاّ أنّهما متفاوتان بحسب ظاهرهما، لأنّ خبر عبید بن زرارة یفهم من التوضئ أنّه سواء کان سائلاً أو لا ، غایة الفرق بینهما فی إعادة الصلاة والسعی مثلاً دون غیر السائل، حیث یتوضّئ ویبنی، بخلاف خبر الوشّاء حیث ورد فی خصوص حکم السائل عن عمل الإمام موسی بن جعفر والد الإمام أبی الحسن الرضا علیهماالسلام ، لأنّ حسن بن علی الوشاء کان من أصحاب الرضا علیه السلام ، هذا أوّلاً .

وثانیاً : إن الخبر الثانی یشتمل علی ما هو مخالف لعمل الأصحاب، وهو التوضّی والبناء بما أتی من الصلاة والسعی، علی أنّه لو کان الدم غیر السائل من النواقض، فإنّه یوجب فساد العمل رأساً، لا الحکم بالقطع فی الأثناء والبناء علیه .

وثالثاً : یمکن حملهما علی التقیّة، کما یمکن التأیید لذلک من دلالة خبر أبی هلال: «قال : سألت أبا عبداللّه علیه السلام : أینقض الرعاف والقیء ونتف الابط الوضوء ؟ فقال : وما تصنع بهذا، هذا قول المغیرة بن سعید، لعن اللّه المغیرة ، یجزیک من الرعاف والقیء أن تغسله ولا تعید الوضوء»(3) .

عدم نقض الطهارة بالقیئ و...


1- وسائل الشیعة: الباب 7، نواقض الوضوء، الحدیث 13.
2- وسائل الشیعة: الباب 7، نواقض الوضوء، الحدیث 12.
3- وسائل الشیعة: الباب 7، نواقض الوضوء، الحدیث 8.

ص:69

ولا قیء، ولا نخامة، ولا تقلیم ظفر، ولا حلق شعر(1)

إذ یفهم منه أنّ هذا الحکم کان صادراً عن هذا اللعین، فکلّ ما یکون من هذا القبیل یکون محمولاً علی التقیّة، مثل خبر منصور عن أبی عبیدة الحذّاء(1) .

ورابعاً : إمکان حمل الوضوء علی التغسیل من لوث الدم، کما احتمله صاحب «الوسائل»، وإن کان بعیداً جدّاً مع هذا الاشتقاق .

نعم ، غایة ما یمکن المماشاة هاهنا، هو القول بالاستحباب، جمعاً بین الأخبار المتعارضة، وتسامحاً فی أدلّة السنن، کما ذکره أکثر فقهائنا ، واللّه العالم .

(1) لما یدلّ علیه من الإجماع بکلا فردیه، والأصل بکلا قسمیه، والأخبار الحاصرة العامّة، والأخبار الکثیرة الخاصّة، مثل ما رواه زرارة فی الصحیح عن أبی جعفر علیه السلام : «قال : قلت له : الرجل یقلّم أظفاره، ویجزّ شاربه، ویأخذ من شعر لحیته ورأسه، هل ینقض ذلک وضوئه ؟ فقال : یا زرارة کلّ هذا سنّة والوضوء فریضة، ولیس شیء من السنّة ینقض الفریضة، وأنّ ذلک لیزیده تطهیراً»(2) .

فإنّ ما ذکره من شبه التعلیل یکون بنحو العموم یمکن التمسّک فیما یشابه هذه الاُمور من النظافات التی حکمت العامّة فیها بالنقض .

وخبر سعید بن عبداللّه الأعرج: «قال : قلت لأبی عبداللّه علیه السلام : آخذ من أظفاری ومن شاربی وأحلق رأسی فأغتسل؟ قال : لا ، لیس علیک غسل . قلت : فأتوضّأ ؟ قال : لا ، لیس علیک وضوء»(3) الحدیث .

وخبر محمّد الحلبی: «قال : سألت أبا عبداللّه علیه السلام عن الرجل یکون علی طهر،


1- وسائل الشیعة: الباب 6، نواقض الوضوء، الحدیث 12.
2- وسائل الشیعة: الباب 14، نواقض الوضوء، الحدیث 2.
3- وسائل الشیعة: الباب 14، نواقض الوضوء، الحدیث 3.

ص:70

فیأخذ من أظفاره أو شعره أیعید الوضوء ؟ فقال : لا ، ولکن یمسّ رأسه وأظفاره

بالماء . قال : قلت : فإنّهم یزعمون أنّ فیه الوضوء ؟ فقال : إن خاصموکم فلا تخاصموهم، وقولوا هکذا السنّة»(1).

فإنّ هذا الخبر مشعر، بل صریح فی أنّ القول بالتوضّی بعد هذه الأُمور من فتاوی العامّة، ولذلک أمرهم الإمام علیه السلام بأنّهم لو خاصموکم فأجیبوهم بأنّ السنّة عدم الوضوء .

هذا فی تقلیم الأظافر، وحلق الرأس وأخذ الشعر من اللحیة .

وأمّا بالنسبة إلی القیء والنخامة، فیمکن التمسّک بحدیث محمّد بن مسلم عن أبی جعفر علیه السلام : «عن الرجل یأخذه الرعاف والقیء فی الصلاة... إلی أن قال : ولیس علیه وضوء»(2) .

وخبر أبی أُسامة ، قال : «سألت أبا عبداللّه علیه السلام عن القیء، هل ینقض الوضوء ؟ قال : لا»(3) .

وخبر إبراهیم بن أبی محمود قال : «سألت الرضا علیه السلام عن القیء والرعاف والمدة أینقض الوضوء أم لا ؟ قال : لا ینقض شیئاً »(4).

والمدة کما عن «الجوهری» هو ما یجتمع فی الجرح من القیح .

وخبر علیّ بن یقطین قال : «سألت أبا إسحاق علیه السلام عن الرعاف والحجامة والقیء؟ قال : لا ینقض هذا شیئاً من الوضوء ولکن ینقض الصلاة»(5) .

وخبر روح بن عبد الرحیم قال : «سألت أبا عبداللّه علیه السلام عن القیء ؟ قال : لیس


1- وسائل الشیعة: الباب 14، نواقض الوضوء، الحدیث 1.
2- وسائل الشیعة: الباب 7، نواقض الوضوء، الحدیث 1.
3- وسائل الشیعة: الباب 6، نواقض الوضوء، الحدیث 3.
4- وسائل الشیعة: الباب 6، نواقض الوضوء، الحدیث 6.
5- وسائل الشیعة: الباب 6، نواقض الوضوء، الحدیث 7.

ص:71

ولا مسّ ذکر ولا دبر ولا قُبل، ولا بمسّ امرأة، ولا أکل ما مسّته النار، وما یخرج من السبیلین، إلاّ أن یخالطه شیء من النواقض(1)

فیه وضوء ، وإن تقیأت متعمّداً»(1) .

وخبر أبی بصیر ، عن أبی عبداللّه علیه السلام : «قال : لیس فی القیء وضوء»(2) .

وغیر ذلک من الأخبار .

فما یدلّ علی نقض الوضوء بها فی مثل القیء والرعاف والتخلیل، کما فی مضمرة سماعة ، قال : «سألته عمّا ینقض الوضوء ؟(3) قال : الحدث تسمع صوته: إلی أن قال : والضحک فی الصلاة والقیء»(4) .

عدم نقض الطهارة بمسّ ذکرٍ و...

وخبر أبی عبیدة الحذاء عن أبی عبداللّه علیه السلام : «قال : الرعاف والقیء والتخلیل یسیل الدم إذا استکرهت شیئاً ینقض الوضوء وإن لم تستکرهه لم ینقض الوضوء»(5) . إمّا محمولٌ علی التقیّة، أو مطروحٌ لإعراض الأصحاب عن العمل بها، لاسیّما مع اشتمالهما بما لا یلتزم به أحد من التفصیل فی الناقضیّة بین الاستکراه وعدمه، غایة المماشاة بمقتضی الجمع، هو الاستحباب فی خصوص القیء، لا فی تقلیم الأظفار وحلق الرأس ، بل ولا النخامة، لما یستفاد من أخبار عدم ناقضیة المذی بکونه مثل النخامة، وعدم وجود نصّ علی ناقضیّته، کما لایخفی .

(1) فیدلّ علیه فی أکثرها الإجماع بکلا قسمیه، والأصل بکلا فردیه .


1- وسائل الشیعة: الباب 6، نواقض الوضوء، الحدیث 8.
2- وسائل الشیعة: الباب 6، نواقض الوضوء، الحدیث 9.
3- وسائل الشیعة: الباب 9، نواقض الوضوء، الحدیث 9.
4- وسائل الشیعة: الباب 6، نواقض الوضوء، الحدیث 11.
5- وسائل الشیعة: الباب 6، نواقض الوضوء، الحدیث 12.

ص:72

نعم ، خالف الصدوق رحمه الله وحکم بالنقض بمسّ الرجل باطن دبره، أو باطن

احلیله، أو فتح احلیله ، بل وهکذا خالف الإسکافی، وحکم بالنقض بمسّ ما انضمّ علیه الثقبان، ومسّ ظاهر الفرج، من غیر شهوة إذا کان مُحْرماً، ومن باطن الفرجین مُحرْماً أو محلّلاً.

فیدلّ علی تمام دعوی الصدوق حدیث عمّار بن موسی عن الصادق علیه السلام : «قال : سئل عن الرجل یتوضّأ ثمّ یمسّ باطن دبره ؟ قال : نقض وضوئه، وإن مسّ باطن احلیله فعلیه أن یعید الوضوء ، وإن کان فی الصلاة قطع الصلاة ویتوضّأ ویعید الصلاة، وإن فتح احلیله أعاد الوضوء وأعاد الصلاة»(1) .

فهو مشتمل علی ما لا یلتزم الصدوق قدس سره نفسه به وهو قطع الصلاة بمسّ الاحلیل، خصوصاً ما فی ذیله من الحکم بإعادة الصلاة الظاهرة فی لزوم إعادة ما أتاها من الصلاة، فهو خلاف الإجماع قطعاً، فمع اشتماله لمثل هذا الحکم، کیف یمکن العمل به؟، فالأولی حمله علی التقیّة لموافقته للعامّة .

کما یحمل علیها أیضاً خبر أبی بصیر عن الصادق علیه السلام : «قال : إذا قبّل الرجل مرأة من شهوة، أو مسّ فرجها أعاد الوضوء»(2) .

أو علی الاستحباب جمعاً بینه وبین خبر عبد الرحمن بن أبی عبداللّه ، عن الصادق علیه السلام : «قال : سألته عن رجل مسّ فرج امرأته؟ قال : لیس علیه شیء وإن شاء غسل یده، والقبلة لا تتوضّأ منها» .(3)

ومثله فی القُبلة خبر الحلبی(4) ، وفی القُبلة ومسّ الفرج خبر زرارة(5) ،


1- وسائل الشیعة: الباب 9، نواقض الوضوء، الحدیث 10.
2- وسائل الشیعة: الباب 9، نواقض الوضوء، الحدیث 9.
3- وسائل الشیعة: الباب 9، نواقض الوضوء، الحدیث 6.
4- وسائل الشیعة: الباب 9، نواقض الوضوء، الحدیث 5.
5- وسائل الشیعة: الباب 9، نواقض الوضوء، الحدیث 3.

ص:73

ومرسل ابن أبی عمیر(1)، وخبر سماعة(2).

فی نقض الوضوء بالردّة

فما ذهب إلیه الإسکافی _ وإن کان بعضها یشمله خبر ابن موسی _ بتمامه غیر موجود فی الأخبار، فلا یعبأ به، کما لا خلاف فی عدم ناقضیّة لمس المرأة، وأکل ما مسّته النار، حتّی من ابن الجنید أیضاً .

کما أنّ ذکر خروج شیء عن أحد السبیلین کان زائداً، بعدما عرفت الحکم فی تمام أقسام نواقضه وغیر ناقضة، فکان الأولی ذکر بعض ما ورد فیه الأخبار لکونه ناقضاً ، وهی مثل إنشاد الشعر ، والفحش والکذب ، والغیبة ، والقذف ، وقتل البقّة والبرغوث ، والقُمّلة ، والذباب ، ونتف الإبط ، ولمس الکلب ، ومصافحة المجوسی ونحو ذلک ، ولعلّ وجه ترکها کونها مورد اتّفاق الأصحاب فی عدم ناقضیّتها، ودلالة أخبارها کانت بلحاظ حال العامّة العمیاء، فإنّهم مختلفون فی هذه الأُمور، واختلافهم دلیل علی فساد مذهبهم، وکان منشأ انحرافهم هو تمسّکهم بالقیاس والاستحسان، فضلّوا وأضلّوا کثیراً فیقال لهم: «وَقِفُوهُم أنَّهُم مَسْؤلون» .

تکملة فی المسألة: ففی «الجواهر»: و«کذلک لا ینقض الوضوء بالردّة سواء کانت عن فطرة أو ملّة، مع وجوب القتل وعدمه فیها للأصل ، بل الأُصول والأخبار الحاصرة، والإجماع المنقول».

فجعل الأصل أمتن تلک الأدلّة ، کما أنّه لا وجه للحکم بالبطلان إلاّ توهّم وجوب قتله، وعدم قبول توبته، وهما لا ینافیان صحّة عمله کغیر الوضوء من الصلاة والصوم اللذین قد أتی بهما ، أو توهّم نجاسته الخبثیّة، فهو لا یوجب بطلان طهارته الحدثیّة.


1- وسائل الشیعة: الباب 9، نواقض الوضوء، الحدیث 2.
2- وسائل الشیعة: الباب 9، نواقض الوضوء، الحدیث 8.

ص:74

إلاّ أنّه یشکل فی أنّه إذا ارتدّ فقد نجس جسده، فتُنجّس الماء الواقع فیه، فلا یمکن إدامة الغسل والمسح معه، إلاّ أن یدیم مع ماءٍ طاهر کما فی «مصباح الفقیه» .

لکنّه مخدوش بأنّ تحصیل التطهیر، یوجب أن لا یبقی ماء الوضوء الذی کان فی سابقه، واللازم فی الوضوء هو المسح من بقیّة ذلک الماء، إلاّ أن یکون فی بعض الصور ممکناً، کما لو ارتدّ بعد غَسل الوجه، فإنّه وإن نجَّس مائه، إلاّ أنّه لا یؤثّر فی بقیة الماء الذی یبقی فی یده بعد توبته، وإدامة وضوئه قبل جفاف ماء الوجه، فیصحّ المسح حینئذٍ من ذلک الماء الطاهر .

وأمّا آیة الحبط من قوله تعالی : «لَئِنْ أَشْرَکْتَ لَیَحْبَطَنَّ عَمَلُکَ»(1) ونظائر ذلک، واردة فی مقام بیان الثواب لا لأصل العمل، واللّه الهادی إلی سبیل الرشاد .

* * *


1- سورة الزمر : آیة 65 .

ص:75

فی أحکام الخلوة

اشارة

«الثانی فی أحکام الخلوة، وهی ثلاثة : الأوّل : فی کیفیّة التخلّی: ویجب فیه ستر العورة» .(1)

(1) یقع الکلام فی هذه المسألة فی عدّة أُمور :

فی أحکام الخلوة / وجوب ستر العورة

الأوّل : فی وجوب سترها فی حال التخلّی وغیره، عمّن یحرم نظره إلی عورته، ویستثنی الزوج والزوجة، ومن بحکمهما من الممالیک، کما لا یکون هذا الوجوب لمن لا یکون مکلّفاً، کالمجنون والصبی غیر الممیّز، بل الممیّز، لعدم التکلیف، وإن کان جواز إجبار الأخیر بالستر لا یخلو عن قوّة بحسب ارتکاز عرف المتشرّعة، ووجود السیرة، وإن کان قلم التکلیف عنه مرفوعاً، فوجوب الستر علی المکلّف کحرمة النظر علی العورة، ممّا قام علیه الإجماع نقلاً وتحصیلاً، بل الضرورة من الدِّین فی الجملة، کما عن «الجواهر» .

فیدلّ علیه مضافاً إلی ما عرفت، الأخبار الکثیرة المتفاوتة وبألسنةٍ مختلفة، فلا بأس بالإشارة إلی بعضها، وإن کان عددها أکثر ممّا یذکر، فنقول : وممّا یدلّ علیه روایة حسین بن زید، عن الصادق عن آبائه علیهم السلام عن النبیّ صلی الله علیه و آله فی حدیث المناهی: «قال : إذا اغتسل أحدکم فی فضاء من الأرض، فلیحاذر علی عورته . وقال : لا یدخل أحدکم الحمّام إلاّ بمئزر ، ونهی أن ینظر الرجل إلی عورة أخیه المسلم ، وقال : من تأمّل عورة أخیه المسلم لعنه سبعون ألف ملک، ونهی المرأة أن تنظر إلی عورة المرأة ، وقال : من نظر إلی عورة أخیه المسلم، أو عورة غیر أهله متعمِّداً، أدخله اللّه مع المنافقین الذین کانوا یبحثون عن عورات الناس، ولم

ص:76

یخرج من الدُّنیا حتّی یفضحه اللّه، إلاّ أن یتوب»(1) .

ومرسلة الصدوق، قال : «وسُئل الصادق علیه السلام عن قول اللّه عزّوجلّ : «قُلْ لِلْمُؤْمِنِینَ یَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَیَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِکَ أَزْکَی لَهُمْ»(2)؟

فقال : کلّ ما کان فی کتاب اللّه مِنْ ذِکْر حفظ الفرج، فهو من الزنا، إلاّ فی هذا الموضع فإنّه للحفظ من أنْ یُنظر إلیه»(3) .

وخبر المرتضی رحمه الله فی «المحکم والمتشابه» نقلاً عن «تفسیر النعمانی» بسنده عن علیّ علیه السلام : . «فی قوله تعالی : «قُلْ لِلْمُؤْمِنِینَ» الآیة ، معناه لا ینظر أحدکم إلی فرج أخیه المؤمن، أو یمکّنه أن النظر إلی فرجه.

ثمّ قال : «وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ یَغْضُضْنَ»(4) الآیة ، أی ممن یلحقهن النظر، کما جاء فی حفظ الفروج، فالنظر سبب إیقاع الفعل من الزنا وغیره»(5) .

وصحیح حریز ، عن أبی عبداللّه علیه السلام : «قال : لا ینظر الرجل إلی عورة أخیه»(6) .

فدلالة هذین الخبرین الأخیرین علی وجوب الستر، منوط إلی القول بالملازمة بین وجوب الستر وحرمة النظر، لکنّه مشکل لنقضه بغیر المکلّف، حیث لا یجب علیه الستر، لأنّه غیر مکلفٍ، لکن یحرم النظر إلی عورته، کما أنّ عکسه أیضاً کذلک حیث لا یحرم النظر للمجنون، لعدم التکلیف اخلاّ أنّ الستر واجب للمکلّف عنه .

أو القول من باب حرمة إعانة الإثم، إذ کشف العورة عند الناظر یوجب الإعانة


1- وسائل الشیعة: الباب 1، احکام الخلوة، الحدیث 2.
2- سورة النور : آیة 30 .
3- وسائل الشیعة: الباب 1، احکام الخلوة،الحدیث 3.
4- سورة النور : آیة 31 .
5- وسائل الشیعة: الباب 1، احکام الخلوة، الحدیث 5.
6- وسائل الشیعة: الباب 1، احکام الخلوة، الحدیث 1.

ص:77

للاثم له، فهو صحیح لما لا یکون النظر اختیاریّاً، وإلاّ لکان مشکلاً لقدرته علی غضّ البصر فیما النظر حراماً دون الستر.

کما ذهب بعض إلی مثله فی حرمة النظر إلی وجه الأجنبیّة دون أن یکون التستّر علیها واجباً .

أو یقال _ بإشعار ذیل الحدیث _ بکون النظر موجباً لإیقاع الزنا وغیره، فهذا یصدق مع کشف العورة عند الناظرین، حیث یفهم من مناسبة الحکم والموضوع وجوب الستر، لئلاّ یستعدّ ذلک لإیقاع الناس فی الزنا والفتنة، فهو أمر صحیح موافق لارتکاز المتشرّعة أیضاً ، مضافاً إلی عدّة أخبار دالّة علی النهی عن دخول الحمّام من دون مئزر، حیث یُستکشف أنّ النهی ورد بلحاظ أن لا یقع نظر الناظرین إلیه، وکما فی النبوی المتقدّم ، وحدیث حمزة بن أحمد عن أبی الحسن الأوّل علیه السلام : «قال : سألته أو سأله غیری عن الحمّام؟ فقال : ادخله بمئزر، وغضّ بصرک»(1) .

وخبر تحف العقول عن النبیّ صلی الله علیه و آله : «أنّه قال : یا علی إیّاک ودخول الحمّام بغیر مئزر ، ملعون ملعون الناظر والمنظور إلیه»(2) .

فمع دلالة هذه الأخبار الکثیرة علی ذلک تصریحاً، أو تلویحاً فلا یبقی اشکال فی وجوب الستر وحرمة النظر ، ولا یعبأ بما قیل فیه أو یمکن أن یقال من قصور سند بعضها _ لما رأیت من صحّة بعضها الآخر، وهو کافٍ فی إثبات الحکم _ ومن قصور دلالة بعضها _ لما عرفت من عدم الانحصار فی خبر واحد، بل هی أخبار کثیرة وکانت دلالة بعضها علی الحکم واضحة _ ومن معارضتها مع ما یدلّ علی کراهة النظر إلی العورة دون الحرمة _ وهو کما فی خبر ابن أبی یعفور: «قال :


1- وسائل الشیعة: الباب 3، آداب الحمّام، الحدیث 2.
2- وسائل الشیعة: الباب 3، آداب الحمّام، الحدیث 5.

ص:78

سألت أبا عبداللّه علیه السلام أیتجرّد الرجل عند صبّ الماء، تُری عورته أو یصبّ علیه الماء أو یری هو عورة الناس ؟ قال : کان أبی یکره ذلک من کلّ أحد»(1) .

وأمّا خبر الصدوق، عن حمّاد بن عمرو، وأنس بن محمّد، عن أبیه، عن جعفر بن محمّد علیه السلام عن آبائه علیهم السلام ، فی وصیّة النبیّ صلی الله علیه و آله لعلیّ علیه السلام قال : «إنّ اللّه کره لاُمّتی ... إلی أن قال : وکره دخول الحمّام إلاّ بمئزر» .

فالجوابُ عنه أوّلاً : بعدم کون الکراهة هاهنا بالمعنی المصطلح، بین الفقهاء، فیمکن أن یکون معناها هو الحرمة أیضاً .

وثانیاً : فمع وجود کثرة الأخبار الواقعة فی قبالها، الدالّة علی الحرمة، واشتمال بعضها لشبه التعلیل من الوقوع فی الزنا، وقوّتها بعمل الأصحاب، وضعف الخبرین بإعراضهم عنهما ، کیف یمکن القول بالکراهة دون الحرمة، کما ذکره بعض متأخِّری المتأخِّرین، لولا خوفه عن مخالفة الإجماع والشهرة.

کما لا یعبأ باحتمال کون المراد من العورة هو اذاعة سرّ المؤمن، أو إذلال ذاته، أو حفظ ما یعاب علیه من کلامه بتعبیره، کما یدلّ علیه تفسیر ذلک بهذه الأُمور فی بعض الأخبار مثل خبر حذیفة بن منصور ، قال : «قلت لأبی عبداللّه علیه السلام : شی یقوله الناس عورة المؤمن علی المؤمن حرام ؟ فقال : لیس حیث یذهبون، إنّما عورة المؤمن أن یزلّ زلّة، أو یتکلّم بشیء یعاب علیه فیحفظ علیه یعیّره به یوماً ما»(2) .

وخبر عبداللّه بن سنان ، عن الصادق علیه السلام : «قال : سأله عن عورة المؤمن علی المؤمن حرام؟ فقال : نعم . قلت : أعنی سفلیه: فقال : لیس حیث تذهب، إنّما هو إذاعة سرّه»(3) .


1- وسائل الشیعة: الباب 3، آداب الحمّام، الحدیث 3.
2- وسائل الشیعة: الباب 8، آداب الحمّام، الحدیث 1.
3- وسائل الشیعة: الباب 8، آداب الحمّام، الحدیث 2.

ص:79

وخبر زید الشحّام عن الصادق علیه السلام : «فی عورة المؤمن علی المؤمن حرام ؟ قال : لیس أن ینکشف فیری منه شیئاً، إنّما هو أن یزری علیه أو یعیبه»(1) .

لأنّه یمکن أن یکون ذلک أحد المعنیین من هذه الکلمة، فأراد الإمام علیه السلام أنّه

لیس الحرمة منحصراً فی خصوص النظر إلی عورة المؤمن ، بل هذه الأُمور أیضاً داخلة فی الحرمة .

أو یقال : بإرادة هذا المعنی فی مثل تلک الأخبار، فلا ینافی أن یکون المراد من العورة فی غیر هذه الأخبار هو المعنی المعروف، کما کانت الأخبار المشتملة علی هذا المعنی من العورة متضمّنة لقرائن دالّة علی کون المراد هو القبل والدبر _ نظیر خبر حسین بن زید بن الحکم بالحذر عن العورة إذا اغتسل فی فضاء من الأرض _ أو کان فی بعض الأخبار _ مثل خبر المرتضی نقلاً عن النعمانی _ تعبیر الفَرْج بدل العورة، الظاهر فی المعنی المعروف .

بل یمکن أن یقال : بأنّ قوله: «عورة المؤمن علی المؤمن حرام» قد استعملت فی المعنی المعروف أیضاً، کما استعملت فی تلک المعانی، ویشهد لذلک ما فی خبر حنّان بن سدیر ، عن أبیه: «قال : دخلت أنا وأبی وجدّی وعمّی حمّاماً بالمدینة، فإذاً رجل فی البیت المسلخ. فقال : مَن القوم... إلی أن قال : ما یمنعکم من الاُزر؟ فإنّ رسول اللّه صلی الله علیه و آله قال : عورة المؤمن علی المؤمن حرام . قال : فبعث أبی إلی عمّی کرباسة فشقّها بأربعة، ثمّ أخذ کلّ واحد منّا واحداً، ثمّ، دخلنا فیها... إلی أن قال : فسألنا الرجل فإذاً هو علیّ بن الحسین علیه السلام »(2) .

مضافاً إلی ما فی «الحدائق» استفادة حرمة النظر إلی العورة بالمعنی المعروف من تلک الأخبار أیضاً، لتأکّد الحرمة هنا من جهة شدّة الضرر والهتک للمؤمن


1- وسائل الشیعة: الباب 8، آداب الحمّام، الحدیث 3.
2- وسائل الشیعة: الباب 9، آداب الحمّام، الحدیث 4.

ص:80

بالنظر إلی عورته، ونحن نضیف ونقول لاسیّما مع إمکان الانجرار إلی الزنا وأشباهه، کما لایخفی .

الثانی : وجوب الستر عن کلّ ناظر محرّم أمرٌ ثابت عدا ما استثنی من الزوج والزوجة، ومَنْ بحکمهما، من غیر فرق بین کون الناظر مکلّفاً أو غیر مکلّف

_ کالمجنون والصبی الممیّز _ للإطلاقات، بل وموافقة الأصحاب فتویً وعملاً لذلک ، فاحتمال التقیّد فی الأخبار بتوهّم کون الموجود فیها هو الرجل والمرأة، والمسلم والمؤمن، الظاهر فی کونهم ممیّزین ، غیر ممنوع، لوجود بعض الإطلاقات التی تأبی عن التقیّد بحسب ظاهر لسانه، وهو مثل خبر حسین بن زید : «مَنْ نظر إلی عورة غیر أهله متعمّداً...»(1).

إذا انضمّ إلی ما ذکرناه سابقاً، من کونه موجباً للوقوع فی فتنة الزنا الثابتة فی حال عدم التستّر أیضاً، لأنّ عدم تحفّظ العورة عن الصبی المراهق غیر البالغ والمجنون کان مظنّة خوف الفتنة، ولو من جهة التجاوز إلی النسوان والبواکر بالاستمتاعات، لاسیّما فی المجنون الذی قد یمکن رؤیة العورة فیجتمع فیه الجنون مع الشهوة فیقدم علی مالا تحمدُ عقباه.

کما لا فرق بین کون الناظر مسلماً أو کافراً، ذکراً أو أُنثی ، وتوهّم کون نساء الکفّار _ کالمملوکة والإماء کما قیل _ فی غیر محلّه فی المقام، لأنّ وجوب ستر العورة علی الاماء لازم أیضاً ممّن لا یکون له النظر إلی عورتها جائزاً، وإن اُرید تشبیه الاماء بالموالی ففیه أنّ، هذا ممّا لم یلتزم به الأصحاب فی هذا المقام، ولم ینقل ذلک عن أحد، کما یساعده الاعتبار من جهة شبه التعلیل من انجراره إلی الزنا وأشباهه .

نعم ، لا بأس بالحکم بعدم وجوب التستّر عن الصبی غیر الممیّز کسائر


1- وسائل الشیعة: الباب 1، آداب الحمّام، الحدیث 2.

ص:81

الحیوانات، للأصل، والسیرة العملیّة الثابتة ، بل عدم شمول الأدلّة لمثله، لأنّ الظاهر من التعلیل ونظائره هو الحفظ من النظر المقصود لا مجرّد النظرة غیر المقصودة والخاطفة کما لا یخفی .

کما لا فرق فی حرمة النظر إلی العورة، کون المنظور إلیه مکلّفاً أو غیر مکلّف،

_ کالمجنون والصبیّ الممیّز _ ولا بین کونه مسلماً أو کافراً، ذکراً أو أُنثی، حرّاً أو غیره، فیحرم النظر إلی عورات الممیّزین، وإن اعترض فی «الجواهر» من جهة إقامة الدلیل من حیث السنّة علیه .

ولکنّ الإنصاف إمکان إثباته من التعلیل الوارد فی خبر المرتضی عن «تفسیر النعمانی» بقوله: «فالنظر سبب إیقاع الفعل من الزنا وغیره»(1) مضافاً إلی دلالة خبر حسین بن زید بقوله : «من نظر إلی عورة غیر أهله...»(2) الشامل بإطلاقه لما ذکرناه، مع عدم مشاهدة الخلاف أو نقله عن أحدٍ من الأصحاب، حیث لا یبعد دعوی وجود الإجماع، ولو من جهة عدم تعرّضهم لهذا الفرع مثلاً ، فالمسألة واضحة بحمد اللّه .

وبعدما وقفت علی ما ذکرناه من الأدلّة، فلا یبقی مورد للرجوع إلی أصل البراءة عن حرمة النظر، فضلاً عن إلی وجود السیرة علی خلافه، وتقبیح العقلاء لمن نظر إلی عورات المجانین والممیّزین .

نعم ، لا یحرم النظر إلی عورات غیر الممیّزین من الأطفال ، فضلاً عن عدم شمول إطلاق الأدلّة لمثله، لعدم جریان مثل التعلیل فیه، لانصراف الدلیل عن مثله، وأنّ السیرة العملیّة للاُمّهات بالنسبة إلی أطفالهن وصبایاهنّ من تلفیفهم بالخرقة، وتعویضهم فی کلّ یوم مرّة أو مرّتین، من دون إشارة فی الأخبار من


1- وسائل الشیعة: الباب 1، آداب الحمّام، الحدیث 5.
2- وسائل الشیعة: الباب 1، آداب الحمّام، الحدیث 2.

ص:82

الحکم بلزوم الستر لهم، فالحکم واضح لا خفاء فیه .

فی أحکام الخلوة النظر إلی عورة غیر المسلم

الثالث : هل یجوز النظر إلی عورة غیر المسلم _ کما علیه بعض ورود به الأخبار _ أو لا یجوز کما علیه المشهور ؟

الظاهر هو الثانی، لأنّه فضلاً عن شمول بعض الإطلاقات _ مثل قوله فی خبر حسین بن زید: «من نظر إلی عورة غیر أهله متعمّداً فعلیه کذا وکذا» فانّ التعلیل

الواقع فی خبر المرتضی، نقلاً عن «تفسیر النعمانی» بقوله : «فالنظر سببٌ لإیقاع الفعل من الزنا وغیره» یجری لمثل النظر إلی عورة الکافر أیضاً، خصوصاً لو قیل بالجواز، حتّی بالنسبة إلی عورة اُنثی الکفّار لرجال المسلمین ، وإن احتمل السیّد الاصفهانی الجواز فی الرجل الکافر فقط، إلاّ أنّ کلام الصدوق والشیخ الحرّ العاملی _ علی ما حُکی عنهما _ کان مطلقاً بین الذکر والاُنثی .

وأمّا ورود بعض الأخبار علی الکراهة، أو الجواز من دون کراهة، مثل مرسلة ابن أبی عمیر ، عن غیر واحد عن أبی عبداللّه علیه السلام : «قال : النظر إلی عورة من لیس بمسلم مثل النظر إلی عورة الحمار»(1) .

ومرسلة الصدوق ، قال : «روی عن الصادق علیه السلام أنّه قال : إنّما أکره النظر إلی عورة المسلم، فأمّا النظر إلی عورة مَنْ لیس بمسلم مثل النظر إلی عورة الحمّار»(2) .

بل وهکذا بمقتضی مفهوم بعض الأخبار السابقة المتقیّدة بالمؤمن والمسلم والأخ، حیث یدلّ علی عدم الحرمة فی غیرهم.

فلا یعبأ بها، لأنّ الإنصاف هو أن رفع الید عن مثل تلک الإطلاقات، مع جریان التعلیل والشهرة القربیة بالاتّفاق فیه بواسطة الخبرین المرسلین غیر المنجبرین بعمل الأصحاب، بل وإعراضهم عنهما، مشکلٌ جدّاً .


1- وسائل الشیعة: الباب 6، آداب الحمّام، الحدیث 1.
2- وسائل الشیعة: الباب 6، آداب الحمّام، الحدیث 2.

ص:83

الرابع : هل یجب ستر العورة ببشرتها فقط، أو هی مع الحجم ؟

والذی یظهر من المحقّق الثانی، هو الثانی إلاّ أنّ المشهور علی الأوّل، لما لا یصدق النظر إلی العورة بالنظر إلی الخرقة الواقعة علی العورة، التی تری حجمها من ظاهرها، مع ورود بعض الأخبار من تجویز رفع الستر عن العورة بعد النورة، معلّلاً بأنّها سترة، وذلک مثل خبر محمّد بن أبی عمیر عن بعض من حدّثه : «أنّ أبا جعفر کان یقول : مَنْ کان یؤمن باللّه والیوم الآخر، فلا یدخل الحمّام إلاّ

بمئزر . قال : فدخل ذات یوم الحمّام فتنوّر، فلمّا أطبقت النورة علی بدنه ألقی المئزر، فقال له مولی له : بأبی أنت واُمّی إنّک لتوصینا بالمئزر ولزومه، ولقد ألقیته عن نفسک ؟ فقال : أما علمت أنّ النورة قد أطبقت العورة»(1) .

وخبر عبیداللّه الرافعی، فی حدیث: «إنّه دخل حمّاماً بالمدینة، فأخبره صاحب الحمّام أنّ أبا جعفر علیه السلام کان یدخله فیبدأ فیطلی عانته وما یلیها، ثمّ یلفّ إزاره علی أطراف إحلیله، ویدعونی فأطلی سائر بدنه.

فقلت له یوماً من الأیّام : إنّ الذی تکره أن أراه قد رأیته . قال : کلاّ إنّ النورة سترة (ستره)»(2) .

فی أحکام الخلوة / فی ستر حجم العورة

فالحقّ أنّ الواجب من الستر، لیس إلاّ البشرة دون الحجم، وإن کان الحکم بجواز النظر إلی العورة المستورة بالنورة، الموجبة لستر لونها فقط مشکلٌ جدّاً، لأنّ الخبر الثانی مشتمل علی ان وقوع النظر إلی النورة المطلیة بها العورة، یمنع عن وقوع النظر المباشر إلی نفس العورة، فما رأی ذلک الرجل لیس العورة بنفسها، وهذا لا ینافی عدم جواز الکشف والنظر مع الاختیار إلی العورة المستورة بالنورة .


1- وسائل الشیعة: الباب 18، آداب الحمّام، الحدیث 2
2- وسائل الشیعة: الباب 18، آداب الحمّام، الحدیث 1.

ص:84

وأمّا الخبر الأوّل، فهو مشتملٌ لما لا یقتضیه شأن الإمام علیه السلام ، إذ بعید أن یرفع الإمام ستر العورة المتنوّرة، خصوصاً مع وجود عدّة أخبار دالّة علی خلافه، کما فی خبر سعدان.

«أنّه رأی أبا الحسن علیه السلام فی الحمّام وعلیه إزار فوق النورة»(1) .

بل وهکذا فی صدر حدیث عبیداللّه المرافقی المذکور بقوله : «إنّ أبا جعفر علیه السلام کان یدخله، فیبدأ فیطلی عانته وما یلیها، ثمّ یلفّ إزاره علی أطراف

إحلیله، ویدعونی فأطلی سائر بدنه»(2) ، الحدیث .

حیث یفهم أنّ فعل الإمام علیه السلام کان هکذا، فلا یبعد دلالته علی الإلزام، کما یساعده ارتکاز المتشرّعة، لامثال هؤلاء العظماء من الرجال فالمسألة لا تحتاج إلی مزید بیان .

إذا عرفت کفایة ستر البشرة، فیظهر حکم ما لو کان الساتر رقیقاً حاکیاً عمّا تحتها من العورة لأنّه لا یخلو إمّا أن یکون علی نحو لا یصدق معها کونه ساتراً، لسعة منافذه، بحیث یقال عرفاً للناظر إلیه بأنّه ناظر للعورة، فیحرم وإن لم یتمیّز لون البشرة، وامّا أن یکون بغیر ذلک، فیلحق بالحجم، ولا إشکال فیه .

الخامس : لا یخفی أنّ الستر الواجب عن الناظر هاهنا، غیر الستر الوارد فی الصلاة، لأنّ کشف العورة فی الصلاة حرام ومبطل، ولو لم یکن ناظراً فی البین، أو لم یمکنه المشاهدة، کما لو کان کشف عنها فی ظلام اللیل، هذا بخلاف المقام حیث یکفی تحصیل المانع عن النظر، ولو بغیر ستر عادی، مثل الخرقة والید، نظیر الستر بالظلمة أو بالبعد الحاصل بین الناظر والمنظور إلیه، بحیث لا یصدق النظر إلی العورة، أو بالرمس فی الماء الکدر، أو بالدخول فی الحفرة وغیرها .


1- وسائل الشیعة: الباب 18، آداب الحمّام، الحدیث 3.
2- وسائل الشیعة: الباب 18، آداب الحمّام، الحدیث 1.

ص:85

کما أنّ الملاک فی الحرمة صدق النظر إلی العورة، بلا فرق بین کونه بلا واسطة أو مع واسطة غیر مضرّ للصدق عرفاً، کما لو نظر إلیها فی الماء الصافی الحاکی للنورة کاملاً أو من وراء الزجاجة أو من خلال المرآة .

ولا یبعد کشف حکم ذلک من قوله علیه السلام فی حدیث المرتضی نقلاً عن «تفسیر النعمانی»: «أو یمکّنه من النظر إلی فرجه»(1) ، یعنی التمکین، ولو من خلال الوسیط کما لا یبعد کشف حکم ذلک من إطلاق حفظ الفرج عن النظر لمثل ذلک أیضاً فی الآیة .

فما قاله السیّد الاصفهانی قدس سره فی «روائع الفقهیّة» من الإشکال فی مثل النظر من خلال المرآة أو الماء الصافی، کما لا یصدق النظر إلی رؤیة الهلال فیما نظر إلیه بواسطة المرآة، فمحلّ تأمّل، لاسیّما مع جریان حکم شبه التعلیل فی مثل هذا النظر أیضاً، فیقوی ویطمئن النفس فی الحکم بالحرمة، کما لا یخفی .

نعم یقع الإشکال فی النظر إلی تصویر العورة الواقعة علی القرطاس، فلا یکون مثله داخلاً فی لسان الأخبار .

السادس : لا إشکال فی وجوب الستر فیما إذا علم وجود الناظر الذی ینظر إلیه ، بل وهکذا فیما یعلم عادة أنّه یتحقّق النظر إلیه فیما بعد الکشف، کما فی مثل الحمّامات العامّة، وإن لم یکن حال الکشف ناظراً إلیه، کما لا یبعد الحکم بوجوب الستر أیضاً مع الظنّ بذلک، فضلاً عن الظنّ المتأخم للعلم .

فی أحکام الخلوة / ستر العورة عن الناظر المحترم

بل قد یمکن القول بالوجوب فی صورة الشکّ أیضاً، لإطلاق بعض الأدلّة، مثل ما فی خبر حسین بن زید .

«إذا اغتسل أحدکم فی فضاء من الأرض، فلیحاذر علی عورته»(2) ، حیث لم


1- وسائل الشیعة: الباب 1، احکام الخلوة، الحدیث 5.
2- وسائل الشیعة: الباب 1، احکام الخلوة، الحدیث 2.

ص:86

یقیّد بصورة العلم بوجود الناظر، أو الظنّ بذلک، فلا یکون الحکم إلاّ من باب الاحتیاط، لئلاّ یتحقّق النظر.

کما یمکن استظهار ذلک أیضاً من قوله تعالی : «وَیَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ»، من کون الوظیفة هو حفظ العورة فی الموارد التی یمکن أن یتحقّق الناظر فیها عادةً، بل حتّی لو احتمل وقوعه .

نعم ، دخول الوهم فیه مشکل جدّاً ، بل فی «مستند الشیعة» دعوی الإجماع علی خلافه .

وممّا ذکرنا یظهر أنّ الحرمة لا تکون مترتّبة علی الکشف المتحقّق للنظر

الفعلی فقط ، بل لا یبعد الحکم بالحرمة فیما إذا کان الکشف معدّاً للنظر عرفاً وعادةً، ولو لم یتحقّق النظر، وإن کان الجزم بذلک _ أی بالحرمة الفعلیة _ لا من باب التجرّی مشکل جدّاً .

فالأحوط وجوب الحفظ مطلقاً، إلاّ ما یعلم عدم وجود الناظر إلیه، أو یطمئنّ بذلک کما لا یخفی .

السابع : أنّ المراد بالعورة هل القُبل من القضیب والبیضتین والدبر فقط، أو کان مع العجان، وهو ما بین الخصیة وحَلَقة الدبر کما عن المحقّق الکرکی فی حاشیته علی «الإرشاد» من أولویّة دخوله بها، أو کانت العورة بین السرّة والرکبة کما عن القاضی، أو إلی نصف الساق کما عن الحلبی؟

والذی ذهب إلیه المشهور هو الأوّل، ولا یبعد دخول العجان بالمعنی المذکور فی العورة، لعدم استبعاد صدق القضیب لمجموع ما الآلة الخارجة عن البدن والمسترسل، وما هو داخلٌ تحت الجلد إلی حلقة الدبر، فما عن الآملی قدس سره من عدم وجه لدخول العجان فیها، لعلّه کان لاستغنائه عن الذکر .

فالأولی عدم جعل المحقّق مخالفاً للمشهور، فما یدلّ علی القول الأوّل هو مرسلة أبی یحیی الواسطی ، عن بعض أصحابه عن أبی الحسن الماضی علیه السلام :

ص:87

«قال : العورة عورتان، القبل والدبر، والدبر مستور بالإلیتین، فإذا سترت القضیب والبیضتین فقد سترت العورة»(1) .

ومرسلة الکلینی قال : «وفی روایة أُخری: فأمّا الدبر فقد سترته الإلیتان وأمّا القبل فاستره بیدک»(2) .

ومرسلة الصدوق ، قال : «قال الصدوق : الفخذ لیس من العورة» .

ومثله خبر محمّد بن حکیم، فی حدیث: «فقال : إنّ الفخذ لیست من

العورة»(3) هذه الأدلّة تدلّ علی مسلک المشهور بل عن الخلاف والسرائر الإجماع علیه .

فی أحکام الخلوة / فی المراد من العورة هنا

وأمّا ما یدلّ علی خلافهم، مثل خبر کثیر النبّال ، قال : «سألت أبا جعفر علیه السلام عن الحمّام؟ فقال : ترید الحمّام ؟ قلت ؛ نعم ، فأمر بإسخان الماء، ثمّ دخل فائتزر بإزار، فغطّی رکبتیه وسرّته ... إلی أن قال : ثمّ قال هکذا فافعل»(4) .

وخبر حسین بن علوان المروی عن «قرب الإسناد» عن جعفر عن أبیه علیه السلام : «إذا زوّج الرجل أمَتَه، فلا ینظر إلی عورتها، والعورة ما بین السرّة والرکبة»(5) .

وخبر الخصال بإسناده عن علیّ علیه السلام : «لیس للرجل أن یکشف ثیابه عن فخذه ویجلس بین قوم»(6) .

ولکن الإنصاف إثبات کون العورة حقیقة _ فی جمیع الموارد _ ذلک، بواسطة هذه الأخبار مشکل، لأنّ خبر بشیر لا یدلّ علی أکثر من کون فعل الإمام هکذا،


1- وسائل الشیعة: الباب 1، احکام الخلوة، الحدیث 3.
2- وسائل الشیعة: الباب 1، احکام الخلوة، الحدیث 4.
3- وسائل الشیعة: الباب 4، آداب الحمّام، الحدیث 1.
4- وسائل الشیعة: الباب 5، آداب الحمّام، الحدیث 1.
5- وسائل الشیعة: الباب 44، نکاح العبید والاماء، الحدیث 7.
6- وسائل الشیعة: الباب 10، أحکام الملابس، الحدیث 3.

ص:88

والأمر بالإتیان بذلک ، وأمّا کون العورة حقیقة ذلک فلا، لإمکان کون هذا المقدار ملحقاً بها حکماً لو سلّمناه، فلا یمکن إثبات وجوب سترها مثلاً فی مثل الصلاة، أو حرمة النظر إلیه وأمثال ذلک ، بل یقتصر علی مورده فقط .

کما أنّ خبر «قرب الاسناد» یدلّ علی کون حدود عدم جواز کشف العورة للرجل بالنسبة إلی أهله، فیحرم النظر علیها بالنسبة إلی ذلک دون غیرها ، أمّا کون العورة هکذا فی جمیع الموارد فاثباته مشکل.

وکذلک یدلّ هذا الحدیث علی جواز النظر للرجل إلی غیرها لعدم کونها عورة، مع أنّ الالتزام بذلک فی غیر الأمَة بالنسبة إلی سائر النسوان غیر وجیهة، کما لا یخفی .

کما أنّ عدم دلالة خبر علی علیه السلام علی کون ذلک هو العورة، أوضح من أن یخفی، لأنّ غایة ما یدلّ _ مع فرض التسلیم _ هو لزوم ستر الفخذ عند إرادة الجلوس بین القوم .

فی أحکام الخلوة / استحباب ستر البدن

هذا ، مع أنّا لو سلّمنا دلالة الجمیع علیه، فلابدّ من الحمل علی الاستحباب، جمعاً بینها وبین الأخبار السابقة المصرّحة فی بیان مقدار العورة، خصوصاً مع صراحة بعضها بعدم کون الفخذ من العورة، فلاحظه ، فضلاً عن إعراض الأصحاب أیضاً .

فثبت من جمیع الفروع، وجوب ستر العورة _ أی القبل من القضیب والبیضتین والدبر _ عن کلّ ناظر محترم، حتّی المجنون والصبی الممیّز وغیر المسلم، سواء علم أو ظنّ بذلک ، بل ولو شک احتیاطاً فی الأخیر دون الوهم، سواء کان النظر من خلال الواسطة أو لا ، کما یحرم النظر کذلک إلی العورة مطلقاً، حتّی عورة غیر المسلم، وکان حرمة النظر إلی بَشَرتها دون حجمها _ وإن کان یصدق الستر بالنورة فقط _ مشکلٌ جدّاً .

ص:89

ویستحبّ ستر البدن(1)

(1) أی عند إرادة التخلّی، واستحبابه ممّا لا کلام فیه، والأخبار الدالّة علیه متظافرة، کما کانّ کلمات الفقهاء علیه متکاثرة، فلا بأس بالإشارة إلی أخبار الباب : فیدلّ علیه خبر حمّاد بن عیسی عن الصادق علیه السلام : «قال : قال لقمان لابنه فی حدیث : وإذا أردت قضاء حاجتک فابعد المذهب فی الأرض»(1) .

وخبر الطبرسی فی «مجمع البیان»، عن الصادق علیه السلام : «قال : ما اُوتی لقمان الحکمة... إلی قوله : ولم یره أحد من الناس علی بول ولا غائط قطّ، ولا اغتسال لشدّة تستّره وتحفّظه فی أمره»(2) ، الحدیث .

ومرسلة الشهید الثانی فی «شرح النفلیّة» عن النبیّ صلی الله علیه و آله : «أنّه لم یُرَ علی بول ولا غائط»(3) .

وفی حدیث قال : و«قال علیه السلام : من أتی الغائط فلیتستّر»(4) .

وحدیث «کشف الغمّة» نقلاً عن جنید (جندب) بن عبداللّه، فی حدیثٍ قال : نزلنا النهروان... إلی قوله : فإنّی لجالس إذ ورد علیّ أمیر المؤمنین علیه السلام فقال : یا أخا الأزد معک طور ؟ قلت : نعم ، فناولته الأداوة، فمضی حتّی لم أره، وأقبل وقد تطهّر فجلس فی ظلّ الترس»(5) .

وخبر الطبرسی فی «الاحتجاج» عن أبی الحسن موسی بن جعفر علیه السلام : «إنّ أبا


1- وسائل الشیعة: الباب 14، أحکام الخلوة، الحدیث 1.
2- وسائل الشیعة: الباب 14، أحکام الخلوة، الحدیث 2.
3- وسائل الشیعة: الباب 14، أحکام الخلوة، الحدیث 3.
4- وسائل الشیعة: الباب 14، أحکام الخلوة، الحدیث 4.
5- وسائل الشیعة: الباب 14، أحکام الخلوة، الحدیث 5.

ص:90

حنیفة قال له وهو صبیّ : یا غلام أین یضع الغریب فی بلدتکم هذه ؟ قال : یتواری خلف الجدار»(1) ، الحدیث .

وخبر القطب الراوندی فی «قصص الأنبیاء» عن هشام بن سالمٌ عن الصادق علیه السلام : «قال : إنّ آدم علیه السلام لمّا أهبط من الجنّة وأکل من الطعام، وجد فیبطنه ثقلاً، فشکا ذلک إلی جبرئیل، فقال : یا آدم فتنحّ فنحّاه فأحدث ما خرج منه الثقل»(2) .

وخبر ابن عبّاس ، قال : «کان رسول اللّه صلی الله علیه و آله إذا أراد حاجة أبعد فی المشی ، فنزع خفّیه وقضا حاجته ثمّ توضّأ»(3) ، الخبر .

وحدیث «دعائم الإسلام» «رووا علیهم السلام أنّه صلی الله علیه و آله کان إذا أراد قضاء حاجته فی السفر أبعد ما شاء اللّه، واستتر.

وقالوا : من فقه الرجل ارتیاد مکان الغائط والبول والنخامة ، یعنون :أن لا یکون ذلک بحیث یراه الناس»(4) .

ومرسلة أُخری: «وروینا عن بعضهم علیهم السلام أنّه أمر بابتناء مخرج فی الدار، فأشاروا إلی موضع غیر مستتر من الدار. فقال علیه السلام : یا هؤلاء إنّ اللّه عزّوجلّ لمّا خلق الإنسان خلق مخرجه فی أستر موضع منه، وکذلک ینبغی أن یکون المخرج فی أستر موضع فی الدار»(5) .

وحدیث توحید المفضّل فی حدیث عن الصادق علیه السلام : «قال : ألیس من حسن التقدیر فی بناء الدار أن یکون الخلاء فی أستر موضع فیها»(6) ، الحدیث .


1- وسائل الشیعة: الباب 14، أحکام الخلوة، الحدیث 7.
2- مستدرک الوسائل: الباب 4، أحکام الخلوة، الحدیث 2.
3- مستدرک الوسائل: الباب 4 أحکام الخلوة، ح3.
4- مستدرک الوسائل: الباب 4 أحکام الخلوة، ح4.
5- مستدرک الوسائل: الباب 4 أحکام الخلوة، ح5.
6- مستدرک الوسائل: الباب 4 أحکام الخلوة، ح5.

ص:91

وغیر ذلک من الأخبار الدالّة علی ذلک صراحةً أو تلویحاً، من دون فرق فی ذلک بین التخلّی للبول أوالغائط ، کما أنّ الظاهر عدم الفرق فی إیجاد الستر بین کونه بالبُعد، أو بالدخول فی الحفیرة، أو فی الظلمة، أو خلف العباء، إذا جعل علی

نحو الجدار لا ما إذا کان علی ظهر الإنسان .

فی أحکام الخلوة / حکم النظر لو رأی عورة مکشوفة

فما ذکره الشیخ الأعظم قدس سره من عدم ثبوت دلیل علی استحباب التستّر بالعباء، خلافاً لصاحب «الجواهر» من الحکم بعدم الکنایة، وصاحب «مصباح الفقیه» للهمدانی بالکنایة بقاعدة المیسور ؛ لعلّه نزاع لفظی، لأنّ الستر علی نحو الجدار یشمله تلک الأدلّة قطعاً، وعلی نحو المتعارف _ أی وقوعه علی ظهر الإنسان _ تکون الأدلّة منصرفة عنه، وإلاّ لکان الستر بسائر الألبسة موجوداً أیضاً، فلا خصوصیّة للعباء، کما لا یخفی .

هاهنا فروع مذکورة فی العروة لا بأس بذکرها حتّی یتّضح حالها، فنقول : الفرع الأوّل : فی أنّه لو رأی عورة مکشوفة، هل یجوز النظر إلیها أم لا ؟

فالمسألة ذات شقوق ووجوه .

تارةً : لأنّها یفرض کون حالتها السابقة له معلومة بالجواز ، واُخری بعدمه، کما لو فرض أنّه یعلم بحرمة النظر إلیها لکونها عورة أجنبیّة ، ثمّ یشکّ لأجل الشکّ فی صیرورتها بما یجوز النظر إلیها من الزوجیّة والمملوکیّة والمحلّلیة، فلا إشکال فی الحکم بالحرمة حینئذٍ لأجل استصحاب الحالة السابقة، موضوعاً وحکماً من عدم الزوجیّة والمملوکیّة والمحلّلیة والحرمة السابقة، کما هو واضح لا بحث فیه .

کما أنّ الحکم فی صورة العلم بعدم حرمة النظر إلیه سابقاً، وثمّ الشکّ لاحقاً لأجل الشکّ فی طروّ ما یوجب الحرمة _ کما لو کانت زوجة أو مملوکة أو محلّلة، أو غیر ممیّز، فالآن یشکّ أنّه صارت مطلّقة أو غیر محلّلة أو ممیّزاً _ هو الجواز بواسطة الاستصحاب موضوعاً وحکماً، أی استصحاب بقاء الزوجیّة واخوتها،

ص:92

وجواز النظر المترتّب إلیها، وهو واضح أیضاً .

وثالثة : بفرض عدم معلومیّة حالتها السابقة ، فحینئذٍ یتصوّر علی وجوه لأنّه تارةً : یشکّ فی أصل کون هذا المرئی والمنظور إلیه عورة، حتّی یکون حراماً

مثلاً، أو لا حتّی یکون جائزاً؟

فلا إشکال فی کون الحکم هو الجواز، لأصالة البراءة الجاریة فی الشبهة الموضوعیّة التحریمیّة .

واُخری : أنّه یعلم بکون المرئی عورة لکنّه، یشکّ فی کونها عورة حیوانٍ حتّی یجوز النظر الیها، أو عورة إنسان جائز النظر إلیه، أو عورة من یحرم النظر إلیه؟

وهو أیضاً مثل سابقه من جواز النظر إلیه، لما عرفت من جریان أصل البراءة، وکون الشبهة موضوعیّة تحریمیّة، وإن کان فی صورة کون کلّ من طرفی الشکّ هو عورة الإنسان فیه کلام، سیأتی إن شاء اللّه عن قریب .

وثالثة : أنّه یعلم کونها عورة إنسان، إلاّ أنّ شکّ من جهة أنّه لایعلم کونها عورة زوجته حتّی یجوز النظر إلیها، أو لأجنبیّة حتّی لا یجوز، أو کان شکّه من جهة أنّه لا یعلم کونها عورة صبی غیر ممیّز، حتّی یجوز، أو ممیّز حتّی لا یجوز؟

ففی «العروة» حکم بعدم جواز النظر فی الثانی احتیاطاً، بخلاف الأوّل، حیث حکم جزماً بالحرمة .

وعلّل وجه الأوّل بأنّ حکم الجواز معلّقٌ علی إحراز عنوان الزوجیّة وهو غیر ثابت، فیتمسّک بعموم دلیل عدم جواز النظر إلی عورة أخیه المؤمن، مع أنّه مخدوش قطعاً.

أو للأصل الجاری فی الأوّل، وهو عدم الزوجیّة والمملوکیّة ونظائرها، لأنّ کلّ المفروض فی کلّ أُنثی حدوث زوجیّتها، فالشک فی الزوجیّة فی المرأة الخارجیّة یوجب جریان أصالة العدم، ولو من جهة أصالة عدم تعلّق الزوجیّة بها، وهو الحکم بحرمة النظر إلی عورتها، خصوصاً مع کون الدلیل بحسب العموم

ص:93

یقتضی حرمة النظر إلی کلّ عورة إنسان، إلاّ ما خرج بإحراز أحد العناوین المخرجة .

هذا بخلاف صورة الثانیة، حیث إنّ مقتضی أصالة عدم التمیّیز وعدم البلوغ، بل والبراءة، هو جواز النظر إلیه، لکونه من موارد الشکّ فی انطباق دلیل الحرمة

علیه، فالاستصحاب المذکور یخرجه .

فی أحکام الخلوة / النظر إلی عورة الخنثی

ففی الحقیقة هاتان الصورتان داخلتان فی ما ذکرناه من معلومیّة حالتها السابقة، من عدم الزوجیّة وعدم التمییز .

اللّهمَّ إلاّ أن یقال : إنّ حرمة النظر إلی عورة کلّ إنسان مسلّم أمرٌ ثابت فلا یخرج عن هذا الحکم إلاّ فیما قطع کونه غیر محرّم حقیقة لا تعبّداً، فمثل الفرض الثانی _ من الصبی _ یحرم النظر إلیه لعدم القطع بکونه غیر ممیّز .

لکنّه واضح الفساد، لوضوح أنّ الاستصحاب یعدّ من الأُصول المحرزة، فیجعل القطع التعبّدی بمنزلة القطع الوجدانی، فیحکم بأنّه لیس بممیّز، فیجوز النظر إلیه قطعاً، کما لایخفی .

الفرع الثانی : لا إشکال فی حرمة النظر إلی دبر الخنثی، لصدق العورة علیه قطعاً، فتشمله الأدلّة ، وأمّا قُبُلها ففی «العروة» احتمل جواز النظر، للشک فی عورة کلّ واحد منهما من القضیب والفرج، وإن کان النظر إلی کلیهما معاً یکون حراماً قطعاً، للعلم بوقوع النظر إلی العورة .

کما أنّ الظاهر من کلامه غیر هذا الفرض.

کما أنّ النظر إلیهما أیضاً ، تارةً ، یفرض بدفعة واحدة فی نظر واحد ، وأُخری فی نظرتین طولاً حیث یقطع بوقوع النظر إلیهما بعد النظر إلی کلیهما .

وکیف کان ثمّ احتاط وجوباً ترک النظر، وعلّل بأنّها عورة علی کلّ حال .

ولقد أورد علی السیّد کما فی «مصباح الهدی» و«المستمسک» وغیرها، بأنّ النظر إلی کلّ واحد منهما یوجب تحقّق الحرمة، بواسطة العلم الإجمالی بکون إحداهما عورة فیحرم النظر ، إلاّ فیما إذا انحلّ ذلک العلم الإجمالی، وهو فی من

ص:94

کان أجنبیّاً وأراد النظر إلی عورة مماثله _ کما لو کانت المرأة تنظر إلی عورة الخُنثی بغیر ذکرها ، أو الرجل ینظر إلی غیر فرج الخنثی _ فإنّه یقطع حینئذٍ تفصیلاً وقوع النظر إلی ما هو حرام، له أمّا من باب کونه عورة، أو کونه بدن

الأجنبی، بخلاف النظر إلی غیر مماثله _ یعنی الرجل ینظر إلی عورة الفرج من الخنثی أو المرأة إلی ذکرها _ فیجوز لانحلال العلم الإجمالی بعلم تفصیلی فی سابقه، وشک بدویّ فیه، لأنّ کونها عورة لیس إلاّ شبهة بدویّة، هذا إذا کان الناظر أجنبیّاً .

وأمّا إذا کان مُحرّماً، فلا إشکال فی بقاء العلم الإجمالی بحاله، لأنّ کلّ واحد من العورتین مشکوک الحرمة، من حیث کونها عورة، لأنّ النظر إلی عضو من أعضاء بدن الم_ُحرّم لا یکون حراماً، فیحرم النظر إلی کلیهما بواسطة العلم الإجمالی .

هذا محصّل کلامهم .

ولکنّ الإنصاف هو حرمة النظر إلی کلّ من العورتین، لأُمور شتّی .

أوّلاً : لایبعد دعوی صدق العورة عرفاً علی کلیهما، لأنّ العرف لا ینحصر نظره إلی کون الآلة وسیلة لخروج البول والمنی فقط، ولذلک یصدق العورة لمن کان له عورة، لکنّها مسدودة وتخرج فضلاته عن طریق آخر ولو بعلاج ، فما یکون شکله بصورة العورة یطلق علیه عندهم العورة . ولهذا یطلق العورة لمن کان له عورتان من القضیب أو الفرج .

فما ذکره الحکیم فی «مستمسکه» وأیّده صاحب «المصباح» من دعوی أنّ إقامة الدلیل علیه مشکل، لإنصراف العورة عند العرف عن مثله، لیس فی محلّه، کما لایخفی .

ثانیاً : احتمال کون الخنثی طبیعة ثالثة فی قبال الرجل والاُنثی، فتشمله الأدلّة بهذا الاعتبار، فیقتضی الحکم بالحرمة أیضاً.

إلاّ أنّه خلاف ما یستظهر من الآیات والروایات، حیث أنّ الأوّل منها یدلّ علی أنّ اللّه تبارک وتعالی وهب الذکر والاُنثی ولا ثالث لهما، کما فی قوله تعالی :

ص:95

«یَهَبُ لِمَنْ یَشَاءُ إِنَاثا وَیَهَبُ لِمَنْ یَشَاءُ الذُّکُورَ * أَوْ یُزَوِّجُهُمْ ذُکْرَانا وَإِنَاثا وَیَجْعَلُ مَنْ یَشَاءُ عَقِیما»(1) .

واحتمال کون المراد من التزویج منها هو الخُنثی بعید غایته، إذ المقصود هو إعطاء کلّ من الذکر والاُنثی للإنسان .

کما یؤیّد الانحصار إلی الذکر والاُنثی آیات أُخری فی موارد مختلفة، مثل قوله تعالی : «مَنْ عَمِلَ صَالِحا مِنْ ذَکَرٍ أَوْ أُنثَی وَهُوَ مُؤْمِنٌ» (2)، وقوله تعالی : «أَنِّی لاَ أُضِیعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْکُمْ مِنْ ذَکَرٍ أَوْ أُنْثَی»(3) قوله تعالی : «فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَیْنِ الذَّکَرَ وَالاْءُنثَی»(4) وغیرها من الآیات الشریفة الدالّة ، بل وهکذا الروایات الواردة فی تمییز حال الخنثی من الذکورة والاُنوثة، تفهمنا بأنّ الخُنثی لیست طبیعةً ثالثة غیرهما، کما لا یخفی .

ثالثاً : استفادة حرمة النظر إلیهما، من التعلیل الوارد فی خبر المرتضی رحمه الله فی رسالة «المحکم والمتشابه» نقلاً عن «تفسیر النعمانی» عن علیّ علیه السلام : «فالنظر سبب إیقاع الغسل من الزنا وغیرها»(5) .

لجریانه فی مثل المورد قطعاً .

رابعاً : من إمکان استفادة حرمة النظر لغیر الأجنبی بطریق أولی، إذا قلنا بالحرمة للمحرم، بواسطة العلم الإجمالی، لاحتمال وجود الأهمّیة فی الأجنبی أزید من المحرم، فکیف یمکن الحکم بالجواز للأجنبی دون المحرم .

خامساً : إمکان استفادة الحرمة من خبر موسی بن محمّد، أخی أبی الحسن


1- سورة الشوری: آیة 49 .
2- سورة الشوری: آیة 50.
3- سورة غافر: آیة 40.
4- سورة القیامة: آیة 38.
5- مستدرک الوسائل: الباب 1 أحکام الخلوة، ح5.

ص:96

الثالث علیه السلام : «إنّ یحیی بن أکثم سأله فی المسائل التی سأله عنها: أخبرنی عن الخنثی وقول علیّ علیه السلام تورث الخنثی من المبال مَنْ ینظر إلیه إذا بال، وشهادة الجارّ إلی نفسه لا تقبل، مع أنّه عسی أن یکون امرأة وقد نظر إلیه الرجال، أو یکون رجلاً وقد نظر إلیه النساء، وهذا ممّا لا یحلّ ؟ فأجاب أبو الحسن

الثالث علیه السلام : أمّا قول علیّ علیه السلام فی الخنثی: أنّه یورث من المبال، فهو کما قال، وینظر قومٌ عدولٌ یأخذ کلّ واحد منهم مرآة وتقوم الخُنثی خلفهم عریانة، فینظرون فی المرایا، فیرون شبحاً فیحکمون علیه»(1) .

وخبر المفید فی «الإرشاد» قال : «روی بعض أهل النقل أنّه لمّا ادّعی الشخص ما ادّعاه من الفرجین، أمر أمیر المؤمنین علیه السلام عدلین من المسلمین أن یحضراً بیتاً خالیاً، وأمر بنصب مرآتین، إحداهما مقابلة لفرج الشخص، والأُخری مقابلة للمرآة الأُخری وأمر الشخص بالکشف عن عورته فی مقابلة المرآة، حیث لا یراه العدلان وأمر العدلین بالنظر فی المرآة المقابلة لهما، فلمّا تحقّق العدلان صحّة ما ادّعاه الشخص من الفرجین، اعتبر حاله بعدّ أضلاعه، فلمّا ألحقه بالرجال أهمل قوله فی ادّعاء الحمل وألقاه ولم یعمل، به وجعل حمل الجاریة منه ولحقه به»(2) .

فی أحکام الخلوة لو اضطر إلی النظر إلی العورة

فإنّ الخبرین المذکورین، وإن کانا من حیث السند ضعیفین إمّا بالإرسال أو لعدم توثیق بعض رواته، إلاّ أنّ التمسّک بهما للتأیید، منضمّاً مع ما عرفت من الأدلّة، یکفی فی إثبات المطلوب، وهو حرمة النظر إلی کلّ من العورتین، لأنّه لو کان النظر إلی نفس العورة _ ولو إحداهما _ جائزاً، لما کان علیه السلام یحکم بإتیان المرآة فی مقابل العورتین، فیفهم من ذلک عدم الجواز، حتّی فی حال الضرورة، فضلاً عن غیرها.


1- وسائل الشیعة: الباب 3، میراث الخنثی، الحدیث 1.
2- وسائل الشیعة: الباب 3، میراث الخنثی، الحدیث 2.

ص:97

ویحرم استقبال القبلة واستدبارها(1)

هذا فی خنثی المشکل . وأمّا الخُنثی الملحق بالرجال أو النساء بالعلامات، فحکم عورتها واضح بالتبع، وإن کان الأحوط ترک النظر إلی عورة الآخر .

الفرع الثالث : قال السیّد قدس سره فی «العروة» بأنّ الاحتیاط فی صورة الاضطرار إلی النظر فی مقام المعالجة، هو النظر فی المرآة الموضوعة فی مقابلهما، إن اندفع الاضطرار بذلک وإلاّ فلا بأس .

فی أحکام الخلوة / استقبال القبلة و استدبارها

بل نقول : لا یبعد الحکم بالوجوب فی صورة الإمکان، لأنّ النظر إلی العورة حرامٌ فیجب ترکه مهما أمکن، فإذا أمکن ذلک بواسطة المرآة، _ خصوصاً عند من یقول بأنّ النظر إلی العورة بالمرآة لیس نظراً لنفس العورة ، بل یکون نظراً إلی صورتها، وإن کان الظاهر عند العرف خلافه _ فیجب الإقتصار علیه ولو بواسطة «دلیل المیسور لا یسقط بالمعسور» من جهة وجوب ترک النظر ، بل یمکن استظهار ذلک من حکم العقل أیضاً، من لزوم تقدیم محتمل الأهمّیة لدی التزاحم. ولا اشکال فی أنّ النظر إلی المرآة المقابلة لها، یعدّ أخفّ وأهون من النظر إلی نفس العورة ، مضافاً إلی إمکان استفادة ذلک من الخبرین المذکورین سابقاً فی مقام الاشهاد من الحکم بوضع المرآة فی مقابل العورة ، بل أشدّ من ذلک مَنْ جعل المرآتین فی مقابل الآخر، حیث أفاد شدّة أهمّیة المسألة، فالحکم بوجوب النظر إلی المرآة الموضوعة فی مقابل العورة لا یخلو عن قوّة .

(1) وهذا هو المشهور ، بل فی «الخلاف» و«السرائر» و«الغُنیة» دعوی الإجماع علیه، خلافاً لابن الجنید من المتقدِّمین، والمقدس الأردبیلی و «صاحب المدارک» والکاشانی من المتأخِّرین، حیث ذهبوا إلی الکراهة .

وقد استدلّ المشهور للحرمة بعدّة أخبار لا بأس بالإشارة إلیها، وهی: ما رواه علی بن إبراهیم مرفوعاً قال : «خرج أبو ضبعة من عند أبی عبداللّه علیه السلام وأبو

ص:98

الحسن موسی علیه السلام قائم، وهو غلام، فقال له أبو حنیفة : یا غلام أین یضع الغریب ببلادکم ؟ فقال : اجتنب أفنیة المساجد... إلی قوله : ولا تستقبل القبلة بغائط ولا بول»(1) ، الحدیث .

ومرفوعة محمّد بن یحیی بإسناده ، قال : «سُئل أبو الحسن علیه السلام : ما حدّ الغائط ؟ قال : لا تستقبل القبلة ولا تستدبرها، ولا تستقبل الریح ولا تستدبرها»(2) .

وحدیث الحسین بن زید عن الصادق علیه السلام عن آبائه علیهم السلام : «أنّ النبیّ صلی الله علیه و آله قال فی حدیث المناهی : إذا دخلتم الغائط فتجنّبوا القبلة»(3) .

وفی حدیث آخر منه قال : «ونهی رسول اللّه عن استقبال القبلة ببول أو غائط»(4) .

وحدیث ، عن أبیه عن جدّه عن علیّ علیه السلام قال : «قال النبیّ صلی الله علیه و آله : إذا دخلت المخرج فلا تستقبل القبلة ولا تستدبرها، ولکن شرّقوا أو غرّبوا»(5) .

ومرفوعة عبد الحمید بن أبی العلاء وغیره، قال : «سُئل الحسن بن علیّ علیهماالسلام ما حدّ الغائط ؟ قال : لا تستقبل القبلة ولا تستدبرها ولا تستقبل الریح ولا تستدبرها»(6) .

وحدیث محمّد بن إسماعیل قال : «دخلت علی أبی الحسن الرضا علیه السلام وفی منزله کنیفٌ مستقبل القبلة، وسمعته یقول : من بال حذاء القبلة، ثمّ ذکر فانحرف عنها إجلالاً للقبلة وتعظیماً لها لم یقم من مقعده ذلک حتّی یغفر له»(7) .


1- وسائل الشیعة: الباب 2، أحکام الخلوة، الحدیث 1.
2- وسائل الشیعة: الباب 2، أحکام الخلوة، الحدیث 2.
3- وسائل الشیعة: الباب 2، أحکام الخلوة، الحدیث 3.
4- وسائل الشیعة: الباب 2، أحکام الخلوة، الحدیث 4.
5- وسائل الشیعة: الباب 2، أحکام الخلوة، الحدیث 5.
6- وسائل الشیعة: الباب 2، أحکام الخلوة، الحدیث 6.
7- وسائل الشیعة: الباب 2، أحکام الخلوة، الحدیث 7.

ص:99

ومثله خبر المحاسن قال : «قال رسول اللّه صلی الله علیه و آله : من بال حذاء القبلة...»(1) .

وحدیث «دعائم الإسلام»: عنهم صلوات اللّه علیهم: أنّ رسول اللّه صلی الله علیه و آله نهی من استقبال القبلة واستدبارها فی حال الحدث والبول» (2).

وحدیث البحار عن «العلل» لمحمّد بن علی بن إبراهیم القمّی، قال : «أوّل حدّ من حدود الصلاة هو الاستنجاء، وهو أحد عشر لابدّ لکلّ الناس معرفتها وإقامتها، وذلک من آداب رسول اللّه صلی الله علیه و آله ، فإذا أراد البول والغائط، فلا یجوز أن یستقبل القبلة بقبل ولا دبر، والعلّة فی ذلک أنّ الکعبة أعظم آیة اللّه فی أرضه، وأجلّ حرمه، ولا تستقبل بالعورتین القبل والدبر لتعظیم آیة اللّه، وحرم اللّه وبیت اللّه»(3) ، الحدیث .

وحدیث «عوالی اللئالی» عن فخر المحقّقین، عن النبیّ صلی الله علیه و آله : «إذا جلس أحدکم علی حاجة فلا یستقبل القبلة ولا یستدبرها، ولکن شرّقوا أو غرّبوا»(4) .

وفی حدیث آخر منه عن علیّ علیه السلام أنّه قال : «إذا دخلت المخرج...»(5) وهو الحدیث الذی ذکرناه عن «الوسائل» فلا نعید .

وحدیث الراوندی ، عن موسی بن جعفر عن آبائه علیهم السلام عن رسول اللّه صلی الله علیه و آله : «أنّه نهی أن یبول الرجل وفرجه باد للقبلة»(6) .

هذه جملة الأحادیث التی دلّت علی ذلک، فمع کثرتها ووحدة مضمون فی جمیعها، یوجب القطع للفقیه علی کون الحکم تحریمیّاً، لاسیّما مع صراحة بعضها


1- وسائل الشیعة: الباب 2، أحکام الخلوة، الحدیث 8.
2- مستدرک الوسائل: الباب 2 احکام الخلوة، ح 1.
3- مستدرک الوسائل: الباب 2 احکام الخلوة، ح 2.
4- مستدرک الوسائل: الباب 2 احکام الخلوة، ح 3.
5- مستدرک الوسائل: الباب 2 احکام الخلوة، ح 4.
6- مستدرک الوسائل: الباب 2 احکام الخلوة، ح 5.

ص:100

بعدم الجواز، کما فی حدیث البحار ، مضافاً إلی الشهرة المتحقّقة بین المتقدِّمین والمتأخِّرین والمعاصرین، مع الإجماع المدّعی به، حیث یوجب انجبار ضعف الأخبار المذکورة من حیث السند .

کما أنّ الإشکال فی دلالتها، إمّا من جهة وحدة السیاق فیما بین استقبال الریح المحکوم بالکراهة، مع استقبال القبلة واستدبارها، حیث تقتضی الحکم بکراهة استقبال القبلة واستدبارها ، غیر وجیه من جهات شتّی ؛ أوّلاً : بأنّ الحکم بالکراهة فی مثل الریح یکون من القرینة الخارجیة من الإجماع علی ذلک، لا من حیث الدلالة الداخلیّة، حتّی یقال بوحدة السیاق .

وثانیاً : خلوّ بعض الأخبار عن مثل حکم الریح، فیوجب ظهور الخبر فی الحرمة من حیث دلالة النهی علیه .

وثالثاً : امتناع بعض الأخبار عن الحمل علی الکراهة، لاشتماله علی کلمة (لا یجوز)، کما فی حدیث البحار، أو ذکر العلّة فی وجه الحرمة من تعظیم الکعبة، حیث لا تجری هذه العلّة فی الریح ، فالحکم بالحرمة ممّا لا إشکال فیه .

هاهنا فروع نشیر إلیها: الأوّل : بناءً علی القول بالحرمة، لا إشکال فی الحکم إذا استقبل القبلة بمقادیم بدنه مع العورة بحسب ما یتعارف فی الجلوس، لأنّه القدر المتیقّن منه ، فیبقی صورتان : إحداهما : أن یستقبل القبلة بمقادیم بدنه، ولکن حرّف عورته عنها .

وثانیهما : عکس ذلک، بأن یستقبل القبلة بعورته دون بدنه، فهل تکون هاتان الصورتان أیضاً محرّمة؟ أو کانت الثانیة حراماً دون أولاهما؟

فقد نقل عن «التنقیح» للفاضل المقداد، وابن الجنید وسلاّر والمفید هو الحکم بالحرمة فیما إذا کانت العورة بنفسها قبلة، وخلاف بأن حرّفها عنها، فلیس بحرام، ولو کانت مقادیم البدن قبلة أو خلفها، خلافاً للمشهور من الحکم بالحرمة فی هذه الصورة، کما یحکمون بالحرمة فی صورة عکسه أیضاً ، لأنّهم استدلّوا

ص:101

بالأخبار الدالّة علی تحریم ذلک بقولهم : : «لا تستقبل القبلة ولا تستدبرها»، حیث یستفاد منه الحالة المتعارفة فی الجلوس ، بل یمکن أن یؤیّد کلامهم بأنّ المنهیّ هو استقبال العورة للقبلة وخلفها، لا مخرج البول والغائط، حتّی یصحّ

القول بزوال الحرمة بانحراف رأس الذکر عن القبلة، ولا إشکال عند العرف بأنّ العورة تصدق لمجموع القضیب والبیضتین وجوانبهما، لا خصوص رأس الذکر .

مضافاً إلی أنّ انحراف مجموع العورتین عن القبلة واستدبارها، لا یمکن إلاّ بانحراف جمیع البدن، لاتّصالهما بالبدن ، مضافاً إلی أنّ المراد من الاستقبال إن کان هو المخرجین، نقول بأنّ هذا الأمر لا یتحقّق فی مثل مخرج الغائط، لأنّه یکون دائماً فی طرف الأسفل والأرض لا القبلة، فلیس المراد من استقبالهما إلاّ بما کان متعارفاً، أی الجلوس إلیها، المستلزم لإستقبال القُبل والدُبر من حیث المواجهة ، فعلی ذلک یکون المراد من الاستقبال ببول وغائط، هو بمعنی أنّه لا تستقبل القبلة فی حال البول والغائط، لا أن یکون المراد هو خصوص رأس العورة، ومخرج خروج البول والغائط مع ما قد عرفت من عدم تحقّقه فی مخرج الغائط، إلاّ أن یستلقی فیقع ثقب غائطه مقابلاً للقبلة، خصوصاً إذا رفع قدمیه، وهو فرض نادر لا یکون خصوص ذلک مراداً کما لا یخفی.

فما تمسّک به القائلون بالکراهة بمثل هذا المضمون، لا یخلو عن وهن .

مع أنّ النسبة بین الأخبار المشتملة علی لزوم کون التقابل بالبدن، استظهاراً من «لا تستقبل ولا تستدبر» ، وبین الأخبار المشتملة علی کون الاستقبال والاستدبار ببول وغائط حتّی یصدق لخصوص مواجهة العورة للقبلة _ ولو لم یکن مقادیم البدن قبله، کما لا یحرم إذا حرّف رأس المخرج عن القبلة، ولو کانت مقادیم البدن صوب قبلة _ هو العموم والخصوص من وجه، لأنّ الأخبار التی تعتبر الاستقبال للبدن والعورة لا تشمل ما لو کانت العورة قبلة دون البدن، فتشمل هذه الصورة الأخبار التی تعتبر کون العورة قبلة ، کما لا تشمل أخبار کون

ص:102

العورة قبلة، ما لو کانت مقادیم البدن قبلة، وانحرف العورة عنها، مع کون هذه الصورة داخلة فی الأخبار السابقة، لأنّ البدن کان مقابل القبلة .

وتارةً تجتمع معاً، وهو ما لو کانت العورة ومقادیم البدن کلیهما قبلة، فتشمله

الطائفتان من الأخبار .

هذا کما قیل فی «مصباح الهدی» و«التنقیح» للخوئی .

ولکن الإنصاف أنّ النسبة بینهما لیست علی نحو العموم والخصوص من وجه، لأنّ الأدلّة الدالّة علی حرمة تقابل کلیهما _ من العورة والبدن _ القبلة، تشمل ما لو کانت العورة مستقبلة دون البدن ، لوضوح أنّ انضمام البدن لا خصوصیة فی حفظ وجود الحرمة، بحیث لو لم یستقبل البدن _ مع کون العورة فی حال البول صوب القبلة _ کان جائزاً، فتثبت الحرمة فی کلتا الصورتین، وهما کون البدن والعورة مقابل القبلة، وکون العورة فقط قبلة دون البدن.

فیبقی صورة، وهی کون البدن قبلة دون العورة، فلا یبعد الحکم بالحرمة بتلک الأخبار، خصوصاً مع ما عرفت من عدم إمکان انحراف العورة بتمامها، إلاّ بانحراف البدن عن القبلة.

فالحکم بالحرمة فی جمیع الصور قویٌّ جدّاً، ولا فرق فی ذلک بین کونه مستقبلاً للقبلة جالساً أو قائماً أو مستلقیاً أو مضطجعاً، إذا کان رأسه صوب الغرب ورجلیه صوب الشرق أو بالعکس، لأنّ المفروض ملاحظة عورتیه قُبلاً ودبراً بالاستقبال والاستدبار .

نعم ، هذا فیما إذا کانت القبلة فی الجنوب والشمال، وإن کانت فی طرف الشرق أو الغرب، فیکون الأمر فی حال الاضطجاع عکس ذلک، بأن یکون رأسه فی الجنوب ورجلیه فی الشمال أو بالعکس .

کما لا فرق فی القبلة بین عینها أو جهتها، کما کانت کذلک فی الصلاة، وهو واضح .

فثبت بما ذکرنا حرمة الاستقبال والاستدبار حین التخلّی وببدنه کلیهما إذ هو

ص:103

القدر المتیقّن، کذلک لو کان البول بالذکر والغائط بمخرجه مقابلاً للقبلة دون البدن إن أمکن، کالذکر فی الرجال، ولکنه یصعب تصوّره فی النساء کما فی الغائط للرجال والنساء أیضاً، لأنّ بحسب النوع یوجب انحراف البدن مع العورة

أیضاً إلی القبلة، فبقی ما لو کانت مقادیم البدن إلی القبلة وخلفها، دون العورة إن أمکن، فحرمته أیضاً لا یخلو عن قوّة .

فما عن السیّد الاصفهانی قدس سره فی «الروائع»: بأنّه لولا الإجماع لحکم بحرمة الاستقبال حین البول فقط دون البدن، فقال ما لفظه : وبذلک یمکن أن نقول : إنّ الأخبار السابقة الظاهرة فی النهی عن استقبال الفاعل واستدباره، لا یکون المراد منها ما هو مقتضی جمودها، بل المراد منها هو الاستقبال إلیها فی حال البول، والاستدبار عنها فی حال الغائط، فیرجع إلی النهی عن الاستقبال بالعمل إلی القبلة ، وإن کان ذلک فی البول، إنّما یتحقّق بحسب العادة باستقبال نفس الفاعل، وفی الغائط باستدباره.

ثمّ أضاف : وبناءً علی ما ذکرنا، فلا بأس باستدبار الفاعل عن القبلة فی حال البول، ولا استقباله إلیها فی حال الغائط... إلی آخر کلامه .

فاسدٌ جدّاً، لوضوح أنّ العنوان فی المسألة یکون أمرین هما استقبال القبلة واستدبارها، فإذا استدبر حال البول عن القبلة، کیف یصحّ القول بأنّه لا بأس به، مع کونه داخلاً فی البول فی حال الاستدبار عن القبلة، وینطبق علیه الحرمة الواردة فی قوله علیه السلام : «لا تستدبر القبلة».

کذلک لا یمکن الموافقة معه فی حکم استقباله بالغائط دون البول، حیث ذهب إلی عدم حرمته، زعماً منه بأنّ الغائط حینئذٍ لا یکون حال استقبال القبلة، بل یکون خلفها، مع أنّه قد عرفت حینئذٍ أنّه لو سلّمنا ما یوجب توهّم الغائط، فإنّه داخل تحت عنوان الحرمة للاستدبار أیضاً، کما لا یخفی .

ص:104

ویستوی فی ذلک الصحاری والأبنیة، ویجب الانحراف فی موضعٍ قد بنی علی ذلک .(1)

(1) الفرع الثانی: الحکم بالحرمة مطلقاً، أی سواء کان فی الصحاری أو الأبنیة هو المشهور نقلاً وتحصیلاً، بل فی «الخلاف» و«الغنیة» الإجماع علیه، خلافاً لسلاّر من التفصیل بالحرمة فی الأوّل والکراهة فی الثانی ، بل وإباحة الثانی کما عن المفید ، بل عن ابن الجنید استحباب ترک الاستقبال فی الصحراء، من دون ذکر حکم الأبنیة والاستدبار.

وکلّ ذلک ضعیف جدّاً، وذلک لما قد عرفت من ثبوت الشهرة، بل الإجماع المدّعی به، ودلالة إطلاقات الأخبار لمثل الأبنیة أیضاً، خصوصاً مثل خبر الهاشمی بقوله : «إذا دخلت المخرج فلا تستقبل القبلة»(1)، الظاهر فی کون ذلک اسم المکان المعدّ لذلک، کما فی بیت الخلاء الموجود فی الأبنیة .

بل لا یبعد أن یکون المراد من قوله : «إذا دخلتم الغائط»(2) ، هو المکان المنخفض المعدّ للغائط، أو المستور المعدّ لذلک فیشمل الأبنیة أیضاً ، مضافاً إلی الإشعار الموجودة فی خبر محمّد بن إسماعیل ، من الإجلال والتعظیم للبیت الحرام الجاری فی مثل الأبنیة ، فمجرّد احتمال التفصیل _ بملاحظة هذا الخبر، من حیث کون الکنیف فی منزل الرضا علیه السلام مستقبل القبلة، خصوصاً مع ذکر الثواب للانحراف لدی الذکر، لا ذکر التوعّد بالعتاب فقط، أو هو مع الثوب کما هو المتعارف فی الواجبات _ ممّا لا یعبأ به، لأنّ وقوع محلّ التخلّی مستقبل القبلة، ممّا لا إشکال فی کونه مرجوحاً قطعاً، فیستبعد صدوره فی الإمام علیه السلام اختیاراً ،


1- وسائل الشیعة: الباب3، أحکام الخلوة، الحدیث 5.
2- وسائل الشیعة: الباب 2، أحکام الخلوة، الحدیث 3.

ص:105

غایته أنّه یمکن سکن فی دار کانت أمرها کذلک، فأمّا وجوب هدم محل التخلّی

والبناء إلی جهة مغایرة عن القبلة فغیر معلوم، لإمکان الانحراف حال التخلّی، کما أشار إلیه المصنّف بما ذکره لبیان عدم وجوب التخریب ، کما أنّ الإمام لابدّ وأنّه ینحرف فی حال التخلّی، فلا یدلّ علی الجواز بفعله .

وأمّا ذکر الثواب بالتوجّه إلی غیرها، وانحرافه عنها، دون التوعّد بالعقاب، لا یوجب الظهور فی الکراهة، لأنّ مورد الروایة کان فی فرض النسیان ثمّ الذکُر بعده، والناسی لا عقاب له قطعاً، فکان الثواب من جهة احترامه وإجلاله بالانحراف ، وهذا لا ینافی أن یکون معاقباً عند ترک الانحراف لدی الذکر، وإن کانت العبارة لا تخلو عن إشعار بذلک، إلاّ أنّه لا یجوز رفع الید عن تلک الظواهر بذلک الإشعار، کما لا یخفی .

فظهر ممّا ذکرنا أنّه لو ورد مکلّف فی دار کان محل تخلیته مقابلاً للقبلة، أو عکسه، فلابدّ علیه أن ینحرف فی حال التخلّی عن القبلة إلی غیرها ، کما أشار إلیه المصنّف قدس سره فی کلامه .

الفرع الثالث : الظاهر کون الحکم المذکور للقبلة الفعلیة مثل الکعبة ، وأمّا القبلة المنسوخة، أی بیت المقدس، فحرمة استقبالها واستدبارها غیر معلوم ، بل معلومة العدم من جهة أصالة البراءة، فضلاً عن عدم شمول إطلاقات الأدلّة لمثله، کما عرفت منّا سابقاً .

فما ذهب إلیه العلاّمة فی «النهایة» من کون النهی عن الاستدبار مختصّاً للمدینة، لأنّ استدبارها مستلزم لاستقبال القبلة المنسوخة فمحرّمة، یکون بلا دلیل، کما أورد علیه صاحب «الجواهر» وکثیر من الفقهاء .

نعم لو ألحقنا سائر المشاهد المشرّفة بلحاظ التعظیم والأدب والاحترام، فلا إشکال حینئذٍ بأن یلحق بها بیت المقدس أیضاً، فیکون ترک استقبالها حال التخلّی راجحاً ولا نضایقه کما لا یخفی ، مضافاً إلی أنّه یلزم علی قول العلاّمة أن

ص:106

لا یکون الاستدبار فی غیر المدینة حراماً، لأنّ استقبال القبلتین حینئذٍ محرّمة

لإستدبارها، مع أنّه مخالف للأصحاب ، بل لما ذهب إلیه نفسه .

الفرع الرابع : بعد ما ثبت حرمة الاستقبال والاستدبار للبول والغائط، فهل یکون الاستبراء والاستنجاء أیضاً کذلک أم لا ؟

ففی الاستبراء لو استلزم خروج البول حاله علماً ففی «المصباح» للآملی: «کون حاله حال خروج البول، بل قال: ومع الظنّ به فالأقوی إلحاقه بحال العلم، لغلبة خروجه بالاستبراء، ومع العلم بعدم خروجه فالأقوی عدم الحرمة، وهکذا مع الشکّ لعدم الدلیل علیها، وإن کان الأحوط الترک» .

ولکن الإنصاف أن یقال : إنّ لسان أکثر الأدلّة لا یشمل الاستبراء، لأنّها إمّا مصرّحة بعدم الاستقبال والاستدبار بالبول والغائط الظاهر أو المنصرف إلی ما هو المتعارف من خروج البول للتخلیة، لا مثل القطرة والقطرتین فی حال الاستبراء، وإن کان الجمود علی العبارة لا یبعد شموله، أو ظاهر فی غیر هذه الصورة، لعدم ذکر البول والغائط بقوله : «إذا أردت المخرج فلا تستقبل» .

نعم ، لا یبعد شمول خبر البحار عن «العلل» لمحمّد بن علی بن إبراهیم القمّی، فإنّه بعد النهی عن الاستقبال والاستدبار عند إرادة البول والغائط ، قال : «ولا تستقبل بالعورتین للقبل والدبر لتعظیم آیة اللّه وحرم اللّه(1)» ، حیث إنّه فضلاً عن اشتماله التعلیل الجاری فی فرض المذکور، فإنّ النهی عن نفس استقبال العورتین یشمل حال الاستبراء أیضاً، إلاّ أنّه یلزم علیه القول بحرمة استقبال العورتین مطلقاً، سواء کان فی حال الاستبراء أو غیرها من الاستنجاء ، بل فی حال الجلوس العاری عن الستر، مع أنّه، یلتزم به أحد، وإن کان الأحوط عدم الجواز، خصوصاً إذا علم خروج البول کما هو الغالب، وإن کان القول بعدم الحرمة


1- مستدرک الوسائل: الباب 2 أحکام الخلوة، ح2.

ص:107

فی حال الشکّ قویّاً، حملاً للتعلیل علی صورة الأدب ، ومضافاً إلی عدم عمل

الأصحاب بظاهر التعلیل تحریماً ، مع وجود أصل البراءة منضمّاً بعدم شمول الأدلّة الوارد فی حال التخلّی لمثل ذلک، کما لا یخفی.

اللّهمّ إلاّ أن یستفاد من الأولویّة التی یذکر فی الاستنجاء، کما سیأتی إن شاء اللّه .

إذا عرفت ذلک فی الاستبراء، فهکذا یکون حال الاستنجاء ، بل یکون هو أهون، لعدم خروج بول وغائط عنه حینئذٍ، خلافاً لصاحب «الدلائل» و«الذخیرة» و«الحدائق»، حیث ذهبوا إلی الحرمة اعتماداً علی خبر عمّار ، عن أبی عبداللّه علیه السلام : «قال : قلت له : الرجل یرید أن یستنجی کیف یقعد ؟ قال : کما یقعد للغائط . قال : وإنّما علیه أن یغسل ما ظهر منه، ولیس علیه أن یغسل باطنه»(1) .

بل ومثله مرسلة الصدوق ، قال : «سئل الصادق علیه السلام عن الرجل إذا أراد أن یستنجی کیف یقعد ؟ قال : کما یقعد للغائط»(2) .

خلافاً للآخرین لما قد عرفت من عدم شمول الالّة السابقة له ولکن الخبر ضعیف بسهل بن زیاد الآدمی حیث، وقع الکلام فی اعتباره، وعدم دلالته، لأنّه کان فی صدد بیان ردّ العامّة حیث یعتقدون بأنّ الجلوس للاستنجاء لابدّ أن یکون مع تفریج الرجلین لدخول الأنملة فی المقعد للتطهیر من باطنه، کما اُشیر إلی ذلک ذیل خبر عمّار، من لزوم غسل الظاهر فقط دون الباطن ردّاً للعامّة .

وکیف کان فانّ إثبات الحرمة مشکل جدّاً، غایته الحکم بالاحتیاط، لتوهّم الإطلاق فی الحدیثین، لاسیّما خبر الصدوق، حیث لم یکن مذیّلاً بهذا الذیل، وخروجاً عن مخالفة من عرفت، مع کونه مؤیّداً بما عرفت من التعلیل وغیره من خبر البحار، کما لا یخفی .


1- وسائل الشیعة: الباب 37، أحکام الخلوة، الحدیث 2.
2- وسائل الشیعة: الباب 37، أحکام الخلوة، الحدیث 1.

ص:108

بناءً علی هذا، فإن قلنا بحرمة الاستنجاء فی مقابلة القبلة وخلفها ، فمثل الاستبراء _ لاسیّما ما یلزم خروج البول _ یکون حراماً بطریق أولی .

الفرع الخامس : حکی عن غیر واحد من الأصحاب أنّه لو اضطرّ إلی أحد الأمرین من الاستقبال والاستدبار، یقدّم الثانی لکونه أهون ، بل فی «الجواهر» جزم به لکونه أقبح وأعظم توهیناً للقبلة، ولقد أورد علیه .

هذا، لو سلّمنا کون المناط فی الحرمة هو التعظیم، وإلاّ کان المقتضی هو الحکم بالتخییر .

ولکن الإنصاف هو الحکم بالتعیین للثانی لا التخییر ، مضافاً إلی إمکان احتمال الأهمّیة، لأنّ توهّم کون الاستدبار أهمّ من الاستقبال فاسدٌ قطعاً، وهذا بخلاف عکسه، فیحکم العقل بالترجیح، فضلاً عن إنّ عدّة من أخبار الباب، مثل خبر حسین بن زید، وعلیّ بن إبراهیم، ومحمّد بن إسماعیل، وغیرها واردة لخصوص الاستقبال فقط دون الاستدبار، فالحکم بالتخییر یکون فی غایة الضعف ، کما لا یخفی .

الفرع السادس : لو دار الأمر بین أحدهما من الاستقبال أو الاستدبار، وترک الستر عند وجود الناظر فایّهما یقدّم؟

الذی ذهب إلیه الأکثر هو وجوب تقدیمهما علی ترک الستر، واستدلّوا علی ذلک بأهمّیة الستر عند المتشرّعة، الکاشف عن کونه کذلک عند الشارع أیضاً .

بل قد یمکن استفادة أهمّیة الستر من موارد مختلفة فی الصلاة، من الحکم بوجوب الرکوع والسجود مومیاً، تحرّزاً عن لزومهما کشف العورة، وتجویز الصلاة فی الثوب النجس، إذا دار أمره بین الصلاة عاریاً المستلزم لکونه عند ناظر محرّم، فما نحن فیه لا یکون أهمّ من الصلاة قطعاً .

الفرع السابع : لو اشتبهت القبلة وتردّدت فهی علی أقسام : تارةً : لا یعلم القبلة ولا یدری بأنّها فی أیّ جهة من الجهات الأربع، فبالنتیجة یتردّد فی استدبارها

ص:109

أیضاً ، وهو أیضاً قد یقدر علی تحصیل العلم بالفحص والتحرّی، فالظاهر الوجوب، لأنّ التکلیف قد تعلّق بأمر وجودی خارجی یجب تحصیله، فلیس هنا

موضع البراءة، فما توهّمه صاحب «المدارک» ووالد النراقی والهمدانی من عدم وجوب الفحص لانتفاء الحرمة بالجهل إلی القبلة، لیس بوجیهٍ، بل فی الأخیر لکونه من الشبهة الغیر المحصورة، لأنّ التکلیف بحرمة الاستقبال والاستدبار لا یکون مقیّداً بما هو المعلوم ، بل التکلیف متوجّه إلی ما هو القبلة واقعاً ، غایته مع العجز عن الامتثال والعلم، وغیره من الحُجج والعلل یسقط عنه، فإذا کان قادراً علیه بالفحص والتحرّی، فإنّه یجب علیه، فیکون هذا نظیر ما لو علم وجود اخمر بین أفراد الأوانی، وکان قادراً علی تحصیل العلم، وتحقّق الامتثال به، فلا إشکال فی وجوبه، وهو واضح لا خفاء فیه .

وأمّا کون الشبهة غیر المحصورة، فغیر واضح إذ مع الشکّ أیضاً یحب الاحتیاط، للقطع بالتکلیف، والشکّ فی وجوه المانع .

وأُخری أن لا یقدر علی تحصیل العلم بالفحص، ولکنّه حصل له الظنّ به، ففی وجوب العمل به، أو التخییر بین الجهات ، وجهان، الأقوی هو الأوّل ، فربّما یستدلّ علیه بوجوه: تارةً بإلحاق المقام بباب الصلاة والذبح والاحتضار، کما یجب العمل به فی تلک الموارد، فإنّه یجب العمل به فیما نحن فیه، ففی «الجواهر» و«المصباح» للآملی من التأمّل والإشکال لکونه قیاساً .

ولکن الإنصاف أنّه لیس بوجیه، لأنّ الحکم باعتبار الظنّ فی تلک الموارد، یفهم منه أنّ المناط فی الکفایة والوجوب لیس أمراً تعبّدیاً ، بل یکون أمراً ارتکازیاً عقلائیّاً، حیث إنّهم مع العجز عن العلم یتوسّلون إلی الظنّ، فباذن الشارع فی تلک الموارد یحصل الاطمئنان للفقیه من إمضاء الشارع لهذه الطریقة العقلائیّة .

وأُخری بإطلاق الأدلّة من قوله: «لا تستقبل القبلة» الشاملة للظنّ، لکنّه مشکل لإنصرافه إلی صورة العلم بحسب المتعارف، وإثبات قیام الظنّ مقامه فی

ص:110

مثل هذا الإطلاق مشکل .

وثالثة: بما ورد فی خصوص العمل بالظنّ فی باب الصلاة، فیشمل المقام،

وهو کما فی صحیحة زرارة، قال : «قال أبو جعفر علیه السلام : یجزی التحرّی أبداً إذا لم یعلم أین وجه القبلة»(1) .

فإنّه وان کان لا یدلّ علی عنوان کفایة الظنّ، إلاّ أنّه یفهم من جهة أنّ التحرّی والتفحّص یوجب الظنّ غالباً، فأجاز ذلک من جهة تحصیل القبلة .

فإشکال الحکیم قدس سره فی «مستمسکه» بانصرافه إلی ما یکون التکلیف بالاستقبال، فلا یشمل المقام، غیر مقبول، لأنّه لا فرق بین الحکم بالقبلة لأمر إثباتی من إیقاع الصلاة إلیها، أو لأمرٍ عدمی إیقاع التخلّی فی مقابلها، خصوصاً أنّ قوله: (أبداً) لا یخلو من إشعار لإعطاء قاعدة کلّیة ارتکازیّة من قیام الظنّ مقام العلم .

ورابعة : بما استدلّ به الشیخ الأعظم، وتبعه غیر واحد ممّن تأخّر عنه، بدوران الأمر بین التخییر فی الجهات الأربع، أو العمل بالمظنون بحسب حکم العقل، فالمتعیّن هو الأخیر، لعدم استقلاله حینئذٍ فی الحکم بالتخییر، مع رجحان الاحتمال فی بعض وهو المظنون، إذ بترک العمل به یشکّ فی سقوط التکلیف، فالعقل یحکم بإتیانه .

فثبت من جمیع ما ذکرنا وجوب العمل بالظنّ .

وثالثة : أن لا یقدر علی تحصیل الظنّ أیضاً ، بل یکون شاکّاً بعدم القدرة علی الفحص، أو فحص ولم یرتفع شکّه بذلک ، فحینئذٍ إن قلنا بکون الشبهة غیر محصورة، فلا إشکال فی جواز الإتیان بأیّ جهة شاء وکان مخیّراً .

وأمّا إن قلنا بکون المورد من الشبهة الغیر المحصورة، فلابدّ من الاجتناب عن الجمیع، ولو بتأخیر التخلّی، إلی أن یتمکّن من تحصیل العلم أو الظنّ بالفحص،


1- وسائل الشیعة: الباب 6، أبواب القبلة، الحدیث 1.

ص:111

وإلاّ یجوز بمقدار یندفع به الضرورة مخیّراً بین الجهات الأربع، إذا لم یحتمل رجحان إحداهما، وإلاّ کان الأولی ترک ما هو الراجح فی البین.

هذه صورة أحد الأقسام، فنرجع إلی أصل التقسیم .

وأُخری بأن تکون الشبهة والتردّد بین الجهتین المتقابلتین، فلا إشکال حینئذٍ بوجوب ترکهما، لأنّ الجلوس إلیهما إمّا یکون بالقبلة أو خلفها، وکلاهما حرام، فلابدّ اختیار غیرهما، وهو واضح .

وثالثة : أن تکون الشبهة بین الجهتین المتّصلتین، فیلزم حرمة مقابلتهما أیضاً من جهة الاستدبار .

ففی «المصباح» للآملی أنّه یصیر من قبیل التردّد فی الجهات الأربع، غایته جهتان منهما بالاستقبال، وجهتان أُخریتان بالاستدبار، وکلاهما کان حراماً .

هذا صحیح لو کانت الجهتان تشملان لجمیع الدائرة ، إلاّ أنّه قد یتصوّر أن تکون الجهتین المشبهتین أقلّ من ربع الدائرة فی کلّ واحد منها ، فحینئذٍ لا یکون هذا إلاّ من قبیل سابقه من لزوم اختیار غیرها من الجهتین، استقبالاً واستدباراً، وإلاّ کان حکمهما حکم الجهات الأربع، کما ذکره، هذا تمام الکلام فی ذلک .

ثمّ فی کلّ موضع ثبت التخییر بین الجهات الأربع، فإنّ التخییر استمراری، ویجوز أن یتّخذ فی کلّ مرّة جهةً، حتّی ولو بلغ بتمام الدائرة، أو یکون بما لا یلزم القطع بوقوع أحدها إلی القبلة أو خلفها، فلابدّ أن یبقی من الدائرة مقداراً حتّی یحتمل کونه قبلة أو خلفها، ولم یتخلّ إلیها .

ویظهر من عدّة من الأصحاب الذهاب إلی الأوّل ؛ ولعلّ وجهه کما یستفاد من مطاوی کلماتهم، أنّ العلم الإجمالی بوجود الحرام فی البین، إنّما یتنجّز فیما إذا کان أطراف العلم دفعی الحصول والوجود، لا ما کان تدریجیّاً _ کما فی المقام _ لخروجه عن الابتلاء.

فی أحکام الخلوة / إقعاد الطفل مستقبلاً أو مستدبراً

أو یقال فی وجهه: بأنّه حیث کان مضطرّاً لإتیان ما هو المنتخب لکونه ممّا

ص:112

لابدّ منه فی رفع حاجته، فیکون مجازاً فی کلّ مرّة لتحقّق الإضطرار فی أن یتّخذ کلّ جهةٍ من الجهات، فیسقط العلم الإجمالی عن التنجّز بواسطة الاضطرار .

أو یقال فی وجهه : بأنّ احتمال وجود الحرام فی کلّ جهة من جهات الدائرة، یکون من الشبهة غیر المحصورة، فلا یکون منجّزاً.

وهذا هو الذی یظهر من کلام المحقّق الهمدانی فی «المصباح» .

أو یقال : بأنّ الإتیان فی کلّ جهة من الجهات، کما أنّه یلزم القطع بالمخالفة القطعیة، لأنّه یقطع بوقوع أحدها فی مقابل القبلة ومستدبرها، هکذا یلزم القطع بتحقّق الموافقة القطعیة بترک التخلّی عنهما فی ما بین تمام الجهات.

هذا بخلاف ما لو اختار الثانی خلافاً لما اختاره أوّلاً، أو غیره إلی أن لا یبلغ القطع بالخلاف، فکما لا تتحقّق المخالفة القطعیّة، فإنّه لا تتحقّق الموافقة القطعیّة أیضاً ، بل یکون حینئذٍ من المخالفة والموافقة الاحتمالین، ولیس الثانی بأولی من الأوّل، فیجوز المخالفة القطعیة المشتملة علی الموافقة القطعیة ، هذا کما فی «المصباح» للآملی قدس سره .

ولکن الأقوی کون التخییر باقیاً إلی أن لا یلزم القطع بتحقّق المخالفة القطعیّة بأحدهما، من الاستقبال أو الاستدبار، ولو بإبقاء مقدار من الدائرة، وجهة من الجهات، لأنّ احتساب ذلک المقدار من الأفراد المحتملة من الشبهة الغیر المحصورة عرفاً فی غایة الإشکال ، کما أنّ تنجّز العلم الإجمالی باقٍ علی حاله فی التدریجی أیضاً، لعدم خروجه بذلک المقدار من الفصل بین الدفعات عن مورد الابتلاء عرفاً، حتّی یوجب سقوطه عن التنجّز ، کما أنّ الاضطرار إلی إحدی هذه الجهات لا یوجب إلاّ إباحة إتیان بعضها لا جمیعها، لوضوح أنّ الاضطرار مرتفع بالإتیان دون تمام الدائرة .

کما أنّ حصول المخالفة القطعیة یکون أقبح لدی العقل والعقلاء، من الإتیان بالموافقة القطعیّة، مع أنّ الثانی حیث لا یمکن إیجاده بدون المزاحمة مع ارتکاب

ص:113

الحرام، فلا یکون تحصیل الموافقة القطعیّة واجباً حینئذٍ ، مع أنّ حصول القطع من الموافقة القطعیة لا یکون فی جمیع أفراد التخلّی ، بل یکون محققاً فی الجملة

فیما بین الأفراد کما کانت المخالفة القطعیة أیضاً کذلک .

وأمّا ما ذکر فی الاُصول فی وجه التقدیم _ کما أشار إلیه الآملی فی «المصباح» هنا من أنّ جلب المنفعة بترک المخالفة القطعیة، والإتیان بالموافقة القطعیة أولی من جلب المفسدة من فعل المخالفة القطعیة، وترک الموافقة القطعیة ، بل الأولی عکسه، فینتج جواز الإتیان إلی کلّ الجهات _ فی غیر محلّه ؛ لوضوح أنّ فی ترک الموافقة القطعیّة أیضاً مفسدة، نظیر فعل المخالفة القطعیّة ، کما أنّ فی ترک المخالفة القطعیة منفعة ومصلحة، نظیر فعل الموافقة القطعیّة، فلا یکون مثل هذا وجهاً للتقدیم ، بل کان ما قد عرفت من حکم العقل والعقلاء بتقبیح المخالفة القطعیة فیما یقدر ترکها.

ولا فرق فی ذلک بین ما کان بناءه من أوّل الأمر هو المخالفة أو لا، وإن کان القبح فی الأوّل أشدّ عند العقلاء .

فثبت أنّ الحقّ مع الخوئی والعلاّمة الشاهرودی وغیرهما من أصحاب التعلیقات علی «العروة» ، فراجع .

فی أحکام الخلوة / ردع الغیر عن الاستقبال و الاستدبار

کما لا فرق فی الحرمة أیضاً بین أن یقدم علی التبوّل فی جمیع الجهات بدفعات متعدّدة، أو یبول مرّة واحدة إلی جمیع الجهات، الموجب لحصول القطع بتحقّق المخالفة القطعیّة، وإن کان احتمال الحرمة هنا أقوی من السابق، لأنّه یحتمل أن یکون جمیع البول الذی یدور به أمراً واحداً، وتکلیفاً فارداً، ففی عمل واحد وتکلیف واحد یقطع بحصول المخالفة القطعیة ، وهذا بخلاف سابقه، حیث یحتمل أن یکون الانفصال موجباً للتعدّد، فیجری فیه الاحتمالات المذکورة، من کون التدریجی غیر داخل فی تنجّز العلم الإجمالی، وخروج بعض الأفراد عن الابتلاء، وکون الشبهة غیر محصورة، وأمثال ذلک ، فما فی «المستمسک» من

ص:114

عدم الفرق بین المقامین فی الجواز، لا یخلو عن إشکال وغرابة ، واللّه العالم .

الفرع الثامن : هل یحرم إقعاد الطفل للتخلّی مستقبلاً أو مستدبراً أو لا ؟

قد یقال : بعدم الحرمة _ کما عن الشاهرودی قدس سره لو لم یحبّب عملاً وعنواناً یجب التحرّز عنه، والآملی والخوئی _ وقد قیل فی وجهه : بأنّ المستفاد من الأدلّة فی الموارد المختلفة مبغوضیة العمل مطلقاً، حتّی عن غیر المکلّف، لکونه مبغوضاً للشارع بأیّ وجه حصل، وهو کاللواط والزنا، فلابدّ فی أمثاله من الحکم بالحرمة، لأنّ المستفاد فی مثلها هو حرمة الصدور والإصدار فی حقّ الغیر وإن کان صبیّاً.

وقد لا یکون المستفاد کذلک ، بل دلّت علی المبغوضیّة لخصوص المکلّفین فلا یکون الحکم إلاّ مخصوصاً بهم، فمثل ذلک لا یحرم الاصدار من الطفل، وما نحن فیه یکون من هذا القبیل أنّ قوله: «إذا دخلت المخرج» أو «لا تستقبل» ونظائرهما لا یشمل لمثل المقام، فلو شکّ فالمرجع هو البراءة .

ولکن الإنصاف أن یقال : بأنّ الأدلّة بلحاظ لفظها من حیث المخاطبة بقوله : «إذا دخلت المخرج» أو «دخلتم الغائط» أو «لا تستقبل» لا تشمل لمثل ما نحن فیه، إلاّ أنّ فی بعض الأخبار قد عُلّل المنع بأنّه تعظیماً لحرم اللّه وبیته، فهو بإطلاقه یشمل إقعاد غیر المکلّف أیضاً، وإن کان نفس العمل لغیر المکلّف غیر مبغوض، هذا بخلاف إقعاد من کان مکلّفاً کما لو کان أعمی أو جاهلاً بالقبلة ، حیث یکون هناک تسبیباً لعمل مبغوض .

فتوهّم مقایسة المقام بهما یکون فی غیر محلّه، لإمکان القول بالحرمة فیهما تسبیباً دون المقام.

هذا ولکن إثبات وجوب التعظیم علی هذا النحو، من الأدلّة، مشکل جدّاً ، فالأولی هو الحکم بالاحتیاط، کما عن السیّد فی «العروة» وکثیر من أصحاب التعالیق .

نعم ، هذا لا یوجب الحکم بالمنع للأطفال عن الاستقبال والإستدبار، لما قد

ص:115

عرفت من عدم المبغوضیة لهم ولا یأتی هنا شبهة التسبیب أیضاً، فلا وجه للحکم بالوجوب عن المنع، کما هو مورد اتّفاق الفقهاء المتعرّضین للمسألة .

الفرع التاسع : هل یجب ردع الغیر عنه إذا کان مکلّفاً أم لا؟

فالمسألة ذات شقوق، لأنّ الغیر الذی یقعد للتخلّی مستقبلاً ومستدبراً ، قد یکون عالماً بالحرمة وبالموضع، وملتفتاً إلی ذلک وبرغمه یقدم علیه، فلا إشکال فی وجوب ردعه حینئذٍ، إن کان شرائط النهی عن المنکر موجودة، لأنّه من أحد مصادیقه، وهو ظاهر متّفق علیه بین الفقهاء .

وقد لا یکون کذلک، بل کان غیر عالم، فهو أیضاً:

تارةً: قد یکون جهله رافعاً للحرمة فی حقّه، أی لا یکون التکلیف فی حقّه منجّزاً لعذره، نظیر الناسی والغافل، حیث لا یکون العمل فی حقّه حراماً ومبغوضاً ، فحینئذٍ أفتی کثیر من الأصحاب بعدم وجوب إعلامه، لعدم مبغوضیة العمل علیه حینئذٍ حتی یلزم إبلاغه .

ولکن عن بعضٍ _ کالشاهرودی _ الاحتیاط، إن کان جهله عن عذر ، ولعلّه أراد إدخال ذلک فی قسم من کان جاهلاً بأصل المسألة، حیث أنّه یجب إرشاده، وإنْ کان العمل فی حقّه غیر مبغوض .

ولکن الإنصاف أنّ إثبات وجوب الإبلاغ حینئذٍ مشکل جدّاً، لأنّه یکون من أقسام الجهل بالموضوع، حیث لا یجب إعلامه، فإن قلنا بعدم الوجوب فیه، فما نحن فیه أیضاً یکون مثله، لوحدة الملاک فیهما .

وأُخری : یکون جاهلاً بالحکم من جهة التمسّک بما أوجب الترخیص خطاءً، کالأصل أو الامارة والبیّنة، کما لو اشتبه العدلان فی تعیین القبلة ، مع أنّ الناظر یعلم أنّ ما توجّه إلیه الشخص هو القبلة بعینها .

فالظاهر أیضاً عدم وجوب الإعلام، لأنّ العمل لیس له مبغوضاً، ولو من جهة العذر، ووجود الحجّة.

ص:116

والفرق بین الصورتین هو من حیث أنّ الحکم الواقعی بالحرمة هنا موجود، إلاّ أنّ الحکم الظاهری یمنعه، هذا بخلاف الصورة السابقة حیث لا یکون الحکم

الواقعی فی حقّه منجّزاً لأجل النسیان والغفلة.

ولا یخفی علیک أنّ عدم وجوب الإعلام فی الموردین، إنّما یکون فیما لا یکون المورد ممّا یعلم اهتمام الشارع به مثل قتل النفس أو تزویج الاُخت والمحارم ونظائر ذلک، وإلاّ یجب الإعلام قطعاً .

وثالثة : أن یکون جاهلاً بأصل موضوع القبلة، لا من جهة النسیان والغفلة فإذا لم یکن الإعلام فی الغافل واجباً، فهو یکون مثله، لعدم المبغوضیّة حینئذٍ فی حقّه حتّی یجب إبلاغه، وهو واضح .

ورابعة : أن یکون جاهلاً بالحکم، بأن یعرف جهة القبلة، إلاّ أنّه لا یعلم حرمة المواجهة إلیها فی حال التخلّی، فیجب إرشاده حینئذٍ من باب وجوب إرشاد الجاهل، المستفاد من الأدلّة من آیة النبأ والنفر، وقول النبیّ صلی الله علیه و آله فی حجّة الوداع : «ألا فلیبلّغ الشاهد الغائب» ، والخطبة نقلها صاحب «تفسیر الصافی» فی ذیل آیة الولایة فی سورة المائدة آیة 11، فراجع.

ثمّ لو سأل القاصد عن القبلة، فهل یجب علی المسؤول عنه إعلامه وإرشاده أم لا ؟

والظاهر هو الثانی، لعدم الدلیل علیه، إذ السؤال یکون عن الموضوع الخارجی ولا دلیل یدلّ علی وجوبه ، بل لو شکّ فی وجوبه، فالمرجع هو أصالة البراءة .

نعم ، لو سئل عن الحکم یجب الجواب من باب وجوب إرشاد الجاهل بالأحکام .

لا یقال : قد ورد الدلیل علی وجوب أداء الشهادة ، بل «وَمَنْ یَکْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ»(1) کما فی القرآن، مع کون الشهادة بحسب النوع یندرج فی الموضوعات .

لأنّا نقول : بأنّ وجوب الاداء فی الشهادات، لا یدلّ علی الوجوب فیما نحن


1- سورة البقرة: آیة 283.

ص:117

والثانی فی الاستنجاء:

ویجبُ غسل موضع البول بالماء، ولا یجزی غیره مع القدرة(1)

فیه، لأنّه فی حقوق الناس، بخلاف ما فی المقام فإنّه یعدّ من حقوق اللّه .

نعم ، لا إشکال فی رجحانه لکونه إجابةً لحاجة الاخوان، وقضاء لها، وهو أمر مطلوب شرعاً، کما لا یخفی .

هذا، ولکن لایجوز إیقاعه علی خلاف الواقع، یعنی لو سئل عنه لوجب علیه أن یدلّه إلی جهة القبلة حتّی لا یتخلّی إلیها، کما علیه الشیخ الأعظم وکثیر من أصحاب التعالیق «للعروة»، تبعاً لصاحبها، ووجهه أنّه إذا نهی الشارع عن وجود شیء، یفهم کونه مبغوضاً له، ولا یرضی بتحقّقه، ولا فرق فی مبغوضیّته بین أن یوجد بالمباشرة أو بالتسبیب.

فی حکم الاستنجاء للوضوء

اشارة

نعم ، لو علم أنّه لو لم یرشد إلیها فإنّه یتخلّی إلی جهة القبلة، وبرغم ذلک لایجب علیه إعلامه، لعدم الدلیل، وعدم کفایة ما ذکرنا آنفاً لإثبات الوجوب علیه، لعدم دخالته فی تحقّق المبغوض إلاّ سکوته عن الإعلام، فاحتمال جواز الإیقاع فی خلاف الواقع یکون فی غایة الضعف .

(1) لا یخفی علیک أنّ الاستنجاء مصدر باب الاستفعال من النجو، والنجو عبارة عن ما یخرج من البطن أو الغائط، فهو فی اللغة عبارة عن الالتقاط بالرَطْب أو بالقطع من الأصل، کما عن الأصمعی استنجیت النخلة إذا التقطت رُطَبها، واستنجیتَ الشَّجرة قطعتها من أصلها.

ولا یبعد أن یکون المعنی الأوّل هو المناسب للمقام إذ أنّ المسح یصدق فی الغائط ، والثانی للغسل للبول والغائط، کما عن الشیخ الأعظم ، مع أنّه یمکن أن یکون الثانی مراداً للمسح والغَسل، لأنّه نوع قطع من الأصل، وهو المخرج .

وکیف کان، فإنّ معناه شرعاً عبارة عن إزالة عین النجاسة من البول والغائط لا

ص:118

خصوص الثانی، لما قد عرفت فی موضعه من إطلاق الاستنجاء فی الأخبار علی البول أیضاً .

نعم ، لیس کلّ إزالة للبول والغائط یُسمّی استنجاءً، بل ما کان عند المخرج أو ما حوله، بما لا یضرّ فی صدقه عرفاً بإطلاقه للمتعدّی عن المخرج کان بالمسامحة ، کما أنّه لا یعتبر کون البول والغائط ناقضین، کما وقع هذا التعبیر فی کلام «الذکری»، إلاّ أن یکون المقصود قیداً توضیحیّاً لا احترازیّاً .

ثمّ إنّ وجوب الاستنجاء یعدّ وجوباً شرطیاً مقدّمیاً للصلاة والطواف وغیرهما، ممّا یجب فیه طهارة البدن عن النجاسة ، بل عن الصدوق وجوبه شرطیاً لصحّة الوضوء أیضاً، اعتماداً إلی أخبار کان بعضها صحیحاً مثل ما رواه الشیخ عن أبی بصیر ، قال : «قال أبو عبداللّه علیه السلام : إن أهرقت الماء ونسیت أن تغسل ذکرک حتّی صلّیت فعلیک إعادة الوضوء وغسل ذکرک»(1) .

وما رواه أیضاً فی الصحیح عن سلیمان بن خالد ، عن أبی جعفر علیه السلام : «فی الرجل یتوضّأ فینسی غسل ذکره؟ قال : یغسل ذکره ثمّ یعید الوضوء»(2) .

وخبر سماعة ، قال : «قال أبو عبداللّه علیه السلام : إذا دخلت الغائط فقضیت الحاجة، فلم تهرق الماء ثمّ توضّأت ونسیت أن تستنتجی، فذکرت بعدما صلّیت، فعلیک الإعادة، وإن کنت أهرقت الماء فنسیت أن تغسل ذکرک حتّی صلّیت، فعلیک إعادة الوضوء والصلاة، وغَسل ذکرک، لأنّ البول مثل البراز»(3).

والمراد من البراز لعلّه هو الغائط، فیکون معناه أنّ البول یکون مثل الغائط .

هذا، ولکن الأصحاب أفتوا کلّهم علی خلاف الصدوق، وحکموا بعدم وجوب


1- وسائل الشیعة: الباب 18، نواقض الوضوء، الحدیث 8.
2- وسائل الشیعة: الباب 18، نواقض الوضوء، الحدیث 9.
3- وسائل الشیعة: الباب 10، نواقض الوضوء، الحدیث 5.

ص:119

إعادة الوضوء ، بل فی «الجواهر» دعوی الإجماع علیه لکثرة الأخبار الواردة فی عدم وجوب الإعادة، مثل ما رواه الکلینی فی الصحیح عن علی بن یقطین عن أبی الحسن علیه السلام : «فی الرجل یبول، فینسی غَسل ذکره، ثمّ یتوضّأ وضوء الصلاة ؟ قال : یغسل ذکره ولا یعید الوضوء»(1) .

ومرسلة ابن بکیر ، عن بعض أصحابنا، عن أبی عبداللّه علیه السلام : «فی الرجل یبول وینسی أن یغسل ذکره، حتّی یتوضّأ ویصلّی ؟قال : یغسل ذکره ویعید الصلاة ولا یعید الوضوء»(2) .

وخبر عمرو بن أبی نصر قال : «قلت لأبی عبداللّه علیه السلام : أبول وأتوضّأ وأنسی استنجائی، ثمّ أذکر بعدما صلّیت؟ قال : اغسل ذکرک، وأعد صلاتک، ولا تعد وضوئک»(3) .

وخبر ابن اُذینة ، قال : «ذکر أبو مریم الأنصاری أنّ الحَکَم بن عنبسة بال یوماً ولم یغسل ذکره متعمِّداً، فذکرت ذلک لأبی عبداللّه علیه السلام .

فقال : بئس ما صنع، علیه أن یغسل ذَکره، ویعید صلاته، ولا یعید وضوئه»(4).

وحدیث آخر لعمرو بن أبی نصر ، قال : «سألت أبا عبداللّه علیه السلام عن الرجل یبول فینسی أن یغسل ذکره ویتوضّأ ؟ قال : یغسل ذکره ولا یعید وضوئه»(5).

هذه جملة من الأخبار الدالّة علی عدم وجوب إعادة الوضوء، وکان بعضها صحیحاً ومعتبراً ، فحینئذٍ کیف التوفیق بینها ؟

فی حکم الاستنجاء / لا یجزی من البول إلاّ الماء


1- وسائل الشیعة: الباب 18، نواقض الوضوء، الحدیث 1.
2- وسائل الشیعة: الباب 18، نواقض الوضوء، الحدیث 2.
3- وسائل الشیعة: الباب 18، نواقض الوضوء، الحدیث 3.
4- وسائل الشیعة: الباب 18، نواقض الوضوء، الحدیث 4.
5- وسائل الشیعة: الباب 18، نواقض الوضوء، الحدیث 5.

ص:120

فنقول : قد ذُکر للجمع بینها بما لا یخلو عن إشکال :

أوّلاً : ما هو المنقول عن الشیخ الطوسی فی ذیل خبر أبی بصیر بالإعادة

للوضوء لعلّه کان فیما لم یتوضّأ أصلاً، فلهذا حکم بالإعادة.

فضعفه ظاهرٌ من حیث أنّه خلاف ظاهر لفظ الإعادة، لظهوره فی التوضّأ سابقاً، کما لا یخفی .

وثانیاً : ما هو المنقول عن الشیخ الحرّ صاحب «الوسائل»، من کون المراد من الوضوء هو الاستنجاء، أی لابدّ له من الاستنجاء، فلا یکون المراد هو الوضوء الاصطلاحی، حتّی ینافی ما ذکرنا من الأخبار .

فهو أیضاً ضعیف : أوّلاً : لا یساعد هذا الحمل مع ذکر غسل ذکرک، حیث یفهم الاستنجاء .

فإن سلّمنا کونه عطفاً تفسیریّاً لما قبله، إلاّ أنّه لا یناسب مع لفظ الإعادة، الظاهر فی إتیانه سابقاً .

مع أنّه لو کان الاستنجاء قد أُتی به فیما سبق، فلا وجه للإعادة، ویخرج عن مورد المسألة، کما لا یخفی .

وثالثاً : هو الحمل علی التقیّة، فهو أیضاً یتفرّع علی ثبوت کون الشیاع عن مذهب العامّة هو الإعادة ، فحینئذٍ یصحّ، هذا لکنّه غیر معلوم کذلک .

فالأولی فی الجمع أن یقال : بأنّ مقتضی إعراض الأصحاب عن العمل بالخبر أو الأخبار موجب لضعفها ولو کان بعضها صحیحاً ومعتبراً ، بل کلّما زید فی اعتباره زید فی ضعفه من تلک الجهة وهذا هو مختارنا فی الأخبار تبعاً لعدّة من المحقّقین، کما حقّقناه سابقاً، فحیث یکون عمل الأصحاب کلّهم _ عدا الصدوق _ علی عدم

ص:121

وجوب الإعادة، فلا یمکن المساعدة مع هذه الأخبار، هذا أوّلاً .

وثانیاً : لو سلّمنا اعتبار هذه العدّة والطائفة، فتتعارض مع الأخبار الکثیرة الحاکمة بعدم الإعادة، فبذلک التعارض یجب أن نتصرّف فی الهیئة، من عدم وجوب الإعادة ، ویفید الاستحباب، فیکون هو الجمع فی العمل بکلتا الطائفتین .

وثالثاً : لو سلّمنا عدم جواز التصرّف فی الهیئة، لکونه خلاف ظاهر لفظ

(علیک الإعادة)، فنذهب إلی التعارض بینهما، بحیث یوجب التساقط، فنرجع إلی الأصل وهو البراءة عن الوجوب، فلا یکون مقتضاه إلاّ الحمل علی الاستحباب، کما لایخفی .

ثمّ لا یذهب علیک بأنّ مقتضی الأخبار وکلمات الأصحاب، بل إجماع المسلمین، وضرورة الدِّین کما فی «الجواهر»، بأنّ مخرج البول لا یتطهّر إلاّ بالماء، بلا فرق بین إمکان تحصیله أم لا ، فما فی کلام المصنّف بقوله : (لا یجزی غیره مع القدرة)، لا یخلو عن تأمّلٍ إن أراد قیداً احترازیّاً، إلاّ أن یکون القید راجعاً إلی قوله: (یجب غسله) فیکون الوجوب _ دون الاجزاء _ مقیّداً فله وجه.

ولا خلاف فی المسألة إلاّ ما عن الشافعی من العامّة، والمحدّث الکاشانی من الخاصّة، من عدم تنجیس المتنجّس بعد زوال عین النجاسة، کما سیأتی کلامه واستدلاله إن شاء اللّه .

ویدلّ علی ما ادّعیناه عدّة أخبار مستفیضة ، بل کادت أن تکون متواترة علی ما هو مشتمل علی حکم الغسل بالماء، ولو تلویحاً وإشارةً، وهی مثل أمره بالغسل الظاهر فی الماء: منها: ما رواه یونس بن یعقوب، قال : «قلت لأبی عبداللّه علیه السلام : الوضوء الذی افترضه اللّه علی العباد لمن جاء من الغائط أو بال ؟ قال : یغسل ذکره ویذهب الغائط»(1) ، الحدیث .

ومنها : ما یدلّ علی صبّ الماء، مثل ما رواه حسین بن أبی العلاء قال : «سألت أبا عبداللّه علیه السلام عن البول یصیب الجسد ؟ قال : صبّ علیه الماء مرّتین »(2).


1- وسائل الشیعة: الباب 9، أحکام الخلوة، الحدیث 5.
2- وسائل الشیعة: الباب 26، أحکام الخلوة، الحدیث 1.

ص:122

ومثله خبر أبی إسحاق(1) ، وخبر أبی نصر البزنطی(2).

بل فی بعض الأخبار التصریح بعدم کفایة غیر الماء، کما فی صحیح زرارة عن

أبی جعفر علیه السلام : «قال : لا صلاة إلاّ بطهور، ویجزیک من الاستنجاء ثلاثة أحجار، بذلک جرت السنّة من رسول اللّه صلی الله علیه و آله ، وأمّا البول فإنّه لابدّ من غَسله»(3) .

ومعتبرة برید بن معاویة ، عن أبی جعفر: «أنّه قال : یجزی من الغائط المسح بالأحجار، ولا یجزی من البول إلاّ الماء»(4).

وغیر ذلک من الأخبار، فمع وجود هذه الأدلّة منضمّاً إلی الأصل، وهو استصحاب بقاء النجاسة بعد المسح بالأحجار والخرقة، لا مورد للقول بالکفایة .

فما یشاهد من الأخبار الدالّة علی خلاف ما ذکرنا، مثل ما ورد فی خبر سماعة ، قال : «قلت لأبی الحسن موسی علیه السلام : إنّی أبول ثمّ أتمسّح بالأحجار، فیجیئنی من البللل ما یفسد سراویلی؟ قال : لیس به بأس»(5) .

فی حکم الاستنجاء للعاجز عن التطهیر

وخبر حنان بن سدیر ، قال : «سمعت رجلاً سأل أبا عبداللّه علیه السلام فقال : إنّی ربّما بلت، فلا أقدر علی الماء، ویشتدّ ذلک علیَّ؟ فقال : إذا بلت وتمسّحت، فامسح ذکرک بریقک، فإن وجدت شیئاً فقل هذا من ذاک»(6) .

وخبر عبداللّه بن أبی بکر، قال : «قلت لأبی عبداللّه علیه السلام : الرجل یبول ولا یکون عنده الماء، فیمسح ذکره بالحائط ؟ قال : کلّ شیء یابس زکیّ»(7) .


1- وسائل الشیعة: الباب 26، أحکام الخلوة، الحدیث 2.
2- وسائل الشیعة: الباب 26، أحکام الخلوة، الحدیث 9.
3- وسائل الشیعة: الباب 9، أحکام الخلوة، الحدیث 1.
4- وسائل الشیعة: الباب 9، أحکام الخلوة، الحدیث 6.
5- وسائل الشیعة: الباب 13، أحکام الخلوة، الحدیث 4.
6- وسائل الشیعة: الباب 13، أحکام الخلوة، الحدیث 7.
7- وسائل الشیعة: الباب 31، أحکام الخلوة، الحدیث 5.

ص:123

وقد تمسّک المحدّث الکاشانی بالأخیر، وبموثّقة حنان بن سدیر، بأنّ المتنجّس لا ینجّس ، مع أنّه مخالفٌ لصریح صحیح عیص بن القاسم ، قال : «سألت أبا عبداللّه علیه السلام عن رجل بال فی موضع لیس فیه ماء، فمسح ذکره بحجر، وقد عرق ذکره وفخذاه ؟ قال : یغسل ذکره وفخذیه»(1) الحدیث .

مع إمکان أن یکون المراد من الزکیّ، هو حال الیبوسة، أی لا یسری ولا یتعدّی، فتکون دلالته علی خلاف مذاقهم أتمّ وأدلّ، هذا فضلاً عن ضعف سند ابن بکیر لمقام محمد بن خالد .

کما أنّ خبر حنّان بن سدیر یدلّ علی المطلوب أیضاً، لأنّه یعلّمه حیلة لفراره من الشک فی السرایة، بأنّ الرطوبة من ریقه لا من البول.

ولیس المراد من مسح الریق علی الذکر، بأن یمسح موضع النجاسة، بل غیره من أطراف المخرج من الذکر الذی کان طاهراً، ومعلومٌ أنّ مثل هذا العمل یوجب زیادة النجاسة، لا یخفی .

کما أنّه یمکن الجواب عن خبر سماعة _ مع أنّه ضعیف من حیث السند، من جهة عدم توثیق حکیم بن مسکین، وهشیم بن أبی مسروق _ بأنّه معارض مع صحیح عیص .

هذا، مع أنّه لو سلّمنا اعتبار الأخبار سنداً ودلالة ، ولکن مع ذلک نرفع الید عن العمل بها بواسطة إعراض الأصحاب عنها، وهو موجب لسقوطها عن الحجّیة، کما لا یخفی .

ثمّ لا یخفی علیک أنّ کلام المصنّف : «ولا یجزی غیره مع القدرة»، یشعر بأنّ غیر الماء یجزی فی حال العجز عن الماء، والإجزاء یکون هنا فرع الوجوب، کما فی «المسالک»، فیدلّ ذلک علی وجوب إزالة عین النجاسة عند تعذّر الماء، بما


1- وسائل الشیعة: الباب 31، أحکام الخلوة، الحدیث 2.

ص:124

أمکن من ترابٍ أو حجرٍ وغیرهما، تخفیفاً للنجاسة بحسب الإمکان، وإن کان العجز عن الماء لا یؤثّر فی حصول الطهارة، للإجماع علی عدم الفرق بین القدرة والعجز بالنسبة إلی الطهارة، أی لا تحصل إلاّ بالماء کما فی «الجواهر» .

فحینئذٍ یعود البحث والنزاع فی أنّه هل یجب تخفیف النجاسة، بحیث لو لم یخفّف کان فاقداً لشرط صحّة الصلاة، فیجب علیه إزالة العین النجس دون الأثر

أو لا یکون کذلک، بل لو صلّی مع عین النجاسة عند العجز عن غسلها بالماء، کانت صلاته صحیحة؟

ذهب إلی الأوّل الشیخ الطوسی والمفید وکلام المصنّف فی «المعتبر»، وهنا مشعرٌ بذلک، وصریح العلاّمة فی «التذکرة» و«المنتهی» ، بل نقل عن الشهید فی «الذکری» ، والسیّد الاصفهانی فی «الروائع» والمحقّق الهمدانی فی «المصباح» وصاحب «الجواهر» ، واحتاط الشیخ الأعظم ، بل قد نقل عن المشهور _ خلافاً للمتأخّرین حیث ذهبوا إلی الثانی _ أنّه لا یجب التخفیف عند العجز عن الغَسل .

والذی یمکن أن یستدلّ للأوّل أمور :

منها : ما استدلّ به صاحب «الوسائل» من خبر زرارة ومحمّد بن مسلم ، عن أبی جعفر علیه السلام : «قال : سألته عن طهور المرأة فی النفاس إذا طهرت، وکانت لا تستطیع أن تستنجی بالماء، أنّها إن استنتجت اعتقرت هل لها رخصة أن تتوضّأ من خارج وتنشّفه بقطنٍ أو خرقة ؟ قال : نعم تنقّی من داخل بقطن وخرقة»(1) .

وجه الإشعار أنّ الإمام علیه السلام قد أیّد وحکم بأنّ علیها أن تنقّی باطن فرجها بالقطن والخرقة ، مع أنّه لو لم یکن التخفیف لازماً، لما کان للحکم بالتنقیة وجهاً .

وقد أورد علیه _ کما فی «طهارة» الشیخ و«المصباح» _ بأنّ المقصود من تطهیر الباطن الواجب هو ما یظهر عند القعود، لا داخل الفرج .


1- وسائل الشیعة: الباب 29، أحکام الخلوة، الحدیث 3.

ص:125

ولکن یمکن أن یقال : بأنّ المراد من تنقیة الداخل إزالة العین عن داخل الفرج، الذی یوجب خروجه ولو بثلاثة عصرات فی حالات انقباضها وانبساطها، فکأنّه أراد تطهیر جوانبها من داخلها، لا الباطن الواقعی، حتّی یقال بأنّه غیر واجب .

مع أنّه لو کان المراد هو الباطن أیضاً، لا یخلو عن إشعار من أهمّیة إزالة عین النجاسة ، وإلاّ لکان ذکره لغواً .

فالحقّ مع صاحبی «الوسائل» و«الجواهر»، مع أنّ احتمال الشیخ الأعظم فی توجیهه لا یخلو عن قوّة .

ومنها : ما استدلّ به العلاّمة من خبر عبداللّه بن بکیر قال : «قلت لأبی عبداللّه علیه السلام : الرجل یبول، ولا یکون عنده الماء، فیمسح ذکره بالحائط ؟ قال : شیء یابس زکیّ»(1) .

حیث تمسّک به بأنّ المسح بالحائط یوجب التخفیف، فلابدّ من إتیانه فیصیر زکیّاً .

هذا، لکن دلالته علی المطلب لا یخلو عن وهن، لأنّه إن اُرید منه إثبات الطهارة بذلک، فقد عرفت جوابه ممّا سبق .

وإن اُرید بأنّه موجبٌ لعدم سرایته إلی شیء آخر، لعدم کونه مرطوباً بعد المسح، فهو صحیحٌ .

وأمّا استفادة وجوب المسح منه ، فلا ، فدلالته علی الوجوب مخدوشة کما لا یخفی .

ومنها : ما استدلّ به صاحب «المصباح» من حسنة ابن المغیرة قال : «قلت له : هل للاستنجاء حدّ ؟ قال : لا ، حتّی ینقی مائه»(2) .

بناءً علی عموم الاستنجاء للبول أیضاً _ کما هو المختار _ وحصول النقاء بإزالة العین، بأن یفید إطلاق الأدلّة الدالّة علی لزوم الغسل من إزالة العین والأثر،


1- وسائل الشیعة: الباب 31، أحکام الخلوة، الحدیث 5.
2- وسائل الشیعة: الباب 13، أحکام الخلوة، الحدیث 1.

ص:126

فمع العجز عن الثانی یبقی الأوّل داخلاً فی أدلّة النقاء دون الغَسل، وحیث کان الماء هنا مفقوداً، فلابدّ من تحصیل النقاء بإزالة العین، هذا کما فی «مصباح الفقیه» .

ثمّ منع عن ذلک، بأنّه بعد تسلیم المقدّمتین، فإنّ الوجوب المستفاد من الأوامر المقیّدة غیری ، بل شرطی محض ، وقد قرّر فی محلّه بأنّ هذا القسم من الوجوب لا یتقیّد بالقدرة، إذا کان دلیله مطلقاً، لکون الأمر فیه بمنزلة الإخبار عن کونه شرطاً فی حصول ذی المقدّمة أو جزء له ، ومن المعلوم عدم اقتضاء الشرطیّة

والجزئیّة اختصاصهما بحال القدرة، غایة الأمر سقوط التکلیف بالشروط عند تعذّر الشرط لا انتفاء الشرطیّة .

ثمّ تعجّب عن الشیخ، وأنّه کیف لم یتنبّه لذلک مع کونه المؤسّس للقواعد التی أدّت إلی هدم بنیان تقیید إطلاقات أوامر الشرط والجزء ، انتهی ملخّص کلامه .

ولکن یمکن أن یردّ علی کلامه _ بأنّه لو سلّمنا دلالة الحدیث علی الحکم فیما نحن فیه، ولم نستشکل بما سیأتی _ فإنّ ما ذکره فی أوامر الشرط والجزء، فی عدم تقیید إطلاقه بقید، إنّما یکون فیما إذا لم یأت بدلیل منفصل یدلّ صریحاً بکون الإطلاق مقیّداً بقید کذا ، فمع ذکر دلیل یدلّ علیه، لا إشکال فی إمکان التقیید، ویخرج حینئذٍ عمّا یقتضیه إطلاق أوامر الشرط والجزء، من انتفاء المشروط بانتفاء شرطه.

ولعلّه لذلک لم یذکره الشیخ قدس سره ، لأنّ المفروض هنا استفادة الحکم من ذلک الخبر، وهو دلیل منفصل کما لا یخفی .

ولکن أساس الإشکال فی الخبر أنّه أوّلاً : لیس فی صدد بیان ذلک، بأن یقصد بأنّ الإزالة للعین بقدر الإمکان لازم ، بل هو یقصد أن یفید بأنّ الاستنجاء یتحقّق بحصول النقاء عن المحلّ، من دون نظر إلی وجود الأثر بعده أو لا .

وثانیاً : یمکن أن یقال : إنّ الظاهر کون فرض سؤال السائل عن الاستنجاء الذی یُطهّر المحلّ، لا ما لا یکون کذلک، وهو لیس إلاّ فی الغائط .

ص:127

مضافاً إلی أنّ ذیله مشتملٌ علی جملة تدلّ وتؤیّد ما ذکرنا، وهی قوله : «قلت ینقی ما ثمّة، ویبقی الریح؟ قال : الریح لا ینظر إلیها» فإنّ بقاء الریح بعد النقاء قرینة عرفیة علی أنّ المراد من الاستنجاء فی مورد السؤال، هو الاستنجاء للغائط لا البول ، وهو واضح .

ومنها : ما استدلّ به الشیخ الأعظم قدس سره بقوله تعالی : «وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ»(1) ،

وقوله تعالی : «إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَیْسِرُ وَالاْءَنصَابُ وَالاْءَزْلاَمُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّیْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ»(2)حیث تدلاّن علی وجوب الهَجر والإجتناب عن النجس، وأقلّ مراتبه هو إزالة العین ؛ وفیه: إنّ الآیة الثانیة فی مقام بیان الاجتناب عمّا یناسبه من الشرب، بقرینة سیاق ما یصاحب الخمر من المیسر وغیره، ولیس فی صدد بیان لزوم الاجتناب عن جمیع الجهات، کما یؤیّد ما ذکرنا قوله تعالی : «عَمَلِ الشَّیْطَانِ»، فتنجیس الثوب والبدن بالخمر لغرض دنیوی، لا یعدّ عملاً شیطانیّاً ، کما أنّ استفادة وجوب إزالة العین فقط من الآیة الاُولی بنفسها مشکل أیضاً، لأنّ المراد من الآیة إفهام لزوم الهجر عن الرجز أی النجس _ لو کان هو المراد _ لا عبادة الأوثان وغیرها .

وأمّا کونه ذا مراتب، فلابدّ من تحصیل أقلّ مراتبه، فهو خارج عن سیاق الآیة .

نعم ، یصحّ استفادة ذلک مع ملاحظة شیء آخر معه، مثل قاعدة المیسور، فحینئذٍ یمکن أن یقال : بأنّه رجوع إلی کون القاعدة وأمثالها هی الدلیل، لا الآیة .

نعم ، لا یبعد جعل ذلک من المؤیّدات .

کما یؤیّد ذلک، أو یدلّ علیه ما ورد من الحکم بوجوب تبدیل الخرقة النجسة للمستحاضة الکثیرة، المستمرّة الدم، حیث یفهم کون تقلیل عین النجاسة فی


1- سورة المدّثر: آیة 5.
2- سورة المائدة: آیة 90.

ص:128

حال الصلاة بقدر الإمکان، مطلوباً للشارع .

اللّهمّ إلاّ أن یکون لحمل المتنجّس _ مع النجاسة _ منعاً آخر غیر أصل النجاسة فی البدن، فلا یکون متعلّقاً بالمقام .

کما یؤیّد ذلک _ أو یدلّ علیه _ ما ورد من منع حمل النجاسة فی الصلاة، بأن تکون الصلاة فی عین النجس، أی التلبّس بها ممنوعة، فإذا أزال عینها فحینئذٍ لا تکون الصلاة فی النجس ، بل یکون مع النجس، فإذا لم یقدر علی إیجاد الثانی لا

یسقط الأوّل، وهو وجوب الإزالة .

لکن الإنصاف أنّ التلبّس کما یصدق مع عین النجاسة، یصدق مع أثر النجاسة، لأنّ المراد من حرف (فی) فی الموارد کونه (فی حال النجاسة)، وهذا العنوان یصدق مع أثر النجاسة، کما لا یخفی .

ومنها : القواعد المعروفة المعمولة بها فی موارد عدیدة، وهی تعدّ من المسلّمات عند الفقهاء، وهی قاعدة الیسر والإدراک والاستطاعة، کما نقلها صاحب «عوالی اللئالی» عن أمیر المؤمنین علیه السلام من قوله: «المیسور لا یسقط بالمعسور»، و«ما لا یدرک کلّه لا یترک کلّه».

وعن رسول اللّه صلی الله علیه و آله بالنسبة إلی الإستطاعة : «إذا أمرتکم بشیء فأتوا منه ما استطعتم». ولفظ الخبر فی «سنن البیهقی» هکذا : «ما أمرتکم به فافعلوا منه ما استطعتم»(1) .

وجاء فی «تفسیر الصافی» ذیل آیة 101 من سورة المائدة قوله تعالی : «یَا أَیُّهَا الَّذِینَ آمَنُوا لاَ تَسْأَلُوا عَنْ أَشْیَاءَ إِنْ تُبْدَ لَکُمْ تَسُؤْکُمْ» الآیة ، مثل ما فی «الغوالی» .


1- سنن البیهقی: ج1 / ص215.

ص:129

وکیف کان، وجه الاستدلال بها واضح، بأنّ المیسور _ وهو إزالة العین کما هو المُدْرَک والمستطاع _ لا یسقط ولا یُترک من جهة معسوریّة إزالة الأثر .

هذا، ولقد أورد علیه _ کما فی «طهارة» الشیخ و«المصباح» للهمدانی _ بأنّ تلک القواعد تجری فیما لو کان المأمور به ذا أجزاء خارجیّة أو ذهنیّة، کالصلاة، والمطلق والمقیّد _ مع الإشکال فی الثانی _ وأمّا مثل الطهارة _ وهی النظافة _ فإنّه لا جزء ولا قید لها أصلاً .

ولکن الإنصاف أنّ قاعدة المیسور تجری فی کلّ مورد کان ذلک الشیء

والمأمور ذا مراتب عند العرف، فإذا تعلّق الأمر بالمرتبة العالیة من ذلک الشیء ولم یکن مقدوراً، فلابدّ عند العرف من إتیان المرتبة الضعیفة ، إلاّ أن ینکر کون وجود العین وعدمها فی النجاسة بنظر العرف ذا مرتبتین، ولکن دعواه لا یخلو عن بُعد .

فثبت من جمیع ما ذکرنا أنّ القول بوجوب التخفیف فی النجاسة، لا یخلو عن قوّة، کما علیه الأکثر من المتقدِّمین والمتأخّرین ، بل المعاصرین، إلاّ أنّ بعضهم احتاط فیه، مثل الخوئی والحکیم، تبعاً للشیخ الأعظم قدس سره .

فعلی هذا لا یبعد القول بوجوب غَسلة واحدة، فیما إذا کان الواجب فیه غسلتین، کالنجاسة البولیة ، بل وهکذا یجب تخفیف النجاسة بإذهاب بعض أجزاء النجس، وإن کان الحکم فی الموردین لیس بقوّة حکم ما نحن فیه، لشبهة صدق المیسر، والتخفیف عرفاً فی مثل هذه الموارد، فغایته الوجوب احتیاطاً لا فتوائیّاً .

هذا ، إذا لم یستلزم التخفیف زیادة النجاسة لموضع طاهر آخر، وإلاّ فربّما یکون جائزاً، کما لو کان الماء قلیلاً ویعلم أنّه لو اُرید غسله ولو مرّة واحدة لأدّی إلی تنجیس سائر أعضاء بدنه ، فحینئذٍ لا یجوز له الغسل کما لا یخفی .

ص:130

وأقلّ ما یجزی مثلاً ما علی المخرج(1)

(1) قد وقع الاختلاف فی کلمات الأصحاب، ونصوص الأخبار کما وقع الاختلاف فی فتاویهم ، فبعضهم صرّح فی فتواه بما یطابق نصّ بعض الأخبار فی الجملة، کخبر نشیط بن صالح، وکالشیخ المفید فی «المقنعة»، والطوسی فی «المبسوط» والصدوق وغیرهم .

أقلّ ما یجزی فی غسل مخرج البول

وبعضهم اکتفی بذکر غسل مخرج البول بالماء، من دون أن یتعرّض لذکر العدد والمقدار ، وکما فی «اللمعة» و«الإرشاد» و«الخلاف» و«جُمل» السیّد والشیخ، و«الوسیلة» و«الغنیة» و«التبصرة» و«الموجز» وشرحه کما فی «الجواهر» .

وبعضهم صرّح بلزوم الغسل مرّتین، أو الظهور فیه، وکما عن الشهیدین والمحقّق الثانی والمیسی، کما عن بعض التصریح بکفایة إزالة العین، وکما عن أبی الصلاح والحلّی فی «السرائر» والقاضی ابن البرّاج .

وأمّا من حیث الفتاوی، فالمشهور بین المتقدّمین والمتأخّرین _ کما صرّح به الشیخ الأعظم _ کفایة الغسل مرّة واحدة _ کما عن صاحب «الجواهر» و«المستمسک» والمحقّق الهمدانی والسیّد الاصفهانی والخمینی والمحقّق الشاهرودی _ وإن ذهب الأکثر إلی الاحتیاط ، خلافاً لآخرین الذین منهم بین مصرّح بوجوب الغسل مرّتین _ کالشهیدین والمحقّق الثانی والمیسی والسیّد فی «العروة» وصاحب «التنقیح» _ وبین مصرّحٍ بما یطابق نصّ الحدیث الدالّ ظهوره علی الظاهر فی لزوم الغسل مرّتین _ إن کان المراد من المثلین هو الغسلتین کما ذکره الشیخ الأعظم، واحتمله صاحب «مصباح الفقیه» _ .

والذی نختار ونذهب إلیه هو الأوّل، لأنّ المستفاد من الأدلّة یقتضی الجمع بینهما ، فحینئذٍ لا بأس بالإشارة إلی الأخبار التی یمکن التمسّک بها أو أُشیر إلیها ، فأقواها دلالة هو خبر نشیط بن صالح ، عن أبی عبداللّه علیه السلام : «قال سألته :

ص:131

کم یجزی من الماء فی الاستنجاء من البول ؟ فقال : مثلا ما علی الحشفة من البلل»(1) .

والکلام فیه یقع فی مقامین :

تارةً : من حیث السند، من جهة عدم معروفیّة مروک بن عبید من جهة، وضعف هیثم بن أبی مسروق کما فی التنقیح من جهة اُخری .

ولکن یمکن أن یجاب عنه کما أُجیب أوّلاً بأنّه قد نقل العلاّمة فی «الخلاصة» عن الکشی، أنّه قال : «قال محمّد بن مسعود: سألت علی بن الحسن عن مروک بن عبید بن سالم بن أبی حفصة. فقال : إنّه ثقة وشیخٌ صدوقٌ».

کما روی العلاّمة فی «الخلاصة» بأنّ طریق الصدوق فی «الفقیه» إلی ثویر بن أبی فاختة صحیح، برغم أنّ الهیثم فی طریقه، مضافاً إلی نقل الکشی بکونه فاضلاً، المشعر بالوثاقة، کما فی «جامع الرواة»، أوّلاً .

وثانیاً : لو سلّمنا ضعفه، لکنّه منجبر بعمل الأصحاب بشهرة محصلة ومنقولة، بل فی بعض الفقهاء ذکر متن الحدیث فی فتواه .

واُخری: من جهة الدلالة ومضمون الحدیث، بأنّه ما المراد من قوله: «ما علی الحشفة؟» هل المقصود بأنّ الغسل لا یتحقّق إلاّ بهذا، فیکون المعنی بأنّ غسل البول یکفی فیه المرّة، وهو لا یتحقّق إلاّ بأن یکون الماء مثل ما علی الحشفة من البلل .

أو یکون المراد من هذه الجملة کفایة لزوم الغسل مرّتین، یعنی الغسل یتحقّق بمثل ما علی الحشفة، إلاّ أنّ البول حیث لا یتطهّر إلاّ بالتعدّد، فلابدّ بأن یکون الماء مساویاً لما علی الحشفة حتّی یحصل به التعدّد.

أو یکون المراد من نصّ الحدیث بأنّ الغسل فیه لا یتحقّق إلاّ بذلک ، وأمّا لزوم التعدّد فی الغسل فإنّه یُطلب من دلیل آخر.

أو یکون المراد إعمال التعبّد فی تحقّق الغسل فی البول بالخصوص، بمعنی أنّ


1- وسائل الشیعة: الباب 5، أحکام الخلوة، الحدیث 26.

ص:132

الغسل وانْ یتحقّق بمثل ما علی الحشفة حقیقة، إلاّ أنّه هنا یحکم بعدم التحقّق إلاّ بالمثلین تعبّداً.

هذه أربع احتمالات . ولا یخفی علیک من الاستبعاد فی الاحتمالین الأخیرین، لا سیّما فی الأخیر، فیبقی الأمر دائراً بین الاحتمالین الأوّلین ، والظاهر کون الاحتمال الثانی منهما أیضاً لا یخلو عن تکلّف، وإنْ ذهب إلیه الشیخ الأکبر قدس سره ، فیبقی الأوّل هو الأقوی .

بل قد یؤیّده بأنّ صدق الغَسل بالأقل من المثلین مشکلٌ جدّاً، لأنّه لابدّ فی التطهیر من الجریان والدفع وتحقّق الاستیلاء والغلبة علی البول الواقع فی رأس الحشفة، وإثبات الاستهلاک والاستیلاء بمقدار المثل فی غایة الإشکال، ویظهر ثمرة الفرق بین الاحتمالین ، فیما إذا لم یتخلّل بین المثلین، فعلی الاحتمال الأوّل یکفی إذا کان مقدار الماء مثل ما علی الحشفة، بخلاف الاحتمال الثانی، حیث أنّه اعتبر فیه الغسلتین، وهو لا یتحقّق إلاّ بالفصل .

نعم ، ادّعی صاحب «مصباح الهدی» رحمه الله بأنّ المثلین لا یحصل بحسب الوجود، إلاّ بالفصل بینهما، لأنّه لو لم یکن کذلک لم یصدق علیه إلاّ الإضافة ویقال إنّه اُضیف ما علی الحشفة لا أنّه ضعفه .

لکنّه مجرّد ادّعاء إذ لادلیل لنا یوجب الاطمئنان علی هذه الدعوی ، والشاهد علی بطلانه صحّة إطلاق المثلین فی الظلّ لإثبات دخول وقت العصر، بأن یکون الظلّ مقدار مثلی الشاخص ، مع عدم تحقّق فصلٍ بین المثلین فی الفیء والظلّ .

فعلی ما ذکرنا، ثبت أنّ القول بکفایة الغسلة الواحدة، إذا بلغ مقدار الماء إلی مثلی ما علی الحشفة یکفی فی التطهیر، من دون حاجة إلی التعدّد فی الغسل بأن یکون کلّ غسل مقدار المثل _ کما علیه جماعة _ أو کان مقدار کلّ واحد من الغسل علی قدر مثلی ما علی الحشفة _ کما احتمله الصدوق فی «الهدایة» و«الفقیه» کما فی «مصباح الهدی» _ .

ص:133

بل قد یؤیّد ویُقرّب الاحتمال الأوّل من الاحتمالات الأربعة السابقة، کون السؤال فی الحدیث عن مقدار الماء بقوله : «کم یجزی من الماء فی الاستنجاء من البول»، لا عن مقدار عدد الغسلات .

نعم لو کان السؤال عن أنّه کم یجزی من الغسل فی الاستنجاء، لکان حینئذٍ احتمال التعدّد فی الغسل قویّاً .

وما اخترناه من الاحتمال لا یعارض مع ما یدلّ علی لزوم غسل الذکر عن البول بنحو الإطلاق، مثل ما فی صحیح عمرو بن أبی نصر ، فیمن نسی الاستنجاء بعد البول ، «قال أبو عبداللّه علیه السلام : اغسل ذکرک وأعد صلاتک»(1) الحدیث .

أو ما فی صحیح ابن اُذینة ، فیمن ترک الغسل متعمّداً قال علیه السلام : «علیه أن یغسل ذکره ویعید صلاته ولا یعید وضوئه»(2).

وأمثال ذلک، لأنّ ما فی خبر نشیط بن صالح یکون مبیّناً لمقدار ما یتحقّق به الغسل، فلا یزاحمه الإطلاق أصلاً، کما لا یخفی، ومثلهما فی الجواب خبر یونس بن یعقوب(3).

نعم، بقی هنا جهة ثالثة هو ذکر ما یوهم المعارضة مع خبر نشیط بن صالح ، وبیان رفع التعارض ، وهو خبر آخر لنشیط بن صالح عن بعض أصحابنا عن أبی عبداللّه علیه السلام : «قال : یجزی من البول أن یغسله بمثله»(4).

فإنّه صریح بکفایة المثل عن البول، مع إطلاق الغسل علیه .

لکنّه مخدوش من جهات عدیدة:

أوّلاً : من حیث السند، لکونه مرسلاً، وإن عُدّ صحیحاً ومعتبراً من جهة مروک


1- وسائل الشیعة: الباب 18، أحکام الخلوة، الحدیث 3.
2- وسائل الشیعة: الباب 18، أحکام الخلوة، الحدیث 4.
3- وسائل الشیعة: الباب 5، أحکام الخلوة، الحدیث 9.
4- وسائل الشیعة: الباب 7، أحکام الخلوة، الحدیث 26.

ص:134

بن عبید بما ذکرناه سابقاً .

مع أنّ جریان ذلک الجواب هنا مشکل لعدم ثبوت الشهرة بکفایة مقدار المثل، لو لم نقل بحصول الاتّفاق بلزوم کون مقدار المثلین، إمّا متّصلاً حتّی تکون غسلة واحدة، أو منفصلاً حتّی یتحقّق غسلتان .

وثانیاً : ما عرفت من إعراض الأصحاب عن العمل به .

وثالثاً : من احتمال کون الیاء ساقطاً عنه، بأن کان اللفظ هو مثلیه لقرب هذین اللفظین معاً فی الکتابة، فیکون حینئذٍ نظیر ما هو الموجود فی خبره السابق .

ورابعاً : یحتمل أن یکون ضمیر بمثله راجعاً إلی البول، لبیان المماثلة بین الماء والبول بکونه ماءً أیضاً، کما أشار إلیه فی «الجواهر» بأنّ فی بعض الأخبار ما یُشعر بأنّ البول ماء فلا یزال إلاّ بالماء ، کما فی خبر برید بن معاویة : «ولا یجزی من البول إلاّ الماء»(1) ، وإن لم نجد ما یطابق کلام صاحب الجواهر فی الأخبار .

نعم ، فی الخبر المنقول فی «السرائر» نقلاً عن «النوادر» قال : «سألته عن البول یصیب الجسد؟ قال : صبّ علیه الماء مرّتین فإنّما هو ماء»(2) .

وخامساً : احتمل الشیخ الطوسی أن یکون مرجع الضمیر هو البول، أی اغسل بالماء بمقدار مجموع البول الذی خرج منک، فیکون کافیاً حینئذٍ، لا أن یکون المراد من المثل هو ما بقی علی الحشفة، لکنّه بعید .

وکیف کان، فلا یمکن رفع الید عن مثل خبره الأوّل بذلک کما لا یخفی .

ومثله فی الجواب مرسلة الکلینی: «وروی أنّه یجزی أن یغسل بمثله من الماء إذا کان علی رأس الحشفة وغیره»(3).


1- وسائل الشیعة: الباب 6، أحکام الخلوة، الحدیث 9.
2- وسائل الشیعة: الباب 9، أحکام الخلوة، الحدیث 26.
3- وسائل الشیعة: الباب 2، أحکام الخلوة، الحدیث 26.

ص:135

لاسیّما مع ما عرفت من الإشکال فی صدق الغسل بمقدار المثل، خصوصاً لو کان المراد من البلل الرطوبة الموجودة _ لا القطرات فی الحشفة، وإن کان الأقوی

هو الثانی .

وممّا یعارض ما استفدناه من خبر نشیط، خبر أبی إسحاق النحوی ، عن أبی عبداللّه علیه السلام : «قال : سألته عن البول یصیب الجسد؟ قال : صبّ علیه الماء مرّتین»(1) .

وخبر المنقول فی «السرائر» والذی مرّ ذکره آنفاً ، فإنّهما یدلاّن بلزوم صبّ الماء مرّتین _ أی غسله کذلک _ فبإطلاقه یشمل البول الخارج، عن المخرج فیقع التعارض بینهما، هذا بخلاف ما لو قلنا بلزوم الغسلتین، المستفاد من حدیث المثلین، حیث أنّه یجمع بین الحدیثین .

هذا، ولکن یمکن الجواب عنه أوّلاً : بإمکان دعوی عدم الإطلاق، لأنّه منصرف إلی البول الخارج الذی یصیب الجسد، لا مثل البول الخارج عن المخرج .

لا یقال : أیّ فرق بین الموردین، لأنّ کلاًّ منهما أصاب البول بالجسد ؟

لأنّا نقول: بإمکان الفرق بینهما من جهة عنایة الشارع تسهیلاً فی باب استنجاء البول، کما کان کذلک فی أصل طهارة ماء الاستنجاء، حیث حکم بطهارته مع القلّة ، مع أنّه لیس کذلک فی غیره، فلا ینافی دعوی الفرق بین الموردین من لزوم الغسلتین فی البول فی غیر مورد الاستنجاء، وکفایة غسلة واحدة فیه .

وثانیاً : لو سلّمنا شموله للمقام، فلا ینافی الجمع بینهما بالتقیید بواسطة خبر نشیط بن صالح، الذی کان مورداً لعمل الأصحاب، خصوصاً مع الالتفات بما ذکر من الخصوصیّة، حیث یعدّ شاهد الجمع بهذا التقدیر، ومؤیّداً له .

وأمّا معارضته مع أخبار الغسل، من جهة أنّ إطلاقه یلزم أن یکون ما یتعدّد، جمعاً بین هذه الأخبار وأخبار الصبّ، فقد عرفت جوابه، ونزید علیه بأنّ تلک


1- وسائل الشیعة: الباب 4، أحکام الخلوة، الحدیث 26.

ص:136

الأخبار لیس فی فقد مقام بیان أنّ الغسل فی البول بماذا یتحقّق ، بل یجب الفحص عن ذلک من دلیل آخر کما لا یخفی .

فالأقوی عندنا کفایة غسلة واحدة فی البول فی الاستنجاء، وإن لم نقل بذلک فی غیره، وإن کان الاحتیاط یقتضی الغسلتین، إذ مع وجود تلک المعارضات واستصحاب النجاسة فإنّ الاحتیاط ممّا لا ینبغی ترکه ، کما أنّ الأفضل الغسل ثلاث مرّات، من جهة خبر صحیحة زرارة ، قال : «کان یستنجی من البول ثلاث مرّات، ومن الغائط بالمدر والخرق»(1).

والظاهر کون مرجع (کان) أحد الصادقین علیهماالسلام ، لا خصوص الإمام الباقر علیه السلام ، کما عن صاحب «المنتقی»، ولا النبیّ صلی الله علیه و آله کما احتمله آخرون بأنّ مرجع قال إلی زرارة ، وأمّا إن کان مرجع قال هو أحد الصادقین علیهماالسلام فلا محالة یکون مرجع ضمیر کان هو الرسول صلی الله علیه و آله .

وکیف کان، بما أنّ لفظة کان تدلّ علی الاستمرار، یفهم منه الرجحان إذا کان الحاکی مثل زرارة .

«تتمیمٌ للبحث»

إذا عرفت بکون الغسلة الواحدة فی الاستنجاء للبول، کافیة لتحصیل الطهارة، فلا فرق ظاهراً بین کون المستنجی ذکراً أو اُنثی أو خُنثی، لعدم الخصوصیتة للفظة (الحشفة) فی الحدیث ، بل المقصود هو المخرج، إلاّ أنّ ذکره بالخصوص کان من جهة کون السائل کان رجلاً، فالقول بالتفصیل _ کما عن الحکیم قدس سره والخمینی فی «التحریر» _ ممّا لا وجه له، لما عرفت ولقاعدة الاشتراک.

وما فی «المستمسک» بأنّ التعدّی إلی الاُنثی یکون تعدّیاً من حکم موضوع إلی آخر، فی غیر محلّه، إذا کثر موارد قاعدة الاشتراک یکون کذلک، بل المعیار


1- وسائل الشیعة: الباب 6، أحکام الخلوة، الحدیث 26.

ص:137

وغسل مخرج الغائط بالماء حتّی یزول العین والأثر، ولا اعتبار بالرائحة(1)

هو فهم العرف بعدم الخصوصیّة فی نظر الشارع لذکر خصوص هذا الموضوع، کما لایخفی .

کما لا فرق فی ذلک بین من کان سالماً أو کان مقطوع الحشفة أو ممسوحاً أو أغلف، وسواء کان عن المخرج الطبیعی المعتاد، أو عن غیره مع کونه معتاداً له .

بل، قد نقول فیما لا یکون طبیعیّاً ولا معتاداً، کما لا یخلو الاحتیاط فیما قبله عن قوّة ، والسرّ فی ذلک کلّه هو ما عرفت من عدم إحراز الخصوصیّة فی ذکر الحشفة، إلاّ جریاً علی ما هو المتعارف من کونه سالماً .

کما لا فرق أیضاً فی کفایة الغسلة الواحدة، فی کون المتلطّخ بالبول خصوص رأس الحشفة، أو ما کان حولها من الغلف، أو حول الفرج فی الاُنثی، بحسب ما یکون متعارفاً بتلطّخه عند البول .

نعم ، لو أصاب البول بمساحة أکثر من المتعارف، فلابدّ فی تطهیره بالغسلتین .

(1) لا یخفی علیک بأنّ وجوب الغسل لمخرج الغائط، إذا تلوّث بالنجاسة بالوجوب الشرطی لما یشترط فیه الطهارة _ کالصلاة والطواف _ مسلّمٌ عند المسلمین، من العامّة والخاصّة، ولا خلاف فیه إلاّ عن أبی حنیفة حیث ذهب إلی أنّه سنّة ، والدلیل علی وجوبه هو الإجماع بکلا قسمیه، والأخبار المستفیضة، کما هو واضح لمن راجع .

ما یعتبر فی غسل مخرج الغائط

کما لا خلاف ولا إشکال فی عدم وجوب الغسل إذا لم یتلوّث المخرج، لیبوسة الغائط، إلاّ عن بعض فروع «المنتهی» حیث یظهر منه کون وجوب الغسل تعبّدی، ولو لم یتلوّث، ولکنّه ضعیف، لأنّ ما یستفاد منه الوجوب بصورة الإطلاق کان من جهة أنّ الغالب فی الخارج هو تلوّث المخرج، فلابدّ من الغسل

ص:138

قطعاً ، مضافاً إلی ما ورد فی حدیث ابن بکیر: «کلّ شیء یابس زکیّ»(1)، مع وجود أصل البراءة.

کما لا إشکال ولا خلاف فی جواز التغسیل بالماء، إلاّ عن بعض العامّة _ کعطاء وسعید بن المسیب وابن الزبیر وسعد بن أبی وقّاص _ من إنکار جواز الغسل بالماء، وهذا ممّا لا یعبأ به قطعاً، لدلالة الکتاب والسنّة والإجماع علیه، کدلالة قوله تعالی : «إِنَّ اللّه َ یُحِبُّ التَّوَّابِینَ وَیُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِینَ»(2) علی المطلوب، منضمّاً مع بعض الأخبار، مثل خبر أمیر المؤمنین علیه السلام المروی فی «مصباح الهدی»، قال : «الاستنجاء بالماء فی کتاب اللّه «إِنَّ اللّه َ یُحِبُّ التَّوَّابِینَ وَیُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِینَ» »(3).

وخبر الصدوق، قال : «کان الناس یستنجون بالأحجار، فأکل رجل من الأنصار طعاماً، فلان بطنه، فاستنجی بالماء ، فأنزل اللّه تبارک وتعالی فیه : «إِنَّ اللّه َ یُحِبُّ التَّوَّابِینَ وَیُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِینَ»، فدعاه رسول اللّه صلی الله علیه و آله فخشی الرجل أن یکون قد نزل فیه أمر یسوؤه، فلمّا دخل قال له رسول اللّه صلی الله علیه و آله : هل عملت فی یومک هذا شیئاً ؟ قال : نعم ، یارسول اللّه صلی الله علیه و آله ، أکلتُ طعاماً، فلان بطنی فاستنجیتُ بالماء ، فقال له : أبشر، فإنّ اللّه تبارک وتعالی قد أنزل فیک: «إِنَّ اللّه َ یُحِبُّ التَّوَّابِینَ وَیُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِینَ»، فکنتَ أنت أوّل التوّابین وأوّلَ المتطهّرین.

ویقال : إنّ هذا الرجل کان البراء بن عرور الأنصاری»(4) .

وقریب من هذا المضمون الاخبار المرویّة عن أبی خدیجة وجمیل بن درّاج


1- وسائل الشیعة: الباب 5، أحکام الخلوة، الحدیث 31.
2- سورة البقرة: آیة 222.
3- مصباح الهدی: ص37.
4- وسائل الشیعة: الباب 3، أحکام الخلوة، الحدیث 34.

ص:139

وحسین بن مصعب(1) فراجع فالمسألة واضحة بحمد اللّه، ولا تحتاج إلی مزید بیان .

المهمّ بیان ما یدلّ علی لزوم غَسل مخرج الغائط، ومقداره من دلالة الأخبار، فممّا یدلّ علیه: خبر إبراهیم بن أبی محمود قال : «سمعت الرضا علیه السلام یقول فی الاستنجاء : یغسل ما ظهر منه علی الشرج، ولا یُدخل فیه الأنملة»(2).

والظاهر کون الشرج عبارة عن المقعد لوقوعها فی الحفرة، کما فی کتاب «المنجد فی اللغة».

وموثّقة عمّار فی حدیث الصادق علیه السلام ، قال :«إنّما علیه أن یغسل ما ظهر منها _ یعنی المقعدة _ ولیس علیه أن یغسل باطنها»(3) .

فإنّ المستفاد من هذین الحدیثین، وجوب الغسل علی نحو اللزوم، غایة الأمر أنّه قد بیّن مقدار ما هو اللازم وهوم ظهر المقعدة لا باطنها، کما یستفاد لزوم إذهاب الغائط من حدیث یونس بن یعقوب ، قال : «قلت : لأبی عبداللّه علیه السلام : الوضوء الذی افترضه اللّه علی العباد لمن جاء من الغائط أو بال ؟ قال : یغسل ذکره ویذهب الغائط»(4) الحدیث .

وخبر حسن بن المغیرة ، عن أبی الحسن علیه السلام قال : «قلت له : للاستنجاء حدّ ؟

قال : لا، ینقی ماثمّة. قلت : ینقی ما ثمة ویبقی الریح ؟ قال : الریح لا ینظر إلیها»(5) .

حیث یدلّ علی لزوم النقاء عنه، سواء کان بالغسل أو بالاستنجاء .

مع أنّ المشهور فی کلام الأصحاب _ کما علیه الماتن، تبعاً للطوسی فی


1- وسائل الشیعة: الباب 34، أحکام الخلوة، الحدیث 34.
2- وسائل الشیعة: الباب 1، أحکام الخلوة، الحدیث 29.
3- وسائل الشیعة: الباب 2، أحکام الخلوة، الحدیث 29.
4- وسائل الشیعة: الباب 5، أحکام الخلوة، الحدیث 9.
5- وسائل الشیعة: الباب 5، أحکام الخلوة، الحدیث 13.

ص:140

«المبسوط» _ ذکر الأثر فی حیّز العین، فوقع الخلاف فی بیان حقیقته بعد الاتّفاق علی وجوب إزالته فی الغَسل، وعدم وجوبها فی الاستنجاء .

والأقوال المذکورة فی المقام أربعة أو خمسة :

قولٌ : بأنّه عبارة عن الاجزاء اللطیفة الباقیة فی المحل، التی لا تزول إلاّ بالماء،

والحصر کان فی قبال الاستنجاء، وإلاّ فإنّ سائر المائعات لها القدرة أیضاً علی إزالتها .

نعم ، الاستنجاء یزول، إلاّ أنّه مع الممانعة الشدیدة المستلزمة فی بعض الموارد للأذیّة لمحلّ الغائط، وهو خارجٌ عن المتعارف والعادة، وهذا ما علیه الشهید الثانی، والفاضل المیسی، وإلیه یرجع قول المحقّق الثانی حیث قال : «ما یبقی فی المحل بعد التنشیف والمسح» .

ویردّ علیه بأنّه إن کانت الأجزاء اللطیفة غائطاً، فلا إشکال فی وجوب إزالتها وکونها نجساً حتّی فی الاستنجاء ، فکیف یحکم بطهارتها فیه، وإن لم تکن غائطاً، فکیف یحکم بلزوم إزالتها فی الغسل .

وقول : بکون المراد هو اللون، نسبه فی «المسالک» و«روض الجنان» و«المدارک» و«الذخیرة» إلی القیل، ولم یعرف قائله ولا وجهه، ولذلک حمل _ کما فی «المنتهی» و«النهایة» _ علی اللون الزائل، بأنّ المبالغة توجب لزوم إزالته، ولا یخفی ما به من الجهل، فهذا القول ممّا لا یعبأ به، لأنّه من الثابت بین الأصحاب عدم اعتبار زواله، کما ورد فی لون دم الحیض ، وهو واضح .

وقول : کما نقله الشیخ الأعظم، کون المراد الرطوبة المتخلّفة الباقیة بعد قلع الجرم.

فهو أیضاً مردود بما قلناه فی الأوّل منها ، لأنّها إن صدق علیها الغائط، فلابدّ من إزالته، وإلاّ فلا، کما لا یخفی.

فضلاً عن الإشکال فی التشخیص، إذا انضمّ مع رطوبة الغسل والماء .

وقول : بأنّ المراد منه هو النجاسة الحکمیة بعد زوال عینها، کما یؤیّده نصّ نقله الشیخ فی کتاب «الطهارة» نقلاً عن کتاب «المعتبر» للمحقّق، عن الحسین بن

ص:141

أبی العلاء عن الصادق علیه السلام : «عن الثوب یصیبه البول؟ قال : اغسله مرّتین، الاُولی للإزالة، والثانیة للإنقاء»(1) بکون المراد من الإزالة هو إزالة العین،

والإنقاء هو إزالة الأثر .

لکنّه مخدوش ، مضافاً إلی أنّه لیس فی الأخبار من ذلک عینٌ ولا أثر، ولا إشارة لهذا الفارق بین الغسل والاستنجاء، مع أنّه لو کان الأمر کذلک، لکان ینبغی أن یهتمّ به الأئمّة علیهم السلام ویتحدثوا عنه فی أخبارهم، ولا خلاف بین الأصحاب فی عدم لزوم ذلک فی الغائط، بل صریح خبر ابن المغیرة یدلّ علی خلافه، بأنّه إذا حصل النقاء فلا حکم بعده، فعدم لزوم تعدّد الغَسل مسلّم بینهم فی الغائط .

وقول : وهو لکاشف الغطاء بکون المراد منه هو الأجزاء الصغار التی لا تُری، ولکن تحسّ باللمس وللزوجة، ولعلّه هذا هو المراد من القول الأوّل.

واستقبله الشیخ الأعظم، وجعله من أحسن الأقوال، کما أفتی علی طبقه السیّد قدس سره فی «العروة» ، بل لا یبعد استفادته من أکثر المتأخّرین، الذین علّقوا علی «العروة» مع إضافة توضیح، بأنّ الإزالة لدی العرف متفاوت بین صورتی الغَسل والاستنجاء إذ لا تحصل فی الأوّل بذهاب أثر العین، بخلاف الاستنجاء حیث یکفی فیه زوال عینه، ولو بقی من لزوجته شیئاً، لأنّ لزوم إزالته موجب للحرج والمشقّة، بل ربّما یوجب الجرح فی المحلّ، کما أنّه من المعلوم کفایة هذا المقدار فی تطهیر مثل الأرض للنعل والأحذیة.

فعلی هذا لا یرد علیه الإشکال الذی ذکر فی الوجه الأوّل، لتفاوت معنی الإزالة عرفاً بین الموضعین کما تری ذلک فی تطهیر القدم عن القاذورة وذلک بمسحه بالجدار ثمّ الغسل بالماء .

فمن هنا ظهر ضعف احتمال أن یکون المراد من الأثر، هو الرائحة، وحمله


1- کتاب الطهارة: ص71.

ص:142

علی الندب والرجحان، کما احتمله المحقّق الأردبیلی قدس سره ، لوضوح أنّه مخالف لاتّفاق الأصحاب علی وجوب الإزالة للأثر عند کلّ من ذکره فی کلامه ،فکیف یمکن حمله علی الاستحباب، فهل هو إلاّ الحمل علی ما هو ضدّه، فتأمّل .

کما أنّ احتمال کون المراد من الأثر مرادف کلمة العین، ضعیفٌ غایته، لوضوح المغایرة بین الشیء وأثره، فإنّ الشیء نفسه شیء، وأثره شیء آخر، کما لایخفی .

وأمّا الدلیل علی عدم اعتبار إزالة الرائحة _ مضافاً إلی موافقته الأصحاب _ صراحة خبر حسن بن المغیرة بذلک فی قوله علیه السلام : «الریح لا ینظر إلیها».

هذا بالنسبة إلی ریح موضع الغائط .

وأمّا ریح الماء الذی یغسل به، فإنّه ینجس إذا کان قلیلاً، وإذا شکّ فی کون الرائحة للماء أو للمحلّ، فإنّه یحکم بطهارته، لأنّ أصالة عدم إصابة الریح لکلّ من المحلّ والماء، یعارض مع مثله فی الآخر، فیتساقطان، ونعود إلی قاعدة أصل الطهارة ، بل العلم الإجمالی بوجود الریح فی أحدهما منحلٌ بواسطة استصحاب بقاء الریح فی المحلّ، وأنّ الرائحة کانت موجودة فیه قبل الإصابة، واستصحاب عدم حدوث الریح فی الماء، فلازمه الحکم بلطهارة الماء، فلا یبقی حینئذٍ مجال لجریان استصحاب النجاسة ، بل ولا یعارضها .

ولا یعارضها استصحاب النجاسة، لأنّه إن جری کان فی المحلّ، فهو محکوم بحکم القاعدة لأنّ الشکّ فی عود نجاسة المحلّ کان مسبباً عن الشکّ فی طهارة الماء وعدمها، فإذا حکم بطهارة الماء، فمقتضی القاعدة أن یحکم بلازمها إن لم تکن القاعدة موجودة أصلاً، ولازمها الحکم بطهارة کلّ ما یتطهّر بذلک الماء، وهو حجّة ومقدّم علی الاستصحاب .

هذا کلّه علی فرض تسلیم کون الماء صار متنجّساً وعلم بأنّ الرائحة کانت له دون الید والمحلّ، وإلاّ یمکن الإشکال فی أصل نجاسته، کما سنذکره لاحقاً.

مع إمکان الإشکال فی ذلک بالعفو عنه هنا، کما احتمله الشهید، وإن أنکر علیه

ص:143

وإذا تعدّی المخرج لم یُجز إلاّ الماء، وإذا لم یتعدّ کان مخیّراً بین الماء والأحجار، والماء أفضل، والجمع أکمل(1)

الشیخ الأعظم، ولکن الإنصاف أنّ إنکاره فی غیر محلّه، لأنّه کما أنّه لا إشکال فی أن یعفو الشارع الماء القلیل الذی یتنجّس بإزالته العین فی الاستنجاء، ویحکم بطهارته، بخلاف ذلک فی غیر الاستنجاء، فلا مانع أن یحکم بذلک فی المقام أیضاً، تسهیلاً علی العباد، لاسیّما مع وجود المشقّة فی تشخیص کون الرائحة للماء أو المحلّ، فضلاً عن أنّهم لم یتنبّهوا إلیه أصلاً ، ولهذا أطلق الإمام علیه السلام : «والرائحة لا ینظر إلیها» ولم یقیّد بکونه للمحلّ، فالحکم بطهارة الماء وأنّ الموضع طاهرٌ مطلقاً، حتّی وإن أصابت الریح إلی الماء لا یخلو عن قوّة، وإن کان الأحوط خلافه، خصوصاً مع ملاحظة الأدلّة الدالّة علی تغییر الماء بأحد الأوصاف الموجب للتنجیس، فبعد قبول هذا فالقول بعدم تنجیس الماء للمحلّ _ لأنّ المتنجّس لا ینجّس، کما احتمله صاحب «الجواهر» قدس سره _ لا یخلو عن وهن، کما حقّقناه فی محلّه فلا نعید .

(1) ففی هذا الفرع جهات من الکلام :

الجهة الاُولی : فی بیان معنی التعدّی هنا وحدود مقداره؟

فی حکم الاستنجاء إذا تعدّی النجاسة

وتفصیل ذلک: إنّ کلمات القوم مضطربة ومختلفة جدّاً، فربّما یظهر کون المراد منه هو التعدّی عن المخرج، أی أن یتعدّی من المقدار المتعارف، وقد صرّح به جمعٌ کثیر، منهم صاحب «المدارک» والمحقّق الأردبیلی، وأتباعهما من المتأخِّرین .

وقد یظهر من بعضهم کون المراد هو التعدّی عن المخرج الحقیقی، ولو لم یتعدّ عن ما هو العادة، فهو ظاهر کلام «السرائر» من التصریح بکون المراد هو التعدّی عن الشَرَج (بالتحریک) أی حلقة الدُّبر، علی ما «المصباح» للآملی .

وقد یظهر من بعض أنّ التعدّی هو التجاوز بحیث یقع علی ظاهر الالیتین أو

ص:144

باطنهما ، وهو الظاهر من کلام «المعتبر» و«التذکرة» و«الذکری»، أو یکون المراد الذی لم یخرج عن موضع صدق الاستنجاء، فمع التعدّی عن ذلک لابدّ من استعمال الماء، وهذا هو الذی یمکن استناده إلی الأردبیلی، والذی صرّح به السیّد فی «العروة» ووافقه بعض من تأخّر عنه.

وقد ادّعی کلّ واحد الإجماع علی قوله، کما أنّ الأخیر هو الأقوی عندنا أیضاً، وعلیه السیّد الاصفهانی فی تقریراته .

الجهة الثانیة : فی ذکر الدلیل الذی یدلّ علی عدم کفایة الماء حینئذٍ ، وهو: الأوّل : التمسّک بالروایتین الواردتین عن طرق العامّة، ونقلهما المحقّق والعلاّمة فی «المعتبر» و«المنتهی» ، کما أنّ الحدیث الأوّل منقولٌ فی «المغنی»(1) و«نهایة اللغة» لابن أثیر فی مادّة (ثَلَطَ) فراجع.

والخبر مرویٌّ عن علیّ علیه السلام قال : «إنّکم کنتم تبعرون بعراً، والیوم تثلطون ثلطاً، فاتبعوا الماء بالأحجار ».

والمراد من البعرة هنا هو یبوسة المزاج، لأنّ المتقدّمین کانوا یأکلون قلیلاً ولکن الیوم قد صارت أفرجتکم رقیقة رجیعة، لکثرة أکلکم.

فالثلط کما فی «النهایة»: عبارة عن رقّة المزاج، وکنایة عن کثرة الأکل ، فهو یدلّ بلزوم اتباع الماء إلی الأحجار، وعدم کفایة الأحجار فی ذلک .

والحدیث الثانی الذی نقله المحقّق فی «المعتبر»(2) مرویٌ عن علیّ علیه السلام : «یکفی أحدکم ثلاثة أحجار، إذا لم یتجاوز محلّ العادة» ، فدلالته لعدم الکفایة عند التجاوز أوضح من سابقه.

وهذا هو الدلیل علی ذلک ، فبهما یقید إطلاقات الأدلّة فی الاستنجاء بأنّها


1- المُغنی: 1 / 159.
2- المعتبر: ص133.

ص:145

مخصوص لما لم یتجاوز المحلّ، وإلاّ لابدّ من استعمال الماء .

ولقد أورد علیهما أوّلاً : من جهة ضعف السند، لأنّهما منقولان عن طرق العامّة دون الخاصّة ولا نعثر فی کتبهم عنهما عین ولا أثر .

ولکن الجواب هو أنّ ضعف السند منجبرٌ بعمل الأصحاب وشهرتهم، حیث أفتوا علی مضمونها، فهو یکفی فی الانجبار، خلافاً لصاحب «الحدائق» وتبعه صاحب «الجواهر» .

مضافاً إلی أنّه قد یؤیّد بواسطة الخبر الذی نقله الشیخ الأعظم فی «طهارته»(1) عن کتاب «العدّة» للشیخ الطوسی، عن الصادق علیه السلام قال : «إذا نزلت بکم حادثة لا تجدون حکمها فیما یروی عنّا، فانظروا إلی ما رووه عن علیّ علیه السلام ».

فضعف سندهما یستلزم الإعراض عنهما وإلاّ یرد هذا الإشکال فی قاعدة «الناس مسلّطون علی أموالهم» وهو حدیث نبویّ منقول عن طریق العامّة، ولیس له ذکرٌ فی کتب الخاصّة، ویستدلّ به فقهاء الإمامیّة فی أبواب المتاجرة، وهو واضح .

وثانیاً : فی دلالتها ، أمّا فی الخبر الأوّل، لأنّه أمر بالجمع بین استعمال الماء والحجر، فإن کان الأمر استحبابیّاً فهو المطلوب، لعدم تحصیل ما هو المقصود من عدم کفایة الأحجار بل یدلّ علی کفایته ، غایة الأمر یستحبّ إیقاعه بالماء .

وإن کان الأمر وجوبیّاً، فلا یمکن أن یصار إلیه، لأنّه إن قیل بوجوب استعمال الماء ولزومه من دون الأحجار، فقد خرج عن مضمون الحدیث، لأنّه أمر بالمتابعة والجمع ، وإن قیل بوجوب استعمال الماء مستتبعاً للحجر، فهو یطابق مضمون الحدیث، إلاّ أنّه مخالف للإجماع، لأنّه قائم علی عدم وجوب الجمع بین الماء والحجر، فإثبات خصوص استعمال الماء عن مثل هذا الحدیث مشکل جدّاً .


1- کتاب الطهارة: ص172.

ص:146

وأمّا فی الخبر الثانی، لأنّ عدم الکفایة فی التجاوز یمکن أن یکون من جهة المقدار والعدد، أی لابدّ حینئذٍ فی النقاء أزید وأکثر من الثلاث، لأنّه إنّما یکفی فیما إذا لم یتجاوز العادة ، فحینئذٍ لا یکون فی صدد بیان عدم کفایة الحجر ولزوم استعمال الماء فی التجاوز ولا أقلّ من کونه محتملاً لکلا الاحتمالین، فإذا جاء الاحتمال بطل الاستدلال، فکیف یجوز التقیّد بمثله ، هذا أوّلاً .

وثانیاً : یمکن أن یُقال : بأنّ التجاوز عن محلّ العادة، لا یبعد أن یساوق التجاوز عمّا یصدق علیه الاستنجاء، فعلی هذا لا یکون حینئذٍ مخالفاً لأخبار الاستنجاء، لعدم إطلاق أدلّته بحیث یشمل لما یخرج عن ما یصدق علیه الاستنجاء، فلا یمکن التمسّک بهما لإثبات هذا الفرع .

الثالث: من الأدلّة التی یتمسّک بها لنفی اعتبار عدم التعدّی، هو صحیحة زرارة عن أبی جعفر علیه السلام : «قال : جرت السنّة فی أثر الغائط بثلاثة أحجار، أن یمسح العجان ولا یغسله، ویجوز أن یمسح رجلیه ولا یغسلهما»(1).

وجه الاستدلال: کما فی «المصباح» للآملی قدس سره بأنّ العِجان _ ککتاب علی ما فی اللّغة _ اسمٌ للمنطقة الواقعة بین الخصیة وحلقة الدبر، ولا شبهة أنّ هذا المقدار خارج عن التحدیدات المذکورة، فإذا کان مسح العجان بالأحجار جائزاً، وممّا جرت علیه السنّة، فمثل المتجاوز عن مخرج الغائط غیر ما لا یصدق الاستنجاء علیه، یکون بجواز المسح أولی، فبذلک یرفع الید عن مثل الروایتین.

فیکون هذا ثالث الإشکال علیها .

لکنّه مندفع أوّلاً : بأنّ العجان إن أُخذ علی ظاهر اللفظ، وکان المسح بالأحجار جائزاً فیه، فی أیّ موضع کان منه، فیکون مخالفاً للإجماع قطعاً، لأنّه یخرج حینئذٍ عن حدّ صدق الاستنجاء أیضاً، فلابدّ أن یتصرّف فیه ویقال بأنّ


1- وسائل الشیعة: الباب 3، أحکام الخلوة، الحدیث 30.

ص:147

المراد منه هو منتهی إلیه العجان، الذی یکون عبارة عن نفس حلقة الدبر، فیتّحد الخبر بحسب مضمونه مع الأخبار الدالّة علی جواز مسح المخرج بالأحجار، فلا یکون معارضاً للخبرین إلاّ بالإطلاق، بمثل تلک الأخبار .

وثانیاً : إنّ هذا الخبر مشتمل علی ما لا یساعده فتوی الأصحاب، من تجویز مسح الرجلین بدون الغَسل، مع أنّهما خارجان عن موضوع الاستنجاء قطعاً، إلاّ أن یکون المراد منهما أطراف حلقة الدبر من الإلیتین الملتصقتین، حیث قد یتلوّث بالغائط بحسب العادة، فهو حینئذٍ یصحّ مع ما سبق أیضاً، إلاّ أنّه یوجب الحمل علی خلاف الظاهر للّفظ، فالتمسّک به للمعارضة مع الخبرین _ کما فی «المصباح» _ لایخلو عن تأمّل .

الأمر الثانی: لما ذکر من عدم کفایة الأحجار، هو دعوی انصراف أخبار الاستنجاء، مثل خبر برید بن معاویة عن أبی جعفر علیه السلام : «قال : یجزی من الغائط المسح بالأحجار»(1).

وأمثال ذلک من الأخبار کثیرة دالّة علی ما لم یتجاوز الغائط عن المخرج .

هذا، لکنّه مخدوش من جهة أنّه إن أُرید من التعدّی، التعدّی عن المخرج الحقیقی الأصلی، أو هو مع حواشیه _ لوضوح أنّ تلوّث أطراف کحواشی الالیتین وأطرافهما خاصّة فی السمان یعدّ من الاُمور المتعارفة، فمثل هذا الأمر الخطیر کثیر الابتلاء، کیف لم یذکروه ولم ینبّهوا الناس بلزوم استعمال الماء فی مثل ذلک، فحیث لم یشیروا إلیه فإنّه یفهم عدم اعتباره، کما لا یخفی .

نعم ، لا إطلاق لمثل هذه الأخبار من تحوّلها لما یخرج عن صدق الاستنجاء، فحیث لا یحکم بطهارة الماء القلیل المستعمل فیه لو خرج عنه، کذلک لا یمکن الحکم فیه بکفایة الأحجار ، بل لابدّ من استعمال الماء لعدم الدلیل علی کفایته .


1- وسائل الشیعة: الباب 2، أحکام الخلوة، الحدیث 30.

ص:148

الثالث من الأدلّة: التی ذکرت لعدم الکفایة فی المتعدّی، هو الإجماع، کما ادّعاه الأصحاب کثیراً علی ذلک ، فهو أیضاً مخدوشٌ، لأنّه إن أُرید من دعوی الإجماع علی عدم الکفایة فی المتجاوز عن المخرج الأصلی، أو هو مع حواشیه من جهة عدم المعلومیّة بین الفقهاء علی عدم الکفایة لمثل هذا الغرض فی عدم صدق ماء الاستنجاء، فهو مسلّم ومقطوع به بین الأصحاب، فما ادّعاه من الإجماع علی عدم الکفایة فی مطلق المتجاوز عن المخرج _ کما فی «اللوامع» _ لا یخلو عن مسامحة.

فثبت من جمیع ما ذکرنا أنّ عدم الکفایة مخصوص لصورة عدم صدق الاستنجاء ، ووجهه عدم شمول أخبار الاستنجاء لمثله، کما یدلّ الإجماع علی خلافه، فلابدّ فی تطهیره من استعمال الماء قطعاً .

الجهة الثالثة: فیما إذا لم یتعد فیما هو المختار من معنی المخرج فهو حینئذٍ یکون مخیّراً فی تطهیره بین استعمال الماء والأحجار، وإن کان استعمال الماء أفضل، والجمع أکمل .

فی حکم الاستنجاء إذا لم یتعدّ النجاسة

أمّا کونه مختاراً فهو لدلالة أخبار کثیرة علیه مثل صحیح زرارة ، عن أبی جعفر علیه السلام قال : «لا صلاة إلاّ بطهور، ویجزیک من الاستنجاء ثلاثة أحجار، بذلک جرت السنّة من رسول اللّه صلی الله علیه و آله »(1) الحدیث .

وصحیحه الآخر ، عن أبی جعفر علیه السلام قال : «جرت السنّة فی أثر الغائط بثلاثة أحجار، أن یمسح العجان ولا یغسله»(2) الحدیث .

وخبر بریدبن معاویة(3) ، ومرسلة أحمدبن محمّد عن بعض أصحابنا رفعه


1- وسائل الشیعة: الباب 1، أحکام الخلوة، الحدیث 9.
2- وسائل الشیعة: الباب 3، أحکام الخلوة، الحدیث 30.
3- وسائل الشیعة: الباب 2، أحکام الخلوة، الحدیث 30.

ص:149

إلی أبی عبداللّه علیه السلام قال : «جرت السنّة فی الاستنجاء بثلاثة أحجار أبکار،

ویتبع الماء»(1).

هذا فضلاً عمّا عرفت من عدم وجوب الجمع قطعاً، فیفهم کفایة الأحجار وحدها، وإن کان دلالته علی الجمع بالکمال أولی، کما سنشیر إلیه .

وخبر الصدوق ، عن علیّبن الحسین علیه السلام قال : «کان الناس یستنجون بالأحجار»(2) . وخبر أبی خدیجة ، عن الصادق علیه السلام ، قال : «کان الناس یستنجون بثلاثة أحجار»(3) ، الحدیث .

وخبر جمیل بن درّاج ، عن الصادق علیه السلام ، قال : «کان الناس یستنجون بالکرسف والأحجار»(4) ، الحدیث .

والخبر الذی نقله الشیخ فی «الخلاف»، قال رسول اللّه صلی الله علیه و آله : «ویستنج بثلاثة أحجار»(5) .

وخبر آخر منقول عن سلمان قال : «نهانا رسول اللّه صلی الله علیه و آله أن نستنجی بأقلّ من ثلاثة أحجار» (6).

هذه جملة من الأخبار التی یستفاد منها جواز الاکتفاء بالأحجار .

فمع انضمامها بما یستفاد منه الاستنجاء بالماء، یفهم الجواز بالاکتفاء بأحدهما ، بل کان الماء أفضل لما وقع من التأکید به فی بعض الأخبار، کما تری


1- وسائل الشیعة: الباب 4، أحکام الخلوة، الحدیث 30.
2- وسائل الشیعة: الباب 3، أحکام الخلوة، الحدیث 43.
3- وسائل الشیعة: الباب 5، أحکام الخلوة، الحدیث 34.
4- وسائل الشیعة: الباب 4، أحکام الخلوة، الحدیث 34.
5- مستدرک الوسائل: الباب 22 أحکام الخلوة ، ح4.
6- مستدرک الوسائل: الباب 22 أحکام الخلوة ، ح 10.

ص:150

فی مثل مرسلة أحمد بن محمّد(1)، قد عرف متنه من الجمع بالأحجار ومتابعة الماء ، فلا نعید .

وخبر مسعدة بن زیاد ، عن جعفر عن أبیه عن آبائه علیهم السلام : «أنّ النبیّ صلی الله علیه و آله قال

لبعض نسائه : مری نساء المؤمنین أن یستنجین بالماء ویبالغن، فإنّه مطهرة للحواشی ومذهبة للبواسیر»(2) .

حیث یفهم من التعلیل، لاسیّما مع ذکر إذهاب البواسیر أنّه أمر استحبابی، ویکون أفضل .

وخبر عیسی بن عبداللّه ، عن أبیه عن جدّه عن علیّ علیه السلام قال : «قال رسول اللّه صلی الله علیه و آله : إذا استنجی أحدکم فلیوتر بها وتراً، إذا لم یکن الماء»(3) .

للإجماع علی عدم وجوب العمل بالشرط _ وهو لزوم کونه فرداً ووتراً فی الاستنجاء، وعدم وجوب استعمال الماء، فیکون استحبابیاً، ولکن مع ذلک کان من عدم الماء حکمه کذا ، وأمّا مع وجوده کان استعمال الماء أفضل لا واجباً، للإجماع المذکور علی عدم الوجوب، فیکون ذلک استحبابیاً .

وخبر هشام بن الحکم ، عن الصادق علیه السلام قال : «قال رسول اللّه صلی الله علیه و آله : یا معشر الأنصار أنّ اللّه قد أحسن إلیکم الثناء فماذا تصنعون ؟ قالوا : نستنجی بالماء»(4) .

وخبر جمیل بن درّاج ، عن الصادق علیه السلام قال : «کان الناس یستنجون بالکرسف والأحجار، ثمّ أُحدث الوضوء، وهو خلقٌ کریم، فأمر به رسول اللّه صلی الله علیه و آله وصنعه، فأنزل اللّه فی کتابه : «إِنَّ اللّه َ یُحِبُّ التَّوَّابِینَ وَیُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِینَ» »(5).


1- وسائل الشیعة: الباب 4، أحکام الخلوة، الحدیث 30.
2- وسائل الشیعة: الباب 3، أحکام الخلوة، الحدیث 9.
3- وسائل الشیعة: الباب 4، أحکام الخلوة، الحدیث 9.
4- وسائل الشیعة: الباب 1، أحکام الخلوة، الحدیث 34.
5- وسائل الشیعة: الباب 4، أحکام الخلوة، الحدیث 34.

ص:151

فإنّ المراد من الوَضوء (بفتح الواو) هو الاستنجاء ، مضافاً إلی وجود الإجماع بکون الماء أفضل، مع أنّه مزیل للأثر أیضاً بخلاف الأحجار .

بل کان الجمع أکمل، لما قد عرفت من الأمر بالمتابعة فی مرسلة أحمد بن محمد(1) ، بل وهکذا فی الخبر العامی عن علیّ علیه السلام بقوله : «فاتبعوا الماء

بالأحجار» ، مضافاً إلی أنّه مقتضی الجمع بین کون الاستنجاء بالأحجار هو ما جرت به السنّة، مع ما عرفت من الإجماع بکفایة استعمال الماء وکونه أفضل، فیلزم أن یکون الجمع أکمل، کما علیه الفتوی فی کتب المتقدِّمین والمتأخِّرین .

ومن هنا ظهر أنّ ما فی بعض الأخبار مثل خبر عمّار الساباطی ، عن أبی عبداللّه علیه السلام : «فی الرجل ینسی أن یغسل دبره بالماء حتّی صلّی، إلاّ أنّه قد تمسّح بثلاثة أحجار ؟ قال : إن کان فی وقت تلک الصلاة فلیعد الصلاة ولیعد الوضوء ، وإن کان قد مضی وقت تلک الصلاة التی صلّی، فقد جازت صلاته، ولیتوضّأ لما یستقبل من الصلاة»(2).

من عدم کفایة المسح بالأحجار للحکم بإعادة الصلاة لدی النسیان عند غسل الدبر بالماء . محمولٌ علی کون ذلک بالاستحباب، وإلاّ کان هذا التفصیل فی الوقت وخارجه مخالفاً للإجماع .

کما أنّ عدم الکفایة بالأحجار أیضاً مخالفٌ لاتّفاق العلماء، إلاّ أن یُحمل علی ما هو الخارج عن محلّ العادة، وموضع صدق الاستنجاء فینحصر مخالفته من حیث التفصیل فقط، لأنّه لم یفت به أحد .

ویحتمل أن یکون المراد من الوضوء هو الاستنجاء، لا الوضوء الاصطلاحی، وإلاّ یکون الحکم بإعادة الوضوء العرفی من الفرق بین الوقت وغیره مخالفة


1- وسائل الشیعة: الباب 4، أحکام الخلوة، الحدیث 30.
2- وسائل الشیعة: الباب 1، أحکام الخلوة، الحدیث 10.

ص:152

اُخری ، فالأولی حمله علی استحباب إعادة الصلاة فی الوقت، عند نسیان الغسل بالماء، وإعادة الاستنجاء به، وهو وإن کان بمقتضی الجمع وعدم رفع الید عن مثل هذا الخبر الموثّق، إلاّ أنّه لم یفت علی طبق مضمونه أحد من الفقهاء فراجع کلماتهم تلاحظ بُعد هذا الحکم عن أقوالهم، والعلم عند اللّه .

وظهر ممّا حقّقناه : أنّه لو انفصل ما هو المتعدّی عن موضع الغائط _ کما لو وقع

شیء من الغائط علی الفخذ _ فلابدّ من تطهیره بالماء، لخروجه عن موضوع الاستنجاء .

وأمّا لو کان متّصلاً بما هو فی المخرج فهل یمکن الاکتفاء بواحد من الأحجار أو استعمال الماء فی محلّ العادة _ وبخصوص الماء فی المتعدّی عملاً فی کلّ منهما بما هو مقتضی دلیله _ أو لابدّ من التطهیر بالماء فقط للمجموع، لانصراف هذه الأخبار الدالّة علی التخییر عن ذلک؟

فی حکم الاستنجاء لو کان الغائط مصاحباً لنجاسة اُخری

وجهان ، بل قولان أقواهما، الأوّل إن أمکن الانفصال فی مقام التطهیر، لأنّه مشکل جدّاً، ولذلک کان الأحوط هو الأخیر .

فرعٌ: ثمّ لا یذهب علیک ؛ بأنّ الماء کان أفضل، والجمع أکمل بالنسبة إلی غیر المتعدّی أو المتعدّی بالنسبة إلی موضع العادة، لو جوّزنا الانفصال فی الحکم، کما قلنا فی سابقه، وأمّا إجراء ذلک فی المتعدّی، لموضع التعدّی ممّا لا وجه له، لعدم دلیل علی حسن الإزالة بالأحجار أوّلاً، ثمّ بالماء ثانیاً .

فعلی ما ذکرنا، یکون ظاهر عبارة المصنّف من کون الأفضلیّة والأکملیّة لغیر المتعدّی حسناً، لو لم نقل بإمکان الانفصال فی الحکم فی المتعدّی، وإلاّ یجری الحکمین فیه أیضاً بالنسبة إلی محلّ العادة، کما لایخفی .

فرعٌ آخر: ثمّ إنّه لو شککنا فی التعدّی عن محلّ العادة، فالأصل الموضوعی یقتضی عدمه، فیجوز التطهّر تخییراً بأحد من الأمرین .

لا یقال: مقتضی استصحاب موضع النجاسة، یقتضی الحکم بالنجاسة حتّی یطهر بالماء .

ص:153

لأنّا نقول : بأنّه محکوم بالأصل السابق، وهو مقدّم علیه موضوعاً، لأنّ بذلک الأصل یرفع الشکّ عنه بعد التطهیر بالأحجار، فلا تصل النوبة إلی أصل حکمی .

تتمیمٌ للبحث: لا یخفی علیک _ کما عرفت _ بأنّ المتعدّی عمّا یصدق علیه الاستنجاء، لا یکفی فیه إلاّ استعمال الماء، وکذلک یکون الحکم فیما لو أصاب المحلّ نجاسة أُخری غیر الغائط ، بل ولو أصاب نفس الغائط بعد خروجه عمّا

یصدق علیه حال الاستنجاء .

ففی المسألة صور متعدّدة، لا بأس بالتعرّض إلیها وهی:

تارةً : یقطع بإصابة المحلّ بنجاسة أُخری قبل خروج الغائط عنه، فهذا ممّا لا إشکال فی عدم کفایة استعمال غیر الماء فی التطهیر، بلا فرق بین القول بأنّ المتنجّس یتنجّس ثانیاً أم لا، لوضوح أنّ الأدلّة الواردة فی الحکم بالتخییر فی التطهیر، لا تشمل إلاّ ما کان متنجّساً بخصوص الغائط، وهو واضح خصوصاً علی القول بعدم تنجّس المحلّ بالغائط ثانیاً .

واُخری: ما لو قطع بإصابة المحلّ بها، بعد تأثّر المحلّ بالغائط، فحکمه أیضاً واضح، وهو عدم الکفایة إلاّ بالماء لو قلنا بتأثّر المحلّ بالنجاسة الخارجة ثانیاً، لأنّ أثره بعد الاستنجاء للغائط باقٍ علی حاله إلی أن یتطهّر بالماء .

نعم ، یشکل فیما لو قلنا بعدم تأثیر النجاسة فیه ثانیاً، فتکون نجاسة المحلّ متأثّراً بالغائط ، حیث احتمل أن یکون الحکم بالتخییر جاریاً فیه، کما ذکره وأفتی به السیّد الاصفهانی قدس سره علی ما فی «الروائع» .

إلاّ أنّ الحقّ _ کما علیه أکثر محشّی «العروة» بحسب ظاهر إطلاق کلماتهم، وصریح فتوی الخوئی علی ما فی «التنقیح» _ عدم الکفایة، إلاّ باستعمال الماء، لأنّ ملاقاة کلّ نجس یوجب ترتّب آثاره علیه، من التعفیر أو التعدّد أو غیرهما، فیتبدّل الحکم عمّا کان علیه أوّلاً، فلابدّ من غسله بالماء .

إذا عرفت هاتین الصورتین، یظهر لک حکم الصورة الثالثة وهی: کون الغائط

ص:154

مصاحباً مع نجاسة اُخری، کما لو کان فیه الدم، فهو أیضاً علی قسمین:

فی حکم الاستنجاء فی نجاسة اُخری مع الغائط

لأنّه تارةً یکون قد لاقی النجس الآخر _ مثل الدم _ موضع الغائط، فحکمه ما عرفت من الاحتمالین، ولو کان احتمال حصول التنجّس منهما معاً ومنضمّاً جاریاً هنا دون سابقیه، فلا یکفی فی تطهیره إلاّ استعمال الماء .

وأُخری: أن یکون الدم فی وسط الغائط الیابس، ولم یلاق المخرج إلاّ نفس

الغائط، فهنا لا یبعد القول بکفایة التطهیر بأحد الأمرین، وإن کان الأحوط هو غسله بالماء ، کما لا یخفی .

بقی هنا صورة رابعة : وهی ما لو شکّ فی ذلک، وقد یکون مورد الشکّ الحالة السابقة علی خروج الغائط، فیشک فی أنّه هل تنجّس أم لا ؟

فالدلیل هو عدم الإصابة، وهو مقدّم علی استصحاب نجاسة المحلّ بعد التطهیر بالأحجار، کما احتمله بعض، لأنّه أصل موضوعی وسببی یرفع الشکّ عن أثره، وهو الاستصحاب الحکمی للنجاسة، فلا یبقی له مورد .

لا یقال : إنّ المقام مورد إجراء أصل استصحاب الکلّی من القسم الثانی، لأنّه بعد تطهیره بالأحجار، یشک فی أنّه هل کان متنجّساً بالغائط حتی یحصل له الطهارة بذلک قطعاً، أو کان متنجّساً بغیره قبله بحیث یحصل الطهارة إلاّ بالماء، فیستصحب بقاء کلّی أصل النجاسة، ونقول بأنّه کان نجساً قبل التطهیر بها، فالآن کما کان .

لأنّا نقول : بأنّ هنا لیس القسم الثانی من أقسام الاستصحاب الکلّی، لأنّه لاشکّ هنا فی حصول النجاسة أو أثره بواسطة وجود الغائط قطعاً، وهو نظیر أن یقال : بأنّا نقطع بدخول حیوان قصیر العمر فی الدار، ونطمئن بزواله، وتحقّق حیوان طویل العمر قبل القصیر، وفی المقام یفید الأصل عدم حصول النجاسة بغیر الغائط قبله فیکون الحکم هنا هو حصول الطهارة بالأحجار أیضاً .

وآخر أن یکون الشکّ فیه بالنسبة إلی بعد خروج الغائط، فهو القسم الثالث من

ص:155

ولا یجزی أقلّ من ثلاثة أحجار، ویجب إمرار کلّ حجرٍ علی موضع النجاسة، ویکفی معه إزالة العین دون الأثر، وإذا لم ینق بالثلاثة، فلابدّ عن الزیادة حتّی ینقی، ولو نقی أکملها وجوباً(1)

الکلّی بقسمیه، لأنّه تارةً یشک فی ذلک حال الاتّصال بعد خروج الغائط، ولکن یشک فی أنّه هل أصاب فی زمان تمامیّته خروج الغائط بنجاسة أُخری، نظیر الشک فی حصول حیوان الطویل العمر حال موت القصیر فی الدار، فالأصل حینئذٍ أیضاً یفید عدم الحدوث، فیحکم بحصول الطهارة بالأحجار، وهو مقدّم علی استصحاب النجاسة .

وأُخری: الذی یعدّ فی المقام الصورة الثالثة فی الشکّ، وهو أنّ یشک فی أنّه فی زمان خروج الغائط هل کان معه نجاسة أُخری _ من الدم وغیره _ حتّی لا یکون تطهیره إلاّ بالماء أم لا؟ ویمکنه تطهیره بالأحجار أیضاً، فالأصل أیضاً عدم حدوث ما هو باق بعد تحقّقه، لما تقدّم من کونه أصلاً موضوعیّاً ومقدّماً علی الأصل الحکمی، وهذا هو القسم الثانی من القسم الثالث من أقسام الاستصحاب الکلّی، ففی جمیع موارد الشکوک یحکم بالعدم، کما حکم بذلک _ أی بالإطلاق _ السیّد قدس سره فی «العروة» فی المسألة الرابعة، فراجع .

ومثله الشک فی الإصابة، مع القطع بخروج الدم مع الغائط الیابس، حیث یحکم بالعدم .

وممّا ذکرنا ظهر حکم ما لو أصاب الغائط مکاناً غیر الذی کان قد أصابه أوّلاً، فهنا أیضاً یصدق علیه أنّه نجاسة خارجیّة، فیکون محکوماً بحکمها، فلا تشمل أدلّة الاستنجاء لمثل ذلک قطعاً .

(1) واعلم أنّ الإجماع بکلا قسمیه قائمٌ، علی أنّه لو لم ینق إلاّ بالثلاثة لا

یجوز حینئذٍ الاکتفاء بالأقلّ منها ، کما أنّ الإجماع أیضاً قائم علی عدم الاکتفاء

ص:156

بالثلاثة، لو لم ینق بها، فلابدّ بما یوجب النقاء ولو صارت الزیادة بالأربعة والخمسة وما والاهما .

فی حکم الاستنجاء بالأحجار

وإنّما الخلاف وقع فیما لو حصل النقاء بالأقلّ من الثلاثة، فهل یجب الإکمال إلیها تعبّداً، ولو کانت الطهارة حاصلة بأقلّ منها، کما اختاره صاحب «الجواهر»، لولا مخافة مخالفة الإجماع ؟

أو یکون الإکمال واجباً، باعتبار أنّه محصِّلٌ للطهارة شرعاً، ولو حصل النقاء بالأقلّ؟ نظیر حکم الشارع فی التطهیر للبول بالغسلتین، ولو کان النقاء حصل بغسلة واحدة، وعلی هذا فتوی المشهور من المتقدّمین، کما هو صریح «المقنعة» و«السرائر»، وظاهر «المبسوط» و«الکافی»، والمحکی عن «المراسم»، وصریح الفاضلین والشهیدین والقاضی فی «شرح الجمل» ، بل وهکذا فتوی مشهور المتأخّرین والمعاصرین، کالشیخ والمحقّق الهمدانی والسیّد فی «العروة» والشاهرودی والخوئی والحکیم والگلبایگانی والآملی والخونساری، وإن کان بعضهم _ کالأخیر وغیره _ ذهب إلی الاحتیاط الوجوبی .

أو یکون الملاک فی الطهارة حصول النقاء، ولو کان بأقلّ من الثلاثة؟

فقد ذهب إلیه السیّد الاصفهانی والخمینی، کما مال إلیه صاحب «الجواهر» فی أوّل کلامه .

والأوسط هو الأقوی عندنا ، وذلک لأنّه مضافاً إلی وجود شهرة محقّقة بین المتقدِّمین والمتأخِّرین والمعاصرین ، وإلی وجود الأصل، وهو استصحاب بقاء النجاسة والممنوعیة لما اشترط فیه الطهارة، کالصلاة والطواف لو لم یتمکّن الفرار عن تعارض الدلیلین، وإثبات اقوائیّة أحدهما علی الآخر، وإن کان الأمر هاهنا بحمد اللّه واضح جدّاً .

فنقول : ما یدلّ علی لزوم کون التطهیر بالثلاثة وعدم کفایة الأقلّ هو ما روی عن

ص:157

العامّة عن سلمان بقوله : «نهانا رسول اللّه صلی الله علیه و آله أن نستنجی بأقلّ من ثلاثة أحجار»(1) .

وخبر نبویٌّ آخر وهو : «لا یستنجی أحدکم بدون ثلاثة أحجار»(2) .

وخبر آخر عنه صلی الله علیه و آله وهو : «إذا ذهب أحدکم إلی الغائط، فلیذهب ومعه ثلاثة أحجار فإنّها تجزی»(3) .

وحدیث ثالث عنه صلی الله علیه و آله قال : «ویستنج بثلاثة أحجار أبکار»(4) .

وحدیث رابع عنه صلی الله علیه و آله : «استطیب بثلاثة أحجار، أو ثلاثة أعواد، أو ثلاثة خشنات من تراب»(5) .

فهذه الروایات _ وإن کانت عامیّة _ إلاّ أنّه لا بأس بها إذا کانت معمولاً بها عند الأصحاب وعلیه الفتوی .

ومن الأخبار الخاصّة صحیحة زرارة : «لا صلاة إلاّ بطهور ، ویجزیک من الاستنجاء ثلاثة أحجار، بذلک جرت السنّة من رسول اللّه صلی الله علیه و آله »(6) .

وصحیحته الاُخری: «قال : جرت السنّة فی اثر الغائط بثلاثة أحجار أن یمسح العجان ولا یغسله»(7) .

وخبر زرارة ، عن أبی جعفر علیه السلام قال : «سألته عن التمسّح بالأحجار؟ فقال : کان الحسین بن علی علیهماالسلام یمسح بثلاثة أحجار»(8) .


1- مستدرک الوسائل: الباب 22، أحکام الخلوة ، ح 10.
2- مستدرک الوسائل: الباب 22 أحکام الخلوة ، ح 6.
3- مستدرک الوسائل: الباب 22 أحکام الخلوة ، ح 5.
4- مستدرک الوسائل: الباب 22 أحکام الخلوة ، ح 4.
5- مستدرک الوسائل: الباب 22 أحکام الخلوة ، ح 7.
6- وسائل الشیعة: الباب 1، أحکام الخلوة، الحدیث 9.
7- وسائل الشیعة: الباب 3، أحکام الخلوة، الحدیث 30.
8- وسائل الشیعة: الباب 1، أحکام الخلوة، الحدیث 30.

ص:158

وخبر برید بن معاویة ، عنه علیه السلام أنّه قال : «یجزی من الغائط المسح بالأحجار»(1) الحدیث .

ومرسلة أحمد بن محمّد رفعه إلی أبی عبداللّه علیه السلام قال : «جرت السنّة فی الاستنجاء بثلاثة أحجار أبکار»(2) .

وخبر الصدوق ، فی حدیثٍ عن علیّ بن الحسین علیه السلام قال : «کان الناس یستنجون بالأحجار»(3) الحدیث .

حیث یکون الجمع المعرّف بالألف واللام أقلّه الثلاثة .

ومثله خبر جمیل بن درّاج ، عن الصادق علیه السلام فی حدیثٍ قال : «کان الناس یستنجون بالکرسف والأحجار»(4) .

وخبر أبی خدیجة ، عن الصادق علیه السلام قال : «کان الناس یستنجون بثلاثة أحجار»(5) .

هذه جملة الأخبار الدالّة علی ذلک، حیث أنّ أقواها دلالةً وسنداً، هو صحیحة زرارة، لأنّه یدلّ علی المطلوب من جهات عدیدة :

أوّلاً : تصدّره بجملة (لا صلاة إلاّ بطهور)، حیث یفهم منها أنّه لیس المقصود من ذکر ما سیأتی بیان أمر تعبّدی _ بل کما احتمله صاحب «الجواهر» واختاره وإن هابه الإجماع _ ما یحصل به الطهارة،

وثانیاً : دلالة قوله: «یجزیک من الإستنجاء»، حیث یفهم منها أنّ الأقلّ منها لا


1- وسائل الشیعة: الباب 2، أحکام الخلوة، الحدیث 30.
2- وسائل الشیعة: الباب 4، أحکام الخلوة، الحدیث 30.
3- وسائل الشیعة: الباب 3، أحکام الخلوة، الحدیث 34.
4- وسائل الشیعة: الباب 4، أحکام الخلوة، الحدیث 34.
5- وسائل الشیعة: الباب 5، أحکام الخلوة، الحدیث 34.

ص:159

یجزی، نظیر ما وقع فی النبوی بقوله : «فإنّها تجزی بعد حکه بثلاثة أحجار»(1) .

وثالثاً : دلالة قوله: «بذلک جرت السنّة من رسول اللّه صلی الله علیه و آله »، حیث یستفاد منه أنّ الاستنجاء بالثلاثة من طریقته فی ذلک ، واحتمال کون المراد من السنّة هو

الاستحباب ، مدفوع بأنّ هذه الکلمة قد استعملت فی الأخبار للواجب أیضاً، کما ورد فی الخبر الدالّ علی أنّ الرکعتان الأخیرتان هما سنّتان من النبیّ صلی الله علیه و آله ، دون الرکعة الاُولی والثانیة فهما یعدّان من فرض اللّه.

فثبت أنّ العمل بذلک کان استمراریّاً ودائماً.

إذا استفید ما ذکرناه من هذا الخبر، فسائر الأخبار تکون دلالتها علی هذه الخصوصیات أوضح، من جهة کون أقلّ الجمع ثلاثة، فلا یجوز رفع الید عن مثل هذه الأدلّة التامّة الدلالة، إلاّ بما یدلّ علی خلاف ذلک.

ولیس لنا فی مقابلتها شیء یعارضها، بما لا یمکن الحمل علی وفقها، إلاّ توهّم ذلک فی بعض الأخبار، مثل إطلاق خبر زرارة ، قال : «کان یستنجی من البول ثلاث مرّات، ومن الغائط بالمدر والخرق»(2) .

وخبره الآخر ، قال : «سمعت أبا جعفر علیه السلام یقول : کان الحسین بن علیّ یتمسّح من الغائط بالکرسف ولا یغتسل»(3) .

والجواب عنهما أوّلاً : بإمکان المنع فی کونهما بصدد بیان ما هو اللازم فی استنجاء الغائط، بل المقصود هو جواز الاستنجاء بمثل المدر والخرق والکرسف، وعدم لزوم کونه بخصوص الأحجار، کما ربما یتوهّم ذلک من کثرة الأخبار الواردة والمذکورة فیها الحجر، لاسیّما فی الجزء الثانی من ذکر عدم الاغتسال بعده .


1- وسائل الشیعة: الباب 5، أحکام الخلوة، الحدیث 22.
2- وسائل الشیعة: الباب 6، أحکام الخلوة، الحدیث 26.
3- وسائل الشیعة: الباب 3، أحکام الخلوة، الحدیث 35.

ص:160

وثانیاً : لو سلّمنا الإطلاق فی ذلک، فغایته التقیّد بتلک الأخبار السابقة، من لزوم العدد فیها، ولا یکفی مطلقاً حتّی بأقلّ من الثلاثة ، مضافاً إلی کون الخبر الأوّل منهما مضمراً، وإن کان جلالة قدر زرارة یجبره فی الجملة، لأنّه لا یرویإلاّ عن الإمام، ولذلک قال صاحب المنتقی : إنّ المروی عنه وفاعل کان هو أبوجعفر علیه السلام .

ومنها : موثّقة یونس بن یعقوب ، قال : «قلت لأبی عبداللّه علیه السلام : الوضوء الذی

افترضه اللّه علی العباد لمن جاء من الغائط أو بال ؟ قال : یغسل ذکره ویذهب الغائط، ثمّ یتوضّأ مرّتین مرّتین»(1) .

حیث یدلّ علی أنّ اللازم فی الغائط هو الإذهاب، سواء کان حاصلاً بالثلاثة أو الأقلّ أو الأکثر، ولا یحتاج إلی الغَسل بالماء، کما هو الحال فی البول هذا .

لکنّه مردودٌ لا بما ذکره الشیخ الأنصاری قدس سره فی «طهارته» _ بأنّ الوضوء الذی وقع فی صدره هو التطهیر بالماء، نظیر وضوء الواقع فی خبر جمیل بن درّاج ، حیث قال : «ثمّ اُحدث الوضوء (بفتح الواو) وهو خلق کریم»(2).

فیکون هذا قرینة علی کون المراد من الإذهاب هو التطهیر بالماء، ولکنّه تجنّب عن ذکر لفظ الدُبر لاستهجانه، فیکون المقصود هو أنّ اللازم إزالة الغائط وتطهیر الموضع بالماء، فلا یرتبط بما نحن بصدده من الإذهاب بالحجر، حتّی یقال إنّ من إطلاقه یفهم کون اللازم هو النقاء فقط ولو بأقلّ من الثلاثة _ لأنّه توجیه غیر وجیه، لأنّه لو سلّمنا کون المقصود من الوضوء هو التطهیر بالماء _ مع أنّه ممنوع لإمکان أن یکون المقصود هو الوضوء الاصطلاحی، کما قد یؤیّده قوله: «افترضه اللّه علی العباد» وقوله: «جاء من الغائط أو بال» _ إنّه لا ینافی کون المقصود من الإذهاب هو النقاء، سواء کان بالماء أو بالأحجار، فضلاً عن أنّ ما


1- وسائل الشیعة: الباب 5، أحکام الخلوة، الحدیث 9.
2- وسائل الشیعة: الباب 4، أحکام الخلوة، الحدیث 34.

ص:161

قاله فی سبب عدم ذکره لفظة الدبر غیر مستحسنٌ، لأنّه استعمل بدله لفظة الذکر وهو إن لم یکن أقبح لا أقلّ من التساوی.

بل الوجه فی بطلانه أنّه لیس بصدد بیان ما هو اللازم فی الإزالة من التعدّد وعدمه، کما لا یکون کذلک فی طرف غَسل الذکر، حیث قال : «یغسل ذکره» ولم یبیّن عدده من المرّة أو المرّتین، وهکذا یکون فی الإزالة.

وأمّا وجه عدم ذکر الغَسل فی الغائط، هو أنّه لم یذهب إلی اعتبار خصوص

الغسل بالماء فقط، فعبّر بالإزالة حتّی یشمل کلا الأمرین من الغَسل بالماء والمسح بالأحجار ، هذا أوّلاً .

وثانیاً : لو سلّمنا کونه بصدد بیان الإطلاق فإنّه یتقیّد بواسطة تلک الأخبار، بکون الإذهاب بهذا المقدار _ یعنی الثلاثة _ لا أقلّ منه، وإنْ حصل النقاء بالأقلّ .

ومنها : خبر حسن بن المغیرة وهی العمدة ، عن أبی الحسن علیه السلام قال : «قلت له : للاستنجاء حدّ ؟ قال : لا، ینقی ماثمة. قلت : ینقی ماثمة ویبقی الریح ؟ قال : الریح لا ینظر إلیها»(1) .

حیث أنّ الإمام علیه السلام قد نفی الحدّ للاستنجاء، بل جعل الملاک فیه هو مجرّد النقاوة، وکما کان کذلک فی طرف الزیادة، فهکذا کان فی طرف النقیصة، فیتطهّر بالأقل من الثلاثة أیضاً، وهو المطلوب .

وقد أورد علیه _ کما عن الشیخ فی «طهارته» _ بأنّ المراد من الاستنجاء هو الاستنجاء بالماء لا بالأحجار فقط ولا الأعمّ منها، وذکر لذلک وجهین أو أزید، لأنّ الاستنجاء بالماء قد تعارف فی زمن المتأخّرة من الصحابة والتابعین .

وثانیاً : إنّ إسناد النقاء إلی المحلّ مع لفظة (الماء) الموصولة، یقتضی الإزالة لجمیع ما یکون فی المحلّ من العین والأثر، وهو لا یتمّ إلاّ بالماء .

وثالثاً : بأنّ النقاء إمّا أن یکون بزوال العین أو الأثر، فإن أُرید الاستنجاء


1- وسائل الشیعة: الباب 14، أحکام الخلوة، الحدیث 35.

ص:162

بالماء، فلا یمکن اسناده إلی زوال العین، لعدم کفایته، بل لابدّ من زوال الأثر أیضاً، وإن أسند إلی الأثر، فلا یصحّ الاستنجاء بالحجر لذلک، لکفایة زوال العین فیه، فیتعیّن إرادة أحدهما ولیس هو إلاّ الاستنجاء بالماء ، أمّا للاتّفاق بإرادته والاختلاف فی إرادة الأعمّ منه ، وامّا لأن إرادته خصوص الاستنجاء بالحجر من لفظ الاستنجاء، یکون فی غایة الندرة، فلا یکون الخبر حینئذٍ متعلّقاً بالاستنجاء

بالحجر حتّی یزاحم نصوص الأخبار ، مع أنّ المزاحمة معها یکفی فی سقوط الاستدلال به، مضافاً إلی إمکان تقیّد الإطلاق بتلک الأخبار ، انتهی محصّل کلامه .

ولکن الإنصاف عدم تمامیّة ما ذکره رحمه الله لأنّ (الاستنجاء) امّا أن نحتفظ بإطلاقه، حتّی یشمل کلاًّ من الماء والحجر، أو یکون المراد منه هو الاستنجاء بالحجر فقط، بقرینة بقاء الریح فیه إذ أنّه یکون أکثر من الغسل بالماء ، کما أنّ المراد من النقاء هو معناه العرفی فی کلّ مورد، فإن کان قد فرض الاستنجاء بالماء، فیکون استنجائه ونقاوته بزوال العین والأثر، وإن کان فرض للحجر فنقاوته یکون بزوال العین فقط، کما عرفت سابقاً، فلا یکون هذا اللفظ قرینة علی کون الاستنجاء واردٌ لخصوص الماء کما ذکره .

وأبعد من ذلک إدامة قوله رحمه الله من بقاء الریح بعد الاستنجاء، وهو یفید أنّه کان بالماء، لأنّه الذی یوجب بقاء الریح فی الید بعد الغَسل، ویمکن استشمامه، بخلاف ما إذا کان الاستنجاء بالأحجار فلا یبقی له أثر علی الید.

وجه الاستبعاد أنّ المقصود من بقاء الریح هو بقاءه فی محلّ الغائط، وهو یعدّ قرینة أُخری علی أنّ المراد من الاستنجاء هو الاستنجاء بالحجر، لأنّ بقاء الریح فیه أمر ظاهر عرفی لا یحتاج إلی الأخبار إذ من الممکن إدراکه بلمس الموضع، کما هو واضح .

فالأولی فی الجواب أن یُقال : إمّا أن یکون المراد هو السؤال عن حدّ الاستنجاء فی طرف الزیادة، کما یشعر بذلک سؤاله عن بقاء الریح، کأنّه أراد أنّه

ص:163

یقول ربّما یستنجی بأزید من الثلاثة وینقی ماثمة، وبرغم ذلک لا یذهب الریح فأجابه علیه السلام : «الریح لا ینظر إلیها» فلا إطلاق له حینئذٍ فی طرف النقیصة .

وإن أبیت عن ذلک، وقلت بالإطلاق لکلا الطرفین من الزیادة والنقیصة، فیقیّد إطلاقه بالنسبة إلی النقیصة، بالأخبار السابقة، ویبقی العمل علی طبقه فی طرف الزیادة .

واحتمال کون قید الثلاثة الوارد فی الأخبار، وارداً مورد الغالب، فلا مفهوم له،

فیکفی الأقلّ منها .

مدفوع أوّلاً : بالمنع عن الغلبة فی الوجود، إذ قد ینقی بالأقلّ، لاسیّما مع ملاحظة یبوسة أمزجة الأعراب لأکل الرطب وغیره کما أُشیر إلیه فی الخبر .

وثانیاً : بالمنع عن کون الغلبة علی هذا النحو _ أی حصول النقاء بالثلاثة غالباً دون الأقلّ _ موجباً لحصول المفهوم، مع أنّ المقصود هو استفادة المفهوم من ظهور تلک الجملة فی الأخبار، لظهورها فی مدخلیة الثلاثة فی حصول الطهارة الشرعیّة، فلیس هذا إلاّ لما ذکرناه .

فالأقوی عندنا، هو اعتبار الثلاثة فی الاستنجاء بالأحجار، وعدم الکفایة بالأقلّ مطلقاً، کما علیه الأکثر .

وأمّا حکم وجوب إمرار کلّ حجر علی موضع النجاسة، فقد ذهب إلیه المصنّف فی «الشرائع» ناسباً له إلی المفید کما عن الشیخ الأعظم فی «طهارته» ، بل عن «المفاتیح» وشرحها نسبته إلی المشهور، ومن المتأخّرین فقد اختاره صاحب «الجواهر» والمحقّق الهمدانی، وقد احتاط فیه السیّد الاصفهانی ، بل هو المختار عندنا، خلافاً لکثیر من المتقدّمین من تجویز التوزیع، بل قد عدّ فتواهم بذلک فی «الجواهر» مؤیّداً لما اختاره من عدم لزوم التثلیث فی الأحجار، لأنّ معناه جواز الاکتفاء فی کلّ موضع من النجاسة بالواحد من الحجر .

وقد صرّح بکفایة التوزیع فی «المبسوط» و«المعتبر» و«المنتهی» و«التحریر» و«التذکرة» و«القواعد» و«المدارک» و«الذخیرة» و«الجامع»

ص:164

و«نهایة الأحکام» و«الذکری» و«الدروس» و«البیان»، وشارح الدروس وکثیر من المتأخّرین کالسیّد فی «العروة» ومن علّق علیها لم یتعرّضوا لهذه المسألة، ولعلّه کان من جهة أنّ النزاع لیس علی ماهو علیه، لأنّ من یری کفایة التوزیع لا یبعد أن یکون هدفه هو أنّه بحسب الظاهر حصول المسح لکلّ حجر علی موضع النجاسة بحسب العادة والمتعارف، لأنّ موضع النجاسة عادةً هو حلقة الدبر

المسمّی بالعجان فی الأخبار، فیمسح ذلک بکلّ حجر ، إلاّ أن یتوجّه الإنسان إلی ذلک ویدقّق فیه ویحاول التوزیع، وللبحث مجال، لکنّه بعید أن یکون هذا هو مقصود المتقدّمین .

فنتیجة ذلک : أنّه یکفی المسح الظاهر فی الاستیعاب بحسب العرف، ولا یلزم أن یدقّق فی ذلک ویمسح خصوص ذلک الموضع بثلاثة أحجار، إذ لو اعتبر مثل هذه الدقّة لکان علی الأئمّة علیهم السلام البیان، فعلی هذا یمکن الجمع بین الطائفتین فی الجملة، بأنّه یلزم إمرار کلّ حجر علی موضع النجاسة حسب العادة ولا یجب ذلک حقیقة، فیکون مقصود الذاهبین إلی الوجوب هو العادة، والقائلین بالعدم هو الدقّة .

وکیف کان ، والذی یدلّ علی اعتبار الإمرار لکلّ حجر أمور :

أوّلاً : بأنّه المتبادر من قوله: «أن یمسح بثلاثة أحجار» .

وثانیاً : بالتصریح الوارد من لزوم کون ذلک بثلاث مسحات، کما صرّح بذلک فی الخبر المنقول فی «عوالی اللألئ» عن النبیّ صلی الله علیه و آله أنّه قال : «ویستنج بثلاث مسحات»(1)، ولعلّه هو المراد من الحدیث الذی نقله صاحب «مصباح الفقیه» بقوله : وفی النبوی: «إذا جلس أحدکم لحاجة فلیمسح ثلاثة مسحات».

مضافاً إلی ما یفهم ذلک من خبر زرارة(2) بقوله : «أن یمسح العجان» بعد قوله: «بثلاث أحجار»، ولا یصدق ذلک إلاّ بإمرار کلّ واحد منها علیه، وکذلک ببعض ما


1- مستدرک الوسائل: الباب 9 أحکام الخلوة ، ح 22.
2- وسائل الشیعة: الباب 3، أحکام الخلوة، الحدیث 30.

ص:165

ذکر فی ذلک من الاستحسانات التی ذکرها صاحب «الجواهر».

وثالثاً : مقتضی استصحاب النجاسة عند شکّ فی اعتبار ذلک وعدمه ولو من جهة الاستظهار من الأخبار بکفایة ذلک، فالأقوی ذلک، کما أنّه موافق للاحتیاط أیضاً .

کما أنّ الظاهر هو حصول الطهارة بواسطة المسح بالأحجار، لا من جهة أنّ الموضع نجس لکن الشارع عفی عنها، بل من جهة أنّ الأحجار تطهر الموضع،

وهذا هو الموافق لظاهر نصّ «الشرائع» ، بل عن الشیخ الأنصاری نسبة الطهارة إلی العلاّمة والمحقّق والشهیدین والمحقّق الثانی، وظاهر المفید و«المبسوط»، حیث قال الطوسی فی «المبسوط»: « لا بأس بغسل المخرج بالمائع المضاف بعد الاستنجاء»، وصریح عبارة «النزهة» لابن سعید، بل عن العلاّمة انحصار الخلاف فی الطهارة إلی الشافعی وأبی حنیفة .

نعم ، فیزماننا هذا قد نقل ثبوت النجاسة مع عفو الشارع عنها من الخمینی فی «التحریر» .

وکیف کان فإنّ مستندنا علی ذلک أوّلاً: ظهور الأخبار الواردة فی الاستنجاء، وکونه مطهّراً، لأنّه قد عُدّ الاستنجاء بالحجر مرادفاً مع الغَسل فی کثیر من الأخبار ، بل قد یؤیّد هذا الظهور دلالة صحیح زرارة بقوله : «لا صلاة إلاّ بطهور ویجزیک من الاستنجاء بثلاثة أحجار»(1).

بناءً علی إرادة العموم من الطهور للحدث والخبث، کما هو الظاهر من سیاق ذیله ، بل قد یؤیّد ذلک بخبرٍ نقله المحقّق فی «المعتبر»(2) عن رسول اللّه صلی الله علیه و آله أنّه قال: «لا تستنجوا بالعظم والروث فإنّهما لا یطهّران».


1- وسائل الشیعة: الباب 1، أحکام الخلوة، الحدیث 9.
2- المعتبر: ص33.

ص:166

ولا یکفی استعمال الحجر الواحد من ثلاث جهات (1)

حیث دلّ بمفهومه علی حصول الطهارة لغیرهما من الأحجار .

وثانیاً : أنّه لولا طهارته لما کان للحکم بنجاسته أثر، لأنّه إن کان نجاسته توجب الحکم بنجاسة ما یلاقیه مع الرطوبة، فیلزم الحکم بعدم جواز الصلاة لمن صلّی فی سروال أصابه العرق أو الرطوبة الناشئة من الاستنجاء بالماء مرّة بعد استنجائه بثلاثة أحجار، ولا یقبل قبول هذا اللازم لأنّه یعدّ نقضاً للغرض، إذ یلزم حصول مشقّة شدیدة للمکلّفین ، فالحکم بالطهارة أولی من الحکم بالنجاسة من جهة سماحة الشریعة وسهولتها.

وإن کان مرادهم من العفو، سریانه لجمیع الحالات، حتّی صورة ملاقاته مع الرطوبة، فنقول : أیّ أثر حینئذٍ یترتّب علی نجاسته؟ وهو واضح .

هذا کلّه إذا حصل النقاء بالثلاثة، وإلاّ فلابدّ من استعمال الحجر إلی أن یحصل النقاء ولو بزیادة عن العدد المعهود، کما یدلّ علیه حسنة ابن المغیرة بقوله : «حتّی ینقی ماثمّة»، حیث یشمل طرف الزیادة قطعاً، وان تصرّفنا فیه من جهة النقیصة.

وقد استدلّ علیه أیضاً بموثّقة یونس من إذهاب الغائط، وهو تامٌ إن کان فی صدد بیان ذلک ، لکن قد عرفت الإشکال فیه ، مضافاً إلی وجوب استصحاب النجاسة، بل الإجماع علیه، مع إمکان استفادة ذلک من جهة مناسبة الحکم والموضوع ، لوضوح أنّ تشریع حکم التطهیر بالأحجار وغیرها کان لأجل إزالة عین النجاسة الموجبة للطهارة، فما دام لم یزل یکون الحکم باقیاً علی حاله، ولذلک قال المحقّق قدس سره بلزوم الزیادة لو لم ینق بالثلاثة، کما لا یخفی .

(1) وهذا هو الذی اختاره المفید فی «المقنعة» ، وعن «المصباح» للعلاّمة الطباطبائی، وصریح «المعتبر» و«الروضة» و«المدارک» و«کشف اللثام» و«الحدائق» و«الریاض» و«کشف الغطاء» ، بل هو الظاهر لمن اقتصر علی الثلاثة

ص:167

«کالخلاف» و«اللمعة» و«المراسم» و«الکافی» و«السرائر» وغیرها ، بل هو مختار کثیر من المتأخّرین کالشیخ الأعظم، والمحقّق الهمدانی، والاصفهانی، والآملی، والشاهرودی ، بل حکموا بالاحتیاط کما یشاهد فی کلام الحکیم والگلپایگانی والخوئی ، خلافاً للعلاّمة فی کتبه، والشیخ فی «المبسوط» وصاحب «الإشارة» و«الجامع» و«المهذّب» و«شرح المفاتیح» ، بل عن «الروض» من نسبة ذلک إلی الشهرة، کما علیه صاحب «الجواهر» والسیّد فی «العروة»، حیث اختار کفایة الحجر الواحد ذو الجهات الثلاث .

وتمسّکوا فی الدلالة علی مذهبهم بأنّ المراد من المسح بالأحجار، لیس إلاّ ثلاث مسحات، الحاصلة بحجر واحد، کما لو قیل: اضربه عشرة أسواط، حیث أنّ المراد منه عشرة ضربات ولو بسوط واحد ، هذا أوّلاً .

وثانیاً : بأنّ المقصود لذلک الحکم، لیس إلاّ إزالة النجاسة، فمتی حصلت _ ولو بواحدة _ یکفی فی طهارته .

وثالثاً : لو انفصل أجزاء حجر واحد یعدّ کلّ جزء منه حجراً، فهکذا یکون حال الاتّصال، ویستفاد منه عدم خصوصیّة فی الاتّصال وبالاتّصال والانفصال فیالحکم ، بل نقل عن العلاّمة قدس سره بأنّه قال :«أیّ عاقل أن یفصّل بینهما فی الحکم بالطهارة» .

ورابعاً : لا إشکال فی کفایة حجر واحد لثلاثة أشخاص إذا لم یکن منفعلاً فی حال استفادة أحدهم، فأیّ فرق بین استفادة الثلاثة أو استفادة شخص واحد فی ثلاث مراحل .

وخامساً : ما ورد فی الحدیث النبوی: «إذا جلس أحدکم لحاجته، فلیمسح ثلاث مسحات» وغیر ذلک من المناسبات والاستحسانات .

ولکن الإنصاف عدم حصول الاطمئنان للفقیه بذکر هذه الاُمور، لرفع الید عن ظهور الأخبار فی اعتبار ثلاثة أحجار منفصلات ، بل قد ادّعی المحقّق الهمدانی

ص:168

صراحة مرسلة أحمد بن محمّد علی ذلک بقوله : «جرت السنّة فی الاستنجاء بثلاثة أحجار أبکار، ویتبع الماء»(1).

ولعلّ وجه صراحته بزعمه، هو ذکر الأبکار فی ذیله، الظاهر فی التعدّد کالأحجار ، مضافاً إلی ذکر الباء فی الثلاثة الموجب لقوّة الظهور فی التعدّد .

فاحتمال کون المقصود هو ثلاث مسحات، ولو من دون تعدّد، غیر معلوم، بل الظاهر خلافه .

وأمّا کون المقصود هو الإزالة، فمدفوعٌ بأنّه لو کان کذلک للزم الحکم بجواز الاکتفاء بالأقلّ من الثلاث ، مع أنّ العلاّمة الذی قال بالکفایة هنا، لم یقل بکفایة الأقلّ من الثلاث.

وأمّا وجه الفرق بین استعمال ثلاثة أشخاص لحجر واحد أو استعمال شخص واحد لثلاثة أحجار هو صدق الاستعمال لکلّ واحد أنّه استعمل حجراً، بخلاف ما إذا استعمله نفر واحد، حیث یقال إنّه استعمل حجراً واحداً بمسح واحد ، فلابدّ من أن یتعدّد الأحجار.

وکیف کان، فالقول بعدم الاکتفاء هو الأقوی عندنا، ولو فی غیر الحجر، لدلالة الأصل عند الشک .

نعم ، حیث کان هذا الأمر متوقّفاً علی الملاک الجاری عند العرف فحینئذٍ یمکن أن یکون فیما إذا کان الحجر کبیراً، أو الخرقة طویلة بحیث تکفی الإزالة بجهاتها الثلاثة القول بالکفایة، وإن کان الأحوط أیضاً ملاحظة التعدّد فیهما أیضاً .

تتمیم للبحث: إذا عرفت بکفایة الحجر وغیره من الکرسف والخرق والمدرّ، لدخولها فی الروایات، أو بالتصریح بها من استمرار عمل الأئمّة علیهم السلام مثل خبر زرارة(2) الدال علی أنّ الحسین بن علیّ علیهماالسلام یمسح الغائط بالکرسف أو بقطع


1- وسائل الشیعة: الباب 4، أحکام الخلوة، الحدیث 30.
2- وسائل الشیعة: الباب 3، أحکام الخلوة، الحدیث 35.

ص:169

من المدر والخرق، وهکذا من استمرار عمل الناس فی التمسّح بمرأی الأئمّة علیهم السلام ومنظرهم، دون أن یرد عنهم نهی عن ذلک، یدلّ علی الجواز کما أُشیر إلیه فی خبر جمیل بن درّاج وأبی خدیجة ، فإنّه یحصل للفقیه القطع بالجواز فی غیر الأحجار.

فی ما لا یستعمل فی الاستنجاء

لکن السؤال هو أنّه هل یتعدّی عنها إلی کلّ جسم طاهر قالع للنجاسة، أو یکتفی بخصوص ما نص علیه فی الأخبار؟

والشهرة العظیمة قائمة علی الأوّل لدی المتقدِّمین والمتأخّرین والمعاصرین، خلافاً عن سلاّر وابن الجنید والسیّد المرتضی _ علی احتمال _ بل وصاحب«الحدائق» حیث توقّف فی الحکم .

وکیف کان، یدلّ علی ما ادّعیناه _ مضافاً إلی الإجماع المنقول عن «الغنیة» و«الخلاف» وإطلاق خبری ابن المغیرة ویونس، لو قلنا بکونهما بصدد بیان الحکم من هذه الحیثیّة لدلالتهما علی حکم النقاء والإذهاب الصادق بأیّ جسم حصل _ دلالة أخبار کثیرة دالّة علی جواز استعمال الکرسف والخرق والمدر، منضمّاً إلی عدم القول بالفصل بینها وبین غیرها من الأجسام ، فضلاً عن دلالة خبر لیث المرادی عن أبی عبداللّه علیه السلام قال : «سألته عن استنجاء الرجل بالعظم أو البعر أو العود؟ قال : أمّا العظم والروث فطعام الجنّ، وذلک ممّا اشترطوا علی رسول اللّه صلی الله علیه و آله . فقال : لا یصلح بشیء من ذلک»(1).

فإنّ استثنائهما من دون العود یُفهم الجواز فیه .

نعم ، الاکتفاء بمطلق ما یحصل به النقاء، حتّی وإن کانت بیده أو ید جاریته مشکلٌ، لانصراف الأخبار عنهما، فالحکم بالطهارة بذلک مشکلٌ جدّاً .


1- وسائل الشیعة: الباب 1، أحکام الخلوة، الحدیث 35.

ص:170

ولا یستعمل الحجر المستعمل، ولا الأعیان النجسة، ولا العظم ولا الروث، ولا المطعوم، ولا صیقل یزلق عن النجاسة، ولو استعمل ذلک لم یطهر(1)

(1) ظاهر العبارة وإطلاق کلامه یشمل مطلق المستعمَل من الحجر، سواء کان للإزالة أو التعبّد، إن قلنا بوجوبه ، بل ولو لم یحصل له النجاسة بالاستنجاء، کما إذا کان مستعملاً بعد حصول النقاء، حتّی بعد حصول الغَسل أیضاً، لأنّه رافع لصفة النجاسة لا الاستعمال، کما لا فرق بین کونه فی الاستنجاء الثانی _ أی بعد استعمال الأوّل یستنجی للإزالة أو للتطهیر _ کما أنّ إطلاق لفظ (یشمل) یعمّ حتّی ما لو کان مستعملاً للتطهیر لغیر الاستنجاء، مثل أن استفاد منه فی إزالة النجاسة من قدمه أو باطن نعله، بل وإن کان مستعملاً للنجاسة الحُکمیة ، أو کان مستعملاً لرفع الحدث، أو استفید منه فی رفع النجاسة الخبثیّة ثمّ استفید منه فی الاستنجاء به، کالمستعمل بعد زوال العین، أو لتحصیل عدد الوتر التی یستحبّ أن یؤدّیه، عملاً بظاهر سعة مفهوم هذا اللفظ .

بل هو الظاهر من کلام «القواعد» و«النافع» و«الوسیلة» و«المهذّب» و«النهایة» و«الجامع» و«الإصباح» و«کشف الغطاء» والمفید .

والذی یمکن أن یستدلّ علیه هو الأصل _ أی أنّ الأصل یفید بقاء النجاسة لو شکّ فی التطهیر به _ ودلالة مرسلة أحمد بن محمّد ، عن الصادق علیه السلام : «جرت السنّة فی الاستنجاء بثلاثة أحجار أبکار ویتبع الماء»(1).

حیث اشترط کون الأحجار أبکاراً ، مضافاً إلی ضرورة کون الحجر المستعمل صغیراً، فشمول إطلاقات الاستنجاء لمثلها مشکل .

هذا، ولکن الانصاف عدم تمامیّة ذلک، لأنّ المستعمل بمفهومه الوسیع غیر


1- وسائل الشیعة: الباب 4، أحکام الخلوة، الحدیث 30.

ص:171

متصوّر قطعاً، یعنی لو استعمل فی أیّ عمل وأیّ شیء، فلابدّ من تخصیصه إلی ما یناسب المقام، بحسب مناسبة الحکم للموضوع، فحینئذٍ ما یقرب إلی الذهن _ کما علیه بعض المتأخّرین ، بل قد صرّحوا به _ کون المراد من المستعملیّة هو استعماله فی نفس الاستنجاء، غایته أنّه یستفاد من الإطلاق شموله حتّی لما استعمله الغیر فی الاستنجاء، سواء کان للانقاء أو لتکمیل العدد ، مع أنّ الإلتزام بهذا المقدار من السعة مشکل أیضاً، فیما إذا کان المستعمل کذلک قد غسل بالماء بعد ذلک، أو لم یکن حجره منفعلاً ومتلوّثاً بواسطة الاستنجاء، لأنّ العرف لا یفهم من ذلک إلاّ هذا ، مع أنّ إثبات الحکم لغیر ما هو المتأثر من النجاسة فی غایة الإشکال، لأنّ الدلیل الذی هو أشبه بالتصریح لیس إلاّ المرسلة، فهی مضافاً إلی ضعف سنده بالإرسال والرفع فإنّها غیر منجبرة بعمل الأصحاب ولو بالإشارة إلیها، مع أنّ البکریّة یحتمل أن یکون المقصود منه نظیر البکر المستعمل فی حجر رمی الجمار فی الحجّ حیث اشترط فیه أن لا یکون نجساً بنجاسة الاستنجاء أو مطلق الاستنجاء أو مطلق النجاسة فی أبعد الاحتمالات، فلا یشمل ما کان مستعملاً فی تکمیل العدد لا للإزالة أو لغیرها، کما لا یشمل لمثل المستعمل فی رفع الحدث ، مع أنّ الخبر مشتمل علی أمر استحبابی مثل متابعة الماء للأحجار، فلا یبعد أن یکون هذا الشرط أیضاً من هذا القبیل .

ودعوی عدم شمول الإطلاقات لمثل المستعمل الذی لم یتأثّر ولم ینفعل، ممنوعة جدّاً ، فالقول بالجواز مطلقاً للمستعمل، إلاّ فی خصوص المستعمل للإزالة التی استلزمت انفعاله _ ولو بالاستنجاء للغیر _ ولم یقدم علی غسله بعد الاستعمال بعدُ، بخلاف ما لو غُسل فإنّه لا یخلو عن قوّة کما علیه صریح کلام المحقّق فی المعتبر بل نسبته إلی الکلّ بکونه هذا هو المقصود کما علیه صریح کلام المتأخّرین والمعاصرین من اشتراط الطهارة فی الحجر فقط دون البکارة، وإن کان الأحوط ترک استعماله إذا کان مستعملاً فی الاستنجاء بأیّ وجه اتّفق،

کما لا یخفی .

ص:172

مع أنّه لو کان ذلک لازماً حقیقةً، للزم أن یهتمّ بذلک الأئمّة علیهم السلام بالتذکّر وأن یؤکّدوا علی ذلک ویشدّدوا النکیر علی مخالفته، خصوصاً مع ملاحظة دعوی الإجماع علی الجواز من أکثر المتأخّرین، وإن شئت فراجع الکتب المطوّلة فی هذا الباب .

فإذا عرفت ممّا ذکرنا من عدم جواز استعمال ما هو المتنجّس بالاستنجاء، فعدم جواز ذلک بالأعیان النجسة یکون بطریق أولی، کما هو موافق لکلام العلاّمة فی «المنتهی» و«التحریر» و«الغنیة»، وادّعی علیه الإجماع، خصوصاً إذا قلنا بإمکان تأثّر المحلّ بالنجاسة الخارجیّة .

ثمّ إن فعل ذلک وتأثّر المحلّ بتلک النجاسة فإنّه یوجب غَسله بالماء، ولا یکفی فیه الأحجار، بلا فرق فی ذلک بین کون النجس الذی استنجی به کان غائطاً أو غیره، لأنّه یصدق علیه أنّه نجاسة خارجة عن نجاسة الاستنجاء، کما لا یخفی .

وأمّا العَظْم والروث الطاهرین، فقد ادّعی الإجماع علی عدم جواز استعمالهما بهما، کما صرّح به فی «المعتبر» و«المنتهی» و«الغنیة» و«الروض»، خلافاً للعلاّمة فی «التذکرة» من الحکم بالکراهة، وکذا صاحب «الوسائل» ، إلاّ أنّ صاحب «الجواهر» والشیخ الأعظم قدس سره والسیّد فی «العروة» وجمیع المحشّین _ إلاّ الگلپایگانی _ من الإشکال فی حرمته، والخمینی بالاحتیاط الوجوبی فی الترک .

ولعلّ الوجه فی الحکم بالحرمة، هو الإجماع مطلقاً، کما فی «مصباح الفقیه»، وهو الأقوی عندنا ، فلذلک کان الحکم بالاحتیاط أولی، لو لم نقل بالحرمة، وذلک من جهة شدّة دلالة بعض الأخبار الضعیفة المنجبرة بواسطة الشهرة والإجماع وعمل الأصحاب، کما هو المتّبع فی مثل هذه الأخبار، والخبر الذی یؤکّد علیه، هو ما رواه أبی داود عن النبیّ صلی الله علیه و آله أنّه قال لرویفعة بنت ثابت: «أخبری الناس أنّه

ص:173

من استنجی برجیع، أو عظم، فهو بریء من محمّد صلی الله علیه و آله »(1).

حیث أنّ البراءة لا تناسب مع الحکم بالکراهة.

وکذلک الخبر المنقول فی «دعائم الإسلام»: «نهوا علیهم السلام عن الاستنجاء بالعظام والبعر وکلّ طعام ، إلاّ أنّ المروی عنه غیر معلوم»(2) .

والخبر المنقول فی «مجالس» الصدوق: «أنّ النبیّ صلی الله علیه و آله نهی أن یستنجی بالروث والرمة أی العظم البالی»(3) .

حیث إنّ ظاهر النهی هو الحرمة .

والخبر الذی رواه الدارقطنی: «أنّ النبیّ صلی الله علیه و آله نهی أن یستنجی بروث أو عظم وقال : إنّهما لا یطهّران»(4) .

والخبر المنقول عن سلمان ؛ قال : «أمرنا رسول اللّه صلی الله علیه و آله أن نستنجی بثلاثة أحجار ولیس فیها رجیع ولا عظم»(5) .

نعم بعض الأخبار یشتمل علی ما یظهر منه الکراهة، مثل التعلیل الموجود فی الخبر المروی فی «کنز العمّال» عن النبیّ صلی الله علیه و آله أنّه قال : «لا تستنجوا بالروث، ولا بالعظام، فإنّه زاد إخوانکم من الجنّ»(6) .

وخبر لیث المرادی ، عن الصادق علیه السلام : «سألته عن استنجاء الرجل بالعظم أو البعر أو العود ؟ فقال : أمّا العظم والروث فطعام الجنّ وذلک ممّا اشترطوا علی


1- سنن البیهقی: 1 / 100.
2- مستدرک الوسائل: الباب 26 أحکام الخلوة / 1.
3- وسائل الشیعة: الباب 5، أحکام الخلوة، الحدیث 35.
4- المنتقی لابن تیمیّة: 1 / 840.
5- سنن ابن ماجة: ج1 / باب الاستنجاء بالحجارة.
6- کنز العمّال: 5 / 85.

ص:174

رسول اللّه صلی الله علیه و آله فقال : لا یصلح بشیء من ذلک»(1) .

وعن «الفقیه» أنّه قال : «لا یجوز الاستنجاء بالروث والعظم، لأنّ وفد الجانّ

جاءوا إلی رسول اللّه صلی الله علیه و آله فقالوا : یارسول اللّه متّعنا فأعطاهم الروث والعظم، فلذلک لا ینبغی أن یستنجی بهما»(2).

مضافاً إلی کلمة (لا ینبغی) و(لا یصلح) الظاهرتان فی الکراهة .

وکیف کان، فقد عرفت أنّ الأحوط _ لو لم نقل الأقوی _ هو الحکم بالحرمة، فإثبات التطهیر بهما حینئذٍ مشکل، خاصةً إذا لاحظنا بالنهی المذکور، لأنّ الأصل الأوّلی هو عدم التطهیر، إلاّ ما خرج بالدلیل، فإذا لم یشمل مثلهما، فیدخل تحت عموم الحکم ، مضافاً إلی ما عرفت من صراحة الخبر الذی رواه الدارقطنی بأنّهما لا یطهّران ، فالحکم بعدم حصول التطهیر بهما _ کما فی «العروة» بل علیه أکثر المتأخّرین _ هو الأقوی، واللّه العالم .

والظاهر عدم الفرق فی عدم الجواز والاجتزاء بالعظم بین المأکول وغیره، لإطلاق الأدلّة ، واحتمال کون أحکام الجنّ مثل الإنس، وإنّما هو المحرّم علینا محرّم علیهم فی غیر محلّه، لأنّه أوّلاً : لم یحرز الوحدة .

وثانیاً : إنّ الأکل لهم لیس إلاّ عن طریق الشمّ والاستشمام ظاهراً، فلا یصدق علیه الأکل عرفاً، وحیث لم یعمل به الأصحاب، ولم یحکموا بالمنع، فلا وجه للحکم بالحرمة .

کما أنّ إثبات حرمة التنجیس لمثل العظم مطلقاً _ ولو من غیر طریق الاستنجاء _ بواسطة التعلیل بأنّه من طعام الجنّ مشکل جدّاً، ولذلک لم یفت علی وفقه أحد .


1- وسائل الشیعة: الباب 1، أحکام الخلوة، الحدیث 35.
2- وسائل الشیعة: الباب 4، أحکام الخلوة، الحدیث 34.

ص:175

کما أنّ الظاهر هو عدم الفرق فی ذلک بین الروث والرجیع والبعر، أی سواء کان الفضلة لذات الحافر من الخیل والبغال والحمیر ونحوها، أو لذات الظلف والخف مثل الشاة والمعز والبقر، لأنّه یصدق الجمیع واحد ویطلق علیه أحیاناً بالروث .

مضافاً إلی وجود الرجیع بخصوصه فی بعض الأخبار، مثل ما روی من سلمان رحمه الله ، کما أنّ إعراض الإمام علیه السلام فی خبر لیث المرادی فی الجواب عن البعر إلی الروث، لعلّه من جهة ما ذکرنا من عدم الخصوصیّة لمثل هذا الاسم بکونه بعراً ، بل هو متّحد مع الروث من حیث الحکم، لأنّهما یعدّان من سنخٍ واحد من جهة الحکم فی هذه المسألة. فالحکم بالتفصیل _ کما عن صاحب «الجواهر» مشکل جدّاً، کما وافقنا فیما ادّعیناه الآملی فی «مصباحه» .

وأمّا المطعوم، فلا إشکال فی حرمته ، امّا من جهة دلیل خاص قائم علیه کالإجماع المحصّل، ولو کان یفهم ذلک بمقتضی بعض ما یشمله بنحو العموم، کما فی بعض الفتاوی، حیث لم یتعرّضوا لخصوصه، إلاّ أنّه مستفاد من کلامهم من جهات أُخری مثل قولهم بلزوم رعایة حرمة الأطعمة، أو المنقول کما عن ظاهر «الغنیة» و«الروض»، بل فی «المنتهی» نسبته إلی علمائنا .

أو الأخبار الدالّة علی ذلک بالخصوص، أو لاشتمالها ما یستفاد منه حرمته أیضاً .

فالأوّل: کما فی الخبر المنقول عن «دعائم الإسلام» بقوله : «نهوا علیهم السلام عن الاستنجاء (بالعظام والبعر وکلّ طعام» .

والثانی : هو المستفاد بنحو الأولویّة من التعلیل الوارد فی العظم والروث بأنّهما من طعام الجنّ، ففی طعام الإنس یکون بطریق أولی .

بل قد یمکن استفادة المنع من الأخبار الواردة فی أهل الثرثار (اسم نهر من الأنهار) الذین کانوا یستنجون أطفالهم وصبیانهم بالخبز فحبس اللّه عنهم ذلک

ص:176

وابتلاهم بأکل ما کانوا یستنجون به. کما یدلّ علیه ما رواه عمرو بن شمر، قال : «سمعت أبا عبداللّه علیه السلام یقول فی حدیث : إنّ قوماً افرغت علیهم النعمة، وهم أهل الثرثار، فعمدوا إلی مخّ الحنطة فجعلوه خبزاً هجاء، وجعلوا ینجون به صبیانهم، حتّی اجتمع من ذلک جبلٌ عظیم.

قال : فمرّ بهم رجل صالح علی امرأة وهی تفعل ذلک بصبیّ لها، فقال : ویحکم

اتّقوا اللّه عزّوجلّ، لا تغیّروا ما بکم من نعمة ، فقالت : کأنّک تخوّفنا بالجوع، أما ما دام ثرثارنا یجری فإنّا لا نخاف الجوع ، قال : فاسف اللّه عزّوجلّ وأضعف لهم الثرثار، وحبس عنهم قَطْر السماء ونبت الأرض ، قال : فاحتاجوا إلی ذلک الجبل، فإنّه کان لیقسّم بینهم بالمیزان» .

وغیر ذلک من الأخبار الواردة ذیل قوله تعالی : «ضَرَبَ اللّه ُ مَثَلاً قَرْیَةً کَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً یَأْتِیهَا رِزْقُهَا رَغَدا مِنْ کُلِّ مَکَانٍ فَکَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللّه ِ فَأَذَاقَهَا اللّه ُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا کَانُوا یَصْنَعُونَ» .

بل قد یستفاد من الأخبار الواردة فی لزوم إکرام الخبز والحنطة والشعیر الوارد فی کتاب الأطعمة والأشربة الباب 76 الحدیث من «وسائل الشیعة».

إلاّ أنّ هذه الأدلّة تدلّ علی ما هو أعمّ منه، فهی تفید لزوم رعایة المطعوم وأنه یجب تکریمه وتعظیمه ولا یجوز أن یفعل معه ما یوجب التهتّک والإهانة، وأیّ إهانة لدی العرف أعظم من الاستنجاء، بل قد یعدّ مع القصد مساوقاً للکفر، کما ورد نظیر ذلک فی حقّ الکعبة، حیث رُوی فی «الروائع» عن الأئمة علیهم السلام أنّ من أحدث حدثاً فی الکعبة یعدّ کافراً ویستحق القتل(1).


1- الروائع الفقهیة: ص430.

ص:177

فعلی هذا، یمکن تعمیم حکم عدم جواز الاستنجاء لکلّ شیء یجب احترامه، کتراب الأراضی والبقع المقدسة وتراب قبور الشهداء والعلماء، بل کذلک التراب المجتمع علی کتب الفقه والحدیث، بل کلّ ما فیه اسم الأنبیاء والأولیاء، بل عن صاحب «الجواهر» أنه لا حاجة لإقامة الدلیل علی کلّ واحد منها مستقلاًّ، لأنّ الفقیه الممارس فی أبواب الفقه یفهم تمام ذلک من الأدّلة، ومنها تکون الأطعمة کما لا یخفی.

والظاهر أنّ الطعام لیس المراد خصوص الحنطة والشعیر، الذی یطلق علیه

الطعام فی باب زکاة الفطرة، لأنّ مناسبة الحکم والموضوعیقتضی تعمیم الحکم لکلّ ما یصیر طعاماً، ومحترماً عند العرف، وإن لم یردع عنه الشرع بخصوصه، فإخراج مثل البقول المأکولة واللحوم والفکوه والخضروات عن الطعام، ولأنّها لیست من القوت بحسب العادة _ کما عن صاحب «الروائع» _ فی غایة الإشکال، لأنّه: أوّلاً: بعضها یصدق علیه القوت والطعام عرفاً.

وثانیاً: قد عرفت عدم استبعاد تعمیمهم الحکم هنا لمطلق ما کان من هذا القبیل، لا سیّما إذا قلنا بلزوم الحرمة لکلّ ما یصدق علیه الاحترام عرفاً، فلا فرق حینئذٍ بین ما یصدق علیه الطعام عرفاً أم لا.

بقی هنا أمر آخر، وهو أنّه إذا کان الاستنجاء بالطعام _ بل کلّ ما یستلزم احترامه من المأکولات _ حراماً فهل هذا الحکم یعدّ حکماً تکلیفیّاً فقط، فلو استنجی به جهلاً أو نسیاناً أو معتمّداً مع علمه بالحرمة حصل به الطهارة، وإن کان قد فعل حراماً، أو لا یحصل بذلک الطهارة؟

وقد فصّل صاحب «الجواهر» فیما إذا کان النهی متوجّهاً إلی نفس الاستنجاء بذلک _ کالعظم والروث _ فلا یحصل الطهارة به، بخلاف ما لم یکن کذلک _ کالأطعمة المحترمة _ حیث یکون حالها حال الحجر المغصوب من جهة أنّه لو استعمله یکون قد فعل حراماً إذ النهی لم یتعلّق بخصوص الاستنجاء حتّی یوجب الفساد .

ص:178

ولکن الإنصاف أن یقال : لا إشکال فی أنّ الحکم الأوّلی فی تطهیر موضع النجاسة لم یکن إلاّ الماء، فتطهیره بواسطة الأحجار أو غیرها یکون خلافاً للقاعدة ، فإن أثبتنا من الأدلّة السابقة إمکان الاستنجاء والتطهیر بکلّ جسم طاهر قالع للنجاسة حیث یکون عمومه شاملاً للمحرّمات أیضاً فنسبة هذا الدلیل مع أدلّة حرمة الهتک والإهانة بها _ ومنها الاستنجاء _ یکون علی نحو العموم والخصوص من وجه، لأنّ کلّ جسم قالع طاهر لایستلزم بالضرورة أن یکون ممّا

یوجب احترامه، ومن جهة اُخری کلّ أفراد المحترم لا یکون جسماً قالعاً، فیتجمع کلاهما فی المحترم القالع کما هو الغالب .

فلا إشکال حینئذٍ بأن یکون دلیل إمکان التطهیر بکلّ جسم قد خَصّص الحکم الأوّلی، وأثبت إمکان التطهیر به ولو کان محترماً، غایة الأمر أنّه قد ثبت من دلیل خارج بأنّ المحترم یحرم هتکه وهذا لا یوجب رفع الید عن مقتضی دلیل: کلّ جسم قالع مطهّر، فتکون النتیجة هی أنّه لو استعمل المحترم فی التطهیر تکون الطهارة حاصلة وبرغم ذلک یکون قد فعل الحرام فلا یقاس ما نحن فیه بمثل العظم والروث، لأنّ الشارع قد نهی عن خصوص الاستنجاء بهما، فهو دلیل خاص یخصّص دلیل کلّ جسم طاهر، فیدخل الاستنجاء بهما فی العمومات الأوّلیة الدالّة علی المنع .

نعم ، یأتی هذا الکلام فی الطعام وکلّ محرّم أیضاً، لو أثبتنا من الأدلّة المنع بالاستنجاء بهما بالخصوص، کما فی خبر «دعائم الإسلام» وقلنا باعتباره، فیصحّ القول فیهما کما قیل فی العظم والروث، إلاّ أنّه محلّ إشکال، لأنّه لو ثبت لا یثبت إلاّ فی خصوص الطعام، لا کلّ محترم .

فظهر من جمیع ما ذکرنا أنّ التفصیل الذی ذکره صاحب «الجواهر»، هو الأولی، مع الاختلاف فی طریق الإثبات والاستدلال.

والحاصل : أنّ القول بأنّ الطهارة بذلک حاصلة، وبرغم أنّه قد فعل حراماً _ لو

ص:179

قصده متعمّداً_ کان أقوی، خصوصاً إذا کان صدور العمل منه جهلاً أو غفلة ونسیاناً حیث لا یکون حینئذٍ حراماً أصلاً، فلا مقتضی للقول بعدم حصول الطهارة.

هذا بخلاف ما لو کان نفس الاستنجاء بالخصوص منهیّاً عنه _ کما فی العظم والروث _ حیث لا یبعد القول بعدم حصول الاستنجاء ولو جهلاً وغفلة، لکنّه مشکل بعد إثبات کون کلّ جسم طاهر قالع یزیل النجاسة، کما لا یخفی، فلا یبعد القول بحصول الطهارة فی کلّ منها حتّی فی العظم والروث مع النسیان، وما لا

یکون النهی عنه فی حقّه منجّزاً، بخلاف ما لو کان فی غیره من العمد والجهل التقصیری، فإنّه لا یحصل الطهارة بالعظم والروث وما شابههما، ممّا قد تعلّق النهی بخصوص استنجائه مع العلم وما قام مقامه، بخلاف ما لا یکون النهی متوجّهاً إلی خصوص الاستنجاء، بحیث یحصل الطهارة به حتّی مع العلم وما شابهه ، واللّه هو العالم بحقائق الاُمور .

بقی هنا من کلام الماتن ما ذکره عن الصیقل الذی یزلق عن النجاسة، نظیر الزجاجة والحدید والصفیح، حیث أنّ الکلام فیه واضح من جهة موضوعه إذ النهی فیه إرشادی، ویفید أنّه لا تستنجح به إذ لا یقلع النجاسة، وإلاّ فلا إشکال فی تطهیره بواسطة عموم دلیل کلّ جسم طاهر قالع مطهّر لموضع النجو علی أنّه لم یرد فی حقّه دلیلاً خاصّاً حتّی نتعرّضه، فصرف الکلام عنه أجدر .

بقی هنا مطلب آخر لا بأس بذکره لکونه فذلکة لمبحث الاستنجاء وهو: قد عرفت من تضاعیف کلماتنا بأنّ تطهیر موضع الغائط بالأحجار وأمثالها، إنّما یکون فیما إذا لم یصبه نجاسة خارجیّة، وإلاّ فلا یطهّره إلاّ الماء ، فحینئذٍ یأتی الکلام فی الکافر الذی أسلم، وکان یستنجی فی حال کفره بغیر الماء، فهل یجب علیه بعد إسلامه أن یستنجی بالماء _ لإصابة غائطه بدنه الذی کان نجساً ذاتاً فأصابت الغائط نجاسة خارجیّة فلا یطهره إلاّ الماء _ أم یکفی الاستنجاء السابق لأنّ الإسلام یجبّ عمّا سبقه مثلاً؟

ص:180

أو یقال بما أنّ تطهیره کان موافقاً لتطهیر المسلمین _ من الأحجار وما یجوز به وکان مطابقاً لما کان یفعله المسلمون، فلا یحتاج بعد إسلامه إلی تطهیره ثانیاً ؟ وإلاّ یلزم _ کما لو تطهّر بما یجب احترامه _ أن یعید تطهیر نفسه بالماء؟

ففی «الجواهر»: قد فصّل بین ما کان تطهیره علی طریقة المسلمین، فلا یحتاج إلی الإعادة وإلاّ فیعید ، کما أنّ صاحب «الروائع» قد فصّل بین ما قلنا بالتأثیر، فلا إشکال فی أنّه إذا أثّرت هذه النجاسة الحاصلة من قبل إصابة الغائط

ببدنه _ ولو کان بنفسه نجساً ذاتاً _ فلا إشکال فی حصول الطهارة بالاستنجاء بالماء أو بالأحجار، فلا وجه للحکم بالإعادة بعد الإسلام، وجعل هذا القسم من وجوه الکلام، وإن لم نقل بالتأثیر، لکونه نجس العین، فلا وجه لتوهّم وجوب التطهیر بالاستنجاء، لا فی حال الکفر ولا بعد إسلامه.

هذا، ولکن الذی یخطر بالبال هنا _ واللّه العالم بحقیقة الحال _ هو أن یقال إنّه تارةً: یفرض فی الکافر بأنّ نجاسته کانت حُکمیة _ أی لحکمة اجتناب المسلمین عنهم وعدم الاختلاط بهم والمعاشرة معهم، لا أن یقول بنجاستهم العینیّة کالکلب والخنزیر _ فعلیه کان حکم بدنه من حیث الهیئة والنجاسة المتعارفة کسائر الناس، کما اختاره بعض الفقهاء، فلا إشکال حینئذٍ أن یکون حکمه کحکم المسلم، فی لزوم الاستنجاء فلا یحتاج إلی إعادته بعد الإسلام، هذا تمام الکلام فی هذا المقام.

وأُخری: یفرض نجاسته عینیّةً کالکلب والخنزیر، فلا إشکال حینئذٍ فی نجاسته، فإذا قلنا بأنّهم مکلّفون بالفروع کما هم مکلّفون بالاُصول، فلا إشکال حینئذٍ من أنّ علیهم وجوب التطهیر بالماء أو الأحجار وغیرهما کالمسلمین، إلاّ أنّ التطهیر لا أثر لها فی حقّهم، لأنّ المفروض نجاسة أبدانهم ، لا یقال: فما لا أثر له فلا تأثیر لوجوبه ، لأنّا نقول : الوجوب منجّز فی حقّهم، لقدرتهم علی تحصیله باختیار الإسلام .

ص:181

إذا عرفت ذلک، إذا أسلم لابدّ من تطهیر بدنه بالماء ، ومن جملة بدنه مخرج الغائط، ولا فرق فی ذلک بین أن یطهّره قبله بالأحجار أو بالماء، لأنّ المفروض نجاسة بدنه بالکفر، ومن ثمَّ تماس بدنه مع الرطوبة المائیة أو العرق یوجبان نجاسته قطعاً.

ثمّ انّ هذا الفرع قد تثمر فی موارد قلیلة نادرة، کأن یکون الشخص مسلماً، ثمّ یرتدّ ویصیر کافراً، ولم یمسّ بدنه الماء والعرق، فاحتاج إلی أن یقضی حاجته

وعند ذاک أسلم قبل الاستنجاء أو بعد الاستنجاء ، فحینئذٍ یأتی البحث فی أنّ استنجائه حال الکفر أو تغوّطه حاله، وتماسّ غائطه مع بدنه مع الرطوبة هل تطهّره الأحجار، أم لابدّ من استعمال الماء؟

فلا یبعد القول بلزوم تطهیره بالماء، لأنّه موافق للاحتیاط، وشمول أدلّة التطهیر بالأحجار لمثل هذا المورد النادر بعید جدّاً ، مضافاً إلی جریان استصحاب بقاء النجاسة ، فالأحوط لو لم یکن أقوی، وجوب تطهیره بالماء بعد الإسلام، سواء تطهّر فی حال کفره بالماء أو بالأحجار أو غیرهما ممّا یجوز للمسلم أن یتطهّر، أو ممّا لا یجوز من المحترمات، وسواء کان قد تغوّط فی حال الکفر وأراد الاستنجاء بعد الإسلام أو غیره ، أم لا.

ص:182

«فی آداب الخلوة وسننها»

اشارة

قوله قدس سره : الثالث فی سنن الخلوة: وهی مندوبات، ومکروهات :

فالمندوبات: تغطیة الرأس(1)

(1) والحکم باستحبابها مسلّم بین الفقهاا بل علیه الإجماع کما ادّعاه فی المعتبر والذکری بل عن الفقیه قد علّل ذلک بأنّه إقرار بأنّه غیر مبرئ نفسه من العیوب : وبعبارة أُخری هذا العمل نوع استحیاء من اللّه حیث أنعم اللّه علیه نعمة طاهرة وهو یدفعها نجسة کما یشیر إلی ما قلناه فی الجملة ما فی المقنعة(1) قال علی ما فی الجواهر : إنّه سنّة من سنن النبیّ صلی الله علیه و آله ولیأمن بذلک من عبث الشیطان ومن وصول الرائحة الخبثیة إلی دماغه وفیه إظهار الحیاء من اللّه تعالی لکثرة نعمه علی العبد وقلّة الشکر منه .

فی آداب الخلوة و سننها / تغطیة الرأس

وما فی خبر علی بن أسباط أو رجل عنه(2) عمّن رواه عن أبی عبداللّه علیه السلام أنّه (کان یعمله) إذا دخل الکنیف یقنع رأسه ویقول سرّاً فی نفسه : بسم اللّه وباللّه الحدیث ، وما رواه أبی ذر(3) عن رسول اللّه صلی الله علیه و آله فی وصیّته قال : یا أبا ذرّ استحیی من اللّه فإنّی والذی نفسی بیده لأظلّ حین أذهب إلی الغائط متنقنّعاً بثوبی استحیاءً من الملکین الذین معی ، یا أبا ذرّ أتحبّ أن تدخل الجنّة ؟ فقلت : نعم فداک أبی واُمّی قال : اقصر الأمل واجعل الموت نصب عینیک واستحیی من

اللّه حقّ الحیاء .

ولا یخفی أنّ المستفاد من هذه الأخبار هو التقنّع لا التغطیة لأخصّیة الأوّل


1- وسائل الشیعة: الباب 1، أبواب الخلوة، الحدیث 1 و 2 و 3 .
2- وسائل الشیعة: الباب 1، أبواب الخلوة، الحدیث 1 و 2 و 3 .
3- وسائل الشیعة: الباب 1، أبواب الخلوة، الحدیث 1 و 2 و 3 .

ص:183

علی الثانی علی الثانیة واستحباب الأوّل مسلّم بواسطة الأخبار .

وأمّا الثانیة فلم یقع إلاّ فی خبر دعائم الإسلام(1) ورووا أی أهل البیت أنّ رسول اللّه صلی الله علیه و آله کان إذا دخل الخلاء تقنّع وغطّی رأسه ولم یره أحد .

وما فی الجعفریات(2) أخبرنا محمّد حدّثنی موسی حدّثنا أبی عن أبیه عن جدّه جعفر بن محمّد علیه السلام عن أبیه عن آبائه عن علیّ علیه السلام أنّ رسول اللّه صلی الله علیه و آله کان إذا أراد أن یتنخّع وبین یدیه الناس غطّا رأسه ثمّ دفنه وإذا أراد أن یبزق فعل مثل ذلک وکان إذا أراد الکنیف غطّا رأسه .

وما عن الصدوق(3) فی «المقنع»: إذا أراد دخول الخلاء فقنّع رأسک(4).

یؤیّد استحباب التقنّع کما فی السابق، فلا بأس بالقول باستحباب التغطیة أیضاً، إن کان لم یقنّع، کما هو ظاهر جماعة، من جهة دلالة تلک الأخبار، وذلک من باب التسامح فی أدلّة السنن، واحتمال أن تکون التغطیة من قصاص الشعر فی الرقبة، فتکون متّحداً مع التقنّع بعید .

وبالجملة، فالقول باستحبابهما لا یخلو عن قوّة ، وأمّا کون مکشوف الرأس مکروهاً ، فغیر تام، لأنّه مضافاً إلی أنّ ترک المستحبّ لا یستلزم الکراهة، أنّه یحصل رفعها بتغطیته بعض الرأس، بخلاف استحباب التغطیة، حیث لا یحصل إلاّ بستر الجمیع، کما لایخفی .

ومن المندوبات التی لم یذکرها المصنّف، هو أن یطلب موضعاً مرتفعاً للبول،

أو مکاناً رخوة أو منخفضاً، ویتباعد کثیراً عن الناس حتّی لا یُری علی ذلک، لما ورد فی أحادیث متعدّدة دالّة علی ممدوحیّة ذلک، مثل ما رواه الصدوق عن


1- المستدرک ج1 الباب 3 أبواب أحکام الخلوة الحدیث 1 .
2- المستدرک ج1 الباب 3 أبواب أحکام الخلوة الحدیث 2 و 3 .
3- المستدرک ج1 الباب 3 أبواب أحکام الخلوة الحدیث 2 و 3 .
4- المستدرک: الباب 3 أحکام الخلوة ، ح 3.

ص:184

حمّاد بن عیسی عن أبی عبداللّه علیه السلام قال : «قال لقمان لابنه : إذا سافرت مع قوم، فاکثر استشارتهم ....

إلی أن قال : وإذا أردت قضاء حاجتک فابعد المذهب فی الأرض»(1) .

وما رواه الطبرسی عن الصادق علیه السلام قال : «ما أُوتی لقمان الحکمة.... إلی أن قال : ولم یره أحد من الناس علی بول ولا غائط قطّ، ولا اغتسال، لشدّة تستّره وتحفّظه فی أمره ... إلی أن قال : فلذلک أوتی الحکمة ومنح القضیة»(2) .

وما رواه الشهید الثانی مرسلاً فی «شرح النفلیة» عن النبیّ صلی الله علیه و آله : «أنّه لم یرَ علی بول ولا غائط»(3).

وخبره الآخر قال : وقال علیه السلام : «من أتی الغائط فلیستتر»(4) .

وما رواه علی بن عیسی الإربلی عن جندب عبداللّه فی حدیث، قال : «نزلنا النهروان فبرزت عن الصفوف، ورکزت رمحی، ووضعت ترسی إلیه، واستترت من الشمس، فإنّی لجالس إذ ورد علیّ أمیر المؤمنین علیه السلام ، فقال : یا أخا الأزد معک طهور ؟ قلت : نعم ، فناولته الأداوة، فمضی حتّی لم أره، وأقبل وقد تطهّر فجلس فی ظلّ الترس»(5) .

وقد ظهر من جمیع ذلک کون التستّر مطلوباً ومستحبّاً، ولا یحصل ذلک بستر البدن بالعباءة، بل لابدّ من الدخول فی موضعٍ لا یراه الناس من بناء کالمبرز، أو الولوج فی حفیرة، أو التباعد من الناس، بحیث لا یری شبحه، کما عرفت فی خبر

لقمان فی وصیّته لابنه .


1- وسائل الشیعة: الباب 4، أبواب أحکام الخلوة ، الحدیث 1.
2- وسائل الشیعة: الباب 4، أبواب أحکام الخلوة ، الحدیث 1 .
3- وسائل الشیعة: الباب 4، أبواب أحکام الخلوة ، الحدیث 2 .
4- وسائل الشیعة: الباب 4، أبواب أحکام الخلوة ، الحدیث 3 .
5- وسائل الشیعة: الباب 4، أبواب أحکام الخلوة، الحدیث 4 .

ص:185

وأمّا استحباب مطالبة مکان المرتفع للبول، أو الرخوة ولو منخفضاً _ مضافاً إلی أنّه إذا اختار المکان المرتفع فإنّ ارتفاعه عن مصبّ البول یحفظه عن رشة البول ونضحه، وهکذا إذا کانت الأرض رخوة بکثرة التراب _ یمکن الاستدلال علی استحبابه _ مع ملاحظة التسامح فی أدلّة السنن _ إجماع المدّعی عن «الغنیة»، بل أنّه المشهور بحدیث السکونی عن الصادق علیه السلام قال : «قال رسول اللّه صلی الله علیه و آله : من فقه الرجل أن یرتاد موضعاً لبوله»(1) .

وفی «مجمع البحرین» فی مادّة (رود) ذکر هذا الحدیث، ففسّره بأن یطلب الموضع السهل اللیّن، وذلک لئلا یرجع علیه رشاش البول .

وما رواه عبداللّه بن مسکان عن الصادق علیه السلام قال : «کان رسول اللّه صلی الله علیه و آله أشدّ الناس توقّیاً للبول، کان إذا أراد البول یعمد إلی مکان مرتفع من الأرض، أو إلی مکان من الأمکنة یکون فیه التراب الکثیر، کراهیة أن ینضح علیه البول»(2) .

وما رواه سلیمان الجعفری عن الرضا علیه السلام قال : «بتّ معه فی سفح جبل، فلمّا کان آخر اللیل قام فتنجّی، وصار علی موضع مرتفع، فبال وتوضّأ، وقال : من فقه الرجل أن یرتاد لموضع بوله، وبسط سراویله، وقام علیه وصلّی صلاة اللیل»(3) .

فیظهر من جمیع ذلک استحبابه، کما هو الأظهر، وإن کان المصنّف جعل البول فی الأرض الصلبة فی عداد المکروهات .

بل قد یمکن الاستظهار للکراهة من حدیث زرارة عن أبی جعفر علیه السلام ، قال : «لا تستحقرنّ بالبول ولا تتهاوننّ به»(4) الحدیث.


1- وسائل الشیعة، الباب 22 أحکام الخلوة ، الحدیث 1 و 2 و 3 الباب 23 منها الحدیث 1 .
2- المصدر نفسه .
3- المصدر نفسه .
4- المصدر نفسه .

ص:186

والتسمیة(1)

وخبر حفص بن غیاث عن الصادق عن آبائه علیهم السلام عن رسول اللّه صلی الله علیه و آله ، فی حدیث، فیقال له : «ما بال الأبعد قد آذانا علی ما بنا من الأذی! هذه مقالة أهل النار»

فیقول : إنّ الأبعد کان لا یبالی أین أصاب البول من جسده»(2) الحدیث .

وما رواه زید بن علی عن أبیه عن جدّه عن علیّ بن أبی طالب علیه السلام ، قال : «عذاب القبر یکون من النمیمة، والبول، وعزب الرجل من أهله» . ومثله خبر أبی بصیر(3) .

وفی «الجواهر» قال بعد نقل الاستحباب فی الارتیاد عن بعض: والأولی الجمع بینهما للتسامح بکلّ منهما ؛ إلاّ أنّ ذلک غیر وجیه، لأنّهما واحد فی الحقیقة، فلا یکون مشتملاً للحکمین، والأظهر ما علیه المتأخّرین کالسیّد فی «العروة» وأصحاب التعالیق من کونه من المستحبّات .

فی آداب الخلوة و سننها / التسمیة

(4) وأمّا استحبابها ثابتٌ بالإجماع _ کما ادّعاه فی «المعتبر» _ وبما ورد من الأخبار مثل ما رواه علی بن أسباط عن الصادق علیه السلام : «أنّه کان إذا دخل الکنیف یقنّع رأسه ویقول سرّاً بسم اللّه وباللّه»(5) .

وما رواه معاویة بن عمّار عن الصادق علیه السلام ، قال : «سمعته یقول : إذا دخلت المخرج فقل : بسم اللّه اللّهمّ إنّی أعوذ بک من الخبیث....»(6) ، وغیر ذلک من الأخبار الواردة فی الباب 5 من أبواب أحکام الخلوة فی «الوسائل» .

ولا ینافی ما ذکرنا اشتمال بعضها من الدعاء، لإمکان القول باستحبابهما .


1- المصدر نفسه .
2- المصدر نفسه .
3- المصدر نفسه .
4- المصدر نفسه .
5- وسائل الشیعة: الباب 3، أحکام الخلوة، الحدیث 2 .
6- وسائل الشیعة: الباب 5، أحکام الخلوة، الحدیث 1.

ص:187

وأمّا القول باستحباب التسمیة عند الکشف عنها، أو استحباب مطلق ذکر اللّه عند دخول الخلاء بنحو الاستقلال، بأن یکون العامل بها فاعلاً لثلاث مستحبّات،

کما یظهر من «الجواهر»، حیث یستدلّ علی الأوّل بمرسلة الصدوق الواردة فیها : «وقال أبو جعفر الباقر علیه السلام : إذا انکشف أحدکم لبول أو لغیر ذلک، فلیقل بسم اللّه، فإنّ الشیطان یغضّ بصره عنه حتّی یفرغ»(1).

وللثانی بخبر أبی أسامة عن الصادق علیه السلام فی حدیث: «أنّه سُئل وهو عنده : ما السنّة فی دخول الخلاء ؟ قال : تذکر اللّه، وتتعوّذ باللّه من الشیطان الرجیم»(2) ، الحدیث.

وهو لا یخلو عن بُعد، لأنّ الظاهر کونها من الاستحباب بالتسمیة الحاصل بذلک، وإن کان بالنظر إلی وسعة رحمته تعالی إلی عباده غیر مستبعد، کما لا یخفی. واستحبابها مطلق فی الأبنیة وغیرها، کما یفهم ذلک من کلام المصنّف وجماعة، بل ومن بعض الأخبار .

«تقدیم الرِجل الیسری عند الدخول»

وقد نصّ علی استحبابه جماعة ، بل فی «المدارک» أنّه المشهور بین الأصحاب، وفی «الغنیة» الإجماع علیه کاستحباب تقدیم الیمنی عند الخروج والانصراف عکس المسجد، ولا دلیل علی ذلک من روایةٍ، إلاّ ما عرفت من بعض الأدلّة، فإن جرت علیها التسامح فی أدلّة السنن _ مثل ما یثبت بالفتاوی _ فهو ، وإلاّ فإنّه یصیب. والالتزام به أمر یساعده الاعتبار، کما یساعد ذلک لعدم اختصاصه بالبناء فقط ، بل لکلّ مکان یقضی فیه حاجته ولو فی البادیة، بأن یجعل حین دخوله آخر قدمه هو الیسری، والیمنی عند خروجه وانصرافه کما علیه العلاّمة فی «نهایة الأحکام»، وتبعه الشهید الثانی، ورجّحه صاحب


1- وسائل الشیعة: الباب 5، أحکام الخلوة، الحدیث 9.
2- الباب 5 منها الحدیث 10 .

ص:188

«الجواهر»، وإن کان المتبادر فی الذهن الأبنیة من جهة ظهور لفظ (الخلاء)، والتقدیم للرِجل عند الدخول .

«والاستبراء»

ظاهر إطلاق کلام المصنّف استحبابه مطلقاً، أی للرجال والنساء، کما صرّح بالإطلاق العلاّمة فی «المنتهی» وکذلک فی «النهایة»، ولکن الذی یستظهر من الأخبار فی بیان کیفیّته، مع تصریح بعض الفقهاء اختصاصه بالرجال، وتظهر الثمرة فی الرطوبة المشتبهة قبل الاستبراء، أو فیما ترکه، حیث یحمل علی کونه بولاً فی الرجال دون النساء، عملاً بمقتضی قاعدة الطهارة، واستصحاب الطهارة السابقة قبل خروجها فیها دون الرجال، بخلاف من عمّمه لها .

وکیف کان، فإن قلنا بالتعمیم بواسطة أدلّة التسامح، فإنّه لا نلتزم بالثمرة الحاصلة بینهما، أی الحکم بالطهارة فیها فی المشتبه، وإن کان الاحتیاط لا یخلو عن حسن .

وأمّا استحبابه فعلیه المشهور، وإن کان الشیخ فی «الاستبصار» وابن حمزة ذهبا إلی الوجوب عملاً بظاهر الأخبار، إذ ورود حکمه بصیغة الجملة الخبریة یکون أشدّ دلالة علی الوجوب من صیغة الأمر، إلاّ أنّ الظاهر کون الجملة فی مقام الإرشاد، کما یفهم ذلک من لسان بعض الأخبار، مثل ما رواه محمّد بن مسلم عن أبی جعفر علیه السلام : «قال : قلت له : رجل بال ولم یکن معه ماء؟ قال : یعصر أصل ذکره إلی طرفه ثلاث عصرات، وینتر طرفه، فإن خرج بعد ذلک شیء فلیس من البول، ولکنّه من الحبائل»(1) .

وصحیح حفص البختری، عن الصادق علیه السلام : «فی الرجل یبول قال : ینتره ثلاثاً فإن سال حتّی بلغ الساق فلا یبالی»(2) .


1- وسائل الشیعة: الباب 11، أحکام الخلوة، الحدیث 2 .
2- الاستبصار: الباب 28 / الحدیث 1 .

ص:189

حیث یفهم منهما کون الأمر إرشادیّاً، وإن کان بصورة الجملة الخبریة ، ثمّ إن قلنا باستحبابه فی النساء، کانت کیفیّته هو العصر عرضاً للفرج لا طولاً، کما صرّح بذلک بعض کالشهید، وکان ذلک للاستظهار من عدم وجود الرطوبة البولیة فی المجری، ولا یجری هنا قاعدة الاشتراک فی التکلیف، لتعدّد الموضوع من حیث

أصل الاستبراء کما عرفت ، فالأقوی عندنا هو استحبابه لا الوجوب، کما أنّ الأقوی اختصاصه بالرجال وإن کان القول به فی النساء من جهة التسامح فی الأدلّة لا یخلو عن بُعد، ولا نلتزم بالثمرة المترتّبة علیه کما عرفت، فلا نعید .

«والدعاء عند الاستنجاء، وعند الفراغ، وتقدیم الیمنی عند الخروج، والدُّعاءبعده»

واستحباب هذه المذکورات ثابتة، لما ورد فی الأخبار إلاّ فی تقدیم الیمنی حیث قد عرفت وجهه _ وإن شئت ملاحظة الأخبار الدالّة علیه فراجع الباب 5 من أحکام الخلوة فی «الوسائل»، مثل خبر معاویة بن عمّار، وأبی بصیر، وعبداللّه بن میمون، ومرسلات الصدوق(1) فلا نطیل بذکرها .

وقد أُضیف فی کتب المتأخّرین _ مثل «العروة الوثقی» إلی المستحبّات، التنحنح، وأن یتّکئ فی حال الجلوس علی رجله الیسری، ویفرّج رجله الیمنی، وأن یقدّم استنجاء الغائط علی استنجاء البول، وأن یجعل المسحات _ إن استنجی بها_ وتراً، فلو لم ینق بالثلاث فأتی بخامس، حتّی یحصل بالوتر، وأن یکون الاستبراء بیده الیسری، وأن یتفکّر ویعتبر فیما سعی واجتهد، وغیر ذلک، حیث لم یتعرّضها المصنّف ، إمّا من جهة عدم وجود دلیل من الأخبار علیه _ بل عدم وجود الشهرة مثل التنحنح، وکان داخلاً فی الاستبراء، وکالاتّکاء علی


1- وسائل الشیعة: الباب 5، أحکام الخلوة ، الحدیث 1 و 2 و 3 و 4 و 5 .

ص:190

«مکروهات التخلّی»

اشارة

والمکروهات: الجلوس فی الشوارع والمشارع(1)

الیسری _ إلاّ مرسلاً عن النبیّ صلی الله علیه و آله کما فی «الذکری» والعلاّمة فی «النهایة»، من أنّ رسول اللّه صلی الله علیه و آله علّم أصحابه ذلک .

وکیف کان، الالتزام باستحباب جمیع ذلک _ إن ذهب إلیه الفقهاء _ لا یوجب دخوله فی التسامح فی أدلّة السنن، وهذا أمرٌ واضح ممّا لا غرو فیه، وإلاّ فإنّ إقامة الدلیل الخاص فی بعضها من جهة الأخبار تعدّ فی غایة الإشکال ، هذا کلّه فی المستحبّات .

(1) فأمّا کراهیة البول والغائط فی الشوارع، والشارع هو: جمع الشارع أی الطرق النافذة والمشغولة بالمارّة، لا المتروکة المهجورة، لعدم استلزامها نفرة الناس ولعنهم لخروجها عن الاستفادة .

فی مکروهات التخلّی

کما أنّ الطرق الخاصّة، خارجة عن حکم الکراهة، لأنّها ملک لأربابها، فیحرم التخلّی فیها بدون إذن صاحبها .

وکیف کان، یدلّ علی کراهیّته عدم وجود خلاف إلاّ عن «الهدایة» و«المقنعة»، من احتمال الحرمة المستفاد من کلمة (لا یجوز) فی کلامهما، مع إمکان أن یکون مقصودهما هو الکراهة، کما هو الموافق للأصل، والإجماع المدّعی فی «الغنیة» باستحباب الاجتناب عنه فی الشوارع، حیث لا یناسب مع الحرمة، وإن کان الاستحباب کذلک غیر الکراهة فی الفعل، کما حقّقنا فرقهما فی محلّه .

یبقی ما یمکن استفادته ممّا رواه حسین بن زید عن الصادق علیه السلام عن أبیه عن

آبائه عن أمیر المؤمنین علیه السلام فی حدیث المناهی، قال : «نهی رسول اللّه صلی الله علیه و آله أن

ص:191

یبول أحد تحت شجرة مثمرة، أو علی قارعة الطریق»(1) الحدیث .

وما رواه الصدوق فی «الخصال» بالاسناد عن علیّ علیه السلام فی حدیث الأربعمائة: «قال : لاتبل علی المحجّة ولا تتغوّط علیها»(2) .

فإنّ ظاهر النهی والصیغة وإن کان هو الحرمة، إلاّ أنّ الإجماع والشهرة تکون قرینة علی التصرّف فی ظهورهما، لاسیّما مع کون هذه الاُمور من الآداب وشبهة علی بیان حِکَم الحکم فی بعض أخبارها، کما لا یخفی .

وما رواه عاصم بن حمید عن الصادق علیه السلام قال : «قال رجل لعلیّ بن الحسین علیهماالسلام : أین یتوضّأ الغرباء ؟ قال : یتّقی شطوط الأنهار والطرق النافذة»(3) الحدیث .

هذا کلّه بالنسبة إلی الشوارع .

وأمّا حکم المشارع، وهی جمع مشرعة، وهو مورد الماء، کشطوط الأنهار.

وفی «القاموس»: هو مورد الشاربة.

فالکراهة فیها أیضاً ثابتة، لما عرفت من عدم وجود خلاف فیها، إلاّ عن «الهدایة» و«المقنعة»، وقد عرفت وجه کلامهما ، مضافاً إلی الإجماع المدّعی عن «الغُنیة»، والشهرة المتحقّقة علیها، مع ما یدلّ علیها من الأخبار مثل ما رواه علیّ بن الحسین علیه السلام ، وقد کان فیه: «تتّقی شطوط الأنهار» .

وما رواه السکونی عن جعفر عن أبیه عن آبائه علیهم السلام ، قال : «نهی رسول اللّه صلی الله علیه و آله أن یتغوّط علی شفیر بئر ماء یستعذب منها، أو نهر یستعذب، أو تحت شجرة فیها ثمرتها»(4) .


1- وسائل الشیعة: الباب 25، أحکام الخلوة ، الحدیث 10 .
2- المصدر نفسه.
3- وسائل الشیعة: الباب 15، أحکام الخلوة ، الحدیث 1 .
4- وسائل الشیعة: الباب 15، أحکام الخلوة ، الحدیث 3 .

ص:192

وتحت الأشجار المثمرة، ومواطن النزال، ومواضع اللعن(1)

وما رواه حمّاد بن عمرو وأنس بن محمّد، عن أبیه جمیعاً، عن جعفر بن محمّد عن آبائه علیهم السلام فی وصیّة النبیّ صلی الله علیه و آله لعلیّ علیه السلام ، قال : «وکره البول علی شط نهرٍ جارٍ»(1) الحدیث .

ومثله خبر عبداللّه بن الحسن، عن أبیه عن جعفر بن محمّد الصادق علیه السلام ، عن آبائه :(2) .

وما رواه الطبرسی عن الکاظم علیه السلام فی حدیثٍ: «ویتوقّی أعین الجار وشطوط الأنهار»(3) .

وغیر ذلک من الأخبار الکثیرة، المستفاد منها کراهة ذلک، بحمل النهی فی جمیع ذلک علی الکراهة، للإجماع ولاشتمال بعضها ما یستظهر کونها من الآداب کما لایخفی .

(1) وأمّا کراهة هذه الثلاثة فثابتة عندهم، لدلالة الأخبار علیها، مثل ما رواه عاصم بن حمید عن الصادق علیه السلام ، قال : «قال رجل لعلیّ بن الحسین علیهماالسلام : أین یتوضّأ الغرباء ؟ قال : یتّقی شطوط الأنهار، والطرق النافذة، وتحت الأشجار المثمرة، ومواضع اللعن ، فقیل له : وأین مواضع اللعن ؟ قال : أبواب الدور»(4) .

ومثله خبر الکابلی(5).


1- وسائل الشیعة: الباب 15، أحکام الخلوة ، الحدیث 9 .
2- وسائل الشیعة: الباب 15، أحکام الخلوة ، الحدیث 11 .
3- وسائل الشیعة: الباب 15، أحکام الخلوة، الحدیث 7 .
4- وسائل الشیعة، الباب 15، الحدیث 1.
5- وسائل الشیعة: الباب 15 ، الحدیث 2 .

ص:193

وکذلک خبر القمی رفعه قال : «خرج أبو حنیفة من عند أبی عبداللّه علیه السلام وأبو الحسن موسی علیه السلام قائم، وهو غلام، فقال له أبو حنیفة : یا غلام! أین یضع الغریب

ببلدکم ؟ فقال : اجتنب أفنیة المساجد، وشطوط الأنهار، ومساقط الثمار، ومنازل النزال»(1) الحدیث .

وفی حدیث السکونی ممّا نهی رسول اللّه صلی الله علیه و آله : «أو تحت شجرة فیها ثمرتها»(2).

وحدیث الکرخی عن الصادق علیه السلام قال : «قال رسول اللّه صلی الله علیه و آله : ثلاث من فَعَلهنّ ملعون : المتغوّط فی ظلّ النزال، والمانع الماء المنساب، وسادّ الطریق المسکوک»(3).

والمراد بالمنساب، هو الماء المباح الذی تمرّ علیه الماء نوبة، بعد نوبة کما عن «الوافی»(4).

وحدیث الحصین عن الصادق علیه السلام ، عن آبائه علیهم السلام : «أنّ النبیّ صلی الله علیه و آله نهی أن یتغوّط... إلی أن قال : أو تحت شجرة فیها ثمرتها»(5) .

ومثله خبر الاحتجاج فی حدیثٍ: «ومساقط الثمار»(6) .

وحدیث الصدوق عن الباقر علیه السلام قال : «إنّما نهی رسول اللّه صلی الله علیه و آله أن یضرب أحد من المسلمین خلاءً تحت شجرة أو نخلة قد أثمرت، لمکان الملائکة الموکّلین بها»(7) الحدیث .


1- وسائل الشیعة، الباب 15، الحدیث 3.
2- وسائل الشیعة: الباب 15 ، الحدیث 4 .
3- وسائل الشیعة:، الباب 15 ، الحدیث 6 .
4- الوافی: 17، آداب التخلّی.
5- وسائل الشیعة: الباب 15 ، الحدیث 7 .
6- وسائل الشیعة:، الباب 15 ، الحدیث 8 .
7- وسائل الشیعة: الباب 15 ، الحدیث 9 .

ص:194

واستقبال الشمس والقمر بفرجه(1)

ومثله خبر حمّاد(1) ، وخبر عبداللّه بن الحسن(2) .

هذه جملة من الأخبار تدلّ بعضها علی کراهة التخلّی تحت الشجرة ، واُخری لموضع النزال ، وثالثة لأنّه یعدّ من مواضع اللعن .

والظاهر کون موضع النزال هو کلّ مورد أعدّ لنزول المسافرین والمتردّدین، من ظلّ شجرةٍ أو جبلٍ أو جدار مسجدٍ أو غیره، کما أنّ موضع اللعن هو لفظ جماع یشمل کلّ ما یمکن أن یکون کذلک، مثل أبواب الدور أو البستان والحانوت والسوق وغیرها.

والأمر الوارد فی بعضها مثل قوله : «اجتنب أفنیة المساجد»، محمولٌ علی کراهة فعله لا استحباب ترکه، واستعمال الأمر بالاجتناب مکان الکراهة فی فعله کثیر فی لسان الأئمّة علیهم السلام کما لا یخفی .

والظاهر کون المراد من اللّعن، هو لعن الناس، کما یشهد قوله فی جوابه: «أبواب الدور»، فإنّ ظهوره یقتضی ذلک، لا لعن اللّه والملائکة کما توهّمه بعض وإن کان محمولاً علی الکراهة، ولو اُرید به الثانی أیضاً کما هو کثیر فی المکروهات، فلا یوجب ذلک حمله علی الحرمة .

(1) أی لا بجهتها کما فی القبلة، ولذا قیّد المصنّف بالفرج إلیهما.

والحکم بالکراهة مشهور بین الأصحاب قدیماً وحدیثاً، ولا خلاف إلاّ عن المفید والصدوق، إلاّ أنّه یحتمل أن یکون مقصودهما من عدم الجواز هو الکراهة ، لتعارف ذلک منهم فیما سبق.


1- وسائل الشیعة: الباب 15 ، الحدیث 10 .
2- وسائل الشیعة:الباب 15 ، الحدیث 11 .

ص:195

وکیف کان، وما یستظهر منه ذلک، هو خبر السکونی عن جعفر عن أبیه عن

آبائه : قال : «نهی رسول اللّه أن یستقبل الرجل الشمس والقمر بفرجه وهویبول»(1) .

وخبر الکاهلی عن الصادق علیه السلام قال : «قال رسول اللّه صلی الله علیه و آله : لا یبولنّ أحدکم وفرجه باد للقمر یستقبل به»(2) .

وحدیث مرسلة الصدوق قال : «وفی خبر آخر لا تستقبل الهلال، ولا تستدبره یعنی فی التخلّی»(3).

وفی خبره الآخر فی حدیث المناهی، قال : «ونهی أن یبول الرجل وفرجه باد للشمس أو القمر»(4) .

وخبر مرسلة الکلینی قال : «وروی أیضاً لا تستقبل الشمس ولا القمر»(5) وهذه الأخبار تکفی فی إثبات الکراهة، ولو کان سندها ضعیفاً للتسامح فی الأدلّة، ولا یثبت بها الحرمة، کما لا یخفی .

والحکم بالکراهة غیر مختصّ بالرجال، وإن ذکر لفظ (الرجل) فی بعض الأخبار، لکن لا موضوعیّة فیه، کما یشهد لذلک ما وقع فی خبر الکاهلی بقوله : «لایبولنّ أحدکم»، الشامل للرجال والنساء .

کما أنّ الکراهة مخصوصة بتقابل الفرج، کما وقع فی الحدیث لا البول، ولذلک لو ستر فرجه بالید أو بالبناء أو بغیره یرتفع الکراهة.

کما أنّ الحکم مخصوص بالاستقبال، کما علیه الفتوی، ولم یکن فی الأخبار


1- وسائل الشیعة: الباب 25 ، أحکام التخلّی ، الحدیث 1 .
2- وسائل الشیعة: الباب 25 ، أحکام التخلّی ، الحدیث 2 .
3- وسائل الشیعة:الباب 25 ، أحکام التخلّی ، الحدیث 3 .
4- وسائل الشیعة:الباب 25 ، أحکام التخلّی ، الحدیث 4 .
5- وسائل الشیعة: الباب 25 ، أحکام التخلّی ، الحدیث 5 .

ص:196

للاستدبار شیء إلاّ مرسلة الصدوق، مع أنّ الاستدبار إذا عُدّ مکروهاً یشکل ذلک مع ملاحظة حرمة الاستقبال والاستدبار للقبلة، والأمر باستقبال الشرق والغرب ، فمع ذلک إن أمکن الاجتناب کان حسناً _ للتسامح فی أدلّة السنن _ ویکفی ذلک

فی جواز العمل بالمرسلة.

والکراهة ثابتة فی حال البول من بدوه إلی آخره، لا لخصوص تقابل الفرج بدون البول، ولا لبدو الشروع للبول فقط، کما یظهر عن بعض ، بل تستمرّ الکراهة إلی آخر البول.

وإلحاق الغائط بالبول لا یخلو عن تأمّل، لعدم دلیل علیه إلاّ الإطلاقات .

کما أنّ الظاهر عدم خصوصیّة للفرج المعتاد ، بل ما یخرج عنه البول ولو کان غیر طبیعی، فله حکم من له الفرج، لأنّه یفهم ذلک من مناسبة الحکم للموضوع، کما لا یخفی .

ثمّ الکراهة هل هی ثابتة بالنسبة إلی الصغار قبل البلوغ أم لا ؟

فالأطفال تارةً یلاحظ فعلهم بأنفسهم ، واُخری بالنظر إلی أولیائهم الموجهین لهم.

فعلی الأوّل: إن قلنا بکون المرفوع عنهم مطلق الأحکام _ سواء إلزامیّاً أو غیره _ فلا کراهة حینئذٍ فی غیر البالغین.

وإن قلنا بأنّ المرفوع عنهم خصوصص الإلزامی منها، فلا یبعد القول بشمول الدلیل لهم، فیکون الحکم بالکراهة لهم أیضاً ثابتاً، خصوصاً إذا قلنا بشرعیة عبادات الصبی .

وأمّا بالنظر إلی الإقعاد لا یستبعد القول بالکراهة، من جهة مناسبة الحکم والموضوع، وإن کان شمول الأدلّة لتحصیل استقبال الشمس والقمر بالتسبیب خلاف لظاهر الأدلّة، لکن یساعد علیه ذهن العرف ، فالاحتیاط حسن، خصوصاً إذا کان للمکلّف، مثل ما لو کان المتخلّی أعمی فأقعده إلی الشمس والقمر مکلّف آخر فإنّه یصدق انتساب الفعل إلی السبب من جهته .

ص:197

أو الریح بالبول(1)

وأمّا حکم الخنثی المشکل فلو خرج البول من المخرجین، فلا إشکال فی تحقّق الکراهة لو استقبل بهما إلی الشمس ، وأمّا لو خرج من أحدهما، ولم نعتبر کونه فرجاً حقیقة، وقلنا بالکراهة فی کلّ ما خرج عمّا هو محلّ خروج للبول، فیشمل المورد .

وأمّا إن قلنا بأنّ الکراهة کانت بخصوص الفرج دون غیره، ولم نقل بصدق الفرج علی کلیهما، فإثبات الکراهة بالخروج من أحدهما مشکل جدّاً، کما لا یخفی .

والظاهر ثبوت الکراهة فی استقبال القمر، سواء کان هلالیّاً أو بدویّاً، وسواء کان فی اللیل أو فی النهار ، نعم إثبات الکراهة حتّی مع الکسوف بتمام القرص، والخسوف کذلک مشکل، لظهور التقابل إلی نفس الشمس والقمر، لا أیّهما حتّی مع الحاجب کما لا یخفی .

(1) والکلام فیه یقع فی اُمور:

منها : فی حکمه، هل هو مکروه أو مستحبّ، أو واجب أو حرام ؟

والذی یستظهر من الأخبار الحرمة، لدلالة ظاهر خبر محمّد بن یحیی المرفوعة: «قال : سئل أبو الحسن علیه السلام : ما حدّ الغائط ؟

قال : لا تستقبل القبلة ولا تستدبرها، ولا تستقبل الریح ولا تستدبرها»(1) .

بناءً علی کون المراد من الغائط هو التخلّی، فإنّ وحدة السیاق مع استقبال القبلة یقتضی الحرمة .

ومرفوعة عبد الحمید بن أبی العلاء قال : «سئل الحسن بن علیّ علیهماالسلام : ما حدّ الغائط ؟ قال : لا تستقبل القبلة ولا تستدبرها، ولا تستقبل الریح ولا تستدبرها»(2) .


1- وسائل الشیعة: الباب 33 الحدیث 6 والباب 2 الحدیث 6 من أحکام الخلوة .
2- المصدر نفسه .

ص:198

وما رواه فی «الخصال» عن علیّ علیه السلام : «ولا یستقبل ببوله الریح»(1).

حیث یفید ظاهر هذه الأخبار الحرمة، إلاّ أنّ الأصحاب قد أعرضوا عنها، ولم یفت أحد منهم بذلک .

نعم ، نقل عن ظاهر الصدوق فی «الفقیه» و«المقنع» الوجوب، لکنّه ضعیف قطعاً، لعدم دلیل علیه، فیبقی من الحکم الاستحباب فی ترکه، کما علیه الشهید قدس سره فی «اللمعة» تبعاً «للغنیة»، من دعوی الإجماع علی الاستحباب فی ترکه، أو یکون مبناهم بأنّ المکروه یکون فی ترکه استحباباً، ولکن قول الأصحاب بالکراهة حفظاً لظاهر لفظ الحدیث من النهی، مع حمله علی الکراهة بواسطة إعراضهم .

منها : أنّ الکراهة لا تکون مختصّة بالبول فقط، لإطلاق الخبرین المرفوعین، وعدم منافاة خبر «الخصال» من فرض البول فقط، لإمکان الحکم فی المثبتین بکلیهما. کما أنّ التعلیلین الواردین فی خبر محمّد بن علی بن إبراهیم بن هاشم: «ولا یستقبل الریح لعلّتین ؛ أحدهما : أنّ الریح ترد البول، فیصیب الثوب، ولم یعلم ذلک، أو لم یجد ماء فیغسله ، والعلّة الثانیة أنّ مع الریح مَلَکاً فلا تستقبل بالعورة»(2) .

فإنّه اجتهاد فی مقابل النصّ، مع أنّه یمکن أن یکون کلمة (لا) العلة المضافة إلی أنّ الغائط بحسب النوع یکون مع البول، فالأقوی هو إلحاق الغائط به، کما أفتی بذلک بعض الأصحاب، خلافاً لآخرین .

ومنها : أنّ الاستدبار للبول والغائط یکون حکمه حکم الاستقبال، لما قد عرفت من الخبرین، ولا بأس بالعمل بهما، خصوصاً فی المکروهات التی تجری فیها التسامح فی الأدلّة، فاختصاص الحکم بالبول بخصوص الاستقبال ضعیفٌ عندنا، وإن کان المصنّف تبع بعض الأصحاب فی ذلک .


1- المصدر نفسه .
2- مستدرک الوسائل الباب 2 أحکام الخلوة ، الحدیث 2 .

ص:199

والبول فی الأرض الصلبة، وفی ثقوب الحیوان(1)

(1) أمّا کراهة الثانی منهما _ مضافاً إلی الإجماع المنقول فی «الجواهر» بقوله: «بلا خلاف أجده إلاّ عن ظاهر «الهدایة» بلا یجوز _ قد عرفت وجهه، لما نهی رسول اللّه صلی الله علیه و آله أن یبال فی جُحْرٍ(1) (بالضمّ والسکون)، المؤیَّد بما رواه عبداللّه بن سرجین(2)، مضافاً إلی التعلیل فی کلمات بعض الأصحاب، من اذاء الحیوان بذلک، ونقلت العامّة حکایة بأنّ سعد بن عبادة کان یفعل ذلک بالشام، فاستلقی میّتاً، فسمعت الجنّ تنوح علیه بالمدینة، وتقول :

نحن قتلنا سیّد الخزرج سعد بن عبادة ورمیناه بسهمین فلم نُخط فؤاده

ولکن هذه حکایة کاذبة عند المشهور من علماء الشیعة، إذ أنّ علّة قتله هی عدم بیعة سعد بن عبادة لأبی بکر، فترک المدینة وسافر إلی الشام، وکان هو ممّن یخاف منه، فاحتال عمر فأرسل إلیه من رماه بسهم فقتله غیلة، ثمّ نسبوا قتله للجنّ!!(3) .

ویستفاد منه کون هذا العمل مشهوراً بالکراهة، حیث نسبوا موت سعد إلی ذلک، وهو دلیل علی ثبوت الکراهة عندهم.

وکیف کان فالحکم بالکراهة فیه أمرٌ ثابت.

أمّا البول فی الأرض الصلبة فإنّه بخلاف السابق فلا ضیر فیه من جهة الکراهة .

نعم ، قد ورد فی بعض الأخبار السابقة من الأمر بالتوقّی من البول، بأن یرتاد موضعاً معیّناً للبول کما عن الصادق علیه السلام قال : «قال رسول اللّه صلی الله علیه و آله : من فقه الرجل أن یرتاد موضعاً لبوله»(4) .


1- کنز العمّال ج5 ، الحدیث 1851 ص85 .
2- سنن البیهقی ج1 ص99 .
3- قد ذکر هذه الحکایة فی البحار ج8 باب غصب الخلافة ص37 و70 طبعة الکمپانی .
4- وسائل الشیعة: الباب 22 ، الحدیث 1 و 2 من أحکام الخلوة .

ص:200

وفی الماء واقفاً وجاریاً(1)

بل عنه أیضاً قال : «کان رسول اللّه صلی الله علیه و آله أشدّ الناس توقّیاً عن البول، کان إذا أراد البول یعمد إلی مکان مرتفع من الأرض، أو إلی مکان من الأمکنة، یکون فیه التراب الکثیر، کراهیة أن ینضح علیه البول»(1) .

نعم ، قد ورد فی خبر زرارة أنّه قال الصادق علیه السلام له : «یا زرارة لا تستحقرنّ بالبول ولا تتهاوننّ به»(2) .

فیستفاد منه لزوم حفظ النفس عن إصابة رشحات البول التی عادةً إذا صارت علی الأرض الصلبة تصیب جسد المتبوّل.

فالأولی الحکم باستحباب ترکه، أو استحباب اختیار موضعاً کان کذلک، والثانی هو الأولی.

وکیف کان، فالقول بالکراهة فی ناحیة والاستحباب فی أُخری کان محموداً عند صاحب «الجواهر»، للتسامح فی الأدلّة .

(1) والحکم بکراهة فی الراکد ، علیه کثیرٌ من الأصحاب حدیثاً وقدیماً ، بل استفاضت الأخبار فی الدلالة علی الکراهة، إن لم نقل بتواترها، فلا بأس بالإشارة إلیها؛ منها ما رواه فی «دعائم الإسلام» عنهم علیهم السلام أنّ رسول اللّه صلی الله علیه و آله قال : «البول فی الماء القائم من الجفا»(3) .

وما روی فی «عوالی اللئالی» بسنده عن فخر المحقّقین، قال : «قال


1- المصدر نفسه .
2- وسائل الشیعة: الباب 23 من أحکام الخلوة ، الحدیث 1 . المستدرک الباب 19 / 1 و 3 . وسائل الشیعة: الباب 5 من أبواب المطلق ، الحدیث 1 ، المستدرک ج1 الباب 19 _ 4 _ 7 .
3- المصدر نفسه .

ص:201

النبیّ صلی الله علیه و آله : لا یبولنّ أحدکم فی الماء الدائم»(1) .

وخبر الفُضیل عن الصادق علیه السلام قال : «لا بأس بأن یبول الرجل فی الماء الجاری، وکره أن یبول فی الراکد»(2) .

فالأخبار فی کراهة البول فی الماء الراکد کثیرة .

إنّما یکون فی الجاری، فإنّ مقتضی إطلاق بعض الروایات کراهة البول فی مطلق الماء، مثل خبر «عوالی اللئالی» عن أمیر المؤمنین علیه السلام : «أنّ رسول اللّه صلی الله علیه و آله نهی أن یبول الرجل فی الماء إلاّ من ضرورة»(3) .

وما رواه جامع البزنطی عن الباقر علیه السلام : «لا تبل فی الماء»(4).

وغیر ذلک من الأخبار المطلقة الشاملة للجاری أیضاً .

ولکن فی مقالله لنا عدّة أخبار تدلّ علی الجواز فیه، مثل ما رواه عیینة بن مصعب قال : «سألت أبا عبداللّه علیه السلام عن الرجل یبول فی الماء الجاری ؟

قال : لا بأس به إذا کان الماء جاریاً»(5) .

وخبر سماعة قال : «سألته عن الماء الجاری یُبال فیه ؟ قال : لا بأس به»(6) .

وخبر ابن بکیر عن الصادق علیه السلام ، قال : «لا بأس بالبول فی الماء الجاری»(7).

مع ما عرفت من خبر الفضیل جعل الکراهة للراکد، وقال : «لا بأس أن یبول الرجل فی الماء الجاری» .


1- المصدر نفسه .
2- المصدر نفسه .
3- المصدر نفسه .
4- المصدر نفسه .
5- وسائل الشیعة: باب 5 من الماء المطلق، الحدیث 2 و 4 و 3 .
6- المصدر نفسه .
7- المصدر نفسه .

ص:202

فإنّ مقتضی الجمع، وإن کان هو نفی الکراهة فیه دون الراکد ، إلاّ أنّ مقتضی عموم بعض الأخبار، بل التعلیل الوارد فی بعضٍ، بأنّ للماء أهلاً ویؤذی بذلک أو یورث النسیان أو الحصر أو ذهاب العقل، کما ورد هذه الأخبار فی الباب 5 من

أحکام الخلوة من کتاب «المستدرک»، وفی الباب 24 من أحکام الخلوة من «الوسائل» حیث یشمل مثل ماء الجاری أیضاً .

بل قد ورد نهیخاص عن البول فی الماء الجاری أیضاً، مثل خبر مسمع عن أبی عبداللّه علیه السلام قال : «قال أمیر المؤمنین علیه السلام : إنّه نهی أن یبول الرجل فی الماء الجاری إلاّ من ضرورة، وقال : إنّ للماء أهلاً»(1) .

وإثبات الکراهیة فیه أخفّ من الراکد، کما یناسبه الاعتبار، من جهة جریان الماء وعدم رکوده، وأنّه ربما لا یعدّ مضرّاً بأهله کما هو الحال فی الراکد.

وأمّا الحمل علی عدم الکراهة مطلقاً، أو نفی البأس من جهة استعمال ماءه، فبعیدٌ جدّاً ، هذا کلّه فی البول .

وعن «النهایة» للعلاّمة: أنّ الکراهة باللیل أشدّ، لما قیل من أنّ الماء فی اللیل للجنّ، فلا یُبال ولا یغتسل فیه حذراً من أن یصاب بآفةٍ، انتهی.

وهذا ممّا لا بأس به، مع ملاحظة التسامح فی أدلّة السنن وإن کان فی الاغتسال مشکل .

وأمّا الحکم الغائط، فقد ألحقه بعضهم بالبول، بل التعلیل فیه أشدّ وأولی، فلا یبعد التسلیم بذلک _ وإن لم یرد فیه بخصوصه نصّ _ من باب التسامح فی أدلّة السنن، ویساعده الاعتبار بالتعلیل الوارد فی الأخبار .

وأمّا استثناء المحقّق فی «جامع المقاصد» للماء المعدّ للخلاء لأخذ النجاسات، ممّا لا وجه له، لعموم الأدلّة، وعدم ما یوجب ویصلح التخصیص به .


1- وسائل الشیعة: الباب 24 من أحکام الخلوة ، الحدیث 3 .

ص:203

والأکل والشرب(1)

(1) فهل الکراهة مختصّة بحال التخلّی أو هی ثابتة مطلقاً، أی ما دام کونه فی بیت الخلاء؟ ظاهر عدّة من الأصحاب فی کتبهم ک_ «المهذّب» و«المنتهی» و«نهایة الاحکام» و«المصباح» ومختصره هو الأوّل، خلافاً لآخرین حیث أطلقوا فإنّه استفید من ظهور إطلاق کلامهم _ کما عن «الجواهر» _ أنّه الأولی، وتبعه الفقهاء المعاصرین، ولکلّ منهما قول.

والدلیل علی ثبوت الکراهة لا یتمّ إلاّ علی القول بالتسامح فی الأدلّة، منضمّاً إلی شهرة الأصحاب علی کراهته، إذ لیس لنا دلیلٌ یدلّ علی الکراهة إلاّ خبرین رواهما الصدوق عن أبی جعفر الباقر والحسین بن علیّ علیهماالسلام ، وهما: عن الباقر علیه السلام قال : «دخل أبو جعفر الباقر علیه السلام الخلاء فوجد لقمة خبز فی القذر، فأخذها وغسلها ودفعها إلی مملوک معه، فقال : تکون معک لآکلها إذا خرجت ، فلمّا خرج علیه السلام قال للمملوک : أین اللقمة ؟

قال : أکلتها یابن رسول اللّه صلی الله علیه و آله ، فقال : إنّها ما استقرّت فی جوف أحد إلاّ وجبت له الجنّة . فاذهب فأنت حرٌّ، فإنّی أکره أن أستخدم رجلاً من أهل الجنّة»(1) .

ومثله فی الدلالة الخبر المروی فی «عیون أخبار الرضا علیه السلام » بأسانیده إلی الرضا علیه السلام عن آبائه عن الحسین بن علیّ :(2) .

ولکن دلالتها علی الکراهة لکلّ مأکول ومشروب مخدوشة، من جهات عدیدة : أوّلاً : اختصاصه بخصوص الخبز وتعمیمه إلی غیره مشکل .

وثانیاً : أصعب منه تعمیمه لکلّ مشروب أیضاً .


1- وسائل الشیعة: الباب 39، أحکام التخلّی ، الحدیث 1 .
2- المصدر نفسه .

ص:204

والسواک(1)

والاستنجاء بالیمین وبالیسار(2)

وثالثاً : من إمکان أن یکون وجه التأخیر من الأکل، أنّه علیه السلام أراد أن یخرج من الخلاء حتّی یطهّره ویأکله، لا کون التأخیر من حیث الکراهة فی الأکل فی هذه الحالة.

أو یمکن أن یقال: إنّ التأخیر کان من جهة أنّ الإمام علیه السلام لم یرد أکله فی هذه الحالة، لا للکراهة واقعاً: وغیر ذلک من الإشکالات الواردة علیه، وإن کان الأقوی کراهته مع الوصف، مع مساعدة الاعتبار، وقیام الشهرة علیه.

وهذا المقدار یکفی فی إثباتها کما لا یخفی .

(1) والظاهر کون الکراهة ما دام فی الخلاء، فیما احتمله شیخ الطائفة، لا حال التخلّی، کما علیه الأکثر، ویستظهر ذلک من وجود کلمة (فی) بدل (علی) فی مرسلة «الفقیه» عن الکاظم علیه السلام قال : «السواک فی الخلاء یورث البخر»(1).

حیث یدلّ ظهوره فی ظرفیة بیت الخلاء، بخلاف نقل الآخر من وجود کلمة (علی) بدل (فی)، حیث یکون ظهوره فی حال التخلّی أقوی .

وکیف کان فإنّ کراهته مستظهرة، خصوصاً فی حال التخلّی، للشهرة المتحقّقة، کما لا یخفی .

(2) ففی «الجواهر»: بلا خلاف أجده فیه، سوی ما فی «المقنعة» و«المهذّب» و«النهایة» بقولهم لا یجوز.

وقد عرف إمکان کون المقصود هو الکراهة، لعدم ما یصلح لإثبات الحرمة، مع أنّ الأصحاب صرّحوا بالکراهة ، ویدلّ علی ذلک ما رواه یونس عن بعض أصحابنا عن الصادق علیه السلام قال : «نهی رسول اللّه صلی الله علیه و آله أن یستنجی الرجل بیمینه»(2) .


1- وسائل الشیعة: الباب 21، أحکام الخلوة ، الحدیث 1 .
2- وسائل الشیعة: الباب 12، فی أحکام الخلوة ، الحدیث 1 .

ص:205

وفیها خاتم علیه اسم اللّه سبحانه(1)

وما رواه السکونی عنه علیه السلام قال : «الاستنجاء بالیمین من الجفاء»(1) .

ومرسلة الصدوق(2) مثله ، وخبر آخر للسکونی(3) مثله .

نعم ، یختصّ هذه الکراهة، بما إذا لم یکن فی الیسار علّة، وإلاّ لا کراهة فیه، لدلالة مرسلة الصدوق(4)، وقد روی «أنّه لا بأس إذا کانت الیسار معتلّة» ، بل قد یستفاد من مرسلة الصدوق کراهة مسّ الذکر بالیمین، مثل ما رواه الصدوق عن أبی جعفر علیه السلام : «إذا بال الرجل فلا یمسّ ذکره بیمینه»(5) .

فلا یبعد استظهار کراهة الاستبراء والاستنجاء بالیمین، کما هو ظاهر النصّ والفتوی فی «الجواهر».

ولکن أقول : إن کان الفتوی یدلّ علیه فهو، وإلاّفإنّ استفادة ذلک من مثل هذا الخبر مشکل جدّاً، إلاّ أن یکون مستفاداً من حیث الملازمة بین الاستبراء والمسّ، فهو وجیه .

(1) وکراهة ذلک ولو للاستنجاء کان مورد عمل الأصحاب، والمشهور فی الأخبار المستفیضة الدالّة علی ذلک ، وأمّا إثبات الحرمة بالأخبار الناهیة مشکلٌ، لإعراض الأصحاب عنها، إلاّ أن یستلزم هتکاً لاسم الجلالة، فحینئذٍ لا إشکال فی حرمته، بل ربّما یستلزم فی بعض صوره الکفر، ولا یبعد إلحاق أسماء الأنبیاء


1- المصدر نفسه .
2- المصدر نفسه .
3- المصدر نفسه .
4- المصدر نفسه .
5- المصدر نفسه.

ص:206

والأئمّة علیهم السلام ، بل فاطمة الزهراء علیهاالسلام باسم الجلالة، مضافاً إلی مناسبته مع وجوب التعظیم ، حیث أنّ حکم مسّ أسمائهم بلا طهارة یکون حکم اسم

الجلالة ، بل علیه الفتوی، من أنّه یمکن إثباته بواسطة التسامح فی أدلّة السنن، مع ثبوت الإلحاق عن الأصحاب، کما عن «الذکری» و«الدروس» و«البیان» و«روض الجنان» و«المقنعة» و«المبسوط» و«المهذّب» وغیرهم .

کما أنّ أسماء اللّه تعالی بأقسامها من المشرّعة والمختصّة ملحقة باسم الجلالة ، کلّ ذلک لمناسبة التعظیم، ویمکن الاستشعار عن بعض الأخبار، وحمل أخبار المعارضة الدالّة علی الجواز علی التقیّة ، کما کان فی بعضها قرینة الحمل لکون راویه عامّیاً، مثل خبر وهب بن وهب عن الصادق علیه السلام : «قال : کان نقش خاتم أمیر المؤمنین علیه السلام : المُلک للّه ، وکان فی یده الیسری یستنجی بها»(1) .

وغیر ذلک من الأخبار الدالّة علی الجواز جمیعها ملحقة بخبر وهب ، ولکن الأخبار الدالّة علی الکراهة کثیرة مثل أخبار الباب 17 من أحکام الخلوة من «الوسائل» فنذکر بعضها تیمّناً.

مثل خبر حسین بن خالد الصیرفی قال : «قلت لأبی الحسن علی بن موسی الرضا علیه السلام : الرجل یستنجی وخاتمه فی اصبعه ونقشه لا إله إلاّ اللّه ؟

فقال : أکره ذلک له ، فقلت : جعلت فداک، أولیس کان رسول اللّه صلی الله علیه و آله وکلّ واحد من آبائک یفعل ذلک، وخاتمه فی إصبعه ؟

قال : بلی ، ولکن أولئک کانوا یتختّمون فی الید الیمنی، فاتّقوا اللّه وانظروا لأنفسکم»(2) الحدیث .

وخبر علیّ بن جعفر، عن أخیه موسی بن جعفر علیه السلام قال : «سألته عن الرجل


1- وسائل الشیعة: الباب 17، أحکام الخلوة ، الحدیث 8 .
2- المصدر نفسه .

ص:207

یجامع ویدخل الکنیف وعلیه الخاتم فیه ذکر اللّه، أو شیء من القرآن أیصلح ذلک ؟ قال : لا»(1) .

بل قد یستفاد من بعض الأخبار کراهة أصل الدخول فی الخلاء، نظیر ما عرفت، حیث کان فیه: «ویدخل الکنیف» .

وهکذا خبر أبی أیّوب قال : «قلت لأبی عبداللّه علیه السلام : أدخل الخلاء وفی یدی خاتم فیه اسم من أسماء اللّه تعالی؟ قال : لا ولا تجامع فیه»(2) .

حیث یفهم منه کراهة الدخول فی الخلاء، کما یستفاد منه کون کلّ اسم من أسماء اللّه هکذا، لإطلاق اللفظ فی الاسم علی جمیع الأسماء ، فالمسألة واضحة بحمد اللّه .

بل قد یستفاد من بعض الأخبار _ کما أفتی به فی «المبسوط» و«المهذّب» و«التحریر» و«القواعد» و«الذکری» کراهة الاستنجاء بالیسار التی فیها خاتم فضّة من حجر زمزم ، ولما یدلّ علیه خبر علی بن الحسین بن عبد ربه قال : «قلت له : ما تقول فی الفصّ یتّخذ من أحجار زمزم ؟ قال : لا بأس به، ولکن إذا أراد الاستنجاء نزعه»(3) .

وفی الکافی لفظ (زمرّد) بدل (زمزم) .

ویمکن أن یکون المراد من حجر زمزم المرمیّ خارج عن المسجد کالقمامة، حتّی لا یستلزم الإشکال بعدم جواز إخراجه عنه .

وکیف کان، یستظهر من جمیع ذلک أنّ الکراهة فی هذه الموارد إنّما هی لمراعاة التعظیم والحرمة، کما لا یخفی .


1- المصدر نفسه .
2- وسائل الشیعة: الباب 17، أحکام الخلوة ، الحدیث 1 والباب 36 منها ، الحدیث 1 .
3- المصدر نفسه .

ص:208

والکلام إلاّ بذکر اللّه، وآیة الکرسی، أو حاجة یضرّ فوتها(1)

(1) وهی مشتملة علی أحکام أربعة :

الأوّل : کراهة الکلام حال التخلّی، سواء کان للبول أو الغائط، والدلیل علیه _ مضافاً إلی فتوی الأصحاب _ الأخبار، مثل خبر صفوان، عن أبی الحسن الرضا علیه السلام أنّه قال : «نهی رسول اللّه صلی الله علیه و آله أن یجیب الرجل آخر، وهو علی غائط أو یکلّمه حتّی یفرغ»(1) .

وخبر أبی بصیر قال : «قال لی أبو عبداللّه علیه السلام : لا تتکلّم علی الخلاء، فإنّه من تکلّم علی الخلاء لم تقض له حاجة»(2) .

وخبر عمر بن یزید قال : «سألت أبا عبداللّه علیه السلام عن التسبیح فی المخرج، وقراءة القرآن؟ قال : لم یرخّص فی الکنیف أکثر من آیة الکرسی ویحمد اللّه وآیة»(3) .

وأمّا الثانی: وهو عدم کراهة التکلّم بذکر اللّه، لما أفتی به الأصحاب، تبعاً لما ورد فی الروایات من حُسن ذکر اللّه علی کلّ حال، مثل ما رواه أبو حمزة عن أبی جعفر علیه السلام : «قال : مکتوب فی التوراة التی لم تُغیّر، أنّ موسی سأل ربّه، فقال : إلهی انّه یأتی علیَّ مجالس أعزّک وأجلّک أن أذکرک فیها ؟ فقال : یا موسی إنّ ذکری حسن علی کلّ حال»(4) .

وما رواه الحلبی عن الصادق علیه السلام قال : «لا بأس بذکر اللّه وأنت تبول، فإنّ ذکر اللّه حسن علی کلّ حال، فلا تسأم من ذکر اللّه»(5) .


1- وسائل الشیعة: الباب 6 و 7 من أحکام الخلوة ، الحدیث 1 و2 _ 7 و1 و2 و3 .
2- المصدر نفسه .
3- المصدر نفسه .
4- المصدر نفسه .
5- المصدر نفسه .

ص:209

وما رواه العمرکی عن علی بن جعفر، عن أخیه عن أبیه علیهماالسلام قال : «إنّ اللّه

أوحی إلی موسی : یا موسی لا تفرح بکثرة المال، ولا تدع ذکری علی کلّ حال، فإنّ کثرة المال تُنسی الذنوب ، وإنّ ترک ذکری یُقسی القلوب»(1).

وغیر ذلک من أخبار هذا الباب(2)، مثل خبر السکونی وداود بن سلیمان الفرّاء وسلیمان بن خالد .

بل ربّما یمکن أن یقال : بأنّه یستفاد من هذه الأخبار استحباب الذکر حتّی حال التخلّی، فضلاً عن کراهته، للنهی عن اساءته، وان عنوان الحُسن فی کلّ حال یشمله أیضاً .

والثالث : وهو عدم کراهة قراءة آیة الکرسی، لما عرفت التصریح بذلک فی خبر عمر بن زید، بقوله : «لم یرخّص فی الکنیف فی أکثر من آیة الکرسی ویحمد اللّه وآیة».

بل فی خبر الحلبی عن الصادق علیه السلام قال : «سألته : أتقرأ النفساء والحائض والجنب والرجل یتغوّط القرآن ؟ قال : یقرؤون ما شاؤوا»(3) .

یدلّ علی عدم الکراهة فی قراءة القرآن حیث ما شاء .

إلاّ أنّ فی «الجواهر»: لم أعثر علی مفتٍ به، بل صرّح بعضهم بکراهة ما عداها، فیحمل الخبر علی إرادة الجواز ولو مع الکراهة ، ولکنّ الإنصاف تمامیّة دلالته علی عدم الکراهة، لو لم یحکم بخلافه بواسطة إعراض الأصحاب عنه .

وعن بعض الحکم بجواز الذکر أو قراءة آیة الکرسی خفاء فی نفسه، کما صرّح بذلک صاحب «الوسیلة» فی آیة الکرسی، وعلّل ذلک بقوله: لأنّه یفوت


1- المصدر نفسه .
2- المصدر نفسه .
3- وسائل الشیعة: الباب 7، أحکام الخلوة ، الحدیث 8 و 9 الباب 3 منها ، الحدیث 2 .

ص:210

شرف فضلها لو لم یقرأ فیما بینه وبین نفسه .

ولکن ورد فی مرسلة علی بن اسباط أو رجل عنه، عمّن رواه عن أبی

عبداللّه علیه السلام : «أنّه کان (یعمله) إذا دخل الکنیف یقنّع رأسه ویقول سرّاً فی نفسه : بسم اللّه وباللّه»(1) الحدیث .

وإن سلّم ذلک بواسطة هذا الحدیث وخبر مسعدة بن صدقة(2) لا یبعد القول بذلک فی قراءة القرآن أیضاً، لأنّها من الذکر ، بل هی أعظم أجراً وشرفاً منه، فحسنه لا یخلو عن وجهٍ ، لکن لا یقتضی ذلک إلاّ استحباب کونه سرّاً لا الجهر بهما، لعدم دلیلٍ یساعد علیه، کما لا یخفی .

والرابع : هو التکلّم بحاجة یضرّ فوتها، حیث یجوز بلا کراهة، لانتفاء الحرج ، نعم فیما إذا لم یمکن رفع الحاجة ببعض الأفعال کالإشارة والتصفیق ، ولعلّ وجه عدم تقیید المصنّف بذلک، هو استفادته من سیاق الکلام، لأنّ من یقدر علی إتیان تلک الاُمور فلیس ممّن یخاف فوتها ، هذا تمام ما أورده المصنّف من المندوبات والمکروهات فی التخلّی .

ولکن فی الواقع ربّما یکون أکثر من ذلک، حیث یمکن إلحاق بعضها إلی إحداهما ، ودون البعض، فلا بأس بالإشارة إلیها ، ولو إجمالاً .

فنقول ومن اللّه الاستعانة:

منها : لابدّ من استثناء الحمد بعد العطس عن حکم الکراهة ، لما ورد فی خبر مسعدة بن صدقة عن جعفر عن أبیه علیهماالسلام قال : «کان أبی یقول : إذا عطس أحدکم وهو علی خلاء، فلیحمد اللّه فی نفسه»(3) .


1- وسائل الشیعة: الباب 7، أحکام الخلوة، الحدیث 9.
2- المصدر نفسه.
3- وسائل الشیعة: الباب 7، أحکام الخلوة الحدیث 9 .

ص:211

ولعلّ وجه عدم ذکره، دخوله تحت عموم الذکر الواقع فی المستثنی .

وفی «الجواهر»: منه یعرف انسحاب استحباب التسمیت، کما صرّح به بعضهم، ولکنّه مشکل من حیث نفسه _ أی لا یستفاد استجابة من ذلک الحدیث _

لأنّ المراد من التسمیت هو مخاطبة العاطس بقوله: یرحمک اللّه، وهو لیس بذکر .

نعم ، استحباب التحمید بسماع العطس إذا کان فی الخلاء لا یبعد، من جهة کونه ذکراً فی نفسه، ولعلّ الاعتبار یساعد علی عدم استحباب التسمیت لمن کان فی الخلاء، ویسمع العطس، کما لایخفی .

ومنها : استثناء حکایة الأذان أیضاً، کما هو المشهور، للأمر به فی عدّة من الروایات، واستفادة استحبابها من العمومات الدالّة علی استحباب ذکره، وعدم دخوله فی الکلام المنهیّ عنه، لعدم التبادر منه ذلک ، ولعلّ وجه ترکه هو کونه من الذکر ولو من باب التغلیب، حتّی یصحّ إیراد فقرات الحیّعلات، لأنّها لیست بذکر، إلاّ أن یبدّلها بالحولقة، وکیف کان لا کراهة فی حکایتها .

ومنها : تطمیح الرجل ببوله من سطح أو مکان مرتفع، لنهی النبیّ صلی الله علیه و آله عن ذلک، کما ورد فی الحدیث عن السکونی عن الصادق علیه السلام قال : «نهی النبیّ صلی الله علیه و آله أن یطمح الرجل ببوله من السطح، ومن الشیء المرتفع فی الهواء»(1) .

ومرسلة ابن أبی عمیر، عن أبی عبداللّه علیه السلام قال : «سألته عن الرجل یطلی فیبول وهو قائم ؟ «قال : لا بأس به»(2).

حیث أنّه یفهم من السؤال أنّ فی ارتکاز السائل وجود البأس فی ذلک فی الحالة الاعتیادیة، ولذلک سئل حکم حال الإطلاء.

ومرسلة الصدوق قال : «قال: البول قائماً من غیر علّة من الجفاء»(3) .


1- وسائل الشیعة: الباب 33، أحکام الخلوة ، الحدیث 1 .
2- المصدر نفسه .
3- المصدر نفسه .

ص:212

ولا یبعد أن یکون ذلک من جهة صدق کراهة الاطماح، أو کان بنفسه مکروهاً مستقلاًّ، ولو لم یصدق التطمیح .

ومرسلة اُخری مشابهة لها(1) کحدیث السکونی، وحدیث مسمع عن

الصادق علیه السلام قال : «قال أمیر المؤمنین علیه السلام : قال رسول اللّه صلی الله علیه و آله ؛ یکره للرجل _ أو ینهی الرجل أن یطمح ببوله من السطح فی الهواء»(2) .

ومثله فی الخصال فی حدیث الأربعمائة(3) .

وعلیه فتوی الأصحاب، لاسیّما المتأخّرین، کما هو فی «العروة» وعند من علّق علیها .

ومنها: کراهة البول قائماً، والتخلّی علی القبر، أو بین القبور، لما ورد فی الحدیث من النهی عن ذلک، کما عرفت فی مرسلة الصدوق عن البول قائماً، ولما ورد فی حدیث محمّد بن مسلم عن أبی جعفر علیه السلام قال : «من تخلّی علی قبر، أو بال قائماً، أو بال فی ماء قائماً، أو شیء فی حذاء أحد، أو شرب قائماً، أو خلا فی بیت وحده، وبات علی غمر، فأصابه شیء من الشیطان، لم یدعه إلاّ أن یشاء اللّه، وأسرع ما یکون الشیطان إلی الإنسان وهو علی بعض هذه الحالات»(4) الحدیث .

وحدیث إبراهیم بن عبدالحمید عن أبی الحسن موسی، قال : «ثلاث یتخوّف منها : الجنون، والتغوّط بین القبور، والمشی فی خفّ واحد، والرجل ینام وحده»(5) .

ولذلک أفتی بعض الأصحاب، وهو یکفی فی إثبات الکراهة.


1- المصدر نفسه .
2- المصدر نفسه .
3- المصدر نفسه .
4- وسائل الشیعة: الباب 16، أحکام الخلوة، الحدیث 6.
5- المصدر نفسه .

ص:213

هذا، لو لم یلزم هتک قبور المؤمنین وإلاّ کان حراماً قطعاً .

ومنها : طول الجلوس علی الخلاء، لما روی من خوف وقوع الباسور أو الناسور فیه، کما ورد فی حدیث محمّد بن مسلم قال : «سمعت أبا جعفر علیه السلام یقول : قال لقمان لابنه : طول الجلوس علی الخلاء یورث الباسور ، قال : فکُتب هذا علی باب الحُشّ»(1) .

وکذلک فی مرسلته الاُخری(2)، ومرسلة الصدوق، وکذلک خبر إسماعیل بن أبی زیاد(3) وحدیث الطبرسی فی «المجمع» فی حِکَم لقمان: «قیل: إنّ مولاه دخل المخرج فناداه لقمان : طول الجلوس علی الحاجة یضجع منه الکبد، ویورث منه الباسور، ویصعد الحرارة إلی الرأس، فاجلس هوناً وقم هوناء ، قال : فکتب حکمته علی باب الحشّ»(4) .

وعلیه فتوی الأصحاب .

ومنها : استصحاب الدرهم الأبیض بغیر الصرّة، أی إذا کان فی یده لا فی الکیس، وإلاّ لا یکون مکروهاً، إذ غالباً ما لا یخلو ثیاب الناس من الدراهم.

والذی یدلّ علیه خبر غیاث عن جعفر عن أبیه علیهماالسلام : «أنّه کره أن یدخل الخلاء ومعه درهم أبیض إلاّ أن یکون مصروراً»(5) .

وبعضهم قیّده بما إذا کان علیه اسم اللّه، ولعلّه کان من معروفیّة حرمة ذلک فی الدراهم السابقة، بکونها منقوشة بمثل ذلک، ولا یبعد أن یکون کذلک إلاّ أنّ الروایة مطلقة .


1- المصدر نفسه .
2- المصدر نفسه .
3- المصدر نفسه .
4- المصدر نفسه .
5- المصدر نفسه .

ص:214

ومنها : البول فی الحمّام، حیث قد ذکر فی «العروة» نقلاً عن صاحب «المستدرک» فی «جامع الأخبار» قول النبیّ صلی الله علیه و آله : «عشرون خصلة تورث الفقر... إلی أن قال : والبول فی الحمّام»(1) فهو یکفی فی إثبات الکراهة مع انضمام التسامح فی أدلّة السنن .

ومنها : کراهة الاستنجاء بالعظم والروث، وهی وإن کانت متعلّقة بباب

الاستنجاء، إلاّ أنّها یناسب مع حکم التخلّی .

وکیف کان فقد ورد فی الحدیث عن «دعائم الإسلام» مرسلاً قولهم: «ونهوا : عن الاستنجاء بالعظام والبعر»(2) الحدیث .

وعن «عوالی اللئالی» عن فخر المحقّقین عن النبیّ صلی الله علیه و آله أنّه قال : «لا تستنجوا بالعظم والروث، فإنّها زاد إخوانکم الجنّ»(3).

وغیر ذلک من الأخبار .

هذا تمام الکلام فی المکروهات والمندوبات فی التخلّی .

قد فرغت من تسویده یوم السبت السادس والعشرون من شهر جمادی الثانیة، سنة تسع وأربعمائة بعد الألف من الهجرة النبویة، والحمد للّه أوّلاً وآخراً وظاهراً وباطناً وکان التحریر بید أقلّ العباد السیّد محمّد علی العلوی، ابن حجّة الإسلام السیّد السجّاد العلوی طاب ثراه .


1- مستدرک الوسائل: الباب 29 نوادر باب الخلاء، ح7.
2- مستدرک الوسائل: الباب 26 أحکام التخلّی.
3- مستدرک الوسائل: الباب 26 أحکام التخلّی.

ص:215

بحث الوضوء

اشارة

قال المحقّق قدس سره فی «الشرائع» : الثالث فی کیفیّة الوضوء، وفروضه خمسة :

الأوّل : النیّة وهی إرادة تفعل بالقلب .(1)

(1) واعلم أنّه قد اختلف الفقهاء فی بیان مقدار الفروض، حیث أنّ المتأخّرین کالسیّد فی «العروة» ومن تبعه جعل فروضه أربعة، وهی عبارة عن الغسلتین والمسحتین، کما هو المنصوص فی القرآن فی آیة الوضوء، وهی قوله تعالی : «إِذَا قُمْتُمْ إِلَی الصَّلاَةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَکُمْ وَأَیْدِیَکُمْ إِلَی الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِکُمْ وَأَرْجُلَکُمْ إِلَی الْکَعْبَیْنِ»(1) .

فی فروض الوضوء / النیّة

وأدرج السیّد النیّة فی الشروط، وبحث عنها فی باب الشروط ، خلافاً للمحقّق، ووفاقاً لصاحب «الجواهر» والشیخ الأعظم، والمحقّق الهمدانی حیث جعلوها خمسة لأنّها المنصوص فی القرآن _ کما فی «الجواهر» _ لاستفادة حکم وجوب النیّة من قوله تعالی: «وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِیَعْبُدُوا اللّه َ مُخْلِصِینَ لَهُ الدِّینَ»(2) أو عموماً کما عن الشیخ وکان لها وجود مستقلّ بالوجوب خلافاً للآخرین، حیث تکون قیوداً مأخوذة فی الأفعال مثل الترتیب والموالاة والمباشرة .

أمّا المحقّق فی «النافع» جعلها سبعة، بإضافة الترتیب والموالاة ، کما أنّ الشهید فی «الذکری» جعلها ثمانیة بإضافة المباشرة للنیّة فیها، واستدلّوا لمدّعاهم بأنّها منصوصة فی القرآن .


1- سورة المائدة: آیة 6 .
2- سورة البیِّنة: آیة 5.

ص:216

ولکنّ الإنصاف کونها خمسة، کما علیه المشهور، لکون وجوب کلّ جزء یعدّ

أمراً مستقلاًّ، ولا ینافی عدم کون النیّة جزءاً للوضوء، بل تعتبر شرطاً لتحقّق الوضوء لکن بوجود مستقلّ، نظیر النیّة فی الصلاة _ لو لم نقل بکونها جزءاً _ لأنّها رکن بحیث یوجب البطلان حتّی لو ترکت مع الغفلة ، وکیف کان لابدّ من البحث عن حقیقة النیّة من خلال عدّة اُمور :

الأوّل : فی معنی النیّة.

فقد قیل فی تفسیرها تارةً : بأنّها هی الإرادة کما قاله المصنّف ، بل فی «الجواهر» وفی «طهارة» الشیخ: أنّها فی اللغة والعرف والشرع ، وقد تُفسّر بالقصد والعزم، ففی «الجواهر»: أنّ القصد والإرادة بمعنی واحد ، بل العزم هو عبارة عن الإرادة المتقدّمة علی الفعل، سواء کان قبلها متردّداً أم لا ، خلافاً «للذکری» فی أنّ الإرادة المتقدّمة غیر المقارنة هی العزم، بخلاف النیّة حیث تکون مقارنة . وعن فخر المحقّقین بأنّ العزم هو العمل بعد التردّد، بخلاف النیّة، حیث أنّها إرادة من دون تردّد .

والحقّ أن یُقال : إنّ الإطلاقات العرفیة قد یوجب استعمال کلّ واحد مقام الآخر للمسامحة فی تلک المراتب، ولکن مع الدقّة والالتفات ، ربما یتفاوت، لأنّ العزم إنّما یطلق علی من جزم علی احداث الفعل وصمّم علی إیجاده ولو لم یکن فعلاً مقارناً به، کما تشاهد ذلک فی الآیات القرآنیة فی قوله تعالی : «إِنَّ ذَلِکَ مِنْ عَزْمِ الاْءُمُورِ»(1) لمدح الصابر علی المصیبة، أو فی مقام توبیخ آدم فی قوله تعالی : «وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْما»(2) حیث کان المراد هو التصمیم الجدّی للفعل من دون تردید، فإطلاقه علی من صمم بعد طول تردّد لیس ببعید، کما ادّعاه فخر


1- سورة لقمان: آیة 17 .
2- سورة طه: آیة 115.

ص:217

المحقّقین وتقرّبه الآیة الشریفة قوله: «فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَکَّلْ»(1) .

کما أنّ النیّة تطلق علی مورد کان العمل مقصوداً فنواه، أی قصد الفعل وسبق منه القصد حتّی صار فعلاً اختباریّاً ومقصوداً، فاتّصاف الفعل بذلک لا یکون إلاّ إذا کان القصد محقّقاً قبل الفعل، ولعلّه لذلک شرطوا المقارنة فی نیّة العبادة، فلیس ذلک لخصوصیة فی العبادة، بل لعلّه کان من جهة تحصیل هذا العنوان بکون عمله مقصوداً واختیاریّاً .

نعم ، لا یعتبر استدامته، لکفایة قصد المجموع فی أوّل العمل لإستمراره إلی آخره ولو غفل عن تفصیله، ولکنّه لاحظه إجمالاً وارتکازاً کما سیأتی بحثه إن شاء اللّه تعالی .

لکنّه بعید جدّاً ، فاستعمال لفظ الإرادة للنیّة لیس إلاّ لإفهام کون العمل باختیاره، وانّه لم یکن غافلاً ولا ناسیاً، وأمثال ذلک، فالمسألة واضحة بحمد اللّه .

الثانی : فی بیان الدلیل علی وجوب قصد القربة، وامتثال أمر المولی، فی التعبّدیّات، ومنها الوضوء الذی نبحث عنه الآن، فلا بأس بالإشارة إلی ما استدلّ به من الأدلّة الأربعة، وهی عدّة اُمور: منها من الکتاب: قد تمسّکوا _ کما فی «الجواهر» وغیره _ بقوله تعالی : «وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِیَعْبُدُوا اللّه َ مُخْلِصِینَ لَهُ الدِّینَ حُنَفَاءَ وَیُقِیمُوا الصَّلاَةَ وَیُؤْتُوا الزَّکَاةَ وَذَلِکَ دِینُ الْقَیِّمَةِ»(2) .

حیث معناه أنّ لیس الأمر إلاّ ما کان عبادیاً خالصاً للّه تبارک وتعالی، بأن علیه أن یقصد فی إتیان المأمور به، امتثال الأمر للّه تعالی ، وهذا لا یعنی إلاّ وجوب قصد الأمر والقربة، وهذا هو المطلوب .

لکنّه مخدوش من جهات ثلاث وهی:


1- سورة آل عمران : آیة 159 .
2- سورة البیِّنة: آیة 5.

ص:218

الاُولی: من جهة نفسها، لأنّه لو کان المقصود هو ما ذکر، لابدّ أن تکون اللاّم فی قوله: «لِیَعْبُدُوا اللّه َ» بمعنی الباء، فیکون معناه أنّ الأمر لم یتحقّق ولم یحصل إلاّ

بالعبادة، فلازمه انحصار المأمور به الشرعی فی خصوص التعبّدیات دون غیرها،وهذا، فضلاً عن أنّ دعواه واضح البطلان لکثرة الواجبات التوصّلیة _ کوجوب النفقة للزوجة والأولاد، وأداء الدیون، وحقوق الناس، وتجهیز المیّت ودفنه، وأمثال ذلک _ أنّه مستلزم للاستهجان لکون غیرها أکثر منها ، هذا أوّلاً .

وثانیاً : أنّ ما ذکر من المعنی متوقّف علی کون المراد من (الدین) هو الطاعة، یعنی بأن یجعل الطاعة خالصاً من جهة قصد القربة وامتثال أمر اللّه، مع أنّه خلاف الظاهر من کلمة (الدین)، لأنّه بقرینة وحدة السیاق، مع ما هو المذکور فی ذیله بقوله : «وَذَلِکَ دِینُ الْقَیِّمَةِ» یفهم کون المقصود هو ما یتدیّن به، لا الطاعة أو الجزاء أو القصد، کما فی «مصباح الهدی» .

فعلی ذلک یثبت أنّ اللاّم إمّا أن تکون للغایة کما هو الحال فی قوله تعالی: «وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالاْءِنسَ إِلاَّ لِیَعْبُدُونِ»(1)، أی غایة الخلقة والأمر هی العبادة، وهی الاعتراف بالوحدانیة للّه، بأن یعبد اللّه وحده لا الأوثان والطاغوت.

أو تکون اللاّم مکان أنْ، هو الحال فی مشابهها من الآیات، کقوله تعالی : «یُرِیدُونَ لِیُطْفِئُوا نُورَ اللّه ِ»(2)، وقوله تعالی : «إِنَّمَا یُرِیدُ اللّه ُ لِیُذْهِبَ عَنْکُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَیْتِ»(3) ، وقوله تعالی: «یُرِیدُ اللّه ُ لِیُبَیِّنَ لَکُمْ»(4) .

ویؤیّده قراءة عبداللّه بن مسعود «وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِیَعْبُدُوا اللّه َ» .


1- سورة الذاریات: آیة 56.
2- سورة الصف: آیة 8 .
3- سورة الأحزاب: آیة 33.
4- سورة النساء: آیة 26.

ص:219

کما احتمل ذلک فی «مجمع البیان» أیضاً، فیکون مفاده حینئذٍ کسابقه، لأنّه تکون حینئذٍ بمعنی النتیجة، أی کالغایة فی کون المقصود هو العبادة فیما نحن فیه، وهو التوحید لا کون العمل تعبّدیاً .

الثانیة: من جهة دلالة صدرها، لأنّه مع ملاحظة بالآیات الواقعة فی صدر

السورة، بقوله : «وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِینَ أُوتُوا الْکِتَابَ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمْ الْبَیِّنَةُ»، حیث أفاد المفسِّرون فی تفسیرها أنّها تعنی تفرّقهم باختیار غیر اللّه للعبادة، من عبادة الأوثان، أو اتّخاذ عُزیر وعیسی أبناءً للّه _ والعیاذ باللّه _ والعبادة لهما ولغیرهما من المخلوقین ، ثمّ تلتها هذه الآیة، وهذه قرینة علی کون المقصود هو التوحید لا العبادة التی کانت مورداً للکلام .

الثالثة: من جهة دلالة ذیلها، فمن جهة عطف إقامة الصلاة وإیتاء الزکاة علیه، یفهم أنّه من جهة تفریع هذه العبادة البدنیة والعبادة المالیة، اللتین کانتا قرینتین فی أکثر آیات القرآن علی عبادة اللّه وتوحیده، فیکون المقصود من مجموع الآیات بیان اُصول الدِّین فی عبادة اللّه فقط ولزوم توحیده والابتعاد عن الشرک به، وبیان فروع الدِّین الذی هو إقامة الصلاة وأداء الزکاة.

کما قد یؤیّد ذلک ذیل الآیة : «وَذَلِکَ دِینُ الْقَیِّمَةِ» فهی حینئذٍ جامعة لاُصول الدین وفروعه بعمدتها .

فالاستدلال بهذه الآیة علی المسألة کما فی «الجواهر» لا یخلو عن وهن، کما لا یخفی .

ومنها : قوله تعالی: «أَطِیعُوا اللّه َ وَأَطِیعُوا الرَّسُولَ»(1) ، بدعوی أنّ الإطاعة لا تتحقّق إلاّ بقصد الأمر والامتثال، وهما لا یتحقّقان إلاّ بأن تکونا عبادیتان إلاّ ما خرج بالدلیل، بأنّه یکفی الامتثال بدون قصد القربة، فیصیر ذلک أصلاً فی کلّ الواجبات .


1- سورة آل عمران: آیة 32.

ص:220

هذا، لکنّه مخدوش أوّلاً : أنّا لا نسلّم کون قصد الأمر والامتثال داخلان فی مفهوم الإطاعة عرفاً، کما یشهد لذلک أنّه لو امتثل الأمر غافلاً عن الأمر حین الإتیان عُدّ امتثالاً عرفاً.

وثانیاً : إنّ ترک المعصیة والاجتناب عنها أیضاً إطاعه، مع عدم لزوم ذلک القصد فی ترکها قطعاً، وهذا ما لم یلتزم به أحد ، مع أنّه لو کان دخیلاً فی أصل الإطاعة، لکان ینبغی أن یذکر .

وثالثاً : إنّ الأمر فی آیة الإطاعة إرشادی لا مولویّ ، بل لا یمکن أن یکون مولویّاً، لعدم إمکان الإتمار عمّن انبعث من أمر آخر أو انزجر عن نهی آخر، إذ المنبعث لا ینبعث ثانیاً، لأنّه تحصیل للحاصل، إلاّ أن یکون تأکیداً وإرشاداً لسابقه، وهذا هو المطلوب .

ورابعاً : إنّ انضمام إطاعة الرسول إلی إطاعة اللّه مؤیّد لخلاف ما ادّعوه، لأنّه لو کان قصد الأمر دخیلاً فی مفهوم الإطاعة، فلازمه عدم صدق إطاعة الرسول، إلاّ أن یقصد أمره أیضاً فی العبادات، مع أنّه غیر لازم قطعاً .

لا یقال : بأنّ إطاعة الرسول هو إطاعة اللّه، لدلالة قوله تعالی : «مَنْ یُطِعْ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللّه َ»(1) ، فإذا قصد امتثال أمر اللّه، فقد کان قد امتثل أمر الرسول، فیتحقّق إطاعته أیضاً .

لأنّا نقول : قد تتّحد إطاعة الرسول مع إطاعة اللّه، فیما إذا لم یوجد أمر مستقل فی حقّ النبیّ صلی الله علیه و آله ، بل یعدّ کلّ أمر له أمراً للّه تبارک وتعالی، فلا إشکال حینئذٍ أنّه إذا قصد امتثال أمر اللّه، فقد أضافه علی طاعة اللّه إطاعة الرسول أیضاً ، ولکن قد یتوجّه لنفسه صلی الله علیه و آله أمر بالخصوص، فحینئذٍ هل الإطاعة لأوامره لابدّ أن یکون مع قصد أمره _ مع أنّه لیس کذلک _ أم لا؟ مع إمکان المنع فی الوجه الأوّل أیضاً


1- سورة النساء: آیة 80.

ص:221

لأنّه إذا قلنا بدخالة قصد خصوص أمره فی صدق إطاعته، فلا یتحقّق هذا المفهوم فی کلّ مورد للانتساب إلیه، إلاّ مع قصده بخصوصه، ولو کان أمره فی طول أمر آمر آخر، کما لا یخفی .

وربما قیل: _ کما فی «التنقیح» _ بأنّ دلالة الآیة علی المدّعی، موقوفة علی دلالتها علی وجوب قصد امتثال الأمر بوجوب غیری من الجزئیة أو الشرطیة، حتّی تقید بذلک إطلاقات الأدلّة، علی الواجبات، بأنّها لا یصدق إلاّ مع قصد الأمر ، وأمّا لو دلّت الآیة علی وجوب قصد الأمر بوجوب نفسی، فلا یرتبط بالتعبّدیّات، لأنّه یصیر واجباً نفسیّاً شرعاً مستقلاًّ کسائر الواجبات، فلا دلالة فیها علی لزوم قصد التقرّب فی الواجبات، فبأیّ دلیل یثبت المستدلّ کونه غیریّاً لا نفسیّاً ؟

ولکن الإنصاف عدم تمامیة ذلک، لأنّه لو سلّمنا دلالته علی أنّ الإطاعة للأوامر لا تتحقّق إلاّ مع قصد الأمر المتعیّن، فیرجع معنی ذلک فی الحقیقة إلی أنّ قصد الأمر واجب فی العبادات امّا بنحو الجزئیة أو الشرطیة، کما هی فی الأولی ، فکیف یمکن أن یکون قصد الأمر حینئذٍ واجباً مستقلاًّ فی واجب؟ فهل هو إلاّ أنّه لا یکون دخیلاً فی صدق الإطاعة، ومعلومٌ أنّه خلاف المفروض، والعجب من قائله کیف اشتبه الأمر علیه ذلک ؟!

فالأولی فی الجواب هو ما ذکرنا، کما أشار القائل أیضاً إلی بعض ما قلناه، ففی ذلک غنی وکفایة .

ومنها : الأخبار الواردة التی استدلّ بها علی المدّعی، مثل ما رواه الکلینی بإسناده إلی أبی حمزة ، عن علیّ بن الحسین علیهماالسلام قال : «لا عمل إلاّ بنیّة»(1) .

وخبر علی بن جعفر عن أخیه وعن أبیه موسی بن جعفر علیه السلام عن آبائه علیهم السلام ، عن رسول اللّه صلی الله علیه و آله فی حدیث قال : «إنّما الأعمال بالنیّات، ولکلّ امرءٍ ما نوی ،


1- وسائل الشیعة: الباب 5، مقدّمات العبادات، الحدیث 1.

ص:222

فمن غزی ابتعاء ما عند اللّه فقد وقع أجره علی اللّه عزّوجلّ، ومن غزی یرید عرض الدُّنیا أو نوی عقالاً لم یکن له إلاّ ما نوی»(1) .

وخبر أبی عثمان العبدی عن جعفر عن آبائه عن أمیر المؤمنین علیهم السلام قال :

«قال رسول اللّه صلی الله علیه و آله : لا قول إلاّ بعمل، ولا قول ولا عمل إلاّ بنیّة، ولا قول وعمل ونیّة إلاّ بإصابة السنّة»(2) .

وغیر ذلک من الأخبار المشابهة لها من حیث المضمون .

وجه الاستدلال: أنّها تنفی النیّة إلاّ ما کانت صالحة منها، وهی لیست إلاّ ما کانت مقربة إلی اللّه، فلا نیّة إلاّ ما قصد به التقرّب إلی اللّه، فیصیر الواجب بذلک عبادیّاً .

ویمکن أن یُجاب عنها: بأنّ المراد من النیّة یمکن أن یکون أحد الوجوه المتصوّرة ؛ إمّا أن یراد ما هو ظاهرها من نفی العمل حقیقة بدونها، فهو غیر صحیح قطعاً ؛ لوضوح بطلانه، لأنّ العمل صادق ولو لم ینو فیه شیئاً، وهو واضح، مع أنّه لا یناسب مع الإصابة بالسنّة.

أو یکون المراد نفی الصحّة، یعنی لا یکون العمل صحیحاً إلاّ بها، فهذا هو المطلوب لمن ادّعی هذا الأصل.

لکنّه فاسد أیضاً ؛ لأنّه یلزم أن یکون الواجب منحصراً فی التعبّدی وهو ما قد عرفت بطلانه، أو استلزامه تخصیصاً للأکثر، لأنّ التوصّلیات هی أزید منها قطعاً، فکیف یمکن الالتزام بخروجها ، أو یکون المراد بأنّ الفعل والعمل لا یصیر اختیاریّاً للفاعل، إلاّ ما کان صادراً عن نیّة.

لکنّه فاسد أیضاً، لأنّه أوّلاً: لا یدلّ علی المطلوب وهو قصد القربة کما هو المقصود ، وثانیاً : ذکر ذلک یعدّ من توضیح الواضحات، البعید عن شأن الإمام


1- وسائل الشیعة: الباب 5، مقدمّات العبادات، الحدیث 10.
2- وسائل الشیعة: الباب 5، مقدمّات العبادات، الحدیث 2.

ص:223

المتصدّی لبیان الأحکام لا مثل ذلک ، وثالثاً : إنّ قصد العنوان ربّما یکون معتبراً فی بعض الأفعال التی لا تتحقّق عنوانها إلاّ بقصد التعظیم والإهانة ، والعبادات الشرعیة فهی لاتحتاج إلی قصد العنوان زیادة علی قصد القربة ، أو یکون المراد من النیّة الداعی والمحرّک، فإن کان حسناً فیصیر ممدوحاً، وإن کان قبیحاً فیکون

مذموماً، فیصیر المعنی أنّ حسن العمل وقبحه مترتّب علی الداعی والمحرِّک، وما قصد من ذلک.

کما قد یؤیّد ذلک ما ذکر فی حدیث علیّ بن جعفر: «من غزی ابتغاء وجه اللّه» فی مقابل «من غزی ویرید به عرض الدُّنیا أو العقال» لا یعطی له إلاّ ما قصده ، أو یکون المراد هو الجزاء، کما علیه الشیخ الأعظم قدس سره ، فیصیر المعنی بأنّه لا یترتّب الجزاء علی الأعمال إلاّ علی النیّات، نظیر کلام الرسول صلی الله علیه و آله من أنّ الناس «مجزون بأعمالهم إن خیراً فخیر وإن شرّاً فشرّ»، فتکون هذه الأخبار مبیّناً بأنّ الجزاء المترتّب علی العمل یکون بحسب نیّة الفاعل، فتکون نظیر قوله تعالی : «قُلْ کُلٌّ یَعْمَلُ عَلَی شَاکِلَتِهِ»(1)، حیث ورد الخبر فی موردها، مثل خبر سفیان بن عنبسة عن الصادق علیه السلام فی حدیث : «والنیّة أفضل من العمل، ألا وأنّ النیّة هی العمل، ثمّ تلا قوله تعالی : «قُلْ کُلٌّ یَعْمَلُ عَلَی شَاکِلَتِهِ»یعنی علی نیّته»(2) .

والذی یقرب إلی الذهن من المحتملات هو أحد الأخیرین، وإن کان کلّ واحد منهما قریب المخرج مع الآخر، فلا تکون الأخبار مرتبطة بباب وجوب قصد القربة فی الواجبات التعبّدیة أصلاً .

ومنها : ما تمسّک به صاحب «التنقیح» وهو خبر الصدوق قال : «قال


1- سورة الإسراء: آیة 84.
2- وسائل الشیعة: الباب 5، مقدمّات العبادات، الحدیث 6.

ص:224

الصادق علیه السلام : الصلاة ثلاثة أثلاث : ثلث طهور، وثلث رکوع، وثلث سجود»(1) .

وجه الاستدلال: أنّه لا وجه لجعل الوضوء ثلثاً من الصلاة، إلاّ فیما هو أظهر آثارها وهو العبادیة وقصد القربة فیها، کما أنّه لا وجه لکونه من الصلاة _ کما وقع فی حدیث السکونی ، عن الصادق علیه السلام عن آبائه عن علیّ علیهم السلام قال : «قال رسول اللّه صلی الله علیه و آله : خصلتان لا أحبّ أن یشارکنی فیها أحد، وضوئی فإنّه من صلاتی»(2)

الحدیث _ إلاّ من جهة کونها عبادة، بل مقتضی هذه الأخبار ترتّب جمیع آثار الصلاة من الشرائط علی الوضوء، إلاّ ما خرج بالدلیل، _ کالاستقبال والطمأنینة _ حیث نعلم عدم شرطیّتها فیه .

هذا، ولکن الإنصاف عدم تمامیّة الاستدلال علی شرطیّة قصد القربة فی الوضوء بدلالة هذه الأخبار، لأنّا کنّا بصدد إثبات وجوب قصد القربة فی کلّ واجب عبادی، منه الصلاة والوضوء ، فإذا ثبت مفروضیة قصد القربة فی الصلاة ثمّ عُدّ الوضوء منها، فإنّ إثبات لزوم قصد القربة فیه هو أوّل الکلام ، هذا أوّلاً .

وثانیاً : عدم معلومیّة کون المقصود من الطهور _ الذی هو ثلث للصلاة خصوص الوضوء ، بل لعلّ المقصود هو الأعمّ منه، حتّی یشمل الطهارة من الحدث والخبث، فکأنّه أشار إلی شرطیة الطهارة للصلاة .

وثالثاً : إنّه لیس فی صدد بیان أنّ الطهور لابدّ فیه من قصد القربة، بحیث لو ورد دلیل خارجی علی عدم لزوم قصد القربة فی الوضوء مثلاً کان هذا معارضاً له، حتّی یلزم الجمع بینهما بالتقیید ، کما أنّ المقصود من عدم المشارکة فی الوضوء فی الخبر الثانی، یحتمل أن یکون المقصود هو المشارکة فی العمل، أی التسبیب، لا أن یکون المقصود نفی المشارکة من جهة النیّة، حتّی یفید أنّه لابدّ له


1- وسائل الشیعة: الباب 1، مقدمّات الوضوء، الحدیث 8.
2- وسائل الشیعة: الباب 74 الوضوء، الحدیث 3.

ص:225

من قصد القربة فی العمل، فیدلّ علی المطلوب.

مضافاً إلی ما عرفت من أنّ الصلاة بنفسها أیضاً مورد للکلام، کما لا یخفی .

ومنها : ما رواه فی «التنقیح» عن استاده المحقّق النائینی قدس سره ، حیث استدلّ بمضمون خبر فی الوضوء بقوله : «یأتی به بنیّة صالحة یقصد بها ربّه».

ولکن لم نعثر علی مثل هذا الخبر فی باب الوضوء فلا یمکن البحث فی أطرافه .

ومنها : ما تمسّک به المحقّق الهمدانی فی «مصباحه» ، وهو صحیحة زرارة

ومحمّد بن مسلم عن أبی جعفر علیه السلام قال : «إنّما الوضوء حدّ من حدود اللّه، لیعلم اللّه من یطیعه ومن یعصیه»(1) ، الحدیث.

وادّعی بأنّه صریح فی أنّ المقصود به الإطاعة، وهی لا تتحقّق إلاّ مع القصد کما ستعرف .

ولا یخفی ما فیه، لأنّ الإطاعة والعصیان غیر منحصران فی التعبّدیّات وإلاّ یلزم أن لا تکون التوصتلیات إطاعة ، بل وهکذا ترک المعصیة والاجتناب، حیث لا یحتاج إلی قصد القربة فی الترک، فیلزم أن لا یصدق علیه الإطاعة، ولا أظنّ أن یلتزم به، فکیف استظهر من هذا الحدیث وجوب قصد القربة.

هذا تمام الکلام فی جهة الاخبار التی استدلّ بها، وقد عرفت الإشکال فی جمیعها .

ومن الوجوه المستدلّ بها، الاستظهار العقلائی من لفظ الأمر الصادر من الآمر، بدعوی أنّ المتبادر من الأمر هو إیجاب الشیء لأجل أمره، فحصول الاجزاء بمجرّد تحقّقها فی الخارج لا بداعی الأمر، یعدّ خلاف ظهور الأمر.

هذا، وفیه أوّلاً : قد یمکن دعوی استحالة أخذ قصد الأمر فی موضوع خطاب الأمر، لأنّ قصد الأمر رتبته متأخّرة عن وجود نفس الأمر، کما هو متأخّر عن الموضوع ، فکیف یمکن أن یؤخذ بما هو متأخّر عن الموضوع بمرتبتین فی


1- وسائل الشیعة: الباب 52 الوضوء، الحدیث 2.

ص:226

الموضوع المتقدّم، کما تقرّر بحثه تفصیلاً فی الاُصول، فما لا یمکن أخذه فی دلیل الخطاب لا یجوز إثباته بظهور دلیل الخطاب.

کما لا یجوز التمسّک بإطلاق دلیل الخطاب لإسقاط وجوبه، لأنّ وجوب الإطلاق فرع إمکان الإطلاق ، فإذا لم یکن ممکناً _ کما عرفت _ فلا إطلاق له حینئذٍ، کما لا یخفی.

وثانیاً : لو سلّمنا إمکان ذلک _ أی أخذ قید وجوب قصد الأمر فی تحصیل

الامتثال _ فمع ذلک نقول : لابدّ فی إثباته من دلیل دالّ علی الوجوب، _ فهذا الدلیل لیس إلاّ نفس دلیل الخطاب _ أو بیانه فی دلیل مستقلّ آخر، وکلاهما مفقودان .

أمّا الأوّل لأنّ دلیل الخطاب مشتمل علی المادّة والهیئة ولا ثالث له ، فأمّا المادّة لا تدلّ إلاّ علی أصل المعنی وهو الوضوء _ مثلاً فی فرض مسألتنا _ والهیئة لا تدلّ إلاّ علی طلب هذا المعنی، فلم یبق لنا فی مثل الأمر بالوضوء دالّ آخر حتّی یدلّ علی لزوم إتیان العمل بداعی أمره .

وأمّا الثانی مفقودٌ لأنّه المفروض فی المقام، وإلاّ لا مجال للبحث، کما لو التزمنا مثلاً وجود الإجماع والضرورة علی ذلک، فلا غرو حینئذٍ .

ومن الوجوه المستدلّ بها حکم العقل بذلک، بتقریب أن یقال: بأنّه یحکم بوجوب الإطاعة فی الواجبات، وهی عبارة عن إتیان المأمور به بداعی أمره وقصد امتثاله، ولو لم یکن ذلک معلوماً فغایته الشک فی صدق الإطاعة بدون قصد الأمر، فلازم الاشتغال الیقینی هو البراءة، وهی لا تحصل إلاّ بالإتیان بداعی قصد الأمر .

هذا، لکنّه مخدوش أوّلاً : بأنّه لو اُرید بوجوب الإطاعة بأنّ الطاعة لا تحصل إلاّ مع قصد الأمر، فالکبری ممنوعة، لما قد عرفت منّا سابقاً من صدق الإطاعة فی الواجبات التوصّلیة، وترک المحرّمات، من دون لزوم قصد الأمر والنهی .

وإن اُرید بأنّه وإن لم یکن دخیلاً فی أصل صدق الإطاعة، إلاّ أنّه هنا کان لازماً

ص:227

وواجباً ، فالصغری ممنوعة، لأنّه لم یقم دلیل من الفعل علی وجوبه هنا، لو لم نقل قیام دلیل علی خلافه، کما هو الحقّ، لأنّ العقل یحکم بوجوب تحصیل مطلوب المولی حسبما یدلّ علیه دلیل الخطاب أو یثبته من دلیل آخر مستقلّ نظیر دلیل نتیجة التقیید الذی قاله المحقّق النائینی، فإذا فرضنا عدم دلالة دلیل الخطاب وعدم وجود دلیل آخر یدلّ علیه، فلا یحکم العقل حینئذٍ إلاّ بوجوب إتیان ما هو المأمور به بحسب ظاهر الدلیل، فإذا تحقّق ذات الواجب فی الخارج فإنّه یؤدّی

إلی سقوط الوجوب قهراً، لحصول الإطاعة بالنسبة إلی ما یقتضیه ظاهر الدلیل، فلم یبق لنا حینئذٍ دلیل آخر حتی یحکم ببقاء الوجوب فیما نحن فیه، فلو کان غرض المولی باقیاً بعد إیجاد أصل الواجب، لکان علیه البیان، سواء کان بنفس هذا الدلیل _ لو قلنا بإمکانه _ أو بدلیل آخر لو استحلناه .

وثانیاً : لو سلّمنا کون العقل یحکم بذلک، وزال عنّا التردّد، فلازمه حینئذٍ وجوب قصد الأمر فی کلّ واجب إلاّ ما خرج بالدلیل.

وأمّا لو شککنا فی ذلک ولم نقطع بأحد الطرفین إثباتاً ونفیاً، فلا نسلّم کون المورد من موارد وجوب الاحتیاط أو استصحاب الوجوب لقصد الأمر، لأنّ غایة الأمر _ بعد التسلیم لما سبق _ هو کون قصد الأمر من قبیل سائر الشرائط للواجب، فلا إشکال _ کما قد قرّر فی محلّه فی الشکّ فی وجوب شرط فی الواجب _ یکون المرجع هو البراءة لا الاشتغال أو الاستصحاب، لأنّ العقل یحکم بقبح العقاب بلا بیان، لأنّ المولی إذا رأی بأنّ الغرض یبقی بعد إیجاد أصل الواجب دون قصد الأمر _ لمدخلیته فی تحصیله _ ورأی بأنّ عقل العبد لا یحثّه علی ذلک، وکان مقدوراً من البیان وکان قادراً علی أن یبیّنه بنفس هذا الدلیل أو من بدلیل آخر، فمع ذلک لم ینبّه علیه العبد، فلا إشکال یعدّ فی کون العقاب حینئذٍ عقاباً بلا بیان ، مضافاً إلی وجود البراءة الشرعیة، وهو دلیل «رفع ما لا یعلمون».

فثبت من جمیع ما ذکرنا، أنّ العقل أیضاً لا یکون مساعداً لإیجاب قصد الأمر

ص:228

وامتثاله فی صدق إطاعة الأمر، حتّی یکون ذلک أصلاً فی کلّ مورد من الواجبات، کما ادّعی بعض بأنّ الأصل فی الواجبات هو التعبّدیات ، بل لابدّ فی کلّ واجب أن یلاحظ دلیل مورده بخصوصه، وأنّه هل یدلّ علی وجوب قصد القربة والامتثال فیه أم لا ؟

وما نحن فیه یکون من قبیل القسم الأوّل _ لا بدلیل الکتاب أو السنّة أو العقل والعقلاء _ من باب وجود الإجماع محصّلاً ومنقولاً مستفیضاً، کما نقله شیخنا

الأنصاری علیه رحمة الباری ، بل هو من ضرورات المذهب، کما ادّعاه صاحب «مصباح الفقیه»، إذ لم یر مخالفاً فی وجوب قصد القربة والأمر _ إلاّ ما هو المنقول عن الإسکافی حیث ذهب إلی استحبابه فقوله مطروح أو مأوّل _ ، بل قد نقل المحقّق فی «المعتبر» عنه خلاف ذلک، _ فوجوب قصد القربة فی الوضوء أمرٌ ثابت بین الفقهاء قدیماً وحدیثاً .

الأمر الثانی : فی أنّ النیّة المعتبرة هل یجب کونها مقارنة بصورة تفصیلیّة متّصلة بأوّل جزء من العمل _ کغسل الوجه مثلاً، بحیث لو فرض کونه متذکّراً عند مقدّمات الوضوء من أخذ الابریق وجعله عنده لصبّ الماء _ بحیث لو ذهل عن حضوره التفصیلی حینما شرع بإتیان أوّل الجزء من الوضوء، لبطل عمله لفقد الحظور التفصیلی _ وإن کان له حضور إجمالی بالعمل، بحیث لو سُئل عنه لأجاب بأنّی أتوضّأ _ أم لا؟

وبعبارة اُخری: هل یکفی الالتفات بذلک ولو إجمالاً وارتکازاً بما قد عرفت توضیحه أم لا؟

والذی یقوی فی النظر هو الثانی، کما علیه جماعة من المتأخّرین، بل هو متّفق علیه عند أهل هذا العصر، کما ذکره الشیخ الأنصاری قدس سره ، وهو موافق لقول المقدس الأردبیلی، وشیخنا البهائی، والمحقّق صدر الدین الشیرازی، والمحقّق الخوانساری والشیخ الأنصاری والخوئی والآملی والخمینی والسیّد فی

ص:229

«العروة» وأصحاب التعالیق علیها.

والذی یدلّک علیه هو صدق العبادة والطاعة واختیاریة الفعل بهذا المقدار من النیّة، کما لا یکفی ذلک الارتکاز والإجمال فی حال استدامته فی أجزاء عمل عبادی کثیر الأجزاء، حیث لا یمکن حفظ الحضور التفصیلی فیه إلاّ للأوحدی من الناس، رزقنا اللّه ذلک إن شاء اللّه .

فمع ذلک، لا یضرّ عرفاً فقدانه بعبادیّة العبادة وکونها متّصفة بالنیّة، وهکذا

یکون الأمر فی المقام بالنظر إلی المقدّمات المرتبطة والمتّصلة بالعمل ، مضافاً إلی أنّا لو شککنا فی اعتبار النیّة أزید من ذلک فانّ المرجع حینئذٍ هو أصل البراءة، کما لا یخفی .

لا یقال : إنّ الدلیل علی إثبات وجوب النیّة حیث لم یمکن إلاّ الإجماع الفاقد للإطلاق اللفظی من جهة أنّه دلیل لبّی، فلابدّ فی مثل ذلک من الاکتفاء بالقدر المتیقّن من النیّة، وهو لیس إلاّ ما کانت متّصلة بأوّل جزء من العمل لا بالمقدّمات، فلازمه إثبات قول المشهور فی المقدّمتین من إیجاب الاخطار التفصیلی حین العمل ، هذا .

لأنّا نقول : هذا صحیحٌ لو شککنا فی صدق العبادة والطاعة للنیّة الإجمالیة الارتکازیة، لأنّ المتعیّن من الإجماع هو أنّه یعتبر فی الوضوء صدوره عبادة ، فإذا قطعنا بصدقها علی مثل هذا القصد الارتکازی _ کما یقطع بالصدق بالارتکازی فی أثناء العمل _ فلا یبقی حینئذٍ شکّ حتّی یؤخذ بالقدر المتیقّن فی النیّة، کما لا یخفی، کما یشهد لذلک ملاحظة حال الافعال الاختیاریة العادیّة بین الناس، حیث یصدق علی اختیاریة العمل الصادر قصده التفصیلی حین اداء مقدّماته، من لبس الثیاب والذهاب إلی السوق لشراء اللحم مثلاً، ولو لم یکن حین لشراء ملتفتاً تفصیلاً .

الأمر الثالث : فی أنّ النیّة حیث کانت واجبة، هل هی جزء للوضوء والصلاة أم أنّها تعدّ شرطاً؟

ص:230

وقد ذهب بعض إلی جزئیّتها، بتوهّم أنّه إذا قلنا باعتبار المقارنة بین النیّة وأوّل العمل، فیفیدنا ذلک کونها جزءً للعبادة لا شرطاً ، هذا کما عن الشهید .

لکنّ الإنصاف کونها شرطاً، کما علیه المتأخّرین جمیعاً، لأنّ العقل والنقل یدلاّن علی ذلک ، أمّا الأوّل لأنّ صحّة الصلاة والوضوء موقوفة علی وجوب النیّة قبلها، لا ترکّب الفعل منها ومن غیرها، کما هو الظاهر الأوّلی من قوله علیه السلام : «لا

صلاة إلاّ بطهور» کون الطهور شرطاً، وإن استعمل فی الجزء أیضاً، کما روی : «لا صلاة إلاّ بفاتحة الکتاب» ، لکنّه قد استفید من دلیل خارج أنّها جزءاً .

وأمّا الثانی: یستفاد ذلک من انضمام الإجماع بوجوب النیّة فی الوضوء ، مع ما روی من أنّ الوضوء عبارة عن الغسلتین والمسحتین، کما نقل فی کنز العمّال بقوله : «إنّ الوضوء غسلتان ومسحتان»(1) .

بل وکذلک ما رواه فی «المستدرک» عن «کنز الفوائد» عن أمیر المؤمنین علی بن أبی طالب علیه السلام أنّه قال للناس فی الرحبة : «ألا أدلّکم علی وضوء رسول اللّه صلی الله علیه و آله ؟

قالوا : بلی ، فدعا بقعب فیه ماء، فغسل وجهه وذراعیه، ومسح علی رأسه ورجلیه ، وقال : هذا وضوء لم یحدث حدثاً»(2) .

بکون النیّة خارجة عن حقیقة الوضوء، ولکنّها موقوفة علی الوضوء کما یفهم ذلک فی الصلاة أیضاً، من قوله علیه السلام : «أوّلها التکبیر (أو تحریمها التکبیر) وآخرها التسلیم» من أنّ النیّة شرطاً فیها لا جزء، فالمسألة واضحة عندنا لا سترة فیها .

الأمر الرابع : فی أنّ التلفّظ بالنیّة هل هو واجب أو مستحبّ أو مکروه أو حرام؟ وجوه ، بل أقوال ؛ لأنّ بعض الشافعیة قد أوجبوه کما فی الجواهر ، إلاّ أنّ الإجماع قائم عندنا علی عدم وجوبه، إذ لم یذهب إلیه أحد .


1- کنز العمّال: 5 / 103، الدر المنثور: 2 / 262.
2- مستدرک الوسائل: الباب 15 الوضوء ، ح 6.

ص:231

وأمّا الاستحباب قد یظهر من بعض، کما عن «الذکری» نسبته إلی بعض الأصحاب، مستدلاًّ له بأنّه یکون أشدّ عوناً علی الإخلاص.

إلاّ أنّه فیه منع ظاهر، بل فی «الجواهر»: أنّه استحباب عارضی لا ذاتی یکون هذا الاستحباب بحسب حال الناوی، إذ ربّما یکون فی بعض ذکره باللفظ واجباً لتوقّف الإخلاص علیه، وهو لا یرتبط بما نحن بصدده، ولذلک قد یمکن الالتزام بحرمته من تلک الجهة، بالنسبة إلی البعض، إذا کان التلفّظ موجباً لزوال إخلاصه .

وأمّا القول بالکراهة فهو المستفاد من کلام صاحب «الجواهر» لو لم نقل بدلالته علی الحرمة، بقوله : إلاّ أنّ الأحوط الترک مع الاختیار، فراراً من التشریع، وإن کان القول بالحرمة منع ظاهر، لوضوح أنّه لیس فی التلفّظ بها قصد التشریع حتّی یوجب الحرمة ، فحینئذٍ ینتج الأمر بین کون التلفّظ مکروهاً _ کما یظهر القول به من کلام «التنقیح»_ أو استحباب کون النیّة بالقلب _ کما صرّح به صاحب «التعلیقة» _ ، بل قد یحتمل ذلک من کلام المصنّف قدس سره فی «الشرائع» أیضاً بقوله : وهی إرادة الفعل بالقلب .

فی کیفیّة النیّة فی الوضوء

وأمّا القول بالکراهة: لعلّه کان فی الصلاة بلحاظ کون التکلّم بین الإقامة والصلاة مکروهاً، لا أن یکون کذلک مطلقاً حتّی فی مثل الوضوء والحجّ، فمع ملاحظة هذه الخصوصیّات قد یکون التلفّظ بها حراماً کما فی نیّة صلاة الاحتیاط التی یحتمل أن تکون جزءاً للصلاة، فلابدّ بأن تکون خالیة عن المنافیات .

فالأقوی أن یُقال : حیث لا دلیل شرعی وارد فی ذلک _ فی غیر الحجّ _ مع کونه ممّا یحتاج فیه کثیر من الناس، لما یشهد من کثرة السؤال عن ذلک، یفهم أنّه یجوز أن یقصده بالقلب، کما یجوز التلفّظ به، إلاّ فیما یلزم أمراً مکروهاً _ کما فی الصلاة الواجبة الواقعة عقیب الإقامة _ فلا یعدّ حراماً مطلقاً کما عرفت، کما لا یستبعد استحبابه فی مثل الحجّ للإشارة إلیه فی بعض أخباره .

ص:232

وکیفیّتها أن ینوی الوجوب أو الندب والقُربة(1)

(1) واعلم أنّه قد وقع الخلاف بین الفقهاء فی أنّه هل یجب قصد الوجه من الوجوب والندب فی العبادات _ ومنها الوضوء _ أو لا؟

فقد ذهب الی الأوّل عدد کثیرٌ من القدماء والمتأخِّرین، وهم أیضاً بین قائل بالوجوب وصفاً _ أی بأن ینوی الوضوء الواجب أو المندوب _ وقائل به غایةً _ أی ینویه لوجوبه وندبه _ وبین قائل بالوجوب وجهاً کما وقع فی کلام السیّد فی «العروة» والمراد من الوجه هو قصد ملاک الأمر ومصلحته، کما هو أحد المعانی التی فسّر به فی قبال أن یکون المراد من الوجه هو ترک المفسدة اللازمة من الترک کما عن بعض المعتزلة، أو کون المراد هو الشکر _ کما نقل عن الکعبی _ أو مجرّد الأمر کما نقل عن الأشعریة ؟

والقول الآخر هو التفصیل بین الصلاة، فیجب قصد الوجوب والندب فیه، وبین غیرها فلا یجب وهو الذی یظهر من «الروضة» بدعوی الشهرة علی لزوم قصد الوجه فی الصلاة _ بل عن «التذکرة» وجوب الإجماع علیه، واحتمل صاحب «الجواهر» کون الفارق بین الصلاة وغیرها هو الإجماع .

والقول بعدم الوجوب مطلقاً لا وصفاً ولا غایةً ولا وجهاً بأیّ معانیه قُصد. فصارت الأقوال أربعةً، فالقائلون بالوجوب مطلقاً هم جمع کثیر من الفقهاء، کالمحقّق فی «الشرائع» والعلاّمة فی «المنتهی» و«الإرشاد» و«التحریر» والشهید فی «اللمعة» و«الألفیة»، وهو المنقول عن «الغنیة» و«المهذّب» و«الکافی»، وعن الراوندی وابن حمزة وصاحب «السرائر» و«التذکرة» و«جامع المقاصد» .

خلافاً لآخرین مثل المحقّق فی «المعتبر» والمفید فی «المقنعة» والشیخ فی «النهایة» ، بل نقله الشهید فی «نکت الإرشاد» عن المرتضی، وظاهر الشیخ الطوسی فی «الاقتصاد» وفی «الطبریة» وسلاّر والجعفی و«النافع» والشیخ فی

ص:233

«المبسوط» وصاحب «الجواهر» و«مصباح الفقیه» والشیخ الأعظم والسیّد فی «العروة»، وجمیع من تأخّر عنه من أصحاب التعالیق علیها، کما هو الأقوی عندنا أیضاً .

فالأولی أن یذکر ما یمکن أن یستدلّ به علی الوجوب والجواب عنه، فیثبت المطلوب حینئذٍ قهراً ، والذی یمکن أن یخطر بالبال فی الاستدلال لهم أمورٌ غیر سدیدة .

منها : أنّ کلّ ما یمکن أن یقع ویتحقّق فی الخارج، علی نحوین من الوجوب والندب، من هذا المکلّف أو من غیره، کما کان فی الوقت من هذا المکلّف أو فی غیره، کالوضوء والصلاة ، وقابل لأن یعنون بأحد العنوانین، فلابدّ فیه من أن یعیّن بمعیّن، وإلاّ یلزم الترجیح من غیر مرجّح، وهذا الدلیل المحقّق رحمه الله فی «المعتبر».

لکنّه مخدوش أوّلاً : بأنّه لا یعیّن کیفیّة لزوم القصدین، کونه بالوصف أو بالغایة أو بالملاک ، بل مقتضاه _ لو سلّمناه _ إثبات أصل الوجوب مطلقاً، وهم لا یقولون بذلک _ أی بالإطلاق _ .

وثانیاً : إنّ الدلیل أخصّ من المدّعی، لعدم جریان هذا إلاّ فیما إذا کان تعیین المأمور به متوقّفاً علی ذلک، نظیر الرکعتین لصلاة الصبح ونافلتها، أو أربع رکعات فی الذمّة من الأداء والقضاء والظهریة والقصریة، ففی کلّ ذلک لابدّ من تعیّنه لتوقّف تعیین المأمور به علیه، وهذا لا یثبت فیما إذا لم یکن للواجب إلاّ فرداً واحداً، کالصلاة الواجبة فی الوقت أو الوضوء کذلک، فإنّه حینئذٍ لا دلیل علی وجوب قصد کونه واجباً أو ندباً فی مثله بأیّ طریق من الأنحاء الثلاثة، لوضوح أنّه إذا قصد بیان ما تعلّق به أمر المولی بما له من الأجزاء والشرائط، متقرّباً به إلی اللّه، فقد أتی به وامتثل ما کان واجباً علیه، سواء قصد کونه واجباً أو مندوباً أم لا ، بل حتّی لو قصد خلافه کما لو کان واجباً فی الواقع وقصد کونه مندوباً، أو کان فی الواقع مندوباً وقصده واجباً .

وبعبارة اُخری: لیس الوجوب والندب من قیود المأمور به، الفصل أو المقوّم

ص:234

فی النوع حتّی یحتاج فی تحقّقه إلی قصده .

وثالثاً : لا یکون التعیین موقوفاً علی تعیین خصوص الوجوب أو الندب، إذ قد یتحقّق ببیان صفة اُخری غیرهما، کأن یقصد ذات الوضوء المخصوص، مثل أن یقصد الوضوء الذی ورد الأمر فی الآثار کمسّ کتابة القرآن، ولکن لا یدری هل الوضوء فیه واجب أم لا ؟ فلا إشکال حینئذٍ فی تعیّنه بذلک، من دون تحقّق قصد خصوص الوجوب أو الندب .

ومنها : إنّ الامتثال بإتیان المأمور به لا یتحقّق إلاّ بإتیانه علی الوجه المطلوب، وهو لا یحصل إلاّ بإتیان الواجب واجباً والمندوب ندباً ، وذلک لأنّه یجب علی المکلّف أن یتصوّر متعلّق الأمر، حتّی یکون الداعی له فی إتیانه هو القرب الحاصل من فعله، وهو لیس إلاّ ما ذکرنا، لأنّ تصوّر الصلاة بصورة الإطلاق لیس تصوّراً لما هو المأمور به، لاختلاف أفرادها فی نظر الشارع، مثل صلاة الظهر الواجبة علی المکلّف الفاقد للموانع فی وقت وجوبها، وقد تکون مندوبة کمن قد صلّی فرادی فیعیدها جماعة، أو هی للصبیّ الممیّز لو قلنا بشرعیّة عبادته وصحّتها، وقد تکون محرّمة کما هی بالنسبة إلی الحائض والنفساء.

فهذه الاختلافات لیست إلاّ لاشتمال صلاة الظهر علی خصوصیات مختلفة، الموجبة لاختلاف حکمها. وحیث کانت الخصوصیة غیر معلومة بنفسها، فلابدّ من تعیّنها من کونها واجبة أو مندوبة أو محرّمة، علی وجه التوصیف، أو الغایة، وهذا هو المطلوب .

وفیه أوّلاً: لما عرفت فی سابقه بأنّه لا یثبت إلاّ أصل الوجوب، أمّا کونه بالتوصیف أو الغایة فلا، کما لا یخفی .

وثانیاً : انّا لا نسلّم کون جهة وصف الوجوب أو غایته مأخوذةً فی المأمور به، لإمکان کونه ناشئاً من الاختلاف فی المأمور، یعنی اختلاف حالات المکلّف أوجب ذلک، لا أصل المأمور به .

ص:235

وثالثاً : لو سلّمنا کون الاختلاف فی أصل المأمور به، ولکن لا نسلّم کون هذه الخصوصیّة مأخوذة فی متعلّق الأمر، کی یحتاج إلی قصدها فی حصول موافقة إرادة الفاعل لما تعّین به إرادة الآمر ، مع إمکان أن یقال: بأنّ قصد کونه مطلوباً للمولی بالطلب الثابت فی الواقع یکفی، ولو لم یقصد جهة وجوبه أو ندبه ، بل حتّی لو قصد کلّ واحد منهما مکان الآخر جهلاً أو غفلة _ بل ولو تعمّداً، لو تمشّی منه قصد القربة فی ذلک _ فإنّ أرکان العبادة حینئذٍ تکون تامّة من جهة النیّة .

ومنها : التمسّک بقاعدة الاشتغال، بأن یقال : لا إشکال فی کون الذمّة مشغولة بالواجب قطعاً، ولابدّ له من أصل النیّة، فیشکّ أنّ الواجب هل یحصل بإتیانها کیف ما شاء، أو لابدّ من أن یقصدها مع وصف وجوبه، فالاشتغال الیقینی یقتضی أنواع الیقین، وهذا هو معنی وجوب قصد الوجه فی العبادة .

لکنّه أیضاً مخدوش أوّلاً : بأنّ مقتضی العمل علی طبقه، وجوب کلّ من التوصیف والغایة، حتّی یحصل القطع بالفراغ ، إلاّ أن یدّعی بأنّا نقطع بعدم وجوب کلیهما، وأنّی لهم بهذا القطع والدعوی .

وثانیاً : إنّ مثل تلک القیود، حیث کانت وجودها متأخّرةً عن أصل وجود الأمر _ نظیر قصد امتثال الأمر حیث یکون متأخّراً عن متعلّق الأمر برتبتین من تحقیق الموضوع أوّلاً ، ثمّ وجود الأمر بعده ثمّ قصد امتثاله _ کذلک تکون فی مثل قصد الوجه، إن قلنا بعدم الاستحالة فی أخذ وجوبه فی أصل الأمر، وکان ذلک ممکناً علی المولی، فمع ذلک لم یأخذ ولم ینبّه عبده بوجوب ذلک، مع کونه فی صدد بیان الحکم، فلا إشکال حینئذٍ من إجراء أصل البراءة العقلیّة من قبح العقاب بلا بیان ، بل وکذلک البراءة الشرعیة، لأنّه حینئذٍ یندرج فیما لا یعلم .

وإن قلنا بالاستحالة _ نظیر صاحب «الکفایة» ومن تبعه _ فحینئذٍ لابدّ أن ینبّه علیه بجعل ثانوی ودلیل مستقلّ، وما دام لم یرد فیه ذکر فإنّه یجری فیه البراءة المذکورة.

فالمقام مقام إجراء أصل البراءة لا الاشتغال.

ص:236

فبعدما عرفت الإشکال فی تمام الوجوه المذکورة لبیان وجوب قصد الوجه، فلا یبقی لنا دلیل علی إثباته .

مع أنّ الفقیه بعد الوقوف علی أهمّیة هذه المسألة، وخفائها لعامّة الناس _ لأنّه لیس ممّا یفهمه عامة الناس بل هو أمر معنوی فی الجملة _ یقف علی نّه لابدّ من الإشارة إلیه فی لسان الأخبار، ومع ثبوت هذا الأمر نلاحظ أنّه برغم ذلک لیس فی الأخبار والآثار _ مع کثرتها _ إشارة ولا أثر لهذه النکتة، فحینئذٍ یطمئنّ الفقیه بعدم وجوبه، ویجوز له حینئذٍ التمسّک بأصل البراءة فی مثله، لو عرض له شکّ من تلک الناحیة، فثبت ممّا حقّقناه عدم وجوب قصد الوجه مطلقاً، سواء کان علی نحو التوصیف أو الغایة أو الوجه الذی قدّمنا تفسیره .

فإذا عرفت عدم وجوب قصد الوجوب أو الندب _ وصفاً أو غایةً _ فعدم وجوب قصد الملاک والمصلحة _ الذی قد وقع فی کلام المتکلِّمین، ما یوجب توهّم وجوب قصده فی العبادة _ یکون بطریق أولی، لأنّ وجوب المصلحة والملاک لیس فی جمیع الأوامر، لإمکان تحقیق الأمر بدون وجود مصلحة أصلاً فی المأمور ، بل ربما کان فیه المفسدة، ولکن تحقّق مصلحة فی ذات الأمر یصحّح الأمر، فحینئذٍ لیس فی الواقع شیئاً حتّی یقصده، کما لا یخفی .

وممّا ذکرنا فی هذه المسألة تتفرّع علیها فروع، لا بأس بالإشارة إلیها، وبیان حکمها :

الأوّل : ما لو أجمل فی إیقاع شیء کان فی الواقع واجباً، ولکن لم یقصد منه إلاّ نفس أمره مع کونه متقرّباً به إلی اللّه من دون انتباهه إلی کونه موصوفاً بالوجوب، أو مغیّی بغایة الوجوب، أو کان فیه الملاک والمصلحة فلا إشکال فی صحّته علی ما اخترناه، خلافاً لمن اعتبر قصد الوجه، حیث یبطل الفعل عنده قطعاً لفقدان قصد الوجه فیه .

الثانی : ما لو أوقع العمل العبادی کالوضوء الواجب مثلاً، إلاّ أنّه قصد خلاف ما هو الواقع، بأنّ قصد الندب بدل الوجوب، فهو یتصوّر بوجوه ؛ لأنّه تارةً: یقصده

ص:237

کذلک خطأً وغفلةً، یعنی کان یقصد الوجوب إلاّ أنّه سهی وقصد الندب مکانه، فهو أیضاً باطل عند من اعتبر قصد الوجه فی خصوص کلّ فعل. خلافاً لمن لم یعتبره، حیث یحکم بالصحّة لتمامیّة النسبة برکنیها، وهما قصدا الأمر وکونه قُربیّاً، فالوضوء التجدیدی یکفی للواقعی لو کشف الخلاف .

واُخری: اعتقاداً یعنی کان مقصوده الإتیان بما هو الواجب واقعاً، ولکنّه اعتقد أنّه مندوب أو عکسه، فهو أیضاً کسابقه من الصحّة عندنا والبطلان عند من اعتبره، کما قد عرفت بأنّ ما قُصد لم یقع وما وقع لم یقصد، وقد عرفت أیضاً جوابه بأنّ رکنی النیّة هنا تامّ، فلا وجه للحکم بالبطلان .

وثالثة : تشریعاً ، وهو أیضاً یتصوّر علی وجهین ؛ تارةً : بأن یکون تشریع فی خصوص وصفه لا فی أصل الأمر ، وهو إنّما یکون فیما إذا جوّزنا إمکان التفکیک بین الأمر وصفته فی مرحلة التشریع، وقلنا إنّه أراد الإتیان بامتثال أصل الأمر الواقعی، إلاّ أنّه شرّع فی کونه واجباً، فأتی به بعنوان أنّه مندوب تشریعاً، فأصل الأمر حینئذٍ لیس فیه تشریع ، وانّما کان فی خصوص الوصف.

وهذا وإن أوجب الحرمة فی العمل، إلاّ أنّه کان فی وصفه لا فی أمره وموصوفه، فهو فی جوازه باقٍ، فلا یبعد الحکم بالصحّة حینئذٍ، کما اختاره الحکیم وصاحب الحاشیة علی «المعالم» والآملی .

واُخری: بأن یکون التشریع فی أصل الأمر، أو قلنا بعدم جواز التفکیک بین الوصف والموصوف فی التشریع الحرام، یعنی إذا کان الوصف متحقّقاً بصورة التشریع، کان الموصوف أیضاً کذلک، فحینئذٍ یحکم بالبطلان قطعاً .

ورابعة : تقییداً، یعنی أنّه کان یقصد امتثال أمر المولی، وقصد القربة به أیضاً، إلاّ أنّه زعم بأنّ الوضوء کان واجباً له، فأتی بذلک علی نحو ما لو علم بکونه مندوباً لما فعل .

وبعبارة اُخری : إنّ داعویة الأمر له کان علی تقدیر کونه أمراً وجوبیّاً، فبان الخلاف، وظهر کونه مندوباً، فهل یحکم بالصحّة أو لا؟

ص:238

أکثر الفقهاء المعاصرین _ تبعاً للسیّد فی «العروة» _ یقولون بالبطلان کالگلبایگانی والشاهرودی والآملی والحکیم، أو علی إشکال کما عن الخمینی .

أو یحکم بالصحّة، کما علیه الخوئی، ولا یخلو عن وجه، لأنّ المفروض قصده الأمر وامتثاله، مع أنّه قد أضاف عمله إلی اللّه متقرّباً إلیه ، غایة الأمر انّه کان رجلاً لا یحرّکه أمر ندبی بل یحرّکه أمر وجوبی، ولکنّه بزعم أنّه تخیّل الأمر الندبی أمراً وجوبیّاً وتحرّک وأتی به مع تمام أرکان النیّة، فلِمَ لا یصحّ؟

وإن کان الأحوط هو الحکم بالبطلان، لأنّ المحرّک له لیس إلاّ أمراً تخیّلیاً لا واقعیّاً ، واللّه العالم .

الثالث : بأن یأتی بالعمل احتیاطاً، کما لو شکّ فی الحدث بعد أن تیقّن بالطهارة فأراد أن یتوضّی ثانیاً احتیاطاً، فتوضّأ کذلک، فبان الخلاف؟

لازم ما ذکرنا من وجود أرکان النیّة هو الحکم بالصحّة، کما علیه الشیخ الأعظم فی «طهارته»، وهو الأقوی عندنا خلافاً لآخرین «کالقواعد» للعلاّمة و«البیان» للشهید و«جامع المقاصد» للمحقّق الکرکی، حیث حکموا بالبطلان ؛ لأنّ المکلّف بحسب الارتکاز فی هذه الموارد یقصد امتثال الأمر الواقعی، غایته حیث لا یعلم وجوده قطعاً، فیأتی بالعمل رجاءً واحتیاطاً لدرک الواقع ، فحینئذٍ لو صادف الواقع، ولم یمکن مطهراً، فإنّ ذلک یعدّ امتثالاً وطاعة للأمر الوجوبی، وإلاّ کان امتثالاً للأمر الندبی التجدیدی، فنیّة ما فی الذمّة من وجود أحد الأمرین مع قصد القربة یکفی فی صحّة العمل .

نعم ، لا یکفی ذلک لمن یعتبر الجزم فی النیّة لامتثال الأمر، کما نقل عن بعض، ولکن الأقوی عدم اعتبار الجزم فیها، لعدم دلیل واضح فی البین .

ثمّ أنّه أشار المصنّف فی کلامه إلی اعتبار قصد القُربة، فنقول: لا یخفی علیک أنّ النیّة المعتبرة فی العبادة، عبارة عن قصد الشیء وإرادته، بأن یکون متقرّباً به، فالعبادة تتقوم برکنین:

ص:239

أحدهما : الإرادة الموجبة لصیرورة الفعل الصادر عنها متّصفاً بالاختیار .

وثانیهما : کون هذه الإرادة منبعثة عن أمر المولی، ومأتیاً بها بقصد طاعة أمر المولی، المسمّی بذلک أنّه داع قُربی، فکانت تسمیة نسبة العبادة بالقربة من باب تسمیة الکلّ بأحد جزئیها، وهو الجزء الثانی منه، لأنّه العمدة فی العبادة، أو الجزء الأوّل منهما حیث کان دخیلاً فی اختیاریة الفعل .

وحیث کانت الأوامر الصادرة من الشارع _ بحسب اعتقاد الإمامیّة، وفاقاً للمعتزلة وخلافاً للأشاعرة _ تابعة للمصالح الکامنة فی متعلّقاتها، کما أنّ نواهیها أیضاً تابعة للمفاسد الکامنة فی متعلّقاتها، وکانت المصالح والمفاسد واقعة فی سلسلة علل الأوامر والنواهی ، کما أنّ عنوان الموافقة والمخالفة من العناوین المترتّبة علی إتیان المأمور به وترکه، أو ترک المنهی عنه، وفعله المترتّبة علیها من الثواب والعقاب، بناءً علی هذا یمکن أن نقول إنّ لنا هنا اُمور ثلاثة :

أحدها: ذات الأوامر الصادرة من الشارع .

وثانیهما : الاُمور الواقعة فی ناحیة العلل کالمصالح والمفاسد .

وثالثها : الاُمور الواقعة فی سلسلة المعالیل، کالموافقة والمخالفة، والفوز بالجنّة للثواب، والخوف من النار للعقاب .

فحینئذٍ یقع الکلام فی انبعاث العبد للامتثال من الأوامر، حیث یمکن أن یکون علی ثلاثة أوجه، لأنّه: تارةً: یکون محرّکه نفس الأمر، أو تکون علّة اُخری، أو معالیله ثالثة ، فأمّا الأوّل: فإنّه تارةً یکون محرّک العبد نفس الأمر، ومن المعلوم أنّ باعثیة نفس الأمر لا یکون إلاّ من جهة معرفة العبد بأهلیة المولی للعبادة، وأنّه یجب إطاعته، لوضوح أنّ السؤال عن لمیّة الشیء لابدّ أن یترتّب علی ما لا یحتاج فیما بعده من السؤال بل یعدّ السؤال بعده قبیحاً ، ومن الواضح أنّه لو سئل عن العبد لِمَ یعمل ذلک ؟ یقول : لأنّ المولی قد أمرنی ذلک ، فلم یکف ذلک عن السؤال ، ولهذا لو سئل عنه لم أوجبت علی نفسک إجابة دعوة المولی ؟ یجیب

ص:240

بأنّه مولای وأنا عبده، وکان ذلک مقتضی العبودیّة والمولویّة، فإنّ السؤال بعد ذلک بلِمَ کان إطاعة المولی مع العلم بمولویّته واجباً؟ یکون لغواً لأنّ اقتضاء المولویّة یفید ذلک عقلاً فلا وجه للسؤال عنه بعده، کما لا یخفی .

ومن المعلوم أنّ داعویّة الأمر بنفسه للتحریک، إنّما ینشأ من معرفة العبد بأهلیّة المولی للعبادة ، غایة الأمر أنّ العمل الذی ینطبق علیه عنوان العبادة، تارةً یکون بذاته کذلک، من دون احتیاج إلی القصد فی صدق العبادة، کالسجود حیث أنّه یکون بذاته خضوعاً وتذلّلاً من دون حاجة إلی قصد ذلک .

واُخری : بأن لا یکون کذلک إلاّ بالقصد، کأکثر الأعمال من الأفعال کقراءة القرآن والدعاء ونظائرهما، فهذا القسم منه إذا کان المحرّک والباعث لإتیانه هو نفس الأمر، یکون ذلک هو أقوی أقسام العبادة، لکونه عبادة ناشئة من معرفته بأهلیة الآمر، وهی تعدّ عبادة الأحرار، کما هو حال عبادة مولی الموالی وسیّد المتّقین أمیر المؤمنین علیّ بن أبی طالب علیه السلام بقوله : «ما عبدتک خوفاً من نارک، ولا طمعاً إلی جنّتک، بل وجدتک أهلاً للعبادة فعبدتک»(1).

وأمّا القسم الثانی وهو محرّکیة الأمر بعلّیته، وهو یتصوّر علی وجهین أیضاً : لأنّه تارةً: یکون الملاک المحرّک منضمّاً مع الأمر، لا بأن یکون بنفسه محرّکاً، بحیث لو لم یکن الأمر معه لما کان محرّکاً.

ففی هذا القسم أیضاً لا إشکال فی صحّة العبادة، لأنّ المحرّک حقیقة حینئذٍ هو الأمر لا الملاک وحده، هذا کما فی «مصباح الهدی» .

ولکن الإنصاف أنّ الأمر حینئذٍ لا یکون بنفسه محرّکاً، لأنّه المفروض، بل هو مع الملاک یکون محرّکاً، فحیث یکون العمل صادراً عن أمر المولی وإطاعته، وکان متقرّباً به إلی اللّه، فیکون محکوماً بالصحّة، لتحقّق رکن النیّة المعتبرة فی العبادة .


1- مرآة العقول: ج2 / 104، الوافی: ج1 / 70.

ص:241

واُخری: ما إذا کان المحرّک هو نفس الملاک، بحیث لولاه لما کان الأمر بنفسه محرّکاً ، فهو مورد للخلاف، حیث أنّ المختار عند صاحب «الجواهر» هو عدم الصحّة، حیث استدلّ بأنّ العبادة لا تتحقّق إلاّ بصدق الإطاعة، وهی لا تصدق إلاّ بامتثال الأمر، ولا ربط للملاک فی صدق العبادة أصلاً، بل لو أمر المولی بما لا ملاک فیه، أو کان مع المفسدة وأتی العبد بما أمره بقصد إطاعة أمره کان عبادة وصحیحة، فوجود الملاک وعدمه، وقصد تحقّقه وعدمه، أجنبیٌّ عن صحّة العبادة.

هذا، خلافاً للآخرین منهم الشیخ الأعظم والآملی0 حیث اختاروا القول بالصحّة.

بل قال الشیخ: «بأنّ مدخلیة قصد الملاک کان مدخلیة فی تحقّق الطاعة أشدّ من قصد الأمر نفسه، حیث قاس رحمه الله ذلک بمثال حال عبدین علما بعطش المولی، مع عدم صدور أمر منه بإحضار الماء، فامتنع الأوّل عن إحضاره معتذراً بأنّ المولی لم یأمر به ، وبادر الآخر بإحضاره لعلمه بعطش مولاه، فلا محالة یکون الأخیر أطوع لمولاه من الأوّل» . انتهی ما حکی عنه .

ولکنّ الإنصاف أنّ القیاس مع الفارق، لأنّ ما نحن فیه یکون فیما إذا لم یتحرّک من الأمر الموجود بنفسه ، بل حرّک عن ملاکه، بخلاف المثال حیث قد فرض عدم وجود أمر فیه، فلا إشکال فی أنّ هذا العبد العالم بالملاک والآتی بالماء یعدّ أطوع من الآخر، ولکن الأطوعیّة فی فرض مسألتنا مشکل جدّاً .

کما أنّ الآملی قدس سره أیضاً قد خرج عن فرض المسألة فی مقام اختیاره، لأنّه قد فرض کون المسبّب للمحرّک هو کلّ واحد من الأمر والملاک، فقال ما هذا نصّه ومحصّله فی المقام: «إنّ صحّة الإتیان بالوضوء بداعی ملاک الأمر به، بمعنی أنّه إذا لم یکن مرتبة المکلّف فی المعرفة والمحبّة لمولاه إلی درجة یتحرّک بنفس الأمر، لکنّه من جهة معرفته بأنّ المولی لا یأمر إلاّ بملاک فی متعیّن أمره، یتحرّک عن أمره، باعتبار علمه بالملاک، وإن کان علمه به بنفس تعیّن الأمر، ومرجع هذا إلی کون الملاک والأمر المسبّب عنه کلیهما موجبین لتحریک العبد، بحیث لو علم

ص:242

بالملاک من غیر ناحیة الأمر لما کان یتحرّک، وکذلک لو علم بالأمر من غیر أن یکشف الأمر عن الملاک، لما تحرّک نحو العمل ».

والحقّ أنّ هذا کافٍ فی صحّة العمل العبادی، إذ لولاها للزم بطلان عبادة أکثر من لا ینبعث نحو العمل بمجرّد الأمر به ، بل إنّما یحرّکهم الأمر لعلمهم بسببه، بما فیه من المصالح والعلل» انتهی کلامه .

فیرد علیه أوّلاً : بأنّه خارج عن الفرض، لما قد عرفت بأنّ ما فرضه کان هو القسم الأوّل، وقد عرفت صحّة عبادته، وما نبحث عنه هو فیما إذا لم یکن الأمر محرّکاً لا بنفسه ولا بانضمام الملاک ، بل المسبّب هو الملاک، غایته کان طریق الالتفات إلیه بواسطة الأمر، فهل یکفی هذا فی صحّة العبادة أم لا؟ فانّه أوّل الکلام .

وثانیاً : ما ادّعاه بأنّه لولا صحّة عبادة من تحرّک بالملاک، للزم بطلان عبادة الأکثرین، لأنّهم منبعثون عن طریق العلم بالملاک ، أمرٌ عجیب ، لوضوح أنّ أکثر الناس لا یتوجّهون إلی المصالح والعلل .

نعم ، ذلک یصحّ للخواص وهم قلیلون، کما لا یخفی .

کما أنّ دعوی کثرتهم للمتحرّک عن الملاک والأمر هنا أیضاً لا یخلو عن إشکال، کما هو واضح لا خفاء فیه .

والأقوی أن یُقال فی ذلک بأنّه إن اعتبرنا فی صحّة العبادة وجود قصد امتثال الأمر _ کما ادّعاه البعض _ ولا یکتفی بوجود الملاک ومحرّکیته، فلازمه البطلان، کما ذکره صاحب «الجواهر» قدس سره .

وأمّا لو لم نقل بذلک، وقلنا بکفایة کون العمل محبوباً عند اللّه، ومشتملاً علی الحسن الفاعلی والفعلی، وأتی به بقصد القربة، ولم یکن ذات العمل مبغوضاً للمولی، فلا محالة تکون العبادة صحیحة.

وهذا، هو الظاهر، وسوف نشیر إلی نظائره فیما بعد إن شاء اللّه تعالی، کما وافقنا علیه السیّد الاصفهانی فی «الروائع» ، بل وکذلک صاحب «الکفایة» علی

ص:243

ما ببالی، ولعلّه هذا هو مراد الشیخ الأعظم قدس سره .

وأمّا القسم الثالث: وهو ما لو کان المحرّک للعبد المعالیل من الفوز بالثواب والجنّة، والخوف من العقاب والنار، أو الموافقة للأمر، أو الفرار عن المخالفة، فهذا القسم أیضاً یتصوّر علی ثلاث صور :

الاُولی: ما لو قصد الموافقة للأمر، أو الفرار عن مخالفته ، فالظاهر صحّة العبادة، لأنّ الموافقة والمخالفة لیس إلاّ الإتیان بالمأمور به وترکه، فلا یکون الإتیان به إلاّ بأن یقصد امتثال أمره، فنسبة الموافقة یرجع مآلُه إلی قصد امتثال الأمر، وهو معنی صحّة العبادة .

الثانیة: بأن یقصد الثواب فوزاً بالجنّة والحور والقصور، أو فراراً من العقاب ونظائره، لکن عن طریق امتثال الأمر، کما هو عبادة أکثر الناس، خاصة فی الأدعیة والصلوات المقامة لأجل قضاء الحاجات، من حوائج الدُّنیا والآخرة کطلب سعة الرزق ورفع الهمّ والغمّ وشفاء السقم، وغیر ذلک .

فهو أیضاً محکوم بالصحّة، لأنّه فضلاً عن تحلیه بما هو شرط فی النیّة من قصد امتثال الأمر، وکون العمل عبادیاً وقربیّاً، لا دلیل للمنع عن الصحّة عقلاً ولا نقلاً ، بل الدلیل علی خلاف المنع قائمٌ لما قد عرفت من تمامیّة أرکان النیّة وشرائطها، هذا بحسب العقل .

وأمّا بحسب النقل، فقد ورودت أخبار کثیرة من الوعد والوعید، لأجل ترغیب الناس لإقامة الصلوات وقراءة الأدعیة نیلاً للثواب والجنّة والحور، أو یرهبونهم عن العقاب والنیران وأمثال ذلک، مضافاً إلی ما عرفت من قول أمیر المؤمنین علیه السلام من تثلیث العبادة حیث نفی القسمین الآخرین، وهو الخوف عن النار، والطمع إلی الجنّة عن نفسه، المشعر بوجود الآخرین لغیره علیه السلام ، مضافاً إلی ورد الحدیث فی تقسیم العبادة إلی ثلاثة، من عبادة الأحرار، وعبادة الاجراء، وعبادة العبید، مثل خبر هارون بن خارجة عن الصادق علیه السلام قال : «العبادة (إنّ

ص:244

العبادة) ثلاثة قوم عبدوا اللّه عزّوجلّ خوفاً، فتلک عبادة العبید ، وقوم عبدوا اللّه تبارک وتعالی طلب الثواب، فتلک عبادة الأحرار ، وقوم عبدوا اللّه عزّوجلّ حبّاً له، فتلک عبادة الأحرار، وهی أفضل العبادة»(1).

فحکم هذه الصورة واضحة .

وثالثة : بأن یقیم العبادة طلباً للثواب، أو خوفاً عن العقاب _ دنیویّاً کان أو أخرویّاً _ لکن من دون التفات إلی قصد امتثال الأمر ، بل کان تمام العلّة فی محرّکیّته ما ذکرناه، بحیث لو لم تکن تلک الآثار مترتّبة لما تحرّک نحو العمل ، فقد یمکن أن نقول بالصحّة، من جهة ما ذکرناه سابقاً، من کون النهی بنفسه محبوباً عند اللّه، وذا مصلحة راجحة فی الواقع، ومشتملاً علی الحسن الفعلی والفاعلی، ولا یکون مبغوضاً ومبعّداً، فیحکم بالصحّة ، ولکن الإجماع المستفاد من کلمات الفقهاء، ولم یشاهد خلافاً من أحد، هو الحکم بالبطلان فی هذه الصورة، بلا فرق بین کون المقصود أمراً دنیویّاً أو أخرویّاً ، ولعلّ وجهه أنّه لم یتقرّب بذلک إلی اللّه، إذ لم یقصد إلاّ سعة الرزق مثلاً وهو المحرّک له فقط، من دون قصد الأمر، أو القرب إلیه تعالی ، فالحکم بالبطلان فی هذه الصورة لا یخلو عن قوّة، کما ادّعی العلاّمة فی «أجوبة المسائل المهنّائیة» اتّفاق العدلیة علی البطلان فی هذه الصورة، کما قاله أیضاً فی «القواعد» ونسبه إلی أکثر الأصحاب، کما نقل عن الفخر الرازی الاتّفاق علی ذلک من المتکلِّمین .

نعم ، قد یشاهد الخلاف عن ابن زهرة، حیث فسّر القربة بطلب المنزلة الرفیعة عند غسل ثوبه .

وعن الحلبی: بالحکم بالاستحباب، أن یرجو المصلّی بفعل الصلاة مزید الثواب، والنجاة من العقاب.


1- وسائل الشیعة: الباب 9، مقدّمات العبادات، الحدیث 1.

ص:245

وهل یجب نیّة رفع الحدث، أو استباحة شیء ممّا یشترط فیه الطهارة؟ الأظهر أنّه لا یجب(1)

وضعفهما واضح، لو لم یکن مقصودهما القسم الثانی من الأقسام، کما لا یبعد أن یکون کذلک .

فی الوضوء / نیّة رفع الحدث أو الاستباحة

ولا یخفی علیک أنّ المراد من قصد القربة، هو التقرّب إلی اللّه، سواء کان بواسطة قصد امتثال الأمر، أو کان بلحاظ کون العمل محبوباً عند اللّه، فأراد إتیانه حبّاً له ولو لم یکن أمراً فی البین، لأجل مزاحمته مع شیء، أو لم یکون إظهاره مصلحة ولکن العبد علم بذلک فأتی به قربة إلی اللّه، ولعلّه المراد من قوله تعالی : «وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ»(1) وقوله تعالی: «وَیَتَّخِذُ مَا یُنفِقُ قُرُبَاتٍ عِنْدَ اللّه ِ وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ أَلاَ إِنَّهَا قُرْبَةٌ لَهُمْ»(2) حیث یکون المقصود هو التقرّب إلیه بذلک، غایة الأمر حیث کان بحسب النوع یکون الأمر موجوداً فی موارد العبادات، فیکون قصد القربة فیها نوعاً منضمّاً مع قصد امتثال الأمر، فلذلک توهّم کون معنی قصد القربة هو قصد الطاعة، وامتثال الأمر، کما ذکر صاحب «الجواهر»، وإلاّ فإنّ دعوی انحصاره فیه کما یستظهر من صاحب «الجواهر» _ لا یخلو عن شیء .

(1) فهل یجب فی الوضوء المبیح للصلاة _ لا غیرها للاتّفاق بعدم لزوم قصد رفع الحدث والاستباحة فیه، هذا کما عن الشیخ الأعظم فی «طهارته» ، مع أنّه نقل لزوم نیّة الاستباحة لغیر الصلاة ممّا اشترط فیه الطهارة کالطواف عن ظاهر «اللمعة» ، وکیف کان _ نیّة رفع الحدث کما نقل عن بعض کتب الشیخ ؟

أم یجب نیّة الاستباحة للصلاة وغیرها _ کما هو ظاهر «اللمعة» تبعاً للمحکی


1- سورة العلق: آیة 19.
2- سورة التوبة: آیة 100.

ص:246

فی «غایة المراد» عن السیّد المرتضی، بل لعلّه یظهر من الشیخ فی «الخلاف»

و«الاقتصاد»؟ أم یجب أحدهما تخییراً _ کما یظهر عن «المبسوط» وموضع من «الوسیلة» و«السرائر» مدّعیاً علیه الإجماع، و«المعتبر» وأکثر کتب العلاّمة والشهید وفخر الدِّین فی «رسالة النیّة» _ ؟

أو یجب کلاهما _ کما هو ظاهر «الکافی» و«الغنیة» وموضع آخر من «الوسیلة»، وحکی عن «الاصباح» والرازی والقاضی والمصری _ ؟

أو لا یجب شیء منهما _ کما هو ظاهر «النهایة» والمحکی عن «التبرّی» لابن طاووس، ومنهم المصنّف هنا ، بل وعلیه جماعة من متأخِّری المتأخِّرین، وعلیه الشیخ الأعظم والهمدانی وصاحب «الجواهر»، والسیّد فی «العروة» وأصحاب التعالیق علیها _ أم لا؟

وجوه وأقوال: فقد استدلّ للأوّل بأُمور لا یمکن الاعتماد علیها لبطلان جمیعها :

منها : بأنّ الوضوء شُرِّع لرفع الحدث، فلابدّ من إتیانه بقصده، حتّی تتطابق الإرادة الفاعلیة مع إرادة الآمریّة، فیتحقّق بذلک الامتثال وإلاّ فلا .

وفیه : أنّ مجرّد کون تشریعه لذلک، لا یستلزم إثبات وجوب نیّتها، مع عدم کون رفع الحدث من مشخّصات الوضوء ومقیّداته ، بل هو من الآثار المترتّبة علیه کالاستباحة، حیث أنّها تعدّ من الآثار .

نعم ، لو کان القصد المذکور من مقوّماته، أو دخیلاً فی عبادیّة الوضوء، فللشرط وجه، ولکن کلیهما ممنوعان لعدم قیام دلیل علی إثباتهما، لأنّه لو کان المکلّف جاهلاً بما شرّع _ کما هو کذلک غالباً _ وأتی به مع قصد القربة کان کافیاً فیصحّته .

مع أنّ ظاهر الکتاب من إیجاب الغسلتین والمسحتین، وکذلک السنّة کما فی الوضوءات البیانیّة، أقوی شاهد لکفایة العمل وصحّته، من دون حاجة إلی قصد رفع الحدث .

ص:247

مع أنّ مقتضی سکوت الأئمّة علیهم السلام عن ذکر ذلک ممّا للعموم فیه خفاء فی

الجملة، مع کونه مورد الحاجة لهم، یوجب الاطمئنان للفقیه علی الفتوی، بعدم الوجوب، کما هو کذلک بحسب الاعتبار .

مع أنّ مقتضی قاعدة البراءة العقلیة من قبح العقاب بلا بیان، والبراءة الشرعیة هو عدم الاعتبار، مع ما عرفت من الإطلاق المقامی من ظاهر الکتاب والسنّة .

ومنها : بأنّ الوضوء مشترک بین ما هو الرافع للحدث وغیره، فلابدّ من تمییزه بالقصد، وإلاّ فلا یکون رافعاً .

وفیه: أنّ مجرّد الاشتراک بینهما لا یوجب تعدّد الوضوء فی الحقیقة والواقع، لوضوح أنّ الوضوء لیس إلاّ حقیقة واحدة، ویکون رفع الحدث والاستباحة وغیرهما من الأوصاف اللاحقة له، بحیث لو صادف الواقع بما کان فیه حدثٌ واقعاً غیر ممیّز یرفعه، أو صادف ما یقتضی الاستباحة لما اشترط فیه الوضوء أباحه، وإلاّ فلا .

وبالجملة : إنّ الأسباب الشرعیّة تکون کالأسباب العقلیة مؤثّرة، من دون توقّف تأثیرها علی قصد موجدها ، ولذلک نحکم بکفایة کون العمل مأتیّاً بما له من الأجزاء والشرائط بداعی قربی فی صحّته ، فلو جهل کونه رافعاً للحدث، أو اعتقد خلافه، ثمّ ظهر ما هو الواقع فلو توضّأ بزعم أنّه کان متوضّیاً، حتّی یکون الوضوء تجدیدیّاً، فظهر کونه رافعاً أو بالعکس _ أی قصد رافعیّته للحدث فبان خلافه وصیرورته تجدیدیّاً کان وضوئه صحیحاً، ویؤثّر أثره _ فلو کان القصد بخصوصیة کذا دخیلاً فیه، کان اللازم هو الحکم بعدم الکفایة والصحّة .

ومنها : بأنّ ذلک لو لم ینو رفعه، لم یرتفع الحدث، لأنّه مقتضی ما ورد فی الحدیث بأنّ: «لکلّ امرئ ما نوی وإنّما الأعمال بالنیّات» هذا .

وفیه : بأنّه ینافی کون ما قصد فقد وقع له، مع تحقّق رفع الحدث بدون قصده، لأنّ الظاهر من الحدیث هو أنّ قصد الوضوء موجبٌ لوقوع الوضوء، وارتفاع

ص:248

الحدث إن کان محدثاً بالأصغر غیر الدائم، وإلاّ فلا .

هذا، مع إمکان أن یُقال : بأنّ رفع الحدث إن کان مجرّد قصده بنفسه کافیاً فی تحقّق رفع الحدث الموجود، فحینئذٍ أیّ حاجة فی لزوم قصد القربة فی الوضوء، لأنّه قد حصل ما هو شرط الطهارة بدون قصد القربة أیضاً، مع أنّ فساده واضح .

مضافاً إلی أنّه فرق بین أن یکون رفع الحدث من الآثار، فیکون معناه أنّ الوضوء الذی أتی به مع قصد القربة یکون رافعاً للحدث، وبین أن یُقال بأنّ الوضوء الذی کان یقصد کونه رافعاً للحدث أتی به بداع القربة، ویکون صحیحاً، حیث یکون رفع الحدث من القیود ، ومن المعلوم _ ممّا سبق ذکره _ صحّة الأوّل منهما لا الثانی .

مع أنّ القائلین بوجوب قصد رفع الحدث أو الاستباحة، لم یتعرّضوا لکیفیّة وجوب نیّتهما، وأنّه هل هی بصورة التوصیف، أو بصورة تصوّر الغایة حتّی یتّضح مقصدهم ببیان مطلبهم، فراجع کلامهم .

ویستدلّ للقول الثانی بأمرین :

الأوّل: بقوله تعالی : «إِذَا قُمْتُمْ إِلَی الصَّلاَةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَکُمْ وَأَیْدِیَکُمْ إِلَی الْمَرَافِقِ»(1) الآیة ، حیث إنّها تدلّ علی أنّ الوضوء قد وجب لأجل الصلاة ، فلیس المقصود من إیجابه لأجلها إلاّ حصول الاستباحة للدخول فیها، نظیر ما لو قیل: إذا لقیت العدوّ فخذ سلاحک ، الظاهر فی کون وجوب أخذه کان لأجل لقاء العدوّ، فیصیر ذلک عنواناً مشیراً إلیه، أی کان وجوبه لأجل ذلک، فلابدّ من قصد العنوان حتّی یصیر امتثالاً لأمره، وهذا هو المطلوب .

الثانی: صحیح زرارة ، عن أبی جعفر علیه السلام قال : «إذا دخل الوقت وجب الطهور والصلاة، ولا صلاة إلاّ بطهور»(2) .


1- سورة المائدة: آیة 6.
2- وسائل الشیعة: الباب 4 الوضوء، الحدیث 4.

ص:249

حیث یدلّ علی أنّ الطهور کان لأجل الصلاة، فلو لم ینو إباحة دخوله فیها لم

یتحقّق ما هو المأمور به.

هذا، ولکن الإنصاف عدم تمامیّة کلا الأمرین .

فأمّا الأوّل: _ مضافاً إلی أنّ مقتضی هذا الدلیل _ علی فرض التسلیم _ إثبات الحکم لخصوص الصلاة لأحد قسمی الوضوء ما هو مبیحاً للدخول فیها، وأمّا غیر المبیح من الرافع للحدث أو الوضوء التجدیدی الذی یکون غیر مبیح وغیر رافع فلا یشملهما _ أنّه إمّا تدلّ علی أنّ الدخول فی الصلاة متوقّف علی تحصیل الطهارة، وامّا أنّ تحصیلها لا یکون إلاّ بالقصد، وامّا نیّته فلا ، لعدم وجود دلیل یدلّ علی ذلک، حیث قد عرفت فی رفع الحدث بأنّه والاستباحة تعدّان من الآثار المترتّبة علی الوضوء قهراً _ سواء قصدهما أو لا ، سواء علم المکلّف بهما أو جهلهما _.

لا یقال : لیس الأمر بالوضوء الصلاتی إلاّ کالأمر بالقیام لإکرام زید فی قوله : قم لإکرام زید عند مجیئه ، فکما أنّه إذا قام عند مجیئه لا بقصد إکرامه، لایحصل الامتثال، فهکذا یکون فی المقام، حیث أنّ الوضوء بدون الاستباحة لا یحصل به الامتثال .

لأنّا نقول: بأنّ القیاس مع الفارق، لأنّ الإکرام أمرٌ قصدی، فلو لم یقم بهذا القصد لم یکن إکراماً ، هذا بخلاف الإستباحة، حیث تعدّ من آثار الوضوء الواجد للشرائط، لما قد عرفت أنّ هذا الأثر یترتّب علیه سواء علم المکلّف به أو لا ، وسواء قصده أو لا .

فی الوضوء / تنبیهات حول النیّة

وأمّا الثانی: مضافاً إلی سریان الجواب المذکور فی الدلیل الأوّل إلیه، نقول هنا بأنّه لا یجب علینا حین دخول الوقت إلاّ شیئین، وهما الطهور والصلاة، وکون الطهور لابدّ أن یتقدّم علی الصلاة، لقوله بعد ذلک : «إنّه لا صلاة إلاّ بطهور» .

وأمّا وجوب کون الطهور مع قصد الاستباحة للصلاة ، فمّما لا دلیل لفظی ظاهری علیه ، مضافاً إلی ما عرفت بأنّه إن کان قصداً الاستباحة کافیاً فی تحقّق

ص:250

الطهارة، فإنّه یلزم أن یکون حال الوضوء کحال سائر الواجبات التوصّلیة من

سقوط أمره بمجرّد حصول الطهارة _ کالتوصّلیات مثل غسل الثوب _ مع أنّه واضح البطلان، لأنّه یحتاج إلی قصد القربة، ولا یُغنی قصد رفع الحدث أو الاستباحة عن قصد القربة فی المقام قطعاً .

مع إمکان دعوی التلازم بین قصد رفع الحدث وبنیّة الاستباحة، ولعلّ لذلک ادّعی بعضهم التخییر بینهما، لأنّ قصد أحدهما یکفی عن الآخر ، وإن کان هو أیضاً مخدوشاً لمنع الملازمة بینهما واقعاً، لإمکان حصول الاستباحة بدون رفع الحدث، کما فی وضوء المسلوس والمبطون والمستحاضة، ولقد مثّل الآملی قدس سره لصورة عکسه بوضوء الحائض بعد النقاء قبل الغُسل، حیث أنّه رافع للحدث الأکبر مع الغُسل والاستباحة فی الوضوء قبل الغسل .

لکنّه لا یخلو عن شیء لأنّه إن کان رافعیّته مفروضة مع الغُسل، فیکون مبیحاً أیضاً معه، وإن کان المقصود بأنّه بنفسه لا یکون مبیحاً لا مع الغسل، فکذلک لا یکون رافعاً للحدث بدون الغسل أیضاً .

ولکن یکفی فی نفی التلازم بینهما وجود فرد واحد یفترق بینهما، کما لا یخفی هذا أوّلاً .

وثانیاً : إنّ الملازمة الواقعیة _ لو سلّمناها _ لا یقتضی تحقّق الملازمة فی القصد أیضاً، إذ ربما یمکن أن یکون المکلّف عارفاً بتوقّف صحّة الصلاة علی الوضوء والطهارة، ولا یعرف کونه مبیحاً حتّی یقصده .

وممّا ذکرنا من الإشکالات الواردة علی إثبات کلّ واحد من قصد رفع الحدث والاستباحة، وأنّه لا دلیل لنا لذلک، یظهر فساد القول الثالث أیضاً، لأنّه مبنیٌ علی أحد الوجوه المذکورة فی الطرفین .

کما ظهر ممّا ذکرنا فساد القول الرابع، وهو وجوب الجمع بینهما فی القصد بالأولویّة، لأنّه إذا لم یثبت وجوب کلّ واحد بالخصوص بالأدلّة السابقة، فبأیّ

ص:251

دلیل یوجب إثبات وجوب الجمع بینهما .

فلم یبق لنا من الأقوال شیئاً إلاّ قول الخامس، وهو عدم وجوب قصد رفع الحدث والاستباحة، لعدم وجود دلیل یقتضی ذلک من النقل والعقل، بل الدلیل علی خلافه موجود، کما حقّقناه فلا نعید .

ویتفرّع علی هذا صحّة الوضوء الذی قصد فیه رفع الحدث، فبان أنّه کان متوضّیاً فیصیر وضوءه تجدیدیّاً، کما یصحّ صورة عکسه، بأن ینوی الوضوء التجدیدی، فیظهر بعد ذلک کونه محدثاً، فإنّه یکفی فی رافعیّته للحدث وإن لم یقصده، لعدم اعتباره مع تمامیّة أرکان النیّة، من امتثال الأمر مع قصد القربة، کما علیه صاحب «الجواهر» وکثیر من الفقهاء، حتّی مثل المحقّق الذی اعتبر قصد رفع الحدث فی «المعتبر» فإنّه قد أفتی بصحّته هنا، وممّا أوجب تعجّب صاحب «الجواهر» قدس سره .

بقی هنا تنبیهاتٌ حول النیّة

لابدّ لنا من ذکرها :

الأوّل : بعدما عرفت من المباحث السابقة، بأنّ الطهارة الشرعیة بمعنی رفع الحدث وإباحة الدخول فیما یشترط فیها ذلک، وهی لا تتحقّق إلاّ علی فرض تحقّق الوضوء علی نحو العبادة ، لکون الوضوء أمراً تعبّدیاً، ووقوعه کذلک لا یکون إلاّ بعد وجود الأمر، لیتمکّن من قصده وقصد موافقة إراده الشارع، ولا أمر بالوضوء لأجل الصلاة إلاّ علی الوجوب الغیری، الذی کان مثل ذلک مختصّاً بالمقدّمات، لأنّ رفع الحدث أیضاً یعدّ من إحدی المقدّمات، فیستلزم الدور، لأنّ وجود الأمر الغیری علیه موقوفٌ علی اعتبار الوضوء رافعاً للحدث من باب المقدّمة، ومقدّمیته موقوفة علی کونه مأتیاً به علی وجه العبادیّة، وإتیانه کذلک موقوف علی وجود الأمر الغیری، فالأمر الغیری موقوف علی الأمر الغیری بواسطة واحدة، فهذا هو الدور الصریح .

ص:252

فقد ظهر من هذا البیان إشکالان : أحدهما : لزوم الدور کما عرفت .

وثانیهما : أنّ قصد الأمر الغیری کیف یمکن أن یجعل الوضوء عبادیّاً، مع أنّ الثابت بین الأصحاب هو أنّ الأمر الغیری أمر مقدّمی، وهو توصّلی مجعول لأجل الوصول إلی ذیه، ولیس بتعبّدیّ، وما لم یصیر الوضوء عبادیاً لم یتحقّق شرط الصلاة ونظائرها .

ویمکن أن یقال فی الجواب عن الأوّل: أوّلاً : بأن نلتزم بأمر آخر متعلّق بالوضوء، بعنوان جعله مقدّمة للصلاة فیکون قصد ذلک الأمر الذی لیس بغیری موجباً لعبادیّته، لا قصد أمر نفسه الغیری المترشّح عن أمر ذی المقدّمة، حتّی یرد ما قد عرفت من الدور وغیره .

وإن کان ممکناً، ولکنّه مخدوش بأنّه یکون خلاف الفرض، لأنّه لیس لنا أمر نفسی یتعلّق بالوضوء بعنوان کونه مقدّمة للصلاة وأمثالها، فلابدّ فی کونه مقدّمة قصد الأمر المتعلّق المشروط به ، وهو واضح .

وثانیاً : الالتزام بحصول رفع الحدث قبل ملاحظة الأمر الغیری _ أی یحصل رفعه بقصد رفعه من قبل تعلّق قصد امتثال الغیری علیه، حتّی لا یوجب الدور _ صحیحٌ ویدفع به الدور، لکن فیه ما لا یخفی، من کونه مخالفاً للإجماع، إذ أنّ رفع الحدث لیس مثل رفع الخبث، فلا یوجب سقوط الأمر بمجرّد حصول قصد رفعه من دون قصد القربة وقصد امتثال الأمر، فیعود المحذور کما لا یخفی .

فالأولی فی الجواب أن یُقال أوّلاً : بإمکان الالتزام بکون الوضوء بنفسه مأموراً بأمر استحبابی، ومشتملاً علی محبوبیّة ذاتیة، فمع ذلک العنوان صار مقدّمة للصلاة وغیرها لا بذاته، من دون رجحان فیه، حتّی تستمدّ المحبوبیّة والعبادیّة عن أمره الغیری فیلزم الدور بما قد عرفت.

وهذه الدعوی لیست ببعید، کما ستعرف بیانه عن قریب إن شاء اللّه .

وثانیاً : إنّ هذا الإشکال إنّما یتوجّه بناءً علی مذهب من استحال شمول لسان

ص:253

الأمر لما یکون متأخّراً ولاحقاً به من مرتبة أو مرتبتین، مثل قصد القربة، وقصد

امتثال الأمر، کما علیه صاحب «الکفایة» وکثیر من الأصولیّین .

وأمّا لو کان ذلک غیر مستحیل، لما حقّق فی محلّه عن بعض المحقّقین، ولعلّ نحن نتبعه، فلا مانع حینئذٍ أن یفهم ذلک من الأمر بنفسه بأنّ ذات الوضوء لاتعدّ مقدّمة، بل هو مع قصد أمره المتعلّق علیه من الأمر الغیری، المتولّد عن الأمر المتعلّق بذی المقدّمة، فحینئذٍ لا یستلزم الدور، لأنّ المفروض وجود الأمر حین الامتثال، فیقصده المکلّف، فبقصده یصیر الوضوء عبادیاً، ویوجب رفع الحدث، لأنّ المولی قد رأی فی حال لحاظ جعل الوضوء أنّ المقدّمة منه _ هو ما کان سیأتی فی محلّه، مع قصد امتثال الأمر الغیری المستلزم لرفع الحدث به _ فإذا اطلع علیه العبد، وأتی به کذلک، کان صحیحاً من دون لزوم دور أصلاً .

وثالثاً : لو سلّمنا استحالة ذلک، فیمکن إثبات ذلک بأنّ الوضوء لایعدّ بنفسه وبذاته مقدّمة ، بل یصیر عبادة من جهة أنّه قصد به امتثال الأمر وهذا یستفاد من دلیل خارجی آخر، سواء کان ذلک الدلیل دلیلاً لفظیّاً أو لبّیاً _ کالإجماع والسیرة وبناء العقلاء _ بل الواقع الخارجی فی باب الوضوء _ بل فی مطلق العبادات _ إنّه کذلک، لما قد عرفت تحقیقه سابقاً من عدم وجود دلیل لفظی ومقامی علی وجوب النیّة وقصد امتثال الأمر، إلاّ الإجماع، فلا یلزم الدور حینئذٍ، لأنّه قد فهم ذلک من دلیل خارجی لا من أصل الأمر الغیری .

هذا کلّه هو الجواب عن الإشکال الأوّل.

وأمّا الجواب عن الإشکال الثانی فبأمور : أوّلاً : إنّا لو سلّمنا عدم إمکان کون قصد امتثال الأمر الغیری موجباً لعبادیّة الوضوء، وقلنا بأنّه إنّما یصحّ فیما إذا لم یکن ذلک العمل بنفسه راجحاً ومحبوباً عند اللّه ، وأمّا ما کان کذلک _ کالوضوء للصلاة وغیرها، وکالصوم للاعتکاف _ فلا إشکال فی صحّة العمل حینئذٍ، مع قصد أمر نفسه من المحبوبیّة، فالعمل المشتمل علی ذلک القصد یکون مقدّمة

ص:254

لشیء آخر . وقد یمکن الاستشهاد علی ذلک بما ورد من الأخبار بأنّ «الوضوء

علی الوضوء نورٌ»(1).

وحدیث محمّد بن مسلم عن الصادق علیه السلام : «الوضوء بعد الطهور عشر حسنات، فتطهّروا»(2).

والخبر الذی رواه السکونی عن الصادق علیه السلام قال : «الوضوء شطر الإیمان»(3).

والخبر الذی رواه الدیلمی فی «الإرشاد» قال : «قال النبیّ صلی الله علیه و آله یقول اللّه تعالی : من أحدث وتوضّأ وصلّی رکعتین ودعانی، ولم أجبه فیما سألنی من أمر دینه ودنیاه فقد جفوته، ولست بربّ جاف»(4).

حیث یفهم أنّ الوضوء بنفسه یکون راجحاً ومحبوباً، فمع وصفه کذلک یصح أخذه مقدّمة للصلاة وغیرها، هذا فی مثل الوضوء.

ولکن یرد الإشکال فی مثل الغسل والتیمّم، هل هما بنفسهما محبوبین وراجحین أم لا؟

وقد یمکن قبول ذلک فی الغسل أیضاً، لأنّه نوع من أنواع الطهور والنظافة ، بل ورد فی بعض الأخبار التأکید علی إتیان للنشاط والتوبة، وکونه محبوباً بذاته، مع صرف النظر عن الغسل للصلاة بعد الجنابة ونظائرها، فیکون مؤیّداً لذلک.

إلاّ أنّ الإشکال یبقی فی مثل التیمّم، حیث أنّه بنفسه لا یعدّ نظافة عند العرف.

ولکن یمکن أن یُقال فیه أیضاً: أنّه یعدّ من أفراد الطهور لکونه بدلاً عن الوضوء، کما یستفاد ذلک من قوله تعالی : «فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَیَمَّمُوا صَعِیدا طَیِّبا»(5) .


1- وسائل الشیعة: الباب 8 الوضوء، الحدیث 8.
2- وسائل الشیعة: الباب 8 الوضوء، الحدیث 10.
3- وسائل الشیعة: الباب 1 الوضوء، الحدیث 5.
4- وسائل الشیعة: الباب 11 الوضوء، الحدیث 2.
5- سورة النساء : آیة 43 .

ص:255

ومن الأخبار بأنّه: «یکفیک عشر سنین» کما فی خبر السکونی 12 / 14 أبواب التیمّم عن جعفر علیه السلام عن أبیه عن آبائه عن أبی ذرّ رضی الله عنه : «أنّه أتی

النبیّ صلی الله علیه و آله فقال : یارسول اللّه هلکتُ، جامعت علی غیر ماء ؟ قال : فأمر النبیّ صلی الله علیه و آله بمحمل فاستترت به وبماء فاغتسلت أنا وهی ، ثمّ قال : یا أبا ذرّ یکفیک الصعید عشر سنین»(1) .

بل ویستفاد من الجملة الواردة التی هی بمنزلة التعلیل فی صحیحة محمّد بن مسلم قال : «سألت أبا عبداللّه علیه السلام عن رجل أجنب فتیمّم بالصعید وصلّی ثمّ وجد الماء ؟ قال : لا یعید إنّ ربّ الماء ربّ الصعید، فقد فعل أحد الطهورین»(2) .

وکذلک فإنّ قوله : «فقد فعل أحد الطهورین» یفید کونه راجحاً فی حال الاضطرار، لأنّه فیه الخشوع والخضوع للّه فی ذلک العمل، فعلی هذا یصحّ أن یقصد فی کلّ من الطهارات الثلاث أمره النفسی الاستحبابی، فبذلک یعدّ مقدّمة للصلاة، ویکون عبادیّاً قُربیّاً .

وثانیاً : أنّه یمکن أن یقال بکفایة قصد الأمر الغیری المقدّمی، لصیرورة العمل عبادیّاً، إذا فرضنا استفادة ذلک من قرینة خارجیة کالإجماع فی المقام، أو الاخبار الواردة فی الصوم للاعتکاف، بأنّ مقدّمیتهما لیست بذاتهما کنصب السلّم للصعود للسطح ، بل هی مقدّمة إذا أتی بها مع قصد عنوانها عبادةً، فلیس المعتبر فی العبادة إلاّ إتیان العمل مع کونه مضافاً إلی أمر اللّه، حتّی یکون إتیانه بقصد الأمر، فیمتثل سواء کان ذلک الأمر نفسیّاً أو غیریّاً ، ولا مانع أن یکون الأمر الغیری ذا وجهین بالنظر إلی أن جعله کان لأجل التوصّل إلی ذی المقدّمة ، وبما أنّه أمر إلهی مولود من الأمر النفسی، فإنّه یوجب حصول عنوان العبادة لما قصد


1- وسائل الشیعة: الباب 14 التیمّم ، الحدیث 12.
2- وسائل الشیعة: الباب 14 التیمّم، الحدیث 15.

ص:256

فیه، لأنّه یضیفه وینسبه إلی اللّه ویأتیه متقرّباً إلیه تعالی، کما لا یخفی .

نعم ، لا یترتّب علیه استحقاق الأجر والثواب، لأنّه یعدّ من آثار الأمر النفسی، فإن کانت للمقدّمة أیضاً ثواب _ کما یدلّ علیه بعض الأخبار فی الوضوء

والصوم فإنّما هی بلحاظ محبوبیّتهما الذاتیة، المتعلّق بهما الأمر النفسی الاستحبابی، لا بلحاظ أمرهما الغیری المقدّمی للصلاة والاعتکاف .

وثالثاً : أنّه یمکن أن یُقال حتّی لو فرضنا توصلیة الأمر الغیری ، ولکن برغم ذلک فرق بین متعلّقات الأمر الغیری، لأنّه تارةً یکون المتعلّق مقدّمة بذاته من دون لزوم قصد العنوان فیه أصلاً _ کنصب السلّم _ واُخری یکون المتعلّق مقدّمة لا بذاته، بل بما أنّه عبادة، أی کان قصد الأمر فیه معتبراً، وفرضنا أنّ المکلّف قد علم بهذا الأمر عن طریق الإجماع القائم فی المقام من لزوم قصد الأمر والنیّة فی الوضوء، وبواسطة الأخبار الواردة فی الصوم، فلا إشکال حینئذٍ بأنّ المکلّف إذا قصد إتیان ما هو المقدّمة عند الشارع فی الوضوء والصوم، یکون قصداً لهما بما أنّهما عبادة بواسطة أمر نفسهما، ولو لم یکن قد قصد خصوص أمریهما النفسی، لأنّ قصد الأمر المقدّمی الموصوف بذلک، لا ینفک عن کونه قصداً لأمرهما النفسی، وهو کافٍ فی عبادیّتهما .

ومن هنا یظهر فساد ما ربّما یتوهّم فی المقام بأنّ المغروس فی الأذهان، لیس هو قصد أمره النفسی فی الوضوء، حتّی یصیر عبادة، بل المتعارف هو قصد أمره الغیری المقدّمی، وهو قد عرفت کونه توصّلیاً، فیکون وضوءهم باطلاً، وهو خلاف الإجماع .

ووجه الفساد هو ما قد عرفت من کفایة قصد أمره المقدّمی الکذائی، عن أن یکون قصداً للأمر النفسی، لأنّه قد قصد ما یکون بعنوانه مقدّمة، وهو لیس إلاّ الوضوء والصوم الناویفیهما الأمر النفسی، فیکون الأمر النفسی منویّاً إجمالاً، وبذلک یصیر عبادیّاً، نظیر ما إذا وقع الشیء المندوب _ کصلاة اللیل _ متعلّقاً

ص:257

للنذر، حیث أنّ الوفاء به لا یتحقّق إلاّ بالقصد بها بما یکون مندوباً لا واجباً بالنذر، وهو واضح لمن کان له أدنی تأمّل .

نعم ، بقی هنا إشکالٌ آخر، وهو أنّه علی فرض کون الوضوء بذاته محبوباً

وراجحاً ومطلوباً بنفسه ، وبرغم ذلک تعلّق به الأمر الغیری، فیلزم حینئذٍ اجتماع الحکمین المتضادّین، من الوجوب الغیری والاستحباب النفسی _ إن کان ما یترتّب علیه واجباً _ أو الندب الغیری مع استحباب نفسی _ لو کان ما یترتّب علیه مندوباً _ .

فیمکن الجواب عنه، تارةً: بالالتزام بزوال الأمر النفسی بحدّه، عند عروض الأمر الغیری علیه، وإن کان بذاته وملاکه باقیاً، فیصیر الحکم حینئذٍ مؤکّداً فی الجمع، ملاکاً وخطاباً .

لکنّه مخدوش، بأنّه لو زال الأمر النفسی بحدّه، فإنّه یوجب زوال عبادیّة الوضوء، فیعود المحذور من عدم تحقّق ما هو المقدّمة لدی المفروض کون المقدّمة، هی ما کان عبادیة لا الوضوء بذاته ، مضافاً إلی أنّ التأکید یحتاج إلی کون ملاک کلّ من الأمرین متّحداً أی أن یتعلّق الأمر الثانی بما تعلّق به الأمر الأوّل تأکیداً بحسب الملاک أیضاً، کما هو الحال فی اتّحاد متعلّقهما بحسب العمل کما لا یخفی .

وثانیاً : بأن یقال بالفرق بین متعلّقی الحکمین وعدم وحدته، لأنّ متعلّق حکم المتولّد من الأمر النفسی، هو عبارة عن ذات الوضوء، ومتعلّق الأمر الغیری _ سواء کان وجوبیّاً أو ندبیّاً _ هو الوضوء بإتیانه بداعی أمره النفسی . أی بالوضوء العبادی، فیکون نظیر الإجارة المتعلّقة بعبادة مستحبّة کصلاة اللیل ، فکما أنّه لا منافاة بین کون ذات العمل مستحبّة بأمر استحبابی عبادی، وکون الإتیان به بداعی ذلک الأمر واجباً بالأمر الوارد بلزوم الوفاء بعقد الإجارة، فیکون أحدهما بمنزلة الموضوع والآخر بمنزلة الحکم، کذلک یکون فی المقام، فهذا الإشکال أیضاً مندفع.

ص:258

فثبت من جمیع ما ذکرنا صحّة قصد القربة فی الوضوء، ولو بأمر غیری، ویصیر بذلک عبادة ومقدّمة للدخول فی الصلاة من دون أن یواجه مشکلةً یصعب حلّها والإجابة عنها.

الثانی من التنبیهات: أنّ المتوضّی فی مقام الإتیان بالوضوء، یمکن أن یتصوّر ویتحقّق علی أنحاء شتّی، لا بأس بالإشارة إلیها، وبیان أحکامها، من حیث الصحّة والبطلان .

تارةً: یأتی بالوضوء من دون قصد غایة من الغایات، ووصف من الأوصاف، لا وجوباً ولا ندباً، بل یأتی به بما أنّه محبوب بذاته، وراجحاً بنفسه، مع قصد القربة، فهو محکوم بالصحة، لأنّ ما یعتبر فیه من النیّة _ بکونه محبوباً ومضافاً إلی أمر اللّه من جهة قصد القربة _ موجود فیه.

فإن قلنا بأنّه أیضاً غایة من الغایات فهو، وإلاّ تعدّ صحّة الوضوء مستلزمة لذلک قطعاً، فینتج حینئذٍ أنّه لو لم یقصد هذا المقدار کان باطلاً قطعاً، لعدم تمامیّة ما یعتبر فی نیّته، کما هو واضح .

واُخری: یأتی بالوضوء مع قصد جمیع الغایات، من الوجوب والندب، کما إذا کان الوقت داخلاً وعلیه القضاء أیضاً، وکان قد نذر أن یمسّ المصحف، وأراد قراءة القرآن وزیارة المشاهد وغیرهما، فتوضّأ وضوءاً ناویاً الجمیع.

والظاهر عدم الخلاف فی کفایة ذلک فی صحّة الوضوء، وکونه امتثالاً للجمیع، إذا کان کلّ واحدة من الغایات صالحاً للبعث بالاستقلال .

وأمّا إذا لم یکن کذلک، بل البعث حصل من الجمیع بما هو کذلک، أو کان بعضه باعثاً بنفسه دون بعض، فصدق الامتثال للجمیع مشکلٌ، لعدم داعویّته لذلک.

ولکن یجب أن نلاحظ أنّ هذا الفعل الصادر منه یکون نتیجة للأوامر، ویعدّ العمل صحیحاً لتمامیّة أرکانه، وهکذا یکون الحکم فی بعضه أیضاً بالنسبة إلی ما لا یکون داعیاً بالاستقلال .

ص:259

نعم، یصدق الامتثال لما یکون محرّکاً له من تلک الأوامر .

وثالثة: إذا کان یقصد غایة معیّنة، إلاّ أنّه مع قصده لها حصل له الطهارة ورفع الحدث، وکانت هی الشرط لغایة أُخری لم یقصدها، فهنا أیضاً یعدّ العمل

محکوماً بالصحّة، وامتثالاً لما قصده من الغایة، وأداءاً للغایة الاُخری، وبعبارة اُخری لو قصد فی الوضوء غایة الصلاة الواجبة، ثمّ إنّه بعد التوضّی حصل له الطهارة التی کانت شرطاً للطواف الغیر المقصود، فیصحّ الإتیان به لحصول شرطه وهی الطهارة، وإن کان الامتثال مخصوصاً للصلاة دون الطواف، إلاّ أنّه یصدق علیه الاداء بالنسبة إلیه .

فلا بأس هنا لذکر وجه کون النحو الثانی منها امتثالاً للجمیع دون الثالثة، وبیان أنّ الأوامر وجهاتها التی ورد بها الأمر والمأمور به کلّها تکون متعدّدة فی النحو الثانی، أو کان التعدّد فی ملاکات الأوامر دون الأوامر والمأمور به _ کما علیه الآملی فی «مصباحه» خلافاً للسیّد فی «العروة» حیث نسب القول الأوّل إلی بعض العلماء، وإن نفی النسبة وادّعی عدم معرفته لصدور مثل هذا القول عن أحدٍ سیّدنا الحکیم قدس سره فی «مستمسکه» _ أو تکون الجهات والأوامر متعدّدة، دون المأمور به بحقیقته، وإن کانت حیثیّته متعدّدة، أی یصدق أنّه مأمور بکلّ واحد من الأوامر، فیکون مصداقاً للجمیع، ومنطبقاً علیه ذلک العنوان برغم تعدّده، کما علیه السیّد فی «العروة» .

وهذا هو الحقّ عندنا، إذا فرضنا صلاحیة کلّ واحد من الأوامر للبعث استقلالاً .

فنحن لإثبات مدّعانا نمثّل بمثال عرفی فی الأوامر العرفیة، فنرجو من ذلک کشف الحقیقة لاخواننا المحصّلین والمجتهدین فنقول: لو طلب ثلاثة من عبد واحد إحضار الماء فی مکان معیّن، ولکلّ حاجته، فالأوّل هو مولاه وطلب منه الماء لأن یشربه، والثانی أباه وطلب منه الماء لمجرّد کینونة الماء فی الموضع، والثالث الإمام علیه السلام وطلبه منه من جهة وجود مصلحة ملزمة فی وجودان الماء

ص:260

هناک، والمفروض استقلال کلّ واحد من الثلاثة فی بعث العبد وانبعاثه. فقصد العبد بإتیانه امتثال جمیع هذه الأوامر، فلا یخلو حینئذٍ القول بإحدی المحتملات : أمّا القول بعدم صدق الإتیان لواحد منها، وهو باطل قطعاً لعدم

قصور فی صدقه، إذ أنّ انطباق الکلّی علی أفراده قهریّ، وهو واضح لا خفاء فیه.

أو صدق الامتثال لبعض منها دون بعض، فهو ترجیح من غیر مرجّح.

أو صدق الامتثال للجمیع وهو المطلوب .

لا یقال : بأنّه فرق بین الممثّل والممثّل به، حیث أنّ الأوامر المتعلّقة بالأوّل کان جمیعها غیریّاً، بخلاف الثانی فإنّه کان نفسیّاً ،

لأنّا نقول : بأنّ النفسیة والغیریّة غیر مؤثّرة فی الافتراق بینها، فی جواز صدق الامتثال للجمیع وعدمه ، بل ربّما یوهم کون الغیریّة أهون، یعنی إذا کان صدق الامتثال فی النفسیة للجمیع ممکناً، ففی الغیریّة یکون الصدق بالأولویّة.

فالأولی بیان وجه تعدّد الأوامر والجهات، بل المأمور به حیثاً لا حقیقةً، وذلک لأنّ المفروض تعلّق الأمر الغیری علی الوضوء لکلّ واحد من الغایات، بقوله: توضّأ للصلاة وللطواف وللکون علی الطهارة ولدخول المسجد ونظائرها ، فالقول حینئذٍ بعدم وجود أمر أصلاً یعدّ دعوی علی خلاف الوجدان والبداهة ، کما أنّ القول بوحدة الأمر هنا ممّا لا وجه له، لأنّ تلک الوحدة إن أخذت من واحد هذه الأوامر فهو ترجیح بلا مرجّح، وإن أخذت من حیث المجموع، فلیس لنا أمر کذائی متعلّق بالمجموع، فلا محیص إلاّ القول بتعدّد الأمر الغیری، المترشّح من الغایات .

کما أنّ مقتضی تعدّد الملاکات والمناطات، هو تعدّد ذی الملاک أیضاً ، کما أنّ مقتضی تعدّدهما تعدّد المأمور به حیثیّاً، لا وجوداً خارجیاً وحقیقةً، لأنّ المفروض وحدة الوضوء علی نحو الحقیقة النوعیة، ولا دلیل علی لزوم تعدّد أفراد الوضوء، إذا علمنا من الخارج بأنّ الملاک فی جمیع هذه الأوامر هو حصول

ص:261

الطهارة ورفع الحدث، وهو یحصل بوضوء واحد، فیکون مأموراً به واحداً من حیث الحقیقة الوجودیة، ومتعدّداً من حیث الاعتبارات الاُخری التی تقتضی تحصیل الامتثال لکلّ أمر من الأوامر .

إذا عرفت ما تلونا علیک، تعرف عدم صحّة کلام المحقّق الآملی فی «مصباحه» من ذهابه إلی وحدة الآمر والمأمور به، حمله علی هذا الاختیار، والذی أوقعه فی هذه الشبهة اُمور ذکرها، منها :

أنّ الوضوء مقدّمة لکلّ ما یکون معتبراً فیه الصحّة والکمال، ومقدّمیته کانت لوجود خصوصیّة دخیلة فی صحّة ما یعتبر فیه أو فی کماله .

ولا یخفی أنّ هذا الأمر _ مضافاً إلی عدم مزاحمته لما ذکرنا _ قد یکون وجهاً للتعدّد، لأنّ مقتضی دخالته فی صحّة ذلک الشیء وکماله، هو کونه مأموراً به وجوباً أو ندباً، لکلّ واحد منها، وهو واضح .

ومنها : أنّ عنوان المقدّمیة یکون حیثیّة تعلیلیّة لا تقییدیّة، یعنی أنّ الأمر المتعلّق بالوضوء قد تعلّق بذاته بعلّة کونه مقدّمة، لا متعلّقاً به بعنوان کونه موصوفاً بوصف المقدّمة، حتّی تکون مقدّمیته مأموراً بها، ومتعلّقة للأمر، حتّی یصیر مثل مسألة الاجتماع الأمر والنهی، فیکون مصداقاً للجواز والامتناع، أو تعدّد الجهة وعدمه ، بل الأمر قد تعلّق بذاته، وتکون المقدّمیة علّة لتعلّقه بذاته، فیکون التعدّد فی جهة الأمر وعلّته، لا فی المأمور به بنفسه ، هذا .

لکنّه مخدوش أوّلاً : بأنّ ذلک مبنیّ علی کون المقدّمة بذاتها مقدّمة، لا المقدّمة الموصلة کما قاله صاحب «الفصول» وبعض آخر، ولا المقدّمة بقصد الإیصال، کما علیه «الکفایة» علی ما ببالی، فتکون المقدّمة حینئذٍ مقدّمة بحیثیّتها التعلیلیّة لا التقییدیّة .

وثانیاً : لو سلّمنا ذلک، فلازمه عدم کون الوضوء _ فی صورة کونه لغایة واحدة أیضاً _ مأموراً به بالأمر الغیری، فلم یطلق علیه وصف المأمور به، وعنوان ما

ص:262

یصدق الامتثال لأمره وعدم الامتثال، کما قد وقع فی کلام ذلک المحقّق کثیراً، فراجع کلامه فی «المصباح»(1) ذیل کلامه عن حکم لزوم قصد الغایة فی تحقیق

الامتثال للأمر، والملاحظ أنّ السؤال المطروح هو أنّه أیّ فرق بین صورة التعدّد والوحدة من تلک الجهة، من کون الوضوء بذاته مقدّمة لا بعنوانها ؟

وثالثاً : أنّ الحقّ هو عدم المنافاة بین کون الوضوء بذاته مقدّمة، مع کونه مأموراً بأمر مقدّمی لکلّ واحد منها ، غایة الأمر یتداخلان فی مرحلة المتعلّق، ویکون عمل الواحد مصداقاً لامتثال جمیع الأوامر، کما یکون الأمر کذلک فی مثل غُسل واحد ینوی به امتثال جمیع الأغسال المندوبة والواجبة المأمور بها، کما فی طواف البیت إذا کان واجباً علیه، فیصدق علیه عنوان التحیة أیضاً، ویکون امتثالاً له، خصوصاً لو قصده، وهو واضح .

ومنها : بأنّ الفرق بین الطلب الوجوبی والندبی لیس بنفس ذاتهما، حتّی یکونان متضادّین، ولا یضعف الطلب الندبی ویشتدّ الوجوبی، حتّی یکون الفارق بینهما من جهة التشکیک ، بل الفرق بینهما یکون بضمّ قید الترخیص فی الترک فی الندب دون الوجوب، الموجب لحکم العقل بلزوم الإتیان بمتعلّقه فی الآخر ، فالطلب الوجوبی فیه اقتضاء للمنع من الترک، من ناحیة حکم العقل، بلزوم امتثاله، دون الطلب الندبی الذی لا اقتضاء فیه، فلا منافاة بینهما، وعند اجتماعهما یکتسب الندبی لون الوجوبی، فیتّحد الطلبان والمطلوبان، هذا.

وفیه : أنّه لو کان اجتماع الطلبین مانعاً للانطباق فی مثل ما نحن فیه، فإنّ مجرّد هذا الجواب لا یرفع المحذور أبداً، لأنّه لو سلّمنا اتّحاد الطلبین فی الوجوب والندب لکون أحدهما اقتضائیّاً دون الآخر، فکیف یکون الأمر فی مثل الجمع بین الطلبین الوجوبیّین، حیث یکون کلّ واحد منهما طلباً اقتضائیّاً


1- المصباح: 3 / 450.

ص:263

ومتضادّاً علی حسب الفرض؟

فالأولی أن یقال : بأن الطلب لیس إلاّ ما هو الصادر بواسطة الأمر بوجود

الملاک فی متعلّقه، فیکون کلّ طلب من جهة غایته مستقلاًّ عن الآخر ، غایة الأمر حیث کان متعلّق الطلب باعتبار نفس الغایات متعدّداً، فیتعدّد بذلک الطلب غیریّاً مقدّمیاً من کلّ واحد منهما، ویتعلّق بذات الوضوء الذی کان عملاً واحداً وحقیقة فاردةً خارجیّة، فیکون مطلوبیة الوضوء مثل وصف کونه مأموراً به، حیث یکون حیثیّاً لا حقیقیّاً، فحینئذٍ لابدّ من تحقّق الامتثال لکلّ واحد من الأوامر _ إذا کان کلّ واحد منها باعثاً له مستقلاًّ _ فإذا لم یوجده کان مؤاخذاً فی مثل الواجبات، لأجل ترکه الغایات المتعدّدة، ولکن الثواب والعقاب یکون لنفس الغایات لا للمقدّمة .

ومنها : ما قیل بأنّ المحقّق لعبادیة الوضوء هو الأمر المتعلّق بالغایة المعتبرة فیها الوضوء، لا الأمر الغیری المتعقّب للشخص المتعلّق بالوضوء ، فما هو قسطه وحظّه یکون من ذاک الأمر النفسی المتعلّق بالغایة ، هذا .

وفیه : قد عرفت إمکان إثبات عبادیة الوضوء عن الأمر الغیری أیضاً، کما یمکن إثباته من الأمر النفسی المتعلّق لنفس الوضوء، لکونه راجحاً بنفسه، مع أنّ إثبات قصد الأمر الذی لم یتعلّق بالوضوء وکان موجباً لعبادیّته من غیر طریق الأمر الغیری مشکلٌ جدّاً .

ثمّ بعد الفراغ من بیان صدق الامتثال للجمیع، إذا عُدَّ کلّ واحد منها محرّکاً مستقلاًّ، تصل النوبة لبیان أنّه لو لم یکن الجمیع محرّکاً ، بل کان بعضه کذلک، فهل یصدق الامتثال للبعض _ وهو ما یکون محرّکاً _ دون الآخر _ وهو ما لا یکون کذلک _ وقلنا بأنّه أداء بالنسبة إلیه کما علیه السیّد قدس سره فی «العروة» أم لا؟

والذی یظهر من المحقّق الآملی أنّه لیس بأداء ، بل یکون من باب انتفاء الموضوع، فلا بأس بذکر کلامه ص449 وما یرد علیه بتلخیص منّا ، فقال فی ذیل کلام السیّد قدس سره بقوله: «قصد الغایة معتبر فی تحقّق الامتثال ... وما ذکره قدس سره

ص:264

بظاهره ممنوع، وتحقیق فی ذلک یحتاج إلی بسط الکلام، وهو أنّ سقوط الأمر بالشیء یمکن أن یقع علی أنحاء : منها : أن یکون بامتثاله _ أی بإتیان

متعلّقه _ علی وجه قُربی، سواء کان تعبّدیاً أو توصّلیاً لا یتوقّف صحّته علیه، لکنّه أتی به قُربیاً .

ومنها : سقوطه بأداء المأمور به ولو لم یکن امتثالاً لأمره، کما فی التوصّلی إذا أتی به لا بداعی امتثال أمره، فإنّه أداء للمأمور به ولا یکون امتثالاً .

ومنها : سقوطه بانتفاء موضوعه، کما إذا أمر بقتل کافر أو قاتل فمات الکافر أو القاتل قبل إنزال العقوبة بهما، فالأمر بقتله ساقطٌ بانتفاء موضوعه، من دون امتثال ولا اداء للمأمور به .

ومنها : سقوطه بانتفاء ملاکه، ولو مع بقاء الموضوع، کما فی تکلیف المستطیع العاجز عن الحج بالاستنابة، المشروط بعدم فعل المتبرّع بناءً علی سقوط التکلیف بالاستنابة بفعل المتبرّع، حیث أنّ ملاک وجوب الاستنابة مشروط بعدم فعل المتبرّع لا موضوعه، لأنّ موضوعه هو شغل ذمّة المستطیع العاجز عن الحجّ، وهو لا ینتفی بعمل المتبرّع، کما لا ینتفی بعمل النائب أیضاً، بل المنتفی هو ملاک وجوبه مع بقاء موضوعه .

وکما فی غسل المیّت أو الصلاة علیه بعد غسله، أو إقامة شخص آخر الصلاة علیه حیث أنّ التکلیف بالغسل أو الصلاة یسقط عن غیر المباشر بانتفاء ملاکه، برغم بقاء موضوعه، وهو المیّت .

ولا یخفی أنّ معنی الإتیان بالوضوء لا بداعی الإتیان بالغایة، لیس من باب سقوط الأمر بأداء المأمور به ولو لم یکن امتثالاً، لأنّ الوضوء أمرٌ تعبّدی یتوقّف صحّته علی إتیانه علی وجه قربی، ولیس مثل غَسل الثوب الذی یمکن إتیانه لا بداعی امتثال أمره، لکی یعدّ أداءً للمأمور به لا امتثالاً .

فالتحقیق أن یقال: بناءً علی اعتبار امتثال الأمر المتعلّق بالغایة فی صحّته،

ص:265

فلا محیص إلاّ عن إتیانه بداعی امتثال الأمر المتعلّق بالغایة المطلوبة، وإن کانت هی الأمر المتعلّق بالکون علی الطهارة، حیث أنّه من الغایات المتعلّقة بها الأمر،

وحینئذٍ یکون امتثالاً للأمر المتعلّق بغایته، کما یعدّ أداء للمأمور به، وبناء علی الاکتفاء فی عبادیته بإتیانه بداعی أمره الغیری المقدّمی، یکون إتیانه کذلک أیضاً امتثالاً للأمر المتعلّق به، کما أنّه یکون أداءً للمأمور به ، وعلی کلّ تقدیر یقع التفکیک بین الاداء والامتثال .

والحقّ، أنّ عبادیته إنّما هی بإتیانه بداعی امتثال الأمر النفسی المتعلّق بغایته، لکن یکفی فی إتیانه کذلک قصد امتثال أمره الغیری، لأنّ امتثال الأمر الغیری _ بما هو غیری _ لا ینفکّ عن قصد امتثال الأمر المتعلّق بالغیر، وتمام الکلام عنه فی الاُصول» انتهی کلامه رفع مقامه .

ویردّ علی کلامه من وجوه :

الأوّل : فی جعل امتثال الأمر إتیان متعلّقه علی وجه قربی، لأنّ ظاهر کلامه یدلّ علی وجود الملازمة بین قصد امتثال الأمر، وکونه علی وجهٍ قربی، فکان من قبیل اللازم والملزوم ، مع أنّه لیس کذلک، لأنّه قد یکون النهی قُربیاً من دون صدق الامتثال، کما فی عمل محبوب ذاته دون أن یتوجّه إلیه الأمر لوجود المزاحمة، کما أنّ قصد الامتثال ربما یکون أعمّ من قصد القربة، إن جعلنا قصد القربة عبارة عن طلب القرب المعنوی إلی اللّه تعالی، نظیر ما یقرب الإنسان من الأمکنة، کما احتمله بعض فیما سبق، فلازم ما ذکرنا عدم انحصار کون الاداء الموجب لسقوط الأمر هو خصوص الأمر التوصّلی کما ذکره قدس سره ، بل یمکن صدق الاداء للمأمور به فی التعبّدی أیضاً، حتّی وإن لم یقصد امتثال أمره، وهو کما فی المقام، حیث أنّه قد قصد امتثال بعض الأوامر _ مثلاً الذی کان باعثاً دون بعض _ فیعدّ ممتثلاً لما قصده ومؤدّیاً لما لم یقصده، لأنّ قصد القربة فی نفس العمل محقّق، ولو من جهة قصد امتثاله أمراً آخر .

ص:266

وثانیاً : انّه قد مثّل لانتفاء الملاک بفعل المتبرّع للحج المستطیع العاجز عنه، حیث أنّه منتف لملاک وجود الاستنابة، لأنّ الموضوع هو عبارة عن شغل ذمّة

المستطیع، فهو باقٍ ، وهذا أیضاً لا یخلو عن نظر، لأنّ شغل الذمّة إن کان باقیاً، فإنّ معناه أنّ التکلیف باقٍ، فبقائه مساوٍ مع بقاء الملاک، وإلاّ یلزم خلاف ما ذهبت إلیه الإمامیّة من أنّ الأوامر والنواهی تابعتان للمصالح والمفاسد النفس الامریة، فلعلّ مقصوده من بقاء الموضوع هو نفس الشخص، کما لا یبعد أن یکون کذلک بملاحظة مثاله فی ذیله من غسل المیّت إذا فعله متبرّع آخر، فإنّه یسقط بواسطة ذلک عن المتکفِّل لتجهیزه لانقضاء ملاکه دون موضوعه _ وهو المیّت _ .

وهذا أیضاً فیه نظر، لوضوح أنّ موضوع الحکم لیس هو نفس المیّت أو المستطیع العاجز ، بل موضوع حکم الوجوب عبارة عن غسل المیّت وحجّ المستطیع بشغل ذمّته، فإذا غُسّل المیّت بتوسّط شخص، فقد حصل الامتثال، ولم یبق موضوع غُسل المیّت للآخر، حتی یجب إتیانه، فالمقصود من انتفاء الموضوع هنا هو حصوله وتحقّقه فی الخارج، وهو حاصلٌ، وهکذا الأمر فی شغل ذمّة المستطیع، إذ بعد إتیانه بواسطة النائب أو المتبرّع، فقد فرغت ذمّته عن الشغل لا أنّه باق ولا ملاک فیه، کما ادّعاه.

وثالثاً : إنّ ما ذکره من کون قصد امتثال الأمر المتعلّق للغایة هنا، موجب لعبادیّته، ثمّ جعل الحقّ فی ذیله کفایة قصد الأمر الغیری فی ذلک، فإنّ هذا أیضاً لا یخلو عن إشکال، لما قد عرفت منه سابقاً من التصریح بعدم کفایة الأمر الغیری ، بل جعل الوضوء له حظّاً وقسطاً من الأمر النفسی المتعلّق للغایة ، مضافاً إلی أنّه قد عرفت بأنّ وجه کفایة الأمر الغیری لیس بلحاظ کونه قصداً للأمر النفسی للغایة ، بل یکون بلحاظ کونه قصداً لأمره النفسی المتعلّق بالوضوء بخصوصه لمحبوبیّة ، أو للوجه الآخر الذی ذکرنا من کون الأمر الغیری قابلاً للتقرّب به إلی اللّه، لکونه فی الحقیقة أمراً مضافاً إلی اللّه.

ص:267

وفی هذا الوجه لا یبعد أن یشعر بما ذکره الآملی من کونه أیضاً قصد غایة الأمر النفسی، واللّه العالم بحقیقة الحال، وعلیه الاتّکال فی کلّ مقال .

ورابعة: ممّا یمکن تصویره فی الوضوء والذی تعرّضنا إلیها فی التنبیه الثانی، هو أن یقصد إتیان الوضوء لغایة معیّنة، ولکنه أحضرها لغایة ثانیة، أو لا للغایة الاُولی، فهو أیضاً ذو وجوه شتّی: لأنّه تارةً: یعلم فی البدایة أنّه لا یأتی بالغایة المقصودة ، وحینئذٍ السؤال أنّه هل یجوز له الإتیان بذلک الوضوء أم لا؟ فإن أتی به هل یعدّ صحیحاً أو باطلاً أم لا؟ ففیه اختلاف، وصریح جماعة _ کالعلاّمة فی «التذکرة» و«المنتهی» و«النهایة» و«القواعد»، وهکذا المحقّق فی «جامع المقاصد» _ هو الجواز ، بل نقل صاحب «الحدائق» عن بعض احتمال عدم جوازه، حتّی مع قصد الوجوب، لأنّه لا یأتیه، ولا مع قصد الندب لکونه غیر شرعی ، خلافاً لجماعة اُخری مثل فخر المحقّقین والشهید فی «الذکری»، بل هو ظاهر الشهید الثانی وجماعة ممّن تأخّر عنه ، ونسب ذلک إلی المشهور، حیث أنّهم أجازوا ذلک مطلقاً، لأنّهم صرّحوا بجواز التوضّی بنیّة الندب، حتّی لمن کان غایة المأتی به واجباً علیه، إلاّ أنّه یصیر فی الواقع واجباً، لکون الواجب وجوده متوقّفاً علیه، هذا فضلاً عمّن یأتی بقصد الوجوب ثمّ لا یأتی بنفس الواجب، فإنّه صحیح قطعاً .

هذا، وأمّا مع إتیان الغایة المقصودة به، فلا إشکال حینئذٍ فی إتیان سائر الغایات منضمّاً إلیها، لکون الحدث مرتفعاً بها .

والأقوی هو أن یُقال إنّ هذا الاختلاف لعلّه کان من جهة أنّ المقدّمة المطلقة هل هی واجبة أو موصلة أو تکون بقصد الإیصال؟

فمن قال بالأوّل، فیجوّز هاهنا لأنّه برغم إتیانه مطلقاً لکنه فی الواقع واجب ولو لم یوصله إلی ذی المقدّمة.

ولو قصد بالإتیان الندب، فإنّه یکون وضوئه صحیحاً لتمامیّة أرکان النیّة، من

ص:268

وجود الأمر، وقصد القربة، إلاّ أن یکون قد قصد التشریع، فهو حرام، ویوجب للبطلان .

وأمّا من ذهب إلی أنّ المقدّمة الموصلة واجبة ، فحینئذٍ لا یکون الوضوء فی

الفرض المزبور واجباً لعدم کونه مقدّمة راجعة، فلابدّ له الإتیان بما هو المقدّمة للغایة المطلوبة المعیّنة، فلابدّ حینئذٍ من تکرار الوضوء.

والظاهر کون الوجه الأوّل أقوی، کما علیه الشیخ الأعظم قدس سره فی «طهارته» .

ومن هنا ظهر حکم الصورة الثانیة وهو ما لو قصد الوضوء لغایة مندوبة، فی وقت الواجب، فالکلام فیه یکون کالکلام فیمن توضّئ ولم یرد إتیان الغایة به، هذا إذا کان وقت وجوب الوضوء .

الثالثة : بأن یقصد حال الوضوء غایة مندوبة، ولکن لم یکن الوضوء فی ذلک الوقت علیه واجباً، فتوضّأ لقراءة القرآن مثلاً ، ثمّ لم یتلو شیئاً منه، _ سواء علم من أوّله أنّه لم یقرأ أو شکّ فیها، أو کان عازماً علیها ثمّ انصرف بعد التوضّی _ فالظاهر کفایة ذلک الوضوء للصلاة، وکان صحیحاً ورافعاً للحدث، لتمامیّة الأرکان فیه، کما لا یخفی .

ورابعة : بأن یکون الشروع فی الوضوء قبل الوقت، وکان مندوباً، ففی أثنائه دخل الوقت، ففی بطلان ذلک _ کما علیه العلاّمة فی «القواعد» _ أو الحکم بالصحّة والبناء علی الندب باعتبار شروعه فیتمّ ما شرعه أو الحکم بالتبعیض أو عدمه، أقوال: فالمحقّق فی «جامع المقاصد» جعل الأخیر أضعف الاحتمالات ، بل لم نر التصریح به من أحد _ علی ما بأیدینا من کتبهم إلاّ عن مثل الخمینی بل لعلّه کذلک السیّد الخوئی _ من جهة أنّ الوضوء حیث کان مستحبّاً صار مقدّمة للصلاة، وبرغم أنّ المقدّمة وجوبها عقلی لا شرعی لکن هنا لا تتّصف المقدمة بالوجوب _ وان أحضر جمیع أجزاء الوضوء فی الوقت _ بل تکون مندوبة .

أمّا کیفیّة الحکم بالتبعیض هی بأن یکون ما کان قبل الوقت فمستحب، وما کان بعده یکون واجباً، وهذا هو مختار السیّد فی «العروة» وأکثر المحشین علیها ،

ص:269

غایة الأمر أنّ بعضهم مثل الحکیم قدس سره یصرّح بأنّ المجتمع بین الوجوب والاستحباب فی الوضوء کان بدایتهما خلافاً لآخرین کالآملی رحمه الله حیث یقول

بأنّ مفهومهما یکون بحدّیهما وإن لم یکن کذلک بحقیقتهما، فلا ینفک اجتماعهما عن جمع الوجوب والاستحباب بحدّیهما ، ولکن یحکم بالصحّة، لأنّ الوضوء تعدّ حقیقته واحدة _ غیر متعدّدة حتّی یتفاوت _ فی الوجوب والندب، فلا مانع من الجمع بینهما.

أمّا الحکم بأن لا ینوی الوجوب والندب أصلاً، للإشکال فی إمکان الاتّصاف بالوصفین فی عمل واحد، وتشبیهه بمثل الحجّ _ حیث کان شروعه مستحبّاً ولکن یجب إتمامه _ أو الاعتکاف بالنسبة إلی الصوم فی الیوم الثالث ، لعلّه قیاس مع الفارق، لأنّ العرف یری عمل الوضوء عملاً واحداً، لأنّ تمحّض الوضوء فی الوحدة، أشدّ لدیهم من الحجّ والاعتکاف، بل کان حکم الوضوء حکم الصلاة ، فکما لا یصحّ أن یجعل الصلاة بعضها مستحبّاً وبعضها واجباً فکذلک فی الوضوء .

وکما لا یصحّ اتّصافه بالندب فقط _ لدخول بقیّة الأجزاء فی الوقت وصیرورته واجباً _ کذلک لا یصحّ إتمامه وجوباً، لعدم وقوع بعض أجزائه الواقع قبل دخول الوقت واجباً، فلا یتّصفه بشیء منهما، وهذا هو المنقول عن المیرزا عبد الهادی الشیرازی قدس سره .

والأقوی عندنا هو الصحّة، ولو قصد الندب لجمیعه، حتّی بعد دخول الوقت، خصوصاً لو لم نقل بوجوب المقدّمة إلاّ عقلیاً _ لا شرعیّاً ، کما احتمله عدّة من الأصولیّین _.

ووجه الصحّة هو ما عرفت بأنّ ما جُعل مقدّمة للصلاة، لیست ذات الوضوء، بل بما هو عبادة، وهی لا تتحقّق إلاّ أن یقصد بذلک کونه علی وجه قربی، ولو کان من جهة محبوبیّته الذاتیة، فضلاً عمّا کان واجباً واقعاً مثلاً ، فحینئذٍ قد عرفت صحّته حتّی مع قصد الندب، فیما إذا کان جمیع الوضوء بأجزائه فی الوقت

ص:270

الواجب، ویحکم بالصحّة فیه.

ففی المقام من کون بعضه فی داخل الوقت دون بعض، یکون الحکم بالصحّة

یکون بالأولویّة.

وقیاس المقام مع الحجّ أو الاعتکاف غیر وجیه، لأنّه وإن صحّ فی الحجّ کون بدءه ندبیاً وختمه وجوبیاً إذا اختار إدامة العمل، لکن هذا بخلاف المقام، حیث کان دخول الوقت ووجوبه _ إن قلنا به _ غیر اختیاری، فلا یبعد أن یقال بوجوب الحجّ والاعتکاف بعد الشروع، أو بعد البلوغ إلی الیوم الثالث، وصیرورة المجموع واجباً علی النحو المشروط المتأخّر ، وهذا بخلاف باب الوضوء، فإنّه کان مستحبّاً منذ البدایة وإن علم دخول الوقت فی أثنائه .

کما أنّه یمکن القول بصحّته مع قصد الندب لجمیع الأجزاء، إذا قلنا بوجوب _ لا مطلقاً کما علیه المشهور _ المقدّمة الموصلة أو إذا کانت المقدّمة بقصد الإیصال، فحینئذٍ دخول الوقت لا یؤثّر فی وجوب الوضوء، إلاّ مع قصد الإیصال، أو کان یتوصّل بها إلی ذیها واقعاً بعده.

فالحکم بالصحّة قویّ جدّاً، کما أنّ القول بکونه واجباً ومستحبّاً لا یخلو عن بُعد .

هذا تمام الکلام فی الغایات، وحیث کان أکثر ما قلنا فیها مشترکاً ومتّحداً مع الوصف، فلذلک أعرضنا عن ذکر حال التوصیف بالخصوص، واکتفینا بما قلناه فی الغایة، فعلیک بالدقّة والتأمّل، وتطبیق المباحث السابقة فیه أیضاً، کما لا یخفی علی المتأمِّل الفطن .

وخامسة : أن یأتی بالوضوء لغایة معیّنة تقیّداً أو وصفاً، ثمّ بان له عدم وجود تلک الغایة والوصف، أو کان ولکنّه لم یترتّب علیه تلک الغایة، مثلاً توضّأ للصلاة الواجبة مع العلم بأنّه لو لم تکن واجبة لما توضی، وقد عرفت منّا سابقاً، قوّة احتمال الصحّة، لأنّه محبوب بالذات، وقد أحضره علی وجه القربة، فیکفی فی الصحّة، إلاّ أن نذهب إلی اعتبار قصد امتثال الأمر فیه، فیحکم بالبطلان، لأنّه ما

ص:271

قصده لم یکن واقعاً کذلک، فلا یکون امتثالاً لأمره الشرعی، وحیث لم نعتبره فالصحّة قویّة، وإن کان الأحوط الإعادة .

الثالث من التنبیهات: من نذر أن یکون علی طهر حین تلاوة القرآن ودخوله المسجد بصیغتین، فهل یجب علیه الوضوء متعدّداً أم یکفی واحداً ؟

فیه خلافٌ، ذهب الآملی قدس سره إلی الثانی، خلافاً للسیّد فی «العروة» وأکثر أصحاب التعالیق التفصیل فی المسألة، بین أن یکون متعلّق النذر هو الوضوء للتلاوة وغیرها، فلابدّ من التعدّد _ یعنی لو قال الناذر: «للّه علیّ أن أتوضّأ لتلاوة القرآن ومثله لدخول المسجد»، _ وبین أن یکون متعلّق النذر هو تلاوة القرآن مع الوضوء ودخول المسجد فلا حاجة إلی التعدّد.

فی الوضوء / عدم اعتبار النیّة فی رفع الخبث

والفارق بین الفرضین أنّه فی صورة الاُولی، یکون امتثال الأمر النذری وادائه مستتبعاً، أی کلّ ما یصدق الامتثال یصدق الاداء، وإلاّ فلا ، فلو توضّأ من دون قصد للوضوء النذری أصلاً، فإنّه یرتفع حدثه، ویجوز له الدخول فی المسجد وقراءة القرآن، مع صدق الکمال المترتّب علیه، إلاّ أنّه لا یعدّ ممتثلاً للأمر النذری ولا مؤدّیاً.

کما أنّه لو قصد واحد منهما معیّناً، فیصدق الامتثال والاداء لخصوص ما قصده دون غیره، حیث لم یقصده ولم یأت به .

هذا بخلاف الصورة الثانیة، وهی ما لو قصد النذر للتلاوة والدخول مع الوضوء، فحینئذٍ لو توضّأ بدون قصد أحدهما، لا یکون امتثالاً لواحد منهما ولا أداءٌ لکلّ منهما وإن کان وضوئه صحیحاً ورافعاً للحدث.

وإن قصد أحدهما دون الآخر، فحینئذٍ هو ممتثلٌ لما قصده مؤدٍ للآخر.

فهذا من موارد التی انفکّت قضیّة الامتثال والاداء بعضها عن بعض .

فخالف الآملی فی ذاک القسم، وقال بکفایة وضوء واحد لکلّ واحد من النذرین بحیث یشمل حتّی الصورة الاُولی أیضاً، إلاّ أن یکون مفاد نذره مقیّداً

ص:272

ولا تعتبر النیّة فی طهارة الثیاب، ولا غیر ذلک ممّا یقصد به رفع الخبث(1)

بشرط لا، یعنی بأن یتوضّأ لکلّ منهما بخصوصه دون الآخر .

ولکن الحقّ مع السیّد قدس سره ، لأنّ مقتضی ظهور الصیغة هو التعدّد، لأنّ الظاهر عرفاً فی الأولی کون المنذور هو تحصیل الوضوء لکلّ واحد من القراءة والدخول، بخلاف الثانیة حیث أنّ ظهوره فی لزوم التلاوة والدخول حال کونه مع الوضوء .

ویشهد للفرق بینهما، أنّه یکفی فی الثانیة _ حتّی لو کان حال النذر للقراءة والدخول متوضّئاً _ أن یتلو بتلک الطهارة التی کانت له، بخلاف الأولی حیث أنّه لابدّ له من تحصیلها ثانیاً وفاءاً للنذر.

وهذا أوّل دلیل نقیمه علی مدّعانا، فالحقّ ما ذهب إلیه الأکثر من القول بالتفصیل ، إلاّ أن تقام قرینة تفید خلاف ظاهر الصیغة ، فحینئذٍ یؤخذ بدلالتها، وإن کان خلاف ظاهر الجملة فی کلا الصورتین، کما لا یخفی .

(1) واعلم أنّ المصنّف بعدما فرغ عن حکم الطهارة الحدثیة، من لزوم قصد امتثال الأمر مع القربة، أراد أن یبیّن بأنّ الطهارة الخبثیّة لا تحتاج إلی قصد الأمر ولا قصد القربة ولا المباشرة، بل ولا التوجّه إلی نفس المأتی به، بل یتمشّی حتی وإن کان غافلاً عن کونه متعلّقاً للأمر ، بل یکفی فی حصولها مجرّد تحقّق ما یزیل النجاسة شرعاً من المطهّرات، حتّی لو حصل رغم إرادة للمکلّف واختیاره أو بلا توسّط فعل إنسان، کما لو أطارت الریح الثوب النجس وأوقعه فی ماء الکرّ، وزالت عنه عین نجاسته، فإنّه یطهر، إن لم نقل بحاجته إلی العصر أیضاً کالأجسام الصیقلیّة ، وذلک کلّه یستفاد من الأدلّة المتکفّلة لبیان تطهیر النجاسات مثل ما ورد فی خبر الکاهلی: «کلّ شیء یراه ماء المطر فقد طهر»(1) .


1- وسائل الشیعة: الباب 6 ماء المطلق، الحدیث 5.

ص:273

وقوله مشیراً إلی غدیرٍ من الماء: «إنّ هذا لا یصیبه شیئاً إلاّ وقد طهّره».

وقوله : «کلّما أشرقت علیه الشمس فقد طهر».

وأمثال ذلک .

فبعدما عرفت ظهور تلک الأخبار فیما ادّعینا، فلا وجه لمن ادّعی ظهورها لوجوب المباشرة، المستلزمة للنیّة، مع إمکان الإشکال فی کلّیة ذلک أیضاً، إذ لا ملازمة بین وجوب المباشرة مع لزوم النیّة، لإمکان أن یکون المطلوب هو صدوره بنفسه، وإن کان الالتفات مفقوداً من الفاعل حینئذٍ، هذا مع العلم بأنّ الغلبة العرفیة علی التفات المکلّف لما یقوم به ویصدر عنه.

هذا، فضلاً عن وجود الإجماع والضرورة من المسلمین، حیث لم یشاهد ولم ینقل الخلاف _ إلاّ من أبی سهل من الشافعیة وابن سریج فی الحکم بلزوم النیّة _ علی عدم لزوم النیّة والمباشرة ومن هنا ظهر أنّ ما ادّعاه صاحب «المدارک» من التباس الفرق بین الطهارتین، لخلوّ الأخبار عن البیان، لیس فی محلّه .

کما أنّ ما ذکره صاحب «مصباح الفقیه» من أنّ المقام لیس ممّا یجوز التمسّک فیه بظهور الدلیل وإطلاقه، لأنّ جواز التمسّک بهما فرع إمکان الإطلاق لمثل ذلک _ وهو لزوم قصد الأمر _ وهو مفقودٌ فیما نحن فیه .

لیس بوجیه، لما قد عرفت من ظهور لسان الأدلّة، علی کون المطلوب لیس إلاّ وجوب الطهارة، من أی طریق حصلت، ولو کان بغیر اختیار أو بدون شعور _ کالنائم _ بل حتّی المباشرة، فدلالته علی عدم وجوب النیّة _ ولو بدلالة الاقتضاء والعقل _ کان بطریق أولی.

فالمسألة واضحة بحمد اللّه، لا تحتاج إلی إطالة الکلام فیها .

ص:274

ولو ضمّ إلی نیّة التقرّب، إرادة التبرّد، أو غیر ذلک، کانت طهارته مُجزیة(1)

(1) إنّ المصنّف قدس سره حصر ذکر ضمائم النیّة فی باب الوضوء فی هذا المقام، لکنّه خصّه بالضمائم المباحة مثل إرادة التبرد وغیره، فلا بأس أن نبحث فی هذا المقام عن جمیع أفراد الضمائم وبیان حکمها من الصحّة والبطلان.

فنقول ومن اللّه الاستعانة :

الضمائم تکون بحسب حال الحکم علی ثلاثة أقسام ، لأنّها: إمّا تکون مباحة، أو راجحة، أو محرّمة ، وأمّا المرجوحة فلا یبعد أن یکون حکمها متّحداً مع حکم المباحة، ولذا لم نستقلها فی البحث.

فیقع الکلام حینئذٍ فی مقامات ثلاثة :

المقام الأوّل : فی الضمیمة المباحة والمرجوحة، کأن یتوضّأ للّه تعالی ولبرودة الماء أو للّه ولسخونة الماء بحرارة الشمس _ حیث یعدّ مکروهاً _ کما أنّه یجری فی الصلاة فی الحمّام، لو نوی الصلاة للّه تعالی مع کونها فی الحمّام الذی یوجب مرجوحیتها ولو بمعنی قلّة الثواب.

فیتصوّر وجوه المسألة، وصورها فی الضمیمة بأربعة صور، بعد القطع بعدم الإشکال فی الصحّة، فیما لو کان داعیه فی أصل الفعل والعمل هو التقرّب إلی اللّه تعالی وامتثال أمره، لکنّه حین اختیاره المشخّصات الفردیة والخصوصیّات المصداقیة اختار مصداقاً مباحاً أو مرجوحاً، حیث کان بناءً علی الحکم العقلی الأولی مختاراً فی اختیاره لأی فرد من الأفراد فی الزمان والمکان. هذا فضلاً عن أنّه لا یصدق علی هذا الاختیار الضمیمة حتّی نبحث عن حکمه، وهو واضح .

والعجب عمّن نقل عنه صاحب «مصباح الهدی» أنّه ذهب إلی التخییر الشرعی، لکون الأوامر لا تتعلّق إلاّ بالطبیعة، بلحاظ وجودها فی الخارج، فیکون مرکز الأمر والحکم هو الفرد والأفراد، فیکون التخییر شرعیّاً لا عقلیّاً .

ص:275

فهذا فضلاً عن فساد أصل مبناه کما قرّر فی الاُصول، فإنّه فاسد من حیث البناء، یعنی لا یوجب بطلان العمل _ لو سلّمنا المبنی _ لعدم کونه من الضمائم، لما قد عرفت أنّ ما دعاه لإتیان الفعل لیس إلاّ أمر اللّه تبارک وتعالی، وأمّا الخصوصیّات الفردیة فهی من التوابع القهریة فی جمیع الموارد، کما لا یخفی .

کما لا إشکال فی صحّة الفعل، لو کان قصده مجرّد امتثال أمره، من دون ضمیمة اُخری معه، فهو أیضاً خارج عن بحث الضمیمة .

کما لا إشکال فی البطلان فیما لو أتی العمل لمجرّد البرودة والسخونة من دون وجود قصد القربة وامتثال الأمر، لأنّه خارج عن البحث المزبور، إلاّ أنّه باطل من جهة فقدانه لقصد القربة والأمر، وهما أیضاً واضحان ولا کلام فیها .

وأمّا صور الضمائم:

الصورة الاُولی: ما لو کان الداعی الاستقلالی والباعث الأصلی لصدور الفعل هو أمر اللّه تبارک وتعالی مستقلاًّ، إلاّ أنّه ضمّ إلیه قصد التبرید تبعاً، بحیث لو لم یکن الأمر الإلهی موجوداً، لما کان التبرید محرّکاً له وهذه تعدّ أقوی الصور من حیث الحکم بالصحّة ، بل الإجماع المنقول قائم علی صحّته، لعدم منافاته للإخلاص المعتبر فی العبادة، لأنّ المفروض أنّ داعیه کان أمر اللّه تعالی، ومجرّد لحوق شیء به لم یکن یضرّ بإخلاصه ولم یکن فی نفسه حراماً لا یوجب البطلان، فلعلّ القائلین بالبطلان _ کالعلاّمة فی بعض کتبه تبعاً لجماعة، کما فی «الروض»، وفخر الدِّین والشهیدین فی «البیان» و«القواعد»، والمحقّق الثانی وصاحب «الجواهر» _ أرادوا غیر هذه الصورة، کما یشعر استدلالاتهم بمنافاته للاخلاص بذلک، إلاّ أن یأخذوا فی معنی الإخلاص أن لا ینضمّ إلی قصده شیئاً مطلقاً ولو لم یکن باعثاً ومحرّکاً، وهو بعید، ومن هنا ذهب صاحب «کاشف اللثام» إلی التنزیل وتعلّق إطلاق الأصحاب بالبطلان بغیر هذه الصورة .

فدعوی الإجماع لابدّ أن یوافق مع قوله وتنزیله رحمه الله ، لوجود کثیر من

ص:276

المخالفین بین الفقهاء، فسیأتی بعد ذلک ما یؤیّد الحکم بالصحّة فی الفرض المذکور .

الصورة الثانیة : وهی أضعف من سابقتها، وهو فرض کون الباعث والمحرّک لإتیان الفعل قابلیّة کلّ من الأمر والضمیمة مستقلاًّ، لداعویّته نحو الفعل.

فهذه الصورة قد وقع الخلاف بینهم فی حکمها، فقد ذهب قوم إلی صحّته _ کالمحقّق من ظاهر إطلاق کلامه فی «الشرائع»، و«المبسوط» و«المعتبر» وبعض کتب العلاّمة، والسیّد الاصفهانی، والسیّد فی «العروة» وجمیع التعلیقات الموجودة عندنا _ خلافاً لآخرین حیث حکموا بالبطلان _ کالشهید فی قواعده ، بل وهکذا من عرفت النسبة إلیهم البطلان فی الصورة السابقة، لو لم نُسلّم التنزیل، وقلنا بأنّهم یقولون بالبطلان فی تلک الصورة، ففی هذه الصورة یکون البطلان بالأولویة، ولذلک احتاط الآملی فیها دون سابقتها ، بل صاحب «مصباح الفقیه» قد فصّل بین ما لا یقدر علی ترک الإتیان بداعویّة المیل النفسانی، حیث حکم بالصحّة، وإلاّ بالتأمّل فی صحّته مع الإمکان، کما أنّ صاحب «الجواهر» أشکل علی صحّته _ .

فی الوضوء / حکم الضمائم الراجحة فی النیّة

ولکن الأقوی عندنا هو الحکم بالصحّة، لأنّ المعتبر فی النیّة لیس إلاّ کون العمل مأتیاً به للّه تبارک وتعالی، وأن یکون داعیه ومقصوده مستقلاًّ هو أمر اللّه تعالی وإن کان فی الواقع لو لم یکن قصده لکان آتیاً به لداعی التبرید أو غیره.

والقول باعتبار الإخلاص علی نحو لا یجمع مع هذا الفرض، هو أوّل الکلام، لعدم دلیل من الکتاب والسنّة والإجماع علی اعتبار الاخلاص کذلک .

والعجب من صاحب «الجواهر» حیث یدّعی خلافه، لما قد عرفت منّا سابقاً بالتفصیل من عدم وجود دلیل لفظی علی وجوب القصد النیّة إلاّ الإجماع، فهو دلیل لبّی، یجب الاقتصار فیه علی القدر المتیقّن، وهو إنّما یکون محمولاً علی غیر مثل هذه الصورة .

فدعوی عدم صدق الداعویة المستقلّة هنا _ لاستحالة تأثیر المؤثّر المتعدّد

ص:277

فی أثر واحد، أو للتساقط بین الداعیین من جهة التدافع بینهما، فیصیر کلّ واحد منها جزء العلّة لإیجاد العمل _ ممّا لا یَصغی إلیه العرف، وهو مخالف للظهور لأنّه یقال للعبد الذی أتی بالوضوء بقصد أمر اللّه وداعویّته _ إلاّ أنّه لو لم یکن کذلک لأتی به بقصد آخر _ أنّه عبد ممتثلٌ لأمر اللّه، ولا ینافی نیّته المعلّقة الاُخری مع الإخلاص ، فضلاً عن عدم دلیل علی لزومه بهذه الشدّة، ومن ذلک یظهر وجه تأیید الصحّة للصورة السابقة أیضاً .

فبقی هنا صورتان الاُولی: ما لو کان الداعی إلی الفعل هو مجموع الداعیین، بحیث لو لم یکن کلّ واحد منهما موجوداً لما کان یتحرّک نحو العمل.

الثانیة: ما لو کان قصد الضمیمة له داعیاً بالاستقلال، وقصد أمر اللّه تبعاً له، ولا داعویة له مستقلاًّ .

فالحکم بالبطلان فیهما قویٌّ لو اعتبرنا شرطیة الاخلاص فی قصد القربة، وإن کان ظاهر إطلاق المحقّق فی «الشرائع» و«المبسوط» و«المعتبر» والعلاّمة فی بعض کتبه «کالإرشاد» هو الصحّة فیهما أیضاً ، إلاّ أنّه یمکن حمل کلامهم علی غیر هاتین الصورتین.

وجه البطلان: واضح، لأنّه ینافی الاخلاص الذی قلنا باعتباره بالإجماع، خصوصاً بطلانه فی الصورة الأخیرة أوضح من سابقتها، لتبعیة داعویة الأمر الإلهی، کما لا یخفی .

هذا کلّه فی الضمائم المباحة والمرجوحة .

المقام الثانی، فی الضمائم الراجحة: مثل من یتوضّی ویصلّی ویقصد بهما تعلیم الغیر أو یزکّی ومقصوده أیضاً اقتداء الناس به، کإطالة الرکوع لانتظار إلحاق المأموم به والجهر فی التکبیرة للإعلام وأمثال ذلک .

فی الوضوء / اعتبار الخلوص فی النیّة

والظاهر هو اتّفاق العلماء علی صحّته، کما نفی الخلاف فی «المدارک» ونقل الاتّفاق فی «الدروس» إذا کان الأمر الإلهی للوضوء مستقلاًّ والآخر تبعاً، لأنّه

ص:278

مضافاً إلی عدم منافاته للاخلاص ، قد یؤکّده ورود أخبار کثیرة فی أبواب مختلفة عن ذلک کوضوء الحسنین علیهماالسلام لتعلیم من لا یعلم الوضوء ، بل الأخبار الواردة فی أداء الزکاة أنّه یستحبّ التظاهر به، حتّی یقتدی به الغیر، ویرغب فیها، وأمثال ذلک . فلا إشکال فی صحّة صورة تبعیّة الضمیمة وأصالة العبادة، کما لا إشکال فی صحّة صورة استقلال کلّ منهما ، وإن تنظّر فی «الجواهر» فی الصورة الثالثة، وهو ما لو کان المجموع علّة مستقلّة .

بل وهکذا الآملی، لکونه خارجاً ومنصرفاً عنه مورد الإجماع ونفی الخلاف .

بل السیّد فی «العروة» وأصحاب التعالیق، حکموا بالبطلان، ولعلّه من جهة عدم صدق داعویة الأمر للعبادة له بعلّة مستقلّة.

وإن کان التمسّک بإطلاق الأخبار لمثله لا یخلو عن وجه، وإن کان الأحوط الذی لا یترک هو البطلان، فإذا کان هذا باطلاً، ففی صورة تبعیّة الأمر العبادی والمستقلّ للضمیمة، کان بطلانه بطریق أولی .

هذا کلّه إذا أتی بالضمیمة الراجحة بما هی ضمیمة راجحة وقد عرفت حکمه.

وأمّا لو أتی من جهة راجحیّة نفسه وباعثیّته لا من حیث الضمیمة، فیکون حینئذٍ حکمها حکم الضمائم المباحة، کما لا یخفی .

المقام الثالث فی الضمائم المحرّمة : وهی قد تکون من الریاء وما بحکمه من طلب السمعة ، واُخری غیره من العُجب .

ثمّ المحتملات فی الریاء ثلاثة: تارة: یعدّ من عمل الجوانح والقلب، وهو القصد إلی المراء والتظاهر بلا سرایة منه إلی العمل الخارجی .

واُخری: أن یکون العمل الخارجی منطبقاً علیه عنوان الریاء، فیسری علیه قبحه ویصیر حراماً .

وثالثاً : أن یکون الریاء ملازماً للفعل الخارجی لا منطبقاً علیه.

والظاهر کون الریاء من قبیل القسم الثانی _ کما علیه الآملی والحکیم والشیخ

ص:279

الأنصاری، وظاهر بقیّة الفقهاء _ خلافاً للسیّد الاصفهانی، حیث جعله من القسم الأوّل، لأنّه قال: «من الواضح أنّ صرف القصد من دون العمل لا یصدق علیه الریاء عرفاً،فالریاء عبارة عن العمل الذی قصد به التظاهر والمراء أمام الناس، ویقصد به رضی غیر اللّه» .

فحینئذٍ یکون مرکز النهی هو نفس العمل، فإن کان عبادیّاً یوجب الفساد، بلا فرق بین القول بجواز اجتماع الأمر والنهی أو الامتناع، وذلک لوجهین :

أحدهما : بأنّه لو قلنا فی تلک المسألة بالجواز، إلاّ أنّه لو استفدنا من الأدلّة التی سنذکرها إن شاء اللّه بأنّ الخصوص شرط فی تمام أفعال العبادة، نظیر الطهارة، ففقدانه یوجب البطلان، من جهة کونه فاقداً للشرط، فیکون حینئذٍ حدوث الریاء فیه بمنزلة حدوث الحدث فی الصلاة وغیرها من استلزام البطلان.

وثانیها : بأنّه یمکن أن یقال بأنّ مسألة اجتماع الأمر والنهی تجری فیما إذا کان متعلّق الأمر والنهی بحسب طبیعة کلّ منهما منفصلاً عن الآخر ، لکن مقام الامتثال قد حصل بینهما اجتماع نظیر الغصب والصلاة ، هذا بخلاف ما نحن فیه، حیث أنّ متعلّق النهی لا یکون إلاّ نفس العمل متلوّناً بهذا اللون، فما نحن فیه من النهی عن الریاء نظیر النهی عن الصلاة فی وبر ما لا یؤکل لحمه، فکما هو مفسد للعمل ولو قلنا بجواز الاجتماع، هکذا یکون فی المقام لأنّ النهی متعلّق بنفس العبادة .

إذا عرفت ما ذکرنا، فلا بأس هنا بذکر الأدلّة التی ادّعی دلالتها علی اعتبار الخلوص فی التعبّدیات، وملاحظة کیفیّة دلالتها، وهل أنّها تدلّ علی الحرمة وبطلان العمل _ أی وضعاً وتکلیفاً _ أو لا یدلّ إلاّ علی التکلیف والحرمة، أو لا یدلّ شیء منهما؟

فنقول ومن اللّه الاستعانة فهو خیر ناصر ومعین :

استند أصحابنا علی اعتبار الخلوص بالأدلّة الثلاثة، من الکتاب والسنّة والإجماع .

فأمّا الکتاب: فقد استدلّ بآیة الاخلاص وهی قوله تعالی : «وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ

ص:280

لِیَعْبُدُوا اللّه َ مُخْلِصِینَ لَهُ الدِّینَ»(1)، حیث أنّها تدلّ علی أنّ العبادة لا تکون مأموراً بها، إلاّ مع الإخلاص، فما لا إخلاص فیه لا أمر فیه ، فیفهم أنّ الخلوص شرط لصحّة العبادة ، هذا کما فی «الجواهر» .

ولکن یمکن الخدشة فی دلالتها من جهات :

الاُولی : أنّه یلزم علی ذلک انحصار الامر فی التعبّدیات، لأنّ مفهوم الآیة یدلّ حینئذٍ علی أنّ ما لا إخلاص فیه لا أمر فیه حینئذٍ، مع أنّه واضح البطلان، لوجود الأوامر التوصّلیة فی التبرّع .

الثانیة : وجود لفظ (الدین) فیها، یدلّ علی کون المراد هو الاخلاص فی عبادة اللّه، فی قبال عبادة الأوثان وهو الشرک الجلیّ لا الشرک الخفی، حتی یشمل مثل الریاء .

اللّهمّ إلاّ أن یراد من (الدین) هو الطاعة، فیکون معنی قوله تعالی: «مُخْلِصِینَ لَهُ الدِّینَ» أی مخلصین فی الطاعة، فیدخل المقام فیه .

الثالثة: الآیة الشریفة تخاطب أهل الکتاب، بدلالة صدر الآیة فی أوّل السورة، علی کون المقصود هو الاخلاص فی قبال عبادة الأوثان لا فی قبال الریاء ، مضافاً إلی أنّ عطف الصلاة والزکاة اللّتین العبادیتان علیه یوجب کون المقصود هو ما ذکرناه، وإلاّ یکون من باب ذکر الخاص بعد العام .

هذا فضلاً عن الکلام الذی قیل عنها فی تفسیر «مجمع البیان» و«البیضاوی» و«النیسابوری»، بل وجزم به شیخنا البهائی فی «الأربعین» بأنّ معنی «مُخْلِصِینَ لَهُ الدِّینَ» هو أنّه لا یخلطون بعبادته عبادة مَنْ سواه .

فإذا عرفت ما ورد علی دلالة هذه الآیة فإنّه سار فی آیات اُخری مثل قوله تعالی: «قُلْ اللّه َ أَعْبُدُ مُخْلِصا لَهُ دِینِی»(2)، وقوله تعالی: «فَاعْبُدْ اللّه َ


1- سورة البیِّنة: آیة 4.
2- سورة الزمر: آیة 14.

ص:281

مُخْلِصا»(1)، وقوله تعالی: «قُلْ إِنِّی أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللّه َ مُخْلِصا لَهُ الدِّینَ»(2)

وغیرها من الآیات .

اللّهمّ إلاّ أن یتمسّک أحدٌ بما ذکره المحقّق فی «المعتبر» والعلاّمة فی «المنتهی» من وجوب الإخلاص، بعد الفراغ عن کون الواجب هو العبادة، أو یراد من «الدِّین»هو الأعمّ، فیشمل الطاعة أیضاً، فیدخل ما نحن فیه أیضاً .

لکن دعوی ذلک لا یخلو عن تکلّف، واللّه العالم .

ومن الآیات التی استدلّ بها قوله تعالی : «فمَنْ کَانَ یَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْیَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحا وَلاَ یُشْرِکْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدا»(3)، أی بأن لا یُدخل فی عبادته رضی أحد سوی اللّه، وأن یکون عمله خالصاً ومخلصاً له تعالی ، هذا وإن کانت دلالته للإخلاص لا یخلو عن وجه، لو أردنا من الشراکة ما ذکرناه ، ولکن یمکن أن یکون المقصود فی قبال المشرکین فی أصل العبادة مثل عبادة الأوثان ، وکیف کان فإنّ الآیات لا تخلو عن الإشعار بذلک، کما لا یخفی علی المنصف المتأمّل، لاسیّما الآیة الأخیرة مع ملاحظة بعض الأخبار، کما سیأتی ذکرها عن قریب .

ومن الآیات التی تمسّک بها الآملی، قوله تعالی : «وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِیَعْبُدُوا إِلَها وَاحِدا»(4) ، أی بأن تکون العبادة للّه وحده، ولا یخلط معها طلب رضی غیره سبحانه ، ولکن الإنصاف دلالته علی خلاف المقصود _ وهو عبادة اللّه فی قبال عبادة الأوثان أو الشرک _ أقوی، کما لا یخفی .

وأمّا السنّة، فیمکن الاستدلال بعدّة أخبار صحیحة وغیر صحیحة .


1- سورة الزمر: آیة 2.
2- سورة الزمر: آیة 11.
3- سورة الکهف: آیة 110.
4- سورة التوبة: آیة 31.

ص:282

أمّا الصحاح مثل ما رواه زرارة وحمران عن أبی جعفر علیه السلام قال : «لو أنّ عبداً عمل عملاً یطلب به وجه اللّه والدار الآخرة، وأدخل فیه رضا أحد من الناس کان مشرکاً ، وقال أبو عبداللّه علیه السلام : من عمل للناس کان ثوابه علی الناس یا زرارة کلّ

ریاء شرک»(1) .

ومنها : خبر علی بن إبراهیم عن أبی الجارود عن أبی جعفر علیه السلام قال : «سُئل رسول اللّه صلی الله علیه و آله عن تفسیر قول اللّه عزّوجلّ : «فَمَنْ کَانَ یَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْیَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحا وَلاَ یُشْرِکْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدا»؟

فقال : مَنْ صلّی مراءة الناس فهو مشرک، ومن زکّی مراءة الناس فهو مشرک، ومن صام مراءة الناس فهو مشرک، ومن حجّ مراءة الناس فهو مشرک، ومن عمل عملاً ممّا أمر اللّه به مراءة الناس فهو مشرک، ولا یقبل اللّه عمل مراء»(2) .(3)

ومنها : خبر جراح المدائنی عن أبی عبداللّه علیه السلام : «فی قول اللّه عزّوجلّ : «فَمَنْ کَانَ یَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْیَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحا وَلاَ یُشْرِکْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدا»؟

قال : الرجل یعمل شیئاً من الثواب لا یطلب به وجه اللّه، إنّما یطلب تزکیة النفس، یشتهی أن یُسمع الناس، فهذا الذی أشرک بعبادة ربّه ، ثمّ قال : ما من عبد أسرّ خیراً فذهبت الأیّام أبداً حتّی یظهر اللّه له خیراً ، وما من عبد سیّر شرّاً فذهبت الأیّام حتّی یظهر اللّه له شرّاً»(4) .

ومنها : خبر مسعدة بن زیاد عن جعفر بن محمّد علیه السلام عن آبائه علیهم السلام : «أنّ


1- وسائل الشیعة: الباب 11 مقدّمة العبادات، الحدیث 11.
2- وسائل الشیعة: الباب 11، مقدّمة العبادات، الحدیث 13.
3- انّا للّه وانّا إلیه راجعون، أصبت بمصاب أعزّ الناس علیَّ ألا وهو والدی وهو الشیخ الجلیل والسیّد النبیل، السیّد سجّاد ابن السیّد قاسم الگرگانی، وکان وفاته یوم الاثنین الخامس من شهر ربیع الثانی، سنة سبع وأربعمائة بعد الألف من الهجرة النبویّة، رضوان اللّه تعالی علیه وجعل الجنّة منزله ومأواه».
4- وسائل الشیعة: الباب 12، مقدّمة العبادات، الحدیث 6.

ص:283

رسول اللّه سُئل فیما النجاة غداً ؟ فقال : إنّما النجاة فی أن لا تخادع اللّه فیخدعکم، فإنّه من یخادع اللّه یخدعه، ویخلع منه الإیمان، ونفسه یخدع لو یشعر ، قیل له : فکیف یخادع اللّه ؟ قال : یعمل بما أمره اللّه، ثمّ یرید به غیره، فاتّقوا اللّه فی الریاء، فإنّه الشرک باللّه ، إنّ المرائی یُدعی یوم القیامة بأربعة أسماء: یا کافر، یا فاجر، یا

غادر، یا خاسر ، حبط عملک، وبطل أجرک، فلا خلاص لک الیوم، فالتمس أجرک ممّن کنت تعمل له»(1).

فإنّ دلالته علی الحرمة والبطلان أوضح من الأخبار السابقة، کما لا یخفی علی المتأمّل فی فقراتها.

ومنها: خبر یزید بن خلیفة قال: «قال أبو عبداللّه علیه السلام : ما علی أحدکم لو کان علی قلّة جبل، حتّی ینتهی إلیه أجله، أتریدون أن تراؤون الناس، إنّ من عمل للناس کان ثوابه علی الناس، ومن عمل للّه کان ثوابه علی اللّه، إنّ کلّ ریاء شرک»(2).

ومثله الخبر الرابع فی الباب نفسه.

ومنها: خبر السکونی عن أبی عبداللّه علیه السلام قال: «قال النبی صلی الله علیه و آله : إنّ الملک لیصعد بعمل العبد مبتهجاً به، فإذا صعد بحسناته، یقول اللّه عزَّ وجلَّ اجعلوها فی سجّین، إنّه لیس إیّای أراد به»(3).

ومنها: خبر هشام بن سالم عن أبی عبداللّه علیه السلام قال: «یقول اللّه عزَّ وجلَّ: أنا خیر شریک، فمن عمل لی ولغیری، فهو لمن عمله غیری»(4).

ومنها: خبر أبی بصیر، قال: «سمعت أبا عبداللّه علیه السلام یقول: یجاء بالعبد یوم


1- وسائل الشیعة: الباب 11، مقدّمة العبادات، الحدیث 16.
2- وسائل الشیعة: الباب 12، مقدّمة العبادات، الحدیث 2.
3- وسائل الشیعة: الباب 12، مقدّمة العبادات، الحدیث 3.
4- وسائل الشیعة: الباب 12، مقدّمة العبادات، الحدیث 7.

ص:284

القیامة قد صلّی، فیقول: یا ربّ قد صلّیت ابتغاء وجهک، فیقال له: بل صلّیت لیقال: ما أحسن صلاة فلان اذهبوا به إلی النار، ثمّ ذکر مثله فی القتال وقراءة القرآن والصدقة»(1).

ومنها: خبر علی بن سالم، قال: «سمعت أبا عبداللّه علیه السلام یقول: قال اللّه تعالی: أنا أغنی الأغنیاء عن الشریک، فمن أشرک معی غیری فی عملٍ لم أقبله إلاّ ما کان

لی خالصاً»(2).

ومنها: خبر ابن القدّاح، عن أبی عبداللّه علیه السلام أنّه قال لعبّاد بن کثیر البصری فی المسجد: «ویّلک یاعبّاد!إیّاک والریاء، فإنّه مَنْ عمل لغیر اللّه وکّله اللّه إلی من عمل له»(3).

ومنها: خبر محمّد بن عرفة، قال: «قال لی الرضا علیه السلام : ویحک یابن عرفة! اعملوا لغیر ریاء ولا سمعة، فإنّه من عمل لغیر اللّه وکّله اللّه إلی ما عمل، ویحک ما عمل أحدٌ عملاً إلاّ رؤاه اللّه به إن خیراً فخیراً وإن شرّاً فشرّاً»(4).

ومنها: خبر السکونی عن أبی عبداللّه علیه السلام قال: «قال أمیر المؤمنین علیه السلام : ثلاث علامات للمرائی: ینشط إذا رأی الناس، ویکسل إذا کان وحده، ویحبّ أن یحمد فی جمیع أموره»(5).

فإنّه قد تمسّک به الشیخ الأعظم قدس سره لما نحن بصدده.

هذه جملة الأخبار التی یمکن أن یتمسّک بها للدلالة علی بطلان الریاء.

نعم، قد أشار الشیخ الأعظم وغیره إلی إمکان الإستدلال لما نحن فیه بما


1- وسائل الشیعة: الباب 12، مقدّمة العبادات، الحدیث 10.
2- وسائل الشیعة: الباب 12، مقدّمة العبادات، الحدیث 11.
3- وسائل الشیعة: الباب 11، مقدّمة العبادات، الحدیث 6 .
4- وسائل الشیعة: الباب 14، مقدّمة العبادات، الحدیث 8.
5- وسائل الشیعة: الباب 13، مقدّمة العبادات، الحدیث 1.

ص:285

یتضمّن من توقف الأعمال علی النیّة مثل قوله علیه السلام : «لکلّ أمری ء ما نوی»، وقوله علیه السلام : «إنّما الأعمال بالنیّات»، بأن یکون المراد من النیّة هی النیّة الخاصّة، وهو کونه خالصاً للّه فی العبادة، فینتج بأنّه لا عمل إلاّ مع وجود هذه النیّة، وهو المطلوب.

إلاّ أنّ الشیخ قدس سره قد أعرض عنها بواسطة ما ذکر فی الضمائم المباحة من التجویز فیها، إذا کانت علة التحریک هی الأمر الإلهی، وکان الآخر تبعیّاً، مع أنّ مقتضی الجمود علی ما مرّ فیما سبق هو عدم الکفایة فیه، کما لا یخفی.

مضافاً إلی أنّ التصرّف فی النیّة وإرادة النیّة الخاصّة، لیس علی ما ینبغی.

فالأولی هو الإعراض عن ذلک، والتعرّض لما یستفاد من تلک الأخبار السابقة.

والذی ینبغی أن یُقال فیها هو أمران:

الأوّل: فیما أورد علی دلالتها علی المقصود، والجواب عنه.

الثانی: بیان مقدار دلالتها، وکیفیّتها لإثبات ما هو المقصود فیما نحن فیه.

فأمّا الأوّل: فقد أورد علیها أوّلاً: بأنّها لا تدلّ علی بطلان العمل، بل غایتها إثبات عدم قبول العمل الذی فیه ریاء، وأنّه مساوق لعدم ترتّب الثواب والجزاء علی العمل المرائی، وعدم القبول لاینافی صحّته، فیمکن أن یکون العمل صحیحاً ولا ثواب فیه، کما ذهب إلیه السیّد المرتضی قدس سره فی «الانتصار»، بل مال إلیه بعض متأخّری المتأخّرین، فالأمر حینئذٍ ساقط، ولا یجب علیه الإعادة فی الوقت، ولا القضاء خارجها.

إلاّ أنّه غیر مقبول، ولا استبعاد فیه، لما ورد فی کتاب اللّه عزَّ وجلَّ نظیر قوله تعالی: «إنَّمَا یَتَقَبَّلُ اللّه ُ مِنْ الْمُتَّقِینَ»(1).

ومن المعلوم عدم شرطیة التقوی فی صحّة الأعمال، ولو کانت عبادیة فلیس المراد من القبول فی مثله إلاّ عدم ترتّب الجزاء والثواب علیه، فهکذا الأمر فیما


1- سورة المائدة: آیة 30.

ص:286

نحن فیه من عمل المرائی، حیث یثاب وان کان عمله صحیحاً وهو المطلوب.

وثانیاً: بأنّ الحرام المستفاد من تلک الأخبار، إنّما هو إراءة عمله للناس لا نفس العمل الذی یعدّ عبادیّاً.

وثالثاً: لو سلّمنا کون متعلفق الحرام هو نفس العمل، لا الاراءة، وبرغم ذلک نقول بإمکان القول بجواز اجتماع الأمر والنهی، فیکون العمل المرائی حراماً، لکنّه صحیح ومسقط للإعادة والقضاء، هذا، ولکن جمیعها مخدوشة ؛ فأمّا عن الأوّل: فبأنّ کون عدم القبول هو أعمّ من عدم الصحّة، أی یمکن أن یکون العمل صحیحاً بنفسه ومسقطاً للأمر، إلاّ أنّه غیر مقبول وغیر مثاب علیه، کما ورد فی

بعض الأحادیث، بأنّ شارب الخمر لا یُقبل عمله أربعین صباحاً، مع أنّه لا إشکال فی صحّة عمله، فإنکار صاحب «المصباح» لذلک بدعوی الملازمة بین عدم القبول وعدم الصحّة، وحمل القبول فی الآیة علی القبول بنحو الکامل التامّ، لیس فی محلّه.

وهذا أمرٌ مسلّمٌ عندنا، إلاّ أنّا ندّعی دلالة الأخبار فی المقام علی البطلان بخصوصه _ مضافاً إلی أنّ الظهور العرفی الأوّلی فی کلمة (عدم القبول)، هو عدم الصحّة _ مثل خبر علی بن إبراهیم عن أبی الجارود بقوله: «من عمل عملاً ممّا أمر اللّه به مراءاة الناس، فهو مشرک ولا یقبل اللّه عمل مراء»(1).

بل صراحة بعض الأخبار فی حبط العمل وکونه باطلاً، مثل خبر مسعدة بن زیاد، من الإمر بالاتّقاء عن الریاء، بقوله: «فاتّقوا اللّه فی الریاء، فإنّه الشرک باللّه... إلی قوله: حَبَط عملک، وبطل أجرک، فلا خلاص لک الیوم، فالتمس أجرک ممّن کنت تعمل له»(2).


1- وسائل الشیعة: الباب 11، مقدّمة العبادات، الحدیث 13.
2- وسائل الشیعة: الباب 11، مقدّمة العبادات، الحدیث 16.

ص:287

فبناءً علی ذلک، لم یتصرّف فی معنی القبول فی الآیة والروایة الواردة فی شارب الخمر، أی المراد منهما هو صحّة العمل، وکونه مسقطاً للأمر، إلاّ أنّه لا یقبله اللّه ولا یعطیه الأجر والثواب المرتقب فی مثله لغیر الشارب فهذا المستفاد من الأخبار أمر معقول، من دون حاجة إلی ضربٍ من التأویل الذی قاله صاحب «الجواهر» فی ذیل هذه الآیة.

فأمّا عن الثانی: فلما قد عرفت منّا سابقاً، بأنّ المحرّم هو نفس العمل الذی کان منطبقاً علیه عنوان الریاء، لا مجرد القصد کما توهّمه بعض.

ومن هنا ظهر الجواب عن الثالث أیضاً، لأنّه حینئذٍ یکون نفس العمل العبادی متعلّقاً للنهی، فیکون من قبیل النهیی المتعلّق بالعبادة الموجب لفسادها، لا أن

یکون متعلفق النهی عنواناً ملازماً للعمل، أو متعلّق النهی أمراً خارجاً عنه کالقصد، حتّی یدخل تحت عنوان اجتماع الأمر والنهی، حتّی یقال بصحّة العمل علی القول بالجواز دون الامتناع.

فإذا عرفت دفع الإشکالات عن الروایات، تصل النوبة إلی البحث عن مقدار دلالتها، فنقول: فأمنّا الثانی من الأمرین، فلا إشکال بأنّ المستفاد من مجموع تلک الأخبار هو حرمة الریاء فی الجملة، سواء کان فی العبدیّات أو غیرها، فلا أقلّ من ثبوتن الحرمة فی الاُولی قطعاً، کما علیه الإجماع، بل ولا خلاف فی أصل حرمته، کما یدلّ علیه قوله: «أنّه شرک»، والأمر بالاتّقاء فی خبر مسعدة، بل ما ورد من أنّه یُدعی بأسماء خاصّة من الکافر والفاجر والغادر والخاسر، بل وإطلاق الخدعة علیه، وکونه موجباً لسلب صفة الإیمان عنه، وکون العمل فی السجّین، وأمثال ذلک من التعابیر التی توجب القطع والاطمئنان للفقیه بحرمته.

وهذا أمرٌ مقطوع به عند الأصحاب، لا سیّما فی العبادیات لو لم نقل بالحرمة فی التوصّلیات أیضاً، غایة الأمر أنّه لا أثر فیها إلاّ من جهة نفی الثواب علی الامتثال، وترتّب العقوبة علی أصل الریاء، ولو قلنا بحرمته فیها، وهذا بخلاف

ص:288

التعبّدیات حیث یکون أثره هو البطلان، مضافاً إلی وجود ما سبق من العقوبة ونفی الثواب.

بل وهکذا یستفاد البطلان فی التعبدیّات من تلک الأخبار، لما عرفت من الظهور العرفی فی أنّ عدم القبول هاهنا هو عدم الصحّة، مضافاً علی کونه یوجب الحبط فی عمله، أو کون العمل لمن عمل له.

هذا فضلاً عن أنه قد بأنّه إذا سُلّم دلالتها علی حرمة الریاء، وسُلّم کون الریاء منطبقاً علیه للعمل بنفسه، وکونه یوجب الحبط، فلا إشکال حینئذٍ فی بطلانه من جهة دلالة النهی فی العبادات علی الفساد قطعاً.

مع إمکان استفادة البطلان فی بعض مصادیقه، فیما إذا کان الداعی فی أصل

العمل هو الریاء لا الإمر الإلهی، من جهة کونه فاقداً للإخلاص ومنافیاً له المستفاد اعتباره فی الجملة من الآیات والروایات، بل یکفینا الإجماع الموجود فی المقام لو فرضنا عدم دلالتهما فضلاً عن الأولویة المستفادة ممّا ذکرناه فی الضمائم المباحة، إذا قلنا بفساد العبادة فی بعضها، ففی مثل الضمائم المحرّمة یکون بطریق أولی.

فثبت ممّا ذکرنا عدم تمامیّة ما ذکره السیّد الاصفهانی قدس سره _ من انحصار استفادة البطلان من جهة کونه منافیاً للإخلاص فقط، کما فی الضمائم المباحة، ولا إضافة فی الضمائم المحرّمة عن المباحة فی هذه الجهة أصلاً _ لما قد عرفت الإضافات فیها، وکون البلطان هنا من جهات شتّی، فعلیک بالدقّة فیما ذکرناه.

نعم، قد اعترض الشیخ الأعظم والسیّد الاصفهانی قدس سره علی استفادة البطلان من خبر السکونی(1)، من جهة أنّ ابتهاج الملائکة فی تصاعد العمل یفید کون العمل واجداً للشرائط المعتبرة والصحّة، وجعله فی السجّین لا یدلّ علی بطلانه،


1- وسائل الشیعة: الباب 12، مقدّمة العبادات، الحدیث 3.

ص:289

فلذلک حمله الشیخ قدس سره علی عمل مَنْ کان حسناته سیّئات الآخرین، کما اشتهر بأنّ حسنات الأبرار سیّئات المقرّبین، وهذا المعنی من الخلوص غیر معتبر فی عامة الناس قطعاً.

هذا، ولکن یمکن أن یقال: بأن وجود أخبار کثیرة دالّة صراحة أو تلویحاً علی البطلان یغنینا عن التمسک بمثل خبر السکونی، الذی هو ضعیف سنداً، فلا یمکن المعارضة مع تلک الأخبار، وإن سلمنا دلالته علی الصحّة، مع أنّه مشکل أیضاً بملاحظة لفظ (السجّین)، لوضوح أنّه محلّ یوضع فیه الاعمال الباطلة والردیئة فلا یعقل أن توضع فیه الأعمال الصحیحة، وکیف کان فالمسألة واضحة بحمد اللّه.

کما لا یضرّ بما قلنا المناقشة للمرائی فی دلالة الجزء الثانی للسکونی، من

ذکر ثلاث علامات للمرائی _ کما استدلّ به الآملی _ مع أنّ دلالته علی البطلان کان بعد الفراغ عن إثباته بدلیل آخر، بأنّ الریاء مبطلٌ فهو یذکر علامته، وإلاّ لواه لما یستفاد منه البطلان.

وجه عدم الإضطرار، هو ما عرفت من وجود أخبار کثیرة مستفیضة _ لو لم نقل بتواترها فی ذلک _ یغنینا عن التمسّک بمثل هذه الأخبار، کما لا یخفی.

فإذا ثبت حرمة الریاء ومفسدیّته للعبادة، تصل النوبة للبحث عن أنّ الضمیمة المحرّمة _ مثل الریاء _ هل هی مبطلة للعبادة مطلقاً _ أی فی الأقسام الأربعة المذکورة فی الضمیمة: من کون الداعی بالاستقلال هو الریاء، والأمر الإلهی تبعاً، وعکسه، وسواء کان کلّ واحد من الداعیین قابلاً للتحریک مستقلاًّ أو لم یکن کذلک، بل کان المجموع منهما محرّکاً _ أو لابدّ من القول بالتفصیل بین صورة کون الریاء تبعیّاً، فیحکم بالصحّة، أو کان بالاستقلال فعلیّاً أو تقدیریاً یحکم بالبطلان، أو القول بالتفصیل بین کونه مستقلاً فعلیّاً فیحکم بالبطلان، وإلاّ کان صحیحاً سواء کان تبعیّاً أو مستقلاًّ تقدیریّاً، کما فی الضمیمة المباحة؟.

وجوه وأقوال.

ص:290

والذی یظهر من إطلاق کثیر من الأصحاب، وصراحة بعض _ کصاحب «الجواهر» و«مصباح الهدی» وکثیر من أصحاب تعلیقات «العروة» لولا الکلّ هو الحرمة والبطلان إذا کان المکلّف مرائیاً فی عبادته مطلقاً، سواء کان بالاستقلال أو بالاشتراک، أو بالتبعیّة، بأن لا یکون الریاء بنفسه قابلاً للتحریک.

والوجه فی ذلک إطلاق الأدلّة وعمومها بإدخال رضی الناس فی عمله، الشامل لصورة التبعیّة أیضاً.

خلافاً للشیخ الأعظم من التردید والتوقف وعدم الاختیار للصحّة أو البطلان، ووجه أنّ إطلاق الإدخال یشمل صورة الداعی المتأکّد، لأنّ للریاء التبعی أیضاً دخالة فی العمل أیضاً.

ومن أنّ ظاهر کثیر من أدلّة الریاء، دخالته علی نحو العلّیة استقلالاً أو جزئیاً، لا مثل التأکد، فیکون المراد من الإدخال ذلک، فیصحّ.

وهذا بخلاف مثل صاحب «مصباح الفقیه» والسیّد فی «الروائع» وبعض محقّقی المتأخّرین، کما فی «الجواهر» من الحکم بالصحّة فی صورة التبعیّة، مبنیّاً علی أنّ الریاء _ بزعم السیّد _ حکمه حکم الضمائم المباحة، بلا فرق بینهما، إلاّ من حیث الحکم بالحرمة والإباحة تکلیفاً، وأمّا من جهة الوضع، فکما لا یفید الضمیمة المباحة التبعیّة، فهکذا تکون المحرّمة. أو علی أنّ التبعیّة معناها عدم دخالتها فی تحقّق العمل، فلا تشملها الأدلّة، ردّاً علی الشیخ، حیث زعم أنّها تشمل الأدلّة لها بإطلاقها وعکساً بحسنة زرارة عن أبی جعفر علیه السلام قال: «سألته عن الرجل یعمل الشیء من الخیر فیراه إنسان فیسرّه ذلک؟

قال: لا بأس، ما من أحد إلاّ وهو یحبّ أن یظهر له فی الناس الخیر، إذا لم یکن صنع ذلک لذلک»(1).


1- وسائل الشیعة: الباب 5، مقدّمة العبادات، الحدیث 1.

ص:291

کما فی «مصباح الفقیه» حیث یدلّ الخبر علی أنّ التبعیّة الموجودة غالباً فی الناس لا یوجب الفساد والبطلان.

ولکن الإنصاف أن یُقال إنّ الأدلة الدالّة علی بطلان العبادة بالریاء متفاوتة، إذ بعضها یدلّ علی کون الریاء بنفسه حراماً ومنهیّاً عنه، والنهی المتعلّق بالعبادة یوجب الفساد، هذا من غیر ملاحظة کون الریاء ینافی الاخلاص أو لا.

وفی بعض آخر کان وجه البطلان، منافاة الریاء للإخلاص.

فعلی هذا التقدیر یکون فساد کلام السیّد الاصفهانی فی عدم البطلان فی مثل التبعیّة، هو ما عرفت منّا سابقاً، من أنّه زعم عدم تمامیّة أدلّة حرمة الریاء لإفساد العمل، لاختلاف متعلّق النهی والحرمة مع متعلّق الأمر للعبادة، وقد عرفت جوابه

وفساد مبناه.

وأمّا من حیث البناء، کان کلامه صحیحاً إن لم تناف التبعیّة للإخلاص.

نعم، قد یرد علیه أنّه لو کان الحکم فی الریاء، حکم الضمیمة المباحة، فلابدّ من الحکم بالصحّة فیما اذا عُدّ الریاء محرّکاً مستقلاًّ تقدیراً کما قاله فی الضمائم المباحة أنّه لم یصرح بذلک.

وأمّا من زعم تمامیّة أدلّة الحرمة _ کصاحب «مصباح الفقیه» وهو مختارنا فلا تردید فی ثبوت فساد العمل، إلاّ من جهة الإشکال فی موضوع الأدلّة، وأنّه هل لفظتی الإدخال والاشتراک للغیر، یشمل لمثل دخالة الغیر تبعاً أم لا؟ وإن کان سلّمنا من جهة الإخلاص أنّه غیر منافٍ، ولا یکون البطلان مستنداً إلیه.

والظاهر الأقوی شمول لسان بعض الأدلّة بمثل التبعیّة أیضاً؛ للتردید فی أنه هل یصدق علیه أم لا؟

فإن قیل: إنّه لا یصدق علیه المرائی، فهو قول غیر وجیه، وإن سلّم صدق المرائی علی مثله فیصدق علیه الإدخال، فتشمله الأدلّة من هذه الجهة، وإن لم تشمله الأدلّة من جهة منافاته للإخلاص.

ص:292

وما ذکره صاحب «المصباح» من توهّم معارضة ذلک مع محتوی حسنة زرارة الوارد فیها قوله علیه السلام : «لا بأس فیما إذا سرّه أن یراه الناس»، لا یخلو عن شبهة، لأنّه فرق بین ما کان الریاء دخیلاً علی نحو القید المؤکّد للداعی، غایة الأمر بالاستقلال، وبین ما یکون فعله للّه تبارک وتعالی خالصاً لوجهه الکریم، ولکنه یسرّ بأنّ فلاناً یراه علی عمل خیرٍ، إذ من المعلوم أنّ حالة السرور کامنة فی جبلّة الإنسان ویحب الإنسان أن یکون مشهوداً له فی عمل الخیر، کما یکون متأثراً بما إذا شوهد وهو یفعل القبیح، فعدم إضرار سروره بذلک لا ینافی بطلان عبادته بالریاء التبعی، کما لا یخفی.

فکلام المشهور هو المنصور من کون الریاء محرّماً ومبطلاً للعبادة مطلقاً،

حتّی ولو کان تبعیّاً.

ثمّ یأتی الکلام فی السمعة التی هی بحکم الریاء، بل لو لم نقل أنّها من أقسام الریاء، لأنّ معنی السمعة هو أن یأتی العمل حضور من لا یکون المقصود رؤیته فقط، بل رؤیته لإسماع الآخرین بأنّ فلاناً یعمل کذا حتّی یشتهر بین الناس أنّه یصلّی ویصوم مثلاً، فالدلیل علی حرمته ومفسدیّته _ مضافاً إلی شمول أدلّة الریاء بأسرها _ هو إشعار بعض الأخبار السابقة، بل دلالتها بخصوصه لذلک، مثل دلالة خبر محمّد بن عرفة قال: «قال لی الرضا علیه السلام : ویحک یابن عرفة اعملوا لغیر ریاء ولا سمعة»(1) الحدیث.

وخبر جراح المدائنی فی تفسیر قوله تعالی:«فمَنْ کَانَ یَرْجُوا... » فی حدیث: «إنّما یطلب تزکیة النفس، یشتهی أن یسمع به الناس»(2).

فهذا الذی أشرک بعبادة ربّه فالحکم فی السمعة أیضاً واضح بحمد اللّه.

* * *


1- وسائل الشیعة: الباب 11، مقدّمة العبادات، الحدیث 8.
2- وسائل الشیعة: الباب 12، مقدّمة العبادات، الحدیث 6.

ص:293

«هاهنا فروع فقهیّة»

الفرع الأوّل:

لا یخفی علیک بأنّ الریاء یتصوّر علی أنحاء شتّی، لأنّه تارةً یکون فی أصل العمل کما هو الغالب، واُخری فی أجزائه، وثالثة فی کیفیّاته.

فالریاء فی أصل العمل لا إشکال فی مبطلیّته له، إذا کان عبادیّاً، کما عرفت تفصیله، فلا نعید.

وأمّا إذا کان فی أجزائه، فهو أیضاً علی قسمین: لأنّه تارةً: یکون الجزء بنفسه عبادة _ کقراءة القرآن، والسجدة فی الصلاة، وکغسل الوجه والیدین فی الوضوء _ فلا إشکال أنّ الریاء فیه موجب لبطلان نفس الجزء قطعاً، لکونه عبادة

وقع فیها ما یوجب تعلّق النهی بها، الموجب لفسادها.

ولکن یوجب بطلان الجزء بطلان أصل العمل بالکلّ أو لا؟

قد یقال بالأوّل، لأنّ وقوع الریاء فی عمل عبادی، یکون من قبیل وقوع الحدث فیه، فکما أنّه مبطل ومفسد کذلک یکون الریاء، بلا فرق بین أن یتدارک الجزء الواجب بعده أم لا، فهذا هو الذی ذهب إلیه السیّد فی «العروة» وتبعه جماعة.

کما أنّه یمکن أن یقال بالتفصیل بین ما لا یتدارکه أصلاً، فهو مبطل للکلّ، من جهة نقص العمل من الجزء الواجب، لا لأجل عروض الریاء علیه فقط، لأنّ المفروض أن أثره إبطال الجزء فقط لا الکلّ، وبین أن یتدارکه خارجاً بعد ذلک، فهو أیضاً علی قسمین: لأنّه تارةً بالتدارک یوجب البطلان أیضاً، لإنّه یستلزم وقوع زیادة عمدیّة فی العبادة، وهی مبطلة إذا کانت مثل الصلاة، فحینئذٍ لا مفرّ عن البطلان فی هذه الصورة من التدارک وعدمه، لأنّه یلزم النقیصة العمدیة وزیادتها مع عدم التدارک، لأنّه قد فرض بطلان هذا الجزء بالریاء، فهو نقیصة، کما أنّه فرض أیضاً زیادة عمدیة نقصیة قد فرض عدم تدارکه، وکونه بنفسه باطلاً، وزیادةً لکونه صار کالکلام الآدمی، فتکون الصلاة علی کلّ حال باطلة.

ص:294

واُخری: لا ویدب التدارک بطلان العمل _ کما فی غَسل الوجه فی الوضوء، حیث أنّه لو أدخل الریاء فیه حین غَسل الوجه وبطل هذا الجزء، فإذا أعاده وتدارکه فإنّه لا یوجب البطلان أصلاً، لأنّه لا یعتبر فی غَسل الوجه کون الموضع جافاً کما لا یخفی والحکم کذلک فی الصلاة، لو لم نقل بکونه زیادة عمدیة.

وأمّا إذا لم یکن الجزء الواجب عبادةً _ أی یعتبر فیه قصد القربة _ کما فی مثل عمل الحجّ لبعض نسکه _ إن لم نقل بوجوب قصد القربة فی تمام أجزائه _ فحینئذٍ لا یوجب الریاء فیه البطلان، بل یفید _ کما عرفت _ صدور حرام منه لو کان حراماً، غایة الأمر حیث أنّ العمل یشتمل علی جزء کان مصداقاً للحرام، قد یتوهّم کون العمل أیضاً منهیّاً عنه، لکنّه فاسد، فأنّ مجموع العمل لا یکون حراماً

ولا منهیاً عنه، غایة الأمر کان الجزء بخصوصه کذلک، والمفروض عدم بطلانه بالنهی عنه أیضاً لکونه توصیلیّاً، کما عرفت.

هذا کلّه فی الجزء الواجب تعبّدیّاً کان أو توصیلیّاً.

فإنّ کان فی الثانی _ أی من الأجزاء المستحبّة _ فهو أیضاً علی قسمین: لأنّه تارةً: یکون من جزء الماهیّة.

واُخری: من جزء الفرد والخارج.

فالأوّل منهما: مثل التکبیرات الواقعة فی الحالات المختلفة فی الصلاة، فإنّها جزء الماهیّة الصلاة، وتعدّ عبادة، فلا إشکال فی أنّ الریاء مبطلة لها، إلاّ أنّ بطلان الصلاة به متوقّف علی صیرورة الصلاة باطلة بإدخال ما لیس فی الصلاة فیها، وإن أوجب الإخلال فی موالاتها أو صارت کالکلام الآدمیّ فی کونه مخلاًّ لها، وإلاّذ لا یوجب البطلان، إلاّ علی قول السیّد فی «العروة» بکون الریاء إذا وقع فی الصلاة _ ولو فی أجزائها المندوبة _ کان کوقوع الحدث فیها مبطلاً لها، ولیس کنیة القطع حیث لا یضرّ لو عاد.

وأمّا الثانی منهما: هو الذی کان جزءً للفرد، وإن لم یکن جزءً للماهیّة، کالقنوت

ص:295

فی الصلاة، حیث تکون الصلاة ظرفاً لها لا کونها مرکبّة من القنوت وغیره.

نعم، إذا قنت المصلّی فی الصلاة، یصیر القنوت أیضاً جزءً مستحبّاً للفرد، فعدم بطلان الصلاة بالریاء یکون بالأولویة إن قلنا بعدم البطلان فی سابقه، إلاّ أنّ إطلاق کلام السیّد یشمله أیضاً.

لکن الأقوی خلافه، کما هو کذلک فی سابقه أیضاً.

هذا کلّه فی الصلاة.

وأمّا فی غیرها الذی لا یعتبر فیه الهیئة الاتّصالیة، ولا یوجب ازدیاد شیء خارجی فیه تأثیراً فی ذلک الواجب، فلا یؤثّر فی العمل أصلاً کالوضوء، کما لو أدخل الریاء فی فعل المضمضة والاستنشاق.

نعم، لو أدخل الریاء فی غسله المستحبّی الذی یغسله ثانیاً، فربما یوجب البطلان إذا کان فی الید الیسری، لأنّه یستلزم کون الماء خارجیّاً، فالمسح بنداوته مبطلٌ کما لا یخفی.

هذا تمام الکلام فی الأجزاء من الواجبة والمندوبة.

والثالث: هو ما لو کان الریاء فی الأوصاف والکیفیّات، فهو أیضاً علی قسمین: لأنّ الأوصاف قد تکون من الأوصاف الداخلیة المتّحدة مع الأجزاء.

واُخری تکون من الخارجیة منها.

فعلی الأوّل: أیضاً قد لا یکون ذلک الوصف متعلّقاً للأمر وهو مثل الکون فی دار زید أو عمرو لمثل الوضوء والصلاة، فحینئذٍ لو قصد القربة فی أصل الوضوء والصلاة، إلاّ أنه أدخل الریاء فی کونه فی دار زید، مع عدم کون ذلک الکون متعلّقاً للأمر _ لا تعبّدیّاً ولا توصّلیاً _ ففی بطلان العمل العبادی بذلک محلّ تأمّل وإن کان العمل خارجاً متّحداً معه، ویصدق علیه المرائی أیضاً، إلاّ أنّه کان مرائیاً لاداء الصلاة فی ذلک المکان _ لإمکان عدم شمول أدلّة الریاء لمثله، لأنّها منصرفة إلی مثل مایکون ذلک الشیء متعلّقاً للأمر، ولو توصّلیّاً، إلاّ أنّ اتّحاد العمل خارجاً مع

ص:296

ما قصد الریاء، وانطباق عنوان المرائی علیه بذلک العمل المتّحد مع خصوصیّته، یوجب الإشکال فی الحکم بالصحّة.

والثانی: بأن یکون ذلک الوصف متعلّقاً للأمر أیضاً _ کإیقاع الصلاة فی المسجد، أو فی الصفّ الأوّل وأمثال ذلک _ فهو أیضاً علی قسمین: لأنّه قد یکون متعلّقاً للأمر التوصّلی، وقد یکون متعلقاً للأمر التعبّدی.

فلا إشکال فی کون التعبّدی منه _ کالجهر فی القراءة مثلاً لو کان قصد القربة فیه معتبراً _ یستلزم ورود الریاء فیه البطلان کنفس العبادة.

وأمّا لو کان الأمر المتعلّق توصلیّاً _ کإقامة الصلاة فی المسجد، أو فی الصف الأوّل _ فهو أیضاً حکمه حکم ما لا یکون متعلّقاً للأمر أیضاً، لمکان الاتّحاد،

وصدق المرائی علی العمل عرفاً، وفقاً للشیخ الأعظم، وخلافاً للسیّد الاصفهانی، ولو کان ریائه حقیقة فی إیقاع الصلاة فی المسجد.

نعم ما قلناه من حرمة الریاء مطلقاً _ أی حتّی فی التوصّلیات _ فواضح، بل قد عرفت فی صورة سابقة فیما لا یکون مورداً للأمر أیضاً احتمال البطلان لو کان الاتحاد مع ما یکون ریائیاً، فالأحوط ترک الریاء فی أمثال تلک الموارد أیضاً، کما لا یخفی. هذا کلّه فی الأوصاف الداخلیة.

وأمّا علی الثانی هو ما لو کان الوصف خارجاً عن العمل، وواقعاً فیه، کأن یُصلّی وینظر إلی صبی لیوهم بأنّه یراقبه لیجنبه الحوادث، أو مراقبة متاع صدیقه فی حالة الصلاة لیوهم شدّة اهتمامه ومحبّته لصدیقه.

والظاهر عدم شمول أدلّة الریاء لمثله قطعاً، لعدم الاتّحاد حتّی یوجب السرایة، وعدم الصدق عرفاً بکونه مرائیاً، کما لا یخفی.

الفرع الثانی: لا فرق فی کون الریاء حراماً ومفسداً للعمل، بین ما یکون فی ابتداء العمل، أو فی أثنائه، لشمول أدلّته لمثل الأثناء أیضاً، فبعد شمولها یکون حکمه حکم الریاء فی الابتداء.

ص:297

نعم، یبقی هنا صورة اُخری، وهی ما لو قصد الریاء، ولم یفعل شیئاً مع ذلک القصد، ثمّ تاب وأتی ببقیّة الأجزاء من دون إخلال بموالاتها، فهل هو موجب للبطلان أم لا؟

فإن قلنا بمقالة السیّد فی «العروة» بکون الریاء فی العبادة یعدّ کوقوع الحدث فیها، فذلک یوجب البطلان، ولو لم یتشاغل بعده بإتیان جزء آخر، فیما إذا کان العمل ممّا یعتبر فیه بقاء الاتّصال کالصلاة والصوم.

لکن الحکم بالبطلان حتّی مع کونه کالحدث مشکلٌ، بناء علی المختار من عدم صدق الریاء علی مجرد القصد، بل هو العمل المنطبق علیه ذلک، خلافاً للسیّد الاصفهانی.

فالأقوی هو الصحّة، وإن کان الأحوط هو خلافها، هذا فیما لا یکون الاتّصال معتبراً.

وأمّا فیما لا یکون کذلک _ کالوضوء والحجّ _ ففی مثلهما لا یکون للقول بالبطلان وجه، لأنّ المفروض أنّه لم یعمل بواسطة ریائه عملاً، وإن کان التنزیل بکونه کالحدث یوهمه أیضاً، لکن قد عرفت الإشکال فیه.

وإن لم نقل بمفاد کلامه، ولم یکن مثل الحدث قاطعاً، بل المقصود هو عدم إتیان عمل بالریاء، فحینئذٍ یلزم القول بصحّة العمل لو لم یتشاغل بعمل آخر من الأجزاء، فیصیر الریاء حینئذٍ بمنزلة نیّة القطع، ثمّ العدول عنه قبل إتیان جزء واجب معه، وذلک واضح جدّاً فی أنّه لا یوجب بطلان العمل، واللّه العالم.

فهاتان الصورتان حکمهما ظهر ممّا قلناه سابقاً.

وأمّا الصورة الثالثة من الریاء: هو ما لو کان بعد العمل، فهو یمکن أن یقع علی نحوین:

أحدهما: بأن یکون مقصوده فی ابتداء العمل هو اللّه تعالی، إلاّ أنّه کان من قصده فی الحال أیضاً أن یظهر عمله للناس.

فهذا القسم من الریاء لا یبعد أن یشمله الحدیث الوارد فی الریاء، لکنّه مشکل لعدم إمکان تصویر اتحاد أن یکون العمل حین إرتکابه کلّه للّه وللریاء فی آن واحد.

ص:298

وثانیهما: هو أن یکون الریاء بعد العمل حقیقة، یعنی أظهر للناس بعدما کان قد فعل فی سابقة، وکان العمل فیهما مخصوصاً للّه تبارک وتعالی.

فالظاهر عدم تأثیر ذلک، ولا یوجب البطلان، لعدم شمول أدلّة الریاء لمثله، وإن کان المستفاد من بعض الأخبار سقوط خصوصیّة الثواب المترقّب منه بواسطته، إذ الثواب یترتب علی اداء العمل وابقاءه خالصاً لوجهه الکریم.

الفرع الثالث: فیما لو شکّ فی أنّ عمله العبادی وقع فیه الریاء أم لا؟

فهو یتصوّر علی أقسام ثلاثة: لأنّه تارةً یکون فی ابتدائه وأنّه هل شرع خالصاً أم لا؟ فلا إشکال حینئذٍ فی الحکم بالبطلان، لقاعدة الاشتغال لأنّ العبادة لا بدّ فیها من إحراز شرطها، وهو الخلوص، والمفروض هنا انتفائه.

فی الوضوء / حکم العجب فی العبادة

وأمّا لو لم یکن قصده حین الشروع إلاّ الخلوص، إنّما شکّ فیه بقاءً وفی الأثناء، فلا یبعد الحکم بالصحّة، لأنّ مقتضی استصحاب بقاء الخلوص، واستصحاب الصحّة _ لو قلنا بجریانه _ هو الحکم بالصحّة.

وإنّ کان الشکّ فیما بعد الفراغ عن العمل أو التجاوز عن ذلک الجزء، فالظاهر هو الصحّة، لقاعدة التجاوز والفراغ، لأنّ مرجعه إلی الشکّ فی أنّ الجزء أو العمل هل وقع صحیحاً أم لا؟

فمقتضی القاعدتین هو الحکم بالصحّة، کما لا یخفی.

إلی هنا انتهی بحث الضمائم بأقسامها الثلاثة، وقد یلحق ببحث الریاء حکم مسألة العُجب، فنقول.

فی حکم العُجب:

یقع الکلام فیه من جهتین؛

تارةً: من حیث الحکم التکلیفی بأنّه هل هو حرام أم لا؟

وأُخری: من حیث الوضع، بأنّه هل یوجب بطلان عمل العبادی أم لا؟

فعلی فرض البطلان فهل هو کذلک مطلقاً _ سواء کان مقارناً مع العمل، أو

ص:299

لاحقاً _ أو یختص بالمقارن.

فأمّا الکلام من حیث التکلیف: فقد وقع الخلاف فیه، حیث ذهب صاحب «مصباح الفقیه» والسیّد الإصفهانی إلی عدم حرمته بنفسه، لکونه أمراً غیر اختیاری، خلافاً للآخرین ک_ «الجواهر» والآملی والحکیم، کما هو ظاهر من أفتی بحرمته.

فالأولی أن نتعرّض لمعناه أوّلاً، حتی یتّضح بأنّه هل یمکن تعلّق التکلیف علیه أم لا؟

فقد فسّر تارةً بأنّه عبارة عن استعظام النفس بواجدیّتها ما تراه نعمة، ولو لم تکن ذلک واقعاً، والرکون إلیها مع نسیان إضافتها إلی منعهما، کما قاله علماء

الأخلاق، وذکره بعض السادة المعاصرین لصاحب «مصباح الفقیه».

واُخری: بأنّه إعظام النعمة، والرکون إلیها مع إضافتها إلی المنعم، کما علیه صاحب «مصباح الفقیه».

وقد رجع ذلک إلی المعنی الأوّل صاحب «جامع السعادات»، خلافاً لصاحب «المصباح» من بیان تعیّن الثانی، والإشکال فی الأوّل بکونه کِبْراً لا عُجباً.

ولکن الأولی أن یُقال: إنّ ما یستفاد من الأخبار الواردة فی العُجب، والدقّة فیها، هو إما أنّ استعظام النفس کانت من جهة عظمة النعمة، ولو کان بالإضافة إلی منعهما أی ربما کان جلالة المنعم یوجب عظمة النعمة، فلذلک یولد فیه العجب.

أو کان من جهة نفس استعظام نفسه، ولذلک یظن أن رأیه فائقاً علی جمیع الآراء ، ولذلک ورد فی بعض الأخبار إنّ: «إعجاب المرء بنفسه (أو برأیه) من الموبقات».

فبناءً علی هذا، لا یبعد القول بکونه أمراً اختیاریّاً لأنّ ما یکون من الخلیقة الذی وقع فی کلام السیّد قدس سره إنّما کان هو ذکاوة نفسه وحذاقة رأیه، فهو أمر خُلُقی ذاتی طبعی، لکنّه لیس بُعجْبٍ، وما یحصل له من تصوّر وجود ذلک فی نفسه وملاحظة تفوّقه بسببه علی کثیر من الناس، یوجب أن یشمله العُجب، فللشارع

ص:300

أن ینهی عن مثل تلک الحالة المتولّدة من أسبابها الاختیاریة، لأنّ ما یکون بالسبب الاختیاری مقدوراً یکون اختیاریّاً، وقابلاً لتعلّق الأمر بالوجود أو النهی عنه، کما لا یخفی.

فإذا ثبت إمکان تعلّق النهی به، وکان منهیّاً عنه ثبوتاً، تصل النوبة إلی مقام الإثبات والاستظهار.

وما یدلّ علی ذلک من الأخبار، مثل خبر سعد الإسکاف عن أبی جعفر علیه السلام قال: «ثلاث قاصمات الظهر: رجل استکثر عمله ونسی ذنوبه وأعجب برأیه»(1).

وما رواه عبدالرحمن بن الحجّاج عن الصادق علیه السلام قال: قال إبلیس إذا استمکنت من ابن آدم فی ثلاث، لم أُبال ما عمل، فإنّه غیر مقبول منه: إذا استکثر عمله، ونسی ذنبه، ودخله العُجب»(2).

وما رواه أبو عبیدة عن أبی جعفر علیه السلام فی حدیث استیلاء النوم علی العبد المنقاد، لئلاّ یدخله العُجب قوله: «ولو أخلّی بینه وبین ما یرید من عبادتی، لدخله العجب من ذلک، فیصیره العجب إلی الفتنة بأعماله، فیأتیه من ذلک ما فیه هلاکه، لعجبه بأعماله ورضاه عن نفسه»(3) الحدیث.

وما رواه یونس مرسلاً عن بعض أصحابه عن الصادق علیه السلام فی حدیثٍ: «قال موسی بن عمران علیه السلام لابلیس: أخبرنی بالذنب الذی إذا أذنبه ابن آدم استحوذت علیه؟ قال: إذا أعجبته نفسه»(4) الحدیث.

فهو دلیل علی کون العجب بنفسه ذنباً وأمراً اختیاریّاً، وإلاّ لا معنی لأن


1- وسائل الشیعة: الباب 22، مقدّمة العبادات، الحدیث 6.
2- وسائل الشیعة: الباب 22، مقدّمة العبادات، الحدیث 7.
3- وسائل الشیعة: الباب 23، مقدّمة العبادات، الحدیث 1.
4- وسائل الشیعة: الباب 23، مقدّمة العبادات، الحدیث 3.

ص:301

یوصف بالذنب ما لا یکون اختیاریّاً.

وما رواه علی بن سوید عن أبی الحسن علیه السلام قال: «سألته عن العجب الذی یفسد العمل؟ فقال: العجب درجات: منها: أن یزیّن العبد سوء عمله فیراه حسناً فیعجبه، ویحسب أنّه یحسن صنعاً، ومنها: أن یؤمن العبد بربّه فیمنّ علی اللّه عزَّ وجلَّ واللّه علیه فیه المنّ»(1).

وخبر علی بن أسباط مرفوعاً عن رجل، عن الصادق علیه السلام ، قال: «إنّ اللّه علم أنّ الذنب خیر للمؤمن من العجب، ولولا ذلک ما ابتلی مؤمن بذنب أبداً»(2).

فیفهم منه أنّ العُجب أعظم من الذنب.

وما ورد فی أخبار متعدّدة بکون العجب من المهلکات، مثل خبر أبی حمزة الثمالی عن الصادق أو عن علیّ بن الحسین علیه السلام منها قال: «قال رسول اللّه صلی الله علیه و آله فی حدیثٍ: ثلاث مهلکات: شُحّ مطاع، وهویً متّبع، وإعجاب المرء بنفسه»(3).

وخبر عبدالعظیم الحسنی عن الهادی علیه السلام ، عن أمیر المؤمنین علیه السلام قال: «من دخله العجب هلک»(4).

وغیر ذلک من الأخبار مثل الخبر الذی نقله صاحب «مصباح الهدی» عن النبیّ صلی الله علیه و آله قال: «لو لم تذنبوا لخشیت علیکم ما هو أکبر من ذلک العجب العجب»(5).

وفیه أیضاً فیما روی عن الصادق علیه السلام قال: «العَجَب کلّ العَجَب ممّن یعجبُ بعمله، وهو لا یدری بما یختم له... إلی أن قال: والعجب نبات حبّها الکفر،


1- وسائل الشیعة: الباب 23، مقدّمة العبادات، الحدیث 5.
2- وسائل الشیعة: الباب 23، مقدّمة العبادات، الحدیث 7.
3- وسائل الشیعة: الباب 23، مقدّمة العبادات، الحدیث 12.
4- وسائل الشیعة: الباب 23، مقدّمة العبادات، الحدیث 18.
5- مصباح الهدی: 3/463.

ص:302

وأرضها النفاق، ومائها البغی، وأغصانها الجهل، وورقها الضلالة، وثمرها اللعنة والخلود فی النار، فمن اختار العجب فقد بذر الکفر، وزرع النفاق، ولا بدّ أن یثمر».

بل قد یقال: بإمکان استفادة مبغوضیته من بعض الآیات مثل قوله تعالی: «فَلاَ تُزَکُّوا أَنفُسَکُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ اتَّقَی»(1)، حیث أنّ العجب منشأة تزکیة نفسه، ومشاهدة طهارة الرذائل والصفات الذمیمة، وتلک الحالة مبغوضة ومهلکة.

بل قد یوجب العُجب تحقّق صفة الإدلال فی الإنسان، وهو عبارة عن مشاهدة الإنسان نفسه طالب جزاء وثواب فی مقابل العمل الذی عمله وأعجبه، والمدلّ مذموم فی الأخبار والآثار.

بل قد یستفاد من الآیة مذمّته کما فی قوله تعالی: «وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِیدَ هَذِهِ أَبَداً* وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَی

رَبّی لاَءَجِدَنَّ خَیْراً مِنْهَا مُنْقَلَباً»(2) حیث أنّ الرجل العاصیّ _ مضافاً إلی إعجابه بما فی یده _ قد وقع فی الادلال أیضاً، حیث یری نفسه أحسن من أخیه، وثم یطالب حیث قال «لاَءَجِدَنَّ خَیْراً مِنْهَا مُنْقَلَباً».

بل قد یمکن استفادة مبغوضیّة العُجب من قوله تعالی:«الَّذِینَ ضَلَّ سَعْیُهُمْ فِی الّحَیَاةِ الدُّنْیَا وهُمْ یَحسَْبُونَ أَنَّهُمْ یُحْسِنُونَ صُنْعاً»(3)، فلا إشکال فی شمولها لما لا یحسبه مصیباً للواقع، مع إمکان شمولها لما لا یکون خطاءً أیضاً، إن کان الذمّ إشارة الی حال المعجب بنفسه حیث یری نفسه فی أحسن حال، وإن کان فی الواقع کذلک.


1- سورة النجم: آیة 32.
2- سورة الکهف: آیة 34 _ 35.
3- سورة الکهف.: آیة 104

ص:303

کما یمکن استفادة مبغوضیّة الأدلال من بعض الأخبار کخبر إسحاق بن عمّار عن الصادق علیه السلام قال: أتی عالمٌ عابداً فقال له: کیف صلاتک؟ فقال: مثلی یُسئل عن صلاته، وأنا أعبد الله منذ کذا وکذا! قال: کیف بکائک؟ فقال: أبکی حتّی تجری دموعی، فقال له العالم: فإنّ ضحکک وأنت خائف، أفضل من بکائک وأنت مدلّ، إنّ المدِّل لا یصعد من عمله شیء»(1).

وخبر أحمد بن أبی داود عن بعض أصحبابنا، عن أحدهما علیه السلام قال: «دخل رجلان المسجد أحدهما عابد والآخر فاسق، فخرجا من المسجد والفاسق صدِّیق، والعابد فاسق، وذلک أنّه یدخل العابد المسجد مدِّلاً بعبادته، مدّل بها فتکون فکرته فی ذلک، وتکون فکرة الفاسق فی التندم علی فسقه، ویستغفر الله عزّ وجلّ ممّا صنع من الذنوب»(2).

فإذا عرفت کثرة الآیات والروایات الدالّة علی مذمّة العجب صراحةً أو تلویحاً، فلا یتردد الفقیه حینئذٍ فی الحکم بحرمته لأنّه حالة توجد للنفس بواسطة

عدم مواظبته ما یعرضها من الوساوس الشیطانیة، والتسویلات الإبلیسیّة، من تزیین أعمالهم فزیّن لهم سوء عملهم، فیقع فیما کان هلاک به، فأیّ ذنب أعظم من ذلک، فلا إشکال فی حرمته، کما علیه الأکثر والمشهور.

وأمّا الکلام من حیث الوضع: فبعدما عرفت دلالة الأخبار، من حیث المجموع علی حرمة العجب، کما علیه الأکثر، فهل یوجب فساد العمل الطاری ء علیه أو لا؟

فهو یتصوّر علی ثلاثة أقسام

تارةً یعرضه فی أوّل العمل، فإن قلنا بعدم مفسدیّته هاهنا، فیکون عدم الإبطال فی القسمین الآخرین بطریق أولی.


1- وسائل الشیعة: الباب 23، مقدّمة العبادات، الحدیث 9
2- وسائل الشیعة: الباب 23، مقدّمة العبادات، الحدیث 8

ص:304

والذی یقتضیه القواعد هو عدم مفسدیّته ومبطلیّته، لما قد عرفت فی تعریفه من أن العجب هو استعظام النفس بواسطة عظمة النعمة أو عظمة المنعم أو غیر ذلک، فهو أمر جوانحی، وموضعه النفس، ولا ینطبق علی العمل کالریاء، ولا یتّحد معه حتّی یوجب تعلّق النهی به الموجب للفساد، هذا بحسب القاعدة.

وأمّا بحسب دلالة الأخبار فکثیر منها لا یفید الفساد، ما عدا بعضها حیث یفید ظاهرها علی الفساد، مثل ما رواه علی بن سوید عن أبی الحسن علیه السلام قال: «سألته عن العجب الذی یفسد العمل؟ فقال: «العجب درجات: منها أن یزیّن للعبد سوء عمله فیراه حسناً فیعجبه، ویحسب أنّه یحسن صنعاً، ومنها أن یؤمن العبد بربّه فیمنّ علی اللّه عزّ وجلّ، وللّه علیه فی المنّ»(1).

حیث أنّ مورد السؤال کان من حیث إفساده للعمل، فأجاب علیه السلام بتزیّن العمل عند صاحبه تارةً أو إظهار المنّة علی اللّه لإیمانه اُخری.

وما رواه یونس بن عمّار عن الصادق علیه السلام قال: «قیل له وأنا حاضر: الرجلّ یکون فی صلاته خالیاً فیدخله العجب؟ فقال: إذا کان أوّل صلاته بنیّة یرید بها

ربّه، فلا یضرّه ما دخله بعد ذلک، فلیمض فی صلاته، ولیخسأ الشیطان»(2).

حیث یدلّ بمفهومه المخالف علی أنّ العجب إذا کان فی أوّل الصلاة یوجب الفساد، وهو المطلوب.

ولکن الإنصاف عدم تمامیّة دلالة کلا الخبرین فی المطلوب: فأمّا الأوّل: فإنّه من حیث السند، وإنّ کان موثقاً فی الجملة، لأنّ الکلام وقع فی علی بن أسباط لکونه فطحی المذهب، لکنّه موثّق، وأحمد بن عمر الحلال حیث قد توقّف فیه صاحب «جامع الرواة» ووثقه غیره.


1- وسائل الشیعة: الباب 23، مقدّمة العبادات، الحدیث 5
2- وسائل الشیعة: الباب 24، مقدّمة العبادات، الحدیث 3

ص:305

إلاّ أنّ الإشکال فی دلالته، لأن ما وقع فی الجواب من العمل لا یکون من قبیل ما یعرضه الفساد المقصود، وهو البطلان، من جهة العبادة، لأنّ فی القسم الأوّل یکون عمله سوءاً وسیئة ولیس بحسنة، مثل الصلاة والوضوء، کما أنّ القسم الثانی أیضاً هو الإیمان، لیس ما یرد فیه الفساد المتعارف، فیفهم منه أنّ المقصود والمراد من الفساد هو عدم ترتّب أثر علی عمله، إن لم یترتب أثراً سوءاً کما فی القسم الأوّل منه، هذا فی الخبر الأوّل.

وأمّا الجواب عن الثانی: _ مضافاً الی ضعف سنده بیونس بن عمّار الصیر فی حیث لم یوثّقه أحد، وعدم جبرانه بعمل الأصحاب، لأنّ المشهور ذهبوا إلی عدم البطلان، فإنّه ربما یکون معرضاً عنه الأصحاب، لأنّا لم نجد من أفتی بالبطلان، إلاّ ما نقله صاحب «الجواهر» عن بعض مشایخه وبعض السادة من ذراری العلاّمة الطباطبائی إنّ دلالته أیضاً مخدوشة، لأنّ المفهوم یفید أنه إذا لم ینو ربّه فی أوّل بالعمل فصلاته باطلة، وذلک من جهة خلوّ الصلاة عن نیّة القربة لا من جهة وجود العجب کما هو المقصود.

بل یمکن دعوی خلافه، بأنّه یدلّ علی الصحّة حتّی بالنسبة إلی أوّل العمل

أیضاً، بأن یکون المراد من البعدیّة فی قوله: «فلا یضرّه ما دخله بعد ذلک»، أی بعد وجود الخلوص من حیث النیّة فی بدء عمله، فلا یضرّه أن یعجبه من تلک النیّة، لا بعد دخول العمل حتّی یکون متعلِّقاً بما هو فی أثناء العمل کما توهّمه صاحب «الجواهر» والآملی والحکیم قدس سره .

فإذا عرفت الکلام فی صورة دخول العجب فی أوّل العمل، تعرف حال الصورة الثانیة، وهی ما لو عرض العُجب له فی أثناء العمل، فانّه لا یفسده أوّلاً، بالأولویّة المستفادة من حکم الأوّل

وثانیاً بدلالة المنطوق من هذا الحدیث، لو قلنا بکون المراد من البعدیّة بعد الشروع فی العمل.

ص:306

واحتمال أن یکون المراد ما هو یخطر بالذهن، أو یکون المراد هو العموم، حتّی یشمل مثل الریاء والسمعة، خلاف الإنصاف، لأنّ المناسبة بین صدور الجملة والسؤال مع الجواب، افادة أن المقصود هو العجب.

ومن هنا ظهر حال صورة العجب بعد الفراغ عن العمل، مضافاً إلی الأولویّة.

ودلالة الخبر الثانی بالمفهوم الموافق _ أی فحواه _ علی الصحّة، لأنّه إذا لم یفسد عروضه فی الأثناء، فعروضه بعد العمل یکون غیر مبطلٍ بالأولویّة، مع أنّ ذلک مخالف للإجماع، لعدم قائل به، إلاّ عن بعض السادة علی ما نقله صاحب «مصباح الفقیه» عنه، من القول بالبطلان لمن یعرضه العُجب بعد العمل.

مع أنّه کیف یمکن أن یلتزم بذلک إذ یلزم بطلان کلّ عمل أتاه فی مدة عمره، بل ولملازمة صیرورة العجب أشدّ من الریاء والارتداد، لعدم إبطال العمل بهما إذا عرضا بعد العمل؟!

فی الوضوء / وقت النیّة

فالأقوی صحّة العمل، وإنّ کان الأحوط إعادة الصلاة، إذا کانت فی الوقت، وقضائها إذا کانت فی خارج الوقت، إذا عرض له العجب فی أوّلها أو أثنائها، وهکذا غیرها، واللّه العالم.

ثم لا یخفی علیک بأن العُجب قد عرفت حرمته فی العبادات، إذ هی القدر المتیقّن منه، فهل هو حرام فی غیرها من التوصّلیات أم لا؟

فقد ادّعی صاحب «مصباح الهدی» أنّه لم یظهر من أحد الفتوی بحرمته فیها، بل قال: لا یستفاد من الأخبار ما یوجب توهّم الحرمة فی غیر العبادات.

إلاّ أنّ الإنصاف هو أن یُقال: بأنّ دعوی دلالة بعض الأخبار بّما لا یخلو عن وجاهة، مثل قوله: «لم أبال بما عمله فإنّه غیر مقبول» وأمثال ذلک.

إلاّ أنّ قوّة إطلاق بعضها الآخر یکون بحیث یثبت حرمته مطلقاً، مثل قوله علیه السلام فی خبر عبد العظیم عن أمیر المؤمنین علیه السلام : «من دخله العُجب فقد هلک»(1).


1- وسائل الشیعة : الباب 23، مقدّمة العبادات، الحدیث 18.

ص:307

ووقت النیة عند غسل الکفّین، ویتضیّق عند غسل الوجه(1)

بل قد یستفاد من بعضها الحرمة مطلقاً، حتّی فی مثل الإیمان، کما فی خبر علی بن سوید(1).

وکیف کان، لو لا الإجماع علی عدم الحرمة، لکان الحکم بالحرمة مطلقاً قویّ عندنا.

(1) ولا یخفی علیک أن حکم المسألة فی أنّ وقت نیّته الوضوء، هل هی فی أوّل الجزء من الواجب _ وهو غسل الوجه _ أو المضمضة والأستنشاق _ کما علیه ابن إدریس، وقوّاه صاحب «الجواهر» أو غسل الکفّین _ کما علیه المشهور _ أو خصوصیّة فی جمیع ذلک _ کما علیه المتأخّرین _ إذا کان العمل صادراً مع وجود الداعی الإرتکازی للوضوء؟ فإن حکم المسألة موقوف علی وضوح المختار فی المسألة النیّة، هل هی الإدارة التفصیلیّة المتعلّقة بالوضوء المسمّاة بالإخطار _ فلا إشکال حینئذٍ فی لزوم إخطارها فی أوّل جزء من الواجب _ أم لا؟

فحینئذٍ وقع الخلاف فی أنّه أی جزء هو أوّل أجزاء الوضوء، هل الأجزاء المستحبة مثل غَسل الکفّین أو المضمضة والأستنشاق، أو الجزء الواجب فقط کغسل الوجه؟ أو أنّ النیّة عبارة عن الداعی الإجمالی، وهی کافیة فی صدق العبادة، کما علیه المتأخّرین، فلا إشکال فی کفایة تحقّقها ولو تحقّقت قبل الأجزاء الحقیقة من المقدّمات القریبة التی لیست من الوضوء أصلاً.

ذهب المشهور إلی الأوّل _ فعلیهم النزاع کما عرفت _، وأمّا علی المختار من القول الثانی _ کما علیه السیّد فی «العروة» وجمیع أصحاب التعالیق _ کما ذکرناه مفصّلاً فی بحث النیّة، فالمسألة واضحة، بحمد اللّه.

ولعلّه لذلک قد أسقط بعض الفقهاء هذا الفرع من کتبهم، لعدم حاجتهم إلیه، بعد


1- وسائل الشیعة: الباب 23، مقدّمة العبادات، الحدیث 5.

ص:308

ذهابهم إلی کفایة وجود الداعی فی صدق العبادة، کما یصدق ذلک فی استمرارها أیضاً، فاستدلال صاحب «المستمسک» قدس سره فی کفایته تنزیلاً بکفایته فی استمرار النیّة فی غایة المتانة.

فلا یرد علیه کما فی«مصباح الهدی» بکونه قیاساً مع الفارق، لإمکان الأفتراق بینهما، من جهة أنّ تعذّر الحکم بلزوم الإخطار فی الأثناء إلی آخر العمل أوجب ذلک، هذا بخلاف ما لو اعتبرنا لزوم الإخطار فی أوّل العمل حیث أنّه مقدور.

لأنه قد عرفت کون الدعوی فی التنزیل والتمثیل، هو فی أصل صدق العبادة، بوجود هذا المقدار من النیّة فی الأثناء، مع کون العمل قربیاً، فکیف لا یکفی فی صدقها فی أوّله.

وأمّا لزوم النیّة التفصیلیة مضافاً إلی صدق العبادة فی الأوّل ثبوتاً فهو أمر ممکن، ولکن الإشکال فی عدم وجود دلیل فی مقام الإثبات، کما لا یخفی.

وأمّا البحث بأنّ بدایة أعمال الوضوء، هل هی عبارة عن غَسل الکفّین، أو المضمضة والإستنشاق، أو غَسل الوجه أو التفصیل بین الکامل وغیره، _ فالأوّل للأوّل أو الثانی للثانی والثانی للثالث _ وجوهٌ: فإثبات أحدها موقوف علی کیفیّة الإستظهار عن الدلیل الدال علی أن غَسل الکفّین أو المضمضة والإستنشاق جزءاً من الوضوء إذا أراد کاملة.

والذی یقوی فی النظر _ کما علیه الشیخ الأعظم، والآملی وصاحب «الجواهر»هو عدم ثبوت کون غَسل الکفّین جزءاً، لعدم وجود ما یثبته، إلاّ خبر ابن بکیر وزرارة ابنی أعین: «أنّهما سألا أبا جعفر علیه السلام عن وضوء رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم فدعا بطست أو بتور فیه ماء، فغسل کفّیه، ثمّ غمس کفّه الیمنی فی التور...»(1) الحدیث.


1- وسائل الشیعة: الباب 15 الوضوء، الحدیث 11

ص:309

فإنّه وإنّ أمکن الاستدالال لذلک، من جهة أنّه کان علیه السلام فی مقام حکایة وضوء رسول اللّه صلی الله علیه و آله ، الظاهر کونه عاملاً بما هو جزءٌ مستحبّ فی حال الوضوء.

إلاّ أنّه یمکن الإشکال فیه، بأنّه أعمّ من الجزئیّة، لإمکان کونه مستحبّاً بنفسه، ولو فی حال الشروع للوضوء، _ نظیر القنوت فی حال الصلاة _ مع وجود احتمال أن یکون ذلک شرط کمال لمن أراد الوضوء، اتقاءاً من النجاسة المتوهّمة، حتّی یتیقّن بالطهارة، أو شرط کمال لذلک تعبداً، وإن کان قاطعاً بطهارة یده.

وکیف کان إثبات خصوص الجزئیة المندوبة بذلک مشکل، خصوصاً مع ملاحظة أخبار اُخری تدلّ علی العدم، مثل خبر محمّد بن مسلم عن أبی جعفر علیه السلام فی حدیثٍ: «ألا أحکی لکم وضوء رسول اللّه علیه السلام ؟ قلت: بلی، قال: «فأدخل یده فی الإناء، ولم یغسل یده، فأخذ کفّاً من ماء فصبّه علی وجهه»(1) الحدیث.

فإنّه برغم تشابهه مع الخبر السابق فی کونه فی مقام حکایة وضوء رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم ، ولم یفعل صلی الله علیه و آله وسلم ذلک، مضافاً إلی صراحته بعدم غسل یده، مع بعدم غسل یده علیه السلام ، فدلالته علی نفی الجزئیة _ لو لم یکن دالاًّ علی نفی شرط الکمال أیضاً _ قویّة جداً، خصوصاً مع ملاحظة نقل ابن أعین فی خبر آخر(2) وضوئه علیه السلام من غیر ذکر لذلک.

مضافاً إلی ملاحظة خبر عبد الرحمن بن کثیر الهاشمی عن الصادق علیه السلام قال: «بینا أمیر المؤمنین علیه السلام ذات یوم جالساً مع محمّد بن الحنفیّة، إذ قال له: یا محمّد أئتنی بإناء من ماء أتوضّأ للصَّلاة، فأتاه محمد بالماء، فأکفاه فصبّه بیده الیسری علی یده الیمنی، ثمّ قال: بسم اللّه وباللّه... إلی أن قال صلی الله علیه و آله : استنجی، فقال: اللهم حصّن فرجی... إلی قوله: ثمّ تمضمض»(3) الحدیث.


1- وسائل الشیعة : الباب 15 الوضوء، الحدیث 8.
2- وسائل الشیعة: الباب 15 الوضوء، الحدیث 7 .
3- وسائل الشیعة: الباب 16، مقدّمة العبادات، الحدیث 1.

ص:310

حیث أنّه لا یدلّ علی استحباب غسل الیدین، لا قبل الأستنجاء _ مع أنّه لم یفت به أحد _ ولا بعده، بل لم یکن المقصود هو الغسل، کما هو الظاهر حتّی یدل علی استحبابه، لاشتمال هذا الوضوء المنقول عن علیّ علیه السلام علی الأدعیة المندوبة، الظاهر فی کونه فی صدد إتیان المندوبات.

اللّهمَّ إلاّ أن یفرّق فی کونه کذلک للأدعیة فقط، لا الأعمال، کما یشهد لذلک ترکه مندوبات اُخری واردة فی الوضوء.

وکیف کان، فإثبات جزئیة غَسل الکفّین للوضوء، بواسطة خبر ابنی أعین، مع خلوّ کثیر من الأخبار الحاکیة وضوء رسول اللّه صلی الله علیه و آله مشکل جدّاً، فلا یبعد أن یکون إتیانه لکونه أمراً حسناً وهدوداً من النظافة المطلوبة شرعاً، بل لعلّه حسنٌ من جهة دفع النجاسة المحتملة أیضاً وأمثال ذلک.

نعم، استحبابه بنفسه بعد البول والنوم والجنابة قویّ، لدلالة بعض الأخبار علیه، فراجع أخبار الباب 27 من أبواب الوضوء.

هذا بخلاف المضمضة والأستنشاق، حیث قد ورد فی بعض الأخبار ما یمکن استفادة، بل قد تعلّق الأمر بهما، ولا یعارضه ما یوجب انصرافه عمّا ذکرناه، فلا بأس بذکر الأخبار الدالّة علیه، وما یعراضه، والجواب عن المعارضة، فنقول: وممّا یدلّ علی جزئیتهما فی الجملة، صراحة خبر أبی بصیر قال: «سألت أبا عبد اللّه علیه السلام عنهما» فقال: هما من الوضوء، فإن نسیتهما فلا تعد»(1).

وخبر مالک بن أعین قال: «سألت أبا عبد اللّه علیه السلام عمّن توضّأ ونسی المضمضة والاستنشاق، ثمّ ذکر بعدما دخل فی صلاته؟ قال: لا بأس»(2).

وخبر أبی إسحاق الهمدانی عن أمیر المؤمنین علیه السلام فی عهده إلی محمّد بن أبی


1- وسائل الشیعة: الباب 29 الوضوء، الحدیث 4.
2- وسائل الشیعة: الباب 29 الوضوء، الحدیث 3.

ص:311

بکر لمّا ولاّه مصر إلی أن قال: «وانظر إلی الوضوء، فإنّه من تمام الصلاة، تمضمض

ثلاث مرّات، واستنشق ثلاثاً، واغسل وجهک، ثمّ یدک الیمنی»(1) الحدیث.

حیث قد أمر بذلک فی ضمن ذکره فقرات الوضوء وأجزاءه.

مضافاً إلی أخبار کثیرة تدلّ علی کونهما من السنن، وأنّهما یبعدان القلب عن الحرام، ویمنعان عن استشمام رائحة النار، مثل خبر المجالس(2) وخبر عبد اللّه بن سنان(3) وخبر سماعة(4) وخبر السکونی(5) وخبر الخصال(6) وغیر ذلک، فإنّها تدلّ علی استحبابهما. فمع ضمّها إلی الأخبار السابقة، یظهر أنهما یعدان من الأجزاء المستحبة فی الوضوء لا المستحب النفسی.

نعم قد یشاهد فی بعض الأخبار خلاف ذلک، مثل خبر زرارة عن أبی جعفر علیه السلام قال: «المضمضة والأستنشاق لیسا من الوضوء»(7).

وخبر الآخر عنه علیه السلام قال: «لیس المضمضة والأستنشاق فریضة ولا سنّة، إنمّا علیک أن تغسل ما ظهر»(8).

وخبر حکم بن حکیم عن الصادق علیه السلام قال: «سألته عن المضمضة والاستنشاق أمن الوضوء هی؟ قال: لا»(9).


1- وسائل الشیعة: الباب 15 الوضوء ، الحدیث 1.
2- وسائل الشیعة: الباب 15 الوضوء ، الحدیث 17.
3- وسائل الشیعة: الباب 29 الوضوء ، الحدیث 1.
4- وسائل الشیعة: الباب 29 الوضوء ، الحدیث 2.
5- وسائل الشیعة: الباب 29 الوضوء ، الحدیث 11.
6- وسائل الشیعة: الباب 15 الوضوء ، الحدیث 12.
7- وسائل الشیعة: الباب 29 الوضوء ، الحدیث 5.
8- وسائل الشیعة: الباب 29 الوضوء ، الحدیث 6.
9- وسائل الشیعة: الباب 15 الوضوء ، الحدیث 8.

ص:312

وغیرها من الأخبار.

لکنّها محمولة علی عدم کونهما من أجزاء الواجب للوضوء، خلافاً للعامّة حیث یعتقد بعضهم بوجوبها _ کما نقله الشهید فی «الذکری» وصاحب «الوسائل» _ کما قد یؤیّد ذلک، وأنّها واردة لدفع توهّم الوجوب، التعلیل الوارد

فی بعض الأخبار، بأنّهما یعدّان من غسل الجوف، دون الظاهر حتّی یجب غسلهما، کما عرفت ذلک فی خبر زرارة بقوله: «إنّما علیک أن تغسلما ظهر» وکذلک فی خبر أبی بصیر(1) عن الصادق علیه السلام قال: «سألته عن المضمضة والاستنشاق؟ قال: لیس هما من الوضوء، هما من الجوف»(2).

ومثله خبر أبی بکر الحضرمی(3).

کما قد یؤیّد ذلک خبر علی بن جعفر عن أخیه موسی علیه السلام : «أنّه سأله عن المضمضة والاستنشاق؟ قال: لیس بواجب، وإنها ترکهما لم یعد لها صلاة»(4).

فالحکم باستحبابهما من باب کونهما من أجزاء الوضوء قوی، فلو قلنا بمقولة المشهوة ر من لزوم العینیّة التفصیلیّة فی العبادة، یجوز الابتداء بها فی المضمة والاستنشاق، لو أراد الإتیان بالوضوء الکامل، وإلاّ علیه النیّة حین شروعه فی غسل الوجه الذی یعدّ جزءاً واجباً له.

«وتجب استدامة حکمها إلی الفراغ»

وبعد أن فرغ المصنّف عن بحث النیّة فی الابتداء، شرع فیها بالنسبة إلی الأثناء فقال بما عرفت، والبحث فیها یقع اُمور:

الأمر الأوّل: فی بیان الاستدامة.


1- وسائل الشیعة: الباب 15 الوضوء ، الحدیث 8.
2- وسائل الشیعة: الباب 15 الوضوء ، الحدیث 9.
3- وسائل الشیعة: الباب 15 الوضوء ، الحدیث 10.
4- وسائل الشیعة: الباب 29 الوضوء ، الحدیث 14.

ص:313

فقد قیل فی تفسیرها علی أنحاء مختلفة:

تارةً: بما قاله المشهور، وهو المنقول عن الشیخ والفاضلین والمحقّق والشهید الثانیین، وهو عدم الانتقال من ذلک النیة إلی نیّة تخالفها، فإذا لم ینتقل کان حکم النیّة السابقة وأثرها العقلی والشرعی والعرفی مستمرّاً غیر منقطع إلی آخر العمل، واُخری: ما قاله الشهید فی «الذکری» فی معنی الاستدامة بأنها: البقاء علی

حکمها، والعزم علی مقتضاها، وثالثة: ما قاله صاحب «الغنیة» و«السرائر»، بأن یکون المکلّف ذاکراً لها، غیر فاعل لنیّة تخالفها.

ولقد تکلّف الشیخ الأعظم قدس سره إلی إرجاع هذه الثلاثة إلی معنی واحد، وهو الذی ذکره المشهور.

وهل وجه العدول، أنّهم فسفروه بأمر عدمی؟ وهو غیر جائز فی تعریف الأشیاء، وقد استحسن کلامهم وعدولهم عنه، وردّ من جعل وجه الفرق بین القول الأوّل والثانی وبتضرّر التردّدّ علی الثانی، بخلاف الأوّل، فتصیر العبادة باطلة علی الثانی دون الأوّل، وقال: فیه ما لا یخفی.

والإنصاف أنّه بعد التأمّل فی کلماتهم، یطمئن الفقیه بأن مقصودهم بیان وجوب استمرار تلک الحالة الموجودة فی ابتداء العمل ولو حکماً، لعدم إمکان بقاء حقیقته دائماً، کما کان فی الابتداء، وبقاء حکمها أمر ممکن، وقابل للقبول، کما أشار إلیه المحقّق الطوسی قدس سره فی «تجریده» علی ما حُکی عنه ما حاصله: «أنّ الحرکة إلی مکان تتبع إرادة بحسبها، وجزئیات تلک الحرکة تتبع تخیّلات وإرادات جزئیه، یکون السابق منها علّة اللاحق، المعدّ لحصول الحرکة الاُمری، فتتّصل الإرادات فی النفس، والحرکات فی المسافة» انتهی کلامه.

ولذلک تری أنّ الفال المقداد، مع کونه من تلامذة الشهید الأوّل، نسب ما ذهب إلیه المشهور إلی الفقهاء مشعراً بکونه اتّفاقیّاً، فلازمه وجود الاتّفاق بینهم، علی أنّه إذا التفت المکلّف فی الأثناء وتذکّر، لا بدّ أن یکون عازماً علی البقاء علی

ص:314

النیّة السابقة، ولم ینصرف عنها، ولم یرفع یده عنها، وأمّا إذا رفع یده عنها، ففیه کلام سیشر إلیه إن شاء اللّه تعالی.

ولکن لا یذهب علیک، بأنّ من ادّعی کفایة وجود الداعی فی العبادة _ الذی قد عرفت کون مقتضاه، کفایة وجوده فی المقدّمات القربیة، فضلاً عن الأجزاء المندوبة .. لا یحتاد إلی الالتزام بوجوب استمراره حکماً، بل یکفی وجود نفس

الداعی، الذی کان یکفیه فی ابتداء العمل، ولو علی نحو الإجمال والارتکاز.

وهذا بخلاف من ذهب إلی مقالة المشهور، من وجوب النیّة الإخطاریّة، فإنّه حینئذٍ لا یمکن ملاحظة تلک الحالة بالتفصیل من ابتداء العمل إلی انتهائه، فلا محیص إلاّ القول بکفایة حیث استمرارها حکماً، کما وقع فی المتن.

الأمر الثانی: أنّه لو تردّد فی أثناء العمل العبادی، أو نوی الخلاف، بأن نوی التبرید فی مثل الوضوء فهو أیضاً یتصوّر علی قسمین: تارةً: لا یأتی مع ذلک شیئاً من الأجزاء، فیعود من دون فصل، واُخری: یقدم علی إتیان بعض الأجزاء معه.

ففی الثانی أیضاً یتصوّر علی وجهین: تارةً: یمکن التدارک لما فات ویقدم علی تدارکه، واُخری: لا یتدارکه، إمّا لعدم إمکانه، أو کان ممکناً ولکنّه لم یفعل.

لا إشکال فی أنّ التردّد ونیّة الخلاف، قد یکون علی نحو یضرّ بالعمل العبادی، لأنّه قد اعتبر فی العمل بقائه علی الهیئة الاتّصالیة العبادیّة، کما قیل فی الصوم، بأنّه لا بدّ أن یکون جمیع أوقاته مع النیّة الإجمالیّة، وإن کان الأقوی خلافه، لأنّه یلزم أن تکون النیّة المفطرة دائماً مبطلة للصوم، ولا تصل النوبة إلی نفس عمل المفطّر، وهو خلاف ما یستفاد من الأدلّة الشرعیّة.

وکیف کان، فما لا یکون کذلک، مثل الوضوء أو الصلاة علی احتمالٍ، لأنّ المستفاد من بعض الأدلّة الواردة فی الثانی من التعبیر بالقاطع والنقض هو أنّ الأکوان فی الصلاة أیضاً مثل الأجزاء، فی لزوم بقاء النیّة فیها، والتحقیق فیها موکول إلی محلّه.

ص:315

وأمّا مثل الوضوء، فلو تردّد فیه أو نوی الخلاف، ثمّ عاد إلیه، فحینئذٍ إن لم یأت مع التردّد أو غیره شیئاً، ولم یوجب الفصل الطویل المستلزم لفوات الموالاة، فلا یبطل قطعاً.

وأمّا لو أتی بشیء من الأجزاء، فلا إشکال فی عدم احتساب ذلک المأتی به، فحینئذٍ إن أمکن التدارک وفعله کما فی غَسل الأوّل من الوجه، فلا إشکال حینئذٍ

فی صحّة العمل.

وأمّا لو لم یمکن التدارک _ لإستلزامه الزیادة العمدیّة أو کون المسح بماء خارج عن الوضوء بحیث لا یمکن المسح بنداوته.. فحینئذٍ یحکم بالبطلان قطعاً کما لو کان الماء المستعمل فی الغسلة الثانیة لیده الیُسری.

الأمر الثالث: فیما لو عرض لنا الشکّ، فمتعلّق ذلک یتصوّر علی أنحاء ثلاثة.

لأنّه قد یکون متعلّقه فی أصل عروض التردّد فی النیّة، ونیّة الخلاف، فلا إشکال حینئذٍ فی کون الأصل هو عدم العروض، لکونه شکّکاً فی الحدوث، فلازمه الحکم بالصحّة، مضافاً إلی وجود استصحاب الصحّة أیضاً.

وقد یکون من جهة الشکّ، فی أنّه هل أوجب خروجه عن العمل العبادی أم لا؟ بعد القطع بتحقّق عروض التردّد أو تالیه؟

فقد قیل _ کما فی «الروائع» _ یتمسّک باستصحاب الصحّة، لو قلنا بجریان الاستصحاب فی الشکّ فی المقتضی، فیحکم بالصحّة، وإلاّ یتمسک بالبراءة، بناءً علی جریانها فی الأقلّ والأکثر.

هذا، ولکن نقول بأنّ الاستصحاب إن لو حظ بالنسبة إلی نفس العمل العبادی فقط یمکن أن یقال بکونه استصحاباً فی الشکّ فی المقتضی، فلا یکون جاریاً.

وأمّا إن لوحظ بالنسبة إلی نفس وصف المانعیّة والقاطعیّة للتردّد وتالیه، فحینئذٍ یکون جریان الاستصحاب فیه منوطاً بجریانه فی العدم الأزلی، لعدم وجود الحالة المتیقّنة السابقة، فهو متردّد بدون هذا الوصف، فله أن یستصحب،

ص:316

تفریع: إذا اجتمعت أسباب مختلفة، توجب الوضوء، کفی وضوءٌ واحد، بنیّة التقرّب، ولا یفتقر إلی تعیین الحدث الذی یتطهّر منه(1)

فیکون عدم الوصف مساوقاً مع عدم أصل وجود التردّد، فعند القول بجریان الاستصحاب فیه، لا تصل النوبة إلی البراءة.

نعم، لو لم نقل بجریان استصحاب العدم الأزلی، فیرجع حینئذٍ إلی البراءة من جهة الشکّ فی مانعیّته وقاطعیّته، فیتمسّک بالبراءة الشرعیة، وذلک یوجب رفع الشکّ عن صحّة العمل العبادی، فلا یحتاج إلی قاعدة الاشتغال بالنسبة إلی الشکّ فی أصل صحّة العمل.

وبالجملة نتیجة جریان جمیع هذه الاُصول، صحّة العمل، وعدم لزوم الإعادة، کما لا یخفی.

وثالثة: یکون متعلّقه من جهة أنّه إذا عادت نیّته إلی العمل، فیشکّ حینئذٍ فی أنّه هل تحقّق بذلک العود حتی یصحّ إدامته للعمل، أو لا یکون قصد العود مفیداً؟

فحینئذٍ لا إشکال فی کون مقتضی الاستصحاب، هو عدم العود، فلازمه الحکم بالبطلان وعدم الإتیان بما هو الواجب.

اللّهمّ إلاّ أن یُقال: بأنّ أصل العود بواسطة النیّة أمر وجدانی قطعی، لا شکّ فیه، وإن اُرید من العود هو المتّصف بوصف صحّة العمل عنده، فهذا _ وإن کان مشکوکاً _ لیس له الحالة المتیقّنة بوجود العود غیر المتّصف قطعاً، حتّی یستصحب، إلاّ أن یرید استصحاب عدم الوصف بلحاظ عدم الموضوع، أی لم یکن فی الحالة السابقة قبل عوده له عوداً متّصفاً بالصحّة، من جهة عدم وجود أصل العود، فالآن کذلک، فیستصحب عدم أثره ووصفه، لأنّ الأثر مترتّب علیه، فهو منوط علی القول بجریان الأصول وحجّیتها فی عدم الأزلیّة.

فی الوضوء / وضوء واحد لأسباب مختلفة

(1) ولا یخفی أنّه إذا اجتمعت أسباب مختلفة للوضوء _ سواء کان من نوع

ص:317

واحد أو من نوعین، وأزید _ کما لو أحدث حدثین من البول، أو من النوم أو حدثت منه احداث من البول والنوم والغائط یکفی وضوء واحد مع قصد القربة للجمیع، إذا قصدها، بل خلاف أجد _ کما فی «الجواهر»، بل عن شیخنا الأنصاری قدس سره أنّه موضع وفاقٍ، کما هو کذلک عند المتأخّرین، تبعاً للمتقدِّمین.

فحکم هذه الصورة متفق علیه.

فإذا بلغ الکلام إلی هنا، لا بأس بالإشارة إلی صور المسألة تفصیلاً، وبیان ما هو المختار:

فالصورة الاُولی: هی ما عرفت، بأن یقصد بوضوء واحد جمیع ما وقع عنه من الأسباب _ سواءً کانت دفعیة أو متعاقبة، متّحدة النوع أو مختلفة _ فلا إشکال فی صحّته، إذا أتی به مع ذلک القصد، کونه متقرّباً إلی اللّه، وهو القدر المتیقّن لدی العلماء علی اختلاف مسالکهم.

الثانیة: أن یأتی بالوضوء متقرّباً إلی اللّه، من دون قصد موجبه أصلاً، لا تفصیلاً ولا إجمالاً، کما لا یقصد عدم رفعه أیضاً.

فهو محکوم بالصحّة، لو لم نقل بوجوب قصد رفع الحدث فی الوضوء _ کما هو الحقّ عندنا، وقد مضی تحقیقه _ وإلاّ فهو محکوم بالبطلان من جهة فقدان ما هو الواجب فیه من نیّة رفع الحدث.

الثالثة: أن یقصد بوضوئه رفع الحدث بطبیعته، من دون تعیین موجبه بکونه من البول أو النوم، فهو محکوم بالصحّة مطلقاً، حتّی عند من یعتبر قصد رفع الحدث، لأنّ قصد رفع الطبیعة یعدّ قصداً لرفع فرده، فإثبات وجوب تعیین موجبه، مضافاً إلی قصد رفع الحدث، یحتاج إلی الدلیل، والظاهر فقدانه، لو لم نقل بظهور الدلیل علی خلافه.

الرابعة: أن یقصد رفع الحدث من موجبه المعیّن، وکا فی الواقع کذلک، یعنی

بأن کان موجب الحدث هو البول فقط، وقصد رفعه من موجبه، فلا إشکال فی

ص:318

صحّته، حتّی عند من اعتبر قصد رفع الحدث، بل هو القدر المتیقّن عند الجمیع، فی صورة انفراد الموجب، فهذا واضح لا کلام فیه.

الخامسة: هو أن یقصد رفع الحدث من موجبٍ خاصّ، کالبول مثلاً، مع عدم قصد رفع غیره مع وجوده خارجاً، وحیث أنّه واجد لشرائط الصحّة من جهة وجود قصد القربة، وقصد رفع الحدث _ عند من یعتبره _ کان مقتضاه هو الحکم بالصحّة، إلاّ أنّه احتمل العلاّمة فی محکی «النهایة» بطلانه، بل هو أحد وجهی قول الشافعی، ونقل عنه دلیله علی عدم مشروعیّة ذلک القصد بأنّ ما وجب علیه الوضوء _ مثلاً _ من الأسباب کان متعدّداً بحسب نوعه أو شخصه، فلا بدّ من قصدّ کلّ واحد منها بخصوصه، فقصد بعض بالخصوص دون بعض یکون خلافاً للمشورع والمجوّز له، وإن احتمل العلاّمة أیضاً حّة خصوص الوضوء لرفع الحدث، والإتیان بالوضوء لموجبات اُخری.

ولکن الأقوی صحّته، وکفایته عن تمام الموجبات، سواء کان بحسب النوع متّحداً أو متعدّداً.

ووجه الصحّة هی: بأنّ الحدث یعدّ أمراً وجدانیاً یحصل بسبب واحد أو بأسباب متعدّدة، دفعة واحدة، بأن یصیر الموضوع سبباً واحداً فی التأثیر لاستحالة استقلال کلّ سبب لمسبّب عند الاجتماع عقلاً، فإذا نوی الوضوء مع قصد القربة منضماً مع قصد رفع الحدث، فإنّه یوجب رفع جمیع الأحداث لا مجرد الحدث الحیثی من خصوص موجب معیّن.

ولا بدّ لنا لتوضیح ذلک ببیان ما هو المهمّ فی باب تداخل الأسباب والمسبّبات، فإنّه یستفاد منه فی المقام وغیره من أبواب الفقه المختلفة، فنقول ومن اللّه الاستعانة: إذا رتّب جزاء متعدّد لشروط متعدّدة، مثل ما لو قال: «إذا جاء زید فأکرمه، وإن سلّم علیک فأکرمه، وإن أکرمک فأکرمه» فهنا صورتان: فقد

یکون الجزاء فی کلّ قضیة متّحداً بحسب نوعه مع الآخر، کالمثال المذکور.

ص:319

وقد یکون الجزاء فی کلّ قضیّة مختلفاً بحسب نوعه، مثل أن یقال: «إذا جاءک زیداً فأکرمه وإن سلّم علیک فسلّم علیه، وإن أکرمک فأطعمه».

فلا إشکال فی أنّ لازم القضایا الشرطیة المتعدّدة بحسب اقتضاءها الأوّلیة هو تعدّد الجزاء بتعدّد الشرط، سواء کان الجزاء المتعدّد متّحد الجنس أو مختلفة، إلاّ أن الشروط بالنسبة إلی الجزءات قد تکون من الأسباب والمسبّبات، فهو أیضاً علی قسمین: فقد تکون بعض المسبّبات ممّا لا یقبل التکرّر فی التأثیر کالقتل حیث أنّه یتحقق مع سبب واحد، ولا یمکن بعد تأثیر السبب الأوّل تأثیر سبب آخر فی ذلک.

وقد تکون ممّا یقبل التکرفر، مثل الضرب والإکرام وأمثال ذلک.

وقد یکون من المعرّات للجزآءت لا من الأسباب.

أمّا القسم الأوّل من التقسیم الأوّل، فلا محیص فی مثله عن تکرّر السبب، لأنّ الأسباب المتعدّدة إن وجدت دفعة واحدة، فلابدّ أن نلتزم حینئذٍ بأنّ السبب المؤثّر عبارة عن صیرورة مجموع الأسباب سبباً مستقلاًّ فی التأثیر، لاستحالة تأثیر کلّ واحد مستقلاًّ.

وأمّا إن وجدت متعاقبة، فالثابت حینئذٍ هو أنّ المؤثّر عبارة عن السبب الأوّل، ولا تکون بقیّة الإسباب سبباً بالفعل، وإن کان کلّ واحد قابلاً للسببیّة شأناً کما فی مثل القتل إذا أثّر فیه السهم مثلاً، فلا یکون تأثیر بقیّة الأسباب فیه من الآلات القتّالة إلاّ تقدیریّاً، فالتداخل فی مثل ذلک یکون من جهة عدم قابلیّة المسبّب عن قبول التأثیر، وإلاّ کانت الإسباب فی اقتضائها تامّة.

کما أنّ تعدّد الأسباب _ فیما کانت متعدّدة وقابلة فی التأثیر بحسب ذاتها _ یقتضی أن یستتبع کلّ واحد منها مسبّباً مستقلاًّ، کما إذا قیل: «إن أفطرت فاعتق رقبة، وإن ظاهرت فاعتق رقبة»، فإنّه یوجب تعدّد المسبّب لأنّه قابل للتکرّر.

إذا عرفت هذه المقدّمة، فنقول: بأنّ الحدث الأصغر یعدّ من قبیل القسم الأوّل

ص:320

من التقسیم الأوّل، حیث أنّه غیر قابل للتکرّر، ءال نّ الحدث إذا وجد فلا یمکن تحقّقه ثانیاً، لأنّه تحصیل للحاصل، وهو محال، فحینئذٍ لا سبیل إلاّ القول بالتداخل من جهة المسبّب، بما عرفت فی القسمین من الدفعة والتعاقب، من کون التأثیر للمجموع أو للسبب الأوّل فلقط، کما عرفت.

فعلی هذا یکفی فی رفع الحدث أن یقصد ما یوجب ذلک _ وهو کما حقّقناه سابقاً_ بأن یأتی بالغسلتین والمسحتین مع قصد القربة، من دون حاجة إلی قصد رفع الحدث مطلقاً، سواء کان بالحدث الطبیعی أو الفردی، فمقتضی ما ذکر هو کفایة الصورة الخامسة، وهی قصد رفع الحدث البولی، أی رفع أصل الحدث ولو لم یقصد رفعه من حیث آخر.

فما احتمله العلاّمة والشافعی من البطلان أو احتمال لزوم وضوء آخر للحدث الآخر غیر الأوّل _ کما احتمه العلاّمة أیضاً _ ممّا لا وجه له.

غایة الأمر ؛ تارةً: یقصد فیما إذا کانت الأحداث متعدّدة دفعة واحدة رفع جمیعها، فلا إشکال حینئذٍ فی کون العمل محکوماً بالصحّة، لأنّ الحکم بالبطلان ممّا لا وجه له، إذ علی القول بلزوم قصد رفع الحدث عند اتیان الرافع، فإنّه قد تحقّق ذلک، واحتمال لزوم قصده بخصوصه من جهة موجبة ممّا لا دلیل علیه قطعاً، کما هو الحال کذلک أیضاً فیما لو کان قصده فی صورة الدفعة خصوص الحدث المخصوص، کالحدث البولی فقط، لما قد عرفت بأنّ الحدث أمر وجدانی لا یقبل التکرّر والتجزئة، فأمره دائر بین الوجود والعدم _ کالاُمور البسیطة _ فإذا قصد رفعه _ ولو من جهة خاصّة _ فإنّه یوجب رفعه مطلقاً، إلاّ أن یدلّ دلیل شرعی علی عدم رفعه إلاّ منج جهة خاصّة، فهو حینئذٍ یعدّ أمراً تعبّدیاً، لکنّه غیر موجود فعلاً، کما لا یخفی.

واُخری: تکون الاحداث المتعدّدة المتعاقبة علی قسمین:

الأوّل: یقصد رفع خصوص ما وقع أوّلاً فلا إشکال فی رفعه حینئذٍ، حتّی علی

ص:321

القول بلزوم قصد رفعه حین إتیان الرافع، وهو واضح.

الثانی: یقصد رفع حدثٍ غیر الأوّل، فعلی ما ذکرنا من التداخل فی المسبّبات، من جهة عدم قابلیّته للتکرّر، وکونه أمراً وحدانیّاً، فلا فرق فی حصول رفع الحدث بین أن یقصد ما هو الأوّل منها، أو یقصد غیره من الأحداث، بناءً علی ما ذکرناه، ضرورة أن نتبع ما ذکره بعض الفقهاء، من أنّه إذا اُرید من ذلک القصد المتعلّق لفرد خاص الوصول إلی أصل الأمر المتعلّق بذلک، بواسطة وجود الحدث، فیحکم بالصحّة، وإن لم یکن کذلک، بل قصد أمراً خاصاً بمفرده، فحینئذٍ یشکل الحکم بالصحّة، لأنّ الأمر الأوّل _ مثلاً _ هو الذی لا بدّ أن یحرّکه فی الامتثال، وهذا ما لم یکن قد قصده، فلا یحرّکه وما لا یکون له خطاب من ناحیة فقد قصده مقیّداً به، فلا یکون امتثالاً للأمر، فکیف یکون موجباً لصحّة الوضوء، فما وقع لم یقصد وما قصد لم یقع!

والوجه فی ذلک هو أنّ خصوصیّة السبب لا دخالة لها فی الحکم بوجوب الوضوء، لوضوح أنّ الحدث إذا وجد _ وإن کان تحقّقه بواسطة الحدث الأوّل _ یعدّ موجباً للوضوء، فقصد کون الوضوء من ذلک السبب أو من غیره لا تأثیر له فی إتیان ما هو الواجب علیه، فالتفصیل بین الصورتین ممّا لا وجه له، فالتقیید لا تأثیر فیه _ کما اختاره البروجردی وصاحب «الجواهر» والخوئی والگلبایگانی، خلافاً للسیّد فی «العروة» والآملی فی «المصباح» وبعض آخر من الفقهاء _ فالأقوی عندنا هو الصحّة مطلقاً.

السادسة: ما لو توضّأ لخصوص رفع حدث معیّن مع قصد عدم رفع حدث آخر، فهل هو محکوم بالصحّة أم لا؟

فعن الآملی قدس سره من القول بالتفصیل بین صورتی الدفة والتعاقب، والحکم بالبطلان فی الأوّل، والصحّة فی الثانی علی تقدیر کون قصده المقیّد هو الأوّل

دون غیره، وإلاّ یحکم بالبطلان.

ص:322

فقال فی توجیه الحکمین بأنّ الحکم بالبطلان فی الأوّل، کان من جهة أنّه إذا قصد رفع حدثٍ معیّن، مع قصد عدم رفع حدثٍ آخر، فإنّ التلازم بین الحدثین یقتضی أن یکون رفع أحدهما موجباً لقصد رفع الآخر، کما أنّ قصد عدم رفع الآخر یوجب عدم رفع الأوّل، فیرجع القصدان إلی التناقض بین القصدین، فلازمه البطلان، لعدم وجود وجه فی تقدّم نیّة رفع الحدث الأوّل علی نیّة عدم رفع الحدث الآخر، فبالنتیجة یوجب التناقض التساقط. هذا فی الدفعة وهذا هو مختار العلاّمة فی «النهایة» والشهید فی «الدروس» و«البیان».

هذا فی الدفعة.

وأمّا فی التعاقب: فإن کان ما قصد رفعه هو الأوّل دون ما تعقّبه، فالظاهر الصحّة، لأنّه قصد رفع الحدث المتحقّق منه واقعاً، ولا تأثیر فی قصد عدم رفع غیره، لعدم تحقّق غیره، حتّی یکون قصد عدم رفعه مخلاًّ بصحّة الوضوء.

وأمّا لو قصد رفع ما عدا الأوّل، مع قصد عدم رفع الأوّل، فالأقوی البطلان، امّا بناءً علی اعتبار قصد رفع الحدث فی صحّة الوضوء فواضح، حیث أنّ الحدث حاصل بالموجب الأوّل، والمفروض أنّه قاصد لعدم رفعه، وما قصد رفعه لیس بواقع.

وأمّا بناءً علی عدم اعتبار قصد الرفع فی صحّته، فلأنّ قصد عدم رفع ما وقع بالموجب الأوّل، یرجعُ إلی قصد عدم رفع الحدث، والقائل بعدم اعتبار قصد الرفع لا یقول بصحّة الوضوء مع قصد عدم رفعه، لأنّه یرجع إلی عدم قصد الوضوء، أو إلی عدم قصد الأمر المتوجّه إلیه، فقصد عدم الرفع موجب للإخلال بالنیّة، انتهی کلامه.

ولا یخفی علیک ما فی کلا الموردین من الإشکال: فأمّا الأوّل، فلما عرفت بأنّ قصد الموجب والسبب لا تأثیر له، کما أنّ قصد عدم رفع الحدث من ناحیته یکون بلا أثر أیضاً إذ کان المفروض قصد رفع أصل الحدث.

نعم، لو رجع قصد عدم الموجب إلی قصد عدم أصل رفع الحدث، فللتأمّل فیه

ص:323

وجه، مع إمکان القول بصحّته أیضاً، إذا أتی بالوضوء مع قصد القربة إن کان قاصداً عدم رفعه، ولکن الأحوط عدم الاکتفاء بمثل ذلک الوضوء، هذا أوّلاً.

وثانیاً: فکما لا وجه للحکم بتقدّم نیّة رفع الحدث، علی نیّة عدم رفع الحدث الآخر، کذلک لا وجه للقول بذلک فی الجانب المقابل له، إذ لا یعقل الحکم بتقدّم نیّة عدم رفع الحدث الآخر علی نیّة رفع الحدث.

فحینئذٍ لو لم نقل بلزوم قصد رفع الحدث فی الوضوء، ولم نقل بإضرار نیّة عدم رفع الحدث، فلا إشکال حینئذٍ من الحکم بالصحّة.

وأمّا إن قلنا بأحد من الأمرین، فالأحوط حینئذٍ عدم الاکتفاء بمثل ذلک الوضوء، لأجل اقتضاء التلازم التساقط، إذ علی اعتبار نیّة رفع الحدث، فإن منشاء بطلانه واضح، لسقوط هذا القصد، وعلی القول باعتبار عدم قصد رفع الحدث، فلأنّه بمجرد وجوده یوجب سلب الاطمئنان، وإن سقط بالتساقط المتحقّق من التلازم.

وأمّا علی الثانی، وهو التعاقب: فإن کان ما قصد رفعه هو الأوّل، فلا إشکال فی صحّته کما قاله. وأمّا لو کان ما قصد عدم رفعه هو الأوّل، فحینئذٍ یکون الحکم بالبطلان وجیهاً لو کان قصد عدم رفعه من جهته مستلزماً لعدم رفع أصل الحدث، فحینئذٍ یکون وجه البطلان أحد الأمرین: إمّا من جهة فقدان ما هو المعتبر، وهو قصد رفع الحدث علی القول باعتباره.

أو من جهة وجدان ما هو المضرّ فی الموضوء، وهو قصد رفع الحدث.

وأمّا لو قلنا بعدم مدخلیة قصد العدم من جهة خاصّة، فی رفع أصل الحدث، فحینئذٍ یتّجه الحکم بالصحّة، جهة توجه للنهی إلیه، مع قصد القربة، وإن کان الأحوط _ کما عرفت _ هو عدم الاکتفاء به فی هذه الصورة، واللّه العالم.

السابعة: ما لو توضّأ عن حدث معیّن _ کالبول _ مع کون الحدث فی الواقع

غیره، فعن الآملی القول بالتفصیل، بین أن یکون التعیّن علی نحو الداعی للأمر

ص:324

وکذا لو کان علیه أغسال، وقیل: إذا نوی غُسل الجنابة أجزاء عن غیره، ولو نوی غیره، لم یُجْزِ عنه، ولیس بشیء(1)

الموجود، فیحکم بالصحّة، وبین أن یکون علی نحو التقیید، فیکون باطلاً، کما اختار ذلک فی الصورة الخامسة وقد مرّ علیک.

ولکنّ التحقیق علی ما قلناه سابقاً، هو القول بالصحّة مطلقاً، لعدم مدخلیة تعیین الخصوصیة _ ولو کان علی نحو التقیید _ لأنّ الملاک المعتبر هو نیّة رفع الحدث المطلق، أو نفس إتیان العمل مع قصد القربة، فهما کافیان فی الحکم بالصحّة.

(1) واعلم أنّ مورد هذا البحث هو باب الأغسال لا هنا، ولکن المصنّف لمّا اختار بحث التداخل فی باب الوضوء، وأفتی بکفایة وضوء واحد من الأحداث المتعدّد _ کما ذکرناه تفصیلاً _ أراد ذکر الأغسال هنا وإتمام بحثها، ولذلک ألحق بالباب ما مرّ علیک ذکره، ونحن أیضاً نسیر علی هذه الوتیرة اقتداءاً بأسلافنا الصالحین کصاحب «الجواهر» والشیخ الأنصاری والهمدانی، فإنّهم أیضاً تابعوا المحقق رحمه الله فی ذلک، ونحن نذکر هذه المسألة إن شاء اللّه، مع صورها، ووجوها والاُمور والأحکام المتعلِّقة بها.

فی الوضوء / غسل واحد لأسباب مختلفة

فنقول وعلی اللّه التکلان: یمکن تصویر وجوه کثیرة فی المسألة؛ وهی:

الصورة الاُولی: ما لو کان للمکلّف حدث معیّن واحد من النوع الأکبر کالجنابة أو الحیض وغیرهما، فلا إشکال فی أنّ الغسل المنویّ رفع الحدث به یرفعه ویرتب آثار الأغسال علیه بحسب ما یقتضیه، فتارة یکفیه عن الوضوء قطعاً، کغسل الجنابة، واُخری لا یکفیه عنه کغسل الحیض عند بعض.

ولا فرق فی هذه الصورة بین أن یحدث له حدثاً مشابهاً للحدث الأوّل مرّة واحدة أو مرّتین أو مرّات عدیدة، لاتّحاد سنخ الحدث _ کالجنابتین والحیضتین

وأمثال ذلک _، وهو واضح.

ص:325

کما لا فرق فی صحّة ذلک الغسل، بین أن ینوی رفع حدث کلّ واحد واحد، أو ینوی المجموع جملة واحدة أو ینوی مطلق الحدث المتّصف بالجنابة، أو لا ینوی إلاّ نیّة الإستباحة للمشروط بالطهارة _ کالصلاة _ أو ینوی قصد القربة فقط، لعدم دخالة هذه الخصوصیات فی ذلک.

وهذا ممّا اتّفق علیه فقهاء الشیعة، کما صرّح بذلک صاحب «الجواهر» قدس سره والشیخ الأنصاری، بل علیه السیّد فی «العروة» وجمیع أصحاب التعالیق، کما لا یخفی، إلاّ من شذّ عنهم، کالبروجردی وغیره، فهؤلاء ذهبوا إلی لزوم قصد العناوین بخصوصیّتها، مع قصد القربة.

لکن هذا القول جار فی غیر مورد اتّحاد جنس الحدث _ کما هو المفروض _ ومفروض کلام هؤلاء اختلاف جنس الأحداث أو الأنواع من الوجوب والندب وأمثال ذلک، ولولا ذلک لکانوا موافقین مع الجمیع.

الصورة الثانیة: ما لو کانت الأحداث مختلفة، لکن متّحدة من حیث الحکم _ یعنی کلّها کانت واجبة أو مندوبة _ فهی أیضاً تارة.

یفرض إتیانها بقصد رفع الحدث عن الجمیع من الجنابة والحیض والاستحاضة والمسّ وغیرها.

واُخری کذلک فی طرف المندوب، بأن یقصد جمیع ما کان فی ذمّته من المستحبّات.

والظاهر اتّفاق الفقهاء علی صحّة غُسل واحد للجمیع، وکفایته عن کلّ منهما.

وهکذا لو نوی الاستباحة فیما یعتبر فیه ذلک، کذلک الحکم فیما قصد القربة فی متّحد الحکم، إلاّ أنّه لا یبعد جریان الإشکال المنقول عن البعض هاهنا، بلا فرق فی هذه الصورة بین أن یکون الغُسل الواحد هو عن الجنابة فیدخل الباقی فیها، أو کان عن غیرها فیدخل الجنابة فیه.

الصورة الثالثة: هی ما لو کانت الموجبات مختلفة من حیث الاحداث

والأحکام، کأن یقصد بُغسل واحد جمیع ما کان فی ذمّته من الأحداث الموجبة

ص:326

لوجوب الغسل، أو ما کان فی ذمّته من الأغسال المندوبة.

فالذی یظهر من السیّد فی «العروة» ومن کلام کثیر من أصحاب التعالیق، هو صحّته، سواء کان قد قصد رفع الحدث فی الجمیع أو قصد نیّة الاستباحة، أو قصد القربة، بلا فرق بین أن یکون الغُسل الواحد الذی أدرج الغیر فیه جنابة أو غیرها، إلاّ أنّه قد نُقل عن بعض فقهائنا الاعتراض علی هذا الحکم وذهبوا إلی لزوم قصد العناوین بخصوصیّها وإلاّ فلا یجوز الاکتفاء بالغُسل الواحد عن الجمیع.

ولعلّ السرف فی ذلک، تارةً: بلحاظ أنّ الحدث الأکبر الذی یحدثه الانسان قد یکون بحسب بذاته مختلفة من الجنابة والحیض والاستحاضة، وقد لا یکون کذلک من جهة الحدثیّة، نظیر الحدث الأصغر، حیث لا یکون الحدث المضاف إلی البول متفاوتاً مع الحدث المضاف إلی النوم، فکذلک الحکم فی الحدث الأکبر.

واُخری: یکون من جهة أنّه لو سلّمنا کون خصوصیة الاحداث متفاوتة، ولکن قد یتداخل من جهة الغُسل، بأن یجعل الغسل الواحد رافعاً لجمیها وقد لا یتداخل بأن یوجب کلّ حدث غُسل مستقلّ، لأنّ الأحداث کانت متضادّة بعضها مع بعض، وکانت من العناوین القصدیة مثلاً، فلا یرتفع إلاّ مع قصد رفعها، کما أنّه قد یثبت من جهة موجبات الغُسل _ ولو لم یکن من الأحداث _ مثل حدوث الأیّام الخاصّة لإثبات الغُسل، کیوم الجمعة نصف شعبان وأیّام القدر ولیالیها، ونظائر ذلک من الوجوب کمشاهدة المصلوب _ لو لم نقل بکونه حدثاً، وقلنا بوجوب الغسل عند ذلک أو من المندوب، کما مثّلنا.

کما أنّه قد یقال فی مقام الثبوت، بأنّ الحدث إذا تحقّق بأی نوع منه، کان أثر الغسل تحصیل الطهارة ورفع الحدث الموجود _ بأیّ قسم منه _ وإن لم یکن یقصده، فلازمه هو إمکان کفایة غُسل واحد لرفع جمیع الأحداث ولو لم یقصدها.

قد یقال: بأنّها إذا کانت متضادّة بحسب نوعها _ کما تدلّ اختلاف آثارها علی

ذلک _ فلا یرتفع إلاّ ما قصد منها فی الغُسل، وأمّا مع عدم القصد _ بالغفلة

ص:327

وغیرها _ لا یرتفع فلا بدّ حینئذٍ إمّا التکرار فی الغُسل، أو قصد کلّ واحد منها بخصوصه، ومثل هذا الکلام یجری فی الأغسال المندوبة بالموجبات والأسباب، کما لا یخفی.

هذا کلّه بیان الوجه المتصوّرة فی مقام الثبوت للتداخل وعدمه.

وأمّا الکلام فی مقام الإثبات: فنقول ومن اللّه الاستعانة: فقد عرفت منّا فی البحث السابق، أنّ مقتضی الشرطیة والجزاء، هو لزوم ترتب کلّ جزاء لشرطه فی تمام الموارد، إلاّ أن یدلّ دلیل شرعی أو عقلی علی التدخل امّا العقلی منهما، مثل أن لا یکون الجزاء قابلاً للتکرّر، فکلّ ما کان من هذا القبیل، فلا إشکال فی لزوم التداخل وهو کما کان مثل تطابق نوع الاحداث الکبری، کالجنابة إذا تکرّرت، فلا إشکال فی کفایة غُسل واحد لها.

وأمّا إذا اختلف نوع الأحداث الکبری _ کالجنابة والحیض _ فهل تتفاوت صفة حدثیة کل واحد منهما عن الآخر أم لا؟ فهذا ما فیه تأمّل وکلام، لأنّه بالنظر إلی الآثار الخاصّة لکلّ واحد منهما من کفایة غُسل الجنابة عن الوضوء بخلاف الحیض، ومن تحریم الوطی ء فی حال الحیض دون الاستحاضة، وأمثال ذلک، یوجب توهّم التنافی بینهما فلا یجوز الاکتفاء فی رفعها بُغسلٍ واحد.

ومن جهة أنّه ورد فی بعض الأخبار ما یدلّ علی التداخل الذی هو مضمون الدلیل الشرعی، وقد یتوهم کونه من جهة اتحاد الماهیة.

وکیف کان، فالأصل الأوّلیی یقتضی عدم التداخل، إلاّ إذا دلّ الدلیل علی ذلک، وهو فی المقام ملاحظة فی المقام الأخبار الواردة فی ذلک، فلا بأس بالإشارة إلیها، وملاحظة کیفیّة دلالتها علی ما ذکرنا.

منها: صحیحة زرارة قال: «إذا اغتسلت بعد طلوع الفجر، أجزأک غسلک ذلک للجنابة والحجامة (والجمعة) وعرفة والنحر والحلق والذبح والزیارة، فإذا

اجتمعت علیک حقوق (اللّه) أجزأها عنک غُسلٌ واحد. قال: ثمّ قال: وکذلک المرأة

ص:328

یجزیها غُسل واحد لجنابتها وإحرامها وجمعتها وغسلها من حیضها وعیدها»(1).

والخبر المذکور مرویٌ بسند آخر عن محمّد بن علی بن محبوب، عن علی بن السندی، عن حمّاد، عن حریز، عن زرارة عن أحدهما علیهماالسلام .

ورواه ابن إدریس نقلاً عن محمّد بن علی بن محبوب من «کتاب حریز» عن زرارة عن أبی جعفر علیه السلام ، فالحدیث معتبر قطعاً ولا إشکال فیه.

أمّا دلالته: فتارةً نقول بأنّه لا مناقشة فی دلالته علی کفایة غُسل واحد عن الأغسال المتعدّدة بالصّراحة، إلاّ أنفه هل یدلّ أیضاً علی کفایته عنها ولو لم یقصد شیئاً منها، أم لا بدّ فی الکفایة من القصد؟

قد یقال: بأنّ الظاهر منه کفایته عنها بالإطلاق، حیث یرد فیه ذکر ولا إشارة إلی لزوم قصد ذلک، فلا یکون الوجه فی کفایته إلاّ ما قلنا سابقاً، بأنّ نفس الغُسل یحدث الطهارة الرافعة للحدث، والمحصّلة للکمال الذی وقع فی ذلک الوقت، فلذلک إذا أوجد غسلاً واحداً کفاه بقیّة الأغسال واجبها ومندوبها.

ولکن الإنصاف أن یقال: بأنّ ظاهر متن الحدیث من حیث السیاق واللفظ وإن لم یتعرّض لخصوصیة القصد فی الکفایة، إلاّ أنّه یستفاد من جهة مناسبة الحکم ولموضوع بأنّ أصل الغُسل الواحد _ مثلاً للجنابة _ الذی یأتیه کما لا یتحقّق إلاّ بالقصد بخصوصه، فلا یبعد أن یکون الباقی کذلک فی التداخل، سواء کان واجباً أو مندوباً، إذ لا یبعد أن یکون من اغتسل للجنابة فقط، وقصده من دون ملاحظة سائر الأغسال _ بل حتّی مع الملاحظة _ ربّما لا یکون متعهّداً بالنسبة إلیها فی مقام الإتیان ، وبرغم ذلک نقول بکفایة هذا الغسل عن جمیع ما فی ذمّته من الغُسل الواجب والمندوب وهذا أمر بعید غایته، فالالتزام بضرورة القصد فی

الکفایة لا یخلو عن قوّة.


1- وسائل الشیعة: الباب 43 أبواب الجنابة، الحدیث 1.

ص:329

واحتمال الفرق فی لزوم القصد وعدمه، من جهة وحدة سنخ الحکم، من کون الواجب منها یکفیه بلا لزوم قصد لمثله، والمندوب کذلک، بخلاف کفایة غُسل الواجب عن المندوب أو بالعکس، حیث إنّه لا بدّ من القصد.

ممّا لا وجه له یستظهر من الحدیث، لأنّ لسان سیاق الحدیث بالنسبة إلی الجمیع واحد، فإن قلنا بلزوم القصد فلابد من القول به فی الجمیع، وإلاّ فلا، کما لا یخفی ذلک علی المتأمّل فی الحدیث.

فلعلّ ما استظهره الشیخ الأعظم قدس سره من لزوم قصد الجمیع، کان من مبنیّاً علی هذا الأمر وهو أمر حسنٌ. فإشکال السیّد الاصفهانی قدس سره علیه، لیس فی محلّه.

هذا، بلا فرق بین أن یکون الغُسل الذی یجمع الأغسال فیه، غُسلاً للجنابة أو غیرها من سنخه _ کغسل الحیض _ أو من غیر سنخه کغسل الجمعة.

نعم، یمکن استظهار کونه فی غسل الواجب من الجنابة، وغُسل الحیض من ذکر بعد طلوع الفجر، حیث کیون ذلک قرینة بحسب المتعارف علی ما ذکرناه، ولعلّ وجه تکرار لفظ (الغُسل) فی الحیض کان لعنایة وللدلالة علی أن ما یُجزئ عن الغیر ، لا بدّ أن یکون من هذا السنخ، ولولا ما استظهرناه یلزم القول بالاجزاء فی أییّ غسل کان، ولو مندوباً.

ثمّ إنّ لفظ (الاجزاء) بنفسه قرینة علی أنّ کلّ سبب _ سواء کان حدثیّاً أو غیره، وسواء کان فعلیّاً أو زمانیّاً _ یستلزمُ غُسلاً بنفسه، غایة الأمر قد منَّ الشارع علی العباد _ تفضّلاً منه علیهم _ بتجویز التداخل.

فالقدر المتیقّن المستفاد من هذا الحدیث هو الإجزاء فی غُسل الجنابة، ثمّ بعده غُسل الحیض وما شابهه _ لو لکان ذلک من باب المثال _ ثمّ بعده کلّ الأغسال واجبها ومندوبها.

ومنها: مرسلة جمیل بن درّاج، عن بعض أصحابنا عن أحدهما علیهماالسلام ، أنّه قال:

ص:330

«إذا اغتسل الجنب بعد طلوع الفجر، أجزأه عنه ذلک الغسل من کلّ غسل یلزمه فی ذلک الیوم»(1).

فهذا الحدیث لو عمل بظاهره فإنّه یوجب إثبات ما یخالف إجماع أصحابنا، لأنّ المقصود من ظاهر لفظة: «کلّ غُسل یلزمه فی ذلک الیوم»، هو کلّ غُسل یجب علیه فی ذلک الیوم الذی اغتسل فیه للجنابة المذکور فی صدره، فیصیر معناه حینئذٍ أنّ من اغتسل للجنابة فی أوّل الیوم، یکفیه ذلک إلی عصره وإن أجنب أو استحاض أو مس میتاً بعد ذلک، وهذا ما لا یلتزم به أحد من الفقهاء.

فلابدّ إمّا أن یتصرّف فی ظاهره، بأن یجعل المراد من المضارع _ أی یلزمه _ الماضی، ویصیر معناه هو کلّ غسل لزم علیه فی ذلک الیوم، ولو کان مثل غسل الحیض ومسّ المیّت، فهو بعیدٌ، من جهة أنّه قد فُرض فیه وقوع غُسل الجنابة بعد طلوع الفجر، فلا یبقی لما قبل الطلوع ما یصدق علیه الیوم، حتّی یحمل علی ما لزمه من الأغسال.

أو یتصرّف فی معنی الملزوم، بأن یکون المراد من اللزوم _ أی السبب والموجب _ ما یوجبه عن الوقت والفعل، ککونه یوم جمعة وعرفة، أو فعل مثل الزیارة والحلق وغیرهما، لا ما یلزمه من الواجبات، کالحیض والاستحاضة ومسّ المیت وأمثال ذلک.

وهذا حمل صحیح، إلاّ أنّه خلاف ظاهر إطلاقه.

وکیف کان، فلا محیض إلاّ الحمل علیه جمعاً بینه وبین ما هو المسلّم بین الفقهاء.

اللّهمّ إلاّ أن یتصرّف فی الیوم حتّی یشمل اللیلة السابقة فحینئذٍ یصیر له وجه.

ثمّ إنّ هذا الحدیث لو حُمل علی ما ذکرناه، لکان دلالته فی خصوص کفایة غُسل الجنابة عن غیره، فلا یشمل غیره، کما احتمل ذلک فیما قبله من الحدث.


1- وسائل الشیعة: الباب 43، أبواب الجنابة، الحدیث 2.

ص:331

وإن اخترنا الوجه الأخیر فی الیوم، وقلنا بأنّ المراد من «کلّ غُسل یلزمه فی ذلک الیوم»، هو کفایة غُسل الجنابة عن کلّ ما وقع له من الأحداث الموجبات من الوقت وغیره، فیتساوی هذا الحدیث مع محتوی الحدیث السابق من الحکم بالإجزاء فی کلّ الحقوق، کما عرفت.

إلاّ أنّ سریان الحکم من عمل الیوم إلی الماضی بعیدٌ جداً، فلیتأمّل.

ومنها: خبر شهاب بن عبد ربه قال: «سألت ابا عبداللّه علیه السلام عن الجنب یغسل المیّت، أو مَنْ غسل میّتاً له أن یأتی أهله ثمّ یغتسل؟ فقال: سواء، لا بأس بذلک، إذا کان جنباً غَسل یده وتوضّأ، وغسّل المیّت وهو جنبٌ، وإن غَسّل میّتاً توضئ ثمّ أتی أهله، ویجزیه غُسلٌ واحد لهما»(1).

فهو یدلّ علی کفایة غُسل واحد لهما، ولم یبیّن فیه بأنّ ما أتی به من الغُسل کان هو من الجنابة فیدخل فیه غُسل مسّ المیّت، أو بالعکس، أو لم ینو أحدهما بالخصوص ویکون الآخر داخلاً فیه، بل قصد من أوّله إیجاد غُسل لهما من دون أن یتعنون بعنوان خاصّ لأحدهما.

ثمّ الظاهر من الخبر أنه قصد بغُسل واحد الغُسلین، لا کفایة غسل واحد عن اثنین ولو من دون قصد، کما احتمله بعض.

ولکن موردهما هو الکفایة عن الغُسل الواجب، فلا یشمل التداخل فی المندوب أو المختلط منهما.

ومنها: روایة عثمان بن یزید عن الصادق علیه السلام قال: «إن اغتسل بعد الفجر کفاه غُسله إلی اللیل، فی کلّ موع یجب فیه الغسل، ومن اغتسل لیلاً کفاه غُسله إلی طلوع الفجر»(2).


1- وسائل الشیعة: الباب 43، أبواب الجنابة، الحدیث 3.
2- وسائل الشیعة: الباب 4، أبواب الاحرام، الحدیث 9.

ص:332

والظاهر کونه فی مقام بیان تداخل الأغسال المندوبة من اللیل والنهار، بأن

یکون التداخل لکلّ واحد منهما بخصوصه، فالمراد من الوجوب هو الثبوت لا الوجوب الاصطلاحی.

کما أنّ الظاهر کون المراد الأغسال التی کانت أسبابها متحقّقة فی الماضی _ ولو بتحقّق أصل الیوم أو اللیل الموجبین لإثبات الغُسل فیهما _ لا أصل الأغسال الآتیة المتجدّدة بأسبابها بواسطة ذلک الیوم، فالغُسل الوارد فی یوم عرفة مثلاً قبیل الزوال بساعة أو بعده کذلک، فلا یکفیه غُسله عند طلوع الفجر، إلاّ أن یفید الدلیل محبوبیة الاستعجال فی إتیان الأغسال المندوبة، کما قیل بذلک فی غُسل الجمعة، کما لا یخفی علی المتأمّل.

ثمّ لا یبعد تحوّل هذا الحدیث للتداخل بالمختلفات، لإمکان أن یکون المراد من الإغتسال بعد طلوع الفجر هو الجنابة، فتکون الأغسال الاُخری هی المندوبة. وأمّا شموله للأغسال الواجبة المتجدّدة فی ذلک الیوم، أو ما کان واجباً علیه فی ذلک الیوم قبل ذلک، فمحلّ تأمّل، لأنّ محدودیّته إلی اللیل، وإلی طلوع الفجر، تکون قرینة علی إرادة الاستحباب من الأغسال، کما لا یبعد شموله للتداخل فی الغسل المندوب لجمیع الأغسال المندوبة.

ولکن کلّ ذلک کان مع القصد لا الکفایة عنها من دون قصد، کما لا یخفی.

ومنها: خبر أبی بصیر عن الصادق علیه السلام قال: «سئل عن رجل أصاب من امرأة، ثم حاضت قبل أن تغتسل؟ قال: تجعله غُسلاً واحداً»(1).

مثله خبر حجّاج الخشّاب قال: سألت أبا عبداللّه علیه السلام عن رجل وقع علی امرأته فطمثت بعدما فرغ، أتجعله غُسلاً واحداً إذا طهرت، أو تغتسل مرّتین؟


1- وسائل الشیعة: الباب 43، أبواب الجنابة، الحدیث 5.

ص:333

قال: تجعله غُسلاً واحداً عند طهرها»(1).

ومنها: خبر عمّار الساباطی أبی عبداللّه علیه السلام قال: «سألته عن المرأة یواقعها

زوجها، ثمّ تحیض قبل أن تغتسل؟ قال: إن شاءت أن تغتسل فعلت، وإن لم تفعل فلیس علیها شیء، فإذا طهرت اغتسلت غُسلاً واحداً للحیض والجنابة»(2).

ومنها: خبر سماعة بن مهران، عن أبی عبداللّه وأبی الحسن علیه السلام قالا: «فیالرجل یجامع المرأة فتحیض قبل أن تغتسل من الجنابة. قال: غُسل الجنابة علیها واجب»(3).

فإنّ ظاهره یفید وجوب غُسل الجنابة علیها، أی لا یسقط عنها، وذلک لا ینافی إمکان تدخّله مع غسل آخر للحیض.

نعم، یمکن أن یفهم منه أنّ ما هو اللاّزم علیها أن تنوی غُسل الجنابة، والتداخل کان فی الأغسال الاُخری.

وقد احتمل بعض کون الجواب فی موضع الاستفهام الإنکاری.

ومنها: خبر عبداللّه بن سنان، عن أبی عبداللّه 7 قال: «سألته عن المرأة تحیض وهی جنب، وهل علیها غسل الجنابة؟ قال: غسل الجنابة والحیض واحد»(4).

ومنها: خبر زرارة، قال: «قلت لأبی جعفر علیه السلام : میّت مات وهو جنبٌ، کیف یغسل، وما یجزیه من الماء؟ قال: یغسل غُسلاً واحداً یجزی ذلک للجنابة ولغسل المیّت، لأنّهما حرمتان اجتمعا فی حرمة واحدة»(5).


1- وسائل الشیعة: الباب 43، أبواب الجنابة، الحدیث 6.
2- وسائل الشیعة: الباب 43، أبواب الجنابة، الحدیث 7.
3- وسائل الشیعة: الباب 43، أبواب الجنابة، الحدیث 8.
4- وسائل الشیعة: الباب 43، أبواب الجنابة، الحدیث 9.
5- وسائل الشیعة: الباب 31، أبواب الجنابة، الحدیث 1.

ص:334

والخبر بسنده معتبر معلّل ودالٌ علی کفایة غُسل واحد لهما، وبأنّ ما ینبغی رعایته قد اجتمع فی حرمة واحدة _ أی غُسل واحد کما یشعر ذلک التعلیل فی خبر سعید بن یسار، قال: قلت لأبی عبداللّه علیه السلام : المرأة تری الدم وهی جنب أتغتسل عن الجنابة، أو غسل الجنابة والحیض واحد؟ فقال: قد أتاها ما هو أعظم من ذلک»(1).

فکأنّه أراد بذلک بیان أنّ الإتیان بغُسل الحیض _ الذی کان هو أعظم _ یکفی عن غسل الجنب.

فهذه جملة أخبار تدلّ علی الإجزاء والکفایة، إلاّ أنّها کانت مع النیّة مطلقاً.

لکن قد روی فی الصدوق فی «الفقیه» مرسلاً ما یظهر منه خلاف ذلک، وهو: «روی مَن جامع فی أوّل شهر رمضان، ثمّ نسی حتّی خرج شهر رمضان، أنّ علیه أن یغتسل ویقضی صلاته وصومه، إلاّ أن یکون قد اغتسل للجمعة، فإنّه یقضی صلاته وصومه إلی ذلک الیوم، ولا یقضی ما بعد ذلک»(2).

فإنّ هذا الحدیث یدلّ بأنّ غُسل الجمعة بنفسه یکفی عن غُسله الواجب، ولو لم یکن حین الاغتسال ناویاً له، والإدخال یکون فی الغُسل المندوب مع فرض عدم الوقوع إلی آخر الشهر غیر ما وقع فی الأوّل.

وعلی ضوء دلالة مثل هذا الخبر أفتی بعض الفقهاء، ولعلّه کان للاعتماد علیه، ولکن الجزم بذلک بحیث تطمئن النفس ویقدم علی الافتاء _ مع دم إفتاء کثیر من الأصحاب _ مشکل جدّاً.

وإن قلنا بمضمونه، فیلزم جواز إدخال الأغسال الواجبة بعضها فی بعض،


1- وسائل الشیعة: الباب 22، أبواب الحیض، الحدیث 29.
2- وسائل الشیعة: الباب 31 ما یصح صومه ، الحدیث 2. من لا یحضره الفقیه: الباب 13 أبواب الصوم، ح14.

ص:335

والمندوب کذلک بطریق أولی.

ثمّ أنّه قد عرفت بأنّ المستفاد من جمیع الأخبار، هو کفایة غُسل واحد عن الأغسال الواجبة قطعاً، لما دلّ من ذکر غُسل الحیض والمیّت ومسّ المیّت الذی قد أدخل فی غسل الجنابة، أو بإتیانُ غسل واحد للفردین منها، وهذا حکمٌ مقطوع به عند الأصحاب لو کان المدخول فیه هو غُسل الجنابة، وکان قد قصد الأغسال الاُخری.

وأمّا لو لم تکن مقصورة، فقد ذهب بعض _ کالسیّد الأصفهانی وبعض من تقدّم علیه _ بالکفایة أیضاً، بل لا یبعد استفادة الجواز _ لهذه الصورة التی فرض فیها غُسل الجنابة مدخولاً فیها _ بالکفایة، کما یدلّ علیه الخبر المرویّ عن «الفقیه».

کما أنّه یمکن استفادة جواز التداخل الأغسال المندوبة فی المندوب إذا کانت مع النیّة، مضافاً إلی فتوی الأصحاب بذلک، کما صرّح به صاحب «الجواهر» والشیخ الأعظم، ولا یبعد استفادة الجواز عن مثل خبر زرارة المشتمل علی الحقوق، وخبر عثمان بن یزید حیث حکم بالکفایة عن کلّ غسل تحقّق موجبه إلی اللیل، وإن کان فی الیوم، أو إلی طلوع الفجر إن کان فی اللیل.

وأمّا إذا لم تکن مقصورة، فإن قلنا بالکفایة فی مثل الواجب من دون نیّة، فلا یبعد استفادة الجواز فی المندوب أیضاً، وإلاّ فإنّ مقتضی الأصل هو عدم التداخل.

وأمّا فی المختلفات، فإن کان الغُسل المدخول فیه هو غُسل الجنابة، فلا یبعد کفایته عن جمیع الأغسال الواجبة والمندوبة مع النیّة، کما یستفاد ذلک من الأخبار، ومن فتوی الأصحاب.

وأمّا مع عدم النیّة فاستفادته من الأخبار عندنا مشکل، وإن کان مجزیاً وکافیاً عند البعض.

وأمّا لو کان المدخول فیه غُسل واجبٌ غیر الجنابة، أو غسلٌ مندوبٌ، فکفایته عن الأغسال الاُخری من الواجبة والمندوبة أشکل مع نیّة الجمیع، وأشکل منه

ص:336

إذا کان بلا نیّة، کما حقّقناه.

فالأحوط هو لزوم النیّة فی جمیع الأقسام.

فهاهنا فرعان لا بأس بالإشارة إلیهما:

الفرع الأوّل: أنّه لو ثبت عندنا جواز التداخل فی جمیع الأغسال، أو فی بعضها، فهل یکون ذلک علی نحو الرخصة، بأن یکون الإتیان بالفعل ثانیاً مستقلاًّ جائزاً، أو یکون علی نحو العزیمة، بأن لا یکون التکرار جائزاً، بل إتیانه بقصد

الورود یعدّ تشریعاً محرماً.

والمسألة اختلافیة، إذ ذهب جماعة إلی الأوّل، بل عن الفاضل القمّی قدس سره فی بعض مؤلّفاته نسبة ذلک إلی ظاهر الأصحاب، وعن بعضٍ نسبته إلی ظاهر الأکثر.

نعم، صرّح بذلک المقدس الأردبیلی، ولکنّ یستفاد من صراحة کلام الشیخ الأعظم قدس سره أنّ الأکثر ذهبوا إلی الثانی، وإن کان قد فصّل قبله فیما بین ما لو قدّم غُل الجنابة فیکون عزیمة، ولا یجوز الإتیان بغسل آخر بعده، وبین ما لو قدم غیر غُسل الجنابة، من الحیض ومسّ المیّت،فحینئذٍ یکون رخصة.

ولم یقتصر الاختلاف المذکور علی المتقدِّمین بل هو موجود عند المتأخِّرین أیضاً، حیث ذهب السیّد فی «العروة» ویشاهد من بعض الحواشی، کونه عزیمة حیث لم یجوّزوا الإتیان بأغسال متعدّدة لأحداث موجبات متعدِّدة خلافاً لکثیر من أصحاب التعالیق _ کالبروجردی، والمیرزا عبدالهادی الشیرازی، والشاهرودی، والگلبایگانی، والخوئی، والحکیم _ کما أنّ الحقّ عندنا، بأن یکون التداخل من جهة الرخصة دون العزیمة، بمعنی أنّه قبل الإتیان بالأغسال، یجوز للمکلّف أن یقصد امتثال کلّ واحدٍ من الأوامر المتعلّقة بالطبائع من الوجوب والندب، فیتعدد الأغسال خارجاً، ویجوز له التداخل فی کلّ مورد أجزناه.

نعم، إذا قصد التداخل مع غُسل من الأغسال، وأتی بذلک الغُسل بهذه النیّة، فیکفی ذلک عن سائر الأغسال أیضاً ویسقط، فلا معنی حینئذٍ للإتیان بغُسل آخر

ص:337

لأجل موجب آخر، لعدم وجود أمر دال علیه حتّی یأتی به، فلیس هذا مرتبطاً بمسألة العزیمة والرخصة، لأنّ جواز الإتیان یعدّ فرع بقاء الأمر، وحیث سقط بالامتثال فلا یبقی مورد حینئذٍ للامتثال ثانیاً، وهو واضح، ولا فرق فی ذلک بین غسل الجنابة وغیره، فما ادّعاه السیّد فی «العروة» من کون الأغسال جمیعها حقیقة واحدة، مخالف لظاهر کثیر من الأخبار، کما لا یخفی علی من راجع الروایات، ولاحظ دلالتها، بل حی حقائق متعدّدة، غایة الأمر أنّه قد أجاز الشرع

بالتداخل والإجزاء تعبّداً، لکونه خلافاً للأصل المقتضی للتعدّد، کما أنّ ظاهر لفظ (الحقوق) و(الإجزاء) أیضاً یفید ذلک.

الفرع الثانی: الظاهر وقوع الاختلاف بین الفقهاء من جهة اجتماع الحکمین، سواء کانا مثلین أو ضدّین، من الوجوب والندب _ کغُسل الجنابة والجمعة _ أو وجوبین _ مثل غسلی الجنابة والحیض _ أو ندبین _ کغسل الجمعة وعرفة _ والأقوال فیه کثیرة: قول بثبوت الوجوب فقط، وسقوط الندب ولغویّته، کما قاله الشهید.

وقوله بالاکتفاء بنیّة الوجوب، وکون الندب تابع له، وأنّ نیّة المتبوع یُغنی عن نیّة التابع.

وقولٌ بأنّ إحدی الوضیفتین یتأدّی بالاُخری، کما عن صاحب «الذخیرة».

ولکن الأولی أن یُقال: بأنّ المستفاد من الأخبار الدالّة علی التداخل، هو إمکان التصادق بین الأغسال فی جمیع أقسامها، فحینئذٍ لا یتنافی بین أن یکون فرداً واحداً مصداقاً للتکلیفین لانطباق العنوانین علیه مثل ما لو قیل: أکرم عالماً، وذکر فی دلیل آخر: أکرم هاشمیّاً، فلا إشکال فی صدق العنوانین، وصدق الامتثال فیما لو أکرم رجلاً واحداً کان عالماً وهاشمیّاً، لأنّه حینئذٍ مجمع للعنوانین، سواء کان الحکمین متماثلین أو کان متضادّین لعدم الفرق بینهما من حیث الامتناع والجواز، کما لا یجوز الجمع بین الحکمین المتضادّین، کذلک الحکم فی المتماثلین.

ص:338

الفرض الثانی: غَسل الوجه: وهو ما بین منابت الشعر فی مقدّمة الرأس إلی طرف الذقن طولاً، وما اشتملت علیه الإبهام والوسطی عرضاً، وما خرج عن ذلک فلیس من الوجه(1)

ومن هنا یظهر وجه الامتثال عن الأوامر المتعدّدة بغسل واحد، بإمکان أن یُقال: بأنّه فی بعض الموارد یکون من جهة وحدة الحدث، فیرفع ذلک ویوجب کفایة غُسل واحد عنهما، کما لا یبعد أن یکون غُسل الجنابة بالنسبة إلی سائر الأغسال کذلک، فیرتفع به حدث الحیض ومسّ المیّت، إذا نوی بالغُسل غسل الجنابة فقط، إلاّ أنّه یلزم علی هذا القول کون کفایته عن سائر الأغسال الحدثیة من باب العزیمة لا الرخصة، لکنّه قد عرفت فی البحث السابق خلافه.

أو یُقال فی وجه کفایة غُسل واحد عن سائر الأغسال، وکونه امتثالاً لسائر الأوامر، هو أنّ المعتبر فی کلف غُسل لیس إلاّ إیصال الماء إلی اجزاء البدن مع نیّة ذلک الشیء من رفع الحدث أو خطوره فی القلب، فإذا حصل هذا العنوان، تحقیق امتثال الأوامر إذا کان قد قصد جمیعها، أو امتثال ما قصده واداء الآخر إذا نوی خصوص غُسل الجنابة، وقلنا بکفایته عن الأغسال.

وهذا أمر صحیح، ولکن حیث قد عرفت لزوم نیّة الجمیع، وقلنا بعدم الکفایة لو لم یقصد، فیلزم حینئذٍ صدق الامتثال لکلّ ما قصده ونواه کما یناسب ذلک مع مذهبنا من اختیار الرخصة أیضاً، وهذا هو الأقوی عندنا.

(1) واعلم أنّ مفهوم الوجه من المفاهیم العرفیة الواضحة، ولا یحتاج إلی إقامة دلیل خاص علیه، فاحتمال کون ذکر الحدود له فی بعض الأخبار حدّاً لمفهومه الذاتی والعرفی، بعیدٌ غایته، وإن کان ذلک بیاناً لحده، فهو من حیث اصطلاح الشرع فیما یقصده من جعله موضوعاً لحکمه بذلک المقدار، لا أن لا یکون الباقی منه خارجاً عن الوجه عرفاً، ولذلک تری أنّ اللغة فسّره بما یواجه

ص:339

به، وفی «المصباح المنیر»: أنّه مستقبل کلّ شیء، ولذلک قال السیّد المرتضی فی: «الناصریات»: بأنّه لا خلاف فی کونه اسماً لما یواجه به.

بل الخلاف وقع فی أنّه هل یجب غَسل کلّ ما یواجه به أو بعضه؟ فاحتمال الحقیقة الشرعیّة فیه لیس فی محلّه.

فی غسل الوجه فی الوضوء

فإذا بلغ الکلام إلی ملاحظة ما یدلّ علیه دلیل الشرع ما مقدار ما یلزم غسله، فنقول: قد أوجبه نصّ القرآن فی قوله تعالی «إِذَا قُمْتُمْ إِلَی الصَّلاَةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَکُمْ»(1)، ولا نتمکّن من معرفة دلالة الآیة الشریفة إلاّ أن نتمسّک بأبواب أهل البیت علیهم السلام ففی بیوتهم نزلت الآیات.

وممّا یدلّ علی تفسیر الآیة ما رواه «الفقیه» بسنده عن زرارة وکذلک رواه بن أعین أنّه قال لأبی جعفر علیه السلام : «اخبرنی عن الوجه الذی ینبغی أن یوضّأ، الذی قال اللّه عزَّ وجلَّ؟ فقال الوجه الذی قال اللّه، وأمر اللّه عزَّ وجلَّ بغسله، الذی لا ینبغی لأحدٍ أن یزید علیه ولا ینقص منه، إن زاد علیه لم یؤجر، وإن نقص منه أثم، ما دارت علیه الوسطی والإبهام، من قصاص شعر الرأس إلی الذقن، وما جرت علیه الإصبعان من الوجه مستدیراً، فهو من الوجه، وما سوی ذلک فلیس من الوجه. فقال له: الصدغ من الوجه؟ فقال: لا»(2).

وخبر الکلینی والشیخ مثله، إلاّ أنّ فی نقلهما زیادة قوله: «وما دارت علیه السبابة والوسطی والإبهام».

نعم، فی خبر العیّاشی علی ما نقله الشیخ الأعظم فی «طهارته» ذکر السبّابة فقط مع الإبهام دون الوسطی.

ولا یخفی علیک أنف المقدار بحسب المساحة فی الوسطی والإبهام أزید عن


1- سورة المائدة: آیة 6.
2- وسائل الشیعة: الباب 17، أبواب الوضوء، الحدیث 1.

ص:340

ما بین السبّابة والإبهام، والأصحاب لم یتلفتوا إلی الثانی، بل أفتوا علی طبق ما

ورد فی «الفقیه» الخبر صحیحٌ من حیث السند، فعلی هذا لا بدّ أن یجعل الواو للجمع، لا بمعنی أو کما احتمله بعضٌ، لوضوح الاختلاف بینهما، وعدم عمل الأصحاب به، ومن ذلک یظهر عدم إمکان الاتّکال علی خبر العیّاشی، لأنّه _ فضلاً عن المناقشة فی سنده، وعدم مساعدة مساحته _ لم یعمل به الاصحاب الأصحاب حیث اعرضوا عنه.

فلا بأس بالإشارة إلی فقه الحدیث، بل الورود إلی أصل الدلالة، فنقول: لا یذهب علیک بأنّ بیان حدّ الوجه فیه لیس بیاناً لأصل الوجه العرفی حقیقة، بل المقصود هو بیان ما هو المعتبر فی باب الوضوء شرعاً، کما یدلّ علیه تکرار ما یستفاد منه ذلک من ذکر الموصول والصفقة، بقوله: «الذی قال اللّه وأمر اللّه بغسله»، وقوله: «الذی لا ینبغی لأحد أن یزید علیه ولا ینقص منه»، فحینئذٍ یصیر المعنی فی الجملة الواردة ذیله بقوله: «فهو من الوجه» أی من الوجه المعهود الشرعی، المعتبر فی باب الوضوء، کما یشهد لذلک أیضاً ذیله بقوله: «الصدغ من الوجه؟ قال: لا».

مع أنّه بناءٍ علی کون المراد هو ما بین الاُذن والعین یکون من الوجه العرفی قطعاً، وإن کان بعضه خارجاً عن الوجه الشرعی فی الوضوء، ثم ذکر أنّه لا ینبغی لأحد أن یزید علیه

قد یقال: بأنّ الخبر قد یدلّ علی عدم جواز الزیادة، بحیث لو زاد علی أنّه من الوضوء کان تشریعاً محرماً، کما احتمله صاحب «الجواهر» لعدم کون الزائد من الوجه.

ولکن احتمال کون ذلک مکروهاً وأنّه لم یستحقّ علیه أجر من دون الإفساد أقوی، لوجهین:

أولاً: ظهور کلمة (لا ینبغی) فیه، مضافاً إلی تقابل حال الزیادة بالنقیصة، من جعل الزیادة بأنه لم یؤجر علیه، والنقیصة بأنّه إثم، ففیهم کون النقیصة مبطلاً، لأنّه

ص:341

یوجب عدم غَسل ما یجب غسله، بخلاف الزیادة.

هذا، ولکن لو سلّمنا دلالته علی الإفساد فی الزیادة، لکنّه لا ینافی هذا لو غَسل أزید من الوجه المذکور فی الحدیث، تحصیلاً للمقدّمة العلمیّة، فإنّه یعدّ فعلاً حسناً لو لم نقل بکونه واجباً، للزوم تحصیل العلم بفراغ الذمّة عمّا هو الواجب علیه.

ثم یأتی الکلام فی لفظ (القصاص) بالتثلیث فی القاف، وهو عبارة إمّا عن منتهی شعر الرأس مطلقاً _ سواء کان مقدّمه أو مؤخّره _ أو خصوص مقدمة، کما هو المراد هنا. ولعل وجه تسمته بذلک، لأنّه یؤخذ الشعر بالمقص (بالکسر) وهو المقراض، فیناسب ذلک کونه تسمیةً لجمیع منتهی شعر الرأس، لولا المقام، لأنّ القرینة المحفوفة دالة علی ما ذکرنا.

والذقن (بالفتح) هو مجمع اللحییّن، الذی ینحدر منه الشعر ویسترسل، وفی «الجواهر»: أنّه لا خلاف فیه، واللّحیین تثنیة اللَّحی کفلس، وهو عظم الحنک، ولعلّ وجه تسمیته شعر اللحیة به، کان من باب تسمیة الحالّ بأسم محلّه.

وأما الصُّدغ (بضمّ الصاد) فقد یقال: إنه عبارة عن الشعر المتدلی من جانبی النزعتین إلی طرف الأذن، وهو المسمّی بالفارسیة (زلُف)، أو کان المقصود محلّ ذلک الشعر، وقد فسّر فی اللغة بما بین لحظة العینین إلی الأذنین، فعلی الأوّل یکون خروجه عن حدّ الوضوء واضح، وأمّا علی الثانی فلابدّ أن یقال بأنّ الخارج هو الذی یقرب إلی الأذن، لا ما یکون قریباً إلی العین، فإنّه داخل قطعاً.

بقی أنّ نبحث عن الفقرتین الواردتین وهما: «ما دارت علیه الوسطی والإبهام من قصاص شعر الرأس إلی الذقن»، «وما جرت علیه الأصبعان مستدیراً»؟

قد یقال: بأنّ الجملة الأوّلی تعدّ بیاناً للحدّ الطولی من الوجه، والثانیة للعرصی.

هذا ظاهر کثیر من الفقهاء کصاحب «الجواهر»، بل نقله عن صاحب «المدرک» أنّه نصّ فی المطلوب، فعلی هذا التقدیر لا تکون الجملة الثانیة تأکیداً للاُولی.

ص:342

أو یقال: بأن الحدّ الطولی مستفادٌ من قوله: «من قصاص الشعر إلی الذقن»،

والحد العرضی من قوله: «ما دارت علیه الوسطی والإبهام»، فتکون الجملة الثانیة حینئذٍ تأکیداً للأولی، وهذا هو الذی صرّح به المحقّق فی «الشرائع»، ونسبه إلی أنّه معروف بین الأصحاب، وعلیه الشیخ الأعظم، وصاحب «مصباح الفقیه» و «مصباح الهدی» للآملی، فیکون الحدّ الطولی مستفاداً من الجملة الثانیة عن ما جرت علیه الأصبعان، والعرضی من قوله مستدیراً.

ولا یذهب علیک أنّ الجملة الأولی قد اختلف فی ضبطها، إذا المنقول فی الصحیح الذی رواه فی «الفقیه» هو المذکور سابقاً من دون ذکر السبّابة فیها، فتکون المساحة والمسافة بین الحدّین من الإبهام والوسطی أوسع عمّا علیه بین السبّابة والإبهام الموجود فی خبر «تفسیر العیّاشی».

أما الذی رواه الکلینی والشیخ فانّه قد ورد فیه السبّابة والوسطی.

ومع هذا الأختلاف فی المقدار، یوجب عدم إمکان جعل کلمة الواو فی خبر الکلینی والشیخ،(بین السبّابة والوسطی)، بمعنی أوْ، حتّی یدلّ علی التخییر وجوباً، لأنّه یوجب التعارض والتناقض فی المقدار المتفاوت بینها، حیث یدلّ الخبر المنقول عنهما علی وجوب غسله، والآخر المنقول عن الصدوق علی عدم وجوبه.

نعم، یمکن الجمع بینهما بحمل الأکثر علی الاستحباب والفضیلة، لکنّه لم یلتزم به أحدٌ من ذلک الباب، وإن ذهب إلیه أحدٌ فهو من باب المقدّمة العلمّیة والإحتیاط.

فإذا لم یکن الحمل علی التخییر ممکناً، فیدور الأمر بین أن یفتی بأحدهما، أو اجراء قواعد باب التعادل والتراجیح من حیث وقوع احتمال الخطأ فی نقل الصدوق من جهة حذف السبابة، أو الذهاب إلی وقوع الخطأ فی نقل الکلینی بالزیادة، وبما أنّ أصالة عدم الخطأ فی الزیادة تکون جریانها أولی من جریانها فی النقیصة _ لکثرة وقوع الخطأ فی الثانیة دون الأولی _ فهو یوجب ترجیح خبر الزیادة.

إلا أن ما یوهن القول بالترجیح هو صحة الخبر المنقول فی «الفقیه» دون

ص:343

الخبرین الآخرین هذا أولاً: وثانیاً: إنّ الأصحاب قد عملوا بخبر الصدوق دون

النقل الآخر، فیکون النقل الآخر قد أعرض عنه الأصحاب.

وثالثاً: إنّ العمل بمضمون خبر الصدوق یوجب القطع بفراغ الذمّة، لأنّه فی الواقع إمّا أن یکون هذا المقدار واجباً فهو المطلوب، أو أقل منه _ حتّی یناسب السبّابة الموجود فی خبر العیّاشی والکلینی والشیخ _ فتکون الزیادة واقعة للاحتیاط ویعدّ مطلوباً.

فثبت من جمیع ما ذکرنا أنّ العمل علی طبق الخبر الصحیح أولی من العمل بخبر الحسن بابن هاشم الذی رواه الکلینی والشیخ والخبر الضعیف للعیّاشی.

هذا کلّه بالنسبة إلی رجحان إحدی الطائفتین من الأخبار.

وأمّا الکلام بالنسبة إلی فهم الحدیث فی هاتین الجملتین، فقد ذهب شیخنا البهائی قدس سره فی «الأربعین»، والحدّث الکاشانی فی «الوافی» إلی کون المراد فی بیان حدّ غسل الوجه، هو أن یجعل الید ثابتاً علی الوجه، بحیث یجعل محوره علی رأس الأنف ثم یدور بیده علی الوجه فوق هذا المرکز الدائری، فتکون المساحة الدائرة فیها الید ما بین الابهام والوسطی.

فلا بأس بذکر کلامه فی «الأربعین» قال: «والذی یظهر لی من الروایة أنّ کلاًّ من طول الوجه وعرضه، هو ما اشتمل علیه الأصبعان، إذا ثبت وسطه واُدیر علی نفسه، حتّی یحصل شبه دائرة، فذلک القدر هو الذی یجب غسله. ثمّ ذکر أنّ قوله: «من قصاص الشعر» إمّا حال من الجز، وإمّا متعلّق ب_ «دارت»، یعنی أنّ الدوران یبتدی ء من قصاص الشعر منتهیاً إلی الذقن، ولا ریب أنّه إذا اعتبرت الدوران علی هذه الصفة للوسطی، اعتبر للإبهام عکسه، تتمیماً للدائرة المستفادة من قوله: «مستدیراً» فاکتفی علیه السلام بذکر أحدهما عن الآخر، وأوضحه بقوله: «وما جرت علیه الإصبعان مستدیراً، فهو من الوجه»، فقوله:«مستدیراً» حالٌ من المبتدأ، وهذا صریح فی أن کلاًّ من طول الوجه وعرضه شیء واحد، هو ما اشتمل

ص:344

علیه الأصبعان عند دورانهما کما ذکرنا، وحینئذٍ فیستقیم التحدید، ولا یدخل فیه

مواضع التحذیف، ولا الصدغان لأن أغلب الناس إذا طبق الخط المتوهّم من انفراج ما بین الإبهام والوسطی ما بین قصاص ناصیته إلی طرف ذقنه، وأداره مثبتاً وسطه، لیحصل منه الدائرة، وقعت مواقع التحذیف والصدغین خارجة عنها، فالتحدید المشهور یزید علی ما فهمنا من الروایة بنصف تفاضل ما بین مربّعٍ معمولٍ علی دائرة قطرها انفراج الإصبعین، وتلک الدائرة علی مثلّثین یحیط بکلّ منهما خطّان مستقیمان، وقوس من تلک الدائرة، ومواضع التحذیف والصدغان واقعین فی هذین المثلّثین».

انتهی کلامه رفع مقامه.

فانظر إلی الرسم تجد ما قاله من بیان الحدود، وخروج ما هو الخارج منها.

قصاص

دائرة

دائرة

ذقن

والسرّ فی ذهابه رحمه الله علی خلاف المشهور _ علی ما صرّح به، ویظهر من کلامه أُمور ثلاثة:

الأوّل: أنّه یلزم علی التحدید المشهور، من جری الأصبعین یمن قصاص الشعر منفرجاً إلی الذقن، دخول النزعتین فی موضع الغَسل، مع کونهما خارجتان إجماعاً.

الثانی: أنّه یلزم دخول الصُّدغین، لدخولها تحت العرض المارّ بقصاص الشعر من الناصیة، مع خروجها بنصّ الروایة.

الثالث: أنّ ما ذکره المشهور یکون خلاف ظاهر لفظ: (دارت) و(مستدیراً)، حیث یکون دالاً علی لزوم کونه بشکل الدائرة. هذا، وقد اعترض علی شیخنا البهائی قدس سره بأمور أربعة، لا ینبغی أن یعتمد علیها وهی:

ص:345

الأوّل: بأنّ ما ذکره الشیخ لا یساعد ظاهر الخبر، حیث قد جعل المبدء هو قصاص الشعر، والمنتهی الذقن فی الحدّ الطولی، مع أنّه لو کان المقصود من ذلک هو الدائرة لا مبدء لها ولا منتهی _ لإمکان الاحتساب فی کلّ من الإبهام والوسطی إذ یتعاکس الآخر فی کلّ طرف یبتدء به من الأصبعین _ فهو أدلّ دلیل یدلّ کون ما فهمه خارجاً عن مستفاد الروایة.

هذا، وفیها أنّه یمکن الجواب عنه: بأن ذکر لفظ (من) و(إلی) هنا، یمکن أن یکون لبیان مقدار الحدّین اللازم فی الغَسل، من إفهام أنّه لا بدّ أن یکون ذلک إلی هذا الحدّ، وجعل القصاص متعلقاً للأبتداء والذقن للانتهاء، کان من جهة مؤانسة ذلک لفهم العرف من شرافة الفوق لما دونه، کما یقال عند العرف فی مقام بیان مقدار صبغ الجدار مثلاً بأنّه صبغ من ذا إلی ذاک، ویتعلّق إلی بالسافل خلافاً لمتعلّق مِنْ. ولیس الابتداء والانتهاء ملاحظین بهذه الخصوصیّة فی ذلک، فهکذا فی المقام، وهو أمر متعارف عند العرف، ولذلک لم یذکر فی الحدیث ذکر الطول والعرض أصلاً، وهذه العناوین قد ظهرت من کلمات الأصحاب قدّس اللّه أسرارهم.

الثانی: ما أورده الشیخ الأنصاری قدس سره بأنّ جعل کلّ من الطول والعرض شیئاً واحداً _ وهو انفراج الأصبعین _ غیر صحیح غالباً، لأنّ الغالب أنّ ما بین القصاص إلی الذقن یقصر عمّا بین الأصبعین، وإن کان إطلاقهم الطول علی ما بینهما،

والعرض علی ما بین الاذنین، إنّما هو بملاحظة قامة الإنسان.

ولکنّه یمکن الجواب عنه أوّلاً: بأنّ المذکور لا یقلّ حتّی یوجب المناقشة کما قاله السیّد الأصفهانی فی «روائعه» بقوله: فلم یعلم کون ما بین القصاص إلی الذقن أقصر من طرف عرض الوجه.

وثانیاً: یمکن أن یکون الوجه لبیان ذلک الحدّ فی طرف القصاص إلی الذقن، هو لزوم الغَسل بذلک المقدار، وإن شمل الإصبعان مقداراً زائداً من انحداب الذقن، لکونه بنفسه منحدباً، فهو لا یوجب المناقشة، بل هو موافق للواقع والاحتیاط.

ص:346

الثالث: إنّ التحدید بالدائرة المذکورة، یوجب خروج جزء من جانبی الجبهة، لأنّ خط الجبهة امّا مستقیم أو منحدب قلیلاً من انحداب قوس الدائرة، بل قد یوجب خروج جزء من اللحیین أیضاً.

فهو أیضاً ممکن الدفع، بعدم معلومیّة کون الدائرة الکذائیة، أقلّ ممّا یلزم غَسله من الجانبین أو اللحیین، وإن کان مقدار ما فهمه السیّد الاصفهانی أزید من مقدار ما فهمه البهائی قطعاً، بخلاف المقدار والمساحة التی ذکره الشیخ الأنصاری تبعاً لفهم الأصحاب، فإنّ زیادته عن مقدار ما ذکره البهائی غیر معلوم، فلابدّ لنا لإثبات صحة رأینا أن نذکر کلامهما: یقول السید: «أن یضع وسط الإصبعین فی حال انفراجهما علی الناصیة، علی وجه کان الإبهام منفرجاً إلی الیمین، والوسطی إلی الیسار، حال کونهما مسامتین للناصیة، ثم یجریهما منفرجین إلی آخر الذقن» انتهی کلامه.

فلا إشکال حینئذٍ _ بناءً علی ما فهمه _ من سعة مقدار المساحة فی طرف الناصیة عن مقداره فی الدائرة، وهو واضح.

قال الشیخ فی «الطهارة»: «والظاهر أنّ المراد من دوران الأصبعین إحاطتهما، ولذا اعتبر فی«المبسوط» بما بین الإبهام والوسطی، ویمکن تصویر شبه دائرة من مجموع الإصبعین، بأن یوضع طرفاهما منضمّین علی وسط الناصیة، ثم تفرّقا،

ویجری الإبهام من الیمین بوالوسطی إلی الیسار، إلی أن یجتمعا ثانیاً فی آخر الذقن» انتهی کلامه.

وأنت کما تری فی کلامه لا یکون مقدار مساحته بذلک، زائداً عمّا ذکره الشیخ البهائی، إلاّ بمقدار یسیر.

الرابع: إنّ أعماله الدقة خارج عن فهم عامّة الناس، کما لم یفهموا الأصحاب قدس سرهم ذلک من الروایة، ومن المعلوم أن الأئمة علیهم السلام لا یکلِّمون الناس إلاّ علی قدر فهمهم، وأنّ الأحکام والأخبار ملقاة إلی العرف العام لا الخاص.

ص:347

وفیه: أنّه لا أساس له أیضاً لأنّ ذکر هذا الجواب لمثل زرارة، الذی کان من فقهاء الأصحاب، ومن خواص الإمام علیه السلام لا یکون مستبعداً أصلاً، مع أنّه لیس فیه من الغموض ما یوجب هذه المناقشة فیه، ورود أخبار فی أبواب الارث اکثر وغیرهما ممّا لا یفهمه عامّة الناس وتعدّ أصعب فی هذا الخبر.

فما فهمه الشیخ البهائی من الروایة، واستقربه المحدّث الکاشانی، لا یخلو عن قرب ووجاهة، وإن کان ما فهمه السیّد من الروایة کان بالإحتیاط أقرب، وباطمئنان النفس _ حذراً من مخالفة الأصحاب _ أجدر، وأمّا إشکال الشیخ لما فهمه الأصحاب غیر وجیه، لوضوح أنّ النزعتان وهما البیاضان المکتنفان بالناصیة خارجتان عن الوجه قطعاً علی رأی الأصحاب.

کما أنّ الصدغین الخارجین لا بدّ أن یحمل علی الشعر، أو محلّه الواقع فیوق العِذار الذی هو أیضاً خارج عن الوجه، أو أن یکون المراد فیه هو ما فسّره أهل اللغة من العظم الواقع بین الاُذن والعین، بأن یکون ما هو القریب من الاُذن خارجاً لا ما هو القریب من العین، فالمسألة واضحة بحمد اللّه.

ثمّ یقع الکلام فی الأمور التی وقع البحث والخلاف فی کونها داخلة فی وجوب الغَسل أو لا:

منها: النزعتان، وهی تثنیة نَزَعة (بالتحریک)، وهی عبارة عن البیاض الواقع

فی جنب الناصیة، بیاضه لخلوّه عن الشعر، فخروجه عن حدّ الوجه عرفاً وشرعاً واضح، وما نسب البهائی إلی المشهور بالدخول یعدّ توهّماً منه بأنّ القصاص یشمل مجموع شعر مقدّم الرأس، مع أنّ المراد هنا هو خصوص منتهی منبت الشعر لمقدم الرأس لا مجموعه، فلا إشکال حینئذٍ فی خروج النزعتان عن الحدّ.

منها: الصدغان، تثنیة الصُّدغ (بالضمّ)، فقد اختلف فی تفسیره: قیل تارةً: بأنّ المراد منه هو ما بین الاذنین ولحظة العین، وهو کما فی«الصحاح»: عبارة عن الشعر المتدلّی فی ذلک، فعلیه لا یمکن القول بخروج بجمیعه لأنّه داخل فی

ص:348

المحدود ولو ببعضه، فحینئذٍ لا بدّ أن یحمل ما هو المنصوص بخروجه علیث خروجه بعضه، ویکون خروجه تخصیصاً للحکم، یعنی أنّه من الوجه موضوعاً، لکنّه خارج حکماً.

وقیل أخری: إنّه عبارة عن الشعر المتدلّی من طرف النزعة إلی طرف الاذن، ویکون فوق العِذار، والصُدغ معرّب(زُلف) الفارسیة، فعلیه یکون خارجاً عن الوجه موضوعاً وتخصیصاً، لا تخصیصاً، فإذا دار الأمر بین التخصیص والتخصّص، کان الثانی أولی.

ولم ینقل وجوب غَسله عن أحد، إلاّ عن الراوندی کما نُقل عن الشهید فی«الذکری» ولعلّه أراد المعنی الأوّل، فیکون دخوله باعتبار ما تشمله الاصبعان.

ومنها: العذار، وهو علی ما فسّره غیر واحد، هو الشعر النابت علی العظم المرتفع الذی علی سمت الصماخ ووتد الاذن، ویتّصل أعلاه بالصدغ، وأسفله بالعارض.

وقد وقع الخلاف فی دخوله فی الحدّ وخروجه، فقد نسب فی «الحدائق» خروجه إلی الشهرة، بل فی «التذکرة» التصریح بأنّه لیس من الوجه عندنا، خلافاً عن محکی «المبسوط» و«الخلاف» والإسکافی والسیّد وجدّه _ والحقّ _ القول بالتفصیل، بأنّ کلّ ما تشمله الأصبعان من طرف العرض، فهو داخل، وغیره خارج، ولا یجب غَسله، إذ لیس فی الخبر من ذلک أثر حتّی یبحث عنه.

ومنها: العارض، وهو الشعر المنحط عن القدر المحاذی للإذن إلی الذقن، فیکون أعلاه متّصلاً بالعِذار، وأسفله إلی طرف الذقن واللحیّة، فما کان داخلاً تحت الإصبعین یجب غسله وإلاّ فلا.

ومنها: مواضع التحذیف، وهی المرود التی کانت فیها الشعر الخفیف، حیث نجد فی النساء الظریفات، وهو عبارة عن الشعر الواقع فی جوانب یتّصل أعلاه بالنَزعة وأسفله بالصدغ، أو ما کان فی جواب الأذن من اللحیة من طرفی الخدّ والوجه.

وکیف کان لا إشکال فی کونها خارجاً عن الحدّ فلا یجب غسلها.

ص:349

ولا عبرة بالأنزاع، ولا بالأغم، ولا بمن تجاوزت أصابعه العذار، أو قصرت عنه، بل یرجع کلّ منهم إلی مستوی الخلقة، فیفصل ما یغسله(1)

(1) (والأنزع) هو عبارة عن الأصلع الذی لا شعر له، فی القصاص الذی ینبت فیه الشعر حسب العادة، و(الأغم)هو خلافه، فیکون شعره فی الجبهة.

وهما یرجعان فی الغَسل إلی غیرهما من الناس، لأنّه المستفاد من انصراف الأخبار، وهو واضح لا خلاف فیه.

وأمّا الذی غیر متعارف فی الید أو الوجه أو فی کلیهما، فهو: تارةً: یفرض فیه بقاء التناسب بین مفهوم الحدّ _ وهو الید _ ومفهوم المحدود _ وهو الوجه _، یعنی إن کانت الید کبیرة کان الوجه کذلک، أو صغیرة فهو أیضاً کذلک، فلا إشکال حینئذٍ أنّه یراعی ذلک التحدید فی الخبر بالنسبة إلی شخص هذا المکلّف، فیصیر المحدود بحسب الواقع مطابقاً لما هو التحدید فی المتعارف، وهو واضح.

واُخری: یفرض عدم بقاء التناسب بین الحدود والمحدود، فهو أیضاً:

تارةً: یفرض کون الید کبیرة علی نحو غیر متعارف، ولکن وجهه امّا متعارف أو یکون غیر متعارف بالصغر.

واُخری: یفرض عکس ذلک، بأن تکون الید متعارفة والوجه کبیراً، أو صغیراً علی نحو غیر متعارف.

فحینئذٍ هل یجب الغَسل هاهنا باعتبار مفهوم الحدّ فی الخبر، بأن یکون الملاک هو مقدار ما بین الإبهام والوسطی، ولو بلغ ما بلغ من جهة الزیادة.

أو یصیر أقلّ من المعمول لکون وجهه أکبر.

أو أنّ الملاک هو ملاحظة مفهوم المحدود _ أی الوجه _ فلا بدّ أن یلاحظ فیه ما یکون بحسب المتعارف من الناس من طرف العذار _ بحسب العرض _ بما لا یبلغ إلی الأذن، کما یلاحظ المتعارف فی طرف الطول _ وهو قصاص الشعر

ص:350

ویجب أن یغسل من أعلی الوجه إلی الذقن، ولو غسل منکوساً لم یجز علی الأظهر(1)

والذقن _، وإن کان یصدق علیه الانزع والاغمّ؟

والذی یظهر من کلام السیّد الأصفهانی فی«الروائع»(1) هو الثانی، لأنّه صرّح بقوله: «فحینئذٍ لو کان وجهه أکبر بحسب تناسب أجزائه، فلا یجب غسله، إلاّ بمقدار یحیط به إصبعاه، وکذلک العکس».

وهذا هو المختار لکلّ فقیه من الفقهاء، لولا ذلک لزم خروج ما قطع کونه داخلاً فی الوجه، فیما إذا کانت الید صغیرة والوجه کبیراً، أو دخول ما هو المقطوع کونه خارجاً فیما إذا کانت الید کبیرة والوجه صغیراً، وهو واضح البطلان، فما ادّعاه المصنّف یکون إجماعیّاً ولا خلاف فیه.

والسرّ فی ذلک هو أنّه کلّما وضع میزاناً وضابطاً لسائر الأشیاء، لا بدّ أن یحمل علی ما هو المعمول والمتعارف لدی الغالب، لأنّه الذی یمکن أن یحوّل علیه، وإلاّ یلزم أن یکون إحالة علی المجهول، وهو قبیح علی الحکیم الذی بصدد بیان الحکم الشرعی، للناس، والاختلاف الیسیر الموجود فی المتعارف لا یوجب الإشکال، لأنّ الأقل ممّا هو الواجب یکون مطلوباً فی أکثره، لأنّ الأکثر یعدّ طریقاً للأقلّ، بخلاف الأقلّ حیث یکون وجوبه واقعیّاً، کما لا یخفی.

(1) وقد اختلف الأصحاب _ قدس اللّه أسرارهم _ فی وجوب الغَسل من الأعلی فی الوجه، فقد ذهب إلیه کثیر من الفقهاء، ونسب إلی الشهرة، بل إلی الأکثر، بل فی «تبیان» الشیخ نقل الاتّفاق علیه، وهو المعتمد علیه عند

المتأخرین والمعاصرین، ولم یخالف معهم إلاّ قلّة وهم ابنی سعید، وابن إدریس


1- الروائع الفقهیة: ص 80.

ص:351

وصاحب «المعالم» وشیخنا البهائی قدس سره ، والمقدس الأردبیلی.

فلابدّ من ملاحظة أدلّة کلّ واحد من الطائفتین:

فی الوضوء / وجوب الابتداء بأعلی الوجه

استدلّ من لم یذهب إلی وجوبه بالإطلاقات الواردة فی الکتاب والسنّة من الأمر بغَسل فی الوجه، مثل قوله تعالی:«فَاغْسِلُوا وُجُوهَکُمْ» کما ورد فی الأخبار ما هو مطابق للآیة.

والغَسل عنوان عرفی یصدق علی الغَسل مبتدءاً بالأعلی إلی الأسفل أو العکس، والقول بأن المتعارف هو الابتداء بالأعلی ممنوع، خصوصاً مع ملاحظة کونه من قصاص الشعر إلی الذقن، فهو أمر غیر متعارف جدّاً.

مضافاً إلی إمکان الأستدلال لذلک بمعتبرة حمّاد بن عثمان عن أبی عبداللّه علیه السلام : قال: «لا بأس بمسح الوضوء مقبلاً ومدبراً»(1).

تقریب الأستدلال: کون المراد من المسح هو الأعمّ، حتّی یشمل الغسل، فیدلّ صریحه علی جواز ذلک مقبلاً ومدبراً.

وما ورد فی الأخبار البیانیّة من حکایة وضوء رسول اللّه صلی الله علیه و آله ، حیث کان یبتدء بالأعلی، لا یدلّ علی وجوبه، لاشتمال تلک الأخبار علی بعض المستحبّات الثابتة، مثل مسح الوجه بالید وغیره ممّا هو مندوب عند الأصحاب، فلا یمکن الاستدلال بها علی الوجوب، غایة الأمر إثبات رجحانه، فإثبات الوجوب بتلک الأخبار بحیث یلزمنا رفع الید عن إطلاقات الکتاب والسنّة مشکل جدّاً.

هذا کلّه أدلّة القائلین بعدم الوجوب فی غسل الوجه.

وأمّا أدلّة القائلین بالوجوب، فقد استدلّوا بوجوبه:

الأوّل: بالأخبار البیانیة، وذلک مثل صحیحة (أو حسنة) ابن هاشم عن زرارة


1- وسائل الشیعة: الباب 20، أبواب الوضوء، الحدیث 1.

ص:352

قال: «قال أبو جعفر علیه السلام :«ألا أحکی لکم وضوء رسول اللّه صلی الله علیه و آله ؟ فقلنا: بلی ، فدعا بقعب فیه شیء من ماء، فوضعه بین یدیه، ثمّ غرف ملأها ماء، فوضعها علی جبهته، ثمّ قال: بسم اللّه وسد له علی أطراف لحیته»(1)، الحدیث.

ومنها: خبره الآخر قال: «حکی لنا أبو جعفر علیه السلام وضوء رسول اللّه صلی الله علیه و آله ، فدعا بقدح من ماء، فأخذ کفّاً من ماء فأسدله علی وجهه (من أعلی الوجه)، ثمّ مسح(علی) وجهه من الجانبین جمیعاً»(2)، الحدیث.

ومثله خبره الآخر(3).

ومنها: خبر عبد اللّه بن جعفر الحمیری فی «قرب الاسناد» عن أبی جریر الرقاضی(الرواسی) قال: «قلت لأبی الحسن موسی علیه السلام : کیف أتوضّأ للصلاة؟

فقال: لا تعمق فی الوضوء، ولا تلطم وجهک بالماء لطماً، ولکن أغسله من أعلی وجهک إلی أسفله بالماء مسحاً، وکذلک فامسح الماء علی ذراعیک ورأسک وقدمیک»(4).

وجه الاستدلال: أنّ الأمر بالغسل مقیّداً بکونه من أعلی الوجه إلی أسفله مسحاً، علی فرض کون المسح مفعولاً مطلقاً، فیوجب تقدیر فعل من جنسه، فحینئذٍ یوجب کون بیان ذکر الحد من الأعلی إلی الأسفل، بیاناً للمسح، أی متی کان المسح بالید فیجب مراعاة هذا الحد. فعلیه لا یکون الخبر دلیلاً علی المسألة، ولکن لا یخفی أنّ المسح بالکیفیّة المذکورة لا دلیل علی وجوبه قطعاً بل هو مستحبّ، وأمّا لو جعل مسحاً حالاً لفاعل (إغسله)، یفید وجوب الغسل من


1- وسائل الشیعة: الباب 15، أبواب الوضوء، الحدیث 2.
2- وسائل الشیعة: الباب 15، أبواب الوضوء، الحدیث 6
3- وسائل الشیعة: الباب 15، أبواب الوضوء، الحدیث 10.
4- وسائل الشیعة: الباب 15، أبواب الوضوء، الحدیث 22.

ص:353

الأعلی إلی الأسفل، إذا کان الغسل بصورة المسح، أی یکون الوجوب فی الغسل

من الأعلی إلی الأسفل، ولکن المسح لا یکون واجباً، بل هو مستحبّ، مع إمکان أن یکون(مسحاً) مذکور فی مقابل(اللّطم) أی لیس علیه أن یمسح وجهه کمن یلطم بل علیه مجرّد المسح.

کما أنّه یمکن الأستدلال أیضاً بالأخبار البیانیة، من جهة أنّ الإمام بصدد تعلیم الوضوء لأصحابه، بحکایة وضوء رسول اللّه صلی الله علیه و آله ، فلا بدّ أن یکون نفس الحکایة دلیلاً علی اللزوم والوجوب.

فإن قلت: إنّ الأخبار مشتملة علی المستحبّات أیضاً کالمسح، فیمکن أن یکون ذلک _ أی الغسل من الأعلی _ راجحاً لا واجباً، ورسول اللّه صلی الله علیه و آله یفعل ما هو الراجح فإثبات الوجوب بذلک مشکل.

وتوهّم أنّ الرسول إذا فعل راجحاً فیجب علینا التأسی بفعله، غیر مسموعٍ، لأنّ التأسی فی الراجح یفید الرجحان لا الوجوب، فلا تدلّ أخبار الوضوءات البیانیة الوجوب.

قلت: یمکن الجواب عنه بأنّه یمکن أن یُقال إنّ تلک الأخبار، حیث کانت مقام التعلیم والتعلّم، فکلّ ما یقع فیها لابدّ من حمله علی الوجوب، إلی أن یقوم دلیل خارجی یفید الاستحباب، کالتسمیة والمسح وغیرهما، فیرفع الید عن وجوبه، وإلاّ یبقی ظهور الدلیل علی الوجوب، والأبتداء بالألی ممّا لا یدلّ دلیل خارجی علی عدم وجوبه، فیحکم به.

وممّا استدلّ به أیضاً: المرسلة التی نقلها المحقّق فی «المعتبر» والعلاّمة فی «المنتهی» والشهید فی «الذکری» حیث قال الإمام بعدما أکمل تمثیل وضوء رسول اللّه صلی الله علیه و آله بأنّ: «هذا وضوء لا یقبل اللّه الصلاة إلاّ به»، حیث یدلّ بأن بتلک الکیفیّة یکون شرط الصلاة، فغیره ممّا لا یقبل.

هذا، ولکن اُجیب عنه بإمکان أن تکون الإشارة باعتبار أصل الوضوء، یعنی

ص:354

أنّ سالصلاة لا تقبل إلاّ بذلک، بأن یکون متوضّیاً، لا إشارة إلی تمام خصوصیاته

حتّی یشمل ما نحن بصدده، هذا فضلاً عن إرسال الخبر. ولکن الإنصاف أنّ دلالته علی نفس العمل بماله من الخصوصیّات الواجبة _ یعنی غیر ما علم من الخارج کونه مستحباً _ لا یخلو عن قوّة، کما أنّ إرساله منجبر بعمل الأصحاب والشهرة. بل قد یمکن الاستدلال علی ذلک بخبر محمّد بن الفضل: «أنّ علی بن یقطین کتب إلی أبی الحسن موسی علیه السلام یسأله عن الوضوء؟ فکتب إلیه أبو الحسن علیه السلام فهمت ما ذکرت من الاختلاف فی الوضوء، والذی آمرک به فی ذلک أن تتمضمض... ثمّ أمره بالوضوء علی مذهب، إلی أن ارتفع عنه التقیّة»، فکتب علیه السلام إلیه ثانیاً: ابتدء من الآن یا علیّ بن یقطین، وتوضّأ کما أمرک اللّه تعالی، اغسل وجهک مرّة فریضة، وأخری إسباغاً، واغسل یدیک من المرفقین»(1) الحدیث.

حیث إنّه یدلّ علی وجوب الأبتداء من الأعلی وهو المرفق فی الید، فبانضمام ذلک مع عدم القول بالفصل بین الوجه والید فی ذلک، یتمّ المطلوب، وهو وجوب الأبتداء فی الوجه.

ولکن الإنصاف والدقّة فیه، ربما یفید بأنّ دلالته علی خلاف المقصود أتمّ، لأنّه إن کان الأبتداء فی الوجه واجباً کالیدین، فکان ینبغی أن یذکر فی هذا الوقت الذی کان وقت الحاجة، ومن المعلوم أن تأخیر البیان عن وقت الحاجة قبیحٌ.

اللّهمّ إلاّ أن یُقال: بأنّ ما هو خلاف المفروض فیه، أمره بالتقیّة فی مثل غسل الید، وغسل الوجه أزید من المتعارف، ومسح الاذنین، وجمیع الرأس وغسل الرجلین، لا فی مثل وجوب الأبتداء من الأعلی فی الوجه، حتّی یلزم علی الإمام التنبیه علیه.

وکیف کان فدلالته علی المطلوب لیس بأقوی من سابقه.


1- وسائل الشیعة: الباب 32، أبواب الوضوء، الحدیث 3 .

ص:355

وممّا استدلّ به أیضاً: القول بإنّ الإطلاقات الموجودة فی الکتاب والسنّة،

لیس علی نحو سائر المطلقات یجوز التمسّک بها، لکونها واردة فی مقام بیان الأحکام، بل الإطلاق هنا کسائر المطلقات فی أبواب التیمّم والصلاة وغیرها تکون واردة فی مقام بیان أصل تشریع الوضوء وکیفیة اجزاءه من غسل الوجه مثلاً، فعلیه إذا لم نسلّم دلالة الأخبار علی وجوب الأبتداء، أو قلنا برفع الید عنها _ مع التسلیم علی دلالتها _ بواسطة المعارضة مع بعض أخبار اُخر، فینتج بأنّه لابدّ من الرجوع إلی الاُصول العملیّة، فحینئذٍ قد یقال بالاشتغال، فهو المطلوب، أو یقال بالبراءة فی غیر المقام، لکنّه هنا حیث الشارع أمرنا الشارع بإیجاد الطهارة للصلاة بقوله: «لا صلاة إلاّ بطهور» _ سواء منها الرافع أو المبیح _ فحینئذٍ لو لم یبتدء بالأعلی فإنّه یشک فی تحصیل الطهارة، فلابدّ من الاحتیاط والابتداء من الأعلی وإن قلنا بجریان البراءة فی غیر ما نحن فیه، ولکنّه مخدوش بوجهین:

أوّلاً: ربما یمکن المنع عن کون الإطلاقات فی مقام التشریع فقط، کما ناقش فی ذلک سیّدنا الحکیم فی «المستمسک».

وثانیاً: أنّ الاحتیاط موقوف علی کون الواجب علیه تحصیل الطهارة، فحینئذٍ یکون من قبیل الشکّ فی المحصَّل، ولکنّه ممنوع لأنّ الوضوء لیس إلاّ الغسلتان والمسحتان، ففی ذلک یکون مجری البراءة لا الأشتغال.

وبالجملة، حیث عرفت أنّ الوضوءات البیانیة کانت أتمّ الأدلّة فی هذا الباب بتقریر ما قلناه من جهة، ومن ناحیة اُخری کانت الشهرة _ بل اتفاق، الأکثر بل لعلّه صار مورد اتفاق عند المتأخرین _ علی الوجوب، فلذلک نفتی به جزماً تبعاً للأصحاب، فما قاله الماتن قدس سره هو الصحیح، والغَسل منکوساً یکون غیر مجزٍ، کما صرّح بذلک بقوله: «ولو نکس لم یجز علی الأظهر».

بقی هنا فرعان متفرّعان علی القول بوجوب الابتداء بالأعلی فی الوجه وهما:

فی الوضوء / الابتداء بأعلی الوجه فالأعلی

الفرع الأوّل: هل یجب علیه البدء بالأعلی فالأعلی مطلقاً _ أی سواء کان

ص:356

بالخطوط الطولیة أو العرضیة _ أو خصوص الخطوط الطولیة غیر المسامت دون

العرضیّة حقیقة، أو کان کذلک عرفاً، أو یکفی الأبتداء بالأعلی بیسیر، ولو لم یراع فیما بقی؟

وجوه وأقوال، والقول الأخیر قد نسبه صاحب «الجواهر» إلی کثیر من المتأخّرین، ولکن یصعب الاعتماد علیه، حیث لا تساعده الأخبار البیانیّة، التی دلّت علی لزوم مراعاة ذلک من أعلی الوجه إلی منتهاه، فالترتیب لازم کما لا یخفی.

والقول بلزوم مراعاة الخطوط الطولیة والمسامت حقیقة، هو القول المحکی عن العلاّمة فی مسألة: من اغتسل لمعه _ أی موضعاً عالٍ من ما یجب غسله _ قال قدس سره : ولا أوجب غسل جمیع ذلک العضو، بل من موضع المتروک إلی آخره، إن أوجبا الأبتداء من موضع بعینه، والموضع خاصّة إن سوّغنا النکس، انتهی کلامه، بل قد یحتمل من کلامه أنه خصه القول الأوّل.

وکیف کان، وإن کان مقتضی ظهور الأولی فی الأخبار هو هذا، ولکنّه من جهة استلزام الدقة حصول الحرج والمشقّة، للمکلفین، فبرغم ذلک لم ینبه علیه، فیظنّ قویّاً عدم کونه مراداً.

ومن هنا ظهر أن القول الأوّل لیس بصحیح، لعدم کونه مستفاداً من الأخبار بل قد یدلّ علی خلافه صراحة بعض الأخبار البیانیّة، حیث ورد فیها: «ومسح وجهه من الجانبین جمیعاً»، فلا إشکال فی أن المسح کذلک یوجب خروج لزوم مراعاة الترتیب بالخطوط العرضیة، ولذلک نسب صاحب «المدارک» من اختاره إلی القصور، وجعل ذلک من الخرافات الباردة، فلم یبق إلاّ الألتزام بالأحتمال الثالث من ملاحظة مراعاة الترتیب بالخطوط الطولیة عرفاً لا حقیقة، کما هو المتعارف والمعمول به بین الناس، هذا هو الأقرب والأوفق بمضامین الأخبار البیانیّة، وعلیه الفتوی.

الفرع الثانی: إذا قلنا بوجوب الأبتداء بالأعلی فالأعلی، فهل یجب مراعاة

ص:357

ولا یجب غسل ما استرسل من اللحیة، ولا تخلیلها، بل یغسل الظاهر ولو نبت للمرأة لحیة، لم یجب تخلیلها، کفی افاضته الماء علی ظاهرها(1)

ذلک فی الخط العمودی، بأن یلاحظ الأعلی فی تمام صفحة الوجه إلی الذقن، بحیث لو غسل الوجه بمقداره معاً _ مثل ما یستوعبه الید والکفّ مثلاً _ لا یکفی، أو یکفی کون الأبتداء بالأعلی العرفی، بأن یجعل إمرار الیدین فوق الوجه إلی الذقن، ولو استلزم ذلک غسل مقداره معاً مقارنة، حتّی یکون فی قباله هو غسله منکوساً، کما أجازه السیّد المرتضی قدس سره ؟

الظاهر من کلام الماتن، وکثیر من الأصحاب، هو الثانی، إذ یلزم علی الأوّل الکلفة والمشقّة للناس، فلو کانت هذه الکیفیة هی الواجبة للزم الاهتمام لذلک أکثر ممّا ذکر فی الأخبار، مع أنّا نشاهد أن کثیراً من الناس لا یراعون ذلک من قدیم الأیام إلی الآن فعلی الأکتفاء بالوجه الثانی، فلو وضع المتوضی وجهه علی ماء الحوض أو الماء الجاری، ونوی وقوع الغسل من الأعلی إلی الأدنی، فإنّه یصحّ وضوءه وإن کان وصول الماء إلی وجهه دفعة واحدة.

والظاهر المستفاد من المتفاهم عند العرف، هو الوجه الثانی، کما علیه الأکثر بل الشهرة، واللّه العالم.

(1) ذکر الماتن فروع متعددة وهی:

فی الوضوء / حکم غسل المسترسل من اللحیة

الفرع الأوّل: عدم وجب غسل المسترسل من اللحیة، وقد ادّعی علیه الإجماع فی «الخلاف» و«المدارک» و«کشف اللثام» وسکتوا عن استحبابه، إلاّ أنه نقل عن الأسکافی والشهید فی «الذکری» استحبابه.

فأما الکلام فی عدم وجوبه، لأنّ المسترسل من اللحیة قد یکون تارة عن عرض الوجه واُخری عن طوله، فبحسب دلالة أخبار الوجه التی وردت فیها

تحدید العرض بأنّه ما دارت علیه الإبهام والوسطی، ومن الطول: من قصاص

ص:358

الشعر إلی الذقن، فهو التحدید الشرعی الذی أمر اللّه بوجوب غسله، فما هو الخارج عنهما لا یکون ممّا أمر اللّه به.

نعم، ربما یتوهّم أن مقتضی دلالة بعض الأخبار مثل خبر زرارة قال: «قلت له: أرأیت ما کان تحت الشعر؟ قال: کلّ ما أحاط به الشعر فلیس للعباد أن یغسلوه ولا یبحثوا عنه، ولکن یجری علیه الماء»(1).

ومثله خبره الآخر(2)، وإطلاق أخبار اُخر مثل خبر زرارة عن أبی جعفر علیه السلام قال: «لیس المضمضة والاستنشاق فریضة ولا سنة، إنّما علیک أن تغسل ما ظهر»(3).

فإنّ اللحیة المترسلة أیضاً من الظاهر، فیجب غسلها.

ولکنّه مخدوش أوّلاً: بأنّ المستفاد منها هو وجوب غسل الظاهر، الذی کان مفروغاً عنه فی وجوب غسله، فلا یشمل ما هو الخارج عن حدّ الوجه عرضاً أو طولاً، غایة الأمر أنّ وجوب الغسل متعلّقٌ أوّلاً وبالذات بمحل نبات الشعر، وثانیاً بالعرض، وبدلالة هذه الأخبار تثبت أنّ وجوب غسل الحالّ _ وهو الشعر _ یعدّ بمنزلة غسل المحلّ، فکما أن غسل المحلّ لا یحسب إلاّ بمقدار ما حددته الأخبار، فهکذا کان الشعر النابت فیه، وإلاّ یلزم زیادة حکم الفرع عن الأصل.

وثانیاً: لو سلّمنا دلالة الأخبار بالإطلاق علی غسل ما هو الظاهر _ سواء کان داخلاً فی الحدّ أو خارجاً _ فبواسطة الأخبار الدالة علی التحدید، یکون إطلاقها مضمونها مقیّداً بأن لا یکون وجوب الغسل أزید من المقدار المحدود، کما علیه الفتوی.

وأمّا الحکم بالأستحباب فقد استدلّ علیه بأمور:

الأوّل: دلالة بعض الأخبار، مثل خبر زرارة الحاکی وضوء رسول اللّه صلی الله علیه و آله :


1- وسائل الشیعة: الباب 46، أبواب الوضوء، الحدیث 2.
2- وسائل الشیعة: الباب 46، أبواب الوضوء، الحدیث 3.
3- وسائل الشیعة: الباب 29، أبواب الوضوء، الحدیث 6.

ص:359

«ثم غرف ملائها ماء، فوضعها علی جبهته، ثم قال: بسم اللّه وسدله علی أطراف لحیته»(1) الحدیث.

فی الوضوء / حکم تخلیل المسترسل من الشعر

فإنّ أطراف اللحیة یعدّ من الشعر المترسل ویستحب فیه التخلیل، فلو لم یکن غسل المسترسل مستحباً لما کان لاستحباب التخلیل وجه.

وبالأخبار الکثیرة الدالّة علی أخذ الماء من نداوة اللحیة عند الجفاف، الشامل للمسترسل منه، الظاهر فی تقدّمه علی غیره، فلو لم یکن غسله مستحباً لم یکن فرق بین هذا الماء والماء الذی کان قد انفصل من الوضوء، فکیف جاز الأخذ منه دونه، فهو یدلّ علی کونه مستحبّاً. وبالأدلة الواردة بمراعاة التسامح أدلّة السنن.

ولکن یمکن الإشکال فی جمیع هذه الوجوه: فأمّا عن الأوّل لإمکان أن یکون المسترسل من أطراف اللحیة، هو الذی کان داخلاً فی الحدّ، أو ما یشمل زائداً منه، بمقدار ما یحصل به المقدّمة العلمیّة.

وأمّا شموله لما هو الخارج عن المحدود، حتّی یدخل المسترسل فیه بعیدٌ، وإن سلّمنا دلالته وقلنا انّه مقتضی خبر زرارة «لا ینبغی لأحد أن یزید علیه ولا ینقص منه إن زاد علیه لم یؤجر»(2)، هو عدم کونه مندوباً، لعدم تعلّق الأجر علیه.

اللّهمَّ إلاّ أن یقال: إنّه کان بصدد بیان الإتیان بما قصد کونه من الحدّ الواجب وأنّ حکمه یکون هکذا، لا من باب بیان الاستحباب.

لکنّه خلاف الظاهر جداً، لأنّ إطلاقه یشمل صورة المقام أیضاً.

وعن الثانی أنّه لا ملازمة بین استحباب التخلیل، واستحباب غسل المسترسل، لإمکان أن یکون ذلک الإستحباب مخصوصاً لما هو محدودٌ لا مطلقاً، فیمکن القول باستحباب التخلیل بخلاف ما نحن بصدده.


1- وسائل الشیعة: الباب 15، أبواب الوضوء، الحدیث 2.
2- وسائل الشیعة: الباب 17، أبواب الوضوء، الحدیث 1.

ص:360

وعن الثالث: بأنّه یمکن القول بکونه مخصوصاً لما هو المحدود، فلو سلّمنا

إطلاق اخبارها حتّی یشمل ما هو الخارج، فیمکن أن یکون تجویز ذلک لکونه هو ماء الوضوء المتصل بالعضو، بخلاف الماء المنفصل، فإنّ الانفصال قد قطع تلک العلقة الموجودة.

وعن الرابع: بأنّه فرع وجود الدلیل علی الاستحباب _ ولو ضعیفاً _، فإذا قلنا بعدم دلالة تلک الأخبار، وعدم وجود شیء آخر دالّ علیه، بل وجود ما یدلّ علی عدم الأستحباب، کخبر زرارة، فإثبات الأستحباب بواسطة التسامح فی أدلة السنن مشکل جداً.

ولعلّ وجه عدم افتاء الأصحاب کان من جهة ملاحظة إحدی الوجوه المذکورة فی الأجوبة، فإثبات الاستحباب عندنا أیضاً مشکل، ولکن إثبات اضرار غسله أیضاً أشکل، فیکون حکم غسله بالنسبة إلی ما هو الخارج عن الحدّین عرضاً وطولاً، هو الإباحة، کما لا یخفی.

الفرع الثانی: فی عدم وجود تخلیل الشعر المسترسل.

والدلیل علیه هو الأخبار الصحیحة مثل خبرد محمّد بن مسلم عن أحدهما علیهماالسلام قال: «سألته عن الرجل یبطّن لحیة؟ قال: لا»(1).

وخبری زرارة علی ما رواه الکلینی والصدوق بسند صحیح وقد مرّ نصّه فی صدر البحث. وخبر آخر لزرارة(2).

حیث نهی الامام علیه السلام فی الخبر الأوّل عن البحث وغَسل ما أحاط به الشعر، وحَکم بإجراء الماء علیه، وفی الأخیر بالأمر بغسل الظاهر من العضو، بل الحکم بعدم الوجوب فی الجملة ممّا لا خلاف فیه، کما فی«مصباح الهدی».


1- وسائل الشیعة: الباب 46، أبواب الوضوء، الحدیث 1.
2- وسائل الشیعة: الباب 29، أبواب الوضوء، الحدیث 6.

ص:361

فحینئذٍ لا بأس بالبحث عن تفصیل صورة المسألة وأقسامها فنقول: تارةً یکون الشعر الموجود فی الوجه کثیفاً، بحیث یکون ساتراً ولا یری البشرة مطلقاً

_ أی فی تمام الحالات _ فهنا لا إشکال فی أنّه یتدرج فی القدر المتیقّن من الأخبار الخاصّة الدالّة علی بدلیّة غسل الشعر عن محلّه وهذا ثابت لا کلام فیه، ومثله فی عدم وجوب الغسل لما تحت نفس الشعر الملتصق بالبشرة، وکذلک الشعور الصغار النابتة تحت هذا الشعر، لصدق عنوان الإحاطة علی هذه الصورة.

واُخری: ما یکون مسترسلاً قلیلاً، وکان ساتراً لما تحته دائماً، کشعر الشارب، فلا یبعد أن یکون هو أیضاً داخلاً فی مضمون الأخبار، ومعقد إجماع «الخلاف»، لصدق الإحاطة علیه وکونه داخلاً فی المحدود، فیکون حکم بدلیّة غسل الشعر عن غسل البشرة هنا جاریضاً أیضاً.

وثالثة: وهی الصورة السابقة مع فارق أن نبت شعره کان خارجاً عن الحدّ، فاسترسل الشعر إلی بشرة الحدّ قلیلاً، نظیر استرسال شعر الصُدغ أو غیره علی الوجه.

فالحکم بعدم وجوب غسل البشرة هنا، لإحاطة الشعر المسترسل له، مشکل جدّاً، لانصراف أخبار الإحاطة إلی الشعور الواقعة فی الحدّ، لا ما کان خارجاً ومتدلّیاً علی الوجه، کما أن شمول معقد الإجماع لمثله أیضاً مشکل جدّاً، کما لا یخفی.

ورابعة: ما کان الشعر مسترسلاً کثیراً، فی موضع الحدّ، فقد أشکل الشیخ الأنصاری قدس سره فی مثل هذه الصورة، بدعوی صدق الوجه للبشرة هنا، ومنه کون معنی الوجه هو المواجهة الشخصیة، فلا أقلّ من الشکّ بین وجوبه ووجوب غسل الشعر، فیکون من قبیل المتباینین، ویلزم فیه الاحتیاط.

إلاّ أن یقال: بأنّ وجوب غسل الشعر ثابت قطعاً، فالشکّ مخصوص للبشرة فقط، لأنّ الشعر من توابع الوجه کالید، فکأنّه أراد جعله مورداً للبراءة بالنسبة إلی البشرة.

هذا، ولکنّ الإنصاف أنّ الملاک فی جوب الغَسل وعدمه، لیس إلاّ الإحاطة، وکونه فی المحدود، وهما موجودان، فمجرد کون الاسترسال کثیراً لا قلیلاً لا

ص:362

یوجب الاختلاف فی حکم المسألة، إلاّ أن لا یکون ساتراً دائماً، فیدخل فی الصور الآتیة. هذا کلّه فی صور الکثافة.

وأمّا لو کان الشعر خفیفاً، فقد اضطربت کلمات الأصحاب فیه.

فظاهر إطلاق کلام المصنّف _ کما نصّ علیه فی«المعتبر» و«التحریر» و«والمنتهی» و«الإرشاد» و«جامع المقاصد» و«الروضة» بل نسبة فی «الدروس» إلی الشهرة ظاهراً منها اختیاره عدم الوجوب.

وقول آخر هو وجود التخلیل، وهو اختیاره _ عدم الوجوب.

وقول آخر هو وجوب التخلیل، وهو اختیاره فی «القواعد» و«المختلف» و«اللمعة»، کما هو ظاهر ابن الجنید وابن عقیل والسید فی «الناصریات»، بل علیه السیّد فی «العروة» وأصحاب التعالیق، فیما إذا لم یکن الشعر محیطاً علی البشرة.

والظاهر أنّ وجوب غسل البشرة الظاهرة من خلال الشعر، کان واضحاً، لدلالة ظهور صدق الوجه علیه، وعدم وجود البدل له، فستره بالشعر أحیاناً وظهوره اُخری، لا یؤثران فی عدم خروجه عن هذا الحکم.

فی الوضوء / لو نبت للمرأة لحیة

وأما وجوب غَسل ما تحت الشعر نفسه إذا کان خفیفاً، فهو دائر مدار صدق عنوان الإحاطة وعدمه، فإن صدق علیه عرفاً، فلا یجب غسله، وإلاّ یجب.

هذا کلّه بالنسبة إلی وجوب غسل البشرة.

وأمّا حکم وجوب غَسله، ففی ذلک لا یغنی غسل البشرة عن غسله قطعاً، للاخبار الخاصّة من الحکم بوجوب غسل الظاهر.

وأمّا عدم جواز غسل البشرة حینئذٍ منوط بدلالة النهی فی قوله: «لا یبحثوه، ولیس للعباد أن یبحثوه» علی العزیمة دون الرخصة.

ولکن الإنصاف کونه رخصة، أوّلاً: لأنّه نقل فی بعض النسخ ب_(علی) بدل الّلام بقوله: «ولیس علی العباد أن یبحثوه»، فیکون ظاهراً فی نفی الوجوب.

وثانیاً: أنّ النهی عن البحث کان فی موضع توهّم الأمر والوجوب، فلا یدلّ

ص:363

علی التحریم حتّی تفید العزیمة، فلازم الرخصة هو وجوب الاحتیاط، فکلّ ما یحتمل وجوب غسل البشرة لتردّد صدق عنوان المخصّص، وهو عنوان الإحاطة

علی بعض المصادیق، یجب الرجوع إلی عموم وجوب غسل الوجه، الصادق علی البشرة، أوّلاً وبالذات، کما لا یخفی.

الفرع الثالث: هو ما لو نبت للمرأة لحیة، فهل حکمها حکم الرجال من الکثافة والخفّة، أو حکمها وجوب التخلیل مطلقاً، لانصراف أدلّة عدم التخلیل للغالب المتعارف؟

الذی یظهر من الفقهاء، هو عدم الفرق بینها وبین الرجال، لوحدة الملاک فی الحکم، وهو الإحاطة.

والانصراف إن کان کان بدویاً، لا یعبأ به، لأنّه من جهة قلّة الوجود لا لعلّة الاستعمال، کما لا یخفی ، فکلّ ما یجب غسل تحت الشعر فیه یجب فیها کذلک وکل ما لا یجب فیه ذلک لا یجب فیها أیضاً کما لا یخفی.

فظهر من جمیع ما ذکرنا عدّة مسائل؛

منها: عدم الفرق فی الشعر الکثیف، فی عدم وجوب التخلیل بین اللحیة وغیرها، من الحاجب والشارب، کما لا فرق فی ذلک بین المرأة والرجل.

ومنها: ظهر وجوب غَسل الشعور الصغار غیر الساتر للبشرة، لصدق أصل الوجه حینئذٍ.

ومنها: عدم کفایة غَسل البشرة عن غَسل الشعر، فیما یجب غَسله، وإن کان غَسل البشرة فی جواز غسل الشعر غیر ضار، لکون ترکه رخصة لا عزیمة.

ومنها: ظهر أحکام أقسام الشعور من حیث الحکم بالکثافة والخفّة والاسترسال وعدمه.

الماء المستعمل فی الوضوء غیر الرافع للحدث

ص:364

الفرض الثالث: غَسل الیدین

اشارة

قوله قدس سره : والواجب غَسلُ الذراعین، والمرفقین؛ والابتداءُ من المرفق، ولو غسل منکوساً لم یجز علی الأظهر، ویجب البداءة بالیمنی (1).

(1) ففی المسألة جهات من البحث، لابدّ أن یذکر :

الجهة الاُولی : فی أصل وجوب غسل الذراعین والمرفقین ، والظاهر أنّ وجوب غسلهما من الاُمور الثابتة عند المسلمین ، بل یعدّ من ضروریّات الدِّین، ولم یُسمع الخلاف فی ذلک إلاّ عن بعض العامّة، کزُفر وداود، وبعض أصحاب مالک، وخلافهم محصورٌ فی غسل المرفقین حیث لم یذهبوا إلی وجوبهما، دون الذراعین، فإنّ وجوبهما ثابتٌ کما نصّ علیه الآیة والروایة .

غسل الیدین

الجهة الثانیة : فی بیان نوع ذلک الوجوب فی المرفق هل هو أصلی أم لا؟

ظاهر «التهذیب» و«الخلاف» و«المعتبر» و«النافع» و«المنتهی» و«القواعد» وصریح «جامع المقاصد» وبیان ترجیحه بشهرته بین العلماء، و«الإرشاد» و«التحریر» و«الدروس» و«اللمعة»، وکثیرٌ من المتأخِّرین هو الأوّل، بل عن الشیخ الأنصاری قدس سره کونه إجماعیاً، بقوله : والأظهر الإجماع منعقدٌ علی وجوب غَسل المرفق أصالةً ؛ کما علیه صاحب الجواهر وجمیع المعاصرین والمتأخِّرین، غیر ما سیظهر خلافه .

خلافاً «للمدارک» حیث نفی البأس عمّا نسبه إلی العلاّمة فی «المنتهی» من الوجوب المقدّمی، کما علیه الشهید الثانی، والمحقّق الثانی، والشهید فی «الذکری»، وإن کان صاحب الجواهر أنکر النسبة بقوله : إنّه لم یوجد فی «المنتهی» ذلک، بل الموجود خلافه .

وجوب غسل المرفق أصلی أم مقدّمی؟

وکیف کان، فلا إشکال عند الجمیع من وجوب غسل المرفق.

ص:365

ویمکن أن یکون سبب وجوبه أحد الاُمور الخمسة : القول بأنّ المراد من قوله تعالی: «إِلَی الْمَرَافِقِ» فی الآیة، هو بمعنی (مع)، فیکون الوجوب نفسیاً أصلیّاً .

أو القول بکون (إلی) بمعنی (من)، أی لابتداء الغایة، ومع القول بأنّ ابتداء الغایة داخلٌ فی المغیّی، أمّا لو قلنا بخروج انتهاء الغایة عن المُغیّی، فیکون وجوبه کسابقه .

أو القول بکون (إلی) فی المقام، بمعنی انتهاء الغایة، إلاّ أنّه داخل فی المغیّی هنا، وإن لم نقل بدخوله فی سائر الموارد، لدلالة الأخبار علیه، فوجوبه حینئذٍ أیضاً یکون أصلیّاً .

أو القول بأنّ غَسل المرفق واجبٌ للإجماع المرکّب، وعدم القول بالفصل _ بین کون الوجوب أصلیّاً، أو غیریّاً مقدّمیاً _ فی کون الغایة داخلة فی المغیّی .

أو القول بالوجوب من جهة کون (إلی) بمعنی انتهاء الغایة، إلاّ أن یکون المختار فی اختلاف دخول الغایة أو خروجها هو الدخول.

ویحتمل سادساً کون وجوب غسله غیریاً مقدّمیاً، کما نُسب إلی بعض ، هذا کلّه فی مقام الثبوت، فی مرحلة الاحتمالات والأقوال .

ولکن الحقّ الذی یمکن أن یعتمد علیه، هو ملاحظة ما هو المستفاد من الأخبار الواردة فی ذیل الآیة، حیث یستفاد من ظهورها کون الوجوب أصلیّاً تعیّنیاً، لصراحة الأخبار فی دخول المرفق فی الغَسل، کما تری ذلک فی خبر زرارة من الوضوءات البیانیة، عن الباقر علیه السلام ، فی حدیث: (ثمّ غمس یده الیسری، فَغَرف بها ملأها، ثمّ وضعه علی مرفقه الیمنی، فأمرّ کفّه علی ساعده حتّی جری الماء علی أطراف أصابعه)(1) الحدیث .

وخبره الآخر منها، بقوله : «ثمّ غمس کفّه الیسری فغرف بها غُرفةً، فأفرغ علی


1- وسائل الشیعة: الباب 15، أبواب الوضوء، الحدیث 2.

ص:366

ذراعه الیمنی، فغسل بها ذراعه من المرفق إلی الکفّ»(1) الحدیث .

وخبر الهیثم بن عروة التمیمی، قال : «سألت أبا عبداللّه علیه السلام عن قوله تعالی : «فَاغْسِلُوا وُجُوهَکُمْ وَأَیْدِیَکُمْ إِلَی الْمَرَافِقِ»، فقلت: هکذا، ومسحتُ من ظهر کفّی إلی المرفق؟

فقال : لیس هکذا، تنزیلها إنّما هی فاغسلوا وجوهکم وأیدیکم (من) إلی المرافق، ثمّ أمرّ یده من مرفقه إلی أصابعه»(2) .

وخبر محمّد بن الفضل فی قصّة وضوء علی بن یقطین فی حدیثٍ: «قال موسی بن جعفر علیهماالسلام : واغسل یدیک من المرفقین کذلک»(3) ، الحدیث .

المراد من المرفق

فتکون هذه الأخبار مبیّنة لمفاد الآیة، إن کان فیها إبهاماً ما وإجمالاً، کما ادّعاه السیّد الاصفهانی قدس سره ، علی ما فی «روائعه».

فعلی هذا التقدیر، لا وجه لدعوی کون وجوب غَسله مقدّمیاً ، مضافاً إلی أنّ وجوب شیء من باب المقدّمة لا یکون منحصراً فی غسل الید، حتّی یقع الکلام فیه هنا، بل هو حکم عامٌ یجری فی جمیع ما کان غسله واجباً مثل الوجه وغیره ممّا کان واجباً کذلک .

مضافاً إلی أنّ هذا الوجوب حکمٌ عقلی وممّا لا یقع فیه الخلاف، کما هو الحال فی المقام، فثبت أنّه کان البحث واقعاً من حیث الوجوب النفسی الأصلی لا المقدّمی .

کما قد یؤیّد ذلک أیضاً ما نُقل عن العلاّمة فی «المنتهی»، کما فی «الجواهر»، حیث أنّه قد أفتی بوجوب غسل شیء من العضد من باب المقدّمة لدخول


1- وسائل الشیعة: الباب 15، أبواب الوضوء، الحدیث 3.
2- وسائل الشیعة: الباب 19، أبواب الوضوء، الحدیث 1.
3- وسائل الشیعة: الباب 32، أبواب الوضوء، الحدیث 3.

ص:367

المرفق فی مثل الأقطع، فهذا بنفسه قرینةٌ علی أنّ الخلاف کان فی ذلک، فالأقوی

وجوب غسله أصالةً .

الجهة الثالثة : إذا عرفت وجوب غسل المرفق بالأصالة، لابدّ أن یبیّن معنی المرفق حتّی یتّضح مقدار ما هو الواجب من الغسل أصالةً، وما هو الواجب مقدّمة ، والذی قیل فی معناه من حیث اللغة والفقه، یکون علی أقسام متعدّدة ، تارةً یقال: إنّه مجمع عظمی الذراع والعضد، کما عن «التذکرة» و«الجواهر» ، أو موصل الذراع فی العضد، کما فی «المجمع» و«القاموس» و«الصحاح» و«المطرز» .

أو بالعضد، کما عن «المُغرب»

أو رأس عظمی الذراع والعضد، کما فی «الحدائق» .

أو الحدّ المشترک، والخطّ الموهوم بین الذراع والعضد، کما استظهره المحقّق القمی فی «الغنائم»، من أهل اللغة.

أو أنّه خصوص رأس عظم الذراع فقط .

والظاهر من العرف ومحاورات الشارع ومن الفقهاء، بل استظهره غیر واحدٍ من اللّغویین، هو أنّ المراد بالمرفق الأوّل، یعنی مجموعهما ونفس الطرفین المتداخلین، کما قد یؤیّد ذلک ما ورد فی الأخبار من وجوب غسل المرفق بالاستقلال، حیث أنّه لو کان المراد هو خصوص عظم طرف الساعد، لکان داخلاً فی غسل الذراع بنفس الید، فلا یناسب مع جعل (إلی) بمعنی (مع) الظاهر فی المغایرة .

کما قد یؤیّد ما ذکرنا خبر علی بن جعفر عن أخیه موسی بن جعفر علیهماالسلام ، قال: «سألته عن رجلٍ قُطعت یده من المرفق، کیف یتوضّأ؟ قال: یغسل ما بقی من عضده»(1).

فإنّ المتعلّق فی الجواب محذوفٌ، أی ما بقی من المرفق من ناحیة العضد یُغسل، فهو کالصریح فیما ذکرناه، لأنّه لو کان المرفق هو الخط الموهوم، أو طرف


1- وسائل الشیعة: الباب 49، أبواب الوضوء، الحدیث 2.

ص:368

الساعد فقط، أو اسماً لموضع رأس عظمی الذراع، لما کان لهذا الجواب وجهٌ.

وجوب الابتداء بالغسل من المرفق

وحملُ الحدیث علی استحباب غَسل ما بقی، یکون خلاف الظاهر، لأنّه کیف یستحبّ ذلک فی الأقطع، مع عدم استحبابه فی صحیح الید!

کما أنّ احتمال کون المقطوع مقداراً من العضد المسمّی بالمرفق، حتّی یصیر تمام المرفق مقطوعاً، فیکون المراد من ما بقی هو العضد فقط، دون المرفق، یکون أبعد.

فظهر أنّ الأقوی کون المراد من المرفق، هو المجموع من عظمی الذراع والعضد، فیکون وجوب غسله أصلیّاً .

الجهة الرابعة : فی وجوب الابتداء بالغَسل من المرفق، وعدم کفایة النکس.

فهو صریح کلام الماتن، و«الجُمل» و«المعتبر» و«النافع» و«المنتهی» و«التحریر» و«القواعد» و«الإرشاد» و«المختلف» و«الدروس» و«جامع المقاصد» و«کشف اللثام» وظاهر «الإشارة» و«اللمعة»، بل هو منسوب إلی الأکثر، کما عن «التنقیح» ، وقد حُکی ذلک عن الشیخ الطوسی، وابنی حمزة وأبی عقیل وسلاّر، وجمیع المتأخّرین کصاحب «الجواهر» و«مصباح الفقیه» للهمدانی و«المصباح» للآملی وجمیع أصحاب تعالیق «العروة» .

خلافاً لابن إدریس فی «السرائر»، فحکم بالکراهة فی النکس، والسیّد المرتضی فی أحد قولیه، باستحباب الابتداء من المرفق.

والأقوی هو الأوّل، والدلیل علیه : مضافاً إلی أنّه هو المتعارف عند الناس، فإنّه لو اُحیل الأمر إلی الناس وأنّه یجب علیهم غسل أیدیهم لشرعوا فی الغسل بدءاً من المرفق إلی رؤوس الأصابع.

هذا، فضلاً عن أنّ کلمة (إلی) فی الآیة، یکون موضوعاً لبیان حدّ المغسول لا الغسل، وإلاّ فإنّ لازم التعبّد بظاهرها هو ثبوت لزوم غسل الید من الأصابع إلی المرافق کالعامّة ، مع أنّه فاسد عند الخاصة قطعاً، فکیف یقال بظهور الأخبار أو

ص:369

صراحتها فی استحباب النکس أو کراهته؛ فالأوّل کما فی الوضوءات البیانیة، کما

قد عرفت من قوله علیه السلام : «ثمّ وضعه علی مرفقه الیمنی فأمرّ کفّه علی ساعده حتّی جری الماء علی أطراف أصابعه» .

وخبر علی بن یقطین، من الأمر بالغسل من المرفقین کذلک، فإنّه کما کان فی الوجه مبتدءاً من الأعلی، فهکذا کان فی الید أیضاً .

والثانی کما فی خبر زرارة، وبکیر، فی حدیث: «ثمّ غَمَس کفّه الیسری، فأفرغ بها علی ذراعه الیمنی من المرفق، فغسل بها ذراعه من المرفق إلی الکفّ لا یردّها إلی المرفق»(1) .

وخبر هیثم بن عروة، حیث أنکر الإمام عمل الرجل من مسح یده من الکف إلی المرفق وأمره بعکس ذلک .

وجوب الابتداء بالید الیمنی فی غسل الیدین

وخبر زرارة علی ما فی «الفقیه» من قوله: «ولا ترد الشَّعر فی غَسل الیدین»(2) ، فهذان الخبران یدلاّن علی النهی عن النکس ، فمع ذلک کیف یمکن القول بجوازه کراهةً، کما عن ابن إدریس، أو القول باستحباب البدء من المرفق کما عن السیّد .

بل قد یظهر من بعض الأخبار أنّ تجویز النکس کان للتقیة، وهو کما فی الخبر الذی رواه العیّاشی فی تفسیره عن صفوان قال : سألت أبا الحسن الرضا علیه السلام ، فی حدیثٍ، قلت : فإنّه قال : اغسلوا أیدیکم إلی المرافق فکیف الغسل ؟

قال : هکذا أن یأخذ الماء بیده الیمنی، فیصبّه فی الیسری، ثمّ یفضّه علی المرفق، ثمّ یمسح إلی الکفّ ، قلت له : مرّة واحدة ؟

فقال : کان ذلک یفعل مرّتین ، قلت ؛ یردّ الشعر ؟


1- وسائل الشیعة: الباب 15، أبواب الوضوء، الحدیث 3.
2- الفقیه: الباب 10، ح1.

ص:370

ومَنْ قطِع بعض یدیه، غَسل ما بقی من المرفق، وإن قُطعت من المرفق سقط فرض غسلها (1).

قال : إذا کان عنده آخر فَعَل وإلاّ فلا)(1) .

حیث کان المراد هو حضور من یتّقی منه، فیردّ الشعر أی یغسله منکوساً للتقیة، وإلاّ فلا ، فثبت أنّ الحقّ هو قول المشهور من وجوب الابتداء من المرفق وعدم کفایة عکس ذلک .

الجهة الخامسة: وفی وجوب الابتداء بالید الیمنی قول فهو ممّا لا خلاف فیه ولا إشکال، کما سیأتی تفصیله فی بیان وجوب الترتیب، ولعلّ وجه ذکره هنا لدفع توهّم وحدة العمل فی غَسل الیدین، کما قیل فی مسح الرجلین، ولذلک اشتهر بأنّ الوضوء عبارة عن الغسلتین والمسحتین ، فبهذا الکلام أراد إفهام أنّ غسل الیمنی مقدّمٌ علی الیسری، وبقیّة الکلام موکول إلی محلّه .

***

(1) ولایخفی علیک أنّ فی المسألة صور ثلاث؛ لأنّ القطع: قد یقع فوق المحل المفروض کفوق المرفق فی الید، وفوق الکعبین فی الرجل ، وقد یقع فی نفس المفصل فی الید المسمّی بالمرفق، وهکذا فی الکعبین فی الرجل، إلاّ أنّ المرفق أولی بجریان البحث فیه ، وقد یقع القطع فی محلّ الفرض وهو ما دون المرفق والکعبین .

الصورة الاُولی: فالأقوال فیه ثلاثة : قولٌ بالوجوب، أی یجب غسل العضد بتمامه، وهو المنقول عن ابن الجنید ، وأمّا فی الرجل فلم یُنقل منه فی ذلک شیء، ولعلّ وجه الفرق هو وجود خبر صحیح علی بن جعفر فی الید دون الرجل ، وإن


1- مستدرک الوسائل: أحکام الوضوء: الباب 18 ، ح 2.

ص:371

احتمل السیّد قدس سره وجوب غسل تمام الید والرجل فی «روائعه»، استناداً بخبری رفاعة.

وأمّا الروایتان المسؤول فیهما عن أقطع الید والرجل فهما أیضاً مهملان، لاحتمال کون المراد غَسل الید والرجل الباقیین للأقطع ، انتهی کلامه .

ولکنّ هذا القول شاذٌ نادر، بل الإجماع علی خلافه، کما عن «المنتهی» و«کشف اللثام» حیث نقلا قیام الإجماع المنقول علی ذلک ، بل تحصیله کذلک، لعدم مشاهدة نقل الوجوب عن أحدٍ غیر ما سمعت.

فی من قطع یده من فوق المرفق

ولکن الذی ذهب إلیه الأکثر، کما صرّح بذلک فی «نهایة الإحکام» و«الذکری» بل الشیخ صاحب الجواهر، والمحقّق الهمدانی، هو استحباب غَسل تمام الید حملاً لخبر علی بن جعفر عن أخیه موسی بن جعفر علیه السلام فی حدیثٍ: «قال : سألته عن رجل قُطعت یده من المرفق، کیف یتوضّأ ؟ قال : یغسل ما بقی من عضده»(1) ، حملاً بجملته الخبریة فی مقام الإنشاء علی الاستحباب ، مع أنّ التعبّد بظاهره لو خُلّی وطبعه هو الوجوب، کما صرّح بذلک صاحب «مصباح الهدی»، وکان یصحّ لو حمل ما بقی من عضده علی القطع من فوق المرفق ، فحینئذٍ لا وجه لرفع الید عن ظاهر الهیئة الدالّة علی الوجوب، إلاّ کونه مخالفاً للإجماع ، مع مقتضی ما ذکرناه سابقاً وهو کون القطع من نفس المرفق، یفید بأنّه قد بقی مقداراً منه من ناحیة العضد، فهذا الحمل کان أولی لحفظ ظهور الهیئة علی حالها، وإن استلزم ذلک التقدیر فی الکلام، وهو کون المقصود أنّ المقدار الباقی من المرفق هو من عضده.

ولکن هذا التقدیر أمرٌ واضح مستفاد من ظاهر الجملة ، فعلیه لایکون غسل العضدین دون المرفق مستحبّاً، فضلاً عن ألا یکون واجباً کما کان غسل العضد باعتبار جزء المرفق منه واجباً، لکونه من الفرض، وهذا هو الأولی عندنا، وإن


1- وسائل الشیعة: الباب 49، أبواب الوضوء، الحدیث 2.

ص:372

کان القول باستحباب غسل العضد موافقاً للاحتیاط ، هذا فی الید ، وأمّا فی الرِجْل، فلا وجوب لمسح ما فوق الفرض ولا ندباً، لعدم وجود دلیل یدلّ علی ذلک، وعدم شمول أدلّة وجوب المسح فی الوضوء لهذه الصورة ، فالتعبّد بالبدلیة بمسح ما فوق الفرض من دون دلیل شرعی، یعدّ بدعةً وحراماً، فلا یجوز ، ولذلک لم یقل به أحد، إلاّ بالاحتمال المنقول عن السید الاصفهانی، مع أنّه لا یساعده الاعتبار بوجوب مسح الرجل بتمامه إلی المتصل بالبطن، فإذا أراد إسراء حکم ما فی الید علی الرجل فإنّه یعدّ إسراءً والتزاماً بما لا دلیل علیه، کما لایخفی .

فی من قطع یده من دون المرفق

الصورة الثانیة: إنّ وجوب غسل المرفق، موقوف علی المعانی الذی ذکرناه فیه، فإن قلنا بأنّ المفصل لا یتّحد مع المرفق، بل هو عبارة عن نفس رأس عظم الذراع، أو الحدّ المشترک المسمّی بالخط الموهوم، فلا وجه للحکم بوجوب غَسل رأس عظم العضد الذی کان خارجاً علی هذا الفرض.

ولکن قد عرفت منّا، وفاقاً لکثیر من الفقهاء، کون المرفق هو المجموع، کما هو مقتضی الاحتیاط أیضاً، فیکون غَسل الباقی علی العضد الذی کان جزءاً من المرفق واجباً، کما عرفت بأنّ هذا هو المستفاد من خبر علی بن جعفر، فیکون وجوبه أصلیاً لا مقدّمیاً حتّی یسقط وجوبه فی الأقطع من المرفق، لعدم وجود ذی المقدّمة حتّی یقال بوجوب مقدّمته، وما ذکرناه کان علیه الأکثر من المتقدّمین والمتأخّرین .

الصورة الثالثة: وهی کون القطع من دون المرفق، فقد نُقل الإجماع عن «کشف اللثام»، بل فی «المنتهی»: هو قول أهل العلم، بل فی «الجواهر»: وکأنّه لا خلاف فیه.

ونحن نقول: لم نر أحداً من الفقهاء خالف فی ذلک، بل صرّحوا جمیعاً بوجوب غسله ومسحه ، فالأولی هو التعرّض لدلیله ، وما یمکن أن یستدلّ علیه اُمور :

الأوّل : هو شمول الأدلّة الأوّلیة، من الآیة والنصوص علی وجوب غسل الیدین من المرفقین إلی أطراف الأصابع لمثله، لأنّ ما بقی أیضاً کان من الحدود،

ص:373

فلا وجه لسقوط الدلیل بواسطة قطع بعضه، وإلاّ یقتضی الجمود علی الظاهر بکون الدلیل منصرفاً علی القادر لغسل جمیع الحدّ، یلزم القول بوجوب التیمّم هنا، بمحض قطع مقدارٍ قلیل، مع أنّه باطل قطعاً ، بل حتّی لو لم یکن له إلاّ یداً واحدة، فإنّه لا یسقط وجوب الغسل بالنسبة إلی الباقی ، ففرقٌ بین عدم القدرة علی الغسل هنا، وبین عدم قدرته مع الجبیرة، حیث یجب التیمّم فیه، بخلاف المقام .

نعم أفتی الشیخ الأنصاری قدس سره بوجوب الجمع بین التیمّم والوضوء، تحصیلاً للیقین بالطهارة ، مع أنّه أیضاً لا یخلو عن تأمّل، ولذلک لم نعهد من أحدٍ غیره التصریح بذلک فی المسألة، لشمول الإطلاق لأمثال هذه الموارد، وإن کان الاحتیاط بالتیمّم حسناً، لأنّه حسن علی کلّ حال .

الثانی : وجود أخبار خاصّة دالّة علیه فی المقام، مثل خبر حسن بن هاشم، عن رفاعة، قال : «سألت أبا عبداللّه علیه السلام عن الأقطع؟ فقال : یغسل ما قُطع منه»(1) .

وکذلک خبر حسن عن محمّد بن مسلم، عن أبی جعفر علیه السلام قال : «سألته عن أقطع الید والرجل؟ قال : یغسلهما»(2) .

وخبر آخر لرفاعة عن أبی عبداللّه علیه السلام ، قال : «سألته عن الأقطع الید والرجل کیف یتوضّأ ؟ قال : یغسل ذلک المکان الذی قطع منه»(3) .

ولا إشکال فی خبر محمّد بن مسلم، فی دلالته علی وجوب غسل باقی الید المقطوعة، لا محلّ القطع کما قد قیل .

وأمّا بالنسبة إلی الرجل، فلابدّ إمّا من حمل الغَسل هنا علی معناه الأعمّ، حتّی یشمل المسح.


1- وسائل الشیعة: الباب 49، أبواب الوضوء، الحدیث 1.
2- وسائل الشیعة: الباب 49، أبواب الوضوء، الحدیث 3.
3- وسائل الشیعة: الباب 49، أبواب الوضوء، الحدیث 4.

ص:374

أو یکون محمولاً علی التقیة، وهو بعید ، أو یکون المراد هو تبدّل الحکم فی

القطع بالنسبة إلی الرجل، من المسح إلی الغسل، لکنّه حیث لم یلتزم به أحدٌ من الفقهاء، فیکون احتمال الأوّل قویّاً .

کما أنّ موضوع الخبر من حیث مکان القطع مجملٌ، لأنّه لم یتعرّض فی الخبر لما ورد القطع علیه، هل هو فی الحدّ أو خارجه، کما أنّ موضوع السؤال فیه من حیث الوضوء والغَسل أیضاً غیر معلوم، کما أنّ خبر رفاعة الأوّل أیضاً مثله ، فلابدّ حینئذٍ من الحمل علی کون المورد هو الوضوء لا الغسل .

کما أنّ المورد کان هو محلّ الفرض لا خارجه، لأنّهما کان ینبغی أن یُسئل عنهما الإمام، وإلاّ لا وجه للسؤال عن غَسل الأقطع، لأنّه لا خصوصیة للقطع فیه ، کما أنّه لا خصوصیة للقطع من خارج الحدّ من السؤال، وإن کان الثانی لا یخلو عن تأمّل .

کما أنّ هذا الإجمال موجود فی خبره رفاعة الثانی، إلاّ أنّ للوضوء فیه تصریح .

واحتمال کون المقصود هو لزوم غسل موضع القطع، کما قد یؤیّده قوله : «یغسل ذلک المکان الذی قطع منه» .

قیل : إنّه ضعیف لمخالفته لفهم الأصحاب ، ولکن الإنصاف أن یقال: بأنّ اللازم هو غسل الباقی من الید، لدلالة ظهور الخبر الأوّل المروی عن رفاعة علیه، وهو قوله: «یغسل ما قُطع منه»، وغسلُ موضع القطع أیضاً، لظهور خبره الثانی، وهو قوله : «یغسل ذلک المکان الذی قطع منه» وعلیه فلا یبعد أن یکون حینئذٍ مورد السؤال هو محلّ الفرض لا خارجه، کما لایخفی .

الثالث : دلالة قاعدة المیسور، وما لا یُدرک، والإستطاعة علی وجوب غَسل المتبقّی من الید ، فالنبوی المشهور المستفاد منه الاستطاعة وهو قوله صلی الله علیه و آله : «إذا أمرتکم بشیء فأتوا منه ما استطعتم» ، والعلویتان هما: «المیسور لا یسقط بالمعسور»، و«ما لا یُدرک کلّه لا یترک کلّه» ، جمیعها تفید أنّه لابدّ فی غَسل

ص:375

الوضوء من تحصیل ما هو المقدور من الأقطع، وهو المطلوب .

وفیه: قد نوقش فیها بأنّ دلیل الاستطاعة متعلّق بالواجب الذی کان له جزئیات، کما قد یؤیّد ذلک مورد نزول هذا الحدیث، فإنّ الخبر وارد فیمن سأل عن وجوب الحجّ مرّة واحدة أو مرّات عدیدة، وألحّ فی سؤاله فأجابه صلی الله علیه و آله بأنّه: «إذا أمرتکم بشیء فأتوا منه ما استطعتم)، فلا یشمل الواجب ذی الاجزاء کالمقام» .

ولکن الإنصاف إمکان الاستدلال، فیما إذا لم یوجب درک المقدور منه خروجه عن حقیقة ذلک الواجب، لاسیما فی مثل قاعدة المیسور وما لا یُدرک، إن سلّمنا الإشکال فی الاستطاعة، مع تأمّل فیها أیضاً.

کما یؤیّد ما ذکرناه کلام صاحب الجواهر من فهم الأصحاب فی المقام تمسّکاً بتلک القواعد، وکون کلمة (منه) تبعیضیة لا بیانیة، فیتمسّک فی الاستطاعة لذوی الاجزاء أیضاً .

الرابع: هو الاستصحاب، بأن یقال بأنّ الباقی کان واجباً فی الغسل قبل حدوث القطع وبعده نشکّ فی وجوبه فیُستصحب، ویحکم بوجوب غسله.

نوقش فیه کما فی «الحدائق»، بأنّ وجوب غَسل الباقی کان مشروطاً فی ضمن وجوب غسل المجموع، وهو قد انتفی وتبدّل ما هو الواجب، فلا یجری الاستصحاب مع تبدّل الموضوع.

لکنّه ضعیف جدّاً، لأنّ وجوب غَسل الباقی لم یکن مشروطاً مقیّداً، بل کان فی ضمن وجوب المجموع، وهذا المقدار المتضمّن لا یوجب تبدّل الموضوع وتغیّره بحیث لا یجری فیه الاستصحاب .

نعم ذلک یوجب الشک فی البقاء، فالاستصحاب یزیله.

هذا کلّه، مضافاً إلی ما عرفت من الإجماع نقلاً وتحصیلاً فی ذلک، فهو یکفینا فی إثباته واستصحاب بقاء الحدث حتّی یغسل المقطوع، فالمسألة واضحة بحمد اللّه .

ص:376

ولو کان له ذراعان دون المرفق، أو أصابع زائدة، أو لحمٌ نابتٌ، وجب غَسل الجمیع. ولو کان فوق المرفق لم یجب غَسله، ولو کان له یدٌ زائدة وجب غسلها (1).

(1) ولا یذهب علیک أنّ ما فی المتن یحتوی علی ثلاثة صور وهی :

الصورة الاُولی : فیما إذا کانت الزیادات الثلاث المذکورات حاصلة دون المرفق، فإنّ وجوب غَسل الجمیع أمرٌ ثابتٌ ومسلّم بین الفقهاء، ولم یشاهد ولم یُنقل الخلاف عن أحدٍ ، بل قد نُقل علیه الإجماع بتعابیر مختلفة کنفی الخلاف فی «الجواهر»، ودعوی الإجماع عن «شارح الدروس»، ونفی الریب عنه کما فی «المدارک»، وأمثال ذلک .

من کان له ذراعان أو أصابع زائدة أو لحم نابت

والذی یمکن أن یستدلّ علیه _ مضافاً إلی الإجماع _ اُمور :

الأوّل : صدق التبعیّة عرفاً فی مثل ذلک فی الید، کما یساعده الاعتبار، فإنّه إذا قیل لأحدٍ اغسل یدیک، یفهم بلزوم غَسل جمیع ما هو الموجود فی الید بالأصالة وبالتبع. فیشمله دلیل نفس الوضوء من الآیة والروایة .

الثانی : دلالة بعض الأخبار ظهوراً لذلک، مثل خبر زرارة وبکیر فی حدیثٍ عن أبی جعفر علیه السلام فی حکایة وضوء رسول اللّه صلی الله علیه و آله : حیث أمر بغسل الیدین إلی المرفقین ثمّ قال: «فلیس له أن یدع من یدیه إلی المرفق شیئاً إلاّ غسله، لأنّ اللّه تعالی یقول : «فَاغْسِلُوا وُجُوهَکُمْ وَأَیْدِیَکُمْ إِلَی الْمَرَافِقِ» »(1).

حیث أنّه یؤیّد ما ذکرناه من التبعیّة، فیصدق علی الزیادات الحاصلة فی الید أیضاً أنّها شیء، فیجب غسلها .

وخبر إسماعیل بن جابر عن الصادق علیه السلام عن آبائه عن أمیر المؤمنین علیهم السلام


1- وسائل الشیعة: الباب 15، أبواب الوضوء، الحدیث 3.

ص:377

فی حدیث: «ثمّ قال : وأمّا حدود الوضوء، فغَسلُ الوجه والیدین ومسح الرأس والرجلین، وما یتعلّق بها، ویتّصل سنّة واجبة علی من عرفها وقدر علی فعلها»(1) . فإنّ دلالته أوضح، لاسیما مع قوله : «ویتّصل» ، حیث یشمل مثل اللحم النابت ونظائره .

الثالث: إمکان إجراء الاستصحاب بقاء الحدث، لأنّه لو لم یغسل هذه القطعة الزائدة النابتة یحصل عنده الشکّ فی رفع الحدث، فالاستصحاب یحکم ببقائه، فیجب غسلها .

مع إمکان إجراء قاعدة الاشتغال أیضاً لو سلّمنا کون الوضوء من قبیل الشکّ فی المحصّل، لأنّه یجب تحصیل الطهارة الحاصلة من الوضوء ، فمع عدم غسل القطعة الزائدة لحصل عنده الشکّ فی تحصیلها ، فالاشتغال یحکم بوجوب غسلها، تحصیلاً للیقین بالطهارة .

وقد ذکر لوجوب غسلها بما لا یخلو بعضها عن إشکال، مثل قولهم بأنّ ما یقع فی الحدّ یعدّ جزءاً منه أو کالجزء مثل اللحم الزائد الذی ینبت أطراف الکفّ والذی یُسمّی عرفاً بالفالول (= زگیل)، فإنّه یجب غسله للأمر به من المرفق إلی الأصابع، من غیر ذکر استثناء شیء ما فیه، وبأنّه بدلٌ عن المحلّ النابت، وبأنّ ما علاه من الجلد هو جلد محل الفرض، فیجب غسله، وأمثال ذلک.

ولکن الإنصاف کفایة الأدلّة السابقة عن التمسّک بمثل هذه الاُمور التی لا تخلو بعضها عن الاستحسان، کما لایخفی ، ثمّ لا فرق فی وجوبه بین أن یخرج عن حدود الفرض بالتدلّی والانکشاط أو بالطول، کما فی الظُّفر الخارج عن رؤوس الأصابع، أو لا تصدق لتابعیته عرفاً .

من کان له ید زائدة

الصورة الثانیة : ما لو کانت الزیادة فیما فوق المرفق أی ما فوق حدّ الفرض،


1- وسائل الشیعة: الباب 15، أبواب الوضوء، الحدیث 23.

ص:378

فالظاهر عدم وجوب غسله، ولا إشکال فیه کما عن «المدارک» ، بل یمکن تحصیل الإجماع علیه وذلک لعدم مشاهدة خلاف فیه من أحد، لاسیّما إذا لم یحاذ بالتدلّی إلی حدود الفرض، لأنّ الشافعی أوجب الغسل للمحاذی بالفرض بالتدلّی مع أنّه ضعیف جدّاً . ووجه عدم الوجوب، هو عدم وجود دلیل یدلّ علیه ، فحینئذٍ لو شکّ فالمرجع هو أصل البراءة .

بقی هنا حکم الزائد علی نفس المرفق؟

والظاهر أنّ حکمه حکم المرفق، فمن أوجب غَسل نفسه، فیحکم بالوجوب فیه أیضاً، کما هو المختار، ومن لم یجب فیه ففی مثله یکون بطریق أولی، لأنّه یعدّ تابعاً للمحلّ کما لایخفی ، وأمّا حکم التدلّی إلی محلّ الفرض، فقد عرفت أنّه لا تأثیر فیه، کما أنّ عکسه أیضاً کذلک ما لم یخرج عرفاً عن صدق التبعیة .

الصورة الثالثة : هی ما لو کان له ید زائدة، والظاهر أنّ مراد المصنّف قدس سره هو الزائد عن الکتف لا عن المرفق، لأنّه قدس سره قد أدخله بقوله : لو کان له ذراعان .

وکیف کان فالمسألة لها صورتان : تارةً: یعلم ما هو الأصلی من الیدین ، واُخری: لا یعلم، وکان مشتبهاً .

فالأولی: قد وقع الخلاف فیها، من حیث وجوب غسل الزائدة، بعدما کان الأصلی واجباً قطعاً، حیث أنّ کثیراً من الفقهاء، کما هو المستفاد من «القواعد» و«التحریر» و«المنتهی»، وظاهر «جامع المقاصد»، وإطلاق قول «المعتبر» و«المبسوط» وصاحب «الجواهر» ذهبوا إلی عدم الوجوب لما فوق المرفق، خلافاً للآملی والشیخ الأنصاری والسیّد الأصفهانی والطباطبائی الحکیم، والمحقّق فی «الشرائع» والعلاّمة فی «المختلف»، وصریح «الإرشاد» و«التلخیص»، ومحکی «التذکرة»، وهذا هو الأقوی عندنا.

وإن کان أکثر المحشّین علی «العروة»، تبعاً لصاحبها، ذهبوا إلی عدم الوجوب .

والحجّة علی الوجوب هو صدق اسم الید علیها حقیقة، کما هو المفروض،

ص:379

فضلاً عن شمول إطلاقات الأدلّة لها، وإنْ فرض کونها متمیّزة عن الأصلیة بالقِصر والطول والقوّة والضعف .

بل لعلّ وجه تقابل الجمیع بما ورد من صیغة الجمع فی قوله تعالی: «وُجُوهَکُمْ وَأَیْدِیَکُمْ»مع انتساب ذلک إلیهم بقوله (کم)، یفید أنّه یرید غسل کلّ ما یصدق علیه اسم الید، ومجرّد کون الأخبار قد فَسّرت الآیة بالتثنیة من الیدین، لیس إلاّ من جهة کون الغالب فی الأفراد المتعارفة کذلک، کما أنّ صدق الزیادة أیضاً یلاحظ مع الغالب المتعارف من أفراد البشر، وإلاّ لولا ذلک کانت هذه یداً أیضاً .

والتأویل فی جمیع الأیدی، لکون المخاطب هم المکلّفین، فیکون بلحاظ افرادهم.

مع أنّه تأویل غیر لطیف، نقول: بأنّ ذلک یفهم من صیغة (کم) الواردة فی الآیة، حیث وردت کلمة الید بصیغة الجمع، ولو أراد تعالی إفادة التأویل المذکور کان الأولی أن یقول: فاغسلوا وجهکم ویدیکم إلی المرافق، فلعلّ وجه العدول کان لهذه الحکمة، لأنّه الحکیم المطلق.

کما نجیب بمثل هذا الکلام فی الوجه أیضاً وأنّه لو کان المکلّف ذا وجهین، للزم علیه غسل کلیهما لما ذکرناه .

ثمّ إنّه قد حقّق فی محلّه بأنّ ندرة الوجود وغلبته لا تؤثّران فی الانصراف وعدمه، إذا لم یکن کذلک فی الاستعمال، لأنّه الذی یؤثّر فیه، حیث یوجب کثرته انصراف الإطلاق إلیه، ویعدّ حجّة عرفاً.

مع إمکان أن یقال فی وجه استعمال صیغة الجمع فی الوجه والید، بأنّه مع الانفراد واستعمال کلمتی وجهکم ویدیکم ، قد یتوهّم ملاحظة الاجتماع من حیث المجموع وأنّه یقصد من له وجه وید، کما نشاهد مثل هذا المعنی فی قوله تعالی : «وَلاَ تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِیحُکُمْ» حیث قد لوحظ الریح بمعنی الاقتدار، أو السمعة الطیّبة المترتّبة علی الوحدة والاجتماع دون الافتراق ، ولکن

ص:380

الإنصاف عدم کون ذلک هو الوجه، لأنّه قد یفهم بعض المعانی من سیاق المورد، وأنّ الصیغة المعیّنة قد استعملت واُرید منها جهة خاصّة دون اُخری، مثل ما تری فی قوله تعالی : «وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَیْدِیَهُمَا»، حیث لا یتوهّم أحد بأن یکون المقصود هو ملاحظة مجموع الأیدی الموجودة فی السارق والسارقة وأنّه یجب القطع.

فالأولی أن یقال : إنّ العرب عند استعمال الجمع تطلق الجمع علی الیدین أیضاً إذا اُسندت إلی الضمیر، کما تؤنّث الضمیر المشار إلیها لکونها زوجاً .

وکیف کان، فالأقوی هو وجوب غسل الیدین سواءً الأصلیة أو الزائدة، وإن کان قد میّز الأصلی عن الزائد لعدم صحّة سلب اسم الید عنه حقیقةً، وعدم رفع الید عن الإطلاق بمجرّد ندرة وجوده .

نعم لو کانت الزیادة فوق المرفق بحیث لم یصدق علیها اسم الید مستقلّة، بل کانت الزیادة بکفٍ أو ذراع أو أمثال ذلک فلا یجب غسله .

وأمّا لو صدق علیه الید، فیجب غَسلها، سواء کانت لها مرفق أم لا ، کما هو الحال فی الید الأصلیة.

لا یقال: بأنّه إذا لم تکن لها المرفق، فلا حدّ لها من حیث المرفق حتّی یجب غسله ، لأنّا نقول نقضاً: ما تقول فی الید الأصلیة لو کانت کذلک؟! فهل یمکن أن نحکم بعدم وجوب الغسل أصلاً، بل الواجب حینئذٍ ملاحظة الحکم التقدیری وأنّه لو کانت له ید زائدة لوجب وجود مرفق فیها فیجب غسلها منه، وهو واضح.

هذا فی معلوم الزیادة من الآثار من جهة القوّة والضعف والصغر والطول أو جهات اُخری .

فی غَسل البشرة مع الشعر فی الیدین

وأمّا لو فرضنا کون کلّ واحد من الیدین أصلیاً، لتساویهما من جمیع الجهات، فالظاهر وجوب غسلهما عند جمیع الفقهاء، ولم نر من صرّح بعدم الوجوب، إلاّ

ص:381

ما فی «الجواهر» بقوله : وما یظهر من کلمات الأصحاب من المقدّمة للید الأصلیة فالظاهر خلافه ، وکیف کان فنحن نقول : الدلیل علی وجوب غسله لیس إلاّ الآیة والروایات، مع أنّ إشکالهم بکونها بالتثنیة جار هنا، فیعلم أنّه لیس إلاّ من جهة إطلاق صدق اسم الید علیه، ومعلومٌ أنّ صدق إطلاق الأصلیة علی کلیهما لا یخلو عن تأمّل ، وإنْ تساویا من جمیع الجهات.

وتظهر الثمرة بین قولنا وقولهم فی القسم الأوّل منهما فی المسح، بأنّه علی المختار یکفی المسح بإحدی الیدین، لکون کلّ واحد منهما یداً ومائه ماء الوضوء، بخلاف الأصحاب حیث أنّهم یفتون بوجوب المسح بما هو الأصلی منهما، وإن کان هو الأحوط عندنا أیضاً .

وأمّا لو اشتبه الأصلی بالزائدة، فالحکم عندنا هو أنّه یجب غسلهما بالأصالة، بخلاف الأصحاب حیث أنّهم یحکمون بوجوب غسلهما، وذلک من باب المقدّمة العلمیة لتحقّق غسل ما هو الأصلی.

فعلی مختارنا یکفی المسح بأحدهما، وأمّا علی مسلک الأصحاب فإنّه یجب المسح بکلیهما.

مع إمکان الإشکال علی مسلکهم أیضاً بأنّه یجب المسح بهما مقدّمةً للعلم بوقوع المسح بماء الوضوء، مع أنّه یلزم القطع بالمسح بماء الخارج أیضاً، فحیث لا یعلم تقدّم أحدهما علی الآخر، فیوجب الشک فی أنّ مسحه هل وقع صحیحاً _ لو کان المسح أوّلاً قد وقع بالأصلی _ أم باطلاً _ لو وقع الأوّل بالزائد _ وهذا یوجب التردید والشکّ فی أنّ المسح هل حصل ببل ماء الوضوء أم ببل خارجی.

وممّا ذکرنا ظهر صحّة ما یؤیّد وجه المختار خلاصاً من هذا الإشکال، إذ لو مسح بکلیهما لتیقّن أنّ مسحه قد تمّ بماء الوضوء، نعم لیس له أن ینوی المسح بهما لأنّه تشریع منحرّم لورود الدلیل علی کفایة أحدهما، ولکن له أن یمسح بهما مع قصد الرجاء والاحتیاط وهو لا یوجب التشریع المحرّم.

ص:382

بحث فقهی: واعلم أنّه قد عرفت فی باب غَسل الوجه بأنّ غسل الشعر إذا کان کثیفاً واجب، وهذا بخلاف البشرة، والسؤال هو أنّه هل هو کذلک فی غسل الیدین، أم یجب غسل الشعر مع البشرة معاً؟ أو یجب غسل البشرة دون الشعر؟ وجوهٌ وأقوال : فقد ذهب شارح «الدروس» إلی الأخیر، والأکثر _ بل قد نُقل علیه الاتفاق من الشیخ الأعظم و«جامع المقاصد» ، بل انّا لم نجد غیر من یذکر باسمهم خلافاً_ إلی القول الثانی، وقد خالفهم فی ذلک کاشف الغطاء، حیثُ ذهب إلی القول الأوّل، والذی یمکن أن یُقال فی دلیل وجوب غسلهما: هو أنّ الأولی بمقتضی ظهور الدلیل وذلک بحسب العرف، هو وجوب غسل البشرة والشعر الذی یعدّ من توابعه، یعنی لو أغمضنا عن حکم الشرع وتبعنا العرف فی أحکامه فإنّه لو قیل لنا أو أُمرنا بغسل الیدین، فالذهن یتوجّه إلی وجوب غسل الید وما یُعدّ منها، بعد عدم الإشکال فی وجوب غسل البشرة، کما کان مقتضی هذا الدلیل فی الوجه أیضاً کان کذلک .

نعم لو طال الشعر علی نحو لایحتسب من توابعه عرفاً، فیخرج عن حکمه فلا بأس من ذکره بخصوصه، ففی الید أیضاً الحکم کذلک .

فحینئذٍ لا إشکال فی مثل الوجه، من وجود دلیل مخرج لخصوص الشعر، إذا کان کثیفاً کما حقّقناه ، وإنّما الإشکال وقع فی الیدین.

ولکن لا یذهب علیک أنّ مقتضی الشبهة والشکّ هو الرجوع إلی عموم وجوب الغسل، لأنّ التمسّک بالعام فی الشبهة المصداقیة للمخصّص یعدّ أمراً جائزاً .

نعم لو شکّ فی کون الشعر من توابع الید أو لا من جهة الشبهة فی مفهوم التابع عرفاً، فیکون من قبیل الشبهة المفهومیة فی المخصّص، فقد یستشکل فی جواز الرجوع إلی العام، فغایته الإجمال، ولزوم الرجوع إلی الاُصول العملیة من استصحاب الحدث والاشتغال، إن کان من قبیل الشک فی المحصّل، فلابدّ أن

ص:383

نلاحظ أنّه هل لنا دلیلٌ علی عدم وجوب غسل الشعر أو عدم وجوب غسل

البشرة فی الیدین أم لا؟

وممّا تمسّک به صحیحة زرارة: «قال : قلت له : أرأیت ما کان تحت الشعر ؟ قال : کلّ ما أحاط به الشعر فلیس للعباد أن یغسلوه، ولا یبحثوا عنه، ولکن یجری علیه الماء»(1).

هذا علی نقل الشیخ فی «التهذیب»، ولکن لا یمکن الاستدلال بها فی المقام لعدم معلومیة الموضوع المسئول عنه والتردید فی أنّ هذا السؤال هل کان للوضوء أو الغسل، مع أنّ الجملة الاستفهامیة فی صدر الخبر وهی قوله : (أرأیت)، تفید کون الجملة مسبوقة بسؤال وخصوصیة قبلها، ویبدو أنّ الشیخ قد قطّع صدر الحدیث لبعض جهات .

ویؤیّد حذف صدر الخبر ما نقله الصدوق فی «الفقیه»، بقوله فی بیان حدّ الوجه فأجاب: «ثمّ سُئل عن الصدغ هل هو داخل ؟ فقال : لا ، أرأیت ما أحاط به الشعر... الخ»(2).

مع تفاوت یسیر فی قوله: ما أحاط به الشعر.

فهذا الخبر قرینة علی کون المقصود من الشعر، هو الواقع فی الوجه، لا الیدین ، مضافاً إلی أنّه هو المتعارف من کونه من التابع دون الیدین، وهو کما عن السیّد فی «الروائع» ، فضلاً عن مناسبة لفظ الجریان مع الوجه، کما عن الشیخ الأنصاری.

وقد جاء فی «مصباح الهدی» توضیح کلام الشیخ بقوله: بأنّ عموم الموصول مثل قوله: ما أحاط، یمکن شموله للغسل والمسح، لعدم صدق الجری فی الثانی، فیختصّ بالغسل، وفیه تردّد بین أن یشمل خصوص الوجه، أو هو مع الیدین؟،


1- وسائل الشیعة: الباب 46، أبواب الوضوء، الحدیث 2.
2- وسائل الشیعة: الباب 17، أبواب الوضوء، الحدیث 1.

ص:384

قال : لیس الثانی بأولی من الاُولی ، ولکن الإنصاف عدم تمامیة کلامه، لوضوح أنّ حفظ العموم فی الموصول لکلا الغسلین من حیث هو أولی ، إلاّ أنّه یمکن أن

یکون مقصود الشیخ من جهة مناسبة ذکر الجری، هو ظهور هذا اللفظ فیما کان واقعاً فی الجهة الفوقانیة وجری علیه الماء إلی غیره، فکأنّه فی الوجه ذلک کان أولی من الید، فهو مناسب للوجه لا الیدین .

وکیف کان فإنّ هذه الخصوصیة لم تکن بحیث یوجب الاطمئنان للفقیه، بخلاف خصوصیة تذیّله فی ذلک الصدر من الوجه فإنّه لا یبعد ذلک.

إلاّ أنّه یمکن أن یُجاب عنه أیضاً: بأنّ السؤال فی ذهن السائل وإن کان عن الوجه، إلاّ أنّ عموم الجواب المستفاد من لفظ (کلّ ما أحاط به الشعر) یفید العموم، وإفهام أنّه لا خصوصیّة للوجه فقط ، بل یشمل کلّ ما یکون مستوراً به ، غایة الأمر یخرج المسح بواسطة قرینة جری الماء علیه، حیث أنّه یدلّ علی کون مورده الغسل لا المسح، فیکون حکم الیدین بالنسبة إلی البشرة کالوجه، فلایجب غسله .

بل قد یستشعر عدم الوجوب للیدین أیضاً من خبر زرارة المروی فی «الفقیه» بقوله: «ولا ترد الشعر فی غسل الیدین»(1) الحدیث .

بل وحدیث صفوان نقلاً عن «تفسیر العیاشی» کما جاء فی «المستدرک»: «قلت : یرد الشعر ؟ (أی فی الید المستفاد من مفهوم الجملة السابقة) قال : إذا کان عنده آخر فعل وإلاّ فلا»(2).

فهذان الحدیثان وإن کان بحسب ظاهرهما الأوّلی، کون المقصود عدم جواز غَسل الید منکوساً کما هو المتعارف عند العامّة ، ولکن یمکن أن نستشعر من


1- من لا یحضره الفقیه: الباب 10 ، ح 1.
2- مستدرک الوسائل: أحکام الوضوء، الباب 18 ، ح 2.

ص:385

عدم وجوب تخلیل الشعر وتبطینه للماء، کفایة شمول الماء لظاهر الشعر، فیتّحد مع مضمون حدیث زرارة عن أبی جعفر علیه السلام : «قال : لیس المضمضة والاستنشاق فریضة ولا سنّة، إنّما علیک أن تغسل ما ظهر»(1).

حیث حکم بوجوب غسل الظاهر فقط.

ولکن الإنصاف عدم ظهور هذا الخبر وما سبقه، علی کفایة غسل الشعر فقط، لأنّ ظاهر الخبرین السابقین فی عدم ردّ الشعر هو النهی عن ذلک ، ومن المعلوم أنّ المراد لو کان هو التخلیل والتبطین، لما کان ذلک حراماً، بل غایته عدم الوجوب ، اللّهم إلاّ أن یکون المراد هو النهی فی مقام توهّم الوجوب، فیفید الجواز، وهو غیر بعید .

وأمّا الجواب عن الخبر الأخیر، فنقول : إنّ المقصود من وجوب غسل الظاهر، هو الذی یقابل الباطن والجوف، لا المقابل للمستور، بقرینة المذکور فی صدره من ذکر المضمضة والإستنشاق .

فأحسن خبر یمکن أن یستکشف منه المدّعی، هو حدیث زرارة بروایة الشیخ أو الصدوق، مع ما ذکرنا من التوجیه فی العموم .

وأمّا خبر ردّ الشعر، حیث أنّه بقرینة خبره الثانی یفید کونه فی مقام بیان التبعیة، وذلک بقوله : «وإن کان آخر فعل»، وإلاّ فلا یفهم منه کون المراد منه هو احتمال عدم تجویز النکس لا التخلیل، کما قلناه .

ولکن الأحوط مع ملاحظة الإجماع بکلا قسمیه _ لمعروفیة أسماء المخالفین وأشخاصهم حیث لا تضرّ مخالفتهم، فضلاً عن شذوذ قولهم _ ، ومقتضی الأدلّة الأوّلیة منضمّاً بما یؤیّده من حسنة زرارة بقوله : «لیس له أن یدع شیئاً من یدیه إلی المرفقین إلاّ غسله»(2).


1- وسائل الشیعة: الباب 29، أبواب الوضوء، الحدیث 6.
2- وسائل الشیعة: الباب 15، أبواب الوضوء، الحدیث 3.

ص:386

والخبر الذی رواه الشیخ مرسلاً بقوله: «وقوله علیه السلام : إذا مسّ جلدک الماء فحسبک».

بل وتفید قاعدتی الاستصحاب والاشتغال القول بوجوب غسل الشعر

والبشرة فی الیدین، فیظهر من ذلک حکم وجوب غسل الشعر الخفیف، من جهة مساعدة فهم العرف فی لزوم غسل الشعر مطلقاً، مع ندرة خروج الشعر عن التابعیة فی الید دون الوجه، حیث کان بملاحظة اللحیة أمراً کثیراً متعارفاً .

ص:387

الفرض الرابع مسح الرأس

اشارة

الواجب فیه ما یسمّی به مسحاً، والمندوب مقدار ثلاث أصابع عرضاً (1).

(1) لا إشکال ولا خلاف عندنا بحسب دلالة الکتاب _ ولو بإعلام الإمام علیه السلام وقیام الإجماع هنا علی کفایة المسح ببعض الرأس، وعدم وجوب جمیعه کما علیه بعض العامّة ، بل ولا یجوز لو أتی به بقصد الورود والتشریع لا بقصد آخر، فإنّه جائز ولو کان منضمّاً مع المسح الواجب، لعدم وجود دلیل علی عدم الجواز کذلک .

فی کفایة المسح ببعض الرأس

والدلیل علیه هو صحیح زرارة: «قال: قلت لأبی جعفر علیه السلام : ألا تخبرنی من أین علمت وقلت إنّ المسح ببعض الرأس وبعض الرجلین ؟

فضحک، فقال : یا زرارة قال رسول اللّه صلی الله علیه و آله ونزل به الکتاب من اللّه عزّوجلّ، لأنّ اللّه عزّوجلّ قال : «فَاغْسِلُوا وُجُوهَکُمْ» فعرفنا أنّ الوجه کلّه ینبغی أن یغسل ، ثمّ قال : «وَأَیْدِیَکُمْ إِلَی الْمَرَافِقِ» فوصل الیدین إلی المرفقین بالوجه، فعرفنا أنّه ینبغی لهما أن یغسلا إلی المرفقین ، ثمّ فصل بین الکلام، فقال : «وَامْسَحُوا بِرُءُوسِکُمْ»، فعرفنا حین قال برؤوسکم، أنّ المسح ببعض الرأس، لمکان الباء، ثمّ وصل الرجلین بالرأس، کما وصل الیدین بالوجه، فقال : «وَأَرْجُلَکُمْ إِلَی الْکَعْبَیْنِ»، فعرفنا حین وَصَلهما بالرأس، أنّ المسح علی بعضهما (بعضها)، ثمّ فسّر ذلک رسول اللّه صلی الله علیه و آله للناس فضیّعوه»(1) الحدیث . حیث أنّه یدلّ علی کون المسح ببعضه لا بجمیعه، مضافاً إلی خبر آخر لزرارة وبکیر،


1- وسائل الشیعة: الباب 23، أبواب الوضوء، الحدیث 1.

ص:388

فی حدیثٍ: (وإذا مَسَحت شیء من رأسک أو شیء من قدمیک»)(1) الحدیث .

مضافاً إلی ظهور أخبار اُخر، مثل الخبر المروی عن حمّاد بن عیسی حیث أمره الإمام بإدخال یده من تحت العمامة ومسح مقدّم رأسه(2).

ولعلّ مراد الإمام علیه السلام بقوله: «فضیّعوه»، باعتبار مقدار أصل المسح، حیث عوّضوا البعض بالجمیع، أو کان المقصود من جهة تعویض تعیین موضع المسح من مقدم الرأس إلی جمیعه، والظاهر هو الأوّل ، والمراد من قوله علیه السلام : «ثمّ فسّر ذلک..»، لا یبعد أن یکون بهذا اللحاظ کما عرفت، أی بأن یکون المسح بالبعض لا بالجمیع .

ولکن لا یبعد حینئذٍ أن یکون المقصود، بأنّ البعض لو لم یستفد من الباء بخصوصه، لا أقلّ یکون هو المقصود هنا حقیقةً أو مجازاً ، فحینئذٍ لا یکون القول بعدم ورود الباء للتبعیض حقیقة أمراً منکراً شدید الإنکار، من جهة کون ذلک یعدّ تفسیر رسول اللّه صلی الله علیه و آله النازل من اللّه تعالی، لأنّه صلی الله علیه و آله وسلم «مَا یَنْطِقُ عَنِ الْهَوَی* إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْیٌ یُوحَی* عَلَّمَهُ شَدِیدُ الْقُوَی» .

لأنّه لولا تفسیر الرسول وبیان الإمام علیه السلام ، کان لاحتمال کون الباء للإلصاق غیر بعید، لأنّ المسح یکون من الأفعال التی قد یتعدّی بنفسه، فیقال: مسحته، وقد یتعدّی ب_ علی فیتضمن فعله حینئذٍ معنی الإمرار علیه، کما ورد فی خبر زرارة من قوله علیه السلام : «امسح علی المرارة» . وقد یتعدّی بالباء، فیتضمّن معنی المرور به، کما یقال : «مسحتُ یدی برأس الیتیم» .

ففی «کنز العرفان»: أنّه إذا وردت الباء، فیتضمّن الفعل معنی الإلصاق لا أن یکون الباء بمعنی التبعیض، وقرّبه الشیخ لیس علی ما هو علیه، لإمکان أن یقال


1- وسائل الشیعة: الباب 24، أبواب الوضوء، الحدیث 4.
2- وسائل الشیعة: الباب 24، أبواب الوضوء، الحدیث 1.

ص:389

بعدم المنافاة من أنّ الباء مشتملة علی إفهام شیئین، من کون الفعل متضمّناً

للإلصاق، وکونه للتبعیض، فیفهم الإلصاق بالبعض لا جمیع الممسوح .

کما أنّ ما استظهره الشیخ بعدم کونها للتبعیض من جهة خبر زرارة الوارد فیه قوله: «وإذا مسحت بشیء من رأسک»، ولا یخفی أنّ الباء فی قوله : «بشیء من رأسک أو بشیء من قدمیک» لیس للتبعیض، لأنّ الممسوح شیء منهما، إذ لیس المراد بعض البعض.

واحتمال إرادته للمبالغة من جهة کفایة المسمّی، بأنّ یراد أنّ بعض فرض الرأس یکفی بعضه.

بعیدٌ جدّاً ، ولیس بوجیه أوّلاً : لإمکان أن یفهم من هذه الجملة المحفوفة بالقرینة من لفظ الشیء، عدم کونها للتبعیض، وهذا لا تدلّ علی عدم ورودها فی غیرها أیضاً .

وثانیاً : إمکان أن یکون المستفاد منه، هو إفهام بعض البعض وهو کفایة المسمّی، کما هو محلّ البحث، ولیس ببعید، فلا یکون حینئذٍ للمبالغة، لأنّه قد استعمل کلّ بعض لإفهام خصوصیة الخصوصیة من کفایة بعض الرأس لا الجمیع، وکفایة المسمّی فی البعض لا استیعابه تمام البعض .

فظهر من جمیع ما ذکرنا أنّ الباء، إمّا أن تکون وردت للتبعیض، کما وردت للإلصاق والاستعانة أیضاً کما ادّعاه ابن جنّی، وابن مالک، وابن هشام، وغیرهم کما هو الأقوی، المستفاد من الحدیث، فیکون بیان الإمام وتفسیر رسول اللّه صلی الله علیه و آله حینئذٍ قرینة معیّنة لإفهام هذا الفرد من الحقیقة .

وإلاّ کانت مجازاً فی التبعیض هنا، وکلام الإمام یکون قرینة صارفة عن معناها الحقیقی ، وفاقاً لسیبویه والعلاّمة و«کنز العرفان»، وقد مال إلیه الشیخ الأنصاری قدس سره ، فالمسألة واضحة إن شاء اللّه .

فرع: وقع الخلاف فی مقدار الواجب من المسح فی الرأس، علی أقوال

ص:390

خمسة أو ستّة : القول المشهور وهو کفایة المسمّی، ففی «التبیان» أنّه مذهبنا ،

وعن «مجمع البیان» و«آیات الأحکام» للأردبیلی الإجماع علیه ، وفی «التنقیح» أنّه مذهب أصحابنا، وهو الذی علیه المصنّف هنا .

وفی «المعتبر» و«النافع» والعلاّمة فی «التحریر» و«القواعد» و«المنتهی» و«الإرشاد» و«اللمعة» و«الروضة» و«الجمل» و«العقود» و«السرائر»، وظاهر «جامع المقاصد» وکثیر من المتأخّرین کالسیّد فی «العروة» وجمیع أرباب التعالیق علیها .

فی المقدار الواجب من مسح الرأس

قول آخر: للشیخ الطوسی والمفید وابن أبی عقیل، اعتبار أن لا یکون أقلّ من عرض الاصبع .

قول ثالث للصدوق، وحُکی عن مسائل خلاف السیّد المرتضی، اعتبار أن لا یکون أقلّ من ثلاث أصابع .

قول رابع: هو التفصیل بین حال الاختیار بوجوب ثلاثة أصابع، والاضطرار کفایة الاصبع، وهو المحکیّ عن «نهایة» الشیخ، بل واحتمال تفصیل فی المرأة بین صلاة الغداة والمغرب فثلاث أصابع، وفی غیرهما باصبع .

قول خامس: عن الإسکافی من التفصیل فی المرأة بثلاث أصابع والرجل باصبع واحد.

ومنشأ هذه الاختلافات هو اختلاف نصوص الأخبار وکیفیّة الاستنباط منها، فلا بأس بذکر أدلّة القول الأوّل، وهو کفایة المسمّی فإن تمّت فإنّه یجب حینئذٍ ملاحظة ما یعارضها من الأخبار، فنقول : یستدلّ علیه بما رواه زرارة فی تفسیر الآیة بقوله فی حدیث: «فعرفنا حین قال : برؤوسکم أنّ المسح ببعض الرأس لمکان الباء»(1) الحدیث .


1- وسائل الشیعة: الباب 23، أبواب الوضوء، الحدیث 1.

ص:391

وکان سند الحدیث بطرق الصدوق صحیحاً وبطریق الکلینی حسناً .

وما رواه زرارة وبکیر بسند صحیح عن الباقر علیه السلام فی حدیث : «وإذا مسحت بشیء من رأسک أو بشیء من قدمیک ما بین کعبیک إلی أطراف الأصابع فقد أجزأک»(1) .

فإنّ إطلاق البعض یصدق مع المسمّی أیضاً، فبذلک کانت الآیة بإطلاقها شاملة لمثل المسمّی .

مع أنّ إطلاق کلام الإمام بقوله: «بشیء من رأسک»، من دون ذکر مقداره فی هذا الخبر، وذکر لفظ الإجزاء فی ذیله لا یناسب لو کان مقصوده علیه السلام أزید من المسمّی ، بل یمکن دعوی کون الأخبار المشتملة علی مقدار الاصبع أیضاً کان بلحاظ أنّه الغالب فی تحقّق المسمّی، أو کان الغالب فی التعبیر بالأقلّ هو الاصبع فیستدلّ بها لذلک، وهو مثل مرسلة حمّاد بن عیسی عن بعض أصحابه عن أحدهما علیه السلام : «فی الرجل یتوضّأ وعلیه العمامة ؟ قال : یرفع العمامة بقدر ما یدخل اصبعه فیمسح علی مقدم رأسه »(2).

وخبر حمّاد عن الحسین قال : «قلت لأبی عبداللّه علیه السلام : رجل توضّأ وهو معتمّ، فثقل علیه نزع العمامة لمکان البرد ؟ فقال : لیدخل اصبعه»(3) .

وخبر الحسین بن عبداللّه، قال : «سألت أبا عبداللّه علیه السلام عن الرجل یمسح رأسه من خلفه وعلیه عمامة باصبعه أیجزیه ذلک ؟ فقال : نعم»(4) .

وهناک خبرٌ آخر رواه العیّاشی عن زرارة وبکیر تارةً(5) ، واُخری عن زرارة


1- وسائل الشیعة: الباب 23، أبواب الوضوء، الحدیث 4.
2- وسائل الشیعة: الباب 24، أبواب الوضوء، الحدیث 1.
3- وسائل الشیعة: الباب 24، أبواب الوضوء، الحدیث 3.
4- وسائل الشیعة: الباب 22، أبواب الوضوء، الحدیث 4.
5- مستدرک الوسائل: أبواب الوضوء، الباب 15 ، ح 3.

ص:392

فقط، وهو: «... فإذا مسح بشیء من رأسه وبشیء من قدمیه ما بین أطراف الکعبین إلی أطراف الأصابع فقد أجزأه»(1) الحدیث .

ولا یخفی علیک أنّ فی دلالة الخبرین الأوّلین مع اعتبار سندهما کفایة علی إثبات المطلب، وهو کفایة المسمّی.

ولا یرد علیهما ما یمکن أن یرد فی الأخبار الاُخر، مع إمکان الجواب عن ما أورد فیهما أیضاً، مثل ما قیل فی خبر حمّاد بن عیسی بأنّ رفع العمامة لمسح قدر الاصبع، لعلّه کان المقصود هو لزوم کون المسح بقدر الاصبع عرضاً أو طولاً فی الرأس، فعلیه حینئذٍ لا یکون الخبر مربوطاً بکفایة المسمّی .

ویرد علیه: بأنّ الاصبع قد یکون عرض سطحه أزید ممّا یماسّ مع الرأس للمسح ، مع أنّه قد یکون المسح برأس الانملة، فیناسب مع المسمّی أیضاً، فالتعبیر بذلک کان من جهة کون الغالب وقوع المسمّی به، أو یکون هو الأقلّ لما یقع بحسب الغلبة بذلک، فلا ینافی حینئذٍ مع المسمّی .

ونوقش فیهما أیضاً: بأنّ هذا الحدیث لیس فی صدد بیان ما هو اللازم فی مقدار المسح، حتّی یستفاد منه کفایة المسمّی، بل کان فی مقام بیان أنّ رفع العمامة لابدّ أن یکون بمقدار بحیث یدخل الاصبع ، وأمّا بعد دخوله، هل لابدّ أن یکون بمقدار عرض الاصبع فی عرض الرأس أو طول الرأس، أو یکفی المسمّی فلا دلالة فیه، فإذا لم یکن فی مقام الإطلاق فیسقط عن الاستدلال، وهو المطلوب.

ومثل هذه المناقشة لا تختصّ بخبر حمّاد بل هی جاریة فی خبر الحسین بن عبداللّه أیضاً.

ولکن الإنصاف أنّه لو کان یشترط فی المسح زیادة علی ما هو المتعارف من المسح، للزم أن ینبّه علیها، إذ من المعلوم أنّ فهم اعتبار مقدار ثلاث أصابع، أو


1- مستدرک الوسائل: أبواب الوضوء / الباب 15 ، ح 4.

ص:393

مقدار عرض سطح کامل للاصبع من عرض الرأس أو طوله من هذه الجملة ، مع وفقه لمثل المسمّی أیضاً، کما یستفاد ذلک من إطلاق الآیة والخبرین الآخرین لزرارة، بل خبر زرارة علی ما نقله «المستدرک» من «تفسیر العیّاشی» وغیره کان

فی غایة الإشکال، مع أنّ نهایة الأمر هو مجیء الاحتمال لأحد من الاحتمالات المذکورة، فإذا جاء الاحتمال بطل الاستدلال لکفایة المسمّی عن مثل ذلک، کما لا یمکن أن یکون هو دلیلاً للقائل بلزوم الاصبع، کما ذهب إلیه الشیخ الطوسی والمفید .

فما وقع فی «المقنعة» من القول بکفایة الأقلّ من الاصبع، وإن کان ظاهراً من طبیعة الحکم، إلاّ أنّ السنّة قد منعت من ذلک .

فی غیر محلّه، لما قد عرفت من عدم وجود دلیل یدلّ ظهوراً علی کفایة الاصبع لوجود الاحتمالات فیها .

وممّا یمکن أن یرد علی خبر الحسین بن عبداللّه هو کونه وارداً فی مقام الضرورة، بقوله : «فثقل علیه نزع العمامة لمکان البرد» ، وبناءً علی هذا فصّل الشیخ فی «النهایة» وذهب إلی کفایة الاصبع الواحد فی حال الضرورة وثلاث أصابع فی حال الاختیار .

مع أنّه أیضاً مندفع أوّلاً : بأنّ الضرورة المسقطة لحکم الواجب فی المسح مثل ثلاث أصابع _ لو قلنا بها_، أو لزوم الاصبع _ من جهة صدق المسمّی وسقوط الأزید منه ضرورة _ غیر مکشوف فیه لأنّ لفظ الثقیل یساعد مع الکلفة فی الجملة لا العسر والحرج، حتّی یفهم الضرورة .

وثانیاً : بما فی «المستمسک» من أنّ الضرورة لو کانت، فأیّ فرق فی دخول إصبع واحد أو ثلاث بعد رفع العمامة لأنّه إذا رفعها کما یدخل اصبع واحد تحت العمامة هکذا تدخل الثلاث فلا ضرورة لخصوص الاصبع ، ولکنّه غیر وارد، لإمکان أن یکون رفع العمامة فی الثلاث أزید من الاصبع الواحد، فلعلّه أراد رفع ذلک الکلفة بالاکتفاء بما یدخل الاصبع ، فظهر أنّ القول بالتفصیل لیس فی محلّه،

ص:394

لمکان المقصود، ولتسهیل الأمر علیه، بأنّ المسح لیس إلاّ بالمسمّی، وهو یحصل بالاصبع ولو برأس الانملة مثلاً، ولذلک أرشده به.

ولو أبیت عنه، فنهایته سقوط الاستدلال عنه بما عرفت .

وأمّا خبر الحسین بن عبداللّه، فلعلّه ناظر للسؤال عن المسح بالرأس من جهة دخول الاصبع من خلف الرأس، فیکون المسح لمقدم الرأس.

إلاّ أنّه مخالفٌ لما هو المتعارف من المسح بالأعلی إلی قصاص الشعر، فیکون الخبر دلیلاً علی جواز المسح منکوساً .

أو کان المراد من السؤال هو المسح لخلف الرأس فی قبال مقدم الرأس بأن یکون بعض الرأس شاملاً لمثله أیضاً .

وکیف کان، لا یکون موضوع السؤال والجواب بالاجزاء مربوطاً بما نحن بصدده من کفایة المسمّی، أو لزوم الأزید منه من الاصبع .

غایة الأمر، لو قلنا بارتباطه من جهة الاصبع أیضاً، فیرجع الکلام فیه إلی ما قلناه فی الخبرین الآخرین من الوجوه الأربعة المحتملة، کما لا یخفی، فیسقط الاستدلال فلا تکون هذه الأخبار معارضة لما ادّعیناه .

وممّا یحتمل معارضته لما اخترناه، ما یدلّ علی لزوم کون مسح الرأس بثلاث أصابع، وهو صحیح أو حسنة زرارة قال : «قال أبو جعفر علیه السلام : المرأة یجزیها من مسح الرأس أن تمسح مقدمه قدر ثلاث أصابع، ولا تلقی عنها خمارها»(1) .

وقد عمل بمضمون هذا الخبر الصدوق وغیره .

لکنّه مخدوش أوّلاً : بأنّه وارد فی خصوص المرأة دون الرجل، وإلحاق الرجل بها بعدم القول بالفصل غیر جارٍ هنا، لوجود الفصل، کما نُقل عن أبی علیّ بن الحکم بالاصبع فی الرجل والثلاث فی المرأة .


1- وسائل الشیعة: الباب 24، أبواب الوضوء، الحدیث 3.

ص:395

وثانیاً : إنّ مضمونه غیر موافق لفتوی أحد من الأصحاب حتّی الصدوق نفسه ، لأنّه یقول بالمسح بخصوص نفس ثلاث أصابع مضمومة، لا بقدرها التی یوافق مع اصبع واحد مودّیاً الذی کان فی الحدیث، فیکون مضمون هذا الخبر ممّا

أعرض عنه الأصحاب من حیث الوجوب لا الاستحباب .

وأمّا احتمال کون المقصود هو عدم إبقاء الخمار فی المسح، کما حمله علیه الآملی، فغیر وجیه، لأنّه مشتمل علی حکمین، إلاّ أنّ الثانی منهما وهو عدم إلقاء الخمار یکون متفرّعاً علی الأوّل، وهو المسح بثلاث أصابع، فلایصحّ أن یجعل عدم إلقاء الخمار أصلاً، والمسح فرعاً، کما لایخفی .

ولکن الظاهر کون الاجزاء هاهنا فی قبال الأقلّ منه، أی تجزئ فی المرأة أن تزید فی المسح إلی أن تبلغ إلی قدر ثلاث أصابع، فلا ینافی حینئذٍ جواز المسح بالأقلّ مثل المسمّی والاصبع مثلاً ، لا الأکثر، لأنّ وجوب المسح بالأزید من ثلاث مثل الکفّ بجمیعه فی الرأس لیس له قائل، حتّی یکون معنی الاجزاء هو الکفایة بالأقلّ منها، وهو ثلاث أصابع ، فلهذا لا یبعد أن یحمل ذلک علی الاستحباب جمعاً بینه وبین الأخبار السابقة ، مع أنّ الاستحباب لو کان ثابتاً بذلک، کان فی خصوص المرأة بمقتضی هذه الروایة، لا مطلقاً .

واستدلّ بخبر آخر وهو خبر معمّر بن عمر عن أبی جعفر علیه السلام ، قال : «یجزئ من المسح علی الرأس موضع ثلاث أصابع وکذلک الرجل (الرجلین)»(1) .

وهو مخدوش أوّلاً : بضعف سنده بمعمّر بن عمر، حیث لم یوثّقه أحد ، وثانیاً : نوقش فی دلالته لمخالفته مع فتوی الأصحاب، حتّی الصدوق، کما عرفت ، وثالثاً : انضمام الرِجْل إلی الرأس حیث لم یفت بذلک فیهما أحدٌ من الفقهاء إلاّ القول الذی حکاه ناسباً إیّاه إلی بعض من لا یعتدّ به.


1- وسائل الشیعة: الباب 24، أبواب الوضوء، الحدیث 5.

ص:396

غایة الأمر بعدما عرفت من کون الاجزاء فی مقابل الأقل لا الأزید، یکون الجمع بینه وبین الأخبار هو الحمل علی الاستحباب، کما لایخفی.

ومثله الخبر الذی رواه فی «المستدرک» نقلاً عن الکشی عن یونس، قال:

«قلت لحریز یوماً یا أبا عبداللّه کم یجزیک أن تمسح من شعر رأسک فی وضوءک للصلاة ؟ قال : بقدر ثلاث أصابع، وأومی بالسبابة والوسطی والثالثة، وکان یونس یذکر عنه فقهاً کثیراً» (1).

وممّا ذکرناه یظهر الجواب عن بعض من اختار التفصیل بین الصلوات بملاحظة نصوص الأخبار مثل خبر الصدوق الذی نقله النوری فی «المستدرک» عن «الخصال» بسنده عن جابر الجعفی عن أبی جعفر علیه السلام ، قال : «المرأة لا تمسح ما تمسح الرجال، بل علیها أن تلقی الخمار عن موضع مسح رأسها فی صلاة الغداة والمغرب وتمسح علیها، وفی سائر الصلوات تدخل اصبعها فتمسح علی رأسها، من غیر أن تلقی عنها خمارها»(2) .

فی المراد من المسح بثلاث أصابع

لعدم علمنا بحکم مسح الرأس فی المرأة فی صلاتی الغداة والمغرب، هل هو المسمّی لو قلنا فی الرجال بذلک، أو بثلاث أصابع فتکون المرأة فی خلافه، أو کان المقصود هو إفهام التفاوت مع الرجال من جهة إلقاء الخمار للنساء دونهم؟ لکنّه بعید ، هذا، وقد ذهب العلاّمة والشهید والمحقّق فی هذا الخبر علی تأکّد المسح بثلاث أصابع فی النساء لصلاتی الغداة والمغرب، وأمّا صاحب الجواهر علی تأکّد الترتیب من الصبح أوّلاً ثمّ المغرب ثمّ سائر الصلوات .

وکیف کان، فلا إشکال عندنا فی ثبوت استحباب المسح بثلاث أصابع سواء کان فی الرِّجال أو النساء، دون الوجوب .


1- مستدرک الوسائل: أبواب الوضوء، الباب 22 ، ح 1.
2- مستدرک الوسائل: أبواب الوضوء، الباب 22 ، ح 2.

ص:397

غایة الأمر یکون الحکم المذکور فیهنّ أقوی، خصوصاً للصلاتین، عملاً بمفاد جمیع هذه الأخبار، وأنت تری أنّ المصنّف أیضاً قال به عَرَضاً بقوله: بقدر ثلاث أصابع .

فرع: ثمّ لو قلنا بحکم المسح بثلاث أصابع وجوباً أو استحباباً، فهل المراد هو عرض نفس الأصابع، أو مقدارها ولو باصبع واحدة، أو عرض الممسوح وهو

الرأس، بأن یکون مقدار عرض الممسوح ثلاث أصابع، أو أنّ المقصود طول الأصابع الثلاث؟ وجوه: والشیخ الأنصاری قدس سره مال إلی کون المراد هو عرض الممسوح أو الأعمّ منه وغیره .

کما أنّ الأکثرین ذهبوا إلی الأوّل، کما علیه الآملی، خلافاً لظاهر کلام المصنّف و«الجواهر» کما هو المنصور عندنا، من أنّ المراد هو مقدار ثلاث أصابع عرضاً أی عرض الماسح لا الممسوح، مع ملاحظة عرض الممسوح أیضاً بذلک القدر، وفی طول الممسوح بما یوجب صدق مسمّی المسح وإمرار الید، وذلک بلحاظ الجمع بین الخبرین والاعتبار المتعارف فی المسح .

فأمّا الخبران فهما خبر زرارة حیث ورد فیه : «أن تمسح مقدّمه قدر ثلاث أصابع»(1)، کما یوافق هذا المضمون مع ما هو الموجود فی خبر یونس حیث قال حریز له: بقدر ثلاث أصابع فیفهم من قوله إنّه قصد عرض الماسح ، والخبر الآخر هو لمعمّر بن عمر فقد ورد فیه قوله: «موضع ثلاث أصابع»(2) الظاهر فی کون المراد هو عرض الممسوح.

فمع انضمام الاعتبار فی المسح من وقوعه من الفوق بمرور الید بما یتحقّق به مسمّی المسح، یتمّ المطلوب، فعلی هذا یعمل بالاستحباب حتّی لو مسح بذلک المقدار علی النحو الخاص باصبع واحدة أو باصبعین مثلاً، وهو أمر متعارف عرفی.


1- وسائل الشیعة: الباب 24، أبواب الوضوء، الحدیث 3.
2- وسائل الشیعة: الباب 24، أبواب الوضوء، الحدیث 5.

ص:398

کما قد یؤیّد ما احتملناه أنّه قد اُضیف فی خبر معمّر الرِجل إلی الرأس، حیث لا إشکال فی الرجل من جهة الطول، وأنّه لابدّ من الاستیعاب، فلابدّ أن یلاحظه بالعرض، وکذلک یکون فی الرأس أیضاً، وهو الذی اختاره السیّد الاصفهانی قدس سره فی «الروائع» .

ثمّ لو قلنا بکون الواجب من المسح هو المسمّی، کما اخترناه، فیکون المسح

بثلاث أصابع مستحبّاً، لکنّه إذا أتی مع عمل واحد من المسح، یکون هذا أفضل أفراد الواجب، أی واجباً کان مشتملاً علی ذی المزیّة سواء کان العمل وقع دفعة أو تدریجاً وبلا فصل، لا أن یکون ذلک العمل مشتملاً علی امتثالین من واجب ومندوب، لأنّه خلاف المتفاهم العرفی منه، کما لایخفی .

ثمّ لو قلنا بوجوب المسمّی، واستحباب ثلاث أصابع، فما هو حکم الزائد عنهما، هل یعدّ حراماً أو مکروهاً أو مباحاً ؟

والظاهر عدم وجود دلیل علی الکراهة، کما علیه البعض، کما فی «الجواهر»، فیدور الأمر بین الحرمة والإباحة، فنقول: إن أتی بالزیادة من دون قصد زیادة وإدخال شیء فی الدین والشریعة، فلا حکم له، فیکون مباحاً، وإن أتی به بقصد التشریع، فیکون حراماً.

ولو نوی ذلک فی ابتداء العمل، فهل یوجب إفساد العمل أم لا ؟

والظاهر نعم، لو قلنا بأنّ غیر المسح عمل واحد ووقع دفعة .

وأمّا لو لم یکن کذلک، فقد یمکن القول بالصحّة، إلاّ أنّه خلاف الاحتیاط لکونه واقعاً فی عمل عبادی ، ومن هنا یظهر حکم نیّة التشریع فی الأثناء ، فالقول بالاحتیاط لا یخلو عن قوّة، خصوصاً مع ملاحظة وجود استصحاب الحدث عند الشکّ، وقاعدة الاشتغال للمحصِّل والمحصَّل، کما لایخفی .

ص:399

ویختصّ المسح بمقدم الرأس، ویجب أن یکون بنداوة الوضوء، ولا یجوز استئناف ماءٍ جدیدٍ له (1).

(1) لا إشکال ولا خلاف عند الفقهاء قدیماً وحدیثاً، فی لزوم وقوع المسح الواجب والمستحبّ علی مقدم الرأس، بل فی «الخلاف» و«کشف اللثام» الإجماع علیه، بل فی «الانتصار» أنّه بما انفردت به الإمامیة، خلافاً للعامّة، حیث لایوجبون ذلک .

فی محلّ المسح من الرأس

والدلیل علیه _ مضافاً إلی الإجماع بکلا قسمیه _ الأخبار المستفیضة المعتبرة: منها: خبر محمّد بن مسلم عن أبی عبداللّه علیه السلام قال : «مسح الرأس علی مقدمه»(1) ، مثله خبره الآخر»(2).

ومنها: خبر حمّاد بن عیسی عن بعض أصحابه عن أحدهما علیه السلام فی حدیثٍ قال : «یرفع العمامة بقدر ما یدخل اصبعه، فیمسح علی مقدم رأسه»(3) .

ومنها: علی احتمال خبر حسین بن عبداللّه، منها قال : «سألت أبا عبداللّه علیه السلام عن الرجل یمسح رأسه من خلفه وعلیه عمامة باصبعه أیجزیه ؟ فقال : نعم»(4) .

بناءً علی أن یکون المراد دخول الاصبع من خلف الرأس فی داخل العمامة، ووقوع المسح علی مقدم رأسه کما قلناه سابقاً ، بل الشیخ الطوسی احتمله أیضاً ، منها: خبر داود وزرارة عن الباقر علیه السلام ، فی حدیثٍ من حکایة وضوء رسول اللّه صلی الله علیه و آله : «ومسح مقدم رأسه»(5).


1- وسائل الشیعة: الباب 22، أبواب الوضوء، الحدیث 1.
2- وسائل الشیعة: الباب 22، أبواب الوضوء، الحدیث 2.
3- وسائل الشیعة: الباب 22، أبواب الوضوء، الحدیث 3.
4- وسائل الشیعة: الباب 22، أبواب الوضوء، الحدیث 4.
5- وسائل الشیعة: الباب 15، أبواب الوضوء، الحدیث 2.

ص:400

ورواه الصدوق مرسلاً، إلاّ أنّه قال : «وتمسح علی مقدم رأسه» .

منها: خبر زرارة قال : «قال أبو جعفر علیه السلام : المرأة یجزیها من مسح الرأس أن تمسح مقدمه قدر ثلاث أصابع»(1) ، الحدیث ، وغیر ذلک من الأخبار الدالّة علی هذا المعنی .

فبذلک تقیّد الأخبار المطلقة، التی دلّت بإطلاق علی کون المسح بالرأس کما فی الوضوءات البیانیة وغیرها، مثل خبر داود بن فرقد فی حدیثٍ عن الصادق علیه السلام : «وتمسح برأسک ورجلیک»(2) .

وخبر بکیر بن أعین فی حدیثٍ: «ثمّ مسح بفضل یدیه رأسه ورجلیه»(3).

وغیرهما ، وکذلک الأخبار التی تدلّ علی کون المسح (ببعض الرأس) من تفسیر الآیة، أو التعبیر (بشیء من رأسک)، مثل خبر زرارة بقوله فی حدیثٍ: «إنّ المسح ببعض الرأس لمکان الباء»(4).

وحدیث زرارة وبکیر فی حدیثٍ، بقوله : «وإذا مسحت بشیء من رأسک»(5).

ومثلها ما نقلناه عن «تفسیر العیاشی» سابقاً.

هذا، وقد وردت أخبار تفید أنّ المراد من البعض هو المقدم من الرأس لا مطلقاً، حتّی یشمل الجانبین، أو هما مع المؤخّر، فما دلّت علی کفایة المسح علی المؤخّر والمقدم تحمل علی التقیّة وتطرح مثل خبر أبی بصیر عن أبی عبداللّه علیه السلام : «فی مسح القدمین ظاهرهما وباطنهما...»(6).


1- وسائل الشیعة: الباب 24، أبواب الوضوء، الحدیث 3.
2- وسائل الشیعة: الباب 15، أبواب الوضوء، ح 1.
3- وسائل الشیعة: الباب 15، أبواب الوضوء، الحدیث 4.
4- وسائل الشیعة: الباب 23، أبواب الوضوء، الحدیث 1.
5- وسائل الشیعة: الباب 23، أبواب الوضوء، الحدیث 4.
6- وسائل الشیعة: الباب 23، أبواب الوضوء، الحدیث 7.

ص:401

وشواهد التقیة موجودة فیه، کما حمله الشیخ علیها.

ومثله خبر حسین بن أبی العلاء : «امسح الرأس علی مقدمه ومؤخّره»(1) ،

فالمسألة فی ذلک واضحة جدّاً .

والذی ینبغی أن یبحث عنه هو أنّه بعد الفراغ عن أنّ المسح یکون علی مقدم الرأس ولا یجزی غیره، هل المراد منه هو ربع الرأس الواقع فی سمت الجهة، أو المراد هو النصف المقابل، فیکون مقابله هو النصف الأخیر، کما احتمله بعض علی ما نقله السیّد فی «الروائع»، أو کان المراد منه هو خصوص الناصیة، وهی الشعر الواقع بین النزعتین إلی قصاص الشعر؟، وجوه وأقوال : والأقوی هو القول الأوّل، کما علیه المشهور، وجمیع المتأخّرین، خلافاً لظاهر «الفقیه» و«السرائر» و«المعتبر» و«التذکرة» وغیرها الذاهبین إلی القول الثالث ومستندهم علی ذلک هو تفسیر بعض أهل اللغة مثل «المصباح المنیر» والبیضاوی و«القاموس» _ وإن کان فی الأخیر کون الناصیة أحد معانی مقدم الرأس _ وبعض النصوص المصرّح فیها بالمسح علی الناصیة، مثل خبر زرارة فی حدیثٍ عن أبی جعفر علیه السلام «وامسح ببلّة یمناک ناصیتک»(2) الحدیث .

وخبر عبداللّه بن الحسین عن أبیه فی حدیثٍ عن الصادق علیه السلام : «وإذا کان الظهر والعصر والمغرب والعشاء تمسح بناصیتها»(3) .

ولکن الإنصاف أنّه إذا دار الأمر بین تقیید مطلقات مقدّم الرأس _ الذی کان مفهومه أوسع من الناصیة، فیجعل الأمر علی المسح بالناصیة باقیاً علی ظهوره من الوجوب _ وبین أن یتصرّف فی هیئة أمر هذین الخبرین، ویحمل علی


1- وسائل الشیعة: الباب 22، أبواب الوضوء، الحدیث 6.
2- وسائل الشیعة: الباب 15، أبواب الوضوء، الحدیث 2.
3- وسائل الشیعة: الباب 23، أبواب الوضوء، الحدیث 5.

ص:402

الاستحباب بالناصیة، کان الثانی أولی من الأوّل لجهات عدیدة : أوّلاً : لمساعدة فهم العرف، بأنّ مقدّم الرأس یکون مفهومه أوسع من الناصیة، وکان ذکرها فی بعض الموارد من جهة کون الغالب وقوع المسح علی الناصیة، لکونها فی متناول

یدی الماسح نوعاً ، ولعلّ تفسیر أهل اللغة بذلک، کان بملاحظة هذه الجهة .

وثانیاً : یفید ظاهر خبر عبداللّه بن الحسین أنّ المسح بجمیع الناصیة واجب علی المرأة، وهو خلاف الإجماع، بخلاف حمله علی الاستحباب، حیث لا إجماع علی عدم استحبابه.

وهذا منقول عن الشیخ فی «طهارته» وعن الآملی، لکنّه لا یخلو عن تأمّل، لأنّه قد عرفت منّا سابقاً أنّ القائل بالاستحباب لا یقول بأزید من ثلاث أصابع، فعدم القول بغیره یدلّ علی وجود الإجماع فیه ، مع أنّ المسح علی الناصیة یمکن أن یکون المراد هو الأعمّ، بحیث یشمل بعضها، لا أن یکون خصوص الجمیع مراداً، فهذا الإشکال غیر وارد .

وثالثاً : برغم صحّة سند خبر زرارة، إلاّ أنّه حیث کان قبله مشتملاً علی الحکم المتعلّق بمقدم الرأس، ثمّ إنّ فعل الإمام کان حکایة عن عمل جدّه، ثمّ ورد ذاک الحکم فی ذیله، یفهم أنّه کان من جهة بیان لزوم کون مسح المقدم ببلّة الیمنی، لا لزوم وقوع المسح بالناصیة حتّی یعارض تلک المطلقات .

وأمّا خبر الحسین، فإنّه مضافاً إلی عدم معلومیّة اعتبار سنده، أنّه لم نسمع بفقیه من أصحابنا أفتی بمضمونه من الوجوب والتفصیل بین صلاة الغداة وغیرها من الفرائض، فلابدّ من الحمل علی الاستحباب، کما علیه الفتوی .

ثمّ إنّه ذکر المحقّق قدس سره أنّ الواجب کون مسح الرأس بنداوة الوضوء، ولا یجوز الاستئناف بالماء الجدید ، فما ذکره یختصّ بصورة ما لو کان الإنسان فی حال الاختیار من وجود رطوبة الوضوء فی الید . وأمّا ما لو اضطرّ من جهة جفاف رطوبة الید فهو أمر آخر، إذ قد یمکن الذهاب فیه إلی جواز استعمال ماء آخر غیر نداوة

ص:403

الوضوء، کما یجوز الحکم بوجوب الأخذ من رطوبة الحاجب واللحیة، کما سیأتی .

فما ادّعاه المصنّف متّفق علیه بین فقهاء الإمامیّة، ولا خلاف فیه، إلاّ ما نسب للإسکافی، وبرغم ذلک فإنّ کلامه لا یفید الخلاف مطلقاً، بل ظاهر کلامه هو

صورة الاضطرار، وإلیک نصّ کلامه کما نقله «الجواهر» عن «المختلف» حیث قال: «إذا کان بید المتطهّر نداوة، یستبقیها من غسل یدیه ومسح بیمینه رأسه ورجله الیمنی، وبیده الیسری رجله الیسری، ولو لم یستبق ذلک أخذ ماءاً جدیداً لرأسه ورجلیه» انتهی کلامه .

فإنّ ذیل کلامه صریحٌ فیما قلناه ، فدعوی الاتّفاق فی صورة الاختیار لا یکون ببعید، مع أنّ مخالفته مع معلومیّة نسبه غیر قادح بالإجماع .

خلافاً للعامّة حیث یوجبون المسح بالماء الجدید، إلاّ مالک حیث جوّزه .

وکیف کان، فالدلیل علی المختار _ مضافاً إلی وجود الإجماع بکلا قسمیه _ هو إمکان الاستظهار من آیة الوضوء، بحسب ظهور فهم العرف، من کون المسح یکون بالرطوبة الباقیة فی الید، خاصّة وأنّ إثبات وجوب کون المسح بالماء الجدید، یعدّ مخالفاً لسیاق الآیة، لوضوح أنّه لو کان هذا المعنی لازماً، للزم التنبیه علیه فی الآیة، خاصّة وأنّ الآیة الشریفة بظهورها غیر مفیدة لإفهام جواز المسح بالماء الجدید، فعدمه دلیل علی عدم الوجوب.

وأمّا دلالة الآیة علی عدم الجواز فإنّ إثباته مشکل، إلاّ من جهة الظهور العرفی الذی قد عرفت وجوده فی الجملة .

کما أنّه یمکن الاستدلال علی القول المختار بدلالة الأخبار المستفیضة علیه، فلا بأس بالإشارة إلیها: منها: صحیح زرارة، عن أبی جعفر علیه السلام ، فی حکایة وضوء رسول اللّه صلی الله علیه و آله فی حدیثٍ: «ومسح مقدم رأسه وظهر قدمیه ببلّة یساره وتبعه بلّة یمناه»(1) الحدیث .

فی اعتبار کون مسح الرأس بنداوة الوضوء


1- وسائل الشیعة: الباب 15، أبواب الوضوء، الحدیث 2.

ص:404

لا یقال : إنّه کان لمسح الرجلین للإشارة إلیه بعدهما لا لمسح الرأس ، لأنّا نقول: إنّه مخدوش بوجهین : أوّلاً : بظهور لفظ التبعیّة، أنّه کان بعد مسح الرأس بالبلّة .

وثانیاً : إنّه لو کان قد مسح الرأس بالماء الجدید، فلا یمکن مسح الرجل بتلک الرطوبة، لاختلاطهما بالماء الخارج المضرّ للرجل علی الفرض ، فثبت أنّ مفروض الخبر کان فی مورد قد مسح الرأس بالرطوبة الباقیة، کما لایخفی .

ومنها: خبر زرارة وبکیر: «ثمّ مسح برأسه وقدمیه ببلل کفّه، لم یحدث لهما ماءاً جدیداً»(1) ، الحدیث .

ومنها: خبر بکیر بن أعین عن أبی جعفر علیه السلام ، فی حدیث: «ثمّ مسح بفضل یدیه رأسه ورجلیه»(2) .

ومنها : خبر عمر بن اُذینة عن الصادق علیه السلام ، فی حدیثٍ: «ثمّ امسح رأسک بفضل ما بقی فی یدک من الماء ورجلیک إلی کعبیک»(3) الحدیث .

ومنها : خبر زرارة عن الباقر علیه السلام ، فی حدیثٍ: «ثمّ یمسح بما بقی فی یده رأسه ورجلیه ولم یعدهما فی الإناء»(4) .

فإنّه مضافاً إلی الحکم بالمسح به، قد ذکر نفی العود إلی الماء الموجود فی الإناء .

ومنها : خبر محمّد بن مسلم عن الباقر علیه السلام ، فی حدیثٍ: «ثمّ مسح رأسه ورجلیه بما بقی فی یدیه»(5) .


1- وسائل الشیعة: الباب 15، أبواب الوضوء، الحدیث 3.
2- وسائل الشیعة: الباب 15، أبواب الوضوء، الحدیث 4.
3- وسائل الشیعة: الباب 15، أبواب الوضوء، الحدیث 5.
4- وسائل الشیعة: الباب 15، أبواب الوضوء، الحدیث 6.
5- وسائل الشیعة: الباب 15، أبواب الوضوء، الحدیث 7.

ص:405

منها : خبر أبی عبیدة الحذاء عن الباقر علیه السلام : «ثمّ مسح بفضلة الندی رأسه ورجلیه»(1) .

ومنها : خبر زرارة عن الباقر علیه السلام ، فی حدیثٍ: «ثمّ مسح ببقیة ما بقی فی یدیه رأسه ورجلیه ولم یعدهما فی الإناء»(2) .

ومنها : خبر بکیر وزرارة عن الباقر علیه السلام ، فی حدیثٍ: «ثمّ مسح رأسه وقدمیه إلی الکعبین بفضل کفّیه لم یجدّد ماءاً»(3) .

فدلالته علی المطلوب أوضح من بقیّة الأخبار .

ومنها: خبر أبی بصیر فی حدیثٍ: «فلیمسح رأسه من بلل لحیته»(4) .

بل قد یمکن الاستظهار لذلک، بالأخبار التی دلّت علی أخذ الماء من اللحیة والحاجب وأشفار العین، للمسح عند الجفاف أو النسیان، وهو مثل خبر خلف بن حمّاد عمّن أخبره عن الصادق علیه السلام ، قال : «قلت له : الرجل ینسی مسح رأسه وهو فی الصلاة ؟ قال : إن کان فی لحیته بلل فلیمسح به . قلت : فإن لم یکن له لحیة ؟ قال : یمسح من حاجبه أو أشفار عینیه»(5) .

ومن الواضح أنّه لو کان یجوز أخذ الماء من الخارج، لکان ینبغی ذلک فی مثل المورد، وبرغم ذلک لم یجوّز إلاّ الأخذ ممّا عرفت .

ومنها: خبر الحلبی عن الصادق علیه السلام ، فی حدیث: «ویکفیک من مسح رأسک أن تأخذ من لحیتک بللها إذا نسیت أن تمسح رأسک فتمسح به مقدم رأسک»(6) .


1- وسائل الشیعة: الباب 15، أبواب الوضوء، الحدیث 8.
2- وسائل الشیعة: الباب 15، أبواب الوضوء، الحدیث 10.
3- وسائل الشیعة: الباب 15، أبواب الوضوء، الحدیث 11.
4- وسائل الشیعة: الباب 21، أبواب الوضوء، الحدیث 9.
5- وسائل الشیعة: الباب 21، أبواب الوضوء، الحدیث 1.
6- وسائل الشیعة: الباب 21، أبواب الوضوء، الحدیث 2.

ص:406

ومنها: خبر زرارة عن الصادق علیه السلام : «فی الرجل ینسی مسح رأسه حتّی دخل فی الصلاة ؟ قال : إن کان فی لحیته بلل بقدر ما یمسح رأسه ورجلیه فلیفعل ذلک ولیصلِّ»(1) الحدیث .

وخبر مالک بن أعین عن الصادق علیه السلام ، قال : «من نسی مسح رأسه، ثمّ ذکر أنّه لم یمسح رأسه، فإن کان فی لحیته بلل فلیأخذ منه ولیمسح رأسه، وإن لم یکن

فی لحیته بلل فلینصرف ولیعد الوضوء»(2).

بل هو علی المطلوب أدلّ، لأنّه حکم بإعادة الوضوء فی صورة جفاف اللحیة، مع أنّه لو کان الماء الجدید موجوداً لما کان للحکم بالإعادة وجهٌ .

وقد نوقش فی دلالته بأنّه یمکن أن یکون الحکم بالإعادة من جهة فوات الموالاة بذلک، لا العدم جواز استعمال الماء الجدید .

لکنّه یرد علیه: بأنّه لو کان ذلک هو الوجه، فلا یکون ذلک منحصراً فی صورة الجفاف، بل یکون فوات الموالاة مبطلاً حتّی مع وجود البلل فی اللحیة .

اللّهم إلاّ أن یکون ذلک أمارة علی الجفاف المفوّت للموالاة، فلایفیدنا حینئذٍ.

منها: ومثله فی الدلالة والمناقشة والجواب الخبر الذی رواه الصدوق، قال : «قال الصادق علیه السلام : إن نسیت مسح رأسک فامسح علیه وعلی رجلیک من بلّة وضوءک، فإن لم یکن بقی فی یدک من نداوة وضوءک شیء، فخذ ما بقی منه فی لحیتک وامسح به رأسک ورجلیک، وإن لم یکن لک لحیة فخذ من حاجبیک وأشفار عینیک، وامسح به رأسک ورجلیک، وإن لم یبق من بلّة وضوءک شیء أعدت الوضوء»(3).


1- وسائل الشیعة: الباب 21، أبواب الوضوء، الحدیث 3.
2- وسائل الشیعة: الباب 21، أبواب الوضوء، الحدیث 7.
3- وسائل الشیعة: الباب 21، أبواب الوضوء، الحدیث 8.

ص:407

فإنّ الحکم بالإعادة عند عدم بقاء البلّة مطلقاً، أی سواء کان من جهة فوات الموالاة أو غیره، یدلّ علی المطلوب من کون وجه الحکم بالإعادة هو عدم وجود البلّة، فتأمّل فیه تظهر لک الحال ، منها: خبر أبی بصیر الوارد فی النسیان، حیث حکم الإمام علیه السلام بالمسح من بلل لحیته(1).

فمع استفاضة هذه الأخبار الدالّة علی ذلک، لا یبقی مجالٌ لما ذهب إلیه الإسکافی أو غیره من فقهائنا، لعدم وجود دلیل یدلّ علی ذلک، إلاّ دعوی وجود

إطلاق الآیة، وقد عرفت ظهورها فی خلافه، مع إمکان تقییدها بما قد عرفت من الأخبار ، التی کانت دلالة بعضها علیه مردودة، مثل خبر أبی بصیر، قال: «سألت أبا عبداللّه علیه السلام عن مسح الرأس ، قلت : أمسح بما علی یدی من الندی رأسی ؟ قال : لا ، بل تضع یدک فی الماء ثمّ تمسح»(2) .

وصحیح معمّر بن خلاّد قال : «سألت أبا الحسن علیه السلام : أیجزی أن یمسح قدمیه بفضل رأسه ؟ فقال : برأسه لا. فقلت : أبماء جدید ؟ فقال : برأسه نعم»(3) .

وخبر جعفر بن عمارة بن أبی عمارة قال : «سألت جعفر بن محمّد علیهماالسلام : أمسح رأسی ببلل یدی ؟ قال : خذ لرأسک ماء جدیداً»(4) .

فأمّا الخبر الثانی (وهو صحیح معمّر بن خلاّد) فلا یفیدنا، لأنّه خارج عمّا نحن بصدد ذکره، وهو مسح الرأس، لأنّ السؤال کان فیه عن مسح القدمین بفضل ما قد مسح الرأس به .

ولکنّه یفیدنا من جهة أنّه قد فرض فیه وجود البلة علی الرأس، هذا فضلاً عن صحّة سنده.

فی اعتبار کون مسح الرأس بالید


1- وسائل الشیعة: الباب 21، أبواب الوضوء، الحدیث 9.
2- وسائل الشیعة: الباب 21، أبواب الوضوء، الحدیث 4.
3- وسائل الشیعة: الباب 21، أبواب الوضوء، الحدیث 5.
4- وسائل الشیعة: الباب 21، أبواب الوضوء، الحدیث 6.

ص:408

وأمّا الحکم بلزوم استعمال ماء جدید فی مسح القدمین، فهو حکم آخر سیأتی الحدیث عنه فی محلّه بإمکان حمله علی التقیة، کما قد یؤیّد الحمل علی التقیة إشارة الإمام علیه السلام بالرأس فی الجواب عنه نفیاً وإثباتاً .

وهذا بخلاف الخبر الأوّل والثالث، حیث یکون موردهما لخصوص الرأس، إلاّ أنّ الإشکال فی سندهما من جهة ضعفهما وأنّهما غیر منجبرین بعمل الأصحاب .

بل قد یشتد ضعفه إعراض الأصحاب عنهما حتّی عن مثل ابن الجنید، إذ الأوّل منهما قد نهی عن المسح بالندی مع عدم وجود قائل به، وابن الجنید ذهب

إلی القول بالجواز لا الحرمة، کما أنّ الثانی منهما أیضاً قد أهمله الأصحاب من جهة الأمر بالأخذ من الماء الجدید، الظاهر فی الوجوب، فلم یلتزم به أحد.

فلابدّ إمّا من طرحهما، أو حملهما علی التقیة، والثانی أولی، کما لایخفی .

ثمّ لا یخفی علیک أنّ المستفاد من مضامین الأخبار الکثیرة، لزوم کون الماسح هو الید، هذا فضلاً عن الظهور العرفی المستفاد من قوله تعالی : «وَامْسَحُوا بِرُءُوسِکُمْ وَأَرْجُلَکُمْ إِلَی الْکَعْبَیْنِ»، لاسیّما مع تصدیرها بقوله : «فَاغْسِلُوا وُجُوهَکُمْ وَأَیْدِیَکُمْ إِلَی الْمَرَافِقِ» فإنّه یفهم کون المسح بالید، هذا فضلاً عن أنّ إطلاق لفظ المسح یبادر إلی الذهن کونه واقعاً بالید، کما لو قیل : امسح رأس الیتیم، فإنّ المتبادر منه هو کون المسح بالید .

ثمّ إنّ الأخبار المستفیضة تدلّ علی ذلک: منها: خبر زرارة بقوله : «ومسح مقدم رأسه وظهر قدمیه ببلّة یساره وبقیّة بلّة یمناه»(1) .

ومنها: خبر بکر بن أعین فی قوله : «ثمّ مسح بفضل یدیه رأسه ورجلیه»(2) .


1- وسائل الشیعة: الباب 15، أبواب الوضوء، الحدیث 2.
2- وسائل الشیعة: الباب 15، أبواب الوضوء، الحدیث 4.

ص:409

ومنها: خبر عمر بن اُذینة: «ثمّ امسح رأسک بفضل ما بقی فی یدک من الماء»(1) .

ومنها: خبر زرارة وبکیر: «ثمّ مسح رأسه وقدمیه إلی الکعبین بفضل کفّیه»(2) وغیر ذلک من الأخبار الواردة الدالّة علی الحکم المذکور.

ثمّ إنّه هل یجب کون المسح بالید الیمنی أم أنّه یستحب ؟

المشهور ذهبوا إلی استحباب ذلک ، بل نقل فی «الحدائق» الإجماع علی الاستحباب.

ولکن المحکی عن ظاهر الإسکافی، وعن بعض متأخّری المتأخّرین، بل فی «العروة» قال : الأحوط أن یکون بالیمنی، ووافقهم أصحاب التعالیق .

والذی یدلّ علیه صحیحة زرارة(3) التی مرّت الإشارة إلیها، فهی تدلّ علی المطلوب من جهتین: أحدهما: قوله : «ومسح مقدم رأسه وظهر قدمیه ببلّة یساره وبقیّة بلّة یمناه»، حیث أنّ ظهور لفظ (البقیة) لا یبعد أن یکون بلحاظ کون مسح القدمین بعد الرأس بالنسبة إلی الرجل الیمنی .

فی اعتبار کون مسح الرأس بمادون الزند

وثانیهما : قوله: «تمسح ببلّة یمناک ناصیتک»، حیث أنّه یوجب تقیید سائر المطلقات، خصوصاً مع صحّة سنده ، فالأحوط الذی لایترک هو وجوب المسح بالید الیمنی، کما علیه أکثر المتأخّرین، ومن هنا فإنّه یصعب إثبات إعراض الأصحاب.

ثمّ بعد الفراغ عن إثبات وجوب کون المسح بالید الیمنی، نقول: لا إشکال فی کون المسح لابدّ أن یکون بما دون الزند من الید، لأنّه المتعارف فی الأذهان، لکن البحث فی أنّ الوجوب منحصرٌ فی کونه بالکفّ، أو یجوز بالأصابع، أو یجوز وقوعه بأحدهما تخییراً، ولکن الأولی أن یکون بالأصابع وذلک بحسب فهم العرف.


1- وسائل الشیعة: الباب 15، أبواب الوضوء، الحدیث 5.
2- وسائل الشیعة: الباب 15، أبواب الوضوء، الحدیث 11.
3- وسائل الشیعة: الباب 15، أبواب الوضوء، الحدیث 2.

ص:410

وجوهٌ: هذا الأخیر هو الأقوی ، والوجه فی ذلک دلالة الأخبار علی جواز أحدهما، جمعاً بین أخبار الأصابع بقوله علیه السلام فی خبر حمّاد: «یرفع العمامة بقدر ما یدخل اصبعه فیمسح علی مقدم رأسه»(1) .

وخبر حسین بن عبداللّه بقوله: «عن الرجل یمسح رأسه من خلفه وعلیه عمامة باصبعه أیجزیه ذلک ؟ قال : نعم»(2) .

وخبر آخر للحسین بن عبداللّه فی حدیثٍ: «لیدخل اصبعه»(3).

وخبر زرارة فی حدیثٍ: «أن تمسح مقدمه قدر ثلاث أصابع»(4) .

وخبر معمّر بن عمر فی حدیثٍ: «یجزی من المسح علی الرأس موضع ثلاث

أصابع وکذلک الرجل»(5) .

کما وردت أخبار تفید کفایة المسح بالکفّ: منها: خبر بکیر وزرارة فی حدیثٍ: «ثمّ مسح رأسه وقدمیه إلی الکعبین بفضل کفّیه»(6).

منها: حدیث آخر لبکیر وزرارة بقوله : «ثمّ مسح رأسه وقدمیه ببلل کفّه لم یحدث لهما ماءاً جدیداً»(7) الحدیث .

فإنّ مقتضی الجمع بین الطائفتین من الأخبار، هو ما ذکرنا من أولویة استعمال الأصابع وذلک لکثرة الأخبار المشتملة، ومساعدة ظهور العرفی لذلک .

ثمّ إنّه هل یجب أن یکون المسح بباطن الکفّ والأصابع أم یجوز بها وبظاهرها ؟


1- وسائل الشیعة: الباب 22، أبواب الوضوء، الحدیث 3.
2- وسائل الشیعة: الباب 22، أبواب الوضوء، الحدیث 4.
3- وسائل الشیعة: الباب 24، أبواب الوضوء، الحدیث 2.
4- وسائل الشیعة: الباب 24، أبواب الوضوء، الحدیث 13.
5- وسائل الشیعة: الباب 24، أبواب الوضوء، الحدیث 5.
6- وسائل الشیعة: الباب 15، أبواب الوضوء، الحدیث 11.
7- وسائل الشیعة: الباب 15، أبواب الوضوء، الحدیث 3.

ص:411

الأقوی هو الأوّل، لأنّه المتبادر عند العرف من لفظ (المسح)، حیث إنّه ینصرف لدی الإطلاق إلی ما هو المعمول والمتعارف، فیعدّ ظهوراً عرفیاً وقد ثبت فی الأصول حجّیته.

فی اعتبار کون مسح الرأس بباطن الکفّ و الأصابع

وما قاله الشیخ الأنصاری قدس سره ، بأنّ التبادر فی مثل ذلک، کان لوجود الغلبة خارجاً، فلا یوجب رفع الید عن المطلقات . نعم ، لو أوجب الشکّ فیه فلابدّ من الاحتیاط الجاری فی مثل الصلاة .

فغیر سدید عندنا، لأنّه فرقٌ بین ما لو کان الانصراف من جهة غلبة الوجود وقلّته، وبین ما یکون من جهة الظهور العرفی فی حاقّ اللفظ، یعنی بأن کان مفهوم اللفظ عند العرف مقیّداً بجهة خاصّة، بخلاف بعض ألفاظ اُخر، کما تری فی مثل مفهوم المسح والغسل، حیث أنّ العرف یفرّق فیهما بین الإطلاق والتقیید بجهة خاصّة، فإنّه إذا قیل: امسح رأس الیتیم بیدک، فإنّه بحسب مقتضی مفهوم اللفظ یستفاد کون المسح یجب أن یکون بباطن الکفّ والأصابع لا بظاهرهما، بخلاف

ما لو قیل اغسل رأس الیتیم، فإنّه لا یستفاد منه لزوم الغسل بخصوص الید، ومن هنا لو صبّ علیه الماء وغسله من دون مباشرة الید لصدق علیه الغُسل وکان کافیاً، فمثل هذا التفاوت والتبادر یوجب الانصراف للإطلاقات، وعدم کونها حجّة بإطلاقها.

فظهر ممّا ذکرنا أنّ مقایسة الشیخ لتأیید کلامه بین المسح والغسل، ممّا لا یخلو عن مسامحة .

وهکذا أثبت أنّ الدلیل علی ما ذکرنا من لزوم کون المسح بباطن الکفّ والأصابع، هو نفس إطلاق لفظ المسح ، مضافاً إلی أنّ ظهور الأخبار فی نفس لفظ الکفّ والأصابع هو هکذا، لاسیّما فی الأوّل منها إذ الکفّ لا یطلق علی ظهر الید، وإن کان شمول إطلاق الأصابع علی کلا الطرفین غیر خالیة عن القوّة، لولا ظهور کلمة المسح فی خلافه، کما عرفت.

ص:412

فحینئذٍ لو عجز الناس عن استعمال باطن الکفّ والأصابع لمرضٍ ومانع آخر نحوه، فهل یجوز المسح بظاهرهما، أو ینتقل إلی الذراع، أو یسقط المسح فی خصوص المتعذّر ویأتی بالباقی، أو یسقط الوضوء بالکلّ وینتقل الحکم إلی التیمّم ؟

والذی ینصرف إلی الذهن فی مثل هذه الاُمور، هو الرجوع إلی میسور الشیء، ومیسوره عند العرف یکون هو المسح بالظهر لا الذراع، بعد الاتّفاق علی عدم سقوط الوضوء بمعذوریة بعض الأجزاء، ولا سقوط أصل مسح الرأس بتعذّر المسح بباطن الکفّ.

نعم ، قد یظهر عن «الذکری» عدم الالتزام بوجوب الترتیب، وجعل المسح بالظاهر أولی، ثمّ الذراع.

لکنّه خلاف ظاهر فتاوی الفقهاء، وصریح صاحب الجواهر والآملی و«العروة» وأصحاب التعالیق علیها کما لایخفی .

نعم ، لو تعذّر المسح بالظاهر أیضاً لمرض ونحوه، فینتقل الحکم إلی الذراع،

لأنّه المیسور فی ذلک، کما ورد فی الخبر بأنّ المیسور لا یسقط بالمعسور .

مضافاً إلی کونه مورداً لجریان استصحاب وجوب المسح ولو بالذراع، والإجماع علی عدم سقوط الوضوء بالتعذّر، کما هو واضح .

مسح الرأس / فی اعتبار جفاف الممسوح

ثمّ إنّه هل یعتبر کون الرطوبة والنداوة حال المسح بحیث یوجب تأثّر الممسوح وبلله، أم یکفی وجود نداوة الوضوء أو قطرات منها تقطر من الماسح علی الممسوح ثمّ یمرر یده علیها أم لا؟

الظاهر المستفاد من الأخبار هو الأوّل، لأنّه کان قد ورد فیها قوله: «فامسح بیدک ونداوة یدک من الوضوء رأسک» فهذا القول صریح فی لزوم وجود النداوة بحیث یتأثّر الممسوح بها، وهکذا یتمّ الحکم بعد مراجعة لسان الأدلّة وفتاوی الأصحاب، ویفیدان عدم کفایة وجود النداوة من الوضوء ولو بالتقطیر .

کما أنّ الظاهر من الأخبار، لزوم کون تأثیر الممسوح بنداوة الوضوء فی

ص:413

الماسح، لأنّه قد ورد فی قوله: «بفضل ما بقی فی یدک من النداوة»، حیث یکون ظاهراً فی وجود الرطوبة فیها، وإلاّ لو لم یکن کذلک لما یصدق کون المسح حَصل وتمّ بنداوة الوضوء، وهو واضح لمن تأمّل .

ثمّ إنّه هل یجب أن یکون الممسوح جافّاً بحیث یتأثّر بنداوة الوضوء، أم لا؟

ذهب إلی الثانی العلاّمة فی «المختلف» ونقل ذلک عن والده، ووافقه فیه صاحب الجواهر والشیخ الأنصاری والآملی، وصاحب «العروة» وکثیر من أصحاب التعالیق _ وإن کان فی «العروة» بأنّه یکفی أن یکون الممسوح متأثّراً بالنداوة ولعلّ هذا الکلام کان أوسع من تعبیر العلاّمة ومن تبعه ولذا استشکل علیه الحکیم قدس سره _ .

والقول الثالث هو التفصیل: فذهب بعض إلی التفصیل بین ما لو کانت الرطوبة للماسح غالبة علی الرطوبة فی الممسوح، فیجوز وإلاّ فلا ، خلافاً للمحقّق فی «المعتبر» وابن إدریس فی «السرائر» حیث جوّزا ذلک، ولو کان مع الرطوبة،

بحیث لو کان الشخص قد توسّط الماء وأراد أن یتطهّر ویتوضّأ، فإنّه یصحّ ویجوز له أن یغسل وجهه ویدیه، ثمّ یخرج ویمسح رجلیه برغم وجود الرطوبة علیها .

والقول الرابع هو لابن الجنید: وهو أنّه یجوز مسح الرجل حال کون القدم فی الماء فیمسحه دون أن یخرجه من الماء.

وهذا أردأ الوجوه، لعلّه أفتی بذلک بحسب مبناه من جواز المسح بالماء الجدید .

مع ذلک قد عرفت خلافه من ظاهر کلامه، فلا یعبأ بهذا القول .

أمّا القول الأوّل فإنّه قد استدلّ علیه بأنّه لابدّ أن یکون المسح بالنداوة خالصاً من دون أن یختلط مع ماء الخارج، فلا إشکال فی أنّ المسح کذلک یوجب عدم صدق الخلوص فی نداوة الوضوء ؛ إلاّ أن یکون علی نحو یکون مستهلکاً فیه، بحیث لا یصدق فیه کون رطوبة الممسوح داخلاً فیه .

فمجرّد صدق کون المسح بالنداوة، غیر کافٍ، لما قد عرفت من نهی بعض

ص:414

الأخبار عن الماء الجدید، ولا فرق فی ذلک بین أن یجعل الرجل الماء الخارجی علی یده أو یدخل یده فی الماء، کما لایخفی .

کما لا یکفی فی ذلک صدق کونه مسحاً بالنداوة، کما قاله البعض، حتّی یقال إنّه صادق حتّی مع وجود رطوبة الممسوح، لما قد عرفت من اعتبار الخلوص فی النداوة، مضافاً إلی المسح به ، وممّا ذکرنا ظهر فساد وجه قول المفصّلین، لأنّهم إن قصدوا بالتفصیل أنّ الرطوبة فی الماسح تکون غالبة علی الرطوبة فی الممسوح بحیث توجب استهلاک رطوبة الممسوح عرفاً، فهو قریب من القول الأوّل ، وإن قصدوا بأزید من ذلک، فهو ممنوع، لأنّه لا یساعد مع عدم الاختلاط المستفاد من الأخبار، کما قد عرفت .

مسح الرأس / فیما لو توضّأ علی نحو الارتماس

کما ظهر فساد ما قیل فی وجه الجواز مع الاختلاط، بأنّه یصدق المسح فیشمله الإطلاقات، ولأنّه لم یصدق عرفاً أنّه استأنف ماءاً جدیداً، علی أنّه لو کان ممنوعاً لکان ینبغی المنع من الوضوء فی موضعٍ لا ینفکّ من الرطوبة والعرق

کالحمّام ونحوه .

ووجه الفساد هو ما قد عرفت، بأنّ صدق المسح بالنداوة غیر کافٍ، لأنّ الأخبار قد منعت عن إدخال الماء الجدید من ذلک یفهم المنع عن مثل العرق فی الحمّام، والمسألة واضحة.

مع أنّه لو شکّ کان مقتضی الاحتیاط واستصحاب بقاء الحدث، هو عدم حصول الطهارة، کما لا یخفی .

نعم ، یکفی التنشیف ولا یجب التجفیف، یعنی یکفی أخذ الرطوبة والماء أو النداوة المتبقّیة، وأنّ فی الجملة یکون الموضع فیه نداوة بحسب ذاته، لکنّه یستهلک فی رطوبة الوضوء، وهو کاف فی الصحّة ، واللّه العالم .

ثمّ إنّه لو توضّأ علی نحو الارتماس بأن أدخل یده فی الماء، فحینئذٍ هل یجب أن تکون النداوة بما یبقی فی الید حال إخراج الید من الماء، أم یصحّ ولو کان

ص:415

ولو جفّ ما فی یدیه، أخذ من لحیته وأشفار عینیه(1).

بالإدخال أو المکث فیه ؟ فیه وجهان ؛

ذهب صاحب الجواهر وجماعة کبیرة من الفقهاء إلی الأوّل، خلافاً للآخرین بکون الارتماس یعدّ غَسلاً واحداً فیجوز المسح به مطلقاً.

ولکن الإنصاف أنّ هذه المسألة تعدّ من متفرّعات مسألة اُخری، وهی أنّه لو کانت النیّة فی الارتماس دخیلاً فی تجزئة غسله دخولاً وخروجاً ومکثاً _ کما هو کذلک _ فلا إشکال فی أنّ الحقّ یکون مع صاحب الجواهر، وإن لم نقل بذلک وعُدّ المجموع واحداً بالنسبة، فلازمه جوازه، لکن الأوّل کان أوفق بالاحتیاط فهو أولی .

والظاهر أنّ استمرار إمرار الید علی محلّ الغسل، حتّی وإن کان للاستظهار بکون المسح بما فی الید من الغسل الواجب أو المستحبّ، کان جائزاً ومطلوباً، ما لم یصل إلی حدّ بحیث یعدّ بحسب العرف خارجاً عن حال الوضوء، فیصیر الماء حینئذٍ خارجیاً ویضرّ بوضوءه.

(1) فی هذه المسألة عدّة فروع :

الفرع الأوّل : هل یجب أن یکون المسح بخصوص بلّة الکفّ مع الإمکان، فلایجوز أخذ الماء من سائر الأعضاء مع الاختیار، حتّی عن اللحیة والأشفار أم یجوز لکون الملاک هو کون المسح بنداوة الوضوء، فلا فرق فیه بین الید وسائر الأعضاء؟

فالمسألة خلافیة، ذهب الأکثر من المتقدّمین، بل المتأخّرین والمعاصرین إلی الأوّل، خلافاً للآخرین کصاحب الموجز وشرحه و«الألفیة» و«المسالک» و«الروض» و«المدارک» و«المقاصد العلّیة» والشیخ الأعظم _ ، وإن أشکل علیه

بعده _ والمحقّق الخمینی .

مسح الرأس / فیما لو جفّ ما فی یدیه

ص:416

والأقوی عندنا هو الأوّل، لصراحة بعض الأخبار فی وجوب الترتیب، وکونها مقیداً للإطلاقات الموجودة فی أخبار اُخری، وکون القید وارداً مورد الغالب، وإن کان صحیحاً فی الجملة، إلاّ أنّه لا یوجب الانصراف الذی یضرّ بحکم وجوب الترتیب، مع أنّ ذلک یعدّ جاریاً فی الإطلاقات، إذ بحسب النوع کان المسح بالنداوة فی الموضع فیما إذا کانت النداوة قلیلة لا مطلقاً حتّی مع بقاء نداوة الید الذاتیة، فلذلک کان القول بوجوب الترتیب من هذه الجهة أولی، فحینئذٍ لا بأس بأن نستعرض الأخبار الواردة فی المقام.

أمّا المطلقات فهی عدّة أخبار، منها: خبر مالک بن أعین فی حدیثٍ: «من نسی مسح رأسه ثمّ ذکر أنّه لم یمسح، فإن کان فی لحیته بللٌ فلیأخذ منه ویمسح به»(1).

فإنّ فی تجویز الأخذ من اللحیة من غیر تقیید بجفاف الید، دال علی الجواز، ولو مع بقاء الرطوبة فی الید .

منها: خبر الصدوق رحمه الله قال: «قال الصادق علیه السلام إن نسیت مسح رأسک فامسح علیه وعلی رجلیک من بلّة وضوءک، فإن لم یکن بقی فی یدک من نداوة وضوءک شیء فخذ ما بقی منه فی لحیتک، وامسح به رأسک ورجلیک، وإن لم یکن لک لحیة فخذ من حاجبیک وأشفار عینیک، وامسح به رأسک ورجلیک، وإن لم یکن من بلّة وضوءک شیء أعدت الوضوء» .

منها: خبر زرارة مثله فی الجملة(2) .

منها: خبر محمّد بن الفضل فی مکاتبة أبی إسحاق لعلیّ بن یقطین فی حدیثٍ: «وامسح بمقدّم رأسک وظاهر قدمیک من فضل نداوة وضوءک فقد زال ما کنّا


1- وسائل الشیعة: الباب 21، أبواب الوضوء، الحدیث 7.
2- وسائل الشیعة: الباب 21، أبواب الوضوء، الحدیث 3.

ص:417

نخاف منه علیک، والسلام»(1) .

منها: خبر الحلبی: «ویکفیک من مسح رأسک أن تأخذ من لحیتک بللها»(2) .

وأمّا الأخبار المقیّدة فهی عدّة روایات: منها: ما ورد فی ذیل خبر الصدوق کما عرفت بتفصیله .

منها: خبر زرارة فی حدیثٍ: «ومَسَح مقدم رأسه وظهر قدمیه ببلّة یساره وبقیة بلّة یمناه، إلی أن قال : وتمسح ببلّة یمناک ناصیتک»(3) .

منها: خبر خلف بن حمّاد عمّن أخبره عن الصادق علیه السلام : «قال : قلت له : الرجل ینسی مسح رأسه وهو فی الصلاة؟ قال : إن کان فی لحیته بللٌ فلیمسح به .

قلت : فإن لم یکن له لحیة ؟ قال : یمسح من حاجبیه أو أشفار عینیه»(4).

بناءً علی أن یکون تجویز أخذ الماء عن اللحیة وغیرها بعد التعذّر عن بلّة الکفّ، فلازمه عدم الجواز مع الإمکان .

منها: خبر آخر لزرارة: «وتمسح ببلّة یمناک ناصیتک وما بقی من بلّة یمناک ظهر قدمک الیمنی، وتمسح ببلّة یسارک ظهر قدمک الیسری»(5) .

منها: حدیث المعراج: «ثمّ امسح رأسک بما بقی فی یدک من الماء ورجلیک إلی الکعبین»(6) .

وقد عرفت أنّ مقتضی القاعدة هو تقیید المطلقات بالمقیّدات، واحتمال أن یکون التقیید بلحاظ إفهام کون المسح بالنداوة لا بالماء الخارج .


1- وسائل الشیعة: الباب 32، أبواب الوضوء، الحدیث 3.
2- وسائل الشیعة: الباب 21، أبواب الوضوء، الحدیث 2.
3- وسائل الشیعة: الباب 15، أبواب الوضوء، الحدیث 2.
4- وسائل الشیعة: الباب 21، أبواب الوضوء، الحدیث 1.
5- وسائل الشیعة: الباب 15، أبواب الوضوء، الحدیث 2.
6- وسائل الشیعة: الباب 15، أبواب الوضوء، الحدیث 5.

ص:418

مدفوع، بإمکان أن یقال بالإطلاق من حیث الید أیضاً، کما ورد فی بعض أخبار اُخر، مع أنّه قد صرّح فی بعض الأخبار بکون الماء منه ولم یکن من الماء

الجدید ، کما أنّ إطلاق أخذ النداوة من اللحیة عند النسیان کان بلحاظ أنّ المتعارف فی الرجوع إلی غیره لأخذ الماء کان مع جفاف الید، وإلاّ لا داعی له من ذلک .

نعم ، مع الجفاف بنفسه لا مع الاختیار یجوز الرجوع إلی غیر الید، خلافاً للمحقّق الثانی فی «جامع المقاصد» من تجویز الرجوع إلی غیر الید حتّی مع الاختیار، فیردّه انصراف إطلاق الأخبار إلی صورة العذر لا إلی غیره، کما لایخفی .

الفرع الثانی: لو جفّت الید فهل یجوز الرجوع إلی اللحیة مطلقاً، أی حتّی لو کانت النداوة فی مسترسل اللحیة الخارج عن حدّ الوضوء، أم لا یجوز إلاّ بما فی الحدّ؟

قد یقال بالإطلاق لصدق کونه نداوة الوضوء، وتمسّکاً بظواهر الأخبار، لکنّه مشکل، لأنّه لابدّ أن یکون مأخوذاً ممّا هو باق فی المحدود، وإلاّ کان یصدق علی الماء الذی یجتمع فی المحلّ أنّه نداوة الوضوء .

وتوهّم أنّه لو کان ذلک لازماً کان علیهم البیان .

مسح الرأس / فیما لو لم یبق نداوة

مدفوع بأنّ الإطلاقات محمولة علی ما هو المتعارف المعهود بین الناس من اللحیة غیر المسترسل، فما یکون نادراً لا یجب التنبیه إلیه ، مضافاً إلی أنّه موافق للاحتیاط الموجود فی باب الطهارة مع الشکّ، کما لایخفی .

الفرع الثالث: هل یجب مراعاة الترتیب فیما إذا جفّ وذلک بأن یرجع إلی اللحیة أوّلاً ، ثمّ إلی الحاجب، ثمّ إلی أشفار عینیه، أم یجوز الرجوع إلی النداوة من محالّ الوضوء مطلقاً ، غایة الأمر إرجاعه إلی هذه المواضع، لکونها مظانّ بقاء الماء فیها؟

الظاهر المستفاد من الأخبار، خصوصاً من خبری الصدوق وحمّاد، هو لزوم رعایة الترتیب، إلاّ أنّه حیث لم یفتِ به أحدٌ من الأصحاب کما فی «الجواهر»، بل قد ادّعی الإجماع علی عدم وجوبه، فلذلک یحمل علی الأفضلیة والاستحباب،

ص:419

فإن لم یبق نداوة استأنف (1).

کما هو کذلک فی «العروة» ، فلو کانت النداوة موجودة فی غیر هذه المواضع فإنّه یجوز أخذها.

(1) ولا یذهب علیک أنّ جفاف باطن الید إن کان بمقتضی طبیعة الحالة السائدة من هبوب الریاح أو الحرارة أو طبیعة جسم المتوضّی بحیث حدث الجفاف، فإنّه یجب الاستئناف وذلک من جهة فقدان الموالاة.

وأمّا إن لم یکن ذلک لکثرة حرارة الهواء أو البدن أو غیر ذلک، فحینئذٍ یدور الأمر بین وجوه أربعة: من سقوط أصل الوضوء، والرجوع إلی التیمّم کما علیه الخوئی ، بل عن صاحب «حاشیة التحریر» نسبته إلی «التحریر» ، أو سقوط المسح من أصله، والاکتفاء بالغسل فقط ، أو یقال بالمسح بماء جدید، کما علیه جماعة کبیرة من الفقهاء کالعلاّمة والشهید وصاحب المدارک، والسیّد فی «العروة» وکثیر من محشّی «العروة» ، والآملی والسیّد الاصفهانی ، أو یقال بالمسح بالید الیابسة فقط، کما احتمله صاحب الجواهر والگلبایگانی والعلاّمة فی «التحریر» والاصفهانی .

وأمّا وجه سقوط أصل الوضوء والرجوع إلی التیمّم، هو عدم إمکان تحصیل الوضوء التامّ، فیرجع إلیه ، لکنّه مخدوش قطعاً، لأنّ الرجوع إلیه إنّما یکون فیما إذا تعذّر الوضوء ولو بناقصه بما لا یخرج عن صدقه عرفاً بتعذّر بعض أجزائه، فمع إمکان ذلک لا یجوز الرجوع إلی التیمّم، وهو واضح البطلان ، واحتمال عدم جریان قاعدة المیسور فی الشرائط _ کما قاله بعض _ ضعیفٌ، إذ العرف یری جریانها فیها، کما فی مثل القیام الذی هو شرط للقراءة فی الصلاة، فلو عجز عن ذلک سقط عن شرطیة القیام لتلک القاعدة.

کما أنّ وجه سقوط أصل المسح، من جهة تعذّر قیده، وهو کونه بالبلل، ممّا لم

ص:420

یعهد من أحد من الفقهاء، ولعلّه أیضاً من جهة جریان تلک القاعدة بالنسبة إلی خصوص المسح أیضاً.

فبقی هنا احتمالان: المسح بماء جدید أو بالید الیابسة، فقد استدلّ علی القول الأوّل منهما بالأدلّة الأربعة وبدلالة القاعدة، بکون ذلک هو میسوره، لأنّ الواجب الأولی هو المسح ببلّة الوضوء، فبتعذّر قید وضوئه یحفظ أصل المسح بالبلّة، ولو کان بماء جدید ، وأمّا کون المسح بلا رطوبة مقصوداً .

مدفوع بأنّ التقابل بین المسح والغسل یفید لزوم وجود البلل، فلا محیص إلاّ بالأخذ من ماء جدید .

والثانی: کثرة الأشخاص ذوات العذر ممّن قطعت أیدیهم وأرجلهم فإنّ دلیل التتبّع شاهد علی أنّهم عند العجز عن بعض أجزاء الوضوء یکتفون بالمقدور منه.

والثالث : دلالة خبر عبد الأعلی وفیه: «عثرت فانقطع ظفری فجعلت علی اصبعی مرارة، فکیف أصنع بالوضوء ؟ قال : یعرف هذا وأشباهه من کتاب اللّه «مَا جَعَلَ عَلَیْکُمْ فِی الدِّینِ مِنْ حَرَجٍ»»(1).

حیث یدلّ علی عدم سقوط الوضوء بذلک، والرجوع إلی التیمّم، بل یجب استعمال ماء جدید فی المسح.

والرابع: استصحاب بقاء وجوب الوضوء، بناءً علی جریانه فی الناقص بعد تعذّر التامّ، کما لایخفی .

ولکن الإنصاف أنّ بعض هذه الوجوه _ کالاستصحاب، وخبر عبد الأعلی، والوجه الثانی لا یثبت لزوم أن یکون المسح بالماء الجدید، فبقی قاعدة المیسور مع ما ذکر فی وجهه، وهو لیس فی القوّة بما یجزم الفقیه بجواز القول بوجوب

المسح بالبلل الخارجی، مع کون المسح بالید الیابسة أیضاً میسوراً لذلک، فالأحوط هو الجمع بینهما، وأحسن منه هو الجمع بین الثلاثة بضمّ التیمّم، کما لایخفی .


1- وسائل الشیعة: الباب 39، أبواب الوضوء، الحدیث 5.

ص:421

والأفضل مسح الرأس مقبلاً، ویکره مدبراً علی الأشبه (1).

(1) قد وقع الخلاف بین الأعلام فی حکم النکس فی مسح الرأس، بأن یمسح صعوداً خلاف ما هو المتعارف، فقد ذهب إلی الجواز المصنّف و«السرائر» و«المعتبر» و«النافع» و«المنتهی» والمحقّق و«التحریر» و«الإرشاد» و«القواعد» و«الألفیة» و«جامع المقاصد» و«الروضة» وغیرها ، بل عن المتأخّرین کالعروة وأکثر محشّیها، إلاّ الشاهرودی، خلافاً للآخرین، من المتقدّمین والمتأخّرین، کما عن الصدوق والمرتضی والشیخین، وصریح «الوسیلة» و«الدروس» والشیخ الأعظم والآملی وصاحب الجواهر، وإن قال والأقوی هو الأوّل .

فی حکم النکس فی مسح الرأس

ولا یخفی علیک أنّ مقتضی ظاهر حال المسح بحسب المتعارف، هو المسح هبوطاً، وعلیه یحمل الإطلاقات الواردة فی الکتاب والسنّة، بل لا خلاف فی رجحانه، فیحمل علیه فعل المعصوم فی الأخبار الواردة فی بیان کیفیّة وضوءات رسول اللّه صلی الله علیه و آله ، خصوصاً مع ظهور بعضها فی الاستمرار، والمؤیّد بعدم کونه بصورة النکس، الذی یعدّ مرجوحاً فلا یفعله علیه السلام دائماً قطعاً، لاسیما مع ملاحظة خبر الصدوق، قال : «وتوضّأ النبیّ صلی الله علیه و آله مرّة مرّة، فقال هذا وضوء ولا یقبل اللّه الصلاة إلاّبه»(1).

فیتعیّن المسح هبوطاً، هذا فضلاً عن أنّ المتعارف عند العامّة هو النکس، فیکون الرشد فی خلافهم، فتکون النتیجة تقدّم القول الثانی.

فلابدّ حینئذٍ من ملاحظة ما یدلّ علی جواز النکس، وملاحظة مقدار دلالته ، فعمدة ما تمسّکوا به ویستحقّ أن نطرحه ونبحث عنه هو صحیح حمّاد بن عثمان


1- وسائل الشیعة: الباب 31، أبواب الوضوء، الحدیث 11.

ص:422

عن الصادق علیه السلام ، قال : «لا بأس بمسح الوضوء مقبلاً ومُدبراً»(1) .

حیث یدلّ بإطلاقه علی جواز المسح للرأس والرِّجل مقبلاً ومدبراً ، هذا فضلاً عن قیام الإجماع المرکّب، لأنّه قد اتّفق الکلّ علی جواز ذلک فی الرجلین، فمن أجاز فیهما أجاز فی الرأس أیضاً، لعدم التفصیل بینهما فی ذلک ، مضافاً إلی أنّه لو کان ذلک واجباً کان علیهم البیان فی أخبار الوضوء، لاسیّما وضوء رسول اللّه صلی الله علیه و آله ، کما نبّهوا علیه فی غَسل الوجه بلزوم الابتداء من الأعلی ، مضافاً إلی عدم التنبیه علی ذلک فی خبر علی بن یقطین(2) برغم أنّ الإمام علیه السلام کان فی مقام بیان ما هو الواجب فی الکتاب والسنّة .

هذا، ولکن الإنصاف عدم تمامیّة هذه الوجوه، لإثبات الجواز بالنکس .

فأمّا الجواب عن خبر حمّاد فهو أنّ الشیخ قدس سره بنفسه قد نقله بهذا السند مع اتحاد الراوی والمروی عنه: «عن أبی عبداللّه علیه السلام ، قال : لا بأس بمسح القدمین مقبلاً ومدبراً»(3) .

فاحتمال کونهما روایتین فی غایة البُعد، فیحتمل أن یکون التصحیف من النسّاخ.

مع أنّ مقتضی الشکّ فی الوحدة والتعدّد هو الأخذ بالقدر المتیقّن، وهو کونه فی القدمین کذلک، لعدم القطع بالجواز فی صورة النکس ، خصوصاً یؤیّد ذلک معتبرة یونس قال : «أخبرنی من رأی أبا الحسن علیه السلام یمسح ظهر القدمین من أعلی القدم إلی الکعب، ومن الکعب إلی أعلی القدم، ویقول: الأمر فی مسح الرجلین موسّع، من شاء مسح مقبلاً ومن شاء مسح مدبراً، فإنّه من الأمر الموسّع إن شاء اللّه»(4) .


1- وسائل الشیعة: الباب 20، أبواب الوضوء، الحدیث 1.
2- وسائل الشیعة: الباب 32، أبواب الوضوء، الحدیث 3.
3- وسائل الشیعة: الباب 20، أبواب الوضوء، الحدیث 2.
4- وسائل الشیعة: الباب 20، أبواب الوضوء، الحدیث 3.

ص:423

فإنّ تصریح الإمام بالتوسعة فی مسح الرجلین، لیس إلاّ من جهة تقابله مع مسح الرأس، وأن لا یقع المکلّف فی کلفة وتعب من ذلک، وإن کان تقییده بأصل

المسح یمکن أن یکون فی قبال الغسل، إلاّ أنّه لا یدفع لغویة قید الرِجل بالخصوص، لو لم یکن فیه خصوصیة، کما لا یخفی لمن تأمّل ذلک.

وأمّا الجواب عن الإجماع المرکّب، فهو وجود القول بالتفصیل علی عدم جواز النکس فی مسح الرأس، وجوازه فی القدمین وهو القول المنقول عن الشیخ فی «التهذیب»، وظاهر «النهایة» ونقله «کشف اللثام» عن بعض ، فمع وجود هذا الاختلاف، فکیف یمکن دعوی قیام الإجماع المرکّب .

وأمّا الجواب عن عدم التنبیه فلما قد عرفت بأنّ مقتضی الحکم الأولی بحسب المتعارف المنصرف إلیه الإطلاق، وعلیه عمل الإمام، هو المسح هبوطاً، فلا حاجة للتنبیه علی عدم جواز نکسه.

هذا فضلاً عن التنبیه علیه فی خبر یونس، کما مرّت الإشارة إلیه.

مضافاً إلی أنّ الشیخ الأعظم قدس سره قد استظهر ذلک بنکتة لطیفة، وهو أنّ لفظتی الإقبال والإدبار تلاحظان بالنظر إلی نفس الإنسان وبدنه، وهو یناسب مع الرجل حیث یکون المسح من أعلی القدم إلی الکعب مقبلاً إلی نفسه وعکسه مدبراً، بخلاف الرأس حیث یکون الأنسب هو الهبوط والصعود لا الإقبال والإدبار .

لکنّه مندفعٌ بإمکان أن یکون استعمال لفظة الإقبال والإدبار فی الرأس بملاحظة وجه الإنسان فإن أقبل أقبل إلی الوجه وإن نکس أدبر عنه.

وکیف کان فإنّ مقتضی الشغل الیقینی هو تحصیل البراءة الیقینیّة، مع وجود الشهرة المتحقّقة هنا کما لایخفی ، فالأقوی عدم الجواز فی الرأس .

وأمّا کون الإقبال أفضل کما فی المتن، فله وجه وجیه، لأنّه إمّا أن یکون واجباً کما اخترناه، أو یکون راجحاً فی الندب أیضاً ، وأمّا کراهة الإدبار، فهو غیر تامّ علی ما اخترناه وهو واضح، وعلی القول الآخر تکون الکراهة صحیحة، لو قلنا

ص:424

ولو غَسل موضع المسح لم یجز (1).

بأنّ کلّ شیء یکون فعله مستحبّاً فترکه مکروهاً، لکنّه لیس کذلک، إلاّ أن یراد من الکراهة قلّة الثواب لا وجود مفسدة غیر ملزمة، وهذا وجه لغیر القائلین بعدم الجواز ، فتأمّل .

مسح الرأس / لو غسل موضع المسح

(1) لا إشکال ولا خلاف عند الخاصّة بأنّ الغسل لا یُجزی عن المسح، خلافاً للعامّة حیث یذهبون إلی اعتبار الغسل دون المسح.

إنّما الکلام فی أنّ الغسل والمسح قد یجتمعان فی موضع واحد، فهل یوجب الإشکال أم لا ، أم أنّه لا یمکن الاجتماع أصلاً لتباینهما مصداقاً، مثلاً قد یقال إنّهما متغایران ومتباینان مفهوماً ومصداقاً، کما علیه بعض کصاحب الجواهر، حیث قال : «قلت : لا ینبغی الإشکال فی تباین حقیقة الغَسل والمسح، وأنّهما لا یجتمعان فی فرد واحد أبداً، کما هو ظاهر الکتاب والسنّة والإجماع والعرف واللغة» .

خلافاً لآخرین مثل الشیخ الأعظم والآملی _ کما هو الحقّ _ حیث ذهبا إلی تباینهما مفهوماً لا مصداقاً، فیکون فی المصداق هو العموم والخصوص من وجه، لأنّ مفهوم الغَسل عبارة عن جریان الماء علی المغسول من جزء إلی جزء آخر، سواء کان بمعونة الید أو بغیرها، أو بنفس الماء.

وأمّا مفهوم المسح فهو عبارة عن جرّ الشیء علی الشیء علی مماسّته له، سواء کان الجرّ بواسطة ماء أو دهن أو لم یکن شیئاً مثل مسح رأس الیتیم بالید .

فحینئذٍ قد یکون المصداق مصداقاً للغسل دون المسح، کما لو جری وسال الماء علی الید مثلاً بهطول المطر علیه أو فتح الانبوب حیث أنّه یعدّ غسلاً لا مسحاً.

وقد یصدق المسح من دون غسل کما فی مسح رأس الیتیم للاسترحام، من دون أن یکون مع یده شیئاً، وقد یجتمعان معاً، کما لو مسح رأسه مع ماء کثیر،

فینتقل الماء من جزء إلی جزء آخر، فهذا غسل ومسح .

ص:425

ومن ذلک یظهر بطلان القول بتباینهما مفهوماً، مع اجتماعهما مصداقاً، کما حُکی ذلک عن الشیخ والسیّد، أو أنّ النسبة بینهما هو العموم والخصوص من وجه مطلقاً فی المفهوم والمصداق، کما حُکی عن شارح «الدروس» ونسبه فی «الحدائق» إلی جماعة، وصرّح به محکی «الذکری».

وإن أرادوا الصدق والنسبة المذکورة فی المصداق فقط لا المفهوم، کانت دعواهم مقبولة .

فإذا عرفت ذلک، فاعلم أنّه لو حصل تقارن فی العمل بین المسح والغسل ، فحینئذٍ یتصوّر المسألة من حیث الصحّة والبطلان علی وجوه متعدّدة :

الأوّل : أن یقصد بذلک وقوع المسح دون الغسل، فالأقوی فیه هو الصحّة، لأنّه امتثل بإتیان ما تعلّق به الأمر، فیدلّ علی أنّ التثنیة دخیلة فی ذلک. ویدلّ علیه صحیح زرارة ، قال : «قال لی : لو أنّک توضّأت فجعلت مسح الرجلین غَسلاً، ثمّ أضمرت أنّ ذلک من المفروض، لم یکن ذلک بوضوء. ثمّ قال : «ابدأ بالمسح علی الرجلین، فإن بدا لک غسل فغسلته، فامسح بعده لیکون آخر ذلک المفروض»(1) .

حیث أنّه یدلّ علی عدم الإضرار لو لم ینو من الغسل الواقع ما هو مفروضه ، مضافاً إلی إطلاقات الکتاب والسنّة، من صدق المسح وکفایته ولو اقترن معه الغسل، بل السیرة المستمرّة من المؤمنین علی عدم تقلیل ماء الید حین المسح وعدم الإقلال منه بالنشف ونظائره، خصوصاً مع ملاحظة وجود الأمر بالإسباغ فی الوضوء، المستلزم عادة تکثیر رطوبة الید الموجب لصدق الغسل مع المسح، وهو واضح لا خفاء فیه .

الثانی : أن یقصد وقوع الغَسل دون المسح، فلا إشکال فی بطلانه، لمنطوق


1- وسائل الشیعة: الباب 25، أبواب الوضوء، الحدیث 12.

ص:426

ویجوز المسح علی الشعر المختصّ بالمقدم، وعلی البشرة (1).

صحیح زرارة ، وخبر محمّد بن مروان قال : «قال أبو عبداللّه علیه السلام : إنّه یأتی علی الرجل ستّون وسبعون سنة ما قبل اللّه منه صلاة ! قلت : کیف ذاک ؟ قال : لأنّه یغسل موضع المسح من دون وجود مسح معه، أو کان معه مسح، إلاّ أنّه قصد وقوع الغسل دون المسح»(1).

کما یجری هذین الاحتمالین فی عبارة الماتن أیضاً، کما لایخفی .

الثالث : أن لا ینوی شیئاً منهما بخصوصه ، بل یقصد امتثال ما هو المأمور به الواقعی، فأتی بداعیه، فالأقوی فیه الصحّة أیضاً، لصدق الامتثال فی مثله وعدم إضرار انضمام الغسل معه ،

فی مسح الشعر المختصّ بمقدّم الرأس

اللهمّ إلاّ أن یأتی به علی وجه التقیید بالغسل، یعنی إن لم یکن معه هذا الغسل لما کان قد أتی به، فلا یبعد القول البطلان إن عدّ هذا تشریعاً محرّماً ، فوقوعه فی العبارة موجب لبطلانها.

وکیف کان فإنّ النیّة مؤثّرة فی الحکم بالصحّة والبطلان، ومجرّد التقارن من دون نیّة أو من دون نیّة الخلاف، لا یکون مضرّاً أصلاً .

(1) أمّا جواز المسح علی الشعر المقدم فی الرأس، بل وهکذا علی بشرته، ممّا تدلّ علیه إطلاقات الکتاب والسنّة والإجماع بکلا قسمیه ، بل فی «الجواهر»: لعلّه کان من حدّ ضرورة الدِّین، فتدلّ علیه الأخبار الواقعة فی الباب 24 من أبواب الوضوء، من الأمر بالمسح بالأصابع، بل کلّ ما یدلّ علی مسح مقدم الرأس والناصیة، مثل: خبر محمّد بن مسلم عن الصادق علیه السلام ، قال : «مسح


1- وسائل الشیعة: الباب 25، أبواب الوضوء، الحدیث 2.

ص:427

ولو جمع علیه شعراً من غیره، ومسح علیه لم یجز، وکذلک لو مسح علی العمامة أو غیرها ممّا یستر موضع المسح (1).

الرأس علی مقدمه»(1) ، وخبر آخر منه مثله (2)، وخبر حماد بن عیسی فی حدیثٍ، قال : «یرفع العمامة بقدر ما یدخل اصبعه، فیمسح علی مقدم رأسه»(3).

وغیر ذلک من الأخبار مثل خبر زرارة(4)، فهذا الحکم ممّا لا خلاف فیه، لأنّه یصدق عرفاً فی المسح علی شعر المقدم أنّه مسح لنفس الرأس .

فلابدّ حینئذٍ لما یستفاد منه لزوم المسح علی البشرة من تأویل أو غیره، وهو کما فی مرفوعة محمّد بن یحیی عن الصادق علیه السلام : «فی الذی یخضب رأسه بالحنّاء، ثمّ یبدو له فی الوضوء ؟ قال : لا یجوز حتّی یصیب بشرة رأسه بالماء »(5).

وهو مضافاً إلی ضعف سنده وعدم عامل به من حیث وجوب المسح للبشرة فقط، انّه یمکن أن یکون فیما لا یقدر المسح علی الشعر لوقوع الحنّاء فیه، وهو حاجبٌ، فإن قدر من المسح علی نفس البشرة دون الحنّاء فیجب، فالمسألة واضحة بحمد اللّه .

مسح الرأس / فی المسح علی ما یستر موضع المسح

(1) لا یخفی علیک أنّ جمع الشعر فی المقدم یتصوّر علی وجوه : لأنّه تارةً: یکون الشعر من غیر ناحیة مقدم رأسه، وقد جمع فیه، فلا إشکال فی أنّ المسح علیه لا یکون مسحاً علی مقدم الرأس، ولا علی الناصیة، فیکون باطلاً .

واُخری : أن یکون الشعر من فوق الناصیة متدلّیاً علیها، منتهیاً بانتهائها، أو کان


1- وسائل الشیعة: الباب 22، أبواب الوضوء، الحدیث 1.
2- وسائل الشیعة: الباب 22، أبواب الوضوء، الحدیث 2.
3- وسائل الشیعة: الباب 22، أبواب الوضوء، الحدیث 3.
4- وسائل الشیعة: الباب 15، أبواب الوضوء، الحدیث 2.
5- وسائل الشیعة: الباب 37، أبواب الوضوء، الحدیث 1.

ص:428

زائداً عنها ، فالظاهر عدم کفایه مسحه عمّا هو الواجب، لأنّه أیضاً خارج عن المحدود ووقع فیه .

وثالثة : أن یکون منبت الشعر هو المقدّم، إلاّ أنّه قد خرج إلی مؤخّر الرأس ، فهو تارةً: یمسح رأس الشعر الذی کان فی المؤخّر، فلا یکفی قطعاً، لأنّه لیس مسحاً بالمقدّم ولا بالناصیة ، واُخری: یمسح آخر الشعر، فإن کان ذلک مسحاً للبشرة، فلا إشکال فی کفایته ، وأمّا لو لم یکن کذلک، فمسح الشعر الذی کان کذلک، فهل یعدّ عرفاً مسحاً بالمقدم أو لا لأنّ امتداده کان خارجاً عن المحدود، فلا یصدق أنّه مَسَح شعر مقدم رأسه، فیه وجهان، فالأقوی هو عدم الکفایة وعلی أقلّ التقادیر یجب الاحتیاط .

رابعة: کما یقع الإشکال فیما لو کان الشعر مجتمعاً فی مقدم رأسه، مع کون منبته هو المقدم، إلاّ أنّه لو امتدّ لکان یخرج عن حدود المقدم.

فقد أشکل علیه بعض وذهبوا إلی أنّ الأحوط عدم الاکتفاء .

والحاصل: والذی یسهّل الخطب، هو صدق عنوان المسح علی المقدم، وهو أمر عرفی، فکلّ ما یصدق علیه ذلک یجوز، وإلاّ فلا .

وأمّا حکم عدم جواز المسح علی العمامة أو غیرها من الحواجب، فلأنّ الدلیل علی عدم الجواز هو عدم شمول إطلاقات الکتاب والسنّة لمثل ذلک المسح، کما أنّ الإجماع بکلا قسمیه قائمٌ علی عدم الکفایة، مع دلالة صراحة بعض الأخبار علی عدم الکفایة، هو مثل خبر محمّد بن مسلم عن أحدهما علیهماالسلام : «أنّه سُئل عن المسح علی الخفّین وعلی العمامة؟ فقال : لا تمسح علیهما»(1) .

وخبر علی بن جعفر عن أخیه علیه السلام : «قال : سألته عن المرأة هل یصلح لها أن تمسح علی الخمار ؟ قال : لا یصلح حتّی تمسح علی رأسها»(2).


1- وسائل الشیعة: الباب 38، أبواب الوضوء، الحدیث 8 .
2- وسائل الشیعة: الباب 37، أبواب الوضوء، الحدیث 5.

ص:429

حیث أنّه نهی عن المسح علی الحاجب، والمراد من عدم الصلاحیة هو عدم الکفایة ظاهراً لا الکراهة .

مضافاً إلی إمکان الاستفادة لذلک من مرفوعة محمّد بن یحیی بقوله : «لا یجوز حتّی یصیب بشرة رأسه بالماء»(1).

فهذه جملة أخبار دالّة علی عدم الجواز .

فیبقی هنا ما یستفاد منه الجواز، وهو مثل خبر حسن بن علی الوشاء قال : «سألت أبا الحسن علیه السلام عن الدواء إذا کان علی یدی الرجل أیجزیه أن یمسح علی طلاء الداء ؟ فقال : نعم یجزیه أن یمسح علیه»(2) .

وخبر عمر بن یزید قال : «سألت أبا عبداللّه علیه السلام عن الرجل یخضب رأسه بالحنّاء، ثمّ یبدأ فی الوضوء؟ قال : یمسح فوق الحنّاء»(3) .

وخبر محمّد بن مسلم عن الصادق علیه السلام : «فی الرجل یحلق رأسه، ثمّ یطلیه بالحنّاء، ثمّ یتوضّأ للصلاة؟ فقال : لا بأس بأن یمسح رأسه والحنّاء علیه»(4) .

فالجواب عنها: مضافاً إلی کونها مخالفاً للإجماع والأدلّة السابقة، یمکن أن یحمل علی المسح فی أثر الحنّاء والدواء من اللون الموجود فی الشعر، أو أن یکون المراد من فوق الحنّاء أی کون الشعر فوق الحنّاء من شعر الرأس المتدلّی علی الحنّاء وهو بعید جدّاً .

مع إمکان الحمل علی التقیة، لکونه مطابقاً لفتوی العامّة من تجویز المسح علی الحاجب ، فالحکم واضح لا کلام فیه .


1- وسائل الشیعة: الباب 37، أبواب الوضوء، الحدیث 1.
2- وسائل الشیعة: الباب 37، أبواب الوضوء، الحدیث 2.
3- وسائل الشیعة: الباب 37، أبواب الوضوء، الحدیث 3.
4- وسائل الشیعة: الباب 37، أبواب الوضوء، الحدیث 4.

ص:430

الفرض الخامس: مسح الرجلین

اشارة

ویجب مسح القدمین من رؤوس الأصابع إلی الکعبین، وهما قبّتا القدمین (1).

(1) لا یخفی أنّ فی هذه المسألة اختلاف عند الفقهاء وعلماء الإسلام، والأقوال فیها أربعة :

الأقوال فی مسح الرجلین

القول الأوّل : بوجوب المسح فی الرجلین فقط، وهو علیه الشیعة الإمامیة بالاتّفاق من دون مشاهدة خلاف، بل وعن بعض العامّة مثل أنس بن مالک وعکرمة والشعبی وأبی الغالیة، بل واعتراف فخر الدِّین الرازی بظهور الآیة علی وجوب خصوص المسح، بل وتأسّف ابن عبّاس عن إنکار بعض العامّة ذلک، بقوله فی حدیث أنّه قال: «إنّ کتاب اللّه المسح، ویأبی الناس إلاّ الغسل»(1) .

القول الثانی : هو مذهب أئمّة أهل السنّة، وهو وجوب الغسل فقط، کما علیه العمل فی الخارج فی زماننا هذا .

القول الثالث : التخییر بینهما، کما نُقل عن أبی الحسن البصری، وابن جریر الطبری، وأبی علی الجبائی .

القول الرابع: بوجوب الجمع بینهما معاً، کما عن داود والناصر الزائدی .

وأمّا وجه قول الأخیر، فلعلّه من جهة الحکم بوجوب الاحتیاط بالإتیان بهما معاً، لوقوع التردّد بین الفقهاء من کون قوله تعالی: «وَأَرْجُلَکُمْ» معطوفة علی قوله تعالی: «فَاغْسِلُوا» أو «وَامْسَحُوا»، فیستلزم الاحتیاط الجمع بینهما.


1- وسائل الشیعة: الباب 25، أبواب الوضوء، الحدیث 7.

ص:431

ولکنّه من أردأ الأقوال، لأنّ العقلاء تابعون للظهورات العرفیة وهی حجّة، فیعتمد علیها، وهی تفید أحد الأمرین فیتّبع، ولذلک قال صاحب الجواهر بأنّ هذا القول قد استقرّ الإجماع علی خلافه .

ومن هنا یظهر فساد القول الثالث وهو التخییر، فلا نطیل البحث حوله.

یبقی هنا قولان آخران، من وجوب خصوص الغسل أو المَسح فقط. فنقول: إنّ المتعیّن هو الثانی ، والدلیل علیه _ مضافاً إلی قیام الإجماع عند الإمامیة محصلاً ومنقولاً، بل هو من ضروریات مذهبهم _ الأخبار المتواترة، بل فی الانتصار أنّها أکثر من عدد الرمل والحصی ، بل واحتجاج ابن عبّاس علی ذلک کما رواه المتّقی الهندی فی «کنز العمّال»(1) بقوله : «افترض اللّه غسلتین ومسحتین، ألا تری أنّه ذکر التیمّم فجعل مکان الغسلتین مسحتین، وترک المسحتین، وکان یقول: الوضوء غسلتان ومسحتان، ولمّا بلغه أنّ الربیع بنت معوذ بن عفراء الأنصاریة تزعم أنّ النبیّ صلی الله علیه و آله توضّأ عندها فغسل رجلیه، أتاها یسألها عن ذلک، وحین حدّثته به، قال: _ وهو غیر مصدق بل منکراً _: إنّ الناس أبوا إلاّ الغسل، ولا أجد فی کتاب اللّه إلاّ المسح» .

بل وخبر أمیر المؤمنین بنقل العامّة عنه قال : «ما نزل القرآن إلاّ بالمسح»(2) .

وظهور آیة الوضوء بقوله تعالی : «وَامْسَحُوا بِرُءُوسِکُمْ وَأَرْجُلَکُمْ إِلَی الْکَعْبَیْنِ»، سواء کانت القراءة بجرّ (أرجلکم) کما عن ابن کثیر وأبی عمرو وحمزة وعاصم علی نقل أبی بکیر، بل قیل إنّها مجمعٌ علیها وأنّها القراءة المنزلة .

أو قراءة نصبها، کما هو المنقول عن نافع وابن عامر والکسائی وعاصم، علی روایة حفص ، فأمّا علی القراءة الأولی کان وجه الخبر هو عطفه علی لفظ


1- «الروائع الفقهیّة»: 2 / 130 نقلاً عن کنز العمّال: 5 / 103 .
2- وسائل الشیعة: الباب 25، أبواب الوضوء، الحدیث 8 .

ص:432

الرؤوس، فیکون مجروراً کالمعطوف علیه، وکان ذلک أفصح وبالقواعد أوفق ،

وأمّا علی الثانیة، فیکون وجه النصب هو کونه معطوفاً علی محل (رؤوسکم)، حیث کان منصوباً بالمفعولیة لإمسحوا.

ولکن الأولی أولی بملاحظة القواعد النحویة، لأنّ العطف علی الظاهر یعدّ أولی من العطف علی المحلّ .

وأمّا کون وجه الجرّ للمجاورة بالمجرور وهو کلمة (رؤوسکم) نظیر قولهم : هذا جُحر ضبٍّ خرب ، حیث أنّ کلمة (خرب) برغم کونه مرفوعاً بالخبریة للجُحر، أو نعتاً له قد صارت مجرورة للمجاورة مع النصب، وکون وجه النصب هو عطفه علی الیدین، الذی کان منصوباً بالمفعولیة ل_ (اغسلوا) فینتج فی کلا الوجهین کون ذلک معطوفاً علی الأیدی، فیجب الغسل فی الأرجل أیضاً کالوجه والید .

مسح الرجلین / آیة: (وَامْسَحُوا بِرُءُوسِکُمْ وَأَرْجُلَکُمْ)

فمخدوش أوّلاً : بأنّه خلاف الفصاحة ، بل خلاف القواعد النحویة والأدب العربی، حیث أنّه مع إمکان العطف علی الأقرب لایجوز العطف علی غیره الأبعد، إلاّ فی الضرورة الشعریة، وهو غیر موجود هنا، ولذلک اشتهر قولهم: الأقربُ یمنع الأبعد .

وثانیاً : أنّ الجرّ للمجاورة یعدّ معدوداً فی اللحن، کما اعترف وصرّح بذلک الفخر الرازی فی تفسیره ذیل الآیة، فراجعه(1).

مع أنّه یصار إلیه فیما کان مأموناً عن الالتباس، کما فی المثال، لا فی مثل الآیة، حیث یوجب اللبس من حیث المعنی، من جهة کونه عطفاً علی (الرؤوس) المشابه له فی المجروریة، فیوجب المسح، أو کونه عطفاً علی (الیدین) الموجب کونه واجب الغسل، ففی مثل ذلک لا یجری .

فضلاً عن أنّ الجرّ بالمجاورة یتمّ فیما إذا لم یکن حرف العطف موجوداً کما فی المثال، دونما إذا کان موجوداً کما فی المقام، وهو واضح عندنا بحمداللّه، وعلی


1- الروائع الفقهیة: 2 / 131.

ص:433

الخصم إقامة البرهان علی مدّعاه، وأنّی له بإثبات ذلک، فماذا بعد الحقّ إلاّ الضلال.

مضافاً إلی ما رواه العیاشی فی تفسیره کما صرّح بذلک العلاّمة النوری أنّه روی عن غالب بن الهذیل، قال : «سألت أبا جعفر علیه السلام عن قول اللّه عزّوجلّ: «وَامْسَحُوا بِرُءُوسِکُمْ وَأَرْجُلَکُمْ» علی الخفض هی أم علی الرفع ؟

فقال : بل هی علی الخفض»(1) ، قلت : کذا فی النسخ، والصواب أم علی النصب کما فی «التهذیب» عنه . نعم قرأ الحسن بالرفع ، فالمسألة واضحة بحمد اللّه، إذ من الواضح حینئذٍ کون العطف علی الرؤوس یعدّ عطفاً علی الظاهر، وهو الأقرب، بخلاف روایة النصب، حیث یمکن أن یقال بأنّ العطف علی ظاهر الأیدی أولی من العطف علی المحلّ فی الرؤوس، فیعارض هذه الأولویة مع أولویة الأقربیة ، ثمّ إنّ الظاهر، بل علیه الفتوی والإجماع _ کما عن «کشف اللثام» وبعض آخرین _ هو وجوب المسح لظاهر القدمین لا باطنهما، ولا المرکّب منهما، والذی یدلّ علیه مضافاً علی قیام الإجماع _ نقلاً بل وتحصیلاً لعدم مشاهدة الخلاف عن أحد _ هو الظهور الأوّلی الناشئ عن ارتکاز العرف فی فهم قوله تعالی : «وَأَرْجُلَکُمْ إِلَی الْکَعْبَیْنِ» ، فإنّه وإن کان احتمال کون المقصود هو بیان المحاذاة إلی ذلک ممکناً، فیشمل کلا الطرفین من الباطن والظاهر، کما ادّعاه الآملی قدس سره ، وأقام علیه شاهداً واستشهد له بحدیث منقول عن أمیر المؤمنین علیه السلام : «لولا أنّی رأیت رسول اللّه صلی الله علیه و آله یمسح ظاهر قدمیه لظننت أنّ باطنهما أولی بالمسح من ظاهرهما»(2) .

مسح الرجلین / مسح ظاهر القدمین

بأنّ الآیة لو کانت ظاهرة فی خصوص الظاهر لما یبقی لکلامه حینئذٍ وجهٌ .

ولکن یمکن الجواب عنه: بأنّ أصل الاحتمال وإن کان بنفسه موجوداً، إلاّ أنّ


1- مستدرک الوسائل: أبواب الوضوء، الباب 23 ، ح 1.
2- وسائل الشیعة: الباب 23، أبواب الوضوء، الحدیث 9.

ص:434

کلامه علیه السلام هذا لا ینافی ظهور الآیة، لما قلناه من إمکان أن یکون مقصود الإمام هو الاستحسان عند الإنسان، کأنّ الظنّ یسوقه إلی کون الباطن أولی من الظاهر،

خصوصاً مع ملاحظة أنّه علیه السلام ذکر خصوص الباطن لا کلیهما، مع أنّه لو کان الأمر کما قلتم کان ینبغی أن یذکرهما معاً .

وکیف کان ظهور الآیة کما فی «الجواهر» وغیره وسواءً دلّت علی المسح بالظاهر، کما هو کذلک بالنسبة إلی الوضوءات البیانیة أم لا، فإنّنا نمتلک أخبار خاصّة تدلّ بالصراحة أو الظهور علی المطلوب وهو وجوب المسح لا الغسل وهی: منها: صحیح زرارة فی حدیثٍ عن أبی جعفر علیه السلام : «وتمسح ببلّة یمناک ناصیتک، وما بقی من بلّة یمینک ظهر قدمک الیمنی، وتمسح ببلّة یسارک ظهر قدمک الیسری»(1) .

منها: خبر أمیر المؤمنین الذی قد مرّ ذکره آنفاً من رؤیته ذلک عن رسول اللّه صلی الله علیه و آله .

إذا عرفت ذلک من الأدلّة الدالّة علیه، فإن قام دلیلٌ علی خلاف ذلک فإنّه یجب طرحه أو تأویله بضرب من التأویل أو حمله علی التقیة، مثل خبر مرفوعة أبی بصیر عن الصادق علیه السلام : «فی مسح الیدین ومسح الرأس؟ فقال : مسح الرأس واحدة من مقدم الرأس ومؤخّره ومسح القدمین ظاهرهما وباطنهما»(2) .

وخبر سماعة عن أبی عبداللّه علیه السلام ، قال : «إذا توضّأت فامسح قدمیک ظاهرهما وباطنهما، ثمّ قال: هکذا، فوضع یده علی الکعب وضرب الاُخری علی باطن قدمیه، ثمّ مسحهما (مسحها) إلی الأصابع»(3) .

وحملهما الشیخ الطوسی علی التقیة کما یشهد لذلک اشتمال الحدیث الأوّل


1- وسائل الشیعة: الباب 15، أبواب الوضوء، الحدیث 2.
2- وسائل الشیعة: الباب 23، الحدیث 7.
3- وسائل الشیعة: الباب 23، أبواب الوضوء، الحدیث 6.

ص:435

علی مسح مؤخّر الرأس الذی یوافق مذهب العامّة، هذا فضلاً عن کون السند فیهما ضعیفاً بالرفع أو عدم توثیق بعض الرواة فیهما ، مضافاً إلی أنّه لو سلّمنا عدم ضعف سندهما ودلالتهما وجهتهما، ولکن بإعراض الأصحاب عنهما یسقطان

عن الحجّیة، کما لایخفی .

ثمّ یأتی الکلام فی المقدار الذی یجب المسح علیه فی ظاهر القدمین من حیث المساحة طولاً وعرضاً : فأمّا الطول: فقد ادّعی بأنّ الواجب منه هو الاستیعاب، بوقوع المسح من رؤوس الأصابع إلی الکعبین وأنّ هذا حکم إجماعی، بل لا خلاف فیه، وإن نسب التردّد والمیل إلی الخلاف إلی «المعتبر» و«التذکرة» والمحقّق الأردبیلی قدس سره ، کما فی «الجواهر» ، ولکن الإنصاف عدم صحّة هذه النسبة، لإمکان توجیه کلامهم فی المخالفة فی الاستیعاب للعرض لا الطول .

وکیف کان، فلابدّ من أن نلاحظ الأدلّة فیها، وما یمکن أن یدّعی معارضتها معها .

فنقول: قد ادّعی أوّلاً ظهور الآیة فی ذلک، من جهة ذکر غایة ما یجب أن تصل الید إلیه الماسحة وهو الکعبان، مع عنوان الرِجْل.

مسح الرجلین / مقدار ما یجب من المسح

واحتمال أن یکون المقصود بیان المقدار الذی یمکن أن یمسح علیه الماسح بیده ، لا ما هو الممسوح بالفعل .

فإنّه أوّلاً: ولو سلّمنا ذلک، لکن لا یفید لأنّ ظهورها فی الاستیعاب من جهة الطول محفوظٌ لمکان لفظ (إلی) الظاهر فی وجوب وقوع المسح علیه، نظیر ما هو کذلک فی طرف الغسل، فی قوله : «إِلَی الْمَرَافِقِ» ، لاسیما مع ملاحظة بعض الأخبار وکلمات الأصحاب، من ذکر حرف الجرّ للابتداء والانتهاء، بقولهم : من أطراف الأصابع إلی الکعبین.

وثانیاً : أنّ أخبار الوضوءات البیانیّة ظاهرة فی الاستیعاب من التعبیر الوارد فیها بأنّه صلی الله علیه و آله مسح قدمیه إلی الکعبین، حیث یدلّ بظهوره الأوّلی علی وجوب الاستیعاب .

وثالثاً : دلالة أخبار خاصّة علی ذلک، وهو کما یدلّ علیه خبر یونس، قال :

ص:436

«أخبرنی من رأی أبا الحسن علیه السلام بمنی یمسح ظهر القدمین من أعلی القدم إلی الکعب، ومن الکعب إلی أعلی القدم، ویقول: الأمر فی مسح الرجلین موسّع إن شاء اللّه»(1) .

فإنّ الحکم بجواز النکس فی المسح أمر موکول إلی محلّه، لکن هذا الخبر یفید فی المقام أنّ المسح یجب أن یکون بالاستیعاب طولاً، وهو واضح .

وکذلک یدلّ علیه خبر عبد الأعلی مولی آل سام، قال : «قلت لأبی عبداللّه علیه السلام : عثرت فانقطع ظفری فجعلت علی اصبعی مرارة، فکیف أصنع بالوضوء ؟ قال : یعرف هذا وأشباهه من کتاب اللّه عزّوجلّ، قال اللّه تعالی : «مَا جَعَلَ عَلَیْکُمْ فِی الدِّینِ مِنْ حَرَجٍ»، امسح علیه»(2) .

فإنّ المسح لو لم یکن واجباً علی نحو الاستیعاب طولاً، لما کان للسؤال وجهاً، لإمکان المسح بما بعد المرارة إلی الکعبین . واحتمال أن یکون وجه السؤال من جهة عدم إمکان الاستیعاب العرضی لا الطولی .

مدفوع أوّلاً : بأنّ القائل بوجوب الاستیعاب العرضی فی نهایة الشذوذ، مع أنّ القائلین لا یقولون إلاّ بمقدار الکفّ، والحال أنّ عرض القدم یعدّ أزید منه .

وثانیاً : لا یساعد مع ظهور الحدیث، لأنّ ظاهر قوله: «فانقطع ظفری فجعلتُ علی اصبعی» هو وحدة الظفر والاصبع، لا کون مجموع أظفار الأصابع مقطوعة، فعلی هذا یمکن أخذ مقدار الکفّ من غیر ذلک الاصبع، فیحصل الاستیعاب العرضی، فلم یکن بحاجة إلی التمسّک بآیة نفی الحرج، فلیس ذلک إلاّ من جهة وجوب الاستیعاب الطولی .

وخبر صحیح أبی نصر البزنطی عن أبی الحسن الرضا علیه السلام : «قال : سألته عن


1- وسائل الشیعة: الباب 20، أبواب الوضوء، الحدیث 3.
2- وسائل الشیعة: الباب 39، أبواب الوضوء، الحدیث 5.

ص:437

المسح علی القدمین کیف هو؟ فوضع کفّه علی الأصابع فمسحها إلی الکعبین إلی ظاهر القدم. فقلت : جعلت فداک لو أنّ رجلاً قال بإصبعین من أصابعه هکذا؟ فقال : لا إلاّ بکفّیه (بکفّه) کلّها»(1) .

فإنّ دلالته علی الاستیعاب الطولی بعمل الإمام علیه السلام واضحة ، غایة الأمر یمکن أن یکون ذلک مشتملاً علی أفضل الأفراد المرکّب من الواجب والاستحباب ، هذا، لکنّه مخالف لما هو المسؤول عنه فی الخبر، لأنّ الظاهر کون السؤال عمّا هو الواجب من المسح لا الأعمّ، فدلالته لما نحن فیه تکون قویّة جدّاً .

فبقی هنا أخبار قد تتوهّم دلالتها علی عدم وجوب الاستیعاب، کما ادّعی ذلک، مثل ما رواه محمّد بن یعقوب بإسناده عن جعفر بن سلیمان عمّه ، قال : «سألت أبا الحسن موسی علیه السلام ، قلت : جعلت فداک یکون خفّ الرجل مخرقاً فیدخل یده فیمسح ظهر قدمیه أیجزیه ذلک ؟ قال : نعم»(2) .

وخبر زرارة عن أبی جعفر علیه السلام فی حدیثٍ: «ثمّ مسح علی رأسه وعلی نعلیه ولم یدخل یده تحت الشراک»(3).

ومثله خبر الأخوین فی حدیثٍ عن أبی جعفر علیه السلام : «تمسح علی النعلین ولا تدخل یدک تحت الشراک»(4) ، الحدیث .

وحدیث الصدوق قال : «قال أبو جعفر علیه السلام : مَسَح أمیر المؤمنین علی النعلین ولم یستبطن الشراکین»(5) .


1- وسائل الشیعة: الباب 24، أبواب الوضوء، الحدیث 4.
2- وسائل الشیعة: الباب 23، أبواب الوضوء، الحدیث 2.
3- وسائل الشیعة: الباب 23، أبواب الوضوء، الحدیث 3.
4- وسائل الشیعة: الباب 23، أبواب الوضوء، الحدیث 4.
5- وسائل الشیعة: الباب 23، أبواب الوضوء، الحدیث 8 .

ص:438

وخبر الصدوق الوارد فی لزوم الأخذ من نداوة الوضوء للمسح، ولو من اللحیة وأشفار العینین ومن الحاجبین، حیث قد تمسّک الشیخ الأنصاری قدس سره به علی عدم وجوب الاستیعاب، وهو کما فی خبر الصدوق قال : «قال الصادق علیه السلام : إن نسیت مسح رأسک فامسح علیه وعلی رجلیک من بلّة وضوئک، فإن لم یکن بقی فی یدک من نداوة وضوئک شیء، فخذ ما بقی منه فی لحیتک وامسح به رأسک ورجلیک، وإن لم یکن لک لحیة فخذ من حاجبیک وأشفار

عینیک وامسح به رأسک ورجلیک، وإن لم یبق من بلّة وضوئک شیء أعدّت الوضوء»(1).

وجه الاستدلال بهذا الخبر: بأنّ نداوة الوضوء فی اللحیة والحاجب قلیل، لا یناسب إلاّ مقدار مسمّی المسح لا بنحو الاستیعاب ، کما أنّ ظاهر خبر عدم الاستبطان، هو عدم وجوب مسح جمیع ظهر القدمین، وإن کان اللازم هو الاستبطان، وهکذا فی الخفّ المخروقة فیدخل یده ویمسح بها رجله من دون أن یحصل الاستیعاب.

ولکن الإنصاف عدم تمامیّة شیء منها للمعارضة، لأنّ خبر عدم الاستبطان غایته کفایة المسح علی النعلین، وهذا لا ینافی وجوب الاستیعاب طولاً بدلاً عن نفس ظهر القدم، کما هو کذلک فی المبدل.

مضافاً إلی إمکان أنّ عُقد الشراک تکون واقعة فی مرکز قبّة الکعبین، وهی آخر المسح، فلا یجب ذلک ، کما لا ینافی مع ما ذکرنا من خبر الخفّ المخروقة أیضاً لإمکان أن یکون الاستیعاب فیه واجباً، ولو مع الحاجب وهو الخفّ .

کما أنّ خبر البلّة أیضاً غیر ناظر إلی عدم کفایة النداوة لذلک، بل المفهوم منه هو وجوب المسح بالبلّة، مثل ما یمسح بماء أصل الوضوء الموجود فی الید والاستیعاب ، فحینئذٍ لو لم یکن ذلک البلل کافیاً للاستیعاب فإنّه حینئذٍ یدخل


1- وسائل الشیعة: الباب 21، أبواب الوضوء، الحدیث 8 .

ص:439

تحت فرض العجز المذکور فی آخر فقرة الحدیث حیث حکم بلزوم إعادة الوضوء حینئذٍ.

فالإنصاف أنّ مسألة وجوب الاستیعاب فی الطول واضحة، وعلیه الفتوی .

وأمّا الکلام فی وجوب الاستیعاب فی المسح عَرَضاً: فقد وقع الخلاف فیه بین الفقهاء، والأقوال الموجودة خمسة وهی :

القول الأوّل: قول بوجوب المسح بالکفّ، وهو الذی ذهب إلیه الصدوق ومال

إلیه المحقّق الأردبیلی، وعن «المفاتیح»: أنّه لولا الإجماع لجزمنا به، وجعله أحوط ، وعن «الکفایة»: الأولی أن یمسح بتمام کفّه، بل فی «المدارک» أنّه أحوط، بل عن السیّد الاصفهانی أنّه الأحوط من أحوطیة ثلاث أصابع .

والذی یمکن أن یستدلّ علیه صحیح البزنطی عن أبی الحسن الرضا علیه السلام ، قال : «سألته عن المسح علی القدمین کیف هو؟ فوضع کفّه علی الأصابع هکذا، فمسحها إلی الکعبین إلی ظاهر القدم. فقلت : جعلت فداک لو أنّ رجلاً قال باصبعین من أصابعه هکذا؟ فقال: لا إلاّ بکفّه کلّها»(1) .

فإنّ القول بکون هذا الخبر صریح فی لزوم الکشف، وأنّه ینفی أقلّ من ذلک _ کما ادّعاه صاحب المدارک _ کان متّجهاً، ولکن التعجّب عن المحقّق البهبهانی فی محلّه، لأنّه مضافاً إلی اشتماله علی فعل الإمام بعد سؤال السائل، فإنّ الإمام علیه السلام أخبره بنفی الأقلّ من الکفّ، ویأتی الاحتمال فی قوله: «ولو أنّ رجلاً قال باصبعین» بکونه ثلاثة أو أربعة ، أمّا أن یکون مراده المسح باصبعین فقط، فإنّه یدفعه جوابه بقوله: «لا إلاّ بکفّه» فیفید أنّ المراد هو اصبع الید.

وکذلک احتمال أن یکون بمقدار الاصبعین للید، فإنّه یدفعه جوابه حیث لم یقل بمقدار الکفّ.


1- وسائل الشیعة: الباب 24، أبواب الوضوء، الحدیث 4.

ص:440

وکذلک احتمال أن یکون المراد هو الاصبعین ماسحاً، فقد یکون المقصود أن یمسح بواسطته مقدار الکفّ، أو کان المراد السؤال عن المسح بنفس الاصبعین، وهو الأقوی، ولذلک یمکن أن نذهب إلی صحّة کلام «المفاتیح» من أنّه لولا الإجماع القویّ فی قبالنا، لکان القول بوجوبه قویّاً جدّاً .

ومنها : خبر عبد الأعلی(1) حیث حکم بالمسح علی المرارة وأشار علیه السلام بإمکان التمسّک بآیة نفی الحرج للمسح علیه.

وجه الاستدلال: بأنّه إنّما یکون المسح بالجمیع عرضاً واجباً حیث حکم بما عرفت، وإلاّ لأمکن الحکم بالمسح علی بقیّة الأصابع، فلا سبیل إلاّ أن نقول: إنّه حین العلاج والتضمید یکون قد غطت المرارة جمیع الأصابع، وإن کان المجروح واحداً منها، کما هو المستفاد من ظاهر قوله الظفر والأصبع، فلازم ذلک هو الوجوب ویتمّ الاستدلال بآیة نفی الحرج فی الواجب، وهی تفید أنّه متی عجز الرجل عن المسح علی البشرة علیه المسح علی الجبیرة.

والإنصاف أنّ دلالة هذا الخبر أیضاً علی وجوب الاستیعاب العرضی لا یخلو عن وجه، لأنّه من الواضح أنّ المحتملات الجاریة علی ذلک أربعة:

الأوّل: القول بأنّ الاستیعاب لا یکون بکلا قسمیه.

لکنه لا یتناسب مع ظهور الخبر، لأنّه کان فی مورد الوجوب وما یلیق بالسؤال الوجوب لا المستحبّ، مع أنّه لو کان مندوباً کان الأولی أن یجاب عنه بأنّه مندوبٌ لیس بواجب، لا الحکم بالمسح وترغیبه بأنّ مثل ذلک یُعرف من کتاب اللّه .

الثانی : بأنّ الواجب هو الاستیعاب الطولی دون العرضی کما علیه الأکثر، فهو أیضاً مخدوش، بأنّه لو کان الأمر کذلک، لأمکن تحصیله بالمسح بواسطة اصبع آخر غیر الذی وقع علیه المرارة ، واحتمال أن تکون جمیع الأصابع مجروحة لا


1- وسائل الشیعة: الباب 39، أبواب الوضوء، الحدیث 5.

ص:441

یساعد مع ظهور قوله: الأصبع والظفر.

واحتمال أن یکون المجروح واحداً ولکن قد غطت المرارة جمیع الأصابع.

فهو أیضاً لا یناسب مع ظهور لفظ المرارة، الظاهرة فی صغرها بحیث لایمکن أن تغطی جمیع الأصابع، فإنّ المرارة عادةً صغیرة ولاتستوعب جمیع الأصابع. هذا فضلاً عن ملاحظة متن الحدیث، بقوله : «فجعلتُ علی اصبعی مرارة» کالصریح فی کونه لأصبع واحد فکیف یمکن حمله علی الأصابع، فهذا الاحتمال أیضاً غیر مقبول .

الثالث: القول بوجوب الاستیعاب العرضی غیر الطولی.

فهذا أیضاً قد عرفت مخالفته للإجماع، ودلالة غیر واحد من الأخبار علی وجوب الطولی أیضاً .

الرابع: ویدلّ علیه خبر عبدالأعلی خاصّة وأنّ الإمام علیه السلام قد تمسّک فیه بآیة نفی الحرج ، فاحتمال الشیخ الأنصاری قدس سره ومن تبعه علی کونه فی مورد المستحبّ، بناءً علی جریان آیة نفی الحرج فیه، لا یکون فی محلّه هاهنا، ولو سلّمناه ذلک فی مورده، والبحث موکول إلی ما یناسبه.

أمّا استبعاد جهل مثل البزنطی وعبد الأعلی عن وجوب مسح الرجل ، فإنّه غیر وارد، مع ملاحظة أنّه لیس کلّ ما یسئل کان للجهل بحکمه، بل لعلّه للإطمئنان أو لإفهام الغیر ونحو ذلک .

ومنها : ظهور عدّة أخبار دالّة علی وجوب مسح ظاهر القدمین،الدالّة بظهورها البدوی علی جمیع ظاهر القدم لا المسمّی وأزید منه، ومن هذه الأخبار الروایات الواردة والمسمّاة ب_ الوضوءات البیانیة وأمثال ذلک، فقوّة هذا القول واضحة، ولا یمکن رفع الید عنها، ومن هنا یجب الفحص عمّا یمکن أن یعارضها من الأخبار والآیة والإجماع.

القول الثانی: هو وجوب المسح بثلاث أصابع، ففی «الجواهر»: لم أعثر علی

ص:442

من أفتی بظاهره . نعم حکاه العلاّمة فی «التذکرة» عن بعض ، نعم عن بعض المتأخّرین کالمحقّق الشاهرودی بل السیّد الاصفهانی الحکم بأنّه أحوط ، وکیف کان، فإنّه لا مستند له إلاّ خبر معمّر بن عمر عن أبی جعفر علیه السلام ، قال : «یجزی من المسح علی الرأس موضع ثلاث أصابع وکذلک الرجل (الرجلین)»(1).

وفیه: مضافاً إلی ما عرفت من عدم وجود قائل به بین أصحابنا فأنّ راویه هو معمّر بن عمرو لم یوثّقه أحد، وإن کان الخبر قد عمل به الأصحاب فی مسح

الرأس، حیث قد أفتی الفقهاء بکفایة مسح ثلاث أصابع فلو سلّمناه فیه، ولکن لا نسلّم فی مثل مسح الرجلین الذی قد ورد فیه أخبار صحاح علی خلافه، بحیث لولا هذه الأخبار لعملنا به أیضاً .

القول الثالث: وهو الذی ذهب إلیه صاحب «إشارة السبق» للحلبی و«الغنیة» من وجوب المسح بالاصبعین .

القول الرابع: هو المسح بإصبع واحد، وهو الذی ذهب إلیه «المقنعة» والراوندی، وظاهر «النهایة».

ولم یعرف ما یدلّ علیهما، لاسیما الأوّل منهما، إلاّ صدق المسمّی بهما، ومن هنا فإنّ الثانی أقوی، مع أنّ المسمّی یتحقّق بأقلّ من ذلک، إلاّ أن یکون المقصود من ذکر الاصبع هو أنّ المسمّی بحسب النوع یتحقّق باصبع واحد، فیرجع هذا القول إلی آخر الأقوال.

القول الخامس: وهو کفایة المسمّی، فلابدّ من ذکر إقامة الدلیل علیه .

فیستدلّ له بإطلاق الآیة، بناءً علی عطف (أرجلکم) علی (رؤوسکم)، بإتیان الباء علیه، فکما تفید التبعیض فی الرأس فی مقدّمه، هکذا فی الرجل یفید التبعیض فی ظهر القدم، غایة الأمر أنّه لولا قیام الإجماع علی لزوم الاستیعاب


1- وسائل الشیعة: الباب 24، أبواب الوضوء، الحدیث 5.

ص:443

الطولی، لکان التبعیض فیه جاریاً أیضاً، فبعد خروجه یبقی صورة الاستیعاب فی العرض باقیاً علی إطلاقه فلازمه کفایة المسمّی فیه .

وممّا استدلّ به خبر الأخوین الذی کان سنده صحیحاً فقد روی زرارة وبکر ابنی أعین، عن أبی جعفر علیه السلام : «أنّه قال فی المسح: تمسح علی النعلین ولا تدخل یدک تحت الشراک، وإذا مسحت بشیء من رأسک، أو بشیء من قدمیک ما بین کعبیک إلی أطراف الأصابع فقد أجزأک»(1) .

تقریب الاستدلال به للتبعیض فی العرض هو أن یقال: بأنّ الأمر بمسح شیء من القدمین لا یخلو: إمّا أن یراد التبعیض فی الطول والعرض کلیهما، أو فی الطول فقط، أو فی العرض فقط ، وامّا جریان التبعیض فی الطول فقط، فإنّه مخالف للإجماع والأدلّة السابقة ، مضافاً إلی ما یأتی من البیان الذی یفهم منه القطع بوجوب المسح بالاستیعاب طولاً .

وممّا ذکرنا یظهر حال التبعیض فی کلیهما، ومع بطلان الاحتمالین تبقی الصورة الأخیرة وهی التبعیض فی العرض فقط، وهو المطلوب.

ولکن الإنصاف أن یقال : إنّ حمل الحدیث علی التبعیض فی العرض منوط بإثبات أحد من الأمرین : إمّا بجعل الباء فی کلمة (بشیء) زائدة، مع کون قوله: «ما بین کعبیک إلی أطراف أصابعک» بدلاً عن قوله (قدمیک)، حتّی یصیر المعنی: إذا مسحت بشیء ما بین الأصابع والکعبین، فیدلّ علی لزوم الاستیعاب فی الطول لدلالة لفظ الانتهاء إلی نهایته، وکفایة المسمّی فی العرض لظهور (بشیء من القدم) فیه ، أو کون الباء للإلصاق، سواء کان الموصول وهو کلمة (ما) بدلاً عن الشیء الذی کان مدخولاً للباء أو بدلاً عن القدمین، فیصیر المعنی: إذا مسحت ملصقاً کفَّک بقدمیک أو بشیء من قدمیک، فیدلّ علی البعض فی الطول والعرض،


1- وسائل الشیعة: الباب 24، أبواب الوضوء، الحدیث 4.

ص:444

فیخرج الطول بالأدلّة السابقة فیبقی العرض بحاله .

وأمّا بناءً علی احتمال آخر، وهو أن تکون الباء زائدة وکلمة (ما) مع أو بدلاً عن شیء من القدمین، حتّی یکون المبدل فی حکم الساقط، فیجعل قوله: «ما بین کعبیک إلی أطراف الأصابع» قائمة مقام شیء، فیصیر المعنی حینئذٍ: إذا مسحت ما بین الحدّین، فلازمه حفظ الاستیعاب فی الطول والعرض، فإذا جاء الاحتمال بطل الاستدلال، کما لایخفی .

وممّا استدلّ به أیضاً صحیح زرارة، قال : «قلت لأبی جعفر علیه السلام : ألا تخبرنی

من أین علمت وقلت أنّ المسح ببعض الرأس وبعض الرجلین؟ فضحک، فقال : یا زرارة... إلی أن قال ؛ ثمّ فصل بین الکلام، فقال : «وَامْسَحُوا بِرُءُوسِکُمْ» فعرفنا حین قال برؤوسکم أنّ المسح ببعض الرأس لمکان الباء، ثمّ وصل الرجلین بالرأس کما وصل الیدین بالوجه، فقال : «وَأَرْجُلَکُمْ إِلَی الْکَعْبَیْنِ»، فعرفنا حین وصلهما بالرأس أنّ المسح علی بعضهما»(1) الحدیث .

تقریب الاستدلال: أنّه صریح فی کون مسح الرجلین ببعضهما لا بالاستیعاب، فلو خُلّی وطبعه کان اللازم هو القول بالتبعیض طولاً وعرضاً، وحیث قامت الأدلّة علی وجوب الاستیعاب طولاً، فیبقی العرضی فیه موجوداً، وهذا هو المطلوب . ولکن یمکن أن یجاب عنه بإمکان أن یکون التبعیض للرجل، بلحاظ الباطن والظاهر من الرجل، فینحصر المسح بالظاهر فقط لا الباطن، فلا ینافی حینئذٍ مع وجوب الاستیعاب عرضاً للظاهر، لأنّه لا ظهور فیه یفید أنّ التبعیض یختص الظاهر فقط .

ولکن الإنصاف أنّه خلاف الظاهر، لأنّه إن اُرید بأنّه یمکن استفادة الاستیعاب العرضی منه، یلزم أن یقال فی مسح الرأس أیضاً من وجوب استیعاب مسح مقدم


1- وسائل الشیعة: الباب 23، أبواب الوضوء، الحدیث 1.

ص:445

الرأس، لأنّه بعض لمجموع الرأس، مع أنّه لیس کذلک.

وإن اُرید بأنّه ساکت من حیث الاستیعاب عرضاً، ومهملٌ من تلک الجهة ، قلنا : لا إشکال بأنّ من مسح بعض رجلیه ولو بالمسمّی، کان قد عمل بهذا الحدیث، لأنّه یصدق علیه أنّه قد مسح بعض الرجلین، فیؤخذ به، وفی غیره یکون معارضاً بحسب المفهوم، من حیث عدم الوجوب، مع ما یدلّ علی وجوب الاستیعاب عرضاً، کما لایخفی .

مضافاً إلی أنّ ظهور جملة (إلی أرجلکم) تفید وتشیر بحسب ظهورها البدوی

لظاهر القدم، ویدلّ علی کون التبعیض للظاهر فقط، حتّی یکون المقصود من قوله: «إلی أرجلکم» بیان المحاذاة، فیشمل الباطن .

فدلالة الحدیث علی عدم وجوب الاستیعاب بکلا قسمیه قوی، خصوصاً مع اشتماله علی خصوصیات توجب حصول القطع للفقیه بتصریحه بکفایة مسح بعض الرجل، حیث قد شرح کلّ من الوجه بغسل کلّه، والیدین إلی المرفقین، ثمّ ذکر الرأس والرِجل متّصلاً لإفهام اشتراکهما فی البعضیة، بضمیمة ما وقع فی صدر الحدیث من نسبة الحکم لرسول اللّه صلی الله علیه و آله ، وأنّه نزل به الکتاب، فیعدّ هذا الخبر کالصریح فی ذلک.

کما أنّ سنده أیضاً فی کمال الاعتبار، من جهة نقله من طرق مختلفة، بل قد حکی عن المشایخ الثلاثة بأسانید معتبرة، فلا محیص إلاّ عن القول بوقوع المعارضة بین هذا المضمون وبین ما استفید من الأخبار السابقة المعتبرة، من وجوب الاستیعاب عرضاً وطولاً، فلابدّ من إعمال قواعد باب التعارض بین الدلیلین الحجّتین، فحیث أنّ السند غیر قابل للخدشة فی کلیهما، فیجمع بینهما بالتصرّف فی دلالتها من جهة الموضوع والهیئة، وإن کان هذا النحو من الجمع یعدّ خلافاً للظاهر، لکن لا محیص عنه، فیحفظ الاستیعاب فی الطول، حیث یکون مطابقاً لمضمون کلا الدلیلین ، وأمّا فی العرض فیتصرّف فی الهیئة، ویقال: بأنّه

ص:446

الکعبین وهما قبّتا القدمین (1).

أفضل الأفراد ، وأمّا الواجب هو إیقاعه بما یصدق علیه البعض، بل قد یؤیّد هذا الجمع، الإجماع الذی ادّعاه النراقی فی «مستند الشیعة» علی عدم وجوب استیعاب العرضی.

مسح الرجلین / فی المراد من الکعبین

بل قد نستدلّ علیه ونؤیّده بالأخبار الواردة فی أخذ البلّة من الحاجب وأشفار العینین، حیث أنّه تکفی البلّة المأخوذة للمسح بالبعض ولو بالمسمّی، بخلاف ما لو ذهبنا إلی اعتبار الاستیعاب بالکفّ .

وهذا الاستدلال وإن کان لا یخلو عن حسن، وقد یفید فی مقام البحث عن المؤیّد، إلاّ أنّه قابل للخدشة بما قد عرفت سابقاً من أنّ هذه الأخبار غیر ناظرة إلی هذا، مع إمکان أن یقال بالرخصة فی حال الاضطرار بکفایة المسمّی مثلاً بواسطة تلک الأخبار، وهو ما لا یوجب جوازه فی حال الاختیار .

وبالجملة، بعدما عرفت من الوجوه المذکورة، تعلم أنّ الحقّ هو أن یقال بکفایة المسح بالبعض، ولو بالمسمّی عرضاً، وإن کان الأحوط _ ولا ینفی ترکه _ هو الإتیان بالاستیعاب عرضاً، عملاً بالأخبار الصحیحة ، ومن هنا ظهر أنّ کلام صاحب «المدارک» و«الحدائق» و«المفاتیح» فی غایة المتانة، بأنّه لولا الإجماع لقلنا بوجوب الاستیعاب عرضاً . ونحن نؤیّدهم فی ذلک ونقول: انّه إضافة علی الإجماع فإنّ الخبر الصریح دالّ علی عدم لزوم الاستیعاب، واللّه العالم بحقائق الاُمور.

(1) لا یخفی علیک أنّه قد وقع الخلاف تارةً بین العامّة والخاصّة فی معنی الکعب، فذهب العامّة إلی أنّ القبّة هی الواقعة فی طرفی الساق فی کلّ قدم من الیمین والیسار، فعلی هذا یحتوی کلّ رجل علی کعبین وقبّتین، فتکون النتیجة وجود کعاب أربعة فی قدمی کلّ إنسان، وهذا یقتضی أن یشار إلیها بصیغة الجمع

لا التثنیة، وبناءً علی هذا کان الأولی للّه عزّوجلّ _ والعیاذ باللّه _ أن یقول:

ص:447

«فامسحوا برءوسکم وأرجلکم إلی الکعاب» لا ما قاله تعالی (إلی الکعبین)!!.

أمّا الفرقة الناجیة المحقّة الاثنی عشریة، المعروفة بالشیعة، فإنّهم برغم اختلافهم فی معنی الکعب لم یقولوا بمقولة العامّة الباطلة والمنافیة لقواعد العربیة الفصحی التی نزل بها القرآن الکریم. وسبب خلاف الإمامیة حول معنی الکعب هو اختلاف مضامین الأخبار الواردة فیه، والأقوال عندهم علی ما وصلت بأیدینا ثلاثة وهی:

القول الأوّل: إنّ الکعب هو قبّة ظهر القدم، والمشهور شهرة عظیمة، بل قد ادّعی علیه الإجماع عن الشیخ فی «التهذیب» و«المبسوط» و«المهذّب»، کما صرّح بذلک المصنّف فی المتن، و«النافع» والشهید فی «الروضة» و«التنقیح» ناسباً له إلی أصحابنا، والمفید فی «المقنعة» و«الإشارة» و«المراسم» و«الکافی» و«السرائر» و«الغنیة»، والشیخ فی «الخلاف» و«الجمل» و«العقود»، کما هو المشهور عند المتأخّرین کما فی «العروة»، وإن احتاط کثیر من الفقهاء من لزوم المسح إلی المفصل الذی هو قبّة ظهر القدم .

القول الثانی: کون المراد من الکعب هو المفصل بین القدم والساق، وهو کما علیه العلاّمة فی کتبه المختلفة، والشیخ البهائی والمقدس الأردبیلی .

القول الثالث: المعنی الذی ذهب إلیه المحدّث الکاشانی فی کتابه «الوافی» فی تفسیر الآیة الشریفة من أنّ المراد من الکعب هو العظم المائل إلی الاستدارة الواقع فی ملتقی الساق والقدم نات عن ظهره یدخل نتوّه فی طرف الساق، کالذی فی أرجل البقر والغنم، وربما یلعب به الصبیان، وقد یعبّر عنه بالمفصل لمجاورته له... إلی آخر کلامه . وقد حمل علیه کلام العلاّمة أیضاً.

فصارت الأقوال _ مع قول العامّة _ أربعة، فلا بأس حینئذٍ أن نلاحظ مفاد الأخبار حتّی نقیس الأقوال معها ونفرز القول الموافق معها لیفیدنا فی مقام الفتوی.

فنقول ومن اللّه الاستعانة : والذی یظهر من کلام اللغویّین فی تفسیره، أنّ

ص:448

الکعب معناه الذی یرتفع.

فتارةً: یفسّروه بالارتفاع الحاصل علی ظهر القدم، کما تری هذا المعنی فی المصادر التالیة: عن «القاموس» بقوله : الکعب الناشز فوق القدم ، وابن الأثیر فی «النهایة» بقوله : وکلّ شیء ارتفع فهو کعب، فهو ینطبق بما فی قبّة القدم.

ومثله الهروی فی «الغریبین»، وقال: ومنه سمّیت الکعبة کعبة ، ونقل الشهید فی «الذکری» عن الفاضل اللغوی عمید الرؤساء أنّه صنّف کتاباً فی الکعب، وأکثر فیه من الشواهد علی أنّه الناشز فی ظهر القدم أمام الساق ، انتهی .

واُخری: فسّروه بما یناسب مع مذاهب العامّة، لمساعدته مع معنی أصل الکعب وهو الارتفاع، وهو کما فی «القاموس» من التصریح بذلک أیضاً، بقوله : والناشزان فی جانبهما.

بل یناسب مع مطلق من یفسّره بالارتفاع، کما وقع فی کلام الهروی و «نهایة» ابن الأثیر.

ولکن هذا التفسیر یخالف ما أطبق علیه أصحابنا.

والأخبار الدالّة علی کون المراد من الکعب هو قبّة القدم _ کما علیه المشهور _ هو عدّة أخبار: منها: ما رواه الشیخ بإسناد إلی أبی نصر البزنطی عن أبی الحسن الرضا علیه السلام ، قال : «سألته عن المسح علی القدمین کیف هو ؟ فوضع کفّه علی الأصابع، فمسحها إلی الکعبین إلی ظاهر القدم»(1) ، الحدیث .

إذ الظاهر أنّ قوله: «إلی ظاهر القدم» بیانٌ أو بدلٌ من إلی الکعبین .

ومن الواضح أنّ ظهر القدم ارتفاع ظاهرٌ ویمکن مشاهدته، ومن هنا فإنّه لایمکن تفسیر الکعب بما ذهب إلیه العلاّمة رحمه الله من أنّه ما یکون فی المفصل بین

الساق والقدم، لأنّه قد خرج عن حدود ظهر القدم فی الجملة، فظهوره فی کلام المشهور لا یکاد ینکر .


1- وسائل الشیعة: الباب 24، أبواب الوضوء، الحدیث 4.

ص:449

ومنها : ما رواه الشیخ عن میسرة عن أبی جعفر علیه السلام ، قال : «الوضوء واحد ووصف الکعب فی ظهر القدم»(1) .

وقد عرفت بأنّ الکعب فی ظهر القدم، له ظهور فی مقالة المشهور، کما لایخفی .

وهکذا یمکن أن یستدلّ بأخبار مسح معقد الشراک حیث یفهم من هذه الأخبار أنّ السیرة کانت معقودة فی السابق _ کما هو الحال _ من عقد خیط الحذاء علی کعب القد أی یکون معقده قبّة ظهر القدم، وهو غیر بعید ، فیدلّ علیه عدد من الأخبار: منها: خبر الأخوین عن أبی جعفر علیه السلام ، أنّه قال فی المسح : «تمسح علی النعلین ولا تُدخل یدک تحت الشراک»(2) ، الحدیث .

منها: ما رواه الصدوق، قال : «قال أبو جعفر علیه السلام : مسح أمیر المؤمنین علی النعلین ولم یستبطن الشراکین»(3).

منها: ما رواه الشیخ عن زرارة، عن أبی جعفر علیه السلام : أنّ علیّاً... الحدیث(4)، بمثل سابقه.

بل قد یمکن الاستئناس لذلک من الخبر الذی رواه الشهید فی «الذکری» عن أبو عمرو الزاهد فی کتاب «فائت الجمهرة» ونقله المحدّث النوری، قال: «اختلف الناس فی الکعب، فأخبرنی أبو نصر عن الأصمعیّ، قال: هو الناتیء فی أسفل الساق عن یمین وشمال.

قال : وأخبرنی سلمة، عن الفرّاء، قال : هو فی مشط الرِّجْل، وقال هکذا برجله.

قال أبو العبّاس فهذا الذی یُسمّیه الأصمعی، قال: الکعب هو عند العرب


1- وسائل الشیعة: الباب 31، أبواب الوضوء، الحدیث 1.
2- وسائل الشیعة: الباب 23، أبواب الوضوء، الحدیث 4.
3- وسائل الشیعة: الباب 23، أبواب الوضوء، الحدیث 8 .
4- وسائل الشیعة: الباب 24، أبواب الوضوء، الحدیث 6.

ص:450

المنجحم، قال: وأخبرنی سَلَمة عن الفرّاء، قال : قعد محمّد بن علی بن الحسین علیه السلام فی مجلس وقال : هاهنا الکعبان، قال : فقالوا : هکذا، فقال : لیس هو هکذا، ولکنّه هکذا، وأشار إلی مشط رجله.

فقالوا له : إنّ الناس یقولون هکذا؟

فقال : لا، هذا قول الخاصة، وذاک قول العامّة ، فإنّ المراد من لفظ (المشط)، هو العظم الواقع بین الأصابع وقبّة القدم، فیفهم أنّ المشار إلیه فی کلام الإمام علیه السلام بقوله : هکذا، هو الکعب بمعنی قُبّة القدم، لا المفصل بین الساق والقدم، بقرینة المشط لأنّ بینه وبین المفصل فصل، بخلاف القبّة الواقعة فی القدم، إذ هی متّصلة بالمشط». فدعوی الإجمال فی هذا الحدیث کما عن صاحب «مصباح الفقیه» خالٍ عن الوجه .

وهکذا یمکن الاستدلال لمسلک المشهور بالأخبار الواردة فی حدّ السرقة، حیثُ فیها ما یُفهم کون المراد من الکعب هو قبّة القدم ، بل هو المفصل أیضاً، إلاّ أنّه مفصلٌ بین الأصابع مع القدم، وإن کان ظهور لفظ المفصل بالنسبة إلی المقطع بین الساق والقدم أزید، لکن بالقرینة یفهم ما قلناه ، ومن هذه الأخبار: ما رواه الکلینی بإسناده عن سماعة بن مهران، قال :«قال: إذا أخذ السارق، قُطعت یده من وسط الکفّ، فإن عاد قطعت رجله من وسط القدم»(1) ، الحدیث .

والظاهر من لفظ القدم، هو مجموع ما یقع علی الأرض فی المشی، فینطبق وسطه مع مقالة المشهور فی الکعب .

فعلیه یکون هذا هو المراد من الکعب الواقع فی حدیث الصدوق الذی رواه بسنده عن زرارة ، عن أبی جعفر علیه السلام ، فی حدیث السرقة، قال : «وکان إذا قطع


1- وسائل الشیعة: الباب 4، أبواب حدّ السرقة، الحدیث 3.

ص:451

الید قطعها دون المفصل، فإذا قطع الرجل قطعها من الکعب»(1) ، الحدیث .

فیکون المراد هو قبّة القدم، خصوصاً مع مناسبته مع موضع الأصابع فی الید، فکما لا یقطع من المفصل الواقع بین الکفّ والزند، هکذا فی الرجل لا یقطع من المفصل بین الساق والقدم، بل یقطع من المفصل بین الأصابع والقدم، کما یقطع من المفصل بین الأصابع والکفّ فی الید .

وعلیه یُحمل لفظ (المفصل) الوارد فی خبر معاویة بن عمّار ، قال : «قال أبو عبداللّه علیه السلام : ثمّ یقطع من السارق أربع أصابع، ویترک الإبهام، وتقطع الرجل من المفصل ویترک العقب یطأ علیه»(2) ، بما قد عرفت من المناسبة ودلالة خبر سماعة .

ومن هنا ظهر المراد من الکعب فی خبر محمّد بن عبداللّه بن هلال، عن أبیه، عن أبی عبداللّه علیه السلام ، فی حدیثٍ: «قلت له : جُعلت فداک وکیف یقوم وقد قطعت رجله ؟ فقال : إنّ القطع لیس من حیث رأیت یقطع، إنّما یقطع الرجل من الکعب، ویترک من قدمه ما یقوم علیه ویصلّی ویعبد اللّه ، قلت له : من أین تقطع الید ؟ قال : تقطع الأربع أصابع، ویترک الابهام یعتمد علیها فی الصلاة، ویغسل بها وجهه للصلاة» (3)، الحدیث .

فهو مضافاً إلی اشتماله للمناسبة المذکورة، تکون أدلّ علی معنی الکعب خاصّة مع دلالة قوله: «ویترک من قدمه»، إذ من الواضح أنّه لو قطع من المفصل الواقع بین الساق والقدم، لما یبقی من القدم شیء.

فهذه جملة أخبار یمکن الاستدلال من مجموعها علی أنّ مقالة المشهور أحسن وأولی فی ذلک من مقالة غیرهم .


1- وسائل الشیعة: الباب 4، أبواب حدّ السرقة، الحدیث 8 .
2- وسائل الشیعة: الباب 4، أبواب حدّ السرقة، الحدیث 7.
3- وسائل الشیعة: الباب 5، أبواب حدّ السرقة، الحدیث 8 .

ص:452

فلا بأس حینئذٍ بالإشارة إلی ما یتوهّم دلالته علی مقالة العلاّمة ومن تبعه، وملاحظة مقدار مفاد الحکم، فالذی یمکن أن یستدلّوا بها هما: منها: خبر

الأخوین علی ما نقله الشیخ الطوسی فی «تهذیبه» بسنده عن زرارة وبکیر ابنی أعین: «أنّهما سألا أبا جعفر علیه السلام عن وضوء رسول اللّه صلی الله علیه و آله ، فدعا بطست... إلی قوله : فإذا مسح بشیء من رأسه، أو بشیء من قدمیه ما بین الکعبین إلی أطراف الأصابع فقد أجزأه ، قال : فقلنا : أین الکعبان ؟ قال : هاهنا، یعنی المفصل دون عظم الساق»(1) .

وجه الاستدلال واضحٌ، حیث أنّه قد فسّر متعلّق المشار إلیه بالمفصل، وهو مجمع بین الساق والقدم، وهو المطلوب .

ولکن یرد علیه أوّلاً: أنّ هذه الجملة، أی التفسیر إلی آخره، فیها احتمالات ثلاث : إمّا أن تکون مجموعها من کلام الراوی.

أو خصوص التفسیر بالمفصل کان له، ما عدا جملة: دون عظم الساق.

أو کانت الجملة بمجموعها من کلام الإمام.

أمّا احتمال الأخیر فضعیفٌ، لعدم مناسبته مع کلمة یعنی بحسب النوع، فیدور الأمر بین الاحتمالین الأخیرین ، ومن المعلوم أنّ تفسیر الراوی لا حجّة فیه .

تذیّله بذیلٍ فی خبر «الکافی» الذی یعدّ الکلینی رحمه الله أضبط من الشیخ، وهو هکذا من بعد قوله : دون عظم الساق، قال : فقلنا : هذا ما هو ؟ فقال : هذا من عظم الساق، والکعب أسفل من ذلک، الحدیث .

ولعلّ متعلّق المشار إلیه فی کلمة هذا، هو المفصل بین الساق والقدم، فیصیر الکعب الذی أسفل منه مطابقاً لما قاله المشهور ، مع أنّه لولا ذلک لم یکن لقوله: لکون الکعب أسفل معنی، إلاّ أن ینطبق الکعب علی الذی فسّره بأنّه العلوّ الناشز


1- وسائل الشیعة: الباب 15 ، أبواب الوضوء، الحدیث 3، التهذیب: 1 ، الحدیث 31.

ص:453

علی جانبی الساق، وهو بعید، فیصیر ذلک مبیّناً للخبر المنقول عن الشیخ قدس سره کما لایخفی ، مضافاً إلی أنّ خبر «الکافی» یُقدّم لدی المعارضة علی نقل الشیخ، لو

سلّمنا عدم حمله علی ما ورد فی «الکافی»، لکونه أضبط فی الحدیث .

ومنها : خبر میسر عن أبی جعفر علیه السلام ، قال : «ألا أحکی لکم وضوء رسول اللّه صلی الله علیه و آله ... إلی أن قال : «ثمّ مسح رأسه وقدمیه، ثمّ وضع یده علی ظهر القدم، ثمّ قال : هذا هو الکعب، وقال : أومأ بیده إلی أسفل العرقوب، ثمّ قال : إنّ هذا هو الظنبوب»(1) .

قال المحدّث الکاشانی فی «الوافی»: «إنّ العرقوب عصبٌ غلیظ فوق العقب، والظنبوب _ بالمعجمة والنون ثمّ الموحّدة _ طرف الساق. ثمّ قال : هذا الحدیث أیضاً صریح فی أنّ الکعب هو المفصل»(2) انتهی کلامه .

ولایخفی أنّ هذا الحدیث، مضافاً إلی أنّه یفید أنّه لا صراحة فی کلام العلاّمة وأنّه ظهور فیه ، بل قد یدّعی ظهوره فی مقالة المشهور، کما فی «الروائع الفقهیة»، ولعلّه کان مقصوده من الإشارة إلی أسفل العرقوب، ثمّ قوله بأنّه : هو الظنبوب، الردّ لما یقوله العامّة من کون الکعب هو النائئ عن یمین الساق وشماله، فیکون وجه ظهوره هو کلمة ظهر القدم، وکان الکعب الواقع فیه وهو القبّة مقصود لا المفصل، کما لایخفی .

ومنها : خبر یونس، قال : «أخبرنی من رأی أبا الحسن علیه السلام بمنی یمسح ظهر القدمین من أعلی القدم إلی الکعب، ومن الکعب إلی أعلی القدم»(3) الحدیث ، بأن یکون المراد من الأعلی، هو القبّة، فصار الکعب هو المفصل، وهو المطلوب،


1- وسائل الشیعة: الباب 15، أبواب الوضوء، الحدیث 9.
2- الوافی: ج1 / باب صفة الوضوء، ص45.
3- وسائل الشیعة: الباب 20، أبواب الوضوء، الحدیث 3.

ص:454

لأنّ الأعلی ظاهرٌ فما یکون مرتفعاً عن حوالیه، وهو لا ینطبق إلاّ علی ما قلناه، فیصیر الکعب حینئذٍ عبارة عن المفصل .

هذا، لکن یمکن أن یقال : بأنّ المراد من الأعلی هو رؤوس الأصابع لا القبّة،

ولعلّ وجه مناسبة استعمال هذا اللفظ، هو أنّ الإنسان حینما یقعد أو یقوم، ویفسح عن رجلیه تصیر رؤوس الأصابع إلی الفوق، وتصیر أعلی من سائر أجزاء رجلیه، ولذلک قیل عنه أنّه الأعلی، فیصیر المراد من الکعب حینئذٍ هو القبّة، کما قلناه واستظهرناه من سائر الأخبار، أو یکون المراد هو المفصل، فیساعد مذهب العلاّمة.

فما ذکرناه إمّا یعدّ دلیلاً علی المختار، أو غایته الإجمال لورود الاحتمالین فیه ، وإمّا کون المراد من (الکعب) هو المفصل، ومن (الأعلی) هو القبّة، وأنّه یقع المسح بینهما فإنّ لازم هذا القول لم یلتزم به أحد من أصحابنا ومن المخالفین، لأنّ المسح ابتدائه یکون من رؤوس الأصابع کما لایخفی .

والحاصل من جمیع ما ذکرنا : أنّ الأقوال الثلاثة فی المسألة للخاصّة لا یبعد رجوعها إلی قولین، لأنّ الکعب بالمعنی الذی ذکره صاحب «الوافی» یحاذی حدود ما قاله العلاّمة من المفصل، ولا یزید علیه بما یوجب الکلام فیه، ولعلّه لذلک تری أنّ المحدّث المذکور ذهب إلی کلّ واحد منهما ، غایة الأمر أنّ اسم الکعب حقیقة فی العظم المنفصل فی داخل المفصل من الساق والقدم، إلاّ أنّه سمّی ظاهر الرجل والمفصل باسمه، باعتبار تسمیة المحلّ باسم حالّه، وهو العظم الداخلی الصغیر.

وکیف کان، فیدور البحث حول القولین الآخرین من المفصل والقبّة ؛ وقد عرفت استظهارنا من بعض الأخبار، خصوصاً ما فیه لفظ (وسط القدم) کون المراد هو القبّة لا المفصل، وإلاّ لابدّ أن نرتکب التقدیر، بأن یکون القطع من محاذاة المفصل لا نفس المفصل، وإلاّ یلزم قطع جمیع القدم عن الساق، فلایبقی

ص:455

عقب القدم، مع أنّ الخبر کان یوصی ببقائه وترکه، فلابدّ من تقدیر شیء فیه کلمة المحاذاة ومعلوم أنّه خلاف للظاهر ، هذا بخلاف ما لو قلنا بأنّ المراد من الکعب هو القبّة فالقطع عنها یوجب بقاء العقب قطعاً .

ولو تنزّلنا عن ذلک، ولم یتّضح لنا أحد الأمرین فی مفهوم الکعب، لاختلاف لسان الأخبار وظهورها، فیکون المورد من موارد تعارض لسان الأدلّة فی هذا المفهوم، فإن ثبت الترجیح لأحدهما فهو المقد، کما هو کذلک فی ما نحن فیه، مضافاً إلی کثرة الأخبار الدالّة لمقالة المشهور، کما عرفت ترجیحها من جهة کون الشهرة قائمة علی هذا، بل قد یقال _ کما عن الشیخ الأنصاری قدس سره _ أنّه لم یفت أحد جزماً بوجوب المسح إلی المفصل، غایته الحکم بالاحتیاط.

ولو أبیت عن ذلک، وقلت: بأنّ العلاّمة مثلاً قد ذهب إلی وجوب الحدّ المذکور، وادّعیت أنّ الأخبار فی کلا الطرفین کثیرة، بل بعضها صحیحة فی کلیهما، فیقع التعارض بینهما، ویتساقطان وتکون الاُصول هی المرجع .

والمقام یعدّ من موارد الأقلّ والأکثر الارتباطیین فی الشبهة المفهومیة ، فإن قلنا بجریان البراءة فیها، فیوجب إجرائها هنا انحلال العلم الإجمالی بوجوب أحدهما وتکون النتیجة لزوم المسح إلی القبّة، لأنّه الأقلّ والزائد منه مشکوک فیرجع إلی البراءة ، وإن لم نقل بجریان البراءة فیه، فلازم وجود العلم الإجمالی بذلک، ومقتضی الشغل الیقینی _ بل لاسیّما عند من جعل الطهارة فی الوضوء من قبیل المحصّل، والمحصّل هو الاشتغال _ هو تنجز العلم الإجمالی، وتنجّزه یفید وجوب إتیان المسح إلی المفصل، فلعلّ هذا هو مستند من أحتاط فیه کالسید الاصفهانی والآملی والاصطبهاناتی.

فثبت من جمیع ما ذکرنا أنّ الأقوی هو کفایة المسح إلی القبّة، وإن کان الأحوط إدامة المسح بحیث یصل إلی المفصل، خروجاً عن خلاف من عرفت من الفقهاء والأدلّة المستمسکة بها .

ص:456

تنبیهٌ: لا یخفی علیک بأنّ الکعبین إذا قلنا بأنّهما عبارة عن المفصل بین الساق والقدم _ کما علیه العلاّمة وغیره ممّن تبعه _ فحینئذٍ یکون الکعب هو الخط الموهوم الواقع فی سطح بشرة القدم، ولا عرض له ولا مساحة، فحینئذٍ لا وجه

للکلام عنه والقول بأنّ الکعب داخلٌ فی المحدود، حتّی یجب مسحه، أو خارج عنه فلا یجب.

نعم قد یمکن الاستظهار من کلام من قال بوجوب المسح إلی الکعب، مع قوله بأنّه المفصل، هو التوجیه لکلامه بما قاله بعض لإلحاق کلام العلاّمة إلی المشهور، بأنّه یقصد من المفصل کونه القبّة، _ لکونه محلّ القطع فی السرقة _ أو المفصل الواقی فی الجملة، وإن لم یعرفه عامّة الناس ، بل یعلمه الخواص من علماء علم التشریح، مع انّا نشاهد صراحة کلام العلاّمة فی «المنتهی» و«التحریر» والمحقّق فی «جامع المقاصد» القول بوجوب مسح نفس الکعبین، وهذا أیضاً شاهد آخر یؤیّد کلام المشهور فی معنی الکعب .

مسح الرجلین / هل الکعب داخل فی الممسوح؟

وکیف کان، فهل الکعب بأیّ معنی من معانیه المتقدّمة الذی جعل غایة للمسح، داخل فی الممسوح، حتّی یجب مسحه أصالةً کوجوب غسل المرفق فی غسل الیدین، أو خارج عنه ولا یجب مسحه إلاّ من باب المقدّمة العلمیّة ؟ فیه قولان: المحکی عن العلاّمة فی «المنتهی» و«التحریر» والمحقّق فی «جامع المقاصد» هو الدخول، خلافاً «للمعتبر» و«المدارک» و«الذکری» _ ، بل فی الأخیر نسبته إلی ظاهر الأصحاب، الظاهر فی کونه إجماعیاً _ هو عدم الدخول .

ولیعلم أنّ منشأ الخلاف الواقع هنا فی الدخول وعدمه المستفاد من کلامهم واستدلالاتهم یکون من جهتین :

تارةً: یکون بالنظر إلی کلمة (إلی)، من جهة أنّها للغایة، فهل الغایة داخلة فی المغیّی أم لا ؟

واُخری: بالنظر إلی نفس الأدلّة ومقام الإثبات، وأنّها هل تدلّ علی أحد

ص:457

الأمرین أم لا؟ وإنْ قلنا أو لم نقل بتعیّن أحد الأمرین من جهة حرف (إلی).

فلا بأس أن نتعرّض لکلا الموردین فنقول: أمّا الأوّل: فلا یبعد دعوی عدم دلالة حرف (إلی) لأحد الطرفین بالخصوص، بل نحتاج فی إثبات أحدهما إلی

دالٍّ آخر لمشاهدة استعمالها فی کلیهما من دون دعوی المجاز من أحد فی أحدهما، مثلاً لا إشکال فی عدم الدخول فی مثل قوله تعالی : «أَتِمُّوا الصِّیَامَ إِلَی اللَّیْلِ» وقوله تعالی : «فَنَظِرَةٌ إِلَی مَیْسَرَةٍ» کما لا إشکال فی الدخول إذا قلنا: قرأت القرآن إلی آخره، وأکملت الخبر إلی آخر ، مع أنّه لو کانت حقیقة فی خصوص أحدهما کان الاستعمال فی الآخر ولو مع القرینة استعمالاً مجازیاً ، فعلی هذا إذا لم یکن الکلام محفوفاً بالقرینة یصعب إثبات أحد الأمرین.

والسؤال حینئذٍ هو أنّه هل یحکم بالدخول مطلقاً، أو عدمه مطلقاً، أو یفصّل بین کون الغایة إذا کانت من جنس المغیّی فهو داخلٌ، وإن لم تکن فهی غیر داخلة؟

والذی نصّ علیه ابن هشام فی «المُغنی» هو الحکم بعدم الدخول مطلقاً، لأنّ الأکثر مع القرینة هو عدم الدخول، فیجب الحمل علیه عند التردّد ، انتهی کلامه .

وفیه: أنّ کون الأکثر داخلاً من جهة وجود القرینة لا یلازم دخول غیره أیضاً حتّی مع فقدان القرینة، مع إمکان دعوی خلافه فی الجملة، لإمکان أن یدّعی بأنّ الظهور کان فی الدخول، ولذلک استعمل فی عدم الدخول مع القرینة، وإن لم یکن ذلک بقویّ أیضاً.

فإذا لم یمکن إثبات أحد الأمرین، فلازمه هو التوقّف عند فقد القرینة، والرجوع فی حکم المسألة فقهیّاً إلی سائر الأدلّة الموضوعة لإثبات الحکم من الأصول العملیة، کما لا یخفی .

نعم قد یدّعی کون (إلی) هنا بمعنی (مع)، کما هو کذلک فی الغسل للمرافق لوحدة السیاق ، لکنّه مخدوش، بأنّه مجازٌ لا یصار إلیه إلاّ مع القرینة، والقرینة فی الغُسل هی الأخبار، أمّا فی المسح فإنّه لا توجد قرائن مفیدة.

ص:458

وأمّا الکلام فی مورد الثانی أعنی البحث فی أنّ ما نحن فیه هل یعدّ من الموارد التی وجدت فیها قرینة علی الدخول أو علی عدمه أم لا ؟

فقد ادّعی قیام القرینة علی الدخول وعلی عدمه بوجوه، لا بأس بتعرّضها :

فأمّا الأوّل کما علیه العلاّمة ومن تبعه، وقد استدلّ له :

أوّلاً : إنّ وقوع الکعبین بدایة، یفید الظهور فی الدخول قطعاً _ وذلک فی حدیث یونس (1) فتکون نهایته کذلک، لعدم القائل بالفصل بینهما، وللزوم إسقاط ما یجب فی بعض الحالتین لولاه، وهو باطل اتّفاقاً .

ولقد أورد علیه بأنّ حدیث یونس الذی مرّ ذکره سابقاً وکان فیه: قال : «أخبَرَنی من رأی أبا الحسن علیه السلام بمنی یمسح ظهر القدمین من أعلی القدم إلی الکعب ومن الکعب إلی أعلی القدم» .

فهو وإن یدلّ علی أنّ البدایة منه، ولکن البدایة الحقیقیّة کالنهایة الحقیقیّة لا تقتضی دخولها فی المسافة أو خروجها عنها ، هذا کما فی «مصباح الفقیه» .

ولعلّه قصد دخوله فی بعض الاستعمالات، کما إذا قیل: «قرأتُ القرآن من سورة البقرة إلی سورة العنکبوت»، فإنّه ظاهرٌ فی دخول سورة البقرة فی القراءة، هذا بخلاف ما لو قیل: «حصّل المسافة من المسجد إلی الدار»، حیث لا یفهم منه دخول المسجد فی تحصیل المساحة، بل ظاهره عدم الدخول، فهذا الدلیل مخدوش ، والنتیجة: سقوط ما هو یقابله من لزوم إسقاط ما یجب فی بعض الحالتین، لعدم ثبوت الوجوب فی مسح الکعب فی الابتداء حتّی یثبت وجوبه فی الانتهاء .

وثانیاً : بما قد عرفت من کون کلمة (إلی) بمعنی (مع)، بقرینة وحدة السیاق فی قوله: مع المرافق.

وفیه: قد عرفت جوابه بعدم ثبوت ذلک فی المرفق، إلاّ بواسطة الأخبار


1- وسائل الشیعة: الباب 3، أبواب الوضوء، الحدیث 20.

ص:459

الواردة فیه ، فکیف یصار إلیه عند عدم وجود قرینة من الأخبار، فإن دلّت قرینة علیه یؤخذ بها، ولکنّه أوّل الکلام، کما لایخفی .

وثالثاً : استدلّوا بما دلّ علی وجوب غَسل ما بقی من محلّ الوضوء فی

المقطوع، الشامل للمسح أیضاً بقرینة السؤال، حیث قد أدخل الرجل وعطف علی الید، وهو کما فی صحیح رفاعة عن أبی عبداللّه علیه السلام ، قال : «سألته عن الأقطع الید والرِجل، کیف یتوضّأ ؟ قال : یغسل ذلک المکان الذی قطع منه»(1) .

وخبر محمّد بن مسلم عن أبی جعفر علیه السلام ، قال : «سألته عن الأقطع الید والرجل ؟ قال : یغسلهما»(2) .

ولکن یمکن أن یُجاب عنه: بأنّهما لیسا فی صدد بیان أنّ ما بقی من الأقطع یجب غسله کیف ما کان ، بل یکون مورد السؤال فیما کان المفروض فیه وجوب الغَسل والمسح، فلابدّ أوّلاً من إثبات وجوب المسح للکعب بتمامه أو بعضه، کما احتمله صاحب الجواهر فی حال السلامة، ثمّ یقال بوجوب المسح حینئذٍ لما بقی منه بعد القطع، ولذلک حمل الشیخ الحُرّ فی «الوسائل» الخبر علی ما بقی شیءٌ من العضو الذی یجب غَسله أو مسحه.

فظهر إلی هنا عدم ثبوت دلیلٍ مقنعٍ لإثبات وجوب المسح للکعب بتمامه .

وأمّا الدلیل علی إثبات عدم الوجوب _ کما علیه جماعة من الأصحاب ممّن مرّت أسمائهم _ هو صحیح زرارة وبکیر، عن أبی جعفر علیه السلام ، فی حدیثٍ: «وإذا مسحت بشیء من رأسک أو بشیء من قدمیک ما بین کعبیک إلی أطراف الأصابع، فقد أجزاک»(3) .


1- وسائل الشیعة: الباب 49، أبواب الوضوء، الحدیث 4.
2- وسائل الشیعة: الباب 49، أبواب الوضوء، الحدیث 3.
3- وسائل الشیعة: الباب 23، أبواب الوضوء، الحدیث 4.

ص:460

ویجوز منکوساً (1).

حیث أنّ الظاهر من کلمة (بین) هو کون الکعب غیر داخل فی المحدود، لأنّه کان أوّل المسح فی طرف هو أوّل الکعب، وفی الآخر أطراف الأصابع .

وفیه: أنّه کان فی صدد بیان کفایة المسح بشیء فیما بین الحدّین ، وأمّا کون الکعبین داخلاً فی الممسوح أم لا فلا ، ولکن الإنصاف أنّ ظهور کلمة (بین) فی عدم دخول متلوّه فی الممسوح کان أولی وأظهر من کلمة (مِن) ، فدعوی دلالته فی ذلک لیس فی البعد مثل سابقه من الأدلّة الواردة فی مقابله .

وقد استدلّ له أیضاً، بأخبار عدم وجوب الاستبطان فی الشراک، بدعوی أنّ الشراک غالباً ما یقع علی نفس الکعب، فلو کان هو داخلاً یلزم القول بالمسح علی الجبیرة من دون ضرورة ، هذا بخلاف ما لو قلنا بعدم وجوبه .

وفیه: بأنّه موقوف علی إثبات کون النعال العربی فی ذلک العصر هو هکذا، مع إمکان أن یکون الشراک فی ذلک العصر واقعاً علی حدود المفصل الواقع فوق الکعب بمعنی القبّة، فلا یکون حینئذٍ دلیلاً للخصم .

وکیف کان فإنّ ظهور الأخبار والأدلّة علی عدم الدخول أدلّ منه علی الدخول، خاصّة إذا لاحظنا قول الأصحاب بأنّ عدم وجوب الدخول فی الممسوح قویّ بالأصالة، وإن کان الأحوط دخوله، خصوصاً بملاحظة الوجوب العقلی فی المقدّمة العلمیّة، لاسیّما خروجاً عن خلاف من عرفت من الأعیان، ودلالة بعض الأخبار ، واللّه أعلم بحقیقة الحال .

(1) أی یجوز یمسح من الکعبین إلی رؤوس الأصابع، کما هو مختار «التهذیب» و«الاستبصار» و«الإشارة» و«المراسم» و«المعتبر» و«النافع» و«القواعد» و«التحریر» و«الإرشاد» و«المختلف» و«المنتهی» و«التنقیح» و«جامع المقاصد» و«الروضة» وغیرهم من المتأخّرین، وقال الشیخ فی

ص:461

«المبسوط» و«النهایة» وغیره فی «المهذّب» و«الجامع» و«الإصباح»، بل فی «الذکری» أنّه هو المشهور کما هو کذلک ، بل من المتأخّرین أکثرهم ک_ «الجواهر» وصاحب «مصباح الفقیه» .

غایة الأمر الحکم بالاحتیاط الندبی بقولهم لا ینبغی ترکه، کما عن البروجردی والشاهرودی وغیرهما .

فی مسح القدمین منکوساً

خلافاً لآخرین من المتقدّمین وغیرهم کما عن ظاهر الصدوق فی «الفقیه»، والمفید فی «المقنعة» و«الانتصار» للسیّد، وصریح «السرائر»، ومن ظاهر أبی الصلاح وابنی حمزة وزهرة، وعن المتأخّرین کالنراقی فی «المستند» والگلپایگانی والاصطهاباتی من القول بأنّه الأحوط بل الأظهر عدم الجواز.

وثالث: حکموا بالجواز مع کون الأولی هو المسح مقبلاً، وهو کما عن «الذکری» و«الدروس» و«المراسم» .

وکیف کان فقد استدلّ للجواز بصراحة الأخبار الواردة علی ذلک، وأنّ بعض هذه الأخبار تندرج فی الصحاح.

منها: صحیح حمّاد بن عثمان عن أبی عبداللّه علیه السلام ، قال : «لا بأس بمسح القدمین مقبلاً ومدبراً»(1).

فیصیر هذا بیاناً لخبره الآخر الصحیح، عن أبی عبداللّه علیه السلام ، قال : «لا بأس بمسح الوضوء مقبلاً ومدبراً»(2).

مضافاً إلی کونه هو القدر المتیقّن من الجواز، فطرد الخبرین بالکلّ، والحکم بعدم الجواز مشکلٌ جدّاً، مع اعتبار سندهما وصراحة دلالتهما، وعدم الاشتمال علی حکم آخر ، مضافاً إلی دلالة مرسلة یونس، قال : «أخبرنی من رأی أبی


1- وسائل الشیعة: الباب 20، أبواب الوضوء، الحدیث 2.
2- وسائل الشیعة: الباب 20، أبواب الوضوء، الحدیث 1.

ص:462

الحسن علیه السلام بمنی یمسح ظهر القدمین من أعلی القدم إلی الکعب، ومن الکعب

إلی أعلی القدم، ویقول: الأمر فی مسح الرجلین موسّعٌ، من شاء مسح مقبلاً، ومن شاء مسح مدبراً، فإنّه من الأمر الموسّع، إن شاء اللّه»(1) .

خصوصاً مع ما عرفت منّا سابقاً، من کون المراد من الکعب هو قبّة القدم، وأعلی القدم هو رؤوس الأصابع .

ولکن قد أورد علیه: بأنّ هذا الحدیث مضافاً إلی ضعف سنده بالإرسال، غیر تامّ الدلالة لأنّ من لزوم العمل به یفید المسح بلا استیعاب طولی، بناءً علی کون المراد من أعلی القدم هو القبّة، والکعب هو المفصل، فلازمه کفایة المسح من ذلک المقدار، ولا أقلّ من إجمال معنی (أعلی القدم)، فلا یجوز العمل به .

وقد یجاب عنه: أمّا ضعف سنده، فإنّه مضافاً إلی انجباره بعمل الأصحاب، وقیام الشهرة علیه، أنّه لا أهمّیة فیه بعد وجود خبرین صحیحین الذی قد عرفت ظهورهما فی جواز ذلک ، وأمّا دلالته، فإنّه بعدما عرفت من تفسیر (أعلی القدم)، والمناسبة الموجودة فیه بالنسبة إلی رؤوس الأصابع ، فإنّه نقول : لو سلّمنا إجماله فی ذلک، لکن نقول لا إشکال فی دلالته علی الجواز علی أحد الأمرین: إمّا من رؤوس الأصابع إلی الکعبین کما نقول وعکسه .

أو بجوازه من القبّة إلی المفصل وعکسه.

فمن جمع بین کلا الطرفین فی المسح مقبلاً ومدبراً، فقد عمل به قطعاً، یعنی بأن یمسح من رؤوس الأصابع إلی المفصل وعکسه ، علی أنّ القائلین بعدم الجواز یقولون بذلک حتّی فی هذه الصورة .

فبعد صراحة هذه الأخبار فی الجواز، فإنّ ذلک یوجب صرف الآیة عن کون کلمة (إلی) للانتهاء، إلی کونه انتهاءً للممسوح لا للمسح، حتّی یجوز النکس، کما


1- وسائل الشیعة: الباب 20، أبواب الوضوء، الحدیث 3.

ص:463

یکون فعل الإمام علیه السلام نقلاً عن جدّه رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم کونه إلی هذا الحدّ، مع أنّ

العمل علی ظاهر الفعل إنّما یکون فیما إذا لم یصرّح بجواز غیره، فعلیه یحمل الفعل حینئذٍ علی وقوعه لأفضل الأفراد من الواجب المخیّر .

فعلی هذا، لا تقع المعارضة بین تلک الروایات مع الآیة والوضوءات البیانیة، ولا مع خبر البزنطی الوارد فیه أنّه علیه السلام : «وضع کفّه علی الأصابع ثمّ مسحها إلی الکعبین»)(1).

لما قد عرفت توضیحه سابقاً.

کما لا موقع هنا للأخذ بقاعدة الاشتغال، بعد جود نصّ صریح صحیح علی الجواز، وذهاب کثیر من الأصحاب إلیه .

نعم لا بأس من القول بکون المسح مقبلاً أفضل، وذلک لما دلّت الأدلّة المذکورة علی کونه أفضل، وخروجاً عن خلاف من عرفت ، وأمّا إثبات الکراهة للنکس، کما فی «جامع المقاصد» أیضاً محلّ إشکال، لأنّ مجرّد الخروج عن شبهة الخلاف لا یثبت الکراهة .

فالأقوی جواز نکس المسح فی الرجلین، وإن کان المسح مقبلاً أفضل .

وینبغی التنبیه علی أمرین :

الأمر الأوّل : أنّه هل یجوز التقطیع فی المسح، أم لا؟

بأن یمسح مقداراً مثلاً من رؤوس الأصابع، ثمّ القطع ومن ثمّ إدامة المسح من موضع القطع، وإدامته حتّی الکعبین، وکذلک فی نکسه بأن یجوز تقطیعه بالأخذ من الکعبین بمقدارٍ، ثمّ قطعه، ثمّ إدامته إلی رؤوس الأصابع.

وما قیل: بأنّ بحث التقطیع جری فی خصوص من أجاز النکس، لیس علی ما هو علیه، لعدم الفرق فیه من جهة جواز النکس وعدمه، لإمکان تصویر ذلک فی کلا طرفیه .


1- وسائل الشیعة: الباب 24، أبواب الوضوء، الحدیث 4.

ص:464

نعم ، الذی یختصّ بصورة الجواز فقط، هو التبعیض من جهة کیفیّة المسح، بأن

یمسح مقداراً من رؤوس الأصابع إلی الوسط، والباقی من الکعبین نکساً إلی الوسط، فهذا لایجری إلاّ فی خصوص القول بالجواز .

مسح الرجلین / فی حکم التقطیع فی المسح

وکیف کان، قد یقال بالجواز فیه وفی سابقه، لظهور قوله علیه السلام بأنّ: «الأمر فی مسح الرجلین موسّع، من شاء مَسَح مقبلاً ومن شاء مسح مدبراً» لاسیّما مع تأکّده بذیله بقوله: «فإنّه من الأمر الموسّع، إن شاء اللّه»، فلازمه جواز التقطیع والتبعیض .

ولکن الأقوی هو عدم الجواز فی کلیهما، لانصراف الدلیل عنه، وعدم التفات الذهن عند استماعها إلاّ إلی جواز إیقاع المسح بتمامه مقبلاً أو مدبراً، خصوصاً مع بیان فعل الإمام علیه السلام فی صدره، بأنّه مَسَح من أعلی القدم إلی الکعبین، الظاهر فی الاتصال بدون التقطیع والتبعیض، فیکون الصدر شاهداً علی المراد من قوله : «هو موسّع فی مسح الرجلین»، فلا یشمل صورة التبعیض ، فجوازه بحاجة إلی دلیل وهو مفقود .

ومن هنا ظهر أنّ ما فی کلام «الجواهر» بقوله : «ولیعلم أنّه بناءً علی المختار لا فرق بین جواز النکس فی جمیع العضو أو بعضه» ، لیس فی محلّه، لإمکان أن یقال بأنّ المستفاد بحسب الظهور الأوّلی، هو عدم جواز التبعیض فی الکیفیّة، وذلک لأنّ الفعل الصادر من الإمام کان فی النکس بتمامه لا ببعضه .

وقد عرفت أنّ المراد من التوسعة الوارد فی الخبر هو المذکور والواقع فی صدر الکلام لا مطلقاً .

فالأقوی هو عدم الجواز ، وإن قلنا بجواز النکس تقطیعاً وتبعیضاً، کما استظهر ذلک صاحب الجواهر قدس سره ، وإنْ قال بعده: «إلاّ أنّ الظاهر عدم المنع عنه کما نصّ علیه فی التنقیح».

لکن نحن نقول : هذه الدعوی غیر وجیهة، ولکن لا یخفی أنّ جواز التبعیض یکون فرع جواز التقطیع، وإلاّ لما کان التبعیض جائزاً قطعاً، لوجهین: من الدلیل،

ص:465

ومن جهة عدم جواز التقطیع مرکّباً .

الأمر الثانی : بناءً علی المختار من جواز النکس فی مسح الرجلین، فهل یجوز أن یمسح من الأصل والعکس، أو لابدّ أن یکتفی بأحدهما إمّا بالإقبال فقط أو الإدبار؟

فقد یدّعی جواز الجمع بینهما بظهور الواو فی الجمع، فی قوله علیه السلام : «لا بأس بمسح القدمین مقبلاً ومدبراً»، وظهور مرسلة یونس، من مشاهدة فعل الإمام علیه السلام من الجمع بینهما ،

مسح الرجلین / فی الجمع بین الأصل و العکس فی المسح

ولکن الأقوی والأظهر خلافه وذلک ، لأنّه مضافاً إلی أنّ ظاهر الآیة والروایات البیانیة هو الوحدة ، وفضلاً عن إمکان الجواب عمّا ذکرنا قبل قلیل من أنّ الإمام علیه السلام قد فسّر مقصوده من التوسعة بقوله: «من شاء مسح مقبلاً ومن شاء مسح مدبراً» وأنّ ظاهر مقصوده علیه السلام هو جواز انتخاب أحد الأمرین لا الجمع بینهما، کما أنّه یمکن الجواب عن فعل الإمام علیه السلام ، بإمکان أن یکون المرئی عنه هو فعله کذلک فی مرحلتین، إحداهما بالمسح من الأعلی إلی الکعب، واُخری عکسه .

کما أنّه قد یمکن استفادة عدم جواز تکرار المسح کذلک من بعض الأخبار الظاهرة فی لزوم حفظ الوحدة وهی: منها: خبر حمّاد بن عثمان، قال : «کنت قاعداً عند أبی عبداللّه علیه السلام ، فدعا بماء فملأ به کفّه فعمّ به وجهه، ثمّ ملأ کفّه فعمّ به یده الیمنی، ثمّ ملأ کفّه فعمّ به یده الیسری، ثمّ مسح علی رأسه ورجلیه، وقال : هذا وضوء من لم یحدث حدثاً، یعنی به التعدّی فی الوضوء»(1) .

وأظهر منه فی الدلالة بل کان صریحاً فیما ذکرناه، الخبر الذی رواه الشیخ الصدوق فی «عیون أخبار الرضا» علیه السلام عن الفضل بن شاذان عن الرضا علیه السلام : «انّه


1- وسائل الشیعة: الباب 31، أبواب الوضوء، الحدیث 8 .

ص:466

ولیس بین الرجلین ترتیب (1).

کتب إلی المأمون بمعنی الإسلام شهادة أن لا إله إلاّ اللّه... إلی أن قال : ثمّ الوضوء کما أمر اللّه فی کفایة غَسل الوجه والیدین إلی المرفقین، ومسح الرأس والرجلین مرّة واحدة» (1).

فالأقوی علی الجواز هو الاکتفاء بأحدهما من الإقبال والإدبار _ لا الجمع بینهما _ لا أقلّ من موافقته للاحتیاط .

(1) فإنّه بناءً علی ما ذکره الماتن یجوز مسح الرجل الیسری قبل الیمنی أو معه، کما یجوز تقدّم مسح الیمنی علی الیسری قطعاً، لکونه القدر المتیقّن.

وما ذکره هو خیرة عدّة من الأصحاب قدیماً وحدیثاً، کما فی «المبسوط» و«الغنیة» و«المهذّب» و«الوسیلة» و«الکافی» و«السرائر» و«التذکرة» و«المعتبر» و«المنتهی» و«التحریر» و«المختلف» و«الإرشاد» و«القواعد» و«التنقیح» ،

مسح الرجلین / فی الترتیب بین الرجلین

بل وفی «الذکری» و«المختلف» و«کشف اللثام» وغیرها أنّه المشهور ، بل عن ابن زهرة فی بعض الفتاوی: لا أظنّ مخالفاً منّا فیه ، بل قد تظهر من عبارة «الغنیة» الإجماع علیه. وهکذا ظاهر من ذکر وجوب الترتیب فی الغسل للیدین دون المسح فی الرجلین. والمتأخّرین أکثرهم یجوّزون ذلک .

وفی مقابل أولئک جماعة من فقهائنا الذین یذهبون إلی وجوب مراعاة الترتیب، وهو کما عن «الروضة» والمحکی عن ابن الجنید وابن أبی عقیل وعلیبن بابویه، وفی «کشف اللثام»: أنّه یقتضیه إطلاق ابن سعید من وجوب

تقدیم الیمین علی الیسار، ونحوه الشیخ فی «الخلاف» حیث یدّعی علیه إجماع


1- وسائل الشیعة: الباب 31، أبواب الوضوء، الحدیث 22.

ص:467

الفرقة ، وفی «الذکری»: بأنّ العمل علیه أحوط، وفی الدروس لا یجزی تقدّم الیسری علی الیمنی ولا مسحهما معاً احتیاطاً، ولعلّه إلیه یرجع کلام «المقنعة».

کما ذهب إلی الاحتیاط الوجوبی السیّد الحکیم والخوئی .

نعم، قد نقل فی «الذکری» قولاً ثالثاً، ولم نعرف قائله، وهو وجوب تقدّم الیمنی علی الیسری أو مسحهما معاً، وعدم جواز تقدّم الیسری، معتمداً فی هذا الحکم علی خبر التوقیع الذی سنذکره إن شاء اللّه .

هذا کلّه بالنسبة إلی أقوال المسألة .

وأمّا بالنسبة إلی الأدلّة، فنقول: وما استدلّ أو یمکن أن یستدلّ للجواز فی تقدیم الیسری اُمور : الأوّل : من إطلاق الکتاب من الحکم بمسح الرجل إلی الکعبین، من دون إشارة إلی وجوب الترتیب ، بل وکذا السنّة من الوضوءات البیانیة وغیرها، مع کثرتها، حیث ذکر فیها الترتیب فی غسل الیدین، والمسح فی الوضوء، من دون ذکر الترتیب فی نفس مسح الرجلین، فلعلّه بنفسه صار دلیلاً علی عدم وجوب الترتیب .

مع أنّه لو کان ذلک واجباً، لبان وشاع لعموم البلوی به، وتکرّره فی کلّ یوم مرّات عدیدة ، مع إمکان الاستظهار لصورة الجمع بین المسحین، من خبر عبد الرحمن بن کثیر الهاشمی مولی محمّد بن علی، عن أبی عبداللّه علیه السلام ، قال : «بینا أمیر المؤمنین علیه السلام ذات یوم جالساً مع محمّد بن الحنفیة إذ قال له : یا محمّد ائتنی بإناء من ماء أتوضّأ للصلاة... ، إلی أن قال : ثمّ مسح رجلیه فقال : اللهمّ ثبّتنی علی الصراط یوم تزلّ فیه الأقدام»(1) ، الحدیث .

حیث أنّه نبّه للترتیب فی الیدین دون الرجلین، مع أنّه لو کان منفصلاً بعضهما

عن بعض لنقله. وإن کان احتمال أن یکون دعائه واحداً من دون انفصال لا أصل


1- وسائل الشیعة: الباب 16، أبواب الوضوء، الحدیث 1.

ص:468

العمل، وإلاّ یلزم أن یکون الجمع أفضل لذلک الخبر، مع أنّه غیر معلوم، کما أنّ مضمون خبر التوقیع یدلّ بحسب ظاهره علی أنّ الأولی هو الجمع بینهما، ولکنّه خلاف الإجماع المرکّب، لعدم قائل بین الفقهاء علی لزوم الجمع ولو من باب الترجیح، هذا کلّه أدلّة المشهور .

وأمّا ما استند إلیه علی وجوب الترتیب، مضافاً إلی نقل الإجماع عن «الخلاف»، وکونه موافقاً للاحتیاط، هو ما رواه الکلینی بسند حسن أو صحیح _ کما علیه البعض _ عن ابن هاشم عن محمّد بن مسلم، عن أبی عبداللّه علیه السلام ، فی حدیثٍ، قال : «وذکر المسح، فقال : امسح علی مقدّم رأسک وامسح علی القدمین وبدأه بالشقّ الأیمن»(1) .

فإنّه صریح بالأمر بوجوب الابتداء بالیمنی .

وما رواه النجاشی، عن عبد الرحمن بن محمّد بن عبیداللّه بن أبی رافع _ وکان کاتب أمیر المؤمنین علیه السلام _ أنّه کان یقول : «إذا توضّأ أحدکم للصلاة فلیبدأ بالیمین قبل الشمال من جسده»(2).

وخبر حسن بن محمّد بن الحسن الطوسی فی «مجالسه» بإسناده إلی أبی هریرة أنّ النبیّ صلی الله علیه و آله کان إذا توضّأ بدأ بمیامنه(3) .

بل والتوقیع الصادر عنه علیه السلام خیر دلیل لمن أراد أن یقدّم إحدی الرجلین علی الاُخری، وهو التوقیع الذی رواه الطبرسی فی «الاحتجاج» بسنده عن محمّد بن عبداللّه بن جعفر الحمیری، عن صاحب الزمان علیه السلام : «أنّه کتب إلیه یسأله عن المسح علی الرجلین، بأیّهما یبدأ بالیمین أو یمسح علیهما جمیعاً معاً ؟


1- وسائل الشیعة: الباب 25، أبواب الوضوء، الحدیث 1.
2- وسائل الشیعة: الباب 34، أبواب الوضوء، الحدیث 4.
3- وسائل الشیعة: الباب 34، أبواب الوضوء، الحدیث 3.

ص:469

فأجاب علیه السلام : یمسح علیهما جمیعاً معاً، فإنْ بدأ بإحداهما قبل الاُخری، فلا یبدأ إلاّ بالیمین»(1).

فإنّه أیضاً یدلّ علی وجوب الترتیب لمن لا یرید المسح معاً.

فتقدیم الیسری علی الیمنی غیر صحیح بحسب هذا التوقیع.

وقد استدلّ علی الوجوب المحقّق الثانی وتبعه بعض من تأخّر عنه، بأنّ ما وقع فی الوضوءات البیانیة إمّا أن یکون بالترتیب فهو الواجب، وهو المطلوب ، وإمّا أن یکون خلاف الترتیب، فهو الواجب أیضاً، والثانی باطلٌ قطعاً، لعدم قائل به من وجوب تقدیم الیسری علی الاُخری، غایته الجواز، فلازم ذلک تقدیم الوجوب الأوّل، لأنّ بیان الواجب واجبٌ، ولقوله صلی الله علیه و آله فی حدیث الصادق علیه السلام ، کما رواه الصدوق فی «الفقیه»، قال : «وتوضّأ النبیّ صلی الله علیه و آله مرّة مرّة، فقال : هذا وضوء لایقبل اللّه الصلاة إلاّ به»(2) ، والقول باحتمال أن یکون ما صدر منه صلی الله علیه و آله هو خلاف الترتیب، لکن لم نحکم بوجوبه لقیام الإجماع علی عدم وجوبه.

مدفوع، بأنّ فی ذلک تخصیصاً تصریح النبیّ صلی الله علیه و آله حیث قال: «هذا وضوءٌ...»، وهو خلاف الأصل، وما لزم منه خلاف الأصل.

خلاف الأصل هذه جملة ما یمکن أن یستدلّ للوجوب فی المسألة .

ولکن الإنصاف أن یقال : إنّه لا إشکال فی أنّ احتمال کون تقدیم الیسری علی الیمنی، أو وجوب المسح معاً واجبٌ غیر وجیهٍ، لأنّ الأوّل منهما لو لم یکن مکروهاً _ من جهة کراهة تقدیم الیسری علی الیمنی فی أشباه هذا الأمر وقد تقدّم بعضها مثل دخول المسجد، حیث یستحبّ تقدیم الیمنی علی الیسری، حیث یستفاد من بعض الأحادیث أنّ فی تقدیم الیسری خصوصیة، وهکذا فی الخروج


1- وسائل الشیعة: الباب 34، أبواب الوضوء، الحدیث 5.
2- وسائل الشیعة: الباب 31، أبواب الوضوء، الحدیث 11.

ص:470

عن بیت الخلاء، من کون تقدیم الیمنی محبوباً، فغیرهما هکذا، لاسیما مثل

الوضوء الذی یعدّ أمراً عبادیاً ، فلا أقلّ من کونه مرجوحاً، وبرغم ذلک کیف یمکن أن یکون واجباً، أو أنّ الرسول صلی الله علیه و آله والإمام علیه السلام کانوا مواظبین علی فعله علی نحو الاستمرار المستفاد من لفظ (کان) فی بعض الأخبار الدالّ علی دوام الاستمرار، ولهذا لم یذهب إلیه أحد من الفقهاء، کما لم یفت بوجوب المسح معاً، لعدم دلیل یدلّ علیه، إلاّ التوقیع السابق الذکر، فهو صریح فی أحد الأمرین منه ومن تقدیم الیمنی علی الیسری .

وأمّا حکایة وضوء رسول اللّه صلی الله علیه و آله فی الأخبار البیانیّة، حیث کان الفعل دلیلاً علی الوجوب، ممّا لا یمکن الاعتماد علیه، لاشتمال بعض أحادیثه علی الأمر المندوب قطعاً، مثل ما ورد فی ذیل خبر زرارة الذی تضمّن صدره نقل کیفیّة وضوء رسول اللّه صلی الله علیه و آله ، فقد ورد فیه: «قال: ثمّ قال : بسم اللّه وسَدَله علی أطراف لحیته»(1). فإنّ البسملة فی الوضوء یعدّ أمراً راجحاً ومندوباً، فیمکن أن یکون عمله بتقدیم الیمنی، من باب العمل بما هو الراجح لا خصوص ما کان واجباً .

فیبقی العمدة من الأدلّة علی الوجوب وهی الأخبار ، کما أنّ العمدة منها، هو الخبر الذی رواه الشیخ الکلینی، من الأمر بالابتداء بالشقّ الأیمن فی المسح.

والإشکال علیه _ کما فی «الجواهر» _ بعدم صراحته فی الدلالة علی إیجاب مسح تمام الشق الأیمن قبل مسح الشقّ الأیسر .

لیس فی محلّه، لوضوح أنّه لیس المراد من الابتداء بالشقّ الأیمن ابتدائه بدواً، مع کون المسح لکلیهما معاً، أو تقدیم الیسری بالإتمام عن الیمنی .

نعم ، یمکن الإشکال من جهة وقوع المعارضة بینه وبین خبر التوقیع، مع کون سنده أعلی من سند خبر الکلینی، وکونه متعضداً بفتوی الأصحاب أیضاً من


1- وسائل الشیعة: الباب 15، أبواب الوضوء، الحدیث 2.

ص:471

حیث عدم إیجابه الترتیب مطلقاً، وإن کان ظاهره الوجوب فی صورة اختیار

تقدیم إحداهما علی الاُخری ، فعلی هذا، لابدّ أن یجمع بین الدلیلین بالتصرّف فی هیئة الأمر الوارد فی قوله : «ابدأ بالشقّ الأیمن» بأن تُحمل علی الاستحباب، ولو فی خصوص المسح معاً، فإذا تصرّفنا فیها کذلک، یکفی حینئذٍ الحکم بجواز تقدیم الیسری أیضاً، لعدم وجود دلیل بالمنع عنه علی هذا .

ولکن الأقوی أن نقول بإمکان الجمع بینها، مع حفظ وجوب الترتیب، وجواز المسح معاً أیضاً بأن یقال: أنّ الظهور البدوی الأوّلی فی حدیث الکلینی، هو وجوب تقدیم الیمنی _ سواء کان المتوضّی من أراد حفظ الترتیب بالتقدیم والتأخیر فیه أم لا، بل یأتی بالمسح ولو معاً _ ، ولکن بعد ورود خبر التوقیع، وحکمنا علی حسب مفاده بجواز المسح معاً، یخرج ذلک المصداق عنه، أی عن مفهوم عدم الجواز المستفاد فی خبر الکلینی، فیبقی فردٌ واحدٌ تحت المفهوم، وهو جواز تقدیم الیسری الوارد فی الأخبار، ویکون ذلک بیاناً لإطلاق الکتاب والسنّة ، غایة الأمر أنّه لو لم یکن لنا حدیث التوقیع، لقلنا بممنوعیّة مسح الجمع أیضاً، إلاّ أنّه اعتماد علیه وعلی فتوی بعض الفقهاء _ کما عن السیّد فی «العروة» وبعض من أصحاب التعلیق علیه _ قلنا بجواز المسح معاً .

فالأقوی عندنا هو وجوب المسح تخییراً بین تقدیم الیمنی علی الیسری، أو المسح جمعاً ومعاً، وإن کان الأوّل أولی وأرجح من الثانی، کما قد یستشعر ذلک من خبر زرارة عن أبی جعفر علیه السلام ، فی حدیثٍ: «وتمسح ببلّة یمناک ناصیتک، وما بقی من بلّة یمینک ظهر قدمک الیمنی، وتمسح ببلّة یسارک ظهر قدمک الیسری . قال زرارة : قال أبو جعفر علیه السلام : سأل رجلٌ أمیر المؤمنین علیه السلام عن وضوء رسول اللّه صلی الله علیه و آله ، فحکی له مثل ذلک»(1) .

مسح الرجلین / فی کیفیّة مسح القدمین


1- وسائل الشیعة: الباب 15، أبواب الوضوء، الحدیث 2.

ص:472

فإنّ ظهور الترتیب فی الذکر من تقدیم الیمنی، مع تذیّله بذلک الذیل من کتاب

لرسول اللّه صلی الله علیه و آله ، یوجب الظنّ للفقیه بکون هذا العمل الذی صدر من رسول اللّه صلی الله علیه و آله هو الراجح ، کما أنّ سیرة المتشرّعة أیضاً تکون کذلک .

تکملة: بحث عن کیفیّة وقوع المسح فی الرجلین، وبعبارة اُخری هل یجب أن یکون مسح الرجل الیمنی بالید الیمنی والیسری بالیسری، أم یکفی مطلقاً حتّی وإنْ یمسح الیمنی بالیسری، أو یحتمل أن یجوز المسح بالید الواحدة لکلّ من الرجلین؟

ذهب المشهور إلی جواز کلّ من الفرضین، یعنی یجوز المسح بالیسری للیمنی وکون المسح بید واحدة ، بل فی «الجواهر» أنّه: لم أعثر علی من نصّ علی الوجوب، بل عن «مجمع البرهان»: لعلّه لم یقل به أحد، ولکنّ المحکی عن الحلبی، هو تعیّن مسح الیمنی بالیمنی، والیسری بالیسری ، بل حکی ذلک عن ظاهر ابن الجنید، ونُسب إلی الصدوق فی «الفقیه»، وإلی رسالة أبیه ، ومن المتأخّرین من احتاط فی وجوبه ومن أفتی بذلک مثل المحقّق الآملی قدس سره ، کما أنّ الحکیم والخوئی والاصطهباناتی احتاطوا فی الوجوب، وهذا هو الأقوی، فنحن نفتی بذلک ولا أقلّ من أنّه موافق للاحتیاط عندنا.

وهذا مضافاً إلی ظهور الأخبار المشتملة علی وضوء رسول اللّه صلی الله علیه و آله المعروف بالوضوءات البیانیة، الصریحة فی دلالتها مثل حسنة زرارة أو صحیحته(1)، خصوصاً مع ملاحظة ذیلها بما یدلّ علی کون وضوء رسول اللّه صلی الله علیه و آله أیضاً کذلک، وظهور الأمر فی الوجوب، ورفع الید عن ذلک الظهور فی الرأس _ لو قلنا به _ والقول بجواز المسح بالیسری، بواسطة دلیل آخر خارجی، لا یوجب رفع الید عن ظهوره فی الرجل أیضاً، فما ذهب إلیه فی «الجواهر» من حمله علی الاستحباب، لیس علی ما هو علیه، وقد مرّ علیک نصّ الخبر فراجعه.


1- وسائل الشیعة: الباب 15، أبواب الوضوء، الحدیث 2.

ص:473

وإذا قُطِع بعض موضع المسح، مَسَح علی ما بقی، فإن قُطع من الکعب، سقط المسحُ علی القدم (1).

فبذلک یمکن تقیید الإطلاقات الموجودة فی الکتاب والسنّة، من الاکتفاء بالمسح بإحدی الیدین، کما هو ظاهر بعض الأخبار المشتملة لوضوء رسول اللّه صلی الله علیه و آله ، من ذکر مسح الرجلین بالید فقط، من دون تعرّض لتلک الخصوصیة، فضلاً عن کون الیمنی بالیمنی والیسری بالیسری .

وأمّا استحباب ذلک _ فلو لم نقل بالوجوب _ ممّا لا إشکال فیه، کما صرّح بذلک الشهید فی «النفلیة» والآملی فی «مصباح الهدی» .

مسح الرجلین / فی مسح الأقطع

(1) قد یکون القطع تارةً من مواضع المسح، فإن بقی منه شیء فلا إشکال فی أنّ مقتضی أصل الدلیل، هو بقاء حکم وجوب مسح الباقی، ولا یتبدّل إلی التیمّم، لانصراف نفس الأدلّة إلی وجوبه، بحسب ما یمکن کما مرّ تفصیله فیبحث قطع الید فیالغَسل، والدلیل هو الدلیل، مع وجود أدلّة المیسور والإدراک والاستطاعة فیالجملة .

واُخری یکون القطع من الکعب نفسه، فحینئذٍ إن قلنا بدخول الکعب فی وجوب المسح أصالة، فلا إشکال فی وجوب مسح باقیه إن بقی منه شیء ، وأمّا إن قلنا بخروجه عنه، وعدم وجوب مسحه، لا أصالة ولا مقدّمة، أو قلنا بوجوب مسحه مقدّمة فقط، فلا إشکال فی عدم وجوب مسحه، مع القطع بعدم وجود ذی المقدّمة حتّی تجب مقدّمته .

وثالثةً : أن یکون القطع من فوق الکعب، بحیث لا یبقی منه شیء، فحینئذٍ یسقط حکم مسح القدم بالنسبة إلی المقطوع، ولکن یسقط أصل الوضوء، کما قلنا وأوضحناه فی مسألة قطع الید، بل فی «الجواهر» هو ممّا لا خلاف أجده فی شیء من الحکمین ، بل قد یظهر من المصنّف والعلاّمة والشهید والمحقّق الثانی

ص:474

والفاضل الهندی، کون المسألة من المسلّمات، ولعلّه کذلک.

ونحن نقول : بأنّه کذلک لعدم مشاهدة مخالف فیه .

نعم ، قد یتوهّم من دلالة بعض الأخبار خلاف ذلک، أی وجوب المسح للباقی، حتّی ولو کان القطع من خارج الفرض، وهو کما تری فی خبر رفاعة، قال : «سألت أبا عبداللّه علیه السلام عن الأقطع ؟ فقال : یغسل ما قطع منه»(1) .

وخبر محمّد بن مسلم، عن أبی جعفر علیه السلام ، قال : «سألته عن الأقطع الید والرجل ؟ قال : یغسلهما»(2) .

ومثله خبر آخر عن رفاعة عن أبی عبداللّه علیه السلام ، قال : «سألته عن الأقطع الید والرجل کیف یتوضّأ ؟ قال : یغسل ذلک المکان الذی قطع منه»(3) .

بناءً علی شمول الغَسل للمسح، حملاً علی التعمیم، کما یؤیّده ذکر الرجل مع الید الذی کان فیه المسح قطعاً .

وجه التوهّم هو ترک الاستفصال عن کون محلّ القطع هو محلّ الفرض أو غیره.

بل قد یؤیّد التعمیم حتّی لخارج محل الفرض، من الحکم بغسل ما بقی من عضده فی الید، فی خبر علی بن جعفر، عن أخیه علیه السلام (4)، لو لم یحمل علی ما بقی من المرفق فی العضد، کما قلنا فی باب غَسل الید .

إلاّ أنّ التوهّم لا یمکن التوجّه إلیه، مع اتّفاق الأصحاب علی عدم وجوب مسح ما هو الخارج عن محلّ الفرض ، بل عن الشهید فی «الذکری» بعدم عثور علی نصّ یقتضی استحباب ذلک، کما کان موجوداً فی الید.

مسح الرجلین / وجوب المسح علی البشرة


1- وسائل الشیعة: الباب 49، أبواب الوضوء، الحدیث 1.
2- وسائل الشیعة: الباب 49، أبواب الوضوء، الحدیث 3.
3- وسائل الشیعة: الباب 49، أبواب الوضوء، الحدیث 4.
4- وسائل الشیعة: الباب 49، أبواب الوضوء، الحدیث 2.

ص:475

ویجب المسحُ علی بشرة القدم، ولا یجوز علی حائلٍ من خُفّ أو غیره (1).

إلاّ أنّه یمکن الاستشهاد لذلک بحدیث نقله الصدوق عن الکاظم علیه السلام فی غسل الأقطع عضده: قال : وکذلک روی فی أقطع الرجلین، ولعلّه لذلک أفتی الشهید فی «الدروس» بالاستحباب، فإذا کان الحال فی الاستحباب کذلک، فکیف یکون حال الوجوب، والأمر فیه سهلٌ .

وأمّا مسألة کون المسح بنداوة الوضوء، وکون الرجل الزائدة، أو اللحم الزائد أو الثالول الواقع فی محلّ الفرض، وأمثال ذلک من التردّد بین اعتباره من الأصل أو الزائد، والتخییر فیهما، أو وجوب المسح علیهما؟ فقد مضی تفصیله فی المباحث السابقة فی غسل الید، ولا زیادة هنا، إلاّ أنّه قد یفترق بین المقامین من جهة أنّ الغسل یجب فیه الاستیعاب، بخلاف المسح حیث لا یجب فیه الاستیعاب إلاّ طولاً لا عرضاً، فبذلک یسهل الخطب فی الزائد من إمکان خروجه عن مورد وجوب المسح، کما لایخفی .

(1) فأمّا وجوب المسح علی البشرة، فإنّه یوافق صراحةً فتوی جماعة من الفقهاء، مثل المصنّف و«القواعد» و«الإرشاد» و«التحریر» و«الدروس» و«الروضة» ، بل فی «کشف اللثام»: عندنا حکمه کذا ، بل فی «المدارک»: وأجمع علمائنا علی وجوب المسح علی بشرة القدمین ، بل فی «المعتبر»: أنّ عدم جواز المسح علی الحائل هو مذهب فقهاء أهل البیت.

وکذلک فی «المنتهی»: الإجماع منّا کما فی «الذکری» ، بل فی «الجواهر»: بأنّ الإجماع فی المسألة محصّل، والتصریح فی کلمات الأصحاب فی الحائل بخصوص الخفّ والجرموق والجورب، والتمسّک لا ینافی ما ذکرنا لأنّه کان تلک الأمثلة من باب التمثیل کما لایخفی .

بل المستفاد من بعض الأخبار، أنّ هذا الحکم یستفاد من نفس الآیة، ویکون

ص:476

تأویلها فی تنزیلها، کما سنشیر إلیه إن شاء اللّه .

وأمّا الدلیل علی وجوب المسح علی البشرة: مضافاً إلی ما عرفت من فتوی الأصحاب، وحصول الإجماع بکلا قسمیه، وهو الظهور البدوی من قوله تعالی: «وَامْسَحُوا بِرُءُوسِکُمْ وَأَرْجُلَکُمْ إِلَی الْکَعْبَیْنِ»، کون المسح علی البشرة . وصراحة دلالة الأخبار الکثیرة من النهی عن المسح علی الخفّین، مثل حسنة زرارة أو صحیحة، قال: «قلت له فی مسح الخفّین تقیة ؟ فقال : ثلاثة لا أتّقی فیهنّ أحداً: شرب المسکر، ومسح الخفّین، ومتعة الحجّ»(1) .

قال زرارة : ولم یقل الواجب علیکم أن لا تتّقوا فیهنّ أحداً ، وخبر سُلیم بن قیس الهلالی، قال : «خطب أمیر المؤمنین علیه السلام إلی أن قال : وحَرّمتُ مسح الخفّین، وحدّدت علی النبیذ»(2) الحدیث .

وخبر أبی الورد، قال : «قلت لأبی جعفر علیه السلام إنّ أبا ظبیان حدّثنی أنّه رأی علیّاً علیه السلام أراق الماء ثمّ مسح علی الخفّین، فقال : کذب أبو ظبیان ، أما بلغک قول علیّ: فیکم سبق الکتاب الخفّین ، فقلت : فهل فیهما رخصة؟ فقال : لا ، إلاّ من عدوٍّ تتّقیه، أو ثلج تخاف علی رجلیک»(3) .

ومعتبرة الحلبی، قال : «سألت أبا عبداللّه علیه السلام عن المسح علی الخفّین ؟ فقال : لاتمسح، وقال جدّی قال سبق الکتاب الخفّین»(4) ، ومثله فی النهی الصریح خبری محمّد بن مسلم وأبی بکر الحضرمی(5).


1- وسائل الشیعة: الباب 38، أبواب الوضوء، الحدیث 1.
2- وسائل الشیعة: الباب 38، أبواب الوضوء، الحدیث 3.
3- وسائل الشیعة: الباب 38، أبواب الوضوء، الحدیث 5.
4- وسائل الشیعة: الباب 38، أبواب الوضوء، الحدیث 7.
5- وسائل الشیعة: الباب 38، أبواب الوضوء، الحدیث 8 و 9.

ص:477

وملاحظة أخبار هذا الباب، تدلّ علی المراد ، فالأخبار فی ذلک متواترة، ولذلک لم یسمع الخلاف فیه عن أحد من فقهاء الشیعة الإمامیّة .

ومن الواضح أنّه لا خصوصیّة فی الخفّ فقط ، بل المقصود هو النهی عن المسح علی الحائل، کما أنّه یمکن الاستظهار لذلک من لسان بعض الأخبار الناهیة مثل خبر الکلبی النسّابة عن الصادق علیه السلام ، فی حدیث: «قال : قلت له : ما تقول فی المسح علی الخفّین؟ فتبسّم، ثمّ قال : إذا کان یوم القیامة وردّ اللّه کلّ شیء إلی شیئه، وردّ الجلد إلی الغنم، فتری أصحاب المسح أین یذهب وضوؤهم»(1).

ومثله فی الدلالة مرسلة الصدوق، قال : «وروت عایشة عن النبیّ صلی الله علیه و آله انّه قال : أشدّ الناس حسرةً یوم القیامة من رأی وضوئه علی جلد غیره»(2) .

حیث یفهم من ذلک أنّ النهی عن المسح علی الخفّین لیس من جهة خصوصیة فی الخفّ أو کونه حائلاً، وإنّما من جهة استنکار ما تفعله العامّة من اتّباع إمامهم عمر بن الخطّاب الذی حرّف الکلم عن مواضعه، ومنها المسح علی الخفّین، حیث قد أجاز ذلک خلافاً للکتاب والسنّة، کما أشار إلی ذلک علیّ بن موسی الرضا علیه آلاف التحیة والثناء فی کتابه إلی المأمون فی خبر «عیون أخبار الرضا علیه السلام » عن الفضل بن شاذان، انّه علیه السلام کتب إلی المأمون : «ثمّ الوضوء کما أمر اللّه... إلی أن قال : ومَنْ مَسَح علی الخفّین، فقد خالف کتاب اللّه ورسوله، وترک فریضة کتابه»(3) .

ولذلک تری تأکید أمیر المؤمنین علیه السلام لشیعته فی ترک ذلک، بقوله فی حدیث الصدوق عن حبّابة الوالبیّة، قالت : «سمعته یقول : إنّا أهل بیت لا نمسحُ علی


1- وسائل الشیعة: الباب 38، أبواب الوضوء، الحدیث 4.
2- وسائل الشیعة: الباب 38، أبواب الوضوء، الحدیث 14.
3- وسائل الشیعة: الباب 38، أبواب الوضوء، الحدیث 17.

ص:478

الخفّین، فمن کان من شیعتنا فلیقتد بنا، ولیستنّ بسنّتنا»(1) .

ولکن مع الأسف مع کثرة سعیهم علیهم السلام لتنبیه الناس إلی ذلک، وکون المسح علی الخف ضلالاً وإضلالاً لم یسمعوا ولم یقبلوا، وبدل أن یتّبعوا الحقّ، ساروا

خلف الباطل واتّبعوه، کما تری الإشارة إلی ذلک فی خبر رقیة بن مصقلة، قال : «دخلت علی أبی جعفر علیه السلام فسألته عن أشیاء... إلی أن قال : فقلت له : ما تقول فی المسح علی الخفّین ؟ فقال : کان عمر یراه ثلاثاً للمسافر، ویوماً ولیلة للمقیم، وکان أبی لا یراه فی سفر ولا حضر. فلمّا خرجتُ من عنده فقمت علی عتبة الباب، فقال لی : اقبل، فأقبلت علیه، فقال : إنّ القوم کانوا یقولون برأیهم فیخطئون ویصیبون، وکان أبی لا یقول برأیه»(2) .

ووجه متابعتهم هو ما وردت إلیه الإشارة فی بعض الأخبار، کما نقله صاحب الجواهر قدس سره ، مثل ما یستفاد من معتبرة زرارة، عن أبی جعفر علیه السلام ، قال : «سمعته یقول : جمع عمر بن الخطّاب أصحاب النبیّ صلی الله علیه و آله ، وفیهم علیّ علیه السلام ، فقال : ما تقولون فی المسح علی الخفّین ؟ فقام المغیرة بن شعبة فقال : رأیت رسول اللّه صلی الله علیه و آله یمسح علی الخفّین ، فقال علی علیه السلام : قبل المائدة أو بعدها ؟ فقال : لاأدری ، فقال علی علیه السلام : سبق الکتاب الخفّین، إنّما انزلت المائدة قبل أن یقبض بشهرین أو ثلاثة»(3) .

وکیف کان، فقد ضلّوا وأضلّوا، فأخذهم اللّه وعذّبهم بما کانوا یفعلون، ولبئس ما صنعوا، فتعساً لهم ثمّ تعساً لهم، وعَصَمنا اللّه عن الخطأ والزلل، فی تمام الساعات، من اللیالی والأیّام، بحقّ محمّدٍ وآله الأطهار، وحَشَرنا معهم، وجعلنا


1- وسائل الشیعة: الباب 38، أبواب الوضوء، الحدیث 12.
2- وسائل الشیعة: الباب 38، أبواب الوضوء، الحدیث 10.
3- وسائل الشیعة: الباب 38، أبواب الوضوء، الحدیث 6.

ص:479

من التابعین لهم، والمقتفین لآثارهم، آمین ربّ العالمین یاربّ العالمین .

إذا عرفت ما ذکرنا من ممنوعیة المسح علی الخفّین، بل علی کلّ حائل _ لعدم خصوصیة فیه _ إلاّ ما ذکرنا ، فاعلم أنّه یبقی الإشکال فی الموردین، لا بأس بالإشارة إلی حکمهما :

أحدهما : هو حکم الشعر النابت علی القدم، هل یجوز المسح علیه أم لابدّ من

التخلیل لإیصال الماء والرطوبة إلی البشرة، أو یجب المسح لکلّ من البشرة والشعر ؟

والذی یظهر من المصنّف هنا، کما صرّح بوجوب المسح علی البشرة خصوصاً مع ملاحظة کلامه فی مسح الرأس، من تجویزه بأحد من الرأس أو الشعر، یفهم أنّه کان ممّن یری لزوم المسح علی البشرة، بل قد عرفت دعوی عدد کبیر علی الإجماع وکونه مذهب فقهاء أهل البیت علیهم السلام .

مسح الرجلین / فی المسح علی الشعر النابت علی القدم

ولکن اختار فی «الجواهر» جواز المسح علی الشعر فی الرجل أیضاً، تمسّکاً بعموم قول أبی جعفر علیه السلام علی حسب نقل زرارة، قال : «قلت له : أرأیت ما أحاط به الشعر ؟

فقال : کلّ ما أحاط به الشعر، فلیس للعباد أن یطلبوه، ولا یبحثوا عنه، ولکن یجری علیه الماء»(1) .

وأنّه یصدق المسح علی الشعر کونه مسحاً علی البشرة، وندرة ذلک لا یضرّ عموم اللغوی، مع إمکان منع الندرة، ولذلک یلحق اللحیة فی المرأة إلی الرجل، مع کونها من الافراد النادرة .

ولکن الإنصاف عدم إمکان التمسّک بمثل هذا العموم للمورد، لاختصاصه بمورد الغسل فی اللحیة والید، بقرینة ذکر جری الماء فی ذیله، کما یشهد لذلک


1- وسائل الشیعة: الباب 46، أبواب الوضوء، الحدیث 3.

ص:480

صراحة خبرٍ آخر لزرارة من التصریح بقوله : «فلیس للعباد أن یغسلوه»(1).

کما أنّ دعوی کون المسح علی الشعر مطلقاً، یعدّ مسحاً علی الرجل مطلقاً، حتّی مع کونه کثیر حائلاً أو کان الشعر من الجوانب وواقعاً علیه .

ممنوعة، فلا یبعد القول بالتفصیل، بأنّه إن کان الشعر النابت کثیراً، بحیث یکون حائلاً عن وصول الرطوبة علی البشرة، فإنّه حینئذٍ لابدّ من إزالته، لإیصال النداوة إلی البشرة، والالتزام بلزوم تخلیل الرطوبة، مع وجود الشعر إلی البشرة،

متعسّرٌ أو متعذّر، کما عن الشیخ الأعظم فی «طهارته» .

وأمّا لو لم یکن الشعر النابت إلاّ قلیلاً، فیکفی المسح علیه، لأنّه یصحّ عرفاً القول بأنّه مسح البشرة فی مثله، ولعلّه لذلک ذهب کثیر من المتأخّرین إلی کفایته کالآملی والخوئی والسید الاصفهانی ، وأمّا لو کان کثیراً، فلا إشکال فی کفایة مسح البشرة حینئذٍ، إلاّ أنّه حیث کان یصعب وقوع المسح علیه من دون الشعر بحسب الظاهر، فیما لو کان الشعر فی محلّ المسح لا فی غیر ما لا یُقصد مسحه، کما یری ذلک عن بعض أصحاب التعلیق علی «العروة»، لأنّه خارج عن فرض الکلام قطعاً . فلا یبعد القول بمقالة السیّد فی «العروة»، حیث وافقه کثیر من الفقهاء، من لزوم المسح علیهما، بمعنی إیصال الرطوبة إلی البشرة، مضافاً إلی الشعر، لا بمعنی الإیصال بالمسح حقیقة علی البشرة، لما قد عرفت أنّه غیر ممکن .

مع أنّه قد یمکن الاستدلال بوجوب مسح الشعر _ لاسیما فی قلیله، لو لم نقل بدخول کثیره الموجود، والمجتمع فیه، لا ما یجتمع فیه من خارج الحدود _ بخبر إسماعیل بن جابر نقلاً عن «تفسیر النعمانی» فی حدیثٍ عن الصادق علیه السلام ، عن آبائه عن أمیر المؤمنین علیه السلام ، ثمّ قال : «وأمّا حدود الوضوء: فغسل الوجه


1- وسائل الشیعة: الباب 46، أبواب الوضوء، الحدیث 1.

ص:481

والیدین، ومسح الرأس والرجلین، وما یتعلّق بها ویتّصل سنّة واجبة علی من عرفها وقدر علی فعلها»(1) .

وکون المقصود من قوله: «ما یتعلّق بها» هو الترتیب والموالاة، لا الشعر، کما عن السید الاصفهانی ، لیس علی ما هو علیه، لأنّ ظهور قوله: «ما یتعلّق بها»، خصوصاً مع ملاحظة قوله: «ویتّصل»- التی کانت ظاهرة لما یکون متّصلاً لموضع الغسل والمسح الذی هو الشعر یثبت ما ذکرناه، فیجب إتیان حدّه من

الغسل والمسح.

مسح الرجلین / فی المسح علی شراک النعل

فعلی هذا الأحوط هو الجمع بینهما، کما عن السیّد فی «العروة» إن لم یختر موضعاً کانت البشرة فقط موجوداً، وإلاّ لکان کافیاً قطعاً، کما أشار إلیه العلاّمة البروجردی فی «حاشیته» علی «العروة» بأنّه یکفی قطعاً .

هذا تمام الکلام فی القسم الأوّل من الموردین، الذی قد استثنی من المسح عن البشرة، مع ما قد عرفت من عدم صدق الاستثناء فی بعض الموارد .

الثانی : حکم شراک النعل الواقع فی ظهر الرجل، مع کونه حائلاً؟

قد ورد فی بعض الأخبار من عدم وجوب استبطان الماء تحت الشراک، ومن هذه الأخبار معتبرة زرارة عن أبی جعفر علیه السلام قال : «توضّأ علیّ علیه السلام فغسل وجهه وذراعیه، ثمّ مسح علی رأسه وعلی نعلیه، ولم یدخل یده تحت الشراک »(2).

ومثله خبر الأخوین، عن أبی جعفر علیه السلام ، أنّه قال فی المسح : «تمسح علی النعلین ولا تدخل یدک تحت الشراک»(3) .

ومرسلة الصدوق، قال : «قال أبو جعفر علیه السلام : مسح أمیر المؤمنین علی النعلین


1- وسائل الشیعة: الباب 15، أبواب الوضوء، الحدیث 23.
2- وسائل الشیعة: الباب 23، أبواب الوضوء، الحدیث 3.
3- وسائل الشیعة: الباب 23، أبواب الوضوء، الحدیث 4.

ص:482

ولم یستبطن الشراکین»(1) .

وأیضاً مرسلة الصدوق، قال : «روی أنّ رسول اللّه صلی الله علیه و آله توضّأ ثمّ مسح علی نعلیه، فقال له المغیرة : أنسیتَ یارسول اللّه صلی الله علیه و آله ؟ فقال له : بل أنت نسیتَ هکذا أمرنی ربّی»(2) .

فإنّ المستفاد من الجمیع أنّ عدم وجوب الاستبطان تحت الشراک أمرٌ ثابتٌ مفروغ عنه. فالذی ینبغی أن یبحث عنه هو أنّه هل یکون من الموارد التی أجاز الشارع المسح علی الحائل، ولو فی حال الاختیار، فکأنّه قد احتسب المسح

علی الشراک مسحاً علی نفس بشرة الرجلین، فهذا هو الذی ذهب إلیه بعض من الفقهاء مثل العلاّمة فی «التذکرة»، والمنقول عن الشیخ فی «المبسوط» وابن حمزة فی «الوسیلة» والسیّد الاصفهانی بالنسبة إلی زمان صدور الحدیث لا فی زماننا .

أو یقال : بأنّ المسح علی الشراک یکون مسحاً خارجاً عن محلّ الفرض، فعلی هذا لو لم یستبطن لکان جائزاً، من دون أن یضرّ بالوضوء، فهذا هو الذی استظهره صاحب الجواهر، وینسبه لابن إدریس ، ولکنّه متوقّف علی کون المراد من الکعب هو القبّة لا المفصل، وإلاّ لکان الشراک داخلاً، إلاّ أن یفرض کون محلّ معقد الشراک واقعاً علی المفصل، لکنّه بعید جدّاً .

کما أنّ هذا الوجه صحّته منوطة بأن لا یکون تمام الکعب بمعنی القبّة واجباً فی المسح، کما اختاره الشیخ الأعظم، وجعل ذلک دلیلاً علی کلامه، وإلاّ یلزم أن یکون الشراک داخلاً فی محلّ الفرض، کما لایخفی .

أو یقال : بأنّ الأخبار الدالّة علی ذلک کانت واردة فی موارد الضرورة، مثل الحروب والغزوات التی کانت فیها خوف العدوّ، أو البرد والثلج بحیث یخاف


1- وسائل الشیعة: الباب 23، أبواب الوضوء، الحدیث 8 .
2- وسائل الشیعة: الباب 38، أبواب الوضوء، الحدیث 13.

ص:483

إلاّ للتقیّة أو الضرورة (1).

الرجل علی حیاته، فتدخل المسألة فی مصادیق ما سیأتی من المستثنیات .

أو کان من الموارد التی کانت منسوخة بالآیة، نظیر المسح علی الخفّین، أی وردت هذه الأخبار قبل ورود سورة المائدة ، وأمّا بعد نزول الآیات فلایجوز المسح علیه کما وقع فی کثیر من الأخبار السابقة، من أنّ الکتاب سَبَق مسح الخفّین، فیشمل ذلک لمثل شراک النعلین.

هذا إذا کان المراد من النعلین غیر عربیّین، وإن کان المراد منه هو، فقال الشیخ الطوسی علی ما فی «الوسائل» فی ذیل حدیث زرارة(1) أنّ النعلین العربیّین لا یمنعان شراکهما من الماء فی المسح بقدر مایجب .

وکیف کان حیث أنّ النعلین _ سواء کانا عربیّین أو غیرهما _ لم نعرف کیفیتهما وشکلهما الظاهری فی ذلک الزمان حتّی نحکم علیه، فعلی هذا لا یمکن الحکم بالتجویز بذلک، ولذلک تری إعراض جمع من الفقهاء عن حکم هذه المسألة ولم یتعرّضوا لحکمها، وإن کان أحسن الوجوه هو الذی ذهب إلیه صاحب الجواهر، حیث عدّ الکعب خارجاً عن محلّ الفرض بجمیعه، کما قاله الشیخ، وإن کان بعضه داخلاً أصالةً أو مقدّمة، ولکن الشراک فی کلّ الأحوال کان خارجاً، واللّه هو العالم بحقیقة الحال .

(1) ولا یخفی أنّ البحث فی هذین الاستثنائین یحتاج إلی جعل کلّ واحد منهما مورداً للکلام، والنقض والإبرام، لاهمیّتهما ومدخلتیهما فی ثبوت الحکم، فنقول :

الکلام فی التقیّة وحکمها: اعلم أنّ البحث فیها یقع فی مقامین :

تارة : بالقیاس إلی التقیّة فی عموم الموارد ، واُخری : بالقیاس إلی خصوص المسح علی الحائل .

الکلام فی التقیّة

اشارة


1- وسائل الشیعة: الباب 38، أبواب الوضوء، الحدیث 11.

ص:484

وأمّا البحث فی القسم الأوّل: فقد صنّفوا فیه رسائل کثیرة، أحسنها ما صدر عن الشیخ الأکبر قدس سره والمطبوع فی «رسائله»، وخلاصة الکلام فیه أنّ التقیة قد تکون فی الفتوی، أو فی العمل، أو فی کلیهما ، والتقیة فی الفتوی: تارةً تکون بلحاظ اتّقاء شخص المفتی نفسه کما إذا کان عند الإمام مخالف، وهو علیه السلام یحذر منه لنفسه ، واُخری: تکون لاتّقاء المستفتی، وهو کما فی قضیة وضوء علی بن یقطین، إذ سأل عن الکاظم علیه السلام فأمره بأن یعمل ما یوافق مذهب العامّة .

وثالثة: تکون اتّقاء لثالث کان حاضراً فی المجلس.

فإذا عرفت هذه التقسیمات، فنقول : یقع الکلام فی مطالب : المطلب الأوّل : فی حکم التقیة عند الإفتاء.

لا إشکال فی أنّه یجب العمل علی طبق فتوی المفتی، ما لم یظهر کون فتواه صادراً علی نحو التقیة، کما لا إشکال فی عدم جواز العمل بالفتوی، إذا علم أنّه صدر تقیّةً، ولیس حکمه الواقعی العمل بالتقیّة لعدم وجود ما یتّقی منه، فحینئذٍ یبطل الحکم الصادر تقیّةً لتنجّز الحکم الواقعی علیه.

إنّما یقع الکلام فی الفتوی الذی لا یعلم أنّه صدر عن تقیّة، وعمل به علی طبق التقیة، ثمّ انکشف الخلاف، فهل یجزی ذلک العمل الصادر علی طبق التقیة عن العمل المطابق للواقع أم لا ؟

الظاهر کون المسألة من مصادیق المأتی به بالأمر الظاهری، فإنّ العامل قد عمل فی ذلک بالأصول العقلائیة، وهی أصالة کون الحکم الصادر هو الواقعی، وعدم صدوره عن تقیةٍ، بلا فرق بین کون فتوی المفتی صادراً عن توریة، أو قلنا بجواز إصداره حکماً علی خلاف الواقع لمراعاة التقیّة فمن ذهب بالاجزاء فی الحکم الظاهری، وإمکانه فیقول هاهنا کذلک ، ومن ذهب إلی عدم الاجزاء _ کما

هو مختارنا _ فیقول هاهنا ببطلان الحکم وعدم کفایة العمل، إلاّ أن یقوم دلیل

ص:485

شرعی علی کفایته، کما فی بعض الموارد، فنلتزم به، کما لا یبعد أن یکون بعض موارد التقیة من هذا القبیل .

وإن کان الشهید الثانی علی ما حکی عنه، ذهب إلی التفصیل فی ذلک، بین کون الاجزاء منوطاً علی القول بالتصویب، وعدم الإجزاء علی التخطئة.

وتفصیل الکلام موکول إلی محلّه فی علم الاُصول .

المطلب الثانی : فیما إذا کانت التقیّة فی العمل فی موضوع الحکم الشرعی، مع التوافق فی أصل العلم، کمسألة وقوع الخلاف فی یوم العید وعرفة والأضحی، حیث أنّه لا مخالفة بیننا وبین العامّة فیها فی أصل الحکم من حرمة الصوم فی یوم الفطر، ووجوب العمل بمناسک الحجّ فی یوم عرفة والأضحی ، بل قد یقع الخلاف فی الموضوع الخارجی وهو أنّ هذا الفرد من الیوم یعدّ یوم العید أم لا ، فلا إشکال حینئذٍ أنّه لیس من موارد التقیة من جهة الحکم، لأنّ التقیّة بأدلّتها کانت واردة فی الأحکام لا فی موضوعاتها .

نعم، قد یرجع آخر الأمر إلی التقیة فی الحکم، یوجب أن نعمل بالحکم الذی یتوافق مع مذاهبهم فی الوقوف وغیره، إلاّ أنّ التقیّة بالأصالة لا تکون فی الحکم، بل تکون فی الموضوع، فعلیه یمکن الذهاب إلی عدم الاجزاء فی بعض مواردها، کما سنشیر إلیه بصورة الإجمال ، فنقول ومن اللّه الاستعانة : وهو یتصوّر علی أنحاء متعدّدة :

فی التقیّة فی موضوع الحکم الشرعی

تارةً : یکون التخالف بیننا وبینهم بالقطع الوجدانی علی خلافهم، فی کون الیوم یوم عید فطر مثلاً، فلا إشکال حینئذٍ أنه لو کان المورد مورداً للتقیة، یجوز للمؤمن أن یفطر من صومه، إلاّ أنّه یجب علیه القضاء بعد رفع التقیة، لما قد عرفت من عدم کون أصل الحکم مورداً للتقیة ، فأدلّة لزوم العمل علی الحکم بحسب الواقع، باقٍ علی حاله، ویجب العمل علی طبقه، کما یدلّ علیه الأخبار الواردة من

الأئمّة علیهم السلام بلزوم الإفطار علی طبق فتوی حکّام الجور وقضاتهم، کما صرّح

ص:486

بذلک الإمام الصادق علیه السلام فی مرسلة رفاعة، عن رجل، قال علیه السلام : «دخلت علی أبی العبّاس بالحیرة، فقال : یا أبا عبداللّه ما تقول فی الصیام ؟

فقلت : ذلک إلی الإمام إن صمت صمنا وإن أفطرت أفطرنا ، فقال : یا غلام علیَّ بالمائدة، فأکلتُ معه وأنا أعلم واللّه أنّه یومٌ من شهر رمضان، فکان إفطاری یوماً وقضائه، أیسر من أن یضرب عنقی ولا نعبد اللّه»(1) .

ومثله خبر داود بن الحصین، وخلاّد بن عمارة(2).

واُخری : ما إذا کان الموضوع لهم قطعیّاً بخلافنا، حیث لم نقطع علی، خلافهم، فهنا:

تارةً: قد لا تقوم لنا حجّة شرعیة علی خلافهم، وهذا داخلٌ فیما یأتی بأنّه هل یکون مجزیاً أم لا ؟

واُخری: تقوم لنا حجّة شرعیة علی خلافهم، فإن قامت لنا حجّة شرعیة علی خلافهم، فیکون الحکم حینئذٍ کالحکم بصورة القطع بالخلاف، من عدم الاجزاء، کما لو ثبت لنا بالبیّنة الشرعیة دخول شهر رمضان فی یوم کذا مثلاً، وهم قاطعون بأنّ ذاک الیوم لا زال من شعبان، فإنّه لا إشکال فی وجوب القضاء علیه بعد ذلک، لو کان قد أفطر تقیّةً، لشمول أدلّة التقیّة وأدلّة حجّیة الحجج بالنسبة له. فعلیه أن یتّقی ویفطر ثمّ إنّ علیه أن یقضی ما فاته من الصوم إعادة العمل بعد رفع العذر .

وأمّا لو لم تقم لنا حجّة شرعیة علی خلافهم، ولم نقطع علی التخالف، ولکن ثبت الموضوع لهم بدلیل غیر مثبتٍ لنا، کما لو کان الشاهد فاسقاً، ونحن نقول بعدم قبول شهادته، ولکن لا نقطع بالخلاف، ولا حجّة شرعیة علیه ، فهل یمکن تطبیق دلیل التقیّة علی الحکم الظاهری، أعنی حجّیة تلک الحجّة التی أقاموها أم لا ؟ أو أنّ دلیل التقیّة مختصٌّ بالحکم الواقعی؟ فیه وجهان : قد یقال بالتطبیق من


1- وسائل الشیعة: الباب 57، أبواب الصوم، الحدیث 5.
2- وسائل الشیعة: الباب 57، أبواب الصوم، الحدیث 4 و 6.

ص:487

جهة عموم دلیل التقیة لمثل مورد الحکم الظاهری، لأنّه کما یقتضی تقسیمه إلی الحکم الواقعی الأوّلی، والواقعی الثانوی، کذلک یقتضی تقسیم حکم الظاهری إلی الأوّلی والثانوی ، فالظاهری الأوّلی هو الحکم الذی تثبت حجّیته عندنا، والثانوی منه هو الذی تثبت حجّیته عندهم، ورخّصَنا دلیل التقیة علی موافقتهم، والجری عملاً علی طبق حجّتهم، لزوماً أو جوازاً .

فإن قلنا بإجزاء الحکم الواقعی الثانوی عن الواقعی الأوّلی _ کما لا یخلو ذلک عن قوّة _ فنقول بإجزاء الحکم الظاهری الثانوی عن الحکم الظاهری الأوّلی هنا أیضاً، ولازم ذلک إمکان الاکتفاء بالعمل الصادر تقیّةً، وعدم الحکم بوجوب الإعادة والقضاء، فلازمه الاجزاء مع عدم کشف الخلاف، لأنّ الحجّة عندهم تکون کالحجّة عندنا، فیکون العمل مجزیاً .

ولکن اختلف فقهائنا فی حکم هذه المسألة، وقد مال الشیخ الأکبر قدس سره إلی الاکتفاء، کما یظهر میله إلیه من رسالته فی التقیة، خلافاً لصاحب الجواهر، حیث أنّه بعد أن یذکر مختار العلاّمة الطباطبائی من الاجزاء، یذهب هو رحمه الله إلی الاحتیاط، والظاهر أنّ احتیاطه استحبابی ویستفاد ذلک من قوله: لاینبغی ترکه.

ولکن الآملی قدس سره قد فهم من کلامه أنّ الاحتیاط وجوبی کما هو مختاره فی «مصباح الهدی»، لأنّه یقول بعد ذکر الأدلّة: بأنّ الجزم بجواز الاکتفاء به مشکلٌ، لمکان عدم إحراز ما علیه الأصحاب من جهة ترک تعرّضهم لهذه المسألة، کما اعترف به صاحب الجواهر قدس سره ... .

إلی أن قال فی آخر البحث : وعلیه فلا محیص فی مثل المقام عن الاحتیاط، کما أفاده صاحب الجواهر قدس سره .

فلا بأس حینئذٍ بالتعرّض إلی أدلّة المسألة، حتّی نقف علی مدی ظهورها ودلالتها فنستفید منها فی مقام الفتوی ، فنقول وعلیه التکلان: قد استدلّ لذلک بالأدلّة الأربعة من النقل والسیرة العملیة والعقل والاعتبار .

ص:488

الدلیل الأوّل: فقد قیل بأنّ أدلّة التقیّة بعمومها یشمل الأحکام الظاهریة، وهی مثل ما یستفاد من صحیح أبی عمرو الأعجمی، قال : «قال لی أبو عبداللّه علیه السلام : یا أبا عمرو تسعة أعشار الدین فی التقیة، ولا دین لمن لا تقیة له، والتقیّة فی کلّ شیء إلاّ فی النبیذ، والمسح علی الخفّین»(1) .

ومثله فی الجملة الخبر المروی فی «دعائم الإسلام» عن الصادق علیه السلام : «التقیة دینی ودین آبائی، إلاّ فی ثلاث: شرب المسکر، والمسح علی الخفّین، ومتعة الحجّ»(2) .

والأمر کذلک، لو لم یرد دلیل آخر یدلّ علی عدم الاکتفاء بمثل ذلک العمل الذی أتی به تقیّة، وإلاّ لأمکن الجمع بینهما بأنّه یجب التقیة بإتیان العمل علی طبق عملهم، وبرغم ذلک لابدّ من الإعادة بعد رفع العذر، کما لایخفی .

الدلیل الثانی: وهو السیرة العملیة علی موافقتهم، بل وإحراز عمل الأئمّة علیهم السلام علی ذلک، حیث لم ینکروا علیهم حجّهم، وکانوا أنفسهم یحجّون معهم، ولم ینقل من أحدهم علیهم السلام إتیان أعمال الحجّ مرّتین لذلک، ولم یأمروا شیعتهم به أو بالإعادة، مع أنّه من المعلوم أنّه لو کانوا یقولون بذلک أو یأمرون أو یعملون لنقل إلینا، لاسیما مع ملاحظة تکرّر الحجّ فی کلّ سنة، وکون الغالب مخالفتهم معنا فی ثبوت الهلال، فعدم نقل جمیع ذلک، دلیل علی عدمه، فیثبت بذلک أنّهم کانوا علیهم السلام یفیضون کما أفاض الناس، ویجرون علی جریهم، فیکون ذلک دلیلاً قطعیاً علی الاجزاء، وعدم لزوم الإعادة .

الدلیل الثالث: وهو دلیل العقل، وذلک أنّه لولا الاجزاء فی مثل الحجّ، للزم الحرج الشدید ، بل ربما إیقاع النفس فی الخطر بتکرار الأعمال فی یومین أو


1- وسائل الشیعة: الباب 24، أبواب الأمر بالمعروف، الحدیث 2.
2- دعائم الإسلام: 1 / 133.

ص:489

أیّام، مع ملاحظة حرارة هواء الحجاز، وعدم مساعدة الوسائل للإقامة والوقوف

فی المواقف، مع ملاحظة منعهم الشدید عنه، بل ولزوم العسر والحرج لأهل البلاد النائیة فی إعادة الحجّ فی المستقبل عند الاختلاف، مع أنّه یحتمل وجود نفس الاختلاف فی السنة القادمة أیضاً کما هو الغالب، کما أنّه قد یتّفق اتحادهم مع الشیعة فی ثبوت الهلال، فلازم جمیع ذلک لأهل البلاد النائیة هو صرف العمر کلّه أو کثیره فی هذه الاُمور لأجل أداء حجّ صحیح، وهذا أمرٌ یتعسّر علی عامّة الناس إتیانه خاصّة مع ملاحظة عدم وجود وسائل النقل فی تلک الأعوام، أو یوجب سدّ باب الحجّ لهم مع تلک العسرة، فجمیع ذلک ممّا لا یرضی به الشارع، فیطمئن الفقیه بأنّه لایجب إعادة مثل الحجّ لو أتی به تقیّة.

الدلیل الرابع : الاعتبار، وهو أنّه من المعلوم أنّ مقصود الشارع من تشریع الحجّ للمسلمین هو اجتماعهم واتّحادهم علی أداء هذه الفریضة الشرعیة الاجتماعیة، ومثله لا یرضی باختلاف المسلمین، فیما یکون المطلوب اتّفاقهم، وفی مواقف کوقوفهم بعرفات، والوقوف بمشعر، وأعمال یوم النحر ونحو ذلک، وهو أمر یستفاد من لسان الأخبار الواردة فی الحجّ، ولایعدّ استحساناً محضاً حتّی یعترض ببطلان أصل دلیلیّته، کما لایخفی .

نعم ممّا لابدّ أن یذکر فی المقام هو أنّ أکثر الأدلّة السابقة، کالعقل، والسیرة العملیة، والاعتبار أدلّة خاصّة تجری فی مورد خاصّ کالحجّ وهی غیر عامّة لتشمل موارد اُخری مثل صوم یوم الشکّ من أوّل شوّال حتّی یحکم بالاجزاء، وعدم وجوب القضاء بمجرّد حکمهم بثبوت الهلال ولو من شهادة فاسق فإنّه فی مثل هذه الموارد یصعب الحکم بالاجزاء .

إلاّ أن نستدلّ علی ذلک بعموم النقل، وقد ذکرنا دلالته علی ذلک، حتّی ولو من جهة عدم وجوب الإعادة والقضاء، فإثباته کذلک لا یخلو عن تأمّل، فالاحتیاط فی لزوم الإعادة والقضاء فی غیر مثل الحجّ لا یخلو عن قوّة، إلاّ فیما ورد فیه

ص:490

دلیل خاص یستفاد منه أنّ التقیّة یعدّ کان مجوّزاً للعمل بها حتّی من تلک الحیثیّة،

فحینئذٍ نحکم بالاجزاء وعدم الإعادة.

هذا تمام الکلام فی التقیّة بحسب عموم الموارد .

وأمّا القسم الثانی: وهو التقیّة فی خصوص المورد الذی نبحث عنه، أی المسح علی الحائل لتقیة، کالمسح علی الخفّین أو الجوراب ونحوهما ، ولا إشکال بل ولا خلاف _ إلاّ عن شرذمة _ فی جواز العمل بها، بل فی وجوبها، والحرمة علی العمل بخلافها فی بعض الموارد، بل فساد العمل لو لم یعمل بها فی باب العبادات، کما أشار إلیه بعضٌ، کصاحب «مصباح الفقیه» ، بل قد ادُّعی علی ذلک الإجماع کما عن «مختلف الشیعة»، بل فی «الجواهر» هو محصّل فضلاً عن منقوله، ولم یسمع الخلاف إلاّ عن الصدوق فی «الهدایة» و«المقنع» و«الفقیه» ومن الفاضل المقداد فی «التنقیح»، وإن کان مخالفة الصدوق محلّ تأمّل، لأنّه ینقل فی «الفقیه» أوّلاً خبر جواز المسح علی الحائل عن تقیّة، ثمّ ینقل ما یدلّ علی النهی عنها، حیث أنّه أراد من نقله توجیه الخبر بما سیأتی إن شاء اللّه ذکره .

وکیف کان، فقد یستدلّ علی ذلک بطائفتین من الأدلّة ، مضافاً إلی ما عرفت من الإجماع بکلا قسمیه ، وهما:

فی المسح علی الحائل تقیّةً

الأدلّة العامّة: من دلیل نفی العسر والحرج والیسر والإدراک والاستطاعة ، واُخری: الأدلّة الخاصّة، من الأخبار الواردة فی المقام.

ثمّ نتعرّض لما یتوهّم منها خلاف ذلک .

فأمّا الطائفة الاُولی: فلا إشکال فی أنّه لو لم یرخّص الشارع فی التقیّة فی مواردها، لاستلزم الحرج، إذ ربّما یوجب ترک المسح علی الخُفّ المسح علی بشرة الرجلین أمام العامّة وفی بلادهم، تلف الأموال والضرب والشتم وغیرها ممّا لا یتحمّله الإنسان عادةً ویوجب وقوعه فی العسر والحرج الشدیدین

ص:491

فیشمله قوله تعالی: «مَا جَعَلَ عَلَیْکُمْ فِی الدِّینِ مِنْ حَرَجٍ»(1).

خصوصاً مع ملاحظة خبر عبدالأعلی مولی آل سام(2) فی بحث المسح من الحکم بالمسح علی المرارة والحائل، وترغیب الإمام علیه السلام بقوله: «بأنّ هذا وأشباهه یعرف من کتاب اللّه» ثمّ أشار علیه السلام إلی الآیة ، وکذلک یمکن الاستدلال بغیره من الأدلّة الضروریة، لأنّ المسح علی الحائل تقیة هو المیسور أو المدرک والمستطاع، فلا یترک بمعسوره وغیر مدرکه ومستطاعه من المسح علی البشرة، وهو واضح ، بل قد ادّعی بعض کصاحب «مصباح الفقیه» بأنّ نفی التقیة فی هذه الأشیاء علی الإطلاق، مخالفٌ لإطلاق الإجماع والضرورة، ضرورة أنّه لو دار الأمر بین مسح الخفّین أو ضرب الأعناق، لا یجوز الإقدام علیه، ولا یرضی الشارع بفعله، کما یدلّ علیه فحوی ترخیص الشارع بارتکاب المحاذیر التی ربّما تکون حرمتها أعظم فی نظر الشارع من ترک الصلاة فی مظانّ الهلکة، فضلاً عن ترک مباشرة الماسح للممسوح .

وأمّا الطائفة الثانیة من الأدلّة: هی وجود أخبار متواترة فی موارد عدیدة، لاسیما فی المقام، سنشیر إلی بعضها تتمیماً للفائدة ، والکلام فی هذه الطائفة أیضاً ینقسم إلی قسمین : قسم منها: ما یستفاد منه جواز العمل بالتقیة فی کلّ ضرورة واضطرار بنحو العموم ، وآخر منها: ما ورد فی خصوص المسح علی الحائل .

فأمّا الأولی منها: وهی عدّة أخبار یعدّ بعضها صحیحاً، کالخبر الذی رواه زرارة عن أبی جعفر علیه السلام قال : «التقیة فی کلّ ضرورة، وصاحبها أعلم بها حین تنزل به»(3) . وصحیحة معمر بن یحیی بن سالم، ومحمّد بن مسلم وزرارة قالوا :


1- سورة الحجّ: آیة 77 .
2- وسائل الشیعة: الباب 39، أبواب الوضوء، الحدیث 5.
3- وسائل الشیعة: الباب 25، أبواب الأمر بالمعروف، الحدیث 1.

ص:492

«سمعنا أبا جعفر علیه السلام یقول : التقیة فی کلّ شیء یضطرّ إلیه ابن آدم، فقد أحلّه اللّه له»(1) . وخبر أبی بصیر، قال : قال أبو عبداللّه علیه السلام : التقیة من دین اللّه ، قلت : من دین اللّه ؟

قال : ای واللّه من دین اللّه، ولقد قال یوسف «أَیَّتُهَا الْعِیرُ إِنَّکُمْ لَسَارِقُونَ»(2)، واللّه ما کانوا سرقوا شیئاً، ولقد قال إبراهیم : «إِنِّی سَقِیمٌ»(3)، واللّه ما کان سقیماً»(4) .

وخبر عمر بن یحیی، عن الباقر علیه السلام قال : «التقیة فی کلّ ضرورة» (5).

بل یستفاد وجوب التقیة فی بعض الموارد .

وفی خبر الاحتجاج عن العسکری علیه السلام فی حدیثٍ: «أنّ الرضا علیه السلام جفا جماعة من الشیعة وحجبهم، فقالوا : یابن رسول اللّه صلی الله علیه و آله ما هذا الجفاء العظیم، والاستخفاف بعد الحجاب الصعب ؟ قال : لدعواکم أنّکم شیعة أمیر المؤمنین، وأنتم فی أکثر أعمالکم مخالفون ومقصّرون فی کثیر من الفرائض، وتتهاونون بعظیم حقوق اخوانکم فی اللّه، وتتّقون حیث لا تجب التقیة، وتترکون التقیة حیث لابدّ من التقیة»(6) .

وغیر ذلک من الأخبار العامّة التی یجدها المتتبّع فی کتب الأخبار .

وأمّا الثانیة: وهی مثل خبر صحیح أبی الورد، قال : «قلت لأبی جعفر علیه السلام : إنّ أبا ظبیان حدّثنی أنّه رأی علیّاً علیه السلام أراق الماء، ثمّ مسح علی الخفّین.

فقال : کذب أبو ظبیان، أما بلغک قول علیّ علیه السلام فیکم سبق الکتاب الخفین؟


1- وسائل الشیعة: الباب 25، أبواب الأمر بالمعروف، الحدیث 2.
2- سورة یوسف: آیة 70 .
3- سورة الصافات: آیة 89 .
4- وسائل الشیعة: الباب 25، أبواب الأمر بالمعروف، الحدیث 4.
5- وسائل الشیعة: الباب 25، أبواب الأمر بالمعروف، الحدیث 8 .
6- وسائل الشیعة: الباب 25، أبواب الأمر بالمعروف، الحدیث 9.

ص:493

فقلت : فهل فیهما رخصة ؟ فقال : لا إلاّ من عدوّ تتّقیه، أو ثلج تخاف علی رجلیک»(1) .

فإنّه صریح فی کون جواز المسح علی الخفّین کان فی إحدی الحالتین ، ومن الواضح أنّ العدوّ یشمل المخالف، خصوصاً مع ملاحظة مورد السؤال، یفهم المقصود من لفظ العدوّ .

هذه جملة من الأدلّة الدالّة علی ذلک ، مضافاً إلی استفادة جواز ذلک من مفاد بعض آخر من الأخبار .

نعم ، قد یتوهّم المعارضة والمنافاة، مع عدد من الأخبار الناهیة عن العمل بالتقیة، مثل صحیحة زرارة أو حسنته، قال : قلت له: «فی مسح الخفّین تقیّة ؟ فقال : ثلاثة لا أتّقی فیهنّ أحداً: شرب المسکر، ومسح الخفّین، ومتعة الحجّ ، قال زرارة : ولم یقل الواجب علیکم أن لا تتتقوا فیهنّ أحداً»(2) .

حیث أنّه یدلّ علی أنّ المسح علی الخفّین لیس ممّا یُتّقی منه .

وخبر أبی عمرو الأعجمی، قال : «قال لی أبو عبداللّه علیه السلام : یا أبا عمرو تسعة أعشار الدِّین فی التقیة، ولا دین لمن لا تقیة له، والتقیة فی کلّ شیء إلاّ فی النبیذ، والمسح علی الخفّین»(3) .

والخبر الذی رواه فی «دعائم الإسلام»(4) عن الصادق علیه السلام : «التقیة دینی ودین آبائی إلاّ فی ثلاث : شرب المسکر، والمسح علی الخفّین، ومتعة الحجّ» .

فدلالة هذه الأخبار علی استثناء المسح علی الخفّین عن التقیة واضحة .

فکیف الجمع بینهما وبین ما سبق من الخبر والإجماع ؟


1- وسائل الشیعة: الباب 38، أبواب الوضوء، الحدیث 5.
2- وسائل الشیعة: الباب 38، أبواب الوضوء، الحدیث 1.
3- وسائل الشیعة: الباب25، أبواب الوضوء، الحدیث 3 و أبواب الأمر بالمعروف، الباب 24، الحدیث2.
4- دعائم الإسلام: 1 / 133.

ص:494

فیمکن أن یجاب بأجوبة لا یخلو بعضها عن قوّة، کما لا یخلو بعض آخر من التوجیهات عن الضعف، فالأولی الإشارة إلی جمیعها، فنقول : أوّلاً : فإنّ دلالة خبر صحیح أبی الورد علی الجواز تکون بالصراحة، لکونه مورد السؤال من جهة الرخصة فیها، فأجاب علیه السلام بجوازها فی موردین، هذا بخلاف الأخبار الناهیة، حیث لا یکون إلاّ ظاهراً فی عدم الجواز، لإمکان الحمل علی بعض ما سیُذکر إن شاء اللّه، فیکون التعارض بینهما بالنصّ والظاهر، فلا إشکال فی تقدّمه علیه،

فیحکم بالجواز، کما لایخفی .

وثانیاً : لو سلّمنا ظهور کون کلّ واحد منهما، ولکن نقول بأنّ من الأخبار الناهیة هو خبر صحیح زرارة، حیث قد نفی التقیة عن فعل الإمام علیه السلام ، ولکنّه لم یحکم بوجوب ترکها لجمیع المؤمنین، فلعلّه یصیر بیاناً لحمل خبرین آخرین علی ذلک، وإن لم یکن فیهما ما یدلّ علیه ، فعلیه یکون حکم خبر زرارة المجوّز للتقیة خالیاً عن الإیراد والتخصیص فیجب العمل علی طبقه.

وثالثاً : لو سلّمنا عدم إمکان ذلک الحمل فی الخبرین، وأنّه کان الواجب علینا إعمال قواعد باب التعارض فی الطائفتین من الخبرین وخبر زرارة، لأنّ الخبر المعارض لخبر زرارة قد خرج عن کونه طرفاً للمعارضة معه، وذلک بما فهمه زرارة من الاختصاص للإمام، فیبقی الخبران الآخران وهما حدیث دعائم الإسلام وحدیث أبو عمرو الأعجمی ، فأمّا حدیث دعائم الإسلام، فقد حقّقنا فی محلّه أنّه لایعدّ دلیلاً ولا یمکن الاعتماد علیه إلاّ من باب التأیید، فهو غیر قابل للمعارضة .

فبقی خبر أبی عمرو الأعجمی، لکنّه لم یرد فی حقّ الأعجمی مدحٌ فی کتب الرجال ، بل المذکور فی «جامع الرواة»(1) مجرّد کنیته دون اسمه، ولم یذکر فی


1- جامع الرواة: 2 / 407.

ص:495

حقّه شیئاً من المدح والقدح، کما قال المامقانی صاحب «تنقیح المقال»: «أبو عمر (بغیر واو) الأعجمی، روی فی المحکی من «الکافی» باب التقیة، عن هشام بن سالم عنه عن أبی عبداللّه علیه السلام ، ولم أقف علی اسمه ولا حاله».

فلا یکون الخبر موثّقاً من جهة جهالة راویه، إلاّ أنّه مصحّح بنقل ابن أبی عمیر الذی یعدّ من أصحاب الإجماع التی أجمعت العصابة علی تصحیح ما یصحّ عنهم، إلاّ أنّه بما أنّ راوی الحدیث قبل ابن أبی عمیر کان إبراهیم بن هاشم فقد

أطلق علی الخبر أنّه حسنة لمکان إبراهیم بن هاشم حیث أنّه ممدوح عند الرجالیین لکنّه لم یوثّق. هذا حال هذه الطائفة من الأخبار .

وأمّا حال الطائفة المقابلة لها مثل خبر زرارة فهو یدلّ علی اختصاص التقیّة للإمام علیه السلام ، فیکون حاله مثل حال خبر أبی عمرو الأعجمی، من جهة وجود إبراهیم فی سلسلة سنده . وأمّا بقیّة رواة سلسلة السند فإنّ جمیعهم یعدّون فی غایة الوثاقة والصحّة .

وأمّا حال خبر أبی الورد الذی دلّ علی جواز التقیة حتّی فی المسح علی الخفّین، فإنّه لا إشکال فی وثاقة رواة سلسلة السند الواقعین قبل أبی الورد .

وأمّا أبی ورد نفسه، فإنّ «جامع الرواة» لم یذکر اسمه، لکن نقل حدیثاً دالاًّ علی توثیقه ، وأمّا فی «تنقیح المقال»(1) للمامقانی فقد ورد فیه قوله: قال فی «منتهی المقال»: إنّه ربما أجمع الأصحاب علی العمل بروایته، کما فی المسح علی الخفّین للضرورة، وعدّه فی «الوجیزة» ممدوحاً ، ثمّ إنّ فی کون أبی الورد بن قیس الذی ذکره الشیخ رحمه الله فی عداد أصحاب علیّ علیه السلام متّحداً مع أبی الورد الذی ذکره فی باب أصحاب الباقر علیه السلام کلاماً ، وعن السیّد الداماد قدس سره إنّه قال : لم یستبن لی بعدُ اتحادهما . نقول : لا مانع من الاتّحاد » انتهی کلامه .


1- تنقیح المقال: 3 / 37.

ص:496

والحدیث الذی نقله «جامع الرواة» وکذلک «تنقیح المقال» فی حقّه، هو الخبر المروی عن الصادق علیه السلام من أنّ مَنْ عمل کذلک عاد من حجّه مغفوراً له .

وکیف کان فهو مضافاً إلی وثاقة نفس أبی الورد، فإنّ فی سلسلة سنده حمّاد بن عثمان، وهو یعدّ من أصحاب الإجماع، وهذا ممّا یوجب صیرورة الخبر مصحّحاً فیکون معتبراً، فإذا وقع التعارض بین الطائفتین من الأخبار المجوّزة والناهیة، ولم یمکن الجمع الدلالی بینهما، فنرجع إلی المرجّحات السندیة ، فقد

یمکن أن یقال بأرجحیة سند أبی الورد علی سند الخبر الذی یعارضه ، مضافاً إلی کونه مؤیّداً بمرجّحات خارجیة من الإجماع والضرورة وغیرهما فعلی هذا یکون الحکم بالجواز مقدّماً، کما لایخفی .

مع أنّه ذکر لخبر زرارة محامل لا یخلو ذکرها عن فائدة ؛

منها : أن یکون وجه اختصاص الحکم بالإمام علیه السلام کونه کان معروفاً عند عامّة الناس وخاصّة المخالفین وأنّهم أئمّة ومجتهدون ولا یتّبعون غیرهم وأنّ لهم مذهباً خاصّاً، وأمّا عامّة المؤمنین فإنّ المخالفین کانوا یشدّدون النکیر علیهم فی مخالفتهم مع مذاهبهم وفتاوی أئمّتهم.

منها : أن یکون المراد بعدم الاتّقاء فی الثلاثة أو الاثنین، المذکورات فی الخبر هو معروفیة طائفة الشیعة، أی أنّ العامّة کانوا یعرفون ویعلمون أنّ الشیعة لا تتّقی فی هذه الاُمور فلا یشدّدون معهم فیها، وأمّا فی غیرها فلا یعرفون ذلک، وکانوا لا یتحمّلون مخالفتهم معهم.

کما لا ینافی أیضاً جواز التقیة فی إحدی الثلاثة أیضاً لو وقعت فی شرائط خاصّة، من التقیة الموجبة للخوف علی النفس أو المال، حیث یجوز العمل بهذه الثلاثة حینئذٍ من باب التقیّة، لانصراف هذه الأخبار عمّا هو المفروض .

منها : أن یکون المقصود من نفی التقیة، هو نفی آثارها الوضعیة، لا نفی وجوب التقیّة تکلیفاً، بمعنی أنّ المسح علی الخفّین المأتی به تقیّة غیر ممضی

ص:497

شرعاً، بأن یکون جزءً من الوضوء، فیجب علیه إعادته بعد ارتفاع الضرورة، ولا تصحّ الصلاة معه . هذا کما عن صاحب «مصباح الفقیه» .

وفیه: بأنّه لا یجری هذا الجواز فی مثل شرب المسکر، بل ولا فی متعة الحجّ، بما قد عرفت منّا تفصیلاً، من استفادة الاجزاء مع التقیّة فی الحجّ، إن کان من جهة الاختلاف فی الموقف ، وأمّا إن کان من جهة الاختلاف فی الحکم، کما لو أتی الشیعة النائی فی سفره الأوّل بالحج الافرادی _ الذی هو ملک العامّة ویجوز

عندهم ذلک _ بدل حجّ التمتّع الذی هو فرض الشیعی النائی عن الحرم، فإنّ الحکم بعدم الاجزاء له وجه، لو لم نقل استفادة الاجزاء من عموم دلیل التقیة، کما یستفاد منه تبدیل الحکم التکلیفی .

منها : أن یکون المراد أنّ هذه الأشیاء لیس علی حدّ سائر أحکامهم ممّا یجوز التدیّن بها تقیّة، ملاحظةً للمصلحة النوعیة، من دون إناطتها بالضرر الشخصی. أو أن یکون المراد عدم مشروطیة هذه الموارد بعدم المندوحة واقعاً، لإمکان إجراء التقیة بغسل الرجلین لا مسح الخفّین، لأنّ العامّة أنفسهم یقولون بالتخییر بین غسل الرجلین أو مسح الخفّین . فهو أیضاً یصحّ فی مثل المسح علی الخفّین لا فی غیره، کما لایخفی .

منها : أن یکون المقصود أنّ التقیة فی هذه الموارد تکون رخصة _ کإظهار کلمة الکفر _ لا عزیمة، کما فی غیر هذه الموارد، وهو کما عن الشیخ الأعظم قدس سره .

لکنّه لا یناسب مع حال التقیة، إذا استلزم الضرر الشخصی علیها فی ترک إحدی الثلاثة، فلا إشکال حینئذٍ بأن تکون التقیة واجبة قطعاً .

وکیف کان، فإنّه فضلاً عمّا ذکرنا من الضعف فی الأخبار الناهیة ورجحان الطائفة التی فی مقابلها، فإنّه نضیف دلیلاً آخر دالاًّ علی الضعف وهو ملاحظة اختلاف لسانها من جهة المتعلّق، حیث یکون الاستثناء فی بعضها بالثلاثة _ کخبر «دعائم الإسلام» _ وفی غیره باثنین _ کما فی خبر أبی عمرو الأعجمی .

اعتبار عدم المندوحة فی العمل بالتقیّة

ص:498

هذا کلّه، فضلاً عن أنّه یزید فی ضعفها إعراض الأصحاب عن العمل بها.

فثبت أنّ الحقّ هو جواز المسح علی الخفّین لو کان مورداً للتقیّة، سواء کان بلحاظ ملاحظة الضرر الشخصی علیه، أو علی أهله ومن ینتسب إلیه، أو علی ثالث من الشیعة الموجب للخطر علیه، ونظائره، کما لایخفی .

فظهر ممّا ذکرنا عدم تمامیة کلام السیّد أبی الحسن الاصفهانی فی «الروائع»(1) حیث جعل خبر أبی الورد خارجاً عن أخبار التقیة، وقال : إنّ المراد

من عدوّ تتّقیه، هو الاضطرار الشخصی والضرورة، لا التقیة عن المخالفین، فیکون المسح علی الخفّین داخلاً تحت الأخبار الناهیة بلا معارض، فلا یجوز العمل بالتقیة فی الثلاثة، إلاّ أن تتحقّق الضرورة، فیدخل فی أدلّتها کسائر الموارد» .

وذلک لأنّه أوّلاً : ورد ذکر موردین من الضرورة، وذلک العدوّ والثلج بالخصوص، مع إمکان ذکر عنوان کلّی أمر مستبعد، خصوصاً مع دوران الأمر بین التأسیس فی الموردین أو التمثیل أو التأکید، ومن المعلوم أنّ الأوّل أولی .

وثانیاً : لو سلّمنا خروج خبر أبی الورد عن أخبار التقیة، فیبقی عموم أخبار التقیة شاملاً للثلاثة أیضاً، خصوصاً مع اعتضاد العموم بعمل الأصحاب والإجماع، فضلاً عمّا سیأتی من ذهاب کثیر من الفقهاء إلی عدم اعتبار عدم المندوحة فی جواز العمل بالتقیّة، وإن کان العمل بالاحتیاط فی الثلاثة قویّ، لو لم یقتض الضرر الشخصی له علماً أو ظنّاً قابلاً للاعتماد، فإن حصل له أحد الأمرین، فإنّ ترکه یکون أولی، بل ربّما کان العمل علی طبق التقیّة واجباً وترکه حراماً ، هذا .

هاهنا عدّة فروع :

الفرع الأوّل: قد وقع الخلاف بین فقهائنا، فی أنّه هل یعتبر فی جواز العمل


1- الروائع الفقهیّة: 2 / 156.

ص:499

بالتقیّة عدم المندوحة أم لا ؟

فذهب بعض إلی اعتباره، کصاحب «المدارک» وذلک من باب التمسّک بمضمون ما تقتضیه الأدلّة الأوّلیة فی کلّ شیء ألا وهو العمل علی وفق مقتضاها، إلاّ ما یوجب الضرر الشخصی علیه أو علی مثله من المکلّفین، فإذا کانت الواقعة ممّا لها مندوحة من دون خوف ضرر، أی إذا کان بإمکان المکلّف أداء التکلیف من دون أن یضطرّ لمخالفة التقیة الموجب لحدوث الضرر علیه، فیکون الدلیل

فی مقتضاه سالماً فیجب العمل علی طبقه .

وذهب آخرون وهم کثیرون إلی عدم الاعتبار، کالشهیدین والمحقّق الثانی والعلاّمة الطباطبائی، وکثیر من المتأخّرین من أصحاب التعالیق علی «العروة الوثقی»، بل ولم یشاهد من المحشّین من خالف فیما قلناه، مستدلّین علی دعواهم بأنّ إطلاقات الأخبار الواردة فی التقیة، وإشعار بعض الأخبار الواردة فی الحثّ علی أداء صلاة الجماعة معهم علی نحو الإطلاق، بل المنصوص فی بعضها بأنّ الصلاة خلفهم کالصلاة خلف رسول اللّه صلی الله علیه و آله ، فإنّ جمیعها ممّا یوجب الاطمئنان للفقیه علی ذلک ، وفی «الجواهر» قال : ولعلّه هو الأقوی، وإن ذهب فی آخر کلامه إلی تفصیل بالأصالة أو المقدّمة، فإن کان الأولی اتّجه الوجوب وإلاّ فلا ، ولعلّه عند الشکّ یبنی علی الوجوب الأصلی ، انتهی کلامه .

حیث یستفاد منه التفصیل بین مورد المسح علی الخفّین من جواز العمل بالتقیة بهذا التفصیل، بأنّه یجوز مع المندوحة بغسل الرجلین، إن قلنا بکون المباشرة بالنداوة وجوبها مقدّمی لا أصلی، وإلاّ إن کان أصلیّاً، فلا یجوز إلاّ مع عدم المندوحة.

هذا، وقد نقل صاحب «الجواهر» قولاً بالتفصیل بین ما کانت التقیة بالخصوص مورداً للأمر کالصلاة معهم، فیجوز أن یُصلّی المکلّف صلاته تقیّة حتّی مع المندوحة، وبین ما لا یکون جواز العمل به إلاّ بأدلّة عامة واردة فی

ص:500

التقیة، فلا یجوز إلاّ مع عدم المندوحة .

وفی «الجواهر»: أنّه لم أرَ لذلک وجهاً صحیحاً ، ولعلّه کان من جهة دعوی انصراف عموم أدلّة التقیّة عمّا فیه المندوحة، هذا بخلاف ما ورد فیه الأمر بالتقیّة، حیث کان الظاهر منه الإطلاق حتّی فی صورة وجود المندوحة .

وقول رابع بالتفصیل بین الثلاثة المستثناة فی الأخبار، حیث لا یجوز العمل إلاّ مع عدم المندوحة، بخلاف غیرها، حیث یجوز حتّی مع المندوحة، وهو کما

یستفاد من فتوی بعض الفقهاء کالعلاّمة فی «التذکرة»، والشهید فی «الذکری»، بل الحکم بالتعیّن فی «الریاض» و«البیان»، بل فی «المدارک»: قطع الأصحاب بجواز المسح علی الحائل للتقیة إذا لم تتأدّ بالغسل .

وفی «الحدائق»: أنّه صرّح جملةٌ من الأصحاب بتعیّن الغسل، ولا یجزئ غیره ، بل نسب صاحب «الذخیرة» ذلک إلی الأصحاب، لکون غَسل الرجلین فی الوضوء أقرب إلی المأمور به، لما فیه من إلصاق الید بالرجل، وکون الرجل من أعضاء الوضوء دون الخفّ .

هذه جملة الأقوال فی المسألة .

فی کیفیّة المسح علی الخفّین عند التقیّة

ونحن نقول : لا إشکال فی أنّ الوظیفة العمل علی طبق مقتضی الدلیل الأوّلی فی کلّ موضوع، لأنّه المستفاد منه، وهو اللازم من جهة الخروج عن العهدة، فلایجوز رفع الید عن مقتضی الأدلّة الأوّلیة إلاّ عند قیام دلیل ثانوی یفید ذلک إمّا من باب النصّ أو الظهور، حتّی یجب العمل بالدلیل الثانوی ویرفع الید عن الدلیل الأوّلی .

ففی کلّ مورد تکون الضرورة موجودة فی العمل بالتقیّة، وهو ما لا تکون فیه المندوحة، فهو ممّا لا إشکال فیه فی جواز رفع الید عن الدلیل الأوّلی للضرورة، ووجود دلیل التقیّة، فلا إشکال فیه من دون تفصیل بین الثلاثة المستثناة وغیرها .

وأمّا ما لا یکون کذلک، فدلیل الضرورة غیر جارٍ فیه، فیبقی حینئذٍ عموم الدلیل الدالّ علی جواز العمل بالتقیّة، فما لیس فیه دلیلاً آخراً فی قبال ذلک

ص:501

الدلیل _ کغیر الثلاثة _ یمکن الحکم بجواز رفع الید عن الدلیل، بدعوی ظهور أدلّة التقیة فی التوسعة، وکون المصلحة النوعیة فیها هو الجری علی طبق عملهم فی بعض الموارد، کما استفدنا ذلک من الأدلّة الواردة فی الحجّ، وملاحظة سیرة الأئمّة علیهم السلام معهم، خصوصاً مع التأیید بالشهرة المتحقّقة، لو لم نقل بوجود إجماع منقول فی المورد ، بل قد یؤیّد من ظهور بعض الأخبار الجواز بالعمل بالتقیّة فیما کانت المندوحة موجودة هنا، کالصلاة مع جماعتهم فی مکّة والمدینة، وأمثال

ذلک، فیطمئنّ الفقیه من مجموع ذلک، جواز رفع الید عن مقتضی الدلیل الأوّلی .

نعم ، قد یشکل الأمر فیما إذا کان الدلیل بالخصوص وارداً فی عدم جواز التقیة فی موضع معیّن کالثلاثة المستثناة ، فلا یبعد حینئذٍ الحکم فی هذه الموارد بعدم جواز العمل بالتقیة، بمثل سائر الموارد، بل لابدّ فیها من صدق الضرورة، ولو عرفاً فی جواز العمل بالتقیة، فمن کان قادراً علی العمل بغیر التقیة وکان بإمکانه ذلک فلا یجوز له العمل بها بمجرّد وجود المخالف، وأمثال ذلک .

ولذا قلنا بأنّه یجب أن یحتاط فی العمل بالتقیّة، ولایجب علیه العمل بها إلاّ إذا استوجب عدم العمل بها له العلم أو الظنّ بالضرر الشخصی أو النوعی، أو کان وقوعهما قویّاً، لعدم وجود إجماع فی ذلک بخلاف غیرها من إمکان دعواه، کما لایخفی .

الفرع الثانی : حیث قد عرفت من جواز المسح علی الخفّین فی حال التقیة ومع عدم وجود المندوحة قطعاً، أو مع المندوحة علی خلاف الاحتیاط، فإنّه بعد ثبوت ذلک نقول: إنّه یجب توفّر الشروط، أی علیه أن یراعی فی المسح علیهما ما یجب رعایته فی المسح علی البشرة، من کون المسح علی ظاهر الخفّ لا باطنه، ومن کونه فی أعلی الخفّ لا أسفله، وکونه بالنداوة لا بماء خارجی، وکونه مشتملاً للاستیعاب الطولی، وبعبارة اُخری یقوم الخفّ مقام البشرة ، فکلّ ما کان ضروریّاً وجوده حین المسح علی البشرة یجب توفّره حین المسح علی الخفّ، بل قد یستفاد وجوب ذلک _ مضافاً إلی أنّ مقتضی الأدلّة هو رفع الید عنها بقدر ما

ص:502

تحقّق فیه التقیّة، لا أزید _ من الإجماع القائم فی المقام، حیث یفهم من کلام العلاّمة فی «المنتهی» بقوله کما نقله صاحب «الجواهر» : انّه لو مسح أسفل الخفّ دون أعلاه، لم یجز عندنا فی ضرورة الجواز، وهذا مذهب عامّة أهل العلم، إلاّ ما نقل عن بعض أصحاب الشافعی، وبعض أصحاب مالک ، انتهی کلامه .

الفرع الثالث : فیما إذا قلنا بوجوب العمل بالتقیة فی مورد وترک الحکم الأوّل مثل المسح علی الخفّین، وأنّه إذا لم یعمل بها لترتّب علیه الضرر الشخصی أو

النوعی، ولکن برغم ذلک فقد أقدم علی ترک التقیّة والعمل بالحکم الواقعی والمسح علی رجله بدل المسح علی الحائل من الخفّ وغیره، فإنّ مثل هذا هل یوجب ذلک بطلان الوضوء أم لا ؟

قد یقال : نعم، لما فی «الجواهر» بأنّ المسح الذی لیس بمأمور به فی ذلک الحال ، بل هو منهیّ عنه ومأمورٌ بترکه کیف یقع به امتثالاً... إلی آخره.

ولا بأس بالإشارة إلی المسألة تفصیلاً فی الجملة ، فنقول : فقد یمکن الاستدلال للبطلان باُمور ثلاثة :

الأمر الأوّل : أنّ الظاهر من أدلّة التقیة وأوامرها، هو کون العمل بالمأمور به عند وجوبها مقیّداً بکونه علی وجه التقیة، فلا یکون المسح علی البشرة مأموراً به، ولا جزء من أجزاء الوضوء ، بل الجزء حینئذٍ ما هو المنطبق علیه التقیّة من المسح علی الخفّین مثلاً، لأنّه الحکم الواقعی الثانوی حینئذٍ، فصار العمل بغیرها موجباً لکون المأتی به غیر مطابق للمأمور به، وهو معنی البطلان، وهو المطلوب .

وقد اُجیب عنه «فی مصباح الهدی»: بالمنع عن استفادة تقیید الواقع بما یوافق التقیة، لأنّ الوضوء المشتمل علی مسح الخفّین لیس هو المأمور به فی حال التقیة، بل المسح علیهما یعدّ الأمر بالواجب فی واجب آخر وهو الوضوء الواقعی فی حال التقیة، نظیر حرمة الفعل الخارجی کالنظر إلی الأجنبیة فی حال الصلاة، حیث أنّ حرمته لا توجب تقیید الصلاة بعدمه، فکذلک الوضوء لا یقیّد بوجود

ص:503

المسح علی الخفّین، بل الواقع باق علی ما هو علیه، إلاّ أنّ المکلّف لا یتمکّن من الإتیان به والوصول إلی مصلحته وملاکه، من جهة ما یترتّب علیه من الضرر المترتّب علی ترکه .

هل یصحّ وضوء من ترک التقیّة فی الوضوء؟

ثمّ أورد علی نفسه بقوله: أنّه بأنّه علی ذلک یلزم أن لا یکون الوضوء باطلاً، لو ترک المکلّف المسح علی الخفّین فی حال التقیة، لعدم کونه جزءاً للوضوء، بأن ترک المسح علی البشرة للتقیّة وکان مرخّصاً، مع أنّ الظاهر عدم الخلاف فی

بطلان فی هذه الصورة .

ثمّ أجاب : بأنّ منشأ البطلان إنّما هو ترک المسح فی هذا الوضوء المعیّن الواجب علیه، وذلک حیث أنّ المسح علی الخفّین یعدّ مرتبة من مراتب المسح الواجب، کما یشعر به وجوبه عند سائر الضرورات، کما یشیر إلی ذلک خبر عبد الأعلی من الأمر بالمسح علی المرارة عند عدم التمکّن من رفعها، حیث نبّهه إلی إفادة الحکم من القرآن وأنّه أفاد بأنّ المسح الواجب فی الوضوء ینحلّ إلی مسح، ومباشرة للماسح مع الممسوح، فإذا سقط قید المباشرة للحرج _ کما فی مورد الخبر _ أو للضرر _ کما فی التقیة _ أو سائر الضروب، یبقی وجوب أصل المسح علی حاله ، انتهی کلامه . لکنّک خبیر بما فی کلامه :

أوّلاً : بأنّه إذا فرض أنّ المسح علی الخفّین لم یکن من الجزء الواجب فی حال التقیة، بل هو واجب فی واجب فحینئذٍ لو ترک ذلک فی حال التقیة، وکان ترک مسح البشرة مرخّصاً فیه بحسب الفرض، فلا وجه للحکم ببطلان الوضوء بما قاله من أنّه قد ترک المسح الواجب، لأنّ ترک واجب غیر مرتبط وأجنبی عن واجب آخر، إلاّ بکونه ظرفاً له، لا یوجب البطلان، بمثل ما لا یستلزم وقوع النظر المحرّم إلی الأجنبیة فی الصلاة بطلانها لانفصاله عنها وکونه فیها مظروفاً لها، فالحکم بالبطلان موجب للظنّ بکونه جزءاً فی حال التقیة .

ثانیاً : لو کان الأمر کذلک فی التقیّة، فإنّ من الممکن الحکم بمثله فی المسح

ص:504

علی المرارة، لأنّ ما هو الواجب الذی کان جزءاً، لیس إلاّ المسح علی البشرة، لا المسح علی المرارة، وهو واجب فی واجب فی حال الضرورة.

هذا ، مع أنّ الاستدلال فی ذیله من توقّف معرفته من الکتاب إلی انحلال الواجب إلی المسح ومباشرة الماسح للممسوح، یدلّ علی کونه جزءاً للوضوء، وإلاّ لأمکن فرض المسح بلا موضع جزءاً له أیضاً کما لایخفی .

ثالثاً : بأنّ قوله فلو أتی به فقد أتی بما هو واجد للصلاح، لیس فی محلّه، لأنّ

مورد التقیة _ کما سیأتی اعترافه بذلک _ یکون من جهة حدوث المفسدة المترتّبة علی ترکها، من إراقة الدماء، إذلال المؤمنین الموجب للإضرار الشخصی أو النوعی لهم، فلا إشکال فی أنّ المسح علی البشرة المستلزم لمثل هذه الاُمور، لا یکون فیه صلاحاً، وما ینطبق علیه مثل هذه المفاسد لا یطلق علیه المصلحة .

وکیف کان، ما ذکر فی وجه الأوّل فی بطلان الوضوء من جهة ترک الجزء الواجب، لا یخلو عن قوّة، بمقتضی دلیل التقیة، حیث قد یجعل الجزء مانعاً، أو المانع جزءاً وشرطاً، کما لایخفی .

الأمر الثانی : قیل فی وجه بطلانه أنّ الأمر بالتقیة کالمسح علی الخفّین، موجب للنهی عن المسح علی البشرة، ویکون المسح علیها منهیّاً عنه، لأنّ الأمر بالشیء یقتضی النهی عن ضدّه، والنهی عن عمل عبادی الذی فیه قصد فیه القربة موجب لفساده .

لکنّه مخدوش أوّلاً : بمنع کون المسح علی الخفّین ضدّاً للمسح علی البشرة فی حال التقیة، لعدم وجود آثار الضدّیة فیه، لإمکان اجتماعهما والإتیان بهما، والحال أنّ الضدّین لا یجتمعان .

وثانیاً : لو سلّمنا کونه ضدّاً لکنّه ضدٌّ خاص، والاقتضاء إن قلنا به کان فی ضدّ العام لا الخاصّ ، ولکن یمکن الخدشة فی کلا الجوابین : إمّا عن الأوّل: بأنّه لا تضادّ بین مسح البشرة مع المسح علی الخفّین بحسب طبعهما لولا التقیّة، بل هما

ص:505

مختلفان، لکن الملاک فی تحقّق الضدّیة ملاحظة حال انطباق التقیة علی العمل ، فبناءً علیه هل یمکن جمعهما معاً مع عدم کون المسح علی البشرة ضدّاً للتقیّة أم لا؟ ومن الواضح أنّ التضادّ فی الوجود فی المسحین، مع حفظ التقیة، موجود قطعاً، یعنی لا یجتمع مسح البشرة مع وجود التقیّة المنطبقة علی وجود المسح علی الخفّین وهذا کاف فی إثبات عدم التضادّ بینهما.

وأمّا عن الثانی، بإمکان أن یقال : بأنّه وإن کان المسح علی البشرة ضدّاً خاصّاً،

إلاّ أنّه ینطبق علی ذلک عنوان ترک التقیة، لأنّ معنی قوله: لا تمسح علی البشرة هو أنّه لا تترک التقیة ، فإذا سلّمنا الاقتضاء فی الضدّ العام، فإنّه یشمل ذلک الضدّ الخاصّ المفروض أیضاً .

ولکن الإنصاف عدم تمامیّة ذلک، لأنّه لو قلنا بذلک، فلازمه تسلیم الاقتضاء فی تمام موارد الضدّ الخاصّ، لأنّه متّحد معه، ومنطبق علیه الضدّ العام، من جهة ملاحظة ضدّیته، مثل قوله: صلِّ ولا تأکل، حیث أنّ الأکل منطبق علیه ترک الصلاة وبطلانه، وهکذا، والحال أنّ الأمر لیس کذلک .

وثالثاً : لو سلّمنا الاقتضاء، إنّما هو ثابت فی المأمور به المضیّق، لا الموسّع، مثل التقیة أو الواجب الذی هو موسّع فیه فلا یجری فیها کون الأمر بالمسح علی الخفّین المطابق للأمر بالتقیة مقتضیاً بالنهی عن المسح علی البشرة، حتّی یوجب کونه منهیّاً عنه .

وهو أیضاً مخدوش، لأنّه إذا فرض التسلیم فی أصل الاقتضاء، أی إذا قلنا بجریان النهی عن الضدّ الخاصّ فی کلّ مورد وقع فیه أمر وجوبی للضدّ الآخر، وهو المسح علی الخفّین، المطابق للتقیة، وقلنا إنّ وجوب العمل بالتقیة ثابت حتّی مع الاختیار ووسعة الوقت، أی وإن جاز له إخراج نفسه عن موردها بترک ذلک المکان أو الزمان، إلاّ أنّه إذا أقام به وأتی بما کان علیه فیه التقیة، لابدّ أن یترک ما هو موجب لخلافها، فیکون نهیه أیضاً مثل أمره، وحرمته مثل وجوبه، بلا

ص:506

فرق بینهما، والقول بالافتراق لا یخلو عن مسامحة ، فالأولی هو المنع عن الاقتضاء کما عرفت، وإلاّ یصحّ المدّعی .

الأمر الثالث : هو أنّ الأمر بالتقیّة کالمسح علی الخفّین، کما یوجب وجوب ما لا یجب لولا التقیة کالمسح المذکور، کذلک یوجب حرمة ما لا یحرم لولاها مثل المسح علی البشرة، لأنّ مخالفة التقیة بأیّ شکل تحقّقت کانت محرّمة، من جهة دلالة الأدلّة علی ذلک لا من باب الاقتضاء، حتّی یکون متّحداً مع الدلیل السابق،

فالمسح علی البشرة حرام لکونه مخالفاً للتقیّة، والتی تکون مخالفتها حراماً أیضاً، ومعلومٌ أنّ النهی فی العبادة موجب للفساد .

فقد أشکل علیه صاحب «مصباح الهدی» بقوله : وأمّا الوجه الثالث، فهو وإن کان سالماً عن الإیراد، إلاّ أنّه یقتضی بطلان العمل المتروک فیه التقیة، فیما إذا أتی بما یحرم علیه فی تلک الحال، مثل المسح علی البشرة فی المقام، والسجدة علی التربة الحسینیّة فی الصلاة، فیما یجب فیه التقیة .

وأمّا إذا لم یأت بالمحرم، وإنّما ترک التقیة بترک ما کان یجب علیه فی حال التقیة، کترک التکتّف فی الصلاة، فیما یجب علیه التکتّف تقیّة، فإنّه لا موجب لبطلانه .

ثمّ لا یخفی أنّ البطلان فی الأوّل أیضاً منوط بعدم تدارک المأتی به المحرّم، وإلاّ فلو مسح علی الخفّین بعد المسح علی البشرة، مع مراعاة سائر الشروط من الموالاة ونحوها، فالظاهر هو الصحّة ، انتهی کلامه .

وفی کلامه إشکال : أوّلاً : أنّ أتی به مثالاً لما لا یکون مخالفته إلاّ بترک الواجب من التقیّة، بمثل التکتّف، حیث لا یأتی بمحرّم فلا بطلان لصلاته، لا یخلو عن تأمّل، لأنّ ما یقابل التکتّف هو عبارة عن جعل الیدین علی الفخذین، بحسب ما هو المتعارف عند الإمامیة والشافعیة، فوضع الید کذلک بنفسه عمل مخالف للتقیّة وحرام، فیوجب إبطال الصلاة، فکیف جعله مثالاً لما لا یعدّ ترکاً للواجب، فلو قلنا بالبطلان والحرمة کان ذلک المثال مشابهاً المسح علی البشرة، کما لا

ص:507

یخفی، فإن فُرض صحّة هذا الکلام، فإنّه لابدّ أن یفرض فیما لا یکون فی قبال ذلک الأمر الذی تعلّق به حکم التقیّة إلاّ عدم المحض والترک التامّ، وفرضه مشکل جدّاً .

وثانیاً : أنّ إیراده فی ذیل کلامه للقسم الأوّل، بأنّ إبطال المسح علی البشرة فی الوضوء، إنّما کان فیما إذا اکتفی به، لا مع الإتیان بالمسح علی الخفّین، لا یخلو عن إشکال، لأنّه إذا سلّمنا کون ذلک حراماً، فیکون منهیّاً عنه، والنهی عنه عبارة عن النهی عن الوضوء المشتمل علیه، والنهی المتعلّق بالعبادة موجب للفساد،

والقول بأنّ النهی تعلّق بأمر خارج عن الوضوء فلا یوجب الفساد، لیس علی ما هو علیه، کما أجابه کذلک فی «الجواهر» .

فی من یتمکّن حال العمل بالتقیّة من إیقاع العمل طبق الواقع

وکیف کان، فالحکم بالصحّة، مع العلم بالحرمة وتعمّده فی إتیان الحرام غیر صحیح ، فالحقّ هو القول بالبطلان، کما علیه الحکیم، والمحقّق الهمدانی والخوئی وغیرهم ، واللّه العالم .

وأمّا لو أتی بما یوجب خلاف التقیّة، جهلاً أو سهواً أو نسیاناً، صحّ وضوئه، وإن کان الأولی فی صورة التقصیر فی الجهل العمل بالاحتیاط، بأن یحتاط ویقدم علی إعادة فعله وأن لا یکتفی بذلک، إلاّ أن یکون الجهل فی أصل موضوع التقیّة، لا فی حکمها، فحینئذٍ یکون الحکم بالصحّة قویّاً.

وتفصیل الکلام موکول إلی محلّه.

الفرع الرابع: أنّه قد عرفت فی صدر البحث، أنّ مقتضی الدلیل الأوّلی، هو وجوب الإتیان بما یطابق المأمور به بالأمر الأوّلی، إلاّ أن یحکم بدلیل ثانوی بما یقتضی خلافه .

فعلی هذا، ینتج أنّه یجب العمل علی طبق التقیّة، فیما إذا لم یمکنه إیجاد الفعل الصحیح الواقعی حین إرادة امتثال أمره، بمعنی عدم تمکّنه فی زمان أو مکان صدور الفعل منه، إلاّ من إیجاده علی وجه التقیّة، کما علیه جمع من الفقهاء ، بل قد نفی الریب عنه آخرون.

فی من یتمکّن حال التقیّة من إیقاع العمل طبق الواقع

ص:508

بل قد یظهر من بعض عدم الخلاف فیه، فلو تمکّن حال العمل بالتقیّة من إیجاده علی طبق الواقع، لم یجز إتیانه علی وجه التقیّة، کما إذا تمکّن فی حال الوضوء من تلبیس الأمر علیهم، بأن یصبّ الماء من الکفّ إلی المرفق، المعبّر عنه فی الأخبار بردّ الشعر، من دون أن ینوی الوضوء، لکن ینوی غَسل الید عند رجوع الماء من المرفق إلی الکفّ، وهکذا لو تمکّن عند إرادة التکفیر من الفصل بین یدیه وعدم وضع بطن إحداهما علی ظهر الاُخری، بل یقرّب بینهما، فإذا

تمکّن من مثل هذه الاُمور فإنّه یجب ذلک ولم یجز العمل علی وجه التقیّة، لأنّ الظاهر أنّ عدم التمکّن من إتیان الواقع فی هذه المواضع کان من مقوّمات موضع التقیّة عرفاً، مع إمکان دعوی انصراف مطلقات أخبار التقیّة عن مثل هذا الفرض .

بل ربّما یظهر من بعض الأخبار أشدّ من ذلک، من جهة الحکم بالإتیان بالواقع أیضاً، حتّی مع وجوب التقیة ، وهی مثل خبر البزنطی عن إبراهیم بن شیبة، قال : «کتبت إلی أبی جعفر الثانی علیه السلام أسأله عن الصلاة خلف من تولّی أمیر المؤمنین، وهو یمسح علی الخفّین ؟ فکتب: لا تصلِّ خلف من یمسح علی الخفّین، فإن جامعک وإیّاهم موضعٌ لا تجد بدّاً من الصلاة معهم، فاذّن لنفسک وأقم»(1) الحدیث ، والمرسلة التی حکاها المحدّث النوری فی «المستدرک» نقلاً عن «فقه الرضا»: عن العالم: لا تُصلّ خلف أحد إلاّ خلف رجلین، أحدهما من تثق به وبدینه وورعه، والآخر من تتّقی سیفه وسوطه وشرّه وبوائقه وشنعته، فصلّ خلفه علی سبیل التقیة والمداراة»(2) .

وخبر دعائم الإسلام، بسنده عن أبی جعفر علیه السلام : «لا تصلّوا خلف ناصب ولا کرامة، إلاّ أن تخافوا علی أنفسکم أن تشهروا، ویشار إلیکم، فصلّوا فی بیوتکم،


1- وسائل الشیعة: الباب 33، أبواب صلاة الجماعة، الحدیث 2.
2- مستدرک الوسائل: أبواب صلاة الجماعة، الباب 15 ، ح 3.

ص:509

ثمّ صلّوا معهم، واجعلوا صلواتکم معهم تطوّعاً» (1).

ولنا أخبار اُخری نظیر ذلک التی لا تجوّز العمل بالتقیّة، إلاّ مع الضرورة القصوی.

إلاّ أنّ مقتضی الجمع مع عدد کثیر من الأخبار دالّة علی جواز العمل بالتقیّة أوسع ممّا ذکر حتّی مع وجود مخالف فی الموضع، مثل الخبر الذی نقله فی «مصباح الفقیه»(2) عن العیّاشی بسنده عن صفوان عن أبی الحسن علیه السلام فی غسل الیدین : «قلت له : یردّ الشعر ؟ قال علیه السلام : إن کان عنده آخر فعل» ، ویقصد بالآخر

المخالف الذی یتّقیه، حیث لا یمکن تقییده بما إذا کان الآخر ملازماً له فی تمام الأوقات، ولم یتمکّن من طرده أو التستّر علیه، وکذا الأخبار الآمرة بالصلاة معهم، والحضور فی مجامعهم، الدالّة علی الحثّ العظیم علی الصلاة مع المخالف، ووعد الثواب علیها، حتّی ورد أنّ الصلاة معهم کالصلاة مع رسول اللّه صلی الله علیه و آله ، وغیر ذلک من الأخبار، مثل خبر علیّ بن یقطین من الأمر بالوضوء مقیّداً بأنّه لا إعادة علیه(3) ؛ حیث لا یمکن تقییدها بالضرورة ، فإنّه یستفاد من جمیع ما ذکر أنّه یُحمل تلک الأخبار علی الضرورة حال إتیان، العمل بمعنی أنّه لو أراد البقاء فی ذلک المکان، أو إتیان العمل فی ذاک الزمان، لا یمکنه إلاّ الإتیان علی صورة التقیة» .

وذلک لما عرفت بأنّ المستفاد من أخبار التقیة، هو ذلک، لاستبعاد حملها علی الضرورة المطلقة، حتّی مع عدم القدرة بالخروج عن ذلک المکان، أو استیعاب الضرورة لتمام الوقت، بحیث یفهم معنی الاضطرار المصطلح بین الفقهاء رضوان اللّه تعالی علیهم .

الفرع الخامس : إذا دار الأمر فی التقیة فی مسح الخفّین بینه وبین غسل


1- مستدرک الوسائل: أبواب صلاة الجماعة، الباب 6 ، ح 1.
2- مصباح الفقیه: کتاب الصلاة / ص165.
3- وسائل الشیعة: الباب 32، أبواب الوضوء، الحدیث 2.

ص:510

الرجلین، فهل یتعیّن علیه الثانی أو یخیّر بینهما، ولا رجحان لأحدهما علی الآخر.

فیه وجهان، بل قولان ، فقد نُسب إلی المشهور کما فی «شرح النجاة» القول الأوّل، وهو التعیّن، بل عن «الذخیرة» نسبته إلی الأصحاب .

وادّعی فی «المدارک» قطع الأصحاب بجواز المسح علی الحائل للتقیة، إذا لم تتأد بالغسل .

فیما إذا دار الأمر بین مسح الخفّین أو غسل الرجلین

وفی «الحدائق»: أنّه خرج جملة من الأصحاب بتعیّن الغسل، وانّه لا یجزی غیره، وحکی القول بالتعیین عن «التذکرة» و«البیان» و«الروض» ، بل علیه جملة من أصحاب التعالیق علی «العروة»، تعینیّاً کما عن البروجردی

والشاهرودی والخمینی، أو احتیاطاً وجوبیاً کما عن آخرین، خلافاً لصاحب «الجواهر» والسیّد فی «العروة»، وإن تنزّل صاحب الجواهر فی آخر کلامه من ابتناء المسألة علی کون المباشرة مقدّمة للمسح واجباً بالأصالة فیتعیّن الغسل، أو واجباً مقدّمة، فلا یتعیّن، ویحمل علی الوجوب الأصلی مع الشکّ أیضاً، فیتّحد حینئذٍ مع القائلین بالتعیّن فی صورة الشکّ .

وکیف کان، إذا أردنا الاستدلال علی عدم وجوب التعیین، بعموم أخبار التقیّة وإطلاقها، مع کون المطلوب فی المسح واحداً، فإذا سقط وجوب إیصال الماء إلی البشرة مسحاً، واُقیم مقامه الفعلان من مسح الخفّین أو غسل الرجلین بأمر واحد، من دون وجود رجحان شرعی لأحدهما علی الآخر، لأنّ نسبة الأمر بالتقیّة إلیهما علی حدٍّ سواء، وتقیید النصّ والفتوی _ بل ومعقد الإجماعات _ فی جواز العمل بالتقیّة بما إذا لم یقدر علی غسل الرجلین، وإلاّ کان هو أقرب إلی المطلوب، وأمثال هذه التعلیلات لا یخلو عن إشکال، ما لم یثبت الإجماع علیه، وهو غیر ثابت لأنّ المسألة غیر مذکورة إلاّ عند المتأخّرین .

ولکن الأقوی _ کما علیه جمع کثیر من الأصحاب الذین قد عرفت مختارهم _ هو التعیین، بل یمکن استناد فهم ذلک إلی الأخبار أیضاً، کما اعترف به صاحب

ص:511

«شارح المفاتیح» علی ما هو المنقول عنه فی «الجواهر»، وصاحب «مصباح الهدی»، لأنّه لولا خبر عبد الأعلی مولی آل سام، من ترغیب الإمام علیه السلام بقوله : «بأنّ هذا وأشباهه یعرف من کتاب اللّه من قوله تعالی : «مَا جَعَلَ عَلَیْکُمْ فِی الدِّینِ مِنْ حَرَجٍ» امسح علی المرارة»(1) .

حیث یستفاد منه کون المطلوب فی المسح علی الرجلین وغیره احداث أمرین: وهما المسح والمباشرة بین الماسح والممسوح، فإذا سقط الأوّل لضرورة

أو تقیّةٍ، فإنّه لا دلیل علی سقوط الثانی عن وجوبه ، ففی المقام مثله أیضاً ، مع إمکان استفادة ذلک من الظهور العرفی الموجود فی الجملة من نفس الآیة، من جهة اتّصال المسح بالرجل، حیث یفهم أنّ المقصود هو تعدّد المطلوب ، بل قد نستفید ذلک من توبیخ الإمام علیه السلام للسائل، بأنّ هذا وأشباهه یعرف من کتاب اللّه ، ولعلّه لذلک یحکم بالجبیرة فی غسل الیدین والوجه وفی المسح واجباً، عند عدم القدرة للمباشرة، فالوجوب المستفاد من هذا الخبر منضمّاً إلی الآیة یکفی فی الحکم بوجوب التعیین، فلا حاجة إلی الاستدلال بخبر النسّابة الکلبی الوارد فی المسح علی الخفّین، حیث قال الصادق علیه السلام : «إذا کان یوم القیامة وردَّ اللّه کلّ شیء إلی شیئه، ردّ الجلد إلی الغنم فتری أصحاب المسح أین یذهب وضوئهم»(2).

المؤیّد بالخبر المنقول عن رسول اللّه صلی الله علیه و آله : «إنّ أشدّ الناس حسرةً یوم القیامة من رأی وضوئه علی جلد غیره»(3) .

لإمکان الخدشة فیهما، بأنّهما فی صدد بیان ردع عملهم فی قبال عملنا، وبأنّ عملهم غیر صحیح، لأنّهم یمسحون علی ما یکون حاله کذلک یوم القیامة .

فیما إذا کان الحائل علی المسح متعدّداً


1- وسائل الشیعة: الباب 39، أبواب الوضوء، الحدیث 5.
2- وسائل الشیعة: الباب 38، أبواب الوضوء، الحدیث 4.
3- وسائل الشیعة: الباب 38، أبواب الوضوء، الحدیث 14.

ص:512

وأمّا أنّه لا یجوز ذلک حتّی مع التقیّة وإمکان غَسل الرجلین فلا ، مع أنّ المدّعی هنا کان أعمّ من المسح علی الخفّین فی قبال غَسل الرجلین، لأنّ المقصود هو المسح علی الحائل تقیّةً، مع إمکان الغسل، ولذلک تری السیّد فی «العروة» جعل العنوان فی المسألة رقم 40 هو المسح علی الحائل، الشامل لغیر جلد الحیوان أیضاً، ولو کان تمسّک رحمه الله بالأخبار الناهیة عن التقیّة، فی مسح الخفّین کان أولی .

کما أنّه یمکن الخدشة للاستدلال بالتعیین، بکون المقام من موارد الشکّ فی المحصّل، فلازمه الاحتیاط بالغَسل لا المسح ، بل الاحتیاط لازم حتّی لو لم یکن

الشکّ شکّاً فی المحصّل، لدوران الأمر هاهنا بین التعیین للغسل فقط، أو التخییر بینه وبین المسح علی الخفّین، واللازم هو التعیین کما فی «مصباح الهدی» للآملی قدس سره ، وذلک لأنّه لو لم نستظهر تعدّد المطلوب من الآیة والروایة، بل لو کان الاستظهار علی خلاف ذلک، أی علی وحدة المطلوب، فلازمه حینئذٍ کون الغسل من أحد أفراد متعلّق التقیّة کالمسح، بلا فرق بینهما، ولا خصوصیّة زائدة فیه، فکما أنّ التقیة یجوّز لنا العمل بالمسح علی الخفّین، کذلک یجوّز لنا الغسل، فلیس فی البین قدرٌ متیقّنٌ حتّی یقال بدوران الأمر بین التعیین والتخییر، أو یقال: إنّه یکون محصّلاً للغرض قطعاً دون المسح.

فی المسح علی الحائل عند الضرورة

ومن المعلوم أنّ التخییر بین أفراد عنوان واحد یعدّ من أحکام العقل لا الشرع ، فالأقوی هو الاکتفاء بما ذکرنا من الاستدلال بالآیة والروایة، فیکون التعیین بالغسل عندنا قویّاً، کما لایخفی علی المتأمِّل .

الفرع السادس : لو قلنا بجواز المسح علی الحائل مطلقاً، أو قلنا بعدم إمکان غسل الرجلین، فحینئذٍ قد یکون الحائل واحداً فلا کلام فیه، وأمّا إذا کان الحائل متعدّداً فهل یجب نزع ما یمکن نزعه أم لا ؟

والمسألة ذات قولین : قول بالوجوب، کما علیه السیّد جمال الگلبایگانی فی

ص:513

«حاشیة العروة» فی المسألة الثالثة والثلاثون ، بل وهکذا الآملی فی «مصباح الهدی»، وإن فصّل فی آخر کلامه بین أن تکون الضرورة من جهة التقیّة ومن جهة عمل العامّة جاز المسح علی المتعدّد ولم یجب علیه نزعه، وبین غیرها فیجب، أی بأن لا تکون الضرورة فی التقیّة أو لا یکون عملهم کذلک .

وقولٌ بعدم الوجوب، کما علیه صاحب «الجواهر» والسیّد فی «العروة»، وجمیع أصحاب التعالیق علیها من المعاصرین وغیرهم.

وهو الأقوی، لأنّ ظاهر أدلّة التقیة هو تجویز العمل علی مثل هذا المسح، أی سقوط المسح علی البشرة، وقیام التوضّی بالمسح علی الخفّین مقامه، فإذا لم

یکن المسح علی الحائل مسحاً للبشرة، فإنّه لا یؤثّر فی کون الحائل الموجود واحداً أو متعدّداً، رقیقاً أو سمیکاً. ولعلّ مقصود صاحب «الجواهر» من إطلاق کلامه بأنّ أدلّة التقیّة مطلقة ومفادها عامّة وأنّهما تقیّدان الإجماعات هو هذا المعنی، وهو غیر مستبعد.

وأمّا التفصیل الذی ذکره الآملی، فهو لیس بشیء جدید، لأنّه إن کان یقصد بأنّ نفس التعدّد مورداً للتقیة بالخصوص، فلا إشکال فی الجواز، وهو خارج عن مورد النزاع.

وإن لم یکن مقصوده ذلک، فمعناه هو القول بعدم الجواز، کما فی هو القول الأوّل .

وأمّا التفصیل بین الضرورتین فهو أمر آخر، لابدّ أن یبحث عنه بأنّ سائر الضرورات تکون مثل التقیة فی هذا المطلب أم لا ؟ فمع ذلک یعدّ مراعاة الاحتیاط حسناً علی کلّ حال .

هذا تمام الکلام فی التقیّة ممّا یناسب المقام.

***

تمّ تسوید الجزء الثانی من أبحاثنا فی الفقه فی الیوم السابع عشر من رجب المرجّب، من سنة سبع وأربعمائة بعد الألف من الهجرة النبویة الموافق لیوم

ص:514

الأربعاء السابع والعشرون من شهر اسفند من الشهور الشمسیّة، ویلیه الجزء الثالث ان شاء اللّه. أسأل اللّه تبارک وتعالی التوفیق لتدریسه وتفهّمه وتفهیمه، ورفع الآفات الکثیرة المترقّبة فی هذا العصر، والموانع المتعددة فی هذا الدهر، ولقد أحسن ما قیل: «لکل شیء آفة وللعلم آفات»، کذلک نسأل اللّه تعالی التعجیل لفرج صاحب الأمر والزمان، إذ بظهوره یرفع الهمّ والغمّ، ویکشف الضرّ والذمّ، الّلهمَّ عجّل فرجه، وسهِّل مخرجه، بحق محمّد وآله البررة، آمین رب العالمین.

***

ص:515

الفهرست

سؤر البغال و الحمیر••• 5

سؤر الفأرة••• 8

سؤر الحیّة••• 11

فی ماءٍ مات فیه الوزغ و العقرب••• 15

فی ماءٍ لاقی ما لا یدرک بالطرف من الدم••• 18

معنی الحدث لغةً و عرفاً••• 19

ما یطلق علیه الحدث فی لسان الفقهاء••• 21

البول و الغائط••• 25

الریح••• 37

الأحداث الموجبة للوضوء••• 42

الأحداث الموجبة للوضوء / کلّ ما أزال العقل••• 51

الأحداث الموجبة للوضوء / الاستحاضة القلیلة••• 55

عدم نقض الطهارة بالمذی••• 57

عدم نقض الطهارة بخروج الدم عدا الدماء الثلاثة••• 65

عدم نقض الطهارة بالقیئ و...••• 68

عدم نقض الطهارة بمسّ ذکرٍ و...••• 71

فی نقض الوضوء بالردّة••• 73

ص:516

أحکام الخلوة / وجوب ستر العورة••• 75

أحکام الخلوة / النظر إلی عورة غیر المسلم••• 82

أحکام الخلوة / فی ستر حجم العورة••• 83

أحکام الخلوة / ستر العورة عن الناظر المحترم••• 85

فی المراد من العورة هنا••• 87

احکام الخلوة / استحباب ستر البدن••• 88

أحکام الخلوة / حکم النظر لو رأی عورة مکشوفة••• 91

أحکام الخلوة / النظر إلی عورة الخنثی••• 93

أحکام الخلوة لو اضطر إلی النظر إلی العورة••• 96

أحکام الخلوة / استقبال القبلة و استدبارها••• 97

أحکام الخلوة / إقعاد الطفل مستقبلاً أو مستدبراً••• 111

أحکام الخلوة / ردع الغیر عن الاستقبال و الاستدبار••• 113

فی حکم الاستنجاء للوضوء••• 117

حکم الاستنجاء / لا یجزی من البول إلاّ الماء••• 119

حکم الاستنجاء للعاجز عن التطهیر••• 122

اقلّ ما یجزی فی غسل مخرج البول••• 130

ما یعتبر فی غسل مخرج الغائط••• 137

فی حکم الاستنجاء إذا تعدّی النجاسة••• 143

حکم الاستنجاء إذا لم یتعدّ النجاسة••• 148

حکم الاستنجاء لو کان الغائط مصاحباً لنجاسة اُخری••• 152

حکم الاستنجاء فی نجاسة اُخری مع الغائط••• 154

حکم الاستنجاء بالأحجار••• 156

ما لا یستعمل فی الاستنجاء••• 169

ص:517

آداب الخلوة و سننها / تغطیة الرأس••• 182

آداب الخلوة و سننها / التسمیة••• 186

مکروهات التخلّی••• 190

فروض الوضوء / النیّة••• 215

کیفیّة النیّة فی الوضوء••• 231

الوضوء / نیّة رفع الحدث أو الاستباحة••• 245

الوضوء / تنبیهات حول النیّة••• 249

الوضوء / عدم اعتبار النیّة فی رفع الخبث••• 271

الوضوء / حکم الضمائم الراجحة فی النیّة••• 276

الوضوء / اعتبار الخلوص فی النیّة••• 277

الوضوء / حکم العجب فی العبادة••• 298

الوضوء / وقت النیّة••• 306

الوضوء / وضوء واحد لأسباب مختلفة••• 316

الوضوء / غسل واحد لأسباب مختلفة••• 324

غسل الوجه فی الوضوء••• 339

الوضوء / وجوب الابتداء بأعلی الوجه••• 351

الوضوء / الابتداء بأعلی الوجه فالأعلی••• 355

الوضوء / حکم غسل المسترسل من اللحیة••• 357

الوضوء / حکم تخلیل المسترسل من الشعر••• 359

الوضوء / لو نبت للمرأة لحیة••• 362

الماء المستعمل فی الوضوء غیر الرافع للحدث••• 364

غسل الیدین••• 364

وجوب غسل المرفق أصلی أم مقدّمی؟••• 364

ص:518

المراد من المرفق••• 366

وجوب الابتداء بالغسل من المرفق••• 368

وجوب الابتداء بالید الیمنی فی غسل الیدین••• 369

من قطع یده من فوق المرفق••• 371

من قطع یده من دون المرفق••• 372

من کان له ذراعان أو أصابع زائدة أو لحم نابت••• 376

من کان له ید زائدة••• 377

غَسل البشرة مع الشعر فی الیدین••• 380

کفایة المسح ببعض الرأس••• 387

المقدار الواجب من مسح الرأس••• 390

المراد من المسح بثلاث أصابع••• 396

محلّ المسح من الرأس••• 399

اعتبار کون مسح الرأس بنداوة الوضوء••• 403

اعتبار کون مسح الرأس بالید••• 407

اعتبار کون مسح الرأس بمادون الزند••• 409

اعتبار کون مسح الرأس بباطن الکفّ و الأصابع••• 411

مسح الرأس / فی اعتبار جفاف الممسوح••• 412

مسح الرأس / فیما لو توضّأ علی نحو الارتماس••• 414

مسح الرأس / فیما لو جفّ ما فی یدیه••• 415

مسح الرأس / فیما لو لم یبق نداوة••• 418

حکم النکس فی مسح الرأس••• 421

مسح الرأس / لو غسل موضع المسح••• 424

مسح الشعر المختصّ بمقدّم الرأس••• 426

ص:519

المسح علی ما یستر موضع المسح••• 427

الأقوال فی مسح الرجلین••• 430

مسح الرجلین / آیة: (وَامْسَحُوا بِرُءُوسِکُمْ وَأَرْجُلَکُمْ)••• 432

مسح الرجلین / مسح ظاهر القدمین••• 433

مسح الرجلین / مقدار ما یجب من المسح••• 435

مسح الرجلین / فی المراد من الکعبین••• 446

مسح الرجلین / هل الکعب داخل فی الممسوح؟••• 456

مسح القدمین منکوساً••• 461

مسح الرجلین / فی حکم التقطیع فی المسح••• 464

مسح الرجلین / فی الجمع بین الأصل و العکس فی المسح••• 465

مسح الرجلین / فی الترتیب بین الرجلین••• 466

مسح الرجلین / فی کیفیّة مسح القدمین••• 471

مسح الرجلین / فی مسح الأقطع••• 473

مسح الرجلین / وجوب المسح علی البشرة••• 474

مسح الرجلین / فی المسح علی الشعر النابت علی القدم••• 479

مسح الرجلین / فی المسح علی شراک النعل••• 481

الکلام فی التقیّة••• 483

التقیّة فی موضوع الحکم الشرعی••• 485

المسح علی الحائل تقیّةً••• 490

اعتبار عدم المندوحة فی العمل بالتقیّة••• 497

کیفیّة المسح علی الخفّین عند التقیّة••• 500

صحّة هل یصحّ وضوء من ترک التقیّة فی الوضوء••• 503

من یتمکّن حال العمل بالتقیّة من إیقاع العمل طبق الواقع••• 507

ص:520

من یتمکّن حال التقیّة من إیقاع العمل طبق الواقع••• 507

دوران الأمر بین مسح الخفّین أو غسل الرجلین••• 510

فیما إذا کان الحائل علی المسح متعدّداً••• 511

المسح علی الحائل عند الضرورة••• 512

المجلد 3

اشارة

ص: 1

تألیف

آیة اللّه العظمی الحاج السیّد محمّد علی العلوی الگرگانی

الجزء الثالث

ص:2

ص:3

بسم الله الرحمن الرحیم

ص:4

ص:5

مستثنیات الوضوء

قال رحمه الله : أو الضرورة (1).

(1) أی من المستثنیات عن المسح علی البشرة، هو حال الضرورة، فیجوز فی الضرورات المسح علی الحائل، کما حکم به المصنّف فی «المعتبر»، والعلاّمة فی «المنتهی» و«المختلف» و«التحریر» و«الإرشاد» و«القواعد» و«الذکری» و«الدروس» وغیرها، وهو الظاهر من عبارة «الفقیه» وصریح «الناصریات» ، بل قد یظهر عن الأخیر، دعوی الإجماع علیه، کما هو صریح «المختلف».

بل فی «الحدائق»: أنّ ظاهر الأصحاب الاتّفاق علیه، کما ادّعی ذلک فی «التذکرة» لظاهر کلامه ، وذهب أکثر المتأخّرین، وأصحاب التعالیق علی «العروة» مع السیّد قدس سره فیها علی الجواز، إلاّ الخوئی، وصاحب «المدارک»، حیث صرّح الثانی بالانتقال إلی التیمّم ، وحیث لم یجوز ذلک من جهة الاکتفاء به، فالمسألة من جهة الأقوال واضحة ، فالأولی الرجوع إلی أدلّة الجواز .

فنقول : قد استدلّ أو یمکن أن یستدلّ لذلک باُمور :

الأمر الأوّل : بصحیحة أبی الورد، فی حدیثٍ: «... فقلت : فهل فیها رخصة ؟ فقال : لا ، إلاّ من عدوّ تتّقیه، أو ثلج تخاف علی رجلیک»(1) .

حیث أنّه صریح فی جواز المسح علی الخفّین فی حال الخوف، الذی هو عبارة اُخری عن الضرورة ، وأضف إلی ذلک، أنّه لو کان المسح علی الخفّین مع الضرورة جائزاً، مع وجود أخبار ناهیة عنه، فغیره من الحائل یکون جائزاً بطریق أولی، لعدم ورود دلیل علیه ، فدلالة الحدیث فی أصل الجواز عند الضرورة ولو کانت برداً ثابتة.


1- وسائل الشیعة: أبواب الوضوء، الباب 38، الحدیث 5.

ص:6

کما أنّ سنده أیضاً معتبر وصحیح، کما حقّقناه فی صدر المسألة، فراجع.

الأمر الثانی : بالآیة الواردة فی نفی الحرج فی سورة الحجّ وهی قوله تعالی : «مَا جَعَلَ عَلَیْکُمْ فِی الدِّینِ مِنْ حَرَجٍ»(1)، حیث یدلّ علی کون مسح البشرة حرجیاً، فیجوز المسح علی الحائل لرفع الحرج ، لکنّه مخدوش، بأنّ مقتضی ظاهر هذا الدلیل هو سقوط وجوب مسح البشرة للحرج ، وأمّا أنّ ما یقیم مقامه هل هو المسح علی الحائل أو التیمّم، فإنّه لابدّ أن نرجع إلی الدلیل الثانوی الآخر المثبت لذلک الحکم ، أضف إلی ذلک أنّه لو کان دلیل نفی الحرج مورداً لتوهّم التمسّک به، کان دلیل لا ضرر أیضاً کذلک إذا کان ترک العمل بمقتضاه موجباً للضرر، فإنّ الجواب هو الجواب .

الأمر الثالث : التمسّک بحدیث عبد الأعلی مولی آل سام(2) حیث قد أمر الإمام علیه السلام _ تمسّکاً بالآیة المذکورة _ بالمسح علی المرارة، حیث یفهم منه منضمّاً مع الدلیل الأوّل الذی یقتضی إیجاب جمیع أعضاء الوضوء وأجزائه، بحیث لولا هذه الروایة لکان مقتضی حکم وجوب الکلّ، أنّه لو تعذّر بعض الأجزاء لسقط الکلّ، لأنّ المأمور به الواقعی کان تمام الاجزاء والشرائط لا بعضها، فإذا نقض بعضها سقط الوجوب لأنّه لم یکن هو المأمور به الواقعی ، لکن مع ملاحظة هذا الخبر، حیث قد جعل المسح علی المرارة مکان المسح علی البشرة، ولم یحکم بالسقوط، یفهم أنّ وجوب الوضوء ببقیّة أجزائه لا یسقط بتعذّر بعض أجزائه ، بل یتبدّل إلی مثل هذا البدل، وهو المسح علی الحائل، کما یستفاد ذلک من الأخبار الواردة فی الأقطع، حیث قد حکم الإمام علیه السلام بأنّه یغسل


1- سورة الحج: آیة 77.
2- وسائل الشیعة: أبواب الوضوء، الباب 39، الحدیث 5.

ص:7

ما بقی من عضده، أی لا یسقط وجوب بقیّة الأجزاء .

الأمر الرابع : التمسّک بالقواعد الثلاثة المعروفة وهی: قاعدة المیسور، وقاعدة الإدراک، وقاعدة الاستطاعة، لأنّ المسح علی الخفّین أو الحائل هو المیسور هنا من الوضوء ، کما أنّ المسح علی المرارة فی خبر عبد الأعلی کان کذلک، ولذلک أشار الإمام علیه السلام فیه إلی الآیة.

هذا، ولکن قد اعترض علیه صاحب «مصباح الفقیه» بقوله: «لیس المسح علی الخفّ عرفاً من نظائر المسح علی المرارة، لکون المسح علی المرارة لأجل اتصالها بالرجل، وشدّة لصوقها بها، وتعسّر نزعها عنها بمنزلة المسح علی الرجل عرفاً، فیکون المسح علیها من المراتب المیسورة الثابتة للمأمور به بنظر العرف، ولعلّه أحال الإمام علیه السلام معرفة حکمه إلی کتاب اللّه عزّوجلّ .

وأمّا المسح علی الخفّ فهو أمر أجنبی عن المأمور به بنظر العرف، إذ لیس المسح علیه فی بادئ الرأی إلاّ کالمسح علی جسم خارجی، فلا یمکن استفادة وجوبه من الآیة، فلا یمکن الاستدلال بتلک القواعد فی المورد، ولا بفحوی أخبار الأقطع والجبائر، کما لا یمکن جعل هذه الاُمور من المؤیّدات لدفع احتمال وجوب التیمّم کما فی «المدارک» احتماله.

ثمّ قال: وبهذا ظهر لک أنّ إلحاق ضیق الوقت بالضرورة، فی جواز المسح علی الخفّین، فی غایة الإشکال، لأنّ تعمیم الضرورة بحیث تعمّ ضیق الوقت، ودعوی استفادة حکمها علی إطلاقها من الروایة، قابلة للمنع، فإن ثبت فی المسألة إجماع فهو، وإلاّ فمقتضی الاحتیاط اللازم وجوب الجمع بین المسح علیها والتیمّم، لأنّ وجوب أحد الأمرین معلومٌ بالإجماع، إذ الظاهر أنّ جواز ترکهما معاً عند ضیق الوقت ممّا لا یلتزم به أحد، فیجب الجمع بینهما تحصیلاً

ص:8

للبراءة الیقینیّة»(1) ، انتهی محلّ الحاجة .

وفی التأمّل فی کلامه مجالٌ، لأنّ میسور کلّ شیء یکون ما یناسب مع وجود ذلک الشیء، ففی مثل الشخص الذی وقع فی صرورة الثلج والبرد، الذی یخاف منهما علی رجلیه، أو کان وقد تعرّض لخطر العدوّ الفتّاک فی المعرکة، بحیث لو أخرج الخفّ فی حال المسح لهجم علیه، وهو عاجز عن دفعه، فإنّ العرف مع وجود هذه الشرائط یحکم علیه بأنّ المسح علی الخفّین هو میسوره، کما یفهم ذلک من حکم الشارع فی موارد الجبیرة، فإنّه قد تکون الجبیرة مرکّبة من عدّة أشیاء کالخشبة والجصّ والخرقة وأمثال ذلک فی کسر، الید حیث أنّ المسح علیها یکون میسور المسح علی البشرة، فأیّ فرق بین هذا وبین المسح علی الخفّین ، واحتمال الاکتفاء هنا بالتیمّم، وسقوط أصل الوضوء، کان أشکل من السابق، لما تری أنّ الشارع لم یرفع یده عنه فی الموارد المشابهة، والالتزام بالسقوط لکلّ من الوضوء والتیمّم، ممّا یلتزم به أحدٌ، والحکم بالوجوب لکلّ واحد منهما لا دلیل إثباتی علیه مع وجود هذه الأدلّة، لاسیما مع ملاحظة ما عرفت من نقل الإجماع علی کفایة المسح علی الحائل فی حال الضرورة، وإن کان الحکم بالجمع من حیث الاحتیاط فی تمام الموارد لا یخلو عن حسن، إلاّ أنّه لیس علی قدر الحکم بوجوبه، کما لایخفی .

وعلی ما ذکرنا، لا یبعد أن یلحق ضرورة ضیق الوقت بضرورة الخوف من البرد والثلج، من جواز المسح علی الخفّین، کما التزم به بعض، بناءً علی أنّ المراد من قوله علیه السلام روایة أبی الورد : «أو ثلجٍ تخافُ علی رجلیک»، بیان مصداق الضرورة لا خصوص ذلک، إذ لا خصوصیة عرفاً فی مثل هذا الخوف ،


1- مصباح الفقیه: کتاب الطهارة / ص166.

ص:9

وإذا زال السبب، أعاد الطهارة علی قولٍ، وقیل: لاتجب إلاّ لحدثٍ، والأحوط الأوّل(1).

بل المقصود ذکر أصل الضرورة بأیّ وجه حصلت، سواء کان من العدوّ، أو من الثلج، أو من الاحتراق بالنار مثلاً لو أخرج الخفّین، أو کان لضیق الوقت ، وإن کان حُسن الاحتیاط بالجمع بین التیمّم والمسح علی الخفّ قویّاً .

لو أتی بالوضوء علی نحو التقیّة أو الضرورة ثمّ زال العذر

کما أنّه قد ذهب إلیه هنا من أجاز المسح فی غیره، لأجل ما عرفت من الشبهة فی صدق الضرورة الواردة فی خبر أبی الورد لمثله أیضاً، وإن کان إطلاق معقد الإجماع المنقول یشمله کما لایخفی، فلا یترک الاحتیاط، کما علیه صاحب «الجواهر» قدس سره .

(1) القول الأوّل: هو للمصنّف فی «المعتبر» وکذلک فی «المنتهی» و«المبسوط» و«التذکرة»، والإیضاح وبعض متأخّری المتأخّرین وهو ظاهر «کشف اللثام» .

وأمّا القول الثانی: هو مختار العلاّمة فی «المختلف» و«الذکری» و«الدروس» و«جامع المقاصد» و«المدارک» و«المنظومة» و«الجامع» و«الروض» بل ربما قیل إنّه المشهور.

والإشکال فی النظر فی «التحریر» و«القواعد» للحکم بالإعادة، وصاحب «الجواهر» و«المصباح» للهمدانی _ خلافاً للآملی والبروجردی والاصطهباناتی _ وإن کان مذهب أکثر المتأخّرین من السیّد فی «العروة» وأکثر أصحاب الحواشی علی عدم وجوب الإعادة.

فلا بأس بتقریب المسألة بجمیع صورها حتّی یتّضح الکلام والنظر فیها ، فنقول :

الصورة الاُولی: ما لو أتی بالوضوء علی نحو التقیة أو الضرورة، وثمّ صلّی بذاک الوضوء الصلاة التی کانت واجبة علیه، ثمّ بعد ذلک العذر من التقیّة أو الضرورة،

ص:10

فالکلام تارةً فی أنّه هل یجب علیه تحصیل الوضوء ثانیاً، لما یشترط فیها الطهارة، أو یکتفی بالوضوء الناقص السابق؟

والمسألة ذات وجوه، بل أقوال ثلاثة : القول الأوّل: بأنّه لا یجب علیه الإعادة مطلقاً، سواء کان الناقص من جهة التقیّة أو الضرورة، أو لوحظ فیه بأنّ الناقص یکون بدلاً عن العام أم لا، وسواء کان الدلیل لسانه مقتضیاً بأنّه رافع للحدث أم لا ؟

وهذا هو المستفاد من کلام صاحب «الجواهر» ومن سلک مسلکه، حیث تمسّک للصحّة وعدم وجوب الإعادة بأمورٍ وهی أنّه قام بإتیان وضوء صحیح مأمور به، فإذا أدّی صلاته به، فإنّ مقتضی إتیان المأمور به هو الاجزاء، لتطابق المأتی به مع المأمور به ، وکذلک یدلّ علی الصحّة استصحاب الصحّة، لأنّه کان قبل زوال المسوّغ صحیحاً قطعاً، فبعده یشکّ فی صحّته، فیستصحب بقائه .

وکذلک یدلّ علی الصحّة أنّ الوضوء لا ینقضه إلاّ الحدث، وهو خبر إسحاق بن عبداللّه الأشعری ، عن أبی عبداللّه علیه السلام : «قال : لا ینقض الوضوء إلاّ حدث، والنوم حدث»(1) .

ومن الواضح أنّ زوال المسوّغ، لیس من الأحداث ، وبأنّه حیث ینوی بوضوئه رفع الحدث، یجب أن یکون قد حصل الطهارة به، لقوله صلی الله علیه و آله : «لکلّ امرئٍ ما نوی» .

وبأنّ مقتضی جواز البدار هو التخییر بین الإتیان بالوضوء الناقص فی أوّل الوقت، وبین الإتیان بالتام فی آخره، والحکم بوجوب الإعادة مناف للحکم بالتخییر المذکور .

ولکن قد أورد علی جمیع هذه الأدلّة ؛ فأمّا عن الأوّل:


1- وسائل الشیعة: أبواب الوضوء، الباب 3، الحدیث 4.

ص:11

بأنّ الإجزاء للتطابق مسلّم ما دام کون العذر باقیاً ، وإمّا کذلک حتّی لما بعد زوال العذر فلا ، کما أنّ حکم التیمّم أیضاً کذلک، حیث أنّه مجوّز للدخول فی الصلاة حال وجود العذر، وأمّا بعد وجدان الماء أو رفع العذر لابدّ من إعادة الطهارة .

ولکن الأولی أن یقال : إنّ الدلیل الذی یدلّ علی کفایة الوضوء الناقص، إن کان یدلّ علی کونه مبیحاً للدخول فی الصلاة فقط لا رافعاً للحدث، أو دلّ علی کونه رافعاً للحدث، إلاّ أنّ رافعیّته کانت ظاهریة وصوریة، فلا إشکال فی أنّه بعد رفع العذر لا وجه للحکم بالبقاء .

وأمّا لو لم یدلّ علی ذلک، بل استفدنا من الدلیل أنّه رافع للحدث ، غایة الأمر أنّ رافعیّته فی حال حدوثه، لابدّ أن یکون مع العذر، وأمّا لزوم بقاء العذر بقاءً فلا ، فالحقّ حینئذٍ یکون مع صاحب «الجواهر» ، فقیاس المقام بالتیمّم _ کما عن الآملی _ لا یکون بوجیه، لإمکان أن یکون حکم التیتمّم علی أحد الأمرین المذکورین بخلاف الوضوء الناقص، فمجرّد کون التیمّم أیضاً رافعاً للحدث _ کما تفوّه به صاحب «الهدی» لا یکون رافعاً للإشکال، لإمکان أن یکون رافعاً ما دام العذر باقیاً، مع أنّ مورد الإشکال فی غیر العذر المستمرّ والمستوعب، فتفصیل الکلام موکول إلی محلّه .

وأمّا عن الاستصحاب، فقد أورد علیه أوّلاً، کما عن الشیخ الأعظم قدس سره : أنّ مقتضی استصحاب حکم الخاص، وهو أنّ الوضوء الناقص کافٍ بعد زوال العذر، لا التمسّک بعموم العام، الدالّ علی لزوم الإتیان بالوضوء التامّ، والمستفاد من آیة الوضوء ، هو جواز تحصیل وضوء الناقص بعد رفع العذر، ونقض الوضوء الاضطراری، لا بقاء أثر وضوء الناقص، مع أنّه فاسد جدّاً، ویعدّ مخالفاً للإجماع والضرورة .

وثانیاً : أنّه یصحّ لو کان هذا الوضوء رافعاً للحدث، ولم نقل بنقص الحدث

ص:12

زماناً ومورداً، مع أنّه غیر ثابت، لإمکان أن یکون المقام من قبیل الشکّ فی المقتضی، أی أنّه لا یعلم هل أنّ الوضوء الناقص مبیحٌ للدخول حال بقاء العذر فقط، أو أنّه مبیحٌ مطلقاً، إلاّ أن یکون المقصود من الاستصحاب، هو استصحاب الإباحة لا استصحاب الحکم الخاصّ .

وقد اُجیب عنه بأنّه بالنسبة إلی إباحة الصلاة حال وجود العذر، لا ینفع الاستصحاب، وبالنسبة إلی إباحة کلّ صلاة مشکوک الحدوث، فالأصل عدمه، فلا ینفع الاستصحاب هاهنا شیئاً .

ولکن الإنصاف عدم تمامیة هذه الإیرادات علی الاستصحاب : فأمّا عن الأوّل: فلأنّ المقصود من الاستصحاب، لیس هو إثبات بقاء حکم وضوء الناقص علیه، حتّی بعد زوال وارتفاع العذر، لوضوح أنّه قد رفع برفع العذر، ولا شکّ فیه حتّی یستصحب وجوده، ومعلومٌ أنّ الشکّ یعدّ من أرکان الاستصحاب ، بل المقصود استصحاب أثره، وهو الطهارة الحاصلة منه .

وأمّا عن الثانی: فلأنّا نقول، یستفاد من بعض الأخبار أنّ تحصیل الوضوء فی حال الحدث یعدّ محصّلاً للطهارة، فإذا کان الإنسان محدثاً بالحدث الأصغر وقام بإتیان الغسلتان والمسحتان فإنّه یکون قد حصل علی الطهارة، وهذا ما یستفاد من الخبر الذی رواه الصدوق فی «عیون أخبار الرضا علیه السلام » و«العلل» بسنده عن الفضل بن شاذان، عن الرضا علیه السلام : قال : «إنّما أمر بالوضوء وبدئ به، لأن یکون العبد طاهراً إذا قام بین یدی الجبّار»(1) ، الحدیث .

لوضوح أنّه لو لم یکن الوضوء محصّلاً الطهارة للمحدث، لما کان لهذا التعلیل وجهٌ. وهکذا من هذه المقدّمة ثبت أنّ کلّ وضوء للشخص المحدث بحدث


1- وسائل الشیعة: أبواب الوضوء، الباب 1، الحدیث 9.

ص:13

الأصغر رافع للحدث، إلاّ أن یدلّ صراحة دلیل علی أنّ مثل هذا الوضوء، لاینتج الطهارة نظیر ما ورد حول الوضوء علی الوضوء، حیث لا یکون محصلاً للطهارة، لکونه تحصیلاً للحاصل، ولذلک قال الإمام بأنّ الوضوء علی الوضوء یعدّ هو نوراً علی نور ، فإطلاق المقدّمة الأولی تشمل الوضوء الناقص الذی جعله الشارع فرداً من أفراد الوضوء التامّ، وقال بأنّ المضطرّ یجوز له الوضوء کذلک فیکون وضوءه کوضوء التامّ، ویعدّ هذا الوضوء أیضاً رافعاً للحدث قطعاً، ولو فی حال وجود العذر، ویصدق علیه أنّه وضوء ، فبانضمام خبر إسحاق بن عبداللّه الأشعری بأنّ: «الوضوء لا ینقضه إلاّ الحدث»(1) یفهم أنّ الحاصل ثابت دائمی لا موقّت، أی إذا وجد الوضوء، ورفع الحدث، کان ذلک الأثر باقیاً، ولا یمکن رفع الید عنه حتّی فی موضع الشکّ ، فلیس حینئذٍ الحکم بالبقاء من قبیل الشکّ فی المقتضی، بل یکون من قبیل الشکّ فی الرافع، کما لایخفی، لعدم وجود دلیل یحتمل فیه کون جعل الوضوء الناقص موضع التام بصورة الموقّت، لوضوح أنّه إذا ثبت بمقتضی خبر فضل بن شاذان أنّ کلّ وضوء إذا أتی به المحدث بالحدث یوجب طهارته ورفع الحدث عنه فإنّه یکون دائمیاً وثابتاً لا مؤقّتاً .

غایة الأمر لولا دلیل ثانوی لتنزیل الوضوء الناقص منزلة التامّ، کان مقتضی إطلاق الآیة من الحکم بالتوضّی لمن أراد القیام إلی الصلاة، هو الإتیان بالوضوء التامّ لا الناقص، وکان هو الرافع لا الثانی إلاّ أنّه بعد ورود الدلیل بکونه أیضاً وضوءاً مثل وضوء التام بواسطة تحقّق العذر والاضطرار، فیؤثّر حینئذٍ فی تحقّق رفع الحدث قطعاً، فیدخل بذلک فی مصادیق کلام الإمام علیه السلام فی خبر إسحاق بن عبداللّه، من أنّ الوضوء المؤثّر لرفع الحدث، ومن أراد إثبات عدم دوام الطهارة


1- وسائل الشیعة: أبواب الوضوء، الباب 3، الحدیث 4.

ص:14

الحاصلة علیه إبراز دلیل آخر وإلاّ فإنّ الأدلّة مفیدة لذلک وهی تفید حصول الطهارة وبقاءها إلی أن یأتی بالحدث .

فعلی هذا نقول : لو شککنا فی زوال رفع الحدث بزوال السبب، یکون هذا من قبیل الشکّ فی الرافع لا من قبیل الشکّ فی المقتضی، فیکون الحقّ مع صاحب «الجواهر» من صحّة جریان استصحاب الصحّة هنا ، مع أنّه لو سلّمنا کون المقام من قبیل الشکّ فی المقتضی، ولکن فی وجود تلک الأدلّة علی عدم الإعادة غنی وکفایة .

وأمّا دلیله الثالث: وهو التمسّک بحدیث إسحاق المذکور، لإثبات أنّه لا ینقض الوضوء إلاّ الحدث لا زوال السبب ، ففی «مصباح الهدی» بأنّه غیر تامّ، لأنّ ما لا ینقض إلاّ بحدث، إنّما یکون هو الوضوء التامّ لا الناقص ، هذا، ولکن الإنصاف أن یقال : إنّ هذا الدلیل بنفسه، وبلا انضمام دلیل آخر من التنزیل إلیه، یکون الإشکال وارداً ، وأمّا مع ملاحظة ذلک الدلیل _ کما أوضحناه _ فلا یکون الإشکال وارداً، کما لایخفی.

وأمّا دلیله الرابع: من التمسّک بالحدیث النبویّ: «لکلّ امرئٍ ما نوی»، بأنّ ما ینویه فی الوضوء من رفع الحدث لابدّ أن یتحقّق ، فلقد أورد علیه فی «المصباح» أیضاً بأنّ الاستدلال فرع إمکان کون الوضوء _ وبحسب الشرع _ مقتضیاً لرفع الحدث، وهو أوّل الکلام، إذ بعموم الدلیل لا یمکن إثبات ذلک، لأنّ الحکم لا یصحّ أن یثبت به الموضوع ، والإنصاف أنّ الإشکال وارد لو کان الدلیل منحصراً فیه، لوضوح أنّه ناظر إلی ما هو المشروع، وما یمکن تحقّقه شرعاً بالنیة، فلابدّ أوّلاً من إثبات کون الوضوء الناقص رافعاً للحدث، ومحصلاً للطهارة، ثمّ یقال : بأنّ ما ینویه لابدّ أن یتحقّق، فیصحّ التمسّک به مع الانضمام بما ذکرناه.

لکن لا یخفی علیک، أنّه یثبت بواسطة حدوث الطهارة ورفع الحدث ، وأمّا کونه کذلک، حتّی مع زوال العذر، فهو ساکت عنه کما هو واضح من أن یخفی، فلیتأمّل .

ص:15

وأمّا دلیله الخامس: وهو أنّ جواز البدار، المساوق للتخییر بین الإتیان به ناقصاً فی أوّل الوقت، أو الإتیان به کاملاً فی آخر الوقت، ینافی الحکم بالاستئناف بعد زوال العذر.

فقد أورد علیه فی «المصباح» بأنّ التخییر بین الإتیان بالناقص مع وجود العذر فی أوّل الوقت، وبین فعل الکامل فی آخره عند زواله، لایوجب الاکتفاء بالوضوء الناقص عند زوال العذر؛ أمّا أوّلاً: فلکون جواز البدار عندنا فیما عدا التقیة مختصٌ بصورة الیأس عن زواله إلی آخر الوقت، وأنّ الیأس سواء کان بالغاً درجة الیقین، أو حاصلاً عن طریق الظنّ القوی طریق إلی بقاء العذر إلی آخر الوقت، فإذا انکشف الخلاف، لم یکن وجه للاجزاء، فإنّه یرجع إلی اجزاء الأمر الظاهری، وهو مناف مع مذهب المخطّئة .

نعم إذا کان العذر هو خوف الضرر، وکان ناشئاً عن احتماله، فاعتباره فی جواز الوضوء الناقص موضوعی لا طریقی، حسبما استظهرنا من الأدلّة، کما فصّلناه فی مبحث التیمّم ، انتهی محلّ الحاجة من کلامه .

ولا یذهب علیک أنّ التخییر فی البدار مختلف ، فقد یکون فیما یکون البدار موجوداً حتّی مع العلم بزوال العذر، فمع ذلک جوّز الشارع من الإتیان بالناقص فی أوّل الوقت، والکامل فی آخره الحاصل منه التخییر، وهو کما فی مورد التقیة، أو فیما إذا کان العذر هو الاضطرار، ولم یشترط فیه عدم التمکّن إلی آخر الوقت، فیکون الحکم حینئذٍ حال الاضطرار واقعیاً ثانویاً، لا طریقیّاً ظاهریّاً، کما قاله ، فعلی هذا یکون الحکم بالاستئناف منافیاً للتخییر، کما أشار إلیه صاحب «الجواهر» .

وقد یکون التخییر بلحاظ حال العلم ببقاء العذر إلی آخر الوقت، أو الیأس من الزوال، فحینئذٍ یکون التخییر بمعنی أنّه یجوز له البدار بالناقص فی أوّل الوقت، أو الناقص فی آخره، أو الکامل فی آخره علی احتمال.

ص:16

فالحقّ حینئذٍ یکون مع الآملی، بأنّه لا ینافی بین الحکم بالتخییر مع الحکم بعدم الاکتفاء بالناقص، لو ظهر الخلاف .

وکیف کان، فقد عرفت تمامیّة الأدلّة السابقة لإثبات جواز الاکتفاء به، ولا نحتاج إلی مثل هذه الاُمور إلاّ تأییداً ، کما أنّه قد یمکن أخذ التأیید من بعض أخبار الجبیرة، مثل صحیح حسن بن علی الوشاء قال : «سألت أبا الحسن علیه السلام عن الدواء إذا کان علی یدی الرجل، أیجزیه أن یمسح علی طلی الدواء ؟ فقال : نعم، یجزیه أن یمسح علیه»(1) .

ومثله خبره الآخر(2) الدال علی جواز المسح علی الدواء، حیث لم یبیّن الإمام علیه السلام بأنّه إذا زال الدواء هل علیه إعادة وضوء أم لا، لأنّه کان الأمر کذلک حال الضرورة، مع أنّه یعدّ من الاُمور التی یبتلی الناس عادةً.

بل لم یذکر فی حدیث، ولا أشار إلیه فی خبر بأنّه یجب علیک الإعادة بزوال العذر، قبل حدوث حدثٍ، مع أنّه لو کان واجباً لنُقل وبان، کما لایخفی .

کما قد یؤیّد ذلک مشاهدة نظائره فی الفقیه، مثل الأخرس فلو عقد النکاح علی امرأة وحصلت بینه وبینهما الزوجیة بهذه الإشارة الصادرة منه الدالتة علی صیغة العقد، ثمّ إنّه إذا برأ عن ذلک لا یجب علیه إعادة عقده، لأنّ الأثر وهو الزوجیة فی التزویج، والملکیة فی التملیک قد حصل بالإشارة، حال وجود عذره، فمجرّد زوال العذر لا یوجب زوال الأثر الذی وقع بما هو واجد لشرائطه حال وقوعه .

لکن بقی هنا إشکال واحد، وهو أنّه قد یستفاد من کلام الشیخ الأعظم بأنّ


1- وسائل الشیعة: أبواب الوضوء، الباب 39، الحدیث 9.
2- وسائل الشیعة: أبواب الوضوء، الباب 39، الحدیث 10.

ص:17

مقتضی دلالة قوله تعالی : «إِذَا قُمْتُمْ إِلَی الصَّلاَةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَکُمْ وَأَیْدِیَکُمْ إِلَی الْمَرَافِقِ» الآیة ، هو وجوب التوضّی عند القیام لکلّ صلاة، فیشمل ما نحن فیه، فلا یجوز حینئذٍ _ أی حال زوال العذر والقیام بأداء صلاة جدیدة _ إلاّ الإتیان بالوضوء التامّ، فهذا ینتج عدم جواز الاکتفاء بالوضوء السابق .

ولکن یمکن الجواب عنه بأنّ الآیة إمّا تختصّ بمن کان محدثاً بحدث النوم، بأن یکون المراد من القیام هو القیام عن النوم کما یستفاد ذلک من مفاد بعض الأخبار وکلمات الفقهاء والمفسّرین .

لو أتی بالوضوء الناقص لعذر ثمّ زال العذر قبل الصلاة

أو تکون محمولة علی من کان محدثاً أوّلاً ثمّ توضی وصلتی وأراد الصلاة ثانیة، لکن هذا ما لم یلتزم به أحد ، فالطهارة الحاصلة من الوضوء الناقص کان حکمها حکم الطهارة التامّة، فلا یعقل أن یکون مأموراً بوضوء آخر.

أو تحمل الآیة علی أنّها تدلّ علی مطلق الرجحان، مثل قوله: «اغتسل للجمعة والجنابة»، فالأمر بالغَسل فیه یفید طلب إحضار ما هو الراجح، فمن لا یکون متطهّراً یجب علیه الوضوء، ومن کان متطهّراً یستحبّ له إعادته فیکون إطلاق الآیة حینئذٍ محفوظ لجمیع الأفراد، من دون لزوم تخصیص ببعض الأفراد دون بعض، فالحکم بعدم وجوب الإعادة قویّ عندنا .

الصورة الثانیة : هی ما لو توضّأ بالوضوء الناقص لوجود العذر، ثمّ زال العذر قبل الإتیان بالصلاة التی توضّأ لأجلها ؟

ففی «مصباح الهدی»: أنّه لابدّ من الإعادة، لأنّ التکلیف بالوضوء غیری لا نفسی، والمجوّز للإتیان بالوضوء الناقص هو المجوّز للإتیان بما اشترط فیه الطهارة بالوضوء الناقص، والمفروض عدم إتیانه، وبعد زوال المسوّغ لا مجوّز للإتیان بالواجب النفسی بالوضوء الناقص، واللازم حینئذٍ استئناف الوضوء والإتیان بالفرد الکامل، لوجوب الإتیان بما یشترط بالطهارة حینئذٍ بالفرد

ص:18

الکامل من الطهارة، والأصل أنّ التکلیف الاضطراری الذی تعلّق به فی أوّل الوقت، إنّما یلاحظ بالقیاس إلی الصلاة لا الوضوء بنفسه، فإنّ أمره غیری لا نفسی ، انتهی کلامه .

ولکن الإنصاف أن یقال : بأنّ جواز الاکتفاء بمثل هذا الوضوء فی المورد وعدمه لا یکون منوطاً بالأمر المتعلّق للصلاة، حتّی یقال بأنّ أمر الوضوء غیری لا نفسی، والمجوّز له هو المجوز للصلاة معه، فإذا زال العذر لا یکون حینئذٍ له مجوّزاً، وذلک لوضوح أنّ الأمر المتعلّق بالصلاة لا یزید لسانه إلاّ عن إیجاب تحصیل الطهارة المائیة للصلاة ، غایة الأمر أنّ مقتضی الحکم الأوّلی لکلّ دلیل، هو الانصراف إلی الفرد الکامل التامّ من الشرط، فکفایة الناقص عن الکامل مطلقاً، أو فی خصوص حال دون حال، منوطة بملاحظة لسان الدلیل الثانوی.

فحینئذٍ، إن کان المورد هو التقیة، فلا یبعد القول بالجواز، وعدم وجوب الإعادة، لما قد عرفت منّا سابقاً من عدم اعتبار عدم المندوحة فی صحّته، بل یصحّ العمل بالتقیّة، حتّی مع سعة الوقت ووجود المندوحة، کما یفهم ذلک الإطلاق والسعة من الحدیث الذی رواه العیاشی بسنده عن صفوان، الذی نقله صاحب «مصباح الفقیه» عن أبی الحسن علیه السلام فی غسل الیدین: «قلت له : یردّ الشعر ؟ قال : إن کان عنده آخر فعل»(1) .

لأنّ حمله علی من لا یقدر علی إجراء الوضوء الصحیح، حتّی فی تمام الوقت خلاف للظاهر، فإذا أتی بالوضوء لأجل الصلاة، فحصلت الطهارة علی الفرض، ثمّ زال العذر قبل الإتیان بالصلاة، فلا دلیل لنا یدلّ علی بطلان مثل هذا الوضوء، کما صرّح بما قلناه السیّد الاصفهانی قدس سره فی «الروائع الفقهیة»، وإنّ کلامه بحسب


1- مصباح الفقیه: أبواب الطهارة / ص165.

ص:19

المورد کان مطلقاً، أی بلا تقیید بخصوص التقیّة ، ولکن فی إطلاقه کلامٌ سنشیر إلیه .

لو زال العذر بعد المسح علی الحائل و نداوة الید باقیة

ولا یبعد أن یلحق بذلک، ما لو کان العذر من جهة الضرورة، وکان العذر شاملاً ومستوعباً لجمیع الوقت، فاضطرّ إلی الوضوء الناقص للإتیان بالصلاة فی آخر الوقت، ولکن بعد التوضّأ لم یأت بالصلاة، حتّی خرج الوقت، ومن ثمّ نوی الإتیان بها قضاءاً، فهل یجب الإعادة حینئذٍ أم لا ؟

وجه عدم استبعاد الإلحاق، هو ما عرفت أنّ وظیفته فی آخر الوقت کان الوضوء الذی یحصّل له الطهارة وقد حصلت. غایة الأمر قد عصی فی ترک الصلاة فی الوقت أو سهی عن ذلک، فهذا لا یوجب کون زوال العذر موجباً لعدم کفایة هذه الطهارة .

ولکن القول بعدم الکفایة هنا قویّ، لأنّه بعد ترک الصلاة فی الوقت عصیاناً أو نسیاناً، یفهم ویکشف أنّه لم یکن لمثل هذا الوضوء الناقص مضطرّاً ، فیصعب قبول صحّة مثل هذا الوضوء، لما بعد الوقت فی الاضطرار والضرورة، وإن کان إطلاق کلام السیّد المذکور یشمله .

کما أنّه لا یکفی أن نستدلّ علی الصحّة بأنّه قد توضّأ فی أوّل الوقت، لکونه مضطرّاً إلیه فی ذلک، حیث کان ینوی الصلاة ولکنّه لم یؤدّی الصلاة لسبب من الأسباب، ومن ثمّ زال العذر والاضطرار فی الوقت، فبناء علی اشتراط استیعاب الضرورة لجمیع الوقت، أو العلم به أو الظنّ القویّ به الذی کان طریقاً إلیه، فبعد کشف الخلاف، لا یکون مجزیاً، لأنّه یظهر أنّه لم یکن مکلّفاً بالوضوء الناقص کما لا یخفی.

الصورة الثالثة : ما إذا زال المسوّغ بعد المسح علی الحائل، لکن حین إمکان المسح علی البشرة بالنداوة الباقیة علی الید، مع عدم الإخلال بالموالاة.

فقد یقال بالکفایة، لأنّ العمل حین تحقّقه کان مورداً للتقیة، وتمّت الأفعال، وتحقّق الوضوء، وحصلت الطهارة، فالحکم بعدم الکفایة مع إمکان تحصیل

ص:20

الکامل یکون بلا وجه .

فی حکم الغایات المترتّبة علی العمل الفاقد بعد زوال العذر

نعم فی الضرورة غیر کافٍ، لا لخصوص المقام، بل لما قد عرفت من کشف الخلاف عن عدم کونه مَنْ وظیفته هذا .

ولکن فی «مصباح الهدی» جعل الحکم بالکفایة وعدمها منوطاً علی ما هو مختاره فی الصورتین السابقتین، من الاکتفاء وعدمه، فمن لا یجوّز الاکتفاء بهما فلا یجوز هنا بطریق أولی، ومن جوّزه فیهما، فهنا یکون وجهان: من القول بالاکتفاء لما عرفت وجه ذلک ، أو القول بعدم الکفایة، من عدم شمول أدلّة الکفایة لذلک، ولعلّه کان من جهة إمکان دعوی الانصراف فی تلک الأدلّة، سواء کان فی التقیة وغیرها عن مثله، خصوصاً بعدما عرفت منّا سابقاً أنّ التقیّة لابدّ فیها من عدم المندوحة حال العمل، ولا أقلّ ففی فرض المسألة یکون العمل الصحیح له حینئذٍ متعدّداً، فالاکتفاء بمثل هذا الوضوء مشکل جدّاً ، مضافاً إلی أنّه لو شکّ کان مقتضی استصحاب بقاء الحدث، ومقتضی قاعدة الاشتغال، هو الحکم بالإعادة، لو ترکها بحیث یعدّ مخلاًّ بالموالاة أو الحکم، أمّا إذا کان الوقت متّسعاً وباقیاً فإنّه یحصل المسح الصحیح من دون إخلال بالموالاة ، ومن هنا یظهر الحکم .

الصورة الرابعة: وهی ما لو زال العذر فی أثناء العمل، کما لو مسح الحائل الموجود علی رجلیه تقیّةً، ثمّ إنّه بعد ذلک زال المسوّغ، فالحکم بعدم الاکتفاء هنا یکون بطریق أولی، لأنّه مضافاً إلی ما عرفت من وجود المندوحة حال الفعل، المضرّ لمفهوم التقیّة، أنّه لم یرتفع الحدث بعد کونه فی أثنائه، حتّی یأتی الکلام فیه بأنّه إذا حصلت الطهارة دامت إلی أن تزول بالحدث، کما قلناه فی السابق .

ویلحق بذلک فی وجوب الاستئناف، ما لو أخذ الماء الجدید للمسح به تقیّةً، فزالت التقیة قبل المسح، فإنّه وإن کان أخذ الماء مضطرّاً، إلاّ أنّ مسحه لا یکون

ص:21

کذلک، فالاکتفاء بمثل هذا خالٍ عن الوجه وهو واضح .

وبالجملة، أنّ المعتبر صدق التقیة للعمل، بما لا یکون له مندوحةً، إلاّ فی حال العمل، والفروض المذکورة خارجة عنه کما لا یخفی .

هذا تمام الصور التی کانت الغایات واقعة بعد زوال المسوّغ، ووقع البحث فی لزوم الإعادة وعدمها .

وأمّا الغایات المترتّبة علی العمل المفروض الواقع فاقداً لشرطه أو واجداً لمانعه بالتقیة أو غیرها من الضرورات، هل یجب إعادة الغایة فی الوقت بعد زوال العذر أو القضاء فی خارجه أم لا ؟

والذی علیه المشهور هو الأخیر، بل قد ادّعی علیه الإجماع، ووجه ذلک هو أنّ الامتثال بالفرد الاضطراری حین حدوث الاضطرار کالامتثال بالفرد الاختیاری، مقتض للاجزاء، ولذلک یکون الاضطراری من العناوین الثانویة الواقعیة، ولیس حال الضرورة والاضطرار حال الحکم الظاهری، ولذلک قام الإجماع علی عدم وجوب إعادة الصلاة المأتی بها فی حال وجود الضرورة، فاقداً لشرط أو واجداً لمانع .

وإن کان احتمال ثبوت التکلیف الواقعی الأوّلی موجوداً، بأن یقال : بأنّ المقدار الفائت من المصلحة الواقعیة کان لازم الاستیفاء، وکان مقدوراً فی ذلک لکنّه مجرّد احتمال بحسب الثبوت ، وأمّا فی مقام الإثبات فإنّه لا دلیل علیه، بل یکون الدلیل علی خلافه، لأنّه المستفاد من الأدلّة الثانویة، ولا خلاف فی ذلک ظاهراً .

نعم المحکی عن المحقّق الثانی فی بعض فوائده، هو التفصیل بین ما إذا کان متعلّق التقیّة مأذوناً فیه بالخصوص، کغسل الرجلین فی الوضوء، والتکتّف فی الصلاة ونحوهما، وبین ما کان متعلّقهما ممّا لم یرد فیه نصّ بالخصوص، کأداء الصلاة إلی غیر القبلة، والوضوء بالنبیذ ونحو ذلک، فأوجب الإعادة فی الأخیر دون الأوّل .

ص:22

واستدلّ لعدم الوجوب فی الأوّل بأنّ المکلّف قد أتی بالفعل علی الوجه المأذون فیه، وبما أقامه الشارع مقام المأمور به فی حال التقیة، فیکون الإتیان به امتثالاً مجزیاً عن الواقع.

ولوجوب الإعادة فی الأخیر، بأنّ غایة ما یستفاد من عموم أدلّة التقیّة، هو موافقتهم فیما هم علیه، لا بدّلیة المأتی عن الواقع، فلا دلیل هاهنا علی الإجزاء کما کان فیما ورد الإذن بالخصوص علی موافقتهم، فإن أمکن الإعادة فی الوقت وجبت، ولو فاته الوقت، نظر فی دلیل القضاء، فإن وجد قیل به، لأنّ القضاء إنّما یجب لفرض جدید.

ولقد أورد علیه صاحب «مصباح الفقیه» و«مصباح الهدی» وغیرهما، بأنّ المقصود من العمومات، إن کان هو دلیل نفی الحرج ودلیل لا ضرر فی حال التقیة، أو الأدلّة الواردة الدالّة علی وجوب التقیة، لحفظ ما یجب علیه حفظه من النفوس والأموال والأعراض ، فإنّها تفید الإعادة.

ولا یخفی أنّ ما ذکره قدس سره فی مثل الأدلّة المذکورة، وإن کان کذلک، إلاّ أنّه یردّ علیه أنّ العمومات لیست منحصرة فیهما فقط ، بل فیها ما یدلّ علی الرخصة فی الإتیان علی وفق التقیة، ورفع المنع المتعلّق به لولا التقیة، سواء کان المنع عنه لولاها متعلّقاً بذات ما یؤتی به تقیّة، أو لإخلاله بواجب مشروط بعدمه، فلازم ذلک هو رفع مانعیة المانع لولا التقیة، واجزاء ما أتی به تقیةً، کقول الصادق علیه السلام فی صحیحة هشام عن أبی عمرو : «تسعة أعشار الدِّین فی التقیة، ولا دین لمن لا تقیة له، والتقیّة فی کلّ شیء إلاّ فی ثلاث: شرب المسکر، والمسح علی الخفّین، ومتعة الحجّ»(1) .


1- وسائل الشیعة: أبواب الأمر بالمعروف، الباب 25، الحدیث 3.

ص:23

فإنّ استثناء الثلاثة عمّا سبق قرینة علی أنّ التقیة مبیحة لکلّ محظور وممنوع شرعاً، سواء کان منعه لنفسه لولا التقیة، کشرب المسکر، أو لغیره کالتکتّف فی الصلاة، وغسل الرجلین فی الوضوء، فمعنی رفع المنع الغیری لیس بحسب العقل إلاّ الرخصة فی ارتکابه، المقتضی لصحّة المأتی به فی حال التقیة .

ومثله الخبر المروی عن الباقر علیه السلام : «التقیّة فی کلّ شیء یضطرّ إلیه ابن آدم، فقد أحلّه اللّه»(1).

وما فی موثّقة سماعة قوله: «فإنّ التقیّة واسعة، ولیس شیء من التقیة وصاحبها مأجور علیها إن شاء اللّه تعالی»(2).

فی مسح الرأس علی الحائل عند التقیّة أو الضرورة

وغیر ذلک من الأخبار التی یستفاد منها رفع المنع عن الممنوع لولا التقیة مطلقاً، سواء کان منعه لنفسه أو لغیره، لاسیّما مع ملاحظة بعض الأخبار من لفظ التوسعة کما عرفت حدیثه، فإنّ الحکم بفعل الممنوع وترک الشرط وبعده بالإعادة لذلک لیس من التوسعة، فهو أوّل دلیل علی الصحّة، فی الوقت کان أو خارجه، فلا وجه لهذا التفصیل أصلاً کما لا یخفی .

ثمّ لا یخفی علیک أنّ التقیة إذا تحقّقت فی شیء، فإنّها مبیحة لما تکون هی فی متعلّقها، بحیث یقتضی دلیلها إثبات ما هو الأثر المترتّب علیها، بحیث لولاها لما ترتّب ، وأمّا ترتیب الآثار الوضعیه التی کانت لذلک الشیء لولا التقیّة لما ارتفع ، بل کانت علی ما هی علیها ، مثلاً لو وقع الوضوء مع الخمر مورداً للتقیة ، فحینئذٍ لا إشکال فی أنّ ما هو مورد للتقیة _ وهو شرطیة الماء الطاهر _ حیث قد سقط عن شرطیته للصلاة، فیجوز الانتفاء به فی تحصیل الشرط الذی کان واجباً لما قد


1- وسائل الشیعة: أبواب الأمر بالمعروف، الباب 25، الحدیث 2.
2- الکافی: ج3 / ص7.

ص:24

عرفت أنّ التقیة تحلّ ما هو حرام لولاها .

وأمّا عدم ترتیب أثر الخمر، وهو نجاسة البدن بذلک بواسطة التقیة فلا ، لأنّ ما هو مورد للتقیة کان مجرّد سقوط شرطیة کون المائع ماءاً طاهراً مطلقاً مثلاً ، وأمّا أصل تنجّس البدن بذلک الذی یعدّ من آثاره الوضعیة، فلا یرتفع ، فحصول الطهارة الحدثیة من مثل هذا الوضوء مشکل، فأثر التقیة هاهنا هو مجرّد رفع الحکم التکلیفی منه، یعنی لولا التقیة لما کان التوضّی به جائزاً، لکونه تشریعاً حراماً وتنجیساً لبدنه اختیاراً، لإتیان الصلاة التی کانت من شرطها عدم نجاسة البدن، فهذه المحاذیر قد ارتفعت بواسطة التقیّة .

ومن هنا یظهر، أنّه لو استنجی علی الجدار، وفقاً لمذاهب العامّة فإنّه لم یحصل بذلک الطهارة الواقعیة، التی کانت شرطاً للصلاة جزماً، والرخصة المستفادة من عمومات التقیة لا تقتضی إلاّ رفع المنع عن الدخول فی الصلاة، واشتمال ملاقیه فیما یشترط بالطهارة حال الضرورة .

کما أنّ التقیة لا توجب جعل ما هو الممنوع وجوده للصلاة شرطاً واقعیاً لها، کالتکتّف مثلاً، بأن یجعله شرطاً حقیقة لها، مثل سائر الشرائط التی جعلها شرطاً لها، لعدم کون ذلک من مورد التقیة، حتّی یستلزم ذلک .

وتظهر الثمرة بین ما ذکرناه أخیراً، وما قلناه سابقاً، هو أنّه لو صار التوضّی بالخمر فی مورد موضوعاً للتقیة، وکذلک غسل الرجلین فی موضع آخر، فإنّ التقیة فی الأوّل لا توجب إلاّ رفع المنع عن الدخول فی الصلاة مع الخمر التی کان قبله غیر جائز، کما یجوز ترک الشرط الذی کان واجباً تحصیله قبلها، وهو الطهارة عن الخبث والحدث ، وأمّا کون ذلک الوضوء محصّلاً للطهارة عن الحدث والخبث واقعاً، بحیث لو ارتفعت التقیّة، عُدّ بدنه طاهراً، ووضوئه حاصلاً برفع الحدث، فلا .

ص:25

هذا، بخلاف الوضوء مع غسل الرجلین، حیث قد عرفت حصول الطهارة عن الحدث بالتقیة، وحتّی وإن زالت التقیة فإنّه یجوز الإتیان بما یشترط فیه الطهارة .

ومن ذلک یظهر أنّ التقیة إذا أوجبت الوضوء بالماء النجس، فلا یستلزم ذلک صیرورة الماء النجس طاهراً، بأن یجعله طاهراً، وإن تجوز الصلاة مع ذلک الوضوء فی حال وجود التقیة، ومثله سائر الموارد التی کانت مشابهة لها .

تتمّة : إذا عرفت حال التقیّة والضرورة للمسح علی الحائل فی الرجلین، کان المسح علی الحائل فی مسح الرأس مثله، لأنّ العمومات السابقة تشمل هذه الصورة أیضاً، ولا اختصاص لها بمورد دون مورد آخر ، مع أنّ بعض الأصحاب حملوا الخبرین القادمین علی صورة التقیّة، وهما صحیحة محمّد بن مسلم، عن أبی عبداللّه علیه السلام : «فی الرجل یحلق رأسه ثمّ یطلبه بالحنّاء، ثمّ یتوضّأ للصلاة ؟ فقال : لا بأس بأن یمسح رأسه والحنّاء علیه»(1) .

وصحیحة عمر بن یزید، قال : «سألت أبا عبداللّه علیه السلام عن الرجل یخضب رأسه بالحنّاء، ثمّ یبدو له فی الوضوء ؟ قال : یمسح فوق الحنّاء علی التقیة»(2) وفیه من البُعد ما لایخفی، لإمکان حمله علی حال الضرورة غیر التقیة، کما حمله صاحب «المنتقی»، أو یکون المراد هو لون الحنّاء کما حمله صاحب «الوسائل» .

وکیف کان فإنّ عمومات التقیة الشاملة لما نحن فیه، کافیة عن التمسّک بمثل هذه الأدلّة، فلا یصحّ الحکم بوجوب الانتقال إلی التیمّم، کما حمله بعض المتأخّرین، کما فی «الجواهر»، وإن کان الجمع بینهما أحوط .


1- وسائل الشیعة: أبواب الوضوء، الباب 37، الحدیث 4.
2- وسائل الشیعة: أبواب الوضوء، الباب 37، الحدیث 3.

ص:26

مسائل ثمان :

الاُولی : الترتیب واجب فی الوضوء، غَسل الوجه قبل الیمنی، والیسری بعدها، ومسح الرأس ثالثاً، والرجلین أخیراً (1).

(1) وأمّا وجوب أصل الترتیب فهو أمرٌ ثابتٌ بین الفقهاء، ولا یعرف فیه خلاف، وعلیه الإجماع تحصیلاً ونقلاً مستفیضاً، کاد أن یکون متواتراً کالسُّنّة کما فی «الجواهر» ،

فی الترتیب الواجب فی الوضوء

بل قال الشهید فی «الذکری» : بأنّ الکتاب فی آیة الوضوء یدلّ علیه، أوّلاً : استفادته من (الفاء) فی قوله: (اغسلوا)، حیث تدلّ علی وجوب الترتیب بین القیام والابتداء بالوجه، فأضاف فی «الجواهر» ذلک بضمیمة عدم القول بالفصل بین الترتیب فی الابتداء بالوجه، وحفظه فی سائر الأعضاء، وإن کان ذیّله بقوله : لکن لا یخلو عن نظر .

بل فی «الذکری» و«المصابیح» للطباطبائی، مضافاً إلی أنّ (الواو) قد یفید الترتیب، کما یُحکی عن الفرّاء أنّ الترتیب الذکری یوجب وجوب الترتیب، لکونه واقعاً فی الکلام البلیغ الذی لا أبلغ منه، فیراعی فیه نکتة التقدیم والتأخیر.

هذا کما فی «المصابیح» .

أو یقال : بأنّ اللّه قد غیّی الغسل فی الید بغایة إلی المرافق، والمسح إلی الکعبین، کما فی «الذکری»، فکأنّه أراد إنّ ذکر هذه الغایة یوجب الظهور فی کون غَسل الید بعد الوجه، لرجوع المرفق إلیها، الواقع بعد الوجه، کما ترجع کلمة إلی الکعبین إلی الرجل دون الرأس، فیفهم منه الترتیب .

هذا، ولکن الإنصاف أن یقال : إنّ التمسّک بهذه المذکورات من الوجوه والاستحسانات فی الآیة الشریفة لاستفادة الوجوب حسنٌ لکن تأییداً لا دلیلاً،

ص:27

حتّی یتمسّک بها لردّ ما لو فرض دلالته علی خلاف ذلک مثلاً، کما لا یخفی ؛ فالعمدة فی المسألة هی الإجماع، وتظافر الأخبار فلا بأس بذکرها: ومنها: صحیح زرارة، قال : «قال أبو جعفر علیه السلام : تابع بین الوضوء کما قال اللّه عزّوجلّ: ابدأ بالوجه، ثمّ بالیدین، ثمّ امسح الرأس والرجلین، ولا تقدّمن شیئاً بین یدی شیء تخالف ما اُمرت به»(1) الحدیث .

ومنها: صحیح زرارة عن أحدهما علیهماالسلام ، قال : «سُئل أحدهما علیهماالسلام عن رجل بدء بیده قبل وجهه، ورجلیه قبل یدیه؟ قال : یبدأ بما بدأ اللّه به ولیعد ما کان»(2) .

منها: حدیث قرب الاسناد، عن علی بن جعفر، عن أخیه موسی بن جعفر علیه السلام ، قال : «سألته عن رجل توضّأ فغسل یساره قبل یمینه کیف یصنع ؟ قال : یعید الوضوء من حیث أخطأ، یغسل یمینه ثمّ یساره، ثمّ یمسح رأسه ورجلیه»(3) .

منها: صحیح أو حسنة الحلبی عن ابن هشام القمّی، عن أبی عبداللّه علیه السلام ، قال : «إذا نسی الرجل أن یغسل یمینه فغسل شماله، ومسح رأسه ورجلیه، فذکر بعد ذلک، غسل یمینه وشماله، ومسح رأسه ورجلیه، وإن کان إنّما نسی شماله فلیغسل الشمال، ولا یعید علی ما کان توضّأ. وقال: اتبع وضوئک بعضه بعضاً»(4) .

منها: مرسلة الصدوق، قال : «وروی فی حدیث آخر فیمن بدأ بغسل یساره قبل یمینه أنّه یعید علی یمینه ثمّ یعید علی یساره»(5).

ونظائرها کثیرة فی باب 34 و 35 من «وسائل الشیعة» فراجع .


1- وسائل الشیعة: أبواب الوضوء، الباب 34، الحدیث 1.
2- وسائل الشیعة: أبواب الوضوء، الباب 35، الحدیث 1.
3- وسائل الشیعة: أبواب الوضوء، الباب 35، الحدیث 15.
4- وسائل الشیعة: أبواب الوضوء، الباب 35، الحدیث 9.
5- وسائل الشیعة: أبواب الوضوء، الباب 35، الحدیث 10.

ص:28

فدلالة هذه الأحادیث علی وجوب الترتیب، ولزوم الإعادة وتحصیله، سواء ترک بالعمد أو بالنسیان، عالماً کان أو جاهلاً، واضحة.

بل قد عرفت استدلال الإمام علیه السلام فی الحدیثین الأوّلیین بکلام اللّه، من جهة ما أمر اللّه به وبدأ به، وهذا یؤیّد کون المستفاد من آیة الوضوء هو وجوب الترتّب، خصوصاً مع نهی الإمام فی خبر زرارة، بقوله : «لا تقدّمن شیئاً... الدال علی النهی عن المخالفة لما أمر اللّه به، یدلّ علی کون الآیة دلیلاً علی الوجوب لا تأییداً ، فکأنّه ینتصر کلام العلمین من الشهید والعلاّمة الطباطبائی، فی إشکال الاستدلال بالآیة حسب دلالة الحدیثین . وکیف کان فإنّ وجوب مراعاة الترتیب أمرٌ ثابت ولا نقاش فیه.

فالأولی التعرّض لسائر فروع المسألة، فنقول هاهنا مسائل :

المسألة الاُولی : ما لو أخلّ المکلّف بالترتیب، وأمکن تحصیله بما لا یوجب الإخلال بشیء آخر، بما یجب مراعاته من الموالاة أو النیّة، کما إذا کان قبل فوات الموالاة، ولم یأت بما أخلّ فیه الترتیب بقصد التشریع وغیره، فهل یصحّ الاکتفاء بتحصیل الترتیب ومن دون حاجة إلی إعادة الوضوء من رأس مطلقاً، أی سواء کان عن عمد أو عن سهو، کما علیه المشهور من المتقدّمین وجمیع المتأخّرین، أم یحتاج کما نقل الخلاف عن العلاّمة فی «التحریر» حیث قد أوجب الإعادة مع العمد مطلقاً، أی ولو لم یفت الموالاة ، وعنه فی «التذکرة»: أنّه أوجب الإعادة علی الناسی مطلقاً، ولو علی صورة عدم تحقّق الجفاف ؟

وقد استدلّ للعلاّمة علی وجوب الإعادة عند العمد مطلقاً:

أوّلاً: بأنّ الواجب فی الوضوء الموالاة، بمعنی المتابعة فی الأفعال حال الاختیار، وأمّا مراعاة الجفاف وعدمه فهی مربوطة بحال الاضطرار لا الاختیار، فمع الإخلال بالترتیب عمداً یترتّب الإخلال بالموالاة بالمعنی المذکور .

ص:29

وثانیاً : بمفهوم موثّقة أبی بصیر، عن الصادق علیه السلام ، قال : «إن نسیت غسل وجهک، فغسلت ذراعیک قبل وجهک فأعد غسل وجهک، ثمّ اغسل ذراعیک بعد الوجه، فإن بدأت بذراعک الأیسر قبل الأیمن، فأعد غسل الأیمن، ثمّ اغسل الیسار، وإن نسیت مسح رأسک حتّی تغسل رجلیک، فامسح رأسک ثمّ اغسل رجلیک»(1) .

فإنّ مفهومها أنّه إن لم تنس فلا تعد غسل وجهک، ولا الأیمن، فعدم الإعادة إمّا أن یکون من جهة صحّة ذلک من دون إعادة، فهو باطل قطعاً، لکونه مخالفاً للإجماع، ولم یلتزم به أحد.

فیما لو أخلّ بالترتیب فی أعمال الوضوء

أو من جهة بطلان الوضوء من رأس، وهو المتعیّن المطلوب .

وثالثاً: لعلّه من جهة أنّ العامد العالم إذا أخلّ یعدّ إمّا متشرّعاً أو هازلاً، فیکون قد أخلّ بنیّته .

ویرد علی الاستدلال الأوّل: بأنّ الموالاة _ کما سیأتی فی محلّه _ عبارة عن تتابع الأفعال بما یصدق عرفاً أنّه قد أتی ذلک بعده، ولو قد تخلّل بما لا ینافی صدق المزبور _ کما قد فرضنا ذلک فی المسألة من عدم الإخلال بما یوجب فوت الموالاة _ ولا فساداً من جهة النیّة من قصد التشریع، أو عدم قصد القربة من اللعب والهزل وغیره، فمجرّد تقدیم غَسل عضوٍ علی الآخر لا یوجب إلاّ إعادة خصوص ما هو المتقدّم، لا إعادة أصل الوضوء، کما لا یخفی .

ویرد علی الثانی أوّلاً: بأنّ القضایا الشرطیة تکون علی قسمین : قسمٌ: فیها مفهومٌ، کما هو الغالب، وهو فیما إذا لم یکن الشرط بنفسه محقّقاً للموضوع ، بل الموضوع باق فی حال وجود الشرط وعدمه، نظیر قوله: إن جاءک زید فأکرمه،


1- وسائل الشیعة: أبواب الوضوء، الباب 35، الحدیث 8 .

ص:30

حیث یکون مفهومه إن لم یجیء زید فلا تکرمه، فزید محفوظ فی طرفی المنطوق والمفهوم، حیث لم یکن الشرط قد سیق لبیان الموضوع.

قسم آخر: وهو الذی محقّق للموضوع، مثل قوله : «إن رزقت ولداً فاختنه»، و«إن رکب الأمیر فخذ رکابه»، و«إن نسیت اداء حقّ زید فأدّه متی ما ذکرت»، إلی غیر ذلک ممّا لا تحصی ، ففی هذه القضایا الشرطیة فإنّ القضیة لا مفهوم فیها، إذ لا معنی للقول بعدم الختان لو لم یرزق ولداً، وما نحن فیه یکون من هذا القبیل .

وثانیاً : لو سلّمنا وجود المفهوم هاهنا، فیکون المفهوم موافقاً للحکم الشرعی، لأنّه یکون هکذا: «إن لم تنس غَسل وجهک ولم تغسل ذراعیک قبل وجهک، فلا تعد»، فهو صحیح لحصول الترتیب حینئذٍ، لا أن یکون المفهوم بأنّک إن لم تنس وغسلت ذراعیک قبل وجهک فلا تعد، حتّی یکون معناه البطلان من رأسه .

وثالثاً : لو سلّمنا دلالة المفهوم علی ما ادّعاه، وکان دلالته علی أنّ الإخلال بالترتیب مع عدم النسیان یوجب البطلان من رأس، لکن یعارضه الإطلاقات الکثیرة التی تدلّ علی عدم البطلان وکفایة إعادة الترتیب بتحصیله، فیقدّم تلک الإطلاقات، لکون دلالتها بالمنطوق وتلک بالمفهوم، والترجیح یکون له ، وهذا فضلاً عن أنّ کثرتها ووضوح دلالتها، بل صراحة بعضها یوجب تقدیمها علی المفهوم لورود الاحتمال من التشکیک فی المفهوم وغیره ممّا تقدّم ذکره.

وثالثاً : کون المفهوم معرضاً عنه الأصحاب، بخلاف مفاد الإطلاقات، کما لایخفی .

ویرد علی الثالث أوّلاً : أنّ العامد یکون أعمّ من العالم، لإمکان أن یکون الشخص جاهلاً مع أنّه لم یحکم بخروجه، فحمل إطلاق کلامه علیه خلاف الظاهر، بقرینة تقابل النسیان .

وثانیاً : کون التشریع المحرّم مبطلاً، فرع أن یکون مخلاًّ بالنیّة أو قصد القربة ،

ص:31

وأمّا إن لم یکن کذلک، أو کان ولکن قلنا بأنّ النهی یکون متعلّقه عنوان ینطبق علی العمل، نظیر عنوان الغصب بالنسبة إلی الصلاة، وقلنا بجواز اجتماع الأمر والنهی، فلا یوجب الفساد، لعدم تعلّق النهی بنفس الأمر العبادی، بل ینطبق المنهی عنه علیه، وإثبات مثل هذه الاُمور هنا مشکل .

وثالثاً : لو أغمضنا عن جمیع ما ذکرنا، وقلنا إنّه علی الفرض لا یکون مخالفاً للمشهور، لما قد عرفت من أنّهم یقولون بأنّه إذا لم تفت الموالاة ولم یخلّ بالنیّة _ کما اشترطنا فی ابتداء البحث _ فلا مانع، فظهر ممّا ذکرنا عدم صحّة التفصیل الذی ذکره .

وأمّا وجه قوله الثانی، حیث قال بعکس الأوّل من الحکم بالإعادة من أصله، لو أخلّ بالترتیب نسیاناً مطلقاً، حتّی مع عدم الجفاف، کما فی «مصباح الهدی» ، ولکن الظاهر أنّه لیس عکسه، أی القول بالصحّة فی صورة العمد، بل مقصوده الحکم بالبطلان فیه بالأولویة .

وکیف کان، فلم یذکر له وجه یُعبأ به، بل مخالفته للإجماع علی الصحّة، خصوصاً مع عدم الجفاف فی حال النسیان والسهو.

ولو سلّمناه فی العمد عن جهل، لاسیّما فی تقصیره، مع أنّه أیضاً محلّ إشکال.

فظهر من جمیع ذلک، أنّ کلام المشهور هو الأقوی، لما ستعرف إن شاء اللّه من وجود أخبار متظافرة علی الصحّة وإن کان قد أخلّ بالترتیب، ولکن الاستدراک من غیر فقدان شرط، حیث یشمل إطلاقها صورة العمد أیضاً .

المسألة الثانیة : إذا أخلّ بالترتیب، فقدّم ما من حقّه التأخیر، کما لو غسل یساره قبل یمینه، فهل یجب إعادة خصوص الذی جیء به متقدّماً کالیسار مثلاً، أم لابدّ من إعادة غَسل ما هو المتأخّر لو کان قد غسله سابقاً، وهو الیمین أیضاً ؟

فی المسألة أقوال ثلاثة ؛ قولٌ: بعدم الإعادة، کما علیه المشهور قدیماً

ص:32

وحدیثاً، بل لا یعرف فیه خلاف بین المتأخّرین .

وقول: بوجوب الإعادة، کما نسب إلی الصدوقین والمفید وابن إدریس .

وقول: بالتخییر، وهو المنسوب إلی «الفقیه» للصدوق قدس سره .

وقد استدلّ للمشهور بما رواه منصور بن حازم، عن الصادق علیه السلام ، قال : «سألته عن رجل بدأ بالسعی بین الصفا والمروة ؟ قال : یرجع فیطوف بالبیت، ثمّ یستأنف السعی ، قلت : إنّ ذلک قد فاته ؟ قال : علیه دم، ألا تری أنّک إذا غسلت شمالک قبل یمینک، کان علیک أن تعید علی شمالک» (1).

حیث قد حکم بإعادة الشمال فقط دون الیمین، فیما إذا قد غسل کلیهما، وهو موردها، وإلاّ لو لم یکن قد غَسل الیمین قبله، فلابدّ أن یحکم بلزوم غسل الیمین قطعاً، تحصیلاً لما هو الواجب، فیظهر أنّه لا یجب إعادة ما وقع متأخّراً .

وخبر ابن أبی یعفور، عن الصادق علیه السلام ، قال : «إذا بدأت بیسارک قبل یمینک، ومسحت رأسک ورجلیک، ثمّ استیقنت بعد أنّک بدأت بها، غسلت یسارک، ثمّ مسحت رأسک ورجلیک»(2).

حیث قد حکم بغسل الیسار فقط من دون الیمین، مع أنّه لو کان ذلک واجباً لکان الأولی أن یقول: یعید غسل الیمین والیسار .

ومرسلة الصدوق، قال : «وروی فی حدیث آخر فیمن بدأ بغسل یساره قبل یمینه، وقد روی أنّه یعید علی یساره»(3) .

هذه جملة من الأخبار التی استدلّ بها علی قول المشهور .

ولکن یمکن أن یعترض علی خبر منصور بن حازم، أوّلاً : بأنّه لیس فیه کون


1- وسائل الشیعة: أبواب الوضوء، الباب 35، الحدیث 6.
2- وسائل الشیعة: أبواب الوضوء، الباب 35 ،الحدیث 14.
3- وسائل الشیعة: أبواب الوضوء، الباب 35، الحدیث 11.

ص:33

المراد من الیمین والشمال هو ما کان فی الوضوء، لإمکان أن یکون المراد هو ما فی الغُسل، فالترتیب المعتبر الذی یستدلّ به یعدّ خارجاً عن الفرض .

وفیه أنّه لا فرق فی ذلک کون المراد هو الغُسل أو الوضوء، من حیث أصل الاستدلال بکفایة غَسل ما هو المتقدّم، لو قلنا بوجوب الترتیب فی الغُسل کالوضوء .

نعم ، لا یثبت ما نحن بصدده، إلاّ أن یقال بوجود الملازمة بینهما، وهو أوّل الکلام.

ولکن لا یبعد أن یکون المراد هو الوضوء کما أُشیر إلیه بالصراحة فی خبر قاسم بن محمّد عن علی(1).

وثانیاً : بأنّه کان فیما لم یأت بغسل الیمین حال تقدّم غسل الیسار کما یشهد لذلک صدر الروایة، من قوله : فمن بدأ بالسعی؟ قال : «یرجع فیطوف بالبیت، ثمّ یستأنف السعی».

حیث قد استعمل لفظ الاستئناف فی السعی دون الطواف، الظاهر فی کونه متکرّراً دون الطواف ، لا یقال : فلِمَ لم یذکر فی الجواب بلزوم غسل الیمین مع فرض عدم تحقّقه قبله ؟

لأنّا نقول: بإمکان أن یکون موکولاً إلی وضوحه بالإتیان فی محلّه، مع فرض کون غَسل الیمین متحقّقاً قبله أیضاً، کما لا یکون الطواف قبله حاصلاً .

هذا، ولکن الإنصاف أنّ المقصود الأصلی فی الحدیث، هو بیان عدم کفایة غَسل الشمال لتقدّمه، بمثل ما لا یمکن الاکتفاء بالسعی قبل الطواف .

وأمّا غسل الیمین الذی قد یقع بعد غسل الشمال تارةً، أو لا یقع اُخری، غیر مفروض فی فرض السؤال، ولذلک أجاب الإمام علیه السلام عن خصوص إعادة الشمال .

نعم قد یستأنس من ذلک، بأنّه لو کان تعقّب غَسل الیمین بغسل الشمال،


1- وسائل الشیعة: أبواب الوضوء، الباب 35، الحدیث 13.

ص:34

واجباً، کان علی الإمام بیانه، لأنّه یکون من أحد فردیه، وحیث أنّه لم یتعرّض بل أجاب مطلقاً بالإعادة، خصوص غسل الشمال، یوجب قوّة ظهور کلام المشهور من عدم لزوم الإعادة ، مضافاً إلی مساعدة الاعتبار مع کلامهم، لأنّ الظاهر أنّ شرط صحّة الوضوء هو الترتیب ومراعاة ما هو حقّه التأخیر، کوقوع صلاة العصر بعد الظهر، فلو قدّمت علی الظهر، لاستوجب البطلان لفقدان شرطه .

وأمّا کون اتّصاف الظهر بصفة المتأخّر، موجباً لفقدان شرطیة تقدّمه، هو محض اعتبار لیس ذلک شرط له ، کما قد یؤیّد ذلک، أنّ فقدان شرط التأخّر یحصل للعصر بإتیانه أوّلاً، ولو لم یتصف الظهر بعدُ بوصف التأخّر، وهذا شاهد علی عدم توقّف انتزاع وصف کلّ واحد منهما علی وجود الوصف الفلانی علی الآخر .

وکیف کان، فاستظهار المشهور عدم الإعادة من هذا الحدیث لا یخلو عن قوّة .

وأمّا خبر ابن أبی یعفور فقد استشکل فیه، بأنّه لا وجه لدعوی ظهوره فیه، إلاّ بلحاظ قوله علیه السلام : «بدأت یسارک قبل یمینک».

ولکن یمکن منع الظهور فی الإتیان لکلیهما، لاحتمال کون المقصود هو الإتیان بالیسار، قبل أن یأتی بالیمین مع عدم إتیانها، وأنّ إطلاق القبلیة علی غَسل الیسار، مع عدم تحقّق غَسل الیمین أصلاً، کان بلحاظ المحلّ، لا بلحاظ الزمان، مع الإتیان بهما جمیعاً .

هذا، ولکنّه مخدوش من وجهین، وهما احتفاف الحدیث بقرینتین تدلاّن علی أنّ غسل الیمین قد تحقّق ، القرینة الاُولی: ذکر مسح الرأس والرجل بعده، حیث أنّهما لو تحقّقا بدون غسل الیمین، کان ینبغی أن یذکر نسیان غَسل الیمین أیضاً، فعدم ذکره دلیلٌ علی عدم نسیانه ، فمع الإتیان بغسل الیمین متأخّراً لم یحکم بإعادته .

القرینة الثانیة: هو أنّه فی مقام بیان المسألة والحکم، فقد اکتفی بذکر غَسل الیسار، بقوله : «غسلت یسارک» ، مع أنّه کان ینبغی أن یقول : غَسلت یمینک

ص:35

ویسارک ، فدعوی ظهور الحدیث لمقالة المشهور، لا یخلو من قوّة ، فلابدّ إذا أردنا الدلالة علی تحصیل لزوم غسل الیمین قبل الیسار، من حمله علی صورة ما لم یأت بغسل الیمین قبله، کما سنشیر إلیه إن شاء اللّه .

ومن هنا یظهر الإشکال فی مرسلة الصدوق وجوابه، فلا نعیده مرّة اُخری خوفاً عن الإطالة والإطناب .

وقد استدلّ للقول الآخر _ وهو لزوم إعادة غَسل الیمین بعده _ بعدّة أخبار: منها صحیحة زرارة الواردة فیها عمّن بدأ بیده قبل وجهه، وبرجلیه قبل یدیه: «قال : یبدأ بما بدأ اللّه به، ولیعد ما کان»(1).

وفیه ما لا یخفی، إذ من الواضح أنّه لو غسل وجهه بعد ذلک، کان أحد فردی مصداق ما بدأ اللّه، وفرده الآخر هو الاکتفاء بغسل الیدین فقط، والاکتفاء بغسل الوجه الواقع قبل ذلک، لأنّه لدی التدبّر یفهم أنّ ما هو الخلاف هنا، لیس إلاّ تقدیم غسل الیدین علی الوجه، لا تأخّره علیهما، وهو تحصیل بإعادة غَسل الیدین .

منها: خبر منصور بن حازم عن الصادق علیه السلام : «فی الرجل یتوضّأ فیبدأ بالشمال قبل الیمین ؟ قال : یغسل الیمین ویعید الیسار»(2) .

منها: خبر أبی بصیر عنه علیه السلام ، قال : «إن نسیت غسل وجهک فغسلت ذراعیک قبل وجهک، فأعد غسل وجهک، ثمّ اغسل ذراعیک بعد الوجه، فإن بدأت بذراعک الأیسر قبل الأیمن، فأعد علی غسل الأیمن، ثمّ اغسل الیسار، وإن نسیت مسح رأسک حتّی تغسل رجلیک، فامسح رأسک ثمّ اغسل رجلیک»(3) .

منها: خبر «قرب الاسناد» عن علی بن جعفر، قال : «سألته عن رجل توضّأ


1- وسائل الشیعة: أبواب الوضوء، الباب 35، الحدیث 1.
2- وسائل الشیعة: أبواب الوضوء، الباب 35، الحدیث 2.
3- وسائل الشیعة: أبواب الوضوء، الباب 35، الحدیث 8 .

ص:36

فغسل یساره قبل یمینه کیف یصنع ؟ قال : یعید الوضوء من حیث أخطأ، یغسل یمینه ثمّ یساره، ثمّ یمسح رأسه ورجلیه»(1) .

منها: مرسلة الصدوق، بقوله : «وروی فی حدیثٍ آخر فیمن بدأ بغسل یساره قبل یمینه، أنّه یعید علی یمینه ثمّ یعید علی یساره»(2) .

ولا یخفی أنّ ظهور خبری أبی بصیر ومرسلة الصدوق فی إعادة غسل الیمین، کان أقوی من الآخرین، لظهور لفظ (الإعادة) علی إتیانه سابقاً، کما وقع هذه الکلمة فی کلیهما، خصوصاً فی خبر أبی بصیر، وظهور کلمة (قبل) فی قوله: «فغسلت ذراعیک قبل وجهک»، فی تحقّق غسل الوجه بعده أیضاً، فإذا اُجیب عنهما فغیرهما أولی بشمول الجواب لهما .

فنقول: وإن کان لفظ (الإعادة) ظاهرٌ فی التکرار، إلاّ أنّ ظهور صدر حدیث أبی بصیر من فرض نسیان غَسل الوجه، بقوله : «إن نسیت غسل وجهک»، علی ترک غَسل الوجه، یوجب صرف ظهور الإعادة عن التکرار، إلی کونه إعادة من جهة ما هو محلّ غسل الوجه، أی ما کان من شأنه أن یؤتی به ثم لم یأت به، فإنّ علیک غَسله تلافیاً عمّا فاتک من غسل المحلّ فی وقته.

لا یقال: بإمکان أن یکون قد لاحظ المحلّ فی متعلّق النسیان، فیصیر معناه أنّه نسی أن یأتی بغسل الوجه فی محلّه، وأتی به فی غیر محلّه، وهو بعد غسل الذراع .

لأنّا نقول بإمکان هذا الاحتمال فی الإعادة أیضاً، فیوجب التعارض بین هذین الاحتمالین، من أنّ الإعادة تقتضی الإتیان بغسل الوجه، والنسیان یقتضی عدم الإتیان، فیتساقطان، فیسقط عن الاستدلال ، مضافاً إلی اشتماله بما هو


1- وسائل الشیعة: أبواب الوضوء، الباب 35، الحدیث 15.
2- وسائل الشیعة: أبواب الوضوء، الباب 35، الحدیث 10.

ص:37

مقتضی التقیة، من غسل الرجلین، حیث یوجب الوهن فی الحدیث، لعدم إجراء أصالة الجهة، وهی عدم التقیة، لاشتماله بما یوجب حمله علیها، أو حمله علی معنی یجامع مع المسح، أو یحمل الحکم بالإعادة علی استحبابها، مع حفظ ظهور مادّتها فی التکرار ، فضلاً عن أنّ مفاد الحکم بوجوب الإعادة، یعدّ مخالفاً لفتوی الأصحاب ، بل فی «الجواهر»: لم أجد فیما علیه المشهور خلافاً.

فثبت من جمیع ذلک قوّة کلام المشهور، کما لایخفی .

وربما قیل بإمکان الجمع بین الطائفتین من الأخبار، بحمل مثل خبر ابن أبی یعفور(1) علی صورة النسیان، فلا یحتاج إلی التکرار والإعادة لکلا الجزئین فی هذه الحالة، وحمل سائر الأخبار الدالّة علی لزوم الإعادة من أصله، علی صورة العمد، لأنّها إمّا أن تکون ظاهرة فی خصوص العمد، أو تکون مطلقة شاملة له أیضاً، فیقیّد بواسطة تلک الأخبار، فیحکم بالإعادة فی العمد دون النسیان ، هذا، ویؤیّده أنّ فی صورة العمد یختلّ قصد القربة المعتبر فی العمل، بالنسبة إلی ما یأتی علی خلاف الترتیب، فیکون فاقداً لهذا الشرط أیضاً .

انتهی کلامه کما فی «الروائع الفقهیة»(2).

ولکن یمکن أن یناقش فیه أوّلاً : أنّه مناف لصریح خبر أبی بصیر(3)، من الحکم بالإعادة فی صورة النسیان .

وثانیاً : بأنّه أیُّ فرقٍ بین إطلاق خبر ابن أبی یعفور، حیث جاء فیه: «إذا بدأت بیسارک قبل یمینک ...»، وإطلاق خبر منصور بن حازم(4)، حیث کان فیه: «یبدأ


1- وسائل الشیعة: أبواب الوضوء، الباب 35، الحدیث 4.
2- الروائع الفقهیة: 2 / 180.
3- وسائل الشیعة: أبواب الوضوء، الباب 35، الحدیث 8 .
4- وسائل الشیعة: أبواب الوضوء، الباب 35، الحدیث 2.

ص:38

بالشمال قبل الیمین»، حیث حمل خبر ابن أبی یعفور علی النسیان، بخلاف الآخر من الحمل علی صورة العمد، أمّا بالخصوص أو بالتقیید .

وثالثاً : أنّه لم یلتزم به أحدٌ من الفقهاء، لأنّ العلاّمة أیضاً قد حکم بالإعادة من أصله ورأسه فی صورة العمد، لا الإعادة للجزئین الذین قد أخلّ فیهما بالترتیب .

وأمّا الإخلال بالقصد من التقرّب وغیره، قد عرفت الإشکال فیه، وأنّه خلاف الفرض. فهذا الجمع أیضاً لیس علی ما ینبغی .

وقد ظهر من جمیع ما ذکرنا بأنّ الترتیب فی الوضوء واجبٌ، ویعدّ الإخلال موجباً لإیجاب الاستدراک، لو لم یفت الموالاة بالجفاف، ولم یخل بالنیّة، ومعنی الاستدراک هو وجوب إعادة ما یحصل به الترتیب، أی من حیث ما أخطأ، کما فی روایة علی بن جعفر: «ولیحصل الابتداء بما بدأ اللّه»، والإعادة علی ما کان کما جاء فی حدیث زرارة .

المراد من الاستدراک فی الإخلال بالترتیب

فعلی هذا، تبتنی صحّة الوضوء علی تکرّر النکس فی الغَسل والمسح حتّی یحصل ما هو الواجب من الترتیب ، فلو أتی بالوضوء بغسل الوجه والیدین معاً دفعةً واحدةً، أو بتقدّم غَسل الیمنی علیه، أو بتقدّم جمیع الأعضاء علیه، لا یتحقّق فی الخارج من الواجب إلاّ غسل وجهه .

فلو فعل ذلک مرّةً ثانیة، بأیّ نحو من الأنحاء الثلاثة، من الإتیان دفعةً، أو تقدیم عضو واحد، أو جمیع الأعضاء علی ما یجب الإتیان به، وهو غسل الیمنی مثلاً، فیحصل به غسل الیمنی فقط.

أمّا الفصل بالأجنبی، بین غَسل الوجه وبینه غیر ضارّ.

وهکذا لابدّ أن یتکرّر بستّة مراتب، حتّی یحصل الوضوء بتمامه، لو قلنا بوجوب تقدیم مسح رجل الیمنی علی الیسری، وإلاّ کان بخمس مراتب .

نعم ، یشکل الأمر فی المسح من جهة أنّ التکرار مع ملاحظة أنّ المسح یجب

ص:39

أن یکون بماء جدید، هو غیر جائز، فلابدّ أن لا ینکس فی المسح إلاّ فی نفسه لا هو مع الغسل، وبعبارة اُخری: إذا بلغ إلی المسح قدّم الیسری مرّة علی مسح الرأس، أو أتی به معه دفعة، أو قدّمه مع مسح الیمنی علی مسح الرأس فإنّه یحسب مسحاً واحداً للرأس فقط، فلابدّ من تکراره فی المسح حتّی یتحقّق مسح الرجل الیمنی، ثمّ فی المرحلة الثالثة یتمّ الوضوء .

کلّ ذلک إذا بقی النداوة والبلل مع التکرار، مع أنّه مشکل أیضاً .

وأمّا الإشکال من جهة النیّة، فإنّه یمکن أن یقال: إمّا بکفایة الخطور الذهنی المرتکز، أو نقول بکفایة النیة التفصیلیة فی أوّل الوضوء ؛ وعدم إضرار الفصل بینه وبین عمله بالأجنبی .

وکیف کان، فالقول فی الصحّة فی جمیع الصور والحالات مشکل، والقول بعدم الصحّة فی جمیع أقسامه أشکل ، فالأولی ملاحظة کلّ مورد بحسب حاله، ووجود شرائطه، فیحکم بالصحّة وعدمها.

المسألة الثالثة : بعدما عرفت وجوب الترتیب فی الوضوء فی کلّ عضو، فهل یکون حکم بعض الأجزاء حکم تمام ذلک العضو، من جهة وجوب تحصیل الترتیب فیه فقط وفیما بعده، أو لابدّ من الإعادة رأساً، فیما لم یجفّ الماء، ولم یخلّ بالنیّة أم لا؟

الظاهر کما نقل الإجماع علیه عن بعض فی «الجواهر» هو الأوّل، فما عن ابن الجنید: من أنّه إذا کان المنسی جزءاً دون سعة الدرهم، کفی بلّها من ماء بعض جسده، من غیر إعادة لما بعد ذلک العضو، فإنّه لم نقف علی دلیل یعتدّ به .

نعم، قد ادّعی دلالة مرسلتی الصدوق و«عیون أخبار الرضا» ومضمون کلاهما واحد، وهی علی روایة الصدوق، قال: «سئل أبو الحسن موسی بن جعفر علیهماالسلام : فی الرجل یبقی من وجهه إذا توضّأ موضعٌ لم یصبه الماء؟

الترتیب الحکمی فی الوضوء

ص:40

فقال : یجزیه أن یبلّه من بعض جسده»(1) ومثله المرسلة الثانیة التی رواها الصدوق فی «العیون» عن الرضا علیه السلام (2) علی مدّعی ابن الجنید.

لکنّه مخدوش، أوّلاً : بعدم کونه موافقاً لما ادّعاه من الخصوصیات، من کونه بقدر دون سعة الدرهم ، فإنّه لم یرد فی الخبر ذکر لسعة المورد.

وثانیاً : من إمکان أن یکون بلحاظ کفایة تحصیل الترتیب من ذلک، من دون لزوم الإعادة من رأس حیث قال : «یجزیه أن یبلّه من بعض جسده»، فلا ینافی کون الترتیب مستلزماً لإعادة غسل البقیّة بعده، فیوافق الحدیث مع ما قاله المشهور ، کما أنّ الاعتبار أیضاً یساعد مع مقالتهم، لأنّ حکم البعض لا یکون أدون وأسوء من حال العضو بتمامه، حیث أنّه إذا کان الإخلال بالعضو بتمامه غیر مبطل بل یکفی إعادته بما یحصل الترتیب، کذلک یکون الحال فی البعض أیضاً بطریق أولی .

وأمّا إثبات کفایة تحصیل غَسل ذلک البعض فقط، لا یناسب مع بطلان غَسل ذلک العضو، فیما لو ترک تحصیله حتّی الجفاف، ولیس هذا إلاّ من جهة أنّ بقاء ذلک البعض موجبٌ لفساد ذلک الوضوء، وفساده موجب لفساد الکلّ، فهکذا یکون فیما إذا عقّبه سائر الأعضاء بعد هذا العضو الذی لم یتمّ وضوءه.

وکیف کان، فالمسألة واضحة بحمد اللّه، لا تحتاج إلی کلام أزید ممّا ذکرناه.

المسألة الرابعة : لا إشکال فی أنّ الترتیب فی الوضوء الترتیبی حاصل بنفس العمل خارجاً مرتّباً ، وأمّا الوضوء الارتماسی فإنّه یقع الکلام فیه لأنّه: تارةً: یتوضّأ ارتماساً مع مراعاة الترتیب فی عمله، بأن یرتمس بوجهه أوّلاً وبالید


1- وسائل الشیعة: أبواب الوضوء، الباب 43، الحدیث 1.
2- وسائل الشیعة: أبواب الوضوء، الباب 43، الحدیث 2.

ص:41

الیمنی ثانیاً وهکذا، فهو واضح لا کلام فیه .

واُخری : یرتمس فی الماء الجاری، ویقصد تحقّق الغسل فی کلّ مرّة لکل عضو بالجریان فی الآنات، حتّی یتحقّق ثلاث غسلات بجریان الماء فی ثلاث آنات، فیتعدّد الغَسلة بذلک.

فهو أیضاً صحیحٌ لحصول ما هو الواجب من تعدّد الغسلة .

وإنّما الإشکال یقع فی الصورة الثالثة: وهی ما لو ارتمس فی الماء الراکد، وأراد أن یتعدّد الغسلات بالنیّة من دون حرکة للید مثلاً، حیث یسمّی ذلک بالترتیب الحُکمی، فهل یکفی ذلک فی صحّة الوضوء، أم یعتبر وجود ترتیب حقیقی، ولا یکفی قبل ذلک؟

فیه خلافٌ، قد ذهب الشهید الأوّل فی «الذکری» إلی الأوّل، خلافاً للفاضلین، وصاحب «الجواهر» والشیخ الأعظم والمحقّق الهمدانی، لأنّ الملاک فی صحّته هو صدق تعدّد الغَسل عرفاً، فإذا کان مجرّد إدخال الید فی الماء الراکد مع النیّة یوجد التعدّد وعدّ کافیاً، للزم أن یکون انصباب الماء علی الأعضاء دفعة واحدة مع نیّة إحاطة الماء الثانی علی العضو وانغساله به کافیاً فی الصدق، مع أنّه لا أظنّ أن یلتزم به الشهید رحمه الله .

هذا کما فی «طهارة» الشیخ قدس سره . ولکن الإنصاف أن یقال: إنّ الشهید إذا التزم بکفایة التعدّد بالغسلة بواسطة النیّة فی الماء الواقف، ففی مفروض المثال یکون بطریق أولی کافیاً، لأنّ نفس انصباب الماء ربما یوجب صدق التعدّد عرفاً .

وکیف کان، صدق التعدّد علی الغسلة فی الماء الراکد مع النیّة مشکلٌ جدّاً .

وکذا یعتبر أن یکون وضع یده فی الماء علی وجه یجری الماء من المرفق إلی الأسفل ، فلو عکس لا یجری، فلو قصد حصوله من الأعلی إلی الأسفل، ولکن کان ما فعله علی خلاف ذلک، فإنّ مجرّد قصد ذلک لا یکفی لأنّ القصد لا یقلب الفعل الخارجی عمّا هو علیه فی الواقع، کما لایخفی .

ص:42

الثانیة: الموالاة واجبة، وهی أن یغسل کلّ عضو قبل أن یجفّ ما تقدّمه ، وقیل: بل هی المتابعة بین الأعضاء مع الاختیار، ومراعاة الجفاف مع الاضطرار (1).

نعم ، قد استدلّ لکفایة الترتیب الحکمی فی الوضوء بالنیّة، بخبر علی بن جعفر، عن أخیه موسی بن جعفر علیه السلام ، قال : «سألته عن الرجل لا یکون علی وضوء، فیصیبه المطر، حتّی یبتلّ رأسه ولحیته وجسده ویداه ورجلاه، هل یجزیه ذلک من الوضوء ؟ قال : إن غسله فإنّ ذلک یجزیه»(1) .

الظاهر کونه دالاًّ علی وجوب الترتیب الحقیقی، لإمکان أن یکون فاعل الغسل هو الرجل الممطور، بأن مرّر یده علی مواضع اغسل والمسح حینما کان یهطل علیه المطر ونوی بفعله هذا الغَسل والمسح للوضوء، فیجزیه فیکون الترتیب بالفعل والنیّة معاً، لا مجرّد النیّة، کما هو المقصود، فیمکن أن یکون المراد من قوله: «إن غَسله» هو بیان أنّ المطر إذا کان کثیراً بما یصدق به الغسل، فیجوز وإلاّ فلا ، لا أنّه یرید بیان کفایة عدم الترتیب فی الوضوء أیضاً.

وهذا هو الأقوی عندنا من الوجه الأوّل .

وکیف کان، فلا یمکن الاستدلال به لکفایة الترتیب الحکمی، کما لایخفی .

(1) لا إشکال ولا خلاف فی أصل وجوب الموالاة فی الوضوء إجماعی، إجماعاً محصّلاً ومنقولاً محقّقاً ومستفیضاً.

فی المراد من الموالاة فی الوضوء

کما لا خلاف أیضاً أنّ الموالاة لغةً وعرفاً عبارة عن المتابعة فی الأفعال، وتعاقب بعضها بعضاً، وعدم الانقطاع بینها بالفصل المعتدّ به، أو بتخلّل ما ینافیه ،


1- وسائل الشیعة: أبواب الوضوء، الباب 33، الحدیث 1.

ص:43

وإنّما وقع الخلاف فی تحدید الموالاة فیما یعتبر منها فی الوضوء، اختلافاً شدیداً، بحیث یبلغ الأقوال فیها أکثر من خمسة، فلا بأس بالإشارة إلیها .

القول الأوّل: وهو القول المشهور فی تفسیرها، وهو أن یغسل أو یمسح کلّ عضو قبل جفاف جمیع ما تقدّمه، فلو أخّر إلی أن جفّ بلل الأعضاء المتقدّمة علیه جفافاً ناشئاً عن التأخیر لا عن عارض آخر، بطل وضوئه، وبطلانه حینئذٍ ممّا لا خلاف فیه .

القول الثانی: وهو الحکم بالبطلان، لو حصل الجفاف للعضو السابق، قبل أن یشرع فی الذی بعده، ولو لم یحصل جفاف الجمیع.

وهو الذی ذهب إلیه السیّد علم الهدی فی «الناصریات» والحلّی فی «السرائر» وابن فهد فی «المهذّب البارع» .

القول الثالث: هو الحکم بالبطلان بجفاف عضو من الأعضاء، فالمعتبر عنده هو بقاء البلل فی جمیع الأعضاء، وهو الذی ذهب إلیه ابن الجنید .

القول الرابع: الموالاة هی التتابع بین الأفعال عرفاً فی حال الاختیار بحیث لا یفصل بین الأعضاء ، وأمّا فی حال الاضطرار فإنّ الموالاة تعنی مراعاة عدم الجفاف، وهو الذی ذهب إلیه الشیخ فی «المبسوط» و«الخلاف» والمحقّق فی «المعتبر» .

القول الخامس: هو القول بعدم الفصل بین الأعضاء فی حال الاختیار، إلاّ أنّ هذا الوجوب فی الموالاة کان وجوباً شرعیّاً تعبّدیاً لا شرطیّاً مستلزماً للبطلان فی تخلّفه، بل بطلانه متعلّقٌ بحصول الجفاف لجمیع الأعضاء السابقة المشروع فیها.

حکی هذا القول عن العلاّمة فی کتبه، وولده فی شرح «الإرشاد»، وعن «جامع المقاصد» .

القول السادس: وهو کفایة وجود أحد الأمرین من المتابعة العرفیة وعدم

ص:44

الجفاف فی الصحّة، فالبطلان یحصل علی ترک کلیهما.

وهذا ما ذهب إلیه الصدوقین، وفی «المدارک» و«المشارق» و«الحدائق» والشیخ الأعظم والآملی والسیّد فی «العروة»، وأکثر المحشّین علیها .

القول السابع: وهو المحکی عن «الریاض» من أنّ معنی وجوب الموالاة هو عدم الجفاف وجوباً تعبّدیاً زائداً عن شرطیته للوضوء، فیترتّب علی ترکها الإثم مع البطلان .

القول الثامن: الذی نقله الشیخ الأکبر فی «طهارته». ویعدّ قولاً مستقلاًّ لو لم یتّحد مع أحد الأقوال السابقة، وهو قول الشهید الأوّل فی «الدروس» حیث قال : لو فرّق ولم یجب فلا إثم ولا إبطال، إلاّ أن یفحش التراضی فیأثم ، انتهی کلامه .

ولکن بعد التأمّل یمکن إرجاعه إلی القول السادس، من کفایة وجود أحد الأمرین، وهو عدم الجفاف، ولو کان مع التفریق یصحّ أو یساعد مع القول المشهور إن کان مقصوده عدم جفاف جمیع الأعضاء السابقة، أو یناسب مع القول الثانی للسیّد وابن إدریس .

والأولی الرجوع إلی أصل الاستدلال، وتعیین ما هو الحقّ عندنا، المستفاد من الأدلّة الأوّلیة والثانویة، فنقول ومن اللّه الاستعانة وعلیه التکلان : إنّ ما یقتضیه الأصل الأوّلی فی کلّ دلیل متوجّه إلی فعل مرکّب ذی أجزاء وأعضاء، هو الإتیان بکلّ جزء متتابعاً مع جزء آخر، علی نحو التتابع والتوالی العرفی، وذلک بأن لا یفصل بینها فصلاً طویلاً، لا یصدق معه کون إلحاق اللاّحق لسابقه إلحاقاً للمرکّب، نظیر فصول الأذان والإقامة والصلاة، وأمثال ذلک .

نعم والذی لا ینبغی أن ینکر هو أنّ التتابع والتوالی فی کلّ مورد بحسب العرف یکون متفاوتاً فی المرکّبات، یعنی قد یکون الفصل بمقدار یوجب الإخلال فی ترکیب الصلاة لشدّة ارتباط أجزائها بعضها مع بعض، بما لا یضرّ هذا الفصل فی

ص:45

الأذان والإقامة مثلاً، کما یشاهد ذلک فی بعض المرکّبات الشرعیة، وإن کان أصل ذلک أیضاً یرجع إلی ما یستفاد من الدلیل الشرعی، إلاّ أنّ القاضی فی ذلک یکون هو العرف لا محالة.

فعلی هذا التقدیر، لابدّ أن یعتبر الموالاة بحسب مقتضی الدلیل الأوّلی هو التتابع بین الأفعال، بما قد عرفت ، بلا فرق بین حال الاختیار والاضطرار ، کما لا فرق فیه بین حصول الجفاف للأعضاء السابقة أم لا، کما لا فرق فیه بین حصول الجفاف للجمیع أو لبعض الأعضاء ، کما أنّ الظاهر کون اقتضاء ذلک الدلیل هو البطلان عند الإخلال وإن تأمّل المحقّق الهمدانی قدس سره فی «مصباح الفقیه» فیه، وفی القائل تأمّل .

کما لا فرق فی حصول هذا الإخلال، بین أن یکون ذلک من جهة الفصل الطویل، أو التخلّل بما ینافیه، أی یضرّه حال ملاحظة العرف ذلک معه، وهو أمرٌ ثابتٌ عندنا، بل لعلّه عند کثیر من الفقهاء ، فلابدّ حینئذٍ من ملاحظة الأدلّة الثانویة فی ذلک، وهی عبارة عن الإجماع المدّعی فی المسألة فی الجملة، وإن کان الخلاف فیها موجوداً، من جهة أنّ مطلق الإخلال بالموالاة _ التی تعنی التتابع العرفی _ بأن یفصل بین الأجزاء فی الجملة، لا یکون موجباً للبطلان ، إلاّ أنّه لا یمکن الاعتماد إلیه لوجوب الخلاف فیه .

فالأحسن هو الرجوع إلی مفاد الأخبار التی قد استدلّ بها لذلک، وملاحظة مدی وحدود دلالتها، فنقول: قد استدلّ علیه بما رواه فی الصحیح عن معاویة بن عمّار، قال : «قلت لأبی عبداللّه علیه السلام : ربّما توضّأت فنفد الماء فدعوت الجاریة فأبطأت علیَّ بالماء فیجفّ وضوئی ؟ فقال : أعد»(1) .


1- وسائل الشیعة: أبواب الوضوء، الباب 33، الحدیث 3.

ص:46

فإنّ الحکم بالإعادة، إنّما کان بواسطة فوت الموالاة من جهة الجفاف الحاصل علی مواضع الوضوء، الظاهر فی جمیع ماء الوضوء، لا خصوص العضو السابق، أو أحد الأعضاء، وکان مورده فیما تأخّر من جهة نفاذ الماء الخارج عن قدرته واختیاره لا التأخیر الاختیاری.

بل قد یقال بأنّه یستفاد من حکم الإعادة الذی رتّب علی الجفاف، أنّه لولا الجفاف لما کانت الإعادة واجبة إن عُدّ التتابع العرفی متروکاً، سواء کان الترک عن اختیار أو اضطرار، ولعلّه لذلک قد ادّعی صاحب «الجواهر» دلالة الحدیث علی عدم الإثم والبطلان فی ترک الموالاة، وإلاّ لکان الواجب علیه المسارعة بنفسه لا الاستدعاء من الجاریة وانتظارها حتّی یجفّ ماء وضوئه .

واستدلّ أیضاً بموثّقة أبی بصیر، عن الصادق علیه السلام ، قال : «إذا توضّأت بعض وضوئک، وعَرَضت لک حاجة حتّی ییبس وضوئک، فأعد وضوئک، فإنّ الوضوء لا یبعّض»(1) .

فإنّ ظهور لفظ عروض الحاجة الموجبة لیبوسة الماء فی عدم کون ذلک باختیار عادی، ممّا لا یکاد ینکر، فإنّ الحکم بالإعادة قد رتّب علی جفاف ماء الوضوء، ولا یصدق الجفاف بهذا العنوان إلاّ بجفاف تمام الأعضاء، کما هو کذلک فی خبر معاویة أیضاً.

فظاهر هذا الحدیث بحسب صدره هو أنّ ملاک فوت الموالاة لیس إلاّ بجفاف للجمیع، لا العضو السابق، ولا بعض الأعضاء.

إلاّ أنّه یعارض مع إطلاق التعلیل فی ذیله، من عدم قبول الوضوء للتبعیض، أی لا یجوز فیه ترک الموالاة، سواء کان بالاضطرار أو الاختیار، وسواء کان


1- وسائل الشیعة: أبواب الوضوء، الباب 33، الحدیث 2.

ص:47

بالجفاف _ کما وقع فی صدره _ أو لم یجفّ، فیتعارض ظهور الصدر _ فی کون الغایة جعل الملاک فی الإعادة هو الجفاف _ مع ظهور ذیله بإطلاق التعلیل، من کون التبعیض فی الوضوء ولو کان من غیر جفاف مطلقاً _ عن اختیار أو اضطرار _ غیر جارٍ، فکیف یمکن الجمع بینهما ؟

وفی «الجواهر» جعل الغایة قوله: «حتّی ییبس وضوئک»، قرینة علی عدم الإطلاق فی التعلیل، فیکون المراد من التبعیض المنهی عنه، هو التبعیض الموجب للجفاف فی الجمیع، لا غیره، حتّی یشمل بعمومه التفریق من دون جفاف .

خلافاً لمن ادّعی کون العبرة بعموم التعلیل، اللازم کون التارک للموالاة من دون جفاف أیضاً عمله باطلاً ، بل حتّی مع الاضطرار، من تعمیم مورد التعلیل، مع أنّه لا یمکن الالتزام به .

فالأولی أن یقال : إنّ ظهور الصدر فی الجفاف الخاصّ المستلزم للبطلان، یقدّم علی ظهور التعلیل فی الإطلاق لوجهین : أوّلاً : لأنّه إن أخذنا بإطلاق التعلیل، وقلنا بأنّ التبعیض _ بمعنی التفریق بین أعضاء الوضوء _ مبطل فإنّه یوجب لغویة قید (حتّی یبس وضوئک)، لأنّه لا خصوصیة فی الجفاف، لأنّه سواء حصل الجفاف أم لم یحصل یکون الوضوء بالتفریق باطلاً، مع أنّ ظاهر الصدر یفید أنّ الحکم بالإعادة منوط بالجفاف .

وثانیاً : أنّ مقتضی الأخذ بعموم التعلیل، هو البطلان، سواء حصل التبعیض بالتفریق مع حصول الجفاف لجمیع الأعضاء السابقة، أو مع جفاف بعضها، مع أنّ ظاهر الصدر کون جفاف ماء الوضوء صادق علی الجمیع، لأنّ بقاء رطوبة الوضوء فی بعضٍ یصدق أنّه لم یجفّ مائه، فالتصرّف فی عموم التعلیل یکون أولی، فیحمل علی صورة التبعیض الموجب لجفاف للجمیع لا البعض، ولا مطلق التبعیض حتّی ما لا یجفّ بعد .

ص:48

وأمّا عموم التعلیل من حیث کون التبعیض حاصلاً بالاختیار، أو بالاضطرار، لا ینافی مع صدره، لإمکان شمول عنوان قوله: «عَرَضت لک حاجة»، لحالتی الاختیار والاضطرار، لإمکان أن لا تکون الحاجة ضروریة ، مع أنّه لو کان المراد من لفظ (الحاجة) هی الضرورة منها، فالحکم بالبطلان بالجفاف بغیر الضرورة یکون بطریق أولی، فبین الصدر والذیل من تلک الجهة کمال الملائمة کما لایخفی .

ثمّ لا یخفی علیک أنّ مقتضی لسان الأدلّة الأوّلیة علی لزوم الموالاة والتتابع فی الوضوء، الذی یعدّ أمراً مرکّباً، هو التتابع فی الأفعال، بحیث لو أضرّ بذلک بحسب فهم العرف لأوجب البطلان، إلاّ أنّه بعد ملاحظة الخبرین المذکورین وهما صحیحة معاویة بن عمّار وموثّقة أبی بصیر، حیث أنّ الإعادة فیهما قد علّقت علی الجفاف، یفهم أنّ الملاک فی البطلان لیس خصوص التبعیض فی الأفعال ، بل یکون أحد الأمرین : أمّا التبعیض فی الأفعال، ولو لم یحصل الجفاف، إذا کان التفریق موجباً لتفویت الموالاة.

أو التبعیض فی الآثار، أی الرطوبة، بحصول الجفاف فی رطوبة الوضوء ومائه.

وهکذا ظهر أنّ الشارع قد وسّع فی مقتضی الدلیل الأوّلی .

أو یقال بوجه آخر: وهو أنّ الملاک فی البطلان هو التفریق فی الأفعال، کما هو کذلک بحکم الدلیل الأوّلی، إلاّ أنّه من حیث أنّ الشارع جعل الجفاف موضوعاً للحکم بالإعادة، یفهم أنّه لیس لخصوصیة فیه ، بل کان ذلک مأخوذاً من جهة الطریقیّة، الکاشفة عن لزوم ما هو المعتبر فی الوضوء من الموالاة حیث قد زالت بعده، فلا یکون باقیاً.

فعلی هذا یفهم أنّه لیس الملاک فی فوت الموالاة إلاّ فوت التتابع فی الأفعال فقط، لا هو أو مع فوت الآثار، کما علیه الشیخ الأعظم قدس سره حیث جعل الملاک فی البطلان أحد الأمرین: فوت الموالاة العرفیة، حیث یفوت منه التتابع العرفی، ولو

ص:49

لم یکن الجفاف حاصلاً، کما إذا توضی فی الشتاء وکان فی منطقة مرطوبة بحیث لا تجفّ یده کما هو الحال فی المناطق الحارّة.

وحصول الجفاف الذی یحصل منه فوت التتابع فی الآثار دون الأفعال.

ولکن الأقوی والأوجه عندنا، هو الوجه الأخیر، لأنّ المقصود من کلمة الجفاف، الإشارة إلی أنّه قد حصل من الفصل الطویل، المؤدّی والموجب لفوت الموالاة، لا أن تکون لخصوصیة فیه، ولو حصل لحرارة الهواء، أو لحرارة المزاج، وأمثال ذلک، خصوصاً إذا کان ماء الوضوء قلیلاً، بقدر إمرار الید بواسطته علی الید مثلاً، لقلّة الماء فی الخارج، حیث أنّ الجفاف یحصل فیه من دون حصول فوت الموالاة، بل یجیء متتابعاً عرفاً ولا یوجب البطلان .

بل یمکن أن یقال : بأنّ مقتضی الدلیل الأوّلی، هو جواز الاکتفاء بمثل هذا الجفاف، لإطلاقه الشامل، لما قد عرفت أنّ غایة ما یفهم منه، لیس إلاّ لزوم التتابع العرفی، سواء کان التتابع حاصلاً مع عدم الجفاف _ کما هو الغالب بحسب النوع _ أو حاصلاً مع الجفاف _ کما قد یتّفق فی الفرض المذکور ونظائره _ وإن کان الاحتیاط فی مثله أیضاً طریق النجاة، وفاقاً لاحتمال الإطلاق فی مثل الخبرین المذکورین، حیث قد حکم بالإعادة مع الجفاف مطلقاً، أی حتّی مع کون الجفاف فی الفرض المزبور کما لایخفی .

وممّا استدلّ به لوجوب الموالاة ، بل قد قیل بأنّ المستفاد منه هو شرطیّة المتابعة فی الأفعال بحیث یوجب البطلان فی صورة التخلّف، ولو لم یحصل الجفاف أیضاً، هو حسنة زرارة الذی فی طریقها إبراهیم بن هاشم کما فی «الجواهر»، إلاّ أنّه یجب أن نعدّ الخبر صحیحة لعدم انحصار السند بإبراهیم بن هاشم حتّی یعدّ حسنة بل فیه محمّد بن إسماعیل وعن الفضل بن شاذان جمیعاً عن حمّاد بن عیسی . وإلیک الخبر: عن زرارة، قال : «قال أبو جعفر علیه السلام : تابع بین

ص:50

الوضوء کما قال اللّه، ابدأ بالوجه، ثمّ بالیدین، ثمّ امسح الرأس والرجلین، ولا تقدّمنّ شیئاً بین یدی شیء تخالف ما اُمرت به، فإن غسلت بالذراع قبل الوجه فابدأ بالوجه وأعد علی الذراع»(1) ، الحدیث .

ومثلها صحیحة الحلبی أو حسنته فی حدیثٍ: «عن الصادق علیه السلام قال : أتبع وضوئک بعضه بعضاً»(2) .

وخبر حکم بن حکیم، قال : «سألت أبا عبداللّه علیه السلام عن رجل نسی من الوضوء الذراع والرأس ؟ قال : یعید الوضوء إنّ الوضوء یتبع بعضه بعضاً»(3) .

بل قد یمکن استفادة ذلک ممّا ورد فیه الحکم بوجوب الإعادة لحصول الجفاف فی نداوة الوضوء، فیمکن نسیان مسح الرأس أو الرجل بها، وهو کما فی مرسلة الصدوق، قال : «قال الصادق علیه السلام : إن نسیت مسح رأسک فامسح علیه وعلی رجلیک من بلّة وضوئک... إلی أن قال : وإن لم یبق من بلّة وضوئک شیء، أعدت الوضوء»(4) .

حیث یفهم من جمیعها أنّ المتابعة واجبة، بل أنّ وجوبه یعدّ وجوباً شرطیّاً، کما یدلّ علیه الحکم بالإعادة فی صورة الجفاف فی مرسلة الصدوق ، مضافاً إلی ظهور التعلیل فی خبر حکم بن حکیم، بقوله : «إنّ الوضوء یتبع بعضه بعضاً»، فی کون التتابع واجباً أظهر من الجمیع .

هذا، ولکن یمکن أن یُجاب عن هذه الأخبار بوجوه، حتّی لا تنافی مع ما دلّ علی کون الإعادة منوطاً بفوت الموالاة الحاصل بالجفاف، وهی .


1- وسائل الشیعة: أبواب الوضوء، الباب 34، الحدیث 1.
2- وسائل الشیعة: أبواب الوضوء، الباب 33، الحدیث 1.
3- وسائل الشیعة: أبواب الوضوء، الباب 33، الحدیث 6.
4- وسائل الشیعة: أبواب الوضوء، الباب 33، الحدیث 5، والباب 21، الحدیث 8 .

ص:51

الأوّل : أنّ المراد من الأمر بالتتابع فیها، کان بملاحظة الترتیب فی الوضوء، لا من حیث فوت الموالاة، کما یشهد لذلک قوله: «کما قال اللّه عزّوجلّ» الواقع فی خبر زرارة، حیث أنّ الذی أمر به اللّه سبحانه کان هو الترتیب، وکذلک ذکر الأعضاء مرتّباً بعضها مع بعض یؤیّد ذلک الاحتمال، خصوصاً مع ما ورد فی ذیله من قوله : «ولا تقدّمنّ شیئاً بین یدی شیء تخالف ما أُمرت به» ، مضافاً إلی ذکر حال غَسل الذراع قبل الوجه بالخصوص، فإنّ فی ذیله قرینة علی ما ادّعیناه .

الموالاة فی الوضوء حکم تکلیفی أو وضعی؟

وثانیاً : أنّه لو کان المراد من المتابعة هو الموالاة دون الترتیب، کان اللازم أن یحکم بلزوم الإعادة إذا حصل الخلل بالموالاة فقط لا ممّا یحصل به الترتیب ، مع أنّه قد نصّ فی بعضه من الإعادة بما یحصل به الترتیب .

وثالثاً : لو سلّمنا دلالة هذه الأخبار، علی الإخلال بالموالاة لا الترتیب، لکنّه یحمل علی المتابعة التی توجب إخلالها البطلان، وهو ما لو کان الجفاف حاصلاً لیعمّ الخبر الناس وغیره، لأنّه لولا حمله علی ذلک، للزم حمله علی البطلان فی غیر مورد النسیان، لخروجه نصّاً وإجماعاً عن البطلان لو أخلّ بالموالاة، قبل الجفاف، مع أنّه غیر ممکن، لأنّ مورد الحدیث کان فی فرض النسیان، بقوله : «فیمن نسی» ، فلا محیص حینئذٍ إلاّ أن نحمل فوت الموالاة علی جفاف الأعضاء السابقة، حیث یکون مبطلاً، حتّی مع النسیان، ولا یکون مخالفاً مع فتوی الأصحاب کما لایخفی .

ورابعاً : لو سلّمنا کون مورده هو فوت الموالاة مطلقاً، یعنی حتّی مع کونه قبل الجفاف، فیکون المراد هو الأمر بالتتابع، ولکن مع ذلک إذا لوحظت هذه الأخبار مع الأخبار السابقة من اعتبار الجفاف فی فوت الموالاة، لابدّ أن یقال بحکومة الأخبار السابقة علیها، لأنّ هذه الأخبار تحکم بوجوب تحصیل المتابعة فی الوضوء، والأخبار السابقة تفید أنّ الوضوء إذا لم یحصل فیه الجفاف عُدّ متتابعاً،

ص:52

فکأنّه قد وسّع فی دائرة التتابع بواسطة تلک الأخبار.

وخامساً : مع إمکان القول بمقالة الشیخ الأعظم قدس سره ، بأنّ بقاء الأثر فی الأعضاء السابقة کأنّه عبارة عن حفظ التتابع، فعلی هذا لا یحصل تناف بین مضامین هذه الأخبار مع الأخبار السابقة، حتّی یجمع بینهما ، ولکن الإنصاف عدم تمامیة هذه المقالة بإطلاقها، لما قد عرفت من وجود مورد کان الأثر فی الأعضاء السابقة باقیاً، فمع ذلک لم یصدق فیه المتابعة، وهو ما لو توضئ فی الشتاء فی منطقة رطبة، ففی الأجوبة السابقة علیه غنی وکفایة، وإن کان بعضها مختصّاً لبعض الأخبار، إلاّ أنّ المقصود هو الجواب من حیث المجموع، وهو واضح .

فثبت من جمنیع ما ذکرنا : أنّ ما اخترناه موافق لما ذهب إلیه المشهور من کون ملاک البطلان هو فوت الموالاة العرفیة، الحاصل من الفصل الطویل، حیث کان الجفاف بحسب النوع والغلبة طریقاً إلی الفوت، کما علیه فی «الجواهر» والسیّد الاصفهانی .

فرع: ثمّ یأتی الکلام فی أنّ التأخیر المستلزم لحصول الفوت هل یعدّ حراماً فقط، حتّی تکون المتابعة واجباً تعبّدیاً.

أو یعدّ مبطلاً من غیر إثم، حتّی یکون وجوبها شرطیاً.

أو لا یندرج فی شیء منهما.

أو کان کلیهما ؟

ولا یخفی علیک أنّ ظهور الأدلّة الأوّلیة هو الإثبات لکلیهما أی الصورة یوجب البطلان الأخیرة، لأنّ ذلک مقتضی تعلّق الأمر بالمرکّب، بحسب فهم العرف، بأنّه یجب تحصیله متتابعاً، بحیث لو أخّر _ سواء کان عن عمد أو غیره _ یوجب البطلان، إلاّ أن یأتی دلیلٌ یدلّ علی إثبات شیء أو نفیه خلاف ما هو مقتضاه .

فعلی هذا، یلزم أن یکون المستفاد من أدلّة الوضوء، وجوب المتابعة تعبّداً،

ص:53

وجوباً شرعیاً شرطیاً، غایة ما فی الباب أنّ مع ملاحظة إلی الخبرین السابقین من صحیح زرارة وموثّقة أبی بصیر، حیث قد حکما بالصحّة إلی حال حصول الجفاف، بل وهکذا الأخبار التی وردت فیمن نسی غَسل عضو أو مسحه حتّی جفّ ماء أعضائه الأصلیة، فحکم بأخذ الماء من الحاجب وأشفار العینین واللحیة، یفهم أنّ التأخیر إلی هذا المقدار فی حال الضرورة لا یکون مبطلاً البتة، وإن أخلّ فی بعض مصادیقه بموالاته عرفاً، کما لو فرض جفاف جمیع الأعضاء إلاّ اللحیة لأنّ مائها یبقی عادة فترة طویلة، لاسیّما إذا کان مسترسل اللحیة .

وأمّا بالنسبة إلی حال العمد فی التأخیر، فقد یمکن استفادة جوازه من الخبرین المزبورین أیضاً لأنّ الحاجة التی قد عرضت، ربما لا تکون ضروریة، إذ اللفظ عرفاً یطلق علی کلّ من الضرورة وغیرها، لاسیّما مع ملاحظة وقوعه فی کلام الإمام علیه السلام فی خبر أبی بصیر، من دون إشارة _ ولو بواسطة القرینة _ کون الحاجة ضروریة، فهذا ممّا یوجب الظنّ القوی للفقیه علی کون المراد هو التعمیم .

بل وهکذا خبر زرارة، من جهة أنّ نفاد الماء فی حال الوضوء، وإن کان ربّما عن غیر توجّه والتفات، إلاّ أنّه یستفاد من طلبه من الجاریة ذلک، من دون أن یذکّره الإمام علیه السلام بأنّه کان یجب علیک أن تسرع بنفسک، یستفاد أنّه لا یکون التأخیر بذلک موجباً للإثم ولا البطلان، لولا الجفاف، فیتصرّف بواسطة تلک الأدلّة، فی مفاد الأدلّة الأوّلیة، الذی کانت ظاهرة فی الوجوب التعبّدی الشرعی والشرطی فی الوضوءات الواجبة، أمّا الوضوءات المستحبّة فهی شرطیة فقط.

نعم ، قد یتوهّم هنا ویستدلّ بالآیة الواردة فی عدم جواز إبطال الأعمال فی قوله تعالی: «وَلاَ تُبْطِلُوا أَعْمَالَکُمْ»(1) بأنّ الإبطال للعمل بصورة العمد یعدّ


1- سورة محمّد: آیة 33.

ص:54

حراماً بمقتضی النهی الظاهر فی الحرمة، فلازمه عدم جواز التأخیر إلی أن یبطل العمل .

هذا، ولکن یمکن أن یجاب عنه أوّلاً : لو سلّمنا دلالتها علی ذلک، لایستفاد منها عدم جواز التأخیر مطلقاً فی حال العمد، بل یثبت تأخیر خاص، وهو الذی یوجب البطلان بفوت الموالاة .

وثانیاً : شمولها للمقام منوطة علی القول بالتعمیم، حتّی تشمل الأعمال المستحبّة والواجبة، لأنّ الوضوء بنفسه مستحبّ إلاّ أن یصیر واجباً لضیق الوقت فلا إشکال فی حرمته حینئذٍ، لأنّ أصل العمل کان واجباً، والقول بالتیمّم یوجب القطع علی خلافه من الشریعة .

وثالثاً : قد اُجیب أنّه یمکن أن یکون مخصوصاً بالصلاة، لکنّه لا یخلو عن وهن لأنّ الآیة السابقة علیها واردة، فمع قضیة الإطاعة، بقوله تعالی : «أَطِیعُوا اللّه َ وَأَطِیعُوا الرَّسُولَ وَلاَ تُبْطِلُوا أَعْمَالَکُمْ»، حیث یفهم الأعمّ من الصلاة من مطلق الواجبات .

ورابعاً : إمکان أن یکون ذلک بالنظر إلی الکفر والارتداد، وحرمة قطع الصلاه یستفاد من دلیل خارجی، وهذا لا یخلو عن قوّة، بملاحظة آیة الإطاعة، أی أطیعوا اللّه والرسول فی تحصیل الإیمان، ولا تبطلوا أعمالکم بواسطة الارتداد والکفر، فتکون الآیة إشارة إلی أنّ من یرتدّ عن دینه فقد حبط عمله .

وکیف کان، لا یمکن الاستناد فی حرمة تفویت الموالاة بمثل هذه الآیة ، فالأقوی عندنا جوازه، حتّی مع العمد، إلاّ إذا کان الوضوء واجباً، فلا إشکال حینئذٍ فی وجوب الموالاة، لأنّ فی تفویتها المستلزم للبطلان موجب لتفویت الواجب المترتّب علیه، فالوجوب حینئذٍ جاء من قبل ذلک الواجب المسمّی بالغایة .

هذا تمام الکلام فی الأدلّة التی استدلّ بها لبیان ما هو اللازم فی الموالاة من عدم حصول الجفاف بحسب النوع الذی جعله الشارع طریقاً إلی فوتها ، وقد

ص:55

ثبتت صحّة دلالتها وتمامیة أسانیدها.

ولکن قد یمکن الاستدلال لذلک، بما لا یخلو عن إشکال إمّا فی سنده أو دلالته أو جهته ، وهو مثل ما هو المروی عن «فقه الرضا» بقوله: «إیّاک أن تبعّض الوضوء، وتابع بینه کما قال اللّه تبارک وتعالی، ابدأ بالوجه، ثمّ بالیدین، ثمّ بالمسح علی الرأس والقدمین، فإن فرغت من بعض وضوئک وانقطع بک الماء من قبل أن تتمّه، ثمّ أوتیت بالماء فاتمم وضوئک، إذا کان ما غسلته رطباً، فإن کان قد جفّ فأعد الوضوء، وإن جفّ بعض وضوئک قبل أن یتمّ الوضوء من غیر أن ینقطع عنک الماء، فامض علی ما بقی جفّ وضوئک أو لم یجفّ»(1) .

فإنّ دلالته علی أنّ المدار فی الصحّة والبطلان، هو حصول الجفاف لما غسلته وعدمه، الظاهر فی الجمیع، بقرینة ظهور قوله: «فإن کان قد جفّ فأعد الوضوء».

کما یدلّ أیضاً أنّ جفاف البعض حال الاشتغال _ بل الکلّ _ غیر مضرّ، لو لم ینقطع الماء الذی یکفی لإدامة الوضوء، یعنی أنّ الجفاف الحاصل من العوارض لا من تفویت الموالاة غیر ضائر، فدلالته حسنٌ إلاّ أنّ الإشکال فی سنده، لکن لا بأس بالتمسّک به تأییداً لما سبق .

وخبر آخر قد نقله الصدوق فی کتابه «مدینة العلم» عن حریز عن الصادق علیه السلام ، وأیضاً عن عبداللّه بن المغیرة عن حریز من دون إسناد إلی الإمام علیه السلام وهو هکذا : «عن حریزٍ فی الوضوء یجفّ؟ قال : قلت : فإن جفّ الأوّل قبل أن أغسل الذی یلیه؟ قال : جفّ أو لم یجفّ اغسل ما بقی ، قلت : وکذلک غسل الجنابة ؟ قال : هو بتلک المنزلة، وابدأ بالرأس، ثمّ أفض علی سائر جسدک ، قلت : وإن کان بعض یوم ؟ قال : نعم»(2) .


1- مستدرک الوسائل: أبواب الوضوء، الباب 29 / ح1.
2- وسائل الشیعة: أبواب الوضوء، الباب 33، الحدیث 4.

ص:56

فإنّه یدلّ علی أنّ الجفاف الحاصل بالعوارض، إذا کانت الموالاة محفوظة، لا یوجب البطلان، حیث نفهم منه أنّه یمکن أن یکون الجفاف الحاصل من التفریق موجب للبطلان لا مطلق الجفاف .

ولکن أورد علیه: بأنّه قد نزّل الوضوء بمنزلة الغُسل، فیلزم أن لا یکون الموالاة فی الوضوء واجبة کما لا تکون واجبة فی الغُسل، خصوصاً مع تصریحه فی ذیله بقوله: «وإن کان فی بعض یوم»، حیث لا یکون ذلک جاریاً فی الوضوء، مع أنّه یمکن أن یکون قد ألحقه بذلک، فلابدّ أن یحمل علی التقیة، کما عن صاحب «الوسائل» احتماله، وتبعه المحقّق الهمدانی1، لأنّ کثیراً من العامّة ذهبوا إلی ذلک .

ولکن الإنصاف دلالة الحدیث علی المسألة، من دون لزوم حمله علی التقیة، لأنّ التنزیل الواقع فی الحدیث للوضوء علی الغُسل، یمکن أن یکون من جهة بیان أنّ الجفاف الحاصل حال العمل بواسطة العوارض غیر ضائر، فهو أمر صحیح قابل للقبول، لا أنّه مثله فی جمیع الجهات، حتّی بالنسبة إلی ما تعرّض إلیه فی ذیله من جواز الفصل ببعض یوم، بل أراد الترقّی وبیان حکم خصوص الغُسل.

فیکون الحدیث من الأدلّة الدالّة أیضاً إن ثبت له مفهوم، وإلاّ فلا ، حیث أنّه یتعرّض لصورة الجفاف حال الاشتغال بواسطة عروض العوارض الخارجیة، وفی الأدلّة السابقة غنی وکفایة بحمد اللّه، والمسألة واضحة .

ثمّ قد ظهر ممّا ذکرناه وحقّقناه أنّ الجفاف الواقع فی الأحادیث ملاکاً للبطلان، یعدّ طریقاً بحسب المتعارف والغلبة علی فوت الموالاة، ولیس فی وجوده بخصوصه خصوصیّة، بل الملاک فی الواقع صحّةً وبطلاناً هو مجرّد فوت الموالاة وعدمه عرفاً ، فمتی ما صدق الفوت فهو مبطل، ولو کانت الرطوبة موجودة فی الأعضاء، من جهة رطوبة الهواء وشدّة برودته، وکثرة مائه، خصوصاً إذا جوّزنا فی التأخیر إلی الجفاف بالنسبة إلی مسترسل اللحیة أیضاً، حیث قد یکون الماء

ص:57

فیه موجوداً لفترة طویلة، مع أنّه لا تردید فی أنّ الفصل بین الوضوء بهذا المقدار مخلّ بالموالاة عرفاً.

وکلّما لا یصدق الفوت، فلا یکون الوضوء باطلاً، وإن حصل الجفاف للأعضاء بعوامل خارجیة من شدّة حرارة الهواء، وقلّة الماء، وحرارة مزاجه، لأنّ التتابع إذا کان حاصلاً فالموالاة العرفیة حاصلة، وإن جفّفت الأعضاء .

فعلی هذا، لا یکون الجفاف الحسّی مطلقاً دلیلاً علی البطلان _ کما علیه صاحب الجواهر والمحقّق الهمدانی وأصرّا علی إثباته _ ولا الجفاف التقدیری مطلقاً دلیلاً علی ذلک، کما قاله بعض مشایخ المحقّق الهمدانی قدس سره ، بل الحقّ هو التفصیل کما مرّت الإشارة إلیه.

ثمّ لا یذهب علیک أنّه بعدما حقّقنا وبیّنا أنّ مقتضی الدلیل الأوّلی من إطلاقات الکتاب والسنّة هو إثبات وجوب المتابعة الفردیة بحدّ المتعارف، ورفعنا الید عن مقتضاه بواسطة الأدلّة الثانویة، من تجویز التأخیر إلی حصول الجفاف الطریقی، فلا تکون حینئذٍ المتابعة الفوریة واجبة ، وأمّا رجحانها بالخصوص، حتّی تکون من المستحبّات فی الوضوء، کان باقیاً فی محلّه.

فیما إذا نذر إتیان الوضوء متوالیاً

فما ذکره الشیخ الأعظم فی کتاب «الطهارة»(1)، بقوله : «فلا إشکال فی رجحان الموالاة، بمعنی المتابعة لرجحان المبادرة والمسارعة إلی الطاعة ، وأمّا رجحانها بمعنی کونها من مستحبّات الوضوء، فلا دلیل علیه، إلاّ الوضوءات البیانیة، بناءاً علی رجحان التأسّی فیما لا یعلم وجهه، خصوصاً أو عموماً، من حیث وقوعه بیاناً لمجمل.

وفی دلالتها علی المدّعی نظرٌ لاحتمال کون المتابعة فیها من باب جریان


1- کتاب الطهارة: ص132.

ص:58

العادة بذلک فی الفعل البیانی فی مقام التعلیم ، مع أنّه لا یثبت إلاّ ما هو المتیقّن من رجحان المتابعة نفساً، لا کونه من مستحبّات الوضوء».

لیس علی ما هو علیه، لأنّه إذا ورد الدلیل فی المرکّبات علی خصوصیّة خاصّة من التوالی والترتیب، بل وقد عملوا فی مقام التعلیم بکیفیّة خاصّة علی ما فی الکتاب، کان ذلک بحسب مقتضی فهم العرف، هو کونه لازماً وواجباً فی العمل، إلاّ أن یعلم من قرینة خارجیة، أو قرینة داخلیة، أنّ عمله یشتمل علی ما هو الواجب والراجح، فیحمل علی الأعمّ، فإذا کان الأمر فی الابتداء کذلک، فلا یکن رفع الید عن هذا الظهور، إلاّ بقدر ما یقتضیه الدلیل الثانوی ویعارضه، وهو لیس إلاّ الوجوب ، وأمّا أصل الرجحان فإنّه باقٍ، ویثبت کونه من المستحبّات الخاصّة لهذا العمل، بل وفی کلّ عمل یکون مثله مرکّباً وصدر له البیان کذلک .

نعم یزید فی صفة الرجحان وکونه مسارعة إلی الطاعة أیضاً .

وکیف کان فقد ثبت الرجحان وکونه حینئذٍ، فلو تعلّق به النذر فی باب الوضوء، کان صحیحاً قطعاً لوجود الرجحان فی متعلّقه، إلاّ أنّ الثمرة بین قولنا وقول الشیخ تظهر هنا، حیث أنّه لو کانت عبارة عن استحباب مستقلّ فی عبادة مثل الوضوء، فلازم التخلّف عند إیجاد التفریق فی الوضوء بما لا یحصل الجفاف، هو تحقّق الحنث للنذر الموجب للکفّارة فقط، فلا طریق إلی القول بأنّ النذر قد تعلّق بالفرد المستحبّ من العبادة، حتّی یمکن أن یدّعی أنّ المستحبّ الغیری صار بالنذر واجباً غیریّاً، فیقدح الإخلال به فی صحّة الوضوء.

هذا، بخلاف ما لو قیل بمقالتنا أنّ لهذا التوهّم طریق، وإن کان أصل التوهّم مخدوش عندنا، فلا بأس بالإشارة إلی حکم المسألة تفصیلاً، حتّی یتّضح الحکم فیه أیضاً .

ولا یخفی أنّ المسألة _ وهی النذر بإتیان الوضوء متوالیاً_ یتصوّر علی وجوه،

ص:59

لأنّه: تارةً: ینذر ذلک فی وضوء من دون أن یذکر له حدّاً بکونه بین الزوال إلی الغروب وأمثال ذلک، ففی هذه الصورة لا إشکال فی أنّ التخلّف فی کلّ وضوء لا یوجب البطلان ولا الکفّارة، بل لازمه بقاء الحکم فی ذمّته إلی أن یأتی بما هو الوظیفة .

واُخری: یقصد مثله، لکن یحدّد له وقتاً معیّناً کأن ینذر بین الطلوعین، فحکمه أیضاً مثل سابقه، إلی أن یضیق الوقت فیصیر له واجباً حینئذٍ ولکن مع ذلک لو تخلّف فی الوضوء الواقع فی آخر الوقت، فإنّه لا یوجب ذلک إلاّ الکفّارة والإثم، ولا یبقی بعده لإتیان النذر الواجب موضوعٌ، لتفویت محلّه، ولا یمکنه التدارک بالنسبة إلی ما قیّده فی نذره .

وأمّا کون عمل الوضوء باطلاً، فلا وجه له، لأنّه یکون مأموراً بالأمر النفسی الأصلی، وکون المأتی به مطابقاً لذلک المأمور به، وإن لم یطابق المأمور به بالأمر النذری ، وإن قلنا بأنّ الأمر بالشیء یقتضی النهی عن ضدّه الخاص، لأنّ غایة مقتضاه النهی عن وقوع الوضوء المنذور، أی لا یکون الوضوء بما أنّه منذور متحقّقاً فی الخارج، فلا یجوز قصد ذلک لعدم وجود المطابقة فیه، وهو لا یوجب النهی عن أصل الوضوء بواسطة الأمر الأصلی النفسی .

لکنّه لا یخلو عن تأمّل لو قلنا بالاقتضاء، کما وافقنا علیه السیّد الاصفهانی، خلافاً للشیخ الأعظم من التصریح بما قلناه أوّلاً، لوضوح أنّ هذا العمل _ وهو الوضوء الفاقد للموالاة _ یکون ضدّاً خاصّاً للوضوء المنذور، فیکون منهیّاً عنه، والنهی فی العبادة مستلزم للبطلان ، ولکن الإشکال فی أصل الاقتضاء .

ومن هنا یظهر حکم الصورة الثالثة، وهی ما لو کان المنذور فی وضوء خاص معیّن خارجاً، بما لا ینطبق علی فرد آخر، بلا فرق بین أن یتعلّق نذره علی الوضوء الذی وقع فیه الموالاة، أو علی التوالی الواقع فی الوضوء، حیث لا توجب المخالفة إلاّ الکفّارة والإثم لا البطلان، لما قد عرفت من عدم القول بالاقتضاء، وکون العمل مطابقاً للمأمور به بالأمر النفسی للوضوء، وهو یکفی فی صحّته.

ص:60

الثالثة: الفرضُ فی الغَسَلات مرّةٌ واحدةٌ ، والثانیة سنّة ، والثالثة بدعة (1).

وهذا هو الذی علیه صاحب «الجواهر» والشیخ الأعظم والمحقّق الهمدانی، خلافاً لآخرین من الفقهاء من المتوقّف فیه کما فی «الذکری»، حیث جعل الصحّة مبنیّةً علی وجهین: من اعتبار حال الفعل، فلا یصحّ لأنّه خالف أمره النذری، أو أصل الفعل فیصحّ لأنّه امتثل أمره .

أو بالتفصیل فی الصحّة والبطلان، فیما لو کان متعلّق نذره هو التتابع، فیصحّ أو الوضوء الواقع فیه التوالی البطلان، کما عن «المدارک» ، أو القول بالبطلان مطلقاً کما عن «جامع المقاصد»، لأنّ ما قصد لم یقع وما وقع لم یقصد، لأنّ المعتبر فی صحّة النذر هو حاله الذی اقتضاه النذر، ولکن قد عرفت ما هو الحقّ فی المسألة من کون الوضوء فی جمیع الصور الثلاثة صحیحاً، فلا یوجب بالتخلّف إلاّ الکفّارة والإثم، لکن فی بعض الصور لا مطلقاً، فراجع وتأمّل، حتّی یظهر لک حال المسألة .

(1) لا إشکال ولا خلاف فی أنّ الواجب هی غسلة واحدة فی الغسلات الثلاث الواجبة التی هی غسل الأعضاء الثلاثة من الوجه والیدین، بل فی المنتهی نسبته إلی علماء الأمصار إلاّ ما نقل عن الأوزاعی وسعید بن مسیّب من التثلیث ، مضافاً إلی أنّ الوحدة هی أقلّ مقدار ما یصدق علیها الغسلة، حتّی یکون مصداقاً لما فی الکتاب والسنّة من وجوب الغَسل فی الوضوء، بقوله تعالی : «فَاغْسِلُوا»، والوضوءات البیانیة التی قد حکی فیها وضوء رسول اللّه صلی الله علیه و آله وأمیر المؤمنین علیه السلام .

فی حکم الغسلة الثانیة فی الوضوء

مع قیام التواتر المعنوی فی أخبارنا، من کون الواجب من الغسل مرّة واحدة، وستسمع بعضها فیما یأتی إن شاء اللّه ، وهو واضح لا بحث فیه .

إنّما البحث والکلام فی الغسلة الثانیة، هل هی مستحبّة أو بدعة ؟

ص:61

ثمّ علی الاستحباب، هل هو استحبابٌ لأفضل الفردین من جهة وجود جامع مشترک حتّی یکون إسباغاً للغسلة الأولی، أو أنّ الاستحباب فرد مستقلّ فی قِبال الأولی ؟

کما أنّ هذه الغسلة الثانیة، لو لم تکن مندوبة، هل هی بدعة وحرام أو تعدّ کُلفة ولکنّها لا تعدّ من البدع، وتکون البدعة حینئذٍ فی الثالثة وهی حرام ؟ وجوهٌ وأقوال : والقول الأوّل: هو القول المشهور، بل نقل الإجماع علیه عن جماعة، کونها سنّة کما فی المتن، وهو خیرة «المقنعة» و«الانتصار» و«التهذیب» و«الاستبصار» و«الخلاف» و«الجمل والعقود» و«الإشارة» و«المراسم» و«السرائر» و«المعتبر» و«النافع» و«المنتهی» و«المختلف» و«القواعد» و«الإرشاد» و«التحریر» و«الذکری» و«اللمعة» وغیرها من کتب المتأخّرین ، بل وعن کتب المتقدِّمین من «المبسوط» و«الغنیة» و«الوسیلة» و«المهذّب» ، بل قد ادّعی الإجماع فی «الغنیة»، أو لا خلاف فیه بین المسلمین فی «الاستبصار» ، بل حَکی الإجماع صاحب «السرائر» و«الانتصار» علیه ، هذا، مع أنّ متأخّری المتأخّرین من صاحب «العروة» وکثیر ممّن علّق علیها، ذهبوا إلی ذلک، کما عن الشیخ الأعظم قدس سره من القول بالاستحباب لا مستقلاًّ، بل إسباغاً للغسلة الأولی، خلافاً لصاحب «الجواهر» والآملی والاصفهانی القائلین بالاستحباب المستقلّ.

هذا کلّه بالنسبة إلی الأقوال فی المسألة .

وأمّا بحسب الروایات التی استدلّ بها علی ذلک، فتدلّ علیه عدّة روایات: منها: صحیحة زرارة، عن أبی عبداللّه علیه السلام ، قال : «الوضوء مثنی مثنی، من زاد لم یؤجر علیه، وحکی لنا وضوء رسول اللّه صلی الله علیه و آله فغسل مرّة واحدة، وذراعیه مرّة واحدة، ومسح رأسه بفضل وضوئه ورجلیه»(1) .


1- وسائل الشیعة: أبواب الوضوء، الباب 31، الحدیث 5.

ص:62

واحتمال کون المراد من قوله: «مثنی مثنی»، الغسلتان والمسحتان، بجعل غسل الیدین واحداً، أو کون المراد الوضوء التجدیدی، أو حمله علی التقیة ، بعیدٌ غایته، لأنّه لم یتوهّم ولم یقل أحدٌ بکون الوضوء أزید من الغسلین والمسحتین، حتّی یکون قوله: «من زاد علیه» ناظراً إلی ردّه ، مضافاً إلی استبعاد فرض وحدة الغسلتین فی الیدین، کما لا قرینة فیه للحمل علی التقیة ، وأمّا حمله علی التجدیدی فإنّه لا یناسب مع ما یدلّ علی جوازه أزید من الاثنین، خصوصاً مع استحبابه لکلّ صلاة، کما سیأتی فی محلّه إن شاء اللّه ، فالأولی حمل الخبر علی ما استدلّ به من تعدّد الغسلة من الغسلات الثلاث .

ومنها: صحیح معاویة بن وهب، قال : «سألت أبا عبداللّه علیه السلام عن الوضوء ؟

فقال : مثنی مثنی»(1) .

منها: صحیح صفوان، عن أبی عبداللّه علیه السلام قال : «الوضوء مثنی مثنی»(2) .

منها: مرسلة أبی جعفر الأحول عن الصادق علیه السلام ، قال : «فرض اللّه الوضوء واحدة واحدة، ووضع رسول اللّه صلی الله علیه و آله للناس اثنتین اثنتین»(3) .

منها: مرسلة عمرو بن أبی المقدام، قال : «حدّثنی من سمع أبا عبداللّه علیه السلام یقول : إنّی لأعجب لمن یرغب أن یتوضّأ اثنتین اثنتین، وقد توضّأ رسول اللّه صلی الله علیه و آله اثنتین اثنتین»(4) .

منها: مفهوم قول الصادق علیه السلام فی خبر عبداللّه بن بکیر، قال : «من لم یستیقن أنّ واحدة من الوضوء تجزیه، لم یؤجر علی الثنتین ، فمن استیقن بالاجزاء


1- وسائل الشیعة: أبواب الوضوء، الباب 31، الحدیث 28.
2- وسائل الشیعة: أبواب الوضوء، الباب 39، الحدیث 29.
3- وسائل الشیعة: أبواب الوضوء، الباب 31، الحدیث 15.
4- وسائل الشیعة: أبواب الوضوء، الباب 31، الحدیث 16.

ص:63

بالوحدة کان مأجوراً علی الاثنتین»(1) .

منها: المصحّح بأحمد بن محمّد بن أبی نصر البزنطی، عن ابن أبی یعفور، عن الصادق علیه السلام فی الوضوء: «قال : اعلم أنّ الفضل فی واحدة، ومن زاد علی اثنتین لم یؤجر»(2) .

منها: خبر یونس بن یعقوب، عن الصادق علیه السلام ، قال : «الوضوء الذی افترضه اللّه علی العباد لمن جاء من الغائط، أو بال، قال : یغسل ذکره ویذهب الغائط ثمّ یتوضّأ مرّتین مرّتین»(3) .

منها: صحیحة زرارة وبکیر أو حسنتهما فی حدیثٍ، عن أبی جعفر علیه السلام : «فقلنا : أصلحک اللّه فالغرفة الواحدة تجزی للوجه وغرفة للذراع ؟ قال : نعم إذا بالغت فیها والثنتان تأتیان علی ذلک کلّه»(4) .

فظهور الحدیث فی کون المراد من قوله: «الثنتان»، هی الغرفتان لکلّ من الوجه والذراع واضح، فما ذکره صاحب «الوسائل» من کون اللام للعهد الذکری، وإشارة إلی الغرفتان بکون الغرفة واحدة للوجه وواحدة للذراع، خال عن الحسن، لأنّه تکرار لما سبق، ولا یحسن فیه، کما لا یخفی .

نعم دلالته علی المطلوب، موقوفة علی کون المراد من کلّ غرفة هی الغسلة، وإلاّ لأمکن الإشکال فی کونهما غسلة واحدة فریضة، من دون کونها سنّة، خصوصاً مع ملاحظة سؤال السائل، حیث یسأل عن حدّ الاجزاء حسبما وردت فی السنّة، وحدّ الفضل، کما لا یخفی .


1- وسائل الشیعة: أبواب الوضوء، الباب 31، الحدیث 4.
2- وسائل الشیعة: أبواب الوضوء، الباب 31، الحدیث 27.
3- وسائل الشیعة: أبواب أحکام الخلوة، الباب 9، الحدیث 5.
4- وسائل الشیعة: أبواب الوضوء، الباب 15، الحدیث 3.

ص:64

منها: وهکذا یدلّ علیه خبران منفصلان منقولان عن بعض أصحابنا، وهما تشتملان علی الإعجاز، فلا بأس بذکرهما تفصیلاً تیمّناً وتبرّکاً ، وهما: خبر حسن بن علی الوشاء ، عن داود بن زربیّ، قال : «سألت أبا عبداللّه علیه السلام عن الوضوء؟ فقال لی : توضّأ ثلاثاً ثلاثاً ، قال : ثمّ قال لی : ألیس تشهد بغداد وعساکرهم ؟ قلت : بلی ، قال : فکنت یوماً أتوضّأ فی دار المهدی، فرآنی بعضهم وأنا لا أعلم به، فقال : کذب من زعم أنّک فلانی وأنت تتوضّأ هذا الوضوء ، قال : فقلت: بهذا واللّه أمرنی»(1) .

حیث یفهم منه أنّ الوضوء تثلیثاً کان موافقاً للعامّة لا التثنیة ، ولکن إثبات الاستحباب للتثنیة هنا مشکل جدّاً، لإمکان القول بکفایة المرّة فقط مثلاً.

هذا بخلاف ما ستسمع من الخبرین وهما : خبر داود الرقی، قال : «دخلت علی أبی عبداللّه علیه السلام ، فقلت له : جُعلت فداک کم عدّة الطهارة ؟ فقال : ما أوجبه اللّه فواحدة، وأضاف إلیها رسول اللّه صلی الله علیه و آله واحدة لضعف الناس، ومن توضّأ ثلاثاً ثلاثاً فلا صلاة له ، أنا معه فی ذا حتّی جاءه داود بن زربی، فسأله عن عدّة الطهارة؟

فقال له : ثلاثاً ثلاثاً، من نقص عنه فلا صلاة له ، قال : فارتعدتْ فرائصی، وکاد أن یدخلنی الشیطان، فأبصر أبو عبداللّه علیه السلام إلیّ، وقد تغیّر لونی، فقال : اسکن یا داود، هذا هو الکفر أو ضرب الأعناق . قال : فخرجنا من عنده، وکان ابن زرّبی إلی جوار بستان أبی جعفر المنصور، وکان قد ألقی إلی أبی جعفر أمر داود بن زربی، وأنّه رافضیٌ یختلف إلی جعفر بن محمّد علیهماالسلام ، فقال أبو جعفر المنصور : إنّی مطّلعٌ إلی طهارته، فإن هو توضّأ وضوء جعفر بن محمّد، فإنّی لأعرف طهارته حقّقت علیه القول وقتلته ، فاطلع وداود یتهیّأ للصلاة من حیث لا یراه، فأسبغ


1- وسائل الشیعة: أبواب الوضوء، الباب 32، الحدیث 1.

ص:65

داود بن زربی الوضوء ثلاثاً ثلاثاً، کما أمره أبو عبداللّه علیه السلام ، فما تمّ وضوئه حتّی بعث إلیه أبو جعفر المنصور فدعاه، قال : فقال داود : فلمّا دخلت علیه رحّب بی، وقال : یا داود قیل فیک شیء باطل، وما أنت کذلک، قد اطلعت علی طهارتک، ولیس طهارتک طهارة الرافضة، فاجعلنی فی حلٍّ، وأمر له بمائة تلف درهم . قال : فقال داود الرقّی : التقیت أنا وداود بن زربی عند أبی عبداللّه علیه السلام ، فقال له داود بن زربیّ : جعلت فداک حقنت دماؤنا فی دار الدُّنیا، ونرجو أن ندخل بمنّک وبرکتک الجنّة . فقال أبو عبداللّه علیه السلام : فعل اللّه ذلک بک وبإخوانک من جمیع المؤمنین . فقال أبو عبداللّه علیه السلام لداود بن زربی حدّث داود الرقی بما مرّ علیکم حتّی تسکن روعته. قال : فحدّثته بالأمر کلّه ، قال : فقال أبو عبداللّه علیه السلام : لهذا أفتیته، لأنّه کان أشرف علی القتل من ید هذا العدوّ ، ثمّ قال : یا داود بن زربی توضّأ مثنی مثنی، ولا تزدنّ علیه، وأنّک إن زدت علیه فلا صلاة لک»(1) .

والآخر هو خبر المفید فی «الإرشاد» عن محمّد بن إسماعیل، عن محمّد بن الفضل: «أنّ علیّ بن یقطین کتب إلی أبی الحسن موسی علیه السلام یسأله عن الوضوء؟ فکتب إلیه أبو الحسن علیه السلام : فهمتُ ما ذکرتَ من الاختلاف فی الوضوء، والذی آمرک به فی ذلک أن تمضمض ثلاثاً، وتستنشق ثلاثاً، وتغسل وجهک ثلاثاً، وتخلّل شعر لحیتک، وتغسل یدیک إلی المرفقین ثلاثاً، وتمسح رأسک کلّه، وتمسح ظاهر اُذنیک وباطنهما، وتغسل رجلیک إلی الکعبین ثلاثاً، ولا تخالف ذلک إلی غیره ، فلمّا وصل الکتاب إلی علیّ بن یقطین تعجّب ممّا رسم له أبو الحسن علیه السلام فیه، ممّا جمیع العصابة علی خلافه، ثمّ قال : مولای اعلمُ بما قال، وأنا أمتثلُ أمره، فکان یعمل فی وضوئه علی هذا الحدّ، ویخالف ما علیه جمیع


1- وسائل الشیعة: أبواب الوضوء، الباب 32، الحدیث 2.

ص:66

الشیعة، امتثالاً لأمر أبی الحسن علیه السلام . وسُعی بعلی بن یقطین إلی الرشید، وقیل : إنّه رافضی. فامتحنه الرشید من حیثُ لا یشعر، فلمّا نظر إلی وضوئه ناداه :کذب یا علیّ بن یقطین من زعم أنّک من الرافضة، وصلحتْ حاله عنده. وورد علیه کتاب أبی الحسن علیه السلام : ابتدأ من الآن یا علی بن یقطین وتوضّأ کما أمرک اللّه تعالی، اغسل وجهک مرّةً فریضة، واُخری إسباغاً، واغسل یدیک من المرفقین کذلک، وامسح بمقدّم رأسک، وظاهر قدمیک من فضل نداوة وضوئک، فقد زال ما کنّا نخاف منه علیک، والسلام»(1) .

فدلالة الخبرین علی التثنیة أوضح من سابقتهما، خصوصاً مع ملاحظة ما قاله الإمام وفاقاً للعامّة ابتداءً ثمّ أمره بخلاف ذلک .

منها: خبر التوقیع الصادر من صاحب العصر (عج) إلی العُریضی، من أولاد الصادق علیه السلام علی ما فی «الجواهر» حیث أمر بغسل الوجه والیدین، ومسح الرأس والرجلین واحد، واثنان إسباغ الوضوء، وإن زاد علی الاثنین أثم(2) .

منها: مرسلة الصدوق فی «المقنع» : «واعلم أنّ الوضوء مرّة، واثنتین یؤجر، وثلاثة بدعة»(3).

منها: وعن العلل لمحمّد بن إبراهیم: «الغرض من الوضوء مرّة واحدة، والمرّتان احتیاط»(4) .

هذه جملة من الأخبار الدالّة علی أنّ الغسلتان هما السُّنة، حیث تدلّ علیها منطوقاً أو مفهوماً، حیث تکون القرائن فی بعضها دالّة وشاهدة علی بطلان بعض


1- وسائل الشیعة: أبواب الوضوء، الباب 32، الحدیث 3.
2- جواهر الکلام: 2 / 269.
3- وسائل الشیعة: أبواب الوضوء، الباب 28، الحدیث 2.
4- مستدرک الوسائل: أبواب الوضوء، الباب 28 / ح1.

ص:67

المحامل، أو ضعفها الذی التزم به بعض الأعلام، وهی کحمل الأخبار الدالّة علی کون الغسلة الثانیة سنّة علی التقیّة، کما عن «المنتقی» ، أو علی أنّ المراد من قوله: «مثنی مثنی» هو التجدیدی، کما عن الصدوق قدس سره .

أو کون المراد من هذه الجملة هی الغرفتین لغسلة واحدة، کما عن المحدّث الکاشانی، فیکون الفضل فی کلّ غسلة عرفتین .

أو کون المراد منها هو الغسلتان والمسحتان، کما قاله الشیعة، لا ثلاث غسلات ومسحة کما زعمها المخالفون، کما عن المحقّق البهائی .

أو أنّ المراد هو استحباب إسباغ الغسلة الأولی بالثانیة، إذا کانت ناقصة، بکونها علی وجه لا یتحقّق بها إلاّ أقلّ مسمّی الغسل المجری، فیستحب حینئذٍ إسباغها بغسلة ثانیة لإکمالها، کما عن «الحدائق» والشیخ الأنصاری قدس سره ، وغیر ذلک من المحامل التی لا تتحمل شیئاً منها أو بعض منها، مجموع الأخبار المتقدّمة، وإن کان بعض المحامل یناسب مع مفاد بعضها، بل تشهد علیه بعض القرائن.

لکنّ الإنصاف أنّ الأحسن هو الذی ذهب إلیه المشهور، من القول باستحباب الغسلة الثانیة، خصوصاً لمن استیقن أنّه یجزیه المرّة الواحدة فی الوضوء، ولم یکن مبتلی بمرض الوسوسة، وإلاّ لا یؤجر علی الغسلة الثانیة، کما فی حدیث عبداللّه بن بکیر(1) ، أمّا من جهة أنّها بزعمه تکون مکمّلاً للغسلة الأولی فلیست ثانیة حتّی یؤجر علیها ، أو کان نوع تهدید لمثل هذا، بأنّه لا یؤجر علی هذه الغسلة، لکونه مبتلی بالوسوسة .

وکیف کان فإنّ القول بالاستحباب الاستقلالی لا التتمیمی للغسلة الأولی _ کما قاله الشیخ الأعظم وصاحب «الحدائق» _ قول قویّ عندنا.


1- وسائل الشیعة: أبواب الوضوء، الباب 31، الحدیث 4.

ص:68

وأمّا المخالف لهذا فإنّه لا یعبأ بقوله من جهة إعراض الأصحاب عن بعضهما، لو لم یکن الجمیع معرضاً عنه ، مع إمکان توجیه کلام بعض من خالفنا، أو رجوعهم عن فتواه فی بعض کتبهم، کما یشاهد ذلک فی کلام الصدوق، حیث أنّه یظهر من کلامه فی «الفقیه» حرمة الثانیة، لأنّه جعلها تجاوزاً عن حدود اللّه، ومن یتعدّ حدود اللّه فقد ظلم نفسه ، إلاّ أنّه لو سلّمنا ذلک، فإنّه قد یُحمل علی جواز الغسلة الثانیة بلا أجر، کما یوهم کلامه فی ذیل هذه الکلمات، کما نقله صاحب «الجواهر» بالتفصیل، وأعرضنا عن نقله خوفاً عن الإطالة .

قلنا : إنّه قد صرّح فی «المقنع» _ کما نقلنا سابقاً _ بکون المرّتین یؤجر علیها، أو یحمل علی الجواز، لا الاستحباب والحرمة، کما عن «الهدایة» للصدوق التصریح بذلک، بقوله : الوضوء مرّة مرّة، ومن توضّأ مرّتین لم یؤجر، ومن توضّأ ثلاثاً فقد أبدع ، حیث أنّه قد عدّ الغسلة الثالثة بدعة، فتکون هذه قرینة علی عدم حرمة الغسلة الثانیة عنده ، غایته عدم الاستحباب.

ومثل هذه التوجیهات وغیرها یمکن ملاحظتها فی کلام البزنطی وغیره کما نسب إلیهما.

ولکن بعد ما قلنا، فلا یبقی مورد لکلام صاحب «الحدائق» من التصریح بالحرمة فی الغسلة الثانیة، وهکذا غیره من بعض الأصحاب، کصاحب «المدارک» و«کشف اللثام» .

هذا تمام الکلام بالنسبة إلی الأقوال .

وأمّا الکلام فی الأخبار التی قد تدلّ علی خلاف ما قلناه، من الاستحباب الاستقلالی فهی: منها: ما رواه محمّد بن أبی عمیر، عن بعض أصحابنا، عن أبی عبداللّه علیه السلام ، قال : «الوضوء واحدة فرض، واثنتان لا یؤجر، والثالث بدعة»(1) .


1- وسائل الشیعة: أبواب الوضوء، الباب 31، الحدیث 3.

ص:69

منها: ما رواه یونس بن عمّار، قال : «سألت أبا عبداللّه علیه السلام عن الوضوء للصلاة ؟ فقال : مرّة مرّة هو»(1) .

منها: ما رواه عبد الکریم یعنی ابن عمرو، قال : «سألت أبا عبداللّه علیه السلام عن الوضوء؟ فقال : ما کان وضوء علیّ علیه السلام إلاّ مرّة مرّة»(2) .

منها: ما رواه حمّاد بن عثمان، قال : «کنت قاعداً عند أبی عبداللّه علیه السلام ، فدعا بماء فملأ به کفّه فعمّ به وجهه، ثمّ ملأ کفّه فعمّ به یده الیمنی، ثمّ ملأ کفّه فعمّ به یده الیسری، ثمّ مسح علی رأسه ورجلیه، وقال : هذا وضوء من لم یحدث حدثاً، یعنی به التعدّی فی الوضوء»(3) .

منها: ما رواه الصدوق مرسلاً، عن الصادق علیه السلام ، قال : «واللّه ما کان وضوء رسول اللّه إلاّ مرّةً مرّةً»(4) .

منها: مرسلة الصدوق الثانیة، قال : «وتوضّأ النبیّ صلی الله علیه و آله مرّة مرّة، فقال : هذا وضوء لا یقبل اللّه الصلاة إلاّ به»(5) .

منها: خبر الصدوق، عن الصادق علیه السلام ، قال : «من توضّأ مرّتین لم یؤجر»(6) .

منها: ما رواه أبی جعفر الأحول مرسلاً، عن الصادق علیه السلام ، قال : «فرض اللّه واحدة واحدة، ووضع رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم للناس اثنتین اثنتین»(7) .


1- وسائل الشیعة: أبواب الوضوء، الباب 31، الحدیث 6.
2- وسائل الشیعة: أبواب الوضوء، الباب 31، الحدیث 7.
3- وسائل الشیعة: أبواب الوضوء، الباب 31، الحدیث 8 .
4- وسائل الشیعة: أبواب الوضوء، الباب 31، الحدیث 10.
5- وسائل الشیعة: أبواب الوضوء، الباب 31، الحدیث 11.
6- وسائل الشیعة: أبواب الوضوء، الباب 31، الحدیث 14.
7- وسائل الشیعة: أبواب الوضوء، الباب 31، الحدیث 15.

ص:70

بناءً علی کونه علی الاستفهام الارتکازی، _ کما قاله الصدوق _ لا الاخباری .

منها: ما رواه الصدوق فی «الخصال» عن معاویة بن قرّة، عن ابن عمر: «أنّ رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم توضّأ مرّة مرّة»(1) .

منها: ما رواه فی «عیون الأخبار»، عن الفضل بن شاذان، عن الرضا علیه السلام : «إنّه کتب إلی المأمون : محض الإسلام شهادة أن لا إله إلاّ اللّه ... إلی أن قال: ثمّ الوضوء کما أمر اللّه فی کتابه، غسل الوجه والیدین إلی المرفقین، ومسح الرأس والرجلین مرّة واحدة»(2) .

منها: ما رواه إبراهیم بن معرض، عن أبی جعفر علیه السلام ، قال : «قلت له : إنّ أهل الکوفة یروون عن علیّ علیه السلام إنّه بال حتّی رغا، ثمّ توضّأ، ثمّ مسح علی نعلیه، ثمّ قال : هذا وضوء من لم یحدث . فقال : نعم، قد فعل ذلک ، قال : قلت : فأیّ حدث أحدث من البول ؟ فقال : إنّما یعنی بذلک التعدّی فی الوضوء، أن یزید علی حدّ الوضوء»(3) .

منها: ما رواه ابن إدریس فی آخر «السرائر» من کتاب «النوادر» لابن البزنطی، عن ابن أبی یعفور، قال : «اعلم أنّ الفضل فی واحدة، ومن زاد علی اثنتین لم یؤجر»(4) .

هذه جملة من الأخبار الدالّة علی کون الغسلة مرّة، والاستحباب فی الثانیة ، فکیف یمکن التوفیق بالجمع بینها وبین الأخبار السابقة الدالّة علی کون الغسلة هی الثانیة ؟

فنقول ومن اللّه الاستعانة: یمکن الجمع بینهما بالقول بأنّ ما یدلّ علی کون


1- وسائل الشیعة: أبواب الوضوء، الباب 31، الحدیث 21.
2- وسائل الشیعة: أبواب الوضوء، الباب 31، الحدیث 22.
3- وسائل الشیعة: أبواب الوضوء، الباب 31، الحدیث 15.
4- وسائل الشیعة: أبواب الوضوء، الباب 31، الحدیث 27.

ص:71

الوضوء مرّة، أو کان وضوء رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم وعلیّ علیه السلام مرّة، یحمل علی کون الفریضة هی هذه، کما یشهد لهذا الجمع وجود بعض الأخبار الدالّة علی کون وضوء رسول اللّه صلی الله علیه و آله مثنی مثنی ، مثل روایة عمرو بن أبی المقدام، قال : «حدّثنی من سمع أبا عبداللّه علیه السلام یقول : إنّی لأعجب ممّن یرغب أن یتوضّأ اثنتین اثنتین، وقد توضّأ رسول اللّه صلی الله علیه و آله اثنتین اثنتین»(1) .

مضافاً إلی إمکان أن یکون إصرارهم علی المرّة، إسناداً إلی رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم وعلیّ علیه السلام هو کون الفریضة هی هذا، فی قبال العامّة، حیث قد جعلوها أثلاثاً، کما قد عرفت أهمّیة ذلک من الخبرین المفصّلین، لا نفی جواز الغسلة الثانیة أو رجحانها .

وما یدلّ علی أنّ هذا الوضوء: (لمن لم یحدث حدثاً)، یعنی به التعدّی فی الوضوء، کما فی خبر حمّاد بن عثمان ، وخبر إبراهیم بن معرض أو: (هذا وضوءٌ لا یقبل اللّه الصلاة إلاّ به) عن الصدوق ، یحمل علی من لم یحدث فیه من جهة أرکانه وواجباته من کیفیّة الغسل والمسح ونفسهما کالعامّة، حیث قد أحدثوا فی کلتا الجهتین، من جعل الغَسَلات الثلاث والمسحة والتصرّف فی کیفیّتهما من التغسیل ثلاثاً من أطراف الأصابع إلی المرفقین، وتبدیل مسح الرجلین إلی غسلهما کما یشیر إلی ذلک ما فی خبر إبراهیم بقوله : «إن یزید علی حدّ الوضوء»، لأنّ إضافة أمر استحبابی فی الوضوء لا یطلق علیه أنّه أضاف فی حدّه عرفاً .

وما یدلّ علی أنّ الزائد علی الاثنین لا یؤجر علیه، مثل خبر ابن أبی عمیر ، وخبر ابن أبی یعفور ، بل فی الثانی: «أنّ الفضل فی الوحدة» ، یحمل علی من یأتی بالثانیة، بعنوان عدم کفایة الواحدة فی الوضوء . أمّا من جهة الوسوسة أو التشکیک فیه، نظراً إلی ما یشاهد من ذهاب العامّة إلی التثلیث، والشاهد لهذا


1- وسائل الشیعة: أبواب الوضوء، الباب 31، الحدیث 16.

ص:72

الجمع هو مفهوم خبر عبداللّه بن بکیر، بقوله : «مَنْ لم یستیقن أنّ واحدة من الوضوء تجزیه لم یؤجر علی اثنتین» .

فبقی لنا تلک الأحادیث التی رخّصت الإتیان بالغسلة الثانیة ، فهی إمّا کونها نهایة الجواز، لا کونها جزء من الوضوء، کما ذهب إلیه صاحب «المدارک»، لکنّه مشکلٌ من لزوم کون المسح بغیر نداوة الوضوء، أی بما لیس جزء له .

أو کون الثانیة إسباعاً للأولی ومکمّلة لها، لا أن تکون بنفسها موجوداً بوجود استقلالی فی قبال الأولی، کما احتمله الشیخ الأعظم، و«الحدائق» والسیّد الاصفهانی بالاحتیاط فی الأخیر، فهو لا یساعد مع قوله علیه السلام فی خبر محمّد بن الفضل من قوله علیه السلام لعلی بن یقطین : «اغسل وجهک مرّة فریضة، واُخری إسباغاً»، حیث أنّ ظهور لفظ المرّة بعد الغسل، کون الغسلة مرّة اُخری المنطبق علیها الإسباغ أیضاً .

نعم، هذا لا ینافی رجحان الإسباغ فی الأولی أیضاً، بحیث کان مستغنیاً حینئذٍ عن الثانیة، کما جاء فی بعض الأخبار، کما فی «الخصال» بأنّ الإسباغ فی الوضوء له أجر .

ولعلّ اکتفاء رسول اللّه صلی الله علیه و آله والأئمّة علیهم السلام بالواحدة، کان من تلک الجهة أی أنّهم یسبغون فی وضوئهم، بخلاف الناس، حیث یُسامحون فیه، خصوصاً فی فصل الشتاء، کما یؤمی إلی ذلک صدر حدیث داود الرّقی.

تنبیهات عدد الغسلات فی الوضوء

بل قد أفتی بذلک _ أی بأنّ الغسلة الثانیة کانت مندوبة لسائر الناس دون الرسول والأئمّة علیهم السلام _ ابن أبی عقیل بملاحظة ذلک الحدیث وأنّ رسول اللّه صلی الله علیه و آله جعلها اثنتین من جهة مراعاة ضعف الناس، وإن کان الالتزام بعدم الرجحان للرسول صلی الله علیه و آله وسلم والأئمّة علیهم السلام لا یناسب مع خبر عمر بن أبی المقدام، حیث کان فیه من التعجّب عمّن یرغب عن الاثنتین، مع أنّ رسول اللّه صلی الله علیه و آله قد توضّأ اثنتین اثنتین .

ص:73

والحاصل : أنّ الأقوی هو قول المشهور، من رجحان الغسلة الثانیة فی الجملة، خصوصاً لمن لم یسبغ فی الغسلة الأولی ، وأمّا فیها فالأحوط _ خصوصاً فی ید الیسری، حتّی لا یکون الماء خارجاً عن الوضوء _ ترک الثانیة، والاحتیاط ندبی لا وجوبی، واللّه العالم .

ثمّ هاهنا اُمور ینبغی التنبیه علیها :

الأمر الأوّل : ظاهر فتوی الأصحاب هو کون الغسلة الاُولی واجبة، والثانیة مستحبّة، ولا یجوّزون عکس ذلک، کما هو الظاهر المتبادر من النصوص ، بل مقتضی الدلیل الأوّلی هو أنّ تحقّق الاُولی واجبةً لترتّب ما یصدق به الامتثال لأنّه یوجد بأوّل ما یتحقّق به صرف الوجود، وکان جواز الثانیة أو استحبابها أو غیر ذلک منوطاً علی دلالة الأدلّة الواردة ثانیةً، وحیث قد عرفت بأنّها لاتدلّ ولا یستفاد، إلاّ کون الثانیة مندوبة .

الأمر الثانی : الظاهر کون استحباب الغسلة الثانیة بعد تمامیّة الأولی فی کلّ غسلة، لأنّه المتبادر من النصوص، مع ما عرفت من أنّ مقتضی دلالة الدلیل هو تکمیل الأولی مصداقاً للأمر، ثمّ ینتقل إلی الثانیة لو قلنا بجوازها .

الأمر الثالث : فقد ظهر ممّا ذکرنا آنفاً، عدم جواز التبعیض فی خصوص کلّ عضو بأن یجعل بعض العضو مغسولاً بالأولی ثمّ بالثانیة استحباباً، ثمّ ببعضه الآخر بالوجوب ثمّ بالاستحباب، لما قد عرفت من أنّ مقتضی لسان الأدلّة والأخبار، وکون المتبادر منها هو هذا .

الأمر الرابع : یجوز التبعیض فی الأعضاء، بأن یجعل بعض الغسلات مرّتین وبعضها مرّة واحدة، لأنّه مقتضی استقلال کلّ غسلة فی الوجوب والاستحباب، ولا یستفاد منها لزوم ارتباط کلّ منها مع الآخر فی ذلک ، بل قد عرفت کون الاحتیاط فی الیسری، هو ترک الثانیة، کما علیه بعضٌ مثل الاصطهاباتی قدس سره فی

ص:74

حاشیته علی «العروة»، خصوصاً لمن کان قصده ترک الثانیة فی الیسری هو ترک الثانیة فی الیمنی أیضاً، دون الوجه حیث لم یتعرّضه .

وکیف کان، یجوز التبعیض بذلک ، وإن کان دعوی وحدة السیاق فی الأخبار فی تعدّد الغسلة فی جمیع الأعضاء _ لولا هذا الاحتیاط _ لا یخلو عن حسن .

الأمر الخامس : لا إشکال فی أنّ تحقّق مصداق الغسل موکول إلی فهم العرف، کما لا إشکال فی تحقّق ذلک لو کان وقع غسلة واحدة من دون تعقّبها بالاُخری، ولو کان غیر قاصد فی غسله، لأنّه قهری، وعرفاً یصدق تحقّقها سواء قصده أم لا، وسواءً کان ذلک بالارتماس فی الماء أو بصبّه علیه، وإنّما الإشکال یقع فیما لو تعاقبت الغسلات بأن مکث لمدّة فی الماء بحیث صدق علیه حصول تعدّد الغسلات، وحینئذٍ فهل یتحقّق تعدّد الغسلة بتعدّد آنات المکث، مع قصد تعدّدها أو بدونه، أم لا یعدّ إلاّ غسلاً واحداً ؟

الظاهر کما علیه صاحب «الجواهر» و«المصباح» للآملی هو الثانی، إذ القصد هنا لا یوجب التفکیک، ولا یکون سبباً للتعدّد.

فی حکم الغسلة الثالثة فی الوضوء

وأمّا فی غیر الارتماس ففی الجواهر بعد نهیه عن الارتماس، قال : «وکذا ما یحصل للإنسان من إمرار الید علی العضو مرّات زائدة علی المقدار الواجب، لکن لعلّ عدم الحکم بالنسبة للأخیر، لکونه غیر مقصود به غسلاً ثانیاً أو ثالثاً، وإلاّ لو قصد حصل، بخلاف آنات المکث فإنّه وإن قصد لم یحصل لعدم الصدق عرفاً» ، انتهی کلامه .

ووافقه فیه الآملی فی «المصباح»، ولا یخلو ذلک عن قوّة، وإن أشکل علیه بعض کالمحقّق الخمینی _ سلّمه اللّه _ بأنّ القصد لا یمکن دخالته فی ذلک ، بل الغسلة أمر عرفی، إذا تعدّد تصیر متعدّداً، حتّی لو کان قاصداً وحدتها لأنّ القصد لا یغیّرها عمّا هی علیها .

ص:75

الأمر السادس : فی أنّ المسح کالغسل فی جواز تکراره، واستحبابه أم لا ؟

والذی یظهر من الفقهاء ، بل قد ادّعی علیه الإجماع أنّه لا تکرار فیه، ولیس حکمه کالغَسل، بلا خلاف عندنا، کما فی «طهارة» الشیخ الأنصاری، أو إجماع علمائنا علیه کما فی «المدارک»، بلا خلاف أجده کما فی «الجواهر»، والإجماع المدّعی منقول عن غیر واحد ک_ «المعتبر» و«المنتهی» و«التحریر» و«التذکرة» و«الخلاف» .

والدلیل علیه _ مضافاً إلی الإجماع _ هو الأصل، ولکن حیث کان المصنّف قد تعرّض لبحثه بعد حکم الغسل ، فالأولی هو إحالة البحث إلی محلّه لئلاّ نخرج عن اسلوب التعلیق علی «الشرائع».

فهذا تمام الکلام فی الغسلتین الواجبة والمندوبة .

والآن نشرع فی حکم الغَسلة الثالثة، فهل هی بدعة محرّمة، أو أنّها تعدّ کلفة زائدة غیر محرّمة؟

والذی ذهب إلیه المشهور هو الحرمة، بل کاد أن یکون إجماعاً، لعدم وجود مخالف إلاّ ما یتوهّم من کلام ابن الجنید، بقوله : الثالثة زیادة غیر محتاج إلیها .

وما عن ابن أبی عقیل أنّه إن تعدّی المرّتین لا یؤجر علیه، حیث لا صراحة فی کلامهما فیه، بخلاف کلام شیخنا المفید فی «المقنعة»، حیث یصرّح بکون الثالثة کلفة، وهو قوله: أو تثلیثه تکلّف، ومن زاد علی ثلاث أبدع، وکان مأزوراً .

ولکن الإنصاف إمکان دعوی عدم مخالفته أیضاً، لعدم استبعاد دعوی الحرمة من لفظتی البدعة والوزر .

وکیف کان القائلین بالحرمة خصوصاً مع اعتقاد المشروعیة کثیرون جدّاً، من المتقدّمین والمتأخّرین والمعاصرین، کما فی «الخلاف» و«السرائر» و«المعتبر» و«النافع» و«المنتهی» و«المختلف» و«التحریر» وظاهر «الهدایة» وصریح «المبسوط» وظاهر «المقنع» أنّها بدعة، ونسبه فی «المختلف» إلی أکثر علمائنا،

ص:76

کما هو مختار «الکافی» و«القواعد» و«الذکری» و«الدروس» و«التنقیح» و«جامع المقاصد» وصاحب «الجواهر» و«العروة» وأصحاب التعالیق علیها کلّهم، والشیخ الأعظم والمحقّق الهمدانی والآملی والاصفهانی، وغیرهم من الفقهاء ، فالمسألة من حیث الأقوال واضحة .

کما أنّها من حیث الأدلّة، قد یقال بوضوحها فی الحرمة ، فالأولی التعرّض إلی أدلّتها، وهی عبارة عن جملة من الأخبار: منها: مرسلة ابن أبی عمیر، عن بعض أصحابنا، عن أبی عبداللّه علیه السلام : «الوضوء واحدة فرض، واثنتان لا یؤجر، والثالث بدعة»(1).

فبضمّ مع ما فی خبر عبد الرحیم القصیر أنّه قال: رسول اللّه صلی الله علیه و آله : «کلّ بدعة ضلالة وکلّ ضلالة فی النار»(2) .

وخبر الفضل بن شاذان(3)، عن الباقر علیه السلام مرفوعاً مثل ذلک .

منها: خبر العریضی السابق، فی قوله : «وإن زاد علی الاثنین أثم» .

منها: خبر داود الرقی قد وقع فی موضعین منه بقوله : «ومن توضّأ ثلاثاً ثلاثاً فلا صلاة له»(4) .

وجاء فی ذیله قوله: «فإنّک إن زدت علیه فلا صلاة لک» .

منها: خبر إبراهیم بن معرض، منه قال : «قلت : فأیّ حدث أحدث من البول ؟ فقال : إنّما یعنی بذلک التعدّی فی الوضوء، أن یزید علی حدّ الوضوء»(5) .


1- وسائل الشیعة: أبواب الوضوء، الباب 31، الحدیث 3.
2- أصول الکافی: کتاب فضل العلم / ح12، الوافی: ص57.
3- أصول الکافی: کتاب فضل العلم / ح8 .
4- وسائل الشیعة: أبواب الوضوء، الباب 32، الحدیث 2.
5- وسائل الشیعة: أبواب الوضوء، الباب 31، الحدیث 25.

ص:77

منها: خبر حمّاد بن عثمان: «هذا وضوء من لم یحدث حدثاً»(1) یعنی به التعدّی فی الوضوء .

منها: خبر السکونی، عن الصادق علیه السلام ، قال : «من تعدّی فی الوضوء کان کناقضه _ بالضاد المعجمة أو بالصاد المهملة _ ولا إشکال فی صدق التعدّی فی الوضوء بإضافة الغسلة الثالثة»(2) .

مضافاً إلی ما ورد فی تعریف البدعة بأنّها عبارة عن إدخال ما لیس من الدِّین فی الدِّین ، والأخبار فی ذلک کثیرة فراجع أخباره فی باب البدع والرأی من الجزء الأوّل من کتاب «الوافی» تجد ما قلناه ، مضافاً إلی جریان الأصل، وهو عدم المشروعیة فی الزیادة عن الثانیة، لأنّه حادثٌ، والأصل عدمه، کما لایخفی ، فحرمة الغسلة الثالثة من مجموع الأخبار، لاسیّما من خبر العریضی من التصریح بالإثم مسلّمة، کما لا خلاف صریح فیها .

فالأولی حینئذٍ أن نبحث أوّلاً عن أن نتعرّض فی أثرها فی أنّ الإتیان بها فی الوضوء موجب للبطلان أم لا ؟

وثانیاً: لو قلنا بالبطلان، فما هو الوجه فی ذلک ؟

فنقول : لا إشکال ولا ریب أنّ الغسلة الثالثة لا تحتسب من الوضوء جزءاً، لا جوازاً ولا ندباً، فإذا کان الأمر کذلک، فیلزم الحکم بالبطلان فی بعض الصور قطعاً، وهو ما إذا کانت فی الید الیسری، لأنّ إیجاد الغسلة الثالثة فیها یوجب کون مائها ماءاً خارجیاً أجنبیّاً، فلا یقع مسح الوضوء بنداوته، إلاّ أنّه موقوف علی ما لو لم نجوّز أخذ الماء والنداوة للوضوء من عضو آخر ، وإلاّ لو جفّ یده الیسری


1- وسائل الشیعة: أبواب الوضوء، الباب 31، الحدیث 8 .
2- وسائل الشیعة: أبواب الوضوء، الباب 31، الحدیث 24.

ص:78

بعد ذلک، وأخذ النداوة من وجهه ومسح بها ، أو قلنا بجواز المسح بالید الیمنی للرأس والرجلین، ولم تکن الغسلة الثالثة متحقّقة فیهما، فلا وجه للبطلان .

نعم ، لو فرضنا تغسیل جمیع الأعضاء الثلاثة بالثلاث، فلا یبقی حینئذٍ نداوة الوضوء وحدها للمسح، فیحصل الاختلاط ، ولکن مع ذلک ذهب المحقّق فی «المعتبر» إلی صحّته فی هذه الصورة أیضاً، زعماً منه أنّ الید لا تنفکّ عن نداوة الوضوء، فیجتزئ بالمسح حینئذٍ.

إلاّ أنّه مشکل جدّاً، لأنّ المتبادر من الأدلّة هو لزوم کون المسح بالنداوة الخالصة .

وکیف کان، الحکم بالبطلان من تلک الجهة موقوف علی ما لو کانت الأعضاء مغسولة ثلاثاً کلّها، حتّی لا یبقی للمسح نداوة .

وأمّا لو لم تکن الغسلة الثالثة للیسری، بل وقعت فی الیمنی وحدها، أو هی مع الوجه، فلا وجه للحکم بالبطلان ، إلاّ ما ربما یتوهّم هاهنا حیث لا یکون بعضه خالیاً عن الإشکال، وهو کونه مستلزماً لفوت الموالاة الواجبة فی الوضوء، فیکون فعل الغسل فی الثالثة حراماً، والحرمة والنهی فی العبادات توجب الفساد .

لکنّه مخدوش أوّلاً : بما قد عرفت منّا سابقاً، من عدم وجوب المتابعة الفوریة، وعدم إحراز فوتها ما لم تحصل فوت الموالاة عرفاً .

وثانیاً : عدم حصول فوت الموالاة العرفیة بذلک العمل .

وثالثاً : لو کان کذلک، فمقتضاه وجوب ترک فوت الموالاة، وهذا لا یقتضی کون الفعل _ وهو الغسل _ حراماً، إلاّ علی القول باقتضاء النهی عن ضدّه، وهو أوّل الکلام ، فإثبات الحرمة للثالثة من هذا الطریق مشکل جدّاً ، بل قد یقال : باستحالة إمکان إثبات الحرمة من النهی الواردة فی الأدلّة، عن الإتیان بالغسلة الثالثة، لإمکان أن یکون النهی من جهة إیجاب الشرطی للعمل، لا الإیجاب التعبّدی الشرعی، حتّی یترتّب علیه الحرمة، کما یقع کثیراً مثل ذلک فی

ص:79

المعاملات، کقوله : لا تبع ما لیس عندک ؛ ولا تبع النجاسة ونظائرها .

ولکن الإنصاف عدم تمامیة ما قیل، لأنّه ربّما یکون فی بعض الأدلّة صراحة فی کون النهی هنا بمعنی الحرمة، مثل ما ورد فی خبر العریضی، من قوله : «من زاد علی الاثنین فقد أثم» ، حیثُ أنّ الإثم صریح فی کونه معصیة وحراماً .

نعم ، یمکن أن یکون وجه الحرمة هو من جهة التشریع المحرّم، فلعلّه کان وجه البطلان أیضاً من تلک الناحیة، لکنّه موقوف علی کون المکلّف الآتی بالثالثة کان معتقداً لذلک، أی أتی بها بقصد التشریع والإدخال فی الدِّین ما لیس منه .

وأمّا لو لم یأت کذلک، بل أتی بها جهلاً بالمسألة، أو سهواً من جهة الغفلة عن کون الثالثة محرّمة مثلاً، فأتی بها بتخیّل أنّها کانت من الوضوء، أو للنسیان والسهو فی العدد، فأتی بها بظنّ أنّها ثانیة، مع کونها ثالثة فی الواقع، فإثبات الحرمة فی هذه الفروض من جهة التشریع مشکل، حتّی یثبت بذلک البطلان ، مع أنّه لو سلّمنا الحرمة من جهة التشریع فیما یکن فیه ذلک، ولکن إذا کان اعتقاده بذلک حراماً، أمّا إذا اعتقد کونها ندبیة _ لا أن یکون فعلها محرّمة حتّی یوجب البطلان _ ، فإنّه لایوجب الحرمة هذا کما فی «الجواهر» نقلاً عن بعض .

لکنّه مخدوش، بأنّ التشریع المحرّم لیس فی خصوص الاعتقاد من دون انضمام فعل معه ، بل یکون الفعل محرّماً لأنّه مظهر للتشریع، ومصداقاً للإدخال فی الدِّین ما لیس منه .

نعم لا یکون مجرّد الفعل بلا اعتقاد کذلک أیضاً، فیکون التشریع المحرّم هو الفعل مع الاعتقاد .

ولکن الإنصاف أن یقال : إنّ الظاهر من بعض الأخبار أنّ الإتیان بالغسلة الثالثة، یعدّ من قبیل الإتیان بالتأمین والتکتّف فی الصلاة، حیث أنّ العمل بنفسه مستنکر ومنهیٌّ عنه وذلک من باب الردّ وإنکاراً لعمل العامّة، لا أن تکون

ص:80

حرمتهما من جهة التشریع فقط، وإن کان هذا العنوان منطبقاً علیه أیضاً، کما یظهر ذلک من لفظ البدعة الموجود فی مرسلة ابن أبی عمیر.

والشاهد علی ما ذکرنا هو ملاحظة لسان بعض الأدلّة، مثل خبر العریضی بقوله : «من زاد علی الاثنین فقد أثم» ، أی کان العمل حراماً، لا بما أنّه تشریع، فإذا کان العمل بذاته حراماً وواقعاً فی الوضوء العبادی، فلا یبعد القول ببطلانه أیضاً، لأنّه لیس من قبیل النظر إلی الأجنبیة فی الصلاة، حیث یکون أمراً حراماً خارجاً عنها واقعاً فی الصلاة، حتّی لا یوجب البطلان ، بل یکون من قبیل النهی عن قراءة العزائم فی الصلاة، حیث أنّ القراءة جزء منها، فلو أتی بها مع النهی عنها کان مبطلاً لها، فیکون المقام حینئذٍ کذلک، لأنّه نهی عن الغسلة الثالثة من جهة أنّ الإتیان بالثالثة مستلزم للحرمة التکلیفیّة والوضعیّة، وهو الفساد، کما قطع بذلک فی «المدارک»، بخلاف «إشارة السبق» وأبی الصلاح من القول بالفساد مطلقاً، کما یرشد ویؤیّد ذلک ما فی خبر داود الرقی، من قوله : «من توضّأ ثلاثاً ثلاثاً لا صلاة له» فإنّ تکرار ذلک فیه یفید البطلان ، کما أنّ ظاهره الإطلاق لجمیع الأعضاء، أی سواء أتی بالثالثة فی الجمیع أو فی بعضها، کان حکمه ما عرفت .

نعم، لولا القول بالحرمة عن بعض بصورة الإطلاق، ودلالة خبر العریضی علی الإثم الظاهر فی الحرمة الذاتیة، کان بالإمکان المناقشة فیه من أنّ جهة الإتیان بالثالثة الموجبة للبطلان لا یکون أشدّ من إبطال الوضوء بأمر آخر، حیث لا یکون فعله حراماً، فإذا جوّزنا إبطال الوضوء عمداً وعن قصد فی سعة الوقت، فلا حرمة فی ذلک، وحینئذٍ فلا فرق فی ذلک بین إبطاله بالحدث الاختیاری أو بإتیان ما یوجب بطلانه شرعاً کالثالثة، وإن کان حرمته من جهة التشریع محفوظاً فی محلّه .

وأمّا الالتزام بکون الفاعل لذلک مرتکباً لإثمین، أحدهما التشریع ، والآخر

ص:81

لحرمتها الذاتیة ، ففی غایة الإشکال کما لا یخفی، فیحمل مثل خبر العریضی علی الإثم الحاصل من التشریع، کما یؤیّده لفظ البدعة فی مرسلة ابن أبی عمیر لا لذاته، واللّه العالم .

فظهر من جمیع ما ذکرنا أنّ الحرمة ثابتة فیما إذا صدق التشریع، کما قد نری ذلک من أوّل الوضوء أی إتیانه علی الغسلات الثلاث فی جمیع الأعضاء أو بعضها، فالحکم بالبطلان هاهنا واضح، لعدم وجود قصد القربة والأمر المتعلّق علیه .

وأمّا لو لم یکن کذلک من أوّل الأمر ، بل قصد الأمر الواقعی والقربة من أوّل الوضوء وحصل قصد التشریع فی الأثناء ، ففی «الجواهر»: أنّه محکوم بالصحّة.

لکنّه مشکل لو أضرّ هذا القصد بنیّة القربة والوضوء الواقعی .

نعم لو لم یضرّ بأصل قصده، وکان هذا المنهیّ عنه أمراً خارجیاً عنه لا ذاتیاً کما احتملناه، فللحکم بالصحّة وجه .

کما لا إشکال فی الصحّة فیما إذا قصد الوضوء الواقعی، إلاّ أنّه یزعم أنّه یکون بالغسلات الثلاث، لتمامیة أرکان صحّة الوضوء من قصد القربة والأمر وعدم تحقّق تشریع حرام.

إلاّ أن یفرض الإشکال من جهة تقصیره فی الجهل الموجب لکون عمله تشریعاً واقعاً، وإن لم یعلم ، إلاّ أنّه لا عذر له فی ذلک لتقصیره، فلازمه بطلان العمل حینئذٍ.

ولکنّه لا یخلو عن تأمّل، لأنّ ظهور أدلّة التشریع هو إدخال ما لیس من الدِّین فی الدِّین عن عمدٍ وقصد، فلا یشمل مثل المفروض کما لا یخفی .

ثمّ اعلم أنّ صاحبی «المنتهی» و«المدارک» حکماً بالفرق بین ما نحن فیه من الإتیان بالثانیة بما أنّها جزء للوضوء من الحکم بالبطلان، وبین ما إذا أتی بالمرّتین، زعماً بأنّ الأولی مندوبة والثانیة واجبة، حیث حکما بالصحّة هنا وإن

ص:82

مسح بمائها، واستدلاّ علی ذلک بعدم خروجه عن ماء الوضوء بذلک، خلافاً للشیخ الأنصاری قدس سره حیث قد تردّد فی صحّته ، ولکن فی «الجواهر» استشکل فیه، وفاقاً للعلاّمة فی «التذکرة»، حیث قال : «لو اعتقد وجوب المرّتین أبدع وأبطل وضوئه، لأنّ المسح کان بغیر ماء الوضوء لعدم مشروعیّته علی إشکال» ، انتهی . فذکر فیه وجه الفرق بأنّه لعلّه کان من جهة أنّ نیّة الوجوب فی مقام الندب مع تشخّص الفعل غیر قادحة کالعکس.

لکن اللازم من ذلک حینئذٍ عدم سقوط الأجر علیها، مع تصریحهم بسقوطه، ولعلّه من جهة دلالة قوله علیه السلام : «من لم یستیقن أنّ واحدة من الوضوء تجزیه لم یؤجر علی اثنتین».

وربما تخرّج هذه الروایة دلیلاً علی وجوب نیّة الوجه، إلاّ أنّ اللازم من العمل بهذه الروایة فی خصوص المقام، هو ما قاله فی «التذکرة»، فالجمع حینئذٍ بین القول بکون مائها ماء وضوء مع عدم الأجر عنها لمکان هذه الروایة، ممّا لا یخلو عن إشکال، سیّما مع البناء علی اشتراط نیّة الوجه ، انتهی کلامه .

ولکن الإنصاف أن یقال : إنّ الحکم فی هذا متفاوت، لأنّه: تارةً: کان من قصده الإتیان بالأمر الواقعی للوضوء، ولکن أخطأ فی تشخیصه، وزعم أنّ الأولی واجبة والثانیة مندوبة، أو کلتیهما مندوبة، أو کلتیهما واجبة ، فالظاهر هو الصحّة، وکون المسح بماء الوضوء أیضاً ولا وجه للبطلان حینئذٍ، إلاّ أن یقال بوجوب نیّة الوجه من الوجوب والندب، حتّی فی أعضاء الوضوء وشرائطها تفصیلاً، سواء استفید ذلک من هذا الخبر المنقول عن عبد اللّه بن بکیر(1) من لزوم الیقین بکفایة الواحدة فی الأجر أو بغیرها، کما قیل فی محلّه، وهو غیر معلوم، لو لم نقل خلافه معلوم، لعدم وجوب قصد الوجه فی أصل الوضوء، فضلاً عن أعضائه وأجزائه .


1- وسائل الشیعة: أبواب الوضوء، الباب 31، الحدیث 4.

ص:83

لیس فی المسح تکرار (1).

واُخری : یأتی کذلک مع علمه بخلافه، بأن کان بصدد إدخال شیء فی الدِّین ولو من جهة نیّة الوجوب والندب، فالحکم بالبطلان حینئذٍ مبنیّ علی أنّ جعل الغسلة الأولی ثانیة من حیث الوجوب والندب، هل یکون أمراً قصدیاً وبید الناوی، أو کان قهریّاً؟

فلو کان من قبیل القسم الثانی، فقصده بأنّها واجبة أو مندوبة فی الأولی والثانیة غیر مؤثّر، لأنّ ما یقع أوّلاً تصیر واجبة قهراً، والثانیة مندوبة، وإن نوی الخلاف، ولعلّه لذلک حکم «المدارک» و«المنتهی» بالصحّة فی هذا الفرض، فکأنّه غیر قادر علی التشریع فی مثل ذلک.

ولا یبعد القول بذلک، کما ذهبنا إلیه، وإن کان الأحوط عدم الاکتفاء بمثل ذلک الوضوء، خروجاً عن خلاف من عرفت، وعن شبهة إمکان تحقّق التشریع فی مثله أیضاً ، واللّه العالم .

(1) الظاهر أنّه لا خلاف فیه لا وجوباً ولا استحباباً، کما هو مذهب الأصحاب علی ما فی «المعتبر» ومذهب علمائنا أجمع کما فی «المنتهی» و«التحریر» و«المدارک».

فی حکم تکرار المسح فی الوضوء

وعن «التذکرة»: بل فی «الخلاف»: تکرار مسح الرأس بدعة، مدّعیاً علیه إجماع الفرقة ، وفی «السرائر»: لا تکرار فی مسح العضوین، فمن کرّر کان مبدعاً ، وعن ابن حمزة أنّه من التروک الواجبة، وعلیه فتوی المتأخّرین من المعاصرین والسابقین علیهم، کما عن «العروة» وأصحاب التعالیق، بل ولم نجد خلاف ذلک عن أحد، وهو کذلک إذا کان التکرار بقصد المشروعیة، وإلاّ لما کان لاحتمال الحرمة أو الکراهة أو البطلان فیه وجهاً، کما لو کرّر للیقین بالبراءة بإتیانه صحیحاً .

ص:84

نعم، هل یکون التکرار حراماً أو مکروهاً؟

یستفاد من البعض الحرمة، کما یُفهم ذلک من ابن حمزة، ویُشعر علیه لفظ البدعة الموجود فی کلام الشیخ والعلاّمة الحلّی، خلافاً «للدورس» و«البیان» أنّه مکروه ، وفی «الحدائق» نسبته إلی الشهرة بین الأصحاب . وفی «الجواهر» أنّه لم أعثر علی دلیل خاصّ یدلّ علیه ، ولکن یمکن الذهاب إلی الکراهة، بواسطة فتوی من عرفت، خروجاً عن شبهة التحریم، الذی یقول به بعض بالإطلاق ، بل فی «شرح الدروس»: انّه لا بأس بالقول بالکراهة، للشهرة بین الأصحاب، بل الإجماع ظاهراً ، انتهی کلامه .

بل فی «الخلاف»: أنّه روی أبو بصیر عن أبی عبداللّه علیه السلام : «فی مسح الرأس والقدمین واحدة»، ولکن الموجود فی النسخ عندنا هکذا: «فی مسح القدمین ومسح الرأس؟ فقال : مسح الرأس واحدة من مقدم الرأس ومؤخّره، ومسح القدمین ظاهرهما وباطنهما»(1) ، المحمول علی التقیّة کما تری شواهده فیها .

وکیف کان، یمکن أن یُستدلّ علی کفایة المرّة _ مضافاً إلی ما عرفت من الإجماع بکلا قسمیه _ إطلاقات الکتاب والسنّة، حیث یصدق الامتثال بالمرّة، وجواز تکراره استناداً إلی الشرع بحاجة إلی دلیل .

مع إمکان استفادة ذلک من حدیث نقله العیّاشی فی «تفسیره» نقلاً عن علیّ بن أبی حمزة، فی حدیثٍ عن أبی إبراهیم: «قلت : جعلت فداک کیف یتوضّأ ؟ قال : مرّتین مرّتین ، قلت : کذا یمسح ؟ قال : مرّةً مرّةً، قلت : من الماء مرّة ؟ قال : نعم ، قلت : جعلت فداک فالقدمین ؟ قال : اغسلهما غسلاً»(2) .


1- وسائل الشیعة: أبواب الوضوء، الباب 23، الحدیث 7.
2- مستدرک الوسائل: أبواب أحکام الوضوء، الباب 28 / ح4.

ص:85

فإنّه وإن کان مشتملاً علی ما یفهم منه التقیّة، إلاّ انّه لا یضرّ بالمقصود للمسح، مع إمکان احتمال أن یکون السؤال عن جواز غسل القدمین قبل الوضوء، فأجازه، وإن کان بعیداً جدّاً للزوم الإشارة إلی تجفیفه قبل المسح .

وحدیث زید بن علی، عن آبائه عن علیّ علیه السلام ، قال : «جلست أتوضّأ فأقبل رسول اللّه صلی الله علیه و آله حین ابتدأت فی الوضوء، فقال لی : تمضمض واستنشق واستنّ، ثمّ غسلتُ وجهی ثلاثاً، فقال : یجزیک من ذلک المرّتان. قال : فغسلت ذراعی، ومسحت رأسی مرّتین. فقال : قد یجزیک من ذلک المرّة، وغسلت قدمی ، قال : فقال لی : یا علیّ، خلّل بین الأصابع، لا تخلّل بالنار»(1) .

وهو أیضاً محمول علی التقیّة .

وخبر «عیون أخبار الرضا»، عن الفضل بن شاذان، عنه علیه السلام : «أنّه کتب إلی المأمون : محض الإسلام... إلی أن قال : ثمّ الوضوء کما أمر اللّه فی کتابه، غسل الوجه والیدین إلی المرفقین، ومسح الرأس والقدمین مرّة واحدة» (2). حیث أنّ رجوع القید إلی المسح یکون هو القدر المتیقّن، لو لم نقل برجوعه إلی جمیع ما تقدّم .

فمع وجود هذه الأخبار والأقوال، لا محیص إلاّ أن یحمل ما یوهم جواز التکرار أو رجحانه إلی المرّتین، ممّا یدلّ بأنّ الوضوء مثنی مثنی، أو الوضوء فرضه واحدة، ووضع رسول اللّه صلی الله علیه و آله اثنین اثنین، وأمثال ذلک علی الغسلات فقط دون المسح، کما هو المنصرف إلیه عند العرف، من کون الوضوء هو الغسل لا المسح، کما یساعده کلمة الوضوء لغةً أیضاً .

ویحمل ما فی خبر یونس، بقوله : «أخبرنی من رأی أبا الحسن علیه السلام بمنی


1- وسائل الشیعة: أبواب الوضوء، الباب 25، الحدیث 15.
2- وسائل الشیعة: أبواب الوضوء، الباب 31، الحدیث 22.

ص:86

یمسح ظهر قدمیه من أعلی القدم إلی الکعب ومن الکعب، إلی أعلی القدم»(1).

إلی کونه فی الوضوئین، أو لتحصیل الاحتیاط من الاستیعاب الطولی، کما یرشد إلی الحمل الأوّل ذیله، بقوله: الأمرُ فی مسح القدمین موسّعٌ من شاء مسح مقبلاً، ومن شاء مسح مدبراً، فإنّه من الأمر الموسّع إن شاء اللّه» .

وکیف کان، یمکن الاستئناس لذلک من القرائن المحفوفة ببعض الأخبار مثل خبر داود الرقی، وعلی بن یقطین، حیث جعل الأصل فیهما هو الغسل، بقوله : «اغسل وجهک مرّة فریضة . واُخری إسباغاً، واغسل یدیک إلی المرفقین کذلک، وامسح رأسک وقدمیک بنداوة وضوئک».

حیث أنّ الإسباغ یناسب مع صبّ الماء والغسل دون المسح.

أو ممّا ورد فی حدیث داود بأنّ رسول اللّه صلی الله علیه و آله أضاف اثنتین لضعف الناس، فإنّ ما یتساهل فیه الإنسان الضعیف عادة وبحسب الغالب هو الغسل لا المسح، لبرودة الهواء وصعوبة الغسل للناس، بخلاف المسح، فمع ملاحظة جمیع ذلک، وانضمام بعضها مع بعض، یطمئن الفقیه بأنّ المراد من النهی عن التکرار یختصّ بالمسح لا الغسل .

ثمّ لو تکرّر المسح، فهل یوجب بطلان الوضوء أم لا ؟ فقد ادّعی «المدارک» الإجماع علی عدم بطلانه، بل لا خلاف فیه کما فی «السرائر».

إلاّ أنّ المستفاد عن صاحب «الجواهر» والشیخ الأعظم والسید الاصفهانی والمحقّق الهمدانی، هو التفصیل بین ما لو نوی التکرار من أوّل الأمر فیبطل، وإلاّ فیصحّ ، بل المستفاد من الشیخ وغیره هو تفصیل آخر، وهو أنّ التکرار فی الأثناء صحّته مشروطة بما لا یلزم اختلاط نداوة الممسوح فی ماء الماسح فی مثل الرأس، لئلاّ یضرّ بمسح ماء الوضوء للرجل الیمنی ، هذا بحسب نقل الأقوال .


1- وسائل الشیعة: أبواب الوضوء، الباب 20، الحدیث 3.

ص:87

الرابعة: یجزی فی الغَسل ما یسمّی به غاسلاً، وإن کان مثل الدهن (1).

ولکن الأقوی عندنا _ کما عرفت فی الغسل _ هو الصحّة فی جمیع الصور، حتّی فیما لو قصد منذ البدایة نیّة تکرار المسح، لما قد عرفت من أنّه لو کان علی نحو الخطأ فی التطبیق، وکان آتیاً بقصد القربة فلا إشکال فیه ، وإنْ کان بقصد التشریع.

فلا یبعد القول بأنّ ما یقع صحیحاً وواجباً، یکون هو الأوّل، والآخر زائد لا یدخل فی الوضوء وحیث یعدّ شیئاً خارجاً عنه، ولا یجعل الماء ماءً خارجیاً، لأنّ حسب فهم العرف تکون النداوة الموجودة رطوبة الوضوء، ولا یصدق عرفاً أنّه مسح بنداوة خارجیة للرجل، فلا وجه للحکم بالبطلان، إلاّ من جهة أن یفرض الإخلال بقصد قربته فی الوضوء، وهو لا یخلو عن تأمّل، کما لا یخلو التفصیل الذی ذکره الشیخ وبعض آخر، من عدم کون ماء الممسوح علی نحو یوجب الاختلاط عن تأمّل إذ قد عرفت صدق کون الرطوبة هی نداوة الوضوء عند العرف، ولعلّ لمثل هذه الاُمور لم ینقل البطلان عن أحد من الفقهاء، بل قد عرفت دعوی الإجماع علی صحّته .

ما یجزی فی غسلات الوضوء

وکیف کان، الأحوط عدم الاکتفاء مع التکرار، إذا کان قاصداً لذلک تشریعاً، لاسیما إذا کانت نداوة الممسوح زائدة، خروجاً عن شبهة خلاف من عرفت من الفحول ، واللّه العالم بحقیقة الحال .

(1) لا یخفی أنّ المشهور علی اعتبار انصباب الماء بحیث یصدق مفهوم الغسل عرفاً، بل وکذلک لغةً، علی ما ادّعاه بعض ، بل عن الشهید الثانی أنّه المعروف بین الفقهاء، بل عن المجلسی قدس سره فی «حاشیة التهذیب» نسبة الاتفاق إلی ظاهر الأصحاب ، وعن «کاشف اللثام» أنّه کذلک فی العرف واللغة، ونحوه الحلّی فی «السرائر» ، بل فی «التنقیح» تحدید أقلّ الغسل، کأن یجری جزء من

ص:88

الماء علی جزئین من البشرة، إمّا بنفسه أو من یأمره بذلک کما عن المحقّق الثانی، والشهید الثانی مثله .

ما یجزی فی غسلات الوضوء

ولکن فی «المدارک» فی دلالة العرف علی لزوم الجریان فی الغسل نظرٌ، کما استشکل صاحب «الحدائق» والحکیم، بل نقل صاحب «الحدائق» عن بعض تحقیقات الشهید الثانی ما هو کلامه أنّ ذلک غیر مفهوم فی کلام أهل اللغة، لعدم تصریحهم باشتراط جریان الماء فی تحقّقه، وأنّ العرف دالّ علی ما هو أعمّ، إلاّ أنّه المعروف من الفقهاء _ سیما المتأخّرین _ والمصرّح به فی عباراتهم ، انتهی کلامه .

بل کثیر من متأخّری المتأخّرین، من السیّد فی «العروة» وأصحاب التعالیق علیها، أنّه یکون إجراء الماء واجباً فی الغسل، أی یصدق الغسل بأحد من الأمرین: من إجراء الماء علی العضو بنفسه أو بمعونة شیء.

أو الإتیان باستیلاء الماء علیه _ وإن لم تجر علیه _ لکن بشرط صدق الغسل .

ولکن صاحب «الجواهر» والشیخ الأعظم والمحقّق الهمدانی والآملی والسیّد الاصفهانی یعتبرون الجریان فی مفهوم الغسل عرفاً ، بل کان کذلک لغةً، کما أشار إلیه بعضهم، خلافاً لبعض المتأخّرین، الذی لعلّ مراده صاحب «الحدائق» الذی یقول بلزوم الجریان، لکن من جهة دلالة بعض الأخبار، لا لاعتباره فی صدق مفهوم الغسل .

والأقوی عندنا، هو اعتبار الجریان فی الغَسل، حتّی فی مثل الاستیلاء والغمس أیضاً، لأنّ هذا الوصف أخذ علی نحو الأعم من کونه حاصلاً بواسطة الید، أو کان وصفاً ذاتیاً.

فعلی هذا لا إشکال فی وجود أحد الأمرین فی مثل الغمس بأن یغمس یده فی الماء، أو یحیط الماء المساوق للجریان علی یده ، وفی مقابل ذلک یکون المسح بالرطوبة والنداوة، والظاهر أنّه مفهوم فی قبال مفهوم الغسل، وإن کان قد

ص:89

یجتمع مع الغسل أیضاً، بأن تکون الرطوبة کثیرة مستلزمة لجریانها، الموجب لصدق الغسل أیضاً .

وکیف کان لابدّ أن یعلم أنّ منشأ هذا الاختلاف، وجود بعض الأخبار الدالّة علی کفایة الغسل فی الوضوء، ولو کان بمثل التدهین ، فالأخبار الواردة هنا تکون علی أنحاء مختلفة .

منها طائفة: تدلّ علی لزوم الجریان فی غسل الوضوء، أو الغَسل، وهو مثل حسنة زرارة الذی رواها إبراهیم بن هاشم عن أبی جعفر علیه السلام ، قال : «الجنب ما جری علیه الماء من جسده قلیله وکثیره فقد أجزأه»(1) .

وما رواه أیضاً فی الصحیح عنه علیه السلام ، قال : «قلت له : أرأیت ما أحاط به الشعر ؟

فقال : کلّ ما أحاط به من الشعر، فلیس للعباد أن یطلبوه، ولا یبحثوا عنه، ولکن یجری علیه الماء»(2) .

ومثله خبره الآخر(3) ، بل قد یمکن استفادة ذلک من الأخبار الواردة فی غُسل الجنابة، بناءً علی وحدة الوضوء مع الغُسل فی ذلک، وهو کما رواه محمّد بن مسلم فی الصحیح عن أحدهما علیهماالسلام ، قال : «سألته عن غُسل الجنابة... إلی أن قال : ثمّ تصبّ علی سائر جسدک مرّتین فما جری علیه الماء فقد طهر»(4) .

ومثله خبره الآخر وهو مضمرة ابن هاشم، قال : «قلت : کیف یغتسل الجنب... إلی أن قال : ثمّ صبّ علی منکبه الأیمن مرّتین وعلی منکبه الأیسر مرّتین، فما


1- وسائل الشیعة: أبواب الجنابة، الباب 31، الحدیث 3.
2- وسائل الشیعة: أبواب الوضوء، الباب 46، الحدیث 3.
3- وسائل الشیعة: أبواب الوضوء، الباب 46، الحدیث 2.
4- وسائل الشیعة: أبواب الجنابة، الباب 26، الحدیث 1.

ص:90

جری علیه الماء فقد أجزأه»(1) .

ومرسل محمّد بن أبی حمزة، عن رجلٍ، عن أبی عبداللّه علیه السلام : «فی رجل أصابته جنابة، فقام فی المطر، حتّی سال علی جسده، أیجزیه ذلک من الغسل ؟ قال : نعم»(2) .

وغیر ذلک ممّا یدلّ علیه تصریحاً أو تلویحاً .

ومنها طائفة أخری: تدلّ علی کفایة مثل الدهن فی الوضوء والغَسل، وهو مثل ما رواه فی صحیح زرارة ومحمّد بن مسلم، عن أبی جعفر علیه السلام ، قال : «إنّما الوضوء حدّ من حدود اللّه، لیعلم اللّه من یطیعه ومن یعصیه، وأنّ المؤمن لا ینجّسه شیء إنّما یکفیه مثل الدُهن»(3) .

وموثّقة إسحاق بن عمّار، عن جعفر، عن أبیه، أنّ علیّاً علیه السلام کان یقول : «الغسل من الجنابة والوضوء، یجزی منه ما أجزی من الدهن الذی یبلّ الجسد»(4) .

ففی بعض النسخ (أجری) بالراء المهملة، فعلی ذلک تکون من الأخبار السابقة، وإن کان بالزاء المعجمة تندرج فی هذا الباب .

وحدیث زرارة: «الجنابة فی غسل الجنابة یکفیک مثل الدهن»(5) .

وحدیث محمّد بن مسلم، عن أبی جعفر علیه السلام قال : «یأخذ أحدکم الراحة من الدهن، فیملأ بها جسده، والماء أوسع»(6) . الحدیث .


1- وسائل الشیعة: أبواب الجنابة، الباب 26، الحدیث 2.
2- وسائل الشیعة: أبواب الجنابة، الباب 26، الحدیث 14.
3- وسائل الشیعة: أبواب الوضوء، الباب 52، الحدیث 1.
4- وسائل الشیعة: أبواب الوضوء، الباب 52، الحدیث 5.
5- وسائل الشیعة: أبواب الجنابة، الباب 31، الحدیث 6.
6- وسائل الشیعة: أبواب الوضوء، الباب 15، الحدیث 7.

ص:91

ومنها طائفة ثالثة: تدلّ علی کون مسّ الماء للجسد کافیاً للوضوء أو الغسل، وهو مثل ما رواه زرارة فی الصحیح، عن أبی جعفر علیه السلام : «فی الوضوء؟ قال : إذا مسّ جلدک الماء فحسبک»(1) .

ومصحّح أو صحیح زرارة، قال : «سألت أبا عبداللّه علیه السلام عن غسل الجنابة... إلی أن قال : «وکلّ شیء أمسسته الماء فقد أنقیته»(2) ، الحدیث .

وحدیث صحیح عبداللّه بن سنان، عن أبی عبداللّه علیه السلام ، قال : «اغتسل أبی من الجنابة، فقیل له : قد أبقیت لمعة فی ظهرک لم یصبها الماء ؟

فقال له : ما کان علیک لو سکت ثمّ مسح تلک اللمعة بیده»(3) .

وحدیث زرارة، عن أبی جعفر علیه السلام ، فی حدیثٍ، قال : «قلت : رجل ترک بعض ذراعه أو بعض جسده من غسل الجنابة ؟ فقال : إذا شکّ وکانت به بلّة وهو فی صلاته مسح بها علیه»(4) ، الحدیث .

ومنها طائفة رابعة: أخبار کثیرة تدلّ علی الغسل بصورة الإطلاق فی الکتاب والسنّة، مثل قوله: «اغسل وجهک واغسل یدیک»، من دون إشارة فیها بلزوم الجریان وعدمه، فلابدّ حینئذٍ ملاحظة ما یمکن الجمع بین هذه الأخبار حتّی لا تقع بینها المنافاة .

أقول: لا یخفی علیک أنّ المحامل الواقعة والمحتملة هنا أربعة، لا بأس بالإشارة إلیها حتّی یلاحظ ما هو الأحسن، فینختب ، فنقول ومن اللّه التوفیق :

الاحتمال الأوّل : هو ما علیه المشهور، بأن یعتبر الغسل بما له من المعنی


1- وسائل الشیعة: أبواب الوضوء، الباب 52، الحدیث 3.
2- وسائل الشیعة: أبواب الجنابة، الباب 26، الحدیث 5.
3- وسائل الشیعة: أبواب الجنابة، الباب 41، الحدیث 1.
4- وسائل الشیعة: أبواب الجنابة، الباب 41، الحدیث 2.

ص:92

والمفهوم فی العرف واللغة، لأنّه إذا قیل لإنسان: اغسل یدیک، لا یفهم منه إلاّ إجراء الماء علی یده لإزالة الوسخ والنجاسة مثلاً ، غایة الأمر أنّ الفرق بین غسل النجاسة وغسل الطهارة عن الحدث، هو عدم اعتبار انفصال الغسالة عن محلّ المغسول فی الثانی دون الأوّل، وذلک کان من جهة أنّه أخذ فی غسل النجاسة إزالتها، وهی لا تکون إلاّ بانفصال الماء المسمّی بالغُسالة عن محلّ المغسول، بخلاف الغَسل فی الطهارة حیث لا یکون مزیلاً إلاّ لنجاسة مفهومیة، ولعلّه لذلک اُشیر فی خبر زرارة ومحمّد بن مسلم: «بأنّ المؤمن لا ینجّسه شیء، إنّما یکفیه مثل الدهن»(1).

أی لا یکون من قبیل النجاسة الخبثیة، حتّی یحتاج فی تطهیرها إلی الانفصال، فیکفیه أن یجری علیه الماء ولو بمثل الدهن ، وأمّا لزوم جریان الماء فی الغَسل بلا فردیه من النجاسة الخبثیة والحدثیة معتبرٌ عرفاً بل ولغةً .

کما یشهد لذلک وقوع التقابل بین الغسل والمسح فی الکتاب والسنّة، حیث أنّه لو کان المقصود من الغسل ما لا یحتاج إلی جریان الماء، فیکون معناه حینئذٍ أنّه یکفی فیه المسح بالنداوة، فأیّ فرق بین صدر الآیة بقوله تعالی : «اغْسِلُوا وُجُوهَکُمْ وَأَیْدِیَکُمْ» وبین ذیله بقوله : «فامسحوا برؤوسکم وأرجلکم»، مع أنّ العرف یفهم کونه غیره ، وإن کان المسح قد یجتمع مع الغسل إذا کان الماء کثیراً فی الید الماسحة، ولذلک قیل : إنّ النسبة بینهما هی العموم والخصوص من وجه ، إلاّ أنّ ذلک لا یوجب صدق کلّ منهما علی الآخر .

ولعلّه لذلک تری أنّ الإمام علیه السلام وبّخ بعض الناس بأنّهم یتوضّؤون لسنوات عدیدة ولا یقبل منهم ذلک، وهو مثل حدیث محمّد بن مروان، قال : «قال أبو


1- وسائل الشیعة: أبواب الوضوء، الباب 52، الحدیث 1.

ص:93

عبداللّه علیه السلام إنّه یأتی علی الرجل ستّون وسبعون سنة، ما قبل اللّه منه صلاة . قلت : کیف ذاک ؟ قال : لأنّه یغسل ما أمر اللّه بمسحه»(1) .

فلیس هذا إلاّ لعدم صدق أحدهما علی الآخر ، فعلی هذا یؤیّد ما ذکرنا من وجود أخبار تدلّ علی الشرطیة ولزوم الجریان فی الماء، الذی لم یکن ذلک إلاّ لتحقیق مفهوم الغَسل فی الوضوء والغسل .

هذا، ولکن یبقی هنا الطائفة التی تفید کفایة الغسل علی نحو التدهین، والتی تدلّ علی کفایة المسح بالماء ، فیمکن أن یقال فیهما: إنّها واردة من جهة لحاظ کفایة الغسل ولو بالماء القلیل، الذی لا یجری من جزء إلی جزء من البدن، إلاّ بمعونة الید کالدهن، وهذه الأخبار وردت فی مقام الردّ علی العامّة الذین یکثرون فی إفاضة الماء علی الوجه والیدین، ولا یکتفون بمرّة واحدة ، بل یوجبون ثلاث غرفات، فأراد الإمام علیه السلام إفهام أنّه یکفی من الماء بمقدار کفّ واحد، کما یومی إلیه خبر محمّد بن مسلم، بقوله : «یأخذ أحدکم الراحة من الدهن، والماء أوسع من ذلک»(2).

کما لا یخلو صحیح زرارة ومحمّد بن مسلم عن إیماء فیه إلی ذلک، بقوله علیه السلام : «إنّما الوضوء حدّ من حدود اللّه، یعلم من یطیعه ومن یعصیه، وأنّ المؤمن لا ینجّسه شیء، إنّما یکفیه مثل الدهن».

أی لا یلزم فی الوضوء من تکثیر الماء وإسرافه، کما تفعل العامّة، لأنّ هذه الشروط قد وضعت لامتحان العبد، ولم تکن النجاسة کثیرة بحیث تحتاج إلی ماء کثیر، بل یکفی مثل الدهن فی قلّته حتّی یصل الماء إلی أجزاء الید ، ولعلّ المرسلة


1- وسائل الشیعة: أبواب الوضوء، الباب 52، الحدیث 2.
2- وسائل الشیعة: أبواب الوضوء، الباب 15، الحدیث 7.

ص:94

المرویة فی «الکافی» وهی: «وروی فی رجل کان معه من الماء مقدار کفّ، وحضرت الصلاة. قال : فقال : یقسّمه أثلاثاً ؛ ثلث للوجه، وثلث للید الیمنی، وثلث للید الیسری، ویمسح بالبلّة رأسه ورجلیه»(1) .

حیث لا ینافی جریان الماء مع قلّته، کما قد صرّح بقلّته ، بل قد یمکن تأیید هذا المحمل أنّه لابدّ أن یصدق الغسل بالماء ولو تدهیناً، وهو لا یصدق مع نداوة الید والمسح بها، إذ من المعلوم تغایر مفهوم الماء مع النداوة عرفاً، کما یتغایر مفهوم البخار مع الماء، بحسب فهم العرف .

فبذلک یعرف مفهوم کلام الإمام علیه السلام بقوله : «إذا مسّ جلدک الماء فحسبک».

أنّه لیس مراده مسح الجلد، بل مقصوده ما یصدق علیه المائیة مع المسّ، فهو عبارة عن الغسل ، ولعلّه أراد منه الإشارة إلی أنّه لا یحتاج فی وصول الماء إلی الجلد الدَلْک، بل یکفی وصوله بنفسه ولو بغیر معونة الید والدلک.

وهکذا فی خبر زرارة بقوله : «کلّ شیء أمسسته الماء فقد أنقیته»، أی لا حاجة لإیصال الماء إلی الجلد بواسطة الدلک وغیره، بل یکفی صبّ الماء ثمّ المسّ حتّی یصدق الغسل، لأنّه یساوق مع الجریان عرفاً، کما لایخفی .

غایة الأمر إیجاد وصف الجریان، یکون بواسطة الید، کما هو الغالب، وقد یکون من ناحیة الماء، کجعل الید تحت المیزان والانبوب والمطر ، فالارتماس والغمس فی الماء، إن کان من دون حرکة وجریان، بأن کانت قبل الوضوء موجودة فی الماء، فأراد الوضوء، فلا یصدق غسل الوضوء إلاّ بالنیّة، وتحریک یده حتّی یطلق علیه أنّه غسل غسلة واحدة للوضوء، للتمییز عمّا کان یده فی الماء قبله، سواء کان هذا الجریان حاصلاً حال خروج الید عن الماء، أو کان فی


1- الکافی: 3 / 27.

ص:95

الماء حرّک یده بذلک، أو قصد فی حال إدخال یده من المرفق إلی الماء، حتّی یحصل الواجب من مراعاة الأعلی إلی الأدنی فی الغسل .

فظهر من جمیع ما ذکرنا، صحّة محمل المشهور ولزوم مراعاة الجریان فی مفهوم الغسل .

الاحتمال الثانی : هو ما ذهب إلیه صاحب «الحدائق» و«المدارک» والحکیم _، علی حسب ما وجدنا من الأقوال _ من التمسّک بظاهر الأخبار الدالّة علی جواز الاکتفاء بمثل التدهین، الذی یفید ویوجب التصرّف فی أخبار الغسل.

أو یقال کما عن الحکیم: إنّه لیس الجریان مأخوذاً فی مفهوم الغسل کما هو الحال فی غسل الأخباث .

والجواب: قد عرفت عدم صحّته، ومستندهم الأخبار السابقة من الطائفة الثانیة لاسیّما الخبر الثالثة، وعلمت الوجه فیهما؛ فلا نعید .

الاحتمال الثالث : هو ما ذهب إلیه «المقنعة» و«النهایة» علی ما فی «کشف اللثام» نسبته إلیهما، من حمل أخبار التدهین علی حال الضرورة، بأن تکون هذه الأخبار حاکمة علی أدلّة الغسل، من عدم لزوم الجریان فی الضرورة لا مطلقاً، تمسّکاً واستشهاداً بمثل خبر محمّد بن مسلم ، قال : «سألت أبا عبداللّه علیه السلام عن الرجل یجنب فی السفر لا یجد إلاّ الثلج ؟ قال : یغتسل بالثلج أو ماء النهر»(1) .

وحدیث معاویة شریح، قال : «سأل رجل أبا عبداللّه علیه السلام وأنا عنده، فقال : یصیبنا الدمق «الدمق هو الریح الشدیدة فیها الثلج» والثلج، ونرید أن نتوضّأ ولا نجد إلاّ ماءاً جامداً فکیف أتوضّأ أدلک به جلدی ؟ قال : نعم»(2) .


1- وسائل الشیعة: أبواب التیمّم، الباب 10، الحدیث 1.
2- وسائل الشیعة: أبواب التیمّم، الباب 10، الحدیث 2.

ص:96

وحدیث صحیح علی بن جعفر، عن أخیه موسی بن جعفر علیه السلام ، قال : «سألته عن الرجل الجنب أو علی غیر وضوء، ولا یکون معه ماء، وهو یصیب ثلجاً وصعیداً، أیّهما أفضل أیتیمّم أم یمسح بالثلج وجهه ؟

قال : الثلج إذا بلّ رأسه وجسده أفضل، فإن لم یقدر علی أن یغتسل به فلیتیمّم»(1) .

حیث یفهم من هذه الأخبار سقوط الجریان فی حال الضرورة، فیکفی وقوعه بصورة المسح والدلک مع الرطوبة .

هذا، لکنّه مخدوش أوّلاً : بما ذکره المحقّق فی «المعتبر» بأنّه إن صدق بذلک الغسل، فلا فرق بین حالتی الاضطرار والاختیار، وإن لم یصدق علیه فلا یجتزئ به فی حال الضرورة أیضاً، کما لا یخفی .

وثانیاً : إنّ هذه الأخبار لا ینافی صدق الجریان، لإمکان أن یکون وجه السؤال عن جواز الغسل بالماء المذاب عن الثلج، ولو بجریانه حال مماسّته مع البدن، کما یشهد لذلک اقتران الثلج بماء النهر فی خبر محمّد بن مسلم، کما قد یؤیّد ما ذکرنا من أن یکون المراد ما یصدق الغسل، هو خبر آخر لعلیّ بن جعفر الوارد فی مثل ذلک الحکم، إلاّ أنّه متروک بما یصحّ حمله بما ذکرناه، حیث أنّ الإمام علیه السلام قد قیّد المسح بالثلج بصورة ما إذا کان قد بلّ جسده ورأسه، حیث أنّه لو کان المراد من البلل هو الرطوبة والنداوة دون الجریان، کان هذا المقدار حاصلاً مع کلّ مسح بالثلج، فلایحتاج إلی التنبیه علیه، فلا یبعد أن یکون مقصوده هو حصول الجریان ولو بمقدار ماء مذاب من الثلج بالمسح حتّی یصدق الغسل .

هذا، مع أنّه لو سلّمنا دلالة هذه الأخبار علیه فی حال الضرورة، إلاّ أنّ حمل


1- وسائل الشیعة: أبواب التیمّم، الباب 10، الحدیث 3.

ص:97

أخبار التدهین بحال الضرورة غیر صحیح، لما فیها من الدلالة علی کفایة مثل التدهین فی حال الاختیار، وهو مثل صحیح زرارة ومحمّد بن مسلم، بقوله : «أنّ المؤمن لا ینجّسه شیء وإنّما یکفیه مثل الدهن»(1).

خصوصاً مع ملاحظة صدره الواردة فیها بأنّ الوضوء حدّ من حدود اللّه، فیأبی عن الحمل بحال الضرورة ، بل وفی خبر محمّد بن مسلم ما یشتمل علی أنّه کان فی مقام التعریض علی العامّة، حیث یسرفون فی صبّ الماء واستعماله، بقوله : «یأخذ أحدکم الراحة من الدهن فیملأ بها جسده، والماء أوسع»(2) .

فبناءً علی ما ذکرناه فکیف یحمل علی ما ذکروه ، فالجریان معتبرٌ فی ماء الوضوء والغَسل، لتحقّق الغَسل عرفاً، ولا یکفی مجرّد المسح بالنداوة .

نعم، لا یحدّد بما ذکره الفاضل المقداد فی «التنقیح» بأن یجری جزءً من الماء إلی جزئین من البشرة، بل یکفی ما یصدق علیه الجریان عرفاً، من دون تحدید بحدّ، کما لا یخفی .

کما أنّ الأقوی عدم وجوب الدلک، وعدم دخالته فی صدق ماهیة الغسل لغةً وعرفاً، کما ادّعی الإجماع علی عدم الوجوب عن «الناصریات».

فما عن ابن الجنید من إیجابه، ممّا لا یلتفت إلیه، ولعلّه أفتی بذلک بواسطة مشاهدة بعض الوضوءات البیانیة من إمرار الید فی حال غسل الوجه والیدین ، لکنّه محمول علی أنّ الإمرار کان بحسب المتعارف، فیقع فی حال الغسل، لا أن یکون دخیلاً فی مفهومه ، مع إمکان أن یکون من جهة توصیل الماء إلی جمیع ما هو الواجب ، هذا فضلاً عن معارضة بأخبار کثیرة فاقدة لهذا القید، فلولا الإجماع


1- وسائل الشیعة: أبواب الوضوء، الباب 52، الحدیث 1.
2- وسائل الشیعة: أبواب الوضوء، الباب 15، الحدیث 7.

ص:98

ومَنْ فی یده خاتم أو سیرٌ، فعلیه إیصال الماء إلی ما تحته، وإن کان واسعاً استحبّ له تحریکه (1).

علی استحبابه _ کما عن «المعتبر» و«المنتهی» _ لأمکن المناقشة فی استحبابه ، لکن لا یبعد الذهاب إلیه، ولو من باب التسامح فی أدلّة السنن، إذا ثبت ذلک عن فعل المعصوم، کما یثبت بقوله علیه السلام ، واللّه العالم بالصواب .

(1) لا یخفی علیک أنّه بعدما عرفت فی البحث السابق، إنّ صدق مفهوم الغَسل متوقّفٌ علی شرطیة جریان وصول الماء إلی البشرة _ سواءً بنفسه أو بمعونة الید _ المستفاد من مفهوم أخبار التدهین وغیرها ، فتعلم حینئذٍ أنّه إن لم یکن فی البشرة مانع عن وصول الماء إلیها، فإنّه یصل إلیه بأحد الطریقین دون مانع أو رادع .

وأمّا لو کان فی محلّ ما یجب غسله أو مسحه، ما یمنع عن وصول الماء إلیه، مثل الخاتم والسوار والخلخال والدملج فی الوضوء والغُسل، فیجب حینئذٍ إیصال الماء إلی ما تحتها ؛ إمّا بنزع هذه الاُمور، أو تحریکها لکی یصل إلی ما تحتها الماء ، وما تری من إیجاب النزع فی «المقنعة» و«المراسم» وغیرهما، کان المقصود هو ما ذکرنا، لا أنّ النزع بخصوصه واجب .

اعتبار إیصال الماء تحت الخاتم و نحوه فی الوضوء

وأمّا إن کان المانع واسعاً یصل الماء بنفسه إلی البشرة، استحبّ له تحریکه، کما نصّ علی ذلک «السرائر» و«المعتبر» و«المنتهی» و«الذکری»، وظاهر «المقنعة» و«المراسم» وغیرها من المتأخّرین من الشیخ الأعظم وصاحب الجواهر والمحقّق الهمدانی والسیّد الاصفهانی .

فلا بأس لذکر وجه الاستحباب فإنّه قد یقال : إنّه کان للاستظهار، أی یحصل الاطمئنان والیقین للمتوضّی بوصول الماء إلیه بتحریکه، کما قبله صاحب «الجواهر» ، بل المحقّق فی «المعتبر»، وظاهر الثانی وجود الإجماع علیه، لأنّه

ص:99

قال فیه : «ویحرّک ما یمنع وصول الماء إلی البشره، ولو لم یمنع حرّکه استحباباً، وهو مذهب فقهائنا» ، الظاهر فی الإجماع ، بل فی «الروائع» نسبة الاستحباب إلی المحقّق، فیما یعلم وصول الماء إلی البشرة ، ثمّ قال فیها: «وربما یشکل علیه، بأنّه لا موقع لهذا الاستحباب، لأنّه لو لم یحصل له القطع بالوصول، فیجب التحریک حتّی یحصل القطع، وإن حصل الوصول فلا موقع للاستحباب للاستظهار» (1).

فیمکن أن یجاب عنه: بأنّ مفروض الکلام هو القطع بالوصول ، إلاّ أنّ الشارع لم یحیل ذلک إلی علم المکلّف ، بل قد استظهر بنفسه، وکان حکمة من الشارع باعتبار أنّ قطع المکلّف ربما یخطأ، وربما یحصل له الشکّ بعد ذلک، فیقع فی کلفة العود ، ولعلّ هذا هو مراد الشیخ الأعظم بقوله : إنّ المراد هو استحباب إیصال الماء بالتحریک لا استحباب التحریک بالإیصال .

ثمّ أورد علیه بقوله : ولکن فیه ما لا یخفی، لأنّه إذا کان مورد کلامهم فی الاستحباب، صورة العلم بالوصول، یتوجّه إلیهم السؤال عن وجه الاستحباب ودلیله، حیث لم نعرف له دلیلاً، وهذا بخلاف ما إذا کان مورد کلامهم صورة الجهل بالوصول، فإنّه بعد فرض کون مورد کلامهم ما إذا کان ما فی الید خصوص الخاتم، مع کونه فی خصوص باب الوضوء لا مطلقاً، یمکن الاستدلال للحکم بعدم وجوب تحصیل القطع بالوصول ، بل استحبابه بروایة علی بن جعفر... إلی آخر کلامه ، انتهی موضع الحاجة من کلامه .

فی الشک فی الحاجب فی الوضوء

ونقول فی جوابه : فهو قدس سره وإن کان قد قبل کون مورده هو العلم بالوصول لا الجهل به ، لکنّه شکّک فی ذلک من جهة تشکیکه فی دلالة الخبر ، ولکن نحن نقول : بأنّ ما قاله من السؤال عن وجه الاستحباب، غیر تام، لأنّ الاستظهار إذا


1- الروائع الفقهیة: 2 / ص202.

ص:100

کان بنفسه راجحاً، یوجب تحصیل العلم بالفراغ بأعلی درجته، من جهة حسن الاحتیاط الذی جعله الشارع فی هذه الموارد لأجل الابتعاد عن الوقوع فی الخطأ وکلفة الإعادة، فهو بنفسه مطلوب ، مضافاً إلی الإجماع المدّعی، المستفاد من کلام المحقّق فی «المعتبر»، منضمّاً إلی دلیل التسامح فی أدلّة السنن، الشامل لفظ (البلوغ) لمثل ذلک، فلا إشکال فی تحقّق الاستحباب التسامحی، لو لم نقل بالاستحباب الذاتی فی التحریک والتدویر بذلک، ولو لم نسلّم دلالة الأخبار علیه.

هذا کلّه تمام الکلام فی صورتی العلم بالوصول من استحباب التحریک وعدمه به، من وجوب الإیصال بالتحریک أو النزع .

بقی الکلام فی صورة الشکّ فی الوصول، فله صور عدیدة، حیث أنّ بعض الفقهاء قد عنون تفصیل الکلام فی الصور فی هذا المبحث، مثل صاحب «الجواهر»، وبعض آخر عنونه فی باب الشکّ فی أفعال الوضوء، کالشیخ الأعظم قدس سره فی «طهارته»، وبعض آخر عنونه فی مباحث أخری من شرائط الوضوء، کما عن «العروة» وأصحاب التعالیق، وإن تعرّض لبعض جوانبه فی المسألة التاسعة من مسائل غسل الوجه، لکن جمیعهم یشترک فی طرح هذا البحث فی هذا المقام، ذیل کلام المحقّق المتعلّق بصور الشکّ، وهما: صورة الشکّ فی أصل وجود الحاجب ، واُخری الشکّ فی حاجبیّة الحاجب.

فلا بأس بذکرهما هنا، والبحث عن حکمهما من جهة وجوب الإیصال وعدمه، فنقول ومن اللّه الاستعانة، لأنّه ولیّ التوفیق .

اعلم أنّ مورد الشکّ فی وصول الماء إلی البشرة، له فردان : أحدهما: ما لو کان قد علم وجود أصل الحاجب، ولکن شکّ فی حاجبیة الموجود، کما لو کان الخاتم والسوار موجوداً فی الید حین الوضوء ، وهکذا فی الدملج والخلخال فی الید والرِجل فی الغُسل، فهل یجب الفحص عنه، والمبالغة فی إیصال الماء، حتّی

ص:101

یطمئن، أو یعلم أو یظنّ بالزوال، وبوصول الماء إلی البشرة الواقعة تحته، أم لا یجب حتّی مع الظنّ بعدم الوصول ؟ فیه وجهان :

الوجه الأوّل : أن یقال بعدم وجوب الفحص، لأصالة عدم حاجبیّة الحاجب عند الشکّ فیه، مع العلم بأصل وجوده ، مضافاً إلی إمکان دعوی أنّ العقلاء لا یعتنون بهذا الاحتمال، ولا یفحّصون عنه، بل یبنون علی العدم، لاسیّما فی صورة الظنّ بعدم الحاجبیّة، فضلاً عن الاطمئنان بالعدم .

ولکنّه مخدوش جدّاً، بل لم نجد قائلاً صریحاً بعدم لزوم الفحص فی هذه الصورة عن أحد من الفقهاء، ولو لم نقل بإمکان دعوی الشهرة علی لزوم الفحص شهرة عظیمة دون حدّ الإجماع، لعدم تعرّض جلّ الأصحاب لصورة الشکّ فی المسألة، حتّی یدّعی _ إثباتاً أو نفیاً_ موافقتهم ومخالفتهم معه، خصوصاً فی صورة الظنّ بوجود الحاجب والحاجبیة.

الوجه الثانی: وجوب الفحص، وإیصال الماء، بالمبالغة فی زوال المانع، حتّی یحصل الاطمئنان بالوصول، ومن ثمّ یحصل فراغ الذمّة والعهدة والوظیفة المتیقّنة، لأنّ شغل الیقینی یقتضی الفراغ الیقینی .

فیمکن أن یستدلّ علی وجوب الفحص باُمور :

الأمر الأوّل : بما قد عرفت من قاعدة الاشتغال، ولزوم الخروج عن عُهدة غسل جمیع العضو الذی یجب غسله .

الأمر الثانی : استصحاب بقاء الحدث، ولا یعارضه أصالة عدم حاجبیّة الحاجب، مع أنّه لا یعارض أصالة عدم وصول الماء، وعدم الفراغ عن العهدة، لأنّ جریان عدم الصفة بنفسه لا أثر له، بل أنّ الأثر مترتّب علی الوصول، فلابدّ أن یثبت بواسطة عدم الحاجبیة وصول الماء إلی البشرة عقلاً، فإذا وصل الماء ترتّب علیه صحّة الوضوء، عن أصل مثبت ولا یکون حجّة .

ص:102

إلاّ أنّ الشیخ قال فی «طهارته» عن ذلک الأصل بالنسبة إلی الشکّ فی أصل الحاجب: بإمکان أن یقال بخفاء الواسطة، لأنّ وصول الماء إلی البشرة، وإن کان من اللوازم الغیر الشرعیة، إلاّ أنّ ما یترتّب علیه من الحکم الشرعی، یعدّ فی العرف من اللوازم والأحکام الشرعیة لنفس خلوّ البدن عن المانع، بحیث یُلغی فی العرف وساطة اللازم الغیر الشرعی بین المستصحب وذلک الحکم الشرعی، وقد بیّنا أنّه یثبت المستصحب الأحکام الشرعیة المترتّبة علی اللوازم الغیر الشرعیة الثابتة له، إذا عدّت الأحکام فی العرف من أحکام نفس المستصحب، وعدم المداقة فی توسّط اللازم الغیر الشرعی بینهما، نظیر استصحاب رطوبة الملاقی للنجس، فإنّ الرطوبة لا یترتّب علیها النجاسة ، بل هی من أحکام تأثّر الملاقی بالنجاسة، وهو لازمٌ غیر شرعی للرطوبة، إلاّ أنّه ملغی فی نظر العرف، حتّی أنّ الفقهاء یجعلون التنجّس من أحکام ملاقاة الشیء للنجس مع رطوبة أحدهما، لکن هذا أیضاً لا یتمّ فی جمیع موارد هذا الشکّ ، انتهی کلامه .

وأورد علیه الحکیم فی «المستمسک»: بأنّه لو کان هذا الخفاء صحیحاً، لجری فی مسألتنا، وهو الشکّ فی حاجبیّة الحاجب، ولا اختصاص لصورة الشکّ فی أصل وجود الحاجب کما قاله فیه فقط .

ولکن یمکن أن یجاب عن إشکال الحکیم قدس سره أوّلاً : بإمکان أن یقال : بأنّه إذا علم بأصل وجود المانع والحاجب، فأصالة عدم حاجبیّة الحاجب لیس عبارة أُخری عرفاً عن خلوّ البدن عن المانع، لأنّ أصل وجوده مقطوع علی الفرض، فمن الطبیعی الفرض بأنّ وجوده یکون متّصفاً بعدم المانعیّة، بواسطة الأصل الذی کان هو أثراً غیر شرعی، وواسطة غیر خفیّة بالنسبة إلی أصل الحکم، فلذلک لا یجری هذا الکلام فی المقام .

وثانیاً : لو سلّمنا ذلک، فغایته عدم جریان استصحاب بقاء الحدث للمعارضة،

ص:103

ولو سلّمنا کون المعارضة غیر منحصرة بالاستصحاب للحدث فقط ، بل المعارضة یکون مع سائر الأصول من قاعدة الاشتغال وأصالة عدم وصول الماء إلی البشرة، فبالتعارض تتساقط الأصول کلّها، فلابدّ لنا أیضاً من إثبات دلیل آخر من الأصل أو الحجّة من الإجماع والسنّة والسیرة، علی الکفایة بمثل ذلک الوضوء، فلا یوجب الحکم بصحّة الوضوء قطعاً، کما لا یخفی .

مع أنّ الدلیل قائم علی خلاف ذلک، من ادّعاء نفی الخلاف علیه، کما فی «مصباح الهدی»، لعدم الاکتفاء، بل ودلالة الخبر علیه مثل خبر علی بن جعفر، عن أخیه موسی بن جعفر علیه السلام ، قال : «سألته عن المرأة علیها السوار والدملج فی بعض ذراعها، لا تدری یجری الماء تحته أم لا، کیف تصنع إذا توضّأت أو اغتسلت ؟ قال : تحرّکه حتّی یدخل الماء تحته أو تنزعه . وعن الخاتم الضیّق لا یدری هل یجری الماء تحته إذا توضّأ أم لا ، کیف تصنع ؟

قال : إن علم أنّ الماء لا یدخله فلیخرجه إذا توضّأ»(1) .

حیث أنّ صدّره، بقوله : «لا تدری یجری الماء... إلی قوله علیه السلام : تحرّکه حتّی یدخل الماء أو تنزعه» یدلّ علی ما ذکرنا، وکان مورده أیضاً ما هو المفروض فی المسألة من الشکّ فی حاجبیّة الحاجب ، فحکم الإمام علیه السلام بوجوب التحریک، أو النزع، للقطع بوصول الماء، أو تحصیل الاطمئنان العرفی، لو لم نقل بکفایة الظنّ بالوصول ، وأمّا فی صورة الشکّ المتساوی أو الظنّ بالعدم ، بل وهکذا الظنّ بالوصول، فقد حکم علیه السلام بوجوب الإیصال، فلایمکن الاعتماد علی الأصل مع وجود دلیل اجتهادی ونصّ من الأئمّة علیهم السلام .

ولکن قد نوقش فی دلالة الحدیث، بأنّ دلالته علی المطلوب موقوفة علی


1- وسائل الشیعة: أبواب الوضوء، الباب 41، الحدیث 1.

ص:104

عدم کونها معارضة بما هو خلافها، کما هو کذلک فی ذیل الحدیث، بواسطة مفهوم الشرط الواقع فیه، لأنّ منطوق الذیل یدلّ علی أنّ مع العلم بعدم الوصول، یجب إخراج الخاتم، فیکون مفهومه هو هکذا لو لم یعلم بعدم الوصول، سواء علم بوصول الماء أو شکّ، فلا یخرج، أی لا یلزم إیصال الماء إلی تحته، مع أنّک قد عرفت بأنّ منطوق الصدر کان یدلّ علی وجوب التحریک أو الإخراج والنزع عند الشکّ فی الوصول، فبالتعارض بین منطوق الصدر ومفهوم الذیل وحصول الإجمال، یسقط عن الحجّیة، فلا یمکن الاستدلال به.

هذا، کما عن الحکیم فی «المستمسک» فی ذیل المسألة التاسعة من مسائل غسل الوجه من «العروة» .

ولکن اُجیب عن التعارض بأجوبة :

أوّلاً : بما فی «الجواهر» بأنّ ما فی الصدر منطوقٌ والذیل مفهوم، والمنطوق یکون أقوی دلالة من المفهوم، فیکون المنطوق لخصوص الشکّ، فیکون خاصّاً ومقیّداً، والمفهوم عامّاً ومطلقاً، إذ له فردان، کما قد عرفت، فیقیّد إطلاقه ویخصّص عمومه، فیکون الواجب فی الشکّ هو وجوب الإخراج لحصول القطع بالوصول، ومع العلم بالوصول یکون الباقی فی ذیله بعد التخصیص غیر واجب الإخراج .

هذا، وقد أجاب عنه صاحب «مصباح الهدی»: بأنّ الذیل لمّا کان جواباً عن السؤال عن حکم الشکّ فی عدم الوصول، فلا یکون قابلاً للتقیید بغیر صورة الشکّ، للزوم إخراجه عن مورد السؤال، وهو غیر جائز، بل مستهجن .

واُجیب عن التعارض ثانیاً : بأنّ الصدر منطوق ونصٌّ فی صورة الشاک، بخلاف الذیل، حیث یکون مفهوماً وظاهراً فی الشاکّ، لکونه أحد فردیه، فیکون المنطوق مقدّماً علی المفهوم .

ص:105

فأجاب عنه صاحب «مصباح الفقیه» و«مصباح الهدی»: بأنّ کلیهما نصّ فی الشاکّ، لأنّ مورد السؤال کان فیه، ولا یجوز إخراج مورد السؤال عنه .

وأجاب «مصباح الفقیه» عن التعارض ثالثاً بقوله : «ولکن الإنصاف قصور المعارض عن المکافئة، لأنّ رفع الید عن ظاهر الدلیل بقرینة الصدر أهون من عکسه، حیث أنّ ذیلها جوابٌ عن سؤال مستقلّ، بحیث لولاه لما أجاب به ، فالصدر حال صدوره لم یکن محفوفاً بما یصلح أن یکون قرینة لتعیین المراد ، فاحتمال خلاف الظاهر منه، مدفوع بأصالة عدم القرینة ، وأمّا الذیل فلأجل احتفافه بما یصلح أن یکون قرینة علی إرادة خلاف الظاهر منه _ وهو ذکره عقیب الحکم الأوّل، بل وکونه سؤالاً عن حکم صورة الشکّ _ إمّا لا ینعقد له ظهور فی إرادة نفی البأس بالنسبة إلی حکم الشاک، أو لیس بحیث یکافئ ظهور الصدر.

فلعلّ المراد من قوله علیه السلام : «إنّ الماء لا یدخله فلیخرجه»، إنّه إن علم أنّه لیس بحیث یدخله الماء، علی وجه لا یبقی معه الشکّ، فلیخرجه، یعنی أنّه إن کان له شأنیة أن لا یدخله الماء فلیخرجه، فتأمّل) ، انتهی محلّ الحاجة .

ولکن الأقوی عندنا أنّه بعد التأمّل فی الصدر والذیل، یفهم أنّه لا تعارض بینهما أصلاً، لاختلاف موردهما فی متن کلام السائل، لأنّه قد فرض فی الصدر عدم العلم بالوصول، من دون أن یفرض الضیق فی الخاتم والسوار، بل ربما یکون ظهور لفظ (السوار) فی إمکان کون ما فی الید واسعاً ، وبرغم ذلک یحتمل الحاجبیة والمانعیة عن وصول الماء إلیه ، فأجاب علیه السلام بالتخییر بین التحریک لإمکان الإیصال بذلک، أو النزع .

وأمّا فی الذیل فقد فرض أنّه علم کون الخاتم ضیّقاً، وعلم أنّه لا یدخل الماء تحته إلاّ بالنزع، فأجاب علیه السلام : بإنّ علیه أن یفعل هکذا، أی یخرج الخاتم حتّی یحصل له القطع بالوصول، فلا یزاحم هذا صورة الشکّ الذی قد عرفت حکمه فی

ص:106

الصدر کما لایخفی .

وبعبارة اُخری: یکون مورد الذیل فی مفروض یکون من القضایا الشرطیة التی وقعت وسیقت لتحقّق الموضوع، لأنّه قد فرض صورة العلم بعدم الوصول بالضیق ، فیکون مفهومه مع حفظ الموضوع، هو هکذا: إذا کان الخاتم ضیّقاً، ولا یعلم بعدم الوصول، فیساعد مع الشکّ بالوصول، فلا یجب علیه النزع خاصّة، ولکن هذا لاینافی وجوب التحریک فی هذا الفرض، لأنّه فرض ممکن الوصول، فبالتحریک یحصل له القطع بالوصول، ولکن هذا لا یناسب مع فرض کونه ضیّقاً، حیث یکون الظاهر فی کونه علامة علی عدم الوصول ، وأمّا مع فرض العلم بالوصول، فهو خارج قطعاً، لأنّه کیف یمکن فرض کونه ضیّقاً، مع العلم بوصول الماء بدون التحریک والنزع ، فبالنتیجة یظهر أنّ المفروض فی صدر الخبر هو خصوص حکم الشکّ دون ذیله، ولا مفهوم لذیله حتّی یزاحم الصدر .

ومن هنا ظهر فساد ما یتوهّم من کلام السیّد الاصفهانی، من جعل مورد الحکم خصوص مجهول الوصول، مع کون المورد هو مجرّد قصد الوضوء، _ لا مطلقاً _ مع وجود الخاتم فی یده، وحینئذٍ یستحبّ تحصیل القطع بالوصول، لدلالة روایة علی بن حمزة، لا کونه واجباً .

هذا، ووجه الفساد أنّه من الواضع عند العرف أنّه لا خصوصیة فی الخاتم، ولا الوضوء، وأنّ العرف یفهم أنّ الملاک والمناط هو العلم بالوصول أو الاطمئنان العرفی بوصول الماء الحاصل بالنزع عند الضیق أو التحریک، أو بالنزع فی الموسّع، ولو کان الضیق حاصلاً من لبس الدملج والسوار لا الخاتم ولو کان المورد غُسلاً لا وضوءاً .

نعم، الغالب فی السوار هو الوسعة دون الخاتم، لکن هذه الغلبة لا دخل لها فی حکم المسألة قطعاً .

ص:107

بل قد یمکن الاستدلال لعدم التفاوت بین الخاتم وغیره، وبین الوضوء والغسل، من دلالة خبر حسین بن أبی العلاء، قال : «سألت أبا عبداللّه علیه السلام عن الخاتم إذا اغتسلت؟ قال : حدّله من مکانه ، وقال: فی الوضوء تدره (تدوره) فإن نسیت حتّی تقوم فی الصلاة، فلا آمرک أن تعید الصلاة»(1) .

وخبر الصدوق، قال : «إذا کان مع الرجل خاتم فلیدوره فی الوضوء، ویحوّله عند الغسل، قال : وقال الصادق علیه السلام : فإن نسیت حتّی تقوم فی (من) الصلاة فلا آمرک أن تعید»(2) .

حیث أنّه یفهم من الحدیثین أنّ الخاتم لا خصوصیة فیه، بل ورد ذکره فی الخبر لکون السائل کان لابساً له دون السوار والخلخال وغیرهما حیث لم یشر إلیهما فی الخبر، کما قد صرّح بلزوم التحریک فی الوضوء والغُسل، ولعلّ وجه الاختلاف فی کیفیّتهما من التدویر فی الوضوء والتحویل من مکانه فی الغسل من جهة ما هو المتعارف فی الاختلاف فی الوضوء والغُسل، حیث یمرّون الید ویوصلون الماء إلی أعضاء الوضوء، فیکفی التدویر فی الخاتم لوصول الماء، هذا بخلاف الغُسل، حیث یصبّ الماء علی البدن وقد یصل بمعونته .

واُخری: لا یکون کذلک، فلهذا أمر الإمام بتحویله أی نقله من مکانه، فلا یبعد أن یکون المقصود هو النزع والإخراج، لا نقله فی محلّ الاُنملة .

وکیف کان، یظهر من جمیع ما قدّمناه، وجوب إیصال الماء عند الشکّ فی حاجبیّة الحاجب، وقد عرفت عدم وجدان من صرّح بعدم وجوب الإیصال لدی الشکّ فیه، فیما نحن فیه .


1- وسائل الشیعة: أبواب الوضوء، الباب 41، الحدیث 2.
2- وسائل الشیعة: أبواب الوضوء، الباب 41، الحدیث 3.

ص:108

الوجه الثانی: _ من الشکّ فی وصول الماء _ هو ما لو شکّ فی أصل وجود الحاجب، کما قد یقع للمتوضّی والمغتسل احتمال أن یکون الدم والقذی للبراغیث والقمّل موجوداً فی البدن، فهل یجب علیه الفحص حینئذٍ أم لا ؟

فقد وقع الخلاف فیه، فذهب صاحب «الجواهر» و«مصباح الفقیه» ومن تبعهما، إلی عدم الوجوب.

خلافاً للسیّد فی «العروة» والآملی وکثیر من أصحاب التعالیق، حیث ذهبوا إلی وجوب الفحص.

وقد فصّل آخرون، کالعلاّمة البروجردی والسیّد الحکیم والاصفهانی وغیرهم، بین ما لو کان للاحتمال منشأً عقلائی فیجب الفحص وبین غیره فلا یجب .

واستدلّ الأوّل باستمرار السیرة التی یقطع فیها برأی المعصوم، علی أنّه لایجب علی المتوضّی والمغتسل ونحوهما الفحص عن وجود الحاجب علی أبدانهما حتّی عند قیام الاحتمالات غالباً، فضلاً عن عدم نصّ أحد من الفقهاء علی إیجاب شیء من ذلک فی الوضوء أو فی الغسل، مع أنّه کان من الضروری التنبیه علی ذلک، لمکان قذی البراغیث والقمل ونحوهما من العوارض الغالبة علی البدن، فحینئذٍ یتمسّک فی نفیه بالأصل، وإن کان الاعتماد علیه، من دون نظر إلی ما قدّمنا، لا یخلو من تأمّل، لمعارضته بأصالة عدم الفراغ من التکلیف، وأصالة عدم وصول الماء إلی البشرة ، انتهی کلامه رفع مقامه .

بل فی «مصباح الفقیه» دعوی السیرة العقلائیة بما هم عقلاء، لا بما هم متشرّعة فقط، کما فی «الجواهر» ، وقد أضاف إلی ما قاله صاحب «الجواهر» اُمور: من دعوی الإجماع علی عدم الاعتناء فی «مصباح الفقیه»، بل فیه أنّه ربما ینسب من صدر عنه الاعتناء بذلک الشکّ إلی الوسواس ، بل فی «مصباح الهُدی» مستدلاًّ له: باستلزام الاعتناء بالشکّ، العُسر والحرج، وبأصالة عدم الحاجب،

ص:109

الخروج عن کونه أصلاً مثبتاً، بما قد عرفت من الشیخ الأعظم بخفاء الواسطة ، أو یقال کما عنه فی «طهارته»: بأنّ أصالة العدم _ أی عدم الحاجب _ من الأمارات المعتبرة من باب الظنّ النوعی، فحالها حال سائر الأمارات الکاشفة عن الواقع، یثبت بها جمیع ما یقارن مجریها من اللوازم والمقارنات، لا من باب التعبّد بها ظاهراً حتّی یقتصر فیها علی ترتیب اللوازم الشرعیة .

بل أضاف فی «مصباح الهدی» الاستدلال بخبر أبی حمزة، عن الباقر علیه السلام : «أنّه بلغه أنّ نساءً کانت إحداهنّ تدعو بالمصباح فی جوف اللیل تنظر إلی الطهر، وکان یعیب ذلک ویقول متی کانت النساء یصنعن هذا ؟»(1)

حیث یظهر منه التعبیر علی الفحص عن مثل وجود نجاسة الحیض، مع حصول الشکّ فی وجوده ، هذا تمام ما استدلّ لذلک .

ولا یخفی علیک ما فی بعض الأدلّة من الإشکال، مثل نقل الإجماع فی المقام، مع ملاحظة عدم تعرّض جلّ الأصحاب للمسألة ، کما أنّ دعوی العسر والحرج، أو کون الأصول العدمیة من الأمارات الکاشفة من باب الظنّ النوعی، غیر صحیحة، لوضوح أنّ الکلام إنّما کان فیما لم یبلغ إلی العناوین الثانویة ، وإلاّ فله حکم علی حدة، دائرٌ مدار وجود هذا العنوان من العسر والحرج، لا أن یکون الحکم هو عدم الاعتناء مطلقاً، کما هوالمقصود فی المقام، مع أنّ دلیل العُسر والحرج یعدّ رافعاً للحکم لا أنّه یثبت به الحکم .

کما أنّ دعوی أنّه ینتهی إلی الوسواس، فلا ینفی مقدار ما ینتهی إلیه لا مطلقاً، غیر تامّ لأنّ الدلیل أخصّ من المدّعی .

وأمّا دعوی خفاء الواسطة، فهو ممّا لا بأس بدعواه عرفاً، لعدم استبعاد ذلک


1- وسائل الشیعة: أبواب الحیض، الباب 19، الحدیث 1.

ص:110

بأن یقال: بأنّ معنی أصالة عدم وجود الحاجب عرفاً لیس إلاّ معنی وصول الماء إلی البدن، الذی عبارة عن صحّة الوضوء، فلا یکون أصله حینئذٍ مثبتاً غیر حجّة .

کما أنّ دعوی السیرة من العقلاء بما هم عقلاء، لا بما هم من المتشرّعة، علی عدم الاعتناء باحتمال وجود الحاجب، أمرٌ صحیحٌ، أی یعملون بما فی أیدیهم من العمل، ولا یرفعون یدهم بمجرّد احتمال الخلاف، إذا لم یکن له منشأ عقلائی، ولیس هذا لغفلتهم عنه، أو لاطمئنانهم بعدم وجود الحاجب، کما ادّعی إیّاهما صاحب «مصباح الهدی»، لأنّا نشاهد عدم الالتفات لمجرّد الاحتمال، خصوصاً فیما یحتاجون إلیه کثیراً، فلیس هذا إلاّ من جهة الاعتناء بالشکّ فی وجود الحاجب بمثل ما لا یعتنون باحتمال وجود القرینة فی رفع الید عن ظواهر الکلام وأمثال ذلک ، بل وهکذا کان عملهم فی أمر معاشهم ومعاملاتهم، حیث لا یعتنون باحتمال موت الموکّل أو عزله أو غیر ذلک ، إلاّ أن یحصل لهم الاطمئنان بهذه الاُمور، فلیس هذا إلاّ للبناء المذکور ، وسیرة المتشرّعة وعملهم تکون بما هم من أفراد العقلاء لا بما هم جماعة متشرّعة ومتدیّنة بالدِّین، کما لا یخفی .

هذا، ولکن الإنصاف أن یقال : إنّ عدم الاعتناء إنّما یکون فیما إذا لم یکن للاحتمال منشأ عقلائی .

وأمّا فیما إذا کان کذلک، فلا یبعد القول بالاعتناء، وهو کما لو کان الرجل یعمل بناءً أو جصّاصاً أو صبّاغاً یصبغ الأبنیة أو الثیاب أو الأعمال التی توجب لصوق الحاجب علی البدن، فإذا احتمل لصوق شیء من هذه الأشیاء بجسمه أو بشرته، فإنّ الأمر لیس ممّا لا یعتنی به.

ولذلک تری کثیراً ما یُسئل عن حکم آثار الجُصّ والقیر اللاصقة بالبدن من الأصابع والأظفار، فلو کان عملهم وبنائهم علی عدم الاعتناء، فلِمَ یسألون عن حکمها فی تلک الموارد . وأمّا دعوی کون الأصول العدمیة من الأمارات، ممّا لا

ص:111

یمکن الالتزام بها، لعدم کون حجّیتها من باب الظنّ النوعی، لأنّها ربّما لا یوجب حصول الظنّ بحسب النوع، کما لایخفی .

فبقی هنا ما یدلّ علیه حدیث أبی حمزة من التعییر بالتجسّس عن حالها، الدالّ علی أنّه لا یعبأ بالشکّ البدوی، ولا یحتاج إلی الفحص .

إلاّ أنّه یمکن أن یقال: بأن التعیب لعلّه من جهة عدم إمکان الاطمئنان بذلک، لإمکان أن تشتبه مع ما لیس بحیض من الصفرة والکدرة، فتعمل بغیر ما هی وظیفتها، فلذلک نُهی عنه فی اللیل، کما یقرّب هذا ما رواه ثعلبة ، عن أبی عبداللّه علیه السلام : «أنّه کان ینهی النساء أن ینظرن إلی أنفسهنّ فی المحیض باللیل، ویقول: إنّها قد تکون الصفرة والکدرة»(1) .

مع أنّه لو سلّمنا دلالته علی ما ذکروه، نقول : إنّه ورد فی مورد خاص، فلا یدلّ علی کونه وظیفته فی جمیع الموارد، حتّی فیما لو کان له منشأ عقلائی .

وقد یظهر من الشیخ الأعظم فی «طهارته» أنّه جعل صحیح علی بن جعفر السابق مؤیّداً لوجوب الفحص عن المانع والحاجب، بما له من التوجیهات التی قد عرفت تفصیلها .

ولکن الإنصاف أن یقال : إنّ الحدیث کان مورده صورة الشکّ فی حاجبیّة الحاجب، للعلم بوجود الخاتم والسوار فی الید، وقد شکّ فی حاجبیّتهما، ونحن قد حقّقناه سابقاً، بأنّه لا إشکال فی وجوب الفحص عنه، وهذا لا یوجب شموله لصورة الشکّ فی أصل وجود الحاجب، لا بالأولویة بل ولا بالسویة، لإمکان الامتنان والتسهیل من الشارع فی هذا المورد، وإمضائه لبناء العقلاء فیه، وهو أمر معقول لا مانع منه.


1- وسائل الشیعة: أبواب الحیض، الباب 19، الحدیث 2.

ص:112

فالأقوی عندنا هو القول بالتفصیل، من وجوب الفحص فی الشکّ فی حاجبیّة الحاجب، وعدم وجوبه فی الشکّ فی أصل وجوده، کما لایخفی ، واللّه العالم بالصواب .

ثمّ الظاهر أنّه لا فرق فی حکم الحاجب بین أفراده من الخاتم وما یشابهه، وبین غیره من الأوساخ والموانع الاُخری، إذا تجاوز الوسخ عن الحدّ المتعارف وعُدّ ساتراً لما تحته من ظاهر البشرة الذی یجب غسله ومسحه، ولم یکن إزالته مستلزماً للعسر والحرج، فلا إشکال حینئذٍ ظاهراً فی وجوب إیصال الماء إلی البشرة، مع ملاحظة الأدلّة الأوّلیة .

واحتمال کون حکم الحاجب فی هذه الموارد، حکم الشعر فی اللحیة فی الغسل، وشعر الرأس فی المسح، فلا تجب إزالته.

غیر مقبول، لما قد عرفت منّا سابقاً أنّ مقتضی الدلیل الأوّلی، هو لزوم وصول الماء إلی البشرة، إلاّ ما خرج بالدلیل کالشعر، ولیس لغیره ما یدلّ علی الاستثناء المذکور، فأیّ بیان أقوی منه، فما قیل: إنّه لو کان ذلک لازماً لبیّنوه، لیس علی ما هو علیه، ولذلک صرّح المحقّق فی «المعتبر» والعلاّمة فی «القواعد» والشهید فی «الذکری» والمحقّق الثانی فی «جامع المقاصد» وصاحب «الجواهر» بوجوب الإزالة حتی یصل الماء إلی البشرة ، فجعل العلاّمة ذلک فی «المنتهی» أقرب، لا یخلو عن ضعف، بل لا دلیل علیه، حسب ما عرفت .

وحیث أنّه قد عرفت صورتی الشکّ فی الحاجب، من الشکّ فی أصل وجوده أو فی صفته، فلا بأس هنا أن نشیر إلی سائر أقسام الشکوک وبیان حکمها من الصحّة وعدمها، فنقول :

الوجه الثالث : ما لو کان الشکّ فی أصل وجوده أو فی صفته، إلاّ أنّ الشکّ لم یکن إلاّ قبل الفراغ، أی وقع فی الأثناء قبل تحقّق ذلک المشکوک فی الخارج، سواء قبل الشروع فی العمل أو فی أثنائه ، وأمّا ما لو کان الشکّ بعد الفراغ فی کلا

ص:113

قسمیه، فلا إشکال فی الحکم بالصحّة، کما عن جمیع الفقهاء الذین قد تعرّضوا المسألة، وجعلوا دلیل المسألة _ کما فی «الجواهر» _ شیئین، من قاعدة الفراغ، لأنّه شکّ بعد الفراغ عن العمل، ولا یعبأ بالشکّ بعد الفراغ، للأخبار المعمولة بها الدالّة علی ذلک ، هذا فضلاً عن وجود دلیل یفید لزوم حمل فعل المسلّم علی الصحّة.

ولکن یرد علی الثانی منها أنّه لو اُرید منه ما هو الظاهر منه، بکون فعل کلّ یصدر منه علی النحو الصحیح، وهذه قاعدة ثابتة یتمسّک بها فی موارد مختلف من المسائل الفقهیة .

ففیه أنّ أصالة الصحّة کذلک، تجری فی الشکوک المتعلّقة لفعل الغیر من المسلمین، لا فعل الإنسان نفسه، کما یستشعر ذلک من الحدیث المستفاد من هذه القاعدة وهو قوله علیه السلام : «ضع أمر أخیک علی أحسنه» .

وإن اُرید منه أنّ کلّ إنسان متشرّع ومتدیّن بالدِّین، إذا أتی بعمل یحاول أن یأتی من الفعل علی النحو الصحیح، وکان حال العمل وضعه کذلک، فکان العمل الذی أتی به فی محلّه، فقد أتی صحیحاً کاملاً ، فهو لیس إلاّ قاعدة الفراغ، لأنّ القول بأنّ الفراغ موجب للحکم بالصحّة، لیس إلاّ ما ذکر، فلا یکون حینئذٍ دلیلاً سوی دلیل الفراغ، مع أنّ ظاهر کلامهم کونه دلیلاً مستقلاًّ ، وکیف کان فالحکم بالصحّة فی هذه الصورة قویٌّ .

الوجه الرابع : ما لو شکّ بعد الفراغ من أنّه قد حاول حین الوضوء إیصال الماء إلی ما یشکّ وصول الماء إلیه، مع علمه بوجود الحاجب، وکان الشکّ فی حاجبیّة الحاجب أو کان الشکّ فی العلاج مع الشکّ فی أصل وجود الحاجب حتّی یکون من قبیل تداخل الشکّ بالشکّ ، فهنا أیضاً حکم بالصحّة، لقاعدة الفراغ، وتمسّک أیضاً هنا بدلیل حمل فعل المسلم علی الصحّة، کما فی «الجواهر» ، ولکن قد عرفت حاله .

ص:114

إلاّ أنّ شبه التعلیل الوارد فی صحیح بکیر بن أعین بقوله: «قال: قلت له : الرجل یشکّ بعدما یتوضّأ ؟ قال : هو حین یتوضّأ أذکر منه حین یشکّ»(1).

یرشدنا إلی أنّ الأذکریة حال العمل لإتیان ما هو الوظیفة، کان أولی بالالتفات من الشکّ بعد الفراغ عن العمل، فیحکم بالصحّة هنا لذلک .

إلاّ أنّه یستفاد من ذلک التعلیل أمر آخر أیضاً، وهو عدم الالتفات حین الاشتغال بالعمل والاعتناء بالشکّ فیما لو علم أنّه لو کان ملتفتاً حال العمل وغیر شاکّ فی حاله لکان غافلاً عن ذلک قطعاً، فإنّ الأذکریّة حینئذٍ لیست جاریة هاهنا، لفرض الغفلة وعدم التنبّه.

ولذلک أشکل صاحب «الجواهر» ، بل وهکذا بعض الفقهاء من أصحاب تعالیق «العروة» فی صحّته، بل وفی العروة أیضاً فی المسألة الواحد والخمسون من مسائل الشکوک، من الحکم بالاحتیاط فی الإعادة .

اللهمّ إلاّ أن یقال بمقالة صاحب «المستمسک» من عدم لزوم الأذکریّة فی حال العمل فی الحکم بالصحّة، کما علیه الآملی قدس سره ، إلاّ أنّه قد جعل وجهه فی «المستمسک» هو استفادة عدم اعتباره من مضمون خبر حسن بن حسین بن أبی العلاء، حیث کان فیه: «وقال فی الوضوء تدره فإن نسیت حتّی تقوم فی الصلاة، فلا آمرک أن تعید الصلاة»(2).

حیث یدلّ علی أنّه علی فرض الغفلة والنسیان حال العمل عن إیصال الماء وعدمه، فإنّ عروض الشکّ له بعد ذلک من تلک الناحیة، یوجب أن لا یعتنی بذلک الشکّ .

فأجاب عنه الآملی: بأنّه یمکن أن یقال بعدم دلالة الخبر المذکور علی الحکم


1- وسائل الشیعة: أبواب الوضوء، الباب 42، الحدیث 7.
2- وسائل الشیعة: أبواب الوضوء، الباب 41، الحدیث 2.

ص:115

بالصحّة مع الشکّ فی وصول الماء إلی البشرة، إذ یحتمل أن یکون السؤال عن حکم الخاتم فی نفسه فی حال الغُسل والوضوء، وبعد إجابته بلزوم تحویل الخاتم فی الغسل وإدارته فی الوضوء، والتصریح بعدم وجوب إعادة الصلاة بترکه، فإنّه یدلّ علی استحباب التحویل والإدارة، ولو مع العلم بوصول الماء تحته، کما أفتی الأصحاب بذلک ، ولعلّ هذا الاحتمال فی الخبر أظهر، ومع المنع عن أظهریّته فلا أقلّ من مساواته، مع احتمال أن یکون الترک النسیانی فی مورد الشکّ فی وصول الماء إلی البشرة، ومن ثمّة یتمسّک فیه بقاعدة الفراغ، حتّی مع العلم بالغفلة حال العمل ، انتهی کلامه .

ولکن الإنصاف أنّ الإشکال وارد علی المعترض والمعترض علیه .

فأمّا علی الأوّل: لوضوح أنّ مورد هذا الخبر وما یشابهه مثل مرسلة الصدوق الوارد فیها قوله: «قال : إذا کان مع الرجل خاتم فلیدوره فی الوضوء ویحوّله عند الغسل . قال : وقال الصادق علیه السلام : فإن نسیت حتّی تقوم فی الصلاة، فلا آمرک أن تعید»(1) . فإنّها لا تدلّ علی استحباب التدویر والتحویل، لأنّه یستلزم أن لا یکون وجهاً لبیان حکمه الواقع بعده، بقوله : «فلا آمرک بالإعادة»، لأنّه لا یحتمل أحد أن یجوز نقض الصلاة لأمر ندبی، حتّی یدفعه الإمام علیه السلام بأنّه لا یحکم بالإعادة ، وما تری من تجویز قطع الصلاة لنسیان الإقامة إلی ما قبل الرکوع ، إنّما هو بدلیل خارجی استثنائی، وإلاّ لولاه لما التزم به أحد فیه أیضاً .

فلابدّ أن یکون مورد حکم النسیان فیما یقتضی من شأنه، هو الحکم بالإعادة أو احتماله ، فدفعه الإمام بذلک، ولیس ذلک إلاّ من جهة أمر وجوبی قد نسی وقوعه فی محلّه، فحکم الإمام علیه السلام بعدم لزوم الإعادة لتدارکه، وهذا الحکم صدر


1- وسائل الشیعة: أبواب الوضوء، الباب 41، الحدیث 3.

ص:116

من جهة وجود قاعدة اُخری مصحّحة له، وهی قاعدة الفراغ عن عمل الوضوء ، بل وقاعدة الفراغ، أو قاعدة لا تعاد بالنسبة إلی الصلاة _ لو عمّمنا نسیانه لکن تشمل الصلاة عند الفراغ عنها لا خصوص حال الاشتغال بها _ ، فلذلک حکم الإمام علیه السلام بعدم لزوم الإعادة من جهة نسیان التدویر والتحویل، الذی کان مورده فیما یحتمل عدم وصول الماء إلی تحت الخاتم، فیحکم بالصحّة هنا .

ولیس مورد النسیان ما لو عرض له الشکّ قبل الوضوء، أو فی أثنائه فنسی، حتّی یزاحم الأذکریة، وأن یقال بأنّه لا یکون هنا کذلک فیقال بعدم شمول قاعدة الفراغ لمثله ، بل کان المقصود فی الحدیثین هو نسیان أصل العمل من التدویر والتحویل، الذی کان وقوعهما بحسب شأنهما، لإزالة الشکّ الممکن العارض للمتوضّی والمغتسل، کما یمکن عدم عروضه، فالحدیث من تلک الناحیة ساکت، عن أنّه قد عرض له الشکّ ونسی العمل أم لم یعرضه ونسی .

وممّا ذکرنا فی الأخیر، یظهر الإشکال علی المتعرض علیه أیضاً، لأنّه قد جعل الحدیث دلیلاً علی عدم اعتبار الأذکریة فی قاعدة الفراغ، فی الحکم بالصحّة، مع أنّه لیس کذلک إلاّ أن یدّعی أنّ إطلاقه یشمل حتّی صورة عدم عروض الشکّ حال العمل، ومع ذلک نسی العمل، فحَکَم بالصحّة وعدم لزوم الإعادة، وهذا ما یتعارض مع مفاد دلیل قاعدة الفراغ من التعلیل بالأذکریة .

هذا، ولکن یمکن أن یقال _ مع تسلیم ذلک _ أنّه لا یکون الحدیثین مرتبطین ببحثنا، لأنّ مورد مسألتنا هو صورة الشکّ فی العلاج بعد الوضوء، أی لا یعلم أنّه قد عالج ما فی یده حتّی یصل الماء إلی تحت الخاتم، مع التفاته بأنّ حال العمل کان غافلاً عن أصله أیضاً .

وهذا بخلاف مورد الحدیثین، حیث أنّهما صدرا فی حقّ من یعلم بعد الوضوء أنّه قد ترک العلاج نسیاناً، فیکون خارجاً عن فرضنا .

ص:117

اللهمّ إلاّ أن یقال : بأنّ موردهما وإن کان فی صورة العلم بالترک لا الشکّ ، إلاّ أنّه إذا حکم بصحّة العمل فی صورة العلم بالترک والنسیان، فصورة الشکّ فیه یکون محکوماً بالصحّة بالأولویّة .

ولکن یمکن الإشکال فیها أیضاً، لأنّه إذا فرض اعتبار الأذکریة حال العمل فی شمول قاعدة الفراغ، المقتضی لعدم الحکم بالصحّة فی مورد الحدیث ، إلاّ أنّه بمقتضی إطلاقهما قد تعارض مع مفاد قاعدة الفراغ، وحکمنا بتقدیم مفاد الحدیثین علی ما استظهر من قاعدة الفراغ علی الفرض، فلابدّ الاکتفاء بالقدر المتیقّن من التعارض والخروج عن مفاد قاعدة الفراغ، وهو صورة العلم بالترک نسیاناً، ویبقی صورة الشکّ داخلاً فی مقتضی مفاد قاعدة الفراغ، من لزوم الالتفات حال العمل، فحیث لا یکون موردنا کذلک، فلا یحکم بالصحّة ، إلاّ أنّ الالتزام بالخروج عن ذلک فی صورة العلم، _ دون صورة الشکّ _ والحکم بالصحّة ولزوم الإعادة، فإنّ إثبات دون ذلک خرط القتاد .

وکیف کان، فثبت أنّ الحقّ مع صاحب «الجواهر» فی أنّه لا یمکن الجزم بالصحّة فی هذه الصورة، فالحکم بالاحتیاط بالإعادة هاهنا لا یخلو قوّة، کما علیه السیّد فی «العروة» وأکثر من علّق علی «العروة»، حیث لم یستشکلوا علیه فی حکمه باحتیاط الإعادة، کما لا یخفی .

الوجه الخامس: هو ما لو علم بوجود الحاجب، أو شکّ فی حاجبیة الحاجب، إلاّ أنّه لا یعلم تقدّم کلّ واحد منهما علی الوضوء أو تأخّره عنه، مع کون الشکّ فی ذلک حادثاً بعد الفراغ عن العمل، بلا فرق فی ذلک بین ما لو علم تاریخ الوضوء دون تاریخ وجود الحاجب، أو تاریخ حاجبیة الحاجب، أو لا یعلم تاریخ شیئاً من الحادثین.

فلا یبعد القول بالصحّة فی تمام هذه الفروض، لجریان قاعدة الفراغ فی

ص:118

جمیعها، لصدق الأذکریة حال العمل فی تمامها ، إلاّ أن یعلم غفلته حاله، فقد عرفت حینئذٍ الإشکال فیه .

بل یمکن استیناس الحکم بعدم الالتفات بعد العمل، من موثّقة عمّار بن موسی الساباطی: «أنّه سأل أبا عبداللّه علیه السلام عن رجل یجد فی إنائه فأرة، وقد توضّأ من ذلک الإناء مراراً أو اغتسل منه، أو غسل ثیابه، وقد کانت الفأرة متسلخة ؟

فقال : إن کان رآها فی الإناء قبل أن یغتسل أو یتوضّأ أو یغسل ثیابه، ثمّ یفعل ذلک بعدما رآها فی الإناء، فعلیه أن یغسل ثیابه، ویغسل کلّ ما أصابه ذلک الماء، ویعید الوضوء والصلاة، وإن کان إنّما رآها بعدما فرغ من ذلک وفعله، فلا یمسّ من ذلک الماء شیئاً، ولیس علیه شیء، لأنّه لا یعلم متی سقطت فیه.

ثمّ قال : لعلّه أن یکون إنّما سقطت فیه تلک الساعة التی رآها»(1) .

حیث أنّ التعلیل الواقع فی ذیله بقوله : «لأنّه لا یعلم متی سقطت»، کان وارداً مورد بیان ضابطة کلّیة، وإفهام أنّ ذلک الحکم _ أی عدم الاعتناء _ لا یکون مخصوصاً لخصوص مورد الحدیث، بل یجری فی کلّ ما یکون مشابهاً لذلک، إذ التعلیل المذکور فی الأدلّة یعدّ معمّماً ومخصّصاً للحکم، فکأنّه أتی به لبیان ما هو ملاک للحکم، فیجری فیما یمکن أن یکون من نظائره، ففی المقام نقول أیضاً: لعلّ أصل وجود الحاجب، أو حصول الشکّ فی حاجبیّة الحاجب، قد تحقّق بعد الوضوء، حیث لا یکون الوضوء حینئذٍ إلاّ محکوماً بالصحّة .

فعلی هذا ثبت أنّ إجراء حکم مفاد الحدیث لما نحن فیه، لا یحتاج إلی ضمیمة مقدّمة اُخری المذکورة فی «الجواهر»، بقوله فی ذیل الحدیث: بناءً علی مساواة الحائل لنجاسة الماء .


1- وسائل الشیعة: أبواب الماء المطلق، الباب 4، الحدیث 1.

ص:119

الخامسة: مَنْ کان علی بعض أعضاء طهارته جبائر، وإن أمکنه نزعها، أو تکرار الماء علیها، حتّی یصل البشرة، وجب (1).

لما قد عرفت من أنّ الحکم المستفاد کان من لسان التعلیل، لا من باب تنقیح المناط حتّی نحتاج إلی هذه الضمیمة ، وقس علی هذه الفروض من الشکوک سائر المحتملات المتصوّرة، من الصحّة والفساد، فلیتأمّل .

(1) اعلم أنّ الجبائر جمع جبیرة، وهی فی الأصل عبارة عن الألواح والأخشاب المشدودة علی المکسور ، إلاّ أنّ الفقهاء قد وسّعوا حکمها عنها إلی غیرها من الجروح والقروح ، بل جعلوا مقصودهم هو الأعمّ ممّا یوضع علی المکسور ویشدّ علیه، وممّا یجعل أو یقع علی الجروح والقروح والأنامل من الأدویة، سواء ملطّخاً کان أو شدّاً أو ضماداً کما ذکره الشیخ الأنصاری قدس سره فی «طهارته»، فیکون البحث هاهنا من جهة حکم المشدود والمشدود علیه معاً ، ولعلّ وجه المناسبة لإتیان الجبائر بصورة الجمیع، هو من جهة أنّ الغالب فیما یشدّ به المکسور هو من الخشب واللوح.

فی أحکام الجبائر / المراد من الجبیرة

وکیف کان، قد یمکن الاستیناس لتعمیم الحکم لجمیع أقسامها، حتّی یشمل الجروح وغیرها، ما یستفاد من مضمون بعض الأخبار، وهی: منها: صحیح عبدالرحمن بن الحجّاج، قال : «سألت أبا الحسن الرضا علیه السلام عن الکسیر، تکون علیه الجبائر، أو تکون به الجراحة، کیف یصنع بالوضوء، وعند غُسل الجنابة وغسل الجمعة ؟ فقال : یغسل ما وصل إلیه الغَسل، فما ظهر ممّا لیس علیه الجبائر، ویدع ما سوی ذلک ممّا لا یستطیع غسله، ولا ینزع الجبائر ویعبث بجراحته»(1) .


1- وسائل الشیعة: أبواب الوضوء، الباب 39، الحدیث 1.

ص:120

حیث قد أطلق کلمة الجبائر علی ما یضع علی الجراحة، فجعل الإمام علیه السلام حکم الجراحة مذکوراً مع حکم الکسر فی ذلک، فیفهم منه الاتحاد فی ذلک ، ولعلّه من تلک الجهة قد وسّع الفقهاء وفهموا منه التعمیم، لا أن یکون ذلک من عند أنفسهم، وإن کانت المسألة فی مورد الروایة محلّ بحث، سیأتی إن شاء اللّه .

ثمّ لا یخفی علیک، أنّ کلام المصنّف یشتمل علی أبحاث من الحکم :

تارةً: علی أنّ وصول الماء إلی البشرة واجب أم لا؟

فنقول: لا إشکال ولا خلاف فی ذلک، لأنّ مقتضی ما دلّ علی وجوب الوضوء التامّ، یفید وجوب إیصال الماء إلیها، إن کان فی محلّ الغسل ، فحینئذٍ إن لم یکن لذلک مانع فالحکم واضح، ولا ینتقل إلی بدله من الجبیرة وغیرها .

وأمّا إن کان له مانع فلابدّ حینئذٍ من علاج لتحصیل الواجب، بقدر ما یمکن ذلک، کما یستأنس ذلک من صحیح الحلبی أو حسنته من جهة إبراهیم بن هاشم، عن أبی عبداللّه علیه السلام : «أنّه سُئل عن الرجل تکون به القرحة فی ذراعه أو نحو ذلک من مواضع الوضوء، فیعصّبها بالخرقة، ویتوضّأ، ویمسح علیها إذا توضّأ ؟

فقال : إذا کان یؤذیه الماء فیمسح علی الخرقة، وإن کان لا یؤذیه الماء فلینزع الخرقة، ثمّ لیغسلها»(1) ، الحدیث .

حیث یفهم منه أنّ ما هو الواجب فیما لا یؤذیه هو الغسل لنفس البشرة، وإن لم یکن ذلک ینتقل إلی بدله .

فی أحکام الجبائر إذا أمکن تحصیل الغَسل الواجب

واُخری: یبحث فی أنّ تحصیل الغسل الواجب بماذا یتحقّق ؟

قد یقال : بأنّه مخیّر فی تحصیله بأمرین، أو اُمور ثلاثة من نزع المانع،وإیجاد الغسل علی البشرة، أو تکرار الماء علیها، حتّی یصل الماء إلیها، أو الغمس فی الماء .


1- وسائل الشیعة: أبواب الوضوء، الباب 39، الحدیث 2.

ص:121

وحکی ذلک عن جماعة، بل عن «المدارک» دعوی نفی الخلاف فیه ، وعن «الحدائق» ظاهر الإجماع علیه، بل فی «طهارة» الشیخ الأعظم رحمه الله نفی الخلاف.

والإشکال فی التخییر بین الثلاثة .

خلافاً للعلاّمة فی «التذکرة» من إیجاب النزع والغسل إن أمکن، وإلاّ فالمسح علی نفس البشرة، فإن تعذّر فإنّه یجب إیصال الماء بالتکریر أو الغمس ، فإنّه قد جعل الواجب التکریر والغمس بعد المسح علی البشرة ولم یحکم بالتخییر بین النزع والتکریر، کما ذکروه .

فالأقوی أن یقال : قد عرفت منّا سابقاً وجوب الغسل فی الوضوء، وکونه بحسب المفهوم عرفاً بل ولغةً هو فیما إذا جری الماء علی الشیء، فلابدّ من تحقّق هذا فی مفهومه، وإلاّ لم یصدق علیه الغسل ، فحینئذٍ، لو نزع وغسل، فالحکم واضح فی أنّه قد أوجد مصداقه لتحقّق الجریان فیه ، وأمّا صورة التکریر أو الغمس فی الماء فإن قطع بحصول الجریان فیهما، فلا إشکال فی کفایتهما، وإلاّ لا یجوز، إلاّ أن یدلّ علی جوازه دلیل.

ولو لم یتحقّق الجریان معه، کما قد یمکن الاستشعار لذلک من موثّقة عمّار، عن أبی عبداللّه علیه السلام : «فی الرجل ینکسر ساعده، أو موضع من مواضع الوضوء، فلا یقدر أن یحلّه لحال الجبر إذا جبر کیف یصنع ؟ قال : إذا أراد أن یتوضّأ فلیضع إناء فیه ماء، ویضع موضع الجبر فی الماء، حتّی یصل الماء إلی جلده، وقد أجزأه ذلک من غیر أن یحلّه»(1) .

فإنّ تجویز الغمس فی الماء، إمّا محمول علی ما یحصل بذلک الجری المحقّق للغسل، وهو کما إذا کانت الأخشاب غیر ملتصقة بالبدن، بل کان من الممکن نفوذ الماء فیها.


1- وسائل الشیعة: أبواب الوضوء، الباب 39، الحدیث 7.

ص:122

أو إن کان إطلاقه یشمل ما لو لم یتحقّق فیه الجری، کما إذا کان الجبر ملتصقاً بالبدن، علی نحو لا یصل الماء إلی البشرة جریاً، فلا یبعد القول بکفایته فی ذلک، وإن لا یصدق علیه الغسل حقیقیةً، بل یکون غسلاً حکمیاً، لأنّه قدفرض صورة عدم القدرة علی الإحلال، فکأنّ الشارع جعل هذا غسلاً لمثل هذا الشخص .

وما فی «الجواهر» بظهور الخبر _ لا سیما ذیله _ فی أنّه یجزیه ذلک، وإن تمکّن من حلّه.

غیر وجیهٍ، لأنّه قد فرض فی صدره صورة عجزه عن الحلول، فیکون المقصود من ذیله بقوله: «من غیر أن یحلّه» إشارة إلی ما هو المتعارف من الکلام، بأنّه یصحّ من دون أن یلزم الإحلال، لا أن یکون المقصود بیان کفایته، حتّی فی صورة إمکان النزع وإیجاد الجری علیه، حتّی یتحقّق الغسل.

فعلی هذا، لا تکون الموثّقة معارضة لصحیح الحلبی وغیره، لأنّ مورد الحلبی کان فیما هو قادرٌ علی إیصال الماء من دون أن یتأذّی منه إیصاله البشرة، وأمّا الموثّقة کان لمن لا یقدر الإحلال ، إمّا من جهة تأذّیه من الماء وأضراره، أو لعدم القدرة من جهة جبر الکسیر، حیث أنّ حلّه یوجب تکسیره مرّة اُخری، کما هو المتعارف فی أمثاله .

ومن الواضح أنّ إیصال الماء کذلک، مع هذا الوصف، بواسطة التکریر أو الغمس، الذی یکون إمّا صادقاً علیه الجری فی الغسل، _ کما قد یتّفق لبعض الجبر _ ، أو کان قریباً بذلک، یعدّ أولی بالاکتفاء من المسح علی الخرقة والجبیرة، أو الاکتفاء بالتیمّم، کما لایخفی .

هذا، مضافاً إلی أنّ الترتیب المعتبر فی غَسل الأعضاء، قد لا یحصل، لعدم صبّه الماء علی نحوٍ یکون الماء جاریاً من أعلی العضو إلی أسفله، فکیف یمکن الاکتفاء بذلک، حتّی فی حال سهولة النزع وإمکانه بلا عُسر عرفی، فالتخییر

ص:123

وإلاّ أجزاه المسح علیها (1).

المذکور صحیح، لو اُحرز تحصیل الشروط بالتکریر أو الغمس ، وإلاّ کان النزع مقدّماً علی الآخرین ، کما أنّه لو عجز عن إیصال الماء إلیه علی نحو التکریر والغمس، لإضراره، فیکتفی بالمسح علی الجبیرة، کما وقع فی کلام المصنّف.

وما ذکرناه من الجمیع یساعده فتوی الفقهاء، ولسان الأخبار، لأنّه من المستبعد أن یکون مقصودهم من ذلک، التخییر حتّی مع العلم بفقدان الشرط أو الشرطین، مع إمکان تحصیلهما ، إلاّ أن لا یقولوا بشرطیة الشرط، کما علیه جمع منهم الحکیم قدس سره والشیخ الأعظم علی احتمالٍ ، وما ذکرناه یساعده الجمع بین الأخبار، کما سنبیّنه إن شاء اللّه تعالی .

مضافاً إلی إمکان الاستدلال علی أولویة مسح البشرة علی المسح علی الجبیرة، أو الحکم بتقدّم إیصال الماء إلی البشرة الموجب لصدق الغسل الوصولی، دون غیره من الجری _ بقاعدة المیسور والإدراک، بناءً علی شمولهما لمثل هذه الاُمور، وعدم اختصاصهما بخصوص أجزاء المرکّب، فیقال فی تقریبه للمقام بأنّ فی الغسل شیئان واجبان : أحدهما : صبّ الماء علی البشرة وإیصاله إلیها .

والثانی : صدق الغسل بالجری علیها.

فإذا لم یکن تحصیل الثانی مقدوراً بواسطة عدم إمکان النزع، فلا یوجب هذا العُسر سقوط میسوره وما یمکن درکه، وهو مباشرة الماء للجسد بالوصول إلیه، لأنّ المیسور لا یسقط بالمعسور، وما لا یدرک کلّه لا یترک کلّه .

وهذا هو الأقوی کما علیه صاحب «الجواهر»، بل لا یبعد أن یکون هذا هو مقصود الفقهاء من التخییر بین الأمرین، لا فی صورة إمکان النزع وتحصیل تمام الشرائط .

(1) أی وإن لم یمکن تحصیل الغَسل الواجب، بما قد عرفت منّا سابقاً، فینتقل الحکم

ص:124

والواجب إلی المسح علی الجبیرة، فعدم إمکان الغسل یکون علی أقسام ؛ لأنّه:

تارةً: یکون لضرریة الماء بالنسبة إلیه ، واُخری: لعدم إمکان إیصال الماء إلی تحت الجبیرة، وعدم إمکان رفعها .

فی أحکام الجبائر إذا لم یمکن تحصیل الغَسل الواجب

وثالثة : لنجاسة الموضع وعدم إمکان تطهیره .

ثمّ إنّه قد یکون مورد الجبیرة، هو محلّ الغسل الواجب أو محلّ مسحه ، ثمّ فی تمام هذه الصور، قد یکون عدم إمکان الوضوء التام من جهة کسر الموضع وکونه مشدوداً بالجبیرة. وقد لا یکون کذلک، أی بأن یکون مکشوفاً ومجرّداً خصوصاً فی مثل القروح والجروح .

فلا إشکال ولا خلاف أنّ ما هو الواجب أوّلاً هو الوضوء التامّ، ثمّ قد عرفت منّا سابقاً کفایة الغَسل الوصولی لو لم یمکن تحصیل الجریان ، وإن لم یمکن ذلک، فهل ینتقل الحکم إلی المسح علی الجبیرة لو کانت واقعة علیه غسلها، أو یدع غسلها ومسحها، بل یغسل ما حولها، أو یتبدّل الحکم إلی التیمّم؟

وحیث أنّ هذه الأحکام لابدّ أن یستنبط مع ملاحظة الأخبار الواردة، فلا بأس بذکرها وبیان اختلاف طوائفها :

فطائفة: تدلّ علی کفایة المسح علی الجبیرة عن غسلها، فی محلّ الغسل، وعن مسحها فی محلّ المسح، وإن کان مساق نصوص کثیر من الأخبار بحسب الدلالة هو المسح علی الجبیرة.

وأخبار هذه الطائفة هی: عن أبی عبداللّه علیه السلام : «أنّه سُئل عن الرجل تکون به القرحة فی ذراعه أو نحو ذلک من مواضع الوضوء، فیعصّبها بالخرقة، ویتوضّأ ویمسح علیها إذا توضأ؟ فقال: إذا کان یؤذیه الماء فیمسح علی الخرقة، وإن کان

ص:125

لا یؤذیه الماء فلینزع الخرقة، ثمّ لیغسلها»(1).

فهی تدلّ علی أنّ القرحة کانت فی ذراعه معصّبة بالخرقة، فأجابه الإمام علیه السلام بقوله : «إذا کان یؤذیه الماء فلیمسح علی الخرقة، وإن کان لا یؤذیه الماء فلینزع الخرقة ثمّ لیغسلها» ، الحدیث .

منها: حدیث کلیب الأسدی، قال : «سألت أبا عبداللّه علیه السلام ، عن الرجل إذا کان کسیراً کیف یصنع بالصلاة ؟ قال : إن کان یتخوّف علی نفسه فلیمسح علی جبائره ولیصلّ»(2) ، فإنّ إطلاقه یشمل صورتی الغسل والمسح، وإن کان مورده بحسب مناسبة الحکم والموضوع، بل مع ملاحظة تصریح ذیله بالمسح علی الجبیرة، هو وقوع الجبیرة علی المکسور، فإنّ مفهومه یشمل لزوم غسل الجبیرة ظاهرها لا مسحها مع عدم الخوف .

منها: حدیث حسن بن علی الوشاء، قال : «سألت أبا الحسن علیه السلام عن الدواء إذا کان علی یدی الرجل، أیجزیه أن یمسح علی طلی الدواء؟ فقال : نعم یجزیه أن یمسح علیه»(3).

فإنّ مورد الحکم بالمسح فیما لا یقدر غسل الدواء المطلی، لا فیما یمکن ذلک. منها: ومثله ما رواه الصدوق(4).

منها: حدیث محمّد بن مسعود العیاشی فی «تفسیره»، عن إسحاق بن عبداللّه بن محمّد بن علی بن الحسین، عن الحسن بن زید، عن أبیه عن علی بن أبی طالب علیه السلام ، «قال : سألت رسول اللّه صلی الله علیه و آله عن الجبائر، تکون علی الکسیر، کیف


1- وسائل الشیعة: أبواب الوضوء، الباب 39، الحدیث 2.
2- وسائل الشیعة: أبواب الوضوء، الباب 39، الحدیث 8 .
3- وسائل الشیعة: أبواب الوضوء، الباب 39، الحدیث 9.
4- وسائل الشیعة: أبواب الوضوء، الباب 39، الحدیث 10.

ص:126

یتوضّأ صاحبها وکیف یغتسل إذا أجنب ؟ قال : یجزیه المسح علیها فی الجنابة والوضوء . قلت : فإن کان فی برد یخاف علی نفسه إذا أفرغ الماء علی جسده ؟ فقرأ رسول اللّه صلی الله علیه و آله : «وَلاَ تَقْتُلُوا أَنفُسَکُمْ إِنَّ اللّه َ کَانَ بِکُمْ رَحِیما»(1) . فکلمة (الإجزاء) توهم کفایة الغسل لظاهر الجبیرة، لکن لا علی نحو التعیین، إلاّ أن یحمل علی الغالب عند عدم الإمکان» .

منها: حدیث عبد الأعلی مولی آل سام، قال : «قلت لأبی عبداللّه علیه السلام : عثرتُ فانقطع ظفری فجعلت علی اصبعی مرارة فکیف أصنع بالوضوء ؟ قال : یعرف هذا وأشباهه من کتاب اللّه عزّوجلّ ، قال اللّه تعالی : «مَا جَعَلَ عَلَیْکُمْ فِی الدِّینِ مِنْ حَرَجٍ» امسح علیه»(2) .

فالذی یظهر منه کون الظفر المنقطع هو من الرجل لا الید، بشهادة لفظ عثرتُ حیث یتناسب مع الرجل لا الید وإن کان یمکن أن یوجب عثوره انکسار ظفر الید لکنّه بعید، فعلیه یکون مورده هو جبیرة موضع المسح لا الغسل، فلا یستفاد منه حکم المسح علی الجبیرة، إن کان الکسر فی مواضع الغسل، فمکن الذهاب فیه إلی لزوم الغسل لظاهر الجبیرة أوّلاً، وإلاّ ینتقل إلی المسح علیها بمقتضی دلالة الآیة الشریفة.

کما أنّ هذا الخبر لا یشمل صورة کون المکسور أو المجروح مجرّداً غیر ملفوف بشیء من الجبائر، لاختصاص مورده فی ذلک، کما هو واضح ، هذه هی الطائفة الاُولی من الأخبار .

نعم فی الخبر الأخیر لو عمّمنا مورده بحیث یشمل ظفر الید فیکون حکمه


1- وسائل الشیعة: أبواب الوضوء، الباب 39، الحدیث 11.
2- وسائل الشیعة: أبواب الوضوء، الباب 39، الحدیث 5.

ص:127

بالمسح فی موضع الغسل مؤیّداً لما ادّعوه من المسح لظاهر الجبیرة لا الغسل .

وظائفة اُخری: تدلّ علی کفایة غسل ما حول الجرح، من دون أن یلزم المسح علی الجبیرة، ولو بوضع خرقة أجنبیة علیه لإیقاع المسح، والأخبار هی: منها: ما رواه فی الصحیح عن عبد الرحمان بن الحجّاج، قال : «سألت أبا الحسن الرضا علیه السلام عن الکسیر، تکون علیه الجبائر، أو تکون به الجراحة، کیف یصنع بالوضوء، وعند غسل الجنابة وغسل الجمعة ؟ فقال : یغسل ما وصل إلیه الغسل ممّا ظهر، ممّا لیس علیه الجبائر، ویدع ما سوی ذلک ممّا لا یستطیع غسله، ولا ینزع الجبائر ویعبث بجراحته»(1) .

هذا الخبر یدلّ علی إیجاب غسل ما یستطیع غسله ممّا لا تشمله الجبائر، فی قبال ما یفید أنّه لا یجب غسل البشرة فیما فیه الجبیرة، الذی یطلب حکمه من أخبار اُخری .

منها: ذیل صحیح الحلبی، عن الصادق علیه السلام : «قال : وسألته عن الجرح کیف أصنع به فی غسله ؟ قال : اغسل ما حوله»(2) .

منها: صحیح عبداللّه بن سنان، عن أبی عبداللّه علیه السلام : «قال : سألته عن الجرح کیف یصنع صاحبه ؟ قال : یغسل ما حوله»(3) .

منها: مرسلة الصدوق، قال : «وقد روی فی الجبائر عن أبی عبداللّه علیه السلام أنّه قال : یغسل ما حولها»(4) .

منها: خبر عمّار، قال : «سُئل أبو عبداللّه علیه السلام عن الرجل ینقطع ظفره، هل أن


1- وسائل الشیعة: أبواب الوضوء، الباب 39، الحدیث 1.
2- وسائل الشیعة: أبواب الوضوء، الباب 39، الحدیث 2.
3- وسائل الشیعة: أبواب الوضوء، الباب 39، الحدیث 3.
4- وسائل الشیعة: أبواب الوضوء، الباب 39، الحدیث 4.

ص:128

یجوز له أن یجعل علیه علکاً ؟ قال : لا، ولا یجعل إلاّ ما یقدر علی أخذه عنه عند الوضوء، ولا یجعل علیه إلاّ ما (لا) یصل إلیه الماء»(1) .

فإنّ الشیخ قد حمله علی حال الاختیار ، فأمّا علی الضرورة فلا بأس به .

وفی «مجمع البحرین» قال : العلک کحمل، کلّما یمضغ فی الفم من لبان وغیره، والجمع علوک وأعلاک وبفتح العین المضع... إلی آخره .

وکیف کان، فإنّ من المعلوم أنّ الفلک یمنع عن وصول الماء إلی ما تحته، فهذا الخبر علی فرض صحّة النسخة ووجود کلمة (لا) فیها، فإنّه یستفاد منه أنّه یؤتی فی محلّ الوضوء بما هو الوظیفة فی ذلک، فإن کان فی محلّ الغسل علیه أن یغسل الموضع، وفی موضع المسح علیه أن یمسح، فیکون علی هذا دالاًّ علی لزوم غسل الظاهر من الجبیرة، فیخرج حینئذٍ عن هذه الطائفة کما یخرج عنها أیضاً لو صحّحنا کلمة یصل من دون کلمة لا ، حیث أنّه یکون خارجاً عن مورد البحث، لأنّ الظاهر منه حینئذٍ وجوب وصول الماء إلی تحته، فلا یکون حینئذٍ مورده إلاّ ما قاله الشیخ قدس سره .

وکیف کان الخبر لا یرتبط بهذه الطائفة .

وطائفة ثالثة: ما یظهر منها أنّه مع عدم التمکّن من غسل الموضع الذی یجب غسله فی الغسل فیتبدّل حکمه إلی التیمّم، ولا حاجة إلی المسح علی الجبیرة أو غسلها.

منها: ما رواه فی الصحیح عن البزنطی، عن أبی الحسن الرضا علیه السلام : «فی الرجل تصیبه الجنابة، وبه قروح أو جروح، أو یکون یخاف علی نفسه من البرد؟ فقال علیه السلام : لا یغتسل ویتیمّم»(2) .


1- وسائل الشیعة: أبواب الوضوء، الباب 39، الحدیث 6.
2- وسائل الشیعة: أبواب التیمّم، الباب 5، الحدیث 7.

ص:129

منها: ومثله خبر داود بن السرحان(1).

منها: موثّقة محمّد بن مسلم، عن أحدهما علیهماالسلام : «فی الرجل تکون به القروح فی جسده فتصیب الجنابة ؟ قال : یتیمّم»(2) .

منها: مرسلة الصدوق، عن الصادق علیه السلام : «المبطون والکسیر تؤمّمان ولا یغسلان»(3) .

منها: حسنة ابن أبی عمیر، عن محمّد بن مسکین وغیره، عن الصادق علیه السلام ، قال : «قیل له : إنّ فلاناً أصابته جنابة وهو مجدور فغسّلوه فمات ؟

فقال : قتلوه، ألا سألوا ألا یمّموه، إنّ شفاء العیّ السؤال»(4) .

منها: خبر ابن أبی عمیر، عن بعض أصحابنا، عن أبی عبداللّه علیه السلام مثله(5)، إلاّ أنّه لم یذکر فیه التیمّم ، بل وبّخهم فی تغسیل المجدور .

منها: خبر آخر من ابن أبی عمیر، عن الصادق علیه السلام ، قال : «یتیمّم المجدور والکسیر بالتراب إذا أصابته جنابة»(6) .

منها: خبر محمّد بن مسلم، قال : «سألت أبا جعفر علیه السلام عن الرجل یکون به القروح والجراحة یجنب ؟ قال : لا بأس بأن لا یغتسل یتیمّم»(7) .

منها: خبر جعفر بن إبراهیم الجعفری، عن الصادق علیه السلام ، قال : «إنّ النبیّ صلی الله علیه و آله


1- وسائل الشیعة: أبواب التیمّم، الباب 5، الحدیث 8 .
2- وسائل الشیعة: أبواب التیمّم، الباب 5، الحدیث 9.
3- وسائل الشیعة: أبواب التیمّم، الباب 5، الحدیث 12.
4- وسائل الشیعة: أبواب التیمّم، الباب 5، الحدیث 1.
5- وسائل الشیعة: أبواب التیمّم، الباب 5، الحدیث 3.
6- وسائل الشیعة: أبواب التیمّم، الباب 5، الحدیث 4.
7- وسائل الشیعة: أبواب التیمّم، الباب 5، الحدیث 5.

ص:130

ذکر له أنّ رجلاً أصابته جنابة علی جرح کان به، فأمر بالغسل فاغتسل فکرّ فمات ، فقال رسول اللّه صلی الله علیه و آله : قتلوه قتلهم اللّه إنّما کان دواء العیّ السؤال»(1) .

هذه جهة الأحادیث الدالّة علی الحکم بالتیمّم، عند وجود الجراحة أو القرح أو الکسر أو الجدری، من دون تفصیل بین کونها ذات جبائر أو غیرها، ولکن یجب البحث عن کیفیّة التوفیق بین هذه الطوائف .

وقد قیل فی جمعها بأمور ووجوه :

تارةً : علی حمل أخبار التیمّم علی غیر ذی الجبیرة، وحمل ما عداها علی ذی الجبیرة ، ولکن یبعّده إطلاق بعض الأخبار الشامل للحکم بالتیمّم لذی الجبیرة، لأنّ الکسیر بحسب الغالب یکون کذلک، لو لم نقل بذلک فی ذی الجراحة، کما وقع لفظ الکسیر فی مرسلة الصدوق وحدیث ابن أبی عمیر .

واُخری : بحمل أخبار التیمّم علی المستوعب، وغیرها علی غیره ، ففیه أیضاً: بأنّه وإن کان قریباً بالنسبة إلی الجدری، إلاّ أنّه لا یناسب مع الجراحة والقرح والکسیر، لأنّ أکثرها لاتکون مستوعباً لجمیع البدن .

وثالثة : بحمل أخبار التیمّم علی ما لا یمکن مسحه أو مسح خرقة تشدّ علیه، وحمل غیرها علی ما یمکن ، ففیه أیضاً: أنّه لایناسب مع مثل الکسیر، لاسیما لمثل مسح الخرقة، لأنّه قلَّ ما یتّفق بأن لا یقدر المسح علی الخرقة، فیکون حملها علی الفرد النادر، وهو قبیح .

ورابعة : بحمل أخبار الطرفین علی التخییر فی الغسل والوضوء، بین التیمّم أو المسح علی الخرقة ، هذا، لکن کما صرّح به صاحب «المدارک» بقوله: لولا الإجماع علی خلافه، فتحمل أخبار المسح علی الجبیرة بعد التخییر علی الاستحباب .


1- وسائل الشیعة: أبواب التیمّم، الباب 5، الحدیث 6.

ص:131

لکنّه ضعیف غایته لعمومیّتها الشاملة للغسل والوضوء بحسب ملاحظة أصل دلیل مشروعیّة التیمّم، حیث یکون ممّا لا یقدر علی إتیان الوضوء الکامل والناقص، إلاّ أن یدلّ دلیل بالخصوص علی ذلک ، مضافاً إلی إمکان جمع آخر لایستلزم مثل هذه المخالفة للقاعدة، کما لایخفی .

وخامسة : حمل أخبار التیمّم علی صورة التضرّر بالغسل الصحیح، أی بغسل المواضع الصحیحة وحمل غیرها علی غیر هذه الصورة ، هذا هو الذی اختاره المحقّق الهمدانی ، لکن ما یبعده أنّه لا یناسب مع إطلاق کلّ من الطائفتین فی باب الوضوء _ من المسح علی الجبیرة، من دون تفصیل _ وباب الغسل من التیمّم _ وهو کذلک، والحال أنّ التضرّر فی کلّ مورد إذا علم حصوله یکون مساویاً من دون فرق بین البابین، کما لا یخفی .

وسادسة : هو القول بالتفصیل بین باب الوضوء وباب الغسل، حیث أنّ الغسل یعدّ أمره أصعب وأقرب إلی خوف التضرّر، کما قد اُشیر إلی ذلک فی خبر ابن مسعود العیّاشی عن رسول اللّه صلی الله علیه و آله ، حیث قال : «لا تقتلوا أنفسکم فیما إذا خاف علی نفسه من برد» ، بل قد یومئ إلی ذلک توبیخ الإمام علیه السلام ولعن رسول اللّه صلی الله علیه و آله بقوله: «قتلهم اللّه قد قتلوه»، فإنّ ملاحظة حال النفس من جهة وجوب حفظه وإبعاده عن عروض عارض فی الغسل، کان أشدّ من باب الوضوء، فلذلک قد منَّ اللّه علی العباد، وسهّل علیهم الأمر فی باب الغسل من الحکم بالتیمّم بأدنی خوف عقلائی، وهذا بخلاف باب الوضوء حیث أنّه لا یکون التضرّر فیه قریب الوقوع إلاّ بواسطة الغسل بالماء بنحو الصبّ لا بالمسح علی الجرح والقرح، لو لم یکن نجساً، أو علی الجبیرة لو کان مشدوداً، حیث لا یتبدّل إلی التیمّم بسهولة فی الغُسل.

ولعلّ بملاحظة هذه الجهة یمکن الاستشهاد لهذا الجمع بخبر محمّد بن

ص:132

مسلم(1) من القول بعدم البأس فی ترک الغسل والإتیان بالتیمّم، أی یجوز الاکتفاء بالغسل أیضاً لو لم یکن عالماً بالضرر، إلاّ أنّه یجوز له التیمّم حینئذٍ بواسطة حصول الخوف له ، فبذلک یمکن أن یقال : إنّ الخبرین الواردین وهما خبر صحیح عبد الرحمان بن الحجّاج(2). وخبر ابن مسعود(3) حیث کانا مشتملین علی حکم الجبیرة فی الغسل أیضاً، لا یکونان متنافیین مع أخبار التیمّم، لأنّه یمکن أن یکون محمولاً علی مراتب حال الإنسان من الخوف، أی یکون حال الغسل أخفّ مؤونة من باب الوضوء، فیجوز لمن کان کسیراً أو به الجراحة فی الغسل أن یلاحظ حاله، إن کان مأموناً عن الضرر بالإتیان بصورة الجبیرة، والمسح علیها، فإنّها کذلک، وإلاّ فإنّه لو احتمل حدوث الضرر، فله التیمّم ولا یحتاج إلی حصول الاطمئنان بذلک، هذا بخلاف باب الوضوء، حیث أنّه لا یجوز التبدیل إلی التیمّم، إلاّ أن یطمئن بعدم إمکان تحصیل الوضوء الناقص، فیجوز له الإتیان بالتیمّم حینئذٍ .

بل لعلّ الحکم بالتخییر بین المسح بالجبیرة أو التیمّم _ وإن کان الأولی مستحبّاً_ کان فی باب الغسل کذلک لا فی باب الوضوء ، فإن کان یقصد صاحب «المدارک» من التخییر فی باب الغسل والوضوء کلیهما، فالأخبار تدفعه .

فلا بأس حینئذٍ أن نتعرّض لخصوص الکسیر والمجروح من حیث الحکم فی باب الوضوء، بملاحظة الأخبار واختلافات حال المتوضّی، فنقول ومن اللّه الاستعانة :

أوّلاً: إذا لم یتمکّن المجبور أو المجروح من إتیان الوضوء الکامل، وذلک بإیصال الماء إلی البشرة بأن ینزع الجبیرة، ویغسل موضع الجرح أو إیصال الماء


1- وسائل الشیعة: أبواب التیمّم، الباب 5، الحدیث 5.
2- وسائل الشیعة: أبواب الوضوء، الباب 39، الحدیث 1.
3- وسائل الشیعة: أبواب الوضوء، الباب 39، الحدیث 11.

ص:133

بالتکرار أو بالغمس، وکان المفروض من عدم الإمکان أو الإمکان مع المشقّة المسقطة، هو کون الماء مضرٌّ بجبره وجراحته مثلاً ، فلا إشکال حینئذٍ من سقوط وجوب غسل البشرة اللازم فی الوضوء، إن فرض کون مورده ذا جبیرة، بل لابدّ من مسح الجبیرة، وهو یکفی عن غسل البشرة ومسحها.

وهذا هو القدر المتیقّن فی حکم الجبائر بین الفقهاء، والمستفاد من لسان الأخبار، لدلالة الصحیح عن الحلبی بتصریحه علیه بقوله : «إذا کان یؤذیه الماء فلیمسح علی الخرقة»(1).

وصحیحة کلیب الأسدی بقوله : «إن کان یتخوّف علی نفسه فلیمسح علی جبائره ولیصلِّ»(2) .

وخبر ابن مسعود بقوله : «یجزیه المسح علیها فی الجنابة والوضوء»(3).

حیث یکون مورد الفرض هو القدر المتیقّن، مضافاً إلی إشعار ذیله بذلک من قوله : «إذا کان فی برد یخاف علی نفسه إذا أفرغ الماء علی جسده».

حیث أنّه وإن کان ظهوره فی الغسل لا یخلو عن قوّة، لو لم نقل بإطلاقه وشموله للوضوء أیضاً ، بل ویمکن استفادة الحکم المذکور من حدیث عبد الأعلی(4) علی کلا الاحتمالین، من کون الظفر المقطوع من الید أیضاً، أو کان لخصوص الرِجل، لأنّ المورد قد فرض فیه کون مسح البشرة من العسر والحرج بمکان، فلو کان مورد الحدیث _ فرضاً _ هو خصوص الرِجل، إلاّ أنّ قوله: «یعرف هذا وأشباهه من کتاب اللّه» یوجب سرایة الحکم إلی غیر مورده، فالحکم فی هذه


1- وسائل الشیعة: أبواب الوضوء، الباب 39، الحدیث 2.
2- وسائل الشیعة: أبواب الوضوء، الباب 39، الحدیث 8 .
3- وسائل الشیعة: أبواب الوضوء، الباب 39، الحدیث 11.
4- وسائل الشیعة: أبواب الوضوء، الباب 39، الحدیث 5.

ص:134

الصورة واضحة، ومورد وفاق بین الفقهاء، بل فی «الجواهر»: بلا خلاف أجده بین القدماء والمتأخّرین، بل فی صریح «الخلاف» و«المنتهی» و«التذکرة»، وظاهر «المعتبر» وغیره، دعوی الإجماع علیه .

ثانیاً: هی الصورة المذکورة، إلاّ کان وجه عدم الإمکان أو المشقّة من جهة نجاسة موضع الجراحة، حیث لا یمکن تطهیرها، أو کان ذو عسرة وحرج، فهل یتبدّل الحکم حینئذٍ إلی التیمّم، أو یغسل ما حوله ویدع موضع الجراحة والنجاسة، أو یضع الجبیرة والخرقة الطاهرة علیه ویمسح علیها؟

وجوه وأقوال : القول الأوّل: لصاحب «الجواهر» من أنّ حکم النجاسة کان کحکم عدم الإمکان للضرر، واستدلّ علی ذلک بأنّ ما دلّ علی اشتراط طهارة ماء الوضوء یقتضی ذلک، والمشروط عدم عند عدم شرطه فیکون غیر متمکّن من الغسل، لأنّ الممنوع شرعاً کالممنوع عقلاً، فیدخل فی معقد إجماعهم، من أنّه إن لم یتمکّن من الغسل أجزأه المسح علی الجبیرة، بل حکی عن «المدارک» وظاهر «جامع المقاصد» عدم الخلاف فی ذلک .

خلافاً لصاحب «کشف اللثام» حیث یفصّل فیما بین صورة تضاعف النجاسة بالمسح والغسل وعدمه.

فالحکم حینئذٍ، کما ذکره صاحب «الجواهر»، وإلاّ یجب الوضوء التامّ لأصالة عدم الانتقال من الغسل إلی المسح علی الجبیرة، فیتبدّل إلی التیمّم .

خلافاً للشیخ الأنصاری، حیث أنّه ذهب إلی ما قاله «الذکری» من کفایة غسل ما حوله، وجعله قریباً، وإن احتاط بوضع الخرقة الطاهرة والمسح علیها، وغسل ما حولها، بل ومسح الجبیرة النجسة إن کانت موضوعة .

وجه ما قاله، أنّ الدلیل الأوّلی یحکم بوجوب الوضوء التامّ، فکلّ مورد ورد فیه دلیلٌ علی کفایة الوضوء الناقص _ کما فی المجروح والمکسور اللذین فیهما

ص:135

الجبیرة _ فلا إشکال فی کفایة المسح علیها ، وأمّا مع عدم وجود دلیل یشمله _ کما لو کان المجروح نجساً مجرّداً_ فالحکم بوضع الخرقة الطاهرة الأجنبیة لتحصیل خصوص المسح علیها غیر مفید إذ لا دلیل علیه، خصوصاً مع إمکان التشکیک فی صدق الجبیرة علیها، لأنّها ترفع بعد الوضوء، فوضعها لخصوصه لا یوجب صدق هذا الوصف ، ولذلک تری أنّ العلاّمة فی «التذکرة» قد حکم بوجوب التیمّم فی مثل المورد جزماً .

فبقی هنا من الأدلّة التی یمکن أن یستدلّ بها اُمور :

الأوّل : هو الذی أشار إلیه صاحب «الجواهر» من دلیل شرطیة طهارة الماء للوضوء، المقتضی بأنّ الممنوع الشرعی کالممتنع العقلی، فحیث أنّ معدومیة الشرط موجب لمعدومیة المشروط _ وهو الوضوء _ فحکم بوضع الخرقة الطاهرة علیه والمسح علیها .

ولکن وفیه أنّ مقتضی هذا الدلیل، لیس إلاّ صدق تعذّر تحصیل الشرط، وهو طهارة الماء لحال الوضوء، لا الحکم بوضع الجبیرة الطاهرة، خصوصاً مع ما عرفت من الإشکال فی صدق الجبیرة علی مثل هذا الوضع لخصوص الوضوء ، بل یکون مقتضی القواعد الأوّلیة، هو الحکم بالتیمّم، للتعذّر المذکور، کما علیه العلاّمة فی «التذکرة» .

الثانی : أن یقال بشمول أخبار المسح علی الجبیرة علی مثله، مثل خبر الحلبی وکلیب الأسدی، وصحیح ابن الحجّاج، حیث ورد فیها وجوب المسح علی الجبائر، فیشمل بإطلاقها بأنّ ما کان فیه الجبیرة فیمسح علیها، وما لیس فیها فیجب تحصیلها لتحصیل ما هو مقدّمة للواجب _ وهو المسح علی الجبیرة _ فیوجب الحکم بما ذهب إلیه صاحب «الجواهر» .

لکنّه مخدوش، بأنّ تلک الأخبار کان موردها الکسور أو الجروح غیر

ص:136

المجرّدة، کما قد صرّح بذلک فی بعضها کالحلبی، حیث قال فی ذیله : «بأنّه إن لم یکن یؤذیه الماء فلینزع الخرقة» .

فإدخال مثل المورد الذی قد عرفت الإشکال فی صدق الجبیرة عرفاً علی مثل هذا الوضع ، یکون فی غایة الإشکال .

الثالث : التمسّک بالإجماع، ونفی الخلاف، کما عن «المدارک»، وظاهر الشهید والعلاّمة فی غیر «التذکرة» .

لکن الاعتماد علی مثل هذا الإجماع فی مثل هذه المسألة، مع وجود الاختلاف الشدید، وتشتّت الأقوال، یکون فی غایة الصعوبة .

الرابع : والذی یمکن أن یستدلّ بها هو خبر عبد الأعلی مولی آل سام من جهة قول الإمام علیه السلام : «هذا وأشباهه یعرف من کتاب اللّه «مَا جَعَلَ عَلَیْکُمْ فِی الدِّینِ مِنْ حَرَجٍ» امسح علیه»(1) .

حیث یدلّ علی أنّ قاعدة المیسور _ ما لا یکون حرجیاً _ یقدم علی مثل التیمّم، فلابدّ أن یلاحظ ذلک فی المقام، وهو لیس إلاّ وضع الخرقة الطاهرة والمسح علیها .

ومن ذلک یظهر التمسّک بقاعدة المیسور، حیث أنّ المسح کذلک یکون میسور المسح التامّ، أو الغسل کذلک .

هذا، ولکن الإنصاف أنّ استفادة وجوب وضع الخرقة علی الجراحة وجوباً تکلیفیّاً شرعیّاً، لتحصیل ذلک من قاعدة نفی الحرج والمیسور، مشکل جدّاً، لإمکان أن یکون ذلک حاصلاً بفرد آخر، وهو الاکتفاء بغسل ما حوله من دون لزوم وضع شیء أجنبی علیه .


1- وسائل الشیعة: أبواب الوضوء، الباب 39، 5.

ص:137

نعم لو کانت الجبیرة موضوعة فیه، فالحکم بالمسح علیها له شأن، لأنّه یکون هو المیسور وما لا حرج فیه، هذا بخلاف إیجاب وضع شیء خارجی لخصوص الوضوء، فإنّه یحتاج إلی دلیل خارجی .

ویؤیّد ما ذکرناه ما یستفاد من صحیح ابن سنان وصحیح الحلبی المتماثلان والوارد فیها: «سألته عن الجرح کیف یصنع صاحبه ؟ قال : یغسل ما حوله»(1) .

فالحدیثان یتطابقان فی النصّ، إلاّ فی نصّ خبر ابن سنان حیث ورد فیه (یغسل) مطلقاً.

وجه الاستدلال أنّ المنصرف إلیه فی ذلک، هو نجاسة الجراحة، وعدم إمکان تطهیرها نوعاً، فأجاب عن ذلک، وکأنّه أراد بیان أنّ الاکتفاء بغسل ما حوله یکون هو الفرد المیسور وما لا حرج فیه، فیکون هذا مقدّماً علی مثل التیمّم، ولعلّه لذلک جعل الشیخ الأکبر هذا الاحتمال قریباً .

مع إمکان أن یقال : لعلّ وجه السؤال عن کیفیّة ما صنع صاحبها، کان من جهة ملاحظة نجاسة الجراحة نوعاً، حیث لا یمکن تطهیرها، لخوف أن یتحقّق بغسلها سرایة الجرح، فتوجب حصول العسرة والحرج، ولذلک یسهل الأمر فی هذه المنزلة بالاکتفاء بغسل ما حولها.

والقول بأنّ الحکم الوارد فی الجواب مجملٌ من جهة أنّه هل کان لمراعاة النجاسة، أو کان من جهة احتمال الضرر عند وصول الماء إلیه لا لأجل النجاسة، وحینئذٍ یسقط الخبر عن الاحتجاج به بواسطة الإجمال، کما عن الحکیم فی «مستمسکه»، لا یخلو عن وهن ، لأنّ الجراحة بحسب النوع تعدّ نجسة، فاحتمال الضرر فیها ینشأ أیضاً من جهة تطهیرها، وإزالة نجاستها، خصوصاً إذا


1- وسائل الشیعة: أبواب الوضوء، الباب 39، الحدیث 2 و3.

ص:138

کان یخرج الدم من الجرح لا من جهة خصوص وصول الماء إلیه من دون ملاحظة التطهیر ، فالاستدلال بإطلاقه من هذه الجهة لا یکون خالیاً عن قوّة، فیصحّ التمسّک بالعموم الأحوالی تمسّکاً بترک الاستفصال من الحکم بغسل ما حوله، بین أن لا یکون مقدوراً لغسلها لأجل النجاسة، أو لإضرار الماء بها من غیر تلک الناحیة .

فلا یبقی للحکم بوجوب وضع خرقة طاهرة علی الجرح دلیلٌ یدلّ علیه عدا ما استفید من صحیح الحلبی حیث کان فی سؤال السائل: «أنّه سئل عن الرجل تکون به القرحة فی ذراعه أو نحو ذلک من مواضع الوضوء فیعصّبها بالخرقة ویتوضّأ ویمسح علیها إذا توضّأ»(1) الحدیث .

بناءً علی أن یکون المراد هو تعصیب ذراعه للوضوء، بأن یکون حرف الواو فی قوله: (ویتوضأ) هو الواو المستتبع بأن المقدّرة المصدّرة، أی تعصّب ذراعه للوضوء، فأجاب الإمام علیه السلام بقوله : «إن کان الماء یؤذیه ولو لأجل تطهیره فیجوز المسح علی الخرقة، ولو بوضعها فیه».

الذی کان مفروض سؤاله، فیدلّ الحدیث علی المطلوب ، وأمّا إن کان المراد من قوله: (فیعصّبها) الحکایة عمّا هو الواقع فی الخارج، من وجود الخرقة علیها، وأنّه نقل فعل نفسه فی حال الوضوء، فلا یکون مربوطاً بما ذکرناه، کما لایخفی .

ولکن هذا البیان بنفسه وإن لا یکون ببعید ، إلاّ أنّه مع ملاحظة ذیل الحدیث بقوله : «ولینزع الخرقة إن کان یؤذیه الماء)، یشعر بکون الخرقة کانت موجودة فی القرحة لنفسها لا أن تکون موضوعة فیها لأجل الوضوء، کما استدلّ به الخصم ، فالأقوی عندنا هو ما ذهب إلیه الشیخ، إن سلمنا کون قوله فی الحدیث:


1- وسائل الشیعة: أبواب الوضوء، الباب 39، الحدیث 2.

ص:139

«اغسل ما حولها» کان وارداً لمثل ذلک الحکم، لا لدفع توهّم عدم سقوط الوضوء من رأس، کما احتملناه سابقاً، وإلاّ لما کان الحدیث ناظراً _ بالنظر إلی حال المسح _ إلی الجبیرة أو غیرها.

وحیث کانت المسألة لا تخلو عن إشکال علی کلّ حال، کان الحکم بالاحتیاط فی الجمع بین الثلاثة، من مسح الجبیرة الظاهرة الموضوعة علیها، وغسل ما حولها ثمّ أخیراً التیمّم قویّاً جدّاً، لعدم إمکان الاعتماد والاطمئنان بواحد منها قطّ ، واللّه هو العالم بالصواب .

ومن ذلک یظهر حکم الجبیرة النجسة غیر القابلة للتطهیر، من احتمال لزوم وضع خرقة طاهرة علیها، أو الاکتفاء بغسل ما حولها، وإن کان الاحتیاط فیه أقوی .

ثالثاً: ما لو کان الکسر أو الجراحة طاهرة ومکشوفة، ولکن کان غسلها فی موضع الغسل معذوراً، أو قد یکون فی موضع المسح کذلک .

فأمّا الأوّل، فلا إشکال ولا خلاف فی وجوب غسل أطرافه، لشمول الأخبار المتضمّنة لغسل أطرافه لهذا المورد قطعاً، مثل ذیل حسنة الحلبی وابن سنان وغیرهما، ممّا یستفاد ذلک منه بالخصوص أو بالإطلاق، الشامل لباب الوضوء .

وأمّا نفس الجرح إذا أمکن مسحه دون غسله، فهل یجب مسحه کذلک، أو لابدّ من وضع خرقة علیه والمسح علیها، أو الاکتفاء بغسل ما حوله من دون ضرورة لمسح نفس الجراحة مطلقاً، أو الانتقال إلی التیمّم؟ وجوه ، ففی «المدارک» القطع بکفایة غسل ما حوله، ونسبه فی «جامع المقاصد» إلی نصّ الأصحاب، المشعر بدعوی الإجماع علیه، واستدلّ له بالخبرین المذکورین وما شابههما، وظهورهما الواضح فی الجرح المکشوف، خصوصاً ذیل خبر الحلبی، کان متصدّراً لسؤال حال القرحة المتعصّبة، حیث یفهم أنّ المقصود من السؤال فی ذیله عن الجراحة المکشوفة لا المستورة، فصرّح بکفایة غسل ما حولها .

ص:140

فاحتمال إطلاق ذیله بحیث یشمل صورة المستورة، فیکون حکمه کفایة غسل ما حولها خلافاً لما علیه الأصحاب، من لزوم المسح علی الجبیرة وکفایته.

لیس علی ما ینبغی، لما عرفت من ظهورها فی المکشوفة دون غیرها .

ولکن فی «مصباح الهدی»: أنّه لا تنافی بین الحکم بکفایة غسل ما حوله، مع ورود دلیل علی وجوب مسح نفس الجراحة، إذا کانت مجرّدة، لأنّ دلالته علی کفایة غسل ما حوله، وعدم لزوم مسحها بنفسها، کان من جهة عدم التعرّض لحال نفس الجراحة ، إلاّ أنّ الدلیل علی وجوب مسح نفس الجراحة مفقود، فیقدّم حکمه .

والظاهر عدم تمامیّة ما ذکره، لأنّ ما قاله یستلزم أن لا یکون الإمام قد أجاب بما هو وظیفته وحکمه فی أصل الجراحة ، بل أجاب عن حکم ما هو ثابتٌ وجوبه فی الجملة، أی بأنّه لا یسقط حکم غسل أطراف الجرح بواسطة الجراحة المذکورة ، ولکن بعد الدقّة والتأمّل، یفهم عدم استبعاد دعوی التنافی بینه وبین الحکم بوجوب مسح الجراحة، فالأولی أن یحمل هذان الخبران علی صورة العجز عن مسح نفس الجراحة ، إمّا لنجاستها، أو لاحتمال إضرار الماء بها ، فحینئذٍ لا یوجب الحکم بکفایة غسل ما حوله، لزوم التنافی مع الحکم بوجوب مسح نفس الکسر أو الجرح، بأن یعلم عدم الإضرار به، ووجود النجاسة المانعة عن ذلک.

"فما ذکراه صاحبی «المدارک» و«جامع المقاصد» لا ینبغی أن یلتفت إلیه فی الفرض المذکور .

وأمّا احتمال وجوب وضع خرقة طاهرة علیه، والمسح علیها ، ففی «الجواهر»: أنّه ینبغی القطع بعدمه، لوضوح الأولویة وغیره، کالقطع بفساد الانتقال إلی التیمّم معه، لظهور اتّفاق الأصحاب هنا علی عدمه ، انتهی کلامه .

ولکن المذکور فی «مصباح الهدی» فی وجه وجوب المسح علی الخرقة

ص:141

الأجنبیة الموضوعة، قوله: بأنّ المسح علیها یکون بدلاً عن تعذّر غسل البشرة مطلقاً، لا مشروطاً بوجود الجبیرة، فتکون الجبیرة من مقدّمات الواجب لا الوجوب، فیجب تحصیل الجبیرة عند عدمها، کما فی المقام .

ولکن قد عرفت عدم دلیل یدلّ علی کونها من مقدّمة الواجب لا الوجوب، فضلاً عمّا عرفت منّا الاستظهار من لسان الأخبار، کون حکم المسح علی الجبیرة فی مواردها یکون فی موضع کانت الجبیرة موجودة ، بل فی «المستمسک» جعل عدم وجوب المسح علی الجبیرة أوفق بالخبرین المذکورین، من صحیح ابن سنان والحلبی، حتّی مع تعذّر المسح علی نفس الجراحة، فضلاً عمّا هو بصدده من إمکان مسحها .

نعم أجاز ذلک فی صورة تعذّر مسح نفس الجراحة، من جهة أصالة الاحتیاط، لکون الشکّ فی الوضوء من قبیل الشکّ فی المحصّل .

وکیف کان، الأقوی عندنا _ کما صرّح بذلک صاحب «الجواهر» _ هو وجوب مسح الجراحة ، بل أفتی به المحقّق فی «المعتبر» والعلاّمة فی «التذکرة» و«النهایة» والشهید فی الدروس ، بل السیّد فی «العروة»، وهو الأحوط عند الشاهرودی والگلبایگانی ، کما أنّ الجمع بین مسح البشرة ومسح الجبیرة کان عند الخوئی هو الأحوط ، والدلیل علیه عنده هو مساعدة العرف والاعتبار، حیث أنّ المسح بالرطوبة یکون رتبة نازلة للغسل، یعدّ أقوی من المسح علی الجبیرة الأجنبیة، لو لم نقل بذلک فی الجبیرة الموضوعة للجراحة، حیث أنّ الأخبار دلّت علی کفایتها ، ولعلّ هذا المعنی هو المراد من الأولویة فی کلام النائینی بهذا القول ، مضافاً إلی استدلالهم بأنّ المسح علی البشرة یعدّ أقرب إلی المأمور به من الغسل من غیره، کما لا یخفی .

ولقد اعترض علیه الآملی فی «مصباحه» بقوله : ولا کلام فی أولویته، لأنّه

ص:142

مسح علی البشرة ، ولعلّ وجه أقربیته إلی المأمور به، هو دعوی تضمّن الغسل للمسح بادّعاء کونه مسحاً مع زیادة، وعند تعذّر الزیادة لا یسقط المزید علیه المیسور بقاعدة المیسور ، ولا یخفی ما فیه، حیث أنّ الغسل والمسح عند العرف من المتباینین، ولا یکون المسح عندهم میسوراً من الغسل .

وأمّا الأولویّة، فهی وإن کانت مسلّمة، إلاّ أنّها غیر کافیة فی إثبات تعیّن وجوب المسح علی البشرة عند إمکانه وتعذّر الغسل ، انتهی کلامه.

ویوافقه فی ذلک السیّد الحکیم قدس سره فی «مستمسکه»، قال : بأنّ کون النسبة بین الغسل والمسح هو العموم من وجه، غیر کاف فی إثبات وإجراء قاعدة المیسور، لوجوب المسح عند تعذّر الغسل، خلافاً لصاحب «الجواهر» حیث أشار إلی کلا الأمرین من الأولویة والأقربیّة، کما یمکن استفادة ذلک من «الذکری» علی ما هو المحکی فی «طهارة» الشیخ الأعظم ، بل قد یستفاد من الشیخ استرضائه بنفسه لذلک، وإن لم یفت به صریحاً .

ولکن یمکن أن یقال : بأنّ المسح والغسل، وإن کان بحسب متفاهم العرف مفهومان متغایران، وکانت النسبة بینهما عامین من وجه، _ کما ادّعاه الحکیم قدس سره _ لا التباین الکلّی، کما یظهر من المحقّق الآملی ، لوضوح أنّه لو کان من قبیل الثانی للزم استحالة اجتماعهما فی مصداق واحدٍ ، مع أنّه لیس کذلک قطعاً .

ولکن التباین الجزئی بینهما فی المفهوم، لا یوجب عدم صدق الأقربیة إلی ما هو الواجب عرفاً، من حیث الحکم، یعنی أنّ العرف یری بأنّ مسح نفس البشرة یکون أقرب إلی المطلوب، من لزوم إیصال الماء إلیها، من المسح علی الجبیرة، فإجراء قاعدة المیسور بالنسبة إلی ما هو المقصود والمستفاد من الأدلّة، أمرٌ عرفی یقبله الذوق السلیم .

مضافاً إلی إمکان أن یقال _ کما فی «طهارة» الشیخ _: بأنّ وضع الجبیرة

ص:143

بحسب النوع، یستلزم ستر مقدار من مواضع حول الجرح قطعاً، فالحکم بکفایة المسح علی الجبیرة بالنسبة إلی تلک المواضع ، مع فرض إمکان غسلها عند مسح الجرح، ممّا لا یخلو عن تأمّل .

فثبت ممّا حقّقناه قوّة القول بوجوب مسح البشرة فی الجرح المجرّد الطاهر، مقدّماً علی المسح للجبیرة ، نعم کان الأحوط، هو الجمع بینه وبین المسح علی الجبیرة التی توضع علیه، کما أنّ الأحوط انضمام التیمّم إلیه ، وأمّا غسل ما حوله، فقد یحصل ذلک بإیجاب المسح علی نفس الجرح، کما عرفت، فلزوم إتیانه عندنا کان مسلّماً لا بمعنی الاکتفاء به فقط _ کما علیه بعضٌ مثل صاحب «المدارک» و«جامع المقاصد» .

هذا کلّه فی حکم الجراحة فی موضع الغسل .

وأمّا حکم الجرح المجرّد فی موضع المسح، فلا إشکال فی أنّه إذا أمکن ذلک کان هو مقدّم علی المسح علی الجبیرة، لأنّ قاعدة المیسور جاریة هنا، من دون لزوم ما یلزم فی سابقه، کما لا یخفی ، مع أنّه لیس بمیسور، بل هو الواجب بنفسه إذا أمکن، فیکون وجوبه بحسب مقتضی الدلیل الأوّلی، کما لا یخفی .

رابعاً : ما لو فرض کون المسح علی الجرح المجرّد متعذّراً، سواء کان فی موضع الغسل أو موضع المسح ، وأمّا فی الأوّل ففی لزوم وضع خرقة طاهرة علیه، والمسح علیها مع الرطوبة، _ کما علیه السیّد فی «العروة»، وهو المحکی عن «التذکرة» و«النهایة» و«المنتهی» و«الدروس» ونفی عنه الخلاف فی «الریاض» _ فهذا ما لم یقم علیه دلیل من الصحیح وغیره. وفی «الحدائق» نسبته إلی الأصحاب، وقال : لعلّهم اطّلعوا علی ما لم نطّلع علیه ، بل واختاره صاحب «الجواهر» .

ولکن المحکی عن «الذکری» و«البیان»: هو الاکتفاء بغسل ما حولها، کما عن «جامع المقاصد» نسبته إلی نصّ الأصحاب .

ص:144

وقد یستدلّ للقول الأوّل باُمور :

منها : بما رواه الحلبی فی الصحیح أو الحسن عن الصادق علیه السلام : «أنّه سئل عن الرجل تکون به القرحة فی ذراعه أو نحو ذلک من مواضع الوضوء فیعصّبها بالخرقة، ویتوضّأ ویمسح علیها إاذ توضّأ ؟ فقال : إن کان یؤذیه الماء فلیمسح علی الخرقة»(1).

بناءً علی أن یکون التعصیب للوضوء به لا لأجل احتیاج القرحة إلی التعصیب، فیکون تقریر الإمام للسائل فی محلّه ویستفاد من تعلیق الحکم علی الإیذاء وعدمه، أنّه یجوز المسح علی الخرقة المجعولة للوضوء .

لکنّه مخدوشٌ بما قد عرفت منّا سابقاً، بأنّ الخبر، وإن سلّمنا دلالته فی الجملة علی کون التعصیب للوضوء لا القرحة، إلاّ أنّ ذیل الحدیث تکون قرینة علی انصراف الصدر عمّا یتوهّم، لأنّ الإمام علیه السلام حکم بوجوب نزع الجبیرة عند عدم خوف الأذی، الظاهر فی کون الجبیرة کانت موضوعة قبل ذلک، لأجل القرحة، وإلاّ کان ینبغی أن یقال إن کان لا یتخوّف الأذی فلا یوضع الخرقة، بل یمسح أو یغسل البشرة .

کما قد یؤیّد ذلک ظهور ذیله فی السؤال عن الجرح المکشوف، بقوله : «وسألته عن الجرح کیف أصنع فی غسله ؟ قال : اغسل ما حوله».

حیث یکون بقرینة التقابل بینهما ظاهراً فی کون حال صدرها عن الجراحة المستورة لأجل القرحة، لا لأجل الوضوء .

ومنها : ما یدلّ علی لزوم المسح علی الجبائر مطلقاً، مثل ما رواه کلیب الأسدی، قال : «سألت أبا عبداللّه علیه السلام عن الرجل إذا کان کسیراً کیف یصنع


1- وسائل الشیعة: أبواب الوضوء، الباب 39، الحدیث 2.

ص:145

بالصلاة ؟ قال : إن کان یتخوّف علی نفسه، فلیمسح علی جبایره ولیصلِّ»(1) .

حیث یکون جواب الإمام له بالإطلاق الشامل للجبیرة الموضوعة للقرحة أو للوضوء ، مضافاً بما فی «الجواهر» بأنّ الأصل فی الواجب أن یکون مطلقاً، فیجب تحصیلها إن لم تکن موجودة ، ولکن أورد علیه أوّلاً : بإمکان الإشکال فی صدق الجبیرة علی الموضوعة لخصوص الوضوء والرفع بعده .

وثانیاً : انصرافه إلی ما هو الموضوع للکسر، کما هو المتعارف فی مثل ذلک، لأنّه قلَّ ما یتّفق أن یعرض الکسر للعظم فی الإنسان ولم یجبّره بمثل الجصّ والخشب والخرقة، فإطلاقه لصورة ما نحن فیه مشکل جدّاً .

ومنها : کما فی «الجواهر»، أنّه یستفاد من مجموع الأدلّة _ سیّما خبر المرارة لعبد الأعلی ونحوه _ أنّ الحائل بدلٌ عند تعذّر غسل البشرة، فیجب تحصیله، خصوصاً مع ملاحظة اختلاف حالات الإنسان بالنسبة إلی الجروح والقروح، من کونها مشدودة أو غیر مشدودة فی أوّل الوقت، یکون علی حال دون آخر ، وأمثال ذلک ، مع أنّ الشغل الیقینی یقتضی الفراغ الیقینی، وهو منحصر فیما نقول، لأنّ احتمال وجوب التیمّم فی المقام فی غایة الضعف .

بل قد یؤیّده ویؤکّده، بما قیل من اتّفاق الفتاوی علی أنّه لو کان ظاهر الجبیرة نجساً، وضع علیها خرقة طاهرة ومسح علیها ، بل قد سمعت نفی الخلاف فیه عن «المدارک» إذ فی دخول هذه الخرقة الجدیدة فی مثل ما یوضع علی الجبیرة النجسة، یقتضی أن یقال به فیما نحن فیه قطعاً، لأنّه أقرب إلی اسم الجبیرة واقعاً ممّا فرضوه، کما لا یخفی علی المتأمّل .

ولکن الإنصاف أن یقال : إنّ ملاحظة الأدلّة الواردة فی مسح الجبائر، إن


1- وسائل الشیعة: أبواب الوضوء، الباب 39، الحدیث 8 .

ص:146

لوحظت کلّ واحدة واحدة منها بالخصوص، لا یکون دعوی انصرافه إلی صورة الجبیرة الموضوعة ببعید کما عرفت ، إلاّ أنّه مع ملاحظة مجموعها فی مواردها المختلفة، من حکم الإمام علیه السلام بالمسح علی الحائل، لاسیّما مع ملاحظة ترغیب الإمام علیه السلام لعبد الأعلی، وإلی مضمون آیة الحرج، بقوله علیه السلام : «هذا وأشباهه یعرف من کتاب اللّه من قوله تعالی : «مَا جَعَلَ عَلَیْکُمْ فِی الدِّینِ مِنْ حَرَجٍ» ».

یوجب الظنّ القوی للفقیه، بأن یکون میسور الوضوء الکامل التامّ، هو الإتیان بما یشبهه من وصول الماء لجمیع ما یجب غسله ، غایة الأمر إمّا بوصول الماء إلی نفس البشرة مع الإمکان ، أو بوصوله إلی بدنه، وهو الجبیرة المستفاد من الأدلّة الواردة فی موضع الغسل والمسح .

ولعلّه کان أولی من القول بالاکتفاء بغسل ما حوله، الموجب لعدم وصول الماء لجمیع ما یجب غسله أو مسحه .

لاسیما یکون هذا المعنی والاحتمال قویّاً، لو أجزنا فی الجبیرة النجسة الواقعة علی الجراحة، بوضع الخرقة علیها، والمسح علیها، لأنّه لو کانت جبیرة کانت بلا واسطة، بخلاف هناک حیث أنّها جبیرة علی الجبیرة، فعدم صدق الجبیرة علیها، یکون أقرب بالقبول من الجبیرة فیما نحن فیه .

نعم ، هذا فیما إذا لم یستلزم وضع شیء من الجبیرة علی موضع الصحیح، وإلاّ کان الاکتفاء به وحده مشکلاً ، بل لابدّ أن ینضمّ إلیه غسل ما حولها، لأنّه أیضاً أحد فردی المیسور للوضوء الکامل ، ولعلّه لذلک قد فصّل بعض _ ک_ «الریاض»_ فی المسألة، فی وجوب وضع الخرقة، فیما إذا لم یوجب استتاربعض مواضع الصحیح، لأنّ الإجماع والأخبار قائمان علی وجوب غسل موضع الصحیح .

فظهر ممّا ذکرنا أنّ القول بوجوب غسل ما حولها، والاکتفاء بذلک من دون انضمام وضع الخرقة _ اعتماداً علی خبر صحیح ابن سنان ، وذیل حسنة الحلبی _

ص:147

کان مشکلاً، لما قد عرفت منّا سابقاً بأنّ المقصود من ذلک بیان دفع توهّم عدم سقوط حکم الوضوء بذلک، ولابدّ من غسل أطرافه .

وأمّا عدم لزوم غسل موضع الجراحة حتّی ببدله کالخرقة مثلاً فلا ، وحیث أنّ الجزم علی أحد الأمرین فی المسألة کان فی غایة الإشکال، خصوصاً مع شدّة الاختلاف بین الفقهاء، ولسان الأخبار، کان الحکم بالاحتیاط هنا قویّاً، بالجمع بین الأمرین، وإن کان الأحوط منه هو انضمام التیمّم إلیهما، کما لا یخفی .

خامساً : ما لو فرض کون وضع الخرقة الطاهرة علیها غیر ممکن، وإن کان فرضه فی غایة البُعد، فهل یجب حینئذٍ غسل أطرافه فی موضع الغسل ومسحها فی موضع المسح، أو ینتقل الحکم إلی التیمّم؟

فیه وجهان: من أنّ الأصل فی حال تعذّر غَسل موضع عضو من الوضوء أو مسحه، هو الانتقال إلی التیمّم، یوجب الحکم بتقدّم الثانی ، ومن أنّ مقتضی خبری الحلبی وابن سنان، هو غسل أطرافه الشامل لمثل هذه الصورة قطعاً، لأنّه القدر المتیقّن منه ، مضافاً إلی ما عرفت منّا بکونه أحد فردی المیسور للوضوء، فمع إمکان الإتیان بمیسوره لا یجوز الاکتفاء ببدله وترک الوضوء رأساً، فالأقوی هو القول بغسل ما حوله، وإن کان انضمام التیمّم إلیه کان أحوط کما لا یخفی .

نعم، قد یشکل الأمر فی المسح، لأنّ الدلیل المذکور _ من خبری الحلبی وابن سنان _ کان وارداً فی الغسل وحده، فیکون فرض تعذّر وضع الخرقة للمسح باقیاً بلا دلیل، لعدم شمول هذین له، فهل یحکم فیه بالتیمّم جزماً أو یقال بسرایة ذلک إلی المسح أیضاً، بأن یکون مسح ما حولها مقدّماً علی التیمّم أم لا؟

لا یبعد أن یقال بقوّة الحکم بالتیمّم هنا، لأنّ الجراحة الواقعة فی موضع لا یخلو عن إحدی الحالتین : إمّا أن تکون مستوعبة لجمیع موضع المسح، أی شاملاً لمقدار ما یجب علیه المسح، ولو بالمسمّی، فلا إشکال حینئذٍ أنّ الحکم

ص:148

الصحیح هنا هو لزوم التیمّم.

اللهمّ إلاّ أن یقال بسقوط المسح عن ذلک العضو فقط، ووجوب الإتیان ببقیّة أفعال الوضوء لسائر الأعضاء، کما قیل بذلک فی الأقطع الیدین أو إحداهما أو الرجلین، فالقول بذلک حینئذٍ لا یرتبط بمضمون الخبرین المذکورین، لأنّ الحول لم یکن باقیاً له حتّی یکون مورده محلاًّ للمسح فی هذا الفرض .

وأمّا أن لا تکون مستوعبة، بل بقی مقدار ما یجب مسحه، فلا إشکال فی أنّ حکم الدلیل الأوّلی، من وجوب المسح یشمله، وقاعدة المیسور هنا جارٍ، لأنّ ما هو الواجب إذا لم یمکن إتیانه بجمیع ما یجب فیه، فلا یسقط المیسور منه بمعسوره، وإلاّ لیس لنا دلیل آخر فی المسألة إلاّ الحکم بالتیمّم.

فالحکم بالجمع بین الوظیفتین من التیمّم والمسح بأطرافه، من باب الاحتیاط _ أی من جهة احتمال وجوب أحدهما من حیث العلم الإجمالی بینهما_ قویّ جدّاً، وإن کان شمول قاعدة المیسور للمورد أیضاً قابل للقبول، کما لا یخفی ، واللّه العالم بالصواب .

فی أحکام الجبائر / المراد من المسح فی أخبار الجبیرة

ومن هنا ظهر حکم صورة اُخری، وهی ما لو لم یقدر علی المسح والغسل لأطرافه، فالحکم بالإتیان لسائر الأعضاء، وسقوط غسل خصوص هذا العضو ومسحه، أو الحکم بالتبدیل إلی التیمّم ؟

فإنّه بما أنّ الوجهین المذکورین فی السابق جارٍ هنا، فالحکم بالاحتیاط هنا أیضاً قویٌّ جدّاً، فلابدّ من الجمع بین الوضوء الناقص مع التیمّم .

هذا تمام الکلام فی أحکام الجبیرة، فی باب الوضوء، وحکم الجراحة المکشوفة بتمام أقسامها والمجبورة بأنواعها.

والذی ینبغی أن یبحث فیه اُمورٌ :

الأمر الأوّل : أنّ المسح الواقع فی أخبار الجبیرة، هو المسح المقابل للغسل،

ص:149

أی ما یکون بإمرار الید علی الممسوح، من دون جریان الماء من جزء إلی آخر ، بأن یکون المسح بنداوة الوضوء، أو لعلّ المراد منه هو الغسل الخفیف، بأن یکون لفظ المسح فی الأخبار، کنایة عن إبلاغ أنّه لا یلزم المداقة فی الجبیرة بالغسل، حتّی یصل الماء إلی جوفها وتحتها ، بل یکفی أقلّ ما یصدق به الغسل، بمسح الید علیها مع الماء ، فقد ذهب عدّة من الفقهاء من المتقدّمین إلی زمن العلاّمة إلی الأوّل . وهناک من المتأخّرین من ذهب إلیه مثل صاحب «الجواهر» والحکیم فی «مستمسکه» والشاهرودی والخوئی وغیرهم، کما قد ذهب إلی القول الثانی آخرون مثل العلاّمة فی «نهایة الأحکام» و«کاشف اللثام» والوحید البهبهانی فی «شرح المفاتیح»، والآملی والسیّد الاصفهانی والخمینی ، بل هو المستفاد من ظاهر کلام السیّد فی «العروة» وفاقاً للگلپایگانی وغیرهم .

وقد اختار بعض الإتیان بما هو القدر المشترک، بأن یکون المراد من المسح هو مجرّد إیصال البلل، ولو لم یکن بإمرار الید، لیکون مسحاً، ولا بنحو الغلبة والجریان لیکون غسلاً، وهو مختار الشیخ الأعظم وظاهر الشهیدین ، بل محتمل کلام السیّد فی «العروة» .

وجه الاختلاف: أنّه لا إشکال فی أنّ المسح المستعمل فی الجبیرة فی موضع المسح، یکون مستعملاً فی معناه الحقیقی، لوحدة مورد استعمال اللفظ بین البدل والمبدل منه، ولا کلام فیه ، وإنّما الکلام فی المسح علی الجبیرة، فی موضع الغسل ، فهل هو أیضاً یکون بالمعنی المقابل للغسل، حتّی یصیر الحکم فی الجبیرة منقلباً عن الغسل إلی المسح ، أو یکون المراد منه هو الغسل، ویکون التعبیر عنه بالمسح لأجل إفهام أنّه لا یعتبر فی الجبیرة الغسل اللازم فی البشرة، بل یکفی مسمّی الغسل حتّی لا یتضرّر به فی إیصال الماء إلی تحت الجبیرة ؟

ففیه وجهان : من ملاحظة ما هو الواقع فی أخبار الجبیرة من لفظ (المسح)،

ص:150

فمقتضی الجمود علی ظواهر الأخبار والفتاوی، کونه مقابلاً للغسل ، ومن ملاحظة حال الاعتبار، من أنّ الواجب أوّلاً هو غسل البشرة، ومع العجز فغسل الجبیرة، التی تکون بدلاً عن البشرة ، غایة الأمر بقدر میسوره، وهو لیس إلاّ غسلها بالمسمّی، حیث یقع فی طول حکم غسل البشرة، عند تعذّر غسلها، کما یدلّ علیه لسان بعض الأخبار، کما سیأتی ذکره إن شاء اللّه ، فیقتضی ذلک القول والاحتمال الثانی .

والظاهر کون الثانی هو الأولی .

ولا یخفی أنّ المسح والغسل مفهومین متباینین کلیّین، إن جعلنا الجریان مأخوذاً فی الغسل، وعدمه فی المسح، فلازم التعبّد بظاهر اللفظ، هو عدم إمکان اجتماع المفهومین فی مصداق واحد .

وأمّا إن جعلنا الجریان مأخوذاً فی الغسل، بخلاف المسح، حیث لا یکون عدم الجریان مأخوذاً فی مفهومه، فلازمه حدوث التباین الجزئی بینهما، وهو العامان من وجه، فیکون فی موردٍ مصداق الغسل بدون المسح، وهو ما إذا کان جریان الماء موجوداً من دون إمرار الید ، وقد یکون فی مورد آخر مصداق للمسح من دون جریان أصلاً، بل کان المسح بالنداوة، فلا یکون فیه الغسل، وقد یجتمعان فی موردٍ واحد، مثل ما لو کان إمرار الید مع جریان الماء، حیث أنّه مورد للجمع بین المفهومین، وهذا هو الأقوی .

فعلیه یمکن أن یقال : إنّ الواجب أوّلاً هو غسل البشرة، وحیث لا یمکن ذلک فلابدّ من جعل البدل مقام المبدل منه، وهو مرکّب من أمرین أحدهما ؛ الغسل، والثانی هو البشرة، فالتعذّر قد یعترض کلا الجزئین، أی الغسل والبشرة، فینتقل بدل کلّ منهما مقام المبدل منه فلازمه کون المسح علی الجبیرة قائماً مقام غسل البشرة ، وأمّا لو کان أحدهما متعذّراً دون الآخر، فقد یکون خصوص البشرة

ص:151

متعذّراً دون غسلها، فحینئذٍ لابدّ أن یکون غسل الجبیرة قائماً مقام غسل البشرة، لا مسح الجبیرة .

کما أنّه قد یکون معکوساً، بأن یکون الغسل متعذّراً دون البشرة، فالقاعدة تقتضی کون المسح للبشرة یقوم مقام غسل البشرة، لا تبدیله إلی مسح الجبیرة .

وما ذکرناه یوافق مع قاعدة نفی الحرج، منضمّاً مع الأدلّة الأوّلیة، وکذلک مع قاعدة المیسور وغیرهما ،

فی أحکام الجبائر / کیفیّة المسح

فمقتضی ما ذکرناه أنّه لولا الدلیل الخارجی لما أمکن رفع الید عن ظهور القاعدة، وحیث أنّ المقام یعدّ الموارد التی ورد دلیل علی أنّه لو تعذّر غسل البشرة تبدّل الحکم إلی مسح الجبیرة، ولم یحکم بغسلها، فلابدّ حینئذٍ إمّا القول بأنّ مواردها کان عند العجز عن غسل الجبیرة، کما هو الغالب بل الأغلب من عدم القدرة علی غسل الجبیرة، لأنّ الجبیرة بحسب النوع فی الأزمنة السابقة کانت من الخرقة ونظائرها، حیث لا یمکن غسلها، لأنّها تجذب الماء بنفسها، فیوجب الإضرار بالجرح أو الکسر من حیث سرایة الرطوبة إلیهما .

أو القول بأنّ الحکم بالمسح علی الجبیرة، کان فی ما یمکن غسلها، وبرغم ذلک حکم به تعبّداً، حتّی یکون خلافاً للقاعدة المذکورة فی السابق.

ولا إشکال فی أنّ الحمل علی الفرض الأوّل هو أولی، لأنّه مؤیّد بروایة عبد الأعلی من ترغیب الإمام علیه السلام للسائل بملاحظة قاعدة نفی الحرج وإجرائها، بقوله: «هذا وأشباهه یعرف من کتاب اللّه «مَا جَعَلَ عَلَیْکُمْ فِی الدِّینِ مِنْ حَرَجٍ» ».

بل، وهکذا مؤیّد بما هو فی حادثٌ فی الواقع الخارجی من غلبة التعذّر وعدم إمکان الغسل خارجاً، کما قلنا ولذلک أجاب الإمام علیه السلام بحسب حال المسح من دون إشارة إلی غسل الجبیرة، لعدم إمکانه غالباً، ووجوده ندرةً فی حکم المعدوم.

فی أحکام الجبائر / إذا کانت الجبیرة فی موضع المسح

ص:152

کما قد یؤیّد ذلک بلفظ الإجزاء الواقع فی بعض الأخبار، کما فی خبر حسن بن علی الوشّاء بقوله : «سألت أبا الحسن علیه السلام عن الدواء إذا کان علی یدی الرجل أیجزیه أن یمسح علی طلی الدواء ؟ فقال : نعم یجزیه أن یمسح علیه»(1) .

ومثله خبره الآخر، حیث وقّع فی جوابه : «نعم یمسح علیه ویجزیه»(2) .

وخبر محمّد بن مسعود العیاشی فی «تفسیره» حیث وقّع فی الجواب، بقوله : «یجزیه المسح علیها فی الجنابة والوضوء» الحدیث .

حیث یفهم أنّ الوظیفة أوّلاً هو الغسل، فجعل المسح بدله ،بل قد یؤیّد بخبر ابن مسعود بناءً علی نقل آخر فی نسخة اُخری، حیث ذکر فیه فی جوابه بقوله: «یجزیه المسّ بالماء علیها» ، بدل قوله: «المسح علیها»، حیث یکون لفظ الماء والمسّ مؤیّداً لما ذکرناه.

فعلی هذا، لو فرضنا إمکان غسل الجبیرة، ولو بإجراء الماء علیها، لا یکون مضرّاً، بل ربّما یکون الإتیان بصورة الغسل حینئذٍ أحوط من المسح. ویکفی فیه أقلّ مصداق الغسل، وهو جریان الماء من جزء إلی جزء آخر ، نعم، وإن کان الاحتیاط أن یأتی بما یمکن صدقه علی المسح والغسل، ویقصد الامتثال بما هو الواجب فی ذمّته من المسح أو الغسل، خصوصاً بعدما عرفت من عدم التباین الکلّی بین المفهومین، کما لا یخفی .

الأمر الثانی: هل یجب أن یکون المسح بباطن الکفّ، أو یجب أن یکون المسح بالبلّة، وکون البلّة من ماء الوضوء أو لا یعتبر شیء منها؟

ففیه احتمالان: من جهة أنّ المسح هنا عبارة عمّا هو واجبٌ فی مسح الرأس


1- وسائل الشیعة: أبواب الوضوء، الباب 39، الحدیث 9.
2- وسائل الشیعة: أبواب الوضوء، الباب 39، الحدیث 10.

ص:153

والرجلین، فما یجب فیهما ممّا ذکر سابقاً، یجب فی المقام .

ومن جهة أنّ إثبات کلّ واحد منهما بحاجة إلی دلیل بالخصوص، ففی مسح الرأس أو الرجلین کان الدلیل فیهما موجوداً بخلاف غیرهما.

والظاهر أنّه لو التزمنا کون المسح هنا عبارة عن أقلّ مقدار الغسل، _ کما اخترناه _ فاعتبار بعض ما ذُکر لا وجه، لأنّ حکم البدل لا یکون أشدّ من المبدل منه، _ وهو غسل البشرة _ فیجب فی الجبیرة ما یجب فی غسل البشرة، إن کان فی موضع الغسل، ویجب فی مسح الجبیرة إن کان الواجب مسح الجبیرة فی موضع المسح فلزوم کون المسح، بالکفّ فضلاً عن باطنها ممّا لادلیل علیه، إن کان فی موضع الغسل ، کما أنّه یعتبر کون المسح بالماء لا بالنداوة، لأنّ المفروض کونه غسلاً لا مسحاً اصطلاحیّاً، فیصحّ الوضوء بالماء الخارجی بالمسح علی الجبیرة، لکونه غسلاً کنفس البشرة، ولا یجب أن یکون من ماء الوضوء بغیر ذلک الجزء .

وأمّا لو اخترنا کون المسح هنا هو المسح الاصطلاحی فی الرأس والرجلین، فیعتبر فیه هنا کلّ ما یعتبر فی أصل المسح، مثل أن یکون المسح بالبلّة دون الماء الخارجی، حتّی لایخرج عن مفهوم المسح المعتبر فی موضوع الحکم ، وأمّا کونه بباطن الکفّ أو غیره، فلابدّ من إثبات ذلک بدلیل، لأنّه لم یؤخذ فی مفهومه، فإن ثبت من الخارج أنّ المسح هنا عبارة عمّا یجب فی مسح الرأس والرجلین فیجب، وإلاّ فلا.

والأکثر ذهبوا إلی عدم الاعتبار، من جهة عدم قیام دلیل یدلّ علیه .

ونحن نقول : لعلّ عدم قیام دلیل لذکر بعض الاُمور، یکون شاهداً آخراً علی أنّ الأمر هنا موکول إلی ما هو الواقع فی غسل البشرة فی موضعه، والواقع فی موضع المسح، کما لایخفی .

فی أحکام الجبائر / لو کانت الجبائر متعدّدة

الأمر الثالث : هل یجب الاستیعاب فی مسح الجبیرة، أم یکفی المسح ولو ببعضها؟

ص:154

الظاهر المستفاد من النصوص والفتاوی هو الأوّل، کما عن «الخلاف» و«المعتبر» و«التذکرة» و«نهایة الاحکام» و«الریاض» و«کشف اللثام» و«الدروس» و«الذخیرة» و«الحدائق» و«شرح المفاتیح».

بل فی الأخیر أنّه ممّا لا ریب فیه، وفاقاً فی ذلک مع المتأخّرین کصاحب «الجواهر» والآملی والسیّد فی «العروة»، وأصحاب التعالیق ، ولم یشاهد التصریح بالخلاف فی ذلک عن أحد، إلاّ عن الشیخ فی «المبسوط»، واستحسنه الشهید فی «الذکری» من کون الاستیعاب موافقاً للاحتیاط المستفاد منهما تجویز غیره.

والأقوی عندنا وجوب الاستیعاب، لما قد عرفت أنّ المتبادر من أخبار الجبیرة، أنّها تکون بدلاً عن غسل البشرة ومسحها، فلابدّ أن یلاحظ فیها کلّ ما یجب فی البدل، إلاّ أن یأتی دلیل من الخارج علی إلقاء بعض شرائطه فی بدله ، فما احتمله بعض _ ک_ «الذکری» _ من أنّه یصدق المسح ولو بمسح بعض الجبیرة، کما یصدق ذلک فی مسح الرأس والرجلین وأمثال ذلک .

لا یخلو عن إشکال، لما قد عرفت من أنّ الإشکال، لیس فی أنّه کیف یصدق المسح، ومتی یصدق، أو لا یصدق؟ حتّی یقال بمقالته، بل الملاک هو ملاحظة، لسان الأخبار بأنّ الملاک فی جعل المسح علی الجبیرة هل هو مثل موضع مثل غسل البشرة أو مسحها فیجب فیه ما یجب فی موضعه أم لا؟ کما لایخفی .

ولذلک یجوز المسح بالنداوة الموجودة علی الجبیرة، إن کانت الجبیرة واقعة فی الید الماسحة للرأس والقدمین، وهو لیس إلاّ من جهة الدلیل الأوّلی، وإلاّ لم یرد فیه دلیل بخصوصه یدلّ علی ذلک، وهو واضح لا خفاء فیه .

ومن هنا یظهر أنّه یجری فی البدل ما کان واجباً فی المبدل منه أو مستحبّاً، من کون الابتداء بالمرفق، وکون التثنیة فی الغسل مندوباً، واعتبار الموالاة، وغیر ذلک ممّا اعتبر فی غسل البشرة ومسحها .

ص:155

هذا کلّه من جهة مفاد الأدلّة والاستظهار منها .

وأمّا من جهة حال الشکّ وعروضه، فلا إشکال أنّ ما قلناه یکون معتبراً، لأنّ مقتضی استصحاب بقاء الحدث والشغل الیقینی، خصوصاً إذا قلنا بأنّ الوضوء یکون من قبیل الشکّ فی المحصّل، _ والمحصّل هو الإتیان بما یحتمل اعتباره فی المبدّل _ ، فلا یکفی المسح بالبعض قیاساً للمقام للمسح بالرأس والقدمین ، مع أنّ الحکم فیهما بکفایة البعض کان من جهة مکان الباء فی الآیة، لا من اقتضاء نفس لفظ المسح لذلک، حتّی یقال به فی المقام، کما لا یخفی .

الأمر الرابع: فیما إذا کانت الجبیرة فی موضع المسح، ولا یمکن نزعها، فهل یکفی مسح ظاهر الجبیرة، مع إمکان تکرّر صبّ الماء حتّی یصل أخیراً إلی البشرة، أو الغمس فیه، أو لا یجب حتّی مع الإمکان ؟

فیه وجهان بل قولان : الظاهر من إطلاق کلام المحقّق والعلاّمة وغیرهما، هو الوجوب، أی لزوم تکرار صبّ الماء أو الغمس فیه، حتّی یصل إلی ظاهر البشرة، کما عن السیّد فی «العروة» من الحکم بوجوب الاحتیاط فی الجمع بینهما ، خلافاً للسیّد الاصفهانی والشاهرودی والخوئی والگلپایگانی، وظاهر قول الخمینی والآملی، حیث ذهبوا إلی کفایة مسح ظاهر الجبیرة، کما هو صریح کلام صاحب «الجواهر» .

فی أحکام الجبائر / لو کانت الجبائر مغصوبة

ولعلّ وجه کلامهم بوجوب التکریر أو الغمس، هو الالتزام بوجوب ما کان واجباً أوّلاً، وهو مسح البشرة بوصول الماء إلیها مع إمرار الماسح، فمع فقد قیده الثانی یکتفی بقیده الأوّل، وهو وصول الماء، لأنّ المیسور لا یسقط بالمعسور .

هذا، ولکن الأقوی عندنا هو کفایة المسح علی ظاهر الجبیرة، حتّی مع إمکان إیصال الماء إلی تحت الجبیرة، والوجه فیه هو ظهور النصّ والفتوی فی ذلک، لأنّ لسان الأخبار الواردة فی المسح علی الجبائر فیها إطلاق من تلک الناحیة، فهی

ص:156

تفید بقدرته علی إیصال الماء أو عدمه فحکم بقوله : «امسح علی الجبائر»، مع أنّه لو کان ذلک الأمر لازماً فی الجبائر، لکان علی الإمام علیه السلام ولو فی مورد من الموارد، وإن کان ظهور بعض الأخبار فی عدم إمکان الإیصال واضحٌ _ کالمرارة فی خبر عبد الأعلی، إن قلنا بإطلاقه بالشمول لمثل ظفر الأصابع فی الید، حتّی یدخل فیه مسح موضع الغسل أیضاً، وإلاّ لا إطلاق له _ إلاّ أنّ ذلک لا یوجب حمل سائر أخبار الجبائر علی خصوص مثل هذه الجبیرة، خصوصاً مثل الخرقة ونظائرها الموجودة فی بعض الأخبار، کخبر الحلبی(1) الظاهر فیما یمکن إیصال الماء إلی تحت الجبیرة، ومع ذلک قال علیه السلام : «امسح علی الجبائر» .

وإن کان بحسب نوع الجراحة والقرحة والکسر هو عدم الإمکان، من جهة وجود خوف الضرر بذلک، ولو من جهة لزوم سرایة الجرح الموجبة لتأخیر البُرء والعافیة .

وکیف کان، لعلّ هذا الأمر کان هو الحکمة المقتضیة لأن یسهّل الشارع حکم العباد ولم یأمرهم بإیجاد هذا العنوان بالتکرار أو الغمس، وکان ذلک منّة علی العباد، لأنّ اللّه رؤوفٌ بالعباد .

الأمر الخامس : لو کانت الجبائر الواقعة علی الجرح والکسر متعدّدة، فهل یجب تقلیلها وتخفیفها، أم یصحّ المسح علیها علی ما هی علیها ؟

والذی یظهر من العلاّمة فی «نهایة الإحکام» من الإشکال فی جواز المسح علی ظاهرها لو کانت متکثّرة، خلافاً لصاحب «الجواهر» من التصریح بعدم وجوب التخفیف تمسّکاً بإطلاق الأدلّة، وبأنّ التقلیل لا یوجب رفع الحائل، فلا تأثیر لذلک.


1- وسائل الشیعة: أبواب الوضوء، الباب 39، الحدیث 2.

ص:157

هذا، ولکن الأقوی عندنا هو التفصیل بین ما إذا کان التعدّد أمراً ضروریاً للجراحة والتسریع فی بدءها بحسب المتعارف، فلا إشکال فی جواز مسح ظاهرها، لأنّ إطلاق الأدلّة یشملها قطعاً .

وأمّا ما لا یکون کذلک، فلا وجه لإلحاقه، لانصراف الأدلّة عن مثله، لأنّ مقتضی الحکم الأوّلی هو عدم جوازه، فیرفع الید بمقدار ما یقتضیه لسان أخبار المسح علی الجبائر، وهو لیس إلاّ ما قلنا.

فالحقّ یکون مع السیّد فی «العروة» فی المسألة الرابعة والعشرون من بحث الجبائر، حیث ذکر هذا التفصیل ، کما أنّ إشکال العلاّمة فی الجواز مع التعدّد، أو الحکم بوجوب التقلیل فی «الریاض» تحصیلاً لما هو الأقرب إلی الحقیقة مطلقاً، لیس فی محلّه .

ومنه یظهر أنّه لا یجوز وضع شیء آخر علی الجبائر فی صورة عدم الحاجة إلیها، ممّا یعدّ خارجاً عن المتعارف .

وأمّا لو عدّ بعد الوضع علیها جزءاً منها بحسب العرف، وکان ذلک متعارفاً، فلا یبعد الجواز، وإلاّ فلا، لکونه حائلاً ومانعاً عن الصحّة .

الأمر السادس : لو کانت الجبیرة مغصوبة، هل یجوز المسح علیها أم لا ؟

ففی «الجواهر»: أنّه لو کانت ظاهرة فلا إشکال فی المنع ، وأمّا لو کانت باطنة من جهة وضع شیء محلّل علیه، حتّی یکون المسح واقعاً علیه، قال : فیه وجهان، ینشئان من أنّ الغصب فی الباطن من الجبیرة کالظاهر أو لا ، ولکن فی المسألة السادسة عشرة من «العروة» فی باب الجبیرة قد فصّل فیه بین ما لم یعدّ المسح علیه تصرّفاً فی المغصوب فیجوز، وإلاّ فلا یجوز ، والأقوی هو الثانی، بل لعلّه هو مراد صاحب «الجواهر» من کونه ملحقاً بالظاهر، أی مِنْ صدق التصرّف وعدمه ، هذا إذا أمکن نزعه والردّ علی صاحبه ، وأمّا إن لم یمکن رفعه: فتارةً یستلزم تلفه

ص:158

أو الإضرار به ، واُخری لا یکون التلف منطبقاً علیه ، فلا إشکال فی الأخیر من وجوب تحصیل رضی المالک بالشراء أو الإجارة أو غیرهما، وإن لم یمکن شیء منهما، ففی «العروة» أنّه یجب الاحتیاط بالجمع بین الوضوء بالاقتصار علی غسل أطرافه، وبین التیمّم، فکأنّه جعل المورد من قبیل أنّ الممتنع الشرعی کالممتنع العقلی .

هذا ، ولکنّه مشروط بأن لا یکون التیمّم کذلک _ أی ذات جبیرة فی موضعه _ وإلاّ کان حاله کحال الوضوء، ولما کان لهذا الاحتیاط وجهاً، بل کان التصرّف فیه بالمسح علیه خلافاً للاحتیاط ، بل لابدّ علی القاعدة حینئذٍ من الاکتفاء بغسل ما حوله فی الوضوء، حتّی لا یدخل فی محذور التصرّف فی مال الغیر.

مع إمکان القول فی هذه الموارد من الاستیئذان من الحاکم الشرعی للتصرّف فیه، ولو من جهة شرائه أو إجارته، لخروج المکلّف عن الأذی والضرر بذلک، لو کان مالکه یأبی عن المعاملة والإجارة، أو کان ممّن لا یقدر الاستئذان عنه، لعدم معلومیّة مکانه وأمثال ذلک .

فالأحوط حینئذٍ الرجوع إلی الحاکم للاستئذان منه فی ذلک .

وأمّا لو صدق علیه التلف، أو استلزم رفعه الضرر، ففی «العروة» قد حکم بجواز المسح علیها، مع کون عوض التالف علیه، واحتاط بلزوم تحصیل رضی المالک .

وقد استشکل علیه فی کلا موردیه : أمّا عن الأوّل، بأنّ ما ذکره مبنی علی کون التلف موجباً لصیرورة التالف مِلکاً للغاصب قهراً بالمعاوضة القهریة، فیکون عوضه ملکاً للمغصوب عنه، فیکون المسح حینئذٍ مسحاً لما هو ملکه، ولا یحتاج إلی استرضاء مالکه، لخروجه عن ملکه .

لکنّه مخدوش، بأنّ التلف لا یُخرج التالف عن الملکیّة، بل یکون العوض الواجب علیه الغرامة والضمان، فیکون باقیاً فی ملکه، فلابدّ فی المسح علیه من

ص:159

الاسترضاء عنه بأحد الطرق المذکورة فی المتن، فیکون حکم وجوب الاسترضاء أشدّ من الاحتیاط .

وأمّا عن الثانی لوضوح أنّ بعض التضرّر لابدّ أن یتحمّله الغاصب لتحصیل ما هو الواجب فی الوضوء من المسح الواقع علی الملک ، فالقول بجواز المسح علیه خوفاً من التضرّر، وتبدیل الحکم إلی ردّ العوض بصورة الإطلاق، لا یخلو عن إشکال، کما عن الخوئی .

ولکن یمکن أن یقال : إنّ المقصود من ذلک لیس الضرر علی نحو الإطلاق ، بل منصرف إلی ما هو المفروض بما لا یجب تحمّله علیه، فلا یشمل مثل ما ذکره وأمثال ذلک ، وأمّا الإشکال الأوّل، فلایخلو عن وجهٍ، کما أشار إلیه الآملی والحکیم وغیرهم من المحشّین علی «العروة»، کالشاهرودی والگلپایگانی والخوئی ، هذا کلّه فی صورة عدم إمکان النزع .

وأمّا لو أمکن النزع من دون تلف، فإن کانت ظاهرة، فلا إشکال فی وجوب النزع عنه ، فحینئذٍ إن أمکن غسل موضع الجبیرة أو مسحها، فیغسل ویمسح بلا إشکال.

وإن لم یمکن ذلک ، فهل یجب تبدیله بجبیرة مباحة علیه، لو لم تکن تحت الجبیرة المغصوبة جبیرة، وإلاّ یجب المسح علیها لصدق الجبیرة علی المحلّلة لموجودة تحتها، إن کانت محلّلة، فیکون داخلاً تحت حکم دلیل الجبیرة وإلاّ فلا ، أو یکتفی بغسل ما حوله لکونه داخلاً تحت عنوان الجرح المکشوف، وقلنا بذلک فیه ، أو یکون من قبیل الجراحة المتعصّبة بالنجسة، حیث یکتفی بغسل ما حولها مثلاً ؟

قد یقال بتبدّل الحکم إلی التیمّم، للإشکال فی کلّ من الوجهین السابقین، لعدم دخوله فی الجرح المکشوف، لأنّ دلیله منصرف إلی ما کان کذلک بطبعه، لا ما یجعله کذلک لأجل الوضوء، ولا یکون داخلاً فی الجبیرة النجسة، لأنّ الحکم

ص:160

یتغیّر بتغیّر موضوعه، فلیس هو من مصادیقه ، فلا یمکن الحکم بکفایة غَسل ما حوله، لأنّه مربوط بأحد من المذکورین، کما لا یمکن الحکم بوضع خرقة مباحة علیه لعدم دلیل علی ذلک فی أصله، فضلاً عن مثل المقام، فیتبدّل إلی التیمّم ، إلاّ أنّ المستفاد من دلیل نفی الحرج والمیسور، وحدیث عبد الأعلی، قیام وضوء الناقص مقام الکامل ، وإن کان الأحوط هو الجمع بین غَسل ما حوله، ووضع شیء علیه والمسح علیه ، وأحوط منه ضمّ التیمّم إلیه، إن لم یستلزم هذه المحاذیر فیه ، وإلاّ یجب علیه مراعاة ما یراعی فی الوضوء أیضاً، سواء کان فی الماسح أو الممسوح، کما لایخفی .

ومن هنا ظهر حکم ما لو یتلف، إلاّ أنّه لا یمکن نزعه، فإنّه من حیث عدم إمکان نزعه یکون ملحقاً بالجبیرة، فیقال : إمّا بالمسح علی شیء محلّل موضوع علیها، أو یکتفی بغسل ما حولها، نظیر حکم الجراحة المجرّدة أو یضمّ إلیها التیمّم من باب الاحتیاط .

وأمّا الحکم بکفایة التیمّم فقط دون الوضوء الناقص، ففی غایة الإشکال .

مع أنّک قد عرفت وجوب تحصیل رضا من المالک بأحد من الوجوه المذکورة، ولو عن طریق الحاکم الشرع ، مع إمکان القول بلزوم إعطاء بدل الحیلولة، لو احتمل حصول إمکان ردّه لصاحبه صحیحاً، إن أمکن الردّ علیه، وإلاّ یستأذن من حاکم الشرع .

وکیف کان، یجب استخلاص نفسه عن هذا المحذور، لتحصیل ما هو الواجب فی الوضوء .

الأمر السابع : ما لو کانت الجبیرة ممّا یحرم لبسها للرجال _ کالحریر والذهب _ أو یحرم استعمال ذلک فی حال الصلاة للمصلّی، _ کأجزاء غیر المأکول _ فهل یصحّ الوضوء بالمسح علی مثل هذه الجبیرة أم لا ؟

ص:161

فقد یشاهد عن بعض، مثل صاحب «شرح النجاة» من الإشکال فیه، حیث قال : بأنّ النهی وإن کان متعلّقاً بأمر خارج، ولکن ما به المخالفة فی المقام متّحد مع المأمور به فی الوجود، وهو المسح علی المحرم استعماله، فیکون هذا الاستعمال _ وهو إمرار الید علی الجبیرة _ مثل استعمال المال المغصوب حراماً .

هذا ، ولکن کلامه لا یخلو عن مناقشة:

فی أحکام الجبائر / لو التصق شیء بمحلّ الوضوء و الغسل

أوّلاً : هذا الإشکال إنّما یجری فی مثل الحریر والذهب، لا ما یکون من أجزاء ما لا یؤکل، ولذا أضاف السیّد فی «العروة» بقوله: بمثل الحریر والذهب ، فالإشکال فی مثل ما لا یؤکل غیر وجیه من أصله ؛ لعدم إمکان الاجتماع حال نهیه مع حال أمره، لأنّ حال النهی یکون حال الصلاة دون غیرها، فمثل حال الوضوء لا یکون الاستعمال منهیّاً عنه .

وثانیاً : لو سلّمنا کونه مثل الحریر، فنقول : إنّ ما هو مورداً للنهی یکون أمراً خارجاً عن ما هو المأمور به، لأنّ المحرم هو لبسها، سواء حصل الإمرار علیه أم لا ، فلا یکون مطلق الاستعمال _ حتّی بإمرار الید علیه فی غیر لبس مثلاً _ حراماً، حتّی یقال باتحاد الموردین ، فإمرار الید علیه، وإن کان مصداقاً للاستعمال أیضاً، إلاّ أنّه کان فی ضمن وجود استعمال آخر منهیّ عنه، وهو اللبس، فلا یضرّ بصحّة الوضوء، کما علیه الفقهاء جمیعاً من المتأخّرین ، وهو واضح، فلا یکون حکم الغصب جاریاً هنا، کما لا یخفی .

الأمر الثامن : فیما لو التصق شیء بمحلّ الوضوء والغسل، بحیث لا یمکن نزعه، کبعض الأجسام المستحدثة التی کانت کذلک، فهل یجوز الاکتفاء بالوضوء الناقص من مسح ذلک الحاجب، أو لابدّ من غسله لا مسحه، أو لابدّ من الحکم بالتبدیل إلی التیمّم مطلقاً، أو الحکم بالاحتیاط بالجمع بین الوضوء والتیمّم، أو یفرق بین العضو وغیره؟ وجوه وأقوال : لا بأس أوّلاً بذکر الأدلّة التی تمسّک بها

ص:162

علی الحکم بکفایة أحدها، ثمّ التعرّض لما هو الحقّ من بینها.

فقد استدلّ علی جواز الاکتفاء بالوضوء الناقص بدلاً عن المسح علی الحاجب باُمور: منها : بخبر عمر بن یزید، قال : «سألت أبا عبداللّه علیه السلام عن الرجل یخضب رأسه بالحنّاء، ثمّ یبدو له فی الوضوء ؟ قال : یمسح فوق الحنّاء»(1) .

وحدیث محمّد بن مسلم، عن الصادق علیه السلام : «فی الرجل یحلق رأسه، ثمّ یطلیه بالحنّاء، ثمّ یتوضّأ للصلاة ؟ فقال : لا بأس بأن یمسح رأسه والحنّاء علیه»(2) .

حیث یستفاد منهما جواز المسح علی الحاجب کالحنّاء .

لکنّه مخدوش، أوّلاً : بإمکان أن یکون المراد هو لون الحناء لا نفسه ، وثانیاً : أنّ موردهما یکون فیما یمکن نزعهما، والحکم بجواز المسح علی الحائل فیما یمکن نزعه من دون ضرورة لم یعهد التزامه من أحدٍ، فلابدّ أن یحمل علی حال الضرورة .

فغایة هذین الخبرین إثبات الجواز فی حال العذر، لا مطلقاً، کما کنّا نتحدّث عنه هاهنا ، فإثبات الحکم منها مشکل جدّاً، کما لا یخفی ، خصوصاً مع ملاحظة مرفوعة محمّد بن یحیی(3) من عدم تجویز ذلک إلاّ فیما إذا أصاب البشرة الماء.

ومنها : الاستدلال بخبر حسنة الوشاء، قال : «سألت أبا الحسن علیه السلام عن الدواء إذا کان علی یدی الرجل، أیجزیه أن یمسح علی طلی الدواء ؟ فقال : نعم یجزیه أن یمسح علیه»(4) .

ومثله خبره الآخر(5) حیث یمکن الاستدلال بهما بأنّ الدواء الواقع علی البدن


1- وسائل الشیعة: أبواب الوضوء، الباب 37، الحدیث 3.
2- وسائل الشیعة: أبواب الوضوء، الباب 37، الحدیث 4.
3- وسائل الشیعة: أبواب الوضوء، الباب 37، الحدیث 1.
4- وسائل الشیعة: أبواب الوضوء، الباب 39، الحدیث 9.
5- وسائل الشیعة: أبواب الوضوء، الباب 39، الحدیث 10.

ص:163

قد یزید علی مقدار الجراحة، ویغطی علی أطراف الموضع، فیکون من قبیل ما نحن بصدده .

هذا، ولکن الإنصاف عدم إمکان الاستفادة منهما لمطلق الحاجب، حتّی بلا عذر، لأنّ موردهما کان فی المعذور والضرورة، ولو بواسطة وضع الدواء علی الجراحة، فشمولهما لغیر موردهما فی غایة الإشکال .

ومنها : الاستصحاب، ببیان أنّ الوجوب کان للوضوء قبل عروض هذا الحاجب، فبعده یشکّ هل أنّه انتقل الحکم إلی التیمّم من جهة انتفاء الکلّ بانتفاء أحد أجزائه أم لم ینتقل، فإنّ استصحاب وجوبه یحکم بوجوب الوضوء بمسح الجبیرة الملتصقة .

هذا ، ولکن یمکن أن یناقش فیه أوّلاً : بأنّه قد تغیّر موضوع الحکم، لأنّ الوضوء الکامل کان موضوعاً للمستصحب، فالآن بعد جریان الاستصحاب یثبت الوضوء الناقص، وهو غیره ، اللهمّ إلاّ أن یقال : إنّ المستصحب لیس الموضوع مع وصفه ، بل المقصود استصحاب أصل الحکم، وهو الوجوب .

وثانیاً : أنّ الاستصحاب بعد تسلیم جریانه، فإنّه یکون من قبیل القسم الثالث من أقسام استصحاب الکلّی، وهو أنّ الوجوب المتعلّق للکامل قد انتقی قطعاً، ولکن یشکّ فی أنّه قام مقامه الناقص حین زوال الکامل حتّی یبقی وجوبه أم لا ؟ فیستصحب، وحجّیة هذا الاستصحاب مشکل، کما لایخفی .

إنّ مقتضاه یکون أعمّ من إثبات المسح علی الجبیرة، لإمکان وجود صورة اُخری، وهو الاکتفاء بغسل ما حوله، أو غسل الشیء الملتصق لا مسحه، فتعیین خصوص المسح _ کما هو المقصود _ غیر مستفاد من لسان الاستصحاب، کما لا یخفی ، فهذا الدلیل لا یغنی لإثبات ما قصدوه .

ص:164

ومنها : قد استدلّ بخبر عبد الأعلی مولی آل سام(1)، حیث أنّه بعد السؤال عن أنّه عثر فانقطع ظفر یده _ علی احتمال _ أو رجله وأنّه جعل علیه المرارة، یسأل عن حکم وضوئه فأجابه علیه السلام بقوله: «یعرف هذا وأشباهه من کتاب اللّه امسح علیه» .

حیث أنّ وجه السؤال لیس عن حکم مقطوع الظفر قبل إیقاع المرارة ، بل کان السؤال عن حکم الوضوء بعدما جعل علیه المرارة، وکان یظنّ أنّ رفع المرارة من علی ظفره المکسور یوجب العسر والحرج، فیسئل أنّه کیف یصنع ؟ فأجاب الإمام علیه السلام : إنّه وأشباهه یعرف من کتاب اللّه، أی لا حاجة إلی السؤال، لأنّ کلّ ما یکون فعله حرجیاً فحکمه مرفوع، فیتبدّل إلی ما لا یکون کذلک، فأخذ المرارة یعدّ من هذا القبیل، فالواجب أن یمسح علیه.

فعلی هذا یفهم منه أنّ کلّ ما یکون رفعه مستلزماً للعسر والحرج، یکون من هذا القبیل، سواء کان اقتضائه للحرج من جهة وجود الجراحة أو المرض، أو کان لأجل أمر آخر من حیث عدم إمکان رفعه، فیستفاد منه جواز الوضوء الناقص ولو بالمسح علیه .

نعم، مقتضی ذلک قیام غسل الجبیرة _ کالقیر وأمثاله _ مقام غسل البشرة لا مسحه بدل غسلها، کما هو المقصود، والمستفاد من ألسنة الفقهاء .

وکیف کان، فإنّ حدیث المرارة یدلّ علی جواز المسح علی الجبیرة الکذائیة أو غسلها ، لما قد عرفت منّا سابقاً أنّه مع إمکان الغسل فهو یکون أولی من مسحها، ولا یبعد الالتزام به، لأنّه قد عرفت أنّ ذلک أولی بالتقدیم فی أصل الجبیرة، فضلاً عمّا هو قائم مقامه .

ولقد نوقش فیه أوّلاً : بما فی «الجواهر» بقوله: مع الغضّ عمّا فی سنده، إذ لم


1- وسائل الشیعة: أبواب الوضوء، الباب 39، الحدیث 5.

ص:165

أقف علی توثیق لعبد الأعلی ، وبما فی «طهارة» الشیخ الأعظم بقوله: مع کون الروایة غیر نقیّة السند .

هذا، ولکن یمکن أن یجاب عنه أوّلاً : بأنّ الواقع فی سلسلة سند الحدیث وقع فیه حسن بن محبوب الذی یعدّ من الأرکان الأربعة، بل هو من أصحاب الإجماع علی ما صرّح بذلک الکشیّ بقوله : أنّه ممّن أجمع أصحابنا علی تصحیح ما یصحّ عنهم وتصدیقهم وأقرّوا له بالفقه والعلم ، هذا، کما فی «جامع الرواة» فی ترجمته، فراجع .

وهکذا یثبت توثیق من وقع بعده، من علیّ بن الحسن بن رباط، وعبد الأعلی لو کانا غیر موثّقین، بشهادة تصریح الکشیّ بذلک.

وثانیاً : بما أجاب صاحب «مصباح الفقیه» من عمل أصحاب الفقه بهذا الحدیث فی باب العبادات والمعاملات، وأنّه کان مورد اعتمادهم فیکون معمولاً به لدی الأصحاب رضوان اللّه تعالی علیهم أجمعین .

ثمّ نوقش فیه ثانیاً کما فی «الجواهر» و«طهارة» الشیخ بقوله : لا صراحة فی الحدیث بذلک، إذ قد یکون المراد منه الاستدلال علی سقوط غسل المتعذّر غسله، وهو لا کلام فیه، إنّما الکلام فی الحکم بعد ذلک، هل هو سقوط الوضوء أو غیره؟

ثمّ أضاف: وبالجملة، فالبناء علی مراعاة ما تضمّنته ظاهر روایة عبد الأعلی، من أنّ تعسّر القید لا یوجب سقوط المقیّد، خصوصاً فی مثل قید المباشرة، التی هی فی الحقیقة من قبیل التقدم للفعل المأمور به لا التسلّم له، مقطوع الفساد، وارتکاب التخصیص فیها کما تری... إلی آخره .

أو المناقشة فیه بما فی «المصباح» الذی نقل عن بعضٍ، بأنّ مقتضی العمل علی طبق مفاد الحدیث وبعمومه _ أعنی سقوط شرطیة الشرط المتعذّر کقید المباشرة فی المسح _ وإیصال الماء إلی البشرة فی الغسل، کما هو مقتضی إحالة الإمام معرفة حکمه إلی آیة النفی والحرج، لزوم تأسیس فقه جدید، حیث أنّ

ص:166

اللازم ارتفاع مشروعیة التیمّم، بالنسبة إلی المتضرّر بالغسل، لبرد أو مرض أو نحوهما، لأنّ کلّ مریض متمکّن بالمباشرة أو بمن یتولّی له ذلک، من مسح ما علیه من اللباس الساتر لبدنه، بل من مسح بدنه تدریجاً بیده الرطبة ، انتهی کلامه.

هذا، ولکن یمکن أن یجاب عنه أوّلاً : بأنّ الظاهر من خبر عبد الأعلی، هو بیان ملاک تبدیل الحکم من الوضوء الکامل بالمسح علی البشرة وغسلها، إلی مسح الجبیرة، وکون المورد من الموارد التی یستلزم العسر والحرج، لو اُرید رفع الحاجب، بلا فرق فی هذا الاستلزام بین أن یکون من جهة المرض، أو کان بملاک آخر، کما فیما نحن فیه .

وأمّا کون المستفاد من الآیة فقط هو سقوط ما هو الواجب _ وهو المباشرة _ دون بیان ما یقع فی موضعه ، فصحیحٌ لو لم یکن الإمام علیه السلام قد ذکر حکم ما هو بدله بعده، بقوله : امسح علیه .

وأمّا بعد ملاحظة ذلک، وعدم جعل شیء آخر مثل الاکتفاء بالمسح علی ما حوله فی موضعه ، نفهم أنّ المقصود من جعل البدن هو من هذا القبیل .

وثانیاً : ما أجاب عنه صاحب «مصباح الفقیه»: بأنّ لسان حدیث عبد الأعلی وإن کان خصوص نفی وجوب المباشرة، إلاّ أنّه ینضمّ بما هو المغروس فی الأذهان من قاعدة المیسور فی ذلک، وهو یکون المسح علی الجبیرة، فثبت مع انضمام کلّ واحد منها مع الآخر، وجوب المسح علی الشیء الملتصق ، مضافاً إلی ما فی «الجواهر» من استفادة ذلک، من الحکم بالمسح علی الجبیرة من الأخبار الواردة فیه، علی حسب اختلاف موارده، کما لایخفی .

وأمّا الجواب عن النقض بلزوم تأسیس فقه جدید، من عدم مشروعیة التیمّم ...، فنقول : بأنّ غسل ظاهر اللباس واللحاف أو مسح بدنه تدریجاً بیده المبتلّة، لایعدّ عرفاً من مصادیق میسور ذلک العمل المتعذّر، حتّی یقال به ، هذا بخلاف

ص:167

المسح علی الملتصق بدلاً عن المسح علی نفس البشرة، حیث یکون هو میسوره عرفاً وهو یکفی فی الافتراق بینهما .

ومن هنا ظهر إمکان استفادة ذلک، من قاعدة المیسور فی مورد آخر من أحدهما، فی أصل عدم سقوط الوضوء، وعدم تبدیله بالتیمّم، بمجرّد تعذّر غسل البشرة، لإمکان غسل سائر الأعضاء .

وثانیهما : فی کون المسح علی الشیء الملتصق، أو غسله، هو المیسور عرفاً، عن مسح نفس البشرة وغسلها، وأنّه یعدّ مجزیاً عنه، صحیحٌ بلا إشکال .

فالأقوی عندنا هو الحکم بإجراء حکم المسح علی الجبیرة المتعارفة هنا، وکفایة مثل هذا الوضوء، وإن کان الأحوط هو ضمّ التیمّم إلیه، إن لم یکن الالتصاق فی موضع التیمّم أیضاً، وإلاّ لا فرق فی کون المسح واقعاً علی أیّ حال علی الشیء الملتصق ، ولکن برغم ذلک بعدّ الجمع بینهما أحوط، جمعاً بین أحد الوظیفتین المتردّدتین، الذی کان مقتضی العلم الإجمالی بهما، والشُّغل الیقینی یقتضی الفراغ الیقینی، لو لم یقنع بما ذکرناه من الأدلّة .

هذا، کما أنّ الأحوط منه هو الإتیان بالغسل لا المسح، کما التزمنا بذلک فی أصل المسح علی الجبائر المتعارفة، فضلاً عن مثل الملتصق الذی یکون فرعاً کما لا یخفی .

فی أحکام الجبائر / لو لم یمکن المسح علی الجبیرة

الأمر التاسع : ففی «العروة»: «وإن لم یمکن المسح علی الجبیرة لنجاستها، أو لمانع آخر، فإن أمکن وضع خرقة طاهرة علیها ومسحها، یجب ذلک، وإن لم یمکن ذلک أیضاً فالأحوط الجمع بین الإتمام بالاقتضاء علی غسل الأطراف والتیمّم» ، انتهی کلامه .

ولکن فی «المستمسک» جَعَل الأحوط فیما لو تعذّر تطهیر الجبیرة، ووضع خرقة طاهرة علیها، هو المسح علی الجبیرة وغسل ما حولها والتیمّم، لا الجمع

ص:168

بین الأخیرتین کما ذکر فی المتن .

ولکن الإنصاف عدم تمامیة ما ذکره من الاحتیاط، لأنّه من الواضح أنّه لو کان موضع الجبیرة فی غیر عضو الأخیر، فلا إشکال فی أنّ مسح الجبیرة النجسة یستلزم فقدان شرط الطهارة فی الماسح وسرایة النجاسة لسائر الأجزاء والأعضاء، کما یفتقد ذلک الشرط لنفس هذا العضو، وإن کان فی العضو الأخیر، فالشرط فی نفسه مفقود ولا إشکال فی شرطیة الطهارة لماء المسح فی الطهارة ، فاحتمال لزوم المسح علی الجبیرة النجسة ضعیف جدّاً .

فبقی هنا وجهان الآخران، فقد یقال : بأنّ دلیل لزوم الغسل حولها کان وارداً فی الجراحة المکشوفة، فلا یشمل الجرح الملفوف بخرق زائدة، أو لا أقل من الشکّ فی الشمول ، ودلیل التیمّم کان وارداً فمن لا یقدر علی الوضوء مطلقاً، أی ولو ناقصه، ففی مثل المقام إمّا أن لا یکون داخلاً أو کان مشکوکاً، مع القطع بأنّ مثل هذا الفرد لا یکون داخلاً فی فاقد الطهورین، فیکون المورد ممّن یقطع بالشغل الیقینی المقتضی للفراغ الیقینی، وهو مقتضی العلم الإجمالی، فلازم ذلک هو الحکم بوجوب الإتیان بکلیهما، تحصیلاً لما هو فی ذمّته من الطهارة المائیة أو الترابیة، فیکون الحکم بالاحتیاط حینئذٍ من قبیل الفتوی بذلک، لا من قبیل الاحتیاط، الحاصل من عدم العلم بالدلیل .

هذا، ولکن یمکن أن یقرّر بوجه آخر یُثبت حکم لزوم الإتیان بغسل ما حوله، وهو من جهة التمسّک بقاعدة المیسور بأن یقال: إنّ الإتیان بالوضوء الناقص یکون میسوراً للوضوء الکامل، فیقدم علیه خصوصاً مع ملاحظة أنّ دلیل التیمّم إنّما یکون فیما إذا لم یقدر علی الوضوء فلا یشمل لمثل المورد، فلا أقلّ من الاحتیاط بالتیمّم، منضمّاً إلی الوضوء ، مع کون الحکم بالوضوء مقدّماً، فیکون الحکم بالاحتیاط هنا متفاوتاً مع الاحتیاط السابق، وهذا هو الأقوی عندنا من الوجه الأوّل .

فی أحکام الجبائر / لو اعتقد الضرر فی غسل البشرة ثم تبیّن خلافه

ص:169

الأمر العاشر : قد عرفت حکم مسألة مسح الجبیرة فی جزء من أجزاء عضو واحد، أو فی جزء من کلّ عضو ، وأمّا لو فرض الاستیعاب فی عضو واحد، أو فی جمیع الأعضاء، فهل یجب المسح علی الجبیرة فقط، أو یکتفی التیمّم، خصوصاً فی الاستیعاب لجمیع الأعضاء، أو یکون مخیّراً بینهما _ کما عن «کشف اللثام»، أو یجب التفصیل بین الاستیعاب لعضو واحد، فیجوز الاکتفاء بالمسح علی الجبیرة، بخلاف المستوعب للجمیع، حیث أنّه لابدّ من الجمع بینهما، أو القول بالتفصیل بین الوضوء بجواز الاکتفاء بالمسح، بخلاف الغسل حیث یتبدّل بالتیمّم؟

وجوهٌ وأقوال : والذی یظهر عندنا _ کما علیه المحقّقین _ کالمحقّق فی «المعتبر» والعلاّمة فی «التذکرة» والشهید فی «الذکری» والشیخ الأعظم فی «طهارته» _ بجواز الاکتفاء بالمسح، لإمکان إلغاء الخصوصیة عن کون المسح فی جزء من العضو فقط، وکون الحکم للأصل وجود الجبیرة، بلا فرق بین الاستیعاب وعدمه ، بل فی عضو واحد أو فی جمیع الأعضاء، خصوصاً مع ملاحظة شدّة حاجة الناس بذلک فی مثل الکسر، کما عن صاحب «الجواهر» من جهة أنّ الکسر بحسب النوع یستلزم الجبیرة لجمیع العضو، فمع ذلک لم یفسّر ذلک فی کلامهم علیهم السلام ، خصوصاً مع ملاحظة قاعدة المیسور .

أمّا فی أصل کون المسح علی الجبیرة یعدّ میسور غسل العضو ومسحه بالبشرة _ کما ذکره السیّد الاصفهانی قدس سره _ فعلیه تجری القاعدة، حتّی فی الاستیعاب لجمیع الأعضاء .

أو إجراء قاعدة المیسور، بلحاظ أصل الوضوء من مکان غسل البشرة ومسحها، بالنسبة إلی سائر الأعضاء دون الوضوء المستوعب الموجب للشبهة فی شمول دلیل التیمّم لذلک ، فعلیه تکون القاعدة بذلک المعنی جاریاً فی صورة استیعاب عضو واحد ونظائره، ولا تشمل صورة الاستیعاب لجمیع الأعضاء .

ص:170

فعلی هذا، یکون الحکم بکفایة الاکتفاء بالمسح علی الجبیرة قویّاً ، وإن کان الأحوط ضمّ التیمّم إلیه، خصوصاً فی الاستیعاب لجمیع الأعضاء، وحذراً عن مخالفة من عرفت من الفقهاء، واحتمال عدم تمامیّة الدلیل، واللّه العالم بحقائق الاُمور .

الأمر الحادی عشر : جاء فی «العروة» فی المسألة الثالثة والثلاثون، قوله: «إذا اعتقد الضرر فی غسل البشرة، فعمل بالجبیرة، ثمّ تبیّن عدم الضرر فی الواقع ، أو اعتقد عدم الضرر، فغسل العضو، ثمّ تبیّن أنّه کان مضرّاً، وکانت وظیفته الجبیرة، أو اعتقد الضرر، ومع ذلک ترک الجبیرة، ثمّ تبیّن عدم الضرر، وأنّ وظیفته غسل البشرة، أو اعتقد عدم الضرر ومع ذلک عمل بالجبیرة، ثمّ تبیّن الضرر، صحّ وضوئه فی الجمیع، بشرط حصول قصد القربة منه فی الأخیرتین، والأحوط الإعادة فی الجمیع» ، انتهی کلامه .

أقول : فلا بأس بالإشارة إلی کلّ واحد منهما مستقلاًّ ، وأمّا الصورة الأولی: حیث حکم السیّد بالصحّة فیها، کما حکم بالصحّة فی الباقی، خلافاً للآملی والسیّد الحکیم قدس سره ، وإن فصّل فیها المحقّق الخوئی بین ما لو فرض اعتقاد الضرر کسراً فی الواقع، فیحکم بالصحّة، وإلاّ یحکم بالبطلان .

ولکن الأقوی أن یقال بالبطلان هنا، لأنّ اعتقاد الضرر لا یؤثّر فی الحکم الواقعی، لأنّ تکلیفه ووظیفته فی الواقع کان هو غسل البشرة، ولم یأت به، فما أتی به لا یکون تکلیفه واقعاً، وإن کان وظیفته بحسب الظاهر والاعتقاد هو هذا، وکان مجزیاً لو لم یکشف الخلاف .

فی أحکام الجبائر / لو غَسل البشرة ثمّ تبیّن الضرر

وأمّا الکلام فیما بعد کشف الخلاف، حیث أنّ الاعتقاد والعلم والظنّ کان طریقیّاً لا موضوعیّاً ، فالمسألة تدخل فی بحث الاجزاء، بأنّ الإتیان بالمأمور به بالأمر الظاهری هل یکفی عن الأمر الواقعی أم لا ؟

وحیث أنّ مختارنا فی ذلک البحث هو عدم الاجزاء، فلابدّ من الحکم

ص:171

بالبطلان هنا، فالقول بالصحّة لا یکون إلاّ من جهة أنّ الاعتقاد بالضرر کان کافیاً بالبطلان هنا ، فالقول بالصحّة لا یکون إلاّ من جهة أنّ الاعتقاد بالضرر کان کافیاً فی الحکم بالصحّة، لأنّه قد أتی بالمأمور به بالأمر الظاهری، فیکون تمثیلاً لقول الإمام علیه السلام : «إن کان یؤذیه الماء فلیمسح علی الجبیرة»، أی لو علم ذلک .

ولکن قد عرفت أنّ الأمر الواقعی هو الوضوء التامّ، فبعد الکشف لا یمکن الحکم بالصحّة . وأمّا الصورة الثانیة وهی ما لو اعتقد عدم الضرر، فغسل ثمّ تبیّن خلافه، حیث أنّ الحکم بالصحّة هنا کان من جهة کون الاعتقاد بعدم الضرر موضوعاً للحکم بجواز إتیان وضوء الکامل، وإن کان فی الواقع مضرّاً، أو قلنا بأنّ ملاک صحّة الوضوء مع الجبیرة، هو الضرر الواقعی، إلاّ أنّه لا یرفع حکم ملاک الوضوء الکامل التامّ، ولعلّه کان وجه تجویز الوضوء الناقص هو التسهیل والمنّة علی العباد، فرخّص لهم .

نعم، هذا لا یوجب جواز الإتیان بالوضوء الکامل، حتّی مع العلم بالضرر، لإمکان أن یکون ذلک من باب حرمة الإقدام علی الإضرار بالنفس .

هذا، بخلاف ما لو اعتقد خلافه، وأتی بالغسل علی اعتقاده ، فالأولی فی هذه الصورة هو الحکم بالصحّة، کما علیه السیّد الحکیم قدس سره فی «المستمسک» .

وأمّا الصورة الثالثة: وهی ما لو اعتقد الضرر وبرغم ذلک أقدم علی غسل عضوه، فبان عدم الضرر، فإنّ عمله بحسب الواقع کان صحیحاً، وإن کان بحسب ظاهر اعتقاده خلافاً، فلا وجه للحکم بالبطلان، إلاّ القول بأنّه لم یقصد امتثال أمره، لأنّه کان بحسب اعتقاده هو الوضوء الناقص، أو کان وجه البطلان هو عدم تحقّق قصد القربة، لأنّه کان مشرّعاً فی دینه، لأنّه یعلم عدم وجود أمر بالوضوء الکامل، وبرغم ذلک أقدم علی إتیانه بهذا النحو.

ولکن الإنصاف صحّة عمله، لأنّه قد أتی بعمل کان مطابقاً للأمر الواقعی وإن

ص:172

وإذا زال العذر، استأنف الطهارة علی تردّد (1).

کان لا یعلمه ، مضافاً إلی محبوبیّة ذات العمل واقعاً، فإنّهما یکفیان فی صحّته .

کما أنّ قصد القربة قد یتمشّی، إمّا لکونه جاهلاً معذوراً، أو ربّما کان عمله کذلک لشدّة تقدّسه فی الدِّین، کما نشاهد ذلک فی کثیر من العوام ، بل قد یشاهدان المریض الذی وظیفته الشرعیة الإفطار فهو یفطر وبرغم ذلک یری نفسه مذنباً، فمثل هذا کیف یرضی أنّ یُنسب إلیه أنّه قد قصد التشریع .

فی أحکام الجبائر بعد زوال العذر

نعم ، قد یبقی الإشکال من جهة أنّ الإقدام علی إیراد الضرر مع علمه بذلک، إن لم یکن کذلک فی الواقع، ربما یکون محرّماً إمّا معصیة أو من باب التجرّی، وهما ینافیان قصد القربة المعتبرة فی العبادة .

ولکن الإنصاف أنّ المورد کان من قبیل التجرّی لا المعصیة، والتجرّی لا یکون حراماً، حتّی ینافی مع قصد القربة، خصوصاً مع ما عرفت من حال بعض الأشخاص، فالحکم بالصحّة فی هذه الصورة قویٌ .

الصورة الرابعة: ومن هنا یظهر الحکم بالصحّة فی الصورة الرابعة، وهی ما لو اعتقد عدم الضرر، فمع ذلک عمل بالجبیرة، فکشف خلافه وعرف أنّ عمله کان مطابقاً للوظیفة، وهو الأمر بالوضوء الناقص، فلا وجه للحکم بالبطلان إلاّ ما عرفت فی الصورة الثالثة، وقد علمت ما قلنا فی جوابه، فالحکم بالصحّة هنا أیضاً قویّ، وإن کان الاحتیاط هو الإعادة، فراراً عمّا عرفت من الإشکالات.

لکن الاحتیاط فیها استحبابی، بخلاف صورة الأولی، حیث أنّ الحکم بالبطلان فیها أجدر وأولی، فیکون الحکم بالإعادة فیها واجبة.

(1) بحث فی أنّ زوال العذر هل یوجب استئناف الطهارة أم لا؟

یتصوّر علی وجوه شتّی، لأنّه:

ص:173

تارةً: یلاحظ بالنسبة إلی الأعمال السابقة بما یشترط فیها الطهارة، کالصلاة والطواف .

واُخری: یلاحظ بالنسبة إلی الأعمال اللاحقة .

وثالثة: یلاحظ بالنظر إلی حال الاشتغال، أی لو زال العذر حین تحصیل الطهارة. فلا بأس بالإشارة إلی کلّ واحد منها علی حدة ، فنقول:

أمّا القسم الأوّل: فهو أیضاً قد یکون فیما قد عمل بوظیفته، ثمّ زال العذر، وهو کما لو تطهّر فی آخر الوقت مع الجبیرة، ثمّ زال بعد الصلاة، أو تطهّر فی أوّل الوقت مع علمه ببقاء العذر إلی آخره، أو حصل الیأس عن الزوال، وقلنا بجواز البدار فی کلیهما، ثمّ زال العذر بعد الصلاة.

فتارةً یکون الزوال بعد خروج الوقت، فلا استئناف ولا إعادة ، واُخری یزول فی الوقت فهو محلّ کلام بلزوم الإعادة أو جواز الاکتفاء بما سبق؟

فإن قلنا بأنّ العمل علی الوظیفة یکفی، ولو انکشف الخلاف، فلا إعادة فیه وإلاّ علیه الإعادة.

وقد لا یعمل بوظیفة، کما لو أتی بالطهارة بنحو الجبیرة فی أوّل الوقت، من دون حصول العلم ببقاء العذر، أو حصول الیأس بالزوال، ولم نقل بجواز البدار له: فإنّه تارةً یکون بعد الإتیان بوضوء الجبیرة، ثمّ زال عنه العذر بعد الصلاة، وبعد خروج الوقت، فهو داخل فی المسألة السابقة من الفروع المتقدّمة، من حصول الخلاف لما اعتقده، أو صادف صحّة ما أتی به للواقع، فهل یکون العمل مکفیاً عن الواقع أم لا ؟

لأنّه قد ظهر أنّ العذر کان باقیاً إلی آخر الوقت، غایة الأمر لم یعمل بالوظیفة بحسب الظاهر .

واُخری یکون زوال العذر فی الوقت، فلابدّ من الإعادة للصلاة المأتی بها

ص:174

قطعاً، ففتوی بعض الفقهاء کالسیّد فی «العروة» بالصحّة، وعدم الإعادة بالنسبة إلی الأعمال السابقة، وإن کان زوال العذر فی الوقت بصورة الإطلاق أو نقل الإجماع بالصحّة وعدم الإعادة _ کما عن «المستند» و«المنتهی» و«شرح المفاتیح» و«الإیضاح» بصورة الإطلاق _ لیس فی محلّه، إلاّ أن یحمل کلامهم علی ما إذا کان قد عمل بوظیفته ظاهراً، وهو المقصود من کلامهم وإن لم یصرّحوا بذلک .

وأمّا القسم الثانی: وهو زوال العذر بعد تحصیل الطهارة ناقصاً، وقبل الإتیان بما یشترط فیه الطهارة، فهل یجب الاستئناف حینئذٍ أم لا ؟

فیه وجهان، بل قولان: قول : بوجوبه، لأنّهم استدلّوا علیه باُمور :

الأوّل : بأنّ التکلیف الأوّلی کان هو الوضوء والغُسل الکاملین ، غایة الأمر رخّص الشارع فی تبدیله إلی الناقص ما دام العذر باقیاً لا مطلقاً، بلا فرق فی ذلک بین القول بکون الوضوء الناقص رافعاً للحدث أو محصّلاً للطهارة، أو مبیحاً للصلاة مثلاً ، فعلی هذا یکون جواز الاکتفاء به ما دامیّة لا دائمیة، لأنّ الضرورة تقدّر بقدرها .

الثانی: إنّه یکون مثل التیمّم منقوضاً بحصول الزوال، کما ینقض التیمّم بوجدان الماء، لأنّ حکم الأوّلی باقٍ بحاله، إذ الأدلّة الدالّة علی تجویز الإتیان بالناقص أو التیمّم، منصرفة لما یزول العذر فی الوقت ویقدر علی الإتیان بالوضوء الکامل .

الثالث : لو شکّ فی صحّة ذلک، فیقال بأنّ الشغل الیقینی بالعمل المشروط فیه الطهارة کالصلاة یستدعی الفراغ الیقینی .

وقول آخر: بصحّة ما أتی به من الطهارة، ولا یحتاج إلی الاستئناف، إذا کان عمله علی طبق وظیفته، والدلیل علی ذلک هو: أوّلاً : بأنّ الشارع قد جوّز لمن کان معذوراً عن الإتیان بالوضوء الکامل أن یأتی بالناقص، وظاهر الأدلّة أنّه

ص:175

یکون مثله فی جمیع الآثار، سواء کان رافعاً للحدث أو محصّلاً للطهارة، أو مبیحاً للصلاة، فبعد زوال العذر لا یؤثّر فی رفع أثره ، والتمثّل بالتیمّم بالنقض بعد وجدان الماء، یعدّ قیاساً، لأنّ الحکم بذلک کان من جهة لسان الدلیل، حیث لا یقتضی بدلیة إلاّ حال فقدان الماء.

هذا بخلاف المقام، حیث أجاز التوضّی ناقصاً حال وجود العذر عند العمل، فبعد حصول الطهارة لا تزول .

وثانیاً : یتمسّک بالاستصحاب، لأنّه قبل زوال العذر کان متطهّراً قطعاً، فبعد زواله یشکّ فی بقائها فیستصحب.

إلاّ أنّه قد یورد علی الاستصحاب، بأنّه یکون من قبیل الشکّ فی المقتضی، لاحتمال أن یکون حصول الطهاة ما دامیة من أوّل الأمر لا دائمیة، فلا یکون حجّة لمن لا یعتقد بحجیّة مثل هذا الاستصحاب .

وثالثاً : یتمسّک بمعتبرة إسحاق بن عبداللّه الأشعری، عن أبی عبداللّه علیه السلام ، قال : «لا ینقض الوضوء إلاّ حدث، والنوم حدث»(1) .

حیث یدلّ بأنّ الوضوء بأیّ حال تحقّق، سواء قلنا بکونه رافعاً للحدث أو محصّلاً للطهارة أو مبیحاً للصلاة، اثره لا ینقض إلاّ بالحدث، ومن المعلوم أنّ زوال العذر لیس من الاحداث، ولذلک ذهب إلیه جمع کثیر من الفقهاء کالشهیدین فی کتبهما، والمحقّق فی «جامع المقاصد» ، بل وکثیر من المتأخّرین کالسیّد فی «العروة»، وأکثر أصحاب التعالیق، وصاحب «الجواهر» و«مصباح الفقیه» و«مصباح الهدی»، وإن کان ظاهر کلام الشیخ الأعظم خلافه، لأنّه قد أورد علی الحدیث بقوله: أوّلاً : بأنّه منصرف إلی الوضوء الکامل، فلا یشمل الناقص .


1- وسائل الشیعة: أبواب نواقض الوضوء، الباب 3، الحدیث 4.

ص:176

وثانیاً : أنّ المراد من الوضوء _ بقرینة نسبته النقض إلیه _ هو الوضوء المؤثّر فی رفع الحدث، لأنّه المستعدّ للبقاء أبداً، إذا لم یرفعه رافع، والکلام فی کون الوضوء الناقص کذلک، وإطلاق النقض علی بطلان التیمّم بوجود الماء فی بعض العبادات والروایات، توسّعٌ لا یصار إلیه عند الإطلاق .

وأمّا جعل إسناد النقض إلی الوضوء المطلق، قرینةً علی کون مطلق الوضوء قابلاً للنقض، یستبعد البقاء أثره أبداً ما لم یرفعه رافع ، فهو فاسدٌ، لأنّ الظاهر فی نظائره العرفیة، کون خصوص الفعل مقیّداً لإطلاق متعلّقه، فتأمّل ، انتهی کلامه .

ولکن یمکن أن یناقش فیما ذکره: إمّا عن الانصراف، بأنّا لا نسلّم ذلک لأنّ ظاهر لفظ الوضوء کونه عنواناً لکلّ ما یمکن أن یکون مصداقاً حقیقة أو تنزیلاً، أی کلّ ما یقبله الشارع کونه وضوءاً صحیحاً، ولذلک تمسّکنا بقاعدة المیسور لأنّه یصدق عرفاً لمثل وضوء الجبیرة أنّه وضوء حقیقة، کالصلاة جالساً ، غایته کونه وضوءاً تنزیلیّاً شرعاً، للتوسعة فی مفهوم الوضوء، بحسب اصطلاح الشرع، للشمول لمثله، فالانصراف المدّعی غیر مقبول .

وأمّا عن الثانی، فلأنّا لا نسلّم أوّلاً صحّة نسبة النقض إلی الوضوء الرافع فقط ، بل تصحّ هذه النسبة بالنسبة إلی کلّ وضوء، ولو کان مبیحاً أو محصّلاً للطهارة .

وثانیاً : کون هذا الوضوء غیر رافع للحدث _ ولو بنحو الموقّت _ ممنوع، لأنّ ظهور الأدلّة فی کون هذا الوضوء یکون مثل الوضوء الکامل ممّا لا یستنکر .

ومن هنا یظهر الإشکال فی ثالث اشکاله، من کون خصوص الفعل مقیّداً لإطلاق متعلّقه، لما قد عرفت من عدم اختصاص الفعل _ وهو الوضوء _ بالرافع فقط، مع ما عرفت من صحّة نسبة النقض حتّی لما لا یکون رافعاً للحدث ، ولعلّه بملاحظة ما ذکرناه حکم رحمه الله بالتأمّل فی آخر کلامه.

فالاستدلال بالحدیث حسن، کما استدلّ به السیّد الاصفهانی فی «الروائع»،

ص:177

فالأقوی عندنا هو هذا القول .

ومن هنا ظهر حکم ما لو زال العذر حال الاشتغال بالعمل الذی یشترط فیه الوضوء، کالصلاة والطواف، من عدم لزوم بطلانه، وعدم وجوب إعادته، لأنّه إذا قلنا بصحّة وضوئه وبقائه بعد إتمام الوضوء، فی حال کونه معذوراً ومجازاً به ولو لم یشتغل بعمل المشروط به، فبعد الاشتغال أیضاً لو زال عذره فإنّه یکون غیر مؤثّر قطعاً. والدلیل علیه هو ما عرفت من الحدیث وظهور الأدلّة .

فما ادّعاه الشیخ الأعظم قدس سره من لزوم الحکم بالاستئناف، وبطلان الصلاة _ بل کان البطلان أولی من إتمامها وإعادتها بعدها، تحصیلاً للجزم فی النیّة، الذی اعتبره بعض الفقهاء، وإن لم یذهب إلیه نفسه الشریف _ ، لا یخلو عن وهن، من حیث المبنی کما عرفت، وإن کان صحیحاً من حیث البناء، لأنّه إذا التزم أنّ الوضوء الناقص رافع مادامیٌ أو محصّل مادامیٌ أو مبیح مادامیٌ کالتیمّم، فلازمه الحکم بالفساد فی کلّ ما یزول عذره، کما یبطل التیمّم متی ما یوجد الماء ولو کان فی حال الصلاة وغیرها .

وأمّا القسم الثالث: وهو ما إذا زال عذره فی الأثناء، فهو أیضاً یتصوّر بوجهین أو وجوه ثلاثة : تارة: یزول عذره قبل أن یفرغ عن مسح الجبیرة، ولکن نفس العمل باقٍ ، واُخری: ما لو زال قبل وقوع المسح علی الجبیرة ، وثالثة: لو زال حال وقوع المسح علی بعض الجبیرة .

والذی یظهر من صاحب «الجواهر» قدس سره هو الحکم بالصحّة، وعدم لزوم الاستئناف، مع التأمّل فی الأخیر، بخلاف الأوّل منها .

ولکن الإنصاف عدم صحّة وضوئه فی جمیع هذه الصور، وأنّ علیه الاستئناف إن فاتت الموالاة، أو إعادة غَسل البشرة والمسح علیها، عند عدم الفوت، لعدم صدق الوضوء الاضطراری علیه، لأنّ ظاهر الأدلّة لزوم ذلک مع کون العذر باقیاً

ص:178

السادسة: لا یجوز أن یتولّی وضوئه غیره مع الاختیار، ویجوز مع الاضطرار (1).

إلی آخر العمل، لا ما کان کذلک فی أوّل العمل، فما اختاره السیّد فی «العروة» والآملی وکثیر من أصحاب التعالیق من الاستئناف حکم صحیحٌ کما لا یخفی .

هذا کلّه فیما إذا علم عذره المستوجب لإیجاب المسح علی الجبیرة علیه .

وأمّا القسم الرابع: وهو ما لو کان عمله السابق من المسح علی الجبیرة مشکوکاً فیه، ولذلک جمع بینه وبین التیمّم ، فحینئذٍ لابدّ من الاستئناف، بعد زوال العذر، لإمکان أن یکون تکلیفه السابق هو التیمّم دون الوضوء الناقص، فإذا زال عذره خرج عن حکم الطهارة، لأنّ الوضوء یحتمل أن لا یکون وظیفته .

وأمّا التیمّم فقد قطع بزواله، فالآن لا یکون قاطعاً بوجود الطهارة لنفسه، فإتیان الواجب المشروط بالطهارة، بمثل هذه الطهارة المشکوکة، لا یوجب القطع بالفراغ اللازم تحصیله، لمن کان شاغلاً قطعاً ، ففتوی السیّد فی «العروة» بالاستئناف هنا کان حسناً .

(1) فالکلام فیه یقع فی مقامین :

أحدهما: فی عدم جواز التولیة فی حال الاختیار، فنقول هنا یجب البحث عن عدّة اُمور وهی:

فی وجوب المباشرة فی الوضوء

الأمر الأوّل : لا یخفی أنّ المراد من التولیة هنا، لیس بأن یتوضّأ المکلّف بید نفس المتولّی، لأنّه حینئذٍ لا یکون الوضوء منسوباً إلی المکلّف حتّی یصدق التولیة ، بل المراد أن یعینه فی تحصیل وضوئه بید نفس المکلّف، نظیر الإطافة فی طواف الحجّ، بأن یغسل وجهه بید نفس المتوضّی بإعانة المتولّی، ولکن لابدّ أن یعلم أنّه لو منعنا التولیة علی نحو الثانی، ففی الأوّل یکون بطریق أولی، هذا بخلاف ما لو قلنا بالمنع فی الأوّل، فهو لا یوجب المنع فی الثانی ، کما أنّه قد

ص:179

یمکن تصویر صورة ثالثة، هی ما لو أعانه علی صبّ الماء علی یده فهل یکون هذا ممنوعاً أیضاً أو لا یکون هذا القسم داخلاً تحت ذلک الحکم ؟

ثمّ إنّه هل المراد من عدم جواز التولیة، الواقع فی کلام المصنّف، هو الحرمة التکلیفیّة أو الوضعیّة _ أی لو تولّی کان وضوئه فاسداً_ أو التنزیهیّة _ أی یکون مکروهاً _ أو المراد هو الجامع بینهما، بأن یکون بعض مصادیقه موجباً للفساد وبعض آخر موجباً للکراهة ؟

والظاهر عدم وجود قائل بالحرمة التکلیفیّة کما فی «الجواهر» فأمره دائر بین أحد الأمرین الآخرین .

الأمر الثانی : إنّ إسناد الفعل إلی غیر المباشر یکون علی ثلاثة وجوه :

تارةً: یکون بالوکالة، بأن یفوّض سلطنته علی المال للوکیل، فلا إشکال فی أنّ الدلیل حینئذٍ یقصد حال العمل وقوع الشیء للموکّل، فبذلک یسند الفعل إلی الموکّل، کما لو باع الوکیل دار الموکّل فیصحّ أن یسند البیع إلی موکّله .

واُخری : ما یکون بالنیابة والاستنابة، بأن یأتی النائب عملاً عن المنوب عنه، کنیابة الحجّ عن الأب وغیره، وهو أیضاً یتصوّر بوجهین : تارةً : یأتی بالنیابة من جهة أنّه بنفسه استناب شخصاً عن نفسه، لإتیان عمل مّا، کما هو الحال فی بعض العبادات .

واُخری : یکون جعل النیابة من ناحیة الشارع لشخص من دون أن یتدخّل فی اختیاره المنوب عنه، وهو کالأولیاء للأطفال.

فلا إشکال فی هذه الموارد بأنّ الغائب یقصد حال العمل وقوعه عن المنوب عنه، ولو لم یکن المنوب عنه ملتفتاً، بل قد لا یقدر علی تصوّر ذلک وفهمه کما هو الحال فی الأطفال الصغار، إذا أراد ولیّه بیع داره مثلاً، وهو واضح .

وثالثة: ما یکون بالتسبیب، وهو أیضاً مختلف باختلاف موارده، إذ فی الجنایات والضمانات یکون فیما إذا کان المباشر بلا إرادة وکان فی حکم آلة

ص:180

مخضة حین العمل.

فلا تردید حینئذٍ أنّ الضمان مستند إلی المسبّب دون المباشر، کما لو أعطی حربة بید الصغیر فضرب بها آخر فقتله، فلابدّ حینئذٍ من إعطاء الدیة وهی علی ذمّة المسبّب لا المباشر .

وآخر ما صدر الأمر من الآمر النافذ قوله وإرادته وکان المباشر غیره کما ورد فی قوله تعالی: «یَا هَامَانُ ابْنِ لِی صَرْحا»(1) حیث أنّ البناء ینسب إلی المسبّب، لأنّه وقع بأمره، وإن لم یکن بنفسه مباشراً .

إذا عرفت ذلک، فلابدّ أن یعلم أنّ التولیة فی الوضوء من الأفعال التی لا یمکن أن تکون من باب الوکالة، فإنّ وضوء المتوضّی لیس من الاُمور التی یتصوّر فیها التوکیل نظیر أکل الأکل والشرب من الآکل والشارب، لما قد عرفت أنّ التوکیل إنّما یکون فی الاُمور التی تکون أمر نفوذه بید الموکل، بحیث یکون له السلطة علیه، وأمّا فی الاُمور التی هی خارجة عن مدار السلطة الوضعیة فلا ، والوضوء یعدّ من هذا القبیل .

فإسناد الوضوء إلی المکلّف بتولیة الغیر لا یصحّ، إلاّ بالاستنابة أو التسبیب، ومع الاستنابة تعتبر النیّة من المتولّی، وعلی التسبیب من المتوضّی نفسه .

هذا تمام الکلام فی مقام التصوّر والثبوت .

الأمر الثالث : إنّما یکون الکلام فی مقام الإثبات والاستظهار، وبیان أنّه هل یمکن استظهار جواز التولیة بالتسبیب أو الاستنابة من الأدلّة الأوّلیة أو الثانویة أم لا ؟

هذا بعد الفراغ عن إمکان دخولهما فی نفسه فی الوضوء .

فنقول : أمّا الأدلّة الأوّلیة فاستفادة الجواز منها موقوف علی إثبات مقدّمتین :


1- سورة غافر : آیة 36 .

ص:181

المقدّمة الاُولی : إمکان تصوّر جامع بین صدور الفعل من المکلّف مباشرة، وبین صدوره عن الغیر بالاستنابة أو التسبیب ، وقد یتوهّم عدم إمکان إثبات تصوّر جامع بینهما، بناءاً علی أنّ المطلوب من کلّ مکلّف إتیانه بنفسه، بحیث یکون إصدار الفعل مستنداً إلیه، بداهة أنّ الفعل الصادر عن الغیر _ بأیّ وجه کان من النیابة أو التسبیب _ لم یکن من جهة الإصدار منسوباً إلاّ إلی المباشر لا إلی المسبّب أو المنوب عنه .

غایة الأمر، حیث أنّ النائب أو المسبّب قصد وقوع الفعل عن المنوب عنه أو المسبّب، وسلب وقوعه عن نفسه، صار ذلک موجباً لصحّة انتسابه إلی المنوب عنه أو المسبّب، ولکن کان هذا من جهة العمل الخارجی .

وأمّا من جهة حیثیّة الإصدار، فإنّه لا یمکن تصویر جامع بین الصدور من المکلّف المباشر، وبین النسبة الوقوعیة عن النائب أو المسبّب، حتّی یکون هو المطلوب بالتکلیف المتوجّه إلی المکلّف .

ثمّ قال المتوهّم _ وهو السیّد الاصفهانی فی «روائعه»(1)_ : نعم، قد یفهم من الأدلّة الخارجیة أنّ الغرض من التکلیف هو حصوله فی الخارج، ولو من غیر المکلّف ، بل المقصود هو حصول المکلّف به ولو بلا دخل لفعل إنسان له أصلاً، کما فی غالب التوصلیّات ، إلاّ أنّه لا ربط له بکون متعلّق التکلیف هو الأعمّ، فلا یدلّ ذلک علی وجود جامع فی الواقع، الذی کان هو متعلّق التکلیف المتوجّه إلی المکلّف ، بل هو دلیل علی عدم اختصاص سقوط الأمر عن المکلّف بإتیانه بالمباشرة ، بل کما یسقط بما طلب منه، کذلک یسقط بفعل الغیر أیضاً، لحصول غرضه، فتصوّر الجامع الخطابی بین الفعل المباشری والفعل الانتسابی


1- الروائع الفقهیة: ص235.

ص:182

والتسبیبی، _ بأن یکون هو المطلوب بالخطاب والتکلیف فی الثبوت _ فی غایة الإشکال . انتهی کلامه .

وما ذکره قدس سره ممّا لا یقبله الذوق السلیم، لأنّه لا مانع أن یقول المولی بأنّ المطلوب هو وجود شیء فی الخارج، ولا یکون لخصوصیة مباشرة المکلّف فیه دخیلاً، فلو استفدنا ذلک من أدلّة النیابة فتصوّر الجامع من هذه الناحیة لا إشکال فیه، ولذلک عاد الاصفهانی رحمه الله عن مقالته بعد ذلک، واستظهر الجواز من أدلّة مشروعیّة النیابة، إلاّ أنّه استدرک بما لا یخلو عن وهن وإشکال، وقال بما حاصله: بأنّ تسبیب الوضوء خارج عن التسبیبات المصحّحة لاستناد الفعل إلی السبب، لأنّ الملاک فی التبیان هو أن لا یکون المباشر مختاراً فی إیجاد الفعل، ولا صادراً عن إرادته الاختیاریة، بل صدر الفعل عنه إمّا بإکراه الغیر له علیه، أو بأن یکون مالکاً لعمله بحیث کان المباشر للعمل بمنزلة المجبور، هذا بخلاف المقام الذی استدعی المکلّف من الغیر أن یوضئه، فإنّه لا یوجب صحّة استناد العمل إلی السبب أصلاً، فلا یتصوّر جامع فی مقام الثبوت هنا ، انتهی کلامه.

ویرد علیه أوّلاً : أنّ الإنصاف عدم تمامیة ما ذکره، لأنّه من الواضح أنّ طبیعة الحال یقتضی أنّ الغیر قد تسبّب بالعمل، وهو الذی أحدث الوضوء له وإن کان ذلک باستدعاء المکلّف ، لکن تکلیف الغیر له لا یوجب عدم صحّة الانتساب إلیه، بل لعلّ وجه عدم الانتساب إلی المسبّب ونسبته إلی المکلّف، هو أنّ نفس العمل _ أی الوضوء _ حیث وقع بید المکلّف _ وإن کان بإعانة المتولّی _ ولذلک ینسب إلیه، وهذا لا یوجب عدم صحّة تصویر جامع بین الفعل المباشری والتسبیبی .

وکیف کان، فثبت من جمیع ما ذکرنا إمکان إثبات تصویر الجامع هنا، وأنّ التکلیف یمکن أن یتوجّه إلیه .

وأمّا المقدّمة الثانیة: وهی ملاحظة ما تقتضیه الأدلّة الأوّلیة، هل یکون هو

ص:183

الإتیان بالفعل مباشرة، أو یشمل ما هو الأعمّ من فعل الغیر، سواء کان بالنیابة أو الوکالة أو التسبیب ؟

والظاهر أنّ المستفاد من الأدلّة هو الأوّل، لوضوح أنّ مقتضی ظهور الخطاب المتوجّه إلی المکلّف، هو إتیانه بنفسه ، فالوضوء بحسب مقتضی الدلیل الأوّلی یجب علی المکلّف إحضاره بنفسه، فجواز التولیة فیه أو فی غیره، لابدّ أن یستفاد من دلیل ثانوی، بمثل ما یمکن إثبات الجواز فی حال الاضطرار من دلیل الإجماع أو غیره، وإلاّ لما أمکن جوازه فی تلک الحالة أیضاً، بمقتضی ظهور الدلیل الأوّلی .

نعم ، قد نستفید فی بعض الموارد من القرائن الخارجیة أو من الدلیل الثانوی أو غیر ذلک، أنّ المطلوب فیه هو تحصیل المأمور به، بأیّ وجه اتّفق، أی ولو کان من غیر المکلّف، کالتولیة فی المضطرّ ، بل قد یکون المطلوب هو حصوله فی الخارج لا تحصیله، کتطهیر المتنجّسات من الألبسة والأجسام، حیث یفهم من قول الإمام علیه السلام : «اغسل ثوبک من النجس» ، هو مجرّد حصول الغَسل بأیّة طریقة ووسیلة کانت، حتّی ولو کان عن غیر اختیاره کما لو وقع المطر علی الثوب النجس فطهّره، هذا بخلاف سائر التکالیف حیث قد اُخذت فیها المباشرة بالفعل، من دون فرق فیما ذکرنا بین التوصلیات والتعبّدیات .

ومن هنا ظهر فساد کلام السیّد الاصفهانی قدس سره فی «الروائع»(1)، تبعاً «للمسالک» حیث قال: «إنّ المستفاد من قوله تعالی : «اغْسِلُوا وُجُوهَکُمْ وَأَیْدِیَکُمْ إِلَی الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِکُمْ وَأَرْجُلَکُمْ إِلَی الْکَعْبَیْنِ» ، لیس إلاّ کون المطلوب هو تحقّق انغسال ما یجب غسله، ومسح ما یجب مسحه خارجاً،


1- الروائع الفقهیّة: ص237.

ص:184

کما یستفاد ذلک من الأمر بغسل الثوب أو البدن فی باب تطهیر عن النجاسة الخبثیة ».

غایة الأمر اعتبر فی الوضوء إیجاد المطلوب عبادیاً، فإذا فرض تحقّق ذلک بفعل النائب الذی استنابه المکلّف، أو رضی بفعله مع قصد النائب تقرّب المنوب عنه به، فقد تحقّقت عبادیتها عن المکلّف، فلازمه سقوط الأمر عنه، فلا مجال للقول بعدم جواز التولیة فی حال الاختیار، إلاّ بدعوی الإجماع علی عدم کفایتها . انتهی کلامه .

وجه الفساد: هو ما قد عرفت، أنّ المستفاد من القرائن الخارجیة فی باب أدلّة النجاسات وتطهیرها، هو حصولها بأیّ وجه اتّفق، کما قد یشاهد فی لسان بعض الأخبار من الحکم بحصول الطهارة بوقوع الجسم النجس فی الماء، أو إذا لاقی المطر أو الکرّ شیئاً نجساً فقد طهر وأمثال ذلک، یوجب رفع الید عن ظهور الخطاب المستلزم کونه بالمباشرة .

هذا بخلاف الطهارة القُربیة ونظائرها، حیث لیس فی الأدلّة ما یدلّ علی هذا المعنی، ولذلک یجب الحکم بلزوم المباشرة، ومن هنا وبملاحظة الذی ذکرناه نری أنّ السیّد رحمه اللّه قد رجع عن کلامه.

إذا عرفت هاتین المقدّمتین، تعلم أنّ مقتضی الدلیل الأوّلی، هو عدم جواز التولیة فی الوضوء، لا لأجل عدم إمکان تصویر جامع فیه کما زعمه السیّد ، بل لأجل استظهار لزوم المباشرة من الأدلّة ، إلاّ أن یفید دلیل ثانوی علی الجواز، وهو مفقود فی حال الاختیار، وموجود فی حال الاضطرار .

نعم، ربّما یستدلّ علی عدم جواز التولیة بالآیة والروایات الدالّة علیه ، وأمّا الآیة: وهی قوله تعالی : «فَمَنْ کَانَ یَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْیَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحا وَلاَ یُشْرِکْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدا»(1).


1- سورة الکهف: آیة 101.

ص:185

فهی تدلّ علی أنّه لا یجوز إدخال الغیر وأشرکه فی العمل العبادی، ومنه الوضوء، کما قد یؤیّد ذلک استدلال بعض الأئمّة علیهم السلام علی الابتعاد عن الشرک فی الأفعال بهذه الآیة الشریفة، کما فی حسنة الحسن بن علی الوشاء، قال : «دخلت علی الرضا علیه السلام وبین یدیه إبریق یرید أن یتهیّأ للصلاة، فدنوت منه لأصبّ، علیه فأبی ذلک، فقال : مه یا حسن ، فقلت له : لِمَ تنهانی أن أصبّ علی یدیک، تکره أن أُؤجر ؟ قال : تؤجر أنت وأُؤزر أنا ، فقلت : وکیف ذلک ؟ فقال : أما سمعت اللّه عزّوجلّ یقول : «فَمَنْ کَانَ یَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْیَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحا وَلاَ یُشْرِکْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدا»، وها أنا ذا أتوضّأ للصلاة وهی العبادة فأکره أن یشرکنی فیها أحد»(1) .

والحدیث الذی رواه الشیخ المفید فی «الإرشاد» قال : «دخل الرضا علیه السلام یوماً والمأمون یتوضّأ للصلاة، والغلام یصبّ علی یده الماء، فقال : لا تشرک یا أمیر المؤمنین بعبادة ربّک أحداً، فصرف المأمون الغلام، وتولّی تمام وضوئه بنفسه»(2) .

حیث لا یبعد أن یکون مقصود الإمام علیه السلام من هذا التعبیر هو الإشارة إلی الآیة المذکورة .

وجه الاستدلال بها: أنّ الآیة المبارکة فی مقام النهی عن التشریک فی العبادة، أی لایجوز أخذ المکلّف شریکاً له فی عبادة ربّه التی أمر بها، والتولیة تشریک فیها، أمّا عن قیام حلولی علی المکلّف وقیام صدوری علی المتولی إذا کان التشریک فی جمیع أفعال الوضوء .

وأمّا من جهة قیام بعض الأفعال بالمکلّف وبعض آخر بالمتولی، فیما إذا کان


1- وسائل الشیعة: أبواب الوضوء، الباب 47، الحدیث 1.
2- وسائل الشیعة: أبواب الوضوء، الباب 47، الحدیث 4.

ص:186

التشریک فی بعض منه .

وکیف کان فهو تشریک فی العبادة ویکون النهی فیها مقتضیاً لفساده .

هذا غایة ما یقال فی تقریب الاستدلال .

ولا یخفی أنّ ظاهر الآیة مع قطع النظر عن التفسیر الذی وقع فی بعض الأخبار _ هو النهی عن التشریک فی العبادة، فی مقابل الإخلاص الذی یعدّ من الأصول أی الخلوص فی المعبودیة لا فی العابدیة، کما أنّ المراد بحسب الظاهر من قوله : «فَلْیَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحا» هو الإتیان بالواجبات والمستحبّات التی کانت من الفروع، ولا یرتبط بالنهی عن التشریک فی العبادة ، ثمّ المراد من الخلوص ونفی التشریک فی العبادة، لیس علی ما زعمه الشیخ الأعظم فی «طهارته» بقوله :

إنّما تدلّ علی النهی عن الإشراک فی العبادة، بأن یدخل غیره معه فی الفعل بقصد العبادة والأجر من اللّه تعالی، لیشترکا فی عبادة اللّه عزّوجلّ، وهذا لا یکون إلاّ إذا کان الفعل مستحبّاً فی حقّ کلّ منهما، وهذا لیس مُحرّماً ولا مکروهاً ، وأمّا محل الکلام هو مجرّد صدور الفعل بینهما معاً، وإن لم یقصد شریکه العبادة، بل أعانه لغرض آخر من طمع أو خوف، فلا یدخل تحت المنهی عنه ، ألا تری أنّ الاشتراک مع الغیر فی بناء المسجد لاجرة جُعلت له، أو لغرضٍ آخر غیر التقرّب إلی اللّه تعالی، لا یعدّ من الإشراک فی العبادة ، انتهی کلامه رفع مقامه .

حیث أنّ المستفاد من کلام الشیخ، أنّه أراد نفی التشریک من حیث نفس العمل، کما یشهد لذلک فرض کونه مستحباً لهما ومثل بناء المسجد .

مع أنّ المستفاد من ظاهر الآیة هو نفی التشریک فی النیّة والقصد، من جهة أن یأتی العمل بنفسه، إلاّ أن یقصد بذلک اللّه وغیره من الناس من السمعة والریاء، وإفهام الناس بعمل نفسه، وغیر ذلک من الأغراض المترصّدة من الناس، کما

ص:187

یشهد لذلک قوله تعالی : «بِعِبَادَةِ رَبِّهِ»، حیث جاءت کلمة العبادة بلفظ الباء لا بدونه مع أنّ الثانی أشدّ مناسبة مع کلام الشیخ قدس سره .

فما ذکرنا فی معنی الآیة یساعد مع ما هو الموجود فی حدیث جراح المدائنی، عن الصادق علیه السلام فی تفسیر الآیة: «أنّ الرجل یعمل شیئاً من الثواب لا یطلب به وجه اللّه تعالی، إنّما یطلب تزکیة النفس لیشتهی أن یسمع به الناس، فهذا الذی أشرک بعبادة ربّه»(1) .

وحدیث علیّ بن إبراهیم فی تفسیره، قال فی روایة أبی الجارود، عن أبی جعفر علیه السلام ، قال : «سئل رسول اللّه صلی الله علیه و آله عن تفسیر قول اللّه عزّوجلّ «فَمَنْ کَانَ» الآیة ؟ فقال : مَنْ صلّی مرآءات الناس فهو مشرک.... إلی أن قال : ومن عمل عملاً ممّا أمر اللّه به مرآة الناس، فهو مشرک، ولا یقبل اللّه عمل مراءٍ»(2) .

فعلی ما استظهرناه من الآیة، لا تکون الآیة مرتبطةً بما یأخذ عمل الغیر فی عمل نفسه، ومنه التولیة فی الوضوء، سواء کان إشراکه للغیر فی تمام عمله أو فی بعض العمل .

هذا بخلاف ما استظهره الشیخ قدس سره ، فیمکن الاستدلال بها للمقام ؛ إمّا بأن یکون أنّ الآیة سیقت لبیان الحکم الوضعی، وهو الفساد ابتداءً، باعتبار کونه تفریعاً علی ما أفاده أوّلاً، من اعتبار الإخلاص فی العمل المستفاد من قوله تعالی : «فَلْیَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحا»، حیث قد فسّر الصالح من العمل، بالخالص عن الشرک، فیکون النهی عن الشرک إرشاداً إلی ما یستفاد من العمل الصالح .

وأمّا باعتبار کون النهی المتعلّق بالعبادة _ ولو تکلیفاً _ یدلّ علی الفساد، لا من


1- وسائل الشیعة: أبواب المقدّمة العبادات، الباب 12، الحدیث 6.
2- وسائل الشیعة: أبواب المقدّمة العبادات، الباب 11، الحدیث 13.

ص:188

حیث إبطال التشریک بنفسه للعمل، کما ذکر فی الأوّل .

ولکن قد عرفت أنّه خلاف ظاهر الآیة، واللّه العالم .

نعم، إن لوحظت الآیة مع ما فی الأخبار من التفسیر والتوجیه، فقد یتفاوت المعنی ، بل قد تتعارض، لأنّه قد وردت فی عدّة من الأخبار بکون المراد من النهی عن التشریک، هو التشریک فی ذات العمل، من دون أن یقصد الشریک فی إعانته العبادة ، بل کان قصده أخذ الاُجرة أو الخوف، أو تحصیلاً للثواب من اللّه من دون قصد القربة ، اللهمّ إلاّ أن یقال إنّه یصیر بهذا القصد عبادیاً أیضاً .

وهذه الأخبار هی: منها: خبر الحسن بن علی الوشاء، والروایة التی رواها الشیخ المفید فی «الإرشاد»، کما مرّ علیک.

منها: مرسلة الصدوق، قال : «کان أمیر المؤمنین علیه السلام إذا توضّأ لم یدع أحداً یصبّ علیه الماء، فقیل له : یا أمیر المؤمنین لِمَ لا تدعهم یصبّون علیک الماء ؟قال : لا أحبّ أن أشرک فی صلاتی أحداً، وقال اللّه تعالی : «فَمَنْ کَانَ یَرْجُوا»الآیة»(1) .

منها: حدیث السکونی، عن أبی عبداللّه علیه السلام ، عن آبائه، عن علیّ علیه السلام قال : «قال رسول اللّه صلی الله علیه و آله : خصلتان لا أحبّ أن یشارکنی فیها أحد: وضوئی فإنّه من صلاتی، وصدقتی فإنّها من یدی إلی ید السائل، فإنّها تقع فی ید الرحمان»(2) .

ومنها: خبری جراح المدائنی، وعلی بن إبراهیم، عن أبی الجارود .

ومن المعلوم أنّ مقصود النهی من التشریک فی الآیة، لابدّ أن یکون شیئاً واحداً لا اثنین أو أزید، لعدم جواز استعمال لفظ واحد فی أکثر من معنی واحد .


1- وسائل الشیعة: أبواب الوضوء، الباب 47، الحدیث 2.
2- وسائل الشیعة: أبواب الوضوء، الباب 47، الحدیث 3.

ص:189

فعلی هذا لا محیص إلاّ القول بکون المراد هو نفی التشریک فی العبودیة، أو فی العابدیة، أو یلاحظ جامع فی البین، حتّی یکون هو متعلّق النهی، فیشمل کلا القسمین، بل الأقسام الثلاثة، بإضافة ما لو شارکه فی العمل، ولو من دون قصد العبادة، فی قبال من یشارکه فی العمل فیما کان الشریک أیضاً یقصد العبادة .

فعن الشیخ الأعظم فی «طهارته»: عدم إمکان تصویر جامع فیما بین العنوانین، فلابدّ أن یکون مورد الآیة أحدهما، من المشارکة فی المعبودیة _ کما هو ظاهرها_ أو المشارکة فی العابدیة لکلا قسمیها، کما تدلّ علیه بعض الأخبار .

ثمّ إنّه رحمه الله برجّح الأوّل منهما، بدعوی أنّه أوفق بظاهر النهی والعموم.

ونحن نزید ، بل قد یؤیّد هذا الاحتمال، أنّ ظاهر الآیة هو التحریم، فهو یساعد مع التشریک فی المعبودیة، لوضوح أنّ الریاء فی العمل مفسدٌ للعبادة، بل لا یبعد القول بحرمته فی نفسه، هذا بخلاف التشریک بالمعنی الثانی، حیث أنّ الفقهاء ذهبوا إلی کراهته ، فصرف ظهور النهی عن التحریم إلی التنزیه مشکل .

هذا، ولکن الإنصاف عدم تمامیة ما ذکره الشیخ قدس سره ، لما قد عرفت من تمسّک الأئمّة علیهم السلام بالآیة صراحة للدلالة علی المشارکة فی العابدیة، فکیف یمکن الالتزام بعدم دخولها فی الآیة، فلابدّ حینئذٍ من بیان حتّی تکون جمیع أقسام المشارکة داخلة فیها .

والذی ینبغی أن یقال فی تصحیح ذلک یکون بأحد من الوجهین :

الأوّل: إمّا القول بوجود جامع واقعی یشترک بین جمیع الأقسام، بأن یقال بکون الجامع هو العمل الذی یأتی به المکلّف خالصاً من جمیع الجهات، عبادةً وإعانةً لکلا قسمیها، فالخلوص الکلّی یکون فی مقابل الشرک الکلّی، وممّا یساعد هذا المعنی _ مع الخلوص المستفاد من صدر الآیة _ قوله تعالی : «عَمَلاً صَالِحا»، أی عملاً خالصاً للّه من جمیع الجهات، من دون شرک فیه بشیء من

ص:190

أقسامها، فحینئذٍ قد استعمل اللفظ فی معنی واحد کلّی له أفراد مشکّکة، ویوافق مع جمیع ما اُستفید من الأخبار الذی قد استشهد فیها بالآیة .

وأمّا من حیث الحکم، فیحفظ ظهور الآیة فی التحریم فی جمیع أفراده، إلاّ ما قام الدلیل علی کونه مکروهاً کالإعانة فی المقدّمات، حیث قام علیه الإجماع ، فضلاً عن بعض الأخبار مثل خبر أبی عبیدة الحذّاء، قال : «وضأت أبا جعفر علیه السلام بجمع وقد بال، فناولته ماء فاستنجی، ثمّ صببت علیه کفّاً، فغسل به وجهه (وکفّاً غسل به ذراعه الأیمن)، وکفّاً غسل به ذراعه الأیسر، ثمّ مسح بفضلة الندی رأسه ورجلیه»(1) .

هذا، وقد روی شیخ الطائفة الخبر فی موضعین بهذا المتن والسند، إلاّ أنّ لفظه عنده: (ثمّ أخذ کفّاً) بدل (ثمّ صببت علیه کفّاً) .

فهذا الخبر یدلّ علی الجواز، حیث یکون حاصل جمعه مع الآیة وبعض أخبار اُخر، هو الحمل علی کراهة الإعانة ، وهذا لا یوجب رفع الید عن ظهور التحریم فی التشریک فی المعبودیة، کما علیه الفتوی والأخبار، کما لا یخفی.

وهذا هو الوجه الأحسن والأوفق بظاهر الآیة والروایة .

الثانی: أو یقال بأن النهی فی الآیة استعمل فی الجامع، وهو رجحان الشرک ، فبالأدلّة الواردة علی حرمة الشراکة فی المعبودیة یحمل علیه، وکذلک بالأدلّة الواردة علی کراهة الإعانة علیه ، أو القول بوجه آخر: هو أنّ ظاهر الآیة کان لخصوص الشرکة فی المعبودیة، وکان هذا الظاهر _ حیث الحکم وهو التحریم _ باقیاً بحاله، إلاّ استفادة الإمام علیه السلام من الآیة علی نفی التشریک فی العابدیة بکلا قسمیها، کان من باب الاستعانة بإحدی المعانی التی یتضمّنها القرآن، حیث ورد فی الحدیث أنّ القرآن له سبعة أو سبعون بطناً، ولعلّ ما ذکره الإمام علیه السلام یعدّ


1- وسائل الشیعة: أبواب الوضوءالباب 15، الحدیث 8 .

ص:191

إحدی البطون، فلا ینافی حینئذٍ أن یکون ذلک بنحو التنزیه لا التحریم، حتّی یساعد مع الإجماع، بخلاف المشارکة فی المعبودیة، حیث کان تحریماً، فیکون استعمال اللفظ فی القرآن فی معنی واحد محفوظاً بحاله، بلا إشکال .

نعم، یبقی الکلام حینئذٍ فی مسألة التولیة فی الوضوء، فهل هو یعدّ من قبیل الإعانة فی بعض المقدّمات، مثل إتیان الماء وتسخینه أو الصبّ علی الکفّ، فیکون داخلاً تحت حکم الکراهة الذی قد عرفت دلالة قیام الإجماع علیه أم لا؟ وقد ذکرنا أنّ بعض الأخبار أیضاً تدلّ علی الکراهة، کما هو الحال فی خبر حسن بن علی عن الرضا علیه السلام : «تؤجر أنت وأؤزر أنا»، حیث من المعلوم أنّه لو کان ذلک الصبّ حراماً لما کان إعانة الغیر للحرام له أجر أصلاً ، بل یکون حینئذٍ من الإعانة فی الإثم ، مضافاً إلی ظهور کلام رسول اللّه صلی الله علیه و آله وأمیر المؤمنین علیه السلام بقولهما : «لا أحبّ أن یشارکنی فیها أحد» .

فضلاً عن استدلال رسول اللّه صلی الله علیه و آله بقوله : «أنّ وضوئی من الصلاه»، وقول الرضا علیه السلام : «بأنّ الصلاة هی العبادة»، حیث یفهم أنّ الوضوء بنفسه لم یعدّ من العبادة، وإنّما یعدّ مقدّمة للعبادة، فیکون من قبیل الإعانة فی المقدّمة، لا فی أصل العبادة فیدخل فی الکراهة.

فجمیع ذلک یوجب توهّم کون التولیة _ وهی أن یوضّأ الغیر مکلّفاً بید نفس المکلّف لغسل أعضائه ومسحها _ من قبیل الإعانة فی المقدّمات، فتکون مکروهة.

ولکن هذا لا یتناسب مع فتوی المشهور علی عدم جواز التولیة، بل قد ادّعی علیه الإجماع، کما عن غیر واحد من الأعلام، بل قد قیل : إنّ نقل الإجماع علی عدم الصحّة مستفیض، ولم یُنقل الخلاف عن أحد إلاّ الإسکافی، فلامحیص إلاّ القول بخروج مثل التولیة عن مفاد تلک الأدلّة، ودخولها أمّا فی موضوع الآیة، فتکون التولیة حراماً _ کما هو ظاهر الآیة _ فیشکل حینئذٍ من جهة عدم التزام

ص:192

الفقهاء بالحرمة التکلیفیّة.

فی تولّی وضوء العاجز

أو یقال إنّه وإن کان داخلاً تحت عمومات الإعانة الدالّة علی الکراهة، إلاّ أنّ وجه کون التولیة باطلاً ومبطلاً للعمل، هو ما عرفت فی صدر المسألة من اقتضاء الدلیل الأوّلی علی لزوم المباشرة فی أصل العمل، إلاّ ما خرج بالدلیل علی جوازه لبعض الإعانة فی المقدّمات، حیث قام الإجماع علی أنّه مکروه، ولا یکون مبطلاً.

فثبت من جمیع ما ذکرنا بأنّ التولیة تعدّ مبطلة للوضوء فی حال الاختیار، وأمّا الإعانة فی المقدّمات فهی تعدّ مکروهةً، ولا شکّ فی حرمة التشریک فی المعبودیة.

وأمّا الإعانة بصورة صبّ الماء علی نفس الأعضاء من الوجه والیدین، برغم أنّ الغسل والمماسّة تکونان بعهدة المکلّف، فهل هی مبطلة أو مکروهة أم لا؟ وجهان: والظاهر أنّ المراد من الصبّ المتعارف الواقع فی الأخبار، غیر هذا، کما یؤمی إلیه الخبر: (بأنّی صببتُ الماء علی کفّه)، فدخوله فی التولیة لا یخلو عن وجه ، فالحکم بالاحتیاط الوجوبی فی ترک مثل هذه الإعانة لا یخلو عن وجه . واللّه هو العالم بالصواب .

وأمّا الکلام فی المقام الثانی: وهو جواز التولیة _ بل وجوبها_ حتّی مع الاُجرة فی حال الاضطرار، فقد یستدلّ علیه باُمور :

الأمر الأوّل : الإجماع بکلا قسمیه، کما فی «الجواهر» بقوله : بلا خلاف أجده ، بل فی «التحریر» علیه اتّفاق الفقهاء، وکذا فی «المعتبر» و«المنتهی»، ولم نجد إلی الآن من ذهب إلی خلافه من المتقدّمین والمتأخّرین والمعاصرین .

فالإجماع، لو لم یکن مدرکه معلوماً _ کما نذکره لاحقاً _ لکان حجّةً برأسه ، ولا أقلّ یکون مرجّحاً ومؤیّداً لما یستدلّ به، کما لا یخفی .

الأمر الثانی : هو مراجعة قاعدة المیسور والإدراک، فإن قلنا بأنّ القاعدة تشمل

ص:193

لما یکون من قبیل الشرط لاجزاء الواجب ، أو قلنا بشمولها للشرط الذی کان لجزء المرکّب الذی لیس بنفسه مأموراً به ، بل کان محصّلاً له _ کالوضوء والتیمّم ونظائرهما _ فهی تکون من الأدلّة ، وإلاّ مع الإشکال فیها بأحد من الوجهین المذکورین، فلا یمکن التمسّک بها ، ولکن الأقوی عندنا شمولها للشرائط بکلا قسمیه، سواء کان شرطاً لجزء نفس المرکّب المأمور به، أو شرطاً لما یکون محصّلاً له، وإن خالفنا فی ذلک الآملی والسیّد الأصفهانی .

الأمر الثالث : الأخبار الخاصّة الواردة فی الغسل والتیمّم، المستفادة منها جواز التولیة مع الاضطرار: منها: ما رواه فی الصحیح سلیمان بن خالد، وعبداللّه بن سلیمان جمیعاً عن الصادق علیه السلام : «أنّه سئل عن رجل کان فی أرض باردة، یتخوّف إن هو اغتسل أن یصیبه عنتٌ من الغسل، کیف یصنع ؟ قال : یغتسل وإن أصابه ما أصابه ؟ قال : وذکر أنّه کان وَجِعاً شدید الوجع، فأصابته جنابة، وهو فی مکان بارد، وکانت لیلة شدیدة، لیلة شدیدة الریح باردة، فدعوت الغلمة، فقلت لهم : احملونی فاغسلونی ، فقالوا : إنّا نخاف علیک ، فقلت لهم : لیس بدٌّ ، فحملونی ووضعونی علی خشبات ثمّ صبّوا علیَّ الماء فغسلونی»(1) .

منها: ما رواه ابن أبی عمیر فی الصحیح أو الحسن عن محمّد بن مسکین وغیره، عن أبی عبداللّه علیه السلام ، قال : «قیل له : إنّ فلاناً أصابته جنابة، وهو مجدور فغسّلوه فمات ، فقال : قتلوه ، ألا سألوا ألا یمّموه، إنّ شفاء العیّ السؤال»(2) .

منها: مثله خبره الآخر(3).

بناءً علی أن یکون المراد من التوبیخ بالتغسیل والترغیب إلی التیمّم من التولیة


1- وسائل الشیعة: أبواب الوضوء، الباب 48، الحدیث 1 و وسائل الشیعة: أبواب التیمّم، الباب17، الحدیث 3.
2- وسائل الشیعة: أبواب التیمّم، الباب 5، الحدیث 1.
3- وسائل الشیعة: أبواب التیمّم، الباب 5، الحدیث 3.

ص:194

فی ذلک، کما هو ظاهر الجهة، من قوله: «فغسّلوه، أو ألا یمّموه» لا الأمر بالتیمّم .

والإشکال فی هذین الحدیثین، باحتمال کون المراد هو الأمر بذلک ، مخدوش بوجهین:

أوّلاً: بقرینة لفظ (غسّلوه) فإنّه وارد علی نحو الحکایة ویقصد بالأمر التولیة فی الغسل، فیکون المراد من قوله: (ألا یمّموه) هو التولیة أیضاً ، وثانیاً : أنّه لو کان المراد منه هو الأمر، لکان الأولی التعبیر بمثل ما عبّر عنه فی حدیث جعفر بن إبراهیم الجعفری، عن الصادق علیه السلام قال : «إنّ النبیّ ذکر له أنّ رجلاً أصابته جنابة علی جرح کان فیه، فأمر بالغسل فاغتسل فکزّ فمات.

فقال رسول اللّه صلی الله علیه و آله : قتلوه قتلهم اللّه، إنّما کان دواء العیّ السؤال»(1) .

فدلالة الحدیثین الواردین فی التیمّم علی جواز التولیة واضحة، ولا یعبأ بالإشکال المذکور. کما أنّ دلالة حدیث سلیمان علی ذلک کانت کذلک .

إلاّ أنّه یستشکل فیه: باشتماله بما لا یعتقد به الإمامیة من عروض الاحتلام للإمام علیه السلام ، إن کان المراد من قوله: إصابته جنابة) هو الاحتلام.

وان کان قصد بهذا القول تعمّده علیه السلام الجنابة مع علمه علیه السلام بفقدان الماء أو تعذّره من استفادته لبرودة الهواء، فلا یمکن الاستدلال به للمقام.

هذا کما عن الشیخ الأعظم فی «طهارته» والآملی فی «المصباح» .

وفی الثانی أیضاً أنّ الاحتمال بکون جنابته علیه السلام لضعف الأعصاب ونحوه أیضاً بعید ، ومع مخالفته مع القاعدة الموجودة فی التیمّم، حیث أنّه یتعیّن التیمّم مع الوجع الشدید ، مضافاً إلی أنّ الخبر وارد فی الغسل، وإسراء الحکم من الغسل إلی الوضوء محتاج إلی عدم القول بالفصل، وهو فی معنی الإجماع، الذی قد


1- وسائل الشیعة: أبواب التیمّم، الباب 5، الحدیث 6.

ص:195

عرفت المناقشة فیه ، انتهی کلامه .

ولکن لا یخفی علیک ما فی بعض ما ذکره، لإمکان أن یکون المراد من قوله: أصابته جنابة)، هو التعمّد من دون استبعاد ، أمّا وجه ظهوره فیه: لما قد عرفت من تنزّه الإمام علیه السلام عن الاحتلام، کما یدلّ علیه أخبار الإمامیّة ، ولذلک ادّعی صاحب «الوسائل» فی ذیل هذا الخبر ظهورها فی التعمّد .

وأمّا وجه عدم الاستبعاد هو إمکان أن یکون الإمام فی صدد بیان جواز ذلک، ردّاً علی توهّم حرمة ذلک، مع العذر عن استعمال الماء، أو کان فی حال احتمال الضرر المستلزم للتبدیل إلی بدله، وهو التیمّم .

وأمّا الاحتیاج إلی الإجماع فی التسریة والتعمیم، فیمکن أن یجاب عنه بأنّه غیر محتاج إلیه، لإمکان استفادة جواز التولیة فی الوضوء فی حال الاضطرار بالأولویة، إذا استفدنا جواز التولیة فی الحدث الأکبر کالغسل، والحدث الأصغر البدل وهو التیمّم، لوضوح أنّ الوضوء لیس أسوء حالاً منهما .

کما أنّ إشکال الآملی أیضاً بدعوی معارضة الخبرین الواردین فی باب الغسل مع صحیح محمّد بن مسلم، قال: «سألت أبا عبداللّه علیه السلام عن رجل تصیبه الجنابة فی أرض باردة ولا یجد الماء، وعسی أن یکون الماء جامداً ؟ فقال : یغتسل علی ما کان حدّثه رجل أنّه فعل ذلک فمرض شهراً من البرد، فقال : اغتسل علی ما کان، فإنّه لابدّ من الغسل ، وذکر أبو عبداللّه علیه السلام : أنّه اضطرّ إلیه وهو مریض فأتوه مسخناً فاغتسل، وقال : لابدّ من الغسل»(1) . انتهی کلامه .

لیس علی ما ینبغی، لأنّه رحمه الله توهّم أنّ المراد من قوله علیه السلام : «لابدّ من الغسل» هو إعادته، وإلاّ لو کان المراد منه ما هو المفهوم من ظاهره من إیجاب الغسل مع


1- وسائل الشیعة: أبواب التیمّم، الباب 17، الحدیث 4.

ص:196

ملاحظة جمیع ما ذکره السائل من المصائب، فلا یکون معارضاً لخبر سلیمان ، بل یساعده لما فیه أیضاً وإن أصابه ما أصابه .

ولذلک تری أنّ الفیض قدس سره فی «الوافی»(1)، نقل عن مشایخه، أنّ معنی الخبر محمولٌ علی صورة تعمّد الجنابة، حتّی یکون من قبیل التعذیب والکفّارة ، أو کان مورده فیما إذا کان البرد خفیفاً لا شدیداً.

ولعلّ مقصود الآملی قدس سره من معارضته، هو مباشرته علیه السلام بغسله، مع کونه قد مرض واضطرّ إلی ذلک.

ولکن یردّ علیه: بإمکان أن یکون الاضطرار متفاوت فی الموردین، حیث کان الاضطرار فی الحدیث من جهة خوف مرضه مع برودة الماء ، فلذلک سخنوا الماء ، وأمّا الاضطرار فی حدیث سلیمان کان من حیث عدم إمکان مباشرته الغسل .

وکیف کان فإنّ دلالة هذه الأخبار الخاصّة علی جواز التولیة فی حال الاضطرار فی الغسل والتیمّم فی غایة المتانة ، وتعمیم الحکم إلی باب الوضوء بالأولویة الظنّیة لولا کونها قطعیة ، لیس ببعید .

الأمر الرابع : ما هو بمنزلة الروح للقاعدة بل هی العمدة فی المسأله، کما اعترفوا بذلک، هو حکم العقل ومساعدة العرف، بلزوم الإتیان بما یمکن من المأمور به، بعد عدم التمکّن من الإتیان به، بما له من الاجزاء والقیود، إذا کان الفاقد یعدّ من مراتب الفرد الکامل فی حال الاضطرار، کالقیام مع الانحناء ممّن عجز عن القیام الکامل، ولا یتبدّل الحکم إلی القعود، فهکذا یکون فی المقام، فمع إمکان التولیة فی الوضوء _ خصوصاً مع وقوع الغسل والمسح بید المکلّف نفسه _ لا یتبدّل الحکم إلی التیمّم عرفاً ، فالمسألة واضحة بحمد اللّه .


1- الوافی: أبواب التیمّم، ص84 .

ص:197

الأمر الخامس : التمسّک بالحالة الثانویة بإمکان، استفادة جواز التولیة ووجوبها فی حال الاضطرار من بعض الأخبار الواردة فی الضرورة والعذر.

منها: خبر موسی بن بکر، قال : «قلت لأبی عبداللّه علیه السلام : الرجل یغمی علیه یوماً أو یومین أو الثلاثة أو الأربعة، أو أکثر من ذلک، کم یقضی من صلاته ؟ قال : ألا أخبرک بما یجمع لک هذه الأشیاء، کلّما غلب اللّه علیه من أمر فاللّه أعذر لعبده»(1) .

منها: حدیث علی بن مهزیار: «أنّه سأله _ یعنی أبا الحسن الثالث علیه السلام _ عن هذه المسألة؟ فقال : لا یقضی الصوم ولا یقضی الصلاة ، وکلّما غلب اللّه علیه فاللّه أولی بالعذر »(2).

بل قد زاد فی الحدیث الأوّل غیره کما فی «الوسائل»: «أنّ أبا عبداللّه علیه السلام ، قال : هذا من الأبواب التی یفتح کلّ باب منها ألف باب»(3) .

ونظائر ذلک.

منها: حدیث عبداللّه بن سنان، عن الصادق علیه السلام قال : «کلّما غلب علیه فلیس علی صاحبه شیء»(4) .

بناءً علی شمول الأحادیث بنفی الشیء، أو تثبیت الاعتذار لکلّ من الحکمی التکلیفی والوضعی، أی من حیث العقوبة، ومن حیث الإعادة والإبطال، کما هو المقصود هنا، من جهة تعذّر المباشرة فقط، أی لا یوجب ترکها بطلان الوضوء ووجوب إعادته، ولا العقوبة علی ترکها، فیثبت صحّة الوضوء مع التولیة، إذا لوحظت مع الدلیل الأوّلی، من وجوب أصل الوضوء وسقوط هذا الشرط منه،


1- وسائل الشیعة: أبواب القضاء الصلوات، الباب 3، الحدیث 8 .
2- وسائل الشیعة: أبواب القضاء الصلوات، الباب 3، الحدیث 3.
3- وسائل الشیعة: أبواب القضاء الصلوات، الباب 3، الحدیث 9.
4- وسائل الشیعة: أبواب القضاء الصلوات، الباب 3، الحدیث 24.

ص:198

وهذا هو المطلوب ، وقد أشار صاحب «الجواهر» قدس سره إلی هذه الأحادیث ، وهکذا الشیخ فی «طهارته» ، ولکن الشیخ قال : بأنّه لایستفاد منها إلاّ عدم وجوب المباشرة، لا وجوب التولیة .

ولکن الجواب عند بما قد عرفت من إمکان استفادة وجوب التولیة بمقتضی الجمع بین هذه الأحادیث، مع ما یقتضیه الدلیل الأوّلی، من إیجاب أصل الوضوء، فلا یمکن إلاّ بالإتیان کذلک .

نعم، لا ینافی ذلک فیما لو دلّ دلیل الدال علی البدل وهو التیمّم، علی أنّ وجوبه منوط بعدم إمکان الإتیان بالوضوء الکامل، حیث أنّه علی فرض ذلک لایمکن إثبات وجوب التولیة حینئذٍ، بل حتّی جوازها فی حال العجز عن المباشرة ، بل یتبدّل الحکم حینئذٍ إلی التیمّم ، اللهمّ إلاّ أن یقال : إنّه قد اُستفید من ملاحظة الموارد المتعدّده فی الأعذار _ کالجبایر، وسقوط غَسل العضو المقطوع فی الأقطع، أو المسح کذلک ونظائرها_ أنّ البدلیة لا تکون ثابتة وخاصّة بمورد العجز عن الوضوء الکامل فقط ، بل هی ثابتة فیه وفی الناقص، فعلی هذا لا یبعد الحکم بذلک فی المقام، والقول بوجوب التولیة تحصیلاً للوضوء الناقص الواجب .

مضافاً إلی إمکان استفادة وجوب التولیة عن مثل حدیث عبد الأعلی المشتمل علی القاعدة الکلّیة بقوله : «مَا جَعَلَ عَلَیْکُمْ فِی الدِّینِ مِنْ حَرَجٍ» فالآیة تفید سقوط وجوب المباشرة فی المسح عند تعذّر ذلک، وکذلک یستفاد من تعمیمه بقوله علیه السلام : «یعرف هذا وأشباهه من کتاب اللّه»، مباشرة الوضوء علی الفاعل.

وأمّا إثبات وجوب التولیة، فقد عرفت الدلیل علیه سابقاً فلا نعیده.

فالمسألة من حیث الأدلّة فی غنی وکفایة ، ونسأل اللّه الإرشاد والهدایة .

ثمّ لایخفی علیک أنّ المحکّم فی صدق الاضطرار وعدمه _ حتّی تجب التولیة أو لا تجب _ هو العرف، وإن کان فی بعض مصادیقه یقع الشکّ فی الصدق

ص:199

والکذب، فلابدّ من الاحتیاط إثباتاً لمقتضی الدلیل الأوّلی، إلاّ ما خرج منه بالحجّة الشرعیة .

ثمّ لا فرق فی حکم من یتولّی، بین أن یکون بالغاً أو غیر بالغ، بل قد یمکن جواز ذلک حتّی من غیر الإنسان کالحیوان المعلّم لأنّ المباشر فی هذه الموارد حکمه حکم الآلة ، ولهذا قلنا بأنّ النیّة تعتبر فی نفس المکلّف لا المتولّی ، بل لو اکتفی به کان باطلاً .

کما لا یعتنی بالشکّ فی الصحّة وعدمها، أو فی أوصافها، إلاّ بالنسبة إلی نفس المکلّف لا المتولّی ، نعم إن أوجب الشکّ فی المتولّی شکّاً فی نفس المکلّف فیعتنی به بما أنّه شکّ للمکلّف، لا بما أنّه شکّ للمتولّی، فیترتّب علی شکّه ما یترتّب علی الشاکّ فی الوضوء الکامل، فلا یجب علی المتولّی قصد القربة والنیّة، بخلاف العاجز .

ومن هنا ظهر أنّه لو تعارض بین قطع المتولی، وقطع المکلّف، یحکم بتقدّم الثانی ، کما أنّ شکّه أیضاً مقدّم علی الآخر عند التعارض .

نعم ، لو وقع التعارض بین قطع المتولّی والشکّ فی العاجز، فیحکم بتقدّم قطع المتولّی، من جهة بناء العقلاء علی جریان أصالة الصحّة، فیما إذا کان قطعه بالإتیان ، هذا کما فی «المصباح» .

ولکن القول بجریان أصالة الصحّة فی مثل هذا العمل، الذی کان طرف العمل نفس الشاکّ مشکلٌ، ولکن یمکن القول بجواز الاعتماد علی قطع القاطع هنا لکونه یعدّ عرفاً طریقاً إلی ما هو مقصوده، کما یرجع الشاکّ إلیه فی غیر المقام، فنتیجة ذلک هو ترتیب أثر قطع المتولی من الصحّة فیما یصحّ، والبطلان فیما یبطل علی العمل .

وأمّا لو اختلف مورد شکّهما، کما لو کان شکّ المتولّی متعلّقاً بما بعد الفراغ

ص:200

فیحکم بالصحّة، وشکّ المتوضّی فی الأثناء فیحکم بالبطلان، أو بالإتیان مثلاً أو غیر ذلک من الآثار فهل العبرة بشکّ المتولی أو غیره ؟

ففی «المصباح» للآملی، من الفرق بین کون التولیة نیابةً أو تسبیباً ، ففی الأوّل یعتنی بشکّ المتولّی بخلاف التسبیب ، وحیث أنّ المختار هو الثانی، فلا عبرة بشکّ المتولّی ، کلامه هذا فی غایة المتانة، إلاّ أنّ احتمال کون العبرة هنا بحال المتوضّی دون المتولّی مطلقاً _ حتّی علی القول بالنیابة _ قویّ، لما قد عرفت من أنّ العمل عرفاً هنا قائم بالمتوضّی لا المتولّی .

وکیف کان، فذهاب بعض إلی کون العبرة فی القطع والشکّ حال المتولّی مطلقاً، لیس فی محلّه، کما لایخفی .

ثمّ لا یخفی علیک أنّ السیّد فی «العروة» فی مسألة الثالثة والعشرون من بحث شرائط الوضوء، قال :

فی ما یجب فیه المباشرة فی الوضوء

ولو أمکن إجراء الغیر الماء بید المنوب عنه، بأن یأخذ یده ویصبّ الماء فیها ویجریه بها، هل یجب أم لا ؟

الأحوط ذلک، وإن کان الأقوی عدم وجوبه، لأنّ مناط المباشرة فی الإجراء والید آلة، والمفروض أنّ فعل الإجراء من النائب .

نعم، لابدّ فی المسح من کونه بید المنوب عنه لا النایب، فیأخذ یده ویمسح بها رأسه ورجلیه، وإن لم یمکن ذلک أخذ الرطوبة التی فی یده ویمسح بها ، ولو کان یقدر علی المباشرة فی بعض دون بعض، لبعَّض . انتهی کلامه .

لا یخفی علیک أنّ هذه العبارة تتحدّث عن ثلاث مسائل وهی :

المسألة الاُولی : فی أنّ الواجب هی المباشرة فی الصبّ والإجراء معاً، أو أنّ الواجب هو الصبّ فقط وأمّا الید فهی تکون مجرّد آلة لا غیر؟

ذهب الشیخ الأعظم، والمحقّق الهمدانی، والآملی، وکثیر من المحشّین لولا

ص:201

کلّهم علی إلی وجوب الثانی ، غایة الأمر أنّه احتاط بعضهم کالآملی والسیّد فی خلافه، والظاهر کونه استحباباً .

ولعلّ منشأ الشبهة هو أنّ صبّ الماء من المتولّی علی نفس کون الإجراء بیده، یصدق أن فعل الوضوء قد أحدثه المتولّی، أو أنّه منسوبٌ للمتوضّی وهو المکلّف ، فعلی الأوّل یشکل الصحّة، لو کان قادراً علی جعل الماء مصبوباً علی یده ثمّ یستمرّ فی الصبّ بعده علی الأعضاء، بخلاف ما لو کان عمل الوضوء منسوباً إلی المکلّف، لکون الإجراء بیده، فعلیه یکون الصبّ من المتولّی علی نفس العضو غیر ضائر .

وحیث أنّک قد عرفت بأنّه یصدق علیه الإعانة فی الوضوء فی الجملة ، وعرفت ذهابنا إلی الاحتیاط الوجوبی فی ترکه، مع القدرة علی مباشرة المکلّف لذلک حتّی یخرج عن التولیة المنهی عنها، فیجب هنا أیضاً حفظ ذلک .

ولکن الظاهر من کلام الشیخ الأعظم أنّه یجوّز وقوع الغسل والإجراء بید المتولّی أیضاً، لأنّه قال :

فی کیفیّة تولّی وضوء العاجز

وأمّا الغسل فلا یجب کونه بید العاجز، والفرق بینه وبین المسح، أنّ الید فی الغسل مجرّد آلة، بخلافها فی المسح ، انتهی کلامه .

المسألة الثانیة: هل یجوز أن یکون الغسل بید المتولّی، أم لابدّ أن یکون بید العاجز ابتداءاً إن أمکن وإلاّ ینتقل إلی غیره ؟

لا یخفی أنّ الإجراء إن کان مأخوذاً فی مفهوم الغسل، فلا إشکال فی أنّه یجب أن یکون بید المکلّف مع الإمکان، لأنّ التعلیل بکون الید هی الآلة منّا غیر وجیه، لأنّ المفروض هو کون الإجراء واجباً، فضلاً عن أنّه مأخوذ فی مفهوم الغسل، فلا إشکال فی أنّه یجب حتّی المقدور تحصیل ذلک بالمباشرة، ویعدّ هذا الوجوب واجباً أوّلیاً .

ص:202

اللهمّ إلاّ أن یقال : بأنّ فعل الإجراء بأیّ وجه تحقّق _ أی سواء کان بید العاجز بأخذ یده وجریه علی الوجه والیدین ، أو کان بید المتولّی _ یکون منسوباً للمتولّی، لأنّه المتحرّک حقیقةً ، بلا فرق فی ذلک بین کون الإجراء مأخوذاً فی مفهوم الغسل أم لا .

ومن هنا لو لاحظنا التعلیل المذکور من أنّ الإجراء کان مستنداً إلی المتولّی، والید کانت آلة محضة فلا أثر لها ، فبما أنّ هذه الدعوی عرفاً غیر معلومة من ناحیة ، ومن ناحیة اُخری لابدّ من تحصیل أفعال الوضوء بالمباشرة حتی المقدور بالنسبة إلی تمام خصوصیّاتها .

ومن جانب آخر قد مضی وجه الاحتیاط الوجوبی، فی ترک مثل صبّ الماء علی نفس الأعضاء، مع لزوم الغسل بالمباشرة لاتصال مثل هذه المقدّمة لنفس الفعل .

فی حکم مسّ القرآن للمحدث

فبملاحظة جمیع الاُمور کان الحکم بالاحتیاط الوجوبی بضرورة لزوم حفظ المباشرة بید نفس المکلّف هنا قویّاً، خصوصاً إذا قلنا بأنّ الجری مأخوذ فی مفهوم الغسل، کما هو المختار فیما سبق ذکره.

اللهمّ إلاّ أن یقوم الإجماع علی عدم الوجوب، من جهة أنّه لم یفتی فقیه بوجوبه بالخصوص، فیصیر الاحتیاط حینئذٍ استحبابیّاً .

المسألة الثالثة : فی حکم المسح، فلا إشکال فیه من جهة لزوم کونه بید العاجز مع الإمکان، وإلاّ یجب کونه مأخوذاً من رطوبة یده ثمّ المسح بها رأسه ورجلیه، لأنّه المستفاد من الأدلّة، إذ المسح بیده یعدّ مقوّماً لتحقّق مسح الواجب، کما هو صریح خبر النهدی، بقوله: «امسح بیدک رأسک ورجلیک بنداوة وضوئک» .

المسألة الرابعة: وهی صورة التبعیض إذا کان بعض ما ذکر مقدوراً دون بعض فإنّه ممّا ذکرنا فی المسألة السابقة یظهر حکم هذه المسألة، فإنّه یجب حفظ شرط المباشرة فی بعض، لأنّه الواجب أوّلاً .

ص:203

السابعة: لایجوز للمحدث مسّ کتابة القرآن،ویجوز له أن یمسّ ماعدا الکتابة(1).

(1) هذه المسألة تنشعب إلی مسائل متعدّدة :

مسألةٌ : هی حرمة مسّ کتابة المصحف لغیر المتطهّر شرعاً، کما علیه جمعٌ کثیر من الفقهاء کالشیخ فی «الخلاف» و«التهذیب» وظاهر «الفقیه» ، وعن «الکافی» و«أحکام» الراوندی وابن سعید و«النافع» و«المنتهی» و«المختلف» و«القواعد» و«الإرشاد» و«الذکری» و«الدروس» و«التنقیح» و«جامع المقاصد» والشیخ الأعظم، وصاحب «الجواهر» والمحقّق الهمدانی وصاحب «العروة» وجمیع أصحاب التعالیق علیها ، بل هو المشهور نقلاً وتحصیلاً ، بل فی «الخلاف»: الإجماع علیه، کما عن ظاهر «التبیان» و«مجمع البیان» خلافاً للشیخ فی «المبسوط» وابن إدریس وابن البرّاج.

بل هو المنقول عن ابن الجنید، ومال إلیه جماعة من متأخّری المتأخّرین ، فالأولی التعرّض لأدلّة المسألة، فنقول : ومن الأدلّة التی تمسّکوا بها، الإجماع، کما عرفت نقله فی کلمات القوم .

ولکنّه ضعیف، لما قد عرفت من ذهاب کثیر من الفقهاء علی خلافه، ولذلک لا یمکن الاعتماد إلیه بخصوصه، کما ضعّفه الشیخ الأعظم قدس سره فی «طهارته» ، إلاّ أن یکون مأخوذاً بنحو التأیید لسائر الأدلّة، لأنّ المحصّل منه غیر حاصل، والمنقول منه غیر مقبول، خصوصاً ما هو الموجود فی «الخلاف»، حیث أنّه نقل الإجماع فی قبال العامّة، کما قاله شیخنا البروجردی قدس سره .

وممّا استدلّ به قوله تعالی : «إِنَّهُ لَقُرْآنٌ کَرِیمٌ* فِی کِتَابٍ مَکْنُونٍ* لاَ یَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ* تَنزِیلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِینَ»(1) ، بناءاً علی أن یکون مرجع الضمیر


1- سورة الواقعة: آیة 76 _ 80 .

ص:204

فی قوله: (لا یمسّه) هو القرآن لا الکتاب المکنون، وأن یکون المراد من (المطهّرون) هم المتطهّرون عن الأحداث، أی الطهارة عن اختیار، لا ما تکون حاصلاً من ناحیة إعطاء الغیر لهم کالمعصومین والملائکة، کما ورد بذلک فی الأخبار والآثار .

وأن یکون المراد من النفی بقوله : (لا یمسّه)، هو النهی والزجر الفعلی لا الحکایة والخبر، وأن یکون المراد من المسّ هو المماسّة بالبدن، لا تحصیله علماً کما احتمل ذلک ، وأن یکون المراد من (القرآن) أیضاً هو المنقوش والمکتوب والمخطوط الواقع ما بین الدفّتین، لا ما هو الموجود فی الکتاب المکنون .

فالاستدلال بمثل هذه الآیة _ لولا الرجوع إلی الأخبار المفسّرة لها مع کثرة هذه الابتناءات _ مشکل جدّاً، ولذلک أشکل الشیخ فی دلالة الآیة وذهب إلی أنّ مرجع الضمیر إن کان هو القرآن، یستلزم الاستخدام فی الضمیر، لأنّ ما فی الکتاب المکنون یکون غیر المنقوش الموجودة فی الدفاتر، فإنّ للقرآن وجودات مختلفة باعتبار وجوده العلمی واللفظی والکتبی، فالأولی إسناد المسّ إلی الموجود فی الکتاب المکنون .

کما أنّ ظاهر (المطهّرون)، هو من المطهّر من قِبل الغیر لا من تطهّر فی نفسه، فیکون المراد هم المعصومون من الأئمّة علیهم السلام والملائکة ، والمراد من (المسّ) هو العلم والإدراک، کما یؤیّد ذلک وصف القرآن بأنّه: «تنزیلٌ من ربّ العالمین»، فإنّ المنزّل هو ما فی الکتاب المکنون، أو الکلام الجاری علی لسان النبیّ صلی الله علیه و آله ، لا نقشت صورته فی الدفاتر . انتهی حاصل کلامه .

قلنا : بأنّ الاعتماد علی الآیة بنفسها _ لولا الأخبار مع الاحتمالات الموجودة مشکل جدّاً، وإن کان یمکن الجواب عن بعضها، کما یمکن الجواب عن الاستخدام بأنّ الضمیر یرجع إلی القرآن الموجود فی العبادة بصورة الاستقلال،

ص:205

فلیس هذا من الاستخدام، وإن کان أصل القرآن موجوداً فی الکتاب المکنون ، کما أنّ کون المراد منّ المسّ هو العلم والإدراک یکون خلافاً للظاهر، بحسب المستفاد من ظهور الجملة، فإنّ توصیف القرآن بالتنزیل لا ینافی أن یکون المراد هو ما فی الدفّتین جنساً لا شخصاً خارجیّاً ، فإنّ الإسناد کذلک إلی اللّه أمر عرفی متعارف ، ولذلک یقال : إنّ القرآن نزّل من عند اللّه، ویشیر إلی ما هو الموجود لا بشخصه، کما لا یخفی .

کما أنّ توصیف القرآن بأنّه کریم، لا یوجب کونه هو هذا الموجود، لإمکان کون الکرامة لما فی الکتاب المکنون .

وکیف کان، الأولی الرجوع إلی الأخبار الدالّة إن تمسّکنا بالآیة الشریفة: منها: خبر إبراهیم بن عبد الحمید، عن أبی الحسن علیه السلام قال : «المصحف لا تمسّه علی غیر طهر، ولا جنباً، ولا تمسّ خطّه، ولا تعلّقه إنّ اللّه تعالی یقول : «لاَ یَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ» »(1).

منها: خبر الفضل بن الحسن الطبرسی فی «مجمع البیان» عن محمّدبن علی الباقر علیه السلام ، فی قوله : «لاَ یَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ»، قال : «من الأحداث والجنابات ، وقال : لا یجوز للجنب والحائض والمحدث مسّ المصحف»(2) .

حیث قد تمسّک فی الروایتین بالآیة الشریفة لإثبات لزوم الطهارة عن الحدث لمسّ المصحف وخطّه أو تعلیقه، لکن ذهب الشیخ الأعظم إلی عدم تمامیّة دلالة الآیة لاشتمالها علی الأحکام التی لا یمکن الالتزام بحرمتها فی جمیع خصوصیات القرآن من الخطوط والورق والجلد، إاذ کان المراد من القرآن کلّ ما


1- وسائل الشیعة: أبواب القضاء الصلوات، الباب 12، الحدیث 3.
2- وسائل الشیعة: أبواب القضاء الصلوات، الباب 12، الحدیث 5.

ص:206

هو المجموع فی الخارج .

مضافاً إلی الروایة، حیث قد عمّم الحکم بالنسبة إلی مسّ الخطّ والتعلیق، فالروایة موهونة بواسطة الاستدلال بالآیة .

ولکن یمکن أن یقال: بما قلنا فی قوله تعالی: «وَلاَ یُشْرِکْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدا» ، بإن یکون المراد من النهی عن المسّ _ لو سلّمنا کون النفی فی مقام النهی _ استعماله فی رجحان الترک، حیث یکون فی طرف مسّ نفس المنقوش منضمّاً مع المنع من الفعل وهو الحرمة، وفی الخط والورق والتعلیق مع الإذن فی الفعل، وهو الکراهة، لقرینة هذه الأخبار حیث استشهد فیها الآیة الشریفة .

أو یقال : بأنّ ظاهر الآیة دالّة علی حرمة المسّ، أو فی خصوص العلم والإدراک المختصّان بالمعصومین، إلاّ أنّه من جهة استشهاد الإمام علیه السلام یفهم أنّه یکون من بطون القرآن، وبعبارة اُخری: یعدّ هذا التفسیر من الإمام علیه السلام للآیة، تفسیراً مأخوذاً من باطن القرآن، فیندرج تفسیره علیه السلام فی أنّه بطن من بطون القرآن السبعة أو السبعین کما فی الأخبار.

وکیف کان، لا یبعد إمکان القول بصحّة الاستدلال بالآیة علی إثبات الحرمة کما تمسّکوا بها فی کتبهم .

مضافاً إلی وجود بعض أخبار اُخر یستفاد منها ذلک: منها: مرسلة حریز عمّن أخبره، عن أبی عبداللّه علیه السلام ، قال : «کان إسماعیل بن أبی عبداللّه علیه السلام عنده، فقال : یابُنی اقرأ المصحف، قال : إنّی لست علی وضوء ، فقال : لا تمسّ الکتابة ومسّ الورق واقرأه»(1) .

منها: خبر أبی بصیر، قال : «سألت أبا عبداللّه علیه السلام عمّن قرأ فی المصحف وهو


1- وسائل الشیعة: أبواب القضاء الصلوات، الباب 12، الحدیث 2.

ص:207

علی غیر وضوء؟ قال : لا بأس ، ولا یمسّ الکتاب»(1) .

فدلالة الحدیثین علی المطلوب واضحة، والإشکال فی سندهما من جهة الإرسال وغیره ، مدفوع: أوّلاً : بانجبارهما بعمل الأصحاب ، وثانیاً : اعتبار خبر أبی بصیر بوقوع حمّاد بن عثمان فی سلسلة سنده، الذی یعدّ من أصحاب الإجماع ویصحّح ما بعده حتّی أبی بصیر لو کان هو منشأ الضعف، إن قلنا بضعفه، وإلاّ لعدّ مشترکاً، لأنّه لو کان أبو بصیر هو لیث المرادی کان الثقة وإن کان یحیی بن القاسم عدّ ضعیفاً لأنّه یندرج فی الواقفیة.

وکیف کان، فالحکم بالحرمة فی مسّ الکتابة أمرٌ ثابت وقطعی ، وأمّا مسّ الورق والخیط لا الخطّ _ لأنّه من القرآن _ والتعلیق یعدّ مکروهاً، مضافاً إلی صراحة بعض الأخبار _ کخبر حریز الذی یفید جواز مسّ الورق والقراءة _ یفهم منه الکراهة، جمعاً بینه وبین ما یدلّ علی المنع .

وهنا فروع لا بأس بالإشارة إلیها :

الفرع الأوّل : لا إشکال فی حرمة مسّ أیّ جزء من أجزاء المحدث، ولو کان ممّا لا تحلّه الحیاة کالسنّ والظفر، لصدق المسّ علیه، بل لا یبعد إلحاق الشعر بهما، وإن کان المسترسل منه مشکوکاً، فیرجع إلی البراءة، فتردّد الشیخ الأعظم قدس سره فی السنّ والظفر ممّا لا وجه له، لأقربیة صدق المسّ علیهما عرفاً من الشعر .

الفرع الثانی : لا فرق فی حرمة المسّ کونه ابتداءاً أو استدامة، فلو کانت یده علیه، وأحدث الأدلّة یجب رفعها فوراً، وکذا لو مسّ غفلة ثمّ التفت أنّه محدث، لإطلاق الأدلّة.

ومنه یظهر حرمة مسّ الماحی لخطّ القرآن بغیر وضوء .


1- وسائل الشیعة: أبواب القضاء الصلوات، الباب 12، الحدیث 1.

ص:208

الفرع الثالث : لا فرق فی حرمة المسّ بین أنواع الخطوط حتّی المهجور منها کالکوفی ، وکذا لا فرق بین أنحاء الکتابة حتّی وإن کانت الکتابة حفراً أو حکّاً وإن أشکل فیه ، ولکن الإنصاف صدق المسّ عرفاً ولو مسّ حوله وأطرافه، فإشکال الشیخ الأعظم فیه فی غیر محلّه .

کما لا فرق فی الآیة بین الکلمة أو الجملة أو الحرف، وإن کان یکتب ولا یقرأ، کألف قالوا، أو الحرف الذی یقرأ ولا یکتب إذا کتب کالواو الثانی فی داود، وکالألف فی رحمن ولقمان إذا کتبت، وذلک لشمول الإطلاق لهما ، بل وهکذا الإعراب والتشدید وغیرهما .

الفرع الرابع : أنّه لا فرق فی حرمة المسّ، بین کون الآیة فی القرآن أو فی کتابٍ مّا ، فکلّ ما یصدق علیه القرآن عرفاً ولو مستقلاًّ فیحرم مسّه، من دون إناطة إلی قصد الکاتب، وکلّ لفظ مشترک لا یصدق علیه القرآن، فحرمته منوط إلی قصد الکاتب فی الکتابة، وإلاّ لا یمکن الالتزام بحرمة مسّ کلّ کلمة مشترکة کانت موجودة فی القرآن إذا کتبت بلا قصد ، کما لا فرق فی حرمة المسّ بین ظاهر البدن وباطنه، لأنّ الملاک هو صدق عنوان المسّ وهو حاصل بالبطن والفم، کما لایخفی .

الفرع الخامس : اختصاص هذا المنع للبالغین، فلا یشمل الأطفال والمجانین ، بل لا یجب منعهم عن ذلک، لأنّ مسّهم للقرآن إن کان مستلزماً للهتک، فلابدّ للمنع من جهة وجوب حفظ القرآن عن الهتک ، وأمّا کون مطلق مسّهم هتکاً، فممنوع، خصوصاً مع السیرة القطعیة بمسّهم له فی تعلیمهم القرآن ، ودعوی عدم حصول مسّ منهم فی هذه الموارد، دعوی غیر مسموعة .

والتکلیف لحرمة المسّ کان متوجّهاً إلی المکلّفین علی الفرض، ولا یشمل غیرهم، فعلی هذا لا یمکن القول بحرمة التمکین لهم، لأنّه إن وقع بإمساس

ص:209

الثامنه : مَنْ به السلس ، قیل یتوضّأ لکلّ صلاة (1).

القرآن بید الصبی نظیر التوقیت فی الوضوء، فلا بُعد فی القول بحرمته، لأنّ المسّ حاصل من عمل المکلّف، لاسیما صدق الهتک هنا غیر بعید، لو لم یکن لغرض عقلائی .

وأمّا لو کان التمکین من جهة مناوبتهم القرآن للتعلّم أو القراءة، فلا حرمة فیه أصلاً، لما قد عرفت من وجود السیرة علیه ، فإشکال الشیخ الأنصاری فیه بالحرمة ممّا لا یعتنی به، کما لا یخفی .

وأمّا لو توضی الصبی، فلا إشکال فی جوازه، خصوصاً إذا قلنا بشرعیة وضوء الصبی کما هو الأقوی لا بتمرینیّته.

ثمّ قد ألحق بالقرآن أسماء الجلالة والأسماء المختصّة به، والصفات الدالّة علیه، من جهة إمکان استفادة ذلک من فحوی لزوم حرمة القرآن، وحرمة مسّه تعظیماً وکرامةً له، فمثل أسماء الجلالة تکون أولی ، فإنکار بعض المتأخّرین کالخوانساری إستناداً إلی الأصل، ودعوی اختصاص الأدلّة لخصوص القرآن غیر وجیه ، بل لا یبعد دعوی إلحاق أسماء الأنبیاء والأئمّة بأسماء اللّه تعظیماً لهم، کما اختاره بعض کالشیخ الأعظم، وإن تردّد صاحب «الجواهر» فیه .

وکیف کان فإنّ تفصیل الکلام موکول إلی بحث أحکام الجنب .

وکان ختام هذا البحث فی یوم الثلاثاء التاسع والعشرون من شهر شوّال المکرّم؛ من سنة ثمانیة وأربعمائة بعد الألف من الهجرة النبویّة الشریفة.

(1) والمراد من السلس ، هو المرض الذی یوجب فقدان القدرة علی مسک البول ، کما عن «مجمع البحرین» ، وفی «القاموس» : هو سلس البول . لا یستمسکه ، وصرّح به غیر واحد من الأصحاب .

والمسألة ذات شقوق متعدّدة ، لا بأس بالإشارة إلی کلّ واحد منها علی حدة ،

ص:210

لتفاوت حکم کلّ مع الآخر :

الصورة الاُولی : من إذا کان له فترة تسِع الصلاة والطهارة ، ولو بأقلّ مقدار الواجب فیهما ، وترک جمیع المستحبّات ، ففی مثل هذه الصورة ، لا إشکال فی وجوب إیقاع الطهارة والصلاة فی ذلک الوقت ، کما صرّح به کثیر من الفقهاء ، بل فی «الجواهر»: لا أجد فیه خلافاً هنا، سوی ما ینقل عن الأردبیلی من احتمال عدم الوجوب ، بل قد یحتمل خروج هذه الصورة عن محلّ النزاع .

حکم المسلوس إذا کان له فترة تسع الصلاة و الطهارة

ویمکن أن یستدلّ لذلک : بأنّ المستفاد من النصوص، وکلمات الأصحاب فی المقام ، هو کون التکلیف بالعمل بالوظیفة اضطراریّاً محضاً ، والاضطرار المتعلّق بالطبیعة إنّما یتحقّق ، إذا کان الاضطرار ثابتاً بالنسبة إلی جمیع أفرادها ، وأمّا مع التمکّن من إتیان بعض أفرادها واجداً للشرائط، ولو فی ضمن فرد واحد منها، فلا اضطرار حینئذٍ .

ومن الواضح أنّ مقتضی الأمر بالطبیعة، مع التمکّن من امتثاله له یستلزم وجوب الامتثال ، ولو فی ضمن فرد منها ، والنصوص الواردة فی المسلوس وغیره ، قاصرة عن شمول مثل هذه الصورة ، خصوصاً مع صراحة بعضها فی ذلک ، مثل حسنة منصور بن حازم، قال : «قلت لأبی عبداللّه علیه السلام : الرجل یقطر منه البول ولا یقدر علی حبسه ؟ فقال علیه السلام : إذا لم یقدر علی حبسه فاللّه أولی بالعذر یجعل خریطة»(1) .

حیث یدلّ علی أنّه مع القدرة علی الحبس، یجب ذلک، لأنّه قد فرض حکم العذر ، لمن لا یقدر علی الحبس ، وجهة الوجوب هو تحصیل الطهارة التی وقعت شرطاً للصلاة بلا فرق بین الطهارة عن الحدث أو الخبث .


1- وسائل الشیعة: من أبواب النواقض الوضوء، الباب 19، الحدیث 2.

ص:211

خلافاً للأردبیلی ، حیث احتمل عدم وجوب الإتیان بالوضوء والصلاة فی تلک الفترة ، مدّعیاً إطلاق الأخبار الواردة فی المقام، وحصول الخطاب فی هذا الحال ، بالصلاة بالنسبة إلیه ؛

لکنّه مندفع، أوّلاً : بمنع الإطلاق للأخبار، کما ستعرف إن شاء اللّه ، بل ومنع حصول الخطاب لمثله فی هذا الحال، مع فرض إمکانه الإتیان بالفرد الواجد للشرط .

وثانیاً : أنّه مخالف مع إجماع الفقهاء ، بل الظاهر أنّه لیس إلاّ مجرّد احتمال نقل عنه ، ولم یلتزم نفسه الشریف به، حتّی ینافی مع دعوی نفی الخلاف فیه .

ثمّ الفترة المتّسعة قد تکون فی أوّل الوقت أو فی غیره ، فإن کانت فی أوّله ، تجب المبادرة فی الإتیان بالوضوء والصلاة ، مع العلم بطروّ العجز بعده، تحصیلاً للواجب مع جمیع شرائطه ، فلو أخّر فی هذه الصورة، حتّی عرض له العذر عصی ، وإن کانت الصلاة منه صحیحة ، وأمّا وجه العصیان: لتفویته بالاختیار ما کان تحصیله واجباً له ، وأمّا صحّة صلاته لصیرورته بعد ذلک مصداقاً للاضطرار ، فیعمل بوظیفته .

ولو کانت الفترة فی غیر أوّل الوقت ، فیجب الانتظار مع العلم بحصول الشرط أو الرجاء بذلک، فالإتیان بالصلاة فی أوّل الوقت مع وجود الحدث ، فی حال الصلاة وبعد الوضوء لا یسقط التکلیف ، لأنّه مأمور بالإتیان بالفرد الاختیاری منه ، لأنّه متمکّن بالفرض علیه .

وأمّا مع عدم تحقّق الحدث فی الأثناء وبعد الوضوء، فلا یبعد القول بصحّة صلاته ، مع فرض حصول قصد القربة منه ، بل ویکفی لو کان الإتیان من جهة احتمال المحبوبیّة، کما قد حقّق فی محلّه .

وأمّا مع الیأس عن حصول الشرط ، والقول بجواز البدار فی هذه الصورة ، فلا إشکال أیضاً فی صحّة صلاته، والاکتفاء بها، لو لم یکشف الخلاف إلی آخر

ص:212

الوقت . وإلاّ کانت صحّتها متوقّفة علی القول بالاجزاء فی الأمر الاضطراری فی مثل هذا الفرض أیضاً، ولکنّه مشکل .

وأمّا إن قلنا بعدم جواز البدار، حتّی مع حصول الیأس، فصحّة صلاته _ لو أتی بها فی أوّل الوقت _ موقوفة علی أمرین: أحدهما : حصول قصد القربة، ولو باحتمال المحبوبیة الذاتیة ، والثانی : عدم کشف الخلاف إلی آخر الوقت.

فمع فقد أحدهما تکون الصلاة محکومة بالبطلان .

هذا کلّه إذا کانت الفترة بقدر ما یکتفی منها بإتیان أقلّ ما یجب من الصلاة بحسب ما هو المتعارف ، وأمّا لو فرض بأن لا تکون الفترة إلاّ بأقلّ من ذلک من الأفراد الاضطراریة، کالاکتفاء بتسبیحة واحدة، وسلام واحد، وإتیان الرکوع والسجود مومیاً، فهل یجب علیه ذلک بالخصوص، أو لابدّ الإتیان بصورة الاضطرار للمسلوس أو الاحتیاط بالجمع بینهما ؟

الذی یظهر من الحلّی _ علی ما حکی عنه فی «السرائر» _ هو الإتیان بالوجه الأوّل ، فانظر کلامه فی «مصباح الفقیه»(1)، حیث قال : إنّ مستدام الحدیث یخفّف الصلاة، ولا یطیلها، ویقتصر علی أدنی ما یجزی المصلّی عند الضرورة .

وقال : إنّه یجزیه أن یقرأ فی الأولیین منها باُمّ الکتاب وحدها، وفی الأخیرتین بتسبیح، ففی کلّ واحدة أربع تسبحات، فإن لم یتمکّن من قراءة فاتحة الکتاب، سبّح فی جمیع الرکعات، فإن لم یتمکّن من التسبیحات الأربع لتوالی الحدث منه، فلیقتصر علی ما دون التسبیح فی العدد، ویجزیه منه تسبیحة واحدة فی قیامه وتسبیحة فی رکوعه وتسبیحة فی سجوده، وفی التشهّد ذکر الشهادتین خاصّة، والصلاة علی محمّد وآله صلّی اللّه علیه وعلیهم ممّا لابدّ منه فی التشهّد، ویصلّی


1- مصباح الفقیه: 1 / 196.

ص:213

علی أحوط ما یقدر علیه فی بدار الحدث من جلوس أو اضطجاع ، وإن کان صلاته بالإیماء أحوط له فی حفظ الحدث ومنعه من الخروج، صلّی مؤمیاً، ویکون سجوده أخفض من رکوعه . انتهی کلامه .

أقول : الظاهر أنّه متفرّد فی هذا الفتوی، إذ لم یصرّح أحد من الأصحاب بما ذکره من المتقدّمین والمتأخّرین بل المعاصرین، حیث ذهبوا إلی لزوم إحضار وظیفة المسلوس والمبطون فی إیفاء الصلاة علی الکیفیة المتعارفة، لأنّ ظاهر إطلاقات الأخبار _ کما ستعرف إن شاء اللّه تعالی _ أنّ المرض موجب للعفو عن الحدث لا الرخصة فی ترک الواجبات، تحفّظاً عن عروض الحدث ، مع أنّه لو کان الأمر کذلک لکان ینبغی علی الإمام الإشارة إلی ذلک فی هذه الأخبار، لأنّه کان أولی بالتذکّر من بیان حال المسلوس من دون إشارة إلی تلک الحالة .

حکم المسلوس المتمکّن من تحصیل الطهارة أثناء الصلاة بلاعسر

فغایة الکلام ، هو الحکم بالاحتیاط، من الجمع بین الکیفیّة السابقة، وما ذکره، کما أشار إلیه السیّد فی «العروة» ومن علّق علیها، إلاّ أنّه استحبابی لا وجوبی، ولعلّ وجهه هو ما عرفت .

الصورة الثانیة : ما إذا لم تکن الفترة بقدر ما تسع فیها الطهارة والصلاة، إلاّ أنّه یتمکّن من تحصیل الطهارة فی أثناء الصلاة، والبناء علیها، من دون أن یلتزم الخروج إلی محلّ آخر، لإمکان وضع الماء فی جنبه وتحصیل الطهارة .

فهی أیضاً یتصوّر بصورتین : إحداهما : بأن لا یستلزم العسر والحرج، لقلّة خروجه فی الأثناء إلاّ مرّة أو مرّتین ولا الفعل الکثیر .

واُخری : بأن یستلزم العسر والحرج لو أراد ذلک، لکثرة خروج الحدث، أو یستلزم فعلاً کثیراً ماحیاً للصلاة .

وأمّا الصورة الاُولی فالأقوال فیها أربعة :

القول الأوّل : ما اختاره ابن إدریس وصاحب «الجواهر»، ناسباً له إلی جماعة

ص:214

من الأصحاب، بل قال الشیخ الأنصاری فی «طهارته»(1) قال : مع أنّ الظاهر من الحسنة المتقدّمة کفایة جعل الخریطة ، بل مقتضی العموم عدم العفو من حیث الحدث أیضاً عمّا یقع فی الأثناء، إذا أمکن تجدید الطهارة، والبناء علی ما مضی من الصلاة ، إذا لم یستلزم فعلاً کثیراً، بأن کانت الطهارة تیمّماً أو وضوءاً ارتماسیّاً لا یحتاج إلی فعل کثیر... إلی آخره .

بل علیه أکثر المتأخّرین من السیّد فی «العروة» وکثیر من أصحاب التعلیق، إلاّ الخوئی، وإن احتاط بالاحتیاط الاستحبابی مؤکّداً بإتیان صلاة اُخری بلا تطهیر فی أثنائها .

القول الثانی : أن یتوضّأ لکلّ صلاة من غیر تجدید فی الأثناء، هذا ما ذهب إلیه المشهور، واختاره المحقّق الآملی، والسیّد الأصفهانی والخوئی، کما اختاره المصنّف قدس سره ، بل هو خیرة «الخلاف» و«المعتبر» و«الإرشاد» و«القواعد» و«التحریر» و«الدروس» و«الذکری» و«التنقیح» و«جامع المقاصد» واستحسنه المصنّف فی «النافع»، بل هو الظاهر من «المختلف» ، بل قد یظهر عن الشیخ فی «الخلاف» دعوی الإجماع علیه ، وهذا ما علیه الخمینی فی «التحریر»، وإن احتاط التجدید فی الأثناء ندبیاً .

القول الثالث : هو المحکی عن «مبسوط» الشیخ، وقد حکی عن «کشف الرموز»، بل مال إلیه صاحب «الحدائق» وهو کفایة وضوء واحد للصلوات المتعدّدة، ما لم ینتقض بحدث متعارف .

القول الرابع : ما حکی عن «منتهی»، العلاّمة من أنّه یجمع بین الصلاتین بوضوء واحد، فیتوضّأ وضوءاً واحداً للظهرین ، وکذا للعشائین ، وللصبح بوضوء


1- کتاب الطهارة: ص147 .

ص:215

واحد ، وقد مال إلیه بعض متأخّری المتأخّرین، کما فی «الجواهر» ، هذا کلّه فی أقوال المسألة .

وأمّا الکلام فی مقتضی الأدلّة ومفادها، حتّی یثبت ما هو الحقّ فی المقام، فلابدّ أن یبحث فی المسألة فی نقطتین :

إحداهما : فیما یقتضیه الجمع بین الأدلّة والقواعد الأوّلیة، مع قطع النظر عن الأخبار الخاصّة الواردة فی المقام .

والثانیة : فی حکم المسلوس مع ملاحظة بالأخبار المذکورة .

فأمّا الکلام فی الاُولی : فاعلم أنّ لنا فی المقام طوائف من الأدلّة: منها : بأنّ الصلاة لا تترک بحال، الذی قام علیه الإجماع ، بل هو المستفاد من مضامین الأخبار ، فالإتیان بالصلاة بأیّ وجه ممکن ضروری متّفق علیه الکلّ، ولیس حال المسلوس والمبطون کحال فاقد الطهورین، حتّی یتوهّم سقوط وجوب الصلاة عنه .

ومنها : ما یدلّ علی شرطیة الطهارة للصلاة، مثل قوله علیه السلام : «لا صلاة إلاّ بطهور» ، فیجب تحصیلها حیث ما یمکن تحصیلاً للشرط، بلا فرق فیه بین الطهارة للحدث أو الخبث، مع الأولویّة للأولی فی مفاد الدلیل .

ومنها : ما یدلّ علی ناقضیة البول والغائط والریح للوضوء المستفاد من النصوص، ولا یمکن رفع الید عنه إلاّ بدلیل خاصّ ونص مخصوص .

ومنها : ما یستفاد من الأدلّة فی حقّ المسلوس والمبطون من إنّ حالهما بالنسبة إلی سائر الأحداث کالنوم وغیره ، بل بالنسبة إلی نفس هذا الحدث من البول أو الغائط فی حال کونهما متعارفین، کانا کحال سائر الناس من ناقضیة الحدث فی حقّهما، وعدم جواز الدخول فی الصلاة مع تلک الحالة .

کما أنّه أیضاً من الثابت أنّه لا اختلاف حقیقةً فی الأحداث الحادثة عن

ص:216

موجباتها، حتی یمکن احتمال التفکیک بینهما فی اغتفار بعضها فی حقّ بعض دون بعض آخر ، بل قد عرفت فی بحث الموجبات بأنّ حقیقة الاحداث فی جمیع الموارد تکون شیئاً واحداً .

هذه مقتضیات الأدلّة الأوّلیة فی حقّ المسلوس والمبطون وغیرهما ، غایة الأمر أنّ مقتضی الجمود بالعمل علی مقتضی جمیعها فی حقّهما، یوجب التکلیف بالمحال فی حقّهما، لأنّهما لا یقدران علی الإتیان بالصلاة مع حفظ جمیع شرائطها ، ولکن الاستحالة ترتفع برفع أحد الاُمور السابقة، من رفع شرطیة الطهارة فی حقّهما، أو رفع الید عن ناقضیة الحدث الغیر المتعارف عنهما، أو رفع الید عن وجوب الصلاة ، فلابدّ فی إثبات الرفع بأحد هذه الاُمور من قیام دلیل خاصّ وبیان علی ذلک حتّی یحکم بمقتضاه .

کما أنّ الحکم فی عروض الحدث فی الأثناء کان کذلک، فلابدّ من الالتزام بعدم کونه قاطعاً للصلاة، کما لابدّ أن یلتزم بأنّه إمّا أن لا یکون ناقضاً أو یکون ناقضاً للطهارة ، إلاّ أنّه لابدّ من تجدیدها فی الأثناء تحصیلاً للشرط اللازم لها ، فإن أمکن تجدیدها فیها فلابدّ من تحصیله، لا یقال : بأنّه مستلزم للعسر والحرج.

لإمکان أن یقال : إنّه لا موجب لرفع الید عنه فی ما لا یوجب ذلک، أوّلاً ، وأنّه یرفع الید عن مقدار ما یستلزم ذلک، ثانیاً ، مع أنّک قد عرفت فی صدر البحث بأنّ الکلام کان فیما لا یقتضی العسر والحرج .

وأمّا لزوم فعل کثیر فی الصلاة لو جدّدها فیها ، فمضافاً إلی ما عرفت من کون مفروض الکلام فی غیره ، هو أنّه لا دلیل بخصوص لنا فی قاطعیته، وإنّما اُستفید ذلک من موارد خاصّة إذا کان ماحیاً لصورة الصلاة لا مطلقاً .

کیف وقد ورد فی الدلیل من تجویز ارتکاب ما هو أکثر من تجدید الوضوء فی الأثناء، مثل ما ورد فی غسل الثوب والبدن فی حال الصلاة، إذا أصابه دم رعاف

ص:217

وغیره ، مضافاً إلی ورود نصّ خاص فی تجویز ذلک فی المبطون بالخصوص، المستفاد منه أنّه لا یکون فعلاً کثیراً ماحیاً للصلاة ، إلاّ أن یکون فی الکثرة من جهة تعذّر التجدید إلی حدّ یوجب صدق المحو علیه ، فهو قد عرفت خروجه عن مورد الکلام کما لایخفی .

لا یقال : إنّه إذا وقع الحدث فی الأثناء، کما أنّه یکون حینئذٍ ناقضاً للطهارة ولذلک یحکم بوجوب تجدیدها فی الأثناء، فکذلک یکون قاطعاً للصلاة، فکیف تصحّ بالتجدید ؟

لأنّا نقول: من إمکان القول بالتفکیک بین حال المتعارف وغیره، من جهة هذه الملازمة، أی تکون هذه الملازمة ثابتة علی فرض التسلیم فی حال کون المصلّی سالماً متعارضاً بخلاف من لا یکون کذلک ، إلاّ أنّ هذا التفکیک یحتاج إلی ورود دلیل ولو فی مشابهه، کما ورد کذلک فی المبطون _ کما ستعرف _ فیستفاد منه هذه الجهة المشترکة بینه وبین المسلوس، من إمکان أن لا یکون الحدث قاطعاً للصلاة، مع کونه ناقضاً لها .

وأمّا الجواب بما فی «مصباح الهدی» للآملی(1) حیث قال فی جواز تفکیکهما: بأنّه یقع ذلک فی مثل الاستدبار عن القبلة، حیث أنّه یکون قاطعاً مع أنّه لیس بناقض، فیمکن أن یکون الشیء ناقضاً ولا یکون قاطعاً .

فلیس بوجیه، لأنّ الخصم لم یدّع أنّ کلّ ما یکون قاطعاً یکون ناقضاً، حتّی یجاب بمثله ، بل الخصم یقول : إنّ کلّ ما یکون ناقضاً للطهارة، فهو قاطع للصلاة أیضاً ، فهذا الجواب لا یساعد ولا یردّ لمثل هذا الإشکال .

هذا تمام الکلام فی النقطة الاُولی من البحث .


1- مصباح الهدی ج4 / ص52 .

ص:218

وأمّا النقطة الثانیة : وهی ملاحظة مقتضی دلالة الأخبار فی المقام، وملاحظة کیفیّة جمع بعضها مع بعض، حتّی یتبیّن ما هو الحقّ من الأقوال الأربعة، فنقول ومن اللّه الاستعانة ، وعلیه التکلان : منها: أی من الأخبار الخاصّة التی تمسّک بها الصحیح الذی رواه الصدوق والشیخ مسنداً إلی حریز بن عبداللّه، عن أبی عبداللّه علیه السلام ، أنّه قال : «إذا کان الرجل یقطر منه البول والدم، إذا کان حین الصلاة أخذ کیساً وجعل فیه قطناً، ثمّ علّقه علیه وأدخل ذکره فیه، ثمّ صلّی، یجمع بین صلاتین الظهر والعصر ؛ یؤخّر الظهر ویعجّل العصر بأذان وإقامتین ، ویؤخّر المغرب ویعجّل العشاء بأذان وإقامتین ویفعل ذلک فی الصبح»(1) .

حیث استدلّ به العلاّمة بأنّه لو کان التجدید فی أثناء الصلاة واجباً، کان علیه البیان ، کما أنّ حکمه علیه السلام بالجمع بین الصلاتین بتأخیر إحداهما وتعجیل الاُخری، له ظهور أو تصریح فی عدم لزوم تحصیل الوضوء لکلّ صلاة، خصوصاً مع السکوت عن لزوم التجدید للصلاة الثانیة ، مضافاً إلی صحّة سنده إلی حریز .

ولا یخفی ما فیه من الإشکال سنداً ودلالةً: أمّا الأوّل: لأنّ الکشی قال فی رجاله(2) : بإسناده عن یونس أنّ حریز بن عبداللّه لم یسمع من أبی عبداللّه علیه السلام ، إلاّ حدیثاً واحداً أو حدیثین، فعلی هذا لا تخلو روایات حریز عنه علیه السلام عن احتمال الإرسال .

مع أنّه لو سلّمنا صحّة سنده ودفعنا هذا الاحتمال ، فللخدشة فی دلالته مجالٌ واسعٌ ، لاشتماله بما یوجب الوهن للاستدلال المذکور ، إذ ذکر الوظیفة لتقطیر البول والدم بما وقع فیه من أخذ الکیس لحال الصلاة، وجعل القطن فیه، وإدخال


1- وسائل الشیعة: أبواب النواقض الوضوء، الباب 19، الحدیث 1.
2- رجال الکشّی ص243 علی ما فی الوسائل ج1 ص210 .

ص:219

ذکره والتعلیق علیه، ثمّ الحکم بالجمع بین الصلاتین، یفهمنا أنّه کان فی صدر بیان حکم النجاسة الخبثیة، من جهة عدم السرایة والتعدّی إلی الثوب والبدن ، کما أنّ الحکم بالجمع بینهما کان لدفع احتمال زیادة النجاسة، لأنّ الفصل یوجب الازدیاد ، فلا تعرّض فیه لحال المصلّی من جهة الطهارة الحدثیة .

بل قد یمکن الاسشتهاد لصحّة هذا الاحتمال، ودفع ما استدلّ به، أن نقول: إنّ مورد الحدیث هو الرجل لتصریحه به، فمع ذلک ضمّ الدم إلی البول، ومن الواضح أنّ خروج الدم من الرجل لیس من الأحداث حتی یتوهّم کون الحدیث مسوقاً لبیان حکم الطهارة عن الحدث .

مع أنّک قد عرفت عدم صراحته فیما ذکروه ، بل لا ظهور فیه، فلو سلّمنا بوجود الظهور لکنّه یرفع الید عنه بواسطة معارضته لما ستعرض من الأدلّة وإعراض المشهور، فلا یمکن الاعتماد علیه .

ومنها : موثّقة سماعة، قال : «سألته عن رجل أخذه تقطیر من قُرحة (فرجه) إمّا دم وإمّا غیره ؟ قال : فلیضع خریطة، ولیتوضّأ، ولیصلّ فإنّما ذلک بلاء ابتلی به، فلا یعیدنّ إلاّ من الحدث الذی یتوضّأ منه»(1) .

وقد استدلّ بها الشیخ فی «المبسوط» لکفایة وضوء واحد للصلوات المتعدّدة، ما لم ینتقض بالحدث المتعارف من النوم وغیره، حتّی نفس هذا الحدث، إذا أخرجه عن اختیار، لا ما یخرج بلا اختیار.

وجه الاستدلال: أنّ المراد من الحدث الذی یتوضّأ منه ، هو الإشارة إلی الحدث المتعارف الذی یجب فیه الوضوء للصلاة ، فلا یعتدّ بالتقطیر الذی اعتراه نتیجة المرض ونحوه، فیسقط حکمه من الناقضیة من حیث الحدثیة، والنجاسة


1- وسائل الشیعة: أبواب النواقض الوضوء، الباب 7، الحدیث 1.

ص:220

من حیث الخبثیة، أی لا مانع مع وجوده فی کونه حال الصلاة مثلاً ، ولعلّ التعلیل بقوله : «فإنّما ذلک بلاء ... إلی آخره» ، کان إشارة إلی حال معذوریّته بواسطته، کما ورد مثله فی کثیر من الأخبار، مثل ما فی بعض الأخبار بقوله : «کلّ ما غلب اللّه علیه فهو أولی بالعذر»(1) ، وفی بعضها : «إنّه لیس علی صاحبه شیء »(2)، بل قد ورد فی حقّ ذی الأعذار من تلک الأخبار: «أنّها من الأبواب التی ینفتح منها ألف باب»(3) .

فمعذوریته هنا لیس إلاّ من جهة عدم الاحتیاج إلی التجدید، لا فی أثناء الصلاة، ولا فیما بعدها، قبل خروج الحدث المتعارف لصلوات اُخری، کما لایخفی .

مضافاً إلی إمکان التمسّک بالاستصحاب للوضوء الذی حصّله قبل خروج الحدث، بعد عدم الدلیل علی وجوب الوضوء بعده، أو لکلّ صلاة .

مع الشکّ فی شمول أدلّة الناقضیة لمثل ما نحن فیه ، ولو سلّمنا إطلاقها أو عمومها، فیقیّد أو یخصّص بمثل هذا الخبر.

وما یستدلّ به من الأخبار الآتیة ، ومن إسراء حکم المرأة المستحاضة فی حقّ السلس، من لزوم الوضوء لکلّ صلاة، قیاسٌ لا نقول به .

بل قد یستشعر ویستأنس لمذهب الشیخ بما رواه «الکافی» فی الحسن أو الصحیح عن منصور بن حازم ، قال : «قلت لأبی عبداللّه علیه السلام : الرجل یعتریه البول ولا یقدر علی حبسه ؟ قال : فقال لی : إذا لم یقدر علی حبسه، فاللّه أولی بالعذر، یجعل خریطة»(4) .


1- وسائل الشیعة: أبواب القضاء الصلوات، الباب 3، الحدیث 8 .
2- وسائل الشیعة: أبواب قضاء الصلوات، الباب 3، الحدیث 24.
3- وسائل الشیعة: أبواب قضاء الصلوات، الباب 3، الحدیث 9.
4- وسائل الشیعة: أبواب نواقض الوضوء، الباب 19، الحدیث 2.

ص:221

حیث کان عذره من تلک الجهة، أی لا یکون ناقضاً للطهارة، کما لا یکون مانعاً للصلاة من حیث النجاسة والخبثیة .

منها: ما رواه «الکافی» فی الصحیح، عن الحلبی، عن أبی عبداللّه علیه السلام ، قال : «سئل عن تقطیر البول ؟ قال : یجعله خریطة إذا صلّی»(1) ، حیث أنّه لم یشر إلی لزوم تجدید الطهارة للصلاة مثلاً فی أثنائها .

منها: ما رواه الشیخ بإسناده إلی عبد الرحیم، قال : «کتبت إلی أبی الحسن علیه السلام فی الخصی یبول فیلقی من ذلک شدّة، ویری البلل بعد البلل ؟

قال : یتوضّأ وینضح فی النهار مرّة واحدة»(2) .

وجه الاستدلال: هو ما عرفت من عدم الحکم بوجوب تجدید الوضوء لکلّ بلل أو لکلّ صلاة ، کما لا یخفی .

هذا ، ولکن قد یمکن أن یجاب عن خبر موثّقة سماعة، بأنّه إن کانت النسخة هی القرحة، فکان الحکم مربوطاً بالنظر إلی أنّ خروج الدم بالتقطیر أو القیح مثلاً لا یستلزم الوضوء، لما توهّم بعض السائلین من أنّ خروج الدم وغیره من بدن الإنسان _ مثل الخروج من الأنف أو الفم أو السنّ _ یوجب الوضوء، فالأئمّة علیهم السلام فی صدد بیان رفع هذا التوهّم، کما یشهد لذلک ما تری فی لسان بعض الأخبار مثل ما ورد فی خروج المذی والنخامة والبصاق فی أخبار باب 12 من أبواب نواقض الوضوء ، وما ورد فی دم الرعاف والحجامة والقیء والقیح فی أخبار باب 6 _ 7 من أبواب نواقض الوضوء من عدم ناقضیتها للوضوء ، فعلیه تکون الجملة الواردة فی ذیل الحدیث بقوله : «فلا یعیدنّ إلاّ من الحدث الذی یتوضّأ منه» ،


1- وسائل الشیعة: أبواب نواقض الوضوء، الباب 19، الحدیث 5.
2- وسائل الشیعة: أبواب نواقض الوضوء، الباب 13، الحدیث 1.

ص:222

بیاناً لإفهام أنّه لیس کلّ ما یخرج من البدن موجباً للوضوء، إلاّ ما هو المتعارف والمعروف من الأحداث، کالبول والدم فی الاستحاضة، والغائط والریح ونظائرها ، فبناءً علی هذا الوجه لا یکون الحدیث مربوطاً لسلس البول أصلاً .

وأمّا علی النسخة الاُخری بأن یکون الصحیح هو لفظ (فرجه)، فقد یقال أیضاً: بعدم ارتباطه بالسلس أیضاً، من جهة أنّ المفروض فی صدر الحدیث بالخروج هو الدم وغیره من الرطوبة والقیح، فلا یشمل مثل البول والغائط، بقرینة ذیله من التفریع، بأنّ إعادة الوضوء إنّما یلزم من أمثال البول والغائط، لا من مثل الدم والقیح ، لا یقال : إنّ الدم فی المستحاضة کان معدوداً فی الاحداث ، لأنّا نقول : بأنّ الشخص المفروض فی صدر الحدیث کان هو الرجل لا المرأة .

وبناءً علی ذلک یکون الحدیث فی صدد بیان حکم نجاسة هذه الأشیاء فی حال الصلاة ولما بعدها، فحَکم بأنّه یجعل لنفسه خریطة، تحفّظاً عن السرایة والتلوّث إلی سائر البدن والثوب، لا ما نحن بصدده من المبتلی بسلس البول ، کما هو کذلک لو کان المراد من (الفرج) معنی اللغوی لا الاصطلاحی .

ومن المحتمل أن یکون المقصود بیان حال المبتلی بالمسلوس، فیکون المراد من قوله : «فلا یعیدنّ إلاّ من الحدث»، هو بیان الحدث المتعارف الصادر منه.

ومع ذلک نقول : یمکن أن یکون وجه السؤال، من حیث نجاسته وسرایته إلی سائر البدن واللباس، کما یشهد لذلک بیان وضع الخریطة .

ومن المحتمل أن یکون المراد هو الإطلاق للأعمّ منه ومن الحدث الذی کان مورد نظر الشیخ قدس سره ، فیکون المقصود تجویز الصلاة معه حدوثاً وبقاءاً، أی إتیان الصلاة بعد خروج البول بغیر المتعارف من دون إعادة للوضوء، کما لا یتجدّد فی أثنائها المسمّی بالبقاء .

فإذا وقع الحدیث مورداً لهذه الاحتمالات الکثیرة، فی دلالته ومعانی ألفاظه،

ص:223

فإنّ من الصعب الاستدلال به جزماً، وتثبیت خصوص ما ذکره الشیخ، مع أنّه قد اشتهر فی الألسن بأنّه: إذا جاء الاحتمال بطل الاستدلال .

مع أنّه لو سلّمنا جمیع ذلک، وأغمضنا عمّا ذکرناه، فقد یقال أیضاً بأنّ مقتضی إطلاق الحدیث وعمومه، هو شمول الحکم کلا الفردین، من التقطیر فی الأثناء، فیحکم بعدم لزوم إعادة الطهارة، لا فی أثنائها ولا لما بعد الصلاة ، ولکن یقیّد ویخصّص هذا الإطلاق والعموم بالنسبة إلی حال بعد الصلاة، إذا أراد إتیان صلاة اُخری، بما یدلّ علی لزوم التجدید فی کلّ صلاة، کما ذهب إلیه المشهور ، بل نقول : إنّ مقتضی الجمع بین هذا الحدیث، وما یتمسّک به المشهور، من عدم لزوم التجدید مطلقاً، لا فی الأثناء ولا لصلاة اُخری بهذا الحدیث، وسلّمنا إطلاق ما تمسّکوا به للتجدید، وأنّه یفید حمل کلّ واحد منهما علی القدر المتیقّن منهما، من عدم لزوم التجدید فی الأثناء عملاً بالموثّقة، ولزوم التجدید لکلّ صلاة عملاً بما تمسّکوا به .

فعلیه أیضاً لا یمکن الذهاب إلی کلام الشیخ1، من عدم لزوم التجدید مطلقاً .

هذا تمام الکلام فی الموثّقة، وقد عرفت أنّه لا یمکن أن نطمئن بدلالة هذا الحدیث حتّی نفتی علی طبق مضمونه فی الأثناء، فضلاً عن عدم لزوم الوضوء لکلّ صلاة، فالحکم بجواز الاکتفاء به للصلوات المتعدّدة بواسطة هذا الحدیث، یکون فی غایة الإشکال .

وأمّا الاستصحاب، فهو إنّما یکون حجّة، لو لم یکن فی المسألة نصّاً ودلیلاً من الأمارات . وأمّا مع وجود الدلیل من الأدلّة العامّة، الدالّة علی ناقضیة البول مطلقاً، أو الأدلّة الخاصّة الواردة فی المقام ، فلا مورد للاستصحاب أصلاً .

کما أنّ دعوی انصراف الأدلّة العامّة الدالّة علی الناقضیة، عن مثل تقطیر البول، ممّا لا وجه له، لما قد عرفت من أنّ لسان تلک الأدلّة آبیة عن ذلک، لأنّها

ص:224

فی صدد بیان أنّ طبع وجود البول وأمثاله _ ولو خرج من غیر اختیار _ یعدّ ناقضاً .

کما لا نحتاج إلی قیاس الحکم فی الرجل بالمرأة المستحاضة، لکفایة الأدلّة عن إثبات ذلک ، نعم یمکن جعلها مؤیّداً للذهاب إلی القول بالتجدید لکلّ صلاة .

وأمّا خبر المنصور، فقد یقال : بأنّ قوله: «یعتریه البول»، قد توجب أن لا یکون المراد منه هو المسلوس ، بل المقصود هو الحدوث فی أثناء الصلاة لکثرة بوله، وعدم القدرة علی منع نفسه وحبسه ، هذا، کما فی «الروائع الفقهیة»(1)، وإن عدل عنه بقوله : اللّهم... إلی آخره ، کما هو الحقّ، لوضوح أنّ الاعتراء بذلک مرّة لا یعدّ من الأعذار، حتّی یقال فی حقّه: (فاللّه أولی بالعذر)، إذ لا عذر له من حیث إمکان إعادة الصلاة من دون مشقّة وزحمة، بخلاف من کان من شأنه عروض ذلک، لاسیّما مع ملاحظة حکمه بوضع الخریطة، حیث یفهمنا تهیّأه للعروض من قبل ذلک لا عرضه بغتةً .

وکیف کان لا إشکال فی شموله لمن کان له الابتلاء بالسلس ، غایة الأمر أنّه یحتمل أن یکون الحکم بالنسبة إلی خصوص الخبث لسرایة النجاسة، کما یشهد لذلک قوله: «یجعل خریطة»، أو لخصوص الحدث أو الإطلاق کلیهما .

کما أنّه یمکن فرض احتمال أن یکون الحدیث فی صدد بیان حال المکلّف بالنسبة إلی کلّ عمل فیه شرط الطهارة، کالصلاة والطواف وغیرهما، بالنسبة إلی حال الاشتغال، أو یکون بالنسبة إلی کلّ عمل کذلک ولو لما بعده، بالنظر إلی عمل آخر مشروط بالطهارة، حتّی یوافق کلام الشیخ قدس سره .

والحمل علی الإطلاق من الخَبَث والحدث _ سواء کان بالنسبة فی الأثناء أو لما بعد العمل _ مشکل ، بل القاعدة تقتضی الحمل علی القدر المتیقّن من کلا


1- الروائع الفقهیة: 2 / ص255.

ص:225

المحتملین، من کونه لخصوص الخبث بقرینة جعل الخریطة، وکونه فی الأثناء، لا لما یعتریه بین الصلاتین لصلاة اُخری، بل یجب التجدید فیه لولا لزوم العسر والحرج، کما هو المفروض .

وحال خبر الحلبی أیضاً یکون مثل خبر منصور، خصوصاً مع ذکر الصلاة فیه، سیّما مع جعل الخریطة بیاناً لحال الصلاة، فیکون ظهوره فی بیان حکم الحدث فی الأثناء والنجاسة أقوی من خبر منصور، کما لا یخفی لمن یتأمّل فیه .

مع إمکان أن یقال : إنّه لو سلّمنا الإطلاق والشمول فی الخبرین لما علیه المکلّف فی الأثناء أو بعده، ولکن برغم ذلک نقول من إمکان التقیّد بالنسبة إلی حال کلّ عمل بواسطة ما یدلّ علی لزوم التجدید لکلّ صلاة ، مضافاً إلی ما عرفت من أنّ المشهور قد أعرض عنه.

وأمّا حدیث عبد الرحیم، فهو مضافاً إلی کونه مشتملاً علی حکم یخالف الإجماع _ وهو وجوب النضح والتطهیر فی کلّ یوم مرّة واحدة _ فأنّه لا ظهور فیه یفید کون البلل هو البول، لإمکان أن یکون هو الرطوبة المترشّحة عن خصیتیه، أو کان بللاً مشتبهاً ، فلا یجب علیه الوضوء حینئذٍ، لا فی الأثناء ولا فی غیره ، ولعلّه لذلک لم یستدلّ به کثیر من الفقهاء لبُعده عمّا نحن بصدده، فالقول بالإطلاق فیه لکی یشمل لما نحن فیه، لا یخلو عن تکلّف .

وهکذا عرفت عدم وجود دلیل معتبر یدلّ بالنصّ والصراحة علی عدم الحاجة إلی التجدید فی الأثناء أو فی غیره، إلاّ بعض ما یستدلّ به عوناً للمشهور من عدم التجدید فی الأثناء فقط ، وهو ما ذکره الآملی(1) من الاستدلال بخبر


1- «مصباح الهدی»: ج4 / ص57 .

ص:226

منصور بن حازم(1) لذلک، بقوله : إنّ الظاهر منه سؤالاً وجواباً، هو ما یخرج منه فی أثناء الصلاة، فإنّ العجز عن إمساک البول فی غیر الصلاة لیس له شأن حتّی یسأل عنه عن الإمام علیه السلام .

فمورد السؤال والجواب، هو فیما یخرج فی حال الصلاة ، فحینئذٍ یحتمل أن یکون محطّ النظر هو فی خَبَثیّة البول وإیجابه التلویث، وأن یکون فی قاطعیّته للصلاة، وأن یکون فی ناقضیّته للطهارة ، ویحتمل أن یکون فی الاُمور الثلاثة جمیعاً، فیکون الفرض من السؤال هو استعلام التکلیف بالصلاة فی تلک الحالة،من حیث الخبثیة والحدثیة والقاطعیة، ویکون الجواب هو الحکم بالمعذوریة فی الجمیع .

ویکون قوله علیه السلام : «ولیجعل خریطة»، بیان ما یرتفع المحاذیر الثلاثة جمیعاً؛ أمّا ارتفاع محذور الخبثیة، فلأجل کون حبس البول فی الخریطة، منشأً لحفظ البول عن البروز، فتکون الخریطة کخرقة المستحاضة، حیث أنّ الدم ما لم یبرز عن الخرقة، لا یحکم علیه بالخبثیة، وهکذا الکلام فی القاطعیة والناقضیة بمعنی توقّف کلّ منهما علی خروج البول من الخریطة، فتکون الخریطة علاجاً للثلاثة جمیعاً.

فالخبر علی هذا، یدلّ علی نفی وجوب التجدید فی أثناء الصلاة ، وحیث أنّ الظاهر منه کونه فی مقام بیان وظیفة المصلّی فی حال الصلاة، فلا یدلّ علی جواز الاکتفاء بما یصنعه لصلاة بالنسبة إلی الصلوات التی یأتی بها بعدها، ما لم ینقض بناقض معتاد، فلا ینفی الوضوء لکلّ صلاة، فینطبق حینئذٍ علی المذهب المشهور . انتهی کلامه .

ولا یخفی أنّ کلامه لا یخلو عن مناقشة، لأنّه قد یرد علیه :


1- وسائل الشیعة: أبواب نواقض الوضوء، الباب 19، الحدیث 2.

ص:227

أوّلاً : بأنّه لو سلّم وجود الاحتمالات الثلاثة فیه، من الخبثیة والقاطعیة والناقضیة، واعترف بخلوّ الحدیث عن قرینة تعیّن أحدها، إلاّ وضع الخریطة التی یساعد مع الخبثیة فقط، کما یساعد مع الثلاثة بتوجیهه قدس سره ، فکیف جزم بالحمل علی الجموع، مع أنّک قد عرفت منّا سابقاً بأنّ مقتضی القاعدة، هو الحمل علی القدر المتیقّن، خصوصاً فیما إذا کان الحکم خلافاً للأصل الأوّلی، ولیس هو إلاّ خصوص الخبثیة .

کما أنّ احتمال الشیخ الأنصاری قدس سره بأن یکون العذر لمطلق حاله _ من الصلاة وغیرها، حتّی حال بین الصلاتین بالنسبة إلی الخبثیة _ کان حسناً، دون الحدثیة .

وثانیاً : أنّه یلزم علی ما وجّهه من کون وضع الخریطة موجباً لحفظه عن البروز، وهو مع هذه الحالة یترتّب علیه ذلک ، أنّه لو فرض بروزه عن الخریطة لکثرة قطراته، یوجب کونه ناقضاً ومانعاً وقاطعاً ، مع أنّه خلاف لظاهر قوله: «إذا لم یقدر علی حبسه فاللّه أولی بالعذر» ، حیث یدلّ علی معذوریّته أیضاً فی الفرض المذکور .

اللّهم إلاّ أن یقال : بأنّ صاحب «الجواهر»(1) قد ادّعی الإجماع علی صحّة الصلاة بعد خروج البول عن المسلوس، بقوله : إنّ أقصی ما هناک أنّ الإجماع منعقد علی الصحّة، وعدم البطلان بوقوع الحدث فی الأثناء ... إلی آخره.

مع أنّک قد عرفت عدم وجود دلیل خاص یصرّح بذلک، حتّی یکون هو مستندهم، فلیس إلاّ أنّهم استفادوا ذلک من مثل حدیث المنصور _ من بیان کونه معذوراً فی ذلک _ ونظائره من الأخبار المستفادة منها ذلک ، بل یکون ظهور صحیح الحلبی فی الدلالة علی حکم المسألة أقوی، حیث روی الحلبی عن أبی


1- جواهر الکلام: 2 / 322.

ص:228

عبداللّه علیه السلام : «أنّه سُئل عن تقطیر البول؟ قال علیه السلام : یجعل خریطة إذا صلّی»(1) .

فصریح کلامه الأمر بجعل الخریطة للصلاة ضمن جملة شرطیة بقوله: «إذا صلّی» .

ومن المعلوم أنّ حکم الحدث الواقع فی الصلاة بالتقطیر، کان فی أذهان الناس أولی وأشدّ من النجاسة، لما تری من العفو فی الثانیة فی بعض الموارد کالدم فی بعض أقسامه ، بل کلّ النجاسات فی صورة الجهل، بخلاف الحدث حیث لم یعفو عنه فی شیء من الموارد .

فمع کونه أهمّ عند الأذهان وأولی فی السؤال والجواب، کان قد صرف عنه الإمام علیه السلام فی الجواب ولم یبیّنه، وذکر حکم نجاسته وخبثیته، وحیثُ مانعیّته، مع عدم ذکر حکم الحدث فی أخبار اُخری ، فهو ممّا لا یقبله الذوق السلیم ومن له شمّ الفقاهة.

فلعلّ بواسطة هذه الاُمور، ومناسبة الحکم مع الموضوع، قد استفاد الفقهاء عدم لزوم التجدید فی الأثناء، لأنّه لو کان ذلک واجباً لکان علی الإمام علیه السلام بیانه فی هذا المقام ، وحیث لم یبیّن ، بل قد ذکر ما یستفاد منه قاعدة کلّیة بقوله : «ما غلب اللّه علیه فهو أولی بالعذر»، یفهم أنّ مقصوده من بیان وضع الخریطة لیس إلاّ من جهة الحدث والخبث کلیهما، لا خصوص الثانی فقط .

وأمّا ذلک لا یوجب الحکم بعدم وجوب التجدید، حتی لما بعد الصلاة بالنظر إلی صلاة اُخری، لإمکان أن لا یصدق علیه العذر، مع فرض عدم العسر والحرج، کما هو المفروض فی صدر المسألة، فضلاً عن دخوله تحت الأدلّة الأوّلیة .

فعلی هذا، یکون قول المشهور أقوی، وإن کان الاحتیاط یقتضی تجدید


1- وسائل الشیعة: أبواب نواقض الوضوء، الباب 11، الحدیث 5.

ص:229

الوضوء فی الأثناء أیضاً، لو لم یستلزم فعلاً کثیراً، ولا العسر والحرج إلحاقاً بالمبطون ، وإن کان الأحوط منه هو الإتیان بالصلاتین بکیفیّتین، إحداهما بلا تجدید فی الأثناء ، والاُخری مع التجدید فیه، واللّه العالم .

هذا کلّه فیما إذا لم یلزم التکرار فی الأثناء العسر والحرج، ولا فعلاً کثیراً.

وأمّا الصورة الثانیة: وهو ما یلزم العسر والحرج.

فلا إشکال فی لزوم التجدید لکلّ صلاة، لما قد عرفت من تمامیة الأدلّة بالنسبة إلیه .

وأمّا ما یخرج فی الأثناء، فلا تردید فی عدم وجوب التجدید فیه، لأنّه یستلزم الحرج فینفی بواسطة دلیل نفی الحرج، وإن قلنا بوجوب التجدید فیما لا یلزم وإلاّ فلا موقع لهذا الکلام.

إنّما الکلام والإشکال فیما لزم ذلک فهل علیه ترک التکرار من أوّل الأمر، لأنّه شیء فیه حرج _ کما هو المتعارف فی ما یلزم منه العسر والحرج _ أم یرفع الید عنه إذا لزم ذلک لا مطلقاً ؟ فیه وجهان : من أنّ الضرورة تتقدّر بقدرها، فتقتضی الثانی، کما هو مقتضی لزوم تقلیل الحدث حیث أمکن .

حکم المسلوس إذا کان الحدث مستمرّاً

ومن أنّ التکلیف الحرجی لا یلحظ فیه کذلک، یرفع الید من الأوّل .

فالأولی أن یُقال : إن قلنا بالتجدید فی الأثناء من باب الاحتیاط لا الفتوی، کان رفع الید فیما یستلزم الحرج أهون ممّا قلنا بوجوبه من جهة الفتوی، لإمکان أن یقال فیه بأنّ سقوط التکلیف فی الحرج الشخصی دائر مدار وجوده، فلا یترک إلی أن یصل إلی حدّ الحرج، کما أنّه أیضاً أحوط .

وأمّا ما یستلزم فعلاً کثیراً، فهو أیضاً ینقسم إلی قسمین : تارةً : یکون ماحیاً لصورة الصلاة، فلا إشکال فی رفع الید عنه، لأنّ الحکم بوجوب التجدید _ حتّی فی هذا القسم _ یستلزم وقوعه فی الحرج لو أوجب التکرار ، مضافاً إلی الإشکال

ص:230

فی جواز ارتکاب ما یستلزم محو الصلاة، لعدم دلیل علیه .

واُخری : ما لا یستلزم ذلک، فلا وجه للحکم بالبطلان بواسطة فعل الکثیر ، إذ لیس لنا دلیل فیه إلاّ الإجماع، وهو مفقود فی المقام ، فإذا لم یدلّ علی کونه قاطعاً، ولم یقم إجماع هنا _ کما ادّعاه فی «مصباح الهدی»(1)_ ، فلا وجه للقول برفع الید عن التجدید بواسطته .

ولکن الأظهر عندنا أن یقال بالتفصیل، بأنّ التجدید فی الأثناء إن قلنا به من باب الاحتیاط، کان الأحوط هنا ترکه، لاحتمال دخوله فی ما انعقد علیه الإجماع .

وإن قلنا بوجوبه من باب الفتوی، کان الأحوط فی خلافه، أی فی إتیانه، لعدم جواز رفع الید عمّا هو واجب قطعاً بواسطة ما یحتمل أن یکون منهیّاً عنه، وحیث کان المختار عندنا هو الأوّل فترکه حینئذٍ أحوط.

فاتّضحت المسألة فی جمیع صورها ، بحمد اللّه ومنّه .

الصورة الثالثة: ما إذا کان الحدث مستمرّاً، بحیث لاتحصل له فترة یستطیع خلالها أداء الصلاة، فلا یقع شیء منها مع الطهارة أصلاً ، ففی جواز الاکتفاء بوضوء واحد لصلوات عدیدة ، إمّا مطلقاً، أی بلا فرق بین أن یحدث بحدث متعارف أم لا، وسواء أحدث باحداث اُخر غیر ما ابتلی به أم لا .

أو یکتفی به إلی أن یحدث منه حدثٌ متعارف من البول أو الغائط أو غیرهما .

أو عدم جواز الاکتفاء به، بل یجب الوضوء عند کلّ صلاة، کالصورة المتقدّمة ؟ وجوهٌ : من عدم الفائدة فی تجدید الوضوء، لابتلائه بالاستمرار فی الحدث من ناحیة ، ومن ناحیة اُخری مشروعیة الصلاة منه، وأنّها لا تترک فی تلک الحالة، فینفی دخوله فی الصلاة بلا وضوء، إلاّ أنّ الإجماع منعقد علی وجوب الوضوء


1- مصباح الهدی: ج4 / ص58 .

ص:231

وقیل: مَنْ به البَطَن إذا تجدّد حدثه فی الصلاة یتطهّر ویبنی (1).

لأوّل صلاة یؤدّیها فی الیوم أو عند شروع المرض ، بل مقتضی عموم ناقضیة البول، کون المسلوس محدثاً تشرع له الصلاة، ولا دلیل علی زیادة حدثه بالنوم ونحوه، فلا موجب للتجدید عند حدوث سائر الأحداث، فضلاً عن خروج البول علی النحو المتعارف، فلا یجب علیه الوضوء إلاّ لأوّل الصلاة .

ومن عدم الدلیل علی العفو عمّا عدا ما یخرج علی النحو الغیر المتعارف من البول، فضلاً عن سائر الأحداث ، مضافاً إلی الإجماع الصریح عن صاحب الجواهر قدس سره ، علی عدم العفو عمّا یخرج علی النحو المتعارف منه، فضلاً عن سائر الأحداث.

ودلالة موثّقة سماعة بقوله : «فلا یعیدنّ إلاّ من الحدث الذی یتوضّأ عنه»(1) ، بناءً علی أن یکون المراد هو الحدث المتعارف ، فلازم هذا الوصف هو وجوب التجدید لما یخرج عنه بصورة المتعارف من البول وغیره دون غیره .

ومن ملاحظة مقتضی الدلیل الأوّلی لوجوب الوضوء لکلّ صلاة، فقد خرج عنه علی الفرض صورة الأثناء مثلاً، وتبقی الباقی تحته، فلازمه ذلک.

ومن إطلاق کلمات المشهور، من وجوب الوضوء لکلّ صلاة فی المسلوس، مع دعوی عدم الفرق بینه وبین المبطون .

ولا یخفی أنّ هذا الأخیر من الاحتمالات کان أقوی مطابق للاحتیاط، ما لم یستلزم العسر والحرج والمشقّة العادیة، وإلاّ کان الأوسط هو الأوسط، وأقوی إن کان عسریاً حرجیاً ، واللّه العالم .

(1) والمراد من البَطَن (بالتحریک)، من به داء وهو الإسهال، بحیث لا یقدر


1- وسائل الشیعة: أبواب نواقض الوضوء، الباب 7، الحدیث 9.

ص:232

علی إمساکه، أو یکون المراد هو الأعمّ منه حتی یشمل من لا یقدر علی حفظ الریح . هذا من جهة عموم لفظ البطن، حیث یستعمل لکلّ ما یخرج عنه، وکان من شأنه ذلک، وکیف کان لا إشکال فی دخول الأوّل فیه .

حکم المبطون

فالکلام فیه تارةً: بلحاظ حال المکلّف من عروضه فی أوّل الوقت وغیره، وثانیةً: من جهة علمه بالزوال أو رجائه أو یأسه عنه .

وثالثةً: من حیث موارد الاجزاء وعدمه، ومن جهة کشف الخلاف وعدمه، وهکذا من إمکان الفترة له بأن یأتی الصلاة مع الطهارة، وعدم الفترة، وغیر ذلک من المحتملات من العسر والحرج، والفعل الکثیر حیث یشترک فی الحکم مع المسلوس .

نعم الکلام فیه إذا ما کان مرضه بما لا فترة له تسع فیها الصلاة ، بل یکون مبتلی به فی الصلاة ، أمّا بمرّة ومرّتین بما لا یوجب العسر والحرج فی التجدید، ولا الفعل الکثیر، أو بأزید من ذلک، بحیث کان مستمرّاً متوالیاً ، فقد وقع الخلاف فی القسم الأوّل ، وذکر العلاّمة فی «المختلف» و«القواعد» و«الإرشاد» و«التذکرة» و«نهایة الإحکام» قولاً نقله «الجواهر»(1) : إنّه إن کان تمکّن من حفظ نفسه بمقدار الصلاة تطهّر واستأنف الصلاة من رأس، وإن لم یکن متمکِّناً من ذلک، بأن کان دائماً لا ینقطع بنی علی صلاته من غیر تجدید فی الأثناء، مستدلاًّ بأنّه لا فائدة فی التجدید، لأنّ هذا المتکرّر إن نقض الطهارة نقض الصلاة، لما دلّ علی اشتراط الصلاة باستمرارها .

وتبعه فی ذلک صاحب «کشف اللثام» .

ولکن الإنصاف أنّ الحقّ مع المشهور، حیث ذهبوا إلی وجوب التجدید فی الأثناء، والبناء علی ما مضی من صلاته ، فضلاً عن لزوم التجدید لکلّ صلاة


1- جواهر الکلام: 2 / 325.

ص:233

أیضاً، وهذا حکم صحیحٌ _ مضافاً إلی وجود أخبار خاصّة تدلّ علیه بالخصوص _ بالنظر إلی عدم کون الحدث فی حقّه کالمسلوس ناقضاً، لما قد عرفت بأنّ الطهارة الواقعیة لو کانت شرطاً فی حقّهما، لما کان قادراً بإتیان الصلاة معها، فلابدّ إمّا من رفع الید عن وجوب الصلاة لهما وصیرورتهما کفاقد الطهورین، _ کما اختاره بعض _ أو رفع الید عن شرطیتها بمعناها الواقعی .

وحیث قد عرفت وجود الإجماع علی عدم جواز ترک الصلاة منهما، فلابدّ من الإتیان بها ولو مع الحدث، لکونهما من ذوی الأعذار، کما وقع فی صحیح منصور بن حازم أو حسنته من کونه معذوراً (فاللّه أولی علیه بالعذر، یجعل الخریطة)(1).

حیث یفهم منه قاعدة کلّیة، نظیر ما وقع فی بعض الأحادیث: «أنّ ما غلب اللّه علی العباد فهو أولی بالعذر» .

فحینئذٍ یدور الأمر بین أن تکون الطهارة شرطاً لخصوص الأفعال، دون الأکوان، لو ورد دلیل خاص علی لزوم التجدید، کما کان کذلک فی حقّ المبطون ، أو القول بأنّ الطهارة فی حقّهما قد ارتفعت فی الأثناء، واُبیح لهما الصلاة لکونه معذوراً، کما قلنا فی المسلوس .

ومن العجب عن العلاّمة وصاحب «کشف اللثام» کیف اعترضا بذلک فی المبطون ، مع أنّه إذا کان ناقضاً للطهارة کان مبطلاً للصلاة، وبرغم ذلک أوجبا الوضوء لکلّ صلاة ، مع أنّه لو لم یکن البطن ناقضاً أصلاً لکونه معذوراً، فلابدّ أن یقال بالنسبة إلی صلاة اُخری، خصوصاً إذا فرضنا عدم خروج شیء غیر ما خرج فی الصلاة الاُولی ، مع أنّ ظاهر إطلاق کلامهما وجوب التجدید للصلوات الاُخری مطلقاً ، وإن کان ناقضاً ومبطلاً، فکیف حکما بعدم وجوب التجدید فی


1- وسائل الشیعة: أبواب نواقض الوضوء، الباب 19، الحدیث 2.

ص:234

الأثناء وصحّة الصلاة ، مضافاً إلی أنّ حکمهما یعدّ اجتهاداً فی مقابل النصّ، فلا یعبأ به، وذلک لما وقع فی الأخبار المعتبرة من الحکم بالتجدید فی الأثناء، مثل ما رواه الشیخ فی الصحیح عن محمّد بن مسلم، قال :«سألت أبا جعفر علیه السلام عن المبطون؟ فقال : یبنی علی صلاته»(1) . وخبر صحیح آخر عنه، عن أبی جعفر علیه السلام ، قال : «صاحب البطن الغالب یتوضّأ ویبنی علی صلاته»(2) .

وما رواه الشیخ بإسناده فی الموثّق إلی محمّد بن مسلم، عن أبی جعفر علیه السلام ، قال : «صاحب البطن الغالب یتوضّأ ثمّ یرجع فی صلاته فیتمّ ما بقی»(3) .

دلالة هذه الأخبار علی المقصود موقوفة علی کون المراد من التوضّی هو المعنی المصطلح المعروف بین الناس، وهو الطهارة عن الحدث، فیکون الخبر ساکتاً عن حکم الخبث إمّا من جهة عدم شمول الدلیل له، أو معفوّاً للسکوت عن حاله فی مقام البیان، کما قد عفی عنه فی المسلوس إذا أخذ خریطة معه .

أو کان داخلاً بواسطة کون المراد من التوضّی هو الأعمّ من الحدث والخبث ، لکنّه بعید غایته بأن یراد من لفظ واحد معنیان متفاوتان من حیث الموضوع والحکم .

وأمّا احتمال کون المراد هو الاستنجاء فقط دون الحدث ، ففی غایة البُعد ، لما قد عرفت فی المسلوس من أهمّیة حکم الحدث عن الخبث ، مضافاً إلی اُنس کثرة استعمال هذا اللفظ فی ذلک المعنی فی الأخبار وکلمات الأصحاب، کما لا یخفی علی المتتبّع .

بل قد یمکن الاستدلال _ أو الاستشعار _ بأخبار اُخری معتبرة من حیث السند، مثل ما رواه الصدوق بإسناده الصحیح إلی فضیل بن یسار، قال : «قلت


1- وسائل الشیعة: أبواب نواقض الوضوء، الباب 19، الحدیث 2 و 3، الفقیه: 1 / 237.
2- وسائل الشیعة: أبواب نواقض الوضوء، الباب 19، الحدیث 2 و 3، الفقیه: 1 / 237.
3- وسائل الشیعة: أبواب قواطع الصلوة، الباب 1، الحدیث 4.

ص:235

لأبی جعفر علیه السلام : أکون فی الصلاة فأجد غمزاً فی بطنی، أو أذی أو ضرباناً(1) ؟

فقال : انصرف، ثمّ توضّأ وابن علی ما مضی من صلاتک ما لم تنقض الصلاة بالکلام متعمّداً، وإن تکلّمت ناسیاً فلا شیء علیک فهو بمنزلة من تکلّم فی الصلاة ناسیاً ، قلت : وإن قلّب وجهه عن القبلة ؟

قال : نعم ، وإن قلّب وجهه عن القبلة»(2) .

وما رواه الشیخ بإسناده إلی أبی سعید القمّاط، قال : «سمعت رجلاً یسأل أبا عبداللّه علیه السلام عن رجل وجد غمزاً فی بطنه أو أذی أو عصراً من البول، وهو فی صلاته المکتوبة فی الرکعة الأولی أو الثانیة أو الثالثة أو الرابعة؟

فقال : إذا أصاب شیئاً من ذلک فلا بأس بأن یخرج لحاجته تلک، فیتوضّأ ثمّ ینصرف إلی مصلاّه الذی کان یصلّی فیه، فیبنی علی صلاته من الموضع الذی خرج منه لحاجته ما لم ینقض الصلاة بالکلام ، قال : قلت : وإن التفت یمیناً أو شمالاً أو ولّی عن القبلة ؟

قال : نعم، کلّ ذلک واسع، إنّما هو بمنزلة رجل سهی فانصرف فی رکعة أو رکعتین أو ثلاثة من المکتوبة، فإنّما علیه أن یبنی علی صلاته، ثمّ ذکر سهو النبیّ صلی الله علیه و آله »(3) .

فإنّ هذین الخبرین إن عمل بظاهرهما من کون عروض ذلک اتّفاقیاً، لا لأجل المرض، یستلزم کونهما مشتملاً علی ما هو خلاف ما اتّفق علیه علماء الإمامیة، من بطلان الصلاة بمثل هذا الحدث ، فلابدّ أن یحمل علی نوع تأویل ، إمّا بما ذکره صاحب «کشف اللثام»، أی بأن یرجع إلی صلاة اُخری، قد قصد إتیانها لا ما أتی به من بعض الصلاة.


1- الضربان : بمعنی شدّة الألم الذی یحصل للبطن ، والغمز هنا بمعنی العصر کما فی «مجمع البحرین».
2- وسائل الشیعة: أبواب قواطع الصلوة، الباب 1، الحدیث 9.
3- وسائل الشیعة: أبواب قواطع الصلوة، الباب 1، الحدیث 11.

ص:236

ولکن الحمل بعید غایته، خصوصاً فی هذین الخبرین سیّما ثانیهما .

أو بما حمله الشیخ الطوسی قدس سره من عدم خروج الحدث فی الأوّل منهما .

أو الخروج سهواً ونسیاناً فی ثانیهما ، فهو أیضاً لا یخلو عن وهن، لأنّه مبطل أیضاً .

أو الحمل علی التقیة، کما حمله صاحب «الوسائل»، فهو أیضاً لا وجه له، مع إمکان الحمل علی ما یقتضی الدلالة، بل وهو مقدّم عن الحکم بأصالة الجهة وهو ما ذکره جمعٌ من الفقهاء کصاحب «الجواهر» والشیخ الأعظم، وتبعهما غیرهما من الحمل علی صورة المریض المبتلی _ کالمبطون _ فیتناسب مع الأخبار السابقة من تجدید الطهارة فی الأثناء ، مع أنّ فی دلالة الأخبار السابقة لولا هذین الخبرین غنی وکفایة .

فثبت أنّ الحقّ مع المشهور، من لزوم التجدید فی الأثناء إن کان مبطوناً، تحصیلاً للطهارة فی الأفعال، إن لم یقدر تحصیلها للأکوان .

نعم، ظاهر کلمات الأصحاب _ بل لا یبعد أن یکون هو محطّ الأخبار _ بأنّ مورد التجدید فی المبطون هو فیما إذا کان له فترة یقدر علی إتیان بعض الصلاة مع الطهارة .

حکم سلس الریح و النوم

وأمّا من لا یقدر علیه لاستمرار الحدث بالبَطَن، فحکمه یکون علی حکم المسلوس من عدم وجوب التجدید فی الأثناء ، وأمّا وجوب فی کلّ صلاة، أو عندما یخرج عنه بصورة المتعارف، أو عدم الوجوب إلاّ عند الصلاة الأولی فی الیوم مثلاً، أو عند شروع المرض، وجوهٌ ، وقد عرفت قوّة احتمال الأوّل، وإن کان الأوسط لا یخلو عن وجه، والاحتیاط یکون مع الأوّل .

والأحوط منهما فی کلتا الصورتین _ أی حتّی فی السابق الذی کان له الفترة وما عرفت لزوم التجدید فی الأثناء _ هو الإتیان بالصلاتین بمثل ما یفعله المسلوس من وضع الخریطة، واللّه العالم .

ص:237

هاهنا مسائلٌ وفروعٌ:

الفرع الأوّل : هل یجب علی المسلوس والمبطون الاستظهار بمنع تعدّی النجاسة أم لا یجب ذلک ؟ فقد عرفت دلالة الأخبار فی المسلوس علی وضع الخریطة، أو الکیس، الظاهر فی الوجوب ، بل فی «جامع المقاصد» نسبته إلی الأصحاب، بدعوی الإجماع علیه ، بل قد یمکن أن یقال إنّه موافق للاحتیاط .

وأمّا المبطون، حیث لم یقع فی الأخبار ولا فی کلمات الأصحاب إشارة إلی وجوب استظهاره، عدا ما قد یستفاد من القواعد الکلّیة من لزوم التحفّظ عن النجاسة والخبث ، إلاّ إذا لم یمکنه من جهة لزومه العسر والحرج ، کما لا یبعد أن یکون حال المبطون کذلک، إذ کثیراً ما لا یقدر من حفظه بالخریطة، لو لم یکن له قوّة الإمساک .

وکیف کان، فوجوبه فیه یکون بمقتضی الاحتیاط الوجوبی .

وأمّا أنّه یجب ویتعیّن فی المسلوس وضع الکیس، لأنّه یکون بما یستر العورة، وتصیر کأنّها من الباطن، فیصیر من قبیل الأجزاء الباطنة، وکون ظاهر الکیس کظاهر البدن فی حال الاضطرار _ کما احتمله الآملی، بقوله : وهو الأحوط لو لم یکن أقوی ، فلا یخلو عن تأمّل .

فالإنصاف عدم إمکان القول بوجوبه، لوضوح أنّ المقصود هو التحفّظ عن السرایة والتعدّی، وهو حاصلٌ ولو بغیره، وإن کان عمله کذلک لا یخلو عن حسن، بل وهو أوفق بالاحتیاط ، کما أنّ الظاهر أنّه من عمل بوظیفته، ومع ذلک خرج الحدث عن الخریطة لا یضرّ إن لا یمکن حفظه ولو بالکیس .

الفرع الثانی : هل یلحق سلس الریح والنوم بالمسلوس، بحیث لا یجب علیه تجدید الوضوء فی الأثناء ، بل یجب لکلّ صلاة، أو أنّه ملحقٌ بالمبطون فیجب أیضاً فی الأثناء، کما یجب لکلّ صلاة ؟

ص:238

قد یقال بإلحاقهما بالأوّل، لأنّه موافق للقاعدة کما عرفت ، کما قد یقال بإلحاقهما بالثانی، لأنّه قد وقع فی الحدیث بلزوم التجدید فی الأثناء فی المبطون، فبدلالة تنقیح المناط یسری الحکم إلی غیره من المسلوس فی البول والنوم والریح ، غایة الأمر خرج سلس البول عنه بواسطة الأدلّة وکلمات الأصحاب، فیبقی الباقی ملحقاً به.

هذا، ولکن الأولی هو القول بالتفصیل بین سلس الریح والنوم، بإلحاق الأوّل بالمبطون دون الثانی .

فی تطهیر موضع النجاسة علی المسلوس

أمّا إلحاق الأوّل به، لما قد عرفت فی بیان معنی المبطون، من أنّه یحتمل أن یشمله نفس اللفظ، فیدخل تحت حکمه ، فاحتمال الشمول یکفی فی إثبات وجوب التجدید، لعدم القطع بالفراغ عمّا هو الواجب علیه لو صلّی بدون ذلک، فمقتضی الاحتیاط یوجب الحکم بوجوب إلحاقه ، هذا بخلاف سلس النوم، حیث أنّه یلحق بالمسلوس، بما هو مقتضی القاعدة، وهو لیس إلاّ الحکم بالتجدید لکلّ صلاة ، فالزائد منه محکوم بالبراءة، إلاّ ما خرج بالدلیل، کالمبطون وما اُلحق به .

الفرع الثالث : هل یجب علی المسلوس تطهیر الحشفة فی کلّ مرّة تنجّست، ولو فی حال الصلاة، أو لا یجب مطلقاً، أو هناک تفصیل بین حال الصلاة بعدم الوجوب وبین غیرها بالوجوب ؟ وجوهٌ: من عموم ما دلّ علی شرطیة الطهارة من الخبث فی البدن الشامل بإطلاقه لکلتا حالتی الصلاة وغیرها ، فإنّه یجب ذلک. ومن إطلاق الأخبار السابقة الآمرة بوضع الخریطة أو الکیس، من غیر أن یشیر إلی ذلک، مع کونه مورد الحاجة، فبذلک یخصّص عموم الشرطیة ، ومن إمکان أن یقال : إنّ المعذوریة المستفادة من الأخبار للنجاسة القاضیة، إنّما کانت فی حال الصلاة فقط لا مطلقاً ، فلابدّ أن یتمسّک بالعموم فی غیر حال الصلاة،

ص:239

سیّما لمن ذهب إلی عدم وجوب التجدید فی الأثناء فی المسلوس، حیث أنّ استفادة المعفوّیة لمثل الخبث کان بطریق أولی، لأهمّیة الحدث عنه، وکونه معفوّاً کما عرفت ، فالقول بالتفصیل لا یخلو عن قوّة وإن کان الأحوط هو الأوّل، لو لم یستلزم التطهیر العسر والحرج .

وأمّا الکیس، فهل یجب تطهیره أم لا؟

قد یقال: بجریان الاحتمالات الثلاث فیه ، إلاّ أنّ الأقوی هنا عدم الوجوب _ مضافاً إلی ما عرفت بالنسبة إلی حال الصلاة _ من جهة أنّ ما یدلّ علی جواز الصلاة فیما لا تتمّ فیه _ کالقلنسوة والمنطفة _ وإن کان نجساً یقتضی ذلک، لما یدلّ علیه أخبار عدیدة وقعت فی الباب الحادی والثلاثین من أبواب النجاسات من «الوسائل» مثل ما فی مرسلة عبداللّه بن سنان، عمّن أخبره، عن أبی عبداللّه علیه السلام ، أنّه قال : «کلّ ما کان علی الإنسان أو معه ممّا لا تجوز الصلاة فیه وحده، فلا بأس أن یصلّی فیه، وإن کان فیه قذر، مثل القلنسوة والتکة والکمرة والنعل والخفّین وما أشبه ذلک»(1) .

وغیره من الروایات .

حکم المسلوس و المبطون فی صلاة الاحتیاط

والمراد من الکمرة هو الکیس الذی یؤخذ للذکر اجتناباً عن الاحتلام، کما فی «المستمسک»(2) أو من السلس، کما عن الآملی فی «المصباح»(3) نقلاً عن بعض اللغویّین ، وإن کان الأحوط هو القول بالتطهیر، سیّما فی غیر حال الصلاة، کما لایخفی .

الفرع الرابع : هل یجب علیه المبادرة إلی الصلاة بعد الوضوء مطلقاً بلا مهلة _ کما عن السیّد فی «العروة» فی المسألة الاُولی، وکثیر من أصحاب التعالیق الاّ


1- وسائل الشیعة: أبواب النجاسات، الباب 31، الحدیث 5.
2- مستمسک العروة الوثقی: 2 / 574.
3- المصباح: 4 / 65.

ص:240

الخوئی من القول بعدم الوجوب مطلقاً، أو القول بعدم الوجوب فی حقّ من کان مستمرّ الحدث، ولا فترة له، والوجوب لمن کان له فترة، وهو الحقّ _ کما علیه الآملی _ لأنّه لا یقدر علی التحفّظ فکان محدثاً علی أیّ حال، أم لا؟

فإن قلنا بأنّ اشتداد الحدث بالتکرار، یوجب ازدیاد النجاسة والقذارة، من حدوث الحدث، فهو ممنوع، لکنّه لا یخلو عن تأمّل، وإن کان الأحوط هو هذا حذراً عن مخالفة الفقهاء کصاحب «الجواهر» وغیره من الأعلام .

الفرع الخامس : هل یجب التجدید لقضاء التشهّد والسجدة المنسیین، أو یکفی ما یحصّل للصلاة؟

الظاهر هو الثانی، لأنّ النسیان عن محلّهما مع الذکر قبل الفصل الطویل وعدم الاستدبار، لا یوجب خروجهما عن الجزئیة عن الصلاة، ولو کان وقوعهما بعد الصلاة، فیکون حکمهما حکم سائر الأجزاء ، فکلّ ما لا یوجب التجدید هکذا یکون فیهما، وما یجب فیهما التجدید فیجب فیهما کالمبطون .

فظهر أنّ الاکتفاء بالوضوء للصلاة صحیح، فیما لم نقل بوجوب التجدید فی نفس الصلاة، وإلاّ یجب التجدید لو وقع الحدث فیما بین الصلاة وبین القضاء، کما لو وقع بین الصلاة للمبطون فی غیر مستمرّ الحدث .

نعم، فی المسلوس یکفی مطلقاً، ولا یجب التجدید، کما لو وقع فی الصلاة وکان حکمه کذلک .

وأمّا لو لم یحدث بین الصلاة وبین القضاء شیء، فلا وجه للقول بالتجدید مطلقاً، حتّی فی المبطون أصلاً، لعدم صدق عنوان لزوم الطهارة لکلّ صلاة علیه .

وأمّا حکم صلاة الاحتیاط لو عرض الشکّ فی الصلاة، واحتاج إلیها؟

فهی علی تقدیر نقص الصلاة واقعاً، تعدّ من أجزاء الفریضة مفصولة، فیکون حکمها حکم سائر الأجزاء من وجوب التجدید فیما یجب، _ کما فی المبطون _

ص:241

وعدمه فیما لا یجب _ کالمسلوس _ .

وإن کانت الصلاة تامّة، تصیر نافلة، وهی محتاجة إلی التجدید بمقتضی القاعدة الدالّة علی وجوب التوضّی لکلّ صلاة .

أمّا الآملی فی «المصباح»(1) والشاهرودی، فقد ذهبا إلی قوّة عدم الاکتفاء بوضوء الصلاة، وحکما بالتجدید، خلافاً للسیّد فی «العروة»(2) وکثیر من أصحاب التعالیق، من الحکم بعدم لزوم التجدید، مع مراعاة عدم الفصل الطویل، وعدم الاستدبار رعایة للجزئیة .

حکم المسلوس و المبطون فی مسّ کتابة القرآن و ما بحکمه

والظاهر أنّ الثانی لا یخلو عن قوّة، لأنّ الالتزام بوجوب التجدید ممّا لا وجه له، لأنّه علی أیّ حال لا یکون واجباً، إذ فی الواقع لا یخلو عن أحد الوجهین : إمّا الجزئیة، فلا یجب التجدید علی الفرض إن کان فی مثل المسلوس ، أو النافلة، فهی وإن احتاج إلی التجدید إلاّ أنّه لیس بواجب .

إلاّ أن یکون مقصودهم هو إثبات الشرطیة، أی اشتراط ذلک لکی تقع النافلة صحیحة.

ولعلّ وجه الحکم بالاحتیاط الوجوبی فی کلام الشاهرودی، والتقوّی للآملی قدس سره ، هو أنّه لابدّ أن یکون المصلّی یأتی فی مثل هذه الموارد من الاحتیاط عملاً موافقاً للاحتیاط، أی یجمع بین وظیفتی الفریضة والنافلة، بحیث تقع الصلاة صحیحة کلّ ما اتّفقت فی الواقع، وهذا لا یتحقّق إلاّ بما قالوه، لأنّه لو ترک التجدید فإنّه یوجب بطلان الصلاة لو کانت نافلة ، وهکذا ثبت أنّ کلامهم لا یخلو عن وجه وحُسن .


1- المصباح: ج4 / ص63.
2- المسألة الثانیة من مسائل دائم الحدث من کتاب الطهارة.

ص:242

فالأقوی هو القول بالتفصیل، من وجوب التجدید _ لو کان فی مثل المبطون _ تحصیلاً لفراغ الذمّة عمّا یحتمل وجوبه علی تقدیرٍ، والشرطیة علی کلّ حالٍ ، وعدم لزوم التجدید فی مثل المسلوس، إلاّ أنّه لا یخلو عن حسن الاحتیاط، لما قد عرفت من احتمال استفادة الصحّة علی کلّ تقدیر من الأخبار .

وأمّا حکم مراعاة عدم الفصل الطویل، أو مطلق الفصل وعدم الاستدبار ، فهو أمرٌ ثابت رعایة لحال الجزئیة ولو احتمالاً، وإلاّ یلزم لغویّة جعل حکم الاحتیاط، کما لایخفی .

الفرع السادس : هل یجوز للمسلوس أو المبطون إذا کانا دائمی الحدث أو خرج عنهما الحدث بعد الوضوء، من مسّ کتابة القرآن، وما یحرم علیه مسّه لولا ذلک کأسماء الجلالة، وأسماء النبیّ والأئمّة علیهم السلام أم لا ؟

ففی العروة(1) قال : فی جوازه إشکال، حتی فی حال الصلاة، إلاّ أن یکون المسّ واجباً ، وعلیه أکثر أصحاب التعلیق، وجه الإشکال: هو التردّد فی کون التجدید، هل هو رافع للحدث حقیقةً أو تنزیلاً؟ ثمّ علی فرض الرفع هل یکون رافعاً بجمیع مراتبه، أو رافع نسبی کرفع النجاسة عن الید بالمسّ علی الجدار، أو لا یکون رافعاً للحدث، بل یکون مبیحاً للصلاة، فلازم الالتزام بالأخیر هو سقوط ما کانت الطهارة شرطاً فی حقّهما لکونهما متعذّراً ، والالتزام بخصوص الأخیر أیضاً لا یخلو عن تأمّل، لأنّه کیف یعمل مثل هذا المبتلی فی طواف الحجّ والعمرة، مع کون الطهارة شرطاً فیهما .

والالتزام بأنّه صلاة لما جاء فی الحدیث من أنّ «الطواف بالبیت صلاة»، مشکلٌ جدّاً. فجمیع هذه الوجوه تؤیّد بأنّ الوظیفة فی مثل هذه الموارد هو طهارته لیس إلاّ.


1- المسألة الخامسة من مسائل سلس البول.

ص:243

هذا ، فعلیه یکون هذا متطهّراً بعد تحصیل الوضوء، کسائر الناس، فیجوز له مسّ کتابة القرآن والطواف وإتیان سائر الصلوات ونحو ذلک .

بل قد یمکن استئناس حسن هذا الوجه ممّا وقع فی صحیحة أو حسنة منصور بن حازم، قال : «قلت لأبی عبداللّه علیه السلام : الرجل یعتریه البول ولا یقدر علی حبسه ؟ قال : فقال لی : إذا لم یقدر علی حبسه فإنّه أولی بالعذر، یجعل خریطة»(1) ، حیث یستفاد منه حکم کلّی بأنّ المعذور فی جمیع الموارد یکون حکمه هکذا، ولا اختصاص له بحال الصلاة فقط، خصوصاً مع ملاحظة ما ذکرنا من سائر الأخبار، وأنّه یفتح ألف باب ونظائر ذلک .

إلاّ أنّ الاحتیاط یقتضی الحکم بعدم الجواز، اقتصاراً فیما خالف الأصل والقاعدة، وهی ناقضیة البول والحدث للطهارة، لکلّ أحد علی موضع الیقین، وهو مورد النص، وحذراً عن مخالفة الفقهاء، لأنّه لم یشاهد من أحدٍ _ إلاّ الخوئی _ تجویز ذلک ، إلاّ فیما استثنی، وهو فیما إذا عرض له وجوب المسّ بأمرٍ خارجی، وذلک أیضاً علی اختلاف بینهم، فیه کما سنشیر إلیه إن شاء اللّه تعالی .

وأمّا من کانت له فترة، فلا إشکال فی جواز المسّ بعد الوضوء حال الفترة دون غیره . وأمّا حکم المسّ إذا صار واجباً؟

فهو أیضاً یتصوّر علی أنحاء: الأوّل: أنّه أوجب ذلک علی نفسه بالنذر والعهد، قبل عروض المرض، فقد حکموا فیه وصرّحوا بعدم الجواز، کما ذهب إلیه الگلپایگانی فی حاشیته علی «العروة»، بقوله : بغیر النذر وشبهه ، بل عن المحقّق الخوانساری الإشکال فی المنذور لعدم تمکّنه من الإتیان بالمنذور، لفقد شرطه وهو الطهارة .


1- وسائل الشیعة: أبواب نواقض الوضوء، الباب 19، الحدیث 2.

ص:244

ولکن یمکن أن یقال : إنّه لولا جعل البدل من ناحیة الشارع، ولو بفرد ناقص من الوضوء، فلا إشکال فیه، ولکن حیث ما عرفت أنّه صار معذوراً، وحکم له بالإتیان بالوضوء کذلک، فلابدّ من الإتیان بما هو واجب علیه .

نعم ، مقتضی ما ذکرنا یلزم أن لا نحکم بحرمة المسّ فی غیر حال الوجوب أیضاً، کما علیه الخوئی مطلقاً فی حال الصلاة وغیرها، سواء خرج بعد الوضوء حدث أم لا ، وما علیه الخمینی فی حال الصلاة وغیرها، إذا لم یخرج الحدث بعد الوضوء ، وإن قال بعد ذلک : لا یترک الاحتیاط . وحیث لم نقل بکونه معذوراً فی مثل هذه الطهارة فی حقّه، فی جمیع ما یشترط فیه الطهارة، ولو بالاحتیاط، فلا نحکم بوجوب المسّ هاهنا ، هذا، لو کان قد نذر ذلک قبل عروض هذا المرض .

الثانی : لو کان قد نذر بعد المرض؟

حکم من نذر أن یکون علی وضوء دائماً إذا صار مسلوساً

فصحّة نذره منوطة علی القول بجواز المسّ له وحالته کذلک، کما علیه الخوئی ، وإلاّ لا ینعقد نذره، لعدم وجود مصلحة فی المتعلّق المعتبر فی صحّته، لو لم نقل بوجود المفسدة علی فرض الحرمة ، ولعلّه هو الوجه لکلام الگلپایگانی من استثناء النذر وشبهه عنه .

وثالثةً: ما یصیر واجباً بواسطة أمر آخر، مثل وجوب تطهیر المصحف، إذا تنجّس، ولا یقدر علی تطهیره إلاّ بأن یمسّه؟

فهاهنا لابدّ من تقدیم ما هو الأهمّ لو احتمل ذلک فی البین وإلاّ یتخیّر ، ولا یبعد کون مثال المصحف من الأهمّ، لو لم یکن غیره یفعل ذلک ولا یقدر هو علی تطهیره إلاّ بالمباشرة ، واللّه العالم .

الفرع السابع : من نذر أن یکون علی الوضوء دائماً، إذا صار مسلوساً أو مبطوناً هل یجب علیه تکرار الوضوء بمقدار لا یستلزم الحرج أم لا؟

ذهب إلی الأوّل جماعة وإلی الثانی آخرون.

ص:245

قال السیّد فی «العروة» فی مسألة الحادیة عشرة: بأنّه الأحوط ، وإن قال بعده ؛ الأظهر القول بانحلال النذر، ووافقه فی ذلک الگلپایگانی والطباطبائی والشاهرودی والرفیعی .

وذهب جماعة إلی وجوب التکرار وعدم الانحلال ، غایة الأمر قد یقال بوجوب التکرار فی کلّ حدث أو التکرار فی الحدث المتعارف، کما علیه الخوئی والخمینی .

وفصّل بعضهم کالحکیم قدس سره فی «مستمسکه»(1) بین کون النذر موقّتاً بوقت خاصّ فینحلّ، لعدم قدرته علی تحصیل الطهارة التی هی شرط فی صحّة النذر ، وبین أن یکون دائماً ، کما قد فصّل بعض بین صورة وحدة المطلوب، حیث لا یجب الوفاء بعد رفع العذر لسقوطه حال العذر ، وبین أن یکون بصورة الانحلال والاستغراق، حیث یجب بعد رفعه.

هذا، وقد ذکر الآملی فی «مصباح الهدی»(2) تفصیلاً آخراً بین أن یکون المنذور هو الکون علی الطهارة دائماً فینحلّ، وبین أن یکون المنذور هو إیقاع الوضوء بعد کلّ حدث فلا .

والأقوی عندنا أن یقال بعدم صحّة الفرق بین الموقّت والدائم _ کما قاله الحکیم _ لأنّ بمعذوریته عن بقاء الطهارة إن کان یصدق علیه أنّه غیر قادر علی تحصیل الشرط، فلا یقدر الوفاء بنذره فینحلّ، بلا فرق بین الصورتین، وإلاّ فلا ینحلّ مطلقاً .

نعم ، یصحّ الفرق من حیث المتعلّق، بأن یکون بصورة الوحدة فی المطلوب،


1- المستمسک: 2 / 578.
2- مصباح الهدی: 1 / 29.

ص:246

بأن یجمع فی متعلّق نذره مجموع ما یخرج عنه الحدث فی جمیع عمره بالوحدة ویعقّبه الوضوء مثلاً، فلا إشکال فی أنّه إذا انقضت الوحدة والمجموع بالمرض، فلا یکون بعده وجوب أصلاً، ولو برء عن مرضه تماماً،ّ بخلاف ما لو جعله بصورة الاستغراق، أی جعله لکلّ حدث مستقلاًّ، فیجب تحصیله عند برئه، ولو لم نقل بوجوبه حال عذره قضاءاً لحال الاستقلال الموجب لتعلّق النذر به وصحّته ، هل یجب علی المسلوس و المبطون معالجة أنفسهما

هذا بالنسبة حال بُرئه وکیفیّة نذره .

وأمّا بالنسبة إلی حال بقاء العذر ، فالظاهر عدم الفرق فی الحکم بین أن یجعل متعلّق نذره الکون علی الطهارة أو إیقاع الوضوء بعد کلّ حدث، غیر ما ذکرنا، من حیث وحدة المتعلّق وتعدّده لأنّک قد عرفت الفرق بینهما، إلاّ أنّ الظاهر من الآملی قدس سره جعلهما مستقلاًّ عن وحدة المتعلّق وتعدّده، وکلامه غیر واضح .

والأقوی هو عدم الانحلال، ووجوب الوضوء فی کلّ حدث، لو لم یستلزم الحرج، وإلاّ ففی کلّ حدث متعارف لو کان غیره فی تحصیله حرجاً، لانحلّ سیما لو کان متعلّق نذره إیقاع الوضوء لکلّ حدث ، هذا حکم من کان حاله دائم الحدث .

وأمّا لو کانت له فترة، فلا إشکال فی الوجوب، إلاّ فی صورة الوحدة فی المتعلّق، وکون متصوّره هو الکون علی الطهارة، فیمکن القول بصدق الانحلال بعد عروض المرض، وفقد الطهارة فی مدّة، وإن کان الأحوط فیه أیضاً تحصیل الطهارة ، واللّه العالم .

الفرع الثامن : هل یجب علی المسلوس والمبطون معالجة أنفسهما فی الوقت وقبله تحصیلاً للطهارة التامّة، لو أمکن أم لا ؟

فیه خلاف وإشکال، فقد ذهب إلی عدم الوجوب واللزوم الخوئی والقمّی، وذهب آخرون کالآملی إلی الحکم بالوجوب وجعله هو الأظهر ، وبعض آخر بالإشکال فیه وجعل اللزوم هو الأحوط، الظاهر فی کونه وجوبیاً، وهو کما عن

ص:247

السیّد فی «العروة» فی المسألة الرابعة وأکثر أصحاب التعالیق کالحکیم والشاهرودی والگلپایگانی والبروجردی والشیرازی وغیرهم .

وجه الإشکال: هو أنّه قد یناقش فی أنّ الأدلّة الواردة فی بیان وظیفة المسلوس وغیره، هل کان وارداً لبیان حال العذر والاضطرار، بحیث کان الواجب علی المکلّف تحصیل الطهارة بحسب ما هو الشرط أوّلاً، فإذا عجز عنه عند ذاک ینتقل إلی الطهارة الناقصة ، فمع إمکان تحصیل الشرط بسهولة لا یکون معذوراً فی ترکه .

حکم المسلوس و المبطون فی طوافهما و غیره ممّا یشترط بالطهارة

أو کان من قبیل بیان التکلیف لمن انقلب حکمه إلی موضوع آخر، مثل حکم المسافر والحاضر، حیث یقال: «إن سافرت فقصّر، وإلاّ فتمّم»، حیث یکون کلّ حکم منوطاً بحصول موضوعه، وهکذا فی المقام، فإذا تمکّن من تحصیل الطهارة التامّة لصحّة مزاجه کان هو الواجب، وإلاّ یتبدّل حکمه إلی وظیفة اُخری. فإذا کان حینئذٍ بإمکان الرفع، فإنّ فیه وجهان: فبالنظر إلی ظاهر الأدلّة، خصوصاً مثل خبر منصور بن حازم، بقوله : «فاللّه أولی علیه بالعذر»(1) ، کما أنّ الاستظهار فی ذهن العرف أیضاً کذلک، فیؤیّد الأوّل فی لزوم المعالجة قبل الوقت، فضلاً عن قدرته علی ذلک دخول الوقت، وهذا هو منشأ الحکم الصادر من کثیر من أصحابنا.

ومن جهة استقرار السیرة علی عدم المبادرة فی العلاج، خصوصاً مع عدم الإشارة فی النصوص إلی لزوم ذلک هو الحکم بعدم وجوب المعالجة قبل الوقت.

مع إمکان أن یقال : إنّ العذر صادق مع تلبّسه بذلک، وإن کانت القدرة علی معالجته فی الجملة ، بل قد یؤیّد عدم الوجوب أنّه لو کان واجباً لوجب الحکم بالفوریة العرفیة، بحیث لا یجوز تأخیره بیوم أو نصف یوم، وأمثال ذلک ،


1- وسائل الشیعة: أبواب نواقض الوضوء، الباب 19، الحدیث 2.

ص:248

والالتزام بجمیع ذلک جزماً والافتاء به حتماً ، فی غایة الضعف ، فالأظهر عدم الوجوب، وإن کان الاحتیاط هنا لا ینبغی ترکه. هذا فی صورة العلم بالوظیفة .

وأمّا لو شکّ فیها، ولم یعلم بأیّ قسم کان، فیجب العلاج حینئذٍ، للشکّ فی کونه من الانقلاب فلابدّ من الحکم بوجوب الحکم الأوّلی إلی أن یعلم الخلاف، لأنّ الشغل الیقینی مستلزم للفراغ الیقینی .

الفرع التاسع : هل یجب القضاء علی المسلوس والمبطون بعد برئهما لما مضی عنهما من الصلوات أم لا ؟

الظاهر عدمه، کما علیه السیّد فی «العروة» المسألة العاشرة، ووافقه أصحاب التعالیق، لأنّ الدلیل الذی یمکن إقامته هنا:

تارةً: یکون بالنظر إلی الأدلّة الواردة، فی کون الامتثال بالأمر الاضطراری، موجباً للاجزاء _ کما قرّر تفصیله فی الاُصول _ أم لا؟

واُخری: إلی کون الاجزاء هو الظاهر من النصوص الواردة هنا بالخصوص ، بل یکون الحکم کذلک إذا کان البرء فی الوقت، وعمل بوظیفته فی أوّل الوقت، وإن کان الأحوط هنا الإعادة .

الفرع العاشر : فی أنّه هل یلحق بصلاة الفریضة فی المسلوس والمبطون جمیع ما یشترط فیه الطهارة، کالطواف فی الواجب والمندوب والصلوات المستحبّة من النوافل وغیرها، بل جمیع ما یشترط فیه الطهارة کمالاً وثواباً لا ذاتاً _ کالوضوء لدخول المساجد، والأماکن المتبرّکة، أو للنوم وللجنب، بل وغیره ممّا یقع رفعاً للکراهة _ أو لا یلحق مطلقاً .

أو یفصّل بین صلاة النافلة الیومیة بالإلحاق، وبین غیرها بعدم الإلحاق ؟ وجوهٌ: ففی الجواهر(1)، قال : لکن یمکن إلحاق الواجب المشروط بالطهارة بها


1- جواهر الکلام: 2 / 324.

ص:249

علی إشکال، إذ لم یعلم وجوبها فی حال تعذّر الشرط ولا إجماع، والتنقیح لا منقح له، ومنه یظهر الإشکال فی المستحبّات المشروطة بها، لکن قد یقال به بالنسبة للنوافل خاصّة، لإطلاق قوله : «یصلّی» ونحوه، فتأمّل فإنّ المسألة من المشکلات، ولم أعثر علی من حرّرها ، ولعلّ ذلک کلّه یرجّح قول الشیخ من عدم الالتفات إلی حکم هذا الحدیث . انتهی کلامه .

سنن الوضوء

بل قد أفتی بهذا الإطلاق فی الواجبات والمستحبّات، السیّد الخوئی فی المسألة الثانیة من تعلیقته علی «العروة»، بل السیّد الخمینی لم یستبعد الکفایة فی الصلوات إذا لم تقاطر فی فواصل الصلوات، وإن تقاطر فی أثنائها، وإن ذهب إلی تجدیده من باب الاحتیاط الاستحبابی.

نعم ألحق کثیراً من الأصحاب النوافل بالفرائض من لزوم الوضوء لکلّ صلاة .

ولکن الإنصاف عدم استبعاد الإلحاق فی الجمیع، بمقتضی أدلّة العذر الصادق علیه، فیشمله قوله علیه السلام : «ما غلب اللّه علی العباد فهو أولی بالعذر» .

فغایة ما یرفع الید عنه، هو الوجوب، أو شرطیة التجدید، فیما إذا أراد إتیان ما یشترط فیه الطهارة، ولو کان أمراً ندبیاً من الصلوات وغیرها .

فالقول بثبوت العبادات المشروطة بها وصحّة إتیانها کذلک، کان أولی من القول بسقوطها بواسطة تعذّر تحصیل شرطها، وإن کان الأحوط فیما یقبل النیابة کالطواف هو الجمع بین إتیان نفسه ونائبه مع الطهارة الکاملة .

ومن هنا ظهر حکم ما لو لم یکن فی قباله حکماً تکلیفیّاً تحریمیّاً من سائر الأحکام، من رفع الکراهة فی بعض الموارد _ کتحصیل الوضوء للنوم مع الجنابة، أو الأکل معها، أو ما یوجب الکمال فی الشیء وأمثال ذلک _ لمعمّمیة التعلیل بالعذر لجمیع تلک الموارد ، واللّه هو الهادی إلی سبیل الرشاد ومنه التوفیق والسّداد .

ص:250

وسنن الوضوء

وهی: وضع الإناء علی الیمین، والاغتراف بها (1).

(1) ویکفی فی إثبات استحبابه نسبته إلی الأصحاب، کما فی «المعتبر» المشعر بدعوی الإجماع، فغایته الشهرة، ولم یشاهد الخلاف إلاّ عن شاذٍ کصاحب «المدارک» أو «النهایة»، حیث حکما فی صورة عدم ضیق رأس الإناء حتّی یمکن الاغتراف منه ، وأمّا فیما ضیّق رأسه، فیجعل الإناء فی طرف الیسار فقط، قیل: لأنّه أمکن فی الاستعمال، فاعترض علیه بأنّه لا یکفی فی استحبابه .

ولکن الإنصاف أن یقال فی وجهه حینئذٍ: هو أن یجعل الماء فی الیمین بواسطة معاونة الیسار، لعدم إمکان الاغتراف حینئذٍ بالیمین، فلو أثبت کون الیمین أفضل فی مثله فلامحیص إلاّ بذلک .

وکیف کان، قد یمکن الاستدلال بما فی المتن ، مضافاً إلی الإجماع المنقول المدّعی، بما ورد عن الفریقین بنحو العموم، مثل ما رواه البخاری فی صحیحه عن النبی صلی الله علیه و آله «أنّه کان یحبّ التیامن فی طهوره وتنفّله وفی شأنه کلّه»(1).

هذا الخبر برغم أنّه خبرٌ عامّی لکن یمکن العمل به بواسطة الأدلّة الواردة فی التسامح فی الأدلّة السنن ، إن قلنا أنّه خبر واردٌ فی مقام بیان إثبات المستحبّ به، وإلاّ قد یورد علیه أنّه لیس إلاّ فی صدد بیان الثواب المعطی تفضّلاً لمن بلغه وعمل به التماساً بذلک ، وأمّا صیرورته مستحبّاً واقعاً فلا .

إلاّ أنّ الحدیث حیث کان مشتملاً علی کونه محبوباً عند اللّه ، فأدلّة التسامح تدلّ علی إثبات المحبوبیة بمناسبة المورد، فلیست المحبوبیة هاهنا إلاّ الاستحباب، وهذا له وجه وجیه نقول قد روی أصحابنا عن النبیّ صلی الله علیه و آله ، قوله: «إنّ


1- صحیح البخاری: باب التیمّن فی الوضوء والغسل من کتاب الوضوء.

ص:251

اللّه یحبّ التیامن فی کلّ شیء»(1)، فإنّ مناسبة الحکم والموضوع فی الوضوء الذی یعدّ عملاً عبادیاً یفید الاستحباب. وثبوت هذا لا ینافی عدم نصّ أحد علی استحباب التیامن فی غسل النجاسات ونحوها، لأنّ مناسبة الوضوء بذلک کان أشدّ کما لایخفی .

مضافاً إلی صدق الیسر والسهل علیه بطبیعة الحال فیساعد ما ورد فی بعض الأخبار علی ما قیل بأنّ اللّه یحبّ ما هو الأیسر والأسهل .

وأحسن ما یمکن الاستدلال به لإثبات استحباب الاغتراف بالیمین فضلاً عن وضعه فی ناحیة الیمین، ما رواه عمر ابن اُذینة فی الصحیح أو الحسن عن الصادق علیه السلام فی حدیثٍ: «فدنا رسول اللّه صلی الله علیه و آله من صاد وهو ماء یسیل من ساق العرش الأیمن، فتلقی رسول اللّه صلی الله علیه و آله الماء بیده الیمنی، فمن أجل ذلک صار الوضوء بالیمین»(2) .

بل یدلّ علیه خبر بکیر بن أعین، عن أبی جعفر علیه السلام ، قال : ألا أحکی لکم وضوء رسول اللّه صلی الله علیه و آله ؟

فأخذ بکفّه الیمنی کفّاً من ماء فغسل به وجهه، ثمّ أخذ بیده الیسری کفّاًفغسل به یدیه الیمنی، ثمّ أخذ بیده الیمنی کفّاً من ماء فغسل به یده الیسری)(3) ، الحدیث .

فحکم الاستحباب بالنسبة إلی غیر غسل یده الیمنی مسلّم ومقطوع، فلا ینافی مع هذه الأخبار ما کان من الأخبار المطلقة فی وضع الإناء بین یدیه والاغتراف منها، کما فی خبر زرارة(4)، مع أنّه أیضاً یستشعر منه ذلک، کما


1- مستدرک الوسائل: أبواب الوضوء، الباب 30 / ح3.
2- وسائل الشیعة: أبواب الوضوء، الباب 15، الحدیث 5.
3- وسائل الشیعة: أبواب الوضوء، الباب 15، الحدیث4.
4- وسائل الشیعة: أبواب الوضوء، الباب 15، الحدیث 2.

ص:252

والتسمیة والدعاء (1).

لا یخفی، لإمکان الجمع بینهما بکونه فی طرف الیمین بین یدیه .

وأمّا بالنسبة إلی غَسل الیمنی، فإنّه یمکن القول بالتخییر بکون الإغتراف بأحد منهما، لکنّه بعید، فلا یبعد القول ببقاء الاستحباب بالنسبة إلیه من حیث الاغتراف بها والصبّ علی الیسری، ثمّ یضع علی الیمنی، جمعاً بین الأخبار الواردة فی الموردین، خصوصاً مع ملاحظة خبر ابن اُذینة .

(1) وأمّا استحباب التسمیة إجماعی، کما عن «الجواهر»، بلا خلاف أجده، أو ادّعاء الإجماع کما عن «الغنیة» و«المعتبر» و«المنتهی» و«الذکری»: وهو الحجّة، مضافاً إلی ما یدلّ علیه من الأخبار الواردة فی باب 26 من أبواب الوضوء فی «وسائل الشیعة» بتعابیر مختلفة، بقوله علیه السلام فی خبر عیص، عن الصادق علیه السلام : «مَنْ ذکر اسم اللّه علی وضوئه فکأنّما اغتسل»(1) .

وفی خبر أبی بصیر، عنه علیه السلام : «من توضّأ فذکر اسم اللّه طهّر جمیع جسده، ومن لم یسمّ لم یطهر من جسده إلاّ ما أصابه الماء»(2) .

وغیرهما من الأخبار، بل قد یستفاد من بعضها الحکم بالإعادة فی ترکها، مثل مرسلة ابن أبی عمیر، عن الصادق علیه السلام : إنّ رجلاً توضّأ وصلّی؟

فقال له النبیّ صلی الله علیه و آله : أعد وضوئک وصلاتک، حتّی فعل ذلک ثلاث مرّات، فشکی ذلک إلی علیّ علیه السلام ، فقال له : هل سمّیت حین توضّأت ؟

فقال : لا ، قال : سمّ علی وضوئک، فسمّی وتوضّأ فلم یأمره بالإعادة)(3) ،


1- وسائل الشیعة: أبواب الوضوء، الباب 26، الحدیث 3 و4 و6.
2- وسائل الشیعة: أبواب الوضوء، الباب 26، الحدیث 3 و4 و6.
3- وسائل الشیعة: أبواب الوضوء، الباب 26، الحدیث 3 و4 و6.

ص:253

حیث یؤکّد الاستحباب، وإن حمله الشیخ الطوسی علی النیّة أی ترکها ، لکنّه بعید.

وغسل الیدین قبل إدخالهما الإناء، من حدث النوم، أو البول مرّة، ومن الغائط مرّتین (1).

ولکن الحکم بلزوم الإعادة لترک المستحبّ مشکل أیضاً، إلاّ أن یکون المورد فیما أراد صلی الله علیه و آله إفهام أهمّیة ذلک، لا أن یکون الحکم کذلک فی الواقع، فهو أولی من الحمل علی التقیة أو علی ترک النیة ، والظاهر کفایة التسمیة، ولو باسم اللّه تبارک وتعالی، ولا یلزم أن یکون بما هو المتعارف لما تری ، فما فی الأخبار الواردة فی الدعاء من ذکر اسم اللّه، هو القدر المتیقّن منها، وإن کان بتمامها أحسن وأولی.

وأمّا القول بأنّ علی المصلّی الإتیان بها فی الأثناء لو ترکها فی الابتداء، فإنّه لا دلیل علیه، إلاّ أن یکون المراد هو محبوبیتها المطلقة فلا بأس ، وأمّا استحباب الدعاء بالمأثور فإنّه یکفی للدلالة علی استحباب ما ورد فی أخبار کثیرة، خصوصاً مع ملاحظة حال الوضوء المنسوب إلی أمیر المؤمنین علیه السلام وترغیبه بالدعاء فیه، ثمّ إنّ استحباب التسمیة مختصٌّ بحال شروع الوضوء لا قبله، کما علیه صاحب «الحدائق»، فإن کان فهو مستحبّ آخر غیر مربوط بالوضوء، کما ورد فی الاستنجاء أیضاً استحبابها .

(1) والحکم بما فی المتن مشهورٌ، کاد أن یکون إجماعیاً، لا خلاف فیه إلاّ من الشهید فی «اللمعة» بمرّتین مطلقاً، وفی «النفلیة» بمرّة مطلقاً ، لکن مضافاً إلی مخالفة کلامه مع الإجماع المدّعی، فإنّ الأخبار صریحة علی خلافه، کما تری فی صحیح الحلبی قال : «سألته عن الوضوء کم یفرغ الرجل علی یده الیمنی قبل أن یدخلهما الإناء ؟ قال : واحدة من حدث البول، واثنتان من حدث الغائط، وثلاث من الجنابة»(1).


1- وسائل الشیعة: أبواب الوضوء، الباب 27، الحدیث 1 و2 و3.

ص:254

حیث وقع فیه التفصیل بین البول والغائط، فیخالف مع کلا قولیه .

وصحیح حمّاد عن حریز عن أبی جعفر علیه السلام ، قال : «یغسل الرجل یده من النوم مرّة، ومن الغائط والبول مرّتین، ومن الجنابة ثلاثاً»(1) وغیر ذلک .

بل وقد علّل الحکم فی خبر عبد الکریم بقوله : «سألت أبا عبداللّه علیه السلام عن الرجل یبول ولم یمسّ یده الیمنی شیء، أیدخلها فی وضوئه قبل أن یغسلها ؟ قال : لا ، حتّی یغسلها ، قلت : فإنّه استیقظ من نومه ولم یُبل، أیدخل یده فی وضوئه قبل أن یغسلها ؟ قال : لا ، لأنّه لا یدری حیث باتت یده فلیغسلها»(2) .

بأنّ الغسل ربما کان لتوهّم النجاسة فیزول بغسلها قبله ، وقد یتداخل، فیما إذا کان قد جمع بین البول والغائط، کما أنّ الغالب کذلک فی الغائط .

والظاهر عدم اختصاص حکم الغَسل لخصوص الإدخال فی الإناء، بل یستحبّ ذلک ولو کان بالصبّ، لإطلاق بعض الأخبار بقوله علیه السلام : «اغسل یدیک من البول مرّة، ومن الغائط مرّتین، ومن الجنابة ثلاثة».

ولا یوجب وجود القید فی بعض الأخبار تقیّد المطلقات، لاحتمال کون القید وارداً مورد الغالب، خصوصاً مع ملاحظة شبه التعلیل فی خبر عبد الکریم، من توهّم أنّ النجاسة توجب القول بحسن ذلک، حتّی فی الصبّ، بل فی ماء الکثیر، فضلاً عن القلیل، خلافاً لصاحب «الجواهر» فی الموردین، والشیخ الأعظم فی الأخیر . نعم، یمکن القول باستحبابه حتّی مع العلم بطهارة الید للإطلاقات، کما أنّها تقتضی عدم اعتبار النیّة فی ذلک، مع أنّ مقتضی الأصل عدم اعتبار النیة، کما لا یخفی . نعم، لا یستحبّ ذلک فی حدث الریح، بخلاف النوم، لفقدان الدلیل فی الأوّل، دون الثانی .


1- وسائل الشیعة: الباب 27، الحدیث 1 و2 و3.
2- وسائل الشیعة: أبواب الوضوء، الباب 27، الحدیث 3.

ص:255

والمضمضة، والإستنشاق، والدُّعاء عندهما، وعند غَسل الوجه والیدین، وعند مسح الرأس والرجلین (1).

(1) أمّا استحباب کلاهما فهو ثابتٌ بالإجماع بکلا قسمیه، فنفی استحبابهما ووجوبهما کما عن العمانی مدفوعٌ بالإجماع، وبما یدلّ علی الاستحباب من السنّة، مثل خبر ابن کثیر، الحاکی لوضوء أمیر المؤمنین(1) ، وخبر أبی بصیر، قال : سألت أبا عبداللّه علیه السلام عنهما، فقال : «هما من الوضوء، فإن مسحتهما فلا تعد»(2) .

إن کان المراد من مرجع الضمیر فی (هما) هو المضمضة والاستنشاق، کما هو الظاهر . نعم کانا مستحبّین بذاتهما حتّی یصیر من المستحبّ فی المستحبّ، لدلالة بعض الأخبار، مثل ما رواه سماعة، قال : «سألته عنهما، قال : هما من السنّة، فإن نسیتهما لم یکن علیک إعادة»(3) .

وخبر عبداللّه بن سنان، عن الصادق علیه السلام قال : «المضمضة والاستنشاق ممّا سنَّ رسول اللّه»(4) .

وما یشاهد فی الأخبار من نفی کونهما من الفریضة والسنّة مثل خبر زرارة عن أبی جعفر علیه السلام قال : «المضمضة والاستنشاق لیسا من الوضوء»(5).


1- وسائل الشیعة: أبواب الوضوء، الباب 16، الحدیث 2.
2- وسائل الشیعة: أبواب الوضوء، الباب 16، الحدیث 4.
3- وسائل الشیعة: أبواب الوضوء، الباب 16، الحدیث 3.
4- وسائل الشیعة: أبواب الوضوء، الباب 16، الحدیث 1.
5- وسائل الشیعة: أبواب الوضوء، الباب 29، الحدیث 5.

ص:256

وما فی روایة اُخری، عنه علیه السلام قال : «لیس المضمضة والاستنشاق فریضة، ولا سنّة إنّما علیک أن تغسل ما ظهر»(1) .

کان المقصود هو عدم کونهما من الأجزاء الواجبة فی الوضوء، کما یؤیّد ذلک قوله بعدم الإعادة فی صورة ترکهما نسیاناً.

کما یؤیّد عدم کونه من الواجبات التی أثبتتها السنّة فلا فریضة فی القرآن ولا فی السنّة، وبرغم ذلک لا ینافی کونهما مندوبة بذاتهما وفی الوضوء، والمراد من المضمضة هو تدویر الماء فی الفم، والاستنشاق هو سحب الماء إلی داخل الأنف، وهما أمران عرفیان لا حاجة فی معرفتهما إلی التعبّد واللغة، کما لا یحتاج إلی قصد القربة لفقد الدلیل علیه، مع جریان أصل البراءة عنه، کما یکفی فی تحقّقهما دخول الماء فی الفم من دون إدخال ، کما لا یعتبر الإخراج بل یکفی الخروج من عند نفسه عن الفم والخیشوم، کما یکفی فی تحقّق المستحبّ بتحقّق مرّة واحدة، إلاّ أنّه لا یبعد أن یستحبّ ثلاثاً لما وقع فی وضوء أمیر المؤمنین، فیعدّ مستحبّاً فی مستحبّ، بلا فرق فیه بین أن تقع الثلاث بثلاث أکف أو بماء کفّ واحدة ، ولا یبعد أن یکون المستحبّ هو تقدیم المضمضة علی الاستنشاق، کما وقع فی أکثر الروایات وکذلک فی وضوء علیّ علیه السلام .

نعم، لا یبعد أن یکون التقدیم لها علیه من باب المستحبّ فی مستحبّ، أی لو عکس فإنّ أصل الاستحباب یکون باقیاً وإن یعدّ تارکاً للمستحبّ فی المستحبّ کما علیه فتوی کثیر من الأصحاب ، وأمّا الفصل بین المضمضة والاستنشاق بأحدهما فی تکراره، ممّا لا دلیل علی استحبابه، کما لا یخفی .


1- وسائل الشیعة: أبواب الوضوء، الباب 29، الحدیث 6.

ص:257

وأن یبدأ الرجل بغَسل ظاهر ذراعیه، وفی الثانیة بباطنهما، والمرأة بالعکس (1).

وأمّا استحباب الدعاء فیهما، وفی غسل الوجه والیدین، ومسح الرأس والرجلین، فلمّا ورد فی خبر وضوء علی علیه السلام ، فهو أحسن خبر یدلّ علیه، وهو یکفی لإثبات الاستحباب فضلاً عن جود التسامح فی أدلّة السنن .

(1) والدلیل علی استحباب ذلک هو الإجماع المنقول عن «الغنیة» و«التذکرة»، ودلالة خبر محمّد بن إسماعیل بن بزیع عن أبی الحسن الرضا علیه السلام ، قال : «فرض اللّه علی النساء فی الوضوء للصلاة أن یبدئن بباطن أذرعهنّ، وفی الرجل بظاهر الذراع»(1) .

ومرسلة الصدوق، قال : قال الرضا علیه السلام : «فرض اللّه عزّوجلّ علی الناس فی الوضوء أن تبدأ المرأة بباطن ذراعیها، والرجل بظاهر الذراع»(2) .

والمراد من الفرض فیهما هو التقدیر والتشریع، کما لا یخفی ، کما أنّ ظهور (البدء) هو الغسلة الأولی . وأمّا فی الثانیة فلم یذکر فیهما شیء من هاتین الروایتین بأیّهما بدأ الرجل والمرأة فإنّه لا بأس به، وإن کان ما أفتی به من الأصحاب فی الحکم بالتفاوت فی الأولی والثانیة کان أولی، وفاقاً لهم فی ذلک، کما یکفی فی العمل بالاستحباب مجرّد تحقّق الشروع، لا غسل جمیع الظهر والبطن، لأنّه المستفاد من الأخبار.


1- وسائل الشیعة: أبواب الوضوء، الباب 40، الحدیث 1 و2.
2- وسائل الشیعة: أبواب الوضوء، الباب 40، الحدیث 1 و2.

ص:258

وأن یکون الوضوء بمُدٍّ (1).

(1) أمّا استحبابه بذلک، لما علیه دعوی الإجماع عن جماعة ، بل لا خلاف فیه کما عن «الجواهر» ، مضافاً إلی دلالة ما فی خبر زرارة، عن أبی جعفر علیه السلام قال : «کان رسول اللّه صلی الله علیه و آله یتوضّأ بمدٍّ ویغتسل بصاع، والمدّ رطلٌ ونصف، والصاع ستّة أرطال»(1) .

وخبر أبی بصیر ومحمّد بن مسلم، عنه علیه السلام إنّهما سمعاه یقول : «کان رسول اللّه صلی الله علیه و آله یغتسل بصاع من ماء، ویتوضّأ بمدّ من ماء»(2) .

وخبر المروزی، قال : قال أبو إسحاق موسی بن جعفر علیه السلام : «الغسل بصاع من ماء، والوضوء بمدٍّ من ماء»(3) ، الحدیث .

وخبر سماعة، قال : «سألته عن الذی یجزی من الماء للغسل ؟ فقال : اغتسل رسول اللّه صلی الله علیه و آله بصاع، وتوضّأ بمدٍّ»(4) ، الحدیث .

ومثله خبر أبی بصیر(5) .

ومرسلة الصدوق، قال : قال رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم : «الوضوء مدّ، والغُسل صاع، وسیأتی أقوامٌ بعدی یستقلّون ذلک، فأولئک علی خلاف شتّی، والثابت علی سنّتی معی فی حظیرة القدس»(6) ، فاستحبابه مسلّم وثابت ولا نقاش فیه .

وأمّا مقدار المدّ، فإنّ تفصیل الکلام فیه مذکور فی باب الزکاة ، وإجماله أنّه عبارة عن رطل ونصف بالمدنی، کما قاله الشیخ الطوسی، فیکون بالعراقی رطلان وربع، وهو مأتان واثنان وتسعون درهماً، فالمدّ من حیث المثقال یکون


1- وسائل الشیعة: أبواب الوضوء، الباب 50، الحدیث 1 و2 و3 و4 و5.
2- وسائل الشیعة: أبواب الوضوء، الباب 50، الحدیث 1 و2 و3 و4 و5.
3- وسائل الشیعة: أبواب الوضوء، الباب 50، الحدیث 1 و2 و3 و4 و5.
4- وسائل الشیعة: أبواب الوضوء، الباب 50، الحدیث 1 و2 و3 و4 و5.
5- وسائل الشیعة: أبواب الوضوء، الباب 50، الحدیث 1 و2 و3 و4 و5.
6- وسائل الشیعة: أبواب الوضوء، الباب 29، الحدیث 6.

ص:259

مائة وثلاثة وخمسون مثقالاً، ونصف مثقال وحمصة ونصف، ویکون أنقص من ربع المنّ التبریزی المعمول فی بلادنا فی هذه الأعصار بمقدار ستّة مثاقیل وإحدی وعشرة حمّصة ونصف.

فما ادّعاه شیخنا البهائی فی «حبل المتین» من کون المدّ مقدار ربع المنّ التبریزی قصد به المقدار التخمینی، لأنّه قال : لا یزید عن ربع المنّ، وهو صحیح.

وبقیّة البحث موکول إلی کتاب الزکاة .

وأمّا الإشکال بکونه زائداً عن مقدار ماء الوضوء، کما عن الشهید فی «الذکری» فإنّ الجواب عنه هو أنّ هذا المقدار یندرج معه ماء الاستنجاء، وبذلک یجاب أیضاً عن اعتراض العامّة بأنّ الوضوء عند الشیعة لیس فیه غَسل الرجلین، فکیف یکون له هذا المقدار الزائد من الماء؟ فإنّ الجواب عنهم هو أنّ هذا المقدار من الماء للاستنجاء والوضوء معاً لا مجرّد الوضوء.

واعترض بهذا علی الشهید رحمه الله الشهید شیخنا البهائی قدس سره فی حبل المتین بتفصیل .

وکیف کان تمسّک الشهید وصاحب «المدارک» له بخبری ابن کثیر عن أمیر المؤمنین، حیث قال : «أتوضّأ للصلاة ثمّ ذکر الاستنجاء»(1) .

وخبر الحذّاء: «أنّه وضّأت الباقر علیه السلام بجمع، فناولته ماءاً فاستنجی، ثمّ صببتُ علی یده فغسل وجهه»(2) .

لکن الاستدلال بهما مخدوش بعدم ذکر المدّ فیهما وعدم معلومیّة کون الاستنجاء داخلاً تحت اسم الوضوء ، مع أنّه لا یبعد أن یکون المقصود کفایته فی الکثرة، مع جمیع المستحبّات إلی ذلک المقدار، لو کان بالأقلّ أیضاً کافیاً،


1- وسائل الشیعة: أبواب الوضوء، الباب 15، الحدیث 1 و 8 .
2- وسائل الشیعة: أبواب الوضوء، الباب 15، الحدیث 1 و 8 .

ص:260

کأربعة/عشرة غرفة أو ثلاث عشرة أو اثنتا عشرة، من جهة کفایة غرفة واحدة لغسل الکفّین أو أزید منها إلی ثلاث .

بل قد یمکن استفادة الکراهة فی أکثر من المدّ، من مرسلة الصدوق من تعریض رسول اللّه صلی الله علیه و آله لمن یستثقل ذلک بعده .

ومضافاً إلی ما فی بعض الأخبار من احتساب الإسراف فی الوضوء وأنّه یکتب، کما فی خبر حریز، عن أبی عبداللّه علیه السلام ، قال : «إنّ للّه ملکاً یکتب سرف الوضوء کما یکتب عدوانه»(1) ، فکأنّه أراد بأنّ الوضوء دون المدّ، وإن کان زائداً عن الواجبات، بل حتّی عن المستحبّات وأنّ فی استعمال المدّ رخصة دون کراهة، ولکن الأکثر من ذلک فیه خصاصته، لیس ببعید .

واعلم أنّ المذکور من مستحبّات الوضوء هو أکثر ممّا ذکره المصنّف قدس سره ، فلا بأس بالإشارة إلیها ولو بالإجمال ، منها : السّواک قبل الوضوء فإنّه مستحبٌّ، مضافاً إلی استحباب أصله، واستحباب ذلک قبل الصلاة . وعلیه الإجماع، کما فی «طهارة» الشیخ، بل عن «الحدائق»: لا خلاف بین أصحابنا.

هذا فضلاً عن وجود أخبار مستفیضة فی باب السواک / الباب 3/ من «وسائل الشیعة»، مثل حدیث معاویة عن الصادق علیه السلام ، فی وصیة النبیّ صلی الله علیه و آله لعلیّ علیه السلام فی حدیث : «وعلیک بالسِّواک عند کلّ وضوء»(2) .

ومرسلة الصدوق : «یا علیّ علیک بالسواک عند وضوء کلّ صلاة»(3) .

وخبره الآخر : قال الصادق علیه السلام : «السواک شطر الوضوء»(4) .

وخبره الآخر عن النبیّ صلی الله علیه و آله : «لولا أن أشقّ علی اُمّتی لأمرتهم بالسواک عند


1- وسائل الشیعة: أبواب الوضوء، الباب 52، الحدیث 2.
2- وسائل الشیعة: أبواب السواک، الباب 3، الحدیث 1 و2 و3 و4.
3- وسائل الشیعة: أبواب السواک، الباب 3، الحدیث 1 و2 و3 و4.
4- وسائل الشیعة: أبواب السواک، الباب 3، الحدیث 1 و2 و3 و4.

ص:261

وضوء کلّ صلاة»(1) .

وغیرها من الأخبار الکثیرة التی تصل حدّ الاستفاضة.

کما یؤیّد ذلک ملاحظة الأخبار الموجودة فی ذلک الباب ، بل یحصل الاستحباب ولو بالدلک بالاصبع، کما یشیر إلیه خبر السکونی عن جعفر علیه السلام عن أبیه عن آبائه علیهم السلام : «أنّ رسول اللّه صلی الله علیه و آله قال : التسوّک بالإبهام والمسبحة عند الوضوء مسواک»(2) .

ومرسلة الکافی، عن علیّ علیه السلام ، قال : «أدنی السواک أن تدلکه بإصبعک»(3) ، ومحلّه قبل غسل الیدین، لما وقع فی خبر معلّی بن خنیس، قال : «سألت أبا عبداللّه علیه السلام عن السواک بعد الوضوء ؟ فقال : الاستیاک قبل أن یتوضّأ»(4) الحدیث ، مع أنّه یقتضی کونه مطهرة للفم، لکونه طریق القرآن والدعاء، حیث یستأنس ذلک من سبقه علی الوضوء .

ومنها : صفق الوجه بالماء، لما وقع فی حدیث الصدوق، والشیخ عن ابن المغیرة، عن رجلٍ عن الصادق علیه السلام ، قال : «إذا توضّأ الرجل فلیصفق وجهه بالماء فإنْ کان ناعساً فزع واستیقظ، وإن کان البرد فزع ولم یجد البرد»(5).

لکنّه معارض مع ما وقع فی حدیث السکونی عن جعفر علیه السلام ، قال : قال رسول اللّه صلی الله علیه و آله : «لا تضربوا وجوهکم بالماء إذا توضّأتم، ولکن شنّوا الماء شنّاً»(6) .

ومثله خبر أبی جریر الرقاشی عن الکاظم علیه السلام ، فی حدیثٍ : «ولا تلطم


1- وسائل الشیعة: أبواب السواک، الباب 9، الحدیث 3 و 4.
2- وسائل الشیعة: أبواب السواک، الباب 9، الحدیث 3 و 4.
3- وسائل الشیعة: أبواب السواک، الباب 4، الحدیث 1.
4- وسائل الشیعة: أبواب الوضوء، الباب 30، الحدیث 1.
5- وسائل الشیعة: أبواب الوضوء، الباب 30، الحدیث 2 و 3 و 4.
6- وسائل الشیعة: أبواب الوضوء، الباب 30، الحدیث 2 و 3 و 4.

ص:262

وجهک بالماء لطماً»(1) ، فیمکن الجمع فیهما باستحبابه للناعسین لا مطلقاً ، ولذلک لم یرد له ذکرٌ فی مستحبّات الوضوء عند المتأخّرین ، فإثبات استحبابه مطلقاً مشکلٌ جدّاً، إلاّ بنوع من التأویل، کما ارتکبه البعض .

ومنها : فتح العیون عند غسل الوجه.

وهو لما ورد فی حدیث الصدوق قال : «قال رسول اللّه صلی الله علیه و آله : افتحوا عیونکم عند الوضوء لعلّها لا تری نار جهنّم»(2) .

وخبر دعائم الإسلام، عن الرسول صلی الله علیه و آله إنّه قال : «اشربوا أعینکم الماء عند الوضوء لعلّها لا تری ناراً حامیة»(3) .

فإثبات الاستحباب بذلک غیر بعید، ولا یقصد بذلک استحباب إدخال الماء إلی داخل العینین، لأنّ الشیخ فی «المبسوط» قد ادّعی الإجماع علی عدم استحبابه، دون فتح العینین إذ لا ملازمة بینهما، کما لا یخفی .

وأمّا استحباب الجلوس إلی القبلة حین الوضوء، فقد قال الشهید فی «الذکری»: لم أقف علی نصّ الأصحاب ، نعم استحبابه بنفسه کان موجوداً فی بعض الأخبار بأنّ: خیر المجالس مجلس القبلة، کما لا یخفی .


1- مستدرک الوسائل: أبواب أحکام الوضوء، الباب 45 / ح1.
2- مستدرک الوسائل: أبواب أحکام الوضوء، الباب 45 / ح1.
3- مستدرک الوسائل: أبواب أحکام الوضوء، الباب 45 / ح1.

ص:263

البحث عن مکروهات الوضوء

قال قدس سره : ویُکْره أن یستعین فی طهارته (1).

(1) بعد أن فرغ المصنّف عن المستحبّات، شرع فی بیان المکروهات وهی:

منها: الاستعانة فی الوضوء بالغیر دون التولیة.

وهو حرام قطعاً، کما مرّ بحثه فی محلّه .

مکروهات الوضوء

وأمّا کراهة المعاونة فهی إجماعی، کما فی «الجواهر»، ولا خلاف إلاّ عن «المدارک» حیث اعتمد علی مبناه من ضعف الحدیث، وعدم انجباره بفتوی الأصحاب، وعدم حجّیة أدلّة التسامح فی أدلّة السنن.

مع أنّ الحقّ علی خلافه، حیث یدلّ علیه خبر الوشاء فی حدیثٍ عن الرضا علیه السلام : «فدنوت منه لأصبّ علیه فأبی ذلک ، فقال : مه یا حسن، فقلت : لِمَ تنهانی أتکره أن أوجر ؟ قال : تؤجر أنت واُؤز أنا . ثمّ استشهد علیه السلام بقوله تعالی: «وَلاَ یُشْرِکْ بِعِبَادَةِ» إلی أن قال : وها أنا ذا أتوضّأ للصلاة وهی العبادة، فأکره أن یشرکنی فیها أحد»(1) .

ومرسلة الفقیه: «کان أمیر المؤمنین علیه السلام إذا توضّأ، لم یدع أحداً یصبّ علیه ، فقیل : یا أمیر المؤمنین لِمَ لم تدعهم یصبّون علیک الماء ؟ فقال : لا أحبّ أن أشرک فی صلاتی أحداً وقرأ الآیة»(2) . ومثلهما خبر «الإرشاد» والسکونی(3).

فإنّ ظهور کلمة (الکراهة) و(لا أصبّ)، بل ما وقع فی خبر الوشاء: «تؤجر


1- وسائل الشیعة: أبواب الوضوء، الباب 47، الحدیث 1 و2 و3.
2- وسائل الشیعة: أبواب الوضوء، الباب 47، الحدیث 1 و2 و3.
3- وسائل الشیعة: أبواب الوضوء، الباب 47، الحدیث 1 و2 و3.

ص:264

أنت وأوزر أنا»، کلّها ظاهر فی الکراهة لا الحرمة، کما توهّمه صاحب «الحدائق» ، فلا فرق بین أن یطالبه ذلک أم لا ، لأنّ المراد من الاستعانة هو مطلق المعاونة لا کونها بعد المطالبة .

وقد یمکن الجمع بین هذه الأخبار مع خبر الحذاء، حیث قال فیه : «وضّأت أبا جعفر علیه السلام فی جمع، وقد بال وناولته ماءً»(1) ، الحدیث.

بحمله علی حال الضرورة، أو علی بیان الجواز فی المقدّمات البعیدة ، فالجمع بینهما بحمل الأخبار الناهیة لصورة المطالبة والجواز بدونها لیس علی ما ینبغی، لعدم مساعدة بعض الأخبار بالمطالبة، کما لا یخفی .

ثمّ أنّ الملاک هو صدق المعاونة فی تحقّق الکراهة، وإن کانت هی أعمّ من الشرکة المحرّمة الواقعة فی الأخبار .

نعم، صدق الشرکة فی المقدّمات البعیدة بعید، وهکذا المعاونة، إلاّ أن تکون قربیة فلا کراهة فی المعدّات، مثل الدلالة وتخلیة الماء فی الإناء وغیره .

نعم دفع الاکمام إلی الوراء أو رفعها مقدمة لصبّ الماء علی الید ونظائرهما یعدّ من المعاونة المکروهة ، وأمّا استدعاء الماء وتسخینه للوضوء فإنّ فی صدق المعاونة علیهما محلّ تأمّل .

وکیف کان، تکون الکراهة ثابتة للمعان فقط لا المعین، کما یشیر إلیه فی خبر الوشاء، بقوله : «تؤجر أنت وأوزر أنا» ، کما أنّ استفادة حرمة المعاونة _ کما قاله صاحب «الحدائق» _ لا یساعد مع قوله: «تؤجر أنت»، لأنّ المعاونة علی الحرام لا أجر فیها قطعاً .


1- وسائل الشیعة: أبواب الوضوء، الباب 15، الحدیث 8 .

ص:265

وأن یمسح بلل الوضوء عن أعضائه (1).

(1) إطلاقه یقتضی الکراهة، سواء کان المسح بالمندیل أو غیره، مع أنّ المستفاد من الأخبار هو الأوّل ، ثمّ الکراهة أمرٌ مشهور، بل عن الشیخ دعوی الإجماع علی ترک الأفضلیة، ولا خلاف فی الکراهة، إلاّ عن السیّد المرتضی ، وما استدلّ به هو خبر «الکافی» و«الفقیه» عن إبراهیم محمد الثقفی، عن الصادق علیه السلام : «من توضّأ عندک کتبت له حسنة، ومن توضّأ ولم یتمندل حتی یجفّ وضوئه کتب له ثلاثون حسنة»(1) .

فیحتمل أن تکون ثلاثون لأصل الوضوء، فتمندله موجبٌ لنقضه فیکون مکروهاً. أو لعلّه کان أصل الوضوء له حسنة واحدة، وإبقائه إلی أن یجفّ له ثلاثون، کما یستفاد من بعض الأخبار، کما عن «الجواهر»: بأنّه یکتب للمتوضّی ثواباً ما دام الوضوء باقیاً من جهة استحباب عدم إزالة آثار الوضوء .

لکنّه مخدوشٌ، بأنّ مقصوده من بعض الأخبار هو الوارد فی باب 17 من أبواب تعقیب الصلاة فی «وسائل الشیعة»، مع أنّه لم یتحدّث إلاّ بالنسبة إلی أصل الوضوء، فلا یفهم منه استحباب بقاء مائه .

وفی قباله عدّة أخبار ، مثل ما رواه محمّد بن مسلم، عن الصادق علیه السلام ، قال : «سألته عن التمسّح بالندیل قبل أن یجفّ ؟ قال : لا بأس به»(2) .

وخبر الحضرمی، عن الصادق علیه السلام ، قال : «لا بأس بمسح الرجل وجهه بالثوب إذا توضّأ، إذا کان الثوب نظیفاً»(3) .


1- وسائل الشیعة: أبواب الوضوء، الباب 45، الحدیث 5.
2- وسائل الشیعة: أبواب الوضوء، الباب 45، الحدیث 1.
3- وسائل الشیعة: أبواب الوضوء، الباب 45، الحدیث 2.

ص:266

وخبر إسماعیل، قال : «رأیت أبا عبداللّه علیه السلام توضّأ للصلاة، ثمّ مسح وجهه بأسفل قمیصه، ثمّ قال : یا إسماعیل افعل هکذا فإنّی هکذا أفعل»(1) .

وخبر منصور، قال : «رأیت أبا عبداللّه علیه السلام وقد توضّأ وهو محرم، ثمّ أخذ مندیلاً فمسح به وجهه»(2) .

وخبره الآخر عنه علیه السلام : «عن الرجل یمسح وجهه بالمندیل؟ قال : لا بأس به»(3) .

وخبر عبداللّه بن سنان، قال : «سألت أبا عبداللّه علیه السلام عن التمندل بعد الوضوء ؟ فقال : کان لعلیٍّ خرقة فی المسجد لیس إلاّ للوجه یتمندل بها»(4) .

ومثله من حیث المضمون خبری ابن سنان(5) .

فکیف یمکن الجمع بین هذه الطائفة من الأخبار والسابقة علیها؟

قیل: یحمل هذه علی التقیة، وهی بعیدةٌ فی بعضها جدّاً، وإن کان فی بعضها قریب، مثل: (مَسَح وجهه بقمیصه).

وقیل: بحملها علی نفی الحرمة، فهو أیضاً بعید عن استمرار فعل الإمام للمکروه ، فالأولی أن یقال بالجواز، لکلا تقدیریه، إلاّ أنّ التمندل یستلزم أقلّ ثواباً لا الکراهة الاصطلاحیة، إلاّ أنّ الأئمّة علیهم السلام کانوا یؤکّدون علی ذلک ردّاً علی مثل أبی حنیفة، الذی کان یعتقد نجاسة غسالة الوضوء وأراد الإمام علیه السلام بیان أنّها لا تکون نجسةً .


1- وسائل الشیعة: أبواب الوضوء، الباب 45، الحدیث 3 و 4 و 5 و 6 و 7 .
2- وسائل الشیعة: أبواب الوضوء، الباب 45، الحدیث 3 و 4 و 5 و 6 و 7 .
3- وسائل الشیعة: أبواب الوضوء، الباب 45، الحدیث 3 و 4 و 5 و 6 و 7 .
4- وسائل الشیعة: أبواب الوضوء، الباب 45، الحدیث 3 و 4 و 5 و 6 و 7 .
5- وسائل الشیعة: أبواب الوضوء، الباب 45، الحدیث 3 و 4 و 5 و 6 و 7 .

ص:267

وکیف کان، فإثبات الکراهة مشکلٌ ، إلاّ أن یقال بها بواسطة ذهاب المشهور إلیها . والظاهر أنّ الکراهة لو سلّمناها کانت فی خصوص التمندل، لا مطلق المسح والتجفیف ولو بالشمس والنار.

إلاّ أن یستفاد ذلک من حکمهم بلزوم إبقاء الماء حتّی أن یجفّ، إذ لا خصوصیة فی المندیل، وهو غیر بعید ، واللّه العالم بحقائق الاُمور .

ولا یخفی علیک أنّ مکروهات الوضوء أزید ممّا ذکره المصنّف، فقد ذکر منها: لطم الماء علی الوجه لوقوع النهی عن ذلک فی خبر الرقاشی(1) والسکونی(2).

ومنها: إیقاع الوضوء فی المسجد، إذا کان الحدث من البول والغائط، للنهی الواقع عنه فی خبر رفاعة المستفاد من لفظ (الکراهة)، بقوله : «سألت أبا عبداللّه علیه السلام عن الوضوء فی المسجد، فکرهه من البول والغائط».

وإن کان قد أجاز ذلک فی حدیث بکیر عن أحدهما بقوله : «قال: إذا کان الحدث فی المسجد فلا بأس بالوضوء فی المسجد» .

حیث قد حمله الشیخ الأنصاری علی حدث غیر البول والغائط.

وغیرهما من المکروهات المذکورة فی الکتب المفصّلة ، ولکن المصنّف رحمه الله ، قد أعرض عن ذکرها، ونحن أیضاً نتابعه علی ذلک اجتناباً عن التطویل.


1- وسائل الشیعة: أبواب الوضوء، الباب 30، الحدیث 3.
2- وسائل الشیعة: أبواب الوضوء، الباب30، الحدیث 2.

ص:268

فی أحکام الوضوء

قال المحقّق قدس سره فی «الشرائع» : الرابع: فی أحکام الوضوء :

مَن تیقّن الحدث و شکّ فی الطهارة ، أو تیقّنها وشکّ فی المتأخّر تطهّر (1).

(1) اعلم أنّ الشکّ فی الطهارة یتصوّر علی أقسام عدیدة، کما أنّ أحکامها أیضاً مختلفة ، والأقسام هی:

القسم الأوّل: ما إذا تیقّن المکلّف الحدث بسببٍ من أسبابه من الأحداث، سواء کان بخروج أحدها فی حال البلوغ، أو کانت له حالة سابقة مُحدَثة قبل البلوغ ومن ثمَّ بَلَغ ، وشکّ فی أنّه هل تطهّر من الوضوء، أو ما یکفی عنه من الغسل أو التیمّم ، أم لا؟

أحکام الوضوء / لو تیقّن الحدث و شک فی الطهارة

فی هذا القسم من المسألة، لابدّ من تحصیل الطهارة بلا خلافٍ فیه ، بل الإجماع علیه بکلا قسمیه من المحصّل والمنقول ، وهو من أحد الأدلّة ، ویعدّ حجّةً . مضافاً إلی إمکان الاستظهار عمّا رواه الشیخ بسنده الصحیح عن زرارة، عن أبی جعفر علیه السلام ، قال : «لا صلاة إلاّ بطهور»(1) ، أی لابدّ قبل الدخول فیها من إحراز الطهارة . فمع الشکّ فیها لا یکون داخلاً تحت الحدیث .

هذا فضلاً عن أنّ قاعدة الاشتغال تقضیه؛ لأنّ العلم بشرطیة الطهارة، موجب للعلم بوجوب تحصیلها ، فإذا شکّ فیه شکّ فی حصول المشروط .

بل قد یمکن استفادة ذلک من حدیث عبداللّه بن بُکیر ، عن أبیه، قال : «قال لی أبو عبداللّه علیه السلام : إذا استیقنت أنّک قد أحدثت فتوضّأ ، وإیّاک أن تُحدث وضوءاً


1- وسائل الشیعة، من أبواب الوضوء، الباب 1، الحدیث 1.

ص:269

أبداً، حتّی تستیقن أنّک قد أحدثت» (1). وفی «الجواهر»(2) نقله هکذا : «إذا استیقنت أنّک توضّأت فإیّاک أن تُحْدِث . . .» .

وهو علی ما نقله العلاّمة البروجردی قدس سره (3) عن «التهذیب»، فإنّ ضبطه یتفاوت عمّا هو منقول فی «الکافی» وبناءً علی النقل الأوّل یکون معنی الحدیث، بملاحظة ما ورد فی ذیله، التحذیر من أحداث الوضوء فی صورة عدم التیقّن بالحدث من الشکّ والظنّ والوهم .

وأمّا إذا تیقّن الحدث فإنّه لابدّ من تجدید الوضوء ، کما فیما نحن فیه .

ولکن یمکن الإشکال فیه: بأنه فی هذه الصورة، لا مانع من إعادته وإتیانه ، لا أن یفید أمراً بوجوب الإحداث؛ لأنّ المفهوم دالٌّ علی دفع التحذیر لا وجوب الإتیان، کما لا یخفی .

إلاّ أنّه یستفاد لزوم احداث الوضوء من منطوق صدر الحدیث، لا من دلالة ذیله، الآمر بوجوب احداث الوضوء عند الیقین بالحدث. وبناءً علی النسخة الثانیة یکون المستفاد للمقام بالمفهوم ممّا ورد فی صدر الحدیث، بتقریب أنّه قال : إنّ الوضوء لابدّ فیه من حیث الشرطیة الیقین بوجوده ، لأنّه علیه السلام قال : «إذا استیقنت أنّک توضّأت فإیّاک...»، فمفهومه أنّه مع عدم التیقّن ، لابدّ من الوضوء لأنّه قد علّق بمفهومه وجوب الوضوء بصورة عدم الیقین بوجوده.

لکن یرد علیه أوّلاً : بأنّ الظاهر منه کون المراد، أنّ الوضوء لابدّ فیه حال إحداثه کونه متیقّن الحدث ، لا أن یکون فی زمان حاله کذلک ، وإن کان فی حال إحداثه شاکّاً کما فی المقام .


1- جامع أحادیث الشیعة : ج1 ، الباب 12 من أبواب الوضوء ، الحدیث 1 ، ص140 .
2- جواهر الکلام: ج2 / ص347 .
3- جامع أحادیث الشیعة : ج1 ، الباب 12 من أبواب الوضوء، الحدیث 1 .

ص:270

وثانیاً : بأنّه قد علّق أصل تجدید الوضوء، علی صورة عدم الیقین بوجوب الوضوء ، لا بوجوبه کما قیل .

لکنّه غیر وجیهٍ لوضوح أنّ تجدید الوضوء لغیر نیّة الوجوب لا یکون ممنوعاً ، بل یعدّ أفضل وذلک لدلالة مفاد الأخبار الواردة من أنّ الوضوء علی الوضوء نورٌ علی نور(1) ، فکیف یمکن أن یکون التحذیر بلحاظه ، فلابدّ أن یکون الوارد التحذیر فی الخبر بالنظر إلی الوضوء حال وجوبه وشرطیته .

وکیفما کان، فإنّ ما یُستفاد منه لزوم الوضوء هو دلالة عموم الآیة(2) فی قوله تعالی : «إِذَا قُمْتُمْ إِلَی الصَّلاَةِ فَاغْسِلُوا...» أی إذا أردتم القیام إلیها ، حیث تفید الوجوب لکلّ قیام، خرج ما کان علی طهر سابق مقطوع به ، فیبقی الباقی تحته ، ومنه المقام(3) .

مضافاً إلی وجود الاستصحاب المستفاد من قوله: «لا یُنتقضُ الیقین إلاّ بالیقین» ، لا ما یشکّ ، حیث یستفاد منه أنّ الیقین بالحدث لا ینقض إلاّ بالیقین بالوضوء لا ما یشکّ فیه .

کما أنّ قاعدة الاشتغال بوجوب تحصیل الوضوء جاریة فی المقام، سواء قلنا بشرطیة الطهارة للصلاة ، حتّی یکون الشکّ شکّاً فی الشرط ، فلابدّ من الإحراز فیه . أو قلنا بأنّ الحدث مانعٌ حتّی یکون الشکّ شکّاً فی حدوث المانع .

وکیف کان، ففی المقام لا إشکال فی أنّه کان متیقّناً من فقدان الشرط، أو وجود المانع ، فلابدّ من إحراز وجوده وعدمه ، وهو لا یکون إلاّ بتحصیل الطهارة .

هذا کلّه فی حال الشکّ فی الطهارة .


1- وسائل الشیعة ، من أبواب الوضوء، الباب 8 ،الحدیث 8 .
2- سورة المائدة : آیة 8 .
3- جامع أحادیث الشیعة : ج1 ، باب الطهارة ، الحدیث 33 ، ص140 .

ص:271

فیلحق به الوهم والظنّ الذی لم یقم علی اعتبارهما دلیلٌ شرعی من البیّنة أو الشاهد الواحد بدلاً عنهما إن اعتبرناه، لإطلاق الشکّ کثیراً فی قبال عدم الیقین ، فیشمل مثل الظنّ والوهم ، غایة الأمر خرج المعتبر منه شرطاً کمورد قیام البیّنة فیبقی الباقی تحته .

مضافاً إلی دلالة ما یستفاد من الخبر الوارد فی الاستصحاب من قوله: «بل انقضه بیقین آخر مثله» وهو صریح بلزوم تحصیل الیقین .

فبذلک یظهر فساد ما فی «شرح الدروس» من جواز نقضه بغیر الشکّ، لأنّه ممنوع منه .

لا یتوهّم إمکان عدم حجّیة الاستصحاب أو فیما إذا لم یحصل الظنّ بالمستصحب . لأنّه إن حصل الظنّ ببقاء المستصحب کان حجّة .

فما عن البهائی قدس سره من جعل المتیقن فی صورة عکس المسألة، أی ما کان تیقّن الوضوء وشکّ فی الحدث ، مندفع، بأنّ الاستصحاب حجّة، سواء قلنا بحجّیته من باب الإخبار _ کما هو الحقّ _ أو من باب الظنّ، لأنّه لیس المراد منه إلاّ إفادته الظنّ من حیث هو هو لو خلّی وطبعه ، لا باعتبار الأشخاص من حیث حدوث الظنّ لهم.

فما ذکره البهائی غیر تامّ، خاصّة وأنّ حجّیة الاستصحاب یعدّ من ضروریات الإسلام، حتّی عند مَن أنکر حجّیته من باب الظنّ ، مثل المحدّث الأمین الاسترابادی، لاتّفاق علماء الأعلام علیه من جهة استفاضة أخبار الحجج علیهم السلام علیه، فالمسألة فی هذه الصورة واضحة بحمد اللّه .

هذا، فضلاً عمّا قد عرفت من عدم اختصاص الدلیل بالاستصحاب فقط، بل هناک أدلّة اُخری مثل قاعدة الاشتغال ، والآیة والروایة والإجماع، وفیها غنی وکفایة . فما توهّمه شارح «الدروس» من أنّ الأصل براءة الذمّة عن الشغل

ص:272

الیقینی بالنسبة إلی الوضوء .

غیر سدیدٍ، لما عد عرفت کون المقام مورد الشغل الیقینی بتحصیل الشرط ، فلابدّ الفراغ منه یقیناً .

بل قد یمکن استفادة وجوب الوضوء من الخبر الذی رواه علیّ بن جعفر علیه السلام (1) بالأولویة کما سیأتی .

بقی هنا أمران :

الأمر الأوّل : فی مفاد أنّ هذه الأدلّة من الأصل والقاعدة والروایات والآیة فی وجوب تحصیل الطهارة والوضوء فیمن تیقّن الحدث وشکّ فی الطهارة ، هل یجری حتّی فیما بعد الفراغ عن الصلاة لو شکّ کذلک بالنسبة إلیها ، أم لا یجب تحصیلها حین ذاک مطلقاً ، أم لابدّ من التفصیل بالنسبة إلی الصلاة التی فرغ من أداءها، فإنّه لا یجب إعادة الوضوء ولا إعادة الصلاة ، بخلاف سائر الواجبات والمستحبّات المشروطة به، حیث یجب تحصیل الطهارة لها؟

نسب صاحب «الجواهر»(2) قدس سره القول بعدم لزوم الإعادة مطلقاً _ أی حتّی بالنسبة إلی ما یشترط فیه الطهارة ولم یأتِ به ، کالصلوات القادمة _ إلی بعض مشایخه . ولعلّ مراده هو کاشف الغطاء قدس سره ، ولعلّ وجه کلامه هو أنّ قاعدة الفراغ _ کما سنشیر إلیها _ ، تثبت صحّة ما أتی به من الأعمال المشروطة بالطهارة کالصلاة، هکذا یحکم بالإتیان بالمشکوک ووقوعه تعبّداً ، کما یُشعر به قوله علیه السلام : «أنت حین العمل أذکر» أی یحکم بأنّک طاهر ، خلافاً لآخرین القائلین بوجوب تحصیل الطهارة لما یستقبله من الأعمال ، بل دلَّ الإجماع المحصّل علیه؛ لعدم


1- وسائل الشیعة، أبواب الوضوء، الباب 44 ، الحدیث 4 .
2- جواهر الکلام ج2، ص349.

ص:273

وجود مَن یخالفه من الفقهاء ، ولم یُنقل عن أحد الفتوی بذلک _ أی بعدم تحصیل الطهارة لما یأتی _ صریحاً، إلاّ من کاشف الغطاء ، وهو القول بالتفصیل ، أی بأن تکون صلاته المأتی بها صحیحة، ولا إعادة للوضوء والصلاة . بخلاف ما یشترط به من الواجبات والمستحبات بواسطة وجوب قاعدة الفراغ، المستفاد من صحیح محمّد بن مسلم علی ما رواه الشیخ عنه ، عن محمّد بن مسلم، قال : «قلت لأبی عبداللّه علیه السلام : رجلٌ شکّ فی الوضوء بعدما فرغ من الصلاة؟ قال : یمضی علی صلاته ولا یعید» (1).

أحکام الوضوء / لو شک فی الطهارة فی أثناء الصلاة

حیث أنّه صریح فی فراغ ذمّته بعد الحکم بصحّة العمل المأتی به.

ولا یتوهّم أنّ قوله : «یمضی علی صلاته» یفید کونه فی الأثناء؛

لأنّه مندفع بصراحة صدوره فی الفراغ عن تمام العمل ، فیکون المراد من «المضیّ» هو النفوذ العرفی ، أی فانصرف فإنّ صلاتک مقبولة . کما لا یخفی .

ثمّ أنّ الظاهر منه، کون حدوث الشکّ قد حدث بعدما فرغ منها، فلا یشمل ما لو علم کون شکّه قبل الفراغ، ثمّ نسی إلی أن فرغ .

کما لا یشمل ما لو شکّ الآن فی حاله قبل الصلاة، من کونه شاکّاً فی وضوئه، أو عالِماً به، أو ظانّاً، فیکون مضمونه مشابهاً لما فی خبر عبداللّه بن جعفر المروی فی «قُرب الإسناد»، عن جدّه علیّ بن جعفر ، عن أخیه موسی بن جعفر علیهماالسلام ، قال : «سألته عن رجلٍ یکون علی وضوء، ویشکّ علی وضوء هو تامّ أم لا؟ قال : إذا ذکر وهو فی صلاته انصرف فتوضّأ وأعادها ، وإن ذکر وقد فرغ من صلاته أجزأه ذلک» (2).


1- وسائل الشیعة: من أبواب الوضوء، الباب 42، الحدیث 5، والباب 44 الحدیث 2.
2- نفس المصدر.

ص:274

حیث أنّ الظاهر من قوله : «یکون علی وضوء»، أی یعتقد ذلک قبله ، وبما أنّ عروض الشکّ کان فی الأثناء حکم بالإعادة ، وإن کان عروضه بعد الفراغ فلم یحکم بذلک ، بل قد یمکن استفادة وجوب الإعادة للوضوء لو کان عروض الشکّ قبل الدخول فی الصلاة منه بطریق الأولویة ، کحکمه بالإعادة حال عروض الشکّ فی الأثناء ، فقبله یکون بالأولویة، فیصیر هذا إحدی الأدلّة علی الأمر المذکور سابقاً.

فالمسألة فی هذا القسم واضحة ولا خلاف فیها .

بل قد یمکن أن یقال بأولویة فی الأولویة : أحدهما : ما قد عرفت .

ثانیهما : أنّه حکم بالإعادة فی مثل معتقد الوضوء قبل صلاته، لکنّه شکّ فی بقائه ، ففی الشکّ فی بقاء الحدث یکون ثبوت الحکم بالأولویة .

الأمر الثانی : هو ما لو کان عروض الشکّ فی الأثناء ، فهی تجری فیه قاعدة التجاوز، والحکم بوجوب إتمام الصلاة، وعدم وجوب استئنافها أم لا؟ بل قد یقال بأنّه لا یجب إعادة الوضوء، للإتیان بما یشترط فیه الطهارة من الأعمال ، کما نسب ذلک إلی کاشف الغطاء، مستدلاًّ علیه بأنّ قاعدة التجاوز تندرج فی الأصول المحرزة کالاستصحاب ، ومفادها إحراز وجود المشکوک وهو الوضوء . فبعد إحراز وجوده یحکم ویترتّب علیه حکماً من الآثار ، فیکون کمَن صلّی مع استصحاب الطهارة . فکما أنّه یترتّب علیه جمیع ما یشترط فیه من الطهارة؛ لأنّه عُدّ طاهراً وتوضّأ تنزیلاً کالمتوضّئ الحقیقی ، فکذلک تکون القاعدة .

ولکنّه مخدوش ، أوّلاً : بأنّ فی وحدة قاعدة التجاوز مع قاعدة الفراغ بحثٌ وکلام.

ثمّ بعد قبول کونها قاعدة مستقلّة ، فإنّ فی إدراجها فی الأمارات أو الأصول المحرزة _ إذ قیل إنّها من الأمارات لا الأصول المحرزة _ کلامٌ وبحث.

ص:275

وثانیاً : علی کلّ حال، لابدّ من العلم بأنّ للوضوء حیثیتان: حیثیّة کونه وضوءاً فی نفسه ، وحیثیة کونه شرطاً للصلاة ، فما یثبت بالقاعدة یکون من الثانیة لا الاُولی، بالنسبة إلی ما یصدق علیه التجاوز دون غیره . فلا تحکم القاعدة بإتیان المشکوک ووقوعه، حتّی لا یستلزم تحصیل الوضوء لما یستقبله من الأعمال المشروطة بالطهارة . فلابدّ لإتیان ما یشترط فیه الطهارة _ من الصلوات، والأعمال کمسّ کتابة القرآن _ ولم یتجاوز محلّ الوضوء بالنسبة إلیها من تحصیل الطهارة، لأنّه شاکّ فیها ، فمقتضی الاستصحاب وقاعدة الاشتغال هو وجوب إتیان الوضوء، ولیس ما یمنع عنده إلاّ قاعدة التجاوز المفروض عدم جریانها هنا؛ لأنّ انتفاء صدق التجاوز بالنسبة إلیها یعدّ مثبتاً.

فما ذکرنا من أنّه حتّی لو سلّمنا کون قاعدة التجاوز مندرجة فی الأصول المحرزة، لکنّها تفید أنّ الأعمال الماضیّة قد وقعت متضمّنة لشروطها، ولکنّها لایفید أنّ الوضوء بنفسه موجود خارجاً حتّی یحکم بصحّة إتیان کلّ عمل فی المستقبل من دون تحصیل الوضوء .

مع أنّه یمکن التشکیک فی کونها من الأصول المحرزة ، بل أنّها معدودة من الأمارات، فلا یشمل إلاّ مورده ، وهو خصوص الحکم بالصحّة علی ما مضی من الأفعال دون ما یأتی بعد ذلک، فیرجع فیه إلی مقتضی قاعدة الاشتغال .

أو یقال بوجوب إتمام الصلاة التی شکّ فی الحدث بقاءً، وعدم وجوب إتیانها بعد إتمامها بوضوء مستأنف، لکن لا یصحّ الإتیان بعدها بما یشترط فیه الوضوء إلاّ بعد استئنافه .

وأمّا وجه وجوب الاستئناف للأعمال المستقبلة اللاحقة، هو ما قد عرفت فی ردّنا علی القول الأوّل .

وأمّا وجه وجوب الإتمام وحرمة الإبطال، هو أن صدق التجاوز بالنسبة إلی

ص:276

الصلاة بتمامها، یکون من جهة معنی المحلّ الشرعی الذی عُیّن للوضوء، وهو یکون قبل الصلاة . ومعلوم أنّ الوضوء لیس إلاّ الغسلتان والمسحتان، فیصدق فی أثناء الوضوء أنّه شکّ بعد التجاوز عنه، فتجری فیه القاعدة ویحکم بالصحّة .

وقد نُسب هذا القول إلی الشیخ الأعظم فی «الرسائل» کما فی «مصباح الهدی»(1) ، إلاّ أنّ کلامه قدس سره فی کتاب «الطهارة»(2) صریحٌ فی الحکم بوجوب الاستئناف للصلاة التی شکّ فیها، وإلیک لفظه، قال: «ولو ارتبط اللاحق بالسابق، کما لو شکّ وهو فی الأثناء ، فالأقوی وجوب التطهیر والاستئناف، لتوقّف إحراز الطهارة للأجزاء اللاحقة علی ذلک» انتهی کلامه .

نعم ، کلامه هذا لا یُفهم منه وجوب إتمام الصلاة، کما لا یُفهم منه الحکم ببطلانها، وإن کان ظهوره فیه لا یخلو من وجه، للتعلیل بلزوم إحراز الطهارة اللاحقة ، أی ما دام لم یکن محرزها فإنّ صلاته تعدّ باطلة. وإن أمکن أن یکون التعلیل للحکم بوجوب الاستئناف مع عدم جواز الحکم بالبطلان، لاحتمال شمول قاعدة التجاوز له .

وکیف کان، فالأقوی أن یقال : إن کان الحکم بالصحّة لما مضی من الأجزاء أو الأعمال ، بلحاظ حکم تعبّدی علی خلاف الأصل ، فلا محیص عنه إلاّ الاکتفاء بما هو مضمون الحدیث . ومن المعلوم أنّ المرکّب إذ حکم بوجود شرطه إلی الآن _ لا فیما یستقبل _ تعبّداً ، فلا یکون مقتضیاً إلاّ الحکم بالبطلان؛ لارتباط الأجزاء بعضها مع بعض .

وأمّا إن قلنا بأنّه یحکم بوجود الشرط _ أی الوضوء _ خارجاً ویعتبره حاصلاً، کما یشعر بذلک تعلیله علیه السلام بأنّه: «حینما یتوضّأ أذکر منه حین ما یشکّ »، فلازمه


1- مصباح الهدی: ج 3 ، ص 539 .
2- کتاب الطهارة ص 151 .

ص:277

الحکم بالصحّة بالنسبة إلی الصلاة قطعاً ، بل الصحّة لجمیع الأفعال المشروطة بالطهارة، کما قاله کاشف الغطاء ، لأنّه یکون حینئذٍ بمنزلة أن یقال : إنّ الشاکّ فی الوضوء، بعدما تجاوز عن محلّه، کان متوضّئاً ومتطهّراً تنزیلاً .

هذا بحسب القاعدة الأوّلیة .

إلاّ أنّ الإنصاف ههنا یقتضی الحکم بعدم جواز إبطال الصلاة ، بل علیه إتمامها کذلک، ووجوب الاستئناف لها بعد تجدید الوضوء.

أمّا وجه عدم جواز الإبطال، هو ما عرفت من إمکان أن تکون القاعدة فی صدد بیان وقوع المشکوک وهو الوضوء خارجاً ، فعلیه یکون الشخص متوضّئاً تعبّداً ، فصلاته صحیحة .

وأمّا وجه الحکم بوجوب استئناف الصلاة والوضوء لها وللأعمال اللاحقة المشروطة، هو من جهة عدم شمول قاعدة التجاوز لمثل هذا الشکّ الواقع فی الأثناء ، وذلک لوجهین : الأوّل : من احتمال وحدة قاعدة التجاوز مع قاعدة الفراغ ، کما ادّعاه الشیخ الأعظم قدس سره فی «فرائد الأصول».

الثانی : أن یکون المراد من قول الصادق علیه السلام فی موثّقة أبی یعفور : «إذا شککت فی شیء من الوضوء، وقد دخلت فی غیره، فلیس شکّک بشیء ، إنّما الشکّ فی شیء لم تجزه»(1) .

هو الشکّ فی العمل ولو کان مرکّباً بعد التجاوز عن مجموع العمل، والدخول فی غیره ، لا التجاوز عن جزء من العمل والدخول فی جزء آخر منه، حتّی ولو سلّمنا تعمیم الحدیث بحیث یشمل الصلاة ونظائرها ، وعدم القول باختصاصه للوضوء فقط .


1- وسائل الشیعة: من أبواب الوضوء، الباب 42، الحدیث 2.

ص:278

مضافاً إلی أنّ مجرّد الشکّ فی الشمول، کافٍ فی عدم الحجّیة والحکم بوجوب الإستئناف، قضاءً لقاعدة الاشتغال واستصحاب بقاء الحدث .

الثالث: وممّا ذکرنا ظهر وجه القول الثالث، من الحکم بإبطال الصلاة؛ لعدم إحراز أحد الاُمور المذکورة، منضمّاً إلی مقتضی قاعدة الاشتغال والاستصحاب ، ولذلک توقّف فیه صاحب «الجواهر»(1) ، ولعلّه لذلک أطلق صاحب «الشرائع» القول بوجوب التطهیر، حتّی یشمل صورة الشکّ فی الأثناء أیضاً .

بل قد یمکن استفادة بطلان الصلاة الواقعة فیها الشکّ من خبر علی بن جعفر ، عن أخیه موسی بن جعفر علیهماالسلام ، حیث حکم بوجوب الإعادة، والانصراف للتوضّؤ لها، إذا کان معتقداً الوضوء وشاکّاً فی بقائه ، ففی ما نحن فیه الذی کان متیقّن الحدث وشاکّاً فی بقائه یکون الحکم بتحصیل الطهارة بالأولویة ، ولهذا حکم کثیراً من الفقهاء ببطلان الصلاة ووجوب التوضّؤ واستئناف صلاته .

أحکام الوضوء / لو شک فی المتأخّر من الطهارة و الحدث

ویستفاد من جمیع ما ذکرنا أنّ الحکم بالاحتیاط بالإتمام ومن ثمّ الاستئناف بوضوء جدید لایخلو عن وجهٍ .

ولعلّ الوجه فی عدم استنادهم بهذا الحدیث أنّه لا یعمل بمورده؛ لکونه محکوماً باستصحاب الطهارة، فضلاً عن لازمه ، لکنّه لا یوجب سقوطه عمّن هو لازمه بواسطة وجود دلیل علی خلاف أصله .

القسم الثانی: هو مَن تیقّن بالوضوء والحدث کلیهما، وشکّ فی المتقدّم والمتأخّر منهما ، فحاله بالنسبة إلی العلم والجهل بهما یکون علی ثلاثة أنحاء : لأنّه قد یکون تارةً مجهول التاریخ ، واُخری یعلم تاریخ الحدث ویجهل تاریخ الطهارة ، وثالثة عکس ذلک.


1- جواهر الکلام: ج2 ، ص 350 .

ص:279

الأوّل: احتمال أن یکون تاریخ کلّ منهما معلوماً ، وبرغم ذلک شکّ فی المتقدّم منهما فإنّ هذا أمرٌ مستحیلٌ .

نعم ، یمکن أن یکون تاریخ وقوعهما بحسب وصف حال المتعلّق معلوماً، إلاّ أنّ تاریخ الوصف مع غیره مشکوک ، کما أنّه لو علم أنّ الحدث وقع فی ساعة سفر زید والوضوء فی ساعة سفر عمرو إلاّ أنّ تاریخ سفرهما أحدهما أو کلاهما کان بینهما، فإنّه أیضاً یرجع بالآخرة إلی الجهل فی تاریخ نفس الوضوء والحدث .

ثمّ بالنظر إلی الحالة السابقة علیهما یمکن تصویر ثلاثة حالات: لأنّه تارةً: یعلم بکونه علی طهارة ، واُخری: قد یعلم کونه علی حدث .

وثالثة: لا یعلم بشیء منهما .

فیسمّی صورة الجهل بالحالة السابقة، والجهل بتاریخها ، أو العلم بالحالة السابقة بکلا فردیه، مع الجهل بتاریخهما ، أو مع الجهل أو العلم بالحالة السابقة، مع العلم بتاریخ أحدهما ، بتوارد الحالتین .

وکیف کان، فالأقوال فی المسألة علی ما ذکروه أربعة ، ولکنّ الحقّ عندی کونها ثلاثة فی مجهولی التاریخ ، إلاّ أنّ طریق الاستدلال فی اثنین منها من معلوم التاریخ فی أحدهما متفاوت ، فتکون الاحتمالات خمسة ستتّضح لک حال جمیعها إن شاء اللّه عند ذکره .

فالأوّل منها : وهو المشهور بین المتقدّمین، بل والمتأخّرین، حتّی المعاصرین _ بل فی «الجواهر»(1) بأنّ «الذکری» نسبه إلی الأصحاب، مشعراً بذلک دعوی الإجماع علیه _ من الحکم بوجوب الطهارة بنحو الإطلاق، بل التفصیل بین صورتی العلم بالحالة السابقة علی الحالتین والجهل بهما، ومن دون تفصیل بین


1- جواهر الکلام: ج 2 ، ص 350 .

ص:280

کونه عالماً بناقضیة الحدث وزوال الطهارة ، أی یعلم بتعاقب الطهارة والحدث ، فلا یکون الحدث متکرّراً متعاقباً والطهارة کذلک . ولا یعلم ذلک، أی لم یبیّنوا هذه التفصیلات فی کلامهم، وإن کان دخول بعضها فی إطلاق کلامهم مشکل، کما سنبیّن لک إن شاء اللّه؛ لانصراف کلامهم عن بعض ، بل لا یمکن دخوله فیه .

ولکن القدر المتیقّن من أقسام توارد الحالتین، الذی یصحّ دعوی الإجماع من دون خلاف فیه من أحد علی وجوب تحصیل الطهارة فیه، هو صورة الجهل بالحالة السابقة علی الحالتین ، والجهل بخصوصیة تعاقب المثلین من الحدث والطهارة وعدمه ، فلابدّ لذکر وجه القول بوجوب الطهارة، والأدلّة المتمسّک بها ، أو ما اُورد علی بعضها . فلابدّ : أوّلاً : ذکر ما یکون مقبولاً عند الکلّ ولا خلاف فیه ، وهو لیس إلاّ الاستدلال بقاعدة الاشتغال فی ما یشترط فیه الطهارة؛ إذ الشغل الیقینی بالتکلیف _ أی بالصلاة مع شرطها _ یحتاج إلی الفراغ الیقینی، وهذا ممّا لا کلام فیه .

إلاّ ما ربما توهّم بأنّ هذا الأصل جارٍ فیما إذا قلنا بأنّ الطهارة شرط للصلاة ، فإحراز الشرط مسلّم، فلابدّ من تحصیله .

وأمّا لو قلنا بأنّ الحدث مانعٌ للصلاة فلا؛ لأنّ المقتضی إذا أحرز تحقیقه، وشکّ فی وجود المانع، فیکفی فی صحّة العبادة عدم إحراز وجود المانع، ولو کان هذا بواسطة الأصل الأوّلی بعدم وجود المانع .

لکنّه مندفع ، أوّلاً : بإمکان أن یقال بأنّ الشرط کما یجب إحرازه فی الفراغ عن الذمّة ، هکذا یکون فی عدم وجود المانع، وأنّه لابدّ من إحرازه، ولا یکفی مجرّد عدم إحراز وجود المانع فی حصول الفراغ .

وثانیاً : أنّه لو سلّمنا ذلک فی سائر الموارد ، ولکنّه لا یجری ها هنا، للعلم بتحقیق المانع وهو الحدث من جهة إحراز وجوده، والشکّ فی ارتفاعه . وهذا

ص:281

غیر ما لو شکّ فی أصل وجوده حیث یمکن إحرازه ولو تنزیلاً، وذلک بإجراء الأصل الأزلی من العدم ، فهذه الشبهة مندفعة هنا قطعاً . فقاعدة الشغل جارٍ مسلّماً، لولا وجود دلیل من الأمارات _ أی الآیة والروایة _ أو الأصول المحرزة کالاستصحاب ، فضلاً عن إمکان إثبات بعضها بعون اللّه الملک العلاّم .

فالآن نشرع فی الأدلّة التی وقعت غرضاً للإیرادات والاعتراضات من بعض الأعلام ، فحیث کان بعضها وارداً دون بعض، فلا بأس بإفراد کلّ واحد منهابالتعرّض والنظر إلیه، حتّی یتبیّن لنا الدلیل الصحیح عن غیره، فنقول وباللّه الاستعانة .

1 _ وممّا استدلّ به قوله تعالی : «إِذَا قُمْتُمْ إِلَی الصَّلاَةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَکُمْ»(1) الآیة .

وجه الاستدلال بها، واضح إذ أوجبت الآیة الوضوء للقیام لکلّ صلاة ، خصوصاً بناءً علی ما فسّروه _ کما عن تفسیر «الصافی» للفیض قدس سره _ : «أی أردتم القیام إلی الصلاة ، یجب تحصیل الوضوء ، فقد خرج من عموم ذلک ما لو کان متطهّراً حال القیام لها، فیبقی الباقی تحته» .

ومنه مسألتنا لأنّ المکلّف شاکّ فی وجود الطهارة ولم یکن قد قطع بوجود الطهارة . هذا کما فی «الجواهر» وبعض أخر .

ولکن اُورد علیه فی «مصباح الفقیه»(2) تبعاً للشیخ قدس سره ما هذا نصّه : «وفی الجمیع ما لا یخفی ، فلآنّها مخصّصة نصّاً وإجماعاً بغیر المتطهّر، والشکّ فیما نحن فیه إنّما هو فی کون المکلّف من مصادیق عنوان المخصِّص ، _ أعنی المتطهّر _ أو


1- سورة المائدة: آیة 8 .
2- مصباح الفقیه: کتاب الطهارة / ص 203 .

ص:282

من مصادیق العنوان الذی اُرید من العام _ أعنی غیر المتطهّر _ ، ولا یجوز التمسّک فی مثل المقام بأصالة العموم أو الإطلاق لدی التمسّک بالعموم ، والإطلاق إنّما یصحّ فیما إذا کان الشکّ فی تعیین المعنی الذی اُرید من اللفظ لا فی تطبیق المعنی المعیّن المعلوم إرادته علی الموضوع الخارجی» انتهی موضع الحاجة .

ولکن یمکن أن یجاب عنه: بأنّه فرقٌ بین العام الذی قد وصف لوصف وجودی له ، بحیث لابدّ فی إثبات الحکم علیه من إحراز ذلک الوصف والعنوان ، ففی مثل ذلک یکون الأفراد المشکوکة غیر داخلة تحته لأنّ التمسّک بالعام فی الأفراد المشکوکة؛ من جهة أنّها متّصفة بذاک الوصف، یکون من قبیل التمسّک بالعام فی الشبهة المصداقیة له ، وهو نظیر قوله تعالی : «وَمَا أَکَلَ السَّبُعُ إِلاَّ مَا ذَکَّیْتُمْ»(1) بعد قوله : «حُرِّمَتْ عَلَیْکُمُ الْمَیْتَةُ»(2) ، حیث أنّ حکم الحلّیة قد تعلّق باللحم المتّصف بهذا الوصف _ أی التذکیة _ فلابدّ فی حلّیته من إحرازه . ومن هنا یقال : بأنّ الأصل الموضوعی فی اللحوم والشحوم هو عدم التذکیة، لأنّ إحراز التذکیة لازم فی ثبوت وترتّب آثار الحلّیة ، ویکون وزانه وزان قول القائل : أکرِم العلماء العدول ، فما دام لم یحرز عدالة عالمٍ لم یتعلّق وجوب الإکرام فی حقّه ، فلا یجوز إکرام مَن شکّ کونه عادلاً .

هذا، بخلاف ما لو ورد العام علی نحو العموم الشامل لجمیع الأفراد ، مثل قول القائل : أکرِم کلّ عالِم ، أو أتی بالجمع المحلّی بالألف واللام أکرِم العلماء ، حیث قلنا بدلالته علی العموم ، أو استفید العموم من مفاد الجملة الشرطیة، مثل قوله تعالی : «إِذَا قُمْتُمْ إِلَی الصَّلاَةِ فَاغْسِلُوا» ، ونظائر ذلک، فإنّ هذه الظهورات تعدّ حجّةً عند العقلاء إلی أن یأتی ظهور أقوی منها، کظهور الخاصّ أو نصّه ، فبالمقدار


1- سورة المائدة : آیة 3 .
2- سورة المائدة : آیة 3 .

ص:283

الذی یشمله النصّ أو الظهور نرفع الید عن ظهور العام، لا مطلقاً حتّی بالنسبة إلی المشکوک؛ لعدم وجود الحجّة فی رفع الید عنه .

فبناءً علی ذلک نقول فی المقام: بأنّ العموم المستفاد منه وجوب الوضوء لکلّ صلاة هو عمومٌ مستفاد من الآیة الشریفة علی الغرض ، فبعمومها یشمل جمیع أفراد الإنسان، حتّی مَن کان متطهّراً قطعاً ، غایة الأمر أنّه قد خرج منه بملاحظة النصّ والإجماع صورة المتطهّر وذلک من جهة قوّة الظهور أو صراحته، وکذلک وجود نصّ خاص ، فیبقی الباقی _ ومنه المشکوک فی الطهارة کمثل ما نحن فیه _ داخلاً تحت عموم العام من إیجاب الوضوء؛ لأنّ رفع الید عن مثل ظهور العام بلا حجّة فی قباله یعدّ قبیحاً عند العقلاء .

اللهمّ إلاّ أن یناقش فی أصل دلالة الآیة علی العموم، ودعوی أنّه لا یستفاد منها ذلک، ولکن القول به مشکل .

2 _ وممّا ذکرنا یظهر الجواب عن الإشکال بالاستدلال بحدیث زرارة من قوله : «لا صلاة إلاّ بطهور» ، لأنّ دلالته علی العموم أقوی من الآیة، لاستفادته من النفی والإثبات بلا وإلاّ ، وهما یعدّان من أدوات الحصر المفیدة للعموم، مع أنّ دلالته علی لزوم إحراز الطهارة کان واضحاً، فدلالته علی المطلب حینئذٍ یکون من وجهین: أحدهما: من جهة الاستثناء کما عرفت .

وثانیهما: من نفس المستثنی، الظاهر فی لزوم کون الصلاة عن طهارة محرزة، فلا یکفی الإتیان بها عن شکّ، کما لا یخفی .

3 _ وممّا استدلّ به فی المقام مستقلاًّ، هو الخبر المرویّ عن زرارة، عن أبی جعفر علیه السلام ، قال : «إذا دخل الوقت وجب الطهور والصلاة، ولا صلاة إلاّ بطهور»(1). فإنّ صدر الخبر مع ذیله یدلاّن علی المقصود.


1- وسائل الشیعة: من أبواب الوضوء، الباب 4، الحدیث 1.

ص:284

ولکن قد یتوهّم بأنّ الخبر لیس فی صدد بیان وجوب الطهور لکلّ صلاة بعد دخول الوقت ، ولذلک لو کان قد توضّأ بعد دخول الوقت، ومن ثمّ عرض له الشکّ، ولو من جهة توارد الحالتین، لا یستفاد من هذا الخبر وجوب الوضوء ، فیظهر منه أنّه کان ناظراً إلی مَن کان مُحْدِثاً قبل الوقت، وأراد الإتیان بالصلاة ، فلابدّ علیه من تحصیل الطهارة .

ثمّ لو سلّمنا دلالته أیضاً، فإنّ غایة ما هناک أنّ الخبر یکون مشابهاً للآیة الشریفة من جهة العموم ، إلاّ أنّه فی خصوص مَن ورد فی الوقت لا مطلقاً، کما فی الآیة وذیل هذا الحدیث .

4 _ وممّا استدلّ به، موثّقة ابن بکیر، عن أبیه، قال : قال لی أبو عبداللّه علیه السلام _ علی ما فی نسخة «التهذیب» لا «الکافی» _ : «إذا استیقنت أنّک قد أحدثت فتوضّأ، وإیّاک أن تُحْدِث وضوءاً أبداً حتّی تتیقّن أنّک قد أحدثت»(1) .

حیث یدلّ علی وجوب الوضوء لمَن استیقن بالحدث، فإنّه کذلک حدوثاً وإن کان شاکّاً فیه بقاءً ، بناءً علی الاستدلال بما فی نسخة «الکافی» . فأورد علیه الشیخ قدس سره (2) بأنّ ظاهره یفید وجوب الوضوء حین تیقّن الحدث، لا بمجرد حدوثه فی زمان، وإن ارتفع بعده بالشکّ، مع أنّه معارَض بقوله فی روایة ابن بکیر: «إذا توضّأت فإیّاک أنْ تُحْدِث وضوءاً حتّی تتیقّن أنّک قد أحدثت» ، بناءً علیظاهره من إرادة الإحداث بعد ذلک الوضوء ، وهذا المکلّف قد توضّأ فی زمان ولم یتیقّن الإحداث بعده . انتهی کلامه .

ولکن الإنصاف عدم تمامیة الاستدلال بهذه الروایة، ولا بما قاله الشیخ فی ردّها ، لوجهین :


1- جامع أحادیث الشیعة: ج1، الباب 12 من أبواب الوضوء،، الحدیث 1.
2- کتاب الطهارة: ص135 .

ص:285

أوّلاً : بما قد عرفت من وجود اختلاف النسخ ، فلا یمکن الاطمئنان بکلّ واحدٍ منهما ، وإن کان ما فی «الکافی» أقوی؛ لکونه أضبط من «التهذیب» .

وثانیاً : أنّه لا یکون بین الجملتین وهما قوله علیه السلام : «إذا استیقنت أنّک قد أحدثت فتوضّأ» _ حیثُ قد عرفت أنّ الشیخ جعل ظهورها فی فعلیّة تیقّن الحدث حال الوضوء _ وبین قوله علیه السلام : «حتّی تستیقن أنّک قد أحدثت» _ مع أنّ الشیخ جعل ظهور ذلک أیضاً فی تیقّن الحدث فی الحال، لا لما قبل ذلک فی زمان _ تضاد وتعارض، مع أنّ مقتضی الصیغة الماضیة المستعملة فی الخبر والمتلوة بأداة (قد) الدالّة علی التحقّق والثبوت سابقاً ، کونهما ظاهرین فی کون الیقین بالحدث ملحوظاً بالنسبة إلی زمان سابق ، حتّی یکون له مصداقین : أحدهما: من کان متیقّن الحدث فی السابق والمشکوک فی بقائه، من دون حدوث یقین بتحقق وضوء فی السابق .

والثانی : مَن کان مثله، إلاّ أنّه متیقّن بتحقیق وضوء أیضاً بعده وکان شکّه فی تأخّر أحدهما علی الآخر .

5 _ وممّا استدلّ به لقول المشهور ما ورد فی فقه الرضا : «وإن کنت علی یقین من الوضوء والحدث، ولا تدری أیّهما أسبق، فتوضّأ»(1) .

وقد أورد علیه السیّد الإصفهانی علی ما فی تقریراته، بقوله : «وفیه ما فیه من عدم ثبوت حجّیة الکتاب، وتوهّم انجباره فی المقام ، فعمل المشهور مدفوع بأنّه لم یعلم استنادهم فی الفتوی إلیه ، بل عُلم عدمه ، فإنّهم یقولون به لأجل قاعدة الاشتغال ، مع أنّ الانجبار بعمل المشهور متوقّفٌ علی ثبوت جزئیته، وهو محلّ إشکال ، بل منع»(2) انتهی کلامه .


1- مستدرک الوسائل : ج1 ، الباب 38 من أبواب الوضوء ، الحدیث 1 .
2- الروائع الفقهیة : ج2 ، ص261 .

ص:286

ولکن یرد علیه بأنّ الظاهر من کلمات کثیر من المحدّثین المحقّقین، والمتتبّعین العارفین ومنهم العلاّمة البهبهانی، والسیّد البحرانی، صاحب کتاب «الحدائق» ، وشیخنا الأعظم الأنصاری الاعتماد علیه حیث جعلوه من الأخبار القویة ، بل عند غیر الشیخ الأعظم کونه منسوباً إلی الرضا علیه السلام . غایة الأمر أنّ بعض أصحابنا نسبوه لعلی بن بابویه ، باعتبار عنوان الرسالة المسمّاة ب_ «الشرایع» زعماً منهم بأنّ علی بن بابویه هو علی بن موسی ، ومن ثمّ طبّقوا الاسم علی أشهر من تسمّی بهذا الاسم، ألا وهو الإمام علیّ بن موسی الرضا علیه السلام . راجع حول ذلک إلی المجلّد الثالث من «مستدرک الوسائل» من ص337 إلی ص339 .

مع أنّه مخدوش أوّلاً : بأنّ ذلک بعیدٌ عن مثل الأجلاّء من علماء المتقدّمین مع کثرة تتبّعهم ، واحتیاطهم فی الدین، وهم کانوا أشدّ عنایة ومعرفة بالأخبار والأحادیث منّا .

وثانیاً : المشهور أنّ الرسالة المنسوبة لوالد الصدوق یتطابق نصوصه وعباراته کلام بعض المعصومین علیهم السلام فی الروایات .

وکیف کان فإنّ نصوصها یمکن اعتبارها فی حکم الأخبار المسندة وجعلها مؤیّدة، إن لم نقل بجواز الاستدلال بها منفرداً، خصوصاً إذا عارض مع حدیث آخر أقوی . فانتسابه إلی الإمام علیه السلام بکلامه لا بإملائه أو بمضمونه، من دون تصرّف فی محتوی کلامه، أمرٌ قوی عندنا ، والعلم عند اللّه .

مضافاً إلی أنّ انجباره بالشهرة أمرٌ ثابت، ولا یحتاج إلی کون الحدیث مستندهم؛ لأنّ المتصوّر فیه لیس إلاّ إمکان التأیید به، لا إثبات کونه مورد استنادهم ، بل یکفی فی قوّة الاعتماد بالحدیث تأییداً لا استدلالاً موافقة عمل المشهور علی طبق مضمونه ، وإن کان مستند بعضهم هو قاعدة الاشتغال أو غیرها .

ص:287

فثبت من جمیع ما قلنا إمکان جعله من التأییدات، لا من الأدلّة المستدلّة بها .

6 _ وممّا استدلّ به أیضاً، العمومات الدالّة علی وجوب الوضوء بعد حصول أسبابه ، حیث أنّ مقتضی ذلک هو وجوب احداث الوضوء لکلّ سبب من الأسباب، دون تداخل الأسباب بعضها فی بعض، نظیر ما ورد فی الخبر الصحیح عن زرارة ، عن الصادق علیه السلام ، قال : «لا یوجب الوضوء إلاّ من غایط أو بول أو ضرطة تسمع صوتها، أو فسوة تجد ریحها»(1) .

غایة الأمر أنّه قد عُلم من الشارع الاکتفاء بوضوء واحد إذا وقع الحدث متعاقباً . کما أنّه عُلم من الشارع أیضاً جواز وضوء واحد لأکثر من صلاة واحدة ، مثل ما رواه الکلینی عن زرارة فی الصحیح عن أبی جعفر علیه السلام ، قال : «قلت له: یصلّی الرجل بوضوء واحد صلاة اللیل والنهار کلّها؟ قال : «نعم ، ما لم یحدث الحدث»(2) الحدیث .

فیبقی الباقی تحت عموم لزوم الوضوء بعد کلّ حدث، إلاّ ما قد عُلم أنّه توضّأ بعده، فلا یجب علیه الإعادة حینئذٍ؛ لما قد عرفت من دلالة قوله : «إیّاک أن تحدث بعده أبداً» الحدیث .

وقد ناقش الشیخ الأنصاری فی «طهارته» بقوله : «وأمّا أدلّة أسباب الوضوء فیرد علیها _ بعد الإغماض من تقیّد السبب بقرینة الإجماع _ علی عدم مشروعیة أزید من طهارة واحدة للمتعدّد المتوالی منها، بما لم یقع عقیب مثله ، فیشترط فی تأثیر ما یقع منها عدم مسبوقیته بمثله ، فالشکّ فیما نحن فیه _ کما تقدّم فی الآیة _ شکٌّ فی المصداق ، ولا یجری أصالة الإطلاق لأنّها مسبوقة لبیان وجوب


1- وسائل الشیعة : من أبواب نواقض الوضوء، الباب 1، الحدیث 2 .
2- وسائل الشیعة : من أبواب الوضوء، الباب 7، الحدیث 1 .

ص:288

الوضوء بعدها بسببها . أمّا لو شکّ فی أنّ هذا المسبّب وقع عقیب السبب الذی اقتضاه أو لم یقع بعدُ، ولابدّ من إیقاعه ، فیطلب لإثبات وجوب إیقاعه لیحصل الیقین بحصول أثر السبب دلیلٌ آخر غیر دلیل السببیة . وبالجملة، فالحکم بسببیّة شیء لوجوب شیء لا یثبت به وجوب تحصیل الیقین؛ لوجود المسبّب ، بل لابدّ من إثباته بقاعدة الاستصحاب، أو قاعدة وجوب الیقین بإحراز الشرط، إن کان المسبّب المشکوک الحصول شرطاً ، کما فیما نحن فیه»(1) انتهی موضع الحاجة من کلامه .

فیرد علیه ما اُورد علی کلامه فی الآیة بما قد عرفت : من أنّ التقیید بواسطة الإجماع لصورة التعاقب، لا یوجب تلوّن العام والإطلاق بلون أمر وجودی، بحیث یلزم إحراز ذلک العنوان ، أی لا یجعل الدلیل الخاصّ الوارد مثل (لاتکرم الفسّاق) عموم قوله «أکرم العلماء» معنوناً بعنوان وجودی، وهو العلماء العدول ، حتّی یجب تحصیل ذلک بعد إحراز ذلک دون صورة شکه ، بل غایة الأمر من التخصیص والتقیید هو إخراج ما یکون مقطوعاً بعنوان المخصّص ، أی یدخل مشکوک الفسق تحت عموم العام . وهکذا یکون الحکم فی المقام ، فالذی نقطع بخروجه یکون خارجاً عن السببیّة دون المشکوک ، فأصالة العموم والإطلاق محفوظة هنا وجاریة بلا إشکال .

اللهمّ إلاّ أن یخدش فی أصل الدلالة فی إیجاب کلّ سبب لذلک، حتّی فی المشکوک، من جهة أنّ الدلیل لیس فی صدد بیان أنّ ماهو الموجب أیّ مورد هو من المقطوع أو المشکوک ، وإنّما یکون فی مقام بیان أصل الشبهة فقط ، یعنی أنّ الموجبات تعدّ هذه الأمور . وأمّا کونها فی جمیع الحالات موجبة أو فی حال


1- کتاب الطهارة: ص152.

ص:289

دون حال فإنّ إثبات ذلک یجب أن یُطلب من دلیل آخر ، فللاحتمال وجه .

وکیف کان، فالآن تصل النوبة إلی ما یمکن أن یقع دلیلاً من قاعدة الاشتغال _ قد عرفت صحّتها، والحکم بوجوب تحصیل الشروط قطعاً ، وهو لا یکون إلاّ بالوضوء _ ومن جریان الاستصحاب، أی یستصحب حال تیقّنه بالحدث حتّی یحکم بوجوب الوضوء ، حیث قد وقع الکلام بین الأعلام فی جریانه وعدمه هنا، لما یرد فیه من الإشکال . فلا بأس بذکره مبسوطاً حتّی یلاحظ حاله هنا، فنقول :

7 _ وأمّا جریان الاستصحاب فی المقام فقد یقال بعدم جریانه هنا ، لعدم تمامیّة أرکان الاستصحاب المعتبرة، من کون زمان الشکّ متّصلاً بزمان الیقین لو أجری الاستصحاب .

والمستشکل هو صاحب «الکفایة»(1) قدس سره : تقریب الإشکال أنّ المعتبر فی الاستصحاب _ حسب ما یستفاد من دلیله _ هو النهی عن نقض الیقین بالشکّ، أی أن یکون الشکّ فی بقاء ما هو المتیقّن سابقاً، علی نحو یتّصل بزمان الیقین ، بمعنی أنّه لو أخّر زمان الشکّ فی بقاء ما هو المتیقّن _ علی نحو القهقری _ إلی ما قبله، کان علی وجه یتّصل بزمان الیقین بالوجود السابق المستصحب، بحیث یصدق أنّه نَقَض الیقین بالشکّ . فلو لم یکن علی هذا الوجه، بأن توسّط فی البین یقینٌ بخلاف المستصحب فلم یصدق علی رفع الید عن الیقین الأوّل أنّه نقض بالشکّ، وإنّما یصدق علیه أنّه نقض یقینه الأوّل بیقین آخر.

وعلیه إذا احتمل حصول یقین علی خلاف المتیقّن الأوّل فیما بینه وبین الشکّ اللاحق ، فلازمه عدم إحراز وجود عنوان نقض الیقین بالشکّ ، ومع الشکّ فی تحقّق موضوع الدلیل، کیف یمکن إثبات حکمه للفرد المشکوک ؟!


1- کفایة الأصول: 2 / ص335.

ص:290

وما نحن فیه یکون من هذا القبیل، حیث أنّ المتیقّن السابق _ وهو الحدث مثلاً _ یمکن أن یکون سابقاً علی الطهارة التی هی متیقّنة الثبوت أیضاً . فالشکّ فی الزمان المتأخّر لو أجریناه علی نحو القهقری لکان متّصلاً بالیقین بالطهارة بعد الحدث ، فلم یحرز لنا حینئذٍ کون الیقین بالحدث قد نُقض بالشکّ بل نحتمل نقضه بالیقین بالطهارة بعده ، وهکذا الحال بالنسبة إلی استصحاب الطهارة .

ولکن السیّد الإصفهانی قدس سره أورد علیه علی ما فی «تقریراته»، بقوله : «وفیه المنع من مانعیّة الاحتمال المذکور بجریان الاستصحاب فی المقام ، وذلک لأنّه لم یرد نصٌّ ولا ظاهرٌ _ فی آیةٍ ولا فی روایة _ یدلّنا علی اعتبار اتّصال زمان الشکّ بزمان الیقین (المتیقّن) فی الاستصحاب ».

وتوهّم أنّه لولا ذلک لم تحرز عنوان نقض الیقین بالشکّ، لاحتمال کونه نقضاً للیقین بالیقین .

مدفوعٌ، بأنّ ذلک إنّما یتمّ لو کان الاستصحاب عبارة عن إبقاء المتیقّن السابق بقید کونه فی زمانه الخاص، ثمّ استمراره إلی زمان الشکّ ، ولیس الأمر کذلک، بداهة أنّه لو کان المتیقّن السابق متیقّن الثبوت علی نحو الإجمال متردّداً بین کونه حادثاً فی أوّل الصبح، أو فی أوّل الزوال _ مثلاً _ ثمّ شکّ فی بقائه فی أوّل الغروب، فلا إشکال فی جریان الاستصحاب فیه فی زمان الشکّ ، فلیس المدار فی صدق نقض الیقین بالشکّ، إلاّ مجرّد تیقّن الشیء قبل زمان الشکّ فیه ، ثمّ الشکّ فی بقائه فی الزمان اللاحق علی ذلک الزمان» انتهی کلامه . ولا یخفی ما فی کلامه من الإشکال ، کما یرد علی کلام صاحب «الکفایة» أیضاً .

فأمّا الأوّل : لوضوح أنّه لو کان المتیقّن السابق مقیّداً بکونه فی وقت خاصّ، وزمانٍ مخصّص _ مثلاً _ کما لو کان الیقین بالحدث فی ساعته الاُولی مقیّداً بها موضوعاً ، فلا معنی لقوله : «ثمّ استمراره إلی زمان الشکّ»؛ لعدم إمکان سحب

ص:291

الشیء المقیّد بزمان خاصّ إلی زمان آخر، سواءً کان اللاحق شکّاً أو یقیناً أو غیرهما ، وکذلک الأمر فی المستصحب عند الاستصحاب، إذ لابدّ أن یخلع عن التقیید بخصوصیة الزمان ، بل یجب کون الزمان ظرفاً حتّی یصحّ سحبه إلی زمان الشکّ .

ولا أظنّ صدور مثل هذا عنه رحمه الله ، بل لعلّه نشأ عن سهو قلم المقرّر. فلابدّ أن یکون مقصود السیّد من الخصوصیّة هو أنّه لا یعتبر فی الاستصحاب کون المتیقّن السابق معلوماً بالتفصیل فی زمان ، بل یکفی ولو کان یقینه السابق علی نحو الإجمال متردّداً بین زمانین ، أی لا یحتاج إلی الیقین التفصیلی بالنسبة إلی الزمان، کما یشهد لذلک تصریحه فی ذیل کلامه بإمکان إجراء الاستصحاب فی المتردّد بین الزمانین .

ومن هنا فإنّ ما ذکره لم یعدّ کافیاً فی الجواب ، بل لابدّ أن یکون جوابه عن الإشکال الذی ذکره المحقّق الخراسانی قدس سره بالکیفیّة والاستدلال الذی مرّ ذکره.

وأمّا عن الثانی، فنقول أوّلاً : بأنّ إجراء الحکم فی الاستصحاب لم یکن فی طرف الشکّ، أی لا یفید الاستصحاب إجراء حکم زمان الشکّ إلی زمان الیقین حتّی یلاحظ إمکان ذلک أوّلاً ثمّ الحکم باستصحاب ذلک، بل إنّ مقتضی الاستصحاب هو الحکم بإبقاء المتیقّن إلی زمان الشکّ ، ویکون أثر الاستصحاب إثبات الحکم لما بعد هذا الشکّ الحادث، لا لما کان قبله من الأعمال ، أی قبل الشکّ إلی زمان الیقین ، ومن هنا فإنّ الحکم فیها بالصحّة أیضاً یکون بواسطة بعض القواعد الفقهیّة مثل قاعدة الفراغ والتجاوز ، وتفصیل الکلام فیه موکول إلی محلّه . فحینئذٍ لابدّ أنّ یُلاحظ هل یمکن جرّ الیقین السابق بالحدث إلی زمان الشکّ أو لا یمکن لنقضه بالیقین بالطهارة، کما فیما نحن فیه؟

وثانیاً : نقول إنّ هذا الإجراء ممکن ولا یمنعه عنه مانعٌ ها هنا؛ لأنّ ما وقع بینه وبین الشکّ لیس الیقین بالطهارة ، بل الواقع هو احتمال وقوع الطهارة الموجب

ص:292

للشکّ بالاتّصال وعدمه . والیقین بالطهارة یلاحظ بالنسبة إلی زمان قبل الحدث وبعده ، ووجود هذا الیقین الإجمالی لا یضرّ باحتمال الاتّصال الضروری هنا ، وإلاّ للزم أن یکون هذا العلم مخلاًّ بجریان الاستصحاب فی جمیع أطراف العلم الإجمالی؛ لأنّه إذا عُلم نجاسة أحد الإنائین مع العلم بطهارتهما سابقاً ، ففی کلّ طرف یمکن جریان الاستصحاب ، غایة الأمر سقوطهما بالتعارض . مع أنّ اللازم علی هذا المبنی عدم جریان الاستصحاب، لأنّ إجراء حکم الیقین السابق بالطهارة منقوضٌ بوقوع العلم بالنجاسة بین هذا الإناء وبین غیره ، وهذا العلم یمنع من إجراء الیقین إلی زمان الشکّ . فکما أنّه لا یکون ذلک مانعاً _ لأنّ العلم ملحوظٌ بلحاظ طرفیه ، وإلاّ فإنّه بالنسبة إلی خصوص ما یجری فیه الاستصحاب لا یکون إلاّ مجرّد الاحتمال الذی هو ملازمٌ للمورد، ویتحقّق الشکّ الذی کان رکناً للاستصحاب _ هکذا یکون فیما نحن فیه .

بل قد یؤیّد ما قلناه من عدم حصول نقض الیقین السابق بالحدث بمثل هذا العلم الإجمالی ، وأنّ النقض بحاجة إلی حصول علم تفصیلی به، هو التصریح الوارد فی بعض أخبار الاستصحاب، بقوله علیه السلام : «بل انقضه بیقین مثله»، أی انقضه بیقین تفصیلی بالطهارة الواقعة فی الحدیث، وهو هنا مفقود علی الفرض، کما لا یخفی .

وثالثاً : لو سلّمنا عدم شمول (لا تنقض) لما نحن فیه، لکونه مشکوک المصداق ، فلا یجری فیه الاستصحاب، ولکن مع ذلک أقول : لا ینقضی تعجّبی من صاحب «الکفایة» قدس سره أنّه کیف تمسّک قدس سره بذیل حدیث الاستصحاب، وقال : إنّ المورد یعدّ من مصادیق نقض الیقین بالیقین ، مع أنّ التمسّک به فی المقام یکون من باب التمسّک به فی الشبهة المصداقیة له ، لاحتمال أن یکون المراد من الیقین هو التفصیلی منه لا الأعمّ منه ومن الإجمالی ، وهذا المقدار من الشکّ

ص:293

یکفی فی الإضرار بالتمسّک، کما لا یخفی . فظهر ممّا حقّقناه وأجبناه جواز جریان الاستصحاب هنا وعدم ورود ما قیل عن الإشکال، إن سلم من سائر ما یحتمل أن یورد علیه ، وأمکننا الخلاص منه أیضاً .

ولکنّ السیّد الإصفهانی قدس سره قد اعترض علی هذا الاستصحاب من جهة عدم تمامیته رکنه الثانی، أی الشکّ فی البقاء.

تقریب الإشکال علی ما فی «تقریراته»(1): «أنّ المدار فی جریان الاستصحاب أن یکون متعلّق الشکّ عین ما هو متعلّق الیقین، بتمام ما له من الخصوصیات، لما قرّر فی محلّه من اعتبار اتّحاد القضیة المتیقّنة والمشکوکة من حیث الموضوع ، فلو کان المتیقّن هو شیء خاص متشخّص بخصوصیة ، فلابدّ أن یتعلّق الشکّ ببقائه علی تلک الخصوصیات، کما أنّه لو کان المتیقّن شیئاً مردّداً بین شیئین أو أشیاء ، فالشکّ فی بقائه أیضاً یعتبر أن یکون شکّاً فی بقائه علی النهج الذی کان متیقّناً . وفیما نحن فیه، ما هو المتیقّن من الحدث مثلاً ، إنّما هو حدثٌ متردّد بین زمان سابق علی زمان الطهارة ، وبین زمان متأخّر عن زمان الطهارة ، لا حدثٌ حاصلٌ فی زمان مخصوص . وهذا الحدث المردّد بین الزمانین لیس علی کلّ واحد من احتمالی فرض وجوده مشکوک البقاء ، بل إنّما هو علی أحد الاحتمالین مقطوع الارتفاع _ وهو وجوده قبل الطهارة _ وعلی الاحتمال الآخر مقطوع البقاء _ وهو وجوده بعد الطهارة _ ، فالوجه فی عدم جریان الاستصحاب، عدم تمامیة الرکن الثانی، وهو الشکّ فی بقاء ما هو المتیقّن علی کلّ حال وتقدیر ، فإنّه یرجع إلی کونه مقطوع الزوال أو مقطوع البقاء» انتهی موضع الحاجة» .


1- ص363 .

ص:294

ونجیب عنه أوّلاً بالنقض: بأنّه لو کان مجرّد التردّد فی المتیقّن کذلک مضرّاً، لعدم کونه مشکوک البقاء علی کلّ واحد من الاحتمالین؛ لکون الحدث فی أحدهما مقطوع الارتفاع _ وهو وجوده قبل الطهارة _ وفی الآخر مقطوع البقاء _ وهو وجوده بعدها _ فیلزم أن لایکون الاستصحاب جاریاًفی الکلّی القسم الثانی من أقسام الاستصحاب ، کما فی المثال المعروف بما إاذ کنّا نقطع بوجود حیوان فی الدار، فإنّه بعد مضیّ أیّام نقطع بأنّه لو کان الحیوان هوالفیل کان باقیاً قطعاً، وإن کان بقّةً فهو زائل ومیّت لا محالة . حیث أنّ المتیقّن کان مردّداً بین الحیوانین لا حیوان معیّن مخصوص . کما أنّ بقاءه أیضاً لا یکون مشکوکاً؛ لأنّ فی أحد الاحتمالین _ وهو الفیل _ کان مقطوع البقاء ، والآخر کان مقطوع الزوال وهو البقّة ، مع أنّ جریان الاستصحاب فی الکلّی مع هذا الوصف ثابتٌ وجارٍ بالاستصحاب قطعاً .

وثانیاً بالحلّ : أنّ المستصحب الذی یسمّی بالمتیقّن لا نحتاج فی استصحابه إلی حفظ ما لا یکون مربوطاً بالاستصحاب إذا کان الأمر مترتّباً علی إجراء قاعدة کلّیة لا علیه مع تمام خصوصیّاته، نظیر ما یترتّب علی وجود الحیوان فی الدار من الأثر الذی هو وجوب التصدّق مثلاً ، فیکفی فی صحّة إجراء الاستصحاب إحراز وجود أصل الحیوان فی الدار، حتّی ولو لم یتشخّص نوعیّة أحدهما من کون الموجود فی الدار هو الفیل أو البق. نعم لو کان المراد من الاستصحاب هو إثبات الخصوصیة من أنّ الموجود فی الدار هو خصوص الحیوان المسمّی بالفیل فإنّه لا یثبت إلاّ بالأصل المثبت، وهو غیر معتبر.

هکذا الأمر فی المقام، فلو أردنا من استصحاب الحدث إثبات الحدث مع خصوصیّته وکونه قبل الطهارة أو بعدها ، فإنّه لا یمکن ذلک إلاّ بالأصل المثبت .

وأمّا لو کان المقصود إثبات أصل الحدث ومن ثمَّ الحکم بالبقاء ، فیصحّ أن

ص:295

یقال : کنتُ علی یقین من الحدث ولو متردّداً بین قبل الطهارة وبعدها ، والآن أشکّ فی بقائه _ ولو من جهة أنّه لو کان بعدها یکون باقیاً قطعاً . ولو کان قبلها یکون زائلاً قطعاً ، کما کان کذلک فی الحیوان أیضاّ _ ونتیجة إجراء الاستصحاب یکون بقاء المتیقّن السابق، ویکون أثره إثبات کلّی الحدث لا مع خصوصیّته قبل الطهارة أو بعدها ، وهذا کافٍ فی صحّة جریان الاستصحاب .

فبناءً علی هذا یکون اتّحاد القضیة المتیقّنة والمشکوکة هنا محفوظاً، بلحاظ أصل الحدث، کما لا یخفی .

فثبت من جمیع ما ذکرنا أنّ الاستصحاب بنفسه یمکن أن یکون دلیلاً علی إثبات وجوب الوضوء، إلاّ أنّه معارَض بمثله فی طرف الطهارة ، فما یوجب سقوطه هو التعارض _ کما قاله الشیخ _ لا من جهة عدم تمامیة أرکانه هنا، کما توهّم . هذا تمام الکلام فی مدرک قول المشهور من وجوب الوضوء من دون ذکر تفصیل فی المسألة .

وأمّا القول الثانی فی المسألة: وهو قول المحقّق فی «المعتبر» حیث قال : «وأمّا إذا تیقّنهما، وشکّ فی المتأخّر، فقد قال الثلاثة ومَن قبلهم : یعید الطهارة ، وعندی فی ذلک تردّد ، ووجه ما قالوه أنّ یقین الطهارة معارض بیقین الحدث ولا رجحان ، فیجب الطهارة لعدم الیقین بحصولها . لکن یمکن أن یقال : ینظر إلی حاله قبل تصادم الاحتمالین ، فإن کان حدثاً بنی علی الطهارة؛ لأنّه تیقّن انتقاله عن تلک الحال إلی الطهارة، ولم یعلم تجدّد الانتقاض، وصار متیقّناً للطهارة، وشاکّاً فی الحدث، فیبنی علی الطهارة . وإن کان قبل تصادم الاحتمالین متطهّراً، بنی علی الحدث؛ لعین ما ذکرنا من التنزیل »(1). انتهی کلامه .


1- المعتبر: ص45.

ص:296

وجزم به «کاشف اللثام» ، وأفتی علی طبقه المحقّق صاحب «جامع المقاصد» ، بل حمل الشهید الثانی رحمه الله عبارة المحقّق فی «الشرایع» علی صورة الجهل بالحالة السابقة ، بل قد نسب هذا التفصیل صاحب «شرح الجعفریة» إلی المتأخّرین .

وتوضیح کلامه رحمه الله : أنّه لو فرض علم المکلّف أوّلاً بالحدث، ومن ثمّ یقطع بأنّ هذه الحالة قد ارتفعت بالطهارة قطعاً ، أمّا بوقوعها بعد کلا الحدثین فالطهارة باقیة، أو بعد الحدث الأوّل فلا تکون حینئذٍ باقیة ، فحیث کان أصل وجودها معلوماً، والشکّ یکون فی ارتفاعها بوقوع الحدث بعدها، فالأصل بقائها؛ لأنّها مقطوع الوجود بعد الحدث الأوّل ، والحدث الثانی بعدها مشکوک الحدوث .

وهکذا یکون الکلام فی صورة عکسها .

هذا ما إذا کانت الحالة السابقة علی الحالتین معلومة فیصحّ دعوی العلم بالانتقاض لها ، ومن ثمّ یجوز استصحابه .

وأمّا مع عدم العلم بالحالة السابقة فإنّه لا یجری هذا الاستصحاب، إلاّ بمایکون معارضاً مع مثله ، ولذلک ذهب المحقّق فی صورة الجهل بالحالة السابقة علی المسلک المشهور؛ من عدم جریان الأصل فیه من جهة المعارضة ، کما صرّح بذلک.

ونحن نقول: بأنّ کلام المحقّق من التفصیل بین صورة الجهل بالحالة السابقة علی الحالتین فیجب التطهّر ، وبین صورة العلم بها بالأخذ بضدّ الحالة السابقة ، لابدّ أن یفرض فیما إذا لم یکن عالِماً بخصوصیّة الحدث والطهارة، من کون الأوّل ناقضاً بوصف الناقضیة، والثانی رافعاً بوصف الرافعیة للحدث ، وإلاّ یصیر الشکّ شکّاً بدویّاً ، أی یکون مع الدقّة والتأمّل لیس بشکّ أصلاً ، بل یعدّ حاله معلوماً من جهة الحکم والموضوع؛ لأنّ معنی العلم بهذه الأوصاف _ من الحدث والطهارة _

ص:297

یرجع إلی أنّه یعلم بعدم تعاقب الجنسین قطعاً ، لوضوح أنّ معنی أنّه یعلم من نفسه أنّ الحدث الناقض صدر لا غیره ، فمعناه یکون فی صورة ما إذا علم کونه فی أوّل الصبح محدثاً، ومن ثمّ یعلم بوقوع الطهارة بعد حدث الصبح، ویعلم بوقوع الطهارة بعد الحدث الأوّل فی صورة عکسه . کما یقع الحدث الثانی بعد الطهارة فی الصورة الأولی؛ لأنّه لولا ذلک لما وصف الحدث بالناقضیة ، والطهارة بالرافعیة . فلابدّ أن یفرض صورة المسألة فیما إذا لم یعلم بخصوصیة الوصف فی کلّ من الطهارة والحدث من الرافعیة والناقضیة، حتّی یجامع مع احتمال وقوع المتجانسین متعاقباً، حتّی یصحّ أن یکون تحقّق أحد الوصفین لأحدهما قطعیّاً وللآخر مشکوکاً ، أو کان أحدهما مجهولاً من جهة الوصف .

وهذا هو الباعث لذهاب صاحب «المدارک» قدس سره تبعاً للعلاّمة قدس سره فی «المنتهی» إلی أنّ وقوع الطهارة فیما إذا یعلم صدور الحدث فی الحالة السابقة، ووقوع الحدث فیما إذا یعلم الطهارة فیها، یقینی بالوصفیة، من کون الطهارة رافعة فی الأوّل والحدث ناقضاً فی الثانی . بخلاف بدیله من احتمال الحدث الثانی فی الفرض الأوّل ، حیث یکون مشکوک الوصف من حیث الناقضیة، لاحتمال وقوعه بعد الحدث الأوّل ، فلا یکون حینئذٍ ناقضاً .

واحتمال الطهارة فی الفرض الثانی من حیث وصف الرافعیة مشکوک؛ لاحتمال وقوعها متعاقبة ، ولذلک ذهبنا _ بناءً علی هذا _ إلی جریان الاستصحاب فی الطرف معلوم اتّصافه بالوصف للشکّ فی زواله ، وعدم جریان الاستصحاب فی ظرف حدوث الطرف الآخر للشکّ فی وجود الوصف فیه ، لأنّ الأصل عدمه .

فالأصل هنا تارة وجودی، وهو استصحاب الناقضیة للحدث، إن کانت الحالة السابقة طهارة أو الرافعیة للطهارة إن کانت حدثاً .

ص:298

وأخری عدمیٌّ، أی عدم حدوث بدیله المشکوک فی الحدوث من الطهارة فی الأوّل، والحدث فی الثانی، وإن کان یکفی فی إثبات الأثر الوجودی فقط .

فإن قلت : إذا کانت الحالة السابقة هی الحدث، ثمّ عرضت الحالتان من الطهارة والحدث، فإنّه یکون من قبیل الاستصحاب الکلّی؛ لأنّ کلّی الحدث مسلّم وجوده بین الحدث السابق أو الحدث العارض . فبعد حصول الطهارة نشکّ فی أنّ جنس الحدث باقٍ علی حاله أم لا؟ فیستصحب البقاء، فلازمه الحکم بکونه محدثاً، لا الحکم بالضدّ للحالة السابقة .

قلت : إنّه لایعدّ المقام من ذلک الاستصحاب ، لأنّ الحدث مستند إلی الحدث السابق المقطوع ارتفاعه قطعاً ، أمّا هو بخصوصه أو هو مع مماثله من الحدث ، فالشکّ فی بقاء الحدث الآن مستند إلی الحدث الطارئ، _ غایة الأمر ، أمّا بوجوده بعد الطهارة أو قبلها _ لا مستند إلیه أو إلی السابق، حتّی یکون من قبیل القسم الثانی من أقسام الاستصحاب الکلّی .

ومن هنا یظهر دفع توهّم آخر: وهو أنّه قد یکون من قبیل استصحاب الکلّی للحدث مثلاً ، ویفید إثبات الأمر المترتّب علی الفرد وهو الحدث الطارئ ، فیکون من الأصل المثبت؛ لما قد عرفت من عدم کونه منه، ولا یکون المقصود إثبات أثر الکلّی علی الفرد ، بل المقصود إثبات أثر المتعلّق للطارئ المردّد بین کونه قبل الطهارة أو بعدها . هذا کلّه فیما هو یمکن أن یقال فی المسألة .

وأمّا بیان المختار فیها ، فالحقّ هو أن یقال : لو کان الأثر المترتّب مترتّباً علی الطهارة أو الحدث المتّصفین بوصف الرافعیة والناقضیة، کان الحقّ مع المحقّق؛ لأنّک قد علمت بأنّ الوصف فی أحدهما معلومٌ قطعاً دون الآخر ، بل هو مشکوک الحدوث ، فالاستصحاب یجری فیه بلا وجود معارض ، بل قد عرفت وجود الأصلین من الوجودی والعدمی .

ص:299

لکن الإشکال فی أصل الاستصحاب، من عدم اتّصال زمان الشکّ إلی زمان الیقین ، وقد عرفت جوابه وعدم إمکان الإجراء هنا وفی غیره، فلا نعیده .

وأمّا لو کان الأثر مترتّباً علی إثبات أصل وجود الطهارة والحدث، لا علی وصفهما ، أی الصلاة لابدّ فیها من الطهارة، لکن لا طهارة متّصفة برافعیة الحدث قطعاً؛ لصحّة إتیان الصلاة مع الطهارة المتجدّدة أیضاً ، وهکذا فی طرف الحدث، حیث یکون وجوده مانعاً لکن لا بوصف کونه معلوم الناقضیة . فحینئذٍ یکون الأصل هنا جاریاً فی کلّ من الحدث والطهارة؛ لأنّ الطهارة کما کانت معلومة التحقّق _ إذا فرض کون الحالة السابقة الحدث _ هکذا أصل وجود الحدث الطارئ یکون مقطوعاً حال حدوثه ، ویکون مشخّصاً ومعیّناً ، غایة الأمر یکون تاریخ حدوثه مشکوکاً، بین کونه قبل الطهارة _ حتّی یکون مقطوع الارتفاع _ أو بعدها _ حتّی یکون مقطوع البقاء _ فالأصل یحکم ببقائه ، فیتعارضان ویتساقطان ، فلا یمکن الحکم بوجود الطهارة فی الفرض المذکور ، فلابدّ من تحصیل الطهارة، خلافاً لما ذهب إلیه المحقّق فی هذا الفرض علی مبناه من بقاء الطهارة .

أمّا صورة عکسه: فهو أیضاً موافقٌ للزوم تحصیل الطهارة، کما ذهبنا إلیه ، إلاّ أنّ طریق الاستدلال وإثبات الحکم یکون متفاوتاً، لأنّا نقول بمقتضی قاعدة الاشتغال کما فی سابقه ، وهو قدس سره یقول بذلک علی مبناه من البناء علی ضدّ الحالة السابقة .

وأمّا القول الثالث فی المسألة: هو قول العلاّمة فی أکثر کتبه، وهو التفصیل من صورة الجهل بالحالة السابقة قبل ورود الحالتین _ من الحکم بما ذهب إلیه المشهور _ وبین العلم بها من الأخذ بالحالة السابقة من الحکم بالطهارة إن کانت طهارة ، والحدث إن کانت محدثاً؛ لأنّه قال: بأنّ أصل الاستصحاب الجاری فی کلّ من الطهارة والحدث الطارئین متعارضان فیتساقطان ، فنرجع إلی استصحاب

ص:300

الیقین السابق علی الحالتین ، من الطهارة والحدث .

وقد أوضح مراده فی کتابه الشریف المسمّی ب_ «مختلف الشیعة» وإلیک نصّ کلامه: «مسألة : أطلق الأصحاب القول بإعادة الطهارة علی مَن تیقّن الحدث والطهارة، وشکّ فی المتأخّر منهما ، ونحن فصّلنا ذلک فی أکثر کتبنا، وقلنا : «إن کان فی الزمان السابق علی زمان تصادم الاحتمالین مُحْدِثاً، وجب علیه الطهارة، وإن کان متطهّراً لم یجب . ومثاله: أنّه إذا تیقّن عند الزوال، ثمّ نقض الطهارة وتوضّأ من حدثٍ، وشکّ فی السابق، فإنّه یستصحب حال السابق علی الزوال ، فإن کان فی تلک الحال متطهّراً، فهو علی طهارته؛ لأنّه متیقّن أنّه نقض تلک الطهارة، ونقضُ الطهارة الثانیة مشکوک فیه ، فلا یزول عن الیقین بالشکّ. وإن کان قبل الزوال محدثاً، فهو الآن محدثٌ؛ لأنّه تیقّن أنّه انتقل عنه إلی طهارة ثمّ نقضها ، والطهارة بعد نقضها مشکوک فیها»(1) انتهی کلامه .

ویظهر من قوله : «ولا یمکن أن یتوضّأ عن عدم مع بقاء تلک الطهارة» أنّه یرید إثبات أنّه علم وجود الطهارة والحدث، مع العلم بوقوعهما واحداً مؤثّراً فی رفع الحدث ونقض الطهارة ، وهذا المقدار متیقّن ومعلوم صدوره ، والزائد عنه مشکوک، فیستصحب بقاءه، فینتج فی الحالة السابقة المعلومة الطهارة بقاء الطهارة بالاستصحاب ، وصورة حکمها عکس ذلک . وهکذا فهم من کلامه صاحب کتاب «الروائع الفقهیة»(2) .

ثمّ أشکل علی مَن اعترض علیه بقوله : «وبما بینّا ظهر أنّه لا موقع لشیء ممّأ اُورد علیه أصلاً ، ولیس فرض کلام العلاّمة رحمه الله ، مورد العلم بالزائد عن مقدار


1- مختلف الشیعة: ج1، ص27.
2- الروائع الفقهیّة: ج2 / ص269.

ص:301

المعلوم من عدد کلّ واحد من الطهارة والحدث المؤثّر، حتّی یرد علیه أنّه مع العلم بتساوی الأمرین عدداً ، وکون کلّ واحد مؤثّراً لا یبقی شکّ للمکلّف بالنسبة إلی حاله الفعلی ... وإنّما فَرْضُ کلامه هو العلم بوقوع کلّ واحد منهما بمقدار الآخر مؤثّراً، مع احتمال زیادة الآخر علیه . فمن جهة هذا الاحتمال یحصل الشکّ بحاله الفعلی ، فیدخل فی مسألة مَن تیقّن بالحدث أو الطهارة وشکّ فی بقائه ، فیحتاج إلی الاستصحاب حینئذٍ لإثبات البقاء .

والحاصل: أنّ مراده قدس سره إخراج بعض فروض المسألة عن محلّ الکلام، بدقّة علمیّة، وخروجه ممّا لا إشکال فیه» انتهی کلامه .

ولا یخفی ما فی کلامه، بأنّه إذا فرض کون کلّ واحد من الطهارة والحدث مؤثّراً فإنّه لیس معناه إلاّ کون کلّ واحد متّصفاً بوصف الناقضیة والرافعیة ، والعلم بذلک مساوقٌ مع العلم بوقوع کلّ واحد منهما بمفرده عقیب الآخر ، أی الطهارة عقیب الحدث، والحدث عقیب الطهارة ، فإذا کان هذا حال العلم بالوصف، فیزول الشکّ بواسطة العلم بالحالة السابقة علی الحالتین ، فکیف یمکن فرض الشکّ فی الزائد عن الواحد متّصفاً بوصف المؤثّریة ، فالشکّ فی الزائد مساوٍ مع عدم العلم بالمؤثّریة، لکن بما أنّه لا یعلم کونه واحداً أو أزید ، فیرجع إلی ما قلناه من تعارض الاستصحابین .

هذا تمام الکلام فی مجهولی التاریخ من حیث الأقوال والأدلّة .

أمّا لو کان التاریخ فی أحدهما معلوماً، فهو یتصوّر بصورتین :

إحداهما : ما لو کان تاریخ الحدث معلوماً مثلاً فی الساعة الثانیة من الصبح ولکن تاریخ الطهارة مشکوکة ومجهولة .

قد یقال : کما قاله صاحب «الجواهر» نقلاً عن بعض متأخّری المتأخّرین من الحکم بماهو مجهول التاریخ، فیکون الحکم هو الطهارة فی فرض المسألة ،

ص:302

وقبله السیّد بحر العلوم فی «المنظومة»، اعتماداً منهما علی أصالة تأخّر الحادث، أی یشکّ فی أنّ الطهارة حدث قبل الحدث المعلوم تاریخه أم بعده؟ فالأصل عدمه، فیثبت الطهارة للشاکّ .

ولکن یرد علیه أوّلاً : أنّه تارةً یقصد من ذلک الأصل إجراءه فی وصف التقدّم والتأخّر من جهة عدمها ، أی یشکّ فی أنّ الطهارة هل هی متقدّمة علی الحدث المعلوم تاریخه أم لا ، فالأصل عدم تقدّمها علیه .

واُخری یقصد به ناحیة الحدث، فی أنّه یشکّ هل هو متأخّر عن الطهارة أم لا ، فالأصل عدم التأخّر .

أحکام الوضوء / لو علم تاریخ الحدث دون الطهارة

فلا إشکال فی أنّ وصفی التقدّم والتأخّر لکلّ من الطهارة والحدث کان حادثاً ومسبوقاً بالعدم ، فالأصل عدمه، فیکونان متعارضین فیسقطان. ویکون التعارض فی الأصل الجاری لکلّ من وصفی التقدّم والتأخّر فی کلّ من الطهارة والحدث ، أی هنا یکون متعارضاً من جهتین، من ناحیة الأصل الجاری فی بدیله من الحدث والطهارة . ومن جهة الأصل الجاری فی نفس موضوع، کالجاری فیه هذا الأصل ، أی یکون أصالة عدم تقدّم الطهارة علی الحدث ، معارض مع أصالة عدم تأخّر الطهارة علیه ، ومع عدم تقدّم الحدث عن الطهارة وهکذا الأمر طرف الحدث، فإنّه یجری فیه الأصلان المتعارضان فیتساقطان .

وإن اُرید إجراء أصالة تأخّر الحادث بلحاظ أصل وجود الطهارة، أی کون الأصل عدم تحقّق الطهارة إلی أن یأتی الحدث المعلوم تاریخه ، فهو یکون علی فرضٍ من الأصل المثبت ، وعلی فرضٍ لا أثر له؛

لأنّه إن اُرید من إجراء ذلک إثبات وصف التأخّر، فإنّه یلزم کونه أصلاً مثبتاً، وهو غیر معتبر وإن لم یقصد إثبات التأخّر للطهارة ، فلا یکون منشأ للأثر فیما نحن فیه؛ لأنّ الأثر وهو جواز الدخول فی الصلاة هنا مترتّبٌ علی الطهارة

ص:303

المتأخّرة عن الحدث لا علی عدم وجود الطهارة إلی زمان الحدث .

نعم ، هذا الأصل یفید فیما إذا کان الأثر مترتّباً علی عدم تقدّم المستصحب علی بدیله نظیر أصالة عدم موت الأخ إلی زمان موت الأخ المعلوم تاریخ وفاته ، فیثبت بذلک کون هذا الأخ المجهول تاریخ موته وارثاً للمعلوم .

وثانیاً : إنّ إجراء هذا الأصل فی مجهول التاریخ متوقّف علی القول بتمامیته أرکان الأستصحاب فیه ، حتّی لم یرد علیه بما أورده علیه صاحب «الکفایة» من عدم اتّصال زمان الشکّ بالیقین، ولم یرد علیه بما اعترض به السیّد الإصفهانی من عدم وحدة الموضوع فی المستصحب فی طرف الیقین والشکّ، کما عرفت أنّ الحقّ صحّته وتمامیّته .

وثالثاً : لو سلّمنا جمیع ذلک، فالأصل الجاری هنا فی طرف المجهول معارضٌ مع الأصل الجاری _ بلا إشکال _ فی الطرف المعلوم، وهو الحدث ، وبعد التعارض یتساقطان، فیحکم بوجوب تحصیل الطهارة بقاعدة الاشتغال .

فما ذهب إلیه من الحکم بالطهارة فی الفرض المزبور محلّ إشکال جدّاً .

ورابعاً : إن أُرید من أصالة تأخّر الحادث، استصحاب وصف التأخّر للمجهول إلی زمان المعلوم، حتّی یحکم بالطهارة فیما إذا کانت هی مجهولة ، أو بالحدث إذا کان هو مجهولاً .

ففیه: أنّ هذا الاستصحاب غیر جارٍ هنا؛ لعدم تمامیّة رکنه، من جهة عدم وجود الحالة المتیقّنة من وصف التأخّر حتّی یستصحب ، إذ لم یکن لنا وقت کان التأخّر فیه متیقّناً للمجهول حتّی یستصحب، وهو واضح فی أنّه غیر مراد .

أحکام الوضوء / لو علم تاریخ الوضوء دون الحدث

فثبت من جمیع ما ذکرنا من الإشکالات، أنّ الحکم بعکس الحالة السابقة فی معلوم التاریخ من الحدث، لا یکون صحیحاً؛ لکون الأصل الجاری فیه معارضاً وساقطاً، ویکون المرجع قاعدة الاشتغال .

ص:304

وکذا لو تیقّن ترک عضو أتی به وبما بعده، وإن خفّ البلل استأنف (1).

وثانیهما : ما لو کان تاریخ الوضوء معلوماً دون الحدث ، فلا إشکال فی جریان الاستصحاب فیه، لما قد عرفت منّا سابقاً عدم ورود إشکال عدم اتّصال زمان الشکّ بالیقین، الذی تکفّله صاحب «الکفایة» قدس سره ، وأیضاً لا یرد علیه ما ذکرنا سابقاً الإشکال الذی ذکره السیّد الإصفهانی من عدم وحدة القضیة المتیقّنة مع المشکوکة . کما لا یرد إشکال کون حال الوضوء بالنسبة إلی ما قبل الحدث مقطوع الارتفاع . وبالنسبة إلی ما بعده یکون مقطوع البقاء ، فإنّ جمیع هذه الإیرادات تکون واردة فیما لو کان التاریخ مجهولاً لا ما إذا کان معلوماً، کما هو المفروض هنا .

مع أنّا أجبنا عنها حتّی فی صورة مجهول التاریخ أیضاً، کما لا یخفی . ولکن الإشکال هنا هو معارضته مع استصحاب الحدث الجاری هنا؛ لأنّ أصل وجوده متیقّن وبقاءه مشکوک ، فیکون مصداقاً للاستصحاب ، فیسقط الأصلان ویکون المرجع هو قاعدة الاشتغال الدالّة علی وجوب التطهیر . فالمختار عندنا هو وجوب الوضوء فی جمیع صور المسألة، واللّه العالِم .

(1) وذلک بلا فرق فی وجوب الإتیان بالمتروک من کونه غسلاً أو مسحاً ، وعلی وجوبه الإجماع محصّلاً ومنقولاً ، بل علیه الأخبار والأدلّة فی باب الوضوء ، حیث یُفهم منها لزوم أن یکون الوضوء تامّ الأفعال والشرائط والأجزاء .

کما یجب الإتیان بما بعد المتروک ثانیاً، تحصیلاً للترتیب الذی قد مضی بحثه فی السابق وثبت أنّه یجب تحصیله بلا خلاف أجده کما فی «الجواهر» .

بل یکون حکم ترک بعض أجزاء الجزء أیضاً حکم ترک نفس الجزء فی کلا الحکمین، من وجوب تحصیله وما بعده من سائر أجزاء ذلک العضو المتروک،

ص:305

وسائر الأعضاءالواقعة بعد هذا الجزء والعضو ، فیدخل تحت عنوان ترک العضو، من جهة وجود الملازمة بین ترک الجزء مع ترک العضو لأنّ الواجب المأمور به هو غَسل مجموع العضو لا بعضه.

أحکام الوضوء / لو تیقّن ترک عضو

ولا یشاهد خلاف فی المسألة إلاّ عن الإسکافی، حیث فصّل بین ما یکون دون سعة الدرهم وبین غیره ، حیث أجری فی الأوّل جبرانه ببلّ الوضوء، من دون لزوم الإتیان بما بعده ، وبین غیره حیث یجب إتیانه وبما بعده، ویبدو أنّه اعتمد فی هذا التفصیل علی حدیث أبی اُمامة(1)، عن النبیّ صلی الله علیه و آله ، وما رواه زرارة ، عن أبی جعفر علیه السلام ، وخبر رواه ابن منصور ، عن زید بن علی علیه السلام الذی نقله الشیخ الأعظم فی «طهارته»(2) .

ولکن لم یرد ذکرٌ لهذه الأخبار فی کتب أصحابنا الموضوعة فی الفقه والحدیث. کما لم یستدلّ بها أحد منهم.

نعم ، روی الصدوق بسنده أنّه سُئل أبو الحسن موسی بن جعفر علیهماالسلام : «عن الرجل یبقی من وجهه إذا توضّأ موضعٌ لم یصبه الماء؟ فقال : یجزیه أن یبلّه من بعض جسده»(3) .

فإنّه أیضاً لا دلالة له لما قاله ابن الجنید من جهة عدم دلالته علی التحدید الذی ذکره، من التفصیل بین ما إذا کان سعة الدرهم أو أقلّ منه أو أکثر.

وکیف کان فقد مضی بحثه سابقاً فی بحث الترتیب فلا نعیده.

وإن کان جفاف البلل من جهة فوات الموالاة وترک المتابعة ، فیجب استئناف الوضوء ، بل لم یستبعد بعضٌ وجوب الاستئناف، حتّی فیما إذا لم یجفّ، إذا کانت


1- هذه الأخبار ذکرها العلاّمة نقلاً عن ابن الجنید فی «مختلف الشیعة» : ص27 .
2- کتاب الطهارة: ص154 .
3- وسائل الشیعة: من أبواب الطهارة، الباب 43، الحدیث 1.

ص:306

وإن شکّ ف_ی شیء م_ن أف_عال الط_هارة، وه_و ع_لی حاله، أتی بما شکّ، ثمّ ب_ما بعده(1).

الموالاة عرفاّ متروکة، کما فصّلناه سابقاً وقلنا بأنّ الملاک هو الصدق العرفی فی ترک الموالاة الذی یحصل غالباً بالجفاف، وإلاّ لا یعدّ الجفاف بنفسه ملاکاً .

فالمسألة واضحة، وقد مضی بحثها سابقاً فلا نعید .

(1) ویدلّ علی وجوب الإتیان بالجزء المشکوک وبما بعده اُمور:

الأوّل: الأصل، حیث أنّ المراد منه هو قاعدة الاشتغال بالطهارة، التی تستلزم الفراغ الیقینی، وکذلک أصالة عدم الإتیان، وأصالة عدم ارتفاع الحدث، وعدم إباحة الدخول ، فیما یشترط فیه الطهارة إلاّ بإحرازها .

وأمّا وجوب إتیان ما بعد المشکوک فهو من جهة لزوم تحصیل ترتیب الواجب.

ویمکن أن یکون المراد من الأصل هو القاعدة الأوّلیة لا الأصل العملی .

والثانی : الإجماع، الذی نقله شارح «الدروس» ، بل فی «المدارک» و«الذخیرة» دعوی نفی الخلاف فیه .

أحکام الوضوء / فی الشک فی شیء من أفعاله

بل نقل عن جماعة _ کما عن الوحید البهبانی، بل استظهر صاحب «کشف اللثام» ذلک عن جماعة، ویستفاد ذلک من تتبّع کلمات الأصحاب فی کتبهم مثل: «المقنعة» و«المبسوط» و«المهذّب» و«الغنیة» و«المراسم» و«الوسیلة» و«الکافی» و«السرائر» و«الجامع» و«المعتبر» و«النافع» و«المنتهی» و«القواعد» و«الإرشاد» و«الذکری» و«اللمعة» و«الدروس» و«الروضة» و«الجواهر»، وکذلک یستفاد ذلک من أقوال جماعة من أعلامنا مثل الشیخ الأعظم، والآملی، والسیّد الإصفهانی، والسیّد الیزدی، وصاحب «العروة»، وأصحاب التعالیق .

بل لم نجد خلافاً فی مثل الوضوء، بخلاف الغسل والتیمّم، حیث اشترط ذلک

ص:307

فیهما بذلک جماعة من الأصحاب، کما سنشیر إلی ذلک لاحقاً إن شاء اللّه تعالی .

والثالث : وهو العمدة، دلالة اخبار صحیحة معتبرة بمفردها ومجموعها، علی لزوم الاعتناء بالشکّ فی الأثناء، ولزوم الإتیان المشکوک، فلا بأس بذکرها . منها: ما رواه الشیخ فی «التهذیب»، والکلینی فی «الکافی» بسند صحیح إلی زرارة ، عن أبی جعفر علیه السلام ، قال : «إذا کنت قاعداً علی وضوئک فلم تدرِ أغسلت ذراعیک أم لا ، فأعد علیهما وعلی جمیع ما شککت فیه أنّک لم تغسله أو تمسحه ممّا سمّی اللّه، مادمت فی حال الوضوء ، فإذا قمتَ من الوضوء وفرغت منه، وقد صرت فی حال اُخری فی الصلاة أو فی غیرها، فشککت فی بعض ما سمّی اللّه ممّا أوجب اللّه علیک فیه وضوءه، فلا شیء علیک فیه ، فإن شککت فی مسح رأسک فاصبت فی لحیتک بللاً، فامسح بها علیه، وعلی ظهر قدمیک ، فإن لم تصب بللاً، فلا تنقض الوضوء بالشکّ، وامضِ فی صلاتک ، وإن تیقّنت أنّک لم تتمّ وضوءک، فأعد علی ما ترکت یقیناً حتّی تأتی علی الوضوء»(1) .

بقیة الحدیث مرویة فی أبواب الجنابة(2) هکذا : «قال : قلت : له رجل ترک بعض ذراعه أو بعض جسده من غسل الجنابة ؟ فقال : إذا شکّ وکانت به بلّة، وهو فی صلاته، مسح بها علیه، وإن کان استیقن رجع فأعاد علیهما ما لم یصب بلّه ، فإن دخله الشکّ وقد دخل فی صلاته، فلیمضِ فی صلاته ولا شیء علیه ، وإن استیقن رجع فأعاد علیه الماء ، وإن رآه وبه بلّة مسح علیه وأعاد الصلاة باستیقان ، وإن کان شاکّاً فلیس علیه فی شکّه شیء، فلیمضِ فی صلاته» .

فإن صدر هذا الحدیث الصحیح ظاهرٌ بیّن، لو لم یکن نصّاً علی وجوب


1- وسائل الشیعة : من أبواب الوضوء، الباب 41، الحدیث 1 .
2- وسائل الشیعة: من أبواب الوضوء، باب 41 ، الحدیث 2 .

ص:308

الاعتناء فی الشکّ فی الأثناء فی باب الوضوء، سواء کان الشکّ فی نفس الأعضاء من الغَسل والمسح، کما صرّح بذلک بقوله : «فلم تدرِ أغسلت ذراعک أم لا» ، أو کان الشکّ فی شیء وجزء منهما فإنّه یشمله عموم قوله : «وعلی جمیع ما شککت فیه أنّک لم تغسله أو تمسحه» .

وتوهّم خروج ذلک من قوله : «ممّا سمّی اللّه»، ببیان أنّ نفس غَسل العضو ومسحه یکون منه لا جزئهما .

غیر وارد، لوضوح أنّه إذا کان الکلّ ممّا سمّاه، فإنّ الجزء أیضاً یندرج فیما سمّاه اللّه عرفاً.

هذا بدلالة منطوق الصدر ظهوراً أو نصّاً .

بل قد یمکن استفادة وجوب الاعتناء أیضاً بمفهوم ذیله؛ لأنّ فرض عدم الاعتناء بالشکّ بقوله : «لا شیء علیک» فیه صورة ما إذا قمت من الوضوء، وفرغت منه، وقد صرت فی حال اُخری ، حیث یکون مفهوم هذه الجملة الشرطیة، أنّه إذا لم تکن قد عرفت من الوضوء، یجب علیک الاعتناء والإتیان بالمشکوک . نعم ، قد یتوهّم المعارضة بین منطوق هذه الجملة الشرطیة الدالّة علی عدم الاعتناء بالشکّ بعد الفراغ عن الوضوء . مع الجملة الشرطیة التی بعدها، وهی قوله: «فإن شککت فی مسح رأسک، فأصبت فی لحیتک بللاً، فامسح بها علیه وعلی ظهر قدمیک» .

بأن یقال: بأنّ الشکّ کان بعد الفراغ، بقرینة فرضه بإصابة البلل فی اللحیة ، حیث یفهم منه وقوع الفصل عن حال مسح الرأس، وإلاّ لا وجه لفرضه فی حال کون الشکّ فی محلّ المسح ، أی حال قبل مسح القدم.

وهذا التصریح لا یساعد مع قوله : «فامسح علی ظهر قدمیک» إلاّ من جهة کونه حفظاً للترتیب .

ص:309

وإن کان یمکن الجواب عنه، بإمکان أن یکون من جهة عدم الإتیان به بعدُ، إلاّ أنّ الجملة الأولی قرینة دالّة علی حدوث الفصل وکون الشکّ بعد الفراغ. وبرغم ذلک حکم بإعادة المسح علی الرأس، حیث یکون مخالفاً مع مقتضی منطوق تلک الجملة الشرطیة الدالّة علی عدم لزوم الاعتناء بالشکّ بعد الفراغ .

فیدفع هذا التوهّم أوّلاً : عدم الظهور فی الفراغ بما لا یمکن حمله علی کون الشکّ فی فی المحلّ، لإمکان فرض صورة بلّة جریان الماء علی الید، بحیث لا یکفی المسح مع الرطوبة المسریة، خصوصاً إذا کان الهواء حارّاً والماء قلیلاً، بخلاف اللحیة ، حیث یبقی الماء خلالها ولا یجفّ بسهولة.

وثانیاً : إمکان أن یقال کون الأمر بإعادة المسح استحبابیّاً، کما یشهد لذلک الجملة الواردة بعده من الحکم بعدم انتقاض الوضوء بالشکّ إن لم یجد بللاً، مع أنّه من الواضح أنّه لو کان الأمر بالإعادة واجباً لما تغیّر الحکم بمجرّد جفاف الماء وعدم وجود البلل ، إذ لابدّ أن یحکم حینئذٍ بإعادة الوضوء من أساسه لا أن یحکم بعدم لزوم الاعتناء به ، فیفهم أنّه کان بمقتضی العمل بقاعدة الفراغ فیه .

مضافاً إلی أنّ فی ذیل الحدیث بعد هذه الجملة، فی حکم غُسل الجنابة حکم الشارع فی صورة الشکّ بعد الفراغ بعدم الاعتناء، بقوله : «فإن دخله الشکّ وقد دخل فی صلاته، فلیمضِ فی صلاته ولا شیء علیه» .

وهذا یؤیّد ما ذهبنا إلیه.

وکیف کان فإنّ دلالة الصحیحة لکلا طرفی الحکم، من وجوب الاعتناء بالشکّ فی الأثناء فی الوضوء، وعموم الاعتناء بالشکّ بعد الفراغ عن العمل، تامّة ولا نقاش فیها.

کما أنّ دلالتها علی وجوب الاعتناء منطوقاً ومفهوماً ممّا لا کلام فیها أیضاً .

وقد یؤیّد الحکم بوجوب الاعتناء بالشکّ فی أثناء الوضوء، ما رواه عبداللّه بن

ص:310

أبی یعفور فی موثّقه عن أبی عبداللّه علیه السلام ، قال : «إذا شککت فی شیء من الوضوء وقد دخلت فی غیره، فلیس شکّک بشیء ، إنّما الشکّ فی شیء لم تجزه»(1) .

وجه التأیید یکون بناءً علی أن مرجع الضمیر فی غیره یکون إلی الوضوء، بأن یکون لفظ (من الوضوء) تبعیضیّة ، أی إذا شککت فی جزء من أجزاء الوضوء، فی حال کونک قد دخلت فی غیر الوضوء من عمل آخر، فشکّک لیس بشیء ، ومعلومٌ أنّ المراد من لفظ الشیء الثالث هو العمل ، فیرجع الضمیر فی قوله: «لم تجزه» إلی هذا الشیء الذی فرض کونه عملاً، فالمستفاد من جمیع ذلک أنّ الشکّ إذا کان فی حال الاشتغال بالعمل، فإنّه یجب الاعتناء به والالتفات إلیه، دونما إذا کان قد فرغ من العمل. وحینئذٍ یوافق مضمون الموثّقة منطوقاً ومفهوماً مع ما ورد فی صحیح زرارة.

هذا، ولکن قد یُتوهّم المعارضة بین صحیحة زرارة _ حیث حکم بوجوب الالتفات إلی الشکّ _ مع الموثّقة المذکورة، ببیان أنّ قوله فی صدرها: «إذا شککت فی شیء من الوضوء ودخلت فی غیره» ، یکون المراد هو الشکّ فی عضو من أعضاء الوضوء بعد المضی منه إلی غیره من أجزاء الوضوء، بناءً علی کون مرجع الضمیر فی «غیره» هو الشیء، بأن تکون کلمة من فی «من الوضوء» تبعیضیة لا بیانیّة ، أیّ شیء کان من جنس الوضوء، حتّی لا یتناسب مع الشکّ فی الأبعاض .

وعلی هذا الوجه، یکون الصدر قرینة علی کون المراد من ذیله فی قوله: «إنّما الشکّ فی شیء لم تجزه» ، هو بیان التجاوز بالنسبة إلی بعض الأجزاء مع البعض، لا الوضوء بالنسبة إلی غیره ، فیکون مفهوم الذیل موافقاً لما وقع فی صدره من


1- وسائل الشیعة: من أبواب الوضوء، الباب 42 ، الحدیث 2.

ص:311

عدم الالتفات بالشکّ إذا تجاوز عنه ودخل فی غیره من الأجزاء . فإذا شکّ فی غَسل الوجه بعد الدخول فی غَسل الید الیمنی لا یجب الالتفات إلیه ، وهکذا بالنسبة إلی الید الیمنی مع الید الیسری ، إلی أن یبلغ الجزء الأخیر کمسح الرجل الیسری ، وحینئذٍ یصدق فی حقّه أنّه لم یلتفت بعد أن دخل فی غیر الوضوء.

بل فی «مصباح الهدی»(1) دعوی ظهور هذا الاحتمال فی الفقرتین من الصدر والذیل . وهکذا تثبت معارضتها مع الصحیحة، حیث حکمت بوجوب الالتفات بالشکّ حال الاشتغال بالوضوء بقوله : «إذا کنت قاعداً علی وصوئک» ، وقوله : «ما دمت فی حال الوضوء» .

ولکن یمکن أن یُجاب عنه :

أوّلاً : کما یمکن أن یجعل مرجع الضمیر فی «غیره» الشیء وکلمة من تبعیضیّة ، هکذا یحتمل أن یکون مرجع الضمیر هو الوضوء ، لکونه أقرب إلیه من حیث اللفظ والجملة ، وصیرورة «من» بیانیّة حتّی یکون الشکّ فی أصل وجود الوضوء؛ لأنّ المعنی یصیر حینئذٍ هکذا:

إذا شککت فی شیء _ وهو الوضوء _ بعدما دخلت فی غیر الوضوء، أی اشتغل عملاً بفعل ومن ثمّ عرض له الشکّ فی أنّه هل أتی بالوضوء أم ؟

فإنّ التعلیل فی الذیل لإفادة عدم جواز الاعتناء بالشکّ واشتغل بالغیر، لکن یعدّ أصل الفراغ مشکوکاً إذا کان الشکّ فی أصل وجود الوضوء.

لکن هذا الاحتمال لا یمکن أن یصار إلیه، لأنّ الشکّ فی أصل وجود الوضوء، فلابدّ أن یأتی به، ولا یجری فیه قاعدة الفراغ، لأنّ جریانها یکون فیما إذا کان الشکّ فی صحّة العمل الفارغ منه؛ لأنّ ظاهر أخبارها إفادة أنّ جریانها تکون فیما


1- مصباح الهدی: ج3 / ص524.

ص:312

إذا کان أصل الوجود ثابتاً ومفروغاً عنه، لکن یشکّ فی صحّة المأتی به.

هذا علی کون کلمة «من» بیانیة.

وأمّا علی احتمال کون کلمة «من» تبعیضیّة، وأنّ مرجع الضمیر فی «غیره» هو الوضوء، فإنّ الخبر یفید أنّه إذا شککت فی شیء من الوضوء، ولکن کان الشکّ بعد الدخول فی غیر الوضوء...

وبناءً علی هذا یحفظ حینئذٍ عموم معنی «الشیء» من جهة کون الشکّ فی وجود المشکوک کما هو الأظهر، أو من جهة صحّته، لأنّه أیضاً شیء من الوضوء، بلحاظ حال متعلّقه، لأنّه یکون من طوارئ وعوارض الجزء الذی یکون شیئاً من الوضوء، فیشمله عموم قوله: الشکّ فی شیء من الوضوء .

وعلی کلّ تقدیر، فهذا المعنی فی الصدر یوجب أن تکون قرینة لتعلیل الذیل فی قوله : «إنّما الشکّ فی شیء لم تجزه» بأن یکون معنی التجاوز بالمفهوم وعدمه بالمنطوق، ویفید أنّه إذا حصل الفراغ عن الوضوء فلا یلتفت إلیه، وإن لم یکن قد فرغ منه فإنّه یلتفت إلیه، فیکون مضمون الموثّقة موافقاً لما فی الصحیحة من دون تعارض فی البین أصلاً.

ویعدّ هذا الاحتمال أصحّ، من جهة أنّ إرجاع الضمیر فی غیره لابدّ أن یرجع إلی محذوفٍ، وهو محلّ المشکوک لا نفسه لأنّه مشکوک الوجود .

وثانیاً: سلّمنا وجود کلا الاحتمالین ، فغایته إیجاب الإجمال فی الحدیث، بدعوی أنّ ظهور الصدر کان فی الفراغ من جهة کون مرجع الضمیر فی «غیره» إلی الوضوء ، وظهور مرجع «قوله: لم تجزه» إلی الشیء، الظاهر فی کون المراد هو المشکوک، وهو الجزء، فیتعارض الظهوران، وکلاهما یصحّ لأن یقع مبیّناً للآخر، فیصیر الخبران مجملین، ویسقطان عن الاستدلال، فنرجع إلی خبر زرارة ونحکم بوجوب الالتفات حال الاشتغال .

ص:313

وثالثاً : لو سلّمنا کون الاحتمال بالنسبة إلی الشیء المشکوک، الشامل للجزء أظهر من کون المراد هو الفراغ عن أصل الوضوء ، ولکن مع ذلک نقول : یعارض هذا الظهور الدالّ علی عدم الالتفات حین الشکّ، مع ظهور خبر زرارة بالالتفات، ولا تردید فی لزوم تقدیم خبر زرارة، إمّا لکونه نصّ فیه والموثّقة ظاهرة فی عدم الالتفات ، أو أنّه أظهر من الموثّقة .

مضافاً إلی کون خبر زرارة من حیث السند أقوی ، بل الإجماع کان مؤیّداً له، فلا یبقی حینئذٍ احتمال ترجیح الموثّقة علیها، فالمسألة فی الوضوء من جهة لزوم الاعتناء فی الأثناء أمرٌ ثابت ولا نقاش فیه، مضافاً إلی القول بتقیید إطلاق ذیل التعلیل مفهوماً بدلالة صحیحة زرارة بالالتفات فی الأثناء .

ولکن الذی یلیق أن یبحث عنه، هو أن یعلم بأنّ حکم الشکّ فی الأثناء فی الوضوء، الذی یجب الاعتناء والالتفات إلیه، هل هو خارج عن قاعدة التجاوز تخصّصاً، بمعنی أنّه لا تشمله القاعدة أصلاً، أو کان خروجه تخصّصاً أی تشمله إلاّ إنّه خرج عنها بواسطة الدلیل ؟

ثمّ علی فرض التخصیص ، هل کان وجه خروجه هو مجرّد التعبّد من جهة النصّ ، أو کان بملاک أنّ الوضوء یعدّ عند الشارع عملاً واحداً، فالتجاوز لا یصدق فیه، إلاّ بالخروج عن تمامه ، أو کان بملاک آخر غیرهما ؟

والذی یظهر من الشیخ الأعظم فی «فرائد الاُصول»(1) هو تعمیم قاعدة التجاوز والفراغ عن باب الوضوء إلی غیره، قال الشیخ رحمه الله : «وأمّا التفصیل بین الصلاة والوضوء، بالتزام کفایة مجرّد الفراغ من الوضوء، ولو مع الشکّ فی الجزء الأخیر منه، فمراده اتّحاد الدلیل فی البابین، لأنّ ما ورد من قوله فیمن شکّ فی


1- فرائد الأصول: ص412.

ص:314

الوضوء، بعدما فرغ من الوضوء: «هو حین یتوضّأ أذکر منه حین یشکّ»، عامٌّ بمقتضی التعلیل لغیر الوضوء أیضاً، ولذا استفید منه حکم الغُسل والصلاة أیضاً، وکذلک موثّقة ابن أبی یعفور المتقدّمة صدرها دالٌّ علی اعتبار الدخول فی الغیر فی الوضوء، وذیلها تدلّ علی عدم العبرة بالشکّ بمجرّد التجاوز مطلقاً، من غیر تقیید بالوضوء بل ظاهره یأبی عن التقیید، وکذلک روایتا زرارة وأبی بصیر المتقدّمتان، آبیتان عن التقیید. وأصرح من جمیع ذلک فی الإباء عن التفصیل بین الوضوء والصلاة، قوله فی الروایة المتقدّمة : «کلّ ما مضی من صلاتک وطهورک فذکرته تذکّراً فامضه» ، انتهی محلّ الحاجة .

مضافاً إلی ما صرّح بتخصیص القاعدة فی باب الوضوء فی ما بعد کلامه السابق، حول خروج الوضوء بل الغسل والتیمّم عن ذلک بقوله : «بأنّ مستند الخروج قبل الإجماع، الأخبار الکثیرة المخصّصة للقاعدة المتقدّمة ، إلاّ إنّه یظهر من روایة ابن أبی یعفور المتقدّمة، وهی قوله : «إذا شککت فی شیء من الوضوء وقد دخلت فی غیره فشکّک لیس بشیء، إنّما الشکّ إذا کنت فی شیء لم تجزه»، أنّ حکم الوضوء یکون من باب القاعدة لا خارج منها، بناءً علی عود ضمیر «غیره» إلی الوضوء...» إلی آخر کلامه .

ثمّ یصحّح بعد ذلک کون الالتفات فی الوضوء لیس من باب خروجه عن قاعدة التجاوز ، بل کان من جهة أنّ الشارع اعتبر الوضوء عملاً واحداً، باعتبار مسبّبه وهو الطهارة، فلا یصدق التجاوز فیه إلاّ بالفراغ عن مجموع العمل، لا کلّ جزء جزء منه، حتّی یستلزم التخصّص فی القاعدة.

ووافقه فی ذلک صاحب «الجواهر»(1) والسیّد فی «العروة» فی المسألة 46


1- جواهر الکلام: ج2 / ص355.

ص:315

من شرائط الوضوء، والخمینی والخونساری والحکیم .

خلافاً لآخرین کالمحقّق الهمدانی، والآملی، والسیّد الاصفهانی، والبروجردی، والگلپایگانی، حیث ذهبوا إلی تخصیص قاعدة التجاوز بباب الصلاة وعدم جریانها فی غیرها، بخلاف قاعدة الفراغ حیث ذهبوا إلی تعمیمها لجمیع أبواب العبادات .

بل فی «مصباح الفقاهة»(1): أنّ قاعدة الفراغ لیست إلاّ عبارة عن أصالة الصحّة الجاریة فی جمیع أبواب العبادات والمعاملات .

وربّما تظهر ثمرة القولین فی مقامین :

الأوّل : بناءً علی القول بالتعمیم فی قاعدة التجاوز للصلاة وغیرها بمثل قاعدة الفراغ، فإنّه یوجب إمکان البحث فیهما بأنّه هل هما قاعدتان أم هما قاعدة واحدة لا متعدّدة، کما نسب دعوی الثانی إلی الشیخ الأعظم فی «فرائد الأصول» علی ما فی «الروائع الفقهیّة» ، بخلاف ما لو قلنا بتعدّدهما وتفاوت موضوعهما من حیث التعمیم والاختصاص حیث یعتبر ذلک بنفسه دلیلاً علی التعدّد .

الثانی : تظهر الثمرة أیضاً فیما نحن فیه بلحاظ حال الوضوء والغُسل والتیمّم، من جهة أنّه بناءً علی تعمیم قاعدة التجاوز لغیر الصلاة، یکون خروج الوضوء عنها بالالتفات فی الأثناء تخصیصاً، فیحمل الشکّ فی أجزاء الغُسل والتیمّم علی تلک القاعدة، من عدم الالتفات بالشکّ فی الأثناء، بخلاف ما لو قلنا باختصاص قاعدة التجاوز بباب الصلاة، فیکون حکم الاعتناء بالشکّ فی أثناء الوضوء وهکذا فی الغُسل والتیمّم علی القاعدة، وذلک بمقتضی أصل عدم ارتفاع الحدث وقاعدة الاشتغال.


1- مصباح الفقاهة: ص206.

ص:316

وحیث بلغ الکلام إلی هنا، واستلزم الأمر التحقیق فی حقیقة هذه المسألة، وبیان ما نذهب إلیه فی المقام، فإنّه ینبغی الإشارة إلی حال القاعدة من جهة تعمیمها باب الوضوء وعدمه بمراجعة لسان الأدلّة الموجودة فی الباب، فنقول وأسأل اللّه التوفیق وعلیه التکلان : والذی یمکن أن یستفاد منه قاعدة التجاوز، هو ما رواه الشیخ بسنده الصحیح إلی زرارة، قال : «قلت لأبی عبداللّه علیه السلام : رجلٌ شکّ فی الأذان وقد دخل فی الإقامة؟ قال : یمضی ، قلت : رجلٌ شکّ فی الأذان والإقامة وقد کبّر؟ قال : یمضی ، قلت : رجلٌ شکّ فی التکبیر وقد قرأ؟ قال : یمضی ، قلتُ : شکّ فی القراءة وقد رکع؟ قال : یمضی ، قلت : شکّ فی الرکوع وقد سجد؟ قال : یمضی فی صلاته ، ثمّ قال : یا زرارة إذا خرجت من شیء ثمّ دخلت فی غیره فشکّک لیس بشیء»(1) .

تقریب الاستدلال بالعموم لکلّ باب من أبواب العبادات ، بل ربّما یمکن القول بتعمیمه حتّی لغیر باب العبادات، من جهة أنّه علیه السلام أراد إفهام السائل قاعدة عقلائیة مفادها أنّ الشکّ بعد المضیّ عنه ممّا لا یعتدّ به إذا لم یصدق فیه أنّه شکٌّ فی المحلّ ، وذلک بقوله: «یا زرارة إذا خرجت من شیء ثمّ دخلت فی غیره فشکّک لیس بشیء» .

فإنّ ظهور عموم کلمة «الشیء» الذی یعدّ من الألفاظ المستعملة للعموم، یقتضی ذلک، فیکون ذیل الحدیث کبری کلّیة، ویکون الصدر من صغریاتها، فکأنّ الإمام علیه السلام أراد أن یریح نفسه عن بیان حکم الشکوک الواردة فی الصلاة وغیرها بالنسبة إلی حال التجاوز، حتّی لا یسأل السائل مرّة اُخری عن أجزاء الصلاة واحدة بعد واحدة، فذکر جملة عامّة لجمیع الموارد، وأعطی بواسطة تلک


1- وسائل الشیعة: من أبواب الخلل الواقع فی الصلاة، الباب 23، الحدیث 1.

ص:317

الجملة وببرکاتها قاعدة کلّیة وهی المسمّاة بقاعدة التجاوز، وتکون قاعدة عامّة لاتختصّ بالشکّ فی الصلاة حتّی تستلزم اختصاص القاعدة بها. ومن هنا یظهر أنّ الحکم بالتعمیم فیها علی طبق القاعدة لا لضرورة التعبّد.

وممّا ذکرنا ظهر وجه القول الآخر، فبرغم أنّهم یتمسّکون بهذا الحدیث، إلاّ أنّهم یذهبون إلی اختصاصه بخصوص الصلاة، ویقولون : بأنّ عمومیّة لفظ «الشیء» تشمل خصوص الصلاة بأجزائها، لا بالنسبة إلی غیرها، لأنّ العبرة فی التعمیم تکون بملاحظة متعلّق الشیء، وهو عبارة عن الصلاة لا غیرها .

لکنّه مخدوش، أوّلاً : بأنّه خلافٌ ظاهر عمومیّة کلمة «الشیء» المقتضی لسعة مفهومه إلی جمیع الموارد، لا خصوص أجزاء الصلاة، لأنّه اشتهر بین العلماء والمفسّرین أنّ العبرة تکون بعموم الوارد لا بخصوص المورد، وحفظ العموم فی خصوص المورد خلاف لظاهر هذا التعبیر .

برغم أنّه بناءً علیه یلزم انحصار القول بالشکّ بخصوص أجزاء الصلاة لأنّها المذکور فی صدر الروایة، دون الشرائط ومقدّمة الأجزاء، مع أنّه کما تری .

وثانیاً : یؤیّد ما قلناهُ من التعمیم الخبر الوارد الفاقد للصدر المستدلّ به والمجعول قرینة علی الاختصاص وو الخبر الذی رواه الشیخ بإسناده الموثّق إلی محمّد بن مسلم، عن أبی جعفر علیه السلام ، قال: «کلّما شککت فیه ممّا قد مضی فامضه کما هو» (1).

فإنّ هذا الحدیث یشتمل علی أداتین من أدوات العموم وهما أداة «کلّ» وأداة «ما» من دون اشتمال ما یوجب اختصاصه بخصوص باب الصلاة.

کما لا یبعد القول بکون متعلّق الشکّ هو الأعمّ من الشکّ فی الوجود وعدمه،


1- وسائل الشیعة: من أبواب الخلل الواقع فی الصلاة، الباب 23، الحدیث 2.

ص:318

أی شکّ بأنّه أتی به أم لا ، أو شکّ فی صحّته بعدما أتی به قطعاً، لأنّ الشکّ فی الصحّة یصدق علیه الشیئیة المستفادة من أداة «ما»، وإن کان ظهوره فی الشکّ فی الوجود أولی لقربه إلی الذهن، کما هو المقصود بالفعل . فمّما ذکرنا، ظهر أنّه لا یضرّنا حتّی لو تمسّکنا بحدیث زرارة من القول بالتعمیم .

کما أنّ لنا خبراً آخر وهو ما رواه الحمیری فی «قرب الاسناد»، عن علی بن جعفر، عن أخیه موسی بن جعفر علیه السلام ، قال : «سألته عن رجل رکع وسجد، ولم یدر هل کبّر أو قال شیئاً فی رکوعه وسجوده، هل یعتدّ بتلک الرکعة والسجدة؟ قال : إذا شکّ فلیمض فی صلاته»(1) .

حیث أنّه قد حکم بالمضی فی خصوص الصلاة، لأنّه قد ذکر فرداً من تلک الکبری، ولیس فیه ما یدلّ علی العمومیّة، حتّی یتمسّک به، ولا ینافی ما استفدناه من الخبر السابق کما لا یخفی، ونظائر ذلک کثیرة فی الباب 13 من أبواب الرکوع، فراجع. ومن الأخبار التی تستفاد منها هذه القاعدة، معتبرة إسماعیل بن جابر، قال : «قال أبو جعفر علیه السلام : إن شکّ فی الرکوع بعدما سجد فلیمض، وإن شکّ فی السجود بعدما قام فلیمض، کلّ شیء یشکّ فیه ممّا قد جاوزه ودخل فی غیره فلیمض علیه» (2).

تقریب الاستدلال یکون بمثل ما استدللنا فی الخبر السابق، وهو خبر زرارة، من ظهور ذیله فی إعطاء قاعدة کلّیة غیر منحصرة بباب الصلاة .

بل قد یمکن استفادة ذلک من موثّقة ابن أبی یعفور(3)، من مفهوم تعلیل ذیله، حیث یفهم منه حکماً کلّیاً، بأنّ التجاوز عن الشیء موجبٌ لعدم الاعتناء بالشکّ،


1- وسائل الشیعة: من أبواب الخلل الواقع فی الصلاة، الباب 23 ، الحدیث 9.
2- وسائل الشیعة: من أبواب الرکوع، الباب 13، الحدیث 4.
3- وسائل الشیعة: أبواب الوضوء، الباب 42 ، الحدیث 2 .

ص:319

وخروج مورد الروایة _ وهو الوضوء المذکور فی صدره _ لعلّه کان من جهة أنّ فی الوضوء خصوصیة أوجبت ذلک، لا أنّ القاعدة غیر معمول بها فیه، حتّی یستشکل فی الاستدلال بالتعلیل .

وممّا یستفاد منه هذه القاعدة، هو خبر محمّد بن مسلم، قال : «سمعت أبا عبداللّه علیه السلام یقول : کلّ ما مضی من صلاتک وطهورک فذکرته تذکّراً، فامضه ولا إعادة علیک فیه»(1) .

بناءً علی کون المراد من «التذکّر» أن یشمل تذکّر الشکّ فیما مضی من الصلاة والطهور، لا أن یکون المراد منه هو خصوص التذکّر من جهة نسیان الجزء أو الشرط، وإلاّ لا یکون مربوطاً بما نحن فیه .

هکذا بناءً علی أن یکون المراد، هو مطلق المضیّ، حتّی یشمل صورة التجاوز عن الجزء، مبتنیاً علی أن یکون حرف «من» فی قوله: «من صلاتک وطهورک» تبعیضیّة، حتّی یشمل التجاوز عن الجزء والشکّ فیه، لا أن یکون الحدیث مختصّاً بقاعدة الفراغ عن العمل کلّه، وإلاّ خرج عن الاستدلال بما نحن بصدده ودخل فی أدلّة قاعدة الفراغ .

وممّا یستفاد منه ذلک، حدیث بکیر بن أعین، قال : «قلت له : الرجل یشکّ بعدما یتوضّأ؟ قال : هو حین یتوضّأ أذکر منه حین یشکّ»(2) .

فإنّ ظاهره وإن کان فی الفراغ عن العمل، لظهور قوله: «بعدما یتوضّأ» فی ذلک، إلاّ أنّ التعلیل بذلک مشعرٌ بما نحن فیه، لأنّه أراد إفهام السائل أنّ الشکّ بعد مضی محلّ المشکوک ممّا لا یعتنی به، لأنّه حین العمل والتلبّس به کان أولی


1- وسائل الشیعة: أبواب الوضوء، الباب 42 ، الحدیث 6.
2- وسائل الشیعة: أبواب الوضوء، الباب 42 ، الحدیث 7.

ص:320

بالتذکّر فی إتیان العمل مطابقاً للمأمور به ، فیستفاد منه قاعدة التجاوز عن الجزء أیضاً فی کلّ عملٍ، سواء کان وضوءاً أو غیره من الصلاة، لا أن یکون مخصّصاً بالصلاة فقط .

فالذی یقوی عندنا من جمیع ما ذکرنا، هو کون قاعدة التجاوز من القواعد الکلّیة الجاریة فی جمیع أبواب العبادات، لو لم نقل بجریانها فی غیرها من المعاملات، کما أنّها قاعدة موافقة لقاعدة الصحّة الثابتة عند العقلاء، حیث یقولون بأنّ الشکّ یعتنی به فی محلّ المشکوک، لا فیما إذا تجاوز عنه .

فبناءً علیه، تکون القاعدة شاملة لحکم الشکّ فی الاجزاء فی الغَسل والتیمّم، بل الوضوء أیضاً .

إلاّ أنّ الوضوء خرج عن تلک القاعدة ، إمّا بالتخصیص أو لا یکون کذلک ، بل هو داخل فیها من ناحیته ولم یخرج عنها لا تخصیصاً ولا تخصّصاً.

ثمّ خروجه منها بالتخصیص هل کان تعبّدیاً أو کان بملاک آخر ؟

قد یقال : بأنّه داخل فی القاعدة ، إلاّ أنّ الشارع قد اعتبر الوضوء مع جمیع الأجزاء عملاً واحداً، بحیث لا یصدق التجاوز فی حقّه إلاّ بالفراغ عنه، کالتجاوز والفراغ عن الجزء فی الصلاة، مثل الخروج عن القراءة والفراغ عنها، والدخول إلی الرکوع، مع أنّ القراءة بنفسها مرکّبة، إلاّ أنّها یحتسب عملاً واحداً، وهکذا یکون الأمر فی الوضوء من جهة کون مسبّبه _ وهو الطهارة _ شیئاً واحداً ، فعلی هذا یکون الحکم بوجوب رعایة الشکّ فی أثناء الوضوء _ کما وقع فی حدیث زرارة _ مطابقاً لقاعدة التجاوز، فلا یکون خروجه حینئذٍ تخصیصاً ولا تخصّصاً .

ولکن ما یبعّد هذا الوجه.

أوّلاً: أنّه إن کان الملاک فی وحدة العمل فی الوضوء، هو وحدة مسبّبه _ وهو الطهارة _ کان اللازم حینئذٍ عدم انحصار ذلک الرعایة والاعتناء بالشکّ فی الأثناء

ص:321

قاصراً علی الوضوء بل یشمل الغُسل والتیمّم أیضاً لأنّهما أیضاً محصّلان للطهارة التی هی متّصفة بالوحدة ، فکیف حکموا باختصاص ذلک بباب الوضوء، کما هو کذلک فی الحدیث، إذ لم یرد فیه إشارة إلی الغُسل وغیره؟

وثانیاً : إنّ الشارع لو لم یُصرّح بتعدّد العمل فیه، لکان القول بذلک وجیهاً ، إلاّ أنّ الشارع قد صرّح بأنّ الوضوء مرکّبٌ من مجموع الأعمال والأفعال الأربعة من الغسلتین والمسحتین، کما ورد الإشارة إلی ذلک فی مرسلة الصدوق، إنّه قال : «وروی عن ابن عبّاس، أنّه قال : غسلتان ومسحتان»(1) .

بل فی خبر آخر ورد التعبیر بأنّه مرکّبٌ من الغسل والمسح، مثل ما ورد فی خبر أبی همام، عن أبی الحسن الرضا علیه السلام : «فی وضوء الفریضة فی کتاب اللّه تعالی: المسح والغسل فی الوضوء للتنظیف»(2) .

بل وأصرح من الخبرین السابقین دلالة نفس آیة الوضوء، علی أنّ الوضوء أمرٌ مرکّب، فمع ذلک کیف یمکن القول بأنّ الشارع قد عدّه عملاً واحداً .

فالأولی أن یقال : إنّ خروج الوضوء عن قاعدة التجاوز، وفقاً للأصل وقاعدة الاشتغال لا یتمّ إلاّ تعبّداً.

إلاّ إنّه یمکن عدّ حکمة هذا التعبّد، قلّة وقوع الشکّ فی الأجزاء فی باب الوضوء، أی أنّه قلّ ما یتّفق أن یشکّ الإنسان فی الأجزاء السابقة فی باب الوضوء، بخلاف الصلاة حیث أنّ وقوع الشکّ فی عدد رکعاتها کثیرة، مضافاً إلی الشکّ فی أجزائها فی بعض الموارد، حیث یکون ذلک کثیراً ، وحینما لاحظ الشارع المقدّس بأنّ الاعتناء بالشکّ فی مثل هذه الاُمور، التی یحدث الشکّ فیها


1- وسائل الشیعة: أبواب الوضوء، الباب 25 ، الحدیث 9.
2- وسائل الشیعة: أبواب الوضوء، الباب 25، الحدیث 11.

ص:322

کثیراً یوجب العسر والحرج بحسب العادة، وربما یبلغ حدّ الوسواس، ولهذا رفع عن العباد ما یترتّب علی الشکّ بعد التجاوز من الأحکام فی جمیع الموارد إلاّ الوضوء.

وقد عرفت أنّ ما قلنا یمکن أن یکون حکمةً للجعل، لا علّة له حتّی یدور الحکم مدارها ، وبرغم ذلک نقول : إنّ عقولنا قاصرة عن درک مثل هذه الحقائق ولا یعلم ذلک إلاّ الراسخون فی العلم، وهم الأئمّة علیهم السلام المتّصل علمهم اتّصالاً وثیقاً بمصدر الوحی والنبوّة .

فبناءً علی ما ذکرنا،یلزم أن یکون خروج الوضوء عن القاعدة تخصیصاً لاتخصّصاً . فهذا الوجه بنفسه حسن، إلاّ أنّ مبعّده هو ما قلناه آنفاً، من عدم انحصار هذه الحکمة بخصوص الوضوء، إذ الغُسل والتیمّم أیضاً یکون کذلک، أی قلّ ما یتّفق الشکّ فی إتیان الجزء السابق، فکیف انحصر الحکم فی خصوص الوضوء، فلایبقی إلاّ القول بالخروج عن القاعدة تعبّداً، ونحن مستسلمون لأمرهم، ومتعبّدون بکلامهم، ولیس لنا حقّ الاعتراض علیهم، کما لا یخفی .

وأمّا حکم الشکّ فی الأجزاء فی الغُسل والتیمّم : ففی «الجواهر» حکم بعدم التعدّی عن الوضوء إلی الغُسل، فلو شکّ فی جزء منه، فلابدّ أن لا یلتفت إلی الشکّ ، وقال : «إنّه باقٍ علی القاعدة من عدم الالتفات إلی الشکّ فی شیء من أجزائه، مع الدخول فی غیره من الأجزاء . نعم لا یبعد إلحاق التیمّم به ، ومن العجب ما وقع للفاضل فی «الریاض» من جریان حکم الوضوء فی الغُسل، فیلتفت إلی کلّ جزء وقع الشکّ فیه، مع بقائه علی حال الغُسل، ولم أعثر علی مثل ذلک لغیره» ، انتهی محلّ الحاجة من کلامه .

ولکن قال الشیخ الأعظم فی کتاب «الطهارة»(1) : «بل مطلق الطهارة الشاملة


1- کتاب الطهارة: ص155.

ص:323

للغُسل، علی ما صرّح به العلاّمة، وأکثر من تأخّر عنه، کفخر الدِّین والشهیدین والمحقّق الثانی وغیرهم، وتخیّل بعضٌ تفرّد السیّد فی «الریاض» بذلک، فتعجّب منه، وقال : لم أعثر علی ذلک لغیره، وجعل منشأ توهّم التعمیم، إطلاق لفظ الطهارة فی کلام جماعة، وهو کما تری» ، انتهی کلامه .

ونحن نلحق کلمات فقهائنا المتأخّرین بما ذکره رحمه الله عن حکم الغسل والتیمّم وأنّ حکمهما کحکم الوضوء من الاعتناء بالشکّ فی الأثناء مثل العلاّمة البروجردی والاصطهباناتی ، وللسیّد جمال الگلپایگانی، والسیّد محمّد رضا الگلپایگانی، بل ذهب آخرون منهم إلی الإلحاق من باب الاحتیاط الوجوبی کالشاهرودی، والسیّد الاصفهانی وغیرهما .

بل قد ادّعی شیخنا الأنصاری فی «کتاب الطهارة» الشهرة عند المتأخّرین، هذا بالنظر إلی الأقوال .

وأمّا بالنظر إلی الدلیل، فکلّ من ذهب إلی تعمیم قاعدة التجاوز بعدم اختصاصها بالصلاة، فلا یشکّک حینئذٍ من شمولها للغُسل والتیمّم، فلازمه عدم الإلحاق، فینحصر الإخراج لخصوص ما هو المنصوص، وهو الوضوء فقط .

وأمّا إن قلنا بالاختصاص، کما عرفت من ذهاب جماعة إلیه، فحینئذٍ لابدّ من الاعتناء بالشکّ فی الأثناء فیهما ، إمّا من جهة العمل بمقتضی قاعدة الاشتغال، وأصالة عدم ارتفاع الحدث ، وإمّا من جهة تنقیح المناط فی الوضوء وتعمیم الحکم إلی مطلق الطهارة، من جهة أنّ هذه الثلاثة مشترکة فی کونها محصّلاً للطهارة المسبّبیة، فلایبقی لنا دلیل یدلّ علی عدم الاعتناء بالشکّ حینئذٍ، حتّی یُرفع الید عن مقتضی القاعدة والأصل .

نعم، قد عرفت من صاحب «الجواهر» قدس سره الفرق بین الغُسل بعدم الإلحاق، وبین التیمّم بالإلحاق، ولعلّه کان یقصد انقضاء حکم البدلیة لذلک، وإلاّ لا وجه له

ص:324

یذکر للتفصیل المذکور.

مع أنّه مخدوش أیضاً، لأنّه لو کان یقتضی البدلیة هذا التفصیل بین الغُسل والتیمّم، فإنّه یقتضی القول بالتفصیل فی التیمّم أیضاً بین ما یکون بدلاً عن الوضوء فبالإلحاق، وبین غیره بعدم الإلحاق، لا الإلحاق فی التیمّم مطلقاً .

ولکن الحقّ عندنا هو ما عرفت من مختارنا فی أصل القاعدة، من عدم اختصاصها بباب الصلاة ، بل تجری فی جمیع الموارد، من الحجّ والعمرة والغُسل والتیمّم والوضوء وغیرها من العبارات المرکّبة، فخرج منها قطعاً، بصراحة النصّ الوضوء، فیبقی الباقی تحته، ولازمه عدم الاعتناء بعد التجاوز عن محلّ ذلک المشکوک، خصوصاً إذا کان مع فصل طویل فی الأثناء، کما فی الغُسل، وإن کان الاحتیاط بالاعتناء لا یخلو عن حُسن، لما عرفت من إمکان احتمال اختصاص حکم صحیحة زرارة بلزوم الاعتناء بالشکّ فی مطلق الطهارة، کما وقعت الجملة فی کلمات القوم .

هاهنا فروع نشیر إلیها:

الفرع الأوّل : إذا عرفت أنّ الحکم فی الشکّ فی أجزاء الوضوء، هو الالتفات إلیه، ووجوب إعادة المشکوک وما بعده، بلا فرق بین کون الجزء المشکوک هو النیّة أو غیرها، وذلک بمقتضی عموم صحیح زرارة، أو لا خصوصیة فی الشکّ فی غَسل الذراع المذکور بالخصوص، کما یستأنس العموم من ذیله فی قاعدة الفراغ بعدم الاعتناء، فإنّه إذا شکّ فی بعض ما أوجب اللّه علیه کالنیّة مثلاً، فإنّ علیه أن یعتنی بالشکّ، إذا کان قبل الفراغ فی الوضوء، ولو کان متعلّقه بالنبیّة .

وأیضاً لا فرق فی الحکم بوجوب الالتفات فی الأثناء، بین ما یکون الشکّ فی الأجزاء والأفعال، أو فی الشروط من الترتیب والموالاة وغیرهما، حیث أنّ الشکّ

ص:325

فی شیء منهما، شکٌّ فی صحّة الفعل وفساده .

وبعبارة اُخری یرجع الشکّ فی الصحّة والفساد إلی الشکّ فی وجود الفعل وعدمه .

هذا، مضافاً إلی ما عرفت من إمکان استفادة ذلک من لفظ «الشیء» الموجود فی موثّقة ابن أبی یعفور، بقوله : «إنّما الشکّ فی شیء لم تجزه»، بناء علی أنّ المستفاد من مفهومه هو العود فی الشکّ فی الأجزاء إذا کان فی الأثناء، فیکون الشرط مثل الجزء من لزوم الاعتناء بالشکّ فیه.

ووافقنا علی ذلک کثیر من المتأخّرین، کصاحب «الجواهر»، والشیخ الأعظم، والمحقّق الهمدانی، والآملی، والحکیم، وجمیع أصحاب التعالیق علی «العروة» موافقین بذلک مع السیّد فی «العروة»، ومن هنا قال السیّد فی «المنظومة» :

والشکّ فی الشرط نظیر الشَّطر فکلّ ما فیه ففیه یجری

کما لا فرق فی الشرط بین کونه شرطاً مقارناً للوضوء، وداخلاً فی حقیقته، أو کان شرطاً خارجاً عن حقیقة الوضوء، ومرتبطاً به، نظیر تطهّر ماء الوضوء، وتطهّر أعضائه، ولزوم إطلاق الماء، ونظائر ذلک لما قد عرفت بأنّ الشکّ فی هذه الاُمور شکّ فی شیء من الوضوء، فیشمل بإطلاقه هذه الاُمور .

أحکام الوضوء / فی حکم کثیر الشک فی أفعال الوضوء

بناءً علی ما ذکرنا فإنّ المذکور فی «الجواهر»(1) من الإشکال فیه بقوله : «إقامة الدلیل علی ذلک مشکلٌ، بعد البناء علی شمول قاعدة عدم الالتفات للمشکوک، مع الدخول فی غیره لنحو الشرائط، فإنّ دعوی تخصیصها بصحیحة زرارة المتقدّمة ضعیفة، لعدم شمولها لنحوه، والتنقیح ممنوع، لعدم المنقح من إجماعٍ أو عقلٍ، وعدم ظهور الإجماعات المنقولة فی تناوله مثله . اللّهمَّ إلاّ أن


1- جواهر الکلام: ج2 / ص356.

ص:326

یقال : إنّ ذلک یرجع إلی الشکّ فی الصحّة والفساد، وقد تقدّم جریان الحکم فیه، لکن إقامة الدلیل علی الشمول للصحّة بهذا المعنی أیضاً لا یخلو من نظر، فتأمّل جیّداً» . فی غیر محلّه، لما قد عرفت من شمول الدلیل، وعدم وجود مخالف صریح فی ذلک، مضافاً إلی کون الحکم بالرجوع موافق للاحتیاط، وإن کان لولا ما استظهرناه من ظهور رجوع الشکّ فی شیء من الشرائط إلی الشکّ فی الصحّة والفساد؛ کان مقتضی العمل علی طبق القواعد المقرّرة فی الاُصول فی الشبهة المصداقیة للمخصّص، _ وهو الرجوع إلی عموم العام _ إثبات ما ذکره صاحب «الجواهر» قدس سره .

فالأقوی عندنا هو الحکم بلزوم المراعاة والالتفات إلی الشکّ فی الأجزاء والشرائط مطلقاً، إذا کان فی حال الوضوء، کما لایخفی، ما لم یحصل فوت الموالاة بالجفاف وغیره، وإلاّ یجب الاستئناف، لما قد حقّقنا سابقاً من وجوب تحصیل الموالاة، سواء کان فی حال الشکّ فی الأجزاء أو الشرائط أم لا، فلا نعیده .

الفرع الثانی : قد عرفت منّا سابقاً بالتفصیل، أنّ حکم الظنّ مساوٍ لحکم الشکّ فی کثیر من الأحکام، لو لم یقم علی اعتباره دلیل شرعی، لعدم القطع بحجّیة مثله، بل الشکّ فی الحجّیة مساو لعدم الحجّیة، کما علیه جماعة من الفقهاء فی هذا الباب وغیره، ممّا یناسب ذکره، کما هو ظاهر «الغنیة» و«المقنعة» و«المراسم» و«الکافی» و«السرائر» و«المعتبر» و«المنتهی» وصاحب «العروة» وأصحاب التعلیقة علیها، والشیخ الأعظم، وصاحب «الجواهر»، والمحقّق الهمدانی، والآملی وغیرهم، لاحتمال أن یکون المراد من الشکّ هو عدم الیقین کما وقع هذا التفسیر فی بعض کتب أهل اللغة، کما ذکرناه سابقاً، فلا یبعد شمول الروایة المتقدّمة، وهی صحیحة زرارة لمثله أیضاً، فیحکم بوجوب الالتفات لو

ص:327

ظنّ بعدم الإتیان أو ظنّ بالإتیان، فی الجزء أو الشرط، إلاّ أن یصل إلی حدّ الاطمئنان العقلائی بالفعل، فحینئذٍ لا یبعد جواز الاکتفاء به، لصحّة إطلاق الیقین علی الاطمئنان عندهم ، وکیف کان فالمسألة واضحة بحمد اللّه .

الفرع الثالث : قیّد الأصحاب حکم وجوب الالتفات إلی الشکّ فی الأثناء فی باب الوضوء بما إذا لم یکن کثیراً ، ولعلّ أوّل من قیّد هو ابن إدریس فی «السرائر» وتبعه بعد ذلک الشهیدان والمحقّق الثانی فی «شرح القواعد»، والسیّد فی «المدارک»، والفاضل الهندی فی «کشف اللثام»، والخوانساری فی «شرح الدروس»، والسیّد فی «العروة»، وأکثر أصحاب التعالیق.

بل فی «الجواهر» قوله: «لا أجد فیه خلافاً»، ونقله المحقّق الهمدانی واختاره.

بل الشیخ الأعظم وأکثر المعاصرین، من الخوئی والخمینی والشاهرودی والبروجردی وغیرهم علی ذلک، خلافاً للسیّد الاصفهانی، والآملی، لولا ذهاب المتأخّرین إلیه والحکیم فی غیر صورة الوسواس، وما یعلم کونه من الشیطان.

فالمهمّ فی المقام هو ملاحظة الأدلّة ودلالتها.

وقد استدلّ علی ذلک _ کما عن الشیخ الأعظم _ بدلیل العسر والحرج، وقد أورد علیه _ کما عن السیّد الاصفهانی، والآملی والحکیم _ أنّه لا یعدّ دلیلاً حتّی فی مورد حکم کثیر الشکّ الذی ورد فیه وهو الصلاة، فضلاً عن غیرها .

أو قیل : بأنّ هذا الدلیل لا یثبت إلاّ مقدار ما یستلزمه لا مطلقاً، حتّی فیما لایلزمه لو اعتنی بالشکّ، کما هو المدّعی، أی عدم الالتفات به مطلقاً، وإثباته کذلک من دلیل العسر والحرج مشکلٌ جدّاً .

ولکن یمکن أن یحامی عن الشیخ الأعظم قدس سره بأنّه أراد منه أنّ من شکّ کثیراً لو اعتنی بشکّه، وکان معتبراً یستلزم بحسب النوع العسر والحرج ، فالشارع حینما لاحظ ذلک حکم بعدم الالتفات بواسطة الأدلّة الواردة فی باب الصلاة، فیکون

ص:328

ملاک العسر والحرج هو الحکمة لجعل الشارع، وحکمه بعدم الاعتناء، فذلک لایحتاج إلی ملاحظة العسر والحرج الشخصی حتّی یقال فیه بما قاله الخصم، من أنّه یجری فیه فی موردهما، کما فی «مصباح الهدی»(1) وغیره .

فبناءً علی ما ذکرناه صحّ ما ذکره الشیخ بقوله : «لولاه یلزم العسر والحرج»، ولایکون ببعید بالنسبة إلی المبتلی بذلک فی الصلاة أو غیرها .

وممّا استدلّ به، الأخبار الواردة فی باب (کثیر الشکّ فی الصلاة):

منها: ما رواه الکلینی بسنده الصحیح إلی محمّد بن مسلم عن أبی جعفر علیه السلام ، قال : «إذا کثر علیک السهو فامض علی صلاتک، فإنّه یوشک أن یدعک، إنّما هو من الشیطان»(2) .

ومنها: خبر ابن سنان(3)، وخبر الصدوق(4) .

فإنّ التعلیل بکونه من الشیطان، یفهم منه تعمیم الحکم لکلّ مورد عَرَض له الشکّ کثیراً، لاسیما فی العبادات _ أی ما یعتبر فیه قصد القربة _ غایة الأمر تکون الصلاة أکثر من غیرها، فاحتمال أن یکون من الشیطان من جهة خصوص کثرة الشکّ فی الصلاة.

واستناد ذلک إلی النصوص، کما عن الحکیم قدس سره فی «المستمسک» فی المسألة 46 فی شرائط الوضوء، ممّا لاینبغی أن یُصغی إلیه، لأنّ التعلیل لم یرد مقیّداً بکون الکثرة لخصوص الصلاة ، بل کان موردها فی الصلاة، والعبرة بعموم الوارد لا بخصوص المورد.


1- مصباح الهدی: ج4 / ص529 .
2- وسائل الشیعة: أبواب الخلل الواقع فی الصلاة، الباب 16 ، الحدیث 1 .
3- وسائل الشیعة: أبواب الخلل الواقع فی الصلاة، الباب 16، الحدیث 3 .
4- وسائل الشیعة: أبواب الخلل الواقع فی الصلاة، الباب 16، الحدیث 6 .

ص:329

مع إمکان القول أیضاً بأنّ الوضوء یکون من توابع الصلاة کالأذان والإقامة، ولعلّ هذا المقدار من المناسبة کان کافیاً فی إجراء الحکم فیه، مع أنّا لا نحتاج إلیه حتّی یرد علینا ما أورده الحکیم، بأنّ تابعیّة الوضوء للصلاة غیر کافٍ فی الإلحاق، حتّی یتّحد حکمه مع حکم کثیر الشکّ فی الصلاة .

ومنها: ما رواه الکلینی بسنده الصحیح أو الحسن عن ابن هاشم عن زرارة وأبی بصیر، جمیعاً قالا : «قلنا له: الرجل یشکّ کثیراً فی صلاته حتّی لا یدری کم صلّی ولا ما بقی علیه؟ قال : یعید ، قلنا : فإنّه یکثر علیه ذلک کلّما أعاد شکّ؟ قال : یمضی فی شکّه. ثمّ قال : لا تعوّدوا الخبیث من أنفسکم نَقْض الصلاة فتطمعوه، فإنّ الشیطان خبیثٌ معتاد لما عوّد، فلیمض أحدکم فی الوهم، ولا یکثرنّ نقض الصلاة، فإنّه إذا فعل ذلک مرّات لم یعد إلیه الشکّ . قال زرارة : ثمّ قال : إنّما یرید الخبیث أن یُطاع، فإذا عصی لم یعد إلی أحدکم»(1) .

منها: ما قد یعدّ مؤیّداً موثّقة سماعة، عن أبی بصیر، عن أبی عبداللّه علیه السلام : «قال : لا سهو علی من أقرّ علی نفسه بسهوٍ»(2) .

منها: ما رواه الکلینی بسنده الصحیح، عن عبداللّه بن سنان، قال : «ذکرت لأبی عبداللّه علیه السلام رجلاً مبتلی بالوضوء والصلاة وقلت : هو رجلٌ عاقل ، فقال أبو عبداللّه علیه السلام : وأیّ عقلٍ له، وهو یطیع الشیطان؟ فقلت له : وکیف یطیع الشیطان؟ فقال : سله هذا الذی یأتیه من أیّ شیء هو، فإنّه یقول من عمل الشیطان»(3) .

فإنّ ابتلاء الرجل بالوضوء والصلاة، لیس إلاّ من جهة کونه کثیر السهو والوسوسة فی أنّه هل أتی بالجزء أو لا؟ وما أتاه هل کان صحیحاً أم لا ؟ أو هل


1- وسائل الشیعة: أبواب الخلل الواقع فی الصلاة، الباب 16، الحدیث 2.
2- وسائل الشیعة: أبواب الخلل الواقع فی الصلاة، الباب 16 ، الحدیث 8 .
3- وسائل الشیعة: أبواب المقدّمة العبادات، الباب 10 ، الحدیث 1.

ص:330

توضّأ أم لا؟ وهکذا، فإنّ الاعتناء بمثل هذه الشکوک والإتیان بالمشکوک کراراً یعدّ من عمل الشیطان، سواء کان فی الصلاة أو الوضوء أو غیرهما لعدم خصوصیة فیهما، حیث أنّ العرف یفهم من أمثال هذه العبارة أنّ المبغوض هو نفس الالتفات والاعتناء بالشکّ، لا کونها فی الصلاة أو فی الوضوء .

وفی «مصباح الهدی» للآملی، قال : «وأمّا التعلیل الوارد فی الخبرین (خبری زرارة ومحمّد بن مسلم) فالظاهر أنّه حکمة التشریع، لا علّة الحکم، فلا اطراد فیه . وأمّا صحیح ابن سنان، فلا ظهور فیه فی کونه فی مورد الابتلاء بکثرة الشکّ ، فالأحسن أن یستدلّ بکون الوضوء من توابع الصلاة، بمعنی إلحاق توابعها بها فی حکم کثیر الشکّ، لکنّه ینفع فیما إذا کان الاعتناء بالشکّ موجباً لإعادة الصلاة، کالشرائط الداخلیة لها مثل الستر والقبلة، ولا یعمّ الخارجیة منها کالطهارات الثلاث، فضلاً عن التعمیم لمطلق العبادات مثل الحجّ، أو تعمیمه للمعاملات أیضاً ، لکن الحکم بعدم الاعتناء بین المتأخّرین ممّا لا خلاف فیه»(1) . انتهی کلامه .

أقول: وفی کلامه مواقع للنظر؛ الأوّل : إنّ التدقیق فی صدری فی خبری زرارة وأبی بصیر من حکم الإمام علیه السلام فی ابتداء السؤال بالإعادة فی مورد الشکّ فی الرکعات، وما بقی منها، وجواب زرارة، بقوله : «فإنّه یکثر علیه ذلک کلّما أعاد شکّ» .

فأجاب علیه السلام : بأنّه یمضی فی شکّه، ومن ثمّ ذکر علیه السلام التعلیل هاهنا، فهل یصحّ فی مثل هذا المورد، مع هذه المقدّمات، أن تکون الجملة التعلیلیة فی مقام بیان حکمة الجعل؟! أم أنّ المقصود هو ذکر علّة حکمه بعدم الالتفات عقیب حکمه بالالتفات فیما قبله، لوضوح أنّ کیفیّته بیان حکمة التشریع کان لأجل إفهام أنّ الحکم الصادر یکون بحسب النوع لا أنّه بصدد بیان الحکم الشرعی، لأنّه قد بیّن


1- مصباح الهدی: ج3 / ص529.

ص:331

أوّلاً حکم المسألة ثمّ ذکر علّته، کما فی المقام، خصوصاً مع ملاحظة تفصیل کلامه بخباثة الشیطان وعودته إذا اعتاد، بخلاف ما لو لم یلتفت إلیه عند کثرة الشکّ فلا یعود بعد ذلک، فإنّ جمیع ذلک یناسب حال التعلیل لا حکمة التشریع .

والثانی : إنّ الابتلاء الوارد فی خبر ابن سنان لو لم یکن المراد هو کثیر الشکّ، فما یکون إذن المراد منه ؟ لعلّه رحمه الله قصد أنّ مورده هو الوسوسة لا کثیر الشکّ الذی هو أعمّ منه .

فنقول حینئذٍ : بأنّ لفظ «الوسوسة» لم یقع ولم یرد فی لسان الأدلّة، حتّی فی باب الصلاة، بل الموضوع الذی عدّ رکیزة للحکم حتّی فی باب الصلاة، لیس إلاّ کثیر الشکّ . غایة الأمر أنّ العرف یستعملون لمن کان مبتلی بهذا الوصف، بأنّه مبتلی بالوسوسة، فأیّ فرق بین القول بأنّ الرجل مبتلی بالوضوء، أو أنّه کثیر الشکّ، أو یقال له إنّه مریض بمرض الوسوسة، ونظائر ذلک ، إذ من الواضح أنّ المقصود من کثرة الشکّ، أو الابتلاء، لیس مطلق ما یصدق علیه کثرته، من غیر دخوله فی عنوان ما اتّخذه الشارع موضوعاً للحکم .

فالإشکال بأنّ الابتلاء غیر کثیر الشکّ، ممّا لا ینبغی أن یُعتنی به، کما لایخفی .

وثالثاً : إنّ الحکم فی التوابع بالالتفات فی شکّه بخصوص ما یوجب إعادة الصلاة یعدّ أعجب من قوله السابق، لوضوح أنّ کثیر الشکّ فی الصلاة یکون غیر معتنٍ بشکّه مطلقاً، أی لا یعتنی به سواء استلزم إعادة الصلاة، أو إعادة المشکوک، لا أن یعتنی بشکّه فی خصوص الصلاة بإعادة أصل الصلاة ، ولهذا قال الإمام علیه السلام : «یمضی فی شکّه»، أی لا یعتنی بما یقتضی شکّه، کما یدلّ علیه خبر محمّد بن مسلم، حیث قال علیه السلام : «إذا کثر علیک السهو فامض فی صلاتک»، أی لا تعتنی بالشکّ بإعادة المشکوک من أی نوع کان . فلعلّ ما ذکرناه هو السبب فی حکم المتأخّرین فی المقام فلا یکون کلامهم بلا دلیل ، فلیتأمّل .

أحکام الوضوء / فی حکم القطّاع فی أفعال الوضوء

ص:332

وممّا یؤیّد ما ذکرناه خبر الواسطی، عن بعض أصحابه، عن أبی عبداللّه علیه السلام قال : «قلت : جُعلت فداک، أغسل وجهی، ثمّ أغسل یدی ویشکّکنی الشیطان أنّی لم أغسل ذراعی ویدی؟ قال : إذا وجدت برد الماء علی ذراعک فلا تعد»(1) .

حیث یدلّ علی أنّ الأمارة الموجودة للإتیان کافٍ فی عدم لزوم الإعادة، وهذا الحکم الصادر منه علیه السلام لأجل علم الإمام علیه السلام فی حقّ من یکثر شکّه وأنّ کثرة الشکّ والوسوسة منه لأجل وسوسة الشیطان فیه، ومن هنا جعل له الإمام علامة وهی تفید أنّ ما حکم به یکون حکماً مجعولاً لجمیع الناس، لوضوح عدم إمکان الاعتماد علی الحکمین من الإعادة وعدمها بتلک العلامة وعدمها، کما لایخفی .

ثمّ لا یخفی علیک أنّ المراد من کثیر الشکّ فی هذا المقام، هو الذی یکثر عنده الاحتمال، سواء کان الاحتمال مساویاً، وکان شکّاً بالمعنی الأخصّ، أو احتمالاً راجحاً، أی کان ظنّاً غیر معتبر، أو کان مرجوحاً ، فکثیر الظنّ بالظنّ الذی لم یقم علی اعتباره دلیل یکون فی حکم کثیر الشکّ .

وأمّا حکم القطّاع، أی من کان مبتلی بکثرة القطع ، ففی «الجواهر»(2): «وأمّا القطع، فإن کان فی جانب العدم، فلا یلتفت أیضاً، إلاّ إذا علم سبب القطع، وکان ممّا یفید صحیح المزاج قطعاً، وإن کان فی الوجود، فالظاهر اعتبار قطعه، إلاّ إذا حفظ سبب القطع، وکان ممّا لا یفید صحیح المزاج قطعاً ، فتأمّل جیّداً» انتهی کلامه . وکلامه لا یخلو عن مناقشة فی الجملة، وهی أنّه قد اشتهر فی الألسن بأنّ القاطع لا یری إلاّ الواقع، فإذا قطع بأنّ القطرة الفلانیة بول یحکم عنه نفسه قهراً بوجوب الاجتناب عنها ، فالحکم بعدم الاعتناء بقطعه، مع الحکم بوجوب


1- وسائل الشیعة: أبواب الوضوء، الباب 42، الحدیث 4.
2- الجواهر: ج2 ص359 .

ص:333

الاجتناب المستفاد من دلیله یکون متناقضاً ، إلاّ أن یرجع الأمر بالنسبة إلیه بالترخیص فی مخالفة الواقع، ولو لمصلحة رفع الوسوسة والمرض .

نعم ، یصحّ أن یقال لمن یعلم أنّه یکون مبتلی بهذا المرض، بأنّ القطع الحاصل لک من هذه الأسباب، لا یکون لک عذراً، فلازم ذلک أنّه لو حصل له تلک الأسباب، وحصل له القطع، ففی حال حصوله لا یمکن منعه عمّا یراه، وذلک لما قد عرفت من لزوم التناقض عنده ، إلاّ أنّه یمکن للمولی احتجاجه وعقوبته بعد ذلک لو أصاب خلاف الواقع، لما قد قامت له الحجّیة قبل حصوله .

وأمّا بعد حصول القطع للقاطع _ ولو کان قطّاعاً_ لایمکن شمول ما قاله صاحب «الجواهر» من التفصیل فی حقّه من الاعتبار إن کان حصوله ممّا یفید صحیح المزاج قطعاً، وإلاّ فلا ، سواء کان فی الوجود أو العدم والترک .

لأنّه أوّلاً: تکون حجّیة القطع الطریقی ذاتیّاً لا مجعولاً شرعیّاً، حتّی یدعی انصراف دلیل حجّیة القطع إلی ما یحصل من المتعارف للمتعارف، إذ العقل یحکم بحجّیّته مطلقاً، سواء ثبت له ذلک من الأسباب المتعارفة لعامّة الأفراد المتعارفة، أو من غیرها لغیرها .

أحکام الوضوء / لو تیقّن الطهارة و شک فی الحدث

فما ادّعی بعض فی الاُصول بالانصراف لا یخلو عن خطأ واشتباه .

وثانیاً : کیف یمکن إفهامه ذلک، حتّی لا یلزم عنه الحکم بالمتناقضین، إلاّ أن یکون المقصود ترخیصه فیه، وذلک ممّا لا کلام فیه .

وثالثاً : علی فرض تسلیم ذلک، فکیف لا یجری الکلام فی القطع الذی حصل له، بأنّ قطعه بالشیء من الوجود أو العدم کان من المتعارف أو من غیره، لإمکان أن یکون هذا القطع الصادر منه من القطع الذی لا یحصل لمن له المزاج الصحیح ، مضافاً إلی لزومه التسلسل، لأنّ کلّ قطع حصل له یجری فیه الکلام المذکور، وهو باطل قطعاً .

ص:334

ولو تیقّن الطهارة وشکّ فی الحدث، أو شکّ فی شیء من أفعال الوضوء بعد انصرافه، لم یعد (1).

فثبت من جمیع ما ذکرناه أن قطع القطّاع حجّة فی حال قطعه، وإن کان فی بعض الموارد لا یکون معذّراً کما قد عرفت توضیحه .

(1) اعلم بأنّ ما فی المتن یعدّ القسم الثالث والرابع من الشکّ فی الطهارة فرضهما أنّه من تیقّن الطهارة وشکّ فی حدوث الحدث، فإنّه لم یرجع إلی الطهارة، أی لایجب علیه إعادتها، وهکذا لو شکّ فی شیء من أفعال الوضوء بعد الفراغ عن العمل.

أمّا الحکم بعدم الإعادة فی القسم الأوّل فهو من جهة وجود الإجماع منقولاً ومحصّلاً، کما قاله فی «الجواهر»، مضافاً إلی استصحاب الطهارة ولم یشاهد خلافاً عن أحد، إلاّ عن الشیخ البهائی فی کتابه «حبل المتین»، قال ما لفظه _ علی ما نقله المحقّق الهمدانی فی «مصباح الفقیه»(1): «ثمّ لا یخفی أنّ الظنّ الحاصل بالاستصحاب، فیمن تیقّن الطهارة وشکّ فی الحدث، لا یبقی علی نهج واحد ، بل یضعف بطول المدّة شیئاً فشیئاً ، بل قد یزول الرجحان، ویتساوی الطرفان، بل ربّما یصیر الطرف الراجح مرجوحاً، کما إذا توضّأ عند الصبح مثلاً، وذهل عن التحفّظ، ثمّ شکّ عند الغروب فی صدور الحدث منه، ولم یکن من عادته البقاء علی الطهارة إلی ذلک الوقت .

والحاصل: أنّ المدار علی الظنّ، فما دام باقیاً فالعمل علیه وإن ضعف» انتهی کلامه . وحاول المحقّق الخوانساری قدس سره «شارح الدروس» توجیه کلام


1- مصباح الفقیه، کتاب الطهارة: ص308.

ص:335

البهائی قدس سره لقوله: أنّه أراد بأنّ الحکم بالاستصحاب إنّما یکون من باب حجّیة الظنّ بالبقاء، فیکون مدار الحکم بالبقاء مدار بقاء الظنّ، لا من باب الاخبار، حیث لا یناط فیها لملاک بقاء الظنّ.

ولکن فی کلام القائل والمفسّر کلیهما مناقشة ، فأمّا فی الأوّل: لما قد حقّق فی محلّه بأنّ حجّیة الاستصحاب إنّما یکون من باب الأخبار _ بل لایبعد القول ببناء العقلاء علی ذلک _ لا بملاک الظنّ حتّی یدور الحکم مداره .

وأمّا فی الثانی: حتّی لو سلّمنا کون حجّیته من باب الظنّ، ولکنّه لیس المراد هو الظنّ الشخصی حتّی یختلف وجوده بحسب اختلاف المستصحب الواحد من الحیاة والزوجیة والملکیة بحسب اختلاف حال الأشخاص، من جهة بقاء الظنّ وعدمه ؛ بل الملاک هو الظنّ النوعی، حیث لا یقع فیه الاختلاف فی تلک الأمثلة، بحسب طبع القضیة، من دخالة حالات الأشخاص فیه .

مضافاً إلی أنّه لو سلّمنا کون حجّیته من باب الظنّ الشخصی، فأیّ دلیل یدلّ علی حجّیة بقاء هذا الظنّ لولا الاخبار، لوضوح أنّ مطلق الظنّ لیس بحجّة .

وکیف کان، فالمسألة من هذه الجهة واضحة لدلالة الأخبار علی الصحّة والحکم بالطهارة فی مورده، لولا الاستصحاب، وهو مثل ما دلّ علیه صحیحة زرارة، قال : «قلت له : الرجل ینام وهو علی وضوء أتوجب الخفقة والخفقتان علیه الوضوء؟ فقال : یا زرارة قد تنام العین ولا ینام القلب والاُذن، فإذا نامت العین والقلب والاُذن وجب الوضوء . قلت : فإن حرّک علی جنبه شیء ولم یعلم به؟ قال : لا ، حتّی یستیقن أنّه قد نام حتّی یجیء من ذلک أمر بیّن، وإلاّ فإنّه علی یقین من وضوئه، ولا تنقض الیقین أبداً بالشکّ وإنّما تنقضه بیقین آخر»(1) .


1- وسائل الشیعة: من أبواب النواقض الوضوء، الباب 1، الحدیث 1.

ص:336

وموثّقة ابن بکیر، عن أبیه _ علی ما نقله الشیخ فی «التهذیب» لا علی ما نقله صاحب «الوسائل» نقلاً عن «الکافی»، وهذا الخبر منقولٌ فی «جامع أحادیث الشیعة»(1)_ : قال : «قال لی أبو عبداللّه علیه السلام : إذا استیقنت أنّک توضّأت، فإیّاک أن تحدث وضوء أبداً حتّی تستیقن أنّک قد أحدثت»(2) .

بل ربّما یدلّ علی المطلوب، علی حسب ما هو الموجود فی «الوسائل» من قوله : «إذا استیقنت أنّک قد أحدثت فتوضّأ، وإیّاک أن تُحْدِث وضوءاً أبداً حتّی تستیقن أنّک قد أحدثت» .

أحکام الوضوء / لو شک فی الحدث فی أثناء الطهارة

لأنّه قد حکم بعد الوضوء ببقائه، حیث حذّر من الإعادة، إلاّ أن یستیقن بالحدث ، مضافاً إلی نقل الإجماع، کما عن «الخلاف» و«المنتهی»، بل عن العلاّمة فی «التذکرة» عدم معرفة الخلاف إلاّ عن مالک .

نعم فی «الجواهر» قد تمسّک لإثبات الحکم بالطهارة، بأنّ الحکم بوجوب الإعادة بمثل هذا الشکّ یوجب العسر والحرج .

ولکن لا یخلو الاستدلال من وهن واضح، لوضوح عدم استلزامه بحسب النوع ، مضافاً إلی أنّه یرفع الید عنه بحسب مقتضی مورده لا مطلقاً، کما لا یخفی علی المتأمّل، ولذلک لم یتبعه أحد من الفقهاء فیه .

ثمّ إنّ الشکّ فی الحدث کما لا یعتبر إذا وقع بعد الطهارة، فکذلک إذا وقع فی أثناء الطهارة، لأصالة عدم وقوع الحدث الذی یعدّ أصلاً موضوعیّاً مقدّماً علی سائر الاُصول، لأنّه یزیل الشکّ عن بقاء الطهارة، فبذلک یوجب تحقّق الموضوع لأفعال الوضوء، فیکون داخلاً تحت عمومات الکتاب والسنّة من لزوم الإتیان


1- جامع أحادیث الشیعة: ج1، الباب 12 من أبواب الوضوء،، الحدیث 1.
2- وسائل الشیعة: من أبواب النواقض الوضوء، الباب 1 ، الحدیث 7.

ص:337

بها . مضافاً إلی استصحاب صحّة الأجزاء السابقة، وصحّة تأهّلها لإلحاق الأجزاء اللاّحقة بها، بناءً علی القول بجریانها، فیکون تفصیل الکلام موکولاً إلی محلّه .

وهذا، خلافاً للشهید الأوّل فی «البیان» حیث قال علی ما نقله الشیخ عنه فی کتاب «الطهارة»(1) ما لفظه : «لو شکّ فی أثناء الطهارة فی حدث، أو نیّة أو واجب، استدرک، وبعد الفراغ لا یلتفت» انتهی .

بل هو محتمل کلام «المقنعة» و«المبسوط» و«الوسیلة» و«اللمعة» .

ولعلّ وجه الحکم المذکور _ کما یستفید من «المقنعة» _ أنّه یعتبر فی الوضوء إحراز أفعاله، وإحراز وجودها علی الوجه الصحیح، فیستأنف عند الشکّ فی الأجزاء والشرائط کذلک حتّی یحرز بقاء صحّتها إلی حین الفراغ، فیستأنف مع الشکّ فی بقاء الصحّة، بل الشکّ فی بقاء صحّة الأجزاء السابقة راجع إلی الشکّ فی وجود الأجزاء اللاحقة علی الوجه الصحیح .

هذا، ولکن لا یخفی ما یرد علیه أوّلاً : بأنّ الظاهر من الأدلّة الواردة فی الوضوء _ سواء کان فی الأثناء أو بعد الفراغ عنه _ کونها فی مورد الشکّ فی الأجزاء نفسها، أو ما یتعلّق بها من جزء الجزء، أو الوصف المتعلّق بالجزء، أی بأن شکّ أنّه هل أتی بالجزء صحیحاً من إیصال الماء إلیه بتمام ما یجب ذلک أم لا ، ففی هذه الموارد استفید من خبر زرارة(2) طرفی الحکم، من وجوب الإعادة إذا کان الشکّ فی الأثناء، وعدمها فیما کان بعد الفراغ ، بخلاف ما إذا کان الشکّ فی حدوث مانع وقاطع فی الأثناء، کما نحن فیه، فإنّه خارج عن مضمون حدیث زرارة، فیدخل تحت الأصل وهو عدم حدوثه، کما یؤیّد ما ذکرناها ملاحظة


1- کتاب الطهارة: ص156.
2- وسائل الشیعة: أبواب الوضوء، الباب 42، الحدیث 1 .

ص:338

مجموع الروایة من صدرها إلی ذیلها .

وثانیاً : بأنّ أصالة عدم حدوث الحدث لها یفید أمرین وهما: الأوّل : یزیل الشکّ عن بقاء الصحّة للأجزاء السابقة بالفعل، کما یزیل الشکّ عن بقاء صحّته التأهّلیة لإلحاق الأجزاء اللاحقة إلیها .

والثانی : موجبٌ لإثبات موضوع الجزء، حتّی یدخل تحت العمومات والإطلاقات فی الکتاب والسنّة، فیجعل الجزء جزءاً واجباً، ومصداقاً له، فتشمله العمومات، ومن هنا سُمّی هذا الأصل بالأصل الموضوعی، ویعدّ حاکماً علی تلک الأدلّة، ومقدّماً علیها، لأنّ الشکّ فی الصحّة مسبّب عن الشکّ فی صدور الحدث، فإذا حکم الأصل بعدمه، فإنّه یوجب زوال الشکّ عن مسبّبه وهو الصحّة، کما لایخفی .

نعم ، قد ألحق الشیخ فی کتاب «الطهارة»(1) الشکّ فی طهارة الماء وإباحته وإباحة مکانه، بالشکّ فی حدوث الحدث قبل الفراغ، من عدم الاعتناء إلیه.

ولکن قد عرفت منّا الإشکال فی بعضها سابقاً مثل طهارة الماء وإباحته، وطهارة أعضاء الوضوء، حیث أنّه یصدق عرفاً کونه شکّاً فی صحّة أفعال الوضوء فی الجملة، وإن کان الشکّ فی صدور الحدث أو إباحة المکان الذی وقع فیه، غیر داخل فی موضوع الحدیث ظاهراً .

وکیف کان فإنّ الاحتیاط فی مثل هذه الاُمور لا یخلو عن وجه، خصوصاً فی مثل طهارة الأعضاء ونظائرها .


1- کتاب الطهارة: ص156.

ص:339

«بحث فی قاعدة الفراغ»

وأمّا الکلام فی القسم الرابع من أقسام الشکّ، هو ما لو شکّ فی شیء من الوضوء بعد انصرافه وفراغه عن الوضوء.

لو شک فی شیء من الوضوء بعد الفراغ عن الوضوء

وهو أیضاً علی ضربین :

تارةً : یشکّ فی أصل وجوده بعد الفراغ .

واُخری : یشکّ فی صحّته بعد العلم بإتیانه، أی یشکّ فی أنّه هل أتی به علی الوجه الصحیح أم لا؟

وقد حکموا فی کلیهما بالصحّة والمضی لقاعدة الفراغ، بل قد ادّعی علیه الإجماع عن «المسالک» و«المدارک» و«الروضة» و«المعتبر» و«المنتهی»، إذا کان الشکّ بعد الانصراف .

والعمدة فی الاستدلال، دلالة أخبار صحیحة وموثّقة علی ذلک، منها: ما رواه زرارة فی الصحیح، عن أبی جعفر علیه السلام ، فی حدیثٍ قد عرفت تفصیله، بقوله : «فإذا قمت من الوضوء وفرغت منه، وقد صرت فی حال اُخری فی الصلاة أو فی غیرها، فشککت فی بعض ما سمّی اللّه ممّا أوجب اللّه علیک فیه وضوئه، لا شیء علیک فیه» (1)، الحدیث .

منها: ما رواه محمّد بن مسلم فی الموثّق عن أبی جعفر علیه السلام ، قال : «کلّما شککت فیه ممّا قد مضی فامضه کما هو»(2) .


1- وسائل الشیعة: أبواب الوضوء، الباب 42، الحدیث 1.
2- وسائل الشیعة: أبواب الخلل الواقع فی الصلاة، الباب 23، الحدیث 2 .

ص:340

منها: خبره الآخر منه علیه السلام ، وهو بذلک المضمون، قال : «سمعت أبا عبداللّه علیه السلام یقول : کلّ ما مضی من صلاتک وطهورک فذکرته تذکّراً، فامضه ولا إعادة علیک فیه»(1) .

منها: ما رواه إسماعیل بن جابر، عن أبی جعفر علیه السلام ، فی حدیثٍ: «کلّ شیء شُکّ فیه، ممّا قد جاوزه، ودخل فی غیره، فلیمض علیه»(2) .

منها: ما رواه بکیر بن أعین فی الحسن، قال : «قلت له : الرجل یشکّ بعد ما یتوضّأ؟ قال : هو حین یتوضّأ أذکر منه حین یشکّ»(3) .

منها: ما رواه ابن أبی یعفور فی الموثّق، عن أبی عبداللّه علیه السلام ، قال : «إذا شککت فی شیء من الوضوء، وقد دخلت فی غیره، فلیس شکّک بشیء، إنّما الشکّ إذا کنت فی شیء لم تجزه»(4) .

فی قاعدة الفراغ / هل یکفی نفس الفراغ أم لا؟

بناءً علی أن یکون مرجع الضمیر فی (غیره) هو الوضوء لا الشیء المشکوک، وأن یکون المراد من التجاوز هو الفراغ عن العمل، کما أنّ خبری محمّد بن مسلم وإسماعیل بن جابر یدلاّن، بناءً علی کون المراد من (المضی) و(التجاوز) هو الفراغ عن العمل بخصوصه، أو یشمله قطعاً، ولو کان شاملاً للتجاوز فی الأثناء.

وهذه الأخبار بجملتها تدلّ علی عدم لزوم الاعتناء بالشکّ بعد الفراغ عن العمل والدخول فی غیره، سواء کان فی الأجزاء أو الشرائط، وهذا ممّا لا کلام فیه، والحکم ثابتٌ عند جمیع الفقهاء من المتقدّمین والمتأخّرین .

والذی ینبغی أن یبحث فیه أُمور :

منها : أنّه هل یعتبر فی إجراء قاعدة الفراغ الدخول فی غیر المشکوک أم یکفی


1- وسائل الشیعة: أبواب الوضوء، الباب 42، الحدیث 6 .
2- وسائل الشیعة: أبواب الرکوع ، الباب 13، الحدیث 4 .
3- وسائل الشیعة: أبواب الوضوء، الباب 42، الحدیث 7 .
4- وسائل الشیعة: أبواب الوضوء، الباب 42، الحدیث 2 .

ص:341

نفس الفراغ، ولو لم یدخل فی غیره، أی یکفی أن یری نفسه غیر مشتغل بالعمل من أن ینقضی مدّة من الزمان کان یطیل جلوسه وغیره، حتّی یقطع من جهة تلک العلامات فراغه عنه، أم لابدّ أن یکون بیده تلک العلامات، ولو لم یکن داخلاً فی عملٍ غیره؟

وجوه وأقوال ، والذی یظهر من صاحب «الجواهر»(1) هو عدم تحقّق الفراغ إلاّ بأحد من الأمرین: إمّا بانتقاله عن العمل المشکوک إلی غیره، ولو کان ذلک بطول الجلوس ونحوه، وإن لم یسبق له یقینٌ بالفراغ، وإمّا بسبق الیقین له بالفراغ ولو آنّاً ما، ولم ینتقل إلی عمل آخر . وأمّا مع فقد کلیهما فلا یحصل الفراغ، بلا فرق فیما ذکرناه بین الجزء الأخیر وغیره .

خلافاً ل_ «کشف اللّثام» حیث فرّق بین الجزء الأخیر من الوضوء وبین غیره، من اعتبار الانتقال فی غیره ولو بطول الجلوس فی الجزء الأخیر، دون غیره.

وأنکر علیه صاحب «الجواهر»، وقال : بأنّه خَرْقٌ للإجماع المرکّب، وکأنّه أراد عدم وجود قائل بالتفریق بینهما ، بل القائلون بین القول بلزوم الدخول فی الغیر مطلقاً، وبین القول بعدمه کذلک .

ولقد أورد الشیخ الأنصاری قدس سره علی صاحب «الجواهر» بأنّه لا وجه لجعل سبق الیقین _ ولو انّاً ما _ أحد المصداقین، لفقدان دلیل یدلّ علی حجّیة الیقین السابق الذی زال بالشکّ موضعه، حیث یکون هو حینئذٍ قاعدة الیقین والشکّ الساری، والدلیل الذی قام علی حجّیة الیقین هو الیقین السابق والشکّ اللاحق المسمّی بالاستصحاب لا قاعدة الیقین .

فیبقی الأمر أن یکون دائراً بین أن یکون نفس الفراغ کافیاً، ولو لم یدخل فی


1- جواهر الکلام: ج2 / ص361.

ص:342

غیره، وبین أن یکون الدخول فیه معتبراً، ثمّ الغیر قد یکون ممّا هو الشرط له کالصلاة والطواف ونظائرهما، وقد لا یکون کذلک، بل یصحّ مطلقاً، ولو کان الغیر عملاً غیر عبادی من الأفعال، کما إذا کان جالساً فقام، أو کان قائماً فجلس ، بل حتّی إذا بقی علی تلک الحالة لمدّة طویلة بحیث یوجب له الاطمئنان بالفراغ.

فلابدّ لإثبات المراد من قاعدة الفراغ ملاحظة لسان الأخبار والأدلّة بحسب فهم العرف والعقلاء، فنقول ومن اللّه الاستعانة : قد اختلف لسان الأدلّة هاهنا فی بیان الفراغ، کاختلاف کلمات الأصحاب ومختاراتهم، فإنّ التأمّل فی مثل خبری محمّد بن مسلم الوارد فیه قوله : «ممّا قد مضی» أو «کلّ ما مضی» ، وخبر بکیر بن أعین، بقوله : «الرجل یشکّ بعدما یتوضّأ» ، ومفهوم تعلیل موثّقة ابن أبی یعفور، بقوله : «إنّما الشکّ فی شیء لم تجزه»، حیث یفید ضرورة أنّ الشکّ بعد التجاوز عن الشیء لا یعتنی به ، ومفهوم صدر حدیث زرارة، بقوله : «إذا کنت قاعداً علی وضوئک، فلم تدر أغسلت ذراعیک أم لا فأعد علیهما»، حیث یفید أنّه لو شکّ فیهما ولم یکن جالساً فلا یعتنی به .

بل قد یؤکّد هذا المفهوم، بقوله بعد ذلک : «ما دمت فی حال الوضوء» .

فإنّ الملاحظ فی هذه الأخبار هو إطلاق الدخول فی الغیر وعدمه ، بل وإطلاقاً من حیث مضیّ زمانٍ وعدمه یوجب الاطمئنان بالفراغ ، وإطلاقاً من حیث إنّه سبق له الیقین به قبل الشکّ أم لم یسبق بالیقین بالفراغ قبله .

وفی مقابل هذه الطائفة هناک مجموعة من الأخبار دالّة بالتقیید بالدخول فی الغیر مثل ما ورد فی ذیل خبر زرارة، بقوله : «فإذا قمت من الوضوء وفرغت منه، وقد صرت فی حال اُخری فی الصلاة أو فی غیرها فشککت» ، الحدیث .

وکذلک صدر موثّقة ابن أبی یعفور، بقوله : «إذا شککت فی شیء من الوضوء وقد دخلت فی غیره، فلیس شکّک بشیء».

ص:343

وخبر إسماعیل بن جابر، بقوله : «وقد دخل فی غیره» .

وخبر محمّد بن مسلم، عن الصادق علیه السلام ، قال : «قلت له : رجلٌ شکّ فی الوضوء بعدما فرغ من الصلاة؟ قال : یمضی علی صلاته ولا یعید»(1) .

فحینئذٍ کیف یکون التوفیق بالجمع بینهما، هل یؤخذ بالأخبار المقیّدة ، إمّا من باب حمل أخبار المطلقة علیها، أو بدعوی انصراف الإطلاق إلی الفرد الغالب، وهو ما کان الشکّ فی الفراغ بعد الدخول فی الغیر، کما یشهد لذلک خبر محمّد بن مسلم الأخیر، حیث أنّ السؤال فیه یکون عن الشکّ فی الوضوء بعد الصلاة والفراغ عنها ، فعلی هذا یلزم القول بأنّه لو لم یدخل فی الغیر، لابدّ أن یعتنی بالشکّ، وإن أحرز الفراغ عن العمل خارجاً وحقیقة، لعدم تحقّق الفراغ تعبّداً .

أو یقال بعکس ذلک، بأنّ الملاک هو الأخذ بالأخبار المطلقة، وأنّ الملاک المعتبر هو حصول الفراغ، سواء دخل فی الغیر أم لا، من جهة حمل الأخبار المشتملة علی التقیید علی أنّ المقصود من ذلک هو مجرّد الدخول فی الغیر ، والقید الوارد فی هذه الأخبار محمولٌ علی مورد الغالب، نظیر قید «فی حجورکم» الوارد فی آیة الربیبة ، فلا یعدّ القید قیداً احترازیاً حتّی یجب حمل الإطلاقات علیه ، وإنّما هو قید غالبی.

والظاهر أنّ الثانی هو الأولی ، بل وهو المختار کما علیه جماعة من المحقّقین کالشیخ الأنصاری قدس سره والحکیم، والمحقّق الهمدانی، والآملی، والسیّد الاصفهانی، وغیرهم من الفقهاء المعاصرین ، لوجوه :

الوجه الأوّل : أنّ الأخبار المطلقة _ مضافاً إلی کثرتها کما عرفت _ مشتملة علی خصوصیّة توجب الاطمئنان بحسب فهم العرف ذلک، وهو أنّ العرف إذا شاهد


1- وسائل الشیعة: أبواب الوضوء، الباب 42، الحدیث 5 .

ص:344

فی خبرٍ کان صدره وذیله بحسب ظاهر الکلام متفاوتاً، وکان کلّ واحد منهما صالحاً للقرینة للتصرّف فی الآخر، فإنّ العرف یجعل الصدر قرینة للتصرّف فی الذیل نوعاً لا بالعکس .

ولعلّ السرّ فیه، أنّ الصدر یمنع أن ینعقد الظهور فی الذیل، لأنّ الکلام فی الذیل ینعقد فی حال ما إذا کان محفوفاً بالقرینة المتصرّفة ، هذا بخلاف عکسه، إذ الصدر ربما ینعقد ظهوره بوجوده، إذا کانت الجملة فی مقام إفادة المطلب علی النحو التامّ، إلاّ أن یکون الذیل مشتملاً علی ما یکون ظهوره فی التصرّف عرفاً أقوی من الصدر، کما لو کان ظهور الذیل جملة تعلیلیّة وبیان للعلّة، والصدر جملة لمعلولیة، حیث إنّ العرف یحکم بإقوائیة ظهور التعلیل الواقع فی الذیل علی ظهور المعلول الواقع فی الصدر، کما وقع الأمر هکذا الأمر فی المقام من الجانبین ، لوضوح أنّ خبر زرارة إن لوحظ صدره، فإنّه یدلّ علی الإطلاق بالمفهوم، ویفید ذلک ذیله بقوله : فإذا قمت من الوضوء، وفرغت منه وصرت فی حال اُخری فی الصلاة أو فی غیرها؛ فبالمنطوق یدلّ علی التقیید، فیکون صدره قرینة علی التصرّف فی الذیل بمفهومه، لأنّ مفهوم الصدر یدلّ علی کفایته، فیحکم بتقدّم مفهوم الصدر فی الکفایة علی مفهوم الذیل لعدم الکفایة .

کما یعکس الأمر فی موثّقة ابن أبی یعفور، لأنّ منطوق صدره یدلّ علی لزوم الدخول فی الغیر وأنّه لا یکفی عدم الدخول، ولکن مفهوم الذیل، وهو قوله : «إنّما الشکّ فی شیء لم تجزه»، هو کفایة الفراغ، ولو لم یدخل فی الغیر، وهنا یحکم بتقدّم مفهوم الذیل علی مفهوم الصدر الذی یدلّ علی عدم الکفایة، لأنّ الذیل یکون بلسان التعلیل للصدر، وظهور التعلیل فی الدلالة یکون أقوی من ظهور المعلول.

فظهر أنّ الحکم بکفایة نفس الفراغ، عملاً بظهور صدر خبر زرارة وذیل

ص:345

الموثّقه یعدّ أقوی .

الوجه الثانی : انّ الحکم بالفراغ یتصوّر علی أنحاء ثلاثة :

الأوّل : من الفراغ الحقیقی، أی بأن لا یبقی شیء من الواجب _ سواء کان جزءاً أو شرطاً_ إلاّ قد أتی به.

وهذا مفروض العدم قطعاً، لأنّ مورد بحثنا هو الشکّ فی الفراغ .

الثانی : الفراغ الادّعائی، فهو أیضاً غیر مراد، لأنّه عبارة عن إتیان معظم الأجزاء، فیدّعی بأنّه قد حصل الفراغ ولو مع العلم بفقدان بعض أجزائه وشرائطه، والمفروض فی المقام هو الشکّ فی فقدان بعضٍ منهما لا مع العلم به .

الثالث : الفراغ البنائی، أی یبنی علی کونه قد أتی به ، فهو یتصوّر علی ضربین: لأنّه قد یقال بالفراغ البنائی التعبّدی، أی أنّ العقلاء والعرف لا یحکمون بذلک، بل الحاکم هو الشارع وقد حکم به تعبّداً، أمّا العرف فإنّه یحکم بعدم الإتیان .

وآخر: أن یکون الحکم بالبناء علی الفراغ عرفیّاً، أی أنّ العقلاء یحکمون فی مثل هذه الاُمور بالبناء علی الإتیان، وهذا هو الأقوی ، لما تری من الاستدلال بما هو مرتکز ومعقول عند العقلاء فی خبر بکیر بن أعین، بقوله : «هو حین یتوضّأ أذکر منه حین یشکّ»(1) فإنّ الأذکریّة حال الاشتغال بالعمل، یکون أمراً ارتکازیاً عقلائیّاً، أی أنّهم لا یعتنون بالشکّ بعد الفراغ، لأنّ الإنسان المکلّف الذی یقدم علی عمل یقصد منه إفراغ ذمّته من التکلیف الشرعی فإنّه یسعی لإحضاره علی أکمل وجه وأتمّها، فهو حین العمل یکون أشدّ مراعاةً لذلک من حین الشکّ بعد الفراغ عن العمل، والعقلاء لا یرون فی صدق عنوان (الفراغ) الاشتغال والدخول فی عملٍ آخر ، بل یکتفون فیه أن یری نفسه فارغاً بحسب العمل الخارجی، بأن


1- وسائل الشیعة: أبواب الوضوء، الباب 42، الحدیث 7.

ص:346

فرغ من مسح الرجل الیُسری مثلاً فی الوضوء، وحینئذٍ یقال له إنّه قد فرغ من الوضوء، وإن لم یکن قد دخل فی الصلاة أو غیرها، أو ولو لم تطول المدّة عن فراغه، ونظائرهما .

فی قاعدة الفراغ / فی الملاک فی جریان القاعدة

وممّا ذکرنا ظهر عدم تمامیّة کلام السیّد الاصفهانی فی تقریراته(1) بقوله : إنّ الدلیل علی تلک القاعدة، لو کان دعوی السیرة العقلائیة علی البناء علی الصحّة عند الشکّ فیها بعد الفراغ من العمل بالقدر المتیقّن منها، هو ما إذا کان الشکّ حادثاً بعد انفصال الفاعل عن العمل بالشروع فی غیره، ولا أقلّ من مضیّ زمان من حین الفراغ إلی زمان الشکّ فی آخره .

نعم ، قد یجعل أمثال ذلک طریقاً لإحراز عنوان الفراغ، فهو أمر آخر ، خلاصة الکلام أنّ البناء علی الفراغ بناء عقلائی لا بناءً تعبّدی بدون اتّکال بأمر ارتکازی کما توهّمه بعض .

الوجه الثالث : یمکن الاستظهار من نفس الأحادیث أنّ الدخول فی الغیر _ الواقع فی بعضها_ لیس من جهة موضوعیّته فی ثبوت الحکم، بل لأجل ذکر طریق الموضوع، وبیان ما هو الملاک فی الواقع، کما شهد لذلک ملاحظة حال خبر زرارة، بقوله : «فإذا قمت من الوضوء وفرغت منه، وقد صرت فی حال اُخری فی الصلاة أو فی غیرها فشککت» .

فی قاعدة الفراغ / فی أقسام من الشکوک

حیث قدّم القیام عن الوضوء علی الفراغ، مع أنّه لو کان المقصود هو الدخول فی الغیر، فکان ینبغی علیه أن یقدّم الفراغ علی القیام، ویؤیّد ما ذکرناه، بیانه بعد ذلک بقوله : «وقد صرت فی حال اُخری»، حیثُ یفهم أنّ صیرورته وتحوّله إلی حال آخر لیس إلاّ لإفهام حصول الفراغ، ولذلک عمّم الحکم بین الصلاة وغیرها،


1- الروائع الفقهیّة: ج2 / ص275.

ص:347

لعدم خصوصیّة فی شیء منها، إلاّ کونها طریقاً لإحراز الفراغ المعتبر فی المقام .

فلو حصل له الفراغ من غیر الدخول فی عمل آخر، کما لو تیقّن بذلک، ثمّ عرض له الشکّ فی شیء من الوضوء، فهو داخل تحت قاعدة الفراغ قطعاً، فإنّ الشک لا یسری فی أصل ما هو المتیقّن، بأن لا یکون العمل المأتی به الذی قد فرغ عنه مشکوکاً، لأنّه متیقّن أیضاً من جهة تمامیّته وخروجه عن هیئة العمل حتّی بعد الشکّ فی جزء منه غیر الجزء الأخیر، لأنّ الشکّ قد سری لخصوص المشکوک وهو الجزء، بعد کونه مورداً للاعتقاد بالإتیان، فهو یحکم بالإتیان من جهة الدلیل القائم علی اعتبار بناء العقلاء علی الإتیان، وقد قرّر الشارع اعتبار هذا البناء بواسطة تلک الأحادیث .

فما أورده الشیخ الأنصاری قدس سره علی صاحب «الجواهر»، وتبعه غیره فیه، بأنّ هذا الیقین الذی یسری إلیه الشکّ، لا دلیل لنا علی حجّیته، لأنّه عبارة عن قاعدة الیقین لا الاستصحاب، والحجّیة متعلّقة بالثانی دون الأوّل، لا یخلو عن مسامحة، لأنّ الشکّ لا یسری فی قطعه بخروجه عن العمل، بل یکون مربوطاً بالجزء أو الشرط بنفسه .

وممّا ذکرنا ظهر أنّ الملاک فی جریان قاعدة الفراغ هو إحراز الخروج عن العمل بأیّ طریق حصل ، فحینئذٍ لا فرق فیه بین کون المشکوک هو الجزء الأخیر منه أو غیره ، غایة الأمر کان طریق الإحراز فی غیر الجزء الأخیر أسهل وأیسر، ولو من غیر دخول فی عمل آخر، لأنّ الإتیان بالمسح بتمامه مثلاً یوجب القطع بالفراغ، ولو حصل له الشکّ فی غسل وجهه، هذا بخلاف ما لو شکّ فی مسح الرجل الیسری، فإنّ الشکّ فیه شکٌّ فی حصول أصل الفراغ من العمل ، فلذلک کان إحراز الفراغ هنا بواسطة الدخول فی عمل آخر، أو مضیّ زمان طویل یوجب الاطمئنان، أو غیرهما أحوج إلیه من الإحراز فی غیره، ولعلّه لذلک فرّق

ص:348

صاحب «کشف اللثام» بینهما، فإنّه قصد بکلامه ذلک، ولم یقصد بیان التفصیل فی أصل قاعدة الفراغ بین الموردین، وهو کلام متین .

کما ظهر ممّا ذکرنا أنّ الحکم بالفراغ حاصلٌ بنفس الخروج عن العمل، ولو لم یدخل فی غیره، وإن لم یمض مقداراً من الزمان الذی لم تختلّ الموالاة فیه، لوجود الرطوبة فی الأعضاء والید، لعدم تأثیر لذلک فی مسألتنا ، إلاّ أن یکون الجفاف فی بعض الموارد طریقاً للإحراز، وعلامة علی وقوع الفراغ کما لایخفی .

ومن ذلک ظهر عدم تمامیة الإشکال الذی ذکره صاحب «الجواهر»(1) فی صورة کون الشکّ قبل فوت الموالاة، أی فیما یمکنه التدارک، وإن کان قد عدل عنه بعده، بقوله : «ولعلّ الأقوی فیه عدم الالتفات أیضاً أخذاً بإطلاق الأدلّة ، بل قد یظهر من بعضهم دعوی الإجماع علیه» . ثمّ بعد التفرّغ عن حکم الشکّ فإنّ هاهنا أقساماً من الشکوک لم یتعرّضها المصنّف :

منها : ما لو شکّ بعد الفراغ عن العمل بحسب الظاهر، ولم یعلم أنّه هل کان فراغه من العمل بعد إتمامه للعمل بتمام أجزائه ومن دون عدول ورفع للید عنه ، أو کان ذلک بواسطة العدول فی أثناء العمل وترک بقیّة الأجزاء ، إمّا اختیاراً أو لعروض ضرورة أو اضطرار ، فهل یجری هنا قاعدة الفراغ أم لا؟

فیه وجهان: من ظاهر الفتاوی والنصوص شمول القاعدة فی المقام وجریانها، حیث لم یبیّن فیهما خروج هذه الصورة بالخصوص، لأنّه بناءً علی المفروض قد انتقل إلی عمل آخر وحالة اُخری قطعاً، ویعدّ نفس هذا الانتقال کافیاً فی الحکم بعدم الالتفات.

ومن أنّ المتیقّن من الإطلاقات غیر هذه الصورة، کما أنّ الحکم بعدم الالتفات


1- جواهر الکلام: ج2 / ص362.

ص:349

بالشکّ یعدّ مخالفاً للأصل والقاعدة، فیقتصر فیه علی موضع الیقین وهو غیر هذه الصورة، إذ مورد قاعدة الفراغ کان فیما إذا احتمل ترک جزء أو شرط، من جهة عروض السهو والنسیان، لا ما عرض علیه عمداً من جهة الاختیار أو الاضطرار.

هذا، کما استدلّ به صاحب «الجواهر» والسیّد فی «العروة» فی المسألة 49 من شرائط الوضوء، وأکثر أصحاب التعالیق .

خلافاً للسیّد الحکیم قدس سره وغیره، حیث استدلّ بکون موردها هو الفراغ البنائی، وهو غیر حاصل هنا ، ولعلّ مقصوده أنّ المقام من الموارد التی نشکّ شمول القاعدة لها، لأنّه شکّ فی الفراغ حینئذٍ، کما صرّح بذلک الشیخ فی «طهارته»، بل أشار إلیه صاحب «الجواهر» قدس سره .

نعم یظهر من الهمدانی فی «مصباح الفقیه» الحکم بالفراغ فی المورد، حیث یقول: بأنّ دعوی الانصراف إلی غیره غیر مسموعة .

ولکن الإنصاف أن یقال : إنّه لا إشکال فی أنّ المورد من جهة الأصل هو عدم الالتفات إلی العمل، ویکون شکّه مبطلاً له، أو محکوماً بالإعادة للمشکوک إن کان قابلاً للتدارک، لأنّ قاعدة الاشتغال وأصالة عدم إتیان ذلک الجزء أو الشرط تقضیان ذلک ، إلاّ أنّ مقتضی الأصل العقلائی هو أصالة الصحّة، والتعلیل الوارد فی خبر ابن بکیر: «أنّه حین العمل أذکر من حین الشکّ» ، وبناء الإنسان المتشرّع : هو الإتیان بالصحیح من العمل، والفراغ عنه بتمامه، ویعدّ دلیلاً وأمارةً علی فراغه وصحّته .

ولا یبعد أن تکون قاعدة الفراغ هنا هی هذه القاعدة والبناء العقلائی علیه .

ولا فرق فیما ذکرنا من لزوم البناء، بین أن یکون قطع الوضوء محرّماً علیه، کما فی ضیق الوقت للواجب المشروط به، أم لا یکون کذلک ، إمّا لسعة الوقت، أو لاحتمال عروض الضرورة المبیحة، لأنّ البناء بحسب حال المتعارف موجود فی

ص:350

کلّ عمل ویفید لزوم إتمامه لو لم یعرضه عارض، وهو أیضاً مشکوک، والأصل عدمه .

غایة الأمر، یکون ثبوت هذا البناء والأصل العقلائی فی صورة الحرمة فی القطع أقوی من غیره، إذا کان الإنسان متشرّعاً ، إلاّ أن یحتمل الاضطرار، فالأصل عدمه، لأنّ فعل المسلم یحمل علی الصحّة وغیر المحرّم .

وکیف کان، فالمسألة لا تخلو عن إشکال، والحکم بالبطلان أو بالإعادة للمشکوک جزماً لا یخلو عن إشکال، والحکم بالبطلان أو بالإعادة للمشکوک جزماً لا یخلو عن تأمّل ، وإن کان موافقاً للاحتیاط، بل لا یترک حذراً عن مخالفة القوم والشهرة .

ومنها : ما لو احتمل ترک شیء فی الوضوء بصورة العمد، من جهة الشکّ الحاصل عنده الناشئ من الجهل بالحکم أو الجهل بموضوعه، کما لو شکّ فی أنّه غسل المرفقین من الذراعین أم لا؟ لأنّه یعلم أنّه لم یکن عالماً بوجوبه أو لم یکن الموضوع معلوماً لدیه، فیحتمل ترکه لأجل أحد هذین الأمرین، فهل یجری فیهما قاعدة الفراغ حتّی یحکم بالصحّة أم لا؟

فیه إشکال کما سنذکره إن شاء اللّه .

ومنها : ما لو نشأ شکّه عن سبب سابق مقارن للعمل، بحیث لو کان ملتفتاً إلیه حال الفعل لکان شاکّاً، وهو کما لو قطع أنّه لم یخلّل الحائل الذی قد یمنع عن وصول الماء إلی البشرة، وقد لا یمنع، إلاّ أنّه یشکّ فی وصوله فی هذا الوضوء من باب الاتّفاق ویحتمل منعه عن وصول الماء إلی البشرة، فهل یجری فیه قاعدة الفراغ أم لا؟ محلّ إشکال .

ومنها : ما لو رأی شیئاً بعد الفراغ فشکّ فی حاجبیّته وعدمها فی حال الوضوء، وکان یعلم عدم التفاته إلیه فی حال الاشتغال؛ فإنّ القول بجریان القاعدة فیه إشکالٌ أیضاً.

ص:351

وجه الإشکال فی جمیع هذه الصور هو أنّ إطلاقات النصوص والفتاوی، یقتضی الحکم بالصحّة بعد الفراغ، فیما لو شکّ فی صحّة شیء من أجزاء الوضوء وشرائطه، لأجل الإخلال الوارد علیه من حیث الوجود أو من حیث الصحّة، من جهة وجود المانع وعدمه، سواء کان الإخلال وارداً من جهة عروض احتمال السهو والنسیان فی ترکه، أو کان من جهة احتمال الترک بالعمد والاختیار، سواء کان من جهة احتمال عروض ما کان ترکه غیر جائز _ ولو جهلاً_ أو کان جائزاً ولو لأجل الاضطرار وغیرها من المحتملات، کانت داخلة تحت العمومات والإطلاقات فیحکم بالصحّة لإجراء قاعدة الفراغ فیها.

هذا وجه الشمول وفی طرف الإثبات .

ومن ناحیة اُخری یمکن أن ندّعی انصراف الإطلاقات عن مثل هذه الموارد ، مضافاً إلی أنّ بعض النصوص یشتمل علی ما لا یشمل بعض هذه الصور، مثل التعلیل الواقع فی حدیث ابن بکیر بن أعین بقوله : «هو حین یتوضّأ أذکر منه حین یشکّ»(1)، فإنّه یقتضی کون الشکّ بعد الفراغ محکوماً بالصحّة إذا کان المکلّف المتوضئ حال الوضوء لا یعلم کونه غافلاً، أی لا یعلم بعدم التفاته، وإلاّ یکون معناه أنّه یعلم بعدم أذکریّته حال الوضوء، فحینئذٍ کیف یمکن إجراء هذه القاعدة فی حقّه، وهو کما لو رأی شیئاً بعد الفراغ، وشکّ فی حاجبیّته وعدمها، وهکذا صورة ما لو نشأ شکّه عن سبب سابق مقارن للعمل، بحیث لو کان ملتفتاً لکان شاکّاً .

بل وهکذا فی صورة احتمال ترکه الناشئ عن جهله بالموضوع أو الحکم، لأنّه یعلم بعدم أذکریته من حیث لزوم الإتیان به فی محلّه لأجل جهله، فکیف


1- وسائل الشیعة: أبواب الوضوء، الباب 42، الحدیث 7 .

ص:352

یمکن الحکم بالإتیان والصحّة !

وبعبارة اُخری: قد استفید من هذه الروایة _ کما عن بعض _ بأنّ وجه حمل العمل علی الصحّة، یکون من باب تقدیم الظاهر علی الأصل، حیث أنّ المکلّف العاقل المتشرّع الذی یقدم علی أداء الفعل ویقصد منه إفراغ ذمّته لا ینصرف عن العمل إلاّ بعد إکماله، ومن المعلوم أنّه لا ظهور لفعل الجاهل، ولا الفاعل المعلوم من حاله عدم التذکّر حال الفعل .

هذا، ولکن یظهر عن بعض کصاحب «مصباح الفقیه»(1) إجراء القاعدة فی تمام هذه الصور ، ولا بأس بالتعرّض لکلامه حیث لا یخلو عن فائدة ، قال قدس سره : «ولکن الأظهر هو الحمل علی الصحیح فی جمیع صور الشکّ، لعدم انحصار وجه الحمل فی ظهور الحال، ولیس مدرک الحکم منحصراً فی الأدلّة اللفظیة، حتّی یدّعی الانصراف، أو یؤخذ بمفهوم العلّة علی تقدیر تسلیم استفادة العلّیة وانحصارها منها ، بل العمدة فی حمل الأعمال الماضیة الصادرة من المکلّف أو من غیره علی الصحیح، إنّما هی السیرة القطعیة، ولولاه لاختلّ نظام المعاش والمعاد، ولم یقم للمسلمین سوقٌ، فضلاً عن لزوم العسر والحرج المنفییّن فی الشریعة، إذ ما من أحد إلاّ إذا التفت إلی أعماله الماضیة من عباداته ومعاملاته، إلاّ ویشکّ فی أکثرها لأجل الجهل بأحکامها، أو اقترانها بأمور لو کان ملتفتاً إلیها لکان شاکّاً» .

کما أنّه لو التفت إلی أعمال غیره یشکّ فی صحّتها غالباً، فلو بنی علی الاعتناء بشکّه لضاق علیه العیش، کما لا یخفی .

ولقد استدلّ بعض الأعلام فی وجه حمل فعل الغیر علی الصحیح أیضاً بظاهر


1- مصباح الفقیه: کتاب الطهارة / ص210.

ص:353

الحال ، مع أنّ من الواضح عدم انحصار مدرکه فیه، وإلاّ لاختصّ الحمل بفعل من عرف أحکامه دون الجاهل، فضلاً عن المعتقد للخلاف ، مع أنّ من المعلوم من سیرة الأئمّة علیهم السلام وأصحابهم، أنّهم کانوا یعاملون مع العامّة فی معاملاتهم وتطهیراتهم الخبثیة، معاملة الصحیح، مع ابتناء مذهبهم علی مباشرة أعیان بعض النجاسات، وعدم التحرّز عنها .

وکذا کانوا یحملون أعمال أهل السواد، الذین لا یعرفون أحکام الشریعة أصلاً علی الصحیح، مع أنّ الظاهر من حالهم خلافه .

وإذا ثبت عدم اختصاص مجری القاعدة بما إذا کان الظاهر من حال الفاعل إیجاده الفعل علی الوجه الصحیح، ظهر لک عدم جواز رفع الید عن ظواهر الأخبار المطلقة، بسبب التعلیل المستفاد من قوله : «هو حین یتوضّأ أذکر منه حین یشکّ»، لأنّ کونه قرینة علی التصرّف فی سائر الأخبار، فرع استفادة العلّیة المنحصرة منه، والمفروض أنّا علمنا من الخارج عدم الانحصار .

فالأقوی جریان القاعدة فی جمیع موارد الشکّ، ولذا لم یستثن أحد من الأعلام من مجریها شیئاً من هذه الصور المشکلة.

واحتمال غفلتهم عنها مع عموم البلوی بها فی غایة البُعد، واللّه العالم» انتهی کلامه رفع مقامه .

فی قاعدة الفراغ / عدم جریان القاعدة فیما کان الشک فی أصل وجوده

ولقد لاحظت أنّ کلامه رحمه الله فی غایة الجودة والمتانة، من جهة بیان أصل عقلائی هنا حیث لم یتمسّک بالإطلاقات حتّی یدّعی الانصراف فیها، کما اُدّعی، وغیر التعلیل بالأذکریة حیث لا یجری فی بعض الصور من الجهل بالحکم، أو الموضوع، أو العلم بغفلته حال العمل ، بل کان حکمه مبنیّاً علی جهة أنّ ترتیب الأثر علی تلک الشکوک ربما یستلزم فی بعض الموارد العسر والحرج، بل واختلال النظام، بل لم یبق للمسلمین سوق، مضافاً إلی ملاحظة سیرة

ص:354

الأئمّة علیهم السلام مع أهل السواد، الذین کانوا غالباً جهلةً غیر مستضیئین بنور العلم، أصلاً خصوصاً فی الصدر الأوّل ، ومع ذلک کانوا یراودون معهم لأنّهم علیهم السلام یعرفون الأحکام فی الجملة . ومثل هذا یوجب الاطمئنان للفقیه بأنّ الدین والشریعة یعدّ دیناً سهلاً وسمحاً، کما ورد فی الأثر عن النبی صلی الله علیه و آله وسلم : «بعثتُ علی الشریعة السهلة السمحة» وإن کان الاحتیاط فیها حسناً، بل لا یخلو فی بعضها عن قوّة، فراراً عن مخالفة المشهور .

تنبیهٌ حول قاعدة الفراغ:

إنّ قاعدة الفراغ لا تختصّ بمورد دون آخر ، بل تجری فی کلّ فعل مرکّب، وقع الشکّ فی جزئه أو شرطه بعد الفراغ عنه، بلا فرق بین أن یکون توالی الأجزاء فیها شرطاً کالصلاة والوضوء والتیمّم، أم لا کالغسل الترتیبی دون الارتماسی . نعم، هذا إنّما یصحّ فیما إذا لم یکن الشکّ فی أصل وجوده، نظیر ما لو دخل الحمّام بقصد الغُسل ثمّ بعد الخروج شکّ فی أنّه هل اغتسل أم لا ، فلا یمکن إثبات الغُسل بقاعدة الفراغ، لأنّها إنّما تجری فیما إذا أحرز أصل الفعل بعنوانه القابل للاتصاف بالصحّة والفساد، فإذا أحرز صدوره وشکّ فی أمور یتعلّق بأجزائه وشرائطه، فإنّه یحمل علی الصحیح ما لم یعلم خلافه .

بل فی «مصباح الفقیه» للهمدانی أضاف لعدم جریان القاعدة حین الشکّ فی أصل الوجود، الشکّ فی تتمیمه، وانّه لا یجری فیه أیضاً الأصل والقاعدة .

ولکن لابدّ أن یعلم أنّ الشکّ فی التیمّم بإطلاقه یشمل الشکّ فی ترک الجزء ، ومن المعلوم أنّه غیر مراد قطعاً ، بل المقصود هو احتمال عدم إتیانه بأصل الفعل بتمامه، من جهة ترکه بقیة الأجزاء فی الأثناء، الموجب لعدم إحراز کونه فی حال الفراغ فی الجملة .

ص:355

وکیف کان، إذا عرفت عموم مجری القاعدة، لکلّ فعل مرکّب ذی أجزاء، إذن لا فرق فیه أیضاً بین أن یکون ترک بعض الأجزاء مستلزماً لوقوع المعصیة، علی تقدیر عدم الفعل، أم لم یستلزم ، فعلی هذا تکون القاعدة جاریة فی الغُسل الارتماسی، إن قلنا بوجوب إتیانه دفعة، لأنّ الشکّ فیه حینئذٍ یعدّ شکّاً بعد الفراغ.

أمّا لو قلنا بحصوله تدریجاً ، وقلنا بلزوم التوالی فیه _ کما هو الظاهر _ فیکون حکمه حکم الوضوء والتیمّم من جریان القاعدة فیه، لو کان الشکّ فی غیر الجزء الأخیر فإنّه یکفی نفس حصول الفراغ عن ذلک الجزء المشکوک حتّی یصدق علیه إتیانه أصل العمل بجمیع أجزاءه، ولا یحتاج فی حصول الفراغ الدخول فی الغیر . بل هکذا یکون الأمر فی الجزء الأخیر، إلاّ أنّک قد عرفت عدم حصول الإحراز بالفراغ فیه نوعاً، إلاّ بالدخول فی عمل آخر کما أوضحناه فلا نعید .

وإن قلنا بعدم اعتبار التوالی فیه، فیکون حکمه حینئذٍ حکم الغُسل الترتبی، کما سنشیر إلیه .

فی قاعدة الفراغ / فی جریان القاعدة فی الغُسل الترتیبی

فما فی «الجواهر»(1) من الإشکال علی العلاّمة فی اعتراضه علی جریان قاعدة الفراغ فی الغُسل الارتماسی بأنّه فی غیر محلّه، لا یخلو عن إبهام، لأنّه لم یظهر لنا مسلکه ولا مسلک العلاّمة، وأنّه علی أیّ أساس ودلیل اعتبر لزوم الدفعة فی الغسل الارتماسی، أو جواز التدریج مع التوالی، أو مطلقاً حتّی بلا توالٍ، وإن کان الظاهر کون الأوّل هو المراد، لأنّه المشهور فیه، فحینئذٍ یکون إشکال العلامة فی جریان القاعدة ممّا لا وجه له، کما عرفت .

وأمّا الکلام فی جریان القاعدة فی الغُسل الترتیبی، الذی لا یعتبر فیه التوالی ، فإنّ الإشکال یرد من جهة عدم تحقّق الفراغ عنه، لأجل عدم اعتبار الموالاة فیه ،


1- جواهر الکلام: ج2 / ص362.

ص:356

ولذلک قد یفصّل بین من کان معتاداً بالإتیان بصورة التوالی وبین غیره .

بل جعله الشیخ الأعظم فی کتاب «الطهارة»(1) هو أقوی أوّلاً، لکنّه عدل عنه فی آخر کلامه.

ولکن التحقیق أن یقال : إنّ الشکّ بعد الفراغ فی الغُسل الترتبی مختلف، لأنّه قد یکون الشکّ تارةً فی إتیان الجزء، أو صحّته وفساده فی غیر الجزء الأخیر من غَسل الرأس والرقبة، فلا إشکال حینئذٍ فی جریان قاعدة الفراغ بمجرّد الفراغ عن العمل، وذلک بعد الفراغ عن غسل الأیمن والأیسر، لأنّه تجری فیه جمیع ما قلناه فی باب الفراغ فی الوضوء ، مضافاً إلی دلالة صحیحة زرارة فی حدیثٍ، عن أبی جعفر علیه السلام : «فإن دخله الشکّ، وهو فی صلاته، فلیمض فی صلاته، ولا شیء علیه»(2).

حیث یفهم منه بالخصوص عدم الاعتناء بالشکّ، إذا کان شکّه بعد الدخول فی ما یشترط فیه الطهارة من الصلاة ، بل یمکن استفادة ذلک حتّی قبل الدخول فی عمل ما یشترط فیه ذلک، اعتماداً علی موثّقة ابن أبی یعفور بما یستفاد من مفهوم قوله: «إنّما الشکّ فی شیء لم تجزه»(3)، وکذلک لدلالة حدیث محمّد بن مسلم، عن الصادق علیه السلام : «کلّما مضی من صلاتک وطهورک فذکرته تذکّراً، فامضه ولا إعادة علیک»(4).

فی قاعدة الفراغ / فی الملاک فی جریان القاعدة

وغیر ذلک من الأخبار الدالّة علی جریان قاعدة التجاوز فی مثل المورد، سواء کانت قاعدة التجاوز متّحدة مع قاعدة الفراغ أو کانت متعدّدة، فلا یصغی


1- کتاب الطهارة: ص158.
2- وسائل الشیعة: أبواب الجنابة، الباب 41، الحدیث 2 .
3- وسائل الشیعة: أبواب الوضوء، الباب 42، الحدیث 2 .
4- وسائل الشیعة: أبواب الوضوء، الباب 42، الحدیث 6 .

ص:357

إلی ما أورد علیه بعدم جریان الفراغ فیه، لو قلنا بعدم اعتبار التوالی فی الغُسل الترتیبی، لما قد عرفت من إحراز الفراغ عن العمل خارجاً، حتّی فیما إذا لم یدخل فیما یشترط فیه ذلک، فضلاً عمّا لو عرض له الشکّ بعد الدخول فیما یشترط کالصلاة وغیرها .

وقد یکون الشکّ بعد الفراغ بالنسبة إلی الیمین لا الیسار، لأنّه قد أتی بغسل یساره قطعاً، ولکن یشکّ فی أنّه هل أتی غَسل یده الیمنی أم لا؟

فحینئذٍ لو قلنا بأنّ الترتیب بینهما کان واجباً _ کما علیه الأکثر _ فحکمه أیضاً یکون مثل الشکّ فی غَسل الرأس والرقبة، لأنّ إتیان کلّ عمل مرکّب من أجزاء یشترط فیها التوالی شرعاً موجب لصدق الشکّ بعد الفراغ والتجاوز إذا دخل فی عمل ما یترتّب علیه، فضلاً عمّا إذا خرج عنه، أو دخل فی غیره، فلا إشکال فی صدق الفراغ حینئذٍ قطعاً، ولو سلّم التشکیک فی صدقه قبل الخروج عن نفس عمل غَسل الیسار .

وأمّا إن لم نقل بوجوب الترتیب بینهما _ کما علیه السیّد الخوئی والقمّی _ فقد أشکل علیه بعدم جریان قاعدة الفراغ حینئذٍ فیه، سواء کان الشکّ فی غَسل الید الیمنی، أو کان الشکّ فی غَسل الید الیسری، لأنّه ربما یصیر شکّاً فی الجزء الأخیر من الغُسل، لو لم یعتبر التوالی فیه، کما لم یعتبر الترتیب فیهما، وحینئذٍ کیف یمکن إحراز الفراغ عن نفس العمل، حتّی یشکّ فی جزءه وتکون القاعدة جاریة، لاحتمال أن تکون الیمین هی الجزء الأخیر مع الیسار، فیدخل فی مصداق المشکوک من قاعدة الفراغ .

نعم ، لو کان داخلاً فیما یشترط فیه الطهارة، وکانت عادته عدم الدخول فیها، إلاّ بعد الفراغ عنه، فیوجب کون الشکّ حادثاً بعد الفراغ .

ص:358

وأمّا لو کان الشکّ فی الجزء الأخیر من الید الیسری فی الموضع الذی یشترط فیه الترتیب بینه وبین الید الیمنی، أو کان الشکّ فی کلیهما، أو فی خصوص الیمین لو لم یجب الترتیب بینهما، فإنّه قد فصَّل بعضٌ هنا، بین من کان معتاداً علی الموالاة فلا یلتفت، وبین غیره فإنّ علیه أن یلتفت، کما احتمله السیّد فی «العروة» فی المسألة 11 من أحکام غُسل الجنابة، بل جعله الشیخ أوّلاً هو الأقوی، خلافاً للآخرین من الحکم بالاعتناء بالشکّ وإن کان معتاداً علی الموالاة .

ولکن الإنصاف أنّ الملاک فی جریان قاعدة الفراغ هو إحراز حصول الفعل ووجوده خارجاً، بحیث یطمئنّ عرفاً أنّه قد فرغ عن الغُسل، ثمّ شکّ فیه ، فحینئذٍ لو کان عروض الشکّ بعد الدخول فی الغیر، وکان بحسب حال المتعارف عند المتشرّعة عدم دخوله فی ما یشترط فیه الطهارة مثلاً، فإنّه بنفسه طریق عقلائی لحصول الاطمئنان فلا یبعد جریان قاعدة التجاوز والفراغ، وذلک تمسّکاً بإطلاق خبر زرارة.

فی قاعدة الفراغ / من کان أحد أعضائه نجساً فتوضّأ ثمّ شکّ فی التطهیر

وأمّا لو عرض له الشکّ قبل الدخول فی فعل آخر من المشروط به أو غیره، وقلنا بعدم وجوب التوالی فی الغُسل، فجریان القاعدتین فیه مشکلٌ، لکونه شکّاً فی الفراغ، ولیس حاله مثل حال الوضوء الذی کان مشروطاً بالتوالی وقد اعتبر لکلّ جزء منه محلاًّ معیّناً فی الشرع بحیث لا یمکنه تجاوزه وإلاّ بطل الفعل، فحینئذٍ یمکن فیه إجراء قاعدة التجاوز بل الفراغ ، فالاعتناء بالشکّ فی الغُسل یکون علی الأحوط، لأنّ إحراز الفراغ فیه مشکل جدّاً، ولو کان معتاداً بحسب حاله، إلاّ أن یکون له طریق إلی إحراز ذلک ، فحینئذٍ لا یکون معناه إلاّ الاطمئنان بالفراغ، وهو موجب لخروجه عن حال الشکّ، وبخروجه یخرج حینئذٍ عن اندراجه فی موضوع قاعدة الفراغ، کما لا یخفی .

ص:359

هاهنا مسائل تندرج فی فروع قاعدة الفراغ، وهی:

المسألة الأولی : إنّه إذا کان أحد أعضاء وضوئه نجساً، فتوضّأ ثمّ شکّ فی أنّه هل طهّره ثمّ توضّأ أم لا؟ فإنّه یحکم ببقاء النجاسة، بواسطة وجود استصحاب النجاسة، ولذلک یجب غسله للأعمال الآتیة.

کما أنّه لو عرض له هذا الشکّ قبل التوضّی، کان مقتضی الاستصحاب لزوم تطهیره وعدم جواز التوضّی إلاّ بعده.

وأمّا الوضوء الذی کان سابقاً علی الشکّ فإنّه محکوم بالصحّة، لجریان قاعدة الفراغ، لأنّ الشکّ هنا کان شکّاً فی وجود الشرط، وهو طهارة البدن ومحل الوضوء، وقد عرفت دخوله تحت قاعدة الفراغ لاعتباره من شرائط الوضوء وقد یشکّ فی حصوله .

هذا فیما إذا کان لم یعلم عدم التفاته حین الوضوء، حتّی یجری فیه التعلیل، بکونه حین العمل أذکر وإلاّ یشکل جریانها، لمن یشترط الأذکریة حینه ، وإن ناقشنا فیه، إلاّ أنّه قد عرفت الاحتیاط فیه أیضاً .

کما أنّ هذا البحث یأتی فیما إذا لم یحصل له العلم بحصول الطهارة بواسطة التوضّی من جهة الوقوع فی الکرّ أو وقع علیه المطر، أو إسباغ الماء القلیل بصورة التدافع المستلزم لدفع النجاسة، وإلاّ لایبقی معه شکّ حینئذٍ .

فإن قلت : أوّلاً کیف یمکن الحکم بنجاسة البدن، مع أنّ قاعدة الفراغ اقتضت صحّة الوضوء، فتقتضی کون البدن أو الماء طاهراً بالملازمة .

وثانیاً : إنّ الجمع بین هذین الحکمین، مستلزم للعلم الإجمالی بکذب أحد الأصلین، إمّا نجاسة البدن بالاستصحاب، أو صحّة الوضوء بالفراغ، فکیف نجمع بینهما ؟

قلت : أوّلاً : الحکم بطهارة البدن والماء مثلاً بملاحظة قاعدة الفراغ، إنّما یصحّ

ص:360

لو عدّ هذا الأصل من الأمارات لا من الاُصول، لأنّ مثبتات الاُصول لیست بحجّة، بخلاف الأمارات، مع أنّه مورد للبحث، کما أنّ الشیخ فی «الرسائل» ذکره بصورة التردید فی باب الاستصحاب، وإن یستشعر من کلامه أنّ مختاره هو الأوّل .

وثانیاً : الحکم منوط علی القول بجریان القاعدة فی الشرائط، حتی فیما یکون خارجاً عن حقیقة الوضوء، مثل طهارة البدن والماء، مع أنّ صاحب «الجواهر» قدس سره قد عرفت إشکاله فیه، وإن کان مختارناً شموله له بلحاظ عمومیّة لفظ «الشیء» الواقع فی الحدیث .

وثالثاً : لو سلّمنا کون قاعدة الفراغ من الأمارات لا من الاُصول، لکنّه یثبت به المثبتات التی قد حصل عنه الفراغ وشکّ فیه، نظیر نفس المشروط، لا ما لا یعدّ الفراغ منه فراغاً، لأنّ الفراغ هنا قد حصل عن الشروط، وهو الوضوء لا عن طهارته، لعدم علمه بتحصیله بوجودها حتّی یشکّ فیها، فیثبت بدلالة قاعدة الفراغ .

ورابعاً : لو سلّمنا جمیع ذلک، وقلنا بجریان الأصل فی الشرط وحجّیة مثبتاته ولو لم یکن الفراغ حاصلاً إلاّ فی المشروط، إلاّ أنّ المثبت الذی یمکن إثباته بمقتضی القاعدة، إنّما یصحّ فیما لا یلزم من جریان المثبت وترتیبه، العلم بوقوع المخالفة القطعیة للتکلیف، کما فی المقام، لأنّه من الواضح أنّ مقتضی الاستصحاب هو الحکم بالنجاسة فیحکم بها، ومقتضی کونه من آثار قاعدة الفراغ هو الحکم بالطهارة، فیلزم حینئذٍ من ترتب آثار الطهارة علیه العلم بوقوع التناقض من مقتضی الاستصحاب .

إلاّ أن یقال بحکومته علیه، ولعلّ بملاحظة ورود إحدی هذه الإشکالات، لم یناقش فی المسألة أحد من الفقهاء، إلاّ عن بعضٍ من أصحاب التعالیق علی «العروة» وهو النجفی المرعشی ، حیث تأمّل فی جریان القاعدة فی المورد.

وأمّا الجواب عن الإشکال الثانی: من العلم بکذب أحد الأصلین، فإنّه یتمّ فی

ص:361

باب الأحکام الظاهریة من الاُصول، إذ فیها لیس بعزیز نظیر الحکم بصحّة الوضوء بالنسبة إلی الأعمال الماضیة من الصلوات بواسطة قاعدة التجاوز والفراغ، مع وجوب تحصیل الطهارة للصلوات الآتیة، مع أنّه یعلم بکذب أحد القولین، لأنّه إن کان قد حصل له الطهارة فیما مضی، فإنّه یعدّ باقیاً إلی الآن، لعلمه بعدم إبطاله، وإن کان الملاک بالنظر الفعلی، حیث یحکم بعدم طهارته ولزوم تحصیلها، فکان ینبغی أن یکون کذلک لسابقه أیضاً، حیث لا یلزم بذلک مخالفة عملیة للتکلیف خارجاً فی العمل بمقتضی کلّ أصل فی مورده، فهکذا یکون فی المقام .

فمثل هذا النوع یجری فی ما إذا کان الشکّ فی نجاسة الماء مع علمه بنجاسته سابقاً، والآن یشکّ فی بقائها، من جهة احتمال ملاقاة الکرّ أو المطر أو غیرهما له، فالحکم حینئذٍ هو بقاء النجاسة، ولکن الوضوء محکوم بالصحّة، والکلام فیه نظیر سابقه .

فی قاعدة الفراغ / فی جریان القاعدة و إن حصل له الیقین قبل الشک

وظهر ممّا ذکرنا فرعٌ آخر وهو: أنّه یحکم بوجوب تحصیل الطهارة للبدن والماء، لما یأتی من الأعمال اللاحقة، وذلک بمقتضی الاستصحاب، کما أنّه یجب علیه تطهیر جمیع ما لاقاه الماء النجس، أو ما لا قی الماء الذی وقع علی البدن النجس وأصابه ومن ثمّ انتقل إلی سائر أعضائه، المستلزم لتنجّسها، لأنّه إذا کان البدن محکوماً بالنجاسة فعلاً، فیلزم تنجّس ما لاقاه بالرطوبة، أو ما یلاقی الید المماسّة معه لسائر البدن مع الرطوبة، فیجب تطهیرها عملاً باستصحاب النجاسة، وهو واضح .

فی قاعدة الفراغ / لو علم بالمانع و شکّ فی تقدّم الوضوء و تأخّره علیه

المسألة الثانیة : لا فرق فی جریان قاعدة الفراغ عند الشکّ فی ترک جزء فی الوضوء أو الصلاة، أو ترک شرط أو وجود مانع فیهما، بین ما لو لم یحصل للمکلّف یقین بالبطلان أو الصحّة قبله، أی کان حصل له الشکّ بمجرّد الالتفات إلی العمل، ولم یعلم بعروض أحد ما ذکر من الحالات، أو کان عروض الشکّ له

ص:362

بعد تحقّق حالة اُخری علیه، وذلک بأن علم بالبطلان أوّلاً بواسطة ترک جزء کان ترکه مبطلاً کالرکن مثلاً أو علم بانتفاء شرطٍ کان مبطلاً، أو وجود مانع کذلک، ثمّ قبل ترتیب أثر علیه عَرَض له الشکّ بأحد هذه الاُمور، فیصحّ له الحکم بالصحّة بواسطة هذه القاعدة، لأنّ الیقین بالبطلان لا یضرّ بحال الشکّ فی الصلاة المعتبرة فی قاعدة الفراغ ، مضافاً إلی إطلاق دلیل قاعدة الفراغ ، مع أنّ استفادة البطلان لایوجب البطلان الواقعی، فإذا لم یضرّ الیقین بالبطلان لإجراء القاعدة، فالیقین بالصحّة بعد الفراغ ثمّ تبدّله بالشکّ لا یکون مضرّاً بطریق أولی .

وبعبارة أوفی: الیقین إذا تعلّق بأیّ شیء من البطلان أو الصحّة لا یترتّب علیه أثره، إلاّ أن یکون باقیاً علی حاله، فإذا تبدّل فإنّه یتبدّل حکمه أیضاً، ولا یضرّ مجرّد وجوده بما یترتّب علی حالة الشکّ ما دام کونه موجوداً.

ووجه الأولویة فی طرف الیقین بالصحّة، هو عدم احتمال التنافی المتوهّم فی الیقین بالبطلان هنا، لأنّ ما یقتضی الیقین موافقٌ لما یقتضیها القاعدة، وهو الصحّة، بخلاف الیقین بالبطلان کما لایخفی علی المتأمّل .

المسألة الثالثة: إذا علم بوجود مانع فی أعضاء الوضوء، وعلم زمان حدوثه ولکن یشکّ فی أنّ الوضوء هل وقع قبل حدوث المانع حتّی یحکم بصحّته، أو حدث بعده فیحکم بالبطلان؟

فیه وجهان:

1 _ من جهة أنّ مقتضی أصالة عدم ارتفاع الحدث وقاعدة الاشتغال هو الحکم بلزوم الإعادة لأنّ ذمّته کانت مشغولة بالتکلیف ، والآن یشکّ فی ارتفاعه بهذا الوضوء فیحکم بها.

قد یتوهّم: أنّ مقتضی أصالة عدم حدوث الحادث _ المعروف بأصالة تأخّر الحادث وهو الوضوء _ الحکم بالبطلان أیضاً، لإفادته وقوع الوضوء مع وجود المانع .

ص:363

لکنّه مندفع: بأنّ هذا الأصل تکون مثمرة ومفیدة إذا کان حکم وجوب إعادة الوضوء مترتّباً علی عدم إتیان الوضوء قبل المانع ، والحال أنّه لیس کذلک، لوضوح أنّ الحکم بالإعادة مترتّبٌ علی إثبات کون الوضوء مع وجود المانع، وهو أصالة تأخّر الوضوء لا یثبت کونه بعد وجود المانع، إلاّ بالأصل المثبت، وهو لیس بحجّة.

فی قاعدة الفراغ / لو علم المسح علی الحائل و شکّ فی المسوّغ له

فلیس وجه البطلان إلاّ ما ذکرنا من استصحاب بقاء الحدث والاشتغال .

وبناءً علی هذا نحکم بالصحّة لأنّ المورد یعدّ من موارد جریان قاعدة الفراغ، لأنّه شکّ فی صحّة الوضوء وفساده بعد الفراغ عنه، وهی تحکم بعدم الالتفات، فیصحّ وضوءه لصدق العنوان الوارد فی الخبر «أنّه کان حین العمل أذکر منه حین یشکّ»، وهذا هو الأقوی .

2 _ نعم ، لو کان عالماً بغفلته حین الوضوء عن مثل هذه الاُمور، فیشکل إجراء القاعدة، خصوصاً علی مبنی القوم، حیث جعلوا هذه علّة للحکم ومنحصرة فیه، ونحن وإن أشکلنا فی ذلک، لکن قلنا بالحکمة لا العلّة تبعاً لصاحب «مصباح الفقیه» والسیّد محسن الحکیم فی «المستمسک»(1) فی باب (الماء المشکوک نجاسته) فی المسألة 11، حیث جعل هذا التعلیل حکمةً للحکم، نظراً إلی بناء العقلاء علی الإطلاق أی سواء کان ملتفتاً حال العمل أم لا، والآملی صاحب «مصباح الهدی» فی المسألة 51 (من أحکام الوضوء)(2)، ولذلک حکم السیّد فی «العروة» فی هذه المسألة بالإعادة فی هذا الفرض مراعاةً للاحتیاط والوجوبی، حذراً عن مخالفة الشهرة المتحقّقة، کما قلناه ولا نعید .


1- المستمسک: ج2 / ص266.
2- مصباح الهدی: ج3 / ص536.

ص:364

المسألة الرابعة: لو علم بعد الفراغ عن الوضوء أنّه مسح علی الحائل، أو مسح فی موضع الغسل أو بالعکس ، إلاّ أنّه یشکّ فی أنّ عمله کان بواسطة وجود مسوّغ له _ من حیث جواز مسحه علی الجبیرة، أو ضرورة مستلزمة لإباحة ذلک من التقیّة وغیرها _ أم أنّه أقدم علی ذلک دون مسوّغ شرعی؟

وهکذا لو علم أنّه مسح بالماء الجدید، لکنّه شکّ فی أنّه هل کان له مسوّغ لذلک أم لا؟ فهل یحکم بصحّة الوضوء فی جمیع هذه الصور، لأنّه یعدّ شکّاً بعد الفراغ أم لا؟

فیه وجهان:

1 _ من جهة احتمال أنّ القاعدة مختصّة بالموارد المشکوکة التی وقع الشکّ فی صحّة أداءه لوظیفته الشرعیّة وفساده، أی یعلم أنّه قد علم بوظیفته، ولکن یشکّ فی وقوعه صحیحاً أو فاسداً ، فقاعدة الفراغ تحکم بصحّته .

هذا بخلاف ما لو علم بالإخلال من المسح علی الحائل، أو المسح فی موضع الغسل، أو المسح بالماء الجدید، غایة الأمر یشکّ فی أنّه هل کان قد عمل بوظیفته الشرعیّة أم لا؟

وهذا یکون من قبیل ما لو شکّ فی الصلاة التی أتاها قصراً قطعاً ثمّ شکّ فی أنّه هل کان مسافراً فقصّر، أو کان حاضراً فقصّر عُذراً، فإنّه لا تجری فیه القاعدة، لأنّه یعدّ شکّاً فی أصل المأمور به، لا شکّاً فی صحّة المأمور به بعد القطع بکونه هو الوظیفة، فلازم ذلک هو بطلان الوضوء، والحکم بوجوب الإعادة، کما علیه الخوئی والمیلانی رحمهماالله کما احتاط فیه احتیاطاً وجوبیّاً کلّ من الخمینی والشاهرودی والآملی، خلافاً للسیّد فی «العروة» والحکیم والگلپایگانی من جعل الاحتیاط استحبابیّاً .

2 _ أو یقال بدعوی انصراف أدلّتها عمّا لو کان الشکّ فی الصحّة ناشئاً عن

ص:365

الشکّ فی توظیف المأتی به الناشئ عن طروّ العناوین الثانویة، فهی وإن تعمّ صورة کون الشکّ فی المأمور به، لکنّها تختصّ بالوظیفة الناشئة عن مقتضی العناوین الأوّلیة، فلو توضّأ وشکّ فی صحّة وضوئه من جهة احتمال حرمة الوضوء علیه _ لرمدٍ ونحوه _ جرت فیه القاعدة، دون ما لو کان الشکّ من جهة طروّ العناوین الثانویة، کما فی الأمثلة المذکورة.

وأیضاً لو لاحظنا الإطلاق الموجود فی الأخبار الدالّ علی أنّه إذا وقع الشکّ فی شیء بعد الفراغ عنه من جهة صحّته وفساده، سواء کان وجه الشکّ من جهة وقوع الإخلال فی الجزء أو الشرط أو وجود المانع، أو کان الإخلال من جهة أنّ ما وقع هل کان علی طبق الوظیفة الشرعیة أم لا؟ فإنّ الإطلاق یفید عدم الاعتناء به .

ودعوی الانصراف ممنوعة، لما وقع فی بعض أخبارها من التعلیل المعوّل علیه عند القوم من الأذکریّة حین العمل، حیث أنّ التعلیل یعمّ للفرض الذی نحن فیه، لأنّ الإنسان حین العمل یعدّ أذکر للإتیان بما هو وظیفته، خصوصاً إذا کان متشرّعاً، وأراد العمل بالواجب وأداء حقّ اللّه، فظاهر حال المسلم هو الإتیان بالصحیح منه .

مضافاً إلی ما عرفت من أنّ مقتضی بناء العقلاء هو الصحّة فی کلّ عمل، کما عرفت ذلک من سیّدنا الحکیم، تبعاً للمحقّق الهمدانی قدس سره ، بل الحکیم _ اعتماداً علی مبناه _ قد نفی اعتبار الأذکریّة حال العمل تمسّکاً بحسنة الحسین بن أبی العلاء، قال : «سألت أبا عبداللّه علیه السلام عن الخاتم إذا اغتسلت؟ قال : حوّله من مکانه ».

وقال فی الوضوء: تدره فإن نسیت حتّی تقوم فی الصلاة فلا آمرک أن تعید الوضوء»(1) . بدعوی ظهورها فی صحّة الوضوء، ولو مع العلم بطروّ النسیان عن


1- وسائل الشیعة: أبواب الوضوء، الباب 41، الحدیث 2 .

ص:366

التفحّص عنه فی حال الوضوء، وهو کما فی «المستمسک»(1).

وإن اُورد علیه _ کما عن الآملی فی «المصباح»(2)_ بأنّ الخبر لا یدلّ علی الحکم بالصحّة مع الشکّ فی وصول الماء إلی البشرة، إذ یحتمل أن یکون السؤال عن حکم حمل الخاتم فی نفسه فی حال الغسل والوضوء، وبعد الجواب عنه بتحویل الخاتم فی الغسل وإدارته فی الوضوء، والتصریح بعدم وجوب إعادة الصلاة بترکه، یدلّ علی استحباب التحویل والإدارة، ولو مع العلم بوصول الماء تحته، کما أفتی به الأصحاب ولعلّ هذا هو الظاهر المستفاد من الخبر.

ومع المنع عن أظهریّته، فلا أقلّ من مساواته مع احتمال کون الترک النسیانی یکون فی مورد الشکّ فی وصول الماء إلی البشرة، حتّی یتمسّک به بقاعدة الفراغ حتّی مع العلم بالغفلة فی حال العمل ، انتهی کلامه .

فکأنّه أراد القول بأنّه مع تساوی الاحتمالین، یسقط عن الاستدلال لخصوص الأخیر، لوقوع الإجمال فی المراد من الحدیث .

ولکن الإنصاف أنّ النسیان عن التحویل والإدارة له ثلاثة صور وهی: تارةً: یعلم بوصول الماء إلی البشرة.

واُخری: یشکّ فیه .

وثالثة: یعلم عدم الوصول.

فلا إشکال فی خروج الأخیر عنه، فیبقی الباقی تحته .

ودعوی انحصاره فی خصوص الصورة الأولی، لا یخلو عن بُعد، فإذا عمّه فلا إشکال فی شموله لصورة النسیان والغفلة عن إیصال الماء إلی ما تحته، فیکون


1- المستمسک: ج1 / ص266.
2- مصباح الهدی: ج3 / ص537.

ص:367

شکّه حینئذٍ فی حال عدم أذکریّته ، فمع ذلک لم یحکم بالإعادة .

وما ذکرناه لا ینافی أن یستفاد منه استحباب التحویل والتدویر للخاتم، وإن علم الوصول ، وإلاّ لو کان واجباً ربما یمکن الحکم بوجوب إعادته ، مع أنّه أیضاً محلّ تأمّل، لإمکان أن یکون من الواجبات التی لا یمکن تدارکها بعد فوتها فی محلّها .

نعم، الحکم بعدم وجوب إعادة الصلاة بذلک النسیان، ربما یفهم منه استحبابه، وإلاّ لأوجب تدارکه ولو بإعادة الوضوء والصلاة .

وکیف کان لا یخلو الخبر عن الإشعار بعدم اعتبار الأذکریّة فی الحکم بصحّة العمل، بلا فرق بین أن یکون الشکّ فی وقوعه صحیحاً وفاسداً من جهة الإخلال بجزء منه أو شرط منه، أو کان من جهة الشکّ فی أصل المسوّغ بعدما علم صدور الخلل منه.

مع أنّه یمکن أن یقال : بأنّ مرجع الشکّ حین التردید فی أنّه هل أتی علی طبق الوظیفة الشرعیة، وهل کان له مجوّز أم لا؟ إلی الشکّ فی الإخلال بالجزء أو الشرط أو وجود المانع، لأنّ المسح فی موضع الغَسل أو بالعکس یعدّ شکّاً فی کونه جزءاً أو مانعاً، لأنّه إن لم یکن له مسوّغاً فیکون مانعاً عن الصحّة، ویعدّ تارکاً للجزء الواجب، وإن کان له مسوّغٌ لذلک فیکون هو جزءاً لا مانعاً، فأمره دائر بین أن یکون المأتی به مانعاً أو جزءاً أو مانعاً أو شرطاً. فیؤول الأمر إلی الشکّ فی الإخلال بالواجب، من جهة ترک الواجب من الجزئیة أو الشرطیة أو المانعیة، ویکون المرجع قاعدة الفراغ .

نعم ، إذا شکّ فی أنّ الصلاة التی أتی بها هل کانت قبل الوقت فتکون باطلة، أو وقعت فی الوقت حتّی تکون صحیحة ؟

فی قاعدة الفراغ / عدم جریان القاعدة إذا لم یترتّب علیه أثر

قیل : إنّه لا تشملها القاعدة، لأنّه شکّ فی أصل الواجب الشرعی وهو خارج عن مورد القاعدة، من جهة أدلّتها، لأنّک قد عرفت من خبر زرارة أنّ الشکّ الذی

ص:368

لا یعتنی به إنّما یکون شکّاً بعد الفراغ عن العمل، أی کأنّه قد فرض وقوع عمل علی حسب الوظیفة، وشکّ فی صحّته من جهة شیء فیه، لا دونما لا یکون الفراغ عن أصل العمل معلوماً، لاحتمال وقوعه خارج الوقت، لأنّ الشکّ حینئذٍ یعدّ شکّاً فی أصل وجوبه، أی هل صار واجباً له وأتی به أم لا؟ فلا یشمله حدیث زرارة، بقوله : إذا فرغت عنه وصرت فی حال اُخری فشکّک لیس بشیء .

نعم، لو شکّ فی أنّ عمله المأتی به قبل الوقت هل کان بمسوّغ شرعی له، أم لا، فإنّه لا یمکن فیه إجراء قاعدة الفراغ، لأنّه لم یصر علیه واجباً حتّی یحکم بالإجزاء ووجود المسوّغ.

فمجرّد الحکم بالجواز، من جهة بناء العقلاء علی عدم الإقدام بأمر باطل غیر صحیح، ولا یوجب الحکم بصحّته وکفایته عن الواجب، بل لابدّ أن یکون له مسوّغ شرعی علی ذلک من ضرورة أو تقیّة.

غایته أنّ هذا البناء یوجب إثبات أنّه لم یفعل حراماً من جهة التشریع وغیره ، ولکنّه لا یثبت الکفایة عن الواجب، فإنّه باقٍ علی ذمّته لعدم دخول وقته .

وبالجملة : والذی أذهب إلیه أنّ الحقّ مع السیّد فی «العروة» والحکیم فی «المستمسک» وآخرون غیرهما، من إجراء القاعدة فی جمیع هذه الصور، ونمنع عدم إطلاق الأحادیث أو انصرافها عنه، وإن کان الاحتیاط بالإعادة فی جمیعها حسنٌ، بل لا یخلو عن قوّة، وذلک من جهة مراعاة عدم مخالفة القوم فی ذلک، واللّه العالم.

المسألة الخامسة: لا یذهب علیک أنّ قاعدة الفراغ إنّما تجری فیما إذا رتّب علی جریانها أثرٌ علی المشکوک، من الحکم بإعادته، أو إعادة ما ترک فیه مشکوکاً ولو ندباً .

وأمّا فیما لا یترتّب علیه الأثر ولو استحباباً، فلا تجری القاعدة، ولا تعارض

ص:369

مع قاعدة الفراغ الجاریة فی الطرف الآخر للعلم الإجمالی .

ویتفرّع علیه بأنّه إذا تیقّن المکلّف بعد الفراغ عن الوضوء، أنّه ترک شیئاً من الوضوء مثل _ غسل الوجه _ ولکن لا یدری هل ترک الأولی منها _ حتّی یکون تارکاً للجزء الواجب، فتجب إعادة الوضوء، وما أتی به بواسطة هذا الوضوء الذی أخذ فیه شرطاً _ أو الثانیة حتّی لا توجب الإعادة لا فی نفسها، لفوت محلّ تدارکها، لکون هذا الشکّ والالتفات وقعا بعد الفراغ وتمامیّة الوضوء، ولا الوضوء الذی أتی به کذلک، لکونه جزءاً ندبیاً یجوز ترکه اختیاراً .

فلا إشکال هنا فی جریان قاعدة الفراغ، والحکم بصحّة الوضوء، من جهة صحّة جریان قاعدة الفراغ بالنسبة إلی الجزء الواجب المشکوک ، ویحکم بإتیانه، أی یحکم بأنّ وضوءه وقع صحیحاً .

ولا یتوهّم بجریان القاعدة فی الجزء المشکوک ترکه ندباً، فتعارض مع القاعدة الجاریة فی الجزء المشکوک ترکه وجوباً.

لأنّه لا یکون لإجراء هذه القاعدة أثراً یترتّب علیه، إذ الحکم بوقوع المشکوک فیه بدلالة القاعدة لا یوجب رفع حکم الإعادة عن نفسه ولو ندباً، ولا من مجموع العمل، لأنّه لولا القاعدة لما کان بإمکاننا من الحکم بالإعادة فی کلا الفرضین، إذ الإعادة بالنسبة إلی نفس الجزء لا فائدة فیها لفوات محلّ تدارکه ، وبالنسبة إلی أصل الوضوء لا تفید حکم الإعادة إلاّ لزوم إیجاد وضوء تجدیدی آخر، ولا یحتسب ما هو الواقع فی الأوّل لأنّه وقع صحیحاً .

فما ورد فی «حاشیة» السیّد المرعشی علی «العروة» فی المسألة 44 (فی شرائط الوضوء) من استغرابه بقوله : «لیت شعری إن لم یکن له أثرٌ فکیف قوّی عدم الإجراء فی الواجب فی المسألة السابقة إذا علم إجمالاً ببطلانه أو المندوب».

غیر وجیه، لوضوح أنّه لیس هنا له أثر ، وأمّا فی المسألة فسیجیء حکمها إن

ص:370

شاء اللّه، وسنبیّن فی محلّه بأنّه له أثر أم لا.

فالحکم بصحّة الوضوء، وصحّة ما أتی به ممّا یشترط فیه الوضوء أمرٌ ثابت بین الفقهاء المعاصرین والمتأخّرین الذین تعرّضوا لهذا الفرع .

ویتفرّع علی ما ذکرنا أیضاً صورة ما إذا توضّأ لأجل قراءة القرآن، وتوضّأ فی وقت آخر وضوءاً للصلاة الواجبة، ثمّ علم ببطلان أحد الوضوءین؟

فإنّه حکموا _ کما فی «العروة» فی المسألة 43 (من شرائط الوضوء)_ بصحّة الوضوء والصلاة، لمقتضی قاعدة الفراغ .

ولکن لابدّ من بیان صور المسألة، حتی یظهر ما هو مقتضی جریان قاعدة الفراغ وعدمه، فنقول:

تارةً: یفرض بأنّ الوضوء الثانی لا یکون رافعاً للحدث ، بل لو وجد فإنّه یکون تجدیدیّاً . فحینئذٍ یعلم بأنّ أحدهما کان باطلاً، فلا إشکال حینئذٍ فی صحّة صلاته وتحقّق وضوئه صحیحاً، لأنّه إمّا أن یکون الوضوء الأوّل صحیحاً ورافعاً فبطلان الثانی لا یؤثّر إلاّ فی عدم تحقّق الوضوء التجدیدی به.

أو یکون الوضوء الثانی صحیحاً فی الواقع دون الأوّل ، فحینئذٍ لا إشکال فی وجود الوضوء الصحیح له أیضاً، لأنّ الثانی یقع رافعاً قهراً دون الأوّل، لکونه مفروض البطلان، فلا وجه للحکم بوجوب الإعادة أصلاً علی أیّ تقدیر .

اللّهم إلاّ أن یقال : بأنّ صیرورة الوضوء رافعاً یحتاج إلی نیّة رافعیّته وإلاّ فلا یتحقّق ، فحینئذٍ لو فرض أنّه نوی کون الأوّل رافعاً وباطلاً فلا یمکن أن یقع الثانی صحیحاً، لعدم تحقّق نیّة الرفع فیه ، کما أنّه لو کان الثانی باطلاً علی الفرض فلایقع الأوّل رافعاً للحدث، إن فرض عدم قصده الرافعیة من الأوّل والمفروض بطلان طرفه أیضاً، فلا یقع الوضوء حینئذٍ صحیحاً علی کلا التقدیرین .

لکنّه مندفع: بأنّه حتّی علی القول بلزوم النیّة فی الرفع یحکم بالصحّة هاهنا،

ص:371

وذلک بمقتضی قاعدة الفراغ، لأنّه علی الفرض بأنّه کان شاکّاً فی مصداق البطلان ، فحینئذٍ ففی کلّ واحد منهما، إذا فرض علمه بأنّه کان یقصد الرفع فیه فإنّه یحکم بصحّته بمقتضی قاعدة الفراغ التی یحکم بصحّة الوضوء فیه، فلا یبقی للإشکال المذکور مجالٌ، لأنّ ما قصد فیه الرفع لا یکون بطلانه معلوماً، بل کان مشکوکاً، فتجری فیه القاعدة ویحکم بالصحّة، مع أنّا لا نذهب إلی اعتبار قصد الرفع فیه، لأنّ حقیقة الوضوء فی جمیع أقسامه شیء واحد .

واُخری: یفرض کون الثانی رافعاً _ کما هو المقصود من کلام السیّد فی «العروة» فی المسألة 44 من شرائط الوضوء _ فهو أیضاً یتصوّر علی قسمین: تارةً: یفرض أنّه قد قرأ بعد الوضوء الأوّل، کما لو کان قد صلّی بعد الوضوء الثانی .

واُخری : ما لا یکون کذلک، أی لم یقرأ بعد الوضوء، ولکنّه صلّی بالثانی صلاة الفریضة، أو لم یصلِّ أیضاً، أو صلّی نافلة.

ثمّ علی جمیع التقادیر، قد تکون القراءة واجبة بالنذر والیمین أو غیرهما ، واُخری لا تکون واجبة ، بل کانت مندوبة، کما أنّ الصلاة التی تقع بعد الثانی قد یتصوّر تارةً وجوبها ، واُخری ندبیّتها، فلابدّ من بیان حکم صور المسألة حتّی یتّضح أنّ أیّ قسم منها لا تکون لقاعده الفراغ فیها أثراً فلا تجری، إذا علم ببطلان أحد الوضوئین .

فنقول: فإن کان قد توضّأ بوضوئین ولم یقرأ بعده ، ثمّ توضّأ وضوءاً ثانیاً رافعاً للحدث، فصلّی به صلاة فریضة أو نافلة أو لم یصلِّ به أصلاً، ثمّ علم ببطلان أحدهما، فهاهنا لا یمکن الحکم بصحّة الوضوء الثانی للصلاة بمقتضی قاعدة الفراغ لأنّه معارض مع القاعدة الجاریة فی ناحیة الوضوء الأوّل، لوجود أثر له حینئذٍ، لأنّه یحکم بواسطة قاعدة الفراغ عدم استحباب استئناف الوضوء للقراءة، إن کانت القراءة مندوبة وفیه إشکال سیأتی ذکره ، أو عدم وجوب الاستئناف، إن

ص:372

کانت القراءة واجبة، فتعارض هذه القاعدة مع القاعدة الجاریة فی طرف الوضوء الثانی، سواء کان قد صلّی به أم لا ، وسواء کانت الصلاة فریضة أو نافلة، فتسقط القاعدتان بالمعارضة، فیبقی لنا حینئذٍ العلم ببطلان أحد الوضوءین وصحّة الآخر، فإن لم نذهب إلی اعتبار قصد الرفع فی الوضوء الرافع، فلا إشکال فی کونه یعدّ متطهّراً، إمّا بالوضوء الأوّل _ وإن لم یقصد فیه الرفع _ أو بالوضوء الثانی إن کان الأوّل باطلاً .

هذا، إن لم یعلم وقوع الحدث بین الوضوءین، وهو خلاف الفرض، وإلاّ یحکم بکونه مُحْدِثاً، لأنّه کان قاطعاً بوقوع الحدث بعد الوضوء الأوّل، وصحّة الثانی مشکوکة ، فإن کانت قاعدة الفراغ جاریة فیه کان محکوماً بالصحّة، ولکنّها بالمعارضة سقطت، فلیس لنا أصلٌ یفید الصحّة، فلابدّ من الرجوع إلی استصحاب بقاء الحدث، وقاعدة الاشتغال للصلاة وغیرها، وهذا هو المفروض فی البحث .

کما أنّ استحباب استئناف الوضوء للقراءة المندوبة، أو وجوب استئنافه للقراءة الواجبة یکون محفوظاً وباقیاً بحاله ، غایة الأمر أنّه یجب علیه إتیان الوضوء لمرّة واحدة، ویکفی ذلک عن کلٍّ من الحکمین من القراءة والصلاة، ولا یحتاج إلی تعدّد الوضوء لکلّ واحد منهما، لإمکان تداخل مسببیّهما.

فظهر ممّا ذکرنا أنّه لو علم عدم وقوع الحدث بین الوضوءین، أو شکّ فی ذلک، فهما خارجان عن مفروض بحثنا _ لأنّا قد فرضنا فی صدر البحث، کون الوضوء الثانی رافعاً للحدث قطعاً، فلا یناسب ولا یجامع مع العلم بعدم وقوع الحدث بینهما، أو مع الشکّ فیه _ ولکن مع ذلک نقول بأنّ مع الشکّ فی وقوع الحدث بینهما، یحکم ببقاء الوضوء والطهارة، لعلمنا بصحّة أحد الوضوئین قطعاً، أمّا تخلّل الحدث بینهما فمشکوکٌ، فینتفی بأصل العدم، وهذا الأصل سببیٌ مقدّم

ص:373

علی الأصل الجاری فی نفس الوضوء الثانی، من جهة الشکّ فی کونه رافعاً للحدث أم لا ، فیحکم بأنّ الأصل العدم، حیث یعارض ذلک مع أصل عدم کونه تجدیدیّاً؛ لأنّ الأصل یکون جاریاً فی الحدث ویحکم بعدم وجوده من جهة الاستصحاب، فیرفع الشکّ عن کون الوضوء رافعاً وعدمه ، کما لا یخفی، فیحکم ببقاء الطهارة وحصولها بأحد من الوضوءین، وإن اعتبرنا النیّة فی الرفع، فلا یکون عالماً بحصول الطهارة قطعاً، لاحتمال بطلان الثانی، فلابدّ من تحصیله .

وأمّا لو تطهّر للقراءة الواجبة بالنذر، کما لو نذر القراءة معها، وقرأ بعد الوضوء، ثمّ تطهّر مرّة اُخری فی وقت آخر بعد وقوع الحدث للصلاة الواجبة أو لغیرها من الواجبات، فهنا أیضاً یقال أنّ قاعدة الفراغ جاریة فی کلیهما، فیحکم بصحّة الوضوء للقراءة، کما نحکم بصحّته فی طرف الصلاة، مع أنّا نعلم ببطلان أحدهما، فتتعارض هذه القاعدة مع ما تجری فی قبالها، فتسقطان ویجب الرجوع إلی مقتضی سائر الاُصول والقواعد، وحیث أنّ وقوع الحدث بینهما قطعی، فإنّ استصحابه یوجب الشکّ فی ارتفاعه بالوضوء الثانی، لاحتمال فساده وبطلانه .

لا یقال : هذا الاستصحاب یتعارض مع استصحاب الحدث الواقع قبل وضوء الأوّل، فیتساقطان .

لأنّا نقول : إنّ ذاک الاستصحاب غیر جارٍ قطعاً بالفعل، للعلم التفصیلی بالفعل بزوال ذلک الحدث ، إمّا بالوضوء الأوّل _ إن کان هو صحیحاً _ أو بالثانی، فیکون الحدث واقعاً بعد الحدث إن کان الوضوء الأوّل باطلاً فی الواقع ، فاستصحاب الحدث المتخلّل جارٍ بلا معارض، ویفید الحکم بوجوب تحصیل الطهارة للصلاة، کما یفید وجوب إعادة الصلاة من جهة عدم وجود دلیل یحکم بصحّة الوضوء .

کما أنّ مقتضی قاعدة الاشتغال للصلاة، ومقتضی العلم الإجمالی فی الشبهة المحصورة من الشبهات الوجوبیة الحکمیة، هو الاحتیاط إذا لم یکن لنا دلیلٌ أو

ص:374

أصلٌ حکم علی ذلک العلم.

کما أنّ القراءة الواجبة بالنذر، تجب إعادتها من جهة دلالة قاعدة الاشتغال، بل واستصحاب بقائها، وعدم سقوط الذمّة بما أتی، من جهة احتمال بطلان وضوئه، وعدم وجود قاعدة تحکم بصحّته .

نعم، لا یجب فی الحال تحصیل وضوء آخر للقراءة، بل یکفی إتیانها بالوضوء الحاصل للصلاة، إن لم یکن نذره متعلّقاً بتحصیل وضوء مستقلّ للقراءة، وإلاّ فیجب إعادة الوضوء للقراءة أیضاً وذلک بمقتضی النذر، کما لایخفی .

وأمّا لو فرض تخلّل الحدث بین الوضوءین، اللّذین یعلم بطلان أحدهما، ولکن قد أتی بالوضوء الأوّل القراءة المندوبة ، وبالوضوء الثانی الصلاة الفریضة أو النافلة، أو لم یأت به شیئاً ، فهاهنا یمکن الحکم بصحّة الوضوء الثانی، والصلاة الواقعة بعده، بواسطة جریان قاعدة الفراغ فیه بلا وجود معارض لها، لأنّ القاعدة فی القراءة المندوبة غیر مؤثّرة لأثر، لأنّ جریانها وعدمه فیها یکون علی حدٍّ سواء، لأنّ القراءة الأولی التی قد تحقّقت بالفعل ولا استحباب فی إعادتها بعد تحقّقها ووقوعها فی الخارج.

لا یقال : إنّ استصحاب وقوع الحدث المتخلّل یوجب الحکم بوجوب إعادة الوضوء .

لأنّا نقول : قد عرفت أنّ هذا الاستصحاب یکون محکوماً بقاعدة الفراغ، فلا یؤثّر هاهنا، خلافاً لسابقه حیث کان مؤثّراً، لسقوط القاعدة بالمعارضة .

وأمّا الصورة الثالثة من الحدث المتخلّل: هو ما توضّأ مرّتین، الأولی للقراءة ولم یقرأ بعد، والثانی للصلاة وأتی بها أو لم یأت، ومن ثمّ علم ببطلان أحدهما؟

ففی هذه الصورة، یظهر من الآملی قدس سره فی «مصباح الهدی»(1) عدم جریان


1- مصباح الهدی: 3 / ص522.

ص:375

قاعدة الفراغ فی الوضوء الثانی للحکم بصحّته، کما لا یجری فی الأوّل منهما لأجل وجود المعارضة بین القاعدتین، لأنّ قاعدة الفراغ الجاریة فی الوضوء الأوّل لها أثر، وهو الحکم بعدم استحباب استئناف الوضوء للقراءة ، فعلی هذا تقع المعارضة بینها وبین القاعدة الجاریة فی الوضوء الثانی فلازم ذلک هو إجراء ما ذکرناه سابقاً، من لزوم تحصیل وضوء للصلاة.

هذا، ولکن یمکن أن یقال فی جوابه فی صورة القراءة المندوبة، بأنّ الاستحباب إن کان وصفاً لحال الوضوء فی القراءة، أی کان لو عُدّ من أقسام الوضوءات المستحبّة، الوضوء للقراءة، فلکلامه قدس سره وجه وجیه .

وإمّا إن کان الاستحباب وصفاً لحال القراءة، أی کانت القراءة مع الوضوء مستحبّة، لا استحباب الوضوء لخصوص القراءة ، فحینئذٍ یمکن أن یقال إنّه لا أثر لإجراء القاعدة فی جانب الطهارة الحاصلة للقراءة لأنّ المفروض کونه متطهّراً للصلاة فإذا قرأ بتلک الطهارة یکون قد عمل بالاستحباب حین قراءته، فلا وجه للحکم باستحباب استئناف الوضوء للقراءة بعد ذلک .

هذا، ولکن الإنصاف عدم صحّة هذا الجواب فی هذا الفرض الذی یقطع بوقوع الحدث بینهما، لما قد عرفت من وجود استصحاب الحدث، ووجوب تحصیل الطهارة، لو فرض عدم جریان القاعدة فی طرف الوضوء الثانی، مع أنّ جریانها فیه منوط بعدم وجود قاعدة فی طرف الوضوء الأوّل، وعدم جریانها فیه منوط بصحّة وجود الوضوء الثانی حتی تتحقّق القراءة مع الوضوء، وهو أوّل الکلام .

فإجراء القاعدة فی کلّ منهما موقوف علی عدم إجرائه فی الأخیر، أی عدم إجراء القاعدة فی الوضوء الأوّل، لعدم وجود أثر له منوط علی إجراء القاعدة فی الوضوء الثانی، مع أنّ إجرائها فی الثانی موقوفٌ علی عدم جریانها فی الوضوء الأوّل، وهذا دورٌ باطل ، فالاکتفاء بمثل هذا الوضوء الثانی، مع وجود استصحاب

ص:376

الحدث، مشکل جدّاً .

نعم، یصحّ هذا الجواب فیما لو علم عدم تخلّل الحدث بینهما، لما قد عرفت من البناء علی عدم اعتبار نیّة الرفع فی الوضوء _ کما هو الحقّ _ أو لو اعتبرناه ولکنّه نوی رفعه فی الثانی إن أمکن، فإنّه یکون الوضوء له حاصلاً قطعاً، فتکون القراءة واقعة مع الوضوء من دون احتیاج إلی الحکم باستحباب استئناف الوضوء للقراءة، کما لایخفی .

فظهر لک حال الصور المتعدّدة من صورة العلم بتخلّل الحدث الذی کان مورد البحث فی «العروة» وحواشیها، کما ذکره بعض الفقهاء، وإن کانت عبارته فی «العروة» مطلقة من هذه الناحیة .

کما ظهر إجمالاً حکم الصور الثلاثة الموجودة فی صورة العلم بعدم تخلّل الحدث بینهما، أو الشکّ فی تخلّله، إذ الأمر فیهما أهون، للعلم بوجود الطهارة التامّة حینئذٍ ولو بقاءاً، لو لم نعتبر نیّة قصد الرفع فی الوضوء، کما هو الأقوی عندنا وعند القوم .

فعلی هذا یحصل لنا العلم الوجدانی بصحّة أحد الوضوءین مع بقاء أثره الفعلی، والأثر یکون إمّا من جهة الوضوء الأوّل بعد عدّ الوضوء الثانی باطلاً، مع العلم بعدم حدوث حدث فی البین بالوجدان، أو بالأصل _ کما عرفت _ أو من ناحیة الوضوء الثانی إن کان الأوّل فی الواقع باطلاً .

هذا، فضلاً عن أنّ لنا فی المقام دلیلاً آخراً علی الصحّة، هو أنّه قد قرأ بالوضوء الأوّل، لما قد عرفت من جریان القاعدة فی الوضوء الثانی بلا معارض دون الأوّل لعدم وجود أثر فیه ، بل وقد عرفت أنّ الأمر یکون کذلک فی صورة عدم القراءة، بناءاً علی کون الاستحباب وصفاً للقراءة، حیث أنّه یعدّ متطهّراً علی الفرض، فیکتفی بها للقراءة، فلا یحتاج إلی إثبات استحباب الاستئناف لها خلافاً

ص:377

للآملی، کما مرّ علیک کلامه .

نعم، إذا کانت القراءة واجبة، وقرأ بالوضوء الأوّل، فإنّه لا نمتلک دلیلاً علی الصحّة إلاّ العلم بها وجداناً، أو بمساعدة الأصل الجاری فی عدم الحدث المتخلّل، لأنّ القاعدة فی کلا الطرفین جاریة ومتعارضة ومتساقطة، وقد مرّ تفصیله فلا نعید .

هذا تمام الکلام فی الفروض التسعة المتصوّرة هنا .

والحمد للّه علی ما أنعم، والشکر له علی ما ألهم، وصلّی اللّه علی رسوله المُلهم صلی الله علیه و آله ، وعلی آله الطاهرین هداة الاُمم من العرب والعجم.

ص:378

الفرع السادس من الفروع المترتّبة علی قاعدة الفراغ :

هو ما لو توضّأ بوضوء، ثمّ علم بحدوث صلاة وحدثٍ بعده، ولکن لا یعلم المتقدّم منهما والمتأخّر، لأنّه إن کان المتقدّم هو الصلاة علی الحدث، فلازمه صحّتها، وإن کان عکس ذلک فلازمه فسادها وبطلانها.

ذهب السیّد فی «العروة» فی المسألة 43 إلی الحکم بصحّة الصلاة خصوصاً إذا کان تاریخ الصلاة معلوماً ، لوجود قاعدة الفراغ، واستصحاب بقاء الطهارة إلی ما بعد الصلاة.

والظاهر من المحشّین موافقته، إلاّ أنّه قد علّق بعضهم علیها بما ما لو کان ملتفتاً عند الصلاة، ثمّ عرض له الشکّ بعدها، کما عن الرفیعی والنجفی المرعشی وغیرهما .

ولایخفی أنّ فی المسألة ثلاثة صور، وهی : تارةً : یفرض کون تاریخ کلّ واحد من الحدث والصلاة مجهولاً .

فی قاعدة الفراغ / لو علم بصلاة و حدث و شک فی المتقدّم منهما

واُخری : ما کان تاریخ الصلاة معلوماً دون الحدث .

وثالثة : عکس ذلک .

الصورة الأولی: فإن ما یصحّ أن یتمسّک به فیها أربعة : أحدهما : أصالة عدم تحقّق الحدث إلی بعد الصلاة، وأثره صحّة الصلاة .

والثانی : أصالة عدم تحقّق الصلاة إلی بعد الحدث، وأثره بطلان الصلاة، لتعارض الأصلین، فحال جریان هذین الأصلین، حال جریان الأصل فی توارد الحالتین من الحدث والوضوء .

غایة الفرق بین الموردین أنّ الأثر فی توارد الحالتین کان مترتّباً علی وجود الآخر وبقائه، یعنی مقتضی أصالة بقاء الحدث إلی زمان الوضوء، هو ارتفاع

ص:379

الحدث بالوضوء، ومقتضی بقاء الوضوء إلی زمان الحدث، هو انتقاض الحدث بالوضوء . هذا بخلاف ما نحن فیه، حیث أنّ الأثر مترتّب علی عدم أحدهما إلی زمان وجود الآخر، لما قد عرفت أنّ أصالة عدم الحدث إلی زمان وجود الصلاة وبعدها، منشأ للأثر وهو الصحّة، وهکذا أصالة عدم الصلاة إلی زمان بقاء الحدث وبعده تفید البطلان .

فإن قلنا بجریان الاستصحاب فی توارد الحالتین فی کلا الطرفین ، غایة الأمر أنّه یسقط بالمعارضة _ کما هو الأقوی عندنا وقد شرحناه سابقاً فراجع _ ، فلازمه جریانهما هنا أیضاً والسقوط بالمعارضة.

وإن قلنا بعدم جریانهما، لعدم تمامیّة أرکانه _ کما اختاره بعضٌ مثل صاحب «الکفایة» والسیّد الاصفهانی _ فهنا أیضاً کذلک .

هذا بالنسبة إلی الأصلین.

وکیف کان فإنّ جریانهما تکون عدیمة الفائدة فی المسألة، إمّا لعدم جریانهما أو تساقطهما فی مجهولی التاریخ .

فیبقی هنا دلیلان آخران وهما:

الثالث: استصحاب الطهارة، بلحاظ حال الوضوء المتیقّن وقوعه، حیث أنّه مع العلم بوجوده یوجب إمکان استصحاب بقائه إلی زمان وقوع الصلاة، فأثره صحّتها .

لا یقال : بأنّ إثبات کون الحدث بعد الصلاة بذلک الاستصحاب، یکون مثبتاً وغیر حجّة؟

لأنّا نقول: لا نحتاج إلی الاستدلال بما یکون مثبتاً، بل یکفی فی الحکم بصحّة صلاة من علم یقیناً بأنّه کان متوضّئاً ومتطهّراً قبل الصلاة فی أوّل حال الوضوء، أن لا یکون الحدث واقعاً قبل الصلاة ، فأثر استصحاب بقاء الطهارة، هو مجرّد عدم ثبوت الحدث قبلها إلی حین الصلاة وبعدها، فهو لیس بأصل مثبت .

ص:380

فإن قلت : بأنّ الطهارة الواقعة فی الأوّل قد نقضت بالحدث بعده قطعاً، لأنّه المفروض من العلم بوقوع الحدث والصلاة بعد الوضوء، فکیف یستصحب الطهارة إلی حین حال الصلاة .

قلت : بأنّ القطع بالنقض حاصلٌ إلی زمان وقوع شکّه الذی کان زمانه بعد وقوع کلّ من الصلاة والحدث، وهو صحیح، لکنّه لا یکون مقتضی الاستصحاب ذلک، بل مقتضاه إثبات بقاء الطهارة إلی زمان وقوع الصلاة، حیث یکون هذا البقاء مشکوکاً لا مقطوع الارتفاع، لأنّه إن کان الحدث واقعاً قبل الصلاة، کان منقوضاً وإلاّ فلا ، فالاستصحاب یحکم بالبقاء، ویحکم بصحّة الصلاة، ولو کان تاریخها مجهولاً أیضاً .

ولعلّه بذلک حکم بعض المحشّین ل_ «العروة» مثل النجفی المرعشی، حیث ذهب إلی أنّه لا نحتاج أن نتمسّک بقاعدة الفراغ فی الحکم بالصحّة للصلاة .

والظاهر صحّة ذلک ولا مانع عنه، ولازمه حینئذٍ عدم الاحتیاج إلی قید الالتفات حال العمل هنا .

الرابع: هو قاعدة الفراغ بالنسبة إلی الصلاة، لأنّه شکّ فی حصول الطهارة أو فقدان شرطها، فالقاعدة تحکم بالعدم ، وأمّا قید الالتفات والأذکریة فیها، فقد عرفت منّا عدم لزومه إلاّ من جهة الاحتیاط وذلک مراعاةً لکلام القوم، ولکنّهم لم یذکروا هذا القید فی المقام إلاّ بعضهم.

هذا کلّه فی مجهولی التاریخ .

فی قاعدة الفراغ / لو شکّ ثمّ غفل ثمّ شکّ

وأمّا الصورة الثانیة: هی ما لو کان تاریخ الصلاة معلوماً دون الحدث.

فالأصل والدلیل الجاریان فیها ثلاثة: أصالة عدم الحدث إلی زمان وقوع الصلاة وبعدها، فلا تعارض أصالة عدم الصلاة إلی زمان الحدث، لأنّ تاریخ الصلاة معلوم لا یقبل سحب ذلک إلی زمان وقوع الحدث، فلا یجری فیه الأصل.

ص:381

والدلیلان الآخران هما استصحاب الطهارة، وقاعدة الفراغ.

فإنّ مقتضی کلّ واحد من الاُصول والأدلّة الثلاثة هنا فی الصحّة، إلاّ أنّ لسان القاعدة تعدّ حاکماً علی لسان الآخرین وإن کان موافقاً لها .

وأمّا الصورة الثالثة: وهی ما لو کان تاریخ الحدث معلوماً دون الصلاة، فأصالة عدم وقوع الصلاة إلاّ بعد الحدث جارٍ، ولا معارض لها، لما قد عرفت من عدم جریان الأصل فی طرف الحدث لمعلومیّة تاریخه وأنّه غیر قابل لجرّ ذلک، ومفاده بطلان الصلاة، إلاّ إنّه معارضٌ مع استصحاب الطهارة إلی زمان وقوع الصلاة وبعدها، فیسقطان .

لا یقال : إنّ الأصل الجاری فی الطهارة یعدّ أصلاً سببیّاً یزیل الشکّ عن وقوع الحدث قبل الصلاة، فلا یکون معارضاً له، لتفاوت رتبتهما؛

لأنّا نقول : إنّ إثبات کون الحدث بعد الصلاة من جهة جریان ذلک الاستصحاب، یوجب کونه أصلاً مثبتاً، ولیس بحجّة، فلیس هذا من آثاره ومن مسبّباته، فإذا سقطا بالمعارضة نرجع إلی قاعدة الفراغ، وهی تحکم بالصحّة.

ولو سلّم عدم المعارضة، وعدّ الأصل هنا سببیّاً ومسبّبیاً، فیکون الدلیل للحکم بالصحّة هما الاستصحاب والقاعدة، کما لا یخفی .

فظهر من جمیع ما ذکرنا أنّ الحکم بالصحّة فی جمیع الصور صحیح، غایة الأمر تتفاوت طرق الاستدلال علیها، واللّه العالم.

السابع من الفروع التی تترتّب علی القاعدة: أنّه لابدّ أن یعلم بأنّ قاعدة الفراغ، هل تکون مختصّة بما إذا کان الشکّ فی صحّة عمل عبادی من الوضوء والصلاة وغیرهما ابتدائیاً بعد الفراغ، أی کان حدوث الشکّ فی الصحّة أو فی الوجود مثلاً بعد الفراغ من دون مسبوقیة بحدوث الشکّ قبل ذلک ، أو لا یکون کذلک، بل القاعدة تجری حتّی لو کان الشکّ حادثاً قبل العمل ومن ثمّ حصلت

ص:382

الغفلة والنسیان، ثمّ حصل الشکّ بالنسبة إلی حال قبل العمل ؟

والأکثر _ لولا دعوی الکلّ _ ذهابهم إلی الأوّل، کما هو الظاهر من أدلّة قاعدة الفراغ، أی أنّ جریان القاعدة یکون حین حدوث الشکّ بعد الفراغ، فما حصل له الشکّ قبله سواء رتّب علی شکّه أثراً أم لا ، لاتشمله قاعدة الفراغ .

نعم، لو عمل بواجبه المشکوک قبل العمل وحال الاشتغال، ثمّ عرض له الشکّ بعد العمل بأنّه هل أتی بما هو وظیفته أم لا ، فتجری حینئذٍ قاعدة الفراغ، لصدق حدوث الشکّ له بعده حینئذٍ وکونه ابتدائیاً .

ویتفرّع علی هذا عدّة صور، لابدّ أن تلاحظ حالها من جهة الصحّة والفساد بالنظر إلی الاُصول والقاعدة .

منها : من کان مأموراً بالوضوء من جهة الشکّ فیه بعد الیقین بالحدث، فإذا نسی وصلّی وبعد الصلاة حصل له الشکّ فی أنّ طهارته هل کانت حاصلة قبل الصلاة أم لا؟ وأنّ صلاته التی صلاّها هل تعدّ صحیحة أم باطلة؟

والذی یظهر من کلام السیّد _ فی «العروة» فی المسألة 38 (فی شرائط الوضوء) _ الحکم بالبطلان، قال ما هذا لفظه : «فلا إشکال فی بطلان صلاته بحسب الظاهر، فیجب علیه الإعادة إن تذکّر فی الوقت، والقضاء بعد الوقت» ، انتهی کلامه .

ووافقه فیها جمیع أصحاب التعالیق ولم یشاهد عن أحد خلاف ، فلابدّ أن نلاحظ وجه الحکم بذلک، وتمییز أقسامه المحتملة، حتّی یتّضح حکمها بالدلیل ، فنقول : تارةً یکون الشاکّ فی الوضوء بقاءً بعدما تیقّن الحدث سابقاً، یکون شکّه باقیاً إلی حال الصلاة إلی أن فرغ منها، وکان ملتفتاً إلی شکّه حین صلاته، فهو ممّا لا إشکال فی بطلان صلاته من جهة جریان استصحاب الحدث الحاکم بالبطلان، فمجرّد بقاء الشکّ إلی حال بعد الصلاة لا یوجب جریان قاعدة الفراغ هنا، لأنّه

ص:383

أتی بالصلاة مع الشکّ بالحدث، برغم أنّ کون وظیفته بمقتضی الاستصحاب هو تحصیل الطهارة، فحکمه حکم من صلّی مع العلم بوجود الحدث، إلاّ أنّ علمه هنا علم تعبّدی لا وجدانی ، مع أنّ الشکّ بالنسبة إلی حال بعد الصلاة لیس ابتدائیّاً حتّی تشمله القاعدة .

مضافاً إلی جریان قاعدة الاشتغال أیضاً، وهی تحکم بوجوب تحصیل الوضوء والطهارة، وهذا واضح لا خفاء فیه .

ومنها : ما لو شکّ قبل الصلاة وکان شکّه فی الحقیقة باقیاً حال الصلاة لو التفت إلیه، إلاّ أنّه قد غفل عنه حتّی فرغ من الصلاة، ثمّ عرض له الشکّ بعده .

فعن الشیخ الأنصاری قدس سره _ وتابعه علی ذلک کثیر من الفقهاء _ هو الحکم بالبطلان من جهة جریان استصحاب الحدث قبله، وإن کان قد عرض له الغفلة من هذه الناحیة فی حال الصلاة، ولا تجری فیه قاعدة الفراغ، لأنّ شرط جریانها وقوع الشکّ بتمامه بعد الفراغ، وهنا لیس کذلک، لحدوث الشکّ قبله.

ونحن نزید علیه بأنّ قاعدة الاشتغال _ لولا الاستصحاب أو معه _ کانت مقتضیة للبطلان، أی وجوب الإعادة فی الوقت والقضاء فی خارجه، إن کان القضاء بالأمر الأوّل، لا بأمر جدید حتّی یقتضی البراءة عدم وجوبه فی خارجه .

ولکن الآملی قدس سره فی «المصباح»(1) قد اعترض علی کلام الشیخ بما لا یخلو عن ضعف، بقوله : «ولکنّه لا یخلو عن النظر بل المنع ، إمّا أوّلاً: فلما فی الشقّ الأوّل (یقصد هی الصورة المفروضة) من الحکم بجریان الحدث ، مع أنّه فی حال الصلاة غافلٌ عن حالته السابقة، والقول بکفایة الشکّ الفعلی لإجرائه قبل الصلاة آنّاً ما، فلا یحتاج فی إجرائه إلی إبقاء الشکّ إلی حال الدخول فی الصلاة، مساوقٌ


1- مصباح الهدایة: ج3 / ص499.

ص:384

مع القول بکفایة الشکّ التقدیری فی إجرائه ، مع أنّ حال الاُصول بل الأمارات، کحال السراج الذی یضیء أطرافه حال إضائته، فلا یکفی ضوءه السابق للإضاءة فی الآن المتأخّر عنه ، بل کلّ آنٍ تکون استضاءة الأطراف بضوءه الخارج منه فی ذاک الآن لا آنٍ قبله ولا آنٍ بعده .

ومع حدوث الغفلة حال دخول الصلاة، لا یکون استصحاب لعدم الشکّ الفعلی، ولا یکفی الاستصحاب الجاری قبله فی الحکم ببقاء حدثه حال دخوله فی الصلاة .

وأمّا ثانیاً: فلأنّ صحّة إجراء الاستصحاب وعدم صحّته، مرتبط بجریان قاعدة الفراغ وعدم جریانها، لأنّ المدار فی صحّة جریان قاعدة الفراغ هو کون الشکّ بتمامه بعد العمل، سواء کان محلّ الاستصحاب أم لا ، وإذا لم یکن الشکّ بتمامه بعد العمل، فلا تجری القاعدة ولو لم یجر الاستصحاب، فلیس المناط فی عدم جریان القاعدة فی الشقّ الأوّل هو صحّة إجراء الاستصحاب فیه ، بل لو کان إجراء القاعدة فیه صحیحاً، لکانت حاکمة علی الاستصحاب» انتهی موضع الحاجة .

وجه الضعف أوّلاً : هو أنّ الشکّ الفعلی الذی کان معتبراً فی الاستصحاب، ولا یکفی التقدیری منه، لیس معناه أنّه لابدّ أن یکون فی کلّ حال بعد إثبات الاستصحاب ملتفتاً إلی یقینه السابق وشکّه اللاحق، وإلاّ لزال الاستصحاب ولزال الحدث المحکوم بالاستصحاب، للزم أن لا تکون الاستصحابات مثمرة فی کثیر من موارد جریانها، سواء کان مفاده إثبات الحدث أو الطهارة، لما نشاهد بالوجدان أنّه بعد إجراء الاستصحاب والحکم بالطهارة أو الحدث، یترتّب علیه أثره ولو عرض لنا الغفلة فی حال الصلاة ، والمهمّ فی الجریان کونه علی نحو لو التفت بالحال لکان فی ارتکازه الشکّ کما فی قبله ، فالمقصود من لزوم کون الشکّ فی الاستصحاب فعلیّاً، هو حال أوّل إجرائه، _ کما یظهر فی الصورة الآتیة _

ص:385

أی بأن لا یصیر الشکّ فعلیّاً أصلاً، بل کان تقدیریّاً من ابتدائه لو التفت .

وثانیاً : إنّ تشبیهه الاستصحاب والأمارات بالسراج حال الإضاءة، وأنّه یعدّ مضیئاً حال إضاءته لا قبله ولا بعده لا یخلو عن مسامحة، لوضوح أنّ قاعدة الفراغ إذا جرت فی الوضوء وحکم بصحّته، فیکتفی به حتّی لما بعد ذلک، أی یترتّب علیه ما یکون الوضوء شرطاً فیه، ولو لم یکن حال تفریعه ملتفتاً إلی آثار قاعدة الفراغ، ولم یشترط فی صحّة ترتیب الآثار لزوم الالتفات إلی القاعدة، ولیس ببالنا مَنْ یشترط فیه ذلک .

نعم ، مفاد القاعدة ربما یحکم بصحّة ما مضی دون ما یأتی، إذا کان مفادها أنّ هذا العمل واجد للشرط من دون نظیر لحصول نفس الشرط لکلّ مشروط، مثل إجراء قاعدة الفراغ فی الصلاة للشکّ فی صحّتها، لأجل الشکّ فی صحّة شرطها وهو الوضوء، فهذه القاعدة لا تقتضی إلاّ صحّة الصلاة فقط، فلابدّ للصلوات الاُخری من تحصیل الطهارة، لأنّها لاتعدّ من آثارها حتّی یترتّب علیها ، کما لایخفی .

وثالثاً : یرد علیه بما أورد علی الشیخ، من تفریع عدم جریان القاعدة علی جریان استصحاب الحدث هنا ، مع أنّه لیس فی کلام الشیخ ذلک حتّی علی ما نقله عنه قدس سره ، بل جعل المناط فی عدم جریانها هو عدم وجود شرطها، وهو کون الشکّ بتمامه بعد العمل، وهو صحیحٌ کما قبله رحمه الله وصرّح بذلک.

فهذا الإشکال غیر وارد قطعاً ، بل لا حاجة لذکر التردید فی المسألة کما ذکره رحمه الله ، بل هنا یجری الاستصحاب وقاعدة الاشتغال وهما یحکمان بوجوب الإعادة، ولا تجری القاعدة قطعاً بحسب ما استظهرناه وفاقاً للأکثر، من لزوم کون حدوث الشکّ بعد الفراغ لا قبله .

ومنها : ما لو تیقّن بالحدث قبل الصلاة من دون عروض الشکّ، ثمّ غفل واستمرّ علی حاله حتّی صلّی، ثمّ حدث له الشکّ بعد الصلاة فی حدوث الطهارة قبل الصلاة.

ص:386

فلا إشکال هنا فی عدم جریان استصحاب الحدث قبل الصلاة، لعدم فعلیّة الشکّ بناءاً علی اعتبار الفعلیة فی الشکّ فی الاستصحاب .

وأمّا حال الاستصحاب بالنسبة إلی حال الشکّ بعد الصلاة، فلا إشکال فی جریانه وحکمه بالحدث، کما أنّ مقتضی قاعدة الاشتغال ذلک، إلاّ إنّهما محکومان بقاعدة الفراغ لجریانها هنا، لکون الشکّ هنا حادثاً بعد الفراغ فیحکم بالصحّة .

اللّهم إلاّ أن یدّعی انصراف القاعدة عمّن حصل له الیقین بالحدث قبل العمل، ثمّ غفل عنه، ثمّ عرض له الشکّ بعد العمل، لأنّ مقتضی الیقین بالحدث قبل الصلاة هو تحصیل الطهارة، وحیث أنّه یعلم أنّه لم یحصل الطهارة بعده، بل إن کانت الطهارة حاصلة فهی حاصلة قبل هذا الیقین، فالحکم بالصحّة بواسطة القاعدة مشکل جدّاً .

نعم ، لو کان شکّه الفعلیّ فی الطهارة ناشئاً من أنّه لا یعلم أنّه قد حصلت له الطهارة بعد هذا الیقین الموجود فی السابق أم لا ، فالقاعدة تکون جاریة وتحکم بالصحّة قطعاً، لأنّه حینئذٍ یعدّ من موردها .

بخلاف حالته السابقة، خصوصاً لمن یشترط فیها الأذکریّة والالتفات فیها، حیث أنّه یعلم کونه متیقّناً بالحدث، وقد دخل فی الصلاة غافلاً عن یقینه _ کما کان غافلاً عن أصل شکّه لو التفت لذلک حقیقة _ فالحکم بالصحّة هنا _ وإن هو صریح کلام الآملی فی «المصباح»(1) نقلاً عن الشیخ _ لا یخلو عن تأمّل، فالأحوط فیه تحصیل الطهارة .

ولکن الذی یظهر من الحکیم قدس سره فی «المستمسک»(2) من الإشکال فی إجراء


1- مصباح الهدی: ج3 / ص498.
2- المستمسک: ج2 / ص503.

ص:387

القاعدة هنا من طریق آخر غیر ما ذکرناه، فإنّه بعدما قال بعدم جریان الاستصحاب فی الفرض المزبور، لعدم فعلیة الشکّ، _ والمفروض اعتبار فعلیة الشکّ والیقین وعدم کفایة التقدیری منهما _ وبعدما ذکر أنّ القاعدة هنا جاریة بالإمکان ، حکم بالصحّة وانّها مقدّمة علی الاستصحاب فی الحدث الجاری بعد الصلاة ، قال ما لفظه : «إلاّ أنّ الظاهر من دلیل القاعدة، خصوص الشکّ الابتدائی بعد الفراغ، فلا تشمل صورة کون المکلّف شاکّاً قبل الفراغ، وإن زال شکّه بالغفلة عن الواقع . نعم لو احتمل بعد الفراغ أنّه قد توضّأ بعد الشکّ، جرت القاعدة حینئذٍ، لأنّ الشکّ فی الصحّة من هذه الجهة، شکٌّ ابتدائی غیر مسبوق بالمثل» انتهی موضع الحاجة .

ولا یخفی ما فی کلامه، لأنّه إن فرض کون المشکوک والشکّ مورداً للغفلة _ التی توجب عدم فعلیة الشکّ قبل الصلاة ولا حالها أصلاً _ بل حصل له العلم بالحدث فقط، وغفل عنه إلی ما بعد الصلاة _ کما هو الظاهر من کلامه بالنظر البدوی _ فحینئذٍ لا وجه لإشکاله علی جریان القاعدة والقول بأنّ الشرط فیه هو کون الشکّ ابتدائیّاً بعد العمل، لأنّ المفروض کونه کذلک فی المورد .

وإن فرض صورة کون الشکّ قد صار فعلیّاً ولو بلحظة، ثمّ غفل عنه إلی أن تمّت الصلاة، فالإشکال المذکور هنا فی جریان القاعدة صحیح ، إلاّ أنّه لا وجه لإشکاله فی جریان الاستصحاب، فلِمَ قال قبل عبارته السابقة بقوله : «ولا ینبغی التأمّل فی عدم جریان الاستصحاب فی حقّه لانتفاء موضوعه وهو الشکّ، ومجرّد کونه شاکّاً علی تقدیر الالتفات غیر کاف فی جریانه، لأنّ ظاهر دلیله اعتبار الشکّ الفعلی کالیقین»، مع أنّه قدس سره صرّح قبل ذلک فیمن کان شاکّاً إلی بعد الصلاة، ولکنّه غفل عن شکّه بأنّ الاستصحاب جارٍ فی حقّه، کالصورة الأولی التی کان الشکّ فعلیّاً إلی آخر الصلاة .

ص:388

ونحن نقول : کما أنّ الغفلة هناک _ بعد تحقّق فعلیّة الشکّ قبل الصلاة _ لا یضرّ بالاستصحاب ، غایة الأمر عدم تنجّزه فی حقّه ما دام الغفلة باقیة _ هکذا یکون فیما لو غفل عن الشکّ ولو بعد فعلیة الشکّ بلحظة، ثمّ غفل إلی آخر العمل، فإنّه لا یضرّ بالاستصحاب وجریانه .

اللّهم إلاّ أن یکون مقصوده هو الفرض الأوّل، من عدم تحقّق الفعلیة للشکّ فی السابق أصلاً، إلاّ إنّ إشکاله فی جریان قاعدة الفراغ کان من جهة أنّ الظاهر من دلیل القاعدة، هو حدوث الشکّ بعد العمل، بحیث لم یکن من الشکّ أثراً قبل العمل _ لا فعلیّاً ولا تقدیریّاً_ کما فی المقام، فإجراء القاعدة مشکلٌ، لأنّ الشکّ التقدیری کان موجوداً فی المورد، فکلامه حینئذٍ یکون وجیهاً، إلاّ أنّ الإشکال فی إثباته واستظهاره، لأنّ ظاهر کون الشکّ جاریاً بعد العمل وعدم کونه حادثاً قبله، هو ملاحظة الحدوث بالشکّ الفعلی لا التقدیری ولا الأعمّ منهما .

فالإشکال فی إجراء القاعدة من هذه الناحیة فی غایة الضعف .

فالأولی هو الاکتفاء بالإشکال فی جریانها بما قلناه من الانصراف، لو فرض وجود الیقین بالحدث قبل الصلاة من دون حدوث الشکّ له، وإن کان فی التقدیر لو التفت لکان شاکّاً، خصوصاً لمن یشترط الأذکریّة فیها کان الأمر له هنا أشکل، کما لایخفی .

فبناءً علی هذا نرجع إلی کلام السیّد فی «العروة» فی المسألة 38 من شرائط الوضوء ، حیث قال : «من کان مأموراً بالوضوء من جهة الشکّ فیه بعد الحدث، إذا نسی وصلّی، فلا إشکال فی بطلان صلاته بحسب الظاهر، فیجب علیه الإعادة إن تذکّر فی الوقت، والقضاء إن تذکّر بعد الوقت» .

والظاهر أنّ ما ذکره کان فی حقّ من کان شکّه فعلیّاً ثمّ غفل، فیکون مقصوده من الظاهر حینئذٍ هو مقتضی حکم الاستصحاب بالحدث قبل الصلاة، لا قاعدة

ص:389

الاشتغال، کما سیأتی.

وعدم جریان قاعدة الفراغ لعدم ابتدائیة الشکّ فیها، فکلامه هنا صحیح لا نقاش فیه، علی ما وجّهناه ، واللّه العالم .

وأمّا حکم وجوب القضاء بعد خروج الوقت لو لم یأت، أو لو لم یتذکّر فی الوقت، فسیأتی قریباً إن شاء اللّه فی آخر صور المسألة، لاشتراک جمیعها فی هذا الحکم .

هذا تمام الکلام فی الصور المفروضة فی حال الیقین بالحدث، بعد أن کان مأموراً بالوضوء، فشکّ ثمّ غفل إلی بعد أن فرغ من الصلاة، ثمّ عرض له الشکّ فیه، أو لم یکن قد شکّ شکّاً فعلیّاً قبل الصلاة، بل کان شکّه تقدیریّاً. وقد عرفت أحکام کلّ واحد منها .

وأمّا إذا کان مأموراً بالوضوء من جهة الجهل بالحالة السابقة، أو من جهة تعاقب الحالتین والشکّ فی المتقدّم منهما، ثمّ نسی فی کلا الموردین وصلّی، فقد ذهب السیّد فی «العروة» فی المسألة 38 إلی أنّه یمکن أن یقال بصحّة صلاته من باب قاعدة الفراغ، لکنّه مشکل، فالأحوط الإعادة أو القضاء .

فأورد علیه الحکیم فی «المستمسک»(1) بأنّه لا وجه للفرق بین المورد السابق _ من الحکم بالبطلان للصلاة جزماً_ والمقام من إمکان القول بالصحّة .

وهکذا أشکل علیه قبله الآملی فی «المصباح»(2)، بل أکثر أصحاب التعالیق علی «العروة»، حیث حکموا بالتسویة بین السابق وهذین الموردین هنا، وأشکلوا علیه من جهة الافتراق بینهما ، فلابدّ حینئذٍ من ملاحظة حال المسألة


1- المستمسک: ج2 / ص504.
2- المصباح: ج3 / ص500.

ص:390

وبیان صورها، فنقول: اعلم بأنّ الفروض فی المسألة السابقة کانت أربعة، ولکن هنا ثلاثة _ سواء کانت الحالة السابقة مجهولة، أو کانت من قبیل توارد الحالتین، إذا حکمنا بوجوب تحصیل الطهارة _ وهی:

تارةً: یشک مع شکّ استمراری إلی حال الصلاة وبعدها .

واُخری: یشکّ ثمّ یغفل ویصلّی ثمّ یشکّ بالشکّ السابق .

وثالثة: بأن یکون جاهلاً بحالته السابقة أو متعاقباً للتوارد، إلاّ أنّه غفل إلی بعد الصلاة فشکّ، لکن هو بحیث لو التفت کان شاکّاً فی البقاء.

بل ویمکن فرض صورة رابعة أیضاً وهی: بأن یکون الشکّ الحاصل بعد الصلاة شکّاً فی أنّ مقتضی الشکّ العارض قبل الصلاة _ الذی کان هو وجوب التوضّی _ هو الوضوء لکنّه یشکّ فی أنّه هل توضّأ أم لا؟

ولکن لیعلم هنا بأنّ الدلیل لإیجاب الوضوء هنا، لیس الاستصحاب فی مجهول الحال بالنسبة إلی الحالة السابقة، لعدم الیقین السابق المعتبر فیه، وهکذا فی المتعاقبین إن لم نجر الاستصحاب فیه .

بل الدلیل هنا هو قاعدة الاشتغال ، ففی الصورتین الأولیتین لا إشکال فی وجوب تحصیل الطهارة، وإعادة الصلاة بناءاً علی جریان قاعدة الاشتغال فیهما، وعدم جریان قاعدة الفراغ، لما قد عرفت من شرطیّة کون الشکّ فیها ابتدائیاً، ولیس الأمر فیهما کذلک .

وأمّا فی الصورة الثالثة، فلایبعد الحکم فیها بالصحّة، لعدم إمکان جریان قاعدة الاشتغال فیها، لأنّ المفروض عدم حدوث الشکّ له .

نعم کان له ذلک تقدیراً، إلاّ إنّه غیر مفید بالنسبة إلی جریان قاعدة الاشتغال .

نعم تجری هذه بالنسبة إلی الشکّ الحادث بعد الصلاة ، إلاّ أنّها محکومة بجریان قاعدة الفراغ، لأنّها تجری هنا بلا إشکال، لأنّ الشکّ حینئذٍ حادث بعد

ص:391

العمل، فتکون الصلاة محکومة بالصحّة، کما کان الأمر کذلک فی الصورة الرابعة بطریق أولی، کالرابعة فی السابقة .

فعلی ما ذکرنا یحصل تفاوت بین الفروض السابقة والصور المفروضة هنا، لأنّه کانت الصور الباطلة فی السابقة ثلاثة وصوره واحدة هی الصحیحة فقط، ولکن هنا ثبت بطلان صورتین وصحّة الأخیرتین.

وجهة الفرق بینهما هو الانصراف الذی ادّعیناه فی الفراغ فی الصورة الثالثة من السابقة، بخلاف المقام، لأنّ المفروض أنّه لم یفرض علمه بالحدث حالاً بالنظر إلی قبل الصلاة، وإلاّ لو فرض کونه فی المقام کذلک لکان حکمه حکم الصورة السابقة، أی ینحصر صحیحه بصورة واحدة وهی الأخیرة فقط .

إذا عرفت ذلک، فاعلم بأنّ قاعدة الاشتغال إن جعلناها من الأحکام الظاهریة الشرعیة، تفید بأنّ الشارع قد حکم بوجوب الاحتیاط عند الشکّ فی الفراغ، فحینئذٍ یکون حکمه فی المورد مثل حکم الاستصحاب فی السابق، من کونه حکماً ظاهریّاً .

وأمّا إن لم نقل بذلک، بل قلنا بأنّه تنجیز للحکم الواقعی فی صورة الشکّ، لا أنّه حکم ظاهری فی مورد الشکّ، أو قلنا بأنّه حکم العقل _ لا الشرع _ بوجوب الاحتیاط فی طرف الشکّ. فلایکون حینئذٍ الحکم بالبطلان حکماً ظاهریاً شرعیّاً، بل یکون حکماً واقعیّاً أو عقلیّاً .

ولعلّ السیّد قدس سره جعل الفرض السابق من الظاهری وذلک بقوله: «بحسب الظاهر» بخلاف المقام ، من جهة أنّه لا یذهب إلی کون قاعدة الاشتغال هنا المقتضیة للبطلان من الأحکام الظاهریة بخلاف الاستصحاب الجاری فی الفرض السابق .

وأمّا الإشکال الوارد علی السیّد قدس سره ، بأنّه کیف جزم بالبطلان فی السابق

ص:392

بخلاف المقام، حیث أشکل فی بطلانها وصحّتها کما تری ذلک من الحکیم والآملی وغیرهما ، فیمکن أن ندافع عن السیّد قدس سره _ بعد التأمّل فی کلامه _ بأنّه قد ذکر فی الفرض السابق فعلیة الشکّ بعد الیقین بالحدث، فلا إشکال فی عدم جریان قاعدة الفراغ فیه، لعدم حدوث الشکّ بعد العمل، هذا بخلاف المقام، حیث أنّه لیس فی کلامه من فعلیة الشکّ أثر، لأنّه قال: «وأمّا إذا کان مأموراً به من جهة الجهل بالحالة السابقة، فنسیه وصلّی، فیصحّ» وهذا مبنیٌّ علی جریان قاعدة الفراغ هنا، لأنّ الشکّ یکون حادثاً بعد العمل .

وأمّا إشکاله بعد ذلک بقوله : «مشکل ، فالأحوط الإعادة»، لعلّه کان من جهة أنّ الجهل بالحالة السابقة _ المستلزم لإیجاب الوضوء علیه عند الالتفات _ یکفی فی عدم جریان القاعدة عند من یشترط الأذکریّة فی القاعدة، فیکون احتیاطه حسناً وهو مختارنا فی الصورة الثالثة أیضاً، کما قلناه سابقاً، فلا یکون الإشکال وارداً علیه حینئذٍ، کما لایخفی .

وأمّا حکم وجوب الإعادة فی الوقت، والقضاء فی خارجه:

فنقول : إن حکمنا ببطلان الصلاة نتیجة لجریان الاستصحاب أو الاشتغال، وعدم إجراء القاعدة فیها، فیما إذا تذکّر المکلّف فی الوقت فإنّ واجبه حینذاک الإتیان بالصلاة بمقتضی الأمر الأوّلی، بلا فرق بین الأقسام الثلاثة المفروضة فی جمیع أقسامها، التی فرض بطلان الصلاة فیها .

وأمّا إذا تذکّر بعد خروج الوقت، فإن قلنا بالبطلان نتیجة لجریان استصحاب الحدث، فلازمه إثبات الفوت فی الوقت، ویترتّب علیه عدم امتثال الدلیل الأوّل، إن حکمنا بأنّه یکفی فی القضاء، ولا نحتاج إلی أمر جدید، أو أنّ الأمر الجدید یکون کاشفاً عن إفهام أنّ الأمر الأوّل باقٍ بقوّته، فلا إشکال فی وجوب القضاء فی خارج الوقت.

ص:393

وهکذا لو قلنا بجواز جریان الاستصحاب بالنظر إلی وجوب الصلاة فی الوقت، حتّی یجب الإتیان بها فی خارج الوقت، بناءاً علی جریان الاستصحاب، وعدم تعذّر الموضوع فی الواجب المقیّد بالزمان، إذا کان موضوع المستصحب مأخوذاً من العرف لا من الدلیل، کما ذهب إلیه الحکیم قدس سره ، خلافاً للشیخ الأعظم وکثیرٌ من الفقهاء، من عدم إجراء الاستصحاب هنا، کما هو الأقوی عندنا وحقّقناه فی مباحثنا الأصولیّة بأنّ الأحکام الشرعیّة تتعلّق بالعناوین الکلّیة، وأنّ القیود المتعلّقة بها توجب تعدّد موضوعها ، فالاستصحاب لا یجری هنا لتعدّد موضوعه، وعدم وحدة القضیة المتیقّنة والمشکوکة .

وأمّا إن قلنا : بأنّ القضاء لابدّ له من أمر جدید، وأنّه لا یتعلّق إلاّ بالفوت الذی قد اُحرز بالوجدان أو بالأصل، فحینئذٍ بإجراء استصحاب الحدث إن أثبت الفوت وقلنا بأنّ الفوت، لیس إلاّ عدم الإتیان بالصلاة الصحیحة فی الوقت ، فحینئذٍ یکفی فی إثبات الفوت جریان الاستصحاب، ولم یکن الأمر الأوّل دالاًّ علی وحدة المطلوب المقیّد بالزمان، بحیث یفهم عدم إمکان تدارکه فی خارج الوقت فحینئذٍ لا إشکال فی جریان الاستصحاب، ویکون الحکم بوجوب القضاء هو الأقوی .

وأمّا إن قلنا : بأنّ الفوت أمر وجودی _ کما علیه الخوئی _ وملازم لعدم الإتیان لا نفسه ، فاستصحاب الحدث وإن یثبت عدم الإتیان، إلاّ أنّ إثبات الفوت به لایتمّ به إلاّ علی القول بالأصل المثبت، فلا یمکن إحراز موضوع دلیل وجوب القضاء حینئذٍ، فعند الشکّ فی لزوم القضاء حینئذٍ، یجب الرجوع إلی أصل البراءة لا الاشتغال لزوال الأمر الأوّل .

وأمّا إن حکمنا بالبطلان بواسطة قاعدة الاشتغال لا الاستصحاب، فلا إشکال فی أنّ هذه القاعدة مخصوصة للأمر الأوّل، ولا یجری فی خارج الوقت، إلاّ

ص:394

ومن ترک غَسل موضع النجو أو البول وصلّی، أعاد الصلاة، عامداً کان أو ناسیاً أو جاهلاً (1).

أن یحرز کون الأمر الأوّل یکون علی نحو تعدّد المطلوب، وحینئذٍ یثبت به القضاء . وإلاّ فإنّه حین الشکّ فی القضاء یجب الرجوع إلی أصالة البراءة عن التکلیف بالنظر إلی الأمر الجدید، لأنّه شکّ فی التکلیف ، فتأمّل .

وهذه المسألة لابدّ أن تلاحظ من جهات عدیدة:

(1) تارةً : من حیث حکم الصلاة، وهل تکون باطلة مع ترک غَسل موضع المخرجین مع العمد أو النسیان أو الجهل بالموضوع أو بالحکم، أو یتفاوت الحکم فی بعضها من حیث الإعادة وعدمها ؟

کما یقع البحث فی أنّ الصلاة مع ترک الغَسل _ بأیّ قسم کان _ هل تکون باطلة ومحکومة بالإعادة، سواء کانت فی الوقت أو فی خارجه، أو یفصّل بینهما بالإعادة فی الوقت دون خارجه أو بالعکس ؟

کما أنّه قد یفصّل فی الإعادة وعدمها بین من ترک الغَسل عمداً _ حیث تجب الإعادة _ وبین أن یکون من جهة النسیان والجهل بالحکم، أو الجهل بالموضوع _ فلا تجب الإعادة؟

أحکام الوضوء / لو ترک الاستنجاء و صلّی

أو یفصل فی الجهل أیضاً بین الجهل بالموضوع فلا یجب الإعادة، بخلاف الجهل بالحکم ؟

هذا کلّه بالنظر إلی الصلاة لما بعد الفراغ عنها، وقد یتذکّر ذلک فی أثنائها فهل تبطل حینئذٍ أم لا ؟ وجوهٌ .

واُخری : من حیث حکم الوضوء وأنّه هل یجب إعادته حینئذٍ لو کان قد ترک غَسل موضع النجو أو البول أم لا یجب إعادته، بلا فرق بین بقاء الوقت وعدمه،

ص:395

وبین کونه فی أثنائه قد تذکّر النسیان أم لم یتذکّر أصلاً ؟

وثالثة : یقع البحث فی حکم التیمّم، هل هو حکم یکون کالوضوء فی تمام ما یترتّب علیه، أو یتفاوت فی بعض أحکامه ؟

هذه فروعٌ لابدّ أن یبحث فیها، مع کثرة أدلّتها، وتعارض بعضها مع بعض بحسب الظاهر، فلابدّ من الاستعانة باللّه تبارک وتعالی لیعصمنا عن الزلل والخطأ.

وأمّا الکلام فی حکم الصلاة من حیث وجوب الإعادة وعدمه ، فإنّه یتمّ من خلال أربعة أبحاث، وهی:

البحث الأوّل : فی بیان معرفة حکم الجاهل بموضوع غَسل موضع النجو والبول .

أقول: لا تردید عند الفقهاء فی غیر مورد مسألتنا إنّ الجهل بالموضوع فی الصلاة من جهة النجاسة، لا یوجب البطلان، أی لو لم یعلم المکلّف بأنّ ثوبه أو بدنه نجسٌ بإحدی النجاسات حتّی صلّی، ثمّ علم بذلک، فإنّه قد ورد دلیل بالخصوص من النصوص المذکورة فی باب النجاسات بعدم بطلان الصلاة ، فهل یکون المورد مثله أم لا؟

ظاهر إطلاق کلام المصنّف هنا، هو إلحاقه إلی غیره من وجوب الإعادة، مع أنّ فتواه فی باب النجاسات هو عدم الإعادة .

لکنّه بعید جدّاً، لأنّ المصنّف وغیره حکموا صراحة بصحّة الصلاة عند الجهل بموضوع النجاسة ، فلابدّ أن یقال ویوجّه کلامه بأحد من الطریقین: إمّا أن یکون المقصود هنا، غیر ما هو المتعارف من الجهل بالموضوع، وهو الذی لا یعلم أصل وجود النجاسة من البول أو الغائط ، فیکون المقصود هنا ما لو غسل موضعهما بتوهّم حصول الطهارة بذلک، فصلّی، ثمّ علم أنّ النجاسة باقیة، فإنّ السیّد فی «العروة» فی المسألة 7 من النجاسات، حکم بالصحّة، ووافقه علی ذلک بعض

ص:396

أصحاب التعالیق، واحتاط آخرون وحکموا بالإعادة .

ولعلّ المصنّف کان ممّن حکم بالإعادة، لأنّه صار من جهة معرفته النجاسة خارجاً عن موضوع الجهل بالنجاسة، هکذا یکون فیمن شکّ فی النجاسة بعد الغَسل، ثمّ علم ببقائها بعد الصلاة، بقوله : «وإن کان فی إطلاق کلامه لا یخلو عن مسامحة، إلاّ أن یحمل علی الجهل بالحکم لا الموضوع، فله وجه» .

أو یقال : بالجمع بین هنا وما اختاره هناک، بالإعادة فی الصور الثلاثة، دون الجهل بأصل النجاسة .

وأمّا أن یقال بطریق آخر: وهو أنّ الجهل بالموضوع فی النجاسات فی غیر المقام، یکون حکمه عدم الإعادة، لوجود روایات تدلّ علیه.

هذا بخلاف المقام، حیث وردت أخبار مطلقة، یفهم منها وجوب الإعادة مطلقاً، فیشمل لما نحن فیه، مثل ما رواه زرارة فی الصحیح، عن الصادق علیه السلام ، قال : «توضّأت یوماً ولم أغسل ذکری، ثمّ صلّیت، فسألت أبا عبداللّه علیه السلام ، فقال : اغسل ذکرک وأعد صلاتک»(1) .

فإنّ إطلاقه یشمل حتّی صورة الجهل بالموضوع ، فلعلّه بذلک حکم المصنّف بالإطلاق هنا .

لکن الإنصاف عدم صحّة ذلک، لما ستعلم کثرة الأخبار الواردة فی حکم النسیان، الموجب للاطمئنان بکون مورد السؤال هو هذا، لا مثل الجهل بالموضوع أو العمد، لأنّ اختصاصها بصورة الجهل بأحدهما یکون حملاً علی الفرد النادر.

والقول بالإطلاق الشامل لهما مشکلٌ، لإمکان دعوی الانصراف عن مثل


1- وسائل الشیعة: من أبواب نواقض الوضوء، الباب 18، الحدیث 7 .

ص:397

ذلک، خصوصاً مع ملاحظة وجود ما یدلّ علی عدم الإعادة فی الجهل بالموضوع فی سائر النجاسات، کما علیه المشهور .

وزیادة تحقیق عن ذلک موکولٌ إلی محلّه وهو فی باب النجاسات .

نعم، إن قلنا بالإطلاق، فتکون النسبة عند الجمع بینه وبین أخبار باب النجاسات من عدم الإعادة، هی العموم والخصوص من وجه، لأعمّیة تلک فی البول وغیره من النجاسات فی الجهل بالموضوع بالحکم بعدم الإعادة، وأعمّیة هذا الحدیث للنسیان والجهل بالموضوع دون الحکم، لأنّ شخصیة زرارة أجلّ من أن یسأل عن مثل ذلک فموضع التدافع فی الجهل بموضوع البول، فبالتعارض نرجع إلی أدلّة وجوب تحصیل الشرط للصلاة إن کان قد تذکّر فی وقت، وإلاّ یأتی ما ذکرناه من التفصیل فی وجوب القضاء.

ولکن الأقوی _ کما علیه المشهور _ هو عدم وجوب الإعادة، وإن کان الأحوط الإعادة خصوصاً فی الوقت .

البحث الثانی: هو ما لو ترک غسل الموضع عمداً حتّی صلّی، فلا إشکال حینئذٍ فی صلاته، لوضوح أنّ مقتضی شرطیة الطهارة عن الخبث فی الصلاة، هو انتفاء المشروط بانتفاء شرطه ، مضافاً إلی وجود الإجماع بوجوب الإعادة مطلقاً، سواء کان ذلک فی الوقت أو فی خارجه ، مع إمکان استفادة وجوب الإعادة من الأخبار الواردة فی النسیان بطریق الأولویة.

فالمسألة فیه واضحة بحمد اللّه، ولا یحتاج إلی إطالة البحث فیها، لعدم مشاهدة خلاف عن أحد من الفقهاء، بل ربما یوجب تجویز صحّة الصلاة مع ترک العمد، لغویة الشرطیة فی دلیل اشترط الطهارة للصلاة .

نعم الطهارة المشروطة هنا عبارة عمّا جعله الشارع طهارة ولو کانت حاصلة بالاستنجاء بثلاثة أحجار، لو قلنا بحصول الطهارة بها، من دون الغَسل بالماء، أو

ص:398

قلنا بجواز الإتیان بالصلاة بها، ولو لم تحصل الطهارة حقیقة. وتفصیل الکلام موکولٌ إلی محلّه، ونسأل اللّه التوفیق فی البحث عنه إن شاء اللّه تعالی .

البحث الثالث: هو الجاهل بالحکم، فهل هو ملحقٌ بالنسیان من جهة الحکم بوجوب الإعادة وعدمه، أو أنّه ملحقٌ بالجهل بالموضوع من جهة عدم وجوب الإعادة ؟

لا یخفی علیک أنّ الجاهل بالحکم قد یکون قاصراً تارةً، ومقصّراً اُخری، فهل الحکم بالإلحاق یکون فی کلیهما، أو یکون فی خصوص المقصّر منهما ؟

الظاهر أنّ الحکم فیه هو وجوب الإعادة، بلا فرق بین کونه قاصراً أو مقصّراً ، والدلیل علی وجوبها _ مضافاً إلی دعوی الإجماع علیه عن غیر واحد کما عن «مصباح الفقیه» _ إنّه مقتضی شرطیة الطهارة عن الخبث للصلاة أو مانعیته عنها، فلا وجه للقول بعدم وجوبها، إلاّ ما سیأتی توهّم عدم إمکان الحکم به بوجوب الإعادة . بل ومقتضی صحیحة عبداللّه بن سنان، قال : «سألت أبا عبداللّه عن رجلٍ أصاب ثوبه جنابة أو دم؟ قال : إن کان قد علم أنّه أصاب ثوبه جنابة أو دم قبل أن یصلّی، ثمّ صلّی فیه ولم یغسله، فعلیه أن یعید ما صلّی وإن کان لم یعلم به فلیس علیه إعادة، وإن کان یری أنّه أصابه شیء فنظر فلم یر شیئاً أجزأه أن ینضحه بالماء»(1) .

فإنّ الصلاة المأتی بها بعد العلم بالإصابة، تشمل ما لو علم بها ومن ثمّ صلّی عمداً من دون غسل، أو کان ذلک من جهة النسیان بالغَسل، أو کان من جهة الجهل بحکم النجاسة قصوراً أو تقصیراً، ففی جمیع ذلک حکم الإمام علیه السلام بوجوب الإعادة .

لا یقال: یحتمل أن یکون الحکم کذلک منحصراً فی خصوص المنی والدم، لا سائر النجاسات کالبول والغائط الذی کان مورد بحثنا هنا .

لأنّا نقول : من الواضح عرفاً أنّه لا خصوصیّة فیهما للمانعیة له من الصلاة، إلاّ


1- وسائل الشیعة: من النجاسات، الباب 40، الحدیث 3 .

ص:399

کونهما یعدّان من النجاسة، کما یظهر ذلک من أدلّة النجاسات ، مع ما ورد من أنّ النجس یکون مانعاً لهما .

وبعبارة اُخری: أنّ الطهارة عن الخبث شرطٌ للصلاة، فمقتضی ذلک بطلانها مع فقد الشرط ووجود المانع ، إلاّ أن یدلّ الدلیل بالخصوص علی الاستثناء فی مورد، ولیس لنا ذلک إلاّ بعض ما یتوهّم دلالته علی عدم وجوب الإعادة مع الجهل ، إمّا من جهة الإشکال فی أصل دلیل وجوب الإعادة من حیث الاقتضاء، أی بأن لا یشمل ما ذکر ممّا یدلّ علی وجوب الإعادة لمثل الجاهل بالحکم ، أو من جهة وجود دلیل یدلّ علی الاستثناء فی ما نحن فیه عن حکم وجوب الإعادة .

فأمّا الکلام فی الجهة الاُولی، من حیث الاقتضاء: فلما نُقل عن المحقّق الأردبیلی ومن تبعه، من أنّه لا یمکن أن یکون الجاهل بالحکم مکلّفاً بالتکلیف الواقعی، حتّی یستلزم التخلّف عنه وجوب الإعادة، لقبح عقاب الغافل والجاهل عن ترک ما کان واجباً أو فعل ما کان حراماً واقعاً.

هذا، مضافاً إلی أنّ الجاهل بحکم النجاسة یری نفسه مستحقّاً للعقاب لو ترک الصلاة مع هذه النجاسة اختیاراً، فعلی هذا یکون تکلیفه فی هذا الحال الصلاة التی صلاّها وإن کانت فاقدة للشرط، وحینئذٍ کیف یحکم بوجوب الإعادة وعدم إجزاء المأتی به !

هذا ما استدلّ به المحقّق الأردبیلی قدس سره ومن تأخّر عنه .

لکن یرد علیه کما حقّقناه فی الاُصول بأنّ التکالیف الشرعیّة تکالیف قانونیّة کلّیة لا شخصیة، فالأحکام تنزل علی العموم ولا تنحلّ إلی الأفراد، بأن یصیر لکلّ فرد فرد من الناس تکلیفاً شخصیاً لنفسه، حتّی یقال بعدم إمکان صیرورة الحکم فعلیّاً فی حقّ شخص دون آخر، کما توهّمه بعض الأعاظم مثل المحقّق النائینی وغیره ، بل یکون الحکم بفعلیته باقیاً لجمیع الناس، وحیث کان أکثر

ص:400

الناس داخلاً تحت الکلّی، واجداً للشرائط من العلم والقدرة فکان التکلیف فعلیّاً لکلّ الناس ، غایة الأمر کلّ من کان عالماً وقادراً یکون التکلیف فی حقّه منجزاً ، وکلّ من کان غافلاً وجاهلاً، وکان جهله وغفلته عند الشرع مقبولاً، أی بأن لا یکون الجاهل مقصّراً _ نظیر الکفّار، أو بعض المسلمین المقصّرین فی تحصیل تعلیم المسائل الدینیة _ فلا یتنجّز التکلیف فی حقّهم، بل یبقی التکلیف علی فعلیته ولأجل ذلک قلنا بأنّ الکفّار معاقبون علی الفروع کما یعاقبون علی الأصول .

ومن الواضح أنّه لو لم یکن التکلیف فی حقّهم فعلیّاً، ولم یکن التکلیف بملاکه فی حقّهم موجوداً، لما تمّ تبریر عقوبتهم، لوضوح أنّ الأحکام الإنشائیة قبل الوصول إلی الفعلیة لا عقوبة فیها، فهو یؤیّد کون التکالیف فی حقّهم فعلیّاً .

نعم یکون تنجیزه فی حقّهم منوطاً علی کون الجهل والغفلة عند الشرع عذراً، فإن کان کذلک فهو، وإلاّ فلا تنجیز وإلاّ عقاب علیهم.

هذا تمام الکلام من جهة الاقتضاء، مع أنّه لو سلّمنا المنع عن وجود ملاک التکلیف فی الجاهل، فإنّه لابدّ من تسلیم ذلک فیما إذا لم یلتفت فی أثناء الوقت، وإلاّ یجب الإتیان بالواقع، فلا یکتفی به العالم قطعاً .

وأمّا الکلام فی الجهة الثانیة: أی هل یدلّ دلیلٌ علی استثناء حکم الجاهل عن العالم أم لا؟

فربّما یستدلّ بحدیث الرفع من قوله صلی الله علیه و آله : «رُفع عن اُمّتی ما لا یعلمون» الدالّ بلازمه علی عدم وجوب إعادة صلاة قد ترک شرطها، وهو الطهارة عن البول والغائط الخارجین عن المخرج، کما تمسّک به المحقّق فی «المعتبر» فی الناسی، وحکم بعدم وجوب الإعادة، کما نسبه إلیه الشیخ الأعظم فی کتاب «الطهارة»(1).


1- کتاب الطهارة: ص159.

ص:401

ولکن یمکن أن یجاب عنه: بأنّ حدیث الرفع إنّما یرفع الآثار التی رتّبت بواسطة الجهل أو النسیان، ولیس وجوب الإعادة من آثارهما لولا النسیان والجهل حتّی یرفعهما ، بل یکون وجوب الإعادة من آثار بقاء الأمر الأوّل ، غایته أنّه یقال بعدم سقوطه بالإتیان بالفعل نسیاناً أو جهلاً فی بعض شرائطه .

مع أنّ إمکان أن یقال : بأنّ حدیث الرفع لا یشمل ما کان من قبیل الأحکام الوضعیة کالمانعیة والشرطیة، لأنّ معنی رفع المانعیة لیس إلاّ عدم وجوب ترک النجاسة فی الصلاة فی حال الغفلة والنسیان ، ومن الواضح أنّ عدم وجوب الترک یکون بمقتضی حکم العقل لا یحتاج إلی بیان الشرع، کما لایخفی .

مضافاً إلی أنّ جمیع ذلک إنّما یکون فیما إذا کان الجهل معذوراً کالجاهل القاصر ، وأمّا الجاهل المقصّر فلا یجری فیه ذلک قطعاً، لأنّ العقوبة فی حقّه ثابتة، ولا یعدّ جهله عذراً فی حقّه حتّی یرفع بحدیث الرفع .

وکیف کان، فلا یکون حدیث الرفع شاملاً للمقام ، مضافاً إلی ما سیأتی من إمکان وجود إطلاقات الأخبار من الحکم بالإعادة فی خصوص المورد، کما لا یخفی .

وقد یستدلّ علی عدم وجوب الإعادة فی الجاهل بالحکم، بقاعدة لا تعاد المستفادة من قوله علیه السلام : «لا تعاد الصلاة إلاّ من خمسة: الطهور، والقبلة، والوقت، والرکوع، والسجود»(1).

حیث یشمل عمومه الجاهل بالحکم، فلازمه عدم وجوب الإعادة مطلقاً، سواء کان فی الوقت أو فی خارجه .

لکنّه مخدوش أوّلاً: أنّه موقوفٌ علی عدم شمول الطهارة المذکورة فی المستثنی للطهارة عن الخبث ، بل کان مختصّاً للحدث ، وإلاّ لعدّ الحدیث ممّا یدلّ


1- وسائل الشیعة: من أبواب الوضوء، الباب 3، الحدیث 8 .

ص:402

علی وجوب الإعادة بالمنطوق، سواء کان المراد من الطهارة هو خصوص الخبث وهو بعید، أو الأعمّ منهما ، فإثبات الاختصاص للحدث فقط بنفسه مشکلٌ ، إلاّ أن یستفاد ذلک من ضمّ مفاد سائر الأدلّة، أو ما سیظهر لک إن شاء اللّه تعالی .

وثانیاً : إنّه موقوف علی القول بعمومیّة حدیث لا تعاد حتّی لمثل الجاهل بالحکم بکلا قسمیه ، وإلاّ لو قلنا باختصاصه لغیر الناسی مثلاً _ وهو الجاهل بالموضوع _ فلا ، هذا کما فی «المستمسک»(1).

ولکن یرد علیه: أنّه لا یمکن القول بخروج الجاهل بالحکم عنه حینئذٍ، لأنّه یستلزم الاستهجان بخروج مثله عنه، لأنّ الناسی خارج عنه بواسطة الأدلّة الخاصّة الدالّة علی أنّ نسیان النجاسة موجب للإعادة، فهو خارج قطعاً ، کما أنّ العالم العامد قد یمکن دعوی انصرافه عنه، لأنّ الظاهر من سیاق هذا الکلام، هو بیان الحکم لغیر العالم العامد .

بل إنّ الحدیث فی مقام بیان حکم من کان له الداعی بالإتیان لولا عروض عارض من الجهل أو النسیان، فلا یشمل العالم العامد .

مع أنّه لو قیل بخروج مثل الجاهل بالحکم عن حکم عدم وجوب الإعادة، فخروج العالم العامد یکون بطریق أولی، فیبقی حینئذٍ فردان، أحدهما : الجاهل بالموضوع ، والثانی : الجاهل بالحکم ، فإن ثبت خروج مثل الجاهل بالحکم عنه والانحصار بخصوص الجاهل بالموضوع، لوجب حمل المطلق علی الفرد النادر، وهو مستهجن بالنسبة إلی الطهارة عن الخبث ، فلا محیص للخروج عن هذا المحذور، إلاّ الالتزام بأحد الطریقین: إمّا القول: بعدم وجوب الإعادة فی الجاهل بالحکم أیضاً، کالجاهل بالموضوع ، وهو لا یناسب مع ذهاب المشهور


1- المستمسک: ج1 / 529.

ص:403

إلی خلافه، حیث حکموا بوجوب الإعادة فیه، خصوصاً فی الجاهل المقصّر .

أو یقال باختصاص الطهارة فیه للطهارة عن الحدث، فإنّه یصحّ الحکم بوجوب الإعادة لجمیع أقسام حالات المکلّف بالنسبة إلیها من العلم والجهل والنسیان، ولو کان جاهلاً بالموضوع، لأنّها شرط واقعی للصلاة لا ذکری، فیجب تحصیلها فی کلّ حال، فیصحّ ذلک بالنسبة إلی عقد المستثنی، إلاّ أنّ إشکال المستثنی منه باقٍ علی قوّته.

فمّما ذکرنا ظهر أنّ القول باختصاص الطهارة، بالطهارة عن الحدث، _ فیکون حکم الطهارة عن الخبث باقیاً تحت عموم عدم وجوب الإعادة ، مع أنّ الأدلّة الخارجیة تحکم بوجوب الإعادة فی الجاهل بالحکم والناسی والعالم العامد ، إلاّ الجاهل بالموضوع _ یوجب عود محذور بقاء ندرة المتعلّق للعموم فی ناحیة المستثنی منه .

اللّهم إلاّ أن یقال : إنّ الأولی حفظ عمومیّة المتعلّق فی المستثنی من الطهارة لکلا قسمیها ، غایة الأمر یخرج عن حکم الإعادة خصوص الجاهل بالموضوع فی الطهارة عن الخبث، دون الحدث فیبقی الباقی تحت عموم الإعادة من النسیان والجهل، حکمیاً کان أو موضوعیّاً، والعلم إن دخل فیه سواء کان فی الطهارة عن الخبث أو الحدث، فلا یوجب الاستهجان أصلاً، فیصیر حینئذٍ حدیث لا تعاد من الأدلّة الدالّة علی وجوب الإعادة فی الجاهل بالحکم، وهو الأقوی، لمساعدته مع إطلاق الحدیث وفهم العرف .

بل یناسب مع فتوی المشهور، من الحکم بوجوب الإعادة فی الجاهل بالحکم، کما لایخفی .

مع إمکان أن یجاب عن الاستهجان: بأنّ فیه المستثنی حیث ورد فیه أشیاء متعدّدة، فلازمه التعدّد فی المستثنی منه، فیکون القراءة والتشهّد والذکر فی جمیع

ص:404

الحالات محکوماً بالصحّة، فلا یکون حمل المطلق علیه حملاً علی الفرد النادر .

وإن تنزّلنا عن ذلک، ولم نقل بعمومیّته لمطلق الطهارة عن الحدث والخبث، وفرضنا تساوی الاحتمالین من کون المراد من الطهارة هو عن الحدث أو الخبث، فکأنّه لا یعلم بأنّ حکم الإعادة کان لخصوص الحدثیة أو الأعمّ منهما، فیصیر العام المخصّص بالمتّصل مجملاً وساقطاً عن الاستدلال .

فالمتّجه حینئذٍ بعد التکافؤ، هو الرجوع إلی إطلاق ما ورد من اعتبار الطهارة عن الخبث للصلاة، کما فی الخبر الذی رواه زرارة بسنده الصحیح عن أبی جعفر علیه السلام من قوله : «لا صلاة إلاّ بطهور، ویجزیک من الاستنجاء ثلاثة أحجار» ، وأمّا البول فلابدّ من غسله)(1).

فإنّ ذیل الحدیث یکون قرینة علی صدره من کون المراد من الطهارة هو الخبث فقط أو الأعمّ منه، ولا یمکن حمله لخصوص الحدثیة .

وحیث عرفنا کون الطهارة شرطاً للصلاة، فلابدّ من تحصیله، ولو کان المکلّف جاهلاً بالحکم أو ناسیاً، کما سیأتی حکمه إن شاء اللّه .

وإن أبیت عن مثل هذا الحدیث، وادّعی إجماله أیضاً، فإنّه لابدّ حینئذٍ من الرجوع إلی قاعدة الاشتغال، وهی تفید عدم الاجزاء للمأتی به جهلاً أو نسیاناً بدون الطهارة، ولازمها وجوب الإعادة .

مضافاً إلی إمکان توهّم الاستدلال بوجوب الإعادة فی الجهل بالحکم لکلا قسمیه، بالخبر الصحیح الذی رواه زرارة بسند صحیح عن الصادق علیه السلام ، قال : «توضّأت یوماً ولم أغسل ذکری، ثمّ صلّیت، فسألت أبا عبداللّه علیه السلام


1- وسائل الشیعة: أحکام الخلوة، الباب 9 ، الحدیث 1. الباب 18، نواقض الوضوء، الحدیث 7.

ص:405

فقال : اغسل ذکرک وأعد صلاتک»(1) .

فقد ترک الإمام علیه السلام الحکم بالإعادة حین بیان ما هو الواجب وغیره من موارد ترکه، بکونه عن جهل أو نسیان أو غیر ذلک .

أحکام الوضوء / لو نسی الاستنجاء و صلّی

لکنّه غیر وجیه، لما قد عرفت بأنّه قضیّة شخصیة، لأنّ السؤال کان عن حکم شخص زرارة، ومثله لا یکون جاهلاً بالحکم أصلاً، ولا یمکن الإطلاق فی القضایا الشخصیة إلاّ بقدر ما یساعده المورد علی ذلک، بخلاف القضایا الحقیقیّة، فإنّ أخذ الإطلاق فیها عرفیّ کما لا یخفی .

واحتمال کون موضوع السؤال للعموم ، غایة الأمر یستند إلی نفسه هکذا لتحصیل الحکم ، وإن کان ممکناً، إلاّ أنّه لا یمکن الاعتماد والوثوق إلیه فی مقام الاستدلال .

ولکن لا نحتاج فی إثبات وجوب الإعادة إلی مثل هذا الحدیث، لما قد عرفت من وجود أدلّة متعدّدة علیه، وهی کافیة فی إثبات المطلوب، خصوصاً إذا کان الالتفات والتنبّه قد حصل فی الوقت ، فوجوب الإعادة مسلّم قطعاً، ولا فرق فی الحکم من تلک الناحیة بین نجاسة موضع المخرجین وغیره .

البحث الرابع: هو صورة نسیان غسل موضع المخرجین من حیث وجوب إعادة الصلاة وعدمه، فی الوقت وخارجه.

فالمسألة محلّ خلاف بین الأصحاب، إذ المشهور ذهبوا إلی وجوب الإعادة مطلقاً، سواء کان الالتفات واقعاً فی الوقت فإنّه تجب الإعادة، وفی خارجه فإنّه یجب القضاء، واجبة بل نسبه العلاّمة إلی أکثر علمائنا ، وفی «المدارک»: أنّ المسألة جزئیة من جزئیات من صلّی مع النجاسة .


1- المصدر نفسه.

ص:406

ولکن قال صاحب «الجواهر» : «قلت : قد یفرق بینهما لمکان ما تسمعه من الأدلّة الخاصّة فیها ، بل یرشد إلیه ما قیل إنّه لم ینقل الخلاف هنا فی وجوب الإعادة وقتاً وخارجاً، إلاّ عن ظاهر ابن الجنید، حیث خصّص الوجوب بالوقت، وعن الصدوق حیث نفی الإعادة فی الوقت .

وأمّا هناک فأکثر المتقدّمین علی الإعادة مطلقاً، وعن الشیخ فی بعض أقواله العدم مطلقاً .

وفی «الاستصبار» وتبعه علیه جُلّ المتأخّرین، الإعادة فی الوقت دون خارجه» انتهی موضع الحاجة من کلامه .

ولکن الإنصاف أنّ إثبات تفاوت فی الحکم بین الموردین، بوجود خصوصیّة فی المقام غیر هناک مشکلٌ جدّاً .

نعم یمکن أن یقال : بأنّ عدم وقوع الاستنجاء بالماء، والاکتفاء فی التطهیر بالأحجار _ وإن أثبتنا کفایته فی تطهیر محلّ الغائط ولو من جهة الإباحة للورود فی الصلاة _ قد یصیر هذا وجهاً للفرق بینه وبین غیره، لو عرض له النسیان، حیث لا تجب الإعادة، کما لا تجب لو کان ملتفتاً، فضلاً عن حال نسیانه، کما ورد فی الحدیث، وسنشیر إلیه إن شاء اللّه .

وکیف کان، فالأقوی عندنا هو ما ذهب إلیه المشهور، خلافاً لابن الجنید من الحکم بوجوب الإعادة فی الوقت واستحبابها خارجه .

وللصدوق فی «الفقیه» من الحکم بوجوب الإعادة فی خصوص البول مطلقاً فی الوقت وخارجه، بخلاف الغائط .

وفی «الحدائق» نسب إلی ابن أبی عقیل المشهور بالعُمّانی أنّ الأولی إعادة الوضوء، ولم یقیّد ببول ولا غائط ، ولکن فی «الریاض» نسب القول بإعادة الصلاة مطلقاً إلی العمّانی .

ص:407

وفی «الجواهر» المؤیّد کلامه بما فی «مصباح الفقیه» بأنّ نسبة الإطلاق إلیه قد صدر عن صاحب «الریاض» خطاءً .

ولکن یمکن أن ندافع عنه بإمکان أن لا یکون ذلک اشتباهاً منه ، بل کان ذلک بزعم منه، بوجود الملازمة بین القول بوجوب إعادة الوضوء مطلقاً ووجوب الصلاة کذلک، إذ لیس هذا إلاّ من جهة فقدان الطهارة عن الحدث، وإلاّ لا وجه للحکم بوجوب إعادة الوضوء، لأنّه مع فقد الطهارة بالحدث فلابدّ من إعادة الصلاة مطلقاً .

واحتمال أن تکون الطهارة موجودة إلی حال الالتفات وزوالها بعده بعیدٌ غایته، بل ممّا لا وجه له .

هذا إن کنّا بصدد إصلاح کلامه ولم نذهب إلی خطاءه.

نعم لا ملازمة فی عکسه لو ثبت صحّة کلام صاحب «الجواهر» قدس سره .

وقد نقل عن الصدوق فی «المقنع» من التفصیل بین الوقت وخارجه فی نسیان غَسل الدبر بالماء بعد الاستنجاء بالأحجار ، بأنّه إن التفت فی الوقت، فلابدّ من إعادة الوضوء والصلاة، وإن کان فی خارجه فلا إعادة للصلاة، إلاّ إنّه یتوضّأ لما یستقبل من الصلاة . هذا تمام الأقوال فی المسألة .

وأمّا بیان الأدلّة: فحجّة القول المشهور _ کما هو المختار عندنا وعلیه المتأخّرین، کما فی «العروة» وأصحاب التعالیق _ مقتضی الأدلّة ، مضافاً إلی دلالة ما ورد فی من صلّی مع النجاسة، من الحکم بوجوب الإعادة لمن نسی ذلک حتّی صلّی، کما عرفت بعضها، مثل صحیحة عبداللّه بن سنان(1)، حیث دلّ بإطلاقها علی وجوب إعادة الصلاة لمن علم بالإصابة ثمّ ترک غَسله حتّی صلّی ،


1- وسائل الشیعة: من النجاسات، الباب 40، الحدیث 3 .

ص:408

الشامل لصور النسیان قطعاً، کما لا خصوصیّة لإصابة النجاسة عن الخارج، بل یشمل لما نحن فیه أیضاً، فیحکم بوجوب الإعادة مطلقاً، سواء کان الالتفات واقعاً فی الوقت أم فی خارجها.

کما یدلّ علیه أیضاً أخبار خاصّة واردة فی المقام، مثل ما رواه فی الصحیح عن عمرو بن أبی نصر، قال : «قلت لأبی عبداللّه علیه السلام : أبول وأتوضّأ وأنسی استنجائی ثمّ أذکر بعدما صلّیت؟ قال : اغسل ذکرک وأعد صلاتک ولا تعد وضوئک»(1) .

ولا بحث فی سنده ودلالته، فأمّا السند مضافاً إلی کون عمرو بن أبی نصر من الثقات _ کما وثّقه النجاشی فی «الرجال» والعلاّمة فی «الخلاصة» _ فهو یعدّ من أصحاب الإجماع من أمثال صفوان بن یحیی البجلی وأیّوب بن نوح بن درّاج وغیرهما، فالسند معتبر بلا إشکال . وما فی «الجواهر» من نقله بسنده عن ابن أبی بصیر اشتباه ، لعلّه کان من النسّاخ .

أحکام الوضوء / لو نسی تطهیر المخرجین و صلّی

وأمّا من حیث الدلالة: فإنّها تدلّ علی لزوم إعادة الصلاة لمن نسی غَسل الذکر حتّی صلّی، فلا یشمل نسیان غسل موضع النجو ، إلاّ أن یقال بجواز استعمال الاستنجاء لکلیهما، ویکون لفظ (الذَکَر) فی الجواب کنایة عن لزوم غَسل العورة بفردیها . ویدلّ علیه أیضاً ما رواه زرارة فی الصحیح(2) الذی قد ذکرنا نصّه، وکان شاملاً لصورة النسیان قطعاً، وإن کان وارداً فی قضیة شخصیة کما لا یخفی ، مع إمکان أن یختصّ بالناسی کما عن «الحدائق»، لأنّه القدر المتیقّن الذی یمکن أن یحمل علیه.

ثمّ لا فرق فی الإعادة بین کون الالتفات فی الوقت أو خارجه ، مع أنّه یمکن


1- وسائل الشیعة: أبواب نواقض الوضوء، الباب 18، الحدیث 3 .
2- وسائل الشیعة: أبواب نواقض الوضوء، الباب 18، الحدیث 7 و 2. والباب 10، أحکام الخلوة، الحدیث4 .

ص:409

أن یحفظ إطلاقه لیشمل العامد إذا ترک الغسل لعلّةٍ ثمّ نسی بعد ذلک .

ویدلّ علیه أیضاً ما فی مرسلة ابن بکیر، عن بعض أصحابنا، عن أبی عبداللّه علیه السلام : «فی الرجل یبول وینسی أن یغسل ذکره، حتّی یتوضّأ ویصلّی ؟ قال : یغسل ذکره ویعید الصلاة ولا یعید الوضوء»(1) .

وهذه الأخبار الثلاثة کانت نصّاً فی نسیان غَسل مخرج البول، ولا یکون شاملاً لمجرّد للغائط إلاّ علی توجیه .

نعم قد ورد فی الغائط ما یستفاد منه وجوب الإعادة إذا توجّه ترکه فی أثناء الصلاة، بخلاف ما لو توجّه بعد الفراغ، حیث حکم بأنّه لا إعادة فیه ، وهو مثل ما رواه علی بن جعفر فی الصحیح، عن أخیه موسی بن جعفر علیه السلام ، قال : «سألته عن رجل ذکر وهو فی صلاته أنّه لم یستنج من الخلاء؟ قال : ینصرف ویستنجی من الخلاء ویعید الصلاة، وإن ذکر وقد فرغ من صلاته فقد أجزأه ذلک ولا إعادة علیه»(2) .

فإنّ الحدیث شمل بما لا یمکن الالتزام به بحسب ما هو المتعارف من فتوی الأصحاب، وهو أنّه لو کان نسیان الاستنجاء للغائط موجباً لبطلان الصلاة لفقد شرطها _ وهو الطهارة عن الخبث _ فلابدّ الحکم بالإعادة، حتّی لو علم بذلک بعد الفراغ عنها، وإن لم یوجب البطلان، ومن هنا نوقش فی سبب حکم الإمام بإبطال الصلاة بالانصراف لو التفت فی أثنائها .

ولذلک التجأ شیخ الطائفة بحمله علی صورة نسیان الاستنجاء بالماء، مع کونه قد استنجی بالأحجار ، کما أنّ صاحب «الوسائل» حمل خبراً آخر مشتملاً علی عدم الإعادة فی المورد، إذا کان الالتفات بعد الفراغ عن الصلاة، بما إذا کان


1- المصدر السابق.
2- المصدر السابق.

ص:410

الالتفات إلیه بعد خروج الوقت .

أحکام الوضوء / لو نسی الاستنجاء و صلّی

ولکن کلا الحملین لا یفیدان فی دفع الإشکال، لأنّه إن کان الاستنجاء بالأحجار کافیاً فی حصول الطهارة أو الإباحة للدخول فی الصلاة، فلا یجوز مع نسیان الغَسل بالماء الحکم بإبطال الصلاة، حتّی لو ترک عن عمد تحصیل الطهارة عن ماء ، وإن فرض عدم حصول الطهارة والإباحة، فتجب إعادتها حتی بعد الفراغ عنها، ومثل ذلک یجری بالنسبة إلی حال الالتفات لما قبل خروج الوقت أو بعده، إلاّ أن یدلّ دلیلٌ بالخصوص علی التفصیل بأحد القسمین، لا أن یکون ذلک مقتضی حمل الدلیل علیه کما ادّعیا فیه .

ففی مثل هذا الحدیث لا یمکن العمل علی مقتضاه، خصوصاً مع ملاحظة تعبیر أنّ «نسیان الاستنجاء»، ربما یُستعمل ویرید به نسیان غَسل مخرج البول أیضاً، لأنّ الغالب هو کون خروج الغائط مشتملاً علی خروج البول فلازم، ذلک حصول النسیان لکلیهما، لیکون صریحاً فی مخالفة إطلاقات وجوب الإعادة للصلاة فی الوقت وخارجه فی البول، کما عرفت أخبارها .

هذا إن لم ندّع صحّة استعمال لفظ «الاستنجاء» لغسل البول أیضاً، وإلاّ کانت المعارضة فیه أظهر .

مضافاً إلی أنّ المشهور قد أعرض عنه، بل فی «الجواهر» قوله: «کاد أن ینعقد الإجماع علی خلافه» .

مع أنّه یوافق فی فقرة مع خبر صحیح آخر لعلیّ بن جعفر، عن أخیه موسی بن جعفر، قال : «سألته عن رجل ذکر وهو فی صلاته إنّه لم یستنج من الخلا؟ قال : ینصرف فیستنجی من الخلأ ویعید الصلاة»(1) .


1- وسائل الشیعة: أحکام الخلوة، الباب 9، الحدیث 3.

ص:411

وجه الموافقة: أنّه لو لم یکن ترک الاستنجاء للغائط فقط أو لکلیهما مستلزماً لبطلان الصلاة، لما کان فی الحکم بالبطلان والانصراف عن الصلاة وجهٌ .

بل قد یمکن أن یقرّر ذلک بطریق الأولویّة للخبر الأوّل والثانی، بکون إبطال الصلاة وقطعها من دون علّة یعدّ حراماً بالإجماع ، وبرغم ذلک إذا حکم بوجوب القطع والانصراف إلی الاستنجاء، فحال بعد الصلاة یکون بطریق أولی لعدم استلزامه شبهة ارتکاب الحرام .

لا یقال : إنّ قطع الصلاة قد یجوز لتحصیل أمر مندوب کما فی الإقامة المنسیة، حیث یجوز قطعها إلی حین قبل الدخول فی الرکوع، فربما یکون فی المقام کذلک بأن یجوز قطعها لتحصیله، وهو لا یوجب کون الحکم بعد الصلاة کذلک .

لأنّا نقول أوّلاً : إنّه منوط بورود دلیل بالخصوص علیه .

وثانیاً : إنّه یجوز هناک القطع لا أن یکون واجباً، مع أنّهم حکموا فی المقام بالوجوب، کما هو ظاهر صیغة المضارع الواردة فی قوله : «ینصرف»، فإذا وجب فإنّ الحکم به لما بعد الصلاة تکون بالأولویّة .

وثالثاً : إنّ جواز القطع فی الإقامة کان لما قبل الرکوع لا مطلقاً کما فی المقام .

فالفارق بین المقامین یکون من جهات عدیدة .

فظهر ممّا ذکرنا إمکان الاستدلال علی وجوب الإعادة لمن نسی الاستنجاء من الغائط بذلک الحدیث الصحیح مطلقاً، سواء کان الالتفات فی الأثناء، أو فی الوقت أو فی خارج الوقت .

لا یقال : إنّه معارض مع مصحّحة عمّار بن موسی، عن حمّاد بن عثمان، قال : «سمعت أبا عبداللّه علیه السلام یقول : لو أنّ رجلاً نسی أن یستنجی من الغائط حتّی یصلّی لم یعد الصلاة»(1) .


1- وسائل الشیعة: أحکام الخلوة، الباب 10، الحدیث 3 .

ص:412

حیث حکم بعدم وجوب الإعادة مطلقاً، سواء کان الالتفات فی الأثناء _ بالأولویّة _ أو بعدها وإن فی خارج الوقت .

لأنّا نقول: بعدم مقاومته للمعارضة:

أوّلاً : من جهة ضعف سنده وسند خبر عمّار فی مقابل خبر علی بن جعفر. وکذلک الخبر الثانی وهو خبر حمّاد بن عثمان.

وثانیاً: مفاده بحسب ظاهره یکون مخالفاً للمشهور کما عرفت .

وثالثاً : یمکن حمله علی صورة نسیان الاستنجاء بالماء فی الغائط، لا مطلق الاستنجاء حتّی بالأحجار، کما یؤیّد هذا الاحتمال ورود ذکر خصوص الغائط فیه .

غایة الأمر ترد الشبهة من جهة اُخری وهی أنّه لو نسی الاستنجاء بالماء للغائط، کیف یکون حاله مع البول، لعدم انفکاکه عن الغائط غالباً دون عکسه ؟ فحینئذٍ احتمال أن یکون الاستنجاء بالماء للبول حاصلاً دون الغائط _ للاکتفاء فیه بالأحجار فقط _ بعیدٌ، وإن لم یستبعد مع ملاحظة الحال فی تلک الأزمنة، حیث کان الاستنجاء بالأحجار متعارفاً فی الجملة، دون زماننا هذا .

وإن حمل علی کون النسیان بالماء لکلیهما، فإنّه یرد علیه أنّه کیف حکم بعدم وجوب الإعادة؟ فلا یمکن الفتوی بمضمونه لمخالفته للمشهور .

فظهر من جمیع ما ذکرنا أنّ الفقرة الثانیة من صحیحة علی بن جعفر، وهی قوله : «وإن ذکر وقد فرغ من صلاته فقد أجزأه ذلک فلا إعادة علیه»(1) . ممّا لایمکن الفتوی علی طبقه، سواء کان المراد من الاستنجاء المتروک المفروض فی صدره هو الغائط، أو هو مع البول، والحمل علی ترک الاستنجاء بالماء للغائط وإن صحّحه فی هذه الفقرة، ولکن لا یمکن اجتماعه مع الحکم بلزوم الإعادة فی فرض الأثناء .


1- وسائل الشیعة: أحکام الخلوة، الباب 10، الحدیث 4.

ص:413

نعم، یصحّ هذا الحمل فی الجملة فی موثّقة عمّار، لذکر خصوص الغائط وعدم انضمام حالة الأثناء معه، وإمکان فرض الانفکاک بین البول والغائط فی الغسل بالماء فی ذلک العصر، وإن لم یکن کذلک فی هذه الأزمنة، فیخرج هذا الخبر بذلک عن اطراحه وعدم العمل به، ویوافق مع عمل المشهور.

مع احتمال کون النسیان فی خبر عمّار، بمعنی نسیان وضعه حال الاستنجاء، لا نسیان الغَسل، فیکون وجه الحکم بالصحّة بمقتضی قاعدة الفراغ، ومعلومٌ أنّ مثل هذا التعبیر لم یرد فی خبر علی بن جعفر .

ومن جملة الأخبار الدالّة علی الإعادة فی الصلاة، موثّقة سماعة بن مهران، قال : «قال أبو عبداللّه علیه السلام : إذا دخلت الغائط فقضیت الحاجة، فلم یهرق الماء، ثمّ توضّأت ونسیت أن تستنجی، فذکرت بعدما صلّیت، فعلیک الإعادة، وإن کنت أهرقت الماء فنسیت أن تغسل ذکرک حتّی صلّیت، فعلیک إعادة الوضوء والصلاة وغَسل ذکرک، لأنّ البول مثل البراز»(1) .

والمراد بالبراز هو الغائط، وقد یطلق عرفاً علی الخلاء المبرز، أی الشیء الذی فیه یظهر ویبرز من البطن .

فإنّ ظاهر الحدیث مشتمل علی ما خالفه الأصحاب، وهو وجوب إعادة الوضوء فی صورة نسیان غَسل البول ولمن ذکر ذلک فی الغائط ، وإن احتمل أن یکون فی الغائط کذلک، لإطلاق لفظ الإعادة فی ناحیة الغائط، فیجعل ذیله قرینة علی کون حکم الإعادة فی الصدر نظیر ذیله، کما کان الأمر کذلک فی لزوم غَسل المخرج إن کان النسیان لأصل الاستنجاء لا لخصوص الماء فی الغائط ، کما أنّ مقتضی المماثلة المذکورة فی ذیله لا یبعد أن یکون ذلک أیضاً .


1- وسائل الشیعة: أحکام الخلوة، الباب 10، الحدیث 5.

ص:414

فهذا الخبر یعدّ ردّاً علی حکم الصدوق الذی فصّل فی حکم إعادة الصلاة بین مَنْ نسی غسل البول أو الغائط من وجوب الإعادة فی الأوّل فقط، لأنّ الخبر یحکم بالتسویة بینهما فی الحکم بالإعادة .

بل ربّما یمکن أن یدّعی بعد الدقّة فی الحدیث، من ذکر الاهراق للماء فی واحد وعدمه فی آخر، أن یکون المنسیّ فی الفقرة الاُولی هو الغَسل بالماء لکلیهما، خصوصاً مع ملاحظة وجود ملازمة بین خروج الغائط والبول خارجاً، فعدم إهراق الماء کنایة عن عدم استعماله أصلاً فی شیء منهما .

هذا بخلاف الفقرة الثانیة، حیث ورد ذکر أنّه قد أهرق الماء، فهو شاهد علی أنّه قد غَسل مخرج الغائط ، إلاّ إنّه نسی غَسل مخرج البول، فحکم بلزوم إعادة الوضوء والصلاة وغَسل الذکر، فهذه تکون قرینة اُخری علی کون المراد من الإعادة المطلقة فی الصدر، هو إعادة جمیع ذلک، من لزوم إعادة الصلاة والوضوء والاستنجاء، فیکون الخبر دلیلاً کاملاً علی التسویة فی حکم البول والغائط من جهة نسیان الغَسل، فی الحکم بوجوب إعادة الصلاة، سواء کان الالتفات فی الوقت أو فی خارجه .

نعم، یبقی الإشکال فیه من جهة الحکم بوجوب إعادة الوضوء، حیث أنّه یخالف مع فتوی المشهور، بل الإجماع علی خلافه ، مضافاً إلی أنّک ستعرف فی الجهة الثانیة من المبحث من الأخبار التی وردت ودلّت علی عدم وجوب إعادته، فلا محیص إلاّ الحمل علی الاستحباب .

لا یقال : لِمَ لا یحکم بذلک فی حکم إعادة الصلاة، مع وجود بعض ما یدلّ علی عدم وجوب إعادتها، کما ستعرف .

لأنّا نقول : إنّ الأخبار وإن کان فی بعضها ما یدلّ علی عدم الوجوب، إلاّ أنّ الحکم بوجوب إعادتها لا یکون مخالفاً للأصحاب، بل الشهرة _ لولا الإجماع _

ص:415

قائمة علی وجوب الإعادة عکس الوضوء .

ثمّ استحباب الإعادة للوضوء بمقتضی الجمع بین الأخبار، کان فی موردین: أحدهما : ما لو نسی غَسل کلا المخرجین .

ثانیهما : فی خصوص مخرج البول .

وأمّا لو کان النسیان لخصوص مخرج الغائط دون البول، خصوصاً فیما إذا استنجی للغائط بالأحجار دون الماء، فإثبات استحباب إعادته فیهما مشکل، لعدم شمول مثل الحدیث لذلک، علی حسب ما قرّرناه فیه .

نعم یثبت بما سیأتی علی احتمالٍ، فی خبر عمّار .

نعم ، لو قلنا کون المراد من النسیان فی الفقرة الأولی یکون فی خصوص الماء دون الأحجار، وقلنا بعمومیّة الحکم بالإعادة، حتی لمثل الوضوء، فالحکم باستحبابها مطلقاً له وجهٌ ، والأمر فی ذلک سهلٌ.

فعلی ما قرّرناه لا یشمل الحدیث ما لو نسی خصوص مخرج الغائط بالغسل، أو هو مع الاستنجاء بالأحجار .

اللّهم إلاّ أن یقال بدخوله بمقتضی إلحاق البول بالبراز فی ذلک .

ومن جملة الأخبار الخاصّة التی استدلّ بها علی المطلب: صحیحة ابن اُذینة، قال : «ذکر أبو مریم الأنصاری أنّ الحکم بن عتیبة بال یوماً ولم یغسل ذکره متعمّداً، فذکرت ذلک لأبی عبداللّه علیه السلام ، فقال : «بئس ما صنع، علیه أن یغسل ذکره ویعید صلاته ولا یعید وضوئه»(1) .

وقد تمسّک الشیخ الأعظم فی کتاب «الطهارة»(2) بهذا الخبر فی مدار أخبار


1- وسائل الشیعة: نواقض الوضوء، الباب 18، الحدیث 4 .
2- کتاب الطهارة: ص158.

ص:416

وجوب إعادة الصلاة لمن نسی الاستنجاء وترکه، ولو کان الالتفات فی خارج الوقت .

ولکن الإنصاف عدم إطلاقه لما نحن فیه، لوضوح أنّ ترک الغَسل عمداً من الحکم بن عتیبة _ کما نصّ علیه الحدیث _ غایة ما یدلّ علیه إطلاقه هو الشمول لترکه عمداً عالماً بالحکم أو جاهلاً، کما یشهد لذلک جواب الإمام علیه السلام ، بقوله : «بئس ما صنع»، إذ اللوم والتوبیخ إنّما یصحّ فی غیر النسیان، فالأولی خروجه عن أدلّة المسألة .

نعم هو دلیلٌ علی عدم وجوب إعادة الوضوء فی صورة النسیان بطریق أولی، إذا لم یجب الإعادة فی صورة ترک الغسل عن عمدٍ، فالبحث موکول إلی محلّه .

ومنها: موثّقة عمّار بن موسی الساباطی، عن أبی عبداللّه علیه السلام : «فی الرجل ینسی أن یغسل دبره بالماء، حتّی صلّی، إلاّ إنّه قد تمسّح بثلاثة أحجار؟ قال : إن کان فی وقت تلک الصلاة فلیعد الصلاة ولیعد الوضوء ، وإن کان قد مضی وقت تلک الصلاة التی صلّی، فقد جازت صلاته ولیتوضّأ لما یستقبل من الصلاة»(1) .

وقد اعترض علیه صاحب «الجواهر» والمحقّق الهمدانی من اشتماله بما هو مخالفٌ لإجماع الأصحاب، وهو الحکم بعدم کفایة التمسّح بثلاثة أحجار فی الطهارة، والحکم بوجوب إعادة الصلاة فی الوقت، مع أنّ الاستنجاء بالأحجار قد حصل .

وکذلک اشتماله بعدم تحقّق الوضوء ووجوب إعادته، بقوله : «ولیتوضّأ لما یستقبل من الصلاة».

وقد أفتی الصدوق قدس سره فی «المقنع» بمضمون هذا الحدیث، کما فی


1- وسائل الشیعة: أحکام الخلوة، الباب 10، الحدیث 1 .

ص:417

«الجواهر»(1) نسبته إلیه، ولذلک قال : «فلابدّ من طرحه أو حمله علی ما لا یخالف المذهب» ، انتهی کلامه.

وفی «مصباح الفقیه»(2) قال : «لابدّ من حمل هذه الروایة علی الاستحباب أو علی التقیّة ونحوها» ، انتهی موضع الحاجة .

ولکن السیّد الاصفهانی قدس سره أراد تصحیحه، کما احتمله الشیخ الأعظم فی کتاب «الطهارة»، ونحن نذکر کلامه نقلاً عن «الروائع الفقهیة» قال بعد ذکر الخبر : «مجمل الأمر بالتوضئ فیها علی التوضئ بمعنی غَسل محلّ النجو، وحمل مورد السؤال علی ما لا یکفی فیه المسح بثلاثة أحجار، أو لم یکن مورد للمسح بالأحجار، إمّا لتعدّی النجاسة عن المحلّ، أو لخروج البول مع الغائط ، وحینئذٍ لا یبقی مجالٌ لتوهّم کونها موهونة، لاشتمالها علی وجوب إعادة الوضوء وإعادة الصلاة مع الاستنجاء بالأحجار، ولم یقل به أحدٌ».

ثمّ قال بعد عدّة أسطر : «ولکنّه إذا حُمل علی ما ذکرناه، فلا وهن فیها، فیکون شاهداً للجمع المذکور بین الأخبار المتقدّمة...».

ولکن الإنصاف أن یقال : إنّه لا إشکال فی کون مورد سؤال هذا الحدیث، خصوص من نسی غسل دبره، بعد فرض استنجائه بالأحجار، حیث یکون ظهوره فی عدم نسیان غَسل القُبل، وإلاّ لم یذکر خصوص الدبر.

وما وقع فی کتاب «الطهارة» للشیخ من ذکر الحدیث هکذا: «فی الرجل ینسی أن یغسل الذکر» بدل «الدبر» لعلّه من غلط النسّاخ .

وکیف کان، فاحتمال ترک غسل الذکر نسیاناً، أو حمله علیه _ کما وقع فی کلام


1- جواهر الکلام: ج1 / ص367.
2- مصباح الفقیه: کتاب الطهارة / ص212.

ص:418

السیّد _ بعیدٌ عن ظاهره .

کما أنّ حمل لفظ «الوضوء» الواقع فی قوله : «ولیعد الوضوء» علی تطهیر المحلّ لا الوضوء المصطلح، وإن سلّمناه فی جملة: «ولیتوضّأ لما یستقبل من الصلاة»، لکنّه بعید فی خصوص هذا اللفظ بأن یُقرأ بفتح الواو لا بالضمّ .

ولکن لو سلّمنا جمیع هذه المحامل ، مع ذلک نقول : إنّه مشتمل علی ما هو مخالف لفتوی أصحابنا، وهو عدم وجوب القضاء فی خارج الوقت ووجوب إعادته فی الوقت، إذ أنّ أصحابنا قد أفتوا بالإعادة هنا مطلقاً وإن لم یفتوا بذلک فی ناسی النجاسة فی الثوب ومکان الصلاة من جهة مکاتبة علی بن مهزیار(1) حیث فصّل بعضهم بین الوقت بالإعادة وخارجها بعدم الإعادة.

مضافاً إلی أنّه لو کانت أجزاء النجاسة باقیة بعد المسح بالأحجار، أو لم تحصل الإباحة بذلک، فلابدّ من الإعادة مطلقاً، سواء کان ذلک فی الوقت أو فی خارجه، وإن کانت طاهرة أو مبیحة، فلا وجه للحکم بوجوب الإعادة .

نعم، الأولی فی الحمل أن یقال بأنّ حمل الإعادة فی الوقت علی الاستحباب حتی للصلاة والوضوء، وحمل کلمة «ولیتوضّأ» بصیغة الاستقبال علی التطهیر بالماء للصلوات الآتیة استحباباً لا وجوباً ، مع لزوم مراعاة التمسّح بالأحجار الثلاثة، علی ما هو الصحیح منها، أی بصورة الکنایة فی التطهیر والإباحة ، ومع حفظ ظاهره من جهة کون النسیان قد حصل فی خصوص غَسل الدبر بالماء لا مخرج البول ، فیکون الخبر محفوظاً عن الطرح، وعن مخالفة الأصحاب، وعن الحمل علی التقیة، إذ لم یثبت کون فتوی العامّة موافقاً لذلک حتی یحمل علیها ، فالخبر خارج عن محطّ الاستدلال علی مسألتنا، وهو الذی نسی غَسل ما


1- وسائل الشیعة: الباب 42، النجاسات، الحدیث 1.

ص:419

یوجب إعادة صلاته، لا ما لا یوجب، کما فی الخبر علی ما قرّرناه .

والخلاصة: ثبت من جمیع ما فصّلناه وحقّقناه من صدر المسألة إلی هنا، أنّ لنا دلیلٌ مطلقٌ یفید وجوب إعادة الصلاة لمن نسی غَسل ذکره بالماء، بلا فرق بین أن یغسل مخرج غائطه بالماء أم لا، وبلا فرق بین أن یمسح مخرجه بالأحجار أم لا، وبلا فرق بین أن یکون قد التفت إلی ذلک فی وقت الصلاة أو فی خارجه.

کما یظهر من ذلک حکم من نسی غَسل کلا المخرجین حتی بالأحجار أیضاً، لأنّ الإعادة فیه یکون بطریق أولی بهذه الصورة الثانیة .

کما ظهر ممّا قلناه حکم الصورة الثالثة: وهی ما لو لم ینس غَسل الذکر، بل نسی غَسل الدبر بالماء، لکنّه مسحه بالأحجار بما یکفی فی طهارته أو إباحته، فإنّه لا تکون إعادة الصلاة واجبة، لا فی الوقت ولا فی خارجه، بل تستحب إعادتها فی الوقت، کما عرفت ذلک من الخبر الأخیر .

وأمّا حکم الصورة الرابعة: وهی ما لو نسی غسل مخرج الغائط بالماء أو مسحه بالأحجار، أی نسی کلیهما دون مخرج البول، فلا دلیل لنا بالخصوص یدلّ علی لزوم الإعادة فی الصلاة، وذلک من جهة دلالة صحیحة علی بن جعفر(1)، بناءاً علی کون المراد من الاستنجاء الذی نسیه، هو خصوص الغائط لا مطلقاً. حتی یشمل مخرج البول، فکون المراد من المنسی فی الغائط، هو غسله بالماء والأحجار کلیهما، لا خصوص الماء فقط ، فحینئذٍ یکون دلیلاً علی المراد.

هذا، مضافاً إلی إمکان الاستدلال بخبر سماعة بن مهران بتوجیه آخر کما اُشیر إلیه فی آخر کلامنا ، وهو أن یقال : بأنّ عدم الاهراق، وإن کان بحسب ظاهره الابتدائی هو عدم الغسل بالماء لکلّ من البول والغائط، فصار ذلک قرینة


1- وسائل الشیعة: أحکام الخلوة، الباب 9، الحدیث 2.

ص:420

علی کون نسیان الاستنجاء بعده لکلیهما، إلاّ أنّ المماثلة الواقعة فی ذیله، بقوله : «لأنّ البول مثل البراز»، دلیلٌ علی کون المراد من النسیان وعدم الاهراق خصوص الغائط لا کلیهما، وإلاّ لما کان لذکر المماثلة مع کون البول داخلاً فی المنسی وجه وجیهٌ، لأنّ الحکم فی الصدر یکون مع الفقرة الثانیة الذی کان یختصّ صورة نسیان البول مساویاً، یعنی یمکن أن یکون وجه الإعادة فی الصدر أیضاً هو لنسیان غَسل موضع البول، کما فی الفقرة الثانیة، فلا یبقی للمماثلة معنی.

هذا بخلاف ما لو حصرناه فی خصوص البول، فلها وجه صحیح، فیکون دلیلاً علی الصورة الرابعة، ولعلّه لذلک أفتی الأصحاب بوجوب الإعادة فیها .

بقی هنا إشکالاً آخراً، وهو وجود بعض الأخبار الصریحة بعدم الإعادة للصلاة مطلقاً، سواء کان التذکّر فی الوقت أو فی خارجه ، وهو مثل ما رواه هشام بن سالم، عن أبی عبداللّه علیه السلام : «فی الرجل یتوضّأ وینسی أن یغسل ذکره، وقد بال؟ فقال : یغسل ذکره ولا یعید الصلاة»(1) .

ویرد علیه أوّلاً: بأنّه ضعیفٌ من حیث السند، لأنّ فیه أحمد بن هلال العبرتائی البغدادی، هو غالٍ وکان متّهماً فی دینه، وورد فی حقّه ذمٌ من مولانا أبی محمّد العسکری علیه السلام ولعلّه هو التوقیع الصادر منه علیه السلام إلی القاسم بن العلاء من لعن ابن هلال وجاء فیها: «احذروا الصوفی المتصنّع» .

وضعّفه جمیع أهل الرجال إلاّ الغضائری، حیث یقبل ما رواه العبرتائی عن شیخه الحسن بن محبوب وابن أبی عمیر، وعدّ روایاته عنهما من الصحاح .

ولکن الإنصاف عدم إمکان الاعتماد علی حدیثه، خصوصاً مع ملاحظة ذمّ العسکری علیه السلام له، بل واللعن الذی ورد فی ذیل التوقیع الوارد عن الناحیة


1- وسائل الشیعة: أحکام الخلوة، الباب 10، الحدیث 2 .

ص:421

المقدّسة ظاهراً، من لعن الشلمغانی بقوله علیه السلام : «إنّنا فی التوقّی والمحاذرة منه علی مثل ما کنّا علیه ممّن تقدّمه من نظرائه من السریفی والنمیری والهلالی والبلالی وغیرهم» الحدیث(1) .

هذا فضلاً عن تضعیف الصادر عن المحقّق الأردبیلی فی «جامع الرواة» والعلاّمة فی «مختلف الشیعة» فی هذه المسألة، خصوصاً مع کون الخبر معرضاً عنه الأصحاب، فیجب طرحه حتّی ولو کان منقولاً عن مثل ابن أبی عمیر .

وثانیاً : یکفی فی طرحه مخالفته لفتوی المشهور، لو لم نقل الإجماع، لاسیّما فی البول، حیث أنّ الاتّفاق فی حکمه أعظم من الاتّفاق فی حکم الغائط.

ومنها: ما رواه ابن أبی نصر، قال : «قلت لأبی عبداللّه علیه السلام : إنّی صلّیت فذکرت أنّی لم أغسل ذکری بعدما صلّیت أفأعید؟ قال : لا »(2).

فإنّ هذا الخبر وإن کان من حیث السند مقبولاً فی الجملة، لکن قد وقع الکلام فی حقّ المثنی بن الولید الحنّاط، فبرغم أنّه لم یضعّفه أحد، ولکنّه لم یرد فی حقّه توثیقٌ إلاّ ما قاله العلاّمة فی فی «الخلاصة» و«تحریر الطاووسی» من أنّه لا بأس به، وجاء فی «البلغة» و«الوجیزة» أنّه ثقة، بناءً علی کون المراد من لا بأس هو ذلک .

إلاّ أنّ الشیخ الطوسی حمله علی کون المراد من عدم الإعادة هو الوضوء لا الصلاة، کما ذکره فی «الوسائل» فی ذیل هذا الخبر، إلاّ إنّه خلاف ظاهر الحدیث، لأنّه قد صرّح فی السؤال بأنّه التفت بعدما صلّی، فیکون ظاهر الإعادة راجعاً إلیها، لا إلی الوضوء الذی لم یرد له ذکرٌ فیه أصلاً .

إلاّ أنّه لا محیص إلاّ عن مثل هذا الحمل، أو طرح الحدیث، لأنّه مضافاً إلی


1- بهجة الآمال فی شرح زبدة المقال: ج2/ ص169 .
2- وسائل الشیعة: نواقض الوضوء، الباب 18، الحدیث 6 .

ص:422

کونه مخالفاً لفتوی الأصحاب _ کما عرفت _ بل الإجماع معارض مع ما نقله نفس هذا الراوی بوجوب الإعادة فی خبر الطائفة الأولی من الأخبار، وهو خبر أبی بصیر(1) حیث صرّح فیه بوجوب إعادة الصلاة فی خصوص من نسی غَسل مخرج البول وعدم إعادة الوضوء، فکیف یصحّ القول بصحّة کلا کلامیه، فلا بأس أن یجعل هذا قرینة علی کون المراد هو عدم إعادة الوضوء لا الصلاة، وإن کان ذلک خلاف الظاهر، کما لا یخفی وبذلک نصون الحدیث عن الطرح .

ومنها: ما رواه عمّار بن موسی الساباطی، قال : «سمعت أبا عبداللّه علیه السلام یقول : لو أنّ رجلاً نسی أن یستنجی من الغائط حتی یصلّی لم یعد الصلاة»(2).

حیث یدلّ علی عدم وجوب إعادة الصلاة عند نسیان الاستنجاء فی الغائط، حتی فی الوقت، فیخالف مع ما مرّ منّا سابقاً بوجوب الإعادة .

والجواب عنه: بالطعن فی سنده من جهة عمّار بن موسی حیث کان فطحیّاً، کما عن العلاّمة فی «المختلف» .

مدفوعٌ بوقوع أصحاب الإجماع، وهو حمّاد بن عثمان فی سند الخبر قبله، فیصیر مصحّحاً، ولکن فی کلام الشیخ فی «الطهارة» والسیّد فی «الروائع» التعبیر عنه بموثّقة، عمّار ولعلّه کان بلحاظ کون نفس عمّار موثّقاً، کما هو کذلک عند أصحاب الرجال .

وکیف کان، فالسند معتبر، فلابدّ من التصرّف فی دلالته، فیمکن أن یقال بحمله علی صورة نسیان الغَسل بالماء للغائط دون الأحجار، ودون غسل مخرج البول، فیوافق مضمونه مع خبر آخر له(3) من الحکم بالإعادة فی الوقت دون خارجه،


1- وسائل الشیعة: نواقض الوضوء، الباب 3، الحدیث 3.
2- وسائل الشیعة: أحکام الخلوة، الباب 10، الحدیث 3 .
3- وسائل الشیعة: أحکام الخلوة، الباب 10، الحدیث 1 .

ص:423

حیث قد عرفت أنّه قد جمعناه بالحمل علی استحباب الإعادة فیه، لا الوجوب، فهو أیضاً یصیر قرینة اُخری علی صحّة هذا الحمل، حیث لا یصدر من شخص واحد نقلاً وروایةً حکمان متضاربان، من وجوب الإعادة للصلاة وعدمها، فهذا الحمل مضافاً إلی کونه مؤیّداً بذلک، مؤیّدٌ بکلام شیخ الطائفة بحمله علی ما ذکرناه، کما نقله فی «الوسائل» عنه، «وَتَمَّتْ کَلِمَةُ رَبِّکَ صِدْقا وَعَدْلاً»(1).

وهکذا تمّ الجمع بین الأخبار الظاهرة فی التعارض، من دون لزوم حصول طرح أو خلاف للظاهر، هذا تمام الکلام فی البحث عن الجهة الاُولی، وهی حکم إعادة الصلاة وعدمها .

وأمّا الکلام فی الجهة الثانیة: وهی أنّه هل تجب إعادة غَسل المخرجین أم لا ؟

والأخبار فیه متضاربة، حیث أنّ المستفاد من بعضها وجوب الإعادة ، وهو مثل ما فی خبر عمّار بن موسی حیث حکم فیمن نسی غسل دبره بالماء دون الأحجار بالإعادة، بقوله علیه السلام فی الجواب : «إن کان فی وقت تلک الصلاة فلیعد الصلاة ولیعد الوضوء، وإن کان قد مضی وقت تلک الصلاة التی صلّی، فقد جازت صلاته، ولیتوضّأ لما یستقبل من الصلاة»(2) . بناءً علی کون الوضوء مستعملاً فی معناه المصطلح فی کلا الموردین . ومثل ما رواه سماعة(3) فیما إذا نسی غسل الذکر فعلیک إعادة الوضوء والصلاة .

ومثل ما رواه أبو بصیر عن الصادق علیه السلام ، قال : «إن أهرقت الماء ونسیت أن تغسل ذکرک حتی صلّیت، فعلیک إعادة الوضوء وغسل ذکرک»(4) .


1- سورة الأنعام : آیة 115 .
2- وسائل الشیعة: أحکام الخلوة، الباب 10 ، الحدیث 1 _ 5، والباب 18 ، نواقض الوضوء، الحدیث 8 .
3- المصدر السابق .
4- المصدر السابق.

ص:424

ومثل ما رواه سلیمان بن خالد، فی الصحیح عن الباقر علیه السلام : «فی الرجل یتوضّأ فینسی غسل ذکره؟ قال : یغسل ذکره ثمّ یعید الوضوء»(1) .

فإنّ هذه الأخبار التی یعدّ بعضها معتبرةً تکفی فی الحکم بوجوب إعادة الوضوء، لولا وجود أخبار کثیرة _ بل أکثر منها وأقوی منها سنداً_ دالّة علی عدم لزوم الإعادة، فلا محیص إلاّ الجمع بینهما بالحمل علی الاستحباب، خصوصاً إذا کان الالتفات فی الوقت، والأخبار الدالّة علی عدم لزوم الإعادة، مثل ما رواه علی بن یقطین فی الصحیح، عن أبی الحسن علیه السلام : «فی الرجل یبول فینسی غَسل ذکره، ثمّ یتوضّأ وضوء الصلاة؟ قال : یغسل ذکره ولا یعید الوضوء»(2) .

ومثل ما رواه مصحّح عمر بن أبی نصر فی مصححته، قال : «قلت لأبی عبداللّه علیه السلام : أبول وأتوضّأ وأنسی استنجائی، ثمّ أذکر بعدما صلّیت؟ قال : اغسل ذکرک وأعد صلاتک ولا تعد وضوئک»(3) .

ومثل ما رواه أبو مریم الأنصاری جواب الإمام علیه السلام ، بقوله: «بئس ما صنع علیه أن یغسل ذکره ویعید صلاته ولا یعید وضوئه»(4) .

ومثل ما رواه عمرو بن أبی نصر، قال : «سألت أبا عبداللّه علیه السلام عن الرجل یبول وینسی أن یغسل ذکره ویتوضّأ؟ قال : یغسل ذکره ولا یعید وضوئه»(5) .

بل وعلیه جلّ خبر عمرو بن أبی نصر الآخر، حیث جاء فیه قوله علیه السلام : «أفأعید؟ قال : لا»(6) . کما قرّرناه سابقاً .


1- وسائل الشیعة: نواقض الوضوء، الباب 18، الحدیث 9 .
2- المصدر السابق.
3- المصدر السابق.
4- المصدر السابق.
5- المصدر السابق.
6- المصدر السابق.

ص:425

إذا عرفت الأخبار بکلا قسمیها، فنقول : قد نُقل عن الصدوق رحمه الله حکمه بوجوب إعادة الوضوء، فی خصوص نسیان غسل مخرج البول، إلاّ أنّ المنقول من عبارته فی «المقنع» المستفاد منه فتواه بذلک فی نسیان غَسل المخرجین، ولکن الإجماع بین المتقدّمین والمتأخّرین علی خلافه، ومخالفته لا یضرّ بالإجماع، لکونه معروفاً بحسبه ونسبه ، فلابدّ حینئذٍ إمّا أن نطرح الأخبار الدالّة علی الإعادة. ولکن ذلک غیر مقبول، لاشتمال أخبارها بعض ما وقع من الأصحاب من العمل علی طبق مضمونها _ أو الحمل علی الاستحباب _ فهو جیّد من جهة التصرّف فی التهیئة _ أو الحمل علی التقیّة کما نُقل ذلک عن صاحب «الحدائق» وصاحب «الوسائل» من جهة کون مسّ الفرج موجباً للوضوء، کما علیه العامّة ، فهو بعیدٌ خصوصاً فیما إذا حکم بالإعادة فیمن نسی غَسل مخرج الغائط، لو لم نقل بالملازمة مع خروج البول، أو حمل لفظ «الوضوء» علی غیر معنی المصطلح علیه من نفس الاستنجاء، کما قلناه ونقلناه عن بعض فی خبر عمّار ، أو حمل الأمر علی القدر المشترک بین الوجوب والاستحباب، کما قلناه فی خبر سماعة، بل وهکذا یجری فی خبر أبی بصیر علی ما فی «الجواهر»، مع أنّ خبر أبی بصیر لم یشتمل إلاّ علی لفظة «الوضوء» فقط .

وکیف کان، الأولی من جمیع هذه المحامل، هو الحمل علی الاستحباب، خصوصاً فی غَسل نسیان مخرج البول، وأولی منه فی نسیان غَسل المخرجین، وإن کان الاستحباب فی خصوص نسیان غسل مخرج الغائط لا یخلو عن وجه، للتسامح فی أدلّة السنن، سواء مَسَح بالأحجار أم لا .

وأمّا الکلام فی الجهة الثالثة: وهی التیمّم، حیث صرّح جماعة بکونه کالوضوء فی عدم اشتراط صحّته بغسل المخرجین ، بل لو نسی غسلهما أو أحدهما وتیمّم وصلّی لا یجب علیه إعادته، کما تجب إعادة الصلاة فیما تجب، بلا فرق فی ذلک بین أن یشترط فیه التضیّق أم لا ، ولعلّ دلیل ظهور أدلّة تنزیل الطهارة الترابیة بمنزلة الطهارة المائیة، والبدلیة، ومشاهدة مساواة حکمه مع

ص:426

الوضوء فی کثیر من الشرائط والموجبات والنواقض، یوجب حصول الاطمئنان للفقیه بالإلحاق، وإجراء حکم الوضوء علیه، فیما کان بدلاً عن الوضوء ، إلاّ ما خرج بالدلیل فعلی، هذا لا یبعد أن یقال باستحباب إعادته فیما حکم باستحبابها فی الوضوء، وإن کان لم یشاهد التصریح بذلک من الفقهاء، علی ما بأیدینا من کتبهم.

نعم، قد نقل عن العلاّمة فی «القواعد» علی ما فی «الجواهر»(1) عدم صحّة التیمّم قبل الغَسل، لو قلنا باعتبار التضیق فیه.

واستدلّ علیه، بأنّه یستلزم وقوعه قبله سعة وقت زائد علی الصلاة والتیمّم، أو غسل المخرج أو المخرجین یقتضی مقداراً من الوقت، فوقوع التیمّم قبل مضیّ هذا الوقت مساوٍ مع عدم تحقّق شرط صحّته، وهو حصول التضیق المعتبر فیه علی الفرض، فیجب إعادته .

هذا، ولکن لابدّ أن یعلم أوّلاً: بأنّ هذا لا یوجب عدّه مخالفاً للمسألة، بأن یکون عدم غَسل المخرج أو المخرجین موجباً لبطلانه ، بل وجه البطلان _ إن قلنا به _ کان من جهة عدم تحقّق شرط صحّته، وهو حصول التضیّق فیه، وهو أمر مستقلّ غیر مرتبط بما نحن بصدده .

وثانیاً : بأنّ ذلک تارةً یفرض بأنّه التفت إلی ذلک بعد التیمّم والصلاة، بأن علم بأنّ الوقت کان أوسع لترک غَسل مخرجه .

واُخری: یعلم بذلک بعد التیمّم وقبل الصلاة، فإن حکم بوجوب إعادته فی الفرض الأوّل، فإنّه تجب إعادته فی الثانی أیضاً .

وثالثة : یفرض أنّه مع ترک غَسل مخرجه قد وقع التیمّم والصلاة فی مقدار قلیل من الوقت أیضاً، بحیث لو کان قد أتی بالغَسل لأوجب خروجه عن ذلک


1- جواهر الکلام: ج2 / ص369.

ص:427

الوقت، وصیرورة الصلاة واقعة بعد الوقت ولو رکعة منها، فلا وجه للحکم بالبطلان حینئذٍ، لأنّ الشرط الواقعی _ وهو ضیق الوقت _ کان حاصلاً، لو لم نقل بلزوم ترک غَسل المخرج حینئذٍ لأجل تحصیل الصلاة فی الوقت، لإمکان أن یقال بلزوم الغسل وتحصیل الطهارة، ولو استلزم وقوع مقدار من الصلاة فی خارجه، بواسطة کون هذا المقدار من الوقت یعدّ داخلاً فی الوقت وذلک من باب إلحاق هذا الوقت الخارج بالوقت من باب «مَنْ أدرک رکعة فی الوقت کمن أدرک تمامها ».

فحکم العلاّمة بالبطلان لمن اشترط التضیّق فی التیمّم مطلقاً، ممّا لا وجه له.

إلاّ أن یقال: إنّه أراد القسم السابق علیه من حصول السعة فی الوقت، کما هو الظاهر من استدلاله، ولکنّه لم یتعرّض هذا القسم أصلاً .

وثالثاً ، بأن یقال : بأنّ السعة بهذا المقدار ممّا یتسامح فیه العرف، إذ یصدق عندهم لمن ترک غسل المخرجین وأتی بالتیمّم للصلاة بما لا یسع وقته لإتیان الوضوء، ولو کان قد ترک غَسل المخرجین بأنّه قد أتی به فی ضیق الوقت، لوضوح أنّ الوقت الذی یستغرقه الوضوء عرفاً یعدّ أزید من الوقت المصروف لغَسل المخرجین للفرد المتعارف من الإنسان لا ممّن کان وسواسیّاً فی التطهیر .

والحاصل : الملاک فی صدق سعة الوقت وضیقه، هو فهم العرف، لا الدقّة العقلیة، ومن الواضح أنّه یصدق علی من ترک غَسل مخرجهما وأتی بالتیمّم، أنّه وقع فی وقت ضیق إن لم یمکنه الوضوء فیه .

مضافاً إلی أنّ مثل غسل المخرج ونظائره، یعدّ الزمان المصروف فیه من أزمنة تحصیل مقدّمات الصلاة _ کزمان تحصیل الستر للنساء للصلاة أو للرجال بالنسبة إلی العورتین _ حیث أنّ وسعة الوقت لمثل هذه الاُمور لا یضرّ فی صدق ضیق الوقت الموجب لصحّة التیمّم .

ص:428

ولکن الإنصاف مع ذلک هو التفصیل بحسب حال الأفراد، من جهة إطالته فی ذلک من حیث الزمان فی غسل المخرج بحیث لو کان قد لاحظه لحصل له من الوقت السعة ممّا یکفیه تحصیل الوضوء براحة من دون عسر وتعب عرفاً ، فحینئذٍ یجب علیه إعادة تیمّمه، لعدم إحراز حصول شرطه حینئذٍ، وهذا بخلاف من کان متعارفاً فی ذلک کما هو الغالب ، فالحکم بالصحّة حینئذٍ لایخلو عن قوّة، وإن کانت الإعادة لا یخلو عن وجه ولو من جهة مراعاة الاحتیاط، لأنّه حسن علی کلّ حال .

***

إلی هنا ذکر المصنّف صاحب «الشرائع» قدس سره حکم ما لو وقع الخلل فی وضوء واحد، من حالات الشکّ والجهل والنسیان بل العمد فی بعض صوره، حیث قد عرفت أحکام کلّ واحد منها تفصیلاً، وللّه الحمد.

فی المسألة القادمة یشرع فی بیان حکم الخَلل الواقع بین الطهارتین.

ص:429

ومن جدّد وضوئه بنیّة الندب، ثمّ صلّی، وذکر أنّه أخلّ بعضو من إحدی الطهارتین ولم یعلم بعینه، فإن اقتصرنا علی نیّة القربة، فالطهارة والصلاة صحیحتان، وإن أوجبنا نیّة الإستباحة أعادهما (1).

(1) ولا یخفی أنّ هذا الفرع یتولّد منه فروع کثیرة، ومسائل عدیدة، وربما تتفاوت أحکام هذه الفروع بعضها عن بعض، فلابدّ من التعرّض له تفصیلاً حتّی یظهر حکم کلٍّ بحسب ما اقتضته الأدلّة المقرّرة عند الفقهاء والأصولیّین .

فنقول، ونسأل من اللّه الاستعانة، لأنّه ولیّ التوفیق، وهو خیر معین ورفیق : یمکن ملاحظة الأحکام فی هذه المسألة من جهتین:

الجهة الاُولی: بیان حکم الوضوء والطهارة، من حیث الصحّة والبطلان .

الجهة الثانیة: بیان حکم الصلاة التی وقعت بعدهما، من حیث وجوب الإعادة وعدمه . فأمّا الجهة الاُولی وهو بیان حکم الطهارة لمن توضّأ بوضوئین، وکان الثانی منها تجدیدیّاً، ثمّ علم بعد الصلاة المأتی بها بعدهما بوقوع الخلل فی أحدهما، من جهة ترک شرطٍ، أو وجود مانع وقاطع، ولم یدر فی أیّهما وقع؟

والمفروض فی هذه الجهة ملاحظة الصور التی یمکن فرضها وتصویرها من کلمات الفقهاء، وهی عدیدة، فنقول:

أحکام الخلل فی الطهارة / لو علم بالخلل فی أحد الوضوئین

تارةً: یفرض القول بکفایة قصد القربة فی صحّة الوضوء، وعدم الحاجة إلی قصد الوجه، من الوجوب أو الندب، لا وصفاً ولا غایة، ولا قصد الاستباحة ولا الرفع، وکون حقیقة الوضوء وماهیّته فی جمیع أقسامه _ حتّی التجدیدی منه _ حقیقة متّحدة وواحدة ، بل ولو لم نقل بلزوم قصد خاص فیه من الأمر والغایة، بل لو قصد خلاف ما هو الواقع حتی تقییداً به لما أضرّ به ، بل وقلنا بکفایة ما قصده ظاهراً عمّا کان فی الواقع ولو کان مخالفاً له .

ص:430

فلا إشکال فی جمیع هذه الصور من الحکم بصحّة الطهارة والوضوء ، بل فی «الجواهر» نقلاً عن بعض الفقهاء هو القطع بعدم الإشکال، لأنّ أحد الوضوئین وقع صحیحاً قطعاً، وإن کان الآخر منهما باطلاً ، فبالنتیجة تکون الصلاة الواقعة بعدهما صحیحة، کما لایحتاج لإتیان ما یشترط فیه الطهارة من تجدیده .

نعم، غایة ما فی الباب، هو الحکم بصحّة أحدهما، المحصّل لأصل الطهارة، لا لما أتی به بقصد التجدیدی، لأنّه محتاج إلی کونه واقعاً بعد طهارة صحیحة بالتکرّر فیه، وهو هنا معلوم العدم تفصیلاً، لأنّ الوضوء إمّا أن یکون الأوّل منهما فاسداً، فالثانی أصلیٌ لا تجدیدی، أو الثانی کان باطلاً، فالأوّل یکون أصلیاً والثانی باطلاً ، فلابدّ للعمل بهذا الاستحباب من تحصیل وضوء ثالث حتّی یصدق علیه التجدیدی .

لا یقال : إنّه إذا حکم بصحّة الوضوء وحصول الطهارة، وعدم تأثیر العلم بوجود الإخلال فی أحدهما بأصل الطهارة، فأیّ مانع أن نحکم بحصول التجدیدی أیضاً، وذلک بمقتضی وجود الشکّ فی أنّ الإخلال واقعٌ فی الثانی منهما، فبواسطة قاعدة الفراغ _ من جهة حصول الشکّ بعد الفراغ عنه _ نحکم بصحّة الثانی، ویترتّب علیه أثره المخصوص به، وهو کونه تجدیدیّاً بعد العلم بحصول أصل الطهارة حینئذٍ، کما لایخفی .

لأنّا نقول أوّلاً : إنّ ذلک متوقّف علی القول بکون قاعدة الفراغ جاریة فی مثل التجدیدی، الذی کان أمراً ندبیّاً، لأنّ بعضهم یعتقد بأنّه لا یؤثّر جریان القاعدة عملاً فی مثل التجدیدی، کما یظهر ذلک من المحقّق الهمدانی قدس سره فی «المصباح»(1) فی جریان قاعدة أصالة الصحّة، وإن کان هذا لا یخلو عن تأمّل،


1- مصباح الفقیه: کتاب الطهارة، ص213.

ص:431

کما سیأتی توضیحه عن قریب إن شاء اللّه تعالی .

وثانیاً : إنّ إجراء قاعدة الفراغ، فرع وجود الشکّ فی حصول شیء، لا فیما قطع بعدم حصوله کما فی المقام ، لوضوح أنّ المسألة مرکّبة من علمین تفصیلیین، والشکّ فی أحدهما المعیّن .

فأمّا العلمان التفصیلیّان: هما العلم بحصول الطهارة عن الحدث علی الفرض ، والعلم بعدم حصول الطهارة الثانیة، والوضوء الثانی تجدیدیّاً، لعلمه ببطلان أحدهما .

وأمّا الشکّ فی أحدهما المعیّن: وهو أنّه لا یدری أنّ المحصّل للطهارة بأیّهما حصل، من الوضوء الأوّل أو الثانی، والتردید فی ذلک لا یوجب إجراء قاعدة الفراغ فی ما یعلم فقدانه، کما لایخفی .

فحکم المسألة فی هذه الصورة واضحة، وهذا هو المختار فی باب النیّة للوضوء، ومن المعلوم ظهور أثر المبنی هنا .

وأمّا الصورة الثانیة: وهی ما لو فرض القول بتفاوت حقیقة الوضوء بعضها مع بعض، وأنّه لا یتشخّص ولا یتمیّز الوضوء عن وضوء آخر إلاّ بالنیّة، بحیث لو ترک نیّة أحدهما بالخصوص لما وقع الوضوء فی الخارج سواء قصد خلافه أم لم یقصد شیئاً .

أو قلنا : بأنّه یعتبر فی صحّته أن لا یقصد خلافه، تقییداً کان أو غیر مقیّد ، بل قلنا بأنّه یکفی أن ینوی قصد القربة بالوضوء دون قصد شیء آخر، أی لو توضّأ کان کافیاً فی صحّته ولو لم یکن قصد ما هو الواقع فی البین .

لازم هذین الفرضین هو البطلان احتمالاً، لأنّ ما هو الصحیح إن کان هو الأوّل فقد حصلت الطهارة ویعدّ الوضوء التجدیدی باطلاً ، وإلاّ لکان أصل الوضوء المحصّل غیر حاصل، لأنّ التجدیدی بعنوانه غیر حاصل قطعاً، لعدم تکرّر الوضوء الثانی ، وامّا المحصّل أیضاً غیر حاصل، لأنّه لم یقصده، ومع فرض تباین

ص:432

حقیقته مع حقیقة الوضوء التجدیدی، فما قصد لم یقع وما وقع لم یقصد .

فأمّا قصد الخلاف فلا شکّ أنّه مضرّ، وذلک بأن یقصد کونه تجدیدیّاً أو أنّه لم یقصد المحصِّل.

وکیف کان فإنّه یحتمل الصحّة والبطلان فی الوضوء الأوّل ، فبطلان الوضوء الأوّل محتملٌ، فلازمه الحکم ببقاء الحدث، لأنّ الشکّ فی رفع الحدث السابق موجبٌ لاستصحابه، فیجب تحصیل الطهارة لما یشترط فیه الطهارة .

ولکن الأقوی هو الحکم بالصحّة هنا، وإن قلنا باختلاف حقیقة الوضوء وماهیّته، لأنّ الشکّ فی صحّته وبطلانه _ بالنسبة إلی الوضوء الأوّل _ کان شکّاً بعد الفراغ، فلا یلتفت إلیه، ویحکم بالصحّة .

لا یقال : إنّ جریان قاعدة الفراغ فیه منوط بعدم وجود معارض له، ومع وجود المعارض فإنّهما یتساقطان، لأنّه من الواضح أنّ قاعدة الفراغ تجری فی ناحیة الوضوء التجدیدی، لأنّه من المحتمل أن یکون مصداق البطلان هو الثانی دون الأوّل ، فقاعدة الفراغ الجاریة فی الثانی توجب معارضتها مع ما یجری فی الأوّل، ولذلک تری أنّ العلاّمة وصاحب «الشرائع» وأکثر من تأخّر عنهما قد أفتوا فی الصورة الآتیة المشابهة لهذه الصورة بالحکم ببطلان الوضوء رأساً، ولزوم تحصیل الطهارة ثانیاً، ولیس ذلک إلاّ من جهة ملاحظة جریان استصحاب الحدث، وتعارض قاعدة الفراغ الجاریة فی کلّ منهما مع الآخر وتساقطهما .

لأنّا نقول : عدم جریان قاعدة الفراغ فی الثانی کان لوجهین : الأوّل : یمکن أن یقال بعدم جریان قاعدة الفراغ فی المندوبات، لعدم ترتّب أثر شرعی علیه، کما علیه جماعة من الفقهاء، کالمحقّق الهمدانی وظاهر بعض من تأخّر عنه .

ولکن هذا ضعیفٌ عندنا، لما قد عرفت من أنّ الأثر المترتّب علی الشیء، یکون أعمّ من أن یکون وجوبیّاً أو ندبیّاً ، ومن الواضح أنّه لو کان الفراغ جاریاً

ص:433

فیه، فإنّ لازم ذلک هو الحکم بصحّته وترتب البطلان علی الآخر، فیتعارض فیحکم بلزوم تجدید أصل الوضوء وذلک بإتیانه للمرّة الثالثة ، هذا بخلاف ما لو لم تجر فیه، فیکون الفراغ فی الأوّل جاریاً بلا معارض، فیحکم بصحّة الوضوء .

الثانی: فإنّ قاعدة الفراغ إنّما تجری فیما إذا شکّ فی صحّته، لا ما هو مقطوع ببطلانه، والوضوء الثانی کان من هذا القبیل، لأنّ بطلانه إمّا کان من جهة أنّ الصحیح کان هو الأوّل، فالإخلال واقع فیه، أو کان الإخلال واقعاً فی الأوّل ، إلاّ أنّ الثانی لا یمکن أن یقع صحیحاً لا تجدیداً ولا تحصیلاً للطهارة .

أمّا الأوّل، فلأنّ المفروض عدم وقوع التکرّر المفروض وجوده فی التجدیدی، لأنّه قد فرض البطلان فی الأوّل فلا وضوء أوّلی حتّی یقع ثانیاً.

وأمّا الثانی، فإنّه یقع لأنّ المفروض أنّه لم یقصده، وقد عرفت فی صدر البحث أنّ قصده لازم، ولو لم نقل بإضرار قصد خلافه، وحیث أنّه لم یقصد وقوعه محصّلاً للطهارة الأوّلیة، فلا یقع علی الفرض، فیقع باطلاً، فلا وجه لإجراء قاعدة الفراغ فیه، فیکون الفراغ فی الوضوء الأوّل جاریاً بلا معارض، ویحکم بالصحّة.

وهذا یوافق مع فتوی الشیخ الأعظم والآملی فیما شابه هذه الصورة، کما سیأتی الإشارة إلیها إن شاء اللّه .

وممّا ذکرنا ظهر فساد ما ذکره صاحب «الروائع الفقهیة»(1) بقوله : «نعم لو بنینا علی جریان قاعدة الفراغ بالنسبة إلی الوضوء التجدیدی فی مورد الشکّ فی صحّته وفساده _ ولو باعتبار أثر ما یترتّب علیه _ یقع التعارض حینئذٍ بین قاعدة الفراغ فی الوضوء السابق، وبینها فی الوضوء الثانی التجدیدی، بناءً علی أنّ العلم الإجمالی علی خلاف أحد الأصلین، مانعٌ من جریانهما، ولو لم یستلزم مخالفة


1- الروائع الفقهیّة: ج2 / ص290.

ص:434

التکلیف ، وحینئذٍ لابدّ من إعادة الوضوء للأعمال الآتیة المشروطة به، تحصیلاً للقطع بالشرط وهی الطهارة» انتهی کلامه .

وجه الفساد: هو ما عرفت أنّ منشأه لا یکون منحصراً فی کونه مندوباً، بل عدم جریانه کان من جهة القطع ببطلان الثانی حینئذٍ بالتقریب الذی عرفت فلا نعیده .

اللّهم إلاّ أن یکون مقصود صاحب «الروائع» والعلاّمة والمحقّق، صورة ما لا تکون النیّة مشخّصة لحقیقة الوضوء ، بل یکفی فی صحّته مجرّد قصد القربة، فحینئذٍ یصحّ ذلک.

وأمّا الصورة الثالثة: هی ما لو اعتبرنا فی صحّة الوضوء أمراً زائداً علی قصد القربة، والمفروض فیها: تارةً: یفرض أن یکون المعتبر هو قصد الوجه من الوجوب أو الندب بالوصف أو الغایة .

واُخری : یلاحظ بلحاظ حال قصد الرفع والاستباحة .

فأمّا الکلام علی الفرض الأوّل فهو أیضاً مشتملٌ علی وجوه ثلاثة ومحتملات متعدّدة ، لکن جمیعها تندرج فی صورة فرض القول بوحدة حقیقة الوضوء وماهیّته لا بتفاوتها .

الأوّل : أن یقال بأنّه وإن اعتبرنا قصد الوجه فیه، إلاّ أنّ قصد الوجه الظاهری فی صحّة العمل یکفی واقعاً، إذا کان صدور الخلاف عن غیر عمد، فالحکم حینئذٍ هو الصحّة والطهارة، لأنّها حاصلة إمّا بالوضوء الأوّل، أو الثانی، والمفروض أنّه وإن کان قصد بالثانی الوضوء التجدیدی، إلاّ إنّه غیر مضرّ علی الفرض، وهو واضح .

الثانی : هو أن یتّحد کلا الوضوئین من جهة وجهه من الوجوب والاستحباب، کما لو توضّأ أوّلاً للقراءة مثلاً، ثمّ جدّده من باب استحباب الوضوء التجدیدی، ثمّ علم ببطلان أحدهما.

أو توضّأ الوضوء الأوّل الواجب للصلاة، إلاّ إنّه جدّده بواسطة نذره الوضوء

ص:435

التجدیدی، فعلم ببطلان أحدهما. فالحکم هنا هو الصحّة أیضاً لحصول الوصف _ وهو الوجوب أو الندب _ فی کلیهما .

هذا، إن قلنا فی الوجوب النذری بأنّ نفس الوضوء یصیر واجباً، کما علیه بعض الفقهاء، وإلاّ یحکم ببطلانه من هذه الناحیة، بناءً علی ما هو المختار فی محلّه، من أنّ الواجب بوجوب النذر، لا یوجب صیرورة نفس العمل واجباً، بل یکون الواجب هو الوفاء بالنذر، وتحقّق الوفاء لا یحصل إلاّ أن یقصد العمل بما هو علیه فی الواقع من المندوبیّة فی المندوب، والوجوب فی الواجب ، فحینئذٍ لا یصیر هذا الوضوء متّحداً وصفاً مع الوضوء الأوّل الواجب ، إلاّ أن یکون الوضوء الأوّل واجباً مثله، أی بأن یکون وجوبه عَرَضیاً بمثل الثانی، فیصحّ ما قیل وما مضی .

إذا عرفت حال القسمین المذکورین، فیجری حکمهما فی الوضوئین إذا کان قد لوحظ فیهما الوجوب والندب غایةً لا وصفاً.

لکن جمیع ما ذکرناه من حکم الصحّة والبطلان ثابتٌ لولا قاعدة الفراغ، وإلاّ قد عرفت صحّته بالوضوء الأوّل .

الثالث : هو ما لو اختلف وجههما وصفاً أو غایةً، والتزمنا فیه قصد الوجه بخصوصه أو الغایة کذلک ، فحینئذٍ یکون الکلام فیه من جهة الصحّة وعدمها، مثل ما حقّقناه فی مختلف الحقیقة من الاختلاف فی الفتوی.

ومختارنا هو الحکم بالصحّة من جهة قاعدة الفراغ .

هذا تمام الکلام فی الفرض الأوّل من الصورة الثالثة .

وأمّا الفرض الثانی منها: فهو أیضاً لا یخلو عن احتمالات متعدّدة :

الاحتمال الأوّل : أن یکون قَصَد الرفع أو الاستباحه عنواناً للوضوء لا قیداً حقیقیّاً فعلیّاً، أی ما یکون من شأنه وقوعه محصّلاً للطهارة، ولو لم یقصده کذلک.

فلا إشکال حینئذٍ من الحکم بالصحّة فی الفرض المذکور، لأنّ الوضوء

ص:436

التجدیدی إمّا أن یکون باطلاً، لوقوع الأوّل صحیحاً، أو وقع هو محصّلاً للطهارة إن کان الأوّل باطلاً وإن لم یکن المقصود فی حال وجوده إلاّ کونه تجدیدیّاً، لأنّه غیر مضرّ علی الفرض، فیکون هو رافعاً للحدث أو مبیحاً، کما لایخفی .

الاحتمال الثانی : ما لو کان أخذ عنوان الرفع أو الاستباحة فعلیّاً لا شأنیاً، أی کان العمل المنویّ بعنوان أنّه رافع للحدث أو مبیحٌ للصلاة فعلاً، وإن کان یعتقد بأنّ حقیقة الوضوء شیء واحد، فلازمه عدم القطع بحصول الطهارة بالوضوئین، لأنّ الأوّل إن کان صحیحاً، فقد وقع صحیحاً ومؤثّراً ، وأمّا إن کان الثانی کذلک وکان الخلل واقعاً فی الأوّل، فلا یمکن الحکم علیه بالصحّة، لعدم تحقّق نیّة الرفع أو الاستباحة فیه، والمفروض اعتباره فعلیّاً، فلا یکون رافعاً لا تجدیدیّاً ولا مبیحاً، فلازمه بطلان الوضوء بالنسبة إلیه، فلا طریق إلی الحکم بالصحّة وحصول الطهارة بهما، إلاّ بما قد عرفت فی اختلاف الحقیقة من جریان قاعدة الفراغ فی الوضوء الأوّل، بلا وجود معارض علی مختارنا، خلافاً للعلاّمة والمحقّق فلا نطیل الکلام بتکراره .

نعم لو غفل عن الوضوء الأوّل، فنوی فی الثانی الرفع أو الاستباحة کان وضوءه صحیحاً مطلقاً .

الاحتمال الثالث : هو أن یکون ذلک بصورة الداعی، أی اعتبرنا فی الوضوء بأن یأتی به بصورة الداعی المخصوص من الرفع أو الاستباحة.

فحکم هذا الاحتمال أیضاً یکون حکم الثانی، فی جمیع ما عرفت من وجه البطلان، وطریق الحکم بالصحّة کما لایخفی .

هذا تمام الکلام فی العنوان الأوّل من حکم الوضوء، إذا کان الثانی تجدیدیّاً .

وأمّا إذا کان احتیاطیّاً، فإنّ الظاهر هو الحکم بصحّته فی جمیع الوجوه، لأنّه کان لإدراک فوت الواقع، کما لایخفی .

ص:437

وأمّا البحث عن الجهة الثانیة: وهو البحث عن بیان حکم الصلاة أو الطواف، أو کلّ ما یکون مشروطاً بالطهارة، واجباً کان أو ندباً، من جهة الإعادة وعدمها.

وهو أیضاً یتصوّر علی صور ثلاث:

تارةً : یأتی بالعمل المشروط بالطهارة بعد کلا الوضوئین .

واُخری: یأتی به بین الطهارتین .

وثالثة : یأتی به بعد کلّ واحد منهما .

ففی الأخیر: لو کان العمل المأتی به الصلاة، فقد تکون من حیث عدد الرکعات مختلفة أو متیقّنة: ففی کلّ هذه الأقسام، لابدّ أن یلاحظ حال العمل بالنظر إلی الفروض المتصوّرة فی العنوان الأوّل، من کفایة قصد القربة فی صحّة الوضوء وعدمها، ومن کون حقیقة الوضوء مختلفة وعدمها، ومن کون ظاهر قصد حال الوجه کافیاً وعدمه .

والظاهر هو الحکم بصحّة الصلاة لو أتی بها بعدهما، التی کانت هی الصورة الاُولی، لو قلنا بکفایة قصد القربة، ووحدة حقیقة الوضوء بعضه مع بعض، وعدم إضرار نیّة الخلاف ولو تقییداً وکفایة قصد الوجه الظاهری عن الواقعی.

وهذا القسم هو المقطوع به فی الصحّة، وهو المختار عندنا .

کما تقتضی الصحّة فی کلّ مورد من الأقسام السابقة، التی حکمنا بصحّة أحد الوضوئین ، إمّا من وحدة الحقیقة فیه ، أو من جهة وحدة الوصف والغایة فی الوضوئین ، أو کانت النیّة المأخوذة من الرفع أو الاستباحة مأخوذة عنواناً وشأنیاً لا فعلیّاً ولا داعیاً .

أو من جهة کون الوضوء الثانی قد حصل وکان غافلاً عن حال الأوّل بقصد الرفع أو الاستباحة .

أو من جهة کون الثانی وضوءاً احتیاطیّاً .

ص:438

هذا فیما إذا حکمنا بصحّة الوضوء، ولو فی أحدهما، حیث یوجب القطع بصحّة الصلاة وغیرها من الأعمال، وإن لم یعلم تفصیلاً نسبة الصحّة إلی أحدهما بخصوصه . هذا کلّه ممّا لا إشکال ولا کلام فیه .

إنّما الإشکال فیما إذا حکما ببطلانهما بأحد من الوجوه التی ذکرناها، من عدم کفایة قصد القربة، واختلاف حقیقته، وعدم کفایة الوجه الظاهری، والاختلاف فی الوصف أو الغایة من جهة الوجه، والاختلاف فی جهة الرفع والاستباحة من جهة لزوم الفعلیة أو الداعویة ، فحینئذٍ هل یمکن الحکم بصحّة الصلاة، مع کون الوضوء باطلاً فی کلیهما أم لا _ مع أنّه لا إشکال فی وجوب تحصیل الوضوء للأعمال الآتیة حینئذٍ _ أم لا؟

فیه وجهان، بل قولان: وجه عدم إمکان القول بالصحّة: هی أنّ الصلاة یعدّ عملاً مشروطاً بالطهارة ، فإذا قلنا ببطلان کلا الوضوئین بأحد من الوجوه الماضیة، فلازمه فقدان الشرط، ومع فقده یوجب فقدان المشروط وبطلانه.

وهذا هو مختار المحقّق فی «الشرائع»، والعلاّمة، وأکثر من تأخّر عنهما، لما تری من قوله: «أعادهما...» إلی آخره.

خلافاً للشیخ الأعظم _ بحسب ظاهر کلامه _ والمحقّق الهمدانی، والآملی، والسیّد فی «العروة» وأکثر من علّق علیها، حیث حکموا بصحّة الصلاة .

غایة الأمر أنّ السیّد مع حکمه بصحّة الطهارة، حکم بصحّة الصلاة، بخلاف غیره ممّن صرّح بصحّة الصلاة برغم الحکم ببطلان الطهارة ظاهراً ولزوم تحصیلها للأعمال الآتیة، والوجه فیه هو جریان قاعدة الفراغ بالنسبة إلی الصلاة، لأنّ الشکّ فی صحّتها بالنسبة إلیها یکون شکّاً بعد الفراغ والتجاوز، فتجری القاعدة فیها، وهی حاکمة علی استصحاب الحدث الذی کان مقتضاه ومقتضی قاعدة الاشتغال هو الحکم بإعادة الصلاة .

ص:439

ولقائل أن یقول : کیف یمکن الحکم بصحّتها، مع أنّ قاعدة الفراغ إنّما تجری فیما یشکّ فی وجود الطهارة أو صحّتها، لا فیما یقطع بعدمها، والحال أنّ المقام کذلک، لأنّ الطهارة هنا مقطوعة العدم _ علی القول الآخر الذی لم یقع صحیحاً_ بأحدهما، وذلک لاشتراطهم فی صحّة الوضوء وقوعه بعد القطع من حدوث نیّة الرفع والاستباحة والوجه وغیرهما، ولذلک حکم بوجوب تحصیل الطهارة ، فکیف یمکن الحکم بصحّة الصلاة من جهة جریان قاعدة الفراغ الجاریة فیها ؟

فإنّه نقول: بأنّ القطع بعدم الطهارة الحاصلة من أحد الوضوئین بخصوصه، لا یوجب حصول القطع الوجدانی بعدم الطهارة بأحدهما أیضاً فی الواقع، والحکم بعدم الطهارة بواسطة الأصل الجاری فی کلّ واحد منهما، أو عدم الطهارة بواسطة عدم وجود أصل یوجب تحصیلها، لسقوطه بواسطة المعارضة، وهذا ممّا لایوجب القطع بعدم الطهارة تعبّداً، حتی بالنسبة إلی الصلاة أیضاً، بل غایته هو عدم إمکان الحکم بوجود الطهارة فعلاً، بحسب القطع اللازم تحصیله للفعل الذی یشترط فیه الطهارة فیما بعد، وهو لا ینافی أن یعبّدنا الشارع بوجود الطهارة بالنسبة إلی الصلاة المأتی بها، لإمکان أن تکون الطهارة حاصلة بالوضوء الأوّل، وهو کافٍ فی إمکان صدور الحکم التعبّدی من جهة جریان القاعدة _ لو وجدت هذه القاعدة فی مورد _ کما لایخفی ، فعلی هذا یکون الحکم بصحّة الصلاة هنا بواسطة ذلک أولی وأحسن، وإن کان الاحتیاط هنا بإعادة الصلاة حسناً ووجیهاً، لأنّه حسنٌ علی کلّ حالٍ .

وأمّا الصورة الثانیة: وهی ما لو أتی بالصلاة بین الوضوئین فقط .

فعلی القول بصحّة الوضوء، وحصول الطهارة بقصد القربة، أو علی غیره من الوجوه من لزوم قصد خصوص الوجه، أو الرفع أو الاستباحة، لایکون شیئاً من هذا مؤثّراً بالنسبة إلی الصلاة أو العمل المشروط بالطهارة، إن کان حکمه حکم الصلاة .

ص:440

ولو صلّی بکلّ واحدة منهما صلاة أعاد الأولی بناء علی الأوّل .(1)

نعم یؤثّر هذا الاختلاف بالنسبة إلی حال سائر الأعمال التی أراد إتیانها بعد ذلک، حیث أنّه علی القول بصحّة أحد الوضوئین، _ بواحدٍ من الوجوه السابقة _ فلایجب تحصیله للأعمال ، وعلی القول بالبطلان فلابدّ من تحصیله .

فأمّا وجه هذین الحکمین، فقد عرفت تفصیله فیما سبق .

أمّا بیان حکم الصلاة وغیرها، فالظاهر أنّ الصلاة صحیحة قطعاً، من جهة جریان قاعدة الفراغ، لأنّ المسألة تکون من قبیل ما لو صلّی ثمّ شکّ فی صحّة وضوئه بعد الصلاة، وقد مضی حکمها سابقاً .

وذکر السیّد فی «العروة» فی المسألة 53 (من شرائط الوضوء)، حکم هذه الصورة، بقوله : «إذا شکّ بعد الصلاة فی الوضوء لها وعدمه، بنی علی صحّتها، لکنّه محکوم ببقاء حدثه، فیجب علیه الوضوء للصلوات الآتیة ».

ولم یخالفه أحد من أصحاب التعالیق ، والوجه فی ذلک واضح، لأنّ قاعدة الفراغ تجری بالنسبة إلی الصلاة، لأنّه شکّ فی صحّة الشرط الواقع بعد التجاوز عنه والفراغ عنها، فمجرّد کون الشکّ هنا من أطراف العلم الإجمالی ببطلان أحد الوضوئین، لا یؤثر أزید من الحکم بعدم حصول الطهارة فعلاً للأعمال الآتیة ، فقاعدة الفراغ هنا تکون حاکمة علی استصحاب بقاء الحدث ، ولعلّه لوضوحه لم یتعرضه المصنّف فی هذه الصورة .

وأمّا حکم غیر الصلاة من سائر الأعمال المشروطة فیها الطهارة، یکون کحکم الصلاة التی تجری فیها قاعدة الفراغ، إذ لولا جریان القاعدة لحکمنا بالبطلان من جهة جریان الاستصحاب المذکور وقاعدة الاشتغال، کما لایخفی .

(1) الصورة الثالثة: وهی فیما لو صلّی بعد کلّ واحد من الوضوءین، ثمّ علم ببطلان أحدهما؛ فقد حکم المصنّف بإعادة الصلاة الأولی وذلک من جهة

ص:441

استصحاب بقاء الحدث حیث یحکم ببطلانها، هذا بخلاف الثانیة لو قلنا بالاجتزاء بالوضوء الثانی، لأنّه قاطع حینئذٍ بحصول الطهارة له بأحدهما ، فالصلاة الثانیة مقطوعة الصحّة بواسطة قطعه بحصول الوضوء.

هذا بخلاف ما لو قیل بعدم الاجتزاء، فحینئذٍ لابدّ من القول بوجوب إعادتهما علی مسلک المشهور .

أحکام الخلل فی الطهارة / لو علم بالخلل فی أحد الوضوئین

فأمّا الأولی کان لاستصحاب بقاء الحدث ، وأمّا الثانیة لعدم کفایتها إن کان قد ترکها من الأوّل، لما فرضنا من عدم کفایته، فلا أصل یحکم بصحّة الصلاة الثانیة .

لا یقال: بإمکان إجراء قاعدة الفراغ فی الصلاة الثانیة، فنحکم بالصحّة.

لأنّا نقول : إمّا هی ساقطة لمعارضتها مع قاعدة الفراغ الجاریة فی الصلاة التی یقابل ذلک، أو لعدم جریانها فی أطراف العلم الإجمالی، کما احتمله صاحب «الجواهر»، فلا طریق حینئذٍ للحکم بالصحّة لإحدی الصلاتین .

ولکن الوارد فی «الجواهر»(1) قوله : «نعم لقائل أن یقول هنا وممّا تقدّم، أنّ المراد بإعادة الصلاة، إنّما هی فی الوقت، وأمّا خارج الوقت فیشکل وجوب القضاء، لأنّ المختار أنّه بفرض جدید».

ودعوی شموله للمقام ممنوعٌ، لکونه معلقاً علی الفوات الذی لم یعلم تحقّقه هنا، لاحتمال کون المتروک فی الطهارة الثانیة، فتقع الصلاة صحیحة» ، انتهی موضع الحاجة .

لکنّه مخدوش أوّلاً : بأنّ القضاء _ ولو کان بأمر جدید _ لایوجب عدم شموله للمقام، لأنّه إذا جری الأصل _ وهو استصحاب الحدث _ وحکم بعدم حصول الطهارة، لم یکن لنا دلیل علی الحکم بالصحّة للصلاة من قاعدة الفراغ وأمثال


1- جواهر الکلام: ج2 / ص372.

ص:442

ذلک، فلازمه کون الشخص علی غیر طهور، فیکون ذلک المکلّف بنفسه داخلاً تحت الأدلّة الدالّة علی وجوب القضاء لمن أتی بالصلاة بغیر طهارة، لأنّ کون المکلّف علی غیر طهور یوجب فوت الصلاة منه، بلا فرق بین کونه کذلک بالأصل أو بالوجدان، وهنا یکون بالأصل محکوماً به.

وثانیاً : أنّه قد عرفت منّا سابقاً، بأنّ الفوت لیس عرفاً إلاّ عدم الإتیان علی وجهه، فإذا شکّ فیه، فیستصحب عدم الإتیان بالفعل علی وجهه، فیثبت به الفوت، وهو السبب لوجوب القضاء.

ولا یرد علیه بأنّه أصلٌ مثبت غیر صحیح، لما قد عرفت بأنّ الفوت فی لسان الأخبار، لیس إلاّ عدم إتیان الفعل علی وجهه، کما وافقنا فیه الشیخ الأعظم فی «کتاب الطهارة».

وبذلک یظهر فساد کلام صاحب «الجواهر»، حیث قال بعد ذلک : «وقد یقال: إنّه یمکن تنقیح الفوات باستصحاب عدم الإتیان بالمکلّف به . اللّهم إلاّ أن یلتزم أنّ الاستصحاب وإن قلنا به، لکنّه لایتحقّق به اسم الفوات، وهو جارٍ فی الصور الثلاثة» ، انتهی کلامه.

لما قد عرفت من إمکان إثبات الفوات، لأنّه لیس إلاّ عدم إتیان الفعل علی وجهه الصحیح .

فثبت ممّا ذکرنا أنّه إن حکم بلزوم إعادة الصلاة الأولی أو کلتیهما، لا فرق فی ذلک بین کون الالتفات فی الوقت أو فی خارجه .

هذا تمام الکلام علی المسلک المشهور علی حسب ما کان فی «الشرائع» وغیرها .

ولکن المسألة قابلة للتأمّل فیها، لأنّها بناءً علی کفایة قصد القربة وما شابهها، فلا إشکال فی صحّة الصلاة الثانیة، لأنّ الطهارة بالنسبة إلیها متیقّنة الحصول، إمّا بالوضوء الأوّل أو الثانی، فصحّتها تکون قطعیّةً .

ص:443

وأمّا الصلاة الأولی حیث أنّ الوضوئین کلّ واحد منهما یکون مجریً لقاعدة الفراغ، من جهة الشکّ فی صحّة وقوعه، وکون الخلل فی الآخر، وإن لم یمکن تصحیح الوضوء الثانی تجدیدیّاً، للقطع ببطلان أحدهما، فلا تکرّر حتّی یتجدّد، إلاّ أنّه یکفی لنا الحکم بصحّته، ولو کان رافعاً أو مبیحاً، أو إذا کان قد قصد به القربة، فإذا کان کلّ منهما مرکزاً لجریان قاعدة الفراغ، فیتعارض ویسقط، ویجب الرجوع إلی استصحاب الحدث، وقاعدة الاشتغال والحکم ببطلانها، فلا تکون الصلاة الأولی صحیحة ، وتجب إعادتها وإن کانت الثانیة صحیحة، بل ولا یجب تحصیل الوضوء لما یأتی، هذا کما فی «مصباح الهدی»(1).

إلاّ أنّه یمکن أن یقال: بصحّة الصلاة الأولی أیضاً، من جهة جریان قاعدة الفراغ فیها، لوجود الشکّ فیها _ بعد التجاوز عنها_ وأنّها هل وقعت مع الطهارة أم لا ، فالقاعدة تحکم بالصحّة .

لا یقال : إنّه معارض مع ما یجری فی الصلاة الثانیة.

لأنّا نقول: إنّ الصلاة الثانیة مقطوع الصحّة بالوجدان لا بالأصل، فلا نحتاج إلی القاعدة .

لا یقال : إنّه لا یناسب الحکم بصحّة کلتا الصلاتین، مع القطع ببطلان أحدهما، أی الحکم بصحّتهما جزماً لایجتمع مع العلم ببطلان أحدهما، کما ذکر ذلک الآملی فی هذا الفرع بالنسبة إلی الوضوء الأوّل والثانی من حیث الحکم بصحّتهما .

لأنّا نقول: لا یجری هذا الکلام فی الصلاة، لعدم القطع ببطلان أحدهما ، بل هو مجرّد احتمال، لأنّه إن کان الأوّل من الوضوئین باطلاً کانت الصلاة الواقعة بعده


1- مصباح الهدی: ص506.

ص:444

باطلة قطعاً دون الثانیة .

وأمّا لو کان الأوّل منهما صحیحاً، فإنّ الصلاتان الواقعتان بعده تقعان صحیحتین، لأنّ الطهارة حاصلة بالأوّل لکلتا الصلاتین ، فالتجدیدی فقط لم یحصل، وهو غیر ضائر، فالحکم بالصحّة علی هذا الفرض کما عن السیّد فی «العروة» فی المسألة 39 من شرائط الوضوء کان صحیحاً، ولا حاجة إلی الاحتیاط إلاّ من جهة حسنه، فهو أمر آخر، وکان وجه الحکم بالصحّة هو جریان قاعدة الفراغ فی الصلاة لا فی الوضوء، لما قلنا إنّ المبنی عندنا هو جریانها فی المستحبّات أیضاً، فیکون معارضاً لما تجری فی طرف التجدیدی، ویحکم بصحّته، وإن لم یثبت خصوصیة التجدیدیة، للقطع بعدم تحقّق هذا الوصف، سواء کان قد حکم بصحّته أم لا، لعدم وجود التکرّر حینئذٍ، للقطع ببطلان أحد الوضوئین والسقوط، فنحکم بالبطلان من جهة استصحاب الحدث وقاعدة الاشتغال .

وأمّا بناءً علی عدم الکفایة، واعتبار أحد تلک الاُمور: فقد یظهر ابتداءً من کلام صاحب «الجواهر» من الإشکال فی الحکم بصحّة الصلاة فی کلّ واحد منهما، من جهة الإشکال فی صحّة الوضوئین أوّلاً، من جهة أنّ ظهور أدلّة الشکّ بعد الفراغ کان فی غیر أطراف العلم الإجمالی، لأنّه تجری فیما یشکّ فیه وجوداً وعدماً بحتاً، لا عدماً خاصّاً، أی تجری متی کان التردید بین وجود الشیء وعدمه، لا بین کونه هذا الشیء أو ذاک، کما فی موارد العلم الإجمالی، ولا أقلّ من الشکّ فی ذلک، فیبقی استصحاب الحدث سلیماً من الحاکم علیه .

وثانیاً : بأنّ الشبهة تکون من قبیل الشبهة المحصورة التی لا یجری الأصل فی أحدهما، فإنّ الیقین بالإجمال یرفع الاستصحاب فی کلّ منهما، إذ ترجیح أحدهما یعد ترجیحاً بلا مرجّح، وإجراء الحکم فیهما معاً مناف لمقتضی الیقین، فوجب الاجتناب عنهما معاً، فلا یمکن الحکم حینئذٍ بالصحّة فی کلّ واحدٍ منهما .

ص:445

وثالثاً : بعدم جریان القاعدة عند الشکّ فی الصحّة، من جهة الشکّ فی الإخلال بالشرائط، بل یختصّ موردها فی الشکّ بالإخلال فی الأجزاء .

«لکن الملحوظ أنّ صاحب «الجواهر» قد عدل عن هذا الکلام أخیراً، بقوله(1):«نعم لقائل أن یقول: إنّه یشکل الحکم بوجوب إعادة الصلاة، کما یظهر الاتّفاق علیه هنا فی الجملة، وذلک لأنّه إن لم یکن هذا أولی عن تیقّن الحدث وشکّ فی الطهارة، فلا أقلّ من المساواة له، وقد تقدّم لک سابقاً عدم وجوب إعادة علیه لو حدث له الشکّ بعد الفراغ من الصلاة، بل قد عرفت أنّ فیه احتمال عدم وجوب إعادة الوضوء أیضاً ، بل قد ظهر من بعضهم اختیاره، فیمکن حینئذٍ القول هنا بعدم وجوب إعادة الصلاة، وإن قلنا بوجوب إعادة الطهارة .

ولعلّ اتّفاقهم هنا علی هذا الحکم بحسب الظاهر، یشعر بعدم البناء علی تلک القاعدة، وهی عدم الالتفات إلی الشکّ فی الشرائط بعد فعل شروطها .

اللّهم إلاّ أن یُحمل کلامهم هنا علی ما إذا علم تقدّم سبب الشکّ علی فعل المشروط بها، وإن لم یحصل الشکّ سابقاً فعلاً، لکنه بعد تسلیم الحکم فیه لا یخلو حمل کلامهم علیه من بُعدٍ، فتأمّل» ، انتهی کلامه .

ولکن الإنصاف بعد التأمّل فیها، هو خلاف ما ذکره، وعدم ورود الإشکال الذی أورده، لما قد عرفت فی البحث السابق الذی کان الکلام فیه فی خصوص حال الوضوء فی هذا الفرض، بأنّ الوضوء الثانی مقطوع بالبطلان ، إمّا بالإخلال فیه نفسه، أو بواسطة فاقدیته لما اشترط فیه من قصد الوجه والرفع والاستباحة، فیبقی الشکّ فی الصحّة والبطلان فی خصوص الوضوء الأوّل، فیمکن إجراء قاعدة الفراغ فیه بلا معارض، والحکم بصحّته.


1- جواهر الکلام: ج2 / ص374.

ص:446

وما ذکره من کون القاعدة غیر جاریة فی أطراف العلم الإجمالی .

مضافاً إلی عدم صحّته، إنّه لیس من مورد العلم الإجمالی، بل یکون من العلم التفصیلی ببطلان وضوء الثانی، والشکّ البدوی فی صحّة الوضوء الأوّل.

کما لا یکون من قبیل الشبهة المحصورة، لأنّها کانت فیما إذا کان التکلیف فی کلّ من الطرفین منجزاً، لا فی أحدهما فقط، کما فی المقام، کما قد عرفت من بطلان الوضوء الثانی قطعاً .

هذا، فضلاً عن أنّه لا حاجة لتکرار ما أجاب عنه صاحب «مصباح الفقیه»(1) من الرجوع فی الشکّ، فی کونه من مصادیق عموم القاعدة لا رفع الید عنها .

کما أنّ دعوی انحصار مورد القاعدة فی الشکّ الإخلال بالأجزاء، ممنوعة، لعموم بناء القاعدة، کما قد حقّق فی محلّه ، فإذا حکم بصحّة الوضوء الأوّل بناءً علی جریان القاعدة، فتکون الصلاتان صحیحتین ، إمّا الأولی لکون الشکّ فی صحّتها، کان ناشئاً عن الشکّ فی صحّة الوضوء الأوّل، فإذا حکم بصحّته، فیرتفع به الشکّ عنها، ولا نحتاج إلی جریان قاعدة الفراغ فی الصلاة، حتی یُدّعی معارضتها مع جریان قاعدة الفراغ فی الصلاة الاُخری .

أحکام الخلل فی الطهارة / لو علم بالحدث عقیب إحدی الطهارتین

کما أنّ الصلاة الثانیة صحیحة، لحصول شرط الطهارة فیها من جهة صحّة الوضوء الأوّل، فیصحّ بعده کلّ عمل مشروط بها، ومنه الصلاة الثانیة کالصلاة الأولی.

کما لا یجب علیه استئناف الوضوء للأعمال اللاحقة، لأنّه کان متطهّراً قطعاً.

ولعلّه لذلک کان وجه اتّفاق الفقهاء _ کما فی «الجواهر» _ علی عدم إعادة الصلاة، وهذا هو الحقّ عندنا، وإن تنزّلنا عن ذلک ولم نذهب إلی جریان القاعدة فی الوضوء الأوّل، وحکمنا ببطلانه، فیلزم الحکم ببطلان کلّ من الصلاتین، لعدم


1- مصباح الفقیه: کتاب الطهارة، ص212.

ص:447

ولو أحدث عقیب طهارة منهما، ولم یعلمها بعینها، أعاد الصلاتین إن اختلفتا عدداً، وإلاّ فصلاة واحدة، ینوی بها ما فی ذمّته.

وکذا لو صلّی بطهارة، ثمّ أحدث وجدّد طهارة، ثمّ صلّی اُخری، وذکر أنّه أخلّ بواجب من إحدی الطهارتین (1).

ما یحکم به الصحّة فیها، لعدم وجود القاعدة وذلک لسقوطها بالمعارضة بمثلها الجاری فی الصلاة الاُخری .

فاستصحاب الحدث حاکمٌ، ویوجب بطلانهما، والحکم باستئناف الوضوء للأعمال اللاحقة ، فتأمّل حتی لا یشتبه علیک الأمر .

(1) اعلم أنّ هنا فروعٌ لا بأس بذکرها تفصیلاً، وقد ورد ذکر بعضها فی المتن، وبعضها غیر مذکور فیه، وإن استفید حکمه منه فی الجملة، فنحن نستعرّضها بالتفصیل منه إن شاء اللّه تعالی ، فنقول :

هاهنا عدّة فروع فقهیّة:

الفرع الأوّل : ما إذا توضّأ وضوئین، وصلّی بعدهما بصلاة علم بحدوث حدث بعد أحدهما .

قال السیّد فی «العروة» فی المسألة 40 من شرائط الوضوء: «یجب الوضوء للصلاة الآتیة، لأنّه یرجع إلی العلم بوضوء وحدث، والشکّ فی المتأخّر منهما ، وأمّا صلاته فیمکن الحکم بصحّتها من باب قاعدة الفراغ، بل هو الأظهر» .

ولابدّ من توضیح هذه المسألة حتّی یظهر حکمها، وتلاحظ نسبة حکم کلّ مع ما هو المختار فی ما یشترط فی الوضوء، من الاکتفاء بقصد القربة فقط، أو لابدّ من ملاحظة خصوصیة خاصّة فی الوضوء، من نیّة الرفع أو الاستباحة .

ص:448

فعلی القول الأوّل، لابدّ أن یعلم أنّ الظاهر کون المورد ممّا إذا کان الوضوء الثانی صدر بالعنوان التجدیدی، لا فیما إذا کان بعنوان رفع الحدث أو الاستباحة، وإلاّ یتفاوت الحکم، کما سنشیر إلیه إن شاء اللّه .

فعلی فرض التجدیدی لا إشکال فی بطلان الوضوء الأوّل، أی تعدّ الطهارة الحاصلة منه معدومة قطعاً، لانتقاضها بالحدث الحادث إمّا قبل وضوء الثانی أو بعده .

وأمّا الوضوء الثانی والصلاة المأتی بها بعده، فإنّه مشکوک، لأنّه إن کان الحدث واقعاً قبل الوضوء الثانی، فالطهارة باقیة وتکون الصلاة صحیحة، وإن کان الحدث واقعاً بعد الوضوء الثانی وقبل الصلاة، فیکون الوضوء الثانی باطلاً، وکذلک الصلاة الواقعة بعدها .

فلابدّ هنا من ملاحظة حال کلّ من الوضوء ولصلاة علی حدة .

وأمّا حال وضوء الثانی مع الحدث، یکون حال من تیقّن بوجود حدث ووضوء، ولا یدری المتقدّم منهما والمتأخّر، وقد مضی حکمه مفصّلاً فی المباحث السابقة، فإذا کان حاله السابق علیهما هی الطهارة المتیقّنة، فإنّ هذا یتصوّر علی أنحاء ثلاثة :

تارةً : یکون تاریخ کلّ من الحدث والوضوء مجهولاً .

واُخری : تاریخ الحدث معلوماً دون الوضوء .

وثالثة : عکس ذلک .

والحکم فیه بالنسبة إلی کلّ واحد منهما حکم ما ذکر هناک .

وحیث کان مختارنا فی مجهولی التاریخ _ بناءً علی کون الأثر مترتّباً علی أصل الطهارة والحدث، لا علیهما بوصف کونهما رافعة للحدث فی الأولی وناقضة للطهارة فی الثانی _ هو لزوم تحصیل الطهارة للأعمال الآتیة، لحصول المعارضة بین الأصلین الجاریین فی ناحیة الطهارة والحدث، فیتساقطان،

ص:449

وترجع إلی قاعدة الاشتغال من لزوم إحراز الشرط فی الإتیان بالتکالیف، کما مرّ علیک فی بدایات هذا المجلّد.

کما أنّه یجب تحصیل الطهارة أیضاً، لو کان تاریخ الحدث معلوماً دون الوضوء الثانی، کما هو مختارنا.

وهکذا قلنا فی معلوم التاریخ، إذا کان هو الوضوء کما مرّ علیک سابقاً وهکذا نقول فی المقام.

وأمّا حکم الصلاة، فالظاهر الحکم بصحّتها، بمقتضی قاعدة الفراغ، لأنّه قد شک فیها بعد التجاوز عنها، فتکون القاعدة جاریة بلا معارض .

هذا کلّه علی القول بالاکتفاء بقصد القربة .

وأمّا علی القول بعدم الاکتفاء بها، فلازمه القطع ببطلان الوضوئین : أمّا الأوّل، فلما قد عرفت أنّه مقطوع الزوال بالوجدان، کما أنّ الثانی مقطوع البطلان أیضاً ، إمّا بوقوع الحدث بعده، أو من جهة عدم تحصیل نیّة الرفع أو الاستباحة فیه فعلی هذا تکون الصلاة باطلة أیضاً .

خلافاً للسیّد الاصفهانی فی تقریراته المسمّی ب_ «الروائع الفقهیّة»(1) حیث قال: «ولکنّک خبیر بأنّه لا وجه لإعادة الصلاة ولا الطهارة، لا بالنسبة إلی الأولی ولا بالنسبة إلی الثانیة، علی شیء من القولین، وذلک لما تقدّم من جریان قاعدة الفراغ بالنسبة إلی الصلاة والوضوء ، بل لا یحتاج إلی إعادة الوضوء للأعمال الآتیة أیضاً، بعد جریان قاعدة الفراغ فیه» ، انتهی کلامه .

ومنشأ کلامه هو التزامه بعدم جریان قاعدة الفراغ فی التجدیدی، فلا یکون للفراغ الجاری فی الوضوء الأوّل معارض حینئذٍ، فیحکم بصحّته، فیترتّب علیه


1- الروائع الفقهیّة: ج2 / ص291.

ص:450

عدم لزوم تحصیله للأعمال الآتیة، کما یجری الفراغ فی الصلاة أیضاً.

ولکن قد عرفت مبنانا بجریان القاعدة فی المستحبّ أیضاً، وهذا یستلزم حدوث المعارضة فی الوضوء، فلا یمکن الحکم بوجوده بعد ذلک، فلابدّ من تحصیله للأعمال الآتیة.

وهذا هو مراد المحقّق ممّا ذکره فی هذه المسألة، حیث قصد کون الوضوء الثانی تجدیدیّاً لا ما یکون رافعاً ومبیحاً، کما یظهر عن الشیخ الأعظم، حیث حکم بکفایة قصد القربة، کما لایخفی .

الثانی : ما إذا توضّأ بوضوئین، وصلّی بعد کلّ واحد منهما صلاةً، ثمّ علم حدوث حدث بعد أحدهما .

ففی «الشرائع» أنّه أعاد الصلاتین، لو کانت الصلاتین مختلفة العدد، کما لو کان إحداهما ثلاثیّة والاُخری رباعیة، وإلاّ فصلاة واحدة ینوی بها ما فی الذمّة، من دون تفصیل فی کلامه بین القول بالاکتفاء وعدمه.

کما لا یفرّق بین کون الصلاتین متّحدتین من حیث الوقت أداءاً وقضاءاً، أو مختلفتین.

کما لا یفرق بین کون الصلاتین متّحدتین من حیث الکیفیّة _ من کونهما جهریتین أو إخفاتیتین _ أو کانتا متفاوتتین .

ولکن الحقّ ضرورة أن نلاحظ ونبحث کلّ واحد من الصور مستقلّة، وملاحظة کلّ واحد منها من حیث الحکم، إذ ربما یکون أحدهما مختلفاً عن الآخر .

فنقول ومن اللّه التوفیق، فإنّه خیر معین ورفیق : أمّا الکلام من حیث الاکتفاء بقصد القربة وعدمه، فقد عرفت فیما سبق من أبحاثنا بأنّ الوضوء الثانی قد یکون تجدیدیّاً _ کما هو المراد من کلام المحقّق _ وقد یکون رافعاً ومبیحاً_ کما علیه الشیخ الأعظم .

ص:451

فعلی فرض الأوّل والقول بالاکتفاء بقصد القربة، وکذلک علی الفرض الثانی من کون الوضوء الثانی رافعاً ومبیحاً، یکونان مشترکان فی الحکم .

هذا بخلاف ما لو قلنا بعدم الاکتفاء بقصد القربة، ولزوم نیّة الرفع أو الاستباحة، فإنّ حکمه یتفاوت عن الأولین ، لأنّه علی القول بعدم الاکتفاء بقصد القربة، تکون الصلاة الثانیة باطلة قطعاً، للقطع بأنّها إمّا واقعة بهذا الحدث علی تقدیر کون الحدث المعلوم بالإجمال حادثاً بینها وبین الوضوء الثانی ، وإمّا أن یکون الوضوء الثانی فاسداً، لأجل الخلل فی نیّته، علی تقدیر کون الحدث حادثاً قبله بین الوضوء الأوّل والصلاة الأولی، ومع القطع ببطلان الصلاة الثانیة، تکون الأولی مشکوکة بالشکّ البدوی، فتجری فیها قاعدة الفراغ، ویحکم بصحّتها من غیر معارض .

وأمّا علی القول بالکفایة، أو کون الوضوء الثانی رافعاً أو مبیحاً، فیقع الکلام فیه فی مقامین:

تارةً : من جهة لزوم تحصیل الوضوء لما یأتی من الأعمال .

واُخری : من حیث حکم الصلاتین .

فأمّا الأوّل: فقد عرفت أنّ الوضوء الأوّل مقطوع الزوال بالحدث المقطوع وقوعه بین الوضوئین، أو بعد الوضوء الثانی .

وأمّا الوضوء الثانی فإنّه کان مشکوکاً بالشکّ البدوی من جهة توارد الحالتین المتعاقبتین، والشکّ فی المتقدّم منهما .

وقد عرفت مختارنا، وهو وجوب تحصیل الوضوء فی تمام الأقسام الثلاثة من مجهولی التاریخ، أو فیما کان تاریخ أحدهما معلوماً، فوجوب تحصیل الوضوء علی هذا الفرض مسلّم، ولا کلام فیه عندنا .

وأمّا الکلام فی المقام الثانی: وهو ملاحظة حال الصلاتین بذاتهما لا من جهة

ص:452

الاختلاف فی الوقت وخارجه، ولا من حیث العدد ولا من حیث الکیفیّة من الجهر والإخفات، فلا إشکال فی أنّ قاعدة الفراغ جاریة فی کلّ واحدة منهما، ویکون جریان هذه القاعدة مقدّمة علی الأصول الجاریة هنا، إلاّ أنّ هذه القاعدة ساقطة بواسطة المعارضة مع جریان قاعدة اُخری فی الصلاة الاُخری، والحکم بصحّتهما لا یناسب مع القطع الوجدانی ببطلان إحداهما بالمعارضة، التی توجب سقوط القاعدة فی کلتیهما .

فلابدّ أن نرجع إلی أصل محکوم للقاعدة، وهو عبارة عن استصحاب الطهارة الحاصلة عن الوضوء الأوّل إلی أن وقعت الصلاة بعده، لأنّه کان قاطعاً بحصول الطهارة، وشاکّاً فی بقائه إلی حال الصلاة.

وهذا الاستصحاب جریانه فی غایة المتانة ، إلاّ إنّه معارض بجریان مثل هذا الاستصحاب فی الصلاة الثانیة، فیوجب التساقط، فلا یمکن الحکم بصحّة الصلاتین . فنرجع إلی استصحاب عدم حدوث الحدث بعد الوضوء الأوّل، إلی حال الصلاة الأولی، فهو أیضاً معارض بجریان مثل هذا الأصل فی الوضوء الثانی مع صلاته .

ولکن یظهر من الشیخ الأنصاری، القول بعدم وجوب إعادة الصلاة الأولی دون الثانیة، وانّه تجب إعادتها وقد استدلّ علی ذلک بأنّ الطهارة الأولی کانت مقطوعة الحصول، ورافعة للحدث قبل الصلاة الأولی، فیشکّ فی صدور الحدیث منه قبل الصلاة الأولی، فیبنی علی عدمه إلی أن یفرغ عن الصلاة .

ولا یعارضه جریان مثل هذا الأصل فی الطهارة الثانیة مع الصلاة الثالثة، لأنّه بالنسبة إلی الصلاة الثانیة کان وقوع الحدث مقطوعاً، إمّا بین الطهارة الأولی وصلاتها، أو بین الوضوء الثانی وصلاته .

غایة الأمر یکون الشکّ فی المتقدّم والمتأخّر بین الحدث والوضوء الثانی،

ص:453

حیث کان الشکّ بین هذین الوصفین، فاستصحاب عدم الطهارة الثانیة إلی وقوع الحدث، یعارض مع استصحاب عدم وقوع الحدث إلی وقوع الطهارة، فیتعارضان ویتساقطان ، مضافاً إلی کونه مثبتاً بالنسبة إلی إثبات تأخّر أحدهما علی الآخر، فلابدّ من الرجوع إلی قاعدة الاشتغال بالنسبة إلی الصلاة الثانیة، والتی تفید إعادتها .

ولکن الإنصاف عدم تمامیة کلامه، لأنّ مجرّد تقدّم حدث مّا ولو کان بین الوضوء الأوّل مع صلاته، لا یترتّب علیه أثر بالنسبة إلی الصلاة الثانیة، فمجرّد القطع بتحقّق الحدث قبل الصلاة الثانیة ، إمّا بینها وبین الوضوء الثانی، أو بین الوضوئین، غیر مفید ، بل لابدّ أن نلاحظ حال أصل وجود الحدث المردّد وقوعه بین الوضوء الأوّل وصلاته، فلازم عدمه بالأصل هو وقوعه فی الآخر وبین الوضوء الثانی مع صلاته، فلازم عدمه بالأصل وقوعه فیما سبق، فکلا الأصلین جاریان ویتعارضان ویتساقطان، لأنّ الشکّ موجود بلحاظ کلا طرفیه، من جهة حال أثره فی مورده، لا مجرّد القطع بوجوده قبل الصلاة الثانیة، ولو بکونه بین الوضوء الأوّل وصلاته.

فالحقّ یکون مع المشهور من لزوم إعادة کلا الصلاتین .

بل ویظهر من المحقّق الآملی قدس سره فی «مصباح الهدی»(1) إجراء أصالة تأخّر الحدث فی ناحیة الصلاة الأولی من دون معارض، مع أصالة تأخّر حدوث الحدث عن الوضوء الثانی.

بیان ذلک: إنّ إثبات أصالة تأخّر الحدث فی الأوّل له، أثر نافٍ للتکلیف، وهو کون الصلاة الأولی صحیحة، بخلاف الأصل الجاری فی تأخّر حدوث الحدث


1- مصباح الهدی: ج3 / ص511.

ص:454

فی الوضوء الثانی، حیث أنّه مثبت للتکلیف، ویوجب الحکم ببطلان الصلاة، ولا معارضة بین الأصل النافی والأصل المثبت، لأنّه یوجب انحلال العلم الإجمالی، نظیر النجاسة المتردّدة بین الإنائین، مع کون أحدهما مستصحب النجاسة، والآخر مستصحب الطهارة .

هذا، ولکنه رحمه الله قد التفت إلی الإیراد الذی یرد علی کلامه من أنّ إثبات هذا الأمر، إن اُرید به _ من جهة إجراء أصالة عدم تقدّم حدوث الحدث علی الصلاة الأولی _ إثبات تأخّر حدوثه، فهو مثبتٌ، وإن اُرید بإجراء الأصل فی أصل وصف التأخّر، فلیس له حالة سابقة متیقّنة، لأنّه لیس فی زمان کان الحدث موجوداً بعنوان کونه متأخّراً حتّی یشکّ الآن فیستصحبه. وإن اُرید بالأصل إجراءه فی أصل وجود الحدث، فلا مجال فیه للأصل، إلاّ بلحاظ حالته العدمیة، وهو لا یثبت التأخّر، لکونه مثبتاً کما عرفت .

مضافاً إلی أنّه لاحظ الأصل الجاری فی ناحیته بالنظر إلی الصلاة الأولی، وفی الثانی بالنظر إلی الوضوء الثانی، مع أنّک قد عرفت بأنّ الأثر مترتّبٌ علی أحد المبنیین، من الوضوء الأوّل مع صلاته، والوضوء الثانی مع صلاته .

ومن هنا ظهر فساد کلام الآملی قدس سره ، حیث أنّه بعد التفاته إلی هذا الإیراد فی أصالة تأخّر الحادث بما ذکره نفسه الشریفة، لجأ إلی أصالة عدم تقدّم الحدث علی الصلاة الأولی، فرتّب علیه أثر نفی التکلیف، وهو الإعادة، بخلاف أصالة عدم تقدّم الحدث علی الوضوء الثانی، حیث لم یکن أثره إلاّ إثبات التکلیف، وهو وجوب إعادة الصلاة، فیوجب ذلک انحلال العلم الإجمالی، کما قاله سابقاً .

و وجه الفساد، أوّلاً: هو ما عرفت من أنّه لابدّ أن یلاحظ الأصل ما بین حدوث الحدث بین الوضوء الأوّل مع صلاته، وبین الوضوء الثانی مع صلاته، إذ هما المترتّبان علی الأثر المثبت للتکلیف من دون انحلال .

ص:455

وثانیاً : أنّه جریان أصالة عدم تقدّم حدوث الحدث قبل الصلاة الأولی، یساوی مع عدم تقدّم حدوث الحدث علی الوضوء الثانی أیضاً، لوجود التلازم بینهما، ولا یحصل انفکاک بینهما هنا للقطع بعدم وقوع الحدث بین الصلاة الأولی والوضوء الثانی، إذ لا شکّ فیه حتّی یجری فیه الأصل ، والشکّ إنّما کان من حیث تقدّمه علی الصلاة الثانیة، وقد عرفت معارضته مع الأصل الجاری فی الطرف الأوّل من الوضوء والصلاة .

فثبت من جمیع ما ذکرنا، أنّ الحقّ کان مع المشهور، بل المجمع علیه، کما فی «الجواهر» من لزوم إعادة الصلاتین، علی القول بکفایة قصد القربة فی التجدیدی، أو کان قد قصد فیه الرفع أو الاستباحة وإن لم یکن تجدیدیّاً، کما یجب علیه تحصیل الوضوء للأعمال الآتیة.

هذا کلّه حکم الصلاتین من حیث أنفسهما فی المقام .

ثمّ علی القول بوجوب إعادتهما فی أنفسهما، هل یجب ذلک سواء کانتا متفقّتین فی العدد والکیفیّة _ کالظهرین _ أو متّفقتین فی العدد دون الکیفیّة _ کالعصر والعشاء _ أو مختلفتین فی کلیهما _ کالعصر والمغرب _ أم لا؟

أقول: لا إشکال فی وجوب إعادتهما بالتکرار، إذا کانتا مختلفتین بالعدد، کالصبح والمغرب، أو العصر والمغرب، أو المغرب والعشاء، لعدم إمکان تحصیل القطع بالفراغ عن شغل الذمّة إلاّ بذلک .

واحتمال عدم الالتفات إلی کلّ منهما، لأصالة الصحّة فیه، وکونه شکّاً بعد الفراغ ، ممّا لا ینبغی أن یعتنی به، لأنّه مخالف مع القطع بفساد إحداهما، ووجود شغل الذمّة بها.

کما لا یُعتنی بعدم فائدة الإتیان بهما، لعدم إمکان الجزم بالنسبة فیهما ، لأنّه من الواضح أنّ شرطیة الجزم بالنیّة متوقّفة علی صورة الإمکان لا مطلقاً، مع أنّ أدلّة

ص:456

الاحتیاط تکفی فی تأیید ذلک، کما هو واضح لا خفاء فیه .

وأمّا إذا کانتا متّفقتین بالعدد کالظهرین، فهل یجب التکرار مطلقاً_ سواء اختلفتا فی الکیفیّة من الجهر والإخفات _ أو لا یجب التکرار مطلقاً، أو یجب الفصل بین ما کانتا متّحدتین فی الکیفیّة _ لا یجب التکرار _ أو مختلفتین فیجب أم لا؟

وجوه وأقوال: فقد ذهب إلی الأوّل شیخ الطائفة، والقاضی والحلبی وابن إدریس وابن زهرة وابن سعید.

وإلی الثانی ذهب المشهور من المتقدّمین والمتأخّرین، حتّی السیّد فی «العروة»، وأکثر أصحاب التعالیق علیها .

وإلی الثالث ذهب المحقّق السیّد أحمد الخوانساری وقد احتاط فیه وجوبیّاً.

وذهب إلی القول الرابع من الإتیان بخصوصیة الکیفیّة فی الصلاة الثانیة، لاختصاص البطلان بها کما علیه المیلانی رحمه الله ، وهو جیّدٌ لولا مخالفة الإجماع، بل هو مقتضی فتوی الشیخ الأعظم والآملی ، إلاّ أنّه خارج عن مورد المسألة من لزوم إعادتهما، إلاّ أن یکون من باب الاحتیاط، فلابدّ أن یعتنی بالکیفیّة للصلاة الأخیرة کما لایخفی .

وکیف کان، فلابدّ أن یلاحظ أوّلاً حال القاعدة الأوّلیة، هل تقتضی هی الاکتفاء بالواحدة أیضاً، أم لابدّ من التکرار؟

ثمّ ملاحظة أنّه علی فرض کون الاکتفاء بالواحدة خلافاً للقاعدة، هل لنا دلیلٌ یدلّ علی الاکتفاء هنا، أو أنّ الدلیل وارد فی غیر هذا المقام؟

ثمّ یلاحظ حینئذٍ أنّه إذا کان وارداً فی غیر هذا المقام، هل یمکن التعدّی منه إلی ما نحن فیه أم لا ؟

فهاهنا ثلاث مقامات من البحث .

أمّا الکلام فی المقام الأوّل: لا إشکال بأنّ عنوان الظهر والعصر وغیرهما تعدّ

ص:457

من العناوین القصدیة، یعنی لو أتی برباعیّة من غیر أن یعیّنها فی نیّته فإنّه لا یقع شیء فی الخارج بعنوان الرباعیة، نظیر التعظیم الذی یتوقّف حصوله عرفاً فی الخارج علی قصد أنّ قیامه کان لأجل احترام زید لا مطلقاً.

فعلی هذا کما أنّ أصل تحقّق العنوان کان کذلک، کان حال تشخّص أفراده من العناوین المشترکة أیضاً کذلک، یعنی إذا کان فی ذمّته صلوات متعدّدة رباعیة من الظهر والعصر والعشاء فإنّه لا تحصل أحدهما فی الخارج إلاّ بنیّة الیقین للواحد المعیّن، کما هو مقتضی تحصیل العناوین القصدیة.

فحینئذٍ یأتی الکلام فی أنّه هل یکفی حصول ذلک بالقصد الإجمالی، أم لابدّ من القصد التفصیلی التعینی؟

الظاهر أنّ الثانی معتبر، لا بلحاظ اعتبار الجزم فی النیّة، فی امتثال الأمر فی العبادة، لما قد عرفت من أنّه شرط فی المتمکّن القادر دون غیره ، بل لأنّ الظاهر من اعتبار الامتثال، هو الإتیان بما لاحظه الجاعل فی مقام الجعل والتشریع ، ومن الواضح أنّ الشارع لم یجعل ذلک إلاّ بنحو التفصیل، فلابدّ للمکلّف المأمور من الإتیان به علی طبق ما جعله الشارع الآمر، حتّی یحصل له الیقین بالفراغ، وإلاّ لتولّد عنده شکّ فی الفعل، ویعدّ هذا الشکّ من قبیل المحصِّل والمحصَّل، والأصل یقتضی الاشتغال، فلازم ما ذکرنا هو أنّ مقتضی القاعدة عدم کفایة القصد الإجمالی فی العبادات بالإتیان بعنوان ما فی الذمّة، إلاّ أن یدلّ دلیلٌ علی جواز ذلک، وإن کان ذلک الدلیل دلیل الاحتیاط فی بعض الموارد، نظیر الصلاة فی الثوبین المشتبهین، أو أداء أربعة صلوات إلی القبلة المجهولة من الجوانب الأربعة، حیث یجهل حقیقة الواجب المتوجّه إلیه من هذه الصلوات حتّی یقصده بخصوصها .

نعم ، قد یقال : إنّه یکفی فی العناوین القصدیة، القصد التفصیلی التعلیقی لا الإجمالی، بأن یأتی بصلاة رباعیة، علی أنّ الواجب لو کان الظهر لحصل به، وإن

ص:458

کان العصر وقع بهذا الفرد وتحقّق فی الخارج، فالمقصود من القصد هو هذا، لا بأن یقصد عنوان ما فی الذمّة، القابل للانطباق علی کلّ واحد منهما، حیث أنّه لا یکون حقیقة الإجمال فی القصد، بل یکون فی المقصود، وإطلاق الإجمال بالقصد کان بلحاظ إجمال مقصوده .

هذا، بخلاف ما لو قصد الظهر تفصیلاً لو کان ما فی ذمّته ظهراً، أو قصد العصر لو کان ما فی ذمّته عصراً، نظیر الوجوب المعلّق فی الواجب المشروط قبل تحقّق شرطه فی الأحکام، وتحقّق الملکیة المنوطة بالموت وأمثال ذلک، حیث یکون القصد متعلّقاً بالشیء بالتفصیل، إلاّ إنّه معلّق علی ما لو کان فی ذمّته.

فظهر ممّا ذکرنا، أنّ القول بالاکتفاء بإتیان الفعل بقصد ما فی الذمّة یکون علی خلاف القاعدة، فیحتاج فی جواز الاکتفاء به فی الواجبات من دلیل یدلّ علیه .

وما تری من المناقشة من الآملی قدس سره فی «مصباح الهدی»(1) من عدم جریان القصد التفصیلی التعلیقی فیما نحن، فیه علی الوجه المؤثّر، لعدم تأثیر وجود المعلّق علیه واقعاً، بل لابدّ من تعلّق العلم به حتّی یکون مؤثّراً، وهو غیر موجود هنا .

یکون فی غیر محلّه، لأنّ العلم بوجوده فی الجملة یکفی فی تحقّق القصد التفصیلی التعلیقی، بأن یقصد وإن کان موجوداً، وهو یکفی وإن لم یکن العلم حاصلاً، کالملکیة المنوطة بالموت .

وکیف کان، فلا إشکال فی أنّ تجویز مثل هذا القصد، سواء کان بالإجمال أو بالتفصیل التعلیقی بحاجة إلی ورود دلیل من ناحیة الشارع .

وأمّا المقام الثانی: ملاحظة الأدلّة الواردة فی المقام، وملاحظة مدی دلالتها علی المطلوب.


1- مصباح الهدی: ج3 / ص515.

ص:459

والذی وصلنا من ذلک مرسلة علی بن أسباط عن الصادق علیه السلام ، فی الناسی الذی قد نسی صلاةً من صلواته الیومیة، ولم یدر أی صلاة هی؟

فأجابه علیه السلام بقوله: «صلّی رکعتین وثلاثاً وأربعاً»(1) .

وفی مرفوعة الحسین بن سعید، عن الصادق علیه السلام : «عن رجل نسی صلاة من الصلوات، لا یدری أیّتها هی؟ قال : یصلّی ثلاثة وأربعة ورکعتین، فإن کانت الظهر أو العصر أو العشاء، کان قد صلّی أربعاً، وإن کانت المغرب أو الغداة فقد صلّی»(2) .

فیظهر من هاتین الروایتین أصل إمکان الإتیان بما فی الذمّة، ولو بصورة القصد التفصیلی، حیث تری أنّ فریضة الظهر والعصر والعشاء برغم الاختلاف بینها فی الکیفیّة من حیث الجهر والإخفات، فقد حکم علیه السلام حکم بکفایة صلاة واحدة رباعیة عمّا هی موجودة فی الذمّة، فضلاً عمّا کانت الکیفیّة متّحدة کالظهرین.

وإرسال الحدیث ورفعه منجبرٌ بالشهرة الواقعة بین الأصحاب، خصوصاً بین المتأخّرین، وإن لم تکن شهرتهم کشهرة المتقدّمین جابرة للسند .

وأمّا البحث عن المقام الثالث: وهو أنّه هل یمکن التعدّی عن مورده _ وهو النسیان _ إلی غیره کما فیما نحن فیه، حیث یکون من جهة الجهل بالإخلال بإحدی الصلاتین فی أطراف العلم الإجمالی _ کما علیه کثیر من الفقهاء _ أم لا _ کما عن الشیخ الأنصاری قدس سره ، تبعاً لشیخ الطائفة، ومن تبعه ممّن مرّت أسمائهم فی صدر المسألة ؟

القائلون بالجواز تمسّکوا بتنقیح المناط للتجاوز عن مورده _ وهو النسیان _ إلی غیره ، ولکن الشیخ الأنصاری قدس سره أشکل علیه فی «کتاب الطهارة»(3) بقوله : «وفیه إشکال، حتّی أنّ الحلّی لم یعمل بالروایة فی المسافر الناسی لإحدی


1- وسائل الشیعة: من أبواب قضاء الصلوات، الباب 11 ، الحدیث 1 و2.
2- وسائل الشیعة: من أبواب قضاء الصلوات، الباب 11 ، الحدیث 1 و2.
3- کتاب الطهارة: ص161.

ص:460

صلاته الخمس، اقتصاراً علی مورد النصّ، وذیل روایة البرقی وإن کان یظهر منه مناط الحکم، إلاّ أنّ دلالته علی التعلیل حتی یتعدّی لأجله عن مورده لا یخلو عن قصور، لاحتمال کونه تقریباً للحکم فی هذا المورد لا تعلیلاً حقیقیّاً، أو بیاناً لحکم الشارع بالاکتفاء بالتثلیث علی کلّ تقدیر» إلی آخر کلامه .

ولکن الإنصاف أنّ العرف کما یفهم عدم وجود خصوصیّة فی کون محلّ النسیان هو إحدی الصلوات الخمس _ کما هو کذلک فی الروایتین بحیث لو کان التردّد فی مورد النسیان اثنتان أم ثلاثة لم یحکم بذلک فیه _ هکذا لا یفهم الخصوصیة من جهة خصوص النسیان أیضاً ، مع أنّه لم یکن إلاّ بملاک الجهل بما هو المتروک، فهکذا یکون فیما نحن فیه، إذ المتروک نتیجةً لوجود الخلل فی شرطها مجهول، فیکون الملاک والمناط بینهما مشترکاً، فیجوز التعدّی إلی حال المسافر والحاضر الناسی، کما یجوز التعدّی إلی غیر حال النسیان، ولأجل ذلک حکم الأصحاب بالتخییر فی الجهر والإخفات، إذا أراد الإتیان بواحدة متردّدة بین المختلفتین من حیث الکیفیّة .

لو صلّی الخمس بخمس طهارات ثمّ علم بالحدث عقیب إحدیها

ولکن بما أنّ الحکم یکون علی خلاف القاعدة، وکانت الروایتان ضعیفتان سنداً ولیس فی المقام ما یفید انجبار الشهرة به عند المتأخّرین کالمتقدّمین، کان الاحتیاط بالتکرار هنا حسناً غایة الحسن، لو لم نقل بوجوبه، خصوصاً فیما إذا کان الاختلاف فی الکیفیّة، کما نقل ذلک عن الخوانساری قدس سره فی «حاشیته علی العروة» . ومن هنا ظهر أنّ التکرار کان مرخصاً فیه، علی القول بالاکتفاء بالواحدة لا غیرها ، لوضوح أنّ الحکم بخلافه کان من جهة التسهیل للعباد من ناحیة الشارع المقدّس، کما لا یخفی .

وممّا ذکرنا من الأحکام فی التکرار وعدمه، ظهر حکم الفرع الآتی المذکور فی کلام المصنّف.

ص:461

ولو صلّی الخمس بخمس طهارات، وتیقّن أنّه أحدث عقیب إحدی الطهارات، أعاد ثلاث فرائض؛ ثلاثاً واثنین وأربعاً، وقیل: یعید خمساً، والأوّل أشبه (1).

(1) قد عرفت الحکمین من الطرفین، والقائلین بهما، وکیفیة استدلالهما، کما یظهر من ذلک حکم ما لو کانت الطهارة المعلومة التی أخلّ بها فی اثنتین من الصلوات، حیث أنّه علی القول بالاکتفاء، لابدّ أن یتکرّر کلّ واحدة من الصلوات الثنائیة والثلاثیة والرباعیة لمرّتین، تحصیلاً للطهارتین المفقودتین فی اثنتین منها . وإن کان مسافراً یکون هکذا، فلابدّ من التکرار فی کلّ من الصلوات الثنائیة والثلاثیة لمرّتین.

هذا إن قلنا بالاکتفاء ولم نقل بوجوب الترتیب بین الصلوات المتروکة.

وأمّا إن لم نقل بالاکتفاء، فمعلوم أنّه لابدّ من التکرار فی کلّ واحد منها، بمقدار ما یقطع حصول الطهارة فی کلّ واحد بخصوصه، وهو لا یحصل إلاّ بالتکرار لکلّ صلاة مستقلّة .

کما أنّه لو قلنا بوجوب مراعاة الترتیب بین الصلوات، أو لزوم تعیین إحدی الصلوات، فلابدّ فی الإتیان بعدها ما یحصل بذلک الترتیب، کما لو عیّن صلاة الظهر، وقلنا بوجوب الترتیب، فلابدّ أن یأتی بعدها بالعصر، ثمّ المغرب، ثمّ العشاء مراعاةً للترتیب .

کما أنّه لو کانت الطهارة مفقودة فی اثنتین منها، فلابدّ أن یکرّر الثلاثیّة لمرّتین ثمّ یأتی بعدها العشاء من الرباعیة، إن کان حاضراً، أو ثنائیة إن کان مسافراً .

ویجوز له أن یعیّن بعض الأفراد ویطلق النیّة فی بعض آخر، إذا قلنا بالرخصة کما عرفت .

وللعلاّمة فی «القواعد» هنا عبارة مفصّلة، ذکرها صاحب «الجواهر» وغیره ،

ص:462

ولا حاجة لإیرادها برغم أنّه قیل إنّها تعدّ من العبارات المعضلة، حتّی قد صنّف بعضهم فی توضیحها رسالة، ولا یهمّنا ذکرها لأنّها لیست إلاّ احتمالات ناشئة من جهة بیان الإطلاق فی النیّة والتعیین فی بعض دون بعض، فعلیک بالمراجعة .

ثمّ اعلم أنّ الاختلاف الذی یقع بین الصلاتین اللّتین یعلم وقوع حدث بعد أحد الوضوءین الواقع بعدها متفاوتٌ، إذ قد یکون الاختلاف تارةً: من حیث العدد فقط دون غیره .

واُخری: قد یکون من حیث الکیفیّة، من الجهر والإخفات .

وثالثة: من حیث الأداء والقضاء .

وقد لا تکونان مختلفتین من هذه النواحی.

وقد مضی البحث فی الاختلاف فی غیر الأخیر منها وعدمه، تفصیلاً ، فالآن نتکلّم فیما لو قلنا بعدم وجوب الإعادة من سائر الجهات، فهل یوجب الاختلاف من تلک الناحیة _ أداءً وقضاءً_ تفاوتاً فی إعادتهما أو إعادة واحدة منهما أم لا یکون هذا مؤثّراً، إلاّ إذا کان الاختلاف من سائر الجهات الماضیة التی قد عرفت حکمها ؟

وربّما یقال: بالفرق بین المختلفتین: تارةً : بدعوی وجوب إعادة القضائیة من الصلوات دون الأدائیة التی صارت قضاءً، کما لو توضّأ وصلّی بعد وضوئه صلاة القضاء، ثمّ توضّأ وصلّی بعده صلاة الأداء، ثمّ بعد خروج وقت الأداء علم بحدوث حدثٍ مردّد بین کونه بعد الوضوء الأوّل وقبل الصلاة الواقعة بعده، أو کونه بعد الوضوء الثانی وقبل صلاته ؟ فقد حکموا فی هذه الصورة بعدم القضاء مستدلّین علی وجوب إعادة الأولی باستصحاب وجوب القضاء، الذی کان علیه قبل الإتیان بهذه التی شکّ فیها، بخلاف الثانیة، لحیلولة الوقت بینها وبین الصلاة، أی صار الشکّ بعد الوقت، فلا اعتبار به .

لو توضّأ وضوئین و صلّی بعد کلّ منهما نافلة ثمّ علم بالحدث عقیب أحدهما

لکنّه فاسدٌ، لأنّ الشکّ بعد الوقت لو کان جاریاً، کان الشکّ فی أصل وجود الصلاة لا فی صحّتها وفسادها کما هنا، بل الجاری فی هذا الفرض هو قاعدة

ص:463

الفراغ، بلا فرق فی جریانها بین کون الشکّ فی الوقت أو خارجه .

نعم لو جرت قاعدة حیلولة الوقت حتّی فی الشکّ فی الصحّة، لکانت فائدتها هنا هی أنّه بمقتضی جریان قاعدة الفراغ فی کلا الطرفین، وسقوطهما بالمعارضة، لا مجال للرجوع إلی قاعدة الاشتغال بالنسبة إلی هذه الصلاة، بل لابدّ من الرجوع إلی قاعدة الحیلولة المختصّة هنا دون طرفه الآخر، فیوجب انحلال العلم الإجمالی بالتنجّز، بواسطة جریان قاعدة الاشتغال والاستصحاب فی الجهة الاُخری، ولازم جریان قاعدة الحیلولة المستلزمة لعدم التنجّز هنا، هو الحکم بالإعادة فی القضاء، دون ما صار قضاءاً .

فالمسألة علی ثبوت کیفیّة قاعدة الحیلولة، حیث ادّعی بأنّها مختصّة بالشکّ فی الوضوء فقط، کما عرفت فیجب الإعادة حینئذٍ لکلتا الصلاتین .

کما ربّما یقال: بالتفصیل فی وجوب الإعادة فی الأداء دون القضاء، بدعوی أنّ الأولی حیث کان الوقت باقیاً، فیستصحب وجوب الامتثال للأمر المشکوک سقوطه، بخلاف القضاء حیث یکون بأمر جدید، فالشکّ فیه یرجع إلی البراءة، لأنّه شکّ فی أصل التکلیف .

لکنّه مخدوش أیضاً: بأنّ الأصل فیه هو استصحاب بقاء التکلیف، للشکّ فی سقوط الأمر الأوّل بإتیان هذا الفرد، لأنّ مقتضی أصالة عدم الإتیان، الذی قد عرفت أنّه یوجب ثبوت موضوع الفوت، فیتحقّق موضوع حکم وجوب القضاء.

ولا یعدّ هذا الحکم مثبتاً کما عرفت، فلیس لنا هنا قاعدة إلاّ قاعدة الفراغ، وهی جاریة فی کلا الطرفین، ویتساقطان، فیجب حینئذٍ الرجوع إلی قاعدة الاشتغال، فیؤثر العلم الإجمالی أثره، فیجب الاحتیاط بإعادتهما، ولذلک قیل إنّه لا فرق فی وجوب إعادتهما بین کونهما مختلفتین فی الأداء والقضاء أم متّفقتین ، واللّه العالم بحقائق الاُمور .

الثالث من الفروع الفقهیّة: ما إذا صلّی بعد کلّ وضوء من الوضوئین صلاة

ص:464

النافلة ثمّ علم بحدوث حدث بعد أحدهما ؟

الظاهر أنّ حال هذه المسألة حال مسألة الواجبین من جریان قاعدة الفراغ وتساقطها بالمعارضة، والحکم علی طبق مقتضی العلم الإجمالی، فیحکم باستحباب إعادتهما. وهذا الحکم ثابت أیضاً بمقتضی القول بعدم جریان قاعدة الفراغ فی المستحبّات، کما هو مختار بعض الفقهاء کالحکیم قدس سره والمحقّق الهمدانی وغیرهما .

نعم، یختلف الحکم إذا فرض کون إحدی الصلاتین فریضة، والاُخری نافلة، حیث أنّه یتفاوت الحکم باختلاف المبنی، لأنّه إن قلنا بجریانها فی المستحبّ، فیوجب التعارض، ویفید وجوب إعادة الفریضة، واستحبابها فی النافلة کما هو المختار . وأمّا إن لم نقل بجریانها، فلازمه عدم وجوب إعادة صلاة الفریضة لقاعدة الفراغ، واستحباب إعادتها فی النافلة .

فی تعریف الغسل و أقسامه

***

والحمد للّه أوّلاً وآخراً وظاهراً وباطناً . هذا آخر ما وفّقنا لتحریره والتعلیق علیه من الأبحاث المتعلّقة بباب الوضوء الذی یعدّ من أهمّ أبواب کتاب الطهارة ویترتّب علیه أغلب مسائل بابی الأغسال والتیمّم، وأرجو من اللّه تبارک وتعالی أن یوفّقنی لإکمال هذه الأبحاث، والإجادة فیها، إنّه سمیعٌ مجیب.

وقد فرغنا منه یوم الأحد الحادی عشر من شهر شعبان المعظّم، سنة ألف وأربعمائة وتسعة من الهجرة النبویّة الشریفة، علی مهاجرها آلاف التحیة والثناء ، الموافق للیوم الثامن والعشرون من شهر اسفند عام ألف وثلاثمائة وسبع وستّین هجریة شمسیة.

وکان تحریره بید أقلّ العباد السیّد محمّد ابن المرحوم آیة اللّه السیّد سجّاد العلویّ رحمه الله ، حشرنی اللّه وإیّاه مع محمّد وآل بیته الطیّبین الأطهار فی درجات النعیم، فی مقعد صدقٍ عند ملیکٍ مقتدر، آمین ربّ العالمین.

ص:465

الغُسل

وأمّا الغسل، ففیه: الواجب، والمندوب .

فالواجب ستّة أغسال : غُسل الجنابة، والحیض، والاستحاضة التی تثقب الکرسف، والنفاس و مسّ الأموات من الناس قبل تغسیلهم و بعد بردهم، و غُسل الأموات (1).

(1) «الغُسل» بضمّ العین، اسم مصدر للغَسل _ بالفتح _ الذی هو المصدر، ومعنی الاسم المصدر هو الحدث بما هو مقطوع النسبة عن فاعله، بحیث لا یری ولا یلاحظ فیه الانتساب إلی الفاعل، خلافاً للمصدر حیث أنّه الحدث مع کونه ملحوظاً فیه نسبته إلی الفاعل، هذا بحسب اللغة .

وأمّا بالنظر إلی اصطلاح الشرع، فهو منقول فی عرف الشارع أو المتشرّعة _ کما هو الأظهر _ إلی أفعال خاصّة، بشرائط مخصوصة، والمنقول إلیه إمّا هو الصحیح منها أو الأعمّ منه ومن الفاسد، علی حسب الاختلاف الموجود عند الأصولیّین فیه وفی غیره.

فی معنی الجنابة لغة و عرفاً

لکن علی فرض کونه للأعمّ، فإنّه لیس المراد من الفاسد مطلق الفساد، بل ما لا یخرج ولا ینتفی عرفاً عن اسم ذلک الشیء، بلا فرق فی کون منشأ الفساد هو الاجزاء أو الشرائط أم لا، وتحقیق البحث فی ذلک موکول إلی محلّه .

وأمّا تقسیم الغُسل إلی قسمین من الوجوب والندب، فهو ممّا لا خلاف فیه بین المسلمین من الخاصّة والعامّة ، کما أنّ الواجب منه ستّة أفراد کما نصّ علیه المصنّف، وهذا ممّا لا خلاف فیه إلاّ من المرتضی قدس سره فی غُسل المسّ، حیث ذهب إلی القول باستحبابه، وستعرف ضعفه إن شاء اللّه.

ص:466

وبیان ذلک فی خمسة فصول :

الأوّل: فی الجنابة، والنظر فی السبب والحکم والغُسل .

أمّا سبب الجنابة: فأمران:

الإنزال، إذا علم أنّ الخارج منی (1).

والدلیل علی وجوب الستّة _ مضافاً إلی وجود الآیة الدالّة علی وجوب غُسل الجنابة والحیض علی بعض الوجوه _ هو وجود الإجماع محصّلاً ومنقولاً، بل الأخبار التی کادت أن تکون متواترة، بل فی «الجواهر»: «لعلّ وجوبها فی غیر غُسل الاستحاضة یعدّ من الضروریّات» .

ویظهر من کلام المصنّف أنّ الواجب لا یزید عن الستّة، کما هو کذلک علی الأصحّ، خلافاً لسلاّر فی «المراسم» حیث زاد غُسل مَنْ ترک الصلاة متعمّداً فی الکسوف، إذا انکشف القرض کلّه، وهو قولٌ ضعیفٌ _ کما سیأتی _ کضعف من ذهب إلی وجوب الغُسل لمن سعی إلی رؤیة المصلوب عامداً بعد ثلاثة أیّام، وغیر ذلک کما سیأتی البحث عنه فی محلّه .

(1) وقد ذکر المصنّف بیان الأغسال الواجبة فی خمسة فصول، جَعل لکلّ واحد منها فصل، إلاّ غُسل مسّ المیّت، ولعلّ ترکه کان لأجل قلّة مباحثه، لورود أکثرها فی تضاعیف المباحث السابقة علیه .

غُسل الجنابة:

الجنابة فی اللغة _ بفتح الجیم _ البُعد، وقد یطلق علی المنی _ کما عن «القاموس» _ . وفی العرف الخاص، هی البعد الخاص، لکن اُرید منه هنا هو سبب البُعد، وهو ما یوجب الجنابة.

فی سبب الجنابة / خروج المنی

ص:467

کما أنّ المراد من رفعها رفع أثرها، إذ هی إذا حصلت لا ترتفع إلاّ برافع، ولعلّ المراد من البُعد هنا هو البُعد عن أحکام الطاهرین _ کما فی «الجواهر» _ أو البعد عمّا یمکن أن یتقرّب به إلی اللّه من الصلاة والطواف، والدخول فی الأماکن المتبرّکة، والمشاهد المشرّفة، حیث لا یجوز للجُنب الدخول أو المکث فی تلک الأماکن. وقد ثبت فی مباحث الاُصول النقل من المعنی اللغوی إلی المعنی الخاصّ فی عرف المتشرّعة، لمثل هذه العناوین.

ثمّ إنّ السبب فی حصولها أمران، وهما: الإنزال والجماع .

ففی الأوّل: قد ادّعی فیه نفی الخلاف _ کما فی «الجواهر» _ بل حکی الإجماع عن جماعة حکایة تقرب إلی التواتر کالنیّة، بلا فرق فی کونه سبباً بین مقارنة الخروج للشهوة والدفق والفتور وعدمها، ولا بین الرجل والمرأة، کما قد صرّح بهذا الإطلاق جماعة حاکمین علیه الإجماع .

بل قد یظهر من بعض دعوی إجماع المسلمین علی إطلاق الأخیر، ولم ینقل خلافٌ إلاّ عن أبی حنیفة، من اعتبار ممارسة الشهوة والتلذّذ فی وجوب الغُسل، وهو ضعیف جدّاً کما سیأتی .

وما یترائی من ظاهر کلام الصدوق فی «المقنع»، حیث قال: «إذا احتلمت المرأة فأنزلت، فلیس علیها غُسل، وروی أنّ علیها غسل إذا أنزلت» .

لعلّه أراد بیان أنّ احتلام المرأة یتحقّق من دون إنزال، أو أنّها إذا علمت أنّ النازل منیٌ لا یوجب الحکم بجنابتها، کما سیأتی فی بعض الأخبار إن شاء اللّه.

کما أنّ مَنْ جعل من أسباب الجنابة وجود الماء الدافق _ کما فی «المقنعة» و«المبسوط»، وکما عن أبی الصلاح، و«المراسم» و«الوسیلة» و«جمل» السیّد _ محمولٌ علی الغالب، لا بأن یکون مأخوذاً فی مفهومها .

وبذلک یحمل بعض ما یوهم الاعتبار فی جنابة المرأة بخروج المنی عن شهوة

ص:468

من الأخبار، مثل ما فی خبر إسماعیل بن سعد الأشعری، عن الرضا علیه السلام : «قال : إذا أنزلت عن شهوة فعلیها الغسل»(1) .

وحدیث محمّد بن الفضیل، عن أبی الحسن علیه السلام : «قال : إذا جاءتها الشهوة فأنزلت الماء، وجب علیها الغسل»(2) .

حیث یمکن أن یکون المراد من الإنزال، هو الإنزال إلی داخل الرحم بواسطة الشهوة، أو حصول الدخول والإنزال إلی خارج الجسد، لو علمت کونه منیّاً، ویکون تمییز ذلک عن المذی، هو خروجه بالشهوة دون غیره، حیث یخرج بالملاعبة، ولو کان دون الشهوة.

بل قد یظهر من بعض الأخبار أنّ الخارج من المرأة بالملاعبة من دون الدخول، لیس بمنیّ یوجب الغسل، وقد التبس الأمر علی السائلین حیث یطلقون علیه المنی بالنسبة إلی النساء، مع أنّه ماء المذی والملاعبة، فلیس علیها غسل لأجل ذلک، کما یومئ إلیه .

ما فی روایة عمر بن یزید، قال : «قلت لأبی عبداللّه علیه السلام : الرجل یضع ذکره علی فرج المرأة فیمنی ، علیها غسل؟ فقال : إن أصابها من الماء شیء فلتغسله، فلیس علیها شیء إلاّ أن یدخله . قلت : فإن أمنت هی ولم یدخله؟ قال : لیس علیها الغسل»(3) .

فإنّ قول السائل: «فإن أمنت هی» توهّمٌ منه کون الماء منیّاً، کما ربّما یکون کذلک فی الرجل، فأراد الإمام علیه السلام إفهامه أنّه لیس الأمر کذلک، بل مایوجب الغسل علیها غالباً هو الدخول، کما یؤیّد ذلک بل یدلّ علیه خبر محمّد بن مسلم


1- وسائل الشیعة: من أبواب الجنابة، الباب 7 ، الحدیث 2 _ 4 .
2- وسائل الشیعة: من أبواب الجنابة، الباب 7 ، الحدیث 2 _ 4 .
3- وسائل الشیعة: من أبواب الجنابة، الباب 7 ، الحدیث 18 .

ص:469

ما فی الصحیح، فی «قرب الاسناد» عن أبی جعفر علیه السلام قال : «قلت له : کیف جُعل علی المرأة إذا رأت فی النوم أنّ الرجل یجامعها فی فرجها الغُسل، ولم یجعل علیها الغسل إذا جامعها دون الفرج فی الیقظة فأمنت؟ قال : لأنّها رأت فی منامها أنّ الرجل یجامعها فی فرجها، فوجب علیها الغسل، والآخر إنّما جامعها دون الفرج، فلم یجب علیها الغسل، لأنّه لم یدخله، ولو کان أدخله فی الیقظة، وجب علیها الغسل أمنت أو لم تمن»(1) .

وجه التأیید أو الدلالة: أنّ الراوی قد أطلق لفظ «المنی» علی ما یخرج منها، فأجابه الإمام علیه السلام علی مذاقه فی آخر کلامه علیه السلام ، وأفهم السائل أنّ الملاک فی جنابة المرأة، لیس إلاّ الدخول، سواء کان فی الیقظة أو فی المنام ، إذ لیس المراد من أنّه رأت فی المنام هی الرؤیا العادیة ، بل المقصود أنّها التفت _ إذا کانت نائمة _ بأنّ الرجل یجامها بالدخول فی فرجها، ولا فرق فی حصول الجنابة لها بین أن تکون متیقظّة فی حال الجماع، أو لم تکن متیقّظة، بل انتبهت بعد ذلک بوقوع الجماع .

کما أنّ الدخول هو المحقّق للجنابة، سواء خرج منها الماء أم لا .

فهذا لا ینافی تحقّق الجنابة للمرأة بلا دخول، لو علمت وتیقّنت أنّ الخارج منها هو المنی، لکن حصول العلم بذلک لها مشکل .

فبما ذکرنا ینحلّ الإشکال، عن کلّ ما یشتمل علی ما یوهم خلاف ذلک، مثل حدیث عمر بن یزید، قال : «اغتسلتُ یوم الجمعة بالمدینة، ولبست ثیابی، وتطیّبت فمرّت بی وصیفة لی ففخّذت لها فأمذیت أنا وأمنت هی، فدخلنی من ذاک ضیقٌ، فسألت أبا عبداللّه علیه السلام عن ذلک .


1- وسائل الشیعة: من أبواب الجنابة، الباب 7 ، الحدیث 18 .

ص:470

فقال علیه السلام : لیس علیک وضوء ولا علیها غسل»(1) .

وصحیح عمر بن اُذینة، قال : «قلت لأبی عبداللّه علیه السلام : المرأة تحتلم فی المنام فتهریق الماء الأعظم؟ قال : لیس علیها غسل»(2) .

ولعلّ وجه إطلاق الأعظم علیه، کان لأجل کثرة الماء الذی یخرج من النساء بالنسبة إلی المذی الخارج، من الرجال وإلاّ لیس هو بمنی، کما کان کذلک بالنسبة إلی الرجال، فقد جعل بعضهم هذا التعبیر دلیلاً وإشارة إلی کون الماء منیّاً دون المذی والودی وغیرهما ، فحُکْم الإمام علیه السلام بعدم وجوب الغُسل علیها، یکون علی مقتضی القاعدة ، کما أنّه یطابق ما هو المشهور والمعروف بأنّ ماء المرأة ومنیّها یتحرّک ویدخل فی الرحم، لا إلی خارج الجسد .

وعلی ما ذکرنا، لا نحتاج إلی حمل تلک الأخبار علی التقیّة، کما حملها صاحب «الوسائل» ، برغم منافاته مع دعوی المصنّف فی «المعتبر»، والعلاّمة فی «المنتهی» علی إجماع المسلمین علی وجوب الغُسل علی المرأة إذا خرجت منها المنی.

کما لانحتاج إلی ما صار إلیه صاحب «الجواهر» من جعل التعلیل فی حدیث محمّد بن مسلم مجازیاً، وأنّ الإمام قصد بذلک الاستدلال الظاهری الاقناعی فی حدیث عبید بن زرارة من قوله: «قال : قلت له : هل علی المرأة غسل من جنابتها إذا لم یأتها الرجل؟ «قال : لا، وأیّکم یرضی أن یری أو یصبر علی ذلک أن یری ابنته أو اُخته أو اُمّه أو زوجته أو أحداً من قرابته قائمة تغتسل، فیقول مالک؟ فتقول : احتملتُ ولیس لها بعل ؟! ثمّ قال : لا، لیس علیهنّ ذلک، وقد وضع اللّه


1- وسائل الشیعة: من أبواب الجنابة، الباب 7 ، الحدیث 20 _ 21 .
2- وسائل الشیعة: من أبواب الجنابة، الباب 7 ، الحدیث 20 _ 21 .

ص:471

ذلک علیکم «وإنْ کُنْتُم جُنُباً فاطهّروا» ولم یقل ذلک لهنّ»(1) کما قد صرّح بذلک _ کما فی «الجواهر» _ صاحب «مصباح الفقیه» ، بل جعل التمسّک بالآیة قوله علیه السلام : أیّکم یرضی... إلی آخره» تمسّکاً بما یتمسّک به مذاق من یعمل بالاستحسانات فی معرفة الأحکام الشرعیة التعبّدیة.

ولکن قد عرفت أنّ حملها علی ما ذکرنا کان أولی من طرحها، من جهة إعراض الأصحاب، خصوصاً بملاحظة ما فی بعض الروایات من قوله علیه السلام : «ما سمعت منّی یشبه قول الناس ففیه التقیّة، وما سمعته منّی لا یشبه قول الناس فلا تقیّة فیه» .

فما استدلّ به فی «المصباح» لا یمکن الموافقة معه لأنّه خلاف رأی الأصحاب والإجماع، فلا یحمل الأخبار علی التقیة، لعدم العلم بصدورها موافقاً للعامّة، حتی تحمل علی التقیّة، کما لا یخفی .

مضافاً إلی أنّ وجود المخالف فی هذه المسألة للعامّة غیر معلوم، ولذلک تشبّث صاحب «الجواهر» لتصحیح حملها علی التقیّة بما قاله بعض المتأخّرین، من عدم اشتراط وجود المخالف فی ذلک، بل یکفی احتمال وجوده، واستدلّ علی ذلک بأنّه کانت مذاهبهم فی زمن الأئمّة علیهم السلام منتشرة ومتعدّدة ولم تنحصر مذاهبهم بالأربعة إلاّ فی القرن السادس کما قیل ، انتهی کلامه .

ولکن التشبّث بمثل ذلک، والتکلّف بمثله لإثبات التقیة مشکل جدّاً، ولا حاجة إلی مثل ذلک.

وحیث أنّ صاحب «الوسائل» والکلینی حملوا هذه الأخبار علی التقیة، وجعلوا هذا الوجه تأییداً لإخفاء هذا الحکم عن النساء، کی لایتّخذنه علّة، کما


1- وسائل الشیعة: من أبواب الجنابة، الباب 7 ، الحدیث 22 .

ص:472

أشارت إلیه بعض الأخبار الدالّة علی وجوب الغُسل علیهنّ، کما فی صحیحة أدیم بن الحرّ، قال : «سألت أبا عبداللّه علیه السلام عن المرأة تری فی منامها ما یری الرجل علیها غسل؟ قال : نعم، ولا تحدّثوهنّ فیتّخذونه علّة»(1) .

حیث قال صاحب «الوسائل» فی جملة کلام منه : «والحکمة فی إطلاق الألفاظ المؤولة هنا، إرادة إخفاء هذا الحکم عن النساء، إذا لم یسألن عنه، ولم یعلم احتیاجهنّ إلیه، لئلاّ یتّخذنه علّة للخروج، وطریقاً لتسهیل الغُسل من زنا ونحوه، أو یقعن فی الفکر والوسواس فیرین ذلک فی النوم کثیراً، ویکون داعیاً إلی الفساد، أو تقع الریبة والتهمة لهنّ من الرجال، کما یفهم من التصریحات السابقة، وبعض هذه الأحادیث یحتمل الحمل علی الإنکار دون الإخبار، واللّه أعلم» انتهی کلامه(2) .

ولکن قد عرفت أنّ ما ذکرناه فی وجه الاستعمال من التلفّظ بالمنی وغیره، کان بواسطة شدّة المناسبة لحال الرجال، ولکنّها غیر مشمولة لدلیل وجوب الغُسل، والحمل علی التقیّة فی ذلک العصر فی هذه المسألة لا یخلو عن تأمّل، کما لایخفی .

ثمّ لایخفی علیک، بأنّ الجنابة لا تتحقّق إلاّ بخروج المنی عن البدن، فلو تحرّک عن محلّه ولم یخرج منه، لا یوجب الجنابة، وذلک لأنّ وجوب الغسل فی لسان النصوص والفتاوی معلّقٌ علی الإنزال، الذی هو عبارة عن خروجه عن الباطن إلی ظاهر الجسد، بل وفی بعض العبارات _ بل وکثیر منها _ أنّه ممّا لا ریب فیه، فلاینبغی البحث عنه .


1- وسائل الشیعة: من أبواب الجنابة، الباب 7 ، الحدیث 12 .
2- وسائل الشیعة: ج1 / 476 .

ص:473

نعم، والذی ینبغی أن یبحث فیه هو أنّه ما المعیار فی الخروج الموجب للجنابة _ بعد معرفة أنّه لا إشکال فی تحقّق الجنابة بالخروج عن موضع المعتاد _ ؟

فلو خرج عن غیره، ففی کونه موجباً لها مطلقاً أو لا مطلقاً ، أو أنّه کذلک إذا صار غیر المتعارف عادیاً ، أو یفرّق فیما یخرج عن غیر الموضع الطبیعی، بین ما یخرج من ثقبة فی الإحلیل أو الخصیتین أو الصلب، فلا اعتبار به، وبین ما یخرج من غیر هذه الثلاثة فیعتبر فیه، وهو کما عن المحقّق الثانی .

أو یفصّل بین ما یخرج عمّا دون الصلب مطلقاً ولو إذا خرج من غیر المواضع الثلاثة المذکورة آنفاً فلا یعتبر فی تحقّقها الاعتیاد، وبین ما یخرج عن فوق الصلب فیعتبر فیه _ وجوهٌ وأقوال : أقواها الأوّل، کما هو ظاهر إطلاق المصنّف هنا، و«المنتهی» و«التذکرة» و«نهایة الأحکام»، بل هو مختار صاحب «الجواهر» و«مصباح الفقیه» و«مصباح الهدی»، بل وإطلاق کلام السیّد فی «العروة» وأکثر أصحاب التعالیق.

والدلیل علی ذلک لیس إلاّ إطلاقات الأدلّة الدالّة علی وجوب الغُسل، لخروج هذا الماء الأعظم، مثل إطلاق النبوی المروی عن أهل السنّة، کما فی «کنز العمّال» قال صلی الله علیه و آله : «إنّما الماء من الماء»(1) .

وإطلاق بعض أحادیثنا، مثل ما فی خبر الحسین بن أبی العلاء، عن الصادق علیه السلام فی حدیثٍ، قال : «کان علیّ علیه السلام یقول : إنّما الغُسل من الماء الأکبر»(2).

ومثله حدیث عنبسة بن مصعب(3) .

ولا ینافی ذلک وجوب الغسل لخصوص الماء الأعظم دون التقاء الختانین،


1- کنز العمّال ج5 ص90 الرقم 1917 .
2- وسائل الشیعة: من أبواب الجنابة، الباب 9 ، الحدیث 1 _ 2 .
3- وسائل الشیعة: من أبواب الجنابة، الباب 9 ، الحدیث 1 _ 2 .

ص:474

لإمکان أن یکون الحصر إضافیّاً حقیقیّاً، وتفصیل الکلام موکول إلی محلّه .

فإناطة الحکم بخروجه من دون تقیید یدلّ علی المطلوب .

واحتمال انصراف الإطلاقات إلی المتعارف المعتاد ، ففی الشکّ فی غیره یرجع إلی أصل البراءة، بعد عدم شمول الإطلاق لأجل هذا الانصراف .

مدفوع بأنّ هذا الانصراف بدوی لا یضرّ بالإطلاق، لأنّه مستند إلی کثرة الوجوب وقلّة غیره، نظیر انصراف إطلاق الماء عن ماء الزاج والکبریت، والانصراف الذی یضرّ بالإطلاق إنّما هو الانصراف الناشئ عن التفاوت فی صدق المفهوم الناشئ عن التشکیک فیه، لا عن ندرة الوجود بالنسبة إلی غیره، مع فرض التساوی فی الصدق، کما فی المقام، فبذلک ظهر ضعف دلیل وجه الثالث وقوله، کما لایخفی .

کما ظهر ضعف قول الثانی، حیث حکم بعدم الجنابة مطلقاً، إذا لم یخرج عن الموضع المعتاد المتعارف، إذ لیس له وجهٌ، بل لم یعرف له هنا قائل، وإن نسب إلی المحقّق فی «الشرائع» بالنسبة إلی ناقضیة الحدث الأصغر بخروجه عن الموضع المعتاد، إذا لم یکن طبیعیّاً عند من اعتبر الاعتیاد .

وإن کان ربما قیل : بأنّ الإطلاق هنا منزّلٌ علی ما قدّروه فی الحدث الأصغر.

لکنّه مندفع، بأنّ الإطلاق فی المقام باقٍ علی حاله، کما هو الشأن فی المسألة، ولا وجه للتقیید . کما أنّه ظهر ممّا ذکر أنّه لا وجه للتفصیلین الأخیرین أیضاً، وذلک لإطلاق الأدلّة .

ما یعرف به الجنابة عند الشبهة

نعم قد یشکّ فیما یخرج من فوق الصلب، للشکّ فی منویة ما یخرج من فوقه، لاحتمال دخالة الخروج من نفس الصلب فی منویّته، وهذا یرجع إلی الشکّ فی الموضوع، وهو خلاف الفرض، ولکن مع ذلک کان الاحتیاط فیه حسناً جدّاً .

ومن ذلک یظهر حکم الخنثی المشکل، حیث أنّه علی المبنی القائل بأنّه لا

ص:475

فإن حصل ما یشتبه، وکان دافقاً یقارنه الشهوة وفتور الجسد، وجب الغُسل(1).

یشترط فیه الاعتیاد، فیلزم القول بتحقّق الجنابة بخروج المنی عنها مطلقاً، بعد العلم بکونه منیاً، ولو کان خروجه من غیر المعتاد .

بخلافه علی القول الآخر، حیث لا تتحقّق الجنابة إلاّ بعد خروجه من فرجیه أو من أحدهما مع الاعتیاد.

ومثله یأتی الکلام فی الممسوح، کما لایخفی .

(1) اعلم أنّه قد اختلفت تعابیر القوم فی بیان ما یعرف به الجنابة بأنحاء شتّی:

تارةً : بما وقع فی المتن لمن کان صحیحاً دون المریض، کما سنشیر إلیه، حیث قد جمع بین صفات الثلاث من الدفق والشهوة والفترة فی الجسد.

وعن بعض بزیادة علیها، بأن تکون رائحته کرائحة الطَّلع والعجین رطباً، وبیاض البیض جافّاً، مع وجود الأوصاف السابقة.

ویوافق ما فی المتن، کلام المحقّق فی «المعتبر» والعلاّمة فی «التحریر» و«المنتهی» و«الإرشاد» و«نهایة الأحکام»، بل هو صریح بعض متأخّری المتأخّرین . ولکن العلاّمة فی «القواعد» اکتفی بذکر الدفق والشهوة، وفی «النافع» بالدفق وفتور البدن. وظاهر «الوسیلة» و«النهایة» اعتبار الدفق خاصّة .

بل فی «کشف اللثام» دعوی ظهور ذلک عن کثیر کما فی «المبسوط» و«الاقتصاد» و«المصباح» و«مختصره» و«جمل العلم والعمل» و«العقود» و«المقنعة» و«التبیان» و«المراسم» و«الکافی» و«الإصباح» و«مجمع البیان» و«روض الجنان» و«الأحکام» للراوندی .

ولعلّ مقصود هؤلاء هو شیء واحد، وهو بیان ما هو الدالّ علی أنّ الخارج هو الماء الأعظم، والإشارة إلی تلک الأوصاف إنّما تکون إلی ما هو الغالب، حیث تعرض تلک علی الشخص لدی الجنابة، فذکر أحد هذه الأوصاف لیس المقصود إلاّ بیان ما یمکن تحصیل الاطمئنان إلی خروج المنی، لوجود الملازمة بین تلک

ص:476

الأوصاف وخروج المنی، حیث یکون التلازم موجوداً بین الشهوة وفتور البدن، خصوصاً إذا خرج مع الدفق، وخصوصاً عند الشباب، فوجود هذه العلامات الثلاثة عند الاشتباه، تفید کون الماء الخارج منیّاً ، بل قد یظهر من بعض المتأخّرین اتّفاق الأصحاب علیه .

وکیف کان، فمع وجود هذه العلامات الثلاث _ بل اثنان منها _ یحصل الاطمئنان بالجنابة، لأنّه المستفاد من الأخبار الواردة فی المقام مثل صحیحة علی بن جعفر، عن أخیه علیهماالسلام قال : «سألته عن الرجل یلعب مع المرأة ویقبّلها، فیخرج المنی فما علیه؟ قال : إذا جاءت الشهوة ودفع وفتر لخروجه فعلیه الغسل، وإن کان إنّما هو شیء لم یجد له فترة ولا شهوة، فلا شیء»(1) .

فإنّ ذیل هذه الروایة قد جعل الملاک علی عدم کون الخارج منیّاً فقدان صفتین وهما: عدم الشهوة والفتور، حیث أنّه لو دقّقنا فی خصوصیة اللفظ صدراً وذیلاً، لأفاد وجود التنافی بینهما، لأنّ مقتضی مفهوم الصدر هو عدم الجنابة بمجرّد فقد صفة واحدة من الثلاث، ومقتضی الذیل أنّ عدم الجنابة لا یحصل إلاّ بفقد صفتین دون صفة واحدة، ففیه یلزم التهافت بعدم الجنابة صدراً أو الجنابة ذیلاً علی حسب مقتضاهما .

ما یعرف به الجنابة فی المریض

والحال أنّ مناسبة الحکم للموضوع یوجب الاطمئنان بأنّ الحدیث لیس فیه تهافت، بل أراد بیان ما هو الغالب المتلازم بعضها مع بعض فی الخارج، حیث یطمئن الإنسان بکون الماء الخارج هو المنی، لو کان له رائحة خاصّة، أو مع الشهوة الملازمة نوعاً مع الفتور، کما أشار إلی ما ذکرنا الشیخ1 فی «التهذیب» بأنّه من المستبعد من العادة والطبایع أن یخرج المنی من الإنسان ولایجد له شهوة ولا لذّة .

فما أورده بعض علی الروایة بکونها موافقة لمذهب العامّة، من حیث اعتبار مقارنة الشهوة فی وجوب الغُسل.


1- وسائل الشیعة: من أبواب الجنابة، الباب 8 ، الحدیث 1 .

ص:477

ولو کان مریضاً، کفت الشهوة وفتور الجسد فی وجوبه (1).

لیس علی ما ینبغی ، لما قد عرفت بأنّ الشرطیة فی قوله: «إذا جاءت الشهوة»، جاریة مجری تحقّق الموضوع، فمعنی قوله : «إذا جاءت الشهوة فعلیه الغسل»، أی إذا جاءت الشهوة، فالخارج منی یجب بخروجه الغسل.

فالمعیار فی وجوب الغُسل هو خروج المنی، وتکون الشهوة أمارة علیه .

کما أنّ معنی قوله: «وإن کان، إنّما هو شیءٌ لم یجد له فترة ولا شهوة فلا بأس » أی لا بأس، لمکان أنّه لیس بمنی بعد خروجه بلا شهوة ولا فتور ولا لذّة ولا دفع، فلا یکون حینئذٍ موافقاً لمذهب العامّة، کما لایخفی .

کما لا یرد علی الروایة بأنّ السائل فی سؤاله، بقوله : «عن الرجل یلعب مع المرأة ویقبّلها، فیخرج منه المنی فما علیه؟»

قد فرض خروج المنی وأنّه لا یرتبط بما إذا شکّ فی خروجه، حتّی یرجع إلی بیان الأوصاف والصفات .

لأنّه یندفع، بأنّ فرض السائل کونه منیّاً، کان علی حسب فطنته بکونه منیّاً، وإلاّ فلا یبقی موردٌ للسؤال، لأنّه من البعید عن مثل علی بن جعفر علیه السلام أن لا یعلم حکم من خرج منه المنی قطعاً، فالرجوع إلی الصفات بالتشخیص لکونه منیّاً کان صحیحاً، لأجل أنّه أراد السؤال عن مورد الشکّ فی الجنابة، فلذلک دلّه الإمام علیه السلام علی بیان صفاته الغالبیة، کما لا یخفی .

(1) وقد ادّعی صاحب «الجواهر»: عدم الخلاف فیه فیما أجد، فکأنّه أراد أنّ الحکم یعدّ إجماعیّاً بین الأصحاب، ولا یعتبر عندهم فی المریض الدفق.

ومنشأه وجود نصوص معتبرة، دالّة علی ذلک، مثل ما رواه الکلینی بإسناده الصحیح، عن عبداللّه بن أبی یعفور، عن أبی عبداللّه علیه السلام ، قال : «قلت له؛ الرجل

ص:478

یری فی المنام، ویجد الشهوة، فیستیقظ فینظر فلا یجد شیئاً، ثمّ یمکث الهون بعد فیخرج؟ قال : إن کان مریضاً فلیغتسل، وإن لم یکن مریضاً فلا شیء علیه . قلت : فما فرق بینهما؟ قال : لأنّ الرجل إذا کان صحیحاً جاء الماء بدفقة قویة، وإن کان مریضاً لم یجیء إلاّ بعد»(1) .

وفی نقل الصدوق فی «العلل» فی آخره: «لم یجیء إلاّ بضعف».

فهذه الروایة صریحة فی بیان التفصیل بین الصحیح والمریض، بأنّ الدفق مع القوّة خاصّ للصحیح، وأمّا فی المریض له دفق حاصل من الشهوة، إلاّ إنّه یخرج فاتراً لأجل مرضه، کما تری توضیح ذلک فی خبر زرارة فی الصحیح، قال : «إذا کنت مریضاً فأصابتک شهوة، فإنّه ربما کان هو الدافق، لکنّه یجیء مجیئاً ضعیفاً، لیست له قوّة لمکان مرضک ساعة بعد ساعة، قلیلاً قلیلاً، فاغتسل منه(2) ».

ورواه الصدوق فی «العلل» بإسناده الصحیح إلی أبی جعفر علیه السلام .

فإنّ الشهوة مع خروج المنی فی المریض یستلزم الفتور فی الجسد .

فالمفقود من الصفات لیس إلاّ الدفق مع القوّة، دون الضعف، وهو یکفی فی الحکم بوجوب الغسل علیه .

وعلیه یحمل ما فی حدیث محمّد بن مسلم، قال : «قلت لأبی جعفر علیه السلام : رجل رأی فی منامه فوجد اللذّة والشهوة، ثمّ نام فلم یر فی ثوبه شیئاً؟ قال : فقال : إن کان مریضاً فعلیه الغسل، وإن کان صحیحاً فلا شیء علیه»(3) .

یعنی إن لم یکن فی ثوبه شیئاً بخلاف ذکره _ حیث أنّ وجود شیء علی رأس الذکر، أو فی مجری البول مع المرض، یدلّ علی الجنابة، لأجل کون المرض


1- وسائل الشیعة: من أبواب الجنابة، الباب 8 ، الحدیث 3 .
2- وسائل الشیعة: من أبواب الجنابة، الباب 8 ، الحدیث 5 .
3- وسائل الشیعة: من أبواب الجنابة، الباب 8 ، الحدیث 4 .

ص:479

ولو تجرّد عن الشهوة والدفق مع اشتباهه، لم یجب (1).

مانعاً عن خروجه بالدفق _ فعلیه الغسل، بخلاف الصحیح حیث کان اللازم فیه خروجه بالدفق، وحیث لم یکن فلا شیء علیه، وإلاّ الحکم بوجوب الغُسل بدون خروج المنی أصلاً یعدّ مخالفاً للإجماع، کما أشار إلیه صاحب «الحدائق» .

کما أنّ حمله علی الاستحباب _ کما فی «الوسائل» _ لا یخلو عن وهن، إذ مع العلم بعدم الخروج، فلا وجه للقول باستحباب الغُسل، ومع العلم به یجب بلا إشکال، بلا فرق فی الطرفین بین الصحیح والمریض .

کما أنّه مع الشکّ فی الخروج، یستحبّ الاحتیاط فی کلا الشخصین.

فالأولی هو ما ذکرناه، حتی لا یکون مخالفاً للإجماع ، ولا یوجب طرح الحدیث، وهو أمر مقبول عند الفقهاء، کما لایخفی .

ما یعرف به الجنابة فی المرأة

(1) ومن الواضح أنّ التجرّد عن کلیهما یکون فی الصحیح، وإلاّ ففی المریض من الرجال یکفی التجرّد عن الشهوة فقط، لعدم وجود الثانی فیه، وجهه واضح، حیث لا مقتضی للحکم بالجنابة، فمع الشکّ فیه ینفیه الأصل.

ثمّ یأتی الکلام فی أنّ المرأة هل تکون مثل الرجل فی الأحکام المذکورة أم لا؟ أی فی حال صحّتها لا یجب علیها الغسل مع الاشتباه، إلاّ مع وجود الأوصاف الثلاثة المذکورة، التی هی طریق علمی لمعرفة المنی بشهادة الشرع والعرف، أو لا تکون کذلک، بل الحکم مخصوص بالرجال، وأنّه حین الصحّة یکون فقد إحدی الثلاثة، وفی حال المرض یکون فقد أحد الوصفین، ومع الاشتباه لم یجب علیه الغُسل دون المرأة.

فیه وجهان، بل قولان: فقد ذهب إلی الأوّل متأخّری المتأخّرین، وصاحب «مصباح الفقیه»، و«مصباح الهدی».

ص:480

وذهب إلی الثانی صاحب «الجواهر»، وجعل وجهه ظهور الأخبار، خصوصاً الصحیحة السابقة فی خصوص الرجل، التی تفید اختلاف حال الرجال فی المقامین دون المرأة، حیث لا تلتفت إلی شیء من الأوصاف، حتّی تعلم أنّه منی، ومن هنا أمر بالتأمّل .

وقد أجاب عنه المحقّق الهمدانی قدس سره : «بأنّ اختصاص موردها بالرجل، لا یوجب قصر الحکم علیه، خصوصاً مع عموم العلّة المنصوصة، المقتضیة لعموم الحکم» .

بل ربما یقال: بکفایة الشهوة فی حقّ المرأة مطلقاً، أی فی حالتی الصحّة والمرض تعبّداً، أی ولو شکّ فی الجنابة تکفی الشهوة فی الحکم بالجنابة فی حقّها، لاستفاضة الأخبار علی أنّها: «إن أنزلت المرأة من شهوة فعلیها الغسل».

وقد وردت أخبار کثیرة تتضمّن مثل هذا التعبیر، راجع الباب 7 من أبواب أحکام الجنابة .

لو وجد علی جسده أو ثوبه منیّاً

فأجاب عنه: بأنّ هذه الأخبار مسوقة لبیان وجوب الغُسل علیها بالإنزال، وإن تقیید الموضوع بما أنزلته من شهوة، إنّما هو لکونها طریقاً عادیاً للعلم بتحقّق الموضوع، وکونها کذلک مانعٌ من ظهورها فی إرادة التعبّد بطریقیة الشهوة، فی الأفراد النادرة التی لا یحصل بسببها العلم بکونه هو الماء الأعظم.

ولکن الاحتیاط فی حقّها ممّا لا ینبغی ترکه، واللّه العالم» ، انتهی کلامه .

ولکن التحقیق _ کما علیه صاحب «الجواهر» _ : أنّ الحکم فی التجرّد مخصوص فی الرجل، والعلّة المنصوصة فی صحیحة ابن أبی یعفور، حیث قد أشار إلیها المحقّق الهمدانی قدس سره بکونها مقتضیة لعموم الحکم متین، لو لم یرد ذکر قید الرجل فی متن العلّة، فإذا ذکر _ کما هو کذلک _ فیکون التعمیم والتخصیص فی العلّة المنصوصة دائرة مدار نفس الموضوع، وهو الرجل، لا الأعمّ منه، حتّی تشمل المرأة .

ص:481

وإن وجدعلی جسده أو ثوبه منیّاً،وجب الغُسل؛ إذالم یشارکه فیالثوب غیره(1).

فظهر أنّ الحکم فی المرأة مطلقاً، هو عدم وجوب الغُسل علیها، حتّی مع الشهوة والإنزال، إلاّ إذا علم أنّ الخارج منها هو الماء الأعظم، فیجب علیها الغسل، کما قد یتفق ذلک فی النساء التی یسکنّ فی المناطق الحارّة، فإنّ حرارة الهواء تؤثّر فی شدّة الشهوة فیهنّ، کما احتملها الشهید الثانی فی «الروضة» علی ما ببالی ، خصوصاً مع وجود قرینة الاختصاص فی العلّة، وهو الدفق مع القوّة، الذی لا یجری فی النساء بحسب الغالب، ولهذا اکتفی بعض الأصحاب فی جنابتها بالوصفین، من دون ذکر الدفق .

وکیف کان، فالقول بالاختصاص لا یخلو عن وجه وجیه، واللّه العالم .

(1) ظاهر العبارة هو مطلق الوجدان، أی سواء کان بعد الانتباه من النوم أو غیره، وسواء کان احتمل وجود المنی فی هذا النوم أو ممّا سبق ، کما أنّ الظاهر کون ذکر الجسد والثوب من باب التمثیل، لا الخصوصیة، فلا ینافی کون بدلهما من فراشه وعبائه، وغیر ذلک ممّا یمکن أن یکون له مناسبة مع حکمه بالجنابة .

کما أنّ الظاهر من کلام الماتن، کون الثوب للواجد، بقرینة ذکر الجسد معه ، مضافاً إلی خصوصیة فی الضمیر، حیث یرجع إلی الشخص. فقید: «إذا لم یشارکه فیه غیره»، کنایة عن اختصاصه فی الاستعمال، لوضوح أنّه لا مدخلیة فی الحکم کون الثوب ملکاً له، بل المقصود بیان کونه له بلحاظ الاستعمال، فیصیر ذکر قوله: «إذا لم یشارکه»، سدّ مسدّ تأکید ذلک .

ثمّ لفظ «الوجدان» بنفسه، وإن کان قابلاً لحالتی العلم بالجنابة وعدمه، إلاّ إنّه مع ذکر القیود بعده، لا یبعد أن یکون المقصود بیان حصول العلم بذلک، أی بحصول الجنابة.

ص:482

فعلی هذا التقدیر، یکون ترتّب حکم وجوب الغُسل علیه أمراً موافقاً للقاعدة، أی حصول نقض الیقین بالیقین لا بالشکّ، هذا بخلاف ما لو لوحظ الوجدان بصورة الإطلاق، بحیث یشمل صورتی الظنّ غیر المعتبر والشکّ، حیث یکون الحکم بوجوب الغُسل فیه خلافاً للقاعدة، لکونه حینئذٍ نقضاً للیقین بالشکّ، ومخالفاً للاستصحاب .

وعلی فرض تسلیم الإطلاق فی لفظ «الوجدان»، وعدم التسلیم بما بیّناه من التقیّد بالقیود ، فلابدّ من تقییده ورفع الید عن إطلاقه بواسطة أدلّة الاستصحاب فی صورتی الشکّ والظنّ غیر المعتبر، حتی لا یستلزم طرح القاعدة وتخصیصها فی المورد .

ولا فرق فی صورة العلم بالجنابة بین کونه من النوم الأخیر، أو النوم السابق الذی لم یغتسل منه، دون ما لو احتمل بین التجدّد فی الجنابة أو ممّا اغتسل منها، لأنّه حینئذٍ لا علم إجمالی له بوجود الجنابة، کما لایخفی .

وعلی ذلک _ أی الوجه الأخیر _ یحمل ما ورد فی حدیث أبی بصیر، عن أبی عبداللّه علیه السلام : «عن الرجل یصیب بثوبه منیّاً، ولم یعلم أنّه احتلم؟ قال : لیغسل ما وجد بثوبه ولیتوضّأ»(1) .

أی یعلم بحصول الجنابة، إلاّ إنّه لا یعلم بجنابة موجبة للغُسل، إذ العلم بالجنابة أعمّ من وجوب الغُسل علیه _ لإمکان کونه من الجنابة السابقة التی قد اغتسل منها _ فحکمه بوجوب غَسل الثوب، کان لأجل علمه بکونه منیّاً، کما أنّ حکمه بالتوضّی، کان لأجل إفهام أنّه لا یجب علیه الغُسل دون الوضوء حتّی لو کان متوضّیاً.


1- وسائل الشیعة: من أبواب الجنابة، الباب 10 ، الحدیث 3 .

ص:483

ثمّ یمکن أن یکون المراد من عدم علمه بالاحتلام، من حیث احتمال مشارکة غیره فی ثوبه، کما قد یتّفق فی السراویل فی بیت واحد من اشتراک الاثنین فیه، وکان المراد من عدم علمه بالاحتلام، هو احتمال عدم الجنابة من رأسه، بخلاف سابقه حیث کان أصل الجنابة معلوماً دون إیجابها الغُسل، حیث لم یکن عنده معلوماً .

بل قد یقال : إنّ تنکیر المنیّ شاهدٌ علی هذا الاحتمال، وإلاّ إن کان یشیر إلی نفسه لعبّر عن ذلک بالمنیّ.

ولکن یمکن أن یکون وجه التنکیر للتردید بین کونه لنفسه أو التردّد فیما حصل به الجنابة، ففی کلا الموردین یصحّ ذلک .

ثمّ لا یخفی أنّ ما ذکره المحقّق الآملی فی «مصباحه» من کون مستنده هو صحیح محمّد بن مسلم، غیر صحیح، لعدم وجدان حدیث عنه فی مظانّه ، ولعلّه سهو من قلمه الشریف.

ثمّ قد صرّح المحقّق المزبور: «بنصوصیة الصحیح فی الشکّ، فی کون المنی منه، وظهوره فی الثوب المختص، وفی الدوران بین کون المنی منه أو من غیره، یکون الصحیح دلیلاً علی الحکم، وهو بقاء الشکّ علی ما کان علیه من الطهارة مطلقاً، فی الثوب المختص أو المشترک دفعة، أو علی سبیل التناوب، إلاّ أنّ الصحیحة دلیلٌ علیه فی الثوب المختص، ویثبت الحکم فی الثوب المشترک بقسمیه بالفحوی وبالاستصحاب» انتهی کلامه .

أقول: ولقد أجاد فیما أفاد، إلاّ إنّه لو کان فی الثوب المختص یکون وجه الحکم بالطهارة لأجل علمه بالجنابة الموجبة للغُسل، لاحتمال کونه من الجنابة السابقة، فیستصحب طهارته .

وأمّا فی الثوب المشترک بقسمیه، یکون وجه الحکم بالطهارة، لأجل عدم تنجّز علمه بالجنابة؛ إمّا فی نفسه أو فی غیره، لأنّه یعتبر فی شرطیة تنجّز العلم،

ص:484

أن یکون منجزاً علی کلّ تقدیر، ولیس الأمر هنا کذلک، إذ جنابة شریکه لا أثر له .

نعم لو وجد موردٌ کان الأمر کذلک، أی کان العلم منجّزاً علی کلّ تقدیر، مثل ما لو اقتدی أحدهما بالآخر، فاستصحاب طهارة کلّ واحد منهما یعارض الآخر، فیقطع بفساد صلاة المأموم ، إمّا لبطلان صلاة نفسه، أو صلاة إمامه، فیکون العلم فی حقّ المأموم منجزاً علی کلّ تقدیر .

فالقول بالطهارة فی صورة الشکّ فی الجنابة الموجبة بأیّ الوجهین من الشکّ لا یخلو عن قوّة، کما علیه السیّد فی «العروة»، والمحقّق الهمدانی، بل وصاحب «الجواهر» وکثیر من المحقّقین من المتأخّرین، تبعاً لمن تقدّم علی المحقّق صاحب «الشرائع»، کالسیّد والشیخ وابن إدریس وأمثالهم.

وکان هذا أحد الأقوال فی المسألة .

والقول الثانی: هو الحکم بالجنابة.

ذهب إلیه المحقّق فی «الشرائع»، وکثیر ممّن تأخّر عنه، کالعلاّمة فی «المنتهی» ومحکی «النهایة» والشهیدین والمحقّق الثانی فی «الدروس» و «الروض» و«المسالک» و«جامع المقاصد»، وحاشیتی «الإرشاد» و«الشرایع» وغیرهم .

وذکر الشیخ الأنصاری فی «رسالة الغُسل» وجه حکمهم بوجوب الغسل، فیمن وجد المنی فی الثوب المختصّ، بأنّه سبب شرعی ظاهری للجنابة، ممّا رجّح الشارع فیه الظاهر علی الأصل، وکم له من نظیر، کما فی نجاسة غُسالة ماء الحمّام علی القول بنجاستها، وکما فی البلل الموجود بعد البول وقبل الاستبراء .

هذا، مضافاً إلی أنّهم استدلّوا لمختارهم، بموثّقتی سماعة: الأولی: ما رواه سماعة عن أبی عبداللّه علیه السلام ، قال : «سألته عن الرجل یری فی ثوبه المنی بعدما یصبح، ولم یکن رأی فی منامه أنّه قد احتلم؟ قال : فلیغتسل، ولیغسل ثوبه

ص:485

ویعید صلاته»(1) .

وروایته الثانیة عن أبی عبداللّه علیه السلام قال : «سألت أبا عبداللّه علیه السلام عن الرجل ینام، ولم یر فی نومه أنّه احتلم، فوجد فی ثوبه وعلی فخذه الماء، هل علیه غسل؟ قال : نعم»(2) .

بتقریب أن یقال : إنّ الشارع قد حکم بوجوب الغسل للشاکّ عند الجنابة، مع وجود سبب ظاهری شرعی، وهو وجدان المنی فی الثوب المختصّ، الذی یفهم الاختصاص من الضمیر المتّصل بالثوب، فلأجل ذلک حکموا بوجوب الغُسل علیه .

وفیه ما لا یخفی للتأمّل فی الروایتین، إن لم نقل إنّهما کانتا روایة واحدة، وإلاّ ربما یصیر وجود قرینة فی إحداهما، کافیاً فی إثبات کون موردهما العلم بالجنابة الموجبة للشکّ فیها، لما تری فی الروایة الثانیة من ذکر الماء علی الفخذ والثوب، حیث کان ظاهراً فی رطوبة المنی، وإلاّ لا وجه للحکم بوجوب غَسله وتطهیره، _ الموجودان فی الروایة الأولی _ لأنّه لو کان الماء مشترکاً بین المنی وغیره فی الاحتمال، فیرجع الأمر حینئذٍ إلی الشکّ فی کونه منیاً، حتّی یجب غَسله _ بالفتح _ أو غیره من المذی، فلا یجب، فأصالة الطهارة فی هذه الموارد، یحکم بعدم وجوب الغُسل ، فحیث حکم الإمام بوجوب غَسله _ بحسب الروایة الأولی _ یظهر کون الماء عنده ظاهراً فی المنیّ ، فیجب علیه غَسله، کما یجب علیه الغُسل للجنابة، فیکون مورد السؤال حینئذٍ هو صورة العلم بالجنابة لا الشکّ فیها .

وقد یبقی هنا إشکال: وهو أنّه لو کان المورد هو صورة العلم بالجنابة، فلا وجه للسؤال عن حکمه، لوضوح حکمه من وجوب الغَسل والغُسل، بخلاف صورة الشکّ .


1- وسائل الشیعة: من أبواب الجنابة، الباب 10 ، الحدیث 2 _ 1 .
2- وسائل الشیعة: من أبواب الجنابة، الباب 10 ، الحدیث 2 _ 1 .

ص:486

ولکن یمکن أن یُجاب عنه؛ أوّلاً : إنّ العوام کثیراً ما یتّفق سؤالهم عن أمور تکون حکمها واضحة، ولکنّهم یسألون عن ذلک لأجل حصول الاطمئنان لقلوبهم، کما نشاهد ذلک فی العرف فی موارد شتّی .

وثانیاً : من إمکان ورود شبهة اعتبار اشتراط تذکّر احتلامه فی النوم، _ کما هو کذلک عند بعض العامّة _ أو اشتراط خروج المنی من شهوة فی الحکم بالجنابة _ کما هو کذلک عند أبی حنیفة _ فأراد الإمام علیه السلام نفی ذلک عند العلم بالجنابة فی لزوم الغَسل والغُسل .

هذا، مع إمکان الاستدلال علی عدم وجوب الغُسل عند الشکّ فی الجنابة، بصحیحة محمّد بن مسلم، قال : «سألته عن رجل لم یر فی منامه شیئاً، فاستیقظ فإذا هو بلل؟ قال : لیس علیه غسل»(1) .

وجه دلالته: أنّه لا یمکن الحکم بنفی الغُسل، مع العلم بکون البلل منیّاً، فلا جرم یکون المراد هو مع الشکّ فی الجنابة، فیشمل إطلاقه للمورد نفیاً.

ولعلّه المراد فی کلام الآملی من صحیح محمّد بن مسلم، وإن کان لا یناسب مع المتن الذی نقله، فراجعه.

القول الثالث: ممّا ذکرنا یظهر ضعف القول الثالث، وهو وجوب الغُسل للواجد، فی الثوب المختصّ أو المشترک دفعة، دون المشترک مع التناوب، حیث یجب الغُسل علی صاحب النوبة.

وهذا هو المحکی عن المحقّق، والشهید الثانی رحمه الله .

لما قد عرفت فی أنّ موردهما هو العلم بالجنابة، وإلاّ لو کان لهما إطلاق بحیث یشمل الشاکّ فلا جرم إلاّ القول بالتقیید والتخصیص بروایة أبی بصیر ومحمّد بن مسلم، وقاعدة عدم نقض الیقین بالشکّ، بلا فرق بین کون المورد فی التناوب أو


1- وسائل الشیعة: من أبواب الجنابة، الباب 10 ، الحدیث 4 .

ص:487

الدفعة فی أصل الملاک.

کما لا إشکال فی تقدّم ظهور خبر أبی بصیر علی إطلاق روایتی سماعة، وإن کانت النسبة بینهما هو العموم من وجه لا الإطلاق ، کما لا یخفی .

ثمّ علی فرض التنزّل والتسلیم وقبول شمول إطلاق الموثّقتین للشاک بوجوب الغسل علیه، عند الشکّ فی کون المنی منه أو من غیره، فهل یقتصر علی خصوص من حصل له الظنّ بکونه منه، أو یکون للأعمّ منه ومن الاحتمال؟

وجهان، أقواهما الأوّل، لأنّه من التنزّل عن العلم العادی بوجود الجنابة، فلا أقلّ من الاقتصار علی حصول الظنّ، کما لایخفی .

ثمّ فی واجد المنی فی الثوب المشترک، مع عدم العلم بوقوع الجنابة عن نفسه، بل یحتمل کونه منه أو من غیره المشترک فی الثوب، لا یجب لأحد منهما غُسل الجنابة، لعدم تنجّز العلم الإجمالی فی حقّ أحد منهما، إلاّ فیما یوجب ذلک فی حقّهما، مثل ما لو أئتمّ أحدهما بالآخر فهو:

تارةً: یوجب فساد صلاة المأموم فقط دون الإمام، کما فی الجماعة فی غیر صلاة الجمعة، أو فیها إذا کان عددهم أزید ممّا یعتبر فی الجمعة من السبعة أو الخمسة علی خلاف فیه .

واُخری: یوجب بطلان صلاة الإمام والمأموم کلیهما، کما لو وقع ذلک فی عدد السبعة، علی القول باعتبارها، لأنّ بفساد صلاة المأموم یوجب نقص العدد، فبذلک یستلزم بطلان أصل صلاة الجمعة، کما لا یخفی .

وثالثة : لا یوجب بطلان صلاة أیّ منهما، مثل ما لو کانت الجماعة فی صلاة المیّت، حیث لا یستلزم العلم بجنابة أحدهما بطلان صلاة الإمام أو المأموم، لو أجزنا صلاة المیّت، حتّی مع الجنابة بدون الغُسل کما علیه الفتوی، إمّا لأنّه لیس بصلاةٍ، أو لیست الطهارة عن الحدث فیها شرطاً .

ص:488

منشأ وجه الاختلاف لیس من ناحیة هذا العلم الإجمالی، بل یکون لأجل ما یتفرّع علی هذا العلم من فقدان الشرط _ مثل النقص فی العدد _ کما عرفت توضیحه .

فإذا عرفت عدم وجوب شیء علی کلّ واحد منهما فی الثوب المشترک فقد یقال : إنّه لیس فیه خلاف بین أصحابنا، بل لعلّه إجماعی کما فی «الجواهر»، إلاّ إنّه لا بأس من القول بالاستحباب فی الغُسل لکلّ واحد منهما، لأجل التخلّص عن الشبهة، کما صرّح به الشیخ فی «المبسوط»، والمحقّق فی «المعتبر»، والعلاّمة فی «المنتهی» و«التذکرة»، والشهید فی «الذکری» و«الدروس» و«النفلیّة» و«الروض»، بل عن بعض نسبته إلی الأصحاب مشعرین بالإجماع علیه ، ولعلّ وجهه هو حُسن الاحتیاط .

بل صرّح بعض الأصحاب، إنّه ینوی الوجوب فی غُسله، لکن استشعر به آخر أنّه لأجل توهّم المنافاة بین نیّة الوجوب مع الحکم بالاستحباب .

فأجاب عنه صاحب «الجواهر»: أنّه لا تنافی بین نیّة الوجوب الاحتیاطیة، واستحباب هذا الاحتیاط . ولعلّ مقصوده الشریف دعوی عدم منافاة نیّة فراغ الذمّة عن الوجوب المحتمل فی الواقع، لو کان مع استحباب أصل الإتیان، وهو أمر مطلوب کما لایخفی .

ثمّ یأتی الکلام فی فرع آخر: وهو أنّه لو اغتسل أحدهما أو کلاهما بنیّة الاستحباب أو الوجوب من باب الاحتیاط، ثمّ بان له الجنابة، هل یکتفی بهذا الغُسل بعد الانکشاف، أو یکفیه ما دام جاهلاً بها ؟

فیه وجهان بل قولان: استوجه المحقّق الثانی، الثانی منهما، وهو وجوب إعادته بعد الانکشاف لو أمکن، وإلاّ فلایجب .

خلافاً لصاحب «الجواهر» حیث ذهب إلی الأوّل .

والظاهر أنّ وجه کلام المحقّق، لیس إلاّ من جهة عدم وجود الجزم فی النیّة .

ص:489

لکنّه لا یخلو عن وهن، لأنّه من الواضح أنّه قد أتی عملاً محبوباً مطلوباً شرعیّاً بقصد القربة، وکان رافعاً للحدث واقعاً، لو کان کما یصحّ الایتمام مع غُسلهما بل وغُسل أحدهما، لعدم وجود علم تفصیلی بفساد صلاة المأموم، حتی مع غُسل أحدهما، فضلاً عن غُسل کلیهما، کما لایخفی .

ثمّ یأتی الکلام فی ما صلاّه، وأنّه هل یجب علیه إعادتها فی الوقت، وقضائها فی خارجه، وفی أیّ مقدار یجب أم لا؟

تارةً: یفرض فی الثوب المشترک .

واُخری: فی الثوب المختصّ .

ففی الصورة الاُولی: حیث قد عرفت عدم ثبوت تکلیف لکلّ واحد منهما من الجنابة، وکان کلّ واحد منهما مستمسکاً باستصحاب الطهارة والبراءة عن التکلیف بوجوب الغُسل، فکذلک یکون بالنسبة إلی الصلاة التی صلاّها .

مضافاً علی تلک الاُصول، فإنّ وجود أصل قاعدة الفراغ لکونه شکّاً بعد الفراغ، بل وجود أصالة الصحّة حتی بالنسبة إلی الصلاة التی صلاّها بعد وجدان المنی فی الثوب، وحصول العلم بوقوع الجنابة فی أحدهما، لوجود المجوّز للدخول فی الصلاة، وهو الطهارة عن الحدث مثل الاستصحاب، فضلاً عن الصلاة التی سبقت عن الرؤیة، لوجود قاعدة الفراغ وأصالة الصحّة فیها . فإنّ جمیعها کافیة للدلالة علی صحّة الصلاة.

وأمّا فی الصورة الثانیة: وهو وجدانه فی الثوب المختصّ.

ففیه قد عرفت وجود القولین:

السبب الثانی للجنابة: الجماع و إن لم ینزل

تارةً: یفرض مورده العلم بوجود الجنابة وحدوثها، فلذلک یحکم بوجوب الغُسل علیه، کما هو مختارنا من روایتی سماعة، فلا إشکال حینئذٍ بوجوب إعادة صلاته التی علم وقوعها بعد الجنابة، دون ما یشکّ، لأجل وجود قاعدة

ص:490

والجماع؛ فإن جامع امرأة فی قُبلها، والتقی الختانان، وجب الغُسل (1).

الفراغ، حیث یکون الشکّ فی الطهارة بعد الفراغ مع وجود الاستصحاب للطهارة السابقة ولو تقدیراً، أی لو شکّ کان الاستصحاب مقتضیاً للحکم بالطهارة.

وتوهم وجود قاعدة الشغل الیقینی للصلاة مقتضیاً للیقین بالفراغ .

مدفوع : بأنّه معلولٌ بالنسبة إلی قاعدة الفراغ وأصالة الصحّة، لأنّهما یحکمان بوجود الشرط وهو الطهارة ولو تعبّداً ، ومن الواضح أنّ الصلاة إذا حصلت مع الطهارة، ولو بالأصل، مستلزمة لحصول القطع بالفراغ لا الشکّ حتّی یرجع إلی قاعدة الاشتغال .

ومثل ذلک یجری فی القول الآخر، حیث قد اختاروا مورد روایتی سماعة صورة الشکّ فی الجنابة، وجَعْل الثوب علامة شرعیة تعبّدیة علی وجود الجنابة، فعلیه أیضاً یجب إعادة ما وقع بعد هذا الحکم التعبّدی بوجوب الغُسل، بناءً علی کونه جنباً تعبّداً، فلا یجوز له الصلاة مع هذا التعبّد، فیجب إعادته، کما أشار إلیه فی الروایة بقوله علیه السلام : «فلیغتسل ولیغسل ثوبه ویعید صلاته» .

وأمّا وجوب إعادة ما یشکّ سبقها علی الجنابة فلا ، لما قد عرفت من وجود استصحاب الطهارة والبراءة وقاعدة الفراغ وأصالة الصحّة ، مضافاً علی وجود البراءة عن وجوب الإعادة والقضاء فیما یشکّ فی وجوبه بما علیه بعد ذلک، کما لایخفی .

(1) الثانی من الأمرین المسبّبین للجنابة: هو الجماع، ویکون وجوب غُسله لأجل وجوب غایته من الصلاة والصوم والطواف وغیرها، بلا فرق فی الوجوب بین الواطئ والموطوء، مع اجتماع شرائط التکلیف.

وعلیه الإجماع بکلا قسمیه، بل نقله یعدّ مستفیضاً، لو لم نقل کونه متواتراً کتواتر السنّة علی وجوبه، فلا بأس بذکر الأحادیث التی تفهم منها الوجوب.

ص:491

منها : ما رواه الکلینی بإسناده الصحیح عن محمّد بن مسلم، عن أحدهما علیهماالسلام ، قال : «سألته متی یجب الغسل علی الرجل والمرأة؟ فقال : إذا أدخله فقد وجب الغُسل والمهر والرجم»(1) .

منها: ما رواه بإسناده الصحیح أیضاً عن علی بن یقطین، قال : «سألت أبا الحسن علیه السلام : عن الرجل یصیب الجاریة البکر، لا یفضی إلیها، ولا ینزل علیها، أعلیها غُسل؟ وإن کانت لیس ببکر، ثمّ أصابها ولم یفض إلیها أعلیها غسل؟

قال : إذا وقع الختان علی الختان، فقد وجب الغُسل، البکر وغیر البکر»(2) .

ومنها : ما رواه الصدوق بإسناده عن عبداللّه بن علی الحلبی، قال : «سئل أبو عبداللّه علیه السلام : عن الرجل یصیب المرأة، فلا ینزل أعلیه غسل؟ قال : کان علی علیه السلام یقول : إذا مسّ الختان الختان فقد وجب الغسل . قال : وکان علیّ علیه السلام یقول : کیف لایوجب الغسل، والحدُّ یجب فیه. وقال : یجب علیه المهر والغسل»(3) .

ومنها : حدیث محمّد بن إسماعیل _ یعنی ابن بزیع _ قال : «سألت الرضا علیه السلام : عن الرجل یجامع المرأة قریباً من الفرج، فلا ینزلان حتّی یجب الغسل؟ فقال : إذا التقی الختانان فقد وجب الغسل . فقلت : التقاء الختانین هو غیبوبة الحشفة؟ قال : نعم»(4) .

ومنها : حدیث عمر بن یزید، قال : «قلت لأبی عبداللّه علیه السلام : الرجل یضع ذکره... إلی أن قال : ولیس علیها غُسلٌ إلاّ أن یدخله» الحدیث(5) .

فإنّ مورده وإن کان فی الإنزال فی الرجل، إلاّ إنّ إطلاق قوله: «إلاّ أن یدخله»


1- وسائل الشیعة: من أبواب الجنابة، الباب 6 ، الحدیث 1 .
2- وسائل الشیعة: من أبواب الجنابة، الباب 6 ، الحدیث 3 .
3- وسائل الشیعة: من أبواب الجنابة، الباب 6 ، الحدیث 4 .
4- وسائل الشیعة: من أبواب الجنابة، الباب 6 ، الحدیث 2 .
5- وسائل الشیعة: من أبواب الجنابة، الباب 6، الحدیث 7 .

ص:492

یشمل صورة الدخول بلا إنزال، کما لایخفی .

منها: حدیث محمّد بن مسلم، عن أبی جعفر علیه السلام ، قال فی حدیث : «... والآخر إنّما جامعها دون الفرج، فلم یجب علیه الغُسل، لأنّه لم یدخله، ولو کان أدخله فی الیقظة وجب علیها الغُسل، أمنت أم لم تمن»(1) .

فهو یدلّ علی المطلوب، ولا خصوصیة فی ذکر الیقظة، إلاّ من جهة وقوعها فی الغالب .

منها: حدیث أبی نصر البزنطی، فی الصحیح عن الرضا علیه السلام ، قال : «سألته مایوجب الغُسل علی الرجل والمرأة؟ فقال : إذا أولجه وجب الغسل والمهر والرجم»(2) .

منها: حدیث محمّد بن عذاقر، قال : «سألت أبا عبداللّه علیه السلام متی یجب علی الرجل والمرأة الغسل؟ فقال : یجب علیهما الغسل حین یدخله، وإذا التقی الختانان فیغسلان فرجهما»(3) .

منها: حدیث زرارة، عن أبی جعفر علیه السلام ، قال : «جمع عمر بن الخطّاب أصحاب النبیّ صلی الله علیه و آله فقال : ما تقولون فی الرجل یأتی أهله فیخالطها، ولا ینزل؟

فقالت الأنصار : الماء من الماء . وقال المهاجرون : إذا التقی الختانان فقد وجب علیه الغسل . فقال عمر لعلیّ علیه السلام : ما تقول یا أبا الحسن؟ فقال علیّ علیه السلام : أتوجبون علیه الحدّ والرجم، ولا توجبون علیه صاعاً من الماء، إذا التقی الختانان فقد وجب علیه الغسل . فقال عمر : القول ما قال المهاجرون، ودعوا ما قالت الأنصار»(4) .


1- وسائل الشیعة: من أبواب الجنابة، الباب 6، الحدیث 6 .
2- وسائل الشیعة: من أبواب الجنابة، الباب 6 ، الحدیث 8 .
3- وسائل الشیعة: من أبواب الجنابة، الباب 6 ، الحدیث 9 .
4- وسائل الشیعة: من أبواب الجنابة، الباب 6 ، الحدیث 5 .

ص:493

واعلم أنّ الدخول الوارد فی هذه الأخبار یکون بصورة الإطلاق القابل للانطباق علی إدخال جمیع الذکر فی الفرج، أو إدخاله فی الجملة، ولو ببعضه، أیّ أو إدخال البعض المعتدّ به، الذی یشمل حتّی مثل دخول مقدار الحشفة، لو لم ندع کفایة صدق الدخول بالأخیر، إذ هو المتبادر إلی الذهن من الدخول، وینصرف إلیه الإطلاق، ولابدّ من إرادة ذلک من المطلق لما ورد فی طائفة اُخری بیان ذلک، بقولهم علیهم السلام «بأنّه یجب الغسل إذا التقی الختانان»، کما فی صحیحة علی بن یقطین، ومحمّد بن إسماعیل بن بزیع، حیث قد فسّر بوجوبه بغیبوبة الحشفة . فبدلالة هذه الأخبار نتعرف فیما قد یستفاد منه حصر وجوب الغُسل بالإنزال، مثل ما ورد عن رسول اللّه صلی الله علیه و آله : «إنّما الماء بالماء»(1) .

لکن بهذا التعبیر لم یرد فی طرقنا، بل هو من طرق العامّة، لکن وردت فی مصادرنا تعابیر مشابهة لهذا التعبیر، مثل ما فی حدیث حسین بن أبی العلاء، قال : «قال أبا عبداللّه علیه السلام : عن الرجل یری فی المنام، حتّی یجد الشهوة، وهو یری أنّه قد احتلم، فإذا استیقظ لم یر فی ثوبه الماء، ولا فی جسده ؟

قال : لیس علیه الغسل . وقال : کان علیّ علیه السلام یقول : إنّما الغسل من الماء الأکبر، فإذا رأی فی منامه ولم یری الماء الأکبر فلیس علیه غسل»(2) . لکن یمکن أن یکون المراد من قوله: «إنّما الماء بالماء»، هو إرادة الحصر فی النائم الذی یری الاحتلام، ولا یری معه شیء، حیث لا یجب علیه الغُسل إلاّ بخروج الماء الأکبر منه، فیکون الحصر حقیقیّاً وصحیحاً، وغیر معارض مع سائر الأخبار .

أو یراد من الماء فی قوله: «بالماء»، هو البول، حیث لا یطهّره إلاّ الماء، دون


1- کنز العمّال: ج5 ص90 الرقم 1917 .
2- وسائل الشیعة: من أبواب الجنابة، الباب 9 ، الحدیث 1 .

ص:494

الغائط حیث یطهّره غیره من الأحجار، فعلیه أیضاً یصحّ إبقاء ظهور الحصر علی الحقیقی منه .

نعم، لو اُرید من الماء فی الأوّل هو حصر الغسل، وبالماء الثانی هو المنی والماء الأکبر، حتی یفهم منه انحصار الوجوب فی خصوص الإنزال، فلابدّ من تقییده بهذه الأخبار بصورة الإنزال مع الدخول، أو مع عدمه، وإلحاق صورة الدخول بعدم الإنزال به، فیکون الحصر حینئذٍ إضافیّاً.

ولکن مع إمکان حمله علی أحد الاحتمالین الذین ذکرناهما، فإنّه لا داعی لحمله علی الأخیر، کما لایخفی .

کما أنّه یلزم بملاحظة الأخبار الدالّة علی وجوب الغسل بالدخول، وبین ما یتوهّم المعارضة مع روایة محمّد بن عمر بن یزید المتقدّم، حیث جاء فی ذیله بعدما أوجب الغسل بالدخول قوله : «وإذا التقی الختانان فیغسلان فرجیهما» حیث قد یتوهّم وجوبه بالالتقاء، ولو لم یحصل الدخول .

بأن یقال : إنّ أداة «إذا» یعدّ تفسیراً لما قبله، أی کان فیما فرض حصول الإنزال، کما هو لعلّه الغالب کذلک ، مضافاً إلی قرینة الغُسل _ بالفتح _ لا یکون إلاّ مع النجاسة الحاصلة بالإنزال .

أو یکون المراد بیان فردین من وجوب الغُسل، من الدخول بکلّ الذکر فی الفرج فی الأوّل، ومن مقدار غیبوبة الحشفة فی الثانی .

وأمّا احتمال کون المراد من الالتقاء، مجرّد وضع الختان علی الختان، من غیر دخول، حتّی لا ینافی ما دلّ علی الوجوب بالدخول، فیکون الغسل _ بالفتح _ حینئذٍ مستحبّاً .

وإن کان ممکناً، إلاّ إنّه بعید، لعدم وجه لاستحباب الغَسل مع عدم خروج المنی، إلاّ أن یکون إرشاداً إلی حُسن هذا العمل، والاکتفاء به کنایةً عن عدم وجوب الغُسل _ بالضمّ _ علیه.

ص:495

وإنْ کانت الموطوءة میتةً (1).

وکیف کان مع إمکان الحمل علی أحد التوجیهین السابقین، لا وجه لحمله علی الأخیر .

(1) والظاهر أنّ المستفاد من کثیر من الروایات، هو حصول الجنابة بالالتقاء والدخول مطلقاً، أی سواء کان الواطئ أو الموطوء مکلّفاً، أو غیر مکلّف، بل سواء کان حیّاً أو میّتاً، فالجنابة تحصل ولو کان الوطئ بالمجنونة أو الصبیّة أو المیتة .

نعم لا یجب شرعاً الغُسل علی غیر المکلّف، إلاّ إنّه جنبٌ، فیجب علیه الغُسل بعد بلوغه سنّ التکلیف، لأنّ المقتضی للوجوب حاصلٌ، إلاّ أنّ شرطه مفقود، أو المانع موجود، علی حسب تفاوت الموارد، ولذلک صرّح بوجوب الغُسل لواطئ المیتة فی کثیر من الکتب الفقهیّة مثل «المبسوط» و«الخلاف» و«الوسیلة» و«الجامع» و«المعتبر» و«المنتهی» و«المختلف» و«الذکری» و«الدروس» و«جامع المقاصد» و«الروض» وغیرها کالمتأخّرین، بل هو مقتضی إطلاقاتهم وإجماعاتهم، کما ادّعاه صاحب «الریاض»، بل لم ینقل الخلاف إلاّ عن أبی حنیفة .

فی سبب الجنابة / وطی غیر المکلّف أو المیّت

والعمدة بیان الأدلّة فی ذلک، وقد استدلّ لذلک بإطلاق النصّ والفتوی والإجماع کما عرفت، وبالاستصحاب وغیره، وما یستفاد من فحوی قوله : «أتوجبون علیه الحدّ ولا توجبون علیه صاعاً من ماء».

کما عن الشیخ الأکبر فی کتاب «الطهارة» .

وما ورد ذلک فی بعض الأخبار فی تفسیر قوله تعالی : «وَالَّذِینَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً»(1)، مثل الخبر المروی عن عبد الرحمن بن غنم الدوسی التمیمی، فی


1- سورة آل عمران : آیة 129 .

ص:496

حدیث طویل خلاصة: أنّ نبّاشاً کان ینبش القبور ویسرق الأکفان، ثمّ تاب وقبلت توبته، ومن جملة ما کان یفعله أنّه نبش قبراً من قبور بنات الأنصار وسلبها أکفانها، قال : «ولم أملک نفسی حتّی جامعتها، وترکتها مکانها ، فإذا بصوت من ورائی، یقول : یا شاب ویلٌ لک من دیّان یوم الدِّین، یوم یقفنی وإیّاک کما ترکتنی عریانة فی عساکر الموتی، ونزعتنی من حفرتی، وسلبتنی أکفانی، وترکتنی أقوم جنبة إلی حسابی، فویل لشبابک من النار» الحدیث(1) .

فی سبب الجنابة / فی وطی المیّت

حیث أنّ الظاهر من هذا الخبر صیرورة الشاب مجنباً بجماعه مع هذه المیّتة، کما تصیر المیتة مجنبة علی حسب الروایة، فیجب علیه الغسل بذلک .

وأمّا وجوب الغسل علی المیّت بواسطة حصول الجنابة، ففی «الجواهر»: أنّ الظاهر، کما صرّح به غیر واحد، أنّه لا یجب علیه الغسل، لا لنفسه ولا علی ولیّه، ولا علی سائر المکلّفین، لأصالة البراءة، وإن مال نفسه إلی حصول الجنابة مع إشکال .

ففی «مصباح الهدی» للآملی قدس سره : «وهو کذلک، أی لا یجب علیه، أمّا بناء علی انتزاع الوضع عن التکلیف فواضح، حیث لا تکلیف ولو علی نحو القضیة المشروطة بالنسبة إلی المیّت، لکی ینتزع منه الوضع . وأمّا بناءً علی استقلاله فی الجعل فکذلک، لانصراف الأدلّة فی المقام إلی ما یصحّ أن یتعلّق به التکلیف ولو شأناً، فلیس فیه إطلاق یشمل المیّت. ثمّ نقل قول من تمسّک بخلاف القضیة المذکورة، أی علی عدم حصول الجنابة له، لأنّ الجنابة معروضها النفس الناطقة، فلا یتّصف بها المیّت . فأجاب عنه: بالإشکال فیه صغرویاً، بما یدلّ علی کون تحت کلّ شعرة جنابة ، حیث یفهم منه اتّصاف البدن بذلک. وکبرویاً بالقضیّة المذکورة، حیث یفهم منها عدم انقطاع النفس عن البدن انقطاعاً کلّیاً، لو لم یدلّ


1- البحار ج3 الباب 20 من کتاب العدل والمعاد حدیث 26 .

ص:497

علی عدمه . ولکن مع ذلک یقول بعد ذکر القصّة: وإنّ دلالتها علیه لا یخلو ما فیه أیضاً، حیث أنّه لا یصیر دلیلاً علی ثبوت الجنابة فی البدن لکی یرتّب علیه أحکامها بالنسبة إلی الاحیاء. ثمّ قال : وکیف کان، فعلی تقدیر جنابة المیّت، فالأظهر عدم وجوب تغسیله للجنابة علی الأحیاء مطلقاً، ولیّاً کان أو غیره، لعدم الدلیل علی وجوبه، ومع الشکّ فیه فالمرجع هو البراءة، کما لا دلیل علی تأثیره فی رفع الجنابة علی تقدیر تغسیل الحیّ إیّاه» انتهی کلامه(1) .

ولا یخفی علیک أنّه لو ذهبنا إلی اعتبار القصّة المذکورة وصححّناها، أو جبرنا سندها بعمل الأصحاب، لو کان لأمکن جعلها دلیلاً علی حصول الجنابة من المیّت وذلک بوقوع الوقاع معه، حیث قد صرّحت _ کما فی الخبر _ بقولها : «وترکتنی أقوم جنبة إلی حسابی».

نعم لولا ذلک لأمکن الذهاب إلی ما قاله الآملی قدس سره تمسّکاً بما دلّ علی أنّ تحت کلّ شعرة جنابة . إشارة إلی أنّ المنی یخرج من تحت کلّ شعرة، وهذا لا یکون إلاّ بواسطة عروض تلک الحالة حین الوقاع الموجب لحرکة المنی، الحاصل من تحت کلّ شعرة، وتلک الحالة لا تکون إلاّ للأحیاء ، فحصول الجنابة للأموات _ لولا ورود دلیل یدلّ علیه _ مشکل جدّاً .

فإذا لم یمکن حصول الجنابة للمیّت، فلا معنی للحکم بوجوب تغسیله للأحیاء مطلقاً، ولیّاً کان أو غیره، وإلاّ لو سلّمنا حصول الجنابة له بمجرّد تلاقی الختانین، فلا مانع من القول بوجوب تغسیله، استئناساً من لزوم الغُسل علی الأموات، الذی قد اُشیر إلیه بکونه غُسلاً، لما فی ذمّته من الأغسال الواجبة ینویه الغاسل .


1- مصباح الأصول ج4 / 87 .

ص:498

أو لأجل خروج المنی منه للفتور الحاصل من الموت، کما قد ورد فی الأخبار التی تنقل حکمة غسل لحم الحیوان المذبوح بالماء، وأنّ ذلک یکون لأجل عروض الجنابة له بالموت، بواسطة خروج المنی منه .

فی سبب الجنابة / المراد من إلتقاء الختانین

فإذا لم یثبت عروض الجنابة للمیّت بالوطی ء، فلابدّ من حمل ذلک الخبر علی نوع تسامح فی استعماله، لأجل تنبیه الشاب الفاسق وإعلامه بالتوبة من عمله، کما کان کذلک وصار موجباً لتوبته .

مضافاً إلی الأصل، لو شککنا فی وجوب الغُسل، کما عرفت فلا نعیده .

فلازم ما ذکرنا، عدم ترتیب الجنابة علی مثل هذا المیّت المدخول بها، فیجوز وضعها فی المساجد، ومسّ کتابة القرآن ببدنها، بخلاف مثل الطفل والمجنون إذا حصل لهما الجنابة، بالدخول بهما حیث لا یجوز لهما الدخول بواسطة من یعلم حالهما، لعدم وجود تکلیف لهما بنفسهما، کما لایخفی .

ثمّ إنّه ما هو المراد من التقاء الختانین الموجود فی النصّ والفتوی؟

فقد یقال بعدم إمکان حصول الالتقاء حین إیلاج الذکر فی الفرج، لأنّ مدخل الذکر _ علی ما قیل _ واقع فی أسفل ثقب البول، ویعدّ المدخل هو محلّ خروج الحیض والولد ودخول المنی، ومحل الختان فی المرأة واقع فوق ثقب البول، حیث یکون للمرأة فوق ثقب البول لحمٌ نابت کعرف الدیک، والفصل بین الموضعین مانعٌ عن التقاء الختانین، فیکون استعمال اللفظ فی ذلک مجازیاً.

أو یکون المراد منه هو التحاذی بینهما حال الإیلاج، فیکون الاستعمال بالالتقاء لشدّة المقاربة، هذا کما فی «الجواهر» .

ولکن الإنصاف کون الاستعمال حقیقیّاً لا مجازیّاً، لأنّ الثقب الفاصل بینهما لیس بحدّ یوجب عدم الالتقاء، لأنّه صغیر حیث ینفتح ویخرج منه البول، وإلاّ کان رأسه ملتصقاً، وکان ختان المرأة ملتصقاً مع مخرج حیضها فی الجملة، فحصول

ص:499

الالتقاء یکون عند نهوض الذکر والتصاق العورتین حال المجامعة.

أو یبعد تحقیق حقیقة الالتقاء بذلک، فلا یکون الاستعمال فیه مجازیاً، وإن کان الثقبان منفصلین کما عرفت، فعلی هذا لا نحتاج لتوضیح ذلک من الاستدلال بما ورد فی صحیحة محمّد بن إسماعیل بن بزیع، حیث قال : «سألت الرضا علیه السلام عن الرجل یجامع المرأة قریباً من الفرج، فلا ینزلان متی یجب الغسل؟ فقال علیه السلام : إذا التقی الختانان فقد وجب الغسل. فقلت: التقاء الختانین هو غیبوبة الحشفة . قال : نعم»(1) .

لوضوح أنّ غیبوبة الحشفة لا خلاف ظاهراً فی حصول الجنابة به ، وبه یحصل الاکتفاء علی حسب ما بیّناه، کما لایخفی .

ثمّ حصول الجنابة لمن له حشفة أمرٌ واضحٌ ، ولکن الذی ینبغی أن یبحث عنه هو الذی لا حشفة له، کما إذا قطعت جمیعها أو بعضها؟

فی سبب الجنابة / فی حکم الأقطع

والصور المحتملة فی المقطوع تکون علی أنحاء: تارةً: بما علیه المشهور، _ بل قد صرّح به غیر واحد من الأصحاب، بل نسبته إلیهم مشعرٌ بدعوی الإجماع، بل فی شرح «الدروس» من قوله: الظاهر الاتّفاق علیه، کما قد یظهر من آخر نفی الخلاف فیه _ من أنّ تحقیق جنابته یکون بدخول ذلک المقدار من الذکر .

واُخری: فی قباله، بأن لا تتحقّق الجنابة أصلاً، جموداً بالشرط الوارد فی الأخبار وهو التقاء الختانین، وهو مفقود فیه، فإذا لم یتحقّق الشرط، فلا یتحقّق الحکم _ وهو الجنابة _ أخذاً بمفهوم الشرط، من باب سلب الموضوع.

ومن احتمال أن یکون المراد من الأخبار الدالّة علی الدخول والإیلاج المحقّق للجنابة ، دخول جمیع الذکر، المتعذّر فی حقّه، وخروج ذی الختان بخصوصه لایوجب خروج غیره، فلازم ذلک عدم حصول الجنابة له.


1- وسائل الشیعة: من أبواب الجنابة، الباب 6 ، الحدیث 2 .

ص:500

لکنّه فاسد، لأنّه بعد قیام الإجماع علی تحقّق الجنابة من مقطوع الحشفة، یسقط القول بعدم تحقّقها من إیلاجه مطلقاً. مضافاً إلی ما سیأتی من ذکر الدلیل علی تبدیل مثل تلک العناوین علی التقدیر .

فهذا الاحتمال لایحتاج إلی مزید بیان فی تضعیفه ، مع أنّ قید الالتقاء کان وارداً مورد الغالب مثل «الحجور» فی «الربائب» فلا مفهوم له حینئذٍ .

وثالثة: احتمال کفایة صدق دخول المسمّی فی تحقّق الجنابة، ولو کان بأقلّ من مقدار الحشفة لواجدها، عملاً بظاهر صدق الدخول عرفاً، لولا ملاحظة الأخبار فی فاقدها.

لکنّه أیضاً باطل _ مضافاً إلی ما سیأتی من الدلیل من إنّه یکون خلاف منصرف الإطلاق فی الأخبار _ لوضوح أنّه لو کان المسمّی کافیاً فیه، لکان واجدها أحری بالذکر من فاقدها، فإذا لم یترتّب الشارع الجنابة لواجدها إلاّ بدخول الحشفة لا المسمّی، نفهم منه أنّ الجنابة لا تتحقّق بمطلق الدخول، سواء کان واجداً للحشفة أو فاقداً لها، لأنّ ذِکْر الواجد کان للغلبة لا لخصوصیة فیه .

فبقی هنا احتمالان آخران :

أحدهما : لزوم دخول جمیع الذکر فی حقّه .

والثانی : کفایة التقدیر بمقدار الحشفة للفاقد .

فقد استدلّ للأوّل بکونه ظاهر قوله: «إذا أدخله»، وفی قول آخر: «إذا أولجه» _ علی إیلاج جمیعه، لمن کان فاقداً لبعضه، لأنّ من له حشفة قد ورد فی حقّه کفایة ذلک المقدار، أی نفس الحشفة .

هذا، ولکن یرد علیه بأنّ اعتبار إدخال جمیع الذَکَر باعتبار مجموعه لا یمکن تحقّقه، إلاّ لمن کان له الحشفة، لأنّ من لا حشفة له فلا مجموع له، إلاّ فی الباقی، وکفایة الباقی فی حقّ المقطوع، متوقّفٌ علی القول بصحّة دخول بعض الذَکَر لمن

ص:501

له الحشفة، ومع القول بکفایة البعض فی غیر المقطوع، لا معنی ولا وجه للقول بلزوم دخول المجموع فی المقطوع، إذ هو لا یکون أسوء حالاً من غیر المقطوع، لو لم نقل بعکسه، کما لایخفی . فلاجرم إلاّ القول بکفایة التقدیر، أی بمقدار دخول من له الحشفة .

هذا، مضافاً إلی إمکان أن یقال : إنّ ذکر عنوان التقاء الختانین، کان مثل ذکر عنوان خفاء الجدران لحدّ القصر، حیث یفهم منه العرف أنّ المقصود من الخفاء فیما إذا کان لذلک البلد سورٌ وجدران، ومقداره فیما لم یکن کذلک، ولذلک فهم منه الأصحاب التقدیر لمطلق البلاد والقری والأریاف حتی البوادی التی فیها الخیم وغیرها، وجعلوا حدّ القصر فیها ما مقداره هذا التقدیر، وکذلک یکون هنا، حیث أنّ ذکر الحشفة والتقاء الختانین، کان لأجل الغلبة فی الخارج .

ولهذا نقول بذلک التقدیر حتی فی المرأة فی زماننا هذا، حیث قد تُرکت عملیة ختان البنات فلا یتحقّق مصداق التقاء الختانین فی حقّهنّ، فمع ذلک لا یضرّ بما نحن فی صدده، وهکذا نقول فی مقطوع الحشفة أیضاً .

کما أنّ التقدیر المفروض فی حقّه یکون مناسباً فی حقّه أو فی الحدّ المتعارف فی الخارج، إذ ربّما یکون الشخص غیر متعارف فی الذکر من حیث الکبر والصغر، إذا أورد علی التقدیر _ الشیخ الأکبر فی کتاب «الطهارة» بعد الحکم بتحقّق الجنابة بإدخال الحشفة مطلقاً، من غیر فرق بین صغیرها وکبیرها لإطلاق النصّ من قوله: «بأنّ إرادة التقدیر مع مخالفته لظاهر اللفظ، المستفاد منه اعتبار الحشفة نفسها لا جعل العبرة مقدارها، یوجب حمل الحشفة علی المتعارف، فیلزم أن یقدّر فی صغیر الحشفة جدّاً وکبیرها مقدار الحشفة المتوسّطة، فإنّ التقدیر بامتثال ذلک یقدّر بالفرد المتعارف منها، لا بالشخص الموجود فی کلّ مکلّف، ولو لم یکن متعارفاً...» إلی آخر کلامه .

ص:502

ولکن الإنصاف إمکان إرجاع التقدیر فی کلّ شخص بحسب مقدار الحشفة ما لو کان له، لوضوح أنّ بیان المقدار کان بدلاً علی أصل الحشفة ، فکما أنّ الحشفة إذا کانت موجودة فیه، لا تتحقّق الجنابة إلاّ بما قد عیّنه الشارع له، فکذا یکون بدله ، فحمل المقدار فی کلّ شخص علی حسب حاله _ إذا فرض له حشفة _ لا یکون بعیداً وخارجاً عن مذاق العرف، واللّه العالم .

کما یظهر منه حکم المرأة التی لیس لها محلّ ختان، بتحقّق الجنابة بإدخال الذکر فی فرجها .

هذا کلّه بحسب دلالة الدلیل، وما یفهم منه، ولولاه فالمرجع هو الأصل، وهو هنا عدم تحقّق الجنابة، أو عدم تحقّق الدخول بما هو المعتبر فی الجنابة، بل واستصحاب الطهارة، وغیر ذلک من الاُصول.

هذا کلّه إذا کان المقطوع أصل الحشفة .

وأمّا لو کان المقطوع بعضها، فیزید علی الاحتمالات السابقة، احتمال: تحقّق الجنابة بغیبوبة الباقی منها مطلقاً، کما عن «التذکرة» و«الموجز الحاوی».

أو بشرط ما یبقی معه صدق مسمّی الإدخال، کما فی «جامع المقاصد» واختاره فی «کشف اللثام»، ولعلّه کان لأجل صدق ما یحصل به الدخول وغیبوبة الحشفة ولو بالباقی منها .

ولکن الأولی هو القول بالتقدیر المزبور فی البحث السابق، بأن یوجد المقدار بقدر الحشفة، لمن کان له ذلک، المستلزم بلزوم الإیلاج بأزید من الباقی منها ، إلاّ أن یکون الذاهب شیئاً لا یعتدّ به، فحینئذٍ یکتفی بغیبوبة الباقی منها للمسامحة فی ذلک، وإن کان مقتضی الاحتیاط هنا هو الإتیان بالغُسل مع حصول الغیبوبة للحشفة بالباقی منها، لاحتمال صدق الدخول وغیبوبة الحشفة بذلک، کما لایخفی .

فی حصول الجنابة بالإیلاج ملفوفاً

ثمّ إنّ الإیلاج والدخول الذی یترتّب علیه الجنابة، هل هو ما لو یکن علی

ص:503

الذَکَر والفرج حجاباً، أم لا؟ أی لم یکن ملفوفاً بثوب وخرقة حتّی تحصل المماسة بینهما مباشرة وتستکمل اللّذة بمماستهما معاً، بحیث لو لم یکن کذلک لوجود حجاب وستر ولو کان رقیقاً لم یتحقّق الجنابة .

أو الجنابة متحقّقة مطلقاً بحصول الإیلاج والدخول ولو کان الذکر ملفوفاً ، أو یفصّل بین کون الخرقة لیّنة لا تمنع وصول بلل الفرج إلی الذکر، وحصول الحرارة من أحدهما إلی الآخر، وما لیست کذلک، فتحصل الجنابة بالأولی دون الثانیة ؟

وجوهٌ وأقوال ، وإن کان الظاهر المتبادر من الأدلّة هو الأوّل، وذلک بمقتضی الجمود علی لفظ الالتقاء، حیث لا یحصل مع الحاجب، بل لا یبعد دعوی الانصراف عن الالتقاء مع الملفوف، کما فی «مصباح الفقیه»، ولذلک تری تنظّر صاحب «القواعد» قدس سره بحصول الجنابة مع الملفوف، وکذا فی «نهایة الأحکام» للعلاّمة، من احتمال عدم حصول الجنابة، لأنّ استکمال اللّذة یحصل برفع الحجاب ، وکأنّه ملاحظة ذلک أوجب احتمال التفصیل المذکور المندرج فی «نهایة الأحکام» .

إلاّ أنّ فهم الأصحاب بصورة الإطلاق، الکاشف عن وجود قرینة داخلیّة أو خارجیّة، أرشدتهم إلیه، أو استظهاراً من لفظ الالتقاء هو المحاذاة والمقدار، کما عرفت تعدّیهم إلی مقطوع الحشفة ، مع عدم صدق الالتقاء فیه حقیقة .

مضافاً إلی صدق اسم إطلاق الغیبوبة، والدخول، والوط ء، والجماع، حیث لا ینوط صدقها بالدخول بلا ستر وحجاب .

مضافاً إلی ذهاب کثیر من الأصحاب إلیه، مثل ما فی «المنتهی» و«التذکرة» و«الإیضاح» و«الذکری» و«الدروس» و«جامع المقاصد» و«الذخیرة» و«شرح المفاتیح»، بل فی الأخیر نسبته إلی الفقهاء، المشعر بدعوی الإجماع علیه، فبذلک ینقطع الأصل ویحصل به الجنابة .

ص:504

وإن جامع الدبر ولم یُنزل وجب الغُسل علی الأصحّ (1).

ولکن مع ذلک کلّه القول بعدم الاکتفاء بهذا الغُسل عن الوضوء یکون حسناً، من باب حُسن الاحتیاط لا الوجوب، کما لایخفی .

(1) والمسألة ذات قولین :

فی سبب الجنابة / الوطی فی دبر المرأة بلا إنزال

أحدهما: وهو المشهور أو الأشهر، هو وجوب الغُسل بالدخول فی الدبر وإن لم ینزل، بل ادّعی علیه الإجماع، کما عن السیّد المرتضی، وابن إدریس، بل فی «الجواهر»: إنّه یمکن للفقیه تحصیل الإجماع أیضاً فی هذا الوقت لندرة المخالف .

وثانیهما : عدم الوجوب، کما علیه بعض متأخّری المتأخّرین، وظاهر «المبسوط» و«الخلاف» التردّد فیه، وقد نسبه بعضهم إلی ظاهر «الفقیه» والکلینی والشیخ فی «النهایة» و«الاستبصار» و«التهذیب»، وإن أراد صاحب الجواهر توجیه کلماتهم حتّی یخرج عن المخالفة .

وکیف کان استدلّ للقول الأوّل بوجوه :

الوجه الأوّل : الإجماع ولولاه الشهرة بشهرة عظیمة علی حدّ التواتر، فلو استشکل فی الإجماع لا محیص من قبول الشهرة، وتکفی فی انجبار الأخبار، الموجب للوثوق بصدورها، خصوصاً عن المتقدّمین، کما أنّ إعراضهم یوجب وهن الخبر ولو کان من الصحاح .

الوجه الثانی : إطلاق الفرج لمطلق القُبل والدبر، کما هو کذلک فی اللغة، کما نُقل ذلک عن «المصباح» و«مجمع البحرین» و«القاموس»، بل ینسب غیر واحد من الأصحاب إلی اللغة، فإذا کان کذلک لغةً، فیدخل تحت ما دلّ علی لزوم الغُسل بالإدخال والإیلاج والغیبوبة .

وکونه عند أهل اللغة کذلک دون العرف حیث یختصّ بالقبل.

ص:505

قد اُجیب عنه: بعد تسلیمه، إنّه معلوم الحدوث أو مظنونه، فلا یکون حجّة .

واستشهد بصحّة إطلاق الفرج علی الذکر فی الکتاب والسنّة، مثل قوله تعالی : «وَالَّذِینَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ»(1).

علی عدم إطلاقه الآن علیه، مضافاً إلی دعوی عدم الخلاف عن السیّد المرتضی، فی شمول الفرج للدبر عند أهل الشرع، کما ادّعاه العلاّمة أیضاً .

هذا، ولکن الإنصاف صحّة إطلاق الفرج علی ذکر الرجل وقُبل المرأة، خصوصاً مع وجود القرینة فی الآیة، حیث قد ذکر فی ذیلها الأزواج والایمان، الموجب لصحّة إطلاقه لخصوص الذکر دون الدبر، حتی لا یبعد عدم شموله للفرج بمعنی القُبل، إن اُرید من الآیة ذکر أوصاف المؤمنین فقط دون المؤمنات، بصراحة اللفظ ودلالته .

ولو الحقتْ بهم بحکم الاشتراک فی الأوصاف، بحسب موارد لحن الخطاب، حیث قد تختصّ الآیة بطائفة، ولکن یقصد بها الجمیع، لعدم خصوصیة فی خصوص المؤمنین .

فإنّه لا یوجب شمول الفرج بالإطلاق للدبر أیضاً، إذا فرض عدم مساعدة العرف لذلک ، کما یشکل ذلک التمسّک بقوله تعالی: «أو لاَمَسْتُمْ النِّسَاءَ»(2) بأن یقال : إنّه یشمل بإطلاقه الجماع فی الدبر قطعاً فیحتاج الإخراج إلی دلیل .

لوضوح أنّه لیس المراد منه هو مطلق اللمس، فلابدّ أن یکون المراد ملامسة خاصّة، وهو لیس إلاّ ما هو المتعارف فی الخارج، وهو الجماع فی القبل، خصوصاً مع ملاحظة ما ورد فی تفسیرها عن الباقر علیه السلام إنّه ما اُرید بذلک إلاّ


1- سورة المؤمنون : آیة 5 .
2- سورة النساء : آیة 46 .

ص:506

المواقعة فی الفرج(1) .

والتمسّک بما ذکره صاحب «الجواهر» فی تأییده بما ادّعاه من صحّة صدق اسم الفرج علی الدبر، فیراد من المواقعة بالفرج کلا قسمیه .

لا یخلو عن إشکال، لأنّه لو اُرید منه الأعمّ، لکان ذکره بالخصوص غیر مأنوس لدفع التوهّم، إذ لا یتوهّم أحد کون مطلق الملامسة موجباً للجنابة، حتی أراد دفعه بجعله فی خصوص الجماع بکلا قسمیه، بخلاف عکس ذلک، حیث یصحّ التوهّم بکون المراد من قوله تعالی: «أو لاَمَسْتُمْ النِّسَاءَ» هو الأعمّ، حتّی یشمل الدبر، فأراد دفع التوهّم بکون المراد هو خصوص القبل مثلاً .

وکیف کان فإنّ الاستدلال بمثل هذه الآیات لا یخلو عن وهنٍ وتأمّل، کما لا یخفی .

وکذلک لا یمکن الاستدلال بما ورد فی الحدیث : «أتوجبون علیه الحدّ ولا توجبون علیه صاعاً من ماء»(2).

لوضوح أنّ الاستدلال به منوط علی إثبات الحدّ بمثل ذلک أوّلاً، ثمّ وجود التلازم بینه وبین الغُسل، وهو أوّل الکلام فی فرد خاص لا فی مطلق الدخول حتّی فی الدبر، إلاّ أن یثبت کون ذلک أیضاً من الجماع المترتّب علیه الأحکام، فیصحّ هذا التلازم کما هو واضح .

فأحسن ما یستدلّ به علی هذا القول هو مرسلة حفص بن سوقة، قال : «سألت أبا عبداللّه علیه السلام عن الرجل یأتی أهله من خلفها؟ قال : هو أحد المأتیین فیه الغسل»(3) .

حیث ینجبر ضعفها بالإرسال بالشهرة، وعمل الأصحاب ، کما أنّ إطلاقها


1- تفسیر الصافی ذیل آیة 46 .
2- وسائل الشیعة: من أبواب الجنابة، الباب 6 ، الحدیث 5 .
3- وسائل الشیعة: من أبواب الجنابة، الباب 12 ، الحدیث 1 .

ص:507

یشمل حتی صورة الإتیان بدون الإنزال، کما ورد فی المتن .

کما أنّ إطلاقها یشمل الفاعل والمفعول، فیجب الغسل علی الرجل والمرأة .

نعم، یتمّ الاستدلال بها لو اُرید من الإتیان بالخلف هو الدُبر، کما هو المتبادر إلی الذهن، دون مطلق الخلف حتی یشمل وضع الذکر بین الالیتین، إذا أولج ذکره فیه من الخلف کما قد یتّفق ، وإلاّ لخرج عن الاستدلال.

لکن الاحتمالان بعیدین عن مساق الحدیث .

هذا، ولکن قد یعارض ما استدلّ به للمشهور، بما یستفاد منه خلاف ذلک عن مثل ما فی صحیحة الحلبی، قال : «سئل أبو عبداللّه علیه السلام عن الرجل یصیب المرأة فیما دون الفرج، أعلیها غسل إن هو أنزل ولم تنزل هی؟ قال : لیس علیها غسل، وإن لم ینزل هو فلیس علیه غسل»(1) .

ورواه الصدوق بإسناده عن عبید اللّه بن علی الحلبی نحوه، إلاّ أنّه قال: «فیما دون ذلک» .

إن قلنا : بأنّ الفرج مختصّ بالقبل، فصارت الإصابة بدبر المرأة، فیدلّ علی عدم وجوب الغُسل علی الرجل لو لم ینزل، کما لا غُسل علیها بدون الإنزال .

ولکن الاستدلال علیه لا یخلو عن إشکال أوّلاً : إنّه لا یناسب مع أعمّیة الفرج للقبل والدبر، حیث یدلّ حینئذٍ علی خلاف المطلوب .

وثانیاً : علی فرض تسلیم الاختصاص بخصوص القبل، لا ینسبق منه الدخول بالدبر إلی الذهن، حیث یمکن أن یرید منه الإصابة بالتفخیذ أو إصابة أطراف القُبل من الالیة، کما قد یؤیّد ذلک ظهور قوله: «دون» أی قُبیل الفرج من أمام المرأة لا خلفها .


1- وسائل الشیعة: من أبواب الجنابة، الباب 11 ، الحدیث 1 .

ص:508

وثالثاً : من التردید فی وجود لفظ الفرج، بواسطة نقل الصدوق، بما لا یفهم منه وطی ء الدبر، وهو قوله: «دون ذلک» .

ورابعاً : لو أغمضنا عن جمیع ذلک، وسلّمنا إطلاقه بحیث یشمل وطی الدبر، فیمکن تقییده وتخصیصه بواسطة الأخبار الدالّة علی وجوب الغُسل لخصوص وطئ الدبر دون غیره ، فدعوی مخالفته الحدیث للمدعی لا یخلو عن تأمّل، کما لایخفی .

نعم، یصحّ دعوی ذلک فی مثل مرفوعة البرقی، عن أبی عبداللّه علیه السلام قال : «إذا أتی الرجل المرأة فی دبرها، فلم ینزلا، فلا غسل علیهما، وإن أنزل فعلیه الغسل ولا غسل علیها»(1) .

فی سبب الجنابة / لو وطئ غلاماً فأوقبه و لم ینزل

وحدیث أحمد بن محمّد، عن بعض الکوفیّین یرفعه إلی أبی عبداللّه علیه السلام : «فی الرجل یأتی المرأة فی دبرها وهی صائمة؟ قال : لا ینقض صومها، ولیس علیها غسل»(2) . ونحوه حدیث علی بن الحکم عن رجل عن أبی عبداللّه علیه السلام (3) .

والجمع بینها وبین ما سبق، بکون الإتیان بما قبل الدبر من الالیتین والفخذین، لا نفس المخرج، أو علی مقدار الحشفة، لا یخلو عن بعد جدّاً لاُنس الذهن بمثل هذه التعابیر بالدخول فی المخرج .

نعم، حمله علی التقیّة _ کما حمله الشیخ _ صحیحٌ لو ثبت قول العامّة بالجواز، کما لا یبعد فیه، أو طرحها لأجل کونها مرفوعاً ومرسلاً وغیر منجبر بالفتوی والشهرة، فلا یمکن الذهاب إلیه .

کما أنّ الاستدلال بمفهوم قوله علیه السلام : «إذا التقی الختانان فقد وجب الغسل»، ومفهوم قوله صلی الله علیه و آله : «إنّما الماء من الماء» .


1- وسائل الشیعة: من أبواب الجنابة، الباب 12 ، الحدیث 2 .
2- وسائل الشیعة: من أبواب الجنابة، الباب 12 ، الحدیث 3 .
3- وسائل الشیعة: من أبواب الجنابة، الباب 12 ، الحدیث 4 .

ص:509

ولو وطأ غلاماً فأوقبه، ولم یُنزل، قال المرتضی رحمه الله : یجب الغُسل، معوّلاً علی الإجماع المرکّب ولم یثبت (1).

حیث یدلّ علی کون الغسل للإنزال فقط، ویخرج ما خرج ویبقی الباقی ، منوط _ بعد التسلیم _ علی حجّیة المفهوم، کما کان کذلک فی الأوّل ، إلاّ أنّه فی المقام مشکلٌ لکونه وارداً مورد الغالب، وظهوره فی إرادة مقدار ما یوجب الغسل فی القبل مع ذلک، فهو عامّ فیخصّص بما نحن بصدده .

ولکن مع ذلک کلّه لا ریب فی حُسن الاحتیاط بالجمع بین الطهارتین فی المورد، کما لا یخفی .

(1) فإنّ ظاهر کلام الماتن مشعرٌ بعدم قبول الحکم، حیث ینسب إلی المرتضی اعتماداً علی الإجماع المرکّب، وقال : إنّه لم یثبت.

کما صرّح بالعدم فی «المعتبر»، بل وقد تردّد فی «النافع»، بل مال إلی عدم ثبوت حصول الجنابة بذلک المحقّق الآملی فی «مصباحه»، حیث قال : «وأمّا الإیقاب فی دبر الذکور من غیر إنزال، فإثبات الجنابة به فی طرف الفاعل کان مشکلاً، وفی المفعول أشکل . اللّهم إلاّ أن یتمسّک بالإجماع المرکّب، تارةً بدعوی أنّ کلّ من یقول بإثبات الجنابة به فی طرف الفاعل، یقول به فی طرف المفعول أیضاً . ولا یخفی أنّ الاحتیاط به فی أمثال هذه الموارد من المسلّمیات، مع أنّه لا دلیل قویّ علیه، ممّا لا ینبغی ترکه» . انتهی کلامه(1) .

کلامه ظاهر فی عدم ثبوت دلیل قوی علیه فی الفاعل والمفعول.

کما قد صرّح بعدم وجوب الغسل بذلک المحقّق الهمدانی فی «مصباحه»،


1- مصباح الهدی ج4 ص84 .

ص:510

حیث قال بعد ذکر الأدلّة والإشکال فیها : «فالقول بعدم الوجوب أوفق بالقواعد، وإن کان الاحتیاط ممّا لا ینبغی ترکه»(1) .

ولکن المشهور بشهرة عظیمة _ نقلاً وتحصیلاً_ کما فی «الجواهر» ، بل قال: لم یُعرف القائل بالفصل بین القول بوجوب الغُسل فی دبر المرأة وعدمه فی دبر الغلام، ولذلک قال العلاّمة فی «المختلف» : «إنّ کلّ من أوجبه فی دبر المرأة، أوجبه فی دبر الغلام، إذ لم ینقل الخلاف من علمائنا فی الوجوب، إلاّ أنّه نقل ذلک عن مثل داود ونظرائه من أهل الخلاف، حیث لا یضرّ مخالفتهم بإجماعنا».

بل فی «الجواهر»: «أنّ الإجماع هنا بسیط لا مرکّب حیث أنّه لو کان هناک مخالف فی المرأة، لصار الإجماع مرکّباً، والمفروض عدمه، فلا خلاف فی المسألة إلاّ من المحقّق کما عرفت، ومخالفته مع معروفیة حسبه ونسبه غیر ضائر، إذ لم ینقل من أحد سواه ».

فیصحّ أن یقال؛ بأنّ الدلیل علی الوجوب هو الإجماع، بسیطاً کان أو مرکّباً .

لکن قد تمسّک لذلک فی «الجواهر» بفحوی إنکار علیّ علیه السلام فی حدیث زرارة، حیث قال علیه السلام : «أتوجبون علیه الحدّ والرجم، ولا توجبون علیه صاعاً من الماء، إذا التقی الختانان فقد وجب علیه الغسل»(2) .

وبیانه: أنّه إذا وجب الغسل بوجوب الحدّ والرجم فی المرأة المحرّمة قبلاً أو دبراً للرجل والمرأة ، ففی مثل اللواط الذی یوجب الحدّ والرجم قطعاً، کان إیجابه للغسل بطریق أولی».

هذا، ولکن أورد علیه المحقّق الآملی والهمدانی، بإنکار الأولویة، لأنّ مورد


1- مصباح الفقیه ج3 ص265 .
2- وسائل الشیعة: من أبواب الجنابة، الباب 6 ، الحدیث 5 .

ص:511

الروایة منحصر فی قبل المرأة أو مع دُبرها، وأمّا بالنسبة إلی غیر المرأة فی الدبر _ مثل الرجل والبهیمة _ مشکل جدّاً، فلا یمکن التمسّک بمثله، کما لایخفی .

قلنا : یتوقّف الاستدلال بذلک علی ثبوت الجنابة بهذا النوع من الجماع، حیث وقع فی بیان الملازمة، بوجود التلازم بین صاع من الماء للجنابة وثبوت الحدّ والرجم إذا کان حراماً، فالتلازم صحیح لو ثبت من الخارج حصول الجنابة بذلک بدون الإنزال، أی بواسطة حصول الجنابة عن الحرام بالمخالطة یثبت الحدّ والرجم، ولکنّه أوّل الکلام، إلاّ أنّ المستدلّ أراد إثبات الملازمة من عکسه، بأنّه إذا ثبت الحدّ والرجم بذلک، فیثبت به الجنابة ووجوب الغُسل، کما کان المورد من حیث التعلیل هکذا .

فعلیه لا یبعد ذلک إذا فرض أنّ المخالطة بإطلاقه لیس بمرادٍ، بل بما یوجب الحدّ والرجم، ولیس هو إلاّ بالدخول والإیلاج ، فحینئذٍ لا یکون بالأولویّة بل یکون من قبیل منصوص العلّة، وکأنّه أراد بیان أنّه أن کلّما یوجب الحدّ والرجم علی الإنسان بهذا النوع من المخالطة، یوجب علیه الغُسل أیضاً، فإذا ثبت الحدّ أو الرجم باللواط، فیثبت علیه الجنابة والغسل أیضاً، وهو المطلوب .

لا یقال : یتمّ هذا الاستدلال لو لم یکن مذیّلاً بقوله: «إذا التقی الختانان فقد وجب علیه الغسل»، حیث أنّه یقیّد إطلاق الصدر بأن یکون المراد بما یوجب علیه الحدّ والرجم هو الدخول فی القبل لا مطلقاً، حتّی یشمل اللواط بالرجل والغلام .

لأنّا نقول : لازم الجمود بذلک هو عدم التسریة إلی دبر المرأة أیضاً، مع أنّه من المسلّمات من حصول الجنابة بذلک، بل علیه الحدّ والرجم فیما إذا کان من حرام، فیکون ذلک قرینة علی أنّ المراد من هذه الجملة، بیان مصداق المورد من تلک الموارد، فیتمّ الاستدلال، کما لایخفی .

وکذا استدلّ لوجوب الغسل بإطلاق قوله: «إذا أدخله» و«أولجه» و«غیب

ص:512

الحشفة»، مع انجبار ضعف الأخبار بالشهرة والإجماع .

فأورد علیه المحقّق الهمدانی، بأنّها واردة ومسوقة لبیان وجوب الغُسل علی الرجل والمرأة عند جماعهما وغیبوبة الحشفة، فالتسریة منها إلی الغلام قیاس محض .

ولکن یمکن أن یُجاب عنه: بکون المراد من إطلاق «الإیلاج» هو الولوج فیما من شأنه إیجاد الاستلذاذ منه بما یناسبه، لا بمطلق الإیلاج، وبذلک یسری إلی دبر المرأة، مع عدم کونه متعارفاً بحسب الطبع الأوّلی ، فدبر الغلام والرجل أیضاً یکون کدبر المرأة فی الإیلاج، ولا یکون خارجاً عن المناسبة، حتی یصدق القیاس فی التسریة إلیه .

نعم مورد ورود هذه الأخبار لیس إلاّ فی جماع الرجل والمرأة، کما لایخفی .

وکذا استدلّ علی المقام بإطلاق حسنة الحضرمی المرویة فی «الکافی» عن الصادق علیه السلام ، قال : «قال رسول اللّه صلی الله علیه و آله : مَنْ جامع غلاماً جاء جنباً یوم القیامة لا ینقیه ماء الدُّنیا»(1) .

فأُجیب عنه أوّلاً : إنّها منصرفة عن الجماع الذی لا یتحقّق فیه الإنزال، لکونه من الأفراد النادرة .

وثانیاً : إنّ الجنابة التی لا تنقیها ماء الدُّنیا، غیر الجنابة التی هی موضوع مسألتنا، أعنی الحالة المانعة من الدخول فی العبادات المشروطة بالطهور، کیف ولو کان المراد منها تلک الجنابة، لدلّت الروایة علی بطلان الغُسل الواقع عقیبها، وعدم ترتّب الأثر المقصود منه علیه، فتأمّل ، انتهی(2) .

وفی «مصباح الهدی»، قال : «إنّه کان فی مقام تشدید حکم المجامعة مع


1- وسائل الشیعة: من أبواب نکاح المحرم، الباب 17 ، الحدیث 1 .
2- مصباح الفقیه ج3 ص266 .

ص:513

الغلام، وأنّه لا یطهّره ماء الدنیا فیما یتحقّق به الجنابة، لا فی مقام بیان ما یتحقّق به الجنابة، لکی یؤخذ بإطلاقه، فلا إطلاق لها من هذه الجهة أصلاً»(1) . ولکن الإنصاف عدم تمامیة ما قاله المحقّق الأوّل، لوضوح أنّ الندرة لا توجب عدم دخوله فی الإطلاق .

فی جنابة الخنثی

نعم لو سلّمنا الندرة، فإنّه لا یمکن دعوی انحصار الإطلاق فیه، للزومه الاستهجان المحترز عنه .

کما لا یتمّ إشکاله الثانی أیضاً، لأنّ دعوی المغایرة بین الجنابتین، لاتوجب عدم تحقّقهما بذلک، فإذا فرض تحقّق الأشدّ به فکان الأضعف داخلاً فیه ، وما یطهّره ماء الدُّنیا ویزیله کان هو الأضعف لا الأشدّ، حیث هو لا یزیل إلاّ بمشیئة اللّه وغفرانه .

مضافاً إلی ضعف ما رتّب علیه فی آخره، بأنّه لو کانت تلک الجنابة هی المقصودة لدلّت الروایة علی بطلان الغُسل الواقع عقیبها .

لوضوح أنّ عدم إمکان إزالة تلک الجنابة وبقائها، لا ینافی کون الغُسل واجباً علیه لتحصیل الطهارة المشروطة، ولو کانت من باب کونها مبیحة للصلاة وغیرها، ولعلّه لذلک أمر بالتأمّل .

وکیف کان، فإنّ دلالة الروایة علی حصول الجنابة بذلک، ممّا لا خفاء فیه، سواء کان بالإنزال أو غیره .

غایة الأمر یفهمنا شدّتها، علاوة علی حصول الجنابة بذلک، وشدّة هذا العمل تکون بعدم نقاوة فاعله بماء الدُّنیا.

وعلی ذلک فإنّه لا یکون الاستدلال بمثل هذا الخبر علی حصول أصل الجنابة


1- مصباح الهدی ج4 ص82 .

ص:514

بذلک ببعید، کما لا یخفی، خصوصاً مع عدم وجود دلیل صالح علی خلافه، إلاّ الأصل المقطوع بتلک الأخبار، ومفاهیم غیر قابلة للمعارضة .

ولعلّ وجود هذه الإطلاقات أوجب ذهاب المعظم علی وجوب الغسل بذلک، لا کونه کاشفاً عن وجود دلیل آخر بیدهم، ولم یصل إلینا، أو إطّلاعهم بما لم نطّلع علیه، لقرب زمانهم من الأئمّة علیهم السلام دوننا، حتّی یقال إنّه لیس إلاّ الظنّ، وحجّیته غیر ثابتة عندنا، کما أشار إلیه المحقّق الهمدانی، ثمّ ضعّفه بکونه ناشئاً من الحدس والاجتهاد .

ولأجل ذلک أفتینا فی تعلیقتنا علی «العروة» بالوجوب، تبعاً لأکثر المحقّقین، وأصحاب التعالیق، واللّه العالم .

فإذا عرفت ثبوت الجنابة بذلک، فیظهر بذلک حکم سائر الفروع من أمثاله، مثل کفایة غیبوبة مقدار الحشفة فی مقطوعها وغیره .

بحث فی تحقّق الجنابة بالنسبة إلی الخُنثی واطأً أو موطوءاً

لا إشکال فی تحقّقها فیهما، فیما إذا کان الواطی ء الخنثی غیر مشکل والموطوء مشکلاً، وکان الوطی ء فی الدبر، سواء أنزل أم لا، إذ لا إشکال فی عدم تأثیر تردّده بین الرجل والمرأة بالنسبة إلی الدبر، فی تحقّق الجنابة بذلک .

نعم یصحّ التردید لمن ذهب إلی تقیید الجنابة فی الدبر بخصوص المرأة، فعلیه لا اطمئنان بحصولها بذلک ، فالأصل ینفیها، والمراد من الأصل لیس أصالة عدم الرجولیة حتّی یدّعی معارضته مع أصاله عدم کونها إمرأةً، بل المقصود منه هو الأصل الحکمی، أی الطهارة، وعدم حصول الجنابة باستصحاب الحالة السابقة، کما لایخفی .

ثمّ إنّ حکم الرجل الواطئ فی دبرها، یتّضح أیضاً علی القولین من الجنابة

ص:515

وعدمها ممّا سبق، لوحدة الملاک فیهما .

کما لا إشکال فی تحقّق الجنابة بالوطئ فی قبل الخنثی مع الإنزال، ولو کان مشکلاً، لأنّ سبب الجنابة بالنسبة إلی الواطئ، کان هو الإنزال لا الوطئ فی القبل، حتی یشکّک فی حصول الجنابة به .

وأمّا لو أولجت الخنثی فی دبر الخنثی _ أو فی قُبلها _ بلا إنزال، فهل تتحقّق الجنابة به أم لا ؟

قد یقال : بعدم حصول الجنابة، لأصالة البراءة، لاحتمال الزیادة.

هذا، کما عن صاحب «الجواهر»، بل ألحقه به وطی ء الواضح فی قبل الخنثی، بل وهکذا لو کان الواطی ء رجلاً، وکان الوطی ء فی القبل، لاحتمال کون القبل ثقباً _ کما علیه جماعة من الأصحاب _ بل یجری هذا الحکم فیما إذا کان الواطی ء الخنثی مشکلاً، سواء کان الموطوء رجلاً أو امرأة أو خنثی، فی قبلهما فی الأخیرین، أو دبرهما، مع عدم الإنزال فی الجمیع، لوحدة الملاک فی الجمیع .

إلاّ أنّ العلاّمة فی «التذکرة» احتمل وجوب الغُسل، إذا کان الولوج فی قبل الخنثی، مستدلاًّ بعموم قوله: «إذا التقی الختانان»، وبوجوب الحدّ به.

بل قد احتمل فی إیلاج الخنثی فی قُبل المرأة، جنابة المرأة للعموم .

بل قد استقرب وجوب الغسل فی إیلاج الخنثی فی دبر الغلام .

ولکن لا وجه لکلامه، لوضوح أنّ الالتقاء إنّما یوجب الغُسل والحدّ، إذا أحرز کون الولوج بالذکر والفرج، مع أنّهما مشکوکان فی حقّ المشکل، إذ مع التحقّق بأحدهما، لایوجب القطع بذلک لأنّ الأصل ینفیه، خصوصاً فی مثل الحدود، مع وجود دلیل علی الدفع مع الشبهة .

نعم، إذا اجتمع الدخولان، بأن أدخل الرجل بالخنثی، والخنثی بالاُنثی، فبالنسبة إلی الخنثی نقطع تفصیلاً بجنابتها، إمّا من جهة الفاعلیة لو کانت رجلاً،

ص:516

أو المفعولیة لو کانت اُنثی.

هذا بناءً علی عدم کونها طبیعة ثالثة، وإلاّ قد احتمل عدم تحقّق الجنابة بذلک أیضاً، کما فی «الجواهر» إلاّ إنّه ذهب إلی التأمّل فیه ، ولعلّه کان لأجل عدم تمامیّة هذا الاحتمال، لعدم وجود حالة غیر الجنابة فی حقّ الثالث بالنسبة إلی عروض هذه الحالة، کما لایخفی .

وأمّا بالنسبة إلی الرجل والمرأة، وإن کان یحصل معه العلم الإجمالی بجنابة أحدهما، لکن مرجعه إلی العلم الإجمالی بها بالنسبة إلی واجدی المنی فی الثوب المشترک، حیث یصحّ لکلّ منهما إجراء أصالة الطهارة بالنسبة إلی الأحکام المختصّة دون المشترکة _ کالجماعة ونحوها _ لأنّه یوجب العلم التفصیلی بالبطلان، إمّا بنفسه أو بسبب غیره، کما حقّق فی محلّه .

بقی هنا صورة ما لو تواطأ الخنثیان، ففی نسخة من «طهارة» الشیخ الأکبر _ علی حسب نقل المحقّق الآملی _ هو حصول الجنابة لهما، حیث قال: «ولو کانا خنثیین وتواطیا، کانا جنبین، کما لو کان الخنثی واطیاً وموطوءاً»، انتهی .

ثمّ قال الآملی : «ولم یظهر لی وجهه، واحتمل غلط النسخة، کما أنّها مملؤة منه» انتهی کلامه(1) .

ولکن فی «الجواهر» _ وتبعه المحقّق الآملی _ : عدم حصول الجنابة لهما، حیث قال : «فلا جنابة علی أحدهما لمکان الاحتمال، کما هو واضح» .

ولکن یمکن أن یقال، تأییداً لکلام الشیخ: بأنّ الخنثی الجامع لوصفی الواطئ والموطوء یقطع تفصیلاً بتحقّق الجنابة لها بأحد الوضعین، نظیر ما لو کانت واطئاً وموطوءاً .


1- مصباح الهدی ج4 ص90 .

ص:517

ولا یجب الغُسل بوط ء البهیمة، إذا لم ینزل (1).

هذا، ولکن یمکن أن یفترق بین الممثّل والممثّل علیه، حیث أنّ الشخص الواطی ء إذا کان معلوماً بالرجولیة، أو الموطوء بکونها امرأة، کان ذلک صحیحاً، بخلاف ما نحن فیه، حیث أنّ الواطی ء فی کلّ منهما یحتمل کون الآلة فیه زائدة، فلا یتحقّق بها الجنابة، إذ الأصل یقتضی نفی الجنابة بذلک .

وکیف کان یقتضی حُسن الاحتیاط هنا الإتیان بالغُسل، وترک إجراء الحدود، وترک الاکتفاء بهذا الغُسل لا یخلو عن وجه وجیه .

(1) عدم حصول الجنابة بذلک علیه المشهور، وإن أدخل تمام ذکره فی قبلها أو دبرها، کما هو خیرة المحقّق فی «المعتبر» وکذلک فی «الشرائع» وطهارة «المبسوط» والعلاّمة فی «المنتهی» و«الإرشاد» و«القواعد» و«جامع المقاصد» و«المسالک» و«الروض»، وکاد یکون صریح «الوسیلة» و«الجامع» و«السرائر»، ووافقهم المحقّق الهمدانی والآملی، وإن احتاط بما فی متن کلام «العروة» بالجمع بین الطهارتین .

فی حصول الجنابة بوط ء البهیمة

ولکن جماعة کبیرة من أصحابنا ذهبوا إلی وجوب الغُسل، کما یظهر عن الشیخ فی صوم «المبسوط»، والشهیدین فی «الذکری» و«المسالک» والوحید البهبهانی، وصاحب «الریاض» والعلاّمة فی «المختلف»، والاستاذ المعظّم فی «شرح المفاتیح»، بل هو المنقول عن المرتضی، ومال إلیه صاحب «الجواهر»، ونفی البعد عن الوجوب الشیخ الأکبر فی کتاب «الطهارة»، بل قد یظهر من المرتضی دعوی الإجماع علیه، وکونه من المسلّمات .

أقول: لا إشکال فی أنّ مقتضی استصحاب الطهارة، وأصل البراءة عن الأحکام المتعلّقة بالجنابة، بل واستصحاب نفی الموضوع، عدم حصول الجنابة

ص:518

بمثل هذا الدخول والولوج، الحکم بعدم وجوب ترتیب آثار الجنابة علیه .

إلاّ أن یقوم دلیل علی خلافه، ولیس فی المورد دلیل إلاّ عموم لفظ «الدخول» و«الولوج» و«غیبوبة الحشفة» الواردة فی الأخبار وقد ادّعی الانصراف فیه إلی الآدمی، فلا یشمل مثل البهائم.

ولا یخفی إنّ هذا الانصراف کان بحسب الاستعمال خارجاً بحسب الغلبة، لا الانصراف فی معنی لفظة «العورة» و«الفرج»، لوضوح صدق استعمال هذه الألفاظ علی البهائم أیضاً .

نعم، قد استدلّ علی عدم الجنابة، بمفهوم قوله علیه السلام : «إذا التقی الختانان فقد وجب الغسل» ، فیکون مفهومه عدم وجوبه عند عدم الالتقاء، کما فی البهائم» .

هذا، لکنّه مخدوش بأنّ هذا المفهوم، إنّما هو فیما له ختان، ولذلک یحکم بوجوب الغُسل فی الولوج فی قُبل المرأة التی لا ختان لها ، حیث یفهم منها استعمالها من باب الکنایة، علی حصول الدخول کما یعتبر فی الجنابة .

فإذا صار الأمر هکذا، فلایبعد القول بحصول الجنابة فی وطی ء البهائم، خصوصاً مع ملاحظة مناسبة الحکم للموضوع من حصول الحالة للإنسان بما یحصل من مجامعة النساء .

فی أعمال الکافر حال کفره

بل قد استدلّوا لذلک بالملازمة، المستفادة من صحیحة زرارة، فی قوله علیه السلام : «أتوجبون علیه الحدّ والرجم، ولا توجبون علیه صاعاً من الماء» .

بل قد ورد هذا التعبیر فی بعض الکتب: مرسلاً من قولهم ما أوجب الحدّ أوجب الغسل خاصّة مع انجباره بالإجماع المدّعی عن السیّد المرتضی، فتمّ الاستدلال .

ولکن قد أُجیب عنه: بأنّ الملازمة ثابتة فی الحدّ الثابت فی الزنا، لا فی مطلق الحدّ، وحدّ الواطی ء للبهیمة لیس حدّ الزنا، وإن أطلق علیه الحدّ فی بعض الأخبار .

ولا یخفی ما فی الجواب، لوضوح أنّ الوارد هو عنوان الحدّ علی نحو

ص:519

الإطلاق، فلا وجه للتقیید بخصوص الزنا من عندنا ، ولذلک یصحّ الاستدلال به لإثبات وجوب الغُسل فی اللواط، مع أنّ حدّه لیس بحدّ الزنا.

إلاّ أن یقال : إنّه دخل فیه بواسطة الرَّجم المذکور بالخصوص، فلا نحتاج فی الاستدلال به من التمسّک بلفظ الحدّ، کما لایخفی .

وکیف کان، فالتقیید بخصوص حدّ الزنا غیر معلوم .

نعم قد یرد علیه إنّه لیس فی وطی ء البهائم حدٌّ بل تعزیر، وإثبات الملازمة فیه أیضاً بواسطة إطلاق الحدّ للتعزیر فی بعض الأخبار بعیدٌ .

فبعد إمکان شمول إطلاقات الأخبار للمورد، الموجب لقطع الأصل، لا بأس بالالتزام بالاحتیاط بالجمع بین الطهارتین، لأنّ الافتاء بکفایة هذا الغُسل عن الوضوء، لا یخلو عن تأمّل، خصوصاً إذا کان الإنسان موطوءاً للبهائم والحیوانات . فما فی المتن من الاحتیاط بالجمع متین جدّاً، کما لایخفی .

***

هذا نهایة المجلّد الثالث، وقد وقع الفراغ منه لیلة الأربعاء الخامس والعشرون من شهر جمادی الأولی من عام ألف وأربعمائة وتسعة هجریة، أسأل اللّه سبحانه وتعالی أن یتقبّل هذا العمل بقبوله الحسن ویجعله ذخراً لیوم فقری وفاقتی، کما أسأله تعالی أن یترحّم علی والدیّ، وأنْ یسکنهما الفسیح من جنانه بجوار محمّد وآله الطیّبین الأطهار. وآخر دعوانا أن الحمد للّه ربّ العالمین.

ص:520

الفهرست

الفهرست

لو أتی بالوضوء علی نحو التقیّة أو الضرورة ثمّ زال العذر••• 9

لو أتی بالوضوء الناقص لعذر ثمّ زال العذر قبل الصلاة••• 17

لو زال العذر بعد المسح علی الحائل و نداوة الید باقیة••• 19

حکم الغایات المترتّبة علی العمل الفاقد بعد زوال العذر••• 20

مسح الرأس علی الحائل عند التقیّة أو الضرورة••• 23

الترتیب الواجب فی الوضوء••• 26

فیما لو أخلّ بالترتیب فی أعمال الوضوء••• 29

المراد من الاستدراک فی الإخلال بالترتیب••• 38

الترتیب الحکمی فی الوضوء••• 39

المراد من الموالاة فی الوضوء••• 42

الموالاة فی الوضوء حکم تکلیفی أو وضعی؟••• 51

فیما إذا نذر إتیان الوضوء متوالیاً••• 57

حکم الغسلة الثانیة فی الوضوء••• 60

تنبیهات عدد الغسلات فی الوضوء••• 72

حکم الغسلة الثالثة فی الوضوء••• 74

حکم تکرار المسح فی الوضوء••• 83

ص:521

ما یجزی فی غسلات الوضوء••• 87

ما یجزی فی غسلات الوضوء••• 88

اعتبار إیصال الماء تحت الخاتم و نحوه فی الوضوء••• 98

الشک فی الحاجب فی الوضوء••• 99

أحکام الجبائر / المراد من الجبیرة••• 119

أحکام الجبائر إذا أمکن تحصیل الغَسل الواجب••• 120

أحکام الجبائر إذا لم یمکن تحصیل الغَسل الواجب••• 124

أحکام الجبائر / المراد من المسح فی أخبار الجبیرة••• 148

أحکام الجبائر / کیفیّة المسح••• 151

أحکام الجبائر / إذا کانت الجبیرة فی موضع المسح••• 151

أحکام الجبائر / لو کانت الجبائر متعدّدة••• 153

أحکام الجبائر / لو کانت الجبائر مغصوبة••• 155

أحکام الجبائر / لو التصق شیء بمحلّ الوضوء و الغسل••• 161

أحکام الجبائر / لو لم یمکن المسح علی الجبیرة••• 167

أحکام الجبائر / لو اعتقد الضرر فی غسل البشرة ثم تبیّن خلافه••• 168

أحکام الجبائر / لو غَسل البشرة ثمّ تبیّن الضرر••• 170

أحکام الجبائر بعد زوال العذر••• 172

عدّة اُمور وهی:فی وجوب المباشرة فی الوضوء••• 178

تولّی وضوء العاجز••• 192

ما یجب فیه المباشرة فی الوضوء••• 200

کیفیّة تولّی وضوء العاجز••• 201

حکم مسّ القرآن للمحدث••• 202

ص:522

حکم المسلوس إذا کان له فترة تسع الصلاة و الطهارة••• 210

حکم المسلوس المتمکّن من تحصیل الطهارة أثناء الصلاة بلاعسر••• 213

حکم المسلوس إذا کان الحدث مستمرّاً••• 229

حکم المبطون••• 232

حکم سلس الریح و النوم••• 236

تطهیر موضع النجاسة علی المسلوس••• 238

حکم المسلوس و المبطون فی صلاة الاحتیاط••• 239

حکم المسلوس و المبطون فی مسّ کتابة القرآن و ما بحکمه••• 241

حکم من نذر أن یکون علی وضوء دائماً إذا صار مسلوساً••• 244

حکم المسلوس و المبطون فی طوافهما و غیره ممّا یشترط بالطهارة••• 247

سنن الوضوء••• 249

مکروهات الوضوء••• 263

أحکام الوضوء / لو تیقّن الحدث و شک فی الطهارة••• 268

أحکام الوضوء / لو شک فی الطهارة فی أثناء الصلاة••• 273

أحکام الوضوء / لو شک فی المتأخّر من الطهارة و الحدث••• 278

أحکام الوضوء / لو علم تاریخ الحدث دون الطهارة••• 302

أحکام الوضوء / لو علم تاریخ الوضوء دون الحدث••• 303

أحکام الوضوء / لو تیقّن ترک عضو••• 305

أحکام الوضوء / فی الشک فی شیء من أفعاله••• 306

أحکام الوضوء / فی حکم کثیر الشک فی أفعال الوضوء••• 325

أحکام الوضوء / فی حکم القطّاع فی أفعال الوضوء••• 331

أحکام الوضوء / لو تیقّن الطهارة و شک فی الحدث••• 333

ص:523

أحکام الوضوء / لو شک فی الحدث فی أثناء الطهارة••• 336

فی شیء من الوضوء بعد الفراغ عن الوضوء••• 339

قاعدة الفراغ / هل یکفی نفس الفراغ أم لا؟••• 340

قاعدة الفراغ / فی الملاک فی جریان القاعدة••• 346

قاعدة الفراغ / فی أقسام من الشکوک••• 346

قاعدة الفراغ / عدم جریان القاعدة فیما کان الشک فی أصل وجوده••• 353

قاعدة الفراغ / فی جریان القاعدة فی الغُسل الترتیبی••• 355

قاعدة الفراغ / فی الملاک فی جریان القاعدة••• 356

قاعدة الفراغ / من کان أحد أعضائه نجساً فتوضّأ ثمّ شکّ فی التطهیر••• 358

قاعدة الفراغ / فی جریان القاعدة و إن حصل له الیقین قبل الشک••• 361

قاعدة الفراغ / لو علم بالمانع و شکّ فی تقدّم الوضوء و تأخّره علیه••• 361

قاعدة الفراغ / لو علم المسح علی الحائل و شکّ فی المسوّغ له••• 363

قاعدة الفراغ / عدم جریان القاعدة إذا لم یترتّب علیه أثر••• 367

قاعدة الفراغ / لو علم بصلاة و حدث و شک فی المتقدّم منهما••• 378

قاعدة الفراغ / لو شکّ ثمّ غفل ثمّ شکّ••• 380

أحکام الوضوء / لو ترک الاستنجاء و صلّی••• 394

أحکام الوضوء / لو نسی الاستنجاء و صلّی••• 405

أحکام الوضوء / لو نسی تطهیر المخرجین و صلّی••• 408

أحکام الوضوء / لو نسی الاستنجاء و صلّی••• 410

أحکام الخلل فی الطهارة / لو علم بالخلل فی أحد الوضوئین••• 429

أحکام الخلل فی الطهارة / لو علم بالخلل فی أحد الوضوئین••• 441

أحکام الخلل فی الطهارة / لو علم بالحدث عقیب إحدی الطهارتین••• 446

ص:524

لو صلّی الخمس بخمس طهارات ثمّ علم بالحدث عقیب إحدیها••• 460

لو توضّأ وضوئین و صلّی بعد کلّ منهما نافلة ثمّ علم بالحدث عقیب أحدهما••• 462

فی تعریف الغسل و أقسامه••• 464

معنی الجنابة لغة و عرفاً••• 465

سبب الجنابة / خروج المنی••• 466

ما یعرف به الجنابة عند الشبهة••• 474

ما یعرف به الجنابة فی المریض••• 476

ما یعرف به الجنابة فی المرأة••• 479

لو وجد علی جسده أو ثوبه منیّاً••• 480

السبب الثانی للجنابة / الجماع و إن لم ینزل••• 489

سبب الجنابة / وطی غیر المکلّف أو المیّت••• 495

سبب الجنابة / فی وطی المیّت••• 496

سبب الجنابة / المراد من إلتقاء الختانین••• 498

سبب الجنابة / فی حکم الأقطع••• 499

حصول الجنابة بالإیلاج ملفوفاً••• 502

سبب الجنابة / الوطی فی دبر المرأة بلا إنزال••• 504

سبب الجنابة / لو وطئ غلاماً فأوقبه و لم ینزل••• 508

دخوله فی الإطلاق .فی جنابة الخنثی••• 513

حصول الجنابة بوط ء البهیمة••• 517

أعمال الکافر حال کفره••• 518

المجلد 4

اشارة

ص: 1

تألیف

آیة اللّه العظمی الحاج السیّد محمّد علی العلوی الگرگانی

الجزء الرابع

ص:2

ص:3

بسم الله الرحمن الرحیم

ص:4

ص:5

الکافر و أحکامه

قال رحمه الله : تفریع: الغُسل یجب علی الکافر عند حصول سببه، ولکنّه لا یصحّ منه فی حال کفره، فإذا أسلم وجب علیه، ویصحّ منه (1).

(1) الکلام عن الکافر یقع فی اُمور شتّی: الکافر و أحکامه

تارةً: فی بطلان أعماله فی حال کفره .

واُخری: فی وجوب مثل الطهارة والغسل علیه وصحّة عقوبته فی ترکه .

وثالثة: فی وجوب مثل تلک الاُمور علیه بعد إسلامه، وإن سلّمنا عدم وجوبه علیه فی حال کفره .

وأمّا الکلام فی الموضوع الأوّل: وقد وقع الخلاف فیه حیث قد استدلّ علیه باُمور :

الأمر الأوّل : بأنّه لا یتأتّی منه قصد التقرّب، مع أنّه معتبرٌ فی مثل الغُسل ونحوه .

وثانیاً : بوجود أخبار کثیرة تدلّ علی أنّه لا یقبل اللّه تعالی منه شیئاً ما لم یؤمن باللّه ورسوله وأوصیائه صلوات اللّه علیهم أجمعین، ولذلک قیل _ بل نُسب إلی المشهور، بل عن «الجواهر» دعوی الإجماع علیه _ بعدم صحّة شیء من العبادات المشروطة بقصد القربة فی حال کفره .

وثالثاً : إنّه یشترط فی مثل الغُسل والوضوء طهارة الماء والموضع والمحلّ، ولا یتحقّق فی حقّه لنجاسة بدنه بکفره ، فکیف یمکن إیقاع الغُسل الصحیح منه، فیکون باطلاً، وهو المطلوب .

ولا یخفی أنّه قد ناقش المحقّق الهمدانی قدس سره فی الجمیع :

فأمّا عن الأوّل: بإنّه ربّما یحصل من جملة من أصناف الکفّار المعتقدین باللّه، خصوصاً من منتحلی الإسلام المنکرین لبعض ضروریات الدِّین کالخوارج والنواصب .

ص:6

ولکن مندفع أوّلاً : إنّه تسلیم له فی بعضهم دون بعض، فلابدّ من الجواب عمّن یصحّ فی حقّه هذا الإشکال .

وثانیاً : حصول قصد القربة عن المذکورین أیضاً لا یخلو عن إشکال، لأنّه إن کانوا جاهلین ومقصّرین، فحکمهم حکم العالم، فلا یتمشّی منهم قصد القربة، وإن کان بزعمهم حصوله، لکنّه مجرّد خیال لا حقیقة له.

وإن کانوا قاصرین وإن أمکن صحّته فی حقّهم، لکنّه خروج عن مورد الغرض، وذلک لمقدرتهم کما لایخفی .

وأمّا عن الثانی: فبأنّ المراد بها علی الظاهر، عدم کون أعمالهم مقبولة علی وجه تؤثّر فی حصول القرب، واستحقاق الأجر والثواب، وهذا أخصّ من الصحّة المبحوث عنها، التی هی عبارة عن موافقة المأتی به للمأمور به الموجبة لسقوط التکلیف .

وفیه: أنّ الظاهر من شرطیة الإیمان باللّه وبرسوله والأوصیاء، هو القبول بمعنی الصحّة، لا الحصول بالقربة والأجر، خصوصاً مع وجود بعض القرائن الدالّة علی کون المراد هو الصحّة، حیث أنّ الکفر مانع عن الصحّة لا عن خصوص القربة والأجر، خصوصاً فی الأعمال المشروطة بقصد القربة، لو سلّمنا ما ذکر فی غیرها .

وأمّا عن الثالث: بأنّا نفرض اغتساله فی ماء عاصم ، ولو أجاب بأنّه : إنّه یشترط طهارة المحلّ المتعذّرة فی حقّه ، قلنا : المسلّم خلوّه عن نجاستة عارضة . وأمّا النجاسة الذاتیة، فاشتراط خلوّه عنها أوّل الکلام.

ثمّ قال فی آخر کلامه : «فالإنصاف أنّ القول ببطلان عمله علی الإطلاق، یحتاج إلی مزید تتبّع وتأمّل فی الأخبار، وفی کلمات الأصحاب، ولکنّه لا

ص:7

یترتّب علی تحقیقه ثمرة مهمّة» ، انتهی کلامه .

وما ذکره لا یخلو عن وهن، لأنّ مجرّد اغتساله فی ماء عاصم، وعدم انفعال الماء بذلک، لا یوجب صحّة غُسله، بعدما کان بدنه نجساً .

وما ذکره بأنّ المراد من عدم النجاسة، هی النجاسة العرضیة لا مطلقاً حتّی یشمل مثل النجاسة الذاتیة ، لا یخلو عن مناقشة، لوضوح عدم التفاوت فی النجاسة المترتّبة علی بدنه، من وجوب تطهیر المماس مع الرطوبة والاجتناب عنه، فیما یجب فیه الاجتناب، وغیره من الآثار ، مع النجاسة فی المورد، وهو مانعیته عن صحّة غسله .

فدعوی الفارق بین المقام وغیره ، دعوی بلا دلیل، کما لایخفی .

هذا، فضلاً عن أنّا نقول بإمکان الاستدلال بآیات عدیدة، دالّة علی بطلان أعمال الکافرین، حال کفرهم، وأنّه تحبط أعمالهم لأجل کفرهم، خصوصاً مثل قوله تعالی : «وَمَنْ یَکْفُرْ بِالاْءِیمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ»(1) .

بناءً علی شموله لمن استمرّ فی کفره، ولا یقبل الإیمان، لا أن یکون مخصوصاً لمن کان مؤمناً ثمّ أحدث الکفر .

ومثل قوله تعالی : «أُوْلَئِکَ لَمْ یُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللّه ُ أَعْمَالَهُمْ»(2) .

حیث یفهم منها، أنّ عدم الإیمان مساوقٌ لحبط الأعمال وبطلانها، وإن کانت الآیة الثانیة واردة فی حقّ المنافقین لا الکافرین، بخلاف الآیة السابقة ، فالاستدلال بها للمورد لا یخلو عن إشکال، فلیتأمّل .


1- سورة المائدة : آیة 5 .
2- سورة الأحزاب : آیة 19 .

ص:8

وأبین منهما فی الدلالة قوله تعالی :

«أَفَحَسِبَ الَّذِینَ کَفَرُوا أَنْ یَتَّخِذُوا عِبَادِی مِنْ دُونِی أَوْلِیَاءَ إِنَّا أَعْتَدْنَا جَهَنَّمَ لِلْکَافِرِینَ نُزُلاً* قُلْ هَلْ نُنَبِّئُکُمْ بِالاْءَخْسَرِینَ أَعْمَالاً* الَّذِینَ ضَلَّ سَعْیُهُمْ فِی الْحَیَاةِ الدُّنْیَا وَهُمْ یَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ یُحْسِنُونَ صُنْعا* أُولَئِکَ الَّذِینَ کَفَرُوا بِآیَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلاَ نُقِیمُ لَهُمْ یَوْمَ الْقِیَامَةِ وَزْنا»(1) .

فدلالة هذه الآیات علی ما ادّعیناه واضحة، لو لم نقل بشمولها حتّی لغیر الکافرین، من المنافقین الذین کفروا _ أی ستروا _ عن أداء شکر النعمة ولم یعملون بواجبهم، وکفروا بنعم اللّه علیهم ولم یؤدّوا شکرها، کما احتمل فیها .

هذا تمام الکلام فی الموضوع الأوّل، وقد عرفت دلالة الأدلّة علی بطلان أعمالهم، مع أنّ المسألة تحتاج إلی مزید من التتبّع.

وأمّا الکلام فی الثانی: وهو وجوب الغسل وغیره من الواجبات علی الکفّار.

فالظاهر إنّه ممّا لا إشکال فیه، بل لا خلاف عندنا، حیث لم ینقل الخلاف فیه عن أحد من الخاصّة إلاّ عن صاحب «الحدائق» و«الوافی» للکاشانی، تبعاً للمحقّق الأمین الاسترآبادی، وإن قال المحقّق الهمدانی: «إنّ فی ظهور ما حکاه عنه فیما ادّعاه تأمّل».

ومن العامّة عن أبی حنیفة .

ففی «الحدائق» اعترض علی المشهور بوجوه :

الوجه الأوّل : عدم الدلیل علیه وهو دلیل العدم .

فأجاب عنه المحقّق المزبور بأنّه یدلّ علیه ، _ مضافاً إلی دعوی الإجماع، کما


1- سورة الکهف : 102 _ 105 .

ص:9

عن غیر واحد _ سائر الأدلّة من العقل والنقل .

وأمّا العقل ففی مثل الأحکام التی یدرک العقل حُسنها أو قبحها، کوجوب ردّ الودیعة، وحرمة أکل مال الغیر، فالعقل یحکم بعمومها لکلّ مکلّف، وعدم اختصاصها بشخص دون شخص، فیشمل الکافر أیضاً .

فی وجوب الغسل علی الکفّار

وکذلک فی معظم الأحکام التوصّلیة، فیستفاد العموم من معلومیة کون المقصود من الطلب مجرّد حصول متعلّقه (أو ترکه) فی الخارج، من عامّة المکلّفین ، فالکافر داخل فیهم .

کما أنّ فی الأصول الضروریة، مثل الصلاة والصوم والحجّ والزکاة، فیستفاد ذلک من الأخبار المستفیضة الدالّة علی أنّها ممّا افترضه اللّه علی کافّة عباده .

منها: روایة أبی بصیر، عن أبی عبداللّه علیه السلام ، قال : «جعلت فداک أخبرنی عن الدین الذی افترضه اللّه تعالی علی العباد، ما لا یسعهم جهله ولا یقبل منهم غیره ما هو؟ فقال علیه السلام : أعد علیَّ ، فأعاد علیه . فقال : شهادة أن لا إله إلاّ اللّه، وأنّ محمّداً رسول اللّه، وأقام الصلاة، وإیتاء الزکاة، وحجّ البیت من استطاع إلیه سبیلاً، وصوم شهر رمضان. ثمّ سکت قلیلاً، ثمّ قال : والولایة مرّتین»(1) إلی آخره.

إلی غیر ذلک من الأخبار والآیات التی یستفاد منها استفادة ضروریة مثل هذه الفرائض من الاُمور المهمّة المعتبرة فی الشریعة، وقد أوجبها الشارع علی کلّ من أمره بالإسلام، ومقتضی وجوب هذه الفرائض علی عامّة المکلّفین، وجوب مقدّماتها علیهم، کالغسل والوضوء وغیرهما کما لایخفی» ، انتهی کلامه(2) .


1- وسائل الشیعة: من أبواب المقدمة العبادات، الباب 1، الحدیث 12 .
2- مصباح الفقیه ج3 ص269 .

ص:10

ونحن نزید تأییداً لکلامه، مع ضمیمة المقدّمة التی ذکرها فی آخر کلامه من إمکان استفادة ذلک من الآیات العامّة، التی جعل عامّة العباد والناس مخاطباً للتکلیف بالعبادة والحجّ، مثل قوله تعالی : «یَا أَیُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّکُمْ الَّذِی خَلَقَکُمْ»(1) الآیة .

حیث أنّه من المعلوم أنّه لیست العبادة إلاّ مثل الصلاة ونحوها، فإذا کانت واجبة بعموم الخطاب، فتجب مقدّماتها .

وقوله تعالی: «وَللّه ِِ عَلَی النَّاسِ حِجُّ الْبَیْتِ»(2) الخ ، وأمثال ذلک کثیرة .

فدعوی عدم الدلیل علی الوجوب غیر مقبولة، کما کان الأمر کذلک فی دعوی تخصیص الخطاب بالایمان والإسلام .

مضافاً إلی إمکان استفادة ذلک من إطلاقات الأدلّة فی کثیر من الأحکام، حیث لم یقیّد الأوامر والنواهی الواردة فیها بالإسلام، بل تعلّق بالمکلّف بصورة الإطلاق الشامل للکافر .

نعم لنا أحکام یکون الإسلام دخیلاً فیها، مثل حکم وجوب حفظ الفرج عن النظر لشرافة الإسلام، حیث لم یفهم العموم من دلیله، لکنّه نادر ینصرف عنه کلمات الأعلام .

نعم، فی الأحکام التی شُرّعت تدارکاً لما فات من التعبّدیات، مثل الکفّارات والقضاء، حیث أنّ صحّتها مشروطة بالإسلام، وإسلامهم یجبّ ما قبله، فیقتضی عدمها، فکیف یؤمر بها بما یوجب عدمها، فلا یکونون مکلّفین .


1- سورة البقرة : آیة 21 .
2- سورة آل عمران : آیة 97 .

ص:11

مع أنّه یمکن أن یقال : إنّ الکافر أیضاً متعلّق للتکلیف، إلاّ إنّه بعد التکلیف یرتفع عنه بواسطة قبوله الإسلام، فلا ینافی ذلک کون التکلیف لهم ثابتاً، وثمرته تظهر فی جواز عقوبتهم فی ترک هذه الواجبات لو ماتوا قبل قبول الإسلام، کما لایخفی .

الثانی من الوجوه: التی استدلّ به صاحب «الحدائق» قدس سره علی خلاف المشهور، هو دلالة الأخبار الکثیرة، علی توقّف التکلیف علی الإسلام:

منها: صحیحة زرارة، عن الباقر علیه السلام ، فإنّه قال بعد أن سُئل عن وجوب معرفة الإمام، علی من لم یؤمن باللّه ورسوله ، کیف یجب علیه معرفة الإمام وهو لا یؤمن باللّه ورسوله(1) ؟

«فقال : فإنّ هذه الروایة صریحة الدلالة علی خلاف ما ذکروه، فإنّه متی لم تجب معرفة الإمام قبل الإیمان باللّه ورسوله، فبطریق أولی لا تجب معرفة سائر الفروع التی هی متلقّاة من الإمام علیه السلام »(2) .

فأجاب عنه المحقّق الهمدانی قدس سره : بکون المراد عدم وجوب المعرفة لمن کان جاهلاً باللّه ورسوله، فی لزوم الإیمان فی حقّه، حیث کان الأمر کذلک لاستحالة التکلیف بما یتوقّف وجوبه علی علمه بلزوم الإتیان بمقدّمته، وهو الإیمان باللّه ورسوله ، ولذا قد تعجّب الإمام علیه السلام .

قلنا : إنّ ما ذکره هو خلاف لظاهر الروایة، ولعلّه قد حملها علیه حتّی یصحّ التمسّک بها علی مراده .

ولکن یمکن أن یکون المراد الإشارة إلی واقعیة القضیة، من عدم إمکان


1- الکافی: ج1 / 181 / 3 .
2- الحدائق الناضرة: 3 / 39 _ 40 .

ص:12

حصول معرفة الإمام مع عدم الإیمان باللّه ورسوله، فلاینافی کون وجوبه منوطاً بوجوب الإیمان باللّه، یعنی إذا کان الإیمان بهما واجباً علیه، فیجب علیه معرفة الإمام أیضاً ، ولذا کان الموضوع لوجوب المعرفة نفس المکلّف بلا تقیید بالإسلام، فلذلک قال صاحب «الجواهر»: الامتناع بالاختیار لا ینافی الاختیار، فیجب علیه تمام الاُمور من الفروع، ولو کانت موقوفة علی الإیمان والإسلام، أو یقدر علی تحصیلهما، کما لایخفی .

الثالث من الوجوه : لزوم تکلیف ما لا یطاق، فإنّ تکلیف الجاهل بما هو جاهل تصوّراً أو تصدیقاً، تکلیفٌ بغیر المقدور .

ولعلّ مراده منه أنّه لا یقدر الإتیان بالغُسل فی حال کفره .

وقد عرفت جوابه آنفاً، حیث أنّه قادر علیه لأجل قدرته علی تحصیل مقدّماته، بدلیل قاعدة الاختیار.

وإن اُرید من عدم القدرة علی ذلک لأجل جهله بالحکم، کما قد صرّح فی استدلاله .

فأجاب عنه المحقّق الهمدانی بالنقض أوّلاً : «بتکلیفه بالإسلام، فإنّه جاهل به تصدیقاً، فکیف یجب علیه ذلک . وثانیاً بالحلّ: أنّه إن اُرید من قبح التکلیف، قبح توجیه الخطاب إلیه، والطلب منه ».

ففیه: إنّ الخطاب أوّلاً وبالذات إنّما یوجّه إلی الجاهل، فإن علم منه تکلیفه تفصیلاً أو إجمالاً تنجز الطلب فی حقّه، و وجب علیه الخروج من عهدته عقلاً، وإلاّ فهو معذور ما لم یکن مقصّراً، فلا یعقل أن یکون توجیه الخطاب إلیه مشروطاً بعلمه .

وإن اُرید قبیح تنجّزه علیه، بمعنی مؤاخذته علی مخالفة ما أمره به، ولو لم

ص:13

یعلم حکمه من الخطاب، أو لم یصله الخطاب الموجّه إلیه.

ففیه: أنّه إنّما یقبح بالنسبة إلی القاصر، دون المقصّر الذی یجب علیه الفحص والسؤال، ولذا لم یقل أحد بمعذوریة الجاهل بالأحکام الشرعیة، إذا عمل بالبراءة قبل الفحص عن الطرق الشرعیّة» انتهی محلّ الحاجة(1) .

ولا یخفی أنّ مراده من الشقّ الأوّل، من توجیه الخطاب إلی الجاهل، أی إلی المکلّفین والعباد بأنفسهم لا إلی الجاهلین بوصف الجهل ، غایة الأمر کلّ من صار عالماً به وقادراً علیه، تنجّز فی حقّه، وإن لم یعلم ولم یکن مقصّراً فی جهله یکون معذوراً ، ففی مثله کیف یکون تکلیفاً بما لا یطاق بالنسبة إلی جهله .

فثبت من جمیع ما ذکره المحقّق، وما بیّناه، أنّ ما علیه المشهور من کون الغُسل والوضوء وسائر مقدّمات العبادات واجبة علی الکفّار، کوجوب سائر الواجبات وحرمة سائر المحرّمات .

الرابع من الوجوه : الاستدلال بالأخبار الدالّة علی لزوم طلب العلم للمسلم، دون مجرّد العاقل البالغ، مثل قولهم علیهم السلام : «طلب العلم فریضة علی کلّ مسلم» .

وجوابه: واضح، بأنّ هذه القضایا من المخاطبات والجملات والترکیبات، وإن أُخذ فیها قید «المسلم»، لکن لیس هذا إلاّ لکون المواجهة بالکلام لمن أسلم واختار الدین، حیث یقبل ذلک منهم، لا أن یکون المراد خصوص المسلم دون غیره، کما هو واضح عند عرف العقلاء، حیث یخاطبون لمن کان حاضراً عندهم وحلّ بینهم، وإن لم یکن المقصود خصوص الحاضرین والمواجهین، کما هو المراد فی المقام ، لاشتراک جمیع العباد فی التکلیف، ولا یختصّ بخصوص قوم


1- مصباح الفقیه ج3 ص272 .

ص:14

دون قوم، کما هو المفروض فی البحث .

الخامس من الوجوه : إنّه لم یعلم أنّ النبیّ صلی الله علیه و آله أمر أحداً ممّن أسلم بغُسل الجنابة بعد الإسلام ، مع أنّه قلّما ینفک أحدٌ منهم من الجنابة فی تلک الأزمنة المتطاولة، ولو أمر بذلک لنُقل ووصل إلینا ذلک .

فی حکم جنابة الکافر بعد ما أسلم

ولا یخفی ما فیه من الإشکال: إذ المفروض أنّ الجنابة حالة عارضة للإنسان، الموجبة لما لا یمکن تقرّبه إلی اللّه إلاّ بإزالتها، ولا یحصل ذلک إلاّ بالغُسل، ولا فرق فیه بین کونه مسلماً أو کافراً، فإذا فرض أنّ الکافر امتلک الشرف بدخوله الإسلام، فیجب علیه کلّ ما وجب علی المسلم، کما یجب علیه معرفة سائر المسائل، فلا یحتاج إلی ذکر خصوص مثل الغسل أو الوضوء حال قبوله الإسلام ، بل یکفی ذکر ذلک بعد تشرّفه إلی الإسلام .

وأمّا کون الغسل واجباً له حال کفره، فهو یعدّ کسائر الواجبات والمحرّمات، یعنی إذا ثبت وجوبها علیه بالأدلّة، فیدخل فیها مثله أیضاً، فلایحتاج إلیه دلیل مستقلّ دالّ علیه، کما لایخفی .

وأمّا ما روی من أنّ النبیّ صلی الله علیه و آله أمر بأن یغتسل بعض من دخل الإسلام حین إرادته الإسلام _ کما نقل ذلک فی «سنن أبی داود»(1) و«سنن النسائی»(2) _ بل فی «مصباح الفقیه»: «ربما یظهر من بعض الأخبار أنّ الغسل عند إرادة الإسلام کان معروفاً عندهم، فلعلّه کان هذا الغسل کغسل الجنابة مجزیاً عن کلّ غسل وإن کان إثباته محتاجاً إلی الدلیل» .


1- سنن أبی داود 1 / 98 / 355 .
2- سنن النسائی 1 / 109 .

ص:15

قلنا : إن کان هذا الغسل قبل قبوله الإسلام فإنّه یصعب الحکم بصحّته لنجاسة بدنه أوّلاً، وعدم تمشّی قصد القربة منه قبل الإسلام ثانیاً .

وإن کان بعد قبوله الإسلام، فلا إشکال فی کونه مجزیاً عن الجنابة، بل عن کلّ ما وجب فی ذمّته، کغسل مسّ المیّت _ والحیض والاستحاضة والنفاس إن کانت امرأة _ حیث أنّه مشتمل لذلک .

إلاّ إنّه لابدّ أن یلاحظ مقدار دلالة الدلیل.

وکیف کان، فلا إشکال عندنا أنّ الکافر مکلّف بکلّ ما یکون المسلم مکلّفاً به، وهو المطلوب ، ومنه الغسل، إلاّ إنّه لایصحّ منه إلاّ إذا أسلم، فإذا أسلم وجب علیه الغسل ، أمّا لوجوبه السابق علیه، أو یصیر واجباً علیه بعد إسلامه، لو لم نقل بکونه مکلّفاً حال کفره، إذ غایته حینئذٍ أنّه یکون کالنائم والمغمی علیه وغیرهما، ممّن لا یکون مکلّفاً حال حدوث سبب الجنابة، ولکنّه یدخل تحت عموم الخطاب بعد واجدیته لشرائط التکلیف، فیشمله عموم الآیة من قوله تعالی : «وَإِنْ کُنْتُمْ جُنُبا فَاطَّهَّرُوا»(1) ، وقوله علیه السلام : «إذا دخل الوقت وجب الصلاة والطهور» وأمثال ذلک .

لا یقال : إنّ ما ورد بأنّ الإسلام یجبّ ما قبله، یرفع حکم الجنابة ونحوها .

لأنّا نقول : إن قلنا بأنّ وجوب الغُسل کان ممّا یجب علیه بعد الإسلام، فلا معنی لقوله: «الإسلام یجبّ...» لصیرورته حینئذٍ من الاُمور اللاحقة، فلا یجبّه ما وجب بسببه وهو الإسلام، کما لایخفی .

وإن قلنا : إنّ وجوبه کان قبل الإسلام، فهو أیضاً لا یجبّه، لأنّ الإسلام یجبّ


1- سورة المائدة : آیة 6 .

ص:16

ولو اغتسل ثمّ ارتدّ ثمّ عاد، لم یبطل غسله (1).

الأفعال والتروک الصادرة منه فی زمان کفره حین معصیته، من حیث أنّه ترک واجباً أو حراماً، لا الأشیاء الصادرة منه حال کفره الموجبة لترتّب الآثار الوضعیة، خصوصاً إذا لم یصدر علی وجه محرّم، مثل ما لو بال أو احتلم، فإنّ مثل هذه الاُمور کانت قبل نجاسة الثوب والبدن المتلوّث بهما لا یرتفع بحسب الإسلام، خصوصاً إذا لم نقل بأنّ الآثار الوضعیة من المجعولات الشرعیة _ کما هو الحقّ عند بعض _ بل إنّما هی اُمور واقعیّة کشف عنها الشارع، أو انتزعت من الأحکام التکلیفیّة، فمن خرج منه المنی یعدّ جنب واقعاً، فیجب علیه الغُسل عند وجوب الصلاة ونحوها علیه .

لو اغتسل او تیمّم ثمّ ارتدّ ثمّ عاد

وکیف کان، فلا مجال لأحد أن یتوهّم ارتفاع الإسلام الحدث الواقع قبله، کما لا ترتفع التوبة لمثل ذلک، بعدما ورد فی الخبر من أنّ التوبة تجبّ ما قبلها(1) .

(1) وجه عدم بطلان الغسل بل الوضوء، هو عدم کون الردّة من النواقض، بل النواقض منحصرة فی عدّة اُمور لیس منها ذلک .

ولا یخفی أنّ العود لا یکون دخیلاً فی المسألة، لوضوح أنّ ما یتوهّم دخالته هو نفس الردّة، ولعلّ وجه ذکره هو إمکان استفادته من الغُسل لما یشترط فیه، ولذلک تری أنّ صاحب «الجواهر» اعترض، وقال : ولا خلاف قوله: «ثمّ أعاد» لکان أخصر وأوضح .

بقی هنا غیر الغُسل والوضوء وهو التیمّم، یعنی لو تیمّم بعد إسلامه وخروجه


1- عوالی اللئالی: 1 / 237 / 150. مستدرک الوسائل: الباب 86، من جهاد النفس، الحدیث 12 .

ص:17

عن الکفر، ثمّ ارتدّ فهل یوجب ذلک بطلان التیمّم أم لا؟

ففی «المصباح» للهمدانی قدس سره : «عدم کون الارتداد من النواقض، وجواز فعل ما هو مشروط بالطهور کان بلا إشکال ولا خلاف ظاهراً، فیما عدا التیمّم، لانحصار النواقض فیما عداه . وأمّا التیمّم فعن «المنتهی» أنّه ینتقض بالارتداد، لأنّ الغرض منه الإباحة وقد ارتفعت . ثمّ أورد علیه، وقال : وفیه أنّ الارتداد کنجاسة البدن بعد التیمّم مانعٌ من تأثیر التیمّم فعلاً فیما یقتضیه، فإذا ارتفع المانع أثّر المقتضی أثره . والحاصل : أنّ عدم جواز الدخول فی الصلاة، أعمٌّ من انتقاض التیمّم، فلیستصحب أثره . فالأصحّ أنّ التیمّم أیضاً لا یبطل، کما لم یبطل غسله ووضوئه، واللّه العالم» ، انتهی کلامه(1) .

ولکن یمکن أن یقال هنا بالنسبة إلی التیمّم بالخصوص، هو القول بالتفصیل، بأنّه حینما کان التیمّم رافعاً للحدث، کان حکمه کحکم الغُسل والوضوء من عدم إضرار الارتداد بحاله، إذ الارتداد لا یوجب عود الحدث، ولا یکون ناقضاً.

وبین ما کان مبیحاً للصلاة، کالتیمّم فی ضیق الوقت، حیث أنّه بعد الارتداد خرج عن عنوان الإباحة، ثمّ بعد العود هل یکفی ذلک فی کونه مبیحاً أو یحتاج إلی إعادته، حتّی یکون مثل الارتداد هنا، أم لا؟

مثلُ وجدان الماء الموجب لإبطال التیمّم ، غایة الأمر فی الأوّل یزیل الإباحة وفی الثانی یزیل الرافع، فکفایة التیمّم الأوّل السابق حتّی لما بعد العود عن الارتداد لا یخلو عن إشکال، لزوال أصل الغایة فیه بواسطة الارتداد .

ولعلّ هذا هو مراد العلاّمة فی «المنتهی»، قضیة للعلّة المذکورة .


1- مصباح الفقیه: ج3 / ص277 .

ص:18

وما أجابه المحقّق الهمدانی، بکون الارتداد مثل نجاسة الثوب من الموانع لا من المزیل ، غیر معلوم، فلا أقلّ من الاحتیاط، کما لایخفی .

فرع: المرتدّ عن فطرة إن بنینا علی قبول توبته ظاهراً وباطناً، فلا إشکال حینئذٍ إنّه یعدّ مکلّفاً بأحکام المسلمین، ویکون غُسله صحیحاً مثل سائر عباداته .

وإن قلنا بقبول توبته باطناً دون الظاهر، فقد یحتمل أیضاً صحّة أعماله وعباداته بالنظر إلی باطنه، وإن جری علیه حکم الکفر بالنسبة إلی غیرها من الأحکام، کالقتل وغیره، وهو الظاهر.

کما احتمل أن یقال بالصحّة بالنسبة إلی نفسه، فیکون خارجاً عن الجنابة، وإن جرت علیه أحکام الجُنب بالنسبة إلینا، عملاً بظاهر کلّ من جعل للتوبة تأثیراً فی الظاهر والباطن، وإن کان هذا ضعیفاً، لوضوح أنّ الجنابة عبارة عن حالة نفسانیة، إن زالت بواسطة الغُسل فترفع حتّی بالنسبة إلی الغیر، وإلاّ فلا .

نعم، ففی مثل الطهارة ونجاسة البدن، یمکن هذا التفصیل، لإمکان تفاوت الحکم بین الأفراد بواسطة العلم والجهل، حیث یحکم بالنجاسة للعالم، وبالطهارة للجاهل فیما إذا کانت الطهارة والنجاسة ذکریة ، وهذا بخلاف الطهارة والحدث حیث أنّهما واقعیان، فلا یدخل فیهما العلم والجهل ولا غیرهما کما فی المقام .

وأمّا إن قلنا بعدم قبول توبته مطلقاً _ أی فی الظاهر والباطن _ قد یقال : إنّه لا إشکال فی عدم صحّة الغُسل منه، من حیث أنّه کان نجساً ولا یتمشّی منه قصد القربة، والذی ینبغی أن یبحث فیه أنّه هل یکون مکلّفاً مثل سائر المکلّفین بالفروع والأصول أم لا؟

قد یقال: کما هو الظاهر عن صاحب «الجواهر» إنّه مکلّف ولا قبح فیه، تمسّکاً بقاعدة الاختیار، لأنّ الامتناع بالاختیار لا ینافی الاختیار، فیصحّ عقوبته

ص:19

لترک المکلّف به .

فی غسل الجنابة عن المرتدّ الفطری

هذا، ولکن الذی یظهر عن بعض _ کالمحقّق الهمدانی _ أنّه لا مجال للبحث عن انتقاض غُسله ووضوئه: «لخروجه من زمرة المکلّفین بالعبادات التی تتوقّف صحّتها علی الإسلام، حیث یمتنع منه، فلا یصحّ تکلیفه بها، لأنّ القدرة علی الامتثال شرط فی صحّة التکلیف . فالقول من أنّ الکفّار مکلّفون بالفروع فی حال کفرهم، إنّما هو فیما أمکنهم الخروج من عهدتها، لا فی مثل الفرض الذی تعذّر صدورها منه، وکونها مقدورة له قبل ارتداده لا یُصحّح بقاء التکلیف، بعد أن ارتدّ وتعذّر منه صدور الفعل، لأنّ قبح تکلیف العاجز لا یقبل التخصیص . نعم قدرته السابقة تُصحّح تکلیفه فی زمان القدرة بإیجاد العبادات المشروطة بالإسلام فی أوقاتها، وتُحسّن عقابه علی ما یصدر منه من مخالفتها فی زمان ارتداده، لا أنّها تُصحّح بقاء الطلب، وجواز التکلیف بعد أن تعذّر» ، انتهی محلّ الحاجة(1) .

ولا یخفی ما فی کلامه، إذ من المعلوم أنّه لیس من النواقض الارتداد ولو عن فطرة، وعدم قدرته علی الإتیان بالعبادات أمرٌ، وکون الارتداد بهذا القسم ناقضاً یعدّ أمراً آخر، فلذلک نقول : إنّه کان متطهّراً بالطهارة ما دام لم یأت بالنواقض، وإن کانت طهارته فی حقّه لا یفید أثراً ظاهراً، لأجل کونه نجساً من جهة الارتداد .

لا یقال : إذا کان نجساً بالارتداد، کیف یجامع مع الطهارة حتی یقال إنّه کان متطهّراً، إذ هو متلبّس بالأعظم منه .

لأنّا نقول، أوّلاً : یکفی فی ثبوت أثره فیما إذا ارتدّ عن غیر فطرة، ثمّ تاب،


1- مصباح الفقیه ج3 ص278 .

ص:20

حیث قد عرفت عدم فساد طهارته، مع أنّه کان حال الارتداد نجساً؛ فالنجاسة من حیث الارتداد، لا تنافی الطهارة من حیث الحدث .

نعم أثر الارتداد یحصل فی عدم إمکان ترتّب الأثر علی طهارته، لأجل وجود الارتداد المانع من صحّة العبادة، إمّا لأجل فقد الشرط أو لوجود المانع .

وثانیاً : إنّ التکالیف والخطابات لیست شخصیة حتّی یلاحظ ویتفاوت علی حسب حال المکلّف من القدرة والعجز والعلم والجهل، إذ قد حقّقنا فی الأصول أنّ الأحکام الشرعیّة تکون مشرّعة علی نسق القوانین الکلّیة، مثل سائر المجعولات الکلّیة العقلائیة ، ففی مثل تلک الأحکام لا یلاحظ فیها حال الأشخاص، بل التکالیف والقوانین تُسنّ علی نحو کلّی وتشمل ویتنجّز فی حقّ کلّ من کان قادراً وعالماً، وإلاّ فلا .

فی جنابة الصبّی و المجنون

فالتکلیف بنفسه لا یرتفع بالعجز، ولا یخرج عن الخطاب، إلاّ أنّ العاجز والجاهل ربما کان معذوراً، کما قد لا یکون معذوراً، مثل ما لو کان جاهلاً مقصّراً، أو عاجزاً بالاختیار، کما فی المقام .

فالتکلیف علی کلّ حال موجود ، غایة الأمر قد یکون الشخص عن مخالفته معذوراً، وقد لا یکون، ولعلّه لذلک ذهب المشهور إلی أنّ الکفّار معاقبون علی الفروع، کما یعاقبون علی الأصول، ولم یفصّلوا بین أقسام الکفّار، حیث یشمل إطلاق کلامهم لمثل المورد .

کما أنّ القدرة السابقة تکفی فی حُسن عقوبته، وکذلک یکفی فی شمول الخطاب لهم ولو بملاکه .

هذا کلّه علی فرض تسلیم ما ذکروه، من عدم إمکان الإتیان بالأعمال الصحیحة مع عدم قبول توبته .

ص:21

والحال أنّه یمکن لقائل أن یقول بعدم المنافاة بین عدم قبول توبته ظاهراً وباطناً، من حیث استحقاق العقوبة لأجل ارتداده ویترتّب آثاره، إلاّ أنّ وظیفته بعد الندامة هو الإتیان بالتکالیف، والاجتناب عن المحرّمات، والإتیان بالواجبات، إذ من الواضح أنّه لا یمکن الالتزام بعدم الفرق فی العقوبة بین من أتی بالواجبات وترک المحرّمات بعد الارتداد، وبین من لم یأت بشیء منهما، وتساویهما فی العقوبة ، ولیس هذا إلاّ لأجل ما ذکرناه .

فما ذهب إلیه المشهور کان أولی ممّا ذکره المحقّق المزبور، فلا یبعد أن یکون عدم قبول توبته بالنظر إلی استحقاق العقوبة وترتیب الآثار، ولا ینافی کونه مکلّفاً بما کان المکلّفون مأمورین به، إلاّ فیما خرج بالنصّ من تحریم اختیار الزوجة المسلم وغیره ، واللّه العالم .

ثمّ قد تعرّض هنا صاحب «الجواهر» بمناسبة کون الجنابة من الخطابات الوضعیة لبعض الفروعات المتعلّقة بها، فقال: «یظهر من جماعة من الأصحاب _ بل لا أجد فیه مخالفاً_ علی القطع کونه کذلک، أی کون الجنابة من الخطابات بالوضع، فیجب علی الصبی الغُسل بعد بلوغه لو أولج فی صبیة، أو أولج فیه من صبیّ أو بالغ، وتجری علیه أحکام الجُنب الراجعة لغیره، کمنعه من المساجد مثلاً، وقراءة العزائم، ومسّ کتابة القرآن إن قلنا بوجوب مثل ذلک علی الولیّ أو علیه وعلی غیره».

وکذا یجری علیه حکم کراهة سؤره مثلاً، ونحو ذلک من فوائد النذر والیمین .

ووافقه فیه غیر واحد من الفقهاء، مثل المحقّق والعلاّمة فی «المعتبر» و«المنتهی» و«الدروس» و«الروض» .

نعم قد توقّف فیه مثل العلاّمة فی «التذکرة» و«التحریر» و«الذکری»

ص:22

و«الذخیرة» ، ولعلّ وجه توقّفهم هو تردّدهم بأنّ خطابات الجنابة کانت من قبیل الأسباب، حتّی لا یتفاوت بین البالغ وغیره، والعاقل وغیره، أو کان من قبیل الأحکام حتّی یختصّ بالبالغین والعاقلین، فلا تشمل مثل الصبی والمجنون ؟

والظاهر أنّ المستفاد ممّا یدلّ علی ترتّب الجنابة بالإنزال أو الدخول، هو کون الجنابة من الأسباب، مثل قوله صلی الله علیه و آله : «إنّما الماء من الماء»(1) ، وقوله علیه السلام : «فأمّا المنی فهو الذی یسترخی له العظام ویفتر هذا الجسد وفیه الغُسل»(2) .

حیث بإطلاقه یشمل للمجنون إذا أنزل .

وکذا قوله علیه السلام بالنسبة إلی الوط ء فی دبر المرأة : «هو أحد المأتیین، فیه الغسل»(3) .

وقوله علیه السلام : «إذا وقع الختان علی الختان فقد وجب الغسل»(4) .

حیث یُفهمنا أنّ الدخول بما ذکر سببٌ لوجوب الغُسل، لمن لم یرفع منه القلم، بل له أیضاً، إلاّ أنّ الوجوب قد رفع بدلیلٍ آخر، وهو لا ینافی وجوبه بعد إفاقته ورفع المانع .

وتوهّم أنّ أحکام الجنابة یترتّب علی الصبی والمجنون بعد البلوغ والإفاقة بلا إشکال ، والإشکال إنّما کان قبلهما .

مدفوعٌ، بأنّ ترتّب أحکام الجنابة بعد البلوغ والإفاقة، لا یخلو عن أحد الوجهین: إمّا بواسطة حصول سبب الجنابة، المستلزم لحصولها کان قبل البلوغ والإفاقة.


1- کنز العمّال ج5 ص90 الرقم 1917 .
2- وسائل الشیعة: من أبواب الجنابة، الباب 7، الحدیث 17 .
3- وسائل الشیعة: من أبواب الجنابة، الباب 12، الحدیث 1 .
4- وسائل الشیعة: من أبواب الجنابة، الباب 6 ، الحدیث 3 .

ص:23

أو یعرض علیهما وصف الجنابة بعدهما .

فعلی الأوّل: یثبت المطلوب لأنّه لایوجب حکم الجُنب إلاّ لحصول الجنابة، فهی غیر موقوفة علی البلوغ والإفاقة، فهی من الأسباب لا الأحکام .

وعلی الثانی: غیر معقول، لأنّه یستلزم القول بوجود المعلول بدون علّته، لأنّ المفروض عدم تحقّق المعلول حال خروج المنی، أو تحقّق الدخول ، وفی حال البلوغ والإفاقة لم یتحقّق العلّة، حتّی یترتّب علیها المعلول .

فالالتزام بالجنابة عند البلوغ والإفاقة مع ذلک، لیس إلاّ الالتزام بأمر مستحیل، هو تحقّق المعلول بدون العلّة، أو کون العلّة أمراً مرکّباً من الإنزال والبلوغ، وهو خلاف ظاهر الأدلّة، بخلاف ما لو قلنا بتحقّق المعلول عند تحقّق سببه ، غایة الأمر لا یؤثّر فی تنجّز حکم وجوب الغُسل، إلاّ بعد البلوغ والإفاقة، إمّا لعدم وجود شرطه أو فقد مانعه، فیکون حینئذٍ من قبیل وطئ الحائض، حیث یوجب علیها غُسل الجنابة بعد حصول الوطی ء، إلاّ أنّه لا یجب علیها إلاّ بعد الطهر عن الحیض، فهکذا یکون فی المقام .

ولعلّ وجه إطلاق الوجوب والأمر بالغسل، کان للغلبة، حیث کان الغالب هو حصول الوجوب بحصول سببه .

بل قد عرفت شمول عموم الخطاب، حتی لمثل المجنون والصبی، لولا دلیل الرفع، فکأنّه أراد بیان تحقّق الاقتضاء فیهما إلاّ أنّ الشرط للوجوب أو فقد المانع عنه لم یتحقّق إلاّ بعد البلوغ والإفاقة .

وممّا ذکرنا ظهر عدم تمامیّة کلام من تمسّک فی المقام بأصل البراءة عن وجوب الغُسل بعد البلوغ والإفاقة، استدلالاً علی أنّه لا أقلّ من الشکّ فی أنّ الإنزال والجماع سببٌ للجنابة مطلقاً، أو هو بشرط البلوغ والإفاقة، أو للشکّ فی

ص:24

أنّ الإنزال والدخول من قبیل الأسباب، أو کان من قبیل الأحکام حتی لم یوجب علیهما الغسل بتحقّقه .

وجه عدم تمامیّته، هو ما عرفت أنّ ظاهر الأدلّة وکلمات الأصحاب أنّ الإنزال والدخول سببٌ مستقلّ للجنابة، إلاّ أنّه لا یوجب الغُسل إلاّ مع تحقّق شرائطه وفقد موانعه، فإذا حصلت الشرائط وفُقدت الموانع أثّر المقتضی أثره، وهو المطلوب .

ثمّ یأتی الکلام فی أنّ الصبی الممیّز، لو اغتسل عن الجنابة قبل بلوغه، هل یکفی أم لابدّ أن یجدّده؟

فیه وجهان : ففی «الذکری» قال : «وفی استباحة ما ذکر من الأحکام بغسله الآن وجهان، وکذا فی اکتفائه به لو بلغ، والأقرب تجدیده» . انتهی .

ففی «الجواهر»: أنّه لا ینبغی الإشکال فی صحّة غُسله واکتفائه بعد البلوغ به، بناء علی أنّ عبادة الصبی شرعیة .

نعم یتجه الوجهان بناءً علی کونها تمرینیّة، فإنّه یحتمل جریان أحکام البالغ علی غُسله مثلاً، ویحتمل العدم، ولعلّه الأقوی.

کما أنّه لاینبغی الإشکال فی وجوب تجدیده لو بلغ، لعدم رفع الحدث بالغُسل الأوّل بعد کونه تمرینیّاً».

انتهی محلّ الحاجة من کلامه(1) .

ولکن بعد التأمّل والدقّة فی کلام الشهید، یمکن الحکم بصحّة کلامه فی استقرابه بالتجدید، حتّی علی القول بشرعیّة عبادات الصبی، لإمکان الاحتمال


1- جواهر الکلام: ج3 / ص42 .

ص:25

فی لزوم کفایة قصد القربة کونه صادراً عن شخص بالغ مکلّف، حتی یوجب صدق امتثال الأمر، ویوجب سقوط التکلیف، فمجرّد کون عباداته شرعیة حتّی یستحقّ الثواب لنفسه أو لوالدیه، لا یوجب کون عمله مثل عمل البالغین فی حصول القرب منه مع قصد القربة، وحصول رفع الحدث بمثل ما یرفع عن البالغین، ولذلک قد احتاط کثیر من الفقهاء فی إعادة الصلاة فی الوقت إذا أدّاها قبل البلوغ، کما علیه المحقّق البروجردی والاصطهباناتی وغیرها، وإن خالف ذلک صاحب «العروة» وجماعة اُخری من أصحاب التعالیق .

ودعوی الفرق بین الصلاة وبین ما نحن فیه _ کما ادّعاه صاحب «الجواهر» _ لیس بواضح، لأنّه إذا فرض سقوط الأمر بحصول الامتثال فی الوقت، فلا وجه حینئذٍ للحکم بوجوب الإعادة إلاّ توهّم أنّه حیث کان قادراً علی الإتیان بفرد کامل فی الوقت لکلّی متعلّق الأمر، فلا یسقط إلاّ بإتیان ما هو الفرد الکامل، وهو المأتی ما بعد البلوغ، فإنّه یمکن القول بمثل ذلک فی الغسل أیضاً ، مع أنّه لو فرضنا کون امتثاله للأمر قبل البلوغ، من حیث مطابقة المأتی به للمأمور به المتعلّق للبالغین کان کافیاً فی سقوط الأمر المتحقّق بعد البلوغ، لکان ینبغی القول بذلک فی ما نحن فیه أیضاً، وإلاّ فلا یکفی فی الموردین .

فما ذکره الشهید بقوله : «الأقرب تجدیده» الموافق کلامه مع الاحتیاط المذکور فی باب الصلاة، لا یخلو عن قوّة ، فشرعیّة عباداته فی حال الصباب لا ینافی القول بعدم کفایته بعد بلوغه ولزوم إعادته، ولا أقل من مراعاة الاحتیاط اللازم فی العبادات التی یجب فیها قصد القربة، واللّه العالم .

لو اغتسل المخالف ثمّ استبصر

فرع آخر: یناسب ذکره فی المقام، حیث قد ذکره هنا المحقّق الهمدانی فی «مصباحه»، وقال : «ولو اغتسل المخالف غُسلاً صحیحاً علی وفق مذهبه، ثمّ استبصر،

ص:26

لا یعید غُسله، للنصّ والإجماع علی أنّه لا یعید شیئاً من عباداته ما عدا الزکاة» .

ثمّ اعترض علیه بقوله: ربما یتأمّل فی شمولها للطهارات، نظراً إلی أنّها لیست من العبادات المحضة ، وإنّما یدور وجوبها مدار بقاء الحدث، وهو لا یرتفع إلاّ بالغُسل والوضوء الصحیح، المتعذّر حصوله منه، بناءً علی اشتراط صحّة عباداته بالایمان، کما ادّعی علیه الإجماع والنصوص المتواترة خصوصاً إذا أخلّ بسائر الشرائط، کاغتساله بعکس الترتیب، أو بالمایع المضاف کالنبیذ ونحوه، فإنّ وجوب اغتساله بعد استبصاره لیس لکونه إعادة لما مضی، حتّی ینافیه النصّ والإجماع علی إعادة عباداته، بل لکون الطهارة من الحدث شرطاً لصلاته فیما بعد، فرفع حدثه بالغُسل بالنبیذ لیس إلاّ کتطهیر ثوبه المتّخذ من جلد المیتة بالدباغة .

فما دلّ علی صحّة عباداته السابقة من الصلاة والصوم ونحوهما، لا یدلّ علی کون ثوبه الذی صلّی فیه طاهراً وحدثه مرفوعاً، حتّی لایحتاج إلی الإعادة لما یستقبل .

ثمّ قد احتمل التفصیل بین ما لو کان البطلان ناشئاً من عدم الإیمان فلا یعید، لأنّ الإیمان المتأخّر کان کالإجازة اللاحقة للفضولی فی العقود، مصحّحة للأعمال السابقة، بخلاف الاختلال فی الشرائط، حیث یعید لما ذکره من الوجه» هذا تمام کلامه .

قلنا : قد سبقه فی الإشکال العلاّمة فی «التذکرة» حتی فی مثل الصلاة، فقد ذکر فی باب الزکاة أنّه إذا أعطی المخالف زکاته ثمّ استبصر، فقد ورد النصّ بلزوم إعادتها دون سائر عباداته من الصلاة والصوم والحجّ، إذا أتی العمل علی وفق مذهبه، فهل یشمل کلام الإمام علیه السلام من عدم لزوم عباداته حتّی لمثل الطهارات الثلاث أم لا؟

فإن کان عمومه شاملاً لها، فما ذکره العلاّمة والمحقّق یعدّ اجتهاداً فی مقابل النصّ، حیث أنّ الإمام قد صرّح بذلک.

ص:27

وأمّا الحکم: فیحرمُ علیه قراءة کلّ واحد من العزائم، وقراءة بعضها، حتّی البسملة إذا نوی بها أحدها (1).

ولکن إن استشکل فی أصل شمول کلامه علیه السلام لها، حیث لم یذکر الإمام من العبادات إلاّ مثل الصلاة والصوم والحجّ، الظاهر فی کونها فی العبادات المحضة، فلا یشمل مثل الطهارات، فإذا لم یشمل یرجع إلی أصل القاعدة من عدم الکفایة، بلا فرق بین کون البطلان ناشئاً عن عدم الإیمان، أو عن الإخلال بالشرائط .

فالحکم بإعادة الطهارات مطلقاً، فی الحدث الأکبر والأصغر، بل وعن الخبث إذا کان أثره باقیاً، لایخلو عن وجه، بناءً علی عدم شمول النصوص والإجماع لمثلها، فلا یرتبط هذا بالإشکال بفقد الإیمان الذی هو شرط لصحّة الأعمال فی خصوص المورد، وإن کان أصل بحثه صحیحاً، من حیث طبع القضیّة والقاعدة، کما لایخفی .

ما یحرم علی الجنب / قراءة العزائم

کما لا تنافی بین القول بعدم وجوب إعادة الصلاة والصیام، ووجوب تجدید الطهارات الثلاث فی المخالف، إذا قلنا بعدم شمول تلک الأدلّة لمثلها.

فقد ظهر ممّا ذکرنا، عدم تمامیّة التفصیل الذی ذکره، لأنّه إذا فرض تحصیل شرائطه فی حال کونه علی مذهبه الباطل، وبرغم ذلک فإنّه لا یکفی فی رفع الحدث بعد الاستبصار، من جهة فقدانه لشرط الإیمان، وعدم شمول النصوص لها علی الفرض .

(1) لا إشکال ولا خلاف فی حرمة قراءة آیة السجدة الواجبة للجنب، ولم یشاهد من أحد خلاف ذلک، إلاّ عن صاحب «الریاض» حیث احتمل کون استثناء الجُنب والحائض عن قراءة العزائم، استثناءً عن حکم استحباب قراءة

ص:28

القرآن، حتّی تکون النتیجة هی عدم استحباب القراءة لهم لا الحرمة.

لکنّه مخدوشٌ، بأنّ سیاق الأخبار الواردة فی حقّ ذوات الأحداث، کان لبیان ما هو المحرّم علیهم من اللّبث فی المساجد ودخولها، ودخول الحرمین الشریفین بمکّة والمدینة، ووضع الشیء المسجد والأخذ منه .

ومن جملة ذلک قراءة العزائم، حیث یفهم من وحدة السیاق، کون منشأ السؤال هو الجوازو وعدمه، لا الاستحباب وعدمه .

إن شئت ملاحظة صحّة ما قلناه فانظر حدیث زرارة(1) ومحمّد بن مسلم(2) .

مضافاً إلی أنّه لا وجه للاستثناء من الاستحباب بعد ثبوت أصل الجواز، لوضوح أنّه لو ثبت أصل الجواز، کان اللازم ثبوت الاستحباب أیضاً، لوضوح أنّ قراءة القرآن تعدّ من العبادات، فیترتّب الثواب علیه قطعاً، فلا معنی للسؤال عن استحبابها، بخلاف السؤال عن الجواز، حیث یصحّ ذلک منه لأجل الحدث الذی قد رتّب علیه النهی عن مثل الصلاة، أو دخول المساجد مع اللبث، وأمثال ذلک، فیسأل عن حکم جواز قراءته، وأنّه هل یجوز ذلک أم لا؟ فیصیر الدلیل والاستثناء، دلیلاً علی المنع والنهی، وهو المطلوب، کما لایخفی .

فبعد ثبوت أصل الحرمة، یأتی الکلام فی أنّه بماذا یتحقّق الحرام؟

هل بقراءة نفس آیة السجدة _ کما علیه صاحب «کشف اللثام» و«الحدائق» والسیّد فی «العروة» وبعض أصحاب التعالیق .

أو بقراءة السورة ولو ببعضها، حتّی البسملة، کما علیه المتقدّمین من


1- وسائل الشیعة: من أبواب الجنابة، الباب 17 ، الحدیث 2 .
2- وسائل الشیعة: من أبواب الجنابة، الباب 17 ، الحدیث 15 .

ص:29

الأصحاب، وکثیرٌ من المتأخّرین مثل العلاّمة والمحقّق والشهیدین وصاحب «الجواهر» و«المصباح»، وأکثر أصحاب التعلیق علی العروة، وهذا هو الأقوی.

فلابدّ قبل الاستظهار فی ذلک من ذکر الأخبار الدالّة علی التحریم .

منها : ما رواه زرارة، عن أبی جعفر علیه السلام فی حدیثٍ، قال : «قلت له : الحائض والجنب هل یقرأن من القرآن شیئاً؟ قال : نعم، ما شاء إلاّ السجدة ویذکران اللّه علی کلّ حال»(1) .

حیث کان السؤال عن الجواز وعدمه لأجل ما یفهم ذلک ممّا وقع فی صدره، کما أشرنا إلیه فی البحث السابق، فالاستثناء کان من الجواز، فیدلّ علی المنع والتحریم . وروی الشیخ مثله بسنده عن حمّاد بن عیسی .

ومنها : حدیث محمّد بن مسلم، قال : «قال أبو جعفر علیه السلام : الجنب والحائض یفتحان المصحف من وراء الثوب، ویقرآن من القرآن ما شاء اللّه، إلاّ السجدة» الحدیث(2) .

وجه الاستدلال کما فی سابقه .

ومنها : روایة المحقّق فی «المعتبر»(3)، قال : «یجوز للجنب والحائض أن یقرأ من القرآن إلاّ سور العزائم الأربع، وهی اقرأ باسم ربّک، والنجم، وتنزیل السجدة، وحم السجدة، روی ذلک البزنطی فی جامعه عن «المنتهی» عن الحسن الصیقل، عن أبی عبداللّه علیه السلام » .

بل قد حُمل علی قراءة سورة العزائم، کما عن الصدوق فی «الأمالی»


1- وسائل الشیعة: من أبواب الجنابة، الباب 19 ، الحدیث 4 .
2- وسائل الشیعة: من أبواب الجنابة، الباب 19 ، الحدیث 7 .
3- وسائل الشیعة: من أبواب الجنابة، الباب 19، الحدیث 11 .

ص:30

و«العلل» ما رواه بإسناده عن أبی سعید الخُدری فی وصیّة النبیّ صلی الله علیه و آله لعلیّ علیه السلام ، قال : «یا علی مَنْ کان جنباً فی الفراش مع امرأته فلا یقرأ القرآن، فإنّی أخشی أن یتنزّل علیهما نارٌ من السماء فتحرقهما»(1) .

بناءً علی کون النهی للتحریم لا التنزیه، وإلاّ یمکن حفظه علی عمومه فی الکراهة، فیشمل جمیع القرآن إلاّ ما خرج بالدلیل من التحریم .

ومنها : ما عن فقه الرضا علیه السلام : «ولا بأس بذکر اللّه وقراءة القرآن وأنت جنب، إلاّ العزائم التی تسجد فیها، وهی: ألم تنزیل، وحم السجدة، والنجم، وسورة اقرأ باسم ربّک»(2) .

هذه جملة ما وردت من النصوص الدالّة علی تحریم قراءة العزائم ، والذی ینبغی أن یبحث فیه اُمور :

الأمر الأوّل : فی أنّ المراد من العزائم هل هو نفس الآیة المشتملة علی السجدة، أم السورة بأکملها؟

الذی یستظهر من کلمات القوم _ بل علیه اصطلاح العرف العام فی تسمیة السور بما فیها من الموضوعات _ السورة بأکملها، کما یشهد علی ذلک فی مثل سورة البقرة وآل عمران والنساء والنمل والنحل ونظائرها، حیث لم یقصد بهذه الأسماء نفس الآیة المشتملة علی تلک القضیة والقصّة، فلا یبعد أن تکون هذه السنّة جرت فی تلک الأخبار، بأن یراد من العزائم هو سورها لا آیها ، بل فی «الجواهر» نقلاً عن «مجمع البحرین» کما نقل عن «المُغرب» أیضاً، بقوله :


1- وسائل الشیعة: من أبواب الجنابة، الباب 19، الحدیث 3 .
2- مستدرک الوسائل ج1 الباب 11 من أبواب الجنابة، الحدیث 1 .

ص:31

«وعزائم السور فرائضه التی فَرَض سبحانه وتعالی السجود فیها، وهی ألآم تنزیل، وحم السجدة، والنجم، واقرأ ، کذا فی «المُغرب» نقلاً عنه وهو المروی» ، انتهی .

کما نقل کلمات کثیر من الفقهاء من التصریح بذلک مثل ما ورد فی «الهدایة» و«التذکرة» و«المنتهی» والشیخ فی «الخلاف» و«الجامع» لابن سعید، وحمل علیها کلمات من أطلق العزائم، بأن یکون المراد هی السور لا الآیة، ولأجل ذلک تری أنّ صاحب المدارک، یقول : «إنّ الأصحاب قاطعون بتحریم السور کلّها ونقلوا علیه الإجماع ، بل وکذا نقل الإجماع بتحریم السور بالإجماع المحقّق فی «المعتبر» والعلاّمة فی «التذکرة» والشهید فی «الروض» ».

فمع وجود هذه الاُمور لا یمکن الذهاب إلی ما ذهب إلیه صاحب «کشف اللثام» وتبعه صاحب «الحدائق» و«العروة» وبعض من تأخّر عنهم، خصوصاً مع ملاحظة ما نقله المحقّق فی «المعتبر» عن «جامع البزنطی»، وما فی «فقه الرضا» حیث قد ذکر السورة فی العزائم، وقد عرفت مذهبنا من جواز الاعتماد بما فی «فقه الرضا » تأییداً لا دلیلاً مستقلاًّ ، مع أنّه قد توقّف بعض مثل المحقّق الآملی فی «مصباح الهدی» فی حجّیة نصّ هذا الکتاب واعتباره، وذلک للجهل بمؤلّفه، فراجع کلامه(1) .

فالأقوی ما علیه المشهور .

الأمر الثانی: بعدما عرفت أنّ الحرام هو قراءة السورة لا الآیة، فهل الحرمة تتعلّق بقراءة تمام السورة، أو تشمل بعضها حتی البسملة ؟

وذهب الماتن إلی الثانی، وعلیه «المنتهی» و«القواعد» و«الإرشاد»


1- مصباح الهدی: ج4 / ص174 .

ص:32

و«الذکری» و«الدروس» و«الروض» وغیرها .

بل فی «الذکری» و«الروض» الإجماع علیه، بل لعلّه ظاهر کلّ من حکی حرمة قراءة السورة، حیث یستبعد إرادة شرطیة إتمام السورة .

نعم من خصّص الحرمة بالآیة، فلاتکون الحرمة عنده إلاّ لبعض الآیة، لا السورة والبسملة .

وإن استشکل صاحب «الجواهر» علیه بقوله : «نعم لولا الإجماع المتقدّم علی حرمة البعض، لأمکن تخصیص التحریم بقراءة السورة خاصّة لا البعض، لکون السورة اسماً للمجموع، وبقراءة البعض لا یتحقّق الصدق، سیّما إذا کان المقصود من أوّل الأمر البعض».

هذا، وفیه ما لا یخفی، فإنّ الاُمور المرکّبة إذا وقعت متلوّة للنهی، یراد منه لزوم ترک جمیع أجزائها لا مجموعها مرکّبة ، ولذلک قد أجاد فیما أفاد فی الجواب المحقّق الهمدانی فی «مصباحه»، حیث قال : «وفیه: أنّ المتبادر من النهی عن قراءة السورة _ کقراءة القرآن _ إنّما هو قراءة أبعاضها کلاًّ أو بعضاً، بل المتبادر من النهی المتعلّق بالأفعال المرکّبة، خصوصاً التدریجیّة منها کالجلوس فی المسجد یوم الجمعة، واستماع الخطبة التی یقرؤها الإمام، وقراءة المکتوب الذی أرسله إلی فلان، وکتابة الکاغذ الموجود، وأکل الطعام الموضوع بین یدیه إلی غیر ذلک من الأمثلة، إنّما هو حرمة أبعاضها بحیث یکون کلّ بعض فی حدّ ذاته موضوعاً للحرمة، إلاّ أن تدلّ قرینة خارجیّة علی إرادة المجموع من حیث المجموع» انتهی(1) .

الأمر الثالث : إذا عرفت صدق حرمة قراءة السورة علی أبعاضها، فهل یصدق


1- مصباح الفقه: ج3 / ص286 .

ص:33

حتّی علی البعض من الکلمات والحروف أم لا؟

والذی یظهر من صاحب «الجواهر» هو اختیار التفصیل بین الکلمات والحروف، من الصدق عرفاً فی الکلمات دون الحروف، حیث قال : «وأمّا الحروف فوجهان، سیما إذا کان المقصد من أوّل الأمر ذکر بعض الحروف لا تمام الکلمة . ولعلّ التفصیل بذلک، فیقصر فی الحرمة علی ما إذا ذکر بعض الحروف بنیّة الإتمام ثمّ قطع، دونما إذا کان قصد من أوّل الأمر البعض من الکلمة الخاصّة لا یخلو من قُربٍ، لعدم صدق اسم القراءة عرفاً» انتهی .

ولکن الأقوی عندنا أنّ صدق القراءة فی کلّ شیء یکون بحسبه، فحینئذٍ إذا کانت الکلمة المقروّة أو بعض حروفها مشخّصة ومعیّنة فی کونهما من آیات العزائم، فلا یجوز إتیانها وقرائتها، سواء کانت من الکلمات أو من الحروف، وإن کانت غیر معیّنة فی الخارج، فلا یتعیّن إلاّ بالنیّة والقصد، فمع قصده یکن حراماً، بلا فرق بین الکلمات أو الحروف .

ومن هنا یظهر حکم البسملة، حیث أنّ حرمتها منوطة بالقصد والنیّة، لکونها مشترکة مثل سائر الکلمات ، فإذا لم ینو أصلاً، أو نوی خلافه، فلا تکون قراءتها حراماً، بخلاف ما لو نواها، فتکون محرّمة حتّی بعض کلماتها .

کما أنّه لو قرأ آیةً بزعم أنّها مشترکة، فنوی غیر العزیمة منها ثمّ ظهر أنّها مختصّة، فلایجوز إتمامها علی حسب ما عرفت منّا لصدق قراءة العزیمة مع العمد، بعد علمه بذلک، وهو یکفی فی الحکم بالحرمة فلا وجه للتردّد فی ذلک، کما یظهر من صاحب «الجواهر» وإن مال إلی ما قلناه .

فرع: یتفرّع علی ما ذکرنا حرمة قراءة قوله تعالی: «أَفَمَنْ کَانَ مُؤْمِنا کَمَنْ

ص:34

ومسّ کتابة القرآن، وشیء علیه اسم اللّه سبحانه (1).

کَانَ فَاسِقا لاَ یَسْتَوُونَ»(1) الواردة فی دعاء کمیل، علی الجنب والحائض والنفساء، لکونها من آیات سور العزائم.

ومجرّد کونها فی الدّعاء، لا یوجب خروجها عن کونها آیةً، وإن کان یحتمل جوازها، إذا التزمنا خروجها عن الآیة بالنیّة والقصد، ولکنّه خلاف للاحتیاط، لکونها مختصّة بها، ولا اشتراک فیها. وخروجها بالقصد عن الآیة لا یخلو عن تأمّل ، ولذلک تری أنّ بعض الفقهاء قد أفتوا بالحرمة، وذلک لا یخلو عن قوّة .

کما یتفرّع علی ما ذکرناه أنّ تعیّن الآیة أو البسملة المشترکتین قد یکون بالقصد والنیّة، إذا لم یقرأ من المکتوبة، فالحرمة لا تتحقّق إلاّ بالقصد ، وقد تتحقّق بنفس الکتابة الموجودة فی الخارج، فإنّ قراءة مثل ذلک المکتوب یوجب الحرمة، فلایحتاج إلی تعیّنها بالنیّة، لأنّها متعیّنة بنفس الکتابة، وهو یکفی فی انطباق الکبری علیها فتحرم، کما لایخفی .

(1) حرمة مسّ کتابة القرآن للجنب ممّا لا خلاف فیه، إلاّ عن ابن الجنید، حیث حکم بالکراهة، وقد احتمل مراده منها هو الحرمة، ولأجل ذلک _ أو لعدم الاعتناء بخلافه لکونه معروفاً بحسبه ونسبه _ نقل جماعة الإجماع علی الحرمة، کالشیخ فی «الخلاف»، والسیّد فی «الغنیة» والمصنّف فی «المعتبر». وفی «المنتهی» نسبته إلی علماء الإسلام.

وما نُسب من القول بالکراهة إلی بعض، کالشیخ فی «المبسوط»، وعن


1- سورة السجدة : آیة 18 .

ص:35

القاضی _ علی حسب نقل «المدارک» فی الأوّل والمقداد فی الثانی _ سهو کما نقله «الجواهر»، بل حمله علی الحرمة متعیّنٌ، لأنّ إطلاق الکراهة علی الحرمة کان متداولاً فی المتقدّمین .

ما یحرم علی الجنب / مسّ کتابة القرآن

والدلیل علی الحرمة، هو ظاهر الکتاب والسنّة، الذی قد تقدّم تفصیله فی حرمة المسّ مع الحدث الأصغر ، ففی الأکبر یکون بطریق أولی، خصوصاً مع دلالة حدیث إبراهیم بن عبد الحمید، عن أبی الحسن علیه السلام ، قال : «المصحف لا تمسّه علی غیر طهر، ولا جنباً، ولا تمسّ خطّه، ولا تعلّقه إنّ اللّه تعالی یقول : «لاَ یَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ» ».(1)

فالمراد إمّا أن یکون نفس المصحف، أی ما بین الدفتین، فیحمل نهیه علی التنزیه، کما نقل عن الشیخ، ولکنّه لا یوجب کون النهی فی مثل قوله: «لا تمسّ خطّه» علی ذلک، إذ ظاهر کلّ نهی هو التحریم، إلاّ ما خرج بالدلیل.

کما یحتمل کون النهی عن التعلّق، هو الحرمة بحیث یوجب مسّ بدن الجنب، ولعلّ ذلک أوجب کون المراد من المصحف فی الصدر هو کتابته، حتی یشمل حرمة صورة مسّ المحدث بالحدث الأصغر أیضاً .

وعلی کلّ حال، دلالته علی حرمة المسّ فی المحدث بالحدث الأکبر واضحة.

کما یؤیّده الخبر الذی رواه الطبرسی فی تفسیر «مجمع البیان» عن محمّد بن علی الباقر علیه السلام ، فی قوله تعالی : «لاَ یَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ» ، قال : «من الأحداث والجنابات، وقال : ولا یجوز للجنب والحائض والمحدث مسّ


1- وسائل الشیعة: من أبواب الوضوء، الباب 12 ، الحدیث 3 .

ص:36

المصحف»(1) . بناءً علی کون المراد کتابته لا جلده .

وتفصیل المسألة قد تقدّم فی المسّ بالنسبة إلی المحدث بالحدث الأصغر، فلا یحتاج إلی الإعادة .

ما یحرم علی الجنب / مسّ اسم اللّه سبحانه و تعالی

هذا تمام الکلام فی مسّ کتابة القرآن .

والآن نتعرّض لصورة مسّ شیء علیه اسم اللّه سبحانه ، الذی وقع فی عبارة المصنّف ، وهذه المسألة مشتملة علی فروع متعدّدة :

الفرع الأوّل : أنّ أصل حرمة مسّ اسم اللّه تعالی ممّا لا خلاف فیه من أحد، سوی ما یظهر من بعض متأخّری المتأخّرین، الذی قال فی حقّه صاحب «الجواهر» بأنّه ممّن لا یقدح خلافه فی تحصیل الإجماع، ولذا حکاه علیه فی «الغنیة»، ونسبه فی «المنتهی» وغیره إلی الأصحاب، مشعراً بدعوی الإجماع .

وعن «نهایة الاحکام» نفی الخلاف فیه.

مضافاً إلی ذلک، ما یستفاد من موثّقة عمّار بن موسی، عن الصادق علیه السلام ، قال : «لا یمسّ الجنب درهماً ولا دیناراً علیه اسم اللّه»(2) .

فإنّه یدلّ علی المنع عن مسّ نفس الدرهم والدینار الذی وقع علیهما اسم اللّه، فلو لم نقل بهذا فلا أقلّ یشمل مسّ المکتوب .

کما یمکن استفادة المنع أیضاً من حسنة داود بن فرقد، عن أبی عبداللّه علیه السلام ، قال : «سألته عن التعویذ یعلّق علی الحائض؟ قال : نعم لا بأس .قال : وقال تقرأه


1- وسائل الشیعة: من أبواب الوضوء، الباب 12 ، الحدیث 5 .
2- وسائل الشیعة: من أبواب الجنابة، الباب 18، الحدیث 1 .

ص:37

وتکتبه ولا تصیبه یدها»(1) .

وفی روایة اُخری عنه، عن رجلٍ، عن أبی عبداللّه علیه السلام مثلها، إلاّ إنّه قال فیها : «تقرأه وتکتبه ولا تمسّه»(2) .

والاستدلال بهما مبتن علی کون المنع عن المسّ، إمّا یکون لأجل اشتماله علی الآیات القرآنیة، أو علی اسم اللّه .

والوجه فی عدم تعرّض بعض الأصحاب _ مثل صاحب «الجواهر» وغیره _ له، لعلّه کان لأجل أنّه لم یتعیّن کون المنع لخصوص اسم اللّه، بل لأجل کونه مشتملاً علی الآیات .

نعم لو قلنا بأنّ اسم اللّه أیضاً یعدّ من الآیات القرآنیة لاشتمال القرآن علیه، فلذلک کان مسّه حراماً، فهو وإن کان حسناً، ولکنّه لا یخلو عن بُعد .

بل قد استدلّ علی حرمة المسّ بقوله تعالی: «وَمَنْ یُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللّه ِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَی الْقُلُوبِ»(3).

الدالّ ظاهراً علی أنّ عدم التعظیم صادرٌ عن عدم التقوی، لما قیل من أنّ علّة النقیض نقیض العلّة، کما فی «الحدائق»(4) ، وحیث أنّ المسّ للجنب لیس من التعظیم، فهو خارج من شعائر اللّه .

هذا ما استدلّ به علی حرمة المسّ .

ولکن نوقش فی روایة عمّار بالطعن فی سنده، ومعارضتها بما رواه المحقّق


1- وسائل الشیعة: الباب 37 من أبواب الحیض، الحدیث 1 .
2- وسائل الشیعة: الباب 37 من أبواب الحیض ، الحدیث 4 .
3- سورة الحج : آیة 31 .
4- الحدائق الناضرة: ج3 / ص18 .

ص:38

نقلاً عن کتاب الحسن بن محبوب، عن خالد، عن أبی الربیع، عن أبی عبداللّه علیه السلام : «فی الجنب یمسّ الدراهم، وفیها اسم اللّه واسم رسوله؟ قال : لا بأس به ربما فعلت ذلک»(1) .

حیث یشمل بإطلاقه جواز مسّ الاسم أیضاً، لاسیما مع استناد العمل إلی نفسه .

وبموثّقة إسحاق بن عمّار، عن أبی إبراهیم علیه السلام ، قال : «سألته عن الجنب والطامث یمسّان أیدیهما الدراهم البیض؟ قال : لا بأس»(2) .

ففی «الجواهر» بعد نقل روایة المحقّق فی «المعتبر» نقلاً من کتاب «الجامع البزنطی»، عن محمّد بن مسلم، عن أبی جعفر علیه السلام ، قال : «سألته هل یمسّ الرجل الدراهم البیض وهو جنب؟ فقال : أی واللّه إنّی لأوتی بالدرهم فآخذه وأنّی لجنب»(3) .

قال: إنّه بناء علی معروفیة نقش الدرهم الأبیض بلفظ الجلالة .

قلنا : بل قد یکون کلامه محمولٌ علی أنّه لولا ذلک، لما یبقی وجه للسؤال عن مسّه فی تلک الحالة، کما لایخفی .

ومن جمیع هذه الأخبار یستفاد جواز المسّ للدراهم التی فیها اسم اللّه ، فمبمقتضی الجمع بین الطائفتین، هو حمل النصّ فی موثّقة عمّار علی الکراهة عملاً بهما، ولأجل ذلک ذهب متأخّری المتأخّرین إلی الکراهة .

وفیه ما لا یخفی، أوّلاً : بأنّ روایة عمّار موثّقة، قد عمل الأصحاب بروایته،


1- وسائل الشیعة: الباب 18 من أبواب الجنابة، الحدیث 3 .
2- وسائل الشیعة: الباب 18 من أبواب الجنابة، الحدیث 2 .
3- وسائل الشیعة: الباب 18 من أبواب الجنابة، الحدیث 3 .

ص:39

ولیس فی سنده ضعف یمنع العمل به .

وثانیاً : لو سلّمنا ضعفه، فهو منجبرٌ بعمل الأصحاب، وبالشهرة المتحقّقة لولا الإجماع، لما قد عرفت من عدم وجود الخلاف إلاّ مَنْ لا یقدح خلافه .

وثالثاً : اشتمال هذه الأخبار بما لا یقاوم المعارضة من احتمال التقیة، کما احتمله المحقّق الهمدانی قدس سره ، خصوصاً روایة محمّد بن مسلم، حیث أنّه وقع فی ذیله عقیب قوله : «وأنّی لجنب» ، قوله: «وما سمعتُ أحداً یکره من ذلک شیئاً إلاّ أنّ عبداللّه بن محمّد کان یعیبهم عیباً شدیداً، یقول : جعلوا سورة من القرآن فی الدراهم، فیعطی الزانیة وفی الخمر ویوضع علی لحم الخنزیر» .

فإنّه وإن لم ینقله صاحب «الوسائل» زعماً بکونه من کلام المحقّق لا الإمام، خلافاً لصاحب «الحدائق» و«مصباح الفقیه» حیث قد صرّح الأوّل بکونه من الإمام أظهر ، والثانی حیث ظاهره ذلک، لأنّه قد جعله قرینة علی التقیّة ، ولعلّ وجه ذلک هو ذکر سورة القرآن فی قسمة الجواز، مع أنّه عند الإمامیة مسّ حرام قطعاً .

بل قد یظهر عن «المعتبر» والعلاّمة موافقة العامّة فی السورة، حیث قالا : «إجماع المسلمین علی حرمته» ، لاسیّما مع وجود هذه الضمیمة یستضعف العمل به، لکونه مخالفاً للنصّ والإجماع ، بالأخص مع ملاحظة الحلف باللّه بأنّ الإمام علیه السلام یفعله نفسه، حیث أنّه لا یناسب شأنه علیه السلام ، خصوصاً مع ملاحظة إعراض الأصحاب عنها، یوجب تضعیفها .

مضافاً إلی إمکان أن یکون المراد بالمسّ نفس الدراهم التی فیها ذلک، لا نفس المکتوب المنقوش .

فمع وجود هذه الإشکالات، کیف یطمئن الفقیه بالفتوی علی الجواز .

کما یظهر من جمیع ما ذکرنا، ضعف القول بالتخصیص فی الجواز لخصوص

ص:40

الدراهم دون غیرها، إذ لا خصوصیّة فیها دون الدنانیر أو غیرها فی أصل الحکم، کما یظهر ضعف القول بالجواز أو الکراهة .

وأمّا الاستدلال بالتعظیم، أو بآیة الشعائر علی حرمة المسّ، فإنّه لا یخلو عن خفاء، لوضوح أنّ التقوی یعدّ من المحاسن، بل فی بعض أفراده واجباً، إلاّ أنّ استعماله لیس مختصّاً بالوجوب، بل قد یطلق علی اُمور مستحسنة عند أفرادالمجتمع . فاستفادة الحرمة من نقیصه یحتاج إلی مؤونة زائدة .

نعم التهتّک بذلک حرام قطعاً، فإن ثبت بواسطة الأخبار ولسان الشرع، أنّ مسّ الجنب لإسم اللّه سبحانه والقرآن موجبٌ للهتک، فلا إشکال فی دلالته علی الحرمة ، فالطریق لإثبات ذلک هو هذه الأخبار، وإن کان العرف _ لولا بیان الشارع _ حینما یدرک وقوع الهتک بالمسّ کما أشار إلیه صاحب «الجواهر» فإنّه یحکم بالحرمة، ولکن الحکم بالتحریم واضح، والأدلّة السابقة تکفینا فی إثباته، کما لایخفی .

الفرع الثانی: أنّ ظاهر إطلاق روایة عمّار وغیره من الأدلّة، عدم اختصاص الحکم بلفظة الجلالة (اللّه)، بل یعمّ کلّ اسم من أسمائه سبحانه وتعالی المختصّة به تعالی ، بل من أیّ لغة کانت، کما ذکره المحقّق الهمدانی قدس سره ، بل قد یستظهر الإطلاق من بعض الأخبار الواردة، فی تعظیم اسم من أسماء اللّه فی غیر المورد مثل الاستنجاء بالید التی کان عندها خاتم فیه نقش اسم من أسماء اللّه کخبر أبی أیّوب، قال : «قلت لأبی عبداللّه علیه السلام : أدخل الخلاء، وفی یدی خاتم فیه اسم من أسماء اللّه تعالی؟ قال : لا ولا تجامع فیه»(1) .


1- وسائل الشیعة: الباب 17 من أبواب أحکام الخلوة، الحدیث 1 .

ص:41

حیث یستظهر منه أنّ ما یجب تعظیمه هو مطلق اسم یدلّ علی ذاته المقدّسة ، بل کلّ ما یکون کذلک بالوضع، أو بواسطة انضمام القیود والقرائن التی یوجب کون الوصف مختصّاً بذاته المقدّسة، وإن کان اللفظ من حیث ذاته من المشترکات، مثل خالق کلّ شیء، أو عالم بکلّ شیء، أو یا من لا تشتبه علیه الأصوات، وأمثال ذلک .

ولعلّ وجه التعدّی إلی جمیع اللغات هو صدق الاسم بذلک، ولذا قال صاحب «الجواهر» : «والأولی الإلحاق» .

ما یحرم علی الجنب / مسّ غیر لفظ الجلالة من اسمائه سبحانه

نعم، لا یجری هذا الحکم فی الألفاظ العامّة التی لم تقیّد بقیود دالّة علی اختصاصها به، فلا إشکال فی جواز مسّها إن لم یرد الکاتب منها الذات المقدّسة .

وأمّا لو علم إرادتها منها، ففی الجواز إشکال، وإن کان الأظهر جوازه، لأنّ قصد الکاتب لا یوجب تعیین اللفظ فی خصوص المعنی المقصود، إذا کان بذاته ممّا یعمّ حرمة مسّه ولم یذکر الخصوصیّة معه، فمجرّد العلم بمراده منه لایوجب صدق حرمة مسّ اسمٍ من أسمائه، کما لایخفی .

ومن ذلک یظهر عدم حرمة مسّ حرف من حروف لفظة «اللّه» کالألف فقط علی فرض علمنا بکون المراد منه هو اللّه الاسم الجلالة بتمامه، لأنّه لا یصدق علیه أنّه مسّ اسم اللّه .

وکذلک یجوز مسّ بعض حروفه إذا خرقه ومزّقه، بما یوجب الخروج عن إطلاق مسّ اسم اللّه، کما لایخفی .

وأمّا لو جعل لفظ الجلالة وما بحکمه جزءاً لاسم بالترکیب الإضافی کعبداللّه علماً، فهل یجوز مسّه أم لا؟

فیه وجهان، بل قولان: من خروجه عن اسم اللّه، وصیرورته اسماً وعَلَماً

ص:42

للشخص بواسطة الجزئیة، فیجوز کما هو مقتضی أصل البراءة لو شکّ فی حرمة مسّه، کما اختاره صاحب «الجواهر» قدس سره .

ومن أنّ الواضع وضعه اسماً للّه تعالی، فیشمله عموم النصّ والفتوی، بل هو مقتضی الاحتیاط .

بل قد یؤیّد المنع أنّه لو سمّی شخصٌ باسم ( اللّه )، فهل انّ خروجه عن حرمة المسّ مع کون اللفظ موضوعاً لاسم اللّه مشکلٌ جدّاً، فکذلک یکون فی الجزء أیضاً . فالقول بالمنع من جهة التعظیم، وشمول الإطلاقات، والاحتیاط له، لا یخلو عن وجه .

ثمّ إنّ ظاهر عبارة المصنّف وما شابهها فی التعابیر، بل ظاهر الروایة _ علی ما قیل _ حرمة مسّ شیء فیه اسم من أسماء اللّه، وإن لم یمسّ نفس النقش.

ولکن الالتزام بذلک مشکل، لوضوح أنّ مسّ أوراق القرآن وجلده وأطرافه من دون مسّ نفس الکتابة، لا یکون حراماً، کذلک یکون فی المقام. فیکون المراد من المسّ، الشیء الذی فیه اسمٌ من أسماء اللّه، وهو مسّ نفس المنقوش، کما علیه الفتوی، خصوصاً مع ملاحظة ما هو المتعارف فی الأزمنة السابقة، بل وکذا فی زماننا من ضرب الآیات أو اسمٍ من أسماء اللّه، وکلمة التوحید أو الشهادتین وهما کلمة لا إله إلاّ اللّه ومحمّد رسول اللّه، علی الدراهم والدنانیر وغیرهما من النقود الورقیة وغیر الورقیة، فإنّ القول بحرمة مسّ أصل الورق أو النقد الفضی والذهبی من جهة اشتمال الجمیع علی اسم الجلالة لغیر المتطهّر _ الأعمّ من الأصغر والأکبر _ یوجب العُسر والحرج، وکان اللازم من التنبیه بأزید من ذلک، لشدّة الحاجة والابتلاء.

فیعلم من تمام ذلک، أنّ الممنوع مسّ نفس المنقوش عمداً فی غیر حال الطهارة لا مطلقاً، واللّه العالم .

ص:43

الفرع الثالث : هل الحرمة مختصّة بأسماء اللّه بحیث لا یشمل أسماء الأنبیاء والأئمّة علیهم السلام أم لا؟

ما یحرم علی الجنب / مسّ أسماء الأنبیاء و الأئمّة علیهم السلام

ظاهر عبارة المصنّف وغیره، بل وصریح بعض الأصحاب الاختصاص، تمسّکاً بالأصل السالم عن المعارض، لأنّ الدلیل وارد لخصوص اسم من أسماء اللّه، فلا یشمل غیره .

ولکن کثیراً من الأصحاب مثل الشیخ فی «المبسوط» وصاحب «الغنیة» و«الوسیلة» و«المهذّب» و«السرائر» و«الجامع» و«الإرشاد» و«الذکری» و«الدروس» و«اللمعة» و«جامع المقاصد»، وحکاه فی «کشف اللثام» عن «المقنع»، و«جمل» الشیخ و«مصباحه» و«مختصره» و«الإصباح» و«أحکام» الراوندی و«التبصرة» ، بل قد نسبه فی «جامع المقاصد» إلی الأکثر، وکبراء الأصحاب، بل وفی «الغنیة» الإجماع علی عدم الاختصاص، وهذا هو الحجّة .

بل قد یؤیّد ذلک، تعارف نقش اسم الرسول صلی الله علیه و آله علی الدراهم، فیشمله موثّقة عمّار حیث یکون النهی عن مسّ اسم اللّه، کنایةً عن النهی عنه وعن مصباحه وهو رسول اللّه صلی الله علیه و آله . فإذا ثبت ذلک فی مثل رسول اللّه صلی الله علیه و آله فیلحق غیره به من باب عدم القول بالفصل فی الجواز وعدمه .

مضافاً إلی إمکان التمسّک بآیة التعظیم، أو کلّما یفید ذلک، کما أشار إلیه صاحب «الحدائق»، حیث قال : «لم نعرف للقول بالحرمة مستند سوی التعظیم ، فالاحتیاط الوجوبی یقتضی الحکم بوجوب الاجتناب عن المسّ فی أسمائهم، وأسماء الأئمّة علیهم السلام ، بل وهکذا اسم فاطمة الزهراء علیهاالسلام » .

فإذا عرفت الحرمة فی المسّ ولو احتیاطاً، لا إشکال فی الحکم إذا کان الاسم معیّناً ومختصّاً لهم علیهم السلام ، ولو بواسطة احتفافه بما یوجب ذلک .

ص:44

ویحرم الجلوس فی المساجد (1).

وأمّا لو لم یکن مختصّاً، بل کان الاسم مشترکاً، ولم یحتف بما یوجب الاختصاص ، فهل یجوز المسّ حینئذٍ مطلقاً، أو یدور الحرمة مدار قصد الکاتب، أو قصد مَنْ وضعه، فإن کان بقصد التشرّف والتبرّک بالاسم فلا یجوز وإلاّ فیجوز ؟

والذی یظهر من «الروضة»، ومال إلیه صاحب «الجواهر»، هو قصر الحکم بما هو المقصود للکاتب، وإلاّ یجوز ولو قصد التشرّف بالاسم، خلافاً لصاحب «مصباح الهدی» حیث قطع بالجواز، لو لم یقصد التشرّف فی الوضع والکتابة .

ولکن الأحوط فیما إذا قصد الکاتب مع قصد التشرّف، هو الاحتیاط ، بل الأولی إلحاق صورة الأخیر إلیه أیضاً .

فإذا عرفت حکم الاسم مستقلاًّ، یظهر لک حکم الجزئیة ممّا سبق فی جزئیة اسم اللّه سبحانه إذ لا فرق بین الموردین فی کونه جزءاً أم لا ، فیکون حکم عبد المحمّد وعبد الحسین حکم اسمهما، کما لایخفی .

ثمّ لا فرق فی حرمة مسّ الکتابة، بین أن تکون بمداد أو بحفر أو بتطریز أو بغیرها، إذ المدار عرفاً علی صدق اسم آیة القرآن، أو اسم اللّه، کیفما تحقّقتا من أیّ کاتب کان ولو بالریح ونحوها، وبأیّ شکل وجد ولو بالحفر .

فالاستشکال فی تحقّق المسّ علی مثل الحفر بعد مساعدة العرف فی صدق إطلاق اسم المسّ علی مثل اللوح المنقوش فیه کذلک ، ممّا لا وجه له، کما هو واضح .

ما یحرم علی الجنب / مسّ کتابة القرآن و ما هو بحکمه

(1) بل اللبث فیها مطلقاً، ولو من غیر جلوس، بل ولا استقرار حتّی یشمل المشی فی جوانب المساجد من غیر مکث، ما لم یصدق علیه المرور والاجتیاز، کما علیه الفتوی من «الخلاف» و«المنتهی» و«الإرشاد» و«الذکری»

ص:45

و«الدروس»، وسائر کتبه، و«جامع المقاصد»، بل فی «المنتهی» وغیره: لا نعرف فیه خلافاً، وأطبق علیه الأصحاب إلاّ عن سلاّر.

ما یحرم علی الجنب / اللبث فی المساجد

بل یوافق ذلک ما عن «الفقیه» و«المقنع» و«الهدایة» و«المبسوط» و«الغنیة» و«الوسیلة» و«الجامع» و«المعتبر» و«النافع»، حیث عبّروا بحرمة الدخول فیها إلاّ اجتیازاً، وهذا هو المراد من اللبث والمکث الذی ورد فی تعبیر بعض کالسیّد فی «العروة»، لما قد صرّح بعده بقوله: «بل الدخول فیها غیر وجه المرور» .

فالدلیل علیه یکون هو الإجماع الذی ادّعی علیه «الغنیة» والعلاّمة .

مضافاً إلی إمکان استفادة ذلک من الآیة المفسّرة بالأخبار الصحیحة المستفیضة المعتضدة بالفتوی، وهو قوله تعالی : «لاَ تَقْرَبُوا الصَّلاَةَ وَأَنْتُمْ سُکَارَی حَتَّی تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلاَ جُنُبا إِلاَّ عَابِرِی سَبِیلٍ»(1) .

بأن یکون المراد من النهی عن التقارب، هو قربه إلی مواضع الصلاة بالنسبة إلی الجنب، لمناسبته مع جهة «عابری سبیل» .

واحتمال کون المراد هو النهی عن القرب بالصلاة جُنباً إلاّ فی السفر، _ حیث یجوز مع التیمّم أیضاً، کما نقل عن بعض متأخّری المتأخّرین _ ففی غایة الوهن والضعف، لوضوح عدم اختصاص ذلک بالسفر، إذ لا یجوز فی الحضر إلاّ مع التیمّم، إذا لم یتمکّن من استعمال الماء ، مع أنّ حکم التیمّم ورد ذکره فی ذیلها بقوله تعالی : «وَإِنْ کُنتُمْ مَرْضَی أَوْ عَلَی سَفَرٍ»(2) الآیة ، کما لایخفی .

مضافاً إلی مخالفة ذلک لتفسیر أهل البیت علیهم السلام ، لأنّهم أدری بما فی البیت ،


1- سورة النساء : آیة 43 .
2- سورة النساء : آیة 43 .

ص:46

فکیف یمکن الذهاب إلی الاجتهاد فی مقابل النصّ ؟! وإن شئت الاطّلاع فلاحظ صحیحة زرارة ومحمّد بن مسلم، عن أبی جعفر علیه السلام ، قالا : «قلنا له : الحائض والجنب یدخلان المسجد أم لا؟ قال : الحائض والجنب لا یدخلان المسجد إلاّ مجتازین، إنّ اللّه تبارک وتعالی یقول : «وَلاَ جُنُبا إِلاَّ عَابِرِی سَبِیلٍ حَتَّی تَغْتَسِلُوا»الحدیث(1) ».

ورواه علی بن إبراهیم فی «تفسیره» مرسلاً. ومثله رواه العیّاشی فی تفسیره عن الباقر علیه السلام .

وما رواه فی «مجمع البیان» عن أبی جعفر علیه السلام : «فی قوله تعالی : «وَلاَ جُنُبا إِلاَّ عَابِرِی سَبِیلٍ» إنّ معناه لا تقربوا مواضع الصلاة من المساجد وأنتم جنب إلاّ مجتازین»(2) . والتوهّم بأنّه لا یحرم علی السکران القُرب إلی المساجد من حیث کونها مساجد لا منه .

مدفوع، بأنّه قد یکون المراد من الصلاة نفسها بالنسبة إلی السکران، وإلی الجُنب مواضعها علی طریق الاستخدام أو غیره .

مع إمکان أن یقال: تحریم مقاربة السکران إلی مواضع الصلاة، کنایة لأجل شدّة المناسبة فی الإسلام بین الصلاة وإیقاعها فی المساجد، کأنّه فرض فی الآیة أنّ الصلاة لا تؤتی بها إلاّ فی المساجد، فلأجل ذلک کان نهی السکران عن التقرّب لمواضع الصلاة نهیاً عن نفس الصلاة، هکذا یکون الأمر فی الجنب أیضاً، حیث جعل التجویز فی الأوّل هو إدراکه وشعوره بقوله : «حَتَّی تَعْلَمُوا مَا


1- وسائل الشیعة: الباب 15 من أبواب الجنابة، الحدیث 10 .
2- وسائل الشیعة: الباب 15 من أبواب الجنابة، الحدیث 20 .

ص:47

تَقُولُونَ» ، وفی الثانی هو الاغتسال .

هذا فضلاً عن أخبار عدیدة دالّة علی ذلک. غیر الأخبار الواردة فی تفسیر الآیة السابقة، مثل صحیحة اُخری لمحمّد بن مسلم، قال : قال أبو جعفر علیه السلام «فی حدیث الجنب والحائض» : «ویدخلان المسجد مجتازین، ولا یقعدان فیه ولا یقربان المسجدین»(1) .

حیث یدلّ علی جواز الدخول للاجتیاز دون غیره، فکان المجاز خصوص المرور، لا کون العبرة بالنهی عن القعود، حتی یساعد مع جواز غیر القعود، والاجتیاز هو أن یمشی فی جوانب المساجد للمشاهدة، من دون اجتیاز.

فعلیه یکون ذکر القعود المنهی عند بیان أحد مصادیق غیر الاجتیاز، فیساعد الحدیث مع فتوی الأصحاب، حیث لم یجوّزوا للجنب الدخول فی المساجد إلاّ علی نحو المرور فیها.

ومنها : روایة جمیل، قال : «سألت أبا عبداللّه علیه السلام عن الجنب یجلس فی المساجد؟ قال : لا ، ولکن یمرّ فیها کلّها إلاّ المسجد الحرام ومسجد رسول اللّه صلی الله علیه و آله »(2) .

ولفظ (کلّها) کان لبیان شمول الحکم لجمیع المساجد، أی فی کلّ مسجد غیر المسجدین، لا لبیان استغراق مواضع کلّ مسجد حتّی یناسب مع المشی فی جوانب المسجد .

ومنها : روایة اُخری لجمیل بن درّاج، عنه علیه السلام ، قال : «للجنب أن یمشی فی


1- وسائل الشیعة: الباب 15 من أبواب الجنابة، الحدیث 17 .
2- وسائل الشیعة: الباب 15 من أبواب الجنابة، الحدیث 2 .

ص:48

المساجد کلّها، ولا یجلس فیها، إلاّ المسجد الحرام ومسجد الرسول صلی الله علیه و آله »(1) .

ومنها : روایة محمّد بن حمران، عن أبی عبداللّه علیه السلام ، قال : «سألته عن الجنب یجلس فی المسجد؟ قال : لا ، ولکن یمرّ فیه إلاّ المسجد الحرام ومسجد المدینة» الحدیث(2) .

ومنها : روایة أبی حمزة، قال : قال أبو جعفر علیه السلام فی حدیثٍ : «ولا بأس أن تمرّ فی سائر المساجد، ولا یجلس فی شیء من المساجد»(3) .

وروایة حسین بن زید، فی حدیث المناهی(4) .

هذه جملة روایات تدلّ علی المطلوب، وهو تحریم الدخول فی المساجد إلاّ للمرور والاجتیاز ، فکیف یمکن الذهاب إلی الکراهة، کما عند سلاّر صاحب «المراسم»؟

ولعلّه کان لأجل توهّم ما ورد من لفظ الکراهة فی بعض الأخبار، مثل ما فی المرسل عن النبویّ صلی الله علیه و آله وسلم ، قال : «إنّ اللّه کره لی ست خصالٍ، وکرهتهنّ للأوصیاء من ولدی، وأتباعهم من بعدی، وعدّ منها : إتیان المساجد جُنباً»(5) .

وروایة حمّاد بن عمر، وأنس بن محمّد، عن أبیه، عن جعفر بن محمّد، عن آبائه علیهم السلام ، فی وصیّة النبیّ صلی الله علیه و آله لعلیّ : «إنّ اللّه کره لاُمّتی العبث فی الصلاة... إلی


1- وسائل الشیعة: الباب 15 من أبواب الجنابة، الحدیث 4 .
2- وسائل الشیعة: الباب 15 من أبواب الجنابة، الحدیث 5 .
3- وسائل الشیعة: الباب 15 من أبواب الجنابة، الحدیث 6 .
4- وسائل الشیعة: الباب 15 من أبواب الجنابة، الحدیث 8 .
5- وسائل الشیعة: الباب 15 من أبواب الجنابة، الحدیث 9 .

ص:49

أن قال : وإتیان المساجد جنباً»(1) .

وروایة غیاث بن إبراهیم، عن الصادق، عن آبائه علیهم السلام ، عن رسول اللّه صلی الله علیه و آله إنّه قال : «إنّ اللّه کره ستّ خصال، وکرهتهنّ للأوصیاء من بعدی، وعدّ منها إتیان المساجد جنباً»(2) .

وروایة محمّد بن سلیمان الدیلمی، عن أبیه، عن أبی عبداللّه علیه السلام ، قال : «قال رسول اللّه صلی الله علیه و آله : ستّة کرهها اللّه لی فکرهتها للأئمّة من ذرّیتی، ولیکرهها الأئمّة علیهم السلام لأتباعهم...

إلی أن قال : وإتیان المساجد جنباً»(3) .

ولکن اُجیب عنه کما عن صاحب «الجواهر» و«الحدائق» وغیرهما: بأنّ المراد من الکراهة، الکراهة اللغویة التی تشمل الحرمة، کما یستعمل فی ذلک فی الأزمنة السابقة ولم یکن المقصود منها الکراهة الاصطلاحیة مراداً.

مع أنّه یمکن فی مقام الجمع بین هذه الأخبار مع الأخبار الکثیرة الناهیة، الظاهرة فی التحریم، من حمل أخبار الکراهة علی کراهة مطلق الإتیان بالمساجد، بمعنی أنّ المرور والاجتیاز فی المساجد أیضاً مکروهاً، فلا ینافی ذلک حرمة مصداق اللبث والمکث من الإتیان لأجل تلک الأخبار السابقة .

فالإتیان وإن کان جامعاً لکلا فردیه أو أزید، إلاّ إنّه یقیّد فی حکمه بخصوص المرور والاجتیاز .


1- وسائل الشیعة: الباب 15 من أبواب الجنابة، الحدیث 7 .
2- وسائل الشیعة: الباب 15 من أبواب الجنابة، الحدیث 15 .
3- وسائل الشیعة: الباب 15 من أبواب الجنابة، الحدیث 16 .

ص:50

نعم ، قد یستشکل ذلک مع ملاحظة وجود نفی البأس فی صحیحة محمّد بن القاسم، قال : «سألت أبا الحسن علیه السلام عن الجنب ینام فی المسجد؟

فقال : یتوضّأ ولا بأس أن ینام فی المسجد ویمرّ فیه»(1) .

بأن یقال : إنّ النهی الوارد فی تلک الأخبار ظاهر فی التحریم، وهذه الروایة نصّ فی الجواز، لصراحة نفی البأس فیه، فلابدّ فی الجمع بین النصّ والظاهر من رفع الید عن الظاهر بالنصّ، فتحمل تلک الأخبار علی الکراهة.

بل قد نسب فی «الجواهر» إلی الصدوق العمل بهذه الروایة ظاهراً، حیث أنّه قال _ بعد أن ذکر أنّ الجنب والحائض لا یجوز أن یدخلا المسجد إلاّ مجتازین _ : «ولا بأس أن یختضب الجنب ویجنب وهو مختضب ... إلی أن قال: وینام فی المسجد، ویمرّ فیه، ویجنب أوّل اللیلة وینام... إلی آخره» . انتهی کما فی «المقنع» و«الفقیه» .

وإن کان ذلک غیر معلوم، حیث لم یذکر الوضوء، مع أنّه مذکور فی الروایة.

وکیف کان الاستدلال علی الکراهة بهذه الروایة کان من باب الجمع بین هذه وتلک الأخبار .

ولکن اُجیب عن هذه الروایة بأجوبة؛ أوّلاً :

بالحمل علی التقیة، لأجل موافقته لفتوی بعض العامّة، وقد اختاره صاحب «الحدائق» حیث قال : «إنّه جیّد، فإنّه منقول عن أحمد بن حنبل حیث قال : إذا توضّأ الجنب جاز أن یقیم فی المسجد کیف شاء» .

بل فی «المغنی»(2) لابن قدامة الحنبلی : إذا توضّأ الجنب له اللبث فی


1- وسائل الشیعة: الباب 15 من أبواب الجنابة، الحدیث 18 .
2- المغنی: 1 / 146.

ص:51

المسجد فی قول أصحابنا وإسحاق... إلی آخره.

وکذا فی «الوسائل» احتمل التقیة، کما فی «الجواهر».

لکنّه لا یخلو عن بُعد، لأنّ أکثر العامّة مخالفین لهذا ، کما أشار إلیه ابن قدامة فی «المغنی» بقوله : وأکثر أهل العلم لا یجوّز، للآیة والخبر .

فصدق التقیّة فی مثل ذلک مشکلٌ جدّاً.

وثانیاً : بأن یکون المراد من التوضّی فی الحدیث هو الاغتسال، کما احتمله صاحب «الوافی» . ففی الحدائق فظنّی بعده ، ولعلّه کذلک، لأنّه بعد الاغتسال یصیر طاهراً، فلا وجه لذکر جواز المرور بقوله : إن یمرّ فیه ، حیث أنّه یرشد إلی کون الشخص بعد الوضوء صاحب حدث، حیث یجوز له المرور دون اللبث والمکث والنوم، کما لایخفی .

وثالثاً : إمکان أن یقال _ لولا مخالفته مع فتوی معظم الأصحاب، بل وظاهر الآیة والروایات _ بالتخصیص فی مقام الجمع بینه وبین تلک الأدلّة، بحمل تلک المطلقات علی المنع من اللبث، وغیره فی غیر اللبث والمکث لأجل النوم علی تحصیل الوضوء، فینتج بأنّ الجواز یکون فی فردین :

أحدهما: المرور مع الجنابة .

والثانی: النوم مع الوضوء. وفی غیرهما یکون حراماً .

ولکن حیث أنّا نعتقد بأنّ إعراض الأصحاب عن الروایة موهنٌ، بل کلّما ازداد فی صحّة سندها ازداد فی ضعفها ووهنها، فإنّ الأصحاب مع ملاحظتهم لها إذا لم یعلموا بالخبر فإنّ ذلک دلیل علی وجود نقص ووهن فی الخبر، فعلی هذا لا تقاوم المعارضة مع تلک الأخبار حتّی یوجب حمل النهی فیها علی الکراهة .

فثبت ممّا ذکرنا، صحّة کلام الماتن قدس سره ، من حرمة المکث فی المسجد _ غیر

ص:52

المسجدین _ فلایجوز للجنب إلاّ المرور والاجتیاز ، بل لایجوز المرور الذی یصدق علیه المشی فی أطراف المسجد، ولو من دون المکث، لأنّ ظاهر لفظ المرور والاجتیاز عرفاً لا یصدق إلاّ علی العبور الصادق علی الدخول من الباب والخروج من الباب الآخر، ولأجل ذلک قد ناقش الفقهاء فی أنّه هل یعتبر فی المرور الجایز أن یکون المسجد ذا بابین، حتی یدخل من واحد ویخرج من الآخر، أو یصحّ ویجوز فی المسجد الذی له باب واحد، بأن یدخل فیه ویدور فی أطرافه ثمّ یخرج من نفس الباب أم لا؟

ولا یبعد کون الأوّل صحیحاً، وإن کان الوارد فی بعض الأخبار عنوان أن یمشی فی المسجد، حیث یتوهّم العموم، ولکنّه محمول علی خصوص المشی الاجتیازی، بقرینة سائر الأخبار، کما علیه أکثر أهل الفتوی، بل وظاهر أکثر النصوص .

ثمّ إن قلنا بدلالة الأخبار علی عموم المنع، حتّی یشمل المورد، فلا تجب ، وأمّا لو لم نقل بذلک، وشککنا فیه _ ولو لأجل تعارض الأخبار بعضها مع بعض _ وتردّدنا فی مثل الدخول فی مسجد له باب واحد، فهل القاعدة عند الشکّ تقضی المنع أو الجواز؟

ففی «الجواهر»: فیدخل المشکوک تحت العموم ، فتأمّل .

ولعلّ وجه التأمّل من جهة عدم تمامیّة ما قاله، لوضوح أنّ المرجع هناک إلی الأصول العملیة، وهنا هو البراءة لا العمومات، لأنّ المقام کان من قبیل إجمال المخصّص الذی یسری إجماله إلی عموم العام، فلایجوز التمسّک بعموم العام، لأنّ إجماله یوجب إجماله، والذی قرع سمعک من الرجوع إلی عموم العام فی المخصّص المردّد بین الأقلّ والأکثر، کان فی المخصّص المنفصل الذی لا یسری إجماله إلی العام، لا المتّصل الذی کان کذلک، کما لایخفی .

ص:53

بقی هنا فرعان :

الفرع الأوّل : بعدما عرفت حرمة المکث فی المساجد للمجنب، فهل یلحق بها المشاهد المشرّفة والضرائح المقدّسة حتّی یکون المکث فیها حراماً، أو یکون أشدّ منها حیث یکون الدخول حراماً کالمسجدین، فضلاً عن المکث ، أو لا یکون حراماً بل یکره المکث والدخول؟

فیه وجوه وأقوال : الأظهر عندنا هو الأوسط، کما علیه بعض أصحاب التعالیق علی «العروة» مثل الاصطهباناتی والسیّد جمال الگلپایگانی ، خلافاً لصاحب «الجواهر» تبعاً عمّا نقل الشهید الأوّل فی «الذکری» عن المفید وابن الجنید، واستحسنه.

لکن نقل بعضٌ عن الشهید الثانی، ومال إلیه بعض المتأخّرین من أصحابنا، من الذهاب إلی القول الأوّل، کما هو ظاهر «العروة» وصریحها، وبعض آخر من أهل الحواشی .

وإن کان الظاهر من کلام المحقّق الهمدانی وصاحب «مصباح الهدی» المیل إلی الکراهة، وإن احتاط خصوصاً الأوّل منهما، وقال : والاحتیاط لا ینبغی ترکه .

والذی یمکن أن یستدلّ علی المختار اُمور _ وإن لم یمکن اعتبار کلّ واحد منها دلیلاً مستقلاًّ، لکن یمکن ذلک فی المجموع، بل فی بعض منها لا یخلو عن الدلالة علی الحرمة _ وهی:

منها: ما استدلّ به علی وجوب التعظیم المنافی له دخول الجنب، بل فی «الحدائق» الاستدلال بقوله تعالی: «وَمَنْ یُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللّه ِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَی الْقُلُوبِ»(1) .


1- سورة الحجّ : آیة 32 .

ص:54

وقد عرفت فی بحث المسجد عدم دلالة الآیة علی ذلک، إذ الحرام عبارة عن التوهین والتهتّک، وکون مطلق التعظیم من الواجبات غیر معلوم .

نعم هو من مکارم الأخلاق عند المؤمن، ولا إشکال فی حسنه ، نعم إن صدق علی هذا الدخول عنوان التهتّک، فلا إشکال حینئذٍ فی حرمته، ولکن لابدّ من إثبات ذلک من دلیل آخر.

ما یحرم علی الجنب / اللبث فی المشاهد المشرّفة

ومنها : الاستدلال بفحوی الحکم فی المسجد، بناءً علی ما یستفاد من النصوص من أنّ ملاک حرمة المسجد هو اشتماله علی مدفن معصوم من نبیّ أو وصیّ، کما قیل: السرّ فی فضل صلاة المسجد قبر لمعصوم به متشهّد.

هذا کما ذکره فی «مصباح الهدی» .

فقد یمکن أن یُجاب عنه: بأنّ حکم حرمة الدخول فی المسجد معلّق علی عنوان المسجدیة، لا علی شرافة المکان، فلا وجه للتعدّی عنه إلی غیره، ما لم یقم علیه دلیل، ومجرّد أفضلیة المشهد عن المسجد لا یوجب انسحاب حکم المسجد علیه، فضلاً عن أن یکون أولی .

ولکن هذا لا یکون جواباً له، لأنّه یدّعی کون حرمة المسجد لأجل کونه مدفن المعصوم، فلابدّ کون المدفن الظاهر أولی من المدفن غیر الظاهر .

والأولی أن یناقش فی أصل الدعوی والقول بأنّه علی فرض ثبوت ذلک، یکون المدفن عادةً فی جزء معیّن وقطعة معیّنة، مع أنّ المسجد ربّما یکون فی محیط أعظم مشتملاً علی غرف متعدّدة، فلعلّ وجه هذه الأخبار بیان أصل شرافة المکان لذاته بحیث صار مسجداً، فیدور الحکم مدار ذلک، حتّی یستفاد منه الأولویّة.

ومنها : استفادة ذلک من جملة من الأخبار الواردة من المنع عن دخول الجنب

ص:55

فی بیوتهم علیهم السلام حال حیاتهم، مع ما ثبت من أنّ حرمتهم میّتاً کحرمتهم حیّاً، فلا بأس بذکر الأخبار الواردة فی ذلک مثل: روایة بکر بن محمّد، قال : «خرجنا من المدینة نرید منزل أبی عبداللّه علیه السلام ، فلحقنا أبو بصیر خارجاً من زقاق وهو جنبٌ ونحن لا نعلم، حتّی دخلنا علی أبی عبداللّه علیه السلام ، قال : فرفع رأسه إلی أبی بصیر، فقال : یا أبا محمّد أما تعلم أنّه لا ینبغی لجنب أن یدخل بیوت الأنبیاء؟ قال : فرجع أبو بصیر ودخلنا»(1) .

وخبر عبداللّه بن جعفر الحمیری، فی «قرب الاسناد» عن أحمد بن إسحاق، عن بکر بن محمّد الأزدی مثله .

وروایة اُخری للمفید فی «الإرشاد»، عن أبی بصیر، قال : «دخلت المدینة وکانت معی جویریة لی فأصبت منها، ثمّ خرجت إلی الحمّام، فلقیت أصحابنا الشیعة وهم متوجّهون إلی أبی عبداللّه علیه السلام ، فخفت (فخشیت) أن یسبقونی ویفوتنی الدخول إلیه، فمشیت معهم حتّی دخلنا الدار، فلمّا مثلت بین یدی أبی عبداللّه علیه السلام نظر إلی ثمّ قال : یا أبا بصیر! أما علمت أنّ بیوت الأنبیاء وأولاد الأنبیاء لا یدخلها الجنب؟ فاستحییتُ فقلت له : یابن رسول اللّه إنّی لقیتُ أصحابنا فخشیتُ أن یفوتنی الدخول معهم، ولن أعود إلی مثلها، وخرجت»(2) .

وروایة ثالثة لأبی بصیر علی حسب نقل الکشّی فی کتاب «رجال الکشی»، بإسناده عن رجل، عن بکیر، قال : «لقیت أبا بصیر المرادی فقال : أین ترید؟ قلت : أرید مولاک ، قال : إذاً أتبعک ، فمضی فدخلنا علیه وأحدّ النظر إلیه، وقال :


1- وسائل الشیعة: الباب 16 من أبواب الجنابة، الحدیث 1 .
2- وسائل الشیعة: الباب 16 من أبواب الجنابة، الحدیث 2 .

ص:56

هکذا تدخل بیوت الأنبیاء وأنت جنب؟ فقال : أعوذ باللّه من غضب اللّه وغضبک، وقال : أستغفر اللّه ولا أعود»(1) .

وروی ذلک أبو عبداللّه البرقی عن بکیر . فهذه الروایات الثلاث مشتملة علی النهی عن الدخول فی بیوت الأنبیاء بل وأولادهم .

ولا إشکال فی دلالتها، إلاّ ما یتخیّل دلالتها علی الکراهة لاشتمال لفظ: «لا ینبغی» فی روایته الاُولی .

مضافاً إلی عدم ظهور هذه الکلمة فی جمیع الموارد فی الکراهة، إذ ربما یستعمل فی الاستناد إلی عمل الإنسان وشأنه، بصورة النهی التحریمی، نظیر استعمال کلمة أولی فی الوجوب فی آیة أولوا الأرحام دون الندب.

ولکن لو سلّمنا ظهورها فی الکراهة، وقلنا یصحّ لکن فیما إذا لم تدلّ القرینة علی خلافه، کما فی المقام، لما ورد فی الروایة الثانیة والثالثة ما یدلّ علی الحرمة، فتوجب صرفه عمّا هو علیه، بل وفی غیر هذه الروایات کما سنشیر إلیه، إذ من الواضح أنّه لو کان ذلک أمراً مکروهاً لما واجهه الإمام علیه السلام بهذه الشدّة حتّی یقول أبو بصیر : قد استحییت، أو یقول فی جوابه بعد أن نظر إلیه شزراً : أعوذ باللّه من غضب اللّه وغضبک، حیث لا تناسب هذه الاُمور مع الکراهة .

نعم هنا فی روایة رابعة عن أبی بصیر، حسبما نقلها علی بن عیسی فی «کشف الغمّة» نقلاً من کتاب «الدلائل» لعبد اللّه بن جعفر الحمیری ما یشمل الإشکال، وهو عن أبی بصیر، قال : «دخلت علی أبی عبداللّه علیه السلام وأنا أرید أن یعطینی من دلائل الإمامة مثل ما أعطانی أبو جعفر علیه السلام ، فلمّا دخلت وکنت جنباً، فقال : یا أبا


1- وسائل الشیعة: الباب 16 من أبواب الجنابة، الحدیث 5 .

ص:57

محمّد ما کان ذلک فیما کنت فیه شغل تدخل علیَّ وأنت جنب؟ فقلت : ما عملته إلاّ عمداً . قال : أولم تؤمن؟ قلت : بلی ولکن لیطمئن قلبی . وقال : یا أبا محمّد قم فاغتسل ، فقمت واغتسلت وصرت إلی مجلسی وقلت عند ذلک : إنّه إمام»(1) .

ورواها سعید بن هبة اللّه الراوندی، فی «الخرائج والجرائح» عن أبی بصیر نحوه .

وجه الإشکال: هو ما أجاد فی بیانه المحقّق الهمدانی حیث یقول : «إنّ الذی یساعده الاعتبار، ویؤیّده ألفاظ الروایات، أنّ هذا الفعل لم یصدر من أبی بصیر إلاّ مرّة أو مرّتین؛ مرّة للاختبار، واُخری مخافة فوت الدخول ... إلی أن قال : وعلی تقدیر صدور الفعل منه مراراً، فهو من أقوی الشواهد علی الکراهة، إذ لو فهم من النهی فی الواقعة التی صدرت منه للاختبار، کونه عالماً بمرجوحیّة الفعل، وإنّما صدر منه عمداً تحصیلاً لاطمئنان القلب الذی لا یحصل إلاّ بالمشاهدة ، فلو علم حرمة الدخول فی البیت لاختبره بشیء آخر ممّا یجوز له ارتکابه، ولأمره الإمام علیه السلام بالتوبة کما أمره بالغسل، فتأمّل» انتهی محلّ الحاجة(2) .

ولکن یمکن أن یجاب عنه : بأنّ ظاهر الروایات تعدّد صدور الفعل منه، لکن لا ینافی ذلک مع الحرمة، لاحتمال کون الاختبار کان فی المرّة الاُولی، حیث أنّه لیس فیه إشارة إلی کون حضور الجنب عند الإمام علیه السلام حراماً، بل المستفاد منه هو إخباره الإمام بالجنابة، وأمره بإتیان الغسل، حیث یجامع مع ظنّه بالمرجوحیّة، ولا یظهر منه الحرمة ، فلعلّه حیث لم یتوجّه الحرمة فعل ثانیاً، ففهّمه الإمام حینئذٍ حرمة ذلک، ولعلّه لذلک حدّ النظر إلیه، وعلّله بأنّ الجنب لا


1- وسائل الشیعة: الباب 16 من أبواب الجنابة، الحدیث 3 .
2- مصباح الفقیه ج3 ص316 .

ص:58

یدخل بیوت الأنبیاء وأولاد الأنبیاء .

فالإشکال بأنّه لو علم الحرمة لاختبره بشیء آخر، غیر وارد، لما قد عرفت من عدم التنافی بین الحرمة وعدم علمه، کما لایخفی .

کما قد یؤیّد الحرمة ما ورد عن الراوندی فی «الخرائج والجرائح» عن جابر الجعفی، عن زین العابدین علیه السلام ، إنّه قال : «أقبل أعرابی إلی المدینة ، فلمّا صار قرب المدینة خضخض(1) ودخل علی الحسین علیه السلام وهو جنبٌ، فقال له : یا أعرابی! أما تستحی تدخل إلی إمامک وأنت جنب ، أنتم معاشر العرب إذا خلوتم خضخضتم؟ فقال الأعرابی : قد بلغت حاجتی فیما جئت له، فخرج من عنده فاغتسل ورجع إلیه، فسأله عمّا کان فی قلبه»(2) .

فإنّ قوله : «أما تستحی» لا یناسب مع الکراهة.

ولا یأتی هنا ما أجاب المحقّق الهمدانی فی ردّ دلالة الغضب علی الحرمة، فإنّه لا ینبغی صدور مثل هذه الکراهة عن مثل أبی بصیر بحسب شأنه ، لوضوح أنّ الأعرابی لم یکن مثله.

فیظهر منه أنّ نفس العمل کان مبغوضاً للشارع، فیدلّ علی الحرمة من أیّ شخص صدر، کما هو واضح .

ثمّ فی «المصباح» للهمدانی: إنّه بعد التسلیم بالدلالة علی الحرمة، فیدلّ مطلقاً ، فبعد تحقّق النسبة یکون الدخول حراماً، سواء کان فی حیاتهم أو بعد مماتهم، فلایحتاج الاستدلال إلی المقدّمة الخارجیة من أنّ حرمتهم بعد مماتهم


1- أی استمنی بیده کما فی القاموس.
2- وسائل الشیعة: الباب 7 من أبواب الجنابة، الحدیث 24 .

ص:59

کحرمة أحیائهم .

ولکنّک خبیر بأنّ التخطّی عن بیوتهم إلی قبورهم _ مع أنّه لا یصدق علیها البیت عرفاً _ قیاسٌ ، لا نقول به .

لا یخلو عن نقاش، لوضوح أنّه قد یتوهّم _ لولا هذه المقدّمة _ بکون وجه الحرمة هو الدخول فی بیوتهم للحضور عندهم علیهم السلام حیّاً، لا لمطلق البیت، ولو لم یکونوا موجودین فیها.

فبعد ضمیمة هذه المقدّمة المستفادة ممّا ورد فی زیارتهم من القول: «أنّی أعتقد حرمة هذا المشهد الشریف فی غیبته، کما أعتقدها فی حضرته»، یفهم ثبوت الملازمة بین حرمة حضور الجُنب عندهم حیّاً، وحرمة الحضور عندهم میّتاً، فلا خصوصیة حینئذٍ لذات البیت، بل الملاک صدق الحضور عندهم، سواء صدق علیه البیت أو المشهد ، فتسریة الحکم إلی المشاهد لا یکون قیاساً کما استشکله ، واللّه العالم .

الحاصل: ثبت من جمیع ما بیّناه کفایة دلالة الأخبار علی الحرمة، وعدم ما یوجب رفع الید عنها وحملها علی الکراهة.

بل التأمّل فی الأخبار _ لاسیما فی قضیة أبی بصیر _ کون المنع لمجرّد الدخول، حتّی یکون حکم مشاهدهم کالمسجدین، حتّی یکون الدخول لمجرّد المرور حراماً، فضلاً عن المکث، کما قد استظهر واستقرب ذلک صاحب الحدائق قدس سره ، بقوله : «وظاهر الأخبار المذکورة تحریم مجرّد الدخول، وإن کان لامع اللبث . إلاّ أن یقال : إنّ إنکاره7 علی أبی بصیر، لعلمه بإرادته اللبث والأوّل أقرب»(1) .


1- الحدائق الناضرة: ج3 / ص54 .

ص:60

کما اعترف بذلک صاحب «الجواهر» قدس سره حیث، قال : «بل قد یظهر من ملاحظتها المنع من الدخول فضلاً عن المکث»(1) .

بل هذا هو الأحوط عندنا، وأمّا السیرة المستمرّة _ التی قد تمسّک بعض بها _ کانت متّخذة عن لسان هذه الأخبار، من تجنّب المتورّعین _ بل غیرهم _ عن الدخول إلی مشاهدهم، فلا نحتاج إلیها حتّی یستشکل فیها بما فی «مصباح الهدی» بأنّها لا تدلّ علی الحرمة، لأنّا نشاهد سیرتهم بعدم الدخول فی مشاهدهم بغیر وضوء حتّی لمثل دخول حرم السیّد الکریم عبد العظیم (رض) معتذراً بأنّه لا یکون علی الوضوء، مع أنّه لا إشکال فی دخول مشاهدهم بلا وضوء قطعاً .

لما قد عرفت من دلالة الأخبار بذلک ، فالسیرة المتّخذة هنا تکون مع الدلیل، وتکون حجّة وهو المطلوب .

هذا کلّه فی حکم دخول الجنب فی داخل المشاهد والحرم والضرائح المقدّسة.

بل قد یستظهر من کلام المحقّق الهمدانی، أنّ قبول حرمة الدخول فی المشاهد المشرّفة یعدّ أهون من الالتزام بالحرمة فی الدخول إلی بیوتهم حال حیاتهم، لأنّ المشاهد من المشاعر العظام التی تشدّ الرحال إلیها للتشرّف بها، فلا یبعد دعوی کون دخول الجنب والحائض هتکاً لحرمتها عند المتشرّعة، وإن کان فی إطلاقها نظر .

قلنا : لعلّ وجه هذا التوهّم، کان لأجل الشیء الذی ذکره صاحب «مصباح الفقیه» فیما قبل ذلک، وهو قوله فی بیان وجه الإشکال فی الذهاب إلی الحرمة .


1- الجواهر: ج3 / ص52 .

ص:61

«من إمکان دعوی القطع، بأنّه لم یزل یبیت الجنب والحائض من أهل بیتهم وموالیهم الواردین علیهم فی بیوتهم، ولم یکونوا یکلّفونهم بالخروج، أو المبادرة إلی الغسل أو التیمّم، کیف ولو کان الأمر کذلک لشاع الحکم بین موالیهم، وصار لأجل معروفیّته من زمن النبیّ صلی الله علیه و آله إلی عصر الصادقین من ضروریات الدِّین، فکیف یختفی عن مثل أبی بصیر الذی لم یزل یتردّد إلی بیتهم؟» انتهی محلّ الحاجة(1) .

ولکنّک إذا تأمّلت، تفهم عدم ورود هذا الإشکال، لأنّه ربما یکون ویستلزم الالتزام بذلک لأهل البیت وموالیهم عُسراً وحرجاً شدیدین ، خاصّة النساء التی عادةً ما تعرض لهنّ الحیض خلال الشهر فالأمر بخروجهنّ من البیت لا یمکن تصوّره فی حقّهنّ، والالتزام به لیس إلاّ الالتزام بأمر غیر ممکن عادةً، کما لایخفی، بخلاف مثل ما نحن بصدده حیث لایلزم شیئاً من ذلک، وإلاّ لأمکن القول بالجواز فی مثله هنا أیضاً .

مع أنّه ممکن الدعوی باختصاص هذا الحکم لمن کان وارداً علیهم علیهم السلام ، لا لمن کان فی بیتهم، فلا یردّ النقض بمثله، کما لا یخفی ، واللّه العالم .

ثمّ جاء فی «الجواهر»: «هل یلحق بالجنب، الحائض والنفساء؟ إشکالٌ، ولعلّ التعظیم واشتمالها علی ما فی المسجد یؤیّد الأوّل، سیّما مع اشتراک الحائض مع الجنب فی کثیر من الأحکام.

ویحتمل العدم، لحرمة القیاس، بل لعلّه مع الفارق، بل قیل إنّ الظاهر أنّ الحائض والنفساء ربّما کنّ یدخلن بیوتهم للسؤال عن المشکلات التی ترد علیهنّ واللّه أعلم» انتهی .


1- مصباح الفقیه: ج3 ص316 .

ص:62

والظاهر أنّ الإشکال غیر وارد، لأنّ العلّة من حرمة الدخول أو المکث من الجنب، لیس إلاّ لأجل الاحترام، وهذا المعنی جارٍ فیهما، ولأجل ذلک قد قلنا بالاحتیاط وجوباً فی الحائض والنفساء، حتّی بالاجتیاز، فضلاً عن المکث واللبث، کما لایخفی .

وما ذکره أخیراً من الإشکال غیر وارد، لإمکان القول بالاستثناء، لاحتیاجهم من السؤال عن ذلک المسائل الشرعیّة، فضلاً عن الاستثناء بالنسبة إلی أهل منزلهم علیهم السلام وموالیهم، فلایکون ذلک نقضاً للحکم .

الفرع الثانی: فی بیان حکم الرواق هل هو ملحق بالضرائح المقدّسة حتّی یکون کالمسجدین، فیکون المرور والاجتیاز أیضاً حراماً ، أو یکون مثل حکم المساجد، بأن یکون المکث حراماً لا الدخول للمرور أو لا یکون ملحقاً بشیء منهما ؟

ففی «الجواهر»: «هل یقتصر فی الحکم حینئذٍ علی نفس الروضة المقدّسة، أو یلحق بها الرواق ونحوه؟ وجهان: أقواهما الأوّل».

والدلیل علی قوله أنّه ذهب إلی کون الضرائح کالمساجد، فینتج تجویز الدخول إلی الرواق، حتّی مع المکث .

ولکن الأظهر المقتضی للحکم بالاحتیاط، کونها کالمساجد، فی جواز الدخول فیها للاجتیاز ، کما أنّ الأحوط فی الضرائح کونها کالمسجدین ، بلا فرق بین الجنب والحائض .

ولعلّ وجهه هو الإشکال فی صدق الحضور بمجرّد الدخول فی الرواق مع المرور والاجتیاز، إن اُرید منه الحضور، فیما یصدق علیه کونه داخلاً فی المشاهد.

ومن کون المشهد حقیقة لا یصدق إلاّ علی ما کان فیه الروضة المقدّسة، وکان الحضور فیه مشمولاً للدلیل، أمّا مثل الرواق فإنّ فیه تردّد .

ص:63

ووضع شیء فیها (1).

فالأحوط اختیار حدّ الأوسط من جواز المرور، دون المکث، کما علیه بعض أصحاب الفتوی .

(1) وقد صرّح بالحرمة جمعٌ کثیر من الأصحاب، مثل ما ورد فی «الفقیه» و«المبسوط» و«الجمل» و«العقود» و«الغنیة» و«الوسیلة» و«المهذّب» و«السرائر» و«الجامع» و«المعتبر» و«النافع» و«المنتهی» و«الإرشاد» و«القواعد» و«المختلف» و«الذکری» و«الدروس» و«اللمعة» و«الروضة» و«العروة» و«الحدائق» و«الجواهر» و«مصباح الفقیه» و«مصباح الهدی».

وأصحاب التعلیق علی «العروة» کلّهم، بل عن «الغنیة» نقلُ الإجماع علیه، بل عن «المنتهی»: أنّه مذهب علماء الإسلام.

ما یحرم علی الجنب / وضع شیء فی المسجد و الأخذ عنه

عدا سلاّر فی «المراسم» حیث ذهب إلی إنّه یندب أن لا یضع .

ولا إشکال فی ضعفه لمخالفته مع الإجماع، بل مع الأخبار التی ستذکر .

بل ظاهر الأصحاب وإجماعهم علی جواز الأخذ من المساجد، حیث قال العلاّمة فی «المنتهی» : إنّه مذهب علماء الإسلام المفید _ کما فی سابقه _ موافقة ذلک لفتوی علماء الفریقین، حیث لا یطلق بهذا إلاّ فیه، کما لایخفی .

فالدلیل علی حرمة الوضع للجنب، وجواز الأخذ _ مضافاً إلی الإجماع _ هو الأخبار الواردة فیهما مثل: صحیحة عبداللّه بن سنان، قال : «سألت أبا عبداللّه علیه السلام عن الجنب والحائض یتناولان من المسجد المتاع یکون فیه؟ «قال : نعم ولکن لا یضعفان فی المسجد شیئاً»(1) .


1- وسائل الشیعة: الباب 17 من أبواب الجنابة، الحدیث 1 .

ص:64

فإنّ التناول والأخذ من المسجد، یکون علی نحوین:

تارةً : أن یکون منوطاً بالدخول فیه، بحیث لا یمکن إلاّ بالدخول فیه .

واُخری : ما لا یکون کذلک، بل یتحقّق بکلیهما.

فهل الجواز مختصّ بالأوّل أو یعمّ الثانی أیضاً ؟

والذی یظهر من صاحب «الجواهر» من قوله : «إذ من المعلوم أنّ المراد أنّ الدخول إلیه للأخذ منه»، ویشعر به حیث قال قبله : «بل المراد حرمة الدخول للوضع»، کما یشعر به ذکره فی مقابلة جواز الأخذ منها، هو الأوّل .

بل قد صرّح بذلک الشیخ الآملی فی «المصباح» حیث قال : «فیقال: بأنّ الدخول للأخذ، حیث یکون مضطرّاً إلیه فیجوز ، والدخول للوضع حیث لا اضطرار إلیه فباق علی حرمته ».

والحال أنّ الأخذ منه جائز مطلقاً، سواء توقّف الأخذ علی الدخول أم لا ، وکون الغالب متوقّفاً علیه، لا یوجب التقیید فی الروایة ، کما أنّ الدخول فی المسجد للمرور _ غیر المسجدین _ جائزٌ مطلقاً، سواء أخذ منه شیئاً أم لا ، فمثل هذا الإطلاق یجری فی مقابله من الحرمة فی الوضع، أی لا یضعان فیه مطلقاً، سواء توقّف الوضع علی الدخول أم لا ، فلا وجه لانحصار حکم الحرمة بالوضع الذی یتوقّف علی الدخول، فهذه الروایة قابلة للاستدلال لکلا طرفی الحکم، کما لایخفی .

وروایة صحیحة زرارة، ومحمّد بن مسلم، عن أبی جعفر علیه السلام ، قال: «الحائض والجنب لا یدخدلان المسجد إلاّ مجتازین... إلی أن قال : ویأخذان من المسجد ولا یضعان فیه شیئاً . قال زرارة : قلت له : فما بالهما یأخذان منه ولا یضعان فیه؟ قال : لأنّهما لا یقدران علی أخذ ما فیه إلاّ منه، ویقدران علی وضع ما بیدهما فی

ص:65

غیره» الحدیث(1) .

فإنّ صدر هذه الروایة دال علی کون الدخول بصورة الاجتیاز جائز، سواء أخذ منه شیئاً أم لا ، فإذا کان الدخول بلا أخذ شیء للمرور جائزاً ، فکیف یمکن القول بحرمة الأخذ منه، لو لم یتوقّف علی الدخول، فأخذ الشیء من المسجد مطلقاً _ أی سواء کان موقوفاً علی الدخول أم لا _ جائزاً لما عرفت من دلالة صحیحة عبداللّه بن سنان، بل وصدر روایة زرارة ومحمّد بن مسلم علیه .

فحینئذٍ کان لازم هذا التقابل هو حرمة الوضع فی المسجد مطلقاً کالأخذ، لا حرمة خصوص الوضع المتوقّف علی الدخول .

نعم بقی هنا شیء، وهو ذکر التعلیل فی ذیل حدیث زرارة، حیث جعل العلّة فی الافتراق، لزوم التوقّف فی الدخول حین الوضع دون الأخذ ، فیدور الأمر بین رفع الید عن التعلیل والأخذ بالإطلاق ، وهذا ما ذهب إلیه الشهید فی «المسالک» وصاحب «المدارک» و«المستند» للنراقی و«العروة» وبعض أهل التعلیق علی «العروة».

أو الأخذ بالتعلیل والتقیید بذلک فی الإطلاق، فیثبت قول صاحب «الجواهر» ومن تبعه من الفقهاء، بأن یکون الوضع الذی یستلزم التوقّف حراماً لا مطلقاً، فلا یحرم الوضع من الخارج، ولا فی حال العبور أو المکث الجائز بالاضطرار .

والظاهر کون الأوّل أقوی، لإمکان أن یکون ذکر التعلیل بلحاظ الغالب فی الخارج، حیث لا یتحقّق الوضع نوعاً إلاّ بعد الدخول، نظیر قید الحجر فی الربائب فی الآیة .

فحینئذٍ لا یکون لمثل هذا التعلیل مفهوماً موجباً لتقیید الإطلاق .


1- وسائل الشیعة: الباب 17 من أبواب الجنابة، الحدیث 1.

ص:66

مضافاً إلی أنّ الدخول للاجتیاز إذا کان جائزاً ، فکیف یحرم مثل ذلک إذا کان موقوفاً علیه الوضع أیضاً، فلابدّ أن یکون الحرمة حینئذٍ لأجل حرمة نفس الوضع مطلقاً، أی إذا کان هو حراماً فیکون الدخول لأجله حراماً أیضاً ، کما أنّ الوضع فیه لولا الدخول کان حراماً، مع أنّ إباحة الأخذ وجوازه إذا کان لأجل توقّفه علی الدخول، وکان إباحة الدخول لأجل کونه موقوفاً علیه للأخذ، فیلزم حینئذٍ القول بحرمة الدخول فی غیر صورة الأخذ ولو اجتیازاً أو مروراً، مع أنّه لا إشکال فی جوازه، سواء أخذ شیئاً من المسجد مع الدخول أم لا .

وأمّا الإشکال بأنّه لو کان الوضع _ حتّی غیر المتوقّف علی الدخول _ حراماً، لزم کون بیان العلّة أمراً تبعیدیاً، وهو خلاف للظاهر فإنّ الارتکاز یفید کون التعلیل أمراً واقعیاً لا تعبّدیاً.

فغیر وارد، لما قد عرفت من إمکان کون التعلیل لأمر غالبی، حیث لا یتحقّق الأخذ إلاّ بالدخول غالباً، بخلاف الوضع ، فحینئذٍ یمکن کون الوضع مطلقاً حراماً، وإن کانت الحکمة هو التفاوت بینه وبین الأخذ بذلک، کما لایخفی .

وقد أورد المحقّقان الهمدانی والآملی روایة علی بن إبراهیم فی «تفسیره» مؤیّداً لمختارهما من جواز الوضع فی المسجد إذا لم یکن متوقّفاً علی الدخول، مرسلاً عن الصادق علیه السلام ، إلاّ إنّه قال : «یضعان فیه الشیء ولا یأخذان منه ، فقلت : ما بالهما یضعان فیه ولا یأخذان منه؟ فقال : لأنّهما یقدران علی وضع الشیء فیه من غیر دخول، ولا یقدران علی أخذ ما فیه حتّی یدخلا»(1) .

بأن یکون المراد من جواز الوضع صورة غیر الدخول، وأن یکون النهی من


1- وسائل الشیعة: الباب 17 من أبواب الجنابة، الحدیث 3 .

ص:67

الأخذ الذی یستلزم التوقّف محمولاً علی الکراهة، جمعاً مع الخبرین السابقین، حیث قد أجاز الأخذ مع الدخول .

هذا، ولکن یرد علیها، أنّ التعلیل المذکور فی روایتی زرارة وعلی بن إبراهیم یعدّ تعلیلاً واحداً، ولکن للحکمین المتناقضین من الحرمة وعدمه، وهو أمرٌ لا یمکن تعقّله. فمجرّد حمل النهی علی الکراهة، لا یوجب رفع هذا الإشکال، فلا سبیل لنا إلاّ بترک إحداهما، ولا تردید فی کون رفع الید عن المرسل، أهون من رفع الید عن الصحیحتین، خصوصاً مع عدم وجود هذا التعلیل فی إحداهما، کما لا یخفی .

ولعلّه لذلک لم یستشهد بهذه الروایة صاحب «الجواهر» وغیره .

فالحقّ حینئذٍ یکون مع غیر ابن فهد، والمحقّق فی «المعتبر» والعلاّمة فی بعض کتبه، خلافاً للشهید فی «المسالک» وغیرهم بکون الوضع حراماً، سواء دخل لأجل خصوص الوضع أو للاجتیاز، ثمّ وضع، أو دخل للأخذ ثمّ وضع، أو کان الدخول مضطرّاً إلیه ووضع فیه ، فالوضع فی جمیع هذه الصور یعدّ حراماً.

نعم إن اضطرّ إلی الوضع، ولو لم یضطرّ إلی الدخول، لم یکن الوضع حینئذٍ حراماً، کما لایخفی .

ثمّ قال صاحب «الجواهر»: «أنّ ظاهر النصّ والفتوی أنّه یجوز له ذلک (أی الأخذ) وإن استلزم لبثاً طویلاً، وما عساه یظهر من بعضهم أنّ المراد بجواز الأخذ من حیث کونه أخذاً فی مقابلة الوضع، وإلاّ فلا یحلّ لأجله ما کان محرماً سابقاً، کاللبث فیما عدا المسجدین، والجواز فیهما ، بل هما باقیان علی حرمتهما، وإن حلّ الأخذ ، مخالف لظاهر النصّ والفتوی فتأمّل» ، انتهی کلامه رفع مقامه ».

ووافقه المحقّق الهمدانی فی «المصباح»، والمحقّق الآملی فی کتابه، خلافاً لصاحب «الحدائق» حیث صرّح بقوله : «إذ إباحة التناول مقیّدة بما إذا لم یکن

ص:68

لبثاً، کما هو الظاهر فتویً ودلیلاً ... إلی آخره» .

ولا یخفی علیک أنّ اللبث فی الأخذ:

ما یحرم علی الجنب / أخذ شیء عن المسجد و الأخذ عنه

تارةً: یلاحظ بما یستلزمه عادةً من جهة مقدّماته العادیة، من دون لبث طویل خارج عن المتعارف، فهو ممّا لا یمکن انفکاکه عن جواز الأخذ، فلابدّ من القول بجواز الأخذ حتّی مع المکث .

واُخری: یلاحظ بأکثر ما هو المتعارف، کالجلوس أو المکث الطویل ، فالقول بدخول مثل ذلک فی إطلاق النصّ والفتوی ممّا لا یخلو عن تأمّل،لانصراف الإطلاق عن مثله .

کما أنّ ظاهر إطلاق النصّ فی الرخصة للأخذ، شموله حتّی لما لو استلزم الأخذ من الدخول والخروج من باب واحد، بخلاف تجویز الدخول للمرور، حیث قد عرفت ظهوره فی المسجد الذی له بابان، فلازم ذلک کون جواز الدخول فی المسجد له فردان: أحدهما: للاجتیاز لخصوص ما له بابان.

والآخر: للأخذ للأعمّ منه، حتّی یشمل ما له باب واحد .

ثمّ إنّ حکم جواز الأخذ هل یعمّ ویشمل المسجدین اللّذین سیأتی بحثهما، أو مختصّ بغیرهما؟

قیل : فیه وجهان من إطلاق الروایتین، فیعمّ لهما.

ومن کون سوقهما لبیان حکم سائر المساجد _ کما یدلّ علیه روایة جمیل، حیث قد استثنی المسجدین منه ، وهذا هو الأظهر عندنا للانصراف عنهما، لاشتمالهما علی أحکام مختصّة بهما _ فلا یبعد عدم شمول جواز الأخذ لهما ، مضافاً إلی کونه موافقاً للاحتیاط، من جهة الشکّ فی التخصیص، فالأصل عدمه .

ثمّ الظاهر من إطلاق جواز الدخول للأخذ، هو الإطلاق من حیث کون الشیء

ص:69

والجواز فی المسجد الحرام ومسجد النبیّ صلی الله علیه و آله خاصّة (1).

ملکاً له أو للغیر ، أو کان مباحاً وأراد أخذه منه، حتّی ولو کان من المحقرات کالحطب والکبریت وغیرهما، کلّ ذلک للإطلاق فی النصّ والفتوی .

کما أنّ الوضع الحرام لیس ما یصدق علیه ذلک ، فالوضع الحاصل من حمل الدابّة وإرسالها إلی المسجد حتّی تضع حملها، أو ربط الرسالة بطیر وإرساله إلی المسجد لکی یسقطها فیه غیر محرّم، لعدم صدق الوضع بذلک عرفاً .

نعم لا یبعد الصدق علی وضع شیء بالآلة أو الإلقاء فتأمّل .

(1) حرمة الجواز فیهما ممّا لا خلاف فیه، وهو خیرة «الغنیة» و«الوسیلة» و«المهذّب» و«السرائر» و«الجامع» و«المعتبر» و«المنتهی» و«القواعد» و«الإرشاد» و«التذکرة» و«الذکری» وغیرهم من الأصحاب قدیماً وحدیثاً .

بل فی «الغنیة» و«المدارک» الإجماع علیه، ونسبه فی «التذکرة» إلی علمائنا .

فإطلاق بعض من جواز الاجتیاز فی المساجد، مثل المفید وسلاّر والشیخ فی «الجمل» و«الاقتصاد» و«المصباح» ومختصره، والکیدری إرادة غیر المسجدین، حیث لم ینقل الخلاف فی هذه المسألة .

ما یحرم علی الجنب / الاجتیاز المسجدین

فما نقله صاحب «کشف اللثام» عن ظاهر «المبسوط» بالکراهة غیر معلوم، بل صریح قوله: «والمسجد الحرام ومسجد النبیّ صلی الله علیه و آله لا یدخلهما علی حال» دالّ علی خلاف ما نسب إلیه، خصوصاً مع ملاحظة تذیله بقوله : «فإن کان فی واحد منهما فأصابه احتلام، خرج منهما بعد أن تیمّم من موضعه» ، حیث أراد من هذه الجملة الاجتناب عن الحرام لا الکراهة، کما لایخفی .

والحاصل : الإجماع المنقول _ بل المحصل _ قائمٌ علی الحرمة، وهو دلیل فی

ص:70

المسألة، ومعتضد بالأخبار المستفیضة المعتبرة مثل: روایة أبی حمزة الثمالی، عن أبی جعفر علیه السلام فی حدیثٍ طویل: «إنّ اللّه أوحی إلی نبیّه أن طهّر مسجدک... إلی أن قال : ولا یمرّن فیه جنب»(1) .

وروایة جمیل، قال: «سألت أبا عبداللّه علیه السلام عن الجنب یجلس فی المساجد؟ قال : لا ، ولکن یمرّ فیها کلّها، إلاّ المسجد الحرام ومسجد الرسول صلی الله علیه و آله »(2) .

ما یحرم علی الجنب / لو أجنب فی أحد المسجدین الشریفین

ومثله حدیثه الآخر(3).

وروایة محمّد بن حمران، عن أبی عبداللّه علیه السلام ، قال : «سألته عن الجنب یجلس فی المسجد؟ قال : لا، ولکن یمرّ فیه إلاّ المسجد الحرام ومسجد المدینة» الحدیث(4) . وروایة عبداللّه بن سنان، عن أبی حمزة، قال : «قال أبو جعفر علیه السلام : إذا کان الرجل نائماً فی المسجد الحرام أو مسجد الرسول فاحتلم، فأصابته جنابة، فلیتمّ ولا یمرّ فی المسجد إلاّ متیمّماً، ولا بأس أن یمرّ فی سائر المساجد» الحدیث(5) .

وغیر ذلک من الأخبار الواردة فی الباب 15 فراجعها.

فالمسألة من هذه الجهة واضحة لا یحتاج إلی مزید بیان.

والظاهر کما عرفت عدم الجواز مطلقاً، أی حتّی للأخذ الذی کان جائزاً فی غیر المسجدین، کما عرفت بحثه، بل قد یقال : دلالة إطلاقات الأصحاب علی المنع لذلک، کما فی «الجواهر» .


1- وسائل الشیعة: الباب 15 من أبواب الجنابة، الحدیث 1 .
2- وسائل الشیعة: الباب 15 من أبواب الجنابة، الحدیث 2 .
3- وسائل الشیعة: الباب 15 من أبواب الجنابة، الحدیث 4 .
4- وسائل الشیعة: الباب 15 من أبواب الجنابة، الحدیث 5 .
5- وسائل الشیعة: الباب 15 من أبواب الجنابة، الحدیث 6 .

ص:71

ولو أجنب فیهما، لم یقطعها إلاّ بالتیمّم (1).

(1) ذهب إلیه صاحب «الجامع» و«القواعد»، أی کان ذلک حکم من أجنب فی المسجدین، سواء کان بالاحتلام أو غیره .

بل قد یظهر التعمیم عنهما إلی المجنب خارج المسجد إذا دخل إلیه سهواً أو جهلاً أو عمداً عصیاناً، کما هو المنقول عن «الإرشاد» و«الدروس» و«البیان» وعن موضع من «التذکرة»، خلافاً لجماعة ثالثة، مثل ظاهر «الهدایة» و«الفقیه» و«المبسوط» و«السرائر» و«المعتبر» و«النافع» و«المنتهی» و«التحریر» حیث ذهبوا إلی اختصاص الحکم بالمحتلم فیهما فقط .

بل واختاره بعض المتأخّرین من أصحابنا، کما فی «الجواهر».

فصارت الأقوال هنا ثلاثة ، ولکن قد یوجد فی المسألة قولاً رابعاً، وهو وجوب التیمّم علی مطلق الجنب بأقسامه الثلاثة، لکن إذا کان زمان التیمّم أقصر من زمان الخروج والغسل، وإلاّ فیخرج من غیر تیمّم فی الأوّل ویغتسل فی الثانی.

هذا کما فی «العروة»، ووافقه کثیر من أصحاب التعالیق، کالبروجردی، والسیّد عبد الهادی الشیرازی، والسیّد جمال الگلپایگانی، والاصبهاناتی وغیرهم ممّا لا نطیل بذکر أسماءهم .

وحیث أنّ الوقوف علی مستند الأقوال موقوف علی ملاحظة النصوص الواردة فی المقام، فنقدّمه أوّلاً، ثمّ نتعرّض لوجه اختلافهم فی فقه المسألة .

وممّا یدلّ علیه صحیحة أبی حمزة، قال : «قال أبو جعفر علیه السلام : إذا کان الرجل نائماً فی المسجد الحرام أو مسجد الرسول صلی الله علیه و آله ، فاحتلم فأصابته جنابة، فلیتیمّم ولا یمرّ فی المسجد إلاّ متیمّماً، ولا بأس أن یمرّ فی سائر المساجد ولا یجلس

ص:72

فی شیء من المساجد»(1) .

ولکن لفظ الخبر علی روایة المحقّق فی «المعتبر»: «فاحتلم أو إصابته جنابة»، بدل «فأصابته»، حیث یختلف وجه الاستدلال، کما سنشیر إلیه إن شاء اللّه .

ومرفوعة الکلینی فی «الکافی»، حیث نقله عن محمّد بن یحیی، رفعه عن أبی حمزة، قال : «قال أبو جعفر علیه السلام : إذا کان الرجل نائماً فی المسجد أو مسجد الحرام أو مسجد الرسول صلی الله علیه و آله ، فاحتلم فأصابته جنابة، فلیتیمّم ولا یمرّ فی المسجد إلاّ متیمّماً، حتّی یخرج منه، ثمّ یغتسل، وکذلک الحائض إذا أصابها الحیض تفعل ذلک، ولا بأس أن یمرّا فی سائر المساجد ولا یجلسان فیها»(2) .

هذه الروایة متفاوتة مع السابقة، أوّلاً: فی أنّه قد ورد فیها ذکر المسجد بالإطلاق قبل مسجد الحرام.

وثانیاً: جملة فأصابته مطابقة لما نقله «الکافی» فی صحیحة عبداللّه بن سنان لا کما رواها المحقّق فی «المعتبر».

وثالثاً: بإضافة حکم الحائض إلی حکم الجنب .

فهذه الاُمور الثلاثة موجبة لاختلاف الحکم فی المسألة کما سنشیر إلیه .

فإذا عرفت النصوص الدالّة علی وجوب التیمّم للمجنب فی المسجد، یظهر لک ضعف القول باستحباب التیمّم، المنقول عن ابن حمزة، حیث لا دلیل علیه إلاّ الأصل الذی لا یمکنه المعارضة مع الأدلّة.

ولأجل ذلک نسب حکم وجوب التیمّم فی «المعتبر» و«المنتهی» إلی علمائنا،


1- وسائل الشیعة: الباب 15 من أبواب الجنابة، الحدیث 6 .
2- وسائل الشیعة: الباب 15 من أبواب الجنابة، الحدیث 3 .

ص:73

المشعر بعدم الخلاف فیه .

والظاهر أنّ القول بوجوب التیمّم، عند عروض الجنابة بالاحتلام فی المسجدین، ممّا لا نقاش فیه ، غایة الأمر منشأ الاختلاف هو الاختلاف فی کیفیة الاستدلال، فمن ذهب إلی لزوم التیمّم لخصوص المحتلم مطلقاً _ سواء قد تمکّن من الغسل بأقصر من زمان التیمّم أم لا ، وسواء قد تمکّن من الخروج بأقصر من زمان التیمّم أم لا _ فقد استدلّ بظاهر حدیث عبداللّه بن سنان عن أبی حمزة، وقرأ نسخة «الکافی» بقوله: «فأصابته»، لا بما فی «المعتبر» .

ومن ذهب إلی التعبّد بلزوم التیمّم مطلقاً مثل الأوّل، إلاّ إنّه عمّم الحکم من المجنب المحتلم إلی کلّ مجنب فی المسجدین فإنّه قد استدلّ بهذا الحدیث، إلاّ إنّه تمسّک بنقل «المعتبر» من قوله: «أو أصابته»، حیث یشمل الاحتلام وغیره، إذا کانا فی المسجدین لا خارجهما .

ومن ذهب إلی التعمیم، حتی بالنسبة إلی المجنب خارج المسجد الذی دخل فیه سهواً أو جهلاً أو عمداً ، فقد تمسّک بهذا الحدیث علی حسب روایة «المعتبر»، إلاّ إنّه یدّعی القطع بعدم وجود الفرق بین إصابته الجنابة فی المسجد بالاحتلام أو بغیره، وبین إصابتها فی خارجه ثمّ دخوله فیه جنباً بأحد الأقسام المذکورة، ولم یستفد من النصوص لزوم التخلّص عن حرمة المرور والاجتیاز جنباً بغیر التیمّم فی المسجدین .

هذا کلّه هو المدرک للأقوال الثلاثة، القائلین بالتیمّم مطلقاً، من دون تفصیل بین المتمکّن عن الغسل والخروج بالأقصر زماناً من التیمّم وعدمه .

بخلاف القول الرابع، حیث اختار التفصیل المزبور، فلابدّ أنّ المفصّل قد لاحظ الأدلّة وقارنها مع ما تقتضیه القاعدة فی باب التیمّم بحیث أخرج النصوص

ص:74

عن التعبّد البحت، وذهب إلی أنّ الوجه فی عدم تعرّض النصوص لصورة التمکّن من الغسل _ ولا اختلاف زمان التیمّم لزمان الغسل، أو الخروج _ هو کون الغالب عدم التمکّن من الغسل، ولو لأجل استلزمه تلویث المسجد غالباً، لندرة خلوّ بدن الجنب عن النجاسة، خصوصاً مع کون مورد النصوص هو الاحتلام الملازم لنجاسة البدن، وهذا هو الأقوی .

وفی المسألة صور مختلفة، بحسب ما تقتضیه القاعدة فی موارد متفاوتة، فلا بأس بالإشارة إلیها وهی:

الصورة الاُولی: ما لو فرض حدوث الجنابة فی المسجد _ بالاحتلام أو غیره _ ولا عدم تمکّنه من الغسل فی المسجد، إمّا لفقدان الماء، أو لأجل استلزمه تلویث المسجد، ویکون زمان التیمّم أقصر من زمان خروجه منه.

فلا إشکال فی هذه الصورة من وجوب التیمّم بحسب القاعدة ، بل النصوص _ فی الاحتلام قطعاً، وفی غیره تعمیماً، وفی المجنب فی الخارج _ إلحاقاً بل هو مقتضی الجمع بین الأخبار فی المقام، وبین ما دلّ علی حرمة المرور والاجتیاز فی المسجدین مع الجنابة، فإنّ التیمّم حینئذٍ یعدّ بدلاً عن الماء فی کلّ ما یشترط فیه الطهارة، ومنه المقام، فإذا تیمّم المجنب، فأمّا أن یصیر متطهّراً بسببه، أو مباحاً له المکث بذلک فیخرج ولو کان زمان الخروج مستلزماً لدقیقتین وزمان التیمّم دقیقة واحدة.

هذا إذا فرض لزوم المکث من إمکان تحصیل التیمّم وأنّه لا یقدر علی تحصیله فی حال المرور، وإلاّ یتداخل فیصیر مجموع الزمانین دقیقتین ، ففی ذلک لا یجوز له المکث فی حال التیمّم، لأنّه یوجب صیرورة مجموع الأزمنة ثلاث دقائق، وهو غیر جائز لو فرض تمکّنه من الغُسل خارج المسجد، بل ولو

ص:75

لم یتمکّن إذا فرضنا عدم جواز مکثه فیه مع التیمّم مطلقاً .

الصورة الثانیة: هی ما لو لم یتمکّن من الغُسل کالسابقة، إلاّ أنّ زمان التیمّم کان مساویاً لزمان الخروج، مع فرض لزوم المکث فی حال التیمّم.

فقد یقال _ کما علیه المحقّق الهمدانی _ بلزوم الإتیان بالتیمّم عملاً بإطلاق النصوص بإیجاب التیمّم للجنب فی المسجدین، من غیر فرق بین کون زمان الخروج أقصر أم لا ، فیشمل حتی صورة تساویهما.

خلافاً للشهید الثانی، حیث أوجب التیمّم فی صورتی کون زمان الخروج أقصر أو مساویاً لزمان التیمّم دون غیرهما .

خلافاً لجماعة ثالثة مثل المحقّق الآملی، حیث حکم بلزوم الخروج بلا تیمّم، فی صورة التساوی، مستدلاًّ بأنّ التیمّم بالنسبة إلی المکث فی هذا المقدار لا أثر له، ولا یترتّب علیه أثر آخر بالنسبة إلی جواز المکث بأزید منه، لعدم الحاجة إلیه . وما ذکره هو الأقوی، لولا دعوی شمول إطلاق النصوص بالأمر بالتیمّم حتّی لمثله .

ودعوی استبعاده فی الوقوع، غیر مسموع، لإمکان کون الشخص فی حاشیة المسجد، بحیث یقدر علی الخروج عنه بخطوة أو خطوتین، حیث لا یحتاج إلی فترة زمنیّة مساویة لزمان التیمّم، فلا أقلّ من التساوی ، فمع ذلک حکم الإمام بالتیمّم .

ودعوی ندرة ذلک أیضاً ، فعلی عهدة مدّعیه.

الصورة الثالثة: ومن ذلک یظهر حکم الصورة الثالثة، وهی أن لا یتمکّن من الغسل أیضاً، لکن کان زمان الخروج أقصر من زمان التیمّم.

والحکم حینئذٍ بحسب القاعدة، هو تعیّن الخروج بلا تیمّم، لاستلزام التیمّم مکثاً زائداً علی المکث اللازم فی الخروج، إلاّ علی القول بلزوم العمل علی طبق

ص:76

النصوص مطلقاً، حتی فی هذه الصورة، کما احتمله المحقّق الهمدانی؛ بل اختاره، حیث أوجب التیمّم فی هذا القسم أیضاً، عملاً بالتعبّد بالنصوص دون القاعدة .

الصورة الرابعة: هی ما لو کان متمکّناً من الغُسل فی المسجد من دون أن یلزم ذلک تلویث المسجد، علی فرض کون زمان الغسل أقصر أو مساوٍ مع زمان التیمّم .

ففی الأوّل، یکون الحکم واضحاً لعدم مجوّز للمکث الزائد مع الجنابة فی التیمّم .

وأمّا فی الثانی، فلأنّ التیمّم بدلٌ عن الغسل عند العجز عنه، فمع تمکّنه منه مع زمان مساوٍ له فلا وجه للرجوع إلی البدل .

اللّهم إلاّ أن یقال : إنّ التیمّم هنا لیس للعجز عن المبدل منه، بل کان أمراً تعبّدیاً فیجب الإتیان به، ولو کان زمانه مساویاً لزمان الغسل .

بل علی هذا الاحتمال یجب التیمّم، حتّی لو فرض کون زمان التیمّم أطول من زمان الغُسل.

لکن الالتزام بذلک مشکل جدّاً ، کما أنّ الالتزام بالتخییر فی صورة التساوی من حیث الزمان لا یخلو عن إشکال .

فالحکم بتقدیم الغُسل فی هاتین الصورتین الأخیرتین _ من التساوی، وکون زمان التیمّم أطول _ لا یخلو عن قوّة .

إذا عرفت حکم المسألة فی الصور الخمسة، بحسب مقتضی القاعدة والنصوص، فاعلم أنّه لا یتفاوت فیما قلناه من الأحکام فیها بین کون الجنابة بالاحتلام أو بغیره، وبین کون جنابته فی المسجد أو فی خارجه، وبین کون دخوله فی المسجد عمداً أو سهواً، عالماً أو جاهلاً .

هذا کلّه تمام الکلام فی الجُنب بأقسامه فی المسجدین .

فما ذهب إلیه صاحب «الجواهر» من التفصیل بین المحتلم _ من الالتزام

ص:77

التعبّدی بالتیمّم مطلقاً فی جمیع الفروض، عملاً بالنصوص _ وغیر المحتلم _ بالقاعدة من التفصیل بین الأزمنة فی الطول والقصر والتساوی بین التیمّم والخروج _ غیر وجیه عندنا، ولا یمکن الالتزام به، کما لایخفی .

ثمّ یأتی الکلام فی أنّه هل الحکم مختصٌّ للجنب فی المسجدین، أو یشمل ویعمّ حتّی للحائض والنفساء ؟

وفی «مفتاح الکرامة» ألحق العلاّمة فی «المنتهی» و«التحریر»، والشهیدین فی «الدروس» و«الذکری» و«الألفیة» الحائض بالمجنب.

بل الأمر کذلک عند المتأخّرین، مثل المحقّق الآملی، وصاحب «الجواهر»، والهمدانی، وصاحب «العروة»، وأکثر أصحاب التعلیق .

نعم قال فی «المعتبر» : «لو حاضت فی أحد المسجدین، هل تفتقر إلی التیمّم فی خروجها کالجنب؟ قیل : نعم، عملاً بروایة الکلینی، لکنّها مقطوعة ولا یمنع الاستحباب ، أمّا الوجوب فالأقرب، لا وقوفاً علی موضع الدلالة فی الجنب، ولأنّ التیمّم طهارة شرعیة ممکنة فی حقّ الجنب عند تعذّر الماء، ولا کذلک الحائض ذاتها لا سبیل لها إلی الطهارة» .

بل فی «الجواهر» جعل هذه الفقرة فی الصحیح قرینة علی کون الحکم فی الجنب تعبّدیاً، لا علی طبق القاعدة، حیث أنّه فی التی أصابها الحیض فی المسجد کذلک، لعدم التأثیر فی تیمّمها مع بقاء الحدث والدم .

ولکن الأقوی عندنا إلحاق الحائض والنفساء بالجنب مطلقاً، أی سواء حدثت لها الحدثین فی المسجدین أو کانتا محدثین ودخلتا فیهما سهواً أو جهلاً أو عمداً، أو عن غیر عمد، لما نشاهد اشتراکهما فی الأحکام فی کثیر من الموارد، حتّی قد ورد حکم الاشتراک فی النصوص، فضلاً عن الفتاوی، ولیس وجهه إلاّ

ص:78

بمناط حفظ الحرمة، وکون دخولهما مثل الجنب یعدّ هتکاً للحرمة .

وتوهّم وجود الإماء والنسوة عند الأئمّة علیهم السلام مع الحیض والنفاس فی الأیّام واللیالی، فلو کان بملاک صدق الهتک کیف یکون ذلک؟

قد عرفت جوابه، بالتفاوت والفرق بین تلک الموارد وبین غیرها، فلا یضرّ جوازه هناک، عدم الجواز فی مثل ما نحن فیه .

مضافاً إلی دلالة مقطوعة أبی حمزة _ علی حسب نقل الکلینی فی «الکافی»، الذی یعدّ أدقّ وأضبط الکتب الروائیة _ حیث ورد فیها : «وکذلک الحائض إذا أصابها الحیض تفعل ذلک».

فإنّ موردها وإن کان فی خصوص ما لو أحدثت فی المسجد، وکان فی حقّ خصوص الحائض دون النفساء، ولکن حیث أنّه ذکر بعد ذلک حکم جواز المرور للجنب والحائض فی سائر المساجد، ونهی عن الجلوس فیها، یفهم کون ملاک الحکم هو وجود الحدث فیهما.

وتسریة الحکم إلی غیر مورد النصّ، یکون من جهة وجود الملاک والمناط، ولیس بقیاس محرّم، کما احتمله صاحب «الجواهر».

کما أنّ وجود هذا الملاک یوجب التعمیم عن مورد حدوث الحدث، إلی کلّ ما لو کان الحدث موجوداً فیهما ولو من الخارج، کما قلنا فی حقّ الجنب، بل قد یمکن تصویر الأولویة فی الجملة بأنّ حدوث الحدث فی المسجدین، إذا أوجب لهما التیمّم، مع کون عروض الحدث فیهما غیر اختیاری ، ففی الحدث الذی صدر خارج المسجد ولکن کان الدخول إلی المسجد باختیارهما یکون بالأولویّة.

وتوهّم کون الروایة مقطوعة أو مرفوعة أو غیر قابلة للاستناد، مندفع ، مضافاً إلی احتمال وحدة الروایة مع صحیحة أبی حمزة ، فحینئذٍ یدور الأمر فی کونهما

ص:79

واحداً، بین احتمال السهو فی الزیادة والنقیصة، ومعلومٌ أنّ أصالة عدم الزیادة مقدّم علی أصالة عدم النقیصة، لکثرة الخطأ فی النقیصة بما لا یکون فی الزیادة، فهذا الأصل یوجب الحکم بتقدیم هذه الزیادة فی الصحیحة واحتمل حدوث السقط فی غیرها عن غیر عمدٍ.

ولکن یکفی فی تأیید المقطوعة والمرفوعة، وجود الشهرة بین الفقهاء فی الإلحاق، الموجب لتجویز العمل بهذه الروایة، وهو قوی عندنا .

واحتمال أنّه فرق بین المجنب وبینهما، حیث أنّ التیمّم فی الجنب یوجب الطهارة عند تعذّر الماء، بخلاف الحیض والنفساء لاستمرار الحدث لهما، فلا سبیل لهما إلی الطهارة ، ولأجل ذلک حکم المحقّق فی «المعتبر» بالاستحباب دون الوجوب .

مندفع، بإمکان تأثیر التیمّم فیهما، بتخفیف حدث الحیض والنفاس لهما، نظیر التیمّم للجنب فی الأکل والشرب، أو الحائض للجلوس فی وقت عبادتها والذکر بقدر عبادتها، فأیّ مانع أن یکون التیمّم فی المسجدین مؤثّراً فی إباحة مرورهما فی المسجدین مع هذه الحالة، وإن لم تحصل لهما الطهارة الأصلیة.

فإن قیل: إنّ التیمّم حکمٌ شرعی توقیفی، لا یصار إلیه إلاّ بدلیل مفقود فی المقام.

نقول: قد عرفت وجوده هنا، مع ما عرفت من کفایة تنقیح المناط فی الإلحاق، فلا وجه للتردّد.

مع أنّه لو کان الأمر کما قال، فلا وجه للقول باستحبابه، لأنّ توقیفیة شیء تقتضی الدلیل، بلا فرق بین الوجوب والندب، إلاّ أن یرید بالاستحباب الإتیان بصورة الرجاء، وهو خلاف ظاهر کلامه .

وکیف کان، فقد عرفت أنّ الأقوی هو وجوب التیمّم فی الحائض والنفساء .

ص:80

ثمّ إنّ هاهنا عدّة فروع لا یخلو ذکرها عن فائدة ، والمقام هو الأنسب لذکرها :

الفرع الأوّل : فی أنّ حرمة المکث فی المساجد، والجواز فی المسجدین للجنب والحائض والنفساء هل کانت لسائر الناس غیر المعصومین من نبیّنا محمّد صلی الله علیه و آله وعلی وفاطمة والحسن والحسین بل وسائر الأئمّة علیهم جمیعاً صلوات اللّه وسلامه أم أنّها حکم عام یشمل الجمیع؟

ما یحرم علی الجنب / خصائص أهل البیت علیهم السلام

أقول: لم یرد ذکر هذه المسألة فی کتب أصحابنا، إلاّ بعضهم مثل صاحب «الحدائق» قدس سره وبعض آخر ، وکان ینبغی أن ینبّه علیها، لورود النصوص عنهم علیهم السلام بذلک، حیث عُدّ الجواز فی حقّهم من اختصاصاتهم علیهم السلام . وإلیک أیّها القارئ الأخبار الواردة فی ذلک .

منها: ما رواه الصدوق فی کتاب «المجالس» بسنده عن الرضا، عن آبائه، عن أمیر المؤمنین علیهم السلام ، قال : «قال رسول اللّه صلی الله علیه و آله : لا یحلّ لأحد أن یجنب فی هذا المسجد إلاّ أنا وعلی وفاطمة والحسن والحسین، ومن کان من أهلی فإنّه منّی»(1) .

والظاهر کون المراد من الأهل هم الأئمّة علیهم السلام ، لا مطلق من کان فی البیت، کما یشیر إلی ذلک التعلیل الواقع فی ذیله بقوله: فإنّه منّی .

منها: روایة ریان بن الصلت، عن الرضا علیه السلام ، فی حدیثٍ، قال : «قال رسول اللّه صلی الله علیه و آله : إلاّ أنّ هذا المسجد لا یحلّ لجنب إلاّ لمحمّد وآله»(2) .

منها: روایة أبی رافع، قال : «إنّ رسول اللّه صلی الله علیه و آله خطب الناس، فقال : أیّها الناس إنّ اللّه أمر موسی وهارون أن یبنیا لقومهما بمصر بیوتاً، وأمرهما أن لا یبیت فی


1- وسائل الشیعة: الباب 15 من أبواب الجنابة، الحدیث 12 .
2- وسائل الشیعة: الباب 15 من أبواب الجنابة، الحدیث 11 .

ص:81

مسجدهما جنب، ولا یقرب فیه النساء إلاّ هارون وذرّیته، وأنّ علیّاً منّی بمنزلة هارون من موسی، فلا یحلّ لأحد أن یقرب النساء فی مسجدی، ولا یبت فیه جنبٌ إلاّ علی وذرّیته، فمن ساءه ذلک فهاهنا وضرب بیده الشام»(1) .

والمراد من ذرّیته کالأهل والآل، هم الأئمّة الأحد عشر علیهم السلام ، کما صرّح بذلک صاحب «الوسائل» قدس سره .

ومثله وقریب منه روایة حذیفة بن أسید(2)، إلاّ إنّه زاد فیه: «ولا یحلّ لأحد أن ینکح فیه النساء إلاّ علی . .» الحدیث .

حیث أحلّ لهم النکاح فی المسجد، فضلاً عن الدخول جنباً .

منها: روایة عن الحسن بن علیّ العسکری فی «تفسیره» عن آبائه علیهم السلام ، عن النبیّ صلی الله علیه و آله (فی حدیث سدّ الأبواب)، إنّه قال : «لا ینبغی لأحد یؤمن باللّه والیوم الآخر أن یبیت فی هذا المسجد جنباً، إلاّ محمّد وعلی وفاطمة والحسن والحسین، والمنتجبون من آلهم، الطیّبون من أولادهم»(3) .

هذه الروایة مبیّنة لمعنی الآل والأولاد منهم، حیث هذه الأوصاف کانت للمعصومین منهم علیهم السلام ، وهم الأئمّة الأحد عشر علیهم السلام ، کما لایخفی .

فمع وجود هذه الأخبار الکثیرة المستفیضة فی ذلک، تکون المسألة فی غایة الوضوح ، واللّه العالم بحقائق الأشیاء، ومصالح الاُمور .

الفرع الثانی : فی أنّ التیمّم للجواز من المسجدین هل یفید إباحة فعل _ غیر


1- وسائل الشیعة: الباب 15 من أبواب الجنابة، الحدیث 13 .
2- وسائل الشیعة: الباب 15 من أبواب الجنابة، الحدیث 14 .
3- وسائل الشیعة: الباب 15 من أبواب الجنابة ، الحدیث 21 .

ص:82

الخروج _ من المشروط بالطهارة أم لا؟

ما یحرم علی الجنب / ما یستبیح بالتیمّم للخروج عن المسجدین

لا إشکال فی عدم کفایته لمن وجد الماء فی الخارج، ویتمکّن من الاغتسال والتوضّی ء، لوضوح أنّ الأمر به لیس إلاّ لأجل المرور من المسجدین لما عرفت من جوازه بالنصوص تعبّداً، أو لمقتضی القواعد بواسطة ملاحظة سائر الشرائط معه، من قصر الزمان فیه من الاغتسال، أو من الخروج، أو عدم تمکّنه منه لاستلزامه تلویث المسجد، مضافاً إلی أنّ التیمّم حکم من کان معذوراً عن استعمال الماء، والمفروض عدمه هنا .

نعم ، الذی ینبغی أن یبحث فیه، هو ما لو صادف التیمّم فقد الماء فی الخارج، أو لم یتمکّن من الاغتسال أو التوضّی لمانع شرعی أو غیره، ثمّ هو أیضاً علی قسمین:

تارةً : یتیمّم ویخرج، وهو لا یعلم بما فی الواقع من عدم وجدان الماء، أو عدم التمکّن من الاغتسال، فخرج وصادف عدمهما، فهل یکفی فی حقّه التیمّم أم لا؟

فیه وجهان بل قولان، حیث یظهر من بعض عدم کفایته، معلّلاً تارةً بأنّ هذا التیمّم تعبّدی، ولیس بدلاً عن الماء حتّی یکفی .

واُخری : أنّ استباحة اُمور اُخر به مبنیّة علی جواز التداخل فی المسبّبات، والفرض أنّه لم ینوی بذلک إلاّ الخروج، فکیف یمکن تداخل غیر المنوی فیه، إلاّ أن یقال بعدم لزوم النیّة فی صورة التداخل .

ولکن الأقوی عندنا کفایته، وقد جاء نظیر هذه المسألة فی «العروة» فی المسألة 30 من مسائل مسوّغات التیمّم ، قال : «التیمّم لأجل الضیق مع وجدان الماء لا یبیح إلاّ الصلاة التی ضاق وقتها، فلا ینفع لصلاة اُخری غیر تلک الصلاة، ولو صار فاقداً للماء حینها ، بل لو فقد الماء فی أثناء الصلاة الاُولی أیضاً، لا تکفی لصلاة اُخری، بل لابدّ من تجدید التیمّم لها وإن کان یحتمل الکفایة فی هذه الصورة» .

ص:83

حیث اختار السیّد عدم الکفایة، ووافقه فیه العلاّمة البروجردی مع الاحتیاط، وبالفتوی السیّد جمال الگلپایگانی والاصطبهاناتی، خلافاً للسیّد عبد الهادی الشیرازی، والمحقّق الآملی، تبعاً لصاحب «الجواهر» وهو الأقوی لوجود الملاک فی الکفایة فی الواقع، لأنّ تجویز التیمّم لا یکون إلاّ فیما لم یکن الماء موجوداً، أو لم یمکنه الاستعمال، فإذا کان الأمر کذلک فالتیمّم حینئذٍ وقع فی محلّه ویکون کافیاً ، فیکون هذا مثل من توضّی ء فی حال جنابته أو حیضه فیما یستحبّ به الوضوء، ثمّ بان له أنّه لم یکن جنباً ولا حائضاً، حیث لم یعتبر فی صحّة الوضوء شرطیة نیّة الاستباحة، أو الرفع، فیکون الوضوء منه متحقّقاً مع قصد القربة ، والمفروض أنّه أتی به بقصد الأمر الندبی، ثمّ بان له أنّه کان له أمر ندبی آخر، أو أمر وجوبی _ إن کان فی وقت الواجب _ . کیف لا یکفی هذا الوضوء مع عدم فقد شیء ممّا یعتبر فیه، فکذلک یکون فی المقام .

هذا فضلاً عن أنّ مسألة التداخل ترتبط بباب الأسباب والمسبّبات، ولا ربط لها بالمقام الذی یندرج فی باب ترتّب الغایات المشروطة بالطهارة، حیث لا یحتاج فی جواز ترتّبها نیّتها بالخصوص، ولذلک یجوز بالوضوء المنویّ به استباحة الصلاة إتیان صلوات، بل غایات مشروطة بالطهارة. فهکذا یکون فی المقام.

هذا کلّه إذا کان المجنب حال التیمّم، غیرُ عالمٍ بفقدان الماء، أو غیر متمکّن من الاغتسال.

واُخری: ما لو کان عالماً حال التیمّم، فهل یتعیّن علیه التیمّم لخصوص الخروج، ثمّ علیه تیمّم آخر لسائر الغایات من الدخول فی المسجد أو المکث فیه والصلاة وغیرها، أم أنّه یکفی ذلک لجمیع الغایات ؟

ما یحرم علی الجنب / لو توقّف تحصیل الماء للغسل علی المکث فی المسجد

فیه وجهان: من إنّ التیمّم للخروج أمر تعبّدی مخصوص للخروج، مثل التیمّم

ص:84

لأجل ضیق الوقت، فلایجوز الإتیان بغیر المنوی به .

ومن أنّ التیمّم للخروج أیضاً یکون مثل سائر التیمّمات، الصادرة لأجل تحصیل الطهارة اللازمة فی المسجد ، فلا فرق فی حصول ذلک بین أقسام المنویات والغایات، وهذا هو الأقوی إذ لا نقص فی مثل هذا التیمّم، من جهة وجود ما یعتبر فیه من المقتضی، من قصد القربة وغیره، وفقد ما یوجب منع صحّته، کما لایخفی .

الفرع الثالث : فیما لو اتّفق انحصار تحصیل الماء، والتمکّن من الغسل علی الدخول فی المسجد مکثاً، أو المسجدین ولو اجتیازاً، فهل یجوز الدخول أو المکث بالتیمّم، حتّی یدخل ویغتسل أم لا یجوز، بل علیه أن یتیمّم ولا یدخل ویأتی بالصلاة مع التیمّم، لکونه معذوراً عن تحصیل الاغتسال ؟

فیه وجهان بل قولان: قد یقال بالثانی لأنّه لا یمکن أن یکون مثل هذا التیمّم مبیحاً، لأنّه یقتضی من وجوده عدمه، لأنّه متی استبیح بالتیمّم المکث للغُسل، ینتقض التیمّم لکونه متمکّناً من الماء والغُسل، ومتی انتقض التیمّم حرم المکث والکون فی المسجد للغسل .

هذا، ولکنّه فاسد لوضوح أنّ التمکّن الناقص لیس نفس وجودان الماء، أو مجرّد الدخول، بل الناقض یکون مدّة زمان یقدر فیه الإتیان بالغسل، فلو فرض أنّ الشخص تیمّم ودخل بدون أن یتوقّف وقام بإتیان الغسل، فالتیمّم لا یذهب أثره، إلاّ بعد إکمال الغُسل، ومن ثمّ یصیر متطهّراً بالغُسل، فلا یلزم من وجوده عدمه، حتّی یقال بعدم الجواز .

نعم یعدّ واجداً للماء بواسطة التیمّم للدخول بالنسبة إلی ما یشترط فیه الطهارة المائیة، لکونه قادراً علی تحصیله ولو بالواسطة .

ص:85

ویکره الأکل والشرب وتخف الکراهة بالمضمضة والاستنشاق (1).

أمّا إذا لم نقل بجواز الدخول، حتّی مع التیمّم، وقلنا بحرمة الدخول مطلقاً، لکان القول بالصحّة بالتیمّم لسائر الغایات المشروطة به تامّاً، ولکنّه غیر وجیه علی الأظهر .

(2) بعدما فرغ المصنّف عن ذکر المحرّمات علی المجنب، شرع فی عدّ المکروهات، فابتدأ بکراهة الأکل والشرب للمجنب، وکراهتهما ممّا لا خلاف فیه بین الأصحاب، بل فی «الغنیة» الإجماع علیه، ونسبه فی «التذکرة» إلی علمائنا، وما فی «الفقیه» و«الهدایة» التعبیر بلا یجوز، محمول علی الکراهة، کما یشعر بذلک ذکر التعلیل الوارد فی الروایة بمخافة البرص .

والدلیل علیه: _ مضافاً إلی الإجماع _ هو مقتضی الجمع بین الأخبار، حیث یدلّ بعضها علی النهی المحتمل کونه تحریماً، مثل ما فی الفقیه من ذکر مناهی الرسول صلی الله علیه و آله ، وجَعَل من جملة ما نهی عنه، ووصّی به أمیر المؤمنین علیه السلام عن الأکل علی الجنابة(3) .

ما یکره علی الجنب / الأکل و الشرب

وکذا صحیحة الحلبی، قال : قال أبو جعفر علیه السلام : «إذا کان الرجل جنباً لم یأکل ولم یشرب حتّی یتوضّأ»(4) .

وصحیحة زرارة، عن أبی جعفر علیه السلام ، قال : «الجنب إذا أراد أن یأکل ویشرب


1- وسائل الشیعة: الباب 20 من أبواب الجنابة، الحدیث 5 .
2- وسائل الشیعة: الباب 20 من أبواب الجنابة، الحدیث 5 .
3- وسائل الشیعة: الباب 20 من أبواب الجنابة، الحدیث 5 .
4- وسائل الشیعة: الباب 20 من أبواب الجنابة، الحدیث 4 .

ص:86

غسل یدیه، وتمضمض وغسل وجهه وأکل وشرب»(1) .

حیث قد یتوهّم دلالة هذه الأخبار علی التحریم.

بل ومثل هذه الروایات حدیث فقه الرضا، قال : «إذا أردت أن تأکل علی جنابتک، فاغسل یدیک وتمضمض واستنشق، ثمّ کُل واشرب ... إلی أن قال : إذا أکلت أو شربت قبل ذلک أخاف علیک البرص، ولا تعد إلی ذلک»(2) .

لو لم یکن ذیله بمنزلة التعلیل الموجب کون النهی تنزیهیّاً، کما یکون کذلک روایة السکونی عن الصادق علیه السلام ، قال : «لا یذوق الجنب شیئاً حتّی یغسل یدیه ویتمضمض، فإنّه یخاف منه الوضح»(3) .

فی «الحدائق» : الوضح البرص.

بل التعلیل موجود فی خبر الحسین بن زید، عن الصادق، عن آبائه، عن أمیر المؤمنین علیه السلام فی حدیث المناهی السابق حیث جاء فی ذیله : «أنّه یورث الفقر ».

بل وهکذا فی صحیحة عبد الرحمن، قال : «قلت لأبی عبداللّه علیه السلام : أیأکل الجنب قبل أن یتوضّأ؟ قال : إنّا لنکسل، ولکن لیغسل یده فالوضوء أفضل»(4) .

حیث أنّه مشتمل علی جملة تدلّ علی کراهة الأکل والشرب قبل التوضّیء، وهی قوله: لنکسل، فإنّ الکسالة عن ذلک قبل غسل یدیه والوضوء، یدلّ علی کون العمل مکروهاً .

والظاهر کون المراد الکسالة عن الأکل من دون التسریع إلی الغسل والوضوء،


1- وسائل الشیعة: الباب 20 من أبواب الجنابة، الحدیث 1 .
2- مستدرک الوسائل ج1 الباب 12 من أبواب الجنابة، الحدیث 2 .
3- وسائل الشیعة: الباب 20 من أبواب الجنابة، الحدیث
4- وسائل الشیعة: الباب 20 من أبواب الجنابة، الحدیث 7 .

ص:87

کما قاله بعض المحقّقین من متأخّری المتأخّرین، علی ما فی الحدائق .

ولا یرد علیه ما استبعده صاحب «الحدائق» بملاحظة الاستدراک الواقع بعده، بقوله : «لکن لیغسل یده».

لأنّ الاستدراک کان لبیان مایوجب رفع الکراهة والکسالة.

فبذلک یظهر کون المراد من الأخبار السابقة، من الحکم بالغسل والوضوء قبله، هو رفع الکراهة عن الأکل والشرب مع الجنابة، لا استحباب الغُسل والوضوء من دون کراهة، کما احتمله السیّد فی «المدارک» تبعاً لصاحب الذخیرة، خصوصاً مع ملاحظة النهی فی صحیح الحلبی حیث لم یتعرّضه .

کما أنّ الصحیحة دلیلٌ علی کون النهی فی الأخبار السابقة تنزیهیّاً لا تحریمیّاً، حیث عبّر الإمام علیه السلام عنه بالکسالة، الدالّة علی الکراهة، کما یشعر التعلیلات الواردة فی الأخبار علی الکراهة ، مضافاً إلی أنّ الحمل علی الکراهة، هو مقتضی الجمع بین تلک الأخبار ، مع موثّقة ابن بکیر، قال : «سألت أبا عبداللّه علیه السلام عن الجنب یأکل ویشرب ویقرأ القرآن؟ قال : نعم یأکل ویشرب ویقرأ ویذکر اللّه ما شاء»(1) .

حیث أجاز علی الإطلاق، ولو کان حراماً لکان اللازم التذکّر بما یوجب زوال تحریمه، فلا مناص إلاّ القول بالکراهة، کما أنّه قد ادّعی علیه الإجماع أیضاً، کما لایخفی .

والذی یظهر من جمیع الأخبار، أنّ الکراهة کانت قبل الغسل للوجه والیدین والمضمضة والوضوء، فهل ترتفع الکراهة بعد تحصیل کلّ واحد منها، أو تخف الکراهة بالمضمضة وغیرها _ حتی الوضوء _ من دون أن تزول، أو یفصل بین


1- وسائل الشیعة: الباب 19 من أبواب الجنابة، الحدیث 2 .

ص:88

الوضوء بالزوال وبین غیره بالتخفیف؟

وجوه وأقوال ، بل قد یظهر من «المنتهی» و«الدروس» التخییر فی زوال الکراهة بین الأمرین، من غَسل الیدین والمضمضة، وبین الوضوء .

وعن صاحب «الحدائق» من الحمل علی مراتب الفضل، وکون زوال الکراهة حاصلاً بجمیعها، فالحمل بین الجمیع هو الوضوء، ثمّ غسل الیدین والمضمضة والاستنشاق، وغسل الوجه ثمّ الثلاثة الأول، ثمّ الأوّلان خاصّة، ثمّ الأوّل خاصّة، وهو أدنی المراتب.

والمستند للأوّل، ما دلّ علی أنّ الوضوء أفضل _ کما فی صحیح عبدالرحمن _ وللثانی صحیحة زرارة، وللثالث الرضوی، وللرابع خبر السکونی، وللخامس ما فی صحیحة عبد الرحمن.

والظاهر أنّه کلام حسن، وقد مال إلیه صاحب «الجواهر»، حیث قال : «ولعلّ التأمّل فی الروایات، بعد حمل مطلقها علی مقیّدها، وحذف المکرّر فیها، یقضی بأنّ رفع الکراهة یحصل بالوضوء الکامل _ أی الذی معه المضمضة والاستنشاق _ فیدخل حینئذٍ غسل الید والوجه فی الوضوء، إلاّ إنّه یستفاد حصول الخفة بغسل الید» ، انتهی کلامه(1) .

وإن کان ظاهر کلامه بعد ذلک اختیار التخییر، بالنظر إلی کلام الأصحاب،فراجع .

ولکن الإنصاف تمامیّة کلام صاحب «الجواهر»، وحصول زوال الکراهة بالوضوء، وخفّتها بالنسبة إلی سائر الاُمور، خصوصاً مع ملاحظة قاعدة التسامح


1- الجواهر: ج3 ص66 .

ص:89

فی أدلّة السنن، ولولا هذه القاعدة لم نمتلک فی إثبات ما ادّعیناه إلاّ وجود خبر شاذ، أو فتوی جمع من الأصحاب، کما مرّ علیک ذلک فی المقام، واللّه العاصم عن الخطأ والزلل .

ثمّ الکراهة الزائلة بعد الوضوء أو غیره من المراتب، تزول مطلقاً، سواء حصل التراخی بین الغَسل والوضوء، وبین الأکل والشرب أم لا . أو کان زوالها ما دام لم یتراخ بینهما وبین تلک الاُمور ، فذهب إلی الثانی بعض الفقهاء _ کما یظهر من صاحب «الجواهر» _ ولکن الأولی اختیار الأوّل، لأنّ ظاهر الأخبار أنّ الکراهة لا تکون إلاّ قبل الإتیان بتلک الاُمور ، فبعد الإتیان بها تزول کلٌّ بحسبه من الوضوء وغیره، سواء أتی بالأکل والشرب بلا فصل، أو أتی بهما مع التراخی .

نعم، لو تکرّر له الحدث بمثل الحدث السابق من الجنابة، فحینئذٍ یزول أثر الوضوء وغیره، فلابدّ من التکرار لأجل أکل وشرب آخر .

وأمّا ناقضیة کلّ حدث لمثله _ حتّی البول وغیره _ مشکل، وإن کان محتملاً، کما اختاره صاحب «الجواهر» .

وجه الإشکال: هو احتمال کون مثل ذلک الوضوء وغیره یعدّ مزیلاً لأثر الجنابة بما هی جنابة ، فبالحدث الأصغر لا یعود هذا الأثر، فلابدّ أن یکون المزیل لذلک الأثر إحداث حدث أکبر آخر، حتّی یترتّب علیه أثر کراهة الأکل والشرب بدون تلک الاُمور، کما لایخفی .

ومن ذلک یظهر أنّ تعدّد الأکل والشرب، واختلاف المأکول والمشروب، لایقتضی التعدّد، سواء کان مع التراخی أم لا ، لما قد عرفت وجهه من زوال الأثر مع الوضوء وغیره، کما هو واضح .

ص:90

وقراءة ما زاد علی سبع آیات من غیر العزائم، وأشدّ من ذلک قراءة سبعین، وما زاد أغلظ کراهیّة (1).

(1) لا یخفی علیک أنّه یستفاد من کلام المصنّف اُموراً عدیدة، وهی :

الأمر الأوّل : جواز القراءة للجنب إذا لم تبلغ بأزید من سبع آیات، فیرد بذلک احتمال الحرمة فی القراءة، کما قد صرّح بالحرمة _ علی حسب نقل الشهید فی «الدروس» و«الذکری» _ وسلاّر فی غیر کتاب «المراسم»، کما نسبه إلیه صاحب «الجواهر»، وقد نقل الحرمة عن الشیخ فی «الخلاف»، بل قد یستفاد ذلک من کلام صاحب «المعتبر»، علی ما نقله صاحب «الجواهر» .

ما یکره علی الجنب / قراءة مازاد علی سبع آیات

ویردّ القول بالحرمة علی ما زاد عن السبع، ما نسب ذلک إلی ابن البرّاج فی «المهذّب» ، بل قیل : إنّه یظهر من الشیخ فی کتابی الأخبار، وإن ردّه بأنّه لیس بمختاره ، بل ذکره من باب الاحتمال وذلک من حیث الجمع بین الأخبار ، وقد فهم الشیخ من عبارة المفید فی «المقنعة» ثبوت الحرمة فی الزائد عن السبع .

کما یردّ القول بالحرمة فیما زاد عن السبعین، ما نسب ذلک العلاّمة فی «المنتهی» إلی بعض الأصحاب، کما یستفاد ذلک من کلام ابن إدریس فی «السرائر» ، کما أنّ الشهید فی «الذکری» یقول : «إنّه یشعر به کلام الشیخ فی الحرمة فی السبع أو السبعین» .

وکیف کان، فإنّ کلام الماتن ینفی الکراهة عن مطلق القراءة ولو بآیة واحدة، کما یظهر عن المحقّق الآملی فی «مصباح الهدی» اختیار مطلق الکراهة فی القراءة ولو بأقلّ من سبع، کما ینبغی القول بالحرمة بتمام أقسامها ، وهو الحقّ.

والدلیل علی الجواز _ مضافاً إلی نقل الإجماع عن المرتضی والشیخ

ص:91

والمحقّق و«الغنیة» و«المنتهی» وعن «أحکام» الراوندی، بل فی «الجواهر» الإجماع المحصّل فضلاً عن المنقول، فلو لم نقل بثبوت الإجماع فلا تردید فی کونه مشهوراً بشهرة عظیمة، کما علیه أکثر المتأخّرین، لو لم نقل کلّهم، وهو المطلوب _ وجود أخبار کادت تکون متواترة _ بل هی کذلک _ وفیها صحاح لا نقاش فی سندها ، فلا بأس بذکرها حتّی ینظر فیها المجتهد، ویری کیفیّة دلالتها علی الجواز، وهی تکون بحیث توهم بعض الفقهاء مثل الصدوق رحمه الله فی «الفقیه» و«الهدایة» و«المقنع» وصاحبی «المدارک» و«الحدائق» علی الجواز المطلق حتّی فی الزائد عن السبع والسبعین، فضلاً عن الأقلّ منهما.

والأخبار هی: صحیحة زید الشحّام، عن أبی عبداللّه علیه السلام ، قال : «الحائض تقرأ القرآن والنفساء والجنب أیضاً»(1) .

وموثّقة ابن بکیر، قال : «سألت أبا عبداللّه علیه السلام عن الجنب یأکل ویشرب ویقرأ القرآن؟ قال : نعم، یأکل ویشرب ویقرأ، ویذکر اللّه عزّوجلّ ما شاء»(2) .

وصحیح زرارة، عن أبی جعفر علیه السلام ، فی حدیثٍ، قال : «قلت له : الحائض والجنب هل یقرآن من القرآن شیئاً؟ قال : نعم ما شاءا إلاّ السجدة، ویذکران اللّه علی کلّ حال»(3) .

وصحیح فضیل بن یسار، عن أبی جعفر علیه السلام ، قال : «لا بأس أن تتلو الحائض والجنب القرآن»(4) .


1- وسائل الشیعة: الباب 19 من أبواب الجنابة، الحدیث 1 .
2- وسائل الشیعة: الباب 19 من أبواب الجنابة، الحدیث 2 .
3- وسائل الشیعة: الباب 19 من أبواب الجنابة، الحدیث 4 .
4- وسائل الشیعة: الباب 19 من أبواب الجنابة، الحدیث 5 .

ص:92

وصحیح الحلبی، عن أبی عبداللّه علیه السلام ، قال : «سألته أتقرأ النفساء والحائض والجنب والرجل یتغوّط القرآن؟ فقال : یقرؤون ما شاؤوا»(1) .

وصحیح محمّد بن مسلم، قال : قال أبو جعفر علیه السلام : «الجنب والحائض یفتحان المصحف من وراء الثوب، ویقرآن من القرآن ما شاءا إلاّ السجدة» الحدیث(2) .

وروایة عبد الغفّار، عن الصادق7 : «الحائض تقرأ ما شاءت من القرآن»(3) .

وروایة حسن الصیقل، عن أبی عبداللّه علیه السلام ، قال : «یجوز للجنب والحائض أن یقرءا ما شاءا من القرآن إلاّ سور العزائم الأربع، وهی اقرأ باسم ربّک، والنجم، وتنزیل السجدة، وحم السجدة»(4) .

هذا مجموع ما وقفنا علیه من الأخبار، وقد رأیت کیفیّة دلالتها علی الجواز دون استثناء، إلاّ لسور العزائم ، فلابدّ حینئذٍ من ملاحظة ما یدلّ علی خلاف ذلک ، إمّا بالتحریم مطلقاً _ أی ولو بأقلّ من سبع آیات _ ولا یدلّ علیه إلاّ روایة السکونی المنقول عن «الخصال» للصدوق، عن الصادق علیه السلام ، عن آبائه، عن علیّ علیهم السلام ، قال : «سبعة لا یقرؤون القرآن : الراکع والساجد وفی الکنیف وفی الحمّام والجنب والحائض والنفساء»(5) .

حیث یکون النهی بصورة الإطلاق المفید بظاهره حرمة القراءة فی السبعة، ولکنّها مخالفة للإجماع، حیث لم یفت أحد بالحرمة فی مثل الراکع والساجد


1- وسائل الشیعة: الباب 19 من أبواب الجنابة، الحدیث 6 .
2- وسائل الشیعة: الباب 19 من أبواب الجنابة، الحدیث 7 .
3- وسائل الشیعة: الباب 19 من أبواب الجنابة، الحدیث 8 .
4- وسائل الشیعة: الباب 19 من أبواب الجنابة، الحدیث 11 .
5- الخصال ج2 ص10 .

ص:93

وفی الحمّام.

فوحدة السیاق فی الفقرات، تقتضی الحمل علی الکراهة فی الجمیع، جمعاً بینها وبین تلک الأخبار السابقة .

بل قد تقیّد الکراهة بما زاد علی السبع بالروایة التی سنذکرها .

وروایة اُخری هی التی نقلها الصدوق بإسناده عن أبی سعید الخدری، فی وصیّة النبیّ صلی الله علیه و آله لعلیّ علیه السلام ، إنّه قال : «یا علیّ من کان جنباً فی الفراش مع امرأته، فلا یقرأ القرآن، فإنّی أخشی أن تنزل علیهما نارٌ من السماء فتحرقهما»(1) .

حیث یدلّ بظاهره علی الحرمة، إلاّ إنّه قد حمله صاحب «الحدائق» علی التقیّة، حیث أنّ العامّة قد شدّدوا المنع بین الحرمة والکراهة، فقد ذهب الشافعی إلی القول بالحرمة للحائض والجنب بقراءة شیء یسیر من الآیات، وأبو حنیفة بالجواز بما دون الآیة، وتحریم القراءة بمقدار الآیة ، وبعضهم فصّل بین الحائض _ بالجواز _ والجنب _ بعدم الجواز _ کمالک وغیره .

فلو لم نقل بالحمل علی التقیّة لأجل تجویز بعضهم مثلاً ، فیحمل بما حمله الصدوق، بکون المراد من الحرمة قراءة العزائم، کما بیّناه سابقاً، جمعاً بینه وبین الأخبار السابقة، حیث یدلّ علی جواز القراءة بما شاء .

وإن أبیت عن ذلک، قلنا بالعمل بالروایة فی مورده، وهو قراءة القرآن فی الفراش مع المرأة فی حال الجنابة ، ولعلّ المراد هو حال المجامعة لا مطلقاً .

أو یقال مطلقاً فی خصوص الجماع، عملاً بنصّ الحدیث وتخصیصه لأدلّة الجواز .


1- وسائل الشیعة: الباب 19 من أبواب الجنابة، الحدیث 3 .

ص:94

لکنّه یصعب قبول ذلک لأجل عدم وجود قائل بالتحریم فی خصوص المورد دون غیره، مضافاً إلی ضعف سنده، لکون الراوی من العامّة کما لایخفی .

فالقول بالتحریم مطلقاً تمسّکاً بالآیة لا یمکن الذهاب إلیه، کما لا یمکن الذهاب إلی الکراهة، حتّی بالنسبة إلی الآیة وغیرها .

أمّا الخبر الدالّ علی الجواز فسنذکره فی الأمر الثانی.

الأمر الثانی : فی بیان أنّه علی القول بالجواز، فهل یجوز مطلقاً أو یکون بالأقلّ، أی بأن یکون الزائد عن السبع مکروهاً دون السبع فما دونه ؟

المشهور علی الثانی، کما علیه المصنّف فی «الشرائع» و«النافع» و«المعتبر»، والعلاّمة فی «المنتهی» و«التذکرة» و«الإرشاد» و«القواعد» و«التحریر» و«الدروس» و«جامع المقاصد»، وکثیر من المتأخّرین، مثل صاحب «الجواهر» والسیّد الیزدی فی «العروة»، وکثیر من أصحاب التعالیق .

والدلیل علی ذلک هو موثّقة سماعة، قال : «سألته عن الجنب هل یقرأ القرآن؟ قال : ما بینه وبین سبع آیات»(1) .

قال الشیخ : وفی روایة زرعة عن سماعة، قال : سبعین آیة(2) .

ولا یخفی علیک أنّه بملاحظة هذه الروایة قد أفتی بعض الأصحاب بحرمة القراءة علی ما زاد عن السبع، کما نسب ذلک إلی ابن البرّاج فی «المهذّب» ، بل قد نسب الشیخ وابن إدریس إلی بعض الأصحاب، فکأنّهم استفادوا من هذه الروایة الحرمة، تخصیصاً وتقییداً لتلک الإطلاقات الواردة فی الجواز .


1- وسائل الشیعة: الباب 19 من أبواب الجنابة، الحدیث 9 .
2- وسائل الشیعة: الباب 19 من أبواب الجنابة، الحدیث 10 .

ص:95

ولکنّه مخدوش من وجوه :

أوّلاً : لا یمکن استفادة الحرمة من هذه، لکونه مضمرة، ولم یذکر الإمام المنقول عنه ، فکیف یمکن اعتماداً علیها من رفع الید عن مثل تلک الأخبار التی قد عرفت کثرتها، وکثرة صحاحها .

وثانیاً : لا صراحة فی الحرمة إلاّ بواسطة المفهوم، ومثل هذه المفاهیم التی لیست من مفاهیم الشرط لا تکون حجّة، کما لایخفی .

وثالثاً : عدم القراءة لما زاد علی السبع یکون لازم أعمّ، حیث یساعد مع الحرمة والکراهة، فیختار الثانی حتی یناسب مع أخبار الجواز لأجل کون الکراهة ممّا یتسامح فیها عادةً دون الحرمة .

ورابعاً : الاضطراب فی الحدیث بکون المنقول هو السبع أو السبعین، وکونهما روایة واحدة أو روایتین .

ففی کلا الاحتمالین إشکال ، أمّا الأوّل فإنّ عدّهما خبراً واحداً یلزم علی القول بالمفهوم من التعارض، لأجل أنّ مفهوم السبع هو الحرمة فی الأزید ، ومفهوم السبعین هو الحرمة فی الأزید منه والحلّیة فی الأقل، فیتعارضان الحرمة والحلّیة فیما زاد علی السبع ، هذا بخلاف ما لو حمل علی الکراهة، حیث یصحّ بحسب مناسبة الحکم والموضوع بالجمع بینهما بالکراهة فی ما زاد علی السبع، وشدّتها فی السبعین وأزید منها، کما لایخفی .

کما یرد الإشکال علی الثانی: فإنّه لو اعتبرناهما خبران، یتردّد الأمر فیما هو الصادر عن الإمام علیه السلام ، حیث نجهل أنّه السبع أو السبعین ، فلازمه _ علی تقدیر قبول دلالته علی الحرمة _ هو الحرمة بعد السبعین ، وأمّا فیما بینهما یکون مشکوکاً، فالأصل هو البراءة.

ص:96

بخلاف حال الکراهة، حیث یصحّ إثباتها بالتسامح فیها بالأقل فی السبع، والأزید فی السبعین، خصوصاً مع ملاحظة دلالة الأخبار الدالّة علی الجواز، حیث أنّ المشهور قد اختار الکراهة فیما زاد عن السبع، وأعرضوا عن الحرمة، فتکون الکراهة أولی بالقبول .

ومن هنا یظهر حکم أشدّیة الکراهة فی السبعین أو أزید منها، حیث لا یکون المستند إلاّ هذه الروایة، مع ضمیمة مناسبة الحکم للموضوع، من عدم حُسن القراءة للمجنب فی تلک الحالة فیما زاد عن السبع .

ومن مجموع ما ذکرنا، ظهر وجه الأقوال من الجواز مطلقاً _ عملاً بالأخبار المجوّزة، بلا تخصیص وتقیید فی إطلاقها، خصوصاً مع ورود الإطلاق فی قوله تعالی : «فَاقْرَءُوا مَا تَیَسَّرَ مِنْ الْقُرْآنِ»(1) _ والحرمة مطلقاً _ عملاً بخبری السکونی والخدری _ والحرمة بما زاد علی السبع أو السبعین _ عملاً بروایة سماعة _ أو الکراهة لما زاد علی السبع، والأشدیّة فی السبعین وما زاد _ عملاً بالجمع بین تلک الأخبار _ وهو الأقوی کما علیه المشهور .

بقی هنا فرعان :

الفرع الأوّل : فی أنّ المراد بالکراهة هنا هل هی کراهة العبادة بمعنی قلّة الثواب، أو مجرّد المرجوحیة ، أو کون ترکها ملازماً لشیء وجودی راجح أهمّ عند الشارع .

ففی «الجواهر»: أنّه یظهر من الاستدلال الواقع من الجملة المجوّزة فی قوله تعالی : «فَاقْرَءُوا مَا تَیَسَّرَ مِنْ الْقُرْآنِ» ونحو ذلک اعتبار الأوّل .


1- سورة المزمّل : آیة 20 .

ص:97

ولکن مختاره رحمه الله الثانی، حیث قال : «لا یبعد الثانی، فإنّ الأوّل لا یرتکب إلاّ فی الشیء الذی لا یمکن أن یقع عبادة، فنلتزم حینئذٍ بذلک ، ودعوی أنّ قراءة القرآن من هذا القبیل، ممنوعة»(1) .

خلافاً للمحقّق الهمدانی فی «المصباح» حیث قال : «إنّ الالتزام بالمعنی الأوّل _ ولو علی تقدیر کون القراءة ممحّضة فی العبادة _ مشکلٌ، ولکن الالتزام بالمرجوحیة الصرفة، أعنی الکراهة المصطلحة أشکل...

إلی أن قال : ثمّ، والذی یحسم مادّة الإشکال، ویتّضح به حقیقة الحال فیما هو من نظائر المقام هو أنّ النهی فی مثل هذه الموارد لم یتعلّق بالعبادة لذاتها، حتّی یکون فعلها مبغوضاً، ومشتملاً علی منقصة مقتضیة لطلب الترک کتوهین القرآن مثلاً، فما نحن فیه حتّی یمتنع کونها عبادة، وإنّما تعلّق الطلب بترکها لأجل الترک، ملزوماً لعنوان وجودی راجح، تکون مراعاته أهمّ بنظر الشارع من المصلحة المقتضیة لطلب الفعل...

إلی أن قال : وإنّما المهمّ فی المقام، بیان أنّ ما نحن فیه من هذا القبیل، وأنّ القراءة مستحبّة فی حقّ الجنب والمریض وغیرهما ، ولکن ترکهما نفسهما ملزومٌ لعنوان وجودی راجح، تکون مراعاته أهمّ فی نظر الشارع، وإن لم نعرف ذلک العنوان تفصیلاً».

ولا یبعد أن یکون المقصود تعظیم القرآن واحترامه، الذی یحصل بمجانبة الجنب والحائض عند ترک القراءة» انتهی محلّ الحاجة .

قلنا : لا تردید فی أنّ قراءة القرآن تعدّ من المستحبّات والعبادات، حتّی عن


1- الجواهر: ج3 ص72 .

ص:98

مثل الجنب والحائض، کما یدلّ علیه قوله تعالی: «فَاقْرَءُوا مَا تَیَسَّرَ مِنْهُ» ، کما یظهر أیضاً من کلمات الأصحاب، ولسان الأخبار، من مقارنة قراءة القرآن للذکر فی روایة ابن بکیر فی کون الذکر عبادة ویرغب إلیها الشارع ، فحسن الذاتی للقراءة والذکر أمرٌ مسلّم، إلاّ أنّ الوارد فی لسان الأخبار لیس إلاّ النهی عن القراءة، بمعنی أنّ متعلّق النهی هو الذی کان متعلّقاً للأمر، فبذلک یتفاوت حکم المقام عن مثل النهی عن خروج المرأة عن الدار، الذی یکون المقصود منه بقائها فیها لحفظ المتاع، الذی قد وقع فی کلام المحقّق الهمدانی رحمه الله .

فلابدّ أن یقال : إنّ الکراهة هنا لیس لأجل نفس القراءة المتعلّقة بالقرآن بذاتها ، بل کان النهی لأجل ملازمة هذه القراءة لتحقّق عنوان غیر محمود عند الشارع، مثل إتیان صلاة الظهر فی الحمّام، حیث تعلّق النهی بهذه الصلاة، إلاّ إنّه یتوجّه إلی قیده الأخیر کونها فی الحمّام، هکذا یکون فی المقام، حیث قد تعلّق النهی بالقراءة، إلاّ إنّه متوجّه بقیده الأخیر، هو حالة الجنابة والحیض .

فلا منافاة فی کون المقام من قبیل الصلاة فی الحمّام من الاُمور العبادیة، إلاّ إنّه إذا أتی بها فی هذا الحال، یکون ثوابها أقلّ من حال إتیانها فی حال الطهارة عن الحدث الأکبر ، کما یکون ثوابها أزید إذا أتی بها فی حال الطهارة عن الحدثین .

فالذهاب إلی ما یظهر من کلمات الأصحاب واستدلالاتهم، لیس ببعید ، بل یساعده فهم عرف المتشرّعة، حیث یستنکرون الإتیان بالقراءة فی تلک الحالة، ولذلک دائماً یسألون حتی لا یقعون فی أمر منکر شرعی .

فاحتمال الأوّل أظهر وأقوی عندنا ، واللّه العالم .

الفرع الثانی : فی أنّه هل المراد من الکراهة فیما زاد السبع، هو تعدّد الآیات المتمایزات، أو یصدق ذلک حتّی مع تکرار الآیة الواحدة فیما زاد علی السبع ؟

ص:99

ومسّ المصحف (1).

وقد اختار صاحب «الجواهر» الأوّل، وعلیه یلزم أن لا یکون المتکرّر من سورة مشتملة علی سبع آیات مرتکباً للکراهة، لعدم تحقّق ذلک العنوان .

ولکن لایبعد أن یقال : إنّه یصدق علی السبع بالنسبة إلی الآیة الواحدة، إنّه قرأ سبع آیات، بحیث لو قرأ مرّة واحدة یصدق أنّه ارتکب مکروهاً ، فالمراد من الزیادة علی السبع، هو الأعمّ من الآیة الواحدة المتکرّرة سبع مرّات أو المتمایزة.

ومنه یظهر حکم ما لو تکرّر نفس الآیات السبعة أیضاً، حیث ذهب صاحب «الجواهر» إلی عدم الکراهة، لعدم صدق الزیادة حینئذٍ ، لما قد عرفت الصدق فیها فتکون مکروهاً .

کما لا فرق فی الصدق فیما یصدق أو فی عدمه، فیما لا یصدق بین کون الآیة قصیرة أو طویلة، لکون المدار علی صدق الآیة، کما لایخفی .

(1) أی یکره مسّ ما عدا الکتابة من الورق ومجموع ما بین الدفتین، حیث یفهم منه جواز مسّ غیر الآیات المکتوبة، أمّا نفس الآیات فإنّه یحرم مسّها.

أقول: فأمّا الحرمة فی نفس المکتوبة فقد مضی بحثها.

وأمّا الجواز فی غیرها فإنّه یکون مقطوعاً به، للأصل من البراءة واستصحاب الحالة السابقة علی الجنابة التی هی الجواز، مضافاً إلی عدم الخلاف بین الأصحاب، بل کاد أن یکون مجمعاً علیه، ولم یظهر الخلاف إلاّ عن السیّد المرتضی رحمه الله من القول بالحرمة مستدلاًّ بقوله تعالی : «لاَ یَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ»(1) ، وقول أبی الحسن علیه السلام فی خبر ابن عبد الحمید، قال :


1- سورة الواقعة: آیة 78 .

ص:100

«المصحف لا تمسّه علی غیر طهر ولا جنباً، ولا تمسّ خطّه (خیطه) ولاتعلّقه، إنّ اللّه تعالی یقول : «لاَ یَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ»»(1) .

حیث استشهد الإمام علیه السلام بظاهر الآیة علی أنّ الممنوع مجموع ما بین الدفّتین، خصوصاً مع ملاحظة ما فی الخبرین، من ذکر التعلیق _ بل الخیط فی نسخة اُخری _ یناسب مع ما ذکره.

ما یکره علی الجنب / مسّ المصحف الشریف

هذا ، ولعلّ ذکر الخط بعد أصل المصحف وشموله له، کان لشدّة الاهتمام به ، فالدلیل منحصر بهما .

ولکنّه مندفع أوّلاً : بأنّ جواز مسّ غیر المتطهّر _ خصوصاً فی الحدث الأصغر _ للمصحف _ أی المجموع _ علیه الإجماع والنصّ، مثل ما فی مرسلة حریز، عمّن أخبره، عن أبی عبداللّه علیه السلام ، قال : «کان إسماعیل بن أبی عبداللّه عنده فقال : یا بنی اقرأ المصحف ، فقال : إنّی لست علی وضوء ، فقال : لا تمسّ الکتابة ومسّ الورق واقرأه»(2) .

فإن أمر الإمام علیه السلام بمسّ الورق مفیدٌ للجواز، لکونه أمراً فی مقام توهّم الخطر، فجواز مسّ الجلد والمجموع یکون بالأولویّة .

بناءً علی هذا یصیر الحکم فی المحدث الأصغر هو الجواز فی مسّ الجلد والورق، دون الکتابة، للتصریح بالنهی عنها، کالنهی الوارد فی موثّقة أبی بصیر، قال : «سألت أبا عبداللّه علیه السلام عمّن قرأ فی المصحف وهو علی غیر وضوء؟ قال :


1- وسائل الشیعة: الباب 12 من أبواب الوضوء، الحدیث 3 .
2- وسائل الشیعة: الباب 12 من أبواب الوضوء، ، الحدیث 2 .

ص:101

لا بأس، ولا یمسّ الکتاب»(1) .

فیکون النهی حینئذٍ تنزیهیّاً ولو للجنب .

وثانیاً : حیث یکون المراد من الکتاب هو المکتوب، بأن یکون المصدر هو اسم المفعول لا مجموع ما بین الدفتین، فیکون النهی باقیاً فی التحریم، کما کان کذلک فی الحدیث السابق علیه، فإذا صار النهی فیه دالاًّ علی الحرمة، فیکون ذلک قرینة علی کون المراد من المصحف فی الروایة والآیة نفس الکتابة، فیکون النهی تحریمیّاً.

أو کون المراد من المصحف، هو مجموع ما بین الدفتین فیکون النهی تنزیهیّاً، سواء کان مسّ المصحف أو الخیط أو علقه _ دون الخطّ لما قد عرفت الحرمة فیه قطعاً _ ففی صورة التنزیه یلزم أن لا یفرق بین کونه محدثاً بالحدث الأصغر أو الأکبر، مع أنّ الأصحاب لم یفتوا بالکراهة فی الأوّل، بخلافه فی الثانی .

وثالثاً : أن یراد من النهی فی روایة ابن عبد الحمید مطلق المرجوحیة، حتّی یتناسب مع الحرمة بالنسبة فی الکتابة، بأن یکون هی المراد من المصحف، فیکون لفظ الخط عطفاً تفسیریّاً، کما یناسب مع الکراهة الواردة بالنسبة إلی التعلّق والخیط.

هذا، وقد مال إلیه صاحب «الجواهر» حیث قال : «إنّه لمّا انجبر النهی بفتوی الأصحاب بالنسبة إلی الکتابة، وجب القول بالحرمة، ولم ینجبر بالنسبة إلی غیرها، فوجب القول بالکراهة، لعدم صلاحیة الروایة لإثبات الحرمة، لما فیها من الضعف .

لا یقال : إنّ ذلک استعمال للنهی فی حقیقته ومجازه.


1- وسائل الشیعة: الباب 12 من أبواب الوضوء، ، الحدیث 1 .

ص:102

لأنّا نقول : لو سلم لا بأس بارتکاب حمله علی عموم المجاز، إذ أقصاه أنّه مجاز، قرینته ما سمعت هذا علی نسخة «ولا خیطه» بالیاء .

وأمّا علی نسخة الخط، فیحتمل أن یقال حینئذٍ : المراد بالمصحف فی الأوّل ما عدا الکتابة، فیحمل النهی الأوّل علی الکراهة، والثانی علی الحرمة» انتهی محلّ الحاجة .

ولا یخفی ما فی کلامه من الإشکال لأنّه إن اُرید من المصحف نفس الکتابة، وکان النهی فیه خاصّاً بالحرمة، فلایبقی له مورد فی کون النهی مستعملاً فی عموم المجاز، لأنّه قد استعمل فی خصوص التحریم .

وإن اُرید التعمیم فی کلّ منهما، فهو المحتمل فی الأخیر الذی جعله قسیماً له .

هذا ، مضافاً إلی أنّه إن کان النهی مستعملاً فی التحریم، فلا وجه لجعل عدم انجباره بعمل الأصحاب موضوعاً للحمل علی الکراهة، لأنّه: أوّلاً : الانجبار فی الحدیث، لا یحتاج فی کونه لجمیع ما فی الروایة، بل یکفی فی الانجبار انجباره فی الجملة .

وثانیاً : إنّه إذا کان النهی تحریمیّاً، لا معنی لصیرورته تنزیهیّاً بعدم الانجبار، کما لایخفی .

ولکن الإنصاف أنّ المراد من المصحف هی الکتابة، حتی یناسب التحریم مع غیر المتطهّر للأعمّ من الحدث الأصغر والأکبر، کما یناسب مع کلمة الخطّ _ کما فی نسخه الأصلیة _ فیبقی التعلّق خارجاً بواسطة دلیل خارجی من الإجماع، علی عدم الحرمة، أو یقال بالحرمة علی إمکان حصول المسّ بالبدن حال الجنابة والمحدثیة فی التعلیق غالباً، فلذلک یبقی نهیه فیه علی الحرمة، کما یناسب ذلک مع استدلال الإمام بالآیة الشریفة، حیث لا یرید من المصحف إلاّ الکتابة فیه، فیکون الحدیث أجنبیّاً عن بحثنا.

ص:103

ولکن ینبغی أن یستدلّ علی القول بأنّ المقصود من کراهة مسّ المصحف، هو المجموع لا الکتابة فقط، صحیحة محمّد بن مسلم، قال : «قال أبو جعفر علیه السلام : الجنب والحائض یفتحان المصحف من وراء الثوب، ویقرآن من القرآن ما شاءا إلاّ السجدة» الحدیث(1) .

بناءً علی أنّ الجملة خبریة: «یفتحان» مستعملة فی وضع الأمر الندبی لا الوجوبی ، وإلاّ یلزم القول بحرمة فتح المصحف بغیر هذه الکیفیّة، وهو مخالف للإجماع، بل النصّ حیث ورد الأمر الدالّ علی جواز مسّ الورق فی مرسلة حریز ، بل وفی الحدیث الرضوی المعتضد بالأصل وفتوی المشهور من قوله: «ولا تمسّ القرآن إذا کنت جنباً، أو علی غیر وضوء، ومسّ الأوراق»(2) .

فإذا جاز مسّ الجنب للورق، فجواز المسّ للجلد یکون بطریق أولی .

ومن هنا ظهر عدم تمامیّة الاستدلال لقول المرتضی بالحرمة بواسطة هذه الروایة، فثبت صحّة کلام المصنّف فی فتواه الکراهة.

ثمّ قد عرفت من خلال المباحث السابقة أنّ مقتضی حمل خبر ابن عبد الحمید علی الکراهة هو القول بالکراهة فی مسّ غیر الخط من القرآن علی المحدث بالحدث الأصغر أیضاً، لإطلاق قوله : «لا تمسّه علی غیر طُهر»، وذِکْر خصوص الجنب بعده، حیث یجعله ممحّضاً فی غیر المتوضّی من قوله: «غیر طهر» مع أنّ الأصحاب خصّوا کراهة المسّ بخصوص المحدث بحدث الأکبر کالجنابة .

ولکن لولا الإجماع علی خلافه لقلنا به، لأجل ملاحظة أدلّة التسامح فی


1- وسائل الشیعة: الباب 19 من أبواب الجنابة، الحدیث 7 .
2- مستدرک الوسائل: ج1 الباب 10 من أبواب الجنابة، الحدیث 1 .

ص:104

والنوم حتّی یغتسل أو یتوضّأ (1).

الکراهة، وإن تعدّ کراهته أخفّ من الکراهة فی مسّ الجنب والحائض والنفساء مثلاً، إن قلنا بإلحاقهما بالجنب فی ذلک، واللّه العالم .

ثمّ الظاهر أنّ القول بکراهة مسّ جلد المصحف علی المجنب _ أی بمجموع ما بین الدفتین یلزم القول بالکراهة حتّی فی افراد الورق من القرآن، خصوصاً إذا عدّ کلّ ورق مستقلاًّ فی الوجود، کأجزاء القرآن المستقلّة المتداولة الآن، مثل جزء یس، وجزء عمّ وغیرهما.

ما یکره علی الجنب / النوم بلا طهور

بل لا یبعد شموله لصفحة وصفحتین من القرآن، إذا انفردا وجُعلا بین الدفّتین، وإن تأمّل فیه المحقّق الآملی .

و وجه شموله لهذه الموارد صحّة إطلاق المصحف علی کلّ ذلک حتی علی الورقة بأنّه قرآن ، مضافاً إلی مناسبته مع التعظیم .

نعم، شمول الکراهة لمسّ کتب فیها آیة أو آیات، مثل الکتب الاستدلالیة ونحوها، لا یخلو عن تأمّل ، بل الأظهر عدمه، حیث لا یصدق علیه مسّ المصحف قطعاً، کما لایخفی .

(1) الکلام فی هذه المسألة یقع فی اُمور :

الأمر الأوّل : فی جواز النوم علی الجنب، قبل الغسل والوضوء والتیمّم وهو ممّا لا إشکال فیه لأنّه مضافاً إلی کونه مقطوعاً به _ کما فی «الجواهر»، بل قد یظهر الجواز عن الشیخ فی «المبسوط»، وابن زهرة فی «الغنیة» وصاحب «الوسیلة» و«الجامع» و«النافع» و«المعتبر»، والعلاّمة فی «المنتهی» و«التذکرة» و«القواعد» و«الإرشاد» و«الدروس» وصاحب «الجواهر» و«المصباح»

ص:105

للهمدانی والآملی، وصاحب «العروة» وکلّ أصحاب التعلیق، بل قد نقل الإجماع علیه فی «الغنیة» و«المنتهی» ، بل وعلمائنا کما عن «المعتبر» و«التذکرة» ، وأنّ الکراهة هو المراد من النهی فی کلام «المهذّب»، حیث قال : «النهی للجنب عن النوم حتی یتمضمض ویستنشق لا الحرمة» _ .

تدلّ النصوص _ تصریحاً أو تلویحاً_ علی الجواز، مثل صحیحة الأعرج، قال : سمعت أبا عبداللّه علیه السلام ، یقول : «ینام الرجل وهو جنب وتنام المرأة وهی جنب»(1) .

بل وکذلک ذیل موثّقة سماعة، حیث قال : «وإن هو نام ولم یتوضّأ ولم یغتسل، فلیس علیه شیء إن شاء اللّه»(2) .

نعم، هنا ما یتوهّم منه عدم الجواز _ إلاّ مع الطهور بأیّ قسم کان من المائیة أو الترابیة _ وهو کما فی موثّقة أبی بصیر، عن أبی عبداللّه علیه السلام ، عن أبیه، عن آبائه، عن أمیر المؤمنین علیهم السلام ، قال : «لا ینام المسلم وهو جنب، ولا ینام إلاّ علی طهور، فإن لم یجد الماء فلیتیمّم بالصعید»(3) .

ولکن لا یمکن الأخذ بظاهره من الحرمة بلا تحصیل طهور، لکونه مخالفاً للإجماع کما عرفت، ومخالفاً لما عرفت من الروایتین، فلابدّ من الجمع بینهما وبینه بالحمل علی الکراهة، کما سنشیر إلیه فی الأمر الآتی ، خصوصاً إذا اُرید من قوله: «علی طهور»، هو الغسل فقط ، ومع عدم التمکّن من الماء فبالتیمّم، دون أن یعمّم للوضوء ، حیث یلزم معارضته.


1- وسائل الشیعة: الباب 25 من أبواب الجنابة، ، الحدیث 5 .
2- وسائل الشیعة: الباب 25 من أبواب الجنابة، ، الحدیث 6 .
3- وسائل الشیعة: الباب 25 من أبواب الجنابة، ، الحدیث 3 .

ص:106

مضافاً إلی ما عرفت من صحیحة الحلبی أیضاً، حیث حکم بالجواز مع الکراهة بدون وضوء، وإلاّ یجوز بلا کراهة، کما قال: «یکره ذلک حتی یتوضّأ»(1) .

فجواز النوم بلا غُسل ولا وضوء للجنب ثابت عند الأصحاب ولا کلام فیه .

الأمر الثانی : فی کون النوم مجنباً بلا تحصیل طهارة یعدّ مکروهاً، مضافاً إلی ما عرفت من دلالة الإجماع المحصَّل والمنقول علیه، وکذلک صریح صحیحة عبداللّه بن علی الحلبی، قال : «سئل أبو عبداللّه علیه السلام عن الرجل أینبغی له أن ینام وهو جنب؟ فقال : یکره ذلک حتّی یتوضّأ»(2) .

حیث أنّ ظهور قوله: «ینبغی» فی السؤال، ولفظ «الکراهة» فی الجواب، منضمّاً إلی فهم الأصحاب وفتواهم، یرفع شبهة کون المراد من الکراهة هو الحرمة، کما لایخفی .

وأمّا التمسّک علی ذلک بصحیحة عبدالرحمن بن أبی عبداللّه علیه السلام ، قال : «سألت أبا عبداللّه علیه السلام عن الرجل یواقع أهله أینام علی ذلک؟ قال : إنّ اللّه یتوفّی الأنفس فی منامها، ولا یدری ما یطرقه من البلیة ، إذا فرغ فلیغتسل» الحدیث(3) .

فممّا لا بأس به إذا اُرید استفادة ذلک من الأمر بالغُسل قبل النوم لأجل کراهة النوم بلا طهارة .

نعم والذی یرد علیه، أنّ المستفاد منه هو کون الغُسل هو الرافع للکراهة فقط دون غیره، وإلاّ کان الأحری أن ینبّه فیها بأحد الأمرین من الوضوء أو الغسل.


1- وسائل الشیعة: الباب 25 من أبواب الجنابة، ، الحدیث 1 .
2- وسائل الشیعة: الباب 25 من أبواب الجنابة، ، الحدیث 2 .
3- وسائل الشیعة: الباب 25 من أبواب الجنابة، ، الحدیث 4 .

ص:107

إلاّ أن یجاب عنه بأنّه أجاب بما هو الأفضل، وکونه هو المستحبّ، وهو غیر بعید .

وأمّا الاستدلال علی _ کما یظهر عن صاحب الحدائق _ ذلک بموثّقة سماعة، قال : «سألته عن الجنب یجنب ثمّ یرید النوم؟ قال : إن أحبّ أن یتوضّأ فلیفعل، والغُسل أحبّ إلیّ وأفضل من ذلک، وإن هو نام ولم یتوضّأ ولم یغتسل، فلیس علیه شیء إن شاء اللّه»(1) .

ممّا لا یخلو عن إشکال، إذ لولا دلالة أخبار اُخر علی الکراهة فی نوم الجنب بلا طهارة، لدلّ ذیل هذه الروایة علی جوازه، لظهور قوله: «لیس علیه شیء» علی ذلک، مع أنّ صدرها أیضاً لا تزید دلالته علی کون الوضوء مستحبّاً والغُسل أفضل، بحیث لو ترکهما لکان قد ترک المستحبّ فی ذلک، لا قد فعل مکروهاً، کما لایخفی .

الأمر الثالث : فی أنّ الکراهة السابقة بماذا ترتفع؟

قد یقال : بأحد من الأمرین: إمّا بالوضوء أو بالغسل مع التمکّن من الماء، وإلاّ بالتیمّم بدله .

هذا، کما علیه صاحب «الجواهر»، وصاحب «المصباح» للهمدانی، تمسّکاً بصحیحة الحلبی، حیث جاء فیها قوله: «یکره ذلک حتّی یتوضّأ» الظاهر فی کون الغایة غایة للکراهة بنفسها بسبب الوضوء، ولا ینافیه صحیحة عبد الرحمن حیث قد أمر فیها بالغسل بعد الفراغ، لأجل احتمال کون ذلک لتحصیل ما هو الأفضل، کما أشار إلی الأفضلیة فی موثّقة سماعة، حیث قال : «والغسل أفضل من ذلک» . کما أنّ الکراهة ترتفع بالغُسل، لکونه أکمله وبعد عدم التمکّن منه یؤتی ببدله وهو التیمّم، کما ورد فی روایة أبی بصیر بقوله : «فإن لم یجد الماء


1- وسائل الشیعة: الباب 25 من أبواب الجنابة ، الحدیث 6 .

ص:108

فلیتیمّم بالصعید» .

ولکن قد خالف هذا الرأی صاحب «کشف اللثام»، حیث اختار أنّ الوضوء لا یرفع الکراهة إلاّ بمرتبة منها، الموجب لتخفیفها تمسّکاً بصحیحة عبد الرحمن، حیث اقتصر فیه بذکر الاغتسال فقط، ووافقه المحقّق الآملی قدس سره ، حیث أیّده بأنّ مقتضی الصحیحة هی الکراهة لأجل وجود الجنابة ودرک الموت معها، وهذا المعنی لا یرتفع إلاّ بالغسل أو ببدله وهو التیمّم عند فقد الماء، والوضوء لا یؤثّر شیئاً لولا هذه الأخبار، بل کان لازم الجمع _ حسب مقتضی الصحیحة _ تعیّن الغُسل.

ولکن بعد ورود الأخبار علی جواز الإتیان بالوضوء للجنب، مع التمکّن من الماء، فإنّه یستفاد أنّه یؤثّر فی تخفیف الکراهة لا فی زوالها .

هذا، ولکن الإنصاف أنّه خلاف ظاهر وجود الغایة فی صحیحة الحلبی، حیث یرجع إلی الکراهة لا بمرتبتها الشدیدة ، خصوصاً إن قلنا بالإطلاق من الحدث الأکبر والأصغر فی قوله: «ولا ینام إلاّ علی طهور» فی روایة أبی بصیر، ورجوع قوله: «إن لم یجد الماء» إلی واحد منهما، أی یصحّ لمن کان فاقد الماء الإتیان بالتیمّم بدلاً عن الوضوء، أو التیمّم بدلاً عن الماء للغسل، فیساعد الحدیث مع ما ذکره صاحب «الجواهر» بأنّ الکراهة ترتفع بأحد من الأمرین: من الوضوء أو الغسل .

ولکن التأمّل فی روایة أبی بصیر، یوصلنا إلی کون المراد من قوله: «لا ینام إلاّ علی طهور» هو الغسل فقط، لا مع الوضوء، لوضوح أنّ الطهارة لا تحصل بذلک الوضوء للجنب، ولا یکون نظیر وضوء الحائض للعبادة، بل هو رافع للکراهة الموجودة فی النوم علی الجنابة .

مضافاً إلی أنّه قد یؤیّد ما ذکرنا ورود ذکر التیمّم فی ذیله، حیث أنّه إذا فقد الماء وأراد الإتیان، فلماذا یأتی ببدل الوضوء دون الغُسل، مع أنّه لا تفاوت فیه

ص:109

فی أصل البدلیة، مع أنّ الإتیان بالبدل یوجب کفایته عن الوضوء، فتصیر هذه قرینة اُخری علی کون المراد من الطهر هو الغسل لا کلیهما، کما لایخفی .

ولکن مع ذلک کلّه لا یبعد الذهاب بالقول بأنّ التکلیف هنا من جهة ضمیمة النصوص بعضها مع بعض، أمران :

أحدهما: کراهة النوم مع ترک أحد الأمرین، فیرتفع بوجود أحدهما .

والآخر: استحباب انتخاب زوال الکراهة ورفعها بالغُسل الذی یحصّل الطهارة الکاملة. وقد اُشیر إلی الوجه الثانی ما فی روایة سماعة، بقوله : «إن أحبّ أن یتوضّأ فلیفعل»، أی تذهب الکراهة بذلک وینام، والغُسل أفضل من ذلک.

فما ذکره صاحب «الجواهر» هو الأقوی، وبذلک یظهر الجواب عن المحقّق الآملی بأنّ الموت ربما یدرک مع الجنابة یصحّ أن یکون وجهاً لأفضلیة الغُسل لا وجهاً لبقاء الکراهة، لأنّه مع الوضوء یجوز للمجنب النوم بلا کراهة، لا مع الکراهة بمرتبة خفیفة، کما علیه العَلَمان واللّه العالم .

وممّا ذکرنا فی الأخیر ظهر أنّ التیمّم یکون بدلاً عن الغسل، لا عن الوضوء، حتّی لو فرض عدم التمکّن من الماء مطلقاً أی کلیهما ، لما قد عرفت أنّ الإتیان بالتیمّم بدلاً عن الغسل، یغنی عن الوضوء نفسه، من جهة حصول أصل الطهارة، فکأنّه کان مثل من أتی بنفس الغسل، ولذلک لولا دلیل الشرع علی تجویز الوضوء مع التمکّن من الغُسل، لقلنا بتعیّن الغُسل ، فإذا فرض عدم وجود ماء، أو عدم تمکّنه من الغسل، ووجب أو استحبّ له التیمّم، فلا وجه حینئذٍ للقول بإتیان التیمّم بدلاً عن الوضوء .

ومن ذلک یظهر أنّ جواز التیمّم إذا کان بدلاً عن الغسل، لا یختصّ بصورة عدم التمکّن من الوضوء، بل ینبغی جوازه حتّی مع التمکّن من الوضوء ، فما تری فی

ص:110

کلام السیّد فی «العروة» من تقیید جواز التیمّم بعدم التمکّن من الماء للوضوء، مع تصریحه بکون التیمّم بدلاً عن الغسل، لا یخلو عن إشکال ، هذا کما عن المحقّق الآملی .

اللّهم إلاّ أن یقال : إنّ ما دلّ علی جواز التوضّی للجنب إذا أراد النوم، لو کان مطلقاً یشمل حتی من لم یتمکّن من الغُسل وأراد التیمّم بدلاً عنه ، فحینئذٍ یأتی الإشکال، فی أنّه إذا کان التیمّم هو المحصّل للطهارة، بدلاً عن الغسل ، فلماذا أجاز التوضّی الذی لا یحصل به الطهارة ؟ فیفهم من ذلک أنّ الشارع قد أجاز الوضوء بدلاً عن الغسل، لرفع الکراهة حینما هو قادرٌ علی تحصیل الماء لکن بصعوبة، فجوّز له النوم لکن مع الوضوء، فلا یشمل من لا یقدر علی الغُسل، وکان وظیفته التیمّم الذی یحصل به الطهارة بلا صعوبة .

ولکن الإنصاف إنّه تکلّف لا حاجة إلیه، مع وجود لطف الشارع بالإطلاق من تجویز الوضوء مطلقاً، کما لایخفی .

الأمر الرابع : هل الکراهة فی النوم مع الجنابة یکون مطلقاً _ أی سواء أراد العود إلی الجماع صباحاً کما علیه صاحب «الجواهر» والمحقّق الآملی وغیرهما _ أو مقیّداً بما إذا لم یرد العود إلیه ، وإلاّ لا کراهة فیه؟

ویظهر عدم الکراهة من کلام الصدوق فی «الفقیه»، حیث نقل بعد صحیحة الحلبی حدیثاً آخر جاء فی ذیله قوله : «أنا أنام علی ذلک حتّی أصبح، وذلک إنّی أرید أن أعود»(1) .

حیث أنّ الظاهر هو العود إلی الجماع لا إلی النهوض فی القیام، فأراد الإمام علیه السلام إخباره بموته وحیاته، وأن یکون مُغتسلاً قبل أن یصبح وهو میّت، فی


1- وسائل الشیعة: الباب 25، من أبواب الجنابة، الحدیث 2 .

ص:111

والخضاب (1).

قبال سائر الناس حیث لا یعلمون، فربما یدرکهم الموت جنباً، فإنّ لازم ذلک عدم کراهة النوم للإمام علیه السلام مع الجنابة مع تلک الحالة، بخلاف سائر الناس الذین یجهلون موتهم، کما عن صاحب «الحدائق» .

ففی «الجواهر» إنّه تکلّف، وهو کما تری ، وفی «المصباح» للآملی إنّه تکلّف بعید . ولکن مع ذلک قالا : إنّه لم یظهر من الروایة أنّه علیه السلام نام بلا وضوء، ولعلّه توضّأ ثمّ نام . ففی «الجواهر» إنّه الأقرب فی قبال الاحتمال الأوّل من التقید فی الکراهة بما إذا لم یرد العود .

ولکن الإنصاف عدم خلوّ الروایة عن الإشعار بتقیّد الکراهة، بما إذا لم یرد العود إلی الجماع، حیث لا کراهة فی النوم مع الجنابة، کما فهمه صاحب «الوسائل» قدس سره ، إلاّ إنّه مخالف لفتوی الأصحاب، حیث فهموا الإطلاق، فیشکل التقیید فی تلک الإطلاقات، مع هذه الروایة بمجرّد الإشعار، کما لایخفی .

(1) مسألة کراهة الخضاب للجنب، أو کراهة الاجناب للمختضب، مشتملة علی مسائل عدیدة وهی :

ما یکره علی الجنب / الخضاب

المسألة الاُولی : فی معنی الخضاب.

وهو اسمٌ لما یختضب به، سواء کان بالحنّاء أو غیره من سائر الأدویة والألوان الموجودة المتعارفة فی عصرنا ، ولذلک قال صاحب «الجواهر» : هو ما یتلوّن به.

لا إشکال فی جواز الخضاب علی المجنب وعدم الحرمة ، ویدلّ علیه الأصل وهو البراءة واستصحاب الجواز الثابت له قبل أن یصیر جنباً ، والإجماع بکلا قسمیه نقلاً _ کما عن «الغنیة» و«الریاض» _ وتحصیلاً لکثرة من ذهب إلی

ص:112

الکراهة، حیث قد صرّح بها فی «المقنعة» و«المبسوط» و«الغنیة» و«الوسیلة» و«الجامع» و«المعتبر» و«النافع» و«المنتهی» و«القواعد» و«الإرشاد» و«الدروس» و«الذکری» وصاحب «الجواهر» و«المصباح» للهمدانی، والآملی وصاحب «الحدائق» و«العروة» وأصحاب التعلیق .

وما یتوهّم کلامهم خلاف ذلک، مثل ما فی المحکیّ عن «المهذّب البارع» من النهی بصورة الإطلاق، وما حُکی عن المفید فی «المقنعة» من التعلیل للحکم بمنع الخضاب عن وصول الماء إلی الجسد حیث یشعر قوله بالمنع .

مندفع، بما ذکره صاحب «الجواهر» قدس سره من کون المراد من النهی هو الکراهة، کما یؤیّده تعبیره عن غیر هذا الحکم من سائر المکروهات به ، کما یوجّهه کلام المفید بما قد ذکره المحقّق فی «المعتبر»: «بأنّه قدس سره لعلّ نظره إلی أنّ اللون عَرَضٌ لا ینتقل، فیلزم حصول أجزاء من الخضاب فی محلّ اللون، فیکون وجود اللون بوجودها، إلاّ أنّها خفیفة لا تمنع الماء منعاً تامّاً فکرهت لذلک» انتهی ما فی «المعتبر». وقد أجاد فیما أفاد، فلا یرد علیه ما أورده صاحب «الحدائق» بأنّ هذا التعلیل لو کان صحیحاً، للزم کون الخضاب حراماً لا مکروهاً .

لوضوح أنّه لیس بمانع جدّی، لما ورد فی الأخبار من صحّة الاغتسال مع بقاء لون الطیب والزعفران، بل هو کان بمنزلة بیان الحکمة فی أصل الکراهة، فلم یظهر مخالفتهما فی المسألة مع دعوی الإجماع .

المسألة الثانیة : فی دلالة عدّة أخبار علی الکراهة، ولو جمعاً بین ما ینفی البأس، وبین ما ینهی عن ذلک مطلقاً، فلا بأس بذکرهما : أمّا ما یدلّ علی الأوّل: خبر أبی جمیلة، عن أبی الحسن الأوّل علیه السلام ، قال : «لا بأس بأن یختضب الجنب،

ص:113

ویجنب المختضب، ویطلی بالنورة»(1) .

فهو یشتمل علی کلا قسمی المسألة من الاختضاب حال الجنابة، والإجناب حال کونه مختضباً .

ومثله روایة السکونی _ خصوصاً فی الإجناب، لوجود الإطلاق فی تجویز الاختضاب الشامل لحال الجنابة _ عن أبی عبداللّه علیه السلام ، قال : «لا بأس أن یختضب الرجل ویجنب وهو مختضب» الحدیث(2) .

أو التجویز فی خصوص الاختضاب حال الجنابة والحیض، مثل روایة سماعة، قال : «سألت العبد الصالح علیه السلام عن الجنب والحائض یختضبان؟

قال : لابأس»(3) .

وروایة أبی المعزا، عن العبد الصالح، قال : «قلت له : الرجل یختضب وهو جنب؟ قال : لا بأس . وعن المرأة تختضب وهی حائض؟ قال : لیس به بأس»(4) .

وروایة الحلبی، عن أبی عبداللّه علیه السلام ، قال : «لا بأس أن یحتجم (یختضب) الرجل وهو جنب»(5) .

وممّا یدلّ علی الثانی وهو النهی بصورة المطلق: روایة کردین المسمعی، قال : «سمعت أبا عبداللّه علیه السلام یقول : لا یختضب الرجل وهو جنب، ولا یغتسل وهو


1- وسائل الشیعة: الباب 22 من أبواب الجنابة، ، الحدیث 1 .
2- وسائل الشیعة: الباب 22 من أبواب الجنابة، ، الحدیث 3 .
3- وسائل الشیعة: الباب 22 من أبواب الجنابة، الحدیث 6 .
4- وسائل الشیعة: الباب 22 من أبواب الجنابة، ، الحدیث 7 .
5- وسائل الشیعة: الباب 23 من أبواب الجنابة، ، الحدیث 1 .

ص:114

مختضب»(1) . وهو مضافاً إلی ضعف السند، مشتملٌ علی النهی عن الاغتسال مع الخضاب، حیث لابدّ من توجیهه بما إذا کان مانعاً عن إیصال الماء، أو کانت کنایة عن النهی عن الاجتناب فی حال الاختضاب، وهو الأقرب .

وروایة عامر بن جذاعة، عن أبی عبداللّه علیه السلام ، قال : «سمعته یقول : لا تختضب الحائض، ولا الجنب، ولا تجنب وعلیها خضاب، ولا یجنب هو وعلیه خضاب، ولا یختضب وهو جنب»(2) .

وروایة مسلم مولی علی بن یقطین، قال : «أردت أن أکتب إلی أبی الحسن علیه السلام أسأله بتنور الرجل وهو جنب؟ قال : فکتب إلیَّ ابتداءً: النورة تزید الجنب نظافة، ولکن لا یجامع الرجل مختضباً، ولا یجامع امرأة مختضبة»(3) .

حیث أنّه مشتملٌ علی النهی عن الإجناب بالجماع حال الاختضاب، لا الاختضاب حال الجنابة .

والروایة الواردة فی النهی عن الاختضاب بالخصوص حال الحیض، هی عن الطبرسی، عن أبی الحسن الأوّل علیه السلام قال : «لاتختضب الحائض»(4) .

وحدیثه عن جعفر بن محمّد علیهماالسلام ، قال : «لا تختضب وأنت جنب، ولا تجنب وأنت مختضب ولا الطامث، فإنّ الشیطان یحضرها عند ذلک، ولا بأس للنفساء»(5) .

فإنّ الجمع بین هاتین الطائفتین هو الحمل علی الکراهة ، مع أنّ نصوص النهی


1- وسائل الشیعة: الباب 22 من أبواب الجنابة، ، الحدیث 5 .
2- وسائل الشیعة: الباب 22 من أبواب الجنابة، ، الحدیث 9 .
3- وسائل الشیعة: الباب 23 من أبواب الجنابة، ، الحدیث 3 .
4- وسائل الشیعة: الباب 22 من أبواب الجنابة، ، الحدیث 12 .
5- وسائل الشیعة: الباب 22 من أبواب الجنابة، ، الحدیث 11 .

ص:115

بعضها ضعیف السند، وبعضها مشتمل علی التعلیل الدالّ علیها، مثل قوله : «فإنّ الشیطان...» ، مع وجود شاهد جمع علی ذلک الحمل بما فی بعض النصوص من قوله: لا أحبّ، أو یکره ، وهما مثل روایة جعفر بن محمد بن یونس: «إنّ أباه کتب إلی أبی الحسن الأوّل علیه السلام یسأله عن الجنب یختضب أو یجنب وهو مختضب ؟ فکتب: لا أحبّ له ذلک»(1) .

وروایة اُخری «مکارم الأخلاق» نقلاً من کتاب «اللباس» للعیاشی، عن علی بن موسی الرضا علیه السلام ، قال : «یکره أن یختضب الرجل وهو جنب . وقال : من اختضب وهو جنب، أو أجنب فی خضابه، لم یؤمن علیه أن یصیبه الشیطان بسوء»(2) .

فیصیر هذان الحدیثان شاهدین للجمع المذکور، کما علیه دعوی الإجماع .

المسألة الثالثة : أنّ فی بعض الأخبار ما یدلّ علی ارتفاع الکراهة إذا أخذ الخضاب مأخذه، فتکون الکراهة مختصّة بأوّل الخضاب.

واجبات الغسل / النیّة

والذی یدلّ علی ذلک ما فی روایة أبی سعید، قال : «قلت لأبی إبراهیم علیه السلام : أیختضب الرجل وهو جنب؟ قال : لا ، قلت : فیجنب وهو مختضب؟ قال : لا ، ثمّ مکث قلیلاً، ثمّ قال : یا أبا سعید ألا أدلّک علی شیء تفعله؟

قلت : بلی ، قال : إذا اختضبت بالحنّاء وأخذ الحنّاء مأخذه، وبلغ فحینئذٍ فجامع»(3) .

ومرسلة الکلینی، قال : «وروی أیضاً أنّ المختضب لا یجنب حتّی یأخذ


1- وسائل الشیعة: الباب 22 من أبواب الجنابة، ، الحدیث 8 .
2- وسائل الشیعة: الباب 22 من أبواب الجنابة، ، الحدیث 3 .
3- وسائل الشیعة: الباب 22 من أبواب الجنابة، ، الحدیث 4 .

ص:116

وأمّا الغسل الجنابة:

الأوّل: النیّة (1).

الخضاب، فأمّا فی أوّل الخضاب فلا»(1) .

وعلیه الفتوی، وقد عرفت عدم صراحة مخالفة فقیه لذلک.

وما یوهم کلام المفید ذلک، یمکن توجیهه علی هذا، فیخرجه عن المخالفة، واللّه العالم .

والمکروهات الواردة ذکرها فی الجنب هی أکثر من هذه التی تعرّضنا لذکرها _ کما فی «العروة» _ لکن لم نتعرّض لذکرها مراعاةً لما هو المذکور فی «الشرائع».

(1) فلمّا فرغ المصنّف قدس سره من بحث سبب الجنابة وأحکامها، شرع فی بحث الغُسل وأحکامه، فجعل واجباته المتوقّف علیها صحّته خمس :

الأوّل : النیّة : وهی واجبة إجماعاً _ کما فی «الجواهر» _ لأنّ الغُسل من العبادات _ مثل الوضوء _ ویجب ذلک فی کلّ عبادة.

والکلام والتحقیق فی ماهیة النیّة، وجمیع ما یتعلّق بها، قد تقدّم فی مبحث الوضوء، بما لا مزید علیه، إذ کثیراً من المباحث هنا مشترکة مع ما تقدّم هناک، فلا نحتاج إلی تکرارها.

واجبات الغسل / استدامة حکم النیّة

وحقیقتها لیست إلاّ الإتیان بالعمل مع قصد القربة إلی اللّه بما تعلّق به الأمر، حتّی تتحقّق الطاعة المعتبرة فی العبادات ، فلا یعتبر فیها إلاّ القربة والتعیین _ مع الاشتراک _ من دون حاجة إلی نیّة الوجه، من الوجوب والندب، کما لا یعتبر فیه


1- وسائل الشیعة: الباب 22 من أبواب الجنابة، ، الحدیث 2 .

ص:117

واستدامة حکمها إلی آخر الغُسل (1).

نیّة رفع الحدث، أو استباحة الصلاة، أو غیرها من الغایات ، وإن کان الإتیان بجمیع ذلک یساعد الاحتیاط، وقد مضی بحث مقدار ذلک فی مبحث الوضوء.

ثمّ لا فرق فی ما ینوی رفع الحدث، کون الرفع بصورة الدوام، أو کان فی وقت دون وقت، إذ رفع کلّ شیء یکون بحسبه، ولذلک قد یعبّر عنه بالاستباحة، أی رفع المانع عن الدخول فیما کان ممنوعاً عنه قبل الإتیان بذلک العمل .

(1) الثانی من الواجبات، استدامة النیّة، وقد تقدّم تفسیرها ودلیل وجوبها، وغیر ذلک ممّا یتعلّق بها فی باب الوضوء، وقلنا أنّ المراد منها هو توجّهه فی العمل کونه غسلاً، حتّی لا یقع منه ذلک مع الذهول والغفلة عن أصل الغُسل، بل یکفی النیّة الأوّلیة بصورة الاستدامة، وإن أخلّ بالموالاة، لعدم وجوب الموالاة فی الغُسل، فلا یجب علیه تجدید النیّة مع التأخیر، وإن کان بصورة الاعتداد إذا فرض وجود النیّة له بالاستدامة .

فما فی «الذکری» من لزوم التحدید مع طول الزمان، کما عن «نهایة الاحکام» من إیجابه مع التأخیر، لیس علی ما ینبغی، لعدم وجود دلیل یدلّ علی وجوب الزائد علی النیّة واستدامتها .

والمراد من الاستدامة، هو الإتیان بالعمل مع التوجّه فی الجملة، بحیث لو سُئل عنه عمّا فعله، لأجاب بأنّه قد اغتسل.

فعلیه لو فرض عروض غفلة فی حال غُسل بعض الأعضاء، فهو لا یوجب إلاّ فساد غُسل خصوص ذلک العضو، لا أصل الغُسل، فیجب علیه تجدید النیّة وإعادة غُسل ذلک العضو، لا استئناف أصل الغسل، إلاّ أن یعرضه مفسد خارجی

ص:118

وغَسل البشرة بما یسمّی غَسلاً (1).

یوجب بطلان أصل العمل .

بل لو عرض الغفلة بالمرّة فی حال الغُسل، وأتی غسل بعض الأعضاء غفلةً ومن باب الاتفاق، أو أتی به مع رجوعه عن قصده، أو لم یرجع عن قصد أصل الغسل، إلاّ إنّه قصد أن لا یکون هذا الغسل، من أجزاء ذلک الغسل ففی جمیع ذلک یوجب فساد غُسل ذلک العضو لا أصل العمل، کما قد عرفت من عدم اعتبار التوالی فی غُسل الأجزاء والأعضاء، فی باب الغسل .

(1) وهذا هو الثالث من الواجبات : فالواجب علیه غَسل البشرة بما یصدق الغَسل عرفاً، وإن کان من أفراده الخفیة ، فغُسل غیر البشرة مثل الشعر وغیره فی غیر موارد الجبیرة، غیر کاف قطعاً .

واجبات الغسل / غَسل البشرة

والدلیل علی کفایة ما یصدق به الغسل عرفاً _ ولو کان مثل التدهین _ هو دلالة حدیث إسحاق بن عمّار، عن جعفر، عن أبیه (وفی النسخ المخطوطة والحجریة أبی جعفر) علیه السلام ، أنّ علیّاً علیه السلام قال : «الغسل من الجنابة والوضوء یجزی منه ما أجزأه من الدهن الذی یبلّ الجسد»(1) .

وموثّقة زرارة، قال : «سألت أبا جعفر علیه السلام عن غسل الجنابة؟ قال : أفض علی رأسک ثلاث أکف، وعن یمینک وعن یسارک، إنّما یکفیک مثل الدهن»(2) .

بل یمکن استفادة صدق مسمّی الغُسل عمّا ورد فیه، فی باب الوضوء،


1- وسائل الشیعة: الباب 52 من أبواب الوضوء، الحدیث 5 .
2- وسائل الشیعة: الباب 31 من أبواب الجنابة، ، الحدیث 6 .

ص:119

وتخلیل ما لا یصل إلیه الماء إلاّ بتخلیله (1).

لاشتراکهما فی لزوم الغسل فیهما، فیصحّ الاستدلال بما ورد فیه للغسل أیضاً، فیکون المراد من مثل الدهن، هو أقلّ مراتب صدق الغسل، فیطابق مع ما ورد فی صحیح زرارة، عن أبی جعفر علیه السلام ، قال : «الجنب ما جری علیه الماء من جسده قلیله وکثیره فقد أجزأه»(1) .

حیث لا یبعد تطبیق آخر فرد الجریان بما یتحقّق بمثل التدهین، خصوصاً إذا کان المورد من موارد قلّة الماء، کما لایخفی .

(1) وهذا هو الرابع من واجبات الغسل: ولا یخفی علیک أنّ وجوب التخلیل لا یعدّ إلاّ وجوباً مقدّمیاً، لتحصیل وجوب غَسل البشرة، الذی هو واجب فی الحقیقة بالإجماع والسنّة، بل هو المتبادر من آیة التطهیر فی قوله تعالی : «وَإِنْ کُنْتُمْ جُنُبا فَاطَّهَّرُوا»(2) .

فالطهارة بأیّ قسم منها کان مخصوص للبشرة، والإجماع الموجود کان بقسمیه، کما ادّعاه صاحب «الجواهر».

واجبات الغسل / تخلیل ما لا یصل إلیه الماء

کما أنّ السنّة هنا مستفیضة، بل کاد أن تکون متواترة، فنشیر إلی بعضها، مع إمکان استفادة ذلک من الأخبار الواردة فی غَسل الوجه والیدین فی الوضوء، لاشتراکهما فی صدق ذلک، کما ورد فی قوله تعالی: «فَاغْسِلُوا وُجُوهَکُمْ وَأَیْدِیَکُمْ إِلَی الْمَرَافِقِ».


1- وسائل الشیعة: الباب 31 من أبواب الجنابة، ، الحدیث 3 .
2- سورة المائدة : آیة 6 .

ص:120

فلا یکتفی عن غَسل البشرة غسل الشعر بلا فرق بین الکثیف والخفیف، کما أنّ اللازم فی غسل البشرة غسل جمیع أجزائها علی التحقیق، فلا یتسامح فیه عرفاً .

وإن شئت الوقوف علی الأخبار الدالّة علی ذلک، فانظر إلی ما بین یدیک:

منها: صحیح علی بن جعفر، عن أخیه علیه السلام ، قال : «سألته عن المرأة علیها السوار والدملج فی بعض ذراعها، لا تدری یجری الماء تحتها أم لا کیف تصنع إذا توضّأت أو اغتسلت؟ قال : تحرّکه حتّی یدخل الماء تحته أو تنزعه ...»(1) .

فلو لم یکن غَسل البشرة نفسه واجباً، لما أمر بالتحریک، ولما ذکر العلّة فیه من وصول الماء إلی تحت البشرة .

بل بما عرفت من اشتراک الغُسل مع الوضوء فی ذلک یمکن استیضاح ذلک من ذیله، بقوله علیه السلام : «عن الخاتم الضیّق لا یدری هل یجری الماء تحته إذا توضّأ أم لا کیف یصنع؟ قال : إن علم أنّ الماء لا یدخله فلیخرجه إذا توضّأ» .

حیث یجری هذا الحکم للخاتم المذکور فی حال الغسل أیضاً ، فدلالته علی ذلک واضحة جدّاً .

منها: صحیحة زرارة فی حدیثٍ، عن أبی عبداللّه علیه السلام ، قال : «ثمّ تمضمض واستنشق ثمّ تغسل جسدک من لان قرنک إلی قدمیک»(2) الحدیث .

حیث أنّ إطلاق الجسد حقیقة لا یکون إلاّ علی البشرة، ولو کان الشعر داخلاً فیه علی الفرض .

فبناءً علیه یمکن إیراد أخبار کثیرة دالّة علی لزوم غسل الجسد : مثل روایة


1- وسائل الشیعة: الباب 41 من أبواب الوضوء، الحدیث 1 .
2- وسائل الشیعة: الباب 24 من أبواب الجنابة، الحدیث 1 .

ص:121

أبی بصیر، عنه علیه السلام ، فی حدیث : «وتصبّ الماء علی رأسک ثلاث مرّات، وتغسل وجهک، وتفیض علی جسدک الماء»(1) .

ومثل صحیحة محمّد بن مسلم، عن أحدهما علیهماالسلام فی حدیثٍ: «ثمّ تصبّ علی سائر جسدک مرّتین، فما جری علیه الماء فقد طهر»(2) .

وحدیث حکم بن حکیم، عن الصادق علیه السلام ، فی حدیث : «وافض علی رأسک وجسدک فاغتسل»(3) .

وموثّقة سماعة، عنه علیه السلام فی حدیثٍ : «ثمّ تفیض الماء علی جسده کلّه»(4) .

والأخبار بهذا المضمون أزید من ذلک، ولا تحتاج المسألة إلی بیان أزید من ذلک، حتّی نتوسّل بمثل الحدیث المنقول فی «فقه الرضا» بقوله : «ومیّز الشعر بأناملک عند غسل الجنابة ، فإنّه یروی عن رسول اللّه صلی الله علیه و آله إنّ تحت کلّ شعرة جنابة، فضع الماء تحتها فی أصول الشعر کلّها، وخلّل اُذنیک بإصبعیک، وانظر إلی أن لا تبقی شعرةً من رأسک ولحیتک إلاّ وتدخل تحتها الماء»(5) .

وقد نوقش فی سنده کثیراً.

بل قد یمکن استفادة وجوب غسل البشرة بالأخبار المستفیضة الآمرة بمبالغة النساء فی غسل رؤوسهنّ، حیث لا یکون ذلک إلاّ لاهتمام إیصال الماء إلی أصول الشعر، کما نشاهد ذلک فی حسنة جمیل، قال : «سألت أبا عبداللّه علیه السلام عمّا


1- وسائل الشیعة: الباب 24 من أبواب الجنابة، ، الحدیث 2 .
2- وسائل الشیعة: الباب 26 من أبواب الجنابة، الحدیث 1 .
3- وسائل الشیعة: الباب 26 من أبواب الجنابة، ، الحدیث 7 .
4- وسائل الشیعة: الباب 26 من أبواب الجنابة، ، الحدیث 8 .
5- مستدرک الوسائل: ج1 الباب 17 من أبواب الجنابة، الحدیث 3 .

ص:122

تصنع النساء فی الشعر والقرون؟ فقال : لم تکن هذه المشطة، إنّما کن یجمعنّه، ثمّ وصف أربعة أمکنة، ثمّ قال : یبالغن فی الغسل»(1) .

کما أشار إلی ذلک فی صحیحة محمّد بن مسلم، عن أبی جعفر علیه السلام ، قال : «حدّثتنی سلمی خادم رسول اللّه صلی الله علیه و آله ، قالت : کانت أشعار نساء النبیّ صلی الله علیه و آله قرون رؤوسهنّ مقدم رؤوسهن، فکان یکفیهن من الماء شیء قلیل ، فأمّا النساء الآن فقد ینبغی أن یبالغن فی الماء»(2) .

فإنّ المبالغة لیست لأجل وجوب غَسل الشعر کما احتمله بعض، بل لأجل إیصال الماء إلی أصول الشعر، ولعلّه هو المراد من روایة النبوی صلی الله علیه و آله ، إنّه قال : «تحت کلّ شعرة جنابة فبلّوا الشعر وانقوا البشرة»(3) .

فبعد وجود هذه الأخبار الکثیرة، الدالّة علی وجوب غسل البشرة فی الغسل، کیف یقدر معارضتها بعض ما یدلّ _ أو یشعر علی خلاف ذلک _ من کفایة غَسل الشعر وظاهره عن غسل البشرة، وهو کما فی صحیحة زرارة، عن أبی جعفر علیه السلام ، قال : «قلت له : أرأیت ما کان تحت الشعر؟ قال : کلّ ما أحاط به الشعر، فلیس للعباد أن یغسلوه، ولا یبحثوا عنه ولکن یجری علیه الماء»(4) .

ومثله روایة اُخری له، قد رواها الصدوق عنه، إلاّ إنّه قال : «أن یطلبوه» بدل قوله: «أن یغسلوه»(5) .


1- وسائل الشیعة: الباب 38 من أبواب الجنابة، ، الحدیث 2 .
2- وسائل الشیعة: الباب 38، من أبواب الجنابة، الحدیث 1 .
3- کنز العمّال: 9 / 553 / 27379 .
4- وسائل الشیعة: الباب 46 من أبواب الوضوء، الحدیث 2 .
5- وسائل الشیعة: الباب 46 من أبواب الوضوء، الحدیث 3 .

ص:123

وقیل : أنّ فی الروایة إجمال، حیث یحتمل أن یراد منه غسل اللحیة فی الوجه، حیث لا یجب إلاّ ظاهر الشعر، ولا یجب التخلیل إذا کان کثیفاً، کما ورد ذلک فی روایة صحیح محمّد بن مسلم، عن أحدهما علیهماالسلام ، قال : «سألته عن الرجل یتوضّأ أیبطن لحیته؟ قال : لا»(1) .

حیث قد عرفت دلالة الإجماع والسنّة علی وجوب غَسل البشرة .

فما عن المحقّق الأردبیلی من الاستبعاد فی وجوب غسل الشعر فی الغُسل _ بعد نقله الإجماع علی عدم إجزاء غَسل الشعر غیر غَسل بشرة ما تحته _ من التأمّل فی ذلک، واستبعاده من کفایة غرفتین أو ثلاث فی مثل الرأس _ کما نطق به غیر واحد من الأخبار، خصوصاً إذا کان شعر الرأس کثیراً کما فی الأعراب والنساء، أو کانت اللحیة کثیرة، فیمکن العفو عمّا تحت هذه الشعور والاکتفاء بالظاهر، کما یدلّ علیه عدم وجوب حَلّ الشعر علی النساء . وما رواه فی «الکافی» عن محمّد بن مسلم، عن الباقر علیه السلام ، قال : «الحائض ما بلغ بلل الماء من شعرها أجزأها»(2) .

قال : إلاّ أن یقید بعلم الوصول إلی ما تحت الشعور بالإجماع ونحوه من الأخبار ، فلولا الإجماع کان القول به ممکناً، فالسکوت عنه أولی، إلاّ أنّ النفس غیر مطمئنة، فیرشح عنها مثله، مع عدم توجّه أحد إلی غسله من المتقدّمین والمتأخّرین، من فحول العلماء، فلیس لمثلی النظر فی مثله، لکن النفس توسوس ما لم ترَ دلیلاً ینتفع به عاقل ، انتهی کلامه _ .


1- وسائل الشیعة: الباب 46 من أبواب الوضوء، الحدیث 1 .
2- وسائل الشیعة: الباب 31 من أبواب الجنابة، الحدیث 4 .

ص:124

ممّا لا یلتفت إلیه، بل الاستبعاد کان فی غیر محلّه، لأنّ الشعر إذا کان کثیراً ربما یجتمع الماء فیه ویسهل إیصاله إلی خلاله بمعونة الید.

ولیس غَسل مجموع بشرة الرأس مع الشعر بغرفتین، أشکل من غسل مجموع الطرف الأیمن بغرفة، والأیسر بغرفة اُخری _ کما ورد ذلک فی النصوص بکفایة الغرفة لذلک _ فبذلک یظهر أنّ استیعاب الغُرفة لجمیع الطرف الأیمن والأیسر یوجب قبول ذلک فی الشعر أیضاً .

مضافاً إلی ما عرفت من دلالة الأخبار الکثیرة علی ذلک کما لایخفی .

کما ظهر أنّ المستفاد من الأخبار، وجوب غَسل جمیع أجزاء البشرة، بحیث لو بقی منه ولو بمقدار شعرة لا یجزئ، کما لعلّه هو المراد من قول الصادق علیه السلام فی صحیحة حجر بن زائدة: «من ترک شعرة من الجنابة فهو فی النار»(1) .

بإرادة المقدار عن الشعرة، کما قاله صاحب «الجواهر» تبعاً لبعض الفقهاء، وخلافاً لصاحب «الحدائق»، حیث قال : «وإن کان هذا مجازاً شائعاً، إلاّ إنّه خلاف للأصل» .

فما تری من دلالة بعض الأخبار علی کفایة الغَسل ولو بقی من البشرة بمقدار یسیر، کما تری فی صحیحة إبراهیم بن أبی محمود، قال : «قلت للرضا علیه السلام : الرجل یجنب فیصیب جسده ورأسه الخلوق الطیب والشیء اللکد (اللزق) مثل علک الروم والظرب وما أشبهه فیغتسل، فإذا فرغ وجد شیئاً قد بقی فی جسده من أثر الخلوق والطیب وغیره؟ قال : لا بأس»(2) .


1- وسائل الشیعة: الباب 1 من أبواب الجنابة، الحدیث 5 .
2- وسائل الشیعة: الباب 30 من أبواب الجنابة، الحدیث 1 .

ص:125

وخبر إسماعیل بن أبی زیاد، عن جعفر، عن أبیه، عن آبائه علیهم السلام ، قال : «کنّ نساء النبیّ صلی الله علیه و آله إذا اغتسلن من الجنابة یبقین صفرة الطیب علی أجسادهن، وذلک لأنّ النبیّ صلی الله علیه و آله أمرهن أن یصببن الماء صبّاً علی أجسادهن»(1) .

ولأجل ذلک تری صدور کلام عن المحقّق الخوانساری شارح «الدروس»، من نفی البعد عن القول بعدم الاعتداد ببقاء شیء یسیر لا یخلّ عرفاً بغسل جمیع البدن، إمّا مطلقاً أو مع النسیان، نظراً إلی الصحیحة المتقدّمة، لولا الإجماع علی خلافه .

واجبات الغُسل / غَسل الشعر

ولکن هذا ممّا لا ینبغی أن یلتفت إلیه، لما قد عرفت من ظهور أخبار کثیرة دالّة علی لزوم غَسل جمیع أجزاء البشرة، فلا جرم یحمل هاتان الروایتان علی ما لا ینافی مع ما تقدّم بأن یبقی أثراً وصفرةً ولوناً لا تمنع عن وصول الماء إلی البشرة، مثل بقاء لون الحنّاء وأثر النورة، والطین والجصّ غالباً بعد زوال عینها، أو یحتمل أن یکون غرض السائل فی الصحیحة من رؤیة الأثر بعده موجباً للشکّ فی وصول الماء إلی البشرة، فیکون الجواب دلیلاً علی إجراء دلیل الفراغ، والشکّ الساری بعد العمل، الموجب لعدم الاعتناء به .

وکیف کان، لا یمکن لنا رفع الید عمّا تقدّم، لأجل ما یتوهّم الخلاف من هاتین الروایتین، خصوصاً مع مخالفتهما للإجماع، کما اعترف به المستدلّ، وقابلیتهما للحمل بأحد المحامل التی توجب صحّة الجمع معها، کما هو واضح لمن کان له أدنی تأمّل .

هنا فروع :

الفرع الأوّل : إنّ الظاهر من المصنّف _ کصریح غیره، کما أشار إلیه صاحب


1- وسائل الشیعة: الباب 30 من أبواب الجنابة، الحدیث 2 .

ص:126

«الجواهر» _ عدم وجوب غَسل الشعر مع وصول الماء إلی البشرة، کما قال فی «المعتبر»: «لا تنقض المرأة شعرها إذا بل الماء أصوله، وهذا مذهب الأصحاب» ومثله الشهید فی «الذکری»، ولا نعرف فیه خلافاً کما قال به العلاّمة فی «المنتهی» .

بل قد فهم بعض الأصحاب مثل صاحب «المدارک» و«کشف اللثام» عمّا وقع فی عبارة «التهذیب» و«الغنیة» من وجوب إیصال الماء إلی أصول الشعر، عدم وجوب غسل الشعر.

والأمر کذلک کما علیه صاحب «الجواهر» حیث أنّ ما یتوهّم وجوب نفسه، لیس إلاّ مقدّمة لغَسل البشرة، کما صرّح به المحقّق الهمدانی وغیره .

خلافاً لصاحب «الحدائق» فإنّه بعد أن صرّح بأنّه هو الذی یفهم من کلام الأصحاب وعنهم تصریحاً وتلویحاً، ونقل تمسّک بعضهم بالأصل وبصحیحة الحلبی، عن رجلٍ، عن الصادق، عن أبیه، عن علیّ علیهم السلام ، قال : «لا تنقض المرأة شعرها إن اغتسلت من الجنابة»(1) .

ونحن نزید فی ذلک دلالة خبر غیاث بن إبراهیم، عن أبی عبداللّه، عن أبیه، عن علیّ علیهم السلام ، قال : «لا تنقض المرأة شعرها إذا اغتسلت من الجنابة»(2) .

حیث أنّ هذین الخبرین یدلاّن علی عدم وجوب نقض الشعر، مع أنّه لو کان غسله واجباً لوجب حلّه، کما قد یوهم ذلک عبارة المفید فی «المقنعة»، حیث أمر فیها المرأة بحلّ الشعر إن کان مشدوداً، مع إمکان کون ذلک لأجل توقّف وصول الماء إلی أصول الشعر علیه.


1- وسائل الشیعة: الباب 38 من أبواب الجنابة، الحدیث 4 .
2- وسائل الشیعة: الباب 38 من أبواب الجنابة، الحدیث 3 .

ص:127

وجه مخالفة صاحب «الحدائق»: هو توهّمه بالمنع عن خروج الشعر من الجسد ولو مجازاً ، کیف وقد حکموا بوجوب غَسله فی أیدی المتوضی، مستدلّین تارةً بکونه فی کلّ الفرض ، واُخری بأنّه من توابع الید، فإذا کان الأمر کذلک فالید داخلة فی الجسد البتّة، فکذلک شعرها .

ثمّ قال : ولو سلم خروجه من الجسد، فلا یخرج من الدخول فی الرأس والجانب الأیمن والأیسر المعتبر بها فی جملة من الأخبار ، هذا أوّلاً .

وثانیاً : فلأنّه لا یلزم من عدم النقض فی صحیحة الحلبی، عدم وجوب الغسل، لإمکان الزیادة فی الماء، حتّی یروّی...

إلی أن قال : وأمّا ثالثاً: فلما روی فی صحیحة حجر بن زائدة، عن الصادق علیه السلام ، أنّه قال : «من ترک شعرة من الجنابة متعمّداً فهو فی النار».

والتأویل بالحمل علی أنّ المراد بالشعر ما هو قدرها من الجسد، لکونها مجازاً شائعاً کما ذکروا، وإن احتمل، إلاّ إنّه خلاف الأصل، فلا یصار إلیه إلاّ بدلیل ... .

إلی أن قال : ونزیدک بیاناً وتأکیداً ما روی مرسلاً من قوله : «تحت کلّ شعرة جنابة فبلّوا الشعر وانقوا البشرة» .

ثمّ استدلّ بالأمر بمبالغة النساء فی غسل رؤوسهنّ، فی حسنة جمیل، وصحیحة محمّد بن مسلم، وحسنة الکاهلی، حیث قال فیها : «مرها أن تروّی رأسها من الماء، وتعصره حتی یروّی، فإذا روّی فلا بأس» انتهی ملخّصاً(1) .

بل قد یستدلّ لصاحب «الحدائق» بروایة وردت فی بیان علّة الغسل من الجنابة، وهو الذی نقله الصدوق فی «المجالس» و«العلل» فی حدیثٍ، قال :


1- الحدائق: ج3 ص88 _ 89 .

ص:128

«جاء نفر من الیهود إلی رسول اللّه صلی الله علیه و آله ، فسأله أعلمهم عن مسائل، وکان فیما سأله أن قال : لأیّ شیء أمر اللّه تعالی بالاغتسال من الجنابة، ولم یأمر بالغسل من الغائط والبول؟ فقال رسول اللّه صلی الله علیه و آله : إنّ آدم علیه السلام لمّا أکل من الشجر دبّ ذلک فی عروقه وشعره وبشره، فإذا جامع الرجل أهله خرج الماء من کلّ عرق وشعرة فی جسده، فأوجب اللّه عزّوجلّ علی ذرّیته الاغتسال من الجنابة إلی یوم القیامة»(1) .

حیث یدلّ علی کون الغسل للشعر أیضاً، کما کان للبشرة، لکون الجنابة لهما علی حسب هذه الروایة .

هذا هو مجموع ما استدلّ به لوجوب غسل البشرة .

ولکن بعد الدقّة والتأمّل فی لسان الأخبار، وکلمات الأصحاب، یظهر أنّ الوجوب فی الغُسل أوّلاً وبالذات متعلّقٌ بالجسد والبدن والجلد، کما صرّح بذلک فی صحیحة زرارة، من قوله علیه السلام : «إذا مسّ جلدک الماء فحسبک»(2) .

فما ورد من کلام الإمام علیه السلام بکفایة مسّ الجلد بالماء، لا یکون إلاّ لإفهام عدم لزوم غسل الشعر، إذ لیس غیره ممّا یتوهّم وجوب غسله، فیصیر هذا قرینة علی کون المراد عدم لزوم غسل الشعر کما ورد وجوب غَسل الجسد کلّه فی صحیحته الاُخری، ومرسلة «الفقیه»، إذ من المعلوم عدم صدق شیء من الجسد والجلد والبدن علی شعر الرأس واللحیة ونحوهما من الشعر المستطال .

ودخول الشعر فی الرأس أو الأیمن والأیسر، فی الروایات الدالّة علی وجوب غَسل شعرها، وإن کان ممّا لم ینکر، إلاّ إنّ هذه الروایات لیس فی مقام بیان


1- وسائل الشیعة: الباب 2 من أبواب الجنابة، الحدیث 2 .
2- وسائل الشیعة: الباب 52 من أبواب الوضوء، الحدیث 3 .

ص:129

وجوب غسل هذه الاُمور، حتّی یؤخذ منها الإطلاق، بل کان فی مقام بیان لزوم الترتیب بین الأعضاء، من غیر تعرّض لما یجب غسله منها، کما لایخفی .

وأمّا روایة حجر بن زائدة، فلوضوح أنّه لم یقصد وجوب غسل نفس الشعر، إلاّ باعتبار محلّه، لوضوح أنّ قید (من الجنابة) شاهدٌ علی ذلک، لأنّه من المعلوم أنّ الشعر بنفسه یکون متعلّقاً للجنابة ، بل الموضوع هو أصل الشعر ، فالغُسل لازم لما یعرضه الجنابة، فإن أسند الغُسل إلی الشعر اُرید منه أصله لذلک .

فبهذا یظهر أنّ ما ورد فی المرسلة النبویّة من بلّ الشعر، أو فی روایات النساء من المبالغة فی غَسل الشعر، کان لأجل إیصال الماء إلی البشرة کما علیه الإجماع، وادّعی ممّا لا خلاف فیه، ولا أقلّ من الشهرة بشهرة عظیمة .

ویؤیّد ما ذکرنا، ما ورد فی «فقه الرضا» الذی مرّ ذکره، حیث قال : «میّز بأناملک عند غسل الجنابة، فإنّه یروی عن رسول اللّه صلی الله علیه و آله : تحت کلّ شعرة جنابة، فبلغ الماء تحتها فی أصول الشعر کلّها، وانظر إلی أن لا یبقی شعرة من رأسک ولحیتک إلاّ وتدخل تحتها الماء»(1) .

الفرع الثانی: أنّه إن کان الشعر من الدقاق، فلا إشکال فی وجوب غسلها لأنّه من توابع الید، وداخل تحت عنوان وجوب غسل البدن .

وأمّا إن کان من الطوال، فلا وجه للحکم بوجوب غسلها، إذ هی خارجٌ عن الجسد والبدن، فلزوم غَسله یحتاج إلی دلیل یدلّ علیه، وهو غیر معلوم لو لم ندّع إنّه معلوم العدم .

فعلی هذا لا یبقی لنا شکّ، حتّی نرجع إلی الأصل، حتّی یقال بأنّ هنا هو


1- مستدرک الوسائل: ج1 الباب 17 من أبواب الجنابة، الحدیث 3 .

ص:130

الاشتغال لا البراءة، لکون الشکّ فی المحصّل وهو الطهارة.

وإن کان هذا لا یخلو عن مناقشة، إذ هو صحیح علی القول بکون الواجب علینا تحصیل تلک الطهارة المسبّبة من غسل الأعضاء، وإلاّ فإنّه علی القول بأنّ الواجب لیس إلاّ الغسلات فی الغُسل فقط ، فالشکّ حاصل فی أنّه واجبٌ أم لا، فیکون المرجع البراءة، کما ادّعی.

ولکن قد عرفت عدم الحاجة إلی ذلک، واللّه العالم .

وممّا ذکرنا ظهر عدم تمامیّة ما نقله صاحب «الجواهر» قدس سره عن ظاهر بعض متأخّری المتأخّرین، بأنّه لا فرق فی ذلک بین شعر الرأس واللحیة والجسد المستطیل وغیره .

والحاصل: أنّه لا یجب غسل مسمّی الشعر مطلقاً ، لما قد عرفت من عدم استبعاد وجوب غسل الشعر النابت فی الیدین، إذا کان صغاراً داخلاً فی مسمّی الید عرفاً، وکونه فی محلّ الغرض .

نعم، لو کان مستطیلاً خارجاً عن صدق الید، فإنّ وجوبه غیر معلوم ، وإن صرّح بعضهم بوجوبه حتّی فیه هنا .

مع أنّ القول بإبداء الفرق بین الوضوء والغُسل لا یخلو عن إشکال، إلاّ أن یکون الفارق هو الإجماع، کما یظهر دعواه عن جماعة من المتأخّرین، و«کشف اللثام» وغیرهما، حتّی یکون أمراً تعبّدیاً کما أشار إلیه الشهید الثانی قدس سره فی «شرح الألفیة»، بقوله : «والفرق بینه وبین شعر الوضوء النصّ» .

فلو ثبت ذلک، کان فی المستیطل من الشعر لا الدقاق منه، إذ فی الأخیر لا یبعد دعوی عدم الفرق بین المقامین، لتوقّف غسل البشرة علی غسله، کما لایخفی .

الفرع الثالث: بعدما عرفت وجوب غسل البشرة دون الشعر، یأتی الکلام فی

ص:131

أنّه هل یجب غسلها مطلقاً _ أی سواء کانت من الظاهر أو الباطن _ أو أنّ الوجوب مختصٌّ بالأوّل فقط؟

وهذا هو الأقوی، کما قد صرّح به غیر واحد من الأصحاب، بل نفی الخلاف عنه فی «المنتهی» و«الحدائق» .

وما یتوهّم من کلام المفید فی «المقنعة» والعلاّمة فی «التذکرة» من الأمر بغسل باطن الاذنین، یمکن أن یراد من الباطن هنا ما یظهر للرائی من سطح باطنهما عند تعمّد الرؤیة، لصدق الظاهر علیه، وإن کان غسله متوقّفاً علی التخلیل .

والدلیل علی کفایة غَسل الظاهر، هو دلالة بعض الأخبار علیه: مثل مرسلة أبی یحیی الواسطی، عن بعض أصحابه، قال : «قلت لأبی عبداللّه علیه السلام : الجنب یتمضمض ویستنشق؟ قال : لا ، إنّما یجنب الظاهر»(1) .

وفی مرسلته الاُخری، قال فی جوابه : «لا ، إنّما یجنب الظاهر ولا یجنب الباطن، والفم من الباطن»(2) .

بل وکذا صریح روایة عبداللّه بن سنان، قال : «قال أبو عبداللّه علیه السلام : لا یجنب الأنف والفم، لأنّهما سائلان»(3) .

مضافاً إلی التعلیل الوارد فی حدیث الصدوق فی «العلل» بقوله : «وروی فی حدیث آخر أنّ الصادق علیه السلام قال فی غسل الجنابة: «إن شئت أن تمضمض وتستنشق فافعل، ولیس بواجب، لأنّ الغسل علی ما ظهر، لا علی ما بطن»(4) .


1- وسائل الشیعة: الباب 24 من أبواب الجنابة، الحدیث 6 .
2- وسائل الشیعة: الباب 24 من أبواب الجنابة، الحدیث 7 .
3- وسائل الشیعة: الباب 24 من أبواب الجنابة، الحدیث 5 .
4- وسائل الشیعة: الباب 24 من أبواب الجنابة، الحدیث 8 .

ص:132

فإذا عرفت کون الواجب غسل الظاهر دون الباطن ، یأتی الکلام فی مثل ثقب الاُذن، هل یجب غسله أم لا؟

واجبات الغُسل / غَسل البواطن

ففی المدارک نقلاً عن شیخه: «الجزم بأنّه من البواطن، إذا کان بحیث لا یری باطنه، وحکم المحقّق الشیخ _ علی ما فی حاشیة الکتاب _ بوجوب إیصال الماء إلی باطنه مطلقاً وهو بعید» انتهی کلامه .

ولا یخفی أنّ الثقب یکون علی أقسام:

تارةً: ما یری باطنه من ظاهره لوسعته، فلابدّ من غسله کما عن السیّد فی «العروة» .

واُخری: ما لا یری باطنه من ظاهره، لضیق ثقبه، فلا وجه للقول بوجوب غسله، لأنّه من الباطن .

وثالثة: یشکّ فی کونه من الباطن أو الظاهر، فوجوب غسله وعدمه مبنیّ کون الغسل: إن کان هو المحصل للطهارة أم لا ؟، فالأصل هو الاشتغال.

أو عبارة عن الغسلات فقط، فالأصل حینئذٍ البراءة، لکونه شکّاً فی أصل التکلیف لا التکلیف به، کما فی الأوّل.

أو التفصیل بین الوضوء _ بکونه من قبیل الثانی، لکونه عبارة عن الغسلتین والمسحتین لدلالة آیة الوضوء _ وکون الغسل من قبیل الأوّل للأمر بالطهارة فی قوله تعالی: «إِنْ کُنْتُمْ جُنُبا فَاطَّهَّرُوا» .

ولکن الأقوی عندنا _ کما قرّرناه فی محلّه _ هو الاشتغال، ولعلّ هذا هو مراد المحقّق فی وجوب غسله إذا علم کونه من الظاهر لا ما یعلم کونه من الباطن .

نعم، کلّ ما یکون مسبوقاً بالحالة السابقة من الظاهر أو الباطن، لا یبعد الحکم بمقتضی الاستصحاب فی کلّ مورد، فیجب غسله فی الأوّل دون الثانی، إلاّ أنّ الاحتیاط یقتضی غسله فیه أیضاً، فلا ینبغی ترکه کما قلنا فی التعلیقة ، فراجع .

ص:133

والترتیب یبدأ بالرأس (1).

(1) هذا هو الخامس من واجبات الغسل الذی یبطل بترکها عمداً وسهواً .

فالواجب أن یبدأ بالرأس قبل سائر جسده ، ففی «الجواهر»: بلا خلاف أجده .

وما نسب إلی الصدوقین والإسکافی، من الخلاف فی ذلک _ أی عدم الوجوب _ لوقوع عطف البدن علی الرأس بالواو فی عبارتهما دون ثمّ _ کما فی سائر العبادات _ .

واجبات الغسل / الابتداء بالرأس

غیر ضائر، لأجل عدم صراحة ذلک علی عدم لزوم الترتیب، إذ العطف بالواو لم یکن ممحضاً فی المعیّة، بل یصحّ استعمالها فی المعینة والترتیب، بأن یراد بیان أصل الوجوب فی الغسل مع صرف النظر عن بیان ترتیبه، کما یؤیّد ذلک ما نقل عن الصدوقین من التصریح فی آخر المسألة، بوجوب إعادة الغُسل لو بدأ بغیر الرأس، حیث أنّه لو لم یجب الترتیب، لما کان للقول بالبطلان وجه، وإن وجّه المحقّق الهمدانی بوجه آخر للبطلان، ممّا لا یلتفت إلیه، حتّی قد أمر نفسه بالتأمّل والأمر کذلک .

کما أنّ صاحب «المستند» قد نفی صراحة کلام الإسکافی، علی حسب نقل الشهید فی «الذکری» علی مخالفته ، ولأجل ذلک قال کما قاله صاحب «الجواهر» من إمکان القول بوجوب إجماع الکلّ والمحصّل فی المسألة، وهو الحجّة، فیدلّ علیه مضافاً إلی الإجماع المحصّل والمنقول _ من السیّد فی «الانتصار» وعن الشیخ فی «الخلاف» وابن زهرة فی «الغنیة» والعلاّمة فی «التذکرة» وظاهر «المنتهی» والشهید فی «الذکری» و«الروض» وغیرهم من المتقدّمین والمتأخّرین _ الأخبار المستفیضة المعتضدة بما ورد فی باب الوضوء،

ص:134

من لزوم الترتیب، المؤیّدة بالشهرة المحقّقة فیه فلا بأس بذکر الأخبار هنا .

منها: صحیحة حریز الواردة فی الوضوء، وصرّح بإلحاق الغسل به علی حسب ما رواه الصدوق فی «مدینة العلم» مسنداً عن حریز، عن أبی عبداللّه علیه السلام فی الوضوء یجفّ؟ قال : «قلت : فإن جفّ الأوّل قبل أن أغسل الذی یلیه؟

قال : جفّ أو لم یجف اغسل ما بقی ، قلت : وکذلک غسل الجنابة؟ قال : هو بتلک المنزلة، وابدأ بالرأس، ثمّ افض علی سائر جسدک ، قلت : وإن کان بعض یوم؟ قال : نعم»(1) .

فإنّه صریح فی لزوم الابتداء بالرأس فی الغسل، خصوصاً مع ملاحظة عموم المنزلة فی کون الغُسل مثل الوضوء، لا التنزیل فی خصوص الجفاف، فیشمل لزوم الترتیب المعتبر فی الوضوء فیه أیضاً .

ومنها : حسنة زرارة _ بل صحیحته _ عن أبی عبداللّه علیه السلام ، قال : «من اغتسل من جنابة، فلم یغسل رأسه ثمّ بدا له أن یغسل رأسه لم یجد بدّاً من إعادة الغسل»(2) .

فإنّ قوله: «من اغتسل من جنابة، فلم یغسل رأسه»،

تارةً: یراد إن أتی بالغُسل لسائر الجسد، ولم یأت بغسل الرأس أصلاً نسیاناً أو جهلاً، ثمّ بدا له أنّه لابدّ له من غسل رأسه، فأراد غسله ، فقال علیه السلام : «لم یجد بدّاً من الإعادة للغسل»، فدلالته تکون من جهة أنّه لو کان ترک الابتداء بالرأس مع النسیان أوجب الإعادة ، ففی العمد یکون بطریق أولی ».

واُخری : أن یراد أنّه قد غسل رأسه، إلاّ إنّه کان غسله بعد غسل البدن نسیاناً أو


1- وسائل الشیعة: الباب 33 من أبواب الوضوء، الحدیث 4 .
2- وسائل الشیعة: الباب 28 من أبواب الجنابة، الحدیث 1 .

ص:135

جهلاً، کما هو ظاهر قوله: «من اغتسل من جنابة»، حیث یدلّ علی أنّه قد أتی بالغسل لجمیع بدنه حتّی الرأس.

بل عن المحقّق الهمدانی أنّ موردها مختصّ بذلک، ولکن نقل عدم القول بالفصل، فیتمّ بها الاستدلال أن یلحق به بطلان غُسل من شرع به من الیمین قبل تمام الغُسل، فإنّه باطل أیضاً للإخلال بترتّبه، ولو کان لأجل النسیان أو الجهل بالحکم .

ولکن الإنصاف إمکان استفادة وجوب الإعادة، حتّی فی حال الاشتغال، لو أخلّ بالترتیب بطریق الأولویة الظنّیة، حیث أنّه لو لم یکن الترتیب واجباً، کان حال التوجّه بعد الفراغ أولی بعدم الإعادة من التوجّه حال الاشتغال ، فإذا حکم بوجوب الإعادة بعد الفراغ، فحکمه مع الاشتغال یکون بطریق أولی .

فحینئذٍ لا نحتاج فی الإلحاق إلی ضمّ عدم القول بالفصل ، اللّهم إلاّ أن یفرق فی وجوب الإعادة بین تقدیم غسل جمیع البدن علیه وبین بعضه .

وکیف کان فإنّ دلالة الحدیث علی لزوم الترتیب تامّة، کما لایخفی .

ومنها : صحیحة محمّد بن مسلم، عن أحدهما علیهماالسلام ، قال : «سألته عن غسل الجنابة؟ فقال : تبدأ بکفّیک، ثمّ تغسل فرجک، ثمّ تصبّ علی رأسک ثلاثاً، ثمّ تصبّ علی سائر جسدک مرّتین، فما جری علیه الماء فقد طهّره»(1) .

فهو أیضاً یدلّ علی لزوم الترتیب، حیث قد ذکر الرأس أوّلاً.

واشتماله علی بعض ما یستحبّ، مثل غسل الکفّین، وإصابة الرأس بثلاث أکفّ، وسائر الجسد بکفّین، غیر ضائرٍ بما هو المقصود، ولا ینثلم به الظهور، ولیس ذلک بعدیم النظیر .


1- وسائل الشیعة: الباب 26 من أبواب الجنابة، الحدیث 1 .

ص:136

ومنها : صحیحة اُخری لزرارة، قال : «قلت : یغتسل الجنب؟ فقال : إن لم یکن صاحب کفّه شیء غمسها فی الماء، ثمّ بدأ بفرجه فأنقاه بثلاث غرف، ثمّ صبّ علی رأسه ثلاث أکفّ، ثمّ صبّ علی منکبه الأیمن مرّتین، وعلی منکبه الأیسر مرّتین، فما جری علیه الماء فقد أجزأه»(1) .

فمع دلالة هذه الأخبار _ أو أزید منها _ حیث یستفاد من نفس بعض الأخبار کون غسل الرأس مقدّماً علی سائر الجسد، مع ملاحظة وجود أداة ثمّ المفیدة للترتیب کما علیه الإجماعات .

وقد یدعی تنافی هذه الأخبار مع بعض روایات یدلّ علی خلاف ذلک، مثل روایة زرارة فی الصحیح، عن الصادق علیه السلام ، فی حدیثٍ: «ثمّ تغسل جسدک من لدن قرنک إلی قدمیک، لیس قبله ولا بعده وضوء، وکلّ شیء أمسسته الماء فقد أنقیته» الحدیث(2) .

وجه تعارضها هو عطف الغسل علی جمیع البدن دفعة، بلا إشارة إلی تقدیم الرأس علی سائر البدن.

لکنّه مندفع أوّلاً : أنّه کان فی مقام بیان لزوم شمول الماء لجمیع البدن، وعدم جواز الاکتفاء بغسل بعضه، من دون توجّه إلی بیان کیفیّته، کما یشهد لذلک ما ذکر فی ذیله بأنّ: «کلّ شیء أمسسته الماء فقد أنقیته» .

وثانیاً : یمکن أن یکون المراد بیان غسل الارتماس، کما أشار إلیه فی ذیله، لعدم لزوم الدلک فیه؛ إن أجزنا جواز الارتماس فی خارج الماء، کما سنشیر إلیه .


1- وسائل الشیعة: الباب 26 من أبواب الجنابة، الحدیث 2 .
2- وسائل الشیعة: الباب 26 من أبواب الجنابة، الحدیث 5 .

ص:137

وثالثاً : إن أبیت عن ذلک، قلنا : غایته الإطلاق فیقید بتلک الأخبار السابقة، التی دلّت علی لزوم الترتیب .

وبذلک نستغنی من حمله علی التقیة، وإن کان هو أحد المحامل فی المسألة .

ورابعاً : إن أبیت عن جمیع ذلک، قلنا علی حسب مختارنا من کون إعراض الأصحاب یسقط الروایة عن الاعتبار، فإنّ هذه القاعدة جاریة فی المقام لما قد عرفت وجود الإجماع بقسمیه علی لزوم الترتیب، فمع وجود ذلک لا یمکن إجراء العمل والفتوی علی طبقها، کما لایخفی .

وبذلک یظهر الجواب عن روایة قرب الإسناد، عن أبی نصر البزنطی، عن الرضا علیه السلام : «إنّه قال فی غسل الجنابة : تغسل یدک... إلی أن قال : ثمّ اغسل ما أصابک منه، ثمّ أفض علی رأسک وجسدک ولا وضوء فیه»(1) .

حیث لا یکون وجه معارضته إلاّ ذکر واو العطف بین غسل الرأس والجسد، الدالّ علی المعیة .

أنّه _ مضافاً إلی أنّ الواو للجمع المطلق الذی یساعد مع الترتیب والمعیة معاً، فلا ظهور فیه لعدم الترتیب، حتّی ینافی الأخبار _ إمکان کون المقصود بیان الارتماس، أو غایته الإطلاق فیقید، لکنّه طرحها لأجل الإعراض.

لکنّه بعید، مع وجود أحد تلک المحامل، لا أقلّ من التقیة، کما أشار إلیه صاحب «الجواهر» .

ومن هذا الجواب یظهر ردّ المعارضة عن مثل روایة علی بن جعفر، عن أخیه موسی علیه السلام : «إنّه سأله عن الرجل یجنب هل یجزیه من غسل الجنابة أن یقوم فی


1- وسائل الشیعة: الباب 26 من أبواب الجنابة، الحدیث 6 .

ص:138

المطر حتّی یغسل رأسه وجسده، وهو یقدر علی ما سوی ذلک؟ فقال : إن کان یغسله اغتساله بالماء أجزأه ذلک»(1) .

حیث أنّه یمکن أن یکون المراد هو الارتماس، ولولاه یمکن تقییده بالترتیب فی تلک الأخبار ، غایة الأمر طرحه کما عرفت .

ومثله فی الجواب مرسلة محمّد بن أبی حمزة، عن أبی عبداللّه علیه السلام : «فی رجل أصابته جنابة، فقام فی المطر حتّی سال علی جسده أیجزیه ذلک من الغسل؟ قال : نعم»(2) .

بل التأمّل فی هاتین الروایتین یفیدنا بأنّهما لیسا فی مقام بیان کیفیّة الغُسل، بل المقصود أمر آخر هو تجویز الاغتسال فی المطر وعدمه للارتماس أو غیره، کما یشهد لذلک قوله: «من الغسل».

فجعل هذه الأخبار بما دلّت علی خلاف حکم الترتیب، لا یخلو عن خفاء ووهن .

نعم، یبقی هنا صحیحة هشام بن سالم، قال : «کان أبو عبداللّه علیه السلام فیما بین مکّة والمدینة، ومعه اُمّ إسماعیل فأصاب من جاریة له، فأمرها فغسلت جسدها وترکت رأسها، وقال لها : إذا أردت أن ترکبی فاغسلی رأسک ففعلت ذلک، فعلمت بذلک اُمّ إسماعیل، فحلقت رأسها ، فلمّا کان من قابل انتهی أبو عبداللّه إلی ذلک المکان، فقالت له اُمّ إسماعیل: أی موضع هذا؟ قال لها : هذا الموضع الذی أحبط اللّه فیه حجّک عام أوّل»(3) .


1- وسائل الشیعة: الباب 26 من أبواب الجنابة، الحدیث 10 .
2- وسائل الشیعة: الباب 26 من أبواب الجنابة، الحدیث 14 .
3- وسائل الشیعة: الباب 28 من أبواب الجنابة، الحدیث 4 .

ص:139

حیث یدلّ علی کون غسل جسدها قبل غسل رأسها خلاف ما ذکرناه .

والجواب عنه یمکن بوجوه ، أوّلاً : بإمکان أن یکون غسل الجسد لإزالة النجاسة والتنظیف، وکان غسل رأسها بعد ذلک للغسل، وکان الماء المنفصل یکفی لسائر الجسد ولو بإمرار الید، ولا یحتاج إلی صبّ الماء إلی بدنها خوفاً من مولاتها علیها، هذا کما فی «الوسائل» .

أو یقال : بکون المراد بغسل رأسها، کنایة عن إجراء أصل الغسل بحسب المتعارف، ولو بصبّ الماء علی البدن بعد الرأس، ولم یکن داع لذکر کلّ ما یعتبر فیه، فیکون الغُسل حینئذٍ فی واقعتین .

وثانیاً : الحمل علی التقیة کما فی «الوسائل» .

وثالثاً : أن یقال بمقالة الشیخ قدس سره ، حیث قال : «إنّ هذا الحدیث قد وهم الراوی فیه، واشتبه علیه فرواه بالعکس، لأنّ هشام بن سالم _ راوی هذا الحدیث _ روی ما قلناه بعینه، وأشار بقوله هذا إلی ما رواه فی «التهذیب» : عن هشام بن سالم، عن محمّد بن سالم، قال : «دخلت علی أبی عبداللّه علیه السلام فسطاطه، وهو یکلّم امرأة، فأبطأت علیه، فقال : ادنه هذه اُمّ إسماعیل جاءت(1) وأنا أزعم أنّ هذا المکان الذی أحبط اللّه فیه حجّها عام أوّل، کنتُ أردت الإحرام، فقلت : ضعوا إلیَّ الماء فی الخبأ، فذهبت الجاریة بالماء فوضعته، فاستخففتها فأصبت منها، فقلت: اغسلی رأسک وامسحیه مسحاً شدیداً، لا تعلم به مولاتک، فإذا أردت الإحرام فاغسلی جسدک ولا تغسلی رأسک، فتستریب مولاتک، فدخلت فسطاط


1- قال فی الوافی: وفی «الحبل المتین» لشیخنا البهائی رحمه الله جنت بالجیم والنون أی صدر منها جنابة، وهی حلقها رأس الجاریة .

ص:140

مولاتها، فذهبت تتناول شیئاً، فمسست مولاتها رأسها، فإذا لزوجة الماء، فحلقت رأسها وضربتها. فقلت لها: هذا المکان الذی أحبط اللّه فیه حجّک»(1) .

ولعلّ وجه هذا الوهم، لاستبعاد صدور مثل ذلک علی نحوین متغایرین، مع فرض اتّحاد الراوی والمروی عنه، وبُعد کون القضیة متعدّدة مع تفاوت مضمونها، حتی یکون أمره علیه السلام للجاریة فی إحداها تقدیم غَسل الجسد علی الرأس، والاُخری بالعکس، فلا مناص إلاّ بما ذکره الشیخ من الوهم .

واجبات الغسل / حکم غَسل الرقبة

مع أنّه لو سلّمنا کون کلّ واحد فی مورد غیر الآخر، فیستلزم التعارض بینهما، فلا یمکن التمسّک بشیء منهما لا للترتیب ولا علی نفیه، کما أراده الخصم .

وبالجملة: لا إشکال فی لزوم تقدیم غسل الرأس علی سائر الجسد، کما علیه الفتوی والنصوص .

بل فی «الحدائق» نقلاً عن «ریاض المسائل» بکون المراد من الروایة الأولی من ترک غسل رأسها، والاکتفاء بغسل جسدها، هو غسل الإحرام لا الجنابة، بأن لا یکون الترتیب واجباً فیه، لعدم الدلیل علیه .

ثمّ قال صاحب «الحدائق» قدس سره : «وإن کان هذا بعیداً، إلاّ إنّه أقرب ممّا ذکره الشیخ، لاشتمال کلام الشیخ علی قدح للراوی بالسهو والغلط، مع أنّه کان من الأجلاّء، وأعظام أصحاب الحدیث، ثمّ احتمل نفسه الشریف بأن یکون المأمور به من الإمام غیر ما فعلته الجاریة، وکان السهو منها فی العمل، وکان المقصود والاهتمام فی الحدیث بیان ما أنکرته اُمّ إسماعیل، لا مثل ذلک» .

وما ذکره «صاحب الریاض» لا یناسب الروایة الاُولی، حیث لم یذکر الإحرام


1- وسائل الشیعة: الباب 29 من أبواب الجنابة، الحدیث 1 .

ص:141

فیها حتّی یقال بذلک، مع أنّ الترتیب لو کان شرطاً ولازماً کان فی حقیقته الغُسل شرعاً، فلا یتفاوت فی موارده، کما لا یتفاوت فی الواجب والمستحبّ، فاختصاصه بخصوص الجنابة أو الواجب ممّا لا سبیل إلیه .

کما أنّ إیراد صاحب «الحدائق» عن الشیخ بأنّه قدحٌ فی حقّ هشام غیر وارد، لأنّه لم یقصد کونه عن قصد وعمد، حتّی یوجب القدح بل المقصود أنّه لو ثبت صدور کلتا الروایتین منه مع وحدة القضیة، فلا یکون وجه الجمع إلاّ بذلک، وهو غیر بعید، بلا قدح فیه، کما لایقدح .

حکم غسل الرقبة

هل الرقبة داخلة فی الرأس حقیقة بصورة الاشتراک اللفظی، حتّی یکون بالحقیقة والوضع، أو مجازاً علی سبیل التبع، أو لیس بشیء منهما بل هی داخلة فی الرأس فی حکم الغسل وما یحسب فی الغسل عضواً واحداً ؟

وهذا هو الأقوی، کما علیه الأکثر، بل الکلّ، غیر واحد یعدّ هو من النوادر وهو صاحب «الذخیرة» الفاضل لخراسانی، وصاحب «الریاض» حیث استشکلوا فی الحکم _ أی بدخولها فی الرأس _ حیث قالوا إنّ ذلک یکون لأجل فقد النصّ الصریح فی ذلک، أی فی الدخول وعدمه.

بل قد ادّعی الشیخ المحدّث عبداللّه بن صالح البحرانی _ مضافاً إلی الإشکال _ بقوله : «إنّ المسألة من المتشابهات، حیث قد نسب واتّهم المجتهدین بأنّ فتواهم فی الدخول لیس إلاّ من اجتهادهم، من غیر دلیل، وعیّن فیها الاحتیاط بین غسلها مع الرأس حینئذٍ _ کما نقله الأصحاب _ وغسلها مع الیدین _ کما استظهره _» .

وقد أجاب عنه والد صاحب «الحدائق» رحمهماالله بجوابٍ شاف وواف ، ولقد أجاد

ص:142

فیما أفاد، بل ونِعْم ما قال بعض المحقّقین، علی حسب ما نقله صاحب «الحدائق» قدس سره : بأنّ الرأس عند الفقهاء رضوان اللّه تعالی علیهم یقال علی معان :

الأوّل : کُرة الرأس التی هی منبت الشعر، وهو رأس المحرم .

الثانی : إنّه عبارة عن ذلک مع الاُذنین، وهو رأس الصائم .

الثالث : إنّه ذلک مع الوجه وهو رأس الجنایة فی الشجاج .

الرابع : إنّه ذلک کلّه مع الرقبة وهو رأس المغتسل» . انتهی کلامه زید إکرامه .

فقد أوضح بکلامه بأنّ الرأس عند الفقهاء فی باب الغُسل یطلق بما یشمل الرقبة، وکأنّه حقیقة عرفیة عندهم فی ذلک، بل وظاهر کلامه وجود الإجماع، حیث أتی بلفظ الفقهاء، بالجمع المحلی بالألف واللاّم .

کما انّ الأمر کذلک، لما تری من دعوی الإجماع علیه عن صاحب «الغنیة»، بل عن «شرح المفاتیح» اتّفاق الفقهاء علیه ، وفی «الحدائق» أنّه کذلک من غیر خلاف یعرف بین الأصحاب .

فبناء علیه لا نحتاج فی إثبات الحکم هنا إلی إثبات کون الرقبة من الرأس حقیقة أو مجازاً، کما زعموا، کما لایخفی .

مع أنّه یمکن استفادة کونها منه، من بعض الأخبار مثل: صحیحة زرارة، حیث قال : «ثمّ صبّ علی رأسه ثلاث مرّات، ثمّ صبّ علی منکبه الأیمن ثلاث مرّات، وعلی منکبه الأیسر ثلاث مرّات».

حیث أنّه ظاهر فی إلحاق الرقبة بالرأس، لأنّه قد جعل غسل الجانب الأیمن من المنکب الذی یشمل الرقبة، وکذلک فی الأیسر.

بل وکذا فی موثّقة سماعة، حیث قال فیها : «ثمّ لیصبّ علی رأسه ثلاث مرّات ملأ کفّیه، ثمّ یضرب بکفّ من ماء علی صدره، وکفّ بین کتفیه، ثمّ یفیض الماء

ص:143

علی جسده کلّه»(1) .

وجه دلالته: هو خروج الرقبة عن الجانبین، فلا تکون إلاّ فی الرأس .

ولیس لما ادّعی من معارض، إلاّ توهّم دلالة خبر أبی بصیر علی الدخول فیه، حیث کان فیه: «ثمّ تصبّ الماء علی رأسک ثلاث مرّات، وتغسل وجهک وتفیض الماء علی جسدک»(2) .

بناءً علی أن یکون المراد بغسل الوجه مغایراً مع الرأس فی صبّ الماء.

وهذا هو المحکی عن الحلبی فی کتابه المسمّی ب_ «إشارة السبق» . ولذلک أدخل الرقبة فی الجانبین، بغسل کلّ منهما من رأس الرقبة الموجب لإدخالها بالنصف فی جانب الأیمن، والآخر بالأیسر .

ولکن الإنصاف عدم دلالة الحدیث بما ادّعی، بل لو لم ندّع دلالته علی المطلوب أولی، کما عن «الجواهر»، لإمکان کون غسل الوجه بیاناً لتتمیم وظیفة غسل الرأس، وإلاّ لو کان داخلاً فی الجسد، کان اللازم عدم تعبیره بذلک ، بل کان ینبغی أن یقول: «ثمّ تفیض الماء علی وجهک وجسدک»، إذ غسل الوجه بالخصوص لم یقل به أحدٌ، فلابدّ من إلحاقه بأحد الطرفین من الرأس أو الجسد، حیث لم یذکر الصبّ والإفاضة إلاّ بعد غسل الوجه، حیث یفهم کونه ملحقاً بالرأس .

مع أنّ الالتزام بدخول الوجه فی الجسد فی الغُسل مخالفٌ لاتّفاق الکلّ، إذ لم یقل به أحد، حتّی من قال بخروج الرقبة عن الرأس، کما یظهر ذلک بالرجوع إلی کلماتهم .

مع أنّ کلام الحلبی أیضاً حیث قال : «من غسل کلّ من الجانبین من رأس


1- وسائل الشیعة: الباب 26 من أبواب الجنابة، الحدیث 8 .
2- وسائل الشیعة: الباب 26 من أبواب الجنابة، الحدیث 9 .

ص:144

ثمّ الجانب الأیمن ثمّ الأیسر (1).

العنق»، لم یکن صریحاً ولا ظاهراً فی المخالفة، لإمکان أن یکون مراده من رأس العنق، هو أصله الذی کان متّصلاً بالمنکبین والکتفین ، فحینئذٍ یکون موافقاً للکلّ، کما لا یخفی، وإن کان العمل بالاحتیاط بغسل الرقبة مرّتین أحدهما مع الرأس بتمامها ، واُخری مع الجانبین بالنصف فی کلّ طرف کان أحسن، لأنّه حسن علی کلّ حال .

(1) صریح کلام الماتن دالٌّ علی وجوب الترتیب بین الجانبین، کوجوب الترتیب بین الرأس والجانبین، حیث قد أتی بأداة (ثمّ) الدالّ علی خصوص الترتیب، وهذا یوافق مع فتوی جمع کثیرة کالسیّد فی «الانتصار» والشیخ فی «الخلاف»، وابن زهرة فی «الغنیة»، والعلاّمة فی «التذکرة»، وکالمفید فی «المقنعة» وابن البرّاج فی «المهذّب»، وکذا فی «المراسم» و«الوسیلة» و«الکافی» و«السرائر» و«الجامع» و«المعتبر» و«المنتهی» و«القواعد» و«الإرشاد» و«التحریر» و«الذکری» و«الدروس» والشهید الثانی فی «الروض»، وصاحب «الجواهر» والآملی فی «المصباح» و«العروة» مع أکثر أصحاب التعلیق.

واجبات الغُسل / الترتیب بین الجانبین

بل وکذا صاحب «الحدائق» تبعاً لأبیه، وإن استشکل فیه أوّلاً ، بل ادّعی الأربعة الأوّل الإجماع علیه .

وفی «المعتبر»: إنّه انفراد الأصحاب، فإنّه أفتی به الثلاثة وأتباعهم، وفقهائنا الآن بأجمعهم علیه .

وفی «المنتهی»: إنّه مذهب علمائنا خاصّة ، وفی «الذکری»: إنّه من منفرداتنا، بل عن الشهید الثانی فی «الروض» بعد ذکر الأخبار المرتبطة، قال : «بأنّ هذه

ص:145

الروایات وإن دلّت صریحاً علی تقدیم الرأس علی غیره لعطف الیمین علیه ب_ (ثمّ)، الدالّة علی التعقیب، لکن تقدیم الأیمن علی الأیسر، استفید من خارج، إن لم نقل بإفادة الواو الترتیب، کما ذهب إلیه الفرّاء، بل عن الجمع المطلق أعمّ من الترتیب وعدمه، کما هو رأی الجمهور، إذ لا قائل بوجوب الترتیب فی «السرائر» دون البدن، والفرق إحداث قول ثالث، ولأنّ الترتیب قد ثبت فی الطهارة الصغری علی هذا الوجه، وکلّ من قال بالترتیب فیها قال بالترتیب فی غسل الجنابة . فالفرق مخالف للإجماع المرکّب فیهما. وما ورد من الأخبار أعمّ من ذلک یحمل مطلقها علی مقیّدها» انتهی کلامه علی حسب نقل صاحب «الحدائق»(1) .

واعترض علی کلامه الأخیر، بعدم وضوح مراده من القول بکون عدم الترتیب بین الجانبین فی غسل الجنابة، مع اعتبار ما بین الرأس والجانبین احداثٌ للقول ثالث والتفصیل جزماً للاجتماع المرکّب، إذ إحداث قول ثالث إنّما یتحقّق إذا کان القول فی الطهارتین دائراً بین القولین، من اعتبار الترتیب فیهما، وعدم الترتیب فیهما ، فالقول بالتفصیل بین الصغری بالترتیب، وعدمه فی الکبری، یکون قولاً ثالثاً ، والحال أنّه لم یوجد قولٌ من أحد بعدم لزوم الترتیب فیهما، إذ الاتفاق حاصل فی لزوم الترتیب فی الصغری ، فالاختلاف لیس إلاّ فی الکبری، بین الترتیب وعدمه، فأیّ خرق للإجماع المرکّب، کما ادّعی هذا کما عن المحقّق الآملی فی «مصباح الهدی»(2) .

ثمّ قال : فعلیک بالتدبّر فی کلامه، زید فی علوّ مقامه، لکی ینکشف لک حقیقة مرامه قدس سره . ولکن التأمّل فی کلام الشهید یوصلنا إلی أنّه أراد من إحداث قول


1- الحدائق: ج3 ص72 .
2- مصباح الهدی: ج4 ص211 .

ص:146

ثالث، وکونه مخالفاً للإجماع، بالنظر إلی القول بلزوم الترتیب بین الرأس والجانبین، وعدمه فی الجانبین، لا بالنظر إلی الطهارة بالصغری والکبری.

ولعلّ ذکره من إحداث قول ثالث، کان من جهة زعمه بأنّ القائل بعدم الترتیب بین الرأس وبین الجانبین، هو القائل بعدمه فی الجانبین، وهم الصدوقان وابن الجنید ، فتصیر الأقوال عند المتقدّمین إلی زمانه فی ذلک، قولان: أحدهما: الترتیب کما علیه المشهور.

والآخر: عدمه. فالقول بالتفصیل بین الرأس والجانبین، بالترتیب وعدمه فی الجانبین، هو قول ثالث فی المسألة، ومخالف للإجماع المرکّب .

نعم قد یناقش فیه أیضاً بأنّ ابن أبی عقیل قد ورد اسمه فی المقام ممّن یخالف الترتیب فی الجانبین، مع عدم کونه مخالفاً فیه بین الرأس والجانبین، ولعلّه غفل عنه أو لم یره حین تتبّع عن الفتاوی ، واللّه العالم .

وکیف کان، فنقول عوداً علی بدء، بأنّک قد عرفت وجود الإجماع المنقول _ بل المحصّل _ علی حسب ما ادّعاه صاحب «الجواهر» من دعوی عدم وضوح کلام المخالفین فی ذلک، أو عدم قدحه فیه .

وکیف کان لو لم نقل بالإجماع، فلا إشکال فی وجود شهرة عظیمة، فی لزوم الترتیب بین الجانبین، بل هو مقتضی الأصل من استصحاب بقاء الحدث، فیما لو لم یراع الترتیب، إن لم یثبت حکم أحد الطرفین من اللزوم وعدمه من الأدلّة الاجتهادیة، وإلاّ لابدّ من الرجوع إلی الأصول العملیة .

مضافاً إلی وجود قاعدة الاشتغال، إن قلنا بکون المأمور به هو الطهارة لا الغسلات الثلاث، وإلاّ کان مقتضی الأصل البراءة لرجوع الشکّ إلی التکلیف، بخلاف الأوّل حیث یکون من قبیل الشکّ فی المکلّف به، وکان من باب المحصّل الذی قد حقّق فی محلّه، فلا حاجة للإعادة.

ص:147

أحکام غُسل الجنابة

البحث فی بیان وجوب الترتیب بین الیمین والیسار فی غُسل الجنابة(1).

(1) وقد استدلّ علی وجوب الترتیب بینهما ، _ مضافاً إلی الإجماعات والأُصول _ بعدّة أخبار ، یفهم منها ذلک ، وهی علی طائفتین:

احکام غُسل الجنابة

الأولی: ما یستفاد منها الترتیب ، لأجل الترتیب فی الذکر ، مع کون العطف بینها بالواو ، وذلک مثل صحیحة زرارة المتقدّم ذکرها ، وقد جاء فیها قوله علیه السلام : و «ثمّ صبّ علی رأسه ثلاث أکفّ ، ثمّ صبّ علی منکبه الأیمن مرّتین ، وعلی منکبه الأیسر مرّتین ، فما جری علیه الماء فقد أجزأه»(1):

فإن قلنا بکون الواو أیضاً للترتیب ، کما علیه الفرّاء _ من النحویّین _ فدلالتها علیه واضحة .

وانْ قلنا بکونه للمطلق الذی یجتمع مع الترتیب وغیره - کمّا علیه الجمهور _ فلابدّ فی دلالته علیه من قرینة ، وهی ما عرفت من الإجماعات ، والسیرة المستمرة _ إنْ تمّت _ والأخبار التی سنذکرها فی الطائفة الثانیة ، وجمیعها تفید کون المراد هو الترتیب ، أمّا حقیقةً أو مجازاً ، علی حسب اختلاف الآراء .

الثانیة: الأخبار الدالّة علی کون غُسل المیّت مثل غُسل الجنابة ، أو عینها ، کما وردت أخبار دالّة علی لزوم الترتیب بین الجانبین فی غُسل المیت ، فلا بأس أوّلاً أن نشیر الی لزوم مراعاة الترتیب بینهما فی غُسل المیّت ، بما ورد فیه فی الجملة ،


1- وسائل الشیعة: الباب 26 من أبواب الجنابة، الحدیث2 .

ص:148

وذلک مثل روایة عمّار بن موسی ، عن أبی عبد اللّه علیه السلام : «أنّه سُئل عن غُسل المیّت؟ قال: تبدأ فتطرح علی سوءته خرقة ، ثمّ تنضح علی صدره ورکبتیه من الماء ، ثمّ تبدأ فتغسل الرأس واللحیة بسدرٍ حتّی ینقیه ، ثمّ تبدأ بشقّه الأیمن ، ثمّ بشقّه الأیسر»(1) الحدیث .

فی غسل الجنابة / الترتیب بین الجانبین

وهو صریح فی وجوب الترتیب بین الأیمن والأیسر .

ومثله فی الدلالة حدیث یونس(2) والکاهلی(3) وغیرهما .

فإذا ثبت ذلک فی غُسل المیّت ، وکان مورد الوفاق عند الفقهاء ، فحینئذ نعود إلی الأخبار المتکفلة لبیان التشبیه بینهما ، أو کون غُسل المیّت کغُسل الجنابة ، وذلک مثل صحیحة محمد بن مسلم ، عن أبی جعفر علیه السلام ، قال: «غُسل المیّت مثل غسل الجنب ، وأن کان کثیر الشعر فرد علیه الماء ثلاث مرّات»(4) .

ومثل روایة سلیمان الدیلمی ، عن أبی عبد اللّه علیه السلام فی حدیثٍ: «أنّ رجلاً سئل أبا جعفر علیه السلام عن المیّت لم یغسل غُسل الجنابة؟ قال: إذا خرجتِ الرّوح من البدن ، خرجت النطفة التی خُلِق منها بعینها منه ، کائناً ما کان ، صغیراً أو کبیراً ، ذکراً أو انثی ، فلذلک یُغسَّل غُسل الجنابة»(5) ، فإنّه یدلّ علی کون غُسل المیّت هو عین غسل الجنابة ، فلابدّ فیه الترتیب بمثل ما کان کذلک فی غسل المیّت .

وروایة الصدوق ، قال: «سُئل الصادق علیه السلام ، لأیّ علّة یُغسل المیّت؟ قال: تخرج منه النطفة التی خُلِق منها ، تخرج من عینیه أو من فیه»(6) .


1- وسائل الشیعة: الباب 2 ، من أبواب غسل المیّت، الحدیث 3 _ 5 و10 .
2- وسائل الشیعة: الباب 2 ، من أبواب غسل المیّت، الحدیث 3 _ 5 و10 .
3- وسائل الشیعة: الباب 2 ، من أبواب غسل المیّت، الحدیث 3 _ 5 و10 .
4- وسائل الشیعة: الباب 3 من أبواب غسل المیّت ، الحدیث 1 .
5- وسائل الشیعة: الباب 3 من أبواب غسل المیّت، الحدیث 2 .
6- وسائل الشیعة: الباب 3 من أبواب غسل المیّت، الحدیث 5 .

ص:149

بل فی حدیث عبد الرحمن بن حمّاد ، ما یدلّ علی کون غُسل المیّت هو غسل الجنابة بعینه ، حیث ورد فیه قوله علیه السلام : «فإذا ماتَ سالتْ منه تلک النُّطفة بعینها ، یعنی التی خلق منها ، فمن ثمّ صار المیّت یغسّل غسل الجنابة» .

فإذا لاحظت هذه الأخبار تجدها خیر شاهد علی المدعی ، وهو کون الترتیب بین الجانبین ، کالترتیب بین الرأس وبینهما واجباً .

واول من تفطّن لهذا الأمر _ أی المقایسة _ علی حسب نقل صاحب الحدائق ، کان والده الشریف حیث أفتی بذلک و أحکم الاستدلال علیه برغم انه قد ناقش طویلاً فی دلالة الاخبار التی سبق وان ذکرناها من الطائفتین .

هذا ، ولازم القول بذلک أنّه لو شرع فی غَسل الجانب الأیسر ، قبل ان یتم غسل الأیمن ولو بجزء یسیر قبل ساحة الانملة من باطن رجله ، لوجب علیه اعادة غَسل الأیسر ، بعد غسل ما بقی من الجانب الأیمن .

بل قد یؤیّد ذلک أنّ الغُسل کالوضوء ، له کیفیّة ولحدة ، ففی أیّ مقام اطلق لفظهما ، انستبقت تلک الکیفیّة الخاصّة إلی الذهن ، فلو کان غُسل المیّت متمایزا ومختلفا عن غُسل الجنابة فی الکیفیّة ، لوجب التفصیل فی مقام الندب أو غیره کالحیض ، بأنّه هل هو کغسل الجنابة أو کغسل المیّت ، ومادام لم نجد التفصیل و الاستفسار عنه فی الاخبار فانه یوجب الظن بل الاطمئنان بتمامیة المدعی .

بل قد یشهد لذلک _ أی الأتّحاد _ الجمع فی الکیفیّة ، وذلک بلزوم الترتیب فی المواضع الثلاثة ، من تجویزهم للتداخل بینها ، من دون تردید ونقاش فی ذلک ، مع أنّه لو کان قد نُقل وذکر فی واحد منها کیفیّة خاصّة ، لاستبعد جواز التداخل فی کیفیّة خاصّة .

بل فی «الجواهر» وغیره التمسّک بالسیرة القطعیّة المستمرة عند علماء الشیعة

ص:150

وعامتهم فی جمیع الأعصار والأمصار ، من الإتیان بالغُسل دائما مع مراعاتهم حین العمل والغُسل بالترتیب المعهود _ ماعدا الغُسل الارتماسی _ المستکشف منه علی سبیل القطع ، وصول ذلک الیهم من ساداتهم المیامین وائمتهم المعصومین علیهم السلام .

بل قد تمسّک أیضاً لاثبات ذلک بالنبویّ العامی ، هو: «أنّ النبیّ صلی الله علیه و آله وسلم کان إذا اغتسل بدأ بالشقّ الأیمن ثمّ الأیسر»(1) .

المنجبر ضعفه من جهة السند بالشهرة المحقّقة ، والإجماع المحکی .

ونحن نزید علی جمیع ما بیّناه ، کون الترتیب بتقدیم الأیمن علی الأیسر أمرٌ ثابت فی کثیر من احکام الشرع وذلک من جهة تعظیم جانب الایمن علی الجانب الأیسر کما فی الوضوء ، والتیمّم ، والدخول فی المساجد ، حیث ورد الأمر بتقدیم الیمین علی الیسار ، وفعل عکس ذلک حین الدخول الی دار الخلاء ، وتقدیم الأیمن فی الأکل والشرب ، وخلافه فی الاستنجاء ، وأمثال ذلک ، حیث یؤیّد قول المشهور من تقدیم جانب الأیمن علی الأیسر .

هذا مجموع ما یمکن أن یستدلّ به أو یستفاد منه تأییدا ، وأن کان بعضها لا یخلو عن مناقشة ، کما لا یخلو بعض ما أورد علیها من الوهن والاشکال ، فلا بأس بذکر ذلک والاشارة الیه ، حتّی یتّضح المرام والمقصود .

وحیث أنّ المحقّق الهمدانی قد تحمّل عناء هذه المسألة ، فی الأیراد علی تلک الاستدلالات ، فلأجل ذلک نتعرّض لجانب من کلامه الشریف مع مراعاة التلخیص والایجاز ، فانه قدس سره قد اختار کلام صاحب «المدارک» الذی تابع فیه


1- صحیح البخاری: کتاب الغُسل ، باب: من بدأ بالجلاب أو الطیب عند الغُسل ،

ص:151

المحقّق صاحب «المعتبر» فی عدم لزوم الترتیب بین الجانبین ، وتبعهم علی ذلک بعض من قارب عصرنا من أصحاب التعلیق علی «العروة» .

وقال صاحب «المدارک»: «ویدلّ علی عدم وجوب الترتیب _ مضافاً إلی الأصل _ (ولعلّ مراده منه ، هو أصل البراءة ، مع ما عرفت الاشکال فیه ، علی تقدیر) واطلاق القرآن (ولعلّه أراد به من الأمر بمطلق التطهیر فی قوله تعالی: «وَإِنْ کُنْتُمْ جُنُبا فَاطَّهَّرُوا»وحیث لم ترد فی الآیة الشریفة اشارة الی الترتیب المدعی ، ما رواه الشیخ فی الصحیح ، عن زرارة ، قال: «سئلت أبا عبد اللّه علیه السلام عن غُسل الجنابة؟ فقال علیه السلام : تبدأ وتغسّل کفّیک ، ثمّ تفرغ بیمینک علی شمالک ، فتغسل فرجکَ ، ثمّ تمضمض واستنشق ، ثمّ تغسّل جسدک من لدن قرنک إلی قدمیک»(1) .

وفی الصحیح عن یعقوب بن یقطین ، عن أبی الحسن علیه السلام ، قال: «الجُنب یغتسل ، یبدأ فیغسل یدیه إلی المرفقین ، قبل أن یغمسها فی الاناء ، ثمّ یغسل ما أصابه من أذی ، ثمّ یصب الماء علی رأسه وعلی وجهه وعلی جسده کلّه ، ثمّ قد قضی الغسل ، ولا وضوء علیه»(2) .

ویستفاد من اطلاق هذا الخبر عدم وجود مزیة لجانب علی الآخر .

وفی الصحیح ، عن أحمد بن محمد ، قال: «سألتُ أبا الحسن علیه السلام عن غُسل الجنابة؟ فقال: تغسل یدک الیمنی من المرفقین کذا إلی اصابعک ، ثمّ تبول أن قدرت علی البول ، ثمّ تُدخل یدک فی الاناء ، ثمّ اغسل ما أصابک منه ، ثمّ أفض


1- وسائل الشیعة: الباب 26 من أبواب الجنابة، الحدیث 5 .
2- وسائل الشیعة: الباب 26 من أبواب الجنابة، الحدیث 6 .

ص:152

علی رأسک وجسدک ، ولا وضوء فیه»(1) .

وبالجملة ، فهذه الروایات صریحة فی عدم وجوب الترتیب ، لورودها فی مقام البیان المنافی للاجمال ، والعمل بها متّجة ، إلاّ أنّ المصیر إلی ما علیه أکثر الأصحاب أحوط» . انتهی عبارة «المدارک» .

فالأنسب هنا الرجوع إلی کلام الهمدانی قدس سره ، حیث أورد علی الاستدلال بالاخبار الدالة علی کون غُسل الجنابة کغُسل المیّت فی الترتیب ، قال ما لفظه فی الجملة: «وفیه: أن کون غُسل المیّت بعینه هو غُسل الجنابة ، کما هو مقتضی أغلب الأخبار _ لا یقتضی إلاّ اعتبار جمیع ما یعتبر فی غُسل الجنابة فیه ، بأن یکون غُسل المیّت من مصادیق غُسل الجنابة ، وأمّا أنّه یعتبر فی جمیع مصادیق غُسل الجنابة کلّ ما یعتبر فی غسل المیّت فلا . ألا تری أنّه یجب فی غُسل المیّت تثلیث الغَسَلات ، واستعمال السِّدر والکافور ، ولا یجب ذلک علی الجُنب . فمن الجائز أن یکون الزام الشارع بهذا القسم من الغُسل _ أعنی مرتّباً _ بالنسبة إلی المیّت ، مسبّباً عن خصوصیّة فیه ، ککونه أفضل الأفراد ، فأوجبه الشارع تعظیماً للمیّت ، أو کون سائر الأقسام موجباً لتوهین المیّت ، باقامته علی قدمیه ، أو اقعاده ، أو ابقائه علی وجهه ، أو غیر ذلک من الخصوصیات التی یعلمها الشارع ، والتخطّی عن مور المنصوص لا یجوز ، إلاّ بعد القطع بالغاء الخصوصیّة . وغایّة ما یمکن دعوی استفادته من الأخبار ، لیس إلاّ أنّ وجوب غُسل المیّت لصیرورته جنباً ، وأمّا ایجاده بهذه الکیفیّة أیضاً مسبّب عن کونه جنباً فلا . وأمّا التشبیه فی روایة محمد بن مسلم ، وإن کان مقتضی اطلاقه ما ذکر ، ولکن العرف لا یساعد


1- وسائل الشیعة: الباب 34 من أبواب الجنابة، الحدیث 1 .

ص:153

علی استفادة ارادة عموم المنزلة من الطرفین فی أغلب موارد استعمالاته ، فإنّه لا ینسبق إلی الذهن فی مثل المقام ، إلاّ ارادة تشبیه غُسل المیّت بغسل الجنب فی الکیفیّات المعهودة المعتبرة ، دون العکس . وعلی تقدیر تسلیم الظهور فی المدّعی ، فلیس علی وجهٍ یوجب التصرّف فی ظواهر الأدلّة الواردة فی بیان کیفیّة غُسل الجنابة ، الدالّة علی عدم اعتبار الترتیب بین الجانبین ، فیما یتّضح لکَ فیما بعد أن شاء اللّه»(1) .

ولا یخفی ما فی کلامه من الاشکال ، لأنّه أوّلاً:

إذا سلّم دلالة الأخبار علی عینیّة غُسل المیّت بغسل الجنابة ، وأنّه لیس إلاّ هو ، واستظهرنا من الأدلّة لزوم الترتیب بین الجانبین فی غُسل المیّت ، باعتبار أنّه غُسل الجنابة ، فلا یکون کلّ الأفراد کذلک ، والتفاوت بین الأفراد بلا دلیل خارجی غیر مقبول عند العرف ، فمجرّد کون الغُسل هنا یقع بکیفیّة خاصّة من دون حاجة الی الوقوف أو الاقعاد أو الاستلقاء علی القفا ، لأجل خصوصیّة فیه ، لا یوجب رفع الید عمّا یجری فی تمام أقسامه ، من دون توهین ، أو لزوم أحد هذه الأُمور وهو الترتیب .

وثانیاً: لو لم نقل بالعینیّة ، واکتفینا بمثل حدیث محمد بن مسلم من التشبیه ، فالمتبادر إلی الذهن هو کون العمل فی الاتیان بهما مماثلین ، إذ هو الأقرب بالانسباق إلی الذهن من غیره ، لأنّ مثل إیصال الماء إلی تمام الجسد ، ممّا هو داخل فی قوام الغُسل ، إذ بدونه لا یتحقّق حقیقته ، فالذی ینبغی أن یتذکر لیس إلاّ الترتیب والموالاة وأمثال ذلک ، فضلاً عن کونه هو بعینه ، کما هو المستفاد من


1- مصباح الفقیه: ج3/364 .

ص:154

أغلب الأخبار .

وثالثاً: أن الغسل إذا أشیر إلیه فی حدیثٍ ، فی کیفیته من الترتیب أو الارتماس ، فأنّه یحمل علیه کلّ ما ورد من الأمر بالغُسل ، واجباً أو ندباً ، مثل الوضوء ، ما دام لم یرد علینا دلیلٌ علی خلافه ، ولأجل ذلک ذهب الفقهاء إلی جواز التداخل بین الأغسال ، مع أنّه لو کانت مختلفة من حیث العمل الزاماً ، فلا وجه للتداخل ، إلاّ فیما یکون مثله فی العمل ، کما لا یخفی .

وأمّا ماتمسّک به للاختلاف فی کیفیته ، من لزوم استعمال السدر والکافور ، وتثلیث الغسلات فی غُسل المیت دون الجنابة .

فلا یخلو عن نقاش ، لوضوح أن تعدّد الغَسل لا ینافی لزوم الترتیب فی اتیانه ، کما أنّ لزوم استعمال السدر والکافور فی غَسلاته ، انّما هو لأجل دلیل خارجی لا علاقة له باصل تشریع الغُسل وکیفیّة اتیانه .

وأمّا ما ذکره اخیرا فی کلامه من تسلیم الظهور ، من قوله: هذا لا یوجب التصرّف فی ظواهر الأدلّة علی عدم الترتیب .

فیردّ علیه أوّلاً: بأنّ تلک الأخبار بعضها غیر ظاهرة فی عدمه ، بل غایته الاطلاق الذی لاینافی مع ما یدلّ علی لزوم الترتیب ، وهو مثل صحیحة حکم بن حکیم ، حیث ورد فیها عن الصادق علیه السلام : «وافض علی رأسک وجسدک فاغتسل»(1) .

حیث أمر بافاضة الماءَ ، توطئةً للغسل ، وذلک لأجل قرینة قوله: «فاغتسل» بعده ، فلا یکون فی مقام بیان کیفیّة الغَسل . لا یقال: بأن ذیله یدلّ علی خلاف ما ذکر ، لأنه قد ورد فیه قوله: «فإن کنت فی مکان نظیف فلا یضرّک أن لا تغسل


1- وسائل الشیعة: الباب 26 من أبواب الجنابة، الحدیث 7 .

ص:155

رجلیک ، وانْ کنتَ فی مکان لیس بنظیفٍ ، فاغسل رجلیک(1)» .

حیث أمر بغَسل الرجلین إذا کان فی مکان غیر نظیف ، أمّا من جهة جعلهما جزء من الغُسل ، أو لازالة القذارة التی یتوقّف علیها الغَسل .

وعلی أیّ حالٍ ، یکون غَسل الرجل الیمنی بعد غَسل أعالی الجانب الأیسر ، وهذا یفید انه لم یراع فیه الترتیب ، فیدلّ علی عدم اعتباره .

لأنّا نقول: بإمکان أن یکون أمره بذلک باعتبار ثلوث رجله ، و ذلک بعد الفراغ عن الغسل ، فلیس حینئذٍ یکون غسلهما دالاًّ علی کونه جزءً من الغسل .

أو لعله کان أمره لبیان لزوم مراعاة محل الاقامة ، من الطهارة والنظافة قبل الغُسل ، توطئةً لتحصیل الغُسل فی مکان نظیف ، فحینئذ لا یدلّ علی ما ادّعاه الخصم .

فدعوی ظهور هذا الحدیث علی عدم اعتبار الترتیب ، غیر مسموعة .

هذا مع امکان ان یکون المراد من أمره بافاضة الماء ، هو الارتماس الذی سیجیء ، وأنّه لابدّ فیه من اجراء الماء علی جمیع اجزاء الجسد من الرأس وغیره دفعة واحدة ، فلا یکون حینئذ مرتبطاً بما نحن بصدده .

نعم ، قد یتوهّم ظهور حدیث سماعة وأبی بصیر علی عدم الترتیب ، حیث أنّ الوارد فی الأوّل قوله علیه السلام : «ثم لیصب علی راسه ثلاث مرّات ملاء کفّیه ، ثمّ یضرب بکفّ من ماء علی صدره ، وکفّ بین کتفیه ، ثمّ یفیض الماء علی جسده کلّه»(2) .

وفی الثانی قوله علیه السلام : «وتصبّ الماء علی رأسک ثلاث مرّات ، وتغسل


1- وسائل الشیعة: الباب 27 من أبواب الجنابة، الحدیث 1 .
2- وسائل الشیعة: الباب 26 من أبواب الجنابة، الحدیث 9 .

ص:156

وجهک ، وتفیض علی جسدک الماء(1)» .

حیث لم یذکر الترتیب فی افاضته علی الجسد .

ولکن یمکن أن یجاب عنه: بامکان أن یکون المراد فی الحدیث الأوّل بضرب الماء علی الصدر ، هو غَسل الجانب الأیمن ، وضربه علی الکتف غَسل الجانب الأیسر ، وأن المقصود من الافاضة ، افهام لزوم ایصال ماء کلّ منهما إلی تمام الجسد ، وذلک من جهة مراعاة اعتبار کل جانب بمفرده ، بإمرار الید علیه ، بقرینة لفظة کلّه فی آخره .

فحینئذ یدلّ علی المطلوب ، أو لا أقل أن یحمل علیه ، جمعاً بینه و بین الأخبار الدالة علی لزوم الترتیب .

ویعدّ هذا الجمع أولی من الطرح ، من جهة اعراض الأصحاب عنه ، کما قاله المحقّق الهمدانی فی «مصباح الفقیه» .

وان یکون الحدیث الثانی فی مقام بیان مجرد لزوم إیصال الماء الی تمام الجسد ، أمّا ضرورة کون الوصول الیه بالترتیب أو غیره ، فانه تکون بواسطة دلالة أخبار اُخر ، وقد عرفت أنّه یراعی ما رواه العامة عمّا کان فی زمن النبیّ صلی الله علیه و آله ، مضافاً إلی صحیحة زرارة السابقة ، وغایة ما تدل علیها هی رفع الید عن الظهور من جهة أعراض الأصحاب وقیام روایة معتبره ، کما لا یخفی .

وقد تمسک بعض الفقهاء للدلالة علی عدم وجوب الترتیب ، بما ورد فی حدیث زرارة ، عن أبی جعفر علیه السلام فی حدیثٍ ، قال: «قلت له: رجلٌ ترک بعض ذراعه ، أو بعض جسده من غُسل الجنابة؟ فقال: ان شکّ وکانت به بلّة ، وهو فی


1- وسائل الشیعة: الباب 26 من أبواب الجنابة، الحدیث 8 .

ص:157

صلاته ، مسح بها علیه ، وأن کان استیقن رجع فأعاد علیهما ما لم یصب بلّة(1)» .

وجه الاستدلال: ظهوره فی عدم لزوم الترتیب بمقتضی ترک الاستفصال ، حیث أجاب بکفایة غَسل خصوص الموضع المتروک ، وأن کان فی الطرف الأیمن ، مع أنّه لو کان مراعاة الترتیب واجباً للزم أن یحکم بوجوب إعادة غسل الجانب الأیسر بعده أیضا .

ولکنّه غیر وجیه ، لأنّه لیس فی مقام بیان شیء ، إلاّ بیان لزوم جبران الموضع المتروک ، وهو اعمّ من لزوم إعادة الغسل معه وعدمه .

فإذا فرضنا دلالة الدلیل علی لزوم مراعاة الترتیب فی الجانبین أیضاً ، وضمّ إلی هدا الحدیث ، فانّه یوجب کون الواجب فی مثل الطرف الأیمن مراعاة أمرین: من غسل موضع المتروک ، وإعادة غسل الطرف الأیسر .

کما أنّه یوجب ذلک مراعاة أُمور ثلاثة ، إذا کان المتروک فی جانب الرأس ، حیث یجب اولاً غَسل الرأس ومن ثم غسل المتروک من الطرفین بعده ، کما لا یخفی .

فالدلیل لا یعارض شیئاً من ذلک ، کما هو واضح .

وان فرض کون الدلیل مطلقا بحیث یجامع مع عدم الترتیب فانه ، یجب التقیّد بما یدلّ علی لزوم مراعاة الترتیب .

وأمّا التمسّک والاستدلال بالسیرة المستمرة والقطعیّة من العلماء والعوام المتّصلة بزمان المعصوم علیه السلام ، کما عن «الجواهر» .

فقد استشکل فیه ، أوّلاً: بعدم القطع بوجود مثل هذه السیرة المستمرة وبهذه الکیفیّة إلی العصور السابقة ، ومدّعیها کذلک یعدّ مجازفا فی القول والدعوی .


1- وسائل الشیعة: الباب 26 من أبواب الجنابة، الحدیث 8 _ 9 .

ص:158

وثانیاً: علی فرض تحقّقها ، فهی لا تکشف عن الوجوب ، لإمکان أن تکون مندوبة ، کما هو الحال فی السیرة الثابتة عند الشیعة من السلام علی أبی عبداللّه الحسین علیه السلام بعد شرب الماء .

وثالثاً: لوفرض ثبوت هذه السیرة بین العلماء ، فانها تکون من جهة أنّهم اما قائلون بلزوم مراعاة الترتیب ، وامّا قائلون بعدم لزوم الترتیب ، ولذلک احتاطوا فی ذلک خروجاً عن مخالفة المشهور ، وأمّا العوام فهم إنّما یتّبعون علمائهم الذین یقلّدونهم فی اللزوم وعدمه .

فمثل هذه السیرة کیف تکشف کشفا قطعیا عن حکم لزوم مراعاة الترتیب عن المعصومین علیهم السلام ، حتّی تکون حجّة؟

فدلیل السیرة لا یُسمن ولا یُغنی فی المقام أصلاً .

انتهی کلامه فی «مصباح الهدایة»(1) .

وفیه ما لا یخفی ، فأنّ المدّعی للسیرة اقام دلیلاً قطعیا علی الوجوب ، فانّ ما تمثلّ به لایفید النقض ، لأنّ قیام السیرة علی ثبوت شیء یکون بنفسه دلیلٌ علی اللزوم ، إلاّ أن یدلّ دلیل علی الندب ، مثل السّلام علی أبی عبد اللّه الحسین علیه السلام بعد الشرب ، فلا یکون دعواها مجازفة .

فإذا ثبت وجودها إلی زمان المعصومین علیهم السلام کذلک ، تکشف عن کونها مورست امامهم وفی حیاتهم علیهم السلام علی نحو اللزوم ، وتکون حینئذٍ حجّة ، إلاّ أن یقوم دلیل علی خلافها بواسطة الأخبار المذکورة ، وقد عرفت جوابها .

والحاصل المستفاد من ملاحظة الطائفتین ، من الأخبار والسیرة ، منضمّاً الی


1- مصباح الهدایة: ج 4/210 .

ص:159

الروایة النبویّة التی رواها العامّة ، وهی التی تفید أنّ النبی صلی الله علیه و آله وسلم قد بدأ بالشقّ الأیمن ، ثمّ الأیسر ، والمعتضدة بروایات الشیعة ، وفتوی الأصحاب ، فان جمیعها یوجب الاطمئنان للفقیه علی لزوم مراعاة الترتیب فی الجانبین ، کالترتیب بین الرأس والطرفین .

هذا فضلاً عمّا عرفت من تایید ذلک بالدلیل والاستصحاب .

فالأقوی ما علیه المشهور ، بل الإجماع ، إلاّ من عرفت أسمائهم وبعض من قارب عصرنا من الفقهاء ، واللّه العالم .

هذا ، وبعد أن ثبت وجوب مراعاة الترتیب بین الجوانب الثلاثة من الرأس والطرفین ، فانه لابد من غسل جزء یسیر فی کلّ جانب حین غسل الجانب الاخر وذلک لتحصیل القطع بالواجب ، من باب المقدّمة العلمیّة .

بحثٌ : بقی حکم العورتین من القُبل والدبر والسرّة ، وهی مواضع من الجسم واقعة فی الحدّ المشترک بین الجانبین من حیث الغَسل ، ففیها عدة احتمالات وهی:

فی غسل الجنابة / الترتیب فی غَسل کلّ عضو

1 _ غَسلهما مع الجانبین ، بأن یُغسل مع کل جانب ، و تکون النتیجة لزوم غسلها مرتین مرتّبین .

2 _ أو یجب غسلهما مرّة واحدة مع أحد الجانبین تخییراً .

3 _ أو لزوم الغسل مع أحد الجانبین تعییناً .

4 _ أو تعدّ هذه المواضع من المواضع المستقلة فی الغَسل ، غیر داخلتین فی أحد الجانبین .

5 _ أو یجب غسلهما مع کلّ من الجانبین مرّةً ، وغسلهما مرة ثالثة بالاستقلال .

6 _ أو یجب التوزیع بین الجانبین بالتنصیف .

وجوه ومحتملات ، لاتردید ظاهراً فی عدم وجوب غسلهما ثلاث مرّات ،

ص:160

الذی هو خامس الاحتمالات ، کذلک هو الأحوط من الجمیع لو أتی به رجاء للمطلوبیّة فی کلّ واحد من الغسلات ، والسبب فی ذلک أنّه لا دلیل لنا مع وجوب غسل العورة والسرّة مستقلّة بعد غسلهما مع الجانبین ، وحیث أنّه لابدّ من غسلهما علی أی تقدیر فی الغُسل ، وقلنا بوجوب مراعاة الترتیب فی الأعضاء الثلاثة _ کما ورد فی صحیحة زرارة ، حیث لم یذکر فیها إلاّ غسل الرأس ثمّ الجانب الأیمن ثمّ الأیسر _ فلابدّ من دخول هذه المواضع أمّا فیهما بالتوزیع ، کما استظهره صاحب «الجواهر» ، أو دخولها فی أحدهما _ بعد القطع بعدم دخولها فی غَسل الرأس _ أما تخییراً أو تعییناً .

وحیث لم یدلّ الدلیل علی الأخیر ، فیبقی کونها بالتخییر أو التوزیع بالتنصیف .

بناءً علی هذا ، فلو غسل هذه المواضع بتمامها مع غَسل کلّ من الجانبین ، فقد جمع جمیع الفروض ، بعد دعوی القطع بعدم وجوب غَسلهما مستقلاً خارجاً عن غسلهما معهما ، لعدم وجود دلیل یدلّ علیه ، کما یحصل الاحتیاط بغسلهما بتمامهما فی الجانب الأیمن ، ثمّ غسل نصفیهما مع الجانب الأیسر ، أو عکس ذلک ، إذ لو کان غسلهما واجباً مستقلاً لصار الغسلات بحیث ینافی التثلیث المستفاد من حدیث زرارة ، وان استشعره صاحب «الجواهر» من أخبار غُسل المیّت ، ولذلک نقول إنّ الاتیان بخامس الوجوه یعدّ أوفق بالاحتیاط من بین جمیع المحتملات ، وحیث کان منافیاً لصحیحة زرارة بالتثلیث ، قلنا إنّ علیه اتیانه به رجاءً ، ولکن هذا احتمال لم یذهب الیه احدٌ من اصحابنا ، فدعوی کونه معرضاً عنه الأصحاب لیس ببعید ، کما لا یخفی .

بقی هنا فرعان:

الفرع الأوّل: قد عرفت وجوب مراعاة الترتیب بین الأعضاء الثلاثة ، فهل

ص:161

یجب مراعاة الترتیب فی کلّ عضو فی الغَسل ، بوجوب البدء من الأعلی فالأعلی کالوضوء أوّلاً ، أو یستحب ذلک ، أو لم یستحب بل یجوز الابتداء من الأسفل والغَسل منکوساً؟

والذی یظهر من المصنّف ، وعلیه المشهور ، هو عدم الوجوب ، خلافاً لأبی الصلاح الحلبی ، حیث ذهب الی لزوم الشروع من الأعلی فیه مثل الوضوء ، ولکن الشهید رحمه الله فی «الذکری» قد صرّح باستحبابه ، مستدلا علیه بأنّه اقرب للتحفّظ من النسیان وللتأسّی ، لأنّ الظاهر من صاحب الشرع فعل ذلک .

وقد استدلّ للقول المشهور: بالأصل ، کما فی «الجواهر» ، والظاهر ان المقصود منه فی المقام هو اصالة البراءة عن وجوب الترتیب فی الأعضاء .

لکنّه قد عرفت منّا سابقاً ، أنّه یصحّ ذلک لو لم نقل یکون الأوامر فی باب الوضوء والغُسل من قبیل المُحصِّل والمحصَّل ، کما هو الأقرب عندنا ، وإلاّ کان مقتضی الاصل _ لولا الدلیل _ هو لزوم مراعاة الترتیب لکونه شکاً فی تحقّق الإمتثال ، ومن قبیل الشکّ فی المکلّف به لا التکلیف ، کما لا یخفی .

واستدل أیضا بصحیحة عبد اللّه بن سنان ، عن أبی عبد اللّه علیه السلام : «قال: اغتسلُ من الجنابة ، فقیل له: قد ابقیت لمعةً فی ظهرک لم یصبها الماء؟ فقال له : ما کان علیک لو سکتّ ، ثمّ مسح تلک اللمعة بیده»(1) .

ومثلها روایة أبی بصیر ، ومثلهما ما عن «النوادر» للراوندی ، عن الکاظم علیه السلام ، عن آبائه ، عن علیّ علیه السلام ، قال: «اغتسلَ رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم من جنابةٍ ، فإذا لمعة من جسده لم یصبها ماء ، فأخذ من بلل شعره ، فمسح ذلک


1- وسائل الشیعة: الباب 41 من أبواب الجنابة، الحدیث 1 .

ص:162

الموضع ، ثمّ صلّی بالناس»(1) .

حیث انّ ظاهرهما الاکتفاء بمسح الموضع المتروک ، وخصوص تلک اللمعة ، من دون اعادة غَسل ما بعدها من سائر المواضع ، من ذلک العضو الذی لم تکن اللمعة مغسولة منه ، مع أنّ الترتیب لو کان واجباً فی نفس الأعضاء ، لم یکن البلل والرطوبة الباقیة کافیا فی المسح ، کما لا یکتفی بمسح خصوص اللمعة بل هی وما بعدها المحتمل للترتیب .

فی غسل الجنابة / لو ترک جزءاً من الأعضاء

وتوهّم کون الروایة الأولی والثانیة منافیاً للعصمة ، من جهة ورود اعتراض أنّه کیف یمکن عدم علم الإمام بذلک .

مندفعٌ ، بإمکان أن یکون ذلک فیما لا ینافی مع عصمته علیه السلام ، مثل ما لو کان فی الأیسر ولم یتمّ غسله ، أو فی الأیمن قبل الشروع فی غسل الأیسر ، أو فعل علیه السلام ذلک متعمّداً افهام المسألة لا للإعتماد بذلک الغسل ، أو کان یعلم أنّه یتذکره ومن ثم یقوم بتدارکه برغم انه لیس ذلک من وظیفته .

وکیف کان ، فان تصرف الامام علیه السلام یمکن حمله علی وجوه ومحامل ، یبعدّ فعله عمّا یترتب علیه من الاعتراض .

والمراد من المسح ، هو أقلُ الغسل الذی یجری الماء فیه ، ولو بمعونة الید واتیانه بمثل التدهین ، وقد عرفت کفایته بالتدهین ، ولیس فی الروایات ما یدلّ علی کون الترک کان للنسیان أو لاصابة القائل _ کما قاله فی «الجواهر» _

ولکن قد یرد علیهما : بانه لا یستفاد من ظاهر کلام الامام علیه السلام من القول بلزوم مسح الموضع المتروک أنّه ترک ، کون ترکه لأجل النسیان أو التعمّد أو غیرهما .


1- مستدرک الوسائل: الباب 30 من أبواب الجنابة ، الحدیث 2 .

ص:163

وقد یستدلّ علی لزوم مراعاة الترتیب بین الأعضاء ، بصحیحة زرارة المتقدّمة ، حیث ورد فیها قوله علیه السلام : «ثمّ صبّ علی منکبه الأیمن مرّتین ، وعلی منکبه الأیسر مرّتین» .

فالأمر بالصبّ علی المنکب ، الذی یفید اطلاقه أنّ الصب کان من أعلی الجانبین ، فیکون ظاهر الأمر أفادة الوجوب .

لکنّه یندفع بامکان أن یکون القید بحسب المتعارف الغالب فی العرف ، من صبّ الماء من الأعلی الی الأسفل لا عکسه ، فلایستفاد من کلامه علیه السلام عدم جواز غیره ، ولا اقلّ أن استفادة غیره غیر معلوم ، نظیر قید «حجورکم» فی حلّیة الربیبة ، ولأجل ذلک تمسّک الشهید فی «الذکری» بهذه الروایة للدلالة علی ندبیة الشروع من الأعلی .

مع أنّه لو سلّمنا دلالته علی ذلک فلا یستفاد منه لزوم مراعاة الصب من الأعلی ، کما لا یخفی ، خصوصا مع ما عرفت فی دلالة أخبار اللمعة علی کفایته ، دون لزوم رعایة الترتیب ، فما ذهب إلیه المشهور قویٌ .

الفرع الثانی: هو أنّه إذا عرفت وجوب مراعاة الترتیب بین الأعضاء الثلاثة ، واشتهار ذلک بین الأصحاب ، فلابدّ أن نتیقن هذه الحقیقة ، وهی أنّ مقتضی إیجاب ذلک ، أنّه متی بقیت لمعة أغفلها المغتسل ، وجب إعادة غسلها وغسل ما بعدها ، إذا کان الجزء غیر المغسول فی الجانب الأیسر ، لعدم وجوب الترتیب فی نفس الأعضاء، وهذا ماصرح به جماعة، فحینئذٍ لایجب علی الغاسل الاّ غسل ذلک الجزء دون مابعده ، بل قد یظهر من بعضهم دعوی الإجماع علیه .

وبناءً علی هذا ، فانه یحمل ماورد فی أخبار اللمعة علی هذا المعنی ، وذلک لما قد عرفت من امکان الحمل علی مالا ینافی ذلک ، من کونه فی الجانب الأیسر ،

ص:164

أو فی الأیمن قبل الشروع فی الأیسر .

کما لا ینافی ما ذکرنا ما ورد فی صحیحة زرارة ، عن أبی جعفر علیه السلام ، فی حدیثٍ ، قال: «قلت له: رجلٌ ترک بعض ذراعه ، أو بعض جسده من غسل الجنابة؟ فقال: إذا شکّ وکانت به بلّة ، وهو فی صلاته ، مسح بها علیه ، وإن کان استیقن رجع فاعاد علیها ، ما لم یصبّ بلّة ، فإن دخله الشکّ وقد دخل فی صلاته ، فلیمض فی صلاته ، ولا شیء علیه ، وان استیقن رجع فأعاد علیه الماء ، وإنْ رآه وبه بلّة مسح علیه وأعاد الصلاة باستیقان ، وأن کان شاکّاً فلیس علیه فی شکّه شیء ، فلیمض فی صلاته(1)» .

حیث قد یتوهم أنّ الإمام کان فی مقام السؤال عمّن ترک غَسل بعض الجسد ، وهو علیه السلام قد اکتفی فی الجواب بلزوم مسح المتروک ، بلا بیان لزوم مراعاة الترتیب فی غسل الأعضاء ، وبإعادة ما بعده إن کان فیما قبل الأیسر فی الرأس أو الأیمن ، فیدلّ علی عدم لزوم الترتیب لأجل ترک الاستفصال .

هذا ، ولکن یمکن أن یجاب عنه: بأنّ الأخذ بالاطلاق لأجل افادة ترک وجوب شیء ، لایتم الاّ بعد أن یکون المجیب فی مقام بیان الاطلاق ، وإلاّ لا یجوز حمل کلامه علی الاطلاق فیما هو غیر قاصد لبیان ذلک ، کما فیما نحن فیه ، حیث أنّ الإمام علیه السلام فی جوابه لم یکن إلاّ فی صدد بیان ما یستلزم ترک غسل جزء من الجسم ، من لزوم ترکه الإعادة لتدارک ما ترک فی نفسه ، وما لا یوجب ذلک؛ وأمّا ترک غَسل الجزء الذی الذی یوجب الاخلال بالترتیب ، فهل یجب تحصیل ما یوجب الترتیب أم لا ، فانّه لابدّ أن یطلب ذلک من دلیل آخر ، وقد عرفت لزومه فیما تقدّم ، فلا تکون هذه الروایة معارضة لتلک الأدلّة ،


1- وسائل الشیعة: الباب 41 من أبواب الجنابة، الحدیث 2 .

ص:165

ویسقط الترتیب بارتماسة واحدة(1)

غایته افادة الاطلاق ، فیقید بما لا یوجب الاخلال ، وإلاّ یجب إعادة غسل ما بعده أیضاً .

فعلی ما ذکرنا ، یظهر عدم تمامیه ما احتمله بعض ، بکون المورد یعدّ من موارد الاستثناء عن حکم الترتیب بین الأعضاء ، فیکتفی بالمسح للموضع المتروک ، ولو کان فی العضو السابق ، من دون إعادة الغسل لما بعده .

کما أنّه لا یتمّ ما احتمله آخرون من فقهائنا ، من کفایة المسح بدل الغسل فی المورد ، أخذاً بظاهر لفظ «المسح» من قوله علیه السلام : لأنّه من الواضح أن المراد من المسح هنا ، هو أقلّ افراد الغسل الذی یصدق ، حتّی لو حصل بصورة التدهین ، کما تقدّم ذکره .

(1) یقع الکلام فی المسألة من خلال عدة أُمور ، وهی:

الأمر الأوّل: ملاحظة حال غُسل الارتماسی ، وأنّه هل یکفی أم لا؟

ولا خلاف ولا إشکال فی کفایته ، للإجماع بکلا قسمیه ، من المحصّل والمنقول ، إذ لم یشاهد قول بعدم الکفایة ، واستفاضة الأخبار علی ذلک ، وفیها الصحاح:

منها: صحیحة الحلبی ، قال: سمعتُ أبا عبد اللّه علیه السلام ، یقول: «إذا ارتمس الجنبُ فی الماء ارتماسة واحدة أجزأه ذلک من غُسله(1)» .

ومنها: صحیحة عبید اللّه بن علیّ الحلبی ، وقد نقله الصدوق رحمه الله باسناده عنه ، قال: حدّثنی مَن سمعه یقول: «إذا اغتمس الجنبُ فی الماء اغتماسةً واحدة ، أجزأه ذلک من غسله(2)» .

فی غسل الجنابة / کفایة الغسل الارتماسی

ومنها: روایة السکونی عنه علیه السلام ، قال: «قلت له: الرجل یجنب فیرتمس فی


1- وسائل الشیعة: الباب 26 من أبواب الجنابة، الحدیث 12 _ 15 .
2- وسائل الشیعة: الباب 26 من أبواب الجنابة، الحدیث 12 _ 15 .

ص:166

الماء ارتماسة واحدة ویخرج ، یجزیه ذلک من غسله؟ قال: نعم(1)» .

ومنها: روایة مرسلة محمّد بن أبی حمزة ، عن رجلٍ ، عن أبی عبد اللّه علیه السلام : «فی رجل أصابته جنابة ، فقام فی المطر ، حتّی سال علی جسده ، أیجزیه ذلک من الغسل؟ قال: نعم(2)» .

حیث لا یبعد کون السیلان الوارد فی هذا الحدیث _ أو الافاضة فیما یأتی _ یناسب حال الاغتماس والارتماس ، لا صورة الترتیب ، وإلاّ لما کان للسؤال عن اجزاءه وجهٌ ، إلاّ أن یکون الشبهة من جهة شمول الماء لجمیع الأطراف والجسد ، وان کان الأمر کذلک کیف لا یحتسب الارتماس .

فحینئذ یمکن أن یکون هذا هو المراد من الخبر الذی رواه الحمیری فی «قُرب الاسناد» ، باسناده عن البزنطی ، عن الرضا علیه السلام : «أنّه قال فی غُسل الجنابة: تغسل یدک الیمنی من المرفق إلی أصابعکَ ، ثمّ تدخلها فی الاناء ، ثمّ اغسل ما أصاب منک ثمّ أفض علی رأسک وسائر جسدک(3)» .

منها : حدیث علی بن جعفر ، عن أخیه موسی بن جعفر ، علیه السلام : «أنّه سأله عن الرجل یُجنب ، هل یُجزیه من غسل الجنابة أن یقدم فی المطر ، حتّی یغسل رأسه وجسده ، وهو یقدر علی ما سوی ذلک؟ فقال: ان کان یغسله اغتساله بالماء أجزأه ذلک(4)» .

فی غسل الجنابة / نسبة ماورد فی الغسل الترتیبی و الارتماسی

إنْ کان المقصود من قوله علیه السلام : «یغسله اغتساله بالماء» ، هو احاطة الماء لجمیع البدن ، وإلاّ یحتمل أن یکون المراد منه هو کفایة المطر للاغتسال ولو


1- وسائل الشیعه: الباب 26 من ابواب الجنابة ، الحدیث 10 ، 13 ، 14 .
2- وسائل الشیعه: الباب 26 من ابواب الجنابة ، الحدیث 10 ، 13 ، 14 .
3- وسائل الشیعه: الباب 26 من ابواب الجنابة ، الحدیث 10 ، 13 ، 14 .
4- وسائل الشیعة: الباب 26 من أبواب الجنابة، الحدیث 5 .

ص:167

ترتیباً ، ولعلّه هو الأظهر منه .

منها : حدیث آخر لعلیّ بن جعفر علیه السلام ، حیث قال: «وسألته عن الرجل تصیبه الجنابة ، ولا یقدر علی الماء ، فیصیبه المطر ، أیجزیه ذلک أو علیه التیمّم؟ فقال: أن غسله أجزأه وإلاّ تیمّم(1)» .

کما یؤیّد ما قلناه ماورد من کلامه علیه السلام سابقا من قوله: «ویمرّ یده علی ما نالت من جسده» .

وهذا بخلاف ما ورد ، فی صحیحة زرارة ، عن أبی عبد اللّه علیه السلام ، فی حدیثٍ ، قال: «ولو أنّ رجلاً ارتمس فی الماء ارتماسة واحدة أجزأه ذلک ، وأن لم یدلک جسده(2)» .

حیث أنها صریحة فی الارتماس ، بل لعلّ المراد من القول الوارد فی صدر الخبر من قوله علیه السلام : «ثمّ تغسل جسدک من قرنک إلی قدمیک ، لیس قبله ولا بعده وضوء ، وکلّ شیء أمسسته الماء فقد انقیته»

هو الارتماس أیضاً ، وکان المراد بیان امکان وقوع الارتماس علی نحوین من الدفعة وغیرها ، کما یحتمل أن یکون المراد بیان الترتیبی من الغسل ، لوقوعه قسیما للارتماسی ، إلاّ أنّه أراد بذلک بیان وجوب إیصال الماء إلی جمیع البدن ، حتّی یصحّ الغسل .

ومهما کان ، فان ما یُغنینا فی الدلالة علی المطلوب فی المقام هی دلالة اربعة روایات منقولة و مرویة من الحلبیّین وزرارة والسکونی ، وجمیعها تدل علی کفایة الارتماس عن الغسل الترتیبی .

الأمر الثانی: ملاحظة حال الأخبار الواردة فی شأن الغُسل الترتیبی ، والأخبار


1- وسائل الشیعة: الباب 26، الحدیث 11 .
2- وسائل الشیعة: الباب 26، الحدیث 11 .

ص:168

الواردة فی الغُسل الارتماسی ، والبحث عن أنّه هل هما متعارضان فینبغی الجمع بینهما ، أمّا بجمع تبرعی عرفی ، أو بوجودِ شاهد جمعٍ بینها فی نفس الأخبار _ کما ادّعی _ أو لم تکن هذه الاخبار متعارضه ، و إنّما تکون اخبار الطائفه الثانیة حاکمة علی اخبار الطائفة الاول ، وجوه وأقوال:

ففی «الجواهر» بعد نقل الأخبار فی الغُسل الارتماس ، قال: «وبذلک کلّه یقیّد ما دلّ علی وجوب الترتیب فی غُسل الجنابة إن سلّم الشمول فیها لنحو المقام ، وإلاّ فلا معارضة حینئذ أصلاً(1)» .

فی غسل الجنابة / الترتیب فی الغسل الارتماسی

حیث یستفاد من ظاهر کلامه أنّه لم یقبل المعارضة ، ثمّ علی فرض قبول وجود التعارض فانّه رحمه الله یذهب الی التقیید ، خلافاً لظاهر کلام صاحب «الحدائق» ، حیث اختار کون الأصل فی الغسل الترتیبی والارتمایس الرخصة ، حیث قال: «وظاهر هذه الأخبار رخصةٌ وتخفیف ، والأصل هو الترتیب ، فیما یوحی إلیه لفظ الإجزاء من غسله ، أی بدل غسله المعهود بمثل دلالة «من» علی البدلیة فی قوله سبحانه تعالی: «أَرَضِیتُمْ بِالْحَیَاةِ الدُّنْیَا مِنْ الاْآخِرَةِ» ، أی بدلاً عن الآخرة . وبناءً علی هذا ذهب بعض محدّثی متأخری المتأخّرین الی القول بافضلیة الغُسل الترتیبی علی الارتماسی»(2) .

فلا یبعد استظهار ذلک من کلام الشیخ فی «المبسوط» و«الاستبصار» وابن ادریس فی «السرائر» ، من أنّ الارتماس یترتّب حکماً ، بأن یکون مقصودهم کون الترتیب فی الغُسل یعدّ أصلاً ، وفی الحکم رخصة فی الارتماس ، أی یترتّب


1- جواهر الکلام: ج 3/93 .
2- الحدائق الناظرة: 3/77

ص:169

حکماً دون الفعل ، وجعل الشیخ فی «الاستبصار» ذلک شاهد جمعٍ بین الأخبار ، الاّ أنّ صاحب «الجواهر» رحمه الله تعجب من قول الشیخ فی المقام .

هذا ، بخلاف عدد أخر من الفقهاء ، حیث جعلوا اخبار الارتماس حاکمة علی أخبار الترتیب ، وقد صرّحوا بذلک ، وممّن صرح بذلک الهمدانی فی «مصباح الفقیه» ، والآملی فی «مصباح الهدی» ، بل هو ظاهر غیرهما أیضاً .

ولا یخفی أن کلمة «الإجزاء» _ کما اشار إلیه صاحب «الحدائق» _ وإنْ دلّت علی کون الترتیب هو الأصل فی تشریع الغسل ، ویدلّ علی کون الارتماس أیضاً یکفی عن الترتیبی ، ولکن لیس مقتضی الاجزاء هو المعارضة ، بل غایته بیان امکان الاکتفاء بالارتماسی بدل الترتیبی ، وأنّه لا یبعد أفضلیّته .

ولعلّ مراد من عبّر الترجیح بالحکومة هو هذا المعنی ، أی جعل هذه الأخبار کاشفة لبیان انضمام فرد من أفراد الغُسل ، بحیث لولا هذه الأخبار لما قلنا بکفایة غیر الترتیبی .

مع أنّه لو سلّمنا صدق التعارض هنا بالاطلاق والتقیید ، أی ذهبنا الی أنّ الأخبار الدالة علی لزوم الترتیب فی الغُسل تشمل باطلاقها حتّی الارتماسی ، فبواسطة هذه الأخبار یقیّد تلک ، فیخرج الارتماسی عن لزوم مراعاة الترتیب فیه ، وبناءً علی هذا ، فلا وجه لما ذکره الشیخ الطوسی وابن ادریس من لزوم الترتیب فی الارتماسی حُکماً لا فعلاً ، کما لا یخفی .

الأمر الثالث: فی بیان مراد الشیخ رحمه الله من کلامه من کون الترتیب فی الارتماسی حُکمیّاً .

قد یقال: بکون مراده ، هو الطهارة ، کما هو الظاهر من کلامه فی «الاستبصار» ، حیث قال: «لأنّه إذا خرج من الماء حُکم له أوّلاً بطهارة رأسه ، ثمّ

ص:170

جانبه الأیمن ، ثمّ جانبه الأیسر ، هو حصول الطهارة عند خروج الأعضاء بالترتیب» .

هذا کما عن المحقّق الآملی ، حیث نسب هذا الظهور إلی کلامه .

ولکن الدقّة فیه یفید غیر ما ذکره ، لأنّه یمکن أن یکون مقصوده الحکایة عن تحقّق الطهارة بذلک الترتیب الارتماسی ، لا أنّه حین الخروج ینتسب إلیه الطهارة حکما .

فی غسل الجنابة / کیفیّة الغسل الارتماسی

وبناءً علی ما ذکرنا ، فانه یوافق ذلک مع تفسیره الثانی فی مقابل احتمال کون مراده تطبیق الطهارة بالترتیب حال الخروج ، حتّی یصیر ملاک الانطباق ملاحظة حال الخروج ، بحیث یکون الرأس مقدّماً علی سائر اعضاء الجسد فی الطهارة .

لکن یرد علیه أوّلاً: عدم وجود الترتیب بین الأیمن والأیسر حین الارتماس فی الماء ، لأنّهما یخرجان معاً .

وثانیاً: یلزم القول بعدم کفایة ما لو خرج عن الماء لا من جانب الرأس ، بل عن جنبه الأیمن أو الأیسر عَرَضاً ، أو عکس المتعارف عند عامة الناس وهذا یخالف ما قلناه من البیان الثانی ، وأنّه یکفی الخروج بأیّ وجه اتّفق ، لأنّ الترتیب وقع قهراً فی داخل الماء فی حال الارتماس ، ولأجل ذلک اختار صاحب «الجواهر» البیان الثانی ، ومن البعید جدا عن مثل الشیخ رحمه الله أن یقصد بعدم الکفایة إلاّ بالخروج بصورة المتعارف .

أو یقال بوجه ثالث فی توضیح مراده _ کما نسب ذلک إلی المحقّق فی «المعتبر» _ : بأن یکون المراد منه هو مراعاة الترتیب ، لکن مع قصد المرتمس ذلک ، بأن یقصد المغتسل حین الغَسل غسل رأسه أوّلاً ، ثمّ الأیمن ثمّ الأیسر ، فیکون الترتیب فی قصده ونیّته .

ولکن ناقش فیه صاحب «الجواهر» بأنّه مضافاً إلی مخالفته للأصل وغیره ، فانّه فاسدٌ فی نفسه ، ویأباه ظاهر المنقول فی «المبسوط» وغیره ، من جهة ورود

ص:171

التعلیل فی قوله «یترتّب حکماً» ، حیث ورد بصیغة الفعل اللازم لا المتعدّی ، مع أنّ المحقّق قد صرّح بانّ مرجع الضمیر المستتر فی قوله: «یترتب» ، هو الغُسل ، فلا ضرورة لأخذ الفعل لازماً حتّی یرد علیه بما قیل .

وقد یحتمل أن یکون مقصود الشیخ هو الترتیب تحت الماء بالنیّة والعمل ، یعنی بأن یقصد طهارة رأسه مع قیامه الفعلی بهذا القصد ثمّ یقصد غَسل جانب الأیمن ، وثم الأیسر کذلک .

ولکن هذا یعدّ من أبعد الوجوه ، حیث لا یناسب هذا الوجه مع تصریحه بعدم الترتیب فعلاً ، برغم أنّه یعدّ عملاً فعلیا ، وحمل کلامه فیه علی العمل خارج الماء غیر وجیه ، کما لا یخفی .

وکیف کان ، فانه لا یخفی أن شیئاً من المعانی الأربع مما لم یقم علیه دلیلٌ ، بل الدلیل قائمٌ علی خلافه ، وان شئت صحّة ما ذکرناه ، فانظر الی نصوص الأخبار ، تجد صدق مقالتنا ، وأن جمیعها تدل علی کفایة الارتماس ، بلا رعایة ترتیب فیه ، بأی معنی کان ، فلیتأمّل .

الأمر الرابع: فی بیان المعنی المراد من الارتماس ، وقد وقع الاختلاف فی المراد منه بأقوال متعدّدة ، وهی:

القول الأوّل: وهو المنسوب إلی المشهور ، بل فی «الجواهر» أنّه یظهر من بعضهم نسبته إلی الأصحاب ، مشعراً بدعوی الإجماع علیه ، هو أن المراد من الارتماس توالی غمس الأعضاء فی الماء ، علی نحو یعدّ غمساً واحداً ، ویتّحد عرفاً ، بأن یتّصل ارتماس کلّ عضو مع ما یلیه ، إلی أن ینتهی إلی الأعضاء فی الرمس مع بعض ، بالوحدة الاتصالیّة المساوقة للوحدة الشخصیّة ، کما ثبت فی محلّه . فیصیر الارتماس حینئذ کالحرکة والزمان ، فکما أنّ الحرکة من بدءها إلی

ص:172

نهایتها تعدّ عرفا حرکة واحدة شخصیّة ، ما لم یتخلّل فیها السکون ، فالارتماس بهذا المعنی یکون أمرا زمانیّاً علی سبیل الانطباق ، بأن یکون أوّله منطبقاً مع أوّل عضو یصله الماء ، وآخره ما ینتهی إلیه الغمس .

فعلیه یکون الارتماس أمراً تدریجی الحصول ، فلابدّ من مقارنة النیّة مع أوّله ، ثم یجب بقاءها واستمرارها إلی آخره ، بناءً علی لزوم الاخطار واعتبار المقارنة .

وقد استدلّ علی هذا القول بالأخبار المتقدّمة ، فی مقابل القول الثانی وغیره کما سیجئ ، اذ المستفاد منها هو أنّ المحکوم علیه بالإجزاء ، هو صدق الارتماس فی الماء عرفا ، وهو بحسب المفهوم عند العرف ، عبارة عن غمس الأعضاء وادخالها فی الماء بالمعنی المصدری ، ای الانتساب إلی الفاعل مع التوالی والتعاقب ، بحیث لا یتخلّل بینها الفصل والسکون ، وتحقّق ذلک لا یکون إلاّ بتحقّق أوّل آنات الشروع فی الغمس ، دون تغطیة الماء جمیع البدن وغمسه فیه بتمامه ، کما توهّم .

وتوهّم عدم صدق الارتماس مع بدایة دخول الاعضاء فی الماء کالرجل مثلاً ، فکیف یدّعی أنّه أوّل الارتماس .

مندفعٌ ، وذلک لأنّ عدم صدق الارتماس علی عضو بمفرده حین وصوله الی الماء ، لا یضرّ بصدقه علیه علی نحو اللابشرط عن شموله الأجزاء ، مثلاً الصلاة عنوان لمجموع اجزاء الصلاة ، ولایصدق هذا العنوان الاعلی الجمیع دون البعض ، ای لا یصدق علی کل جزء من أجزائها انها صلاة ، ولکن هذا لا یضرّ بصدق عنوان الصلاة علی اول ما یوجد منها من الأجزاء ، لوضوح أن صدق المجموع المرکّب علی أجزاء الصلاة من أوّلها إلی آخرها لا بشرط ، لا یکون متوقّفاً علی صدق الصلاة علی کلّ جزء بمفرده وبشرط لا ، ولذلک یصدق علی

ص:173

من یقدم علی اداء الصلاءة وشرع فی اول جزء من الصلاة أنّه یصلّی ، وأنّه مشغولاً بالصلاة ، مع أنّه لا یصدق علی قراءة سورة الحمد بمفردها أنها صلاة .

هذا بخلاف بعض المرکّبات ، مثل القرآن والماء ، حیث یصدق ذلک علی الجزء وعلی الکلّ بمقیاس واحد ، أی یصدق عنوان القرآن علی السورة بل الآیة الواحدة ، کما یصدق علی مجموع ما بین الدفتین ، کما یصدق عنوان الماء علی القطرة بقلّتها ، بمثل ما یصدق علی ماء البحر وغیره برغم کثرتهما .

وکیف کان ، فانّ عدم صدق الارتماس إلاّ علی المجموع ، وغمس جمیع الجسم فی الماء ، لا ینافی صدق الشروع بالارتماس وذلک بوضع الرجل فی الماء ، لما قد عرفت من أنّ الوحدة الاتصالیّة مساوقة للوحدة الشخصیّة ، فیصدق علیه الارتماس لو کان حصوله تدریجیّاً ، بشرط عدم تخلّل سکون وفصل بین الأعضاء فی الغسل والرمس ، فالملاک فی صدق الوحدة والتعدّد ، هو اتّصال الانغماسات وعدمه ، کیفما تحقّقت من البط ء والسرعة .

وهذا هو الدلیل علی القول المشهور .

اقول: ولقد أجادوا فیما أفادوا ، لأنّهم قدس سرهم ائمّة الفقه والفهم ، شکر اللّه مساعیهم الجمیلة ، وجزاهم اللّه عنّا وعن جمیع المؤمنین خیر الجزاء .

وأمّا البیان الثانی : وهو الذی نسبه صاحب «الجواهر» إلی استاذه الشیخ جعفر فی «شرح المفاتیح» ، قال:

إنّ الارتماس هو ادخال مجموع الجسد من حیث المجموع تحت الماء دفعة واحدة عرفیّة ، فبدایة الغُسل وصدقه لایکون الابعد شمول الماء جمیع الاعضاء دفعة واحدة بالدفعة العرفیّة ، فالاعضاء التی تلاقی الماء أوّلاً ، لیست من الغسل فی شیء .

ص:174

إلی أن قال: فالارتماس شیء واحد عرفی ، لیس له ابتداء ولا انتهاء ، ولا یتصوّر وقوع الحدث فی أثنائه .

ولا یخفی علیک أنّ الارتماس بهذا المعنی یکون زمانیّاً ، بمعنی کونه واقعاً فی طرف الزمان ، المعبّر بالآن ، لا الزمانی بمعنی الواقع فی الزمان علی وجه الانطباق ، کما کان کذلک فی السابق علیه .

ثم تفطّن الی ما یرد علیه من الاشکال من جهة النیّة ، بناءً علی کونها عبارة عن أمر بسیط وهو الخطور فی الذمن ، وأنّه تجب مقارنتها لأوّل العمل ، حیث لا أوّل له حینئذ ، کما قد صرّح بذلک ، ومن هنا اضطر بان یلتجی إلی الالتزام بوقوع النیّة عند أوّل جزء من أجزاء المستحبّات التی جوّزوا وقوع النیّة عندها ، وهو هنا غَسل الرجل ورمسه ، نظیر غسل الیدین فی الوضوء والغسل ، ولیس هذا إلاّ من جهة ملاحظة الدفعة العرفیّة فیه کما لا یخفی .

قلنا: إنّ قوله علیه السلام : «ارتمس فی الماء ارتماسة واحدة» ، ربّما توهم الاشارة الی مختاره ، إلاّ أنّه بعد الدقّة والتأمّل فی الحدیث ، خصوصاً فی روایة زرارة المشتملة علی بیان کلا قسمی الغُسل ، من الترتیبی والارتماسی ، یفیدنا ان المراد من الوحدة هی فی مقابل التعدد الذی یحصل فی الترتیبی ، فیما اذا کان قد تحقّق الغُسل بتعدّد الغسلات فیه دون الارتماس ، حیث یکون تحقّقه بغسلة واحدة شاملة لجمیع البدن .

وأمّا کون المقصود بیان حصول هذه الغسلة بالوحدة والدفعة خارجاً ، بحیث لا یکون لها بدایة ولا نهایة ، فلایمکن قبوله وتصوره .

ولأجل ذلک تری دعوی صاحب «الجواهر» القطع بفساده من وجوه کثیرة ، بل تمسّک بکلام المحقّق الثانی ، وقال _ وما أحسن ما قاله _: «إنّه مخالفٌ

ص:175

لإجماع المسلمین وأنّه لا یوافقه شیء من اُصول المذهب ، ولکن لاداء أعیی من الجهل» انتهی .

وکیف کان ، فانّ دلالة الأخبار علی ذلک مشکلٌ جدّاً ، فلا یمکن المصیر الیه اختیاره ، خصوصاً مع ملاحظة بعض الفروع المتفرّعة علی هذه المسألة ، من التخلیل ، وبقاء اللمعة وغیرها ، حیث لا یساعد مع المذهب ، مضافاً إلی النیّة ، ووقوع الحدث فی الاثناء ، کما اشار إلیه .

أمّا البیان الثالث: وهو الذی اختاره صاحب «الجواهر» حیث قال: «ربّما کان هناک وجهٌ رابع ، وهو أن الارتماس مأخوذٌ من (الرمس) وهو التغطیة والکتمان ، ومنه: رمستُ المیّت ، إذا کتمته ودفنته . فیراد به تغطیة البدن بالماء ، فأوّله أوّل آنات التغطیة ، وآخره آخر جزء انغسل فی تلک التغطیة ، فلا عبرة بما یغسل قبلها ، کما لا عبرة بما یُغسل بعدها ، فلا مانع حینئذ من التخلیل ونحوه فی اثنائها ، بل یکن القول بصدق الارتماس عرفاً ، وان لم یحصل التخلیل ، وإنّما أوجبناه لما یظهر من إیجاب استیعاب البشرة فی تلک الغطّة» إنتهی کلامه(1) .

ولا یخفی ما فی کلامه ، لوضوح أنّ المرکّب إذا نُسب واطلق علیه عنوان من العناوین أو لوحظ ، فانّه تارة یلاحظ بصورة الاسم المصدری ، أی الموجود فی الخارج بوصفه العنوانی ، ففی هذه الصورة لابدّ أن یکون المرکب بتمام أجزائه موجوداً ، کالبیت والصورة للإنسان فی هذا اللحاظ ، مثل أن یقال هذا البیت ملکٌ لزید ، أو هذه الصورة صورة إنسان أو حیوان ، أو هذا الکلام کلام إمام أو کلام إنسان ، وأمثال ذلک .


1- جواهر الکلام: 3/96 .

ص:176

ففی هذا اللحاظ لا یصدق اسم الکلّ علی جزء من الأجزاء ، أی لا یطلق علی یده ورجلیه إنسان ، أو علی حرف أو حرفین کلام ، إذ کلّ جزء یعدّ مغایرا لبقیة الاجزاء ولایعقل صدق الکلّ علی الجزء ، لأنّ اسم المصدر لا یصحّ اطلاقه إلاّ علی ما هو الموجود صورته بتمامه وکماله .

واخری یلاحظ المرکب وینتسب بصورة المعنی المصدری وإلی الفاعل ، أی یلاحظ بملاحظة حال احداثه وحدوثه .

فی غسل الجنابة / لو بقی فی الغسل الارتماسی شیء لم یغسل

ففی هذه الصورة ، یصحّ اطلاق العنوان والاسم المرکب علیه من حین البدء و الشروع بأوّل جزء منه ، فیصحّ لمن شرع ببناء أساس البیت ، أو رسم أوّل جزء من الصورة ، أو شرع بتلفظ اول جزء من اللفظ ، أن یقال لهولاء انّهم شرعوا ببناء البیت ، وأنّ فلانا رسم الصورة أو تکلّم بکلام ، ولو لم یوفق لاتمام واکمال هذه الامور فی الخارج .

فهکذا یکون عنوان الارتماس ، فانّه تارة یلاحظ بصورة الاسم المصدری ، أی الأثر الموجود فی الخارج ، فحینئذ لا یصدّق الارتماس إلاّ بتحقّق الرمس فی الماء لجمیع البدن ، وهذا ینطبق علی ما فسّره بعض اللغویین ، فیما نقله صاحب «الجواهر» وهو کما عن «القاموس» ونحوه ، فیکون الارتماس هو التغطیة وانغماس جمیع البدن فی الماء ، وإلاّ فانه لو أُرید منه المعنی المصدری ، أی اسناد إلی الفاعل واحداثه ، فلا إشکال حینئذ فی صدق الارتماس بأدخال أول جزء من الرأس فی الماء ، فیصدّق علی من اشتغل بالارتماس فی الماء بادخال رجله ، أنّه یغسل غسل الارتماس ، یتمّ رمس جمیع بدنه فی الماء ، وبما أنّ الموضوع فی الأحکام الشرعیة عبارة عن فعل المکلّفین من حیث انها افعال المکلفین ، لا من حیث هی فی أنفسها ، فلا ینبغی الاشکال فی کون صدق

ص:177

الارتماس هنا یکون بمعناه المصدری لا الاسم المصدری ، فلا محیص عن اتباع رأی المشهور وتأیید فهمهم ، حیث کان فهمهم موافقاً للتفسیر الأوّل ، ولذلک قال الشهید الثانی قدس سره أنّه یصعب مخالفتهم .

بل الترکیز والتدقیق فیما ذکرناه یظهر ضعف البیان الرابع للارتماس ، المنسوب لصاحب «الحدائق قدس سره » ، بل نقله فی «مفتاح الکرامة» عن «کاشف اللثام» وهو کونه بمعنی توالی الأعضاء الخمسة فی الماء من دون اعتبار وحدة عرفیّة ، بل یتحقّق الارتماس فیما إذا وضع رجله مثلاً فی الماء ، ثمّ صبر ساعةً فوضع عضواً آخر قبیل اخراج الرجل ، ثمّ صبر ساعة فوضع عضواً ثالثاً ، إلی آخر الأعضاء ، وتکون هذه الغمسات من أوّلها إلی آخرها ارتماساً ، فیکون الارتماس علی رأی هذه المجموعة من الفقهاء تدریجی الحصول وزمانیّاً علی وجه الانطباق ، ویکون وقت نیّته عند الشروع به فی أوّل جزء من اجزائه .

وفیه: برغم أنّه استند علی کلامه بما استدلّ به المشهور ، لکنه ذهب فی فهم لفظة الوحدة الی أن لفظة «واحدة» الواردة فی الروایات ، فی قوله علیه السلام : «ارتماسة واحدة» ، تکون فی قبال التعدّد المستفاد من أخبار الغُسل الترتیبی ، حیث لا یکون الغمسات والغسلات فیه إلاّ متعددا ، خلافا للارتماسی حیث لا یکون إلاّ بغمسة وغسلة واحدة ، فعلیه لا دلیل لنا للزوم الدفعة العرفیّة فی الارتماس ، حتّی ینافی الاتیان به مع التراخی .

ولکن أورد علیه: بأن ما أدّعاه من دلالة لفظ «واحدة» مخالفٌ لما یتبادر من قول القائل: «ارتماسة واحدة» أو «اغتسالة واحدة» ، حیث یفهم منه العرف الوقوع فی الماء دفعة واحدة ، بوحدة عرفیّة لا تدریجیة .

قلنا: إنّ ما ذکره وأن کان لیس ببعید ، إلاّ أن الاتیان بصورة الدفعة مفیدٌ

ص:178

لمعنیین ، وهما أفادة ما فهمه صاحب «الحدائق» بکون الغسلة هنا واحدة لا متعدّدة ، وکذلک یفهمنا بأنّ الغسلة هنا تکون بصورة الوحدة العرفیّة ، فالعمل بما قال به المشهور محصّلٌ للطهارة قطعاً ، بخلافه علی هذا القول ، خصوصاً مع ما عرفت منّا بکون الأصل هنا هو اصالة الاشتغال ، لکون المورد من قبیل المُحصِّل والمحصَّل ، فلا ینبغی ترک ما قاله المشهور .

وهکذا ثبت أنّ المختار فی المسألة هو قول المشهور ، وانه یعدّ أقوی الوجوه ، واللّه العالم .

ثمّ یترتّب علی هذه المسألة فرعٌ آخر ، وهو أنّه لو بقیت من بدنه لمعة یابسة لم یَغسلها نسیانا حتّی أتمّ غُسله ، فحینئذ هل یجب علیه استئنافه کما قال به صاحب «الجواهر» نقلاً عن والد العلاّمة ، واختاره جماعة من متأخّری المتأخّرین ، أو لا یجب مطلقا و یکفی غَسل الموضع فقط کما قال به العلاّمة فی «القواعد» وعدّ هذا الاحتمال أقوی الاحتمالات؟

والظاهر أنّه لافرق بین طول الزمان وقصره ، بل عدم الفرق بین کون اللمعة واسعة أو صغیرة ومحدودة .

فعلی هذا الاحتمال ، قد یقال بجریان حکم الترتیبی علیه ، بلزوم رعایة الترتیب فی الجبران ، بانّ اللمعة لو کانت فی الجانب الأیمن علیه غسلها واعادة غَسل الأیسر ، وأن کانت فی الأیسر اکتفی بغسلها ، فی قبال من لا یقول بذلک بل یکتفی بغسلها مطلقاً من دون مراعاة الترتیب . وهناک من یفصّل بین طول الزمان فیعید ، وقصره فلا یعید ، کما علیه المحقّق الثانی .

أو یفصّل بین کون اللمعة واسعة فیعید ، سواءً طال الزمان أم لا ، أو غیر واسعة فلا یعید ، خصوصاً إذا قصر زمانه . وجوه وأقوال ، والأقوی عندنا هو القول

ص:179

الأوّل ، وذلک بمقتضی اعتبار الوحدة العرفیّة .

اللّهمّ إلاّ أن یکون قِصر الزمان وصغر رقعة اللمعة علی حدٍّ لا یضرّ بصدق الوحدة ، فلا یوجب الاشکال ، وهو ظاهر کلام السیّد فی «العروة» وأکثر أصحاب التعلیق المدرجه اسماءهم فی طبعات «العروة» المتداولة فی هذه الأیام .

نعم ، قد یتوهّم أن مقتضی قول الصادق علیه السلام فی حدیث زرارة: «وکلّ شیء قد امسسته الماء فقد انقیته(1)» .

وصحیح محمد بن مسلم ، عن احدهما علیهاالسلام من قوله: «فما جری علیه الماء فقد طهر(2)» .

وحدیث آخر عن زرارة عنه علیه السلام : «فما جری علیه الماء فقد أجزأه(3)» .

وروایة ثالثة لزرارة ، عن أبی جعفر علیه السلام ، قال: «الجنب ما جری علیه الماء من جسده قلیله وکثیره ، فقد أجزأه(4)» .

فقد یتوهم من هذه الاخبار کفایة وصول الماء ولو کان بعد فترة ، لأنّ الملاک فی الاجزاء هو الوصول ، وهو ما قد تحقق .

لکنّه مندفع ، أوّلاً: بامکان أن یکون ذلک فی الغُسل الترتیبی من جهة عدم ورود دلیل یفید لزوم الدلک فی الغسل ، کما یؤیّده تصریح ذلک فی حدیث زرارة: «وإن لم یدلک جسده» .

فی غسل الجنابة / کیفیّة الغسل الارتماسی

هذا کما عن صاحب «الجواهر» .

ولکن یرد علیه: أنّ قوله فی ذیل الحدیث: «وإن لم یدلک جسده» کان فی ذیل


1- وسائل الشیعة: الباب 26 من أبواب الجنابة، الحدیث 1 ، 2 ، 5 .
2- وسائل الشیعة: الباب 26 من أبواب الجنابة، الحدیث 1 ، 2 ، 5 .
3- وسائل الشیعة: الباب 26 من أبواب الجنابة، الحدیث 1 ، 2 ، 5 .
4- وسائل الشیعة: الباب 31 من أبواب الجنابة، الحدیث 3 .

ص:180

بیان حکم الارتماس ، فلایشمل المقام .

فالأُولی أن یجاب عنه ثانیاً: بأن نصوص الاخبار المتقدّمة ، لو لم تکن للمطلوب أدلّ ، لما کان معارضاً لما استظهرناه من روایات الارتماس ، من لزوم مراعاة الوحدة والدفعة العرفیّة ، لوضوح أنّه إذا ضممنا نصوص هذه الاخبار الی ما دلّ علی لزوم کون الارتماس بالدفعة ، فانّه ینتج کفایة صحة الغُسل بوصول الماء بنفسه إلی الجسد مع الدفعة فی الارتماس ، أو حتّی مع عدم الدفع فی الترتیبی ، وأنّه لاحاجة إلی إیصاله بیده ، کما قد یتوهّم ذلک واللّه العالم .

هاهنا عدة فروع ، وهی:

الفرع الأوّل: هل یشرط فی الغُسل الارتماسی دخول تمام البدن الی الماء دفعة واحدة و خروجه منه _ کما یظهر ذلک من المحکی عن الخراسانی فی «الکفایة» ، والصالح البحرانی علی ما فی «الحدائق» من قوله: «إنّه یجبُ علی المرتمس أن یُخرج نفسه من الماء لو کان فیه ، والقاء نفسه فیه دفعة» .

ولعلّ منشأ ذلک ، توهم عدم صدق الارتماس علی مَن کان بعض بدنه فیه دون جمیعه ، إذ لا یقال له أنّه مرتمسٌ بتمام بدنه فی الماء ، والمفروض اعتبار تحقّق الغُسل بارتماس تمام بدنه لا بعضه .

أم یکفی فی صدق الارتماس کون معظم البدن خارجاً عنه ، بل یکفی عکس ذلک ، بأن یکون ما هو الخارج أقلّ ممّا هو داخل فیه ، بل ولو بجزء منه ، کما یصدق علی مَن کان جمیع بدنه خارجاً .

وقد حکی هذا القول عن المحقّق الهمدانی قدس سره ، بل قد حکی صاحب «الحدائق» عن صاحب «الدرّ المنظوم» للشیخ علی سبط الشهید الثانی قدس سره ، أنّه

ص:181

قال: «وما أحدث فی هذا الزمان من کون الإنسان ینبغی أن یلقی نفسه فی الماء ، بعد أن یکون جمیع جسده خارجاً عنه ، ناش عن الوسواس ، المأمور بالتحرّز منه ، ومِنْ توهّم کون الإرتماس فی الماء یدلّ علی ذلک . وهذا لیس بسدید ، لأنّ الارتماس فی الماء یصدق علی مَن کان فی الماء ، بحیث یبقی من بدنه جزءٌ خارج ، وعلی مَن کان کلّه خارجاً . بل ربّما یقال: إنّه صادقٌ علی مَن کان جمیع بدنه فی الماء ، ونوی الغُسل بذلک مع حرکة ما ، بل بغیر حرکة . إلی أن قال: نعم لو قال علیه السلام : وقع فی الماء دفعة واحدة ، دلّ علی ذلک ، علی أنّه لم ینقل عن أحدٍ من علماء المتقدّمین والمتأخرین فعل ذلک ، وهو ممّا یتکرّر فتتوفر الدواعی علی نقله لغرابته ، فلو فُعل لنُقل . مع منافاته للشرعة السهلة السمحة ، خصوصاً فی أمر الطهارة ، والقاء النفس إلی ما یحتمل معه تعطل بعض الأعضاء ، لا ظهور له من الحدیث ، وکأنّ الشیطان(لعنه اللّه) یرید أن یسرّ بکسر أحد أعضاء بعض المؤمنین ، فیوسوس لهم بذلک ویحسّنه» انتهی(1) .

أو یکفی فی صدق الارتماس ، ولو لم یکن شیئاً من بدنه خارجاً عن الماء ، وبان یکون البدن بتمامه مغموراً فی الماء ، ومن ثمَّ قصد الغُسل ، وحرّک بدنه تحت الماء ، بحیث انتقل بدنه من مکانٍ إلی آخر ، أو حرّک الماء علی بدنه ، وإنْ کان جسمه مستقراً فی مکانه .

وهذا ، کما یظهر من ابن فهد فی «المهذّب البارع فی شرح مختصر النافع» حیث قال: «لو انغمس فی ماء قلیل کحوض صغیر أو اجانة ، ونوی بعد تمام انغماسه فیه ، وإیصال الماء إلی جمیع البدن ، ارتفع حدثه إجماعاً» .


1- الحدائق الناظرة: 3/82 .

ص:182

أو لا یحتاج إلی الحرکة فی الفرض المتقدّم ، بل یصحّ الغُسل الارتماسی ممّن منغمر تحت الماء ، إذا نوی الغُسل ، بلا حرکة منه توجب تمّوج الماء وانتقاله من موضع الی آخر وجوه وأقوال: ولا یخفی أنّه علی القول بمقولة صاحب «الجواهر» ، من کون الارتماس لایتحقق الاّ بعد التغطیة فی الماء ، وما یتقدم علیه من الشروع فی الدخول فی الماء لیس مربوطاً بالغُسل ، بل هو من مقدّماته .

أو بمقالة استاذه فی «شرح المفاتیح» ، حیث لاحظ الارتماس أمراً وحدانیّاً آنیّاً ، لا بدایة ولا نهایة له .

فلا إشکال فی عدم اعتبار خروج شیء من البدن فی صدق حقیقة الارتماس ، إذ هو لا یتحقّق إلاّ بعد الرمس فی الماء ، هذا بخلاف ما لو قلنا بمقالة المشهور ، أو صاحب «الحدائق» .

فالظاهر لزوم خروج شیء من البدن عن الماء ، إذ لا یبعد دعوی التبادر من لفظ الرمس إلی ذلک المعنی ، وشموله حتّی لمثل بقاء الرمس ، بحیث کان أصل الرمس لغیر الغُسل متحقّقاً قبلاً ، فقصد کون رمسه بقاءً لا حدوثاً للغُسل ، لا یخلو عن خفاء ، وإن ادّعی صاحب «مصباح الفقیه» والشهید رحمه الله فی «الدروس» بکون التبادر المذکور یعدّ تبادرا بدویّاً ، ببیان أنّ المطلوب أصل طبیعته الرمس ، حدوثاً کان أو بقاءً ، نظیر ما لو قال: «أمش فی الأرض أو اغسل الثوب» ، حیث أنّ المقصود هو أصل حصول المشی والغُسل لا حدوثهما ، فیصدق علی کلا فردیه .

هذا ، ولکنّه لا یخلو عن شبهة ، لأمکان القول بمدخلیة خروج شیء من البدن عن الماء فی حقیقة الرمس ، فالاکتفاء ببقائه من جهة حصول الرمس لغیر الغُسل ، لا یخلو عن اشکال ، فلذلک قلنا فی تعلیقتنا علی «العروة» بلزوم الاحتیاط فی خروج شیء منه ولو کانِ یسیرا ، فما علیه العلاّمة البروجردی ،

ص:183

خلافاً للسیّد صاحب «العروة» وکثیرٌ من أصحاب التعلیق ، حیث أجازوا مطلقاً ، بل ربّما قیل بالکفایة فی المغمور حتّی مع عدم إیجاد التحرّک فی الماء أو البدن ، او تعیین غمسه بالقصد والنیّة للغُسل ، مع أنّه خلاف الاحتیاط جدّاً ، واللّه العالم .

فی غسل الجنابة / هل یعتبر فی الغسل الارتماسی کثرة الماء؟

بحثٌ: هل یعتبر فی الغُسل الارتماسی کثرة الماء ، أو یصحّ ولو کان الماء قلیلاً؟ الظاهر هو الثانی ، إذا کانت القلّة علی حدٍّ بحیث یمکن تحقق الرمس فیه ، وذلک بمقتضی اطلاق النصوص والفتاوی .

فما وقع للمفید فی «المقنعة» من أنّه لا ینبغی له أن یرتمس فی الماء الراکد ، فإنّه أن کان قلیلاً أفسده ، وإن کان کثیراً خالف السُنة فیه ، فانّه لایقصد اشتراط . کثرة الماء حین الرمس ، لوضوح أنّ الماء الراکد یجامع مع الکثرة أیضاً ، بل مقصوده فساده من جهة الشرب والاستفادة لأمر آخر ، فالتنبیه علی لزوم الاجتناب من الانغماس فی الماء الراکد ، انّما کان لأجل رعایة الوضع الاجتماعی والأدب ظاهراً ، خصوصاً إذا کان بدن الجنب ملوّثاً بالنجاسة ، کما هو الغالب ، کما هو الظاهر من التعلیل الوارد فی کلام الشیخ فی «التهذیب» عن ذلک حیثُ قال: «بأن الجنب حکمه حکم النجس إلی أن یغتسل ، فمتی لاقی الماء الذی یصحّ فیه قبول النجاسة فسد» .

فیکون المراد من الفساد ، صیرورة الماء مستعملاً فی الحدث ، أو غیر ذلک ممّا لا یرتبط بما نحن بصدده ، کما لا یخفی .

الفرع الثانی: لا اشکال فی صحّة الغُسل الترتیبی تحت المطر والمیزاب ، وفی صحّة الارتماسی تحتهما خلاف وأقوال:

فعن «المبسوط» الحاق الغُسل تحت المجری والمطر بالإرتماس ، بل وقد

ص:184

تعدّی فی «التذکرة» فی الحاق المیزاب وشبهه .

وعن بعضهم: الحاق الصبّ بالاناء بالاغتسال تحت المیزاب والمطر .

وفی «الحدائق» التفصیل بین المطر الغزیر وغیره ، بصحّته فی الأوّل دون الثانی .

هذا ، خلافاً لجمع کبیر من قدماء فقهائنا کالمحقّق والمعتبر ، تبعاً لابن ادریس ، والشیخ أبی عبد اللّه العجلی ، والمحکی عن «الذکری» و«الدروس» و«المدارک» و«الجواهر» و«المصباح» للهمدانی والآملی ، إلاّ إذا أحرز صدق الارتماس لکثرته ، کما علیه السیّد فی «العروة» وأکثر أصحاب التعلیق .

واستدلّ علی القول المشهور ، بکون الأصل فی الغُسل هو الترتیبی ، إلاّ ما خرج منه بالدلیل ، وهو خصوص الارتماس .

لکنک قد عرفت أنّ الأصل فی مثل الغسل والوضوء هو الاشتغال لدی الشکّ ، فلا یمکن رفع الید عنه ، ولاالحکم بتحقق الغُسل الترتیبی إلاّ باحراز الخروج بواسطة قیام الدلیل علیه ، ووصول الماء إلی جمیع البدن ، وأمّا الارتماسی فانه یحتاج _ مضافاً إلی ذلک _ إلی الدفعة العرفیّة ، واحراز تحقّقها فی مثل المطر المتعارف مشکلٌ ، إلاّ أن یکون المطر غزیراً بحیث یصدق الارتماس به .

فالنزاع ان کان من جهة الحاق الوقوف تحت المطر والمجری بالارتماس حُکماً _ لا من حیث کونه ارتماساً موضوعاً _ ، فاثبات الالحاق بالأدلّة الآتیة _ لو لم یکن ارتماساً موضوعاً _ مشکلٌ جدّاً ، وإن کان من جهة الالحاق من حیث صدق الارتماس موضوعاً ، فلا اشکال فی أنّه منوط علی احراز وصف الارتماس عرفاً ، وهو لا یحصل إلاّ إذا کان المطر المنهمر بحیث یحیط بجمیع البدن دفعة عرفیّة ، فعلیه لا اختصاص بخصوص المطر ، بل یشمل کلّ ما یوجب صدق الارتماس من المیزاب ، بل المیاه الجاریة من النهر الکبیر ، والأنابیب

ص:185

الواسعة الواقعة علی الآبار بواسطة المکائن الکهربائیّة ونظائرها .

فحیئذ نتوجّه إلی ما استدلّ به الشیخ ومن تبعه ، من التمسک والاستدلال بالاخبار ، وهو مثل صحیحة علی بن جعفر ، عن أخیه علیهماالسلام ، قال: «سألته عن الرجل یجنب هل یجزیه غسل الجنابة أن یقوم فی المطر حتّی یغسل رأسه وجسده وهو یقدر علی ما سوی ذلک؟ قال: إنْ کان یغسله اغتساله بالماء أجزأه ذلک(1)» .

ولکن یمکن أن یجاب عنه ، أوّلاً: أن مورد السؤال لا یرتبط بما نحن فیه ، لأنّه یرید السؤال عن جواز الاغتسال تحت المطر ، مع امکان غیره ، لأجل توهم السائل من انحصار وقوع الغُسل فی الماء المتعارف ، فأجابه علیه السلام عن جوازه وکفایته إن کان الاغتسال بالماء ممکنا ، سواء کان بالترتیبی _ کما هو الغالب الشائع _ أو بالارتماس _ إن امکن تحقّقه ولو ندرةً _ فلا اطلاق حینئذ للروایة حتّی یستدل بها علی المقصود .

فی غسل الجنابة / الغسل تحت المیزاب و المطر

وثانیاً: لو سلّمنا الاطلاق فیها ، فانه یتقید بما دلّ علی لزوم الترتیب فی الغُسل ، إلاّ ما احرز خروجه بالارتماس فی غیر المطر .

فمن ذلک یظهر الجواب عن المرسلة التی رواها محمد بن حمزة ، عن الصادق علیه السلام : «فی رجل اصابته جنابة ، فقام فی المطر ، حتّی سال من جسده ، أیجزیه ذلک من الغسل؟ قال: نعم(2)» .

فی غسل الجنابة / ما تعتبر من طهارة الأعضاء قبل الغسل

فالتمسّک بها للمطلوب مشکلٌ ، مضافاً إلی ارسالها .


1- وسائل الشیعة: الباب 26 من أبواب الجنابة، الحدیث 2.
2- وسائل الشیعة: الباب 26 من أبواب الجنابة، الحدیث 5 .

ص:186

فإذا عرفت الانصراف إلی الفرد المتعارف الشائع من الاطلاقات ، یظهر لکَ حال التمسّک باطلاق ما ورد فی روایة زرارة من قوله علیه السلام : «فما جری علیه الماء فقد أجزأه(1)» .

حیث أنّه فی صدد بیان لزوم الایصال أو الوصول فی الماء ، أمّا کونه بالترتیب _ کما هو الشائع _ أو الارتماس _ کما هو النادر _ ، فلابد أن یحصل من دلیل آخر ، هذا لو لم ندع انصرافه إلی الفرد الشائع .

ومن هنا ظهر وجه ضعف الاستدلال بما فی حدیث زرارة من قوله علیه السلام : «ثمّ تغسل جسدک من لدن قرنکَ إلی قدمیکَ(2)»

وفی روایة اخری قوله علیه السلام : «ثمّ افض جمع رأسک وجسدک(3)» .

حیث قد عرفت منّا سابقاً فی حدیث زرارة المشتمل علی کلا فردی الغسل ، فلا یبعد کون قوله علیه السلام : «ثمّ تغسل» لبیان الغُسل الترتیبی .

نعم ، لفظ قوله علیه السلام : «أفض» فیما اشرنا إلیه سابقاً ، لا یبعد کون اشارته إلی الارتماس ، إلاّ أنّه لا یرتبط بالمطر ، بل یدلّ علی کفایة الارتماس بالماء الذی یمکن تحقّقه منه ، ومن جملته ماء المطر إذا کان غزیراً ، علی نحو یتمکّن فیه الارتماس ، وفی مثله لا نضایقه ، فالمدار هو امکان صدق الارتماس به موضوعاً ، لا الحاق ما لا یصدق موضوعاً فی المطر به حکماً ، کما یظهر عن اطلاق کلمات بعض الأصحاب . وعلی ما ذکرنا ، لا خصوصیّة للمطر فقط ، بل یجری فی کلّ ما کان مثله ، کما لا یخفی .


1- وسائل الشیعة: الباب 26 من أبواب الجنابة، الحدیث 6.
2- وسائل الشیعة: الباب 26 من أبواب الجنابة، الحدیث 10 ، 14 .
3- وسائل الشیعة: الباب 26 من أبواب الجنابة، الحدیث 10 ، 14 .

ص:187

الفرع الثالث: فی بیان أنّه هل یشترط فی صحّة الغُسل _ بنوعیه من الترتیبی والارتماسی _ طهارة محل الغُسل مطلقاً عن النجاسة العینیّة والحکمیّة قبل الشروع فی أصل الغُسل ، أم لا؟ فانّ لازم هذا بطلان غَسل الرأس والرقبة ، مع کون باطن الرجل نجساً .

فقد حُکی هذا القول عن الحلبی فی «اشارة السبق» والعلاّمة فی «القواعد» ، بل فی «الحدائق» .

ونقله بعض مشایخنا عن جملة من الأصحاب ، فعلیه یجب تقدیم غَسل النجاسة (بالفتح) علی الغُسل (بالضمّ) ، حکماً الزامیّاً شرطیّاً دخیلاً فی صحّة الغُسل ، بحیث لو تخلّف لبطل ، ولکان آثماً أیضا .

بل ربّما استدلّ لهذا بظاهر الأخبار الدالّة علی کیفیّة الغُسل ، حیث کانت مشتملة علی لزوم ازالة النجاسة عن الفرج والإلیین أوّلاً ، ثمّ عطف الغُسل بأداة (ثمّ) الدال علی الترتیب .

أو یکفی فی صحّة الغُسل (بالضمّ) تقدیم الغَسل (بالفتح) بالنسبة إلی کلّ موضع ومحل من الوضوء ، لا تقدیمه علیه قبل الشروع ، فعلیه یلزم عدم بطلانه لو شرع فی غَسل الرأس ، مع کون الأیمن نجساً ، وهکذا بالنسبة إلی الأیسر مع الأیمن ، بل حتّی فی کلّ جزء من أعضاء الغُسل فی الترتیبی لو غَسَله أوّلاً ثمّ اغتسل لکان صحیحاً ، لصدق تقدّم الإزالة علی الغُسل ، وهو یکفی فی الصحّة وذلک بعد تحقق الشرط فیه .

وبعبارة أُخری: یعتبر فی صحّة الغُسل جریان ماء الغسل علی محلّ طاهر ، فیکفی ازالتها قبل غَسل ذلک المحلّ الذی وجدت النجاسة فیه ، وقد ذهب إلیه کثیر من فقهائنا المحقّقین ، من المتقدّمین والمتأخّرین ، وهو مختار السیّد فی

ص:188

«العروة» وأکثر أصحاب التعلیق ، وهو الأقوی عندنا ، وسیظهر لک وجه ذلک ان شاءاللّه .

أو یعتبر عدم بقاء کلّ عضو نجساً بعد غَسله ، ولا یشترط طهارته قبله ، فیصحّ علی هذا القول اجراء الماء علی العضو النجس بنیّة الغُسل (بالضمّ) ، الذی یطهره من الخبث أیضاً بجریان الماء علیه ، فیکفی أن نجری علی الموضع الماء لمرة واحدة للغَسل (بالفتح) والغُسل (بالضمّ) .

وهذا القول منسوبٌ إلی صاحب «الجواهر» علی حسب ما قاله المحقّق الآملی فی «مصباح الهدایة» حیث قال: «وذهب صاحب «الجواهر» قدس سره إلی الثالث ، حیث قوّاه فی «الجواهر» ، وقال فی «نجاة العباد»: وفی الاجتزاء بغَسل واحدة لهما وجه قوی» .

وکذا قاله السیّد الخوئی قدس سره من المتأخّرین ، بل قد یقال إنّه المنسوب إلی المحقّق الخوانساری فی «شرح الدروس» ، وقبله الشیخ فی «المبسوط» حیث قال: «وإنْ کان علی بدنه نجاسة ، أزالها ثمّ اغتسل ، وإن خالف واغتسل أوّلاً ، ارتفع حدث الجنابة ، وعلیه أن یزیل النجاسه ، إن کانت لم تزل ، وإن زالت بالاغتسال فقد أجزء عن غسلها» ، انتهی .

وفی «الجواهر» بعد نقل کلام الشیخ یقول: «ظاهره عدم اشتراط الجریان علی محلٍ طاهر مع القول بالتداخل ، لکن یظهر منه ایجاب الازالة أوّلاً ، وکأنّه لما سمعت من الأخبار السابقة ، ولعلّه فهم منها الوجوب التعبّدی لا الشرطی ، ولذا لم یحکم بفساد الغُسل عند المخالفة»(1) إنتهی .

فان صاحب «الجواهر» وان وافق فی کلامه ماذهب إلیه الشیخ الطوسی من


1- جواهر الکلام: 3/104.

ص:189

جهة التداخل وکفایة الغُسل عن الغَسل (بالفتح) ، إلاّ أنّه یغایره مع ما استظهره صاحب «الجواهر» من کون التقدیم واجباً تعبدیّاً لا شرطیّاً .

ولکن الانصاف عدم ظهور کلامه فی الإیجاب ، لإمکان أن یکون استظهاره بیان ما هو المتعارف الغالب ، فیوافق مع کلام الشیخ رحمه الله ، فیصیر هذا ثالث الأقوال .

والقول الآخر هو التفصیل بین الماء الکثیر و القلیل فی الاغتسال ، وفیما إذا کان النجس هو فی آخر الأعضاء _ کباطن الرجل _ وبین غیرهما ، فیکتفی بغسله واحدة فی الأوّلین دون غیرهما وهذا القول منسوبٌ إلی العلاّمة فی «النهایة» .

والقول الآخر هو انّه لایشترط شیء من ذلک ، بل یصحّ الغُسل مع نجاسة الاعضاء ، ولو مع بقائها علی النجاسة بعده ، فقد نسب الآملی فی «المصباح» هذا القول إلی الشیخ فی «المبسوط» وجعله خامس الأقوال حسب تقسیمه مثل ما قسّمناه .

قال: والقول الخامس محکی عن «مبسوط» الشیخ قدس سره . . . إلی آخر کلامه .

اقول: صیرورته مغایراً مع ثالث الأقوال ، موقوف علی ما نبهّنا علیه سابقاً ، من ظهور کلام الشیخ فی الوجوب التعبّدی بالتقدیم ، دون ما اختاره صاحب «الجواهر» ومن وافقه .

وکیف کان ، فهذه هی الأقوال فی المسألة ، فلابدّ بعد ذلک من الرجوع إلی ما استدل به هولاء الاعلام لمختارهم .

وأمّا الدلیل علی القول الأوّل: هو ظاهر جملة من الأخبار ، مضافاً إلی قاعدة الاشتغال ، واستصحاب بقاء الحدث وذلک فیما لو لم یظهر لنا دلیلٌ علی المطلوب اثباتاً أونفیاً ، وتردّدنا فیه ، وهی مثل روایة زرارة فی الصحیح ، أنّه علیه السلام قال: «تبدأ وتغسل کفّیک ، ثم تفرغ بیمینک علی شمالک ، فتغسل فرجک ، ثم

ص:190

تتمضمض وتستنشق ، ثمّ تغسل جسدک . . .» الی آخره .

وروایة محمّد بن مسلم فی حدیثٍ ، قال علیه السلام : «تبدأ بکفیّک فتغسلهما ، ثمّ تغسل فرجک ، ثمّ تصبّ علی رأسکَ ثلاثاً . . .» الی آخر .

وروایة أُخری لزرارة ، فی حدیث أنّه علیه السلام قال: «أن لم یکن اصاب کفّه شیء غمسهما فی الماء ثمّ بدأ بفرجه فانقاه بثلاث غُرف ، ثمّ صب علی رأسه ثلاث أکفّ . . .» الی آخره .

وروایة صحیحة حکم بن حکیم ، فی حدیثٍ قال علیه السلام : «أفض علی کفّکَ الیمنی من الماء فاغسلها ، ثمّ اغسل ما أصاب جسدکَ من أذی ، ثمّ اغسل فرجکَ وافض علی رأسکَ وجسدکَ فاغتسل . . .» الحدیث .

ومثله روایة سماعة ، فصارت الروایات مستفیضة فی الدلالة علی لزوم تقدیم غَسل الفرج والید علی الغُسل ، هذا بضمیمة عدم القول بالفصل بین الفرج والید وبین غیرهما ، وذلک یثبت لزوم التقدیم فی غَسل کلّ الأعضاء علی غُسلها (بالضمّ) ، لأجل افادة العطف وذلک بأداة (ثمّ) الدالة علی الترتیب بین الغَسل (بالفتح) والغُسل ، کما لا یخفی .

هذا ، ولکن یمکن أن یجاب عنه أوّلاً: بأنّ تقدیم الغَسل فی هذه الأُمور علی الغُسل (بالضمّ) من جهة دلالة (ثمّ) لازم أعمّ لوجوب التقدیم زماناً ، لأمکان أن یکون لأجل استحبابه ، و کونه یعدّ من آدابه ، کما قد یؤیّد ذلک ذکره فی سیاق آداب الغسل وسننه ، مثل المضمضة والاستنشاق .

وثانیاً: بامکان أن یکون بیان التقدیم جریاً لما هو الغالب والعادة عند عامة الناس ، حیث یقدّمون ازالة النجاسة علی الغُسل والوضوء ، لکونه اسهل ، خصوصاً فی الماء القلیل ، مع أنّه من الواضح أنّ ما یکون تحصیله واجباً هو

ص:191

طهارة محل الغُسل حین الغُسل لا طهارته حتّی قبل الشروع فی الاغتسال ، مضافاً الی اشتراک الغُسل مع الوضوء فی ذلک ، فکما لا یجب التقدیم فیه ، کذلک لا یجب فی المقام .

وثالثاً: لو سلّمنا دلالتها علی لزوم التقدیم ، أخذاً بظاهر أداة (ثمّ) ، ولکن هذا لا یوجب اثبات الشرطیّة ، حتّی یستلزم بطلانه مع عدم رعایته ، فاثبات الحکم الوضعی یحتاج إلی دلیل آخر غیر هذه الأخبار ، وهو مفقود ، ولعلّه لذلک فهم الشیخ لزوم التقدیم من باب الوجوب التعبدی ، ولذلک قال: لو أخلّ وأتی بهما معاً لما کان غُسله باطلاً) ، والحال أنّک قد عرفت فی الجواب ، عدم دلالتها علی الوجوب أیضاً .

وأمّا دلیل القول الثالث: وهو کفایة عدم کون محل الغُسل بعد تمامیته نجساً ، فیجامع هذا مع فردین آخرین ،

أحدهما: کون الغسل قبل الاغتسال أمّا بالقبلیّة بمعنی الشروع ، أو القبلیّة بمعنی قبل جری الماء علی ذلک المحل بنیّة الغُسل (بالضمّ) .

وثانیهما: کون الغَسل والغُسل مقرونین بعمل واحد ، یترتّب علیه کلّ واحدٍ منهما ، حیث استدلّ بأن ظاهر هذه الأخبار ، لا یفید أزید من لزوم عدم بقاء النجاسة مع حصول الغُسل ، وأمّا لزوم کون الغَسل قبل الغُسل وجوباً أو شرطاً فلادلالة فیها بل قد یمکن استظهار عدم الزوم التقدیم ، من صحیحة حکم بن حکیم ، حیث قال فی حدیث کیفیّة غسل الجنابة من قوله علیه السلام : «فإن کنت فی مکان نظیف ، فلا یضرّکَ أن لا تغسل رجلیکَ ، وأن کنت فی مکان لیس بنظیف

ص:192

فاغسل رجلیک(1)» .

حیث یدلّ علی عدم لزوم وجوب ازالة النجاسة ، مقدّماً علی أصل الغُسل ، فلا یبقی وجه للمنع ، إلاّ ما ورد عن المحقّق الکرکی فی «جامع المقاصد» من الدلیل علی منع ذلک ، وهو:

أوّلاً: أنّهما سببان فوجب تعدّد مسبّبهما وحکمهما ، فإن التداخل خلاف الأصل .

وثانیاً: بأنّ ماء الغُسل لابدّ أن یقع علی محل طاهر ، وإلاّ لأجزأ الغُسل مع بقاء عین النجاسة .

وثالثاً: بانفعال ماء القلیل ، ومعلومٌ أنه یشترط فی الماء أن یکون طاهراً إجماعاً .

هذا ، وأُجیب عن الأوّل: بالمنع من کون الأصل عدم التداخل ، تارةً بما سیأتی فی محلّه فی باب جواز تداخل الأغسال بغُسل واحد ، مع أنّ السبب لکلّ واحد منهما کان مستقلاً ، فتعدّد الأسباب یلزم ترتب مسبب له ، وأمّا کونه مستقلاًّ فی وجوده ولا یکفی فی تحقّقه فی ضمن آخر فهو أمرٌ ثابت .

وثانیاً: إنّ ما قیل فی وجهه من أنّ کلّ واحد من الخَبَث والحدث سببٌ مستقلٌ لوجوب غسل البدن ، فإذا تعدّد السبب ، لابدّ أن یتعدّد المسبّب والحکم ، وهو الوجوب ، وإلاّ لزم أن لا یکون کلّ منهما سبباً ، فانّه باطل ، لا لمجرّد مخالفته لإطلاق ما دلّ علی سببیّتها ، بل للعلم بتأثیر کلّ منهما فی إیجاب مسبّبه ، ومقتضی تعدّد الحکمین ، أعنی الوجوبین هو تعدّد الواجبین ، لامتناع اجتماع حکمین متماثلین _ کالمتضادّین _ فی موضوع شخصی واحد ، فلا یعقل أن یکون غَسلة واحدة معروضة لوجوبین .


1- وسائل الشیعة: الباب 27 من أبواب الجنابة، الحدیث 1 .

ص:193

ولکنه مدفوعٌ بما قد حقّقناه فی الأُصول فی مظانّه ، بأن الممتنع هو صیرورة غُسل واحد بما هو غُسلٌ بلا اعتبار قید زائدٍ علیه ، موضوعاً لوجوبین أو لحکمین مختلفین ، لاستلزامه المحال من اجتماع المثلین أو الضدّین .

وأمّا إذا کان مع تعدّد الجهة والحیثیّة ، کما لو کان المسبّب عن نجاسة البدن هو ازالتها ، وعن الحدث هو رفعه ، ومغایرة الازالة والرفع مع الحدث مفهوماً واضح ، فجری الماء علی البدن متحیّثٌ بحثیتین فمن حیث أنّه ازالة النجاسة ، محکومٌ بحکم ، ومن حیث أنّه رافع للحدث محکوم بحکم آخر ، ویشهد علی ذلک التعدّد ، لزوم قصد القربة فی تحقّق الثانی دون الأوّل .

فعلی القول بجواز الإجتماع ، وکفایة تعدّد الجهة ، یکون المجمع محکوماً بحکمین مطلقاً ، ولو کانا مختلفین .

وعلی القول بالامتناع یصحّ اتیان المجمع ، لاسقاط الحکمین فی المماثلین ، وأن لم یصحّ فی المتضادّین ، وجهة التفاوت هو أنّ المتماثلین وإن هما مثل المتضادّین من جهة استحالة محکومیتها بحکمین فعلییّن ، لاستحالة الإجتماع ، إلاّ أن المحل حیث کان واجداً لملاک کلا الحکمین المتماثلین ، فلا منع لکون المجمع إذا اُتی به کان مرکزاً لسقوط الحکمین ، لتحصیل ووجدان ملاک کلّ منهما وهو الازالة والرفع ، فالجری الخارجی للماء علی البدن ، محصّلٌ لامتثال کلا الحکمین ، مثل ما لو أکرم عالماً هاشمیّاً فقیهاً ، حیث أنّه باکرام شخص واحد الجامع لهذه الصفات ، یکون محصّلاً لامتثال أوامر متعدّدة ، فی قوله: «أکرم عالماً وهاشمیّاً وفقیهاً» ، کما یُحصّل بأتیان اکرامات متعدّدة لاشخاص عدیدین یحمل کلّ واحد منهم صفة من الصفات .

ولا یجری مثل ذلک فی الحکمین المتضادّین _ مثل الصلاة والغصب _

ص:194

بالوجوب والحرمة ، حیث أنّه مع القول بالامتناع ، لا یمکن اجتماع الحکمین ولا الملاکین ، إذ لا یمکن جمع ملاک الحرمة مع ملاک الوجوب بالفعل والترک ، کما لا یخفی .

وما نحن فیه یکون قبیل الأوّل لا الثانی ، لأنّ الحکم فی الازالة والرفع کان هو الوجوب ، کما هو واضح ، هذا أوّلاً .

وثانیاً: یوجد فرق آخر بین المقام وبین مثل الصلاة والغصب ، وهو انّه لو قلنا بالمنع حتّی مع تعدّد الجهة ، فی مثل الصلاة والغصب ، فانه لایستلزم القول بالمنع فی المقام ، لأنّ الجهتین فی تلک کانتا فی عرض واحد وفی عرضین ، وهذا بخلاف المقام ، حیث یکون العنوانان هنا طولیین ، إذ أحدهما کان فی مرحلة الشرطیّة وهو الإزالة ، وهو مقدّم ، والآخر فی المشروطیّة ، وهو الرفع وهو مؤخّر ، وما لا یجدیه التعدّد فی الجهة _ إنْ قلنا به _ کان فی العرضیین لا فی الطولیین ، مع أنّه لو قیل بالمنع مطلقاً ، حتّی فی الطولیین ، کان فی الحکمین المتخالفین المتضادّین لا فی المتماثلین الذی بیّنا وجهه .

وثالثاً: لو سلّمنا المنع من التداخل ، وأنّه لا یقتضی الحکم بتقدّم الجری الغُسلی علی الغُسل ، بل اللازم حینئذ تحقّق احدهما ، ولو کان هو الغسل ، وحیث أنّ الغسل أمرٌ عبادی یتوقّف تحقّقه علی النیّة ، یشترط و یتوقف صحة اتیانه علی النیّة .

اللّهمّ إلاّ أن یقال باعتبار تقدّم الازالة علی الرفع ، من جهة کونه شرط ، وهذا ما یوجب تحققه .

ولکن اجیب عنه: بأنّه عودٌ إلی دلیل الاشتراط ، الذی عرفت عدم دلالته علی اعتبار تقدّم الازالة علی الرفع زماناً ، وأنّ المستدلّ یرید اثبات اعتباره بامتناع التداخل .

والحاصل: أن امتناع التداخل لا یُثبت وجوب تقدّم الازالة علی الغُسل زماناً .

ص:195

وفیه: هذا الجواب غیر تام ، لأنّه إذا سلّمتم الشرطیّة ، وقبلتم کون الازالة شرطاً للرفع لا العکس ، وفرضتم التسلیم فی المنع عن التداخل بلزوم تحقّق أحدهما لا کلیهما ، فلا سبیل إلاّ أن یکون المتحقّق هو الشرط والازالة لا الرفع والمشروط ، لأجل تقدّم الشرط علی المشروط ، ولو رتّبته ، وان لم یکن زماناً .

فالأحسن فی الجواب هما الجوابان الاوّلان دون الأخیر ، کما لا یخفی .

وأُجیب عن الثالث: بأنّ انفعال ماء القلیل بملاقاته مع النجاسة المانع عن حصول الطهارة به ، موقوفٌ علی القول بنجاسة الغُسالة ، حتّی قبل الانفصال ، وأمّا لو قلنا بنجاستها بعد الانفصال عن المحل ، وحصول الطهارة من الحدث ، فلایمتنع نجاستها حینئذ ، لأنّه طاهر حین حصول الطهارة ، واعتبار طهارة ماء الوضوء والغُسل بالإجماع ، إنّما کان فی طهارته عمّا عدا النجاسة التی تعرضها من قبل ان یلاقی المحل ، کما کان الأمر کذلک فی الماء المستعمل فی ازالة الخبث ، وإلاّ یلزم سدّ باب التطهیر بالماء القلیل رأساً ، فهذا المعنی یساعد حتّی مع القول بنجاسة الغُسالة قبل الانفصال بالنسبة إلی طهارة الماء ، وإن کان یشکل الأمر فی حصول الطهارة عن الحدث فی هذا التقدیر .

ومن ذلک یظهر الجواب عن الثانی ، حیث قد ادّعی الملازمة ، علی فرض جواز التداخل باجزاء الغسل ، حتّی مع بقاء عین النجاسة بعده ، لما قد عرفت من حصول طهارة المحل بالملاقاة ، والنجاسة المتحقّقة للغسالة بعد انفصالها لا یلزم ما ذکره من أجزاء الغُسل مع بقاء النجاسة ، بل کان حصول الغُسل مع فرض طهارة الماء والمحل ، کما لا یخفی .

هذا غایة ما یمکن تقریره لبیان التداخل وکفایة عمل واحد للغَسل والغُسل ، کما علیه جماعة من الفقهاء .

ص:196

ولکن التحقیق والانصاف یقتضی اعتبار تقدیم ازالة النجاسة عن موضع الغُسل حین غَسل ذلک الموضع ، وذلک بدلیل اشتراط طهارة الماء الرافع للحدث إجماعاً ، وأنّ الماء بملاقاته النجاسة یتنجّس وینفعل ، إلاّ أنّه بالدفع عن محل النجس یتطهّر المحل ، فلابد فیه من القول بکفایة طهارة ما عدا النجاسة فی المحل ، وإلاّ یلزم سد باب التطهیر .

هذا بخلاف ما نحن فیه ، حیث یمکن تحصیل الطهارة بتقدیم الازالة علی ما یحصل به رفع الحدث ، ففی مثل ذلک لا وجه للقول باجزاء الغُسل مع الغسل (بالفتح) ، إذ کان لتحصیل التطهیر المحصّل للغُسل طریقاً غیر الاتحاد .

نعم یصحّ هذا الاتحاد فی مثل غُسل المیّت ، مع الماء القلیل ، حیث أنّه لو قلنا بشرطیّة الطهارة عن النجاسة حتّی بالنسبة إلی المحل _ وهو جسد المیّت _ للزم سدّ باب الغُسل فیه بالماء القلیل ، لأنّه بملاقاة الماء مع جسمه النجس یتنجّس ، فکیف یمکن تغسیله بماء طاهر حتّی عن مثل هذا النجاسة ، فلا محیص الاّ عن القول بشرطیّة الطهارة عمّا عدا هذه النجاسة من النجاسات العارضة ، دون نجاسة المحل ، وما نحن فیه لیس من هذا القبیل .

نعم ، یصحّ التداخل فیما نحن فی ماء لا ینفعل بالملاقاة مثل الکرّ والماء الجاری ، ولذلک تری التفصیل عند بعض فقهائنا بین الغَسل فی الماء القلیل ، بلزوم تقدیم الازالة علی الرفع ، وبین غیره فی عدمه ، وهذا التفصیل له وجه وجیه .

وأمّا التفصیل بین ما إذا کانت فی آخر الوضوء ، وبین ما لم تکن کذلک ، بصحّة الاکتفاء بالغَسل الواحد لازالة الخبث والحدث فی الأوّل دون الأخیر ، فانّه وان قال به صاحب «الجواهر» قدس سره من أنّه لیس له وجهٌ سالمٌ عن التأمّل والنظر ، إلاّ أنّه یمکن أن یکون وجهه هو ابتناء قوله علی نجاسة الغسالة بعد الانفصال ، حیث أنّه

ص:197

یلزم من ذلک کون الغسالة لسائر الأعضاء _ غیر عضو الأخیر _ نجساً ، وأن لا یرتفع الحدث لفاقدیّته شرط الطهارة ، بخلاف العضو الأخیر _ مثل باطن الرجل الیسری _ حیث الغسالة بعده لا تؤثّر فی حصول الطهارة قبله .

إلاّ أنّه فاسد ، لما قد عرفت من لزوم طهارة الماء الرافع للحدث حین الملاقات ، مع أنّه یتنجس وینفعل مع قلّة الماء ، فلا سبیل الاّ ان نقدم اولاً علی التطهیر والازالة ، کما لا یخفی .

اما اذا کان المفصّل قد استفاد ذلک فی التداخل فی الرجلین ، من صحیحة حکم بن حکیم ، حیث ورد فیها الأمر بغَسل الرجلین اللتین هما آخر الأعضاء ، فإن اطلاق الأمر بغسلهما یقتضی کفایة غَسلة واحدة لهما معاً .

ولکنّه مخدوش ، لأنّ الروایة لیست بصدد بیان الاطلاق ، حتّی یؤخذ به ، بل هی فی مقام بیان لزوم ازالة النجاسة عن الرجلین علی تقدیر نجاستها ، فامّا أنّه تکفی لذلک غَسله واحدة أو اکثر من ذلک کما لا یخفی .

ومن جمیع ما بیّناه ثبت أمران:

أحدهما: بطلان القول الخامس أو احتماله ، وهو عدم اعتبار شی ممّا ذکر ، حتّی یصحّ الغسل مع نجاسة الموضع ، ولو مع بقائها بعد الغسل ، فی مثل النجاسة الحکمیّة کالبول ، حیث یحتاج فی تطهیره بالماء القلیل الی غَسله مرّتین ، فإنّ الغُسل (بالضمّ) یتحقّق مع الغَسلة الأُولی ، وأن لم تحصل الطهارة عن الخبث إلاّ بالغَسلة الثانیة .

مع أنّک قد عرفت عدم تمامیّته ، لأجل لزوم أن یکون محل الغُسل طاهرا أوّلاً ، وعلمت أنّ الغسالة فی الماء القلیل تنجس ، فلابدّ فی حصول رفع الحدث

ص:198

مقارنا مع ازالة الخبث قبل الغُسل ، وهو مقدور فی المقام ، بخلاف ما لو أُرید تحصیل نفس الطهارة عن الخبث ، حیث أنّ شرطیّة طهارته _ حتّی عن النجس فی الموضع مطلقاً _ توجب سدّ باب التطهیر بواسطة الماء القلیل ، کما کان الأمر کذلک فی مثل غُسل المیّت ، فانه إذا غُسل المیت بالماء القلیل ، فلا مناص عن القول بحصول الطهارة ، حتّی مع ملاقاته بنجاسة الموضع الذی لا ینفکّ عنها .

نعم ، یشترط فیه الطهارة عن النجاسة الخارجیّة العارضیّة ، فی حصول الطهارة عن الخبث ، فی الحکمیّة ، والطهارة عن الحدث فی مثل غُسل المیّت ، فتأمل فإنّه دقیق .

فی غسل الجنابة / الموالاة فی الغسل

وثانیهما: صحّة القول الثانی ، کما علیه المشهور ، وأکثر المحقّقین من المتقدمین والمتأخّرین ، وهذا هو المطلوب .

الفرع الرابع: ظاهر کلام الماتن _ کصریح بعض الأصحاب ، بل من غیر خلاف یعرف _ عدم وجوب مراعاة الموالاة بالمعنییّن الذین قد ورد ذکرهما فی باب الوضوء ، وهما المتابعة _ أی التتابع العرفی فی الغُسل _ وعدم الجفاف ، علی المشهور المعروف بین الأصحاب ، والذی قد ادّعی علیه الإجماع .

والدلیل علیه _ مضافاً إلی ما عرفت من وجود الاطلاقات ، بل قد ادّعی وجود الاصل فیه ، إلاّ أنّک قد عرفت التأمّل فیه لو احتجنا إلیه _ دلالة عدد من الاخبار الخاصّة علی ذلک ، مثل صحیحتی ابن سنان وأبی بصیر ، والخبر الذی رواه الراوندی فی «نوادره» مسنداً إلی الکاظم علیه السلام ، الواردة فی قضیّة اللّمعة الباقیة علی الجسم حتّی تمّ غَسل ذلک العضو أو أتمّ الغسل ، فقد مسح الإمام علیه السلام ذلک الموضع بعد أن عرف ذلک ، المشعر بعدم وجوب الموالاة _ بمعنی التتابع _ وإن

ص:199

أمکن عدم مساعدته مع معناها الآخر وهو عدم الجفاف ، حیث أن الغالب عدم حصول الجفاف للأعضاء بذلک المقدار من الوقت ، فیشکل حینئذ دلالتها علی المطلوب ، ولعلّه لذلک قد عبّر صاحب «الجواهر» بالاشعار لهذه الأخبار .

وایضا: صحیحة هِشام بن سالم ، فی قصة اُمّ اسماعیل(1) ، والتی أمرها الإمام علیه السلام بالفصل بین غَسل رأس الجاریة وغَسل جسدها ، وقد مرّ تفصیلها سابقاً .

وأیضا: حدیث إبراهیم بن عمر الیمانی ، عن أبی عبد اللّه علیه السلام ، قال: «ان علیّاً علیه السلام لم یر بأساً أن یغسل الجُنب رأسه غدوّة ، ویغسل سائر جسده عند الصلاة(2)» .

وأیضا: صحیحة حریز المنقولة فی (باب الوضوء) ، قال: قلت: فإن جفّ الأوّل قبل أن اغسل الذی یلیه؟ قال: جفّ أو لم یجفّ اغسل ما بقی . قلت: وکذلک غُسل الجنابة؟ قال: هو بتلک المنزلة ، وابدأ بالرأس ، ثمّ افض علی سائر جسدک . قلت: وان کان بعض یوم؟ قال: نعم(3)» .

ورواه الصدوق فی «مدینة العلم» مسنداً عن حریز ، عن أبی عبد اللّه علیه السلام ، کما رواه الشهید فی «الذکری» .

بل قد یدلّ علیه حدیث «فقه الرضا» من قوله: «ولا بأس بتبعیض الغُسل ، تغسل یدیک وفرجک ورأسک ، وتؤخّر غسل جسدک إلی وقت الصلاة ، ثمّ تغسل إنْ اردت»(4) .

بل یمکن الاستدلال أیضاً بالخبر الذی رواه السیّد محمد بن أبی الحسن


1- وسائل الشیعة: الباب 29 من أبواب الجنابة، الحدیث 1 ، 2 .
2- وسائل الشیعة: الباب 29 من أبواب الجنابة، الحدیث 1 ، 2 .
3- وسائل الشیعة: الباب 29 من أبواب الجنابة، الحدیث 3.
4- مستدرک الوسائل: الباب 20 من أبواب الجنابة ، الحدیث 1 .

ص:200

الموسوی العاملی فی کتاب «المدارک» نقلاً عن کتاب «عرض المجالس» للشیخ الصدوق ، عن الصادق علیه السلام (1) ، ونصّه مطابقٌ مع نصّ المنقول فی کتاب «فقه الرضا» مع اضافة فی ذیله .

فمع وجود هذه الأخبار ، لا یبقی شکّ فی المسألة .

کما أن متقتضی ظاهر هذه الاطلاقات عدم الفرق فی عدم وجوب الموالاة بین الاعضاء والعضو الواحد ، کما یشعر فی عدمه فی الوضوء الواحد ، الاخبار الواردة فی اللّمعة أیضاً ، کما یتّضح ذلک مع التأمّل فیها .

ولا یذهب علیک أنّ عدم وجوب الموالات کان بلحاظ أصل الغُسل ، فلا ینافی ذلک وجوبه لعارض خارجی ، مثل النذر ، خصوصاً إذا قلنا باستحباب الموالات ، کما هو مختار صاحب «الحدائق» وحیث صرّح بأن الأصحاب ذهبوا إلی استحبابه ، فلا بأس به ، خصوصاً مع ملاحظة التسامح فی أدلّة السنن .

فحینئذ یمکن أن یتعلّق به ، إن فرضنا لزوم الرجحان فی متعلّقه ، وإلاّ یجوز مطلقاً .

وقد یجب مراعاة ذلک لضیق الوقت ، لوفرضنا أن الترتیب یوجب فی سرعة الغسل ، بل قیل قد یجب لو خیف فجأة حدوث الحدث ، کما هو الحال فی المسلوس والمبطون والمستحاضة ، ففی «الجواهر»: أنّه مبنیّ علی فساد الغسل بعروضه فی أثنائه .

فی سُنن الغُسل / تقدیم النیّة عند غسل الیدین

ونحن نزید: أو أوجب عدم الوثوق بالاکتفاء بذلک الغُسل ، مع أنّ تعلق الوجوب لخصوص هذین الوجهین مشکلٌ ، إلاّ ان یقتضی عدم مراعاة ضیق


1- وسائل الشیعة: الباب 29 من أبواب الجنابة، الحدیث 4 .

ص:201

الوقت واتلافه ، فیدخل حینئذ فی الفرع السابق ، فلا یکون حینئذ واجباً مستقلاً .

ویجری مثل هذا الکلام فی حالة خوف عروض الحدث الأکبر ، وإنْ کان فساد الغُسل به مسّلم ، إلاّ أنّ الاشکال فی أصل وجوب حفظ الغُسل وحرمة ابطاله ، مع أنّ صاحب «الجواهر» قد استشکل فی أصل کون ذلک ابطالاً ، لأنّه فی الواقع بطلان لا ابطال .

لکن یمکن أن یجاب عنه: بامکان صدق الابطال علیه ، لأنّه بتأخیره وتقویته للموالاة اوجب وقوع الحدث فی الاثناء ، وحیثنئذٍ یصدّق علیه أنّه مع علمه بحاله ، فقد ابطل غُسله بالتأخیر ، وعرفاً یکفی هذا المقدار من القصد فی صدق الوصف المعین علیه .

هذا إذا لم یکن الحدث الأکبر مستمرّاً ، وإلاّ فقد قیل _ وهو صاحب «الحدائق» _ إنّه یجب فیه الموالاة ، لعدم العفو من القدر الضروری .

وفی «الجواهر»: وفیه تأمّلٌ یعرف ممّا سبق .

قلنا: وقد عرفت الاشکال فیه فلا نعید .

* * *

ص:202

بابٌ فی سُنن الغُسل

وسنن الغسل: تقدیم النیّة عند غَسل الیدین ، فتضیق عند غَسل الرأس (1).

(1) ولا فرق فی حکم النیّة بین کونها هی الاخطار أو الداعی ، وان کان الأوّل أوجه .

وعدّ المصنف رحمه الله من سنن الغُسل اتیانها عند غَسل الیدین ، کما فی «المبسوط» و«السرائر» و«التذکرة» ، فیکون هذا من جهة کون غَسل الیدین من أجزاء الغُسل المندوب ، کما علیه المحقّق والعلاّمة فی «المعتبر» و«القواعد» وغیرهما .

ولکن قد یظهر من بعضهم التردد فی الجواز ، فضلاً عن الاستحباب ، لعدم ثبوت الجزئیّة فی غَسل الیدین .

وفیه: ما لا یخفی ، إذ الظاهر من بعض الأخبار ، کونه داخلاً ، إذ یکون الشروع بذلک ، ولا یبعد امکان استظهاره من الخبر المنقول عن «مجالس» الصدوق ، عن الصادق علیه السلام ، قال: «لا بأس بتبعیض الغُسل ، تغسّل یدک وفرجکَ ورأسکَ ، وتؤخّر غسل جسدک إلی وقت الصلاة ، ثمّ تغسل جسدک إذا اردت ذلک . . . .»(1) .

بناء علی قراءة الغین بالضّم ، وإلاّ لخرج عن الاستدلال ، کما فی «الجواهر» .

ولکن لا یخفی علیک أنّ لفظ (الغسل) فی الأوّل یکون مضموما ، لأجل غَسل الرأس ، إذ لولا کونه بعنوان الجزئیّة للغُسل لما بقی وجه لوجوب الغَسل (بالفتح) ، بخلاف الیدین والفرج ، حیث یمکن کونهما للتطهیر عمّا یحتمل


1- وسائل الشیعة: الباب 29 من أبواب الجنابة، الحدیث4 .

ص:203

النجاسة فیهما من الجنابة ، فعلی هذا تکون قراءته بالضمّ ، وبناءً علیه فلا یبعد کون غَسل الید من مکمّلات الغُسل وسننه .

والمناقشة حینئذٍ فی اقتضاء ذلک استحباب التقدیم مرفوعة ، بامکان أن یکون الوجه فیه هو الاتیان بأوّل الاجزاء المندوبة مع النیّة ، وإلاّ لا یقع جزءا للمندوب ، فاتیان النیّة عند غَسل الرأس ، یوجب خروج غَسل الیدین عن الغُسل ، وان انفرد بنیته ، لأنّه لابدّ أن یؤتی بها لأجل کونها أوّل جزء المندوب ، وهو لا یتحقّق إلاّ إذا کان قد نوی الکلّ ، حتّی ینطبق علیها انه جزءٌ من اجزاء المرکب المندوب ، کما لا یخفی ، فیکون ذلک أحد أفراد الواجب التخییری ، بل أفضل الافراد ، فیکون مایقابل القول الاول هو أنّ المستحب أن یجعل النیّة عند غَسل الرأس ، لا أن یجعلها بعد غَسل الیدین مؤخّراً عنه ولو لم یکن عند غسل الرأس .

ومماذکرنا یظهر حکم ما فی المتن من تضییق وقت النیّة عند غسل الرأس ، لأنّه حینئذ أول اجزاء الواجب .

کما یظهر أنّه لو غَسل یدیه _ لا لکونه جزءًا مستحبّاً _ لازالة نجاستها ، أو لداعی آخر ، فانه لم یستحب التقدیم ، بل لا یجوز إن اعتبرنا مقارنة النیّة التفصیلیة لأوّل اجزاء العبادة ، کما هو المشهور .

هذا ، کما فی «مصباح الفقیه» .

ولیکن علی ذُکرِ منک _ لعدم المنافاة بین الاستحباب فی التقدیم ، مع نیّته لإزالة النجاسة _ بأن حِکمة جعل هذا الحکم ، هو دفع النجاسة المتوهمة ، التی توجد عادةً مع حدوث الجنابة ، اذا کان اقدام المکلف علی الغُسل مقاربا مع صدور الجنابة ، وإلاّ فانّه مع الفصل الطویل یبعد ذلک ، کما لا یخفی .

فاستحبابه ثابتٌ فی الجملة من الأخبار وکلمات الأخیار .

ص:204

وامرار الید علی الجسد وتخلیل ما یصل إلیه الماء استظهاراً (1).

(1) ان امرار الید علی الجسد یکون علی ثلاثة أقسام:

تارة: یقصد المکلّف به إیصال الماء إلی الجسد ، بما هو الواجب علیه معیناً ، فیما إذا توقّف وصوله إلیه علی امرار الید علیه .

وأُخری: ما یکون واجباً من حیث اختیار المکلّف تحقّق الغسل به ، من جهة کونه أحد فردی الواجب التخییری .

فی سُنن الغُسل / إمرار الید علی الجسد

وثالثة: ما لا یقصد ای واحد منهما ، فلا اشکال فی عدم وجوبه حینئذ ، بل قد حکی علیه جماعة الإجماع _ وهو الحجة _ معتضداً بالأصل ، لأنّه مقتضی أصل البراءة بعد العلم بتحقّق الغسل بدونه ، خصوصاً مع خلوّ کثیر من الأخبار عنه ، والاکتفاء بجریان الماء علی الجسد ، مع أنّ الاخبار واردة فی مقام بیان کیفیّة الغُسل ، کما تری فی مثل خبر محمد بن مسلم ، عن أحدهما علیهماالسلام من التصریح به ، بقوله: «فما جری علیه الماء فقد طَهر»(1) .

والملاحظ فی الخبر أنّه علیه السلام لم یذکر الدلک وامرار الید فی بیان الغُسل .

وکذلک مثله الخبر الذی رواه زرارة من قوله علیه السلام : «فما جری علیه الماء فقد اجزأه»(2).

بل فی روایة أُخری منه فی حدیثٍ: «ثمّ تغسل جسدک من لدن قرنک إلی قدمیک ، لیس قبله ولا بعده وضوء ، وکلّ شیء امسسته الماء فقد انقیته ، ولو أنّ


1- وسائل الشیعه: الباب 26 من ابواب الجنابة ، الحدیث1 .
2- وسائل الشیعه: الباب 26 من ابواب الجنابة ، الحدیث 2.

ص:205

رجلاً ارتمس فی الماء ارتماسة واحدة أجزأه ذلک ، وان لم یدلک جسده»(1) .

فإن القید الوارد فی قوله علیه السلام : «وان لم یدلک جسده» فی ذیل الحدیث ، إنْ کان راجعا إلی خصوص الارتماس ، فیمکن أن یکون لبیان عدم الاستحباب فیه ، کما یستحبّ فی الترتیبی ، وان کان راجعا إلی کلّ من الترتیبی والارتماسی ، فینفی عنهما الوجوب ، بعد عدم امکان قبول نفی الاستحباب فی الترتیبی ، لأجل وجود الاجماع فیه ، وبرغم ذلک فان الاحتمال الثانی بعیدٌ غایته .

بل قد استظهر صاحب «الجواهر» عدم وجوبه من روایة اسماعیل بن أبی زیاد ، عن جعفر بن محمد ، عن أبیه ، عن آبائه علیهم السلام ، قال: «کنّ نساء النبیّ صلی الله علیه و آله وسلم إذا اغتسلن من الجنابة یبقین (بقیّت) صفرة الطیب علی أجسادهنّ ، وذلک أنّ النبیّ صلی الله علیه و آله وسلم أمرهن أن یصببن الماء صبّاً علی أجسادهنّ(2)» .

حیث یفهم منه کفایة مجرد صبّ الماء فی الغُسل من دون امرار الید علی الجسد ، ممّا یوجب بقاء لون الصفرة علی اجسادهنّ .

ولکن مع ذلک یمکن أن یکون وجه استحبابه فی الترتیبی ، من جهة ما ورد فی الخبر الذی رواه علی بن جعفر ، عن أخیه علیه السلام حینما سأله عن الاغتسال فی المطر ، قال: «ان کان یغسله اغتسالة بالماء أجزأه ، إلاّ أنّه ینبغی له أن یتمضمض ویستنشق ویمرّ یده علی ما نالت من جسده(3)» .

وکذلک ما ورد فی «فقه الرضا» بعد بیان صفة الغُسل الترتیبی ، قال: «تمسح


1- وسائل الشیعه: الباب 26 من ابواب الجنابة ، الحدیث 3.
2- وسائل الشیعة: الباب 30 من أبواب الجنابة، الحدیث 2 .
3- وسائل الشیعة: الباب 26 من أبواب الجنابة، الحدیث 11 .

ص:206

سائر بدنکَ بیدک(1)» .

واحتمال کونه من باب مجرد التعبّد والانقیاد لما ورد فی الخبر لا من جهة الاستظهار ، غیر بعید ، خصوصاً إذا لوحظ استحبابه لجمیع الجسد ، لأنّ بعضه منه یقطع بوصول الماء الیه ، فلا معنی لاستحبابه من جهة الاستظهار فی تحصیل العلم بوصول الماء .

وکونه لأجل اختیار هذا الفرد من الغُسل ، الذی یعدّ أفضل الأفراد ، ولو من جهة کون مجموع عمل الغُسل مع امرار الید أوثق لجلب الاطمئنان بوصول الماء ، لا یخلو عن وجه .

ولعلّه لاجل ذلک علّل بعض الفقهاء بان الأمر أمرٌ مطلوب لأجل افادته الاستظهار بوصول الماء ، فلا یرد علیهم بما قد نوقش بأنّه لا معنی للاستظهار ، بعد حصول العلم ، لانه قبل العلم کان ذلک واجباً من جهة عدم الاکتفاء بالظنّ .

وذلک لما قد عرفت من أنّه إذا أُرید منه الاستظهار فی المجموع لا فی خصوص کلّ عضو ، فانه یکون حسنا ، کما لا یخفی .

وقد استدلّ صاحب «الجواهر» تأییداً للتعبّد ، بخبر عمار بن موسی الساباطی من قوله: «أنّه سال أبا عبد اللّه علیه السلام ، عن المرأة تغتسل ، وقد امتشطت بقرامل ولم تنقض شعرها ، کم یجزیها من الماء؟ قال: مثل الذی یشرب شعرها ، وهو ثلاث حفنات علی رأسها ، وحفنتان علی الیمین ، وحفنتان علی الیسار ، ثمّ تمرّ یدها علی جسدها کلّه(2)» .


1- مستدرک الوسائل: الباب 17 من أبواب الجنابة ، الحدیث 2 .
2- وسائل الشیعة: الباب 38 من أبواب الجنابة، الحدیث 6 .

ص:207

والبول أمام الغسل والاستبراء (1).

حیث قال: إنّه لو أُرید منه الاستظهار ، لکان ینبغی فعله بعد کلّ عضو ، لا بعد تمام الغسل ، إذ لو کان فی الجانب الأیمن مثلاً شیءٌ لم یکن غسل الأیسر صحیحاً .

ولکن لا یخفی ما فیه ، لأنّ القائل بالاستحباب لا یقول به بعد تمام الغُسل ، بل یقول به مع غَسل کلّ عضو ، فلا سبیل له إلاّ أن یقصد به بیان استحباب امرار الید علی کلّ عضو من جسده حال الغُسل ، فیرجع إلی احتمال الاستظهار أیضاً بما عرفت ، لا التعبّد المحضّ .

و من هذا یظهر استحباب تخلیل الماء ، لوصوله فیما یحتاج إلیه من الشعر وغیره ، إذا لم یتوقّف وصوله إلیه به ، وإلاّ لکان واجباً ، کما هو واضح .

(1) ظاهر کلام المصنّف _ کأبن فهد فی «الموجز» _ استحبابهما معاً ، بل فی «الجواهر» من غیر فرق بین تقدیم کلّ منهما علی الآخر ، بناء علی عدم جعل ترتیب الکلام دلیلاً علی ارادته کذلک فی الاستحباب ، وإلاّ لزم اتباع ظاهر کلامه ، من استحباب تقدیم البول علی الاستبراء ، کما هو المستفاد مما ورد فی «البیان» و«الروضة» ، مع أنّ استحباب الاستبراء بعد البول یعدّ من آداب البول ، لا من آداب الغُسل ، ولأجل ذلک قال صاحب «الجواهر» بأنّه لا دلیل علیه _ أی استحبابه _ للغسل .

فی سُنن الغُسل / البول أمام الغسل و الاستبراء

اللّهمّ إلاّ أن یقال: إنّ المستحب حین الغُسل ومن آدابه ، مجموع الأمرین ، من البول أولاً والاستبراء بعده .

ولکن هذا متوقفٌ علی مساعدة الدلیل علیه .

ولکن «السرائر» و«القواعد» قد قیّدا الاستبراء بما إذا لم یتیسر البول ، کما أنّه

ص:208

قد اقتصر علی الثانی فی «النافع» و«التحریر» ، کما قد اطلق الاستبراء فی «الارشاد» و«اللمعة» ، حیث یظهر من مجموع هذه الکلمات ، کون الاستبراء مستقلاً فی الاستحباب لأجل الغُسل ، لا من جهة کونه من آداب البول .

وعلی کلّ حال فانّ الظاهر کون المشهور بین المتأخّرین _ بل لم یعرف الخلاف منهم _ عدم وجوب شیء منهما فی صحّة الغسل ، بل وهو المنقول عن المرتضی قدس سره ، خلافاً لظاهر «الهدایة» و«المهذّب» و«الاستبصار» و«اشارة السبق» من ایجاب البول ، ومثله فی «المقنعة» و«الوسیلة» و«الجامع» ، إلاّ أنّهم اضافوا بأنّه إن لم یتیسّر البول فالاجتهاد .

وفی «المراسم» ومن الجُعفی من ایجابها معاً ، إلاّ أنّه قد صرّح فی «المراسم» بالاکتفاء بالإجتهاد مع تعذّر البول .

وفی «الکافی» من الزام مرید الغُسل الاستبراء ، بحیث یتیقن بالاستنجاء علی کلّ حال ، کما نقل الوجوب بصورة المطلق عن «الکامل» و«المصباح» و«مختصر المصباح» و«الاصباح» و«الجمل والعقود» وبه قال الکیدری ، ولم تکن عباراتهم مشهورة ، حتّی یعلم منها مرادهم من الوجوب من حیث الکیفیّة .

بل عن «الذکری» قوله: لا بأس بالوجوب محافظة من طریان مُزیل الغُسل ، ومصیراً إلی قول معظم الأصحاب .

کما مال الیه المحقّق فی «جامع المقاصد» ، والشهید فی «الدروس» ، کما ذهب ابن زهرة والشیخ فی «المبسوط» و«الفقیه» إلی التخییر بینهما ، مع زیادة فی الثانی بایجاب الاستبراء من البول .

ولیس للقائلین بالوجوب دلیلٌ إلاّ قاعدة الاشتغال ، حیث أن الشغل الیقینی یقتضی الفراغ منه یقیناً ، وهذه القاعدة لایمکن التمسک بها الاّ مع عدم ورود

ص:209

دلیل اجتهادی علی عدم الوجوب ، وإلاّ فانه لم تصل النوبة إلیها .

والإجماع المدّعی فی النیّة ، فإنّه مع عدم تمامیّته _ لما تری من الاختلاف الکبیر الفاحش فی أصل وجوبها وکیفیّته _ قد یشاهد من «مختلف» العلاّمة امکان صحّة دعوی الإجماع علی صحّة الغسل مع ترکهما ، حیث قال بعد نقل القولین: «أنّهم اتّفقوا علی أنّه لوأخلّ به حتّی وجد بللاً بعد الغَسل ، فإن علم أنّه منیٌّ أو اشتبه علیه ، وجب الغسل ، وإنْ علم أنّه غیر منی فلا غسل» انتهی .

ونحوه غیره .

بل لعلّهم أرادوا من الوجوب هو التعبّدی لا الواقعی ، فیسقط الاستدلال حینئذ بمثل قاعدة الاشتغال وغیره ، کما لا یخفی .

بل قد یقال: من امکان دعوی انتفاء النزاع فی المقام ، بأن یکون مراد القائلین بالوجوب ، هو الوجوب الشرطی لا التکلیفی ، کأنّهم أرادوا بیان أنّه لو لم یستبرئ واغتسل وبال ، وخرج منه بللٌ ، یجب علیه الغُسل ، فإن کان قصدهم بأنّه لا یجب علیهم ذلک فلیغتسل بما امروا به من البول والاستبراء ، کما ادّعی ذلک صاحب «کشف اللثام» ، فلهذ البیان وجه ، إلاّ أنّه لا یمکن دعوی القطع أو الظنّ بخروج ما یوجب الغسل مع البول ، لإمکان أن یکون بولاً محضاً أو مذیا أو ودیا أو غیر ذلک ، لوضوح الفرق بین ما یعلم الخروج وما یشتبه فی حقیقته ، وبین اشتباه أصل الخروج . فدعوی الیقین أو الظنّ بالخروج مع البول ، ممّا لا یمکن المساعدة إلیه کما لا یخفی . فیظهر منه أنّ التبول بعد الجنابة لیس وجوباً شرطیّاً لصحّة الغسل ، بحیث لو ترکه لبطل الغسل .

وإن أراد به التعبّد ، کان ذلک علی طبق مقتضی الأصل . بقی هنا المراجعة إلی الأخبار التی قد استدلّوا بها علی الوجوب وهی:

ص:210

صحیحة البزنطی ، قال: «سألت أبا الحسن علیه السلام عن غُسل الجنابة؟ فقال: تغسل یدک الیمنی من المرفقین إلی أصابعکَ وتبول ، إن قدرت علی البول ، ثمّ تُدخل یدک فی الإناء ، ثمّ اغسل ما أصابک منه ، ثمّ افض علی رأسک وجسدک ، ولا وضوء فیه»(1) .

فکأنّهم أرادوا استفادة الوجوب من تعلیق الحکم علی تمکنه من البول ، حیث یفهم أنّه مع القدرة علیه یکون الاتیان به واجباً ، مع أنّه علی خلاف دّعواهم الاوّل ، لما ورد حکم البول فی سیاق ما یکون مستحبّاً ، مثل غَسل الیدین من المرفقین إلی الأصابع ، ثمّ الحکم بغَسل الید ممّا أصابه ، ثمّ الشروع بالافاضة للغسل ، وبرغم هذا فانّه کیف یمکن أن یکون ذلک مستند من لم یقیّد بالقدرة علی البول ، مع الاشارة الیها فی الصحیحة ، مع أنّه یمکن أن یکون ارشاداً إلی أمر لا یترتّب علیه شی عند ترکه _ وهو إعادة الغسل بخروج البلل المشتبه المحکوم بکونه منیّاً ، إذا لم یستبرء _ فعلیه یلزم أن لا یکون استحابه تعبّدیّاً ، فضلاً عن کونه واجباً .

بل قد یناقش _ بناءً علیه _ فی أصل استحابه ، فضلاً عن غیره ، کما قد یشعر علی الإرشاد ما ورد فی الحدیث النبوی أنّه صلی الله علیه و آله وسلم قال: «مَن ترک البول علی أثر الجنابة أو شکّ ، أن یتردد بقیة الماء فی بدنه ، فیورثه الداء الذی لا دواء له»(2) .

فلو سلّم احتمال غیره فی الصحیحة ، فانه یُحمل علی الارشاد ، بقرینة هذه الروایة . وکذلک استدلّوا علیه بالخبر المضمر الذی رواه أحمد بن هلال ، قال:


1- وسائل الشیعة: الباب 34 من أبواب الجنابة، الحدیث 3 .
2- مستدرک وسائل الشیعة: الباب 35 ، الحدیث 1 .

ص:211

«سألته عن رجل اغتسل قبل أن یبول؟ فکتب: انّ الغسل بعد البول ، إلاّ أن یکون ناسیاً ، فلا یبعد منه الغسل(1)» .

ولا یبعد للمتأمّل من الوصول إلی ما قلناه ، لوضوح أنّه لو کان البول قبل الغَسل یعدّ من الوجوب الشرطی _ أی کان شرط الصحّة له _ فلا وجه للحکم بالصحّة مع النسیان ، لأنّ ما یکون کذلک بالوضع نوعاً ، لا یتفاوت فیه بین العمد والنسیان .

نعم قد یوجد فی مثل الطهارة عن الحدث ، حیث أنّه شرط لصحّة الصلاة ، أو النجاسة مانعة عن صحة الصلاة مع العلم دون الجهل ، وأمّا مع النسیان فلا .

وبناءً علیه فانّ حکمه فی المقام بالصحة مع النسیان ، یدلّ علی أنّه یرید نفی الشرطیّة مطلقاً ، لا فی خصوص حال النسیان ، فعلیه یحتمل أن یکون قوله: «فلا یعید منه الغَسل» راجعاً لصدر المسألة ، لا خصوص حال النسیان ، مضافاً إلی الضعف فی سنده بالاضمار وغیره .

بل قد یؤید عدم کون البول شرطاً للصحّة ، ما ورد فی الخبر الذی رواه حدیث محمد بن مسلم ، قال: وقال أبو جعفر علیه السلام : «من اغتسل وهو جنبٌ قبل أن یبول ، ثمّ وجد بللاً فقد انتقض غُسله ، وان کان بال ثمّ اغتسل ، ثمّ وجد بللاً ، فلیس ینقض غسله ، ولکن علیه الوضوء ، لأنّ البول لم یدع شیئاً(2) .

لأنّه من الواضح أنّه لو کان البول شرطاً ، لما صحّ أن یعبّر بالانتقاض مع خروج البلل ، حیث یفهم منه أنّه لولا البلل لکان الغسل صحیحاً ، ولو لم یبول ، فبذلک یدفع توهّم الوجوب الشرطی ، فیما لا یکون وجوبه تعبدیّاً ، لما قد عرفت من


1- وسائل الشیعة: الباب 36 من أبواب الجنابة، الحدیث 12 .
2- وسائل الشیعة: الباب 36 من أبواب الجنابة، الحدیث 7 .

ص:212

مجئ احتمال الارشاد ، فإذا جاء الاحتمال بطل الاستدلال ، ومع الشکّ نرجع إلی أصل البراءة حینئذ ، کما لا یخفی .

مضافاً إلی ما سیأتی من الأخبار الدالة علی کون اعادة الغَسل بعد خروج البلل المؤیّد لما ذکرناه .

فمع وجود مثل خبر محمد بن مسلم ، الدال علی عدم الوجوب ، فلا یعتنی بما قد یستفاد ممّا ورد فی «فقه الرضا»(1) .

«فإذا اردت الغُسل من الجنابة ، فاجتهد أن تبول حتّی تخرج فضلة المنیّ فی أحلیلک ، وان اجتهدت ولم تقدر علی البول فلا شیء علیک وتنظف الموضع الادنی منکَ» .

بل قد یُشعر تعلیله بقوله: «حتّی تخرج فضلة المنیّ» إلی ارشادیّة ذلک ، ولذا قال: «ان اجتهدت ولم تقدر علی البول ، فلا شیء علیک» .

فبناءً علیه قیل إنّه یشکل القول باستحبابه قبل الغُسل ، إذ المفروض عدم کون الأمر المتعلّق به مولویّاً ، حتّی یثبت به الاستحباب الشرعی .

اللّهمّ الاّ أن یتمسک بالإجماع علی رجحانه ، المردّد بین الوجوب والندب .

وقد قیل: هو أیضاً لا یخلو عن المنع ، لکنّه غیر وجیه ، لأنّه من الواضح کون الرجحان ثابتاً بالإجماع ، إلاّ أن یکون وجه المنع دعوی مغایرته مع المستحب الشرعی المقرون بالفصل؛ فبناء علیه لا وجه لقوله بعد ذلک: «والاولی التمسّک بادلّة التسامح لإثبات استحبابه» ، کما عن المحقّق الآملی فی المصباح» ، لأنّه أیضاً لم یثبت إلاّ بواسطة الإجماع ، وهو لا یثبت إلاّ جنس الرجحان لا مع فصله .


1- المستدرک: الباب 17 من أبواب الجنابة ، الحدیث 2 .

ص:213

أمّا اذا کان یقصد التمسک بالاخبار ، فقد عرفت عدم دلالتها علی الارشادیّة .

اللّهمّ الاّ ان یدعّی عدم منافاته مع استحبابه أیضاً ، فتأمّل .

هاهنا فروع ینبغی الاشارة الیها ، وهی:

الفرع الأوّل: قد عرفت من کلام المحقّق فی «الشرائع» استحباب البول والاستبراء ، حیث جعل کلاًّ منهما من آداب الغُسل ، مع أنّ الاستبراء بعد البول یکون من آداب البول ، ویترتّب علیه أن البلل المشتبه الخارج بعد البول ، إذا لم یکن قد استبرأ یکون فی حکم البول ، من حیث الخبثیّة ، ومن لزوم تعدّد الغسل فی تطهیره ، والحدثیّة من جهة لزوم تحصیل الوضوء بعده ، لو لم یکن جنباً ، وتحقیق البحث فیه موکول إلی محلّه .

فی سُنن الغُسل / فائدة الاستبراء بالبول

وأمّا الاستبراء بالبول من بعد انزال المنیّ ، فهل هو فی حکم البول من جعل البلل المشتبه بالمنی خارجاً عنه وکونه مثل البول فلا ینقض الطهارة أم لیس کذلک؟

مقتضی القول بالتخییر _ کما قد صرّح به «المبسوط» و«الغنیة» هو ذلک ، وکذلک عند الاقتصار علیه _ کما فی «النافع» و«التحریر» _ بل الاطلاق فی الاستبراء _ کما فی «الارشاد» و«اللمعة» ، أو قول من أوجب الاستبراء إنْ لم یتیسر البول _ کما فی کلام «المقنعة» و«الوسیلة» و«الجامع» و«النهایة» _ هو کونه کالبول ، بأن یترتّب علیه اثر البول بعد الانزال ، من عدم محکومیّة البلل الخارج المشتبه بالمنیّ ، مع أنّه لم یرد فی شیء من الأخبار ما یترتّب علیه هذا الحکم ، من عدم الناقضیّة فی بلله لو استبرء بعد الانزال ، من دون البول .

بل مقتضی اطلاق الأخبار الآمرة باعادة الغُسل ، بخروج البلل ممّن لم یقدم علی البول ، هو وجوب الاعادة علیه مطلقاً ، کما أنّه یفهم من الأخبار _ مفهوماً

ص:214

ومنطوقاً _ أنّه لا یعید غُسله من بال ، سواءً استبرء عقیب البول أم لا .

نعم ، إذا لم یستبرء بعد البول ، یکوم حکم البول حینئذ حکم البول من حیث الخبثیّة والحدثیّة ، کما فرض له الطهارة فی غیر المورد .

ولکن یظهر عن بعض ، من کون الاستبراء عقیب الانزال بمنزلة البول مطلقاً ،أو عند تعذّر البول ، کما یستفاد ذلک من العبارات السابقة حسب ما حکی عنهم .

وفی «مصباح الفقیه» للهمدانی قدس سره بعد نقل هذا الکلام ، قال: «إنّه محل نظر ، اللّهمّ إلاّ أن یثبت بعدم ناقضیّة البلل المشتبه الخارج بعد الاستبراء بالاصل ، بعد دعوی انصراف الأخبار الآمرة بالاعادة إلی غیر ذلک ، مثل الفرض الذی فیه امارة نقاء المحلّ ، لکن الدعوی غیر مسموعة .

نعم لو حصل القطع بنقاء المجری بسبب الاستبراء ، خرج البلل المشتبه بالمنیّ الخارج بعده ، من مورد الأخبار الآمرة بالاعادة ، لأنّ موضوعها علی ما یتسبان منها ، لیس إلاّ ما إذا احتمل کون البول الخارج ، من بقیّة المنیّ السابق ، والمفروض حصول القطع بعدم بقاء شیء فی المجری ، فلا تعمّه تلک الروایات .

ولکن الفرض نادر التحقّق ، إذ قلّما یحصل الیقین بذلک ، بل غایته افادة الظنّ .

فظهر لک ممّا ذکرنا ، أنّ عدّ الاستبراء بنفسه من سُنن الغُسل _ کما فی المتن _ لا یخلو عن اشکال» .

أقول: ولقد اجاد فیما افاد ، حیث لم یرد فی نصّ من النصوص الواردة فی الباب _ مع کثرتها ، وکثرة الابتلاء به _ اشارة إلی کفایة الخرطات عند عدم البول ، لإلحاق البلل الخارج المشتبه إلی غیر المنیّ ، ومنه یفهم ان الملاک فی هذا الالحاق ، لیس إلاّ البول بعد الانزال ، سواء استبرء بعده أم لا .

وما استند الیه المحقق فی «الشرائع» لاثبات التخییر _ کما سیأتی _ غیر

ص:215

واضح ، لإمکان أن یکون الاستبراء المتعقّب بالبول معاً من الآداب ، وأمّا کفایته فی مقام البول یحتاج إلی دلیل من النصّ أو الاصل أو الاجماع .

فی سُنن الغُسل / اختصاص الاستبراء بالمجنب بالإنزال

نعم یصحّ دعوی ذلک ، إذا فرض حصول القطع للمجنب بنقاء المحلّ من المنیّ ، نظیر حصول القطع بعدمه بعد مضیّ زمان طویل عن الجنابة ، ولم یکن قد خرج منه شیء قطعا ، فیما إذا لم یبل ولم یستبرء ، حیث قد الحق بعضهم ذلک أیضاً بحکم البول ، فحکم القطع الحاصل بواسطة الخرطات ، لیس بأقلّ من حکم القطع الحاصل من التأخیر بدون الاستبراء . وهذا ما ستأتی الاشارة إلیه فی الجملة عند تعرّض المصنّف له فی المسائل .

الفرع الثانی: الظاهر أنّ استحباب الاستبراء بالبول والخرطات متخصٌ بالمجنب بالانزال ، کما صرّح به جماعة ، ومنهم صاحب «الجواهر» والمحقّق الهمدانی والآملی ، بل قد نسب ذلک إلی المشهور .

ولعلّ وجهه ، أنّ الحکمة فی الاستبراء المشار إلیه فی الروایات ، هو اخراج المنیّ المتخلّف فی المجری وهذا لا یناسب إلاّ مع الانزال ، إذ الجماع من دون الانزال لایستلزم فیه الحکم بلزوم الاستبراء بالبول لإخراج اجزاء المنیّ ، لأنّ المفروض القطع بعدم خروجه وعدم تحرّکه عن محلّه .

نعم ، قد یستدلّ علی ذلک ، بأن ما ذُکر من خروج أجزاء المنی حکمة له لا علّة ، ولا یحتاج إلی الاطراد إلاّ فی العلّة دون الحکمة ، فإذن یصحّ أن یجعل الشارع الحکم بالاستبراء من باب الحکمة ، حتّی لمن لم یُنزل ، نظیر ما یقال فی لزوم العدّة للمدخول بها ، حتّی مع العلم بنقاوة رحمها ، حیث لا یترتّب علیه حکم عدم اختلاط المیاه فی حقّها ، ولکن الشارع أوجب ذلک لحکمة هو اعرف بها .

بل قد استدلّ أیضاً بما فی «الذخیرة» بأنّ القول بالعدم ، ینافی عموم

ص:216

الروایات ، مضافاً إلی المنع عن القول بانتفاء الفائدة ، إذ عسی أن ینزل ولم یطلع علیه ، أو احتبس شی فی المجری ، لانّ الجماع مظنّة نزول المنیّ و خروجه .

أقول: العمدة فی المقام ملاحظة حال لسان الأخبار ، هل فیها اطلاق أو عموم أم لا ، وإلاّ لأمکن مع فرض وجود أحدهما صحّة ما ادّعاه ، من کون الشارع قد احتاط فی ذلک بأن حکم بلزوم الاستبراء بالبول حتّی لا یشتبه علیه الأمر من جهة احتمال حرکة المنی من مکانه وتوقفه فی المجری ، ثمّ خرج بواسطة البول ، حیث یوجب الحکم بالاغتسال مع الاشتباه ، فکان الأمر بالاستبراء من قبیل الحکمة لا العلّة ، فالحکم صحیح حتّی مع عدم الاطراد .

فإذا لوحظت الأخبار تراها مطلقه من حیث الجنابة ، إذ الوارد فی کثیر من الاخبار قوله: «رجلٌ أجنب ثمّ اغتسل» ، والاجناب یجامع مع کلا القسمین ، أی مع الانزال وعدمه ، خصوصاً فی مثل حدیث معاویة بن میسرة ، قال: سمعت أبا عبداللّه علیه السلام یقول فی رجل رأی بعد الغسل شیئاً . قال: «إن کان بعد جماعه قبل الغسل فلیتوضّأ»(1) . فإنّ قوله: «بعد جماعه» مطلق ، یشمل کلا فردیه ، وبرغم ذلک حکم علیه السلام بوجوب إعادة الغُسل بخروج البلل ، إن کان غسله قبل البول .

اللّهمّ إلاّ أن یقال: بان الاطلاق هنا لا یتوجّه الیه ، لأنّ الغالب من الجماع حدوث الانزال ، فینصرف إلیه الاطلاق .

فی سُنن الغُسل / حکم الاستبراء للمرأة

فالقول بالاطلاق فیه مشکلٌ ، خصوصاً مع ملاحظة ما فی حدیث سلیمان ابن خالد ، من التعلیل الوارد فی ذیله لبیان الفرق بین الرجل والمرأة ، بقوله: «لأنّ ما یخرج من المرأة إنّما هو ماء الرجل»(2) .

ومعلومٌ أنّ ملاک لزوم الاستبراء بالبول فی الرجل قبل الغُسل دون المرأة ،کان


1- وسائل الشیعة: الباب 36 من أبواب الجنابة، الحدیث 9 - 10.
2- وسائل الشیعة: الباب 36 من أبواب الجنابة، الحدیث 9 - 10.

ص:217

من جهة المنیّ الذی کان فی مجری الرجل ، فإذا علم المکلّف بعدم وجوده ، فلا وجه للحکم بلزوم اعادة الغُسل ، کما لا یحکم فی المرأة بذلک لعلمها بعدم کون الماء منها ، مع أنّها أیضاً قد تعرض لها الجنابة بالانزال ، کما قد أفتی جماعة .

فلیس حکمهم بعدم وجوب إعادة الغُسل مع خروج البلل منها ، إلاّ لأجل ما هو الغالب فیها من عدم الانزال .

فهکذا یکون الحکم فی حقّ الرجل إذا جامع ولم یُنزل ، خصوصاً إذا لم یکن فیه علامات الجنابة من الدفق والفتور .

نعم الحکم باستحباب الاستبراء ، مع احتمال خروج المنیّ مراعاةً للاحتیاط حسنٌ ، إلاّ أنّه لا یوجب الحکم بوجوب الغُسل بواسطة خروج البلل منه ، کما لا یخفی ، خصوصاً مع جریان الاستصحاب من جهة وجود الیقین بالطهارة قبل خروج البلل ، کما لا یخفی .

الفرع الثالث: هل حکم البلل المشتبه مختصّ بالرجل المجنب بالانزال دون المرأة ، حتّی لو قلنا بکونها تجنب بالانزال أو یعمّهما ، فیترتّب علیه آثارها ، من إعادة الغُسل وجوباً لو ترک الاستبراء بعد الجنابة بالبول أو الاجتهاد .

فیه وجهان ، بل قولان ، والبحث فیه یقع فی المقامین:

تارة: فی أصل حکم الاستبراء ، وهل هو مختصّ بالرجال وجوباً أو استحباباً ، أو عام یشمل کلا من الرجل والمرأة؟

وأُخری: من جهة الآثار ، من لزوم إعادة الغُسل لو ترک الاستبراء ، فهل هو جارٍ فی المرأة ایضا کالرجل أم لا؟

وأمّا المقام الأوّل: فقد ذهب الشیخان (قدس سرّهما) الطوسی فی «النهایة» والمفید فی «المقنعة» بثبوت الاستبراء لها بالبول عند تیسّره ، ومع عدمه

ص:218

فبالاجتهاد ، کما فی «النهایة» ، أو ینبغی لها أن تستبرء بالبول ، وإن لم تستبرء فلا شیء علیها ، خلافاً للمشهور من المتقدّمین والمتأخّرین ، حیث لم یحکموا بالاستبراء لها ، حتّی قد علّل بعضهم _ کصاحب «المختلف» _ بانتفاء الفائدة فی طرف المرأة ، لأنّ مخرج البول فیها لیس هو مخرج المنیّ ، فلا معنی لاستبرائها .

وقد أورد علیه المحقّق الآملی فی «مصباحه» بعدم لزوم الاطراد ، بعد کون الفائدة حِکمة لا علّة ، کما تقدّم فی البحث السابق .

وفیه : الظاهر عدم تمامیّة هذا الایراد ، لأنّ مسألة الاطراد وعدمها ، إنّما یأتی فیما یحتفظ فیه الموضوع ، بکون المنیّ مخرجه متّحداً مع البول ، فالحکم بالاستبراء یکون حتّی مع القطع بعدم خروج المنیّ ، کما فی الفرع السابق .

هذا ، بخلاف ما لو تغایر أصل الموضوع ، بأن لا یکون مجراه مجری البول ، فدعوی عدم شرطیّة الاطراد فی الحکمة دون العلّة غیر وجهیّة ، إذ هی مثل دعوی لزوم العدّة لمن لم تکن مدخولاً بها ، فإنّها غیر مسموعة ، إذ لا یصحّ دعوی عدم الاطراد فی الحکمة ، کما لا یخفی .

وقد أورد علیه ایضا : بأنّه کیف لا فائدة فیه لمجرّد تغایر المخرجین ، مع أنّه یمکن أن یوثّر خروج البول فی خروج ما تخلّف من المنیّ فی مخرجه بالعصر ، بل فی «الجواهر» من قوله : «وخصوصاً مع الاجتهاد» ، ثمّ استوجهه: بأنّه یرد علیها أنه إنْ أُرید خروج المنیّ من مجراه ، بنفس خروج البول عن مجراه الذی یوجب ذلک ، فهو مجرّد ادعاء لایمکن قبوله ، لوضوح عدم وجود الارتباط بینهما ، ولا یساعده الاعتبار .

وان أُرید حدوث ذلک بواسطة العصر والاجتهاد بالاستبراء ، فهو أمر ممکن ، لکنّه لا یوجب ترتّب أثر البول وعدمه علیه من البلل الخارج ، بل هو حکم

ص:219

مستقل من استحباب خصوص الاستبراء فی حقّها فقط دون البول ، وهو ممّا لم یفتِ به أحد ، کما لا یخفی علی من راجع کتب الأصحاب .

نعم ، یصحّ دعوی استحباب الاستبراء منها بالبول من جهة التعبّد بفتوی العلمین _ وهما الشیخ الطوسی و المفید _ مع ضمیمة روایات من بلغ ، إن قلنا بتحقّق البلوغ وصدقه فی فتوی المفتی الفقیه أیضاً ، کما لا یبعد ذلک وله نظائر و منقول ، ولذلک استوجهه صاحب «الجواهر قدس سره » وقبله المحقّق الآملی قدس سره ، وهو غیر بعید ، إن لم یضرّه مخالفة المشهور فی ذلک .

اللّهمّ إلاّ ان یقال : إن فقهائنا فی حکم هذه المسألة أمّا لم یتعرّضوا لها فی کتبهم ، أو تعرضوا لها وکان مخالفتهم بالنظر إلی حکم إعادة الغُسل فی البلل لا فی أصل الاستحباب .

هذا تمام الکلام فی المقام الأوّل .

وأمّا المقام الثانی : وهو حکم الانتقاض بخروج البلل عند ترک الاستبراء ، فالظاهر اختصاصه بالرجل ، لأنّه مضافاً إلی موافقة المفید فی ذلک _ مع کونه قائلاً باستحبابه فی حقّها _ فأنّه لو شکّ فیه کان مقتضی الأصل هو الطهارة ، بعد تحصیلها بالغُسل ، هذا فضلاً عن ان مقتضی ما فی صحیحة سلیمان ابن خالد ، عن أبی عبداللّه علیه السلام : «قال: سألته عن رجل أجنب ، فاغتسل قبل أن یبول ، فخرج منه شیء؟ قال : یعید الغُسل . قلت: فالمرأة یخرج منها شیء بعد الغسل؟ قال: لا تعید . قلت: فما الفرق فیما بینهما؟ قال: لأنّ ما یخرج من المرأة إنّما هو من ماء الرجل(1)» . هو عدم اعادة الغُسل فی البلل المشتبه ، وهو المطلوب .


1- وسائل الشیعة: الباب 36 من أبواب الجنابة، الحدیث 10 .

ص:220

وکیفیّته: أنْ یمسح من المقعد إلی أصل القضیب ثلاثاً ، ومنه إلی رأس الحشفة ثلاثاً ، وینتره ثلاثاً (1).

فما احتمله بعضهم من اجراء حکم البلل علی الخارج منها مطلقاً ، أو إذا لم تستبرء ، ضعیفٌ لا یلتفت إلیه .

الفرع الرابع: هل یلحق الخنثی المشکل بالرجل فی الاستبراء والبلل أم لا؟

فیه خلافٌ ، ففی «الجواهر» ، قال: «لا یبعد الحاقه به ، حیث یحصل الانزال منه بآلة الذکر ، مع حصول الجنابة بذلک علی تأمّل ونظر» .

ومن الواضح عدم تمامیّة کلامه ، لأنّ فرض کونه مشکلاً ، معناه أنّه لایمکن حصول الاطمینان بان الخارج منه جنابة أم لا ، وذلک من جهة عدم الیقین بأنّ له آلة الذکوریة ، فکیف یمکن الحاقه بالرجل ، مع قید کون الإنزال یجب أن یتم بآلة الذکوریة ، إذ یلزم من فرض وجوده عدمه ، فالأولی الحکم بالالحاق من باب الاحتیاط ، کما هو واضح .

فی سُنن الغُسل / الاستبراء لمن ینزل عن غیر الطریق المعتاد

الفرع الخامس: الرجل الذی یکون انزاله عن غیر الطریق المعتاد ، هل یلحق بالرجل المستوی فی الاستبراء والبلل ، أو یُلحق بالمرأة؟

والظاهر هو الثانی ، کما فی «الجواهر» و«المصباح» للآملی ، وذلک لانصراف دلیله عنه کالمرأة نفسها ، فلا یحکم علی بلله المشتبه الخارج من الموضع المعتاد بحکم المنیّ ، ولا بثبوت الاستبراء بالنسبة إلیه ، لأنّه علی الفرض لا یخرج منه المنیّ حتّی یحکم بذلک فی بلله ، کما أنّ الأصل یقتضی الطهارة فی کلا الموردین ، إذا خرج منها البلل بعد عدم شمول الدلیل لمثله ، کما لا یخفی .

(1) ظاهر العبارة یفید الترتیب بین الثلاث ، ویکون المجموع تسعاً ، وهو

ص:221

صریح الصدوق فی الترتیب والتسع ، وهما المستفادان من ظاهر «المنتهی» و«القواعد» و«التحریر» و«التذکرة» و«الذکری» و«الدروس» و«الروض» و«الروضة» ، بل لا یبعد کونه ظاهر کلام الشیخ فی «المبسوط» وإن تأمّل فیه صاحب «الحدائق» وظاهر «النهایة» ، بل لا یبعد رجوع کلام المفید الیه ، حیث قال: «یکتفی بالمسح بجعل الوسطی تحت الأنثیین إلی أصل القضیب مرّتین أو ثلاثاً ، ثمّ یضع المسبّحة تحت القضیب والابهام فوقه ، ویمرّهما علیه باعتماد قوی من أصله إلی رأس الحشفة مرّتین أو ثلاثاً ، لیخرج ما فیه من بقیّة البول» .

بأن یجعل المراد من وضع المبسحة تحته ، والابهام فوقه ثلاثاً ، لکلا الموردین من أصل القضیب ورأس الحشفة .

فی سُنن الغُسل / کیفیّة الاستبراء بالخرطات

وهو أیضا الأصل فی کلام الصدوق فی «الفقیه» ، حیث اکتفی بالمسح من عند المقعدة إلی الاُنثیین ثلاث مرّات ، ثمّ ینتر ذکره ثلاث مرّات ، کما هو ظاهر «الوسیلة» و«المراسم» و«النافع» و«الغنیة» و«السرائر» وغیرها .

والمستفاد من کلمات هولاء الاعلام عدم مخالفتهم لمن سبق ذکرهم ، بإمکان أن یکون المراد من النتر فی الذکر ثلاث مرّات ، اشارة إلی المرات الثلاثة فی کلّ من القضیب إلی رأس الحشفة ، ونتر رأسها معها ، حتّی تصیر الستّ هنا مع الثلاثة فی أصل العجان بین المقعدة وأصل القضیب تسعاً ، فیناسب مع ماذکرنا فی کلام المحقّق .

والی هذا أیضا یرجع الکلام المنقول عن السیّد المرتضی من اکتفائه بنتر الذکر من أصله إلی طرفه ثلاث مرّات ، بأن یکون قد قصد اتّصال الثلاثة فی کلّ من الأقسام الثلاثة المذکورة ، فی کلمات القوم ، وإلاّ فانه لا یطابق کلامه مع شیء من الأخبار ، إلاّ الخبر المروی عن «النوادر» للراوندی ، من قوله : «إنّ

ص:222

النبیّ صلی الله علیه و آله وسلم کان إذا بال نتر ذکره ثلاثاً(1)» .

حیث یمکن الجمع بینه مع سائر الأخبار ، بجعل الذَکَر کنایة عن مجموع ما بین المقعدة إلی رأس الحشفة ، فکان ذلک اشارة إلی ما هو المتعارف فی الخارج من مراتب التسع مع الترتیب ، فبذلک یمکن الجمع بین الأخبار ، وکلمات الأصحاب . وان کان یعد هذا الجمع خلافا لظاهر بعض الکلمات فی الجملة .

فعلیه یکون ماورد فی عبارة «الشرائع» _ کما علیه عبارات أکثر المتأخّرین وفتاویهم _ هو المرجع ، مع کونه أبلغ فی الاستظهار ، وأقرب إلی العلم بحصول البراءة ، بل هو مقتضی الجمع بین الأخبار ، منها خبر عبد الملک بن عمرو ، عن أبی عبداللّه علیه السلام : «فی الرجل یبول ، ثمّ یستنجی ثمّ یجد بعد ذلک بللاً؟ قال: «إذا بال فخرط ما بین المقعدة والاُنثینن ثلاث مرّات ، وغمز ما بینهما ثمّ استنجی ، فإن سال حتّی یبلغ الساق فلا یبالی»(2) .

بناءً علی کون ضمیر التثنیة راجعاً إلی الاُثنیین ، وکون المراد من (بینهما) هو الذکر . واحتمال رجوعه إلی کلّ من المقعد والاُنثیین ، علی أن المقصود من (غمز) ما انتهی إلیه خرط المقعدة ، وأنّ ذلک هو بینهما حقیقة ، والغمز یفید زیادة مدخلیّة فی اخراج المتخلّف من البول ، کما هو الحال فی الواقع الخارجی .

بعیدٌ ، حیث أنّه لم یقل أحد بوجوبه ، کما فی «الجواهر» ، بل قلنا إنّه لم یتعارف استعمال الغمز للعجان _ وهو الإست وهو ما بین القبل والدبر _ إذ غمزه یکون بالمسح ، کما سنشیر إلیه .


1- المستدرک: الباب 10 ، من آداب أحکام الخلوة ، الحدیث 1 .
2- وسائل الشیعة: الباب 13 من أبواب نواقض الوضوء، الحدیث 2 .

ص:223

فالغمز لا یناسب استعماله إلاّ للقضیب مع رأس الحشفة .

ومنها : خبر صحیحة حفص بن البختری ، عن أبی عبداللّه علیه السلام : «فی الرجل یبول؟ قال: ینتره ثلاثاً ثمّ إنْ سال حتّی یبلغ الساق فلا یبالی»(1) .

وقد عرفت منّا سابقاً ، کون المراد من النتر ثلاثاً ، اشارة إلی ما هو المتعارف فی الخارج ، کما قد یؤیّد ذلک أن مساق الروایة لا یکون إلاّ لبیان حکم البلل الخارج بعد الاستبراء ، وان الامام علیه السلام لم یکن فی صدد بیان کیفیّته ، حتّی یستدلّ به ویعارضه مع ما یخالفه ، کما لا یخفی علی المتأمّل فی نصّ الروایة ومساقها .

منها : صحیحة محمد بن مسلم ، قال : «قلت لأبی جعفر علیه السلام : رجلٌ بال ولم یکن معه ماء؟ قال: یعصر أصل ذکره إلی طرفه ثلاث عصرات ، وینتر طرفه ، فإن خرج بعد ذلک شیء ، فلیس من البول ، ولکنّه من الحبائل»(2) .

قد یحتمل کون هذه الروایة للثلاث ما بین المقعدة وأصل القضیب .

هذا ، لو لم نقل بکون المراد من قوله : «اصل ذکره» هو أصله من المقعدة ، وإلاّ یمکن أن یکون مراده ذلک ، فیکون مفادها کفایة ثلاث مسحات من عند المقعدة إلی طرف الذکر مع نتر اطراف الذکر .

ویناسب ذلک مع التسع أیضاً ، خصوصاً إنْ لم نقل بلزوم الترتیب بین الثلاثة ، کما لا یبعد کفایته ، کما اشار إلیه صاحب «مصباح الفقیه» حیث قال : «وهو الأظهر ، لعدم الدلیل علی الترتیب ، بل اطلاقات الأدلّة قاضیة علی خلافه» .

وکلامه لا یخلو عن حسن ، ولعلّ وجه أولویة الترتیب ، من جهة کونه ابلغ فی


1- وسائل الشیعة: الباب 13 من أبواب نواقض الوضوء، الحدیث 3 .
2- وسائل الشیعة: الباب 11 من أبواب أحکام الخلوة، الحدیث 2 .

ص:224

الاستظهار لا من جهة التعبد فی کیفیّته ، خصوصاً مع ملاحظة عدم وروده فی نصّ مخصوص ، کما لا یخفی .

وعلیه یمکن حمل الخبر المجمل المروی عن «نوارد» الراوندی ، عن الکاظم ، عن آبائه علیهم السلام ، عن النبیّ صلی الله علیه و آله وسلم ، أنّه قال: «مَن بال فلیضع أصبعه الوسطی فی أصل العجان ، ثمّ یسلّها ثلاثاً»(1) .

حیث لم یتعرّض لغیر العجان ، إلی کون مقصوده الاشارة إلی ما هو المبدأ فی الاستبراء والذی هوالمتعارف فی الخارج ، حتّی لا ینافی مع التسع باعتبار تعدّد الثلاث ، باعتبار تعدّد محلّه .

وبذلک یحصل الجمع بین الأخبار ، ویرتفع التنافی الذی یخطر بالبال بدوّاً ، کما لا یخفی .

فی سُنن الغُسل / عدم اعتبار المباشرة فی الاستبراء

ومن هنا یکون ما ورد فی نص «الشرائع» هو الاوجه ، من حیث لسان الادلّة ، کما لا یخفی ، مضافاً إلی کونه هو الاحوط ، خصوصاً إذا فعله الرجل بصورة الترتیب منفصلة ، غیر مفصول بین افرادها ، وإنْ کان لا یبعد جوازه بغیره بما یحصل له الاطمئنان ببقاء المحل بذلک .

کما أنّ الظاهر من جمیع الأخبار ، عدم ایجاب أصل الکیفیّة ، بل کان لأجل حکم الترتیب علی البلل المشتبه الخارج بعده ، من ناقضیّته للطهارة وعدمها ، کما أن زیادة استحباب التنحنح ثلاثاً _ کما هو المنقول عن بعض _ لا دلیل علیه ، إلاّ أن یثبت بدلیل التسامح ببلوغ الفقیه .

ثمّ إنّ مما یترتب علی الاستبراء من الفائدة هو عدم ناقضیّة البلل الخارج


1- المستدرک: الباب 10 من أبواب أحکام الخلوة ، الحدیث 3 .

ص:225

بعده ، اما ناقضیته قبل ذلک فممّا لا خلاف فیه ، بل قد یظهر نفی الخلاف عنه أو الاجماع عن بعض علیه مع ما قد عرفت من وجود الدلیل السنة والأخبار علیه ، فیستفاد منها خبثیّته وحدثیّته ، للأمر الوارد فیها بالاستنجاء ، وبذلک یوجب انقطاع اصالة الطهارة ، وقاعدة الیقین ، المقتضیان ببقائها ، فتکون السُنّة حاکمة علی تلک الأُصول ، ومقدّمة علیها .

ثمّ الظاهر أنّه لا یشترط المباشرة فی الاستبراء ، فیجزی بالتوکیل بواسطة المحرم ، أو الاتیان به تبرّعاً ، کما أنّ الظاهر عدم لزوم المباشرة بالید ، بل یصحّ حتّی مع آلة أُخری تفید فائدة الید ، ویترتّب علیه فائدته ، لما قد عرفت أنّه لیس أمراً تعبدیّاً ، بل کان الأمر للإیصال إلی ما هو الأقرب إلی المطلوب والمقصود ، وهو یحصل بالطریقة المألوفة وغیرها ، ولعلّه لذلک ألحق بعض المشایخ العظام طول المدّة وکثرة الحرکة ، بحیث لا یخاف بقاء شیء فی المجری بالاستبراء ، وهو غیر بعید إذا حصل له القطع والاطمئنان العقلائی بتخلیة المجری عن دریرة البول ، وذلک من جهة ضعف احتمال التعبدیّة من جانب الشارع فی مثل هذه الأُمور .

والظاهر عدم سقوط ذلک لمقطوع الحشفة ، إلاّ بالنسبة إلی النتر المخصوص لرأسها ، لعدم بقاء موضوعها دون غیره من الافعال والمواضع .

نعم لو کان مقطوع الذکر من أصله ، فحینئذ امکن الاجتزاء بالثلاثة فی خصوص المقعد دون غیره .

ثمّ أنّه هل یدور الحکم فی البلل ، مدار اشتباهه عند من خرج منه البول ، بحیث لو لم تحصل له الشبهة یثبته أو لم یعلم منه ذلک ، لم یحکم بنجاسته ، أو أنّ الحکم یدور مدار الواقع لکلّ أحد ، ولو لم ینطبق علیه الاشتباه؟

وتظهر الثمرة فی غیر المستبرء کالمجنون ، إذا خرج منه البلل قبل الاستبراء ،

ص:226

وغسل الیدین ثلاثاً قبل ادخالهما الاناء (1).

من حیث حکم الخبثیّة ، أو النائم حیث لم یعلم بذلک ، ولکن علم به غیره أو نحو ذلک ، فهل یترتّب علیه أثر البلل قبل الاستبراء أم لا؟

فیه وجهان ، والأقرب هو الترتّب ، لأنّه المستظهر من الأدلّة ، إذ الملاک هو خروج البلل حقیقة فی الخارج قبل الاستبراء اذ له دخلٌ فی الحکم دون الخطاء والاشتباه والعلم لانّ هذه الامور تعدّ وسائل وطرق للوصول إلی الحکم المترتّب ، وطریق الیه عند العرف ، فالغیر إذا علم بذلک یکون حکمه حکم الشخص غیر المستبرء ، کما لا یخفی ، ولذلک یترتّب علی البلل الخارج قبل الاستبراء حکمه من الخبیثیّة والحدثیّة ، إذا لم یمکن اختباره لأجل ظلمة أو غیره .

أمّا حکم المرأة الخنثی المشکل ، بالنسبة للبل الخارج منها بعد الإنزال والجنابة ، قد عرفته سابقاً بما لامزید علیه فلا حاجة إلی إعادته .

(1) لا اشکال فی استحباب اصل غسل الیدین قبل الغسل فی الجملة ، بل لا خلاف فیه کذلک ، إلاّ أن تفصیل البحث فیه موقوف علی بیان أُمور ، وهی :

الأمر الأوّل: فی بیان المراد من الیدین هنا؟

لا اشکال فی اطلاقه بالنسبة الی الکفّین حتی الزندین ، کما هو المنصرف إلیه لدی الاطلاق ، فی ظاهر النصّ والفتوی ، بل وصریح کثیر من الأخبار فی باب الوضوء ، فلا باس بالاشارة إلیها .

فی سُنن الغُسل / غَسل الیدین قبل الغُسل

منها : صحیحة محمد بن مسلم ، عن أحدهما علیهم السلام : «قال : سألته عن غُسل الجنابة؟ فقال: تبدأ بکفیک فتغسلهما ثمّ تغسل فرجکَ»(1) .


1- وسائل الشیعة: الباب 26 من أبواب الجنابة، الحدیث 1 .

ص:227

منها : فی موثقة أبی بصیر ، قال : «سألت أبا عبداللّه علیه السلام عن غُسل الجنابة؟ فقال: تصبّ علی یدیک الماء فتغسل کفّیکَ ثمّ تدخل یدک فتغسل فرجک»(1) .

منها : صحیحة زرارة ، قال: «سألت أبا عبداللّه علیه السلام عن غسل الجنابة؟ فقال: تبدأ فتغسل کفّیکَ»(2) .

منها : صحیحة حکم بن حکیم ، قال: «سألت أبا عبداللّه علیه السلام عن غسل الجنابة؟ فقال : افض علی کفّک الیمنی من الماء فاغسلها»(3) .

فان هذه الروایات المعتبرة _ اما انها صحصحة أو موثّقة _ تدلّ علی کون المراد من الیدین هو الکفّین إلی الزندین ، کما هو المتفاهم عند العرف العام ، بحیث لو اطلق وقیل للطفل (إغسل یدیکَ) لم یتبادر إلی ذهنه إلاّ إلی ذلک ، إلاّ أن تحفّ به قرینة دالّة علی خلاف ذلک ، کما قد یشاهد ذلک فی بعض الموارد .

ولعل استحباب الغَسل إلی ذلک ، کان لأجل توهّم النجاسة فیها ، بحسب العادة ، إذ هما عادة وسیلتان مباشرتان لازالة النجاسة المتحقّقة من المنیّ علی الذکر و غیره .

فکثیراً ما یحصل تلوثهما ، ولأجل دفع ذلک ، فدافع هذا التوهم حکم بغَسلهما قبل الغُسل ، حتّی یکون الماء المستعمل فی الغُسل طاهراً .

کما قد یؤیّد ذلک ما ورد فی صحیحة أُخری مضمرة لزرارة وهی : «قال: قلت : کیف یغتسل الجنب؟ فقال: إن لم یکن أصاب کفّه شیء ، غمسها فی الماء ثمّ بدأ بفرجه»(4) ، حیث یکون مفهومها أنّه لو کان قد أصابها شیء ، لیس علیه أن


1- وسائل الشیعة: الباب 26، من أبواب الجنابة، الحدیث 5 ، 7 ، 9 .
2- وسائل الشیعة: الباب 26، من أبواب الجنابة، الحدیث 5 ، 7 ، 9 .
3- وسائل الشیعة: الباب 26، من أبواب الجنابة، الحدیث 5 ، 7 ، 9 .
4- وسائل الشیعة: الباب 26 من أبواب الجنابة، ، الحدیث 2 .

ص:228

یغمسها فی الماء ، حتّی یغسلها فالحکم باستحباب غَسل ذلک المقدار من جهة تلک الأخبار .

هذا فضلاً عن ان دعوی الإجماع فیه ، أمر ثابت ولا خلاف فیه ، إلاّ عن الجُعفی حیث حکم باستحباب الغسل من المرفق .

فإن کان یقصد استحباب ذلک مضافاً إلی استحباب الکفّین ، فلا بأس به لأجل امکان استفادته من روایة موثقة رواها سماعة عن أبی عبداللّه علیه السلام ، قال: «إذا أصاب الرجل جنابة فأراد الغسل فلیفرغ علی کفّیه ویغسلهما دون المرفق»(1) .

مع إمکان أن یقال فیه بأنه یحتمل أن یکون المراد بیان موضع الکفّ لا بیان أنّه یجوز غسلهما ، حتی لو غسل بأزید من المفصل دون المرفق للتوسعة ، کما یشهد لذلک أنّه جعل افراغ الماء الکفّ وغسلهما أوّلاً ، ثم بیّن بان یکون ذلک دون المرفق ، فلا یکون الخبر حینئذ معارضاً لتلک الأخبار .

ومما یستفاد منه ذلک ، مرفوعة یونس عنهم علیهم السلام ، قال: «إذا ارادت غُسل المیّت . . . . ثمُ اغسل یدیه ثلاث مرّات ، کما یغَسلُ الإنسان من الجنابة إلی نصف الذراع»(2) .

بناءً علی رجوع قید (إلی نصف الذراع) إلی قوله : «کما یغسل الإنسان» ، وإلاّ یحتمل أن یرجع ذلک القید الی خصوص غُسل المیّت ، فیکون التشبیه فی خصوص استحباب تثلیث الغَسل لا مع مقداره .

وعلی کلّ حال ، فلو سلّمنا رجوعه إلی الجملة الأخیرة بملاک الأقربیّة ، فانّه


1- وسائل الشیعة : الباب 26 من أبواب الجنابة، الحدیث 8 .
2- وسائل الشیعة: الباب 44 من أبواب الجنابة، الحدیث 1 .

ص:229

یستفاد منه استحباب آخر زائدا علی استحباب غسل الکفّین ، بل وهکذا بالنسبة إلی المرفق أیضاً ، قد ورد فی صحیحة یعقوب بن یقطین ، عن أبی الحسن علیه السلام من قوله : «قال الجنب یغتسل ، یبدأ فیغسل یدیه إلی المرفقین ، قبل أن یغمسهما فی الماء(1)» .

وفی صحیحة البزنطی ، قال : «سألت أبا الحسن الرضا علیه السلام عن غُسل الجنابة؟ فقال: تغسل یدک الیمنی من المرفقین إلی أصابعک»(2) الحدیث .

وفی «الحدائق» قال: «والظاهر تثنیة المرفق ، وأفراد الید فی الروایة الثانیة من سهو قلم الشیخ رحمه الله ، وروایة الحمیری تؤیّد الأوّل ، قال فی «الوافی» بعد نقل الخبر المذکور : وفی بعض النسخ : «تغسل یدیک إلی المرفقین» وهو الصواب» ، انتهی(3) .

والمراد من روایة الحمیری ، هو ما رواه فی «قرب الاسناد» عن أحمد بن محمد بن عیسی ، عن أحمد بن محمد بن أبی نصر ، عن الرضا علیه السلام ، أنّه قال: «فی غُسل الجنابة تغسل یدک الیمنی من المرفق إلی أصابعکَ ، ثمّ تدخلها فی الإناء . . .»(4) .

ولعلّ وجه الافراد فی الید الیمنی فی هذا الحدیث ، من دون ذکر الأُخری ، بل وهکذا فی روایة حکم بن حکیم ، هو کون أخذ الآلة والوسیلة المشتملة علی الماء ، وصبّه علی الرأس والبدن ، یکون غالباً بواسطة الید الیمنی ، فلذلک اشار الیها ونبّه علیها للتذکر ، فلا ینافی کون استحباب الغسل یشملهما معا .

وکیف کان ، فلا بأس بالالتزام باستحباب آخر للیدین بأکثر من الزندین ، مع


1- وسائل الشیعة: الباب 34 من أبواب الجنابة، الحدیث 1 _ 3 .
2- وسائل الشیعة: الباب 34 من أبواب الجنابة، الحدیث 1 _ 3 .
3- وسائل الشیعة: الباب 34 من أبواب الجنابة، الحدیث 1 _ 3 .
4- الحدائق الناظرة : 3/110

ص:230

ثبوت أصل الاستحباب لخصوص الکفّین أیضاً ، کما هو صریح ماورد فی «فقه الرضا» بقوله: «وتغسل یدیک إلی المفصل ثلاثاً قبل أن تدخلهما الاناء . . .»(1) .

ولا الزام لنا فی تفسیر تلک المطلقات ، حتّی یختصّ الاستحباب بالکفّین فقط ، مع کون الأمر فی الامور غیر الواجبه وکونه من المثبتات ، خصوصاً مع ملاحظة عدم الاطلاق فی بعض تلک الروایات ، حیث قیّد المقدار إلی حد المفصل والزند ، کما عرفت مما ورد فی «فقه الرضا» حیث ینافی ذلک مع التقیید .

فالقول بمراتب الفضل _ کما علیه صاحب «الحدائق» _ غیر بعید ، کما لاینافی مع القول بتعدّد الاستحباب ، بأن یکون مستحبّاً ، کما علیه صاحب «الجواهر» والمحقّق الآملی رحمهم الله ، وان کان الاحتمال الثانی أقرب ، واللّه العالم .

الأمر الثانی : هل یشترط فی استحباب غَسل الیدین فی الجنابة التثلیث أم لا؟ ظاهر عبارة المصنّف قدس سره وغیره من الأصحاب هو ذلک ، بل فی «المعتبر» و«الغنیة» «الإجماع علیه ، کما هو ظاهر المنقول فی فقه الرضا» المار سابقا ، وکذلک الظاهر المستفاد من صحیحة الحلبی ، عن الصادق علیه السلام ، فی حدیثٍ قال : «واحدة من حدث البول ، واثنتان من الغائط ، وثلاث من الجنابة»(2) .

ومن المرسلة المرویة فی «الفقیه» عن أبی عبد اللّه علیه السلام ، أنّه قال: «اغسل یدک من البول مرّة ، ومن الغائط مرّتین ، ومن الجنابة ثلاثاً»(3) .

فیحکم بتقیید المطلقات الواردة بغسل الکفّین من دون ذکر العدد بواسطة


1- المستدرک ، الباب 17 من أبواب الجنابة ، الحدیث 2 .
2- وسائل الشیعة: الباب 27 من أبواب الوضوء، الحدیث 1 .
3- وسائل الشیعة: الباب 27 من أبواب الوضوء، الحدیث 2 .

ص:231

هذین الخبرین ، فتصیر النتیجة عدم تحقّق المستحب إلاّ بالثلاث ، دون الأقل منها بمرّة أو مرتین .

ولکنّه لا یخلو من وهن ، لما قد عرفت من أنّ الاطلاق والتقیید ، إنّما یکون فی الأوامر الالزامیّة وفی غیر المثبتات ، وأمّا فی غیر الالزامیات فانه یمکن الذهاب إلی تعدّد الاستحباب ، بأن یکون أصل الاستحباب احضار الشی لمرة واحدة ، وفی غیرها مستحب فی مستحب ، کما علیه صاحب «الجواهر» والآملی ، خلافاً لصاحب «مصباح الفقیه» ، حیث یظهر من کلامه کون الثلاث هو المستحب ، واما المرّة فهی لازالة النجاسة ، فلا استحباب فیها بخصوصها .

ولعلّ الثمرة تظهر فیما لو علم بطهارة یده فغَسلها مرة واحدة ، فانه لم یکن قد عمل بالمستحب اصلاً ، علی رأی الهمدانی ، بخلاف غیره .

ولعلّ الثانی هو الأقرب إلی الذهن .

الأمر الثالث : فی أنّ استحباب الغَسل مختصٌّ بما إذا کان الاغتسال بالاغتراف من الاناء الذی یحتوی علی القلیل من الماء ، لا ما إذا کان الماء کثیراً ، أو کان الغَسل تحت المطر ، أو اغتسل ارتماسیّاً ، أو من آنیةٍ صبَّ منها الماء علی یده ، خلافاً للمنقول عن العلاّمة حیث حکم بذلک مطلقاً ، بملاحظة اطلاق بعض الأخبار الآمرة بغَسل الیدین قبل الغُسل ، وقد وافقه علی ذلک صاحب «الجواهر» قدس سره ، بقوله: ولعلّه لا یخلو عن قوّة .

بل عن «مصباح الفقیه» عدم استبعاد عموم الاستحباب للاغتسال بالماء القلیل مطلقاً ، ولو من الأوانی الضیقة الرأس ، بدعوی ظهور الاخبار فی أنّ حکمة هذا الحکم تکون لأجل صون ماء الطهارة عن الانفعال بالنجاسة الوهمیّة ، وهی مقتضیة لعموم الحکم بالنسبة إلی کلّ مورد ینفعل الماء الذی یستعمل فی

ص:232

والمضمضة والاستنشاق (1).

الغسل بملاقاة الید علی تقدیر نجاستها .

ولکن الأقرب عندنا هو العموم ، کما علیه السیّد فی «العروة» والآملی ، وکثیر من أصحاب التعلیق .

وتظهر ثمرته فیما لو علم طهارة یده ، أو کان الماء کثیراً أزید من الکرّ ، فلا بأس بالقول باستحبابه ، ولو من باب التسامح فی أدلّة السنن ، بعد ورود الأمر به مطلقاً فی بعض الأخبار ، ولا داعی لنا فی التخصیص والتقیید ، کما عرفت .

(1) بلا خلاف فیهما ، بل فی «المدارک» وغیره دعوی الاجماع علی استحبابهما ، لما دلّت علیهما النصوص التی یعدّ بعضها صحیحاً ، مثل صحیحة زرارة ، قال: «سألت أبا عبداللّه علیه السلام عن غُسل الجنابة؟ فقال: تبدأ بغسل کفّیک ، ثمّ تفرغ بیمینکَ علی شمالکَ ، وتغسل فرجکَ ، ثمّ تتمضمض وتستنشق ، ثمّ تغسل جسدکَ من لدی قرنکَ إلی قدمیکَ»(1) .

فی سُنن الغُسل / المضمضة و الاستنشاق

وفی معناها غیرها من الأخبار ، مثل حدیث أبی بصیر(2) .

ولکن فی مقابلها عدّة أخبار تنفی استحباب المضمضة والاستنشاق فی الغُسل ، مثل مرسلة أبی یحیی الواسطی ، عن بعض اصحابه ، قال: «قلت لأبی عبداللّه علیه السلام ، الجنب یتمضمض ویستنشق؟ قال: لا إنّما یجنبُ الظاهرُ»(3) .

وروایته الأُخری عمّن حدّثه ، قال: «قلت لأبی عبد اللّه علیه السلام : الجنب


1- وسائل الشیعة: الباب 26 من أبواب الجنابة، الحدیث 5 _ 9 .
2- وسائل الشیعة: الباب 26 من أبواب الجنابة، الحدیث 5 _ 9 .
3- وسائل الشیعة: الباب 24، من أبواب الجنابة، الحدیث 5 .

ص:233

تمضمض؟ فقال: لا إنّما یجنبُ الظاهر ، ولا یجنبُ الباطن ، والفم من الباطن»(1) .

فلابدّ من حملها علی نفی الوجوب ، أی لیستا من واجبات الغُسل ، کما هو المنقول عن کثیر من العامّة .

کما یشهد لهذا الجمع ما ورد فی حدیث عبداللّه بن سنان ، عن أبی عبداللّه علیه السلام ، قال: «المضمضة والاستنشاق ممّا سنّ رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم »(2) .

وحیث لم یتعیّن موردهما ، فیشمل باطلاقه للوضوء والغُسل ، کما یدلّ علیه مرسلة الصدوق بقوله : وروی فی حدیثٍ آخر أنّ الصادق علیه السلام ، قال فی غُسل الجنابة: «ان شئت أن تتمضمض وتستنشق فافعل ، ولیس بواجب ، لأنّ الغُسل علی ما ظهر لا علی ما بطن»(3) .

وما ورد فی بعض الأخبار ، مثل روایة زرارة عن أبی جعفر علیه السلام ، قال : «لیس المضمضة والاستنشاق فریضة،ولاسُنة، إنّماعلیکَ ان تغسل ما ظهر»(4) .

یحمل علی ما قاله الشیخ ، أی أنّهما لا یعدّان من السُنّة التی لا یجوز ترکها ، لکن قوله انّهما مستحبان أمر ثابت ولا خلاف فیه .

ثمّ المشهور _ کما فی «الحدائق» و«الوسیلة» و«السرائر» و«التمهید» و«الذکری» وغیرها استحباب التثلیث فیهما .

وفی «الجواهر» و«مصباح الهدی» للآملی ، أنّه لیس علیه دلیل ، إلاّ ما ورد فی «فقه الرضا» من قوله : «وقد یروی أن یتمضمض ویستنشق ثلاثاً ، وروی مرّة مرّة تجزئةً ، وقال : الفضلُ ثلاث ، وان لم یفعل فغُسله تام»(5) .


1- وسائل الشیعة: الباب 24 من أبواب الجنابة، الحدیث 6-8 .
2- وسائل الشیعة: الباب 24 من أبواب الجنابة، الحدیث 6-8 .
3- وسائل الشیعة: الباب 24 من أبواب الجنابة، الحدیث 6-8 .
4- وسائل الشیعة: الباب 29 من أبواب الوضوء، الحدیث 6 .
5- المستدرک: الباب 15 من أبواب الجنابة ، الحدیث .

ص:234

والغسل بصاع (1).

وقد حقّقنا فی محلّه أن کتاب «فقه الرضا» یمکن الاعتماد علی أقواله ونصوصه تأییداً ودلیلاً فی المندوبات ، لو لم یکن فی قباله معارض ، وذلک اعتمادا بأدلّة التسامح فی أدلّة السنن ، خصوصاً إذا قلنا بشمول القاعدة لما بلغ إلی الفقیه ، وقد عرفت کونه هو المشهور .

وقد أضاف فی «الحدائق» بأنّه لیس علی تقدم المضمضة علی الاستنشاق ، دلیل بالخصوص ، إلاّ عطف الاستنشاق علی المضمضة بالواو .

ففی «مصباح الهدی» : أنّه لا یقتضیه ، نعم لا بأس به من باب قاعدة التسامح فی أدلّة السنن بناء علی تحقّق البلاغ بفتوی الفقیه .

أقول : برغم جودة قولهما ، لکن لا یبعد أن یکون لحاظ الترتیب بحسب الظهور الأُولی فی العطف بالواو ، إلاّ أن توجد قرینة لفظیّة أو مقامیّة علی خلافه ، ولعلّه هو مبنی المشهور علی القول بذلک .

نعم لیس معناه أنّه لو عکس لم یعمل بأصل الاستحباب فی أصل العمل ، لأنّه إنْ کان مستحبّاً عُدّ مستحبّاً فی المستحب ، کما هو الامر کذلک فی تقدیم غَسل الیدین علیهما ، لما دلّ علیه روایة زرارة ، حیث قد ورد فیها أداة العطف (ثمّ) الظاهرة فی الترتیب ، کما یساعده الاعتبار من حیث تبادر قوله : «استحباب غسل الکفّین» استظهاراً لطهارتهما قبل ادخالهما الاناء من النجاسة الوهمیّة ، لکن لو خالف الترتیب لم یعدّ غیر عامل باستحبابهما ، بل یکون فی الواقع قد ترک مستحبّاً قبل فعل مستحب آخر ، وأنّه قد اقتصر باتیان المستحب فی المضمضة والاستنشاق دون الترتیب ، فیکون قد عمل بما هو وظیفته فیهما دونه .

(1) وفی «الجواهر» علیه الإجماع محصّلاً ومنقولاً ، خلافاً للمنقول عن أبی

ص:235

حنیفة حیث ذهب إلی الوجوب ، کما أشار إلیه صاحب «الحدائق» ، بل المذکور فی کتب العامّة وغیرها نقلاً عنه هو الوجوب ، کما فی کتاب «تحفة الفقهاء»(1) و«بدائع الصنائع»(2) و«المبسوط» للسرخسی(3) .

فی سُنن الغُسل / الغُسل بصاع

ویدلّ علی قول المشهور وجود اخبار کثیرة _ من الاخبار الصحیحة والموثّقة _ دالّة علی کفایة سیلان الماء علی الجسد ، ولو کالتدهین کما ورد فی الحدیث الذی رواه محمد بن مسلم فی الصحیح ، عن أحدهما علیهم السلام ، فی حدیثٍ من قوله : «فما جری علیه الماء فقد طهر»(4) .

ومثله صحیحة زرارة أو حسنته ، عن الصادق علیه السلام فی حدیثٍ : «فما جری علیه الماء فقد أجزأه» .

وفی صحیحته الأُخری ، عنه علیه السلام ، فی حدیثٍ : «وکلّ شیء أمسسته الماء فقد انقیته»(5) . وفی موثقته أیضاً ، عنه علیه السلام ، فی حدیثٍ : «إنّما یکفیک مثل الدهن»(6) . وفی حسنة هارون بن حمزة الغنوی ، قال: «یجزئک منه ، والاستنجاء ما بلّت یدک»(7) .

إلی غیر ذلک من الأخبار التی یستفاد منها ذلک .

وکذلک الإجماع المذکور بقسمیه ، فلابد من حمل بعض ما یتوهّم منه


1- تحفة الفقهاء: ج 1/30.
2- بدائع الصنائع: ج 1/35 .
3- المبسوط: ج 1/45 .
4- وسائل الشیعة: الباب 26 من أبواب الجنابة ، الحدیث 1 ، 2 ، 5 .
5- وسائل الشیعة: الباب 26 من أبواب الجنابة ، الحدیث 1 ، 2 ، 5 .
6- وسائل الشیعة: الباب 31 من أبواب الجنابة، الحدیث 6 ، 5 ، 1 .
7- وسائل الشیعة: الباب 31 من أبواب الجنابة، الحدیث 6 ، 5 ، 1 .

ص:236

الوجوب بصاع علی الاستحباب ، وهو مثل حدیث زرارة ، قال: «قال أبو جعفر علیه السلام فی حدیثٍ : ومن انفرد بالغسل وحده فلابدّ له من صاع»(1) .

وانه یشترط تحصیل الوظیفة بالاستحباب علی کونه بصاع ، وبذلک یرفع الید عن مفهوم بعض ما یدلّ علی عدم العمل بالاستحباب بالصاع مع الاشتراک ، مثل ما عرفت فی صحیحة زرارة ، حیث قال: «من انفرد بالغسل وحده» ، حیث أنّ مفهومها أنه فی صورة عدم الانفراد فلا ».

وکذلک صحیحة معاویة بن عمار ، قال: «سمعت أبا عبداللّه علیه السلام یقول: کان رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم یغتسل بصاع وإذا کان معه بعض نسائه یغتسل بصاع ومدّ»(2) .

وروایة الفضلاء ، زرارة ، ومحمد بن مسلم ، وأبی بصیر ، عن أبی جعفر وأبی عبداللّه علیهماالسلام ، أنّهما قالا: «توضّأ رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم بمدّ واغتسل بصاع ثمّ اغتسل هو وزوجته بخمسة امداد»(3) .

حیث قد یتوهّم منه عدم کفایة الصاع للاشتراک

ومثله صحیحة محمد بن مسلم(4) ، بل لا بأس بذکر حدیث زرارة تفصیلاً ، قال: قال أبو جعفر علیه السلام : «اغتسل رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم هو وزوجته بخمسة امداد من اناء واحد فقال له زرارة: کیف صنع؟ فقال: بدأ هو فضرب بیده الماء قبلها ، فانقی فرجه ، ثمّ ضربت هی فانقت فرجها ، ثمّ أفاض هو وافاضت هی علی نفسها ، حتّی فرغا ، وکان الذی اغتسل به النبیّ صلی الله علیه و آله وسلم ثلاثة أمداد ، والذی اغتسلت به


1- وسائل الشیعة: الباب 31 من أبواب الجنابة، الحدیث 6 .
2- وسائل الشیعة: الباب 30 من أبواب الجنابة، الحدیث 3 .
3- وسائل الشیعة: الباب 30 فی أبواب الجنابة، الحدیث 5 ، 1 .
4- وسائل الشیعة: الباب 30 فی أبواب الجنابة، الحدیث 5 ، 1 .

ص:237

مدّین ، وإنّما اجزأ عنهما ، لأنّهما اشترکا فیه جمیعاً ، ومن انفرد بالغُسل وحده فلابدّ له من صاع»(1) .

ولکن قد عرفت ظهور کلمات الأصحاب ، علی کونه بصورة الاستحباب ، فما یدلّ علی خلافه ، یحمل علی ما لا یکون بالاشتراک ، وإلاّ یکون استحبابه بخمسة امداد فیصّح مع الاشتراک بصاع ، وأقلّ منه ، جمعاً بین الأخبار .

ثمّ یأتی الکلام فی أنّ المستحب هو الاقتصار علی الصاع ، وعدم التجاوز عنه ، بأن یکون الصاع غایة الاستحباب فی الانفراد ، کما یستظهر ذلک من «المقنعة» و«النهایة» و«المبسوط» و«السرائر» و«الخلاف» أو أنّه أوّل مراتبه ، فیستحب الزیادة علیه ، کما عن «الوسیلة» و«المهذّب» و«المنتهی» ، بل فی «المعتبر» نفی الخلاف فیه عندنا ، وفی «المنتهی» الإجماع علیه؟

وجهان: من ورود النصّ علی ثبوت البأس فی الزیادة علی الصاع ، کما فی مرسلة «الفقیه» عن النبیّ صلی الله علیه و آله وسلم ،

قال: «قال رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم : الوضوء مدّ والغسل صاع ، وسیأتی أقوام بعدی یستقلّون ذلک ، فاولئک علی خلاف سُنّتی ، والثابت علی سُنّتی معی فی حظیرة القدس»(2) .

ومن کفایة ثبوت الاستحباب بفتوی «الفقیه» ، لا سیّما مع دعوی نفی الخلاف فیه عندنا ، أو الإجماع علیه ممّن یعدّون من أعمدة الفقه واکابر الفقهاء _ أعنی المحقّق الحلّی والعلاّمة _ .


1- وسائل الشیعة: الباب 30 فی أبواب الجنابة، الحدیث 5.
2- وسائل الشیعة: الباب 50 من أبواب الجنابة، الحدیث 6 .

ص:238

فقد اختار الآملی الوجه الثانی بدعوی عموم دلالة مرسلة الفقیه علی نفی استحباب الزیادة ، بل المستفاد منها هو مجرد التعییر علی نافی استحباب الصاع ومقلّله ، ولیس فیه اشارة لاستحباب الزیادة علیه أو نفیه .

فالحقّ هو استحباب الزیادة کما فی «الجواهر» ، لکن ینبغی تقییده _ کما فی «الذکری» _ بما لا یحصل معه الإسراف .

ولکن الانصاف ، مع ملاحظة الأخبار الدالة علی الصاع ، والاخبار التی افادت کفایة التدهین ، هو کون الاستحباب علی حدّ الصاع ، أمّا کون الزائد عنه أیضاً مستحبّاً ، فانّه لا دلیل علیه ، إلاّ أن یثبت بالإجماع بضمیمة قاعدة من بلغ بالنسبة إلی قول الفقیه .

وأمّا مرسلة الفقیه فانها فی مقام التعریض بمن قلّل کفایة مقدار المدّ للوضوء والصاع للغسل ، لا لمن یصرف الماء لهما أزید من مقدارهما ، مع قبول وجود الاستحباب بأحد الوجهین فیهما .

کما أنّه قد ذکر غیر واحد من الأصحاب کفایة الصاع مع الاستحباب للغسل ، مع ما له من المقدّمات ، مِن غَسل الکفّین والفرج والمضمضة والاستنشاق ، بل وتثلیث الغسلات ، کما یدلّ علیه صحیحة الفضلاء ، خصوصاً روایة زرارة التی وردت فیها التصریح بانقاء الفرج بالماء للرسول صلی الله علیه و آله وسلم وزوجته .

کما أنّ الظاهر کفایة الصاع مع جمیع المقدّمات للانفراد ، وأمّا مع الاشتراک فیکفی باقلّ من صاع للمنفرد ، حیث قد ذکرت فی الروایة کفایة خمسة أمداد للرجل والزوجة ، فصار ماء الزوجة أقلّ من صاع ، بعدما کان للرسول صلی الله علیه و آله وسلم ثلاثة أمداد ، کما ورد فی النصّ .

ثمّ ادّعوا عدم الاختصاص بالرجل والزوجة ، لإمکان استفادة کون الملاک هو

ص:239

الاشتراک ، کما ورد فی صحیحة زرارة ، بقوله: «وإنّما أجزأ عنهما لأنّهما اشتراکا فیه جمیعاً» ، حیث یفهم منه کون الملاک أصل الاشتراک ، لا لخصوصیّة فی الرجل مع الزوجة .

ولکن یرد علیه: أنّه ربّما یمکن أن یکون فرقٌ بین الرجل بثلاثة امداد والمرأة بمدّین وذلک لأجل التفاوت بین الذکورة والانوثة ، دونما إذا اشترک اثنان من جنس واحد ، بأن یکون الاستحباب حینئذ فیه محقّقاً بصورة الاشتراک مع التساوی فی الماء المستعمل .

فعلیه یظهر الخصوصیّة فی الرجل والزوجة ، وهو غیر بعید ، بل قد یساعده الاعتبار ، ولم أَرَ مَن أفتی بذلک من الأصحاب ، فلولا خوف مخالفة الإجماع لأمکن الذهاب إلیه ، لکن الأمر فی المستحبّات سهل .

وأمّا بیان مقدار الصاع: فقد مر ذکره فی باب الوضوء ، وکذلک فی باب الزکاة ، فی بیان مقدار النصاب ، وقد اشار تفصیله من جهة المقدار مع تمام خصوصیاته صاحب «الجواهر» ، وقد أجاد فیما افاد ، وادّعی فیه کونه هو المشهور ، وأنّه کان لا خلاف فیه ، وربّما حکی الإجماع علیه ، ونکتفی فی ذلک بنقل تمام کلامه حیث قال ، بعد ذکره ما عرفت من أنّ المراد من الصاع _ وهو الأصحّ _ أربعة أمداد: «والمدّ: رطلان وربع بالعراقی ، ورطلٌ ونصف بالمدنی ، فهو تسعة بالأوّل ، وستة بالثانی .

والرطل العراقی علی المشهور _ کما قیل _ أحد وتسعون مثقالاً ، وهو نصف المکّی ، ثلثاً المدنی .

والمثقال الشرعی: هو الدینار ، وهو عبارة عن درهم وثلاثة أسباع ، فیکون کلّ عشرة دراهم ، سبعة مثاقیل شرعیّة ، وهو علی ما قیل ثلاثة أرباع المثقال الصیرفی .

ص:240

والدرهم: ستّة دوانیق والدانق ، علی المشهور _ کما قیل _ وزن ثمان حبّات ، من أوسط حبّ الشعیر ، وقد ضبطه الاستاذ الأکبر فی «کشف الغطاء» بالعیار العطاری النجفی ، فبلغُ حقّتین وأربعة عشر مثقالاً وربعاً ، وذلک لأنّکَ بعد أن عرفت أنّ الرطل أحد وتسعون مثقالاً شرعیّاً ، وهی ثمانیة وستّون مثقالاً صیرفیّاً وربع ، لما تقدّم أن الشرعی ثلاثة أرباع الصیرفی ، فینقص حینئذ عن الأوقیة العطاریة النجفیّة سبعة مثاقیل إلاّ ربعاً ، لأنّها خمسة وسبعون مثقالاً صیرفیّاً ، فیکون الصاع عبارة عن ستمائة مثقال صیرفی ، وأربعة عشر مثقالاً وربع ، وعن حقّتین بالعطاری وأربعة عشر مثقالاً وربع ، فتأمّل) إنتهی کلامه رحمه الله (1) .

تکملة

ثمّ لیعلم أن بعض الأصحاب قد زاد علی السنن المذکورة فی کلام المصنف ، عددا آخر ، منها الموالاة والمتابعة ، ومنها الدعاء حال الاغتسال ، بما ورد فی النصوص ، والدعاء بعد الفراغ منه ، ومنها تکرار غَسل کلّ عضو ثلاث مرات ، کما فی المیّت ، ومنها تخلیل ما یصل إلیه الماء بدون التخلیل کالشعر الخفیف استظهاراً وغیرها .

ومن شاء الاطلاع علی هذه السنن ، فعلیه أن یراجع «الحدائق» وغیره .

ولعلّ وجه عدم ذکر المصنف لها ، هو عدم اختصاص أکثرها لخصوص غسل الجنابة ، إلاّ بعضها ، حیث دل الدلیل علی اختصاصها کغَسل الیدین من حدث الجنابة ، لأنّ لأدلّتها عموم وإطلاق یشمل جمیع أفراد الغسل ، کما لا یخفی علی من راجعها .


1- الجواهر: ج 3/121 .

ص:241

مسائل ثلاث: الأُولی: إذا رأی المغتَسل بللاً بعد الغُسل ، فإن کان قد بال أو استبراء لم یعد (1).

(1) لا یخفی علیکَ أن المغتسل عن الجنابة بالانزال ، إذا رأی بللاً بعد الغُسل ، فانّ هذا البلل له أحکام مختلفة ، لأنّه أمّا أن تکون مشتبهة ، وقد لا تکون ، فعلی الثانی ، فان علم بأنّها منیّ ، فلا إشکال فی وجوب الغُسل علیه إجماعاً _ محصّلاً ومنقولاً _ خلافاً لبعض العامّة علی ما فی «الجواهر» ، ولا فرق فی وجوب الغُسل علیه بین أن یعلم بکونها من بقایا المنیّ السابق ، أو کونها منیّاً حادثاً ، أو لا یعلم بشیء منهما ، مع فرض العلم بکونها منیّاً علی کلّ حال ، لکنّها مرددة بین المنیّ السابق والحادث .

کما لا فرق فی الحکم المذکور ، بین وقوع الاستبراء بالبول بعد خروج المنیّ السابق وعدمه ، وبین وقوع الاستبراء بالخرطات وعدم وقوعه .

والسرّ فی ذلک واضح ، لأنّه إذا فرض علمه بخروج المنیّ من المتطهّر ، فلا إشکال فی وجوب الغُسل علیه مطلقاً ، اذلا تأثیر لاختلاف الوجوه المزبورة فی أصل وجوب الغُسل علیه ، کما هو واضح .

کما لا إشکال فی وجوب الوضوء علیه خاصّة ، إذا علم بأنّ البلل الخارج هو البول فقط دون غیره .

کما لا تردید فی عدم وجوب شیء من الغُسل والوضوء علیه ، إذا علم بأنّ البلل هو غیر المنیّ والبول ، بان کان الخارج مذیا او وذیا أو ودیا أو غیرها .

هذا کلّه إذا لم ینطبق علی البلل عنوان المشتبه ، کما فرض فی صدر المسألة .

وأمّا علی الأوّل: _ أعنی کونها مشتبهة _ فهو یتصوّر علی وجوه عدیدة وهی:

ص:242

تارة: یکون الاشتباه بین کونها منیّاً أو بولاً ، مع القطع بعدم کونه غیرهما .

وأُخری: بین کونها منیّاً أو غیر البول ، مع القطع بعدم کونها بولاً .

وثالثة: بین کونها بولاً أو غیر المنیّ ، مع القطع بعدم کونها منیّاً .

ففی هذه الصور الثلاث یکون الدوران ثنائیّاً .

فی غسل الجنابة / حکم البلل المشتبهة بعد الغُسل

ولکن قد یکون الدوران ثلاثیّاً ، هو فیما إذا کان الاشتباه بین کونها بولاً أو منیّاً أو غیرهما من المذی وغیره ، فتصیر الوجوه فیها اربعة .

ثمّ وفی کلّ تلک الوجوه: تارة: یکون قبل الاستبراء بالبول وبالخرطات .

وأُخری: یکون بعدهما .

وثالثة: یکون بعد البول وقبل الاجتهاد بعده .

فهذه صور المسالة ، ولعلّه یختلف حکمها فیها ، فلابدّ من بیان کلّ صورة بصورة الاستقلال ، حتّی یتّضح حکمها ، ومنه یتّضح حکم ما یضاهیها

فنقول ومن اللّه الاستعانة:

الصورة الأوّلی: ما إذا خرج منه رطوبة مشتبة بین البول والمنیّ وغیره ، مع عدم الاستبراء بالبول ولا بالاجتهاد بدونه قبل الغُسل ولا بعده .

والحکم فی هذه الصورة هو البناء علی کونها منیّاً ، فیجب علیه الغُسل ، بل وفی «الجواهر»: «بلا خلاف أجده فیه إلاّ من «الفقیه» من القول بالوضوء خاصّة ، وربّما مال الیه بعض المتأخّرین ، کالاردبیلی والکاشانی ، وهو ضعیفٌ ، بل عن العلاّمة الإجماع علی بطلانه ، کما هو الظاهر من الشیخ وغیره ، وفی «السرائر» نفی الخلاف فیه» انتهی .

والدلیل علیه هو النصوص المستفیضة الدالّة علیه ، مفهوماً ومنطوقاً ، أی علی وجوب إعادة الغسل فی هذه الصورة ، وهو مثل ما رواه الشیخ باسناده الصحیح

ص:243

عن سلیمان بن خالد ، عن أبی عبد اللّه علیه السلام ، قال: «سألته عن رجل أجنب فاغتسل قبل أن یبول ، فخرج منه شیء؟ قال: «یعید الغسل . قلت: فالمرأة یخرج منها شیء بعد الغسل؟ قال: لا تعید . قلت: فما الفرق بینهما؟ قال: لأنّ ما یخرج من المرأة إنّما هو ماء الرجل»(1) .

ومنها: ما رواه الشیخ باسناده الصحیح ، عن محمد _ یعنی ابن مسلم _ قال: «سألت أبا عبداللّه علیه السلام : عن الرجل یخرج من احلیله بعدما اغتسل شیءٌ؟ قال: «یغتسل ویعید الصلاة ، إلاّ أن یکون بال قبل أن یغتسل ، فإنّه لا یعید غسله»(2) .

ومنها: قال محمد ، وقال أبو جعفر علیه السلام : «من اغتسل وهو جنبٌ قبل أن یبول ، ثمّ وجد بللاً فقد انتقض غسله ، وان کان بال ثمّ اغتسل ثمّ وجد بللاً ، فلیس ینقض غسله ، ولکن علیه الوضوء ، لأنّ البول لم یدع شیئاً»(3) .

ولعلّ وجه ایجاب الوضوء علیه ، بعدما وجد بللاً بعد البول ، هو عدم استبرائه بالخرطات بعد البول ، وإلاّ لم یجب علیه الوضوء ، لأنّ الاستبراء بالبول یجعل المجری نقیّاً عن الاجزاء الباقیة من المنیّ فیه .

ومنها: ما رواه الصدوق ، باسناده الصحیح عن عبید اللّه بن علیّ الحلبیّ ، قال: «سُئل أبو عبد للّه علیه السلام : عن الرجل یغتسل ، ثمّ یجد بعد ذلک بللاً ، وقد کان بال قبل أن یغتسل؟ قال: لیتوضّأ ، وأن لم یکن بال قبل الغسل ، فلیعد الغسل»(4) .

فالحکم بالوضوء بعد البول ، محمولٌ بما إذا لم یستبرء بالخرطات بعده .

وبالمفهوم یدلّ حدیثه الآخر فی الصحیح ، عن أبی عبد اللّه علیه السلام ، قال: «سُئل


1- وسائل الشیعة: الباب 13 من أبواب الجنابة، الحدیث 1 .
2- وسائل الشیعة: الباب 36 من أبواب الجنابة، الحدیث 6 ، 7 .
3- وسائل الشیعة: الباب 36 من أبواب الجنابة، الحدیث 6 ، 7 .
4- وسائل الشیعة: الباب 36 من أبواب الجنابة، الحدیث 6 ، 7 .

ص:244

عن الرجل یغتسل ، ثمّ یجد بعد ذلک بللاً ، وقد کان بال قبل أن یغتسل؟ قال: إن کان بال قبل أن یغتسل (الغسل) فلا یعید الغُسل»(1) .

حیث یدلّ بمفهومه أنّه أن لم یبل قبل الغسل ، فلیعد الغسل ، لو کان الجنابة بالانزال ، کما هو المفروض فی الاستبراء بالبول .

ومنها: موثقة سماعة ، قال: «سألته عن الرجل یجنب ، ثمّ یغتسل قبل أن یبول ، فیجد بللاً بعدما یغتسل؟ قال: «یعید الغسل ، فإن کان بال قبل أن یغتسل ، فلا یعید غسله ، ولکن یتوضّأ ویستنجی»(2) .

فالحکم بالوضوء محمولٌ علی ما إذا لم یستبرأ بالخرطات ، کما عرفت ، وإلاّ فلیس علیه شیء

وکذلک الأمر فی الخبر الذی رواه معاویة بن میسرة ، قال: سمعت أباعبداللّه علیه السلام یقول: فی رجل رأی بعد الغسل شیئاً؟

قال: «إن کان بال بعد جماعه قبل الغسل فلیتوضّأ ، وان لم یبل حتّی اغتسل ، ثمّ وجد البلل ، فلیعد الغسل»(3) .

کما أنّه یحمل علی الجماع مع الإنزال ، وإلاّ لا یحتاج إلی البول ، کما لا یخفی .

وحیث أنّ دلالة هذه الأخبار علی لزوم إعادة الغسل فی الصلاة المفروضة واضحة وقویّة سنداً ، قد اعتمد علیها الأصحاب وافتوا بها .

ولکن یعارضها جملة من الأخبار حیث تدلّ علی عدم لزوم شیء علیه لو خرج منه البلل قبل البول:

منها: ما رواه الصدوق مرسلاً ، قال: «وروی فی حدیثٍ آخر: أن کان قد رأی


1- وسائل الشیعة: الباب 36 من أبواب الجنابة، الحدیث 5 ، 8 ، 9 .
2- وسائل الشیعة: الباب 36 من أبواب الجنابة، الحدیث 5 ، 8 ، 9 .
3- وسائل الشیعة: الباب 36 من أبواب الجنابة، الحدیث 5 ، 8 ، 9 .

ص:245

بللاً ، ولم یکن بال ، فلیتوضّأ ولا یغتسل إنّما ذلک من الحبائل»(1) .

ثمّ قال: «قال مصنّف هذا الکتاب: إعادة الغسل أصلٌ ، والخبر الثانی رخصة» ، انتهی .

ومراده قدس سره حمل الإعادة علی الاستحباب ، وبه یجمع بین الطائفتین من الأخبار ، من لزوم الإعادة وعدمه ، بحمله علی الاستحباب ، وقد ارتضاه الکاشانی فی «الوافی» .

ومنها: خبر عبد اللّه بن هلال ، قال: «سألتُ أبا عبد اللّه علیه السلام : عن الرجل یجامع أهله ، ثمّ یغتسل قبل أن یبول ، ثمّ یخرج منه شیء بعد الغسل؟ قال: «لا شیء علیه ، إنّ ذلک ممّا وضعه اللّه علیه»(2) .

فإنّه یمکن حمله علی صورة الجماع بلا إنزال ، حتّی لا ینافی تلک الأخبار .

کما یحمل ما فی بعض الأخبار ، مثل خبر معاویة علی الجماع مع الإنزال ، بل لعلّ شبه التعلیل الوارد فی ذیله یؤیّد هذا الحمل ، فکأنّه یفید بانّ المقتضی فی تلک الحالة هو وجوب الغُسل بعد خروج البلل ، لقوّة احتمال حرکة المنیّ عن محلّه ، وکونه فی المجری ، وخروجه بعد ذلک ، إلاّ أنّه لم یعتن بهذا الاحتمال ، فمنّ اللّه علیه بوضعه عنه ، بعدم إیجاب الغُسل علیه .

ومنها: روایة زید الشحّام ، عن أبی عبد اللّه علیه السلام ، قال: «سألته عن رجل أجنب ، ثمّ اغتسل قبل أن یبول ، ثمّ رأی شیئاً؟ قال: «لا یعید الغُسل ، لیس ذلک الذی رأی شیئاً»(3) .

فإنّ الجنابة وان کانت مطلقة ، فشتمل حتّی مع الانزال ، کما هو الغالب ، ولکن


1- وسائل الشیعة: الباب 36 من أبواب الجنابة، الحدیث 3 .
2- وسائل الشیعة: الباب 36 من أبواب الجنابة، الحدیث 2 _ 13 .
3- وسائل الشیعة: الباب 36 من أبواب الجنابة، الحدیث 2 _ 13 .

ص:246

یمکن حمله علی فرد آخر منها ، جمعاً مع تلک الأخبار ، خصوصاً علی وجه الجمع العرفی ، فیحمل کلاً من الطائفتین علی القدر المتیقّن منها ، الذی کان دلالته علی ذلک اظهر بالنسبة إلی الفرد الآخر ، نظیر الجمع بین دلیل (ثمن العذرة سحتٌ) ، و دلیل (ولا بأس ببیع العذرة) ، فی الحمل علی غیر المأکول فی الأوّل والمأکول فی الثانی ، کما لا یخفی .

ومنها: روایة جمیل بن درّاج ، قال: «سألت أبا عبد اللّه علیه السلام : عن الرجل یصیبه الجنابة ، فینسی أن یبول ، حتّی یغتسل ، ثمّ یری بعد الغُسل شیئاً ، أیغتسل أیضاً؟ قال: لا قد تعصّرت ونزل من الحبائل»(1) .

إذن من الواضح أنّ النسیان لا یؤثر فی موضوع الحکم ، لأنّه إن کان البلل منیّاً ، فیجب علیه الغُسل ، سواءً نسی أن یبول أو یتعمّد بترکه ، وإلاّ لا یجب إن کانت الجنابة بغیر انزال ، فحینئذ لا بأس أن یحمل علی الجنابة التی لم تنزل ، حیث لا یکون البول حینئذ مؤثّراً فی الحکم ، فیکون البلل حینئذ من الحبائل ، وقد خرج بالعصر ، کما أشار إلیه فی نص الحدیث .

هذا ، مع أنّ هذه الأخبار قاصرة عن الحجیّة ، لأنّ الأصحاب قد اعرضوا عنها ، وقد مرّ فی محلّه أن اعراضهم موهن لحجیّتها ، کما أن اعتماد الأصحاب _ خصوصاً قدمائهم الذین یقرب زمانهم زمان الصدور _ موجبٌ لقوّتها ، والقول بأنّ الخبر موثوق الصدور ، فیکون فی حدّ نفسه معتبرا غیر تام ولا تکون حجة حتّی یعارض الأخبار السابقة ، مع أنّکَ قد عرفت إمکان الجمع فی بعضها بما لا یخلو عن بُعدٍ فی الجملة .


1- وسائل الشیعة: الباب 36 من أبواب الجنابة، الحدیث 11 .

ص:247

نعم ، لولا ما عرفت من و وهن هذه الأخبار بواسطة اعراض الأصحاب ، عنها ، لکان الجمع الذی ذهب إلیه الصدوق والکاشانی ، من حمل الأخبار النافیة علی استحباب الاعادة جیّداً ، کما صرّح بذلک المحقّق الآملی فی «مصباح الهدی» ، و لعدّ هذا الجمع أحسن من الجمع الذی اختاره صاحب «مصباح الفقیه» بکون الأخبار النافیة مسوقة لبیان أمر واقعی ، وهو أنّ البلل الخارج بعد الانزال لیست ما تخرج من بین الصلب والترائب ، لکی توجب الغُسل ، بل هی تنزل من الحبائل ، فلا ینبغی توهم کونه منیّاً ، ولا احتمال منویّتها .

بخلاف الأخبار المثبّتة ، حیث أنّها فی صدد بیان ما یحتمل کونه منیّاً ، فلا ینافی تلک الأخبار مع الأخبار المثبّتة .

ووجه حُسن الجمع الذی قام به المحقق الآملی ، هو أنه لیس من وظیفة الإمام بیان مثل ذلک ، بل ان وظیفته مجرد بیان الأحکام ، إلاّ ما یکون مرتبطا بها أیضاً ، مع أنّ هذا الإحتمال وان کان جیّداً فی مثل حدیث جمیل بن درّاج ، حیث صرّح بقوله: «لا قد تعصّرت ونزل من الحبائل» ولکنّه لا یجری فی سائر الأخبار ، التی لیس فیها إلاّ بیان خروج بلل بعد الجنابة قبل البول .

کما أنّ الجمع المنقول عن الصدوق وغیره ، أحسن من الجمع العرفی الذی ذهب إلیه صاحب «الحدائق» ، من حمل الأخبار النافیة علی التقیّة ، لأنّ هذا الحمل إنّما یصحّ مع وجود القائل بالخلاف من العامّة ، ویشتهر خلافهم بحیث یقتضی ملاحظة التقیّة معه ، وإلاّ لما یصحّ ، إلاّ أن یقال بصحّة التقیة ولو مع عدم قائل به ، من جهة القاء الخلاف فی أقوال الشیعة ، حقناً لدمائهم حتی لایشتهروا بقول واحد ، کما ورد فی نصوص اخبار التقیة ، و قد مرّ ذکرها فی باب التقیّة من وجود مثل هذه الأحکام الصادرة لاجل دفع التفرد فی الحکم عن الشیعة . إلاّ أنّ

ص:248

اثبات هذا النوع من التقیّة دون وجود قرینة دالة علیه مشکلٌ جدّاً .

إلاّ أنّک قد عرفت عدم إمکان الذهاب إلی ما ذهب إلیه الصدوق ، فلابدّ من الجمع بین الأخبار بما عرفت منّا فی کلّ حدیث ، بل ذهب إلیه جماعة من المحقّقین ، بحمل الأخبار النافیة علی المستبرء بالخرطات ، أمّا مطلقاً _ کما علیه المحقّق فی «الشرائع» و«النافع» وغیره _ أو مع تعذّر البول _ کما علیه جماعة من المحقّقین _ بل قیل إنّه المشهور ، إذ الجمع مهما أمکن أولی من الطرح ، کما لا یخفی .

بل قد یؤیّد الأخبار السابقة ، من عدم وجوب شیء علیه بعد الاستبراء بالبول ، واستبرائه بالخرطات والاجتهاد ، بما ورد من الأخبار المعتبرة الدالة علی عدم الالتفات لما یخرج من الذَکَر بعد الاستبراء بالبول ، وإنْ بلغ الساق ، مثل الخبر الصحیح الذی رواه عبد الملک بن عمرو ، عن أبی عبد اللّه علیه السلام : «فی الرجل یبول ، ثمّ یستنجی ، ثمّ یجد بعد ذلک بللاً؟ قال: إذا بال فخرط ما بین المقعدة والانثیین ثلاث مرّات ، وغمز ما بینهما ، ثمّ استنجی ، فان سال حتّی یبلغ السوق (الساق) فلا یبالی»(1) .

ومثله روایة حفص بن البختری ، عن أبی عبد اللّه علیه السلام : «فی الرجل یبول؟ قال: ینتره ثلاثاً ، ثمّ إنْ سال حتی یبلغ السوق فلا یبالی»(2) .

فإذا لم یجب علیه الوضوء بعد الخرطات المتعقبة علی البول بالبلل الذی سال منه حتی بلغ ساقه ، فانّ عدم الغُسل یکون اولی فیما إذا خرج البلل بعد البول و الخرطات .

هذا ، مضافاً إلی تأییده بقاعدة الاستصحاب (لا تنقض الیقین بالشکّ) ، لأنّ


1- وسائل الشیعة: الباب 13 من أبواب نواقض الوضوء، الحدیث 2 .
2- وسائل الشیعة: الباب 13 من أبواب نواقض الوضوء، الحدیث 3 .

ص:249

بالغُسل یقطع بالطهارة ، فلا یعتنی بالشکّ الحاصل بعد خروج البلل ، کما لا یخفی .

فما رواه محمد بن عیسی ، من قوله : «کتبَ إلیه رجلٌ: هل یجب الوضوء ممّا خرج من الذکر بعد الاستبراء؟ فکتب: نعم»(1) .

قد حمله الشیخ علی الاستحباب تارة ، وعلی التقیّة أُخری ، لموافقته للعامّة . وحمله العلاّمة علی کون الخارج من بقیّة البول ، أی یحمل علی العلم بکونه بولاً ، مضافاً إلی أنّه مکاتبه ومضمرة لیس لها القدرة علی المعارضة مع تلک الأخبار .

واحتمال کون المراد بما خرج من الذکر ، هو البلل الخارج بعد الجنابة ، وکون المراد من الاستبراء هو البول بدون الاجتهاد بعده ، فیطابق مع تلک الأخبار .

وان کان جیّداً فی نفسه ، لکنّه بعید عن مساق تلک الروایة ، لاستبعاد کون المراد من الاستبراء هو البول ، کما لا یخفی ، وان کان هذا الاحتمال فی الجمع بین الطائفتین أولی من الطرح ، لو دار الأمر بینهما .

الصورة الثانیة: هی ما لو حدث له الانزال و أجنب لکنه ولم یبل حتّی اغتسل ، و من ثمَّ بال بعد الغُسل ، ثمّ خرجت منه رطوبة مردّدة بین المنیّ وغیره .

ففی «مصباح الهدی» قال: «ولا اشکال فی أنّ تلک الرطوبة _ من حیث هی رطوبة _ مشتبهة ، لا یحکم علیها بالجنابة ، ولیس حکمها کالرطوبة المشتبهة قبل البول ، وإنّما الکلام فی أنّ بالبول بعد الغُسل هل یحکم بحدوث الجنابة ، من جهة غلبة بقاء أجزاء المنیّ فی المجری ، وخروجها بالبول ، وحیث أنّه بعد الغُسل ، فیؤثّر فی حدوث الجنابة ، فیکون حال البول بعد الغُسل ، حال الرطوبة المشتبهة قبله ، فی کونها محکوم علیه بحکم المنیّ أم لا؟ وجهان: أقواهما الأخیر ، لأنّ


1- وسائل الشیعة: الباب 13 من أبواب نواقض الوضوء، الحدیث 9 .

ص:250

المورد وان کان من موارد الدوران بین الأخذ بالظاهر أو الأصل ، حیث أنّه بعد البول یشک فی خروج أجزاء المنیّ من المجری ، وحیث کان بعد الغُسل ، فیکون فی الحالة السابقة هی الطهارة ، ومقتضی الاستصحاب البناء علیها ، ولکن غلبة بقاء أجزاء المنیّ فی المجری ، وخروجها بالبول ، یقتضی الحکم بانتقاض الحالة السابقة ، والبناء علی حدوث الجنابة . لکن الحکم بترجیح جانب الظاهر علی الأصل ، متوقّفٌ علی قیام الدلیل علی حجیّة ذاک الظهور ، ولم تثبت حجیّته فی المقام ، لعدم الدلیل علی الحکم بالبناء علی خروج المنیّ مع البول ، کما ورد علی الحکم بکون الرطوبة المشتبة قبل البول محکومة بحکم المنیّ» انتهی کلامه(1) .

بل فی «الجواهر» بعد نقل الاحتمالین ، من عروض الجنابة بالبول بعد الغُسل وعدمه ، قال: «علی المحکی ، ولعلّ الأقوی فی النظر الثانی ، ترجیحاً للأصل علی الظاهر ، وقد یشعر به تصفّح کلماتهم ، سیّما فرضهم فی أوّل المسألة الخارج خالصاً ، بما یدلّ علی الانفکاک» انتهی .

اقول: هذا علی فرض قبول وجود الظهور فیه ، مع امکان التشکیک فی أصل الظهور ، لعدم القطع بوجود هذا الظاهر ، من بقاء أجزاء المنیّ فی المجری مطلقاً ، لأنّه من الواضح لو کان الأمر کذلک ، لما احتیج الأمر إلی اناطة الحکم بخروج البلل بعد الغُسل وقبل البول ، بل کان ینبغی أن یناط الحکم بخروج البول مطلقاً _ أی سواء کان قد خرج البلل معه أم لا _ لأنّ البول کان مصاحباً لأجزاء المنیّ ، مع أنّه لیس کذلک . فدعوی وجود الظاهر هنا ، ثمّ البحث عن أنّه هل مقدم علی الأصل والاستصحاب أم لا لیس علی ما ینبغی .


1- مصباح الهدی: 4/305 .

ص:251

فعلی ما ذکرنا لیس الوجه فی عدم الحکم ، عدم قیام الدلیل علی حجیّة هذا الظاهر علی الأصل ، بل لأجل عدم وجود أصل الظهور احتمالاً ، کما عرفت ، والأقوی عندنا عدم وجوب الغُسل فی هذه الصورة .

الصورة الثالثة: ما إذا کان الخارج منه رطوبة مشتبهة ، مردّدة بین المنیّ وغیره ، مع عدم الاستبراء بالبول ، عند التمکّن منه أو مع عدمه ولکنه قام بالاستبراء بالخرطات والاجتهاد .

ظاهر المصنّف فی «الشرائع» و«النافع» و«المبسوط» أنّ لا غسل علیه کالمستبرء بالبول ، ولکن قد قیّد المفید قدس سره فی «المقنعة» بما إذا تعذّر البول ، کما فی «المراسم» و«السرائر» و«الجامع» و«التذکرة» و«الدروس» و«البیان» و«الذکری» و«جامع المقاصد» وغیرها ، بل نسبه فی الأخیرین إلی الأصحاب ، مشعراً بدعوی الإجماع علیه .

وربّما ظهر من «التهذیب» _ کما عن «النهایة» _ عدم الاعادة مع تعذّر البول مطلقاً ، أی مع الاستبراء وعدمه ، هکذا فی «الجواهر» .

ولکن الظاهر من الشیخ فی «الخلاف» وغیره ، وکذا جماعة من متأخّری المتأخّرین _ کما علیه صاحب «الجواهر» والسیّد فی «العروة» بل کثیر من أصحاب التعلیق ، کالمحقّق الآملی والبروجردی ، بل وکثیر من المتأخّرین کصاحب «مصباح الفقیه» و«الحدائق» _ الاعادة ، وهو الأقوی ، لاطلاق الأخبار المستفیضة المعتبرة علی وجوب إعادة الغُسل علی من لم یبل ، إذا خرج منه بللاً یحتمل کونه منیّاً ولا فرق فی ذلک فیما إذا کان قد استبرء بالاجتهاد أو لم یستبرء ، کما لا فرق فیه _ أیّ فی عدم کفایة الاستبراء بالاجتهاد _ بین أن یکون قد تعذر علیه البول أم لا ، لوضوح عدم دخالة تعذّر بوله فی تغییر جهة الحکم ، لأنّ

ص:252

موضوع الحکم إذا تحقّق فی أیّ حال من الاحوال فانّه یتحقّق الحکم قهراً ، والأخبار تدلّ علیه منطوقاً ومفهوماً ، فلا یمکن رفع الید عن مثل هذا الدلیل ، بمثل الاستصحاب الذی کان محکوماً بالدلیل ، ولا بالمعارضة مع اطلاق الأخبار الدالة علی عدم وجوب شیء علیه بخروج البلل ، حیث یشمل باطلاقها حتّی لما قبل البول ، وهو مثل حدیث عبد اللّه بن هلال ، قال: «سألت أبا عبداللّه علیه السلام عن الرجل یجامع أهله ثمّ یغتسل قبل أن یبول ، ثمّ یخرج منه شیء بعد الغسل؟ قال: «لا شیء علیه ان ذلک ممّا وضعه اللّه عنه»(1) .

ومثله روایة زید الشحّام(2) .

وذلک لما عرفت أظهریة دلالة تلک الأخبار علیها ، مع إمکان الجمع بینهما وبین السابقة ، بحمل الجماع عن غیر الإنزال ، أو علی العلم بعدم وجود ءأجزاء المنیّ فی المجری ، مضافاً إلی ضعف السند الموجود فی روایة عبد اللّه بن هلال وأبی جمیلة ، کما فی «الجواهر» .

مع أنّه لا دلیل لنا یدلّ علی قیام الخرطات مقام البول فی رفع حکم البلل ، ونحن أبناء الدلیل .

الصورة الرابعة: ومما ذکرنا فی الصورة السابقة ظهر فساد القول بعدم الاعادة بالأولویّة فیما إذا تعذّر علیه البول ، وهو لم یجتهد فی ذلک . لأنّکَ إذا عرفت عدم دخالة التعذّر فی تغییر الحکم فی صورة الاجتهاد ، ففی عدم دخالته فیه مع عدم الاجتهاد ، یکون بطریق أولی .

مضافاً إلی ورود حدیثٍ مروی فی «فقه الرضا» یدل علی هذا الحکم ، وهو


1- وسائل الشیعة: الباب 36 من أبواب الجنابة، الحدیث 13 _ 14 .
2- وسائل الشیعة: الباب 36 من أبواب الجنابة، الحدیث 13 _ 14 .

ص:253

قوله: «إذا أردت الغُسل من الجنابة ، فاجتهد ان تبول ، حتّی یخرج فضلة المنیّ من أحلیلک ، وان اجتهدت ولم تقدر فلا شیء علیک»(1) .

هذا ، کما انه قد نُسب حکم کفایة الخرطات مع التعذر إلی الشیخ الطوسی رحمه الله فی کتاب «التهذیب» .

فإذا لم نقل بالکفایة مع الخرطات ، فمع عدم الخرطات و مع تعذّر البول یکون الحکم أولی ، مع أنّه لا یمکن القول بدلالة الروایة علیه ، لإمکان أن یکون المراد من عدم الشیء علیه هو نفی الإشکال ، والاثم من جهة ترک البول مع عدم القدرة ، لا عدم وجوب الإجتهاد مع البلل .

مضافاً إلی أنّه لا یمکن معارضته مع تلک الأخبار ، خصوصاً مع ملاحظة إعراض الأصحاب عنه ، حتّی ولو علم استناده إلی الإمام علیه السلام فی غیر «فقه الرضا» ، فضلاً عنه الذی قد وقع الکلام فیه .

مع أنّه علی فرض قبول اطلاقه فی نفی الإعادة ، حتّی فیما إذا لم یأت بالخرطات ، قلنا إنّه یقیّد بما دلّ علی وجوب الاعادة ان لم یستبرء مطلقاً _ أی لا بالبول ولا بالخرطات _ فلازمه وجوب الإعادة فی ذلک الفرض ، ولو سلّمنا عدم وجوبه مع الخرطات بلا بول ، کما لا یخفی .

هذا ، مضافاً إلی معارضته مع ما ورد فی «فقه الرضا» أیضاً من قوله علیه السلام : «وان خرج من أحلیلک شیء بعد الغُسل ، وکنت بلت قبل أن تغسل ، فلا تعد الغُسل ، وان لم تبل فاعد الغسل»(2) .


1- المستدرک: الباب 17 من أبواب بیان أحکام الجنابة ، الحدیث 2 .
2- المتسدرک: الباب 25 من أبواب بیان أحکام الجنابة ، الحدیث 1 .

ص:254

حیث أنّه باطلاقه یشمل ما لو کان عدم بوله لأجل تعذّره ، فلابدّ من إعادة الغُسل ، سواء اجتهد بعده بالخرطات أم لا .

ولکن حیث قد عرفت إمکان عدم کون المراد من نفی الشیء ، هو نفی وجوب الإعادة ، بل نفی الإشکال والأثم ، فیرتفع التعارض من رأسه ، کما لا یخفی .

الصورة الخامسة: ما إذا خرجت رطوبة مردّدة بین المنیّ وغیره ، مع الاستبراء بالبول قبل خروجها ، وعدم الاستبراء بالخرطات بعده .

فالحکم منفیٌ من حیث المنیّ ، أی لا یجب علیه إعادة الغُسل بخروجها ، للأخبار السابقة بالحکم بعدم وجوبها عند خروج البلل بعد البول ، مضافاً إلی اعتضاده باستصحاب الطهارة السابقة الحادثة بالغُسل .

وأمّا بالنسبة إلی احتمال کون المشتبه بولاً ، فهی محکومة به ، للأخبار الدالّة علی الحکم بالبولیّة بالنسبة إلی البلل الخارج بعد البول ، وقبل الاجتهاد .

نعم لو قطع بعدم کون الخارج المشتبه بولاً ، فلا یترتّب علیها أثر أصلاً ، فیکون مثل ما لو تردّد المشتبه بین المنیّ وغیر البول کالمذی ونحوه ، حیث یحکم بالطهارة ، و أنه لاغسل علیه ، کما لا وضوء علیه ، کما لا یخفی .

الصورة السادسة: ما إذا خرجت الرطوبة المشتبة بعد الاستبراء بالبول وبالاجتهاد بعده ، فلا إشکال فی عدم شیء علیه من الغسل والوضوء ، بل ولا خلاف فیه أیضاً ، بل قد ادّعی الإجماع عن جماعة نصّاً ، والدلیل علیه مجموع الأخبار التی دلّت علی عدم وجوب الغُسل بها بعد البول ، الاخبار التی دلّت علی عدم وجوب الوضوء بها بعد الاجتهاد بعد البول ، مضافاً إلی اعتضاده باستصحاب طهارة الحالة السابقة .

ولیس فی البیّن شیء فی مقابل الدلیل والأصل ، إلاّ صحیحة محمد بن

ص:255

عیسی ، الدال علی وجوب الوضوء حیث قال: «کتب إلیه رجلٌ: هل یجب الوضوء ممّا خرج من الذکر بعد الاستبراء؟ قال: نعم»(1) .

وما فی غیر واحد من الأخبار الدالة علی عدم وجوب إعادة الغسل إذا استبرء بالبول ، وأنّه لیس علیه إلاّ الوضوء .

ولکن یمکن أن یجاب عنهما: أمّا عن الثانی بحملها علی الرطوبة الخارجة بعد البول قبل الاجتهاد ، فیحکم حینئذ بالبولیّة ، فیرفع الاختلاف .

وأمّا عن الأوّل ، _ برغم أنّه مشتمل علی الاظمار الموجب لوهن الخبر _ أنّه مکاتبة ، واحتمال التقیّة فیها قویة ، مع أنّه موافق لمذهب أکثر العامّة ، کما علیه الشیخ فی «الاستبصار» .

أو علی ما إذا قطع ببولیّته من جهة تطرّق الوهم علی عدم ناقضیّة ما یخرج بعد الاستبراء ، ولو مع القطع ببولیّته ، مع أنّه لا یخلو من بُعدٍ وإنْ تفوّه به واحتمله صاحب «الحدائق» .

أو حمله علی استصحاب الوضوء حینئذ ، کما عن «التهذیب» ، لکنّه بعید أیضاً کما ما لا یخفی ، وقد مرّ البحث عنه سابقا .

فروع فقهیّة:

الفرع الأوّل: فی أن وجوب الغُسل وإعادته ، هل هما مترتّبان علی نفس خروج البلل ، أو علی البلل الذی اختبره ، و تظهر الثمرة فی خروجه فی الظلمة وغیرها .

والظاهر هو الأوّل ، لأنّ ما ورد علیه تعلیق الحکم فی الأخبار ، لیس إلاّ نفس


1- وسائل الشیعة: الباب 13 من أبواب نواقض الوضوء، الحدیث 9 .

ص:256

خروج البلل ، الصادق علی خروجه فی الظلمة ، فلا یتوقّف صدقه علی اختباره . ووصف المشتبه الذی ورد فی بعض کلمات الأصحاب ، لا یقصدبه إلاّ ما ذکرناه ، أی ما یوجب علیه الاشتباه لو راجع ، لا ما یکون کذلک فعلاً .

نعم ، لو شکّ فی الخارج أنّه بللٌ أو غیره ، مثل ما یتوهّم للإنسان من برد بواسطة الریح أو غیره الموجب لحصول الشکّ له ، فالظاهر عدم وجوب إعادة الغسل للأصل وعدم وجوب ما یعارضه .

فالمسالة واضحة لا تحتاج إلی مزید بیان لکن ینبغی التنبیه علی أنّه لابدّ له من مقدار من الفحص ، المتوقّف علیه صدق الشبهة ، الذی هو مورد للاخبار ، وإلاّ لکان خارجاً عنه ، فیکون حینئذ نظیر ما کان فی المساء غیمةٌ ، و عجز الرائی عن ملاحظة الافق ولم یر الفجر ، فشکّ فی الطلوع ، فان مثل هذا الشکّ لیس موضوعاً لاستصحاب بقاء اللیل ، أو عدم طلوع الفجر حتی یترتب علیه بقائه وعدم طلوعه ، ولیس هذا لأجل تعلیق الحکم علی الفحص بذلک ، بل لأنّ استقرار الشکّ والشبهة الذی یعدّ موضوعاً للاستصحاب موقوفٌ علی تحقّق هذاالمقدار من الفحص .

وعلی کلّ حال ، لک أن تقول: ان الحکم مترتّب علی الشبهة والشکّ المستقرّین لا علیهما مطلقاً ولو لم یفحص ، ولو فی الجملة ، فیما لا یقدر علی الفحص التفصیلی لأجل الظلمة أو عمیً أو غیرهما .

نعم ، إذا کان الشکّ راجعا إلی أصل البلل ، أو علی تقدیر کونه بللاً شکّ فی کونه منیّاً أو غیره ممّا لا أثر له ، ولم یکن بصورة العلم الإجمالی بین المنیّ والبول ، فلا یحتاج إلی إعادة الغسل للأصل ، ولا معارض له إذ لا یشمله الأخبار المتقدّمة .

وما فی بعض الأخبار من تعلیق الحکم علی الشیء ، کما ورد فی صحیحة

ص:257

محمد بن مسلم ، وابن میسرة لا یراد منه إلاّ البلل ، کما فهم الأصحاب منه ذلک ، حیث قد علّقوا الحکم علی البلل فقط دون غیره ، کما لا یخفی علی المتأمّل فی کلامهم .

الفرع الثانی: قد عرفت أنّ خروج البلل بعد الانزال والغُسل ، وقبل الاستبراء بالبول ، یوجب وجوب إعادة الغُسل قطعاً ، فهل یجب إعادة کلّ ما یشترط فیه الطهارة لو أتی به بعد الغُسل قبل خروج البلل من الصلاة والطواف وغیرهما أم لا؟

الأقوی هو الأوّل ، کما هو صریح بعض الأصحاب مثل صاحب «الجواهر» والمحقّق الآملی وغیرهما ، لانّ المعیار فی ترتب الحکم ، هو خروج البلل ، لا تحرکه عن محلّه ، بلا فرق فی ذلک بین الحدث الأصغر والأکبر ، حتّی لو تحرک الحدث عن محلّه ، وکان فی أثناء الصلاة ، وحبس نفسه و من ثمّ اتم الصلاة ، فانه لا یوجب بطلان الصلاة ، من غیر إشکال بل فی «الجواهر»: بلا خلاف أجده فی ذلک بین أصحابنا ، بل قد یظهر من بعضهم الإجماع علیه ، وبه صرّح الحلبی والمصنّف والعلاّمة والشهید والمحقّق الثانی وغیرهم ، فهکذا یکون الحکم فی المقام . نعم قد حکی عن «المنتهی» أنه نقل قولاً عن بعض علمائنا بإعادة الصلاة ، ففی «الجواهر» بعد نقل ذلک ، قال: «ولم نعرف القائل به ، ولعلّ مستنده ما فی صحیح ابن مسلم المتقدّم نقله ، وفیه: «عن الرجل یخرج عن أحلیله بعد ما اغتسل شیءٌ؟ قال: یعید الغُسل والصلاة» .

ولعلّه محمول علی ما إذا صلّی بعد الخروج ، فلا یعتنی باطلاقه الذی یشمل حتّی ما لو صلّی قبل الخروج ، حتّی یوافق ما هو مختار الأصحاب ، من عدم لزوم الإعادة إلاّ للغسل خاصّة .

الفرع الثالث: لا إشکال فی انّ هذا الغُسل هو غسل الجنابة ، فلازمه اجراء جمیع أحکامه علیه ، ومنها الاجتزاء عن الوضوء ، وعدم جواز التوضّئ بعده ، کما

ص:258

کان الأمر کذلک فی أصل غُسل الجنابة ، فیکون حکم الجنابة بالبلل کالجنابة بالإنزال فی جمیع الأحکام .

کما أنّ الظاهر أنّ الجنابة العارضة بالبلل ، حکمها حکم الجنابة بالإنزال من الأحکام قبل الاغتسال ، من حرمة الدخول فی المساجد ، ومسّ المصحف وغیرهما ، لأنّه الظاهر من الأخبار الآمرة باعادة الغُسل الأوّل ، ولم یتضمّن شیء منها أمراً بالوضوء ، لاحتمال البولیّة ، کما لا یخفی علی من راجع ونظر إلی لسانها ، بل ولم یُنقل الخلاف من أحد فیه أیضاً .

الفرع الرابع: بعدما عرفت دلالة الأخبار ، علی الحکم بکون الرطوبة المشتبهة الخارجة قبل الاستبراء بالبول والخرطات منیّاً و جنابةً ، وعلی خروجها بعد الاستبراء بالبول وعدم الخرطات کونه بولاً ، فیجب الغُسل علی الأوّل؛ دون الوضوء ، وعلی الثانی یجب الوضوء دون الغُسل .

فالآن یجری البحث فیأنّ هذا الحکم مخصوصٌ بما إذا کان مشتبهاً من جمیع وجه ، أی لم یکن له العلم ولو إجمالاً فی ، کما هو الغالب ، أو کان لإطلاق الأخبار الدالّة علی هذین الحکمین نفیاً واثباتاً ، اطلاقاً یشمل حتّی صورة وجود العلم الإجمالیبکون الرطوبة منیّاً أو بولاً، فلازم هذاالإطلاق هو الحکم بمقتضی دلالة الأخبار ، من وجوب الغُسل فقط دون الوضوء فی الأوّل ، والوضوء دون الغسل فی الثانی ، بخلاف ما لو قلنا بعدم الإطلاق ، حیث أنّ لازم ذلک حینئذ هو العمل بمقتضی العلم الإجمالی ، بکونها منیّاً أو بولاً ، من الجمع بین الغسل والوضوء ، لأنّ الغُسل الیقینی محتاج إلی الفراغ الیقینی ، ولا یحصل ذلک إلاّ بالجمع بینهما .

وقد اختار صاحب «الجواهر» الأوّل ، فیجب علیه الغُسل فقط ، لکن بشرط ان لا یبول بعد الجنابة ، سواءً استبرأ بالخرطات أم لا ، وسواء علم إجمالاً بکونها

ص:259

منیّاً أو بولاً أم لا ، کما یجب علیه الوضوء فقط ، إنْ کان قد بال من الجنابة ، ولم یستبرء من البول ، سواء علم إجمالاً بأحدهما أم لا ، خلافاً لما عن الشهید فی «التمهید» من إیجاب الغُسل والوضوء ، فی صورة العلم بأحدهما .

ولا یخفی علی المتأمّل فی لسان الأخبار قوّة ما ذکره صاحب «الجواهر» قدس سره ، خصوصاً لمن لم یبل بعد الجنابة ، ولم یستبرأ أصلاً ، حیث أنّه مورد نفس الأخبار واطلاقاتها .

ویمکن فرض عدة صور فی هذه المسألة ، وهی :

تارة: أنْ یعلم إجمالاً بکون الرطوبة منیّاً أو بولاً ، ولم یحتمل غیرها ، مع عدم الاستبراء مطلقاً لا بالبول ولا الإجتهاد بعده .

فالحکم علی رأینا هو الحکم باتیان الغُسل وحده ، وعلی رأی الشهید والسیّد فی «العروة» _ علی احتمالٍ فی المسألة (3) ، فی ذیل باب مستحبّات غُسل الجنابة _ بقوله: «ومع الأمرین ، فیجب الاحتیاط بالجمع بین الغُسل والوضوء» .

حیث یشاهد فی کثیر من نسخ «العروة» فی هذه المسألة قوله: «عدم الأمرین» باضافة لفظ (عدم) ، فیوافق کلام الشهید .

ولکن الظاهر أنّه سهو من القلم ، وإلاّ یرد علیه بأنّه المورد للقدر المتیقّن من الأخبار ، بالحکم بوجوب الغُسل وحده . بل قد یوجب تکرارٌ لما وقع قبله ، حیث یفهم من قبل هذه العبارة صورة فقد الأمرین _ أی البول والإجتهاد _ فلا یحتاج إلی التکرار ، کما لا یخفی .

وکیف کان ، لعلّ وجه حکمهم بالاحتیاط بالجمع ، هو حمل الأخبار مع اطلاقها ، علی صورة عدم وجود العلم الإجمالی بأحد الأمرین من المنیّ أو البول ، بان کان المشتبه مشتبهاً من کلّ وجه ، أی لا یعلم أنّ الرطوبة منیّ أو بول ،

ص:260

أو غیرهما من المذی والودی ، عملاً بمقتضی قاعدة العلم الإجمالی فی صورته .

ولکن الجزم بذلک مشکلٌ ، خاصة إذ الوحظ سیاق اطلاق الأخبار ، ولا تکون ندرته علی حدّ یوجب الانصراف فیها إلی غیره ولکن مع ذلک یکون الاحتیاط فی هذه الصورة حسن جدّاً .

اُخری: أنْ یعلم اجمالاً کذلک ، مع سبق البول وعدم الاستبراء بالخرطات بعده .

والحکم فیها _ جریاً علی مقتضی الأخبار _ هو الحکم فی الرطوبة بالبول ، فیجب فیه الوضوء خاصّة دون الغسل ، لما دلّ علیه طائفتان من الأخبار: طائفة واردة فی المقام ، وطائفة اخری وردت فی باب من بال ولم یستبرأ بعده بالخرطات من ابواب الوضوء ، خلافاً للقاعدة الجاریة فی باب العلم الإجمالی .

وقد عرفت وجه القولین فی الصورة السابقة ، حیث یجری هنا أیضاً مجمل الأخبار علی غیر صورة العلم .

وثالثة: أنْ یعلم إجمالاً کذلک ، مع عدم البول ، ولکن قد أتی بالخرطات بعد الإنزال .

فالحکم علی التحقیق عندنا هو عدم قیام الخرطات مقام البول وهو یقتضی الغُسل وحده ، ان لم نقل بما هو مقتضی قاعدة العلم الإجمالی ، وإلاّ یجب کلاهما ، لأنّه داخل حینئذ تحت مفاد الأخبار ، بکون الرطوبة محکوماً بالمنویّة .

وعلی القول بکفایة الخرطات فی الاستبراء من المنیّ ، فانه یترتب علیه حکمه .

أمّا مع التعذّر _ من البول کما عند بعضٍ ، أو مطلقا عند آخرین _ فالحکم عندهم هو أجراء قاعدة العلم الإجمالی ، من الاحتیاط بالجمع بین الغُسل والوضوء ، لأنّه حینئذ یکون مثل من رأی الرطوبة مع العلم بعد البول والاجتهاد ، حیث أنّ علیه العمل بمقتضی العلم الإجمالی ، لإحتمال کون الرطوبة حینئذ

ص:261

حدثاً جدیداً ، کما لا یخفی .

والرابعة: أن یعلم کذلک مع الاستبرائین ، فمن حیث أنّه بال ، فلا یحکم بالجنابة ، ومن جهة أنّه أتی بالخرطات بعد البول ، فلا یحکم بکونها بولاً ، فیلزم علیه الاحتیاط بالجمع بینهما رعایة للعلم الإجمالی .

وفصِّل بعض الفحول من السادة _ کالمحقّق الاصفهانی ، والبروجردی فی تعلیقتیهما علی «العروة» _ فیما لو وقع الأمرین من البول والاستبراء منه ، حیث قال المحقّق الآملی فی «مصباح الهدی»: إن قوله هذا کاشف عن دقّة نظره ، و من ثمّ یرتضی قولهما ویقول بعد توضیح کلامه: إنّه لا بأس به .

والظاهر أنّه یقصد من بعض السادة ، السیّد الاصفهانی رحمه الله .

وکیف کان ، فانّ تفصیل الحکم هو أنّه لو وقع منه الأمرین من البول والخرطات ، فان کان وقوعهما قبل الغسل والرطوبة المعلومة بین البول والمنیّ بعد الغُسل ، فانه یجب الجمع بین الغُسل والوضوء ، لأنّ بالغسل قد حصلت کلتا الطهارتین ، وبعد خروج الرطوبة بعد الغسل ، مع العلم الإجمالی بکونها أحدهما ، فیکون من قبیل الحدث الجدید ، فکلّ من استصحاب الطهارة من الأصغر والأکبر یتعارضان ویتساقطان ، ولا یمکن الجمع بین الاستصحابین بانتقاض أحدهما ، فیجب الجمع بین الطهارتین .

هذا بخلاف ما لو وقع منه الأمرین بعد الغُسل ، فحینئذ یکفی الوضوء خاصّة ، لأنّه إذا بال یکون قد قطع بتحقّق الحدث الأصغر ، ومع اقدامه علی ایتان الخرطات والاستبراء بعده ، فانّه اذا شاهد الرطوبة بعده ، یتردّد بین کونها منیّاً أو بولاً ، ویعلم أن المردد أحدهما ، فاستصحاب بقاء الحدث الأصغر ، مع استصحاب عدم کونها منیّاً ، واستصحاب بقاء الطهارة الکبری ، یفیدان الحکم

ص:262

بوجوب الوضوء علیه خاصّة للحدث الأصغر دون الغُسل ، وهو المطلوب ، فلا وجه للحکم بالاحتیاط حینئذ ، کما لا یخفی .

اقول: هذا التفصیل حسنٌ فی نفسه ، ولعلّه مقبول عند الکلّ ، لکنّه خارج عن مورد الأخبار فی کلا طرفیه ، فلا یعارض النصوص ، لأنّ ما ورد فیها هو کون الرطوبة بعد الغُسل وقبل الاستبراء بالبول ، حیث حکمت الاخبار بالغُسل وحده .

وأُخری: ما لو بال واغتسل ، ثمّ شاهد الرطوبة ، حیث حکم بعدم وجوب الغُسل علیه ، وانّ علیه الوضوء لو لم یستبرء بعد البول ، ولا وضوء علیه لو کان قد استبرء بعده ، من دون تفصیل فی الصورتین بین وجود العلم الإجمالی بأحدهما وعدمه .

فما ذکراه وجیه فی حدّ نفسه ، فلیتأمّل .

ص:263

الثانیة: إذا غسل بعض أعضائه ، ثمّ أحدث .

فقیل: یُعید الغُسل من رأس ، وقیل: یقتصر علی إتمام الغُسل ویتمّه ویتوضّأ للصلاة ، وهو الأشبه (1).

(1) برغم أنّ صدر عبارة المصنّف مطلقة ، من حیث مصداق الغُسل الذی وقع فیه الحدث من الجنابة وغیرها ، إلاّ أنّ ذیلها بقوله: «یتمّه ویتوضّأ للصلاة» ، قرینة علی کون مراده من الغُسل هو الجنابة ، لأنها فقط یُجزی عن الوضوء دون غیره من الأغسال الثلاثة أو الأربعة، وهیالحیض والنفاس والاستحاضة ومسّ المیّت.

وکیف کان ، فانّه لابدّ أن نلاحظ البحث بنحو أوسع ، غیر مخصوص بغُسل الجنابة ، ثمّ نوجّه عنان البحث إلی خصوص غُسل الجنابة ، لاشتماله علی بعض الخصوصیات المختصة به .

فی غسل الجنابة / لو أحدث أثناء الغسل

فنقول وباللّه الاستعانة: الحدث الواقع فی أثناء الغُسل یتصوّر علی أقسام ، وهی:

تارة: یکون الحدث المتخلّل ، من جنس الحدث الذی اراد رفعه بالغُسل ، مثل ما لو حدثت له الجنابة فی اثناء غُسل الجنابة _ سواء کان ترتیبیّاً أو ارتماسیّاً _ فان قلنا بإمکان التدریج فی الارتماسی فهو ، وإلاّ یشکل التخلّل بالحدث فی الآنی منه ، الحاصل بالدفعة ، وهکذا فی سائر الاغسال بالنسبة إلی الحدث المتجانس مع الحدث الذی یرید رفعه ، کالحیض المتخلّل فی غُسله ، والمسّ المتخلّل فی غُسله ، والاستحاضة الوسطی المتخلّلة فی غُسلها ، فلا إشکال فی مثله بأن تخلّل الحدث کذلک مبطلٌ لرافعه لانّه یکون مثل تخلّل البول وغیره فی أثناء الوضوء ، فإنّه یوجب بطلانه قطعاً ، لعموم مادلّ علی وجوب الغُسل أو

ص:264

الوضوء بعد الحدث المتجانس ، ولا وجه حینئذ للإتمام والتکرار لعدم تصوّر التبعیض فی المتجانس ، وبذلک ینقطع استصحاب الصحّة فیما غسل ، فلزوم إعادة الغُسل بحدوث جنابة فی أثنائه اتفاقی ، کما عن «کشف اللثام» وقبله صاحب «الجواهر» قدس سره .

نعم ، یستثنی من ذلک المستحاضة وغیرها مثل المسلوس والمبطون ومن لا یقدر علی امساک ریحه ، حیث لا یقدح حدوث کلّ قسم فی أثناء رفعه ، إذا کان مضطرّاً إلیه فی غیر المستحاضة ، وأمّا فیها فان الجواز أما مطلقٌ أو علی احتمال مع الضرورة ، کما یأتی البحث فیه فی محلّه .

وأُخری: ما یکون الحدث المتخلّل ، غیر متجانس مع ما یرفعه ، کتخلّل الأکبر فی رافع الأصغر ، مثل تخلّل المسّ فی أثناء الوضوء ، وتخلّل الوسطی فی رافع الأصغر فی المستحاضة ، أو تخلّل الکبری فی رافع الوسطی فیها .

وحکم هذا القسم یکون مثل حکم الفرض السابق ، من حیث الناقضیّة ، فیکون مثل حدوث الأصغر فی أثناء رافعه ، ولازمه عدم الاکتفاء بالوضوء الأوّل ، مع تخلّل الوسطی ، أو الکبری فی أثنائه فی المستحاضة ، کما لا یکتفی بالوضوء المتخلّل فیه المسّ ، وکذلک لا یکتفی بالغُسل الواقع فیه الکبری ، إذا کان للوسطی فی الاستحاضة ، إذ لیسا من قبیل الحدثین المتمایزین ، لیجری فیهما ما سنتحدث عنه إن شاء اللّه .

وثالثة: ما یکون الحدث العارض من الأکبر ، الواقع فی أثناء رافع الأکبر ، لکنّه من غیر جنسه ، مثل حدوث المسّ فی أثناء غُسل الحیض ، أو غسل المستحاضة .

وهذا الفرض أیضاً علی قسمین:

تارة: یکون فی غُسل غیر مجزٍ عن الوضوء ، کغسل الحیض والنفاس

ص:265

والاستحاضة والمسّ .

وأُخری: ما یکون فی أثناء غُسل یکفی عن الوضوء ، مثل غُسل الجنابة .

فأمّا فی الأوّل منهما: ففی «الجواهر»: «فلعلّ الأقوی عدم النقض فی غیر غُسل الجنابة ، لما عرفت سابقاً أنّها احداث متمایزة لا تداخل قهری فیها ، فیکون من قبیل المحدث بالحدثین ، وقصد رفع أحدهما» .

ولقد اجاد فیما أفاد ، کما علیه السیّد فی «العروة» فی المسألة التاسعة ، حیث قال بعد نقل الفروع: «فالأقوی عدم بطلانه فیتمه ویأتی بالآخر ، ویجوز الاستئناف بغُسل واحد لهما ، ویجب الوضوء بعده إن کان غیر الجنابة ، أو کان السابق هو الجنابة ، حتّی لو استأنف وجمعها بنیّة واحدة علی الأحوط ، وان کان اللاحق جنابة ، فلا حاجة إلی الوضوء سواء أتمّه وأتی للجنابة بعده ، أو استأنف وجمعها بنیّة واحدة» .

انتهی ما فی «العروة» فی ذیل مستحبّات غسل الجنابة وأحکامه(1) .

وأمّا فی الثانی مثل ما لو وقع المسّ فی غُسل الجنابة ، أو وقع الحدث الأصغر کالبول فیه ، وقلنا بکفایة غُسل الجنابة عن الوضوء ، وإلاّ فانّ غُسل الجنابة مثل سائر الأغسال فی عدم النقض بتخلّل الحدث الأکبر غیر المتجانس أو الأصغر فیه .

فلو عرضت الجنابة فی أثناء رافع غیرها ، کغُسل الحیض مثلاً ، فالظاهر عدم النقض به ، للاستصحاب الجاری فیه من غیر معارض .

وما وقع من بعض ، من دعوی الإجماع علی فساد غُسل الجنابة ، لو تخلّل فی أثنائه الحدث الأکبر ، قد یراد به فی المجانس منه دون غیره ، لاستبعاد دعوی


1- العروة الوثقی: المحشّی بحاشیة البروجردی: ص85 .

ص:266

الإجماع فیه ، إذ لا وجه لدعوی فساده .

نعم ، لو عکس الأمر ، بأن کان العارض هو الحیض فی أثناء غُسل الجنابة ، فقد جاء فی «الجواهر»: «الظاهر من کثیر من الأصحاب النقض ، بل صرّح بعضهم بالنسبة إلی غُسل الجنابة ، ولعلّه لقوله علیه السلام : «قد جاءها ما یفسد الصلاة) ونحوه . وأراد به روایة الکاهلی ، عن أبی عبد اللّه علیه السلام : «عن المرأة یجامعها زوجها فتحیض ، وهی فی المغتسل ، تغتسل أو لا تغتسل؟ قال: قد جاءها ما یفسد الصلاة فلا تغتسل»(1) .

ثمّ قد اعترض رحمه الله علیه ، وقال : «إلاّ أنّه قد یقال : لا دلالة فیه علیه ، بل الظاهر ارادة الارشاد ، لمکان عدم الفائدة فی الغُسل حینئذ ، لاشتراک الحائض مع الجنب فی کثیر من الأحکام ، إن لم نقل بکلّها ، وإلاّ فلا فرق بین جواز الغُسل للجنابة ، مع بقاء حدث الحیض بعد انقطاع الدم ، وجوازه کذلک قبل الانقطاع . لکنّه لا یخلو عن تأمّل ونظرٍ ، لتوقفه علی ثبوت الخطاب من الشارع _ ولو ندباً _ برفع حدث الجنابة مثلاً ، وهو مشکلٌ ، ولا یدخل تحت ما دلّ علی الکون من طهارة ، لعدم تیسّرها ، ولعلّه بذلک یفرّق بین حال انقطاع الدم وعدمه ، فتأمّل جیّداً» .

انتهی محل الحاجة(2) .

ولا یخفی ما فیه من الاشکال ، لأنّ الروایة ربّما تدلّ علی نفی وجوب الغُسل علیها ، من جهة وقوع النهی فی مورد توهّم وجوبه ، فمثل ذلک لا یستفاد منه النهی التحریمی أو الفساد ، کما توهم فی أن دعوی عدم الفائدة فی مثل هذا


1- وسائل الشیعة: الباب 22 من أبواب الحیض، الحدیث 1 .
2- الجواهر: ج3 / 130 .

ص:267

الغُسل فی تلک الحالة لیست علی ما ینبغی ، لأنّه قد یمکن دعوی وجود اثر حیثی لهذا الغُسل من جهة نفی الکراهة ، لمثل الأکل والشرب والدم الذی کان مع الجنابة ، نظیر رافعیّة الوضوء للجُنب بالنسبة إلی تلک الثلاثة ، فالخطاب الندبی بالنسبة إلی ذلک غیر بعید .

کما قد یستأنس ذلک من حدیث عمّار ، عن أبی عبد اللّه علیه السلام : «عن المرأة یواقعها زوجها ، ثمّ تحیض ، قبل أن تغتسل؟ قال : إنْ شاءت أن تغتسل فعلت ، وان لم تفعل فلیس علیها شیء ، فإذا طهرت اغتسلت غُسلاً واحداً للحیض والجنابة(1)» .

حیث تدلّ علی جواز اتیان الغُسل ، حتّی مع وجود الدم ، فضلاً عن انقطاعه إلاّ أنّه لا ینافی أن تترک الغُسل وتأتی به حال الاتیان بغُسل الحیض ، بغسلٍ واحد لهما ، أو مع التعدّد أو التمایز فی النیّة .

وکیف کان ، فانّ دعوی نقض غُسل الجنابة بعروض الحیض ، لا یخلو عن إشکال .

هذا إذا کان الغُسل المعروض فیه غیر غُسل المستحاضة المبیح ، وأمّا فیه فقد یقال إنه ینتقض بمجرّد عروض المسّ فیه ، وذلک لوجوب تقدیم غُسله علیه ، وتأخیر غُسل الاستحاضة عنه ، لمکان وجوب المبادرة بعد غُسل الاستحاضة إلی الصلاة ، فتأمّل جیّداً .

هذا کما ورد فی «الجواهر» .

اقول : ما ذکره صحیحٌ ، لو لم نقل بجواز الاتیان بغسل واحد لکلاهما ، مع نیّة واحدة ، وإلاّ لا یوجب النقض ، لأنّه بنفسه _ لولا التأخیر _ لا یلزمه ، فمع جواز


1- وسائل الشیعة: الباب 22 من أبواب الحیض، الحدیث 4 .

ص:268

ذلک ینتفی التأخیر ، فلا وجه للانتقاض ، کما لا یخفی .

فلنرجع حینئذ إلی أصل البحث الذی لأجله عقدنا هذا الفصل ، وهو البحث عن حکم وقوع الحدث الأصغر فی أثناء غُسل الجنابة ، وأنّ وقوعه هل یوجب لزوم إعادة الغُسل من رأسه ، بلا ضمّ وضوء کما هو القول الأوّل ، کما ذکره فی «الشرائع» وجاء فی «الهدایة» و«الفقیه» و«المبسوط» واختاره العلاّمة والشهید وغیرهما ، بل نسبه المحقّق الثانی فی «حاشیة الالفیّة» إلی الأکثر ، واختاره جماعة من متأخّری المتأخرین ، واستدلوا لذلک بأُمور ، وهی :

الأمر الأوّل: حسب ما ذکره المحقّق الآملی تفصیلاً فی «مصباحه» والیک نصّه بتخلیص منا ، حیث یقول : «یکون لزوم استئناف الغُسل بالاولویّة ، بأن یقال : إنّ هذا الحدث لو وقع بعد تمام الغُسل لأبطل اباحته للصلاة ، فابطاله لها فی الأثناء یکون بطریق أولی ، فإذا أبطل فیحتاج إلی تجدید طهارة للصلاة .

لکن إذا وقع الحدث بعد الغُسل ، لما لم یکن المحدث جُنباً یکفیه الوضوء ، وأمّا الواقع فی الأثناء ، فلأجل کون المحدث جُنباً _ إذ لا ترتفع جنابته إلاّ بکمال الغُسل _ یسقط اعتبار الوضوء معه ، فیکون الحدث الأصغر الواقع فی الأثناء کالجنب الواقع فی الأثناء ، من احتیاجه إلی استئناف الغُسل من غیر اشکال» .

وقد أُجیب عنه علی مافی «مصباح الفقیه» بتقریر ماجاء فی «مصباح الهدی» بمنع الأولویّة أوّلاً ، وذلک لأنّ القائل بالقول الثانی _ أعنی القائل بلزوم الإقتصار علی اتمام هذا الغُسل من غیر ضمّ الوضوء الیه _ یدّعی أنّ المستفاد من الادلّة ، من الإجماع وغیره ، هو أنّه لا أثر لأسباب الوضوء ، مادامت الجنابة باقیة ، ولا ترتفع الجنابة إلاّ بعد تمام الغُسل ، فکیف یقاس حینئذ حال الاشتغال بالغُسل بما بعده ، فضلاً عن أن یکون أولی .

ص:269

وثانیا : بمنع کون نتیجة الأولویّة _ علی تقدیر تسلیمها _ اثبات وجوب الاستئناف راساً ، لأنّ الأولویّة المذکورة علی تقدیر تمامیّتها ، لا تقتضی إلاّ کون وقوع الحدث فی أثناء الغُسل ، کوقوعه بعده رافعاً لأثره فی الجملة ، ونتیجة ذلک عدم جواز الاقتصار علی اتمام هذا الغسل ، فیبطل به القول الثانی ، ولا یثبت به القول الأوّل _ أعنی الاستئناف من رأس _ إذ مقایسة الحدث الواقع فی الأثناء ، بالواقع بعد الغُسل ، یقتضی إیجاب الوضوء به ، کما یجب الوضوء بالحدث الواقع بعده ، فیمکن الالتزام مع هذه الروایة إلی القول الثالث _ أعنی لزوم اتمام الغُسل مع ضمّ الوضوء إلیه _

نهایة ماجاء فی «مصباح الهدی» نقلاً عن الهمدانی(1) .

فأورد علیه المحقّق الآملی فی «مصباحه» بقوله : «ولکن الانصاف عدم تمامیّة الایراد الأخیر ، علی تقدیر تسلیم الأولویّة ، فإنّ المستدلّ أدرج فی استدلاله الأولویّة ، بأنّ تأثیر الحدث فی الأثناء کتأثیره بعده ، لا یخلو أمّا أن یوجب علیه الوضوء ، کما إذا کان الحدث بعده ، أو لا یوجبه؟ فعلی الأوّل : یلزم وجوب الوضوء علی الجنب ، وقد أبطله . وعلی الثانی : یجب علیه استئناف الغُسل . وحاصل استدلاله ینحّل إلی منفصلة مرکّبة من أجزاء ثلاثة ، وهی : الأوّل: أنّ الحدث فی الأثناء یؤثّر کما یؤثّر لو وقع بعد الغُسل .

الثانی: أنّ الجنابة باقیة لا ترتفع ، إلاّ بإتمام الغُسل ، فما لم ینته الغُسل إلی آخره فالجنابة باقیة .

الثالث: أنّ الوضوء لا یجب مع غُسل الجنابة ، بل هو بدعة .


1- مصباح الهدی : 4/316 .

ص:270

ومع تمامیّة هذه المقدّمات الثلاث ، لا یرد علیه عدم اقتضاء الأولویة لمدّعاه ، بل هی تبطل القول الثانی ، لا أنّها تُثبت القول الأوّل» .

انتهی محل الحاجة(1)

اقول : ان ما أورده علی المعترض غیر واردٍ ، لأنّا إذا سلّمنا کون تأثیر الحدث فی الأثناء کالواقع بعده ، لکن لیس تأثیره ابطال الغُسل ، حتّی یوجب الاستئناف کما قصده المستدل ، بل تأثیره یکون کتأثیر الحدث بعد تمام الغُسل ، من عدم إمکان الاکتفاء بالغُسل للصلاة ، فیحتاج إلی ضمّ الوضوء الیه ، کما هو القول الثالث .

وما ذکره فی المقدّمة الثالثة ، بأنّ ایجاب الوضوء فی هذه الصورة یعدّ باطلة بدعة مرتبطة بغیر موردنا ، أعنی أنّه متعلق بالمورد الذی لم یقع فی أثنائه الحدث ، أو لم نقل بتأثیره فی وقوعه فیه .

فما أورده المحقّق الهمدانی یعدّ وجیهاً .

هذا ، مع إمکان المنع فی أصل الأولویّة ، لإمکان أن یقال إن تأثیر أسباب الوضوء مع بقاء الجنابة ، لیس کتأثیره بعد تمامیّة الغُسل ، لأنّ الاباحة قد تحقّقت بعد التمامیّة ، بخلاف قبلها ، فلا یصحّ المقایسة بین الحالة السابقة واللاحقة ، کما لا یخفی .

کما یرد علی المحقّق الآملی قدس سره ، من منعه المقدّمة الثانیة ، من بقاء الجنابة إلی تمام الغسل ، حیث قال: «بل من الممکن أن یکون حدوثها ، کحدوث الغُسل الذی سبّبها تدریجیّاً ، فبغسل کلّ عضوٍ من الأعضاء تحصل طهارة ذاک العضو ، غایة الأمر علی النحو الشرط المتأخّر المعقول ، وهو أن یکون حصول طهارة کلّ


1- مصباح الهدی : 4/317 .

ص:271

عضو مغسولٍ ، مشروط بتعقّب حصول طهارة الأعضاء اللاحقة عنه ، فعند غَسل الرأس یمکن فی عالم التصوّر أن یکون حدوث طهارته عند تحقّق غَسل آخر جزءٍ من أجزاء الجانب الأیسر ، فإذا تحقّق ذلک ، تتحقّق طهارة الرأس والرقبة ، وعلی هذا یکون حصول الطهارة آنیّاً ، وإنْ کان سببها _ الذی هو الغَسل _ تدریجیّاً .

وهذا هو الذی ذکره المستدلّ من توقف حصول الطهارة علی تمامه ، مع ذکره لإحتمالین آخرین :

أحدهما: حصول طهارة کلّ عضو مع غَسله ، من دون توقف علی غسل سائر الأعضاء ، بحیث یترتّب علی کلّ عضوٍ مغسول أثر طهارته ، من جواز مسّ کتابة القرآن ، ودخول ذلک العضو فی المسجد ، ولو لم یأت بغَسل سائر الأجزاء .

وثانیهما: حصول الطهارة لکلّ عضو ، من زمان غسله ، لکنّه مشروطٌ بتمامیّة غَسل سائر الأجزاء .

ثمّ أختار ذلک ، وقال: ولعلّ هذا أقرب بحسب الاعتبار ، وأظهر من الدلیل ، کما لا یخفی علی مَن دقّق النظر فی مثل قوله علیه السلام : «کلّ شیء امستته بالماء فقد أنقیته» .

ثمّ ینتج جواز ادخال الرأس مثلاً فی المسجد ، فیما إذا اغتسل الرأس فی الصبح مثلاً ، بعد الفراغ من غسله ، إذا کان یصدر منه غَسل بقیّة الأعضاء فی العصر .

بل یختاره أخیرا بقوله : فلعلّه شیء یمکن القیام عنده» .

إنتهی محل الحاجة(1) .

وفیه ما لا یخلو من النقاش؛ أوّلاً: «أنّ مقتضی ذلک کون الطهارة أمراً ترتیبیّاً لا


1- مصباح الهدی: 4/318 .

ص:272

بسیطاً ، فلا یکون الشکّ فیها شکّاً فی المحصِّل والمحصَّل ، فیکون الشکّ فیه شکّاً فی التکلیف المقتضی للبراءة .ثانیاً: لوقلنا بلزوم الجمود علی الفاظ الدلیل فی مثل دلیل السابق الذکر فانّه یقتضی حصول الطهارة لکلّ عضو مطلقاً ، لا مشروطاً بغَسل سائر الأعضاء ، مع کونه خلاف الإجماع فی الجملة . ثالثاً: لو سلّمنا کونه مشروطاً ، به فیأتی الکلام فی أنّه کیف تحصل الطهارة حین الغَسل ، مع عدم تحقّق غَسل سائر الأعضاء فی الخارج ، حیث یستلزم تحقّق المشروط قبل شرطه ، إلاّ أن یکون تعقّبه بذلک کاشفاً عن تحقّق الطهارة حین الغُسل ، فترتیب الآثار علیه قبل ذلک لا یخلو عن إشکال . اللّهمّ إلاّ أن یجعل قصده فی ذلک کافیاً فی تحقّق الطهارة ، فالشرط حینئذ یکون القصد ، لا عین وجود غَسل سائر الأعضاء ، فاثبات مثل ذلک من لسان الأدلّة لا یخلو عن تعسّف ، ولعلّه لذلک لم یخطر مثله إلی وهم أحد . فالظاهر کون الطهارة حاصلة بعد تمامیة غَسل آخر الأعضاء ، فلا یجوز مسّ کتابة القرآن قبله ، کما علیه الفتوی .

الأمر الثانی: فی لزوم استئناف الغُسل من جهة جریان استصحاب بقاء الجنابة ، عند الاکتفاء بالغُسل الذی وقع الحدث فی أثنائه ، للشکّ فی کونه مزیلاً لها أم لا ، فیستسصحب أثرها إلی أن یعلم بتحقّق المزیل ، وهو الغسل الواقع عقیب الحدث . وقضیّة هذا الاستصحاب هو الاجتزاء باستئناف الغُسل ، بلا حاجة لضم الوضوء إلیه ، لأنّ الاستصحاب من الأُصول المحرزة ، فیحرز به الجنابة ، فکأنّه عالمٌ ببقائها ، فیکون حاله کما إذا علم بها ، کما لو استصحبها عند الشکّ فی أصل الغُسل . فلا یرد علیه بأنّ اقتضائه لإعادة الغسل ، لا یوجب الاجتزاء وحده ، بل مقتضاه إعادته مع الاتیان بالوضوء أیضاً ، تحصیلاً للیقین بالبراءة ، وذلک لأنّ الاستصحاب _ علی تقدیر جریانه فی المقام ، لمکان کونه

ص:273

محرزاً _ یثبت به الدرجة الثالثة من العلم الطریقی تشریعاً ، فیترتّب علیه کلّما یترتّب علی العلم ، فیحصل به الیقین بالبراءة تشریعاً» .

إنتهی کما فی «مصباح الهدی(1)» .

وفیه ما لا یخفی علی المتأمّل ، لأنّ جریان هذا الاستصحاب _ بالتقریب الذی ذُکر _ برغم أنّه صحیحٌ ویثبت ما قیل ، لولا کونه محکوماً باستصحاب آخر ، الذی یقتضی صحّة الغُسل الذی وقع فیه الحدث ، وهو استصحاب صحّة الغسل للأجزاء السابقة ، بعد عروض الشکّ فیه ، بواسطة وقوع الحدث فی أثنائه .

والمراد من الصحّة للأجزاء ، هو الصحّة التأهلیّة لها ، بعد الحاق الاجزاء اللاحقة بها ، إذ الشکّ فی بقاء الجنابة وعدمه ، مسبّبٌ عن الشکّ فی صحّة الغُسل بواسطة الحدث الواقع فی الأثناء وعدمه .

الأمر الثالث: فی الحکم بلزوم الاستئناف ، هو التمسّک بقاعدة الاشتغال ، لأنّه قبل عروض الحدث کان مشغولاً قطعاً ، فبعده یشکّ فی جواز الاکتفاء به فی رفع التکلیف بوجوب الغُسل للاتیان بما یشترط فیه الطهارة من الواجبات .

لکنّه یندفع أوّلاً : بأن هذا الأصل إنّما یجری مع عدم وجود أصل حاکم علیه مثل الاستصحاب ، سواءً کان موافقاً أو مخالفاً ، والحال أنّ هذا الأصل موجودٌ هنا ، وهو استصحاب بقاء الجنابة من الموافق ، واستصحاب الصحّة _ کما عرفت _ من المخالف . فمع وجود هذین الأصلین لا تصل النوبة إلی قاعدة الاشتغال إلاّ تأییداً ، وهو یصحّ لولا وجود أصل حاکم علی أصل بقاء الجنابة ، وهو استصحاب صحّة الأجزاء السابقة ، بما عرفت تفصیله .


1- مصباح الهدی : 4/315 .

ص:274

وثانیاً: لو سلّمنا عدم جریان استصحاب الصحّة ، بتوهّم کون المقام أیضاً من قبیل مانعیّة التکفیر عن الصلاة ، باحتمال کون المانعیّة منتزعة عن تقیید المأمور به بعدم المانع ، بأن تکون صحّة الإجزاء فی الغُسل ، مقیّدة عن تقییّد المأمور به فی الغسل ، بعدم عروض الحدث فی الأثناء ، فمع عروضه یشکل التمسّک باستصحاب الصحّة ، بل لابدّ من احراز الشرط .

وبرغم ذلک قیل _ کما عن المحقّق الآملی فی «مصباحه» _ : «بأنّ المقام هو مجری البراءة لا قاعدة الاستصحاب ، لأنّ مرجع الشکّ فی فساد الغُسل بالحدث المتخلّل فیه ، إلی الشکّ فی دخل عدم الحدث فی صحّته ، وعند الشکّ فیه یکون المرجع البراءة ، کما هو الشأن فی الشکّ فی الشرطیّة والمانعیّة»(1) ، إنتهی محل الحاجة .

اقول : بأنّ الشکّ فی حالة تخلّل الحدث ، یکون مردّداً بین الشرطیّة _ ، وهو کون عدم الحدث فی الأثناء شرطاً لصحّة الأجزاء _ أو مانعیّتها لصحّة الأجزاء ، فالحالة السابقة فی کلیهما هو العدم ، فیستصحب ویحصل التعارض بینهما _ أی بین الأصل فی عدم کونه شرطاً ، وبین الأصل فی عدم کونه مانعاً _ فهما متعارضان .

إلاّ أن یفرّق بینهما ، بأنّ الأصل الأوّل له أثر ، وهو فساد الغُسل ، لأجل لزوم احراز الشرطیّة فی فراغ الذمّة عن العمل .

هذا بخلاف الأصل الثانی ، حیث أنّه یکون العمل صحیحاً بحسب طبعه الأوّلی ، من أمتثال الأمر ، فیترتّب علیه ذلک ، لا أن یکون هذا أثرا لأصل عدم المانعیّة .

فعلی هذا ، یرجع عند الشکّ إلی التمسّک باصالة عدم الدخالة ، وهی تقتضی البراءة . ولعلّ هذا هو السرّ ، فی کون المرجع عند الشکّ فی الشرطیّة والمانعیّة فی


1- مصباح الهدی : 4/324 .

ص:275

شیء ، هو البراءة لا الاشتغال ، فما ذکره فی المقام ، لا یخلو عن وجاهة وقوّة .

فإذا عرفت عدم تمامیّة تلک الأُمور ، لإثبات وجوب الاستئناف ، والاکتفاء به ، فلا یبقی حینئذ ما یدلّ علیه إلاّ بعض الأخبار المرویّة الدالة علی وفق القول الأوّل ، وستعرف جوابها عن قریب إن شاء اللّه .

وأمّا القول الثانی : وهو الاکتفاء بإتمامه من دون ضمّ الوضوء معه ، وهو خیرة ابن ادریس وابن البرّاج ، ووافقه المحقّق الثانی وغیره من متأخّری المتأخّرین ، بل ربّما مال إلیه صاحب «الذخیرة» .

وقد استدل هؤلاء الاعلام باستصحاب الصحّة ، وعدم قابلیّة تأثیر الحدث ، والإجماع علی أنّ ناقض الصغری لا یوجب الطهارة الکبری ، واطلاق ما دلّ علی صحّة الغُسل بمجرّد مسّ الماء ، المستفاد من قوله علیه السلام : «کلّ شیء أمسسته الماء فقد انقیته»(1) .

وقوله علیه السلام : «و ما جری علیه الماء فقد أجزأه»(2) .

واطلاق ما دلّ من الأخبار علی عدم اعتبار الموالات فی الغُسل ، المروی فی قضیّة أمّ إسماعیل(3) ، وما ورد فی بعض الأخبار ، من جواز تأخیر غُسل بعض أجزاء الغَسل ولو إلی نصف یوم أو أزید ، حیث من البعید جدا أن لا یخرج الحدث من الإنسان فی اثناء هذه المدّة .

وما دلّ من النصوص علی کفایة الغُسل عن الوضوء ، بعد فرض قبول صدق


1- وسائل الشیعة: الباب 26 من أبواب الجنابة، الحدیث 5 .
2- وسائل الشیعة: الباب 26 من أبواب الجنابة، الحدیث 2 .
3- وسائل الشیعة: الباب 29 من أبواب الجنابة ، الحدیث 1 .

ص:276

الغُسل علیه .

هذا کلّه ما استدلّ بها علی المدّعی .

فنقول فی الجواب عن کلّ ما استدلّوا به : أن هذه الادلة لا تدلّ أزید من صحّة الغسل ، وعدم فساده بتخلّل الحدث فی الأثناء ، فیبطل بذلک القول الأوّل .

وأمّا اثبات مدّعی القول الثانی ، بصحّة الغُسل من دون ضمّ الوضوء الیه ، فانه معلوم غیر ، لإمکان استفادة لزوم الوضوء بما ورد علی وجوب الوضوء بالحدث الأصغر ، حیث قد خرج منه مَنْ کان جنباً ، فإنّه کلّما خرج منه الحدث الأصغر لا یؤثّر فیه ، من جهة إیجاب الوضوء ، لأنّ الغُسل الرافع للحدث الأکبر یکفی عنه أیضاً بواسطة الأدلّة ، بل فی بعضها أنّ اتیانه بعده بدعة ، فشمول مثل ذلک حتی لما وقع الحدث فی الأثناء مشکلٌ .

فتدخل هذه الصورة ایضا فیما یدلّ بالعموم من لزوم الوضوء بعد الحدث الأصغر ، ولا أقل من لزوم الاحتیاط فی ضمّ الوضوء معه ، جمعاً بین الأدلّة ، وعملأ بالاحتیاط .

ویعدّ هذا هو القول الثالث فی المسألة ، کما اختاره المحقّق فی «الشرائع» وغیره .

فالمستفاد من ذلک أنّ الأحوط منه ، هو إتمام الغسل وإعادته بعده ، وضمّ الوضوء معه ، وقد ظهر وجه هذا الحکم وذلک بملاحظة الأدلّة السابقة ، لأنّ إتمام الغسل کان لأجل احتمال عدم تأثیر ذلک التخلّل فی فساده ، وإعادته دفعاً لإحتمال الفساد بذلک ، وضمیمة الوضوء الیه لاجل رفع الحدث الأصغر المحتمل به ، الداخل فی عموم دلیله ، فیصیر هذا قولاً رابعاً .

وهذا قولٌ علیه جماعة من الفقهاء ، کالسیّد فی «العروة» _ حیث ذهب الی الاحتیاط الندبی _ ومن تبعه ، بل ذهب آخرون الی الاحتیاط الوجوبی ، کالعلاّمة

ص:277

البروجردی والسیّد الأصطهباناتی .

کما أنّ الأحوط من ذلک ، أنْ یحدث بنفسه حدثا أصغرا بعد الغُسل ومن ثمّ یعیدالغُسل والوضوء بعده، حذراً عن شمول دلیل یدلّ علی أنّ الوضوء بعده بدعة.

کما أنّ الأحوط من الجمیع ، هو اجناب نفسه عن طریق الحلال ، لکی یغتسل ویکتفی ، ومن ثمّ ترتفع عنده الشبهة ویبقی مطمئنا علی طهارته ، کما لا یخفی ، لاشتماله الجزم فی النیّة فی العمل حینه ، عند من یقول بوجوبه فیه ، فیکون هذا الفعل منه غایة الاحتیاط .

بقی هنا ملاحظة دلالة بعض الأخبار ، الدالّة علی لزوم إعادة الغسل بالاستئناف بذلک التخلّل ، وهو مثل ما حُکی عن صاحب «المدارک» عن کتاب «عرض المجالس» للصدوق ، أو کتاب «المجالس» عن الصادق علیه السلام : قال : «لا بأس بتبعیض الغُسل ، تغسل یدکَ وفرجکَ ورأسکَ ، وتؤخّر غَسل جسدکَ إلی وقت الصلاة ، ثمّ تغسل جسدکَ إذا أردت ذلک ، فإن أحدثتَ حدثاً من بول أو غائط أو ریح أو منیّ ، بعدما غسلت رأسکَ ، من قبل أن تغسل جسدکَ ، فأعد الغسل من أوّله(1)» .

وفی «الوسائل» : ورواه الشهیدان وغیرهما من الأصحاب .

وکذلک ما ورد فی «فقه الرضا» من قوله : «فإن أحدثت حدثاً من بول أو عائط أو ریح ، بعدما غسلت رأسک ، من قبل أن تغسل جسدکَ ، فاعد الغسل من أوّله(2)» .

وفی «الجواهر» : «وهو عین عبارة الصدوق فی «الهدایة» ، کما نقله فی


1- وسائل الشیعة: الباب 29 من أبواب الجنابة ، الحدیث 4 .
2- المستدرک: الباب 20 من أبواب الجنابة ، الحدیث 10 .

ص:278

«الفقیه» عن رسالة والده فتکون هی مع ما نقل من فتوی الشیخ فی «النهایة» ، مؤیّدة له ، لأنّهما _ علی ما قیل _ متون أخبار ، حتّی کانوا إذا أعوزتهم النصوص ، رجعوا إلیها وأمثالها» .

إنتهی کلامه(1) .

لکن یرد علیه بأُمور ، لا بأس بالإشارة إلیها وهی :

أوّلاً: بما قد نقل عن بعض الاعلام ، وجماعة من المتأخّرین _ وهو المجلسی صاحب «بحار الانوار» _ من عدم العثور علیها فی هذا الکتاب ، ویشعر به نسبة الشهید له إلی القیل .

وثانیاً: علی ما فی «الجواهر» : أنّه فاقدٌ لشرائط الحجیّة ، ولا شهرة محقّقة حتّی تجبرها ، مع ظهور عدم کونها منشأ لفتوی کثیر منهم ، ولذا لم تقع الاشارة الیها قبل الشهید رحمه الله .

وثالثاً: مع مخالفتها الاحتیاط فی نفی الوضوء .

نعم ، فی «الحدائق» : أنّ المراد من کتاب «عرض المجالس» هو «أمالی الصدوق» المشهور ب«المجالس» أیضاً ، ونقلها الشهید عن کتاب «عرض المجالس» واعتمد الشهید الثانی وسبطه علی نقل الشهید الاول من غیر مراجعة إلی الکتاب .

هذا کما فی مصباح الهدی(2) .

ورابعاً: مخالفتهما مع الاحتیاط ، من حیث عدم الأمر بالاتمام ، ثمّ الاعادة ،


1- الجواهر: ج3 / ص 131 .
2- مصباح الهدی: 4/325 .

ص:279

لظهور الأمر بالاعادة من محل حدوث الحدث لا بعد إتمامه ، کما لا یخفی .

فالاعتماد علیه لا یخلو عن تأمّل ، ولأجل هذه الأُمور قد قلنا بوجوب الاعادة من باب الاحتیاط بعد الإتمام ، مع ضمّ الوضوء الیه ، کما علیه العلاّمة البروجردی وغیره من فقهائنا الاعلام ، واللّه العالم .

ثمّ علی القول بعدم الافساد بتخلّل الحدث الأصغر ، فهل یصحّ منه اعادة الغُسل لوأعاده ، ولو بالتلفیق فی الأجزاء من الفعل الأوّل والثانی ، أو لابدّ من الإعادة علی النیّة الأولی ، حتّی یصدق أنه جاء بالعمل بنیّة واحدة أم لا؟

جاء فی «الجواهر» أنّ فیه وجهان:

الاول: الاجتزاء ، إذ لا دلیل علی شرطیّة مازاد علی تعقیب غَسل الأجزاء اللاحقة بنیّة فی صحّة السابقة ، فتأمّل جیّداً فإنّه دقیق .

اقول : ما ذکره فی غایة الجودة والمتانة ، فانه اذا لم نقل بشرطیّة بقاء صحّة غسل الأجزاء السابقة ، بعدم رفع الید عن النیّة التی شرع بها ، کان حکم صحّتها مثل صحّة غسل الأجزاء بعد تمامیّته ، حیث لا یؤثّر العدول فی انقلابها ، إذ الشیء لا ینقلب عمّا هو علیه ، وإلاّ یشکل القول بالإجتزاء .

ولکن الاحتیاط یقتضی أن ینوی حین الإعادة تمام العمل ، حتّی یشمل کلتا الحالتین ، وکلا المحتملین ، کما وردت الاشارة إلیه فی بعض الفتاوی فی المقام ، وفیما یشبهه من الأشواط فی الطواف وغیره .

ثمّ ، لا یخفی علیک أنه یمکن تصویر فروض مصادیق الاحتیاط التی قد ذکرناها سابقاً ، فیما إذا کان صدور الحدث فی اللحظات الاخیرة من الغُسل _ سواءً فی الارتماسی أو الترتیبی _ کما لو وقع الحدث فی غَسل الجزء الأخیر منه ، حیث أنّ إعادة الغسل برفع الید عنه غیر معلوم الإفادة ، فالأولی حینئذ _ مضافاً إلی اعادة الغُسل _ هو الاتیان بالحدث الأصغر بعد الغُسل ، ومن ثمّ الاتیان

ص:280

الثالثة: لا یجوز أن یغسله غیره مع الإمکان ، ویکره ان یستعین فیه (1).

بالوضوء بعده ، وأحسن منه هو ان یجنب نفسه مرة اخری عن طریق الحلال ومن ثم ینوی غسلاً آخر ، وإلاّ لا یکون فارق فیما یقصد فی المقام من حصول الجنابة الموجبة لإیجاب الغسل ثانیاً ، ویحصل به الجزم فی النیّة ، کما لا یخفی ، حیث قد أوجبه بعض متأخّری المتأخّرین ، وانْ کان القول بوجوبه فی غایة الضعف ، فتأمّل جیّداً .

(1) وحیث کان الکلام فی الموردین ، کالکلام فی الوضوء ، لاشتراک العلّة فیهما فلا نعید علیک تلک الابحاث ، ولک أن تعود الیها لتقف علی الحکم الشرعی فی هذه الفرض .

* * *

هذا تمام الکلام فی باب الجنابة وغسلها والابحاث التی ترتب علیهما . ویتلوه بحث الحیض ومایتعلق به من الاحکام .

ص:281

فی أحکام الحیض:

فی أحکام الحیض : تعریف الحیض لغة و اصطلاحاً

قال قدس سره ؛ الفصل الثانی: فی الحیض ، وهو یشتمل علی بیانه ، وما یتعلّق به .

أمّا الأوّل : فالحیض ، هو الدم الذی له تعلّق بانقضاء العدّة ، ولقلیله حدّ (1).

(1) لا یخفی علیکَ أنّ المعنی اللغوی للحیض ، یغایر مع معناه العرفی والاصطلاحی ، إذ فی اللغة _ کما صرّح به کثیر من الأصحاب ، وکما تری فی «القاموس» للجوهری و«المغرب» و«مجمع البحرین» وغیرها _ هو السیل ، أو السیل بقوّة کما اعتبره بعض ، ولذا یقال : حاض الوادی ، إذا سال ، ففی المرأة إذا سال دمّها فی أوقات معلومة _ وإذا سال فی غیر أیام معلومة ، من غیر عرق المحیض ، فیطلق علیها المستحاضة _ فیکون لفظ الحیض من قبیل اسم المعنی ، فیطلق الحوض للوارد من جهة تسمیة المحل باسم حاله ، لا من قبیل تسمیته باسم المعنی . وفی «الجواهر» : «الذی یظهر بعد امعان النظر و التأمل فی کلمات اهل اللغه وغیرها ، أنّ الحیض اسم لدم مخصوص مخلوق فی النساء ، لحکمٍ اشارت الی بعضها الاخبار ، منها تغذیة الولد وغیره ، یعتاد النساة فی اوقات مخصوصة . الی أن قال : ولیس له نقل شرعی الی معنی جدید ، واحتماله کاحتمال أنّ الحیض فی اللغة اسم من اسماء المعانی هو السیل ، أو سیل دم مخصوص _ وهو الذی رتب الشارع علی خروجه الاحکام _ ضعیفان ، وان کان الثانی اقوی من الاول . ومافی بعض العبارات ممایوهم الاول ، لابد من تأویله ،

ص:282

کما یشهد به ملاحظة ما ذکروه له من التعاریف ، او الإعراض منه»(1) .

انتهی محل الحاجّة .

مع أنّکَ قد عرفت تصریح أهل اللغة بکون معناه هو السیل ، ولعلّه لذلک _ أی لکونه محلاًّ لنزول السیل فیه _ یطلق علی الوادی فی الفلوات اسم الحوض والحیاض .

فالحیض مشتقٌّ من الحوض ، واطلاقه للدم المخصوص ، کان لأجل مناسبة بینه وبین السیل ، من جهة السیلان بغیر اختیار فی أوقاته المعلومة ، علی حسب طبع النسوان حرارةً وبرودةً ، فیکون من باب الاستعارة ، من تشبیه المرأة بالوادی فی جهة سیلان الدم .

ولکنّه فی اصطلاح العرف والفقهاء صار علماً للدم المخصوص الذی یخرج من عرق الحیض ، الذی یوجد فی النساء ، لأجل الحکم الموجود فیه ، من حیث وجود الشهوة ، وتغدیة الولد منه فی الرحم ، وتبدیله باللبن إذا وضعت الحمل ، فإذا خرجت عن هذه الحالة ، یستقر مکانه فی الرحم ، ویخرج فی کلّ شهر لمدّة سبعة أیام أو اقلّ أو أزید ، علی حسب اختلاف طبائع النساء ، حرارةً وبرودةً .

وهذا الاطلاق یعدّ من باب التسامح ، ومفهومه عرفاً واضحٌ ومعلوم عند الناس کالمنیّ والبول ، ویکون هو من الموضوعات للأحکام الشرعیّة ، التی یرجع فیها إلی غیره ، بل ان الحیضٌ معروف بهذا الاسم فی الأُمم السابقة قبل زمان الشرع ، ولعلّه إلی ذلک یشیر قوله تعالی «وَیَسْئَلُونَکَ عَنِ الْمَحِیضِ»(2) ، حیث یدلّ علی أنه کان معهوداً فی أذهانهم ، فسألوا عن حکمه ، فکان لفظ (الحیض) کلفظ الطُهر


1- الجواهر : 3/135 .
2- سورة البقرة: آیة 222 .

ص:283

والقُرء أمراً معروفاً ومعلوماً فی عرف العرب قبل الاسلام وغیرهم من الأُمم السابقة ، حتّی أنّ منهم مَن کان یهاجر الحائض مهاجرة تامّة ، بل کانوا یستقبحون تصرّفات المرأة المبتلاة بالحیض فی أُمور معاشهم ، ویحترزون عنها مدّة عادتهنّ ، ویجعلونهنّ فی البیوت حتّی لا یخالطن ، وکانوا یعتقدون فیهنّ المرض والأذی .

وکیف کان ، فلیس للفظ (الحیض) غموضٌ وابهامٌ عندالفقهاء وعامة الناس حتی نحتاج أن نبحث عن معناه .

نعم قد یحصل لهم الاشتباه فی بعض أفراده ، ولذلک میّزه الشارع باوصاف وعلائم یُعرف بها ، کما ستظهر لک انْ شاء اللّه تعالی .

وقد عرّفه المصنّف بقوله : «له تعلّقٌ بانقضاء العدّة ولقلیله حدّ» .

وقوله رحمه الله من أحسن التعاریف طرداً وعکساً ، إذ کثیر من الفقهاء قد عرّفه بواحد من القیدین _ کالتعریف المنقول فی «التذکرة» وأحد تعریفی «المبسوط» و«المنتهی» _ أو بالأوصاف المذکورة فیه ، مثل : الدم الأسود الغلیظ الخارج عن المرأة بحرارة وحرقة علی وجه له دفع _ کما فی «الوسیلة» _ مع أنّه قد لا یکون کذلک ، إلاّ أن یراد به الغالب ، کما فی «السرائر» وغیره ، وإنْ شئت لاحظ «الجواهر» أو غیره من المطولات من کتب اصحابنا .

ولکن مع ذلک کلّه لیس هذا بتعریف حقیقی ، یعدّ الکاشف عن حقیقة معناه ، بل کلّها معرّفات إلی الدم المخصوص المعروف عند النساء ، فقد ورد بصورة التعریف الحقیقی المشتمل للجنس والفصل ، إذ ذکر (الدم) فی التعریف یشمل کل الدماء التی تخرج من الفرج ، وقید : (له تعلّق بانقضاء العدة) فصلٌ یخرج سائر الدماء غیر النفاس ، لأنّ سائر الدماء من الاستحاضة ، ودم العذرة ، أو الجراحة ، لا تعلّق لها بانقضاء العدّة ، لا بظهورها ولا بانقطاعها ، بخلاف دم الحیض ، حیث

ص:284

وفی الأغلب یکون أسوداً غلیظاً حارّاً یخرج بحُرقة (1).

أنّه بظهوره أو بانقطاعه _ علی حسب اختلاف موارده وتعدّده _ یوجب انقضاء العدّة فی الطلاق والوفاة والاستبراء فی الأمة وغیرها .

وهذا بخلاف دم النفاس ، حیث أنّه لا یخرج بقید : (لأنّ له تعلّق بانقضاء العدّة) فی المرأة التی حملت من الزنا ، لاحتسابه بحیضة ، فلا یخرج به ، فلابدّ له من قیدٍ آخر یخرجه وهو قوله : «لقلیلة حدٌّ» ، فإنّه خاصٌ بالحیض لأنّه ستعرف لاحقا أنّه لا یتحقّق خلال ثلاثة أیام بخلاف النفاس ، حیث لا یکون لقلیله حدّ ، بل یتحقّق بقطرة إذا کان دمّ الولادة ، کما لا یخفی علی الفقیه المطّلع علی الأحکام .

ومن هنا یعدّ هذا التعریف احسن التعاریف طردا وعکسا ، فتأمّل جیّداً .

وحیث قد عرفت وجوه الاشتباه فی بعض أفراده ، فاحتیج إلی بیان التمییز ببعض أوصافه الغالبة ، لحصول المظنّة به عندها ، والتی قد اکتفی بها الشارع .

(1) لا یخفی أنّ دم الحیض غالباً یکون أسوداً ، أی مائلاً إلی السواد ، لشدّة حُمرته ، کما قد یکون أحمراً وحارّاً بحرقة حاصلة من دفعه وحرارة کما صرّح به جماعة ، بل فی «الجواهر» أنّة لا أجد فیه خلافاً ، بل قد عرفت أنّ بعض الفقهاء قد أخذ هذا الوصف فی تعریف الحیض ، کما فی «الوسیلة» و«المراسم» وغیرهما .

ویدلّ علیه عدّه أخبار تصل إلی حدّ الاستفاضة وفیها الصحاح ، وهی :

منها : ما فی صحیح معاویة بن عمّار ، قال: «قال أبو عبداللّه علیه السلام : إنّ دم الاستحاضة والحیض لیس یخرجان من مکان واحد ، إنّ دم الاستحاضة بارد ، وانّ دم الحیض حار»(1) .

فی أحکام الحیض / صفات الحیض


1- وسائل الشیعة: الباب 3 من أبواب الحیض، الحدیث 1 .

ص:285

منها : صحیح حفص بن البُختری ، قال: «دخلتْ علی أبی عبداللّه علیه السلام امرأةٌ ، فسألته عن المرأة یستمر بها الدم ، فلا تدری أنّه حیض هو أو غیره؟ قال : فقال لها : إنّ دم الحیض حارُ عبیط(1) أسود ، له دفعٌ وحرارة ، ودم الإستحاضة أصفر بارد ، فإذا کان للدّم حرارة ودفع وسواد ، فتلدع الصلاة . قال : فخرجت وهی تقول ، واللّه أنْ لو کان امرأة ما زاد علی هذا»(2) .

منها : موثق إسحاق بن جریر ، قال : «سألتنی امرأة منّا أنْ اُدخلها علی أبی عبداللّه علیه السلام ، فاستأذنتُ لها ، فإذن لها فدخلتْ . إلی أن قال : فقالت له : ما تقول فی المرأة تحیض فتجوز أیام حیضها؟ قال: إن کان أیّام حیضها أقلّ من عشرة أیام ، استظهرت بیوم واحد ، ثمّ هی مستحاضة . قالت: فان الدمّ یستمر بها الشهر والشهرین والثلاثة ، کیف تصنع بالصلاة؟ قال: تجلس أیام حیضها ثمّ تغتسل لکلّ صلاتین . قالت له: إنّ أیام حیضها تختلف علیها ، وکان یتقدّم الحیض الیوم والیومین والثلاثة ویتأخّر مثل ذلک ، فما علیها به؟ قال: دم الحیض لیس به خفاء ، هو دمٌ حار تجد له حرقة ، ودم الاستحاضة دم فاسدٌ بارد . قال : فالتفت إلی مولاتها ، فقالت : أتراه کان امرأة مرّةً»(3) .

ورواه ابن ادریس فی آخر «السرائر» ، نقلاً عن کتاب محمد بن علی بن محبوب ، عن أحمد بن محمد ، إلاّ أنّه قال : «أترینه کان امرأة» .

منها : مرسل یونس بن عبد الرحمن ، عن غیر واحد سألوا أبا عبداللّه علیه السلام عن الحائض ، والسُنّة فی وقته؟


1- فی «لسان العرب» : العبیط : الطری .
2- وسائل الشیعة: الباب 3 من أبواب الحیض، الحدیث 1 _ 2 .
3- وسائل الشیعة: الباب 3 من أبواب الحیض، الحدیث 1 _ 2 .

ص:286

إلی أن قال فی حدیثٍ طویل : وذلک أنّ دم الحیض أسود یعرف . . . .

إذا عرفت حیضاً کلّه إنْ کان الدم أسوداً أو غیر ذلک . . . .

(فهذا یبیّن لک ان قلیل الدم وکثیره ، أیام الحیض حیضٌ کلّه ، إذا کانت الأیام معلومة) . إلی أن قال فی آخره : إذا رأیت الدم البحرانی فلتدع الصلاة فأمرها هینهما أنْ تنظر إلی الدم إذا أقبل وأدبر وتغیّر .

وقوله : البحرانی شبه معنی قول النبیّ صلی الله علیه و آله وسلم : «إنّ دم الحیض أسود یعرف ، وإنّما سمّاه أبی بحرانیّاً لکثرته ولونه . . .»(1) .

وفی «کشف اللثام» المحکی عنه فی «الجواهر» : «أنّ البحرانی _ کما فی کتب اللغة _ الخالص الحمرة شدیدها ، منسوبٌ إلی بحر الرحم أی قعره»(2) إنتهی .

منها : مرسل علی بن إبراهیم ، عن أبیه ، عن بعض رجاله ، عن محمد بن مسلم ، عن أحدهما علیهم السلام : «قال: سألته عن الحُبلی ، قد استبان حبلها ، تری ما تری الحائض من الدم؟ قال: تلک الهراقة من الدم ، إنْ کان دماً أحمر کثیراً ، فلا تصلّی ، وان کان قلیلاً أصفر ، فلیس علیها إلاّ الوضوء»(3) .

منها : مرسل ابن أبی عمیر ، عن بعض أصحابنا ، عن أبی عبد اللّه علیه السلام : «قال: إذا بلغت المرأة خمسین سنة لم تر حمرة ، إلاّ أن تکون امرأة من قریش»(4) .

منها : العلاّمة فی «التذکرة» عن الصادق علیه السلام ، قال: «إنّ دم الحیض لیس به


1- وسائل الشیعة: الباب 3 من أبواب الحیض، الحدیث 3 .
2- الجواهر: 3/138 .
3- وسائل الشیعة: الباب 30 من ابواب الحیض، الحدیث 16 .
4- وسائل الشیعة: الباب 31 من أبواب الحیض، الحدیث 2 .

ص:287

خفاء ، وهو دم حار محتدمٌ له حرقة ، ودم الاستحاضة فاسدٌ بارد»(1) .

منها : ما رواه الآملی فی «مصباح الهدی» ، قال: وبالمحکی عن النبوی صلی الله علیه و آله وسلم : «أنّه أسود محتدم(2)» .

ونحن لم نعثر علی هذا الحدیث .

الإحتدام : دمٌ محتدم ، أی شدید الحمرة إلی السواد .

وقیل : شدید الحرارة ، من احتدام النار وهو التهابها _ کما فی «المغرب» _(3) .

وفی «مصباح الهدی» نقلاً عن «الصحاح» : احتدم الدم ، اشتدّ حُمرته حتّی اسوّد(4) .

هذه هی الأحادیث الواردة فی بیان صفة دم الحیض ، وتوصیفه بهذه الصفات فی الأخبار وارد مورد الأغلب ، وإلاّ فسیتضح لک أنّ کثیراً من الدماء سوف یحکم علیها بالحیضیّة برغم فقدها لهذه الصفات ، وبالاستحاضة علی المتّصف بها .

ثمّ بعدما عرفت أنّ دم الحیض من الموضوعات التی کانت معروفة ومبیّنة عند العرف ، کالمنی والبول ، ولیس من الأُمور المجعولة التعبدیّة ، کما قد عرفت أنّ الصفات المذکورة فی التعاریف والأخبار ، من الأوصاف الغالبیّة لا الدائمیة الملازمة له ، حیث حکم الشارع فی بعض الموارد علی الدم الذی کان فاقداً لصفات الحیضیّة بانه حیضٌ ، وبعدمها مع وجودها ، فبعد ملاحظة هذین الوجهین ، یشکل القول بوجود الأصل فی المقام ، حتّی یرجع إلیه عند الشکّ والإشتباه .


1- المستدرک: الباب 3 من أبواب الحیض ، الحدیث 1 .
2- مصباح الهدی : 4/369 .
3- فی حاشیة المستدرک ، ذیل الحدیث .
4- مصباح الهدی: 4/369 .

ص:288

کما یظهر التصریح بذلک من صاحب «المدارک» تبعاً لجدّه فی «الروض» ، وتبعهما صاحب «الحدائق» و«الذخیرة» ، بل قد نسب ذلک إلی النراقی صاحب «المستند» ان لم نستظهر من کلامه هنا ، ولکن لابدّ ان نتتبع اکثر من ذلک .

وکلام صاحب «المدارک» علی المحکی فی «الجواهر» ، هو : «أنّه یستفاد من هذه الروایات أن هذه الأوصاف خاصّة مرکّبة ، فمتی وجدت ، حُکم بکون الدم حیضاً ، ومتی انتفت انتفی ، إلاّ بدلیل من خارج ، واثبات هذا الأصل ینفع فی مسائل متعدّدة من هذا الباب(1)» .

وقد أورد علیه صاحب «الریاض» ، تبعاً «لشرح المفاتیح» ، وتبعهما الفقیه الهمدانی ، وصاحب «الجواهر» بل والعکس فی «مصباح الهدی» فی غیر هذا المقام فیما یناسبه من قوله : «بأنّه لیس فی الأخبار ما یدلّ علی ذلک ، وإنّ دمّاً آخر لا یکون بأوصاف الحیض أو الاستحاضة ، ولذا لا یُعتنی بأوصاف الدم عند اشتباهه بدم القروح أو العذرة ، وقد عرفت أنّ منشأ هذه الأوصاف ، إنّما هو مجرّد الغلبة ، وإلاّ فقد تتخلّف ، فکیف تکون خاصّة» .

وإنّک قد عرفت أنّ دم الحیض من الموضوعات التی لا مدخلیّة للشرع فیها ، وأنّه دمٌ معروفٌ کالمنیّ والبول وغیرهما .

بل فی «مصباح الفقیه» : ومنطوق الشرطیّة فی قوله علیه السلام : «فإذا کان للدم حرارة ودفع وسوادٌ فلتَدَع الصلاة» ، لا یدلّ إلاّ علی ثبوت الحیضیّة ، بتحقّق الأوصاف فی الموضوع الذی فرضه السائل ، وهو ما لو استمرّ بها الدم ، واختلط حیضها بالاستحاضة ، فمرجع الضمیر فی قوله علیه السلام : «فلتدع الصلاة» ، لیس إلاّ


1- مدارک الأحکام: 1/313 .

ص:289

هذه المرأة المفروضة ، لا مطلق المرأة التی خرج منها دمٌ موصوف بهذه الأوصاف ، وإنْ لم یختلط حیضها بالاستحاضة ، بل اشتبه بدم العُذرة أو القروح مثلاً .

إلی أن قال: «نعم لا یبعد دعوی استفادة طریقتیها لتشخیص دم الحیض ، عن الاستحاضة ، عند اشتباه أحدهما بالآخر مطلقاً ، ما لم یدلّ دلیلٌ علی خلاف ذلک ، فلیتأمّل»(1) ، إنتهی کلامه .

أقول: إنّ ما ادّعاه صاحب «المدارک» و«الروض» من الأصل ، إن أردوا به الدوران بین الحیض وغیره ، فی جمیع الموارد من المشتبهات بأی دم کان ، فالاشکال وارد ، لأنّ موارد قاعدة الإمکان فی باب الحیض یحکم به ، ولو لم یکن الدم بصفات الحیض ، وکذلک عکسه فیما لا یمکن أن یکون حیضاً ، لأجل فقدان بعض الشرائط فیه .

وإن أرادوا وجود هذا الأصل فی المشتبهات ، بعد وجود الشرائط وفقد الموانع ، فی خصوص الحیض والاستحاضة مطلقاً ، أی سواءً کانت فی المرأة المستمرة دمها أو غیرها ، فهو أمر مقبولٌ ، بل هو الظاهر من کلامهم ، کما أُشیر الیه بقولهم : «ما لم یدلّ علیه دلیلٌ من الخارج علی الخلاف» ، حیثُ یفهم من ذلک أنّ الدلیل الدال علی عدم الإمکان بکونه حیضاً أو استحاضة ، أو حتّی غیرهما ، فیما قام الدلیل علی ابراز علامة دالّة علی کون الدم للعذرة أو غیرها .

فعلی هذا لا یکون هذا الأصل مخالفاً لکلمات الأصحاب ، بل ولم یکن هذا الأصل أمراً تعبیدیّاً ، بل کان المراد من هذا الأصل ، هو القاعدة والضابطة لتشخیص دم الحیض عن غیره مثل الاستحاضة .


1- مصباح الفقیه: 4/8 .

ص:290

کما أنّ ما ادعاه المحقّق الهمدانی ، من اختصاص الحکم الوارد فی الخبر الذی رواه حفص بن البختری فی خصوص المرأة المختلط المستمرّة للدم ، وأنّ منطوق الشرطیّة یفید اختصاص الحکم بها فقط ، لیس علی ما ینبغی ، لوضوح أنّ الحکم وإن کان وارداً فی هذا المورد ، لکون سؤال السائل فیه ، ولکن ذلک لا یوجب تخصیص عموم الجواب فی الحکم بها ، لأنّه من المعروف بین الاصولیین من قولهم بأنّ العبرة بعموم الوارد لا بخصوص المورد ، فالاخذ بمنطوق الشرطیّة ، لأثبات الحیضیّة فیما یمکن أمر مقبولٌ ، سواءً کانت المرأة مستمرّة دمها أم لا ، فجعله أصلاً فی المقام لا یضرّ بالمطلب ، کما یستفاد هذا التوجیه من کلام صاحب «الجواهر» ، وهو کلامٌ وجیه ، وبالاعتماد علیه یرتفع الاشکال ویعود النزاع لفظیا .

وممّا یشهد ویؤیّد هذا التوجیه ، ذهاب مثل صاحب «المدارک» و«الروض» و«الحدائق» و«المستند» فیما أمکن أن یکون حیضاً ، بما ذهب غیرهم من الحیضیّة ولو لم یکن بصفات الحیضیّة ، کما أنّهم یحکمون بعدم الحیضیّة فی الدم قبل البلوغ ، أو بعد الیأس ، ولو کانت متّصفة بصفات الحیض ، لدخول مثل هذه الموارد فی المستثنی الوارد فی قولهم علیهم السلام «إلاّ أن یدلّ الدلیل علی خلافه» ، واللّه العالم .

فرع : هل یشترط فی الحکم بالحیضیّة ، اجتماع جمیع الصفات ، من الحرارة والسواد والدفع والحرقة ، أو یکفی وجود واحدة منها ان قلنا بإمکان انفکاکهاأم لا؟

ففی «الجواهر» : أنّه لا یبعد اعتبار المظنّة ، فیدور الحکم مدارها وجوداً وعدما ، وهو مختلفٌ بالنظر إلی الصفات لا ضابطة له ، فتأمّل جیّداً .

أقول : إذا فرضنا کون وجود الصفات غالبیّة ، یکون معناه أنّه قد یختلف

ص:291

وقد یشتبه بدم العُذرة ، فیعتبر بالقطنة ، فإن خرجت مطوّقة فهو العُذرة (1).

فی بعض الصفات ، ومع ذلک ینطبق علیه عنوان الحیض ، فکیف یمکن الالتزام بلزوم اجتماع جمیع الصفات ، مع أنّه لو کان الأمر کذلک لا یناسب مع اختلاف لسان الأخبار فی بیان أوصاف الدم ، فیما نشاهد أنّه لم یذکر فی بعضها وجود الدفع أو الحرقة وأمثال ذلک ، فنعلم حینئذ بأن الملاک وجود الصفات الموجبة للظنّ بوجود الحیض ، کما أشار إلیه صاحب «الجواهر» .

(1) قد عرفت فیما سبق ، أنّ التمیّیز بذکر الصفات المذکورة ، کان لاجل التمییز بین الحیض والاستحاضة ، وأمّا إذا اشتبه دم الحیض بغیرها ، مثل دم البکارة المسمّاة فی لسان الأخبار وکلمات الأصحاب بالعُذرة (بضمّ العین ، وسکون الدال المعجمة) کما لو افتضّت البکارة ، فسال الدم ثم عرض الاشتباه ، إمّا لکثرته أو لإستمراره ، حتّی وافی وقت حیضها ، فیحتمل انقطاع دم العذرة ، وحدوث دم الحیض ، أو فیما اذا اختلطا ، أو کان دم عذرة فقط ، أو إذا وقع الشکّ ابتداء ، فلابدّ من التمییز بالاختبار ، وهو کما عرفت من النص یکون بوضع القطنة ، فإن کان الدم مطوّقة فهو العذرة ، وإلاّ یکون حیضاً ، أی وإنْ خرجت منغمسة أو مستنقعة _ علی حسب اختلاف التعابیر _ فهو حیض .

فی أحکام الحیض / اشتباه دم الحیض بدم العذرة

هذا ، کما فی «المبسوط» و«الوسیلة» و«السرائر» و«الجامع» و«المنتهی» و«الذکری» وغیرها ، ولم نعثر فیه خلافاً ، کما فی «المبسوط» ، بل لعلّه متّفق علیه کما فی «المهذّب» .

نعم ، قد نسب الخلاف إلی المحقّق هنا ، وفی «المعتبر» و«النافع» ، کظاهر «القواعد» ، من عدم الحکم بالحیض إذا خرجت مستنقعة ، لإحتمال کونه غیر

ص:292

الحیض ، فراجع نص کلام المحقّق فی «المعتبر» ، حیث أنّه بعد أن نقل روایة زیاد بن سوقة قال : «ولا ریب أنّها إذا خرجت مطوّقة ، کانت من العذرة ، أمّا إذا خرجت مستنقعةً فهو محتمل ، فإذن یقتضی بأنّه من العُذرة مع التطوّق قطعاً ، فلهذا اقتصر فی الکتاب علی الطرف المتیقّن» ، إنتهی محل الحاجة(1) .

واعترض صاحب «المدارک» علی المحکی فی «الحدائق» بأن فیه نظراً من وجهین:

أحدهما: أنّ المسألة المفروضة فی کلام «المعتبر» تکون فیما إذا جاء الدم بصفة الحیض ، ومعه لا وجه للتوقّف فی کونه مع الاستنقاع حیضاً ، من جهة اعتبار سند الخبرین وحجتیهما وصراحتهما فی الدلالة علی الحکمین ، ومطابقتهما للروایات الدالّة علی اعتبار الأوصاف .

وثانیهما: أنّه رحمه الله صرّح بعد ذلک ، بأنّ ما تراه المرأة من الثلاثة إلی العشرة ، یحکم بکونه حیضاً ، وبأنّه لا عبرة بلونه ، ما لم یعلم أنّه لقرحٍ أو لعذرة .

ونقل علیه الإجماع ، وهو منافٍ لما ذکره هنا من التوقّف فی هذه المسألة ، من أنّ المفروض فیها انتفاء العلم بکون الدم للعذرة ، بل انتفاء الظنّ بذلک ، باعتبار استنقاعه کما هو واضح . انتهی کلامه .

ثمّ قال فی «الحدائق» بعده : وهو جیّدٌ ، وأنّ ما ذکره المحقّق لا یخلو عن وجه ، بالنظر إلی الاعتبار ، إلاّ أنّه لا وجه له فی مقابلة الأخبار ، ولا سیّما مع تصریحه بما نقله عنه فی الموضعین .

انتهی محلّ الحاحة من الحدائق(2) .


1- المعتبر: 52 .
2- الحدائق: 3/154 .

ص:293

بل قال فی «الجواهر» أیضاً : «إنّه ضعیفٌ جدّاً ، لما تسمعه من الأخبار المعتبرة المعمول بها بین الطائفة ، علی أنّ مفروض المسألة فیما کان الاشتباه فی العُذرة خاصّة ، فحیث ینتفی تعیین الثانی ، ولو سلّم فرض المسألة فیما هو أعمّ ، فلا یتّجه بناء علی ما عندهم ، من أنّ کلّ ما امکن کونه حیضاً فهو حیض ، سیّما وقد نقل عن المصنّف دعوی الإجماع علیهما . اللّهمّ إلاّ أن یکون المراد من هذه القاعدة غیر المتبادر منها ، کما تعرف إن شاء اللّه» .

انتهی ما فی «الجواهر» .

ولکن بعد التأمّل فی کلام المحقّق فی «المعتبر» ، یفهم أنّه أراد بیان مطلب آخر غیر ما فی الأخبار ، کما تفطّن بذلک المحقّق الآملی فی «مصباح الهدی» ، والمحقّق الهمدانی فی «مصباحه» ، لأنّ الظاهر من الصحیحین الدالین علی کون التطوق امارة علی العُذرة ، والانغماس امارة علی الحیض ، وکونهما امارتان تعبدیتان ، بل المراد أنّه مع التطوّق لا شکّ فیه بالحمل علی العُذرة ، بخلاف الانغماس للحیض ، حیث أنّه بانفراده لا یدلّ علی ذلک ، بل لابدّ من الحمل علی الحیضیّة .

أمّا دوران الأمر بین العذرة والحیض للعلم بأحدهما ، فإذا انتهی الأوّل تعیّن الثانی ، إذ لا احتمال ثالث فی البین ، أو من جهة عدم الاعتبار ، وباحتماله بأن احتمل أن یکون الدوران بین الأزید من الاثنین ، ومنشأ عدم الاعتناء باحتمال عدم الحیض ، هو تحقّق ما یوجب الحمل علی الحیض ، من وقتٍ أو صفاتٍ أو قاعدة الامکان لو انطبقت علی الشکوک ، فمجرد کون الدم منغمساً فی القطنة ، لا یکون دلیلاً علی الحیض ، حتّی یحمل علیه عند الدوران بین غیر العُذرة والحیض کالاستحاضة ونحوها ، فیکون مقصوده أنّ مجرّد انغماس الدم غیر

ص:294

قابل للحمل علی الحیض ، إلاّ إذا ساعده الدلیل الخارجی .

هذا بخلاف التطوّق فی الحمل علی العذرة ، فإنّه بمجرّده یکفی فی الحمل علی العذرة .

وهذا کلام تامٌ ولا یرد علیه ماذکروه من الاعتراض ، کما لا یخفی .

کما یشهد علیه قوله : «فإذن یقتضی بأنّه من العذرة مع التطوّق قطعاً» ، فلهذا اقتصر فی الکتاب علی الطرف المتیقّن ، من حیث یفهم أنّه فَرض فی طرف المقابل عدم وجود هذا العلم ، وإلاّ لا إشکال فی الحمل علی الحیض ، مع العلم الإجمالی ، بکون الدم من أحدهما ، کما فرضه غیرهما من الفقهاء رحمهم الله . وکیف کان ، لا اشکال ولا ریب فی کون التطویق امارة علی کون الدم للعذرة ، بالنصّ والإجماع ، فلا بأس بذکر النصوص الدالّة علیه .

منها : الحدیث الذی رواه الکلینی بسنده عن علیّ بن إبراهیم ، عن أبیه ، وعن عدّة من أصحابنا ، عن أحمد بن محمد بن خالد ، جمیعاً عن محمد بن خالد ، ومحمد بن مسلم ، جمیعاً عن خلف بن حمّاد الکوفی ، قال: «تزوّج بعض أصحابنا جاریة مُعصراً لم تطمث ، فلمّا افتضّها سال الدم ، فمکث سائلاً لا ینقطع نحواً من عشرة أیام؟ قال : فأوردوها القوابل ، ومن ظنّوا أنّه یبصر ذلک من النساء ، فاختلفن . فقال بعضٌ : هذا من دم الحیض . وقال بعضٌ : هذا من دم العذرة . فسألوا عن ذلک فقهائهم ، کأبی حنیفة وغیره من فقهائهم ، فقالوا: هذا شیء قد اشکل ، والصلاة فریضة واجبة ، فلتتوضّأ ولتصلّ ، ولیمسک عنها زوجها حتّی تری البیاض ، فإن کان دم الحیض لم یضرّها الصلاة ، وان کان دم العُذرة کانت قد ادّت الفرض . ففعلت الجاریة ذلک ، وحججت فی تلک السنة ، فلمّا صرنا بمنی ، بعثتُ إلی أبی الحسن موسی بن جعفر علیه السلام ، فقالت: جُعلتُ فداک إنّ

ص:295

لنا مسألة قد ضقنا بها ذرعاً ، فإن رأیتَ أن تأذن لی فآتیک واسألکَ عنها .

فبعث إلیّ : إذا هدأت الرجل وانقطع الریق ، فأقبل إنْ شاء اللّه . قال خلف: فرأیتُ اللیل ، حتّی إذا رأیتُ النّاس قد قلّ اختلافهم بمنی ، توجّهت إلی مضربه ، فلمّا کنت قریباً إذا أنا بأسودٍ قاعد علی الطریق ، فقال : من الرجل؟ فقلت: رجلٌ من الحاج . فقال: ما اسمکَ؟ قلت: خلف بن حمّاد . قال: ادخل بغیر اذن ، فقد أمرنی أن أقعد هاهنا ، فإذا أتیت أذنت لک . فدخلتُ وسلّمت ، فردّ السلام ، وهو جالسٌ علی فراشه وحده ، ما فی الفسطاط غیره ، فلمّا صرت بین یدیه سألنی وسألته عن حاله . فقلت: إنّ رجلاً من موالیکَ تزوّج جاریة مُعصراً ، لم تطمث ، فلمّا افتضّها سال الدم ، فمکث سائلاً لا ینقطع نحواً من عشرة أیام ، وإنّ القوابل اختلفن فی ذلک . فقال بعضهن: دم الحیض . وقال بعضهنّ: دم العذرة ، فما ینبغی لها أن تصنع؟ قال: فلتتّق اللّه ، فإنْ کان من دم الحیض ، فلتمسک عن الصلاة ، حتّی تری الطهر ، ولیمسک عنها بعلها ، وانْ کان من العُذرة ، فلتّتق اللّه ولتتوضّأ ولتصلّ ، ویأتیها بعلها إنْ أحبّ ذلک . فقلت له: وکیف لهم أنْ یعلموا ما هو حتّی یفعلوا ما ینبغی؟ قال: فالتفت یمیناً وشمالاً فی الفسطاط ، مخافة أن یسمع کلامه أحد ، ثمّ نهد الیّ ، فقال : یا خلف سِرّ اللّه فلا تذیعوه ، ولا تعلّموا هذا الخلق أُصول دین اللّه ، بل ارضوا لهم ما رضی اللّه لهم من ضلال . قال : ثمّ عقد بیده الیسری تسعین ، ثمّ قال: تستدخل القطنة ، ثمّ تدعها ملیّاً ، ثمّ تخرجها اخراجاً رقیقاً ، فإن کان الدم مطوّقاً فی القطنة ، فهو من العذرة ، وان کان مستنقعاً فی القطنة ، فهو من الحیض . قال خلف: فاستخفّنی الفرح فبکیتُ ، فلمّا سکن بکائی قال: ما أبکاک؟ قلت: جعلتُ فداک ، مَنْ کان یحسن هذا غیرکَ . قال: فرفع یده إلی السماء ، وقال: إنّی

ص:296

واللّه ، ما أخبرتکَ إلاّ عن رسول اللّه عن جبرئیل ، عن اللّه عزّ وجلّ(1)» .

هذا تمام الحدیث ذکرته تیمّناً وتبرّکاً .

لا بأس بذکر توضیح لفقرات الحدیث نقلاً عن «مجمع البحرین» : والجاریة المُعَصْر : علی وزن مُکْرَم ، أوّل ما أدرکت وحاضت ، أو أشرفت علی الحیض ، ولم تحض .

یقال : قد اعصرت ، کأنّها دخلت عصر شبابها أو بلغته .

ومنه الحدیث : «أنّ رجلاً من موالیکَ تزوّج جاریة معصراً» ، الحدیث .

وفی «المجمع» : افتض الجاریة ، افتزعها ، وأزال بکارتها ، والافتضاض (بالفاء) بمعناه .

ونَهَد : أی نهض وتقدّم .

ثمّ عقد بیده الیسری تسعین ، قال بعض شُرّاح الحدیث : اراد أنّه لفّ سبابته الیسری ، تحت العقد الأسفل من الابهام الیسری ، فحصل بذلک عقد تسعین بحساب عدد الید .

والمراد أنّها تستدخل القطنة بهذا الاصبع ، صوناً للمسبّحة عن القذارة ، کما صینت الید الیمنی عن ذلک ، لتمییز الدم الخارج ، فتعمل علی ما یقتضیه .

هکذا فسّره فی «مجمع البحرین» حاکیاً عن البعض .

فاستخفّنی : وفی «الکافی» : (فاستحفّنی) بالحاء المهملة ، بمعنی الشمول والاحاطة ، وبالحاء المعجمة بمعنی النشاط .

وراجع «الوافی» ایضا .


1- وسائل الشیعة: الباب 2 من أبواب الحیض، الحدیث 1 .

ص:297

منها : روایة صحیحة زیاد بن سوقه ، قال: «سُئل أبو جعفر علیه السلام عن رجل افتضّ امرأته أو أمته ، فرأت دماً کثیراً لا ینقطع عنها یوماً ، کیف تصنع بالصلاة؟ قال: تمسک الکرسف ، فإن خرجت القطنة مطوّقة بالدم ، فإنّه من العذرة ، تغتسل وتمسک معها قطنة وتصلّی ، فإن خرج الکرسف منغمساً بالدم ، فهو من الطمث ، تقعد عن الصلاة أیام حیضها(1)» .

منها : روایة أُخری لخلف بن حمّاد ، قال: قلت لأبی الحسن الرضا علیه السلام : «جعلتُ فداک ، رجل تزوّج جاریة ، أو اشتری جاریة ، طمثت أو لم تطمث ، أو فی أوّل ما طمثت ، فلمّا افتزعها غلبت الدم ، فمکث أیّاماً ولیالی ، فاُریت القوابل ، فبعض قال من الحیض ، وبعض قال من العذرة؟

قال: فتبسّم ، وقال: ان کان من الحیض فیمسک عنها بعلها ، ولتسمکَ عن الصلاة ، وان کان من العُذرة فلتتوضّأ ولتصل ، ویأتیها بعلها إنْ أحبّ .

قلت: جُعلتُ فداک ، وکیف لها أنْ تعلم من الحیض هو أم من العذرة؟

قال: یا خلف ، سرّ اللّه فلا تذیعوه ، تستدخل قطنة ثمّ تخرجها ، فإن خرجت القطنة مطوّقة بالدم ، فهو من العذرة ، وإنْ خرجت مستنقعة بالدم فهو من الطمث(2)» .

ولعلّ هذه الروایة متحدة مع التی رویناها سابقا علی حسب اختلاف النقل بین الکلینی والشیخ وغیرهما ، فی التفصیل والإجمال .

منها : روایة رابعة ، وهی ما ورد فی «فقه الرضا» ، وما نقلها فی «الفقیه» عن أبیه فی رسالته إلیه ، علی المحکی فی «الحدائق(3)» وهی : «وإنْ افتضّها زوجها


1- وسائل الشیعة: الباب 2 من أبواب الحیض، الحدیث 2 .
2- المصدر السابق .
3- الحدائق: 3/154 .

ص:298

ولم یرق دمّها ، ولا تدری دم الحیض هو أم دم العذرة ، فعلیها أن تدخل قطنة ، فإن خرجت القطنة مطوّقة بالدم ، فهو من العذرة ، وان خرجت منغمسة فهو من الحیض . واعلم أنّ دم العذرة لا یجوز الشفرین ، ودم الحیض حارٌ یخرج بحرارة شدیدة ، ودم الاستحاضة باردٌ یسیل وهی لا تعلم(1)» .

وهذه الأخبار تفید بان التطویق امارة علی کون الدم من العذرة ، والانغماس من الحیض ، إنْ انحصر الاشتباه بینه وبین العذرة ، وأمکن الحمل علیها ، ولکن یستفاد من هذه الروایات أُمور وأحکام لا بأس بذکرها .

الأمر الأوّل: هل التطویق فی الدم _ الذی جعل علامة علی العذرة _ یکون مطلقاً ، أی سواءً کان الدم واجداً لصفات الحیض أم لا ، أو یکون علامةً له علی فرض عدم کونه بصفاته .

المحکی عن المقدّس الأردبیلی قدس سره ، الذهاب إلی الثانی ، حیث أدعی أنّ النسبة بین ما یدلّ علی کونه من العذرة فی التطویق ، وبین ما یدلّ علی الحمل علی الحیض مع الصفات ، هی العموم من وجه ، فیتعارضان فی الإجتماع ، لأنّ الدم قد یکون مطوّقاً ولا یکون واجداً لصفات الحیض ، فهو من العذرة قطعاً (مادة افتراق) .

وقد یکون منغمساً فی القطنة ، مع کونه بصفات الحیض ، فهو من الحیض قطعاً (مادّة افتراق) .

(اما مادة الاجتماع) وذلک فی التطویق مع وجود الصفات .

فالقاعدة الأولیّة فی التعارض ، وإن کان هو التساقط ، لکن فیما إذا لم یکن لأحدهما ترجیح علی الآخر ، وهنا یوجد الترجیح ، وذلک فیما یدلّ علی اعتبار


1- المستدرک: الباب 2 من أبواب الحیض ، الحدیث 1 .

ص:299

الأوصاف ، حیث أنّه باطلاقه یدل علی کونه من الحیض ، سواء اشتبه بدم البکارة أم لا ، وسواء حصل التطویق عند اشتباهه بدم العذرة أم لا ، وذلک لقوّة نفسه ، واعتضاده بقاعدة الإمکان المعمول بها عند الأصحاب .

هذا ، ولا یخفی مافی کلامه من الاشکال :

أوّلاً : بأنّه لا نسلّم کون النسبة بین المقام وبین ادلّة الصفات هی العموم من وجه ، بل تکون النسبة هی العموم والخصوص المطلق ، لأنّ الروایات الوارداة فی التطویق خاصّة فی خصوص مورد اشتباه الدم بین العذرة ودم الحیض ، ولا تشمل صورة کون الاشتباه بین دم الحیض والاستحاضة ، لأنّ مورد السؤال والجواب خاصّاً .

ولو سلّمنا اطلاق ادلّة صفات الحیض وعمومها حتّی للمقام ، فالقاعدة تقتضی التخصیص ، وتقدیم أدلّة العذرة علیها ، کما لا یخفی .

وهذا لا ینافی دعوی کون الدلیل فی المقام عاماً ، وشاملاً بین کون الدم مشتبهاً بین العذرة والحیض والاستحاضة ، إذ مع ذلک تکون النسبة هو العموم المطلق ، لکنّه لا یجامع مع ملاحظة نصّ الأحادیث ، حیث لم یذکر فیها إلاّ الدوران بین العذرة والحیض ، کما لا یخفی .

ثانیاً: مع إمکان المنع فی اطلاق ادلّة الصفات ، وشمولها لما کان الاشتباه فی الدم بین الحیض والبکارة ، بل إنّما هی واردة فی موارد اشتباه الدم بین الحیض والاستحاضة ، فعلی هذا یختصّ کلّ دلیل بمورده ، بلا تعارض بینهما أصلاً ، فلابدّ فی التطویق من الحکم بالعذرة ، ولو کان الدم متّصفاً بصفات الحیض .

وثالثاً: لو سلّمنا اطلاق کلّ منهما من الدلیل ، وشمولهما لمورد الآخر ، فمع ذلک عند الاجتماع ومورد التصادق ، نقول بان الحکم هو ترجیح جانب البکارة

ص:300

لإعتبار أدلّتها ، وصحّة أخبارها ، واعتضادها بالشهرة ، وعدم الخلاف ، إذ لم یحک الخلاف عن أحدٍ إلاّ عن الاردبیلی قدس سره ، وقد قال صاحب «الجواهر» فی حقّه أنّه ممّا لا ینبغی أن یُصغی إلیه .

الأمر الثانی: فی أنّ حکم الدم علی کونه من العُذرة ، هل یکون مطلقاً _ أی سواءً کانت المرأة قبل الافتضاض طاهرة ، ثمّ افتضّت وسال الدمّ منها ، أو کانت معلومة الحیضیّة سابقاً ثمّ افتضّت ، أو کانت حالتها مشکوکة ثمّ افتضّت وشَکّت فی کون الدم من أیّهما ، بل حتّی لو شکت فی أصل الافتضاض ، أو علم به مع الشکّ فی کون الدم الخارج هو حیضاً أو عُذرة _ بانْ ینسب الدم فی جمیع هذه الصور علی العُذرة ، أم لابدّ من التفصیل فی تلک الموارد؟

المستفاد من ظاهر روایة خلف بن حمّاد کون المورد هو وجوب الاختبار ، فیما إذا کان الشکّ ناشئا من کون الدم من العُذرة أو من الحیض ، وذلک لان الشکّ حصل بعد حدوث الحیض وبعد الافتضاض مع العلم بکونها طاهرة قبل الافتضاض ، حیث یکون هذا هو مورد السؤال فی الجاریة المعصر فی روایة خلف .

هذا کما فی «مصباح الهدی» للآملی .

ولکن هذا إنّما یصحّ فی الروایة الأُولی من خلف بن حمّاد ، حیث قد ورد فیها کلمة (المعصر) ، وأمّا فی الروایة الثانیة ، حیث لم یذکر فیما ذلک ، بل قد ورد فیها التصریح مطلقا فی قوله : «جاریة طمثت أو لم تطمث أو فی أوّل ما طمثت» ، فیشمل حینئذ بتصریحه هذا وجوب الاختبار فی جمیع الصور المذکورة ، لو لم نقل بأوسع منها ، لأجل کونها من باب التمثیل ، کما یشمل إطلاق صحیحة زیاد بن سوقة لجمیع الصور ، فلا یعارض العلم بالحیضیّة المتقدّمة علی الافتضاض وجوب الاختبار ، فضلاً عن استصحابها مع الشکّ .

ص:301

نعم لو کان متعلّق الشکّ أصل الافتضاض ، یعنی إذا لم تعلم تحقّق الافتضاض ، فمع ذلک عرضت له ذلک الشکّ ، فوجوب الاختبار فیه غیر معلوم ، بل معلوم العدم ، لأنّه مضافاً إلی أصل عدم تحقّق الافتضاض موضوعاً _ لا حکماً ، ولو سلّمنا تعارضه مع أصل عدم تحقّق الحیض وتساقطهما _ فان لنا أصل عدم الافتضاض حُکماً ایضا .

هذا لو لم تعلم الحالة السابقة من الحیضیّة ، أو علم عدمها ، وإلاّ تستصحب الحیضیّة المعلومة سابقا ، ویقدّم علی الحکم بدم العذرة المشکوکة ، کما لا یخفی .

هذا ، کما علیه المشهور ، وکما صرّح به صاحب «الجواهر» فی «النجاة» والسیّد فی «العروة» .

الأمر الثالث: قد حکی عن «الروض» أنّه یعتبر فی کیفیّة وضع القطنة للإختبار ، أن تستلقی المرأة الحائض علی ظهرها ، وترفع رجلیها ، ثمّ تستدخل القطنة وتصبر ، واستدلّ علی اعتبار هذه الطریقة بالأخبار المرویّة عن أهل البیت علیهم السلام .

اقول : لم یرد فیما ذکرنا من النصوص الثلاثة السابقة التی قد وقفت علیها ما یدلّ علی لزوم هذه الکیفیّة فی الاختبار ، نعم قد ورد الاختبار بهذه الکیفیّة فی الاشتباه بین الحیض والقرحة .

وفی «الحدائق» : لعلّه قد اشتبه علیه ، بأنّه قد رأی قبل ذلک فی تلک المورد ، فتوهّم حین الکتابة أن مورده هنا .

اقول : قد یحتمل أنّه زعم الاشتراک فی ذلک بین الموردین ، بالغاء الخصوصیّة عن مورد الدوران بین الحیض والقرحة ، واسراءه إلی المقام .

ولکن الانصاف أنّ سریان الحکم من ذلک المورد الی المقام ، والحکم بالالزام

ص:302

والوجوب فی الاختبار بهذه الکیفیّة هنا لا یخلو من تأمّل ، ولذلک ذهب الأکثر علی خلافه .

فی أحکام الحیض / اشتباه دم الحیض بدم الحیض

الأمر الرابع: قد ورد فی روایة خلف بن حمّاد قوله : «ثمّ تدعها ملیّاً» ، أی تترک المرأة الحائض القطنة داخل الفرج مدّة طویلة ، حیث یظهر منه اعتبار ذلک فی الاختبار .

والظاهر کون المراد هو اعتبار الصبر مقدار مدّة حتّی ینزل الدم علی القطنة ، حتّی تعلم حالها من التطویق أو الانغماس ، ولذلک تری أنّ بعض الفقهاء _ مثل السیّد فی «العروة» _ ، قد ذکر لزوم الصبر قلیلاً ، ثمّ اخراجها ، فلیس لهذه الفترة تحدید معلوم و معین ، بل الملاک هو ان یظهر الدم علی القطنة بحیث تبین حالها بها .

الأمر الخامس: لا اشکال فی الجملة فی أنّ ظاهر النصوص یفید وجوب الاختبار ، وعدم جواز الرجوع إلی الأصل العملی ، من استصحاب الطهارة ، أو استصحاب الحدث ، کما لا یجوز الرجوع إلی الأصل فی الشبهة الحکمیّة قبل الفحص .

ولکن الذی ینبغی أن نبحث فیه ، هو أنّ هذا الوجوب هل هو تعبّدی نفسی ، بحیث لو ترکه لترتّب علیه الاثم ، کسائر الواجبات النفسیّة ، ولو لم یصادف ترکه لترک الواقع ، بل صادف عمله للواقع ، بأن ترکت الصلاة یظن انّها حائض وکانت هی حائض فی الواقع الأمر أو أدت صلاتها بظن ان الدم التی رأتها هی دم العُذرة ، وکان فی الواقع کذلک .

أو أنّ الاختبار شرطٌ لصحّة العمل واقعاً ، کالطهارة من الحدث للصلاة ، فلازمه بطلان العمل ، حتّی لو انکشف مطابقة عملها للواقع من النساء حین رؤیتهّن لدم العُذرة ، لفقد شرط العمل ، وهو الاختبار قبل الاتیان به ، بحیث أنه

ص:303

حتی لو اختبرت بعد العمل لا أثر له فی بطلان العمل الذی أتت بها صحیحاً .

أو أنّه شرط فی ترتب آثار دم العُذرة _ علی تقدیر کونه منها _ وآثار دم الحیض _ علی تقدیر کونه منه _ علیها ، ولا مدخلیّة للاختبار فی قوام تلک الآثار؟

وجوه وأقوال ، والذی یظهر من صاحب «الجواهر» هو البطلان مطلقاً ، إلاّ إذا کانت معذورة فی الاختبار ، حیث قال: «ولیعلم أنّ ظاهر الأصحاب والأخبار ، وجوب الاختبار المذکور ، فلو فعلت بدونه ، لم یکن عملها صحیحاً ، إلاّ أن یقع علی وجهٍ معذورة فیه» .

انتهی محلّ الحاجة .

والذی یظهر من شخینا الأعظم قدس سره ، صحّته لو أتت بلا اختیار مع الغفلة ، وإلاّ یشکل الصحّة ، حتّی مع المطابقة لو ترکت الاختبار .

ویظهر من السیّد فی «العروة» فی المسألة (5) ، من الحکم بالبطلان ولو لم تکن حیضاً ، إلاّ اذا حصل منها قصد القربة ، بأنّ کانت جاهلة ، أو عالمة أیضاً إذا فُرض حصول قصد القربة .

وهذا هو الموافق للمحقّق الآملی ، والسیّد الخوئی ، وکثیر من أصحاب التعلیق .

بناءً علی هذا یکون اثبات احدی هذه الوجوه متوقفٌ علی البحث عن هذه المسألة ، فنقول ومن اللّه الاستعانة: لا إشکال ولا خلاف فی وجوب الاختبار علی المرأة ، علی حسب ما یستفاد من الصحیحتین وغیرهما ، وهذا ممّا لا کلام فیه ، بل الکلام والبحث إنّما یکون فی أنّ وجوبه یعدّ شرطا لصحّة الصلاة ، بحیث لو ترکتها لکانت صلاتها باطلة مطلقاً ، أی ولو لم تکن حائض ، وکان عملها مطابقاً لوظیفتیها الواقعیّة ، أو لم یکن وجوبه إلاّ شرطیّاً لترتیب أثر کلّ ما علیها من الوظیفیّة ، من دم العذرة ، أو الحیض؟

ص:304

والذی یظهر من لسان الأخبار هو الأخیر ، حیث تفید الاخبار بان وجوبه لتحصیل ما هو مقدّمة للصلاة ، لا کونه واجباً نفسیّاً ، فان الوارد فی الروایة السؤال عن أنّها کیف تصنع بالصلاة ، مع أنّ هذا القسم من الوجوب المتعلّق بمثل ذلک یعدّ مقدّمیّاً لا نفسیّاً ، حتّی یترتب علیه الأثم فی ترکه بنفسه .

کما لا یکون من قبیل الشرط للصلاة ، حتّی یستلزم انتفاء المشروط بانتفاء شرطه ، الموجب لصیرورة الصلاة باطلة لفقد شرطها ، مثل فقدان الطهارة لاجل حدوث الحدث الموجب للبطلان .

فلیس علی المرأة _ فی الموارد التی یجب علیها الأختبار _ إلاّ أن تلاحظ حالها ، فان بنت علی ان الدم الخارج منها دم العذرة ، فتأتی بالصلاة ، فان صادفت الواقع یکون عملها صحیحا _ سواءً التفتت إلی وجوب الاختبار أو لم تلتفت ، أو تعذّر علیها ذلک مع الالتفات إلی وجوبه أم لم تتعذّر _ لانها أدت ما علیها حسب الأمر ومطابقه له فی جمیع ما یعتبر فیها شطراً أو شرطاً ، ولا وجه للقول بالبطلان ، إلاّ من جهة فقد قصد القربة ، أو من جهة فقد الجزم فی النیّة ، أو لأجل کونه حراماً تشریّعاً .

والمفروض عدم تحقّق الخلل من ناحیة تلک الأُمور :

أمّا الأوّل : لإمکان تحقّقه للجاهل وعدم الملتفت لوجوبه ، بل وحتّی مع الالتفات إلی وجوبه وترکه ، ومع ذلک أتی به مع قصد القربة ، فضلاً عمّن تعذر علیه الاختبار .

کما لا خلل من جهة فقد الجزم بالنسبة الیها ، لما قد قُرّر فی محلّه من تجویز الاکتفاء بالامتثال الإجمالی ، مع التمکّن عن الامتثال التفصیلی ، حتّی مع الاختبار ، خصوصاً إذا لم یستلزم التکرار فی العمل .

ص:305

نعم ، یعتبر الجزم فی النیّة عند المشهور ، إذا استلزم الامتثال الإجمالی التکرار ، مع التمکن عن الامتثال التفصیلی ، فحینئذ یصحّ القول بالبطلان من هذه الجهة ، ولکنّه غیر مقبول عندنا .

کما لا یوجب حدوث الاخلال فی الصلاة ، من جهة حرمة التشریع فی الاتیان بالصلاة مع احتمال الحیضیّة ، وذلک اذا أقدمت علی اتیان الصلاة رجاء وبقصد الاحتیاط ، فلا تشریع حینئذ قطعاً .

هذا کلّه إنْ قلنا بحرمة الصلاة للحائض حرمة تشریعیة لا ذاتیّة .

وأمّا ان قلنا بالحرمة الذاتیّة فی الصلاة مع الحیض ، بأن ندعی ان المستفاد من قوله : «دعی الصلاة أیام اقرائکِ» ، أو من قوله : «فلتتق اللّه ولا تصلّ» ، أو قوله : «فلتمسکَ عن الصلاة حتّی تری الطهارة» ، هو النهی الذاتی التحریمی ، لا الارشادی إلی فساد الصلاة ، کما علیه بعض الفقهاء .

ففی «مصباح الهدی» أنه علی هذا الفرض تبطل صلاتها ، وتجب إعادتها ، لعدم تمکّنها حینئذ من تمشی قصد القربة المعتبرة فیها ، فعلیه لو ثبت علی أن الدم الخارج دم العذرة صلّت فظهر الخلاف ، فانه دم حیض ، فلا إشکال فی بطلانها لمکان تحیّضها .

وأمّا اثمها فی ترک الاختبار ، فانه لایترتب لعدم کونه واجباً نفسیّاً ، بل ولا مع الاتیان بالصلاة ، إذا کان مع الغفلة أو النسیان عن وجوب الاختبار .

وأمّا ترتب الاثم فیها مع الالتفات إلی وجوب الاختبار ، ووجوب ترک الصلاة ، فانّه موقوف علی اثبات کون الصلاة حراماً ذاتیّاً فی حال الحیض ، لا تشریعیّاً ، وعلی اثبات کون العمل المتجرّی به حراماً ، ویستحق فاعله علیه العقاب ، فعلی فرض اثبات هذین الأمرین یستلزم ترکه له إثماً وإلاّ فلا إثم علیها .

ص:306

وأمّا حرمة العمل المتجرّی به ، واستحقاق فاعله العقاب علیه ، فهو غیر معلوم ، بل قد حققنا فی الأصول ، عدم الاستحقاقه للعقاب ، إلاّ من جهة حُسن التوبیخ ، لأجل خبث باطنه وسوء سریرته ، وإلاّ فان العقاب مختصٌ بترک الواجب أو فعل الحرام ، المفروض عدمهما فی المتجرّی به .

وأمّا الحرمة الذاتیّة للصلاة ، فانّه ربّما یدّعی _ کما فی «التنقیح» _ عدم وجود دلیل علیها ، وما قد یدّعی منه ذلک لا یدلّ علی أزید من الارشاد إلی الفساد ، ای ان الدلیل یفید انه اذا کان المکلف عاجزا عن اداء الصلاة الصحیحة فلیس علیه اداءها ناقصةً .

فعلی فرض ثبوت الحرمة الذاتیّة ، فقد یدّعی أنّها باطلة لأجل کون العمل فاقداً لقصد القربة ، حیث لا یمکن التقرّب بما یکون حراماً ومبعداً ، فلا یتمشی فیه قصد القربة .

اللّهمّ إلاّ أن یدّعی أنّه علی فرض قبول الحرمة الذاتیّة ، انّها انّما تکون ثابته فیما إذا لم یقدم علی اداء الصلاة بقصد رجاء المطلوبیّة ، لانها غیر قاطعة بکون الدم حیضاً ، وأمّا ثبوت الحرمة الذاتیّة ، فانّها فی المورد _ إذا أتت بها برجاء المطلوبیّة _ غیر معلوم .

نعم ، یمکن أن یقال إنّ ما ذکرتم من عدم ثبوت الحرمة الذاتیّة ، فیما اذا أتی بالعمل رجاء المطلوبیّة صحیح فی ذاته ، إلاّ أنّه غیر جار فی المقام ، لأنّ مثل هذا هو مسلک متفقهة العامة ، حیث استدلّوا علی صحة صلاة هذة المرأة بموافقة فعلها للاحتیاط ، وبرغم ذلک لم یقبل الإمام علیه السلام منها الصلاة ، وأمرها بالاختبار ، خصوصاً مع تأکیده علیه السلام لها بقوله : «فلیتّق اللّه» ، فانه لانستبعد استفادة حرمة العمل بالاحتیاط هنا ، لأجل الحرمة الذاتیة لمثل هذه الصلاة .

ص:307

بل قد یؤکّد ذاتیة الحرمة مضافاً إلی الأمر بالإمساک عن الصلاة ، ما ورد فی ذیل حدیث خلف بن حمّاد بقوله: «فإنْ کان دم الحیض فلتمسک عن الصلاة حتّی تری الطُهر . . .» .

فی أحکام الحیض / اشتباه دم الحیض بدم العذرة

ومن ثمّ أمرها الامام بلزوم أن یمسک عنها زوجها و لایجامعها ، وحکمه علیه السلام یفید وجوب الاجتناب وحرمة الصلاة ذاتا .

ومضافاً إلی تقابله فی صورة کون الدم دم العذرة ، بلزوم الاتّقاء فی الاتیان بالصلاة ، وکون وجوبه ذاتیّاً قطعاً یوجب الاطمنان علی کون الحرمة ذاتیّة .

وحیث أنّ الإمام علیه السلام لم یشر الی الاحتیاط الذی سار علیه العامّة ولم یؤیّدهم فیه ، بل فی الخبر قرینة علی طعنه علیه السلام علیهم فی ترکهم الرجوع إلی ابوابهم ، والوقوع فی الضلال الذی کان أحد موارده هو المقام .

فان جمیع هذه الامور یوجب الاطمئنان بعدم جواز المشی علی طریق الاحتیاط ، ممّا یوجب أن لایحصل للملتفت الی هذه الأُمور قصد التقرب إلی اللّه فی الاتیان بالصلاة ، ان لم نقل بالحرمة فی ترک الاختبار فی نفسه ، لأجل کونه واجباً نفسیّاً ، حیث تظهر ثمرته عموم استحقاقها العقاب فیما لو ترکت الاختبار وأتت بالصلاة ، وطابق ظنّها الواقع ، بخلاف ما لو لم یطابق ، حیث تکون العقوبة حینئذ مترتبة علی ترک ما هو الواجب واقعاً ، وهو الصلاة التی أدتها من دون أن تسبقها الاختبار ، کما هو واضح .

فثبت من جمیع ما ذکرنا أنّ العمل بدون الاختبار صحیح ، إذا حصل لها قصد القربة ، والقصد لا یحصل إلاّ مع الجهل أو الغفلة أو النسیان مع الالتفات فأن أمکن فرض حصول قصد القربة لها فهو ، لکنّه مشکل جدّاً کما عرفت فلا نعید ، واللّه العالم .

ص:308

الأمر السادس: إذا عجزت المرأة عن الاختبار ، وصار الاختبار لها معذوراً ، إمّا لأجل کثرة الدم ، أو لعدم وجود القطنة وما یقوم مقامها ، أو لغیر ذلک من الاسباب فانّ المسألة تکون ذات شقوق وهی : تارة : تعلم بحیضیّة الحالة السابقة ، فتعمل بها من الاستصحاب ، لأنّ عموم دلیل الاستصحاب قد خصّص بدلیل وجوب الاختبار ، عند التمکن عنه ، ومع العجز عن الاختبار ، فلا یعمّ المورد دلیل وجوب الاختبار ، لأجل العجز ، فدلیل الاستصحاب حجة یجب الاخذ به .

ودعوی عموم وجوب الاختبار واطلاقه ، حتّی لمورد العجز ، یوجب عدم جواز الرجوع إلی الأصل ، مثل صورة التمکن ، فلا سبیل الا الرجوع إلی الاحتیاط ، کما احتمله الحکیم فی «المستمسک» وقال إنّه غیر بعید .

نعم ، یشکل التمسک بالاصل فیما اذا کانت الحالة السابقة الحیضیّة وقلنا بوجود عموم دلیل الاختبار .

مع أنّه یرد علیه ، أنّه لا فرق فی الاشکال بین کون العلم بالحالة السابقة بین کونها عالمة بالحیض أو الطهر .

فالقول بالتفصیل ، بجواز الرجوع إلی الاستصحاب فی الحیض ، دون الطهر ، ممّا لا وجه له .

اللّهمّ إلاّ أن یراد فی الفرق بوجود قاعدة الإمکان ، للحکم بالحیضیّة فی مورد استصحاب الحیضیّة دون غیره .

لکنّه مردود ، لأنّ الحکم بالحیضیّة فیما یمکن أن یکون حیضاً لوقلنا به ، فانّه بنفسه دلیل مستقل للحکم بالحیضیّة ، سواءً کان المورد فیه استصحاب الحیضیّة أو لم یکن ، فبذلک یخرج المورد عن الشکّ فی کونه دم حیض أو عُذرة ، حیث فرض الاشتباه فی ذلک ، فمع العلم بالحالة السابقة التی هی الحیضیّة ، یفهم کون

ص:309

مراد الفقهاء اثبات الحکم بواسطة الأصل دون القاعدة ، أمّا لاجل انکار أصل قاعدة الإمکان ، أو کون محل اجرائها فی غیر المورد ، لأنّ القاعدة إنّما تجری فیما اذا لم یکن دلیل الحکم فی أحد الطرفین موجوداً ، فمع وجود استصحاب الحیضیّة ، لا یبقی حینئذ للمکلّف شکّ ظاهر ، حتّی یرجع إلی قاعدة الإمکان .

فالمقام مقام الرجوع إلی الاستصحاب ، والحکم بالحیضیّة دون التمسک بالقاعدة .

وکیف کان ، فمع وجود العلم بالحالة السابقة من الحیضیّة تارة ، واخری الطهر ، فانه یجب الأخذ بها ، ولا یجب علیها العمل بالاحتیاط ، بالجمع بین عمل الطاهر والحائض .

وثالثاً : مع عدم العلم بالحالة السابقة ، إمّا لأجل العلم بوجود أحدهما ، والجهل منها فی المتقدّم والمتأخّر منهما ، أو لأجل الشکّ فی أصل وجود أحدهما ، من غیر وجود علم إجمالی بوجود أحدهما ، فحینئذ هل یجوز لها الرجوع إلی أصل البرائة عن وجوب ترتب وظائف الحائض علیها ، وذلک بعد فرض تساقط الأصلین العدمیین ، وهما أصالة عدم کون الدم حیضاً ، وعدم کونه دم عذرة ، بعد تعارضهما فی المورد أم لا یجوز ذلک علیها؟

ففی «العروة» صرّح بانّ علیها ان تبنی علی الطهارة .

وکأنّ نظره الشریف قدس سره الی وجود اطلاق ادلّة أحکام الطهارة ، فان موضوعها مطلق المرأة ، الشامل للطاهرة والحائض ، فبعد تخصّصها بادلّة أحکام الحائض ، فإذا شکّ فی الحیض وعدمه ، یرجع إلی عموم أحکام الطاهرة ، لاحراز موضوعها ، بعد الشکّ فی موضوع الحیض .

هذا ، لکن قد استشکل علیه الحکیم قدس سره فی «المستمسک» بعد ذکره ما قلناه

ص:310

من الرجوع إلی اطلاق الدلیل الدال علی احکام الطاهرة ، قال : «لکنّه مبنی علی جواز الرجوع إلی العام فی الشبهة المصداقیّة ، والتحقیق خلافه ، ومن هنا کان المتعیّن فی المقام بعد البناء علی عدم مراجعة قاعدة الإمکان ، لاختصاصها بما یعلم خروجه من الرحم ، هو قاعدة الاحتیاط ، من جهة العلم الإجمالی بثبوت أحکام الطاهرة والحائض ، علی ما سیأتی»(1) ، انتهی محلّ الحاجة .

وفیه بعد التأمّل فیما ذکره ، یظهر لک عدم تمامیّة کلامه ، لأنّ المورد المشکوک بین کونه دم الحیض أو دم العُذرة ، مع عدم العلم بالحالة السابقة ، إذا أُرید به الرجوع إلی اطلاقات أدلّة الأحکام للطاهرة ، والحکم بأنها طاهرة فانّه ، لیس من قبیل التمسّک بالعام من المشتبه المصداقیّة له ، بل یکون من قبیل الرجوع إلی عموم العام فی الشبهة المصداقیّة للمخصّص ، لأنّ التخصیص بالنسبة إلی معلوم الحیضیة ثابتٌ ، وبالنسبة إلی المشکوک المردّد بین الحیض والعذرة غیر معلوم ، فیجب الرجوع إلی عموم العام فیه .

أمّا الذی لا یجوز الرجوع الیه فی الشبهة المصداقیّة ، هو العام لا المخصّص ، کما فی المقام ، فالرجوع إلی عموم العام فی الشبهة المصداقیّة للمخصّص جائزٌ ، ولازمه الحکم بوجوب ترتب آثار الطاهرة علیها ، فیوافق مع رأی السیّد فی «العروة» وکثیر من أصحاب التعلیق .

اللّهمّ إلاّ أن یستثنی المقام من ذلک ، من جهة ورود النصّ بالخصوص علی وجوب الاختبار ، عند الشکّ بین الحیض والعذرة ، فی فرض التمکن منه ، والمنع عن الرجوع إلی تلک الأُصول والقواعد المتداولة فی غیر المقام .


1- مستمسک العروة الوثقی : 3/180 .

ص:311

یبقی الکلام فی صورة العجز عن الاختبار ، وانّه هل لها أن ترجع إلی تلک الأُصول والقواعد ، فمع وجود العلم بالحالة السابقة من الحیض أو الطهر ، فالاستصحاب یکون دلیلاً رافعاً للشبهة والشکّ ، لأنّه یعدّ من الأُصول المحرزة ، ویسمّی الاستصحاب عندهم بعرش الأُصول وفرش الامارات ، ومن هنا فان علیه الحکم علی طبقه .

هذا ، بخلاف ما لو لم تعلم الحالة السابقة ، حیث یمکن أن یقال بما قد قیل من أنّ إیجاب الاختبار لدی التمکن منه ، یستکشف أن الشارع قد الغی اعتبار الواقع فی صورة مخالفة الامارة معه فی هذا المورد ، بمقدار ما تدل الامارة علی خلافه ، ولهذا أوجب علیها الفحص ، والعمل بما أدّت إلیه الامارة ، من آثار العذریّة أو الحیض .

وحینئذٍ لو عملت بها ، فان طابقت الامارة مع الواقع فهو ، وإلاّ فهی معذورة فی ترک الواقع .

وأمّا مع موافقة الامارة معه ، فیما هو غیر مرضی عندها ، ومع تعذّر الاختبار ، یمکن أن تکون الامارة المتعذّرة مطابقة للواقع ، والشارع لا یرضی بترک الواقع فی هذه الصورة ، وحیث لا تدری أنّه علی تقدیر الوصول الی الامارة هل تکون الامارة الواصلة مخالفة مع الواقع أو مطابقة معها ، فانّه یجب علیها الاحتیاط فی حال التعذّر .

ولأجل ذلک کتبنا فی تعلیقتنا علی «العروة» فی ذیل قوله «لکن مراعاه الاحتیاط أولی» ، أنّه لا یترک ، وجعلنا الاحتیاط بالجمع بین عمل الطاهرة والحائض واجباً ، کما علیه المحقّق الآملی فی «مصباح الهدی» وآخرون من أصحاب الحاشیّة علی «العروة» الحواشی ، کما لا یخفی .

ص:312

وکلّ ما تراه الصبیّة قبل بلوغها تسعاً ، فلیس بحیضٍ (1).

(1) واعلم أنّ الحکم بعدم الحیضیّة بالنسبة إلی الدم الخارج عن الصبیّة ، قبل التسع ، أی قبل اکمال التسع من حین الولادة ، ولو کان الدم متّصفاً بصفات الحیض ، إجماعیٌ لکلا قسمیه ، ولا خلاف فیه ، کما هو مقتضی الأصل من الموضوعی ، وهو عدم الحیضیّة ، والحکم بالبرائة عن أحکام الحائض فیما لا تعلم تحقّق البلوغ ، إلاّ أن یقوم دلیلٌ یدلّ علیه ، فحینئذ یعمل به دون الأصل .

هذا ، مع وجود اخبار معتبرة دالّة علی ذلک وهی :

فی أحکام الحیض / ما تراه الصبیّه قبل بلوغها

منها : موثقة عبد الرحمن بن الحجّاج ، قال: «قال أبو عبد اللّه علیه السلام : ثلاث تتزوجن علی کلّ حال ، التی لم تحض ومثلها لا تحیض . قال: قلت وما حدّها؟ قال: إذا أتی لها أقلّ من تسع سنین(1)» .

ومنها : مصحّح جمیل بن درّاج(2) ، حیث جاء فیها أنّه لیس للصبیّة والیائسة عدّة ، الذی یفهم منه عدم الحیضیّة .

ومنها : صحیحة اخری رواها دراج ، تتطابق مضمونها مع الخبر(3) .

ومنها : صحیحة عبد الرحمن ، قال: «سمعت أبا عبد اللّه علیه السلام یقول : ثلاث یتزوجن علی کلّ حال . إلی أن قال : والتی لم تحض ، ومثلها لا تحیض .

قلت: ومتی یکون کذلک؟


1- وسائل الشیعة: الباب 2 من أبواب العدة، الحدیث 2 .
2- وسائل الشیعة: الباب 2 من أبواب العدد، الحدیث 3 ، 4 .
3- وسائل الشیعة: الباب 2 من أبواب العدد، الحدیث 3 ، 4 .

ص:313

قال: مالم تبلغ تسع سنین ، فإنّها لاتحیض ، ومثلها لاتحیض ، والتی لم یدخل بها(1)».

والظاهر تعدّد الروایتین ، کما أقرّ بذلک صاحب «الوسائل» ذیل هذا الحدیث .

ومنها : روایة مرسل عثمان ، عمّن رواه (زرارة) ، عن أبی عبد اللّه علیه السلام : «فی الصبیّة التی لا یحیض مثلها ، والتی قد یئست من المحیض؟

قال: لیس علیهما عدّة ، وان دخل بهما(2)» .

فعدم القدرة لا یکون إلاّ لعدم وجود الحیض لهما .

وفی «الجواهر» و«مصباح الفقیه» ، روایة أُخری وردت فیها قوله: «وفی بعضها : إذا کمل لها تسع سنین أمکن حیضها(3)» .

ولم نعثر فی «الوسائل» خبرا منقولاً بهذا المضمون ، نعم قد وجدنا خبرا مشابها له فی کتاب الوصایا ، وهو روایة عبد اللّه بن سنان ، عن أبی عبد اللّه علیه السلام ، قال: « . . . . وإذا بلغت الجاریة تسع سنین فکذلک ، وذلک أنّها تحیض لتسع سنین»(4) .

وکیف کان ، فقد عرفت دلالة الأخبار المتعدّدة علی الحکم المذکور ، وفیما ذکرناه من الاخبار غنی وکفایة .

والظاهر کون المراد بما قبل التسع هو الحقیقی ، کما علیه المحقّق فی «المعتبرة» والعلاّمة فی «المنتهی» ، والنراقی فی «المستند» ، وصاحب «الجواهر» و«مصباح الفقیه» .

وما احتمله بعض فقهائنا مثل صاحب «نهایة الأحکام» علی ان المراد منه


1- وسائل الشیعة: الباب 3 من أبواب العدد، الحدیث 3 _ 5 .
2- وسائل الشیعة: الباب 3 من أبواب العدد، الحدیث 3 _ 5 .
3- الجواهر: 3/142 .
4- وسائل الشیعة: الباب 44 من أبواب أحکام الوصایا، الحدیث 12 .

ص:314

التقریبی دون الحقیقی لیس علی ما ینبغی ، لأنّ اصالة الحقیقة تقتضی ذلک ، فیحمل علیها ، حتّی تقوم القرینة علی خلافها .

ثمّ أنّ صاحب «الجواهر» قد تعرّض هنا للبحث عن المراد من السَنّة والشهر فی الاخبار التی وردت فیها الاشارة الی تسع سنین ، خلافا لآخرین ، حیث قد تعرضو لهذه الأبحاث الثلاثة فی محل آخر ، مثل البحث عن أنّ أقلّ ایام الحیض ثلاثة أو عشرة أیام أکثره ، أو فی أقامة العشرة ، وعن مدة الخیار فی وغیرها ، وکیف کان لا باس بذکره هنا تبعاً لصاحب «الجواهر قدس سره » .

قال رحمه الله : «الظاهر أنّ المراد بالسَنّة حصول الدور إلی ذلک الوقت من الیوم الذی ولدت فیه ، من الشهر المعیّن ، کأن ولدت مثلاً عند الظهر من الیوم الخامس من رجب ، فإذا دار الدور إلی خصوص ذلک الوقت ، من ذلک الیوم ، فتلک سَنّة ، وهکذا . ولا یقدح فی ذلک التلفیق ، کما لا یقدح نقیصة الاشهر وزیادتها ، والمحکّم فی ذلک العرف ، فتکون حینئذ کلّها هلالیّة ، لأنّ ذلک هو الأصل فی الشهر والسَنّة ، لقوله تعالی: «یَسْئَلُونَکَ عَنِ الاْءَهِلَّةِ»(1)»(2) انتهی محلّ الحاجة .

اقول : لقد أجاد فیما أفاد هنا ، وفی اشباه هذه المسألة التی وردت فیها الاشارة الی السنین مثل الخمسین أو الستّین فی الیائسة القرشیّة أو غیرها ، بل لا یبعد کون الحقیقة فی الاستعمال تقتضی بأن یلاحظ فی السَنّة جمیع الأیام والاشهر ، بل الساعات المعتبرة فیها ، حتّی یکون المقصود من السنة من أوّلها إلی آخرها .


1- سورة البقرة: آیة 189 .
2- الجواهر : ج3 ، ص142 .

ص:315

إلاّ أنّ دعوی ذلک فی جمیع الموارد والاستعمالات المشابهة لذلک غیر مسموعة ، لأنّا نشاهد خلاف ذلک فی بعض الموارد ، ولو لأجل وجود القرینة مثل اطلاق ثلاثة أیام أو أکثر فی باب الاعتکاف ، حیث أنّ الیوم عنوان یشتمل الیوم واللیلة دون کسر او نقص ، ولکن برغم ذلک نری الاطلاق علی الاقل منهما مما قد اعتبره الشارع شرطا فی تحقّق الاعتکاف المعتبر فیه البقاء فی المسجد مستمرّاً ، بمقدار ما اعتبره الشارع .

کما إنّا نشاهد اطلاق الأیام بخصوص الیوم الکامل ، بلا اعتبار لدخول اللیل فیها فی الصیام ، حیث نری أنّة یعتبر لمن نذر صوم ثلاثة أیام ، هو الامساک ثلاثة أیام من نهارها دون دخول اللیل فیه ، فإنکَ تری صحّة اطلاق الأیام علی البیاض ، بلا دخول لیل فیه ، مع أنّة لا یصحّ حمل ذلک علی مثل من یقول : أنا آتیکَ بعد ثلاثة أیامٍ ، حیث یصحّ اطلاقه مع انضمام اللیل الیه ، وکذلک یصح اطلاقه إذا أتی فی اقل من یوم بان جاء قبل الغروب بساعة أو ساعتین بل ساعات ، فهذه کلها تصیر دلیلاً علی أنّ صحّة الاطلاق علی حسب الموارد مختلفة ، وان لم یکون بعضها بحقیقة ، فالمتّفق أن یصحّ فی بعضها دون بعض .

اما الذی لایصّح فیه الاطلاق مثل المقام ، وثلاثة الحیض وعشرته ، وثلاثة الخیار ، وعشرة الاقامة ، وأجل المتوفّی عنها زوجها ، والعدّة وأمثال ذلک .

والثانی الذی یصح فیه الاطلاق هو: کالصوم فی شهر الصیام ، أو الاعتکاف ، بحیث یصحّ الانکسار والنقص فیه ، کما عرفت فی مثل قوله : «آتیک بعد ثلاثة أیام ، أو أعطنی إلی ثلاثة» ، حیث یصدق الثلاثة حتّی لو مضی علیه یومین أو منتصف الیوم الثالث ، وذلک لوجود التسامح فی الصدق کما لا یخفی .

إذا عرفت ذلک فلنرجع إلی أصل المطلب ، حیث قد عرفت أن رؤیة الدم قبل

ص:316

بلوغ التسع لیس بحیض ، ولو کان بصفاته .

اعتراض : وهو أنّه کیف یصحّ ما ذکر مع أنه قد قیل بأنّ کون الدم بصفات الحیض دلیلٌ علی بلوغها ، ومن ناحیة أنّ الدم قبل البلوغ لم یکن حیضاً ولو کان بصفاته؟

بل قد یقال : إنّه مستلزم للدور ، حیث لا یُعرف البلوغ إلاّ بعد احراز کونه دم الحیض ، لأنّه من علامات البلوغ ، ومن جهة اخری لا یُعرف کونه حیضاً إلاّ بعد العلم بکونه بعد البلوغ ، فیلزم توقّف احراز البلوغ علی البلوغ ، وهو دور باطل .

هذا ، ولکنّه مندفع بتفاوت الموردین ، اذ أن مورد عدم کون الدم حیضاً قبل البلوغ یکون فیمن یعلم تاریخ ولادتها ، فلا یحکم بکونه حیضاً ، ولا یکون مثله علامة للحیضیّة .

والمورد الآخر کان فیمن یجهل تاریخ ولادتها ، فحینئذ یصحّ جعل الدم المتدفق منها المشتمل علی صفات الحیض ، کونه حیضاً ، وینقطع بذلک أصالة عدم البلوغ تسعاً ، بل اغلب النساء یعرفن دم الحیض ، بمثل ما یعرفن البول والغائط .

ولابدّ فی الحکم بالحیضیّة احراز تسع سنین ، الصادق علیه البلوغ ، فلو لم ینطبق علیه ذلک ، ولم یصدق علیه البلوغ ، فلا یحکم بالحیضیّة ، وإنْ صدق علیه البلوغ العددی بعشر سنین ، لأجل ضمیمة الإنکسار فی الجانبین إلیه قبل وصوله إلی وقت الولادة .

وهذا ، خلافاً لبعض اصحابنا حیث سلّم فی مثله کون دمه حیضاً ، مع أنّه لا یناسب مع ما هو المعروف بینهم ، من أنّه یعتبر ویشترط فی کون الدم حیضاً ، بلوغ التسع واحرازه ، بل لا یجری فیه قاعدة الإمکان التی سیأتی بحثها ، لأنّ موردها إنّما یکون فیما لا یکون جهة البلوغ مجهولة ، لأنّ الشکّ فی حصول الشرط مساوقٌ لعدمه بواسطة الأصل ، کما لا یخفی علی من لاحظ القواعد .

ص:317

وقیل : فیما یخرج من الجانب الأیمن (1).

(1) یقصد المصنّف قدس سره بقوله هذا ، أنّه کما أنّ الدم الخارج قبل التسع لایعدّ حیضا ، کذلک لایعدّ حیضا اذا کان الدم خارجا من الجانب الأیمن ، وبما أنّه نسبه إلی القیل ، فأنّه یدلّ علی توقّفه قدس سره فیه ، لکن القول المنسوب إلیه هو المشهور ، نقلاً وتحصیلاً ، بل وفی حاشیة الوحید قدس سره علی «المدارک» نقل اتفاق المتقدّمین والمتأخّرین علیه .

وهنا قولان آخران وهما:

فی أحکام الحیض / اشتباه دم الحیض بدم القرحة

أحدهما : الحکم بالحیض علی الدم الخارج من الجانب الأیمن ، والقرحة علی ما خرج من الجانب الأیسر ، عکس الأوّل .

وحکی ذلک عن الاسکافی من القدماء ، والشهید فی «الدروس» و«الذکری» واختاره فقیه عصره کاشف الغطاء فی کتابه ، بل وعن «کشف الرموز» حکایته عن ابن طاووس ، وهو اختیار الشهید الأوّل فی «البیان» .

وثانیهما: هو التوقّف ، وعدم ملاحظة الجانب أصلاً ، ولزوم الرجوع إلی الأصل والقواعد ، کما هو مختار المصنّف ، والعلاّمة فی «المختلف» ، والشهید الثانی فی «المسالک»، والاردبیلی وصاحب «المدارک»، وصاحب «الحدائق قدس سرهم ».

هذه هی الأقوال فی المسألة ، ولا بأس بذکر الأدلّة التی استند الیها کلّ واحد من اصحاب هذین القولین :

فأمّا الدلیل علی القول الأوّل : فهو الروایة التی رواها الشیخ فی «التهذیب» باسناه عن محمد بن یحیی العطّار ، رفعه عن أبان ، قال: «قلت لأبی عبد اللّه علیه السلام :

ص:318

فتاة منا بها قرحة فی فرجها ، والدم سائل ، لا تدری من دم الحیض أو من دم القُرحة؟ فقال: فلتستلق علی ظهرها ، ثمّ ترفع رجلیها ، وتستدخل أصبعها الوسطی ، فإن خرج الدم من الجانب الأیسر ، فهو من الحیض ، وان خرج من الجانب الأیمن فهو من القرحة(1)» .

ومنها : النص المنقول فی «فقه الرضا» ، قال: «وان اشتبه علیها دم الحیض ودم القرحة ، فربّما کان فی فرجها قرحة ، فعلیها أنْ تستلقی علی قفاها ، وتدخل أصابعها ، فإن خرج الدم من الجانب الأیمن ، فهو من القرحة ، وإنْ خرج من الجانب الأیسر ، فهو من الحیض»(2) .

ومثله النص الذی نقله المفید فی «المقنع(3)» .

فالروایة الأُولی ، وانْ کانت مرفوعة ، إلاّ أن سندها تامة _ علی ما فی «الجواهر» _ مضافاً إلی انجبارها بالشهرة المحصّلة والمنقولة ، بل نسبه المحقّق فی «جامع المقاصد» إلی الأصحاب ، کما انها مؤیدة بفتوی مثل الصدوق ، ناقلاً لها عن رسالة والده إلیه ، وفتوی الشیخ فی «النهایة» التی قیل إنّها متون الأخبار ، کرسالة علی بن بابویه ، فإنّه علی ما قیل إنّهم کانوا إذا أعذرتهم النصوص رجعوا إلیها وأمثالها .

بل قد أیّد صاحب «الجواهر» هذا القول بالروایة التی رواها عن شرحبیل الکندی عن أبی عبد اللّه علیه السلام ، قال: «قلت له : کیف تعرف الطامث طهرها؟ قال:


1- وسائل الشیعة: الباب 16 من أبواب الحیض، الحدیث 2 .
2- المستدرک: الباب 14 من أبواب أحکام الحیض ، الحدیث 1 و2 .
3- المستدرک: الباب 14 من أبواب أحکام الحیض ، الحدیث 1 و2 .

ص:319

تعمد برجلها الیسری علی الحائط ، وتستدخل الکرسف بیدها الیمنی ، فإن کان ثمّ مثل رأس الذباب خرج علی الکرسف»(1) .

وقد لاحظت أن المنصوص قوله : «تعمد برجلها» ، وهناک ضبط آخر للحدیث وفیه : «رفعت رجلها الیُسری» ، هذا فضلاً عن أنّ صدور الخبر حسب نقل «الجواهر» ، هو : «أنّ الحائض إذا أرادت أنْ تستبرئ ألصقت . . .» ، لکن لم یرد هذا النقل فی «الوسائل» .

هذا مجموع ما یمکن أن یستدلّ ، دلیلاً أو تأییداً لهذا القول ، مع ما یرد علیه بعد ملاحظة دلیل القول الثانی ، حیث قد استدلّوا بروایة الکلینی فی «الکافی» وهو مطابقٌ لما ورد فی «التهذیب» ، إلاّ أن المنصوص فیه قوله : «فإن خرج الدم من الجانب الأیمن ، فهو من الحیض ، وانْ خرج من الجانب الأیسر فهو من القُرحة(2)» .

وهذا النص یکون عکس السابق ، بل قد أیّده صاحب «الجواهر» بمرسلة یونس ، عمّن حدّثه ، عن أبی عبد اللّه علیه السلام ، قال: «سئل عن امرأة انقطع عنها الدم فلا تدری أطهرت أم لا؟ قال: تقوم قائماً ، وتلزق بطنها بحائط ، وتستدخل قطنة بیضاء ، وترفع رجلها الیمنی ، فإن خرج علی راس القطنة مثل رأس الذباب دمٌ عبیط لم تطهر ، وإنْ لم یخرج فقد طهرت ، تغتسل وتصلّی»(3) .

مع أنّکَ تعلم بأنّ التمسّک بمثل مرسلة یونس أو شرحبیل لاثبات کلّ من القولین مشکلٌ ، لما قد عرفت من التفاوت فی نقل صاحب «الجواهر» مع النص


1- وسائل الشیعة: الباب 17 من أبواب الحیض، الحدیث 3 .
2- وسائل الشیعة: الباب 16 من أبواب الحیض، الحدیث 1 .
3- وسائل الشیعة: الباب 17 من أبواب الحیض، الحدیث 2 .

ص:320

المنقول فی «الوسائل» ، الموجب للتردّد فی وحدتهما ، مضافاً إلی معارضة الحدیثین مع حدیث ثالث لم یرد فیه ذکر جانبی الأیمن أو الأیسر ، وهو حدیث سماعة ، عن أبی عبد اللّه علیه السلام ، قال: «قلت له : المرأة تری الطهر ، وتری الصفرة ، أو الشیء فلا تدری أطهرت أم لا؟ قال: فإذا کان کذلک ، فلتقم فلتلصق بطنها إلی حائط ، وترفع رجلها علی حائط ، کما رأیت الکلب یصنع إذا أراد أن یبول ، ثمّ تستدخل الکرسف ، فإذا کان ثمّة من الدم مثل رأس الدباب خرج ، فإن خرج دمٌ فلم تطهر ، وأن لم یخرج فقد طهرت»(1) .

حیث أنّه قد ذکر لزوم رفع الرجل لأجل اختبار الدم ، من دون الاشارة الی الیمنی أو الیسری ، حیث یفهم من قوله إنّ رفع الرجل لم یکن إلاّ لأجل امکان ادخال الکرسف فی الفرج من دون خصوصیّة فی الیمنی أو الیسری ، وإلاّ لکان ینبغی أن یذکر .

فجعل مثل هذه الأحادیث مؤیّداً للمراد ، کما قد تفرّد بذلک صاحب «الجواهر» قدس سره ، لا یخلو عن وهن ، فالأُولی جعل محور البحث فی غیر هذه الأحادیث ، کما لا یخفی .

فیبقی الدلیل دائرا مدار مرفوعة أبان ، علی حسب اختلاف النقلین فی «التهذیب» و«الکافی» ، وحیث أنّ التعارض فی النقل بینهما فی غیر المقام _ یقتضی _ علی حسب دیدن الفقهاء _ الحکم بتقدیم نص «الکافی» علی نص «التهذیب» ، لأنّه قد اعتُبر الکلینی قدس سره أضبط من الشیخ رحمه الله وأنّ «التهذیب» یتضمن السقطات علی ما هو المذکور فی «الحدائق» ، بقوله : «وفیه : أنّه لا یخفی


1- وسائل الشیعة: الباب 17 من أبواب الحیض، الحدیث 2 .

ص:321

علی من راجع «التهذیب» وتدبّر أخباره ، ما وقع للشیخ رحمه الله به من التحریف والتصحیف فی الأخبار ، سنداً ومتناً ، وقلّما یخلو حدیثٍ من أحادیثه من علّة فی سند أو متن» .

إنتهی محل الحاجة .

فعلی هذا یکون الأصل هو لزوم تقدیم قول الثانی عن الأوّل ، لکونه موافقاً للخبر الذی نقله الکلینی فی «الکافی» الذی عُدّ أضبط عند الفقهاء ، وسلامة ما ینقله من الخلل بالنسبة إلی ما یحکیه الشیخ رحمه الله .

ولکن المشهور رفعوا أیدیهم عن هذا الأصل فی المورد ، وحکموا بتقدیم ما فی «التهذیب» علی النص المنقول فی «الکافی» ، ووجهوا فعلهم بانّ فتوی الشیخ فی «النهایة» و«المبسوط» مطابقٌ لما نقله ، مضافاً إلی أنّ ما حکاه الشیخ مطابقٌ لفتوی القدماء من الشیعة ، مثل الصدوق فی «الفقیه» و«المقنع» وصاحب «المهذّب» و«السرائر» و«الوسیلة» ، ثمّ یتبعهم من کان متأخّراً عنهم ، مثل صاحب «الجامع» و«القواعد» و«الارشاد» و«جامع المقاصد» ، حتّی الشهید الأوّل فی آخر تالیفه وهو «البیان» _ علی ما نقله سیّدنا الخوئی فی «التنقیح» _ عاد عن رأیه ، بعدما کان فتواه فی «الدروس» و«الذکری» موافقاً لنقل الکلینی فی «الکافی» ، بل أدّعی فی «الذکری» أن کثیرأً من نسخ «التهذیب» موافقة لروایة الکلینی .

بل صرح فی «الذکری» بأنّ أبن طاوس نسب کون الحیض من الأیسر إلی بعض نسخ «التهذیب» الجدیدة ، وقطع بأنّه لایعتمد علی مثل هذه النسخ لوجود السقط فیها . ولذلک تری أنّ المحقّق یصرح فی «المعتبر» بأنّ الروایة مقطوعة مضطربة لا أعمل بها .

ص:322

لکن انکر جمیع ذلک صاحب «الجواهر» وقال : «ویدفع ذلک کلّه أنّه لو سلّم اضبطیّة الکلینی ، إلاّ أنّ الظاهر أنّ الشیخ فی خصوص المقام أضبط لما عرفت ، وبه یندفع الاضطراب ، إذ لا وجه له مع وجود المرجّح بل المرجّحات .

وما نقله الشهید عن کثیر من نسخ «التهذیب» کالظاهر من ابن طاوس من نسبته الی القدیمة لم نتحقّقه ، وینافیه فتوی الشیخ فی «المبسوط» و«النهایة» بما سمعت ، وعدم ذکر أحد من المحشّین علی «التهذیب» لها _ علی ما نقل _ مع أنّ دیدنهم التعرّض لمثل ذلک ، وانْ کانت نادرة ، ومن هنا نُقل عن بعض المحقّقین أنّه قال اتّفقت نسخ «التهذیب» علی المشهور»(1) ، إنتهی محل الحاجّة .

خصوصاً مع ما عرفت من مطابقته لفتوی من کان متقدّماً علی الشیخ ، ورجوع الشهید عمّا قاله أولاً فی «البیان» ، فان جمیع هذه الامور یوجب الاطمئنان فی الجملة علی تقدیم ما فی «التهذیب» ، لا سیّما مع موافقة فتواه لما ورد فی «فقه الرضا» ، حیث یمکن أن یکون تأییداً أو مرجّحاً لهذا القول ، ولذلک تری أنّ المتأخّرین کصاحب «الجواهر» وصاحب «مصباح الفقیه» و«مصباح الهدی» و«العروة» وکثیراً من أصحاب التعلیق ، عملوا بمضمون الخبر المروی فی «التهدیب» ، هذا فضلاً عن ان اعراض المشهور عمّا فی «الکافی» ، واقبالهم بالعمل علی مانقله الشیخ فی «التهذیب» یوجب وهن الأوّل ، وترجیح الثانی .

وان احتاطوا کثیراً بواسطة تدافع النقلین ، مع اتّحاد الراوی والمروی عنه والروایة ، ویعدّ المورد من قبیل تعارض النسختین ، وصیرورته من قبیل تعارض الحجّة واللاحجة ، لا من قبیل تعارض الدلیلین المفروغ عن دلیلیّتهما ، حیث


1- الجواهر: 3/145 .

ص:323

یعمل فیها علی طبق قاعدة التعارض من الترجیح أو التخییر ، لوضوح أنّه من موارد العلم بتکاذب أحدهما ، فیکون التعارض بین الحجّة واللاحجّة ، فلا یأتی هنا حینئذٍ قاعدة الاختبار ، وتعارض الأخبار ، کما اشار إلی ذلک شیخنا الأعظم قدس سره ، والأمر کذلک بعد التأمّل والدقّة .

ثمّ أنّ المحقّق الخوئی رحمه الله قد أتعب نفسه لتضعیف روایة الشیخ التی هی مستند فتوی المشهور ، وذلک عن طریق تضعیف سند الشهید ، حیث قد بیّن دوران الأمر بین نقل الشیخ مع الواسطة عن محمد بن یحیی العطّار ، نقلاً من کتابه ، وبین نقل الکلینی نفسه عنه بلا واسطة ، لکون العطّار یعدّ من طبقه مشایخه ، فمن المستبعد وقوع الاشتباه فی ما لا واسطة له دون ما فیه الواسطة .

ثمّ بحث عن أنّ نقل الشیخ عن العطّار لایکون الاّعن طریقین:

أحدهما: نقل الشیخ عن الکلینی .

والآخر : نقل الشیخ عن أحمد بن محمد بن یحیی .

فعلی هذا یمکن أن یکون الاشتباه من جهة أنّ الشیخ قد عثر علی ما یرویه عنه غیر ما کان فی نقل الکلینی ، فتصیر الروایة من قبیل اشتباه الروایة لغیرها ، فلا یثبت شیء من الروایتین ، لعدم العلم بثبوت ما هو المروی حقیقةً ، وأنّه هل المروی هو ما فی نسخة «الکافی» أو ما فی نسخة «التهذیب» ، فلا یمکن الحکم بثبوت شیء منها(1) .

انتهی کلامه بتصرف منا منه .

ولکن بعد التأمّل یظهر أنّ ماذکره غیر تام ، اذ لیس المقام من الموارد الذی


1- التنقیح: 6/136 .

ص:324

ذکره رحمه الله ، لأنّه إنّما یصحّ ما ذکره لو کان سند الخبرین المحتملین منحصراً بما فی النقلین ، ولم یکن قبلهما فتوی من الفقهاء مطابقاً لأحدهما ، فإذا وجدنا بأنّ الفتوی قبل الشیخ کان مطابقاً لما رواه بعد ذلک وافتی علی طبقه ، فیظهر منه أحد الأمرین : أمّا وجود نسخة قدیمة من «الکافی» تکون نصها موافقا لما فی «التهذیب» ، ثمّ حدث تحریف فیها اخیرا فی ، کما قیل .

أو کانت النسخة من أوّل الأمر محرفة ، ولم یعتمد علیها الفقهاء ، وکان عندهم نسخة اخری موافقة لما فی «التهذیب» .

کما یؤیّده ما فی «فقه الرضا» و«المقنع» المستقاة نصیهما من نصوص الاخبار ، وقد کان الفقهاء یرجعون إلیها عند أعواز النصوص .

ومع ذلک کلّه ، فلو لم نسلّم ما ذکرنا من ترجیح نصّ «التهذیب» ، وترّدد الأمر بینهما ، وصار من قبیل تعارض الحجّة مع اللاحجّة ، فحینئذٍ یسقط کلاهما عن الحجیّة بالتعارض ، وبعد تساقطهما یکون المرجع هو الأدلّة .

هذا هو الوجه للقائلین بالتوقّف ، کالمحقّق والعلاّمة والمقدّس الأردبیلی وصاحب «المدارک» و«الحدائق» ، خصوصاً مع تأیید کلامهم بالاعتبار بأنّ الحیض یخرج من الفرج کلّه ، خصوصاً إذا کان بحرانیّاً ، ولا یکون له موضع خاص ، ومکان معیّن من الفرج ، من الأیمن أو الایسر .

بل نقل عن النراقی رحمه الله ، أنّه قد سَئل عن بعض النساء العارفات بامور الحیض ، فاجبن بما اشیر الیه فی المقام وتصدیقهنّ لما أُشیر الیه .

ومن جمیع ما ذکرنا یظهر قوة القول بلزوم التوقف ، والرجوع إلی القواعد والأُصول هنا ، کما هو القول الثالث من الفقهاء .

فحینئذ یأتی الکلام فی القاعدة التی یجب ملاحظتها بعد التعارض والتساقط ،

ص:325

فلابأس بنقل کلام المحقّق الآملی فی «مصباحه» حیث قال ما لفظه: «وبعد تساقطهما یکون المرجع هو الأصل العلمی الحکمی ، لا عمومات ادلّة التکالیف ، ولا قاعدة إمکان الحیض ، ولا الأُصول الموضوعیّة العلمیّة ، لکون الرجوع إلی العمومات فی المقام ، من قبیل الرجوع إلی العام فی الشبهات المصداقیّة ، بالنسبة إلی المخصّص ، حیث لا یعلم حال هذه المرأة فی کونها حائضاً ، فتکون من افراد المخصصّ ، أو طاهرة عن الحیض لکی تشملها حکم العام .

والعلم الإجمالی بتخصیص قاعدة الإمکان بالخارج عن أحد الجانبین ، فإنّ الخارج من الأیسر محکومٌ بکونه من القرحة علی نسخة «الکافی» ، والخارج من الأیمن محکوم ، بکونه منها علی نسخة «التهدیب» ، ومن المعلوم أنّ الخارج من کلّ واحد من الجانبین فی حدّ نفسه ، مورد لقاعدة الإمکان ، فهی مخصّصة بما یخرج من أحد الجانبین ، ومع العلم بتخصیصها بما یخرج من أحد الجانبین ، لا یمکن التمسّک بها فی أثبات الحیض فی شیء من الطرفین .

والأصل الموضوعی الجاری فی المقام ، هو استصحاب عدم الحیض ، وهو أیضاً کقاعدة الإمکان ، مخصّصٌ بما یخرج من أحد الجانبین ، وإنْ لم یعلم به تعیّناً ، فلا یمکن التمسّک به فی شیء من الطرفین .

فینحصر المرجع إلی الأصل الحکمی فی المقام ، وهو قاعدة الاحتیاط ، لکون الشکّ فی المکلّف به ، للعلم بتعلّق التکلیف بالحائض والطاهرة ، مع الشکّ فی کون هذه المرأة حائضاً أو طاهرة ، فیجب علیها الجمع بین التکلیفین ، کما فی مثل الحاضر والمسافر ، إذا علم بتعلّق ذمّته بأحد التکلیفین به ، أو مثل العلم الإجمالی بوجوب صلاة الظهر أو الجمعة فی یوم الجمعة»(1) . إنتهی کلامه .


1- مصباح الهدی: 4/407 .

ص:326

وما ذکره من وجه الاحتیاط جیّد ، علی فرض تأیید کلتا النسختین بواسطة اصالة عدم الخطأ ، ووجود القصد فی النقل فی کلیهما ، واعتبار کلّ واحد بواسطة اعتضاده بنقل الفتاوی من الاعلام ، مع العلم الإجمالی بانه لم یصدر من الامام علیه السلام الاروایة واحدة مردّدة بین النقلین ، فلا محیص إلاّ العمل بالاحتیاط بواسطة وجود نصّ صحیح ، أو کالصحیح من حیث الاعتبار ، من جهة الشهرة أو کالشهرة ، لولا ذلک لأمکن الاشکال فیما ذکره ، فی عدم جواز الرجوع إلی العمومات ، لکونه من قبیل الرجوع إلی العام فی الشبهة المصداقیّة ، لأنّه إنّما یصحّ هنا علی مَن ذهب بکون العام المخصَّص (بالفتح) صار بالتخصیص ذا عنوان ، یعنی یصیر قوله : «اکرم العلماء» بعد تخصّصه بالفسّاق معنوناً بوجوب اکرام العلماء العدول ، فلیس یصحّ ما ذکره بأنّ الرجوع إلی العام فی المصداق المشکوک کونه فاسقاً ، یکون من قبیل الرجوع إلی العام فی الشبهة المصداقیّة له .

وأمّا إذا لم نقل بذلک ، وکان العام المخصّص بعد التخصیص باقیاً علی عمومه واطلاقه فی غیر المخصّص ، فلا بأس حینئذ بالرجوع إلیه فی الشبهة المصداقیّة للمخصّص ، وإجراء حکم العام علیه .

والمقام یعدّ کونه من هذا القسم ، لولا ورود دلیل خاص یوجب الشکّ فیه ، مع وجود علم اجمالی بالتخصیص بأحد الوجهین کما أشار إلیه .

فمع ملاحظة الذی ذکرناه ، کان التخلّص هو طریق الاحتیاط ، کما علیه الأعلام والمحقّقین ، وهو مختارنا ، فی التعلیقة علی «العروة» .

ویشهد علی ما ذکرنا ، صحّة الرجوع إلی عموم دلیل حکم المرأة ، مع الشکّ فی کونها حائضاً ، لو کان الدم خارجاً من کلّ جانب من الفرج ، ولم نقل بقاعدة الإمکان ، أو کان فی مورد ، ولا یمکن الرجوع إلی قاعدة الإمکان لفقد بعض

ص:327

شرائطها ، فلیتأمّل .

ثمّ لا یخفی علیکَ أنّ التردّد فی کون الدم الخارج حیضاً أو قرحة ، یتصوّر علی أقسام وهی :

تارة : مع عدم علمها بالحالة السابق ، وترددها فیها لأجل الغفلة أو النسیان .

وأُخری : مع العلم بها .

ثمّ انه بناءً علی الفرض الثانی : أمّا أنّ تعلم طهارتها عن الحیض ، بأن یکون الشکّ بعد العلم بوجود القرحة وخروج الدم عنها فی حدوث الحیض بعدها ، بأحد نحوین : أمّا بتبدّل دم القرحة بدم الحیض ، أو بوجوده فیه ، بان اختلط دم القرحة مع دم الحیض .

أو تعلم بکون الحالة السابقة حیضاً ، ویکون الشک فی زواله ، عند خروج دم القرحة .

فلا إشکال فی أن مقتضی القاعدة _ لولا الدلیل _ هو الرجوع إلی الأصل العملی من البراءة أو الاحتیاط ، فی صورة عدم العلم بالحالة السابقة ، ولزوم الرجوع الی أصالة عدم الحیض فی صورة العلم بالطهارة ، وإلی اصالة بقاء الحیض واستصحابه ، فی صورة العلم بالحیضیّة ، فلا یرفع الید عن ذلک إلاّ بمقدار ما دلّ الدلیل علی خلافه ، من وجود الفحص فی جمیعها أو فی بعض الصور .

فعن المحقّق الآملی فی «المصباح» دعوی ورود الدلیل فی خصوص التی تشکّ فی حدوث الحیض بعد القرحة ، بأحد النحوین ، من التبدّل أو الاحتیاط ، دون غیره ، ففی غیره یرجع إلی مقتضی القواعد من الأصل الحکمی أو الموضوعی .

أقول : وما ذکره لا یخلو من قوّة ، لأنّ مفاد الحدیث المستفاد من قوله : «فتاة منّا بها قرحة فی جوفها ، والدم سائلٌ لا تدری من دم الحیض أو من دم القرحة؟ . . . .» .

ص:328

هوانه قد فرض فیه وجود القرحة لدی الشکّ ، ومتعلّق الشکّ قد یکون أزید من الاثنین ، لأنها لاتدری أنّه دم حیض فقط ، أو دم قرحة فقط ، أو معاً بالاختلاط ، ولکن مع ملاحظة جواب الامام علیه السلام حیث ذهب الی لزوم ملاحظة الجانبین من الیمین والیسار ، دفع احتمال الاختلاط بین الدمین .

فکأنّ الإمام علیه السلام أراد فی الجواب بیان الحالتین ، من خروج الدم بکونه من الحیض ، أو من القرحة ، علی حسب اختلاف النسختین ، فالاحتیاط خارج عن الفرض ، لأنّه لابدّ أن یفرض فیه صورة خروج الدم من کلا جانبی الفرج ، وإلاّ لو خرج الدم من أحد الجانبین ، فانه یلحق بخصوص ذی العلامة ، فیخرج عن کونه دمٌ مختلطٌ ، کما لا یخفی .

فإذا لم یشمل الحدیث غیر الصورة المذکورة ، فلابدّ فی غیرها من اعمال القواعد ، فإذا عرفت بأنّ الحکم فی اختلاف النسختین ، کان تقدیم الجانب الأیسر فی کونه حیضاً علی ما فی نسخة «التهذیب» ، ومع قبول التعارض والتساقط یکون الرجوع إلی الاحتیاط ضروریا کما علیه النص ، وقد اشرنا الی انه یمثل رأینا ایضا .

ولکن هذا صحیح لو قلنا بحرمة الصلاة علی الحائض تشریعاً لا ذاتاً .

وأمّا علی القول بالحرمة الذاتیّة ، فانّه تصیر المسألة من قبیل دوران الأمر بین المحذورین ، من الوجوب أو الحرمة ، فیجب الأخذ بالأرجح بینهما ، لو کان فی البین ما یرجّح احدهما ، والا فان الحکم هو التخییر ، فاطلاق الحکم بالاحتیاط کما فی عبارة «العروة» لا یخلو من تأمّل ، واللّه العالم .

بحث : أنّه علی فرض قبول الجانب ، أی أنّ قلنا بمقالة المشهور فرضاً _ کما هو مختارنا _ أو بمقالة غیرهم من اعتبار خروج الدم من الجانب الأیسر

ص:329

للحیض ، علی الأوّل ، واعتبار الخروج الدم من الجانب الأیمن علی الثانی ، فهل هو مختصّ بصورة الاشتباه مع القُرحة ووجودها ، أو یکون الجانب معتبراً فی الحکم الحیضیّة مطلقاً ، أی ولو لم یکن مشتبهاً مع القرحة؟

والذی یظهر من صاحب «الجواهر» _ ونسبه إلی ظاهر المصنّف وصریح غیره _ هو الثانی بناءً علی تقریرنا ، بأن یکون الجانب ملاکاً للحکم مطلقاً بالوجود والعدم فی الحیضیّة ، یعنی إذا خرج الدم من الجانب الأیمن ، لا یحکم بحیضیّته علی المشهور ، سواء کان المورد مشتبهاً مع القرحة أو لا .

ولذلک تری أنّ المصنّف قد عطف خروج الدم من الجانب الأیمن ، علی خروج الدم قبل التسع ، من دون تقییده بکون المورد من الاشتباه بین الحیض والقرحة ، فلازم هذا القول هو الحکم بعدم الحیضیّة ، حتّی حال عدم وجود القرحة ، وانه لاحاجة لان یراجع فیها ویلاحظ الصفات ، ولا الاعتماد علی قاعدة الإمکان ، مع أنّه لولا ذلک لکان مقتضی القاعدة هو الرجوع إلی الصفات أو قاعدة الإمکان .

ولعلّ وجه القول بذلک ، هو الأخذ باطلاق الجواب ، وعدم ملاحظة موضوع السؤال ، حیث کان مورده مختصّاً بوجود القرحة من دون وجود اطلاق له ، لأنّ العبرة بعموم الوارد لا بخصوص المورد .

بل قد یؤیّد الاطلاق ، أنّ القرحة لا اختصاص لها بموضعٍ خاص ، ومکان معیّن فی الفرج ، إذ ربّما یمکن تحقّقها فی الطرف الأیسر ، فحیث لم یلاحظ الإمام علیه السلام هذا الإمکان ، وحکم بالاختبار مطلقاً ، وجعل الملاک فی الحکم بالحیضیّة هو خروج الدم من الجانب الأیسر ، وبالقُرحة خروجه من الجانب الأیمن ، فانه حکمه لا یخلو عن أحد الوجهین .

ص:330

أمّا أنّه علیه السلام کان فی مقام بیان الإمکان ، وابلاغ علمه علیه السلام بذلک ، بأنّه لا تتحقّق القُرحة فی الفرج إلاّ فی الطرف الأیمن .

أو بیان الحکم بهذه العلامة مطلقاً ، ولو تقییداً ، إنْ کان أصل الإمکان غیر مردّد واقعاً ، إلاّ أنّه لا یعتنی به شرعاً .

وعلی أی تقدیر یکون العمل علی طبق اطلاق الجواب ، لا علی خصوص مورد السؤال .

فما قیل : من إنّه لعلّ هذه الصفة کانت کغیرها من الصفات ، منشأها الغلبة ، فلا ینافیها تخلّفها فی الحکم بالحیضیّة فی غیر مورد الشبهة ، إذا خرج الدم من الأیمن بمقتضی قاعدة الإمکان .

یدفعه ، بأنّه علی فرض تسلیم تحکیم قاعدة الإمکان ، فی مسلوب الصفات ، فی غیر ما دلّ الدلیل علی الرجوع الی القاعدة ، أنّه یثبت تخلّف القاعدة لما ورد من الحکم بکون الصفرة والکدرة حیضاً فی أیام الحیض ، بخلاف ما نحن فیه ، حیث لم یحکم هنا بالرجوع إلی القاعدة ، عند الخروج من الجانب الأیمن .

وکیف کان ، فان هذا إنّما یصحّ بالنسبة إلی الجانب الأیمن فی الحکم بعدم کونه حیضاً مطلقاً ، بخلاف حال خروج الدم من الجانب الأیسر ، الذی قد حکم بالحیضیّة فی حال الاشتباه مع وجود القرحة ، حیث لا یحکم بالحیضیّة مطلقاً ، حتی یتمیز بغیر دم القرحة ، إذ لیس فی الأدلّة ما یدلّ علی عدم خروج غیر الحیض من الجانب الأیسر ، فلازم ذلک أنّ الخروج من الأیسر لا یوجب الحکم بالحیضیّة ، إلاّ فی صورة الاشتباه مع القرحة .

وعلیه یصحّ لمن خرج دمه عن الجانب الأیسر ، إذا لم یشتبه مع القُرحة ، أن یرجع إلی ملاحظة الصفات ، أو قاعدة الإمکان ، _ إنْ تحقّق أحدهما _ فیه والحکم بالحیضیّة وإلاّ فلا ، وللّه العالم .

ص:331

ثمّ لا یخفی علیکَ أن جمیع ما ذکرناه ، کان فیما اذا وجدت القُرحة ، ثمّ عرض له الشکّ فی کون الدم حیضاً أو قرحة ، وأمّا لو شکّ فی أصل وجود القرحة ، ولأجله شکّ فی کونه حیضاً أو قرحة ، فلا یبعد کون المقام حینئذ مثل ما لو شکّ فی وجود البکارة والافتضاض ، مع خروج الدم ، حیث قد عرفت فی موضعه أنّه لا یکون داخلاً فی مورد النصّ ، فلابد فیه من الرجوع إلی الصفات وقاعدة الإمکان ، فکأنّ المقام هنا أیضاً کذلک ، کما لا یخفی .

فما ذکره صاحب «الجواهر» من التأمّل فیما ذکرناه فی المسألة المتقدّمة ، من صحة سریان کثیر ممّا ذکرناه هناک فی المقام ، منها إمکان جریان اعتبار هذا التمییّز مع الشکّ فی أصل وجود القرحة ، کما ذکرناه فی العُذرة ، لا یخلو عن إشکال ، کما انه رحمه الله کان قد صرح هناک بان الاقوی عدم الوجوب ، فراجع کلامه .

فالحقّ یکون مع بعض مشایخه ، ولعلّه لذلک أمر بالتأمّل .

ثمّ الظاهر أن الکلام فی مخرج الحیض وموارده ، هو ما تقدّم فی مخرج سائر الأحداث ، ویجری الکلام فی کونه مخرجاً بالاعتبار ، فیحکم علیه بحکمه ، وفی غیره بعدمه ، لو لم یقطع بکونه حیضاً .

ویشهد له فی الجملة _ أی إمکان تحقّق الحیض من الدبر _ ما نشاهد فی أخبار السلفعیّة _ وهی التی تحیض من دبرها _ مثل ما رواه المفید رحمه الله فی «الاختصاص» والصفار فی «البصائر» باسنادهما إلی بکّار بن کردم ، وعیسی بن سلیمان ، عن أبی عبد اللّه علیه السلام ، قال : «سمعناه وهو یقول : جائت امرأة شنیعة إلی أمیر المؤمنین ، وهو علی المنبر ، وقد قتل أباها وأخاها ، فقالت: هذا قاتل الأحبّة ، فنظر إلیها ، فقال لها: «یا سلفع . . . إلی أن قال : یا التی لا تحیض کما تحیض النساء . . .»(1) .


1- المستدرک: الباب 36 من أبواب الحیض ، الحدیث 10 .

ص:332

وأقلّ الحیض ثلاثة أیّام ، وأکثره عشرة أیّام ، وکذا أقل الطهر (1).

وروایة الصدوق فی «علل الشرائع» فی حدیثٍ عن جابر بن عبداللّه الأنصاری ، فی حدیثٍ ، أن النبیّ صلی الله علیه و آله وسلم قال لعلیّ علیه السلام : «یا علی لا یبغضکَ . . . ولا من النساء إلاّ سلقلقیّة وهی التی تحیض من دُبرها»(1) .

وفی «القاموس» : السلقاق ، التی تحیض من دبرها .

ثمّ أنّ الشیخ الأعظم الأنصاری قدس سره فی «طهارته» نقل عن «کشف الغطاء» : الحاق الجُرح بالقرح ، معلّلاً بعدم التمییز بینهما فی الباطن ، وبأنّهما فی المعنی واحد .

وفی «مصباح الفقیه» : وفیه نظرٌ ظاهرٌ .

ولا یخفی أنّ مقصود کاشف الغطاء من صورة الشکّ بینهما _ کما یوهم تعلیله _ عدم التمییز بینهما فی الباطن .

وقد عرفت منّا صورة الشکّ فی وجود القرحة ، ولأجل الاشتباه بینها وبین الجرح ، أنّه لا یجری فیه حکم وجود القرحة قطعیّاً ، لما قد عرفت کون ظهور الدلیل فیما یقطع وجود القرحة فی الفرج ، فلا یشمل ما لو کانت مشکوکة وإن قصد الإلحاق ، لأجل أن الجرح قرحٌ فی الواقع کما یوهمه جملته الثانیة .

فاشکاله واضحٌ للتفاوت بینهما عند العرف قطعاً ، فدعواه الاتحاد بینهما مما لا یُسمع ، کما لا یسمع دعوی أراده التعمیم من روایة القُرحة ، کما هو واضح بالتأمّل .

(1) ولا یخفی أنّ عبارته تتضمن ثلاثة امور ، یجب البحث عنها ، وهی :

الأمر الأوّل: کون أقلّ الحیض ثلاثة أیّام ، بحیث لا یحکم بالحیضیّة فی أقلّ


1- المستدرک: الباب 36 من أبواب الحیض ، الحدیث 10 .

ص:333

منها ، فقد أدّعی علیه الإجماع نقلاً وتحصیلاً ، بل قد یقال إنّ سیلان الدم فی الایام الثلاثة الاولی یعدّ من مقوّمات ماهیّة الحیض نصّاً واجماعاً ، فلا یعقل تحقّقها فی ضمن الأقلّ من الثلاثة .

فی أحکام الحیض / أقلّ الحیض و أکثره

الأمر الثانی : کون أکثره عشرة أیضاً یکون کذلک ، فلا عبرة بالزائد ، وهذا قام علیه الإجماع محصّلاً ومنقولاً مستفیضاً ، کاد أن یکون متواتراً ، علی حسب اختلاف التعابیر ، بلا خلافٍ کما عن «السرائر» ، بل علیه دعوی الاجماع کما عن «الخلاف» و«الغنیة» و«المنتهی» و«الذکری» و«التنقیح» و«جامع المقاصد» و«المدارک» وغیرها .

وعن «المعتبر» : أنّه مذهب فقهاء أهل البیت ، وعن «الأمالی» نسبته إلی دین الإمامیّة . بل وتدلّ علیهما السُنّة المتواترة المعتبرة ، التی فیها الصحیح وغیره ، فلا بأس بالإشارة الی بعضها وذکر الاخبار وملاحظة نصوصها وهی :

منها : مارواه معاویة بن عمّار فی الصحیح ، عن أبی عبد اللّه علیه السلام ، قال: «أقلّ ما یکون الحیض ثلاثة أیّام ، وأکثره ما یکون عشرة أیّام(1)» .

ومنها : روایة صفوان بن یحیی ، قال: «سألت أبا الحسن الرضا علیه السلام عن أدنی ما یکون من الحیض؟ قال: أدناه ثلاثة ، وأبعده عشرة»(2) .

ومنها : روایة أحمد بن محمد بن أبی نصر ، فی الصحیح ، قال: «سألت أباالحسن الرضا علیه السلام عن أدنی ما یکون من الحیض؟ فقال: ثلاثة أیام ، وأکثره عشرة»(3) .

ومنها : روایة مرسلة یونس ، عن بعض رجاله ، عن أبی عبد اللّه علیه السلام ، فی


1- وسائل الشیعة: الباب 10 من أبواب الحیض، الحدیث 1 .
2- وسائل الشیعة: الباب 10 من أبواب الحیض، الحدیث 13 و 6.
3- وسائل الشیعة: الباب 10 من أبواب الحیض، الحدیث 13 و 6.

ص:334

حدیثٍ طویل ، قال: « . . . . وإنْ تمّ لها ثلاثة أیام ، فهو من الحیض ، وهو أدنی الحیض ، ولم یجب علیها القضاء»(1) .

ومنها : روایة الصدوق ، فی حدیثٍ ، قال: «روی أنّ أقلّ الحیض ثلاثة أیام ، وأکثره عشرة ، وأوسطه (أوسطها) خمسة(2)» .

ومنها : ماراه الصدوق رحمه الله فی «العلل» و«عیون أخبار الرضا» و«الخصال» ، وهی مشابهة للخبر السابق .

ومنها : صحیح یعقوب بن یقطین ، عن أبی الحسن علیه السلام ، قال: «أدنی الحیض ثلاثة ، وأقصاه عشرة»(3) .

ومنها : روایة محمد بن مسلم ، عن أبی عبد اللّه علیه السلام ، قال: «أقلّ ما یکون الحیض ثلاثة . . .»(4) .

ومنها : روایة الخزّاز ، عن أبی الحسن علیه السلام ، فی حدیثٍ ، قال: «أقلّ الحیض ثلاثة وأکثرة عشرة» .

فهذه جملة أخبار تدلّ علی المطلوب ، ولعلّ المتتبّع یجد أکثر من ذلک ، مع أن فیما ذکرناه من الاخبار غنی وکفایة .

وبعد وضوح الحکم من ذلک إجماعاً ونصّاً ، فلابدّ من ملاحظة مایخالف تلک الاخبار من تأویل أو طرح لعدم مقاومتها للمعارضة مع ما عرفت ، وفی هذه الاخبار المعارضة صحیحة یونس بن یعقوب من ناحیة الکثرة ، حیث تدلّ علی جواز امتداد الحیض الی اکثر من عشرة ایام ، وکذلک مثلها حدیث أبی بصیر


1- وسائل الشیعة: الباب 10 من أبواب الحیض، الحدیث 13 - 15.
2- وسائل الشیعة: الباب 10 من أبواب الحیض، الحدیث 13 - 15.
3- وسائل الشیعة: الباب 10 من أبواب الحیض، الحدیث 13 - 15.
4- وسائل الشیعة: الباب 14 من أبواب الحیض، الحدیث 1 .

ص:335

کما سنذکرهما .

وممّا یعارض ما ذکرناه فی ناحیة الأقلّ من الثلاثة ، روایة مصحّحة حمید ، عن إسحاق بن عمّار ، قال: «سألت ابا عبد اللّه علیه السلام عن المرأة الحُبلی تری الدم الیوم والیومین؟ قال: ان کان الدم عبیطاً ، فلا تصلّ ذینک الیومین ، وإنْ کان صفرة ، فلتغتسل عند کلّ صلاتین»(1) .

منها : روایة سماعة بن مهران ، قال : «سألته عن الجاریة البکر ، أوّل ما تحیض ، فتقعد فی الشهر یومین ، وفی الشهر ثلاثة أیّام ، یختلف علیها ، لا یکون طمثها فی الشهر عدّة أیام سواء؟ قال : فإنّها أن تجلس وتدع الصلاة ، ما دامت تری الدم ، ما لم یجز العشرة ، فإذا اتّفق الشهران عدّة أیام سواء فتلک أیّامها(2)» .

وقد حمل الشیخ الروایة الأُولی المرویّة عن اسحاق بن عمّار ، علی ما إذا رأت الثلاثة فی جملة عشرة ، مع أنّ هذا الحمل لا یناسب مع ما ذهب إلیه القوم بأنّ الحیض لا یکن تحقّقه باقلّ من الثلاثة ثبوتاً ، مثل عدم تحقّقه قبل التسع أو بعد الیأس .

نعم ، قد یتفرّع علی هذا العنوان ثبوت أمر أخر ، وهو کون الثلاثة متوالیة متتابعة ، فلا یکفی بصورة الافتراق ، کما هو ظاهر عبارة القوم ، فعلیه لا یکفی ثبوت الدم بیومین ولو رأت بعد ذلک بفصل تحقّق الثلاثة ، فی ضمن خمسة أیام أو أزید .

فلا سبیل الا أن نطرح الخبر لکونه موهوناً بإعراض الأصحاب عنه ، فلازمه


1- وسائل الشیعة: الباب 10 من أبواب الحیض، الحدیث 13 .
2- وسائل الشیعة: الباب 14 من أبواب الحیض، الحدیث 1 .

ص:336

أن تعمل المرأة فی الیومین عمل المستحاضة ، رعایة للقاعدة ، من عدم إمکان الحیض ثبوتاً فی الأقل من الثلاثة .

أو یقال : إنّ غایته _ بعد کونه مصحّحة _ هو التعارض بینه وبین تلک العمومات السابقة ، فلا محیص من التخصیص بخصوص الحُبلی ، وکونها کذلک ، کما یساعده الاعتبار ، من جهة امکان احتباس دمّها لاغتذاء مافی بطنها ممّا یتّفق أن یفور ویخرج ، لکن فی أقل من ثلاثة ایام ، فلازم ذلک أن تعمل الحبلی بعمل الحائض ، من ترک ما یحرم علیها من العبادات المشترطة فیها الطهارة .

هذا بالنسبة إلی روایة حمید ، عن إسحاق بن عمّار .

وأمّا روایة سماعة _ مضافاً إلی کونها مضمرة ، غیر قادرة علی المقاومة مع تلک الأخبار ، _ فهی أنّه لا دلالة لها ظهوراً فی ناحیة الجواب ، بکون رؤیة الدم أقلّ من الثلاثة ، وإنْ فرض السائل فی سؤاله قعودها یومین ، ولکن الجواب الصادر من الامام لیس فیه اشارة الی هذه المدة ، بل أجاب عنه بصورة الاطلاق ، بقوله : «تجلس وتدع الصلاة مادامت تری الدم» ، حیث یشمل باطلاقه الصورة المذکورة فی السؤال ، بل وأقلّ منه وأکثر .

فلابد من تقیید هذا الخبر بتلک الأخبار العامّة ، لما قد عرفت من عدم إمکان تحقّق الحیض فی الأقل منها .

ولوسلّم ، فان غایة ما فی الباب حدوث التعارض بینه وبین تلک الأدلّة ، فلا إشکال فی تقدیم تلک ، لأجل کونها معمولاً بها عند الأصحاب ، دون هذا الخبر ، ولوسلّم اعتباره فانه یخصص تلک العمومات ویکون الخبر واردا فی خصوص الجاریة البکر فی ذلک ، فیلزم معاملتها معاملة الحائض .

هذا کلّه بالنسبة إلی کون أقلّ الحیض ثلاثة .

ص:337

کما لا یقاوم العمومات الدالّة علی کون أکثر الحیض عشرة أیام ، ما یدلّ علی خلاف ذلک من الاخبار الواردة الدالة علی إمکان کونه إلی ثلاثین یوماً ، وهو کما فی روایة صحیحة یونس بن یعقوب ، قال : «قلت لأبی عبد اللّه علیه السلام المرأة تری الدم ثلاثة أیام أو أربعة؟ قال: تدع الصلاة . قلت: أو أربعة (أیام)؟ قال: تدع الصلاة . قلت: فإنّها تری الطهر ثلاثة ایام أو أربعة؟ قال: تصلّی . قلت: فإنّها تری الدم ثلاثة أیام أو اربعة؟ قال: تدع الصلاة ، وتصنع ما بینها وبین شهر ، فان انقطع عنها الدم ، وإلاّ فهی بمنزلة المستحاضة(1)» .

منها : روایة أبی بصیر ، قال: «سألت أبا عبداللّه علیه السلام : عن المرأة تری الدم خمسة أیام ، والطهر خمسة ، وتری الدم أربعة أیام ، وتری الطهر ستّة أیام؟

فقال: إنْ رأت الدم لم تصلّ ، وإنْ رأت الطهرت صلّت ما بینهما وبین ثلاثین یوماً ، فإذا تمّت ثلاثون یوماً ، فرأت دماً صبیباً اغتسلت ، واستثفرت واحتشفت بالکُرسف فی وقت کلّ صلاة ، فإذا رأت صفرة توضّأت(2)» .

وقال صاحب «الوسائل» بعد نقل الخبرین: قال الشیخ : الوجه فی هذین الخبرین أن نحملها علی امرأة اختلطت عادتها فی الحیض ، وتغیّرت عن أوقاتها ، ولم یتمیّز لها دم الحیض من غیره ، أو تری ما یشبه دم الحیض أربعة أیام ، وتری ما یشبه دم الاستحاضة مثل ذلک .

قال : ففرضها أن تترک الصلاة کلّما رأت ما یشبه دم الحیض ، وتصلّی کلما رأت ما یشبه دم الاستحاضة إلی شهر .


1- وسائل الشیعة: الباب 6 من أبواب الحیض، الحدیث 2.
2- وسائل الشیعة: الباب 6 من أبواب الحیض، الحدیث 2.

ص:338

وقال المحقّق فی «المعتبر» : هذا تأویلٌ لا بأس به .

ولا یقال : الطهر لا یکون أقل عن عشرة .

لأنّا نقول : هذا حقٌّ ، ولکن هذا لیس بطهر علی الیقین ، ولا حیضاً ، بل هو دمٌ مشتبه ، فعمل فیه بالاحتیاط)(1) ، انتهی .

وقال صاحب «الجواهر» : «وعلیه یحمل ما فی «الفقیه» و«المبسوط» ، وعن «المقنع» و«النهایة» من الفتوی بذلک ، ولعلّه لم یفهم العلاّمة من «الاستبصار» ما ذکرنا ، بل تخیّل أنّه استثناء من الحکم ، بأنّ أقلّ الطهر عشرة ، ولذا توقّف فیه فی «المنتهی» ، أو لأنّ القاعدة تقتضی فی مثل ذلک التحیّض بالدم الأوّل ، وکل ما یمکن من غیره إلی العشرة ، وما عداه استحاضة .

لکن لا یخفی علیکَ أنّة لا وجه للإعتماد علیها ، بعد معارضتها لما سمعته من صریح القول به عندهم ، فتأمّل جیّداً(2)» .

ولا یخفی علیکَ أنّ هذین الخبرین مشتملان علی ما یخالف القاعدة فی الأمرین :

أحدهما : هو الحکم بحیضیّة الدم بأکثر من عشرة ، حیث جاء فیها قوله : «فإنّها تری الدم ثلاثة أیام أو أربعة» ، وفی الأخیرة : «إلی ستّة عشرة أیام» .

وثانیهما : جواز کون الدم حیضاً قبل التخلّل بالنقاء بعشرة أیام ، الذی هو أقلّ الطهر . مع أنّ کلا الأمرین بما هو ، لها دخلٌ فی مقام الثبوت للحکم بالحیضیّة ، علی حسب ما حکم به الفقهاء .

اللّهمّ إلاّ أن یقال : بأنّ هذه القاعدة لیست قاعدة عامّة فی جمیع الموارد ، وإنّما


1- وسائل الشیعة: ج 2، ص 545 .
2- الجواهر: 3/148 .

ص:339

تجری بعد تحقّق العادة للمرأة التی لم تکن مضطربة فی بدایة رؤیتها لدم الحیض ، وإلاّ یجوز ذلک حتّی مع فقد هاتین القاعدتین وذلک لدلالة هذین الخبرین .

فی أحکام الحیض / أقلّ الطهر

ولعلّ هذا هو مراد صاحب «الحدائق قدس سره » حیث قال : «لا یجوز أن یکون الطهر فی الأقل من العشرة فی نحو الحیضتین المستقلّتین ، إلاّ بعد إکمال العدد ، لا ما فهمه صاحب «الجواهر» ، وجعل وجه کلامه لأجل عدم اشتراط التوالی فی الثلاثة ، إذا کانت فی جملة العشرة» .

اقول : هذا الاستثناء جیّد ، لو أمکن اثباته من جهة الأدلّة ، فلا یبعد القول به مع ذهاب جماعة من الأعلام کالشیخ والمحقّق والصدوق من الافتاء بذلک إعتماداً علی هذین الخبرین ، فلا أقلّ من الحکم بالاحتیاط ، وبالجمع بین تروک الحائض وأعمال المستحاضة ، حتّی لا یستلزم طرح الخبرین فی خصوص مورد النصّ لا مطلقاً ، واللّه العالم .

بل قد یستفاد من بعض النصوص ، جواز کون أکثر الحیض أزید من العشرة ، أو کون أکثرها ثمانیة أیام .

فأمّا الأوّل _ مضافاً إلی ما عرفت من الاخبار التی مرت ذکرها _ هو روایة مرسلة یونس فی حدیثٍ طویل ، عن غیر واحدٍ سألوا أبا عبد اللّه علیه السلام عن الحیض والسُنّة فی وقته ، إلی أن قال : «وکذلک لو کان حیضها أکثر من سبع ، وکانت أیّامها عشراً أو أکثر ، لم یأمرها بالصلاة وهی حائض»(1) .

والکلام فیها کما ناقشنا غیرها .

وأمّا الثانی ، فهو حدیث عبد اللّه بن سنان ، عن أبی عبد اللّه علیه السلام ، قال : «إنّ


1- وسائل الشیعة: الباب 8 من أبواب الحیض، الحدیث 3 .

ص:340

أکثر ما یکون من الحیض ثمان ، وأدنی ما یکون منه ثلاثة(1)» .

وجاء فی «الوسائل» : أقول : «ذکر الشیخ أنّ الطائفة أجمعت علی خلاف ما تضمّنه هذا الحدیث ، من أنّ أکثر الحیض ثمان ، وأنّ ذلک لم یعتبره أحد من أصحابنا ، ثمّ حمله علی إمرأةٍ تکون عادتها ثمانیة ایام . وقال صاحب «المنتقی» : المتجه حمله علی ارادة الأکثریّة بحسب العادة والغالب لا فی الشرع ، والأمر کذلک ، فإنّ بلوغ العشرة علی سبیل الاعتیاد غیر معهود» ، إنتهی .

ومن الواضح أنّه اذا ثبت إجماع الطائفة علی خلافه ، فانه یوجب صیرورة الخبر موهوناً ، فلا محیص بحمله علی صورة کون الغالب من عادة النساء هو کذلک ، لاالشرع ، لما شاهدت من الأخبار الکثیر التی دلت علی أنّ غایة ایام الحیض من جهة الکثرة هو العشرة ، وکونها معمولاً بها عند الأصحاب .

بل الإجماع أیضاً قائم _ کما ادعاه فی «الانتصار» و«الخلاف» و«المنتهی» و«التذکرة» و«الذکری» و«الروض» وغیرها من تصانیف المتأخرین _ علی أن أقلّ الطهر عشرة _ لدلالة الأخبار علیه ، وبعضها معتبرة ، مثل صحیح الحلبی ، عن محمد بن مسلم ، عن أبی جعفر علیه السلام ، قال : «لا یکون القُرء فی أقلّ من عشرة أیام ، فمازاد أقلّ ما یکون عشرة من حین تطهر إلی أن تری الدم(2)» .

ورواه الشیخ باسناده ، عن أحمد بن محمد ، عن صفوان مثله .

ومرسلة یونس عن بعض رجاله ، عن أبی عبد اللّه علیه السلام ، قال : «أدنی الطهر عشرة أیام . . . إلی أن قال : ولا یکون الطهر أقلّ من عشرة أیام(3)» .

وروایة أُخری لمحمد بن مسلم ، عن أبی عبد اللّه علیه السلام ، قال : «وإذا رأت الدم


1- وسائل الشیعة: الباب 10، من أبواب الحیض، الحدیث 14 .
2- وسائل الشیعة: الباب 11 من أبواب الحیض، الحدیث 1 ، 2 .
3- وسائل الشیعة: الباب 11 من أبواب الحیض، الحدیث 1 ، 2 .

ص:341

وهل یشترط التوالی فی الثلاثة ، أم یکفی کونها فی جملة العشرة؟ الأظهر الأوّل (1).

بعد عشرة أیام ، فهو من حیضة أُخری مستقبلة(1)» .

هذا اذا أُرید من العشرة عشرة الطهر .

وکیف کان ، لا إشکال ولا خلاف ثبوتاً ، عدم إمکان الحکم بالحیضیّة المستقبلة ، إلاّ بعد مضی عشرة أیام ، أی لا یمکن فی الأقلّ منها .

وأمّا فی الأکثر ، فالمستفاد من ظاهر حدیث محمد بن مسلم ، الوارد فیه قوله علیه السلام : «فما زاد» حیث لم یذکر له حدّ ، یفهم أنّه لا حدّ للأکثر فی الطهر ، کما هو مشهور بین الأصحاب ، بل قد حکم العلاّمة علیه بالإجماع ، کما نفی عنه الخلاف ابن زهرة فی «الغنیة» وهو کذلک .

نعم ، قد نُقل عن أبی الصلاح فی تحدیده بثلاثة أشهر ، ممّا لابدّ أن یحمل علی الغالب من الأفراد ، لا التحدید الشرعی ، کما استظهره منه العلاّمة فی «المختلف» وجزم به الشهید فی «الذکری» ، وإلاّ فان حکمه بظاهره غیر مقبول ، بل غیر ممکن ، إذ من الواضح أنّه لا یمکن الالتزام بالحیضیّة ما لم تر دماً ، فالتحدید لا یمکن إلاّ لمن تری الدم ، کما لا یخفی .

(1) بعد وضوح الحکم وأنّ أقلّ الحیض ثلاثة ، وأکثره عشرة ، وأقل الطهر عشرة ، یأتی الکلام فی أنّ الثلاثة التی أخذت فی أقل الطهر ثبوتاً ، هل یشترط فیها التوالی والاستمرار فی الدم فی الثلاثة ، أم لا؟


1- وسائل الشیعة: الباب 11 من أبواب الحیض، الحدیث 5.

ص:342

توضیح ذلک : ای لو نقص الدم عن الثلاثة المتوالیة ولو بساعة ، فهل یحکم بحیضیّته ، فضلاً عمّا لو رأت بیوم فقط ، ثمّ فی الیوم الثالث ، ثمّ الخامس ، حیث لا یمکن الحکم بالحیضیّة بالنسبة إلی الیوم الأوّل ولا الثالث لعدم واجدیّته للشرط وهو التوالی ، أم لا؟

فی أحکام الحیض / اعتبار التوالی فی الثلاثة

وهذا الأخیر هو مختار المشهور نقلاً وتحصیلاً ، بل قد یظهر من «الجامع» نفی الخلاف عنه ، حیث قال : «ولو رأت یومین ونصفاً وانقطع ، لم یکن حیضاً ، بلا خلاف بین أصحابنا» .

بل وهو خیرة «الهدایة» و«الفقیه» ، ناقلاً له عن رسالة والده ، ومختار الشیخ فی «المبسوط» و«الجمل والعقود» و«اشارة السبق» و«السرائر» و«الجامع» و«المعتبر» و«النافع» و«المنتهی» و«القواعد» و«المختلف» و«التحریر» و«الارشاد» و«الذکری» و«الدروس» و«اللمعة» و«البیان» و«جامع المقاصد» ، بل عن سائر تعلیقاته ، و«الروضة» و«المدارک» و«الذخیرة» و«شرح المفاتیح» و«الریاض» .

بل قد یستفاد من ظاهر قول أبی الصلاح فی «الوسیلة» و«الغنیّة» ، وهو المنقول عن علم الهدی ، وابن الجنید ، وصاحب «الجواهر» ، و«المصباح» للهمدانی ، و«مصباح الهدی» للآملی ، تبعاً للسیّد فی «العروة» .

بل هومختار جمیع اصحاب التعلیق علی «العروة» إذ قلّ منهم من خالف ذلک .

هذا أحد الأقوال فی المسألة .

والقول الثانی : هو عدم اشتراط التوالی فی الثلاثة ، بل یکفی فی الحکم بالحیضیّة ، کون الثلاثة فی جملة العشرة ، فعلیه لو رأت الدم فی الیوم الأوّل ، ثمّ انقطع عنها ورأت فی الیوم الثالث ، ثمّ انقطع ورأت فی الیوم السابع ، ثمّ انقطع ورأت فی الیوم التاسع ، فانه یحکم بان الدم حیض ، لأنّها قد رأت ثلاثة أیام

ص:343

وأزید فی جملة العشرة .

بل یکفی فی الحکم بالحیضیّة من رؤیة الدم فی الیوم الأوّل والسابع والتاسع ، مع تخلّل النقاء فی أوساطها ، لتحقّق الشرطة من وقوع الثلاثة فی جملة العشرة ، فیحکم بحیضیّة جمیع تلک الأیام ، دون النقاء المتخلّل بین الأیام ، کما عن بعض التصریح بذلک مثل «الروض» .

هذا ، کما عن «النهایة» و«الاستبصار» و«المهذّب» وظاهر «مجمع البرهان» ، وصریح «کشف اللثام» و«الحدائق» ناقلاً له عن بعض علماء البحرین ، والحرّ العاملی فی رسالته .

فالثلاثة علی هذا القول لابدّ أن تکون خلال الایام العشرة ، خلافاً لبعض آخرین من الحکم بالحیضیّة فی الجمیع .

والقول الثالث : هوأنّه لا یشترط توالی الثلاثة ، ولکن لا یعتبر کون الثلاثة فی جملة العشرة ، بل یکفی الثلاثة ، ولو فی أزید من العشرة ، إذا لم یتخلّل بین کلّ دم رأته أقلّ الطهر وهو عشرة أیام .

وقد ذهب الی هذا القول صاحب «الحدائق قدس سره » .

بل قد یقال : بأنّ الظاهر التزامه بإمکان حصول حیضة واحدة فی ضمن واحد وتسعین یوماً ، بأن تری فی کلّ رأس عشرة أیاماً ، فیکون مجموع زمان حیضها عشرة ، وهی أکثر الحیض ، وأمّا الأیام المتخلّلة التی لم تر فیها دماً ، فلیست عنده من الحیض ، بل یجب علیها فی هذه الأیام الصلاة والصوم وغیرهما من العبادات المشروطة بالطهارة .

وهذه هی الأقوال الثلاثة فی المقام والمهمّ حینئذ بیان النصوص والأدلّة الإجتهادیّة فی المسالة ، ثمّ ملاحظة ما یقتضیه الأدلّة الفقاهتیّة من الأُصول

ص:344

والقواعد ، فنقول ، ومن اللّه الاستعانة وعلیه التکلان : إنّه لابد اولاً من ذکر أدلّة القائلین بالقول الأوّل ، ثمّ ملاحظة ما یعارضه من الأدلّة ، فقد استدلّ للمشهور بأُمور وهی:

الأمر الأوّل: الأخبار الواردة المعتبرة فی المقام وهی :

منها : صحیحة معاویة بن عمّار ، عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال : «أقلّ ما یکون الحیض ثلاثة أیام ، وأکثره ما یکون عشرة أیام(1)» .

ومنها : صحیحة صفوان بن یحیی ، قال: «سألت أبا الحسن الرضا علیه السلام عن أدنی ما یکون من الحیض؟ فقال: أدناه ثلاثة وأبعده عشرة»(2) .

ومنها : صحیحة یعقوب بن یقطین ، عن أبی الحسن علیه السلام ، قال: «أدنی الحیض ثلاثة وأقصاه عشرة»(3) .

والأخبار الواردة بهذا المضمون أکثر من ذلک ، وبأسرها صریحة فی أنّ زمان الحیض لا یقتصر عن ثلاثة أیام ، ولا یتعدّی عن العشرة .

والظاهر أنّ الحیض عبارة عن نفس الدم المعهود مسامحةً ، أو عن سیلانه کما قد مرّ ذلک فی صدر البحث .

فالروایات مسوقة لتحدید مدّة سیلان الدم المذکور ، فکأنّه فی مقام بیان أنّ مدّة خروج دم الحیض لا تقصر عن الثلاثة ، ولا تزید عن العشرة ، فاطلاق الحیض علی المرأة یکون بلحاظ الصفة الحادثة فی الحائض عن اتّصافها بالحائضیّة وإن أمکن ، إلاّ أنّه مجازٌ لا تحمل الروایات علیه ، إلاّ مع وجود قرینة تدلّ علیه .


1- وسائل الشیعة: الباب 10 من أبواب الحیض، الحدیث 1 ، 2 ، 10 .
2- وسائل الشیعة: الباب 10 من أبواب الحیض، الحدیث 1 ، 2 ، 10 .
3- وسائل الشیعة: الباب 10 من أبواب الحیض، الحدیث 1 ، 2 ، 10 .

ص:345

فعلی هذا أیضاً _ أی ارادة المعنی المجاز من الروایات تکون الاخبار مسوقة لبیان زمان إمکان الاتّصاف بهذه الصفة ، لا لبیان مدّة خروج دم الحیض من حیث کونه دم الحیض ، فهی أیضاً تدلّ بالالتزام علی أنّ مدّة خروج دم الحیض ، لا تقتصر عن ثلاثة أیام ، لأنّ اتّصاف المرأة بهذه الصفة إنّما هو باعتبار سیلان دمها، وإلاّ فقبل الرؤیة ولو بدقیقةٍ، وکذا بعد الانقطاع، لاتعدّ بحائض قطعاً .

فالحکم بحائضیّتها مع النقاء المتخلّل فی بعض الموارد ، لابدّ أن یکون حکمیّاً لا حقیقیّاً .

والحاصل : أنّ المنساق والمتبادر من مجموع هذه الروایات _ بعد التأمّل فی مضمونها ، وکذا فیما سیأتی بعضها _ هو أنّه یعتبر فی صدق دم الحیض أن تکون مدّة خروجه ثلاثة أیام ، وهی أدناه ، أی لا یتحقّق إلاّبها ، فإن استمرّ الدم وامتدّ زمان خروجه حتّی بلغ العشرة ، فکلّها حیض ، وإنْ انقطع قبل العشرة ، وبعد انقضاء الثلاثة ، فکلّها حیض ، ولکن إنْ انقطع قبل تمامیّة ثلاثة أیام فلیس بحیض ، کما أنّه لو استمرّ حتّی تجاوز العشرة ، فلا یکون الزائد عنها حیضاً .

ویفهم منه بالالتزام أنّه لو انقطع الدم فیما بین الحدّین ، بان انقطع الدم فی وسط الحیض فهو یعدّ حیضا ، لکن هذا الحیض المتخلل لایستفاد حیضیته من تلک الروایات ، لأنّه لا تدلّ علی أزید من کون دم الحیض هو ما رأته مستمرّاً بثلاثة أیام أو أربعة کذلک .

وأمّا الرؤیة بعد الانقطاع قبل العشرة ، فهو حیضٌ بلا إشکال ، إمّا کونه هو الحیضة الأُوّلی أو الثانیة ، فقد یستفاد من دلیل آخر بأنّ الدم الخارج بین العشرة فهو من الحیضة الأُولی لا من حیض مستقل ، لأنّ إمکان صدق الحیضیّة علی الدم ، یکون أعمّ من کونه حیضاً مستقلاًّ أو من الأُولی ، استشعار ذلک من قوله :

ص:346

«واقصاه عشرة» ، بان المراد أقصی الحیض الذی ثبت وتحقّق ، لا ما یصدق علیه الحیض ، ولو من فرد آخر منه ، لا یخلو عن وجه .

والفرق بین هذا الاستشعار ، وبین استفادته من دلیل آخر ، هو أنه لو کان قد دلّ دلیل آخر علی کون الدم الواقع فی جملة العشرة حیضاً ، وملحقاً بالحیض الأُول فهو حیضٌ ، وانْ کانت رؤیة الدم بعد الثلاثة ، والانقطاع قبل العشرة بیوم أو یومین ، الذی هو أقل من الثلاثة .

هذا بخلاف ما لو استشعر ، فإنّه وان کان محکوماً بالحیضیّة أیضاً ، إلاّ أنّه حیث یکون أقلّ من ثلاثة أیام ، فلا یمکن أن یحکم بکونه حیضاً مستقلاًّ ، فلولا قیام دلیل آخر فربّما لا یعتمد علی مثل هذا الاستشعار ، فیوجب الحکم بعدم حیضیّته ، ولکن مع قیام دلیل آخر یمکن الحکم بأنّه حیضٌ ، وملحق بالحیض الاول ، ولو کانت الرؤیة بیوم ، فیکون هذا الدلیل الآخر حاکماً علی دلیل لزوم کون الحیض فی الثلاثة ، فیثبت إمکان کون الحیض بأقلّ من ثلاثة أیام ، إذا وقع الدم فی ضمن العشرة وبعد ثلاثة أیام .

وهذه الدعوی لیست لمجرّد دعوی تبادر کون أیام الحیض متوالیة ، کما قیل ، بل لوجوب کون مجموع الدم السائل حیضة واحدة ، وهذا یتوقّف علی استمرار الدم ، واتّصال أجزائه بعضها ببعض عرفاً ، بحیث لا یتخلّل بینها زمان یعتد به ، وإلاّ فلکلّ جزء بنفسه فردٌ مستقل لرؤیة الدم وله حکمه ، إلاّ أنْ یدل الدلیل تعبّداً علی عدم الاعتناء بالفصل ، وکون المجموع بنظر الشارع فرداً واحداً .

والحاصل : أنّ الحکم بکون المرأة حائضاً فی مجموع العشرة _ إذا رأت الدم فیها فی الجملة ، وبعد الایام الثلاثة المتوالیة ، وإنْ تخلّل بالنقاء _ حکم تعبّدی شرعی ، لانها تعدّ من جهة الأدلة حائضا حکماً _ لا حقیقیة _ من جهة دلالة الأدلّة

ص:347

الخارجیّة الدالة علی أنّ عود الدم فیأثناء العشرة بمنزلة استمراره ، لا کونها مراداً من الأخبار المبنیّة لزمان امکان خروج دم الحیض من حیث الطول والقصر .

مضافاً إلی ما قد عرفت ، من أنّه إذا کان اسناد صفة الحیض الی المرأة من جهة خروج الدم وسیلانه ، فحینئذ إذا قیل فی مثله أن أدناه ثلاثة أیام ، أی أدنی خروج الدم واستمراره الموجب للحکم بالحیضیّة ، یکون ثلاثة ، کذلک یکون الحکم فی طرف أقصاه _ أی العشرة _ أیضاً ، أی نحکم به لولا وجود دلیل خارجی یدلّ علی خلافه فی ناحیة الزائدة ، والحکم بالحیضیّة حتّی مع النقاء المتخلّل ، إذا کان فی أثناء العشرة ، والحاقها بالحیضة الأُولی لو کانت أقلّ من ثلاثة أیام ، إذا کانت فی الأثناء .

وبناءً علی ماذکرنا یکون المقام فی الاسناد ، مثل ما لو نذر الناذر السکوت خلال ثلاث ساعات ، حیث لا یفهم منه إلاّ الاستمرار لا مطلقاً .

هذا بخلاف ما لو نذر صوم ثلاثة أیام ، حیث قد علّق الحکم بعدّة أفعال غیر مرتبطة بعضها مع بعض بنفسه ، إلاّ أن یتذکّر ، إذ کلّ یوم مستقل عن صوم یوم آخر ، وهذا بخلاف ما لو علّق قصده ونذره بأمر مرتبط بعضها ببعض ، مثل أن یقصد اقامة عشرة أیام فی بلدٍ ما ، حیث یفهم منه الارتباط والاستمرار ، إلاّ أن یدلّ الدلیل علی عدم اضرار بعض أفراد الخروج بساعة أو ساعتین ، لأجل المسامحة العرفیة ، أو وجود دلیل تعبّدی یفید عدم اضرار هذا الخروج ، فالاستمرار فی هذه الموارد مستفاد من نفس الدلیل .

ولعلّ هذا هو مراد من تمسّک بالتبادر هنا للدلالة علی لزوم الاستمرار ، أی مع وحدة متعلّق الحکم لا مطلقاً ، کما تری عدم ذلک فی مثل نذر صوم ثلاثة أیام ، حیث یصحّ ولو مع التفریق ، بخلاف ما لو تعلّق هذا النذر باعتکاف فی ثلاثة

ص:348

أیام ، حیث لا یصحّ إلاّ مع الاستمرار ، فالفارق واضح للمتأمّل .

وممّا ذکرنا ظهر فساد من قال إنّه لو استفدنا اعتبار الاستمرار فی الایام الثلاثة فی الحیض ، من قوله : «أدناه ثلاثة أیام» ، فلابدّ من القول باعتبار الاستمرار أیضاً فی قوله : «وأقصاه العشرة» ، لوحدة التعبیر ، مع أنّه غیر معتبر فیه قطعاً .

وجه الفساد : هو ما عرفت من صحة هذا الدعوی الصحیحة ، لولا وجود دلیل خارجی من النصّ والإجماع علی عدم اعتبار الاستمرار فی جملة العشرة ، واعتباره خلال الثلاثة ، کما لا یخفی .

الأمر الثانی : هوالتمسک بالنص الوارد فی «فقه الرضا» ، حیث ورد فیه التصریح بذلک ، والیک نصّه ، قال : «فإنّ رأت الدم یوماً أو یومین ، فلیس ذلک من الحیض ، ما لم تر الدم ثلاثة أیام متوالیات ، وعلیها أن تقضی الصلاة التی ترکتها فی الیوم والیومین» .

والروایة وان کانت ضعیفة بنفسها ، لولا الانجبار ، إلاّ أنّه مع وجود الشهرة بین الأصحاب ، وعملهم علی طبق هذا الموافق مع ما فهم من تلک الأخبار ، یکفی فی التمسّک بها تأییداً لا دلیلاً مستقلاًّ برأسه .

وما قیل فی ردّ الانجبار ، بأنّ الانجبار بفتوی المشهور یتم ما لم یکن استنادهم إلیها فی الفتوی ، لا یخلو عن اشکال ، کما عن «المصباح» للهمدانی قدس سره .

غیر مسموع ، لما ذکرنا کراراً بأنّ الانجبار لا یحتاج إلی الاستناد ، بل یکفی کون مضمونه معمولاً به عند الأصحاب ، کما أنّ اعراض الأصحاب عملاً یکفی فی وهنه .

الأمر الثالث : التمسک بالعمومات المثبتة للتکالیف ، مثل الصلاة والصوم وسائر العبادات المشروطة بالطهارة ، حیث تفید هذه الوجوب لکلّ مکلّف

ص:349

ومکلّفة ، حتّی المرأة التی رأت الدم ، وقد خرج من هذا العام _ تخصیصاً _ الحائض المعلوم حیضها ، وهی التی رأت الدم فی الثلاثة مستمرّاً ومتوالیاً فی طرف الأقلّ ، من دون أن تتجاوز دمها العشرة فی ناحیة الأکثر ، فتدخل غیر المستمر فی الثلاثة ، فی العمومات المثبته ، وهو المطلوب .

وقد أورد علیه المحقّق الهمدانی قدس سره ، بقوله: «وفیه : أنّ الأدلّة مخصّصة بالنسبة إلی من کانت حائضاً فی الواقع ، لا من علم حیضها ، والشکّ إنّما هو فی کون الفرد من مصادیق المخصّص أو العام ، وقد تقرّر فی محلّه عدم جواز التشبّث بالعمومات فی الشبهات المصداقیة . اللّهمّ إلاّ أن یقال : إنّ المخصّص مجملٌ مردّد بین الأقلّ والأکثر ، ففی ما عدا القدر المتیقّن ، نرجع إلی حکم العام فتأمّل»(1) انتهی کلامه .

أقول: إنّ ما ذکره المحقّق المزبور من عدم جواز الرجوع إلی العمومات عند الشکّ فی حیضیّة ما لا یکون متوالیاً من الأیام الثلاثة ، کان لأجل زعمه کون الشبهة والشکّ هنا من قبیل الشکّ فی الشبهة الموضوعیّة والمصداقیّة ، یعنی حکم الحائض بالخروج معلوم ، مثل مَنْ رأت الدم متوالیة وکان شکها فی أن من لم تستمر دمها خلال الثلاثة هل تشملها عمومات الادلة التی تقول انها حائض ، أم ان العمومات لاتشملها ولاتعدّ حائضا ، فتصیر الشبهة مصداقیّة ، ومن المعلوم حینئذ انه یجوز لها الرجوع إلی العام فی الشبهة المصداقیّة .

وهذا هو الذی یظهر من الشیخ الأعظم قدس سره فی کتابه «الطهارة» حیث حکم بانه لایجوز لها الرجوع إلی العمومات ، فلا جرم أن علیها ان ترجع إلی الأصل


1- مصباح الفقیه: 4/31 .

ص:350

الجاری فی المشتبه ، من الأُصول الموضوعیّة _ المنقّحة للموضوع _ أو الحکمیّة .

أو یحتمل أن یکون قول الهمدانی من جهة زعمه ان المورد یکون من قبیل الشبهة الحکمیّة ، حیث أن الشکّ حینئذ یکون فی حکم کلّی الدم الغیر المتوالی إلی بعد الانقطاع ، بخروج الدم المتوالی عنها .

فإذا کان الشکّ راجعاً إلی الشکّ فی مقدار التخصیص ، بعد العلم بتخصیص ما هو المتوالی ، فلا إشکال فی مثل ذلک ، من جواز الرجوع إلی عموم العام ، لأنّ عمومه بعد التخصیص حجّة لکلّ فرد من أفراد المشکوک من المخصّص ، اذا کان الشکّ راجعاً إلی الشکّ فی الحکم المخصّص ، إذ من المعلوم أنّ المرجع فی تحصیل حکم الدم الغیر المتوالی ، هو الشارع ، الذی قد بین لنا الحکم بواسطة العمومات ، کما أنّه هو المرجع فی حکم الدم المتوالی فی الثلاثة ، لأنّه هو الضابط فی الأحکام والشبهات الحکمیّة .

فعلیه ، یصحّ الرجوع إلی العمومات المثبته للحکم فی المرأة التی لم تستمر دمها فی الثلاثة ، والحکم علیها بوجوب العمل علی طبق وظیفة المستحاضة .

والأقوی عندنا هو الثانی ، کما علیه المحقّق الآملی فی «المصباح»(1) .

بل هو المستفاد من کلمات القدماء والمتأخّرین ، من تمسکهم بالادلة العامة _ کما قاله صاحب «الجواهر» نقلاً عنهم _ مثل عموم ما دلّ علی التکلیف بالصلاة والصوم ونحوهما من الکتاب والسُنّة ، کما تری التصریح بذلک من المحقّق القمّی فی کتابه المسمّی ب_ «الغنائم» ، حیث یفهم من کلماتهم أنّهم أیضاً ، استفادوا من الادلة کون المورد من قبیل الشبهة الحکمیّة لا الموضوعیّة ، واللّه العالم .


1- مصباح الهدی: 4/414 .

ص:351

إذا عرفت هذه الأُمور التی مرت ذکرها والتی دلت علی مدّعی المشهور ، من الحکم بشرطیّة التوالی فی الثلاثة ، وأن عدم اشتراطه فی العشرة یکون بمقتضی دلالة دلیل خارجی ، یدلّ علی أنّ ما لم یستمر إذا کان فی العشرة فهو من الحیضة الأولی ، ولکن إذا خرج عن العشرة ، وتخلّل النقاء بعدها وصارت طاهرة ثم رأت الدم ، یحکم بکونه حیضاً مستقلاًّ ، وجمیع ذلک کان بواسطة دلالة دلیل خارجی من النصّ والإجماع .

فبعد معرفة هذا الامر ، لابد من ملاحظة ما یدلّ علی خلاف ذلک _ أی عدم اشتراط التوالی فی الثلاث _ من الأخبار الواردة فی المقام ، وملاحظة التوفیق فی الجمع بینها ، بعد ثبوت المعارضة بین الطائفتین .

فنقول وباللّه الاستعانة : من الاخبار التی استدل بها علی هذه الدعوی ، مرسلة یونس التی ذکر صاحب «الوسائل» صدرها فی الباب العاشر وذیلها فی الباب الثانی عشر ، والیک نصّ الخبر : محمد بن یعقوب ، عن علیّ بن إبراهیم ، عن أبیه ، عن إسماعیل بن مرار ، عن یونس ، عن بعض رجاله ، عن أبی عبد اللّه علیه السلام ، قال: «أدنی الطهر عشرة أیام ، وذلک أنّ المرأة أوّل ما تحیض ، ربّما کانت کثیرة الدم ، فیکون حیضها عشرة أیام ، فلا تزال کلما کبرت نقصت حتّی ترجع إلی ثلاثة أیام ، فإذا رجعت إلی ثلاثة أیام ارتفع حیضها ، ولا یکون أقلّ من ثلاثة أیام ، فإذا رأت المرأة الدم فی أیام حیضها ترکت الصلاة»(1) .

و أمّا ذیل الحدیث الوارد فی الباب الثانی عشر من ابواب الحیض ، فهو قوله علیه السلام : «فإنّ استمرّ الدم ثلاثة أیام ، فهی حائض ، وان انقطع الدم بعدما رأته


1- وسائل الشیعة : الباب 10 من أبواب الحیض، الحدیث4 .

ص:352

یوماً أو یومین ، اغتسلت وصلّت ، وانتظرت من یوم رأت الدم إلی عشرة أیام ، فإن رأت فی تلک العشرة أیام ، من یوم رأت الدم یوماً أو یومین ، حتّی یتمّ لها ثلاثة أیام ، فذلک الذی رأته فی أوّل الأمر ، مع هذا الذی رأته بعد ذلک فی العشرة ، هو من الحیض . وإن صرّبها من یوم رأت الدم عشرة أیام ، ولم تر الدم ، فذلک الیوم والیومان الذی رأته لم یکن من الحیض ، إنّما کان من علّة ، أمّا قرحةٍ فی جوفها ، وأمّا من الجوف ، فعلیها أن تعید الصلاة تلک الیومین التی ترکتها ، لأنّها لم تکن حائضاً ، فیجب أن تقضی ما ترکت من الصلاة فی الیوم والیومین ، وإنْ تمّ لها ثلاثة أیام ، فهو من الحیض ، وهو أدنی الحیض ، ولم یجب علیها القضاء ، ولا یکون الطهر أقلّ من عشرة أیام ، فإذا حاضت المرأة ، کان حیضها خمسة أیام ، ثمّ انقطع الدم ، اغتسلت وصلّت ، فإن رأت بعد ذلک الدم ، ولم یتمّ لها من یوم طهرت عشرة أیام ، فذلک من الحیض ، تدع الصلاة ، فإن رأت الدم من أوّل ما رأته الثانی ، الذی رأته تمام العشرة أیام ، ودام علیها ، عدّت من أوّل ما رأت الدم الأوّل والثانی عشرة أیام ، ثمّ هی مستحاضة تعمل ما تعمله المستحاضة»(1) .

وباقی الحدیث فی الباب الرابع من ابواب الحیض ، فهو قوله علیه السلام : «وکلّ ما رأت المرأة فی أیام حیضها من صفرة أو حمرة ، فهو من الحیض ، وکلّ ما رأته بعد أیام حیضها فلیس من الحیض»(2) .

والکلام حول هذه الروایة یقع فی مقامین:

المقام الأوّل ، فی البحث عن سند الروایة :


1- وسائل الشیعة : الباب 12 من أبواب الحیض، الحدیث2
2- وسائل الشیعة : الباب 4 من أبواب الحیض، الحدیث 3.

ص:353

فنقول : ففی «الجوهر» بعد ذکر الأُصول والاطلاقات ، قال: «وقول الصادق علیه السلام فی مرسل یونس بن یعقوب(1)» .

مع أنّ المذکور فی أخبار الأبواب المتفرّقة فی «الوسائل» من الباب الرابع والخامس والعاشر والثانی عشر ، کان سنده هکذا : عن الکلینی ، عن علیّبن إبراهیم ، عن أبیه ، عن إسماعیل بن مرّار ، عن یونس ، عن بعض رجاله ، عن أبی عبداللّه علیه السلام .

ولم یذکر فی شیء منها کون یونس ابن یعقوب ، کما هو مذکور فی «الجواهر» ، واطلاق یونس ، یراد منه ابن عبد الرحمن ، کما تجد صدق مقالتنا بالمراجعة إلی کتب الرجال ، وکما صرّح بذلک المحقّق الأآملی فی «مصباحه» ، حیث قال : «مضافاً إلی أنّ الظاهر من یونس حیث أطلق ، ولم یقیید بأبن یعقوب ، هو عبد الرحمن(2)» .

فبعد الفراغ عن کون یونس ، هو عبد الرحمن ، یأتی البحث فی ارسال السند حیث ینقل یونس عن بعض رجاله ، فیکون السند ضعیفاً بذلک .

وقد أجاب عنه المحقّق الآملی ، بقوله : «وهذا لیس من المراسیل المشهورة ، لأنّه قد ذکر قبله بکونه فی «الکافی» ، وما فی «الکافی» کافٍ ، مضافاً إلی ما ذکره بعده بقوله : فإنّ الظاهر من کلمة : (عن بعض رجاله) هو الرجال الذین کانوا معتمدین عند یونس ، وکان ممّن یروی عنهم ، وهذا یُخرج الروایة عن کونها مرسلة ، وممّا لا یصحّ الاعتماد علیه . ثمّ یضیف بعد ذلک ، بقوله : بأن یونس بن


1- الجواهر: 3/153 .
2- مصباح الهدی: 4/420 .

ص:354

عبد الرحمن هو ممّن اجمعت العصابة علی تصحیح ما یصحّ عنه ، فلا قدح فی سند الروایة فی شیء»(1) .

إنتهی محلّ الحاجة .

مع أنّه قد یرد علیه : بأن الاشکال فی سنده ، لیس فی خصوص ارساله ، حتّی یجاب بما أجاب _ ونعم ما أجاب _ بل الإشکال قد یکون فی حقّ إسماعیل بن مرّار الواقع فی السند قبل یونس ، حیث أنه لم یوثّق فی کتب الرجال بالخصوص ، فیکون مجهول الحال .

ولکن فی کتاب «بهجة الآمال فی شرح زبدة المقال» للعلیاری قدس سره ، قال فی ترجمته : وفی (تصق) روی یونس کتبه کلّها ، وربّما یظهر من عبارة محمد بن الحسن الولید الوثوق به ، حیث قال : کتب یونس بن عبد الرحمن التی هی بالروایات کلّها صحیحة ، معتمد علیها ، إلاّ ما ینفرد به محمد بن عیسی عن یونس ولم یروه عنه غیره ، فإنّه لا یعتمد علیه ، ولا یعتنی به .

وما ذکرنا سیجئ فی ترجمة یونس ، بل ربّما یظهر منه عدالته ، سیّما بملاحظة حاله .

إلی أن قال ، قیل : وربّما یستفاد من روایة إبراهیم بن هاشم عنه نوع مدح ، لما قالوا من أنّه أوّل من نشر حدیث الکوفیّین بقم ، وأهل قم کانوا یخرجون منها الراوی بمجرّد توهّم الریب فیه ، فلو کان فی إسماعیل ارتیاب لما روی عنه إبراهیم . قلت : وربّما یؤیّد أنّهم ، بل وغیرهم أیضاً ، کثیراً ما کانوا یطعنون بأنّه کان یروی عن الضعفاء والمجاهیل والمراسیل ، کما هو ظاهر من تراجم کثیرة .

إلی أن قال : وفیه بعض أمارات أُخر مفیدة للإعتماد ، التی أشرنا إلیها فی صدر


1- نفس المصدر .

ص:355

الکتاب ، مثل کونه کثیر الروایة وغیره ، فلاحظ . ثمّ قال: أقول : فیما ذکره القیل ، سیّما الجملة الأخیرة ، وطعن فی «السرائر» فی کتاب البیع روایة فیها إسماعیل هذا یونس فی یونس المتّفق علی ثقته ، ولم یطعن فی إسماعیل ، وهو وأن کان غریباً لکنّه یدلّ علی الاعتماد علی إسماعیل»(1) .

انتهی کلام «البهجة» .

أقول: ورد ذکر إسماعیل بن مرار فی نظم السیّد علی الاختلاف فی القوّة والحَسَن ، ولکن السید بنفسه یذهب الی توثیقه حیث قال :

وابن مرّارٍ وهو إسماعیل قیل قویٌ بل ثق جلیل

فنقول: ولعلّ من مجموع ما ذکرنا یطمئن الفقیه فی الجملة علی کون الروایة تعدّ موثّقة ، ولعلّه لذلک لم یرد ذکرٌ لحال إسماعیل فی کلمات القوم ، وانّما صرفوا همهم الی جهة الارسال فقط .

وکیف کان فان السند لایخلو عن قوّة وثقة .

المقام الثانی : فی البحث عن دلالة الروایة : لا یخفی أنّ الحدیث بفقراتها العدیدة مشتملة علی احکام ، بعضها مطابق لفتوی المشهور ، وبعضها مخالفاً لها ، بل قد لا یناسب بعض فقراتها مع بعض آخر بالنظر إلی القواعد الموجودة بایدینا ، فلا بأس بذکر کلّ فقرة علی حده ، وملاحظة مفادها .

الفقرة الأُولی: قوله : «أو فی الطهر عشرة ایام» إلی قوله : «فإن استمر بها الدم ثلاثة أیام ، فهی حائض» .

فهذه الفقرة مشتملة علی جهات ثلاث : أنّ الطهر عشرة ، وکون کثرة أیام


1- بهجة الآمال فی شرح زبدة المقال: 2/339 .

ص:356

الحیض عشرة ، وکون أقلّ الحیض ثلاثة أیام .

فهذه الجهات الثلاثة ، لا نقاش فیها وهی موافقة لفتوی المشهور فی الحکم بکونها حیضاً وترک العبادات فیها .

الفقرة الثانیة: من قوله : «وان انقطع الدم بعدما رأته یوماً أو یومین اغتسلت وصلّت وانتظرت من یوم رأت الدم إلی عشرة أیام» إلی قوله : «فیجب أن تقضی ما ترکت من الصلاة فی الیوم والیومین» .

فهذه الفقرة مشتملة علی جهتین :

أحداهما: أن رؤیة الدم فی الیوم أو الیومین إن انضم إلیها رؤیة الدم فی جملة العشرة حتّی یتمّ ثلاثة أیام فی العشرة ، یکون کلّها حیض من أوّل ما رأت إلی آخر ما تمّت الثلاثة فی العشرة .

وثانیهما : لو لم تر الدم _ بعدما رأت فی الیوم أو الیومین _ إلاّ بعد انقضاء العشرة ، فلا حیض لها أصلاً ، حتّی بالنسبة إلی الیوم والیومین ، فلابدّ علیها من قضاء عباداتها .

هذا ، مع إنّ الجهة الأُولی لا یناسب مع فتوی المشهور ، حیث ذهبوا إلی أنّه اذا انقطع الدم فی الیوم أو الثلاثة إلاّ بساعة ، لما کان ذلک حیضاً ، بلا فرق بین ما رأت الدم بعد ذلک فی ضمن العشرة أو لم ترها ، لأنّه لا یناسب مع القاعدة الثابتة بین الفقهاء بأن أقلّ الحیض لا یکون إلاّ ثلاثة أیام .

اللّهمّ إلاّ أن یجاب عنه ، برفع التعارض بتحقیق الصدر ، بصورة کون الأقلّ منحصراً فی الثلاثة ، بلا ضمیمة بعدها ، وأمّا مع الضمیمة وذلک إذا کانت فی جملة العشرة یکفی وجود الثلاثة فی ضمن العشرة ، فیرتفع التعارض بین الصدر والذیل فیها ، لکن برغم ذلک تکون مخالفتها مع المشهور باقیة .

ص:357

أمّا الجهة الثانیة من عدم صدق الحیض ، مع عدم رؤیة الدم فی ضمن العشرة بثلاثة أیام ، حتّی بالنسبة إلی الیوم والیومین ، فربّما لا یخالف مع فتوی المشهور ، لأنّهم أیضاً یقولون بذلک کما لا یخفی .

الفقرة الثالثة: _ وهی قوله : «ولا یکون الطهر أقلّ من عشرة أیام ، فإذا حاضت المرأة ، وکان حیضها خمسة أیام ، ثمّ انقطع الدم ، اغتسلت وصلّت ، فإن رأت بعد ذلک الدم ، ولم یتمّ لها من یوم طهرت عشرة أیام . . . .»

هذا علی ما فی نسخة «الوسائل» الموجودة عندنا ، ولکن علی المحکی فی «مصباح الهدی» نقلاً عن الشیخ الأکبر قدس سره فی کتاب «الطهارة» قوله : «فی حاشیة نسخة «التهدیب» الموجودة عندی ، المصحّحة المقرؤة علی الشیخ الحُرّ العاملی ، بدل قوله : (طهرت) ، «طمثت ، فذلک من الحیض تدع الصلاة» .

فإن کانت الجملة علی حسب ما هو الموجود عندنا ، فلازمها مخالفتها مع فتوی المشهور ، لأنّه لا یناسب مع القاعدة المسلّمة بینهم ، بأنّ أکثر أیام الحیض عشرة ، لأنّ مقتضی هذه العبارة أنّها إن رأت الدم بعد یوم التاسع من یوم طهرت ، _ وهو یوم الخامس من أوّل ایام رؤیتها الدم _ کان ذلک من الحیض ، مع أنّه یزید عن العشرة بالنسبة إلی أوّل یوم رأت الدم .

هذا ، بخلاف ما لو کانت الجملة قول : «طمثت» ، حیث یطابق مع فتوای المشهور ، ویکون علی طبق القاعدة المسلّمة .

ومع حدوث التردید فی ضبط الکلمة فی الفقرة ، کیف یقاوم هذا الخبر مع تلک الأخبار المتقدّمة المتقنة الدالة علی فتوی المشهور؟ فالأولی حملها علی ما یوافق مع فتوی المشهور _ علی حسب نقل الشیخ _ لرفع التعارض فی هذه الفقرة .

هذا کلّه مع تسلیم حکمه بالاغتسال والصلاة بعد الانقطاع ، بعد الخمسة

ص:358

بالطهر ، لحملها علی غیر ذات العادة الوقتیّة العددیّة ، أو العددیّة فقط ، حتّی تکون تلک الأیام للاستظهار ، وإلاّ لأمکن الحکم فی أیام النقاء بالحیضیّة لهما .

هذا مضافاً إلی تأیید کلام الشیخ ، بصحّة نسخته .

الفقرة الرابعة : وهی قوله علیه السلام : «وإنْ رأتِ الدم من أوّل ما رأته ، الثانی الذی رأته تمام العشرة أیام ، ودام علیها ، عدّت من أوّل ما رأت الدم الأوّل والثانی عشرة أیام ، ثمّ هی مستحاضة تعمل ما تعمله المستحاضة» .

حیث قد احتسب العشرة من أوّل رؤیة الدم ، مع ضمیمة رؤیته ثانیاً إلی العشرة أیام حیضاً ، فهذه الفقرة موافقة مع فتوی المشهور ایضا .

فقد عرفت من جمیع ما ذکرناه فی فقه الروایة ، أنّ المخالفة الصریحة الواضحة لا تکون إلاّ فی الفقرة الثانیة ، فیما لو انقطع الدم بعد الیوم أو الیومین ، حیث لا یکون حیضاً علی المشهور ، لأن أدنی الحیض هو الثلاثة ، سواءً انضمّت إلیها بعدها أیام أو انقطع ، فکیف یمکن رفع الید عن تلک الأخبار بواسطة هذه الروایة ، خصوصاً مع ملاحظة إعراض الأصحاب عنه ، حیث یوجب اعراضهم عنها وهنها حتی لو کانت صحیحة معتبرة وذلک بناءً علی دلالة قاعدة معروفة عندهم تفید ان الروایة کلّما زادت فی قوّتها وصحّتها یزداد فی وهنها ، فضلاً عمّا اذا کانت الروایة . إذ لم یعهد من القدماء عامل بها ، إلاّ القاضی ابن البرّاج ، بل عن «الجامع» لابن سعید ، أن الکلّ علی خلاف روایة یونس ، فلا یصحّ الاعتماد علیها أصلاً .

وممّا استدل به للدلالة علی عدم اشتراط التوالی والاستمرار فی دم الحیض _ کما فی «الحدائق» ، هو إطلاق حدیث الصحیح أو الحسن المروی عن إبراهیم بن هاشم ، عن محمد بن مسلم ، عن أبی جعفر علیه السلام ، قال: «إذا رأت المرأة الدم قبل

ص:359

عشرة أیام ، فهو من الحیضة الأُولی ، وان کان بعد العشرة ، فهو من الحیضة المستقلّة»(1) .

وأیضا : استدلوا بروایة أُخری موثّقة مرویة عن محمد بن مسلم ، عن أبی عبد اللّه علیه السلام ، قال: «أقلّ ما یکون الحیض ثلاثة ، وإذا رأت الدم قبل عشرة أیام ، فهو من الحیضة الأُولی ، وإذا رأته بعد عشرة ایام ، فهو من حیضةٍ أُخری مستقلّة»(2) .

تقریب الاستدلال بهما هو أن یقال : بأنّهما ظاهرتان فی أنّ المرأة إذا رأت الدم بعدما رأته أوّلاً ، سواءً کان الأوّل ما رأته یوماً أو یومین أو أزید ، فإن کان بعد توسّط عشرة أیام خالیة من الدم ، کان الدم الثانی حیضة مستقلة ، وان کان قبل ذلک ، عُدّ من الحیضة الأُولی .

هذا کما فی «الحدائق(3)» .

فأجاب عنه المحقّق الهمدانی قدس سره ، ونعم ما أجاب بقوله : «وفیه ما لایخفی ، فإنّ التمسّک باطلاق کون الدم الثانی من الحیضة الأُولی ، فرع احراز کون الأوّل حیضاً ، وهذا مما لا کلام فیه ، وإنّما النزاع فی أنّه هل یشترط فی کون الأوّل حیضاً ، أن یستمر ثلاثة ایام أم لا؟ فکیف یتمسّک بهذا الإطلاق ، لنفی ما یشکّ فی اعتباره فی حیضیّة الأوّل . هذا ، مع إمکان دعوی ظهور الموثقة فی حدّ ذاتها فیما علیه المشهور ، لما عرفت فیما سبق من سبق ظهور قوله علیه السلام : «أقلّ ما یکون الحیض ثلاثة أیام» ، فی ارادة الاستمرار والتوالی . فالمقصود من الروایة ، علی ما هو الظاهر منها ، أنّ أقلّ ما یکون الحیض أن یستمر الدم ثلاثة أیام ، فان انقطع


1- وسائل الشیعة: الباب 11 من أبواب الحیض، الحدیث 3 .
2- وسائل الشیعة: الباب 10 من أبواب الحیض، الحدیث 11 .
3- الحدائق: 3/161 _ 162 .

ص:360

بعدها ثمّ عاد قبل انقضاء العشرة ، فهو من الحیضة الأُولی ، وإنْ رأته بعد العشرة ، فهو من حیضة مستقبلة»(1) .

إنتهی محلّ الحاجة .

فالاستدلال بهاتین الروایتین علی کفایة کون الثلاثة فی ضمن العشرة _ ولو لم یکن مستمرّاً فی الثلاثة _ غیر تام .

کما أنّ استدلال صاحب «الحدائق» بهما ، یکون النقاء المتخلّل بین الرؤیتین من الدم طُهراً ، بتقریب ، أنْ یقال : بأنّ العشرة الواقع بین ما رأت الدم قبل العشرة من الحیضة الأُولی ، وما بعدها للحیضة المستقبلة کانت واحدة لا متعدّدة ، فتکون مبدأ هذه العشرة من زمان انقطاع الدم ، فلابدّ أن یجعل النقاء المتخلّل فی العشرة طُهراً ، وإلاّ یستلزم فیما إذا رأت الدم بیوم أو یومین أو أزید ، ثمّ انقطع ورأت فی الیوم العاشر ، أن یکون مجموع أیام الحیض أکثر من العشرة ، وهو مخالف للنصّ والإجماع .

هذا ، بخلاف ما لو جعل أیام النقاء طُهراً ، فلا یلزم فیه هذا الإشکال ، کما لا یخفی .

غیر وجیه ، لوضوح أنّ الظاهر کون المراد من مبدء العشرة ، هو أوّل رؤیة الدم ، لا أوّل الانقطاع ، فمع ملاحظته یصحّ جعل تمام أیام النقاء _ مع ما رأت قبل تمام العشرة _ حیضاً واحداً ، وبعدها من الحیضة المستقبلة ، إنْ کانت واجدة لشرائط الحیض ، التی منها حصول الفصل بین الحیضة الأُولی وبین الثانیة بأقلّ الطهر ، کاشتراطه بعدم کونه أقلّ من ثلاثة أیام فی صدق الحیض .


1- مصباح الفقیه : 4/47 .

ص:361

مضافاً إلی ما قد قاله المحقّق الهمدانی قدس سره : «مع أنّه فی بعض النسخ التی عثرنا علیها ، منها نسخة «الحدائق» الموجودة عندی رویت الموثقة بتنکیر العشرة الثانیة ، هکذا : «أقلّ ما یکون الحیض ثلاثة أیام ، وإنْ رأت الدم قبل العشرة فهو من الحیضة الأُولی ، وانْ رأت بعد عشرة ایام فهو من حیضة أُخری» .

وظاهرها عدم اتّحاد العشرتین»(1) ، انتهی .

فاذا کان یقصد رحمه الله بیان الفرق بین خبری محمد بن مسلم من الصحیح والموثّق ، بکون العشرة الثانیة فی الأوّل معرفاً بالألف واللام دون الثانیة ، فهو صحیح ، إلاّ أن الضبط کذلک فی جمیع النسخ الموجودة عندنا من «الوسائل» و«الحدائق» ، مع أنّ ظاهر کلامه یفید وجود الفارق فی العشرة الثانیة بین نسختی الموثقة بالتنکیر والتعریف ، مع أنا لم نجد فی الموثقة إلاّ التنکیر فی العشرة الثانیة .

نعم ، إذا لوحظ التنکیر فیها ، مع وجود التحریف فیها فی الصحیح ، لأمکن دعوی عدم کون العشرة فی الموثقة معهودة ، کما یحتمل ذلک فی الصحیح .

وکیف کان ، فان ما ذهب إلیه صاحب «الحدائق» واستظهره من الأخبار الثلاثة علی مختاره لیس علی ما ینبغی ، کما لا یخفی .

ایضا : قد استدل علی اثبات کون الطهر أقلّ من عشرة ، وما لا یکون أقلّ منها هو الطهر بین حیضتین مستقلّتین ، بموثقة یونس بن یعقوب ، قال: «قلت للصادق علیه السلام : المرأة تری الدم ثلاثة أیام أو أربعة؟ قال: تدع الصلاة . قلت: فإنّها تری الطهر ثلاثة أیام أو أربعة؟ قال: تصلّی . قلت: فإنّها تری الدم ثلاثة أیام أو أربعة؟ قال: تدع الصلاة ، تصنع ما بینها وبین شهر ، فان انقطع عنها الدم ، وإلاّ فهی


1- مصباح الفقیه: 4/49 .

ص:362

بمنزلة المستحاضة(1)» .

وممّا استدل به ایضا روایة أبی بصیر ، قال: «سألت أبا عبداللّه علیه السلام عن المرأة تری الدم خمسة أیام ، والطهر خمسة ، وتری الدم أربعة أیام ، والطهر ستّة؟

فقال: إنْ رأت الدم لم تُصلّ ، وإنْ رأت الطهر صلّت ما بینهما وبین ثلاثین یوماً(2)» .

حیث أنّهم أخذوا بما یتوهّم فیه الإنسان باتیان الصلاة عند النقاء المتخلل ، مع عدم کونه عشرة أیام ، فإنّه إنْ کان حیضاً ، فلا وجه للحکم بالصلاة ، وإنْ کان طهراً فاتیان الصلاة یکون وظیفتها ، لکنّه لیس بطهر مشتمل علی عشرة ایام ، مع کونه علی الفرض یعدّ معتبراً عندهم ، فیفهم بالملازمة ، عدم اعتباره فی مثله .

هذا ، ولکن لا یخفی ما فی هذا الاستدلال ، لأنّه لو تمّ دلالتهما علی مدّعاهم ، استلزم القول بإمکان حدوث الحیض فی شهر بخمسة عشر یوماً ، من دون الفصل بأقلّ الطهر ، لو لم یجعل مدّة النقاء حیضاً .

أو یلزم کون مجموع أیام الحیض أکثر من عشرة ، لو جعل المجموع مع النقاء حیضاً .

وکلاهما مخالفان للنصّ والإجماع وفتاوی الأصحاب .

فالأُولی تنزیل الروایتین علی من اختلط علیها حیضها ، واشتبه علیها فی مقام العمل ، کما یشهد علیه قوله فی ذیل الخبر : «تصنع ما بینها وبین الشهر» بالقطع بأتیان الصلاة ، وعدمه بعدمها ، وبعد انقضاء الشهر تعمل عمل المستحاضة ، فکأنّها تتطلّع علی حالها ، ولذلک قال المصنّف فی محکی «المعتبر» بعد نقل هذا


1- وسائل الشیعة: الباب 6 من أبواب الحیض، الحدیث 2 و3 .
2- وسائل الشیعة: الباب 6 من أبواب الحیض، الحدیث 2 و3 .

ص:363

التوجیه وما یقرب منه عن الشیخ : هذا تأویلٌ لا بأس به .

ولا یقال : الطهر لا یکون أقلّ من عشرة أیام .

لأنّا نقول : هذا حقّ ، ولکن هذا لیس بطهر علی الیقین ولا حیضاً ، بل هو دمٌ مشتبه تعمل فیه بالاحتیاط(1) .

ومن جمیع ما قرّرناه فی الموردین ، أحدهما: شرطیّة التوالی والاستمرار فی الثلاثة وأن لا یکون الحیض أقلّ من ثلاثة أیام .

وثانیهما: لزوم اشتراط صدق الحیض بعد الحیض ، بالفصل بینهما بأقلّ الطهر وهو العشرة ، ولا یتحقّق الحیض الثانی بأقلّ من ذلک .

وهذا هو المطلوب والمشهور بین الأصحاب .

فی أحکام الحیض / اعتبار استمرار الدم فی الثلاثة

هذا کلّه بحسب اطلاق الادلّة ، حیث قد عرفت صحّة دلالتها علی ما علیه المشهور ، لا بما استدلّ به صاحب «الحدائق» ومن تبعه .

ولکن قد یشاهد استدلالهم علی دعواهم من عدم اشتراط التوالی فی الثلاثة بالأُصول ، ویقصدون بها أصالة البراءة واستصحابها عن الأحکام الثابتة لعامّة المکلّفین من النساء فی حال سیلان الدم ، مع عدم التوالی ، بأنّها کانت قبل رؤیة الدم مکلّفة بالصلاة والصوم وغیرها من التکالیف ، والآن وبعد رؤیتها سیلان الدم مع عدم التوالی تشکّ فی أنّه هل بقیت علیها التکالیف أم لا ، وهل یحرم علیها ما یحرم علی الحائض أم لا؟

فاصالة البراءة واستصحابها تقتضیان الحکم ببرائتها عن مثل الصلاة والصوم ، فیترتّب علیها ما یترتّب علی الحائض التی تری الدم مع التوالی ، وهکذا یستفاد


1- المعتبر: 1/207 .

ص:364

عدم اشتراط التوالی فی الثلاثة فی انطباق الحیضیّة علیها .

وقد اجیب : بضعف الاستدلال باصالة عدم کونها حائض ، واستصحاب کونها طاهرة لدلالة اصالة البراءة واستصحابها ، لوضوح أنّ الشکّ فی أنّه هل تنجزت علیها تلک التکالیف بسبب الشکّ فی کونها حائضاً ، أم لا؟

فإذا حکمنا بطهارتها اعتمادا علی دلیل اصالة عدم کونها حائض ، وأنه تجب علیها ما یجب علی غیرها من المکلّفین ، فانه نکون قد غفلنا عن ان اصالة البرائة واستصحابها معارضة مع استصحاب الأحکام التکلیفیّة الوضعیّة السابقة علی رؤیة الدم ، ومع تعارضهما یتساقطان ، فنرجع إلی اصالة عدم کونها حائضاً .

هذا کلّه إنْ سلّمنا صحّة جواز الرجوع إلی الأُصول فی مثل المورد ، لکن مع العلم بان المقام من قبیل الشبهة المصداقیّة ، یثبت أنه لایصحّ الرجوع إلی العمومات والتمسّک بها فی الشبهات المصداقیّة .

ولکن قد عرفت منّا سابقاً ، تبعاً للمحقّق الآملی فی «مصباحه» ، کون المورد من الشبهات الحکمیّة ، والرجوع إلی العمومات فی المخصص المشکوک أمر معقول وصحیح ، فعلیه لا حاجة فی المشکوک الرجوع إلی الأصول العملیّة بل یجب الرجوع إلی العمومات الدالة علی التکالیف الثاتبة للمکلّفین ، والحکم بطهارتها ، کما هو مختار المشهور فی المسألة .

وفی المسألة أیضاً قولاً ثالثاً : وهو للقطب الراوندی قدس سره ، حیث فصّل بین الحامل وبین غیرها فی اعتبار لزوم التوالی فی الثانی دون الأوّل ، واستدلّ علی عدم اعتباره فیها بالخبر المروی عن إسحاق بن عمّار ، عن الصادق علیه السلام : «عن المرأة الحُبلی تری الدم الیوم والیومین؟ قال: علیه السلام : ان کان دما عبیطاً فلا تصلّی

ص:365

ذینک الیومین(1)» .

وبرغم أنّها لا تری الدم إلاّ بالیوم أو الیومین دون الثلاث ، فقد حکم علیه السلام ترک الصلاة فیهما ، لأجل کونه حیضاً .

لکنّه غیر معمول به عند الأصحاب ، فیصیر معرضاً عنه ، فلا یجوز العمل به ، لسقوطه عن الحجیّة عند من یعتمد علی هذه القاعدة ، کما هو مختارنا .

مع أنّه قد احتمل کون ترک الصلاة بمجرّد الرؤیة ، لاحتمال الحیضیّة ، غیر منافٍ مع وجوب القضاء علیها ، إذا لم یتوال الثلاثة .

لکنّه غیر وجیهٍ ، لأنّ الاستظهار لا یکون إلاّ بالاتیان فی الواجبات ، والترک فی المحرّمات ، فأمره علیه السلام بلزوم ترک الصلاة لا یناسب مع الاستظهار .

فالقول بعدم اعتبار الحدیث ، ولزوم رفع الید عنه من جهة اعراض الاصحاب عنه یکون أولی ، کما لا یخفی .

فروع عدیدة متعلقة بالبحث ینبغی طرحها وهی :

الفرع الأوّل: هل یعتبر فی الأیام الثلاثة ، استمرار الدم فیها ، بحیث لو أدخلت الحائض الکرسف فی الفرج ، ثمّ أخرجته بعد المکث بمقدار ما ، لکان متلطّخاً بالدم ولو بشیء یسیر منه ، خلال الایام الثلاثة ، کما علیه جملة من المحقّقین ، من القدماء والمتأخرین ، بل قد اختاره صاحب «الجواهر» والشیخ الأعظم ، والمحقّق الهمدانی والآملی ، بل هو منسوب إلی المشهور .

أم یکفی وجود الدم فی الأیام الثلاثة مطلقاً ، ولو بان کان فی کلّ یوم بلحظة مطلقاً .

هذا کما حُکی عن العلاّمة والشهید فی «الروض» و«المسالک» وصاحبی


1- وسائل الشیعة: الباب 11 من أبواب الحیض، الحدیث 4 .

ص:366

«المدارک» و«الذخیرة» ، بل نسبه فی الأخیر إلی الأکثر .

أو یقال : بکفایته بشرط رؤیة الدم فی أوّل الأوّل وآخر الثالث ، واللحظة فیما بینهما کیف اتّفقت .

هذا کما حکاه صاحب «الجواهر» عن السیّد حسن بن السیّد جعفر المعاصر للشهید الثانی رحمه الله ، بل قد حُکی المیل إلیه عن شیخنا البهائی فی «حبل المتین» .

أو یقال : بشرط أن تکون رؤیة الدم معتّداً بها عرفاً ، بحیث یقال عرفاً إنّ حیضها ثلاثة أیام متوالیة ، فلا تضرّ الفترات المتخللة الیسیرة .

هذا کما حُکی عن «شرح المفاتیح» ونسب إلی صاحب «العروة» ، والناسب هو الآملی قدس سره .

فهذه هی الأقوال الأربعة فی المسألة .

ولکن الأقوی عندنا _ بناءً علی ما اعتبرناه من التوالی فی الثلاثة _ هو القول الأوّل ، لما تری أنّ الظرف _ أعنی الثلاثة _ قدأشار الی حدود مقدار الدم وبیان کمیته ، بل قد ورد فی بعض الأخبار بأن ادنی الحیض ثلاثة ، حیث لوحظ فیه أنّ الدم الذی یکون حیضاً ، لابدّ أن لا یقلّ مقدار دفقه عن ثلاثة أیام ، ولا یتحقّق هذا المعنی إلاّ مع استمرار الدم فی الثلاثة .

فمع اشتراط التوالی ، یفهم منه لزوم وجود الدم فی تلک الأیام ولو فی داخل الفرج ، بحیث لو أدخلت الحائض القطنة فیه وأخرجتها لتلوثت بالدم ، وأمّا لزوم خروج الدم من فمّ الفرج فی تمام تلک الثلاثة ، فلا اعتبار به .

هذا ، مضافاً إلی أنّ الأصول الجاریة والعمومات المتمسّک بها لاثبات اعتبار أصل التوالی فی تلک الأیام ، تدلّ علی اعتباره بما ذکرناه ، لا بوجود الدم فی کلّ یوم ، ولو بلحظة ، کما علیه القول الثانی .

ص:367

هذا کلّه علی القول المشهور ، المشترط اعتبار توالی الدم فی الایام الثلاثة المتوالیة .

بل قد یمکن ان نقول باستفادة الاستمرار فی کلّ یوم من تلک الأیام المتفرّقة ، التی تری الدم ، فیها حتّی علی القول بعدم اعتبار التوالی فی نفس الدم ، لأنّ الاکتفاء بوجود الدم فی الساعات المتفرّقة ، من الأیام المتفرّقة ، إذا کان مجتمعها بقدر ثلاثة أیام غیر مستفاد من الدلیل ، مثل الحدیث الذی _ هو الدلیل علی القول بعدم اعتبار التوالی _ ورد فیه قوله : «فانْ رأت فی تلک العشرة أیام من یوم رأت الدم ، یوماً أو یومین ، حتّی یتم بها ثلاثة أیام ، فذلک الذی رأته فی أوّل الأمر ، مع هذا الذی رأته بعد ذلک فی العشرة فهو من الحیض» .

حیث یدلّ بظاهره علی اعتبار أن یکون ما رأته یوماً أو یومین بتمامها ، لا رؤیته فی الیوم أو الیومین لحظة .

وحمله علی المثال وان یمکن فرضه ، إلاّ أنّه بعید فی الغایة ، ومخالف للظاهر .

وکیف کان ، فانّ اعتبار الاستمرار فی کلّ یوم من الأیام مطلقاً _ حتّی علی القول بعدم اعتبار التوالی _ قویّ جدّاً ، کما لا یخفی .

ومنه یظهر عدم تمامیّة ما استدلّ به للقول الثانی ، وهو کفایة وجود الدم ولو بلحظة فی کلّ یوم ، بصدق رؤیة الدم فی الثلاثة ، برؤیته فی کلّ یوم ولو لحظة واحدة ، بدلالة أن لأنّ الأیام قد أخذت فی الخبر ظرفاً للدم ، ولا یجب المطابقة بین الظرف والمظروف ، فیصدق رؤیته فی کلّ یوم ولو لم یستوعب الیوم .

لوضوح منع الصدق ، بناءً علی اعتبار التوالی والاستمرار فی الدم ، فی الثلاثة ، بناء علی کون الظرف ظرفاً للدم ، ومحدداً له ، لا ظرفاً للرؤیة ، حتّی یستدل علی الدعوی بصدق الرؤیة ولو بلحظة فی کلّ یوم ، مثل ما یصدّق فی

ص:368

مثل قوله : «رأیتُ زیداً ثلاثة أیام» ، حیث لا یراد منه الرؤیة فی جمیع ساعات الیوم ، بل یکفی فیه رؤیته ولو بلحظة فی کلّ یوم ، ولکنه إذا أخذ الظرف لنفس الدم ، واسند الفعل الیه ، فانه یستفاد منه الاستمرار والتوالی ، کما لا یخفی علی المتأمّل العارف .

وهنا قول آخر نُسب إلی صاحب «العروة» ، حیث قد اعتبر کون الدم فی کلّ یوم بقدر یعتدّ به عرفاً ، لأنّه لو کان بمقدار لا یصدق معه عرفاً الرؤیة _ کما لو کان بمقدار رأس الأبرة _ فصدق الاستمرار فیه مشکل .

وعن المحقّق الآملی فی «مصباح الهدی» : أنّه استفاد من الأدلة مما جعل مختاره القول الثانی ، مع اضافة اشتراط کون الدم بمقدار یعتدّ به عرفاً .

لکن التأمّل فی کلامه والدقّة فیه ، یوصلنا إلی خلاف ما ادّعاه ، بل یمکن أن یکون مقصوده هو القول الأوّل الذی تبناه المشهور ، مع اضافة اشترط کون الدم یکون بمقدار یعتدّ به عرفاً ، لإخراج ما یتوهم من عدم کفایة الاستمرار ، إذا کان خروج الدم فی فترات یسیرة ، لکن مثل هذة الفترات غیر ضائرة ، إذا لم تضرّ بالصدق العرفی ، وعُدّ الدم عند العرف مستمرّاً ، فجعل هذا القول قولاً ثالثاً لا یخلو عن تأمّل .

ومّما قد استدلّ به علی القول الثالث : ما قد حُکی عن الشیخ البهائی ، من أنّه اعتبر وجود الدم فی أوّل الأوّل وآخر الآخر ، إذ لو لم یعتبر وجوده فی الطرفین ، لم یکن الأقل ثلاثة أیام ، بل یکون الأقلّ یومین وساعة مثلاً .

وقد أجاب عنه المحقّق الآملی ، بعد توضیح کلامه : «بأنّه قدس سره کأنّه جمع بین أخذ المدّة ظرفاً لاستمرار الدم فی الثلاثة ، وبین أخذها ظرفاً لمجرّد الرؤیة ، بأنّ ما ذکره رحمه الله لا یستقیم مع شیء منهما ، إذ مع أخذها ظرفاً للاستمرار ، فانه وإن

ص:369

صحّ وجود الدم فی الطرفین ، لکن لایصحّ القول بکفایة وجوده فیما بینهما کیفما اتّفق ولو لحظة ، بل لابدّ من استمراره وجریانه ، من أوّل المدّة إلی آخرها .

وعلی أخذها ظرفاً للرؤیة ، وإنْ صحّ القول بکفایة وجوده فی الطرفین کیفما اتّفق ، لکن لا وجه لاعتبار وجوده فی الأوّل والآخر ، ولا یصحّ الاستدلال لاعتباره فیهما ، بأنّه لولاه لکان الأقل یومین وساعة مثلاً ، إذ لا محذور فیه حینئذ بناءً علی أخذ المدّة ظرفاً للرؤیة ، مع عدم وجوب المطابقة بین الظرف والمظروف»(1) ، إنتهی کلامه .

اقول : فکأنّه أخذ المدّة فی الیوم الأوّل والثالث علی نحو الاستمرار ، وفی الیوم الثانی علی نحو الرؤیة ولو للحظة واحدة ، فحینئذ یوافق مع ما قاله .

إلاّ أنّه یبقی السؤال عن وجه الفرق بین الأوّل والآخر ، وبین ما بینهما من کونهما بالاستمرار وکونه للرؤیة ، مع أن ظاهر لسان النصوص هو وحدة النسق بین الطرفین والوسیط ، وقد عرفت کون المختار _ الذی هو الظاهر من النصوص _ کون القید للاستمرار لا للرؤیة ، کما علیه المشهور ، واللّه العالم .

الفرع الثانی : بعدما عرفت من لزوم الاستمرار والتوالی فی الایام الثلاثة ، هل المراد من الیوم هنا هو الیوم النجومی ، أعنی به الیوم مع لیلته ، أی مدة أربع وعشرون ساعة ، أم أنّ المراد منه هو بیاض الیوم فی مقابل اللیل؟

فیه وجهان : فعلی الأوّل : یکون وجه تسمیته بالتغلیب ، بخلاف الثانی ، حیث یکون علی معناه المتعارف .

وما یظهر من کلمات الفقهاء ، والسیّد فی «العروة» _ فی آخر المسألة السادسة


1- مصباح الهدی: 4/425 .

ص:370

من مسائل الحیض ، کما صرّح به المحقّق الآملی فی «مصباحه» _ هو الثانی ، فربّما تظهر الثمرة والاختلاف بینهما بالتفاوت فی مقدار الحیض ، فی الطرف الأقلّ بحسب التفاوت فی أوّل رؤیة الدم .

مثلاً لو رأت المرأة الدم فی صبیحة یوم الجمعة إلی آخر ساعة یوم الأحد ، فلا إشکال فی کون الدم حیضاً ، لاشتماله علی ثلاثة بیاض من الیوم .

وأمّا لو رأت الدم من سواد اللیلة الاولی من الیوم الأوّل ، وانقطع عنها الدم فی آخر الیوم الثالث ، وقبل سواد اللیل بساعة فانّه لا یکون حیضاً ، لنقصانه عن الایام الثلاثة ببیاضها بساعة واحدة ، مع أن مقداره کان أزید بلیلة ، إلاّ ساعةً من النهار .

لااعتبار بمثل هذا الحکم بالحیضیّة فی الاوّل ، وعدمها فی الثانی ، إلاّ ان یقوم التعبّد الشرعی ، إذ لم یساعد الاعتبار فی الحیض الواقعی بذلک ، وإلاّ لأمکن القول بکونه کذلک فی الواقع أیضاً .

فی أحکام الحیض / المراد من ثلاثة أیّام فی أقلّ الحیض

فإذا صار الحکم فی المثال واضحاً فی عدم الکفایة فی الصورة الثانیة ، فعدم کفایته فیما إذا انقص فی کلّ من الیوم الأوّل أوّله ، والیوم الثالث من آخره بنصف ساعة ، یکون بطریق أولی ، کما مثل به صاحب «العروة» فی المسألة السادسة من أحکام الحیض .

ولعلّ وجه ذلک هو کون المتعارف فی الیوم عرفاً ، هو خصوص البیاض من أوّل الصبح إلی الغروب ، فلو لم یکن التوالی والاستمرار فی الدم معتبراً ، فربما یمکن القول بکفایة رؤیة الدم فی کلّ الثلاثة من أوّل صبحه إلی غروبه ، مع انقطاع الدم فی اللیالی ، حتّی اللیلتین المتوسّطتین ، لصدق عنوان أنّها قد رأت الدم فی الایام الثلاثة ، ولکن إذا انضمّ إلی الایام الثلاثة اعتبار التوالی فیها وشرطیة استمرار الدم فیها ، فانه یستفاد من هذه القرینة دخول اللیلتین

ص:371

المتوسّطتین فی متعلّق الحکم .

ولعلّ هذا هو مراد العلاّمة فی «التذکرة» و«المنتهی» ، من القول بأنّ أقل أیام الحیض هی ثلاثة أیام بلیالیها ، بل فی الأوّل أنّه لا خلاف فیه بین فقهاء أهل البیت علیهم السلام ، ولایقصد أنّ اللیلة من کلّ یوم داخلة فیه ، حتّی یلزم القول بدخول اللیلة الأُولی فی الیوم الأوّل ، وإلاّ یلزم فی صدق هذا العنوان أن یکون شروع رؤیة الدم صبیحة یوم الخمیس مجموع أربعة أیام وثلاثة لیالی ، کما قد صرّح به صاحب «الجواهر» ، وعلّله بأنّه لا یصدق الأیام بلیالها إلاّ بهذا ، لأنّ المفروض کون لیلة الخمیس بیاضاً .

فکأنّه أراد حذف یوم الخمیس ، لأجل فقد لیلته ، فیصیر الدم المرئی فی یوم الخمیس غیر محسوباً فی الثلاثة ، بل الاحتساب یکون من لیلة الجمعة ویومها مع السبت والأحد ، وهو کما تری .

أو یعدّ لیلة یوم الخمیس من لیلة الجمعة ، ولیلة یوم الجمعة لیلة السبت ، ولیلة یوم السبت لیلة الأحد .

فکأنّه أراد فرض اللیلة اللاحقة لیلة الیوم السابق واکتفی فی المثال السابق کفایته إلی یوم السبت مع لیلة الأحد ، لأنّها لیلة السبت علی الفرض .

ولکنه یقول أخیرا : وهو کما تری .

وفیه : وهو کماتری حقّا ، اذ أنّ النقص غیر وارد ، إلاّ مع فرض حفظ الاسم علی اللیلة باعتبار یومه ، مع أنّه غیر معتبر فی صدق عنوان ثلاثة أیام فی أقلّ الحیض ، فحینئذ لا منافاة فی جعل اللیلة اللاحقة داخلة فی الیوم السابق ، مع عدم صدق اسم ذلک الیوم علیه ، کما لا یخفی .

فالسبب فی عدم دخول اللیلة _ إلاّ المتوسطات _ لیس إلاّ ما ذکرنا من صدق

ص:372

ثلاثة أیام علی النهار ، مع ضمیمة شرطیّة التوالی والاستمرار فی الرؤیة ، وهذا واضحٌ لاخفاء فیه .

بناء علی هذا فلا محیص من عمل تأویل وتوجیه فی کلام العلاّمة القائل : «ثلاثة أیام بلیالیها» ، بأنّ یقال لایصح اطلاق الیوم الا علی اللیلة الثانیة والثالثة دون الاولی والرابعة ، أو نقول انه رحمه الله أطلق اللیلة مسامحة .

فیکون حینئذ کلامه موافقاً لکلام فقهائنا الاعلام رحمهم الله ، فی مقابل قول متفقهة العامّة ، حیث جعلوا أقلّه بیوم ولیلة ، کما هو أحد قولی الشافعی .

کما لا ینافی ذلک بکون اللیالی معتبرة فی الأیام ، إمّا لکونها داخلة فی مسمّی الیوم ، أو للتغلیب بحملة علی ارادة المتوسطتین ، ودخولهما فیها ، کما هو المنقول عن ابن الجنید ، وعلیه یحمل کلام «جامع المقاصد» و«الروض» ، کما لا یخفی .

فالتوقّف فی دخولها _ حیث استظهره صاحب «الجواهر» عن بعض مشایخه _ یکون فی غیر محلّه .

الفرع الثالث: فی أنّه بعدما عرفت أنّ الملاک فی صدق الحیض فی الطرف الأقلّ هو ثلاثة أیام ، وعرفت أن المراد من الیوم هو المفهوم العرفی منه ، وهو بیاضه لا الیوم واللیلة ، وقد عرفت أن دخول اللیلتین المتوسّطتین فی موضوع الحکم لیس من جهة توقّف صدق ثلاثة أیام علیه ، لإمکان تحقّقها بدون وجود الدم فی اللیلتین ، مع وجوده فی بیاض الیوم ، فی کلّ ثلاثة ، إلاّ أنّه مع ملاحظة لزوم التوالی والاستمرار بین رؤیة الدم فی الثلاثة _ المستفاد من النصوص ، ومعاقد الإجماعات ، وفتاوی الأصحاب _ استفید شرطیّة دخول اللیلتین المتوسّطتین فی الحکم بالحیضیّة .

فبناءً علیه ، یمکن القول بصحّة الحکم بالحیضیّة ، إذا فرض ذلک علی نحو

ص:373

وما تراه المرأة بعد یأسها لا یکون حیضاً (1).

التلفیق ، بان تری الحائض الدم فی زوال الیوم الأوّل ، فلابدّ من استمراره إلی زوال الیوم الرابع ، حتّی یصدق علیها عرفاً بأنّها قد رأت الدم ثلاثة أیام ، کما أنّ الأمر کذلک فی اشباهه ، مثل ما لو کان بدء سیلان الدم عند مضی ساعة من أوّل اللیل ، فلابدّ من أن یستمر السیلان ثلاثة أیام اضافة علی ساعة من أوّل اللیل الرابع ، بأن یکون المراد من ثلاثة أیام ، هو مقدار ثلاثة أیام ببیاضه ، ولو تلفیقاً من الیوم واللیل ، بادخال ساعات من الیوم الرابع أو اللیلة الرابعة .

وأمّا کون المراد من الایام الثلاثة هو الیوم مع لیلته ، أو کون المراد من ثلاثة أیام ساعاتها ، بأن یحتسب مقدار ساعات بیاض کلّ یوم ، کما لو کان فترة النهار عشر ساعات مثلاً ، فیحتسب ثلاث عشرة ساعة مطلقاً ، ولو کان الیوم فی بعض الأیام اطول أو اقصر فان مثل هذا یعدّ خلاف ظاهر الأدلّة والعرف واللغة ، فالتلفیق من تلک الناحیة _ أی من جهة احتساب الساعات بقدرها من الیوم واللیل _ خلافٌ لظواهر الأدلّة ، کما لا یخفی .

وممّا ذکرنا نقف علی حقیقة وظیفة المرأة إذا کانت فی الأقطار التی تکون لیالیها وأیامها شهرین أو أزید أو أقلّ ، من أنّ علیها لزوم مراعاة ثلاثة أیام ببیاضه ، حینما یتحقّق فیه البیاض بحسب المتعارف من البلدان المجاورة للبلد التی تسکن فیه ، فتحسب ذلک مع لیالیها بالتقدیر من الساعات ، سواءً کان کلّ ساعاته من اللیل أو من النهار فی تلک الأقطار التی فرض یومها ولیالیها بشهرین مثلاً ، کما لا یخفی علی المتأمّل .

(1) ولا فرق فی الحکم بعدم الحیض ، بین لون الدم حتّی ولو کان متّصفاً

ص:374

وتیأس المرأة ببلوغ ستّین، وقیل: فی غیر القرشیّة والنبطیّة، ببلوغ خمسین(1).

بصفات الحیضیة ، بل ولو علم ببلوغها سن الیأس أو انقطع عنها الرجاء برؤیة الدم ، وذلک عند قیام القرائن المفدة لها ذلک ، حینما تکون المرأة جاهلة بمبدأ ولادتها .

وهذا حکمٌ إجماعی تحصیلاً ومنقولاً ، ولا خلاف فیه .

(1) والکلام فی بیان حدّ الیأس یقع فی مقامات:

المقام الأوّل: فی الأقوال .

المقام الثانی: فی ملاحظة الأخبار .

المقام الثالث: فیما تقتضیه دلالة الأُصول فی مقام العمل .

فأمّا المقام الأوّل: فالأقوال فیه خمسة أو ستّة وهی :

قول : بکون حدّه هو بلوغ الستّین مطلقاً ، أی سواءَ فی القرشیّة والنبطیّة وغیرهما . وهو ظاهر کلام المحقّق فی «الشرائع» ، وعن بعض کتب العلاّمة ، ومال الیه الأردبیلی .

وقول : ببلوغ الخمسین مطلقاً ، حتّی فی القرشیّة والنبطیّة . وهو مختار «النهایة» و«الجمل» و«السرائر» و«المنتهی» و«المدارک» وبعض المتأخّرین .

وقول ثالث: وعلیه معظم الأصحاب ، وأکثر المتأخّرین ، لولا کلّهم ، مثل صاحب «الجواهر» و«مصباح الفقیه» و«مصباح الهدایة» و«العروة» ، وأصحاب التعلیق علیها ، وصاحب «الوسیلة» وأصحاب التعلیق علیها .

وهذا القول هو التفصیل بین القرشیّة وغیرها ، ببلوغ الستّین فی الأُولی ، والخمسین للثانیة ، کما علیه المشهور .

فی أحکام الحیض / حدّ الیأس فی غیر القرشیّة

وقول رابع : وهو أیضاً مشهورٌ لکن لاتصل الشهرة فیه الی حد الشهرة فی

ص:375

القول السابق ، وهو التفصیل بین القرشیّة والنبطیّة وبین غیرهما ، من بلوغ الستّین فیهما والخمسین فی غیرهما . وهو مختار الشهیدین وصاحب «الوسیلة» و«الجامع» و«التذکرة» و«التبیان» و«جامع المقاصد» .

وقول خامس : لکنّه نادر ، بل لم یتعرض له اکثر الفقهاء لندرته ، وهو التفصیل بین الهاشمیّة وغیرها ، بالستّین فیها والخمسین فی غیرها .

وهذا هو المنقول والمحکی عن الراوندی قدس سره .

وقول سادس : ذهب الیه صاحب «الحدائق» ظاهراً ، وهو التفصیل فی ناحیة العبادات فی کون حدّها الخمسین ، وبین العِدّة بجعل حدّها الستّین ، من دون فرق بین القرشیّة وغیرها . هذه هی الأقوال فی المسألة .

وأمّا المقام الثانی : وهو ملاحظة الأخبار الواردة فی هذه المسألة ، وهی ثلاثة طوائف ، طائفتان بالاطلاق بالستّین أو الخمسین ، وطائفة بالتفصیل بین القرشیّة بالستّین ، وبین غیرها بالخمسین . الا ان الثابت من الأخبار ، بل علیه تسالم الأصحاب جمیعاً ، هو عدم حصول الیأس قطعاً بالأقلّ من الخمسین مطلقاً ، حتّی فی غیر القرشیّة ، وحصول الیأس قطعاً بأزید من الستّین حتّی فی القرشیّة .

والیک تفصیل هذه الطوائف من الاخبار ، فنقول :

الطائفة الاولی : وهی الطائفة الدالّة علی کون الیأس بالخمسین .

منها : ما رواه الکلینی باسناده الصحیح ، عن عبد الرحمن بن الحجّاج ، عن أبی عبداللّه علیه السلام ، قال : «حدّ التی قد یئست من المحیض خمسون سنة(1)» .

منها : مارواه الشیخ باسناده عن محمد بن یعقوب مثله ، بلا تفصیل فیه فی


1- وسائل الشیعة: الباب 31 من أبواب الحیض، الحدیث 1.

ص:376

کون المرأة من القرشیّة أو غیرها .

ومنها : ما رواه الکلینی باسناده الصحیح _ لولا سهل بن زیاد ، والکلام فیه سهل _ عن عبد الرحمن بن الحجّاج ، قال: قال أبو عبد اللّه علیه السلام : ثلاث یتروجن علی کلّ حال .

. . .إلی أن قال : والتی قد یئست من المحیص ومثلها لا تحیض .

قلت: وما حدّها؟

قال: إذا کان لها خمسون سنة(1)» .

ورواه الشیخ باسناده عن محمد بن یعقوب مثله .

ومنها : مرسلة أحمد بن محمد بن أبی نصر ، عن بعض أصحابنا ، قال : «قال أبو عبداللّه علیه السلام : المرأة التی قد یئست من المحیض حدّها خمسون سنة(2)» .

ورواه المحقّق فی «المعتبر» نقلاً عن کتاب أحمد بن أبی نصر البزنطی مثله .

ورواه الشیخ باسناده ، عن سهل بن زیاد وصدرها مطابقة لصدر مرسلة الصدوق وفیها : «قال: قال الصادق علیه السلام : المرأة إذا بلغت خمسین سنة لم تر حمرة(3)» .

الطائفة الثانیة : وهی فی مقابل الطائفة الاولی وفیها أخبار مطلقة ، دالّة علی کون الیأس بالستّین مطلقاً .

منها : ما رواه الشیخ باسناده الصحیح ، عن عبد الرحمن بن الحجّاج ، عن أبی عبداللّه علیه السلام ، قال: «سمعته یقول : ثلاث یتزوّجن علی کلّ حال ، التی قد یئست من المحیض ومثلها لا تحیض . قلت: ومتی یکون کذلک؟ قال: إذا بلغت ستّین


1- وسائل الشیعة: الباب 31 من أبواب الحیض، الحدیث 3 .
2- وسائل الشیعة: الباب 31 من أبواب الحیض، الحدیث 6 ، 7 .
3- وسائل الشیعة: الباب 31 من أبواب الحیض، الحدیث 6 ، 7 .

ص:377

سنة ، فقد یئست من المحیض ، ومثلها لا تحیض ، والتی لم تحض ومثلها لا تحیض . قلت: ومتی یکون کذلک؟ قال: ما لم تبلغ تسع سنین ، فإنّها لا تحیض ، ومثلها لا تحیض ، والتی لم یدخل بها(1)» .

ومنها : مارواه الکلینی مرسلاً حیث ورد فیه قوله : «وروی ستّون سنة أیضاً»(2) .

نقله بعد مرسلة احمد بن أبی نصر المذکورة سابقا فی عداد خمسین سنة .

فهاتان الروایتان مطلقتان کالطائفة الأُولی ، فی جعل الحدّ ستّین سنة ، بلا تفصیل بین القرشیّة وغیرها .

وأمّا الطائفة الثالثة : وهی الأخبار الدالّة علی التفصیل بین القرشیّة وبین غیر القرشیة .

منها : مرسلة ابن أبی عمیر ، نقله الکلینی باسناده عنه ، عن بعض أصحابنا ، عن أبی عبد اللّه علیه السلام ، قال: «إذا بلغت المرأة خمسین سنة ، لم تر حمرة ، إلاّ أن تکون امرأة من قریش(3)» .

ورواه الشیخ باسناده عن أحمد بن محمد مثله .

ومنها : مرسلة الصدوق ، قال: قال الصادق علیه السلام : «المرأة إذا بلغت خمسین سنة لم تر حم_رة ، إلاّ أن تک_ون امرأة من قری_ش ، وهو حدّ الم_رأة التی تیأس من المحیض(4)» .

ومنها : الروایة التی رواها الشیخ المفید فی «المقنعة» : «قال : قد روی أنّ


1- وسائل الشیعة: الباب 3 من أبواب العدد، الحدیث 3 _ 5 .
2- وسائل الشیعة: الباب 3 من أبواب العدد، الحدیث 3 _ 5 .
3- وسائل الشیعة: الباب 3 من أبواب العدد، الحدیث 3 _ 5 .
4- وسائل الشیعة: الباب 31 من أبواب الحیض، الحدیث 5.

ص:378

القرشیّة من النساء ، والنبطیّة ، تریان الدم إلی ستین سنة(1)» .

بناء علی کون المراد من الاستثناء فی القرشیّة ، هو کونها إلی ستّین بقرینة تلک الأخبار ، وإلاّ تکون ساکتة عن بیان الحد بالنسبة إلی القرشیّة .

ومنها : الروایة التی رواها الشیخ فی «المبسوط» : «قال : تیأس المرأة إذا بلغت خمسین سنة ، إلاّ أن تکون امرأة من قریش ، فإنّه روی أنّها تری الدم إلی ستّین سنة(2)» .

هذه هی الأخبار الواصلة الینا فی خصوص سنّ الیأس فی النساء ، ومع ملاحظة اختلافها لاسبیل لنا الا الجمع بینها بما لا یوجب اطراح شیء منها ، فلابدّ ان تلاحظ أوّلاً لسان الأخبار التی فیها اطلاق الحد بین الخمسین والستّین ، بعد معلومیّة عدم إمکان الاحتفاظ باطلاقها فی کلا الحدّین ، فلابدّ امّا من رفع الید عن أحدهما الموجب لطرحها ، أو ان نتصرف فی اطلاق کلّ واحدٍ منهما ، ولا تردید فی رجحان الثانی إنْ أمکن ، ولو بواسطة وجود شاهد جمع بینهما ، کما سنذکره إن شاء اللّه .

أقول : إنّه إذا لاحظنا الطائفتین المطلقتین من الاخبار نجد أنّهما صدرا عن روا واحدٍ ، وهو عبد الرحمن بالحجّاج ، ومروی عنه واحد ، وهو الإمام الصادق علیه السلام ، وهما مما لایمکن صدورهما عن الامام علیه السلام مع تضمنهما لهذین الحدین المختلفین بالنسبة الی امرأة واحدة ، فلا محیص الاّ من القول بأحد أمرین : أمّا بصدور أحدهما _ من الخمسین أو الستّین _ ورفع الید عن الآخر .


1- وسائل الشیعة: الباب 31 من أبواب الحیض، الحدیث 7 ، 9 .
2- وسائل الشیعة: الباب 31 من أبواب الحیض، الحدیث 7 ، 9 .

ص:379

أو الاخذ بهما مع التصرّف فی اطلاقهما .

نعم ، هما متّفقان فی عدم امکان حصول الیأس فی أقلّ من الخمسین ، کما لا یمکن تحقق الیأس بأکثر من الستّین ، ولأجل ذلک تری أنّ عددا من الأصحاب _ علی ماحکاه المحقّق الآملی فی «المصباح» _ قد جمع بینهما بجمع ، ویعدّ من هو أحسن الوجوه عن السن الذی یقع فیه الیأس ، من دون ملاحظة نفی الإمکان بعد الخمسین وذلک بحمل الستّین علی حدّ الیأس من حیث الإمکان ، فتصیر النتیجة ، نفی تحیّض من کانت بعد الخمسین غالباً ، لأجل ندرة وقوع الحیض بعده ، وإنْ أمکن وقوعه إلی ستّین ، بخلاف ما بعد الستّین ، حیث لا یقع التحیّض بعده أصلاً ولو نادراً .

فالخمسون حدّ الیأس بالنسبة إلی الغالب ، والستّون بالنسبة إلی الجمیع .

وهذا جمعٌ عرفی ، یساعد علیه فهم العرف ، کما یعلم من نظاهره ، مثلاً لو حددنا عمر الإنسان بالثمانین تارة ، وبمأة وعشرین أُخری ، فانّ العرف یحملون الأوّل علی الغالب ، والأخیر علی النادر .

ونتیجة هذا لجمع هو صحّة الحکم بحیضیّة ما یخرج بین الخمسین والستّین ، إنْ أحرز الحیضیّة بالعادة أو بالصفات أو بقاعدة الإمکان ، وذلک لاحراز إمکانه باحتمال وقوعه ولو نادراً إلی الستّین»(1) .

انتهی محل الحاجة من کلامه بتصرف منّا .

أقول : إنّ هذا الجمع وإنْ یعدّ ممکنا ، لولا ملاحظة مضمون الطائفتین _ أی الخارج عن اطلاقهما _ ولکن بعد الرجوع إلی اطلاق کلّ واحدة منهما ، فانه یوجب القول بعدم تمامیة هذا الجمع ، لأنّ کل واحدة من هذین الطائفتین


1- مصباح الهدی: 4/375 .

ص:380

متساویتان من حیث اللسان والإطلاق ، ومن جهة الغلبة أو الإمکان ، فما هو الدلیل علی حمل الطائفة الاولی الوارد فیها سن الخمسین علی الغالب _ مع الاشکال فی اصل اثباته _ وحمل الستین الوارد فی الطائفة الثانیة علی الامکان ، مع أنّ ظاهر کلّ منهما بالطبع الأُوّلی وهو امکان رؤیتها للدم الی السن المذکور فیها ، کما لا یخفی .

فضلاً عن عدم مساعدة عنوان التحدید مع هذا الجمع ، کما هو واضح من جهة صراحة کل طائفة بسنّ معین .

کما أنّه یظهر من المحقّق الآملی ، أنّه قام بتقدیم الطائفة المتضمنة لأخبار الخمسین علی الستّین بدعوی وجود الظن القوی علی أنّ ابن الحجّاج الراوی للستّین هو الراوی للخبر الآخرین المتضمن للخمسین وهی المرسلة المرویة عن «الکافی» ، فالخبران متحدان فی الواقع ، لانّ ووقوع الاختلاف بین الخمسین والستّین کان أمّا من الراوی ، أو من غلط النسخة ، فلا یمکن الاعتماد بصدور خبر الستّین لو لم ندع الاطمئنان بعدم صدوره .

فلا یبقی لنا دلیلٌ یدل علی اعتبار للستّین إلاّ مرسلة الکافی ، فإنّه وان أمکن الاعتماد علیها لورودها فی «الکافی» ، لکنّه لا یقاوم مع أخبار الخمسین التی هی أیضاً مذکورة ومنقولة فی «الکافی» ، مع ما فیها من الصراحة والظهور ، وذهاب المشهور الی العمل بها ، إذ الشهرة قائمة علی القول بالخمسین مطلقاً ، وعلی القول بتفصیل بین القرشیّة بالستّین ، وغیرها بالخمسین .

فالقول بالستّین مطلقاً ، مخالفٌ للقول المشهور ، وإنْ کان القول به قویّاً من حیث القائل .

وفیه : ان دعواه رحمه الله غیر تام ، لأنّه إذا فَرض قدس سره وجود جمیع الاخبار الدالة علی

ص:381

الخمسین والستّین فی «الکافی» ، فکیف له ان یدعی وقوع السهو فی لفظ (الستّین) فی حدیث ابن الحجّاج ، المسند وعدم وقوع ذلک فی حدیثه المرسل ، مع أنّه قد ذهب الی الاعتماد علی المسند فی «الکافی» ، ولم یعتمد علی مسانید التی لم یرویها الکلینی!

فمجرّد وجود الشهرة مع الخمسین ، لا یوجب الحکم بان الصادر عن المعصوم علیه السلام هو لفظه (الخمسین) دون (التسین) ، لاحتمال صدور کلّ واحد منهما ، عن المعصوم علیه السلام کما أنّ کلّ واحد منهما صار مستندا لفتوی جماعة من الفقهاء ، فلابدّ حینئذ من جمیع آخر غیر ما ذکر من الوجهین .

فنقول : لابد ان نحاول الجمع بین الطائفتین بجمع یوجب العمل بهما ، مع حفظ اطلاق وحدة المتعلّق ، من حیث الوقوع والإمکان ، ولایتم ذلک إلاّ بالتصرّف فی الاطلاق من حیث الاشخاص والافراد من القرشیّة وغیرها ، بأن یحمل الستّین علی الأُولی والخمسین علی الثانیة ، فان مثل هذا الجمع یوجب العمل بهما وعدم طرح الروایتین ، إلاّ أنّه لابدّ أن نعثر علی هذا الجمع من دلیل شرعی یوید ذلک ، حتی یفیدنا کون الجمع جمعاً عرفیّاً ، بحمل کلّ واحد من الدلیلین علی القدر المتیقن ، ورفع الید عن الظهور فی الأظهر ، بمثل رفع التعارض الموجود بین دلیلی (ثمن العذرة سُحتٌ) ، ودلیل (لا بأس ببیع العذرة) ، حیث نرفع عنهما التعارض بحمل کلّ واحد منهما علی النصّ ، ورفع الید عن الظاهر فی الآخر ، من مأکول اللحم وغیر المأکول .

وفی المقام نحمل دلیل الخمسین علی غیر القرشیّة وهو المتیقن ، ونرفع الید عن القرشیّة من حیث الظهور ، ونحمل دلیل الستّین علی القرشیّة ، وهو المتقن منها ، ونرفع الید عن ظهوره فی غیرها ، فیصیر أحادیث الطائفة الثالثة هو شاهد

ص:382

جمع لنا علی رفع التعارض والتنافی بین الطائفتین الاولی والثانیة .

لا یقال : بأنّ أخبار الطائفة الثالثة لا یمکن التمسّک بها لشاهد الجمع ، لأنّ عمدتها هی مرسلة ابن أبی عمیر ، ولا صراحة فیها فی کون الحمرة التی تراها القرشیّة بعد الخمسین حیضاً ، إذ لا منافاة بین رؤیتها الحمرة ، وعدم اعتبار الشارع تلک الحمرة حیضاً ، مع أنّه لم یرد فی حدیث ابن أبی عمیر ذکر الستّین ، فیمکن أن یکون حیض القرشیّة غیر الخمسین ودون الستّین ، أو لا نهایة لها بل تری الحمرة حتّی تموت .

والقول بأنّ الستّین مذکور فی المرسلة التی رواها الشیخ فی «المبسوط» فیتعیّن أن یکون ذلک .

فمردود بإمکان أن یکون مراده من المرسل هو مرسل ابن أبی عمیر ، ومرسل الصدوق ، وعدّ تصریح الشیخ بذلک _ ای إلی الستّین فی القرشیّة _ من استنباطه الشریف ، لاالمستفاد من مضمون الروایة ، مع أنّ هذین المرسلتین أیضاً لا یصحّ التمسّک بهما ، لاثبات الستین فی القرشیّة ، لأجل إمکان کون نفی الحمرة إلی خمسین ، هو نفی الصفات ، إذ الحمرة عبارة عن الصفة العارضة علی الدم ، وجعلها کفایة عن الدم نفسه وان کان ممکناً ، إلاّ أنّه لیس بمثابة ندّعی ظهور اللفظ فیه .

مضافاً إلی أنّ الذهاب إلی تقیید أخبار الخمسین بهذه الأخبار ، بحملها علی غیر القرشیّة أمرٌ غیر بعید ، فانّ ذهاب معظم الأصحاب إلیه ، یخرجه عن الاستبعاد ، إلاّ أنّ تقیید الاخبار المطلقة بالستّین ، باخراج غیر القرشیّة من طوائف النساء عنها ، وابقاء القرشیّة فیها فقط ، یستلزم تخصیص الأکثر المستهجن وإن لم نقل بقبحه ، فلا أقل لا یخلو عن بُعدٍ .

ص:383

مع أنّ القول بالفرق بین القرشیّة وبین غیرها فی ذلک فی نفسه بعیدٌ ، مع ما هو المعلوم المشاهد من عدم التفاوت بینهما ، مع کون الملاک فی هذا التفاوت هو اختلاف الأفرجة الحاصلة من اختلاف البلاد وتفاوت سنوات العمر .

فنیتجة هذا الاشکال ، هو عدم إمکان الاعتماد علی هذا الدلیل والقول بهذا التفصیل من الستّین فی القرشیّة والخمسین فی غیرها .

أقول أولاً : بأنّه لم یصدر من الأئمّة علیهم السلام فی حقّ النساء ، إلاّ طائفتان من الاخبار منها تفید الخمسین ومنها تفید الستین عن المرأة فإذا استفدنا سنّ الخمسین فی حقّ القرشیّة من قوله : «إذا بلغت المرأة خمسین لم تر حُمرة» ، حیث أنّه علیه السلام یخبر بنفی الحمرة فی الخمسین إلاّ القرشیّة ، حیث أنها تکون خارجة منها ، فلو لم یرد خبراً _ ولو علی نحو الاطلاق _ فیه ذکر الستّین ، لم یمکن لنا الحکم ثبوت الستین للقرشیّة ، ولکن إذا بلغنا عدّة أخبار مطلقه تفید بأنّ سن الیأس یکون ببلوغ المرأة الستّین ، فتدخل القرشیّة فیها ولو لم یصرّح بها ، فضلاً عمّا قد صرّح بذلک فی مرسلتی المفید و«المبسوط» .

وثانیاً: إذا سلّمنا کون ورود الروایة لبیان حکم الحائض لا غیرها ، لعدم وجود المناسبة بین ذکر الخمسین مع هذا الاستثناء ، إلاّ لبیان ترتیب آثار الحیض وعدمه ، وهو لیس إلاّ کونه بصدد بیان سن الیأس ، فلا یکون حینئذ ذکر الحمرة إلاّ اشارة إلی دم الحیض الذی یکون غالباً موصوفا بهذا الصفة ، کما لا یخفی .

فبذلک یصحّ دعوی ظهور الخبر ، فی کونه بصدد بیان أمد الیأس فی النساء ، فیصیر معناه مع الاستثناء هو ما ذکر .

وثالثاً: أنّ تقیید مطلقات الستّین بخصوص القرشیّة ، لا یوجب تخصیص الاکثر المستهجن ، لأنّ الملاک فی الکثرة والقلّة لیست إلاّ لأفراد دون العناوین ،

ص:384

ومن الواضح أنّ النساء القرشیات والهاشمیات _ المنتسبات إلی أهل البیت وفاطمة الزهراء علیهم السلام الملقبه بالمبارکة لکثرة نسلها _ هن فی الکثرة والزیادة بحیث لایوجب اخراج غیرهن من الحکم تخصیص الاکثر المستهجن .

مع إمکان القول _ بعد اثبات الاخبار المفصّلة بضمیمة الأخبار المطلقة التی وردت فیها لفظة الخمسین مطلقا _ بکون المراد من الستّین فی المطلقات من أوّل الأمر هن القرشیات ویشابه هذا الاختصاص بعد الاطلاق ، ما ورد من قولهم : «ضیّق فمّ الرّکیة» ، لا أن یراد منها المطلق اولاً ثمّ تقییده بخصوص هذه الطائفة حتّی یقال بتلک المقالة .

فمن جمیع ما ذکرنا ، ظهر بأنّ أحسن الوجوه فی جمع الاخبار ، وأبعدها عن الشبهة ، هو الذی ذهب إلیه المشهور ، ومعظم الأصحاب ، من التفصیل بین القرشیّة وغیرها بالستّین فی الأُولی والخمسین فی غیرها ، کما علیه أکثر المتأخّرین ، وجلّ أصحاب التعلیق علی «العروة» .

بقی هنا حکم النبطیّة التی وردت ذکرها فی مرسلة المفید فی «المقنعة» ، فانه یجب القول بانه لاخصوصیة لها ، بل هی حکمها حکم سائر النساء فی بلوغ سن الیأس ، لأنّ الخبر الذی ورد فیه ذکرها مضافا الی ارساله ، غیر منجبرٌ بعمل الأصحاب ، لأنّ أکثرهم لم یذهبوا فیها إلاّ الی الخمسین ، کما هو المشاهد فی فتاوی المصنف قدس سره ، وصرّح بذلک المحقّق الآملی فی «مصباحه» بقوله : «ولم یعمل بها نفسه» ، وکذا نقله الشیخ الأعظم فی «طهارته» .

وبذلک یظهر الجواب عمّا إدّعاه بعض _ کما فی «مصباح الفقیه» _ من أنّ ضععفه منجبرٌ بالأُصول والشهرة . أمّا الأُصول فمنقطعة بمرسلة ابن أبی عمیر المتقدّمة ، حیث اختصّت بالقرشیّة دون غیرها .

فی أحکام الحیض / مقتضی الاُصول فی حدّ الیأس

ص:385

وأمّا دعوی الشهرة ، فموهونة باهمال ذکره فی کلمات کثیر ممّن قال بالستّین فی الهاشمیّة ، کالشیخ والصدوق والمحقّق فی «المعتبر» ، فضلاً عمّن قال بالخمسین مطلقاً .

وهکذا صار حکم المسألة واضحا ، ولکن لاینبغی ترک الاحتیاط فانه مطلوب فیها علی کلّ حال ، لأنّه طریق النجاة ، وسبیل النجاح ، واللّه الهادی إلی سبیل الرشاد .

المقام الثالث: هو البحث عن اقتضاء الأُصول فیما إذا لم نصل إلی حکم معیّن عن طریق الاستعانة بالأدلّة الإجتهادیّة ، من جهة فقدانها تارة ، أو اجمالها اخری ، أو تعارضها وتساقطها ثالثة ، فهل الأصل یقتضی الحکم بالخمسین أو الستین؟ وما هو الأصل الجاری فی المقام ، هل هو موضوعی أو حکمی؟ بعد معلومیّة حاکمیّة الأصل الجاری فی الموضوع علی الأصل الحکمی ، ومعلومیّة لزوم الرجوع إلی الأصل الحاکم عند وجوده ، وإلاّ یجب الرجوع إلی الأصل المحکوم ؟

قد یقال : إنّ لنا هنا أصلاً موضوعیّاً حاکماً علی سائر الأُصول ، الذی یمکننا تنقیح الموضوع به والحکم بالحیضیّة بواسطة العادة أو الصفات أو بقاعدة الإمکان ، إذا کان مفاد موضوع الأصل یقتضی ذلک أو الحکم بعدم الحیضیة اذا کان مفاده لایقتضیها . وهذا الاصل الحاکم هو استصحاب استعداد المرأة للتحیّض بعد الخمسین ، حیث أنّ استعدادها له قبل الخمسین معلوم ، ویشکّ فی زواله بعد الخمسین ، فبذلک الاستصحاب یوجب احراز الحکم وأنّ المرأة لها القابلیة علی ان تحیض بعد الخمسین ، بإمکان الرجوع إلی إحدی القواعد الثلاث ، من العادة ، أو الرجوع الی الصفات ، أو الی قاعدة الإمکان ، فإمکان تحیّضها الذاتی قبل الخمسین وجدانی ، وبعد الخمسین تثبت ذلک بالأصل ،

ص:386

فیترتّب علی هذا الأصل جمیع الأحکام المترتّبة علی الحیض بعد احرازه ، بواسطة احدی تلک القواعد الثلاث .

وهذا الأصل حیث کان موضوعیّاً لو جری لکان حاکماً علی کلّ أصل یجری فی المقام ، من الأُصول الموضوعیّة ، أو الحکمیّة .

وقد اشار إلی هذا الأصل صاحب «الجواهر» ، فی ذیل کلام المحقّق فی «الشرائع» عند حکمه ببلوغ الیأس بالستّین ، قال : «من مبدأ ولادتها _ کما عن العلاّمة فی بعض کتبه _ استصحاباً لبقاء قابلیّتها فیما دوّنها . . . الی آخره» .

بل وکذلک یستفاد من کلام المحقّق الآملی قدس سره فی «مصباحه» .

إلاّ أنّه یرد علیه : بکون القادح فی جریانه ، کون الشکّ فی المقام من قبیل الشک فی المقتضی ، فإن البلوغ إلی حدّ الیأس ، لیس مانعاً عن التحیّض ، وإنّما هو عدم البلوغ الی التسع أیضاً کذلک ، وحیث أنّه قدس سره لا یقول بحجیّة الاستصحاب عند الشکّ فی المقتضی _ کالشیخ الأنصاری قدس سره _ فلیس باستطاعته التمسک بهذا الاصل فی المقام ، بل علیه ان یرجع إلی أصل آخر ، ولو کان محکوماً بهذا الأصل .

ولکن نحن نقول بحجیّته ، تبعاً لکثیر من المحقّقین والمتأخّرین ، ولعلّ منهم صاحب «الجواهر قدس سره » ، حیث أشار إلیه ، فلازم الرجوع إلیه هو الحکم بوجود الاستعداد ، لإمکان الرجوع إلی احدی القواعد الثلاث .

فلولا الدلیل اجتهادی علی الخلاف ، لکان المقتضی بالرجوع إلی هذا الأصل هو إمکان الحیضیّة بعد الخمسین حتّی بلوغ المرأة الستّین .

وهذا هو الأصل التنجیزی فی المورد .

کما أنّ مقتضی الأصل التقدیری أو التعلیقی ، هو الحکم بذلک أیضاً .

ص:387

توضیحه : بأن یقال بأنّ حالة المرأة قبل بلوغها الخمسین کانت محکومة بالحیض ، ای کانت تعدّ حائضا بمجرد رؤیتها الدم لثلاثة أیام متوالیة ، والآن بعد أن تجاوزت الخمسین ، فلو رأت الدم ثلاثا متوالیة ، فانها تکون حائض .

هذا ، بناء علی ما قرّره الشیخ الأنصاری قدس سره من عدم الفرق فی حجیّة الاستصحاب ، بین التقدیری والتنجیزی ، فهذا الأصل أیضاً یکون جاریاً ومقدما علی سائر الأُصول الحکمیّة ، لکونه أصلاً موضوعیّاً ، حاکما علی أستصحاب الطهارة ، فضلاً عن استصحاب وجوب العبادات المشروطة بالطهارة .

فهذا الأصل یوجب الحکم بجواز الرجوع إلیه ، حتّی عن مثل المحقّق الآملی والشیخ الأعظم ، الذی ذهبا إلی عدم حجیّة الاستصحاب فی الشکّ فی المقتضی ، فلازم هذا أیضاً هو الحکم بالحیضیّة ، حتّی إلی الستّین فی جمیع النسوة من القرشیّة وغیرها ، لو لم یقم دلیل اجتهادی علی تعیین الخمسین فی حقّ بعضهنّ أو کلّهنّ ، أو لم نقل باختصاص الستّین للقرشیّة دون غیرها ، وإلاّ فان المرجع هو استصحاب عدم القرشیّة ولو بأصل عدمی أزلی ، فلا تثبت الستّین لغیرها .

نعم ، علی فرض القول بعدم حجیّة الاستصحاب التعلیقی ، تصل النوبة بلزوم الرجوع الی سائر الأُصول ، مثل استصحاب بقاء الطهر الثابت قبل رؤیة الدم ، حیث أنّ المرأة قبل رؤیتها لهذا الدم کانت طاهرة ، وبعد رؤیته له یشکّ فی بقاء طهارتها فتستصحب ، وهذا أیضاً أصل موضوعی ، یترتّب علیه اثبات جمیع الأحکام المترتّبة علی الطاهر ، ویعدّ حاکما علی الأُصول الحکمیّة الجاریة فی المقام(1) .


1- مصباح الهدی: 4/378 .

ص:388

هذا کما فی «مصباح الهدی» للآملی قدس سره .

ولابدّ لهذا الکلام من توضیح ، فنقول : بأنّ المراد من استصحاب الطهر ، هو الطهر عن الحدث الأکبر ، وإلاّ فانّه بمجرد رؤیتها للدم تقطع بتحقّق الحدث الأصغر أو الأکبر ، فلا یمکن لها اجراء استصحاب الطهر مطلقاً ، مع أنّه لایمکن بالتمسک بهذا احراز عدم الحیضیّة ، لأنّ عدم تحقیق الحدث الأکبر ، أعمٌّ من الحیض ، لإمکان تحقّقه فی ضمن الاستحاضة المتوسطة أو الکثیرة _ بناءً علی کونها من الأحداث الکبیرة ، لاحتیاجها إلی الغسل _ فاجراء هذا الأصل لا یثبت عدم الحیضیّة ، لکونه لازماً أعم ، هذا اذا لم نقل بأنّ اثباته بذلک یجعل الأصل مثبّتاً .

مضافاً إلی معارضة هذا الأصل ، مع اصالة عدم کونها مستحاضة ، عند دوران الأمر بین الحیضیّة والاستحاضة ، فبعد التعارض والتساقط لابدّ من الرجوع الی أصل آخر حکمی فی المقام ، وهو مثل وجوب العبادات التی کانت واجبة علیها قبل رؤیة الدم ، فتشکّ فی سقوطه بعدها ، فالأصل بقائه ، وهذا أصل حکمی یجری فیما إذا لم یجر فی محلّه أصلاً موضوعیّاً ، وقد عرفت وجوده هنا ، فلا تصل النوبة إلی القول بوجوب الاحتیاط ، بالجمع بین تروک الحائض وأعمال المستحاضة ، کما علیه المحقّق الآملی .

وان کان ملاحظة الاحتیاط _ خصوصاً فی المقام _ أمراً مطلوباً جدّاً ، فلتیأمّل .

هذا ، اذا لم نقل باختصاص الستّین للمرأة التی المنسوبة الی قریش وقلنا بشمول الستین حتی لغیر القرشیة _ ولو احتمالاً ، کما هو ظاهر کلام الماتن _ وإلاّ فانّه عند الشکّ فی ذلک بعد الخمسین ، والشکّ فی المصداق ، یجب الرجوع إلی استصحاب کون المرأة قرشیّة ، بناء علی جریان الاستصحاب فی الأصل العدم الأزلی ، کما هو المختار فی الأُصول ، وکنا قد أجبنا عمّا قبل عن الاشکال فیه ،

ص:389

من عدم وجود حالة سابقة علمیّة إلاّ بعدم موضوعها ، أو کون الصفة من أوصاف ذاتها المتحقّقة مع الذات من رتبة واحدة من دون وجود سابقة لها او لاحقة ، حتّی یتحقّق فیه الیقین والشکّ ومن ثم نجری الاستصحاب .

فی أحکام الحیض / المراد من القرشیّة فی حدّ الیأس

فوجود هذا الاستصحاب _ الذی یعدّ من الأُصول الموضوعیّة المتقدّمة علی الأُصول الحکمیّة _ یوجب الحکم بترتیب آثار الطاهر علیها بعد الخمسین ، ویختصّ حکم الخمسین لغیر القرشیّة ، فلا مجال حینئذٍ للقول بحسن الاحتیاط بالجمع بین تروک الحائض وأعمال المستحاضة .

ولکن قد عرفت حُسن الاحتیاط علی کلّ . حال ، هذا إذا کان الشکّ فی المصداق ، أی لا تعلم أنّها قرشیّة أو غیرها ، من ثبوت الحکم فی کلّ منهما ، من الستّین للأُولی ، والخمسین للثانیة ، لا ما إذا کان التردّد فی أصل الحکم ، وإلاّ فقد عرفت أنّ مقتضی جریان الأُصول یکون قبل ذلک .

بقی هنا فرعان:

الفرع الاول : فی بیان المراد من القرشیّة _ وهم طائفة من العرب _ والی مَن تنتمی هذه الطائفة ، فهل انتسابهم یکون مطلقاً من ناحیتی الأب والام ، أو یکون مخصوصاً بملاحظة ناحیة الأب ، سواءً کان مع الأم أم لا ، ولا یشمل خصوص من انتسب الیهم عن طریق الام؟

الذی علیه المشهور _ کما صرّح به الشیخ الأعظم فی کتاب «الطهارة» ، بل قد ارسله جماعة من الأعاظم ارسال المسلّمات ، بل فی «الجواهر» کونه مشهوراً نقلاً وتحصیلاً _ کون القرشیّة هی المنتسبة إلی نضر بن کنانة بالأبوین ، أو بالأب وحده دون الام وحدها .

وهذا هو المنقول عن «الصحاح» ، بل وفی «النفحة العنبریّة» لابن أبی الفتوح :

ص:390

ومِنْ وُلد کنانه _ النضر _ وهو الملقّب بالقرشی ، وکان من أجداد النبیّ صلی الله علیه و آله وسلم ، ووجه تسمیته هذه الطائفة بقریش ، ویقال : قرشیٌ ، علی المحکّی عن «الصحاح» للجوهری ، نقلاً عن ابن عباس : إنّما سُمّیت قریش قریشاً ، لأنّ فی البحر حوتاً یُسمّی القریش یأکل الحیتان ولا یؤکل ، ویعلوها ولا یعلی علیه؛ فسمّیت بذلک قریش قرشیّاً .

وفی «المجمع» ، وقیل : سُمّیت قریشاً لإجتماعها بعد تفرّقها فی البلاد ، حیث کان نضر رجلاً کبیراً ذا عقل ، وکانت له سیادة القوم ، فجمّع شتاتهم ، وکانوا یجتمعون علی خوانه فی کلّ صباح ، ومن هنا سُمّی هولاء بقریش .

وهذا هو القول الأوّل فیه .

وفی «مجمع البحرین» : وقیل القرشی ، هو فِهر _ بکسر الفاء وسکون الهاء _ بن مالک بن نضر ، وکان هو أیضاً رئیس القوم بمکّة ومجمع قبیلة قریش .

وفی «العقد الفرید» : جدّ قریش کلّها فهر بن مالک ، فما دونه قریش ، وما فوقه عرب .

إلی أن قال : وأمّا قبائل قریش ، فإنّما ینتهی إلی فهر بن مالک لا تتجاوزه .

وفی «سبکّ الذهب» : کلّ من وَلَده فهر فهو قرشی ، ومن لم یلده فلیس بقرشی .

ونحوه ما فی «المختصر من أخبار البشر» لأبی الفداء ، وذکر ذلک أیضاً فی «الشجرة المحمدیّة» لأبی علی الجوانی النسابة ، وکذا فی «السیرة النبویّة» لابن دحلان .

وفی «السیرة الحلبیّة» : فهر اسمه قریش ، قال الزبیر بن بکّار : أجمع النسابون من قریش وغیرهم ، أن قریشاً إنّما تفرّقت عن فهر .

وهذا هوالرأی الثانی فی المقام .

بل قد یظهر من غیر واحد ، کون قریش من نسل قُصیّ (بضمّ القاف وفتح

ص:391

الصاد المهملة والیاء المشدّدة) ، وکان هو أیضاً مجمع قریش ، وأوّل من سلّموا علیه بالسلطة والمُلک ، ویسمّی بالجمع لجمعه شتات قبیلته من البلاد وأسکن کل واحد فهم فی محلة من محال مکه .

فی أحکام الحیض / ملاک الانتساب إلی قریش

ولعل وجه الاختلاف فی تسمیة هؤلاء بقریش لأجل بروز الملک والسیادة منهم بالنسبة إلی غیرهم ، فلا منافاة فی تسمة فهر وقُصی بقریش ، مع کون الأصل فی هذا هو نضر بن کنانة ، لکونه رجلاً ذا عقل ، أی غلب الناس فی عصره ، من حیث الدرایة والعقل والسیادة ، وجمع شتات أخوانه ، کما عرفت .

فلا یبقی اشکال فی ترتب هذا الحکم المعین علی کل من انتسب إلی نضر من هذه الناحیة _ کما توهّمه صاحب «المستمسک» _ وإن کان ما یهوّن الأمر فی عصرنا هذا ، خروج هؤلاء عن محل الابتلاء لانعدامهم واستئصال شأفتهم ، لان المعروف من اولاد فهر او غیره الآن هم نسل بنی هاشم _ کما فی «الجواهر» _ بل ولا یعرف منها الآن إلاّ من انتسب إلی أبی طالب والعباس ، فلعلّ لذلک قال الراوندی باختصاص قریش من حیث الحکم بالهاشمیّة ، أی لم یبق من قریش ولم یتحقّق منهم سوی هولاء ، بل ینبغی أنْ نقول بانه لم یبق من قریش الا من هو منتسبٌ لأبی طالب و أولاده الکرام ، لعدم تحقّق الهاشمی فی غیرهم .

هذا تمام الکلام فی طائفة قریش ونَسَبهم .

الفرع الثانی : فی بیان حقیقة ما توجب الانتساب الی هذه الطائفة .

البحث فی أنّ ملاک الانتساب إلی طائفة _ قریش هل یکون بالأب وحده ، بحیث لا یشمل من انتسب الأم وحدها أم لا؟

والماتن لم یتعرّض ولم یشر إلی ذلک فی عبارته ، ولکن المسألة ذات قولین:

القول الاول : قول بالتعمیم ، أی کون الإنتساب یحصل علی نحو الأطلاق ،

ص:392

عن طریق الأب أو بالام فقط .

هذا ، کما علیه صاحب «الحدائق» ، ونسبه إلی ظاهر جملةٍ من الأصحاب .

واحتمل البغض اعتبار الأمّ ، من جهة أنّ للام مدخلاً فی ذلک ، بسبب تقارب الأمزجة ، ومن ثمّ اعتبر نحو ذلک فی المبتدأ _ کما سیأتی إنْ شاء اللّه تعالی _ من لزوم الرجوع إلی الخالات وبناتها لأجل معرفة کیفیة العادة ودوامها ومدتها .

خلافاً لعدد کبیر من الأصحاب ، منهم صاحب «الجواهر» ، والشیخ الأعظم والحکیم والمحقّق الهمدانی ، بل المشهور علی لزوم کون الانتساب یحصل عن طریق الأب واستدلّوا لذلک بالتبادر ، وصحّة السلب عن المنتسب بالأم ، لدلالة النص الوارد من قوله : «إلاّ أن تکون امرأةً من قریش» ، فإنّه أظهر فی صدق من انتسب إلیه بالأب من لفظ القرشی والقرشیّة .

ولکن المحقّق الآملی فی «مصباحه» قد انکر التبادر ، بحیث یودی الی صیرورة من ینتسب الیهم عن طریق الام مجازیا ، ومنع صحّة السلب عنه ، بل قال : «والعرف واللغة شاهدان علی صحّة الاطلاق علی المنتسب بالام ، کما یظهر من الاستدلالات الواردة فی الأخبار ، علی صحّة اطلاق أولاد رسول اللّه علی ولد فاطمة علیهاالسلام .

وأمّا قول القائل: (بنونا بنو أبنائنا) فهو مردود علی قائله .

وما ورد فی النصّ من قوله علیه السلام : «امراةً من قریش» ، لا ظهور له فی الاختصاص الی المنتسب بالاب ، لأنّ المراد من قریش ان کان طائفتهم _ کما هو الظاهر _ حیث أنّه إذا اطلق یراد منه الطائفة _ فالظاهر من کلمة (من) فی قوله : «من قریش» أن تکون للتبعیض .

فالمراد حینئذ الاسناد إلی طائفة خاصّة ، یکفی أدنی الملابسة ، ولا یعتبر فیها

ص:393

التولّد من شخصٍ خاص تسند إلیه تلک الطائفة ، فضلاً عن أن یکون بالاب ، بل لم یظهر فی محقّق الطائفة والعشیرة اجتماع أحادٍ یتواطون فی الانتساب إلی شخص واحد ، لإمکان تحقّقها بسبب التواطئ علی الاجتماع فی مکان واحد ، واشتراکهم فی الماء والکلاء .

وإن کان المراد من قریش هو نضر بن کنانة ، یصیر مفاده حینئذ امرأة من ولد قریش _ أی النضر المذکور _ ، فیکون حاله حال الاسناد إلی شخص بالولادة ، لیس فیه ظهور فی خصوص المنتسب إلی الأب ، فضلاً عن أن یکون اظهر .

وبالجملة ، لا وجه لدعوی الاختصاص بخصوص من انتسب إلی قریش بالاب ، وأمّا وجه اختصاص الخُمس بمن انتسب إلی هاشم بالاب ، فلیس لأجل صحّة النسب الهاشمی عن المنسوب الیه بالأم فقط ، بل لأجل ورود النصّ علی اختصاصه بمن نسب إلیه بالاب»(1) ، إنتهی کلامه .

ولا یخفی علیک ما فیه من الاشکال ، لوضوح اننا نلاحظ الحقیقةً الموجودة عند العرف فی عصرنا ، بل فی العصور السابقة أیضا ، من أنه إذا قال أحدهم : ارید أن اتزوج بنتا من العشیرة الفلانیّة ، أو من قبیلة کذا ، لم یفهموا من ذلک کونها من الطائفة بالمعنی الذی ذکره رحمه الله ، من أن هذه الطائفة أو القبیلة تسموا باسم معین ، لأجل وحدتهم فی المحل والمرعی والکلاء ، کما أشار إلیه ، ولا بمعنی انهم ینتسبون الی افرادها عن طریق الام ، بل یقصدون ارتباط البنت مع القبیلة عن طریق الأب ، کما تری ذلک فی قصّة علی بن أبی طالب علیه السلام مع عقیل حیث طلب منه أن یختار له بنتا من بنی کلاب وهی التی تزوجها وکانت تُسمی بفاطمة


1- مصباح الهدی: 4/380 .

ص:394

الکلابیّة المشهورة ب(اُمّ البنین) ، ولا یطلق عنوان بنت بنی فلان الاّ التی انتسب الیهم عن طریق الاب ، وهو واضح ، کما ان الأمر کذلک فی عصرنا الحاضر حیث یدّعی کلّ قوم وعشیرة بآبائهم ، کما ورد فی الآیة من قوله عزّ وجلّ: «ادْعُوهُمْ لآِبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللّه ِ»(1)(2) .

وأمّا کون الولد من طریق الام أبناً وبنتاً للجدّ ، ویصحّ اطلاق هذا الوصف علیها فهذا الأمر صحیح ، ولایمکن انکاره ، ولذلک کان صحّة اطلاق ابن رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم ، علی الحسنین علیهماالسلام ، بل وعلی الأئمّة المعصومین علیهم السلام ، وهذا أمرٌ ثابت ویعدّ من الثوابت العرفیّة واللغویّة .

فی أحکام الحیض / المراد من النبطیّة فی حدّ الیأس

وأمّا اطلاق نسبة الهاشمیّة والقرشیّة علی فاطمة علیهاالسلام وبناتها زینب وام کلثوم علیهاالسلام لا تکون إلاّ من طریق الأب ، حیث أنّ فاطمة کانت بنتاً لرسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم الذی هو سید بنی هاشم .

وأمّا زینب وأم کلثوم فهن یعدن من الهاشمیات ، لکن لا عن طریق رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم ، بل عن طریق أمیر المؤمنین علی بن أبی طالب علیه السلام .

وکیف کان ، فان هذا الحکم یعدّ عندنا من الثوابت ، کما علیه معظم الأصحاب ، ولأجل ذلک نکتفی فی الحکم بلزوم اعطاء الخُمس إلی السادات والهاشمیین لاطلاق الدلیل بأنّه لهم ، وللتردید فی کفایة اعطاء ذلک لمن ینتسب الی هاشم عن طریق الام ، کما لا نحتاج إلی دلیل خاص یفید جواز الاعطاء إلاّ إلیهم ، کما هو الحال فی الزکاة ، حیث قام الدلیل علی عدم جواز إعطاء الزکاة الیهم ، لأنّ


1- سورة الأحزاب: آیة 5 .
2- مصباح الهدی: 4/380 .

ص:395

الصدقة محرّمة علی الهاشمیین ، واما غیرهم فان دفع الزکاة الیهم جائزٌ ولانحتاج لقیام دلیل یفید الجواز أو یفید اختصاص ذلک بمن انتسب الی غیر بنی هاشم من طریق الأب ، کما لا یخفی .

وأمّا ما استدلّ به صاحب «الحدائق» من حکم الشارع فی الرجوع فی العادة فی المرأة المضطربة الی عادة من یقرب الیها فی الامزجة من الخالات وبناتها ، فهو أمر عجیب ، لأنّ دعوانا عن القبیلة والانتساب الیها ، وأنه لا یکون الا عن طریق الاب ، هذا غیر مرتبط بورود الدلیل علی کون عادات النساء فی الامزجة علی ما یتقاربهنّ بالام ، وهنّ الملاک فی الرجوع ، إذ لم یرد فیه دلیل یفید لزوم الرجوع الی طائفة کذا وکذا حتّی نجعله شاهداً علی خلاف ما ادعیناه ، فلا منافاة بین الحکمین ، بل بینهما کمال الملائمة ، کما لا یخفی .

وبقی ان نبحث عن حکم النبطیّة التی قد ورد ذکرها فی مرسلة المفید قدس سره ، الذی صرح فی «المقنعة» ، وقال : «وقد روی أنّ القرشیّة والنبطیّة من النساء تریان الدم إلی الستّین»(1) .

والمراد من النبطیّة هی المرأة المنتسبة إلی النبط ، وهم کما عن «مروج الذهب» ولد نبطة بن ماس بن آدم بن سام بن نوح .

وقیل : هم قومٌ کانوا ینزلون سواد العراق ، کما عن «العین» و«المحیط» و«الدیوان» و«المغرب» و«التهذیب» للازهری .

وقیل : هم قومٌ ینزلون البطائح بین العراقین _ ای البصرة والکوفة _ کما فی «الصحاح» و«القاموس» و«النهایة» ، بل فی «جامع المقاصد» أن الذی کثر فی


1- وسائل الشیعة: الباب 31 من أبواب الحیض، الحدیث 9 .

ص:396

کلام أهل اللغة ، أنّهم جیلٌ کانوا ینزلون البطائح بین الکوفة والبصرة .

وفی «کشف اللثام» : قال السمعانی : إنّهم قوم من العجم .

وقیل : إنّه من کان أحد أبویه عربیّاً والآخر عجمیّاً .

وقیل : عربٌ استعجموا ، أو عجمٌ استعربوا .

وعن ابن عباس رحمه الله : «نحن معاشر قریش حیٌ من النبط» .

وقیل : هم قومٌ من العرب دخلوا فی العجم والروم ، واختلطت أنسابهم ، وفسدت ألسنتهم ، وذلک لمعرفتهم بانباط الماء أی استخراجه ، لکثرة فلاحتهم .

هذا کما عن «مصباح المنیر» .

بل قد نقل صاحب «الجواهر» عن تصریح بعض الأصحاب ، بأنّهم لایُعرفون فی هذا الزمان .

ثمّ قال : وفیه تأمّل بناءً علی ما ذکرناه .

ولا یخفی علیک أنّه بناء علی نقل ابن عباس ، فیحتمل کون القرشیّة والنبطیّة الواردة فی مرسلة المفید طائفة واحدة ، لأنّ القرشیّة کانت حیّا من احیاء النبط .

الا أنّه بعیدٌ ، لأنّه یمکن حینئذ أن یکون من باب ذکر العام بعد الخاص ، لأنّ النبطیّة تعد أوسع من القرشیّة فلا یتحدان معاً .

ومع عدم وضوح حقیقة هذا العنوان فی عرفنا الخارجی ، یوجب صعوبة اجراء الحکم علیهم بالخصوص ، إذا لم یصدق علیهم القرشیّة ، لأنّهم معیّنون¨ الخارج .

وما ذکره صاحب «الجواهر» تبعاً لشیخه کاشف الغطاء بکون المدار فی التسمیة علی السکن فی البطائح بین العراقین ، فالخارج عنها بنیّة الاعراض عن التوطّن بها ، والعزم علی التوطّن فی غیرها ، لا یجری علیه الحکم ، والداخل فیها بنسبة التوطّن یکون الحکم جاریا علیه ، کما قال استاذه فی «کشف الغطاء» بأنّ الحاق کلّ نازل بقصد التوطّن غیر بعید .

ص:397

وکلّ دم تراه المرأة دون ثلاثة ، فلیس بحیض ، مبتدأة کانت أو ذات عادة ، وما تراه من الثلاثة إلی العشرة ، ممّا یمکن أن یکون حیضاً ، فهو حیض ، تجانس أو اختلف (1).

مع أنّه لا یخفی ما فیه ، لأنّ الظاهر من التفاسیر فی معناها ، من أن النبطیة طائفة خاصّة ، من عشیرة مخصوصة _ مثل القرشیّة _ لا أن یکون اختیارهم باعتبار توطّنهم فی مکانٍ خاص ، حتّی یدور الحکم مداره نفیاً واثباتاً ، کما قاله صاحب «الجواهر» وقد اشار إلی ذلک المحقّق الآملی ، ونعم ما قال .

وکیف کان ، فان فقدان هذه الطائفة بهذا العنوان فی زماننا هذا ، یغنینا عن اطالة البحث فیهم ، إذ لا یترتّب علیه أثر فی زماننا هذا ، کما لا یخفی .

(1) واعلم أنّ المصنّف قد صرّح هنا بقاعدة الإمکان ، وهی مخصوصة بباب الحیض ، وهذه القاعدة بما أنّها تعدّ من الامور المهمّة فی هذا الباب الذی قد وقع الکلام فیها من الاعلام ، من القدماء وما بعدهم من المحقّقین والمتأخّرین ، إلی زماننا هذا ، وقد وقع فیها مباحث کثیرة ، فلذلک صمّمنا علی بیان القاعدة وبحثها تفصیلاً حتّی یستفاد منها فی مسائل هذا الباب وغیره ، فنقول ومن اللّه الاستعانة وعلیه التکلان :

فی أحکام الحیض / قاعدة الإمکان

البحث فیها یقع فی أُمور عدیدة:

الأمر الأوّل: فی بیان معنی الإمکان هنا ، وما یتصوّر فیه ، وما یمکن اختیاره فی المسألة ، وهو علی وجوه:

الوجه الأوّل: کون الإمکان بمعنی الإمکان الذاتی ، أی بأن یکون الحکم بالحیضیّة بملاحظة الذات .

ص:398

وهو غیر مراد قطعاً ، لأنّ خصوصیّة الحیضیّة إن کانت خارجة عن قوام الذات ، فیلزم حینئذ بطلان عموم القضیّة ، فی جمیع الموارد التی یحکم فیها بعدم الحیض ، لتحقّق الإمکان الذاتی ، مع أنّ المفروض أنّ الدم فیها لیس بحیض ولا فرق فی ذلک بین أن یراد من الامکان ، الإمکان العام أو الخاص ، لانه اذا کان بالمعنی الأوّل أفاد سلب الضرورة عن الطرف المخالف للقضیّة ، فإن کانت موجبة یوجب سلب لضرورة عن القضیّة السالبة ، وان کنت سالبة یوجب سلب الضرورة عن القضیّة الموجبة ، فی قبال المعنی الثانی ، وهو الإمکان الخاص ، أی سلب الضرورة عن الطرفین ، أی لم یکون وجود الحکم ولا عدمه للموضوع ضروریّاً .

وان کانت خصوصیّة الحیضیّة داخلة فی قوام الذات ، فإن کان المقصود منه بالإمکان الخاص ، بطلت القضیّة ، لأنّ الدم أمّا حیضٌ واقعاً بالضرورة ، أو لیس بحیض بالضرورة ، فیمتنع سلب الضرورة فیه عن الطرفین .

وان کان المقصود من الإمکان العام _ کما اختاره الشهید فی «المسالک» وتبعه علیه فی «الذخیرة» _ فالقضیّة وان کانت صحیحة ، إلاّ أنّها تکون حقیقة واقعیّة ، لأنّ کلّ دم لا یکون سلب الحیض عنه ضروریّاً ، فهو حیضٌ واقعاً ، ولا تکون حینئذ قضیّة تعبدیّة ظاهریّة ، کما هو المراد فی المقام .

مضافاً إلی أنّ المراد من الدم هو الدم الخارجی الموجود ، لا ماهیّة الدم ، حتّی یقال بإمکان کونه حیضاً ، وما هو الموجود فی الخارج لا یخرج عن کونه واجب الحیضیّة أو ممتنعها ، کما لا یخفی ، فإرادة الإمکان الذاتی من الإمکان غیر صحیح .

الوجه الثانی : أن یکون المراد من الامکان هو الوقوعی منه .

فهو أیضاً غیر مراد قطعا ، لأنّ الإمکان الوقوعی یکون بمعنی أنّه لا یلزم من الوقوع المحال ، فدعواه غیر صحیح ، بعدم الاحاطة بذلک ، حتّی نذهب إلی القول

ص:399

بهذه المقالة ، فیتعذّر العمل بالقاعدة حینئذ ، وهو یعدّ نقضا للغرض ، کما لا یخفی .

الوجه الثالث: أن یراد منه الإمکان الاحتمالی .

وهذا الإحتمال أمّا أنّ یقصد به الاحتمال العقلی بقول مطلق ، فیشمل جمیع الصور المشکوکة لمساوقتها حینئذ مع الشکّ .

أو یقصد به أعمّ من فی مقابل العلم بالحیض وبعدمه ، فمعنی قولهم : «کلّما أمکن أن یکون حیضاً» هو أنّه کلّما أحتمل أن یکون حیضاً ، أو یشکّ فی حیضیّته فهو حیض .

فعلی هذا تکون القاعدة قاعدة مضروبة للبناء علی تحیّض ما شکّ فی حیضیّته واقعاً ، فتکون القاعدة قاعدة ظاهریّة ، مثل قاعدة الحلّ ، وقاعدة الطهارة ، فتکون حینئذ عامّة لجمیع موارد الشکّ فی الحیض ، سواءً کان الشکّ من جهة الشبهة الحکمیّة أو الموضوعیّة ، کما سیأتی بحثه فیما بعد إن شاء اللّه تعالی .

والامکان بهذا المعنی وإنْ أمکن أن یکون مراد القوم ، ویعدّ أوسع من جمیع ما سنذکره لاحقا إلاّ أنّه بعیدٌ ، لعموم الدلیل الدال علی إثبات هذا العموم .

مع أنّ القاعدة تعدّ قاعدة یستدلّ بها لا علیها ، کما عبّر بذلک الشیخ الأکبر فی «طهارته» ، یعنی أن القاعدة تعدّ من القواعد المسلّمة ، التی یستدلّ بها لاثبات حکم مصادیقها ، والإمکان بهذا المعنی ممّا لا دلیل علیه ، فیجب أن یستدلّ علیها بدلیل آخر ، فتصیر قاعدة یستدلّ علیها لا بها ، وهو خلاف المقصود .

الوجه الرابع: أن یراد من الإمکان الإمکان الشرعی ، الذی یطلق علیه الإمکان القیاسی ، أی بالقیاس بما علم اعتباره شرعاً فیه ، أی ما لا یمتنع شرعاً أن یکون حیضاً ، وذلک بجامعیّته لکلّ ما علم اعتباره شرعاً فی الحیض ، وإنْ کان فاقداً لما یحتمل اعتباره شرعاً فیه .

ص:400

بیان ذلک : أنّ الحیض وان کان کالبول والمنی ، من الموضوعات الخارجیّة التی یکون المرجع فی تشخیصها هو العرف ، کما ورد فی بعض الأخبار الاشارة إلیه ، مثل قوله علیه السلام : «دم الحیض لیس به خفاء» ، إلاّ أنّه لأجل خفاء بعض مصادیقه علی العرف واشتباههم فیه ، اعتبر الشارع فیه قیوداً وجودیّة أو عدمیّة ، فإذا کان جامعاً لما علم اعتباره من الشارع ، کان ممّا یمکن أن یکون حیضاً شرعاً ، أی لا یمتنع أن یکون کذلک ، ولکن یحتمل أن لا یکون حیضاً ، إمّا من جهة فقدانه لما یحتمل دخله فی حیضیته شرعاً _ ومنشأ هذا الإحتمال مختلف ، إمّا لأجل عدم النصّ أو إجماله أو لتعارضه أو لفقدان ما یحتمل دخله فی حیضیته تکویناً ، ومنشائه احتمال تفاوت الأشخاص فی الحیض ، بحسب المزاج والسن والبلاد تکویناً .

وعبّر عن هذا الإمکان صاحب «الکفایة» فی «رسالة الدماء» بالإمکان القیاسی ، من جهة جامعیّة الدم لما علم اعتباره شرعاً فی حیضیّته ، وإنْ کان فاقداً لما یحتمل دخله فیها کذلک .

الوجه الخامس: أن یراد من الإمکان ، الشرعی منه أیضاً ، لکن بمعنی جامعیّة الدم لکلّ ما علم أو احتمل اعتباره شرعاً فی حیضیّته ، فی مقابل ما یمتنع أن یکون حیضاً واقعاً ، من جهة فقد ما یعتبر فیها واقعاً ، وإنْ لم یعلم به .

وهذا أیضاً یعبّر عنه بالإمکان القیاسی من جهة کون جامعیّة الدم أوسع من السابق ، لاشتماله لکلّ ما له دخلٌ شرعی فی حیضیّته علماً أو احتمالاً .

والامکان بهذا المعنی لا تشمل الشبهة الحکمیّة ، بخلاف السابق علیه ، لأنّه مع الشکّ فی دخل شیء فی الحیض شرعاً ، لا یکون الإمکان بهذا المعنی محرزاً ، ومع احراز جامعیّة الدم لکلّ ما یحتمل دخله فیه شرعاً ، لا یکون الشک

ص:401

شکّاً فی حیضیّته شرعاً ، ویختصّ حینئذ _ کالشبهة الموضوعیّة _ بما یکون الشکّ فیه لأجل فقدانه لما یُشکّ دخله فی حیضیّته تکویناً ، الذی لم یکن رفعه بالرجوع إلی الشارع .

والإمکان بهذا المعنی أخصّ من المعنی السابق علیه ، لصدق ذلک فیما علم جامعیّته لکلّ ما علم اعتباره فیه ، عند خلوّه عمّا یشکّ فی اعتباره فیه شرعاً ، دون المعنی الأخیر .

نعم ، هنا قسم آخر للإمکان القیاسی _ الذی یعدّ سادس الوجوه _ فی المقام هو أن یلاحظ الإمکان ، بالقیاس إلی حدود الحیض واقعاً .

فهو غیر مراد أیضاً ، لأنّ الذی یجمع حدود الحیض واقعاً ، کان حیضاً واقعاً ضرورة ، فلا تکون حینئذ قضیّة تعبّدیّة ظاهریّة ، کما هو المقصود والمراد من ظاهر الأدلّة ، فلا یمکن أن یکون هو المراد من الإمکان کما لا یخفی .

فالإمکان هنا لابدّ وأن یکون أحد المعانی ، من الثالث أو الرابع أو الخامس ، وتعیّن أحدهما موکولٌ إلی ذکر مستند القاعدة ، حتّی نلاحظ أیّهما یکون هو المناسب فنختاره .

الأمر الثانی: فی الأقوال والآراء المنقولة فی هذه المسألة والقاعدة ، وهی أربعة علی ما أحصاها المحقّق الآملی قدس سره وهی :

القول الأوّل : ما هو المنسوب إلی المشهور ، من اعتبارها علی نحو العموم والکلیّة ، فی جمیع موارد الشکّ فی الحیض ، من الشبهة الحکمیّة والموضوعیّة .

ولعلّ مقصودهم من التعمیم هو اطلاق کلامهم من عدم بیان لذلک ، وإلاّ ربّما یتأمّل فی هذه النسبة بالنسبة إلی بعضهم ، باعتبار المورد الذی تمسّکوا بها فیه .

القول الثانی: عدم اعتبارها رأساً ، وقد حُکی ذلک عن «الذکری» و«جامع

ص:402

المقاصد» والمحقّق الاردبیلی واتباعه .

القول الثالث: اختصاص موردها بما إذا لم یعلم الامتناع ، علی ما هو مقتضی الأدلّة الشرعیّة ، ولو مع احتماله .

وهذا القول هو المستظهر عن الشهید الثانی وغیره ، ویعمّ موردها بین موارد الشکّ أیضاً من الشبهة الحکمیّة والموضوعیّة ، ممّا لم یعلم امتناع حیضیّته شرعاً بالدلیل ، وإنْ احتملنا ذلک .

القول والرابع: اختصاص القاعدة بما إذا علم عدم الامتناع بحسب الادلّة الشرعیّة ، فلا تجری فیما یحتمل فیه المنع الشرعی عن حیضیّته ، فضلاً عمّا علم به ، فینحصر موردها بالشبهة الموضوعیّة ، التی یکون الشکّ فیها من جهات المشخّصات الجزئیّة للحیض ، ولا یمکن الرجوع فی رفعه إلی الشارع ، لعدم کون بیانها لأجل کونها جزئیّة وظیفة له .

وهذا القول هو مختار شیخ الفقهاء فی «الجواهر» ، والشیخ الأکبر فی «الطهارة» ، وجملة من المحقّقین المتأخّرین عنهما (قدّس اللّه أسرارهم) .

إنتهی کلامه رفع مقامه(1) .

وأمّا مختارنا فی المسألة ، فموکولٌ إلی ملاحظة دلالة الأدلّة علی ذلک وسوف نبحث عنه لاحقا .

الأمر الثالث: فی بیان مدرک هذه القاعدة .

وقد استدلّوا علی ذلک بأُمور عدیدة ، وهی :

الأصل : قد تقرّر منها بوجوه:


1- مصباح الهدی: ج4 ، ص 483 .

ص:403

الأوّل : منها کونه بمعنی الظاهر ، الحاصل من الغلبة .

بتقریب أن یقال : بأنّ الغالب فی الدم الخارج من المرأة هو الحیض ، وما عداه هو النادر بالنسبة إلیه ، فالمشکوک یظنّ بکونه من الغالب ، فیلحق به .

وفیه : کون الحیض هو الغالب فی النساء فی الجملة أمر ثابتٌ ومسلّم ، لکن لا بالجملة وفی جمیع النساء ، للمنع عن تحقّق هذه القاعدة فی جمیعهنّ ، کما تری فی المتبدأة ، مثلاً إذا رأت الدم بصفات الاستحاضة ، وکذلک المعتادة إذا رأته متقدّماً علی عادتها بکثیر .

هذا کما فی «الجواهر» .

ولکن قد یمکن الاشکال فیه : بأنّ عدم الحکم فی المثالین بالحیضیّة کان لأجل وجود ما یوجب زوال الشکّ ، عند کونه متّصفاً بصفات الاستحاضة ، أو حصوله قبل وصول زمانه ، لو قلنا بکون مثل هذه الأُمور أیضاً صالحة لتعیین خصوصیّة الدم ، وإلاّ یجب الرجوع إلی القاعدة بحسب دعوی المدّعی .

هذا بحسب الصغری .

ولکن العمدة فی المنع هو الکبری ، أی علی فرض تسلیم تحقّق الظنّ بتلک الغلبة ، لا دلیل لنا علی حجیّة الظنّ الغالب شرعاً ، إلاّ أن یقوم دلیلٌ علیه ، من النصّ أو الإجماع .

وسوف نبحث عنهما لاحقا إنْ شاء اللّه .

الثانی : کون المراد من الأصل ، هو أن تحیّض النساء أمر طبیعی مطابق للفطرة ، وأصل الخلقة ، فعند الشکّ فیه یحمل علیه .

وأورد علیه بمثل ما أورد علی الأوّل ، من ابتنائه علی حصول الظنّ ، بکون المشکوک من افراد الطبیعی ، وهو غیر معلوم ، بل ممنوع . مضافاً الی ما عرفت

ص:404

من المنع فی أصل حجّیّة هذا القسم من أقسام الظنّ ، کما لا یخفی .

الثالث : ما عن «شرح المفاتیح» بأنّ کلّ دم ما عدا دم الحیض لو خرج من المرأة فإنّما یکون خروجه لعلّة حادثة ، وآفة فی المزاج ، وعند الشکّ فی حدوثها یجری الأصل فی عدمه ، فیحکم بکونه حیضاً لمکان الانحصار .

وقد یشاهد عن بعض _ کالسیّد الحکیم قدس سره فی «المستمسک» _ من الاعتراض علی هذا الأصل _ أی استصحاب عدم کون الدم الخارج من قرح أو غیره _ بأنّه یتوقّف علی جریان الاستصحاب فی العدم الأزلی ، فتأمّل .

فکأنّه أراد القول بأنّ استصحاب عدم کون الدم من عرق العاذل ، لا حالة سابقة له ، وإنّما السابق هو عدم خروج الدم منه ، لا کون هذا الخارج غیر خارج منه .

مع أنّه غیر وارد إنّ جعلنا مجری الأصل هو نفی علّة حدوث ما عدا الحیض من بقیّة الدماء ، حیث أنّ له حالة سابقة علی الشک فی وجود العلّة وعدمه ، فالأصل عدمه ، فلا یحتاج جریانه إلی اثبات الأصل الأزلی ، کما لا یخفی .

نعم ، یرد علیه بأن الاستدلال به بهذا المعنی ، لاثبات کون الدم حیضاً ، یکون أسوء حالاً من الاستدلال به بأحد المعنیین الأوّلین ، لمعارضته مع اصالة عدم الحیض ، مع أنّه لا تثبت الحیضیّة حتّی مع الانحصار ، إلاّ علی القول بحجیّة الأصل ، کما لا یخفی .

الرابع : کون المراد من الأصل ، هو أصالة السلامة والصحّة ، کما هو مختار صاحب «مصباح الفقیه» ، حیث قال ما لفظه : «فالانصاف أنّه لو قیل إنّ الأصل فی دم النساء لدیهنّ _ علی ما هو المغروس فی أذهانهنّ _ هو الحیض ، بمعنی عدم اعتنائهنّ لسائر الإحتمالات ، ما لم یکن عن منشأ عقلائی ، مانعٌ عن جریان اصالة السلامة ، لم یکن بعیداً .

ص:405

بل ربّما یقربه _ بحیث یکاد یلحق بالبدیهیّات _ ملاحظة أخبار متظافرة ومتکاثرة ، آمرة بترتیب آثار الحیض برؤیة الدم ، من دون اعتناء بسائر الاحتمالات . . . إلی آخر کلامه هنا .

إلی أن قال ، بعد ذکر الأخبار : إنّ المتأمّل فی هذه الأخبار المتکثرة ، لا یکاد یتردّد فی أنّ سائر الاحتمالات ، لم تکن ملحوظة وملتفتاً إلیها أصلاً ، لما هو المغروس فی أذهانهم ، من أنّ الأصل فی الدم أن یکون حیضاً ، والإلکان علی الإمام علیه السلام أو السائلین الاستفسار عن حکم صورة الشکّ ، فی مثل هذة الموارد التی قلّما ینفکَ عن سائر الاحتمالات ، علی تقدیر الاعتناء بها ، خصوصاً احتمال کونها استحاضة ، فکون المراد من الدم هو الدم المعهود فی أغلب هذه الروایات مسلّم ، لکن لم تکن معهودیّته إلاّ لکونه أصلاً فیه .

فکما لا ینتقل الذهن عند السؤال عن حکم الدم ، الذی تراه المرأة ، إلاّ إلی ارادة الدم المعهود ، کذلک لا ینتقل عند رؤیته إلاّ إلی کونه ذلک الدم ، والإلکان لسائل یسأل فی هذه الموارد عن حکم صورة الشکّ»(1)

إنتهی محلّ الحاجة .

وقد نوقش فیه : بأنّ مبدأ حدوث هذا الأصل المدّعی فی المقام هو کلام صاحب «ریاض المسائل» ثمّ تبعه بعض آخر ، منهم صاحب «مصباح الفقیه» وقد أطال فی تقریره وتفصیله حتّی بملاحظة الأخبار .

فأوّل ما اعترض علیه : هو أنّه لو سلّم کون بناء النساء علی أنّ الدم المقذوف حیضٌ بمجرّد الرؤیة ، لکن کون هذا الابتناء إنّما یکون لأجل الاتّکال علی أصل


1- مصباح الفقیه: ج 4 ، ص 68 .

ص:406

السلامة غیر مسلّم ، إذ من الواضح أنّه لو علمت المرأة بما قد قرّره الشارع فی الدم بلزوم کونه ثلاثة أیام ، فلو نقص بساعة واحدة لما کان حیضاً ، وهکذا فی فترة الأیّام العشرة فإنّ الدم لو تجاوز عنها ولو لساعة واحدة لما عُدّ حیضا ، وهکذا من لزوم التوالی فی الثلاثة ، بل وکذا الدم الخارج قبل فصل عشرة أیام من الحیضة الأُولی ، فمع ملاحظة هذه القیود والشروط فإنّ المرأة بمجرّد رؤیتهالدم مالا یمکنها الحکم علیه بالحیضیّة اتّکالاً علی اصالة الصحّة والسلامة ، فتحکم باستمراره إلی ثلاثة أیام .

وهل تری أنّ العقلاء یحکمون بأنّ الدم مع انقطاعه قبل ثلاثة أیام بساعة یعدّ من انحراف المزاج ، بخلافه إذا استمرّ لتمام الثلاثة؟

فلابدّ أن نقول بأنّ حکم النساء بحیضیّة الدم بمجرّد خروج الدم المعهود ، مع اتّصافه بالأوصاف أو المخصوصیّات ، من الغلبة وغیرها ، لم یکن من باب الاتّکال علی أصل السلامة والصحّة _ حتی ولو لم یکن فی الدم غلبة ، ولا خصوصیّة ، ولا صفة من الصفات ، ولا قرینة من القرائن _ بل یکون لأجل أمر آخر ، فکون الأصل فی ذلک هو أصل السلامة والصحّة غیر معلوم ، لو لم نقل بأنّه معلوم العدم ، هذا أوّلاً .

وثانیاً: لو سلّمنا جریانه ، ولکن لا یمکن أن یکون مدرکاً ودلیلاً لقاعدة الإمکان ، ضرورة أنّ اصالة السلامة لیست من الأُصول التبعدیّة ، مع عدم ثبوت التعبّد فی الأُمور العقلائیّة ، لان لازمه عدم التمکن من الحکم علی الدم بالحیضیّة ، لأنّ الحیضیّة من لوازم صحّة المزاج وسلامته ، فاصالة السلامة مجراها المزاج ، ولازم صحّة الرحم أن یکون قذفها طبیعیّاً ، ولازم ذلک کون الدم حیضاً ، وکون المرأة حائضاً ، فلا محیص ولا سبیل لنا لاثبات المدّعی .

ص:407

ولعلّه أراد القول بأن هذا الأصل یعدّ من الأُصول المثبّة ، أنّه غیر حجّة .

إلاّ أنّ یدّعی أنّ أصالة السلامة طریق عقلائی لاثبات متعلّقه ، وأن الظنّ الحاصل لأجل الغلبة وغیرها طریقٌ إلی السلامة ، ومع ثبوتها تثبت لوازمها .

فمع تسلیم هذه الامارة العقلائیّة ، والغض عن المناقشة فیما یخرج عن کون هذا الأصل مدرکاً للقاعدة ، لأنّه تصیر الإمارة قائمة علی تحقّق الحیضیّة ، فلا یبقی مورد للأصل ومفاد القاعدة ، لأنّ مفاد ما یمکن أن یکون حیضاً ، فهو حیضٌ بمجرّد احتمال الحیضیّة علی المعنی المحتمل ، أو عدم الدلیل علی خلافها علی المعنی الآخر . ومع قیام الامارة علی الحیضیّة یخرج المورد عن موضوع القاعدة ، وکیف یمکن أن یکون دلیل الشیء معدماً لموضوعه .

وبعبارة أُخری : إنّ موضوع القاعدة هو الإمکان فی الحیضیّة ، فوجوب الحیضیّة وامتناعها خارجان عن مصب القاعدة ، مع أنّ قیام الامارة علی الحیضیّة متوقّفٌ علی حصول الدم الذی یجب أن نحکم علیه بالحیضیّة ، لأنّ کلّ ما دلّت الأدلّة الشرعیّة ، والامارات المعتبرة علی حیضیّته ، فهو حیض قطعاً ، ویحکم به قطعاً ووجوباً ، فلا تناسب مع موضوع القاعدة .

فعلی هذا ، لا محیص عن أنّ یقال بأنّ قاعدة الإمکان ، قاعدة برأسها ، مؤسّسة للحکم بالحیضیّة ، فیما لم یدل دلیلٌ علی أحد الطرفین ، وکانت المرأة فاقدة الامارة ، فیکون تأسیس القاعدة لأجل رفع الشکّ عند فقد الامارة ، ویجب الالتزام بکونها منتزعة من موارد قیام الأدلّة علی الحیضیّة(1) .

هذا ما اعترضه الاستاذ المحقّق السیّد الخمینی قدس سره فی کتابه «الطهارة»


1- کتاب الطهارة: ج 1/5 ، 53 _ 54 ، للمحقّق الخمینی قدس سره .

ص:408

بتصرف یسیر منا فی بعض العبارات .

وخلاصة ذلک : أنّه إن أُرید من الأصل فی الإمکان هو الأصل المرجع عند الشکّ _ کما فی سائر الأُصول _ فیرد علیه بأنّه لیس أصل السلامة والصحّة من الأُصول التعبدیّة ، إذ لا تعبّد عند العقلاء ، مضافاً إلی أنّ الحکم بالحیضیّة من اللوازم المترتّبة علی صحّة المزاج ، ویکون مجری الأصل هو المزاج ، ویعدّ اللوازم بالنسبة إلی هذا الأصل من الأُصول المثبّتة وهی لیست بحجّة .

وإن أُرید من الأصل ، الطریق العقلائی حتّی یعدّ امارة ، وتصیر لوازمها حجّة _ لأنّه حینئذ بکون من لوازم الامارة لا الأصل _ لکن إثبات مثل ذلک یکون متبنیا علی ثبوت حجیّة هذه الامارة من الشرع ، ولا یثبت إلاّ بملاحظة الأخبار الواردة فی ذلک ، وإنْ کان هذا هو المقصود فإنّه یعود الکلام إلی اثبات دلالة الأخبار ، فیخرج عمّا هو فرض الکلام ، من کون الأصل والمدرک فی الحجیّة هو أصل السلامة والصحّة ، کما هو المدّعی ، وهکذا یثبت عدم تمامیّة هذه الدعوی ، کما لا یخفی علی المتأمّل .

وثالثاً: علی فرض تسلیم ذلک کلّه ، فإنّ اصالة السلامة لا تفی بجمیع موارد قاعدة الإمکان ، إذ لا مورد لترتب هذا الأصل عند مورد تعارض الامارتین ، أو عند الجهل بالامارة القائمة ، أو عند کون المرأة معرضة لاختلال المزاج وانحرافه ، مع أنّ القاعدة موضوعها عامة وشاملة .

فتحصل ممّا ذکرنا ، أنّ الاستدلال باصالة السلامة لاثبات المدّعی ، ممّا لا مجال له) ، انتهی کلامه رفع مقامه(1) .


1- المصدر السابق: ج 1 ، ص 55 .

ص:409

الثانی من الأُمور المستدلّ بها : ما حکی أیضاً عن «شرح المفاتیح» علی المحکی فی «مصباح الهدی» للآملی قدس سره ، وهو التمسّک ببناء العرف علی ذلک ، إذ المرأة التی من شأنها التحیّض ، إذا رأت ما یمکن أن یکون حیضاً ، تبنی عرفاً علی کونه حیضاً .

أقول : هذا الاستدلال بظاهره مختل النظام ، إذ الحکم بحیضیّة ما یشکّ فی حیضیّته وظیفة الشارع ، کالحکم بطهارة ما یشکّ فی طهارته ، أو حلیّة ما یشکّ فی حلیّته ، ومعلوم أنّه لا مجال للعرف فی الحکم بذلک أو بأمثاله .

ومن هنا فقد حاول الشیخ الأکبر قدس سره تقریر کلامه بما یتناسب مع القواعد العامّة ، فقال : أنّه کما یجب الرجوع إلی العرف ، لاستعلام مراد الشارع من الالفاظ التی أخذها فی موضوع حکمه مماله فیها الحقیقة الشرعیّة ، کذلک یجب الرجوع لاستعلام مصادیق ما علم ارادته ، کلفظ الصعید والحیض ونحوهما ممّا علم مفهومه ، إذا لم ینصب معرّفاً خاصّاً لمعرفة تلک المصادیق ، فإذا قال : «اِعْتَزِلُوا النِساء فِی المَحِیض» ، وعلمنا أنّ المراد منه الدم المخلوق فی الرحم ، فلابدّ فی تمییز أنّ الخارج هو ذلک أو دم آخر ، إمّا من نصب ضابط ممیّز له ، وإمّا من احالة ذلک إلی العرف .

لا یقال : إنّه قرّر موازین للحیض فی مرحلة الثبوت ، من عدم کونه أقلّ من الثلاثة ونحوه ، وجعل امارات لاثباته کالعادة والصفات .

لأنّه یقال : تلک الموازین الامارات من الضوابط الغالبة ، التی لا تفی بجمیع ما هو الحیض ، فیعلم من اقتصاره علی ذلک احالة المکلّف علی ما بنی العرف علی کونه من ذلک الدم ، وقد تحقّق أنّ بنائهم علی اصالة الحیض فی الدماء الخارجة من المخرج) .

ص:410

إنتهی علی ما هو المحکی منه قدس سره (1) .

وقد ناقش فیه الآملی صاحب «المصباح» بأُمور وهی : أوّلاً : فبالمنع عن صحّة الرجوع إلی العرف ، فی تطبیق اللفظ بما له من المفهوم المبیّن علی ما فی الخارج ، إلاّ إذا عاد إلی الرجوع فی تعیین المفهوم ، بأن کان الشکّ فی التطبیق ناشئاً عن الشکّ فی المفهوم من حیث السعة والضیق .

وأمّا فیما کان منشأ الشکّ متمحضّاً فی الشکّ فی الأُمور الخارجیّة ، فلا یصحّ الرجوع إلیهم فی تطبیقهم مع الشکّ ، إذ التطبیق حینئذ ناشئ عن المسامحة فیه ، ولا یجوز الرجوع إلیهم فی مسامحاتهم بعد تبیّن المفهوم .

وبعبارة أوضح : إن کان تطبیق العرف لفظ (الحیض) بما له من المهفوم علی المشکوک حیضیّته ، مع فرض شکهم فی کونه حیضاً ، فلا یصحّ الرجوع الیهم فیه ، وإنْ کان لمکان علمهم بکونه حیضاً ، یکون خلاف الفرض .

فالعُرف لا یرجع إلیه فی التطبیق ، بل هو المرجع فی تعیین المفهوم)

إنتهی کلامه هنا .

وفیه ما لا یخفی علی المتأمّل : فأنّ العرف کما هو المرجع فی تشخیص مفاهیم الألفاظ المأخوذة فی موضوع أحکام الشرع ، والقوانین الکلیّة المجعولة من قبل المقنن فی مجالس الشوری فی بلدان العالم وعند العقلاء ، هکذا یکون المرجع فی تطبیق المفاهیم علی المصادیق ، بعد تبیّن المفهوم عندهم .

وفرق بین کون منشأ الشکّ لأجل المسامحة عند العرف فیه ، أو کان لأجل عروض أمر خارجی الموجب لعروض الشکّ للمکلّف ، فلا محیص له حینئذ


1- مصباح الهدی: ج 4 ، ص 485 .

ص:411

بالرجوع إلی العرف فی التطبیق ، فلو شکّ المکلّف فی الماء الورد الذی ذهب ریحه ، وبقی بصورة الماء ، أنّه هل یصدق وینطبق علیه عنوان الماء المضاف حتّی یصحّ التطهیر منه أو لا ؟

فالمرجع فی صحّة الانطباق وعدمه ، لیس إلاّ العرف ، مع أنّ مفهوم الماء المطلق والمضاف معلوم عندهم .

فإن قلت : ففی مثل ذلک یرجع الشک إلی الشکّ فی المفهوم؟

قلنا : نقول بذلک فی کلّ موارد الشکّ فی التطبیق ، من الألفاظ والمصادیق ، إذا لم تکن فیه مسامحة من ناحیة العرف ، کما یتسامحون عادة فی مثل بعض مقادیر الأوزان ففی التبن مثلاً یقال بأنّه مثلاً مقدار صاع أو أزید ، مع أنّه ربّما لا یکون کذلک ، بل یکون أزید منه بکثیر ، لکنّهم یتسامحون فیه بما لا یتسامحون فی مثل الذهب حیث یلاحظون مقدار الحمّصة منه بل أقل لارتفاع ثمنه .

مع أنّ ما ذکره من قوله : «الواضح أنّ الرجوع الیهم إنْ کان مع شکّهم فیه ، فلا یصحّ الرجوع إلیه ، وإنْ کان مع علمهم بذلک ، یکون خلاف الفرض» ، لیس علی ما ینبغی ، لأنّ الشکّ قد حصل للمکلّف _ لا العرف _ الذی استعان بالعرف بعد أن کان قد شک فی التطبیق ، وأما أهل العرف فهو یعلمون المفهوم المنطبق ، وإلاّ لجاء هذا الإشکال حتّی فی تشخیص مفهوم الألفاظ أیضاً ، إذ لا یختص الاشکال بخصوص الشکّ فی التطبیق ، کما لا یخفی .

فظهر ممّا ذکرنا أن الاشکال الأوّل غیر وارد .

ومنه یظهر الجواب عمّا ذکره فی الاشکال الثانی بالنقض بسائر الأحداث ، لعدم خصوصیّة لحدث الحیض ، لکی یکون ما یخرج من الدم فی النساء محکوماً بالحیضیّة ، عند الشکّ فیها ، دون سائر الأحداث مثل البول والمنیّ .

ص:412

لأنّ الجواب یکون کالجواب عن الحیض ، بأنّه إنْ کان الشکّ فی تطبیق المفهوم المعلوم علی المشکوک ، فإن مرجع رجوعه یکون العرف ، فلا فرق بینهما .

إلاّ أن الاشکال فی کلا الموردین لیس من هذه الجهة ، بل لأمر آخر ستأتی الاشارة إلیه ، وهو المذکور فی اشکاله الثالث وغیره ، بقوله : «ونعم ما قال» .

وثالثاً: منع بناء العرف علی ذلک عند الشکّ ، إذ لعلّه کان ذلک لمکان علمهم بالحیضیّة ، وأمّا مع الشکّ فلم یعلم بنائهم علی الحیضیّة .

ورابعاً: علی تقدیر تسلیم بناءهم علی ذلک فی مورد الشکّ ، فبمنع کونه فی الدم الخالی عن الامارة علی الحیض ، لاحتمال کونه منهم فیما یصادف العادة أو الصفات ، ولم یظهر منهم البناء علی ذلک فی الخالی منها .

ولو سلّم بنائهم فی الخالی منها أیضاً ، فلا اعتبار به ، لعدم امضائه ، إذ الشارع بأخباره قد أرجع المکلفین فی موارد الشک إلی ملاحظة العادة والصفات دون البناء المذکور ، أنّه لو کان ممّا یرجع الیه فی مورد الشکّ ، لکان اللازم التنبیه علیه أیضاً فی صورة فقد العادة والصفات .

فهذا الوجه أیضاً لیس بشیء . إنتهی کلامه(1) .

أقول : ولقد أجاد فیما أفاد ، حیث أنّ العرف لابناء لهم فیه ، خصوصاً عند الشکّ ، وعلی فرض وجود البناء ، لم یرد إلینا دلیل شرعی علی جواز الاعتماد علیه والتعبّد علی بنائهم ، وعلی فرض وجود دلیل لابد أنْ نلاحظ مقدار دلالته ، وسائر ما یعتبر فیه ، وهو لا یکون إلاّ بعد ملاحظة کیفیّة دلالة الأخبار ، کما سیأتی البحث عنها إنْ شاء اللّه تعالی .


1- مصباح الهدی: ج 4 ، ص 486 .

ص:413

الثالث: من الأُمور المستدلّ بها : هو بناء المتشرعة فی سیرتهم علی الحیضیّة ، بمحض الرؤیة .

وهو أیضاً مخدوش ، أوّلاً : بعدم معلومیّة استقرار سیرتهم علیه مطلقاً ، حتّی ولو لم یصادف العادة أو الصفات ، وکون بنائهم بمجرّد الشکّ ، إذ هو أوّل الدعوی ، بل الثابت هو استقرار سیرتهم فیما إذا صادف الدم للعادة أو الصفات .

وثانیاً : لو سلّم ثبوته ، ولکن لم تثبت حجیّته ، لعدم العلم باتّصال هذه السیرة بزمان المعصوم قدس سره حتّی تکشف عن وجود رأی المعصوم علیه السلام ، لإحتمال نشؤها عن فتوی الأصحاب واجتهادهم .

وممّا ذکرنا من الأجوبة فی قبال الأدلّة ، یمکنک الإجابة عمّا استدلّ به صاحب «کشف اللثام» ، حیث قال ، علی المحکی فی «مصباح الهدی» : «من أنّه لو لم یعتبر الإمکان ، لا یمکن الحکم بحیضیّة دم أصلاً ، لعدم حصول التبیّن به وجداناً ، وعدم امارة أُخری علیه غیر القاعدة ، لأنّ الصفات لا تعتبر إلاّ عند الأختلاط بالاستحاضة لا مطلقاً ، لجواز تحقّق الحیض بدون الصفات بالنصّ والإجماع» .

ولکن یرد علیه أوّلاً : بأنّا نلتزم بالتالی ولا یکون باطلاً .

وثانیاً : بالمنع عن أصل الملازمة ، لامکان الحکم به بواسطة وجود الامارة المعتبرة کالعادة ، مع حصول التعیین به کثیراً ، کما یدلّ علیه قول الصادق علیه السلام فی موثقة ابن جریر : «دم الحیض لیس به خفاء» .

وقوله علیه السلام فی مرسلة یونس : «دم الحیض أسود یعرف» .

وثالثاً: قیام النصّ والإجماع علی جواز خلوّ الحیض عن الصفات ، لا یستلزم الحکم به عند انتفائها ، لإمکان کون الخالی منها ممّا علم حیضیّته بالوجدان ، أو بتصادفه مع العادة ، فلا محذور فی الرجوع إلی اصالة عدم الحیض ، إذا لم یقم

ص:414

دلیلٌ علی اعتبار القاعدة ، ولم یکن هناک یقینٌ ولا امارة علی کونه حیضاً ، مضافاً إلی إمکان استفادة هذه القاعدة من النصوص أو الإجماع ، إن تمّت دلالتهما ، کما سیأتی بحثها عن قریب إنْ شاء اللّه .

الرابع: من الأمور استدلّ بها : الإجماعات المنقولة ، بل قد یقال بوجود المحصّل منه .

وفی «الجواهر» : «أنّها عند المعاصرین ومن قاربهم من القطعیّات التی لا تقبل الشکّ والتشکیک ، حتّی أنّهم أجروها فی کثیر من المقامات التی یشکّ فی شمولها لها ککون حدّ الیأس مثلاً ستّین سنة ، وعدم اشتراط التوالی فی الثلاثة ، ونحو ذلک من المقامات ، التی وقع النزاع فی إمکان کونه حیضاً عند الشارع وعدمه . . . إلی آخر کلامه»(1) .

وقد قَبل المحقّق الهمدانی هذا الإجماع ، بل قد یظهر من کلمات صاحب «المستمسک» المیل إلی القبول ، حیث قال : «السادس : الإجماعات المتقدّمة ، المتلقاة بالقبول من حاکیها ، وکفی بها دلیلاً علیها ، ولا سیّما مع تأییدها أو اعتضادها بما سبق» إنتهی محل الحاجة(2) .

هذا خلافاً لجماعة أُخری من المحقّقین والمتأخّرین ، مثل المحقّق الثانی ، حیث خالف مع أصل القاعدة ، وکذلک والمقدّس الأردبیلی ، وصاحب «المدارک» ، حیث خالفا الإجماع ، کما یظهر ذلک من المحقّق الآملی والخمینی ، حیث أنکرا أصل وجود الإجماع أوّلاً ، وعلی فرض تسلیم وجوده انکرا حجیّته


1- جواهر الکلام: ج 3 ، ص 164 .
2- المستمسک: ج 3 ، ص 238 .

ص:415

فی مثل المقام ، فلا بأس بنقل کلام من أدّعی قیام الإجماع علی القاعدة ، وهو کما عن «المعتبر» و«المنتهی» و«الخلاف» و«النهایة» ، فلا بأس هنا بذکر کلامهم ، حتّی یتّضح مرادهم من الإجماع . ومورده ، فنقول : قال الشیخ فی «الخلاف» : الصفرة والکدرة فی أیام الحیض حیضٌ ، وفی أیام الطهر طهر ، سواء کانت أیام العادة أو الأیام التی یمکن أن تکون حائضاً فیها ، وعلی هذا أکثر أصحاب الشافعی .

إلی أن قال : دلیلنا علی صحّة ما ذهبنا إلیه ، إجماع الفرقة ، وقد بیّنا أن اجماعها حجّة ، وأیضاً روی محمّد بن مسلم ، قال : «سألت أبا عبداللّه علیه السلام عن المرأة تری الصفرة فی أیامها؟ فقال: «لا تُصلّی حتّی تنقضی أیامها ، وإنْ رأت الصفرة فی غیر أیامها ، توضّأ وصلّت» ثمّ تمسّک بروایة أبی بصیر(1) .

بل قد نقل «الجواهر» عن «المبسوط» تفسیر قوله والصفرة والکدرة فی أیام الحیض ، حیضٌ بأیّام الإمکان(2) .

وعن «المعتبر» للمحقّق قدس سره ، حیث قال: «وما تراه المرأة بین الثلاثة إلی العشرة حیض ، إذا انقطع ، ولا عبرة بلونه ، ما لم یعلم أنّه لقرح أو لعذرة ، وهو إجماع ، ولأنّه زمان یمکن أن یکون حیضاً ، فیجب أن یکون الدم فیه حیضاً»(3) .

وعن «المنتهی» قوله : «کلّ دم تراه المرأة ما بین الثلاثة إلی العشرة ، ثمّ ینقطع علیها ، فهو حیض ، ما لم یعلم أنّه لعذرة أو قرح ، ولا اعتبار باللون ، وهو مذهب علمائنا


1- الخلاف: ج 1 ، ص 235 .
2- المبسوط: ج 1 ، ص 43 .
3- المعتبر: ج 1 ، ص 203 .

ص:416

أجمع ، ولا نعرف مخالفاً ، لأنّه فی زمان یمکن أن یکون حیضاً ، فیکون حیضاً»(1) .

وعن «النهایة» قوله : «کلّ دم یمکن أن یکون حیضاً ، وینقطع علی العشرة ، فإنّه حیضٌ ، سواءً اتّفق لونه أو اختلف ، قوی أو ضعف ، إجماعاً . ثمّ استدلّ : بأنّه دمٌ فی زمان یمکن أن یکون حیضاً»(2) .

بل قد نقل صاحب «مصباح الهدی» للآملی قدس سره عن «جامع المقاصد» و«شرح الروضة» : «أنّه _ أی قضیة کلّ دم یمکن أن یکون حیضاً فهو حیضٌ _ متکرّرٌ فی کلام الأصحاب ، بحیث یظهر أنّه ممّا أجمعوا علیه»(3) .

هذه جملة ما وجدناه من نقل الإجماع علی قاعدة الإمکان ، بتعابیر متفاوتة ، وفی موارد مختلفة .

ولا یخفی علیک أنّ شیئاً من هذه الکلمات لا تفید علی قیام الاجماع علی القاعدة ، بل فی بعضها علی خلافه أدلّ ، کما اشار إلی ذلک المحقّق الآملی والخمینی قدس سرهم ، تبعاً للآخرین لأنّ فی کلام «المعتبر» و«المنتهی» و«النهایة» إقامة الإجماع علی مسألة فرعیّة ، وهو الحکم بالحیضیّة فی دم قد خرج بین الثلاثة والعشرة _ المحکوم بالحیضیّة أصلاً _ من ذات العادة أو بالصفات ، ومن الحکم علیها بالحیضیّة ، وهذا ممّا لا کلام فیه ، حتّی لو لم یکن فی البین قاعدة الإمکان ، أو لم نقل بعمومها وشمولها له ، کما یشهد لذلک تقدیمهم دعوی الإجماع علی القاعدة ، أی ذکروا القاعدة بعد اقامة الإجماع علی المسألة ، فلو کان مقصودهم قیام الإجماع علیها ، لکان الأجدر جعل الإجماع بعدها .

بل وهکذا مثله کلام الشیخ فی «الخلاف» من الحکم بالحیضیّة فی أیام


1- المنتهی: ج 1 ، ص 31 .
2- نهایة الأحکام: ج 1 ، ص 134 .
3- مصباح الهدی: ج 4 ، ص 490 .

ص:417

الحیض ، فهو أیضاً حکم ثابت إذ من المعلوم أنّ المرأة فی تلک الأیّام لا ترجع إلی ملاحظة لون دمها إذ هو حیض ، حتّی کان لون دمها بالصفرة والکدرة ، ولا یرتبط هذا بالقاعدة وإنّما الحکم بمقتضی معلومیّة الموضوع لها .

نعم غایة ما قام به الشیخ رحمه الله أنّه تمسّک بروایة محمد بن مسلم وأبی بصیر ، وفسّر لفظ (الأیام) فی قوله : «لا تصلّی حتّی تنقضی أیامها» بأیام الإمکان ، کما قد صرّح به صاحب «الجواهر» نقلاً عن «المبسوط» .

وهذا لا یعدّ إلاّ اجتهادا من قبل الشیخ رضی الله عنه ، ولیس بحجّة لنا ، لإمکان الحکم بالحیضیّة فیه حتّی مع فقد القاعدة ، وکون المراد من (الأیام) هی الأیام المعهودة والمشارة إلی ما هو المتعارف عند النساء والمشهورة عندهن بأیّام العادة ورؤیة الدم وغیرها .

کما قد یؤیّد ما ذکرناه تعریف لفظ (الأیام) فی بعض الأخبار بالألف واللام العهدی .

بقی هنا دعوی الاجماع الوارد فی کلام المحقّق الثانی و«الروضة» فنقول : مضافا إلی مخالفة الأوّل لأصل القاعدة ، إنّه مرهون بما قد عرفت من عدم وجود کلام صریح فی تعلق الإجماع لخصوص القاعدة ، دون المسألة ، فلعلّها استفاد ذلک من ظاهر تلک الکلمات التی قد عرفت المناقشة فیها . هذا أوّلاً .

وثانیاً : هذا کله مع امکان أن یقال : لعلّ مراد العلاّمة والمحقّق من التمسّک بالقاعدة ، هو لتمهید موضوع الاستصحاب للزائد إلی العشرة ، لا تمسکاً بقاعدة الإمکان کما اشار إلی ذلک الشهید فی «الذکری» ، وتبعه المحقّق الخمینی قدس سره .

وثالثاً : یحتمل أن یکون إجماعهم _ لو سلّمناه _ مستنداً إلی استفادتهم من الأخبار ، ویعدّ هذا إجتهاداً منهم من الأخبار ، فیصیر الإجماع حینئذ مدرکیّاً غیر

ص:418

حجّة ، حتّی لو کان اجماعاً محصّلاً ، فضلاً عن المنقول منه .

ولکن مع ذلک کلّه یکون العمل علی وفق الاحتیاط فیما فیه هذه القاعدة _ خصوصاً إذا استظهرناها من الأخبار التی نشیر إلیها بعد ذلک ، مع ذهاب جلّ الأصحاب إلیها _ أمراً جیّداً وحسناً .

وهکذا ثبت أنّ المسألة متوقفة علی ملاحظة النصوص والأخبار التی أدّعی دلالتها علی قاعدة الإمکان ، فإن دلّت وثبتت ، فإنّه یکون الإجماع المدّعی _ أو لا أقل من الشهرة المحقّقة _ مؤیّداً بالنصوص وإلاّ فإنّ مجرّد دعوی الإجماع فی مثل هذه المسالة _ التی کثرت الأخبار والقواعد فیها ، بحیث یمکن أن یکون اتّکال القوم علیها ، ویحتمل أن تکون هی المنشأ لحصول الإجماع _ لا یمکن أن یُنشی دلیلاً مستقلاًّ فی المسألة ، کما لا یخفی علی المتأمّل .

الخامس ممّا استدلّ به للقاعدة : هو الأخبار والنصوص العدیدة الواردة فی هذا الباب وهی العمدة فی المسألة ، وهی علی طوائف : طائفة : دلّت ووردت فی تحیّض الحامل ، والتعلیل فیها بأنّ الحُبلی ربّما قذفت بالدم ، مثل : صحیحة عبد اللّه بن سنان ، عن أبی عبداللّه علیه السلام : «أنّه سأل عن الحُبلی تری الدم أتترک الصلاة؟ قال: نعم إنّ الحُبلی ربّما قذفت بالدم»(1) .

منها : مرسلة حریز ، عمّن أخبره ، عن أبی جعفر ، وأبی عبد اللّه علیهماالسلام : «فی الحُبلی تری الدم؟ قال: تدع الصلاة ، فإنّه ربّما بقی فی الرحم الدم ، ولم یخرج وتلک الهراقة»(2).

حیث یدلّ علی أن احتمال قذف الدم موضوع للتحیّض ، وهذا هو قاعدة


1- وسائل الشیعة: الباب 30 من أبواب الحیض، الحدیث 1 _ 9 .
2- وسائل الشیعة: الباب 30 من أبواب الحیض، الحدیث 1 _ 9 .

ص:419

الإمکان بواسطة التعلیل للحکم بلفظ ربّما المفید بکونه للإمکان .

وأجاب عنه شیخنا الأعظم قدس سره فی «طهارته» بقوله : «إنّ الظاهر أن لفظ (ربّما) للتکثیر جیء لرفع الاستبعاد ، ولم یقصد تعلیل الحکم بالاحتمال» .

واتّبعه فیه المحقّق الخمینی قدس سره ، مع زیادة تفصیل وتوضیح فی کتاب «الطهارة» بما لا یخلو عن فائدة .

فقال: إن الحکم لما کان محلّ خلاف بین العامّة ، وکان أبو حنیفة منکراً لإجتماع الحیض مع الحمل(1) ، وردت هذه الروایات لرفع استبعاد اجتماعهما ، ولهذا تری فی بعضها ذکر وجه خروج دم الحیض مثل صحیحة سلیمان بن خالد ، قال: «قلت لأبی عبد اللّه علیه السلام : جُعلت فداک ، الحبلی ربّما طمثت؟ قال: نعم ، وذلک أن الولد فی بطن أُمّه غذاؤه الدم ، فربّما کثر ففضل عنه ، فإذا فضل دفعته ، فإذا دفعته حرمت علیها الصلاة»(2) .

فقوله : «إنّ الحبلی ربّما قذفت بالدم» إخبارٌ عن الواقع لرفع الاستبعاد ، لا للتعبّد بجعل الدم حیضاً بمجرّد الاحتمال .

وکذلک الأمر فی صحیحة أبی بصیر ، عن أبی عبد اللّه علیه السلام : «قال: سألته عن الحُبلی تری الدم؟ قال: نعم ، أنّه ربّما قذفت المرأة الدم وهی حُبلی»(3) .

وهی کالصریحة فیما ذکرناه ، فإنّ قوله : «نعم» ، جوابٌ عن سؤاله بأنّ الحبلی تری الدم أو لا ، وقوله : «إنّه ربّما قذفت» ، إخبار عن واقع محفوظ ولا معنی


1- انظر الخلاف: ج 1 ، ص 239 ، المغنی ابن قدامة: ج 1 ، ص 371 ، فتح الغریر ذیل المجموع: ج 2 ، 576 .
2- وسائل الشیعة: الباب 30 من أبواب الحیض، الحدیث 10 _ 14 .
3- وسائل الشیعة: الباب 30 من أبواب الحیض، الحدیث 10 _ 14 .

ص:420

للتعبّد فی هذا المقام . إنتهی کلامه .

نتیجة کلامه : أنّ استعمال کلمة (ربّما) لیس لبیان الحکم فی ظرف الشکّ ، فی کونه حیضاً أم لا ، حتّی یکون دلیلاً علی التعبّد بالاحتمال وقاعدة الإمکان ، بل کان استعماله لرفع الاستبعاد فی الجمع بین الحمل والحیض ، ردّاً علی أبی حنیفة ومن وافقه ، هذا أوّلاً .

وثانیاً: إذا لا حظت أخبار باب الحُبلی فی الحیض ، تجد أنّ المراد من الدم التی تراه المرأة هو الدم المعهود فی النساء ، کما أشار إلیه سیدّنا الأُستاذ بعد ذلک ، وقال ما لفظه: «ولا یخفی أنّ مضمون الروایات التی ذکر فیها هذه الجملة واحد ، فقوله فی صحیحة عبد اللّه المتقدّمة : «إنّ الحبلی تری الدم أتترک الصلاة» ، مراده أنّها تری الدم المعهود مثل سائر النساء ، فهل علیها أن تترک الصلاة أو لا؟ ولهذا عُرّف الدم فی الروایات باللام ، کما تری فی صحیحة عبد الرحمن ، وهی : «قال سألت أبا الحسن علیه السلام عن الحُبلی تری الدم ، وهی حامل ، کما کانت تری قبل ذلک فی کلّ شهر ، هل تترک الصلاة؟ قال: تترک الصلاة إذا دام»(1) .

وفی صحیحة ابن مسلم ، عن أحدهما علیهم السلام : «قال: سألته عن الحُبلی تری الدم ، کما کانت تری أیام حیضها مستقیماً فی کلّ شهر . . .»(2) .

إنّ السؤال عن ترک الصلاة ، بعد الفراغ عن کون الدم فی أیام العادة ، أو خارجا بصفات الحیض ، لاحتمال أن لا یجتمع الحیض والحبل ، کما قاله أبو حنیفة .

وکیف کان فالتأمّل فی الروایات یورث القطع بعدم کونها فی مقام افادة القاعدة .


1- وسائل الشیعة: الباب 30 من أبواب الحیض، الحدیث 2 _ 3 .
2- وسائل الشیعة: الباب 30 من أبواب الحیض، الحدیث 2 _ 3 .

ص:421

ونتیجة کلامه : أنّ ما یحکم بالحیضیّة فی الدم الخارج حال الحمل ، لیس إلاّ الدم المعهود لغیر الحامل ، من ذات العادة ، أو المتّصفة بصفات الحیض ، لا أن یکون الدم محکوماً بالحیضیّة بمجرّد الإحتمال ، حتّی یکون أصلاً فی المسألة .

ولا امارة عقلائیّة حتّی یقال إنّها تعبدیّة ، بواسطة دلالة هذه الأخبار ، بل المراد منها لیس إلاّ الاشارة إلی ما هو أمر متعارف فی الواقع الخارجی عند النساء إذا کنّ فی فترة الحمل .

وثالثاً: یمکن المنع عن دلالة هذه الأخبار ، بل لعلّها تدلّ علی عدم الاعتبار بقاعدة الإمکان ، کما اشار إلیه أستاذنا ، وقال: «بل یمکن أن یُدّعی أنّ فی أخبار جواز اجتماع الحمل والحیض ، ما یشهد بعدم اعتبار قاعدة الإمکان ، للارجاع إلی الصفات ، ففی صحیحة أبی المغرا ، قوله علیه السلام : «إن کان دماً کثیراً ، فلا تصلّین ، وان کان قلیلاً ، فلتغتسل عند کلّ صلاتین»(1) .

وفی موثقة إسحاق قوله علیه السلام : «إنْ کان دماً عبیطاً فلا تصلّی ذلک الیومین ، وأن کان صفرة فلتغتسل عند کلّ صلاتین»(2) .

وفی روایة محمد بن مسلم قوله علیه السلام : «إنْ کان دماً أحمراً کثیراً فلا تُصلّی ، وإنْ کان دماً قلیلاً أصفر فلیس علیها إلاّ الوضوء»(3) .

فتحصّل أنّ الاستدلال بهذه الروایات للقاعدة فی غیر محلّه) ، إنتهی کلامه(4) .

فهذه الطائفة من الأخبار غیر دالّة علی المطلوب ، وهو حجیّة قاعدة الإمکان


1- وسائل الشیعة: الباب 30 من أبواب الحیض، الحدیث 5 ، 6 .
2- وسائل الشیعة: الباب 30 من أبواب الحیض، الحدیث 5 ، 6 .
3- وسائل الشیعة: الباب 30 من أبواب الحیض، الحدیث 16 .
4- کتاب الطهارة للخمینی: ج 1 ، ص 56 _ 58 .

ص:422

من کلمة (ربّما) ، حیث تفیید التعلیل للحکم ، بعدما عرفت من إمکان افادة رفع الاستبعاد من الحکم بالتحیّض .

وعلی فرض التسلیم فی عدم الظهور علی ما ادّعیناه ، ولکنّه غیر منتفٍ فی فرض الاحتمال ، فإذا جاء الاحتمال بطل الاستدلال .

وممّا ذکرنا یظهر الجواب عمّا استدلّوا بطائفة أُخری من الأخبار ، وهی المشتملة علی الحکم بالتحیّض ، قبل وقت حیضها ، بواسطة التعلیل ، بأنّه ربّما تعجّل بها الوقت وهو مثل ، موثقة سماعة : «قال: سألته عن المرأة تری الدم قبل وقت حیضها؟ فقال: إذا رأت الدم قبل وقت ، فلتدع الصلاة ، فإنّه ربّما تعجّل بها الوقت»(1) .

حیث استدلّوا بأنّ کلمة (ربّما) یکون بصدد بیان الحکم بالحیضیّة ، بمجرّد احتمال کونه حیضاً ، ولیس ذلک إلاّ من باب دلالة قاعدة الإمکان .

مع أنّ الأمر لیس کذلک ، بل المقصود من هذه الکلمة ، بیان ما هو یتحقّق فی الواقع عادة ، من تقدیم وقت العادة وتعجّلها ما قد تتأخّر عن وقتها ، وإخبارٌ بأنّ الدم المعهود للنساء لیس لها وقت منضبط ، بحیث لا تتقدّم ولا تتأخّر بیوم أو یومین .

کما أنّه قد یشهد علی ما ذکرنا ، استعمال لفظ (التعجیل) بقوله: «وربّما تعجّل بها الوقت» ، حیث یشعر بکونه اشارة إلی تلک العادة ، مع أنّه لو کان المقصود بیان قاعدة الإمکان والحکم بالحیضیّة ، بمجرّد الاحتمال ، لما احتاج إلی الاستعجال للدم المعهود ، بل لحکم به بمجرّد الرؤیة .

بل قد یؤیّد ما ادّعیناه ذکر الیوم والیومین فی التقدیم والتأخیر ، حیث یدلّنا علی أنّ المراد من التعجیل هو بملاحظة الدم المعهود فی العادة ، لا بیان قاعدة


1- وسائل الشیعة: الباب 13 من أبواب الحیض، الحدیث 1 .

ص:423

الإمکان ، کما لا یخفی .

وقد استدلّوا لمدّعاهم بطائفة أُخری ثالثة من الأخبار : وهی تدلّ علی أنّ ما رأتها قبل أیام ، فهو من الحیضة الأُولی ، کصحیحة محمد بن مسلم ، عن أبیجعفر علیه السلام : «قال: إذا رأت المرأة الدم قبل عشرة أیام ، فهو من الحیضة الأُولی ، وإنْ کان بعد العشرة ، فهو من الحیضة المستقبلّة»(1) .

وأیضا : روایة أخری مرویة عن أبی عبد اللّه علیه السلام ، قال: «أقلّ ما یکون الحیض ثلاثة ، وإذا رأت الدم قبل عشرة أیام ، فهو من الحیضة الأُولی ، وإذا رأته بعد عشرة أیام ، فهو من حیضة أُخری مستقبلة»(2) .

وأیضا : روایة عبد الرحمن ، عن أبی عبد اللّه علیه السلام ، قال: «سألت أبا عبداللّه علیه السلام عن المرأة إذا طلّقها زوجها ، متی تکون هی أملک بنفسها؟ قال: إذا رأت الدم من الحیضة الثالثة ، فهی أملک بنفسها . قلت: فإن عجّل الدم علیها قبل أیام قرئها؟ فقال: إنْ کان الدم قبل عشرة أیام ، فهو أملک بها ، وهو من الحیضة التی طهرت منها ، وإنْ کان الدم بعد العشرة أیام فهو الحیضة الثالثة ، وهی أملک بنفسها»(3) .

حیث استدلّوا بها علی أنّها دلّت علی أنّ الدم بمجرّد رؤیته محکوم بالحیضیّة ، غایة الأمر أنّه إذا کان قبل العشرة فمن الحیضة الأُولی ، وبعد العشرة فمن الثانیة .

هذا ، ولکن الانصاف _ بعد التأمّل فیها _ أنّ الکلام فیها کان بعد الفراغ عن


1- وسائل الشیعة: الباب 10 و 11 من أبواب الحیض، الحدیث 11 .
2- وسائل الشیعة: الباب 10 و 11 من أبواب الحیض، الحدیث 11 .
3- وسائل الشیعة: الباب 17 من أبواب العدة فی کتاب الطلاق، الحدیث 1 .

ص:424

کونها حیضاً ، ولو بواسطة وجود الصفات أو العادة ، غایة الأمر أُرید منه بیان لزوم وجود أقلّ الطهر وهو العشرة بین الحیضتین ، فلأجل ذلک حکم بکونها من الأُولی إذا کان قبل العشرة ، وإلاّ فمن الثانیة .

بل قد یؤیّد ما قلنا _ کما قد أُشار إلیه بعض الاعلام _ ورود قوله : «إذا رأت الدم» عقیب قوله : «أقلّ ما یکون الحیض ثلاثة» ، فی روایة ابن مسلم ، حیث یفهمنا کون المراد هو دم الحیض ، کما أنّ قوله فی روایة عبد الرحمن : «فإنّ عجّل الدم علیها قبل أیام قرئها» ، یکون کالصریح فی کون الکلام فیما هو المسلّم کونها حیضاً ، وطریق حصول العلم بها یکون غالباً بواسطة الصفات والقرائن والامارات الموجودة عندهنّ ، فدلالة هذه علی قاعدة الإمکان فی غایة الاشکال ، کما اشار إلیه صاحب «الجواهر» والمحقّق الآملی والحکیم والخمینی وغیرهم(قدّس سرّهم) .

وقد استدلّوا لمدّعاهم أیضاً بطائفة رابعة : وهی مثل صحیحة عبد اللّه بن المغیرة ، عن أبی الحسن الأوّل علیه السلام : «فی امرأة نفستْ فترکت الصلاة ثلاثین یوماً ، ثمّ طهرت ، ثمّ رأت الدم بعد ذلک؟ قال: تدع الصلاة ، لأنّ أیامها أیام الطهر قد جازت مع أیام النفاس»(1) .

وجه الاستدلال : هو الحکم بالحیضیّة بمجرّد رؤیة الدم بعد الطهر ، بعد ثلاثین ، فلیس هذا إلاّ لأجل قاعدة الإمکان .

وفیه : إنّ هذه الروایة یحتمل کونها غیر معمول بها عند الأصحاب ، لاعراضهم عن مفادها ، الموجب للسقوط عن الحجیّة ، لأجل أنّها قد جعلت أیام النفاس


1- وسائل الشیعة: الباب 5 من أبواب النفاس، الحدیث 1 .

ص:425

بثلاثین یوماً ، حیث لم یفت الأصحاب بذلک ، هذا إنْ لم یرد من قوله : «لأنّ أیامها أیام الطهر قد جازت مع أیام النفاس» ، بیان أنّ النفاس لا یکون تمام ثلاثین ، بل هو مرکّبٌ من النفاس والطهر ، فلا وجه لترک الصلاة فی جمیع تلک الأیام ، فکأن فی مقام بیان ردع کون تمام الثلاثین نفاساً ، إلاّ أنّه حکم صادر تقیّة ، ولولاها لصارت حجّة وقابلاً للاستدلال .

وهکذا یستفاد کون الدم حیضاً ، لأجل تعریف الدم الخارج بالدم المعهود فی مقابل الصفرة ، حیث یکون هو إمارة الحیضیّة عند الاشتباه بینه وبین الاستحاضة ، کما تری مثله فی سائر الأخبار ، مثل الصحیحة التی رواها عبدالرحمن بن الحجّاج ، قال: «سألت أبا إبراهیم علیه السلام : عن امرأة نفستْ ، فمکثت ثلاثین یوماً أو أکثر ، ثمّ طهرت وصلّت ، ثمّ رأت دماً وصفرة؟ قال: إنْ کان صفرة فلتغتسل ولتصلّ ، ولا تمسک عن الصلاة»(1) .

وروی الشیخ الطوسی رحمه الله مثلها ، إلاّ أنّه قال: «فمکثت ثلاثین لیلة أو أکثر» ، وزاد فی آخرها : «فإن کان دماً لیس بصفرة فلتُمسِک عن الصلاة أیام قرئها ، ثمّ تغتسل ولتصلّ»(2) .

فالروایة تدلّ علی الحکم بالحیضیّة بالامارة والصفة ، لا بقاعدة الإمکان بمجرّد الرؤیة ، لأنّه إن کان المقصود هو هذا ، لما احتاج إلی ذکر لزوم ملاحظة الامارة من الصفرة الواردة فی روایة الشیخ .

والظاهر کون الروایتین واحدة ، فعند دوران الأمر بین الزیادة والنقصیة ، تکون


1- وسائل الشیعة: الباب 5 من أبواب النفاس، الحدیث 2 .
2- وسائل الشیعة : الباب 5 من أبواب النفاس، الحدیث 3 .

ص:426

أصالة عدم الزیادة مقدّمة علی الآخر ، لکثرة السهو والخطأ فی النقصان دون الزیادة .

وإنْ اغمضنا الطَّرف عن جمیع ما ذکرنا ، وذهبنا إلی تعدّد الروایة ، فعند ذلک یصیر الحدیث الأوّل ذو احتمالین : من کونها تفید قاعدة الإمکان ، وإنّها واردة لبیان دم الحیض المفروغ عنه .

ولکن برغم ذلک تسقط عن الاستدلال أیضاً لأجل الاحتمال ، کما هو واضح عند أهل الاستدلال .

واستدلّوا بطائفة خامسة من الاخبار وهی : مثل صحیحة یونس بن یعقوب ، قال: «قلت لأبی عبد اللّه علیه السلام : المرأة تری الدم ثلاثة أیام أو أربعة؟ قال: تدع الصلاة . قلت: فإنّها تری الطهر ثلاثة أیام أو أربعة؟ قال: تصلّی . قلت: فإنّها تری الدم ثلاثة ایام أو اربعة؟ قال: تصلّی . قلت: فإنّها تری الدم ثلاثة أیام أو أربعة؟ قال: تدع الصلاة ، تصنع ما بینهما وبین شهر ، فإن انقطع عنها الدم ، وإلاّ فهی بمنزلة المستحاضة»(1) .

منها : وهی قریبة من الخبر السابق ، وهی الروایة التی رواها أبی بصیر(2) .

وجه الاستدلال بها : هو الحکم بالحیضیّة بمجرّد رؤیة الدم خلال الأیّام الثلاثة أو الأربعة ، ولا یکون ذلک إلاّ من جهة قاعدة الإمکان .

وفیه : أنّه لا یجوز التمسّک بهما علی حسب ظاهر النصّ ، لأنّ مقتضی الأخذ بظاهرهما هو کون الحیض أکثر من عشرة أیام ، والطهر المتخلّل بین الحیضتین أقلّ منهما ، وکلاهما خلاف الواقع ، فلابدّ إمّا من طهرهما أو توجیههما بما لم یخالف مع ما تسالم به الأصحاب .


1- وسائل الشیعة: الباب 6 من أبواب الحیض، الحدیث 2 و 3 .
2- وسائل الشیعة: الباب 6 من أبواب الحیض، الحدیث 2 و 3 .

ص:427

ولذلک تری الشیخ الطوسی قدس سره قد وجّههما بما فی «الوسائل» نقلاً عنه ، وقال : «الوجه فی هذین الخبرین ، أن نحملها علی امرأة اختلطت عادتها فی الحیض ، وتغیّرت عن اوقاتها ، ولم یتمیّز لها دم الحیض من غیره ، أو تری ما یشبه دم الحیض أربعة أیام ، وتری ما یشبه دم الاستحاضة مثل ذلک . قال : ففرضها أنْ تترک الصلاة کلّما رأت ما یشبه دم الحیض ، وتصلّی کلّما رأت ما یشبه دم الاستحاضة إلی شهر» .

وقال المحقّق فی «المعتبر» هذا تأویلٌ لا بأس به .

ولا یقال : الطهر لا یکون أقلّ من عشرة أیام .

لأنّا نقول : هذا حقٌ ، ولکن هذا لیس بطهر علی الیقین ، ولا حیضاً ، بل هو دمٌ مشتبهٌ فعمل فیه بالاحتیاط) .

إنتهی ما فی «الوسائل»(1) .

بل فی «طهارة» المحقّق الخمینی قدس سره ، قال: وقد وجّههما الشیخ والمحقّق بما لا بأس به(2) ، حیث یظهر منه ارتضائه بذلک .

ولکن قد یرد علیها : أنّه علی فرض کون تحریم الصلاة فی حال الحیض تشریعیّاً لا ذاتیّاً ، لکن ترکها لها بمجرّد احتمال الحیضیّة مشکلٌ ، لاحتمال کونها واجبة ، ولا یعدّ ترکها موافقا للاحتیاط .

کما أنّه علی فرض کون تحریهما ذاتیّاً ، فهو مجزی فی مثله بالأخذ بأحدهما من الترک أو الفعل ، لدوران أمرها بین الوجوب والحرمة ، لأنّه إنْ کان حیضاً ،


1- وسائل الشیعة: ص 545 المحشّی بحاشیة المرحوم الربّانی .
2- الطهارة للمحقّق الخمینی ، ج 1 ، ص 62 .

ص:428

فیحرم علیها فعل الصلاة ، وإلاّ یجب کما لا یخفی .

وکیف کان ، لا یمکن التمسّک بمثلها لقاعدة الإمکان .

هذا لو لم نقل بکون اللام فی الدم عهدیّاً ، مشیرا إلی دم الحیض الثابت بالصفات والامارات ، الموجبة للحکم بالحیضیّة قطعاً ، کما قد عرفت بیانه .

وقد استدلّوا لذلک بطائفة سادسة من الأخبار وهی : صحیحة منصور بن حازم ، عن أبی عبد اللّه علیه السلام ، قال: «أی ساعة رأت المرأة الدم ، فهی تفطر الصائمة إذا طمثت»(1) .

وغیر ذلک من الأخبار التی تشابه هذا الخبر ، ووجه الاستدلال واضحٌ .

کما أنّ جوابه یظهر من التأمّل فیما ذکرناه سابقاً ، من کون الدم فیها معهود ، إمّا هو معلوم عندهنّ بکونه حیضاً من جهة الصفات أو العادة ، أو سائر القرائن ، الامارات لوضوح أن السؤال لیس إلاّ من حیث ملاحظة أن دم الحیض فی الیوم ، موجب لبطلان الصوم ، أو یوجب القضاء علیها إذا کان رؤیتها له بعد ساعةٍ من دخول الوقت ، وهذا لا یکون إلاّ بعد الفراغ عن کون الدم حیضاً ، کما لا یخفی .

وقد استدلّوا لذلک بطائفة سابقة من الاخبار وهی : مثل الخبر الذی رواه صاحب «الوسائل» ، بسنده عن محمد بن مسلم ، قال: «سألت أبا عبد اللّه علیه السلام عن المرأة تری الصفرة فی أیامها؟ فقال : لا تصلّی حتّی تنقضی أیّامها ، وإنْ رأت الصفرة فی غیر أیامها ، توضّأت وصلّت»(2) .

وجه الاستدلال واضح ، حیث حکم الإمام بترک الصلاة برغم إمکان کون الدم


1- وسائل الشیعة: الباب 50 من أبواب الحیض، الحدیث 1 .
2- وسائل الشیعة: الباب 4 من أبواب الحیض، الحدیث 1 .

ص:429

حیضاً ، وذلک لأجل قاعدة الإمکان .

وفیه ما لا یخفی ، من الظهور فی کون المراد من الأیام هی العادة ، کما یشهد بذلک التصریح بأیام الحیض ، فی مرسلة یونس(1) ، أو بأیام العادة کما فی روایة إسماعیل الجعفی(2) .

واظهر من جمیع ذلک الروایة التی رواها علی بن جعفر(3) فی هذا الباب(4) _ أی من أبواب الحیض _ حیث قد بیّن فیها من کون الصفرة التی تراها فی أیام طمثها موجبة لترک الصلاة لکن لا مطلقاً ، فاحتمال کون المقصود هو الحکم بالحیضیّة بمجرّد احتمال کونه حیضاً ، حتّی یساعد مع القاعدة ، خال عن وجه وجیه .

مع أنّه لو سلّمنا الاحتمال بذلک ، فإنّه لا یکفی فی الاستدلال ، کما عرفت منّا ذلک فیما تقدّم .

وبذلک یظهر لک وجه الاستدلال ، بصحیحة العیص بن القاسم ، قال: «سألت أبا عبداللّه علیه السلام عن امرأة ذهب طمثها سنین ، ثمّ عاد إلیها شیء؟ قال: تترک الصلاة حتّی تطهر»(5) .

بأن یکون عود الشیء أعمّ من الموصوف بصفات الحیض وغیره ، وفی زمان العادة وغیره .

کما یظهر لک جوابه بأن ظاهر العود هو وحدته مع ما کان قبله ، ظنّاً أنّ الدم المعهود قبل الانقطاع کان هو الحیض ، فیکون العود متعلّقاً به أیضاً ، فلا ینطبق إلاّ


1- وسائل الشیعة: الباب 4 من أبواب الحیض، الحدیث 3 ، 4 ، 8 .
2- وسائل الشیعة: الباب 4 من أبواب الحیض، الحدیث 3 ، 4 ، 8 .
3- وسائل الشیعة: الباب 4 من أبواب الحیض، الحدیث 3 ، 4 ، 8 .
4- وسائل الشیعة: الباب 32 ، من أبواب الحیض، الحدیث 1.
5- وسائل الشیعة: الباب 32 من أبواب الحیض، الحدیث 1.

ص:430

علی تیقن الحیض بالصفات والامارات ، أو العادة الموجبة لعلمها بکونه من الحیض ، مع ما عرفت من عدم کفایة مجرّد وجود الاحتمال فی الاستدلال .

وکذا استدلّوا للقاعدة : بما ورد من الحکم بالحیضیّة بمجرّد الرؤیة فی أیام الاستظهار ، من الحکم بترک العبادة بالرؤیة ، ولیس هو إلاّ لأجل قاعدة الإمکان ، وهو مثل روایة محمد بن مسلم ، عن أبی جعفر علیه السلام : «فی الحائض إذا رأت دماً بعد أیامها التی کانت تری الدم فیها ، فلتقعد عن الصلاة یوماً أو یومین» .

وغیر ذلک ممّا یستفاد منها ذلک .

وفیه : أنّ أخبار الاستظهار ، إنّما تدلّ علی ترک العبادة احتیاطاً ، من جهة الشکّ فی کون الدم الذی تراه حیضاً ، ولذلک علیها أن تراعی حتّی تستکشف حالها بالتجاوز عن العشرة وعدمه ، فأین هذا مع الحکم بالحیضیّة بمجرّد الرؤیة؟ والشاهد علی ذلک ، هو الأمر بالعبادة بعد انقضاء أیام الاستظهار ، من الیوم والیومین ، من انقضاء العادة قبل تمام العشرة ، مع احتمال الحیضیّة فیه ، فلا یرتبط ذلک بقاعدة الإمکان .

وکذا استدلّوا بالأخبار الواردة فی المشتبه بین الدم القرحة والعُذرة ، وأنّه مع فقد الامارة منهما یحکم بالحیضیّة الظاهرة ، من اکتفاء الشارع بالحیضیّة بمجرّد الرؤیة ، لأجل قاعدة الإمکان ، من دون حاجة إلی وجود امارة دالة علی الحیض .

وفیه : إنّ مورد هذه الأخبار ، إنّما کانت فی ما اشتبه بین الأمرین من الحیض أو الاستحاضة ، أو بینه وبین القرحة ، أو بینه وبین العُذرة ، مع العلم بانتفاء الثالث ، ولذلک تری أنّ الإمام علیه السلام قد بیّن لکلّ واحد منها علامة وامارة ، فمن المعلوم فی مثل اطراف العلم الإجمالی إذا انتنفی أحد المحتملین یتعیّن الآخر ، فلیس هذا من باب الحکم به بمجرّد الرؤیة حتّی یستفاد منه القاعدة .

ص:431

والحاصل : أن الفقیه لا یطمئن من هذه الطوائف من الأخبار ، کون المقصود بیان قاعدة الإمکان ، بحیث یجعله أصلاً أو امارة قابلین للرجوع إلیها عند الشکّ فی الحیضیّة ، ویعامل معه معاملة الأصل أو الامارة فی موارده ، بحیث یصحّ الاعتماد علی خصوص القاعدة للفتوی بالحیضیّة ، کما علیه بعض الأعلام والفقهاء .

نعم ، یمکن القول بالاحتیاط فیما ینحصر فیه أثبات الحیضیّة بها ، فیما لا توجد عادة لها ولا یمکنها الرجوع بالصفات ، بل لا ینبغی ترکه خصوصاً بعد ملاحظة ما فی «الجواهر» من أنّ الجرأة علی خلاف ما علیه الأصحاب ، بعد نقلهم الإجماع نقلاً مستفیضاً معتضداً بتتبّع کثیر من کلمات الأصحاب ، لا یخلو عن اشکال ، کما لا یخفی علی المتأمّل الدقیق ، واللّه العالم .

وهنا أمور ینبغی التنبیه علیها وهی :

الأوّل: قد ظهر من هذا التحقیق أنّ ما فهمه بعض متأخّری المتأخّرین من العموم من هذة الأخبار للقاعدة ، حتّی تمسّک بها لنفی بعض الشرائط ، کالتوالی ونحوه ، أو فیما تری من الدم قبل احراز ما علم شرطیّة ، لیس علی ما ینبغی .

فالأولی حمل هذه الأخبار علی ما یمکن أن یکون حیضاً ، مثل ما تراه البالغة غیر الآیسة مثلاً ثلاثة أیام ، ولم یکن معارضاً بإمکان حیض آخر ، فإنّه یحکم بحیضیّة الدم المرئی ولا بأس به .

فی أحکام الحیض / تنبیهات قاعدة الإمکان

ولعلة هذا هو المراد من معنی القاعدة ، لا الحکم بالحیضیّة بمجرّد الرؤیة من جهة الإحتمال الناشئ من جهل الشخص ، کما احتمله بعض عبائر القوم ، وهو الهادی إلی سبیل الرشاد .

وبتوضیح آخر نقول : إنّ الأظهر اختصاص مورد القاعدة _ علی فرض

ص:432

اعتبارها _ بالشبهات الموضوعیّة ، وما اشتبه فیه شخص الدم بین کونه حیضاً أو غیره ، لا ما اشتبه نوعه ، لإحتمال اعتبار شیء فیه _ باعتبار حکمه شرعاً بالحیضیّة _ وهو فاقدٌ له ، لأنّ الذی یمکن أن یکون مدرکاً للقاعدة لا یخلو عن احدی ثلاث .

إمّا أن یکون هو مثل أصل السلامة الذی ذهب إلیه المحقّق الهمدانی ، حیث یلاحظ فیه بناء العقلاء فی الاجراء والاستناد .

فمن الواضح عدم جریانها ، إلاّ فیما شکّ موضوعیاً فی أنّ الدم الخارج منها هو الدم الطبیعی المقذوف من الرحم السالم ، أو لم یکن کذلک ، وکان سبب شکّه هو الشکّ فی السلامة وعدمها .

وهذا دون سائر الموارد من الشبهات الحکمیّة ، أو الشکّ فی تحقّق ما اعتبره الشارع ، أو فی الشبهة الحاصلة من تعارض الامارات ، أو من جهة عدم امکان العلم بالامارة الموجودة ، أو عدم امکان استعمال الامارة ، أو غیر ذلک من الشبهات .

أو یکون المستند هو الأخبار أو الاجماعات ، کما علیه الأکثر .

فلا إشکال علی الأخیر ، بکون القدر المتیقّن من اطلاق معقد الاجماعات المحکیة ، هو الشبهة الموضوعیّة ، إذ لا دلیل لعموم القاعدة وشمولها للشبهة الحکمیّة ، أو سائر الشبهات من المشکوکات ، کما توهمه بعض متأخّری المتأخّرین ، کما فی «الجواهر» .

کما أنّ الأخبار أیضاً إذا کانت مستنداً ، لا تکون العلّة للحکم بالحیضیّة ، إلاّ بملاحظة شخص الدم الخارج من الرحم ، لا بحسب النوع ، ویمکنک الوقوف علی صدق هذا المدّعی ، بملاحظة أخبار اجتماع الحیض مع الحمل ، أو روایة تعجیل الحیض ، أو غیره من موارد الأخبار .

ص:433

الأمر الثانی : علی فرض القول باعتبار القاعدة ، هل یکون الاعتبار بحکم الامارة أو بحکم الأصل؟

فعلی الأوّل: لابدّ من تقدیمها وروداً أو حکومة _ علی الخلاف _ إذا عارضها الأصل فی مورد من الموارد ، بخلاف ما لو کانت اصلاً ، حیث قد یعارض مع سائر الأُصول ، فلابد أن یلاحظ بعد التعارض بأنّها هل هی من الأُصول المحرزة _ کالاستصحاب _ أو من غیرها .

فعلی الأوّل یعارض مع الأصل مثله فیسقط ، وإلاّ یقدم علی ما لا یکون منها ، کما یقدّم المحرز علیها لو لم تکن هی منها ، إلاّ أنّه یوجب لغویّتها لو کان الأصل المقابل هو الاستصحاب ، لندرة مورد لا یکون فیه استصحاب ، حتّی یوجب ذلک الرجوع إلی القاعدة ، فلابدّ من تقدیمها علیه ، صوناً لکلام الحکیم عن اللغویّة . ولتعیین أحد الأمرین من الامارة والأصل ، ینبغی ملاحظة مستندها ان قلنا فیه باصالة السلامة ، وقلنا باماریتها ، أو قلنا بالظنّ الحاصل لأجل الغلبة ، فتکون امارة .

لکن قد عرفت عدم تمامیّتها .

وإنْ قلنا فیه بالإجماع والأخبار _ کما هو الأظهر _ فتکون من الأُصول ، التی یعتمد علیها لدی الشبهة ، فکونها حینئذ من الأُصول المحرزة ، لا یخلو عن الإشکال والابهام .

ولکن قدعرفت أنّه علی فرض تسلیمها ، لابدّ من الحکم بتقدیمها علی الاستصحاب ، فضلاً عن غیره ، فراراً عن اللغویّة ، کما لا یخفی .

فإذا فرضنا کونها من الأُصول ، فلا یتعارض مع ما دلّ علی کون الدم من العُذرة أو من القرحة ، عند قیام الامارة علیهما ، لحکومة الامارة علی القاعدة ، کما هو کذلک فی کلّ مورد وقع التعارض بینهما _ أی بین الامارة والأصل _ .

ص:434

وتصیر المرأة ذات عادة ، بأن تری الدم دفعة ، ثمّ ینقطع علی أقل الطهر فصاعداً ، ثمّ تراه ثانیاً بمثل تلک العدّة (1).

هذا کلّه قد عرفت علی فرض اعتبارها ، بعنوان القاعدة مستقلاً ، وإلاّ لا نحتاج فی الدلالة علی عدم اعتبارها إلی هذه التفصیلات .

الأمر الثالث: أنّه علی فرض تسلیم اعتبارها ، یکفی فی احراز الإمکان ، دلالة الأصل الجاری فی المورد ، الذی یحرز به الشرط أو عدم المانع ، مثل ما لو شکّت المرأة فی الیأس ، ورأت الدم ، فانّ اصالة عدم الیأس کافیة فی احراز الإمکان ، بلحاظ شرطیّة عدم الیأس ، فتجری قاعدة الإمکان فی الدم المرئی حینئذ ، کما لا یخفی .

کما أنّ الخلاف فی تمامیّة القاعدة وعدمها ، إنّما یکون بعد الاتّفاق علی اعتبار حیضیة ما تراه المرأة فی أیام العادة أو قریباً منها ، ولو بغیر الصفة ، أو ما تراه فی غیر أیام العادة بین الثلاثة والعشرة ولکن بالصفة ، بثبوت الحکم فیها بالنصّ والإجماع ولو لم تتم القاعدة ، وإنْ کان الحکم فیهما من مصادیقها علی فرض اعتبارها ، کما هو واضح . هذا تمام الکلام فیما یتعلق بالبحث عن قاعدة الامکان ، والادلة القائمة علیها والمناقشة فیها .

(1) واعلم أنّ العادة لا تتحقّق بالمرّة الواحدة ، لأنّها مشتقة من العدد ، فما لم تتکرّر الحیض ولو لمرّة أُخری ، لا یصدّق علیه العود ، حتّی یشتق منه العادة ، مع انّا لا نحتاج فی ثبوت الحکم إلی تحقّق عنوان ذات العادة _ إذ لم تترتّب الأحکام فی النصّ ولا فی معقد الإجماع ، علی هذا العنوان _ حتّی یدور الحکم مداره ، بل الملاک فی تحقّق المرّة الثانیة هو المعرفة بأیام حیضها ، ولو لم یطلق علیها ذات العادة ، إنّ الإجماع _ تحصیلاً ومنقولاً _ قائم علیه ، کما علیه أکثر العامّة ، خلافاً

ص:435

لبعضهم ، حیث قد اکتفی بالمرّة ، بل ربّما نقل ذلک عن بعض أصحابنا ، کما فی «الجواهر» ، کما ادّعی اتّفاق أصحابنا _ کما فی «الذکری» _ علی عدم اشتراط الثلاثة فی صدق العادة ، فعلی هذا لا نحتاج فی ذلک الی ملاحظة العرف ،کما لا نحتاج إلیه فی غیر عادة الحیض .

فی أحکام الحیض / ما تثبت به العادة

فالأولی هو الرجوع إلی لسان الروایات الواردة فی هذا الباب وملاحظة دلالتها ، فنقول :

منها : مرسلة یونس ، عن غیر واحد ، عن أبی عبد اللّه علیه السلام ، فی حدیثٍ ، قال : «وأمّا السنة الثالثة ، ففی التی لیست لها أیام متقدّمة ، ولم تری الدم قط ، ورأت أوّل من سبع ، فإنّها تغتسل ساعة تری الطهر ، وتصلّی ، فلا تزال کذلک حتّی تنظر ما یکون فی الشهر الثانی ، فإن انقطع الدم لوقته فی الشهر الأوّل سواءً ، حتّی یوالی علیها حیضتان أو ثلاث ، فقد علم أنّ ذلک قد صار لها وقتاً وخُلقاً معروفاً ، تعمل علیه وتدع ما سواه ، وتکون سنّتها فیما تستقبل إن استحاضت قد صارت مسنّة إلی أن تجلس اقرائها ، وإنّما جعل الوقت إنْ توالی علیها حیضتان أو ثلاث ، لقول رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم : «التی تعرف أیامها ، دعی الصلاة أیام اقرائک» .

فعلّمنا أنّه لم یجعل القُرء الواحد سنة لها ، فیقول لها : «دعی الصلاة أیام قرائک» ، ولکن سنّ لها الاقراء ، وادناه حیضتان فصاعداً»(1) .

منها : روایة موثقة سماعة بن مهران ، وهی : «قال : سألته عن الجاریة البکر ، أوّل ما تحیض . . . إلی أن قال : فإذا اتّفق شهران عدّة أیام سواء ، فتلک أیامها»(2) .

فالروایتان وان هما خلتا عن الصحّة والقوّة بنفسهما ، لأجل الارسال فی الأوّل والاضمار فی الثانیة ، إلاّ أن الإجماع والشهرة جابرتان لضعفهما ، فیصحّ


1- وسائل الشیعة: الباب 7 من أبواب الحیض، الحدیث 1 و 2 .
2- وسائل الشیعة: الباب 7 من أبواب الحیض، الحدیث 1 و 2 .

ص:436

الإعتماد علیهما فی الاستدلال بلا إشکال .

والذی ینبغی أن یقال ، من جهة الاستفادة من الروایتین المنجبرتین فی ما هو المهمّ ، أُمور عدیدة وهی :

الأمر الأوّل: أنّه یظهر من کون الملاک فی الرؤیة فی المرّة الثانیة هو الحکم بحیضیّة الدم بمجرّد الرؤیة ، أنّه لیس لأجل التعبّد فی خصوص مورد النصّ ، کما قد توهّم ، حتّی ینتج لزوم التعدّد أزید من المرّتین فی غیر مورد النصّ ، بل لأنّ الظاهر من الروایتین کونهما فی صدد تحدید العادة العرفیّة ، التی یستکشف بها وقت الحیض أو عدده أو هما معاً ، بمساواة الحیضتین فی الوقت والعدد أو فی أحدهما .

الأمر الثانی: بیان ما هو المستفاد منها فی أقسام ذات العادة ، اذ لا إشکال أن موثقة سماعة مشتملة علی ذات العادة العددیّة فقط دون الوقتیّة ، حیث أنّ وقوع الحیض فی الشهر الثانی یکون مثل الشهر الأوّل فی الأیام ، یناسب ویجامع مع اختلافه فی الوقت واتّحاده فی العدد أیضاً .

نعم ، قد یشمل صورة اتفاقهما فی الوقت مع العدد بالاطلاق ، بأن یکون الاتّفاق فی الشهر الثانی کالشهر الأوّل من ناحتیتن ، لکن الخبر لیس فی صدد بیانه .

هذا بخلاف ما فی الروایة المرسلة ، حیث أنّها مشتملة لبیان العدد والوقت ، لقوله علیه السلام : «حتّی تنظر ما یکون فی الشهر الثانی ، فإن انقطع الدم لوقته فی الشهر الأوّل سواء ، أی عدداً» .

وبقی هنا قسم آخر منها ، وهو ذات العادة الوقتیّة ، فبأی دلیل یحکم بحیضیّة الدم بالرؤیة فی المرّة الثانیة؟

ففی «مصباح الهدی» : أنّه لیس علیه من النصّ دلیل ، ولکنّه إجماعی ، کما حکاه فی «المستند» .

ص:437

ولکن فی «طهارة» المحقّق الخمینی ، قال : لکنّ الظاهر منهابعد التأمّل التام فی جمیع فقراتها ، هو تعرّضها لذات العادة العددیّة والوقتیّة دون غیرها ، بل شمولها لذات العادة الوقتیّة أقرب من العددیّة .

هذا ، ولکن فی ضمن بیان الاستدلال لم یتعرّض لبیان کیفیّة شمول الروایة للوقتیّة فقط ، بل فی موضعٍ من کلامه ما یدلّ علی إمکان دلالة الروایة وشمولها للعددیّة ، لولا ذیل الروایة وصدرها ، حیثُ قال : «وأمّا قوله بعد ذلک حاکیاً عن رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم ، فی تکلیف هذة المرأة : «تدع الصلاة قدر اقرائها أو قدر حیضها» ، وإنْ کان فی نفسه مع قطع النظر عن الصدر والذیل للعددیّة فقط ، لکن مع لحاظ أن ذلک بیان حکم الموضوع المتقدّم ، لا یبقی ریبٌ فی أنّ المراد قدر اقرائها التی تعرف ذاتاً ومبلغاً . . . . إلی آخر کلامه(1)» .

وقد عرفت أنّه قدس سره لم یأت بشیء یدلّ علی دخول خصوص الوقتیّة فی الروایة ، وما أورده فی صدر کلامه ، لم یکن إلاّ مجرّد الدعوی .

ولکنّه نسب إلی بعض _ فی ذیل الصفحة ، وهذا البعض هو الشیخ الأنصاری فی «طهارته» _ باستفادة العددیّة فقط من المرسلة أیضاً لشمول ظهورها اللفظی لهما (العددیّة والوقتیّة والعددیّة فقط) دون الوقتیّة فقط .

ومما ذکرنا یظهر لک وجه کلام الآملی قدس سره ، حیث قال : «إنّه لیس علیه من النصّ دلیل ، لکنّه إجماعی ، بل فی «الجواهر» : وقد تکون وقتیّة کذلک ، فیما إذا رأته مع إتّحاد الوقت ، واختلاف العدد ، لکن لا تدخل هذه فی عبارة المصنّف ، إلاّ أنّ الأقوی ثبوتها وجریان حکم التحیّض بمجرّد رؤیة الدم فیه علیها .


1- کتاب الطهارة : 1/129 .

ص:438

نعم لا یجری علیها حکم الرجوع إلی أیام العادة ، مع تجاوز الدم العشرة ، کما کان یجری ذلک فی العددیّة .

نعم معاً یجریان علی الوقتیّة العددیّة ، ولذا کانت انفع الأقسام الثلاثة(1)» .

وجه عدم جریان حکم التجاوز عن العشرة فیها واضح ، حیث أنّه لیس لها عدد مضبوط ، حتّی یرجع إلیه بخلاف اختیها ، کما لا یخفی .

فإذا عرفت تفصیل الکلام ، فی دلیل شمول حکم الحیض للأقسام ، یظهر لک ضعف ما صرح به الحلّی فی «السرائر» ، من حصر العادة فی خصوص العددیّة والوقتیّة ، معاً دون القسمین الآخرین .

وذلک لمنافاة کلامه مع اطلاق اسم العادة ، حیث یصحّ اطلاقها للعددیّة قطعاً .

أمّا شمول أخبارها لها فانه قد عرفت أنّا لم نقیّد بصدق هذا الاسم ، لعدم وجوده فی لسان الأخبار ومعاقد الإجماعات ، حتّی تدور الأحکام مدارها .

نعم ، یصحّ دعوی منافاة قوله ، مع ما هو الموجود فی الخبرین اللذین قد تمسّکوا بهما ، لأجل اثبات حکم ذات العادة ، کما یتنافی مع کلام الأصحاب وإجماعهم ، کما ادّعی .

کما یظهر لک ضعف القول باختصاص حکم ذات العادة علی العددیّة فقط ، وأنّه یدور الحکم مدارها فی ترتیب آثار الحیض بمجرّد الرؤیة ، من دون النظر إلی الوقت ، حیث قد اسند فی «الجواهر» ذلک إلی المصنّف وغیره ، بقوله : «کما عساهُ یظهر من المصنّف وغیره ، ویشهد له اطلاق الروایة السابقة ، وعدم انضباط وقتٍ خاص للعادة ، إذ هی قد تتقدّم وتتأخّر ، . . .»


1- جواهر الکلام: 3/172 .

ص:439

لما قد عرفت من إمکان استفادة قسمین منها من النصّ ، والحاق الثالث بهما کان بالإجماع أو الشهرة ، مضافاً إلی أنّ ما رأت الدم فی متّحدی الوقت مع اختلاف العدد ، لابدّ له من الحکم بکونه من ذات العادة ، لصدق هذا العنوان علیه ، وعدم انطباق سائر العناوین من المبتدئة والمضطربة وذات الشهر ، کما لا یخفی ، فلا تخرج کلّها عن أحد هذین العنوانین ، إذ لا فرق مع تکرّر الرؤیة ، فی شهر واحد بمرّتین ، مع تخلّل أقل الطهر ، أو تکرّرها فی شهرین أو أزید بالوقت ، کما لا یخفی .

بل قال فی «الجواهر» بعد ذکر الأقسام الثلاثة: «ومنه ینقدح إمکان اثبات عادات أخر کتکرّر آخر الحیض مثلاً مرّتین ، کأن ینقطع فی السابع من الشهر ، ثمّ ینقطع فی الشهر الثانی کذلک وان اختلفت العدد ، إذ لا فرق بین انضباط أوّل الحیض وانضباط آخر الحیض ، وکذلک بالنسبة إلی وسط الحیض ، إلاّ أنّی لم أعثر علی أحد من الأصحاب أثبت ذلک ، أو رتّب حکماً علیه مع تصدّر بعض الثمرات له فتأمّل جیّداً» إنتهی کلامه(1) .

ولعلّ وجه عدم ذکرهم ، هو أنّ ما یترتّب علیه الحکم بترک الصلاة وما اشبه ذلک ، لا یکون إلاّ باعتبار حال رؤیة الدم لا انقطاعه ، إذ إلی حین الانقطاع لابدّ أن یتبیّن حکمه بالنسبة إلی السابق منه ، وهو العمدة ، وإلاّ ترتّب الحکم علیه من أحکام الحیضیّة بعد ثبوته قبله ممّا لا إشکال فیه ، إذ من الواضح أنّ المرأة فی تلک الحالة لا یجوز لها دخول المسجد ، ولا مسّ کتابة القرآن ، ولا ان یجامعها زوجها ، وهکذا یکون الکلام بالنسبة إلی الوسط أیضاً ، هذا بخلاف حصول العادة بالأوّل ، إذ هو منشأ أکثر الآثار المذکورة فی الباب ، کما لا یخفی .


1- جواهر الکلام: 3/173 .

ص:440

الأمر الثالث : فی الامور التی وقع البحث فیها بالنسبة إلی الروایتین ، هو بیان المراد من الشهر الوارد فیهما ، هل المراد هما الهلالیان أم لا؟

وقع الخلاف فیه بین الأعلام ، حیث ذهب البعض إلی کون المراد هو الهلالی ، کما هو ظاهر مختار المصنّف والمحقّق الثانی والسیّد فی «العروة» ، والمحقّق الآملی ، خلافاً لآخرین مثل صاحب «الجواهر» تبعاً للشهید فی «الروض» ، بل قد استضعفه الشیخ الأعظم فی «طهارته» ، بإمکان تحصیل العادة فی الشهر الحیضی .

والمراد بالشهر الحیضی ، هو أی زمان یسع وقوع أقلّ الحیض والطهر فیه ، وهو ثلاثة عشر یوماً ، لکن فی العادة العددیّة لا مطلقاً .

توضیح ذلک من کلام الشیخ قدس سره : بأنّه إذا تکرّر طُهران متساویان ، بأن رأت ثلاثة حیضاً ثمّ عشرة طهراً ، ثمّ ثلاثة حیضاً ، ثمّ عشرة طهراً ، ثمّ ثلاثة حیضاً ، یصدق علی الدم المرئی _ بعد مضیّ مقدار ذلک الطهر من الحیض الثالث _ أنّها رأت الدم فی أیام حیضها ، لأنّها اعتادت بالحیض عقیب عشرة الطهر ، فالیوم الحادی عشر من أیام الطهر ، معدودٌ من أیام حیضها عرفاً ، فإذا رأت الدم فیه تحیّضت) .

انتهی کلام الشیخ قدس سره (1) .

بل لعلّ مراد الشیخ الأعمّ من کون ذات العادة عددیّة أو غیرها ، حیث لم یذکر مراده من الشهر بالخصوص ، بخلاف صاحب «الجواهر» ، حیث صرّح بکون الشهر الحیضی ، لا یکون إلاّ فی العددیّة فقط ، وأمّا فی غیرها فلابدّ أن یکون المراد هو الهلالی ، إذ الوقتیّة لا یناسب مع غیر الهلالی .

هذا ، والذی ینبغی أن یقال : هو أنّ المقصود من بیان ذات العادة ، ما یصدق


1- نقله الآملی فی مصباح الهدی: 4/441 .

ص:441

علیها ذلک ، فلا إشکال بأنّ العرف _ ظاهراً _ لا یطلق العادة بمجرد تحقق الرؤیة لمرتین ، بل نهایة اطلاقها العادة علی الثلاث وأزید ، لوضوح أنّ العرف لا یطلق علی المرأة بمجرّد رؤیة الدم فی الوقت المتّحد مع الوقت فی الشهر الأوّل ، أنّها قد اعتادت بذلک .

نعم ، لا یبعد صحّة اطلاقها بعدما رأت مرّتین ، ثمّ فی المرّة الثالثة تطلق علیها ذلک . فما ورد فی الروایة ، من الحکم علیها فی المرّة الثانیة باحکام ذات العادة ، من ترتیب آثار الحیض وأحکامها ، لا یراد منه إلاّ العادة الشرعیّة ، فإذا صار الأمر کدلک فلابدّ حینئذ من التبعیّة عن الشرع فی صحّة هذا الإطلاق عنده ، ولا سبیل لنا لتحصیل ذلک إلاّملاحظة الأخبار ، وقد عرفت أننا لانمتلک فی المقام الاّ الخیرین السابقین ، وقد عرفت دلالتها علی خصوص الوقتیّة والعددیّة معاً ، أو الوقتیّة فقط ، ولا تشمل العددیّة بخصوصها . لکنها قد اُلحقّ بهما بواسطة الإجماع .

فالشهر بلحاظ هذین القسمین الداخلین فی الروایة ، یکون هلالیّاً ، کما هو ظاهر المنصرف إلیه لفظ الشهر حقیقة ، فارادة غیره لا یصار إلیه إلاّ بقرینة صارفة عن معناه الحقیقی ، وهو هنا مفقود .

وحمله علی الغالب فی الأفراد ، حیث تکون اعتمادهنّ عادة علی الشهر الهلالی لا یوجب اختصاصه به ، لأنّک تری صحّة اطلاق العادة علی من لم تر الدم فی الشهر الثانی ، بل قد رأت فی الشهر الثالث ، مع أنّ الروایة قد صرّحت بالشهر الثانی فقط ، حیث یفهمنا من عدم خصوصیة فی للفظ الشهر فیها ، فلا فرق حینئذٍ _ بعد رفع الید عن القید _ بکونه فی طرف الزیادة _ کما مثّلنا _ أو النقیصة کالشهر الحیضی ، کما لا یخفی .

هذا ، ولکن الانصاف عدم تمامیّة هذة المقایسة ، لوضوح أنّ التی رأت الدم

ص:442

فی الشهر الثالث ، فقد رأت الدم فی الشهر أیضاً اذ یصحّ ان ، یطلق علیه هذا العنوان ، فیطلق علیه العادة بالشهر الهلالی .

هذا ، بخلاف ما رأت فی شهر واحد مرّتین ، مع تخلل أقلّ الطهر حیث لا یصدق علیه کون عادتها بالشهر ، فصدق العادة علی مثلها لابدّ أن یثبت أمّا بالعرف ، وقد عرفت الإشکال فیه ، وأنّه لا یصدق إلاّ بعد حدوثه مرات عدیدة ، وأقلّها الثلاث ، وموردنا لم یحدث الاّ مرّتین .

أو بالشرع ، وهو موقوفٌ علی شمول الروایة للعددیّة ، وقد عرفت عدم شمولها لها .

أو بالإجماع ، فلابدّ من اثباته فیه ، فهو أیضاً لا یخلو من اشکال ، مع وجود الخلاف بین الأعلام إذ الإجماع لا یقوم إلاّ فی القدر المتیقّن منه ، وهو فی غیر المورد ، کما لا یخفی .

فاثبات حکم عنوان ذات العادة العددیة للمرأة التی رأت الدم فی الشهر الواحد لمرتین ، بحیث یشمل الشهر الحیضی ، لا یخلو عن خفاء ، کما لا یخفی .

فالأظهر عندنا _ واللّه العالم _ کون المراد من الشهر الهلالی ، ذات العادة الشرعیّة التی یصحّ ان یطلق علیها أنها رأت الدم مرّتین ، ولو کانت المرّة الثانیة بعد شهرین أو أزید ، بحیث یصدق علیه عنوان الشهر .

نعم ، لو تکرّر الطهرالمتساوی مدته مع الحیض للمرأة زماناً کثیراً ، بأن رأت ثلاث مرّات أو أزید فی الشهر الحیضی ، کما لو رأت ثلاثة أیام حیضاً ، ثم الطهر عشراً ، ثمّ ثلاثة أیام حیضاً ، وعشرة طهراً ، وثلاثة أیام حیضاً وعشرة طهراً ، وهکذا ، فانّه یحصل له حینئذ الاعتبار العرفی ، فتترتّب احکام الحیض علی المرّة الرابعة بمجّرد رؤیتهما الدم ، وتطمئن حینئذ بعادة نفسها ، ولا مانع من

ص:443

الالتزام ، به بل الاخبار لا یمنعه ، لصحّة اطلاق ذات العادة علیها عرفاً ، کما لا یخفی .

ولا فرق فیه فی ترتیب حکم الحیض علی الدم ، بعد تحقّق العادة ، بین کون لون الدم مختلفاً مع الدم الذی رأته فی الأوّل أو متّفقاً معه ، لأنّه إذا تکرّر بمثل ذلک العدد ثبت لها العادة ، توافقا فی اللون أم تخالفا ، لاطلاق الأدلّة ، کما سیأتی عن قریب فی ذیل کلام المصنّف قدس سره .

ثمّ هل یعتبر ویشترط فی ذات العادة الوقتیّة والعددیّة معاً ، أو العددیّة فقط ، توالی الحیضین المتّحدتین ، بحیث لا یفصل بینهما حیضة تنافی ذلک ، أم لا یعتبر ذلک؟ فیه خلاف بین الأعلام .

والذی یظهر من «المنتهی» وغیره ، من ثبوت العادة بتکرّر المختلف کما اذا رأت الدم مثلاً فی شهر لثلاثة ایّام ، وفی شهر آخر لخمسة ، وفی الثالث لسبعة ، ثمّ رأت الدم ثلاثة أشهر علی هذا الترتیب ، فیصحّ أن یقال إنّ عادتها هی هذه ، بالحمل علی التحیّض بعد رؤیة الدم خلال الاشهر الثلاثة المذکورة ، لا مطلقاً .

خلافاً لصاحب «الجواهر» ، بدعوی عدم تحقّق التوالی فی حیضتین منها وتحقّقه بالنسبة للمجموع غیر مجد ، ثمّ قال نعم لو تکرّر ذلک مراراً متعدّدة بحیث ثبت بها الاعتیاد العرفی أمکن أن یدّعی ذلک کما ذکرناه سابقاً فی کلام الشیخ المتقدّم إذ یصدق علیها أنّها تعرف وقتها وأیام اقرائها ویحمل حینئذ ما فی الروایات علی ارادة ضبط الاعتبار شرعاً وإلاّ العرفی موکول إلی العرف ولا یکون المقصود منها نفی هذا الضبط العرفی فتأمّله جیّداً ، فإنّه نافع جدّاً فی مثل هذه المقامات ، إنتهی کلامه(1) .


1- جواهر الکلام: ج 3 ، ص 176 .

ص:444

ولا عبرة باختلاف لون الدم نفیاً ولا اثباتاً (1).

أقول : لعلّ مقصود «المنتهی» من المثال المذکور من تحقّیق العادة بذلک هو المرحلة الثالثة من الرؤیة ، علی الکیفیّة المذکورة ، حتّی یساعد مع العادة العرفیّة ، لا فی الثانیة التی قد عرفت عدم صدق الاعتیاد بها إلاّ عند الشرع .

فالاعتیاد بالتوالی فی الحیضتین ، إنّما یکون شرطاً فی الاعتیاد الشرعی الحاصل بالرؤیة فی المرحلة الثانیة ، لا فی العرفی ، حیث لا یتحقّق إلاّ فی أزید من الحیضتین ، کما لا یخفی .

ومن ذلک یظهر عدم ثبوت الوقتیّة أیضاً علی الأقوی ، إذا صادف تکرّر الرؤیة ببعض الوقت ، لا بتمامه ، مثل ما لو رأت أوّل الشهر لستّة أیام ، ثمّ رأت فی الشهر الآتی لثلاثة أیام قبل الأوّل من ستّة ایام ، حتّی تصیر الثلاثة من الستّة الثانیة مصادفاً مع الستّة فی الأوّل ، فبالنتیجة تصیر ثلاثة أیام متّفقة مع الستّة ، وثلاثة أیام سابقة علیها فی الشهر الثانی ، لعدم صدق الأتّحاد فی الوقت بلحاظ أوّله ، وإنْ کان متّحداً من حیث العدد والاستواء .

(1) أی بعد حصول العشرة بعد الرؤیة یحکم بعدم الحیض ، وإنْ فرض کون الدم موصوفاً بصفات الحیض ، لأنّه بعد مضی أکثر أیام الحیض لایمکن الحکم بالحیض .

کما یحکم بالحیض فی الأقل من العشرة ، ولو کان الدم غیر متّصف بصفات الحیض ، بلا فرق فیالکسور عن العشرة ، بالزیادة أو النقیصة ، إلی أن لا تصل إلی حدّ لا یمکن أن یکون حیضاً ، مثل أقلّ الأیام وهی الثلاثة .

کما لا عبرة بالنقاء المتخلّل فی أثناء أیام الحیض ، أی یحکم بالحیضیّة

ص:445

ولو کان فیه منقطعاً عن الدم .

فی أحکام الحیض / ما تثبت به العادة

ففی احتساب أیام النقاء ، من أیام العادة وعدمه ، وجهان ، بل قولان : والذی یظهر من صاحب «الجواهر» عدم الاحتساب ، بدعوی ظهور النصوص الواردة فی العادة فی الدم الحیضی ، لا فی التحیّض الشرعی .

ولکن ذلک لا یخلو عن شیء ، لوضوح أنّ ظاهر النصوص هو الحکم بالتحیّض الشرعی ، فی الوقت أو العدد ، إذا کانا متّحدین ، بلا فرق فیه بین وجود النقاء المتخلّل فیه وعدمه ، فالاحتساب من أیام العادة فی التحیّض الشرعی ، یکون أقوی ، واللّه العالم .

ولا بأس لنا بتوضیح هذه المسألة بأتیان مثال لها ، کما أشار إلیه فی «العروة» فی المسألة الثالثة عشرة بقوله : «إذا رأت الدم أربعة أیام ، ثمّ طهرت فی الیوم الخامس ، ثمّ رأت فی الیوم السادس کذلک فی الشهر الأوّل والثانی» .

ففی مثله إذا تجاوز دمّها من العشرة ، فهل ترجع إلی الأربعة من أیام الدم قبل النقاء فقط ، أو إلیها مع یوم النقاء وبعده ، فتصیر عادتها ستّة ، أو ترجع إلی الأربعة قبل النقاء ، ویوم بعد النقاء فتصیر عادتها خمسة؟

ذهب صاحب «الجواهر» الی القول الأخیر ، وقد اختاره السیّد فی «العروة» ، وکثیر من أصحاب التعلیق .

ولکن الأقوی عندنا ، وعند العلاّمة البروجردی ، والمحقّق الآملی هو الثانی ، بل فی «مصباح الهدی» : هو الظاهر من کثیر عبارات الأصحاب ، بل قد یستدلّ له بما فی النصوص التی قد عبّر فیها بأیام القعود عن الصلاة ، وإنْ شئت فلاحظ موثقة سماعة ، التی ورد فیها قوله علیه السلام : «فلها أنّ تجلس ، وتدع الصلاة ، ما دامت تری الدم ، ما لم یجز العشرة ، فإذا اتّفق الشهران عدّة أیام سواء ، فتلک أیامها» .

ص:446

إذ من الواضح أنّه إذا حکم بکون النقاء المتخلّل فی العشرة یکون بحکم الحیض ، وأنّها تجلس فیه ، وتدع الصلاة ، یحتسب من ایام العادة ، فاحتساب ما بعده من أیام الدم یکون بطریق أولی .

لا یقال : قوله : «ما دامت تری الدم» ، یوصلنا إلی احتساب حالة رؤیة الدم من الأیام لا غیرها .

لأنّا نقول : بإمکان أن یکون المراد من هذا القول بیان عدم انقطاع الدم بالکلّ ، کما یشهد لذلک قوله بعد ذلک : «ما لم یجز العشرة» ، حیث تشمل ذلک لکلا الوجهین ، من وجود النقاء المتخلّل وعدمه ، لا الرؤیة الاستمراریّة .

کما یؤیّد ما ذکرناه أیضاً ما فی ورد فی الخبر الذی رواه الصحّاف ، عن أبی عبداللّه علیه السلام ، فی الحدیث الوارد عن حیض الحامل : «قال : فلتمسک عن الصلاة عدد أیامها التی کانت تعتدّ فی حیضها(1)» .

إذ من الواضح أنّ المرأة تعتدّ أیام النقاء من أیام الحیض عن العبادة ، فتحسب من ایام العادة ، فتشملها قوله : «فلتمسک عن الصلاة عدد أیامها» ، کما لایخفی . ومن ذلک یظهر لک ضعف احتساب خصوص الأیام ، التی کانت قبل النقاء ، من أیام العادة ، دون الأیام من الدم بعد النقاء ، ولم أَرَ من ذهب إلیه ، ولکن لابدّ من مزید الفحص عن هذا القول حتی نطمئن بنفی وجوده ، واللّه العالم ».


1- وسائل الشیعة: الباب 5 من أبواب الحیض، الحدیث 6 .

ص:447

تذنیب

فی أنّه هل تثبت العادة بالتمییز _ کما فی المرأة المستمرّة الدم ، مثل ما لو رأت خمسة أیام مثلاً بصفات الحیض فی أوّل الشهر الأوّل ، ثمّ رأت بصفات الاستحاضة ، وکذلک رأت فی أوّل الشهر الثانی خمسة أیام بصفات الحیض ، ثمّ رأت بصفات الاستحاضة _ کما تحصل العادة کذلک _ أی بتکرّر الدم الثابت حیضیّة بالوجدان _ أم لا؟

فیه وجهان ، بل قولان .

ففی «طهارة» الشیخ الأکبر قدس سره قال : إنّه لا خلاف فی ثبوت العادة بالصفات .

ثمّ حکی ذلک عن «المنتهی» بقوله : لا نعرف فیه خلافاً ، واعترف بنفی الخلاف فیه فی «الجواهر» ، حیث قال بعد أن نقل نفی ذلک عن «المنتهی» : فإن تمّ إجماعاً ، وإلاّ فلننظر فیه مجال .

بل فی «العروة» فی المسألة الثانیة عشرة ذکر هذا الفرع ، واجرائه فی العددیّة والوقتیّة ، وفی الوقتیّة فقط ، والعددیّة فقط مع الرجوع إلی الصفات والتمییز ، ووافقه کثیرٌ من أصحاب التعلیق .

هذا ، ولکن خالف فیه صاحب «الجواهر» ، والسیّد الأصفهانی فی حاشیته علی العروة ، والمیرزا عبد الهادی الشیرازی ، والمحقّق الخوئی فی «التنقیح» ، مستدلاًّ بعدم تناول الخبرین الواردین فی المسالة _ وهما موثقة سماعة ومرسلة یونس _ مثله ، مع ظهور غیر هذین من سائر الأخبار الآمرة بالرجوع إلی الأوصاف ، التی تشمل باطلاقها ما لو تکرّر الجامع مثلاً ، ثمّ اختلف محلّه أو عدده فی الدور الثالث ، فإنّه یجب اتّباع الأوصاف أینما کانت ، تکرّرت أو لا .

ص:448

هذا کما فی «الجواهر» . وفی «مصباح الفقیه» قد ورد تأییدٌ لهذا القول ، مضافاً إلی ما عرفت من خروح الفرض عن مورد الروایتین .

قال : «عدم الوثوق بکون واحد الصفات حیضاً لا غیر ، لما عرفت من أنّ الأوصاف امارت ظنیّة ، اعتبرها الشارع فی الجملة کعادة نسائها إلتی ترجع إلیها فی بعض الصور ، فلا تکون موجبة للوثوق بمعرفة أیام اقرائها ، حتّی ترجع إلیها» إنتهی کلامه(1) .

بل لعلّ توضیح ذلک ماورد فی کلام سیّدنا الخوئی قدس سره ، حیث قال : «إنّما الأدلّة الواردة فی أنّ المرأة ترجع إلی عادتها وایامها ، فیما إذا تجاوز دمّها العشرة ، وإنْ کانت کغیرها من الأدلّة ، متکفلة لاثبات الحکم علی الموضوع الواقعی ، وهو قد یثبت بالتعبّد ، فلا تکون الأیام حینئذ بمعنی الأیام المعلویّة والثابتة بالقطع والوجدان . إلاّ أنّ مقتضی الاطلاقات الآمرة بالرجوع إلی الصفات ، أنّ المرأة لابدّ وان تمیّز الحیض بالصفات ، وقد خرجنا عن اطلاقها فی المرأة ذات العادة _ أی المرأة التی تثبت لها العادة بالوجدان _ فإنّها ترجع إلی عادتها ، وتجعلها حیضاً ، والباقی استحاضة ، وإنْ کان بصفة الحیض .

وأمّا ذات العادة بالتمییّز ، فلم یقم دلیل علی رجوعها إلی عادتها ، عند تجاوز دمّها العشرة ، فالاطلاق فیها محکمة ، ولا مناص من أن ترجع إلی الصفات فی الشهر الثالث أیضاً ، کما کانت ترجع إلیها فی الشهرین المتقدّمین .

إلی أن قال : وعلی الجملة ، إنّ مقتضی الاطلاقات والموثقة والمرسلة ، عدم کفایة العادة الحاصلة بالتمییز ، فی تحقّق العادة ، لعدم الدلیل علی کفایة الصفات


1- مصباح الفقیه: 4/81 .

ص:449

فی ذلک ، فعدم قیام هذه الامارات مقام القطع الطریقی ، مستندٌ إلی قصور الدلیل فی خصوص المقام ، لا أنّ الامارة لا تقوم مقام القطع الطریقی» .

انتهی کلامه(1) .

اقول : لا بأس بأنّ نقرّر هذا البحث بتقریر أنّه هل تثبت العادة بالرجوع إلی الصفات فی مستمرّة الدم مطلقاً ، کما هو ظاهر اطلاق کلام السیّد فی «العروة» ومن وافقه من أصحاب التعلیق ، ومنهم المحقّق الآملی والبروجردی والاصفهانی وغیرهم .

أو تثبت إذا کانت الصفات جامعة ، بأن تکون صفة الدم فی کلّ شهر متّحدة کالسواد والاحمرار دون ما إذا کنت مختلفة .

هذا ، کما علیه العلاّمة فی «التحریر» ، بل حکی التردّد فیه عن الشهید فی «الذکری» ، وعن الشیخ الأعظم فی «طهارته» .

أو لا تثبت مطلقاً ، کما علیه صاحب «الجواهر» ، والمحقّق الهمدانی والخوئی .

والأظهر عندنا هو الأول ، لأنّ الأخبار الواردة بالرجوع إلی الصفات ، فی تشخیص الحیض ، لترتیب أحکامه علیها ، کما تدلّ علی ثبوت موضوع الحیض وامارتیه له فی أنّه حیضٌ واقعاً ، کما ورد فی الحدیث النبویّ صلی الله علیه و آله وسلم أو الخبر المنقول عن الإمام علیه السلام : «بأنّ دم الحیض أسود یُعرف» ، یعنی هذه الصفة _ لو لا مانع خارجی _ امارة علی وجود الحیض الواقعی ، فکما یحکم بکونه حیضاً ویترتّب علی مثل هذا الدم الأحکام الشرعیة ، کما یحکم بالحیضیّة وترتّب أحکامه فی ما ثبت حیضیّة بالوجدان ، فإذا حکم شرعاً بالحیضیّة قطعاً


1- التنقیح: 6/209 .

ص:450

کالأُصول المحرزة أو الامارات المثبّتة ، فکذلک یترتّب علیه حکم العادة أیضاً ، بواسطة دلالة الخبرین المتقدّمین ، من ترتیب العادة لکلّ من رأی الدم فی الشهرین ، متّحدین وقتاً وعدداً ، أو وقتاً والعدد ، حیث یشملان باطلاقهما لمثل هذه المرأة .

فدعوی انصرافهما إلی غیر هذه ، لمن تعلم عادتها وجداناً ، غیر مسموعة .

کما لا یُسمع دعوی کون ما یثبته الخبرین خصوص کونه حیضاً شرعاً لا واقعاً ، اذ الظاهر من تلک الأخبار ، وأخبار الصفات ، هو بیان الاماریة لا رؤیة الحیض الواقعی ، فلو کان لأخبار الصفات اطلاقٌ من هذه الجهة _ أی سواء کانت لها عادة أم لا _ لوجب تقییدها بما إذا کانت لها عادة ترجع إلیها ، فیما إذا تجاوز الدم عن العشرة ، بلا فرق فی ذلک من کون العادة ثابتة بالوجدان أو بالامارة _ مثل وجود الصفات _ أو بقاعدة الإمکان _ عند من یقول بها فی جواز الرجوع إلیها بالنسبة الی اثبات العادة _ کما نصّ علی اثباتها غیر واحد من الأصحاب .

فلازم هذا التقریر ، هو عدم ترتّب حکم الحیض علی الصفات ، عند تجاوز العشرة ، لما بعد العادة ، بل یحکم بکونها استحاضة ، بخلاف ما لو لم نقل بذلک ، فلابدّ من الحکم بالحیضیّة إلی غایة ما یمکن أن یکون حیضاً ، وهو العشرة ، اما بعدها فانه یجب الحکم بالاستحاضة .

ولا فرق فیما ذکرنا من تساوی الصفات فی الشهرین ، فی کون الدم فی کلّ من الشهرین هو الاسود مثلاً _ کما هو الغالب _ أو الأحمر ، فیحکم بالحیضیّة فی الدور الثالث ، بالرجوع الی العادة .

وهذا هو الأقرب الی بالقبول .

نعم والذی یوجب التردّد والاشکال ، هو ما لو اختلف لون الدم فی کلّ شهر من

ص:451

الأسود والأحمر ، فهل تعدّ هی ذات عادة حتی مع الاختلاف ، بأن یکون لون الدم فی الشهر الأوّل اسودا ، وفی الثانی احمراً .

قد یقال بذلک ، کما عن المحقّق الآملی قدس سره ، حیث قال : «وأمّا مع اختلافهما فیها ، فلا یخلو عن ثبوت العادة بها عن إشکال . إلی أن قال : وإنْ کان الأقوی ثبوتها بها فی الفرض المذکور أیضاً ، لکونها مع اختلافها طریقاًإلی احراز الحیض، فیکون حکمها حکم المتّحدة فی الصفات».

انتهی کلامه(1) .

أقول: إنّ ما ذکره لا یخلو عن وجه ، لأنّ الطریقیه إذا ثبت فی الصفة وفی لون الأحمر کما فی الأسود ، فلا یکون حینئذ فرق بین توافقهما أو تخالفهما فی الشهرین ، إلاّ أن حصول العادة بواسطة ذلک _ حتّی مع الاختلاف _ ربّما توجب الشبهة فی دخولها فی العادة ، فلذلک کان مراعاة جانب الاحتیاط فی مثله ، لا یخلو عن وجه ، کما علیه الشیخ الأعظم ، إلاّ أنّه لیس علی وجه الوجوب ، بل غایته القول بأنّه لا ینبغی أن یُترک ، کما فی «العروة» من الاطلاق من هذه الجهة ، وهو لا یخلو عن وجه ، واللّه العالم .

وأمّا ما قد یرد علینا من النقض بالاخبار الآمرة بلزوم رجوع المرأة الی عادة أهلها وأقار بها عند اشتباه الحال عندها .

فانه مدفوع ، لوضوح الفرق بین ما نحن فیه وبینه ، اذ لیس الرجوع إلیهنّ ممّا یثبت به العادة ، بل إنّما هو حکمٌ لمن کان متحیراً لفقد ما یحرز به الحیض ، فیکون حال رجوعها إلیها حال العمل بالأصل الغیر المحرز .


1- مصباح الهدی: ج 4 ، ص 445 .

ص:452

مسائل خمسة :

الأولی : ذات العادة ، تترک الصلاة والصوم ، برؤیة الدم إجماعاً (1).

هذا بخلاف الرجوع إلی الصفات ، حیث یکون حالها حال الرجوع إلی الدلیل المحرز ، والفرق بین الأُصول المحرزة وغیر المحرزة واضح .

وهکذا وضح أنه فرق بین الرجوع إلی الصفات ، وبین الرجوع إلی عادة أهلها ، أو إلی الروایات ، کما لا یخفی .

(1) اعلم أنّ ظاهر عبارة المصنّف هو لزوم ترک العبادة بمجرد رؤیتها للدم فی ذات العادة إجماعاً .

وأمّا بالنسبة الی حکم العادة ، والتی فیها اقسام ثلاثة ، فلابدّ من مطالبته ممّا قد بیّنه المصنف فیما تقدّم منه فی عبارته السابقة ، وقد عرفت کون ظاهر کلامه هناک دخول الوقتیّة والعددیّة أو العددیّة فقط فیه ، دون الوقتیّة ، وإنْ الحقها صاحب «الجواهر» بهما .

فی أحکام الحیض / ما یتعلّق بذات العادة

فعلی هذا ، یکون معقد الإجماع عند المصنّف ، خصوص القسمین الأوّلین دون الثالث . والعجب من صاحب «الجواهر» الحاقه الوقتیّة بذات العادة عند المصنّف بلا بیان إشکال ، ایقاع الإشکال فی ذات العادة العددیّة ، مع أنه کان الأُولی أنْ یجعل محل الإشکال لدی المصنّف فی ذات العادة الوقتیّة دون غیرها .

نعم دعوی دخول ذات العادة العددیّة فقط ، فی ذات العادة ، فی حکم ترک العبادة بالرؤیة حسنٌ ، عند من أدرجها فی ذات العادة ، کما یحسن ترک العبادة أیضاً بالرؤیة للمعتادة الوقتیّة فقط ، نظراً إلی ملاحظة لسان الأخبار والروایات الواردة فی المقام ، وإنْ اختلف الأصحاب فی ذات العادة العددیّة دون غیرها ،

ص:453

حیث حکم بعضهم _ کالمصنّف _ بکونها مثل ذات العادة الوقتیة والعددیّة ، من لزوم ترک العبادة بمجرّد الرؤیة .

وبعضهم بکونها مثل المتبدئة والمضطربة ، حیث لا یحکم بتحیّضها بمجرّد الرؤیة ، بل بعد مضیّ ثلاثة ایام ، أو بالرجوع إلی الصفات ، أو إلی من علم کونه حیضاً واستمر إلی الثلاثة .

ولابدّ فی تعیین ذلک من ملاحظة لسان الأخبار والادلّة ، حتّی یتّضح ما هو المختار فی المسألة .

فاقول : بعدما عرفت منّا _ تبعاً لصاحب «الجواهر» والشیخ الأعظم ، والمحقّق الآملی ، والسیّد فی «العروة» وکثیر من أصحاب التعلیق _ من کون ذات العادة الوقتیّة فقط _ أو مع العددیّة _ ملحقة بذات العادة ، وکونها من أقسامها ، فیترتّب علیها ما یترتّب علی ذات العادة من الأحکام .

والدلیل علیه _ مضافاً إلی الإجماع المدّعی فی المقام ، بل قد بلغ نقله حدّ الاستفاضة _ إمکان استفادة ذلک ، من الأخبار الواردة فی ذلک فلا بأس بذکرها وملاحظة دلالتها ، وهی :

منها : ما رواه یونس القصیر مرسلاً من قوله : «کلما رأت المرأة من أیام حیضها من صفرة أو غیرها ، فهو من الحیض ، وکلّما رأته بعد أیام حیضها فلیس من الحیض(1)» .

منها : مارواه یونس فی مرسلته الطویلة ، وفیما فی حدیثٍ : «ولو کانت تعرف أیامها ما احتاجت إلی معرفة لون الدم ، لأنّ السُنّة فی الحیض أن تکون الصفرة


1- وسائل الشیعة: الباب 4 من أبواب الحیض، الحدیث 3 .

ص:454

والکدرة فما فوقها فی أیام الحیض ، إذا عرفت حیضاً کلّه(1)» .

منها : مارواه الشیخ رحمه الله مرسلاً فی «المبسوط» ، أنّه روی عنهم علیهم السلام : «أنّ الصفرة فی أیام الحیض حیض ، وفی أیام الطهر طهر(2)» .

منها : صحیح محمد بن مسلم عن الصادق علیه السلام ، قال: «سألت أبا عبداللّه علیه السلام عن المرأة تری الصفرة فی أیامها؟ فقال: «لا تصلّی حتّی ینقضی أیامها ، وإنْ رأت الصفرة فی غیر أیامها توضّأت وصلّت»(3) .

منها : صحیحة علی بن جعفر ، عن أخیه موسی بن جعفر علیه السلام ، قال: «سألته عن المرأة تری الصفرة أیام طمثها ، کیف تصنع؟ قال: تترک لذلک الصلاة بعدد أیامها التی کانت تقعد فی طمثها ، ثمّ تغتسل وتصلّی(4)» .

وغیر ذلک من الأخبار التی یجده المتتبع دالاً علی المطلب .

بل عن الشیخ الأعظم والمحقّق فی «جامع المقاصد» الاستدلال علی ذلک بالعمومات الآمرة بالقعود عن الصلاة فی أیام الحیض ، مثل قولهم علیهم السلام : «دعی الصلاة أیام اقرائک(5)» .

ولعل هذا الخبر مأخوذٌ عن مضمون الروایة السابقة التی مرت ذکرها والتی رواها علی بن جعفر علیه السلام .

وقد أورد علیه الحکیم فی «متسمسکه» وقبله المحقّق الآملی فی «مصباحه» ، بأنّ هذه الروایات لا تصلح للاستدلال بها فی المقام ، لظهوره فی


1- وسائل الشیعة: الباب 3 من أبواب الحیض، الحدیث 4 .
2- وسائل الشیعة: الباب 4 من أبواب الحیض، الحدیث 1 ، 4 ، 7 .
3- وسائل الشیعة: الباب 4 من أبواب الحیض، الحدیث 1 ، 4 ، 7 .
4- وسائل الشیعة: الباب 4 من أبواب الحیض، الحدیث 1 ، 4 ، 7 .
5- وسائل الشیعة: الباب 7 من أبواب الحیض، الحدیث 2 .

ص:455

الحکم الواقعی للحیض لا للتحیّض بالرؤیة .

هذا کما فی «المصباح(1)» .

ولکن یمکن أن یجاب عنه : بانّها تشیر الی کون ایام القُرء معلومة للمرأة ، وواضحة عندها ، فتحکم بلزوم القعود ، ولا مانع حینئذ أنْ یستفاد لزوم القعود منها بمجرد الرؤیة فی تلک الأیام .

نعم ، یمکن أن یقال إنّه لیس فی مثل الخبر الذی ورد فیه قوله علیه السلام : «دعی الصلاة» ، إلاّ بیان أصل الحکم من لزوم ترک العبادة فی تلک المدّة ، وأمّا فترة ذلک فانّه لابد من تحصیلها من دلیل آخر .

ولعلّ هذا هو مراد السیّد الحکیم والآملی من الإشکال علی دلالة الخبر ، وهو غیر بعید ، الا فی روایة علی بن جعفر ، کما لا یخفی للمتأمّل من الفرق بین الحدیثین .

فبقی هنا الصورة الثالثة ، وهی ذات العادة الوقتیّة والعددیّة ، أو الوقتیّة فقط ، فهی : تارة : یفرض فیما لو کان تقدّمها عن وقت عادتها بیوم أو یومین ، او مایقاربهما .

وأُخری : یفرض تقدّمها عنها بأزید من ذلک .

ففی الأُولی منهما ، لا إشکال فی دخولها فی ذات العادة بالحکم بالتحیّض بمجرّد الرؤیة مطلقاً ، أی سواءً کان الدم متّصفاً بصفة الحیض ، عند بعضٍ ومنهم صاحب «الجواهر» والمحقّق فی «الشرائع» ، حیث صرّح بکونها من ذات العادة قطعاً ، إذا کانت وقتیّة وعددیّة الشامل باطلاقه لمثل هذه المتقدّم عادتها قطعاً ، لو


1- مصباح الهدی: 4/451 .

ص:456

لم ندّع شموله لمطلق ذات العادة العددیّة غیر ذات الوقت ، بل هذا القول هو المشهور فی قبال من یقول بذلک ، بشرط أن یکون الدم بصفة الحیض لا مطلقاً .

أو من یقول بالحاقها بالمبتدأة ، من الاستظهار بالصلاة إلی الثلاثة ، أو إلی مجیئ عادتها .

والحاصل : أنّ فی المسألة وجوه وأقوال ، وأسدها عند المشهور هو الأوّل ، کما هو الأقوی ، کما فی «العروة» وعند أکثر أصحاب التعلیق علیها ، بل فی «الجواهر» : «استظهار دخول هذه الصورة فی معقد الإجماع المحکی عن «المنتهی» فی الصورة الأولی السابقة ، حیث قال فی «المنتهی» : «وتترک ذات العادة الصلاة والصوم برؤیة الدم فی وقت عادتها ، وهو قولُ کلّ من یحفظ عنه العلم . ثمّ قال فی «الجواهر» فی آخر کلامه : «لکن کان علیه استثناء الیوم والیومین ونحوهما فی التقدّم والتأخّر ، ممّا یتعارف فی ذوات العادة ، بل لعلّ مثله یدخل فیما دلّ علی العادة إذا المراد بأیام حیضها وبوقته أوانه وحینه» . انتهی کلامه(1) .

والدلیل علی کون مثل ذلک داخلاً فی حکم ذات العادة ، هو الاخبار الدالة علیه ، وهی : منها : موثقة سماعة ، قال: «سألته عن المرأة تری الدم قبل وقت حیضها؟ فقال: إذا رأت الدم قبل وقت حیضها ، فلتدع الصلاة ، فإنّه ربّما تعجّل بها الوقت» الحدیث . فهی وان کانت مطلقة بالنسبة إلی التعجیل ، ولم یذکر مقداره ، إلاّ أنّ الظاهر من کلمة (التعجیل) ، ربّما یتسأنس فی الذهن بکونه بیوم أو یومین ، أو قریب منهما ، مضافاً الی ما سیأتی من کونها مقیّداً بالیوم والیومین ، فیوجب تقییده به إن التزمنا بهذا القید ، ولم نرد الحکم بالاطلاق . وجه الاستدلال بهذه


1- جواهر الکلام: 3/181 .

ص:457

الروایة _ کما فی «الجواهر» هو أنّ یقال : إنّه لو کان مدار التحیّض متوقفا علی الرؤیة فی الوقت ، لما حکم فی هذه بذلک ، وان لم تره فیه .

منها : خبر الصحّاف ، عن الصادق علیه السلام ، فی حدیثٍ : «وإذا رأت الحامل الدم قبل الوقت الذی کانت تری فیه الدم بقلیل ، أو فی الوقت من ذلک الشهر ، فإنّه من الحیضة ، فلتمسک عن الصلاة عدد أیامها التی کانت تعتدّ عن حیضها(1)» .

منها : صحیحة أبی بصیر ، عن أبی عبداللّه علیه السلام : «فی المرأة تری الصفرة؟ فقال: إنْ کان قبل الحیض بیومین ، فهو من الحیض ، وإنْ کان بعد الحیض بیومین ، فلیس من الحیض(2)» .

منها : مضمرة معاویة بن حکیم ، قال: «قال : الصفرة قبل الحیض بیومین ، فهو من الحیض ، وبعد أیام الحیض فلیس من الحیض ، وهی فی أیام الحیض الحیض(3)» .

منها : خبر علی بن أبی حمزة ، قال: «سُئل أبو عبد اللّه علیه السلام وأنا حاضر ، عن المرأة تری الصفرة؟ فقال: ما کان قبل الحیض ، فهو من الحیض وما کان بعد الحیض فلیس منه(4)» .

وقد عرفت أنّ الاطلاق فی القبلیّة ، غیر منافٍ لکونها ذات العادة الوقتیّة ، وأن تدخل فی حکمها ، لإمکان تقیدها بمثل حدیث أبی بصیر ، حیث قد قیّد بیوم أو بیومین ، ولعلّه أیضاً جئ به من باب المثال حتّی یشمل ما یقرب ذلک بمقدار بما


1- وسائل الشیعة: الباب 30 من أبواب الحیض، الحدیث 3 .
2- وسائل الشیعة: الباب 4 من أبواب الحیض، الحدیث 2 ، 5 .
3- وسائل الشیعة: الباب 4 من أبواب الحیض، الحدیث 2 ، 5 .
4- وسائل الشیعة: الباب 4 من أبواب الحیض، الحدیث 6 .

ص:458

یصدق معه کونها ذات العادة الوقتیّة وقد استعجلت بها الدم ، کما یشیر إلی ذلک التعلیل الموجود فی موثقة سماعة بقوله : «فإنّما ربّما تعجّل بها الوقت» .

حیث لا خصوصیّة فی مثل الیوم والیومین عرفاً ، فیشمل إذا کان بیومین ونصف مثلاً ، أو أزید ، ممّا یصدق علیه التعجیل عرفاً ، مع ملاحظتها مع عادتها الوقتیّة .

ولعلّ بذلک یظهر عدم وجود اطلاق للقبلیّة ، خارجاً عن ذلک الذی یوجب صدق العنوان علیها .

مضافاً إلی وجود مایؤیّدها ، وهی قرینة التقابل الموجودة فی حدیث علی بن أبی حمزة لما بعد الحیض ، إذ ما یکون قبل الحیض اللاحق بزمان طویل ، یصدق علیه أنّه بعد الحیض السابق لا قبله ، کما لا یخفی .

فجمیع هذه الأخبار دالة علی الحکم بالتحیعض ، بمجرّد الرؤیة عند تقدّم الدم علی العادة ، علی وجه یصدق معه التعجیل ، وبذلک یقیّد اطلاق المفهوم الوارد فی مثل قوله علیه السلام : «إنّ المرأة إذا رأت الدم فی ایام حیضها ترکت الصلاة(1)» .

حیث یدلّ علی أنّ ما رأتها قبلها لیس بحیض ، سواء کان بیوم أو یومین ، أو أزید .

منها : مفهوم صحیحة محمد بن مسلم ، حیث قال : «وان رأت الصفرة فی غیر أیامها توضّأت وصلّت(2)» .

بناءً علی القول باستفادة المفهوم منها ، من الحکم بالانتفاء عند الانتفاء _ کما هو الغالب فی القضایا الشرطیّة _ ، مضافاً إلی الحکم بالوجود عند الوجود ، وعدم القول بان المراد من تلک الشروط هو الحکم بالوجود عند الوجود فقط ، کما هو


1- وسائل الشیعة: الباب 12 من أبواب الحیض، الحدیث 1 .
2- وسائل الشیعة: الباب 4 من أبواب الحیض، الحدیث 1 .

ص:459

کذلک فی القضایا الشرطیّة المحقّقة للموضوع ، مثل قوله : «إنْ رُزقت ولداً فاختنه» ، حیث لا مفهوم له ، لانتفاء موضوع الحکم فی طرف المفهوم ، لوضوح أنّ الاختتان لا یقع إلاّ بعد وجود الولد .

فان لوحظت الروایة متضمنةً لشرط ، فانه لامفهوم لها حتّی یلاحظ منافاة اطلاقه لتلک الأخبار ، لکنّه خلاف لمقتضی القضایا الشرطیّة ، کما لا یخفی .

هذا کله بیانٌ للأدلة التی استدل بها المشهور علی مختارهم ، وهی معتمدة عندنا ایضا ، وقد ذکرنا ان فهم العرف مساعدٌ مع ما ذهب الیه المشهور وما یساعده فهم العرف من الأدلّة .

وهناک قول آخر فی مقابل قول المشهور ، فلابأس من الاشارة الیه وعرض الدلیل علیه ، وما یرد علیه من الإشکال ، فنقول : حُکی عن صاحب «المدارک قدس سره » قوله من عدم الحکم بتحیّضها قبل العادة ، إن لم یکن الدم بصفة الحیض .

واستدلّ لذلک بما ورد من الأخبار علی أنتفاء الحیضیّة بانتفاء الصفات ، حیث قد استفاد منها دوران حکم الحیض مدار الصفات وعدمها ، وکون الصفات المذکورة فی الأخبار ، حکمها حکم الخاصّة المرکّبة ، حیث أنّها متی وجدت وجد الحیض هنا ، وعند انتفائها تنتفی الحیضیّة هنا ، إلاّ ما خرج بالدلیل ، مثل ما ورد فی حکم أیام العادة ، من أنّ الصفرة فی أیام الحیض حیض .

هذا ، وفیه ما لا یخفی أوّلاً : أن کون الصفات مثل المرکّبات الخاصّة ، حتّی یترتّب علیها الوجود عند الوجود والانتفاء بالانتفاء أوّل الکلام ، ولیس ذلک إلاّ مجرّد الدعوی من دون أن یقوم علیه برهان ، لإمکان أن یکون ذکر تلک الصفات ، لأجل کونها صفات غالبة دالّة علی ذلک ، کما تری کثرة تخلّفها اثباتاً ونفیاً ، حیث أنّ وجودها فی غیر أیام العادة لا یوجب الحکم بها ، ومع عدمها یحکم بها فی أیام العادة .

ص:460

وکذلک یمکن ان یکون الحکم بذلک أو لأجل قاعدة الإمکان ، إن قلنا بها .

فان الحکم فی الموردین بالاثبات والنفی ، وإنْ کان مع الدلیل ، لکن الدلیل بنفسه قرینة علی المدّعی من عدم کون الصفات مثل سائر المرکّبات الخاصّة .

وثانیاً : لو سلّمنا استفادة العموم ، وکون الحکم دائراً مدار وجودها وعدمها ، فلابدّ من تخصیص العام أو تقیید الاطلاق ، بواسطة تلک النصوص التی ذکرناها ، لأ خصیّتها من جهة التنصیص بحیضیّة فاقد الصفات منه ، کما فی صحیح أبی بصیر وخبر ابن أبی حمزة ، کما کان الأمر کذلک فی فاقد الصفات فی أیام العادة .

مع إمکان أن یقال بما قاله رحمه الله ، حیث سلّم خروج ما دلّ الدلیل علی عدم کونها کالمرکّبات الخاصّة ، فلا مانع من أن یکون المقام منه أیضاً .

وثالثاً : علی ما فی «مصباح الهدی» من ملاحظة النسبة بین خبر سماعة ، _ حیث حکم بالحیضیّة بمجرّد رؤیة الدم فی وقت الحیض ، بلا ذکر الصفة _ مع أخبار الدلالة علی دوران الحیض مدار وجود الصفة وعدمها ، وقال إنّ بینهما عموم من وجه ، حیث أنّه یکون تحقّق الدم فی وقت الحیض مع الصفة مجمع تصادقهما ، فانه برغم کون الدم فی وقته فاقدا للصفة ، لکنه حیض بحکم حدیث سماعة ، دون أخبار الصفات وهذا هو مورد افتراق الحدیث .

کما أنّه مع وجود الصفة فی غیر وقت الحیض یعدّ مورد افتراق أخبار الصفات .

فمع التعارض فی غیر مورد التصادق ، قیل یُقدّم هذا الخبر علی أخبار الصفات ، لان الحکم فی حدیث سماعة معلل بأنّة ربّما یعجّل بها الوقت ، فیقدّم العام المعلّل علی غیره فی التعارض ، فیحکم بکونه حیضاً ، ولو کان فاقد الصفات . بل ربّما یقال کما عن «المستمسک» : بتقدیم المطلق الغیر المعلّل فی تلک الأخبار _ مثل حدیث الصحّاف _ علی أخبار الصفات ، لأظهریّته ، وإنْ

ص:461

انکره صاحب «مصباح الهدی»

هذا ، ولکن الحکم بتقدیم هذه الأخبار علی أخبار الصفات عند التعارض _ ولو لأجل التعلیل _ إنّما یصحّ مع حفظ النسبة بینهما بالعموم من وجه ، وهی لا یحفظ إلاّ مع حفظ الاطلاق والعموم فی أخبار الصفات .

ولکن صاحب «المدارک» أدّعی الاستثناء فیها ، بقوله : إنّها متّبع إلاّ ما خرج بالدلیل مثل ما فی أیام العادة .

حیث لا یلاحظ فیها الصفات ، فإذ خصّص العموم فی مثله ، فیتبدّل النسبة ، فیصیر العموم المطلق ، فیقدّم أخبار الصفات علی الأخبار المتقدّم لاخصیّتها ، فینتج ما ذهب إلیه صاحب «المدارک» .

فالأُولی فی الجواب هو ما ذکرناه فی الجواب الأوّل والثانی .

ومن هنا ظهر بطلان قول آخر ذهب الیه جماعة _ کما فی «الطهارة» للشیخ الأعظم _ وهو یعدّ القول الثالث فی المسألة ، من الحکم بالحاق ما تراه قبل العادة ، بما تری فی العادة ولو کان تعجیله عن العادة وتقدّمه عنها بکثیر ، مثل ما إذا رأت عشرین یوماً أو أکثر قبل العادة .

بل ربّما حکی عن بعض دعوی الإجماع علیه ، مستدلاًّ علی ذلک بموثقة سماعة وحدیث ابن أبی حمزة _ من الإطلاق فی القبلیّة _ وبقاعدة الإمکان .

وجه البطلان : هو ما عرفت من عدم وجود الاطلاق فی الحدیثین ، لما قد عرفت من ظهور التعجیل والقبلیّة ، کون أقلّ من ذلک ، فلا یشمل لمثله ، أو هو ملحق بالعادة السابقة اللاحقة .

مع أنّه لو سلّم اطلاقهما ، فیقیّد بواسطة أخبار أخری مقیّدة بیوم أو یومین وما أشبه ذلک .

ص:462

کما نمنع عن الجریان قاعدة الإمکان ، کما عرفت تفصیلها سابقاً ، خصوصاً فیما لم تستقر فیه الدم ، کما یجیء فی المبتدئة والمضطربة .

کما أنّ نقل الإجماع فی مثل هذه المسألة ، مع کثرة الاختلاف ، لیس إلاّ توهمٌ فمن حکاه ، کما لا یخفی .

ومما ذکرنا ظهر عدم تمامیّة القول الرابع من الأقوال المنقولة فی المقام ، وهو الحاق المعجّلة بیوم أو یومین بالمبتدئة والمضطربة من الحکم بالتحیّض بمجرّد الرؤیة _ کما هو مختار المحقّق الثانی فی «جامع المقاصد» فی المبتدئة والمضطربة _ أو من عدم الحکم بذلک فیهما بالرؤیة فکذلک فی المعجّلة _ کما هو رأی الشهید الثانی فی «المسالک» _ لوضوح أنّه اجتهاد فی مقابل النصوص المتقدّمة .

اللّهمّ إلاّ أن یقصد حمل تلک النصوص علی صورة العلم بالحیض ، أی تعلم المرأة أنها حائض أو تنتظر مضی ثلاثة ایام حتّی یتحقّق موضوع قاعدة الإمکان ، مع أنّه لا وجه لهذا الحمل ، ولا موجب له مع وجود الاطلاق فی النصوص .

فالأقوی عندنا _ کما علیه المشهور _ هو الحکم بالحیضیّة للمستعجلة بیوم أو یومین أو أزید ، ممّا یقرب بهما عن ایام عادتها ، وهو المطلوب .

هذا کلّه فی حکم المستعجلة بیوم أو یومین ، أو بقریب منها ، من ذوات العادة الوقتیّة ، عددیّة کانت أم غیرها .

بقی هنا تلک الصورة المذکورة مع تأخّرها عن عادتها بیومٍ أو یومین ، أو قریب منهما ، فهل هی ملحق بالمستعجلة کذلک أم لا؟

اقول : لابدّ أوّلاً من بیان المراد فی موضوع المسألة ، وأنّه ما المراد من المتأخّرة؟ حیث قد یشاهد الاختلاف فی تفیسر ذلک مثلاً صاحب «الجواهر» فی کتابه «شرح نجاة العباد» علی المحکی ، فسّر التأخیر ، بتأخّر الدم عن العادة

ص:463

بیوم أو یومین ، برؤیة الدم فی العادة لکن مع تأخّرها بالیوم أو الیومین ، لا ما إذا تأخّر حدوث الدم عن العادة بیوم أو یومین ، بأن تجاوز زمان العادة وطهارتها فیها ، ثم مضیّ علیها یوم أو یومان ثمّ رأت الدم بعد ذلک ، فیکون الحکم فی هذا الفرض أیضاً حکمة حکم المبتدئة من الحکم بتحیّضها وعدمه بمجرّد رؤیتها الدم وعدمه ، علی . . . . إلی آخر کلامه(1) .

وقد خالفه فی هذا التفسیر ، الشیخ الأعظم رحمه الله ، والمحقّق الآملی ، والسیّد الحکیم فی «مستمسکه» .

ویرد علی صاحب الجواهر رحمه الله بأنّ التأخّر عن أول العادة ، لا یخرجه عن کونه فی العادة ، فلا ینبغی البحث عن کونه حیضاً بمجرّد رؤیة الدم ، لأنّه یصدق علیه ما ورد فی الأخبار من قوله : «کلّما رأت المرأة فی أیام حیضها من صفرة أو غیره فهو من الحیض» .

فإذا کانت الصفرة فیها محکوماً بالتحیّض ، فالموصوف بدم الحیض ، بمجرّد الرؤیة بعد یومین عن أوّل العادة ، یکون حیضا بطریق أولی .

خصوصاً مع ملاحظة وجود التخلّف عن أوّل العادة فی أکثر النساء ، بمثل الیوم أو الیومین بالتقدّم والتأخّر .

هذا ، مع أنّ الظاهر کون التأخّر فی قبال التقدّم ، فکما أنّ التقدّم یلاحظ مع مدّة العادة مجموعاً ، فکذلک الأمر یکون فی التأخّر ، فلابدّ أن تلاحظ التأخّر عند حصول الطهارة عن العادة بیوم ویومین ، ثمّ تشرع بالرؤیة ، وحینذاک یأتی البحث عن أنه هل یحکم بکونه من الحیض أم لا .


1- مصباح الهدی: 4/454 .

ص:464

هذا ، مع أنّه لو لوحظ التأخر بالنسبة إلی أوّل العادة ، فلا یخلو حین انقضائها أما أن یکون بانقضاء العادة فی السابق ، فیلزم حینئذ الخروج عن ذات العادة الوقتیّة _ بتأخیره عن أوّل الوقت _ وعن العددیّة ، لأجل کسرها بیومین أو بیوم علی حسب ملاحظة تأخیره فی أوّلها ، فانطباق ذات العادة الوقتیّة والعددیّة علی مثله مشکلٌ ، إذ التسامح لو سلّم کان من حیث الوقتیّة فقط ، لا هی مع العددیّة ، کما فی المورد .

نعم ، لو کان انقضائه أیضاً متأخّراً مثل ما فی أوّله ، لصار التسامح فی الوقتیّة فقط ، لا هما معاً ، وهو الأظهر من أن یلاحظ مع التأخیر عن جمیع مدّة العادة ، مع طهارة یوم أو یومین ، کما علیه الشیخ ، لأنّه یلزم خروجه عن الوقتیّة قطعاً ، وعن العددیّة علی إحتمال ، وهو بعیدٌ عن اجراء التسامخ فیه .

هذا کلّه بالنسبة إلی تفسیره . ثمّ أنّه نصرف الکلام إلی بیان التأخیر ، مع ملاحظة تفسیر الشیخ قدس سره ، فهو أیضاً تامٌ اذا کان الدم مع التمییز ، أی واجداً للصفات .

ففی «مصباح الهدی» : «أنّه لا إشکال فی الحکم فیه بالتحیّض ، بمجرّد الرؤیة ، للإجماع المدّعی علیه ، والأخبار الدالّة علی التحیّض بالصفات ، بناء علی عمومها وعدم اختصاصها بما إذا کان الدوران بین الحیض والاستحاضة ، وبأن التأخیر یزیده انبعاثاً ، وبأنّ المستفاد من تعلیل الحکم بالتعجیل فی الموثق ، اناطة الحکم بمطلق التخلّف ، ولو کان بالتأخیر . وکیف کان ، فلا ینبغی الإشکال فی أصل الحکم ، إذ الإجماع المدّعی قطعیّته _ مع الوجوه المذکورة _ کافیة فی الاطمئنان به» . إنتهی کلامه(1) .


1- مصباح الهدی: 4/455 .

ص:465

ولکن الانصاف بعد التأمّل فی کلمات القوم وادلّتها ، یفید أنّ أکثر الأدلّة المذکورة فی التأخیر ، یساعد مع تفسیر صاحب «الجواهر» ، بأن یلاحظ التأخیر بیوم أو یومین ، من أوّل الوقت الذی کان من شأنه أن تری الدم فیه ، حیث یصحّ شمول الإجماع لمثله ، لأجل التسامح فی یوم أو یومین بالتأخیر فی الصدق ، وکون التعلیل منوطاً بالحکم بمطلق التخلّف ، لاختصاص التقدیم ، وعدم اختصاص أخبار الصفات لخصوص دوران الأمر بین الحیض والاستحاضة .

نعم ، کون التعلیل بالتأخیر یزید انبعاثاً للدم ، یساعد مع تفسیر الشیخ مناسبة تامة ، لکنّه لا یمکن أن یکون مثل ذلک مداراً للحکم الشرعی ، فالأحسن کما فی «العروة» هو الحکم بالتحیّض بمجرّد الرؤیة مع التأخیر _ علی تفسیر صاحب «الجواهر» _ بیوم أو یومین ، سواء کان مع الصفات والتمییز أم لا لوجود التخلّف فی أکثر النساء فی مثله ، وصدق العادة بالمسامحة لمثل ذلک التفاوت ، فی التقدیم أو التأخیر ، وعلیها ان تترک العبادة بمجرّد الرؤیة إلی انقضاء الدم ، فإن انقطع قبل الثلاثة ، وعلمت بأنّه لیس بحیض ، تقضی العبادات التی ترکتها فی تلک المدّة ، وإلاّ کان محکوماً بالتحیّض ، کما لا یخفی .

أمّا حکم ذات العادة العددیّة فهو : قد عرفت فی صدر البحث ، دخولها فی اطلاق کلام المصنّف ، وأنّها تترک العبادة بمجرّد الرویة إجماعاً ، من دون ان یقیدّها بالوقتیّة ، ثم عقب ذلک بالإجماع الذی یوهم دخولها فی مقعد الإجماع .

بل فی «الجواهر» تأییده بصدق اسم ذات العادة علیها ، بل والاستدلال بما دلّ علی التحیّض بمجرّد الرؤیة فی معتادة الوقت ، لو رأته قبل وقتها ، کالأخبار المتقدّمة بأنّ لو کان المدار فی التحیّض بالرؤیة علی الوقت ، لما حکم فی هذه الأخبار بالتحیّض بمجرّد الرؤیة ، علی من رأته قبل الوقت .

وفیه ما لا یخفی : أمّا الإجماع لو أُرید من دعواه ، فی خصوص ذات العادة

ص:466

وفی المبتدأة تردّد ، الأظهر أنّها تحتاط للعبادة ، حتّی تمضی لها ثلاثة أیام (1).

العددیّة ، بکونها کالوقتیّة فی الحکم بالتحیّض ، بمجرّد الرؤیة فمقطوع العدم ، لما نشهد ذهاب غیر واحد من الأصحاب علی خلافه ، والحاقها بالمبتدئة أو المضطربة أو غیرهما من جهة الحکم .

مع احتمال کون مراده أیضاً غیر العددیّة المحضة ، من الوقتیّة والعددیّة أو الوقتیّة فقط ، وإنْ کان هذا الإحتمال خلاف ظاهر کلامه .

ولو أُرید استفادته من اطلاق الکلام ، بأن یقال : إنّ اطلاقه یقتضی دخول هذا القسم فیه ، فنقول: إنّه لابدّ من تخصیصه بغیر ذات العددیّة ، لعدم وجود اجماع ، ولا دلیل آخر یدلّ علی الحاقها باختیها فی الحکم .

وأمّا دعوی صدق ذات العادة علیها ، فانه حتی لو سلّمناها ، فلم یقم لنا دلیل علی کون الحکم مدار عنوان صدق العادة ، حتّی یقال بهذه المقالة ، بل إنْ اکتفینا واقتصرنا علی لسان الأخبار فی الوقتیّة لو _ مع فرض تمامیة ذلک _ لاقتضی المنع عن هذا الحکم ، لو لم تر فی الوقت المعین ، لا اثباته لذات العادة العددیّة ، فاللازم الحاقها بالمتبدائة ، وأنّ علیها ترک العبادة إذا کان الدم بصفات الحیض ، وأن لا تحتاط بالجمع بین تروک الحائض وأعمال المستحاضة إلی ثلاثة أیام ، فان کملت فتجعلها حیضاً .

نعم ، لو علمت أنّه یستمر إلی ثلاثة أیام ، ترکت العبادة بمجرّد الرؤیة ، وإنْ تبیّن الخلاف ، تقضی ما ترکتها .

(1) فی حکم المبتدأة خلاف بین الفقهاء ، والأقوال فیها أربعة:

القول الاول : الحکم بالتحیّض بمجرّد الرؤیة مطلقاً .

ص:467

ذهب الی هذا «الهدایة» و«المبسوط» و«الجامع» و«الاصباح» ، بل نسبة فی «الریاض» إلی الشهرة ، تبعاً للمولی الأعظم شارح «المفاتیح» .

القول الثانی : الحکم بالتحیّض حتّی تمضی ثلاثة أیامٍ مطلقاً ، أی سواءً کان جامعاً للصفات أم لا ، من دون فرق بین التروک والأعمال .

ذهب الی هذا القول «الکافی» و«السرائر» و«المعتبر» و«التذکرة» و«جامع المقاصد» وابن الجنید ، وعلم الهدی ، وسلاّر ، علی المنقول عن الثلاثة الأخیرة .

بل لعلّه هو مختار المصنّف هنا ، وفی «النافع» قوله : «إذ التردّد یجامع مع عدم الحکم بالحیضیّة إلی أن یأتی ویمضی ثلاثة أیام ، غایة الأمر حکمها فی تلک الأیام ، تارة بحکم بالطهارة ، وأُخری بالاحتیاط فی العبادة ، وثالثة بالجمع بین تروک الحائض وأعمال المستحاضة» .

فی أحکام الحیض / ما یتعلّق بالمبتدأة

والمصنّف ذهب إلی الثانی من الثلاثة .

القول الثالث : هو التفصیل بین الجامع للصفات ، فتحکم بالتحیّض بالرؤیة ، وبین غیره فلا تحکم حتّی یمضی ثلاثة أیام .

وهذا القول کما یظهر من بعض عبارات «المقنعة» ، ومن «المختلف» و«المنتهی» ، وصریح «المدارک» و«الکفایة» و«الذخیرة» و«المفاتیح» ، و«الجواهر» ، والشیخ الأعظم ، والسیّد فی «العروة» ، وأکثر أصحاب التعلیق .

القول الرابع : هو التفصیل بین الأفعال والتروک من الحکم فی الاول بالتحیّض ، وبعدمه فی الثانی .

ویظهر اختیار هذا القول من الشهید فی «البیان» و«الدروس» وغیره .

والأقوی عندنا هو الثالث من الأقوال ، فلا بأس أوّلاً بذکر الأدلّة علی هذا القول ، ثمّ ومدی دلالة الادلة القائمة علیه ، فنقول ومن اللّه الاستعانه : وقبل

ص:468

الشروع فیها ، لابدّ من ایراد مقدّمة وهی : المبتدأة تارةُ : یقرء بکسر الدال بصیغة الفاعل فی المعنی الأخصّ منها ، أی التی ابتدأت بالدم .

واُخری بفتح الدال ، ببناء اسم المفعول ، أی التی ابتدئها الدم .

فیکون المراد منها علی هذا المعنی ، هی التی رأت الدم فی المرحلة الأُولی ، ولم تر من ذلک قبله شیئاً ، أو یراد منها المعنی الأعم ، أی مضافاً إلی هذه المرأة المذکورة ، بحیث یکون العنوان والحکم واحدا شاملاً لغیرها من ذات العادة العددیّة المحضة ، أو الوقتیّة التی تقدّم عادتها عن أیامها أو تأخّر عنها بکثیر ، بحیث لم تلحق بذات العادة الوقتیّة المحضة ، أو مع العددیّة .

اما الأدلة التی یجب أن نقیمها للدلالة علی حجیّة القول الثالث ، هی :

الدلیل الأوّل: قاعدة الإمکان ، التی قد مرّت علینا فی المباحث السابقة .

الا ان هذه القاعدة _ علی القول بصحّتها وجریانها _ یکون دلیلتیه أعمّ من المدّعی ، لأنّها لا تثبت التحیّض کونها جامعاً للصفات ، بل غایة ماتفیدها هی الأعم من الواجد ، بحیث یشمل الفاقد لها أیضاً إذا أمکن کونه حیضاً ، غایة الأمر إذا فرضنا إمکان اجرائها فی الفاقد للصفات ، ففی الواجد یکون بطریق أولی .

هذا ، ولکنه مخدوش بما قد عرفت منّا سابقاً بصورة التفصیل ، من الاشکال فی اثبات هذه القاعدة عن طریق الأخبار بخصوصها ، لولا وجود شیء آخر یثبت الحکم .

نعم ، هذا صحیح علی مبنی المحقّق الهمدانی قدس سره ، حیث ذهب الی ثبوت القاعدة ، فلا ینحصر حینئد فی الحکم بالتحیّض بخصوص الواجد والجامع ، بل یقول به حتّی مع الفاقد إن أمکن ذلک ، ولم یکن المانع عنه موجوداً .

الدلیل الثانی : بعد الغضّ عن القاعدة ، یمکن التمسّک لاثباته بالأخبار الواردة

ص:469

الآمرة بلزوم الأخذ بالصفات ، بناء علی عدم اختصاصها بصورة التردّد بین الحیض والاستحاضة العرفیّة ، أعنی الدم المتّصل بأیام الحیض ، إذا کان مستمرّاً ، وإن کان بعض الأخبار وقع فی الجواب عن مستمر الدم ، إلاّ أنّه لا یوجب اختصاص الجواب الوارد فی فیه مورد السؤال ، فضلاً عمّا لم یکن فی مقام الجواب .

الدلیل الثالث : الاستدلال بخبر إسحاق بن عمّار الوارد فی الحُبلی التی تری الدم الیوم والیومین ، والیک نصه : فقال علیه السلام : «إنْ کان دماً عبیطاً ، فلا تُصلّی ، ذینک الیومین ، وإنْ کانت صفرة فلتغسل عند کلّ صلاتین»(1) .

بناء علی عدم القول بالفضل بین الحامل وغیرها .

ویرد علیه أوّلاً : اشتماله علی حکم الحامل ، حیث قد یوجب أن لا یکون الدم حیضاً ، لإحتمال عدم جواز اجتماع الحمل مع الحیض .

لکنّه مندفع بما أشرنا إلیه سابقاً ، من وجود الأخبار الدالّة علی إمکان اجتماعه ، لأجل إمکان أن یفضل دم الحیض عمّا یتغذی به الطفل فی الرحم ، فاذا زاد الدم یقذفه الرحم علی شکل دم الحیض ، فیترتّب علیه آثاره .

وثانیاً : ظهور الروایة فی کون الحیض أقلّ من الثلاثة ، مع أنّ من المسلّمات عند الفقهاء کون دم الحیض مشروطاً بالتوالی فی ثلاثة أیام ، فإذا کان أقلّ من ذلک ، لا یحکم بالحیضیّة ، مع أنّ الروایة قد حکم بذلک فی مثل الیوم والیومین إذا کان دمّا عبیطاً .

فقد أجیب عنه أوّلاً : بإمکان الإجتماع بین الحمل والحیض ، وإمکان کونه أقلّ من الثلاثة فی مثل الحمل ، وعدم قدحه فی الحکم بالحیضیّة _ کما علیه


1- وسائل الشیعة: الباب 30 من أبواب الحیض، الحدیث 6 .

ص:470

المحقّق الآملی قدس سره _ لدلالة الخبر المذکور ، ومساعدة الاعتبار معه ، لکن لم یُنقل القول به من أحد من الأصحاب .

ولکن لا یخفی ما فیه ، لما قد عرفت _ بل قد تعرف فی بعض المباحث الآتیة _ من الالتزام بشرطیّة هذا الشرط عند الکلّ ، فیشکل الحکم بذلک .

وثانیاً : من صحّة التفکیک فی الحجیّة ، فی مدلول خبر واحد ، إذا اقتضاه الدلیل ، فیؤخذ بهذا المقدار منه ، من الحکم بالحیضیّة من تلک الناحیة ، من جهة وجود الصفات ، وإنْ لم نحکم به من جهة أُخری ، هی جهة فاقدتیه لشرط التوالی فی الثلاثة .

فلازم التفکیک هو الحکم بالحیضیّة بمجرّد الرؤیة ، بواسطة واجدیّته للصفات ، فإن مضی علیها ثلاثة أیام متوالیة ، وإلاّ تقضی ما فاتت منها من العبادات .

ولکن الانصاف عدم تمامیّة هذا التفکیک فی المقام ، ولو ذهبنا الیه فی غیر ما نحن فیه ، لأنّ ظاهر الخبر هو کون الدم فی الیومین فقط ، فحکم علیه السلام بصورتین ، فلا یشمل صورة إمکان استمراره حتّی یتجاوز ثلاثة أیام ، حتی یقال بالتفکیک فی الجمیّة واجراء حکم ذات العادة علیها بالحکم بالحیضیّة بمجرّد الرؤیة .

فما ذهب إلی التفکیک صاحبی «المستمسک» و«مصباح الهدی» لیس علی ما ینبغی واللّه العالم .

وثالثاً : من الاستبعاد فی مثل الحُبلی ، إنْ لم تری الدم قبل حمله ، حتّی یصدق علیها عنوان المبتدأة بعد صیرورتها حبلی ، فیحکم علیها بذلک ، اذا یحتمل أن تکون المرأة ممن لها عادة معیّنة فی الحیض ، فمع ذلک رأت الدم فی حال حملها بیومین أو یوم واحد مع للصفات ، فحکم علیها بالحیضیّة بالنطر إلی عادتها ، وایام اقرائها ، غایة الأمر قد انقطع فی الیومین ، فیرجع فی الحکم کلّ فقیه إلی

ص:471

مبناه ، من إمکان الحکم بالحیضیّة قبل الثلاثة فی خصوص الحمل _ کما علیه الآملی قدس سره _ فیترتّب علیها حکم الحیض ، أو عدم الحکم بها _ کما علیه الحلّی _ ، فتعید وتقضی العبادات التی کانت قد ترکتها .

وکیف کان فانّ التمسّک بمثل هذا الخبر فی القام لا یخلو عن إشکال .

نعم ، یصحّ التمسّک به للفاقد ، حیث قال علیه السلام فی ذیله : «وإنْ کانت صفرة فلتغتسل عند کلّ صلاتین» ، فان تقابلها مع دم العبیط ، یدلّ علی عدم کونه حیضاً ، حتّی فی المبتدأة ، فإن التفکیک یصحّ اجرائه هنا ، یعنی یصحّ التمسّک بهذا الحدیث للفاقد ، من الحکم بعدم کونه حیضاً ، ولو لم یتمسّک بما قبله بالحکم بالحیضیّة ، لأجل فقدان شرطه ، کما عرفت .

الدلیل الرابع : الاستدلال بمفهوم صحیحة ابن الحجّاج ، وهی : قال : سألت أبا إبراهیم علیه السلام عن امرأة نفست ، فمکثت ثلاثین یوماً أو أکثر ثمّ طهرت وصلّت ، ثمّ رأت دماً أو صفرة؟ قال: إنْ کانت صفرة فلتغسل ، ولتصلّ ولا تمسک عن الصلاة(1)».

حیث یکون مفهومها علی أنّه أنْ کان دماً تمسک عن الصلاة ، ویوضّحه ترکه الجواب عن الدم ، مع کونه مذکوراً فی السؤال ، فإنّه یشهد باجتزائه فی الجواب بالشرطیّة المذکورة . مع أنّ المروی فی «التهذیب» التصریح بالمفهوم ، حیث زاد فی آخره قوله : «فان کان دماً لیس بصفرة ، فلتمسک عن الصلاة أیام قرئها ، ثمّ لتغتسل ولتصلّ»(2) .

ولکنّه حینئذ یخرج عن مورد الکلام ، وهی المبتدأة ، لظهور قوله علیه السلام : «أیام قُرئها» فی ذات العادة .


1- وسائل الشیعة: الباب 5 من أبواب النفاس، الحدیث 2 _ 3 .
2- وسائل الشیعة: الباب 5 من أبواب النفاس، الحدیث 2 _ 3 .

ص:472

لکن الاستدلال بمفهومه موقوفٌ علی أن یکون شاملاً باطلاقه للمبتدأة ، دون غیرها من المضطربة والناسیة والعددیّة المحضة غیر ذات العادة ، وشموله لها بعیدٌ غایته ، لما قد عرفت من الاستبعاد بحصول النفاس لها قبل تحیّضها ، وحصول العادة .

فیؤیّد ما ذکرناه حینئذ وجود ذیل المنطوق علی روایة «التهذیب» ، حیث قد صرّح بالنسبة إلی الدم من لزوم الإمساک عن الصلاة أیام اقرائها ، المنطبق علی المرأة التی کانت لها عادة أو غیرها من غیر المتبدأة کما عرفت .

وممّا ذکرنا فی ذلک المفهوم ، تعرف ورود مثل هذا الاشکال فی التمسک باطلاق صحیح عبد اللّه بن المغیرة ، عن أبی الحسن الأوّل علیه السلام : «فی امرأة نفستْ ، فترکت الصلاة ثلاثین یوماً ، ثمّ طهرت ، ثمّ رأت الدم بعد ذلک؟

قال : تدع الصلاة ، لأنّ أیامها الطهر قد جازت مع أیام النفاس(1)» .

فانه یشکل التمسک بها فی المبتدأة ، لما قد عرفت عدم شموله للاستبعاد المذکور ، خصوصاً مع الایماء فی التعلیل من وجود الأیام لها ، حیث قال : «لأنّ أیامها أیام الطهر ، قد جاز تسع أیام النفاس» .

فالاستدلال بمثل هذه الاطلاقات لا یخلو عن بعد .

نعم ، والذی یصحّ التمسّک باطلاقه ، لکلا قسمی المسألة ، من الحکم بالحیضیّة لواجد الصفات ، وعدمه لفاقدها ، هو اطلاق صحیحة حفص بن البُختری ، قال : «دخلتْ علی أبی عبد اللّه علیه السلام امرأة ، فسألته عن المرأة یستمر بها الدم فلا تدری حیض هو أو غیره؟ قال: قال لها : إنّ دم الحیض حار عبیطٌ أسود ،


1- وسائل الشیعة: الباب 5 من أبواب النفاس، الحدیث 1 .

ص:473

له دفع وحرارة ، ودم الاستحاضة أصفر بارد ، فإذا کان للدم حرارة ودفع وسواد فلتدع الصلاة . قال: فخرجتْ وهی تقول : واللّه أنْ لو کان امرأة ما زاد علی هذا(1)» .

فان منطوق هذه الصحیحة یدل علی حکم واجد الصفات و مفهومها لفاقدها .

وکون السؤال بخصوص المستمر ، لا یوجب التقید فی اطلاق الجواب .

ولعلّه لذلک قال الشیخ الأعظم فی «الطهارة» من ظهور بناء العرف فی تصدیق النساء بذلک ، فی غیر مورد العلم أیضاً ، عند نقل الأوصاف ، وبیان الصفات من الإمام علیه السلام ، کما یشهد نفس مورد الروایة ، حیث أنّ المرأة السائلة کانت غیر عالمة بالموضوع ، ومع ذلک بعد نقل الأوصاف وسماع صفاته منه علیه السلام ، قالت : «لو کان امرأة ما زاد علی هذا» .

فاشکال المحقّق الآملی قدس سره علیه ، بان الجواب صادرٌ فی مورد العلم بالحیضیّة ، لیس علی ما ینبغی .

ولعلّ أخبار الصفات الدالّة علیه فی جهتی الحکم فی المبتدأة کثیرة ، فالمسألة تعدّ واضحة من حیث دلالة الأخبار .

نعم ، قد استدلّوا لوجوب الاستظهار والانتظار ، لمضی ثلاثة أیام للحکم بالحیضیّة فی فاقد الصفات ، باصالة عدم الحیض ، بناء علی القول بعدم جریان قاعدة الإمکان لما قبل الثلاثة .

بل قد یقال بإمکان احراز الاستقراء باصالة بقاء الدم إلی الثلاثة ، فیترتّب علیه حکم الحیضیّة قبل مضیّ الثلاثة ، فی الفاقد لها ، لکونها أصلاً محرزاً یترتّب علیه ما یترتّب علی العلم الوجدانی ببقائه إلی الثلاثة ، فعلیه لا یحتاج فی الحکم بذلک


1- وسائل الشیعة: الباب 3 من أبواب الحیض، الحدیث 2 .

ص:474

إلی مضیّ ثلاثة أیام .

قد استشکلوا فیه بقولهم إنّ صحّة اجراء مثل هذا الأصل ، موقوفٌ علی القول باجراء الاستصحاب فی الأمر الاستقبالی ، بأن یکون الشکّ فی الحال والمشکوک فی الاستقبال ، وهو ممنوعٌ لانصراف أخبار الاستصحاب إلی ما کان الشکّ فی الحال والمشکوک فی الماضی ، مثل الشکّ فی بقاء الطهارة السابقة .

وأجاب عنه الشیخ فی «الطهارة» بأنّ الأصل فیما نحن فیه ، هو عدم حدوث الزائد عمّا حدث ، لا اصالة بقاء الحادث .

أقول: ما المراد من اصالة عدم حدوث الزائد؟ إنْ أُرید من الزائد ، غیر الذی یستمر من الدم ، ای لوکان الأصل هو عدم تحقّق خروج الدم أزید ممّا قد تحقّق إلی حال الاستصحاب ، فهو یوجب خلاف ما قصدوه من الاستصحاب ، من الحکم بالحیضیّة قبل مضی الثلاثة ، لأنّه یستلزم الحکم بعدم الحیضیّة حتّی یمضی الثلاثة .

وإن أُرید من عدم حدوث الزائد ، هو حدوث شیء آخر غیر الدم ، وهو الانقطاع الحاصل ، فان عدم تحقّق الانقطاع الذی هو وصف زائد غیر الدم عارضٌ علی استمرار الدم ، فنیتجة هذا الأصل هی الحکم ببقاء الدم واستمراره ، المستلزم الحکم بالحیضیّة .

فعلیه لا یرد ما أورده المحقّق الآملی قدس سره ، بأن صحّة ما أفاده مبتنیةٌ علی لحاظ المتیقّن الحادث شیئاً ، ولحاظ المشکوک الزائد علی الحادث شیئاً مغایراً معه ، وهو موجبٌ للمنع عن اجراء الاستصحاب فی التدریجیّات .

وهو _ مع کونه مخالفاً لما ذهب إلیه فی الأُصول _ فاسد ، لأنّ الأمر التدریجی المتّصل أجزائه شیء واحد ، کالأمر القار ، حیث أن الوحدة الاتصالیّة تساوق

ص:475

الوحدة الشخصیّة ، فالیوم الواحد من أوّله إلی آخره یومٌ واحد ، وکذا الشهر والسنة ، وغیرها من التدریجیات ، فلا مانع من اجراء اصالة بقاء الدم إلی الثلاثة من هذه الجهة ، ولیس المورد مورد اصالة عدم حدوث الزائد عمّا حدث أصلاً .

ولایخفی أن اصالة بقاء الدم الی الثلاثة ، إن کان جاریا فلازمه الحکم بالحیضّة بمجرد الرؤیة ، نظیر جریان قاعدة الإمکان ، حیث یحکم بذلک بلا احتیاج إلی التمسّک بالأصل ، فلازم ذلک هو الحکم بالحیضیّة بمجرّد الرؤیة سواء کان الدم واجداً للصفات أو فاقداً لها .

إلاّ أن ذلک صحیح لو لم نقل بوجود الأخبار الدالّة علی الصفات ، الموجبة للحکم به ، وللفاقد بعدمه ، وإلاّ فمع وجود الدلیل الاجتهادی ، لم تصل النوبة إلی الدلیل الفقاهتی ، وهو الأصل ، کما لا یخفی .

ثمّ قد استدلّوا للحکم بالحیضیّة _ بعد مضیّ ثلاثة أیام ، فی المبتدأة إذا صدق علیه الدم _ بالخبر الذی رواه محمّد بن مسلم ، قال: «سألت أبا عبد اللّه علیه السلام عن المرأة تری الصفرة فی أیامها؟ فقال: «لا تُصلّی حتّی تنقضی أیامها ، وإنْ رأت الصفرة فی غیر أیامها توضّأت وصلّت»(1) .

وقال فی «مصباح الهدی» بعد ذکر هذا الحدیث : لکن الانصاف انصرافه عن المبتدأة ، وإنّما هو فیمن له عادة فرأت الصفرة فی غیرها ، ولعلّ وجه انصرافها عنها ، هو ذکر الأیام فی صدرها الظاهر فی أیام العادة .

اللّهمّ إلاّ أن یتّم عدم القول بالفصل بین ذی العادة وغیرها ، فتشمل المبتدأة .

لکنّه لابدّ أن یقیّد بما قد عرفت من أخبار الصفات ، بأنّه یتم إذا کانت فاقداً لها .


1- وسائل الشیعة: الباب 4 من أبواب الحیض، الحدیث 1 .

ص:476

فأحسن الأدلّة ، هو ما عرفت من مفهوم خبر حفص ، بن البختری ، حیث یدلّ علی المطلوب ، وهذا هو الأقوی فی المسألة :

اما الدلیل علی القول الاول : وهو القول بالتحیّض بمجرّد الرؤیة مطلقاً ، وإنْ کان صفرة .

فقد استدلوا علیه بقاعدة الإمکان ، وقد عرفت الاشکال فیه فلا نعید .

واستدلوا علیه أیضا باخبار الصفات بناء علی عدم القول بالفصل ، بین کون الدم المشاهد متّصفاً بالصفات أو غیر متّصف به .

وهو أیضاً مخدوش ، لأنّ هذه الدعوی _ من القول بعدم الفصل بینهما _ ممنوعة ، لما تری من العلاّمة فی «المنتهی» و«المختلف» من دعوی اختصاص النزاع بالدم المتّصف بالصفات ، وأنّ الدم الفاقد لها خارجٌ عن محل النزاع ، لأنّ الحکم فیه عدم التحیّض بمجرّد الرؤیة ، فمع وجود مثل ذلک کیف یمکن دعوی عدم القول بالفصل بینهما .

وقد أجاب عنه المحقّق الآملی بجواب آخر ، علی فرض التسلیم للدعوی المذکورة ، بما لا یخلو عن إشکال والیک نصّ کلامه حیث یقول : «مع أنّه علی تقدیر تسلیمها ، فلیس للقول بالتحیّض بمجرّد الرؤیة فی الواجد ، ثمّ الحاق الفاقد به ترجیحٌ علی عکسه ، أعنی القول بوجوب التربّص علی الفاقد ، ثمّ الحاق الواجد به ، لأنّ فی أخبار الصفات دلالتین ، وهما دلالتها علی التحیّض فی واجد الصفات ، ودلالتها علی نفی التحیّض فی فاقدها ، فلابدّ من رفع الید عن أحدهما ، ولیس ترجیح الأولی علی الثانیة أولی من عکسه ، ومع التکافؤ یجب الرجوع إلی قواعد أُخری ، فیسقط أخبار الصفات عن صحّة الاستدلال بها» .

ص:477

انتهی محل الحاجة(1) .

بیان ذلک ، اولاً : لوضوح أن الترجیح یکون فی طرف الواجد ، لکون دلالتها علی الأکثر بالمنطوق والوضع ، بخلاف الحکم فی الفاقد ، حیث یکون بالمفهوم ، کما عرفت الاشارة إلیه فیما سبق .

وثانیاً: لو سلّمنا هذه الدعوی ، وما یترتّب علیها من الأثر ، من تساقط أخبار الصفات ، فلازمه فقدان الدلیل علی القول المقبول أیضاً ، لما قد عرفت أنّ الحکم بالتحیّض بالصفات ، لم یکن دلیله إلاّ تلک الأخبار ، بعد رفع الید عن الأصل ، وقاعدة الإمکان فتأمّل .

واستدلّوا ایضا علی مختارهم باطلاق الأخبار الدالّة علی ترک الصوم ، بمجرّد الرؤیة ، مثل موثقة محمّد بن مسلم ، قال : «سألت أبا جعفر علیه السلام عن المرأة تری الدم غدوة أو ارتفاع النهار ، أو عند الزوال؟ قال : تفطر»(2) .

منها : مارواه محمد بن مسلم أیضا عنه علیه السلام : «فی المرأة تطهر فی أوّل النهار فی رمضان ، أتفطر أو تصوم؟ قال: تفطر . وفی المرأة تری الدم من أوّل النهار فی شهر رمضان ، أتفطر أو تصوم؟ قال: تفطر إنّما فطرها من الدم»(3) .

منها : روایة منصور بن حازم ، عن أبی عبد اللّه علیه السلام ، قال : «أیّ ساعةٍ رأت المرأة الدم فهی تفطّر الصائمة إذا طمثت(4)» .

واستدلوا أیضا بأخبار دالة علی الحکم بالحیضیّة ، لجاریة البکر :


1- مصباح الهدی: 4/462 .
2- وسائل الشیعة: الباب 50 من أبواب الحیض، حدیث 3 ، 4 .
3- وسائل الشیعة: الباب 50 من أبواب الحیض، حدیث 3 ، 4 .
4- وسائل الشیعة: الباب 50 من أبواب الحیض، الحدیث 7 .

ص:478

منها : موثقة سماعة بن مهران ، قال: «سألته عن الجاریة البکر أوّل ما تحیض ، فتقعد فی الشهر یومین وفی الشهر ثلاثة أیام ، یختلف علیها ، لا یکون طمثها فی الشهر عدّة أیام سواء؟ قال: فلها أن تجلس وتدع الصلاة ما دامت تری الدم ، ما لم یجز العشرة ، فإذا اتّفق الشهران عدّة أیام سواء فتلک أیامها»(1) .

منها : حدیث عبد اللّه بن بکیر ، قال : «فی الجاریة أوّل ما تحیض ، یدفع علیها الدم ، فتکون مستحاضة ، أنّها تنتظر بالصلاة فلا تُصلّی حتّی تمضی أکثر ما یکون من الحیض ، فإذا مضی ذلک ، وهو عشرة أیام ، فعلتْ ما تفعله المستحاضة(2)» .

منها : وحدیثه الآخر ، عن أبی عبد اللّه علیه السلام ، قال : «المرأة إذا رأت الدم فی أوّل حیضها ، فاستمرّ الدم ترکت الصلاة عشرة أیام ثمّ تُصلّی(3)» .

ولا یخفی ما فی الاستدلال باطلاق هذه الأخبار : فأمّا عن أخبار الإفطار لوضوح أنّ المقصود لیس إلاّ بیان کون دم الحیض المسّلم مُفطّراً ، فی أیّ ساعة من النهار حصل ، فی غدوّه أو غیره ، لا فیما یکون مشکوکاً بکونه حیضاً أم لا ، والشاهد علی ما نقول موجودٌ فی نفس الحدیث ، فانه قد ورد فی احدی الاخبار قوله : «فهی تفطّر الصائمة إذا طمثت» .

مضافاً إلی کون الألف واللام فی الدم یعدّ عهدیا ، اشارة الی الدم الذی تعلم بکونه حیضاً ، ولذلک قد علّل فی واحد منها بقوله : «إنّما فطرها من الدم» ، أی دم الحیض ، أی ما هو معلوم کونه حیضاً لا مشکوکاً فیه ، کما نحن بصدده .

فهذه الأخبار أجنبیّة عمّا استدلوا بها .

فی أحکام الحیض / ما یتعلّق بالمضطربة


1- وسائل الشیعة: الباب 50 من أبواب الحیض، الحدیث 7 .
2- وسائل الشیعة: الباب 8 من أبواب الحیض، الحدیث 5 ، 6 .
3- وسائل الشیعة: الباب 8 من أبواب الحیض، الحدیث 5 ، 6 .

ص:479

وکذلک یرد علیهم فیما استدلّوا بموثقة سماعة ، حیث أنّها ظاهرة فی کون الجاریة عارفة بأنّ الدم هو دم الحیض ، إلاّ أنّه لما لم تکن عدد أیامها مظبوطه لا تعرف مقدار حیضها ، وما یلزم علیها من ترک الصلاة ، فأجاب علیه السلام بأنّها تدع الصلاة ما دامت تری الدم ، ما لم یتجاوز العشرة .

ومثل ذلک فی الضعف التمسّک بموثقة ابن بکیر ، لوضوح أنّ المُحْدِثة ممّن یستمر دمها وحیضها ، فتترک الصلاة لذلک ، فلا ربط لها بمن کانت شاکة فی کون دمها حیضاً أم لا ، بل دلالتها علی خلاف المطلوب أولی وأوضح ، کما لا یخفی .

فیسقط هذا القول عن الاعتبار أیضاً .

وأمّا القول الثانی : وهو القول بالانتظار إلی مضیّ الثلاثة مطلقاً ، ولو کان الدم بصفة الحیض ، فقد استدلّوا له باصالة عدم الحیض ، الحاکمة بعدمه عند الشکّ فی الحیضیّة ، واصالة بقاء التکلیف بالعبادات ، وسائر الصفات المشترطة فیها الطهارة عن حدث الحیض الثابتة قبل رؤیتها لهذا الدم ، وقاعدة الاشتغال بالتکالیف مع عدم العلم بالخروج منها .

ولا یخفی ما فی الأدلّة ، حیث أنّهم قد تمسّکوا به لاثبات قولهم بادلة الأُصول والدلیل الفقاهتی ، وهما انما یمکن الرجوع الیهما إن لم یکن فی المورد دلیلاً اجتهادیاً من الروایات والأخبار ، علی أنّک قد عرفت حین نقل ادلّة القول الثالث ، وجود أخبار عدیدة دالة علی کون الصفات ملاکاً للحکم بالحیضیّة ، حیث یشمل بعمومها المبتدأة .

وما قیل من أن المراد من هذه الاخبار لزوم الانتظار إلی ثلاثة أیام _ کما قد فعله بعض متأخّری المتأخّرین _ لیس علی ما ینبغی ، لصراحتها فی الجملة علی الحکم بالصفات بمجرّد الرؤیة ، کما لا یخفی علی من أمعن النظر .

ص:480

نعم ، من لم یتیقن ولم یطمئن بما قلنا فی الأخبار ، من دعوی العموم ، وتردّد فی ذلک ، فلابدّ له حینئذ من الذهاب إلی القول الرابع ، من الحکم بالاحتیاط مطلقاً ، حتّی لواجد الصفات ، کما حکی عن «البیان» من اعتبار مضیّ الثلاثة بالنسبة إلی الأفعال ، فتأتی بالعبادات والواجبات إلی الثلاثة ، واعتبار رؤیة الدم بالبیّنة فی التروک ، فتترک ما یحرّم علی الحائض من حین الرؤیة ، کما هو مقتضی الاحتیاط .

وأمّا الإشکال فیه بالنسبة إلی الأفعال ، بأنه لو کانت حرمة العبادات للحائض ذاتیّة ، وکانت الصلاة والصوم لها حراماً ذاتیّاً ، لدوران أمرها من الحرمة والوجوب ، بخلاف ما لو کانت تشریعیّة .

فیمکن الجواب عنه : بأنّ هذا صحیح لو لم نقل بجواز الاتیان بمحتمل الحرمة بقصد الرجاء والمطلوبیّة ، وإلاّ لکان اختیار الاتیان بالواجبات مع الرجاء أرجح من ترکها ، فی صورة التخییر المتحقّق عند دوران الأمر بین المحذورین .

هذا فضلاً عن الإشکال فی أصل کون الحرمة ذاتیّة ، کما علیه البعض ، واللّه العالم .

هذا تمام الکلام فی المبتدأة .

اما حکم المضطربة : فإنّ لها معنیان ، وهما :

المعنی الأوّل: مَنْ تکرّر منها الدم ، مع الاختلاف ، وعدم حصول عادة لها .

المعنی الثانی: مَنْ تکرّر منها الدم ، وحصلت لها عادة ، ولکنها نسیتها .

فهی تارة : تُسمّی بالمضطربة ، وأُخری بالناسیة .

والظاهر کون حکم هاتین القسمین حکم المتبدأة ، وتأتی فیها الأقوال الأربعة ، ویکون المختار من هذه الاربعة عندنا هو ما اخترناه هناک من الحکم بالتحیّض ، بمجرّد الرویة فی واجد الصفات ، دون فاقدها ، حیث تتربّص بمضی

ص:481

ثلاثة أیام ، خلافاً لما فی «البیان» و«الدروس» ، حیث جعل الشهید رحمه الله تحیّضها مبنیّا علی ماظنّها أنه حیض ، مع ذهابه فی المبتدأة بلزوم التربّص .

لکنّه ضعیف ، لعدم وجود الفارق بین المبتدأة والمضطربة فی کلا فردیها ، وعدم وجود دلیل علی اعتبار هذا الظنّ ، وعلی جواز العمل به ، کما لا یخفی .

أمّا حکم ذات العادة العددیّة ، التی تقدّم دمها علی عادتها أو تأخّر عنها بما لا یتسامح فیه ، کعشرین یوماً .

فالظاهر أنّها أیضاً کالمبتدأة ، من جهة الدلیل لها بخصوصها ، وعدم شمول الأدلّة الواردة لذات العادة العددیّة والوقتیّة ، أو الوقتیّة فقط لمثلها ، بما لا یتسامح ، بخلاف ما یتسامح فیه فی التقدّم والتأخّر ، حیث یلحق بذات العادة کما عرفت .

ولکن الشیخ الأعظم قدس سره برغم ذهابه فی المبتدأة ، بالتفریق بین الواجد والفاقد _ کما قلنا _ ذهب هنا إلی الاحتیاط فیها مطلقاً ، أی من لزوم العمل بالتروک فی الحائض وأعمال المستحاضة إلی الثلاثة ، لأنّ النصوص فی الدلالة علی الحکم بالتحیّض بعد الثلاثة واضحة ، مثل صحیح یونس بن یعقوب حیث روی قوله علیه السلام : «المرأة تری الدم ثلاثة أیام أو أربعة؟ قال : تدع الصلاة»(1) .

وصحیح صفوان ، عن أبی الحسن الرضا علیه السلام : «عن الحُبلی تری الدم ثلاثة أو أربعة أیام تُصلّی؟ قال: تُمسک الصلاة»(2) .

ونظائر ذلک فی الأخبار کثیرة ، مضافاً إلی وجود الإجماع علیه .

وهکذا ظهر حکم جمیع أفراد الحائض من ذوات العادة وغیرها .


1- وسائل الشیعة: الباب 14 من أبواب الحیض، الحدیث 2 .
2- وسائل الشیعة: الباب 30 من أبواب الحیض، الحدیث 1 .

ص:482

الثانیة : لو رأت الدم ثلاثا ثمّ انقطع ، ورأت قبل العاشر ، کان الکلّ حیضاً (1).

(1) واعلم أنه لا نقاش فی حکم المرأة بالحیضیّة إذا رأت الدم ثلاثة أیام متوالیة ، ثمّ انقطع عنها الدم ، وقد قطع به العلاّمة فی «التذکرة» ، من دون أن یفرق بین کون المرأة معتادة أو غیرمعتادة ، کما لا فرق بین کون الدم جامعاً للصفات أو لا ، وذلک لدلالة صحیح یونس بن یعقوب علیه وهی : «قال: قلت لأبی عبداللّه علیه السلام : المرأة تری الدم ثلاثة أیام أو أربعة؟ قال: تدع الصلاة(1)» .

بل وکذلک لانقاش فی حکم ما لو رأت بعد الانقطاع قبل العاشر _ بل ونفس الیوم العاشر _ من أوّل یوم ما رأت الدم ثمّ انقطع ، عُدّ الدم عند الکلّ ، من الدمّین حیضاً قطعاً عند الکلّ بل وهکذا النقاء المتخلّل بینهما عند الجلّ ، لولا الکلّ ، لمخالفة صاحب «الحدائق» وبعض آخر .

والدلیل علیه : _ مضافاً إلی الإجماع ، کما ادّعاه صاحب «الجواهر» بقوله : بلا خلاف أجده بین الأصحاب .

بل یظهر من بعضهم دعوی الإجماع علیه ، کما هو صریح آخرین .

وقاعدة الإمکان عند من قال بها ، لما قد عرفت الاشکال فیها _ دلالة بعض الأخبار علیه وهی :

منها : مثل ما فی الصحیح أو الحسن عن محمد بن مسلم ، عن أبی جعفر علیه السلام ، قال : «إذا رأت المرأة الدم قبل عشرة أیام ، فهو من الحیضة الأُولی ، وإنْ کان بعد


1- وسائل الشیعة: الباب 6 من أبواب الحیض، الحدیث 2 .

ص:483

العشرة ، فهو من الحیضة المستقبلة»(1) .

منها : صحیحة أبی نصر البزنطی ، قال: «سألت أبا الحسن علیه السلام عن أدنی ما یکون من الحیض؟ فقال: ثلاثة أیام ، وأکثره عشرة»(2) .

فی أحکام الحیض / حکم انقطاع الدم بعد الثلاثة و عوده

ومنها : مرسلة یونس ، عن بعض رجاله ، عن أبی عبد اللّه علیه السلام ، قال : «أدنی الطهر عشرة أیام ، وذلک أنّ المرأة أوّل ما تحیض ربّما کانت کثیرة الدم ، فیکون حیضها عشرة ایام ، فلا تزال کلّما کبرت نقصت حتّی ترجع إلی ثلاثة أیام ، فإذا رجعت إلی ثلاثة أیام ارتفع حیضها ، ولا یکون أقلّ من ثلاثة أیام ، فإذا رأت المرأة الدم فی حیضها ترکت الصلاة»(3) .

ولا فرق فی الحکم بالحیضیّة فی تلک المدّة أیضاً ، بین کونها معتادة أو غیر معتادة ، جامعاً للصفات أو فاقدا لها ، بل قد عرفت الحکم بالحیضیّة فی أیام النقاء أیضاً کما قد صرّح بذلک الشیخ فی «الخلاف» بقوله : «الإجماع علی حیضیّة الجمیع من الدم والنقاء ، فیما لو رأت دماً ثلاثة أیام ، وبعد ذلک یوماً ولیلة نقاءً ، ویوماً دماً إلی تمام العشرة» .

وقال العلاّمة فی «التذکرة» : «إذا رأت ثلاثة أیام متوالیات ، فهو حیض قطعاً ، فإذا انقطع وعاد قبل العاشر وانقطع فالدمان وما بینهما حیض» .

مضافاً إلی امکان الحکم بالحیضیّة فیه؛ من جهة عدم وجود مانع من الحکم به ، جریان قاعدة الإمکان فیه .

بل قد یستدلّ للحکم بالحیضیّة _ بالنسبة إلی النقاء المتخلّل _ بالاخبار الواردة


1- وسائل الشیعة: الباب 11 من أبواب الحیض، الحدیث 3 .
2- وسائل الشیعة: الباب 10 من أبواب الحیض، الحدیث 3 و4 .
3- وسائل الشیعة: الباب 10 من أبواب الحیض، الحدیث 3 و4 .

ص:484

الدالة علی أنّ الطهر لا یکون أقلّ من عشرة ، وهی : روایة محمد بن مسلم ، عن أبیجعفر علیه السلام ، قال :

منها : لا یکون القُرء فی أقلّ من عشرة ایام ، فما زاد أقلّ ما یکون عشرة من حین تطهر إلی أن تری الدم»(1) .

منها : مرسلة یونس ، عن بعض رجاله ، عن أبی عبد اللّه علیه السلام ، قال : «أدنی الطهر عشرة أیام . . . إلی أن قال : ولا یکون الطهر أقلّ من عشرة أیام»(2) .

ولکن فی «الجواهر» بعد ذکر الاستدلال بذلک قال : انّه لا یخلو عن تأمّل .

ولعلّ وجه تأمّله ، أن مثل هذه الأخبار لیس إلاّ بصدد بیان أنّ شرط الحکم بالحیضیّة _ لما یری من الدم الثانی _ هو مضیّ عشرة أیام من الدم الأوّل ، الذی حکم بکونه حیضاً ، أمّا بالنسبة إلی حکم النقاء المتخلّل بأنّة لیس بحیض ، أو حیضٌ ملحق بالسابق ، فإنّ هذه الأخبار ساکتة عنه ، ولابدّ من مطالبة دلیل آخر یفید حکمه .

ولکن قد عرفت فی بحث کون أقلّ الطهر عشرة ، أن الظاهر من الأخبار الدالة بکون أقل الحیض ثلاثة ، وأکثره عشرة _ فی حیضة واحدة ، المشتمل باطلاقه حتّی ما لو انقطع الدم بعد الثلاثة قبل العاشر ، بیوم أو یومین أو أزید ، بکونه حیضاً واحداً _ أنّ النقاء المتخلّل فی العشرة ملحقٌ حکماً بالحیض ، وکون الدم المتقدّم عن النقاء والمتأخّر عنه یعدّ دماً واحداً لحیض واحد ، لا بأنّ یکون من حیضٍ آخر .

مع أنّ طبع القضیّة _ لولا الدلیل _ یقتضی کون شروع الدم فی کلّ مرّة بعد الانقطاع حیضاً مستقلاًّ ، ولکن مع الرجوع إلی دلیل أنّ الطهر لا یکون أقلّ من


1- وسائل الشیعة: الباب 11 من أبواب الحیض، الحدیث 1.
2- وسائل الشیعة: الباب 11 من أبواب الحیض، الحدیث 1.

ص:485

العشرة ، نستفید أنّه لا یمکن التفکیک بین الدمین من حیث وحدة الحیضیّة ، فهو لا یکون إلاّ بالقول بکون النقاء المتخلّل أیضاً حیضاً ولو حکماً ، وهو المطلوب .

فمن ذلک یظهر عدم تمامیّة ما حکم به صاحب «الحدائق» ، من عدّه من أیام الطهر .

ولکن برغم ذلک فالاحتیاط فی مدّة النقاء المتخلّل بترک التروک للحائض ، وأتیان أعمال المستحاضة ، حَسَنٌ جدّاً ، کما قلنا بذلک فی تعلیقتنا علی «العروة» .

ومن ذلک یظهر لک وجه الحکم بالحیضیّة ، بالنسبة إلی الدم الذی تدفق بعد الانقطاع ، قبل تمامیّة العشرة ، أما إذا کان لونه أصفرا ، وکان بعد أیام العادة فإنّه لایعدّ حیضا لما قد یشاهد من الأخبار ما یدلّ علی أنّ الصفرة بعد أیام الحیض لیست بحیض ، مثل ما قد یتوهّم من روایة إسحاق بن عمار ، عن أبی بصیر ، عن أبی عبد اللّه علیه السلام : «فی المرأة تری الصفرة؟ فقال: إنْ کان قبل الحیض بیومین ، فهو من الحیض ، وإنْ کان بعد الحیض بیومین فلیس من الحیض»(1) .

ومثله روایة مرسلة یونس(2) .

ولکن بعد التأمّل والدقّة تعلم کون المراد من الصفرة هی الخارجة عن صفة کونه خارجاً عمّا حیضاً من العشرة ، کما یظهر لک ذلک من ملاحظة ما فی روایة إسماعیل الجعفی ، عن أبی عبد اللّه علیه السلام ، قال : «إذا رأت المرأة الصفرة قبل انقضاء أیام عادتها تصل ، وإنْ کانت صفرة بعد انقضاء أیام قُرئها صلّت»(3) .

بناء علی أن یکون المراد من أیام العادة ، هی الأیّام المحکومة بالحیضیّة من العشرة ، کما یؤیّده ما ورد فی ذیلها من قوله : «أیام قرئها» .


1- وسائل الشیعة: الباب 4 من أبواب الحیض، الحدیث 2 و3 .
2- وسائل الشیعة: الباب 4 من أبواب الحیض، الحدیث 2 و3 .
3- وسائل الشیعة: الباب 4 من أبواب الحیض، الحدیث 1 .

ص:486

أمّا لو تجاوز العشرة ، رجعت إلی التفصیل الذی نذکره (1).

ومثله روایة محمد بن مسلم ، عنه علیه السلام : «عن المرأة تری الصفرة فی أیامها؟ فقال: لا تُصلّی حتّی تنقضی أیامها ، وإنْ رأت الصفرة فی غیر أیامها توضّأت وصلّت»(1) . مضافاً إلی ما سمعت من ثبوت الإجماع علیها من جماعة ، بل وجریان قاعدة الإمکان عند من یقول بجریانها .

وممّا ذکرنا یظهر حکم ما تراها المرأة من الدم ، وإنْ لم یکن صفرة بعد الاستظهار ، لذات العادة بیوم أو یومین أو قبله ، لکونه مثل سابقه فی الدلیل ، کما عرفت ، وهو واضح لمن یتأمّل فی الدلیل .

فی أحکام الحیض / حکم انقطاع الدم بعد الثلاثة و عوده

ولکن ولیعلم أنّ ذلک کلّه ، إذا لم یستمر الدم مجاوزاً للعشرة ، لأنّ جمیع ما ذکره من الأقسام التی حکم فیها بالحیضیّة ، کان فی ضمن الأیّام العشرة ، فی حیض واحد ، وأمّا فی غیرها فقد اشار المصنّف قدس سره إلی حکمه بقوله :

(1) ولو فرض انقطاع الدم فی تمام العشرة أو ما دونها ، ولم یفصل أقلّ الطهر بینهما ، ثمّ رأت بعد انقضاء العشرة دماً ، فالظاهر من اطلاق کلمات الأصحاب هنا ، بل إجماعهم المدّعی ، أنّه یحکم باستحاضته ، من دون أن ینقض ما حکمنا بحیضیّته من الدم الأوّل ، بلا فرق فیه بین المبتدأة أو المضطربة ، أو کون الدم الأوّل غیر جامع للصفات والثانی جامعاً لها ، لأنّ الدم الثانی کان خارجاً عن العشرة ، وغیر واجد لشرائط الحیضیّة ، وهو عدم کون الفصل بین الدمین أقلّ من العشرة ، کما لا یکون کذلک فی المفروض ، والحال أنّه کان مورد دعوی


1- وسائل الشیعة: الباب 4 من أبواب الحیض، الحدیث 4 .

ص:487

الإجماع ، کما لا یخفی .

ویدلّ علی ذلک _ مضافاً إلی ما عرفت _ ما فی خبر صفوان بن یحیی ، عن أبیالحسن علیه السلام ، قال: «قلت له إذا مکثت المرأة عشرة أیام تری الدم ، ثمّ طهرت ، فمکثت ثلاثة أیام طاهراً ، ثمّ رأت الدم بعد ذلک ، أتُمِسک عن الصلاة؟ قال: لا هذه مستحاضة تغتسل»(1) .

ثمّ أنّه قال فی «الجواهر» بعد ذلک : «ولولاه لأمکن التأمّل فی مثل المبتدأة ، مع فرض کون الثانی جامعاً ، والأوّل غیر جامع ، إذ قاعدة الإمکان معارضة بمثلها ، فلا ترجیح للأوّل علی الثانی»(2) .

وقد أورد علیه المحقّق الهمدانی قدس سره بقوله : «وفیه : أنّه لا وجه للمعارضة ، لأنّ حیضیّة الأوّل تحقّقت قبل وجود الدم الثانی ، فالثانی وُجِد فی زمانٍ لا یمکن أن یکون حیضاً . وکونه لذاته صالحاً للحیضیّة ، لا یُجدی بعد أن وجد مسبوقاً بحیض محقّق .

والحاصل : أنّ مقتضی عموم القاعدة للدم الأوّل ، امتناع کون الثانی حیضاً ، فلا یکون الثانی مشمولاً للقاعدة حتّی یتحقّق .

وإنْ شئت قلت : إنّ الدم الأوّل وُجِد فی زمانٍ یمکن أن یکون حیضاً ، فلا وجه لتخصیص القاعدة بالنسبة إلیه .

وأمّا الدم الثانی ، فخروجه من تحت القاعدة من باب التخصص


1- وسائل الشیعة: الباب 1 من أبواب الاستحاضة، الحدیث 3 .
2- جواهر الکلام: 3 ، 189 .

ص:488

ولو تأخّر بمقدار عشرة أیام ، ثمّ رأت ، کان الأوّل حیضاً منفرداً ، والثانی یمکن أن یکون حیضاً (1).

لا التخصیص» ، إنتهی کلامه(1) .

أقول : لکن التأمّل فی المقام یقتضی ملاحظة حال قاعدة الإمکان ، حتّی فی المبتدأة ، وهل المراد منها إمکان کون الدم حیضاً بالرؤیة مطلقاً ، أو إذا کان واجداً للشرائط والصفات ، وفاقداً للموانع؟

ولا اظنّ من یدّعی الاطلاق کذلک ، مثل ما لو رأت الدم قبل تسع سنین ، أو رأت الدم بأقلّ من ثلاثة أیام متوالیة عند مَنْ شَرَطها للحیضیّة ، فإذا فرضنا صحّة القاعدة ، مع وجود الشرائط ، فبذلک یحصل الفرق بین الدم الأوّل من حیث الشرائط ، لأنّ من جملة الشرائط هو وجود الفصل بین الدمین بأقل الطهر وهو العشرة ، والدم الثانی فاقدٌ لتلک الشروط ، بخلاف الأوّل ، فالقاعدة جاریة فی الأوّل بلا إشکال دون الثانی ، فلا معارضة بینهما ، حتّی لو فقدنا الإجماع الذی ادّعاه صاحب «المستند» فی المقام ولا خبر صفوان بن یحیی .

فما أورد صاحب «الجواهر قدس سره » لیس علی ما ینبغی ، واللّه العالم .

(1) لأنّه لابدّ أن یراقب تدفق الدم الثانی من أنّه هل یتوالی ویستمر إلی ثلاثة أیام ، فهو حیض ، خصوصاً إذا کان واجداً للصفات والاّ فهو استحاضة .

وفی الحکم حینئذ بمجرّد الرؤیة وعدمه ، کان التفصیل الذی قد مرّ سابقاً .

ولکن بعد ما عرفت الإشکال فی القاعدة فی المباحث السابقة ، فلابدّ من


1- مصباح الفقیه: 4 ، 86 .

ص:489

الاستظهار فی المورد ، من الجمع وذلک تروک الحائض وأعمال المستحاضة ، حتّی تتم الثلاثة ، فإذا تمّت یحکم بالحیضیّة ، خصوصاً إذا کان جامعاً للصفات ، إذ لا مانع حینئذ من الحکم بالحیضیّة فی کلّ من الدمین ، خصوصاً عند من یذهب الی اعتبار قاعدة الإمکان ، کما لا یخفی .

* * *

هذا آخر کلامنا فی هذا الجزء، وکان الفراغ منه أیّام العطلة الصیفیّة، فی الیوم الخامس عشر من شهر جمادی الأولی، الموافق لذکری شهادة سیّدتنا ومولاتنا فاطمة الزهراء علیهاالسلام من عام ألف وأربعمائة وإحدی وعشرون هجریة. وآخر دعوانا أنّ الحمد للّه أوّلاً وآخراً.

ص:490

الفهرست

الفهرست

الکافر و أحکامه••• 5

وجوب الغسل علی الکفّار••• 9

حکم جنابة الکافر بعد ما أسلم••• 14

لو اغتسل او تیمّم ثمّ ارتدّ ثمّ عاد••• 16

غسل الجنابة عن المرتدّ الفطری••• 19

جنابة الصبّی و المجنون••• 20

اغتسل المخالف ثمّ استبصر••• 25

ما یحرم علی الجنب / قراءة العزائم••• 27

ما یحرم علی الجنب / مسّ کتابة القرآن••• 35

ما یحرم علی الجنب / مسّ اسم اللّه سبحانه و تعالی••• 36

ما یحرم علی الجنب / مسّ غیر لفظ الجلالة من اسمائه سبحانه••• 41

ما یحرم علی الجنب / مسّ أسماء الأنبیاء و الأئمّة علیهم السلام••• 43

ما یحرم علی الجنب / مسّ کتابة القرآن و ما هو بحکمه••• 44

ما یحرم علی الجنب / اللبث فی المساجد••• 45

ما یحرم علی الجنب / اللبث فی المشاهد المشرّفة••• 54

ما یحرم علی الجنب / وضع شیء فی المسجد و الأخذ عنه••• 63

ص:491

ما یحرم علی الجنب / أخذ شیء عن المسجد و الأخذ عنه••• 68

ما یحرم علی الجنب / الاجتیاز المسجدین••• 69

ما یحرم علی الجنب / لو أجنب فی أحد المسجدین الشریفین••• 70

ما یحرم علی الجنب / خصائص أهل البیت علیهم السلام••• 80

ما یحرم علی الجنب / ما یستبیح بالتیمّم للخروج عن المسجدین••• 82

ما یحرم علی الجنب / لو توقّف تحصیل الماء للغسل علی المکث فی المسجد••• 83

ما یکره علی الجنب / الأکل و الشرب••• 85

ما یکره علی الجنب / قراءة مازاد علی سبع آیات••• 90

ما یکره علی الجنب / مسّ المصحف الشریف••• 100

ما یکره علی الجنب / النوم بلا طهور••• 104

ما یکره علی الجنب / الخضاب••• 111

واجبات الغسل / النیّة••• 115

واجبات الغسل / استدامة حکم النیّة••• 116

واجبات الغسل / غَسل البشرة••• 118

واجبات الغسل / تخلیل ما لا یصل إلیه الماء••• 119

واجبات الغُسل / غَسل الشعر••• 125

واجبات الغُسل / غَسل البواطن••• 132

واجبات الغسل / الابتداء بالرأس••• 133

واجبات الغسل / حکم غَسل الرقبة••• 140

واجبات الغُسل / الترتیب بین الجانبین••• 144

احکام غُسل الجنابة••• 147

ص:492

غسل الجنابة / الترتیب بین الجانبین••• 148

غسل الجنابة / الترتیب فی غَسل کلّ عضو••• 159

غسل الجنابة / لو ترک جزءاً من الأعضاء••• 162

غسل الجنابة / کفایة الغسل الارتماسی••• 165

غسل الجنابة / نسبة ماورد فی الغسل الترتیبی و الارتماسی••• 166

غسل الجنابة / الترتیب فی الغسل الارتماسی••• 168

غسل الجنابة / کیفیّة الغسل الارتماسی••• 170

غسل الجنابة / لو بقی فی الغسل الارتماسی شیء لم یغسل••• 176

غسل الجنابة / کیفیّة الغسل الارتماسی••• 179

غسل الجنابة / هل یعتبر فی الغسل الارتماسی کثرة الماء؟••• 183

غسل الجنابة / الغسل تحت المیزاب و المطر••• 185

غسل الجنابة / ما تعتبر من طهارة الأعضاء قبل الغسل••• 185

غسل الجنابة / الموالاة فی الغسل••• 198

سُنن الغُسل / تقدیم النیّة عند غسل الیدین••• 200

سُنن الغُسل / إمرار الید علی الجسد••• 204

سُنن الغُسل / البول أمام الغسل و الاستبراء••• 207

سُنن الغُسل / فائدة الاستبراء بالبول••• 213

سُنن الغُسل / اختصاص الاستبراء بالمجنب بالإنزال••• 215

سُنن الغُسل / حکم الاستبراء للمرأة••• 216

سُنن الغُسل / الاستبراء لمن ینزل عن غیر الطریق المعتاد••• 220

سُنن الغُسل / کیفیّة الاستبراء بالخرطات••• 221

ص:493

سُنن الغُسل / عدم اعتبار المباشرة فی الاستبراء••• 224

سُنن الغُسل / غَسل الیدین قبل الغُسل••• 225

سُنن الغُسل / المضمضة و الاستنشاق••• 231

سُنن الغُسل / الغُسل بصاع••• 234

غسل الجنابة / حکم البلل المشتبهة بعد الغُسل••• 241

غسل الجنابة / لو أحدث أثناء الغسل••• 262

تعریف الحیض لغة و اصطلاحاً••• 280

أحکام الحیض / صفات الحیض••• 281

أحکام الحیض / اشتباه دم الحیض بدم العذرة••• 287

أحکام الحیض / اشتباه دم الحیض بدم الحیض••• 299

أحکام الحیض / اشتباه دم الحیض بدم العذرة••• 304

أحکام الحیض / ما تراه الصبیّه قبل بلوغها••• 309

أحکام الحیض / اشتباه دم الحیض بدم القرحة••• 314

أحکام الحیض / أقلّ الحیض و أکثره••• 330

أحکام الحیض / أقلّ الطهر••• 336

أحکام الحیض / اعتبار التوالی فی الثلاثة••• 339

أحکام الحیض / اعتبار استمرار الدم فی الثلاثة••• 360

أحکام الحیض / المراد من ثلاثة أیّام فی أقلّ الحیض••• 369

أحکام الحیض / حدّ الیأس فی غیر القرشیّة••• 371

أحکام الحیض / مقتضی الاُصول فی حدّ الیأس••• 381

أحکام الحیض / المراد من القرشیّة فی حدّ الیأس••• 386

ص:494

أحکام الحیض / ملاک الانتساب إلی قریش••• 388

أحکام الحیض / المراد من النبطیّة فی حدّ الیأس••• 391

أحکام الحیض / قاعدة الإمکان••• 394

أحکام الحیض / تنبیهات قاعدة الإمکان••• 428

أحکام الحیض / ما تثبت به العادة••• 432

أحکام الحیض / ما تثبت به العادة••• 442

أحکام الحیض / ما یتعلّق بذات العادة••• 449

أحکام الحیض / ما یتعلّق بالمبتدأة••• 464

أحکام الحیض / ما یتعلّق بالمضطربة••• 475

أحکام الحیض / حکم انقطاع الدم بعد الثلاثة و عوده••• 480

أحکام الحیض / حکم انقطاع الدم بعد الثلاثة و عوده••• 483

المجلد 5

اشارة

ص: 1

تألیف

آیة اللّه العظمی الحاج السیّد محمّد علی العلوی الگرگانی

الجزء الخامس

ص:2

ص:3

بسم الله الرحمن الرحیم

ص:4

ص:5

قال رحمه الله : الثالثة : إذا انقطع لدون عشرة ، فعلیها الاستبراء بالقطنة ، فإن خرجت نقیّة اغتسلت (1).

(1) فإن الانقطاع دون العشرة ، ربّما یوجب احتمال وجود الدم ، وبقائه فی داخل الرحم ، بلا فرق فی دم الحیض بین المعتادة وغیرها ، فمع وجود الإحتمال تجب علیها الاستبراء ، وذلک بإدخال القطنة فی الفرج .

وأمّا إذا کان الانقطاع بعد تمام العشرة _ الذی کان هو أکثر أیام الحیض _ فلا تجب علیها الاستبراء ، لأنّه لا یبقی لها احتمال وجود الدم ، بل إن کان فهو لم یکن حیضاً قطعاً ، فلا وجه للاستبراء ، لأنّ وجوب الاستبراء یترتب علی من حصل عندها الإحتمال ، وهذا حکم ثابتٌ لا خلاف فیه ، سوی ما یظهر من المنقول عن صاحب «الاقتصاد» لأنّه قد عبّر بلفظ (ینبغی) ، المُشعر بالاستحباب .

فوجوب الاستبراء یظهر من المصنّف ، کما فی «الفقیه» و«الهدایة» و«المقنعة» و«المبسوط» و«الوسیلة» و«الجامع» و«المعتبر» و«القواعد» و«المنتهی» و«جامع المقاصد» وغیرها ، بل نسبة فی «الذخیرة» إلی الأصحاب ، مشعراً بدعوی الإجماع علیه ، بل فی «الحدائق» : الظاهر أنّه لا خلاف فیه ، بل علیه إجماع المتأخّرین .

ولم یخالف فیه أحد من أصحاب التعلیق ، تبعاً لصاحب «الجواهر» و«العروة» والمحقّق الهمدانی والآملی وغیرهم (قدس سرّهم) .

والدلیل علیه _ مضافاً إلی الإجماع ، نقلاً وتحصیلاً _ هو دلالة النصوص المعتبرة وهی :

فی أحکام الحیض / وجوب الاستبراء إذا انقطع الدم قبل العشرة

منها : ما رواه الکلینی باسناده الصحیح إلی محمد بن مسلم ، عن أبی

ص:6

جعفر علیه السلام ، قال: «إذا أرادت الحائض أن تغتسل ، فلتدخل قطنة ، فان خرج فیها شیء من الدم فلا تغتسل ، وان لم تر شیئاً فلتغتسل ، وإنْ رأت بعد ذلک (صفرةً) ، فلتتوضّأ ولتصلّ»(1) .

ورواه الشیخ باسناده ، عن محمد بن یعقوب ، مثله .

ولعلّ قوله : «إذا أرادت الحائض» ، أشارة إلی من یجری فی حقّه احتمال الحیض ، لا من تلبّس بهذه الصفة فیما سبق ، فلأجل ذلک قیل إنّ هذا الحکم واردٌ فی حقّ من یحتمل ذلک ، دون من یقطع بالانقطاع وعدم العود ، حتّی یکون اجراء الحکم علیه من التعبّد المحض ، ولذلک قال صاحب «الجواهر» : إنّه بعید جدّاً .

نعم ، یشکل الاعتماد علی عادتها من الانقطاع ، إن لم یفدها ذلک قطعاً . مضافاً إلی أنّ الاستبراء لیس إلاّ لأجل الفحص عن وجود الدم فی الباطن ، وطلب برائة الرحم من الدم ، ومع القطع بالانقطاع والبرائة ، فلا معنی للفحص عنه ، وهذا ممّا لا إشکال فیه .

والذی وقع الخلاف فیه ، _ بل وکان مورداً للإشکال _ هو ملاحظة الأصل فی المقام ، ودلالة الأخبار لاثبات وجوب الاستبراء ، لمن یحتمل وجود الدم ، مع انقطاع الدم قبل العشرة .

وأمّا من جهة دلالة الأصل : فبما أنّ المورد یعدّ من موارد أصالة بقاء الحیض ، وجواز الاعتماد علیه باستصحاب بقاء حکم الحیض ، فلازم دلک هو عدم جوب الفحص علیها ، لأنّ الشبهة فی المقام من الشبهات الموضوعیّة التی لا تجب فیها الفحص إجماعا ، فالحکم بوجوبه هنا لابدّ أن یکون من جهة وجود دلیل آخر یدلّ علیه .


1- وسائل الشیعة: الباب 17 من أبواب الحیض، الحدیث 1 .

ص:7

قد یقال : إنّ المورد یعدّ من الموارد التی یجب الفحص فیها ، لأجل أن الرجوع إلی الأُصول فیها ، یستلزم الوقوع فی مخالفة الواقع کثیراً .

وقد أورد علیه المحقّق الآملی ، حیث منع الصغری مع تسلیمه الکبری،

فقال : کون المورد من قبیل هذه الموارد ممنوع ، وإنْ کان الأقوی هو وجوب الفحص فی تلک الموارد ، کما لا یخفی .

ولکن یمکن أن یقال : ولعلّ وجه ورود النصوص فی المورد _ من حیث وجوب الفحص ، مع کون الشبهة من الموضوعیّة _ هو کون الاعتماد علی الأصل هنا والاتّکال علیه ، کما یعتمد علیه فی سائر الموارد _ مشکلٌ لکونه من الاستصحاب والأُصول المحرزة ، لا ممّا یوجب وقوع المکلّف فی خلاف الواقع ، وفی ترک العبادات _ منها الصلاة التی هی من أهمّها _ التی لا یرضی الشارع بترکها بلا عذر ، فلأجل الخلاص من هذا المحذور ، أوجب الشارع الاستبراء مع الاحتمال ، ولم یعتیّن من دون الاعتناء بوجود الاستصحاب ، کما لا یخفی .

فلا یبعد القول بأنّها لو ترکت الاستبراء ، واعتمدت علی الأصل ، ترکت لأجله العبادات المشروطة بعدم الحیض ، کانت آثمة فی علمها ، فلا یکون الأصل لها حیئنذ حجّة فی ترک الفحص مع وجود النصوص الدالة علی لزوم الاستبراء ، کما لا یخفی .

فبناء علی ما ذکرنا ، لابدّ لها من الاستبراء ، مع احتمال وجود الدم المحکوم بالحیضیّة فی الرحم ، فلا یجوز لها الاتیان بالغُسل ، لعدم تمشّی قصد القربة منها بغسلها ، وحینئذ لو نوت الاحتیاط ، وصادف الواقع بأن أتت بالغسل ، فبان أنّه طابق الواقع ، وکانت نقیّتة من الدم _ فهل هذا الغسل صحیح أم لا؟

قد یقال : بأنّه علی القول بکون العبادات _ التی منها الغُسل _ حراماً حرمة ذاتیة علی الحائض ، تبطل غسلها من غیر إشکال ، لعدم وجود مجال حینئذ مع

ص:8

کونها محکومة بالحیضیّة من جهة دلالة الاستصحاب ، أنّ الاتیان بها یعدّ عصیاناً أو تجریاً .

وعلی أیّ تقدیر ، لا تتمکّن من الاتیان بها علی وجه قُربی .

وعلی القول بکون حرمتها تشریعیّة : ، فللاحتیاط مجالٌ ، لکن فی صحته وجهان ، مبنیّان علی عدم اعتبار الجزم فی النیّة مع الإمکان ، أو اعتباره ، حیث یصحّ علی الأوّل ، ویبطل علی الثانی .

نقول : بناءً علی القول بالحرمة الذاتیّة ، فهل یکون کذلک حتّی فیما إذا أراد تحصیل الاحتیاط لما فی الواقع رجاء ، مع کونها طاهرة فی الظاهر ، خصوصاً إذا لم تستظهر شرطیّة الاستبراء لصحّة الغُسل من النصوص ، کما سیأتی الاشارة إلیه ، فإنّ الالتزام بذلک لا یخلو من کلام .

نعم ، لو إذا قصدت الغسل برغم معرفتها بعدم کونها حائضاً شرعاً ، فلا إشکال فی عدم مشروعیّة عملها ، وحرمة الاتیان بالغسل حینئذ تشریعاً وذاتاً ، علی المبنی ، ولا یأتی مثل ذلک فی الاتیان به رجاء ، کما هو المفروض ، وإنْ یجوز أو یجب علیها ترک الغسل من حیث الأصل .

هذا فضلاً عن أنّه لا یأتی هذا الکلام فیما لو نسیت وأتت بالغسل مع قصد القربة ، ثمّ صادفت الواقع ، وذلک بعد أن حصلت منها قصد القربة ، فحینئذٍ لا وجه للحکم بعدم الصحّة ، إلاّ علی القول بشرطیّة صحّة الاستبراء ، کما ذهب إلیه البعض .

وأمّا من جهة الأخبار : فقد عرفت دلالة صحیحة ابن مسلم علی الوجوب لأجل الأمر الوارد فیها بلزوم ادخال القطنة ، الظاهر فی الوجوب ، بل ظاهر اطلاقه یشمل حتّی مع العلم بطهارة الباطن ، حیث لم یقیّد بقید حیث قال علیه السلام : «إذا أرادت الحائض الغسل ، فلتُدخل القطنة) ، لکنّهم حملوها علی ما إذا لم تعلم ، لاستظهارهم منها بکونه لأجل تحصیل الإطمئنان بالطهر ، وإلاّ مع العلم

ص:9

بوجود الدم أو بعدمه ، فلا وجه للاستظهار والتفحّص ، إلاّ علی القول بوجوبه تعبّداً ، لما بعد العشرة ، حتّی مع وجود الدم ، فضلاً عن الشکّ فیه ، وهو بعید جدّاً ، کما لا یخفی ، لأنّه لیس بحیض قطعاً .

وأمّا مرسلة یونس ، عمّن حدّثه ، عن أبی عبد اللّه علیه السلام ، قال: «سئل عن امرأة انقطع عنها الدم فلا تدری أطهرت أم لا؟ قال: تقوم قائماً ، وتلزم بطنها بحائظ ، وتستدخل قطنة بیضاء ، وترفع رجلها الیمنی ، فإن خرج علی رأس القطنة مثل رأس الذباب دمٌ عبیط ، لم تطهر ، وان لم یخرج فقد طهرت ، تغتسل وتصلّی»(1) .

وروایة شرحبیل الکندی ، عن أبی عبد اللّه علیه السلام ، قال: «قلت له : کیف تعرف الطامث طهرها؟ قال: تعمد برجلها الیسری علی الحائط ، وتستدخل الکرسف بیدها الیمنی ، فإن کان ثمّ مثل رأس الذباب خرج علی الکرسف»(2) .

وروایة موثقة سماعة ، عن أبی عبد اللّه علیه السلام ، قال: «قلت له : المرأة تری الطهر وتری الصفرة ، أو الشیء ، فلا تدری أطهرت أم لا؟ قال: فإذا کان کذلک ، فلتقم فلتلصق بطنها إلی حائط ، وترفع رجلها علی حائط ، کما رأیت الکلب یصنع إذا أراد أن یبول ، ثمّ تستدخل الکرسف ، فإذا کان ثمّة دم مثل رأس الذباب ، خرج فإن خرج دمٌ فلم تطهر ، وإنْ لم یخرج فقد طهرت»(3) .

والروایة المرویة فی «فقه الرضا» : «وإذا رأت الصفرة أو شیئاً من الدم ، فعلیها أن تلصق بطنها بالحائط ، وترفع رجلها الیسری کما تری الکلب إذا بال ، وتدخل قطنة ، فان خرج فیها دمٌ فهی حائض ، وإنْ لم یخرج فلیست بحائض»(4) .


1- وسائل الشیعة: الباب 17 من أبواب الحیض، الحدیث 2 .
2- وسائل الشیعة: الباب 17 من أبواب الحیض، الحدیث 3 .
3- وسائل الشیعة: الباب 17 من أبواب الحیض، الحدیث 4 .
4- المستدرک: الباب 15 من أبواب الحیض ، الحدیث 1 .

ص:10

فهل تدلّ هذه الأخبار علی الوجوب ، حتّی بالنسبة إلی صحیحة محمد بن مسلم أم لا؟

إنّ ذلک لا یخلو عن اشکال ، لأنّه قد صرّح الشیخ الأعظم فی کتاب «الطهارة» بقوله : «بأنّ الانصاف _ لو لا فتوی الأصحاب بالوجوب _ کانت استفادته من هذه الأخبار مشکلة ، لأنّ لفظها مسوق لبیان وجوب ذلک عند ارادة الاغتسال ، فیحتمل الارشاد ، لئلاّ یظهر الدم فیلغوا الاغتسال ، ویحتمل الاشتراط شرعاً ، لأنّ الأصل بقاء الحیض ، وأمّا لتحصیل الجزم ببرائة الرحم تعبّداً ، وإنْ قلنا باصالة حدوث الدم فی الرحم» ، إنتهی کلامه .

وما ذکره الشیخ من دعوی کون الوجوب للارشاد ، حتّی لا یلغوا لاغتسال ، المستفاد من قوله علیه السلام : «إذا أرادت أن تغتسل» ، غیر بعیدٍ ، نظیر الأمر بالاستبراء للبول بالخرطات ، أو بالبول فی الجنب ، أو بالخرطات فقط للبول ، حیث أنّ الأمر بمثل هذه الأُمور صادرٌ للارشاد إلی ما لا یلزم إلی المکلّف بإعادة الغسل ، وأمثال ذلک .

إلاّ أنّه یحتمل کون الوجه فی ذهاب الأصحاب هنا إلی الوجوب النفسی فی ذلک ، هو ملاحظة وجود الأصل والاستصحاب الحاکم ببقاء الحیض ، الموجب للمنع عن اتیان الغسل ، وکون الشبهة فی المورد من الشبهات الموضوعیّة ، التی لا یجب فیها الفحص بالاجماع .

فبرغم ذلک قد حکم الشارع بالفحص ، فإنّه یستفاد منه کون المقصود هو افهام اهتمام الشارع بالموضوع فی المقام من هذه الناحیة ، حیث یلزم من ترک الفحص ، ترک العبادات التی تعدّ من الأُمور المهمّة عند الشارع ، ولا یرضی بترکها ، فلا یبعد حینئذ الالتزام بکون الوجوب هنا نفسیّاً لا أرشادیّاً محضاً .

ص:11

نعم ، یبقی الکلام فی أنّه علی القول بالوجوب النفسی ، هل هو نفسی تعبّدی محض ، أو نفسی شرطی؟

أی کان وجوبه لأجل الغسل لمن أراد اتیانه أم لا؟

الظاهر هو الثانی ، کما هو صریح ما فی الخبر بقوله : «إذا أرادت أن تغتسل فلتُدخل القطنة» ؛ ولکن لابد أن یعلم أنّه إذا فرضنا کون وجوبه شرطیّاً _ أی لا یجب الاستبراء إلاّ لأجل الغسل _ فإنّه لیس معناه کون الاستبراء لأجل فقد شرطه ، حتّی لو استبرئت بعد ذلک ، وعلمت کونها نقیّة قبل ذلک؛ لأنّه من الواضح أنّ معنی الوجوب الشرطی هو أعم من ذلک ، کما أنّه أیضاً لیس معنی صحّة الغسل _ فی فرض النسیان أو الغفلة عن وجوب الاستبراء _ جواز الاتیان بالغسل حتّی مع الانتباه ، لإمکان القول بعدم جواز الغسل حینئذ أیضاً ، لما قد عرفت من أنّ مقتضی الأصل والاستصحاب هو الحکم ببقاء الحیض ، حیث یحکم _ لو لا الاستبراء _ بحرمة العبادات علیها ومنها الغسل ، فإن قلنا بجریان الأصل والاستصحاب فی التدریجیّات _ مثل الدم الذی یخرج شیئاً فشیئاً _ ولم نقل بما ذهب إلیه الشیخ ، من کون الأصل فی مثلها عدم حدوث الزائد علی ما علم حدوثه ، وإلاّ مع جریان الأصل الثانی یوجب الحکم بصحّة الاغتسال ، حتّی مع ترک الاستبراء عامدا عالما .

لکنّه خلاف الظاهر المستفاد من هذه الأخبار ، حیث لم یجوز الاعتماد علی مثل هذا الأصل فی ترک الاستبراء ، والاتیان بالغسل ، فی حال العلم والانتباه ، کما لا یخفی .

وممّا ذکرنا یظهر أنّ ما ذکره الشیخ قدس سره من احتمال کون الأمر هنا للارشاد ، إن

ص:12

کان یقصد به ارشادیا محضا بحیث کان الاتیان بالغسل بلا استبراء جائزاً _ کما هو الحال فی باب استبراء الجنب ، والمحدث بالحدث الأصغر _ فهو ممّا لا یمکن المساعدة علیه ، بل لا یمکن أن یکون مقصوده ، لأنّه قد صرّح بنفسه _ علی ما حُکی عنه _ أنّه لا یجوز الاتیان بالغُسل ، مع ترک الاستبراء فی حال العلم والاختیار .

وإنْ قصد من الارشاد بما لا ینافی مع الشرطیّة فی الوجوب ، فلا داعی لنا ان نسمّیه إرشادیا ، بل یقال إنّه واجب نفسی شرطی .

ولعلّه حینئذ یوافق مع ما ذهب إلیه الأصحاب من الوجوب النفسی ، لاستبعاد أن یکون مرادهم من الوجوب النفسی علی نحوٍ یوجب بطلان الغُسل ، لو ترک الاستبراء حتّی نسیاناً أو غفلة ، کما أشار إلیه صاحب «الجواهر» قدس سره بقوله: «إذ احتمال الشرطیّة التعبدیّة حتّی بالنسبة إلی ذلک بعیدٌ جدّاً» .

ثمّ علی القول بالوجوب فی الاستبراء _ بأیّ وجه کان _ هل یجب الاستبراء بأیّ کیفیّة تمکنت المرأة منها ، أم لابدّ من الاتیان بکفیّة خاصّة ، کما هی واردة فی الاخبار المتعدّدة؟

والذی یظهر من صاحب «الجواهر» وصاحب «مصباح الهدی» والهمدانی وغیرهم ، هو الأوّل ، کما هو المشهور ، أخذا باطلاق صحیحة محمّد بن مسلم المتقدّمة ، خلافاً لما عساه یظهر من المنقول عن «المقنع» من الفتوی بمضمون خبر سماعة ، مع زیادة تقیید الرِجْل بالیسری ، بل وکذا ما یظهر من «الفقیه» علی ما فی «الجواهر» ، من الجمع بین الأخبار ، بحمل الصحیح الأوّل علی ما إذا لم تر صفرة ، وما فی خبر سماعة ، من الکیفیّة المخصوصة علی ما إذا رأت الصفرة .

ولکن الأُولی کما فی «الجواهر» وغیره ، حمل هذه الأخبار علی الاستحباب

ص:13

والفضیلة ، وزیادة الاستظهار ، حیث تتأکّد إذا رأت صفرة ونحوها ممّا تحصل به الریبة للمرأة .

ولعلّ الوجه فیه أنّ ذکر الاطلاق فی صحیحة محمّد بن مسلم _ مع کونه فی مقام بیان الحکم _ وظهور بیان مثل هذه الأُمور فی الکیفیّة للمستهل فی ادخال الکرسف ، _ خصوصاً مع ملاحظة وجود الاختلاف فی الروایات فی الرجل ، من الیسری أو الیمنی ، فی خبر الکندی ، وفقه الرضا للأُولی ، وفی خبر یونس للثانیة ، والاطلاق بلا تقیید بالیسری أو الیمنی فی روایة سماعة _ أوجب ذهاب المعظم إلی الحمل علی أفضل الأفراد ، خصوصاً مع ملاحظة کون الدلیلین مثبتین ، حیث یمکن العمل بهما جمیعا من حملهما علی الاستحباب ، کما هو الأمر فی کثیر من موارد الجمع بین الخبرین المتعارضین المثبتین .

فیقال إنّ الکیفیّة الخاصّة المذکورة فی النصوص ، تعدّ أفضل الافراد ، فالعمل علی أی نحوٍ أتّفق کان مجزیاً ، وهو المطلوب .

ثمّ یأتی الکلام فی أنّه إذا قلنا بوجوب الاستبراء _ وکونه شرطاً لصحّة الغسل أو لم نقل بذلک _ فهل تسقط هذه الشرطیّة أو الوجوب عند التعذّر ، کما فی المرأة العمیاء إذا فقدت من یرشدها ویعلمها حقیقة الاستبراء .

فی أحکام الحیض / لو خرجت القطنة عند الاستبراء نقیّة

ففی «الجواهر» : «وجهان ، ویحتمل ایجاب الغسل علیها ، ثمّ العبادة احتیاطاً ، حتّی تقطع بحصول النقاء فتعید الغُسل ، فتأمّل جیّداً» إنتهی کلامه(1) .

ولکن الأقوی أن یقال : أنّه حسب مقتضی القواعد ، إنْ کانت لها قرائن وشواهد باطنیّة ، توجب لها حصول الظنّ بقطع الدم أو کانت عادتها سابقة علی


1- جواهر الکلام: 3 ، 191 .

ص:14

قطع الدم فی ذلک الزمان ، مع کونها بصیرة بتحقق الاستبراء ، فعرض لها العمل بعد بذلک أو نحو ذلک ، فوظیفتها حینئذٍ هو العمل علی طبق ظنّها ، وإلاّ تعمل بمقتضی ما نصّ علیه فی «الجواهر» من الاتیان بالغُسل والعبادة ، وترک تروک الحائض احتیاطا ، إلی أن یحصل لها القطع ، فان کان عملها مطابقاً للواقع ، فغُسلها صحیح ، لما قد عرفت أنّ اتیانه قد وقع بقصد القربة ، أمّا عدم احرازها شرطیّة الاستبراء حتّی فی المورد ، خصوصاً مع الشکّ فی کونه شرطاً فالأصل عدمه ، وإن کان الاحتیاط یقضتی إعادة الغُسل مع الاستبراء ان امکن ، کذا الاحتیاط بأتیان العبادات .

وان ظهر لها الخلاف ، أی استبرئت _ ولو بمعونة أحدٍ _ فوجدت الدم ، فلا إشکال حینئذ فی وجوب إعادة الغُسل ، حتّی ولو کان قد مضت العشرة وتجاوزتها ، لأنّه قد انکشفت لها بطلان غُسلها ، وکونه واقعاً فی أیام طمثها ، واللّه العالم .

هذا تمام الکلام فی هذا المقام .

قال المصنّف: إذا کان الانقطاع قبل العشرة فإنّه یجب الاستبراءبادخال القطنة.

ثمّ قال بعده : فان خرجت نقیّة اغتسلت ، أی إذا لم تکون متلطّخة بالدم أو الصفرة ، فیجب علیها الغُسل وجوباً ، کما ادّعی ذلک فی صریح «المدارک» وظاهر غیره ، مضافاً إلی دلالة صحیحة محمّد بن مسلم علیه ، من قوله علیه السلام : «وإنْ لم تر شیئاً فلتغتسل» .

ومرسلة یونس المتقدّمة من قوله علیه السلام : «وإنْ لم یخرج فقد طهرت ، تغتسل وتصلّی» . فإنّ هذه الأدلّة تفید لزوم اتیان المشروط بالطهارة علیها من الصلاة والطواف والصوم ، فلا استظهار هنا حتّی تصبر إلی انقضاء العشرة .

هذا ، فیما إذا علمت بعدم العود قبل العشرة ، فإن الحکم ثابت ولا ریب فیه ،

ص:15

فلا یکتفی بما یظهر من «السرائر» من وجود القائل علی الاستظهار ، أو ما یتوهم من الجملة الواردة فی کلام الشهیدین فی «المختلف» ، وذلک لما قد عرفت من تمامیّة الأدلّة علی الحکم ، وعدم لزوم الاستظهار هنا .

نعم ، قد یمکن أن یکون مرادهم غیر ما فرضناه ، مثل ما لو احتمل عوده أو الظنّ به ، فالمعروف أنّه أیضاً کذلک ، کما علیه السیّد فی «العروة» ، بل هو صریح صاحب «الجواهر» ، حیث قال : «مع أنّ الأقوی خلافه ، حتّی فی الظنّ فضلاً عن الاحتمال» .

ولعلّ هو هذا هو مراد صاحب «السرائر» ، وما توهّمه الشهیدین رحمه الله فی عبارة «المختلف» ، کما استظهره الآملی فی «مصباحه» هنا .

ولکن عن «کشف اللثام» منع دلالة عبارة «المختلف» علی ذلک ، ونسب القول بذلک إلیه من الوهم .

وکیف کان ، ففی الظنّ بالعود أیضاً ، المعروف بین الأصحاب هو ما عرفت ، خلافاً للمحکی عن الشهید الأوّل فی «الدروس» ، حیث حکم بالاستظهار ، والدلیل الذی أقامه المعروف ، هو اطلاقات الأدلّة ، الشاملة لصورتی الاحتمال والظنّ بالعود ، ولم یظهر لما اختاره الشهید وجه فی الباب ، ولعلّه أراد دعوی انصراف اطلاق الأدلّة عن ذلک المورد ، فاثباته لا یخلو عن تکلّف .

نعم ، لو کان ظنّها بالعود ناشئاً عن اعتیاده ، فالمحکی عن «المدارک» و«الذخیرة» و«المفاتیح» ثبوت الاستظهار ، واستدلّوا له باطراد العادة ، واستلزام وجوب الغُسل الحرج والضرر .

ومال إلیه فی «الجواهر» فیما إذا کان الاعتیاد موجباً للاطمئنان ، حیث قال :

ص:16

«إلاّ أن یکون لها اعتیادٌ فی هذا النقاء المتخلّل ، بحیث تطمئن نفسها بعود الحیض ، فان تکلیفها بالغُسل حینئذ مع ذلک ، لا یخلو عن تأمّل ومنع ، للشکّ فی شمول الأدلّة لمثلها» .

بل قد یستدلّ له أیضاً باصالة بقاء الحیض ، إنْ قلنا بجریانها فی التدریجیّات ، کما مرّ بحثه .

ولکن الأقوی عندنا هو العمل بما علیه المشهور ، ولو فی الظنّ الناشی ء عن الاعتیاد ، إلاّ أن یرجع اطمئنانها إلی العلم بالعود ، فحکمه _ علی ما هو المختار _ هو الحکم بالحیضیّة فی أیام النقاء ، بترک تروک الحائض فقط ، وإنْ اختار الاحتیاط فیه مثل السیّد فی «العروة» فی المسألة الخامسة والعشرون من أحکام الحیض .

ووجه ذلک ، هو عدم تمامیّة ما استدلّوا علیه ، أمّا اطراد العادة ، فهو موجب للظنّ بالعود ، لا اثبات حکم العود قبل تحقّقه .

وأمّا الحَرَج والضرر ، فهما یعدان أمرا شخصیا یثبت حکمهما فی کلّ مورد بحسبه ، ولا یرتبط بالمقام .

مع أنّه لا یوجب رفع الحکم إلاّ فی خصوص موردهما لا مطلقا ، حتّی فیما لا یلزم منها حدوثهما .

مع أنّه علی فرض ثبوتهما ، فإنّهما یرفعان الحکم عن الغُسل ویوجبان العدول عنه إلی التیمّم ، لا الاستظهار بترک العبادة ، کما هو المدّعی .

کما أنّه لا وجه للرجوع إلی اصالة بقاء الحیض ، لأنّه إنّما یصحّ الرجوع إلیها عند فقد الأدلة الاجتهادیّة ، فإذا قلنا بوجود الاطلاقات ، وشمولها للمورد ، حتّی مع الظنّ ، فلا وقع للرجوع الی الأُصول ، کما لا یخفی .

ص:17

وإنْ کانت متلطّخة ، صبرت المبتدأة حتّی تنقی ، أو تمضی عشرة أیام (1).

(1) اعلم أنّ وجوب الاستظهار ثابت لمن خرجت منها القطنة متلطّخة بالدم ، ولو بمثل رأس الذباب _ کما فی الأخبار _ أو بالصفرة علی الأقوی ، وهو الظاهر کما فی «الجواهر» تبعاً عن «الروض» وغیره ، بل وهو المنقول عن صریح سلاّر ، بل قد یدّعّی کون الصفرة مراد من عبّر بالدم أیضاً .

وهذا الحکم ممّا قد یدّع علیه الإجماع من البسیط والمرکّب ، حیث تری أنّ صاحب «الریاض» قال بالنسبة إلی الأخبار الدالّة علی کون الصفرة بعد الحیض ، لسیت من الحیض :

فی أحکام الحیض / وجوب الاستظهار إذا استمرّ الدم

إن حمل تلک الاخبار علی الصفرة ، قبل تمامیّة أیام الحیض ، یکون مخالفاً للإجماع ، بسیطاً ومرکّباً ، إلاّ أن یحمل بعد أیام الحیض وأیام الاستظهار ، مضافاً إلی ما عرفت) .

وکذلک یدلّ علیه الأخبار ، وکذا الاستصحاب فی أحکام الحائض ، وکذلک قاعدة الإمکان إنْ قلنا بها ، فلا بأس هنا بذکر الأخبار المشتملة علی ذلک وهی :

منها : ما رواه الکلینی باسناده الصحیح ، عن سعید بن یسار ، قال : «سألت أبا عبد اللّه علیه السلام عن المرأة تحیض ، ثمّ تطهر ، وربّما رأت بعد ذلک الشیء من الدم الرقیق ، بعد اغتسالها من طهرها؟ فقال: تستظهر بعد أیامها (بیومٍ کما فی «الاستبصار») بیومین أو ثلاثة ، ثمّ تُصلّی»(1) .

فإنّ اطلاق رؤیة الشیء من الدم بعد الاغتسال ، یشمل ما لو استبرئت وخرجت القطنة نقیّة ، واغتسلت ، ثمّ ظهر الخلاف .


1- وسائل الشیعة: الباب 13 من أبواب الحیض، الحدیث 8 .

ص:18

کما یشمل ما لو لم تستبرء واغتسلت ، ثمّ رأت ذلک .

کما یشمل ما لو أدخلت القطنة بعد الغُسل ، ورأتها متلطّخة بالدم ، لصحّة اطلاق الرؤیة علیه أیضاً ، وإنْ کان ظهوره الخبر أولاً فی خروج الدم بنفسه لا بالعلاج وادخال القطنة ، وکیف کان فإنّه یحکم بوجوب الاستظهار عند رؤیة الدم إلی الثلاثة ، کما عرفت .

منها : دلالة صحیحة محمّد بن مسلم من تعلیق الاغتسال لا علی عدم رؤیة شیء ، حیث ورد فیها قوله علیه السلام : «قال : وان لم تر شیئاً فلتغتسل»(1) .

لا یقال : إنّه ینافی ما ورد فی ذیلها من قوله علیه السلام : «وإن رأت بعد ذلک فلتتوضّأ ولتصلّ» .

لأنّا نقول : یمکن دفع توهّم المنافاة ، بحمله علی صورة علمها بعدم کونه حیضاً ، مثل ما لو رأت بعد مضیّ العشرة مثلاً؛ أو غیره .

لا یقال : هناک یوجد تنافٍ بین ما ورد فی صحیحة محمّد بن مسلم ، مع ما فی مرسلة یونس ، حیث قد علّق وجوب الغُسل علی عدم خروج الدم البسیط فی القطنة ، المستلزم بمفهومه وجوب الغُسل إذا أخرجت القطنة مع الصفرة أو الدم الرقیق ، حیث قال علیه السلام : «فان خرج علی رأس القطنة ، مثل رأس الذباب ، دمٌ عبیط ، فلم تطهر ، وإنْ لم یخرج فقد طهرت تغتسل وتصلّی»(2) .

حیث جمع بین خروج الدم الرقیق أو الصفرة .

لأنّا نقول : من امکان أن یکون ذکر هذا القسم من باب المثال ، کونه غالباً کذلک ، أو أُرید منه الأعمّ الشامل للصفرة والدم الرقیق ولو مجازاً ، أو یُحمل علی


1- وسائل الشیعة: الباب 17 من أبواب الحیض، الحدیث 1 .
2- وسائل الشیعة: الباب 17 من أبواب الحیض، الحدیث 2 .

ص:19

ما ذکرناه من جهة الجمع بینه وبین سائر الأخبار الدالة علی الاطلاق ، لما قد عرفت من تصریح صحیحة سعید بن یسار فی الدم الرقیق بالاستظهار ، والتفصیل بین الدم الرقیق والصفرة من وجوب الاستظهار فی الأوّل ، من دون أن یخالف الإجماع المرکّب ، لعدم القول بالفصل فی ذلک ، فلابدّ أمّا من الحمل علی وجوبه مطلقاً _ کما هو الأقوی _ أو علی عدم وجوبه مطلقاً _ فهو فی غایة الإشکال ، لو لم نقل کونه علی خلاف الإجماع _ مضافاً إلی عدم کون مرسلة یونس جامعاً لشرائط الحجیّة ، حیث لا یمکنها المقاومة والمعارضة مع روایة صحیحة ، کما لا یخفی .

فإذا عرفت هذه المقدّمة ، فی لزوم أصل الاستظهار فی الجملة ، فإنّه نصرف الکلام إلی المرأة التی تری الدم ، والذی قال عنه المنصّف رحمه الله : «صبرت حتّی تنقی أو تمضی عشرة ایام» .

هذا کما فی «القواعد» و«التحریر» و«الارشاد» و«المدارک» و«کشف اللثام» و«الریاض» ، وهو الظاهر من «السرائر» و«المعتبر» وغیرهما ، بل فی «المدارک» أنّه إجماع ، وفی «الدروس» أنّه ظاهر الأصحاب فی الدور الأُول .

والدلیل علیه _ مضافاً إلی الشهرة العظیمة ، بل الإجماع المنقول _ جریان قاعدة الإمکان _ إنْ اجریناها فی مثل المقام _ لاصالة عدم التجاوز عمّا یحکم علیها بالحیض .

وکذلک یدلّ علیه أخبار الصفات فی الجامع ، والحاق غیره إلیه بواسطة عدم القول بالفصل هنا .

وکذلک یدلّ علیه اخبار خاصّة واردة فی المقام ، وهی :

منها : ما رواه الشیخ باسناده الموثّق ، عن عبد اللّه بن بکیر ، عن أبی عبداللّه علیه السلام ، قال: «المرأة إذا رأت الدم فی أوّل حیضها ، فاستمرّ بها الدم ، ترکت

ص:20

الصلاة عشرة أیام»(1) .

منها : روایة أُخری مرویة عن ابن بکیر أیضا حیث قال : قال : فی الجاریة أوّل ما تحیض یدفع علیها الدم ، فتکون مستحاضة أنّها تنتظر بالصلاة ، فلا تُصلّی حتّی تمضی أکثر ما یکون من الحیض ، فإذا مضی ذلک وهو عشرة أیام ، فعلت ما تفعله المستحاضة ثمّ صلّت . . .»(2) الحدیث .

القسم الثانی : من کانت ملحقة بالمبتدأة ، وهی التی لم تستقرّ لها عادة فی العدد .

بل قد یفسّر المبتدأة بما یشمل لمثلها .

وهی أیضاً فی الحکم کالمبتدأة وتدخل تحت تلک الأخبار فی الجملة ، مع ما یمکن استفادته من موثقة سماعة بن مهران ، قال : «سألته عن الجاریة البکر أوّل ما تحیض ، فتقعد فی الشهر یومین ، وفی الشهر ثلاثة أیام ، یختلف علیها ، لا یکون طمثها فی الشهر عدّة أیام سواء؟ قال: فلها أن تجلس وتدع الصلاة ما دامت تری الدم ، ما لم تجز العشرة ، فإذا اتّفق الشهران عدّة ایام سواء ، فتلک أیامها»(3) .

حیث قد علّق حکم الجلوس عن الصلاة الی مضیّ عشرة أیام کالمبتدأة ، لمن اضطربت حالها فی أیام طمثها ، کما لا یخفی .

ثمّ أنّه هل الحکم المذکور ، من وجوب الاستظهار ، مختصّ بالمبتدأة فی الدور الأوّل فقط ، کما صرّح فی «الدروس» بأنّه ظاهر الأصحاب ، بل فی «الجواهر» قوله : إنّه یمکن استظهاره من أخبار المستحاضة أم لا؟

فقیل : إنّه قصد بالأخبار مرسلة عبد اللّه بن المغیرة ، عن أبی عبد اللّه علیه السلام ،


1- وسائل الشیعة: الباب 8 من أبواب الحیض، الحدیث 5 و 6 .
2- وسائل الشیعة: الباب 8 من أبواب الحیض، الحدیث 5 و 6 .
3- وسائل الشیعة: الباب 14 من أبواب الحیض، الحدیث 1 .

ص:21

وذات العادة تغتسل بعد یوم أو یومین من عادتها (1).

قال: «إذا کانت أیام المرأة عشرة ، لم تستظهر فإذا کانت أقلّ استظهرت»(1) .

مع أنّه لا یفهم منها کون ذلک فی الدور الأوّل ، بل هو کلّی تشمل غیرها أیضا إذا کان الدم فیها علی الوصف المزبور .

کما لا یستفاد ذلک من حدیث أبی داود ، عمّن أخبره ، عن أبی عبد اللّه علیه السلام ، قال : «سألته عن المرأة تحیض ، ثمّ یمضی وقت طهرها وهی تری الدم؟ قال فقال : تستظهر بیوم أن کان حیضها دون العشرة ایام ، فان استمرّ الدم فهی مستحاضة ، وإنْ انقطع الدم اغتسلت وصلّت»(2) .

اللّهمّ إلاّ أن یراد أنّه یسشعر من الاستمرار ، کونه من مرّة واحدة وفی الدور الأوّل ، وهو کما تری .

أو یشمل ولو کان فی الدور الثانی ، وهو الأُقوی ، لاطلاق الادلّة ، وجریان قاعدة الإمکان _ لو قلنا بها _ وجریان الاستصحاب ، کما عرفت .

هذا إن لم یصدق علیها العادة التی تصحّ الرجوع إلیها ، وجعلها طریقة وإمارة شرعیّة للحیض ، کما مضی تحقیقه .

فدعوی الاختصاص فی الدور الأوّل ، لا یخلو عن تأمّل .

(1) واعلم أنّ المعتادة بذات العادة العددیّة _ وقتیّة کانت أو لا _ إنْ علمت بأنّ عادتها عشرة بعدما رأت القطنة متلطّخة بعد خروج الدم منها ، فلا إشکال فی أنّ مثلها لیس علیها استظهار ، لأنّ أکثر أیام الحیض لیست إلاّ العشرة ، والمفروض أنّها تری الدم إلی العشرة ، فلا مجال للقول بالاستظهار ، لظهور حالها حینئذ من


1- وسائل الشیعة: الباب 13 من أبواب الحیض، الحدیث 2 _ 4 .
2- وسائل الشیعة: الباب 13 من أبواب الحیض، الحدیث 2 _ 4 .

ص:22

الحیضیّة فی العشرة ، ولزوم الغُسل علیها ، ثم فرض الاستحاضة لما بعدها .

هذا ، إذا لم تکن عادتها عشرة ، ولکن تعلم حالها فی مرحلة بذلک .

وهکذا الحکم أیضاً فی صورة أُخری ، وهی ما لو کانت عادتها عشرة کاملة ، فإنّها أیضاً لا استظهار لها ، بما عرفت وجهه آنفاً ، فإنّ علیها أن تغتسل عند النقاء بعد العادة ، وقبل تمام العشرة ، ولکن لو علمت من حالها أنّها لا تری الدم بعد ذلک ، فلا استظهار لها مع وجود العلم بالانقطاع ، فتغتسل وتأتی بالعبادات .

ففی هذه الصور الثلاث کان الحکم إجماعیّاً ، ولا خلاف فیه .

بل قد أُشیر الی بعض هذ الأقسام فی بعض الاخبار ، وهو کما فی مرسلة عبداللّه بن المغیرة ، عمّن أخبره عن أبی عبداللّه علیه السلام ، قال: «إذا کانت أیام المرأة عشرة لم تستظهر»(1) .

وفی روایة أخری مرویة عن عبداللّه بن بکیر قوله علیه السلام فی حدیثٍ : «وان کانت أیامها عشرة لم تستظهر»(2) .

ففی هذه الأقسام ، من رأت العادة ، حکمها واضح لا کلام فیه ولا إشکال .

والذی ینبغی أن یبحث فیه ، هو حکم المرأة المعتادة بذات العادة العددیّة _ وقتیّة کانت أم غیرها _ وهی التی لم ینقطع الدم فی أیام عادتها ، واستمر منها الدم وصارت القطنة متلطّخة ، وکانت المرأة تحتمل عدم انقطاع الدم إلی العشرة ، بل تحتمل التجاوز عنها أیضاً .

ففی مثلها لا إشکال فی لزوم تأخیر الغُسل عن أیام عادتها ، ولزوم الاستظهار علیها بترک العبادات ، وممّا یحرم فعله علی الحائض ، والأخبار بذلک مستفیضة ، بل متواترة ، بل الإجماع بکلا قسمیه _ من المحصّل والمنقول _ علیه ، بل قد


1- وسائل الشیعة: الباب 13 من أبواب الحیض، الحدیث 2 _ 11 .
2- وسائل الشیعة: الباب 13 من أبواب الحیض، الحدیث 2 _ 11 .

ص:23

عرفت دلالة خبر ابن مغیرة علیه ، حیث قد صرّح فیهما بمنطوقها ومفهومها علی لزوم الاستظهار فی أقل من العشرة ، حیث قال علیه السلام فی الروایة الأُولی : «فإذا کانت أقلّ استظهرت» .

إنّما الاشکال والکلام وقع فی مقامین:

المقام الأوّل: فی مقدار أیام الاستظهار ، هل هو بیوم أو یومین ، أو الثلاثة أو العشرة؟ ثمّ علی التعیین فی الأقسام ، هل کان الحکم فی التعیین بکل واحد منها ، أو التخییر بین الأربع ، أو التعیین فی الأوّل منها والتخییر فی البواقی ، أو التعیین فی الثانی منها والتخییر فی البقیّة ، أو التعیین فی الأخیر؟

وجوه وأقوال ، ومنشأئهما هو الاختلاف فی لسان الأخبار ، والنصوص الواردة فی المقام .

فی أحکام الحیض / أیّام الاستظهار و حکمها

المقام الثانی : فی بیان أنّه هل الحکم بلزوم الأخذ بأحدها وجوبی أو ندبی ، أو مباحٌ ، أو کان الاستظهار فی بعضها وجوبیا وفی الآخر ندبیّاً أو مباحا ، أو غیر ذلک من الوجوه المحتملات؟

فأمّا المقام الأوّل: فلنذکر الأخبار المشتملة علی بیان مقدار الاستظهار ، فان عددا منها مشتملة علی ذکر یوم واحد للاستظهار ، وتأخیر الغُسل وهی :

منها : ما رواه الکلینی باسناده ، عن إسحاق بن جریر ، قال: «سألتنی امرأة منّا أنْ ادخلها علی أبی عبداللّه علیه السلام ، فاستأذنت لها ، فإذن لها فدخلت . . .

إلی أن قال : فقالت له: ما تقول فی المرأة تحیض فتجوز أیام حیضها؟ قال: إنْ کان أیام حیضها دون عشرة أیام ، استظهرت بیوم واحد ، ثمّ هی مستحاضة . قال: فان الدم یستمر بها الشهر والشهرین والثلاثة ، کیف تصنع بالصلاة؟ قال: تجلس أیام حیضها ، ثمّ تغتسل لکلّ صلاتین»(1) .


1- وسائل الشیعة: الباب 3 من أبواب الحیض، الحدیث 3 .

ص:24

منها : مرسلة أبی داود مولی أبی المغرا ، عمّن أخبره ، عن أبی عبداللّه علیه السلام ، قال: «سألته عن المرأة تحیض ، ثمّ یمضی وقت طهرها وهی تری الدم؟ قال فقال : تستظهر بیوم أن کان حیضها دون العشرة أیام ، فإن استمرّ الدم ، فهی مستحاضة ، وان انقطع الدم اغتسلت وصلّت»(1) .

منها : روایة زرارة ، ومحمد بن مسلم ، عن أبی جعفر علیه السلام ، قال : «یجب للمستحاضة أن تنظر بعض نسائها ، فتقتدی باقرائها ، ثمّ تستظهر علی ذلک بیوم»(2) .

منها : موثقة مالک بن أعین قال: «سألت أبا جعفر علیه السلام عن النفساء یغشاها زوجها ، وهی فی نفاسها من الدم؟ قال: نعم ، إذا مضی منذ یوم وضعت بقدر أیام عدّة حیضها ، ثمّ تستظهر بیوم فلا باس ، بعد أن یغشاها زوجها ، یأمرها فتغتسل ، ثمّ یغشاها إنْ أحبّ»(3) .

وهذه الروایات الأربع قد قیّد الاستظهار فیها _ بعد أیام العادة _ بیوم واحد من الاحتیاط فی ترک العبادات .

قد یقال : بأنّها لا تعارض الأخبار المطلقة التی لم یذکر فیها المدّة للاستظهار أصلاً ، بل قد علّق الحکم فیها بالعشرة ، من حیث عدم الاستظهار ، وأمّا دون العشرة فإنّ الوارد فیها مطلق الاستظهار غیر مقیدة بالمدّة ، وهو مثل ما رواه الکلینی ، باسناده عن عبد اللّه بن المغیرة ، عمّن أخبره ، عن أبی عبد اللّه علیه السلام ، قال : «إذا کانت أیام المرأة عشرة لم تستظهر ، فإذا کانت أقلّ استظهرت»(4) .

منها : وما رواه الکلینی باسناده عن یونس بن یعقوب ، قال : «سمعت أبا عبداللّه علیه السلام یقول : تجلس النفساء أیام حیضها التی کانت تحیض ، ثمّ تستظهر ،


1- وسائل الشیعة: الباب 13 من أبواب الحیض، الحدیث 4 و 5 .
2- وسائل الشیعة: الباب 13 من أبواب الحیض، الحدیث 4 و 5 .
3- وسائل الشیعة: الباب 13 من أبواب الحیض، الحدیث 4 و 5 .
4- وسائل الشیعة: الباب 13 من أبواب الحیض، الحدیث 2 .

ص:25

وتغتسل وتصلّی»(1) .

فإنّه نقول : _ کما عن «مصباح الفقیه» _ بلزوم الجمع بین هاتین الطائفتین ، بتقیید أخبار المطلقات فی الاستظهار ، بالأخبار المقیّدة بقید یوم واحد ، فیکون مفادها حینئذ وجوب ترک العبادات بعد انقضاء العادة _ لیوم واحد _ احتیاطاً لإحتمال کونها حائض ، ثمّ هی بعد الیوم إذا ستمرّ بها الدم تعدّ مستحاضة .

والمراد من کونها مستحاضة ، کونها مستحاضة طاهر _ ولا تعتنی باحتمال أنْ ینقطع الدم قبل العشرة فیکون حیضاً ، لا أنّها مستحاضة واقعاً ، حتّی لو انقطع الدم قبل العشرة ، وإلاّ لیعارضها _ مضافاً إلی الإجماع والنصوص الدالّة علی أنّ ما تراه قبل العشرة فهو من الحیضة الأُولی _ جمیع الأخبار الآتیة الدالّة علی مشروعیّة الاستظهار بازید من یوم ، فلازم هذا القول هو وجوب الاستظهار ، وحرمة العبادات فی الیوم الواحد ، ومشروعیّة فعلها لما بعده ، أی وجوب العبادة لما بعد الیوم .ژ ولکن یعارضها لما بعد الیوم أیضاً أخبار کثیرة ، مختلفة اللسان ، فی عدد الأیام .

ففی عدّة منها ورد قیّد الاستظهار بیومین ، مثل مضمرة «الکافی» التی رواها الکلینی ، باسناده الصحیح عن زرارة ، قال: «قلت له النفساء متی تُصلّی؟ فقال: تقعد بقدر حیضها ، وتستظهر بیومین ، فان انقطع الدم ، وإلاّ اغتسلت واحتشت واستشفرت (واستذفرت) وصلّت . _ إلی أن قال : قلت : والحائض؟ قال: مثل ذلک سواء ، فان انقطع عنها الدم وإلاّ فهی مستحاضة ، تصنع مثل النفساء سواء ، ثمّ تُصلّی»(2) .


1- وسائل الشیعة: الباب 1 من أبواب النفاس، الحدیث 1 .
2- وسائل الشیعة: الباب 1 من أبواب الاستحاضة، الحدیث 5 .

ص:26

منها : ما رواه الکلینی باسناده عن زرارة ، عن أبی عبد اللّه علیه السلام ، قال: «تقعد النفساء أیامها التی کانت تقعد فی الحیض ، وتستظهر بیومین»(1) .

فان هاتین الروایتین کما تری ، صریحتان فی لزوم الاستظهار بیومین فی الحائض النفساء ، فلازمها جواز ترکها _ بل وجوب ترکها _ للعبادة إلی الیومین ، کما یدلّ علی جواز اتیان العبادة _ بل وجوبها _ لما بعد الیومین مع الاغتسال ، کما لا یخفی .

کما أنّ ظاهر هاتین الروایتین کالروایتین السابقتین علیهما ، هو التعیین فی الأمد من الیوم أو الیومین ، لا التخییر بینهما ، خلافاً لما یأتی فی بعض الأخبار من ذکر الیوم والیومین بصورة التمییز ، فانتظر لذلک .

وطائفة منها قیّد الاستظهار فیها بثلاثة أیام تعییناً لا تخییراً ، وهو مثل مضمرة سماعة ، فقد رواها الکلینی ، باسناده الموثّق إلی سماعة ، قال : «سألته عن المرأة تری الدم قبل وقت حیضها؟ فقال: إذا رأت الدم قبل وقت حیضها ، فلتدع الصلاة ، فإنّه ربّما تعجّل بها الوقت ، فإن کان أکثر من أیامها التی کانت تحیض فیهنّ ، فلتتربّص ثلاثة أیام بعدما تمضی أیامها ، فإذا تربّصت ثلاثة أیام ، ولم ینقطع الدم عنها ، فلتصنع کما تصنع المستحاضة»(2) .

ورواه الشیخ باسناده عن علیّ بن فهد ، عن الحسین بن سعید ، مثله .

منها : روایة مضمرة أخری رواها الکلینی وهی موثّقة سماعة ، قال : «سألته عن امرأة رأت الدم فی الحبل؟ قال: تعتدّ أیامها التی کانت تحیض ، فإذا زاد الدم علی الأیام التی کانت تعتدّ ، استظهرت بثلاثة أیام ، ثمّ هی مستحاضة»(3) .


1- وسائل الشیعة: الباب 3 من أبواب النفاس، الحدیث 5 .
2- وسائل الشیعة: الباب 13 من أبواب الحیض، الحدیث 1 .
3- وسائل الشیعة: الباب 13 من أبواب الحیض، الحدیث 10 .

ص:27

منها : روایة محمد بن عمرو بن سعید ، عن پأبی الحسین الرضا علیه السلام ، قال: «سألته عن الطامث وحدّ جلوسها؟ فقال: تنتظر عدّة ما کانت تحیض ، ثمّ تستظهر بثلاثة أیامٍ ، ثمّ هی مستحاضة»(1) .

وطائفة منها قیّد الاستظهار فیها بالعشرة ، مثل ما رواه الکلینی مرسلاً عن عبد اللّه بن المغیرة ، عن رجلٍ ، عن أبی عبد اللّه علیه السلام : «فی المرأة التی تری الدم ؟ فقال إن کان قرئها دون العشرة انتظرت العشرة ، وان کانت أیامها عشرة لم تستظهر»(2) .

ولم تذکر فی هذه الروایة مقدار الاستظهار فی الأوّل دون الثانی ، ولو کانت أیامها أزید من الثلاث .

منها : روایة یونس بن یقعوب ، قال: «قلت لأبی عبداللّه علیه السلام : امرأة رأت الدم فی حیضها ، حتّی تجاوز وقتها ، متی ینبغی لها أن تُصلّی؟ قال: تنظر عدّتها التی کانت تجلس ، ثمّ تستظهر بعشرة أیام ، فإن رأت الدم دماً صبیباً ، فلتغتسل فی وقت کلّ صلاة»(3).

ولعلّ منها : مرسلة أُخری لابن المغیرة ، قد ذکرناها فی بدایة البحث ، وجاء فیها قوله علیه السلام : «إذا کانت أیام المرأة عشرة لم تستظهر ، فإذا کانت أقلّ استظهرت»(4) .

ففی هذه الروایات قد جعل المدار فی الاستظهار وعدمه العشرة ، فصارت الأخبار إلی هنا أربعة طوائف ، حیث أنّ کلّ طائفة منها تعیّن حدّ الاستظهار من دون الإشارة إلی التخییر السنن .

بقی هنا الطائفة الخامسة : وهی التی یتبیّن حکم الاستظهار بالتخییر بین یوم


1- وسائل الشیعة: الباب 13 من أبواب الحیض، الحدیث 1.
2- وسائل الشیعة: الباب 13 من أبواب الحیض، الحدیث 2 .
3- وسائل الشیعة: الباب 13 من أبواب الحیض، الحدیث 2.
4- وسائل الشیعة: الباب 13 من أبواب الحیض، الحدیث 12 .

ص:28

أو یومین ، أو باضافة یوم ثالث ، فلا بأس بذکرها ، ومن ثم نعود إلی ملاحظة الجمع بین هذه الطوائف .

منها : ما رواه الکلینی باسناده الصحیح ، عن البزنطی ، عن أبی الحسن الرضا علیه السلام ، قال: «سألته عن الحائض کم تستظهر؟ فقال: تستظهر بیوم أو یومین أو ثلاثة»(1) .

منها : روایة سعید بن یسار ، قال: «سألت أبا عبد اللّه علیه السلام عن المرأة تحیض ، ثمّ تطهر ، وربّما رأت بعد ذلک الشی من الدم الرقیق بعد اغتسالها من طهرها؟ فقال: تستظهر بعد أیامها بیومین أو ثلاثة ثمّ تُصلّی»(2) .

منها : روایة حمران بن أعین ، فی حدیثٍ عن الباقر علیه السلام ، قال: «قلت: فما حدّ النفساء؟ قال: تقعد أیامها التی کانت تطمث فیهنّ ایام قرئها ، فإن هی طهرت ، وإلاّ استظهرت بیومین أو ثلاثة أیام ، ثمّ اغتسلت واحتشفت ، فإن کان انقطع الدم فقد طهرت ، وان لم ینقطع الدم فهی بمنزلة المستحاضة ، تغتسل لکلّ صلاتین وتُصلّی»(3) .

منها : روایة إسماعیل الجعفی ، عن أبی جعفر علیه السلام ، قال: «المستحاضة تعقد أیام قرئها ، ثمّ تحتاط بیوم أو یومین ، فإذا هی رأت طهرا (الطهر) اغتسلت . . .»(4) .

منها : روایة فضیل وزرارة ، عن أحدهما علیهم السلام ، قال: «المستحاضة تکفّ عن الصلاة أیام اقرائها ، وتحتاط بیوم أو اثنین ، ثمّ تغتسل کلّ یوم ولیلة ثلاثة مرّات . . .»(5) .

منها : روایة محمد بن مسلم ، عن أبی جعفر علیه السلام : «فی الحائض إذا رأت دماً


1- وسائل الشیعة: الباب 13 من أبواب الحیض، الحدیث 8 .
2- وسائل الشیعة: الباب 13 من أبواب الحیض، الحدیث 9 .
3- وسائل الشیعة: الباب 3 من أبواب النفاس، الحدیث 11 .
4- وسائل الشیعة: الباب 1 من أبواب الاستحاضة، الحدیث 10 _ 12 .
5- وسائل الشیعة: الباب 1 من أبواب الاستحاضة، الحدیث 10 _ 12 .

ص:29

بعد أیامها التی کانت تری الدم فیها ، فلتقعد عن الصلاة یوماً أو یومین . . .»(1) .

منها : روایة زرارة ، عن أبی جعفر علیه السلام ، قال: «المستحاضة تستظهر بیوم أو یومین»(2) .

منها : روایة أُخری لزرارة ، عن أبی جعفر علیه السلام ، قال: «سألته عن الطامث تقعد بعدد ایامها کیف تصنع؟ قال: تستظهر بیوم أو یومین ، ثمّ هی مستحاضة . . .»(3) .

هذه جملة ما وجدناه من النصوص فی الباب ، مع الاختلاف فی بیان کیفیّة الحکم لمن لم ینقطع الدم بعد مضیّ أیام قرئها ، وتحتمل التجاوز إلی العشرة ، کما تحتمل انقطاع قبل العشرة . والبحث الآن عن الاخبار التی یمکن العمل بها مع وجود مثل هذا الاختلاف بینها؟

أقول : لا یخفی علیک أنّ مقتضی الجمع بین الأخبار ، هو تقیید المطلقات الواردة فی الطائفة الأُولی ، حیث أفاد ظاهرها وجوب الاستظهار فی الأقلّ من العشرة ، وانحصار عدمه فی العشرة بالیوم الواحد بعد انقضاء أیام العادة ، عملاً بالأخبار الدالة علی لزوم الاستظهار بیوم واحد ، وکان بعضها صحیح السند والدلالة ، فیحکم بهذا التقیید ، بلا إشکال ولا معارض لها من حیث الاطلاق وأخبار التخییر کما سنشیر إلیه إنْ شاء اللّه تعالی .

بل الأخبار التی تعیّن الفترة لیومین أو ثلاثة ، لأنّها بالنسبة إلی الیوم الواحد غیر معارض ، لاشتمالها له أیضاً .

فالحکم بوجوب الاستظهار من حیث الحکم بالحیضیّة ، بالنسبة إلیه ، أمرٌ


1- وسائل الشیعة: الباب 13 من أبواب الحیض، الحدیث 13 ، 14 ، 15 .
2- وسائل الشیعة: الباب 13 من أبواب الحیض، الحدیث 13 ، 14 ، 15 .
3- وسائل الشیعة: الباب 13 من أبواب الحیض، الحدیث 13 ، 14 ، 15 .

ص:30

ثابت ولا معارض ولا مانع له ، کما أفتی بذلک کثیرٌ من المتأخّرین ، منهم صاحب «العروة» وأکثر أصحاب التعلیق .

فیبقی الکلام بالنسبة إلی سائر الأیام ، من الیومین أو الثلاثة أو أزید إلی العشرة ، فإنّ مقتضی لسان کلّ واحد منها ، بملاحظة النصّ الذی اشتمل حکمه ، _ مثل النصّ المشتمل علی الیوم الواحد ، بالنظر إلی الأخبار المطلقة الموجب للتقید ، وان کان یتفاوت معه بملاحظة مفهوم کلّ واحد منها _ حیث یقتضی نفی الآخر الشامل للیوم الواحد أیضاً ، هو أنّه یجب الاستظهار بالیومین مثلاً فلا یکتفی بالیوم الواحد .

إلاّ أنّه بملاحظة المنطوق مع المطلقات ، یکون مثل الیوم الواحد ، حیث یفهمنا وجوب الاستظهار للیومین ، وکدلک فی الثلاث أو أزید .

إلاّ أنّه مع ملاحظة الأخبار الدالّة علی التخییر بین الیومین أو الثلاثة ، حیث إذا لوحظ مع أخبار التعیین ، یفید جمعها القول بمشروعیّة الاستظهار إلی العشرة ، فیکون من حیث العمل مخیّراً بین تلک الأیّام بعد الیوم الواحد ، إذ من الواضح أنّه لا یمکن الالتزام بحرمة الاستظهار فی تلک الأیام ، مع وجود طائفتین من الأخبار دالتان علی التعیین أو التخییر فیها ، خاصة إذا لاحظنا وجود الصحاح فیها أو الخبر المنجبر بالشهرة التی تفید جواز الاستظهار إلی العشرة ، کما قد صرّح بذلک صاحب الجواهر قدس سره .

فالقول بوجوب الاستظهار فی یوم واحد بعد أیامها ، وجواز الاستظهار لما بعده إلی العشرة ، حسنٌ إنّ لم ینقطع الدم عنها ، حیث یحکم _ بحسب الظاهر _ أنّها مستحاضة ، فتعمل عمل المستحاضة ، وإنْ کان الأحوط هو العمل بالجمع بین تروک الحائض وعمل المستحاضة فی تلک الأیام .

نعم ، بقی هنا ملاحظة طائفة أُخری من الأخبار الدالّة علی المنع عن الاستظهار بعد انقضاء أیام العادة ، مثل روایة یونس الطویلة _ التی سننقلها لاحقا فی مبحث الاستحاضة _ حیث تدلّ بالصراحة بأنّ المستحاضة المعتادة لا وقت

ص:31

لها إلاّ أیامها ، وأنّ السُنّة فی وقتها أن تتحیّض أیام اقرائها .

منها: قوله علیه السلام فی المضطربة المأمورة بالتحیّض سبعاً : «ألا تری أنّ أیامها لو کانت أقلّ من سبع ، وکانت خمساً أو أقلّ من ذلک لما قال لها تحیضّی سبعاً ، فیکون قد أمرها بترک الصلاة أیاماً ، وهی مستحاضة غیر حائض کذلک ، ولو کان حیضها أکثر من سبع ، کانت أیامها عشراً أو أکثر ، لم یأمرها بالصلاة وهی حائض»(1) ، الحدیث .

منها : صحیحة معاویة بن عمّار ، عن أبی عبد اللّه علیه السلام ، قال: «المستحاضة تنظر أیامها ، فلا تُصلّی فیها ، ولا یقربها بعلها ، فإذا جازت أیامها ورأت الدم یثقب الکرسف ، اغتسلت للظهر والعصر»(2) .

منها : صحیحة أو موثّقة عبد اللّه بن سنان ، عن أبی عبد اللّه علیه السلام ، قال: «سمعته یقول : المرأة المستحاضة تغتسل التی لا تطهر عند صلاة الظهر . . . إلی أن قال : ولا بأس بأن یأتیها بعلها إذا شاء ، إلاّ أیام حیضها ، فیغتزلها زوجها»(3) .

منها : موثّقة سماعة ، قال : «سألت أبا عبد اللّه علیه السلام عن المستحاضة؟ قال : فقال : تصوم شهر رمضان إلاّ الأیام التی کانت تحیض فیها ، ثمّ تقضیها من بعده»(4) .

منها : روایة ابن أبی یعفور ، عن أبی عبد اللّه علیه السلام ، قال : «المستحاضة إذا مضت أیام اقرائها اغتسلت واحتشت کرسفها . . .»(5) .

منها : صحیحة زرارة ، عن أحدهما علیهم السلام ، قال: «النفساء تکفّ عن الصلاة


1- وسائل الشیعة: الباب 8 من أبواب الحیض ، الحدیث 3 .
2- وسائل الشیعة: الباب 1 من أبواب الاستحاضة، الحدیث 1 _ 4 .
3- وسائل الشیعة: الباب 1 من أبواب الاستحاضة، الحدیث 1 _ 4 .
4- وسائل الشیعة: الباب 2 من أبواب الاستحاضة، الحدیث 1 .
5- وسائل الشیعة: الباب 1 من أبواب الاستحاضة، الحدیث 13 .

ص:32

أیامها التی کانت تمکث فیها ، ثمّ تغتسل وتعمل کما تعمل المستحاضة»(1) .

هذه جملة الأخبار التی ذکر فیها المنع عن الاستظهار تصریحاً أو تلویحاً ، فکیف التوفیق فی الجمع بین هذه ، وبین ما تقدّم من الأخبار الدالّة علی لزوم الاستظهار فی الجملة إلی العشرة .

فلا بأس بذکر الوجوه التی ذکرها الفقهاء فی الجمع ، حتّی یتّضح لنا ما یصحّ أن یکون هو مختارنا فی المقام .

أقول : قد أتعب المحقّق الآملی نفسه فی «مصباحه» لذکر الوجوه ، وما یرد علیها ، فشکر اللّه مساعیّه الجلیلة ، وجزاه اللّه عنّا وعن الإسلام أحسن الجزاء ، فنحن نشیر إلیها بصورة الاختصار ، حیث قال :

الوجه الأوّل : هو حمل أخبار الاستظهار علی الاستحباب ، ونسب ذلک إلی المشهور _ کما أشار إلیه صاحب «الجواهر» _ ونسبه فی «المدارک» إلی عامّة المتأخّرین . وأورد علیه فی «الطهارة» (لعلّ مراده طهارة الشیخ الأعظم) بقوله ، أوّلاً : بأنّه ممّا یأبی عنه کثیر من الأخبار ، الظاهرة فی وجوب الاستظهار ، وتحریم بعضها مجامعة زوجها معها بعد عادة الحیض بیوم واحد ، کموثّقة مالک بن أعین المتقدّمة التی ورد فیها قوله علیه السلام : «إذا مضی له منذ یوم وضعت بقدر أیام حیضها ، ثمّ تنتظهر بیوم ، فلا بأس أن یغشاها إن أحبّ»(2) .

الدالّة بمفهومها علی تحریم المقاربة بعد عادة الحیض قبل الاستظهار بیوم .

وأجاب عنه المحقّق ، بقوله : قلت : مع وجود القرینة علی حمل أخبار الاستظهار علی الاستحباب ، لا بأس بحمل ما یدلّ بمفهومه علی ثبوت البأس


1- وسائل الشیعة: من الباب 3 من أبواب الاستحاضة، الحدیث 1 .
2- وسائل الشیعة: الباب 13 من ابواب الحیض، الحدیث 2 .

ص:33

فی المقاربة قبل الاستظهار علی الکراهة ، ولا تأبی له عن هذا الحمل _ کما لا یخفی _ کثیرٌ من الأخبار الظاهرة فی وجوب الاستظهار ، عن حملها علی الاستحباب ، والعمدة حینئذ فی قیام الشاهد علیه .

ولکن لا یخفی ما فی کلامه من الإشکال ، لأنّ الدلیل لیس منحصراً فی خصوص روایة مالک بن أعین ، حتّی یقال بما قیل ، بل قد ورد فی بعض الأخبار من لزوم الاستظهار بیوم واحد وهی ظاهرة _ بل لا یخلو عن صراحة _ فی کون الیوم الأوّل بعد العادة حیضاً ، مثل ما فی خبر إسحاق بن جریر ، حیث قال : «إن کان أیام حیضها دون عشرة أیام ، استظهرت بیوم ، ثمّ هی مستحاضة»(1) .

ومثله خبر أبی داود مولی أبی المغرا ، عمّن أخبره ، أنّه : «تستظهر بیوم إن کان حیظها دون العشرة أیام ، فان استمرّ الدم فهی مستحاضة»(2) .

حیث یدلّ بمفهومه کونها حیضاً فیما قبله ، فکیف یمکن الحکم باستحباب الاستظهار بما یصدق علیه الحیض .

ثمّ استشکل الشیخ ثانیاً : بأنّ هذا الحمل یستلزم الخروج عن ظاهر أخبار الطرفین من دون وجود شاهد علی ذلک ، حیث أنّ أخبار الاستظهار تدلّ علی وجوب ترک العبادة فی أیام الاستظهار ، وأخبار الاغتسال بعد العادة تدلّ علی وجوبها بعد العادة مباشرة ، وهذا الجمع یقتضی الترخیص فی ترکها فی أیام الاستظهار ، مع الترخیص فی فعلها علی ما هو مقتضی الحمل علی الاستحباب ، فیکون مخالفاً لظاهر الطرفین .

ثمّ اعترض علیه المحقّق المزبور ، بقوله : أقول : والعمدة فی هذا الایراد أیضاً


1- وسائل الشیعة: الباب 3 من أبواب الحیض، الحدیث 3 .
2- وسائل الشیعة: الباب 13 من أبواب الحیض، الحدیث 4 .

ص:34

هو دعوی عدم الشاهد علی هذا الجمع ، وإلاّ فمع وجود الشاهد فإنّه لا یأبی ظهور الطرفین عن الحمل علی خلافه ، إذ دلّ علیه الدلیل .

أقول : ولقد أجاد فیما أفاد واعترض ، ولکن قد عرفت أنّ العمدة فی الاشکال هو عدم إمکان حمل بعض أخبار الیوم الواحد علی الاستحباب ، وإلاّ لأمکن الالتزام بما هو نتیجة الجمع بین الأخبار ، کما لا یخفی .

ثمّ استشکل الشیخ ثالثاً : بأن حمل أخبار الاستظهار علی الاستحباب ، لیس بأولی من حمل أخبار الاغتسال بعد العادة علیه ، وتحمل أخبار الاستظهار علی الترخیص فیه .

هذا ، ولکن یرد علیه : بأنّه إنْ قلنا بوجوب الاستظهار فی یوم واحد ، فلا معنی حینئذ باستحباب الغُسل فی یوم الحیض ، لأنّ معنی وجوب الاستظهار حینئذ ، هو وجوب ترک العبادة ولحوقه بالحیض ، فلا یبقی مجالٌ لحمل أخبار الاستظهار علی الترخیص ، إذ لا یجتمع هذا مع الترخیص .

اللّهمّ إلاّ أن یقال بالترخیص فی خصوص الاغتسال ، لا فی سائر العبادات وهو کما تری .

ثمّ تعرّض المحقّق المزبور لکلام صاحب «رسالة الدماء» بقوله : ووجّه فی «رسالة الدماء» استحباب الاستظهار ، بالتوفیق بین الأخبار المثبتة الدالّة علی وجوب الاستظهار تعییناً ، بجمل الوجوب فی الطائفتین علی التخییری ، مع استظهار رجحان الاستظهار من أخباره ، بسبب أختلافها فی مقداره ، والتعبیر عنه بالاحتیاط الراجح عقلاً ونقلاً فی بعض من تلک الأخبار .

إلی أن قال : والتوفیق العرفی لا یحتاج إلی شاهد ، والتعبیر عنه فی بعض أخباره بالاحتیاط ، کاشفٌ عن رجحانه ، وأنّه أرجح العدلین .

ثمّ اعترض علی الاستحباب ، بأنّه یستلزم التخییر بین فعل الواجب وترک

ص:35

الواجب دون وجود البدل .

وأجاب عنه بأنّ متعلّق الاستحباب ، هو البناء علی التحیّض فی أیام الاستظهار ، فتصیر الصلاة والصوم حراماً علیها بعد البناء ، کما یصیر اتمام الصلاة والصوم واجباً علی المسافر ، بعد البناء علی الاقامة عشرة أیام ، انتهی .

وقد أعترض علیه المحقّق المزبور ، بما هو حاصله : أنّ المقام لیس ممّا لا یحتاج إلی الشاهد ، لما نری من تحیّر العرف فی تعارض الدلیلین ، الذین یدلّ کلّ واحد منها فی تعیّن الاستظهار وترک العبادة ، وتعیّن وجوب المبادرة إلی الاغتسال والعبادة ، فتحتاج فی حمل کلّ منهما علی الوجوب التخییری إلی شاهد یدلّ علی ذلک .

ثمّ أنّ الاختلاف فی أخبار الاستظهار فی مقداره ، إذ کان کاشفاً عن استحبابه ، فلا یبقی لها دلالة علی الوجوب حتّی یحمل علی التخییری .

ثمّ إنّ معنی الاستظهار لیس هو البناء علی الحیض بعد العادة ، بل هو احتیاط فی ترک العبادة ، حتّی تتبیّن حالها بکونها حائضاً أو أنّه هل یتجاوز دمها عن العشرة أو لا یتجاوز ولا مانع عن الأمر بترکها ، أی یجوز أن یکلّف الشارع المکلّف بالأخذ بأحد الاحتمالین معیّناً ، لکونه أهم بنظره ، وجواز ذلک شرعاً لا یدور مدار ترجیح أحد الاحتمالین بنظر المکلّف ، لامکان أن لا یکون ذلک أقوی عند الشارع ، کما کان الأمر کذلک علی حسب ما قرّرناه فی تأسیس الأصل ، بأن احتمال الحیض بعد العادة للأقرب کان أقوی من احتماله للأبعد ، وکلّما بُعد یقوی احتمال الاستحاضة علی احتمال الحیض .

إنتهی ملخص کلام المعترض(1) .


1- مصباح الهدی: 4 ، 503 _ 505 .

ص:36

أقول : الانصاف _ کما عرفت منّا _ عدم إمکان حمل أخبار الاستظهار بیوم علی الاستحباب ، ولعدم وجود معارض له بالصراحة ، لأنّ أخبار المنع عن الاستظهار لیس صریحاً فی ذلک ، بل الظاهر منها جواز الاغتسال بعد العادة بالاطلاق ، حیث یمکن تقییدها لما بعد الیوم ، بعد الحاق الیوم بالعادة حکماً ، بواسطة الأخبار الصریحة أو الظاهر ظهورا قویّا علی الوجوب الحکم بالحیض .

نعم ، یصحّ القول بذلک بالنسبة إلی غیر الیوم الواحد ، فإنّه لأجل ورود الأخبار بصورة التخییر مع استعمال أداة (أو) لا یبعد أنْ یحمل _ بمقتضی الجمع بین الطائفتین _ علی الاستحباب فی الاستظهار تخییراً ، لأجل رفع الید عن ظهور کلّ واحد منها فی التعیّن إلی التخییر ، أی بتحویل ظهور کلّ منها من الوجوب إلی الاستحباب ، وذلک لأجل المعارضة ، فینتج المطلوب من الحکم بوجوب الاستظهار فی الیوم الواحد والاستصحاب فی غیره إلی العشرة ، وإنْ کان القول بالاحتیاط بالجمع بین الوظیفتین أولی .

ثمّ بعد الاحاطة بما قرّرناه ، فإنّه من السهل الردّ علی سائر الوجوه المذکورة فی الجمع بین الطائفتین من الأخبار .

منها : ما ذکره المحقّق فی «المعتبر» من حمل أخبار الاستظهار علی الاباحة ، زعماً منه بکون الأمر بالاستظهار عقیب توهم الخطر یوجب حملها علی الاباحة .

بل قد استدلّ فی الأخیرة بعد اختیار ذلک ، بأنّة بعد لزوم رفع الید عن ظهور الأمر فی الوجوب لدلالة اخبار الاقتصار علی العادة ، لا یمکن حمله علی الاستحباب ، لأنّ استحباب ترک العبادة لا وجه له .

وفیه : ما ذکره من الحمل علی الإباحة ، لا یناسب مع صراحة أخبار الاستظهار بیوم واحد ، من تحریم المقاربة فیه ، ثمّ أنّه لا شاهد علی الخروج عنه وعن عدله ، فضلاً عن أنّه لا وجه لتقدیم حمل أخبار الاستظهار علی الاباحة ،

ص:37

دون أخبار الاغتسال .

هذا ، فضلاً عن الاختلاف فی المقدار ، للتردید فی أنّ الأمر عقیب توهّم الحظر هل یوجب الحکم بالاباحة ، أو غایته إجماله ، وعدم ظهوره فی الوجوب ، فلابدّ من الرجوع إلی ما یصلح للقرینة لأحد الطرفین؟

مضافاً إلی ما عرفت ، من رفع المنافاة بواسطة اثبات ظهور الأمر فی الوجوب فی أخبار الاستظهار بالنسبة إلی الیوم الأوّل ، والاستحباب التخییری بالنسبة إلی غیره ، لأجل وجود قرینة الحمل ، وهو التخییر فی لسان نفس الأخبار ، فلا یبقی وجه للحمل علی الاباحة ، بعد إمکان الجمع بینها بتفاوت المورد ، کما لا یخفی .

الوجه الثانی : ومنها ما ذکره صاحب «المدارک» واحتمله ، علی المحکی عن المحقّق المذکور ، حیث حمل أخبار الاستظهار علی ما إذا کان الدم بصفة الحیض ، وحمل أخبار الاغتسال بعد العادة ، علی ما لم یکن کذلک .

ولعلّه استفاد ذلک ممّا ورد من أنّ الصفرة بعد الحیض لیست من الحیض .

فیرد علیه بأنّ کلامه وإنْ وافق لسان بعض الأخبار التی وردت فی الصفات ، إلاّ أنّه لا یناسب مع لسان بعض آخر ، مثل حدیث سعید بن یسار ، عن الصادق علیه السلام : «عن المرأة تحیض ، ثمّ تطهر ، وربّما رأت بعد ذلک شیء من الدم الرقیق بعد اغتسالها من طهرها؟ فقال: تتطهّر بعد أیامها بومین أو ثلاثة أیام ، ثمّ تصلّی»(1) .

حیث قد أمر بالاستظهار عند خروج الدم الرقیق المتّصف بصفة الاستحاضة .

مضافاً إلی منافاة ما ذکره من الحمل ، مع ما فی مرسلة یونس القصیرة ، حیث قد جعل الصفرة والحمرة بعد أیام الحیض من الاستحاضة ، قال علیه السلام : «کلّما رأت


1- وسائل الشیعة: الباب 13 من أبواب الحیض، الحدیث 8 .

ص:38

المرأة أیام حیضها من صفرة أو حمرة ، فهو من الحیض ، وکلّما رأته بعد أیام حیضها ، فلیس من الحیض»(1) .

أی لیس من الحیض مطلقاً من الحمرة أو الصفرة ، بقرینة التقابل .

مضافاً إلی منافاة هذا الحمل مع أخبار التخییر بین الیومین أو الثلاثة ، کما ینافی مع أخبار الاستظهار بیوم واحد ، حیث أن تنافیه مع الأوّل کان بلحاظ أنّه لو کان بصفة الحیض فی الثلاثة ، فهو حیضٌ قطعاً ، بمقتضی الحمل ، لا تخییره بینهما وبین الیومین ، کما أنّ مقتضی الحمل أنّه علی فرض عدم کونه بصفة الحیض فی الیوم الواحد ، هو الحکم بالاستحاضة ، مع أنّ صراحة عدد من الاخبار کونه حیضاً تعییناً فی یوم واحد .

فما ذکره من الحمل مردودٌ من جهات عدیدة کما عرفت .

الوجه الثالث : هو الذی قد حُکی عن الوحید البهبهانی قدس سره ، ومال إلیه صاحب «الجواهر» ، علی ما نسبه إلیه المحقّق الآملی ، وارتضاه صاحب «الفقیه» ، وهو حمل الأخبار الدالّة علی عدم الاستظهار ، علی المرأة المستمرّة الدم المعبّر عنها بالمستحاضة ، وأخبار الاستظهار علی غیرها .

وقد استدلا علی هذا الوجه من الجمع بشهادة جملة من أخبار الطرفین علی ذلک ، فتختص اخبار الاقتصار علی العادة بالدورة الثانیة ، وأخبار الاستظهار بالدورة الأُولی .

ویرد علیه : مضافاً إلی منافاته مع کثیر من الأخبار الدالّة علی الاقتصار فی العادة بصورة المطلق ، لولا الظهور فی غیر المستمرّة ، مثل صحیحة زرارة الواردة فی النفساء ، وذیل مرسلة یونس الطویلة والقصیرة ، ومرسلة داود _ أنّه


1- وسائل الشیعة: الباب 4 من أبواب الحیض، الحدیث 3 .

ص:39

ینافی مع أخبار التخییر فی الاستظهار بین الیومین أو الثلاثة ، لأنّه إذا کانت مستمرّة الدم فهی حائض فی کلّ الثلاثة ، لا أن تکون مخیّرة بینهما وبین الیومین ، فتقیّدها بغیر المستمرّة یحتاج إلی شاهد ، وهو مفقودٌ کما لا یخفی .

بل قد یدّعی فی بعض أخبار التخییر الواردة بالاحتیاط ، کونها واردة فی مستمرّة الدم ، مثل روایة عبد الرحمن بن أبی عبد اللّه ، قال: «سألت أبا عبداللّه علیه السلام عن المستحاضة ، أیطأها زوجها ، وهل تطوف بالبیت؟ قال: تقعد قرؤها الذی تحیض فیه ، فإن کان قرؤها مستقیماً ، فلتأخذ به ، وإنْ کان فیه خلاف فلتحتط بیوم أو یومین . . .» الحدیث(1) .

وغیره من أخبار هذا الباب فی الجملة .

ووقفت علی حقیقة ما ناقشنا به کلام الوحید البهبهانی ، فإنّه من السهل حینئذٍ الإجابة عن الوجه الآخر المنسوب إلی «الحدائق» ، وهی :

الوجه الرابع : حمل أخبار الاستظهار علی من تتخلّف عادتها أحیاناً ، وأخبار الاقتصار علی العادة علی مستقیمة الحیض ، ولا منافاة بین کونها ذات عادة وبین من تتخلّف عادتها أحیاناً ، إذ المقصود اختلاف أیامها بالزیادة علیها أحیاناً ، بعد استقرار العادة علی عدد معیّن ، أو بالزیادة والنقیصة ، بناءً علی أنّ هذا لا یقدح فی بقاء العادة .

واستشهد لذلک بروایة عبد الرحمن بن أبی عبد اللّه ، المعروف بموثقة البصری ، لأنّ الأخبار الدالّة علی ذلک لیس منحصراً بخبر الموثّقة ، حتّی یجعل ذلک وجه الجمع للأخبار الکثیرة الواردة فی الاستظهار حتّی فی ذات العادة ، ومع ذلک حکم بالاحتیاط بیومین أو ثلاثة فلا یکون ذلک لخصوص من تتخلّف


1- وسائل الشیعة: الباب 1 من أبواب الاستحاضة، الحدیث 8 .

ص:40

عادتها ، هذا أوّلاً .

وثانیاً: یحتمل کون روایة موثّقة البصری فی صدد بیان القسمین من ذات العادة ، بقوله : إن کان قرؤها مستقیماً) ، ومن القسم الآخر هو غیر ذات العادة بقوله : «وإنْ کان فیه خلاف» ، لا تقسیم ذات العادة إلی المستقیمة وغیرها ، کما ذکره صاحب «الحدائق» ، فإذا جاء الإحتمال ، فإنّه یکفی فی المنع عن الاستدلال .

الوجه الخامس : ما ارتضاه الشیخ الأعظم فی «الطهارة» ، من حمل أخبار الاستظهار علی مراجعة الانقطاع ، وأخبار الاغتسال علی غیرها ، مستدلاًّ بما ورد فی بعض الأخبار من الاستظهار ، مثل قوله : فإنْ رأت طهراً ، أو انقطع الدم اغتسلت ، وان لم ینقطع فهی مستحاضة» .

وبما فی بعض الأخبار من التعبیر بالانتظار ، أو بالاحتیاط بدل الاستظهار ، الظاهر فی کون الدم حیضاً بسبب انقطاعه قبل العشرة .

وبأنّ الاستظهار عبارة عن طلب الظهور فی الحال ، بکون الدم حیضا أم لا ، ولا معنی لطلبه مع الیأس عن الانقطاع ، إذ مع العلم بالبقاء إلی ما بعد العشرة ، تعلم بأنّ ما فی العشرة _ بعد أیام العادة _ لیس حیضاً قطعاً .

هذا بالنسبة إلی أخبار الاستظهار .

وأمّا بالنسبة أخبار الاغتسال ، فإنّها واردة فی مورد المرأة التی تری الدم ، ثمّ یغلب علی ظنّها بعد حصول الطهر بالصبر یوماً أو یومین .

أقول : هذا الجمع حسنٌ بالنسبة إلی غیر الیوم الواحد من یومین أو ثلاثة إلی العشرة ، حیث یصحّ لزوم الاستظهار لمن ینتظر راجیا القطع ، حیث یحکم بحیضیّة جمیع الأیام ، إلاّ أنّه بالنسبة إلی الیوم الواحد بعد العادة ، لابدّ من أن یحکم بإلحاقه بالحیض ، والدلیل علی ذلک مضافاً إلی وجود الاستصحاب ، والأصل ، غلبة الالحاق فیه _ لکونه أقرب إلی ایام العادة _ ممّا یجعل احتمال

ص:41

الحیضیّة فیه أقوی من غیره هو دلالة ظهور الأخبار علی کون الاحتیاط فیه الزامیّاً .

هذا ، بخلاف غیره من سائر الأیام ، حیث یصیر احتمال بقاء الحیض ضعیفاً ، فیصحّ فیه حکم الاستظهار بالتخییر ، کما نصّ علیه فی بعض النصوص ، غایة الأمر إنْ انقطع قبل العشرة ، فیحکم بالحیضیّة لظاهر الشرع ، فتاتی المرأة بوظیفتها ، وإنْ لم ینقطع ، فتنکشف حیضیّتها لیوم واحد بعد العادة ، ویکون الباقی استحاضة ، وإنْ کان العمل بالوظفتین فی جمیع الأیام ، غیر الیوم الواحد ، أحسن وذلک عملاً بالاحتیاط ، کما أشار إلیه السیّد فی «العروة» وساعدناه فیه .

الوجه السادس : ما فی رسالة المحقّق الخراسانی قدس سره ، علی المحکی فی «مصباح الهدی» وقد مال إلیه واستقرّ علیه ، حیث قال أخیرا بعد نقل کلامه: وهذا الجمع عندی قریب لا بأس به .

قال الخراسانی : «إنّ أخبار الاستظهار بین ماهی ظاهرة فی اختصاصها بالدورة الأُولی ، عند تجاوز الدم عن العادة ، مع رجاء انقطاعه لدون العشرة ، علی ما استفاده الشیخ قدس سره ، وبین ما تدلّ بعمومها علی ذلک .

وأخبار الاغتسال أیضاً دائرة بین ما هی بظاهرها تدلّ علی الاغتسال ، بعد العادة فی الدورة الثانیة ، وبین ما تدلّ بعمومها علی ذلک ، ولا تعارض فی القسم الأوّل فی کلّ منهما ، کما لا یخفی ، وفی القسم الثانی من کلّ منهما _ أعنی ما تدلّ من أخبار الاستظهار بعمومها علی الاستظهار فی الدورة الأُولی ومن أخبار الاغتسال بعمومها علی الاغتسال فی الدورة الثانیة _ لا شبهة أنّ ما فی ظرف أخبار الاستظهار أظهر فی الدالالة علی الاستظهار فی الدورة الأُولی . وفی أخبار الاغتسال أظهر فی دلالة الاغتسال بعد العادة فی الدورة الثانیة ، فیرفع الید عن عموم کلّ واحد منهما ، باختصاص أخبار الاستظهار بالدورة الأُولی لأظهریّتها فی ذلک ، ورفع الید عن ظهورها بعمومها فی غیر الدورة الأُولی لأظهریّة أخبار

ص:42

الاغتسال فی غیر الدورة الأُولی ، فیرفع الید عن ظهورها بعمومها فی الدورة الأُولی» ، إنتهی(1) .

أقول: لا یخفی علیک أن کثیراً من الأخبار فی الطرفین خالٍ عن ذکر قید الدورة من الأُولی أو الثانیة ، بل المذکور فیها بیان حکم المرأة بعد أیام العادة ، فحمل کلّ واحد منهما علی ما هو الاظهر عرفاً ، ورفع الید عن الظاهر أمرٌ حسن ، ولکنّه لا یناسب مع ما هو المشتمل علی التخییر بین الیومین أو الثلاثة فی الاستظهار ، من حملها علی خصوص الاغتسال ، فإنّه لا یخلو عن بعد ، لأنّه خلاف ظاهر لفظ الاستظهار الذی قد استعمل فی الأخبار المتعلّقة بالاستظهار .

مضافاً إلی أنّه لو سلّمنا هذا التفصیل ، فإنّه لابدّ أن یکون فی غیر الواحد ، لما قد عرفت من أنّ أخباره آبیة عن التخصیص بمثل هذا لظهورها فی التعیین علیه وجوباً ، مع ما عرفت فیه .

اللّهمّ إلاّ أن یدّعی کون الجمع المذکور عرفیّاً ، وهو غیر معلوم ، کما لا یخفی .

الوجه السابع : هو ما ذکره صاحب «الجواهر» علی المحکی فی «مصباح الهدی» ، من حمل أخبار الاغتسال بعد انقضاء العادة علی ما عدا أیام الاستظهار ، وحمل أیام الحیض الواردة فی أخبار الاستظهار ، علی ما یعمّ أیام الاستظهار ، بجعل الأیام المحتملة کونها من الحیض بحسب الحکم الظاهری من أیام الحیض . إنتهی کلامه(2) .

أقول: إنّ هذا الجمع وإنْ کان یساعده استصحاب بقاء الحیض ، وقاعدة الإمکان _ لو قلنا بها _ فیکون حال تلک الأیام فی الاستظهار ، کحال أیام النقاء


1- مصباح الهدی: 4 ، 509 .
2- مصباح الهدی: 4 ، 509 .

ص:43

المتخلّلة فی أثناء العشرة ، حیث قد افتینا بکونها ملحقة بالحیض ، إلاّ أنّ هذا الإشکال واردٌ فی وجود کثیر من الأخبار الدالّة علی لزوم جعل الیوم الواحد من الحیض لا مطلقاً ، مع وجود أخبار أخری کثیرة ، من جعل غیر الیوم الواحد بعد العادة من الاستظهار بصورة التخییر بیومین أو ثلاثة ، حیث لا یناسب ذلک مع تعیین کونه حیضاً ، فلابدّ من ملاحظة حال هذه الأخبار بالجمع مع أخبار الاغتسال ، علی جواز الاستظهار ، وترک الاغتسال فی غیر الیوم الواحد .

وهذا هو الذی اخترناه ، وعلیه السیّد فی «العروة» ، وکثیر من أصحاب التعلیق . مضافاً إلی أنّ حمل أخبار الاغتسال علی بعد أیام الاستظهار ، قد یوافق مع کونه بعد العشرة ، ففی مثل ذلک لا إشکال فی کونه خارجاً عن أیام الحیض ، إذ لولا هذه الأخبار ، لکان الحکم کذلک ، لقیام الإجماع والأخبار المستفیضة _ بل المتواترة _ علی أنّ نهایة ایام الحیض لا تکون إلاّ عشرة ، مع أنّ أکثر أیام العادة وأغلبها فی النساء هو سبعة أیام ، فأیام الاستظهار بالثلاثة یخرجها عمّا یحکم بکونها حیضاً ، کما لا یخفی .

فهذا الجمع وإنْ کان فی الجملة أحسن ممّا تقدّم ذکره ، إلاّ أنّه لا یتّفق مع لسان بعض الأخبار ، کما أشرنا إلیه .

الوجه الثامن : وهو حمل أخبار الاغتسال بعد العادة ، علی التقیّة ، لموافقتها لمذهب الجمهور عدا مالک ، بناء علی أنّ حمل الأخبار علی التقیّة ، لا یتوقّف علی کون الخبر موافقا لقول جمیع متفقهة العامّة ، کما قد ذکر فی محلّه .

وجه ضعفه: أنّه علی فرض التسلیم لهذا البناء ، فإنّما یرجع إلی قاعدة اصالة الجهة ، وکونها محمولاً علی التقیّة أم لا ، إذا لم یمکن الجمع الدلالی بین الأخبار وأمّا إذا فرضنا إمکانه _ کما فی المقام _ فلا داعی لنا علی هذا الحمل ، کما لا یخفی .

أقول : المتحصل من جمیع ما ذکرنا ، هو الجمع بین الطائفتین من الأخبار ،

ص:44

بحمل أخبار الاستظهار علی الیوم الأوّل تعینیّاً والزاماً ، والحاقه بالحیض ، ویترتّب علیه آثاره من لزوم ترک ما یحرّم علی الحائض من العبادات وغیرها ، فی غیر الیوم الأوّل بصورة التخییر ، من تجویز الاستظهار بالیومین أو الثلاثة ، کما یجوز له ترک الاتیان بالاغتسال .

کما أنّه لا إشکال حینئذ فی أصل مشروعیّة الاستظهار إلی الثلاثة ، والعمل بالاحتیاط من الجمع بین الوظیفتین .

فیظهر ممّا ذکرنا ضعف احتمال حمل التردّد بیومین أو ثلاثة أو أزید إلی العشرة ، علی التردید بالنسبة إلی اختلاف خروج دم النساء من قوّة المزاج وضعفه ، وحرارته وبرده ، کما احتمله صاحب «الجواهر» ، لأنّه لا یناسب ذکر ذلک التردید بالنسبة إلی المرأة الواحدة ، التی ترید أن تعرف وظیفتها فتسأل حکمها من الإمام علیه السلام ، فلا یوجب ذکر التردید لمثلها إلاّ زیادة الحیرة والتردید لها ، کما لا یخفی لمن کان له درایة بتصرفات معاشر الناس فی مثل هذه المسائل العویصة التی کثر الابتلاء بها .

وهکذاصارت المسألة لذات العادة التی تستمر الدم عندها بعد العادة بیوم أو یومین أو ثلاثة واضحة، فلا حاجة إلی مزید بیان من حیث تدافع الأخبار والنصوص.

فالی هنا قد ظهر حکم المقامین:

المقام الأوّل: البحث عن تعیین الوجه من الوجوه المحتملة المذکورة.

والمقام الثانی: البحث عن جهة الحکم من حیث الوجوب والندب والاباحة.

وقد عرفت أنّ الأقوی عندنا کون الاستظهار بالنسبة إلی الیوم الأوّل وجوبیّاً ، وبالنسبة إلی غیره ندبیّاً ، وإنْ کان حسن الاحتیاط إلی العشرة لا یخلو عن وجه وجیه ، واللّه العالم .

هذا تمام الکلام بالنسبة إلی تدافع النصوص .

ص:45

بقی هنا بیان مقتضی الأصل والقواعد ، لو لم نقل بالجمع الذی المذکور ، إذا فرضنا بقاء التدافع والتعارض فی النصوص .

فنقول : لابدّ أن یلاحظ ذلک ، تارة: علی فرض کون العبادات محرّمة علی الحائض حرمة تشریعیّة .

وأُخری : هی محرمة علیها حرمة ذاتیّة .

فأمّا علی الأوّل : إنْ قلنا فی مثل المقام بوجود قاعدة الامکان ، أو استصحاب بقاء الحیض ، فلا إشکال حینئذ فی الحکم بکونه حائضاً ، وأنّه تحرّم علیها العبادات .

وأمّا إذا لم نقل بجریان قاعدة الإمکان _ کما عرفت الإشکال فیها فی محلّه _ ولم نقل بجریان الاستصحاب ، لأجل کونه من الأُمور التدریجیّة مثلاً ، ولم نلتزم بالجواب الذی ذکرناه فی محلّه ، فلازم الأصل حینئذ فی المقام بعد ذلک هو جریان اصل البرائة ، لأجل کونه شکّاً فی أصل التکلیف ، لأنّها کانت قبل ذلک متیقنة بترک العبادات ، والآن تشکّ فی کونها مکلّفة بإتیان العبادات أم لا؟ فالأصل هو البرائة عن أداء هذه العبادات .

لا یقال : إنّها قبل ذلک کانت مکلّفة بحرمة العبادات فعلیها أن تستصحب ذلک ، فیحکم حینئذ ببقاء ذلک ، فیترتّب علیها حکم الحیض .

لأنّا نقول : إنّه لو قصد من اجراء هذا الأصل فی حرمة العبادات ، الحکم بأنّها حائض ، فهذا یعدّ من الأُصول المثبتة ، لأنّ الحکم بذلک لیس إلاّ للعقل لا الشرع ، والأصل المثبت لیس بحجّة .

وإنْ أُرید اثبات حرمة العبادات علیها من دون اثبات حیضٍ ، فیرد علیه بأنّه إمّا تکون قاطعة بعدم وجودها فی حقّها _ مثل فترة النفاس التی تحرم علیها العبادات _ أو تعلم أنّه لیس فی الدین ما یحرّم علیها من العبادات ، دون الحیض الذی لم یثبت علیه بالأصل ، فلا محیص من أجراء البرائه ، کما لا یخفی علی المتأمّل .

ص:46

فان استمرّ إلی العاشر وانقطع ، قضت ما فعلته من صوم (1).

وأمّا علی الثانی : وهو القول بالحرمة الذاتیّة ، ففی مثل المقام یدور الأمر فی تلک الأیام بین المحذورین ، لأنّها تعلم إجمالاً بوجود أحد الأمرین ، من وجوب الاتیان بالعبادات أو ترکها ، فحینئذ یجب الأخذ بأقوی الاحتمالین أو المحتملین أن کان _ کما قیل بأنّ جانب الحرمة أقوی ، لأنّ دفع المفسدة أقوی من جلب المصلحة _.

وإن لم نقل بذلک ، وکان الاحتمال والحمل فیها علی التساوی _ بناء علی عدم قبول ما قیل ، کما حُقّق فی محلة _ فلابدّ حینئذ من القول بالتخییر بین بالفعل أو الترک . والأقوی کون هذا التخییر _ علی القول به _ تخییراً استمراریّاً ، فیکون المکلّف مخیّراً فی کلّ زمان بین الأخذ بأحدهما ، وإنْ استلزم مختاره فی زمان أمراً مخالفاً لما اختاره فی زمان آخر .

ولکن الذی لابدّ أن یتذکّر فی المقام ، هو أنّه کلّما امتد تجاوز الدم عن العادة ، یقوی احتمال کونه استحاضة ، ویضعف احتمال کونه حیضاً ، فالمتعیّن علی ما عرفت _ عند اقوائیّة احتمال التحیّض مثل الیوم الأوّل _ هو الحکم بکونه حیضاً ، ویقدّم هذا علی الآخر ، بعکس الأمر فی الیوم الثالث وبعده ، من البناء علی الطهارة ، لقوّة احتمالها علی آخر ، کما لا یخفی .

(1) بعدما عرفت من لزوم الاستظهار بیوم أو یومین أو أزید ، لزوماً أو ندباً أو اباحة ، علی حسب الأقوال ، فانه لا یخلو حال المرأة بالنسبة إلی استمرار الدم ، أمّا أن یستمر إلی یوم العاشر ، أو یکون أقلّ منه وینقطع ، فیکشف بقطعه کون مجموع هذه الأیام کان دم حیض و کانت هی حائض ، فتعلم أنّ ما أتی بها من الأعمال _ مثل الصوم _ کان فاسداً ، فتجب علیها قضائه ، واما صلاتها فی هذه الفترة فهی فاسدة ، فلا قضاء لها إذ لا صلاة فی فترة الحیض .

ص:47

وإنْ تجاوز ، کان ما أتت به مجزءاً (1).

ولا منافاة بین هذا الحکم _ أی حکمه بکونها حیضاً _ مع ما ورد فی الأخبار بأنّها بعد ما استظهرت بیوم أو یومین ، فهی مستحاضة ، لکون هذه الأخبار مسوّقة لبیان حالهاوتکلیفها فی مقام العمل ، لا أنّها مستحاضة حقیقیّة ، حتّی ینافی مع الحکم بکونها حائضاً بعد الانقطاع قبل العشرة ، بل وفیها أیضاً قبل أن یتجاوز عنها .

فی أحکام الحیض / حکم أعمالها أیّام الاستظهار

والحکم بکون تمام هذه الفترة حیضاً ، ممّا لا خلاف فیه ، کما عن صاحب «الجواهر» بقوله : لا خلاف أجد عندهم فی ذلک ، وبه صرّح المصنّف ، والعلاّمة والشهیدان والمحقّق الثانی وغیرهم .

بل قد یظهر من بعضهم دعوی الاجماع علیه ، کما هو صریح آخر .

ولکن مع ذلک کلّه نری توقّف صاحب «المدارک» فیه ، وتبعه بعض من تأخّر عنه ، کصاحب «المفاتیح» و«الحدائق» .

واعترف به فی «الریاض» مستدلاًّ بأنّه لا دلیل علی الحکم بکونها حیضاً ، بل ظاهر الأخبار الواردة فی الاستظهار ، الحکم باستحاضة ما بعدها ، حتّی لو انقطع علی العشرة .

ولکن قد عرفت الجواب عن هذه الأخبار ، وعدم وجود التنافی بین الأوّل بکونها حیضاً ، مع القول بکونها مستحاضة ظاهرة حتّی تنکشف حالها ، إذ المستفاد من الأخبار هو مجرد الاستظهار ، کما لا یخفی علی من راجع الأخبار وتأمّل فیها .

(1) أی لوتجاوز الدم العشرة تکون التکالیف الصادره منها، من الصلاة والصوم مجزءة، لأنّ بالتجاوز یکشف کون جمیع أیام الاستظهار مستحاضة ،

ص:48

والتکالیف علیها منجزة ، فلا وجه لاحتمال عدم الاجزاء والصحّة ، إلاّ من جهة عدم الجزم فی النیّة ، فی حال العبادة ، وهو غیر معتبر مطلقاً ، کما هو الأقوی عندنا ، وعند المتأخّرین ، أو لا أقل فی صورة التعذّر ، ومنه هذا المقام .

نعم ، علی القول بوجوب الاستظهار إلی العشرة ، بلزوم ترک الصلاة والصوم علیها ، فإنّها لم تأت بشیء ، حتی یکون مجزءاً ، کما صرّح به صاحب «الجواهر» ، حیث قال فی ذیل عبارة المصنّف ، بأنّ کان ما اتت به مجزءاً : وعلی المختار ، لا تأتی بشیء حتّی یکون مجزءاً .

وقال بعده : «علی کلّ حال ، فالظاهر أنّه یجب علیها قضاء ما ترکته فی أیام الاستظهار من الصلاة ، کما فی «المنتهی» و«الذکری» و«الدروس» و«البیان» و«جامع المقاصد» و«الروض» وغیرهم ، وهو المشهور نقلاً وتحصیلاً ، بل لعلّ لا خلاف فیه ، سوی ماعساه یظهر من المنقول عن العلاّمة فی «النهایة» ، حیث استشکل فی وجوب القضاء ، لمکان عدم وجوب الاداء ، بل حرمته بناءً علی وجوب الاستظهار ، ومن صاحب «المدارک» ، حیث توقف بل استظهر عدمه ، وتبعه بعض من تأخّر عنه ، لظهور أدلّة الاستظهار فی عدم وجوب قضاء ما فاتها فیه ، وأنّها کالحیض ، والیه مال الفاضل فی «الریاض»» .

ولکن الجواب یظهر بالتأمّل : إذ لا منافاة بین وجوب الاستظهار ، مع وجوب قضاء ما فات ، لأنّ وجوبه بذلک کان بحسب الظاهر من حیث الالحاق بالحیض ، أو بالاستحاضة ، ولا ینافی مع کونه فی الواقع ملحقأ بهما من الحیض _ لو انقطع قبل العشرة _ أو فیها ومن الاستحاضة لو تجاوز عنها .

بل ربّما یقال : إنّ وجوب الاستظهار لا ینافی مع الاتیان بالصلاة أو الصوم أحتیاطا ، حتّی تظهر لها ، لأنّ الاستظهار لیس معناه إلاّ ظهور حالها ، بانطباق أحد العنوانین ، فی استمرار الدم وتجاوزه ، وعدمه ، حیث أنّه إذا أتی بالعبادات ،

ص:49

الرابعة : إذا طَهُرت جاز لزوجها وطؤها قبل الغُسل ، علی کراهیّةٍ (1).

ثمّ انکشف تطابقه مع ما فعلت بکونها مستحاضة ، فکانت مجزئة ، ولا تحتاج إلی الاعادة والقضاء ، کما لا یخفی .

فلا نحتاج فی مثل ذلک إلی القول بأنّه لا أداء لها ، حتّی تجب علیها القضاء ، حتّی یجاب بما قد أجاب عنه صاحب «الجواهر قدس سره » ، بأنّ عدم وجوب الاداء أو حرمته ، لا یقتضی سقوط القضاء ، لکونه بفرض جدید .

لما قد عرفت من عدم المنافاة بین وجوب الاداء علیها ، مع وجوب الاستظهار ، فضلاً عن استحبابه أو اباحته ، کما لا یخفی .

وتوهم عدم وجوب القضاء علیها ، لأنّها کانت مأمورة بالترک فی تلک المدّة علی القول بوجوب الاستظهار ، فلا یستتبعها القضاء .

مندفعٌ ، بعد تسلیم عدم امکان الجمع بین وجوب الاداء ، ووجوب الاستظهار ، بمعنی الأمر بالترک .

اقول : برغم ذلک لا ینافی ذلک مع الحکم بوجوب القضاء ، لما تری مشابهته فیما إذا رأت الدم یوماً أو یومین فی ابتداء عادتها ، فترکت عباداتها ، ثمّ انقطع قبل الثلاث ، فإنّها تقیّدها جزماً ، کما فی روایة یونس المعلّلة بعدم کونها حائضا ، فمقتضی عموم هذه الروایة من حیث التعلیل استفادة الحکم أیضاً فی مرحلة الانتهاء ، کما فی المقام ، فتصیر هذه الروایة شاهدة للمطلوب ، واللّه العالم .

(1) البحث عن حکم الوط ء قبل الغُسل للمرأة التی کانت حائضاً _ حرّة کانت أو أمة _ ثمّ طهرت عن الحیض طهارة کاملة ، وأنّه هل یجوز لزوجها أو لسیّدها وطوئها قبل الغُسل أم لا یجوز له ذلک الاّ بعد الغُسل؟

یکون علی قولین : قولٌ: بالجواز مع الکراهة ، وهذا هو الذی أدّعی فیه

ص:50

صاحب «الجواهر» : «بلا خلافٍ متحقّق أجده ، بل علیه الإجماع فی «الخلاف» و«الانتصار» و«الغنیة» وظاهر «السرائر» و«التبیان» و«مجمع البیان» و«أحکام» الراوندی ، بل وأکثر المتأخّرین بل جمیعهم» .

وقول آخر : علی احتمالٍ للصدوق فی «الفقیه» و«الهدایة» و«المقنع» ، حیث قد نُسب المنع إلیه ، کما عن «المختلف»

ولکن حیث ذکر ذلک أوّل کلامه ، ثمّ ذکر بعده أنّه إنْ کان الزوج شبقاً أو مستعجلاً ، وأراد وطأها قبل الغُسل ، أمرها أن تغسل فرجها ، ثمّ له أن یجامعها .

قیل أن حکمه هذا یفید ارادة شدّة الکراهة ، إذ لا معنی بتجوز ذلک بمیل الزوج وشبقه ، إذا کان أصل العمل حراماً .

ولکن یحتمل انحصار الجواز عنده فی خصوص ذلک ، لما ورد فیه نصّ خاص ، وهو مثل ما ورد فی صحیحة محمد بن مسلم ، عن أبی جعفر علیه السلام : «فی المرأة ینقطع عنها الدم ، دم الحیض فی آخر أیامها؟ قال: إذا أصاب زوجها شبقٌ ، فلیأمرها فلتغسل فرجها ، ثمّ یمسّها إنْ شاء ، قبل أنْ تغتسل(1)» .

وروایة إسحاق بن عمّار ، قال: «سألت أبا إبراهیم علیه السلام عن رجلٍ یکون معه أهله فی السفر فلا یجد الماء ، یأتی أهله؟ فقال: ما أحبُّ أن یفعل ذلک ، إلاّ أن یکون شبقاً ، أو یخاف علی نفسه(2)» .

فی أحکام الحیض / حکم وطیها قبل الغسل إذا طهرت

فان الخبر أدل علی الکراهة منها علی الحرمة ، لاشتمالها علی ما یصلح للقرینیّة فی ذلک ، من قوله : «یمسّها إنْ شاء» . وکذا فی الروایة الثانیة من قوله علیه السلام : «ما أحبّ أن یفعل ذلک» .

فیتعیّن الحمل علی خفة الکراهة ، مع وجود الشبق أو الخوف أو افتتناها


1- وسائل الشیعة: الباب 27 من أبواب الحیض، الحدیث 1 و2 .
2- وسائل الشیعة: الباب 27 من أبواب الحیض، الحدیث 1 و2 .

ص:51

معهما ، أو مع أحدهما . فبناءً علی ذلک ، لا یصلح مثل هذین الخبرین لتقیید بعض المطلقات ، الذی سنذکره فی جواز الجماع مطلقاً ، أیّ بلا تقیید بأحد القیدین ، فلا بأس بذکر نصوصه وهی :

منها : مثل روایة ابن بکر ، عن أبی عبد اللّه علیه السلام ، قال : «إذا انقطع الدم ، ولم تغتسل ، فلیأتها عند ذلک زوجها إنْ شاء(1)» .

منها : روایة عبد اللّه بن المغیرة ، عمّن سمعه ، عن العبد الصالح علیه السلام : «فی المرأة إذا طهرت من الحیض ، ولم تمسّ الماء ، فلا یقع علیها زوجها حتّی تغتسل ، وإنْ فعل فلا بأس به» .

وقال تمسّ الماء أحبّ إلیّ(2)» .

مع عدم ندرة القائل بالتفصیل إلاّ عن الصدوق .

مضافاً إلی العموم والإطلاق الدالین علی إباحة الوطی فی الکتاب والسُنّة ، حیث قد خرج منها ما خرج _ وهو حالة الحیض والنفاس وغیرهما _ ممّا یدلّ الدلیل علی المنع .

بل لا یجوز الدقّة فی الآیة الواردة فی النهی عنه حال الحیض ، من قوله تعالی : «فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فی المَحِیْض»(3) ، عن الدلالة بکون الممنوع هو المسّ ، حال تلبّسها بهذه الصفة ، لا ما کانت باقیة علیها قبل الغُسل ، مع أنّ الأصل أیضاً یقتضی الجواز ، للشکّ فی التکلیف بالنسبة لما بعد قطع الدم .

ولا یجری هنا استصحاب بقاء المنع ، لأنّه تابعٌ لصدق موضوع الحیض ، وقد عرفت انتفائه بعد قطع الدم .


1- وسائل الشیعة: الباب 27 من أبواب الحیض، الحدیث 3 ، 4 .
2- وسائل الشیعة: الباب 27 من أبواب الحیض، الحدیث 3 ، 4 .
3- سورة البقرة: آیة 222 _ 223 .

ص:52

مع أنّ نفس التعلیق علی الشبق ، لا یخلو عن إشعار علی الکراهیّة .

فبعد وجود هذه الأدلّة ، مع الشهرة ، أو الإجماع احتمالاً ، لا یقاوم المعارضة مع هذه ، مثل ما فی موثقة أبی بصیر ، عن أبی عبد اللّه علیه السلام ، قال: «سألته عن امرأة کانت طامثاً ، فرأت الطهر ، أیقع علیها زوجها قبل أن تغتسل؟

قال: لا ، حتّی تغتسل .

قال: وسألته عن امرأة حاضت فی السفر ، ثمّ طهرت ، فلم تجد ماء یوماً وأثنین ، أیحلّ لزوجها أن یجامعها قبل أن تغتسل؟

قال: لا یصلح حتّی تغتسل» .

وروایة سعید بن یسار ، عن أبی عبد اللّه علیه السلام ، قال: «قلت له : المرأة تحرم علیها الصلاة ، ثمّ تطهر ، فتتوضّأ من غیر أن تغتسل ، أفلزوجها أن یأتیها قبل أن تغتسل؟ قال: لا ، حتّی تغتسل» .

حیث یدلّ ظاهرهما علی عدم الجواز .

ولکن لابدّ من ان یحمل أمّا علی النفی _ دون النهی _ لأنّه حینئذ هو الإباحة بالمعنی الأخصّ ، فکأنّه یحکی عنها أنّها لا تفعل ، ذلک حتّی تغتسل فلا ینافی فی الجواز المستفاد من الأخبار السابقة .

أو یحمل علی التقیّة ، لذهاب العامّة الی عدم الجواز ، وکون الرشد فی خلافهم . أو یحمل علی الکراهة ، بالتصرّف فی الهیئة ، جمعاً بینها وبین الأخبار السابقة ، کما قد یؤیّد دلک وجود قوله : «لا یصلح» فی خبر أبی بصیر ، المشعر بالکراهة ، حیث لا یطلق بمثلها إلاّ لذلک .

واحتمال کون المراد من الاغتسال ، هو غَسل فرجها ، کما قد أشار إلیه فی خبری صحیح ابن مسلم وإسحاق بن عمّار .

لا یخلو عن بُعد ، لندرة مجئ افتعال علی معنی الفعل .

ص:53

اللّهمّ إلاّ أنْ یحمل علیه علی خلاف الظاهر ، اللازم ارتکابه ، فله وجهٌ ، ولکن لو سلّمنا لزوم غَسل الفرج قبل الجماع ، ولکنّه أوّل الکلام ، کما لا یخفی .

ثمّ قد استدلّ لجواز الوط ء بعد الانقاء ، حتّی ولو لم تغتسل ، بمفهوم قوله تعالی: «وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ حَتّی یَطْهُرْنَ»(1) ، بتخفیف یَطْهُرنَ ، کما عن القرّاء السبعة(2) ، حیث أنّ ظاهر هذه القرائن ، هو النقاء من الحیض ، المؤیّد بما یشعر به لفظ (المحیض) فی السابق ، وعدم ثبوت الحقیقة الشرعیّة فی لفظ (الطهر) بالنسبة الی الکتاب ، بأن یکون المراد منه هو الطهارة الشرعیّة مثل الغُسل وغیره .

نعم ، قد یتوهّم معارضة هذا الاحتمال ، مع قراءة التشدید ، فی ذیل الآیة المذکورة ، حیث قال عزّ وجلّ: «فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَیْثُ أَمَرَکُمُ اللّه ُ»(3) .

بل وإمکان دعوی إرجاع قراءة التخفیف إلیها ، بأنّ المراد من الطهارة فی الآیة السابقة هو الاغتسال ، کما أُرید ذلک من آیة الجنابة ، فی قوله تعالی: «وَإِنْ کُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا»(4) ، حیث قد ورد الفعل بصورة باب تفعّل ، کما فی المقام کما لا یخفی خصوصاً ، بناءً علی ثبوت الحقیقة الشرعیّة .

ولکن یمکن الجواب عن ذلک أوّلاً: إذا فرضنا صحّة قراءة الآیة مخففةً ، وکون


1- سورة البقرة: آیة 222 .
2- القرّاء السبعة هم: حمزة بن حبیب الزیّات ، عاصم بن أبی النجود ، علی بن حمزة الکسائی (من الکوفة) ، أبو عمرو بن العلاء (من البصرة) ، ابن عامر (من الشام) ، نافع بن عبد الرحمن (من المدینة) عبداللّه بن کثیر (من مکّة) . انظر السبعة فی القراءات / 182 ، وحجّة القراءات / 134 _ 135 ، والحجّة للقراءات السبعة لأبی علی الفارسی:2/321 ، والتذکرة فی القراءات:2/333 .
3- سورة البقرة: آیة 222 .
4- سورة المائدة: آیة 6 .

ص:54

المراد الظاهر منها هو الطهارة بالنقاء لا الاغتسال ، فیصیر ذلک قرینة لإرجاع قراءة التشدید الیه أمّا بالتصرّف فی أصل المعنی ، بأن یرجع باب تفعّل إلی فعل ، کما ادّعی أنّه یقع فی الاستعمالات ، کما اشار إلیه صاحب «الجواهر» من جواز الاستعمال کلمة (تطعمتُ) بمعنی طعمت .

قیل : ومنه المتکبّر فی اسماء اللّه ، بمعنی الکبیر .

أو بکون المراد ، وإنْ کان هو التطهّر بمعنی الاغتسال ، إلاّ أنّه أتی به لأجل کون الغالب وقوع الجماع فی الخارج بعد الاغتسال ، فلا ینافی ذلک مع کون المراد من الطهارة فی الأُولی هو النقاء ، وکونه کافیا فی جواز الجماع .

أو بحمل النهی عن المقاربة علی مطلق المرجوحیّة ، التی هی أعمّ من الکراهة والحرمة ، علی عموم المجاز ، حتّی یناسب مع القرائتین ، ویراد بالمعلّق فی قوله تعالی: «فَإِذَا تَطَهَّرْنَ»الاباحة ، بمعنی الأخصّ .

هذا کما عن «الجواهر» .

ولکن الانصاف عدم تمامیّة هذا الحمل ، لأنّ النهی عن المقاربة وقع بعده الطهارة _ بمعنی النقاء _ لا یخلو عن کونه مشمولاً بأحد الحکمین ، إمّا الحرمة أو الکراهة ، فإن اختار الأُولی ، فکأنّ حکم الحرمة بعد النقاء کحرمته قبله ، فلا کراهة .

وان اختیر الثانیة ، فیبقی حکم الکراهة بعد النهی حینئذ فقط ، فلا یشمل لحکم حال قبل ورود النهی من المحیض ، الذی کان حراماً .

فاستعمال النهی فی مطلق المرجوحیّة _ حتّی ینطبق علی الحرمة لما قبل النقاء ، والحرمة لما بعده ، نظیر ما قیل فی غُسل یوم الجمعة والجنابة _ غیر مناسب هنا ، لاختصاص قوله تعالی : «حَتّی یَطْهُرْنَ» بأحد المعنیین ، فلا یشمل کلیهما حتّی یکون مثل حکم الغُسل ، یشمل کلیهما بنحو عموم المجاز ، فتأمّل .

وثانیاً: لو اغمضنا عمّا ذکرنا ، وقلنا ببقاء کلاً من لفظی «یَطْهُرنَ»بالتخفیف

ص:55

علی معنی النقاء ، و (التطهّر) بالتشدید علی الاغتسال ، وبقاء التعارض فی الصدر والذیل ، ولزوم اختیار أحدهما ، مثل تعارض الخبرین الذین لابدّ من الأخذ بأحدهما ، فیلزم وینتج حینئذ حکم التخییر بینهما ، فهو یوافق المطلوب من جواز الجماع حتّی قبل الغُسل إن ذهبنا الی اعتبار قراءة التخفیف ، کما لا یجوز الأخذ بالتشدید ، فلا یجوز له الوطی إلاّ بعد الاغتسال ، وکان حکم التخییر استمراریّاً ، لا منوطاً بالأخذ بأحدهما ، فسیقط الآخر عن الأخذ بعده .

لکنّه أیضاً لیس علی ما ینبغی ، لأنّ الأخذ بکلّ واحد ینافی الآخر ، فلازم التعارض هو التساقط ، والرجوع إلی دلیل آخر معیّن لأحدهما ، لا أن یرجع إلی التخییر ، لأن الأخذ بهذا النحو یوجب سقوط الآخر أو تأویله علی غیر ظاهره ، فکیف یمکن الأخذ بها مع التخییر ، بلا ارتکاب خلاف الظاهر ، کما لا یخفی .

وربّما قیل : بحمل قراءة التشدید علی أرادة غَسل الفرج ، فیصیر المعنی حینئذ أنّه لا یجوز الوط ء ، إلاّ بعد غَسل الفرج ، لا بعد الاغتسال ، فیکون علی هذا صیغة تفعل بمعنی فعل .

وهو علی فرض التسلیم ، مبنیٌ علی القول باشتراط حلیّة الوط ء علی غَسل الفرج قبل ذلک ، کما هو صریح «الغنیّة» ، وظاهر «الخلاف» و«المبسوط» وغیرهما ، بل نقل فی «کشف اللثام» عن ظاهر الأکثر ، بل قد یستشعر من روایة محمد بن مسلم ، حیث کان فیها : «إذا أصاب زوجها شبقٌ فلیأمرها فلتغسل فرجها ، ثمّ یمسّها إنْ شاء قبل أنْ تغتسل(1)» .

وروایة أبی عبیدة ، قال: «سألت أبا عبد اللّه علیه السلام عن المرأة الحائض ، تری الطهر وهی فی السفر ، ولیس معها من الماء ما یکفیها لغسلها ، وقد حضرت


1- وسائل الشیعة: الباب 27 من أبواب الحیض، الحدیث 1 .

ص:56

الصلاة؟ قال : إذا کان معها بقدر ما تغسل به فرجها فتغسله ، ثمّ تتیمّم وتُصلّی . قلت : فیأتیها زوجها فی تلک الحال؟ قال: نعم إذا غَسلت فرجها وتیمّمت فلا بأس(1)» .

ولکن قد یمکن أن یناقش فی أصل دلالة الخبرین علی وجوب ذلک .

أمّا حدیث محمد بن مسلم، حیث أنّه قد جعل الأمر بالغَسل منوطاً ومشروطاً بشبقة الزوج ، مع أنّه لو کان أمراً واجباً بنفسه ، یحرم الجماع دون أن تغتسل ، لکان الأجدر به أن یحکم بوجوب غسله مطلقاً ، وقد عرفت أن نفس هذه العبارة تومی إلی عدم کون الجماع بلا غُسل وغَسل حراماً ، خصوصاً فی مثل روایة عبیدة ، حیث قد یمکن أن یکون وجه وجوب غَسل الفرج هو لتحصیل طهارة الفرج عن الخبث للصلاة ، فلا ینافی ذلک أن یکون غَسل الفرج والتیمّم موجباً لجواز الوط ء ، حیث لا یدلّ بمفهومه علی عدم الجواز قبله ، خصوصاً إذا لم نذهب الی وجوب التیمّم ، کما ستشیر إلیه ، فعدم وجوب غَسل الفرج یکون بطریق أولی .

وحمل الأمر علی الندب فی صحیح محمد بن مسلم أهون من تقیید المطلقات الواردة فی مقام البیان ، حیث لم یذکر فیها من غَسل الفرج ، خصوصاً مع تصریح السائل فی روایة ابن المغیرة بعدم مسّها للماء ، حیث یشمل باطلاقه لکلّ من الغُسل والغَسل .

مع أنّه لو کان واجباً ، لکان الحریّ به أن ینبه علی ذلک فی جوابه ، وحیث أطلق فی نفی البأس فی جوابه _ خصوصاً فی ذیله بکون مسّ الماء أحبّ _ فانه یشعر بعدم الوجوب أیضاً ، کما لا یخفی .

ولکن مع ذلک کلّه ، فطریق الاحتیاط فی ذلک _ خصوصاً مع ورود روایة


1- وسائل الشیعة: الباب 21 من أبواب الحیض، الحدیث 1 .

ص:57

صحیحة ظاهر الدلالة علیه _ حسنٌ قطعاً .

وما حُکی عن ظاهر «التبیان» و«مجمع البیان» و«أحکام» الراوندی ، من توقف حلیّة الوط ء علی أحد الأمرین ، مِنْ غَسل الفرج ، ومن الوضوء ، لم یتّضح لنا وجهه ودلیله ، بل قال شیخنا الأنصاری قدس سره : «إنّا لم نعثر علی دلیلٍ لاعتبار الوضوء ، عیناً أو تخییراً أو جوباً أو استحباباً»(1) .

وقد یخطر بالبال أنّهم ذکروا ذلک بملاحظة حدیث سعید بن یسار ، عن أبی عبد اللّه علیه السلام ، قال: «قلت له : المرأة تحرم علیها الصلاة ، ثمّ تطهر ، فتتوضّأ من غیر أن تغتسل ، أفلزوجها أن یأتیها قبل أن تغتسل؟ قال: لا ، حتّی تغتسل(2) .

بیان ذلک : أنّة إذا لم یفت بحرمة الوط ء من دون الاغتسال ، لأجل الأخبار المجوّزة ، فلا محیص من الرجوع إلی القول بأنّه إذا أراد الوط ء ، فلابدّ أمّا من غَسل الفرج بحمل الافتعال علی معنی فعل ، أو تمسّکاً بصحیحة محمد بن مسلم .

وأمّا من التوضی ء تمسّکاً بهذا الحدیث ، حیث سُئل عن الجواز الجماع بعد التوضّی والطهارة عن الحیض ، فکأنّه أراد بیان أنّ الوضوء یکون مکان الغُسل إلی أن تغتسل ، نظیر الحکم فی الجنب اذا أراد النوم قبل ان یغتسل ، فانه یستحب علیه الوضوء بدلاً عن الغُسل .

فصار تقریر الإمام علیه السلام _ فی ما سأله وجوابه عن ذلک بالنفی أو النهی ، لخصوص الاغتسال ، بأنّه لا یجوز إلاّ بعد الاغتسال _ دلیلاً علی ما افتی به هؤلاء الفقهاء (قدّس اللّه أسرارهم) .

هذا ، مع أنّه أمر بعید ولا یخلو عن تکلف ، وخلافٌ لظاهر طریقة المحاورات ، لأنّه إنّما یصحّ لو لم یقصد من التوضّئ نفس تطهیر الموضع والفرج ، وإلاّ لا یخصّ


1- کتاب الطهارة: 238 .
2- وسائل الشیعة: الباب 27 من أبواب الحیض، الحدیث 7 .

ص:58

الحکم خصوص غسل الفرج .

واستعمال لفظ (الفَرج) بفتح الواو ، وارادة التطهیر ، قد ورد فی بعض الروایات الواردة فی باب غَسل الیدین قبل الطعام ، فلیتأمّل .

والمتحصّل من جمیع ما ذکرنا ، عدم مساعدة الدلیل لاثبات حرمة الوط ء قبل الاغتسال ، حتّی مع وجود أخبار عدیدة ظاهرة فی الحرمة ، وکذلک ظهور الآیة الشریفة فی ذلک ، لکن لنا اخبار اقوی دلالة علی الجواز ، حیث تکون مرجعاً عند تعارض القراءتین ، لأنّ أهل البیت أدری بما فی البیت من غیرهم .

مضافاً إلی ملاحظة اصالة الجهة ، حیث أنّ حکم الحرمة موافقٌ لأکثر متفقهة العامّة ، فیحتمل بذلک صدور أخبار الحرمة علی التقیّة ، فلا یمکن الاعتماد والوثوق علی ذلک .

ولکن مع جمیع ذلک یکون الاحتیاط موافقا لترک الوط ء قبل الاغتسال ، ولا یبنغی أن یترک .

ثمّ أنّه لو قلنا بوجوب الاغتسال قبل الوط ء ، وحرمة الجماع قبل الاغتسال _ کما حُکی عن ظاهر کلام الصدوق فی صدر کلامه _ أو قیل بکراهته _ کما عن المشهور المنصور _ فهل یباح الجماع و تزول الکراهة بالتیمّم أم لا؟

ففی «مصباح الفقیه» قوله : «وجهان ، من عموم البدلیّة ، وروایة أبی عبیدة الواردة منها قوله علیه السلام : «قال : سألت أبا عبد اللّه علیه السلام ، عن المرأة الحائض تری الطهر ، وهی فی السفر ، ولیس معها من الماء ما یکفیها لغسلها ، وقد حضرت الصلاة؟ قال: إذا کانت معها بقدر ما تغتسل به فرجها ، فتغسله ثمّ تتیمّم وتُصلّی .

قلت: فیأتیها زوجها فی تلک الحال؟ قال: نعم إذا غَسلت فرجها وتیمّمت فلا بأس»(1)» .


1- وسائل الشیعة: الباب 21 من أبواب الحیض، الحدیث 1.

ص:59

وروایة عمّار الساباطی ، عن أبی عبد اللّه علیه السلام ، قال: «سألته عن المرأة إذا تیمّمت من الحیض هل تحلّ لزوجها؟ قال: نعم(1)» .

ومن ضعف الروایتین سنداً ، وعدم الجدوی بعموم البدلیّة بعد تسلیمه ، فإنّ عموم البدلیّة إنّما یجری فی عدا الجماع الذی یمتنع إجتماعه مع أثر التیمّم ، فلا یعقل أن تکون الطهارة الحکمیّة الحاصلة منه مؤثّرة فی إباحة الوطی ، المشروطة بوقوعه حال الطهارة عن حدث الحیض .

نعم ، لو قیل بأنّ المحرّم أو المکروه إنّما هو وطئ من کان محدثاً بحدث الیحض ، قبل الوطی لا حینه ، أو قیل بأن التیمّم الذی هو بدلٌ عن غُسل الحیض ، لاینتقض بسائر الأحداث ، التی ما ذکره ، بناء علی عموم البدلیّة .

لکن فی المقدّمتین تأمّل ، وإنْ لا تخلو الأخیرة منهما عن وجه ، کما ستعرفه فی مبحث التیمّم إن شاء اللّه) .

إنتهی محل الحاجة من کلامه(2) .

أقول: هل التیمّم کان لأجل الجماع بالخصوص بدلاً عن الغُسل ، حتّی یحلّ الوطی أو تزول الکراهة لمن قال بها ، أم إنّ التیمّم بدلٌ عن الغُسل للصلاة ، وهو یکفی أیضاً؟

الذی یظهر من روایة عمار _ بحسب اطلاقها _ کون التیمّم من الحیض موجباً لجواز الوطی مطلقاً ، سواء کان للصلاة أو لخصوص الجماع ، لو لم نقل بظهورها فی الثانی فقط ، حیث لم تردد فیها ذکر الصلاة ، حتّی تحمل علیه ، بخلاف روایة أبی عبیدة ، حیث یحتمل کون المراد من التیمّم ، هو الذی أتت به لأجل الصلاة .


1- وسائل الشیعة : الباب 21 من أبواب الحیض، الحدیث 2 .
2- مصباح الفقیه: ج 4 ، ص 118 _ 119 .

ص:60

کما یؤیّد ذلک ما قد وقع فی سؤال السائل من قوله : «فیأتیها زوجها فی تلک الحال» ، أی بعد ما غسلت فرجها وأتت بالتیمّم .

فاحتمال ایجاب تیمّم آخر للوطی فی جواب الإمام ، بقوله علیه السلام : «إذا غَسلت فرجها وتیمّمت فلا بأس» ، غیر التیمّم الذی کان للصلاة بعیدٌ ، بقرینة قوله علیه السلام : «إذا غسلت فرجها» ، حیث لا یراد منه التکرار ، لعدم الداعی الیه ، بعد ما أن صارت فرجها طاهرة بالغَسل الاول ، کما لا یخفی .

وأمّا اجتماع هذا التیمّم مع الجماع ، بحیث لا یبطل بواسطة تلک الاحداث ، أمرٌ طبیعی للبدلیّة ، إن قبلنا کونه بدلاً عن الغُسل ، لأنّ مقتضی بدلیّته عنه ، هو کون غایته امکان الاغتسال ، فلازمه بقاء أثره لکلّ ما یشترط فیه الغُسل الذی لو أتت به لکان مفیداً له .

فیقع الکلام فی أصل عموم بدلیّته ، بأنّه هل یکفی الدلیل فی اثباته أم لا ، ثمّ هل الدلیل الوارد فی المورد یکفی فی اثبات ذلک أم لا .

ولا یخفی علیک أنّه لو کان التیمّم لخصوص الوطی محبوباً ، غیر التیمّم الذی کان للصلاة ، فحینئذ یأتی الکلام فی أنّ التیمّم بمجرد وجوده للوطی ، یکفی فی حلیّة الوطی ، أو یکون لاجل رفع الکراهة ، بحیث لا یحتاج إلی التکرار بتکرّر الوطی ، أو یتکرّر بتکرره ، عملاً بظاهر التعلیق فی قوله علیه السلام : «إذا غسلت فرجها وتیمّمت فلا بأس» .

ولکن الذی یخطر بالبال بعد الدقّة والتأمّل فی مناسبة الحکم للموضوع ، کون التیمّم بوجوده محبوباً لذلک ، حتّی ولو کان لغایة الصلاة ، فضلاً عن غایة الوطی ، لأنّ الذهن یستأنس بکون الحضاضة فی أصل وجود حدث الحیض ، وهی ترتفع بإیجاد التیمّم مرّة واحدة ، فیما عجز من تحصیل الماء ، فهو کافٍ ولو أتی به لغایة أُخری غیر الوطی ، وإنْ کان احتمال مطلوبیّته لکلّ مرة من الوطی لا یخلو

ص:61

من وجه . هذا بحسب موضوع الحکم .

وأمّا الکلام بالنسبة لأصل الحکم ، بأنّ التیمّم مع فقد الماء للاغتسال هل هو واجبٌ أم لا؟

فان قلنا بوجوب الاغتسال للوطی ، کما علیه ظاهر الصدوق قدس سره ، فقد یقال بوجوب التیمّم حینئذٍ ، لعموم البدلیّة ، ودلالة الخبرین المذکورین آنفاً ، بل فی «الجواهر» نقلاً عن العلاّمة أنّه استقرب عدم وجوب التیمّم للوطی عند فقد الماء ، إنْ قلنا بوجوب الاغتسال له . لکنه قال بعده : وهو بعیدٌ(1) .

حیث یظهر منه أنّه إنْ قلنا بوجوب الاغتسال ، لابدّ أن یقال بوجوب التیمّم أیضاً ، وحیث أنّه قدس سره لم یختر الوجوب فیه ، فلم یذهب إلی وجوب التیمّم ، بل غایة اتیانه لاجل رفع الکراهة .

هذا ، ولکن التحقیق أن یقال : إنْ قلنا بعموم البدلیّة ، فلازمه ما ذکره قدس سره ، إلاّ أن یدلّ الدلیل علی خلافه .

وأمّا إنْ لم نقل بعموم البدلیّة ، أو قلنا بوجود الدلیل علی التخصیص ، فعلیه یصحّ القول بالتفکیک بین الموردین فی الوجوب ، والمقام ربّما یدّعی کونه کذلک ، إذ الخبرین المذکورین ، وإنْ دلّ ظاهرهما علی وجوب التیمّم للوطی ، ولکنّهما یتعارضان بروایة أُخری وهی التی رواها عبد الرحمن _ یعنی ابن أبی عبد اللّه _ قال : «سألت أبا عبد اللّه علیه السلام عن امرأة حاضت ، ثمّ طهرت فی سفر ، فلم تجد الماء یومین أو ثلاثاً ، هل لزوجها أن یقع علیها؟ قال: لا یصلح لزوجها أن یقع علیها حتّی تغتسل»(2) .


1- جواهر الکلام: 3/208 .
2- وسائل الشیعة: الباب 21 من أبواب الحیض، الحدیث 3 .

ص:62

توضیح ذلک : أن یقال إنّه خلال مدّة ثلاثة أیام التی لم تجد الماء ، فقد تمّمت صلاتها قطعاً ، وبرغم ذلک لم یجوّز الامام الوطی لها حتّی تغتسل .

فلو کان التیمّم بدلاً عنه ، وکافیاً عن الغسل ، لکان أحری بالامام أن یذکره هنا ، یصحّ أن یجامها زوجها ، فمنه یظهر عدم بدلیّته عنه فی هذه الموارد .

ولکن قد أجاب عنه المحقّق الهمدانی قدس سره بقوله : اللّهمّ إلاّ أن یقال : بعدم کون الموثّق (أی خبر عبد الرحمن) ناظراً إلی المنع من مواقعتها ، ما دامت محدثة بحدث الحیض ، والروایتان حاکمتان علی مثل هذا الاطلاق ، بل مطلق ما دلّ علی بدلیّة التیمّم من الغُسل ، حاکم علیه ، لولا المناقشة المتقدّمة . فی أحکام الحیض

هذا ، مع إمکان الجمع بین الروایات علی القول بکراهة الوطی بالالتزام بتخفیفها بغَسل الفرج والتیمّم ، وعدم ارتفاعها بالمرّة إلاّ بالغُسل ، فلیتأمّل) إنتهی(1) .

ولا یخفی ما فی کلامه ، لوضوح أنّ السؤال والجواب لیسا إلاّ من جهة المنع عن المواقعة حال کونها محدثاً بحدث الحیض .

نعم حیث کان المنع فیه مطلقاً من حیث التیمّم وعدمه ، فیصحّ تقییده مع ملاحظة الروایتین ، بکون المنع عن الجماع الی أن تغتسل مخصوص بمن لم یتیمّم لا مطلقاً .

هذا ، وان کان ممکناً ، إلاّ أن الاشکال فی أصل دلالته علی المنع بمعنی الحرمة ، لأنّ ظاهر حکمة قوله علیه السلام : «لا یصلح» فی الکراهة تکون أشدّ من التحریم ، فعلی هذا یستنتج کون الکراهة ثابتة ، ما لم تتیمّم ، فإذا تیممت خفت الکراهة ، فإذا اغتسلت یرتفع من أصلها .

بل قد یؤیّد ما ذکرنا من التوجیه أن مقتضی عموم البدلیّة أیضاً ، کذلک إذا قلنا


1- مصباح الفقیه: 4/120 .

ص:63

الخامسة: إذا دخل وقت الصلاة فحاضت ، وقد مضی مقدار الصلاة والطهارة ، وجب علیها القضاء (1).

الماء المستعمل فی الوضوء غیر الرافع للحدث

بعدم وجوب الاغتسال للوطی ، إذ لا معنی أن یکون حال البدل اشدّ من المبدّل منه ، فإذا لم یجب الاغتسال للوطی ، فعدم وجوب التیمّم یکون بطریق أولی .

ومن هنا یظهر حکم الوطی لمن کان فاقداً للطهورین ، حیث قال فی «الجواهر» : «نعم یمکن القول بجواز الوطی علی کلّ حال ، مع فقد الطهورین ، علی إشکال أیضاً ، بل الأقوی عدمه ، واللّه العالم» .

لأنّه إذا لم نقل بوجوب الأصل ولا البدل ، فغایته الکراهة ، فلا بأس بالقول بها حتّی لمن کان فاقداً للطهورین ، خصوصاً فی من لم یکن له شبقٌ ، کما لا یخفی علی من تأمّل موثقة عبد الرحمن من استفادة الکراهة مطلقاً ، حتّی لمن لا یقدر علی التیمّم ، حیث قد علّق رفع المنع علی الاغتسال مطلقاً ، أی سواء قدرت علی التیمّم أم عجزت عنه ، وسواء تیممت أم لم تتیمم .

(1) اعلم أنّ القضاء واجب علی الحائض إذا طهرت من الحیض ، فیما اذا کان عروضه بعد مضی الوقت ، بقدر ما تتمکن فیها من اتیان الصلاة مع جمیع شرائطها المعتبرة فیها ، من الطهارة وغیرها من الشرایط ، بل کل ما یجب علیها من الصلاة بحسب حالها ، من القصر والاتمام والسرعة والبط ء فی الافعال ، والصحة والمرض ونحو ذلک .

و قد ادعی علیه الاجماع ، بل فی «الجواهر»: «بلا خلاف محقق اجده فیه» ، بل فی «کشف اللثام»: أنّه اجماع علی الظاهر ، وفی «المدارک»: «أنه مذهب الأصحاب» .

و الدلیل علیه _ مضافا الی الاجماع والعمومات الدالة علی وجوب القضاء علی کل من فاتتها الفریضة فی الوقت ، الذی کان هو القدر المتیقن منه أی تم

ص:64

موضوع صدق الفوت _ دلالة الاخبار الخاصة علیها :

منها: موثق یونس بن یعقوب ، عن أبی عبداللّه علیه السلام قال: «فی إمرأةٍ دخل علیها وقت الصلاة وهی طاهر ، فأخّرت الصلاة حتی حاضت؟ قال: تقضی إذا طهرت»(1) .

منها: مضمرة عبد الرحمن بن الحجّاج ، قال: «سألته عن المرأة تطمث بعد ما تزول الشمس ، ولم تُصلّ الظهر ، هل علیها قضاء تلک الصلاة؟ قال: نعم(2)» .

ولا یخفی أن ظهور جملة (فأخرّت) ، بل وهکذا اطلاق قوله: ولم تُصلّ الظهر ، یفیدان أنها کانت قادرة للاتیان بها کاملةً مع جمیع شرائطها ، ولم تأت بها ، والاّ لما کان ترک الصلاة مستندا الی المرأة بالاختیار ، بل مستندا الی عدم القدرة علی أداءها مع شرائطها ، وبناءً علی هذا یحکم علیها بوجوب القضاء ، وهو المطلوب .

و لا فرق فی وجوب القضاء بین کونها عالمة عامدة فی التاخیر ، مع علمها بعرُوض الحیض علیها ، أو جاهلة بذلک مع العمد فی التأخیر .

فی أحکام الحیض / إذا دخل وقت الصلاة فحاضت

لایقال: بأنّ القید المذکور فی موثق یونس _ کما جاء فی المتن _ هو خصوص الطهارة لأنّ هذا القید مذکورة فی سؤال السائل وفی الجواب ، ویراد منه الطهارة عن الحدث الاصغر ، فیعلم أن ما یشترط فیه سعة الوقت حتّی یجب علیها القضاء ، لیس الاّ الصلاة والطهارة لا تحصیل سائر الشرائط ، فیوافق ذلک مع ما ذهب الیه صاحب «کشف اللّثام» و المحقق فی «الشرایع» ، والعلامة فی «القواعد» والشهید فی «الدروس» من ذکر الطهارة فقط من الشرایط دون غیرها .

لأنّا نقول: بأنّ الظاهر من جملة (وهی طاهر) فی السؤال ، هو الطهارة عن


1- وسائل الشیعة: الباب 48 من أبواب الحیض، الحدیث 4 .
2- وسائل الشیعة: الباب 48 من أبواب الحیض، الحدیث 5 .

ص:65

حدث الحیض الأصغر ، لأنه یمکن أن لاتکون علی طهرٍ حال عروض الحیض ، ولکن یفهم من مناسبة الحکم للموضوع ، کون المرأة فی وقتٍ یسعها احضارما علیها من الشرایط ، ولعلّ ذکر الطهارة هنا لیس لأجل کون الغالب کذلک ، کما اشار الیه صاحب «الجواهر» بقوله: «لکن لعلّه منزّلٌ علی الغالب من فعلیّة احرازها لغیر الطهارة دونها» ، بل للتنبیه علی أنه قد عرضت لها الحیض ، فی وقتٍ تقدر علی الاتیان بها مع شرائطها لا ذکر خصوص الطهارة عن الحدث الأصغر _ کما وقع التصریح به فی کلام المحقق الآملی نقلاً عن بعض الاعلام ، فی مقام الاستدلال _ بل هو الظاهر المراد من الکلام السابق لصاحب «الجوهر» قدس سره ،من أن المراد من الطهارة فی الجواب أیضا کذلک .

نعم قد عرفت ظهور قوله (فأخرّت) فی الجملة ، علی ما ادعینا من کونها متمکنة علی الاتیان بها مع شرائطها ، ولم تات بها ، فیجب علیها القضاء .

بل قیل إنّه یمکن استفادة ذلک فی الجملة من روایة فُضیل بن یونس ، عن أبی الحسن الأول علیه السلام فی حدیثٍ: «قال: واذا رأت المرأة الدم بعد ما تحیض من زوال الشمس أربعة اقدام ، فلتمسک عن الصلاة ، فاذا طهرت من الدم فلتقض صلاة الظهر ، لانّ وقت الظهر دخل علیها وهی طاهر ، وخرج عنها وقت الظهر وهی طاهر ، فضیقت (فضیّعت) صلاة الظهر ، فوجب علیها قضاؤها»(1) .

فان الخبر بظاهره یدلّ بان من یقدر علی الاتیان بالظهر _ ولو فی وقت الفضیلة _ مع تمکنه من تحصیل جمیع الشرائط ، ولم یفعل ، یجب علیه القضاء .

نعم الخبر مشتمل علی القضیة الشرطیة ، لو عمل بمقتضاها لصار مفهومها أنّه لو لم یمض مقدار أربعة اقدام وحاضت ، لیس علیها القضاء ، وان کانت متمکنة من


1- وسائل الشیعة: الباب 48 من أبواب الحیض، الحدیث 1 .

ص:66

تحصیل الشرائط ، وهو ینافی ما ادّعاه الاصحاب من لزوم القضاء فی الفرض المذکور .

و لکن نقول: علی فرض التسلیم لمثل هذا المفهوم ، فانه لا یتم الاّ بالاطلاق ، أی سواء کان مقدار الوقت فی الأقل من الاربعة ، أقل عن مقدار یحصل به سائر الشرائط أم لا فحینئذٍ یمکن تقیید هذا الاطلاق بواسطة الاجماع أو دلالة سائر الاخبار ، بما إذا لم یقدر علی تحصیل الشرائط لا مطلقا .

و من هنا یمکن عدّ هذا الخبر مع قیده من أخبار الباب ، خصوصا مع ملاحظة جملة (فضیعّت) کما هو الظاهر الصحیح ، لا (فضیّقت) علی ما فی «الوسائل» لعدم تناسبها مع المقام ، حیث أنه یدل علی أن علة وجوب القضاء هو التضییع والتفریط فی أمر الواجب ، و ذلک باتلاف الوقت وعدم اقدامها علی تحصیل الشرائط والمقدمات ، فلازم عموم العلة المنصوصة هو الحکم بذلک فی جمیع افراد المطلوب ، لصدق التضییع والتفویت فیها .

بل قد یستفاد الحکم ایضا من دلالة قرینة التقابل من جهة عدم وجود مفهوم للشرائط ، إذا لم یصدق علیه التضییع والتفویت ، لأجل سعة الوقت ، ولو بأقلّ من اربعة اقدام ، لتحصیل المقدمات والشرائط ، کما لا یخفی .

فاذا صار التعلیل ملاکا لایجاب القضاء ، فربما یمکن الاستظهار للمقام أیضا من روایة اخری واردة فی المقام وهی روایة أبی عبیدة ، عن أبی عبداللّه علیه السلام ، فی حدیث: «قال: واذا طهرت فی وقتٍ ، فاخّرت الصلاة حتّی یدخل وقت صلاة اخری ، ثم رأت دما ، کان علیها قضاء تلک الصلاة التی فرطّت فیها» الحدیث(1) .

حیث قد ورد ذکر الملاک فی ضمن بیان حکم وجوب القضاء ، وإنْ کان مورد الروایة بیان الحکم فی آخر الوقت ، فیصیر الخبر کمنصوص العلّة ، حیث یصح


1- وسائل الشیعة: الباب 48 من أبواب الحیض، الحدیث 2 .

ص:67

التسریة منه الی غیر مورده .

بل یمکن استفادة دخول سائر الشرائط أیضا من قوله «فقامت فی تهیئة ذلک فجازت وقت صلاةٍ» ، حیثُ یشمل سائر المقدمات الواجبة احضارها فی الطهارة .

فبضمیمة هذه الاخبار ، مع عمومات الادلة الدالة علی لزوم قضاء الفرائض مطلقا ، المخصصة بما یدل علی عدم وجوبه للحائض ، حیث أنّ ظاهرها تدل علی کون السبب فی ترک الصلاة نفس الحیض أو بما ینسب الیه ، من حیثُ عدم سعة الوقت لتحصیل الشرائط ، لأجل ضیق المدة ، بلا فرق فی ذلک بین کونه فی اوّل الوقت او آخره ، وأمّا لو تمکنت من الاتیان وسامحت فی ذلک حتّی عرض لها الحدث ، فان اطلاقات ادّلة المخصص تکون منصرفة عنها .

فالمرجع فی مثل هذا الفرض لیس الا عموم الأمر بالقضاء ، وهذا الحکم مما لا اشکال فیه ، ولا خلاف ولا شبهة تعتریه .

و شبهة احتمال وجود الفرق بین الطهارة وغیرها ، من جهة أنّ الصلاة لا تصح بدونها ، بخلاف غیرها .

مندفعة ، بانه غیر مجدٍ ، مع ملاحظة توقف التکلیف هنا علی الجمیع ، لأن المفروض امتناع قصور الوقت عن والواجب الذی کلّف به فیه .

ویتفرع عمّا ذکرنا أنّها لو علمت أنها تحیض بعد مضی الزوال ، بمقدارٍ لا یسعها ازالة النجاسة مع فعل الصلاة ، فحینئذٍ لا تجب علیها الصلاة ، لا ان تکون واجبةً دون الازالة ، حتّی یصیر حکمه مثل حکم ضیق الوقت ، حیث تجب علیها الصلاة لکن دون أن تجب علیها الازالة ، للفرق بین الموردین ، لوجود الدلیل الدال علیه فی ضیق الوقت ، بخلاف المقام ، فلا یقاس علیه ، والاّ لوجب القول بوجوب القضاء علیها ، _ لو مضی من الوقت ما یسع الصلاة _ مع الطهارة الترابیة

ص:68

فحسب ، مع أنه قد ادّعی صاحب «الجواهر» والشیخ الاعظم الاجماع علی عدم الوجوب ، مع أن وجوبها مع الطهارة الترابیة واجبة فی ضیق الوقت .

ودعوی الفرق هنا بین الازالة وبین الطهارة الترابیة ممنوعة ، بل لعلّ وجه الفرق بین الطهارة الترابیة فی اوّل الوقت من عدم الوجوب ، و بینها فی آخر الوقت بالوجوب ، هو تحقق فعلیة التکلیف بالنسبة الی الصلاة فی آخر الوقت دونها فی اوله ، ولذلک لا یسقط بالاتیان اداءا فی الوقت وقضاءا فی خارج الوقت ، بخلافها فی اوّله حیث لم ینجّز علیه شی ء بعدُ حتّی یقال بعدم السقوط ، و أنّه تجب علیها اداءها ولو بتحصیل الطهارة الترابیة .

و لکن یرد علیه: بأنّه لا یمکن أن یکون ما ذُکر وجها للفرق ، لما یذهب الیه من أنّ وجوب القضاء یکون لمن فاتته الفریضة فی آخر الوقت ، مع الطهارة الترابیة ، حتّی لمن لم ینجّز علیه التکلیف قبله ، وهو مثل الحائض التی طهرت فی آخر الوقت ، بما یسعها الصلاة مع الطهارة الترابیة ، فانها حینئذٍ تکون مثل مَنْ عرض لها الحیض فی اوّل الوقت بالمقدار المذکور ، حیث لم ینجز علیها التکلیف ، لأجل کونها حایضا قبل آخر الوقت ، فلابد أن یکون وجه الافتراق شیئا آخر غیر ما ذکرنا ، و لیس هو الاّ أحد الامرین: امّا بالالتزام بکون وجه الافتراق ، هو وجود الدلیل بلزوم القضاء فی آخر الوقت ، إذا کان الوقت متسعا لاتیانها مع الطهارة الترابیة ، وفقدانه فی اوّل الوقت ، هذا کما اشار الیه صاحب «الجواهر» .

أو لقیام الاجماع علی عدم القضاء فی اوّله ، إذا اتسع الوقت للطهارة الترابیة ، فبذلک تخرج هذه الصلاة عن مورد الدلیل الدّال علی لزوم القضاء فی الطهارة الترابیة ، لو کان لسان دلیله مطلقا ، بحیث یشمل لمثل اوّل الوقت ، والاّ کان خروجه تخصصیّا لا تخصیّصیا ، کما لا یخفی .

ص:69

ولعلّ هذا الحکم ناشٍ من جریان الدلیل فی وجوب القضاء ، مع التمکن منها مع الطهارة الترابیة فی اوّل الوقت ، و ذلک بمقتضی طبیعة حکم «صاحب کشف اللثام» بلزوم القضاء فی هذا الفرض مطلقا ، أی سواء فی اوّل الوقت أوفی آخره .

هذا تمام الکلام فی هذا الفرع ، فلنرجع الی أصل المطلب فنقول: فلو اتسع الوقت لخصوص الطهارة المائیة ، دون غیرها من سائر الشرائط ، لا یجب علیه القضاء ، خلافا لظاهر «الشرایع» و«القواعد» ، وقد ارتضاه صاحب «کشف اللثام» .

بل نضیف الی ذلک من امکان کون مراد المحقق والعلاّمة ایضا ، هو ما ذهب الیه المشهور من عدم القضاء لو لم یتمکن من تحصیل سائر الشروط ، بناءً منهم علی أن الغالب فی الخارج ، هو تحقق سائر الشرائط واحرازها بخلاف الطهارة ، الاّ للاوءحدی الذی لا یخلو عن طهارة فی وقت من الاوقات فعلی هذا القولان فی المسأله ، یرتفع النزاع من البین ، واللّه العالم .

ثم علی فرض القول بما ذهب الیه المشهور ، من عدم وجوب قضاء الصلاة ، عند یتحد عدم اتساع الوقت لتحصیل الشرائط ، فهل یجب هذا الاتّساع لمن کان واجدا للشرائط أم لا؟ .

والظاهر عدم الوجوب ، فیجب علیه حینئذ عند سعة الوقت لتحصیل الطهارة فقط ، أو مع وجود الطهارة المحرزة أیضا کسائر الشرائط خلافا لما یوهمه المحکیّ فی «کشف اللثام» عن «نهایة الأحکام» ، من احتمال العدم _ ای عدم وجوب القضاء _ .

لکنّه ضعیف جدا ، لوضوح أنّه لا خصوصیة لإتساع الوقت ، الا من باب کونه مقدمةً لتحصیل الشرائط ، فاذا کانت بنفسها حاصلة ، فلا یبقی مورد للحکم بعدم وجوب القضاء ، لوضوح صدق الفوت علیه ، و أنه کان مقصرا فی ترک الصلاة حینئذ ، کما لا یخفی .

ص:70

و احتمال جریان مااشترط فی سائر الشرائط فی الطهارة أیضا ، من وجودها قبل الوقت ، بحیث لا حاجة لاتساع الوقت _ لأنه قد تتقدم الطهارة علی الوقت فی غیر المستحاضة والمتیمم ، حیث أنهما لا تحصلان الطهارة الاّ فی الوقت ، کما نُقل ذلک عن صاحب «نهایة الأحکام» علی ما حکاه صاحب «الجواهر» _ .

مما لا یُصغی الیه ، امّا لما ذکره صاحب «الجواهر» بقوله: «إنّ الطهارة لکلّ صلاة موقتة بوقتها ، ولا یعارضه امکان کونه قد تَطهّر لغیرها» .

أو لأنه مما لا یمکن تحققه هنا ، لو قلنا بأن الطهاة المجزیة هی الطهارة الواقعة بعد الوقت ، لأجل وجوب الصلاة ، والاّ کان من الأخری القول بوجوب القضاء علیها فی هذه الصلاة ، لأنها حینئذ تعدّ متمکنة من احضار الصلاة مع جمیع شرائطها فی الوقت ، و برغم ذلک لم تقدم علی ذلک ، وفاتت منها الصلاة ، فحینئذٍ یصدق فی حقها الفوت و ینطبق علیها دلیل وجوب القضاء ، کما لا یخفی اذ لا خصوصیة لسعة الوقت حینئذ کما هو معلومٌ .

هذا ، ولکن مع ذلک کلّه لابد هنا من مراعاة الاحتیاط ، اجابة لرأی من یقول بأن الصلاة لها فردان ، الاختیاریة والاضطراریة ، و ملاک صدق الفوت الذی یترتب علیه وجوب القضاء ، لیس هو لخصوص الاختیاریة ، بل لابد أن لا یصدق علیه الفوت ولو اضطراریا ، حتّی لا یجب علیه القضاء ، فاذا صدق الفوت فی حقّ المکلف _ وان اضطراریا_ ، فانه یترتب علیه وجوب القضاء .

والمقامُ من هذا القبیل ، لأنّ الصلاة مع عدم وجود فسحة من الوقت لتحصیل سائر الشرائط ، یوجب عدم امکان الاتیان بالاختیاری من الصلاة ، وأما الاضطراری فلم یکن الأمر فیه کذلک ، لانه اذا عجز احضار الشرائط المطلوبة ، فان واجبه حینئذٍ الاتیان ببدل تلک الشرائط و مع العجز عنها فانه یسقط عند تکلیف احضار الشرائط الثانویة ، فحینئذٍ یصدق علی الصلاة عنوان

ص:71

وإنْ کان قبل ذلک ، لم یجب (1).

الاضطراری ، فاذا أقدم علی ترک مثل هذه الفریضة الاضطراریة ، فانه یصدق فی حقّه انه قد فوّت علی نفسه التکلیف ، و حینئذٍ ینطبق علیه ادلة وجوب القضاء .

هذا کما ذهب الیه المحقق الخوئی ، وغیره من الفقهاء القائلین بوجوب الاحتیاط ، أو الفتوی به ، و من المعلوم أن لازم هذا القول ، هو امکان تعلیق الفوت علی ترک الصلاة الاختیاری .

ولکن الالتزام بهذا القول _ بحیث یفید وجوب القضاء فیه _ لا یخلو عن تأمل ، لأن دلیل البدلیة أو سقوط الشرطیة عند الاضطرار ، کان متفرعا من اثبات اصل وجوب الصلاة فی مثل هذا المقدار من الوقت ، فاذا فرضنا عدم مساعدة منطوق الدلیل علی وجوب مثل هذه الصلاة ، فحینئذٍ لا یبقی لنا مجالٌ للحکم بوجوب القضاء علیه .

و لکن من الضروری هنا مراعاة الاحتیاط ، حذرا عن الوقوع فیما لایرضی به الشارع من ترک الصلاة ، التی تعدّ من ارکان الشرع ، و من مهمات الامور عنده ، کما لا یخفی ، واللّه العالم .

(1) و هذا عطف علی الجملة السابقة ، ومعناه أنّه لا یجب علی من لم تسعه الوقت لکن یقدم علی اتیان الصلاة مع شرائطها اختیارا أو مع الاضطرار ، علی حسب القولین المذکورین ، و إنْ کان الاوءل منهما هو المشهور ، نقلاً وتحصیلاً ، بلا فرق فی عدم وجوب القضاء ، بین کون الوقت تسع لأدائه لأکثر الصلاة _ کما أفتی به السید المرتضی قدس سره _ وعدمه _ کما هو الحق _ لأنّه رحمه الله قد استدل علی مختاره بروایة أبی الورد ، و الیک نصّها: «قال: سألتُ أبا جعفر علیه السلام ، عن المرأة التی تکون فی صلاة الظهر ، وقد صلت رکعتین ، ثم تری الدم؟ قال: تقوم من

ص:72

مسجدها ، ولا تقضی الرکعتین ، وإنْ کانت رأت الدم وهی فی صلاة المغرب وقد صلت رکعتین ، فلتقم من مسجدها ، فاذا تطهّرت فلتقض الرکعة التی فاتتها من المغرب»(1) .

ولکن یرد علیه: أنه مضافا الی قصور سندها بالضعف فیه ، لعدم ورود توثیق فی حق أبی الورد ، الاّ فی راویة واحدة رواها الکلینی رحمه الله فی «الکافی» بسند صحیح وهی: عنه ، عن أبی جعفر علیه السلام أنّه قال له: «أنکم ترجعون من الحجّ مغفورا لکم وفی غیرکم یحفظون فی أهلیهم واموالهم» .

ولعلّه مراعاة لهذا الخبر ذهب صاحب «الوجیزة» الی اعتبار کونه ممدوحا .

کونه موردا لإعراض الاصحاب عنه ، لاشتماله بما لا یمکن الالتزام به من جواز البناء علی الرکعتین ، و ذلک بأن تکمل صلاتها بعد الظهر باتیانها قضاء الرکعة وتلحقها بالرکعتین السابقتین اللّتین عرض فی اثنائهما لها الحیض ولأجل ذلک حمله العلاّمة رحمه الله علی خلاف ظاهره ، من کون المراد من الرکعة هو قضاء مجموع الصلاة لا رکعة واحدة فقط ، وقال: «یطلق الرکعة للمجموع مجازا لا الرکعة بمعناها الحقیقی حتّی یصدق علیه البناء» .

مع أنّه یمکن أن تکون قد تسامحت و فرطت فی قیامها للصلاة ، فتجب حینئذٍ علیها القضاء لأجل تفریطها فی اتلاف الوقت ، لان حمل الخبر علی کونها اقدمت علی اداء الصلاة فی اوّل الوقت ، حملٌ علی الفرد النادر .

مع أنه لو سلمنا اقدامها علی الاداء فی اوّل الوقت ، وأغمضنا عن جمیع ما ذکرنا ، وذهبنا الی لزوم العمل بهذه الروایة ، فلابد من الاقتصار علیها و عدم تسریة حکمها الی صور اخری ، لأنّ التخطی عنه الی غیره قیاسٌ لا نقول به ، أو


1- وسائل الشیعة: الباب 48 من أبواب الحیض، الحدیث 3 .

ص:73

أنّه خلافٌ الاصل والقاعدة ، لضعف القول بلزوم القضاء بمجرد طمثها بعد الزوال ، خاصة مع ملاحظة اطلاق خبر ابن الحجّاج ، و مخالفة ذلک الحکم مع ظهور خبر أبی الورد ، ومعارضته مع موثقة سماعة ، حیث ورد فیها قوله علیه السلام : «قال: سألتُ أبا عبداللّه علیه السلام عن امرأة صلّت من الظهر رکعتین ، ثم أنها طمثت وهی جالسة؟ فقال: تقوم من مکانها (مسجدها) فلا تقضی الرکعتین»(1) .

فان هذا الخبر یفید عدم وجوب القضاء لمن أدرک رکعتین من صلاة الظهر قبل أن تطمث ، حتّی لو حملناه علی فرض اتیان الصلاة فی اوّل الوقت ، فضلاً عما إذا کان اوسع من ذلک .

فما ذهب الیه صاحب «نهایة الأحکام» _ علی ما نُقل عنه _ من القول بوجوب القضاء بمجرد دخول وقت الزوال ، مما لا یلتفت الیه ، فلا یجب علیها القضاء فی الفرض المزبور ، کما نُقل هذا الحکم عن صاحب «المقنع» أیضا .

والحاصل: أنّ القضاء لا یجب الاّ لمن أدرک الوقت بمقدار ما یتسع له الوقت من اداء الصلاة مع الطهارة وغیرها من الشرائط .

هذا مما ادّعی الشیخ رحمه الله علیه الاجماع فی «الخلاف» من عدم القضاء لمن لم یدرک ذلک من الحائض والنفساء وغیرهما ، کما یظهر ذلک من الاجماع علی وجوب القضاء لمن ادرک .

نعم ، قد عرفت من ظاهر کلمات بعض الاعلام ، بل تصریح بعضهم بذلک ، کون الأحوط وجوبا هو القضاء ، لمن أدرک الصلاة مع الطهارة فقط .

هنا عدة فروع ینبغی التنبیه علیها ، وهی:

الفرع الأول: بناءً علی القول الاوّل _ بل الثانی _ قد نصّ بعضهم علی کون


1- وسائل الشیعة: الباب 48 من أبواب الحیض، الحدیث 6 .

ص:74

المعتبر فی المختار ، سعة مقدار الواجب من الصلاة والطهارة مخفّفا ، فلا عبرة بالمندوبات ، وهذا الحکم لاباس به ، لوضوح صدق اسم الفوات بالتفویت للوقت بمقدار الواجب الموجب للقضاء ، کما لا یخفی .

الفرع الثانی: هل یعتبر فیما إذا کان الواجب من موارد التخییر فی القصر والاتمام _ کالصلاة فی المواطن الأربع _ ملاحظة الوقت _ للاقل منهما وهو القصر فیه _ لوجوب القضاء ، أو ینبغی ملاحظة التام الاکثر ، أوله أن یلاحظ الذی یختاره منهما؟

لا یبعد القول بالاوّل ، لصدق اسم الفوت علیه ، لامکان تنجّز التکلیف علیه بالاقل ، وهکذا فی التسبیحة الواحدة مع الفاتحة والرکعتین الاخیرتین ، وهذا ما جزم به فی «الذکری» و «کشف اللثام» ، کما هو الحق ، لصدق الاختیاری علی هذا الفرد أیضا .

الفرع الثالث: لا یبعد القول بوجوب القضاء لمن مضی علیه الوقت ، وکان قادرا علی الاتیان بالطهارة الترابیة ، لعدم وجود الماء ، برغم قولنا بعدم وجوب البدار الیها ، ولکن مع ذلک ، لا یجوز تأخیر الصلاة لآخر الوقت حتی یضطر للطهارة الترابیة . وفی هذا الفرض لو طمثت وفاتت علیها الفریضة ، فانه یجب علیها القضاء لما قد عرفت من صدق عنوان الفوت علیها .

وعدم علمها بذلک لا یؤثّر الاّ فی مجرد ترتب الاثم علیها ، ولا یصلح لاسقاط وجوب القضاء عنها .

وتوهم عدم صدق عنوانی التضییع والتفریط علیها _ کما هو المستفاد من بعض الاخبار _ حتّی یوجب سقوط القضاء عنها .

باطلٌ ، لأنّه کما قال صاحب «الجواهر»: ضعیفٌ ، لعدم صلاحیتها لاثبات ذلک . و لا یخفی علیک أنّه علی القول بعدم وجوب البدار وجوازه ، فلا بأس

ص:75

وإنْ طهُرَت قبل آخر الوقت ، بمقدار الطهارة واداء رکعةٍ ، وجب علیها الاداء (1).

بذلک القول من وجوب القضاء ، وأمّا علی القول بعدم الصحة وعدم جواز البدار ، الاّ عند ضیق الوقت ، والمفروض أنّها لم تقدر علی الاتیان بالصلاة مع التیمم فی آخر الوقت ، فایجاب القضاء مما لا وجه له ، لعدم صدق الفوت علیها بما لها من الوظیفة ، فمجرد کون الوظیفة هو التیمم من جهة فقدها للماء ، لا یؤثر فی وجوب القضاء ، ما لم تقدر علی الاتیان بها فی آخر الوقت ، والمفروض عدم قدرتها علی ذلک لأجل عروض الحیض .

لکن الاحتیاط یقتضی الحکم باتیان القضاء ، حذرا عن احتمال شُغل الذّمة ، کما احتمله صاحب «الجواهر» قدس سره ، والاحتیاط طریق النجاة فی کل الاحوال ، واللّه العالم .

هذا تمام الکلام بالنسبة الی عروض الحیض فی اثناء الفریضة ، والآن نشرع فی البحث عن حکم ارتفاع الحیض کما ورد فی کلام المصنّف رحمه الله .

(1) إنّ وجوب الاداء ، إذا کان الوقت متّسعا لتحصیل الطهارة ، بل وسائر الشرائط المفقودة _ کما أشرنا الیه سابقا _ واتیان رکعة فضلاً عن الأکثر منها ، أمر ثابتٌ بین الفقهاء ، بل فی «الجواهر» قوله: «بلا خلافٍ أجده فیه بالنسبة الی العصر والعشاء والصبح» .

فی أحکام الحیض / إن طهرت الحائض قبل آخر الوقت

بل فی «الخلاف» و «المدارک» الاجماع علیه ، وفی «المنتهی» نفی الخلاف عنه بین أهل العلم ، بل عن «المدارک» و «المنتهی» دعوی: «عدم الفرق بین الثلاثة المتقدمة ، وغیرها _ وهو الظهر والمغرب _ فلازمه وجوب الظهران والعشاءان بادراک الخمس رکعات من آخر الوقت ، کما هو المشهور نقلاً وتحصیلاً» .

ص:76

بل فی «الخلاف» نفس الخلاف المنقول عنه ، لکنه نقل عن طهارة «المبسوط» الحکم بالاستحباب ، کما عن «المهذب» .

وعن «الاصباح» استحباب فصل الظهرین ، بادراک خمس قبل المغرب ، والعشائین بادراک أربع قبل الفجر وعن «الفقیه» _ کما نقل عنه صاحب «مفتاح الکرامة» أنّه: «إنْ بقی من النهار مقدار ما یُصلّی ست رکعات بدأ بالظهر» .

فلنا هنا دعویان ولابد من اقامة الدلیل علیها .

الأولی: وجوب الاداء علیها إذا طَهُرت من الحیض ، فی فترة تقدر فیها علی اتیان الصلاة الاختیاری ، مع جمیع شرائطها ویدل علی هذا الحکم مضافا الی الاجماع المُدّعی ، وثبوت المقتضی لذلک ، وهو عمومات الادلة الدالة علی وجوب الصلاة لکلّ مکلفٍ ، وارتفاع المانع اعنی الحیض .

وجود ادلّة خاصّة من الأخبار الکثیرة البالغة حدّ الاستفاضة ، لو لم تکن متواترة ، هاهی بین یدیک ، حصّل زادک منها ، مثل: روایة منصور بن حازم ، عن ابی عبداللّه علیه السلام ، قال: «إذا طهرت الحائض قبل العصر ، صلّت الظهر والعصر ، فانْ طَهُرت فی آخر وقت العصر ، صلّت العصر»(1) .

بناء علی کون المراد من الطهارة هی نقاؤها من الحیض ، کما هو الظاهر ، والمراد من قوله علیه السلام : «قبل العصر» أی قبل وقت العصر ، حیث تقدر علی اداء صلاتی الظهر والعصر مع جمیع شرائطها .

والمراد من قوله: «آخر وقت العصر» هو وقته المختص به ، فتؤدّی العصر فقط دون الظهر ، لعدم ادراکها شیئا من وقت الظهر .

منها: روایة أبی الصَّباح الکنانی ، عن أبی عبداللّه علیه السلام قال: «إذا طَهُرت المرأة


1- وسائل الشیعة: الباب 49 من أبواب الحیض، الحدیث 6 .

ص:77

قبل طلوع الفجر ، صلّت المغرب والعشاء ، وإنْ طَهُرت قبل أن تغیب الشمس ، صلّت الظهر والعصر»(1) .

منها: روایة عبداللّه بن سنان ، عن أبی عبداللّه علیه السلام قال: «إنْ طَهُرت المرأة قبل غروب الشمس ، فلتصلّ الظهر والعصر ، وإنْ طَهُرت من آخر اللّیل ، فلتصلّ المغرب والعشاء»(2) .

منها: روایة داود الزجاجی (الدّجاجی) ، عن أبی جعفر علیه السلام قال: «اذا کانت المرأة حائضا فطَهُرت قبل غروب الشمس ، صلت الظهر والعصر ، وإنْ طَهُرت من آخر اللّیل صلّت المغرب والعشاء الآخرة»(3) .

منها: روایة عمر بن حنظلة ، عن الشیخ علیه السلام ، قال: «إذا طَهُرت المرأة قبل طلوع الفجر ، صلّت المغرب والعشاء ، وإنْ طَهُرت قبل أن تغیب الشمس ، صلّت الظهر والعصر»(4) .

و الاستدلال علی الحکم بروایة أبی الصباح وما بعدها ، بالنسبة الی العشائین ، حیث قد علق فیها حکم وجوب الاتیان بهما علی قبل طلوع الفجر ، مبنیٌ إمّا علی القول بسعة وقتهما الی طلوع الفجر _ کما علیه بعض _ و ذلک باستحباب القضاء بالنسبة الی المغرب ، والأداء بالنسبة الی العشاء ، کما حمله الشیخ علی استحباب قضائهما لما بعد منتصف اللیل .

أو الحمل علی التقیة لما بعد منتصف اللّیل ، کما احتمله صاحب «الوسائل» .

هذا ، بخلاف الحکم بالنسبة الی الظهرین ، فیما لو حصل النقاء قبل غروب


1- وسائل الشیعة: الباب 49 من أبواب الحیض، الحدیث 7 .
2- وسائل الشیعة: الباب 49 من أبواب الحیض، الحدیث 10 .
3- وسائل الشیعة : الباب 49 من أبواب الحیض، الحدیث 11 .
4- وسائل الشیعة: الباب 49 من أبواب الحیض، الحدیث 12 .

ص:78

الشمس ، فانّه یدل علی المطلوب ، من لزوم الإتیان بالصلاتین لو طَهُرت فی مقدار من الوقت تسعها للصلاة والطهارة وسائر الشرائط کما هو المستفاد من فقرة الواردة فی العشائین أیضا ، _ علی أیّ قول اختیر غیر التقیة _ أو یسع الوقت لتمام الصلاة الاولی ، وادراک رکعة من الاُخری ، إنْ قلنا و تمسکنا بدلیل (مَنْ أدراک رکعةً من الصلاة فقد أدرکها) و ذلک لاثبات وجوب الصلاة اداءًا .

و کیفما کان فانّه تکفی هذه الاخبار _ بل وغیرها مما یستفاد منها ذلک _ لاثبات المطلوب والمدعی .

الثانیة: البحث عن مقدار الزمان الذی تدرکها ، بمعنی أنّه الی ایّ مقدار من الوقت إنْ ادرکته ، تجب علیها الاداء بالنسبة الی الصلاتین من الظهرین والعشائین؟

قد یقال بالنسبة الی الظهرین کفایة ادراک جزء من النهار بحیث تتمکن من اداء ست رکعات ، کما حُکی ذلک عن «الفقیه» کما فی «الجواهر» و «مفتاح الکرامة» وإنْ ادعی صاحب «مصباح الهدی» عدم وجدانه فی «الفقیه» .

وکیف کان ، فما ادعّاه لم یرد فیه نصّ ، ولم یقل أحد بمقالته ، ولا وجه له سوی توهم کون ادراک ست رکعات موجبا لادراک فرض اللّه من کل صلاة فی الوقت ، وهما الرکعتان الأولیتان فی الظهرین ، ولکن برغم حُسن هذا الکلام وجودته ، فان ما یرد علیه هو: أولاً: عدم صدور شیء من المعصوم علیه السلام حتّی یُعتمد علیه فی مقام الفتوی .

وثانیا : لو کان الأمر کذلک ، للزم ذلک _ ای التعمیم _ فی العشائین فی خمس رکعات ایضا ، مع أنه بنفسه لم یلتزم به ، ولم یصرّح بذلک .

اللّهم الاّ أن یُجاب أنّه لم یکن بصدد ذکره والاّ لاختاره فیه أیضا .

وکیف کان ، فانّ الالتزام به مع إعراض الاصحاب عنه مشکل جدّا .

کما أن القول بما ورد فی «المبسوط» و «المهذب» و «الاصباح» من

ص:79

استحباب فصل الظهرین بادارک خمسٍ قبل الغروب ، والعشائین بادراک أربع قبل الفجر ، ضعیفٌ جدّا .

أوّلاً: بمخالفته للاجماع _ کما عرفت حین دعواه عن جماعة من وجوب الأداء لمن أدرک من الوقت لا الاستحباب ، حتّی عند ادارک رکعة ، کما سیأتی فالقول بالاستحباب _ فهذا الحکم مضافا الی مخالفته مع الاجماع ، مخالفٌ مع ما سمعت من الأخبار العامة والخاصة فی التی وردت فی المقام ودلت علی وجوب الأداء لمن أدرک من الوقت ولو بمقدار رکعة واحدة .

و ثانیا: مع غمض النظر عما ذکرنا ، وفرضنا التسلیم والقبول ، فکیف حکموا بلزوم الأداء أو استحبابه لمن أدرک أربع رکعات فی العشائین؟! إذ مع ضمیمة دلیل من أدرک ، وقبول جریانه فی المقام ، فانّه لابد أنْ یفرض لاتیان العشائین فی الوقت مَنْ ادراک خمس رکعات لا أربع ، اذ أنّ وقت الأربع مختصٌ للعشاء ، فلا یجوز اتیان فریضة المغرب فیه ، لعدم صدق الفوات علیه ، لانه قد مضی وقته ولم تکن قد طهرت بعدُ ، فلا فوتَ ولا قضاء ، و حینئذٍ علیها أنْ تؤدی العشاء فقط ، وذلک فی الوقت المختص بها اداءا .

واثبات وصف الادائیة للعشاء ، بجعله خارج الوقت بثلاث رکعات ، وادراک رکعةٍ فی الوقت ، من دلیل من أدراک .

أمر غیر مقبول ، لإنصراف اطلاق دلیل مَنْ أدراک عن شمول مثل ذلک ، بتاخیر العشاء عن وقته المختص به ، وجعله للمغرب ، واتیان العشاء أداءً بواسطة دلیل من ادرک ، اذ من المعلوم أنّ دلیل مَنْ أدرک ناظرٌ الی من اصیب بمثل هذه الحالة ولو عصیانا ففاته الوقت ، لا لمثل من أخّر عمدا مع وجود سعة من الوقت للعشاء ، وفوات وقت المغرب ، کما هو المفروض فی المقام .

لا یقال: إنّه اذا لم یکن تأخیر الفرض عن وقته جائزا لأجل اداء الصلاة ، فانه

ص:80

یجری مثل هذا الامر فی حق من أدرک من الوقت خمس رکعات أیضا ، لأن اتیان صلاة الظهر أو المغرب وایقاعهما فی هذا المقدار من الوقت ، یوجب اخراج العصر والعشاء عن وقتهما ، بثلاث رکعات فی الاولی ، أو برکعتین فی الثانیة ، برغم ثبوت جواز ذلک عند الفقهاء .

لأنّا نقول: بالفرق بین الموضعین ، لأنّ لسان دلیل (مَنْ أدرک لکل صلاة) حاکمٌ علی لسان دلیل اختصاص آخر الوقت بالصلاة اللاحقة ، بالنسبة الی مقدار المزاحمة من الوقت ، وهذا بخلاف ما لم تکن الصلاة السابقة مدرکة من وقتها شیئا ، وکان مجموع الوقت للاحقة ، فحینئذٍ لا یدخل السابقة فی عموم من ادرک حتّی یکون حاکما علی دلیل اختصاص الوقت للثانیة ، فالحکم بالاتیان بالعشائین اداءً لمن أدرک أربع _ کما نُقل عن بعض العامة ، وقد عرفت منّا الحکم بالاستحباب _ لا یخلو عن وهن وضعف ، کما اشار الیه صاحب «الجواهر» قدس سره .

هذا تمام الکلام فی حکم وجوب الأداء ، لمن أدرک الصلاة التامة مع الطهارة وسائر الشرائط فی الوقت ، و ثبت أنه یجب علیها الاتیان بها اداءً ، دون وقوع شی ء من الصلاة خارج الوقت ، حتّی یلاحظ فیها حکم قضائها ، کما لا یخفی .

بل وکذلک تجب علیها الاتیان بالفریضة مع الطهارة وسائر الشرائط اداءً ، لو ادرکها فی الوقت ولو برکعة ، بحیث لو فاتتها کذلک ، لوجبت علیها القضاء مثل السابق _ وسنشیر الی هذا الفرع بعد قلیل _ .

و ذلک لماتری من وجود الدلیل علی ذلک ، وهو الخبر العلویّ المنقول عن الأصبغ بن نُباته ، عنه علیه السلام ، قال: «قال أمیر المؤمنین علیه السلام : مَنْ أدرک من الغداة رکعة قبل طلوع الشمس ، فقد ادرک الغداة تامة»(1) .


1- وسائل الشیعة: الباب 30 من أبواب المواقیت للصلاة، الحدیث 2 .

ص:81

منها: روایتان نبویتان رواهما الشهید الاول رحمه الله فی «الذکری» ، و هما ، الاولی: «قال: رُوی عن النبی صلی الله علیه و آله أنّه قال: مَنْ أدرک رکعة من الصلاة فتدارک الصلاة»(1) .

و الثانیة: قال: «وعنه صلی الله علیه و آله مَنْ أدرک رکعةً من العصر قبل أنْ یغرب الشمس فقد أدرک الشمس»(2) .

وفی «الجواهر» بعد نقل النبویّة الاولی قال: الاّ أنّی لم أعثر علی الاخیر فی طرقنا کالنبوی . و من ثمَّ زعم کون الروایة علویّة لا نبویّة ، مع أن فی «الوسائل» جعلها نبویّة لا علویّة .

وکیف کان، فانّ الشیخ فی «الخلاف»، بعد أن ذکر روایتی أمیر المؤمنین علیه السلام السابقتین المسندتین الی النبیّ صلی الله علیه و آله ، قال: وکذلک رُوی عن ائمتنا علیهم السلام .

و فی «الجواهر» قال: وفی کتاب الصلاة من «المدارک» بعد أن روی النبویّ المتقدم والمرتضوی وغیرهما ، قال: وهذه الأخبار وإنْ ضعف سندها ، الاّ أن عمل الطائفة علیها ، ولا معارض لها ، فتعین العمل بها .

ثم علّق صاحب «الجواهر» علی ذلک بقوله: «وعلی کلّ حالٍ ، فلا یبعد جواز العمل بهذه الاخبار ، بعد ذکر أصحابنا لها وانجبارها بما سمعت» انتهی محل الحاجة (3) .

قلنا: لیس الدلیل منحصرا فی هذه الاخبار الضعیفة حتی نبحث عمّا یجبرها ، بل یمکن استفادة ذلک من اخبار اخری واردة عن الائمة علیهم السلام ، کما أشار الیه الشیخ «الخلاف» وهو مثل روایة عمّار بن موسی ، عن أبی عبداللّه علیه السلام فی حدیث ، قال: «فانْ صلّی رکعة من الغداة ، ثم طلعت الشمس ، فلیُتم صلاته ، و قد


1- وسائل الشیعة: الباب 30 من أبواب المواقیت للصلاة، الحدیث 4 .
2- وسائل الشیعة: الباب 30 من أبواب المواقیت للصلاة، الحدیث 5 .
3- الجواهر ج3/213 .

ص:82

جازت صلاته»(1) .

ومنها: روایة اخری لعمّار بن موسی ، عن أبی عبداللّه علیه السلام ، قال: «فان صلّی رکعةً من الغداة ، ثم طلعت الشمس ، فلیتم الصلاة ، وقد جازت صلاته ، وإنْ طلعت الشمس قبل أن یُصلّی رکعة ، فلیقطع الصلاة ، ولا یُصلی حتّی تطلع الشمس ویذهب شعاعها»(2) .

فان ظاهر هاتین الروایتن وموردهما ، وإنْ کان هو المکلف الذی التفت لذلک حال الصلاة ، وأن المراد من قوله: «جازت صلاته» أی جوازها اداءً لا مطلقا ، حتّی یصدق علیها القضاء .

الاّ أنّه لا یمکن الحکم بذلک ، الاّ من جهة أنّه قد ادرک رکعة واحدة من الصلاة فی الوقت ، فیرجع الأمر الی ضرورة البحث عن اثبات دلیل من ادرک ، فلعلّه یمکن استفادة ذلک لو ادرکت الوقت برکعة ، مع علمها بذلک قبل الدخول فی الصلاة ، لأن احتمال اختصاص الحکم الصادر فی الخبر بقوله «وقد جازت صلاته» مع انها لم تدرک من الفریضة الاّ رکعة واحدة ، لمن التفت الی عدم درکه لتمام الصلاة فی الاثناء ، بعیدٌ و ذلک لوجود ادلّة (من أدرک) الذی کان مؤیدا لمفاد هذه الاخبار ، کما لا یخفی .

فبعد دلالة هذه الاخبار ، وأخبار من أدرک و ملاحظة الاخبار التی قد مرّت و دلّت علی وجوب الاتیان بالصلاة اداءً ، لو طَهُرت قبل غروب الشمس ، أو قبل العصر قبل آخر وقت العصر ، فانه یستفاد من جمیع ذلک وجوب الاتیان اداءً ولو کان قد ادرک رکعة واحدة من الصلاة فی الوقت المتبقی ، وهو المطلوب فی


1- وسائل الشیعة : الباب 30 من أبواب المواقیت ، الحدیث 1 .
2- وسائل الشیعة: الباب 30 من أبواب المواقیت ، الحدیث 3 .

ص:83

ومع الإخلال ، القضاء (1).

المقام ، کما اشار الیه المصنف فی کلامه بقوله: «وإنْ طَهُرت قبل آخر الوقت بمقدار الطهارة ، واداء رکعة ، وجب علیها الاداء» .

نعم بالنسبة الی سائر الشرائط قد عرفت اختلاف رأینا معه بحسب ظاهر کلامه ، فلا نعید .

(1) لصدق اسم الفوات علیه ، بل هو مجمعٌ علیه فعلاً وتحصیلاً ، بل قد یستفاد ذلک من الأخبار أیضا : منها : روایة عبید بن زرارة ، عن أبی عبداللّه علیه السلام ، قال : «قال إیّما امرأة رأت الطهر ، وهی قادرة علی أنْ تغتسل وقت صلاة ، ففرّطت فیها ، حتّی یدخل وقت صلاة اخری ، کان علیها قضاء تلک الصلاة التی فرّطت فیها ، وإنْ رأت الطهر فی وقت صلاةٍ ، فقامت فی تهیئة ذلک ، فجاز وقت صلاةٍ ودخل وقت صلاةٍ اُخری ، فلیس علیها قضاء ، وتُصلّی الصلاة التی دخل وقتها»(1) .

منها : روایة أبیعبیدة عن أبیعبداللّه علیه السلام ، قال : «إذا رأت المرأة الطهر ، وقد دخل علیها وقت الصلاة ، ثم أخرّت الغُسل حتّی یدخل وقت صلاة اُخری ، کان علیها قضاء تلک الصلاة التی فرّطت فیها . . الحدیث»(2) .

منها : روایة محمد بن مسلم ، عن احدهما علیهماالسلام ، قال : «قلت : المرأة تری الطهر عند الظهر ، فتنشغل فی شانها ، حتّی یدخل وقت العصر؟ قال : تصلّی العصر وحدها ، إنْ ضیقّت (ضیعّت علی ما فی الجواهر وغیره) فعلیها صلاتان»(3) .

منها : روایة عبید اللّه الحلبی ، عن ابی عبداللّه علیه السلام : «فی المرأة تقوم وقت


1- وسائل الشیعة : الباب 49 من أبواب الحیض، الحدیث 1 .
2- وسائل الشیعة : الباب 49 من أبواب الحیض، الحدیث 4 .
3- وسائل الشیعة : الباب 49 من أبواب الحیض، الحدیث 5 .

ص:84

الصلاة ، فلا تقضی ظهرها حتّی تفوتها الصلاة ، ویخرج الوقت ، أتقضی الصلاة التی فاتتها؟ قال : إنْ کانت توانت قضتها ، وإنْ کانت دائبة فی غُسلها فلا تقضی»(1) .

فهذه الأخبار کما هی شاهدة وظاهرة دالة علی وجوب القضاء للتی أفرطت وتوانت فی اتیان العمل حتّی فات الوقت ، فیجب علیها القضاء ، بل یکون الامر کذلک لو توانت فی تحصیل الطهارة ، بل وسائر المقدمات والشرائط ، کما لا یبعد دخولها تحت العنوان المذکور فی روایة عبید بن زرارة ، حیث قال : «فقامت فی تهیئة ذلک فجاز وقت صلاة . . . الحدیث» ، فإن اطلاقه تشمل قیامها بتهیئة سائر المقدمات غیر الطهارة أیضا ، کما اشرنا الیه سابقا .

اذا عرفت ذلک فانّ وجوب القضاء ثابتة فی حقّ من أدرک الوقت بجمیعه أو جزء منه ولو بمقدر فترة تفی بأداء رکعة واحدة .

وسوف یأتی الکلام فی أنه لو لم تدرک برکعة ، فهل تجب علیها القضاء إذا طهرت قبل خروج الوقت ولو فی الجملة أم لا؟

قال فی «الجواهر» : «إنّه لا اشکال فی عدم وجوب شی ء علیها ، لو ادرکت أقلّ من رکعة ، بل عن «الخلاف» و«المختلف» نفی الخلاف فیه ، لمفهوم قوله مَنْ أدرک وغیرها ، مما تشعر به بعض الأخبار السابقة» .

قلنا : ولم نجد من یقول بوجوب القضاء لمن کان کذلک ، الاّ ما عرفت من المنقول عن «النهایة» من الاکتفاء بالقضاء بمجرد طمثها بعد الزوال ، أو من ایجاب الصلاة علیها بمجرد تمکنها من الطهارة والشروع فیها ، حتّی أن المصنف فی «المعتبر» قال بعد ذکر جملةٍ منها : «إنّه لو قیل بذلک ، لکان مطابقا لمدلولها: حیث یلزم علیه وجوب القضاء حینئذٍ لکونه قد فرّط فی اتلافه» .


1- وسائل الشیعة : الباب 49 من أبواب الحیض، الحدیث 8 .

ص:85

وامّا ما یتعلق به فاشیاء :

الأوّل : یحرم علیها کلّ ما یشترط فیه الطهارة ، کالصّلاة والطّواف (1).

ولکن الالتزام بمثل هذه المقدمات ، لا یمانع مع کلمات الاصحاب ، ولسان الاخبار ، منطوقا أو مفهوما ، کما لا یخفی .

کما أنّ القول باستحباب القضاء فی هذه الموارد ، إنْ کان من جهة التمسک والعمل علی طبق دلیل التسامح فی الأدلة ، فله وجهٌ ، وإنْ کان من جهة التمسک والعمل علی وفق دلالة الأخبار الآمرة بالقضاء ، بان یستعمل الأمر فی الرجحان ، حتّی ینطبق علی الوجوب ، بالنسبة الی ما یجب فیه القضاء ، وعلی الندب بالنسبة الی ما یندب فیه ، حتّی یوجب کون استعمال العموم مجازا ، فهو مما لا یمکن المساعدة علیه ، لأن مع امکان جریان الحقیقة فیه ، فلا وجه للذهاب الی المجاز من دون وجود القرینة الصارفة ، کما لا یخفی .

وکذلک نذهب إلی أن القول بوجوب قضاء صلاة الصبح ، إذا طهرت قبل طلوع الشمس ضعیفٌ علی کل حال ، کما نقل ذلک عن «النهایة» ، وإنْ کان ربما یشعر به حدیث عمار الذی أوردناه سابقا وفیه : «وإنْ طلعت الشمس قبل أن یُصلّی رکعة فلیقطع الصلاة ولا یصلی حتّی تطلع الشمس ویذهب بشعاعها»(1) فانه مع اشتماله بما لا یلتزم به الفقهاء ، من قطع الصلاة ، یمکن أن یکون وجه حکمه بالصلاة بعد طلوع الشمس ، هو لاجل التفریط فی التاخیر حتّی یناسب مع تلک الأخبار جمعا ، واللّه العالم .

(1) إنّ حرمة بعض العبادات الصادرة من الحائض والتی هی مشروطة


1- وسائل الشیعة: الباب 30 من ابواب المواقیت من کتاب الصلاة، الحدیث 3.

ص:86

بالطهارة کالصلاة والصوم والطواف والاعتکاف (لاجل اللبث فی المسجد) اجماعی نقلاً وتحصیلاً ، بل فی «الجواهر» قوله : «کاد أنْ یکون من ضروریات الدین فی الأوّل منهما _ ای الصلاة _ من غیر فرق فیها بین التطوع والفریضة والتحمّل والاصالة ، بل وإنْ لم نقل بکون الطهارة شرطا فی التطوّع من حیث هو ، بل هو شرط من حیث اللّبث فی المسجد» .

ما یحرم علی الحائض / کلّ ما یشترط فیه الطهارة

بل وهکذا یحرم بعد الانقطاع ، وقبل تحصیل الطهارة المائیة أو ما یقوم مقامها من الترابیة ، وإنْ أمکن القول بالفرق بین الحُرمتین ، حیث أنّ الحرمة فی الثانیة لیست الاّ تشریعیة ، والظاهر أنّه مما لا خلاف فیه ، اذ لم یُسمع ولم یُشاهد من أحد من الحکم علیه بالحرمة الذاتیة بعد الانقطاع ، هذا بخلاف الاولی ، حیث قد وقع الخلاف فیها بأنّ حرمتها ذاتیة أو تشریعیة ، اذ قد یقال بأنّه لا یمکن تصور الحرمة الذاتیة فی الاولی ، لأنها إنْ أقدمت علی أدائها مع النیة ، فإنّ فعلها ترجع الی التشریعیة ، وإنْ أقدمت علی أدائها بها من دون أن تنوی ، فلا حرمة حینئذٍ ، خلافا لجماعة أخری من فقهائنا کصاحب «الجواهر» و«مصباح الفقیه» و«مصباح الهدی» بل «العروة» وکثیر من أصحاب التعلیق علی حسب ظاهر کلامهم واطلاقهم ، فإن ذکر الحرمة من دون تقییدها بالشرعیّة والتی تنصرف الحرمة إلی الذاتیة .

فلا بأس هنا بالاشارة الی وجه عدم کونها ذاتیة ، کما توهمه بعضٌ ، فإنّ الذی قد یوجب توهّم المنع هو ما قد عرفت تقریره من صاحب «الجواهر» وأجاب عنه بقوله : «بأنه مدفوع ، بعد التسلیم بأنه لا مانع من اجتماع الحُرمتین مع النیة ، أخذا بظاهر النص وکلام الاصحاب فی المقام بل صرح به بعضهم . وعلیه یبتنی رد ما یُذکر فی بعض المقامات من الاحتیاط فیها بفعل العبادة ، بأنّه معارض بمثله ، لکون الترک بالنسبة إلیها عزیمة» . انتهی محلّ الحاجة من کلامه(1) .


1- الجواهر ج3/216 .

ص:87

و تحقیق الکلام فیه ، هو أنْ یقال : قد یتوهم عدم امکان تصور الحرمة الذاتیة للعبادة ، لانّ عبادیة العبادة متوقفه علی الأمر بها ، اذ مادام لم یتعلّق بها الأمر لا یعقل أنْ یوتی بها بداعی الامر ، وما لم یؤت بها بذاک الداعی لا تصیر عبادة ، فعبادیة العبادة تتوقف علی الأمر بها ، ومعلوم أنّ الأمر بها لا یجتمع مع النهی عنها فلا یتصور تعلق النهی بها بعد الفراغ عن کونه عبادة .

أقول : هذا الاشکال قد قرّر فی الاصول ، وقد اجیب عنه بما هو ملّخصه بأن الفعل العبادی قد یکون عبّادیا بالذات ، بلا حاجة الی تعلق الأمر به لکی تصیر عبادة ، وهو مثل السجود ، الذی هو عبارة عن غایة الخضوع ، ویعدّ عبادة بالذات ، ولذلک یحرم اتیانه لغیر اللّه ، ومثل هذا الفعل وأضرابه لا یتوقف عبادیته علی ورود الأمر الشرعی علیه حتّی یقال بعدم امکان اجتماع العبادة مع النهی ، لعدم صدق العبادة الاّ بالامر ، اذ هو عبادة ذاتا ، فمثله یمکن ان یتعلق به أحد الأحکام الخمسة ، ومنها الحرمة ، وعلی هذا تری تعلق النهی الشرعی بالسجود فی العزائم فی سجدة التلاوة فی الفریضة ، وذلک لأجل اشتمالها علی زیادة فی الفریضة والمکتوبة ، وهی زیادة ممنوعة فی الصلاة وتوجب بطلانها .

وقد یصیر الفعل عبّادیا ، لکن بواسطة تعلق الأمر به ، وذلک بعد اتیانه بداعی أمره ، أو بداعی ملاک أمره فی ناحیة العلل ، أو بداعی ما یترتب علی الأمر فی ناحیة المعالیل ، ففی مثل ذلک یتعلق النهی بذاک العمل الذی شُرّع نوعه لأن یتعبد به ، وإنْ لم یکن نفس ذاک العمل مشروعا ، فالمنهی عنه عبارة عن ذات العمل الذی لولا هذا النهی لکان عبادةً ، أی ماتیا به بتلک الدواعی ، وفی مثل هذه الموارد لا مانع أن یتصف العمل بالعبادة وبرغم ذلک یرد النهی الشرعی عنه ، فملاک عبادیته حینئذٍ هو تعلق الأمر العبادی بنوعه ، لا بخصوصه وفرده ، حتّی یقال بأنّه لا یمکن أنْ یتصور ذلک .

ص:88

فاذا صار ذات العمل حراما ، ومشتملاً علی مفسدة ذاتیة وقبح ذاتی ، فیکون العمل حراما ، سواء قصد به القربة أم لم یقصد ، لعدم توقف عبادیته حینئذٍ علی هذا القصد ، اذ یکفی فی تطبیق عنوان العبادیة علیه صیرورة نوعه عبادة ، فیصح حینئذٍ النهی عنه سواء قصد به التقرب أو لم یقصد ، غایة الامر أنّه إن قصد به التقرب أیضا فیکون فعله حراما من جهتین ، جهة ذاتیّة وذلک القربة لأجل القبح الذاتی ، ویحرم فعله من جهة أخری وهی تشریعیّة وذلک لأجل قصده القربة ، ولا یلزم مع الاتیان بقصد القربة اجتماع المثلین ، بل یزم اجتماع الحکمین المحرمین ، أحدهما ذاتی والآخر تشریعی .

وتظهر ثمرته فیما لو أتی به بقصد القربة ، من باب الاحتیاط لا التشریع ، فلازمه عدم کونه حراما تشریعیا ، لکنه حرام بحرمة ذاتیّة لأجل قبح ذاته واشتماله علی المفسدة ، بخلاف ما لو أتی بالفعل بقصد القربة ، مع العلم بعدم کونه مطلوبا ، حیث أنه یعدّ مقدما علی إیتان فعل مشتمل علی الحرمتین ، کما لا یخفی .

هذا کله لو قلنا بکون متعلق الحرمتین ، هو نفس العمل الخارجی ، کما هو مقتضی التحقیق ، وانْ تعدّد متعلقیهما ، حیث کان متعلق النهی فی الحرمة الذاتیّة هو نفس العمل لولا النهی ، ومتعلق النهی التشریعی هو العمل باعتبار أنه أقدم علی فعله من جهة انتسابه الفعل إلی الدین وهو لیس منه فالحرمة من جهة إدخاله ما لیس من الدین فی الدین ، فلا استحالة اصلاً ، کما ان عدم استحالته أوضح من الغرض السابق ، لو قلنا بأنّ متعلق النهی فی التشریع هو العمل الجانحی لا الجوارحی لکنه مخالف لمقتضی التحقیق ، کما لا یخفی .

و کیف کان ، فإنّ الحرمة الثابتة للعبادات فی حقّ الحائض تکون حرمة ذاتیّة ، ولو لم تکن تشریعیةً فی بعض الموارد ، مثل حرمته حال النقاء قبل تحصیل الطهارة ، حیث یکون تشریعیا لا ذاتیا ، لعدم کونها حائضا بعد النقاء .

ص:89

هذا تمام البحث عنه فی مقام الثبوت .

و أمّا البحث عنه فی مقام الاثبات : أی هل أن صدور العبادة منها تعدّ حراما ذاتیا أو تشریعیا؟ ومعلومٌ أنّ الحکم فی مثل هذه الموارد موقوف علی ملاحظة لسان الاخبار والادلة .

فنقول : لا یبعد القول بالحرمة الذاتیة ، ویظهر قبول ذلک من صاحب «الجواهر» و«مصباح الفقیه» و«مصباح الهدی» ، فلا بأس بذکر الأخبار الدالة علی ذلک ، فنقول وباللّه الاستعانة :

منها : روایة سلیمان بن خالد ، قال : «قلتُ لأبی عبداللّه علیه السلام : جُعلت فداک ، الحُبلی ربما طمثت؟ قال : نعم . . . الی أنْ قال : فاذا فضل دفقته ، فاذا دفقته حرمت علیها الصلاة»(1) .

منها : صحیحة زرارة ، عن أبی جعفر علیه السلام : «قال : إذا کانت المرأة طامثا ، فلا تحلّ لها الصلاة . . الحدیث»(2) .

فان عدم الحلیة مساوٍ للحرمة فی طهورها فی الذاتیة ، کما وقع لفظ التحریم فی کلام السائل فی الخبر القادم ، من دون أن یردعه الإمام عنه .

منها : روایة سعید بن یسار ، عن أبی عبداللّه علیه السلام ، قال : «قلت له : المرأة تحرم علیها الصلاة ، ثم تطهر ، فتتوضأ من غیر أنْ تغتسل . . الحدیث»(3) .

منها : ظهور روایة أبی بصیر ، عن ابی عبداللّه علیه السلام قال : «وایّ امرأة کانت معتکفة ثم حرمت علیها الصلاة ، فخرجت من المسجد فطهرت . . الحدیث»(4) .


1- وسائل الشیعة : الباب 30 من أبواب الحیض، الحدیث 14 .
2- وسائل الشیعة : الباب 39 من أبواب الحیض، الحدیث 1 .
3- وسائل الشیعة : الباب 27 من أبواب الحیض، الحدیث 7 .
4- وسائل الشیعة : الباب 51 من أبواب الحیض، الحدیث 2 .

ص:90

فهذا الخبر ظاهرٌ فی الحرمة الذاتیة ، کما هو المستفاد من ظهور لفظ النهی الواقع فی حدیث فضل بن شاذان عن الرضا علیه السلام ، قال : «إذا حاضت المرأة فلا تصوم ولا تصلی ، لأنها فی حدّ نجاسة ، فأحب اللّه ان لا یُعبد الاّ طاهرا ، ولأنه لا صوم لمن لا صلاة له . . الحدیث»(1)

ولا یمکن حمل قوله : «فأحبّ اللّه» قرینة علی الکراهة ، لأنّه قد یطلق هذا اللفظ فی مورد الحرام ایضا ، کما قد یراد من الکراهة ذلک فی بعض الموارد ، خصوصا مع وجود القرینة علی ارادة الحرام فی سائر الاخبار ، مثل ما فی صحیحة خلف بن حمّاد الکوفی ، فی حدیثٍ ، قال : «فلتتق اللّه ، فان کان من دم الحیض فلتُمسِک عن الصلاة حتی تری الطهر ، ولتُمسِک عنها بعلها ، وإنْ کان من العُذرة ، فلتتق اللّه وتتوضأ ولتُصلّ ویاتیها بعلها إنْ أحبّ ذلک»(2) .

فانّ ورود قوله : «فلتتّق اللّه» فی کلا الطرفین یفید کون أمرها دائرةً بین المحذورین ، خصوصا مع ملاحظة وحدة السیاق فی أمره علیه السلام بامساک بعلها عن مقاربتها ، الذی کان وجوبه فی حال الحیض من جهة حرمة الوطی أمرا ثابتا .

فان تعلق النهی بفعل الصلاة علی وجه التعبد والمشروعیة _ کما کانت تفعلها قبل الحیض _ لا یوجب من امتناع کون الحرمة ذاتیة ، لما قد عرفت من عدم التنافی بین الحرمتین ، الحرمة التشریعیة لأجل قصد القربة ، والحرمة الذاتیة لأجل کون ذاتها مشتملة علی القبح الذاتی والمفسدة ، کما لا یخفی .

والأخبار الدالة علیه أکثر ، کما مرّ علیک فی أخبار الاستظهار ، وما ورد من قوله علیه السلام : «دَعی الصلاة أیّام اقرائک» ، وامثال ذلک .


1- وسائل الشیعة : الباب 39 من أبواب الحیض، الحدیث 2 .
2- وسائل الشیعة : الباب 2 من أبواب الحیض، الحدیث 1 .

ص:91

لا یقال : لعل الحکم بالاستظهار والاحتیاط بیوم أو یومین ، کان لأجل کون الحکم بالبقاء علی الحیض مطابقا للاصل والاستصحاب ، لا لأجل کون العبادة فیها حراما .

لانا نقول : بان المستفاد من ظاهر هذه الاخبار ، هو کون الأمر بترک العبادة إنّما کان من جهة تغلیب جانب احتمال الحیض علی احتمال النقاء ، الموجب للحکم بالاستحاضة ، المستلزم للحکم بوجوب اتیان العبادة ، ولعل وجه التغلیب والأولویة ، هو غلبة استمرار الحیض الی ما بعد أیّام العادة بمقدار یوم أو یومین ، أو غیر ذلک من الوجوه والاحتمالات .

بقی هنا شی ء ، وهو أنّه قد یقال :

بأنّ القول بدوران الأمر بین المحذورین ، وکون المستظهر من الأخبار رجحان جانب ترک الصلاة فی حال احتمال الحیض ، ینافی ما ذکره الفقهاء من الاحتیاط فی هذه الحالة ولزوم ترک ما یجب علی الحائض ترکها وإتیانها لأعمال المستحاضة ، عند دوران الأمر بین کون الدم حیضا وغیره ، حیث ادّعی علیه الشیخ الأنصاری رحمه الله الاتفاق فی کتاب «الطهارة» فی المضطربة المتحیرة ، بل قد استدلوا بذلک علی عدم کون الحرمة ذاتیة ، اذ لو کانت کذلک لم یکن للاحتیاط المذکور وجهٌ .

فاجاب عنه المحقق الآملی فی «المصباح» بقوله : قلت : «لعل الاحتیاط المذکور فی المضطربة فی الصلاة الواجبة ، بتغلیب جانب الفعل علی الترک فی الاحتیاط ، لأنها عمود الدین ، ولذا ربما یقال باختصاص الاحتیاط بالفرائض ، وعدم جواز الاتیان بالنوافل ، لکن المحکیّ عن «النهایة» أنّ النوافل أیضا الفرائض ، لکونها من مهمات الدین .

وأما ترک الصلاة فی أیّام الإستظهار ، فلما عرفت من غلبة استمرار الحیض

ص:92

ومسّ کتابة القرآن (1).

الی ما بعد العادة ، بمقدار أیّام الاستظهار ، فی صورة تجاوزه عن العادة ، مضافا الی کونه معاضدا مع الاصل ، أعنی اصالة بقاء الحیض فی أیّام الاستظهار» .

انتهی کلامه رحمه الله (1) .

و لکن التأمل فیه یقتضی أن یقال فی جوابه :

ما یحرم علی الحائض / مسّ کتابة القرآن

إنّ دوران الأمر بین المحذورین ، لا ینافی مع الاحتیاط والاتیان فی باب العبادات ، إذا أتی بها مع رجاء المطلوبیة ، لأن احتمال حرمته وکونه مبغوضا إنّما یکون فیما إذا اتی به بما أنه مطلوبٌ واقعا وجزما _ کما یحتمل مطلوبیته کذلک _ حتّی یصدق علیه ، وامّا الاتیان برجاء المطلوبیة ، لا ینافی مع کونه حراما واقعا ، الاّ أن یاتی یرد دلیلٌ خاص علی ترجیح جانب الترک فیتّبع . ولعلّ منه ما عرفت لزوم الاستظهار ، من الأخبار الواردة فیمن تجاوزه الدم عن العادة بیوم مثلاً _ کما هو المختار _ أو ازید منه _ کما اختاره بعض آخر _ واللّه العالم .

(1) تعدّ حرمة مسّ الآیات مشهورا ، بل کادت أن تکون اجماعیا ، بل قد ادعی علیه الاجماع من جماعة منهم الصدوق قدس سره فی «الفقیه» ، حیث ادعی قیام الاجماع علی حرمة مسّ الحائض اسم اللّه وأسماء الانبیاء والأئمة علیهم السلام ، فتکون حرمة مسّ کتابة القرآن ، بل لم یُعرف خلاف فیه من فقیهٍ ، الاّ عن ابن الجنید من القول بالکراهة ، حیثُ لا یبعد ارادته الحرمة من الکراهیة ، کما کان ذلک مصطلحا فی تلک الأزمنة من التعبیر عن الحرام بالکراهة ، ومن المعلوم انه لا یقدح بالاجماع خلافه .


1- مصباح الهدی ج5/49 .

ص:93

والدلیل علیه : _ مضافا الی الاجماع أو الشهرة ، _ الادلة الواردة فی باب الوضوء والجنابة ، الدالّة علی تحریم المسّ وإنّ تعظیم کتاب اللّه وآیاته یقتضی أن لا تمسّ إلاّ مع الطهارة ، وهذا الحکم ثابت فی حقّ الحائض ایضا ، کما اشار الیه فی حدیث سعید بن یسار ، بأنّ حَدَث الحیض یعدّ اعظم من الجنابة ، وإلیک نصّ الخبر : «قال : قلتُ لأبی عبداللّه علیه السلام : المرأة تری الدم وهی جنب ، أتغتسل عن الجنابة ، أو غسل الجنابة والحیض واحد؟ فقال : قد أتاها ما هو أعظم من ذلک»(1) .

فاذا لم یسوّغ الشارع مسّ القرآن للجنب ، ففی الحائض بطریق اولی .

مضافا الی ظهور کلمات الاصحاب علی اشتراکها مع الجنب فی الأحکام ، بل ربما یستدل لذلک بما فی المرسلة المرویّة عن أبیجعفر المروی عن الباقر علیه السلام ، والتی أوردها الشیخ الطبرسی رحمه الله فی «تفسیر مجمع البیان» فی ذیل قوله تعالی : «ولا یَمَسُّهُ إلاّ المُطَهَّرُون» الشامل باطلاقه لمثل مسّ الحائض .

و من ذلک یظهر حکم المصنف القائل بحرمة مسّ اسم اللّه وأسماء الأنبیاء والائمة علیهم السلام علی الاحوط ، وبل کذا فاطمة الزهراء علیهاالسلام .

وقد نُقل التصریح بالحرمة بالنسبة الی غیر الأخیرة ، عن «المقنعة» و«النهایة» و«الکافی» و«المهذب» و«الوسیلة» و«الغنیة» و«الاشارة» و«الجامع» و«المنتهی» و«نهایة الأحکام» و«الذکری» و«البیان» و«الدروس» و«جامع المقاصد» و«الروض» و«معالم الدین» و«شارح النجاة» و«عیون المسائل» و«الجواهر» و«مصباح الفقیه» و«مصباح الهدی» و«العروة» ، وأصحاب التعلیق علیها .

بل قد یستشعر ذلک من مرسلة داود ، عن رجلٍ ، عن أبی عبداللّه علیه السلام : «قال : سألته عن التعویذ یُعلّق علی الحائض؟ قال : لاباس . وقال : تقرأه وتکتبه


1- وسائل الشیعة : الباب 22 من أبواب الحیض، الحدیث 2 .

ص:94

ویکره حمل المصحف ، ولمس هامشه (1).

ولا تمسه»(1) . ومثلها روایته الثانیة(2) .

حیثُ أنّ النهی عن مسه أو اصابة یدها ، لیس الاّ لأجل وجود اسم اللّه وأسماء الأنبیاء والأئمة علیهم السلام علی التعویذة ، کما لا یخفی ، أو وجود الآیات القرآنیة .

هذا فضلاً عن ظهور النهی فی التحریم ، وینجبر ضعفهما بالاجماع أو الشهرة .

أمّا المنقول عن سلاّر من ندبیّة ترک مس ما فیها اسم اللّه .

ضعیفٌ جدا ، خصوصا مع تصریحه قبیل ذلک الحائض مع الجُنب فی الأحکام ، ومع تصریحه بالحرمة فی الجنب ، فالحائض یکون بطریق اولی .

فالحکم بحرمة مسّ غیر المتطهر کتابة القرآن واسم اللّه واسماء الانبیاء والائمة علیهم السلام قوی جدا ، وإنْ کان فی بعضها علی الأحوط کما فی «العروة» .

(1) بل وفی «الجواهر» زیادة قوله : «وما بین سطوره» .

وهذا الحکم هو المشهور شهرة کادت تکون اجماعا ، بل فی «المعتبر» الاجماع علی کراهیة حمله بغلافه .

ما یحرم علی الحائض / فی کراهة حمل المصحف و لمس هامشه علیها

وهذا المقدار من الدلیل یکفی لاثبات الکراهة ، لأجل التسامح ، لو لم یقدّم علیه دلیل آخر _ مع أن البحث عنها تفصیلا مذکور فی باب الجنابة _ وبضمیمة دلیل الاشتراک ، فإنّه یتم المطلوب ، کما لا یخفی .

فما یظهر عن علم الهدی رحمه الله من حرمة مس المصحف ولمس هامشه ضعیفٌ ، کما وقع بحثه فی الجنابة مستوفی ، فلاحظ وتأمل .


1- وسائل الشیعة : الباب 37 من أبواب الحیض، الحدیث 4 .
2- وسائل الشیعة : الباب 37 من أبواب الحیض، الحدیث 1 .

ص:95

بل قد یمکن الاستدلال علی کراهة حمله بغلافه ، بالخبر المروی عن الإمام موسی بن جعفر ، الکاظم علیه السلام ، قال : «قال : المصحف لا تمسه علی غیر طُهر ولا جُنبا ولا تمس خیطه (او خطه) ، ولا تعلّقه ، إنّ اللّه یقول : «لا یمسه الاّ المطهرون»(1) .

حیث أنّه یدل علی المنع عن تعلیق القرآن علی غیر طهر ، فبضمیمة دلیل الاشتراک بین الجنب والحائض ، ووجود الاجماع علی الکراهة ، یوجب حمل النص علی الکراهیة فی الحائض کالجنب ، مضافا الی ملاحظة اخبار عدیدة أخری تدل علی جواز تعلیق التعویذ علی الحائض ، مثل حسنة منصور بن حازم ، عن أبیعبداللّه الصادق علیه السلام ، قال : «سألته عن التعویذ یعلّق علی الحائض؟ فقال : نعم ، إذا کان فی جلدٍ أو فضة أو قصبة حدید»(2) .

وحسنة داود بن فرقد ، عن أبیعبداللّه الصادق علیه السلام ، قال : «سألته عن التعویذ یُعلّق علی الحائض؟ قال : نعم ، لا بأس»(3) .

بناءً علی شمول الاطلاق لتعلیق القرآن فی التعویذ .

اللّهم الا أن یقید بتلک الاخبار باخراج القرآن ، أو کونه مع الغلاف الفضی أو ما یشابههما . نعم یمکن الاستدلال علی کراهة الحمل للحائض والجنب من دون تعلیق ، بما بالخبر الذی رواه العامّة بأسانیدهم عن رسول اللّه صلی الله علیه و آله : «قال : لا یحمل القرآن ، ولا یمسّه الاّ طاهرا»(4) .

بضمیمة الشهرة علی الکراهة ، وکون ترک حمل القرآن عند عدم الطهر والجنابة ، یتناسب مع تعظیمه ، کما لا یخفی .


1- وسائل الشیعة : الباب 37 من أبواب الحیض، الحدیث 3 .
2- وسائل الشیعة : الباب 37 من أبواب الحیض، الحدیث 3 .
3- وسائل الشیعة : الباب 37 من أبواب الحیض، الحدیث 1 .
4- مصباح الهدی ج5/133 .

ص:96

ولو تطهّرت لم یرتفع حَدثها (1).

(1) أقول : هذا الفرع مشتمل علی ثلاث مسائل لابأس بالاشارة الیها ، کما أشار الیها السید فی «العروة» فی المسألة المرقّمة 42 :

الاولی : عدم ارتفاع حدث الحیض عنها بتحصیلها للطهارة ، سواء کانت قد طهرت عن الحدث الأصغر بالوضوء أو بالتیمم ، أو عن الحدث الأکبر بالغسل أو ببدله .

ویدل علیه الاجماع قولاً واحدا ، کما عن «الجواهر» ، من غیر فرق فی ذلک بین حال ظهور الدم وبین کونه فی الباطن ، بل حتّی فی حال النقاء منه ، إذا کانت محکومة بالحیض ، لعدم اجتماع الطهر عن الحدث الأصغر ، ولا عن حدث الحیض ، مع کونها محکومةً بالحیض ، لأن حدث الحیض الذی یعدّ من الأحداث الکبری مشتمل وموجب للحدث الاصغر أیضا .

ما یحرم علی الحائض / فی عدم ارتفاع حدثها لو تطهّرت

بل قد یستدل علی ذلک بالخبر الذی رواه ، محمد بن مسلم عن أبیعبداللّه الصادق علیه السلام : «قال : سألت أبا عبداللّه علیه السلام عن الحائض تطهر یوم الجمعة ، وتذکر اللّه؟ قال : اما الطُّهر فلا ، ولکنّها تتوضأ فی وقت الصلاة ، ثم تستقبل القبلة وتذکر اللّه»(1) .

ولا ینافی ما ذکرنا مع ما ورد فی الاخبار من جواز الوضوء أو التیمم لها إذا حاضت فی احد المسجدین ، وهو مثل صحیحة زرارة ، عن أبی جعفر علیه السلام : قال : إذا کانت المرأة طامثا ، فلا یحلّ لها الصلاة ، وعلیها أن تتوضأ وضوء الصلاة عند وقت کلّ صلاةٍ ، ثم تقعد فی موضعٍ طاهر فتذکر اللّه الحدیث)(2) .

وروایة أبی حمزة ، قال : قال أبو جعفر علیه السلام : «إذا کان الرجل نائما فی المسجد


1- وسائل الشیعة : الباب 22 من أبواب الحیض، الحدیث 3 .
2- وسائل الشیعة : الباب 40 من أبواب الحیض، الحدیث 2 .

ص:97

أو مسجد الحرام أو مسجد الرسول صلی الله علیه و آله ، فاحتلم فأصابته جنابة ، فلیتیمم ولا یمشی فی المسجد الاّ متیمما ، حتّی یخرج منه ، ثم یغتسل ، وکذلک الحائض إذا اصابها الحیض تفعل ذلک الحدیث»(1) .

لأنّ جواز تحصیلهما اعم من تحصیل الطهارة عن الحدث ، لامکان أن یکون ذلک لتحصیل خصوص جواز المرور واباحته فی المسجد ، أو لأجل تجویز الاتیان بالذکر والتسبیح فی حال الحیض ، أو جواز الأکل .

وبعبارة اخری : کان الرفع فی هذه الموارد نسبیا لا مطلقا ، مثل الغسل أو بدله فی فرض تعذر الغسل . وهذا الحکم ثابتٌ بین الأصحاب قولاً واحدا بلا اشکال .

المسألة الثانیة : أنّه قد اتضح مما ذکرنا جواز الاتیان بالأغسال المستحبة غیر المرافقة للحدث ، کغسل الإحرام والتوبة والجمعة ونحوها ، بل وکذا الوضوءات المندوبة غیر الرافعة ، کالوضوء لها لأوقات الصلاة ولها ، وللجنب لغایة الأکل والشرب والنوم ، وقد صرّح بنفی الاشکال فی صحة الاغسال المستحبة عن صاحب «السرائر» و«المعتبر» .

ویدل علی ذلک _ مضافا الی اطلاق ادلة الأدلّة الدالّة علی مشروعیّة تلک الامور _ ما دل علی استحباب غُسل الاحرام لها ، کصحیح العیص ، قال : «سألتُ أبا عبداللّه علیه السلام : أتحرم المرأة وهی طامث؟ فقال : نعم ، تغتسل وتلبی»(2) .

ونحوه حدیث ابن عمار(3) والشّحام(4) ویونس بن یعقوب(5) الواردة فی الحائض .


1- وسائل الشیعة : الباب 15 من أبواب الجنابة، الحدیث 3 .
2- وسائل الشیعة : الباب 48 من أبواب الاحرام، الحدیث 5 .
3- وسائل الشیعة : الباب 48 من أبواب الاحرام، الحدیث 4 .
4- وسائل الشیعة :الباب 48 من أبواب الاحرام، الحدیث 3 .
5- وسائل الشیعة : الباب 48 من أبواب الاحرام، الحدیث 2 .

ص:98

فبضمیمة عدم الفصل بین غُسل الاحرام من المندوب وغیره ، یثبت المطلوب .

مضافا الی ما عرفت من ورود الخبر الدال علی جواز الوضوء فی أوقات الصلاة والذکر ، بل وما ورد من جواز الوضوء للاکل فی الجنب ، الشامل باطلاقه للجنب والحائض أیضا ، مثل روایة الحلبی ، عن أبیعبداللّه الصادق ، عن ابیه علیهماالسلام : «قال إذا کان الرجل جُنبا ، لم یأکل ولم یشرب حتّی یتوضأ»(1) .

هذا ، مع ملاحظة اشتراک الرجل والمرأة فی أحکام الجنابة .

ما یحرم علی الحائض / فی إتیان الحائض بالأغسال المستحبّة

وکما قد یستفاد الحکم أیضا من الخبر الوارد فی خصوص الوضوء للحائض ، مثل حدیث معاویة بن عمّار ، عن الصادق علیه السلام : «تتوضأ المرأة الحائض إذا أرادت الاکل ، الحدیث»(2) .

بل وما ورد فی مطلق الجنب من دون ذکر قید الرجل ، مثل روایة عبد الرحمن بن أبی عبداللّه فی حدیثٍ ، قال :«قلتُ لأبی عبداللّه علیه السلام : أیاکل الجُنب قبل أن یتوضأ؟ قال : انا لنکسل ولکن لیغسل یده ، فالوضوء افضل»(3) .

وهکذا ثبت أنّ هذا مما لا خلاف فیه .

ما یحرم علی الحائض / فی إتیان الحائض الأغسال الواجبة علیها

المسألة الثالثة : وهی التی وقع الاختلاف فیها ، وهی البحث عن صحة الاغسال الواجبة الرافعة لکلّ حدث غیر الحیض منها ، مثل غُسل الجنابة ومسّ المیت ، فهل یصحّ اتیانها فی حال الحیض أم لا؟

فیه قولان ، والمنسوب الی المشهور هو عدم الصحة ، بل عن «المنتهی» و«المعتبر» دعوی الاجماع علیه .

وبعبارة أخری : هل یرتفع الحدث الذی تطهّرت منه أم لا؟


1- وسائل الشیعة : الباب 20 من أبواب الجنابة، الحدیث 4 .
2- وسائل الشیعة : الباب 40 من أبواب الحیض، الحدیث 5 .
3- وسائل الشیعة : الباب 20 من أبواب الجنابة، الحدیث 7 .

ص:99

والذی یظهر من أکثر الاصحاب _ خصوصا من المتقدمین _ هو الثانی ، خلافا لأکثر المتاخرین ، خصوصا المعاصرین منهم أو من قارب عصرنا ، کالسیّد فی «العروة» وکثیر من أصحاب التعلیق ، حیث ذهبوا الی القول الاوّل .

واستدل المشهور علی مذهبه بامورٍ ، منها : التمسک بالأخبار ، مثل صحیحة محمد بن مسلم ، من التصریح بعدم حصول الطهر ، بقوله علیه السلام : «وامّا الطهر فلا» .

وصحیح الکاهلی ، عن أبی عبداللّه علیه السلام : «قال : سألته عن المرأة یجامعها زوجها فتحیض ، وهی فی المغتسل ، تغسل أو لا تغتسل؟ قال : قد جاءها ما یفسد الصلاة ، فلا تغتسل»(1) . فإنّ مضمون الخبر صریح فی حکمه علیه السلام بالنهی عن الاغتسال . و موثق سعید بن یسار ، قال : «قلتُ لأبی عبداللّه علیه السلام : المرأة تری الدم و هی جنب ، تغتسل عن الجنابة ، وغُسل الجنابة والحیض واحد؟ فقال : قد أتاها ما هو أعظم من ذلک»(2) .

فان قوله علیه السلام : «قد أتاها ما هو أعظم» إشارة الی عدم فائدة غسل آخر مع الحدث الذی أصابها وهو الحیض . وموثق أبیبصیر ، عن الصادق علیه السلام ، قال : «سئل عن رجل أصاب من امرأة ثم حاضت قبل أن تغتسل؟ قال : تجعله غسلاً واحدا»(3) .

فإنّ حکمه علیه السلام بجعلها غسلاً واحدا ، لیس الاّ لاجل أنه لا اثر لغسل الجنابة مع وجود حدث الحیض .

ومنها : أنّ الطهارة وحدث الحیض ضدان ، یمتنع اجتماعهما ، فلا یعقل حصولها معه ، کما لا یخفی .


1- وسائل الشیعة : الباب 22 من أبواب الحیض، الحدیث 1 .
2- وسائل الشیعة : الباب 22 من أبواب الحیض، الحدیث 2 .
3- وسائل الشیعة : الباب 43 من أبواب الجنابة، الحدیث 5 .

ص:100

ومنها : أنّه لا یمکن تحقق غُسل الجنابة مع وجود الحیض ، لأنّ غُسل الجنابة لو تمّ تأثیره لافاد فی اجزاءه عن الوضوء ، مع أنه غیر ممکن هنا ، لأجل وجود حدث الحیض .

ومنها : أنّه لا یجتمع مع القول بکون غُسل الجنابة واجبا لغیره ، لأنّ المرأة مع کونها قد أصابها حدث الحیض ، فإنّه لا یجب علیها مما یتوقف علی غُسل الجنابة حتّی یصیر واجبا للغیر ، هذا بخلاف ما لو کانت طاهرة .

أقول : إنّ الدقة والتأمل یقتضیان خلاف ذلک ، أمّا أوّلاً : لوجود العموم و الاطلاق علی الجواز ، والأمر بالغُسل بعد تحقق الحدث ، الشامل باطلاقه وعمومه للحائض ، لولا الدلیل علی التقیید والتخصیص ، خصوصا فی الجنابة .

وثانیا : ورود الأخبار الدالّة علی الجواز فی خصوص الحائض ، مثل روایة سماعة ، عن أبی عبداللّه وأبی الحسن علیهماالسلام ، قالا : «فی الرجل یجامع المرأة ، فتحیض قبل أن تغتسل من الجنابة؟ قال : غسل الجنابة علیها واجب»(1)

بأن یؤخذ باطلاقه حتّی لمن تحیض وأراد اتیان غُسلها فی حال حیضها ، ولم یُحمل علی بقاء الغُسل فی ذمتها الی أن تطهر من حدث الحیض ، والاّ لا ینافی ما ذکروه .

هذا بناءً علی کون الجملة الواردة فی الخبر جملة إخباریة فی موضع الانشاء والأمر لا بصورة الاستفهام الانکاری ، کما احتمله صاحب «الوسائل» حیث ذهب إلی أنّ المراد من الجملة انکار وجوب الغُسل علیها ، والاّ لصارت موافقة مع قول المشهور .

والذی یؤید خبریّة الجملة ما ورد فی روایة عمّار الساباطی ، عن أبی عبداللّه علیه السلام ، قال : «سألته عن المرأة یواقعها زوجها ، ثم تحیض قبل أن تغتسل؟


1- وسائل الشیعة : الباب 43 من أبواب الجنابة، الحدیث 8 .

ص:101

قال : إن شاءت أن تغتسل فعلت ، وإنْ لم تفعل فلیس علیها شی ء ، فاذا طهرت اغتسلت غُسلاً واحدا للحیض والجنابة»(1) .

حیث أنّه علیه السلام قد أجاز لها الاغتسال فی حال الجنابة ، وسیاق الخبر لا یناسب مع الانکار الأکید فی الحدیث السابق . بل ومن جهة فهم الجواز منهما ، تری الشیخ الطوسی قدس سره قد حکم بالجواز فی خصوص الجنابة فی کتابه «التهذیب» ، ولکن نحن نذهب إلی تعمیم الحکم لغیره أیضا ، وذلک لأجل عدم الخصوصیة فی الحدثیة بین الجنابة ومسّ المیت من جهة عدم المزاحمة مع حدث الحیض لو قصدت اتیانه فی حال الحیض ، حیث یترتب علیه أثره المختص به .

ما یحرم علی الحائض / فی عدم صحّة الصوم منها

لا یقال : لو سلّم تمامیة دلالة الاطلاق والعموم أو الروایة الخاصّة الواردة ، لکنهما معارضان لورود الدلیل علی خلافها ، کما عرفت وجوده فی الأخبار السابقة .

لأنّا نقول : عدم تمامیة دلالة تلک الاخبار للمنع ، لامکان أن تکون تلک الأخبار إرشادیة ، أی إنّها ارشاد إلی عدم ترتب أثر یفسد الغُسل مع وجود الحیض ، کما یؤید ذلک ما هو المذکور فی الحدیث بما یشبه التعلیل من قوله علیه السلام : «وقد جاءها ما یفسد الصلاة» أو «وقد أتاها ما هو أعظم من ذلک» .

ولا یفهم منها عدم الجواز _ کما قیل _ ولعلّ وجه النهی کان لأجل توهم الحظر من احتمال الوجوب ، لکون المقام مقام توهمه .

کما أنّ ما ورد فی موثقة أبی بصیر مِنْ جعل غُسلهما غُسلاً وحدا ، لم یکن إلاّ فی مقام بیان الرخصة بالاتیان بغسل واحد ، دون العزیمة ، وإلاّ لصار منافیا مع عدد من الأخبار الواردة الدالة علی جواز التداخل فی الاغسال المتعددة ، مثل غُسل مسّ المیت ، مع غُسل الجنابة ، أو غُسل الحیض مع سائر الاغسال ، فاذا


1- وسائل الشیعة : الباب 43 من أبواب الجنابة، الحدیث 7 .

ص:102

الثانی : لا یصح منها الصوم (1).

کان التداخل مرخصا فیه ، فلا ینافی حینئذٍ جواز الاتیان بالأغسال متعددا ، سواء کان ذلک فی حال طهرها عن الحیض بأن تقدم علی اتیان الغُسل للجنابة مستقلاً وذلک لأجل أن یترتب علیه أثره المختص به ، مثل زوال الکراهة التی کانت للاکل مع الجنابة ، أو زوال کراهة النوم مع الجنابة ، ونحو ذلک .

کما یجاب عمّا قیل من إمکان عدم إجزاء مثل هذا الغُسل عن الوضوء فی تلک الحالة ، بأن هذا الاثر إنّما یترتب علیه ، لو لم یکن فی البین مانع ، نظیر المانع العارض اثناء الغسل _ کالحدث الأصغر _ حیث لا یکفی عن الوضوء حینئذٍ ، وهو غیر مانع عن صحة الغسل ، کما لا یخفی .

فالاقوی هو ما اختاره السیّد قدس سره ، وأکثر المتأخرین ، من صحّة الاغسال الواجبة ، بلا فرق بین کونه من الجنابة أو غیره ، بل نذهب إلی زوال الحدث بالنسبة الی بعض الأشیاء ، کالأکل والنوم وغیرهما ، وإنْ لم یرتفع بسببه مطلق الحدث ، وذلک لما عرفت من تحقق ما هو اعظم وما هو مفسد للصلاة _ أی الحیض _ کما لا یخفی .

ومما ذکرنا ظهر عدم وجود التضاد بین وجود الحدث للحیض ، مع حصول ما یزول الحدث بالنسبة إلی بعض الاشیاء .

نعم ، یصحّ دعوی وجود التضاد بین أصل الحدث ، مع حصول الطهارة تامّة ، ونحن لا ندعی مثل ذلک ، کما هو واضحٌ لمن یتدبر .

(1) إنّ عدم صحة الصوم حال الحیض ، حکمٌ ثابتٌ بدلیل الاجماع _ محصلاً ومنقولاً _ بل السنّة ناطقه به ، کما مرّ حین ذکر الاخبار الدالة علی شرطیة الطهارة عن حدث الحیض فی العبادات ومنها الصوم الذی ورد ذکره فی تلک الأخبار .

ص:103

ولا یجوز لها الجلوس فی المسجد (1).

منها : روایة فُضیل بن شاذان ، عن الرضا علیه السلام قال : «إذا حاضت المرأة ، فلا تصوم ولا تصلّی ، لأنها فی حدّ نجاسة ، فأحب اللّه تعالی أنْ لا یُعبد الاّ طاهرا ، ولأنّه لا صوم لمن لا صلاة له الحدیث»(1) .

ومثله روایات متعددة لا حاجة لذکرها ، کما لا یخفی .

و لا فرق فی ذلک بین الواجب منه والمندوب ، کما لا فرق فی الواجب بین کونه بالذات أو بالعرض ، مثل الصوم المنذور والمحلوف علیه .

هذا کله فی حال وجود الحیض وقبل الانقطاع .

و أمّا حکمه بعد الانقطاع وقبل أن تُقدم المرأة علی الغُسل ، فحکمه کذلک عند المشهور ، کما فی «الجواهر» ، تمسکا بما رواه أبو بصیر ، عن أبیعبداللّه الصادق علیه السلام : «إنْ طهرت بلیل من حیضها ، ثم توانت أنْ تغتسل فی رمضان حتّی أصبحت ، علیها قضاء ذلک الیوم»(2) .

ما یحرم علی الحائض / اللبث فی المسجد

خلافا للعلاّمة فی «النهایة» ومال الیه بعض متأخری المتأخرین ، کما ترددّ فیه المصنف فی «المعتبر» ، ویأتی تفصیل الکلام عنه فی باب الصوم إنْ شاء اللّه تعالی .

(1) لا اشکال فی حرمة الجلوس لها فیه ، کما فی المتن ، و«القواعد» ، لوقوع النهی عنه فی الأخبار ، کما سنشیر الیه بل وکذلک یحرم علیها اللّبث فیه ، کما وقع التصریح بذلک فی «الارشاد» و«المعتبر» و«المنتهی» ، بل قد ادعی فی الکتابین الأخیرین الاجماع علیه ، بل وقع هذا التعبیر فی کلمات المتأخرین ، کالسید فی


1- وسائل الشیعة : الباب 39 من أبواب الحیض، الحدیث 2 .
2- وسائل الشیعة : الباب 21 من أبواب ما یمسک عنه الصائم، الحدیث 1 .

ص:104

«العروة» وصاحب «الجواهر» و«مصباح الفقیه» و«مصباح الهدی» ، وکثیرٌ من أصحاب التعلیق علی «العروة» ، بل کلهم ، ولعلّهم استفادوا هذا الحکم من کلمتی الاجتیاز والمرور ، الواردین فی لسان الأخبار ، فلا بأس هنا بذکر الاخبار الواردة فیه :

منها : صحیحة زرارة ومحمد بن مسلم ، عن أبی جعفر علیه السلام ، قالا : «قلنا له : الحائض والجنب یدخلان المسجد أم لا؟

قال : الحائض والجنب لا یدخلان المسجد الاّ مجتازین ، إنّ اللّه تبارک قال یقول : «ولا جُنُبا الاّ عَابِری سَبیل» حتّی تغتسلوا» الحدیث(1) .

فإنّ هذا الخبر یدل علی مجرد جواز المرور والإجتیاز ، فی مقابل اللّبث والمکث ، أی لا یجوز لهما اللّبث والمکث فیه ، سواء کان لبثهما أو مکثهما جلوسا أو قیاما مع السکون .

بل قد یقال إنّ التعبیرین الواردین فی الخبر یعدَّان فی مقابل التردد ، أی لا یجوز لهما المرور فی المسجد .

ولعلّه لأجل أن المتبادر اوّلاً فی الذهن من کلمة الاجتیاز والمرور ، هو الدخول من باب والخروج من آخر ، ولا یصدق ذلک حتّی مع الدخول والخروج من بابٍ واحد ، بأن یدخل فیه من الباب فیدور فی فضاء المسجد ثمّ یخرج من نفس ذاک الباب الذی دخل منه ، لانّ ظاهر لفظ المرور هو غیره ، کما اختاره الشیخ الاعظم قدس سره ، بل علیه السیّد قدس سره «العروة» فی باب الجنابة ، وإنْ لم یذکره ولم یصرّح به بالخصوص فی باب الحیض .

أقول : لا یخفی علیک أن ظاهر الآیة الشریفة لا ینطبق الاّ علی ذلک ، إذ لا


1- وسائل الشیعة : الباب 15 من أبواب الجنابة، الحدیث 10 .

ص:105

یوصف الذی یدور فی المسجد ، أنه عابر سبیل ، فلا یبعد أنْ یکون کلام الامام علیه السلام بیانا لما هو ظاهر من الآیة ، فالحائض مشترک مع الجنب فی ذلک الحکم ، وذلک لأجل الجمع فی کلام الامام بینهما ، وهو دلیلٌ علی کون اختصاص الآیة بالجنابة غیر قادح للحکم فیها .

منها : صحیحة محمد بن مسلم ، قال : قال أبو جعفر علیه السلام : «الجنب والحایض یفتحان المصحف من وراء الثوب . . . الی أن قال : ویدخلان المسجد مجتازین ، ولا یقعدان فیه ، ولا یقربان المسجدین الحرمین»(1) .

فهذه الروایة مشتملة علی کلتا الجملتین ، من النهی عن القعود ، وتجویز الجواز والاجتیاز ، فلو لم نجعل قوله : «ولا یقعدان» بیانا وتفسیرا للاجتیاز ، لصار الحکم هنا فی کلّ منهما مستقلاً ، بمعنی أنّه یجوز المرور ویحرم القعود ، فلا ینافی حینئذٍ أنْ یستفاد حرمة المکث واللّبث ، من اختصاص الجواز فقط للمرور والاجتیاز ، وهذا هو الاظهر .

منها : مرفوعة أبیحمزة ، قال : قال أبو جعفر علیه السلام : «إذا کان الرجل نائما فی المسجد ، أو مسجد الحرام ، أو مسجد الرسول صلی الله علیه و آله ، فاحتلم فأصابته جنابة ، فلیتیمم ولا یمرّ فی المسجد الاّ متیمما ، حتّی یخرج منه ، ثم یغتسل ، وکذلک الحائض إذا أصابها الحیض ، تفعل ذلک ولا بأس أن یمرّا فی المساجد ولا یجلسان فیها»(2) .

و الکلام فیها کالکلام فی الروایة السابقة ، من کون النهی عن الجلوس یعدّ حکما ، وتجویز خصوص المرور یعدّ حکما مستقلاً آخر ، بل قد یؤید کون


1- وسائل الشیعة : الباب 15 من أبواب الجنابة، الحدیث 17 .
2- وسائل الشیعة : الباب 15 من أبواب الجنابة، الحدیث 3 .

ص:106

الجواز خاصّا بالمرور فقط فی حق الحائض أیضا ، إذا قلنا باشتراک أحکامها مع أحکام الجنب ، وورود الاخبار العدیدة التی تجوز المرور للحائض بالخصوص ، کما تری ذلک فی صحیحة جمیل ، قال : «سألتُ أبا عبداللّه علیه السلام عن الجنب ، یجلس فی المساجد؟ قال لا ، ولکن یمرّ فیها کلها ، الاّ المسجد الحرام ومسجد الرسول صلی الله علیه و آله »(1) .

ومثله روایته الاخری(2) ، وروایة محمّد بن حمران(3) ، وروایة أبیحمزة(4) ، وغیر ذلک من الأخبار ، وان شئت الاطلاع علیها فراجع الباب 15 من أبواب الجنابة .

وعلی ذلک فما فی «المدارک» من جواز الترددّ فی جوانب المسجد ، لا یخلو عن ضعف ، لعدم دخوله تحت مسمّی المرور والاجتیاز عرفا ، فینحصر الجواز بصورة واحدة وذلک بأن یدخل من باب ویخرج من الآخر ، حتّی ولو کانا متصلین ومجاورین ، أحد بابی المسجد فی شارع والآخر فی شارع ثانٍ مثلاً ، حیث یدخل الناس من الأوّل ویخرجون من الآخر ، مع کونهما متصلین ، فإنّه یجوز ذلک لأنّه یصدق علیه المرور أیضا .

وما ورد فی کلام «مصباح الهدی» من تخصیص الجواز بغیر ذلک ، حیث قال : «ان عبور السبیل یتوقف علی أن یدخل من بابٍ ویخرج من باب آخر ، مع کون باب الدخول فی طرف وباب الخروج فی طرف آخر ، بخلاف ماکان البابان متصلین فی طرف واحد ، اذ لا یصدق معه عبور السبیل ، ولعلّ ما استظهره الشیخ


1- وسائل الشیعة : الباب 15 من أبواب الجنابة، الحدیث 2 .
2- وسائل الشیعة : الباب 15 من أبواب الجنابة، الحدیث 4 .
3- وسائل الشیعة : الباب 15 من أبواب الجنابة، الحدیث 5 .
4- وسائل الشیعة : الباب 15 من أبواب الجنابة، الحدیث 6 .

ص:107

ویکره الجواز فیه (1).

الأکبر قدس سره من لفظ الاجتیاز ایضا ، هو هذا المعنی ، کما أنّه لیس ببعید ، واللّه العالم» .

انتهی کلامه(1) .

لیس علی ما ینبغی ، ولکن لا یبعد أن یراد من کلامه غیر ما فرضناه ، بان یکون کلا البابین متصلین مفتوحین علی شارع واحد ، نظیر أبواب المسجد الحرام أو مسجد الرسول صلی الله علیه و آله ، ففی مثله أیضا وانْ کان یمکن القول بما قلناه أیضا ، الاّ أنه لیس مثل ما فرضناه فی الاشکال ، کما لا یخفی .

(1) أی فی غیر المسجدین ، من المسجد الحرام والمسجد النبوی صلی الله علیه و آله . أمّا سبب إطلاق المصنّف الحکم بالکراهة فی مطلق المساجد ، ولم یستثن حکم المسجدین ، فلعلّه کان لأجل اعتماده بما قد ذکره فی باب الجنابة ، مع وضوح الاشتراک فی الأحکام بین الحائض والجنب فی حرمة الوضع فی المساجد ، وجواز التناول والأخذ منها _ مع أنه لم یذکرهما هنا _ بل وکذا فی حکم لزوم التیمم فیه لمن نام فی المسجدین ، وأصابته جنابة أو حیض ، حتّی یخرج ، لأنه قد ذکرت جمیع هذه الأحکام مشترکة فی الأخبار ، فلا باس بالاشارة الیها .

فنقول : امّا حکم جواز الاجتیاز لها فی المساجد _ غیر المسجدین _ فلما عرفت من الاشارة بل الصراحة علی ذلک فی صحیح محمد بن مسلم وغیرها مثل حدیث جمیل بن درّاج ، وکذا مرفوعة أبیحمزة ، بقوله : «ولا باس أنْ یمرّا فی سائر المساجد» .

ما یحرم علی الحائض / فی حکم الاجتیاز فی المسجد علیها

مضافا الی دعوی الاجماع فی «المعتبر» و«المنتهی» ، وما نُقل عن «الفقیه»


1- مصباح الهدی ج5/55

ص:108

و«المقنع» و«الجمل والعقود» و«الوسیلة» من اطلاق حرمة الدخول ، حیث أنّه لابد أنْ ینزّل علی غیر الجواز من المکث واللبث ، أو علی ما یستلزم تلویث المسجد بالنجاسة بمجرد الدخول والمرور ، وأمثال ذلک .

و امّا استفادة الکراهة من هذه الاخبار ، فإنّه وإن کان لا یخلو عن اشکال ، الاّ أنه مع ملاحظة تصریح جماعة من الاصحاب ، ممن لا یفتی إلاّ بعد ما یقف علی دلیلٍ من الشرع علیه کالشیخ والمصنف والعلاّمة والشهید رحمهم الله وغیرهم ، بل قد ادعی الشیخ فی «الخلاف» الاجماع علی الکراهة ، وقیام مثل هذا الدلیل کافٍ فی الحکم بها ، خصوصا مع مناسبتها للتعظیم أیضا .

بل قد یمکن استفادته ما رواه فی «کشف اللثام» مرسلاً عن الإمام أبوجعفر الباقر علیه السلام ، وهو المنقول عن «دعائم الاسلام» ، عن أبیجعفر علیه السلام : «قال : إنا نأمر نسائنا الحیّض أن یتوضأن عند وقت کلّ صلاةٍ . . . الی أن قال : ولا یقربن مسجدا ولا یقرأن قرآنا»(1) .

بان یحمل هذا النهی _ بضمیمة تلک الأخبار الواردة _ علی جواز الاجتیاز علی الکراهة ، إذ لولا ذلک لما تمکّنا من الاخذ بظاهره من النهی فی الحرمة ، ولعلّه بملاحظة هذا النهی قد أفتی جمعٌ من الفقهاء بحرمة الدخول مطلقا .

ولکن الحمل علی الکراهة أولی ، کما یؤیده وحدة السیاق مع الجملة التی تلیها من قوله : «ولا یقرأن قرآنا» ، حیث لم یفت أحد بحرمة القراءة ، بل غایته کراهة قراءة القرآن زائدا علی سبع آیات علی الحائض ، کما لا یخفی .

فما وقع من بعضهم من التردد فی الکراهة ، أو تعلیلها بما یصلح لذلک ، یکون فی غیر محلّه ، لما عرفت ما یکفی فی اثبات الکراهة ، وأنّه ولا یمکن الذهاب


1- المستدرک ج1 الباب 27 من ابواب أحکام الحیض الحدیث 3 .

ص:109

الی الحرمة ، مع کثرة الأخبار الدالة علی الجواز .

وامّا حکم حرمة الدخول لها مطلقا فی المسجدین ، فقد ادعی فیه صاحب «الجواهر» قدس سره بقوله : «إنّی لم أجد فیها خلافا محققا» ، بل فی «المدارک» نسبته الی الأصحاب مشعرا به دعوی الاجماع علیه ، هذا فضلاً عن امکان الاستدلال علیه بصحیحة (أو حسنة) محمّد بن مسلم ، قال : «قال أبوجعفر علیه السلام فی حدیث الجنب والحایض : ویدخلان المسجد مجتازین ، ولا یقعدان فیه ، ولا یقربان المسجدین الحرمین»(1) .

بل قد یمکن استفادة حرمة دخولها المسجدین من دلیل الاشتراک بینها وبین الجنب ، وورود الأخبار فی النهی عن الدخول إلیهما للجنب ، فیسری الی الحائض ایضا بدلیل الاشتراک ، وهو مثل الخبر الذی رواه جمیل بن دراج عن أبی عبداللّه الصادق علیه السلام فی حدیث حیث قال : «ولکن یمرّ فیها کلّها ، إلاّ المسجد الحرام ومسجد الرسول صلی الله علیه و آله »(2) .

و حدیثه الآخر عنه علیه السلام ، قال : «للجنب أن یمشی فی المساجد کلها ، ولا یجلس فیها ، إلاّ المسجد الحرام ومسجد الرسول صلی الله علیه و آله »(3) .

و حدیث محمّد بن حمران عنه علیه السلام ، قال : «الجنبُ یجلس فی المسجد؟

قال : لا ، ولکن یمرّ فیه ، الاّ المسجد الحرام ومسجد المدینة»(4) .

بل قد یؤید الاشتراک ، وعدم جواز المرور لها فی المسجدین ، ما ورد فی مرفوعة أبی حمزة ، قال : «قال أبوجعفر علیه السلام : إذا کان الرجل نائما فی المسجد ،


1- وسائل الشیعة : الباب 15 من أبواب الجنابة، الحدیث 17 .
2- وسائل الشیعة : الباب 15 من أبواب الجنابة، الحدیث 2 .
3- وسائل الشیعة : الباب 15 من أبواب الجنابة، الحدیث 4 .
4- وسائل الشیعة : الباب 15 من أبواب الجنابة، الحدیث 5 .

ص:110

أو مسجد الحرام ، أو مسجد الرسول صلی الله علیه و آله ، فاحتلم فاصابته جنابة ، فلیتیمم ولا یمرّ فی المسجد الاّ متیمما ، حتّی یخرج منه ، ثم یغتسل ، وکذلک الحائض إذا اصابها الحیض ، تفعل ذلک ، ولا بأس أن یمرّا فی سایر المساجد ولا یجلسان فیها»(1) .

بتقریب أنْ یقال : بما أن النائم الجنب والحائض لم یجوز لهما الکون فی المسجدین ، الاّ مع التیمم ، مع أن احتلامه وحیضها لم یکن باختیارهما ، فیفهم منه المنع فیهما حتّی المرور والاجتیاز .

لا یقال : إنّ الحکم الوارد فی هذا الحدیث قد ذکر ذلک فی مطلق المساجد أوّلاً ، ثم عطف علیه المسجدین ، فیلزم القول بذلک فی جمیع المساجد ، وأنّه لا یجوز المرور علیها الاّ مع التیمم ، مع أنه لیس الأمر کذلک .

لأنا نقول : لکان الأمر کذلک ، لولا تصریحه فی ذیله بجواز المرور جُنبا أو حیضا فی سائر المساجد ، مضافا الی ما عرفت من الأخبار الدالة علی تجویز ذلک فی مطلق المساجد غیر المسجدین ، وبناء علی ذلک تعرف الکلام فی هذا الحدیث .

وأیضا یلحق به فی الدلالة من جهة حیث الاشتراک ، روایة اخری لأبیحمزة(2) من دون ذکر سائر المساجد فی أوّله ، کما لم یذکر فی ذیلها الحاق الحائض بالجنب کما فی الروایة الاولی ، بل ربما کان الحکم فی الحائض أشدّ ، لإشتمالها علی النجاسة الخبثیّة دونه .

واحتمال کونهما روایة واحدة ، فیدور أمرها بین الزیادة والنقیصة ، لکن تقدم اصالة عدم الزیادة علی اصالة عدم النقیصة ، لأن وقوع السهو فی النقیصة أزید من السهو فی الاخری ، فلازم هذا التقدیم المبتنی علی الأصل العقلائی یوجب


1- وسائل الشیعة : الباب 15 من أبواب الجنابة، الحدیث 3 .
2- وسائل الشیعة : الباب 15 من أبواب الجنابة، الحدیث 6 .

ص:111

تأیید الروایة الاولی ، الشاملة علی الالحاق ، کما لا یخفی .

کما أنّه یمکن الاستفادة من دلیل الاشتراک بینهما ، اسراء کثیر من أحکام الجنب علی الحائض ، برغم أن المصنّف لم یتعرض لها هنا ، وقد ذکرها فی باب الجنابة ، من حرمة وضع الشیء فی المساجد ، وجواز أخذ الشیء منها ، الواردة فی الاجتیاز فی خصوص الجنب مثلاً ، فیجوز أن یتعدی فیه الحکم من الحائض أیضا .

بل یمکن إسراء الحکم والحاق المشاهد المشرفة بالمساجد کما هو ثابت عند بعض الی المسجدین عند آخرین ، کما هو کذلک عندنا علی الأحوط ، أی لا یجوز الدخول فیها بالمرور أیضا علی الاحوط .

نعم المستفاد من دلالة الروایات هو حکم سائر المساجد من تجویز المرور فیها للجنب والحائض ، من دون مکثٍ ولبث ، کما عرفت بحثه فی المساجد فلا نعید . وما توهم من جواز الدخول _ خصوصا فی الحائض _ کما عن الآملی فی غیر محله .

ما یحرم علی الحائض / حکم قرائة العزائم و غیرها

ومن هنا ظهر أنّ علی الحائض لزوم رعایة التیمم ، إذا نامت فی المسجدین أو فی أحدهما ، أو فی مطلق المساجد ، وحاضت فیهما کما ورد فی النص الذی مرّ ذکره ، بل فی «الجواهر» : «أن حکم التیمم لها وللجنب مجرد تعبد شرعی ، والاّ فالتیمم لا یفسدها شیئا ، ولذا لو اضطرت الی دخول غیرهما من المساجد لا نوجب علیها التیمم ، اذ هو لا یفیدها شیئا ، فیبقی الاصل لا معارض له ، واللّه أعلم» . انتهی کلامه(1) .

بل قال فی «مصباح الفقیه» مثل ما صرح به صاحب «الجواهر» ، وأضاف علیه بقوله : «لا یجب علیها التیمم ، بل لا یشرع ، لعدم الدلیل علیه ، وإنّما ثبت فی


1- جواهر الکلام ج3/222

ص:112

الرابع: لا یجوز لها قراءة شیء من العزائم ، ویکره لها ما عدا ذلک (1).

خصوص المورد تعبدا ، فلا یجوز التخطی عنه ، واللّه العالم» انتهی کلامه(1) .

ولکن یمکن أن یورد علیهما : بأنّه کیف لا یفسد التیمم شیئا ، وقد عرفت فی بحث الغُسل من الجنابة فی الحائض من وجود فائدة معنیّة لاقدامها علی التیمم من رفع الحدث بالنسبة الی ذلک ، ولو فی الجملة ، فلا مانع حینئذٍ أنْ یقال إنّه لو اضطرت الحائض إلی دخول المسجد أو المسجدین فی تلک الحالة _ کاضطرارها فی المورد من حیث النوم وعروض الحدث علیها بلا اختیار _ کان التیمم علیها واجبا من باب تنقیح المناط ، ولا أقلّ من الجواز ولو رجاءً ، خوفا من کون الحکم بالوجوب مخالفا للاجماع ، حیث لم یشاهد من احد الفتوی بذلک ، فاتیان التیمم برجاء المطلوبیة لمن اضطرّ إلی دخول المسجدین أو مطلق المساجد ، لا یخلو عن حُسن ، کما لا یخفی .

(1) فاما حرمة قراءة سور العزائم ، حتّی البسملة ، فی حال الحیض ، فعلیه الاجماع محصلاً ومنقولاً مستفیضا ، کما تری التصریح به فی «المعتبر» حیث یقول : «وهذا مذهب علمائنا کافة» ، والمحکیّ عن «المنتهی» حیث قال بعد جملةٍ من الکلام : «وهو مذهب فقهائنا أجمع ، بل حرمتها علی الجنب ثابتة بالاجماع ، فیضم الیه وجود الاتفاق علی اشتراک الجُنب والحایض فی الأحکام» .

بل ویستدل علی حرمة قراءة آیة السجدة بما ورد فی صحیح زرارة ، عن أبیجعفر علیه السلام ، فی حدیثٍ ، قال : «قلت له : الحائض والجنب هل یقرأن من القران شیئا؟ قال : نعم ما شاءا الاّ السجدة»(2) .


1- مصباح الفقیه ج4/135 .
2- وسائل الشیعة : الباب 19 من أبواب الجنابة، الحدیث 4 .

ص:113

حیث ورد فیها المنع عن قراءة آیة السجدة ، المحمول علی الواجبة منها ، والاّ باطلاقه یشمل غیر الواجبة ، إلاّ أنّه حیث لم یفت بحرمتها الفقهاء ، فقد خصّصوا حکم الحرمة بالواجبة ، وهذا الحدیث یفید ظاهره أنّه لا یحرم لها الاّ قراءة نفس آیة السجدة ، لاتمام السورة .

ومثلها روایة محمّد بن مسلم(1) .

نعم ، توجد روایة أخری نقلها المحقق فی «المعتبر» مرویّة عن البزنطی فی «جامعه» ، عن المثنی ، عن الحسن الصیقل ، عن أبیعبداللّه علیه السلام : «قال : یجوز للجنب والحائض أن یقرءا ما شاءا من القرآن ، الاّ سور العزائم الاربع ، وهی اقرء باسم ربک ، والنجم ، وتنزیل السجدة ، وحم السجدة»(2) .

حیث تری فیها التصریح بحرمة قراءة السور الأربع ، الشامل حتّی للبسملة ، التی یحتمل کونها من السور ، وبناء علی هذا نری قوة حرمة قراءة تمام السورة للمجنب ، فیکون حکم الحائض کحکم الجنب ، بدلیل الاشتراک بینهما فی الحکم .

وامّا وجه حکم الکراهة لما عدا ذلک من آیات القرآن وسوره ، فإنّه مضافا الی کونه هو المشهور ، بل ظاهر المصنف دعوی الاجماع علیها ، من غیر فرق بین السبع والسبعین وغیرهما ، بحسب اطلاق کلامه قدس سره .

ووجه الکراهة والدلیل علیها هو ملاحظة الجمع بین طائفتین من الاخبار من المجوزة والمانعة ، فامّا المجوزة _ مضافا الی ما ورد من العمومات والاطلاقات الواردة علی الترغیب بقراءة القرآن ، وکونها محمودة ، الشاملة باطلاقها للجنب والحائض لولا الدلیل علی التقیید والتخصیص _ فهی دلالة الاحادیث التی مرّت


1- وسائل الشیعة : الباب 19 من أبواب الجنابة، الحدیث 7 .
2- وسائل الشیعة : الباب 19 من أبواب الجنابة، الحدیث 11 .

ص:114

ذکرها مثل روایة زرارة ، وحسن الصیقل ، ومحمد بن مسلم ، وروایة زید الشحّام عن أبیعبداللّه علیه السلام : «قال : الحائض تقرء القرآن ، والنفساء والجُنب أیضا»(1) .

و روایة الحلبی ، عن أبی عبداللّه علیه السلام ، قال : «سألته أتقرأ النفساء والحائض والجنب والرجل یتغوّط القران؟ فقال : یقرءن ما شاءا»(2) .

وروایة عبد الغفار الجازی (المحاربی) عنه علیه السلام ، قال : «قال الحائض : تقراء ما شاءت من القرآن»(3) .

وروایة فضیل بن یسار ، عن أبی جعفر علیه السلام ، قال : «لا بأس أن تتلوا الحائض والجُنب القرآن»(4) .

وغیر ذلک من الاخبار الدالة علی الجواز ، من دون تفصیل بین السبع والسبعین وغیرهما .

و امّا الاخبار المانعة ، فلما روی عن النبی صلی الله علیه و آله مرسلاً ، قال : «لا یقرأ الجنب ولا الحائض شیئا من القرآن»(5) .

وعن السکونی ، عن جعفر بن محمّد ، عن آبائه ، عن علیّ علیهم السلام ، قال : «سبعة لا یقرأون القرآن : الراکع والساجد وفی الکنیف وفی الحمام والجُنب و النفساء والحائض»(6) .

و المرسل المرویّ عن «کشف اللثام» أنه اُرسل عنه علیه السلام فی بعض الکتب : «لا


1- وسائل الشیعة : الباب 19 من أبواب الجنابة، الحدیث 1 .
2- وسائل الشیعة : الباب 19 من أبواب الجنابة، الحدیث 6 .
3- وسائل الشیعة : الباب 19 من أبواب الجنابة، الحدیث 8 .
4- وسائل الشیعة : الباب 19 من أبواب الجنابة، الحدیث 5 .
5- کنز العمال ج5 ص97 الرقم 2091 .
6- وسائل الشیعة : الباب 47 من أبواب قرائة القرآن، الحدیث 1 .

ص:115

تقرأ الحائض قرآنا»(1) .

وعن «دعائم الاسلام» مرسلاً ، عن أبی جعفر علیه السلام : «إنّا نأمر نسائنا الحیّض أن یتوضأن عند وقت کلّ صلاةٍ الی أنْ قال : ولا یقربن مسجدا ، ولا یقرأن قرانا»(2) .

فمقتضی الجمع بینهما ، هو حمل النهی فی تلک الأخبار علی الکراهة ، خصوصا بعد انجبارها بالشهرة ، بل الاجماع .

کما أن مقتضی الاطلاق فی الجمع ، هو الکراهة مطلقا ، بلا فرق بین السبع والسبعین .

اللّهم إلاّ أن یتعدی عن مورد الجُنب الی الحائض بواسطة الاشتراک بینهما فی مثل هذه الأحکام ، ولکن مقتضی اطلاق الأکثر هنا یوجب عدم اجراء ذلک التفاوت الجاری فی الجنب هنا ، للاخلال بالاتفاق هنا ، وهو غیر بعید .

فظهر مما ذکرنا أنّ ما نُقل عن السلاّر من القول بالحرمة ضعیف ، کضعف المنقول عن ابن السرّاج ، من تقیید الحکم بالزائد عن السبع ، أو القول بعدم الکراهة مطلقا ، أو بتقییدها بالسبع أو السبعین ، لما عرفت من عدم وجود الدلیل هنا بالخصوص علی مثل هذا التفصیل .

واحتمال عدم اجراء حکم الجنب هنا ، لأجل عدم وجود الاتفاق فی خصوص هذه المسألة ، فیحتمل کراهة القراءة هنا مطلقا .

لا یخلو عن رجحانٍ ، خصوصا مع ملاحظة کونها أسوء حالاً من الجنب ، وکونها حاملة للنجاسة الخبثیة ، وامثال ذلک .

ولکن مع ذلک کله نحن تابعون لآثار أهل البیت علیهم السلام ، ونقتفی آثارهم


1- المستدرک ج1 الباب 27 من ابواب الحیض الحدیث1
2- المستدرک ج1 الباب 27 من ابواب الحیض الحدیث 3 .

ص:116

وأقوالهم فی الأحکام ، ولا نعتقد بصحّة مثل هذه الاستحسانات ، الاّ بعد فقدان الدلیل عنهم علیهم السلام ، أو ورود ما یؤیّدنا فی ذلک منهم علیهم السلام ، وأعاذنا اللّه تعالی بحقهم عن الزَّلل والخطأ فی استنباط الأحکام ، وجعلنا من أنصارهم وشیعتهم ومحبّیهم ، وحَشَرنا معهم فی الآخرة ، إنّه سمیعٌ مجیب .

ثمّ الظاهر من اطلاق کلمات الأصحاب ، بل المتبادر من الأخبار _ لأجل المناسبة المغروسة فی الاذهان _ کون المانع عن قراءة سور العزائم ، ودخول المساجد ، هو بقاء حدث الحیض الذی لا یرتفع ولا یزول الاّ بالغُسل أو ببدله ، لا وجود الحالة ببقاء جریان الدم ، فعلی هذا لا فرق فی المنع عن القراءة والدخول ، بین کونهما قبل انقطاع الدم ، أو بعده وقبل الغسل ، کما یساعده الاستصحاب لو شک فیه بعد القطع .

ما یحرم علی الحائض / فی حکم سجدة التلاوة لها

خلافا لما یشاهد ممّا نقله صاحب «المدارک» عن بعض المتأخرین _ وهو صاحب «مجمع البرهان» _ من الفرق بینهما ، حیث جوز القراءة فی الموردین بعد الانقطاع وقبل الغسل ، معلّلاً ذلک بتعلیق الحکم فیهما علی الحائض وهو عنوان غیر صادق علیها فی هذا الحال ، لإنتفاء التسمیة عرفا ، وانْ قلنا بعدم اشتراط صدق المشتق ببقاء مبدأه کالمؤمن والکافر والحلو والحامض .

لکنه ضعیفٌ ، لأنّه من الواضح أنّ ما یوجب المنع ، لیس هو وجود الدم ، بل المانع هو الحالة ، ولأجل ذلک یحکم بالمنع فی النقاء المتخلل لصدق الحیض علیها ، ولو حکُما بلسان الأخبار ، وهو یکفی فی صدق انطباق عنوان الحائض علیها ، اذ الحدث عنوانٌ لا یرتفع الاّ بما یزیله شرعا ، وهو الغُسل _ لو تمکنت من ایتانه _ أو بدله _ لو تعذّر _ کما أنّ الجنابة العارضة بسبب المنی أو الدخول ، لا یرتفع الاّ بأحدهما ، فالمنع باق ولا یزول الاّ باحدهما ، کما لا یخفی .

ص:117

وتسجد لو تلت السجدة ، وکذا لو استمعت ، علی الأظهر (1).

(1) ظاهر کلام المصنف _ کصریح بعضهم ، وظاهر آخرین _ هو وجوب السجود علیها إذا تلت آیة السجدة الواجبة ، عصیانا أو سهوا أو اضطرارا ، لأنّه قد أتی قدس سره بجملة خبریة فی مقام الانشاء وذلک بقوله : «وتسجد» .

فما فی «الجواهر» حیث قال : «ولا یحرم علیها أنْ تسجد» المفهم جواز السجدة علی الحائض ، لیس علی ما ینبغی ، ولعله استفاد ذلک من وقوع جمله (وتسجد) بعد قوله قبیل ذلک (لا یجوز لها قراءة شی ء من العزائم) ، مع أنّه حکمٌ مستقل غیر مرتبط بذلک ، خصوصا مع تخلل قوله : «ویکره لها ما عدا ذلک» .

وکیف کان ، فإنّ وجوب السجدة علیها مع التلاوة أو الاستماع _ علی حسب تصریح المصنف _ یعدّ هو الأشهر والأظهر ، أو المشهور کما عن صاحب «الجواهر» .

ویمکن الاستدلال علیه بوجوه ، وهی : أولاً : بظهور العمومات التی تدل علی وجوب السجدة لمن سمع آیة السجدة ، الشامل للحائض أیضا ، لولا دلیل التخصیص فیها .

وثانیا : دلالة دلیل الدال علی الوجوب الذی کان ثابتا علیه حین تقرأ العزیمة قبل عروض الحیض علیها .

وثالثا : وجود أدلة خاصة من الاخبار ، التی یمکن عدّ بعضها معتبرا من حیث السند والدلالة :

منها : صحیحة أبی عبیدة الحذاء ، قال : «سألتُ أباجعفر علیه السلام عن الطامث تسمع السَّجدة؟ فقال : إن کانت من العزائم فلتسجد اذا سمعتها»(1) .


1- وسائل الشیعة : الباب 36 من أبواب الحیض، الحدیث 1 .

ص:118

هذه الروایة رواها الکلینی فی «الکافی» والشیخ فی «التهذیب» .

منها : مضمرة أبیبصیر الذی عدّها الأصحاب موثقة ، قال : «قال : إذا قُری ء شی ء من العزائم الأربع وسمعتها فاسجد ، وإنْ کنتَ علی غیر وضوء ، وانْ کنتَ جنبا ، وانْ کانت المرأة لا تُصلّی ، وسایر القران ، أنت فیه بالخیار ، إنْ شئتَ سجدتَ وإنْ شئت لم تسجد»(1) .

ونقل الشیخ هذه الروایة فی «التهذیب» مسندا الی الصادق علیه السلام ، علی ما ادّعاه صاحب «الجواهر» قدس سره .

منها : خبره الموثق الآخر ، عن أبی عبداللّه علیه السلام : «قال فی حدیثٍ : والحائض تسجد إذا سمعت السجدة»(2) .

فمع وجود هذه الادلة ، لا اشکال فی عدم حرمة سجدة التلاوة علیها ، بل السجدة جائزة ، مع أن مقتضی هذه الادلة هو الوجوب ، کما علیه الفتوی والشهرة ، خلافا للمفید والشیخ فی «التهذیب» و«الاستبصار» و«النهایة» و«الوسیلة» ، بل عن «المهذب» والشیخ ، وعن بعض نسخ «المقنعة» : لا یجوز السجود الاّ لطاهرٍ من النجاسات ، بلا خلاف .

ولعلّ فتواهم بذلک کان مستندا علی ما رواه الشیخ فی الصحیح عن عبد الرحمن بن أبی عبداللّه البصری ، عن أبی عبداللّه علیه السلام قال : «سألته عن الحائض هل تقرأ القران ، وتسجد سجدة ، إذا سمعت السجدة؟ قال : لا تقرأ»

وضبط الجواب فی غیر «الوسائل» _ کما فی «الجواهر» و«مصباح الفقیه» و«مصباح الهدی» _ قوله : «تقرأ ولا تسجد»(3) .


1- وسائل الشیعة : الباب 36 من أبواب الحیض، الحدیث 2 .
2- وسائل الشیعة : الباب 36 من أبواب الحیض، الحدیث 3 .
3- وسائل الشیعة : الباب 36 من أبواب الحیض، الحدیث 1 .

ص:119

وروایة غیاث بن جعفر ، عن أبیه عن علیّ علیهم السلام ، قال : «لا تقضی الحائض الصلاة ، ولا تسجد إذا سمعت السجدة»(1) .

وهذه الروایة منقولة عن «مستطرفات السرائر» من کتاب محمد بن علی بن محبوب ، إلاّ أنّ سندها ضعیفٌ .

ولکن الاعتماد علی مثل هذه الأخبار لأجل رفع الید عمّا عرفت من الأخبار العدیدة ، المعتضد بالشهرة ، مشکلٌ .

لا یقال : إنّه قد ادعی الاجماع علی نفی الجواز .

لانا نقول : إنّه موهون ، لما قد عرفت من مخالفة جماعة کبیرة ، منهم مثل صاحب «السرائر» والمحقق والعلامة والشهید والمحقق الثانی والشهید الثانی وصاحب «المدارک» رحمهم الله ، حیث ذهبوا إلی الجواز .

بل قد یظهر عن البعض من القول بالوجوب ، بل قد ادعی علیه الاتفاق فی مواضع متعددة ، فکیف یصحّ دعوی الاتفاق علیه؟

کما یشکل قبول دعوی الاجماع فی مقابله أیضا ، مع ذهاب جماعة کثیرة علی الحرمة ، منهم المفید فی «المقنعة» والشیخ فی «الانتصار» و«التهذیب» ، وأبی حمزة فی «الوسیلة» ، بل قد ادعی الشیخ فی «التهذیب» الاجماع علی الحرمة .

وانْ کان قد یوجّه هذا الاجماع _ کما فی «مصباح الهدی» _ بانه کان من جهة ادعاء الشیخ الاجماع علی حرمة سجدة المکلّف وهو علی غیر طهرٍ ، بلا فرق بین سجدة الشکر وسجدة التلاوة ، لأنه یذهب إلی اشتراط الطهارة للسجدة مطلقا ، فلأجل ذلک یقول بحرمة سجدة التلاوة للحائض ، لکونها غیر طاهرة ، أمّا من لا یشترط الطهارة فی سجدتی الشکر والتلاوة _ کما هو الحقّ عندنا _ فلا


1- وسائل الشیعة : الباب 36 من أبواب الحیض، الحدیث 2 .

ص:120

یضرّه دعوی الاجماع من الشیخ علی حرمة السجدة ، ولا یکون مانعا أمامه للحکم بحلیّة السجدة علیها .

هذا مع أنّ أصل ثبوت الاجماع علی اشتراط الطهارة للسجدة ، غیر ثابت ، کما قد حُقق فی محلّه .

قلنا : هذا التوجیه حسن ، لو کان هذه الدعوی منحصرا بالشیخ رحمه الله ومن تبعه ، لکن لم یثبت انحصاره به ، بل قد نسب الاجماع إلی المفید وصاحب «المهذّب» ، هذا أوّلاً .

وثانیا : إنّ هذا التوجیه لا یتناسب مع ما نُقل عن الشیخ فی «المبسوط» _ کما فی «الجواهر» _ من موافقته للمشهور فی الجواز ، بل قال الشیخ رحمه الله فی «التهذیب» و«الاستبصار» _ بعد أن ذکر الروایة الدالة علی الوجوب _ : أنّها محمولة علی الاستحباب . وهو منافٍ لما حکاه من نفی الخلاف عن عدم الجواز ، ولا یناسب مع هذا التوجیه ، کما لا یخفی .

فاذا عرفت الوهن فی الاجماع المدّعی علی الحرمة ، فإنّه ینبغی هنا ملاحظة الروایتین ، وقد عرفت ضعف الثانیة من حیث السند ، فیبقی هنا روایة واحدة صحیحة ، إلاّ أنّه لو سلّمنا تمامیة دلالتها علی الحرمة ، بل وعدم الجواز ، فإنّها تتعارض مع الروایات الدالة علی الجواز أو الوجوب ، وبعد التعارض والرجوع الی المرجحات ، فلابد من تقدیم الجواز علی الحرمة ، وذلک لعدّة وجوه ، وهی : أوّلاً : لکثرتها واعتبارها .

وثانیا : اعتضادها بالشهرة المحققه أو الأشهریّة ، کما عن صاحب «الجواهر»

وثالثا : کونها مخالفا للعامة دون الأخبار الناهیة ، حیث یحتمل کونها وردت علی وجه التقیة ، لأن أکثر الجمهور _ کما نقله الشیخ الأعظم _ ذهبوا إلی منع السجدة علی الحائض .

ص:121

ورابعا : یحتمل کون جملة : (لا تسجد) ، محمولة علی الاستفهام الانکاری ، کما احتمله صاحب «الوسائل» ، ونقله صاحب «الجواهر» وغیرهما .

ولکن نقول : هذا الاحتمال واردٌ وثابتٌ لو کانت الکلمة الواردة فی الخبر علی نحو الاثبات ، مثل : (تقرأ ولا تسجد) ، وحینئذٍ کان یصحّ أن یقال : کیف یصح أنْ تکون القراءة لها جائزة دون السجدة؟! .

وامّا لو کانت الجملة فی الخبر نافیة للقراءة _ کما فی «الوسائل» بقوله : «لا تقرأ ولا تسجد» فلا یناسب مع الانکار الاّ أن تحمل کلتا الجملتین علی الانکار ، وهو لا یخلو عن بُعد .

وهذا الاستبعاد یکون دلیلاً علی عدم صحة ضبط الخبر المنقول فی «الوسائل» ، واللّه العالم .

وخامسا : امکان الجمع بین الطائفتین بحمل النفی فی مقام توهم الوجوب علی الجواز ، بأن یکون المراد من عدم الجواز هو عدم الوجوب ، کما علیه بعض الفقهاء .

وسادسا : بامکان ارجاع النهی عن السجدة ، الی النهی عن ایجاد سببها ، أی لیس علیها أن تقرأ آیة السجدة حتّی تجب علیها السجدة .

وسابعا : علی حمل الروایتن وتقییدهما بما إنْ سمعت آیةً غیر آیات العزائم .

وهذان التوجیهان والحملان وإن کانا بعیدین عن سیاق الخبر ودلالته ولکنهما أحسن من طرح الروایتین .

وثامنا : من الجمع بینهما ، بحمل النهی علی صورة السماع لآیة السجدة ، وروایات الجواز أو الوجوب علی الإصغاء والاستماع والتلاوة ، لما ورد هذا التفصیل فی إحدی الروایات ، وذهب الیه بعض الاعلام ، وهی روایة موثقة عبداللّه بن سنان ، قال : «سألت أبا عبداللّه علیه السلام عن رجل سمع السجدة؟

ما یحرم علی الحائض / وطؤها حتّی تطهر

قال : لا یجب ، الاّ ان یکون مُنصِتا لقراءته مستمعا ، أو یصلّی بصلاته ، فاما

ص:122

الخامس: یحرم علی زوجها وطؤها حتّی تطهر (1).

أن یکون فی ناحیةٍ وأنتَ فی اُخری ، فلا تسجد إذا سمعت»(1) .

وقد ذهب الیه صاحب «الجواهر» وبعض المتأخرین ، خلافا لعدد کبیر من الفقهاء ، کالسید فی «العروة» وأکثر اصحاب التعلیق علیها ، لإشتمال الروایات الدالة علی الوجوب علی لفظ (السماع) ، وحملها علی الاستماع مشکل جدا .

فکیف کان ، فمع وجود هذه المرجحات ، کیف یمکن ترجیح القول بعدم الجواز؟!

فالاقوی عندنا _ کما علیه الأکثر _ هو وجوب السجدة علیها ، بلا فرقٍ بین السماع والاستماع ، وبلا فرق بین أنْ تقرأ بنفسها عصیانا أو سهوا وغفلةً أو اضطرارا ، أو سمعت قراءة من یقرأ العزیمة ، وبلا فرق فی وجوب السجدة علیها بین کون السماع فی حال وجود الدم ، و السجدة فی حال انقطاعه قبل الغُسل ، أو کان کلاهما فی حال جریان الدم ، وذلک لاطلاق الأدلة ، واللّه العالم .

(1) لا تردید فی حرمة وطی الحائض مطلقا _ أی سواء کان الواطی زوجا لها ، أم سیّدها ، أو من حلّل له السیّد ، کما لا فرق فی الزوج بین کونه بالعقد الدائم أو بالموقت _ بل الأقوی القول بحرمة وطی الحائض ، إذا کانت أجنبیة مضافا الی حرمة ایقاع الزنا ، فالواطی للأجنبیّة یکون بارتکابه الزنا بمثل الحائض قد ارتکب حرامین ، حرمةً للزنا ، وحرمةً لوطی الحائض ، حیث أنّه یعدّ داخلاً بذلک تحت عنوانین من العناوین المحرّمة الواردة فی آیتین من القرآن الکریم وهما الآیة الآمرة بالاعتزال فی قوله تعالی : «ولا تقربوا الزنی»(2) وقوله تعالی :


1- وسائل الشیعة : الباب 43 من أبواب قرائة القرآن، الحدیث 1 .
2- سورة الاسراء: آیة 32 .

ص:123

«ولا تقربوا الفواحش»(1) والآیة الآمرة باعتزال النساء فی أیّام عادتهنّ ، وهی قوله تعالی : «یسئلونک عن المحیض قل هو اذی فاعتزلوا النساء فی المحیض»(2) .

وحرمته ثابتة بالأدلة الثلاثة ، من الکتاب _ کما عرفت _ ومن السنة بالأخبار المعتبرة الکثیرة علی حدّ الاستفاضة _ لو لم نقل بتواترها _ فنشیر الی بعضها وهی :

منها : صحیحة معاویة بن عمّار ، فی حدیثٍ عن الصادق علیه السلام : «قال : ... ولا یقربها بعلها . . . الی أن قال فی ذیلها أیضا : وهذه یأتیها بعلها الاّ فی أیّام حیضها»(3) .

منها : روایة عبداللّه بن سنان ، عنه علیه السلام فی المستحاضة : «قال: ولا بأس أن یأتیها بعلها إذا شاء ، الاّ أیّام حیضها ، فیعتزلها زوجها»(4).

منها : روایة مالک بن أعین ، قال : «سألتُ أبا جعفر علیه السلام عن المستحاضة . . .؟ الی أن قال : قال : ینظر الأیام التی کانت تحیض فیها ، وحیضها مستقیمه ، فلا یقربها فیعدّة تلک الأیام من ذلک الشهر، ویغشاهافیماسوی ذلک» الحدیث(5).

منها : روایة اُخری لمعاویة بن عمّار عن أبی عبداللّه علیه السلام ، قال : «سألته عن الحائض ما یحلّ لزوجها منها؟ قال : ما دون الفرج»(6) .

ومثلها روایة أخری مرویة عن ابن سنان(7) وروایة أخری لعبد


1- سورة الانعام: آیة 151 .
2- سورة البقرة: آیة 222 .
3- وسائل الشیعة : الباب 24 من أبواب الحیض، الحدیث 1 .
4- وسائل الشیعة : الباب 24 من أبواب الحیض، الحدیث 2 .
5- وسائل الشیعة : الباب 24 من أبواب الحیض، الحدیث 11 .
6- وسائل الشیعة : الباب 25 من أبواب الحیض، الحدیث 2 .
7- وسائل الشیعة : الباب 25 من أبواب الحیض، الحدیث 3 .

ص:124

الملک بن عمرو(1) .

منها : روایة العیّاشی فی «تفسیره» عن عیسی بن عبداللّه ، قال : «قال أبو عبداللّه علیه السلام : المرأة تحیض یحرمُ علی زوجها أنْ یاتیها لقول اللّه تعالی : «ولا تقربوهن حتّی یطهرن» فیستقیم للرَّجل أنْ یاتی امرأته وهی حائض فیما دون الفرج»(2) .

وغیر ذلک من الأخبار المرویّة فی اخبار الباب 25 من أبواب الحیض من کتاب «وسائل الشیعة» الدالّة جمیعها علی الحرمة علی ذلک تصریحا أو تلویحا .

والمسألة واضحة حکمها ، ولا حاجة للبحث عنها ، بحیث قد أسقطها ولم یبحث عنها صاحب «الجواهر» قدس سره .

والدلیل الثالث : هو الاجماع القائم بین الفریقین ، بل هو من ضروریات الدین ، فیحکم بکفر مستحلّه من الرجل والمرأة ، کما هو الحال فی غیره من الضروریات .

کما لا اشکال فی حصول الفسق عند الاقدام علی الاتیان به ولو لمرة واحدة ، لکونه من الکبائر ، لما ورد النهی عنه فی القرآن ، کما قد یظهر ذلک من اطلاق کلام صاحب «الجواهر» حیث قال : «کما أنه لا اشکال بدونه فی الفسق والعصیان ، حیثُ ینطبق ولو بمرة واحدة ، کما یتحقق العصیان بها قطعا» .

بل قد صرّح جماعة بثبوت التعزیر علی مرتکبه وذلک بتقدیر الحاکم الشرعی ، معللاً له بعضهم بانه لا تقدیر له فی الأدلة ، فیناط بنظره ، کما هو الحال فی کلّ ما کان کذلک ، وتفصیل الکلام فی ذلک یناسب فی باب الحدود


1- وسائل الشیعة : الباب 25 من أبواب الحیض، الحدیث 4 .
2- وسائل الشیعة : الباب 25 من أبواب الحیض، الحدیث 9 .

ص:125

والتعزیرات _ کما اشار الیه فی «مصباح الفقیه» _ وأنّه ینبغی ترک البحث عنه فی هذا الباب ، ولکن نحن نقتفی أثر صاحب «الجواهر» قدس سره ونورد بحثه هنا ، للخوف من أن لا یبلغ بنا العمر والحیاة حتّی نوفّق لشرح کتاب الحدود والدیات ، فمن أجل مخافة ذلک ارتأینا أن نبحث عن هذا الموضوع فی هذا المقام ، فنقول وباللّه الاستعانة : قد حُکی عن أبی علیّ الطوسی ، ولد الشیخ الطوسی تقریر التعزیر هنا باثنی عشر سوطا ونصف أی ما یعادل ثُمن حدّ الزنی ، وصرّح فی «المدارک» وغیره ، تبعا «لجامع المقاصد» بعدم الوقوف له علی مأخذ .

و فی «الجواهر» قال : «ولعلّ الأولی للحاکم اختیار التعزیر بربع حدّ الزانی ، سیما إذا کان فی اوّل الحیض» .

تمسکا بما ورد فی بعض الأخبار ، منها الخبر الذی رواه اسماعیل بن فضل الهاشمی ، قال : «سألتُ أبا الحسن علیه السلام ، قال : عن رجلٍ أتی أهله وهی حائض؟ قال یستغفر اللّه ، ولا یعود . قلت : فعلیه أدب؟ قال : نعم ، خمسة وعشرون سوطا ، رُبع حَدّ الزانی ، وهو صاغرٌ لأنه أتی سفاحا»(1) .

منها : روایة محمد بن مسلم ، قال : «سألت أبا جعفر علیه السلام عن الرجل یأتی المرأة وهی حائض؟ قال : یجب علیه فی استقبال الحیض دینار ، وفی استدباره نصف دینار . قال : قلتُ : جعلتُ فداک ، یجب علیه شی ء من الحدّ؟ قال : نعم خمس وعشرون سوطا ، رُبع حَدّ الزانی ، لأنه أتی سِفاحا»(2) .

منها : مرسلة علی بن ابراهیم فی «تفسیره» قال : «قال الصادق علیه السلام : مَنْ أتی امرأته فی الفرج فی اوّل حیضها ، فعلیه أن یتصدق بدینار ، وعلیه رُبع حَدّ الزانی


1- وسائل الشیعة : الباب 13 من أبواب بقیة الحدود، الحدیث 2 .
2- وسائل الشیعة : الباب 13 من أبواب بقیة الحدود، الحدیث 1 .

ص:126

خمسة وعشرون جلدة ، وإنْ أتاها فی آخر أیّام حیضها ، فعلیه أن یتصدق بنصف دینار ، ویُضرَب اثنتی عشرة جلدة ونصفا»(1) .

ما یحرم علی الحائض / فی من جامع امرأته و هی طامث

وبواسطة هذا الخبر نقید اطلاق الخبرین اللذین ورد فیهما الحکم بأنّ الحدّ هو رُبع حَدّ الزانی مطلقا _ بحیث یشمل الفترات الثلاث من بدایة الحیض ووسطه وآخره _ فیصیر حکم ثُمن الحدّ الذی ورد فی الخبر الذی رواه ابی علیّ ثابتا فی خصوص آخر أیّام الحیض ، وأما ثبوته بذلک فی أوّله فإنّه لیس له مأخذٌ ، کما لا یخفی .

أقول : إنّ وجود هذه الاخبار یوجب اثبات رُبع حَدّ الزانی ، خصوصا فی اوّله ، وبناءً علیه لم یکن ینبغی أن یُعبّر عن الحکم بأنّه : (لعلّ الأولی) کما فی «الجواهر» بل کان حریا أن یفتی بذلک جزما .

ولعل وجه ذلک هو وحدة سیاقه مع الکفارة الّتی یأتی بحثها لاحقا ، من الاعتراض علی وجوبها الذی أورده جماعة من الفقهاء ، برغم أنّه قد ورد التعبیر عنها فی لسان الأخبار _ مثل التعزیر هنا _ بقوله : «یجب علیه» .

ولکن مع ذلک کله _ لولا الاجماع علی خلافه _ یمکن اعتبار الحکم بذلک منجزا ، ولا أقلّ من الشبهة فی وجوب التعزیر ، ویقتضی ذلک الحکم بالاحتیاط وجوبا ، لولا الاستدلال بالقاعدة المعروفة بأنّ الحدود تدفع وتدرء بالشبهات ، لو کان الحدّ صادقا علی مثل ذلک ، مع أنّه لیس کذلک ، بل هو تعزیرٌ لا حدّ _ کما قد صرح به صاحب «الجواهر» _ ومعلومٌ أنّ الحدّ لم یکن باقلّ من ثمانین أو خمسة وسبعین سوطا ، فالاستدلال بمثل ذلک هنا لا یخلو عن تأمّل ، کما لا یخفی علی المتأمّل .

وبقیة الکلام حول هذا الموضوع ، وتفصیله موکولٌ الی محله فی باب الحدود .

* * *


1- وسائل الشیعة : الباب 28 من أبواب الحیض، الحدیث 6 .

ص:127

هنا مسائل لا بأس بالاشارة الیها :

المسألة الاولی: أنّه مَنْ جامع امرأته وهی طامث ، فلا اشکال فی حرمته لو کان عالما بالموضوع والحکم ، وعامدا غیر غافل .

کما لا اشکال فی عدم الحرمة ، لو کان جاهلاً بالموضوع ، أی لا یعلم کون المرأة حائضا ، وإنْ کان عالما بالحکم .

کما أنه لا اشکال فی عدم الحرمة إنْ کان عالما معاندا ، وکان علمه متعلقا بالموضوع والحکم _ وهو حرمة النهی فی هذه الحالة _ الا أنّه صدر عنه الفعل غفلةً وسهوا ونسیانا ، من دون أن یتنبّه إلی أنّها حائض .

وانّما الاشکال والکلام فیما إذا لم یعلم بالحکم ، أی کان جاهلاً بالحکم دون الموضوع ، مع عدم غفلة ولا نسیان ، فحینئذٍ هل یأثم فیما أقدم علیه أم لا؟

فقد صرّح غیر واحدٍ من الأصحاب _ علی ما فی «الجواهر» _ بأنّه لا اثم علیه ، ولکن القول بذلک علی نحو الاطلاق لا یخلو عن اشکال ، لأنک قد عرفت کون حرمته من الضروریات ، فحینئذٍ لو کان الشخص الجاهل ممن یعقل فی حقه خفاء مثل هذه الأحکام ، ویصدق علیه أنّه کان جاهلاً وقاصرا عن السؤال ، فله وجهٌ ، حیث لا یحرم علیه لا من حیث أصل الوطی لجهله ، حیث لم یکن قد توجه إلیه الخطاب ، ولا من جهة التنبیه ، لأن المفروض عدم تمکّنه .

وأما فیمن یمکن له ذلک _ أی السؤال عن حکمه _ ولکنّه کان مقصرا فی ذلک ، ومن ثمّ أقدم علی ارتکاب الفعل فلا یبعد القول بانه آثم ویستحقّ العقاب ، لکن من جهة ترکه السؤال والفحص عن الحکم ، وبرغم ذلک لم یتحقق العصیان فی حقه بالنسبة الی أصل العمل ، لأنّه کان جاهلاً بالحکم .

ما یحرم علی الحائض / وطؤها فی أیّام هی محکومة بالحیضیّة

فلعلّ مراد الأصحاب من نفی الحرمة عن فعله ، هو نفی حرمة الوطی فی الحیض عنه ، لا حرمة التقصیر فی ترک السئوال ، کما لا یخفی .

ص:128

المسألة الثانیة: أنّه لا ینبغی الاشکال والتردد فی ترتب أحکام الحیضیة علی تلک الأیّام التی تکون ملحقة ومحکومة شرعا بالحیضیّة ، من حرمة الوطی ، وحرمة مسّ کتابة القران ، والدخول فی المسجدین ، وغیرهما من الأحکام ، وهذه الأیّام هی مثل المبتدأة _ إنْ قلنا بحیضها بمجرد الرؤیة _ وکذا أیّام الاستظهار ، بناءً علی مختار من أوجبها الی العشرة _ مثل صاحب «الجواهر» _ ففی مثل هذه الموارد ، کما یحرم علی المرأة أن تمکّن نفسها للزوج ، کذلک یحرم علی الزوج وطیها فی حال حیضها مستقلاً ، فالحرمة فی هذا الفرض لم یکن من باب حرمة المعاونة علی الاثم ، وإنّما من جهة توجّه عموم دلیل الدال علی الحرمة الشامل لهما مستقلاً ، فإنّ الخطاب برغم أنّه أولاً وبالذات متوجّه الی الرجال ، لکنه متوجّه إلیهم من باب الغلبة ، وإلاّ فإنّ قوله تعالی : « ولا تقربوهن حتّی یطهرن» عامٌ یشمل النساء أیضا بدلیل الاشتراک فی التکلیف .

هذا ، مضافا الی ما ورد فی الاخبار من التحریم للنساء بالتمکین فی تلک الایام ، واعتبار مقاربتها کالزنا ، مع معلومیة حرمة الزنا علیها ، کما هو حرام علی الرجل .

وما قیل من استفادة الحرمة للنساء مستقلاً ، عن بعض الأخبار :

منها : روایة جابر ، عن أبی ایّوب ، عن رسول اللّه صلی الله علیه و آله : «أنّه قال لعلیٍّ علیه السلام : لا یُحبک إلاّ مؤمن ، ولا یبغضک الاّ منافق ، أو ولد الزنیة ، أو مَنْ حملته أمّه وهی طامث»(1) .

وقد وردت أخبار أخری مشابهة لهذا الخبر مثل خبر جابر الجعفی(2) وغیره ، فإنّ الملاحظة فی هذا الخبر واضرابه اسناد الحمل الیها ، الظاهر فی ثبوت الحرمة


1- وسائل الشیعة : الباب 24 من أبواب الحیض، الحدیث 8 .
2- وسائل الشیعة: الباب 24 من أبواب الحیض، الحدیث 7.

ص:129

لها ، کما صرّح بذلک المحقق الآملی فی «مصباح الهدی»(1) .

لا یخلو عن تأمّلٍ ، لأنه لو فرض وجود مثل هذه الأخبار ، إلاّ أنّه مع ورود الخبر _ علی الفرض _ علی جواز الحمل فی هذه الأیّام _ مع الکراهة الشدیدة _ فإنّه لم نلاحظ وجود تناف وتعارض بینهما . ولعلّ هذا الظهور عندنا بالحرمة ، کان لشدة اُنس الذهن بحرمة هذا العمل فی هذه الحالة ، فیوجب غلبة هذا الفهم علی أذهاننا ، وإلاّ فإنّ اللفظ بنفسه لا ظهور فیه فی الحرمة لا بالوضع ولا من جهة دلالة الهیئة الترکیبیّة فیه .

وکیف کان ، والذی یسهل الخطب هو عدم الحاجة فی اثبات الحرمة للمرأة التمسک بمثل هذه الأمور ، لکثرة ما ورد من الأدلّة الدالّة علی الحکم بالصراحة أو التلویح أو التلازم أو الاشتراک ، کما لا یخفی علی المتأمّل ، وإنْ شئت الوقوف علیها ، فلاحظ الخبر الذی رواه محمّد بن مسلم ، عن الإمام أبوجعفر الباقر وفیه ، قال : «سألته عن الرجل یُطلّق امرأته متی تبین منه؟ قال : حتّی یطلع الدم من الحیضة الثالثة ، تملک نفسها . قلت : فلها أنْ تتزوج فی تلک الحال؟ قال : نعم ، ولکن لا تُمکّن من نفسها ، حتّی تطهر من الدم»(2) .

کما اشار الیه المحقق المزبور أیضا ، ونظائر کثیرة فی أبواب الفقه ، مما یناسب هذا البحث .

والثمرة المترتبة علی کون الحرمة ثابتة للمرأة مستقلة لا من جهة معاونتها علی الإثم ، هی حرمة الوطی ء والتمکین علیها ، وإنْ کان الرجل فی عمله معذورا من جهة الجهل أو الغفلة أو النوم أو الجنون ، مع انه لو کانت الحرمة ثابتة فی حقّها


1- مصباح الهدی ج5/64 .
2- وسائل الشیعة : الباب 16 من ابواب العده، الحدیث 1 .

ص:130

من جهة المعاونة علی الاثم ، فإنّه یجب أن لا تترتب الحرمة فی هذا الفرض علیها لعدم صدق التعاون علی الإثم حینئذٍ .

نعم ، لا بأس بأنْ یقال : إنّه قد یصدق علی تمکینها عنوان المعاونة علی الاثم ، الاّ أن حرمته حینئذٍ لیس حرمة مستقلة غیر ما یحرم بالاصالة ، و الا للزم القول بتعدد الحرمة والعقوبة ، بأن تکون المرأة مستحقة لعقوبتین ، عقوبة لأجل أصل الوطی ، وعقوبة أخری لانطباق المعاونة علی فعلها ، وهذا مما لا یساعده الاعتبار ، اذ المراد من دلیل التعاون هو ثبوت الحرمة الناشئ من نفس التعاون ، بحیث لولاه لما کان العمل علیها حراما مستقلاً ، والاّ لکفی ثبوت الحرمة والعقوبة والمؤاخذة علی أصل العمل ، فتأمّل .

و کیف کان ، فلنرجع الی أصل المطلب ، وهو البحث عن حرمة الوطی علی الرجل والمرأة ، حتّی فی الایام التی تعدّ ملحقة بأیّام الحیض ، وذلک بواسطة قیام الامارة الشرعیة علیه مثل أیّام الاستظهار _ علی القول بالوجوب الی العشرة ، أو قلنا بوجوب الاستظهار بیوم واحد بعد العادة ، کما اختاره بعض _ بل حتّی فی التخییری الوجوبی ، مثل التحیّض بالعدد الذی یناط الأمر باختیار المرأة ، فبعد ما اختارت الجلوس یترتب علی مختارها کلّ ما یترتب علی الحیض من الاحکام ، ومنها حرمة الوطی التخییری الوجوبی فی الیوم أو الیومین فی أیّام الاستظهار ، بعد اختیار المرأة الجلوس ، حیث یترتب علیه ما یترتب علی الحائض . ففی مثل هذه الموارد یعتبر الحکم واضحا ، ولا ینبغی أنْ یبحث فیه ، لوضوح خصوصیة المسألة .

و الذی وقع البحث والاختلاف فیه ، هو ما لو قلنا باستحباب الاستظهار _ کما هو مختار السیّد فی «العروة» فاذا اختارت المرأة الاستظهار فلا اشکال فی حرمة الوطی والتمکین لها للزوج ، علی حسب اختیارها .

ص:131

لکن السؤال هو أنّه هل یحرم علی الزوج حینئذٍ وطئها أم یستحب ذلک؟

أمّا صاحب «الجواهر» فقد قال : «فربما ظهر من بعضٍ استحباب الاجتناب له ایضا ، وفیه تاملٌ ، سیّما إنْ قلنا أن المراد بالاستحباب _ بالنسبة الی اختیارها _ أی یستحب لها اختیار الحیض ، ثم یلحقها أحکامه حینئذ إنْ اختارت _ کما هو أحد الاحتمالین فی التخلّص من شبهة استحباب ترک العبادات الواجبة _ وحینئذ یشکل اطلاق الاستحباب زیادةً علی اشکال أصل ثبوته ایضا ، وإنْ لم نقل بذلک ، لعدم التلازم بین حکمها وحکمه . اللّهم الاّ أنْ یُدّعی استفادته من ادلة الاستظهار ، أو یستند الی بعض الأخبار المعلقة ، نفی البأس بالنسبة للوطی ء علی الاستظهار ونحو ذلک . . . إلی أنْ قال : وأمّا احتمال القول بحرمة الوطی حتّی بعد البناء المتقدم (لعلّ مراده من البناء المتقدم ، هو استظهاره من الأدلة ، أو الاستناد الی بعض الأخبار ، لا البناء بمعنی اختیار المرأة التحیّض ، لوضوح ان اشکال کان فی هذا المورد) تمسکا بباب المقدمة ، لامتثال التکلیف باجتناب الحائض ، من جهة احتمال انقطاعه علی العشرة ، أو ما دون ، فضعیفٌ ، لعدم الاشکال فی جریان أصل البرائة ، فی نحو ذلک من سائر ما اشتبه فیه الموضوع ، ما لم یکن شبهة محصورة . نعم ، لا بأس برجحان الاجتناب لذلک» .

انتهی کلامه رفع مقامه(1) .

و لکن قد یظهر من المحقق الهمدانی فی «مصباح الفقیه» حیث ذهب إلی الجواز ، لأنه بعد ما ذکر بأنّ فیه وجهان ، قال : «من استصحاب المنع ، وکون اختیارها التحیّض کاختیار المضطربة عدد أیامها من کل شهر ، ومن أنّ تخییرها لیس طریقا عقلیّا أو شرعیّا لاثبات حیضیتها ، لما عرفت فیما سبق من أنّ أمر


1- جواهر الکلام ج3/227 .

ص:132

الشارع بالتخیّیر لیس الاّ ترخیصا ، للاعتناء بکلّ من الاحتمالین الّلذین دار أمرها بینهما ، کحکم العقل بالتخیّیر عند تکافؤ الاحتمالین ، فیفهم من کونها مخیرّة فی عملها ، ومن جواز أنْ یطأها زوجها بعد الیوم الذی یجب علیها الاستظهار _ علی ما یفهم من أخباره _ أنّ الشارع أهمل بالنسبة الیها استصحاب الحیض ، أو استصحاب حرمة الوطی ونحوه ، فمقتضی الأصل اباحة وطئها ، وإنْ جاز للزوجة منعه ، کما یجوز لها ترک الصلاة الواجبة .

ولا یقاس المفروض بأیّامها التی تختارها من کل شهر ، لأنّ مرجع الشک فی تلک المسألة الی الشک فی المکلف به ، فکان مقتضی الاصل فیها وجوب الاجتناب فی مجموع اطراف الشبهة ، ولکن الشارع خَیّرها فی تعیین موضوع المکلف به ، فیکون اختیارها بمنزلة طریق تعبد غیر شرعی .

و امّا فیما نحن فیه ، فالشک فیه شکٌ فی أصل التکلیف ، وبعد أن علم من أخبار الاستظهار ، عدم کون الاستصحاب ، أو قاعدة الامکان مرجعا ، وأنه یجوز له وطؤها فی الجملة ، ولم یثبت أن لاختیارها مدخلیة فی عدم الجواز ، فالمرجع فیه البرائة .

ما یحرم علی الحائض / وطؤها فی أیّام الاستظهار

و هکذا وإنْ لا یخلو عن قوة ، ولکن الاحتیاط مما لا ینبغی ترکه ، و اللّه العالم) انتهی کلامه(1) .

اقول : ولا یخلو کلامه عن تأمّلٍ ، لأن الاستحباب انّما کان فی اصل الاختیار ، أی یجوز للمرأة اختیارها حیضا ، ویترتب علیه أحکام الحیض ، وهذا الحکم ثابت لها ولغیر ، فکما أنّه لا یجوز للمرأة اجارة نفسها فی هذه الأیّام لکنس المسجد من أجل ذلک ، کذلک لا یجوز للغیر أنْ یفعل ذلک ، مثل ما لو نسیت أو


1- مصباح الفقیه ج4/141 _ 140 .

ص:133

غفلت أو جهلت عن حکمها فی تلک الحالة ، فلا یجوز للرجل الذی یعلم حالها استیجارها لذلک ، لکونها ممنوعة ، لأجل اختیارها .

و کما أنّ الشک فی أیّام العدّة ، شکٌ فی المکلّف به قبل اختیارها لا بعده تعیّنیا ، ویجب الاجتناب عنه ، فکذلک هنا قبل الاختیار یکون الشک شکا فی المکلف به ، لأنّها لا تدری وتجهل العدد الذی انتخبتها ، فبعد اختیارها یصیر حکمها بالحیضیة ثابتا ومتعینا ، فکما یجب علیها ترتیب آثار الحیض ، کذلک یجب علی غیرها أیضا ترتیب تلک الآثار فی تلک الأیّام لکونها شکا فی المکلّف به قبل الاختیار . ورفع الشارع یده عن الاستصحاب وقاعدة الامکان ، لا تأثیر له فی رفع حکم الحیضیة عنها کانت الحیضیة قدثبتت لها بدلیل آخر ، وهو جعل اختیار بیدها وترتیب آثارها علیها . مضافا الی أنّه یمکن استفادة حرمة الوطی ، وممنوعیّة ذلک للرجل ، عن بعض الأخبار :

منها : صحیحة زرارة ، عن أحدهما علیهماالسلام ، قال : «المستحاضة تکف عن الصلاة أیّام اقرائها ، وتحتاط بیوم أو یومین ، ثم تغتسل کل یوم ولیلة ثلاث مرات . . . الی أنْ قال : فاذا حلّت لها الصلاة ، حلّ لزوجها أن یغشاها»(1) .

منها : روایة عبد الرحمان بن أبی عبد ربه ، قال : «سألتُ أباعبداللّه علیه السلام عن المستحاضة، أیطأها زوجها، وهل تطوف بالبیت؟ قال : تقعدها قرؤها الذی کانت تحیض فیه ، فان کان قرؤها مستقیما ، فلتاخذ به ، وإنْ کان فیه خلافٌ ، فلتحفظ بیوم ویومین ، ولتغتسل . الی أنْ قال: وکل شیء استحلّت به الصلاة، فلیأتهازوجها،ولتطف بالبیت»(2) .


1- وسائل الشیعة : الباب 1 من أبواب الاستحاضة، الحدیث 12 .
2- وسائل الشیعة : الباب 1 من أبواب الاستحاضة، الحدیث 13 .

ص:134

فانّ ذکر الملازمة بین حلیّة الصلاة ، مع حلیّة الوطی للزوج ، کافٍ فی اثبات الحرمة له ، لأنه لا اشکال فی حرمة الصلاة لها بعد اختیارها عدّة أیّام تعتبر نفسها فی تلک الأیّام حائض ، فکذلک یکون علی الزوج اعتبارها حائضا فی هذه الأیام المختارة بحسب لسان هاتین الروایتین .

لا یقال : إن الثابت بالأدلّة هو أنّ حکم الحرمة متوجّه إلی المرأة دون غیرها ، أی أنّ علیها أن تمتنع من أن تمکن نفسها ، وأمّا الحرمة فغیر متوجهة إلی فعل الزوج .

ما یحرم علی الحائض / فی استفسار الزوج عن حالها قبل الوطی

لأنّه نقول : إنّ روایة زرارة صریحة فی جعل حلیّة الوطی للزوج دائرا مدار حلیّة الصلاة للمرأة ، بل ولکن مثل ذلک کما أنّ روایة البصری صریحة أیضا فی ذلک ، کما لا یخفی ، فالحکم بالحرمة أو استحباب ترک المقاربة _ لا یخلو عن قوة ، کما علیه المحقق الآملی قدس سره «مصباحه» .

* * *

تفریع :

فی الموارد التی تتخیر فیها المرأة بین جعل الحیض بیوم أو یومین أو ازید فی أیّام الاستظهار ، إذا طالبها زوجها بالتمکین وکان مختارها للزیادة منافیا لحقه ، فهل یجب علیها مراعاة حقه (وکذلک فی الأمة بالنسبة الی السیّد) أم لا؟

قد عرفت فی المباحث السابقة ، من الاختلاف بین الفقهاء حول أیّام الاستظهار ، فکلّ من ذهب الی وجوب الاستظهار للمرأة بیوم واحد _ کما هو مختارنا _ أو الی العشرة _ کما هو مختار صاحب «الجواهر» _ أو حکم بوجوب ذلک أو أزید منها من باب الاحتیاط ، فلا اشکال فی أنّه لا یجوز لها أن تراعی حقّ أحدٍ فی هذه الفترة لأنّه لا طاعة للمخلوق فی معصیة الخالق ، فیکون حکمها حکم ، وهو واضح لا کلام فیه .

ص:135

و امّا إذا کانت المرأة مخیّرة فی العدد ، بین یوم أو ازید وجوبا _ کما فی المضطربة أو هنا علی القول بالتخییر وجوبا _ بالفتوی أو بالاحتیاط ، فعارض اختیار البراءة لحقهما .

فعن السیّد فی «العروة» فی المسئلة 15 قال : «وجب علیها مراعاة حقّه ، وکذا فی الامة مع السیّد ، وإذا ارادت الاحتیاط الاستحبابی ، فمنعها زوجها أو سیّدها ، یجب تقدیم حقهما . . . إلی آخره»

وهو کذلک ، لأنّ عند الدوران بین حرمة تفویت حقّ الزوج أو السیّد ، وبین تخییر جعل حیضها متی شاءت من الأیام ، یصیر الأمر التخییری تعینیا بالعرض ، من جهة مزاحمته مع الحقّ العینی ، وحرمة تفویت حقّ الزوج والسیّد ، ووجوب مطاوعتهما .

نعم ، لو عصت أو سهت ونسیت ، واختارت ما ینافی حقّهما ، فالظاهر ترتب أحکام الحیض علی ما اختارته ، لأنّ العصیان فیما عصت إنّما هو فی ترک المراعات ، لا فی سقوط التخییر عن ملاکه ، فیکون المقام نظیر العصیان فی ترک الأهم ، والاشتغال بالمهم ، حیث أنّه یصحّ الإتیان بالمهمّ بملاکه ، والاّ سقط الأمر عنه بخطابه .

وأولی من الفرض السابق فی وجوب المراعاة هو فیما إذا سهت أو نسیت ، حیثُ لا تعدّ عاصیةً حینئذ ، فالامر بوجوب الاجتناب عنه ، بواسطة اختیارها حاصل ، والخطاب الیها متوجّه .

ومن هنا یظهر حکم الاستحباب فی أیّام الاستظهار ، بعد ما اختارتها أیّام عادتها ، فإنّه لا یجوز لها بعد ذلک مطاوعة زوجها والتمکین لها ، لو طالبها برفض ما اختارته ، لما قد عرفت فی البحث السابق ، أنّها بعد الاختیار تصیر فی حکم الحائض ، فیعامل معها معاملة الحائض القطعیّ الوجدانی ، بلا فرق فی ذلک بین

ص:136

اعتبار التخییر أمرا بدویا أو استمراریا ، وذلک لوحدة الملاک فیهما فی المقام .

فظهر ممّا ذکرنا أنّ حکم السیّد قدس سره بوجوب رعایة حقهما ، إنّما یصحّ قبل اختیارها ، والاّ فإنّه بعد الاختیار یقدم حکم الحیض ، حتّی ولو کان عملها واختیارها خطاءً ومعصیة کما عرفت .

ومن هنا یظهر حکم المضطربة أیضا إذا کانت مخیّرة فی تعیین عدد الأیّام ، وزاحم اختیارها مع حقّ الزوج ، فإنّ الحکم أیضا یکون مثل حکم الغرض .

المسألة الثالثة: الکلام فی أنّه هل للزوج جواز الوطی قبل الاستفسار وحصول العلم باختیارها ، أو مع خروجها عن القابلیة بجنون ونحوه أم لا؟

وفی «الجواهر» قال : «فیه اشکال ، أقواه الجواز» .

ولکن لابد أنْ یعلم أنّه إذا کان مسبوقا بالمنع عن الوطی ، ثمّ شک فی بقائه باختیارها ، فإنّ الاستصحاب الجاری فی حقه یحکم بالمنع ، ما لم یعلم خلافه بالسؤال وغیره ، بلا فرق بین خروجها عن قابلیّة الجواب أم لا .

نعم لو لم یعلم حالتها السابقة ، وعرض له الشک بالمنع ابتداءا (لو فرض تحقّقه) ، لکان مقتضی الأصل البراءة .

ولکن تصویره لا یخلو عن اشکال ، لأن الشک بالاختیار مساوق للعلم بکونها حائضا قبل ذلک فی المقام ، کما لا یخفی .

لا یقال : انّ هذا الاستصحاب غیر جار فی المقام ، فکیف یمکن الاستناد علیه؟

لأنّا نقول : هذا الاستصحاب یکون ثابتا فی حقّ الزوج ، من جهة علمه بالمنع سابقا ، ولا یرتبط حکمه بالحکم الثابت فی حقّ المرأة التی قد استظهرت من أخبار باب الاستظهار ، بعدم جریان الاستصحاب فی حقّها وعدم اعتباره ، وعدم جریان قاعدة الامکان _ کما قد عرفت سابقا _ فالاقوی عندنا هو لزوم الاستعلام عن حالها فی جواز الوطی ، إذا کانت مسبوقة بالمنع من الوطی ، واللّه العالم .

ص:137

المسألة الرابعة: إذا توقف مقاربة الزوج لها سؤالها عن حالها ، فهل له أن یعتمد علی قولها ویقبل قولها ، أم لا ، أو یجوز ذلک ما لم تکن متهمة بالکذب ، أو ما لم یکن الزوج قد ظنّ بکذبها؟

وجوه واقوال : ففی «الجواهر» : «أنّه لا اشکال عندهم ولا خلاف فی قبول قول المرأة فی الحیض ، إنْ لم تکن متهمة ، بل أطلق بعضهم وجوب القبول من غیر تقیید ، کما انه صرّح آخر بذلک حتّی مع ظنّ الزوج الکذب»(1) .

وکذا قال فی «الحدائق» : «وامّا لو ظن الزوج کذبها ، قیل : لا یجب القبول ، والیه مال الشهید الثانی ، وقیل یجب ، وهو اختیار العلامة فی النهایة والشهید فی «الذکری»» انتهی(2) .

ما یحرم علی الحائض / فی الاعتماد علی إخبارها بطهارتها

و الدلیل علی وجوب القبول _ فی غیر المتهمة ، وغیر ما ظن الزوج کذبها _ مضافا الی الإجماع _ کما عرفت دعواه عن صاحب «الجواهر» قدس سره _ ما رواه الشیخ فی الصحیح عن زرارة ، عن الباقر علیه السلام قال : «العدّة والحیض للنساء إذا ادعّت صُدِّقت»(3) .

وکذلک عن الشیخ باسناده الصحیح ، عن زرارة ، قال : «سمعتُ أبا جعفر علیه السلام یقول : العدّة والحیض الی النساء»(4) .

حیث أنّهما یدلاّن علی کون بیان الحال فی الموردین کان للنساء ، خصوصا من تصریح الروایة الاولی بلزوم التصدیق إذا ادّعت ، کما یساعده الاعتبار ، اذ لولا القبول لم یترتب علی اظهارهنّ غالبا أثر _ مع أنه شی ء یعسر اقامة البینة


1- جواهر الکلام ج3/227 .
2- الحدائق ج2/262 .
3- وسائل الشیعة : الباب 47 من أبواب الحیض، الحدیث 1 .
4- وسائل الشیعة : الباب 47 من أبواب الحیض، الحدیث 7 .

ص:138

علیه ، اذ مشاهدة الدم اعمّ من کونه حیضا .

بل قد استدل بعضٌ بآیة الکتمان ، وهی قوله تعالی : «ولا یَحلُّ لهنّ أنْ یکتمنَ ما خَلَق اللّه فی أرحامهنّ»(1) بأنّه لولا وجوب القبول لما حرم الکتمان .

ففی «الجواهر» : «لکن لا یخلو الاستدلال بها علی المطلوب من نظر وتامّل» .

وکذا فی «مصباح الفقیه» ، حیثُ قال : «ویمکن الخدشة فیه بامکان أنْ یکون الوجه فیه حصول الوثوق من قولها غالبا ، فلا یجب أن یکون قولها حجة تعبّدیة . هذا مع أنّه یکفی وجها لحرمة الکتمان نفود قولها فی حقّها بالنسبة الی ما یترتّب علی الکتمان من مصلحتها التی تکتمه لأجلها ، وانْ لم یجب علی الزوج تصدیقها» ، انتهی محل الحاجة(2) .

و لکن التأمل یقتضی القول بصحة الإستدلال بالآیة الشریفة ، لوضوح أن المقصود من عدم حلیّة الکتمان لما فی رحمها ، هو بیان کونها فی عدّة زوجها بواسطة الحمل ، حیث لا تخرج عن العدة الاّ بعد الولادة والوضع ولیس هذا إلاّ مضمون ما ورد فی الروایتین الصحیحتین الذی رواهما زرارة ، من کون العدة والحیض الی النساء ، فلابد من قبول قولها فی حقّها ، وفی حقّ الغیر من الحرمة فی العقد والخطبة ولو علی کراهةٍ .

فعلی هذا ، لا مانع من أن یکون قولها حجّة تعبدیة فیما یتعلق بحالها ، فالآیة قابلة للاستدلال ، کما استدل بها صاحب «الحدائق» .

والقول بأنّه یحصل غالبا من قولها الوثوق ، لا یضرّ بما نحن فی صدده .

هذا ، مضافا لفحوی ما دل علی قبول قول ذی الید ، اذ هنا یکون قبوله فی حقّ


1- سورة البقرة : آیة 228 .
2- مصباح الفقیه ج/4/142 .

ص:139

نفسه ، فیکون موجبا لقبول قولها بطریق اولی .

مضافا الی قیام السیرة علی قبول إخبارها بالحیض بالخصوص ، وإنْ لم نقل بقبول إخبار ذیالید .

فالقول بحجیة قولها من جهة دلالة الآیة والخبرین ، لا یخلو عن قوة .

غایة الأمر أنّه هل یمکن اعتبار قولها حجة مطلقا _ کما ادعّاه بعض تمسکا باطلاق الخبرین _ أو أنّ قولها حجّة إذا لم تکن متهمة؟

ولا یخلو الثانی عن قوة ، لأنه _ مضافا الی أنّ حجیّة قول ذی الید مقیدة بما إذا لم یکن متهما _ یمکن أن یُستدل فی المقام لهذا القید الموجب للتقید فی اطلاق الخبرین ، بروایة السکونی ، وهو الخبر الذی رواه اسماعیل بن أبی زیاد ، عن جعفر ، عن أبیه علیهماالسلام : «أنّ أمیر المؤمنین علیه السلام قال : فی امرأة ادّعت أنها حاضت فی شهر واحد ثلاث حیض؟ فقال : کلّفوا نسوة من بطانتها أن حیضها کان فیما مضی مع ما ادّعت ، فان شهدن صُدّقت ، والاّ فهی کاذبة»(1) .

ورواه الصدوق مرسلاً ، الاّ أنّ الوارد فی روایته قوله علیه السلام : «یُسئل نسوة من بطانتها» . فالخبر یفید عدم قبول قولها بمجرّد الإعلام ، إلاّ إذا ثبت عدم اتهامها ، ولأجل ذلک عُلّق القبول علی شهادة نسوة من بطانتها .

ولکن قد نوقش فی دلالتها علی المطلوب ، بأخصیتها من المدّعی ، لإختصاص موردها بما إذا ادّعت أمرا مستبعدا عن عادات النساء ، وأنّ النسبة بین دعواها هنا وبین دعوی الاتهام هی العموم من وجه ، لامکان وجود الاتهام من دون أن تدعی شیئا یخالف ما تعارف علیها النساء . هذا فضلاً عن دعواها ضعف الخبر بواسطة السکونی ، وارسال المرویّ فی «الفقیه» .


1- وسائل الشیعة : الباب 47 من أبواب الحیض، الحدیث 3 .

ص:140

ویجوز للزوج الاستمتاع بما عدا القُبُل (1).

هذا ، ولکن الانصاف أنّ ملاک عدم سماع قولها ، هو الاتهام ، غایة الأمر کونه مختلفا بحسب المصادیق ، إذ قد یحصل تارة دعواها امورا غیر متعارفة وبعیدة ، الموجبة لانطباق الاتهام علیها ، واخری تدعی أمرا متعارفا ومعقولاً ، لکنّها متهمة بالکذب وعدم المبالات فی واجباتها الشرعیّة وغیرها ، ففی جمیع ذلک ، ومنها ظن الزوج بکذبها _ إذا لم یکن الزوج مبتلی بسوء الظن والوسوسة فی حقّ زوجها ، کما هو متعارف عند بعض الأزواج _ لا یسمع قولها ، الاّ أنْ یحصل للزوج الاطمینان عن حالها .

وکذلک یکون الحکم عند اخبارها عن الطهارة ، کاخبارها عن أیام الحیض للخبرین المزبورین ، لأن الظاهر من إحالة أمر الحیض إلی النساء اعتبار قولهنّ فی الحیض وعدمه کما لا یخفی .

والکلام فیه ، کالکلام فی سابقه .

(1) یمکن تصویر هذه المسألة وتقسیمها إلی ثلاثة أقسام ، وهی :

الأوّل : قسم منها وهو الاستمتاع بما فوق السُّرة وتحت الرکبة .

وهذا القسم لا اشکال ولا خلاف فی جوازه ، بل ولا کراهة فیه ، کما تری ذلک من دعوی الاجماع علیه عن صاحب «الجواهر» قدس سره ، حیث قال : «اجماعا محصلاً و منقولاً ، مستفیضا غایة الاستفاضة کالسنّة» .

أمّا الذی ورد فی خبر عبد الرحمن بن أبی عبداللّه ، قال : «سألتُ أبا عبداللّه علیه السلام عن الرجل ما یحلّ له من الطامث؟ قال : لا شی ء حتّی تطهر»(1) .


1- وسائل الشیعة : الباب 24 من أبواب الحیض، الحدیث 12 .

ص:141

من نفی المطلق ، الشامل بعمومه جمیع الاستمتاعات حتی هذا الفرض .

فإنّه لابد أنْ نأوّله بکون المراد هو الوطی فی الفرج ، اذ هو المراد المتبادر عند الذهن من اطلاقه لا لمثل الاستمتاعات المذکورة فی هذا الفرض ، أو حمل الخبر علی استحباب الترک ، أو حمله علی التقیة ، لموافقته لمذهب کثیر من العامة کما فی «الوسائل» .

ما یحرم علی الحائض / فی استمتاع الزوج بما عدا القبل

ولذلک لم یُنقل من أحدٍ من الخاصة الحکم بحرمة الاستمتاع بالنسبة الی ما فوق السرّة وما تحت الرکبة ، فضلاً عن فوق الثیاب واللباس .

الثانی : وهو الاستمتاع ما بین السرّة والرکبة مباشرةً ، بالوطی فی الدُّبر .

ففیه اختلاف ، تارة : فی المنع عن کلا الامرین من الاستمتاع والوطی فی الدبر .

واُخری : یکون فی المنع عن خصوص الاخیرة دون غیره .

ثالثة : من الجواز فی کلیهما ، کما هو مذهب صاحب «الجواهر» قدس سره حیث قال : «وکذا (أی یجوز الاستمتاع) فیما بینهما ، حتّی الوطی ء الدبر علی المشهور فی الجملة ، شهرةً کادت تکون اجماعا ، بل عن ظاهر «التبیان» و«مجمع البیان» الاجماع علی الدبر ، کما فی صریح «الخلاف» الاجماع أیضا علی جواز الاستمتاع بما بینهما فی غیر الفرج ، ولعلّه یرید به القُبل ، کالمنقول عن «الاقتصاد» و«النهایة» و«المبسوط» أیضا ، بل کادت تکون عبارة «الخلاف» کالصریحة فیما ذکرنا علی ما یشع به استدلاله» انتهی محلّ الحاجة(1) .

وقد یستدل علی الجواز مطلقا ، بعدة أخبار معتبرة مستفیضة :

منها : روایة عبد الملک بن عمرو ، قال : «سألتُ أبا عبداللّه علیه السلام ما لصاحب المرأة الحائض منها؟ فقال : کلّ شی ء ما عدا القُبل منها بعینه»(2) .


1- جواهر الکلام ج3/228 .
2- وسائل الشیعة : الباب 25 من أبواب الحیض، الحدیث 1 .

ص:142

وهذه أصرح روایة فی الدلالة علی انحصار المنع فی خصوص الإتیان فی القُبل ، والتجویز فی غیره بصورة الاطلاق الشامل لوطی الدبر أیضا ، کما لا یخفی .

منها : روایة اخری له أیضا ، قال : «سألتُ أبا عبداللّه علیه السلام ما یحلّ للرجل من المرأة ، وهی حائض؟ قال : کلّ شی ء غیر الفرج . قال : ثم قال : إنّما المرأة لُعبة الرجل»(1) . وهی لیس مثل السابق فی الصراحة ، لاحتمال صدق الفرج علی کلّ من القُبل والدُّبر ، وإنْ کان غیر متبادر عند الاطلاق .

بل قیل إنّ الروایة السابقة ، قرینةٌ علی کون المراد هو خصوص القُبل .

منها : موثقة عبداللّه بن بکیر ، عن بعض أصحابه ، عن أبی عبداللّه علیه السلام : «قال : إذا حاضت المرأة ، فلیأتها زوجها حیثُ شاء ، ما اتقی موضع الدم»(2) .

فهی أیضا تدل علی جواز الاستمتاع علی نحو الإطلاق _ حتّی الوطی فی الدبر _ ما عدا القُبل .

منها : روایة معاویة بن عمّار ، عن الصادق علیه السلام : «عن الحائض ما یحلّ لزوجها منها؟ قال : ما دون الفرج»(3) .

والاشکال فیها کما فی روایة عبد الملک .

منها : روایة مشابهة للروایة السابقة وقد رواها عبداللّه بن سنان عن الإمام الصادق علیه السلام ، قال : «قلت للصادق علیه السلام : ما یحلّ للرجل من امرأة وهی حائض؟

قال : ما دون الفرج»(4) . ومثلها روایة العباس(5) .


1- وسائل الشیعة : الباب 25 من أبواب الحیض، الحدیث 4 .
2- وسائل الشیعة : الباب 25 من أبواب الحیض، الحدیث 5 .
3- وسائل الشیعة : الباب 25 من أبواب الحیض، الحدیث 2 .
4- وسائل الشیعة : الباب 25 من أبواب الحیض، الحدیث 3 .
5- وسائل الشیعة : الباب 25 من أبواب الحیض، الحدیث 9 .

ص:143

منها : موثقة هشام بن سالم ، عن الصادق علیه السلام : «فی الرجل یأتی المرأة فیما دون الفرج ، وهی حائض؟ قال : لا بأس إذا اجتنب ذلک الموضع»(1) .

والالف واللام للعهد ، أی موضع الدم ، کما فی روایة عبداللّه بن بکیر .

منها : صحیحة عمرو بن یزید ، قال : «قلتُ لأبی عبداللّه علیه السلام : ما للرجل من الحائض؟ قال : ما بین الیتیها ولا یوقب»(2) .

إنْ ارید من قوله : «ما بین إلیتیها» خصوص القُبل _ کما هو الغالب فی الایقاب _ فحیئذٍ یکون دلیلاً علی جواز وطی الدبر ، ولکن انْ ارید من هذه الجملة کلّ ما وقع بین الالیتین من القُبل والدبر مما یقبل الإیقاب ، فیستفاد منه المنع مطلقا حتّی فی الدبر .

وکیف کان ، فإنّ هذه الاخبار المستفیضة ، دالة علی جواز الاستمتاع المباشر من المرأة الحائض ما عدا القُبل ، أو هو مع الدبر إنْ أخذنا باطلاق روایة عمر بن یزید .

فضلاً عن أن ما دل علی جواز الاستمتاع بغیر الوطی کان أزید من هذا ، کما تری ذلک من دلالة روایة عمر بن حنظلة ، قال : «قلت لأبی عبداللّه علیه السلام : ما للرجل من الحائض؟ قال : ما بین الفخذین»(3)

فإنّه لو ارید منه الاستمتاع باللمس والتفخیذ وغیرهما من الاستمتاعات _ دون الوطی _ فهو ، وإلاّ لو قلبنا بإفادته جواز الوطی فی القبل فلابد من طرحها أو تاویلها بما ذکرنا ، أو غیر ذلک .

و کیف کان ، فإنّ حکم جواز الاستمتاع بالمباشرة _ غیر الوطی کالدبر _ مستفادٌ من عدد من الادلة ، خصوصا مع وجود عمومات تدل علی جواز


1- وسائل الشیعة : الباب 25 من أبواب الحیض، الحدیث 6 .
2- وسائل الشیعة : الباب 25 من أبواب الحیض، الحدیث 8 .
3- وسائل الشیعة : الباب 25 من أبواب الحیض، الحدیث 7 .

ص:144

الاستمتاع من المرأة ، مثل آیة « نسائکم حرث لکم فأتوا حرثکم انی شئتم»(1) إنْ ارید منه المکان لا الزمان ، أی من أیّ موضع من جسم المرأة شئتم ، فعمومها یشمل جمیع الموارد ، الاّ ما استثنی ، وهو الاتیان فی القبل أو هو مع الدبر فی حال الحیض ، بواسطة أدلة التخصیص ، أمّا باقی مواضع جسم المرأة فإنّها تبقی تحت عموم الجواز ، کما لا یخفی .

فالاقوی جواز الاستمتاع مابین السُّرة والرکبة مباشرة فی حال الحیض . وامّا حکم الوطی فی الدبر فی حال الحیض ، فقد جاء فی «مصباح الفقیه» قوله : «لا یخفی علیک أنّ استفادة جواز الوطی فی الدبر حال الحیض ، من هذه الروایات ، مبنیّةٌ علی القول بجوازه حال النقاء ، کما هو الأشهر بل المشهور عند الخاصة نصا وفتوی ، عکس العامة» .

وامّا لو لم یثبت ذلک بالنسبة الی حال النقاء ، فربما یتأمّل فی نهوض هذه الأخبار لاثباته ، لورودها فی مقام بیان حکم آخر ، أعنی عدم ممانعة الحیض الاّ من الوطی فی القُبل دون سائر الاستمتاعات ، فیکون اطلاقها منزّلاً علی بیان أنّ له حال الحیض جمیع ما کان له حال الطهر ، ما عدا الوطی فی القُبل .

لکن المتأمّل فی الروایات یراها کالصریحة فی ارادة الوطی فی الدبر ، وإنْ لم یکن اطلاقها مسوقا لبیان أصل الاستمتاعات الجائزة ، فانّ هذا الفرد أظهر افراد الاستمتاع ، بحیث لا یرتاب السامع فی ارادته من قوله علیه السلام فی جواب مَنْ سأله عمّا لصاحب المرأة الحائض _ : «کلّ شی ء منها عدا القُبل منها بعینه» ، وکذا مِنْ قوله علیه السلام : «فلیأتها زوجها حیثُ شاء ، ما اتّقی موضع الدم» .

بل لا شُبهة فی ظهور تخصیص القُبل وموضع الدم بالذکر ، فی اختصاص


1- سورة البقرة: آیة 223.

ص:145

الحکم به دون الدبر ، الذی هو عدیل القُبل فی هذه الفائدة .

هذا کله بعد الإغماض عمّا یدل علی جوازه فی حدّ ذاته ، والاّ فیأتی إنْ شاء اللّه فی محلّه أنّه لا مجال للتشکیک فیه» انتهی(1) .

أقول : دعوی التلازم بین حال النقاء وحال الحیض فی المنع ، غیرُ مسموعة ، لامکان کون التجویز حال الطمث للتسهیل للزوج ، خصوصا لمن کان له شبق فی الجماع ، ولا یقدر علی اشباع ذلک من القبل فی الحالة ، فَجَعل الشارع الدبر له حلالاً ، وهو أمر غیر بعید .

ولکن مع ذلک کلّه إذا راجعنا الادّلة السابقة خصوصا مثل روایة عبد الملک ابن عمرو الدالة بعمومها علی حلیة جمیع بدن المرأة الاّ القبل ، خصوصا مع ملاحظة لفظ (بعینه) حیث یحصر المنع فی خصوص القبل ، ویجوّز الاستمتاع بحوالیه الشامل لمثل الدبر وغیره . وأیضا یدلّ علی ذلک خبر عبداللّه بن بکیر بقوله : «فلیأتها زوجها حیثُ شاء ما اتقی موضع الدم» فإنّهما یدلان علی جواز الوطی فی الدبر .

بل قد یستشعر ذلک من قوله تعالی : « یَسْألُونَکَ عَنِ المَحِیض قُلْ هوَ أذی . . .» ، أی رجس ونجس ، وهو إشارة إلی الدم ، ولا یکون ذلک الاّ فی خصوص القُبل الذی هو موضع الدم ، حیث حکم الشارع الرجال بالاعتزال عن موضعه فلا یشمل مثل الوطی فی الدبر .

و لکن مع ذلک کله ، قد یستشعر المنع من جهة احتمال صحة اطلاق الفرج علی الدبر أیضا ، الذی قد وقع فی طرف الاستثناء علی الحلیّة ، فی روایة عبد الملک ومعاویة بن عمار وعبداللّه بن سنان والعیّاشی ، بل قد یستفاد ذلک أیضا من


1- مصباح الفقیه ج4/146 .

ص:146

المنع الوارد عن الایقاب أو تخصیص الاستمتاع بالفخذین والإلیتین فی روایتی عمر بن حنظلة وعمرو بن یزید ، حیث یشمل باطلاقه ممنوعیّة الوطی بکلا قسمیه ، أی فی القُبل والدُبر .

وبرغم أنّ مقتضی القواعد ، هو تقدیم أدلة الجواز علی المنع ، لأنّ أدلّة الجواز تکون عمومها بالوضع کما فی قوله : «کلّ شی ء ما عدا القُبل منها بعینه» ، فی مقابل أدلّة المنع التی تدلّ علی المنع من جهة الإطلاق الموجود فی لفظ المنع من (الفرج) أو (الایقاب) الشامل لوطی الدبر ، حیث یقید فی خصوص الدبر بدلیل الجواز ، فیحصر المنع فی الوطی فی القُبل .

فانّ مقتضی ملاحظة اطلاق قوله : «له ما شاء ما اتّقی موضع الدم» ، أو قوله : «لا بأس إذا اجتنب ذلک الموضع» ، هو جواز الاستمتاع بالوطی فی الدبر ، ولکنّه یعارض مع اطلاق لفظ (الفرج) والایقاب الواردین فی هذه الاخبار ، وعنه التعارض والتساقط نرجع فی ناحیة الوطی فی الدبر الی التمسک عمومات الادّلة الدالة علی جواز مطلق ما شاءه الرجل من الاستمتاع بالنساء الاّ الوطی فی القُبل حال الحیض الی أصل البرائة .

ولکن مع ذلک کله ، لیس أمر الوطی فی الدبر بلا کلام ولا اشکال ، والسرّ فی ذلک هو صدور روایتین عن عبد الملک بن عمرو وردت فی إحداهما لفظة (القُبُل) وفی الاخری (الفرج) ، وکون السؤال والجواب عنهما مرتین بعیدٌ ، فیدور الأمر بین صدور احدی الروایتین ، فیتردد الأمر فی الجواز فی الدبر ، لاحتمال شمول اطلاق الفرج له علی تقدیرٍ ، فلا یبقی للجواز حینئذٍ دلیلٌ الاّ الاطلاقین المتعارضین المتساقطین ، والرجوع الی العمومات أو الاصل ، لو لم یرجّح أحدهما بالشهرة ، وبالرجوع الی الشهرة یتردد الأمر فیها بین کون الشهرة فی المتقدمین بالجواز _ بل قد عرفت دعوی الاجماع فیه _ وفی المتأخرین بعدمه ،

ص:147

وإنْ کان اعتبار الشهرة عند المتقدمین مقدما علی الشهرة عند المتاخرین ، ولکنه یوجب أنْ لا یخلو المسالة عن اشکال ، فالأحوط وجوبا هو الاجتناب ، واللّه العالم .

الثالث : وقسمٌ منها ، هو الاستمتاع منها ما بین السرّة والرکبة عن فوق الثیاب واللباس .

وهذا أیضا مما اشکال ولا خلاف فیه ، بل علیه الاجماع ، غایة الأمر أنّه قد ذهب السید المرتضی فی «شرح الرسالة» الی تحریم الوط ء فی الدبر ، بل مطلق الاستمتاع ما بین السرّة والرکبة ، ومال الیه الأردبیلی قدس سره فی «مجمع البرهان» مستدلاً علیه بما فی الکتاب من قوله تعالی : « فاعتزلوا النساء فی المحیض»(1) أو بالآیة الناهیة عن المقاربة وهی قوله تعالی : « ولا تقربوهن حتّی یطهرن»(2) .

وبالخبر الصحیح الذی رواه ابن بابویه بسنده عن الحلبی : «أنّه سأل أبا عبداللّه علیه السلام عن الحائض ، وما یحلّ لزوجها منها؟ قال : تتزر بازارٍ الی الرکبتین ، وتُخْرِج سُرَّتها ، ثم له ما فوق الإزار . قال : وذکر عن أبیه علیه السلام أنّ میمونه کانت تقول : إنّ النبی صلی الله علیه و آله کان یأمرنی إذا کنتُ حائضا أن أتّزر بثوبٍ ثم اضطجع معه فی الفراش»(3) .

ورواه الشیخ باسناده الصحیح الی الحلبی مثله ، الی قوله : «ما فوق الإزار» .

وبموثقة أبی بصیر عن أبیعبداللّه الصادق علیه السلام ، قال : «سُئل عن الحائض ما یحلّ لزوجها منها؟ قال : تتزر بإزارٍ الی الرکبتین ، وتُخرج ساقیها ، وله ما فوق الازار»(4) .

ما یحرم علی الحائض / کفّارة وطی الحائض

ومثله روایة الخشّاب ، قال : «سألتُ أبا عبداللّه علیه السلام عن الحائض والنفساء


1- سورة البقرة : آیة 222.
2- سورة البقرة : آیة 222.
3- وسائل الشیعة : الباب 26 من أبواب الحیض، الحدیث 1 .
4- وسائل الشیعة : الباب 26 من أبواب الحیض، الحدیث 2 .

ص:148

فان وطأ عامدا عالما ، وجبت علیه الکفارة .

وقیل : لا تجب ، والأوّلُ أحوط (1).

ما یحلّ لزوجها منها؟ قال : تلبس درعا ثم تضطجع معه»(1) .

ولکن مقتضی الجمع بین الطائفتین المعتبرتین من الاخبار الدالتین علی الجواز ، وعدم المستفاد من مفهوم السؤال : (ما یحلّ لزوجها) ، هو الجمع باحد الطریقتین :

امّا بالتصرف فی الهیئة إذا لم یمکن الجمع الدلالی بینهما بالاطلاق والتقیید ، أو بالعموم والخصوص ، فلازم ذلک هو حمل الأمر الوارد فی علی الاستحباب ، لدفع توهم الخطر ، وحمل النهی علی الکراهة هنا ، بعدما عرفت منا سابقا ، بأنّ المراد من الاعتزال وعدم المقاربة هو استنکار الدخول والجماع نظیر اللمس فی قوله تعالی : «فان لامستم النساء» ، ولا یفید ممنوعیّة الاستمتاع غیر الوطی .

أو حمل الأخبار المانعة علی التقیة ، لموافقتها مع مذهب کثیر من العامة ، حیث یقولون بوجوب کون الاستمتاع محدودا بما فوق اللباس ، وقد عرفت دعوت الاجماع علی الجواز مباشرة ، وعدم وجود المخالفة ، الاّ عن رجلین ، حیث لا یضرّ مخالفتهما بالاجماع ، لکونهما معلومی بالنسب ، کما لا یخفی .

(1) اعلم أنّ المسألة ذات أقوال ثلاث :

قول : بوجوب الکفارة لمن وطی زوجته عالما عامدا من محلّ الحیض ، وهو المشهور بین المتقدمین ، وأعاظم الاصحاب من الصدوقین والشیخین ، وعلم الهدی ، وابن حمزة وابن زهرة وابن ادریس وسعید وغیرهم ، ونسبه الشهیدان


1- وسائل الشیعة : الباب 26 من أبواب الحیض، الحدیث 3 .

ص:149

الی الشهرة ، وغیرهما الی الأکثر ، بل علیه دعوی الاجماع فی «الانتصار» و«الخلاف» و«الغنیة» ، ، ووافقهم فیه صاحب «الجوهر» والسیّد فی «العروة» والعلامة البروجردی والمیرزا عبد الهادی الشیرازی ، والمحقّق الآملی علی الاحوط ، والاحتیاط الوجوبی منقولٌ عن کثیر من أصحاب التعلیق علی «العروة» فراجعها .

وقول : بالاستحباب ، وهو المشهور بین المتأخرین ، کما نقله صاحب «الحدائق» واختاره ، کما هو مختار صاحب «مصباح الفقیه» ، والسیّد الحکیم فی «المستمسک» والمحقّق الخمینی قدس سره فی «کتاب الطّهارة» ، والسید الاصفهانی وضیاء الدین العراقی ، والمحقّق السیّد أحمد الخوانساری والسیّد الگلبایگانی ، وغیرهم من أصحاب التعلیق علی «العروة» .

وقول ثالث : هو للسیّد الخوئی علی ما نقله المقرّر صاحب «التنقیح» بقوله بعد اتمام الاستدلال : «فلا تکون الکفّارة واجبة ولا مستحبة بعنوان کونها کفارة ، وأمّا بعنوان الصدقة والاحسان فهو أمر آخر» انتهی(1) .

حیث نفی الکفارة من أصلها ، فکأنّه لا یجوّز الاعطاء بقصد الکفارة تذنیا ، بل یری أنّ علی الفاعل دفع ذلک بعنوان الصدقة والاحسان .

وکیف کان ، لابد أنْ نراجع الادلة ، حتّی یتضح المرام منها ، فنقول وباللّه الاستعانة .

فقد استدل للوجوب _ مضافا الی الشهرة والاجماع المنقول _ بعدة أخبار ، بعضها معتبرة سندا ودلالة ، فلا بأس بذکرها :

منها : روایة داود بن فرقد ، عن أبی عبداللّه علیه السلام : «فی کفارة الطمث : أنّه


1- التنقیح ج6/461 .

ص:150

یتصدّق إذا کان فی اوّله بدینار ، وفی وسطه نصف دینار ، وفی آخره ربع دینار .

قلت : فان لم یکن عنده ما یُکفّر؟ قال : فلیتصدق علی مسکین واحد ، والاّ استَغفَر اللّه ولا یعود فان الاستغفار توبة وکفارة لکلّ مَنْ لم یجد السبیل الی شی ء من الکفارة»(1) .

ومنها : روایة صحیحة محمد بن مسلم ، قال : «سألته عمّن أتی امرأته و هی طامث؟ قال : یتصدّق بدینار ویستغفر اللّه تعالی»(2) .

ومنها : روایة أبی بصیر ، عن أبی عبداللّه علیه السلام قال : «من أتی حائضا فعلیه نصف دینار یتصدق به»(3) .

ومنها : روایة صحیحة الحلبی ، عن أبی عبداللّه علیه السلام : «فی الرجل یقع علی امرأته وهی حائض ما علیه؟ قال : یتصدّق علی مسکین بقدر شبعة»(4) .

ومنها : روایة علی بن ابراهیم فی «تفسیره» ، قال : قال الصادق علیه السلام : «مَنْ أتی امرأته فی الفرج فی اوّل أیّام حیضها ، فعلیه أنْ یتصدّق بدینار ، وعلیه ربع حَدّ الزانی خمسة وعشرون جلدة ، وإنْ أتاها فی آخر أیّام حیضها ، فعلیه أن یتصدّق بنصف دینار ، ویُضرب اثنتی عشرة جلدة ونصفا»(5) .

ومنها : روایة ابن بابویه فی «المقنع» ، قال : «روی أنّه إنْ جامعها فی اوّل الحیض ، فعلیه أنْ یتصدق بدینار ، وإنْ کان نصفه فنصف دینار ، وإنْ کان فی آخره فربع دینار»(6) .


1- وسائل الشیعة : الباب 28 من أبواب الحیض، الحدیث 1 .
2- وسائل الشیعة : الباب 28 من أبواب الحیض، الحدیث 3 .
3- وسائل الشیعة : الباب 28 من أبواب الحیض، الحدیث 4 .
4- وسائل الشیعة : الباب 28 من أبواب الحیض، الحدیث 5 .
5- وسائل الشیعة : الباب 28 من أبواب الحیض، الحدیث 6 .
6- وسائل الشیعة : الباب 28 من أبواب الحیض، الحدیث 7 .

ص:151

ومنها : الروایة المرویّة فی «فقه الرضا» علیه السلام : «ومتی ما جامعتها وهی حائض ، فعلیک ان تتصدق بدینار ، وإنْ جامعتَ أمتک وهی حائض فعلیک أنْ تتصدق بثلاثة امداد من طعام» الحدیث(1) .

هذه جملة الأخبار التی یمکن الاستدلال بها للوجوب ، من جهة ظهور فعل المضارع فی قوله : «یتصدق» فی مقام الانشاء علی الوجوب وظهور کلمة (علیک ، علیه) علی الوجوب ، بل أصرح من الجمیع کلمة (یجب) الواردة فی روایة محمد بن مسلم ، قال : «سألتُ أبا جعفر علیه السلام عن الرجل یأتی المرأة وهی حائض؟ قال : یجب علیه فی استقبال الحیض دینار ، وفی استدباره نصف دینار . قال : قلتُ جعلت فداک ، یجبُ علیه شی ء من الحدّ؟ قال : نعم خمس وعشرون سوطا ، رُبع حدّ الزانی ، لأنه أتی سفاحا»(2) .

حیث قد کرّرت کلمة (یجب) مرتان ، فتدل علی وجوب الکفارة والحدّ ، فلا تجری فیه شُبهة عدم ارادة الوجوب من الکلمة ، لصراحتها فیه ، ولأجل ذلک ذهب أعاظم فقهاؤنا إلی الوجوب .

و لکن مع ذلک کله ، قد خالف جماعة کبیرة من الفقهاء هذا الحکم ، منهم المحقّق فی «المعتبر» ، والعلامة فی «المختلف» و«المنتهی» والشهید فی «الروض» ، وصاحب «جامع المقاصد» و«المدارک» ، بل وکذا المحکیّ عن الشیخ فی «نهایة» ، بل قد عرفت من عدد من المتأخرین ذهابهم الی الاستحباب ، ودلیلهم علی ذلک ، أوّلاً : الأصل وذلک عند الشک وفقد الدلیل ، ولو لأجل التساقط بالمعارضة ، لأنّ الشک حینئذ یکون فی أصل التکلیف ، والأصل


1- المستدرک ج1 الباب 23 من ابواب الحیض الحدیث 1 .
2- وسائل الشیعة : الباب 13 من أبواب بقیة الحدود و التعزیرات، الحدیث 1 .

ص:152

فی هذا الفرض هو البرائة .

ثانیا : وجود عدّة أخبار بعضها معتبرة سندا ودلالة وهی دالة علی عدم الوجوب .

منها : صحیحة العیص بن القاسم ، قال : «سألتُ أبا عبداللّه علیه السلام عن رجل واقع امرأته ، وهی طامث؟ قال : لا یلتمس فعل ذلک ، قد نهی اللّه أنْ یقربها . قلت : فان فعل أعلیه کفارة؟ قال : لا أعلم فیه شیئا ، یستغفر اللّه»(1) .

منها : موثقة زرارة ، عن أحدهما علیهماالسلام ، قال : «سألته عن الحائض یأتیها زوجها؟ قال : لیس علیه شی ء ، یستغفر اللّه ، ولا یعود»(2) .

منها : خبر لیث المرادی ، قال : «سألتُ الصادق علیه السلام عن وقوع الرجل علی امرأته وهی طامث خطأ؟ قال : لیس علیه شی ء وقد عصی ربّه»(3) .

قال شیخنا المرتضی رحمه الله : «والظاهر من الخطاء ، بقرینة المعصیة الخطأ فی الفعل ، ومنه الخطیئة ، أو الخطأ فی الحکم مع التقصیر فی السؤال دون الخطأ فی الموضوع» انتهی(4) .

منها : روایة «دعائم الاسلام» : «وروینا عنهم علیهم السلام أنّ من أتی حائضا ، فقد أتی ما لا یحلّ له ، وعلیه أن یستغفر اللّه ، ویتوب من خطیئته ، وإن تصدّق بصدقة مع ذلک فقد أحسن»(5) .

بل قد یؤید الإستحباب ، اختلاف لسان أخبار الوجوب فی مقدار الکفارة ، حیث قد عرفت فی روایة داود و«الفقیه» فی «المقنع» بکونها فی أوّله دینار ،


1- وسائل الشیعة : الباب 29 من أبواب الحیض، الحدیث 1 .
2- وسائل الشیعة : الباب 29 من أبواب الحیض، الحدیث 2 .
3- وسائل الشیعة : الباب 29 من أبواب الحیض، الحدیث 3 .
4- کتاب الطهارة /235 .
5- المستدرک ج1 الباب 24 من ابواب الحیض الحدیث 1 .

ص:153

وفی وسطه نصفه ، وفی آخره ربعه ، وفی روایة محمد بن مسلم بدینار علی نحو المطلق وکذلک و فی حدیث علی بن ابراهیم ، وفی روایة أبی بصیر نصف دینار علی نحو المطلق ، وفی روایة الحلبی علی مسکین بقدر شُبعة .

فانّ مثل هذا الاختلاف ، لا یناسب مع الأمر الوجوبی ، بخلاف الاستحباب ، حیث یمکن حمله علی مراتب الفضیلة ، وتأکیدها بالنسبة إلی أوّله ، وأضعفها فی الآخر ، کما قیل مثل ذلک فی الاختلاف فی منزوحات البئر ، فیؤکد ذلک ما وقع فی روایة «دعائم الاسلام» حیث أمر علیه السلام أوّلاً بالاستغفار فی أوّلها ثم یقول فی آخرها : «وإنْ تصدق بصدقة مع ذلک فقد أحسن» .

وما احتمله صاحب «المستدرک» من أنّ هذا الکلام فی ذیل الخبر صادرٌ عن مؤلّف «دعائم الإسلام» ، لا یخلو عن بُعدٍ .

وسند الخبر الذی رواه صاحب «دعائم الإسلام» وإنْ کان ضعیفا ، لکن قد حقّقنا فی محلّه بان الضعف کذلک ، لولا الانجبار بالشهرة والاجماع ، لا یمکن أنْ یعتبر دلیلاً مستقلاً فی الحکم ، نعم یفیدنا فی مقام التأیید ، والمقام یعدّ من هذا القبیل . فهذه جملة اُمور یوجب الحکم الاستحباب وذلک بالتصرف فی هیئة أخبار الوجوب ، بحملها علی الندب .

وإنْ أبیت عن ذلک ، وسلّمنا دلالة ادلة الوجوب علیه ، خصوصا مع ورود لفظ (یجب) فی بعض أخباره ، کما عرفت فی حدیث محمد بن مسلم ، فغایة الأمر هو تعارض الدلیلین _ مع فرض تمامیة دلالة کل علی معناه من الوجوب والاستحباب _ وتساقطهما ، فالمرجع بعد التساقط وفقدان الدلیل ، هو الرجوع الی العمومات والاصل ، وهو هنا أصل البراءة ، لکونه شکا فی التکلیف .

وعلی هذا الوجه ، یصعب الحکم بالاستحباب جزما ، فضلاً عن الوجوب .

هذا إذا لم نقل و لم نرجع الی ملاحظة المرجّحات ، والاّ فإنّه ربما یقال بانّ من

ص:154

المرجّحات عدم احتمال کونه صادرا علی التقیة ، وموافقا لمذهب العامة ، مع أنّ الوجوب یحتمل فیه ذلک ، کما یشهد له ما ورد فی صحیحة عیص بقوله : «لا أعلم فیه شیئا» ، فان هذا التعبیر مشعرٌ بأنّ القول بأنّ علیه شیئا کان معروفا بین فقهاء العامة ، وکان من الصعب علی الإمام علیه السلام إنکاره علنا وجزما .

بل أظهر من ذلک ، ما ورد فی روایة عبد الملک بن عبد الکریم بن عمرو ، قال : «سألت أبا عبداللّه علیه السلام عن رجل أتی جاریته ، وهی طامث؟

قال : یستغفر اللّه ربّه .

قال عبد الملک : فانّ الناس یقولون علیه نصف دینار أو دینار؟

فقال أبو عبداللّه علیه السلام : فلیتصدق علی عشرة مساکین)(1) .

حیث لا یبعد أنْ یکون أمره علیه السلام بالتصدق علی عشرة مساکین ، من جهة الفرار عن اظهار المخالفة معهم ، اذ التعبیر بأنّ الناس یقولون کذا لا یقصد بهم الاّ العامة ، فما أنکره صاحب «الجواهر» قدس سره بقوله : «قد اطّرد حدیث العیص وزرارة ، لأجل موافقتهما لفتوی الشافعی فی الجدید ، ومالک وأبی حنیفة وأصحابه ، وربیعة والّلیث وابن سعد ، علی ما نقله عنهم فی «الانتصار» ، مع اشتهار فتوی أبی حنیفة فی زمن الصادق علیه السلام . ومنه تعرف فساد نسبة اخبار الوجوب للتقیة» انتهی کلامه(2) .

ممّا لا یمکن مساعدته ، مضافا الی أنّه لا یناسب مع ما فی الروایتین الدالتین علی ذلک فی الأمة فإنّه لابد أنْ نلاحظ کلام العامة ، وأنّهم فی أی موضع یقولون بعدم الوجوب ، فهل یقولون بذلک فی الطامث وفی الحُرة والأمة ، أم فی خصوص الأمة؟


1- وسائل الشیعة : الباب 28 من أبواب الحیض، الحدیث 2 .
2- الجواهر ج3/232 .

ص:155

وکیف کان ، فقد عرفت صحة الحکم بالاستحباب ، حتّی مع عدم ملاحظة المرجّحات ، وعدم القول بالتقیة فی أخبار الوجوب .

وأمّا ما ادّعاه سیدنا الخوئی قدس سره من عدم وجوب الکفارة وعدم استحباب دفعها بعنوان بعنوان الکفارة ، بل بعنوان الصدقة والاحسان .

فإنّه بعیدٌ عن لسان الدلیل ، لما قد ورد فی روایة داود بن فرقد من التصریح بکفارة الطمث ، فالتصدیق الوارد فی سائر الادلة کان من أجل الکفارة لهذا العمل ، لا الصدقة مطلقا .

فالقول باستحباب الکفارة ، کما علیه المشهور من المتأخرین لا یخلو عن قوة ، وإنْ کان الاحتیاط بالاداء لا یخلو عن حسن ، خصوصا أنّ المخالفة فی مثل هذه المسألة التی اتفقت فیها الشهرة عن المتقدمین مع الوجوب _ ولعلّهم أعرف بها من غیرهم ، لقرب زمانهم الی زمن الائمة علیهم السلام _ مشکلٌ ، وإنْ کان المخالفة مع مقتضی الادلة فیها أشکل ، کما لا یخفی علی المتأمل .

اذا عرفت الحکم فی وطی الحائض الحُرّة ، إذا کانت زوجة دائمة أو منقطعة _ وعرفت عدم وجود دلیل متقن ثابت دال علی الوجوب ، فإنّ الدلیل علی استحباب کفارة الوطی یکون أقوی وأظهر .

أمّا حکم واطی الأمة والجاریة فی حال الحیض ، فقد وقع الخلاف فیه أیضا ، إذ ذهب قدماء أصحابنا إلی الوجوب ، کما هو ظاهر المحکیّ عن «الانتصار» و«الفقیه» و«المقنعة» و«النهایة» و«السرائر» ، بل فی «الجواهر» أنّه هو المشهور بینهم ، بل فی «الانتصار» الاجماع علیه ، وفی «السرائر» نفی الخلاف فیه .

هذا ، مضافا الی تمسکهم بالروایة المرویة فی «فقه الرضا» من قوله : «إذا جامعتَ أمتک وهی حائض ، تصدقت بثلاثة اعداد من طعام»(1) .


1- المستدرک ج1 الباب 23 من ابواب الحیض الحدیث 1 .

ص:156

بل قد یتوهم الاستدلال علی الوجوب بروایة عبد الکریم بن عمرو ، قال : «سألتُ أبا عبداللّه علیه السلام عن رجل أتی جاریته وهی طامث؟ قال : یستغفر اللّه ربه . قال عبد الملک : فانّ الناس یقولون علیه نصف دینار ، أو دینار؟ فقال أبو عبداللّه علیه السلام : فلیتصدق علی عشرة مساکین»(1) .

حیث قد حکم علیه السلام بوجوب اعطاء الصدقة لعشرة مساکین؟

بل قد ینضم الی مجموع هذه الأدلة دعوی دعوت عدم القول بالفصل فی الوجوب والاستحباب بین الأمة والحُرّة ، لأنّ کل من قال بالوجوب فی الثانیة ، قال به فی الاولی ، وکلّ من قال بالاستحباب فیها ، یقول به فی الاولی أیضا ، فیصیر هذا اجماعا مرکبا علی اختیار الوجوب فیها ، مع اختیار الوجوب فی الحُرّة .

بل قد یُدّعی کون الکفارة فی الحُرّة واجبة من جهة أنّه لو سلّمنا وجوبها فی الأمة ، ومعلومٌ من الشرع أنّ حکم الاماء فی العبادات والمجازات أخفّ من الحرّة _ فاذا قبلنا وجوب دفع الکفّارة علی مولی الأمة عند وطیه لها فی حال الحیض ، ففی الحُرّة یکون وجوب دفعها بالأولویّة ، وهو المطلوب .

هذا ، وقد اعترض علی التمسک بهذه الادلة ، بأنّ الاجماع المنقول غیر مقبول فی أصل الحُرّة ، ففی الأمة مثله ، لذهاب کثیر من الفقهاء _ کصاحب «المعتبر» و«جامع المقاصد» و«الحدائق» ، وکثیر من المتأخرین کالمحقق الهمدانی والآملی والخوئی ، وکثیر من أصحاب التعلیق علی «العروة» _ إلی عدم الوجوب .

وأمّا الأخبار فإنّها أیضا یصعب الاستدلال بها ، بما فی «التنقیح» و«مصباح الهدی» من عدم وجود دلیلٍ یدل علی وجوب الکفارة فی وطی الأمة فی حال الحیض ، الاّ روایة واحدة وهی روایة عبد الکریم بن عمرو ، فهی فی دلالتها علی


1- وسائل الشیعة : الباب 28 من أبواب الحیض، الحدیث 2 .

ص:157

عدم الوجوب أولی ، لانها حکمت بالتصدق لأجل عدم المخالفة مع العامة ، والاّ فإنّ الإمام علیه السلام قد صرح فی صدر الخبر بأنّ علی الفاعل (أن یستغفر اللّه ربّه) ، هذا فضلاً عن اشتماله لم بما یفتی علی طبقه أحدٌ من فقهائنا ، وهو التصدق علی عشرة مساکین بلا تعیین مقدار ما یعطی ، ولا بیان الشی ء الذی یجب علیه دفعه ، وأنّه هل یجب أن یکون طعاما أو غیره ، بل أن فتواهم والاجماع المنقول عنهم ، مطابقٌ للخبر المروی فی «فقه الرضا» من وجوب التصدق بثلاثة أمداد من طعام ، بل قیدوا فتاواهم بالذی هو مفقود فی هذا الحدیث وهو لزوم التصدق لثلاثة مساکین ، لکلّ واحد منهم مدّا من الطعام ، ولیس فی الروایتین من ذلک عین ولا أثر .

بل ربما یقتضی اطلاق الروایة جواز اعطاء ثلاثة امدادٍ من الطعام لفقیر واحد .

فاثبات الوجوب _ اوّلاً _ والعدد المذکور _ ثانیا _ من تلک الادلة فی غایة الاشکال .

هذا ، ولکن التأمل والدقة فی المقام یوجب ملاحظة اعتراض یرد علی دعواهم _ وان کنّا موافقین معهم فی أصل الدعوی ، وهو عدم الوجوب فی الامة کالحُرّة _ وهو أنّ یقال : إنّ الأخبار الدالة علی وجوب دفع الکفارة فی وطی الحائض علی قسمین : فبعضها قد ورد فیها ما یدل علی کون الموطوءة هی زوجة ، حیث ورد فیها التصریح بکلمة (امرأته) فإنّ الضمیر فیها راجع إلی الزوج وهو قرینة علی کونها زوجته ، وهی مثل روایة محمد بن مسلم ، وروایة الحلبی وروایة علی بن ابراهیم .

وبعضها الآخر لیس کذلک ، بل ورد فیها (وطی الحائض بصورة العموم والمطلق، مثل روایة أبی بصیر الواردة فیها قوله: «مَنْ أتی حائضا» بصورة النکرة المفیدة للاطلاق، أو قوله: «یأتی المرأة وهی حائض»، المفیدة للجنس.

کما أنه قد ورد فی بعضها التعبیر بکفارة الطمث، کما فی روایتی محمد بن مسلم، وداود بن فرقد.

ص:158

فالمطلق والعموم یشمل جمیع افراد الحائض، حتّی المملوکة، فیجب فیها الکفارة.

غایة الأمر أنّه قد ورد الدلیل علی أن کفارة وطی المملوکة الحائض أقلّ من الحُرّة، وهی التصدق بثلاثة أمداد لعشرة مساکین، وبمقتضی الجمع بین الخبرین هو ثبوت وجوب دفع الکفارة فی وطی الأمة، إذا کانت حائضا بمقدار بثلاثة أمداد علی عشرة مساکین من الطعام.

فاندفع بذلک تمام الاشکالات التی أوردها المحقق الآملی فی «مصباحه» بقوله: «وأنت تری أنّ المصرّح به فی الأول اعطاء الصدقة لعشرة مساکین، من دون ذکر فیه عن مقدار ما یُعطی لکلّ واحد منهم، ولا ذکر کونه من الطعام، وفی الثانی اعطاء ثلاثة أمداد من الطعام، من دون ذکر فیه عمّن یتصدق به، ولا عن مقدار ما یُعطی به» انتهی (1) .

ومعلومٌ أنّ قوله «یعطی لکلّ مسکین مدّا من الطعام» لا یجامع مع قوله «عشرة مساکین»، فیظهر أن إثبات الاجماع فی خصوص هذا القید، لا یخلو عن اشکال.

وکذلک یندفع به کلام السید الخوئی رحمه اللّه حیث قال: «اذن لا یمکن استفادة ما ذکره الماتن _ أعنی وجوب الکفارة فی وطی الأمة الحائض _ من شی ء من الأخبار المتقدمة، ولا مدرک له سوی الاجماع المنقول، والشهرة الفتوائیة بین الأصحاب، و«فقه الرضا»» انتهی(2) .

هذا کله صحیح علی المبنی المشهور عند المتقدمین وعند بعض المتأخرین، من القول بتمامیّة الأخبار الدالة علی وجوب دفع الکفارة فی وطی الحُرّة


1- مصباح الهدی: 5/74 .
2- التنقیح: 6/462 .

ص:159

الحائض، فیمکن استفادة وجوبها فی الأمة الحائض ایضا.

وأمّا علی مبنی المشهور بین المتأخرین، من عدم تمامیة دلالتها للوجوب، بما قد عرفت من تفصیلها فی الحُرّة الحائض، فلا یبقی حینئذٍ عمومٌ ولا اطلاق یدلّ علی الوجوب، حتّی یستدل بهما علی وجوب دفع الکفارة فی وطی الأمه الحائض، فلا محیص الاّ الحکم بالاستحباب فی کلّ منهما، فیصیر الاختلاف المذکور فی مضمون الأخبار، مؤیدا للاستحباب، کما لا یخفی .

ولو سلّم وقلنا بوجود الاطلاق أو العموم فی حکم کفارة وطی المرأة الحائض، الشامل للأمة، فانّه حینئذٍ لا یبقی فرق فیه بین کون الأمة لنفس الواطی أو لغیره، فاحتمال الاختصاص بالاوّل _ لأجل ما فی الروایة من ورد التعبیر بقوله: «جاریته» أو «أمتک» کما عن صاحب «الجواهر» قدس سره _ غیر مقبول وغیر مسموع، کما عن «کشف الغطاء».

کما لا یبقی فرق فیه بین القول بالوجوب أو الاستحباب، کما لا یخفی.

کما لا فرق فی ثبوت الحکم بین أقسام الأمة، من کونها أمةً قنّة أو مدبّرة أو اُمّ ولد، بل والمکاتبة المشروطة المطلقة، ما لم یتحرّر منها شی ء، لأنها فی حکم القنّ.

أما حکم المُبعضّة، أی الأمة المکاتبة المطلقة التی أدّت شیئا من مال الکتابة، والأمة المشترکة بین الإثنین أو ازید، والأمة المزوّجة والمحللة إذا وطئها مالکها لا من یحلّل له، وکان الواطی فی جمیع هذه الفروض قد وقع حین حیضها ، ففی عدم وجوب الکفارة فی وطئها، أو الحاقها بالزوجة فی لزوم دفع الدینار أو نصفه أو ربعه، أو هی ملحقة بالأمة القنّة، أو بالتفصیل بین المبعّضة والمشترکة، وبین المزوجة والمحلّلة، بالحاق الأولیین بالزوجة، والأخیرتین بالأمة، وجوهٌ: والأقوی عندنا هو القول بوجوب کفارة الزوجة أو استحبابها فی الجمیع، الاّ ما خرج منها، وهو الأمة، الظاهرة فی کونها کذلک تامة بواسطة الاجماع، أو دلالة

ص:160

والکفّارة فی أوّله دینار ، وفی وسطه نصف دینار ، وفی آخره ربع دینار (1).

ظهور بعض الأخبار، فتبقی غیرها داخلةً تحت العموم، فبالنتیجة تکون الکفارة ثابتة علی الجمیع _ الاّ الأمة الحائض _ وهی الدینار أو نصفه أو ربعه، علی حسب ما هو المختار فی المقدار، کما تقرر فی محله، وکما سیأتی الاشارة الیه.

بقی هنا الکلام فی وطی الأجنبیة، إذا کانت حائضا، فهل یجب فیه الکفارة، إنْ قلنا بالوجوب فی الزوجة أم لا؟

فیه قولان: قولٌ: بالوجوب.

وقولٌ: باحتمال عدم الوجوب، للتشکیک فی شمول الأدلة لها، بقرینة ماورد فی جملة من الاخبار من التعبیر بالزوجة، وأنّ کون الحکم فی وطی الزوجة أشدّ لا توجب ثبوت الکفارة، اذ لعلّ الأشدّ لا کفارة له، أو أنّ له کفّارة تتفاوت عن الکفارة الثابتة لغیر الزوجة .

هذا، و لکن الأقوی ما علیه الفقهاء، من المحکی عن «المنتهی» و«الذکری» و «شرح المفاتیح» و«جامع المقاصد» فی الحاقها بالزوجة، بل علیه أکثر المتأخرین لولا کلّهم، کماتری فی «العروة»، لما قد عرفت من وجود العموم والاطلاق فی النصوص، من قوله: «مَنْ أتی حائضا»، أو «أتی المرأة و هی طامث»، فلا وجه لتخصیصها بذکر الزوجة فی بعضها، مع کون ذکرها کان من جهة ورود القید مورد الغالب، کما لا یخفی .

(1) فی هذا الفرع عدة مسائل ینبغی التنهیه الیها وهی :

المسألة الاولی : اعلم أنّه علی القول بوجوب الکفارة أو استحبابها، کان تقدیرها علی ما عمل به الأصحاب وافتوا به، والوارد تقدیرها فی مرسل داود بن

ص:161

فرقد، ونحوه ما فی «فقه الرضا»، وقد عرفت تفصیلهما وقلنا ان ضعفهما وارسالهما منجبران بعمل الأصحاب والمؤید بدعوی الاجماع من المرتضی وابن زهرة، والمعتضد بالشهرة المتحققة بین المتقدمین والمتأخرین، بل لم نعثر علی مخالف لهذا التقدیر، سوی ما یظهر من المنقول عن الصدوق فی «المقنع» من جعل الکفارة ما یشبع مسکینا، وهو غیرُ قادحٍ، لأنه _ مضافا الی شذوذه _ فقد خالف نفسه الشریف فی «الفقیه» کما أشار الیه صاحب «الجواهر» قدس سره

فالمسئلة من هذه الجهة واضحة، ولا یحتاج الی مزید بیان.

المسألة الثانیة: فی بیان ما هو التقسیم المعتبر لهذا التفصیل.

والأقوال فیه ثلاثة: قول: للمشهور، بل علیه جُلّ الأصحاب، وهو أنّ کلّ حیض بحسب حال الحائض من أیّام العادة، ینقسم الی ثلاثة فترات متساویة: ففی الثلث الأوّل الدینار، بلا فرق فی ذلک الشک بین کونه بعدد صحیح، کما لو کانت عادتها ثلاثة أیّام، فالشک الاوّل هو یوم واحد، أو کونه مع الکسر، بأن تکون عادتها أربعة أیّام أو خمسة، حیث یکون ثُلثها یومٌ مع ثلث الیوم فی الأربعة، أو الیوم مع ثلث الیومین فی الخمسة.

وامّا فی الوسط، وهو فی الیوم الثانی من الکامل، وفی الیوم الثانی من الثلثین الباقی منه، ومن الیوم الثالث بثلثیه فی الأربعة وهکذا، وهذا هو الاقوی، حیثُ یوافق مع ما ورد فی النصوص والفتاوی من الاوّل والوسط والآخر، بما لکلّ واحدٍ منها من الکفارة، الظاهر فی التقسیم المساوی .

و قولٌ: منقول عن «المراسم» حیث قال: إنّ الوسط یؤخذ ما بین الخمسة، الی السبعة فانه قد یوجب خروج الوسط والآخر عن بعض العادات، مثل ما لو کانت عادة المرأة أقلّ من الخمسة _ مثل الثلاثة والأربعة _ فلابد أنْ یحسب فیهما بالأول من الدینار، مع أنه لیس کذلک، بل اللازم علیه هو الوسط _ ای نصف

ص:162

الدینار _ أو الأخیر وهو ربعه.

وهذا الاشکال یجری فی هذه الصورة والتی تلیها .

القول الثالث: وهو للراوندی رحمه الله ، أنّه اعتبر الأطراف الثلاثة بالنسبة الی العشرة، التی هی أکثر أیّام الحیض.

ولعلّ مرادهما بیان ما هو الغالب من العادات من باب المثال لا التعیین والإلزام، حتّی یرد علیهما بضعف استدلالهما و مستندهما من جهة عدم علیهما مساعدة الدلیل علیه، کما هو واضح .

ثم إنّ الملاک فی التقسیم بالثلاثة، هو تحقق حکم الحیض فی الخارج، _ بلا فرق فیه بین کونه زائدا علی العادة او اقلّ منها _ لا الحیض الواقعی، لعدم امکان العلم بالواقع نوعا، وأنّ علمه عند اللّه سبحانه وتعالی، کما أشار الیه النبی صلی الله علیه و آله کما فی کلام الصادق علیه السلام ، تفسیرا لکلامه صلی الله علیه و آله الوارد فی مرسلة یونس الطویلة حیث قال: «تحیض فی علم اللّه بستة أو سبعة»(1) .

و علیه فانّ حکم الکفارة وتعیین مقدارها یکون متوقفا وتابعا لزمان وقوع الوطی، والفترة التی اختارها الحائض لحیضها، علی حسب الروایات، فان کانت قد اختارت التحیّض قبل الوطی، ما لم ینکشف الخلاف، حیث یصدق علیها أن الوطی قد وقع فی الحیض.

وامّا لو وقع قبله، ففی «الجواهر»: قدس سره یشکل الحکم بوجوب الکفارة، لعدم صدق الوطی فی الحیض عالما عامدا.

واضاف بعده بقوله: بل قد یشکل هذا الصدق فی سابقه، فضلاً عنه، لعدم ثبوت کونه حیضا.


1- وسائل الشیعة: الباب 8 من ابواب الحیض، الحدیث 3 .

ص:163

ثم استدل بما یُشعر به من الحدیث المذکور سابقا، ثم أخیرا قال: فتأمّل .

ولعل وجهه ما عرفت من أنّ الملاک لیس بالواقعی، حتّی یقال یتم ما قاله، بل المدار هو الحکم الظاهری، الناشی من جعلها أیاما وعدّها من الحیض، وذلک بأمر من الشارع، کما کان الأمر کذلک بالنسبة الی سائر احکامها، منها الکفارة الوطی فی حقّ زوجها.

نعم یبقی الاشکال فیما إذا کان الوطی قبل اختیاره، فیما لم یصدق تحیضها قبل الاختیار، حیث لا یدخل تحت عموم قوله: «مَنْ وطی ء حائضا عالما عامدا فله کذا»، کما لا یخفی .

هذا کله إذا لم ینکشف الخطأ، والاّ کان الملاک بالنسبة الی الواقع بعد الاستقرار، فلا اعتبار للظن أو القطع بکون الوطی قد حدث فی الثلث الاوّل مثلاً، إذا انکشف خطائه، بل یترتب علیه بما فی الواقع من کونه فی الثلث الأوّل أو الثانی أو الثالث، أو کون الواقع کان خارجا عن الحیض، فیحکم بما یقتضیه الواقع من مقدار الکفارة، أو عدم وجوبها علیه، ولا یوجب ذلک کون ما اختارته من التحیض قبل انکشاف الخلاف، خالیا عن الحکم المفروض، فتأمل جیّدا.

المسألة الثالثة: ما لو کان خروج دم الحیض عن غیر مخرجه المعتاد، فهل یعدّ وطئها حراما مطلقا، أو فیه تفصیل.

والمسألة ثبوتا لها أربع احتمالات: من وجوب الاجتناب عن کلا الموضعین، کما علیه المحقق الآملی فی «مصباحه».

أو وجوب الاجتناب عمّا یخرج دون الآخر، أو عکسه، کما علیه السیّد فی «العروة» وکثیرٌ من أصحاب التعلیق، وهو المختار.

أو جواز الاتیان بهما، کما هو ظاهر کلام صاحب «الجواهر»، حیث تمسک باصالة البرائة للشک فی شمو الادلة لمثله.

ص:164

ولکن الأقوی هو الثالث، لصدق عنوان وطی الحائض مع علمه بکون الدم حیضا، لان خصوصیة المورد فی الخروج لا مدخلیة لها إذا صدق أنّه قد وطی ء فی المخرج المعتاد، وکانت المرأة حائض، فمجرد کون المخرج خالیا عن الدم، لا یؤدی الی جواز الوطی.

ومن ذلک یظهر أنّ مجرد خروج الدم عن ثقب مّا، لا یوجب کون الوطی فیه صادقا علیه انّه وطی للحائض، وإنّ کان الاحتیاط بالاجتناب عنه، لا یخلو عن حسن .

نعم، لو تقرر اعتبار وجوب الاجتناب، لتحصیل العلم بترک وطی الحائض، فانّ العلم الاجمالی الحاصل فی المقام یوجب لزوم الاجتناب عن کلّ واحد منهما، تحصیلاً للموافقة القطعیة فی اطراف الشبهة المحصورة.

ولکن اثبات ذلک لا یخلو عن وهن ، لما قد عرفت من صدقه فی الوطی ء فی المخرج المعتاد، مع کونها حائضا دون الآخر، فینحلّ العلم الاجمالی بالتفصیلی، فیما هو المخرج المعتاد والشک فی الآخر.

ثم علی القول بوجوب الاجتناب عن کلیهما _ کما اختاره المحقق الآملی _ وأنّه یجب الاجتناب عن فعل الوطی فی کلا المخرجین، فلا اشکال فی ثبوت الکفارة علیه _ إنْ قلنا بوجوبها _ لأنّه باقدامه علی ذلک یقطع بوقوع الوطی علی الحایض.

ولا یجب علیه کفارتان، لأن حرمة الآخر لیس الاّ لتحصیل العلم بالامتثال، فلا تکون حرمته واقعیةً حتّی یجب علیه الکفارة.

کما أنّه لو أقدم علی الوطی فی أحد المخرجین، فانّه لا یجب علیه الکفارة، لعدم علمه حینئذٍ بوقوع الوطی فی الحائض، لان الکفارة مترتبة علی الوطی فی أحدهما المعین فی الواقع، المشتبة عند المکلف، فعند الشک فی وجوب الکفارة بالوطی فی احدهما الذی لا یعلم کونه مخرج الدم یکون الأصل هو البرائة،

ص:165

فیشابه المقام من شرب أحد المایعین الذی یعلم کون أحدهما خمرا، فان شربه یعدّ حراما بالنظر الی العلم الاجمالی، الاّ أنّه لا یترتب علیه حدّ شرب الخمر، ما لم یثبت کون المشروب کان خمرا، نعم، یترتب علیه الحدّ قطعا، لو شربهما معا، للقطع حینئذٍ بشرب الخمر .

المسألة الرابعة: فی أنّ حرمة وطی الحائض، هل هی مطلقة، أی سواء کانت الحائض حیّة أو میتة، أو تختص الحرمة بالاولی دون الثانیة؟

فیه قولان: قولٌ بالاوّل کما علیه السیّد فی «العروة»، حیث قال فی المسألة 10: «لا فرق فی وجوب الکفارة بین کون المرأة حیّة أو میتة».

وهو المختار، لأنّ اطلاق بعض الأخبار، مثل قوله: «مَنْ أتی حائضا»، وقوله: «فی الرجل یأتی المرأة وهی حائض» ونحوهما، یشمل حتّی الحائض التی تکون قد ماتت.

والقول بأنّ الحائض لا یصدق الاّ علی المرأة الحیّة دون المیّتة، لان الحائض عبارة عن المرأة التی تقذف رحمها الدم، وهو لا ینطبق الاّ علی الحیّة، مضافا الی دعوی الانصراف الی الاحیاء دون الأموات، لو سلمنا وجود الاطلاق فیها .

مردودٌ ومنقوضٌ علیه، لأنّ المرأة إذا صارت حائضا حال حیاتها، وبان قذفت رحمها الدم فی حال الحیاة، فانه ینطبق علیها وصف الحائض، فما دام لم یخرج عن هذا الوصف بالغُسل الذی یوجب طهارتها کان الوصف _ مثل الجنابة _ باقیا فی حقها، ولذلک حرم ادخالها فی المسجد فی تلک الحالة، فالجماع معها فی تلک الحالة یصدق أنّه وطی للحائض، فیترتب علیه الکفارة.

فدعوی الانصراف الی خصوص الاحیاء، کان بدویا، لأجل غلبة وقوع هذا العمل للاحیاء عادةً، کما لا یخفی .

هذا، مضافا الی امکان اجراء استصحاب حکم الحرمة الذی کان ثابتا حال

ص:166

الحیاة الی بعد الممات، إنّ قلنا ببقاء الموضوع عرفا، أما لو قلنا بتبدل الموضوع، بان یقال کان الموضوع فی الحرمة عبارة عن المرأة التی تقذف رحمها الدم، وبالموت ینتفی القذف، خصوصا مع فصل زمان متعدّ بین موتها ووطئها، حیث ینتفی صدق الحائض علی الموطوئة، فحینئذ لا مجال لجریان الاستصحاب، لأنّ من شرط جریانه وحدة الموضوع فی القضیة المتیقنة والمشکوکة، وحیث أنّ الاصل غیر جار عند الشک فی احراز الموضوع أو الشک فی بقاءه فالتمسک بالاستصحاب لا یخلو عن اشکال.

ولکن لا حاجة لمثل هذا الاستدلال بعد قیام الدلیل الاجتهادی کما عرفت.

فبذلک یظهر ما فی کلام صاحب «الجواهر» حیث تمسک باصل البرائة، للاشکال فی شمول الاطلاقات للاموات .

ثم علی القول بالحرمة _ کما هو مختارنا ومختار السید فی «العروة» فهل تجب الکفارة علی القول بالوجوب، أو یستحب ذلک علی القول به، أم لا یجب ولا یستحب؟

قد یقال بالثانی _ کما عن المحقق الآملی، حتّی علی القول بالحرمة حیث قال فی «المصباح»: «وعلی القول بالحرمة، ففی ثبوت الکفارة وجهان: من کونها تابعة للحرمة، ومن أنّ تبعیتها لهاحال الحیاة بدلیل، لا یستلزم تبعیتها لها بعد الموت، مع انتفاء الدلیل علیها فی هذا الحال. والأقوی فی هذا أیضا هو الأخیر» انتهی کلامه(1) .

و لا یخفی ما فیه من الاشکال، لأنّ الاخبار التی تثبت الکفارة، تفید ترتب الکفارة علی عنوان (مَنْ وطی ء الحائض)، فکلّ مورد صدق علیه ذلک العنوان


1- مصباح الهدی: 5/8 .

ص:167

فی لسان الدلیل عرفا، یترتب علیه الکفارة أیضا، بلا فرق بین کون المرأة الحائض حیّة أو میتة.

نعم من ادّعی عدم صدق الحائض علی المیتة، أو ادعی انصراف الاطلاق عنها، فلا تجب علیه الکفارة، لعدم کون الوطی بها حینئذٍ حراما.

فدعوی عدم وجوب الکفارة _ مع ثبوت الحرمة _ مما لا یمکن المساعدة علیه، کما لا یخفی .

ثم أنّه قد ألحق فی «الجواهر» الخنثی المشکل الی هذا الحکم وانه لا یترتب علی وطیه الکفارة وذلک للشک فی شمول الأدلة لمثله، بناءً علی زعمه من عدم الحرمة والکفارة فیه، مثل المیتة، تمسّکا بأصل البرائة السالمة عن المعارض.

ثم قال بعده: خلافا لما یظهر من الاستاذ فی «کشف الغطاء».

فکانّه قد ذهب الی الحرمة وثبوت الکفارة فیه، وقد عرفت صحة کلامه فی الموردین من المیتة وممن یخرج دمها عن غیر الموضع المتعاد اذا أقدم علی وطی المخرج المعتاد الخالی عن الدم.

وامّا فی مورد الثالث، وهو الخنثی المشکل، فاثبات الحرمة والکفارة فیه لا یخلو عن اشکال، لعدم احراز صدق عنوان وطی بالحائض حینئذٍ، لاحتمال کون المخرج ثُقبا، وکون الخنثی رجلاً، والدم غیر دم الحیض، فمع الشک فی صدق الوطی مع الحائض، یکون المرجع هو اصل البرائة، لا الرجوع الی الاطلاقات، لکونه حینئذٍ مثل التمسّک بالعام فی الشبهة المصداقیه له، فلا یثبت الحرمة ولا الکفّارة، لکونها فرعا لها، کما عرفت.

وبناءً علی ذلک یکون الحق مع صاحب «الجواهر» 1، کما هو واضح لمن یتامل .

ثم علی القول بوجوب الکفارة أو استحبابها، لا فرق فی الوطی الحائض وثبوتها علیه، بین کونه مع الانزال وعدمه، وبین ادخال تمام الذَکَر وعدمه بعد

ص:168

ادخال الحشفه فیه، لأنّ کلّ ما فعل یوجب به صدق الوطی، یوجب ترتب احکامه علیه . نعم، قد یظهر من صاحب «کشف الغطاء» تعمیم الحکم، حتّی لادخال بعض الحشفة. وفی «الجواهر»: فیه اشکال.

ولکن الحقّ مع صاحب «کشف الغطاء»، لأنّ الملاک فی ثبوت الحرمة، هو صدق الاتیان و مخالفة حکم الاعتزال الذی ورد به الأمر فی القران، فی قوله تعالی: «فاعْتَزِلُوا النِّساء فِی المَحیض»(1).

فادخال بعض الحشفة یعد خلاف الاعتزال، وشکلاً من اشکال المقاربة، فیترتب علیه الکفارة ایضا.

ولا یقاس المقام بالجنابة والغُسل، حیث أنّهما موضوعات آخران، لا یتحققان بادخال بعض الحشفة .

نعم قد یشکل بأنّ الحکم _ من الحرمة وثبوت الکفارة _ قد عُلّق علی وطی ء الحائض، فادخال بعض الحشفة لیس بوط ء حتّی یدخل تحت عموم الحکم.

لکنه لا یخلو عن تأمل، لأنّه وطی ایضا، لکنه بالبعض، ولأجل ذلک قد احتاط السیّد فی «العروة» وجوبا، ووافقناه علی ذلک.

ولا فرق فی الحکم _ بالوجوب أو الاستحباب _ بالکفارة، بین کون الزوجة دائمة أو منقطعة ، بل قد عرفت حرمتها حتّی مع الأجنبیة، وثبوت الکفارة فیها أیضا، فضلاً عن الزوجة، کما لا یخفی .

ثم المراد من الدینار _ الذی هو الموضوع للکفارة فی المقام، وما یترتب علیه من الأحکام الشرعیة هنا وفی سائر المقامات _ هو المقدار المعین من الذهب الخالص عرفا، المضروب بسکة المعاملة، التی کانت فی قدیم الزمان تعدّ من


1- البقرة: الآیة 222 .

ص:169

النقود المتداولة، وکان وزنه عبارة عن مثقال شرعی، تعادل ثلاثة أرباع المثقال الصیرفی. بل قد صرح بعضهم أنّ قیمته عشرة دراهم جیاد، وفی «جامع المقاصد»: «أنّه المعروف بین الأصحاب هنا وفی باب الدیة، ولا یعتبر فی سکّته خصوصیة خاصة، بعدما کان مسکوکا بسکّة المعاملة، ولا یعتبر أنْ یکون المسکوک بالسکة الرائجة فی زمان صدور الحکم، بل المراد هو الرائج فی أیّ زمان کان، فیعمّ مطلق السکة الرائجة».

وهذا ثابت مما لا بحث فیه فی الجملة .

و الذی ینبغی أنْ یُبحث عنه، هو أنّه هل المتعین اخراج عین الدینار _ مع امکانه _ أم یجزی اخراج قیمته؟

فیه وجهان، بل قولان : بل وعلی الأخیر أیضا، هل یتعین کون اخراج القیمة من التبر _ ای الذهب الخالص غیر المسکوک _ أو یجوز من کلّ جنس _ من الفضة وغیرها _ وجوهٌ واقوال: المحکیّ عن کتب العلامة والشهیدین والمحقّق الثانی، وغیرهم من محققی المتأخرین، هو الاوّل، ای لزوم اخراج عین الدینار، استظهارا من الأخبار وتمسکا بظهور لفظ (الدینار)، مع عدم صدق اسم الدینار علی القیمة، فلابد من الاقتصار علی خصوص ما هو المنصوص .

خلافا لما هو المحکیّ عن ظاهر «المقنعة» و«الموجز» و«کشف الإلتباس» و«کشف اللثام» و«الجواهر» و«مصباح الفقیه» و«مصباح الهدی» وجماعة من أصحاب الحاشیة علی «العروة»، حیث ذهبوا الی الثانی، استظهارا بکون لفظ (الدینار) المأخوذ فی الحکم، المقصود منه الطریقیة والمالیة لا أنّه ملاحظ بنحو الموضوعیة، إذا المقصود ایصال هذا المقدار من المال الی المستحق، فلا یتفاوت فیه بین کونه من الذهب أو الفضة أو غیرهما من النقود، کما هو المتعارف فی زماننا هذا، حیث قد تعارف التعامل بالنقود الورقیة وغیرها، ولم یعد أحدٌ یتعامل بالذهب والفضة .

ص:170

بل قد یؤید ذلک _ مضافا الی تعارف التعامل بها فی تلک الأعصار دون هذه الأزمنة _ انّ المهم هو القیمة والمالیة التی تحملها الذهب والفضة لا اصلهما، ومن هنا مع ثبوتهما فی ذمة المکلف فانّه لا یسقط بتعذر الدینار، بل یجب اخراج قیمته اجماعا، حتّی عند القائلین بلزوم اخراج العین، مع أنّه لا دلیل لنا لاخراج القیمة، الاّ الدلیل المشتمل لاخراج عین الدینار، بل لا یبعد جعل ذلک دلیلاً فی المسالة لا تأییدا فقط .

اللّهم الاّ أن یتمسک بوجوب اخراج القیمة بقاعدة المیسور، لو عدت القیمة میسور الدینار عند تعذّره، وهو اول الکلام، إنْ استظهرنا الخصوصیة للدینار من الدلیل کما ادعی .

بل قد یؤید هذا القول أیضا أمرهم علیهم السلام بالنصف والربع فی تالییه، مع عدم وجود مضروبهما فی زمان صدور الحکم، حیث یوجب کون الظاهر من الدلیل هو المالیّة الموجودة فی مطلق المسکوک، لا خصوصه .

و القول بکون المراد هو الکسر المشاع، بأن یُسلّط الفقیر علی المال الموجود، والدینار الذی کان بید صاحبه، بعیدٌ فی الغایة، مضافا الی أنّه موجبٌ للعسر والحرج بحسب النوع، لو تعلق بالعین _ من جهة أنّه ربما لم یکن یملک مؤدی الکفارة دینارا، حتّی یتعلق به حق الفقیر فی عینه، فلا جرم من تعلیقها بالذّمة، وهو لا یکون الاّ بالدینار الکُلّی القابل تطبیقه علی القیمة. وکان من الأولی القول بتعلقها بالمالیة أوّلاً وبالذات، من دون حاجة الی أنْ یرجع الیه بتکلّف، کما لا یخفی .

و علیه یظهر أنّه إذا دار الأمر بین حمل الدینار علی القیمة مطلقا، و أجزأه اخراجها ولو من غیر الذهب، وبین حملها علی مقدار الدینار من خصوص الذهب، ولو لم یکن مسکوکا، لما کان فی اولویة الثانی اشکالٌ، لکونه أقرب الی الدینار من جهة احتفاظه بخصوصیته، الا أنه لا یوجب الحکم بلزوم کونه کذلک،

ص:171

لما قد عرفت کون الملاک فیه هو المالیة لا خصوصیة الذهب أو المسکوکیة، حتّی یقال بوجوب مراعاتها .

فما عن المحکی من «المنتهی» للعلامة قدس سره ، بأنه لا فرق بین المضروب و غیره، لتناول الاسم لهما، الی أن قال: «وفی اخراج القیمة نظرٌ، أقربه عدم الجواز، لأنّه کفارة، فاختص ببعض انواع المال کسائر الکفارات»(1) .

لیس بوجیه، لأنّه إذا قیل بأنّ المقصود من ذکر کلمة (الدینار) لیس الاّ المالیة، وذکره اشارة الی طریقیته للمالیة، فلا وجه للحکم بالالتزام بکونها من التبر.

اما اذا قلنا بلزوم رعایة خصوص الدینار، فلا وجه للاکتفاء بغیر المضروب من التبر.

فالأولی هو القول بجواز اخراج القیمة من النقود الرائجة، ولو کان من الذهب الرائج کان أولی، لأقربیته الی ما هو المستفاد من ظاهر الدلیل، وإنْ کان اخراجه من غیر الذهب أیضا مجزیا .

نعم، لابدّ أن یلاحظ فی المدفوع مطابقته لقیمة الذهب المسکوک بما أنه هو الأصل، لا قیمة التبر، فما نسبه الشیخ الأعظم ل_ «المنتهی» باجزاء التبر، لصدق الاسم علیه، ومن ثمَّ قال: وفیه نظرٌ ، غیر بعید کون النسبة صحیحة، لو لم یرد کون الاخراج من التبر بدل المسکوک، من حیث المالیة .

کما قد یقرّب ذلک الاحتمال، حیث قد تنظّر فیها اخراج القیمة، مع أنّه لو اراد المالیة من اخراج التبر، لما کان وجهٌ لقوله: (فیه نظر)، کما لا یخفی .

ثم، علی القول بجواز اخراج القیمة، هل المعتبر قیمة زمان صدور الحکم _ وهی علی المعروف عشرة دراهم _ أو قیمة وقت الوطی، الذی هو زمان اشتغال الذمة، أو قیمة وقت الأداء؟


1- هی المحکی فی «مصباح الهدی» عنه: ج 5 / 84 .

ص:172

وجوه وأقوالٌ: المصرح به فی «الجواهر» هو الأول، حیث قال: «لکن هل یعتبر القیمة فی ذلک الوقت، فلا عبرة بالزیادة والنقصان فی غیره، لا یبعد فی النظر ذلک» . و صرّح بعضهم بالثانی، معللاً بأنّه زمان الاشتغال، فهو الواجب علی المکلف الذی تعلقت بذمته.

ولکن المختار عند الشیخ الاعظم، وصاحب «العروة»، وکثیر من أصحاب التعلیق، ومنهم المحقق الآملی والبروجردی والاصطهباناتی والسید عبد الهادی الشیرازی _ وهو المختار عندنا _ هو قیمة وقت الأداء، لما قد عرفت أنّ الذی تعلق بذمة المکلف المتخلف هو الدینار باعتبار یمثّل قیمة شرائیة معیَّنة، وهی بمقدار المثقال الشرعی من الذهب المسکوک فاشتغال الذمه، یکون بمالیة الدینار، لا بکونه قیمة یوم الوطی، بل بما هی قیمة الدینار، فتکون الذمة مشغولة بهذه الدینار بما لها من القیمة الی حال الاداء، سواء زادت قیمته أو نقصت، ولأجل ذلک لا اشکال فی حصول الفراغ باداء نفس الدینار، سواء زادت قیمته أو نقصت عن وقت الوطی أو صدور الحکم، مع أنّه لو کانت الذمة مشغولة بالدینار المقیدة بقیمة وقت الوطی أو وقت صدور الحکم، لما حصل الفراغ باعطاء الدینار بقیمة زمان الاداء، إذا کانت القیمة أنقص، مع أنه یحصل به الفراغ قطعا، کما صرح به صاحب «الجواهر» قدس سره .

ما یحرم علی الحائض / مصرف کفّارة وطی الحائض

ثمّ لا بدّ من التنبیه علی أنّ الاختلاف فی کفایة القیمة وعدمها، إنّما تنشأ فیما إذا تمکن من اخراج الدینار، وامّا إذا کان متعذرا من أساسه وغیر قادر علی دفعه _ کما فی ایامنا هذا _ فلا اشکال فی اجزاء القیمة قولاً واحدا، کما لا یخفی .

فرع: الکلام فی مصرف هذه الکفارة وعدده.

فنقول: وأما أصل مصرفها یکون کمصرف سائر الکفارات، من لزوم دفعها الی المستحقین والمساکین.

ص:173

ولو تکرّر منه الوطی فی وقتٍ لا تختلف فیه الکفارة، لم تتکرر ،

وقیل: بل تتکرر ، والأوّل أقوی (1).

والسؤال هو أنّه هل یجب التعدّد فی مصرفها أم لا؟

ففی «الجواهر» قوله: «ولا یشترط التعدد بلا خلاف أجده فیهما، نعم یمکن اشتراط المساکین الثلاثة فی کفارة وطی الأمة، لما عرفت أنّ العمدة اجماع «الانتصار» المعتضدة بنفی الخلاف» انتهی کلامه(1) .

و لکن قد عرفت منا أنّ الدلیل غیر وافٍ لخصوص کون المساکین ثلاثة، وکون مقدارها ثلاثة أمداد، لأن الحدیث الوارد فی المقام والدال علی هذا الموضوع، خبران و هما خبر عبد الملک، والوارد فیه الأمر بالتصدق علی عَشَرة مساکین، دون أن یرد فیه ذکر عن المقدار، ولا عن جنس الشی المدفوع، وثانیهما الحد المروی فی کتاب «فقه الرضا»، الذی فیه الأمر بالتصدّق بثلاثة أمداد من الطعام، بلا ذکر من یتصدق علیه من ثلاثة مساکین، ولا مقدار ما یُعطی لکلّ مسکین.

فلم یبق هنا دلیل علی ذلک الاّ الاجماع، فان تم مع تلک القیود فهو، والاّ فالأصل یقتضی العدم، وبما أنّه لم یثبت الاجماع _ وإنْ ادّعی _ فانّ الأحوط هو مراعاته، أی یجب التصدق علی ثلاثة من المساکین، بان یدفع لهم ثلاثة أمداد .

(1) و اعلم أنّ تعدد الوطی قد یکون واقعا فیما کان کفارته من نوع واحد کما لو أقدم علی تکرار الوطی فی الثلث الاول من الحیض، وقد یکون واقعا فی نوعین، کما لو کرر الوطی کان الاول منه فی الثلث الاوّل، والثانی فی الثلث الثانی.


1- الجواهر: 3/236 .

ص:174

فالآن نبحث عن الاوّل منهما فنقول: لو کان التعدّد عرفیا أی بأن عدّ الوطی متعددا عرفا، لأجل وجود الفصل بینهما فی الجملة، فهل تتکرر الکفارة بتکررها أم لا؟

ما یحرم علی الحائض / تکرّر کفّارة وطی الحائض بتکرّره

قیل بالثانی بشرط عدم تخلل التکفیر بینه، هذا کما عن «المدارک»، بل هو مختار المحقق فی «الشرایع» ظاهرا، وإنْ کان ظاهر اطلاقه یقتضی خلافه، کما صرح الشیخ فی «المبسوط»، حیث قال بعدم التکریر، مع تنصیصه علی اختصاص الحکم بما إذا کان لم یتخلل بالتکفیر.

وقیل تتکرر مطلقا، وهو مختار جملة من الأصحاب، منهم الشهید فی «البیان» و«الدروس» و«جامع المقاصد» و«روض الجنان» و«مسالک الأفهام»، بل هو مختار أکثر المتأخرین، ومتأخری المتأخرین، کالسیّد فی «العروة»، وأکثر أصحاب التعلیق _ ولو علی نحو الاحتیاط الوجوبی، کما هو مختارنا، ومختار المحقق الآملی _ .

وقیل لا تتکرر مطلقا، حتّی مع تخللّ التکفیر، کما هو ظاهر ابن ادریس فی «السرائر»، بل یستظهر من اطلاقه، عدم الفرق بین التخللّ وعدمه، ولکن فی «مصباح الفقیه» قال: «التزامه بذلک فی صورة التخللّ فی غایة البُعد، اذ لا ینبغی التأمل فی کون الوطی المسبوق بالتکفیر کالمبتداء، فی استفادة سببیتة للکفارات من عمومات الأدلة» .

و کیف کان، فانّ حجة القائلین بالتکرر مطلقا، ظهور تعلیق الجزاء علی الشرط، فی کون وجود الشرط علّة لتحقق الجزاء، ما لم یرد دلیلاً علی خلافة، من القرینة اللفظیة أو المقامیة، لأنّ یقتضی اطلاق سببیته، تکرر المسبّب بتکرره، لأنّه إذا وجد ثانیا، امّا أنْ یکون مؤثرا وهو المطلوب، أم غیر مؤثرٍ وهو خلاف ظاهر دلیل السببیة، فاذا کان مؤثرا إمّا أن یکون أثره مطابقا لأثر الأول، أی أوجب ما وجب بالسبب الأول، فهذا یعدّ من المحالات، لأنه تحصیل للحاصل،

ص:175

مضافا الی أنّه یلزم تقدم المسبب عن سببه بالنظر الی سببیة الثانی، فلا سبیل لنا الا القول بلزوم ایجاب جزاء مسستقل، وسبب علی حدة، وهو المطلوب، فاذا کان تعدد الجزاء هو المستفاد من ظاهر تعلیق الجزاء علی الشرط عرفا، فللقائلین بعدم التکرر _ حتّی مع عدم التخلل بالتکفیر، فضلاً عما تخلّل _ من اقامة دلیل علی کلامهم، ولا دلیل عندهم الاّ دعوی انکار ذلک الظهور فی القضیة الشرطیة، بان یقال بأنّ المستفاد منها لیس الاّ عموم سببیّة اتیان الحائض من کلّ أحد للکفارة فی الجملة، بصورة القضیة المهملة، لا القضیة المطلقة المستغرقه لافراد الاتیان، إذ لا یفهم من قوله علیه السلام : «مَنْ أتی حائضا فعلیه الدینار أو نصفه» الاّ عموم الحکم بالنسبة الی افراد المکلفین، بلحاظ العموم المستفاد من الموصول، لا أفراد الصلة، فمن الجائز أن تکون سببیّته اداء الکفارة مشروطة بعدم مسبوقیّته باتیان آخر، والاّ لا یکون سببا لفردٍ آخر، بل و مع الشک فی ذلک _ أی فی سببیته _ نرجع الی اصالة البرائة، ولازم ذلک هو عدم التکرر، حتّی مع التخلّل بالتکفیر، فضلاً عمّا لم یتخلّل، فیصیر ذلک دلیلاً ومستندا لقول الحلّی فی «السرائر» .

لکنه فی غایة الضعف والوهن، لوضوح أنّه کما أنّ للموصول عموما عند العرف لجمیع الافراد، ویشملها بصورة الاستغراق، کذلک للصلة اطلاق أحوالی یشمل جمیع الحالات، سواءً کان مسبوقا بفرد آخر أم لم یکن مسبوقا، إذا کانت القضیة واردة فی مقام بیان الحکم، اذ الحکمة تقتضی ذلک الاطلاق .

و الشاهد علی هذا الاطلاق، هو استفادة هذا الحکم لهذا المکلف الذی أقدم علی وطی حائض آخر، أو جامع المرأة فی حیض آخر، مع أن الدلیل منحصر فی هذا الدلیل، ولیس فیه دلالة علی حکم التکرر، الاّ أن یستفاد من اطلاقه الاحوالی فی الصلة لیشتمل کلّ فرد یصدق علیه الجماع مع الحائض، سواءً کان الشخص متفاوتا فی التکرار أم لا، ولیس المنشأ لمثل هذا الاقتضاء دلیل

ص:176

الحکمة، کما هو الحال فی سائر المطلقات .

أو یقال: بأنّ تعلیق الجزاء علی طبیعة الشرط، لا یقتضی الاّ سببیة ماهیة الشرط _ من حیث هی، بلحاظ تحققها فی الخارج مطلقا _ للجزاء بطبیعته من دون دخل لأفرادها، من حیث خصوصیتها الشخصیة فی الحکم، ومن الواضح أنّ الطبیعة من حیث هی، لا تقبل التکرّر، بل تتحقق بمجرد تحقق فرد واحدٍ منها، والتکرر فی أفرادها لا مدخلیة لها فی تحقق الجزاء، فیکون تحقق الطبیعة فی الفرد الثانی کتحققها فی الفرد الاوّل، بعد حصول المسمی، فکما أنّه لا أثر لتحقق الطبیعة فی ضمن الفرد الاول، بعد حصول المسمی، عند استدامته الی الزمان الثانی، کذا لا أثر لتحققها فی الفرد الثانی بعد کونه مسبوقا بتحققها فی ضمن الفرد الاوّل ، نظیر سببیّة الحدث للوضوء، حیث أنّ الوضوء یصیر واجبا بعد تحقق مسمّاه، ولا أثر بعده حتی یفید وجوبه ثانیا.

ولیس هذا تقییدا لاطلاق ما دل علی سببیة صرف الطبیعة بلحاظ تحققها الخارجی للوضوء، حتّی تنفیه اصالة الاطلاق، وانّما یکون هذا الأثر ثابتا من جهة عدم مدخلیة الخصوصیة الفردیة الشخصیة فی ثبوت الجزاء .

فصدق حدوث الوطی مرات عدیدة عند تخللّ الفصل المتعد به عرفا، دون ما اذا لم یحدث فصّل بینها، إنّما یصلح کونه فارقا إذا کان الحکم معلّقا علی الطبیعة بافرادها واشخاصها، لا علی طبیعتها وتحققها الخارجی، والاّ لا یتکرر الجزاء بتکرر الطبیعة .

وممّا یؤید ذلک، ما عرفت من أنّ الطبیعة من حیث هی هی صادقة علی القلیل والکثیر، والواحد والمتعدد، ومقتضی ذلک کونها مؤثرة باعتبار اول تحققها، وکون ما عداه من وجوداتها أسبابا شأنیة، یعنی أنّها قابلة للتحقیق الجزاء، إذا کان تحققها بدویة، فبعد وجوها فی أوّل الآنات، فلا یتعدد فی سائر الوجودات، سواءً

ص:177

وانْ اختلفت تکررّت (1).

کانت متصلة بوجودها الاول، بحیث یعدّ مجموع وجوداتها فردا واحدا مستمرا بنظر العرف، أو مفصولة عنه، بحیث یتعدد بسببها الأفراد، هذا بخلاف ما لو کان مرتبا علی وجودات الطبیعة _ أی بافرادها _ حیث یکون مقتضی القاعدة حینئذٍ تکرر الجزاء بتعدد الفرد، من دون فرقٍ بین ما لو وجدت الأفراد دفعة أو تدریجا .

و التقریب الثانی علی عدم التکرار، یعدّ أولی من التقریب الاوّل، کما أنّ مقتضی التقریب الثانی هو ما قوّاه صاحب «المدارک» من التفصیل بین ما لو وقع التکرار فی وقت لا تختلف فیه الکفارة، بشرط عدم تخلّل التکفیر، وبین غیره، لأنّه إذا اختلف الوقت فلا یأتی هذا الدلیل فیه، کما إذا تخلّل التکفیر یتعدد أیضا مثل تجدّد الحَدَث بعد الوضوء، حیث یفید لزوم تجدید الوضوء أیضا .

و کون المسألة ثبوتا _ مع هذین الوجهین الدالین علی تعدد الجزاء بتعدّد الشرط أو عدمه عن الوجه الثانی _ أمرا ثابتا ممّا لا اشکال فیه، لکن الاشکال إنّما وقع فی مقام الاثبات من جهة أن قوله: «مَنْ أتی حائضا فعلیه الکفارة» یفید الوجه الاوّل _ کما هو الغالب _ أو الوجه الثانی علی أحد التقریبین، حیث لم یتبین أحدهما، فالأحوط هو التکرر، کما قلنا فی تعلیقتنا علی «العروة» تبعا لعدد کبیر من الفقهاء، خلافا للمصنف، بل واختاره صاحب «الجواهر» والمحقق الهمدانی، مع تأمل منه فی صحّته، خصوصا مع تمسکه عند الشک فی لزوم تکررها بعد تعدد الوطی بالأصل، والرجوع الی اصالة البرائة عن التکلیف الزائد المشکوک .

(1) لما قد عرفت بأنّ عدم التکرر عند من یقول به، کان فیما إذا لم یختلف الوقت، ولم یسبقه بالتکفیر، وأمّا مع فقد أحد الشرطین فی الوجود الثانی، فلا اشکال حینئذٍ فی لزوم تکرر الکفارة، اذ لا نزاع فی تغیّر المُوجِب والموجَب

ص:178

حینئذ: فعلی هذا، ینتج أنّه لو وطی الحائض مرّة فی الثلث الأوّل، وثانیةً فی الثلث الثانی، کان علیه تکرار الکفارة بالدینار ونصفه، وجوبا أو ندبا، علی حسب اختلاف الفتوی .

هاهنا فرعان وهما:

الفرع الأوّل: ورد فی «الجواهر» قوله: «واعلم أنّه الحق بعضهم النفساء بالحائض. قیل وعلیه یمکن اجتماع زمانین بل ثلاثه فی وطی واحد، نظرا الی امکان قلة النفاس، فیلزم حینئذ بالکفارات الثلاثة. وهو لا یخلو عن اشکال، لعدم صدق الاوّل والوسط والآخر، ولا الوطی فیهما، بمجرد الاستدامة الحاصلة، فالمتجه حینئذ مراعاة أوّل آنات مسمی الوطی بادخال الحشفة، أو الاقل إنْ قلنا به . نعم قد یشکل الحال مع فرض اشتراک زمان التحقق، ولعل المتّجه فیه ایجاب الکفارتین تحصیلاً للبرائة الیقینیة، للقطع بُشغل ذمته، إذ احتمال سقوط الکفارة مقطوع بعدمه، فتأمّل جیّدا» انتهی کلامه(1) .

و جاء فی «مصباح الهدی» قوله : «وفی الطهارة نسبته الی الالحاق الی ظاهر الأصحاب وحُکی عن «التذکرة» عدم العلم بالخلاف، وهو ظاهر کلّ من قال بتساوی الحائض والنفساء، فی کلّ الأحکام، الاّ ما استثنی، و مع عدم استثنائه کفارة الوطی، ولذا یمکن أنْ یقال إنّه المعروف بین الأصحاب، لکن لم یذکروا الحاقها بها دلیلا، وإنْ اسند الی عموم النص، لکن لیس علیه نصٌ یستند الیه، فان کانت المعروفیة عند الفقهاء بمثابة، تکونُ اجماعا منهم علی الالحاق فهو، والاّ فلا دلیل علیه، کما قاله المصنف قدس سره . ولکن مخالفة المعروف أیضا شی ءٌ لا یتجرء


1- الجواهر: 3/273 .

ص:179

علیه، واللّه العالم» . انتهی کلامه(1) .

قلنا: الحاق الأصحاب النفساء بالحائض بنحو العموم _ إلاّ ما استثنی _ یکون بالنسبة الی الأحکام الواردة فی الاخبار المترتبة علی عنوان النفساء الذی یدل علی الالحاق تصریحا أو تلویحا، کحرمة الوطی، ودخول المسجد، ومسّ کتابة القرآن، وأمثال ذلک .

و أمّا اثبات حکم الکفارة المترتب علی وطی الحائض التی تخرج منها دم الحیض، لمن لا یخرج منها هذا الدم، بل یخرج منها دم آخر غیر دم الحیض مع عدم ورود اشارة الیه فی أخبار الوطی _ حتّی فی النصوص التی وردت الاشارة فیها الی دم النفاس، وحُکم فیها بحرمة الوطی وثبوت الکفارة التی تعدّ من الامور المالیة، والتی تعدّ من العقوبات المشترکة بین وطی الحائض والنفساء _ ففی غایة الاشکال، ولأجل ذلک لم یفت بذلک کثیر ممن ذهب الی وجوب الکفارة فی وطی الحائض کالسیّد فی «العروة»، وکثیرٌ من أصحاب التعلیق علیها، کما هو مختارنا فیه .

و علی فرض قبول الالحاق، وتمکّنا برغم قلّة مدة النفاس من فرض فترات ثلاث لها، وأقدم الواطی علی وطی النفساء فی جمیع هذه المدة فرضا ، فهل یجب علیه ثلاث کفارات، من الدینار ونصفه وربعه بملاحظة استغراق وطیه لها للفترات الثلاث المفروضه، أو یکفی کفارة واحدة وهی الدینار الواحد، لأجل وحدة الوطی، وعدم صدق التعدّد برغم أنّه استوعب الفترات الثلاث، فیجب علیه کفارة واحدة للثلث الاوّل، وهو المتحقق بدخول الحشفة ولو ببعضها، واستمرار الوطی واستیعابه لبقیة الوقت لا یوجب التکثر، وإنْ استوجب استیعاب


1- مصباح الهدی ج5/89 .

ص:180

تمام الوقت، إذ العرف لا یری مثل هذا الوطی الاّ واحدا، فاذا کان الأمر کذلک، فیتضح منه حکم الواطی ء للحائض إذا کان وطیه فی آخر الثلث الأوّل، فامّتد حتّی دخل فی الوسط، أو شرع الوطی فی أواسط الفترة الثانیة، واستمر علی ذلک حتّی دخل فی الفترة الثالثة، فانّه لا یجب علیه الاّ ما یصدق علیه الوطی فی أوّله، فیکون الواجب علیه دفع الکفارة الاولی دینارا واحدا، وفی الثانی نصفه، وفی الثالث ربعه، والتعدد والوحدة فی الوطی أمر عرفی، والحکم تابع لموضوعه عرفا، وإنْ لم یصدق علیه وقوع الوطی فی حال الحیض، بل یکفی وقوعه فیه.

ما یحرم علی الحائض / حکم العاجز عن أداء کفّارة الوطی

ومنه یظهر وجوب دفع الکفارة الواحدة، لمن کان فی حال الوطی و عرض لزوجته الحیض، وعلم الواطی بذلک، ولکنه برغم ذلک استمر فی الجماع، وبرغم أنّ حدوث الوطی لم یقع فی حال الحیض، الاّ أن کونه فیه، یکفی فی ثبوت الکفارة علیه ووجوبه، عند من قال بالوجوب، فیجب علیه دفع دینار واحد لصدق الوطی فی حال الحیض علیه، کما لا یخفی .

و ممّا ذکرنا یظهر ما فی کلام صاحب «الجواهر» من الاشکال مع فرض اشتراک زمان التحقق، حیث قال: «ولعلّ المتّجه فیه ایجاب الکفارتین، تحصیلاً للبرائة الیقینة»

ولکن تصور ذلک لا یخلو عن اشکال، اذا کان الملاک فی صدق الوطی هو اوّل آنات دخول الحشفة، حیثُ لا یقع ذلک الاّ فی وقت واحد من الثلاث، فایجاب الکفارتین _ خصوصا مع الشک فیه، الذی کان شکا فی التکلیف الزائد فی الأقلّ و الاکثر الاستقلالی، مع وجود اصالة العدم فی الموضوع والمتعلق _ لا یخلو عن بُعدٍ ووهن، کما لا یخفی .

و کیف کان، إنْ أمکن فرض الاشتراک فی زمان التحقق بوطی واحد، بالانطباق علی فردین من الزمان المتعلق للکفارة، کان لکلامه وجهٌ وجیه من

ص:181

لزوم الکفارتین بل الثلاث، إنْ فُرض امکان انطباقه علیه حتّی علی الشک، فلیتأمل جیّدا .

الثانی من الفرعین : بیان حال العاجز عن أداء الکفارة.

ففی «الجواهر» قال: «ثم أنّ الظاهر من ذیل مرسلة داود، سقوط الکفارة مع العجز، والرجوع الی الاستغفار، بل جعله السبیل الی کلّ کفارة عجز عنها، وهو لا یخلو عن قوة، بناءً علی الاستحباب، کما أنّه لا یخلو من اشکال بناء علی الوجوب، لعدم الجابر لها فی خصوص ذلک، بل ینبغی انتظار الیسار کما فی غیره من الکفارات. وبناء علیه، ینبغی ملاحظة العجز عن التعلیق دون المتجدد، لمکان شُغل الذمة به سابقا، واللّه أعلم» انتهی کلامه(1) .

قلنا: وحیثُ کان الدلیل فی هذا الفرع منحصرا فی مرسلة داود، فلا بأس بایرادها حتّی یتضح لنا مفادها لکی نستفید منها فی مقام الاستدلال. والمرسلة هی التی رواها الشیخ باسناده عن محمد بن احمد بن یحیی، عن بعض أصحابنا، عن الطیالسی، عن أحمد بن محمد، عن داود بن فرقد، عن أبی عبداللّه علیه السلام ، فی حدیثٍ.

قلت: «فانْ لم یکن عنده ما یکفّر؟ قال : فلیتصدق علی مسکین واحد، والاّ استغفر اللّه، ولا یعود، فانّ الاستغفار توبة وکفارة لکلّ من لم یجد السبیل الی شی ء من الکفارة»(2) .

اقول: لا یخفی علیک أنّ ظاهر الروایة یفید أن العجز عن الاداء حدث حین تعلق الکفارة بالواطی، کما یدل علیه قوله: «فإنْ لم یکن عنده ما یکفی» ای لم یکن عنده الکفارة حین ثبوت التکلیف بالدفع بذمته، لا مَنْ عرض له العجز بعد


1- الجواهر: 3/237 .
2- وسائل الشیعة: الباب 28 من أبواب الحیض، الحدیث 1 .

ص:182

ما کان قادرا حین العمل، کما هو مقتضی القاعدة، اذ یقبح توجیه التکلف لمن کان عاجزا عن امتثاله، حیث لا یتعلق به التکلیف.

هذا، بخلاف من کان قادرا، وتعلق به التکلیف بالدفع، واستغلت ذمته بها، فسقوطها حینئذٍ یحتاج الی دلیل بالخصوص، وحیث کان مفقودا، فیجبُ علیه الکفارة عند الیُسر، وتبقی ذمته مشغولة الی حین یساره، کما هو مقتضی استصحاب بقاء الاشتغال، لسبق الاستقرار، وخروجه عن مورد الروایة .

و امّا بالنسبة الی العجز حین العمل، فانه لا اشکال فی عدم ثبوتها فی هذا الحال، والسؤال هو أنّه هل یکون حال سقوطها کحال سقوط الدَیْن عن المدیون، إذا کان معسرا، حیث أنّ سقوطه ما دامی لا دائمی، أی ساقط عنه ما دام کونه معسرا، أمّا اذا حصل له الیسار، فانّه یجب علیه الأداء، کما هو نص الآیة الشریفة فی قوله تعالی: الآیة « فإنْ کانَ ذو عُسْرَة فَنَظِرةٌ الی میسرة» .

أو یکون سقوطه حال العمل، کسقوط العاجز عن دفع نفقة الولد والوالد عن الوجوب الی حین الیسار، اذ لیست نفقتهما کنفقة الزوجة الثابتة والمتعلقة بالذمة، ویجب علیه ادائها متی ما قدر علیها وصار میسورا، ولو کان عاجزا حال التعلق.

والظاهر من الروایة هو الثانی لا الاوّل، بل قد یقال بان القول بالسقوط لیس لوجیهٍ لأنّه لا یطلق الاّ بعد الثبوت، وهنا لم یثبت حال العمل حتّی یطلق علیه السقوط .

بل قد یؤید الثانی، بیان ذکر البدل للکفارة، وهو الاعطاء الی مسکین واحد، والاّ استغفر اللّه، ومعلومٌ أن معنی البدلیة، هو الاکتفاء بالبدل عن المبدل، نظیر التیمم إذا کان بدلاً عن الوضوء، حیث یکون الامتثال به محققا وجوب سقوط الأمر به، لا بأن یکون السقوط ما دامیّه، بمعنی انه إذا زال العذر، فیجب علیه اعادة الصلاة مع الوضوء کالاول، بل الأصل أیضا یقتضی الثانی، لأنّ الشک حینئذ یکون شکا فی اصل الثبوت، فالأصل العدم، کما لا یخفی .

ص:183

بل ظاهر الروایة یفید أنها فی مقام بیان الکبری الکلّی لکلّ کفارة، لکلّ من ثبت فی حقّه الکفارة وعجز عن ادائها، فیکون الاستغفار بدلاً عنها، حیث جَعل الاستغفار سبیلاً للعاجز عن دفعها.

ولکن بما أنّ الروایة مرسلة، فسندها ضعیف بالارسال، فلا یصحّ التمسک بها الاّ أن یقوم جابرٌ من الاجماع أو الشهرة أو مؤیدا یوجب تقویتها وبما أنّه لا نمتلک مثل هذا الجابر، فقد ذهب بعض کالسیّد فی «العروة» وأکثر اصحاب التعلیق لولا الکلّ، علی القول بالاحتیاط الوجوبی، وذلک بأن یستغفر عند العجز عنها، مادام العجز باقیا، ومتی صار میسورا وجبت.

بل لا یبعد القول بکون الأحوط هو أن یدفع الکفار بقدر المیسور بأن یدفع لفقیر واحد، ثم یستغفر عن البقیة .

ما یحرم علی الحائض / فی طلاق الحائض

فاذا ظهر لک الحال فی وجوب الکفارة وعدمه، بالنسبة الی تمام الکفارة، یظهر لک حال بعضها بالنسبة الی ما لو کان عاجزا عنها فی حال الوطی، حیث أنّ مقتضی القاعدة، کون حال البعض کحال الکلّ، فان کان میسورا یجب فیه دون غیره من حال العجز، وبعد رفع العُذر کان حکمه کحکم رفع العذر عن الکلّ، من الوجوب وعدمه، کما هو مقتضی قاعدة المیسور، وهذا صریح المحکی عن «التحریر» و«المنتهی»، خلافا لظاهر جماعة آخرین الذین اقتصروا فی الکفارة علی ذکر الدینار، مع تصریحهم بسقوطها مع العجز، حیث ادعی صاحب «مصباح الهدی» قدس سره أنّه ظاهر فی کون مختارهم هو السقوط بالکلّ مع العجز عن البعض، وإنْ اختار نفسه الشریف الاوّل، مستدلاً علیه بکون الواجب هو مالیة الدینار لا نفسه حتّی یسقط باسقاط بعضها، لأجل العجز عنه .

و لکن الانصاف عدم ظهور ذلک فیما ذکره، لامکان أن یکون الفقهاء قد قصدوا من کان عاجزا عن اداء الکل _ کما هو الغالب _ وأمّا بالنسبة الی البعض

ص:184

السادس: لا یصحّ طلاقها إذا کانت مدخولاً بها، وزوجها حاضر معها (1).

فنرجع الی مختارهم فی مسألة الدینار، بکون الواجب هو عین الدینار، فلازمه سقوط الکلّ بسقوط البعض، لعدم امکان تصور التبعیض فی المالیة، فیتحقق التفکیک حینئذٍ بین الکل بالسقوط دون البعض، کما لا یخفی .

و امّا حکم البعض المعسور بعد رفع العسر عنه، یکون کحکم الکلّ فی وجوب الکفارة وعدمه، کلّ علی مذهبه ومختاره .

(1) اعلم أن صریح نص هذه المسألة هو الاشارة الی الحکم الوضعی حیث قد تعرض لخصوص عدم صحة الطلاق اذا کانت الزوجة حائضا مدخولاً بها، وزوجها حاضر، ولم یتعرّض المصنف للحکم التکلیفی، وهو الحرمة، مع أنّ صاحب «الجواهر» قدس سره تعرض لذلک وقال بأنّ اجماع المسلمین _ أی الفریقین _ علی ذلک. مع أنّه لیس الأمر کذلک فی الحکم الوضعی _ وهو بطلان الطلاق _ حیث أنّه اجماعی عند الفرقة المحقّة، دون غیرهم من علماء العامة، لأنهم صرّحوا بالصحة مع الحرمة کالشافعی وأبی حنیفة ومالک وأحمد .

ثم أنّ المصنف لم یتعرض لبقیة احکامه، مثل کفایة طلاق الزوج الغائب الذی هو بحکم الحاضر من جهة امکان استعلامه، وعدم کفایة الحاضر إذا کان بحکم الغایب، من جهة عدم امکان الاستعلام منه.

کما أنّه لم یتعرّض لحکم من یصحّ طلاقه فی حال الحیض، إذا لم یکن مدخولاً بها، أو کانت مدخولاً بها ولکن کانت حاملاً دون حائل، فانّه یصح طلاقها اجماعا _ تحّصیلاً ومنقولاً _ کما لم یتعرض لحال تحدید الغیبة، حیث قد وقع الخلاف فیه بین کونه شهر أو ثلاثة أشهر، کما وقع الخلاف فی کفایة العلم بانتقالها من طُهر المواقعة الی آخر بحسب عادتها، وفی توقف تحقق الغیبة علی السفر الشرعی أو تحصل بدونه.

فی غسل الحیض / هل یجب غسل الحیض لنفسه أم لا؟

ص:185

السابع: إذا طَهُرتْ وجب علیها الغُسل (1).

ولعلّ المصنف ترک الاشارة الی حکم هذه الامور هنا، لأجل أنّه لیس هنا موضعه، بل محله بحث الطلاق، وتعرضه لموضوع الطلاق فی المقام، لعلّه لاجل اجتماع الحیض مع الطلاق، فالاولی حینئذ ترک تفصیل البحث هنا واحالته الی محلّه.

(1) اعلم أنّه ربما یوهم اطلاق عبارة المصنف باستعماله لفظ (وجب) هنا، کون الغُسل فی الحیض واجبا نفسیا، ولو لم یجب علیها فعلاً عبادیا مما یشترط فیه الطهارة، کما قیل فی غُسل الجنابة، کما هو محتمل اختیار «المنتهی» مستدلاً باطلاق الأمر، ونحوه القاضی، بل فی «المدارک» قوله: إنّ قوة الوجوب ظاهرة .

و لکن الأقوی خلافه، أی ان الغُسل لم یکن واجبا لنفسه، کما هو الأمر فی غُسل الجنابة، الذی قد صرّح بعض بوجوبه لنفسه لا للغیر، فضلاً عن مثل غُسل الحیض، حیث أنّ وجود الخلاف فیه أبعد احتمالاً عن وجوده فی غُسل الجنابة .

و لعلّ وجه اطلاق المصنّف بالوجوب علیها، من جهة الاشارة الی أنّ المقصود من الوجوب هو الغیری وذلک بملاحظة العبارات المشروطة بالطهور، اذ هو المتبادر من الامر بالغُسل فی الأحداث المانعة من الصلاة وغیرها، نظیر اطلاق الامر بغَسل الثوب والبدن الملاقی للنجس، واراقة الانائین المشتبهین، ونحوهما من الأوامر المتعلقة بشرائط العبادات وأجزائها، دون الوجوب النفسی المطلق، کما هو المعهود فی غیر المقام عند الاطلاق، لأن معهودیة وجوبها الشرطی هنا بنفسه، تعدّ قرینة صارفة للاطلاق بأن یصرف الوجوب المطلق عن الوجوب النفسی الی الوجوب الغیری ، لأنّ العرف المتشرع یفهم من الوجوب فی الغُسل والوضوء والتیمم _ الذی تعدّ مقدمة للصلاة ونحوها من الواجبات المشروطة بالطهارة _ کونه وجوبا غیریا لا نفسیا. واتیان کلمة (الوجوب) فی مثل هذه

ص:186

وکیّفیته، مثل غُسل الجنابة (1).

الأمور مطلقا و غیر مقیّد، منصرف الی الوجوب الغیری، ولا یکون ترک القید والتقید و التعرّض لکونه غیّریا، منافیا للغرض الباعث علی الأمر، بعد مساعدة دلیل غیر متصل دالٍ علی أنّ وجوبه غیری، فلا یقبح عند العرف ترک التقیید، والاعتماد علی القرینة المنفصلة، وهذا نظیر جمیع الأوامر المطلقة المتعلقة بغَسل الثوب والبدن وتطهیر الاناء، کما لا یخفی علی العارف المتأمل فی الاوامر الصادرة فی الشرع وکیفیّتها .

فی غُسل الحیض / غسل الحیض مثل غسل الجنابة

(1) أی من جهة واجباته ومندوباته، بل فی «الجواهر»: بلا خلاف أجده فیه، الاّ فیما ستسمع.

بل فی «المدارک»: أنّه مذهب العلماء کافة. فالحجة _ علیه مضافا الی الاجماع بکلا قسمیه _ دلالة الأخبار علی المماثلة:

منها: ما فی موثقة الحلبی، عن أبی عبداللّه علیه السلام ، قال: «غُسل الجنابة والحیض واحد»(1) .

منها: روایة الصدوق، قال: قال الصادق علیه السلام : «غُسل الجنابة والحیض واحد».

ورواه أیضا فی «المجالس» و«المقنع» مرسلاً(2)

منها: روایة عبداللّه بن سنان، عن الصادق علیه السلام فی حدیثٍ قال : «غُسل الجنابة والحیض واحد»(3) .

وهذه الاخبار تدل علی التداخل أیضا، حیثُ یفهم منها تساویهما فی جمیع


1- وسائل الشیعة: الباب 22 من أبواب الحیض، الحدیث 1 .
2- وسائل الشیعة: الباب 23 من أبواب الحیض، الحدیث 3 .
3- وسائل الشیعة: الباب 23 من أبواب الحیض، الحدیث 7 .

ص:187

الواجبات والمندوبات، من الترتیب والارتماس وغیرهما، بخلاف ما یدل علی المماثلة، مثل حدیث أبی بصیر، عن أبی عبداللّه علیه السلام ، قال: «سألته أعلیها غُسلٌ مثل غُسل الجنابة؟ قال: نعم، یعنی الحائض»(1) .

منها: روایة الحلبی، عن أبی عبداللّه علیه السلام ، قال: «غُسل الجنابة والحیض واحد. قال: وسألته عن الحائض، علیها غُسلٌ مثل غُسل الجنب؟

قال: نعم»(2) .

منها: روایة فضل بن شاذان، عن الرضا علیه السلام ، فی حدیثٍ: «قال: وغُسل الجنابة وغُسل الحیض مثله»(3) .

و لکن قد یشاهد من الأخبار وجود الاختلاف فیها بالنسبة الی بعض المندوبات، کحدّ الماء، المستعمل فی الغُسل کما قد صرّح بذلک صاحب «النهایة» حیث قال: «وتستعمل فی غُسل الحیض تسعة أرطال من ماء، وإنْ زاد علی ذلک کان أفضل، وفی الجنابة، وإنْ استعمل أکثر من ذلک جاز».

وقد احتمل صاحب «الجواهر» کون مراده من جواز استعمال الزیادة فی الثانی، هو ما أراد فی الأول.

لکنه خلاف ظاهر کلامه.

نعم، یحتمل کون الزیادة فی استعمال الماء فی غسل الحیض لاجل الاسباغ من جهة طول شعر المرأة وطول مدة جلوسها أیام الحیض حیث لم یصل الماء إلی جسمها .

و لعل نظره الی ما ورد فی مکاتبة الصفار الذی رواها الصدوق رحمه الله بسنده عن


1- وسائل الشیعة: الباب 23 من أبواب الحیض، الحدیث 6 .
2- وسائل الشیعة: الباب 23 من أبواب الحیض، الحدیث 5 .
3- وسائل الشیعة: الباب 23 من أبواب الحیض، الحدیث 4 .

ص:188

محمد بن الحسن الصفار، أنّه کتب الی أبی محمد علیه السلام : «کم حدّ الماء الذی یُغسل به المیتّ، کما رووا أنّ الجُنب یغسل بستة أرطال من ماء، و الحائض بتسعة، فهل للمیتّ حدّ من الماء الذی یُغسل به؟ فوقّع علیه السلام : حَدّ غُسل المیت یغسل حتّی یطهر إنْ شاء اللّه تعالی»(1) .

و الی ما ورد فی روایة محمد بن الفضیل، قال: «سألتُ أبا الحسن علیه السلام عن الحائض کم یکفیها من الماء؟ قال: فرق»(2) .

و فی «الجواهر» عن تفسیر کلمة (فرق)، وهو کما قاله أبو عبیدة، بلا اختلاف بین الناس، ثلاثة أصواع.

و الشیخ علی المحکیّ فی «الوسائل» حمله علی الإسباغ والفضل، و یمکن حمله علی کثرة الشعر والنجاسات والوسخ، بحیث تحتاج الی ذلک القدر، لما مرّ هنا وفی الوضوء والجنابة وغیر ذلک .

مضافا الی امکان القول بأنّ التفاوت فی بعض المندوبات، لا یضرّ بالمماثلة فی أصل حقیقته فی الإجزاء، بأن یکون مثل غُسل الجنابة، حتّی قد عرفت کفایة التداخل فیهما، کما لا یخفی .

فی غُسل الحیض / لو تخلّل الحدث الأصغر فی أثنائه

و من جملة المماثلة، جواز الاتیان بالارتماس، کما یأتی کذلک فی غُسل الجنابة، حیث قد صرح به بعضهم فی المقام وفی الجنابة، بل مقتضی الاطلاق عند الأمر بالغُسل، هو الانصراف الی ما هو المعهود المتعارف فی غُسل الجنابة، الذی قد عرفت کیفیته حتّی فی الأغسال المندوبة، نظیر اطلاق الصلاة المنصرف الی رکعتی التطوع کالرکعتین من صلاة الفریضة عند الفجر إذا لم یرد قرینة متصلة


1- وسائل الشیعة: الباب 27 من أبواب غسل المیّت، الحدیث 2 .
2- وسائل الشیعة: الباب 20 من أبواب الحیض، الحدیث 3 .

ص:189

أو منفصلة یقصد بالمطلق خلافة، لأنه المتبادر من الأمر بالامور المعهودة المفروضة فی الشرع کما فی الکیفیة کالترتیب والارتماس وغیرهما من الامور اللازمة فیه، هنا وفی غُسل الجنابة .

نعم، قد استثنی فی «الجواهر» عن المماثلة فی الأحکام، موضوع تخلل الحدث الأصغر فی اثنائه، لأنّه یدّعی : «أنّه ینفی القطع بعدم قدحه فیه، کما عن العلامة فی «التذکرة» و«النهایة»، بناء علی عدم الاستغناء عن الوضوء، مع عدم مدخلیته فی رفع الحدث الاکبر. نعم، قد یتجه البحث فیه بناءً علی أحدهما، کما أنه یمکن القول بالفساد هنا بناء علی الأول أیضا، إن قلنا به فی غُسل الجنابة، مستندین علی الروایة المرسلة المتقدمة هناک، بضمیمة مادلّ علی اتحادهما بما ذکرناه الآن، لا الی غیرها من التعلیلات المتقدمة هناک، فتأمل جیدا فانه دقیق» انتهی محلّ الحاجة(1) .

بل قد یظهر من صاحب «مصباح الهدی» أنّه: «مما لا اشکال فی صحته فی و قوع الحدث فی أثناء غیر غسل الجنابة، مثل الحیض وغیره من الاغسال الواجبة، ووجوب الوضوء بعده، کما أنه لولاه لکان یجب علیه الوضوء، فلا یجری فیه ما تقدم من أدلة القولین الأخیرین، کما لا یخفی»(2) .

و المراد من الروایة المرسلة، هو ما رواه السیّد محمد بن أبی الحسن الموسوی العاملی فی کتاب «المدارک» نقلاً عن کتاب «المجالس» للصدوق ابن بابویه، عن الصادق علیه السلام ، قال: «لا بأس بتبعیض الغسل، تغسل یدک وفرجک ورأسک وتؤخر غَسل جسدک الی وقت الصلاة، ثم تغتسل جسدک إذا أردت


1- الجواهر: 3/239 .
2- مصباح الهدی: 4/327 .

ص:190

ذلک، فان احدثت حَدَثا من بول أو غائط أو ریح أو منی، بعد ما غسلت رأسک من قبل أنْ تغسل جسدک، فأعد الغُسل من أوّله»(1) .

و ما یقرب منه المرویّ عن «فقه الرضا»، کما فی «مصباح الهدی»(2) .

وبرغم کون الخبرین مرسلین، ولکن حیث أنّ الفقهاء قد عملوا بمضمونهما فی غُسل الجنابة، من الحکم بالاستئناف _ عن بعضٍ _ أو الاتمام _ عن آخر _ مع ضمّ الوضوء معه، فلابأس من القول به فی غُسل الحیض ونحوه، لاطلاق عنوان الغُسل فی الروایة، خصوصا مع ما عرفت من دلالة أخبار متعددة، علی اتحاد غُسل الحیض وغُسل الجنابة، فلازم الاتحاد هو القول بذلک فیه أیضا، لا من حیث لزوم الاستئناف أو التمام والاتمام بقصد ما فی الذمة، غایة الأمر لا اشکال هنا فی لزوم الوضوء معه، کما أن الامر کذلک قبل عروض الحدث، ولاجل ذلک ذهب السید فی «العروة»، بل وکثیر من أصحاب التعلیق الی الحکم بعدم بطلانه علی الاقوی.

ولکن الأحوط اعادة الغُسل بعد اتمامه، والوضوء بعده، أو الاستیناف والوضوء بعده، وکذا إذا أحدث سائر الاغسال .

و هذا الاحتیاط عند السیّد ندبیٌّ، لأنه قد أفتی بعدم بطلانه، ولکن کثیر من الفقهاء قد أوجبوا الاحتیاط فی غُسل الجنابة، وغیره من الأغسال، مع ایجاب اتیان الوضوء بعده، حیث یظهر منهم أنّ تخلّل الحدث فی الاثناء یوجب عندهم الشبهة فی رافعیة الغُسل للحدث الأکبر، من جهة احتمال کون عدم هذه الاحداث فیه دخیلا فی رافعیته للحدث، بواسطة دلالة هاتین الروایتین، فالاستثناء


1- وسائل الشیعة: الباب 29 من أبواب الجنابة، الحدیث 4 .
2- مصباح الهدی: 4/316 .

ص:191

المُدّعی هنا من أحکام المشترک بینه وبین غُسل الحیض لا یخلو عن شبهة، کما لا یخفی علی المتأملّ.

و ظهر ممّا ذکرنا أنّ هذه المسالة غیر مبنیة علی القول بکفایة الغُسل عن الوضوء وعدمها، کما أشار الیه صاحب «الجواهر» نقلاً عن صاحب «جامع المقاصد»، یعنی هذا الاحتیاط هنا واجبٌ وإنْ قلنا بعدم کفایة سائر الاغسال الواجبة عن الوضوء، کما هو المختار عندنا.

کما ظهر عدم تمامیة ما نُقل عن «الذکری» فیه، من تعلیل عدم القادحیة، بأنّ الطهارتین فی غُسل الحیض _ أی الصغری والکبری _ یشترکان فی رفع الحدثین.

لما قد عرفت من احتمال دخالة عدم الحدث الأصغر فی تأثیر الغُسل لرفع الحدث الأکبر، وإنْ قلنا بعدم کفایته عن الوضوء علی کلّ حال .

اذا عرفت ذلک، فاعلم أنّه لا اشکال بأنّه لا یُغنی عن الوضوء، وینفرد فیه عن غُسل الجنابة، للاجماع محّصلاً ومنقولاً مستفیضا غایة الاستفاضة، کالنصوص الواردة والدالة علی أنّ غُسل الجنابة بمفرده یغنی ویُجزی عن الوضوء، بل الظاهر عدم استحباب الوضوء فی غُسل الجنابة، وفاقا للمحکیّ عن المشهور، بل فی «الذکری» نسبته الی الاصحاب، وفی «المنتهی» قوله: عندنا، المُشعر بالاجماع عند الامامیة، علی أنّه لا وضوء بعد غُسل الجنابة.

خلافا للشیخ فی «التهذیب»، لظاهر خبر أبی بکر الحضرمی، عن أبی جعفر علیه السلام ، قال سألته: «قلت: کیف اُصنعُ إذا أجنبتُ؟ قال: اغسل کفیک وفرجک، وتوضأ وضوء للصلاة، ثم اغتسل».

وخبر عبداللّه بن سلیمان، قال: «سمعتُ أبا عبداللّه علیه السلام یقول: الوضوء بعد الغُسل بدعة».

فی غُسل الحیض / عدم کفایته عن الوضوء

حیث أنّه باطلاقه وبمفهومه یدلّ علی جواز الوضوء قبل غُسل الجنابة.

ص:192

لکن لابدّ له من وضوء قبله أو بعده (1).

وفی «الجواهر»: «حملهما علی التقیّة أولی»

مع أنّ هذا الحمل یصحّ فی الخبر الأول دون الثانی، لا مکان حمله علی غُسل الجنابة علی حسب المتعارف من تحصیل الوضوء بعد الغُسل، فلا یکون لقید (بعد) مفهوم، لوروده مورد الغالب. فالبدعة تکون مطلقة، أی قبله وبعده.

وامّا غُسل الحیض فهل یجزی عن الوضوء أم لا؟ ففیه خلافٌ، وقد اختار المصنف قدس سره العدم، کما نصّ علی ذلک فی الجملة القادمة .

(1) وعدم کفایته عن الوضوء، مثل سائر الاغسال _ غیر الجنابة _ یکون وفاقا للأکثر، کما ورد فی لسان جماعة، بل فی «الذکری» _ کما أشار الیه فی «الجواهر» _ أنّه المشهور، شهرةً کادت تکون اجماعا، کما عن الصدوق فی «الامالی» نسبته الی دین الامامیة، وقد أیدهما صاحب «الجواهر» بقوله: «والأمرُ کما ذکرا»، ثم نقل الأقوال وحکاها وقال فی ادامة کلامه: إذ هو خیرة «الفقیه» و«الهدایة» و«المقنعة» و«التهذیب» و«المبسوط» و«النهایة» و«الغنیة» و«المراسم» و«الوسیلة» و«السرائر»، وکما فی أبی الصلاح، و«اشارة السبق» و«الجامع» و«المعتبر» و«النافع» و«المنتهی» و«التحریر» و«الارشاد» و«المختلف» و«الموجز الحاوی» و«الذکری» و«الدروس» و«البیان» و«التنقیح» و«جامع المقاصد» و«کشف اللثام» و«منظومة الطباطبائی» و«شرح الآقا للمفاتیح» و«الریاض» و«کشف الغطاء» وغیرها.

بل هو المقبول عند المتأخرین والمعاصرین، کالسیّد فی «العروة»، واکثر أصحاب التعلیق علیها، لولا کلّهم .

خلافا لجماعة آخرین من المتقدمین، علی ما هو المنقول عن أبی علیّ وعلم

ص:193

الهدی والأردبیلی قدس سره ، وتلمیذه صاحب «المدارک» وصاحب «الذخیرة» و«المفاتیح» و«الحدائق» .

فلا بأس حینئذ من الاشارة الی الادلة التی اقیمت علی عدم الکفایة فنقول: «فقد استدلوا بنصوص من کتب بعض الفقهاء اللذین یعدّ کتبهم نصوص الأخبار، مثل «النهایة» و«الفقیه» و«الهدایة»، وهو المنقول عن والد الصدوق أیضا، مع أنّه علّله فی «الفقیه» و«الهدایة» بما یُنبی ء عن ذلک، حیث قال أولاً: «یُجزی ء غُسل الجنابة عن الوضوء، لأنهما فرضان اجتمعا، فأکبرهما یُجزی ء عن أصغرهما، ومن اغتسل لغیر جنابة، فلیبدأ بالوضوء ثم یغتسل، ولا یُجزئه الغُسل عن الوضوء، لأنّ الغُسل سنة والوضوء فرض، ولا تُجزی ء سنة عن فرض».

ونحوه فی «الهدایة» کالمنقول عن فقه «مولانا الرضا» علیه السلام ، مع زیادة تأکید بعدم الأجزاء .

و کذلک استدلّوا لذلک بعموم أو اطلاق ما دل علی ایجاب البول ونحوه من أسباب الوضوء مع التیمم، بضمیمة عدم القول بالفصل بین حصول سبب الغسل وعدمه، حیث لا یحصل الاّ الأکبر، یعنی إذا أوجب البول ونحوه _ من اسباب الوضوء _ عدم حصول سبب الغُسل فکذلک یوجب الوضوء أیضا.

وفیه أنّه اذا لم یحصل له الاّ الحدث الأکبر وهو لا یوجب التفاوت بینهما من عدم لزوم الوضوء له، لأجل حصول سبب الغُسل، اذ لم یقل أحدٌ بالفصل بین القولین.

مع ملاحظة قوله تعالی: «إذا قُمْتُم الی الصَّلاة فَاغْسِلُوا وُجُوهَکم... الی آخره»، مع التیمم المذکور أیضا یتم المطلوب، کما لا یخفی .

و مما استدل به علی وجوب الوضوء مع غُسل غیر الجنابة، هو مرسل ابن أبی عمیر الذی یعدّ کالمسند لذهاب الاصحاب علی قبول مراسیله، لأنّه یعدّ ممن أجمعت العصابة علی تصحیح ما یصح عنه، وأنّه لا یروی الاّ عن ثقة، کما عن

ص:194

(عُدة الاصول) . و هو عن الکلینی، باسناده الصحیح الی ابن أبی عمیر، عن رجل، عن أبی عبداللّه علیه السلام ، قال: «کلُ غُسل قبله وضوء الاّ غُسل الجنابة»(1).

ورواه الشیخ باسناده عن محمد بن یعقوب .

و مثله فی الدلالة روایة اخری رواها الکلینی، باسناده عن ابن أبی عمیر، عن حمّاد بن عثمان، أو غیره، عن أبی عبداللّه علیه السلام ، قال: «فی کلّ غُسل وضوءٌ الا الجنابة»(2).

فانّ دلالته علی المطلوب أولی، حیث لم یقید بکون الوضوء قبل الغُسل، فتصیر هذه قرینة علی عدم کون القبلیة فی ما قبله للشرطیة، بل غایته الحمل علی الأفضلیة، کما أنّ الثانیة ایضا من جهة السند معتبر، لأنّ الراوی الذی نقل عنه ابن أبی عمیر، إنْ کان هو حمّاد بن عثمان فهو ثقة ومعتبر، فالسند صحیح حقیقة، وإنْ کان هو غیره، فیکون مرسلاً کسابقیه، فیکون مصححا لا صحیحا.

وعلی کل حال، یعدّ سنده معتبرا وقابلاً للاستدلال به .

و احتمال کون الروایتین واحدة، خاصة مع ورود الاشارة فی الخبر الثانی الی الرجل المجهول فی الخبر الاول بقوله «أو غیره»، حیثُ یحتمل حینئذ کونه هو الرجل المذکور فی سلسلة السند الأولی.

نعم، ورد ذکر هذا الخبر فی «مختلف الشیعة» و«الذکری» دون أن یشیر الی قوله «أو غیره» فی السند، ونقلا الروایة عن حمّاد بن عثمان، فیحتمل حینئذ کون الروایتین واحدة.

فی غُسل الحیض / فی کلّ غسل وضوء إلاّ الجنابة

ولکن اختلاف نص الخبرین یبعدّ وحدتهما، وعلی فرض قبول الوحدة یأتی


1- وسائل الشیعة: الباب 35 من أبواب الجنابة، الحدیث 1 .
2- وسائل الشیعة: الباب 35 من أبواب الجنابة، الحدیث 2.

ص:195

البحث عن النص الصادر من الامام علیه السلام ، وأنّه هل الصادر منه کان یتضمن کلمة (قبله) أم لا، فیدور الأمر حینئذ بین حصول الخطأ والاشتباه فی النقیصة والزیادة، فاصالة عدم الزیادة تکون مقدما علی اصالة عدم النقیصة، ولازم هذا الأصل هو ان الصادر منه علیه السلام کان یتضمن کلمة (قبله)، فلا یلتفت حینئذ الی ما اعترض علی هذا الخبرین من عدم دلالته بالصراحة علی الوجوب، لوضوح أنّ مثل هذه الجمل ظاهرة فی الانشاء، وبیان حکم الوجوب، الاّ إذا وردت بقرینة صارفه عنه.

مضافا الی أنّ بیان الوضوء مع کل غُسل، لا یکون الاّ بلحاظ ما یشترط فیه الطهارة، فوجوبه شرطی، سواء کان المشروط أمرا واجبا _ فیکون شرطه أیضا کذلک _ أو أمرا مندوبا _ فشرطه هنا کذلک _ وعلی کلّ حال، یدل علی ما هو المطلوب، کما لا یخفی علی المتأمل.

واحتمال کون قوله فی الخبر: «فی کلّ غُسل...» استفهاما انکاریا بحیث یفید عدم لزوم الوضوء فی کلّ غُسل.

بعیدّ غایته، بل قد یمکن التأیید لذلک _ أی لزوم الوضوء _ بالمروی عن کتاب «غوالی اللئالی» عن النبیّ صلی الله علیه و آله : «کلّ غُسل لابدّ فیه من الوضوء، الاّ الجنابة»(1) .

و حدیث علی بن یقطین، عن أبی الحسن الأوّل علیه السلام ، قال: «إذا أردت أنْ تغتسل للجمعة، فتوضأ و(ثم) اغتسل»(2).

مع تتمیمه بعدم القول بالفصل، بناء علی المشهور من النقل عن المرتضی وأبی علیّ، من الاجتزاء بکلّ غسل عن الوضوء، فاذا احتاج غُسل الجمعة الی الوضوء، فکذلک یکون غیره من سائر الاغسال، وهو المطلوب .


1- المستدرک الباب 25 من ابواب الجنابة الحدیث 3 .
2- وسائل الشیعة: الباب 35 من أبواب الجنابة، الحدیث 3 .

ص:196

بل قد یمکن استفادة وجوب الوضوء، مع غُسل المستحاضة، من الخبر الصحیح الذی رواه زرارة، عن أبی جعفر علیه السلام ، قال: «سألته عن الطامث، تقعد بعدد أیامها، کیف تصنع؟ قال: تستظهر بیوم أو یومین، ثم هی مستحاضة، فلتغتسل و تستوثق من نفسها، وتُصلّی کلّ صلاة بوضوء، مالم ینفد (یثقب) الدّم، فاذا نفد اغتسلت وصلّت»(1) .

فی غُسل الحیض / عدم کفایته عن الوضوء

و کذلک یمکن الاستدلال بالمضمرة التی رواها سماعة، قال: «قال: المستحاضة إذا ثقب الدم الکرسف، اغتسلت لکلّ صلاتین، وللفجر غُسلاً، وإنْ لم یجز الدم الکرسف، فعلیها الغْسل لکلّ یوم مرّة، والوضوء لکلّ صلاة» الحدیث(2) .

فان هذین الخبرین یدلان علی وجوب الوضوء لکلّ صلاة فی المستحاضة المتوسطة، حیث یشمل بالاطلاق ما لو کانت الصلاة بعد الغُسل بلا فصل معتدٍ به، مثل الغُسل الواقع اوّل الصبح فی کلّ یوم، المجزی لصلاة الصبح وغیرها، فلابد فیه من الوضوء مع الغُسل، فاذا کان الحکم هنا کذلک، فلزوم الوضوء بعد کلّ غسل فی المستحاضة الکثیرة أیضا کذلک، بل لعله أولی لأجل عدم القول بالفصل بین الصورتین والقسمین فی الکفایة وعدمها، هذا اوّلاً.

وثانیا: امکان القول بالأولویة فی لزوم الوضوء مع الغُسل فی الکثیرة، وذلک إذا قلنا بلزومه فی المتوسطه لشدّة الحدث فیه، کما لا یخفی.

وهذا الوجه وان کان مما یمکن المناقشة فیه، بامکان کون الشدّة فی الحدیثه أولی فی کفایة الغُسل عن الوضوء، لکن مثل هذه الاستحسانات ما لا یمکن اثبات الحکم الشرعی بها، فالأولی الاکتفاء فی ذلک بمثل الاجماع المرکب، ودلالة الادلة.


1- وسائل الشیعة: الباب 1 من أبواب الاستحاضة، الحدیث 9 .
2- وسائل الشیعة: الباب 1 من أبواب الاستحاضة، الحدیث 6 .

ص:197

ولعلّ اشارة صاحب «الروض» بقوله: «إنّ فیه أخبارا صحیحة»، کان یقصدبه صحیحة زرارة، حیث تدل علی وجوب الوضوء مع غُسل الاستحاضة، فاذا کان الأمر فیه کذلک، ففی غُسل الحیض وغیره أیضا کذلک، لعدم القول بالفصل بین الأغسال فی الاستغناء وعدمه، کما لا یخفی .

فاذا عرفت دلالة مجموعة من الاخبار علی لزوم الوضوء مع کلّ غُسل، الاّ الجنابة، فقد صدر الأشکال والاعتراض عن صاحب «مصباح الفقیه» بالنسبة الی التمسک بدلالة بعض الأخبار مثل مرسلة ابن أبی عُمیر، حیث وردت فیها قوله: «کلّ غُسل قبله الوضوء الاّ غُسل الجنابة»، حیث قال: «انّ هذه الجملة لا تدل الاّ علی مشروعیة الوضوء مع سائر الاغسال، دون الوجوب، لانّها أعمّ من الوجوب .

فاجاب عنه بأنّ الثابت فی محلّه، کون الجملة الخبریة _ کالأمر _ ظاهرها الوجوب، بل قد یدّعی أظهریتها من الأمر، لکونها إخبارا عن الواقع، وظاهرها عدم الانفکاک، وأقرب مجازاته عدم جواز التفکیک، لأن مقتضی هذا الظاهر _ بعد حمل مطلق الأخبار علی مقیّدها _ إنّما هو وجوب کون کلّ غُسلٍ مسبوقا بالوضوء، وظاهره الوجوب الشرطی . هذا، مع مخالفته للمشهور، ممّا لا یمکن الالتزام به، اذ لا یمکن ارتکاب التقید فی جمیع الأوامر المطلقة، الواردة فی مقام البیان، المتعلقة بالأغسال الواجبة والمسنونة.

وکذا الأخبار الخاصة الدالة علی أنّ غُسل المیت أو غُسل الحائض، یکونان مثل غُسل الجنب، مع خلوّ الأخبار المسوقة لبیان کیفیّة الغُسل عن التعرّض له بمثل هذا الظاهر، مع مخالفته للمشهور، ومعارضته بالموثقة الآتیة، التی ورد فیها التصریح بأنّه: لیس علی الرجل ولا علی المرأة، فی شی ء من الأغسال _ لا قبله ولا بعده _ وضوء» وهذا نصّ فی نفی وجوبه الشرطی، حیث أنه هو القدر المتیقن من مفادها .

فیجب امّا حمل الأمر بالوضوء قبل الغُسل، علی الاستحباب، والالتزام بکون

ص:198

الوضوء السابق کالمضمضه والاستنشاق، یعدّ من سُنن الغسل.

أو حمله علی الوجوب أو الاستحباب النفسی، من دون أن یکون للتقدیم مدخلیة فی صحة الغُسل ولا فی صحة الوضوء.

وهذا مع بُعده فی حدّ ذاته، مما لا یظنّ بأحدٍ أنْ یلتزم به .

أو الالتزام بکون التقدیم شرطا فی صحّة الوضوء، ورافعیته للحدث الاصغر.

وهذا أوضحُ بطلانا من سابقه .

أو الالتزام بکون الأخبار مسوقه لبیان أنّ ما عدا غُسل الجنابة، غیر مجزی ء عن الوضوء، وإنّما أمر الشارع بایجاده قبل الغُسل، لکونه أفضل فردی الواجب المخیّر.

وهذا المعنی وانْ کان موافقا لما علیه المشهور، الاّ أنّ حمل الروایة علیه لیس باولی من حملها علی المعنی الاوّل، بل العکس أولی، بالنظر الی ظاهر الروایة، حیث أنّ مقتضاه کون الوضوء السابق شرطا لصحة الغُسل.

وعند تعذّر هذا المعنی، یکون حمله علی ارادة کونه شرطا لکماله، أولی من سائر الاحتمالات، هذا فضلاً عن أنّه أوفق بما یقتضیه الجمع بینها وبین الأخبار الآتیة .

هذا، ولکن یمکن لأحد أن یعترض و یدعی منع تقید بعض الروایات ببعض، ویدّعی أنّ المنساق الی الذهن من قوله علیه السلام فی المرسلة الثانیة: «وفی کلّ غُسل وضوء الاّ الجنابة»، وکذا من روایة «العوالی»، هو عدم الاجتزاء بالغُسل عن الوضوء المعهود للصلاة، ولا مقتضی لتقییدها بالمرسلة الاولی لعدم التنافی، لإمکان ثبوت کلا الحکمین فی الواقع، بان لم یکن ما عدا غُسل الجنابة مجزئا عن الوضوء، وکون الوضوء فی حدّ ذاته مستحبا قبل الغُسل، أو کونه أفضل من تاخیره. وبناءً علی هذا یتجه الاستدلال بالروایتین.

انتهی محلّ الحاجه من کلامه(1) .


1- مصباح الفقیه: ج4/171 _ 169 .

ص:199

اقول: ولقد أجاد فیما أفّاد، وجزاه اللّه عنا خیر الجزاء فیما حقّقه وبیّنه، ولکن الأولی أن نقول إن الدلیل علی أن معنی لزوم تقدیم الوضوء قبل الغُسل فی غیر الجنابة، هو بیان کونه أفضل الافراد، وموثرا فی کمال الغُسل لا فی صحته، هو وجود أخبار کثیرة دالة علی بیان حاجة کلّ غُسل غیر الجنابة للوضوء، من دون ذکر لزوم کونه قبله، حیث یفهم منها ان سابقیة الوضوء علی الغُسل، لیس شرطا فی صحة الغُسل، ولا فی صحة الوضوء، بل غایة ما یقتضیه الجمع بینها وبین الروایة المشتملة علی قبلیة الوضوء، هو کونه أفضل الافراد، نظیر ما یقال فی قوله: «اعتق رقبة» و «اعتق رقبة مؤمنة» فی الدلیلین المثبتین، حیث یُقیّد أحدهما الآخر من جهة الأفضلیة، کما یقال فی قوله: «صلّ» و«صلّ فی المسجد»، وهذا أمرٌ مقبول عند العقلاء، کما لا یخفی .

فاذا عرفت الأخبار الدالة علی وجوب الوضوء مع الاغسال _ الاّ فی غُسل الجنابة _ مع العمومات والأدلة الخاصة المنصوصة وهی أخبار کثیرة مستفیضة، فلا یبقی وجه لما قاله المحقق الهمدانی، بأنّ الاستدلال بالعمومات _ کاستصحاب الحدث، وقاعدة الشُّغل _ إنّما یتم علی تقدیر التشکیک فی ادلة السیّد واتباعه لما قد عرفت من عدم انحصار الدلیل بالعمومات، والاصول العملیة، حتّی یقال بامکان تقیید الأولی، وعدم جواز العمل بالاصول مع وجود دلیل اجتهادی من النصوص، بل غایته ملاحظة ادلة الخصم، وأنها هل هی قادرة علی المعارضة مع تلک الأخبار السابقة.

أمّا أدلتهم، فهی أخبار کثیرة .

منها: صحیحة محمّد بن مسلم، عن الباقر علیه السلام ، قال: «الغُسل یُجزی ء عن الوضوء، وأیّ وضوء أطهر من الغسل»(1) .


1- وسائل الشیعة: الباب 33 من أبواب الجنابة، الحدیث 1 .

ص:200

منها: مکاتبة محمد بن عبد الرحمن الهمدانی: «کتب الی أبی الحسن الثالث علیه السلام یسأله عن الوضوء للصلاة فی غُسل الجمعة؟ فکتب: لا وضوء للصلاة فی غُسل یوم الجمعة ولا غیره»(1) .

منها: مرسلة حمّاد بن عثمان، عن رجل، عن أبی عبداللّه علیه السلام : «فی الرجل یغتسل للجمعة، أو غیر ذلک، أیجزیه من الوضوء؟ فقال أبو عبداللّه علیه السلام : وأیّ وضوء أطهر من الغُسل»(2) .

و منها: موثقة عمار الساباطی، قال سُئل أبو عبداللّه علیه السلام : «عن الرجل اذا اغتسل عن جنابته، أو یوم جمعة، أو یوم عید، هل علیه الوضوء قبل ذلک أو بعده؟ فقال: لا، لیس علیه قبل ولا بعد، قد اجزأه الغُسل، والمرأة مثل ذلک، إذا اغتسلت من حیض أو غیر ذلک، فلیس علیها الوضوء، لا قبل ولا بعد، قد اجزأها الغُسل»(3) .

و منها: مرسل محمد بن أحمد بن یحیی: «أنّ الوضوء قبل الغُسل وبعده بدعة»(4) .

منها: روایة عبداللّه بن سلیمان، قال: «سمعتُ أبا عبداللّه علیه السلام یقول: الوضوء بعد الغُسل بدعة»(5) .

منها: مرسلة الکلینی: «ورُوی أنّه لیس شی ء من الغُسل فیه وضوء، الاّ غُسل یوم الجمعة، فان قبله وضوء»(6).


1- وسائل الشیعة: الباب 33 من أبواب الجنابة، الحدیث 2 .
2- وسائل الشیعة: الباب 33 من أبواب الجنابة، الحدیث 4 .
3- وسائل الشیعة: الباب 33 من أبواب الجنابة، الحدیث 3 .
4- وسائل الشیعة: الباب 33 من أبواب الجنابة، الحدیث 5 .
5- وسائل الشیعة: الباب 33 من أبواب الجنابة، الحدیث 6 .
6- وسائل الشیعة: الباب 33 من أبواب الجنابة، الحدیث 7 .

ص:201

منها: مرسلة الکلینی أیضا: «قال: وروی أیّ وضوء أطهر من الغسل»(1).

منها: وروایة سلیمان بن خالد، عن أبی جعفر علیه السلام ، قال: «الوضوء بعد الغُسل بدعة»(2).

منها: المرسلة التی رواها المحقق فی «المعتبر»، قال رُوی من عدة طرق عن الصادق علیه السلام ، قال: «الوضوء بعد الغُسل بدعة»(3) .

و منها: صحیحة حکم بن حکیم، قال: «سألتُ أبا عبداللّه علیه السلام عن غُسل الجنابة... الی أنْ قال: قلتُ: إنّ الناس یقولون یتوضأ وضوء الصلاة قبل الغَسل. فضحک، وقال: وایّ وضوء أنقی من الغُسل وأبلغ»(4).

بناء علی أنْ یکون المقصود من الغُسل حقیقته اللفظی، لا الغُسل المعهود الشرعی کالجنابة مثلاً، فلا یقصد مطلق الاغسال المعهودة شرعا، التی یؤتی مع غایة من الغایات .

وکذلک یمکن الاستدلال بالاخبار الکثیرة الواردة فی باب الحیض والاستحاضة والنفاس، من الحکم بالغُسل خاصة، من غیر تعرض للوضوء معه، برغم أنّ المقام مقام البیان والحاجة، حیثُ یشعر علی کفایته عنه .

بل وکذا یُشعر لذلک الأخبار الواردة فی بیان التداخل، وما دلّ علی مماثلة غُسل الحیض لغُسل الجنابة، واتحاده معه. هذا، مضافا الی امکان الرجوع الی أصل البرائة عن تکلیف الوضوء بعد الغُسل. فهذه جملة ما استدلوا علی ذلک.

و لکن بعد ما عرفت من إعراض أکثر الاصحاب والقدماء عن ذلک، بل وعن


1- وسائل الشیعة: الباب 33 من أبواب الجنابة، الحدیث 8 .
2- وسائل الشیعة: الباب 33 من أبواب الجنابة، الحدیث 9 .
3- وسائل الشیعة: الباب 33 من أبواب الجنابة، الحدیث 10 .
4- وسائل الشیعة: الباب 34 من أبواب الجنابة، الحدیث 4 .

ص:202

الصدوق رحمه الله نسبة خلاف هذا القول الی دین الامامیة، المشعر باتفاق فقهاء الشیعة علی خلافه، فلابد امّا من حمل تلک الأخبار علی ما لا ینافی مع ما عرفت من النصوص الّتی دلت علی لزوم الوضوء مع غیر غسل الجنابة، أو طرحها فیما لا یمکن ذلک، أو حملها علی التقیة. هذا بالنسبة الی النصوص.

وامّا فی الاصل کالبرائة، فمن الواضح أنّه لا موقع له، مع وجود نص صریح علی خلافه، مضافا الی وجود الاستصحاب وقاعدة الاشتغال علی خلاف أصل البرائة، وهما حاکمان علیه.

فی غُسل الحیض / الوضوء قبله أو بعده؟

هذا فضلاً عن امکان القول فی بعضها _ مثل صحیح ابن مسلم _ علی کون المراد من الغُسل، هو الغُسل المعهود الشایع فی العرف، وهو غُسل الجنابة الذی قد وقع فیه البحث بین العامّة والخاصة، فی کفایته عن الوضوء وعدمه، لا سائر الاغسال _ مثل الحیض والاستحاضة والمسّ للمیّت، وغُسل الجمعة وغیرها _ ، والشاهد علی هذا ضحک الامام علیه السلام ، وما ورد فیما نسبوا الی امیر المؤمنین علیه السلام وتکذیب الامام له، وهو کما فی صحیحة حکم بن حکیم، قال: «سألتُ أبا عبداللّه علیه السلام عن غُسل الجنابة. الی أنْ قال: قلت: انّ الناس یقولون یتوضأ وضوء الصلاة قبل الغُسل. فضحک، وقال: وایّ وضوء أنقی من الغسل وابلغ»(1).

فان ضحک الامام علیه السلام مع هذه النسبة، وجوابه وردّه بتلک المقالة عن غُسل الجنابة، یصیر شاهد الحمل فی سائر الروایات.

کما قد یؤید ذلک ما وردت فی روایة اخری لمحمّد بن مسلم، الذی صدر منه الکلام السابق فی مطلق الغُسل، حیث قد یتوهم کون المراد منه هو ماهیة الغسل ومعناه اللغوی، لا الغُسل المعهود، والخبر هو: «قال: قلتُ لأبی جعفر علیه السلام : إنّ اهل


1- وسائل الشیعة: الباب 34 من أبواب الجنابة، الحدیث 4 .

ص:203

الکوفة یروُونَ عن علیّ علیه السلام أنّه کان یأمر بالوضوء قبل الغُسل من الجنابة؟ قال: کذبوا علی علیّ علیه السلام ، ما وجدوا ذلک فی کتاب علیّ علیه السلام ، قال اللّه تعالی: «وإنْ کُنتُم جُنُبا فاطّهروا»»(1) .

کما انه یمکن حملها علی التقیة، کما فی «الوسائل» من روایة أبی بکر الحضرمی، عن أبی جعفر علیه السلام ، قال: «سألته کیف أصنع إذا اجنبت؟ قال: اغسل کفک وفرجک وتوضأ وضوء الصلاة ثم اغتسل» .

وفی بعض الروایات کان الجواب بصورة المطلق، الشامل للجنابة و الجمعة وغیرهما، فیصح تقییده بالاختصاص لخصوص غُسل الجنابة، بواسطة تلک الأخبار الکثیرة الصریحة، الدالة علی لزوم الوضوء فی غیر غُسل الجنابة ، مثل مرسلة حماد بن عثمان، حیث قد اجاب الامام علیه السلام بقوله: «وأیّ وضوء أطهر من الغسل»، حیث یطابق ذلک مع ما فی غُسل الجنابة دون غیره.

بل وکذلک یمکن أنْ یقال بمثله فی مکاتبه ابن عبد الرحمن، مضافا الی احتمال التقیه فیها لأجل أنّها مکاتبة، کما یرفع الید عن خصوص غُسل الجمعة، وفی سائر الاغسال غیر الجنابة، لأجل نصوص کثیرة دالة علی لزوم الوضوء فی غیر غُسل الجنابة، کما یحمل علی کون المراد هو غُسل الجنابة، لا مطلق کلّ ما دلّ علی کون الوضوء مع الغُسل بدعة، سواء کان قبله أو بعده .

فیبقی هنا من الأخبار الصریحة الدالة علی خلاف ما قلناه، موثقة عمّار الساباطی، حیث نفی الوضوء قبل الغُسل وبعده فی الجنابة والجمعة ویوم عید، بل فی الرجل والمرأة، حیث یمکن رفع النافی بینه وبین غیره، بحملها علی من کان فی ذمته غُسل الجنابة وغیره من الجمعة وغیرها، أو الحیض مع الجنابة


1- وسائل الشیعة: الباب 34 من أبواب الجنابة، الحدیث 5 .

ص:204

والعید والجمعة، فانّ هذا الحمل وانْ کان خلافا لظاهرها من الاتیان لکلمة (اَوْ)، الاّ أنّه لا یمنع أنْ یدخل فیه هذا الفرض أیضا، اذ الجمع مهما أمکن اولی من الطرح، خصوصا مع ملاحظة کون هذه الأخبار صادرة علی مرأی ومسمع الاصحاب، ومع ذلک أعرضوا عنها، لاسیّما مع ملاحظة ما قد یقال من أنّه کلما کثرت النصوص، وکانت صحیحة وصریحة فی الدلالة، کانت علی المرأی والمسمع، ولم یلتفت الیها والأصحاب، یوجب الاطمینان علی طردها، لأنّه کلما زید فی سحة صدورها زید فی ضعفها، لأجل الاعراض، کما لا یخفی علی المتأمل العارف، لانه یحصل الظنّ القویّ للفقیه علی عدم الاعتماد والرکون الیها، فیصیر الحقّ مع المشهور، واللّه العالم بحقائق الامور .

فاذا عرفت عدم اغناء سائر الأغسال _ غیر غُسل الجنابة _ عن الوضوء، وأنّه لابد للمکلف من تحصیل الوضوء، فهل یجب أنْ یکون تحصیل ذلک قبل الغُسل أو بعده أو أنه مخیرٌ؟

المستفاد من کلمات جماعة من فقهائنا رحمهم اللّه لزوم تحصیله قبل الغُسل، کما یظهر ذلک عن «الفقیه» و«الغنیة» و«الکافی» وصاحب «شرح المفاتیح»، بل فی «الذکری» قد تمسک علی دعواه ببعض الأخبار الدالة علیه بظاهره، مثل مرسلة ابن أبی عُمیر، عن رجلٍ، قال: «کلّ غُسل قبله وضوء إلاّ غُسل الجنابة».

مثلها خبر علی بن یقطین، قال: «إذا أردت أنْ تغتسل للجمعة فتوضا واغتسل».

بل قد یُشعر بذلک، ما فی ورد فی مرسل حمّاد بن عثمان أو غیره من قوله: «فی کلّ غُسلٍ وضوء، الاّ الجنابة».

ومثله ما رواه «غوالی اللئالی» عن النبی صلی الله علیه و آله .

وذهب آخرون الی التخییر فی ذلک، بأنّه مخیرٌ فی الاتیان به قبل الغُسل أو بعده، کما صرح به المحقق رحمه الله فی «الشرایع» و«المعتبر»، والشیخ فی

ص:205

«المبسوط» و«النهایة»، وصاحب «الوسیلة» و«السرائر»، والعلامة فی «القواعد».

بل هو مقتضی اطلاق کلمات غیرهم فی الفقهاء، کما أنّه المشهور نقلاً وتحصیلاً، کما فی «الجواهر»، بل فی «السرائر» نفی الخلاف عنه، کما علیه أکثر المتأخرین لولا کلهم.

نعم ذهب بعضٌ منهم کالمحقق الهمدانی الی القول بأنّه: «لو أتی بعد الغُسل، فینبغی رعایة الاحتیاط فیه، بأن لا ینوی بوضوئه الاّ الاحتیاط، رعایة للمستفیضة الدالة علی کون الغُسل مجزئا عن الوضوء، وأنّ الوضوء بعده بدعة، فیقصد بفعله الاحتیاط، حتّی لا یکون علی تقدیر عدم مشروعیته مشرّعا» انتهی کلامه(1) .

و الأقوی عندنا هو أنّه لا وجوب فی تقدیمه، برغم أنّ التقدیم یعدّ أفضل الافراد، فیجوز اتیانه فی الاثناء، إذا کان الغُسل ترتیبیا، کما یجوز اتیانه بعده.

فی غُسل الحیض / ثمرة تقدیم الوضوء علیه و تأخیره عنه

والدلیل علیه: وجود اطلاقات کثیرة من الأخبار الواردة والدالة علی ثبوت أصل الوضوء، وعدم اغناء الغُسل عنه، بلا فرق فیه من جهة القبلیة والبعدیة، الأخبار واردة فی مقام البیان والحاجة والعمل، ولولا ذلک لکان مقتضی قاعدة الاطلاق والتقیید، هو العمل بما دل علی التقیید بالقَبلیة، خصوصا بالنظر الی ما فی «الأمالی»، من نسبة کلّ غُسل فیه وضوء فی أوّله الاّ غُسل الجنابة، الی دین الامامیة .

و لکن قد عرفت دعوی صاحب «السرائر» من نفی الخلاف فی عدم الوجوب، بضمیمة ما عرفت من الأخبار المطلقه الواردة فی مقام البیان، وحمل الأخبار المقیدة بالقبلیة، علی صورة أفضل الافراد، فان ملاحظة جمیع هذه الامور یوجب حصول الأطمئنان للفقیه بعدم وجوب هذا القید .


1- مصباح الفقیه: ج4/177 .

ص:206

ثم علی القول بالوجوب، فهل یعدّ شرطا لصحة الغُسل، بحیث لو لم یأت بالوضوء قبله، کان الغُسل باطلاً، أم لیس کذلک بل یعدّ آثما و عاصیا لیس الاّ، مع صحة غُسله؟

والأقوی هو الثانی، کما اُدّعی علیه نفی الخلاف فی «الریاض»، نقلاً عن بعض المشائخ، مضافا الی امکان التأیید لذلک بما ورد فی «فقه الرضا»، فانه وإنْ اشتمل اوّله الأمر بالبدء بالوضوء قبل الغُسل، لکن قال علیه السلام أخیرا فی ذیل کلامه: «فانْ اغتسلتَ ونسیتَ الوضوء، توضّأت فیما بعد عند الصلاة»(1).

فانه کالصریح فی عدم کونه شرطا، والاّ لما کان النسیان موجبا للصحّة فی الواجب المشروط، الاّ أن نقول بالشرطیة فی خصوص حال عدم النسیان، ولکن الالتزام بهذا یعدّ مخالفا للاجماع، ولعدم القول بالفصل فی الشرطیّة بین النسیان وعدمه .

فثبت من جمیع ما ذکرنا، عدم وجوب القبلیة له، کما هو مقتضی أصل البرائة، لو فُرض صحة التمسک بها فی المقام لنفی الوجوب عنه، وذلک لاجل عدم حصول الاطمئنان من الأخبار الواردة لأحد الطرفین من الوجوب وعدمه.

کما أنّه لو سلمنا وجوبه، فانّه لا دلیل لنا علی ثبوت الشرطیّة فیه، مع أنّ مقتضی الأصل عند الشک فیه هو عدمه، کما لا یخفی .

و الحاصل من جمیع ما قدمناه، هو وجوب الوضوء مع کل غُسلٍ من الأغسال _ واجبا أو مندوبا _ الاّ غُسل الجنابة، وأنّ الوضوء اللازم معه لم یکن تقدمه علیه الزامیا علی نحو الوجوب، کما أنه لا یعدّ تقدمه علیه شرطا فی صحة الغُسل.

نعم یعدّ تقدمه علی الغُسل أفضل الأفراد من الوضوء فی أثناء الغسل، إذا کان ترتیبیا، وأتی به تدریجا والوضوء بعده، بخلاف غُسل الجنابة حیث لا وضوء له


1- المستدرک الباب 25 من ابواب الجنابة الحدیث 1 .

ص:207

مطلقا _ ای فی الحالات الثلاث _ بل الاتیان به معه تعدّ بدعة، کما هو المستفاد من ظاهر بعض الأخبار التی کان هو القدر المتیقن منه، فلیتأمل .

فذلکةٌ علمیة:

بعد ما عرفت فی المباحث السابقة، عدم کفایة غیر غُسل الجنابة عن الوضوء، فلابد من تحصیل الطهارة لما یشترط فیه ذلک، من اتیان کلیهما متقدما لأحدهما علی الآخر، أو اتیانهما معا، فحینئذٍ یأتی البحث فی أنّ رفع الحدثین _ من الأکبر والأصغر _ الذی یتحقق بهما مشترکا، هل یکون بنحو التوزیع بان یرفع الغُسل الحدث الاکبر والوضوء والحدث الأصغر أم لا؟

وتظهر ثمرة هذا البحث فی ترتب أحکام کلّ منهما بمجرّد فعله قبل فعل الآخر، سواء تقدم الغسل علی الوضوء أو تاخّر .

وبناءً علی ذلک قال صاحب «المدارک»علی ما نسبه الیه صاحب «الجواهر» بقوله: «حدث الحیض وغیره من الأحداث الموجبة للوضوء والغسل عند القائلین به، هل هو حدثٌ واحد أکبر لا یرتفع الاّ بالوضوء والغُسل، أو حدثان أصغرٌ وأکبر؟ ثم إنْ قلنا بالتعدد، فهل الوضوء ینصرف الی الأصغر والغُسل الی الأکبر، أم هما معا یرفعان الحدثین علی سبیل الاشتراک؟ احتمالات ثلاثة، ولیس فی النصوص دلالة علی شی ء من ذلک».

انتهی کلامه علی المحکی فی «الجواهر»(1) .

لکن صاحب «الجواهر» رحمه الله لم یبیّن فی هذه العبارة، أیا من الاحتمالات الثلاث! ولکن فی «الذکری» احتمل مدخلیة الوضوء فی تحقق غایات الأغسال، بل ظاهر اطلاق کلامه احتمال ذلک، حتّی فی الأغسال المندوبة، فضلاً عن


1- الجواهر: ج3/247 .

ص:208

غیرها، واحتمل أیضا العدم، وأن یکون الوضوء شرطا بالنسبة الی غایات الغُسل کالصلاة والطواف ونقل صاحب «جامع المقاصد» عن «الذکری» استبعاد القول بالتوزیع _ ای توزیع الغسل للاکبر والوضوء للاصغر _ وقال بعد نقل ذلک بقوله: «إنّه لا ریب فی ضعف القول بالتشریک».

ثم نقل «جامع المقاصد» عن ابن ادریس أیضا قوله: «أنّه لا یجوز نیة الرفع فی الوضوء إذا تقدم، نظرا الی أنّ الرفع إنّما یتحقق برفع الحدث الأکبر، فانْ تقدم الوضوء فهو باق، وإنْ تاخر فقد زال».

ثم قال المحقق قدس سره : وظهور ضعفه یُغنی عن رده.

انتهی ما فی «جامع المقاصد» علی المحکیّ عنه فی «الجواهر»(1) .

کما قد ردّ علیه الشهید فی «البیان» _ بعد نقل قول ابن ادریس _ بقوله: «إنّ کلامه یفید توزیع الوضوء والغُسل علی الأصغر والأکبر، ولیس الأمر کذلک».

والذی یظهر من کلام ابن ادریس _ علی حسب حکایة صاحب «الجواهر» عنه، فی باب الحیض _ فی «السرائر»: «أنّ الحائض تنوی الرفع بالغُسل، سواء تقدم عن الوضوء أو تاخر، وتنوی الاستباحه بالوضوء، تقدم عنه أو تاخر، وعلّله بالنسبة الی الوضوء بأنّه قبل الغُسل لا رفع، لمکان بقاء الحدث الاکبر، وبعده بأنّ الحدث ارتفع».

و لکن العلاّمة فی «المنتهی» بعد نقل الرأی المذکور علّله بقوله: «بأنّ الحدث لا یرتفع الاّ بهما، فکان الأول غیر رافع، فلا ینوی به الرفع، أو أنّه مع المتأخر کالجزء، فجازت نیة رفع الحدث، وکان أبی یذهب بالاوّل، وعندی فیه توقف»، انتهی ما فی «المُنتهی»(2) .


1- الجواهر: ج3/247 .
2- الجواهر: ج3/248 .

ص:209

هذا ما عرفت من کلمات الاصحاب قبل صاحب «الجواهر»، لکنه قدس سره بعد نقل هذه العبارات، قال: «والذی یختلج فی النظر القاصر هنا، هو أنّ المستفاد من ملاحظة النصوص والفتاوی، أنّ الحدث الأکبر حالةٌ تحصل للمکلف، یمتنع بها عن فعل سائر ما ثبت توقعه علی فعل الطهارة الصغری وزیادة، کالّلبث فی المساجد للجنب والحائض، وقراءة العزائم ونحوهما، وهو معنی استلزام الأکبر للأصغر . نعم، قد یُشکل استفادة هذا التعمیم بالنسبة الی مسّ الأموات خاصة، وقد ذکرناه فی أول الکتاب، ولا اشکال بحسب الظاهراستباحة ذلک الزائد، بمجرد الغُسل، من غیر حاجة الی الوضوء، وکذا الوطی، فلا یتوقف جواز الّلبث فی المساجد مثلاً للحائض لو اغتسلت، علی الوضوء إنْ قلنا بتوقفه علی الغُسل، وقراءة العزائم ونحوهما، لظهور الأدلة فی استباحة ذلک کلّه بمجرد الغُسل فهی به حینئذ تکون کغیر الحائض الغیر المتوضأه . و أمّا ما اشترکا فیه کالصلاة والطواف ونحوهما، فلا اشکال فی توقف استباحته علی الوضوء والغُسل، فلا الوضوء وحده رافعٌ له بتمامه، ولا الغُسل، بل هما مسببان لسبب واحد، فلا معنی لنیة الرفع فی کلّ منها، إنْ اُرید بها التمام، کما أنّه لا مانع منه إنْ اُرید بها ملاحظة الجهة الخاصة...» الی آخر کلامه(1) .

أقول: ان ما قاله رحمه الله وإنْ لم یخلو عن وجاهة، الاّ أنّه اعترف بنفسه عدم کلیّة ذلک، لعدم لزوم التیمم بالنسبة الی مسّ الاموات، کما أشار الیه، بل وهکذا بالنسبة الی الاستحاضة المتوسطة، المحتاجة الی الغُسل فی کلّ یوم مرة واحدة، بل وهکذا المستحاضة الکثیرة المحتاجة الیه حین الصلاة فی اوقات الصلاة، حیث لا یکفی الغُسل فی رفع الحدث بالنسبه الی الأصغر، لو لم نقل کون الکثیرة،


1- جواهر الکلام: ج3/249 .

ص:210

کالحیض من جهة حرمة اللبث فی المساجد، وحرمة الوطی _ کما علیه بعض _ والاّ لخرج عمّا ذکرنا من النقض لاشتماله بالزیادة علی ما عارضه الأصغر .

و لکن الذی یختلج ببالی القاصر، واللّه هو العالم القادر، القول بأنّ عروض مثل تلک الأحداث الکبیرة _ من الحیض والنفاس والاستحاضة، ومسّ الأموات عدا الجنابة _ مما یحتاج فی رفعها وازالتها، مضافا الی الغُسل المتعلق بکلّ واحد منها. الی الوضوء، مشتمل علی عروض حدث الأصغر لها، واختلاف التسمیة فی الاحداث بالأکبر والأصغر إنّما یکون بلحاظ ما یُزیل الحدث، فکلّ حدث کان رافعه متوقفا علی اتیان الغُسل، الذی هو عبارة عن غَسْل (بالفتح) جمیع الاعضاء، وایصال الماء الیه، یطلق علی مثل هذا الحدث بانّه الحدث الاکبر. وکلّ حدثٍ کان رافعه الوضوء، یطلق علیه الحدث الاصغر، کما قد یوحی الی ذلک ما ورد فی النصوص من الاشارة الی الأکبریة (بأنّ الغُسل أنقی وأطهر) لأجل احاطة الماء لجمیع البدن وتطهیره، کذلک فی کلّ مورد قد امضاه الشارع ذلک بلا ضمیمة وضوء کغُسل الجنابة، أو مع الضمیمة کسائر الأغسال.

وکیف کان، فالأکبریة والأصغریة عنوان منتزع عن غسل بعض الاعضاء أو جمیعها، فلازم کلّ حدثٍ أکبر، اشتماله علی حدث أصغر، من دون أن ینفک منه دون العکس، حیث قد یعرض علی الانسان حدث الأصغر دون الأکبر، کما هو الغالب من عروض اسباب الوضوء خاصة دون الغُسل .

فحینئذٍ یأتی الکلام فیما لو عرض الحدث الأکبر، المشتمل علی الأصغر، حیث أنّ مزیل الاصغر حینئذ قد یکون نفس ما یزیل الأکبر، بلا حاجة الی مزیل آخر بالخصوص للأصغر، وذلک مثل الجنابة التی لا یزیلها الاّ الغسل دون ان یحتاج الی الوضوء، فانّ المستفاد من الادلة فی غُسل الجنابة أنّه یُغنی عن الوضوء، لأنّ المنی _ علی ما فی بعض الأخبار _ یخرج عن جمیع البدن، وهو

ص:211

الذی یکون من مرکز أصل الشعر ومنبته، ولذلک تری عروض الفتور بعد اخراج المنی علی جمیع البدن، ولأجله لابد من ایصال الماء حین غُسله الی جمیع البدن، فکما یکون هذا الغسل مُزیلاً للأکبر، فکذلک یعدّ مزیل للاصغر، وهذا أمرٌ ثابت عند الجمیع ولا نقاش فیه.

وأمّا فی غیر غُسل الجنابة من سائر الاغسال، فبعد تحقق الحدثین، فلابد فی ازالتها، من الاتیان بالأمرین من الغُسل والوضوء، فلا ینافی حینئذ أنْ یقال بانّ الغُسل یزیل ما یتعلق بنفسه خاصّة من الحدث الأکبر، أی أنّ المرأة بعد غُسل الحیض یجوز لها الدخول فی المساجد والّلبث فیها وقراءة العزائم والتمکین لزوجها _ إنْ قلنا بتوقفه علی الغُسل _ ومسّ کتابة القرآن، وامثال ذلک، ولکن مثل هذه الأغسال لا تکفی فی رفع الحدث الأصغر، فلابد لازالة ذلک من تحصیل الوضوء، فاذا لم تتوضأ المرأة لم تتمکن من اداء الصلاة والطواف، وکلّ ما یتوقف علی الطهارة الصغری.

ففی هذه الموارد، ظهر أنّ کلّ غُسل ووضوء رافع لما ینتسب الیه من الحدث الاکبر والأصغر، غایة الأمر أنّه مع اتیان الوضوء بمفرده دون أن یُلحق به غسل، لا یمکنه ترتیب أثر رفع الحدث الأصغر علیه، لوجود المانع له، وهو وجود الحدث الأصغر، فیما یکون وجوده موقوفا برفع الحدث مطلقا، من الأکبر والاصغر، فالنقص فی مثله لیس لأجل نقص المقتضی فی الوضوء، بل لأجل وجود المانع فیه، وهو الحدث الأکبر.

نعم، قد یترتب علی الوضوء أثره المختص به، فیما لا یکون وجود الحدث الأکبر مانعا له، حتّی فی مثل الجنابة، فضلاً عن غیرها، کما لو لو توضأ الجُنب للنوم أوالاکل والشرب _ حیث یکره الاتیان بهامع الجنابة _ فلااشکال فی تحصیل الوضوء فیمثل هذه الأمور لکی یترتب علیه الأثر، ولایکون وجود الحدث الأکبر

ص:212

مانعا، فیکون ذلک مؤیدا لما ذکرنا، کلّ غة سل ووضوء یعدّ مزیلاً لحدثه المتعلق به، فیما إذا لم یمنع مانعٌ عن تاثیره وهذا حکم ثابت و جاء فی جمیع الاغسال .

نعم لنا بعض الأحداث التی برغم أنها تندرج ضمن الحدث الأکبر لکن یؤثر أثر الحدث الأصغر، ومع زواله بواسطة الغُسل لا یکون لذلک تأثیرٌ خاص فی المورد، مثل غُسل مسّ المیّت، وغُسل المستحاضة المتوسطة، حیث أن غسلهما لا یترتب علیهما أثر بالخصوص، الاّ أنّه یوجب _ بعد ضمّ الوضوء الیه _ جواز الاتیان بما یتوقف علی الطهارة الصغری، فوجود هذه الأحداث الکبری، تؤثر فی مانعیة الوضوء فی الرفع، والاّ المقتضی تام فی اقتضائه، لکنه وحده لا یکفی فی تحقق المسبب، بل لابد من ازالة المانع عن التاثیر فی تمام هذه الموارد، فالأغسال کلها _ غیر غُسل الجنابة _ تأثیر الوضوء فی المراد فیه، کان ترتب ذلک الأثر موقوفا لرفع تلک الموانع، والاّ یترتب علیه الأثر المختص بالوضوء، إذا لم تکن الاحداث الموجودة مانعا لذلک الأثر، مثل النوم والشرب والأکل، حال وجود الحدث الأکبر، حیث یترتب الأثر مع تحصیل الوضوء لها برفع الکراهة الموجوده حال الجنابة .

فثبت من جمیع ما ذکرنا أن الغُسل والوضوء، یؤثران فی رفع ما یتعلق بنفسه، لاعلی نحو التشریک، کما احتمله الشهید رحمه الله فی «الذکری»، حیث ضعّف القول بالتوزیع.

کما ظهر ممّا ذکرنا ضعف ما قاله ابن ادریس، من أنّه لا یجوز نیّة الرفع بالوضوء، إذا تقدم عن الغُسل، لما قد عرفت من انّ کلّ واحد منهما إذا تحقق، یؤثر فیما هو أثره، الاّ أنْ یمنع عنه مانع، وهو أمرٌ آخر غیر ما هو مقتضاه.

وکیف کان فحکم هذه الصورة صارت واضحة، وللّه الحمد .

و مما ذکرنا ظهر أیضا ضعف ما احتمله صاحب «الجواهر» _ بل نسبه الی شیخه فی «کشف الغطاء»، وسبطه فی «البغیة» علی المحکیّ فی «المستمسک»

ص:213

لسیدنا الحکیم قدس سره بقوله : «نعم یحتمل الفرق بین الوضوء والغُسل بنحو آخر، وهو أنْ یقال إنّ ایجاب هذا السبب لهذین المسببین ینحلّ الی أصغر وأکبر، لکن لما لم یتصور رفع الأصغر مع بقاء الحدث الأکبر، اذ لیس لنا موضوعٌ فی الخارج مطهر من الأصغر غیر متطهر من الأکبر، بخلاف العکس، کان المتجه حینئذ فی غیر الواجدة الاّ لماء الوضوء مثلاً التیمم، وسقوط حکم الماء، لما عرفت من عدم امکان الأصغر مع بقاء الأکبر، بخلاف ما لو وجدت ماء الغُسل، فانه یجب علیها الاغتسال والتیمم بدل الوضوء. هذا مع أنّه للتأمّل والنظر فیه مجال، بل المتّجه _ بناء علی ما ذکرنا _ فعل ما تمکنّت منه، وقیام التراب مقام المتعذر، لاطلاق ما دلّ علی وجوب الوضوء، ولانّه (لا یسقط المیسور بالمعسور)، و(ما لا یُدرک کلّه لا یُترک کله) و(اذا أمرتکم بأمرٍ فأتوا منه ما استطعتم) ونحوها، اذ لا ارتباط لأحدهما بالآخر. ولعدم تناول أدلة التیمم لمثله، وما ذُکر من تضمّن الأکبر للأصغر، وأنه لیس الی آخره لا حقیقة له عند التأملّ الاّ ارادة ایجاب السبب لهما معا، وغیره لا یصلح لأن یکون مدرکا لحکم شرعی . علی أنّه لو روعی ما ذکر، لکان اللازم حینئذ تأخیر الوضوء عن الغُسل حال وجدان الماء لها، لعدم تصور تأثیره مع بقاء الأکبر، وهو مخالفٌ للاجماع بحسب الظاهر. ودعوی أنّه لا یؤثر أثرا حال التقدیم، الاّ بعد ایقاع الغُسل، فیکون حینئذ من قبیل وجود المقتضی مع حصول المانع منه. ممنوعة، لمخالفتها لظاهر الأدلة الدّالة علی سببیة الوضوء، لمقارنة حصول مسببه بحصوله، وعلی تقدیر التسلیم، فلِم لا یقوم حینئذ التیمم مقام الغُسل فی ذلک»(1) انتهی .

أقول: إنْ کنا نوافقه فی أصل المدعی، لما اخترناه، کما أنه رحمه الله قد أجاد فیما


1- الجواهر: ج3/250 _ 249 .

ص:214

أفاد من جهة الاستدلال بما قد ذکره من الأدلة لکن فی کلامه مواقع للنظر وهی:

اوّلاً: قوله «عدم رفع الأصغر مع بقاء الاکبر»، فقد عرفت أنّه علی کلیته ممنوعه، اذ من الممکن رفع الأثر بواسطة الوضوء، بما یتوقف علیه، ولو مع بقاء الأکبر، فیماتری فی مثل الأکل والشرب والنوم، حیث تزول الکراهة عن ارتکاب مثل هذه الامور بعد الوضوء حتّی مع بقاء الأکبر من الخباثة والحیض، إنْ قلنا فیه ذلک.

نعم، یصحّ قوله فی موارد اُخری مثل الصلاة والطواف وغیرهما.

وثانیا: انکاره لتضمّن الأکبر للأصغر حقیقة، ما عدا ارادة ایجاب السبب لهما معا، لیس علی ما ینبغی، لوضوح أنّ تحقق الحیض ومسّ المیت والاستحاضة _ فی بعض أقسامها _ یوجب کون صاحبه محدثا بالحدث الأصغر _ أی کان ناقضا للوضوء مثل البول والنوم _ فضلاً عن کونه محدثا بالأکبر أیضا، فرفعه یحتاج الی الوضوء _ إنْ امکن _ أو التیمم _ إن تعذّر _ و معلوم أنّ رافع کل حدث خاص یتحقّق بحدوث ما یزیله من الغُسل والوضوء، فاتیان کلّ مؤثر لا یؤثر الی فی ترتب أثره المخصوص به، وامّا الآثار المشترکة، فلا یتحقق الاّ بهما، امّا بأنْ یکون کلّ واحد منهما جزء المقتضی، حتّی یکون حتی یؤثران مشترکا، وقد عرفت أنه خلاف الظاهر.

وامّا بوجود المانع، مع تمامیة المقتضی، وثبت أنّه الاقوی.

فظهر مما ذکرنا ضعف کلامه.

ثالثا: ویرد علیه من جهة انکاره صورة المقتضی والمانع، مع أنه اقوی عندنا من التشریک، کما لا یخفی، واللّه العالم .

تنبیهٌ: جاء فی «الجواهر» _ نقلاً عن «الذکری» و«جامع المقاصد» _ بأن من الواجب علی الزوج دفع نققة ماء غُسل الزوجة، قال: «إنّ الأقرب کون ماء الغُسل علی الزوج، لأنه من جملة النفقة، فیجب نقله الیها، وبذل العوض لو احتاج _ کما

ص:215

فی الحمام ونحوه _ مع تعذّر الغیر، دفعا للضرر».

فی غُسل الحیض / فی أنّ ماء غسل الحائض علی الزوج

ظاهر کلامهما أنّه لا فرق بین کون الزوجة غنیّة أو فقیرة، کما لا فرق بین کون الغُسل للخباثة أو غیرها من الحیض والاستحاضة .

خلافا «للمنتهی» من القول بالتفصیل بین الغنیّ والفقیر، بالوجوب فی الثانی دون الأوّل، وخلافا لصاحب «الجواهر» حیث قد تنظروجوبه، خصوصا لغیر غُسل الجنابة، تمسکا أولاً بالأصل _ أی البرائة عند الشک فی دخولها فی النفقات _ وثانیا بتوجه الخطاب الیها بالغُسل.

ثم اعترض علی اطلاقه من التفصیل، لوضوح أنّه لو کانت من النفقات، فلا فرق بین الصورتین، والاّ فلا دلیل علی وجوبه .

و الاقوی عندنا هو الوجوب، لأنّ العرف یساعد علی اعتباره وعدّه من النفقه، خصوصا مع ملاحظة کون الغالب فی النساء تعذرهنّ عن دفع مثل هذه النفقات، کما أنّ الالتزام بکون تکلیفهن _ بعد عجزهنّ عن دفع ثمن الماء والغُسل _ هو التیمم، فی تمام هذه الموارد، مما لا یساعده الفهم العرفی، فاذا عُدّ الثمن من افراد النفقة فلا تدور مدار فقر المرأة و غناها، کما لا یخفی.

کما لا فرق فی کون الثمن نفقة بین الأغسال التی تجب علیها اتیانها حین اداءها الواجبات أم لا.

نعم لا یأتی ذلک فی نفقة ماء الأغسال المندوبة، لو لم تجمع بینها وبین الاغسال الواجبة.

والظاهر کون الأمة أیضا کذلک، لما قد عرفت ذلک من الاستظهار العرفی، حیث أنهم یفهمون من عنوان النفقة لزوم، اعطاء اُجرة الماء للغُسل والنظافة، فلو لم تکن الأمة فیه أولی، فلا أقل تکون مثل الزوجة، کما لا یخفی .

ص:216

وقضاء الصوم دون الصلاة (1).

(1) و فی «الجواهر»: «وجوب القضاء للصوم دون الصلاة»، وأنّ هذا حکم اجماعی علی نحو الاجماع المحصّل والمنقول نقلاً مستفیضا من الفرقة المحقّة، بل فی «السرائر» و«المعتبر» و«المنتهی» من المسلمین الاّ الخوارج فی الأخیر، بل کاد یکون ضروریا من ضروریات الدین. والنصوص به کادت تکون متواترة، بل قد اشتملت النصوص علی الزام أبی حنیفة بابطال القیاس، وفی بعض النصوص افحام أبی یوسف.

فی قضاء الصوم و الصلوات الفائتة عن الحائض

و هذا الحکم فی الجملة ممّا لا کلام فیه .

و الذی ینبغی أنْ یبحث فیه هو سبب عدم قضاء الصلوات الفائتة منها دون الصوم، وان عدم القضاء هل هو مختص بالصلوات الیومیة فی الأول وصوم شهر رمضان فی الثانی، أو یعمّ الحکم فی الطرفین لکلّ فریضة وصوم واجب، بحیث یشمل المندوب منهما، لو فرض التشریع له فی القضاء لولا الحیض.

فیه خلافٌ بین الاعلام، حیث ذهب کثیر من الفقهاء _ خصوصا المتقدمین منهم _ باختصاص الحکم فی الطرفین بالفرائض الیومیة خصوص صوم شهر رمضان، تمسکا بأنّه المتبادر من النصوص والفتاوی، خلافا لما قد صرّح بذلک السیّد فی «العروة» بالنسبة الی الصیام من التعمیم، وبالنسبة الی الصلوات بتخصص الحکم بالفرائض بالیومیة، وهذا هو القول الثانی فی المسألة.

وقول ثالثٌ: هو الحکم بعدم القضاء لکلّ صلاة موقته، سواءً کانت یومیة أو غیرها، ووجوب الاتیان لغیر الموقته، مثل صلاة الطواف وصلاة الآیات.

وهذا القول قال به «البیان» و«جامع المقاصد» و«الروض» و «المدارک».

و قول رابع: هو عدم وجوب قضاء الفرائض مطلقا، یومیة کانت أو غیرها، بل

ص:217

حتّی الموقته _ کالمنذورة فی وقت أو غیرها _ .

وهذا هو الذی یظهر من کلام المحقق الخوئی قدس سره .

وتفصیل المسألة یقتضی أنْ یقال: أولاً: لا تردید فی وجوب قضاء صوم شهر رمضان الذی فات منها بسبب الحیض، لوجود الاجماع المستفیض من الفرقة المحقّة علی ذلک، بل من ضروریات الدین، کما عن «المنتهی»، وعلیه اجماع المسلمین، کما عن «السرائر»، هذا فضلاً عن دلالة الاخبار الصحیحة علیه:

منها: مثل صحیح زرارة، عن الباقر علیه السلام : «لیس علیها أنْ تقضی الصلاة، وعلیها أنْ تقضی صوم شهر رمضان»(1) .

منها: خبر أبی بصیر، عن الصّادق علیه السلام ، قال: «سألته ما بال الحائض تقضی صومها، ولا تقضی صلاتها. قال: لأنّ الصوم إنّما هی فی السنة شهر، والصلاة فی کلّ یوم ولیلة، فأوجب اللّه علیها قضاء الصوم، ولم یوجب علیها قضاء الصلاة لذلک»(2).

منها: روایة حسن بن راشد، قال: «قلتُ لأبی عبداللّه علیه السلام : الحائض تقضی الصلاة؟ قال: لا. قلت: تقضی الصوم؟ قال: نعم. قلت: من أین جاء هذا؟ قال: أوّل من قاس ابلیس» الحدیث(3).

وکذا الأخبار المطلقة المشتملة جملة منها علی هذا الحکم، مثل مرفوعة عیسی بن عبداللّه القرشی، عن الصادق علیه السلام (4)، ومرسل شعیب بن یونس(5)، ومرسلة ابن شبرمة علی الزام أبی حنیفة(6)، ومرسل عثمان بن عیسی، عن


1- وسائل الشیعة: الباب 41 من أبواب الحیض، الحدیث 2 .
2- وسائل الشیعة: الباب 41 من أبواب الحیض، الحدیث 12.
3- وسائل الشیعة: الباب 41 من أبواب الحیض، الحدیث 3 .
4- وسائل الشیعة : الباب 41 من أبواب الحیض، الحدیث 10 .
5- وسائل الشیعة : الباب 41 من أبواب الحیض، الحدیث 11 .
6- وسائل الشیعة: الباب 41 من أبواب الحیض، الحدیث 13.

ص:218

موسی بن جعفر علیه السلام ، علی افهام أبی یوسف(1) .

حیث أنّ القدر المتیقن منها، هو صوم شهر رمضان، وهو ممّا لا کلام فیه .

ثانیا: مما یجب الاتیان به من الصوم الواجب، ولا علاقة له بالقضاء، هو کلّ صومٍ واجب لم یقیّید وجوبه بوقت خاص، کما لو نذرت صوم یومٍ من أیّام الشهر، أو من أیام السنة، فصادف الحیض، فلا اشکال فی وجوب قضاء ذلک الیوم علیها، بعد طهرها منه، بنفس دلیل الوجوب علیها، ولا حاجة لاثبات قضاءها الی التمسک بدلیل القضاء، لأنّه لم توقتها بوقت خاص حتی یطلق علیه الفوت والقضاء، کما لا یخفی .

ثالثا: الصوم الواجب الموّقت بالأصل لو صادف حیضها، مثل صوم الکفارة لمن نام عن صلاة العشاء، بناء علی القول بوجوبه، فهل یجب علیها قضائها بعد الطهر أم لا؟

فیه وجهان: من ملاحظة إطلاق ما دل علی وجوب قضاء الصوم للحائض _ مثل حدیث ابن راشد _ فیجب.

و من ملاحظة انصرافه الی صوم شهر رمضان _ کما یدل علیه حدیث زرارة وأبی بصیر، خصوصا مع التعلیل فی بعض الأخبار بکونه شهر من السنة فلا یجب . و لکن لا یبعد دعوی صحّة الوجه الاوّل، لأن ذکر التعلیل فی بعض الأخبار غیر وافٍ لتقیید الاطلاقات الدالة علی وجوب القضاء لکلّ صوم واجب.

ودعوی الانصراف الی خصوص شهر رمضان، ربما یکون بدوّیا، لأن منشأه شُهرة صوم شهر رمضان وندرة وجوب الصوم الموقت، خصوصا بالأصل، لو سلّمنا کثرته فی الموقت بالعارض _ کالنذر والعهد والقسم _ فمثل هذا النحو من


1- وسائل الشیعة : الباب 41 من أبواب الحیض، الحدیث 14 .

ص:219

الانصراف بدویٌ، لا یوجب تقیید الاطلاق حتّی یوجب استفادة الحکم منه .

و امّا وجه عدم کفایة التعلیلات للتقیید، لأنّها عللٌ للتشریع لا للحکم، فلا یفید الاطراد هذا اوّلاً.

وثانیا: لو سلّمنا کونها تعلیلات للحکم، لکنها لیست علة منحصرة فی خصوص ما ورد فی روایتی أبی بصیر، من أن الصوم یجب قضائه لانه مختصٌ بفترة زمنیّة قصیرة وهی شهر فی کلّ عام، حتّی ینحصر فیه، لامکان کونها احدی العلل، فله علل شتّی لا ینحصر فی خصوص شهر رمضان، کما یدل علیه ما ورد فی حدیث فضل بن شاذان، عن الرضا علیه السلام قال: «انما صارت الحائض تقضی الصیام، ولا تقضی الصلاة، لعلل شتّی:

منها: أنّ الصیام لا یمنعها من خدمة نفسها وخدمة زوجها، واصلاح بیتها، والقیام بامورها، والاشتغال بمرمة معیشتها، والصلاة تمنعها من ذلک کلّه، لأن الصلاة تکون فی الیوم واللیلة مرارا، فلا تقوی علی ذلک، والصوم لیس هو کذلک.

ومنها: أنّ الصلاة فیها عناءٌ وتعب واشتغال الأرکان، ولیس فی الصوم شی ء من ذلک، وانّما هو الامساک عن الطعام والشراب، فلیس فیه اشتغال الارکان.

ومنها: أنّه لیس من وقت یجیی ء الاّ تجب علیها فیه صلاة جدیدة فی یومها ولیلتها، ولیس الصوم کذلک، لأنه لیس کلما حدث علیها یومٌ وجب الصوم، وکلما حدث وقت الصلاة وجبت علیها الصلاة» الحدیث(1) .

فانّ هذه العلل کما تناسب مع صوم شهر رمضان، تجامع وتناسب من سائر الصیام، فالعلل کما قد تکون مخصصة لحکم لموضوع، فکذلک قد تکون معمّمة، کماتری فی مثل قوله «لا تشرب الخمر لأنّها مسکر» حیثُ یفهم منه أنّ العلّة فی


1- وسائل الشیعة: الباب 41 من أبواب الحیض، الحدیث 8 .

ص:220

تحریمها هو اسکاره، فکلّ مایع کان مسکرا یکون حراما، ولا ینحصر الحکم فی خصوص الخمر، فهکذا یکون فی المقام، لأنّک إذا عرفت الملاک فی وجوب القضاء للصوم فی شهر رمضان، فیعمّ الحکم لکلّ صوم واجب موقّت کصوم شهر رمضان، کما لا یخفی.

هذا کلّه فیما إذا أردنا استفادة وجوب القضاء للصوم الواجب الموقت بالأصل، من لسان الأخبار والنصوص .

و لکن ان شئت تحصیل الحکم من طریق القاعدة الکلّیة _ لولا الاخبار _ فلابد أنْ نبحث عن الاصل أو القاعدة الجاریة فی الواجبات الموقتة بالأصالة، والمقصود منها هی الثابتة من الشارع ابتداءً من دون مدخلیة المکلف فی ایجابه، وإن کان سببها تارة نفس المکلف، لأجل کونه کفّارة لفعله مثلاً.

هذا، بخلاف ما لو کان وجوبه بالنذر والعهد والقَسَم، حیثُ تُسمی مثل هذه الواجبات بالواجبات الموقته عرضا .

و کیف کان، فلابد أنْ نلاحظ أنّ الاصل فی الواجب الموقت بالاصالة، هل هو وجوب القضاء فیما إذا لم یؤدی الواجب فی وقته _ سواء کان عدم اتیانه لأجل عصیان الأمر به أم لا، وسواء کان لأجل عدم ورد الأمر به، أو مع النهی عن فعله فیه، أو عدم وجوب القضاء _ أم لا؟

فان قلنا بالاوّل، فلازمه هو الحکم بوجوب القضاء فی کلّ واجب موقت بالاصالة، إذا لم یأتی به فی وقته، من دون حاجة فی الحکم علی وجوب القضاء من التمسک بالأخبار المطلقة، الدالة علی وجوب قضاء الصوم.

لکن یرد علیه أنّها منصرفة الی صوم شهر رمضان، کما قیل .

فان ثبت هذا الأصل، فلازمه کون هذا الواجب من قبیل تعدد المطلوب، بان کان فعله مطلوبٌ مطلقا وفعله فی وقت ثانٍ مطلوبا آخر، بلا فرق فی احراز هذا

ص:221

التعدد، بان یکون من قبیل نفس الأمر المتعلق بهذا الفعل فی وقته، أو بالأمر الجدید المتعلق بفعله فی خارج الوقت، عند ترکه فی وقته .

هذا، بخلاف ما لو کان الاصل والقاعدة فی الواجبات الموقتة بالاصالة، عدم وجوب القضاء، فلازمه عدم وجوب القضاء، ویکون وجوب الموقت حینئذ من باب وحدة المطلوب، ویحتاج فی اثبات وجوب القضاء فی غیر وقته، من قیام الدلیل الدال علی ذلک .

فاذا عرفت دوران الأمر بین تعیین القاعدة والأصل فی ذلک، فنقول: بأنّ الأصل الأولی فی الواجبات المشروطة _ مهما کان شرطها _ ، هو کون الشرطیة: مطلقة، المقتضی لسقوط المشروط بسقوط شرطه، وانتفائه، فاثبات وجوب القضاء فی الموقتات، یحتاج الی ملاحظة دلالة الاخبار المطلقة علی ذلک .

ولکن قد وقع التشکیک فی دلالتها بوجهین:

الاوّل: دعوی الانصراف الی خصوص صوم شهر رمضان.

وقد عرفت الاشکال فیه، و أنه شکٌ بدوی، لندرة وجود غیره، وکثرة الاستعمال فی صوم شهر رمضان .

الثانی: دعوی منع صدق الفوت فی المقام، إمّا من جهة عدم قابلیة المکلف للتکلیف بالفعل فی الوقت، أو من جهة وجود الحرمة والتکلیف بالعدم، والنهی عن الفعل، فلا تکلیف علیه، حتّی یصدق علیه الفوت .

ولکن یرد علیه: أن اطلاق القول بأنّ (ما فات منها الصوم فی حال الحیض، حتّی بالنسبة الی صوم شهر رمضان)، موجودٌ فی الأخبار والفتاوی، حیث قد ورد فی الأخبار أنّها تقضی الصوم ولا تقضی الصلاة، مع اشتراک صوم شهر رمضان، وصوم غیره فی انتفاء الأمر به والنهی عنه فی حال الحیض، فاذا صحّ اطلاق القضاء علی صوم شهر رمضان، مع وجود تلک الحالة لها، فلا مانع من

ص:222

صدق حکم القضاء لسائر الواجبات الموقتة للصوم، إذا کان قد فات منها حال الحیض .

بل قد یظهر من المحقق الآملی فی «مصباح الهدی»، قوله: «عدم اناطة وجوب القضاء، بصدق الفوت، وأنّ المستفاد من النصوص والفتاوی، هو ترتبه علی ترک الفعل فی وقته، ولو لم یصدق معه الفوت. ثم قال: فالأقوی حینئذ وجوب قضاء الصوم الموقت بالأصل مطلقا»، انتهی محل الحاجة(1).

ولکن نقول: إنّ الفوت لیس الاّ عنوان ترک الفعل فی وقته، فالفوت مع ترک الفعل فی وقته تعبیران لمعنی واحد، والقضاء یترتب علی ذلک، غایة الأمر أنّه لابد أنْ نعلم أنّ کلّ ما یصدق علیه عنوان الفوت، ووجوب القضاء، یحتاج الی دلالة دلیل دال علیه، فان کان بالأوّل فلا اشکال فی وجوب القضاء، والاّ فلا وإنْ صَدق علیه الفوت.

والأقوی عندنا أنّ ظهور کل دلیل یدل علی وجوب شی ء، فی وقت متعین، هو کونه بصورة وحدة المطلوب، واختصاصه بخصوص ذلک الوقت، فی الواجبات الموقتة، فاثبات وجوب القضاء فی خارج الوقت، حتی یصیر وجوبه بصورة تعدد المطلوب، یحتاج الی دلالة دلیل علیه، بنحو العموم أو الخصوص، ومع فقده فلا وجه للقول بوجوب القضاء منه.

فوجوب الصوم لمن نام عن صلاة العشاء فی یومه یعدّ کفارةً _ علی القول بالوجوب _ مخصوص بذلک الیوم، فلو نسی أو جهل وترک صوم ذلک الیوم، فهل یجب علیه صوم یوم آخر بعده _ بلا فصل أو مع الفصل _ أم لا؟ فیه کلامٌ.

الظاهر هو الثانی، لأن ظاهر دلیل الکفارة، کون صوم ذلک الیوم هو الکفارة لا مطلق الصوم، فاطلاق عنوان الکفارة علی اتیان صوم یوم آخر مع الفصل، بحاجة


1- مصباح الهدی: ج5/110 .

ص:223

الی دلیل یثبت ذلک.

نعم، لولا دعوی الظهور العرفی، یکون الأصل عند الشک فی لزوم رعایة الخصوصیة وعدمه، هو البرائة، فلازمه وجوب القضاء علیه، لو لم یکن أصلاً مثبتا، لأنه حکم بلازم الاصل.

ولکن یمکن أنْ یجاب عنه: بأن حکم وجوب القضاء، لیس مستفادا من مفادّ أصل البرائة، بل هو بمقتضی نفی لزوم رعایة الخصوصیة، وبناءً علی مفاد الدلیل الدال علی وجوب الصوم، ومن هنا فمن ترکه، فانه یحکم علیه بوجوب الصوم بمقتضی ذات الدلیل، لکونه من مصادیقه، وهو لیس بأصل مثبت، کما لا یخفی.

اللّهم الاّ أنْ یقال: إنّ دلیل البرائة دلیل امتنانی، وقد ورد فی مورد الامتنان من اللّه سبحانه علی العباد، فلا یمکن التمسک به فی مورد یجعل الکلفة علی المکلف بدل أن یرفعها عنه، کما فی مثل المقام، حیث أنّ لازمه وجوب القضاء علیه، مضافا الی امکان اجراء استصحاب حکم وجوب الصوم، مع زوال القید، لو لم ندع أنّه یکون من قبیل تعدد الموضوع، فلا یصدق وحدة القضیة المتیقنة مع المشکوکة، حتّی یجری فیه الاستصحاب، واللّه العالم.

رابعا: الصوم الموقت بالعارض، کما إذا نذرت الصوم فی یوم من أیّام شهر رجب من هذه السنة، فأخرّت الی آخر الشهر فحاضت فیه، ففی وجوب قضائه علیها احتمالان: من ملاحظة ما یدلّ علی وجوب القضاء لما فات منها فی وقته، حیث یشمل بعمومه المقام، فیقتضی الوجوب.

ومن أنّ مقتضی النذر، تبعیته لقصد الناذر، فاذا کان الناذر قاصدا ایجاد المنذور فی وقت مخصوص، کیوم من أیام شهر رجب، یعدّ ایجاده فی یوم من شهر آخر غیر ما أوجبه علی نفسه، فلا یعمّه حینئذ دلیل وجوب الوفاء بالنذر، ولا عموم ما یدل علی وجوب قضاء الفوائت، ولا خصوص ما یدل علی قضاء ما

ص:224

فات منها من الصیام بسبب الحیض، فالذی فاته هو الوفاء بالنذر فی الوقت المعیّن، وهو غیر قابل للقضاء، وذات الفعل وإنْ کان قابلاً للتدارک، الاّ أنه لم یکن واجبا حتی یجب قضائه، ولهذا تری وجوب کفارة الحنث لو ترکها کذلک عمدا، کما، لا یمکن تدارکه بالقضاء، ولا یتحقق الوفاء باتیان قضائه .

نعم، لو قصد فی نذره ایجاد المنذور فی وقتٍ مخصوص، وأنّه لوفاته یؤدیه فی وقت آخر علی نحو تعدد المطلوب، فحینئذٍ یجب علی الناذر اتیانه بعد الخروج من الحیض، وحینئذ لا یکون الاتیان به بعد خروج الوقت قضاءً، بل یعدّ تسمیته بالقضاء مسامحة، وانّما یعدّ وفاءً بأصل مفاد النذر ولا یصدق الفوت الاّ اذا کان نذره مقیدا بوحدة المطلوب دون أصل الفعل.

وکیف کان، فالأقوی عندنا _ کما علیه المحقق الآملی فی «مصباحه» _ عدم وجوب القضاء فی هذه الصورة، کما فی القسم الاوّل، وهو المطلوب .

خامسا: الخامس ما لو فرض ایجاب الصوم علیها فی الوقت المعین المضیّق بواسطة النذر، ثم عارضها الحیض فی ذلک الوقت، کما ما لو نذرت صوم اوّل یوم من شهر رجب من نفس السنة، فحاضت فی ذلک الیوم.

فلا ینبغی التأمل فی بطلان نذرها، لخروج متعلقه عن القدرة، بواسطة الحیض، ومعلومٌ أنّه لا تردید فی اشتراط اعتبار القدرة علی اتیان متعلق النذر فی صحة الفعل، فبطرو الحیض یستکشف عدم انعقاد النذر، من جهة عدم تعلق وجوب الوفاء بها لفجرها عن ذلک .

سادسا: ما لو نذرت صوم کل خمیس من شهر رجب مثلاً، فصادف بعضه الحیض.

ففی القول ببطلان النذر حینئذ مطلقا، أو صحته مطلقا _ کما عن الشیخ فی «طهارته» علی ما نسبه الیه فی «مصباح الهدی»، أو التفصیل بین الخمیس

ص:225

المصادف بالبطلان، وبین غیره بالصحة، أو التفصیل بین ما کان النذر فی کل خمیس علی نحو وحدة المطلوب، وبین ما کان علی نحو تعدد المطلوب، کما لوکان الناذر قد نذر اتیان صوم خمیسٍ ما، مستقلاً عن الأمر فی متعلقه؟

وجوه، أقواها الأخیر عند المحقق الآملی قدس سره .

و لکن الأقوی عندنا، أنه علی فرض تعدد المطلوب یعدّ نذرها باطلاً، لعدم قدرتها علی الامتثال، ومعلومٌ ان من شرائط صحة النذر القدرة، فالتفصیل بین وحدة المطلوب وبین تعدده فی البطلان والصحة، إنّما یفید بالنسبة الی التی لم تصادف حدوث الحیض منها فی یوم الخمیس، وامّا التی یحدث لها ذلک فان نذرها یعدّ باطلاً مطلقا.

اللّهم الاّ أنْ یقال، إنّ المراد من تعدّد المطلوب، هو وجوب الصوم علیها مطلقا، حتی فی غیر یوم الخمیس، بحیث یکون قید اتیانها فی ذلک الیوم بأمر آخر، فالبطلان إنّما یکون بلحاظ القید، وهو الوقت، دون أصل الفعل، فحینئذ لا یکون قید یوم الخمیس تقییدا، بل یکون من قبیل وجوب شی ء فی واجب آخر وذلک بنحو القضیة الحینیّة، بحیث لو عجزت عن احضار الواجب فی فرد مّا، فان ذلک لا یوجب عدم وجوب فرد آخر من الصوم علیها فی یوم آخر، کما لا یخفی.

ومن هنا یمکن القول بأن للقول الأخیر وجه وجیه. هذا تمام الکلام فی وجوب قضاء صوم الحائض وعدمه . بقی أن نتعرض لحکم الصلاة، بالنسبة الی الحائض، من حیث وجوب القضاء علیها وعدمه.

فنقول: لا اشکال فی دفع حکم وجوب الفرائض عن الحائض، وذلک لصراحه الاخبار الواردة فی رفع التکلیف عنها فی فترة حیضها.

والذی ینبغی أنْ یبحث عنه، هو الصلوات الموقتة غیر الیومیة، کصلاة الکسوفین، ففی وجوب قضائها علیه وجهان: من اطلاق بعض الأخبار، الدالة علی عدم وجوب قضاء الصلاة علیها مطلقا، الشاملة باطلاقها لغیر الیومیة أیضا.

ص:226

الثامن: یستحب أن تتوضأ فی وقت کلّ صلاة ، وتجلس فی مصلاّها بمقدار زمان صلاتها ، ذاکرة للّه تعالی (1).

ومن انصرافها الی الیومیة، خصوصا مع ملاحظة تأییدها بالأخبار المعلّلة، حیث لا تجری هذه التعلیلات فی غیر الیومیة.

ومع دعوی «جامع المقاصد» علی المحکی عنه فی «مصباح الهدی» من الاتفاق علی وجوب قضاء الصلاة الموقتة المنذورة، نسب صاحب «الجواهر» عدم وجوب القضاء فی الموقتة من الصلاة من الیومیّة وغیرها الی «البیان» و«جامع المقاصد» و«الروض» و«المدارک».

وکیف کان، فالأحوط _ بل الاقوی _ وجوب القضاء علیها فی الکسوفین من الآیات، لو لم تدرک أداءهما فی حال الطهر، والاّ فانّه لا اشکال فی وجوب القضاء علیها بعد الانجلاء.

وامّا فی مثل صلاة الزلزلة، أو سائر الآیات من المخوفات السماویة، فلا اشکال فی وجوب اداء الصلاة علیها بعد الطهر، بل اطلاق القضاء فی مثل هذه یعدّ ضربا من المسامحة، لعدم کونها من المؤقتات لکی یصدق علیها القضاء، بل یکون حالها کحال صلاة الطواف، فاطلاق القضاء علیها _ کما فی کلام السیّد فی «العروة» _ لا یخلو عن مسامحة .

و امّا الکلام فی الصلوات الواجبة بالنذر، کالکلام فی الصوم الواجب بالنذر فی الاقسام المتقدمة وأحکامها، فلا حاجة الی التکرار، فلیراجع.

(1) هذه العبارة من المصنف مشتملة علی عدة امور، وهی:

الأمر الاوّل: فی استحباب الوضوء للحائض، کما هو مختار المصنف، بل هو المشهور شهرةً کادت تبلغ الاجماع، بل فی «الخلاف» التصریح بالاجماع علیه،

ص:227

بل عساه قد یظهر ذلک من غیره، کما قد صرّح به صاحب «الجواهر» قدس سره المؤید هذه الدعوی بالأصل، مع عموم البلوی به _ یعنی هذا الامر _ بما یعمّ به البلوی، فلو کان ذلک واجبا من صدر الاسلام، لبان لنا وبلغنا أظهر من ذلک، أی لو کان الوضوء واجبا علی الائمة علیهم السلام عند بیان حکم الحائض من بیان ذلک، أی الوجوب، وحیث لم یشیروا الی هذا الحکم صراحةً، بل غایته ظهور بعض الأخبار المعارض بما ینافیه من الشهرة والاجماع، حیث لم یطمئن الفقیه بوجوب الوضوء علیها .

ما یستحب علی الحائض

نعم، قد صرّح بالوجوب الصدوقان کما فی «مصباح الهدی»، وإنْ کان الظاهر من کلام صاحب «الجواهر» کون القائل بالوجوب خصوص والد الصدوق، حیث قال: فما نقله الصدوق عن والده... الی آخره).

ولعلّ وجه کلامهما هو ملاحظة دلالة بعض الأخبار علیه:

منها: صحیحة زرارة عن الباقر علیه السلام ، قال: «وعلیها أنْ تتوضأ وضوء الصلاة» الحدیث(1). من جهة ظهور لفظ (علیها) علی الوجوب، کما فی غیر المقام.

ومنها: صراحة الخبر المنقول فی «فقه الرضا» علیه السلام ، حیث قال: «ویجب علیها عند حضور کلّ صلاة أنْ تتوضأ وضوء الصلاة» الحدیث(2)

مضافا الی امکان استفادة الوجوب من جملة المضارع فی روایة معاویة بن عمّار، عن الصادق علیه السلام ؛ قال:«تتوضأ المرأة الحائض إذا أرادت أنْ تأکل، وإذا کان وقت الصلاة توضأت» الحدیث(3) اذا فرضنا صحة اتیان جملة المضارع علی حکم بعد الأکل، وهو الوضوء لکلّ صلاة.


1- وسائل الشیعة: الباب 40 من أبواب الحیض، الحدیث 2 .
2- المستدرک الباب 29 من ابواب الحیض الحدیث 2 .
3- وسائل الشیعة: الباب 40 من أبواب الحیض، الحدیث 5 .

ص:228

لکنه مشکل، نعم، یصح ذلک فی مثل حسنة محمد بن مسلم، حیث قال: «أمّا الطُّهر فلا، ولکنها تتوضأ وقت الصلاة واستقبلت» الحدیث(1) .

لکنهم حملوا تلک الأخبار علی الاستحباب.

وکلام ابن بابویه عن الوجوب یُحمل علی تاکّد الاستحباب، أو الثبوت، بدعوی أنّهما یعبّران کثیرا عن المستحب بالوجوب، تبعا للأخبار.

وکذا یحمل علیه فیما جاء فی کلام الکلینی فی «الکافی» حیث عنون الباب فیه بقوله: «ممّا یجب علی الحائض»، والسرّ فی ذلک وجود بعض الأخبار الدالة علی الاستحباب، مثل کلمة (ینبغی) الواقعة فی روایة زید الشّحام، قال: «سمعتُ أبا عبداللّه علیه السلام یقول: ینبغی للحائض أنْ تتوضأ عند کلّ وقت کل صلاة» الحدیث(2). الظاهرة فی الاستحباب.

مع وجود امکان هذا الحمل فی غیر روایة «فقه الرضا» أی علی الاستحباب، اذ فی مثل روایة «فقه الرضا» وحدها غیر قابلة للاستدلال علی الفتوی، لعدم امکان الاطمینان بکونه کلام المعصوم علیه السلام ، لامکان کونه مستفادا أو مستنبطا عنه، فلا یمکن رفع الید عن ظاهر بعض الأخبار بواسطته، وإنْ کان یصحّ التمسک به تأییدا، کما اشرنا الیه فی محلّه .

مع أنّه یمکن أنْ یکون السبب فی تعبیره الوجوب، هو الحمل علی الندب، لأجل کونه واردا مورد توهم الخطر، کما یظهر من حسنة محمّد بن مسلم، حیث قال الامام علیه السلام : «وأمّا الطُّهر فلا» عقیب سؤال الراوی عن الحائض تطهر یوم الجمعة ولا تذکر اللّه. مضافا الی ما عرفت من أنّه لو کان واجبا، لاشتهر ذلک


1- وسائل الشیعة: الباب 40 من أبواب الحیض، الحدیث 4 .
2- وسائل الشیعة: الباب 40 من أبواب الحیض، الحدیث 3 .

ص:229

وذاع، وذلک لکثرة الابتلاء به وحیث ترد الیه الاشارة فی أخبار الائمة علیهم السلام لم یفهم کونه أمرا مندوبا، خصوصا مع وجود الشهرة والاجماع یطمئن الفقیه بالاستحباب، کما هو واضح .

الأمرالثانی: المستفاد من ظاهر خبری زید الشحام وزرارة، بقولهما: «تتوضأ وضوء الصلاة عند وقت کلّ صلاة»، هو عدم الاکتفاء بوضوء واحد للظهر والعصر، وکذا المغرب والعشاء، وان لم تصدر منها ما ینقضه.

اللّهم الا أنْ یقال باندراج مثل ذلک تحتهما، ولعلّ مراد صاحب «الجواهر» من هذه العبارة، هو کفایة وضوء واحد لهما، لاندراج العصر بوقته والعشاء بوقته فی وقت الظهر والمغرب، بأن یصیر وقتهما فی الظهر والعصر وفی المغرب والعشاء واحدا، خصوصا مع وجود بعض الأخبار _ غیر الخبرین السابقین _ التی ورد فیها اطلاق الوضوء فی وقت الصلاة، من دون ذکر الاستغراق، من قوله: «لکلّ وقت من الصلاة». نعم لا تردید فی تکرر الوضوء مع وجود الاختلاف فی الوقت کالصبح والظهر مثلاً .

و لکن الذی یظهر من المحقق الهمدانی، هو التأملّ فیه، فانه رحمه الله بعد أن نقل عدم کفایة وضوء واحد للجلوس مقدار صلاتین، وإنْ لم یتخلل بینهما حدث، بل وان جمعت بینهما فی مجلس واحد، قال : «وهذا لا یخلو عن تأمل، لأنّ المتبادر من الوضوء لیس الاّ الماهیة المعهودة المؤثرة فی رفع الحدث، علی تقدیر صلاحیة المحل، یُفهم من أمر الحائض بایجاده، أنّه یؤثر أثرا لا ینافیه حدث الحیض، کخفّة الحدث، أو ارتفاع الأصغر، أو التمرین، أو غیر ذلک، فیکون الأمر به لأجل کونه مسببا لحصول ذلک الأثر، لا التعبد المحض، ولذا لا نشک فی عدم الاعتداد بوضوئها لو بالت عقیبه قبل أنْ جلست مصلاّها، فمتی حصل ذلک الأثر، یجوز الاتیان بغایته، وهی الجلوس فی مصلاّها، ذاکرة اللّه تعالی.

ص:230

وکون حدث الحیض بنفسه رافعا لذلک الأثر غیر معلوم، بل المنساق الی الذهن من أمر الحائض بالوضوء والذکر فی وقت کلّ صلاة، جریها علی ما کانت علیه فی حال طهارتها، عدا تبدیل صلاتها بالذکر، واللّه العالم» .

و هذا التوجیه حسنٌ جدّا، خصوصا مع ملاحظة الاطلاق فی روایة معاویة من قوله علیه السلام «واذا کان وقت الصلاة توضأت»، وکذا فی روایة محمد بن مسلم.

أو ینزّل الاستغراق علی ما کان المتبادر المعروف فی تلک الأعصار، تبعا للعنایة بالفصل بین الصلاتین، من حیث الزمان من الظهر و العصر والمغرب والعشاء، حیث لا یبعد القول باستحباب تکرار الوضوء مع ذلک الفصل، بخلاف ما لو جمعت فی مجلس واحد، حیث یکتفی بوضوء واحد.

هذا، بناءا علی أنْ یکون الملاک فی التکرار وتجدید الوضوء هو الفصل الزمانی فیه، لا حدوث الحیض فی البین وعدمه، کماتری دعوی القطع بالتکرار بین الصبح والظهر.

وبناءً علی هذا یمکن دعوی عدم استحباب التکرار، حتّی مع الجمع بین المغرب والعشاء مع الظهر والعصر، لعدم الفصل الزمانی بینها.

لکنه لا یخلو عن تأمل، کما کان کذلک فیما اذا جمعت بین الصبح والظهر والعصر، إذا اردت جبران ما ترکته فی الصبح من الجلوس فی المصلی، إنْ قلنا بجواز تدارکه فی غیر وقته، لعدم احراز کون الملاک هو الوحدة فی الزمان، خصوصا إذا فرضنا عدم حدوث دم الحیض وغیره بین هذین الزمانین، فلا یکون الحکم بالتجدّد الاّ حکما تعبدیا محضا، کما لا یخفی علی المتأمل، کما کان الأمر کذلک بین الصبح والظهر، حتّی مع عدم تحقق الحدث منها شیئا، کما لا یخفی .

الأمر الثالث: فی أنّ مثل هذا الوضوء هل ینتقض بالنواقض المعهودة غیر الحیض الی حین الفراغ من الذکر أم لا ینتقض؟

ص:231

ففی «الجواهر»: «وجهان ینشئان: من اطلاق أو عموم ما دل علی ناقضیتها. ومن ظهورها فی الوضوء الرافع دون غیره.

ولعل الأقوی الأوّل، سیّما إنْ قلنا إنّ فیه نوعا من الرفع، اذ رفع کل وضوء بحسب حاله، فهو رافعٌ لحکم الحدث بالنسبة الی هذا الذکر، بل حدث الحیض، فضلاً عن غیره، ولا ینافیه دوامه کما فی المسلوس، فتأمّل»، انتهی(1) .

قلنا: إنّ الظاهر من الأمر الوارد فی الأخبار باستحباب الطهارة للحائض، کون المراد هو الوضوء الرافع المعهود الشرعی، نظیر الأمر بالوضوء للجنب لأجل الاکل والنوم، حیث یرفع الحدث بالنسبة الی تلک الغایة، لا مطلقا، هکذا یکون هنا فی ان هذا الوضوء اثناء الحیض یعدّ رافعا للحدث الأصغر بالنسبة الی تلک الغایة، وهو الجلوس فی المصلی للذکر والتسبیح، فنواقضه لیست الا نواقض سائر الوضوءات الاّ الحیض، حیث أنها لیست هنا ناقضة کالمسلوس والمبطون، فلیس الوضوء هنا تمرینی ولا لتخفیف الحدث فقط من غیر رفع، بل هو وضوء رافع مثل سائر الوضوءات الشرعیّة، ونواقضه کنواقضها بلا فرق بینهما .

الأمر الرابع: فی أنّ المستحب لها بعد الوضوء هل هو حینما تقصد الجلوس فی مصلاّها الخاص، لو کان لها مصلی _ کما عن «المبسوط» و«الخلاف» و«الوسیلة» و«الجامع» و«النافع» وغیرها _ أو فی خصوص غیر مصلاّها _ کما عن «المقنعة» _ أو _ کما عن «المعتبر» و«المنتهی» _ ؟

وجوهٌ وأقوال، والأقوی هو الاخیر.

ولعلّ ذکر المصلی فی کلمات البعض کالمصنف، کان لأجل أنّ المتعارف ان المرأة تجلس فی مصلاّها غالبا، إذا کان لها ذلک، وهو أمر طبیعی، فتکون الاخبار


1- جواهر الکلام:3/254 .

ص:232

اشارة الی ما هو المتعارف خارجا، لا لاجل الخصوصیة فیه، حتّی یکون من المندوبات، و من أجل ذلک تری الأطلاق فی الأخبار، بل قد ادّعی صاحب «الجواهر» إنّه لم یقف علی ما یدل علی الاول، سوی دلیل التسامح فی ادلة السنن، وهو یقتضی الاطلاق، حیث لم یثبت الاستحباب فی خصوص المصلی، وإنْ کان هو الأولی، لأجل التناسب بین الحکم والموضوع، ولکنه لا یوجب الحکم بالاختصاص .

بل قد نذهب الی تأیید الوجه الثانی _ ای الجلوس فی غیر مصلاها _ بدلالة الخبر الذی رواه الحلبی، عن الصادق علیه السلام ، قال: «وکن نساء النبی صلی الله علیه و آله لا یقضین الصلاة اذا حضن، ولکن یتمشین حین یدخل وقت الصلاة، ویتوضین، ثم یجلسن قریبا من المسجد، فیذکرن اللّه عزّ وجلّ»(1) .

بتقریب أنْ یقال: انْ یکون المراد من بالمسجد مصلاّها المعهودة، فیدل علی کون جلوسهن فی غیر مصلاّهن.

واحتمل فی «الجواهر» کون المراد بالمسجد فیها، هو محل السجود، فیکون القریب إنّما هو المصلی، أی محل الجلوس للصلاة.

وفی «مصباح الهدی»: ولا یخفی ما فیه من الُبعد، کما أمر قدس سره بالتأمّل فیه.

الاّ أنّه احتمل صاحب «المصباح» کون المراد من المسجد هو مسجد الرسول صلی الله علیه و آله ، فکان جلوسهن قریبا منه، لأجل عدم جواز دخولهن فیه، وهذا هو الاقرب، لکنه لا یوجب الحکم باختصاص الاستحباب فیه، فالاولی هو القول بالاطلاق، وهو العمل بالوظیفة، من الجلوس للذکر بمقدار الصلاة، سواء جلست فی مصلاها أو فی غیرها، وانْ کان الأول أولی.


1- وسائل الشیعة: الباب 40 من أبواب الحیض، الحدیث 1 .

ص:233

کما أنّ القول باستحباب الجلوس فی مکان طاهر من المصلی أو غیره، غیر بعید، لما قد ورد ذلک القید فی صحیحة زرارة، حیث قال: «ثم تقعد فی مکان طاهر، فتذکر اللّه»، کما قد أفتی بذلک صاحب «نجاة العباد».

الأمر الخامس: فی أنّه هل المستحب لها هو الجلوس بمقدار زمان صلاتها أم لا؟

وهذا مما لا خلاف فیه، لماتری من التصریح بذلک فی خبری زرارة وزید الشَّحام، وهو مما لا کلام فیه.

والذی ینبغی أنْ یبحث فیه، بیان المقدار المعتبر من الزمان، هل المعتبر الفترة التی قضاها فی اداء الصلاة السابقة علی الحیض، أو ملاحظة الفترة الزمنیّة للصلاة المتعارفة؟ وتظهر ثمرة هذا البحث فیما لو بین القصر والتمام، ففی «الجواهر»: ولعلّ الأقوی، ملاحظة التمام علی کلّ حال، لانصراف الاطلاق بالنسبة الیه، سیّما بالنسبة الی النساء .

و لکن الأقوی عندنا هو الثانی، وذلک لأن الوارد فی خبر زرارة نسبة مقدار الجلوس الی صلاتها، خصوصا مع قوله بعدها: «ثم تفرغ لحاجتها»، حیث تفید کون المدة للجلوس ملحوظة بمقدار ما یقتضی حالها لو لم تکن حائضا من القصر والاتمام، کما لا یخفی .

الأمر السادس: والظاهر من کثیر من الأخبار هو استحباب مطلق الذکر، سواء کان من التسبیح أو التهلیل أو التکبیر أو التحمید أو غیرها مما تعدّ ذکرا للّه سبحانه وتعالی مثل الاستغفار والصَّلاة علی النبیّ وآله لو قلنا بانه یطلق علیه الذکر _ فیحمل ما یدل علی التسبیح والتهلیل والتحمید، الواردة فی بعض الأخبار مثل خبر زرارة، أو ما فی روایة معاویة من التهلیل والتکبیر وتلاوة کتاب اللّه علی المثال، لا علی الاختصاص، علی ما هو المعروف بین الفقهاء، من عدم تقییدالمطلق والمقیید إذا کانا مندوبین ومثبتین.

ص:234

فدعوی الاختصاص، کما یوهم عبارة بعض، مما لا یمکن المساعدة علیه.

کما أنّ الحاق الاستغفار والصَّلاة علی النبیّ بالذکر لیس مبنیا علی وجود دلیل بالخصوص علیه، بل لأجل امکان دعوی شمول مطلق الذکر لهما، وهو غیر بعید.

فما فی «النفلیّة» دعواه، وقبله المحقق الآملی، لا یخلو عن وجاهة .

کما أنّ الدلیل الوارد فی جواز تلاوة القران هنا، یوجب کونه مخصصا، لما دلّ الدلیل علی کراهیتها علی الحائض، فیوجب اثبات استحبابه فی خصوص الجلوس فی المُصلّی للذکر لا مطلقا، ولأجل ذلک قد صدرها الفتوی من أصحابنا بالجواز بلا کراهة، کما نسب الیه صاحب «مصباح الهدی» .

و احتمال کون المراد من التسبیح هنا، هو التسبیحات الأربع المستحبة فی الصلاة، لکونها واقعة عوض بعض الرکعات فی المقصورة، فلا یبعد کونها کذلک بما للکل هنا _ کما فی «الجواهر» _ .

توجیه حسن، لکنه من قبیل ذکر المناسبات بعد الدلیل، والاّ لا یمکن جعل مثل هذه الاستحسانات دلیلاً علی الحکم، خصوصا بعد ملاحظة الجواز لمطلق الذکر، کما ورد فی بعض الاخبار .

الأمر السابع: المستفاد من بعض الأخبار _ کالمروی عن «دعائم الاسلام» وخبر معاویة بن عمّار، ومحمّد بن مسلم، وزید الشحام _ هو استحباب الاستقبال حال الجلوس للذکر، وإنْ لم یذکره المصنف قدس سره ، کالتحشی بالکرسف الوارد فی حدیث الحلبی، حیث لم یدل الاّ علی حکایة ما کانت تفعلها النساء، بل لعلّه طریق وارشاد لکیفیة الاجتناب عن النجاسة والدم والتلوث، فلا یستفاد منه الاستحباب مطلقا، حتّی للتی لا تخاف ذلک لأجل علمها بانقطاعها فی فترة غالبا بما لا تخرجها عن الحیضیة، کما لا یفهم الشرطیة علی فرض اثبات الاستحباب فیه.

وکیف کان، فالقول بالاستحباب فی الاوّل _ کما نص علیه بعض الأصحاب _

ص:235

لا یخلو عن قوّة، وانْ کان استحبابه من قبیل المستحب فی المستحب لا الشرطیّة.

بل وکذا فی الثانی، لأجل الخبر المروی فی «دعائم الاسلام» المتوجه فیه الخطاب الی نسائهم، فالقول بالاستحباب مع ملاحظة قاعدة التسامح فی ادلة السنن غیر بعید .

الأمر الثامن: لو قلنا بعدم اجتزاء غُسل المندوب عن الوضوء، حتّی فی مثل غُسل الجمعة، فلا أقل ینبغی القول فی عدم قیامه مقامه، فالذی ینبغی أن یلاحظ، هو ما لو قلنا بالاجتزاء _ کما علیه بعض الأصحاب _ ففی جواز قیامه مقامه وعدمه احتمالان، والأقوی هو الثانی، کما علیه صاحب «الجواهر» قدس سره ، وصاحب «مصباح الفقیه»، وذلک لظهور الدلیل الدال علی قیام الوضوءات المتعارفة مقام الرافع للحدث والمبیح للصلاة، لا مثل هذا الوضوء الذی لا یرفع حدثا الاّ بالنسبة الی خصوص الذکر، وقد عرفت الاشکال عن بعض فی رافعیته.

ولو سلّم وقبلنا کونه رافعا کبقیة الوضوءات، لکنه لا یوجب تسریة الحکم حتّی بالنسبة الی ما هو بدله کالغسل، فان سلمنا اطلاق ادلة البدلیة، لکنه منصرف عن مثل هذا الوضوء، ولأجل ذلک لا یصح أن ینوی رفع الحدث أو الاستباحة، الاّ أن یأتی به ناویا القربة المحضة، أو رفع الحدث بالنسبة الی خصوص الذکر، إذ اتیانه مع الوضوء یعدّ أفضل، لأنه من الفرد الکامل، بأن یکون اشتراط کماله منوطا بالوضوء، وهو غیر بعید، ومثله لا ینافی مع دوام الحدث، کما لا یخفی .

الأمر التاسع: فی أنه هل یقوم التیمم مقام الوضوء، عند عدم تمکنها من استعمال الماء أم لا؟

وجهان بل قولان: ففی «الجواهر» قال: «إنّه لم نعثر علی قائل بالأول هنا، ونصّ فی «التحریر» و«المنتهی» و«جامع المقاصد» و«المدارک» علی الثانی، لأنّ التیمم طهارة اضطراریة، ولا اضطرار هنا. نعم نُقل عن «نهایة الأحکام» انه

ص:236

استشکل» انتهی (1).

ولکن الأوجه عندنا هو الجواز، لأن الاضطرار هنا أیضا بالنسبة الی ما هو المقصود هنا، مع امکان استفادة الجواز، ممّا یدلّ علی تنزیل التراب منزلة الماء، کما علیه صاحب «الجواهر».

بل قال هو ظاهر «جامع المقاصد» _ أو صریحه _ اختیاره فی مبحث الغایات، بل هو مختار المحقق الآملی فی «مصباحه» . و منه یظهر جواز قیام التیمم بدل الأغسال المندوبة ونحوها، لما عرفت من الدلیل .

الأمر العاشر: فی أنّه هل یستحب الوضوء والجلوس والذکر لغیر الفرائض الیومیة، مثل صلاة الآیات والرواتب وسائر النوافل اذا صادفت مع حیضها أم لا؟

فیه وجهان: ولا یبعد القول بالأوّل، لاطلاق بعض الأخبار باستحباب الوضوء علیها والجلوس للذکر عند وقت کلّ صلاة.

ودعوی انصرافه الی الفرائض من الصلوات الیومیة بدوی، خصوصا إذا لوحظ کون المرأة مما کانت معتادة علی اداء النوافل، فأیّ مانع من القول بکفایة هذا الوضوء و الجلوس والذکر لاداء الفریضة ونافلتها السابقة علیها أو المتاخرة عنها، وهکذا بالنسبة الی کلّ صلاةٍ _ لولا حیضها _ کانت علیها واجبة أو مندوبة.

وإنْ أبیت عن القول بالاستحباب، فلا أقلّ من القول بالاتیان بقصد الرجاء والمطلوبیّة واللّه العالم .

الأمر الحادی عشر: البحث فی لزوم أن یکون الجلوس والذکر بعد الوضوء والتیمم مباشرة فی دون أن یقع بینهما فصلٌ عرفا، وذلک لأجل ملاحظة سیاق الحدیث، من ذکر هذه الامور عقیب الوضوء.


1- الجواهر:3/256 .

ص:237

ویکره لها الخضاب (1).

نعم لا یمکن استفادة شرطیة ذلک، بل غایة ذلک کونه أولی، کما اختاره السیّد رحمه الله فی «العروة»، بلا فرق فی ذلک بین تخلل حدث الحیض بینه وعدمه، وذلک للاطلاق فی الأدلة .

(1) و هو مذهب علمائنا أجمع، کما فی «المعتبر» و«المنتهی»، ووجه ذلک کونه مقتضی الجمع بین الطائفتین من الأخبار، طائفة آمرة بالنهی عنه، مثل روایة عامر بن جذاعة، عن أبی عبداللّه علیه السلام ، قال: «سمعته یقول: لا تختضب الحائض ولا الجنب»(1) . و روایة أبی جمیلة، عن أبی الحسن موسی علیه السلام ، قال: «لا تختضب الحائض»(2).

فان مقتضی ظهور النهی هو التحریم، ولم یعلّل بما یوجب دلالته علی الکراهة، فلا یبقی وجه لحملهما علیها الاّ الجمع، بملاحظة ما یدل علی الترخیص، کما سنشیر الیه، بخلاف ما سنشیر الیه مما یدل علی النهی المشتمل علی التعلیل، المستلزم کونه قرینة علی ذلک الحمل، مثل ما فی موثقة أبی بصیر، عن أبی عبداللّه علیه السلام ، قال: «هل تختضب الحائض؟ قال: لا، یخاف علیها الشیطان عند ذلک»(3) .

فی کراهة الخضاب علی الحائض

و مثله روایة أبی بکر الحضرمی، عنه علیه السلام : قال: «لا، لأنّه یخاف علیها الشیطان»(4) . و عن المفید فی «المقنعة» تعلیل الکراهة بمنع وصول الماء، لکن


1- وسائل الشیعة: الباب 42 من أبواب الحیض، الحدیث 7 .
2- وسائل الشیعة: الباب 42 من أبواب الحیض، الحدیث 8.
3- وسائل الشیعة: الباب 42 من أبواب الحیض، الحدیث 4 .
4- وسائل الشیعة: الباب 42 من أبواب الحیض، الحدیث 3 .

ص:238

ردّ علیه العلاّمة فی «الذکری» بانه یقتضی المنع لا الکراهة. واجیب عنه کما فی «المعتبر» و«الجواهر»: بأنه لا یرید المنع التام من وصول الماء.

هذا ما ذکره صاحب «مصباح الهدی» .

و لعل وجه الکراهة _ واللّه العالم _ هو صدق الزینة علی فعلها الخضاب، الموجب لرغبة الزوج فی المقاربة معها، کما یوحی الیه قوله علیه السلام : «فیخاف علیها الشیطان»، أی الوقوع فی الحرام، وهو الجماع فی هذه الحالة، کما کان الأمر کذلک بالنسبة الی الزوج من جهة زوجیتها.

ولا یقال: ربما لا تکون قد تزوجت بعدُ.

لأنا نقول: بأنّ الأحکام محمولة علی ما هو المجعول عند الشرع، من تعجیل الزواج وکونه غالبا کذلک، فکأنّ الشارع قد أخذ جانب الاحتیاط و لم یترک الأمر والحکم بید المکلف، نظیر العدّة فی الطلاق.

ولیکن علی ذُکرٍ منک بانّه فی مثل هذه الامور یجب ملاحظة الحکم الشرعی دون البحث والفحص عن العلل و الاسباب الظنیّة فان ملاکات الاحکام وعللها بعیدة عن عقولنا .

و کیف کان، فانه مع ملاحظة هذه النواهی، وودود الدلیل الدال علی الترخیص، فانّه یوجب الحمل علی الکراهة والدلیل الدال علی الرخصة مثل خبر محمّد بن سهل بن الیسع، عن أبیه، قال: «سألتُ أبا الحسن علیه السلام عن المرأة تختضب، وهی حائض؟ قال: لا باس»(1) .

و روایة علی بن أبی حمزة، قال: «قلتُ لأبی ابراهیم علیه السلام : تختضب المرأة وهی طامث؟ فقال: نعم»(2) .


1- وسائل الشیعة: الباب 42 من أبواب الحیض، الحدیث 1 .
2- وسائل الشیعة: الباب 42 من أبواب الحیض، الحدیث 2 .

ص:239

و روایة أبی المعزا (عن علیّ) عن العبد الصالح علیه السلام ، فی حدیثٍ قال: «قلت: المرأة تختضب وهی حائض؟ قال: لا لیس به بأس»(1) .

و روایة سماعة، قال: «سألتُ العبد الصالح علیه السلام عن الجنب والحائض أیختضبان؟ قال: لا بأس»(2) .

فالقول بالکراهة ثابتٌ .

والظاهر کون المراد من الخضاب، هو مطلق ما یصدق علیه الخضاب، سواء کان بالحناء وغیره، کما أنّ الاطلاق یقتضی کون مورد الکراهة هو الید والرجل أو الشعر، فدعوی اختصاص الکراهة بخصوص الید والرجل لا لشعورهن _ کما فی «المقنعة» _ أو الاختصاص بالحناء دون غیره _ کما هو المنقول عن «المراسم» _ مما لا یمکن الالتزام به، وان کان مورد المتقین والمتبادر من النص والفتوی هو ما ذکراه، ولکنه لا یوجب اخراج غیرهما عن الحکم، لأجل التسامح، کما لا یخفی .


1- وسائل الشیعة: الباب 42 من أبواب الحیض، الحدیث 5 .
2- وسائل الشیعة: الباب 42 من أبواب الحیض، الحدیث 6 .

ص:240

الفصل الثالث : فی الاستحاضة

وهو یشتمل علی أقسامها وأحکامها :

أمّا الاوّل : فدم الاستحاضة....(1)

(1) اعلم أنّ الاستحاضة فی الأصل استفعال من الحیض، ففی «الحدائق» و«الجوهر»: «یقال استحیض المرأة، أی استمر بها الدم بعد ایّامها، فهی مستحاضة کما فی «الصحاح» للجوهری وهذا ظاهرٌ ویفید أن بناء المعلوم غیر مسموع».

ولکن فی «مصباح الهدی» قال: ولکنک ستسمع فی مرسلة یونس الطویلة، استعمال ماضیه بالبناء للفاعل.

فی الاستحاضة / أوصافها و علائمها

و لعله أراد مرسلة یونس الواردة فی الباب 12 من أبواب الحیض فی «الوسائل»وفیها: «وإنْ تمّ لها ثلاثة، فهو من الحیض، وهو أدنی الحیض، ولم یجب علیها القضاء، ولا یکون الطهر أقل من عشرة أیّام، فاذا حاضت المرأة، وکان حیضها خمسة، ثم انقطع الدم، اغتسلت وصلَّت» الحدیث .

و هو کما تری وتشهد أنّه استعمل الماضی بقوله: «حاضت المرأة» للدلالة علی الحیض لا الاستحاضة التی کانت هی المقصود من کلامهما.

وأمّا بالنسبة الی الاستحاضة، فانه لا یستفاد الاّ البناء للمفعول، حتّی فی هذا الحدیث، فلاحظ ذیله بعد ذلک، بقوله: «فإنْ رأت الدم من أول ما رأته الثانی الذی رأته تمام العشرة أیّام، ودام علیها، عدّت من أول ما رأت الدم الاول والثانی عشرة أیّام، ثم هی مستحاضة، تعمل ما تعمله المستحاضة» الحدیث .

و لعل وجه الفرق والاختلاف بین الحیض والاستحاضة هو کون الغالب فی دم

ص:241

الحیض بالحدوث والبناء للفاعل، والمعلوم من الاستحاضة الاستمرار والدوام، المناسب مع بناء المفعول والمجهول، و لذلک یطلق علی المرأة المبتلی بالحیض کلمة الحائض، والمبتلی بالاستحاضة کلمة المستحاضة، وهکذا یکون الأمر فی الاخبار أیضا .

و کیف کان، فانّ الثابت أنّ المستحاضة هی التی تسیل دمها لا من الحیض بل من عروق العاذل _ کما فی «القاموس» _ .

وعن الشیخ الأعظم فی «طهارته»، قال: «وظاهر غیر واحد من أهل الّلغة منهم الزمخشری والفیروزآبادی، أنّ الاستحاضة تخرج من عرقٍ یقال له العاذل. قال فی «الفائق»: کأنّ تسمیة ذلک العرق بالعاذل، لأنّه سبب لعذل المرأة، أی ملامتها عند زوجها»، انتهی(1) .

ثم قوله قدس سره : «فدم الاستحاضة»، یدل علی أنّ اطلاق الاستحاضة علی الدم یکون مجازا، ثم صار حقیقة اصطلاحیة عند الفقهاء .

ثم تعرّض المصنّف لذکر علامتها الغالبة _ کما اشار الیه فی المتن _ بقوله: «إنّ دمها فی الأغلب أصفرٌ بارد رقیق یخرج بفتور».

وهذه العبارة أی قوله: «والأغلب» قد وردت فی کثیر من کلمات الأصحاب، مثل «النافع» و«التحریر» و«المنتهی» و«القواعد» و«اللمعة» و«الروضة» و«البیان» و«الدروس» وغیرها، وإنْ اقتصر بعض الاصحاب بالنسبة الی العلامات بذکر الأولین منها کما فی «المصباح» و«الذکری» وظاهر «المعتبر»، وعلی الثلاثة الاوّل منها، کما فی «الوسیلة» و«النافع» و«المنتهی»، وعن «التبیان» و«روض الجنان» و«المراسم» و«الغنیة» و«المهذّب»


1- کتاب الطهارة: ص 243 .

ص:242

و«الکافی» و«الاصباح». وعلی الأربعة کما فی «القواعد» و«التحریر» و«البیان» و«اللمعة» و«الروضة» وغیرها،وغیر ذلک من الاختلافات قد تکفل ذکرها صاحب «الجواهر» قدس سره .

کما أنّ هذا الاختلاف قد ورد فی الأخبار ایضا، ولعلّه هو المنشاء لوقوع الاختلافات فی کلمات الاصحاب، کما تری ذکر الأولین فقط فی خبر حفص بقوله: «دم الإستحاضة أصفر بارد»(1).

ویدل علی الثانی فقط فی الصحیح أو الحسن لمعاویة بن عمّار: من قوله: «إنّ دم الاستحاضة بارد»(2).

وکذا فی حدیث اسحاق بن جریر مع زیادة قوله : «فاسد علی البارد» ، قال: «دم الإستحاضة فاسد بارد»(3).

وعلی الأوّل والثالث فی صحیح ابن یقطین، عن الکاظم علیه السلام : «فی النفساء، فاذا رقّ وکان صفرة اغتسلت»(4) .

و هذه الاوصاف تکون بالغالب، بل قد یطلق للعلامة بوصف المقابل، ویفهم منه ضدّه، مثل لفظ العبیط الوارد فی النص والفتوی _ کما فی خبر حفص _ لذکر علامة الحیض، فانه وانْ فسّر بالخالص الطریّ کما فی «الجواهر»، الاّ أنّ المراد منه ظاهرا کون الدم غلیظا، کما یذکر الدفع والحرارة فی مقابل ما لا یخرج بالقوة، حیث یناسب مع الرقة الوارد فی بعض النصوص، حیث یفهم من ذلک أنّ ذکر هذه العلامات کان من أجل التمییز بین الحیض والاستحاضة فیما اذا تردد بینهما،


1- وسائل الشیعة: الباب 3 من أبواب الحیض، الحدیث 2 .
2- وسائل الشیعة: الباب 3 من أبواب الحیض، الحدیث 1 .
3- وسائل الشیعة : الباب 3 من أبواب الحیض، الحدیث 3 .
4- وسائل الشیعة: الباب 3 من أبواب الحیض، الحدیث 16 .

ص:243

وقد یتفق بمثل هذا الوصف حیضا ، اذ الصفرة والکدرة فیالحیض حیض ، وفی أیّام الطهر طهرٌ (1).

ومن هنا فانها لا تعدّ علامة مطلقة بحیث عُدّ الدم الحامل لها استحاضة وان کانت تعلم آنهادم حیض مثل الدم التی تراها المرأة ایام الاستظهار المحکوم بالحیضیة، لأجل انقطاع الدم بعد التجاوز عن العادة، وقبل العشرة، أو ما لو علمت کون الدم دم استحاضة لاجل عدم واجدیته لشرائط الحیض، مثل ما لو انقطع الدم قبل الثلاثة، ولم یحصل التوالی ولو کانت متصفة بصفة الحیض، أو رأت الدم قبل التسع أو بعد الیأس، وامثال ذلک مثل ما لو رأت الدم قبل تخلل العشرة بین الحیضتین .

و کیف کان، فذکر بعض الصفات فی الحیض مثل السواد والبحرانی وغیرهما، یفهمنا ویوصلنا الی أنّ الغلبة فی غیر الحیض غیر هذین الوصفین، فلا تنحصر الاستحاضة بخصوص الاصفریة، بل انّما یکون ذکر ذلک من باب کون أغلب الغالب هو هذا، والاّ ربما یکون دم الاستحاضة أبیض، کما عن «جامع المقاصد» وهو لون یختص به، ولأجل کون هذه العلامات غالبیة جاءت الاشارة الی ذلک فی کلام المصنف .

فی الاستحاضة / أوصافها و علائمها

(1) حیث أنه من الواضح بأنّ وصف الصفرة والکدرة فی اثناء العادة، لمن کانت لها عادة، محکوم بالحیضیة اجماعا، محصلاً ومنقولاً، بل انّ هذا منصوصٌ علیه وهکذا بالنسبة الی ما یحکم بکونه حیضا، کالمتخلل بین العادة والعشرة، مثلاً إذا انقطع الدم فی العَشَرةُ فی فترة الاستظهار، فیحکم بالحیضیة من جهة قاعدة الامکان وغیرها، بل فی «الخلاف» الاجماع علیه، ولعل هذا داخل فی کلام المصنف أیضا ولو من باب التغلیب، لأجل کون الدم محکومٌ بالحیضیة.

فما فی «المدارک» من أولویة التفصیل الأول، بلزوم وجود أوصاف

ص:244

وکلّ دمٍ تراه المرأة أقلّ من ثلاثة ، ولم یکن دم قرحٍ ولا جُرحٍ ، فهو استحاضة(1).

الاستحاضة للحکم بها فی غیر أیام العادة ضعیفٌ، لما قد عرفت الحکم بالاستحاضة، إذا کان الدم الخارج لا یمکن أن یکون حیضا، ولو لم یکن متصفا بصفتها .

وکذلک یضعف قوله أیضا فی جعل أوصاف الاستحاضة، أوصافا خاصة مرکّبة، لما قد عرفت من أنّها لیست الاّ علامات غالبیة، ربما تکون جامعة لجمیعها، وربما تکون غیر جامعة، لأجل وجود بعضها دون بعض .

و من هنا یظهر أنّ وجود السواد والحمرة فی أیّام الطهر طهرٌ قطعا، وعلیه الاجماع کما عن «الناصریات» و«الخلاف»، ولا یحکم بالحیضیة.

فبناء علی ما ذکرنا، من عدم امکان الاعتماد علی الاوصاف المشهورة فقط، بل لابد من أن یُلاحظ مع تلک الأوصاف، سائر الشرائط الدخیلة فی الحیضیة، کما یشیر الیه المصنف فی النص القادم .

فی الاستحاضة / ما تراه المرأة قبل التسع أو بعد الیأس

(1) وهذا حکم منه رحمه الله مبنیٌ علی ما ذکرناه من أنّه لأبد أنْ یکون الدم الثلاثة متوالیا، وتعلم أنّه لیس بدم قرح أو جرح، حتّی یحکم بالحیضیة، فالضابط علی اعتبار حیضیة الدم، هو کلّ دم لیس بحیض ولا نفاس، فهو استحاضة .

و حیث بلغ الکلام الی هنا، فنقول: قد وقع الخلاف بین أصحابنا فیما اذا رأت المرأة دما قبل التسع، أو بعد الیأس مثلاً، فهل یحکم علی هذا الدم کونه استحاضة بحیث یترتب علیه أحکامها ولو فی المستقبل _ أی بعد البلوغ، فیما إذا کان الدم قبل التسع، من أحکام الغُسل والوضوء والتطهر اللاّزم لها _ .

أو یترتب علیها أحکام غیرها، مثل نزح ماء البئر إذا وقع فیها، ولزوم غَسل الثوب بقلیله، الذی لم یکن معتبرا فی الصلاة وامثال ذلک.

ص:245

أو لا یحکم به، الاّ مع وجود دلیل یدل علیه.

والمسألة ذات اقوال و وجوه:

القول الاوّل: هو الحکم بکونه استحاضة، إذا لم یکن حیضا ولا نفاسا، وتعلم بعدم کونه دم قرح وجرح أو دمُ عُذرة.

هذا هو الظاهر من الماتن، مع ما نسب الیه، وکذا فی «القواعد» و«البیان» و«جامع المقاصد» و«کشف الّلثام» و«التحریر» و«الارشاد» وعلیه السید فی «العروة»، وکثیر من أصحاب التعلیق، والمحقق الهمدانی .

القول الثانی: لصاحب «الجواهر» وهو الحکم بالاستحاضة، بمجرد عدم العلم بکونه من سائر الدماء مطلقا، ولو مع العلم بوجود القرح أو الجرح فی الباطن، إذا لم تعلم کونها منهما .

القول الثالث: وهو لصاحب «المدارک»، هو التفصیل بین ما کان الدم بصفة الاستحاضة فیحکم بها، وما لم یکن کذلک فلا، وإنْ علمت بانتفاء سائر الدماء الأربعة _ من الحیض والنفاس والقرح والجرح _ الاّ فیما دل الدلیل علی کونه استحاضة .

القول الرابع: هو التفصیل بین أقسام الاستحاضة، ففی الناقص عن الثلاثة یشترط العلم بکونه لا من قرح ولا جرح، دون غیره مثل التجاوز عن العشرة ونحوه، حیث لا یشترط فیه العلم کذلک.

وهذا ما احتمله صاحب «الارشاد» و«التحریر» .

القول الخامس: هو التفصیل بین احتمال وجود الجرح والقرح، وبین سائر الاحتمالات، حیث یحکم بعدم الاستحاضة فی الاول، وبالاستحاضة فی الثانی .

القول السادس: التفصیل بین الاحتمال الناشی من العلم بوجود القرح أو الجرح، فلا تعتنی بالاحتمال مطلقا، وتحکم بکونها مستحاضة، الاّ أنْ یکون الاحتمال نشاء من العلم بوجود القرح والجرح. وهذان القولان أشار الیهما

ص:246

المحقق الآملی من دون أن یشیر الی وجود القائل بهما .

و کیف کان الأقوال کثیرة، بل لعلّها أکثر مما ذکرنا، ومنها: ما اختاره المحقق الهمدانی والآملی قدس سرهم ، حیث أنّهما قد أختارا القول الأول لکن مع زیادة قید فی جنسه، وهو أنّه تحکم بالاستحاضة فیما لم تستبعد یکن احتمال کونه من الاستحاضة العادة، کالدم الذی تراه الصغیرة فی سنّ الرضاع أو ما یقرب منه، وما تراه العجوز فی أرذل عمرها .

و الأقوی عندنا هو الاوّل _ کما علیه المصنف _ لأنّه المستفاد من أخبار الاستظهار، حیث یحکم بالاستحاضة بمجرد انتفاء الحیض والنفاس، مع العلم بعدم کونه دم قرح وجرح، لوضوح أنّ مع وجود احتمال هذین الدمین یُشکل الحکم بکونه استحاضة، لأنّ الاصل عدم کونه مستحاضة، لکون لان دم الاستحاضة تابعة من الفاسدة فی الجسم، والأصل العقلائی هو الحکم بالسلامة، هذا فضلاً عن جریان اصالة البرائة عما یترتب علیها من أحکام الدم المخصوص به، لکون قلیله غیر معفو فی الصلاة .

لا یقال: إنّ هذا الاصل یعارض مع اصالة عدم کون الدم دم قرح وجرح، فیتعارضان ویتساقطان، فیرجع الی دلیل آخر .

لأنا نقول، أوّلاً: بان الاصل المتعارض المتساقط، کان هو عدم کونه دم استحاضة، حیث یعارض مع اصالة عدم کونه دم قرح أو جرح، فیبقی أصل آخر وهو حالة السلامة عن کون الدم نابعة من وجود الآفة والعاهة فیها خالیا عن المعارض، فیحکم بانتفاء الاستحاضة، مع وجود احتمال کون الدم من القرح أو الجرح. اللّهم الاّ أنْ یُدّعی أن اصالة السلامة جاریة فی دم القرح والجرح أیضا، لان خروج هذین الدمین أیضا مخالفٌ لاصالة السلامة والعافیة.

ثانیا: لو سلمنا وجود وحصول التعارض، لکن بعد التعارض والتساقط نرجع

ص:247

الی الأخبار، وهو مثل مرسلة یونس المتقدم، من اشتراط التوالی فیما رأت الدم یوما أو یومین وانقطع عنها، أنّه لیس من الحیض بقوله علیه السلام : «إنّما کان من علّة، امّا قرصة فی جوفها، وامّا من الجوف، فعلیها أنْ تعید الصلاة تلک الیومین التی ترکتها، لأنها لم تکن حائضا»(1) .

حیث قد استدل المحقق الآملی بذلک، للحکم بعدم الاستحاضة، بل لعلّه هو المستفاد من کلام صاحب «الجواهر» حیث قال فی ذیل مختار الماتن بقوله: «ویؤیّده بعد الأصل وقاعدة التقین، ما فی مرسل یونس المتقدم...» .

و لکن التأمّل والدقه فی الروایة، ربما یوجب احتمال المناقشه فیما استدل به، لأمکان أنْ یکون المراد من قوله علیه السلام : «وامّا من الجوف»، هو ما ینطبق علی الاستحاضة، ولعلّه لذلک قد استدل المحقق الهمدانی بهذه الروایة للحکم بها، حیث قال بعد ایراده المرسلة، بقوله: «وقد تقدم فی مبحث الحیض التنبیه علی أنّ الغُسل المأمور به بعد یوم أو یومین، لا یمکن أنْ یکون غُسل الحیض، فوجب أن یکون غُسل الاستحاضة». وکیف کان فانّ اثبات الاستحاضة جزما أو عدمها بتّا من هذه الروایة لا یخلو عن خفاء .

و لکنّ الذی یُسهّل الخطب هنا فی الحکم بعدم کون الدم استحاضة، أنّ بناء العقلاء فی النساء، وغلبتهن فی الاستحاضة، یوجب کون المعهود عندهن هو الحمل فی مثل هذا الدم علی الاستحاضة، وقد صارت هذه الحالة عندهن من الکثرة بحیث لا تعدّ المرأة جدوث هذه الحالة عندها آفة وعلّة حتی نتمسک عند الشک فی ذلک باصالة السلامة عن ابتلاءها بمثل هذه العلة والمرض وهذا أمر متعارف شائع بین النساء، إذا لم یزاحمهن احتمال وجود دم القرح والجرح،


1- وسائل الشیعة: الباب 12 من أبواب الحیض، الحدیث 2 .

ص:248

أو یکون مع الحمل علی الأظهر(1).

بواسطة العلم بوجودهما، اذ مع وجود هذا الاحتمال فانّ احراز وجود هذه البناء بترتیب أحکام الاستحاضة علیه، زائدا علی أحکام أصل الدم، مشکل جدّا، فلو شک فیه، فاصالة البرائة من تلک الأحکام الزائدة جاریة.

وهکذا ثبت أنّ الحق مع المصنف، ومن تابعه علی ذلک.

ولعل هذا هو المراد من الأصل المؤید فی کلام صاحب «الجواهر». أمّا المراد من قاعدة الیقین فهو قطع المرأة بعدم کونها مستحاضة قبل أن تری هذا الدم، فیعرض لها الشک بمجرد الرؤیة، فیشکل رفع الید عن یقینها السابق بعدم الاستحاضة قبل التسع أو بعد الیأس، بواسطة مشاهدة هذا الدم، مع امکان حمله علی کون الدم دم جرح أو قرح .

فبذلک یظهر عدم صحة التفصیل بأقسامه الثلاثة، وغیرها من الأقوال، اذ لا فرق بین ما وقع الدم فی الأقل من الثلاثة، فیما اشترط فیه التوالی الی الثلاثة، وبین المتجاوز للعشرة ونحوها، کما لا فرق فی ذلک بین کون الدم منحصرا بین الخمسة _ إذا فرضنا دم العذرة من الجرح والاّ یصیر سته _ وبین عدم الانحصار، اذ لا تاثیر فیما هو المقصود من عدم الحکم بکونه استحاضة بین الصورتین، کما هو واضحٌ اذا لاحظنا ذلک.

فی الاستحاضة / ما یزید عن العادة و یتجاوز العشرة

فاذا عرفت ما ذکرناه فانه یتضح لک ما قاله المصنف فی ادامة هذا البحث حیث حکم بان الدم التی تراه المرأة بعد التجاوز عن العشرة استحاضة، بقوله:

(وکذا ما یزید عن العادة، ویتجاوز العشرة ، أو ما یزید عن أیّام النفاس)

(1) أی الحکم بالاستحاضة علی کلّ دمٍ تراه الحامل مدة حمله، بناءً علی عدم اجتماع الحیض مع الحمل.

فی الاستحاضة / ما تراه الحامل

ص:249

ویعدّ هذا أحد الأقوال فی المسألة، کما روی ذلک عن الاسکافی و«التلخیص»، وفی «النافع» أنّه اشهر الروایات، ونقله العلامة فی «المنتهی» عن المفید وابن ادریس، واختاره الوحید البهبهانی قدس سرهم .

والقول الثانی: هو الذی نسب الی المشهور تارةً، والی الأکثر اخری، والی الأشهر الاظهر ثالثة، وفی «الجواهر» أنّه المشهور نقلاً وتحصیلاً، وهو اجتماعهما مطلقا، سواء کان قبل الاستبانه أو بعدها، وسواء کانت العادة قبلها أو بعدها، وسواء کان بعد العادة بعشرین یوما أم لا، وسواء کان بصفات الحیض أم لا، إذا امکن أنْ یکون حیضا، وقد حُکی عن «الناصریات» للسیّد ؛ الاجماع علیه .

والقول الثالث: هو التفصیل بین استنابة الحمل فلا یجتمع، وبین عدمه فیجتمع. وهذا هو المنقول عن الشیخ فی «الخلاف»، معبرا عنه بأنّه کذلک عند الظاهر من دعواه الاجماع علیه، بل قد نُقل عن ابن ادریس دعوی کونه مذهب الأکثر .

والقول الرابع: هو التفصیل بین ما اذا لم یمض عشرین یوما من العادة فیجامع مع الحیض، وبین کونه بعده فلا یجتمع.

وهذا هو المنقول عن الشیخ فی «التهذیب» و«الاستبصار» و«النهایة»، ومال الیه المحقق فی «المعتبر» و قوّاه فی «المدارک» .

والقول الخامس: هو التفصیل بین ما اذا کان الدم بصفة الحیض فیجامع، امّا إذا لم یکن بصفته فلا یجامع.

وهذا هو المنسوب الی ظاهر الصدوق فی «الفقیه»، وربما یظهر من صاحب «الجواهر» المیل الیه، حیث أیّده بتأییدات متعددة.

و هذه هی الأقوال فی المسألة، فلا بأس بالاشارة الی ادلتهم فی الجملة، حتّی نستظهر منها الحق فی المقام .

فنقول: إنّه قد استدل للقول الاول بامورٍ:

ص:250

الامر الاوّل: روایة السکونی، عن جعفر، عن أبیه علیه السلام أنّه قال: «قال النبی صلی الله علیه و آله : ما کان اللّه لیجعل حیضا مع حبل، یعنی اذا رأت الدم وهی حامل، لا تدع الصلاه، الاّ أنْ تری علی رأس الولد، إذا ضربها الطلق ورأت الدم، ترکت الصلاة»(1) .

وقد یجاب عنه، اوّلاً: بضعف سنده لمکان النوفلی والسکونی.

وفیه: انّهما یعدّان ممن أکثرا من الروایة عنه علیه السلام ، وقد عمل الاصحاب باخباره فی غیر هذا المقام، وتعدّ أخباره مقبولة ، نظیر مقبولة عمر بن حنظلة فیجب أن نبحث عن دلیل آخر للرد علی هذا الخبر .

وثانیا: موافقتها مع التقیة، کما احتملها صاحب «الوسائل» والآملی و صاحب «الجواهر» وغیرهم، لذهاب کثیر من العامة الی ذلک، وقد ذکر صاحب «الجواهر» اسماءهم بقوله: «المشهور بین العامة من عدم الحیضیة، المنقول عن سعید بن المسیب، وعطاء، والحسن، وجابر بن یزید، وعکرمة، ومحمد بن المنکدر، ومکحول، وحماد، والثوری، والأوزاعی، وأبی حنیفة، وابن المنذر، وأبی عبید، وأبی ثور، والشافعی فی القدیم .

بل قد یؤیده من کون النبوی منقولاً عنهم، والامام علیه السلام ینقل النبوی الشاهد علی کونه فی مقام التقیة.

کما قد یؤید أیضا احتمال کون التفسیر فی قوله «یعنی إذا رأت الدم... الی آخره» من الراوی لا من الامام.

هذا فضلاً عن وجود احتمال کون المراد من النبوی الاشارة الی القضیة الغالبة، اذ الغالب کون الأمر کذلک) .


1- وسائل الشیعة: الباب 30 من أبواب الحیض، الحدیث 12 .

ص:251

وثالثا: احتمال عدم کونه حیضا، لقصور الدم عن أقلّ الحیض وهو ثلاثة أیّام متوالیا، أو لأجل اختلال بعض الشرائط التی یوجب امکان حمله کونه حیضا .

الأمر الثانی: ما رواه الصدوق فی «العلل» باسناده عن مقرن، عن أبی عبداللّه علیه السلام ، قال: «سأل سلمان رحمه الله علیّا عن رزق الولد فی بطن اُمّه؟ فقال: إنّ اللّه تبارک وتعالی حبس علیه الحیضة، فجعلها رزقه فی بطن اُمّه»(1) .

والاستدلال به علی المدّعی لا یخلو عن ضعف، لماتری من امکان الجمع بین حبس الحیض لزرق الولد، وعدّ الدم الزائد عن رزق الولد _ خصوصا فی اول ایام انعقاد النطفة _ حیضا، کما یدل علی ذلک ما جاء فی حدیث سلیمان بن خالد، قال: «قلتُ لأبی عبداللّه علیه السلام : جعلتُ فداک، الحُبلی ربما طمثت؟ قال: نعم، وذلک انّ الولد فی بطن اُمّه غذائه الدم، فربما کثر ففضل عنه، فاذا فضل دفعته، فاذا دفعته حرمت علیها الصلاة»(2).

قال الکلینی: وفی روایة اُخری: «إذا کان کذلک تاخّر الولادة»(3) .

الأمر الثالث: الاستدلال بصحیحة حمید بن المثنی، قال: «سألتُ أبا الحسن الاوّل علیه السلام ، عن الحُلبی تری الدفعة والدفعتین من الدم، فی الایام وفی الشهر والشهرین؟ فقال: تلک الهراقة لیس تمسک هذه عن الصلاة»(4) .

الاّ أنه قد یرد علی دلالتها کون الدفعة والدفعتین فی الایام أو فی الشهر والشهرین، یجامع مع عدم کونه بمقدار أقلّ الحیض _ أی ثلاثة أیّام متوالیة _ إذا صدق عنوان الدفعة، مع کونه أقلّ منها کان أشدّ واولی من کونه ما یوجب صدق الحیض علیه .


1- وسائل الشیعة: الباب 30 من أبواب الحیض، الحدیث 13 .
2- وسائل الشیعة: الباب 30 من أبواب الحیض، الحدیث 14 .
3- وسائل الشیعة: الباب 30 من أبواب الحیض، الحدیث 15 .
4- وسائل الشیعة: الباب 30 من أبواب الحیض، الحدیث 8 .

ص:252

کما أن تقسیمه علیه السلام الدم الی قسمین قد ورد فی روایة ثانیة رواها حمید بن المثنی، المکنی بأبی المغرا، قال: «سألتُ أبا عبداللّه علیه السلام عن الحلبی، قد استبان ذلک منها، فتری کما تری الحائض من الدم؟ قال: الهراقة إنْ کان دما کثیرا فلا تصلین، وإنْ کان قلیلاً فلتغتسل عند کل صلاتین»(1) .

فان قلنا بصدور الخبرین من امام واحد فانهما یفیدان حُکما واحدا؛ وانّما اشار فی احد الخبرین الی صورة الدفقة والدفقتین (کما فی ذیل الحدیث الثانی) فتکون الصحیحة من الاخبار الدالة علی امکان اجتماع الحیض والحمل، کما أشار الیه صاحب «المنتقی» علی ما نسبه الیه صاحب «الوسائل»، لا المانعة کما تمسک به آخرون .

الأمر الرابع: الاستدلال بما ورد من لزوم الاستبراء فی الأمة بحیضته، کماتری التصریح بذلک فی روایة مسمع بن کردین، عن أبی عبداللّه علیه السلام : «قال: قال أمیر المؤمنین علیه السلام : عشرٌ لا یحلّ نکاحهن، ولا غشیانهن.... الی أنْ قال: وأمتک وقد وطئت حتّی تستبرأ بحیضة، وامتک وهی حُبلی من غیرک... الحدیث»(2) .

و روایة محمّد بن مسلم، عن أبی جعفر علیه السلام : «فی الرجل یشتری الجاریة، فیعتقها ثم یتزوجها، هل یقع علیها قبل أنْ یستبری ء رحمها؟ قال یستبری ء رحمها بحیضة... الحدیث»(3) .

و مثله روایة عبید بن زرارة، عن الصادق علیه السلام ، فی حدیثٍ قال: «یستبری ء رحمها بحیضة، وإنْ وقع علیها فلا بأس»(4) .


1- وسائل الشیعة: الباب 30 من أبواب الحیض، الحدیث 5 .
2- وسائل الشیعة: الباب 19 من أبواب نکاح العبید والاماء، الحدیث 2 .
3- وسائل الشیعة: الباب 16 من أبواب نکاح العبید والاماء، الحدیث 1 .
4- وسائل الشیعة: الباب 16 من أبواب نکاح العبید والاماء، الحدیث 2 .

ص:253

وهذا حکم المذکور جاء فی الجواری المسبّیات المنتقلات ببیع وغیره، وبالموطوئة بالزنا، والأمة المحلّلة للغیر.

وجه الاستدلال علی المنع واضحٌ، فانّ الاستبراء بحیضة لیس الاّ لأجل استکشاف حال الجاریة، من کونها حاملاً من الغیر أم لا، فلو اجتمع الحیض مع الحمل، لم یبق وجه للاستبراء، لامکان وجود الحمل معه فیستلزم نقض الغرض، کما لا یخفی .

هذا، و لکن لا یخفی علیک أنّ هذا الحکم فی الأمة، حکم ظاهری لاستکشاف ذلک من اکتفائها فی الاستبراء بحیضة واحدة، مع أنّه من المعلوم أن الشارع جعل عدّة الطلاق فی الحُرّة ثلاثة قروء، فلو کان ما ذکر من عدم امکان الاجتماع بین الحیض والحمل صحیحا، لکان الاستبانه بحیضة واحدة کانیا للدلالة علی عدم وجود الحمل فیها، ولما بقی وجهٌ لجعل ثلاثة قروء عدة للطلاق؟

فمن ذلک یفهم أنّ وجود الاختلاف فی مثل هذه الأحکام؟! بین الحُرّة والامة تتضمن علی مصالح مختلفة واقعیة نحن لا نعلمها، نظیر الاکتفاء بالعدل الواحد فی الشهادة فی مورد، وبالعدلین فی مورد آخر، وباربعة فی مورد ثالث، فنحن نجهل الحکمة الموجودة فیها، فلا یمکن جعل مثل هذه الامور ملاکا للاحکام الشرعیة، حتّی یحکم بالامتناع، والاّ للزم لغویة الاستبراء .

الأمر الخامس: بالاجماع المحکی قائمٌ علی صحة طلاق الحامل، مع رؤیتها للدم کما أنّ الاجماع قائم أیضا علی عدم صحة طلاق الحائض، فیستکشف من الاجماعین عدم تحقق الحیض مع الحمل.

لکن نقول: بامکان أنْ یکون هذا خارجا عمّا یدل علی بطلان طلاق الحائض، أی یصح طلاق الحامل ولو کانت حائضا، وانّما قام الاجماع علی عدم صحة طلاق هو من لا تکون حاملاً، فیکون طلاقها صحیحا، نظیر صحة طلاق الغائب،

ص:254

وبناءً علی هذا یصحّ الاجماع المذکور دون أن یمنع عن اجتماع الحیض مع الحمل، کما هو واضح .

الأمر السادس: قیل یجوز فی هذا المقام التمسک بالاصول الحکمیة، مثل اصالة عدم الحیض، واصالة بقاء التکلیف بالعبادات الثابتة علیها قبل رؤیة الدم، واستصحاب بقاء ما لها من الأحکام من جواز الدخول فی المساجد و قراءة العزائم وجواز الوطی وأمثال ذلک، ولعلّ هذا هو مراد صاحب الجواهر من الاشارة الی قاعدة الیقین، واللّه العالم .

و الجواب عنه: «کما عن المحقق الآملی وغیره» أنّ هذه الاصول محکومة باصالة بقاء ملکة الحیض، واستعداد المرأة وقابلیتها قذف الدم فی حال الحمل، فانها أصلٌ موضوعی حاکم مع الاصول الحکمیة، مضافا الی أنّه لا وجه للمتمسک بالاصول، مع وجود الأخبار والادلة الاجتهادیة، کما سنشیر الیه إنْ شاءاللّه.

فاذا عرفت الاشکال فی القول الاول، من عدم تمامیة ادلّتهم، فلا بأس بصرف عنان الکلام والاستدلال علی القول الثانی الذی هو الاقوی عندنا وعند کثیر من الفقهاء من المتقدمین والمتاخرین، والدلیل عی هذا القول «مضافا الی ما عرفت من دعوی الاجماع من السیّد المرتضی قدس سره ، وفی «الناضریات» وهو خیرته وخیرة «الفقیه» و«المنتهی» و«المختلف» و«القواعد» و«الدروس» و«التنقیح» و «جامع المقاصد» والسید فی «العروة»، وکثیر من اصحاب التعلیق، وهو المشهور المنصور نقلاً وتحصیلاً، کما فی «الجواهر» : «بل قد عرفت أنّ مقتضی الاصل والاستصحاب، بقاء قابلیتها للحیض بعد الحمل» .

هو دلالة أخبار مستفیضة _ لو لم تکن متواترة لکثرتها وقوة دلالتها _ علی امکان الجمع بین الحمل والحیض، وصحة أسانید کثیر منها وهما :

ص:255

منها: صحیحة عبداللّه بن سنان، عن أبی عبداللّه علیه السلام : «أنّه سأل عن الحُبلی تری الدم، أتترک الصلاة؟ فقال: نعم، إنّ الحبلی ربما قذفت بالدم»(1) .

و منها: صحیحة عبد الرحمن بن الحجّاج، قال: «سألت أبا الحسن (أبا ابراهیم) علیه السلام عن الحُبلی، تری الدم وهی حامل کما کانت تری قبل ذلک فی کلّ شهر، هل تترک الصلاة؟ قال: تترک الصلاة إذا دام»(2) .

فان کلامه علیه السلام کان لاجل اخراج ما یکون أقلّ من ثلاثة أیّام، حیث لا یمکن أنْ یکون حیضا، وأیضا لافهام أنّه یمکن أنْ یجتمع مع الحمل أیضا .

و منها: صحیحة صفوان، قال: «سألتُ أبا الحسن الرضا علیه السلام عن الحُبلی تری الدم ثلاثة أیّام أو اربعة أیّام، تُصلّی؟ قال: تُمسک عن الصلاة»(3) .

و منها: صحیحة محمد بن مسلم، عن أحدهما علیهماالسلام ، قال: «سألته عن الحُبلی تری الدم کما کانت تری أیّام حیضها مستقیما فی کلّ شهر؟ قال: تمسک عن الصلاة، کما کانت تصنع فی حیضها، فاذا طهرت صلت»(4) .

فان دلالتها ظاهرة فی رؤیة الدم بصورة الحیض، مضافا الی معهودیّة الدم بالألف واللام، وورد قوله: «کما کانت تری حیضها» مع ما اشار فی الذیل بقوله «تصنع کما تصنع الحائض» فان جمیعها تدل علی المطلوب .

و منها: حسنة سلیمان بن خالد، قال: «قلت لأبی عبداللّه علیه السلام جعلتُ فداک، الحبلی ربما طمثت؟ قال: نعم ، وذلک أنّ الولد فی بطن اُمّه غذائه الدم، فربما کثر


1- وسائل الشیعة: الباب 30 من أبواب الحیض، الحدیث 1 .
2- وسائل الشیعة: الباب 30 من أبواب الحیض، الحدیث 2 .
3- وسائل الشیعة: الباب 30 من أبواب الحیض، الحدیث 4 .
4- وسائل الشیعة: الباب 30 من أبواب الحیض، الحدیث 7 .

ص:256

ففضل عنه، فاذا فضل دفقته، فاذا دفقته حرمت علیها الصلاة»(1) .

و منها: مرسل محمد بن مسلم، عن أحدهما علیهماالسلام ، قال: «سألته عن الحبلی قد استبان حبلها، تری ما تری الحائض من الدم؟ قال: تلک الهراقة من الدم، إنْ کان دما أحمر کثیرا فلا تصلی، وإنْ کان قلیلاً أصفر فلیس علیها الا الوضوء»(2) .

فان قوله: «تری ما تری الحائض من الدم» اشارة الی کون الدم بصفات الحیض وشرائطه، فیسأل أنّه فی هذه الصورة هل یترتب علیه أحکامه أم لا؟ فاجابه علیه السلام بان الدم اذا کان واجدا للصفات فانه یترتب علیه حکم الحائض والاّ فلا .

بل قد یدل علی امکان الجمع بین الحمل والحیض، صحیحة أبی المغرا: «قال: سألتُ أبا عبداللّه علیه السلام عن الحُبلی قد استبان ذلک منها، تری کما تری الحائض من الدم؟ قال: تلک الهراقة، إنْ کان دما کثیرا فلا تُصلیّن، وإنْ کان قلیلاً فلتغتسل عند کل صلاتین»(3).

ولعلّ المقصود من الکثرة والقلة، کون الدم مستمرا ثلاثة أیّام متوالیات، وهو أقلّ أیّام الحیض، والاّ فان الدم دمُ استحاضة.

ولعل هذا هو المراد ممّا رواه أبی المغرا عن اسحاق بن عمّار، قال: «سألتُ أبا عبداللّه علیه السلام عن المرأة الحبلی، تری الدم الیوم والیومین؟ قال: إنْ کان دما عبیطا فلا تُصلی ذینک الیومین، وإنْ کان صفرة فلتغتسل عند کل صلاتین»(4) .

لوضوح أنّ الدم لیوم واحد أو الیومین وإذا لم یعدّ مثالاً علی اراقة الدم، ولم


1- وسائل الشیعة: الباب 30 من أبواب الحیض، الحدیث 14 .
2- وسائل الشیعة: الباب 30 من أبواب الحیض، الحدیث 16 .
3- وسائل الشیعة: الباب 30 من أبواب الحیض، الحدیث 5 .
4- وسائل الشیعة: الباب 30 من أبواب الحیض، الحدیث 6 .

ص:257

یبلغ الی ثلاثة أیّام، لا یکون حیضا الاّ عند من لا یشترط التوالی فیه الی ثلاثة أیّام، کما لا یخفی .

کما قد یؤید ما ذکرناه مضمرة سماعة، قال: «سألته عن امرأة رأت الدم فی الحبل؟ قال: تقعد أیّامها التی کانت تحیض، فإذا زاد الدم علی الایام التی کانت تقعد استظهرت بثلاثة أیّام، ثم هی مستحاضة»(1) .

الأخبار الدالة علی ذلک فی الحُبلی أکثر ممّا ذکرناه، من ذلک مثل مرسلة حریز(2) وخبر أبی بصیر(3)، خاصة اذا لاحظنا التفصیل والبسط الموجود فی هذه الاخبار، فان هذه الکثرة والتفصیل دلیلٌ حیٌ علی امکان اجتماع الحمل مع الحیض، وهذا ما یزید فی استغرابنا أنّه برغم هذه الأخبار الکثیرة یفهم المتامل فیهما فمع وجود هذه الاخبار الکثیرة الدالة علی امکان ادّعی المحقق رحمه الله فی «النافع»: أنّ عدم الاجتماع هو الذی علیه الأشهر فی الروایات !

فمع وجود هذه الاخبار الکثیرة الدالة علی الحیضیة، من دون اشارة الی التفصیل _ الذی وقع فی کلام الشیخ فی «التهذیب»، ومال الیه المحقق فی «المعتبر»، وقواه صاحب «المدارک» وهو اختصاص الحیضیة بما إذا رأته فی أیّام العادة، أو مع التقدم بتعلیل، دون ما إذا تأخر عن العادة بعشرین یوما _ یوجب الظن القوی _ بل الاطمینان _ للفقیه علی عدم صحة هذا التفصیل، والاّ لاستلزم التنبیه علیه فی الأخبار التی وردت فی مقام بیان المسائل التی تعم بها البلوی، وکان المقام مقام حاجة وبیان، حیث لا یجوز ینبغی للامام علیه السلام أن یؤخر البیان عن وقت حاجة المکلف، کما لا یخفی .


1- وسائل الشیعة: الباب 30 من أبواب الحیض، الحدیث 11 .
2- وسائل الشیعة: الباب 30 من أبواب الحیض، الحدیث 9 .
3- وسائل الشیعة : الباب 30 من أبواب الحیض، الحدیث 10 .

ص:258

نعم قد اشیر الی ذلک فی خبر صحیح وهو روایة الحسین بن نعیم الصحّاف، قال: «قلت لأبی عبداللّه علیه السلام : إنّ اُمّ ولدی تری الدم وهی حامل، کیف تصنع بالصلاة؟ قال: فقال لی: إذا رأت الحامل الدم، بعد ما یمضی عشرون یوما من الوقت الذی کانت تری فیه الدم، من الشهر الذی کانت تقعد فیه، فانّ ذلک لیس من الرحم، ولا من الطمث، فلتتوضأ وتحتشی بکرسفٍ وتُصلّی. واذا رأت الحامل الدّم قبل الوقت الذی کانت تری فیه الدم بقلیل، أو فی الوقت من ذلک الشهر، فانّه من الحیضة، فلتمسک عن الصلاة عدد أیّامها التی کانت تقعد فی حیضها، فإنْ انقطع عنها الدم قبل ذلک، فلتغسل ولتصلّ الحدیث»(1).

حیث ورد فیه التفصیل بما قد عرفت.

وقد جعله الشیخ شاهد جمع بین الطائفتین من الأخبار وذلک بأنّ عدم الاجتماع یکون فیما إذا کان الدم قد مضی علی دفقه عشرین یوما، أو قد استبان منها الحمل، وما یدلّ علی جواز الاجتماع هو ما اذا رأته قبل مضی عشرین یوما، أو لم تستبن منها الحمل.

هذا کما اختاره الشیخ فی «الخلاف» بالنسبة الی الاستبانة وعدمه .

و لکن لا یخفی ما فیه من البُعد، لعدم وجود شاهد علی کون الاستبانة فی کل الافراد علی هذا المقدار، اذ أنّ لازم ذلک عدم استبانته حتّی لو کان بأقلّ من عشرین یوما أو نصفه، علی ما هو مقتضی التحدید، وهو کماتری من البعد .

مضافا الی معارضته مع ما یدل علی الحکم بالحیضیة، حتّی بعد الاستبانة، مثل ما عرفت من روایة أبی المغرا، من قوله: «عن الحُبلی قد استبان ذلک منها، تری کما تری الحائض من الدم؟ قال: الهراقة ان کان دما کثیرا فلا تصلین» الحدیث .


1- وسائل الشیعة: الباب 30 من أبواب الحیض، الحدیث 3 .

ص:259

أو مع الیأس ، أو قبل البلوغ (1).

وخبر محمّد بن مسلم: «عن الحُبلی قد استبان حبلها، تری ما تری الحائض من الدم؟ قال: تلک الهراقة إنْ کان دما أحمر کثیرا فلا تُصل، الحدیث» .

فلا یبعد حمل صحیحة الصحاف علی الغالب، أی کون الغالب فی الحبلی ذلک، فلا ینافی امکان ا لاجتماع بعد مضی عشرین یوما فی بعض النساء، خصوصا إذا کانت صغیرة کما هو الحال فی نساء العرب وغیرهنّ ممن یسکنّ فی المناطق الحارة.

فهذا التفصیل غیر مقبول عندنا، واللّه العالم .

ولکن الاحتیاط فیه یقتضی أن تجمع العمل بین تروک الحائض واعمال المستحاضة، خصوصا مع ملاحظة اعراض المشهور عن الافتاء به، مع کون سنده ودلالته نقیّة صحیة ولها القدرة علی تقیید الاخبار المطلقة السابقة الذکر.

ویحتمل أن یکون حکم اصحابنا من جهة مشاهدة أن کثیرا من النسوة تتدفق منهن الدم المشابه لدم الحیض بعد مضی عشرین یوما، مع کونه واجدة لصفات الحیض.

الاّ أنّه مع ملاحظة الاخبار الدالة علی لزوم مراعاة الصفات والعادة، یشکل القول بعدم کونه حیضا، ولأجل ذلک نقول بالاحتیاط الوجوبی أیضا فی الدم الواجد للصفات، من الجمع بین تروک الحائض وأعمال المستحاضة، واللّه العالم بحقائق الامور .

(1) لما قد عرفت منا سابقا _ کما علیه صاحب «الجواهر» والسیّد فی «العروة» وکثیر من أصحاب التعلیق علیها _ بانّ کل دم لم یکن دم حیض ولا نفاس وتعلم أو لا یعلم بکونه من دم القروح والجروح، یحکم بکونه من الاستحاضة، لأنّ الأخبار الواردة تفید علی نفی الحیضیة والنفاس عنه ممّا یستلزم الحکم بکونه استحاضة، هذا فضلاً عن غلبة الاستحاضة فی النساء،

ص:260

واذا تجاوز الدم عشرة أیّام ، وهی ممّن تحیض ، فقد امتزج حیضها بطهرها ، فهی إمّا مبتدأة ، أو ذات عادة مستقرة ، أو مضطربة (1).

بحیث تکون طبیعة ثانیة لهن، کما أنّ اصالة عدم وجود سبب غیرها، یوجب الاطمینان للفقیه من الحکم بکون ما تراه المرأة قبل البلوغ، أو بعد الیأس استحاضة، کما أشار الیه المصنف، وتبعه جماعة من الفقهاء، کما فی «الارشاد» و«القواعد» و«النافع» و«التحریر» و«جامع المقاصد» و«کشف اللثام» و«الریاض» فی أحدهما أو کلیهما، مضافا الی أنّه إنْ قلنا بانحصار الدماء فی الأوصاف الخمسة، فانه یوجب التعیّن فیها، بعد ثبوت أنّه لم تکن من الأربعة، کما لا یخفی ولا حاجة حینئذ الی قیام دلیل علی ذلک، خلافا لما یظهر من صاحب «المدارک» حیث قال: لا یحکم بها الاّ إذا قام بها الدلیل .

فی الاستحاضة / ما تراه المرأة مع الیأس أو قبل البلوغ

و لکن الظاهر من بعض الاشکال فی کونه استحاضة، بالنسبة الی الصغیرة _ کما فی «القواعد» _ للاقتصار بذکر الیائسة، ولوجود الشبهة فی أصل قابلیتها للاستحاضة، کما قد یتوهم نفس الاستحاضة فیهما من جهة ملاحظة اطلاق الأخبار، وکلمات الأصحاب تحیضها بأیامها أو بالتمیّز أو نحوهما، حیث لا ینطبق الاّ بما بین سن البلوغ والیأس.

کما قد یؤید هذا الاحتمال مما جاء فی اطلاق کلمات الأصحاب من تقسیم المستحاضة الی المبتدأة والمعتادة والمضطربة.

ولکن قد عرفت أنّ الحق هو الحکم بالاستحاضة مطلقا، فی المورد الذی سبق منا بیانه، واللّه العالم .

(1) و المبتدأة، امّا تکون بکسر الدال أو بفتحها، فعلی الأوّل اذا ابتدأت المرأة بالدم، بأن تکون المرأة بصورة المعلوم للفاعل، والدم للمفعول، أو أنْ یکون بعکس ذلک، بأن یکون الاسناد للدم بالفاعلیة، وللمرأة بالمفعولیة.

ص:261

فالمبتدأة : ترجع الی اعتبار الدم ، فما شابه دم الحیض فهو حیضٌ ، وما شابه دم الاستحاضة فهو استحاضة (1).

وکیف کان، فانّ ظاهر کلام المصنف هنا وفی «المعتبر»، کون المراد من المبتدأة، هی التی لم تسبق بحیض، أی المبتدأة بالمعنی الاخص.

وعلی هذا التقدیر تکون المضطربة أعمّ من الناسیة، أو من لم تستقر لها عادة.

ولکن الظاهر من کلام المصنف، هو اختصاص المضطربة بالناسیة. فی أقسام المرأة التی تری الدم إذا تجاوز العشرة

هذا، کما فی «الجواهر»، ولعلّه استفاد هذا الظهور من جعل المضطربة بعد ذات العادة المستقرة، فتصیر المضطربة التی لم تکن کذلک _ أی کانت ناسیة للعادة بالوقت أو بالعدد أو هما معا _ لاضطرابها من جهة النسیان، فیطلق علیها ذلک، بل قد یقال لها ویطلق علیها المتحیّرة .

فلازم ذلک کون المبتدأة _ بصورة الاعمّ _ هی التی لم تسبق بالحیض، أو التی لم تستقر لها عادة، وإنْ سبق رؤیتها الحیض.

ولکن الانصاف أنّ ادخال القسم الثانی منهما فی المضطربة، وجعلها أعمّ کان أولی مِنْ جعل المبتدأة کذلک، وإنْ کان اعمیّة المبتدأة بکلا قسمیها اولی عند بعض الاصحاب، بل فی الرویة أنّه الأشهر، وفی «المسالک» أنّه المشهور.

والمسألة واضحة، ولا ثمرة فی مثل ذاک هذا الاختلاف، لعدم تعلیق الأحکام فی الأخبار علی لفظ المبتدأة، حتّی یلیق بنا اطالة البحث عنه، اذ الحکم تابع للدلیل دون مجرد الاصطلاح، حتّی یترتب علیه فائدة، وإنْ کان ظاهر کثیر من کلمات الاصحاب ارادة الثانی، لأنّ من لم تستقر لها عادة تعدّ من المبتدأة .

فی حکم المبتدأة

(1) وبعبارة اخری فان کلام المصنف یفید رجوع المبتدأة فی تشخیص الحیض عن الاستحاضة الی صفات الدم، وهذا هو الظاهر المستفاد من

ص:262

«المبسوط» و«الوسیلة» و«السرائر» و«الجامع» و«المعتبر» و«النافع» و«القواعد» و«المنتهی» و«التحریر» و«الدروس» و«البیان» و«جامع المقاصد» وغیرها من مصنفات المتأخرین مثل صاحب «الجواهر» والمحقق الهمدانی والآملی، وصاحب «العروة»، وکثیر من أصحاب التعلیق لولا الکل، بل لا أجد فیه خلافا بین المتأخرین، بل فی «المعتبر» نسبته الی فقهاء أهل البیت علیهم السلام ، و«المنتهی» و«التذکرة» الی علمائنا، مع زیادة أجمع فی الاخیر ودعوی انعقاد الاجماع علی المبتدأة، والقدر المتیقن منها هو المعنی الأخصّ، أی من لم یسبق بحیض وهو المستفاد من اجماع الفرقة المحکیّ فی «الخلاف» .

فی الاستحاضة / فی حکم المبتدأة إذا تجاوز الدم عشرة أیّام

وهذا أحد الأقوال فی المسألة وفی مقابله اقوال أخری:

منها: قول صاحب «الحدائق» رحمه الله ، حیث قال: «المستفاد من خبر یونس، ومن الأخبار لمن استمر بها الدم بالرجوع الی العشرة فی الدور الاوّل، والی الثلاثه فی الدور الثانی» .

و منها: قول ابن زهرة فی «الغُنیة» من عدم ذکر التمییز للمبتدأة، بل جعل مدارها علی أکثر الحیض وأقل الطهر .

و منها: قول أبی الصلاح فی «الکافی»، من جعل مدار المبتدأة عادة نسائها، وکذا المضطربة التی لا تعرف زمان حیضها من طهرها.

لکن ذکر فی الثانیة أنّها إنْ لم یکن لها نساء تعرف عادتهن، لاحظت صفة الدم.

هذا کله علی حسب نقل صاحب «الجواهر» فراجع کلامه(1) .

و لکن الأقوی عندنا، هو القول الاوّل فی المبتدأة بالمعنی الأخص، بل لا یبعد کون الأمر کذلک فیها بالمعنی الاعمّ أیضا، بل فی المضطربة بمعنی الناسیة أو


1- الجواهر: 3/270 .

ص:263

الاعمّ منها، کما سیاتی الاشارة الیه إن شاء اللّه تعالی .

والدلیل علی ذلک _ مضافا الی ما عرفت من الاجماع المنقول، بل المحصل، لندرة نقل الخلاف فیه، ولا أقلّ من الشهرة العظیمة التی کادت أنْ تکون اجماعا _ وجود الأخبار المعتبرة المستفیضة علیه.

منها: صحیحة معاویة بن عمّار، قال: «قال أبو عبداللّه علیه السلام : إنّ دم الاستحاضة والحیض لیس یخرجان من مکان واحدٌ إنّ دم الاستحاضة بارد، وإنّ دم الحیض حارّ»(1) .

منها: صحیحة حفص البختری، قال: «دخلتْ علی أبی عبداللّه علیه السلام امرأة فسالته عن المرأة، یستمر بها الدم، فلا تدری حیضٌ هو أو غیره؟ قال: فقال لها: إنّ دم الحیض حارّ عبیط أسود، له دفع وحرارة، ودم الاستحاضة أصفر بارد، فاذا للدم حرارة ودفع وسواد، فلتدع الصلاة. قال: فخرجت وهی تقول، واللّه أنْ لو کان امرأة ما زاد علی هذا»(2) .

منها: روایة اسحاق بن جریر، قال: «سألتنی امرأة منّا أنْ أدخلها علی أبی عبداللّه علیه السلام ، فاستأذنت لها، فاذن لها، فدخلتْ. الی أنْ قال: فقالت: له ما تقول فی المرأة تحیض، فتجوز أیّام حیضها؟ قال: إنْ کان أیّام حیضها دون عشرة أیّام، استظهرت بیوم واحد، ثم هی مستحاضة. قالت: إنْ الدم یستمر بها الشهر والشهرین والثلاثه، کیف تصنع بالصلاة؟ قال: تجلس أیام حیضها، ثم تغتسل لکلّ صلاتین. قالت له: إنّ أیّام حیضها تختلف علیها، وکان یتقدم الحیض الیوم والیومین والثلاثه، ویتأخر مثل ذلک، فما علمها به؟ قال: دم الحیض لیس به


1- وسائل الشیعة: الباب 30 من أبواب الحیض، الحدیث 1 .
2- وسائل الشیعة: الباب 30 من أبواب الحیض، الحدیث 2 .

ص:264

خفاء، هو دمٌ حارٌّ تجد له حرقة، ودم الاستحاضة دم فاسد بارد. قال: فالتفت الی مولاتها فقالت: أتراه کان امرأة مرّة»(1) .

فان هذه الروایات تدل علی أنّ دم الحیض له خصوصیّة وعلامة یمتاز بهما عن دم الاستحاضة، بلا فرق بین کون المرأة ذات عادة أم لا، مبتدأة کانت أم لا، مضطربة کانت أم لا، فاطلاقها یشمل جمیع أقسامها إذا فرض للدم تمییز من حیث الصفات، خصوصا بالنظر الی الروایة الثالثة، حیث أجاب الامام علیه السلام علی نحو الحکم الکلّی بأنّ دم الحیض لیس به خفاء، أی مع وجود الصفات المتفاوته فی الدم، إذا استمر منها الدم، ولو کانت مبتدأة و لو بالمعنی الأعمّ، کما لا یخفی .

فانّ هذه الأخبار مع اعتبار سندها، واشتمالها علی ما هو کالمعجز، واعتضادها بما سمعت من الاجماعات أو الشهرة العظیمة الحاصلة من تتبع کلمات الأصحاب، یوجب الاطمینان للفقیه فی مقام الفتوی بذلک، خصوصا مع ملاحظة عدم وجود معارض صریح فی ذلک ، سوی ما قد یتوهم من ذیل مرسلة یونس الطویلة، والمتوهم هو صاحب «الحدائق»، ولعلّ موضع التوهم من الروایة، قوله علیه السلام : «وامّا السنة الثالثة، فهی التی لیس لها أیّام متقدمة، ولم تر الدم قط، ورأت اوّل ما أدرکت فاستمر بها، فان سنّته هذه غیر سنّة الاولی والثانیة، وذلک أنّ امرأة یقال لها حمنة بنت جَحْش، أتت رسول اللّه صلی الله علیه و آله فقالت: إنّی استحضتُ حیضة شدیدة؟ فقال: احتشی کرسفا. فقالت: إنّه أشدّ من ذلک، إنّی اشجه شجا. فقال: تلجمی وتحیّضی فی کلّ شهر فی علم اللّه ستة أیّام أو سبعة أیّام، ثم اغتسلی غُسلاً وصومی ثلاث وعشرین یوما أو أربعة وعشرین، الحدیث»(2).


1- وسائل الشیعة: الباب 30 من أبواب الحیض، الحدیث 3 .
2- وسائل الشیعة: الباب 8 من أبواب الحیض، الحدیث 3 .

ص:265

حیث أنّ هذه الجملات التعابیر الواردة منها تختص بالمبتدأة، حیث أمر فیها بالرجوع الی الستة أو السبعة فی الحیض، والی ثلاث وعشرین أو اربعة وعشرین فی الاستحاضة .

ثم جعل الرجوع الی التمییز بالصفات للمضطربة، التی کانت لها أیام متقدمه، ثم اختلط علیها من طول الدم، تمسکا لذلک بهذه الفقرة من الروایة التی مرّت علیک وهی قوله علیه السلام : «و أمّا سنة التی قد کانت لها أیّام متقدمة، ثم اختلط علیها من طول الدم، فزادت ونقصت، حتّی اغفلت عددها وموضعها من الشهر، فان بنیتها غیر ذلک، وذلک أنّ فاطمة بنت أبی حبیش أتت النبی صلی الله علیه و آله فقالت: إنّی استحاض ولا اطهر. فقال لها النبی صلی الله علیه و آله لیس ذلک بحیض، إنّما هو عرق، فاذا أقبلت الحیضة فدعی الصلاة، واذا أدبرت فاغسلی عنکِ الدم وصلّی، الحدیث»(1) .

و لأجل ذلک ذهب صاحب «الحدائق» الی خلاف ما ذهب الیه المشهور، مع أنّ الخبر مضافا الی کونه مرسلاً ولا یقاوم مثله بتلک الاحادیث التی قد عرفت اعتبارها، وقوة دلالتها، أنّه معرضٌ عنها عند الاصحاب، ومعلوم أنّ اعراضهم یوجب وهن الروایة المعتبرة، فضلاً عن کونه مرسلة.

مع أنّ التامل فی الروایة _ صدرا وذیلاً _ یفهم أنّ حکم المضطربة و المبتدأة من حیث حکم الحیض والاستحاضة، یکون حکما واحدا، کما صرح بذلک الوحید البهبهانی فی «شرح المفاتیح»، فیکون الملاک الحکم أولاً بالتمّییز بالصفات، ثم الرجوع الی الروایات .

وممّا یزید الحکم وضوحا قوله فی ذیل الحدیث: «وإنّ اختلطت علیها أیّامها، وزادت ونقصت، حتّی لا تقف منها علی حدّ ولا من الدم لون، عملت باقبال الدّم


1- وسائل الشیعة: الباب 3 من أبواب الحیض، الحدیث 4 .

ص:266

وإدباره، ولیس لها سنة غیر هذا، لقول رسول اللّه صلی الله علیه و آله : إذا اقبلت الحیضة فدعی الصلاة، وإذا أدبرت فاغتسلی، ولقوله صلی الله علیه و آله : إنّ دم الحیض أسود یُعرف، کقول أبی: إذا رأیت الدم البحرانی وانْ لم یکن الأمر کذلک، ولکن الدم اطبق علیها، فلم تزل الاستحاضة دَرّة، وکان الدم علی لون واحد، وحالة واحدة، فبسبتها السبع والثلاث والعشرون، لأن قصتها کقصة حمنة حین قالت انی أشجه شجّا» انتهی .

فانت تری کیف جعل سنة السبع والثلاث والعشرین، لمن کان دمها علی لون واحد وحاله واحدة وطبق علیها قصتة حمنة بنت جحش، بلا فرق بین کونها مضطربة أو مبتدأة، کما لا یخفی.

فتصیر هذه العبارة فی الذیل قرینة علی کون المراد من الصدر أیضا مثل ذلک، فلا تکون الروایة معارضة مع تلک الاخبار .

مضافا الی ما قاله الشیخ الانصاری قدس سره فی کتاب «الطهارة» _ ونعم ما قال _ : «من أنّ المستفاد من تلک الأخبار أنّ تمیّز الحیض عن الاستحاضة أمرٌ مرکوز فی اذهان النساء، ومن المسلّمات عندهن بالتجربة والاعتبار، وحینئذ یجب التمییز بها لصدق الحیض علی ذی الصفة، وسلبه عن فاقدها عرفا. وهکذا ثبت تطابق العرف والشرع علی أنّ الأصل فی غیر المعتادة، الرجوع الی الصفات عند الاشتباه»، انتهی کلامه.

بل یستفاد من کلامه رحمه الله عدم خصوصیّة للصفات المذکورة فی الروایة، بل العبرة بما یمتاز به الحیض عن غیره من الصفات، ولو لم تکن الصفات المذکورة موجودة فیها وإنّما کان ذکر هذه الصفات لغلبة اتصاف الحیض بها، وکونها أظهر اوصافه . هذا کلّه لو سلّمنا ظهور الروایة المرسلة فیما قلنا، الموجب لموافقتها للأخبار السابقة.

وإنْ ابیتم وادّعیتم ظهورها بالرجوع الی الروایات فی المبتدأة، سواء کانت لها

ص:267

تمیزا فی صفات الدم أو لم تکن، و کانت ذات دم مستمر بلون واحد وحالة واحدة، فان غایة ما یلزم ذلک حدوث تعارض الظهورین، لأن ظاهر تلک الأخبار هو الاطلاق ویفید لزوم الرجوع الی الصفات مطلقا، أی حتّی فی المبتدأة، فلازم التعارض فی المبتدأة ذات العادة والدم المتمیّز، التی کانت مورد التصادق، والتعارض یکون من باب حمل کل منها علی أظهر أفراده، وعلی القدر المتیقن منه، فالمستفاد من الأخبار المبتدأة ما کانت ذات تمییز، والمستفاد من الروایة المبتدأة إذا کانت ذات دم مستمرة بلون واحد وحالة واحدة فیحمل کلّ منهما علی أظهر افرادها. مع أنّه لو سلّمنا تعارضهما فی مورد المبتدأة التی لها دمٌ قابل للتمییز، فانّه لا اشکال فی تقدیم الأخبار علی المرسلة، وذلک من جهة کثرتها وقوة دلالتها وقوة اعتبار سندها، وکونها معتضدة بالاجماع والشهرة وأمثال ذلک، کما لا یخفی مع المتأملّ .

فبواسطة هذه الروایات، نرفع الید عن اطلاق بعض الاخبار الموثقة الواردة فی المبتدأة من الأخذ بأکثر أیّام الحیض وهو العشرة، وأقل أیّام الطهر، ولعلّ منه روایة موثقة ابن بُکیر، عن أبی عبداللّه علیه السلام ، قال: «المرأة رأت الدم فی أول حیضها، فاستمر بها الدم، ترکت الصلاة عشرة، ثم تُصلّی عشرین یوما، فانْ استمر بها الدم بعد ذلک، ترکت الصلاة ثلاثة و صلّت سبعة وعشرین یوما»(1) .

و هذه الروایة هی التی تمسک بها صاحب «الغنیة».

ومنها: روایة اخری رواها عبداللّه بن بکیر، قال: «فی الجاریة أول ما تحیض یدفع علیها الدم، فتکون مستحاضة، أنّها تنتظر بالصلاة فلاتُصلّی حتّیتمضی أکثرمایکون من الحیض، فاذامضی ذلک وهو عشرة أیّام، فعلت ما تفعله


1- وسائل الشیعة: الباب 8 من أبواب الحیض، الحدیث 6 .

ص:268

بشرط أنْ یکون ما شابه دم الحیض ، لا ینقص عن ثلاثة ، ولا یزید عن عشرة (1).

المستحاضة، ثم صلت، فمکثت تُصلّی بقیة شهرها، ثم تترک الصلاة فیالمرة الثانیة أقلّ ما تترک امرأة الصلاة، وتحبس أقلّ ما یکون من الطمث، وهوثلاثة أیّام، فان دام علیها الحیض صلّت فی وقت الصلاة الّتی صلت، وجعلت وقت طهرها أکثر ما یکون من الطهر، وترکها للصلاة أقلّ ما یکون من الحیض»(1).

ومنها: و هکذا موثقة سماعة، قال: «سألته عن جاریة حاضت أول، فدام دمها ثلاثة أشهر، وهی لا تعرف أیّام اقرائها؟ فقال: أقرائها مثل أقراء نسائها، فان کانت نسائها مختلفات، فأکثر جلوسها عشرة أیّام، وأقلّه ثلاثة ایام»(2) .

فان هذه الأخبار تُحمل علی ما لم تکن للمرأة المبتدأة تمیّیز من الصفات، فحینئذٍ یمکن الالتزام فی مثل هذا المورد من الامور من الرجوع الی عادة نسائها، أو الی الروایات، واللّه العالم .

(1) ورد ذکر هذین الشرطین عند الرجوع الی التمییز، فی کلام جماعة کثیرة من فقهائنا کالشیخ فی «المبسوط»، والمحقق فی «المعتبر»، والعلامة فی «المنتهی» و «القواعد» و«التحریر» و«الذکری»، والشهید الأول فی «الدروس» و«البیان»، والمحقق الثانی فی «جامع المقاصد»، بل وأصحابنا فی کلمات أصحابنا المتأخرین کصاحب «الجواهر» والمحقق الهمدانی، والآملی فی «مصباح الهدی»، والسید فی «العروة»، وکثیرٌ من أصحاب التعلیق علیها، بل


1- وسائل الشیعة: الباب 8 من أبواب الحیض، الحدیث 5 .
2- وسائل الشیعة: الباب 8 من أبواب الحیض، الحدیث 2 .

ص:269

کلهم. بل فی «التذکرة» دعوی الاجماع علیه، کما أنّه یظهر ذلک من قول صاحب «المعتبر».

بل عن بعض نفی الخلاف فیه وذلک لما دلّ الدلیل علی أنّ أقلّ الحیض ثلاثه، وأکثره عشرة، وهذا الحکم مستفادٌ من النصوص والاجماعات الدالین علی اثبات الشرطیة لهذین الأمرین، ولزوم الرجوع الی الصفات والتمییز، فیما کان الدم قابلاً لأن یحکم علیه بالحیضیّة، وهو لا یکون الاّ إذا کان الدم أکثر من الثلاثه _ أو نفس الثلاثة _ ومن دون أن یتجاوز سیلانه العشرة .

و فی مقابل هذین الشرطین قد یفرض فرضین:

الأول: أن یقال بلزوم التحیّض ولو کان الدم أقلّ من الثلاثة کالیومین والیوم الواحد إذا کان الدم قویا بصفة الحیض، وهکذا فی الزائد عن العشرة إذا کان قویّا، من دون ملاحظة التکمیل فی الاوّل ولا التنقیص فی الثانی.

ولازم هذا الاشتراط، عدم کون الناقص بوصف یصف نقصانه، ولا الزائد یوصف زیادته حیضا.

ومعلومٌ أن هذا الشرط ممّا لا خلاف فیه، الاّ عن صاحب «الحدائق» قدس سره ، حیث قال بان لزوم الرجوع الی الصفات والتمییز مطلقٌ أی الا سواء کان أقلّ من الثلاثة أو أکثر من العشره، وذلک لما ورد فی بعض الأخبار _ مثل مرسلة یونس الطویلة _ بأنّ ما شابه دم الحیضٌ، حیض قلیلاً کان أم کثیرا، وحمل الأخبار الدالة علی أنّ أقلّ الحیض ثلاثة وأکثره عشرة علی غیر هذا المورد .

وفیه: أنّه ضعیفٌ ومردود، مضافا الی ما عرفت من مخالفة قوله للاجماع والشهرة، بل مخالفته للأخبار المطلقة الدالة علی لزوم رعایة التحدیدین فی الحیض، فی طرف الأقل بالثلاثة، وفی طرف الأکثر بالعشرة .

هذا فضلاً عن أنّ اخبار الصفات لا تدل علی قصده، لانها باطلاقها وردت فی

ص:270

مورد التمییز بالصفات من الحیض عن الاستحاضة بعد احراز قابلیّة الدم لکونه حیضا باستجماعه للشرایط.

وبذلک یظهر أنّ المراد من القلیل والکثیر الواردین فی المرسلة، هو القلیل والکثیر القابلین لقبول الحیضیة، لا ما اذا کان سیلان الدم مدة یسیرة مثل الساعة أو الساعتین، کما یلاحظ هذا الشرط بالنسبة الی الدم المرئی قبل البلوغ وبعد الیأس، حیث لا یلاحظ فیهما الصفات، لأجل فقد أصل الشرطة، وهو کون الدم بعد البلوغ وقبل الیأس، فهکذا یکون الأمر فی المقام أیضا.

الثانی: جعل الأقلّ من الثلاثة حیضا، مع فرض تکمیله بما هو فاقد للصفات، حتّی یصیر ثلاثا وأزید، و جعل الزائد عن العشرة استحاضة، لکن مع الاقتصار فی الحیضیّة علی العشرة، وحذف الزائد عنها وجعله استحاضة، ولو کان بصفة الحیض بیان القولین: أحدهما: للشیخ فی «المبسوط»، حیث اعتبر ذلک فی طرف الزیادة مع التنقیص، أی یحکم للزائد عن العشرة بأن العشرة حیض والزائد استحاضة، ولو کان بصفة الحیض .

و الثانی: لصاحب «کشف اللثام» و«الریاض»، بالالتزام بما قاله الشیخ فی الأثر، وفی طرف الناقص بالتکمیل، فلو رأت الدم فی یومین علی صفة الحیض، جعلته حیضا بشرط اکمالهما بیوم بعده، ولو کان الدم بصفة الاستحاضة .

و مرجع هذا الاختلاف الی أنّ مقتضی قول المشهور، بلزوم رعایة الشرطین، هو عدم الرجوع فی الناقص عن الثلاثة وفی الزائد عن العشرة الی عادة نسائها، إنْ کانت لهنّ عادة مفروضة، والاّ فانه یجب الرجوع الی الروایات دون الصفات والتمییز. ومقتضی قول الشیخ هو الرجوع الی الصفات فی ناحیة الأکثر، مع تنقیصه عن العشرة، وفی طرف الأقلّ _ مثل قول المشهور _ بعدم الرجوع الی عادة نسائها، أو الی الروایات.

ص:271

ومقتضی قول «کشف اللثام» و«الریاض»، هو الرجوع الی التمییز والصفات فی الطرفین بما فیه صفة الحیض، وفی التکمیل والتنقیص بالرجوع الی عادة نسائهن أو الی الروایات، دون ما کان بصفة الحیض، حیث یکون رجوعا الی التمیّز والصفات فی الحکم بالحیضیة فی الأقل، مع تکمیله بالاستحاضة فی الأکثر عن العشرة .

فاذا عرفت الأقوال فی المسالة فانه ینبغی أنْ نلاحظ ادلّّتهم: فامّا دلیل قول المشهور _ حیث حکموا فی جواز الرجوع الی أدلة التمییز والصفات _ ملاحظة وجود الشرطین، و عدم کون الدم أقل من الثلاثه، ولا أکثر عن العشرة حیضا.

وامّا من کانت فاقدة للشرطین فهو ممن لا تمییز لها امّا لعقدها أو لاختلاط الحیض عندها مع الاستحاضة فلا یمکن فیها القول بالرجوع الی عادة النساء أو الی الروایات الواردة فیه، لأنّ ظاهر هذه الادلة لزوم الرجوع الی العادة فی النساء والروایات، کون کل واحد منهما علی حدّ مرجعا مع القابلیة، أی لا یمکن ملاحظة ذلک الاّ بعد عدم امکان الرجوع الی التمیّیز، لأجل فقده أو لاختلاطه مع الاستحاضة، لکثرة ما یشبه الحیض فیما کان قابلاً، فاذا کان الدم أقلّ من الثلاثة أو أکثر من العشرة، یکون خارجا عن أدلة التمیّیز، أی لا یعدّ وجود صفات الحیض فیهما امارة علی الحیض، حتّی یحکم فی صورة الأقلّ بالحیضیّة، وعلی تکمیلة بالاستحاضة، وفی صورة الأکثر بنقصانه عن الزائد علی العشرة بما یشابه دم الحیض بأنّه حیضٌ، بل یجب فی مثل ذلک عدم الرجوع الی عادة نسائهن أو الی الروایات، لعدم وجود الشرطیة فیه .

مضافا الی کون ذلک مؤیدة ومعتضدة باجماع الاصحاب تحصیلاً ومنقولاً، فلا یبقی حینئذ مورد للقول الثانی المنقول عن الشیخ، أو القول الثالث المنسوب للفاضل الهندی و صاحب «الریاض»، حیث استدلوا بأنّ ظاهر ادلة التحدید لا

ص:272

یقتضی الأزید، من عدم جواز الاقتصار فی التحیّض علی الأقل، بل لابد فی الحکم بالحیضیة من تکمیله الی الثلاثه، أی یترتب علیه حکم الحیض الی الثلاثه، وان کان الدم واجدا للصفات التی تکون امارة علی الحیض وهی کون الدم أقلّ من الثلاثة، وهکذا عدم جواز الحکم بتحیّض تمام الأکثر مع عدم تنقیص الزائد علی العشرة عنها، فانّ هذا لا یقتضی رفع الید عن التمیّز حتّی بالنسبة الی ما فیه علامة الحیض وصفته فی الأقل، ولا ما فیه ذلک بالنسبة الی الأقل عن العشرة، فلابد حینئذ من الرجوع الی عادة النساء أو الی الروایات، لتکمیل ما هو الناقص الی الثلاثة وتنقیص ما هو المتجاوز عن العشرة.

فبذلک یجمع بین ما یدل علی الرجوع بالتمیّز وأخذ ما یشابه الحیض حیضا، وما یشابه الاستحاضة استحاضة، وبین ما یدل علی تحدید الدم بانه حیضٌ، وذلک فیما اذا لم یکن قد نقص الدم عن الثلاثة ولا یزید علی العشرة .

و فیه ما لا یخفی، اوّلاً: إنْ ارید من التکمیل بالثلاثه فی طرف الأقل، تکمیله بواسطة ادلة التمییز، فهو مما لا یمکن یساعدة علیه، لأنّ المفروض فقدانه؛ حیث لا یکون فیه امارة الحیضیة علی الفرض، الاّ یوما، أو یومین، وانْ اُرید تکمیله بواسطة الرجوع الی عادة النساء مثلاً، أو الی الروایات، ربما یزید عن الثلاثة دون أن یضاف الیها، حتّی یقال بجعل ما هو الأقل من الثلاثة حیضا، وتکمیله بالثلاثة مما یشابه دم الاستحاضة، اذ لابد من ملاحظة عدد أیّام عادتهن، فربما تکون أربعة أو خمسة، وهو خلاف ما فرضه «کشف اللثام» و«الریاض» من التحدید بالأقلّ مع تکمیله بالثلاثه، بل وهکذا بالنسبة الی الأکثر، حیث أنّ الشیخ فی «المبسوط» جعل العشرة حیضا، والباقی استحاضة، لأجل التنقیص، مع أنّ مقتضی الرجوع الی عادة نسائهن فی العشرة، ربما یوجب الحکم بحیضیة ما هو أقلّ من العشرة، بأن تکون عادتهن ثمانیة أو سبعة أو غیرهما.

ص:273

فهذا الاستدلال لا یوافق مع شی ء من القولین، من صورتی الزیادة والنقیصة، کما لا یخفی .

وثانیا: أنّه کیف یقدّم حکم ما هو مقتضی مراعات أدلة التمیّز فی الطرف القوی، بجعل الناقص فی الطرف الضعیف حیضا، من تغلیب حکم جانب القوی علی الضعیف علی عکسه، بأن یقدّم حکم طرف الضعیف _ من الحکم بالاستحاضة _ علی الطرف القوی، وذلک بجعل کل دم تراها المرأة حتّی القوی منه استحاضة، اذ لا أولویة للاوّل علی الثانی، غایة الأمر کونهما امارتین، أحدهما امارة للحیضیة فی الطرف القوی، والاُخری امارة للاستحاضة، فتتعارضان وتتساقطان، فلا یترتب حکم احداهما، ولا أوّلویة لأحداهما علی الاُخری. فاثبات حکم الحیضیة لابدّ من دلیل اثباتی علیه، ومع عدمه فیحکم بکونه استحاضة، لما قد عرفت سابقا من أنّه اذا لم یکن الدم حیضا ولا نفاسا، یحکم بکونه استحاضة .

اللّهم إلاّ أنْ یقال فی سبب أولویة امارة الحیض فی القوی، علی امارة الاستحاضة الضعیف، بأنّ الترجیح فی ناحیة الاستحاضة بالحکم بکون جمیع الثلاثة استحاضة، یوجب خروج المورد عن ادلة التمییز، مع أن المفروض اختلاط الحیض بالاستحاضة، فلا یصح تمییزهما بجعل الجمیع استحاضة، لأنه طرح لادّلة التمییز، ولزوم الرجوع الی غیرها من عادة النساء أو الی الروایات .

هذا بخلاف ما لو حکمنا علی الناقص بالحیض، مع تکمیله من الأیام، وعلی الضعیف بالاستحاضة، الاّ فیما یحتاج الیه من التکمیل، فانه یوجب العمل بأدلة التمییز، من دون تقیید زائدٍ علی ما هو المعلوم فی کلّ من الضعیف والقوی، من لزوم وجود القابلیة الشرعیة فیه : هذا، مع امکان المنع من کون المقام من موارد تعارض الامارتین، لانه برغم صحة کون القوی امارة للحیضیة، الاّ أنّه لا یمکن

ص:274

فرض الضعیف امارة للاستحاضة، اذ الاستحاضة إنّما تکون فیما لو فقدت الامارة علی الحیضیّة، لا کونها مشتملاً علی امارة الاستحاضة، فلا یتصور هنا المعارضة بینهما .

و لکن التأمل فی المسألة، یقتضی القول بعدم تمامیة کون القوی فی طرف الأقل أو الأکثر إذا لم یبلغ الی الثلاثة وتجاوز فی الزائد عن العشرة امارة للحیضیّة لأنّ مقتضی الشرطیة بالأمرین _ من عدم کون الدم أقلّ من الثلاثة ولا أکثر من العشرة _ هو عدم اماریة الدم علی الحیض فی الأقل ولا فی الاکثر، والاّ فلولا ذلک لم یبعد دعوی کون الضعیف امارة علی الاستحاضة مثل القوی للحیضیة، لو کان الشرط موجودا فی کلیهما .

فدعوی عدم اماریة الضعیف علی الاستحاضة، لیس علی ما ینبغی، لما قد عرفت من دلالة بعض الأخبار علی اماریة بعض الصفات للاستحاضة.

هذا تمام الکلام فی الشرطین الواردین فی کلام المصنف فی الحیض، من ناحیة الأقلّ بالثلاثة، بأنْ لا یکون الدم أقلّ منها، ومن ناحیة الأکثر الی العشرة بأنْ لا یتجاوز منها .

و لکن الأصحاب لم یقتصروا علیهما فقط، بل اضافوا شرطا ثالثا الیها، و هو لزوم کون أقلّ الطهر عشرة، وقد یعبّر عنه فی بعض الکلمات _ کما فی «کشف اللثام» _ باشتراط عدم قصور الضعیف المحکوم بکونه طُهرا عن أقله وهو العشرة، وهذا هو المشهور، بل فی «کشف اللثام»: أنّه مما لا خلاف فیه، بل فی «الریاض»: أنّه حکی علیه الاجماع.

وهذا هو الاقوی عندنا، بل عند کثیر من أصحاب التعلیق علی «العروة»، مثل آیة اللّه البروجردی، والاصفهانی، والسید عبد الهادی الشیرازی وغیرهم، بل کذلک عند المحقق الهمدانی والآملی صاحب «مصباح الهدی»، وصاحب

ص:275

«الجواهر». هذا فیما لو کان المقصود امکان الحکم بحیضیّة الطرفین القویین مع الضعیف المتوسط، مثل ما لو رأت الدم أسودا غلیظا خلال ثلاثة أیّام، ثم الأصفر لثلاثة أیام، ثم الأسود لثلاثة أو أربعة أیام، ثم اصفرَّ واستمر علی ذلک، حیث یمکن الحکم بکون المجموع حیضا واحدا، حیث لا یخرج المجموع من القویین مع الضعیف المتخلل عن العشرة عن کونها دم واحد، فلا مانع فیه من الحکم بحیضیة المجموع .

فالمحتملات هنا فی مقام الثبوت أربعة: الأوّل: هو الذی عرفت من الحکم بکون المجموع حیضا واحدا، لامکان کون القویین حیضا، فیعقبهما الضعیف المتوسط، فیکون الضعیف هنا کالنقاء المتخلّل بین الدمین الّلذین لا یتجاوز المجموع عن العشرة، فلیس دم الضعیف هنا أقوی من النقاء، فاذا قلنا بالحاقه بالحیض إذا کان متخللاً بین الدمین الموصوفین بالعشرة، ففی الضعیف الموصوف بها تکون الحیضیّة أولی .

نعم، قد یدعّی وجود الفرق بین النقاء المتخلل وبین الدم الضعیف، لأجل أنّ النقاء غیر واجد لامارة الاستحاضة، فلا یحکم علیها، یحکم حینئذ بالحاقه بالحیضیة، بخلاف الضعیف، حیث أنّه واجد لامارة الاستحاضة.

قد یقال بالرجوع الی الصفات والتمییز، بأن یحکم فی القویین بالحیضیة، وفی الضعیف وغیر الفرض المذکور بالاستحاضة.

وقد نُسب هذا القول للشیخ وغیره علی ما فی «الجواهر»، حیث أفتی بمضمون خبر یونس بن یعقوب، وهو : «قال: قلتُ لأبی عبداللّه علیه السلام : المرأة تری الدم ثلاثة أیّام أو أربعة؟ قال: تدع الصلاة. قلت: فانها تری الطهر ثلاثة أیّام أو أربعة؟ قال: تُصلّی. قلت: فانها تری الدم ثلاثة أیّام أو أربعة. قال: تدع الصلاة. قلت: فانها تری الطهر ثلاثة أیّام أو أربعة؟ قال تُصلّی. قلت: فانها تری الدم ثلاثة

ص:276

ایّام أو أربعة؟ قال: تدع الصلاة، تصنع ما بینهما وبین شهر، فان انقطع عنها الدم، والاّ فهی بمنزلة المستحاضة»(1) .

و خبر أبی بصیر، قال: «سألتُ أبا عبداللّه علیه السلام عن المرأة تری الدم خمسة أیّام، والطهر خمسة أیّام، وتری الدم أربعة أیّام، وتری الطهر ستّة أیّام؟ فقال: إنْ رأت الدم لم تُصل، وإنْ رأت الطهر صلت ما بینهما وبین ثلاثین، یوما فاذا أتمت ثلاثون یوما فرأت دما صبیبا، اغتسلت واستشفرت و احتشت بالکرسف فی وقت کلّ صلاة، فاذا رأت صفرة توضأت»(2) .

هذا کما فی «الجواهر»(3) حیث نسبه الی الشیخ، ثم ذکر بعد نقله الخبرین، کلام الشیخ الّذی نقله صاحب «الوسائل»، قال: «قال الشیخ: الوجه فی هذین الخبرین، أنْ نحملها علی امرأة اختلطت عادتها فی الحیض، وتغیرت عن اوقاتها، ولم تتمیّز لها دم الحیض من غیره، أو تری ما یشبه دم الحیض أربعة أیّام، وتری ما یشبه دم الاستحاضة مثل ذلک؟ قال: ففرضها أنْ تترک الصلاة، کلّما رأت ما یشبه دم الحیض، وتصلّی کلما رأت ما یشبه دم الاستحاضة الی شهر. و قال المحقق فی «المعتبر»: هذا تأویلٌ لا بأس به. ولا یقال: الطهر لا یکون أقلّ من عشرة أیّام. لانا نقول: هذا، ولکن هذا لیس بطهر علی الیقین، ولا حیضا، بل هو دم مشتبه، فعمل فیه بالاحتیاط» انتهی.

انتهی کلام صاحب «الوسائل»(4) .

أقول: إنّ ما نسبه صاحب «الجواهر» الی الشیخ من الفتوی بمضمون الخبرین،


1- وسائل الشیعة: الباب 6 من أبواب الحیض، الحدیث 2 .
2- وسائل الشیعة: الباب 6 من أبواب الحیض، الحدیث 3 .
3- الجواهر: 3/273 .
4- وسائل الشیعة: ج 2 / 545 .

ص:277

لیس هو الذی فرضناه فی البحث من کون الدم القویین والضعیف المتخلل بینهما لا یخرج عن العشرة، لوضوح أنّ ما فی الخبرین مرتبط بما یخرج عن العشرة، الذی هو القسم الثانی الذی سیأتی البحث عنه .

فمخالفة الشیخ مع المشهور، کان فی غیر الفرع المفروض، کما لا یخفی، ولذلک تری أنّ صاحب «مصباح الهدی» نسب الی الشیخ فی «المبسوط» فی هذا الفرض بکون المجموع حیضا فراجع کلامه(1) والظاهر کون الأمر کذلک .

و کیف کان، فلا اشکال ظاهرا _ وإنْ کان قد تردد فیه بعضٌ _ هو الحکم بحیضیة المجموع، بالحاق الضعیف المتخلّل بالحیضیة، لکونه أقلّ من العشرة، فلا یمکن أنْ یحکم بالحیضیّة فی الدم الاوّل وبالاستحاضة فی الضعیف وحیضا آخر فی الثانی، لفاقدیته للشرط، مضافا الی ما عرفت من أنّه لیس حکم الضعیف أولی من الطهر المتخلّل بین القویین، حیث یحکم بحیّضیته، وکون المجموع مع النقاء حیضا واحدا وإنْ کان قد ناقش فیه بعض الفقهاء، وحکموا بالاحتیاط فیه بالجمع بین عمل المستحاضة وتروک الحایض، کما تری التصریح بذلک من صاحب «العروة» فی مسئلة السابقة من باب الحیض.

هذا تمام الکلام فی الصورة الاولی من الاحتمال الاول، من الحکم بحیّضیة المجموع، وعدم الرجوع الی الصفات والتمییز بالنسبة الی الضعیف _ لکونه فاقدا للشرط وهو وجود الفصل المتخلّل بین القویین بالعشرة، وان ناقشنا فیه وقلنا انه لیس الأمر کذلک .

و اما الاحتمال الثانی: أی ما کان المجموع غیر خارجٍ عن العشرة، فیقال بأنّه من موارد فقد بالنسبة الی القویین _ کالثلاثة فی الأول والثلاثة فی آخر العشرة _


1- مصباح الهدی: ج5/13 .

ص:278

لأجل تعارض اماریة الوجدان فی القویین مع الفقدان فی الضعیف، فالتعارض بینهما ساقط، فتصیر المرأة فاقدة للتمییز، و علیها أن ترجع حینئذ الی عادة نساء أهلها، أو الی الروایات، فلا یقاس الضعیف هنا بالنقاء المتخلّل لأنّ مقتضی أدلة التمییز کون الضعیف طاهرا، کما ان القوی یعدّ حیضا، بخلاف النقاء المتخلّل، حیث أنّه لا یعارض الحکم بحیضیته مع شی ء من الأدلة .

فیدور الأمر فی المقام بین الأربع: إمّا القول بکون المجموع حیضا، وهو باطل، لأنّه ینافی مع أدلة التمییز الدالة علی کون الضعیف استحاضة، بمثل بطلان القول بکون القویین حیضا، والضعیف استحاضة لأنّه مناف مع ادلة اعتبار کون الطهر بالعشرة، ولا یکون بالاقل منها، وهو هنا أقلُ.

أو القول بکون أحد القویین حیضا بکلا وجهیه، وهو مستلزم للترجیح من غیر مرجح، لأنّ المفروض هانما أنّ کلاً من الطرفین واجدٌ للتمییز والصفات، فلا وجه لترجیح الأوّل علی الثانی أو بالعکس، فیجب الرجوع حینئذٍ الی عادتها الأصلیّة المعتادة علیها، أو تتمسک بالروایات.

هذا هو الاحتمال الثانی فی المقام .

و أمّا الاحتمال الثالث: هو الحکم بکون القویین الواقعین فی طرفی الضعیف حیضا، والضعیف المتخلّل بینهما استحاضة، وانْ کان المجموع بینهما أقلّ من العشرة. هذا بناء علی مختار صاحب «الحدائق» من أنّ اعتبار العشرة للنقاء بین القویین، شرط بین الحیضتین، لا بین الحیضة الواحدة، کما فی الفرض، فلا بأس هنا بالحکم بالحیضیة فی الطرفین، والاستحاضة فی الوسط .

وفیه: قد عرفت بأنّه غیر تام، لأنّ ظاهر الأدلة، وکلمات الأصحاب والنصوص، هو شرطیة کون الطهر بالعشرة، و أن لا یکون أقل منها، بلا فرق بین القویین فی حیضة واحدة، أو فی حیضتین، فحیث لا یکون واجدا للشرط، فلا

ص:279

یمکن الحکم بالاستحاضة فی الضعیف، کما لا یخفی .

و أمّا الاحتمال الرابع: هو الحکم بحیضیة أحد القویین والضعیف، والحکم علی القوی الآخر بالاستحاضة.

فهو أیضا علی احتمالین: أحدهما: عدّ الاول حیضا، والآخر مع الضعیف استحاضة.

والثانی: کون الاول مع الضعیف استحاضة، والآخر حیضا.

وقد یتصور هنا احتمال ثالث وهو التخییر بینهما بین الموردین .

و قد یستدل للرابع، بأنّ کون أحد القویین حیضا، فان ذلک لدلالة ادلة لزوم الرجوع الی التمییز وقاعدة الامکان کما أنّ الحکم بکون الضعیف استحاضة فلظهور أخبار التمییز فی کون الصفرة علامة الاستحاضة، فبذلک یحکم فیه بالاستحاضة _ لا لعدم وجود علامة الحیض فیها، فاذا حکمنا بالاستحاضة فی الضعیف، فانّه یجب أنْ یکون أحد القویین ایضا استحاضة، و الا یلزم أنْ یکون الطهر _ أعنی ما هو محکوم بالاستحاضة _ أقلّ من العشرة، وحینئذ فانْ لم یکن مرجّحٌ فی البین لجعل أحد الدمین حیضا للزم أن تتخیّر المرأة بینهما، فی جعل أحدهما حیضا، وإنْ کان لأحدهما هنا مرجحٌ فیکون هو المقدم.

ولا یبعد أنْ یکون المقام مما فیه المرجّح، ولعلّ وجود المرجح فی جانب القوی المتقدم، من اجراء قاعدة الامکان، وما فی الأخبار الواردة فی المبتدأة والمضطربة من الأمر بالتمییز بمجرد الرؤیة.

مضافا الی أنّه لا معارض له فی الاوّل، إذ الشرطیة إنّما یتحقق بعد الحکم بالحیضیة فی الاوّل لوجود امکان ملاحظة الفصل بینه وبین ما یأتی من القوی من أقلّ الطهر وهو العشرة.

والتمسک باستصحاب بقاء الطهر، وعدم الحیضیة الی زمان القوی المتأخر،

ص:280

لیس بوجیهٍ، لأنّه بعد تحقق علامة الحیضیّة وقابلیة انطباق الکبری علی الصغری، وتطبیقها علیها، فلا یبقی مورد لاجراء الاستصحاب، لأنّه فرع وجود الشک للمکلّف، فمع تطبیق الدلیل علیه، والحکم بالحیضیة، لا یبقی له شک حتی یقدم علی اجراء الاستصحاب.

فدعوی المرجحیّة للاوّل علی الثانی لیست بمجازفة .

و قد عرفت منا فی أوّل البحث من القول بأنّ الأقوی عندنا هو الاحتمال الاوّل، بجعل المجموع حیضا واحدا، بالحاق الضعیف الی القوی، لأنّ المجموع لا یتجاوز عن العشرة.

أمّا اشتراط الطهر فی البین، إنّما یکون فی الحیضتین، وفی الحیضة الواحدة، اذ لم یحکم فی الضعیف أنّه حیض والاّ لا حاجة الی مثل هذا الشرط، لکونه حیضا، فلا حاجة لأن نرجع فی الضعیف هنا الی التمییز والصفات.

هذا تمام الکلام فی الصورة الاولی، أی فیما اذا لم یکن مجموع الدم الخارج _ من الحیض والضعیف المتوسط _ عن العشرة .

أمّا الصورة الثانیة: وهی ما لو کان الدم بصفة الحیض فی الطرفین، مع الضعیف فی الوسط، اکثر من العشرة، کما لو رأت دم الحیض لثلاثة أیام، ثم رأت ثلاثا دم الاستحاضة، ثم رأت الاسود، واستمر الی ستة عشر یوما.

ومعلومٌ أنّ الجمع بین تمام الأیام، یتجاوز عن العشرة، وقد عرفت أن الشرط فی الحیض، هو عدم التجاوز عنها، فمن المعلوم عدم امکان الحکم بحیضیة الدمین القویین جمیعا، مع الضعیف المتوسط.

وقد نقل صاحب «الجواهر» عن الشیخ فی «المبسوط» من أنّ حیضها فی المفروض العشرة، وإنّ الأیام الستة السابقة استحاضة.

ثم ضعَّفه بقوله: فما فی «المبسوط» ضعیف.

ص:281

وقد استظهروا من قوله: «وإنّ الستة السابقة استحاضة»، أنّه جعل الحیض فی الأخیر الی أن یتم العشرة، وجعل الثلاثة الأولی مع المتوسطة استحاضة، کما أشار الیه صاحب «الجواهر» قدس سره بقوله: «وإنّ وجّهه المصنف بأنّه لما حکم بأن الثلاثة استحاضة، خرج ما قبله، فانه لا یترجح لاخراج السابق علی اخراج اللاحق، فتأمّل»(1).

والظاهر أنّ قول صاحب «الجواهر»: «فانّه لا ترجیح... الی آخره» ورد لبیان وجه الضعف.

ولعلّ وجه التأمّل، هو أنه یرد علیه مثل ما یرد علیه فی الاوّل، من أنّه لا ترجیح لاخراج اللاحق علی اخراج السابق من حیث وجود العلامة .

و کیف کان، بما أنّه قد استشکل عنده الأمر من الحکم بالحیضیة فی کل من الطرفین، ذهب الی القول بأنّ الأقرب فی مثل ذلک _ کما فی «کشف اللثام» وعن «التذکرة» واستحسنه المصنف _ کونها فاقدة للتمییز، فترجع الی عادة النساء أو الی الروایات.

وهذا القول یعدّ فی مقابل قول الشیخ، قولاً ثانیا .

ویحتمل ثبوتا من امکان الحکم بالحیضیة فی العشرة، من جعل العلامة دلیلاً علی الحیض فی الثلاثة الاولی، والباقیة من العلامة للحیضیة بعد ثلاثه علامة الاستحاضة، الی أن تتم العشرة حیضا، والباقی بعد العشرة استحاضة، بحیث یصیر مجموع العشرة حیضا وبعدها استحاضة.

قد یقال فی توجیه ذلک أن ما یمکن أن تجعلها حیضا یُحکم بحیضیته من الأول والاخر، أمّا الضعیف المتحلّل فمحکومٌ بالحیضیة أیضا، لکونه أقصر من


1- الجواهر: 3/274 .

ص:282

أقل الطهر، فیکون حالها کحال النقاء المتخلّل.

وهذا هو ثالث الاحتمالات .

و لکن صحة هذا الاحتمال، مبنیٌ علی عدم جعل علامة الاستحاضة علامة لها، بل یعدّ هذا الدم استحاضة لفقدها علامة الحیضیة، والاّ فانّه اذا ذهبنا الی أنّ للاستحاضة علامات متمیّزة، لما أمکن من الحکم بالحیضیّة علی الدم فی فرضنا هذا، کما لا یخفی .

و لکن الأقوی عندنا، _ وعند صاحب «العروة» والبروجردی، والمیرزا عبد الهادی الشیرازی، والاصطهباناتی والسید الاصفهانی _ هو الحکم بالحیضیة فی الثلاثة الاولی، و عدّ الباقی استحاضة، لأجل أنّ قاعدة الامکان جاریة فی الثلاثة بلا معارض، فضلاً عن انتقال الدم علی علامات الحیض، فلا وجه لرفع الید عنهما.

وامّا عدم الحکم بالحیضیّة، فانّ ذلک لاجل استمرارها بما قد یتجاوز العشرة، وإنْ کانت واجدة للصفات، ولکن لا یمکن التبعیض فی العلامة بان نستدل بها علی الحیضیة فی بعض الایام، ونترک الاستدلال بها فی غیرها، کما لا یمکن جعلها حیضةً ثانیة، لأجل عدم امکان صیرورة الضعیف المتوسط بأقل الطهر وهو العشرة حیضا، کما لا یمکن الحکم فی المتوسط بالاستحاضة، لأجل وجود امارتها فیها.

فالمورد علی هذا التقدیر والبیان بالنسبة الی الثلاثة الاولی لیس خارجا عن أخبار التمییز والصفات .

مضافا الی ما قیل من الاشکال، من أنّ جعل بعض القوی الأخیر من الحیضة الاولی _ وهو ما یصحّ منه فی العشرة بحکم التمّییز _ موجبٌ لخروج المورد عن محتوی أخبار، التمییز لصیرورة المرأة حینئذ بمنزلة التی یستمر دمها علی هیئة

ص:283

واحدة الی أن تتجاوز العشرة، فیکون مرجعها عادة نسائها أو الروایات، وهذا بخلاف جعل القویّ الأول حیضا، والباقی استحاضة، فانه یعدّ عملاً عمل بأخبار التمییز، کما لا یخفی.

هذا کما فی «مصباح الهدی»(1) و«مصباح الفقیه»(2) .

و لکن لا یخفی ما فیه، فانّ فرض المورد کالمرأة المستمرة علی هیئة واحدة الی أن تتعدی الایام العشرة، إنّما یکون بالنسبة الی القول الأخیر الی أن یتم العشرة، لا بالنسبة الی القوی الاوّل الذی یتعقّبه الضعیف الذی یتضمن علامة الاستحاضة .

فالأولی أن یقال فی توجیه کلام صاحب «الجواهر» _ تبعا ل_ «کشف اللثام» و«التذکرة» _ إنّ: فرض تحیّر المرأة فی مثل المورد، یکون لأجل تحیّرها بین کون الحیض هو القوی الاوّل أو الثانی، مع فرض کون الضعیف علامة للمستحاضة، فالمرأة المتحیرة تعدّ فاقدة للتمییز، فترجع الی عادة نسائها إنْ علمت بذلک، والاّ فانّ علیها العمل بمقتضی الروایات .

و لکن قد عرفت منا وجه قوة الحکم بالحیضیّة فی الاولی، وعدم عدّ المرأة حینئذٍ متحیرة، فالمورد یکون فی موارد لزوم الرجوع الی أخبار الصفات والتمیّیز بالنسبة الی القوی الاوّل، والحکم بالاستحاضة فی الباقی، واللّه العالم .

ثم إنّ اشتراط کون أقل الطهر عشرة، وعدم امکان کونه أقلّ منها شرطٌ ثابتٌ فی الحیضتین، أی لا یمکن جعل القوی الثانی حیضا مستقلاً، الاّ بعد مضی العشرة من القوّی الاوّل، بلا فرق فی الطهر المتوسط بین الحیضین بالعشرة أو


1- مصباح الهدی: 5/16 .
2- مصباح الفقیه: 4/231 .

ص:284

ازید، سواءً کانت المرأة فی هذه الفترة طاهرة ونقیة عن الدم، أم کانت تری الدم الضعیف الذی یحکم باستحاضة .

و اما إذا کان الدم الضعیف أو النقاء المتوسط خلال العشرة، أی لم تتجاوز المجموع عن العشرة، وأمکن الحکم بحیضیة الطرفین، ولم یکن بأقل من ثلاثة أیام متوالیة _ التی هی شرط فی الحکم بالحیضیة _ فالاقوی فیها عندنا، هو الحکم بالحیضیة فی القویین، مع الضعیف المتوسط الذی کان أقلّ من العشرة، وکان المورد من موارد الرجوع الی أخبار التمییز بالصفات، فانه فی هذه الصورة لا تعدّ المرأة متحیرة مترددة حتّی یوجب صدق کونها فاقدة للتمییز _ کما علیه البعض _ حتی یقال بلزوم الرجوع الی عادة نسائها، أو الی الروایات، فلا یکون فی الرجوع الی أخبار الصفات، فی مثل هذا الفرض الذی یمکن عدّ المجموع حیضا واحدا، شرطیة عدم قصور الضعیف عن أقل الطهر، کما لا یخفی.

ولعلّه لذلک _ أی لأجل کون البحث الذی تعرض له المصنف کان فی الحیض الواحد _ لم یذکر هذا الشرط هنا، وإنْ کان شرطیّته فی الحیضتین مما لا اشکال فیه، واللّه العالم .

هذا، وقد أضاف بعض الفقهاء فی شرطیة الحکم بالحیضیة بالرجوع الی الصفات شرطا آخر، وهو أن لا تکون معارضة مع العادة، حیث أنّ وجود العادة فی المرأة المعتادة، موجب للحکم بحیضیة عادتها، لا الرجوع الی التمییز، اذ الثانی انما یکون المرجع بعد فقد الاولی.

ولعلّ وجه عدم ذکر المصنف لهذا الشرط الزائد، هو استغنائه عنه، لأجل أنّه یبحث عن حکم المرأة المبتدأة التی لا عادة لها حتّی یقال بتقدّمها ، ففرضه خارجٌ عن مورد هذا الشرط .

کما أنّه لا حاجة الی ذکر اشتراط عدم خروج الدم عن الأیسر، بناء علی أنّ

ص:285

الحیض لا یخرج عن الأیسر، لأنّه قد فرض فی کلامه حدوث الخلط والاشتباه فی الدم بین الحیض والاستحاضة، وهذا لا یحصل الاّ عند وجود الشبهة والتردید.

کما أنّ فرض المصنف المسألة فی المتجاوز عن العشرة، یجعله مستغنیا عن اشتراط التجاوز فی الرجوع الی التمییز، کما لا یحتاج الی اشتراط عدم معارضة صفة الدم بصفة أقوی، لوضوح أنّه لا یعدّ فی الحقیقة شرطا للتمییز أو الرجوع الیه، لامکان تحققهما مع المعارضة المذکورة، لکنها ترجع الی الأقوی علی القول به، کما سیاتی بحثه إنْ شاء اللّه تعالی .

تنبیهٌ: اعلم أنّ بعض الأوصاف المشترطة فی الحیض _ کالسواد والحمرة والغلظة، والطراوة والعبطة (بمعنی السلامة)، والحرارة والحرقة، والاستحاضة _ کالرقة والبرودة والأصفریة _ منصوصة علیها فی الأخبار، ومن هنا فلا تردید فی عدّ المنصوص علیها علامات علی کل واحد منهما. لکن توجد بعض الاوصاف والعلامات _ کالشقرة فی مقابل الکدرة وما له ریح نتن وفاقده _ غیر المنصوص علیها فیهما، یمکن ان تکون ممیّزة لهما، ومن هنا ادعی اعتبار مطلق الظن الحاصل للمرأة فی کفایته علی ترتیب آثار احدهما علیها، حتی لو کانت العلامة من غیر الامارات، لأنّ الملاک فی ترتب الآثار حصول مطلق الظن بذلک، ومن أیّ طریق حصل.

لکن اثبات ذلک مشکل جدّا، اذ لا دلیل لنا علی اعتبار مثل هذا الظن، وجواز ترتیب الأحکام الشرعیة علیه.

ولا فرق فی مثل هذا الظن فی عدم الاعتبار، إذا لم یکن مستندا الی الامارات المنصوصة حقّه بین المجتهد وغیره، إذ لیس جعل الاعتبار و الجمعیّة لمثل هذا الظن من منصب المجتهد، حتّی یقال بحجیّته فی حقّه _ کبعض الظنون المختصة بالمجتهدین فی الأحکام الشرعیة والوضعیة _ لان المجتهد مع غیره فی هذا الظن

ص:286

علی حدّ سواء، کما لا یخفی .

کما لا یصحّ دعوی اختصاص الظن الحاصل من خصوص الامارات المنصوصة، بل لا یصح أیضا دعوی الاقتصار علی المنصوصة، ولو لم یحصل منها الظن، لأنّ ما ذکر من اعتبار وحجیّة الامارات المنصوص علیها لکونها علامات لحصول الظن بکونه حیضا، فاذا حصل لها الظن من الامارات الدالة علی حیضیة الدم ولو لم یکن منصوصةً کان معتبرا .

و لقد أجاد فیما أفاد الشیخ الاعظم قدس سره فی کتاب «الطهارة» حیث قال: «ویلزمهم ملاحظة مراتب الصفات، فالأشد سوادا أو حرارة أو ثخانة قوی ما دونه، وذکروا أن ذا الوصفین قوی ذی الوجه، إذا لم یکن أقوی منهما» .

و لعلّ هذا کلّه لما یستفاد من الأخبار، من أنّ العبرة بقوة الدم وضعفه، عند اشتباه الحیض بالاستحاضة، کما یشعر به بل یدل علیه التعبیر عن ذلک فی المرسلة بالاقبال والادبار، وقوله علیه السلام : «دم الحیض أسود یُعرف»، وقوله علیه السلام : «دم الحیض لیس به خفاء»، فانّ الظاهر من وکوله الی الوضوح _ مع أنّه لا یتضح عنه للعرف، ولا یمتاز عن الاستحاضة، الاّ بالقوة والضعف مطلقا لا خصوص ما نصّ علیه فی الروایات _ أنّ العبرة فی التمییز لمطلق الامارات المختصة بالحیض غالبا انکشافه عند العرف عن الحیض کشفا ظنیا، لا أنّ العبرة لمطلق الظن، حتّی یلزمه اعتبار الظن ولو من غیر الصفات، وهو باطلٌ اجماعا) انتهی کلامه(1) .

و کذلک قد حُکی عن جماعة من المحققین، کالشیخ والمحقق والشهیدین والمحقق الثانی، وکثیر من المتأخرین مثل صاحب «الجواهر» و«مصباح الفقیه» و«مصباح الهدی» وأصحاب التعلیق علی «العروة»، من جواز التعدی الی غیر


1- کتاب الطهارة: 211 .

ص:287

المنصوصة من الامارات، وجعلوا المدار فی التمییز علی القوة والضعف.

وهذا هو الأقوی عندنا، فالمسألة واضحة لا نقاش فیها .

وبعد وضوح وثبوت هذا الأمر، فانّه یترتب علیه بأنّ الصفات والامارات علی حیضیّة دم الحیض تکون فی ثلاث:

الأولی: فی اللون، فالأسود قوی الأحمر، والأحمر قوی الأشقر، والأشقر قوی الأصفر، والمنکدر کما عن «النهایة»، أو انه قوی الأصفر، والأصفر قوی المنکدر کما فی «المسالک» .

الثانیة: فی الرائحة، فذوا الرائحة الکریهة قوی قلیلها، وهو قوی عدیمها .

الثالثة: فی الثخانة، فالثخین قوی الرقیق .

وهذا هو مستفاد من کلمات أصحابنا .

کما أنّهم ذکروا أیضا بأنّ ذا الوصفین قوی ذی الواحد، إذا لم یکن أقوی منهما، وکذلک یلزمهم القول بکون الأشد سوادا أو حرارة أو ثخانة، قوی علی ما دونه.

وکلامهم لا یخلو عن قوة وجودة، لما قد عرفت أنّه المستفاد من النصوص ما دل علیه مرسلة یونس الطویلة .

و یترتب علی هذه المسألة أنّه لو انحصر الدم فی القوی والأقوی و تعارضا، مثل ما لو رأت الدم أیّاما اسود وأیّاما أحمر، فهل یحکم بحیضیّة کلّ منهما أم لا؟

فلها صورتان: تارة: تفرض الایّام فی الموردین بما یزید انضمامهما معا عن العشرة، کما لو رأت الدم فی خمسة أیّام أسود، وفی ستة أیّام أحمر، فلا اشکال فی الحکم بالحیضیة فی الاقوی، والاستحاضة فی الضعیف _ وهو الأحمر _ لأنّ الثانی فاقد للشرط من جهة تجاوزه علی العشرة .

واُخری: ما لا یکون انضمامها کذلک، أی لم یتجاوز عن العشرة، کما لو رأت الدم ثلاثة أیّام أسود، وثلاثة أیّام أحمر، فیحکم بالحیضیة فی کلیهما، لوجود

ص:288

الامارة فی کلیهما، ووجدان الشرط فیهما، فلا وجه لاخراج الثانیة عن الحیض، کما لا یخفی.

إذا عرفت الحکم فی هذه الامارات، کذلک یکون الحکم فی سائر الصفات، إذا حصل تعارضٌ بین الاقوی والضعیف، وذلک لوحدة الملاک فیها، کما هو واضح .

و ممّا ذکرناه وفهمت الملاک فیه، بامکانک معرفة الجواب عن مسألة اخری اشار الیها صاحب «الجواهر»، والسیّد فی «العروة»، وهی المسألة الثامنة فی هذا الباب، وهی ما لو رأت المرأة الدم بصفة من الأقوی لثلاثه أیّام کالسواد، ومن القوی لثلاثة أیّام کالاحمر، ثم رأت ما فیه صفة الاستحاضة، ففی مثل ذلک هل یحکم بتحیض الستّة، من جعل الأحمر من الحیض، أو التحیض فی خصوص الأقوی وهو السواد، والحاق القوی _ وهو الاحمر _ بالاستحاضة أم لا؟

فیه قولان: قولٌ: باعتبار الوجه الثانی وهو المحکی عن «المعتبر» و«المنتهی» وفی موضع آخر من «التذکرة»، مستدلین علی ذلک بأنّ الحمرة مع السواد إذا تجاوز عن العشرة، مع الانفراد عن الصفرة، تکون استحاضة، وکذلک یکون مع الانضمام، مضافا الی دلالة الأصل الحکمی وهو البرائة عمّا یجب علیها من احکام الحیض أو الأصل الموضوعی، بأن یکون الأصل عدم حیضیتها زائدا علی ما هو الثابت فی حقّها هو، ومن قوتهما بالنسبة الی الأصغر.

وقول: باعتبار الوجه الاوّل، لأجل أنّ الحمرة تعدّ من امارات الحیضّیة _ کالسواد _ والمفروض واجدیته لجمیع شرائط الحکم بالحیضّیة، وامکان جریان قاعدة الامکان فیه. مضافا الی کون الأصل هو الحکم بالحیضیة، لاستصحاب حالتها السابقة، مع ان «الجواهر» قد استدل باصالة عدم الاستحاضة، والظاهر کون مراده هو الاستصحاب المزبور، والاّ لا معنی لهذا الاصل الاّ بملاحظة حالها قبل رؤیة الدم، إذا ارید اجراء ذلک الاصل بالنسبة الی ما بعد الثلاثة الایام التی

ص:289

رأت فیها الدم الاسود. ولکنه استدلال مردود لانقطاعه قطعا بالحیضیة المقطوعة فی البین.

ولو سلّمنا ذلک، فانه معارض مع اصالة عدم الحیضیة أیضا لولا الاستصحاب الذی ذکرناه، لتساوی الاحتمالین بالنسبة الی الثلاثة المتوسطة، کما لا یخفی علی المتأمل .

و قد یقال أو یمکن أنْ یقال _ وإنْ لم نشاهد التصریح به من أحد _ بوجود احتمال ثالث، وهو: القول بلزوم الاحتیاط، بالجمع بین تروک الحائض و اعمال المستحاضة فی الأحمر، استدلالاً بأنّ الأحمر ضعیف بالنسبة الی الأسود، وقوی بالنسبة الی الأصفر بعده، فالاضافتان متعارضتان ومتساقطتان، فیبقی الدم الاحمر مجهول الصفة، فیشکل ترجیح احدی الاضافتین علی الاخری، فیلزم الاحتیاط فی الایام الثلاثة الأخیرة : و امّا الجواب عن جمیع ذلک من القولین الاخیرین: أولاً: قد عرفت أنّه إذا کانت الحمرة من صفات الحیض، وجری فیها قاعدة الامکان، وکانت واجدة للشرائط، فأی مستند ودلیل یُسوّغ لنا الحکم بکونه استحاضة؟!

وثانیا: یجاب عن الاستدلال الأخیر، بأن الاضافتان الاضافتین إذا تعارضتا وتساقطتا، فان المرجع بعد ذلک هو الدلیل الاجتهادی، ومع فقدانه نرجع الی الدلیل الفقاهتی، والمفروض هنا وجود الثانی، لو سلّم فقدان الاول، وهو استصحاب الحالة السابقة من الحیضیة، والرجوع الیه یکون بلا محذور، وهو حاکمٌ علی دعوانا، کما علیه صاحب «الجواهر» وصاحب «مصباح الهدی» والسیّد فی «العروة» وکثیرٌ من أصحاب التعلیق متابعین بذلک کلام صاحب «الریاض» الذی نسبه لصاحب «نهایة الأحکام» وموضع آخر من «التذکرة» .

ثم فی «الجواهر» بعد ذکر هذا الفرع، قال: «أمّا لو فرض المثال بتبدیل الأحمر

ص:290

فیه بالأصفر، والأصفر بالأکدر مستمرا، فانّ الظاهر خلافه، وإنْ کان قضیة کلامه التزامه، لکونهما قویین بالنسبة الی الأکدر بناء علی ما تقدم من قوة الأصفر علیه.

لکنه کماتری یکاد یکون مخالفا لصریح النص والفتوی»، انتهی محل الحاجة(1) .

و الظاهر عدم تمامیة هذا الاشکال، لأنّ المستدل قد ضمّ الی جانب دلیله دلیلاً آخر وهو امکان حیضیّتهما _ حیث یمکن أنْ یکون مراده من الامکان وجود جهة الاماریة والصفة، فاذا فرض کون الأصفر مثل الأکدر من صفات الاستحاضة، من جهة النصّ والفتوی، فلا یبقی حینئذ للتمسک بدلیل قوتهما علی الآخر محل ومقام، کما لا یخفی .

تتمیم: و فی «الجواهر»: «بقی هنا شی ء ینبغی التنبیه علیه، وهو هل یشترط فی الرجوع الی التمییز، کون کلّه أو بعضه فی ضمن العشرة، أو یکفی ولو کان فی خارجها، کما لو رأت مثلاً أحد عشر أصفر، ثم ثلاثه أسود، ثم انقلب أصفر، فهل تتحیّض بالثلاثة فحسب، أو تکون فاقدة التمییز؟ لم أر تنقیحا لذلک فی کلامهم، إلاّ أنه قد یظهر من تعلیقهم _ الرجوع للتمیّز أو عادة النساء أو الروایات بمجرد تجاوز العشرة _ الثانی _ وکذا مما یفهم من مطاوی کلماتهم، فی الاستظهار للمبتدأة وغیرها، أنّ الزائد علی العشرة استحاضة، وأنّه من أیّام الطهر التی یحکم بکون الدم فیها طهرا، وإنّ کان أسود، بل لعلّه المنساق من نحو عبارة المصنف: «قد امتزج حیضها بطهرها».

ثم نقل کلمات الأصحاب فی ذلک تأییدا لما ادّعاه، الی أنْ قال : «لکن قد یظهر من «الذکری» و«جامع المقاصد» خلاف ذلک، حیث قالا: إنّه قد تترک ذات التمییز العبادة عشرین یوما، کما لو رأت عشرة أحمر، ثم انقلب أسود تمام


1- الجواهر ج3/277 .

ص:291

العشرة الثانیة، إذ فرضها حینئذ الرجوع الی الأقوی، بل فی الاخیر امکان الزائد علی ذلک أیضا، فیما لو فرض مجی ء الأقوی من الثانی. وربما یؤیده اطلاق ما دل علی التمیّز المتحقق فی ضمن العشرة وغیرها، والمسألة لا تخلو عن اشکال» انتهی کلامه(1) .

و لا یخفی علیک أنّ المتامل فی کلماتهم، یفید عدم ورود الاعتراض علیهم، ولا تکون المسالة مورد اشکال، لوضوح أنّ الکلام تارة یلاحظ من جهة وروده فی حق المبتدأة، أی التی لم تستقر علیها العادة، بل قد تکون أول ما رأت الدم، فتارة تکون دمها حین الشروع واجدة لصفات الحیض واماراته، فیحکم به حینئذٍ إذا کان متوالیة فی ثلاثة أیّام، ولم تتجاوز العشرة.

فلا اشکال فی هذا الفرض، من عدم الحاجة الی التمیّز، لأنه یحکم بحیضیة جمیع أیّامها، بلا فرق بین کون الدم فی جمیع الأیام بصفة الحیض، أو فی بعضها، لأنّ انقطاع الدم قبل العشرة، یوجب الحکم بالحیضیّة فی الجمیع، ولا یرجع فی مثله الی التمییز، لعدم وجود اضطراب فی المرأة ولا اشتباه من جهة القواعد، حتّی یقال فی حقّها انها ذات تمییز أو فاقدة له .

و اُخری: یفرض مثله من جهة استمرار الدم وانقطاعه قبل العشرة، لکن مع اعتبار کون المرأة مبتدأة، وصفة الدم عندها فی جمیع الأیام بصفة الاستحاضة، أی کان ضعیفا فاترا.

ففی مثل ذلک إنْ حکمنا فی الدور الاوّل بأنّه حیض بمجرد الرؤیة، ولو کان بصفة الاستحاضة، فلا مورد حینئذ أیضا للتمییز، اذ لا یحکم فی مثله بالتمییز، لعدم وجود اشتباه بین الحیض والاستحاضة حتّی یحکم بالتمییز .


1- الجواهر: 3/278 .

ص:292

و امّا فی غیر هذین الفرضین فی المبتدأة، مثل ما لو رأت الدم بصفة الحیض فی والجمیع وقد تجاوز العشرة، أو رأت الدم بصفة الاستحاضة فی الجمیع وتجاوز عن العشرة، وقلنا بانّه لابد فی المبتدأة من الحکم بالحیضیة بمجرد الرؤیة وعلی أیّ تقدیر، فلابد فی مثله من اجراء التمییز فی العشرة إن کان ذلک، والاّ _ کما فی الفرضین _ فلابد من الحکم بالحیضیة فی الثلاثة من باب القدر المتیقن، لا التمییز، لانه حینئذ مفقودٌ علی الفرض، أو القول بالرجوع الی عادة النساء من أقاربها، أو الی الروایات.

وفی مثل هذا الفرض قد حکم الشیخ فی «المبسوط» _ فیما إذا رأت المبتدأة ما هو بصفة الاستحاضة ثلاثة عشر یوما، ثم رأت ما بصفة الحیض بعد ذلک واستمر _ بان ثلاثة أیّام من اوّل الدم کان حیضا، والعشرة طهرا، وما رأته بعد ذلک من الحیضة الاتیة.

و یعدّ کلامه رحمه الله جیّدا إنْ کان یقصد الحکم بذلک من باب القدر المتیقن، لا التمییز، کما أشار الیه المصنف فی ذیل کلامه من قوله: أو یقال بالرجوع الی النساء أو الی الروایات، لکونها فاقدة التمییز فی العشرة، ولا أثر لوجود التمییز بعد العشرة، بعد فرض الحکم بالحیضیة فی الدور الأول، بمجرد الرؤیة، الاّ بعد مضی أقلّ الطهر من زمان ما حکم بحیضتها فیه، کما أشار الیه الشیخ فی آخر کلامه .

فالذی یجری فیه قاعدة التمییز، عبارة عن المبتدأة التی إذا رأت الدم المتفاوت فی العشرة وما زاد علیها، بان رأت فی أولها بصفة الحیض، ثم بصفة الاستحاضة، الی أن تجاوز العشرة، فحینئذٍ یصحّ أنْ یحکم بالرجوع الی التمییز والحکم بالحیضیّة فی ما بصفتها، إذا کانت فی ثلاثة متوالیة او أزید، والباقی استحاضة .

کما یصحّ سریان هذا الحکم بعد الحکم بحیضیّة ما رأت فی الاوّل، ثم بالضعیف فی عشرة أو ازید، أو بالنقاء فی هذه المدّة، ثم رأت الدم متفاوته، حیث

ص:293

یصحّ ایضا اجراء قاعدة التمییز فی هذا الفرض ایضا، لأنّه حیضة ثانیة بعد الحیض والطهر الاوّل، ففی ذلک یمکن أنْ یقال بأنّه لا فرق فی اجراء قاعدة التمییز، بین کونها فی العشرة أو فی خارجها، کما عرفت .

و ما توهم من مخالفة صاحب «جامع المقاصد» و«الذکری» مع ما ذکر، لیس بصحیح، لأنّهما یقصدان بکلامهما غیر المبتدأة إذا رأت الدم بصفة الحیض، بل حتّی فی العشرة، حیث أنّ علیها الحکم بحیضیّة ذلک وتترک العبادة.

غایة الأمر إذا استمر الدم حتّی تجاوز العشرة، وصار أقوی من السابق _ أی کان احمرا ثم صار أسود _ وقلنا بان الاعتبار فی الاماریة یکون للأقوی، فینکشف لها أنّ حیضها هو الثانی، فتترک العبادة فی العشر الثانی، بلحاظ کونه حیضا، فیکون السابق استحاضة، فتقضی الصلوات المتروکة التی ترکتها بزعم الحیض.

فالتمییز هنا حاصلٌ بین العشرة الاولی والثانیة، بان تجعل الضعیف المتقدم استحاضة، والقوی المتأخر حیضا.

وعلی هذا المنوال، ربما یصحّ الحکم المذکور بالنسبة الی أزید من العشرین أیضا، إذا فرض کون الدم استمر لما بعد العشر الثانی بأقوی من سابقه.

ولکن هذا التوجیه إنّما یصح إذا قلنا باعتبار الاقوی فی الحیضیة، بالنسبة الی القوی، والاّ فانّه یحکم بحیضیة ما فی العشرة الأولی مطلقا، وإنْ کان صفة الدم فیها اضعف بالنظر الی ما فی العشرة الثانیة .

اذا عرفت ما ذکرنا من مواضع لزوم الرجوع الی التمییز، أو امکان الرجوع الیه حتّی بعد العشرة، بعد مضی أقلّ الطهر، فربما یظهر من کلمات الأصحاب امکان تحقیق التمییز بمجرد مضی أقلّ الطهر، من دون حاجة الی مضی شهر أو اکثر، فعلیه حینئذ یمکن أنْ تتحیّض المرأة فی شهر واحد ثلاث مرّات، کما لو رأت أسود ثلاثة أیّام، ثم أصفر عشرة، ثم أسود ثلاثة، ثم عشرة أصفر، ثم رأت

ص:294

فان کان لونا واحدا ، ولم یحصل فیه شرطا التمییز ، رجعت الی عادة نسائها إنْ اتفقن (1).

الأسود، فیحمل ما ورد بأنّ الحیض فی الشهر مرّة _ کما یشعر به أیضا أخبار التحیّض بالروایات المتضمنة لأخذ مقدار مخصوص فی کل شهر _ علی مورد الغالب فی النساء، کما هو غیر بعید، ولعلّه لذلک قد فهم الأصحاب لزوم الرجوع الی التمییز فی ذلک، فیصیر هذا الفهم ترجیحا لعموم ادلة التمییز ولو کان فی بعض موارده أقلّ من شهر، کما قد یتفق ذلک لبعض النساء، خصوصا إذا کانت المرأة تعیش فی المناطق الحارّة، واللّه العالم .

فی الاستحاضة / فی حکم المبتدأة إذا فقدت التمییز

(1) و قد عرفت فی صدر البحث، بأنّ هذا الحکم خاصٌ للمرأة المبتدأة _ علی حسب ظاهر کلام المصنف _ وأنّ المراد من المبتدأة بمعناها الاخص، أی من لم تسبق بالحیض.

ولکن قد عرفت أنّ ظاهر کلمات الأصحاب وفهمهم، کون المراد من المبتدأة فی هذه الأحکام، هو الاعمّ، بحیث تشمل المرأة التی لم تستقر لها عادة، فی مقابل المضطربة التی کانت لها عادة، ولکن نسیت عادتها، والتی یطلق علیها المتحیرة أیضا، حیث أنها لا ترجع الی عادة نسائها، بل ترجع الی الروایات.

وهذا هو الأقوی عندنا، علی حسب ما هو المستفاد من مرسلة یونس وغیرهما من الاخبار.

فیکون الحکم المذکور _ الرجوع الی اقاربها من النساء _ حکم المبتدأة بالمعنی الاعمّ، إذا فقدت التمییز، وذلک من جهة فقدان علامة الحیض والاستحاضة کلتیهما، أو فی أحدهما، لوحدة لون الدم .

هذا کما فی «المبسوط» و«الخلاف» و«الجامع» و«السرائر» و«النافع»

ص:295

و«القواعد» و«الدروس» و«اللمعة» و«الروضة» و«التنقیح» و«شرح المفاتیح» بل الاخیر ادعی الاجماع علیه، وفی «التنقیح» نفی الخلاف فیه، کما یفهم ذلک من تعابیر بعض الفقهاء، کما فی «المعتبر» أنّ علیه اتفاق الاعیان من فضلائنا، وهذا هو الحجة.

مضافا الی أنّ الرجوع الی عادة النساء، یوجب حصول الظن به، وذلک من جهة تقارب الأمزجة المحتمل اعتباره شرعا فی خصوص المقام، وان لم یکن کذلک فی غیره. کما یدل علی هذا الحکم أخبار عدیدة، وهی:

منها: مضمرة سماعة، قال: «سألته عن جاریة حاضت أول حیضها، فدام دمها ثلاثة أشهر، وهی لا تعرف أیّام أقرائها؟ فقال: اقرائها مثل اقراء نسائها، فانْ کانت نسائها مختلفات، فأکثر جلوسها عشرة أیّام، وأقلّه ثلاثة ایّام»(1) .

فان ظاهر هذه الروایة، کون المراد من (جاریة حاضت أول حیضها) هی المذکورة فی کلام المصنف، أی المبتدأة بالمعنی الأخص دون الاعمّ، الاّ أنْ تدخل فیها بواسطة الأخبار الآتیة _ دون مضمرة سماعة _ کما لا تشمل هذه المرأة المضطربة المتحیرة، کما هو واضح.

هذا فضلاً عن أن المضمرة تدل أن المرأة کانت فاقدة للتمییز، فضلاً عن عدم معرفتها لایام اقراءها لکونها مبتدأة، اذا لو کانت ذات صفات لتمکنت من التمییز ولما احتاجت الرجوع الی أقاربها وعادتهن .

منها: و روایة زرارة، ومحمّد بن مسلم، عن أبی جعفر علیه السلام ، قال: «یجب للمستحاضة أنْ تنظر بعض نسائها، فتقتدی باقرائها، ثم تستظهر علی ذلک بیوم»(2) .


1- وسائل الشیعة: الباب 8 من أبواب الحیض، الحدیث 2 .
2- وسائل الشیعة: الباب 8 من أبواب الحیض، الحدیث 1 .

ص:296

و اطلاق هذه الروایة یشمل المضطربة المتحیرة، فضلاً عمّن لم تستقر لها عادة، بل لولا قوله علیه السلام «تنظر بعض نسائها» المشعر بمن لیس لها عادة، لکان مقتضی الاطلاق فیها شمولها حتّی للمعتادة فضلاً عن اختیها .

منها: روایة أبی بصیر، عن أبی عبداللّه علیه السلام ، قال: «النفساء إذا ابتلیت بأیام کثیرة... الی أنْ قال: وانْ کانت لا تعرف أیّام نفاسها فابتلیت، جلست بمثل أیام امّها أو اختها، أو خالتها، واستظهرت بثلثی ذلک، الحدیث»(1) .

فان قوله علیه السلام : «لا تعرف أیّام نفاسها» یشمل باطلاقه لمثل المضطربة التی نسیت أیّام عادتها، اذ یصدق علیها أنها لا تعرف عادتها، وأیّام نفاسها.

ولکن یقیید الاطلاق بواسطة الاجماع، وفهم الأصحاب، وقیام بعض الشواهد علی أنّ هذا الحکم هو لغیر المتحیرة، اذ هی ترجع الی الروایات، کما ستسمع إنْ شاء اللّه .

هذه جملة ما تمسکوا بها للدلالة علی حکم المسألة، والاغماض عن ضعف بعضها بالاضمار أو بغیره، یکون بواسطة الانجبار بعمل الاصحاب.

ودعوی الاجماع _ کالتقیید فی اطلاق بعضها الشامل للمضطربة المتحیرة _ بکونها للمبتدأة بالمعنی الاعمّ _ بواسطة فهم الاصحاب ودعوی الاتفاق فیها _ دون المضطربة، کالاکتفاء فی بعضها ببعض النسوة، أو کفایة واحدة من الامّ أو الاخت أو الخالة _ مع عدم وجود هذا القید فی فتوی الأصحاب، بل الموجود فی کلماتهم الی عادة نسائهن _ .

غیرُ ضائرً، لامکان أنْ یکون ذلک لبیان مصادیق الافراد من المعارف والاقرباء التی یمکن استکشاف العادة منهن لا للتعیین بالخصوص، وإنْ استبعد


1- وسائل الشیعة: الباب 3 من أبواب النفاس، الحدیث 20 .

ص:297

ذلک الحمل _ کما اشار الیه المحقق الهمدانی فی «مصباح الفقیه» _ فلابد من تقییده بذلک، جمعا بینه وبین اطلاق سائر الاخبار، مع امکان کون النساء منحصرة بالبعض، أو لعدم التمکن من استعلام حال الباقیات لتفرقهنّ، کما اشار الیه فی «الریاض» .

و ما فی مرسلة یونس من رجوع المبتدأة _ بالمعنیین من المعنی الأخص _ الی التحیّض فی علم اللّه فی کلّ شهر بستة أو سبعة(1).

لا یمکن الاعتماد الیه، للاضطراب فی نفسه، وعدم المقاومة للتعارض، مع ما عرفت، خصوصا مع ضمیمة فهم الأصحاب وفتواهم.

فاذا عرفت دلالة الأخبار، بضمیمة فهم الاصحاب، کون المبتدأة هی المحکومة بذات التمییز فاذا فقدته فترجع الی عادة الاقارب من نسائها، فلا یبقی وجه للتردّد فی الحکم الظاهر من کلام المصنف فی «المعتبر»، حیث تبعه بعض متأخری المتأخرین، کما لا یخفی .

بقی هنا عدة فروع وهی:

الفرع الأول: الکلام فی أنّ المبتدأة إذا فقدت التمییز، لابد لها من الرجوع الی عادة اقاربها من النساء، وحینئذٍ قد یفرض: تارة: اتفاق نسائهن فی الوقت والعدد، فلا اشکال فی وجوب الرجوع الیهن قطعا، اذ هو القدر المتیقن.

لکنه بعید التحقیق، خصوصا إذا لوحظ انطباق عنوان الاهل علی جمیع المنسوبین من النساء أبا وأمّا أوهما معا، ففرض الاتفاق فی الجمیع فی الوقت والعدد، بعیدٌ غایته.

ولکن ظاهر اطلاق النص والفتوی _ کما فی «الجواهر» _ هو ذلک، من غیر


1- وسائل الشیعة: الباب 8 من أبواب الحیض، الحدیث 3 .

ص:298

تقییدٍ بالوقت فقط أو العدد کذلک، سوی ما فی «المسالک» للشهید رحمه الله من التقیید فی الاتفاق والاختلاف بالعدد، ثم تنظّر علی کلامه بأنّه خلاف للاطلاق القاضی بالزامها بالرجوع الی عادة نسائها فیهما معا.

ثمّ وجهّه باحتمال أنّه قد اخذه من تبادر العدد فی خصوص المقام .

وفیه: فضلاً عن عدم ورود اعتراضه، فان اعترافه بالتبادر غیر بعید، ویمکن استظهاره من روایة سماعة، من لفظ (الایّام) الظاهرة فی العدد، خصوصا مع قرینة ذیلها بقوله: «فأکثر جلوسها عشرة أیّام وأقلّه ثلاثة ایّام»، حیثُ یفهم کون المقصود من المماثلة مع اقاربها من النساء المماثلة فی العدد لا الوقت.

فان استظهرنا ذلک تعلیقا فیصیر الملاک فی زوال الحکم بالاختلاف، وثبوته بالاتفاق هو العدد، والاّ فان احالة الحکم علی حصول الاتفاق التام بین الاقارب یعدّ تعلیقا للحکم علی الفرد النادر، والالتزام بذلک لا یخلو عن اشکال.

کما أنّ اثبات زوال الحکم بالرجوع الی الروایات والأصل _ بمجرد حصول الاختلاف فی العدد، مع حصول الاتفاق فی الوقت فی الجمیع _ لا یخلو عن تشویش.

والحاصل: أنّ مقتضی جعل العدد ملاکا لزوال الحکم، وان الرجوع الی الروایات یکون فیما اذا حصل اختلاف فی العدد، یوجب حصول فردین فی المقام وهما: الاختلاف فیهما، أو الاختلاف خصوص العدد دون الوقت.

کما أنّ للاتفاق أیضا فردان: تارة: بالاتفاق فیهما.

واُخری : بالاتفاق فی العدد خاصة .

أقول: أمّا احتمال کون المراد من قوله علیه السلام : «فان کنّ نسائها مختلفات»، أی کلّ من لم تتمکن من تحصیل استکشاف أیّامها، علیها الرجوع الیهن مطلقا، لوجود الاختلاف فی کلا الموردین، دون من تتمکن من الاستکشاف ولو فی الجملة، من حیث الوقت، حیث یمکن حینئذ أنْ یوجّه فی هذا الفرض بالاخذ

ص:299

بالعدد المشترک، الذی اتفق کلّ أقاربها علیه، وإنْ اختلفن فیما زاد علیه.

هذا کما عن «مصباح الفقیه» الاشارة الیه .

مما لا یمکن المساعدة علیه، لأنه إذا فرض الاختلاف فی العدد، فالاخذ بالقدر المشترک من العدد، یحتاج الی دلیل یجوّزه، وهو هنا مفقود، بل الدلیل علی خلافه موجود، لأنّ ظاهر الادلة الدالة علی أنّ مجرد وجود الاختلاف فی الجملة، یوجب الرجوع الی الروایات، یفیدنا خلاف ذلک، إذ لا یمکن تحصیل الوثوق علی اعتبار مثل هذا القدر المشترک فی طبیعة طائفة خاصّة.

ولکن الذی یُسهل الخطب، عدم اعتماد قائله بذلک، حیث قال فی آخر کلامه: ولکن کیف یحصل الوثوق بذلک(1) .

وکیف کان، فما ادّعاه الشهید رحمه الله فی «المسالک»، من کون ملاک الاختلاف فی خصوص العدد، لا یخلو عن وجاهة، واللّه العالم .

الفرع الثانی: هل المعتبر فی الرجوع الی عادة النساء الأقارب، اتفاق جمیعهن فی العادة، أم یکفی الرجوع الی بعض منهن، ولو کان البعض واحدا، حتّی مع وجود الاختلاف فی عادتها مع من عداها، واتفاق من عداها فی العادة، کما هو ظاهر خبری زرارة ومحمد بن مسلم وأبی بصیر، أو یعتبر الرجوع الی معظمهن، وإنْ اختلفن مع غیرهن؟

وجوهٌ، اذ مع ملاحظة روایة سماعة یستفاد الاوّل، حیث قد جعل فی مقابل الرجوع الی عادة نسائهن فرض آخر وهو (بأنْ کنّ مختلفات، فأکثر جلوسها عشرة وأقلّه ثلاثه)، حیث یفهم منه عرفا بقرینة التقابل، لزوم اتفاق الجمیع، فاحراز مثل ذلک _ خصوصا إذا کان المقصود من النساء هو الأهل مطلقا، أی من


1- مصباح الفقیه: 5/240 .

ص:300

ینتسب الیها عن طریق الأب أو الام مطلقا، أی من الأبوین أو من أحدهما _ یستلزم الحرج والعسر والمشقّة، بل قد یتعذر عرفا، إذا ارید من الأهل الاعمّ من الأحیاء والاموات، وإنْ کان ارادة هذا الوجه من الروایات یساعد مع اطلاق روایة یونس الطویلة بالرجوع فی المبتدأة الی الروایات من الستّ أو السبع، لامکان أنْ یقال فی وجه دفع الاطلاق من أن تعسّر الاطلاع الجامع لها، أو تعذّره فی بعض الموارد، أوجب أمرها بالرجوع الی الروایات علی النحو المطلق، کما اشار الیه المحقق الهمدانی قدس سره .

و لکن هذا الاحتمال لا یمکن المساعدة معه _ مضافا الی منافاته مع ما فی روایتی محمد بن مسلم وأبی بصیر، حیث قد ورد فیها التصریح بکفایة البعض، بل بواحدة (کما صرح فی الثانی منهما) _ من جهة أنّه یوجب رفع الید عن العمل بالرجوع الی عادة النساء، لأنه مع وجود العُسر أو التعذر، فلا وجه لارجاع المبتدأة الیهن، خصوصا مع ملاحظة عدم المناسبة بین کونها مبتداة التی تعرض علیها الحیاء فی ابتداء رؤیتها الحیض، وسؤالها عن عادة جمیع أقاربها، فلا یبعد أنْ یدّعی مع وجود هذه المستبعدات، عدم ارادة الاتفاق فی الجمیع بمعناه السعی الذی یشمل جمیع الاقارب، فلابد أنْ تکون الدائرة أضیق.

فحینئذ یأتی الکلام فی مقدار تضیّقه، فهل هو بمقدار بحیث تکفی الواحدة _ کما قد یستظهر ذلک من روایة أبی بصیر _ أم لابد من أْن یکون أکثر من ذلک؟

الظاهر هو الثانی، لأنّ الاوّل لا یناسب مع قوله: «مع وجود الاختلاف بینهن» المذکور فی خبر سماعة، حیث تدل هذه الجملة علی تعدّدهن .

فبناء علی التعدّد والتکثّر، لا یبعد أنْ نذهب الی لزوم اختیار عادة معظم أقاربها، المستلزم لتحقیق الظنّ النوعی بوجود الاتفاق بینهن، بأنّ عادتهن مثلاً کذا وکذا، وهذا أمرٌ مقبول عند العرف والعقلاء، خصوصا مع عدم العلم

ص:301

بالاختلاف، بل فی «الجواهر» من التسلیم بالبعض المعّتد به، سیّما إذا کنّ من طبقات متقاربة مع المبتدأة .

وبناءٌ علیه لا یبعد کفایة اتفاق المعظم مطلقا _ أی سواء علمت بوجود الاختلاف فی غیرهن أم لا _ لوضوح أنّ الاتفاق لیس بشرط، بل الاختلاف مانع، لکن لا علی النحو المطلق، بل إذا کان الاختلاف فی خصوص معظم أقاربها، فاذا ثبت الاتفاق فی منظمهنّ، کفی فی جواز رجوعها، وإنْ کان الاختلاف موجودا فی غیره، بل لا یبعد کفایة البعض دون معظمهنّ، إذا لم تتمکن من استعلام الباقی، لعدم حضورهن فی بلدها، أو عدم امکان الاطلاع عن احوالهنّ، لأنّ المفروض حینئذ هو عدم القدرة علی تحصیل ما هو المعتبر أوّلاً، فالمیسور لها لیس الاّ ذلک . اللّهم الاّ أنْ یقال: إنّه إذا لم تقدر علی ذلک، فحینئذ تدخل تحت عموم قاعدة لزوم الرجوع الی الروایات.

لکنه خلاف الاحتیاط، خصوصا مع ملاحظة روایة أبی بصیر، من کفایة الرجوع الی الامّ أو الاخت أو الخالة، حیث یحتمل کفایة ذلک عند عدم القدرة علی معرفة عادة المعظم، کما عرفت احتماله عن «الریاض»، إذا لم نقل بکفایته مع الاختیار.

مع امکان أنْ یقال: لعل الوجه فی ذکر الامّ والاخت والخالة بصورة التردید، کونهنّ یعدن طریقا لاستکشاف حال معظم الأقارب، خاصة اذا کانت اسنانهن متقاربة، فتجوز للبنت المبتدأة لرؤیة الدم، مع ملاحظة حیاءهن فی السؤال عن مثل هذه الامور عن جمیع الأقارب، أن ترجع الی واحدة منهن بالسؤال دون الحاجة الی الرجوع الی جمیعهنّ، فالسؤال عن واحدة منهنّ لا موضوعیة له _ کما احتمله بعض اصحابنا _ وانما یکون طریقا لمعرفة حال اغلب الاقارب لها.

فالأقوی عندنا _ کما علیه صاحب «الجواهر» والمحقق الهمدانی، والآملی،

ص:302

وقیل : أو عادة ذوات أسنانها من بلدها (1).

و بعض أصحاب التعلیق علی «العروة» _ هو کفایة اتفاق المعظم عند التمکن عن الاستعلام، فمع عدمه لا یبعد کفایة الأقل ولو احداهنّ، بمقتضی دلالة روایة أبی بصیر . کما أن الأقوی أیضا، عدم اعتبار اتحاد البلد فی ذلک، وإنْ یظهر من الشهید رحمه الله اختیاره ذلک، لأطلاق الاخبار فیه.

ودعوی امکان استظهاره من لفظ (نسائها) کدعوی ظهورها فی مدخلیته بالنسبة الی اختلاف احوالهنّ فی العادة خصوصا مع ملاحظة وجود الاختلاف القطعی بینهنَّ حرارةً وبرودةً، إذا لاحظا عنوان (النساء) بالمعنی الوسیع الشامل للابوینی والأبی والاُمّی، اذ قلّ ما یتفق اتحاد امزجتهنّ، کما هو واضح .

و لو انحصر الأقارب الاحیاء فی واحدة أو اثنتین أو ثلاث، ففی «مصباح الفقیه»: «لا یعتدّ بعادتها، ما لم تحرز موافقتها لأقاربها الأموات، لانصراف النص والفتاوی عن مثل الفرض. نعم لو کثرت الاحیاء، فالظاهر کفایة اتفاقهن فی العادة، ما لم یعلم بمخالفة الاموات لها، واللّه العالم»، انتهی کلامه(1) .

اقول: کان الأولی علیه رحمه الله أن یقول فی الأول أیضا بکفایة الأحیاء، ما لم یعلم بمخالفتهن للاموات، لما قد عرفت من روایة أبی بصیر من احتمال کفایة الاُم أو الاخت أو الخالة لمثل هذه الموارد، من عدم وجود الاحیاء لها الاّ بمثلهنّ، ولم نقل کونهنّ بأنهنّ طربقا لاستکشاف حال الاقارب الاموات، والاّ لحصل المطلوب، لم نحتج الی التوجیه المذکور، فلیتأمّل جیّدا .

(1) اعلم أنّ البحث یجری فیه من جهة أنّه لو فقدت المبتدأة التمییز _ ولو بالمعنی الاعمّ _ فهل ترجع الی الأقارب إنْ اتفقن، أو الی عادة ذوات أسنانها؟


1- مصباح الفقیه: 4/242 .

ص:303

فمع الاختلاف فی الأولی فقط ترجع الی الروایات _ بالاختلاف فیها _ ثم ترجع الی الأقران، فمع الاختلاف فیهن أیضا ترجع الی الروایات.

أو أنّها بالرجوع الی الأقارب أو الأقران، فمع الاختلاف فیهما ترجع الی الروایات ؟

فان ظاهر بعض العبارات _ کالمنقول عن «نهایة الأحکام» _ أنّه مع الاختلاف فی الأقارب _ ولو فی الجملة _ ترجع الی الأقران، حیث ورد التصریح _ علی المحکی فی «الجواهر» من أنّه لو کنّ نسائها عشرا فاتفقن تسع، رجعت الی الأقران(1) .

وبعضهم علّق الرجوع الی الاقران بعد فقد النساء، أو مع وجود الاختلاف فی الأقارب، علی نحو البدلیة، وهو کما فی «المبسوط» و«القواعد» و«الارشاد» و«الاصباح» و«نهایة الأحکام» أو علّق علی.

فقد النساء فقط، کما فی «الوسیلة» و«السرائر» و«التحریر» و«المختلف» و«جمل» الشیخ و«الاقتصاد» وغیرها.

وثالثٌ أو رابعٌ علی الاختلاف فی الاقارب، ولعلّه هو المذکور أوّلاً فی کلامنا، نقلاً عن «نهایة الأحکام» و«اللمعة»، بل هو مختار صاحب «الجواهر»، حیث قال بعد نقل هذه الاقوال والقول الأخیر: ولعلّه أجود من غیره، اللّهم الاّ أنْ یراد بفقد النساء، فقد العلم بعادتهنّ بموت أو نحوه.

وقد یحتمل التخییر، وهو علی مقتضی الدلیل علی احتمالٍ.

هذا تمام البحث فی مقام الثبوت .

و امّا فی مقام الاثبات، فقد استدل لذلک بأمور:

الأمر الاول: من حصول الظن بالمساوات مهنّ، من جهة التساوی فی المزاج


1- الجواهر: 3/282 .

ص:304

والطبع، خصوصا مع ضمیمة القطع بدعوی اعتبار مثل هذا الظن، کما تری نظیره اعتبار الشارع فی تشخیص الحیض بمثل هذا الظن، وفی غیره من الموارد.

وفیه: المنع عنه صغرویا وکبرویا .

فامّا عن الأوّل: لماتری من غلبة اختلاف المتقاربات فی السن فی الحیض وقتا وعددا، فحصول الظن بذلک ممنوع جدّا.

وامّا الثانی : فلو سلّمنا حصوله، فما الدلیل علی اعتباره، مع أنّ الاصل یقتضی عدم اعتباره، فما لم یقم علی اعتباره دلیل شرعی، لا یمکن الالتزام به.

وفی «الجواهر»: إنّ اعتباره وثبوته هنا، یقضی بسقوط الرجوع الی الروایات، لندرة اختلاف غالب أقرآنها خصوصا إنْ قلنا بالاکتفاء ولو بالبعض.

أقول: إنه یقصد أنه یلزم علی اعتباره لغویة الحکم بالرجوع الی الروایات، لعدم تحقق مورد تحتاج المبتدأة الیه، فیستفاد _ من جهة الفرار عن هذا المحذور _ نفی ذلک .

الأمر الثانی: احتمال استفادة شمول لفظ (نسائها) الوارد فی مضمرة سماعة لجمیع الاقارب، من لفظة (اقراءها) الواردة فی قوله علیه السلام : «مثل اقراء نسائها»(1) بدعوی صدق نسائها علی أقاربها وأقرآنها اذ یکفی فی صدق الاضافة وجود أدنی ملابسة .

وفیه أوّلاً: بأنّ صدق الاضافة بذلک لا یوجب ظهور اللفظ وتبادره فیها، أو فی الاعمّ منها، ومن الاقارب، اذ أن مجرد التساوی فی السن وصدق لفظ (النساء) علیهن جمیعا اشتراکهن فی الحکم لصدق هذه اللفظة علی الاجنبیات أیضا .

وثانیا: ولو سلّم ذلک فانه یستوجب الحکم بمثله فی اتحاد البلد أیضا، مع أنّ


1- وسائل الشیعة: الباب 8 من ابواب الحیض، الحدیث 2 .

ص:305

الخصم المستدل لم یلتزم بذلک .

وثالثا: وفی «الجواهر» أنّه یقتضی عدم الترتیب _ أی الحکم بالتخییر بین الرجوع الی الاقران أو الی الأقارب مع أنّه خلاف للمشهور.

فکأنّه رحمه الله أراد بیان أنّ ما فی مضمرة سماعة لو شمل الأقران کالاقارب، للزم صیرورة جمیعهن، مراجع کما أنّ الامر فی الاقارب بعد فقد التمییز کذلک، فیصیر الحکم تخییریا لا ترتیبیا.

فالامر کذلک، لولا دعوی کون مقتضی الجمع بین هذه الروایة، وبین موثقه محمد بن مسلم _ علی احتمال _ وأبی بصیر، هو الترتیب.

فالأولی فی الجواب ما ذکرناه سابقا واخترناه فی الجواب .

الأمر الثالث: الا ستدلال بمرسلة یونس الطویلة، عن الصادق علیه السلام ، فی حدیثٍ: «ان المرأة أوّل ما تحیض، ربما کانت کثیرة الدم، فیکون حیضها عشرة أیّام، فلا تزال کلّما کبرت نقصت، حتّی ترجع الی ثلاثة، الحدیث»(1) .

فانّها تدل علی کون التوزیع فی الأیام علی الأعمار، أی اختلاف حالات المرأة فی الحیض، یکون بحسب أدوارها فی السن، وکذلک یکون فی المقام .

و فیه ما لا یخفی، فانّ ورود الدلیل علی نقصان ایام العادة عند ارتفاع السن لا یستلزم القول بلزوم تساویها مع من یشارکها فی السّن، مع أنا نجد کثیرا تفاوت المشارکات فی السّن فی المزاج، الموجب لتفاوتهن فی الحیض.

مضافا الی ظهور ما به التفاوت بین الموردین، اذ کون الأمزجة بحسب الاعمار من جهة نقصان الحیض من الکبر الی الصغر، أمر طبیعیٌ ذاتیٌ لکل امرأة، لا تلازم کون الأمر کذلک فی المشارکات فی السّن فی المقام، لعدم الارتباط


1- وسائل الشیعة: الباب 10 من أبواب الحیض، الحدیث 4 .

ص:306

بینهما بحسب الطبیعة، حتّی یحکم بهذه الملازمة، کما لا یخفی .

الأمر الرابع: وهو العمدة، وهو الاستدلال بموثقة زرارة ومحمد بن مسلم، عن أبی جعفر علیه السلام : «یجب للمستحاضة أنْ تنظر بعض نسائها فتقتدی بأقرآنها.

بالنون بدل الهمزة، کما حُکی ذلک عن «شرح المفاتیح»، و «مجمع الفائدة والبرهان»: أنّها فی بعض النسخ کذلک .

وفیه أوّلاً: أنّه لا عبرة بمثل هذا النقل الذی یثبت فیه التردید، خاصة وأن الخبر قد ورد فی النسخ المصححة المضبوطة بالهمزة، بل وفی «مفتاح الکرامة»: أنّ عبارة «الاستبصار» مما یوجب القطع بانّ الشیخ الطوسی رواها بالهمزة دون النون .

وثانیا: أنّ المناسب مع النون، هو اتیان الواو فی جملة (فتقتدی)، حتّی یکون عطف بیان لقوله: «تنظر بعض نسائها» دون الفاء، حیث یفید کونه تفریعا علی الاقراء بالهمزة، حتّی یناسب مع النساء التی ظاهرة فی الأقارب، کما لا یخفی .

وثالثا: بأنّه علی فرض ثبوت التردید بین کونه بالنون أو الهمزة، فان ذلک یوجب الاجمال فی الروایة، فلا یصح حینئذ أنْ یستند الیها فی اثبات الرجوع الی الأقران، خصوصا مع معارضتها مع ما عرفت من الأخبار الدالة علی الاقارب .

ومن ذلک یظهر عدم وجود شی ء فی الأخبار، یقتضی اشتراط اتحاد البلد، سوی دعوی أنّ المتیقن تأثیر اختلاف البلدان فی اختلاف الامزجة، وهذا یعدّ من الاستحسانات التی لا یمکن اثبات شی ء بها مع فقد الدلیل .

فلعلّ مثل ما ذکرناه من الوجوه الضعیفة، حَمل صاحب «المعتبر» و«المنتهی» وجماعة ممّن تأخر عنهما، بل وکثیرٌ ممن قارب عصرنا، علی انکار ذلک، والذهاب الی عدم الاعتبار، وکون الملاک فی الرجوع هو حالة الأقرباء لا الأقران، لا تخییرا ولا ترتیبا، فالاولی بل اللازم اسقاط هذه المرتبة والاقتصار علی شرط التمییز وعادة النساء .

ص:307

فان کنّ مختلفات ، جعلت حیضها فی کلّ شهر سبعة أیّام ، أو عشرة من شهر، وثلاثه من آخر ، مخیّرة فیهما .

وقیل: عشرة ، وقیل: ثلاثة ، والأوّل أظهر (1).

(1) اعلم أنّ الرجوع الی الروایات، کان امّا لتعذّر العلم بعادة نسائها _ من جهة فقدهن أو تشتتهنّ، وکذا العلم بعادة ذوات أسنانها _ عند القائل به _ أو _ مع عدم فقدهن أو تشتتهنّ _ اختلافهنّ اختلافا یمتنع معه الرجوع الیهن، بأنْ لم یکن مما یتسامح به فی العرف، ففی ذلک یجوز الرجوع الی الروایات فی الجملة .

فی الاستحاضة / المبتدأة و المضطربة إذا تعذّر لهما الرجوع إلی عادة نسائهما

و أمّا فی کیفیّة الرجوع والأخذ بها، بجعل أیّامها أیام حیضها فی المبتدأة _ بالمعنی الاعمّ، بل فی المتحیرة أیضا، کما یأتی التنبیه فی الحاقها الیها فی هذا الحکم _ اختلاف شدیدٌ بین الفقهاء، وقد أنهاها کثیرٌ من الفقهاء الی عشرین قولاً، بل فی «الجواهر» الی ثمانیة وعشرین، بجعل أربعة عشر للمبتدأة ومثلها للمتحیرة .

و کیف کان، فالعمدة هو ملاحظة ما تقتضیه الأدلّة والأخبار، ولم یذکر المصنف هنا الاّ ثلاثة من الأقوال، قول: بالتخییر بین جعل الأیام فی کلّ شهر سبعة حیضا أو عشرة من شهر وثلاثة من شهر آخر.

وقول: بجعل العشرة فی کلّ شهر.

قال صاحب «الجواهر» عنه: إنّه لم یُعرف له قائل.

ولکن احتمل صاحبا «مصباح الفقیه» و«الجواهر» کون المراد منه هو السیّد ابن زهرة علی ما نسبه الیه العاملی فی «مفتاح الکرامة»(1) بانه ذهب الی أن تجعل حیضها عشرة وطهرها عشرة .


1- مفتاح الکرامة: 1/355 .

ص:308

و قول: بالثلاثه فی کلّ شهر، وهو کما عن أبی علیّ وبعض متأخری المتاخرین، والمصنف فی «المعتبر».

ولکن مختار المصنف فی «الشرائع» هو الاوّل من تلک الاقوال، أما صاحب «الجواهر» فقد ذهب الی مقابل التخیّیر بین الستتة والسبعة للمبتدأة بالمعنی الأخص، وتخییرها بینه وبین العشرة والثلاثة فی کلّ شهرٍ، فی مقابل من اقتصر علی التعیین فی السبعة فی ناحیة أو العشرة والثلاثة فی کلّ شهرٍ.

فلا بأس هنا بذکر الأخبار والأدلة التی أوردها الفقهاء واستدلوا بها، حتّی یلاحظ ما هو مقتضاها، فنقول وعلی اللّه التکلان : و ممّا استدل به من الأخبار مرسلة یونس الطویلة، وهی: «عن الصادق علیه السلام : تحیّضی فی کلّ شهرٍ فی علم اللّه ستة أو سبعة أیّام، ثم اغتسلی وصومی ثلاثة وعشرین، أو أربعة وعشرین یوما» وهذا هو حکم المبتدأة کما تدل علیها الشواهد الموجودة فیها، مثل قوله علیه السلام بعد ذلک: «وهذه سنته التی استمر بها الدم أوّل ما تراه، اقصی وقتها سبع، وأقصی طهرها ثلاث وعشرون».

وکذلک قوله علیه السلام : «وإنْ لم یکن لها أیامٌ قبل ذلک، واستحاضت اوّل ما رأت، فوقتها سبع وطهرها ثلاثة وعشرون»

وکذلک قوله علیه السلام : «فی التی اختلط علیها أیّامها، و زادت ونقصت، حتّی لم تقف منها علی حدّ، ولا من الدم علی لون واحد، وحالة واحدة، فنسبتها السبع والثلاث والعشرون، لأنّ قصتها کقصة حمنة حین قالت إنّی اشجّه شجا»(1)

حیث أن ذیل الخبر یشتمل علی حکم امرأة اختلط علیها أیامّها، فعدّها الخبر متحیرةً ثم شبهها بحمنة بنت حمش، التی کانت مبتدأة بالمعنی الأخص،


1- وسائل الشیعة: الباب 8 من أبواب الحیض، الحدیث 3 .

ص:309

فاستدلوا بذلک علی وحدة الحکم فی مثل هذا التخییر بین المبتدأة بالمعنی الأعم والمتحیّرة. وبعضهم ذهب الی کون التحیر بین الستة والسبعة، خصوصا للمبتدأة بالمعنی الأخصّ، من جهة دلالة صدر هذه الروایة فی فقرتها الاولی.

وأمّا فی المبتدأة بالمعنی الثانی والمتحیّرة، فهی داخلة تحت الفقرات الأخیرة من تعیّن السبع والثلاث والعشرین فقط، حیث ورد التصریح فی ذیل الخبر بأنّ سنتها السبع والثلاث والعشرون، وهکذا یمکن التفریق بین المبتدأة _ بالمعنی الاخص _ وبین غیرها، بکون حکم المتحیرة هو السبع تعیّنیا، کما قد صرح به المحقق الآملی قدس سره فی «مصباح الهدی»، بل الناسیة أیضا داخلة تحت حکم المبتدأة، لانحصار الاقسام فی هذه الروایة بذات العادة والمتمیّزه والمبتدأة بالرجوع الی الروایات.

ولکن الذی أوجب التجائه الی هذا الافتراق، هو تردیده قدس سره فی أن التردد فی العدد بین الستة والسبعة، هل هو من الراوی أو من الامام علیه السلام ، وعلی کلّ تقدیر لا یمکن اثبات التخییر بینهما بهذه الروایة، لانّه إنّ کان التردد من الراوی، فیتعین للناسیة والمتحیرة الرجوع الی السبع _ کما وقع فی سائر الفقرات الآتیة _ وإنْ کان من الامام علیه السلام ، فانّ مقتضی دلالة الصدر هو التخییر، الاّ أنّه بتکافئه مع ما ورد فی ذیل الخبر الذی ذهب الی تعیین السبع یوجب الاجمال فی الروایة، لأجل دوران الأمر حینئذ بین التعیین والتخییر، فلابد من الاخذ بالتعیین وهو السبع ظاهرا، فینتج أنّ الأقوی عدم جواز رجوع الناسیة الی الثلاثة والعشرة، و أن الأحوط تعیّن السبع علیها _ کما قال بذلک فی المبتدأة بالاحتیاط بالرجوع الی السبع تعیینا لا تخییرا بین السبع والست(1) وقد سبقه بهذا الحکم الشیخ الانصاری فی کتاب «الطهارة» .


1- مصباح الهدی: 5/26 .

ص:310

و لکن التأمل فی الروایة یفید خلاف ما ذکراه، لوضوح أنّ التردید فی الصدر لیس من الراوی، لوضوح أنّ قوله: فی علم اللّه ستا أو سبعا) مما لا یمکن أن یصدر الاّ من الامام علیه السلام ، العالم بالاحکام الشرعیة دون الراوی، مضافا الی بُعد ذلک بملاحظة ورود ذکر السبع تعیّنا وجزما فی ذیله وفی سائر الفقرات، فلذلک تطمئن النفس بکون التردید من الامام علیه السلام ، فحینئذ یبقی احتمال التهافت بین الصدر والذیل، الموجب لدوران الأمر بین التعیّین والتخییر، کما قیل.

لکنه مندفعٌ أیضا، بأنّ الاقتصار بذکر أحد شقّی التردید فی سائر الفقرات یعدّ جریا علی قانون المحاورة العرفیّة، حیث یکتفی العرف فی محاوراته فی الموارد التی لا حاجة الی التکرار بذکر أحد فردی التخییر وذلک رعایة للاختصار والاکتفاء فی بیان حکم الشق الآخر .

کما قد یؤید ما ذکرنا _ من عدم دلالة الذیل علی التعیّن _ قوله علیه السلام «أقصی دمها سبع»، حیث یشعر بوجود فرد آخر، أقلّ من ذلک، وهو الست، فیکون السبع أقصها. بل وکذا قوله «أقصی طهرها ثلاث وعشرین»، حیث یفهم أنّه ذکره بملاحظة السبع وأنّه الأقصی، والاّ لکان له فرد آخر وهو اربع وعشرون بملاحظة الست، کما لا یخفی.

فالاقوی عندنا ما علیه المشهور، من وجود التخییر بین الست والسبع، بلا فرق بین المبتدأة بالمعنیین والمتحیرة، التی هی بمعنی الناسیة، مضافا الی دعوی الاجماع المرکب، وعدم القول بالفصل بین المبتدأة _ بالمعنی الأخص _ والمتحیرة وبین غیرهما، کما فی «مصباح الفقیه»، وإنْ کان دعواه لا یخلو عن تأملٍ، فی مثل هذه المسألة التی کثر فیها الاختلاف والاقوال، حتّی فی موارد الافتراق بین الموردین، کما لا یخفی .

وأیضا یمکن استفادة وحدة الحکم بین المبتدأة والمتحیرة، من نفس المرسلة

ص:311

_ بعد ضمّ الصدر بالذیل والحاقه الیه _ وذلک لدلالة قوله علیه السلام «وأمّا سنته التی قد کانت لها أیّام متقدمة، ثم اختلط علیها من طول الدم، و زادت ونقصت حتّی اغفلت (ای نسیت) عددها وموضعها من الشهر».

وکذلک یستفاد من قوله علیه السلام : «فاذا جهلت الأیام وعددها، احتاجت الی النظر الی اقبال الدم وادباره، وتغیّر لونه من السواد... فهذه سنة النبی صلی الله علیه و آله فی التی اختلط أیّامها، حتّی لا تعرف أیّامها، وإنّما تعرفها بالدم».

لوضوح أنّ هذه الفقرات ظاهرة فی الناسیة، وهی التی کانت ذات عادة ثم نسیت ومحت صورتها من ذهنها، بل فی «مصباح الهدی»: «ولو سُلّم ظهورها فیمن ذهبت عادتها بطول المدة، فلا شک فی اندراج الناسیة بالمعنی الاول تحت هذا الحکم، بتنقیح المناط».

فالقول باتحاد فی الحکم بین المبتدأة _ بکلا معنییه _ وبین المتحیرة فی التخییر بین الستة والسبعة قوّی جدّا.

هذا کلّه بالنسبة الی التخییر بین الستة والسبعة، وهو أحد فردی التخییر الذی قد وقع فی کلام المصنف .

فالآن نتعرّض لفرد آخر من شقی التردید، وهو التخییر بین ما سبق وبین عشرة أیّام من شهر وثلاثة من شهر آخر، فما هو الدلیل علی حکم التخییر فی هذا الفرد؟

قیل: إنّ ذلک بمقتضی الجمع بین ما عرفت من روایة یونس الطویل وبین موثقتی عبداللّه بن بکیر.

اما الاولی فلدلالة قوله علیه السلام «فی الجاریة أوّل ما تحیض، یدفع علیها الدم فتکون مستحاضة، أنّها تنظر بالصلاة فلا تُصلّی حتّی تمضی أکثر ما یکون من الحیض، فاذا مضی ذلک وهو عشرة أیّام، فعلت ما تفعله المستحاضة، ثم صلّت،

ص:312

فمکثت تُصلّی بقیة شهرها، ثم تترک الصلاة المرّة الثانیة، أقلّ ما تترک امرأته الصلاة، وتجلس أقلّ ما یکون من الطمث وهو ثلاث (ثة) أیّام، فان دام علیها الحیض، صلّت فی وقت الصلاة التی صلّت، وجعلت وقت طهرها أکثر ما یکون من الطهر، وترکها للصلاة أقلّ ما یکون من الحیض»(1) .

أمّا الثانیة فموثقة عبداللّه بن بکیر، عن أبی عبداللّه علیه السلام ، قال: «المرأة إذا رأت الدم فی اوّل حیضها، فاستمرّ بها الدم، ترکت الصلاة عشرة أیّام، ثم تصلّی عشرین یوما، فان استمرّ بها الدم بعد ذلک، ترکت الصلاة ثلاثة ایّام، وصلّت سبعة وعشرین یوما»(2) .

ثم فی «الجواهر» نقلا عن «الخلاف» الاجماع علی روایته .

منها: مضمرة سماعة، قال: «سألته عن جاریة حاضت أوّل حیضها، فدام دمها ثلاثة أشهر، وهی لا تعرف أیّام أقرائها؟ فقال: أقرائها مثل أقراء نسائها، فان کانت نسائها مختلفات، فأکثر جلوسها عشرة أیّام، وأقلّه ثلاثة أیام»(3) .

منها: خبر حسن بن علی بن زیاد الخزّاز، عن أبی الحسن علیه السلام ، قال: «سألته عن المستحاضة، کیف تصنع إذا رأت الدم، وإذا رأت الصُّفرة، وکم تدع الصلاة؟ فقال: أقلّ الحیض ثلاثه، وأکثره عشرة، وتجمع بین الصلاتین»(4) .

وهذه هی الاخبار التی تمسکوا بها واستدلوا لها علی التخییر، وذلک بمقتضی الجمع بین المتضادتین فی الطائفتین من الأخبار، علی ما استشهد به صاحب «الجواهر» بناءً علی فتوی المشهور من التخییر بین الاخذ بالست أو السبع، أو


1- وسائل الشیعة: الباب 8 من أبواب الحیض، الحدیث 5 .
2- وسائل الشیعة: الباب 8 من أبواب الحیض، الحدیث 6 .
3- وسائل الشیعة: الباب 8 من أبواب الحیض، الحدیث 2 .
4- وسائل الشیعة: الباب 8 من أبواب الحیض، الحدیث 4 .

ص:313

الاخذ بالعشرة فی شهر والثلاثة فی الآخر وهذا هو مقتضی الجمع بین هذه الاخبار فی المبتدأة والمتحیرة .

و قد ناقش المحقق فی «المعتبر» فی الحکم بالتخییر بین الست أو السبع، وبین عشرة فی شهر وثلاثة فی آخر بان مستند هذا الحکم مرسلة ضعیفة لا اعتبار بها الما ذکره ابن بابویه. عن ابن الولید من أنّه لا یُعمل بما تفرد به محمد بن عیسی بن جنید، عن یونس .

وردّ علیه صاحب «الجواهر» بان مرسلة کالصحیح، لکون الارسال فیه عن غیر واحد هذا اوّلاً.

وثانیا: کونه مرسلة تعدّ من المراسیل التی اجمعت العصابة علی تصحیح ما یصح منه .

وثالثا: قد نقل الشیخ فی «الخلاف» الاجماع علی قبول روایته فی خصوص ما نحن فیه، مع ما یظهر من کثرة الشواهد الدالة علی صحته للمبتدأة .

ورابعا: أنّ ما نقله عن ابن الولید معارضٌ بما نقل عن النجاشی من قوله: «إنّه جلیلٌ فی اصحابنا، ثقة عین، کثیر الروایة، حسن التصانیف».

مع ما یظهر من الاصحاب قولاً وفعلاً من أنکار ما قاله ابن الولید، بل فی «حاشیة المدارک» للأستاد الاعظم من أنّه اتفق علماء الرجال والحدیث والفقهاء علی أن تضعیفات ابن الولید غیر قادحة .

قلنا: إنّه قدس سره قد أفتی بالتخییر المزبور فی کتابه «الشرائع» تمسکا بروایة یونس، لأن الاعتماد علی السبعة لم یأت فی حدیث آخر، فمن ذلک یظهر أنّه قد عمل بروایة یونس فی فتآویه.

اللّهم الا أنْ یقال: إنّه قد أعرض عنه لاحقا، وان کان قد اعتمد علیه اولاً، لأنّ کتابه «المعتبر» یعدّ تألیفا متاخرا عن «الشرائع» و«المختصر النافع»، حیث قد

ص:314

أشار الی کتابیه فی مقدمة کتاب «المعتبر».

وکیف کان، فلا اشکال فی جواز العمل بما ورد فی مرسلة یونس، إمّا لأجل ما عرفت من اشتماله علی حکم قد عمل به الأصحاب، فتکون الروایة _ علی فرض قبول ضعفها بالارسال _ منجبرة بعمل الأصحاب، وبالشهرة بینهم، لو لم نسلم دعوی الاجماع علی العمل بمضمونها، کما عن الشیخ.

فجواز العمل بها، بجعل أیّام حیضها خصوص السبعة فی کلّ شهر، حیث کانت هذه أشهر بالنسبة الی الاحتمال الآخر _ وهو التخییر بینها و بین الستة عملاً بصدر الحدیث کما عرفت _ قویٌّ جدّا، کما علیه فتوی کثیر من المتقدمین والمتأخرین، حتّی السید فی «العروة» وجُلّ أصحاب التعلیق علیها، فلا اشکال فیه . نعم، الذی یمکن أنْ یبحث فیه، هو بالنسبة الی الخبرین الذین رواهما ابن بکیر، حیث قد أورد علیه المحقق بأنّهما ممّا رواه ابن بکیر وهو فطحی المذهب لا یلتفت الیه.

فاجاب عنه صاحب «الجواهر» بأنّ کونه فطحی المذهب لا یمنع من العمل باخباره علی، بل عنده أیضا، کما لا یخفی علی من لاحظ کتابه.

هذا، و لکن الذی مسلک الاصحاب یقتضیه مفاد روایتی مضمرة سماعة والخزاز، هو التخیر بین الثلاثة والعشرة، کما هو الظاهر من التعبیر الوارد فیهما بقوله: «أکثرها عشرة وأقلّها ثلاثة».

وحمله علی التمییز بین السابق وبین جعل العشرة شهر وثلاثه فی آخر، مخالفة لظاهرهما، فیحتمل التخییر فی الاوّل، فلازمه جواز الاقتصار علی الثلاثة فی کلّ شهر، لان الثلاثة الاخری شق التخییر.

کما یصحّ الاقتصار علی العشرة فی کلّ شهر، لأنها أیضا تعدّ الشق الآخر، فلعلّ الجمع بینهما وبین موثقتی ابن بکیر، یکون بجعل العشرة شهر والثلاثة فی

ص:315

الآخر، کما افتی به المشهور والمحقق فی «الشرائع».

وهکذا یمکن تصحیح فتواه أیضا فی «المعتبر» من الاکتفاء بالثلاثه فی کلّ شهر، الذی هو علیه معنی التخییر بین الثلاثة والعشرة.

غایة الأمر، بناء علیه یصبح الاکتفاء بما فی الوسط مقتصرا بین الثلاثة والعشرة فی کلّ شهر، وهذا هو الذی لم یفت به أحدٌ فی غیر السبعة والستة.

فلاجل ذلک، یصح أن یقال بالاکتفاء بالثلاثة فی کلّ شهر، لولا الاعتماد علی السبعة أو الستة، عملاً بروایة المرسلة، فینتج حینئذ صحة ما جاء فی کلام السیّد من اختیار السبع أو الثلاثة فی کلّ شهر، مع أن العشرة کانت داخلة، لأجل دلالة روایتی مضمرة سماعة وخبر الخزاز.

ولعلّ وجه ترکها حیث _ أنّه یصحّ أنْ یطلق علیه أنّه قد عمل بهاتین الروایتین إذا عمل بالثلاثة فی کلّ شهر _ من جهة کونها أحد شقی التردید والتمییز فی الروایة . فما ذکرناه وإنْ یوجب رفع التضاد بین الأقوال، وفصل التنازع عنها، وصیرورة النزاع حینئذ لفظیا، الاّ أن ظاهر کلماتهم _ خصوصا ما ذکره صاحب «المعتبر» _ هو الحکم بالتعین بالثلاثة فی کلّ شهر، اذ ظاهر کلامه اطراح الروایتان من المرسلة وروایة ابن بکیر، والأخذ بالثلاثة، لحصول الیقین بالحیض، وأن تصلّی وتصوم بقیة الشهر، استظهارا وعملاً بالاصل، الدال علی لزوم العبادة، وهذا لا یناسب مع القول بالتخییر بین الثلاثة والعشرة، أو بینهما و بین السبعة والستة.

هذا، مع أنّ مقتضی التحیض بین الثلاثة والعشرة، هو جواز الاقتصار علی الاربعة والخمسة فی کلّ شهر، مع انهما بعیدان عن فتوی الاصحاب .

و حیث أنّ القدر المتیقن بین جمیع الأقوال، هو امکان الاقتصار علی الثلاثة، حیث یجمع مع کونهما طرفی التخییر، ومع کونها متعینا، فلا بأس بالافتاء بها، کما

ص:316

یصح الافتاء بخصوص السبعة، لأجل أنّها القدر المتیقن من دلالة المرسلة ایضا، لأنّها إمّا تکون أحد طرفی التخییر مع الستة، أو تکون متعیّنة.

ونتیجة ما اخترناه _ تبعا للسیّد فی «العروة»، وکثیر من أصحاب التعلیق _ هو التخییر بین الموردین، وإنْ کان مقتضی الاحتیاط هو السبعة، لأجل قوتها بالاجماع، وبالشهرة العظیمة، وجبران ارسالها بما قد عرفت من کلام صاحب «الجواهر» فی حق یونس، مضافا الی کونها معمولاً به عند الاصحاب فی کثیر من فقراتها، کما لا یخفی .

فبقی هنا ملاحظة ما أورده صاحب «الجواهر» علی کلام المحقق فی «المعتبر» بالمنع عن کونه مطابقا للقواعد، بعد طرح الروایتین، لعدم جریان اصالة لزوم العبادة، بل قد یکون الاصل الجاری فیه هو اصالة البرائة منها، سیّما بعد ملاحظة جریان استصحاب الحیض، وقاعدة الامکان ونحوهما، ومعارضة الاحتیاط بمثله.

الی أنْ قال: «بأنّه مشتملٌ للعسر والحرج فی بعض الأحوال، ومنافاته لسهولة الملّة وسماحتها، مع أنّ الباری عزّ وجلّ أجلّ من أنْ یجعل مثل هذا الحکم العام البلوی مخفیا، ولم ینبّه علی لسان صاحب الشریعه _ کضعف المنقول من تحیّض کلّ منهما لسبعة أو ثلاثة، عملاً بالروایة والیقین، فانه لا یکاد یفهم لهذا الجمع وجه یعتد به، مع استلزامه لطرح ما سمعته من خبری ابن بکیر وغیرهما».

انتهی محل الحاجة(1) .

أقول: إنّ ما ذکره من الاعتراضات انّما یتم، إذا فرضنا عدم تمامیة الأدلة والروایات فی اثبات مفادها، امّا للاشکال فی الإسناد أو الدلالة _ ولو لأجل


1- الجواهر: 3/288 _ 287 .

ص:317

المعارضة _ وعدم امکان الاعتماد بتقدیم أحداهما علی الاخری، والاّ لا تصل النوبة بالرجوع الی القواعد _ کما هو مختارنا بالنظر الی اختیار السبعة، الذی هو القدر المتیقن فی المرسل المنجبر بالاجماع المنقول والشهرة _ أو اختیار الثلاثة فی کلّ شهر، علی تقدیر قبول المعارضة والتساقط، والرجوع الی ما هو القدر المتیقن، وهو الثلاثة فی کلّ فترة تری فیها الدم إذا زید من ذلک، وإنْ أمکن الالتزام به لولا وجود المعارض فیه من الأخبار، فمثل الاستصحاب وقاعدة الامکان و معارضة الاحتیاط بمثله، أو توهم حصول العسر والحرج فی بعض الاحوال، و منافاته للسهولة وأجلّیة الباری عن إخفاء مثل ذلک الذی کان مورد ابتلاء عامة الناس، انّما یکون بعد تسلیم الأخبار الواردة، ورفع التکافؤ بینها، وحیث لم یتضح للمحقق قدس سره ، فلا یبقی له بدّ الا الأخذ بالقدر المتیقن فی کل الادوار وهو الثلاثة، حیث لا یزاحمه شی ء، بل یترتب علیه جواز ما یترتب علی المستحاضة، من دخول المساجد والمقاربة والجماع معها ونحوها، وإنْ کان مقتضی الاحتیاط بعد الثلاثة هو ترک مثل تلک الامور، لاحتمال کونها حائضا، وفی مثل الصلاة حیث تکون فیها المعارضة بین الوجوب والحرمة، ویحتمل تغلیب جانب الحرمة کما یحتمل عکسه، لأجل الاهتمام فیها بکونها عماد الدین، ولکن حیث قد حکم بتقدیم الثلاثه، فانه یوجب ترتیب آثار الطهارة، و الحکم بلزوم بالاتیان بها استظهارا، لعدم ثبوت حرمة ذلک .

کما یظهر لک بعد الاحاطة بما ذکرناه من الأخبار، وما استفید منها، وجه حکم کلّ من أفتی بغیر ما ذکرناه، من التخییر بین السبعة والستة، وبین الأخذ بالعشرة فی الشهر الاول والثلاثة فی الثانی، أو عکسه بلحاظ کون الأخذ بین العشرة وبین الثلاثة علی نحو التحییز، وبین التقدیم والتأخیر المستفاد من قوله: «أقلّه ثلاثة

ص:318

وأکثره عشرة»، من دون الاشارة الی التمییز بینهما بالعدد _ کما اختاره علم الهدی، بل هو ظاهر الصدوق _ .

أو القول باختصاص التخییر بین الثلاثة الی العشرة بالدور الأول، دون سائر الادوار، کما عن أبی علیّ من الفتوی بمضمون مقطوعة ابن بکیر، أو القول بأنْ تجعل حیضها عشرة، وطهرها عشرة کما هو المنقول عن ابن زهرة فی «الغنیة»، حیث ذهب الی ترک العمل بالاخبار، والأخذ بقاعدة الامکان الی العشرة، أو العمل بدلالة الروایات التی وردت فیها بأنّ أقلّ الحیض ثلاثة وأکثره عشرة، فاخذ بأکثره مستندا بقاعدة، فأورد علیه صاحب «الجواهر» وغیره، بمنافاته مع ما دلّ علی أنّ الحیض فی کلّ شهر مرّةً، اذ لازم هذا القول امکان حصوله فی کل شهر مرتین، کما لا یخفی.

أو القول بتعیّن السبعة فی کلّ شهر خاصة _ کما هو المنقول عن الأردبیلی فی «مجمع الفائدة والبرهان» عملاً بروایة المرسل _ والأخذ بخصوص السبعة لا من جهة التخییر بینها وبین الستة.

وأمثال ذلک من الأقوال الکثیرة فی هذا الباب .

بل یکثر الاختلاف ویشتد إذا لوحظ الأمر بالنسبة الی المبتدأة المضطربة، من الافتراق بینهما فی الحکم وعدمه، کما علیه الأکثر، تمسکا بالاجماع المرکب، وعدم القول بالفصل، واستدلالاً بروایة المرسل من الحصر بین ثلاث طوائف فی السنن، من ذات العادة، وذات التمییز، والفاقدة له وبالرجوع الی الروایات ولم تکن المضطربة من القسمین الأولین فتدخل فی الأخیرة، وهی التی کانت للمبتدأة، کما لا یخفی .

***

ص:319

فروع فقهیّة

هنا فروع لا بأس بالاشارة الیها وهی :

الفرع الاوّل : قد عرفت أنّ المنسوب الی المشهور _ کما اعترف به صاحب «الجواهر» _ هو التخییر بین السبعة والستة، کالتخییر بین احداهما و بین الثلاثة والعشرة، أو العشرة والثلاثة، علی ما فی المتن، فحینئذ قد اعترض علی مثل هذا التخییر أوّلاً: بأنه لیس له شاهد جمع، هذا کما عن «الریاض».

وثانیا: أنّه لا معنی للتخییر بین الأقل والأکثر، لأنه یستلزم التخییر بین فعل الواجب وترکه، فیرجع التخییر الی دوران الأمر بین الواجب والحرام، وهو غیر جائز، فلابد من تعیّن اختیار السبعة خاصة .

هذا، ولکن أجاب عن الاوّل صاحب «الجواهر» بقوله: «وامّا ما ذکره من أنّه لا شاهد لهذا الجمع المقتضی للتخییر، فهو مع ابتنائه علی أنّ المراد به التخییر الحکمی لا العملی، یمکن القول بعدم الاحتیاج الیه فی خصوص المقام، لانتقال الذهن الی التخییر عند الامر بشیئین متضادین فی وقت واحد، من آمر واحد، أو ما هو بمنزلته»، انتهی محل الحاجة(1) .

وأمّا عن الثانی: فقد أجاب عنه المحقق القمی صاحب «الغنائم»، بأنّ التخییر هنا یکون نظیر التخییر للمسافر بین الاقامة _ فیجب علیه الصوم _ وبین عدمها فیحرم علیه.

وبعضهم اضاف الیه صورة التخییر بین تحصیل الاستطاعة _ فیجب علیه الحج _ وبین عدمه فلا یجب علیه، ونظائرهما .


1- الجواهر: 3/290 .

ص:320

لکن قد اعترض المحقق الآملی فی «مصباح الهدی» بقوله: «فرقٌ بین المقام وبین ما ذُکر، لأنّ تحصیل الحیض أو الاستحاضة علی مستمرة الدم، شی ء لیس بید المکلف واختیاره، کالاقامة والاستطاعة، فلا معنی للتخییر بینهما.

اللّهم الاّ أنْ یجعل تخییرا ظاهریا عند الشک فی الحیض والطهر واقعیا، انتهی محل الحاجة(1).

ولا یخفی أنّ الاشکال فی التخییر بین الأقل والأکثر، لا یکون منحصرا فی الجمع بین الطائفتین من الاخبار، من أخذ السبعة أو الثلاثة فی شهر، والعشرة فی الآخر أو عکسه، کما فی المتن، المستلزم جمعهما الحکم بالتخییر، بل یجری هذا الاشکال حتی لو عملنا بالمرسلة، لما ورد فی صدرها من التخییر بین الست والسبعة، لأنه أیضا تخییر بین الأقل والأکثر، مع أنّه قد نُسب الی الاشهر التخییر بینهما، کالتخییر بین ما قبله کما فی «مصباح الهدی» .

فالتحقیق فی الجواب أنْ یقال: إنْ قبلنا دلالة الحدیث علی التخییر بین الست والسبعة، فلا نحتاج حینئذ الی شاهد جمع، حتّی یرد بهذا الاشکال، لأنّه ان ثبت ذلک، فانه یختص بالاشکال من جهة التخییر بین الطائفتین، والحال أن الاشکال بأنّ التخییر بین الأقل والاکثر تخییرٌ بین واجب وحرام، یکون باقیا علی حاله، فلابد من البحث عن جواب مقنعٍ بحیث یشمل فرض التخییر بالمعنی الاوّل المذکور هنا.

وحقیقة الجواب هو أنْ یقال: إذا فرضنا صحة دلالة الحدیث علی التخییر، فیصیر التخییر نظیر التخییر فی الخبرین المتعارضین إذا کان مفادهما من قبیل الأقلّ والأکثر، حیث أنّ الوجوب والحرمة یدور مدار الاخذ بالخبر، وترتیب


1- مصباح الهدی: 5/20.

ص:321

الأثر علیه، لأن الحکم یعدّ أمرا اعتباریا شرعیا، فالأثر المترتب علیه تابعٌ للحدّ الذی اعتبره الشارع، فان کان أخذ بالأقل فالوجوب والحرمة تلاحظان بمقداره، وإنْ کان قد أخذ بالأکثر فکذلک، بالنسبة الیه، واختیار الأخذ _ علی الفرض _ یکون بیده شرعا، نظیر قصد الاقامة وعدمه، فدعوی الفرق بین الموردین لیس علی ما ینبغی، کما لا یخفی.

والعمدة هو التحقیق فی أصل تمامیة الدلیل وعدمه، لا البحث عن تمامیة الاشکالات وعدمها بعد فرض دلالة الدلیل، کما صدر عن بعض الاعاظم، واللّه العالم.

فاذا عرفت امکان الأخذ بالتخییر فی کلا طرفی التخییر إنْ تمّ دلیلهما، ظهر لک عدم تمامیة ما وقع للعلامة فی «المنتهی» و«النهایة» من الاشکال فی ذلک، حتّی أنّه رحمه الله حمل لفظ اداة (أو) فی المرسلة دلیلاً علی التفصیل فی الردّ الی اجتهاد المرأة ورأیها، مما یغلب علی ظنها أنّه الأقرب الی الحیض، امّا من عادتها أو عادة نسائها، أو ما یکون أشبه بلونه.

وقد عرفت عدم الحاجة الی مثل هذه التکلّفات، بعد امکان الاخذ بالتخییر فی سبب الوجوب، وهی الحرمة من التحیّض وعدمه .

الفرع الثانی : فی أنّه هل یصیر واجبا بما اختارته، وإنْ لم تعمل علی حسب اختیارها، أو یصیر اللزوم والوجوب بعد الاختیار والعمل؟

فیه وجهان: اختار صاحب «الجواهر» الثانی، کما هو الاقوی، لأنه مقتضی دلیل الاطلاق فی تخییرها، بل الاستصحاب لو شک فیه بعد الأخذ قبل العمل، لأن الاکثر کان مترتبا علی العمل، بل لعل الأخذ والاختیار لا یتحقق الاّ به لا بصرف النیّة والقصد.

نعم اذ أخذ وعمل بمقتضی ما أخذ، تترتب علیها أثره ویجب علیها العمل بما هو المأخوذ بالنسبة الی الشهر الثانی من العمل بالسبعة أو العدل الآخر من الثلاثة

ص:322

والعشرة . نعم، قد یأتی البحث فی أنّه إذا عملت بالسبعة فی الدور الاوّل، فهل تجب علیها العمل بالسبعة مثلاً فی سائر الادوار، أم إنّها تکون مختارة بالاخذ بها وبالعدل الآخر.

وقد یظهر من بعضٍ _ کالمنقول عن أبی علی _ اختصاص التحیّض بالعشرة فی الدور الاول، دون سائر الادوار، وجعل فیها ثلاثة ثلاثة.

ولکن الظاهر من الأدلة هو الثانی، أی یکون التخییر استمراریا لا بدّویا.

نعم الظاهر قوة القول بالزامها بما قد أخذها فی الشهر الاول، أمّا فی الشهر الثانی فان کان اختیارها أیضا بالسبعة یکون الحکم کذلک فی الثانی، أو بالعشرة أو الثلاثة ایضا، لأن العمل بأحد عدلی التخییر فی کلّ دور لازم، یعنی الاخذ بالسبعة فی الشهرین مثلاً، أو العشرة والثلاثة فیهما، فاذا اختارت الثلاثة فی شهر یلزم علیها العشرة فی الثانی، فیکون تمام دورها الشهرین، وبعد تمامهما ترجع الی التخییر الثابت لها بین روایة السبع أو الثلاث والعشرة.

والدلیل علی بقاء التخییر، هو اطلاق الدلیل، ومع الشک فیه فانه یجری استصحاب بقاء الحقّ .

فاحتمال اختصاص التخییر فی الدور الاوّل دون غیره، لا یخلو عن وهن، فما اختاره صاحب «جامع المقاصد» مما عرفت مع دلیله، لا یخلو عن ضعف .

کما أنّ احتمال جواز التلفیق، من العمل بطائفتین فی کل دور، بأن تختار فی أحد الادوار فی کل شهر بالسبعة وفی الآخر بالثلاثة، أو بالعکس، مما لا یمکن المساعدة معه، لأن الدلیل غیر وافٍ بذلک، حیث یظهر من روایة الثلاثة مع العشرة أنّه یلزم فی الشهر الآخر أنْ تأخذ بما اختارتها مما هو عدله فی الشهر الاوّل، فالمخالفة فی الترتیب بحاجة الی دلیل یدل علیه .

ثم إنّ هذا التخییر بین الأخذ بأحداهما وعدمه، هل هو مختص بالمفتی والمجتهد حتی یفتی علی طبقة، بحیث لا یکون للمقلد بعده تخییر بالخصوص،

ص:323

أو علی المجتهد أن یُخیر المقلّد بالتخییر فی الأخذ بایّهما شاء؟

وجهان: الظاهر والأوجه هو الثانی، اذ هو الظاهر من لسان الادلة حیث انها جعلت المرأة موردا لهذا الحکم، کما لا یخفی .

الفرع الثالث : هل التخییر الثابت للمرأة، یختص لمن استمر الدم منها شهرا أو عدة أشهر، أم أنّه ثابت حتّی لو انقطع الدم عنها بعد العشرة، کما لو انقطع الدم فی الیوم الحادی عشر، فتحیض حینئذ بین السبع والثلاث والعشرة؟

قد اختار صاحب «الجواهر» الاول، لکنه قال بعد ذکر التخییر بین السبع والثلاث و العشر: علی اشکال فی الاخرین، فتأمّل(1) .

و لعلّ وجه التأمّل هو عدم وجود وجه وجیه للاشکال، لأنّ المفروض أنّ حالة استمرار الدم منها یعدّ موردا لا شرطا، فاذا کان حدوث التخییر للمرأة التی لیست لها عادة، أو لیست لها عادة تعرفها من عادة أقاربها، وکانت فاقدة للتمییز ولا تتمکن من الرجوع الی الروایات بالعدد المذکور، بعد تجاوز الدم عن العشرة، وهی غیر عالمة بحال نفسها ان الدم یستمر منها او لا یستمر، فاذا حکم الامام فی حقها بالتخییر، فلا وجه لسقوطه بعد انقطاع الدم.

نعم برغم أن مراعاتها للاحتیاط حین العمل من جهة مراعاة تروک الحائض، واتیان اعمال المستحاضة حسنٌ جدا، خصوصا فی المورد المذکور، وذلک بمقتضی احتمال شرطیّة الاستمرار فی بقاء التخییر، لکنه کان بعید جدّا، واللّه العالم .

الفرع الرابع : هل یتعین علی المرأة وضع ما تختاره من العدد فی أول الدم من الشهر، أم هی مختارة فی وضعها فی أیّ یوم شاءت من أیّام الشهر؟

والذی یظهر من جماعة _ بل فی «الحدائق» نسبته الی الأصحاب _ هو الثانی، ولکن فی «الجواهر» و«مصباح الفقیه» وکلمات جماعة اخری کالعلامة


1- الجواهر: 3/293 .

ص:324

وذات العادة، تجعل عادتها حیضا ، وما سواه استحاضة ، فإن اجتمع لها من العادة تمییز، قیل: تعمل علی العادة ، وقیل : علی التمیز ، وقیل: بالتخییر ، والأوّل أظهر (1).

فی «التذکرة» والفاضل فی «کشف اللثام» هو الاوّل، کما هو الاقوی.

مضافا الی مساعدته مع الاعتبار، وموافقته لاقتضاء الطبیعة، فان الوارد علی لسان روایتی ابن بکیر و یونس، من التعبیر «مَنْ عَدت أوّل ما رأت الدم الاول والثانی عشرة ایّام، ثم هی مستحاضة»، مع أنّ الوظیفة قد شرعت لها من أوّل رؤیة الدم، فان رجوعها الی الدلیل حینئذ لیس الاّ ما عرفت من دلالة الأخبار بالرجوع الی العدد المزبور، فلا وجه لاحتمال کونها بلا تکلیف فی أوّل الرؤیة الی أنْ تشاء أنْ یختاره من أیّام الشهر خارج العشر، اذ لابد لها أن ترجع الی معرفة حالها بمجرد تجاوز الدم العشرة، من التمییز أو ملاحظ عادة النساء من أقاربها أو الی الروایات، وهذا المعنی لا یمکن تحققه الاّ بأن تلاحظ الدم من اوّل رؤیتها له والتجاوز عنها، فیترتب علیه الحکم، کما لا یخفی.

فبعد الاحاطة بما ذکرناه من الدلیل، تقدر علی الاجابة عمّا ذکره صاحب «الجواهر» من الفروع التی لم تکن منقحة فی کلمات الأصحاب، ولا ضرورة لایراد هذه الفروع هنا والبحث عنها، اذ لا یترتب علی ذلک أثر فقهی مهم.

هذا تمام الکلام فی المبتدأة والمضطربة، بقی الکلام عن ذات العادة إذا تجاوزت دمها عن العشرة، سواء کان استمراره الی شهر أو ازید أو اقلّ حیث أشار المصنف الی حکمها فی المسألة القادمة .

فی الاستحاضة / فی حکم ذات العادة إذا تجاوز الدم عشرة أیّام

(1) أقول: إنّ ذات العادة علی اقسام:

تارة: تکون العادة وجودیة، أی تکون عادتها حاصلة بالأخذ والانقطاع.

ص:325

واخری: تکون وصفیة، أی تکون حاصلة بالتمییز.

والکلام فی الصورة الاولی منها، فهو أیضا:

تارة: لا یعارض عادتها تمییز، یعنی یمکن الجمع بین عادتها والتخییر فی العشرة، أو کان عدم افتراقهما لوجود الفصل بأقلّ الطهر بینهما.

واُخری: ما یعارضها، ولا یمکن الجمع بینهما، لأجل کون الفصل بین العادة والتمییز، أقل من الطهر اللازم بین الحیضتین فی حیضیّة مستقلة بالتمییز.

فیالبحث أوّلاً یتوجه الی العادة الوجودیة غیر المعارض مع التمیز، ففی مثله لا اشکال فی تقدیم العادة وجعلها حیضا حیث ادّعی فیه الاجماع محصّلاً _ کما فی «الجواهر»، ومنقولاً کما عن «المعتبر» و«المنتهی» وغیرهما _ ، هذا فضلاً عن دلالة النصوص الواردة علیه، ثم تجعل ما عداها استحاضة حتّی ولو کان ایام الاستظهار.

وهذا ایضا تارة: یفرض مع کون عادتها فی کل شهر مرّة، عملاً بما دلّ علی أنّها فی کل شهر مرّة، مثل روایة أدیم بن الحرّ، قال: «سمعتُ أبا عبداللّه علیه السلام ، یقول: ان اللّه حدّ للنساء فی کل شهر مرّة»(1).

ومثلها روایة الصدوق(2).

فالحکم فیه واضح ولا کلام فیه.

وامّا إذا کان أکثر من مرّة، کما لو فرض مع تخلل أقلّ الطهر بین العادة والتمییز فهو مبنیٌ علی فرض امکان تحققه، فیلزم حینئذ لها فی ضمن کلّ شهرین حیضة، کما یمکن لها أن یتحقق فی کلّ شهر حیضتین، بتکرر خروج الدم فی الشهر


1- وسائل الشیعة: الباب 9 من أبواب الحیض، الحدیث 2 .
2- وسائل الشیعة: الباب 9 من أبواب الحیض، الحدیث 3 .

ص:326

الحیضی، أعنی خلال ثلاثة عشر یوما، وإنْ استبعده بعضٌ کالمحقق الآملی.

هذا کله فیما إذا کانت العادة وقتیه وعدّدیة .

ففی هذه الصورة _ أی صورة عدم وجود المعارض لها، إمّا للجمع بینهما فی العشرة، أو لوجود الفصل بأقلّ الطهر بینهما _ ففد صرّح جماعة بحیضیّتما معا، بل قد ادّعی فی «الریاض» الاجماع فی الاوّل منهما، کما فی ظاهر «التنقیح» نفی الخلاف فیه، وقد تشعر به عبارة «المنتهی» أیضا، کما أنه قد نقل عن ظاهره الاتفاق فی الصورة الثانیة، وهو وجودالفصل بأقلّ الطهر.

ولعلّ الدلیل علی الحکم بحیضیّتهما، هو جریان قاعدة الامکان فیه، وعدم وجود التنافی فی العمل بعموم العادة والتمییز، فیعمل بهما، وظهور أدلة لزوم الاقتصار علی العادة أو التمییز، علی غیر ذلک، اذ لا ینفی اثبات الحیضیّة للعادة، حیضیة التمییز مع وجود الشرط فیه و لانه یشابه فیما إذا لم یستمر الدم بمقدار یتجاوز العادة، ثم حصل الفصل بأقلّ الطهر، ثم رأت الدم مرة اُخری، فیحکم بحیضیّتهما وکذلک یکون الحکم فیما اذا تجاوز الدم ایضا؛ کما لا یخفی .

و احتمال الاشکال فیه من جهة عموم أدلة العادة، حیث یحکم بلزوم جعل العادة حیضا مطلقا، سواء کان فی مثل المورد المفروض أو غیره، وایضا من جهة المستفاد من المرسل من اشتراط الرجوع الی التمییز عند فقد العادة، فلا یشمل ما تکون لها عادة، ومن الشک فی شمول قاعدة الامکان لمثل ذلک، کما قد یؤیده اطلاق الأصحاب من لزوم الرجوع الی العادة، _ خاصة مع التجاوز _ استحاضة وعدّ ما عداها، الشامل باطلاقه لبعض صور المقام.

مما لا یمکن أن یُصغی الیه، اذ لیس فی شی مما ذکر مما یمکن أن یستدل به علی نفی الحکم بالحیضیة فی الثانی، غیر ما عرفت من عدم امکان فرض حدوث الحیض فی کلّ شهر الاّ مرّة واحدة، عملاً بما عرفت من دلالة الخبر، وفیه

ص:327

تأمّل کما لایخفی .

و امّا إذا فرضنا وجود المعارضة بین العادة والتمییز فی العادة الوجودیة، یعنی فیما إذا لم یمکن الحکم بحیضیة کلّ من العادة والتمییز، مثل ما إذا لم یفصل بینهما، أقل الطهر، ففی اختصاص الحیض بأیّام العادة _ کما فی صورة عدم المعارضة فی هذه الناحیة _ أو اختصاص الحیض بأیام التمییز أو التخییر بینهما، أقوالٌ: فالمشهور علی الاول، نقلاً وتحصیلاً کما هو مختار المصنف قدس سره ، وصاحب «الجواهر» وصاحب «مصباح الفقیه» و«مصباح الهدی»، خلافا للشیخ فی «الخلاف» و«المبسوط» حیث قد ذهب الی الثانی، وقد نسب الیه فی «النهایة» ولکن النسبة غیر ثابتة کما صرح به فی «الجواهر».

کما قد ذهب الی التخییر صاحب «الوسیلة».

و لکن الاقوی هو الاوّل، وذلک لامکان الاستدلال بعموم ما دل علی الرجوع الی العادة، الشامل بعمومه حتّی حال المعارضة، بل وبما ورد من الدلیل علی أنّ الصفره والکدرة فی أیّام الحیض حیض .

وبموثق اسحاق بن جریر، حیث جعل شرط جواز الرجوع الی التمییز فقد العادة حیث قال علیه السلام : «تجلس أیّام حیضها، ثم تغتسل لکلّ صلاتین. قالت: إنّ أیّام حیضها تختلف علیها... الی أنْ قال علیه السلام : دم الحیض لیس به خفاء، وهو دم حارّ تجد له حرقة»(1) .

حیث أمرها علیه السلام بالجلوس فی أیّام العادة، ثم بعد الاشتباه لمکان الاختلاف، أرشدها الی التمییز بالصفات، حیث یظهر منه أنّ الرجوع الی الصفات لا یکون الاّ بعد الجهل بالعادة .


1- وسائل الشیعة: الباب 3 من أبواب الحیض، الحدیث 3 .

ص:328

وأظهر منه _ بل هو الصریح _ مرسلة یونس، حیث قال: «ولو کانت تعرف أیّامها، ما احتاجت الی معرفة لون الدم، لأن السنة فی الحیض أنْ تکون الصفرة والکدرة فما فوقها فی أیّام الحیض _ إذا عرفت _ حیضا کله، إن کان الدم أسود، أو غیر ذلک، فهذا یبیّن لک أنّ قلیل الدم وکثیره أیّام الحیض حیضٌ کله، إذا کانت الأیام معلومة، فاذا جهلت الأیام وعددها، احتاجت الی النظر حینئذ الی اقبال الدم وادباره، وتغیّر لونه، ثم تدع الصلاة علی قدر ذلک».(1)

فبواسطة هذین الخبرین المعتضدین بالشهرة العظیمة، یجب تقیید اطلاق الأخبار الدالة بالاطلاق علی الرجوع الی الصفات، حتّی إذا کان معارضا مع العادة بما إذا لم یکن کذلک، وان کانت النسبة بین هذین الاطلاقین هو العموم من وجه، الا أنّه یقدم أخبار العادة علی أخبار التمییز بواسطة الشهرة، بل کادت أنْ تکون اجماعا، لعدم وجود المخالف فیه الاّ الشیخ فهو أیضا خالف فی سائر کتبه ما ذهب الیه فی «المبسوط» و«الخلاف»، بل قیل إنّه خالف حتّی فیهما أیضا، حیث قال بعده: «ولو قیل بتقدیم العادة مطلقا لکان قویّا»، فانه دلیلٌ علی رجوعه عما قاله قبله.

بذلک یظهر ضعف القول الثانی، وهو تقدیم التمییز علی العادة، کما یظهر ضعف القول بالتخییر، کما هو ظاهر «الوسیلة»، حیث قد جعل التخییر نتیجة العمل بالعمومین المتعارضین، مع أنّ مقتضی الجمع بینهما لیس التخییر العملی الفرعی، بل مقتضاه هو التخییر الاصولی بالنسبة الی وظیفة المجتهد، بخلاف التمییز الفرعی، حیث یکون بالنسبة الی عمل المقلد، أو ربما قیل فی التخییر الاصولی، بأنّه تخییر المجتهد بالأخذ بأحدهما، فاذا أخذه فعلی المقلد العمل بما أخذه دون


1- وسائل الشیعة: الباب 3 من أبواب الحیض، الحدیث 4 .

ص:329

أن یختار غیره.

بل ربما قیل: بأنّ التخییر هنا بدویٌ لا استمراری دون الثانی.

وفیه کلام نوکل تفصیله وتنقیحه الی محلّه فی الاصول.

هذا تمام الکلام فی تعارض العادة مع التمییز فی العادة الوجودیة، أی إذا کانت عادتها حاصلة بالأخذ والإنقطاع .

وامّا إذا کانت العادة وصفیّة، أی حاصلة بالتمییز.

ففی تقدیم العادة علی التمییز کما علیه الأکثر، مثل صاحب «الجواهر» و«مصباح الفقیه» و«مصباح الهدی» بمقتضی اطلاق الفتاوی، وصریح بعضها.

أو تقدیم التمییز علی العادة.

أو التوقف، کما هو المحکیّ عن شارح «الروض» و«کاشف اللّثام»، اقوالٌ: ذهب جماعة من الفقهاء الی تقدیم التمییز علی العادة، کالمحقق الثانی فی «جامع المقاصد»، حیث استدل لذلک بأمور ثلاثة: أوّلاً: بأنّه لو حُکم بتقدیم العادة العاریة عن الوصف علی له من الوصف، للزم زیادة حکم الفرع علی الأصل، لأنّ اصل اعتبارها إنّما جاء من الصفة، فلا تبلغ مرتبة تقدم علی الصفة حتّی بالنسبة الی ما هو خالٍ عن الوصف .

واُجیب عنه کما فی «مصباح الهدی»: بانه مجرّد اعتبار لا یعتمد علیه، بعد القول بثبوت العادة بالتمییز.

هذا ولکن الأولی فی الجواب أن یقال ، أولاً : بأنّه إذا ثبتت العادة _ ولو بالوصف والتمییز _ یوجب تحقق الموضوع، للدلیل الذی یدل باطلاقه، من تقدیم العادة علی التمییز، حیث یشمل باطلاقه حتّی ولو کانت حاصلة من التمییز، کما لا یخفی .

وثانیا: من الاشکال فی شمول ما دل علی تقدیم العادة علی التمییز للعادة

ص:330

الحاصلة من التمییز، بدعوی انصرافه عنه.

وفیه ما لا یخفی، حیث أنّه مجرد دعوی، والاّ کان الاطلاق مقتضیا لذلک، اذ لم یبیّن فی الدلیل بکون العادة حاصلة بالاخذ والانقطاع، ولا اشکال من وجود العادة الوصفیة فی النساء أیضا .

وثالثا: أنّ المسّلم من الدلیل علی تقدیم العادة علی التمییز، هو الاجماع، والمتیقن منه هو الاجماع علی لزوم الأخذ بها، ما لم یعلم منها التمییز، وأمّا مع التعارض فهو غیر ثابت.

ولأجل هذین الوجهین، تری الحکم بالتوقف من «شارح الروض» و«کاشف اللثام»، بل فی «مصباح الهدی» قال: وهذان الوجهان لا یخلوان عن قوة، وعلیهما فالأحوط الجمع بین تروک الحائض، وأعمال المستحاضة، انتهی(1) .

وفیه: إنّ الدلیل علی تقدیم العادة علی التمییز لیس خصوص الاجماع، حتّی یقال بتلک المقاله من الأخذ بالقدر المتعین، لکونه دلیلاً لبّیا، بل الاجماع مؤیدا بالنصوص فاطلاقها یشمل حتّی صورة المعارضة، ولو لم یکن هذا القسم معتضدا بالاجماع.

نعم، الذی ألجائه علی ذلک، هو قبوله الانصراف فی الاخبار عن هذه الصورة، فبعد عدم شموله للاجماع أیضا، یوجب ذلک، و لذلک قلنا فی حاشیة «العروة» بأنه لا یبعد ترجیح العادة علیها، ولکن برغم ذلک فانه لا یترک الاحتیاط فی الصفات أیضا، بما عرفت فی مقابل قول مثل السیّد فی «العروة» تبعا للمحقق من القول بترجیح الصفات علی العادة.

ثم إذا عرفت بأنّ الأخبار تدل علی تقدیم العادة مع التمییز والصفات، وکان


1- مصباح الهدی: 5/5 .

ص:331

وجه التقدیم کونها أقوی الامارات، فانّ الصفرة والکدرة فی أیّام الحیض حیض کلّها، فاذا عرِفَتْ أیامها جعلتها حیضا، و لا تعتنی باوصاف الدم، ولا فرق فی ذلک بین ما إذا عرفت أیّامها تفصیلاً وقتا وعددا _ بأن استقرت عادتها من حیث الوقت کأول الشهر _ ومن حیث العدد _ کالسبعة _ أو عرفت عادتها من حیث الوقت فقط من کونها فی أوّل کلّ شهر دون العدد، أی عرِفَتْ أنّ عادتها تکون بدایة کلّ شهر مثلاً، وأنّ الصفرة والکدرة فی تکونان فی أیّام معیّنة من أوّل الشهر، أمّا اقل الحیض أو القدر الجامع بین أقرائها فانّه حیض کلّها.

وامّا من حیث تعیین العدد، فهی بحاجة الی معرفة ألوان الدم، فحکمها من هذه الجهة یکون حکم ناسیة العدد، حیث ترجع الی التمییز فی تعینیه، لأنّ المفروض عدم وجود عادة فعلاً من حیث العدد .

أما اذا عرفت أیّام عادتها عددا دون الوقت، أی لو عرفت اجمالاً بأنّ عادتها فی کلّ شهر سبعة أیّام مثلاً، فعلیها أنْ تتحیضّ بذلک المقدارکل شهر، سواء ساعدت علیها الاوصاف أم لم تساعد.

وامّا من _ حیث الوقت حیث لا تکون لها عادة _ فتصیر کالمتحیرة، وعلیها الرجوع الی الاوصاف وغیرها .

فما یری من مناقشة بعض أصحابنا فی الفرض الاخیر، من لزوم رجوع ذات العادة الوقتیة الی وقتها، وعدم التفاتها الی التمییز والاوصاف، بدعوی ظهور الأخبار فی غیرها _ کما نقله صاحب «الجواهر» _ لیس بشی ء، لما قد عرفت من أنّ المتبادر من الأخبار، لیس الاّ لزوم ترک الصلاة فی الوقت المعهود، کما تری فی جواب سؤال أنّ المرأة فی صحیحة اسحاق بن جریربیان اوصاف الحیض حیث آمرها الامام علیه السلام بقوله: «تجلس أیّام حیضها»، ای علیها الجلوس فی أیّام عادتها حتّی من حیث الوقت، ولذلک قالت له: «إنّ حیضها تختلف علیها وربّما

ص:332

وها هنا مسائل :

الأولی : إذا کانت عادتها مستقرة عددا ووقتا ، فرأت ذلک العدد متقدما علی ذلک الوقت ، أو متاخرا عنه ، تحیّضت بالعدد ، وألغت الوقت ، لأنّ العادة تتقدّم وتتأخر ، سواء رأته بصفة دم الحیض أو لم تکن (1).

یتقدم الحیض الیوم والیومین والثلاثة ویتأخر مثل ذلک، فما علمها به؟ قال علیه السلام : دم الحیض لیس به خفاء) حیث أنّ الامام علیه السلام أرجعها عند اختلاف وقتها الی تشخیص حیضها بالاوصاف، فیفهم منه أنّ الرجوع الی الاوصاف فی تشخیص الحیض، یساعد مع کل عادّة من حیث الوقت والعدد، من دون فرق فی ذلک بین کون عادتها وقتیة وعددیة أو احداهما فقط. ولکن لیس الاعتماد علی الاوصاف علی حدّ یوجب رفع الید عن العادة من حیث العدد، لو کان لها عادة عددا، کما قد یترأی من هذه الصحیحة، لما ثبت نصا واجماعا من أنّ العادة تستقر بمجرد رؤیة الدم عدّة أیّام، سواء شهرین وما زاد، وأنّه إذا استمر بها الدم ترجع الی عادتها عند استقرارها، والمرجع الی الصفات والتمییز إنّما یکون من الحیثیّة التی لیس لها عادة، وعلیها یؤل اطلاق الصحیحة جمعا.

فی الاستحاضة / فی حکم ذات العادة إذا تقدّمت العادة أو تأخّرت

فثبت من جمیع ما ذکرناه، لزوم تقدیم العادة علی التمییز مطلقا، ای فی الاقسام الثلاثة من العادة، واللّه العالم .

(1) اذا عرفت حکم المرأة ذات العادة، وأن العادة هی المرجع فی کلّ شهر لها، فان المصنف یرید فی هذه المسألة بیان حکم من تقدمت عنها العادة أو تأخرت عن الوقت الذی کانت مستقرة لها، کمن کانت ذات عادة عددیة وقتیه، بل وکذلک لو رأت غیر ذلک العدد قبل الوقت أو بعده، وأمکن أن تکون ما رأته حیضا، فان علیها حینئذٍ الغاء الوقت نصّا واجماعا، کما قد مضی بحثه عن المصنف وغیره،

ص:333

عند التکلم فی قاعدة الامکان، فالنص والاجماع ثابتان فی کل من الموردین، کما هو الظاهر نقله عن «کشف اللثام»، بل ویشهد علیه الوجوه و الاعتبار وقاعدة الامکان . بل ینطبق علیه النصوص، کما نشیر الیه، مثل مضمرة سماعة: «قال: سألته عن المرأة، تری الدم قبل وقت حیضها؟ قال: فلتدع الصلاة، فانه ربما تعجّل بها الوقت»(1).

فان الخبر باطلاقه یشمل ذات العادة العددیة والوقتیّة، کما یشمل خصوص الوقتیة، حیث قد لوحظ فیه التعجیل عن وقتها، فکأنّها کانت لها عادة عددیة، والخلل وقع فی وقتها بالتعجیل، وقد أمضاه الشارع بأنّه ربما یکون کذلک.

نعم، قد نقل عن الشیخ فی «المبسوط» أنّه قال: «متی استقر لها عادة، ثم تقدمها الحیض بیوم أو یومین، أو تأخر بیوم أو یومین، علمت بأنّه من الحیض، وإنْ تقدم بأکثر من ذلک أو تاخر بمثل ذلک الی تمام العشرة أیّام، حکم أیضا أنّه من الحیض. فان زاد علی العشرة لم یحکم بذلک».

ویرد الاعتراض علی قوله فی آخر کلامه من أنّه إنْ زاد علی العشرة لم یحکم به، أی فی الجمیع، لا أنْ لا یحکم بالحیض بالعادة، والاّ یرد علیه الاشکال بأنّه کیف لا یحکم به فی خصوص العادة، لما قد عرفت من دلالة قاعدة الامکان علی ذلک، بلا فرق فی ذلک بین ما الذی رأته کانت بصفة الحیض، أو لم یکن، فالحکم بالحیضیة علی ما تقدم أو تاخر مما لا اشکال فیه .

نعم، والذی ینبغی البحث فیه هو أنّه هل التی تتحیض برؤیة الدم قبل وقتها علیها التربّص الی ثلاثة أیّام، التی کانت أقل الحیض، حتّی تستقر حیضها، أو یفصل بین ما هو بصفة الحیض فتحکم بمجرد الرؤیة، وبین غیره بالتربص الی


1- وسائل الشیعة: الباب 15 من أبواب الحیض، الحدیث 2.

ص:334

ثلاثة، وجوه: ففی «الجواهر» وقد تقدم فی المبتدأة أنّ التحقیق یقتضی التفصیل بین الجامع وغیره، فینطبق علی الوجه الثالث.

وفی «مصباح الفقیه»: أوجهها الاوّل، کما سبق تحقیقه فی حکم المبتدأة، یعنی الحکم بالحیضیة بمجرد الرؤیة، وهذا هو الاوفق بالاحتیاط فیؤخذ به حتّی هنا، الاّ أن ینکشف الخلاف بالانقطاع قبل الثلاث.

کما لا فرق فی هذا الحکم بین التقدم والتأخر، أی حکم التأخر مثل حکم التقدم فی الالحاق بالحیض، فیما تجری فیه قاعدة الامکان.

فما یُنقل عن بعض من التفصیل بین التقدم _ حیث لم یحکم بالتحیّض _ وبین التأخر _ حیث یحکم به لکون التأخر أزید انبعاثا _ مما لا یمکن ان یُصغی الیه، کما أشرنا الیه سابقا .

أقول: ما ذکره صاحب «الجواهر» من اشتراط کون التقدم والتأخر مما یکون بمقدار یعتدّ به بحیث لا یتسامح بمثله بالنسبة للعادات، کالیوم والیومین ونحوهما، لصدق الرؤیة فی وقت الحیض علی مثله، وبما یشیر الیه خبر اسحاق بن عمار، عن أبی بصیر، عن الصادق علیه السلام : «فی المرأة تری الصفرة؟ فقال: إنْ کان قبل الحیض یومین، فهو من الحیض، وإنْ کان بعد الحیض بیومین فلیس من الحیض»(1) .

فی الاستحاضة / فی حکم ذات العادة إذا رأت قبل العادة و بعدها

لیس علی ما ینبغی، لوضوح أنّه لا فرق فی التقدم والتأخر الذی قد یتفق ویحکم بالحیضیة، بمجرد الرؤیة فی التقدم، بین کونه بیوم أو بیومین أو ازید منهما، وإنْ کان الغالب هو هذا المقدار، لکنه لا یوجب هذا التفصیل الذی یظهر من کلامه. اما خبر اسحاق بن عمّار لا یمکن أن یصیر دلیلاً علی التقید، بل یمکن أنْ یکون ذکر هذا المقدار من باب المثال والغالب، کما لا یخفی علی المتأمل .


1- وسائل الشیعة: الباب 4 من أبواب الحیض، الحدیث 2 .

ص:335

الثانیة: إذا رأت قبل العادة ، وفی العادة ، فإن لم یتجاوز العشرة ، فالکلّ حیض ، وإنْ تجاوز ، جعلت العادة حیضا ، وکان ما تقدمها استحاضة (1).

وکذا لو رأت فی وقت العادة وبعدها ، ولو رأت قبل العادة وفی العادة وبعدها ، فان لم یتجاوز العشر ، فالجمیع حیض ، وإنْ زاد علی العشرة ، فالحیض وقت العادة ، والطرفان استحاضة (2).

(1) ما ذکره من الفرعین، مما لا خلاف فیهما وفی حکمهما، لما قد عرفت أنّ المدار مع وجود العادة _ سواء کانت عددیة ووقتیة، أو مع احداهما _ هو حفظ أیّام العادة، ومع ملاحظة عدم التجاوز عن العشرة، فالکلّ حیض من العادة، مع ما تقدمها من الأیام بیوم أو یومین أو ثلاثه.

وما ذکره صاحب «الجواهر» فی ذیل کلام المصنف، من اشتراط الاتصال، وکون ما تقدم مما لم یکن فیه بیاضٌ قبل أقل أیّام الحیض حیضٌ، والا لا یکون حیضا.

مما لا حاجة الی ذکره، لأنّ ظاهر کلامه البحث عن صورة وجود الشرائط، غیر کونه متقدما، کما یومی الیه عنوان (رأت...) ولعله لأجله أمر بالتأملّ.

کما أنّه یجب أنْ نلاحظ بأنّ الحکم باعتبار الدم المتقدم استحاضة، لو تجاوز عن العشرة مع وجود العادة، بین کون الدم فیما تقدم واجدا لصفة الحیض أم لا، أی یعارض التمییز مع العادة أو لم یعارضه، کما عرفت سابقا بأنّ العادة هی المرجع مطلقا .

(2) ما ذکره فی القسمین الأخیرین، مما لا خلاف فیهما بین أصحابنا، خلافا لأبی حنیفة حیث ذهب فیما لم یتجاوز العشرة إذا رأت فی العادة وما بعدها، إلی الحکم بالحیضیة فی خصوص العادة، دون ما بعدها.

هذا، مع وجود المقتضی لجریان قاعدة الامکان فیه، وعدم وجود مانع

ص:336

الثالثة: لو کانت عادتها فی کلّ شهر مرّة واحدة، عددا معینا ، فرأت فی شهر مرتین بعدد أیّام العادة ، کان ذلک حیضا (1).

عن الحکم بالحیضیة فیه . وخلافا للشافعی فی القسم الأخیر، وهو ما رأت قبل العادة وفیها و ما بعدها فیما یتجاوز عن العشرة، حیث ذهب الی الحکم بحیضیة جمیعها، ما لم تتجاوز المجموع عن خمسة عشر یوما، لأنه قد جعل أکثر الحیض هذا المقدار، وخلافا لأبی حنیفة فیه أیضا، حیث حکم بحیضیة العادة وما بعدها، إذا لم تتجاوز العشرة، دون ما تقدم منها.

ولعلّ الوجه فی ذلک أنّه قد جعل استصحاب الحیضیة لما بعد العادة _ الفاقد لهذا الأصل _ لما قبلها، ولأجل ذلک فرّق بین المتقدم والمتأخر.

ولکنه ینافی مع ما اختاره سابقا من الحکم بالرجوع الی العادة، حتّی مع عدم التجاوز عنها، فی خصوص العادة وما بعدها، کما لا یخفی.

ولکن کلامهما ضعیف، لاطلاق الادلة الدالة بلزوم الرجوع الی العادة عند التجاوز عن العشرة، فی جمیع الاقسام الثلاثة.

(1) لا فرق فیمن کانت عادتها فی کلّ شهر مرّة واحدة عددا معینا، أن تتعیّن لها وقت معین، فلو رأت فی شهر مرّتین، یحکم بحیضیتهما، إذا فصل بینهما، بأقلّ الطهر، لأنه شرط فی الحکم بالحیضیة، وفی هنا فانه یحکم فی هذا المورد بالحیضیة، بلا اشکال، لقاعدة الامکان، بل ودلالة بعض النصوص، مثل صحیحة محمد بن مسلم: «رؤیة الدم إذا کان بعد العشرة فهو من الحیضة المستقبله»(1).

فالمسأله واضحة ولا کلام فیها .


1- وسائل الشیعة: الباب 11 من أبواب الحیض، الحدیث 3 .

ص:337

ولو جاء فی کلّ مرّةٍ أزید من العادة ، لکان حیضا إذا لم یتجاوز العشرة ، فإن تجاوز تحیّضت بقدر عادتها ، وکان الباقی استحاضة(1) .

والمضطربة العادة ترجع الی التمییز ، فتعمل علیه ولا تترک الصلاة ، الاّ بعد مضی ثلاثة أیّام علی الأظهر(2).

(1) و حکم هذا الفرع أیضا واضحٌ ومستفاد من الأدلة، وکلمات الاصحاب رحمهم الله .

(2) ظاهراطلاق کلام المصنف عن المضطربة العادة،هی التی تکون اضطرابها من جهة نسیان عادتها وقتا وعددا، بأن لم تحفظ شیئا منهما، ففی مثلها ترجع الی التمییز بلا خلاف أجده، لاطلاق الادلة ولروایة السنسن الصریحة فی ذلک، وإنْ استشکل فیه، ولکن لولا خطنا التقسیم الوارد فی خبر سنسن، حیث قسّم المرأة الی ثلاثة أقسام: من ذات العادة، وذات التمییز، والمبتدأة. والمضطربة لا تکون ذات العادة والمبتدأة قطعا، فلابد أنْ تکون مندرجة فی ذوات التمییز.

نعم، قد نقل عن أبی الصلاح من رجوع المضطربة الی النساء، ثم التمییز ثم سبعة سبعة، وعن ابن زهرة من عدم الالتفات الی شی ء من ذلک، بل تتحیض بعشرة بعد الفصل بأقل الطهر.

فی الاستحاضة / فی حکم المضطربة

ولا یخلو کلامهما عن ضعف، لما قد عرفت من مقتضی دلاله الأدلة .

ثم اُورد علی اطلاق کلام المصنف _ بأنّ المضطربة مطلقا، أی سواء کانت قد نسیت عادتها عددا أو وقتا أو کلیهما، علیها الرجوع الی التمییز _ بأنه لا یستقیم لمن کانت ذاکرة العدد الناسیة للوقت، لو عارض تمییزها عدد أیّام العادة، فانها لم ترجع الی التمییز قطعا.

وقد حاول البعض الدفاع عن المصنف بأنّ مراده هی التی طابقت تمییزها عادتها، بدلیل ما ذکره من ترجیح العادة.

ص:338

ثم اعترض صاحب «المدارک» علی المعتذر بعدم ظهور ذلک وانه لو ثبت ذلک لما ثبت لاعتبار التحیّض حینئذٍ فائدة تذکر. ثم قال: ویمکن أنْ یقال باعتبار التمییز فی طرف المنسی خاصة، أو تخصیص المضطربة بالناسیة للوقت والعدد، ولعل هذا اولی .

وفی «الجواهر» قال: «قلت لکن ینافیه تقسیم المصنف بعد ذلک المضطربة _ عند فقد التمییز _ الی الأقسام الثلاثة»، انتهی کلامه(1) .

وقال الهمدانی فی «مصباح الفقیه» بعد نقل کلام صاحب «الجواهر»: «اقول: فالاظهر ارادتها بمعناها الاعمّ، واعتبار التمییز فی طرف المنسیّ خاصة، ففائدته تعییّن وقت حیضها من ذلک الشهر، عند موافقته لعدد المعلوم، وتعیّن العدد المنسیّ فی الوقت المعین. فالمراد من اطلاق القول برجوع الناسیة الی التمییز، إنّما هو رجوعها الیه من حیث کونها ناسیة، فلو ذکرت عادتها من بعض الجهات والخصوصیات، لا تعتنی باوصاف الدم من تلک الجهة»، انتهی کلامه(2) .

ولکن الأولی عندنا، هو کون المراد الناسیة عددا ووقتا، کما اختاره صاحب «المدارک» فی آخر کلامه، لأن من کانت لها عادة بالعدد أو الوقت، لا یطلق علیها مضطربة العادة بصورة المطلق، فصحّة هذا الاطلاق من دون ذکر خصوصیة، لا تکون الاّ فیمن نسیت عادتها مطلقا، خصوصا أنّ کلام المصنف سابقا، بأن ذات العادة _ باطلاقها الشامل للثلاث _ ترجع الی عادتها، مبیّن لما ذکرناه، فالاشکال غیر وارد علیه، کما لایخفی .

و امّا حکم ترکها للعبادة، فهل هو ثابت بمجرد رؤیة الدم، أو أنّ علیها أن


1- جواهر الکلام: 3/299 .
2- مصباح الفقیه: 5/265 .

ص:339

تتربّص الی ثلاثة أیّام؟

وقد عرفت أنّ الحکم فی المبتدأة، هو ثبوت ذلک بمجرد رؤیة الدم الجامع للصفات، الاّ ما لا یکون کذلک فعلیها الاحتیاط، لأنّه المستظهر من الأخبار الواردة، ومنها قوله: «من أوّل ما رأت».

ولا یبعد أنْ یکون حکم المضطربة حکم المبتدأة اذا کان دمها واجدا لصفة الحیض، خصوصا إذا قلنا بحرمة العبادة ذاتا، فانه لا اشکال فی کون الأخبار دالة علی لزوم ترکها العبادة بمجرد الرؤیة، فاذا استقر لها الحیض فهو، والاّ فان علیها قضاء تلک الفرائض التی فاتتها فی فترة اظطرابها .

خلافا لصاحب «الجواهر» قدس سره ، حیث قال: «بل قد عرفت أنّ الأقوی مساواتها للمبتدأة، فی التفصیل بین الجامع للصفات وعدمه»، حیث لم یحکم بالاحتیاط فی غیر الجامع.

وقال بعده: کما أنّه قد فرق بعضهم بینهما، فاحتاط فی المبتدأة بالثلاثه، وجعل المدار هنا علی الظن، مسّتدلاً بروایة اسحاق بن عمّار، عن الصادق علیه السلام : «فی المرأة تری الصفرة، إنْ کان قبل الحیض بیومین فهو من الحیض»(1) .

بتقریر أنّ الحکم بذلک إنّما هو لمکان الظن، من جهة التقدم بالیومین.

وفیه أوّلاً: بما قد عرفت أنّ المبتدأة تتحیّض بمجرّد الرؤیة، بواسطة دلالة الروایة.

وثانیا: أنّ هذه الروایة واردة فی حق المعتادة، اذ هی التی تحصل علی الظن بذلک، لا مثل المضطربة التی تضطرب من جهة نسیان الوقت، حیث لا یمکن لها أنْ تحصل علی الظن بتقدیم یومین، حتّی تعمل بظنها، کما لا یتم التربص ثلاثه


1- وسائل الشیعة: الباب 4 من أبواب الحیض، الحدیث 2 .

ص:340

فان فقدت التمییز ، فهنا مسائل ثلاث :

الأولی : لو ذکرت العدد ونسیت الوقت ، قیل: تعمل فی الزمان کلّه ما تعمله المستحاضة ، وتغتسل للحیض فی کلّ وقت یحتمل انقطاع دم الحیض فیه ، وتقضی صوم عادتها (1).

ایام فی المضطربة التی تکون قد ضبطت الوقت، وانها نسیت العدد فقط، لوضوح أنّها تتحیض بمجرد الرؤیة، اذا کان دمها واجدة للصفة.

وکیف کان، فالأقوی عندنا کونها کالمبتدأة فی الحکم بالحیضیة مع رؤیتها اول الدم _ کما ورد فی النص _ إذا کان واجدا للصفات، والا فان علیها أن تحتاط بالجمع بین تروک الحائض واعمال المستحاضة الی ثلاثة .

(1) قلنا: فی المضطربة التی کانت ذاکرة العدد وناسیة الوقت، وکان العدد المذکور تارة مرددا فی جملة عدد لا یزید ذلک العدد المذکور علی نصف ما وقع فیه التردید، بل هو امّا یساویه أو یقلّ عنه، وهما کالخمسة بالنسبة الی العشرة فی الاولی، والأربعة بالنسبة الیها فی الثانیة.

فالاقوال فی المقام خمسة:

فی الاستحاضة / فی حکم المضطربة لو ذکرت العدد و نسیت الوقت

قول: فی «المبسوط» و«الارشاد» و«الحدائق»، بل والمصنف بعنوان مُشعرٍ بتمریضه، هو الاحتیاط فی جمیع تلک الایام، إنْ ترددت فی العدد، أی العشرة فی المثال المفروض، فتعمل فیها ما تعمله المستحاضة، وتغتسل للحیض فی کلّ وقت یحتمل انقطاع الدم، ثم تقضی صوم عادتها.

وجعلوا وجه ذلک، عدم تشخیصها للحیض فی وقت خاص مع وجود ادلة الاحتیاط.

و قول: وهو المنسوب الی المشهور _ کما فی «الحدائق» _ والی الأکثر _ کما

ص:341

فی «المدارک» _ واختاره العلامة فی «المختلف» و«القواعد» والشهید فی «المسالک» وغیر، وهوالتخییر فی وضع عددها فی أیّ وقت شائت من الشهر، والظاهر کونه مختار صاحب «الجواهر» أیضا، حیث قال: «لا ینبغی التوقف فی رجوعها الی عددها فی کل شهر» .

وقول: هو المذکور فی القول السابق، الا أنّه مشروط بعدم وجود الامارة المفیدة للظن بموضع خاص.

هذا، کما علیه «الذکری» و«البیان»، ولعلّه مقبول للآخرین من هذا الوجه، لأنّ کلامهم فیما لم یکن مثل هذا الظن موجودا، والاّ فانه مع وجوده یکون مرجّحا، فیخرج عن التخییر .

وقول: بأنه تجلس فی الشهر الأول من اول دم تراها مقدار حیضها، ثم انها تجری الأحکام فی باقی الشهور.

وهذا القول منقول عن «الذخیرة» حیث قال:

لو قیل بذلک، لم یکن بعیدا من الصواب .

وقول: للشیخ فی «الخلاف» وهو الذی استوجب استغراب صاحب «الجواهر» قدس سره ، من التفوه به وهو أنّ ناسیة الوقت أو العدد، تترک الصلاة والصوم فی کل شهر سبعة أیّام، وتغتسل وتُصلّی الباقی، وتصوم فیما بعد، ولا قضاء علیها.

ثم قال الشیخ: دلیلنا اجماع الفرقة .

ولعلّ الاقوی هو قول المشهور، من رجوعها الی العدد المذکور فی کل شهر، ووضع عددها فی أی موضع من الشهر، إذا لم یکن لها امارة مفیدة للظن بکون ذلک حیضا، والا تقدم ذلک، لأنه المستفاد من الروایات بأخذ العادة فی کلّ ما یکون لها العادة وقتا أو عددا.

کما أنّه مقتضی حال الناسیة للوقت والعدد، کون اذ لا یعقل المضطربة من

ص:342

حیث الوقت أسوء حالاً من الناسیة للوقت والعدد، بل لا یبعد استفادة خصوص ما ذهبنا الیه من قوله علیه السلام فی مرسلة یونس: «تجلس قدر أقرائها وأیّامها»، بل وغیر المرسلة من سائر الاخبار الآمرة بالجلوس أیّام حیضها وأقرائها.

ودعوی اختصاصها بمعلومة الوقت تکون بلا وجه ودلیل، لأنّ اطلاقها یشملّ کل من کانت لها هذه الایام، کما تری دعوی الاجماع فی «الریاض» علی من أستقر عادتها علی العدد فقط، بالرجوع الی عدد أیامها.

ودعوی الفرق بین ما نحن، وبین ذات العادة عددا بالنسیان، تکون بلا شاهد، لأنّ ذات العادة ترجع الی عادتها من حیث کونها ذات عادة، فلا فرق فی ذلک بین کون عادتها معلومة من حیث الوقت أو من حیث العدد، بینما لم تستقر لها عادة من سائر الجهات التی توجب عدم استقرار العادة لها، أو توجب تعذر الرجوع الیها لنسیانها، فتعمل علی التمییز.

وإنْ تعذر فی حقها ذلک أیضا، فلا محالة علیها أن تجعل الحیض فی مرحلة الظاهر فی کلّ شهر بعدد أیامها، کما أنّه لو لم یکن لها أیامٌ معلومة تتحیّض ستة أو سبعة، علی ما عرفت توضیحه فی الروایة .

فاذا عرفت وجوه مثل هذه الأدلة الدالة علی ما ذکرناه، لا یتعین وجهٌ للقول بوجوب الاحتیاط فی الأیام التی لا تتعین کونهاحیض، وان کان الاحتیاط بالجمع بین تروک الحائض وأعمال المستحاضة، حسنٌ علی کلّ حال، لکنه لا یوجب الحکم بوجوبه.

وامّا ما ذکره صاحب «الجواهر» من کون الاحتیاط مستلزما للعسر والحرج المنفیین فی الآیة والروایة .

فانّه لیس علی ما ینبغی، أوّلاً: لأنّ صدق الحرج والعسر والضرر هنا غیر معلوم، لو لم نقل بعدمه فی المدة المعلومة من عشرة أیّام، خصوصا بعد ملاحظة

ص:343

کون الحکم لغالب النساء فی الاستظهار فی تلک المدّة، لمن کانت ذات العادة، فضلاً عن غیرها .

وثانیا: من التشکیک فی لزومه العسر والحرج، بحسب الموارد، ولو سلّم وقلنا بذلک، کما لو لزم فی الغُسل للحیض، حیث أنّه یستلزم تکرّره فی العشرة، لانقطاع الدم فی کل یوم، وهذا ما یوجب العسر والحرج، فیکون منفیا، فترجع الی اتیان التیمم فی کل مورد استلزم ذلک، لا عدم وجوب الاحتیاط.

وهذا بخلاف مثل الترخیص فی قراءة العزایم، أو اللّبث فی المساجد ونحوهما، مما لا یستلزم الاحتیاط فیهما ضررا أو حرجا أصلاً.

ولکن هذا الجواب لا یخلو عن تأمل، إذ ربما یستلزم منع بعض النساء عن القراءة أو اللبث فی المساجد العُسر والحرج .

وثالثا: إنّ اقتضائه للعسر والحرج فی الموارد شخصی لا نوعی، فالرجوع الی نفیه یختص فی خصوص المورد، لا فی العکسّ وفی جمیع الموارد ولجمیع النسوة، کما هو المقصود فیما نحن بصدده، کما لا یخفی .

ودعوی أنّ ایجاب الاحتیاط علیها _ بالجمع بین الوظیفتین بعنوانها الاجمالی _ حکمٌ حرجی أو ضرری، منفیٌ عنه فی الشریعة.

مما لا ینبغی قبولها، اذ لیس لنا احکام عقلیة أو شرعیة متعلقة بالعناوین الاجمالیة حتی توجب اطاعتها حدوث العسر والحرج، بل غایة ما هناک ان العقل حاکم بانه یجب علی المکلف ان یخرج عن عهدة التکالیف الشرعیة المفروضة علیه علی نحو الاجمال، فلو نفی دلیل نفی الحرج والضرر وجوب الاحتیاط فی موضوع مجمل من المواضیع، فانه یبقی حکمه بالنسبة الی الباقی .

وقد اعترض مع وجوب الاحتیاط، بالمنع عن وجوبه عند اشتباه المکلف به فی الامور التدریجیة، نظرا الی عدم ابتلاء المکلف بجمیع الاطراف فعلاً دفعة

ص:344

واحدة، والحال أنّ من شروط تأثیر العلم الاجمالی فی تنجیز التکلیف بالواقع المردد، هو کون اطراف الشبهة موردا لابتلاء المکلف بالفعل، مع أنّ المقام لیس کذلک، لکونه من الامور التدریجیة، التی تحصل من خلال ایام عدیدة متدرجة فی الزمان فلا یجب فیه الاحتیاط .

وفیه: قد تقرّر فی محلّه بأنه لا فرق فی اطراف الشبهة فی العلم الاجمالی الموجب لتنجز العلم به، کون اطرافه موردا للابتلاء دفعةً أو تدریجا، لوضوح أنّ الملاک فی التنجز، هو کون العمل بالاطراف فی الحرام، أو ترکها فی الواجب، ینطبق علیه المخالفة القطعیة العلمیة، وهو صادقٌ فی الدفعیّات والتدریجیات معا عرفا، کما هو واضح لمن لاحظ فهم العرف والعقلاء.

بناءً علی ذلک الأولی فی الاشکال علی الحکم بالاحتیاط، هو ما عرفت منا، من عدم قیام الدلیل علیه، بل وجود الدلیل علی عدمه، خصوصا إذا قلنا بحرمة العبادة ذاتا للحائض، حیث یدور الأمر حینئذ فی تلک الایّام _ مع العلم بالتخییر _ بین المحذورین من حرمة ترک العبادة أو وجوبها فی الفرائض، فمقتضی الاصل والعقل هو التخییر، ما لم یکن لأحد الاحتمالین رجحان أو اهمیة، والاّ فیؤخذ به متعینا.

وامّا فی المستحبات من العبادات، فهی کسائر المحرمات التی یجب ترکها احتیاطا . ومن هنا ظهر ان الحکم بالتخییر، بالرجوع الی العدد فی تمام الشهر _ کما علیه المشهور _ یعدّ أقوی وأرجح من سائر الأقوال .

ثم یاتی الکلام فی أن هذا التخییر، بالأخذ بما یجب علیه، هل هو استمراری، بحیث لا یسقط بعد الاختیار، أم التخییر ثابت ومستمرٌ فهی مخیّرة فی کل یوم، لدوران أمره فی کلّ یوم بین المحذورین، کما هو معنی التخییر العقلی.

وبعبارة اخری: هل التخییر ابتدائی بحیث یکون بعد الاختیار والقیام بالعمل بالوظیفة یکون قد سقط تخییرها، بعد العلم بأنّه لا یجوز لها ترک العبادة فی جمیع

ص:345

الشهر، ولا فعلها فی الجمیع ولا الاتیان فی یوم وترکها بیوم الی آخر الشهر، للقطع بالمخالفة القطعیة فی تلک المدّة أم لا؟

و الاظهر أنْ یقال: إنّ التخییر لها یکون من ابتداء الشهر الی أنْ یبقی عددها من الایام التی فیها عادتها، مثلاً انْ کانت سبعة فهذا التخییر یکون الی أن یبقی ثلاث وعشرین یوما من الشهر، فیکون معنی تخییرها هو التخییر بالاخذ فی العدد، لا آنهاتکون مخیّرة فی کل یوم بان تعدّ یوما فی عادتها وآخر لا عادة لها فیه، نعم لها أن تجعل وتأخذ باول یوم، کما ان لها أن تأخذ بالیوم الثانی والثالث اختیارا، لکن لو اختارت الاول لیس لها بعد ذلک اختیار الثانی والثالث. نعم الأظهر والأولی هو الاخذ بالاوّل، کما قد یستفاد من ظاهر بعض الاخبار، لو لم تقوم لها امارة مفیدة للظن بشی ء غیر ما أخذها فی الاوّل، والاّ کان الاولی لها الاخذ بما دلت علیه الامارة الظنیة، کما اشار الیه الشهید فی «الذکری» و«البیان».

ومعلوم أنها ان أخذت فی الدور الاول عددا علیها ان تتبع ذلک فی سائر الادوار نظیر حکم المبتدأة الذی قد مضی بحثه تفصیلاً.

هذا تمام البحث فیما فرض کون العدد المعلوم المحفوظ ناقصا من نصف ما وقع فیه التردید کالاربعة فی العشرة، أو مساویا له کالخمسة فیها، حیث لا تعین لها فی تلک العشرة، فمن ذهب الی وجوب الاحتیاط فیها أو حسنه، یجعله موردا للاحتیاط فی تمام أیّام العشرة، لعدم وجود یوم معین تتیقن فیه بالخصوص وجود الحیض فیه، کما لا یخفی .

و امّا إذا کان العدد المعلوم والمحفوظ، زائدا عن نصف ما وقع فیه التردید، کالستة فی العشرة، فالمتیقن لها من الحیض یکون یوما فی العشرة، وهو یوم الخامس، حیث أنّه لا تردید فی کونه یعدّ یوم حیضها، بلا فرق فی ذلک بین مبدأ اختیارها، من الیوم الأول أو غیره، لأن یوم الخامس واقع فی الوسط، فترک

ص:346

الثانیة: لو ذکرت الوقت ونسیت العدد ، فالأولی إنْ ذکرت أوّل حیضها ، أکملته ثلاثة (1).

العبادة فیه حکمٌ ثابت قطعی، وفی الزائد عنه یعمل بالاحتیاط، أو غیره علی حسب ما اختیر فی البحث السابق. ولا فرق فی الحکم بقطیعة الحیض، بین کون المحکوم بالحیضیة عددا کاملاً أو کسرا منه.

وقد أتعب صاحب «الجواهر» نفسه فی ذکر الأمثلة فی مسئلة الامتزاج المسمّاة عند العامة بالاختلاط، فشکر اللّه مساعیه الجملیة، ومن أراد الاطلاع علیها والاحاطة بها تفصیلاً، فلیراجع الی «الجواهر» أو الی «المبسوط» للشیخ الطوسی رحمة اللّه علیهما، وجعل الجنة مثواهما .

(1) لا یخفی علیک أنّ حیضیّة الثلاثة من أول الوقت المعلوم _ کاوّل الشهر _ یعدّ من متیقّن الحیضیة، لوضوح أنّ أقل الحیض لیس الاّ الثلاثة، فالکلام حینئذ یکون بالنسبة الی الزائد عنها الی تمام العشرة، حیث یمکن تصویر عدة موارد من الشکوک التی قد تحصل لها، ما لم تعلم انتفاء بعضها، بقیام من بعض الامارات المفیدة للظن، أو العلم بعدم الحیض.

فی الاستحاضة / فی حکم المضطربة لو ذکرت الوقت و نسیت العدد

والبحث إنّما یکون فی الزائد، ففیه أقوال:

القول الأول: القول بلزوم الاقتصار علی الثلاثة فی الحکم بالحیضیة، وفیما عداها تعمل عمل المستحاضة، اقتصارا فی ترک العبادات الواجبة علی القدر المتیقن.

هذا هو الظاهر من «المعتبر» و«البیان»، واستحسنه فی «المدارک»، بل واحتمله الشهید رحمه الله فی «الذکری» بل لعلّه الظاهر من موضع من «المبسوط»، وابن حمزة فی «الوسیلة».

والظاهر أنّهم تمسکوا علی هذا الحکم باستحالة اشتغال ذمتها بالعبادة التی

ص:347

هی قاطعة بعدمها فی خصوص الثلاثة، والباقی یبقی بقوته .

و قد اعتُرِض علیه _ وهو المحقق الهمدانی رحمه الله فی «مصباح الفقیه» _ بقوله: «وفیه: أنّه استند فی ذلک الی اطلاق الأمر بالعبادات، المقتصرتخصیصها علی الأفراد المعلومة. ففیه: أنّ الخارج من العمومات إنّما هو الأفراد الواقعیة لا المعلومة، فیجب فی مثل المقام الرجوع الی سائر القواعد، مثل استصحاب الحیض ونحوه، لولا الدلیل الخاص».

و لکن یرد علیه: أنّ خروج الأفراد الواقعیة عن العمومات، مما لا یمکن توجیه التکلیف بها الاّ بواسطة الأدلة التی تکون کاشفة عنها، فاذا دلت الأدلة علیها یصیر ما هو الخارج عبارة عن الأفراد المعلومة، إمّا بالوجدان أو بواسطة الدلیل أو الاصل، فیرجع الکلام حینئذ الی ملاحظة ذلک، فأمّا الثلاثة فانّها خارجة قطعا، لتمامیة الدلیل فی دلالته، وأمّا فی غیره فلابد من الرجوع الی دلیل، و مع فقد الدلیل، فانه یجب الرجوع الی الأصل، ومن المعلوم أنّ الاصول المحرزة بقدمة علی غیر المحرزة، فمع امکان الرجوع الی الأصول المحرزة لم تصل النوبة للرجوع الی غیر المحرزة، والمقام کذلک، اذ مع امکان الرجوع الی الاستصحاب، لم تصل النوبة الی جریان قاعدة الاشتغال، ومقتضی الاستصحاب هو الحکم ببقاء الحیضیة، ولزوم ترک العبادات.

وهذا هو الاولی فی الجواب، دونماذکره الفقیه الهمدانی رحمه الله .

ثم قال رحمه الله بعد ذلک. وإنْ استند الی قاعدة الاشتغال، ففیه: أوّلاً: أنّ مقتضاها الاحتیاط، إنّ جوّزناه فی مثل المقام، بأن تجمع بین تروک الحائض، وأفعال المستحاضة _ کما هو ظاهر المتن وغیره _ لا البناء علی الطهارة مطلقا .

وفیه ما لا یخفی، لأنّه لا ظهور فی کلام المصنف علی ما ذکره، بل الظاهر خلافه، لأنّه قد حکم بالحیضیة فی خصوص الثلاثة، فیکون فی غیرها العمل

ص:348

باحکام المستحاضة بالنسبة الی ما رأته من الدم، والمقصود من الاشتغال هو الاشتغال بالعبادات لا غیرها من تروک الحائض، لأن ذمتها لم تکن مشغولة بها حتی یجب علیها ذلک.

فالحکم بالاحتیاط بالجمع بینهما بحاجة الی دلیل آخر مفقود فی المقام .

القول الثانی: القول بالرجوع الی الروایات، إمّا بأخذ السبعة تعیینا _ کما هو ظاهر الشیخ فی «الخلاف»، مدعیا علیه الاجماع _ أو التخییر بین السبعة والستة، أو ثلاثه من شهر وعشرة من آخر، وهو قول الشهید الثانی وغیره من بعض متأخری المتأخرین، بل هو مختار المحقق الهمدانی رحمه الله فی «مصباح الفقیه» .

القول الثالث: القول بالاحتیاط، بالجمع بین الوظیفتین.

وهو ظاهر ابن سعید فی «الجامع»، والعلامة فی «التذکرة»، بل نقل عنه فی جملة من کتبه، کما أنّه نقل عن الشیخ فی «المبسوط» وفی «الذکری» أنّ الاحتیاط فی هذه ونظائرها مشهور .

القول الرابع: القول بلزوم تحیضها بالعشرة فی کلّ شهر، ما لم تعلم انتفاء بعضها، والاّ فبالممکن منها، لاستصحاب الحیض وجریان قاعدة الامکان وغیرها، مع عدم اطراد العمل بالروایات لها فی کلّ وقت.

وهذا هو مختار صاحب «الجواهر» قدس سره .

ولا یبعد قوة الأخیر، مع اضافة قید الی قوله وهو: «مالم تعلم بانتفاء بعضها»، لوضوح أنّه مع الظن بالانتفاء _ إذا کان قابلاً للاعتماد علیه _ یؤخذ به، والاّ تعمل بالحیضیّة من باب استصحاب الحیض وجریان قاعدة الامکان، حیث لا مانع فیه من الحکم بذلک، وإنْ کان العمل بالاحتیاط بالجمع بین الوظیفتین حسن، لو لم نقل بحرمة العبادة ذاتا، والاّ یکون العمل بالاحتیاط باتیان الواجبات العبادیة _ مثل الصلاة _ خلافا للاحتیاط، کما لا یخفی علی المتأمّل .

ص:349

وانْ ذکرتْ آخره ، جعلته نهایة الثلاثة ، وعمِلَتْ فی بقیة الزمان ما تعمله المستحاضة ، وتغتسل للحیض فی کلّ زمان یفرض فیه الانقطاع ، وتقضی صوم عشرة أیّام احتیاطا ، ما لم یقصر الوقت الذی عرفته عن العشرة (1).

(1) الظاهر أنّ قوله: «وعملت فی بقیة الزمان... الی آخره» مرتبطة بکلتا المسألتین، لا خصوص الثانیة، فعلیه یلزم بناءً علی الفرض الاول کون اللاحق مشمولاً لهذا الحکم لا السابق، لأنّه طهر قطعا، لأنّ المفروض حفظ اوّل الیوم بالحیضیّة، کما أنّه علی الفرض الثانی یکون السابق علی الثلاثة مشمولاً للحکم، لأنّ اللاحق بعد الثلاثة طهر قطعا، لأنها تعلم آخر الحیض فی آخر الایّام من الثلاثة، وأمّا السابق فطهریته موقوف علی ملاحظة المکمل للعشرة منه.

وأمّا فی العشرة، فالحکم فیها هو الاحتیاط، أو الحکم بالاستحاضة فیما عدا الثلاثة، وحکم الغُسل للحیض بالنسبة الی ما قبل الیوم الآخر لا ثمرة فیه بین القولین من الاحتیاط أو الاستحاضة، لأنه حیض فی الثلاثة قطعا، فلا یحتمل انقطاعه، فلا اثر له.

نعم یصح قوله: «وتغتسل للحیض فی کل زمان یفرض فیه الانقطاع» بالنسبة الی الیوم الآخر، إنْ لم تعلم وقت الانقطاع فیه بخصوصه، وتظهر الثمرة بین القولین فی باقی الامور إنْ قلنا بدخولها، علی القول بالاحتیاط، کترک اللّبث فی المساجد ونحوها، وفی أنّها تقضی صوم عشرة أیّام احتیاطا ما لم یقصر الوقت الذی عرفته عن العشرة، علی القول بالاحتیاط، بخلاف القول الآخر من التحیّض بالثلاثة، فانه لا یجب علیها قضاء الصوم، ولا ترک اللّبث فی المساجد ونحوه، لأنها حینئذ محکومة بالاستحاضة، ولا یحرم علیها مثل تلک الامور .

و المسألة من حیث الأحکام فی الواجبات و المحرمات، تابعة لما یختاره

ص:350

الفقیه من العمل بالروایات تخییرا أو تعینا فی السبعة، أو بینها وبین الثلاث فی الشهر والعشر فی الآخر، فیترتب علی بناءً علی المختار آثار ذلک من لزوم الترک وعدمه، فلا نحتاج الی الاطالة بیانه.

وقد عرفت من خلال المسالة السابقة بأنّ العمل بالاحتیاط اولی، فیما لم تعلم أو لم تظن بعدم کونها حائض، لأجل جریان قاعدة الامکان، بل الاستصحاب إنْ اجریناه فی القهقری أیضا، کما کان فیما قبله جاریا علی النحو المتعارف.

هذا تمام البحث فیما اذا کانت المرأة بدایة الحیض أو آخره. .

اما الفرض الثالث فی هذه المسألة، هو: أنْ تعلم المرأة وسط الحیض بیوم أزید، ولو بکسره.

وهذا یمکن فرضه علی وجوه:

تارة: تعلم الوسط، بمعنی أنّه محفوف بمثلیه، فهی حینئذ معلومة الحیض، لما قد عرفت عدم امکان کون الحیض بأقل من الثلاث، فاذا عملت ذلک، تکون قد عرفت أنّ حیضها یکون أزید من الثلاث، لأنه إنْ کان المعلوم یوما واحدا فی الوسط، فیلزم کون المثلی فی السابق یومین، وفی اللاحق کذلک، فیصیر مجموعها خمسة ایام .

واُخری: یراد کون مجموع السابق واللاحق بیومین، فیصیر حیضها حینئذ ثلاثة أیّام، هذا إنْ فرضنا الوسط یوما واحدا .

وإنْ فرضناه یوم وأزید منه کسرا _ أی یوم ونصف _ فیکون مجموع مثلیه فی المحفوف أزید من الاربعة، أی مع اضافة نصف مع الأربع .

وثالثة: قد یفرض الوسط باعتبار کون الوسط محفوفا بالمتساویین، کما لو کان الوسط المعلوم یومین، فیصیر المجموع مع المتفاوتین فی طرفیه ستة أیّام، فتصیر المرأة حینئذ معلومة الحیض بالنسبة الی الوسط المعموله، وتعمل بالنسبة الی غیرها علی حسب القواعد المعموله، من الاحتیاط أو العمل بوظائف

ص:351

الاستحاضة أو الحیض إنْ امکن فیه اجراء قاعدة الامکان والاستصحاب، فیما إذا لم تعلم أو تظن بالخلاف، کما عرفت بحثه فیما سبق .

و امّا اختیارها من حیث العمل بالروایات تخیرا بین الستة والسبعة، أو تعینا فی السبعة، أو تخییرا بین السبعة فی شهرین، أو ثلاثة فی شهر والعشرة فی شهر آخر، فالکلام فیه کالکلام فی سابقیه فیما لم تعلم الخلاف، مع علمها بالوسیطة، لأجل أنّه قد یتفق أنّ عملها بالوسیطة لا یجامع مع اتخاذها السبعة مثلاً، کما لو علمت الوسط بین التسعة أو الثمانیة وأمثال ذلک، أو علمت أنّها لا تزید علی التسعة ولا تنقص عن الثمانیة، أو لا تزید عن الخمسة ولا تنقص عن الأربعة، ونظائر ذلک کثیرة، فیما إذا لم یلزم نقصانه من الثلاثة ولا زیادته عن العشرة، ولم تعلم خلاف ما علمت بحیضیته .

ورابعة: کما قد یراد من الوسط المعلوم، کونه فی الاثناء لا الوسط الحقیقی بالعدد، بل المراد من الوسط هو الذی یکون فی اثناء الایام، فلابد من أخذه، و ما علمته من سابقه ولاحقه حیضا بما لا یکون أقلّ من الثلاثه، وفی الزائد عن المعلوم من الأزمنه المشکوکة، تعمل بما قد عرفت من الوجوه والمحتملات، ما لم یقم العلم أو الظن العقلائی علی خلافه، وذلک شرط امکان جریان قاعدة الامکان واستصحاب الحیضیة، أو العمل بالاحتیاط، وبالجمع بین التروک والأعمال.

هذا فی الصور المتصورة فی الوسط المعلوم، فصار المجموع فی المعلوم ثلاث صور، وهی: معلوم الاوّل، ومعلوم الآخر، ومعلوم الوسط .

وامّا الصورة الرابعة: هی أنْ تعلم أنّه یوم حیض، ولکنها تجهل صفة ذلک من کونه اولاً أو آخرا أو وسطا، ففی هذه الصورة علیها ان تعدّ ذلک الیوم حیضا، فتجری فیه وفی سابقه ولاحقه بما لا یوجب العلم أو الظن بالخلاف من الوجوه السابقة، بالعمل بالروایات بأقسامها أو الاحتیاط بما قد عرفت، فلا تطیل بالاعادة والتکرار، واللّه العالم .

ص:352

الثالثة: لو نسیتهما جمیعا ، فهذه تتحیّض فی کلّ شهر بسبعة أیّام، أو ستة ، أو عشرة فی شهر وثلاثة من آخر، مادام الاشتباه باقیا (1).

وأما احکامها ، فنقول :

دم الاستحاضة إمّا أنْ لا یثقُبْ الکرسف ، أو یثقبه ولا یسیل ، أو یسیل (2).

(1) فی هذا النوع یتحدث رحمه الله عن المرأة المتحیرة، أی ناسیة الوقت والعدد، والتی لم تحفظ شیئا منهما، فتعمل _ علی حسب مختار المصنف _ عمل المرأة المبتدأة من الرجوع الی الروایات، وقد عرفت منا سابقا مساوة المرأة المضطربة المتحیرة مع المبتدأة، بحسب الأحکام المستفادة من مرسلة یونس، وانحصار الأقسام فیها علی الثلاث، الموجب لدخول المضطربة المتحیرة فی المبتدأة، بعد القطع بعدم دخولها فی القسمین الآخرین، من ذات العادة وذات التمییز، وقد عرفت الأقوال والوجوه المتصورة غیر هذا القول، وعرفت الاشکال فیها، کما عرفت حُسن الاحتیاط بالجمع بین تروک الحائض واعمال المستحاضة، فیما لم ذلک یلزم العسر والحرج، وهذا الحکم ثابتٌ فی کلّ حال وفی کل مورد لم تعلم خلافه .

فی الاستحاضة / فی حکم المضطربة ناسیة الوقت و العدد

(2) اعلم أنّ المشهور بین الأصحاب _ نقلاً وتحصلاً _ شهرةً کادت أنْ تکون اجماعا، کون المستحاضة علی ثلاثة اقسام، کما هو المستفاد من مجموع الأخبار، وهی: القلیلة، والمتوسطة، والکثیرة، وقدیعبّر عنها:بالصغری والوسطی والکبری.

واعتبار هذا التقسیم ناشٍ من اختلاف الاحکام المترتبة علی واحد منها. یُنقل خلافٌ فی هذا التقسیم، الاّ عن أبی عقیل من انکار القسم الاول، فلم یوجب لها وضوءا ولا غُسلاً، ولا اشکال فی ضعفه، لکونه مخالف لما هو المستفاد من الأخبار، بل فی «جامع المقاصد» أنّ اجماع الاصحاب بعده علی خلافه .

ومن الاقوال الضعیفة أیضا القول بدخول الثانیة فی الثالثة، من ایجاب تعدد

ص:353

الاغسال علیهما، کما نقل هذا عن ابن عقیل وابن الجنید، وعن العلامة فی «المنتهی» والمحقق فی «المعتبر».

اقول: برغم ان دلالة بعض الاخبار علی هذا التقسیم غیر ظاهرة، الاّ ان الخبر المنقول فی «الفقه الرضا» یتضمن تقسیم احکام المستحاضة الی هذه الاقسام الثلاثة: من عدم الثقب، أو الثقب دون أن تسیل، أو مع السیلان.(1) .

و لکن الأخبار إذا انضم بعضها مع بعض، یستفاد منها ذلک، مثل خبر معاویة بن عمار(2) المشتمل لحکم القلیلة والکثیرة، منضما مع خبر عبد الرحمن بن أبی عبداللّه(3) المشتمل لحکم المتوسطة والکثیرة.

بل الأخبار الدالة علی کل واحد من الأقسام تکون أکثر مما ذکرناه، فراجع هذا الباب من کتاب «وسائل الشیعة» .

والظاهر أنّ صدق الاستحاضة باقسامها، لا یکون مختصة بخصوص الدم، بل الصفرة أیضا لو کانت مشتملة علی تلک الحالات یکون حکمها حکم الدم من جهة ترتب الآثار، فما یشاهد فی جملة من الإخبار من أنّ الصفرة لیس لها الا الوضوء، لابد أنْ تحمل علی فرض قلة الدم والاّ یصیر مخالفا للاجماع، لأنه قائم بحسب الظاهر علی عدم الفرق بین الدم والصفرة.

نعم هو لا ینافی کون الغالب فی الصفرة انطباقها علی القلیلة، کما هو المناسب للاعتبار . والسؤال هو أنّه هل تجب علی المرأة الاختبار، و أنّ الاعتبار فی ذلک یکون بالدم معرفتها بنوعیّته أم لا؟

فقد صرح جماعة من الأصحاب بالوجوب، ولعلّه لمکان العلم بالحدث


1- المستدرک الباب 1 من ابواب الاستحاضة الحدیث 1 .
2- وسائل الشیعة: الباب 1 من أبواب المستحاضة، الحدیث 1 .
3- وسائل الشیعة: الباب 1 من أبواب المستحاضة، الحدیث 8 .

ص:354

اجمالاً، ومعرفة أقسامها، کما یترتب علیها أحکامها، کما هو وارد فی بعض الأخبار بالأمر علی الاعتبار.

ولکن من المعلوم أن وجوب ذلک لم یکن الاّ طریقیا لا موضوعیا، بحیث لو لم تکن عارفة بذلک وصادف عملها الواقع، کانت صلاتها باطلة، لوضوح أنّه إذا عملت بالوظیفة، من ثمّ حصل لها قصد القربة کان عملها صحیحا.

بل وکذلک لو عملت بما هو المتیقن من تحصیل الفراغ، باتیان ما هو أسوء الاحتمالات، فان الحکم بالصحة ثابت.

کما یشکل القول بوجوب الاعتبار، إذا کان معها استصحاب یفیدها تعیین حالها ووظیفتها، کما لو اختبرت حالها قبل الوقت، ورأت أنّ الدم أصفر، ومن المعلوم أنّه لا موضوعیة للاختبار، بل غایته تحصیل ما هو الوظیفة علیها فی المورد، کما لا یخفی علی المتأمل .

کما أنّه لا اشکال فی أنّ وجوبه علیها، لیس الاّ مع امکان التعرّف والاعتبار، والاّ لا وجه لوجوبه، کما لو کانت عمیاء مع فقد المرشد _ ولو بالاستجاد ونحوه _ .

ولکن لا اشکال فی أنّ الصلاة لا تسقط عنها، لکن هل الواجب حینئذ علیها العمل بما هو المتیقن فی المقام، ونفی الزائد عنه باصالة البرائة، أو العمل بما هو مقتضی الاحتیاط فی المقام، بان تفرض لنفسها أسوء الحالات والاحتمالات تحقیقا للفراغ الیقینی؟

فیه وجهان: وفی «الجواهر» أقواهما الثانی.

قلنا: کون الثانی أقوی أمرٌ ثابت وواضح فی الواقع، من جهة أن الاحتیاط حسن علی کل حالٍ، ولکن الفتوی بذلک والحکم به وجوبا لا یخلو عن تأملٍ لأن مقتضی القواعد هو الاوّل، خصوصا اذا استلزم وأدّی الاحتیاط فی هذه الموارد العسر والحرج المنفیین شرعا اذا ذهبنا اعتبارهما بملاحظة حال الشخص، کما لا یخفی .

ص:355

ثم إذا عرفت المراتب الثلاثة فی المستحاضة، وما یطلق علیها، فنتعرض الآن لبیان العلامات الدّالة علی کلّ مرتبة: أمّا المصنف قدس سره فقد جعل علامة الصغری القلیلة أنْ لا یثقب الدم الکرسف، وللمتوسطة والوسطی أنْ یثقبه ولا یسیل، وللکثیرة والکبری أنْ یسیل، وهی مختار «الفقیه» و«الخلاف» و«السرائر» و«الدروس» وغیرها، وبعضهم عبّر بدل الثقب فی القلیلة، بتلّوث القطنة بالدم من غیر أن تنغمس فیها، کما صرح بذلک العلامة فی «القواعد» والشهید فی «اللمعة»، وعبر آخرون عنها بعدم الظهور، کما عن «المصباح» ومختصره، أو بعدم الترشح کما عن «المقعنة» و«النهایة».

ولعلّ المراد الجمیع واحدٌ، وإنْ کان الثقب أعمّ من الانغماس، فیکون عدمه أخص من عدمه،لوضوح أنّ انتفاءالثقب مستلزم لانتفاءالانغماس،بخلاف العکس حیث لایستلزم انتفاءالانغماس انتفاءالثقب، اذیمکن تحقق الثقب دون الانغماس.

ثم المراد من الکرسف هو القطن، کما نص علیه فی «القاموس» وغیره من کتب الاصحاب، فیوافق حینئذ مع ما کلام أبی الحسن علیه السلام (1) وابی عبداللّه علیه السلام (2) من قولهما: «تستدخل القطنة»، ومعلومٌ أنه لا خصوصیة فیها، بل المقصود ما یکون مثلها بما لا یمنع صلابته نفوذ الدم فیها، وبناءً علی ذلک فانّ وضع المندوفة مکان القطنة _ إذا کانت مثلها _ جائزٌ، وإنْ ذهب صاحب الجواهر قدس سره الی أنّ استفادة مثل هذا القید من النصوص تأمل، ولکن الظاهر عدم التأمل فیه إنْ روعی المماثلة فی المندوفة، بل لعلّ الکرسف المذکور فی کلمات الاصحاب والأخبار هو القماش المنسوج من القطن فینطبق علی المندوبة، واللّه العالم .


1- وسائل الشیعة: الباب 1 من أبواب المستحاضة، الحدیث 3 .
2- وسائل الشیعة: الباب 1 من ابواب الحیض، الحدیث 2 .

ص:356

وفی الأوّل: یلزمها تغییر القطنة، وتجدید الوضوء عند کلّ صلاة (1).

بل من المعلوم أنّ المقصود من ذلک، لیس الا انکشاف الحال، فلا فرق فی الوسیلة التی یمکن بها تعیین الحال، وبناءً علیه فلا مانع من وضع غیر القطنة أو جنسها، بل لا اشکال فی الاجتزاء بالتقدیر مع عدم القطنة ونحوها، بأن تفرض وتقدر الحالة لو کانت محتشیة بالقطن لثقبها الدم قطعا، فلا خصوصیة لها.

ثم أنّه قال فی «الجواهر»: «ولم نقف فی شی ء من الفتاوی علی تقدیر زمان ابقاء القطنة أو مقدارها، ولعلّ الثانی مستغن عنه، لاحالته علی المتعارف.

وأمّا الاوّل، فالذی یظهر من ملاحظة أخبار الباب، أنّها لا تقدیر له، بل تبقی محتشیة به حتّی تنتقل من حالة الی اخری إنْ کانت، أو تغیّرها عند کلّ صلاة»، انتهی کلامه(1) .

فی أحکام الاستحاضة / الاستحاضة الصغری

و لکن الأولی أن یقال: لعل وجه عدم الاشارة الی هذه الخصوصیات فی کلمات الاصحاب هو الاحالة فی مثل ذلک علی المتعارف فی کلیهما، أی فی الزمان والمقدار، أی تحیل تحیّضها بما یوجب الاطلاع علی نفوذ الدم فیها، بما یوجب تعیین کل فرد من الاقسام، بما یحتاج الیه من حیث الزمان والمقدار الی العرف، وهو واضح .

(1) اعلم أنّ کلامه مشتمل علی حکمین:

أحدهما: وجوب تغییر القطنة.

والثانی: وجوب تجدید الوضوء لکلّ صلاة.

فامّا الأوّل: فقد صرح بالوجوب فی «الناصریات» و«الغنیة» و«المنتهی»


1- الجواهر: 3/312 .

ص:357

و«التذکرة» و«الارشاد» و«المعتبر» و«النافع» و«الجامع» و«السرائر» و«التحریر» و«الذکری» و«اللمعة» و«الدروس» و«جامع المقاصد» و«الروض»، وبذلک صرح ایضا المتأخرین والمعاصرین کالسیّد فی «العروة» وکثیر من أصحاب التعلیق علی «العروة» لولا جلّهم، فیصحّ أن یقال إنّه المشهور نقلاً وتحصیلاً، بل قد ادعی علیه الاجماع فی «الغنیة» و «الناصریات»، ونفی الخلاف عنه فی «المنتهی»، بل وفی «التذکرة»: «یجب تغییر القطنة والوضوء لکلّ صلاة، ذهب الیه علمائنا». وفی «مجمع الفائدة والبرهان»: کأنّه اجماعی.

خلافا لبعض متأخری المتاخرین، بل یمکن عدّ الصدوقان والقاضی من المخالفین، حیث لم یذکروا وجوبه علی ما قیل.

بل عن صاحب «الجواهر»: کان القول بعدم الوجوب لا یخلو عن قوة.

بل قال المحقق الهمدانی فی «مصباح الفقیه»: «ولذا یشاع القول بعدم الوجوب بین المتأخرین، فانْ تحقق الاجماع الکاشف عن قول المعصوم، الموجب للتصرف فی ظهور الأخبار الکثیرة فهو، والاّ فالأظهر ما هو الشائع بین المتأخرین من عدم الوجوب.

ولکن الاحتیاط مما لا ینبغی ترکه، بعد مخالفة الاعلام، وعدم اعتنائهم بهذه الظواهر، مع کونها بمرأی منهم و مسمع، واللّه العالم»، انتهی کلامه(1) .

و قد استدل القائلون بالوجوب _ بعد التمسک الشهرة والاجماع _ بامورٍ.

منها: ادلة وجوب ازالة النجاسة فی الصلاة، الاّ ما عفی عنه، ولم یثبت العفو عن هذا الدم، ولو فیما دون الدرهم، أو فیما لا یتم فیه الصلاة، بل عن «الغنیة» دعوی الاجماع، علی الحاق دم الاستحاضة والنفاس بالحیض فی عدم العفو.


1- مصباح الفقیه: 4/287 .

ص:358

هذا، و لکن یمکن أن یورد علیه: بأنّ اثبات عدم العفو عنه، موقوف علی ملاحظة الأخبار الواردة فی الباب، وأنّها هل تدل علی لزوم الازالة فیؤخذ به، والاّ یمکن أنْ لا تدل الاّ علی العفو، من جهة فقدان الدلیل، وحینئذٍ یلزم الرجوع الی الاصل الدال علی البرائة عن المانّعیة، لو لم یثبت دلیل اجتهادی علیه، لامکان دعوی کونه من البواطن فی خصوص القلیلة، لأنّه ما دام لم یخرج الی الظاهر لا نعرف تلوث الباطن به، فلا یصدق النجاسة علیه، نظیر ما لو أدخل الرجل شیئا فأصاب العذرة، فانه ما لم یخرجه لایمکن أن نحکم علیه بالنجاسة، ولا تکون مانعة عن الصلاة، نظیر ادخال الابرة فی الورید و تلطّخه بالدم، حیث لا یحکم علیها بالنجاسة، الاّ بعد اخراجه الی الظاهر، ففی مثل لذلک لا نحتاج الی ادلة ازالة النجاسة ودلیل العفو، أو کونه مما لا تتم فیه الصلاة، أو کونه من قبیل محمول النجاسة، لوضوح أنّ کل هذه الأمور فرع صدق موضوع الدلیل علیه، والمفروض فی المقام عدمه ما لم یخرج یتدفق ویخرج الدم عن الفرج، کما لا یخفی .

مضافا الی عدم امکان تحصیل خلوّ القطنة عن الدم النجس، لأنه مهما بدّلت وغیرت القطنة أو الخرقة ثم ادخلتها فی فرجها، فانها تتلوث بالدم الموجود علی جدار الفرج وأطرافه، _ لو سلمنا نجاسته فی داخل الفرج ما لم یخرج _ ولهذا ربما یوجب الحکم بوجوب تبدیل الخرقة تلافیا عن حدوث العسر والخرج والمشقة، کما لا یخفی .

و منها: الأخبار العدیدة الدالة علی ذلک، والیک بعضها:

الحدیث الاول: عن أبی جعفر علیه السلام ، فی حدیثٍ، قال: «وإنْ لم تر طُهرا، اغتسلت واحتشت، ولا تزال تصلّی بذلک الغُسل، حتّی یظهر الدم علی الکرسف، فاذا طهر (ظهر) أعادت الغُسل، وأعادت الکرسف»(1) .


1- وسائل الشیعة: الباب 1 من ابواب الاستحاضة، الحدیث 10 .

ص:359

فانه یدل علی لزوم اعادة الکرسف وتبدیله، الاّ أنّ الخبر خاص بالوسطی الشامل للکثیرة بطریق أولی، دون القلیلة التی نبحث عن حکمها .

الحدیث الثانی: روایة الحلبی، عن الصادق علیه السلام ، قال: «سألته عن المرأة تستحاض؟ فقال أبو جعفر علیه السلام : سُئل رسول اللّه صلی الله علیه و آله عن المرأة تستحاض، فأمرها أن تمکث أیّام حیضها، لا تُصلّی فیها، ثم تغتسل وتستدخل قطنة، وتستشفر (تستذفر) بثوبٍ ثم تُصلّی، حتّی یخرج الدم من وراء الثوب»(1) .

بان تکون دلالته بالمفهوم، بان یکون قوله: «حتّی یخرج الدم» قیدا للصلاة والقطنة التی کانت موجودة فی فرجها.

هذا مع أنّه یرد علیه أوّلاً: امکان کون القید للصلاة فقط، فتکون کنایة عن لزوم اعادة الغُسل للصلاة، لا تعویض القطنه.

وثانیا: لو سلّمنا کونه قیدا لهما، ولو بمعونة ما عرفت فی روایة الجعفی، فان الخبر خاص للمتوسطة والکثیرة دون القلیلة .

الحدیث الثالث: صحیحة الصَحّاف، عن الصادق علیه السلام ، فی حدیثٍ، قال: «فلتغتسل ثم تحتشی وتستذفر، وتصلّی الظهر والعصر، ثم لتنظر، فإنْ کان الدم فیما بینها وبین المغرب لا یسیل من خلف الکرسف، فلتتوضأ ولتصلّ عند وقت کلّ صلاة، ما لم تطرح الکرسف عنها، فانْ طرحت الکُرسف عنها فسال الدم، وجب علیها الغُسل، وإنْ طرحت الکرسف عنها و لم یسل، فلتتوضا ولتصلّ، ولا غُسل علیها.

قال: وان کان الدم إذا امسکت الکُرسف، یسیل من خلف الکرسف صبیبا، ولا یرقی، فانّ علیها أن تغتسل فی کلّ یوم ولیلة ثلاث مرّات، وتحتشی وتُصلّی،


1- وسائل الشیعة: الباب 1 من ابواب الاستحاضة، الحدیث 2 .

ص:360

وتغتسل للفجر، وتغتسل للظهر والعصر، وتغتسل للمغرب والعشاء الآخرة، الحدیث»(1) .

و هذه الروایة أیضا بحسب ما فی ذیلها، تدل علی لزوم تبدیل الکرسف و التحشی لکن فی الکثیرة، من دون اشارة فیها للمتوسطة والقلیلة، بل الظاهر منها عدم الوجوب فیهما .

الحدیث الرابع: روایة ابن أبی یعفور، عن الصادق علیه السلام ، قال: «المستحاضة إذا مضت أیّام اقرائها اغتسلت واحتشت کرسفها وتنظر، فانْ ظهر علی الکُرسف زادت کُرسفها وتوضأت وصلّت»(2) .

فان زیادة الکرسف کان لأجل ایجاد المانع لظهور الدم، حیث یدل بالملازمة علی عدم لزوم التبدیل فی المتوسطة، بل الکثیرة، لأنه قد یکون الظهور لکثرته بحیث یؤدی الی سیلان الدم، وبرغم ذلک قال علیه السلام : «زادت الکرسف» أی لا حاجة أن تغیّر الکرسف بل تزید علیه.

وهکذا ظهر أن هذه الأخبار تدل علی خلاف مطلوبهم .

الحدیث الخامس: و مثله فی الدلالة علی خلاف مقصودهم ومرادهم، روایة عبد الرحمن بن أبی عبداللّه، عن الصادق علیه السلام ، فی حدیثٍ، قال: «ولتغتسل ولتُدخّل کرسفا، فان ظهر عن (علی) الکُرسف، فلتغتسل ثم تصنع کُرسفا آخر، الحدیث»(3).

حیث یدل بالمفهوم علی أنّه لو لم یظهر الدم علیها، لا تحتاج الی وضع کرسفا جدیدا آخر، فضلاً عن تبدیله.

وغیر ذلک من الأخبار الدالة علی عدم الوجوب مطلقا، حتّی فی الکثیرة،


1- وسائل الشیعة: الباب 1 من ابواب الاستحاضة، الحدیث 7 .
2- وسائل الشیعة: الباب 1 من ابواب الاستحاضة، الحدیث 13 .
3- وسائل الشیعة: الباب 1 من ابواب الاستحاضة، الحدیث 8 .

ص:361

لظهور الوضع فیه، وکذلک الزیادة والازدیاد، الاّ روایة الجُعفی، حیث وردت کان فیها لفظ (الاعادة) الظاهرة والدالة علی التعویض فی القسمین دون القلیلة، لکنهم استدلوا بهذه الأخبار علی وجوب تبدیل الکرسف فی الوسطی والکبری، مع الحاق الصغری بهما، لعدم تعقل الفرق بینهما، بل قال بعضهم إنّه لا قائل بالفرق، وفی «الریاض» إنّه یتم بالاجماع المرکب.

بل قد استدل بلزوم التبدیل فی الصغری بما ورد فی خبر صفوان بن یحیی، عن أبی الحسن علیه السلام ، بقوله: «هذه مستحاضة، تغتسل وتستدخل قطنة، بعد قطنة ویجمع بین صلاتین بُغسل ویأتیها زوجها»(1).

وبما ورد فی حدیث البصری، وهو عبد الرحمن بن عبداللّه، وقد مرّ علیک نصّه(2): و لعلّ وجه الاستدلال بهما، هو کون المراد من قوله: «القطنة بعد القطنة»، أو «وضع کُرسفا آخر»، هو تبدیلهما من جهة کون القطنة الاولی للصغری، و الثانیة التی استبدلتها للوسطی والکبری، أو کون المراد هو وضع قطنة اُخری علی القطنة الاولی فی الوسطی والکبری، فیضم ویلحق الصغری بهما بالاجماع المرکب، وعدم القول بالفصل.

ولکن وفی کلا الاستدلالین اشکال، أمّا فی الاوّل بأنّ ظاهر الحدیثین من لزوم ادخال قطنة علی قطنة، هو اضافة احداهما علی الاخری، لا التبدیل کما توهم. ویؤیده حدیث ابن أبی یعفور المتقدم، حیث ورد فیه قوله: «زادت کرسفا» وهو صریح فی الاضافة.

کما أنه علی المعنی الثانی أیضا لا یصحّ دعوی عدم تعقّل الفرق بین الصغری


1- وسائل الشیعة: الباب 1 من ابواب الاستحاضة، الحدیث 3 .
2- وسائل الشیعة: الباب 1 من ابواب الاستحاضة، الحدیث 8 .

ص:362

واخواتها، لامکان کون وجه الفرق هو لأجل المنع عن سرایة النجاسة الی البدن والثوب أو الی الخرقة، أو ان یکون الوجه فیه، کون ظهور الدم بنفسه یعدّ حدثا موجبا للغسل، فیجب التحفظ عنه مهما أمکن عند الصلاة.

وهذا المقدار یکفی فی بیان جهة الفرق بین الصغری واخواتها.

هذا فضلاً عن أن الاجماع علی عدم الفصل غیر ثابت، حیث لم یتعرّضوا لذلک بالخصوص، مضافا الی وجود مخالف فیه مثل الصدوقین والقاضی، من عدم تعرضهم له، ولذلک قد شاع بین المتأخرین _ کصاحب «الجواهر» وصاحب «مصباح الفقیه» _.

ولکن حیث ذهب کثیرٌ من أصحابنا ومن المتقدمین الی الوجوب مطلقا _ کما تری ذلک فی کلام السیّد فی «العروة» من الحکم بوجوب تبدیل الکرسف أو التطهیر مطلقا _ ذهبنا فی تعلیقتنا الی الاحتیاط الوجوبی بذلک، واللّه العالم .

و من هنا ظهر، أنّه ینبغی القطع بعدم وجوب تبدیل الخرقة المشدودة علی القطنة فی القلیلة، کما هو ظاهر المصنف وغیره، حیث ظهر أنّ وجوب التبدیل خاص بالقطنة دون الخرقة التی التفت بها، کما هو صریح جماعة، خلافا لما ورد فی «المقنعة» و«المبسوط» و«السرائر» و«الجامع» وغیرها، بل نسبه فی «کشف اللثام» الی الأکثر .

ووجه عدم الوجوب واضح، وذلک من جهة أنّه فی القلیلة لم تصلّ الدم الی الخرقة، لأنّ مقتضی طبعها عدم النفوذ من القطن الی الخرقة؛ بل لو شک فیه کان الاصل فیه البرائة، مع خلوّ الأخبار.

کما أننا نقطع أیضا بعدم ارادة الوجوب التعبّدی فی تبدیل القطنة، فضلاً عن الخرقة، حتّی ولو لم یتنجس، فینزل حکم وجوب التبدیل حینئذ علی احتمال وصول النجاسة الیها، ولو علی بعض ما تقدم من لزوم تبدیل الخرقة للقلیلة بمّا لا

ص:363

ینافی مع وصول الدم الی الخرقة، فحینئذ یتجه القول بوجوب التبدیل أو الغسل، إنْ لم نقل بالعفو عن مثل ذلک .

کما أنّه یتجّه القول بوجوب غَسل ما یتنجّس من ظاهر الفرج، حیث تعرف ذلک اذا جلست علی قدمیها، کما فی «المسالک» و«شرح المفاتیح»، وهذا الوجوب ثابتٌ وان کان آثار الدم قلیلاً، بناء علی عدم العفو عنه.

ولعلّ وجه عدم الاشارة الی ذلک فی کلام المصنف وغیره، هو اعتمادهم علی ان لزوم غَسل النجاسة الظاهرة علی البدن یعدّ من الامور الثابتة ولا حاجة للاشارة الیه. الاّ أن بعض فقهائنا رحمهم اللّه قد نصوا علی ذلک مثل المفید فی «المقنعة»، والشهید فی «البیان» و«المسالک» و«الروضة»، والمحقق الثانی فی «جامع المقاصد»، والأردبیلی فی «مجمع الفائدة والبرهان».

بل فی الأخیر أنّ الحکم بذلک اجماعی.

هذا تمام الکلام بالنسبة الی وجوب تبدیل القطنة والخرقة .

وأمّا الثانی: وهو وجوب تجدید الوضوء عند کلّ صلاة أو فریضة، فلم ینقل فیه الخلاف فی الفرائض _ الاّ من ابن أبی عقیل وابن الجنید _ بل هو المشهور بین الأصحاب نقلاً وتحصیلاً، بل فی «الناصریات» و«الخلاف» و«الغنیة» الاجماع علیه، وفی «جامع المقاصد» أنّ الاجماع علی خلاف العلمین.

وفی «التذکرة» نسبة الوجوب الی علمائنا، وفی «الجواهر» قال بعد نقل ذلک: «قلت: ولعلّه کذلک إذ لم أجد فیه خلافا، سوی ما ینقل عن العُمّانی من عدم ایجابه وضوءا ولا غُسلاً، مع أنّ المنقول من عبارته محتملٌ لارادة عدم الایجاب عند عدم رؤیة شی ء. و ما عن ابن الجنید من ایجابه الغُسل فی کلّ یوم بلیلة»، انتهی محل الحاجة(1) .


1- الجواهر: 3/315 .

ص:364

و لا باس بنقل کلام العُمّانی _ علی ما نقله العلامة فی «المختلف» _ حیث نُسب الیه قوله: «یجب علیها الغُسل عند ظهور دمها علی الکُرسف، لکّل صلاتین غُسلٌ، تجمع بین الظهر والعصر بغُسل، وبین المغرب والعشاء بغسل، (و تفرد الفجر بغُسل)، فاذا لم یظهر علی الکُرسف، فلا غسل علیها ولا وضوء»(1) .

فیحتمل کون المراد من عدم الظهور علی الکُرسف، هو عدم رؤیة شی ء من الدم علیه، فلا یجب علیها حینئذ شی ء من الغُسل والوضوء.

لکنه خلاف للظاهر، الا أنّه یُحمل علیه حتّی یخرج کلامه عن مخالفة الاجماع والشهرة .

و قد استدل لقوله أوّلاً: بالاصل، من أنّه لو شککنا فی وجوب شی ء علیها من الغُسل أو الوضوء _ لولا قیام الدلیل _ فالبرائة تقتضی عدمه .

و ثانیا: یانحصار موجبات الوضوء ونواقضه فی بعض الأخبار فی غیرها .

و ثالثا: استدل علی ذلک بمفهوم قوله علیه السلام فی روایة ابن أبی یعفور، حیث قال: «المستحاضة مضت أیّام، اقرائها اغتسلت واحتشت کُرسفا وتنظر، فان ظهر علی الکُرسف زادت کرسفا وتوضأت وصلّت»(2).

حیث أنّه أوجب وضوءا واحدا للمتوسطة والکثیرة، ولم یتعرّض لصورة القلیلة أصلاً، فیدل بالمفهوم علی عدم وجوب شی ء لغیر القسمین المذکورین، کما لا یخفی .

و رابعا: استدل بروایة زرارة حیث قال فی حدیثٍ: «وإنْ لم یجز الدم الکُرسف، صلّت بغسل واحد، الحدیث»(3).


1- مختلف الشیعة: 1/209 .
2- وسائل الشیعة: الباب 1 من ابواب الاستحاضة، الحدیث 13 .
3- وسائل الشیعة: الباب 1 من ابواب الاستحاضة، الحدیث 5 .

ص:365

حیث لم یرد فیه اشارة الی لزوم الوضوء فی القلیلة .

و خامسا: الاستدلال بصحیة: ابن سنان، عن الصادق علیه السلام : «المستحاضة تغتسل عند صلاة الظهر وتُصلّی الظهر والعصر، ثم تغتسل عند المغرب، فتصلّی المغرب والعشاء، ثم تغتسل عند الصبح، الحدیث»(1) .

فان الخبر واردٌ فی مقام البیان، ولم یتعرض لحکم القلیلة من لزوم اتیان الوضوء لکلّ صلاة، فیفهم من ترک التعرض عدم الوجوب.

وأیضا یدلّ علی المطلوب الخبر الذی رواه الجُعفی بقوله: «وإنْ هی لم تر طهرا، اغتسلت واحتشت، فلا تزال تصلّی بذلک الغُسل حتّی یظهر الدم علی الکُرسف، فاذا ظهر أعادت الغُسل، وأعادت الکُرسف»(2).

ولکن شی ء من الامور المذکورة لا یثبت ما ذهب الیه فأمّا الاصل فمدقوعٌ بوجود الدلیل الاجتهادی علی وجوب الوضوء، کما سنشیر الیه .

وامّا الحصر، فصحیحٌ لو لم یقم دلیلٌ یفید الوجوب فی المقام، والاّ فانه مع قیامه لا یبقی لهذا الحصر وجه، والمفروض وجود بعض الاخبار الدالة علی الوجوب، کما سنشیر الیها انْ شاء اللّه تعالی .

و امّا الجواب عن الأخبار، فان عدم تعرض بعضها غیر ضائر، مع فرض وجود بعض آخر دالٍ علی الحکم فی القلیلة، لأنّ الملاک هو ملاحظة جمیع الأخبار الواردة فی ذلک، لا خصوص بعض دون بعض، و سنشیر الی الأخبار التی استدل بها المشهور، مع أنّ احتمال دلالة بعضها علی المقصود، مثل خبر ابن أبی یعفور، حیث قال: «فان ظهر علی الکُرسف، زادت کرسفها وتوضأت وصلت».


1- وسائل الشیعة: الباب 1 من ابواب الاستحاضة، الحدیث 4 .
2- وسائل الشیعة: الباب 1 من ابواب الاستحاضة، الحدیث 10 .

ص:366

بأنْ یراد من قوله: «ظهر» الظهور علی باطن القطنة، لا ظاهرها، فیکون نصا فیما نحن فیه، هذا کما أشار الیه فی «الجواهر».

لکنه خلاف للظاهر، لوضوح أنّ الظهور فی الباطن لا یوجب زیادة الکرسف، بخلاف الظهور بالمعنی المتعارف، حیث یستقیم مع ما ورد فی الخبر، وإنْ کان الحدیث لا یوافق مع ما اختاره ابن أبی عقیل، من ایجابه الأغسال الثلاثة عند ظهور الدم علی الکرسف.

والحاصل: أنّ الأخبار إذا انضم بعضها مع بعض، یستفاد منها احکام الاقسام الثلاثة من المستحاضة، ویستفاد منها أن الواجب علی المرأة المستحاضة من القسم القلیل، هو الوضوء لکل صلاة، کما علیه المشهور .

وهذا ما اختاره ابن الجنید، من ایجاب الغسل فی کلّ یوم بلیلته _ علی ما نسبه الیه العلاّمة فی «المختلف» _ بقوله: «المستحاضة التی یثقب دمها الکرسف، تغتسل لکلّ صلاتین آخر وقت الاولی، وأوّل وقت الثانیة، وتصلّیهما، وتفعل للفجر مفردا کذلک، والتی لا یثقب دمها الکُرسف تغتسل فی الیوم واللیلة مرّة واحدة، ما لم یثقب»، انتهی(1) .

و فی «الجواهر»: أنّه یمکن الاستشهاد له ایضا بمضمرة سماعة، بقوله: «المستحاضة إذا ثقب الدم الکرسف، اغتسلت لکلّ صلاتین، وللفجر غُسلاً، وإنْ لم یجز الدم الکُرسف، فعلیها الغسل کلّ یوم مرة، والوضوء لکلّ صلاة»(2) .

لکن یرد علیه : أنّه قد أضاف الوضوء لکلّ صلاة بعد الغُسل، مع أنّه لیس فی کلام ابن الجنید ذلک، فیحتمل أنْ یکون المراد من عدم تحاوز الدم من الکرسف،


1- مختلف الشیعة: 1/210 .
2- وسائل الشیعة: الباب 1 من ابواب الاستحاضة، الحدیث 6 .

ص:367

هو المتوسطة من الاقسام لا القلیلة التی نبحث عن حکمها فی المقام، خصوصا اذ لاحظنا ذیل الخبر من الحکم بالوضوء إذا کان الدم صفرة، المنطبق علی القلیلة.

بقی هنا بیان دلیل قول المشهور، حیث ذهبوا الی وجوب اتیان الوضوء لکلّ صلاة أو فریضة: فقد استدلوا علی مختارهم بطائفة من الروایات _ بعد ما عرفت من نقل الاجماع مستفیضا علیه _ .

منها: صحیحة معاویة بن عمّار، عن الصادق علیه السلام : «وإنْ کان الدم لا یثقب الکُرسف، توضأت ودخلت المسجد، وصلّت کل صلاة بوضوء»(1).

فان مفادها لا تنطبق الاّ علی القلیلة .

منها: روایة زرارة، عن الباقر علیه السلام ، فی حدیثٍ، قال: «ثم هی مستحاضة، فلتغتسل وتستوثق من نفسها، وتُصلّی کلّ صلاة بوضوء، ما لم ینفد (یثقب) الدم، فاذا نفد اغتسلت وصلّت»(2) .

هذ، فضلاً عمّا مرّ علیک من دلالة ذیل مضمرة سماعة الدالة علی ان الواجب علی المرأة حین رؤیتها للدم الاصفر الوضوء فقط، فلابد أنْ یفرض فیما یمکن أنْ یکون استحاضة، لما قد عرفت من امکان صدق الحیض فی بعض الموارد، إذا کان الدم صفرة، ومن المعلوم أنّ هذا الغرض خارج عن حکم المقام، لأنّه مع ثبوت الحیض یسقط عنها حکم الوضوء، فالحکم بثبوت الوضوء عند رؤیة الصفرة مختصٌ بحالة الاستحاضة لا غیر، کما لا یخفی .

منها: صحیحة الصحّاف، فی حدیثٍ عن الصادق علیه السلام : فانْ کان الدم فیما بینها وبین المغرب لا یسیل من خلف الکُرسف، فلتتوضأ ولتصلّ عند وقت کلّ صلاة،


1- وسائل الشیعة: الباب 1 من ابواب الاستحاضة، الحدیث 1 .
2- وسائل الشیعة: الباب 1 من ابواب الاستحاضة، الحدیث 9 .

ص:368

ما لم تطرح الکُرسف عنها، فانْ طرحت الکُرسف عنها فسال الدم، وجب علیها الغُسل، الحدیث)(1).

فالوضوء لکلّ صلاة قبل اطراحها للکرسف یکون فی القلیلة ثم بعدها المتوسطة .

منها: مرسلة محمّد بن مسلم، عن أحدهما علیهماالسلام ، قال: «سألته عن الحُبلی... الی أن قال: وانْ کان قلیلاً أصفر، فلیس علیها الاّ الوضوء»(2).

حیث قد عرفت عدم انطباقه الاّ علی المستحاضة القلیلة .

منها: الخبر المروی فی «فقه الرضا»: «فان لم یثقب الدم الکُرسف، صلّت صلاتها، کلّ صلاة بوضوء»(3).

بل یمکن الاستدلال بالأخبار المستفیضة الدالة علی وجوب الوضوء مع صفرة الدم، الملازمة غالبا مع الاستحاضة القلیلة، خاصة وأنّ بعض هذه الاخبار صریحة فی القلیلة، وهی المشتملة علی نفی الغُسل عنها.

فما علیه المشهور هو الأقوی عندنا، کما علیه اجماع المتأخرین بل المتقدمین، الاّ ما عرفت.

وماتری فی کلمات المحقق الهمدانی فی «مصباح الفقیه» من المناقشة فی هذه الأخبار بقوله: «لولا اعتضاد هذه الاخبار بالشهرة والاجماعات المحکیة، لأمکن النقاش فیها، بکونها مسوقة لبیان عدم وجوب الغُسل عند صفرة الدم وقلته، وکون الوضوء المأمور به، هو الوضوء المعهود لأجل الصلاة، لا أنه یجب الوضوء تعبدا عند کلّ صلاة، بحیث یفهم منه کون الاستحاضة من حیث هی من


1- وسائل الشیعة: الباب 1 من ابواب الاستحاضة، الحدیث 7 .
2- وسائل الشیعة: الباب 30 من ابواب الحیض، الحدیث 16 .
3- المستدرک الباب 1 من ابواب الاستحاضة الحدیث 1 .

ص:369

ولا تجمع بین صلاتین بوضوء واحد (1).

موجبات الوضوء»، انتهی کلامه(1) .

مدفوعة، لما لا یخفی ما فی کلامه من الاشکال، لأنه إذا لاحظنا أخبار الصفرة نجد أنّها دالة علی أنّ مقتضی الصفرة هو تجدید الوضوء، لا الوضوء المعهود للصلاة، والشاهد علی ذلک صحیحة علیّ بن جعفر، فی حدیثٍ، عن أخیه، قال: «ما دامت تری الصفرة، فلتتوضأ من الصفرة، وتصلّی ولا غُسل علیها من صفرة تراها، الاّ فی أیّام طمثها، الحدیث»(2) .

فان اطلاقها تشمل حتّی التی کانت متوضأة ثم رأت الصفرة، فانه یجب علیها الوضوء، وإنْ کان لا غُسل علیها أیضا، فانّه لو کان المراد من الوضوء، الوضوء الصلاتی المتعارف، لما أوجب علیها الوضوء ثانیةً حینئذ بعدما هی طاهرة بالوضوء.

هذا مضافا الی ما فی بعض الأخبار من الحکم بوجوب اتیان الوضوء عند حدوث الدم الاصفر لکلّ صلاةٍ، حیث لا یجامع مع کون المراد هو الوضوء المعهود، کالخبر الوارد فی «فقه الرضا» وغیره. وکیف کان، فالمناقشة غیر واردة، کما أنّ المسألة من حیث الأخبار والفتاوی واضحة.

(1) ظاهر کلام المصنف _ إن لم نقل صریحه _ عدم کفایة وضوء واحد للصلاتین، سواء کانتا فرضین أو نفلین أو المرکب منهما، بل هو ظاهر معقد الاجماعات والشهرة المتقدمة، بل قد صرح بذلک المحقق فی «المعتبر» والعلامة فی «المنتهی» و«التذکرة»، والمحقق الثانی فی «جامع المقاصد»، بل قد اضاف


1- مصباح الفقیه: 4/290 .
2- وسائل الشیعة: الباب 30 من ابواب الحیض، الحدیث 5.

ص:370

فی «التذکرة» بعد ذلک بقوله: بأنّه عند علمائنا، المشعر بکونه مجمعٌ علیه عندنا، خلافا للشیخ فی «الخلاف» حیث قید عدم الجواز بالوضوء الواجد للفرضین، بل فی «المبسوط» وتبعه علی ذلک صاحب «المهذّب» من التصریح بأنّه إذا توضأت المستحاضة للفرض، جاز أنْ تُصلّی معه ما شاءت من النوافل.

بل فی «الجواهر»: ربما کان هذا قضیّة من لم یوجب معاقبة الصلاة للوضوء، کالعلامة فی «المختلف»، وتبعه العلامة الطباطبائی فی «مصابیحه».

و لکن الدعوی الأخیرة غیر مقبولة، لامکان التفکیک بین القول المذکور مع وجوب الوضوء لکلّ صلاة حتّی فی النفل، اذ لا ملازمة بین القول بعدم وجوب المعاقبة، وبین عدم الوجوب لکل صلاة .

و الدلیل الدال علی وجوب التجدید لکلّ صلاة _ مضافا الی الاجماع والشهرة _ دلالة عموم الأخبار التی ذکرناها سابقا وهی صحیحة معاویة بن عمار، وموثقة زرارة، وموثقة و سماعة، والخبر المنقول فی «فقه الرضا»، حیث کان فیها: (تُصلّی فی کلّ صلاة بوضوء) الشامل باطلاقها الفرض والنفل مطلقا وبأیّ وجه کان .

و لیس لنا فی مقابل اطلاق هذه الأخبار، الاّ بعض الاطلاقات الآمرة بالوضوء، المقتضی لجواز الاکتفاء بوضوء واحد لصلوات متعددة، لکن جمیعها قابلة للتقیید بما عرفت من الصحیحة والموثقة، بأنْ تکون تلک الاطلاقات لغیر المقام الذی کان صاحبه مستمر الحدث، فیقتصر علی مقدار الضرورة المتیقن استباحتها له، وهو الصلاة الواجدة من الفرض والنفل لا خصوص الفرض، کما هو مورد اتفاق الکلّ.

نعم قد یقال بالفرق بین الفرض والنفل، بأن یُدّعی دخول کلّ نافلة، فی عنوان فرضها، فنافلة الظهر فی الظهر، والعصر فی العصر وهکذا، فحینئذ لا ینافیه قوله: «کلّ صلاة بوضوء»، لانه حینئذٍ یدلّ علی وجوب الوضوء فی کلّ صلاة مع ما

ص:371

یتعلق بها من النوافل، خصوصا مع ملاحظة بعض الأخبار الدالة علی ایجاب الوضوء عند وقت کلّ صلاة، مثل صحیحة الصحاف، حیث قد ورد فیها قوله علیه السلام : «فلیتوضأ ولتُصلّ عند وقت کل صلاة»(1).

بل قد یؤیّده أیضا سهولة الشریعة وسماحتها، اذ من المستبعد جدّا وجوب الوضوء لکلّ صلاة من النوافل، خصوصا المرتبة منها، مع ما فیه من العُسر والحرج .

و احتمال عدم مشروعیة النوافل فی حقّها، لعدم الضرورة علیها، مع أن طهارتها اضطراریة ولا ضرورة بالنسبة الیها.

ضعیفٌ، بل مقطوع بعدمه، لوضوح أنّ من المستبعد أنْ یکون أداء النوافل مانعا من الدخول فی الفریضة التی توضأت لها، ولا تکون سائر الاشغال مانعة عنه، خصوصا مع ملاحظة وجود بعض الأخبار الدالة علی تجویز الاتیان بالنافلة مع الفریضة بطهارة واحدة، مثل روایة اسماعیل بن عبد الخالق فی حدیثٍ، قال: «سألتُ أبا عبداللّه علیه السلام عن المستحاضة، کیف تصنع؟ الی أنْ قال: فاذا کان صلاة الفجر، فلتغتسل بعد طلوع الفجر، ثم تُصلّی رکعتین قبل الغداة، ثم تُصلّی الغداة، الحدیث»(2) .

هذا فصلاً عمّا یلاحظ فی بعض الاخبار من أن المستحاضة متی فعلت ما هو واجب علیها، کانت بحکم الطاهرة، کما فی ذیل روایة الصحاف، حیث قال علیه السلام فی حقّ المستحاضة: «فاذا فعلت ذلک أذهب اللّه بالدم عنها»(3) .

هذا، ولکن شی ء من الامور المذکورة لا یفی للاستدلال بها فی المقام، لوضوح أنّ فرض ادخال کلّ نافلة فی فریضتها _ علی فرض القبول _ لا یکفی فی


1- وسائل الشیعة: الباب 1 من ابواب الاستحاضة، الحدیث 7 .
2- وسائل الشیعة: الباب 1 من ابواب الاستحاضة، الحدیث 15 .
3- وسائل الشیعة: الباب 1 من ابواب الاستحاضة، الحدیث 7 .

ص:372

حقّ بقیة النوافل غیر المرتبة، فالدلیل أخصّ من المدعی.

کما أنّ ایجاب الوضوء لم یتعلّق بوقت کلّ صلاة، فلا ینافی أنْ یکون حکم الوضوء مستقلاً، بحسب ما یدل علیه دلیله من لزوم تجدیده فی کلّ صلاة، فان کلمة (وقت) فی قوله : «وقت کلّ صلاة» متعلقة بالصلاة لا الوضوء.

کما أنّ التمسک بسهولة الشریعة وسماحتها، لا یوجب رفع الید عمّا یدل علیه الدلیل، اما إذا کان أصل العمل مندوبا فانه یجوز ترکه، ویتناسب ذلک مع سهولة الشریعة، کما أنّ غالب المندوبات مشتمل علی اعمال قد یوجب العسر والمشقة للمکلف، ولذلک قیل إنّ أفضل الأعمال أحمرها .

وأیضا فانّ ما ورد من تجویز الاتیان بالنافلة مع الفریضة بطهارة واحدة مختصٌ بالغُسل لا الوضوء، ولا ملازمة بینهما، لامکان القول بالتفکیک بینهما فی هذا الحکم.

ومما ذکرنا یظهر لک جواب ما قاله فی آخر کلامه، من أنّها اذا قامت باتیان ما هو الواجب علیها صارت کالطاهرة، فان هذا علی خلاف المدعی أدّل، لأنّ التی وظیفتها _ المستفادة من الأخبار _ الوضوء لکلّ صلاة حتّی النوافل، فانه یجب علیها رعایة شرط تجدیده لکلّ صلاة.

وبما ذکرنا لا یبقی هنا شی ء یمکن التمسک به لأجل تقیید الاطلاقات الواردة فی لزوم الوضوء لکلّ صلاة، الاّ دعوی الانصراف فی الاخبار عن مثل النوافل، بان یقال إنّ ما من شأنه بیان حکمه فی الأخبار فی حقّ المستحاضة، هی الفرائض لا النوافل، فیمکن أن یکون المقصود من قوله علیه السلام : «کلّ صلاة» هو الفریضة لا النافلة.

لکنه لا یمکن أن یعتمد علیه، بعد ما عرفت من قیام الاجماع والشهرة وفهم الأصحاب التعمیم لکل صلاة، فریضةً کانت أو نافلة، یومیة کانت أو غیرها، أو غیرها.

ص:373

مع أنّه لو سُلّم هذا الانصراف، للزم القول به حتّی فی فریضة صلاة الآیات، لأنّها أیضا خارجة عن مورد الانصراف، مع أنّه غیر صحیح، کما لا یخفی.

فالاقوی عندنا ما علیه الأصحاب من أنّ وجوب التجدید یعدّ شرطا لکلّ صلاة حتّی النوافل، واللّه العالم .

هذ، والظاهر عدم الفرق فی وجوب الوضوء لکلّ صلاة فی الفرائض، بین ما اذا فرق بینهما فی الخارج من جهة الزمان، أو جمع، أو کان بیان الحکم قد صدر فی زمان لم یکن الجمع بین الفریضتین متعارفا، کما لا فرق فیه بین کون الفریضتین ادائیا أو قضاءا أو مرکبا منهما.

نعم وجوب التجدید فی الصلوات الاحتیاطیة غیر مقبول، و یعدّ خلاف الاحتیاط، لاحتمال کونها من الصلوات السابقة، وعلی فرض کونها نافلة مستقلة لم یتحقق، إنْ قلنا بوجوبه لکلّ نافله، لکنه لا یؤدی الی الحکم بلزوم الاتیان لأنّه هو فعل کثیر، ویحتمل کونه واقعا فی اثناء الفریضة.

ومن هنا ظهر عدم وجوب التجدید فی الأجزاء المنسیة، وفی سجدتی السهو إذاأتی بها، لعدم وجوبها الاّ لاجل ذات الصلاة التی کان قد توضأ حین اداءها.

نعم، لا یبعد عدم کفایة هذا الوضوء لاتیان باقی ما اشترط فیه اتیانه مع الوضوء، کمسّ کتابة القرآن، بخلاف الغایات المستحبة کقرائة القران وغیرها من کفایة الوضوء الاول، بل ومقدار ما یستباح به، بحیث یمکن أنْ یقال إنّه لا ینتقض بعد تحققه وحصوله بمجرّد استمرار حدث الاستحاضة لها، کما یقال بذلک فی المسلوس والمبطون، الاّ أن تأتی بما ینقضه من سائر افراد النواقض .

و ربما یؤمی الیه _ من جواز الفصل بین الوضوء والصلاة، بغیر ما یتعلق بالصلاّة _ کلام العلامة فی «المختلف»، ولا ینافی ذلک وجوب التجدید للفریضة الثانیة بدون فصل بینهما، وذلک من جهة وجود الدلیل علیه، لأنّا نتبع الدلیل فی

ص:374

کلّ موردٍ، کما لا یخفی علی المتأمل العارف بادلة الفقه ودلالتها.

ومن هنا ظهر وجوب تجدید الوضوء للطواف الواجب، ومسّ کتابة القرآن _ ان وجب _ و أنّه لیس لها الاکتفاء بوضوء واحد للجمیع علی الأحوط، ووجه الاحتیاط هو احتمال عدم ثبوت وجوب الوضوء لغیر الصلاة المفروضة حیث لم نزد علی لسان الأدلة وجوب الوضوء الاّ للصلاة، وحیث لا یکون هذا الوضوء رافعا للحدث _ لأنّ المفروض استمراره فی حقّها _ فلابد فی الحکم بالاستحاضة الاقتصاد علی موضع ورود الدلیل، وهو لیس الاّ فی الصلاة دون غیرها.

فیقال: أمّا بأنّه حدث للصلاة فقط دون غیرها، فاثبات حدثیة الاستحاضة مطلقا یحتاج الی الدلیل، ولو شک فیه _ لولا قیام الدلیل _ لکان مقتضی الأصل عدمه.

أو یقال: بأنّ ظاهر الأدلة کون دم الاستحاضة یعدّ حدثا کسائر الاحداث، فکلّ ما یشترط فیه الطهارة عن الحدث _ کمس کتابة القرآن _ لابد فی رفعه من تحصیل الطهارة، وهی لا تحصل الاّ بالوضوء عند التمکن منه، ومع الفجر عنه یجب احضار ما هو بدله، فلازم هذا القول هو تحصیل الوضوء، وحیث لا دلیل لمثل هذا الاطلاق، فالأحوط هو ترک المسّ إنْ لم یکن علیها واجبة، والاّ فانّ الاحتیاط یقتضی تحصیل الوضوء بقصد القربة المطلقة، وتفریغ ما هو فی الذمة تحصیلاً للاحتیاط فی جمیع المحتملات، واللّه العالم .

وأمّا وجوب تبدیل القطنة أو تنظیفها، بل وکذا الخرقة وظاهر الفرج إنْ تنجسّت _ فیما یشترط فیه الطهارة، حتّی من الخبث _ مثل الطواف _ فلابد فی جمیعها من الالتزام بذلک لأجل قیام الدلیل علی تنزیل الطواف بالبیت مکان الصلاة، والتزامهم فیه بما التزموا به فی الصلاة من الشروط، ومنها الطهارة عن الحدث والخبث، فلابد من رعایة ذلک.

فی أحکام الاستحاضة / الاستحاضة الوسطی

وامّا الالتزام بذلک حتّی فی مثل مسّ کتابة القرآن ونظائره _ ولو صار واجبا _

ص:375

وفی الثانی : یلزمها مع ذلک تغییر الخرقة ، والغُسل لصلاة الغداة (1).

فلا نقول به، لعدم وجوب التبدیل فی حال الاختیار فی غیر المقام، اذ لا دلیل علی وجوبه هنا، لفقدان أصل الشرطیة، کما هو واضح لا خفاء فیه.

نعم، یجب تبدیلها وتجدیدها _ کالوضوء _ لکلّ صلاة، ولو کانت نافلة، مرتبة کانت أو غیر مرتّبة، لقیام الدلیل علی أصل الشرطیة فیها کالفریضة، أو فرض تنجس القطنة أو الخرقة أو کلتیهما فی القلیلة، إذا فرضنا عدم العفو عن مثل هذا الدم فی الصلاة، ولو کان أقلّ من الدرهم.

هذا تمام الکلام فی القلیلة .

(1) اعلم أنّ البحث فی هذه الجملة عن القسم الثانی من أقسام المستحاضة، وهو القسم الثانی المسمّی بالوسطی أو المتوسطة، وقد عرفت أنّها عبارة عن زیادة الدم وخروجه بحیث یؤدی الی تجاوزه عن الکرسف أو انغماس الکرسف به، أو ظهور الدم علیه، علی حسب الاختلاف فی التعبیر، وان کان المقصود فی الجمیع هو شی ء واحد.

فیجب علیها عند حدوث مثل هذه الحالة _ مضافا الی ما عرفت من وجوب تبدیل القطنة أو تطهیرها _ تبدیل الخرقة وتطهیرها، وهذا الحکم مما لا خلاف فیه، بل عن فخر المحققین فی «الارشاد» من اجماع المسلمین علیه، بل فی «الجواهر» مضافا الی ذلک، تمسکه بالأولویة، لما تقدم من نفی الخلاف فی القلیلة وغیره، فدلالته علیه هنا تکون بالأولویة.

أقول: لو ارید من الاولویة، اولویة ذلک فی القطنة فَحَسنٌ، والاّ لا یثبت وجوب تبدیل الخرقة هنا بالأولویة، الاّ عند من أوجب الخرقة فی القلیلة، وقد عرفت الاشکال فیه، فاثبات وجوبه لابد وأن یکون من أجل ما هو مخصوص

ص:376

للوسطی والکثیرة، حیث یستلزم انغماس القطنة فی الدم، وظهوره علی الکرسف مما یوجب تلوث الخرقة أیضا، ولا یستبعد وجوبه تعبّدا حتی وان لم تتلطخ الخرقة بالدم، خصوصا إذا فرضنا قبول صدق المتوسطة فیما لو غمس الدم بعض اطراف القطنة، إذا کان فی ناحیة باطن الفرج، ففیه یشکل القول بوجوب تبدیلها، مع فرض عدم تلوثها، ولعلّه حیث یکون نادر التحقق، فیلحق بالعدم، اذ یلحق الظنّ عادة بالأعمّ والأغلب .

وکیف کان، فقد استدل علی الوجوب هنا، بظهور بعض الأخبار، بل صراحتها علی الحکم مثل خبر عبد الرحمن بن أبی عبداللّه، عن الصادق علیه السلام ، فی حدیثٍ: «فلتحتط بیوم أو یومین، وتغتسل، ولتدخل کُرسفا، فان ظهر عن الکُرسف، فلتغتسل ثم تضع کرسفا آخر، ثم تصلّی الحدیث»(1) .

منها: خبر الجعفی، عن أبی جعفر علیه السلام ، قال: «فانْ هی رأت طهرا اغتسلت، وإنْ هی لم تر طُهرا اغتسلت واحتشت، فلا تزال تصلّی بذلک الغُسل، حتّی یظهر الدم علی الکُرسف، فاذا ظهر أعادت الغُسل، وأعادت الکرسف»(2) .

منها: روایة ابن أبی یعفور، عن الصادق علیه السلام ، قال: «المستحاضة مضت أیّام اقرائها، اغتسلت واحتشت کُرسفا، وتنظر فانْ ظهر علی الکُرسف، زادت کرسفا وتوضأت وصلّت»(3).

فان مورد هذه الروایة، إمّا خصوص الکثیرة، ففی الوسطی ایضا یکون کذلک، لعدم القائل بالفرق بینهما فی هذا الحکم، أو یکون مورده الوسطی، فالحکم فیه یکون مثل ما فی الروایتین السابقتین.


1- وسائل الشیعة: الباب 1 من ابواب الاستحاضة، الحدیث 8 .
2- وسائل الشیعة: الباب 1 من ابواب الاستحاضة، الحدیث 10 .
3- وسائل الشیعة: الباب 1 من ابواب الاستحاضة، الحدیث 13 .

ص:377

هذا هو مجموع ما استدل به صاحب «الجواهر»، وتبعه علی ذلک آخرون .

ولکن قد عرفت الاشکال فی القطنة بالنسبة الی القلیلة، فضلاً عن الخرقة، فوجوب تبدیلهما هناک، کان لأجل الوفاق مع القوم .

ولکن ذهب صاحب «مصباح الفقیه» الی سریان هذا الاشکال هنا، حیث یقول: «إنّ دلالة الخبرین من عبد الرحمن والجعفی الآمرة باعادة الغُسل و اعادة الکرسف عند ظهور الدم، الشاملة للمقام، إنّما یدل علی وجوب التبدیل عند الاغتسال، وستعرف أن هذا مما لابد منه، لا وجوبه عند کلّ صلاة، بل یفهم من جملة من الأخبار خلافه. ودعوی اتمام المدّعی بالنسبة الی سائر الصلّوات التی لم تغتسل عندها، بعدم القول بالفصل. مدفوعة، _ بعد الغضّ عما ستعرف من أنّ الوجه فیه، کون ظهور الدم بنفسه موجبا للغسل فی احتمال قوی _ بامکان أنْ یکون الأمر باعادة الکرسف بعد الاغتسال، امّا للجری علی العادة، أو للحفظ عن تسریة النجاسة ونحوهما، لا لکونه شرطا فی الصلاة، حتّی تثبت شرطیتها بالنسبة الی کلّ صلاة بعدم القول بالفصل، علی تقدیر الثبوت. فالقول بالوجوب مطلقا _ کما عن المشهور _ لا یخلو عن اشکال، وکذا الکلام فی لزوم تغییر الخرقة إنْ قلنا بالعفو عنه . اللّهم الاّ أنْ تکون المسألة اجماعیة، کما عن جملة دعواه بالنسبة الیهما، فالاحتیاط بما لا ینبغی ترکه، واللّه العالم» انتهی کلامه(1) .

قلنا: لا یخفی وجود الفرق بین المقام وبین القلیله فی وجوب تبدیل القطنة بالنسبة الی أصل النجاسة، حیث قد عرفت الاشکال فیه فی القلیلة من جهة أن نجاستها فی الباطن، ولا تعلم المرأة بحدوثها الاّ بعد وضع القطنة واختبارها، حیث لا تبرز النجاسة فی الخارج، وهذا ما استوجب الاشکال فی لزوم تبدیل


1- مصباح الفقیه: 4/297 .

ص:378

القطنة، هذا بخلاف المتوسطة والکثیرة، حیث لا اشکال فیهما من جهة ظهور الدم علی الکُرسف، غایة ذلک أنّه فی الکثیرة تکون سیلان الدم اکثر منه من المتوسطة، والأصل الاولی هو لزوم تبدیل القطنة، الاّ اذا قام الدلیل علی العفو، هذا فضلاً امکان استفادة لزوم التبدیل فی الانتقال من مرتبةٍ الی اُخری، کما اُشیر الی ذلک فی خبر الجعفی حیث، قال علیه السلام : «وإنْ لم تر طُهرا اغتسلت واحتشت، ولا تزال تُصلّی بذاک الغسل، حتّی یظهر الدم علی الکُرسف، (ای الی مرتبة اخری من الاقسام) فاذا ظهر أعادت الغُسل واعادت الکُرسف ».

والمراد فی قوله: «حتی یظهر الدم علی الکُرسف» أی زاد سیلان الدم مما استوجب انتقالها الی مرتبة اخری من الاقسام الثلاثة.

بل لا یبعد أن نستنتج وجوب تبدیل القطنة عند کل صلاة، من روایة أبی بصیر، فی حدیثٍ قال: «فاذا تمت ثلاثون یوما، فرأت دما صبیبا اغتسلت و استشفرت، واحتشت بالکُرسف، فی وقت کلّ صلاةٍ، الحدیث»(1).

فالخبر وان کان واردا فی مورد الکثیرة، لکن یلحق بها المتوسة، لعدم القول بالفصل. مضافا الی امکان استفادة ذلک من الروایة التی رواها الحلبی عن الصادق علیه السلام فی حدیث: «قال: ثم تغتسل، وتستدخل قطنة، وتستشفر (تستذفر) بثوب، ثم تُصلّی حتّی یخرج الدم من وراء الثوب، الحدیث»(2).

حیث أفادت أن الغایة هی خروج الدم من وراء الثوب، وحینذاک لیس علیها أن تصلّی الاّ أن تقوم بتبدیل ثیابها، غایة الأمر أنه قد ینطبق هذا الحکم، علی وجوب التبدیل عند تغییر المرتبة وذلک عند انتقالها من کونها استحاضة صغری


1- وسائل الشیعة: الباب 6 من ابواب الحیض، الحدیث 3 .
2- وسائل الشیعة: الباب 1 من ابواب الاستحاضة، الحدیث 2.

ص:379

الی المتوسطة، ومنها الی الکثیرة، لا لکلّ صلاةٍ یؤدیها وهی باقیة علی حالتها من رؤیة الدم، دون أن تکون قد انتقلت قبل هذه الصلاة الی مرتبة اخری.

نعم، قد یستفاد من بعض الاخبار لزوم التبدیل للصبح مرّة وللظهرین مرّة اُخری، وللعشائین کذلک، بأن یکون حکم التبدیل حکم الغُسل فی الکثیرة، والخبر الذی یشیر الیه هو روایة زرارة فی حدیثٍ: «وتستظهر بیومین، فان انقطع الدم والا اغتسلت واحتشت، واستشفرت (و استذفرت) وصلّت، فان جاز الدم الکُرسف، تعصَّبت واغتسلت، ثم صلّت الغداة بغُسلٍ، والظهر والعصر بغُسل، والمغرب والعشاء بغُسل وإنْ لم یجز الدم الکُرسف، صلّت بغُسل واحد، الحدیث» . حیث یدل علی أنّه برغم کونها قد احتشت وصلّت، فقد ورد فی الخبر الأمر بلزوم التعصّب والغُسل أیضا لصلاة الغداة إنْ جاوز الدم الکُرسف، فلا یبعد تکرار ذلک مع تکرار الغُسل، ولعل هذا الخبر ورد لأجل افهام ما نحن بصدده من لزوم التبدیل لکلّ عمل یجب فیه الغُسل، فلازمه تکراره عند الغداة وفی الظهرین العشائین.

ولکن الذی ذهب الیه أصحابنا هو وجوبه لکلّ صلاة، کما ادّعی علیه الاجماع، فیستفاد فی ذلک حملهم الأخبار والروایات علی هذا المعنی، کما أن علیه الفتوی.

ومن ذلک یظهر وجوب تبدیل الخرقة لکلّ صلاة، لأنها تتلوث فی المتوسطة والکبیرة، فوجوب تبدیلها لیس لأجل التعبد بذلک، بل لکون الغالب فی هذین القسمین کذلک، حیث تنغمس القطنة فی الدم، وهذا یستلزم کثرة وجود الدم علی الخرقة، وحینئذٍ لو فرضنا عدم العفو عن دم المستحاضة کالحیض، فلابد من التبدیل، کما لا یخفی.

فاذا ظهر الحکم بالنسبة الی الصلوات الیومیّة فانه من جهة عدم القول بالفعل یمکن الحاق بقیة الصلوات بهذا الحکم والقول بلزومه فیها .

ص:380

بل یمکن أنْ یقال بأنّ الحکم بوجوب تبدیل الخرقة فی الفرائض یعدّ أشدّ وأقوی من وجوب التبدیل فی القطنة، لأنها سالمة عن ورود بعض الاشکالات الواردة فی القطنة، من کون القطنة مما لا تتم فیها الصلاة لصغرها بخلاف الخرقة، لامکان کونها مما تتم فیها الصلاة، ومن کون القطنة تستقر فی داخل الفرج، المحتمل کونها ملحقه بالبواطن، بخلاف الخرقة، و کون العفو فی القطنة أولی من الخرقة، لما قد عرفت من أن الحکم بوجوب التبدیل فیها، مستلزمٌ للعسر والحرج، حیث لا یصعب تجنبها وحفظها عن التلوث، بخلاف الخرقة، لامکان ذلک فیها فی المتوسطة والکثیرة، وان کان بعیدا جدّا .

و عدم اشارة السیّدین والقاضی لموضوع تبدیل الخرقة _ نظیر خلوّ الأخبار عن ذکر _ لا یزاحم الفتوی بوجوب التبدیل، لامکان أن یکون ترکوا الاشارة الی ذلک اعتمادا علی وضوحه وظهوره، بعد اتفاقهم علی لزوم الاجتناب عن دم الاستحاضة، وعدم العفو فیه، وأنّه لیس کسائر الدماء التی حکم الشارع فیها أو فی مقدار معین منها بالعفو فی الصلاة وغیرها.

هذا تمام الکلام فی حکم وجوب تبدیل القطنة والخرقة .

ومن الاحکام الواجبة والمرتبة علی الاستحاضة المتوسطة، هو وجوب الوضوء لکلّ صلاة، کما فی «المقنعة» و«السرائر» و«الجامع» و«الوسیلة» و«القواعد» و«التحریر» و«الارشاد» و«اللمعة» و«الروضة» وغیرها، وهو المشهور، بل لعله لا خلاف فیه فی غیر الغداة، کما یرشد الیه دعوی الاجماع المنقول فی «الناصریات» و«الخلاف» و«الغنیة» علی ما یتناولها .

بل یمکن دعوی وجوب ذلک حتّی فی الغداة أیضا، وإنْ اوهمت الکتب الثلاثة الأخیرة، و«المبسوط» والمنقول عن الصدوقین والقاضی وأبی الصلاح وغیرها عدم الوجوب فیها، لمکان اقتصارهم فی الامر بالوضوء لغیر الغداة، مع

ص:381

احتمال أن اقتصارهم علی وجوب الغُسل للغداة والوضوء لغیرها، لم یکن من جهة نفی الوضوء عن صلاة الغداة، وانّما من جهة ان المرأة مأمورة بالغُسل لصلاة الغداة دون غیرها من الصلوات، ومع اقدامها علی الغُسل للغداة تکون قد استغنت عن الوضوء لها، دون غیرها من الصلوات التی یجب علیها الوضوء لها، کما صرّح بذلک المحقق فی «نکت النهایة» علی ما نُقل عنه فی تفسیر کلامه رحمه الله .

وکیف کان فلو، سلّمنا ظهور کلامهم فی عدم الوجوب فی الغداة فانه مردودٌ ومنقوصٌ . ورد من النصوص الدالة علی الوجوب فی کلّ صلاة، مثل ما فی موثقة سماعة، فی حدیثٍ عن الصادق علیه السلام ، قال: «وإنْ لم یجز الدم الکُرسف، فعلیها الغُسل کلّ یومٍ مرّة، والوضوء لکلّ صلاة»(1) .

نحوها مضمرة سماعة، حیث یتطابق عبارتها مع الموثقة(2) وکذلک ما ورد فی «فقه الرضا» المشعر بذلک.

بل قد یمکن استفادة ذلک مما قد مضی فی بحث غُسل الجنابة، من الأخبار الکثیرة الدالة علی وجوب الوضوء لکلّ غُسلٍ غیر غُسل الجنابة . منها حدیث حماد أو غیره عن أبی عبداللّه علیه السلام ، قال: «فی کلّ غُسل وضوء الاّ الجنابة»(3).

حیث یدل عمومه علی لزوم الوضوء مع الغُسل فی صلاة الغداة أیضا .

مضافا الی امکان الاستدلال بالأخبار الدالة علی وجوب الوضوء فی القلیلة، مثل ما ورد فی الخبر الذی رواه زرارة بسنده، حیث قال: «وتصلّی کلّ صلاةٍ بوضوء، ما لم ینفد (یثقب) الدم، الحدیث»(4) .


1- وسائل الشیعة: الباب 1 من ابواب الجنابة، الحدیث 3 .
2- وسائل الشیعة: الباب 1 من ابواب الاستحاضة، الحدیث 6 .
3- وسائل الشیعة: الباب 35 من ابواب الجنابة، الحدیث 2 .
4- وسائل الشیعة: الباب 1 من ابواب الاستحاضة، الحدیث 9 .

ص:382

و روایة صحیحة ابن عمّار، فی حدیثٍ، قال: «وإنْ کان الدم لا یثقب الکُرسف، توضأت ودخلت المسجد، وصلّت کلّ صلاةٍ بوضوء، الحدیث»(1).

بتقریر أنْ یقال: إنّ زیادته بحدث وتبدیله بالأکبر، لا یوجب زوال الأصغر وحکمه، بل الاولی حفظ هذا الحکم، مع اضافة حکم آخر الیه وهو غسل واحد للغداة، والوضوء لها ولغیرها من الصلوات الآتیة، بغیر غُسل فی المتوسطة، وکذلک فی الکثیرة، مع زیادة حکم آخر وهو لزوم الغسل عند کلّ صلاة لو لم یجمع بین فریضتین، ولو جمع بینهما یکفیه غُسل واحد للصلاتین مع الوضوء لکلّ صلاة، بحسب حکمه السابق، ویمکن تأیید ذلک بما قد عرفت من عدم کفایة الغُسل عن الوضوء الاّ فی الجنابة، فلا یرفع الحدث بالأصغر المتحقق بحدوث الأکبر الاّ بالوضوء لکلّ صلاة، ومع وجود دلیل اجتهادی دالّ علیه کما قلنا، لا یبقی هنا مجالٌ للرجوع الی الأصل وهو البرائة، مع معارضته مع اصالة الاشتغال للقطع بالشغل، فلابد من حصول القطع بالفراغ، وهو لا یحصل الاّ بتجدید الوضوء لکلّ صلاة، وحصر النواقض الواردة فی الأخبار فی غیرها، لأنّ الحصر فیها اضافی، سیّما بالنسبة الی موجبات الکبیر مع الصغیر.

ولعلّ السیّد المرتضی رحمه الله ، الذی اکتفی بذکر الغُسل فقط فی الغداة قد اعتمد فی ذلک علی مذهبه باغناء الغُسل الواجب عن الوضوء، مع أنّه رحمه الله قد صرّح بلزوم الوضوء مع الغُسل فی الغداة ایضا فی کتابه «الجمل»، کما حکاه عنه فی «کشف اللثام».

ولعلّ وجه ترک بعض الفقهاء ذکر الوضوء لکلّ صلاة فی المتوسطة وغیرها، کان لأجل اعتمادهم واتکالهم علی مذهبهم من وجوب الوضوء لکلّ غُسل، ومنه


1- وسائل الشیعة: الباب 1 من ابواب الاستحاضة، الحدیث 1 .

ص:383

المقام وفی الکثیرة واللّه العالم.

وهکذا ثبت أن الحقّ مع المشهور، من وجوب الوضوء لکلّ صلاة حتّی الغداة، مضافا الی الغُسل فیها، کما عرفت فی صدر البحث .

اما حکم وجوب الغُسل لصلاة الغداة فی المستحاضة المتوسطة ووجوب تبدیل القطنة والخرقة، واتیان الوضوء لکلّ صلاة، فقد صرّح «الفقیه» و«الهدایة» _ مع اضافة صلاة اللیل الیها و«المقنعة» و«الناصریات» و«الغیبة» و«الخلاف» و«المبسوط» و«الوسیلة» و«السرائر» و«الجامع» و«النافع» و«القواعد» و«التحریر» و«المختلف» و«الارشاد» و«الدروس» و«البیان» و«الذکری» و«اللمعة» و«الروضة» و«جامع المقاصد»، وکثیر من المتأخرین مثل صاحب «الجواهر»، والمعاصرین علی عدم وجوب غُسلٍ علیه غیر الغُسل للغداة من الأغسال، بل قد ادّعی «الناصریات» و«الخلاف» و«الغنیة» الاجماع علی ذلک، وهو حجة علی ابن عقیل وابن الجنید من قولهم بوجوب الاغسال الثلاثة.

وهو مختار المحقق فی «المعتبر»، والعلامة فی «المنتهی»، وتبعهما فی ذلک صاحب «المعالم» و«المدارک» تبعا لشیخه المعاصر المحقق الاردبیلی، وشیخنا البهائی وصاحب «الذخیرة».

وهکذا ظهر ذهاب کثیر من الاعلام الی اختیار هذین القولین، فیصح دعوی الشهرة والاشتهار فیه، کما لا یمنع وجود الکثرة فی القول الاوّل .

و کیف کان، فقد استدل للقول الأول _ مضافا الی الأصل، لو لم یتم الدلیل الاجتهادی علی اثباته، حیث أنّ مقتضاه هو البراءة عن الوجوب فی أزید من الغسل الواحد للغداة _ الأخبار المعتبرة القابلة للاستدلال.

منها: مضمرة زرارة فی الصحیح، قال فی حدیثٍ: «فان جاز الدم الکُرسف، تعصّبت واغتسلت، ثم صلّت الغداة بغُسل، والظهر والعصر بغسل، والمغرب

ص:384

والعشاء بغسل، وإنْ لم یجز الدم الکُرسف، صلّت بغُسلٍ واحد، الحدیث»(1) .

بأن یکون المراد من عدم التجاوز عن الکُرسف، عدم سرایة الدم الی الظاهر، المستلزم لتلوّث الخرقة. والسیلان المشار الیه فی بعض النصوص ینطبق علی الکثیرة، ما نحن فیه وهو المتوسطة .

منها: مضمرة سماعة، قال: «قال: المستحاضة إذا ثقب الدم الکُرسف، اغتسلت لکلّ صلاتین وللفجر غسلاً، وإنْ لم یجز الدم الکُرسف، فعلیها الغسل لکلّ یوم مرّة، والوضوء لکلّ صلاة، الحدیث»(2) .

منها: موثقة سماعة، عن أبی عبداللّه علیه السلام ، فی حدیثٍ، قال: «وغُسل المستحاضة (الاستحاضة) واجبٌ إذا احتشت بالکُرسف، وجاز الدم الکُرسف، فعلیها الغُسل لکلّ صلاتین، وللفجر غُسل، وإنْ لم یجز الدم الکُرسف، فعلیها الغُسل لکلّ یوم مرّة، والوضوء لکلّ صلاة، الحدیث»(3) .

و الاشکال فی الاضمار فی الروایتین الاولتیین مندفع، أوّلاً: بانه من مثل زرارة غیر قادح، لجلالة مقامه ووثاقته، هذا فی الاولی، واما اضمار الثانیة فانه ایضا لا یضرّ لانها مؤیّدة بموثقته الاخری مسندا کما عرفت، ویصیر هذا دلیلاً علی کون المراد من الثقب فی مضمرة سماعة هو التجاوز عن الحدّ المتعارف کما کان کذلک فی موثقته، فینطبق علی المتوسطة، فصدر المضمرة مشتمل للقسمین من اقسام المستحاضة، وهما الکثیرة والمتوسطة، وذیلها الوارد فیه قوله: «وان کان صفرة فعلیها الوضوء»، مشتمل علی حکم القلیلة، لأنها غالبا، یکون دمها اصفرا فالمضمرة مشتملة علی حکم الاقسام الثلاثة من المستحاضة .


1- وسائل الشیعة: الباب 1 من ابواب الاستحاضة، الحدیث 5 .
2- وسائل الشیعة: الباب 1 من ابواب الاستحاضة، الحدیث 6 .
3- وسائل الشیعة: الباب 1 من ابواب الجنابة، الحدیث 3 .

ص:385

کما یندفع الاشکال بعدم صراحة الروایات الثلاث، فی کون الغُسل لصلاة الغداة، والقول بانها لا صراحة فیها فی کونه للاستحاضة بل لعله للنفاس.

عن الاوّل: بأنّه إذا ثبت الوحدة فی الغُسل فی کلّ یوم، فانه لا ینطبق الاّ علی الغداة، اذ یکفی فی ثبوت ذلک لها الاجماعات السابقة والشهرة العظیمة القائمة علیه .

و عن الثانی: بظهورها فی الاستحاضة ظهورا کاد أنْ یکون صریحا فی غُسل الاستحاضة، خصوصا مع ملاحظة فاء التفریع، بضمیمة سائر الاغسال الثلاثة، حیث لا تکون الاّ فی المستحاضة الکثیرة، فالوحدة تصیر للمتوسطة .

کما یندفع الاشکال فی مضمرة سماعة وموثقته، _ حیث جعل شریطة عدم التجاوز دلیلاً علی المتوسطة، مع أنّه اعم منها، لشموله للقلیلة فیمکن أن یکون المقصود هو القلیلة لا المتوسطة _ أوّلاً: بأنّ أعمیّته لهما لا یقدح فی المطلوب، لأنه لابد أنْ یحمل علی المتوسطة، لعدم قائل بوجوب الغُسل فی الصغری، سوی ما سمعته فی ابنی أبی عقیل والجنید، وقد عرفت ضعفهما، فیثبت المطلوب.

هذا کما فی «الجواهر» .

و ثانیا: لو سلّمنا أعمّیته لکلا القسمین، فهو لا یضر بمطلوبنا، فی لزوم الغُسل الواحد فی المتوسطة، وغایته ایجاب الغُسل ایضا للقلیلة، فیخصص عمومه بالنسبة الی القلیلة، بالأخبار السابقة الواردة فی القلیلة، بکفایة الوضوء فیها لکلّ صلاة بلا غُسل، فیتم المطلوب .

و مما یدلّ علی المطلوب، ومشتملٌ لحکم الأقسام الثلاثة _ مع توضیح منا ومن غیرنا _ صحیح الصحَّاف المرویّة بسنده عن الصادق علیه السلام ، حق الحامل والمستحاضة، حیث قال فی حدیثٍ الاغتسال للحیض، والاحتشاء لصلاة الظهر والعصر، قال: «ثم تنظر فان کان الدم فیما بینها وبین المغرب لا یسیل من خلف الکُرسف، فلتتوضأ ولتصلّ عند وقت کلّ صلاة، ما لم تطرح الکُرسف عنها»

ص:386

فان قوله علیه السلام : «ما لم تطرح الکُرسف» یکون مبیّنا لقوله علیه السلام : «لا یسیل من خلف الکُرسف»، لأنّ عدم السیلان ینطبق علی کلّ من القلیلة والمتوسطة، فبضمیمة الذیل یصیرُ شاهدا علی أنّ المراد منه هو القلیلة لا المتوسطة، کما أشار الی هذا القسم أیضا فیما بین المتوسطة والکثیرة حینما قال: «وإنْ طرحت الکُرسف عنها، ولم یسیل الدم، فلتتوضأ ولتصلّ، ولا غُسل علیها».

فیکون بیان حکم المتوسطة هو النص السابق علی ما عرفت آنفا، من کونها للقلیلة، وهی قوله: «فان طرحت الکُرسف عنها فسال الدم وجب علیها الغسل».

بان یقصد من السیلان، هو تجاوز الدم وعبوره من القطنة لا السیلان منها الی الخارج، حتّی ینطبق علی الکثیرة، لأنّه إنْ حمل علی ذلک، فانّه أوّلاً لا یناسب مع ما ورد فی ذیله من بیان الأغسال الثلاثة فی الکثیرة، وهو قوله فی ذیل الخبر: «وإنْ کان الدم إذا أمسکت الکُرسف یسیل من خلف الکُرسف صبیبا لا یرقی، فانّ علیها أنّ تغتسل فی کل یوم ولیلة ثلاث مرات».

وثانیا: إنّ وجوب الغُسل بصورة الابهام لا یفید هنا شیئا من الأحکام، فذکره کذلک یکون خالیا عن الفائدة، لأنّه إنْ حملناه علی وحدة الغسل فی السیلان، فهو مخالفٌ للاجماع، وإنْ حملناه علی الفرد المبهم والجنس الشامل للوحدة والکثرة فی الغسل، فتبقی المتوسطة هنا خالیة عن الحکم من دون أن ترد فی الروایة اشاره الی حکمها.

فالأولی حمله علی صرف الوجود فی وجوب الغُسل، وهو لا یکون الاّ فی المتوسطة، غایة الأمر أنّه اذا فرغنا من أصل وجوبه مرّةً فی کلّ یوم، فانه یمکن تحدید الوجوب وجعله فی وقت اداء صلاة الغداة وذلک بواسطة قیام الاجماع علی عدم وجوب الغُسل فی غیر الغداة.

فتکون الروایة مع هذا التفسیر والبیان مشتملة علی بیان الأقسام الثلاثة، وهو

ص:387

المطلوب. فما ذهب الیه صاحب «المدارک» من حمله علی الجنس، وکون الذیل مبیّنا له، مما لا یساعده الدلیل، فیکون ما استفاده صاحب «الجواهر» وجعله من الأخبار الدالة علی حکم الغُسل الواحد للمتوسطة جیّدا ومتینا.

و مما یستدل علی لزوم غُسلٍ واحد للمتوسطة، خبر عبد الرحمن بن أبی عبداللّه _ الذی هو کالصحیح _ عن الصادق علیه السلام ، فی حدیثٍ قال: «فإنْ ظهر عن (علی) الکُرسف، فلتغسل، ثم تضع کُرسفا آخر، ثُمّ تصلّی، فاذا کان دما سائلاً، فلیؤخر الصَّلاة الی الصلاة، ثم تُصلّی صلاتین بغُسل واحدٍ، الحدیث»(1).

فان التقابل بین الظهور علی الکرسف ووجوب الغُسل، مع کون الدم سائلاً، لا ینطبق الاّ علی المتوسطة، اذ لیس لنا غُسل واجبٌ الاّ فی المتوسطة و الکبری، والمفروض کون الثانیة داخلة تحت قوله: «إذا کان دما سائلاً»، فالوسطی تکون للاولی، وهو غُسل واحد، وهو لا یکون الاّ مرة واحدة فی کل یوم، لما قد بیّنا من الادلة الاخری وجهه.

کما أنّه نمتلک قرینة اُخری لکون الجملة الثانیة واردة فی مقام بیان حکم الکبری، هو اشتراط الجمع بین الصلاتین بغُسل واحدٍ، حیث لا یکون ذلک الاّ فی الکبری لشهادة ساءر الأخبار.

و مما استدل علی لزوم غُسل واحد للوسطی، موثقة زرارة، عن أبی جعفر علیه السلام ، فی حدیثٍ: «ثم هی مستحاضة، وتستوثق من نفسها، وتصلّی کلّ صلاة بوضوء، ما لم ینفد (یثقب) الدم، فاذا نفد اغتسلت وصلت»(2) .

فانها مشتملة علی حکم القلیلة، من جهة دلالة قوله: «تصلی کلّ صلاة


1- وسائل الشیعة: الباب 1 من ابواب الاستحاضة، الحدیث 8 .
2- وسائل الشیعة: الباب 1 من ابواب الاستحاضة، الحدیث 9 .

ص:388

بوضوء»، ومشتملة لحکم المتوسطة لدلالة قوله: «فاذا نفذ...» الذی هو اوّل مصداق لوجوب الغُسل، أمّا الکبری فلم ترد لها ذکر فی الروایة.

لا یقال: قد ورد ذکر الغُسل فی أوّله بعد ما قال علیه السلام : «ثم هی مستحاضة».

لأنا نقول: بان الظاهر کون المراد منه، هو غُسل الحیض، لأنّ ما قبله کان لبیان حکم الحیض من الطامث، (تقعد بعدد ایّامها)، ومن المعلوم لزوم الغُسل لها، ثم یحکم بالاستحاضة لما بعده .

ومن الاخبار التی یمکن الاستدلال بها فی المقام حدیث الجعفی، عن أبی جعفر علیه السلام ، حیث قال بعد ذکره أیّام الحیض والقعود فیها، قال: «فاذا هی رأت طهرا (الطهر) اغتسلت(1)، وإنْ هی لم تر طُهرا اغتسلت(2) واحتشت، ولا تزال تُصلّی بذلک الغُسل، حتّی یظهر الدم علی الکُرسف، فاذا طهر (ظهر) اعادت الغُسل، وأعادت الکرسف»(3) .

فان ما یترتب علیه من الغُسل، بعد ظهور الدم علی الکرسف، هو الوسطی، ولم یتعرض الحدیث للکبری، فتصیر الروایة من ادلة الباب .

و فی «الجواهر» قال بعد نقله تلک الأخبار: ومفهوم قول الصادق علیه السلام فی خبر یونس بن یعقوب «فان رأت الدم دما صبیبا، فلتغتسل وقت کل صلاة»(4) فکأنّه أراد أنّه لم یجب عند کلّ وقت الصلاة غُسلاً، فیجب واحدا فی کلّ یوم، مع أنّه غیر لازم، بل اللازم هو الاعمّ، لولا وجود قرینة معلومة خارجیة، اذ یصدق عدم وجوب الغُسل عند وقت کلّ صلاة، بعدم وجوب أصل الغُسل، کما یصدق علی


1- أی اغتسلت غُسل الحیض.
2- أی غُسل الحیض ایضا.
3- وسائل الشیعة: الباب 1 من ابواب الاستحاضة، الحدیث 10 .
4- وسائل الشیعة: الباب 1 من ابواب الاستحاضة، الحدیث 11 .

ص:389

وجوبه فی کلّ یوم بمرّة أو مرتین، فاثبات المرّة فقط محتاج الی دلیل خارجی، بأنّه اذا ثبت الغُسل فی المستحاضة فانّه لا یکون الاّ بأحد الوجهین: إمّا فی کلّ یوم مرّة، أو وجوبه لوقت کلّ صلاة.

فاذا فقد الثانی، تعیّن الاوّل، فیتم المطلوب.

ولکن مع ذلک کله فان ثبوت ذلک متوقف علی کون المفهوم وجوب الغسل أیضا، واما إذا لم یثبت ذلک فی المفهوم، بل کان أحد مفهومه عدم وجوب الغسل، فاثباته مع الدلیل الخارجی أیضا مشکل، کما لا یخفی .

و مثله فی الاستدلال والاشکال، خبر محمد بن مسلم، المروی فی «المعتبر» عن کتاب المشیخة للحسن بن محبوب، عن الباقر علیه السلام فی حدیثٍ قال: «ثم تَمسک قطنة، فان صبغ القطنة دم لا ینقطع، فلتجمع بین کلّ صلاتین بغُسل، الحدیث»(1).

حیث یکون مفهومه أنّه إذا لم یکن کذلک، فلا یجب الغسل بالجمع بین کلّ صلاتین، حیث کانت للکبری، فینطبق علی الوسطی.

وقد عرفت اشکاله، فلا نعید حذرا من الاطالة، واللّه العالم .

نعم قد یؤید جمیع ما استدل للمطلوب، بما ورد فی «فقه الرضا» حیث قال: «فان لم یثقب الدم القطن، صلّت صلاتها، کلّ صلاة بوضوء (هذا للصغری)، وإنْ ثقب الدم الکُرسف، ولم یسیل، صلّت اللیل والغداة بغُسل واحد، وسائر الصلوات بوضوء (هذا للوسطی)، وإنْ ثقب وسال، صلّت اللیل والغداة بغُسل، والظهر والعصر بغُسل، وتصلّی المغرب والعشاء الآخرة بغسل (هذا للکبری)»(2).

فتتم المسئلة بها وبالاجماعات السابقة والاجماع المرکب، علی أنّ الغسل


1- وسائل الشیعة: الباب 1 من ابواب الاستحاضة، الحدیث 14 .
2- المستدرک الباب 1 من ابواب الاستحاضة الحدیث 1.

ص:390

الواجب فی الوسطی لم یکن الاّ غُسلاً واحدا، وهو حین ادائها لصلاة الغداة، دون سائر الصلوات، کما لا یخفی .

اذا عرفت لسان الأخبار ودلالتها علی لزوم غُسل واحد للمتوسطة، فلا نتردد فی لزوم تقیید المطلقات الواردة الدالة علی لزوم أغسال ثلاثة للمستحاضة، مثل روایة زرارة فان الوارد فیها بعد بیان حکم الحیض لزوم والاحتیاط بیوم أو یومین، قال: «ثم تغتسل کلّ یوم ولیلة ثلاث مرات، وتحتشی لصلاة الغداة، وتغتسل، وتجمع بین الظهر والعصر بغُسل، و تجمع بین المغرب والعشاء بغُسل، الحدیث»(1).

ومثلها روایة الحمیری، عن اسماعیل بن عبد الخالق(2) .

کما تتقید هذه المطلقات بالنسبة الی القلیلة، من عدم وجوب الغُسل فیها، کما ظهر فی بعض الأخبار السابقة من ایجاب الأغسال الثلاثة عند ثقب الدم الکُرسف، مثل صحیحة معاویة بن عمّار، وصدر مضمرة سماعة.

ویجب معرفة أنّ المراد من الثقب هو التجاوز والتعدی، الموجب لتحقق السیلان المنطبق علی الکبری، وإنْ کان التقابل بینه وبین عدم الثقب من الوضوء فی کلّ صلاة، المنطبق علی القلیلة، یقتضی کون المراد منه هو المتوسطة، الاّ أنّه بقرینة _ الاحتشاء _ المفسّر بوضع قطنة محشوّة للتحفظ من تعدّی الدم _ والاستشفار، والنهی عن الانحناء والاحباء، وضمّ الفخذین فی حال السجود _ سائر جسدها _ نشعر بکون المراد منها هو الکبری لا الوسطی، لأنّ مثل هذه الامور علامة لکثرة الدم، وعدم الأمن من التلوث والتلویث.

هذا، مضافا الی دعوی أنّ المتوسطة تعدّ من الافراد النادرة التی لا ینصرف


1- وسائل الشیعة: الباب 1 من ابواب الاستحاضة، الحدیث 12 .
2- وسائل الشیعة: الباب 1 من ابواب الاستحاضة، الحدیث 15 .

ص:391

الیها الاطلاق، إذ قلّ ما یتفق کون الدم ثاقبا للکُرسف دون أن یتعداه، کما أشار الیه صاحب «شرح المفاتیح»، وتبعه صاحب «الریاض»، مع ما عرفت من کفایة الاجتهادات السابقة، من دون حاجة الی مثل هذه التکلّفات، واللّه العالم .

ها هنا فرعان ینبغی التنبیه علیهما:

الفرع الاوّل: بعد ما عرفت من لسان الأخبار، وجوب غُسل واحد للمتوسطة، وکون هذا الغسل یجب احداثها تارة فی الصباح _ لأجل کون حدوث الحدث تارةً یکون قبله، سواء کان قبل وقت صلاة اللیل أو بعدها وقبل وقت صلاة الفجر _ فلا اشکال فی ثبوت غُسل آخر علیها وهو الغُسل واجبا لصلاة الغداة، ویوافق علی ما علیه المشهور من لزوم الغُسل لصلاة الغداة، وهو المنطبق علیه ما ورد فی النصوص من قوله: «یجب علیه غسل واحد فی کلّ یوم ولیلة».

ولکن المشکلة تحصل فیما لو حصل الحدث قبل صلاة الغداة، أو حدثت بالمتوسطة بعدها قبل صلاة الظهرین، أو قبل العشائین، فهل یجب علیها الغُسل لصلاة غداة نفس الیوم أم لا؟

فاذا لم یجب علیها للغداة، فهل یجب علیها للظهرین، إنْ کان الحدث قبلهما، أو للعشائین إنْ کان قبلهما، أو لا یجب الاّ لصلاة الغداة من الیوم اللاحق؟

فیه وجهان: من جهة أنّ الواجب علیه هو الغُسل الواحد، وکان واجبا علیها أن تقوم بها عند الفجر، فاذا لم یحدث قبل صلاة الغداة، فلا وجوب له فی هذا الیوم، وما یتجدد لها الحدث بعد صلاة الغداة، یعدّ من الیوم اللاحق، فیجب فیه الغسل لصلاة الغداة.

أو یحتمل أنْ لا یجب علیها شیئا لا فی هذا الیوم لان حدوث الحدث کان بعد الغداة، ولا فی الیوم الغد لعدم حدوث حدث بخصوصه، فلا غسل علیها.

ومن ملاحظة اطلاقات الأخبار حیث أوجب الغُسل للمتوسطة فی کلّ یوم و

ص:392

لیلة مرّة _ من دون تعیین کون حدوث الحدث فی خصوص الغداة أم لا _ فلازم الاطلاق هو وجوب الغُسل فی کلّ وقت ظهر فیه، الحدث، فاذا کان قبل الظهرین فیجب لهما، وإنْ کان قبل العشائین فیجب لهما ایضا، فاذا اغتسلت لصلاة من الصلوات، فلا یجب علیها غیره، کما یدلّ علیه قوله علیه السلام فی روایة الجعفی: «فاذا ظهر الدم علی الکُرسف، أعادت الغُسل، وأعادت الکُرسف».

وهکذا یکون الحکم فی سائر الاخبار.

هذا هو مختار الشیخ الاعظم قدس سره ، والمحقق الهمدانی قدس سره ، بل وهو الاقوی وإنْ کان ما فی «فقه الرضا» من قوله: «وإنْ ثقب الدم الکُرسف، ولم یسیل، صلّت صلاة اللیل والغداة بغسل واحد» هو لزوم الغُسل فی الغداة، کما ذهب الیه صاحب «مصباح الفقیه» حیث قال: «نعم لو صحّحنا العمل بالرضوی، ولو بملاحظة انجباره، فظاهر الفتاوی ومقصد اجماع الناصریات، لکان الأوجه عدم وجوب الغُسل بها الاّ لصلاة الغداة، وارتکاب التأویل فیه بما ذکره قدس سره (أی الشیخ الانصاری المذکور قبله) فی توجیه کلمات الأصحاب، وإنْ مکن، لکنه خلاف ظاهر اللفظ)، انتهی کلامه(1) .

ومراده من ارتکاب التأویل فی کلماتهم، هو ما ذکره قبل ذلک، وهو الذی ذکرناه فی المقام.

وأمّا ظهور فتاوی الاصحاب فیما ینافیه، فقد وجهها بما لا ینافیه، بتنزیل کلماتهم علی ارادة ما لو استمر بها الدم المتوسط من اول الیوم، بقرینة حکمهم بوجوب أغسال ثلاثة علی ذات الدم الکثیر، مع أنّ من الواضح أنّها لو رأت قبل الظهر، واستمر بها الی اللیل، لا یجب علیها الاّ غسلان، ولو رأت قبل العشائین لا


1- مصباح الفقیه: 4/311 .

ص:393

یجب علیها الاّ غسل واحد، فکلماتهم المطلقة منزلة علی ارادة بیان حکم من استمر الدم(1) .

وحیث کان العمل بالاطلاقات أقوی، لکثرتها وضعف ما فی «فقه الرضا» من التقید، وامکان حمله علی ما لو کان وقوع الحدث قبل صلاة الغداة _ وان کان خلاف ظاهر اطلاقه، لکنه لابد منه لأجل الجمع مع تلک الاخبار _ ولذلک أفتینا فی حاشیتنا علی «العروة» بوجوب الغُسل فی کلّ وقت حدثت، کما علیه فتاوی أکثر اصحاب التعلیق، لولا کلّهم، کما هو قضیة الاحتیاط أیضا، کما لا یخفی .

الفرع الثانی: بعد ثبوت وجوب الوضوء مع الغُسل، فهل یجب تقدیم الغُسل علی الوضوء _ کما عن «المقنعة» _ أو الواجب عکسه، حذرا عن الفصل بینه وبین الصلاة بالوضوء؟

وفی «الجواهر» إنّه لم یجب شیئا منهما، للاطلاق وعدم الدلیل علی قدح ذلک الفصل. والأقوی عندنا _ کما فی «العروة» فی مسئلة الخامسة والعشرون من أحکام الحائض _ بأنّ الأفضل فی جمیع الأغسال جعل الوضوء قبلها، الشامل للمقام أیضا، وذلک لدلالة بعض الاطلاقات المشعرة علی المنع عن جعله بعد الغسل، مثل ما ورد فی صحیح سلیمان بن خالد، عن أبی جعفر علیه السلام ، قال: «الوضوء بعد الغُسل بدعة»(2).

ومثله روایة عبداللّه بن سلیمان(3).

وهو مختار الشیخ فی «المبسوط» و«النهایة».

بل قد عرفت فی بحث غُسل، الجنابة، وجود بعض الأخبار الدالة علی لزوم


1- نفس المصدر .
2- وسائل الشیعة: الباب 33 من ابواب الجنابة، الحدیث 9 .
3- وسائل الشیعة: الباب 33 من ابواب الجنابة، الحدیث 6 .

ص:394

وفی الثالث یلزمها مع ذلک غُسلان ، غُسلٌ للظهر والعصر تجمع بینهما ، وغُسلٌ للمغرب والعشاء تجمع بینهما (1).

تقدیم الوضوء علی الغُسل، مثل مرسلة ابن أبی عُمیر حیث قال علیه السلام : «کلّ غُسل قبله وضوء، الاّ غُسل الجنابة»(1) .

وصحیحة علی بن یقطین حیث قال علیه السلام : «فاذا أردت أنْ تغسل للجمعة، فتوضأ ثم اغتسل»(2).

وإنْ اُورد علیهما مما قد ذکرناه فی باب غُسل الجنابة، الاّ أنّهما تکفیان لمجرد الدلالة علی أثبات أفضلیة تقدیمه علی الغُسل، کما لا یخفی .

(1) البحث فی القسم الثالث من أقسام المستحاضة، المسمی بالکثیرة تارةً وبالکبری اُخری، وهی التی یخرج منها الدم بعد نفوذه فی القطنة من طرفها الداخل الی طرفها الخارج، ویصل الی الخرقة المشدودة علی القطنة.

والحکم فیها علی الاجمال _ مضافا الی ما وجبت علیها فی القسم الأول والثانی، من وجوب تبدیل القطنة أو تطهیرها، وکذلک الخرقة المشدودة، عند کلّ صلاة، والوضوء لکلّ صلاة، والغُسل لصلاة الغداة _ لزوم الاتیان بغُسلٍ عند صلاة الظهرین، وغُسل للعشائین وأمّا تفصیل الحکم فیها : فانّ الکلام فی وجوب تبدیل القطنة، هو الکلام الذی ذکرناه والحکم الذی قررناه فی القلیلة والمتوسطة، بل فی «الجواهر»: من غیر خلاف أجده فیها هنا، لما تقدم من الدلیل، مع امکان دعوی الأولویة هنا.


1- وسائل الشیعة: الباب 35 من ابواب الجنابة، الحدیث 1 .
2- وسائل الشیعة: الباب 35 من ابواب الجنابة، الحدیث 3.

ص:395

مضافا الی ما تدل علیه بعض الأخبار، مثل ما ورد فی ذیل خبر الجُعفی، عن الباقر علیه السلام فی حدیثٍ: «ولا تزال تصلی بذلک الغُسل، حتّی یظهر الدم علی الکُرسف فاذا ظهر اعادت الغسل واعادت الکرسف».

فی أحکام الاستحاضة / الاستحاضة الکبری

فان الذیل دالٌ علی حکم الکثیرة، من ظهور الدم فیها، والحکم بوجوب اعادة الکرسف، وهو المطلوب.

ومنه یظهر حکم وجوب تبدیل الخرقة وتطهیرها فیها، لأنها اذا تلوثت بالدم، وقلنا بعدم العفو فیه _ حتّی إذا کان أقلّ من الدرهم، لأجل الحاق دم الاستحاضة بالحیض والنفاس _ فانّه یوجب الحکم بوجوب التبدیل أو التطهیر للصلاة، کما کان کذلک فی المتوسطة، بل هنا یکون أولی لکثرة تلوثها .

وامّا وجوب الوضوء لکلّ صلاة، فانّ فیه قولان:

القول الاول: الوجوب مطلقا، وعلیه دعوی الاتفاق من جماعة کثیرة من أصحابنا، کما فی «السرائر» و«الجامع» و«النافع» و«القواعد» و«الارشاد» و«الذکری» و«الروضة» و«جامع المقاصد» و«صاحب الجواهر» والمحقق الأردبیلی، وصاحب «العروة»، وأکثر أصحاب التعلیق، لولا کلّهم، بل فی «المدارک»: أنّ علیه عامة المتأخرین، بل عن الروض أنّ به أخبارا صحیحة سوف نشیر الیها إنْ شاء اللّه.

القول الثانی: عدم الوجوب مطلقا، هذا هو المنسوب الی الصدوقین و الشیخ فی بعض کتبه، المستفاد ذلک من ترک التعرّض لذکره والاقتصار فی حکمه علی الأغسال، حیث فهم اختیارهم الی عدم وجوبه لشی ء من الصلوات.

کما قد نسب ذلک الی السیّد فی «الناصریات» و الحلبی وابن حمزة وابن البراج وابن زهرة، والقاضی، بل لعلّه یکون حینئذ داخلاً تحت دعوی الاجماع من بعضهم «کالناصریات» و«الخلاف» و«الغُنیة»، بل ومال الیه بعض متأخری المتأخرین .

ص:396

والقول الثالث: هو التفصیل بین کلّ صلاة یجب فیها الغُسل، فیجب فیها الوضوء أیضا کالصبح والظهر والمغرب، وبین مالا یجب فیها الغُسل مثل العصر والعشاء إذا اجتمعتا مع الظهر والمغرب، فلا یجب فیهما الوضوء.

نعم إذا تعدد لهما الغُسل بالفصل، فیتعدد الوضوء أیضا.

هذا هو المنسوب الی المفید والمصنف فی «المعتبر»، والی السیّد فی «الجمل»، واحمد بن طاووس، بل واختاره فی «شرح المفاتیح» و«الریاض».

ولاباس هنا بذکر الادلة التی اقیمت علی القول الاوّل، فنقول : «قد استدلوا لقولهم _ الذی کان هو المشهور من وجوب الوضوء لکلّ صلاةٍ _ بأمورٍ وهی:

الامر الأول: بآیة الوضوء، وهو قوله تعالی:

«اذا قُمتُم الی الصَّلاة فاغسلوا وجوهکم وأیدیکم الی المرافق...»(1).

ببیان أنْ یقال: لا اشکال فی کون دم الاستحاضة حَدَثا موجبا للغُسل، فبضمیمة أنّ کلّ موجب للأکبر موجبٌ للاصغر، فانه یحکم بوجوب الوضوء علیها فضلاً عن الغُسل.

بل فی «المختلف» دعوی الاجماع علی حدثیة دم الاستحاضة، فکما یجب علیها الغُسل، یجب علیها الوضوء أیضا .

ولکن قد اُورد علی هذا الاستدلال أوّلاً:

بأنّ الآیة مختصة بالحَدَث الاصغر، ولا عموم لها تشمل کلّ حدث، حتّی تشمل المستحاضة، إذ لو خلیّت الآیة وظاهرها، للزم الحکم بوجوب الوضوء لمن أراد الاتیان بالصلاة مطلقا، حتّی من کان علی طهر من وضوء سابق، وهذا مالم یتفوه به فقیه، لان القرینة المقامیة الموجودة فی الآیة الشریفة تفید أنّ


1- سورة المائدة: آیة 8 .

ص:397

المقصود هو الذی کان محدّثا بحدث جدید لا مطلقا، وأن یکون حدثه من النوع الصغیر لانه الذی یرفعه الوضوء لا مطلقا، ولأجل ذلک تری أنّه قد ورد التعبیر فی المعتبرة الواردة فی تفسیر الآیة، بالقیام من النوم، بل نُقل ذلک عن المفسرین أیضا، لأنه الحدث الأصغر.

مضافا الی أن الحکم الوارد فی الآیة مقابل لحکم الجُنب الواقع فی صدر الایة، من قوله تعالی: «وإنْ کنتم جُنُبا... حیث» یؤید کونه للحدث الاصغر.

وثانیا: فی «الجواهر»: ولو سُلّم، فلا عموم فیهما بالنظر الی الأشخاص، لکون المستفاد منها الحکم بالنسبة الی الرجال، فالحاق النسوة بهم إنّما هو بالاجماع، وهو مفقود فی المقام .

لکن مندفع بامکان أن یکون المراد من الخطاب، هو جنس المکلف، بلا فرق بین الرجال والنساء، ولأجل ذلک یمکن بأنفسهن موردا للخطاب، من دون حاجة للتمسک بالاجماع لأجل الالحاق والاشتراک، وإنْ کان هو حَسَنٌ أیضا.

کما أنّ الوجه فی الاتیان بالجمع الخطابی للمذکر، من باب التغلیب تغلیب جانب التذکیر علی التانیث، کما هو شائعٌ فی القران، کما فی قوله تعالی: «توبوا الی اللّه تُوبةً نَصوُحا»، حیث لم یکن المخاطب لهذا الخطاب الاّ عموم المکلفین، لا خصوص الرجال، کما لا یخفی .

وثالثا: بأنّ الآیة لا عموم فیها، لامکان أنْ یکون هذا للتی لم ترفع حدثها بالغُسل، مثل اقدام المرأة علی تحصیل الوضوء لصلاة العصر والعشاء، حیث عرفت کونها محدثة بحدث الاستحاضة لاستمرار الدم، فلابدّ لها من الوضوء، وهذا بخلاف صلاة الصبح والظهر والمغرب، حیث أن علیها الغُسل ویکون رفع حدثها به، فلا وجه لتحصیل الوضوء.

فالدلیل حینئذ یکون أخصّ من المدعی، لأن المدعّی هو وجوب الوضوء

ص:398

لکلّ صلاة، والدلیل یحکم بوجوب تحصیل الوضوء لخصوص ما لا غسل لها.

ولکن یرد علیه أوّلاً: انّ ذلک یصحّ علی القول بالاجتزاء، وکفایة الغُسل عن الوضوء، مع أنّه فی غیر غسل الجنابة مردود.

وثانیا: إنّه حتی لو سلّمنا کفایة الغُسل عن الوضوء فانه یرد علیه بانّ الدم هنا مستمرٌ حتّی بعد الغُسل، فتصیر محدثة بعده، فیصح الحکم بالوضوء لأجل ذلک الحدث، مع أنّ الغُسل والوضوء فی حقّها مبیحان للصلاة لا رافعان للحدث، کما لا یخفی .

الأمر الثانی: بما تقدم سابقا من ایجاب الوضوء مع سائر الاغسال غیر غُسل الجنابة، مثل قوله علیه السلام «فی کلّ غُسل وضوء».

وفیه: إنّ الدلیل أخصّ من المدعی لأنّ الثابت بهذا هو وجوب الوضوء لکلّ صلاة فیه غُسلٌ، مثل صلاة الصبح والظهر والمغرب، لا کلّ صلاة حتّی ما لا غُسل لها لو جمعت تالیها مثل العصر والعشاء .

الأمر الثالث: بأولویة هذا القسم من الاستحاضة، بالنسبة الی غیره من الاقسام فی ایجاب الوضوء، وذلک لکثرة سیلان الدم فیها، دون القسمین الآخرین.

وقد اُجیب عنه: فبالمنع عنها بعد ایجاب الأغسال الثلاثة فی الکثیرة دونهما.

ولعلّ المقصود من هذا الجواب، هو أنّ الاولویة تفید وجوب الأغسال الثلاثة لا الوضوء فی کلّ صلاة، مع أنّه یمکن أنْ یقال بعدم تمامیة هذا الجواب، لأنّه إذا فرضنا ثبوت وجوب الوضوء لکلّ صلاة فیهما _ حتّی فی مثل المتوسطة فی صلاة الغداة التی کانت مع الغُسل، وأوجبنا معه الوضوء _ ففی مثل الکبیرة المشتملة للحدثین السابقین مع زیادة _ وهو سیلان الدم _ یکون ثبوت وجوب الوضوء أولی.

الاّ أن یقوم دلیلٌ علی کفایة الغُسل عنه، مع أنّ الاصل هو عدم الاعتناء لو شککنا فیه عند فقد الدلیل.

ص:399

وقد جعل صاحب «الجواهر» هذا الاصل دلیلاً رابعا فی المسألة واعترض علیه بقوله: «بانّه إنّما یتجّه بعد ثبوت الدلیل علی الالزام بالوضوء، أمّا مع عدمه فلا أصل». ولکنه رحمه الله أجاب عن هذا بنفسه بقوله: «إنّ اسقاطه الوضوء إمّا لاغناء الغُسل عنه، أو لاغناء الوضوء الاول عنه، لأنه لم یثبت حدثیة هذا الدم فی الحال، والکلّ کماتری» .

الأمر الخامس: هو دعوی الشهید الثانی فی «الروض» دلالة الأخبار الکثیرة علی وجوبه، وظهور مرسلة یونس الطویلة فیها وفیمن تعرف أیّامها، حیث قال علیه السلام : «فلتدع الصَّلاة أیّام اقرائها، ثم تغتسل، وتتوضأ لکلّ صلاة. قیل: وإنْ سال الدم؟ قال علیه السلام : وإنْ سال مثل المثعب»

وفی «الوافی»: المثعب: بالثاء المثلثة، والعین المهملة، ثم الباء الموحدة، المسیل، ومثاعب المدنیة مسایل مائها.

وقد أورد علیه الشیخ الأعظم قدس سره فی کتاب «الطهارة» بقوله: «إنّا لم نعثر علی واحد منها، کما اعترف به المحقق الاردبیلی، ولمح الیه جمال الملّة فی حاشیته علی «الروضة».

ولکن بعد التأمّل فی الأخبار، یمکن أنّ یقال بأنّ مراده قدس سره من دلالة أخبار کثیرة علی وجوبه، هو الأخبار الواردة فی القلیلة، الدالة علی لزوم الوضوء فیها، بل وهکذاالمتوسطة، فکأنّ الکثیرة واجدة لأحداثهما مع اضافة، فمشتملةٌ علی حکمیهما مع زیادة، وهو الغُسل فی وقت کلّ صلاة.

مضافا الی ذلک یمکن استفادة ذلک من روایة ابن أبی یعفور، عن أبی عبداللّه علیه السلام ، قال: «المستحاضة أمضت أیّام أقرائها، اغتسلت واحتشت کُرسفها، وتنظر فانْ ظَهَر علی الکُرسف زادت کُرسفها، وتوضأت وصلت»(1).


1- وسائل الشیعة: الباب 1 من ابواب الاستحاضة، الحدیث 13 .

ص:400

فان ظهور الدم علی الکُرسف، المستلزم للوضوء وزیادة الکرسف، له فردان: أحدهما: لو ظهر ولم یسل، فهو المتوسطة.

والآخر: مع السیلان المنطبق للکثیرة.

نعم والذی یرد علیه هو عدم ذکر الغُسل فیه، فلابد من تقیید هذا الاطلاق فی الموردین بواسطة سائر الأخبار الدالة علی لزوم غُسل واحد للمتوسطة، أو الثلاثة فی الکثیرة، فیتم المطلوب.

أو یراد من: (اغتسلت) هو غُسل الحیض والاستحاضة بالتداخل، لا خصوص الاستحاضة أو الحیض).

بل قد یمکن أنْ یستانس لذلک من روایة اسماعیل بن عبد الخالق المنقول فی «قرب الاسناد»، عن الصادق علیه السلام ، فی حدیثٍ _ مشتمل لحکم المستحاضة الکثیرة _ قال: «إذا مضی وقت طُهرها الذی کانت تطهر فیه، فلتؤخّر الظهر الی آخر وقتها، ثم تغتسل، ثم تُصلّی الظهر والعصر، فانْ کان المغرب فلتؤخّرها الی آخر وقتها، ثم تغتسل، ثم تصلّی المغرب والعشاء، فاذا کان صلاة الفجر فلتغتسل بعد طلوع الفجر، ثم تصلّی رکعتین قبل الغداة، ثم تُصلّی الغداة. قلت: یواقعها زوجها؟ قال: إذا طال بها ذلک، فلتغتسل ولتتوضأ، ثم یواقعها إنْ اراد»(1).

فان ذکر الوضوء هنا مع الغُسل للمواقعة، کان لأجل رفع توهم کفایة الغُسل من دون وضوء هنا، لأنه کان للصلاة فقط لا لغیرها، فاراد علیه السلام التنبیه بانّ علیها هنا الوضوء مع الغسل، کما کان أمرها کذلک مع الصلاة فی الکثیرة.

وکیف کان، فلا یبعد دعوی دلالة الأخبار علیه فی الجملة، وانْ لم تکن بالصراحة، کما عرفت .


1- وسائل الشیعة: الباب 1 من ابواب الاستحاضة، الحدیث 15 .

ص:401

و امّا المرسلة التی قد استدل بها لوجوب الوضوء فی کلّ صلاة حتّی مع سیلان الدم، فقد اُجیب عنها بوجود الاجمال فیها، اذ فی قوله «ثم تغتسل وتتوضأ لکلّ صلاة» عدة احتمالات، وهی: احتمال أنْ یکون المراد من الغُسل هو غسل الحیض بعد أیّام الاقراء، فحینئذ لا تعرّض فیه لغُسل الاستحاضة.

واحتمال کون المراد هو غُسل الاستحاضة.

واحتمال کون المراد منه کلا الغسلین، علی سبیل التداخل، بمعنی ورود الأمر باتیان ما یجب علیها من الغُسل عند اتیان ما یشترط به أعنی الصلاة .

کما أنّ الظرف فی قوله علیه السلام : «لکلّ صلاة» یحتمل أنْ یکون متعلقا بالفعلین السابقین علیه، أعنی تغتسل وتتوضأ.

ویحتمل أنْ یکون متعلقا بالأخیر منهما.

والاستدلال بالروایة علی وجوب الوضوء لکلّ صلاة فی المستحاضة الکثیرة، مبنیٌ علی ظهورها فی ارادة غُسل الحیض من قوله علیه السلام «تغتسل»، وتعلّق الظرف فی قوله: «لکلّ صلاة» بالفعل الأخیر، أعنی تتوضأ.

وهو ممنوعٌ کما قاله الآملی فی «مصباح الهدی».

ثم قال بعده: «وادّعی الشیخ الأکبر قدس سره ظهور الروایة فی ارادة غسل الاستحاضة، وأنّ الظرف متعلقٌ بکلا الفعلین.

واستظهر الأول من أنّه لولاه لزم السکوت عن غُسل الاستحاضة مع أنّ بیانه اهمّ من الوضوء.

وقال فی الثانی: بأنّ احتمال اختصاص الظرف بخصوص الترضی فقط، خلاف الظاهر، کما لا یخفی .

ثم استظهر من الظهورین _ أعنی ظهور الأمر بالاغتسال فی ارادة غُسل الاستحاضة، وظهور تعلق الظرف بمجموع الفعلین _ ظهور الروایة فی الوضوء،

ص:402

الذی لابد فی الغُسل، وقال بأنّه یجب حینئذ حمله علی الاستحباب، لعدم وجوب الاغسال لکلّ صلاة اجماعا.

اللّهم إلاّ أنْ یراد من قوله: «لکلّ صلاة» وقت کلّ صلاة، فیتعین ابقاء الامر علی ظاهره من الوجوب، لکنه یثبت القول بالتفصیل، فانّ مدلول الروایة حینئذ هو وجوب الغُسل والوضوء الواحد عند وقت الظهرین والعشائین، فیکفی وضوء واحد للصلاتین المشترکتین فی الوقت. وبالجملة تسقط الروایة عن الدلالة علی القول المشهور» .

ثم اورد علیه المحقق الآملی بما لا یخلو عن جودة حتّی ینطبق المرسل علی القول المشهور فقال: «واُورد علیه، بأنّ اهمیة بیان غُسل الاستحاضة، لا یعتبر سببا لظهور الروایة فی غُسل الاستحاضة، بعد تسلیم ظهورها فی غُسل الحیض، مع أنّه علی تقدیر تسلیم الظهور، فانّما یقال بظهورها فی ارادة ما یجبُ علیها من الغُسل علی سبیل التداخل، لا خصوص غسل الاستحاضة . ثم إنّ المتیقن هو تعلیق الظرف بالأخیر، وأنّه قدس سره لم یبیّن وجها لتعلقه بالمجموع، الاّ دعوی کون تعلقه بالأخیر خلاف الظاهر. مضافا الی أنّه مع تسلیم تعلقه بالمجموع، فالجهة الأولی _ أعنی قوله: «تغتسل» _ لا تکون محمولة علی الاستحباب، بل الواجب حمله علی القدر المشترک بین الوجوب والاستحباب، وذلک للاجماع علی وجوب الغُسل فی صلاة الصبح والظهرین والعشائین، وعلیه فلا یوجب صرف ظهور الجملة الثانیة، أعنی (تتوضأ) عن الوجوب الی الاستحباب. هذا ما یمکن أنْ یقال فی الاستدلال لمذهب المشهور، وما یمکن أنْ یورد علیه»، انتهی کلامه(1) .

قلنا: ولقد أجاد فیما افاد، بل نحن نضیف علیه بامکان الاستدلال بمرسلة


1- مصباح الهدی: 5/162 _ 161 .

ص:403

یونس للمطلوب، علی فرض تسلیم کون الظاهر منه هو غُسل الحیض لا الاستحاضة، وبرغم ذلک نحکم بوجوب الوضوء لکلّ صلاة، فیمافرض کونه قلیلة، لانّه القدر المتیقن من الاستحاضة، حیث اضاف السائل بعد ذلک صورة الکثیرة، بقوله: «وإنْ سأل؟»، فأجاب علیه السلام : «وإنْ سال مثل المثعب» أی کان وجوب الوضوء لکلّ صلاة أمرا ثابتا فیه، غایة الأمر قد سکت عن حکم الاغتسال للصلاة هنا، فهو یکون ثابتا من جهة الأدلة الکثیرة الدالة علیه، فبضمیمة ذلک مع هذا المرسل یتم المطلوب.

فالاستدلال به لاثبات وجوب الوضوء غیر مخدوش فیه بالنسبة الی الکثیرة.

هذا مع أنّه لا نحتاج لاثبات وجوب الغُسل الی دلیل آخر، لأنّ هذا الحدیث _ کما عرفت فی اوّل البحث _ مشتملٌ علی أحکام الأقسام الثلاثة، وبیّن فیه حکم الغُسل لوقت کلّ صلاة فی الکثیرة، فاهمال ذکر الغُسل فی هذه الفقرة المقصود فیها ذکر حکم الوضوء لکلّ صلاة، غیر ضائرٍ، کما لا یخفی.

فجعل ذلک من أدلة المشهور لا یخلو عن قوة، کما أشار الی ذلک الشهید الثانی قدس سره فی «الروض»، فلیتأمّل .

وامّا أدلة القول الثانی: وهو عدم وجوب الوضوء مطلقا، أی سواء کان للصلاة مع الغُسل أو بدونه.

فقد تمسکوا بالأصل، أی اصالة البراءة عن وجوب الوضوء، فیما یشک فیه.

وبالبناء علی الاجتزاء بالغُسل، فیما یجب فیه الغُسل.

وبخلوّ النصوص عن التعرض له، والاقتصار علی ذکر الاغسال الثلاثة فی مقام البیان .

هذا، ولکن جمیع هذه الادلة یمکن ردّها: فامّا عن الاصل، أوّلاً: مع وجود دلیل اجتهادی دالّ علیه، لا یبقی مجالٌ للرجوع الی الأصل، وسنشیر عمّا قریب

ص:404

الی هذه الأدلة الاجتهادیة .

وثانیا: بأنّ الاصل الجاری هنا هو اصالة الاشتغال لا أصل البراءة، لأن اصالة حدثیة دم الاستحاضة مما لا اشکال فیه _ کما ادّعی علیه الاجماع فی «المختلف» _ فبعد الغُسل یشک فی أنّه هل اُبیح لها الصلاة بدون الوضوء أم لا، فانّ الشغل الیقینی بالصلاة یحتاج الی الفراغ الیقینی، وهو لا یحصل الاّ بتحصیل الوضوء قبله أو بعده .

بل قد یمکن أنْ یقال: إنّ مقتضی استصحاب بقاء الحدث أیضا، یستوجب ایجاب الوضوء علیها.

نعم قد یمکن الاشکال فیه، بأنّ الوضوء هنا لا یوجب رفع الحدث، حتّی یقال بأنّه باتیان الوضوء یرتفع الحدث.

فالأولی أنْ یقال : بانّه مع عدم الوضوء، یشک فی أنّه هل حصل لها المبیح للصلاة بالغُسل أم لا؟ فالأصل عدمه، فمع الوضوء تقطع بحصول المبیح.

وکیف کان، فمقتضی الأصل هنا لیس هو عدم الوجوب، لما قد عرفت خلافه.

وامّا البناء علی الاجتزاء، فقد عرفت عدم صحته مرارا فی هذا الباب وفی باب الجنابة، هذا اوّلاً.

ثم علی فرض التسلیم یورد علیه ثانیا: بأنّه یصحّ فی مثل الصبح والظهر والمغرب، حیث کان لها غسل، دون العصر والعشاء إذا جمعهنّ مع الظهر والمغرب، مع تحقق الحدث باستمرار الدم .

اللّهم الاّ أنْ یقال بکفایة ذلک الغُسل لهما إذا اجتمعا، بأن لا یضر الحدث المتخلّل فی ذلک، کالمسلوس والمبطون إذا استمرّ حدثهماخلال الصلاة .

و امّا عن خلوّ النصوص عن ذکره، فقد عرفت خلال الادلة التی اقیمت علی القول المشهور، بوجود اخبارٍ یمکن استفادته منها، فعدم التعرض فی بعضها، مع

ص:405

التعرض الیه فی البعض الآخر یرفع الاشکال، کما لا یخفی .

مضافا الی امکان أنْ یکون الوجه فی ترک التعرّض هنا من بعض قدماء الاصحاب، إنّما هو للایکال علی ما ذکروه من ایجاب الوضوء مع کلّ غُسل عدا الجنابة .

و من ذلک ظهر وجه قول الثالث، من التفصیل بین ما یجب فیه الغُسل، مثل الصبح والظهر والمغرب فیجب فیه الوضوء، لما قد عرفت من قیام الدلیل علی أنّ کل غسل وضوءٌ الاّ الجنابة، ومنها غسل الاستحاضة، بخلاف ما لا غُسل فیه کالعصر والعشاء .

بل قد یؤید ذلک بما ورد فی صحیحة معاویة بن عمّار، حیث قد علّق فیها الأمر بالوضوء لکلّ صلاة، علی عدم ثقب الدم الکُرسف(1)، حیث فان مفهومها تفید أنّه إذا ثقب الدم فلا وضوء لکلّ صلاة.

وهذا هو مختار المفید _ علی ما حُکی عنه ونُسب الیه _ والمحقق فی «المعتبر» والسید فی «الجمل» واحمد بن طاووس، واختاره الوحید فی «شرح المفاتیح» والسید فی «الریاض»، والشیخ الاعظم فی کتاب «الطهارة» .

بل قیل إنّه یؤیده صحیح صحّاف(2)، والمروی عن «فقه الرضا»(3)، لأنهما أیضا قد علّقا الوضوء علی عدم طرح الدم علی الکُرسف .

و لکن الأقوی خلاف ذلک، لأنّ عدم وجوب الوضوء للصلاة الثانیة من العصر أو العشاء، لا یکون الاّ باعتبار أحد امور ثلاثه: إمّا من جهة المنع عن حدثیة دم الاستحاضة، وقد عرفت دعوی الاجماع عن العلامة فی «المختلف» حدثیته.

أو من جهة اغناء الغُسل عنه، وهذا ما قد عرفت أیضا عدم الاجتزاء به الاّ فی


1- وسائل الشیعة: الباب 1 من ابواب الاستحاضة، الحدیث 1 .
2- وسائل الشیعة: الباب 1 من ابواب الاستحاضة، الحدیث 7 .
3- المستدرک الباب 1 من ابواب الاستحاضة الحدیث 1 .

ص:406

غسل الجنابة، مع ثبوت عدم کفایة الغُسل فی الصلاة السابقة علیها فی اثبات عدم الاجتزاء، لأنّ القول بالکفایة هنا دونها یوجب مزیة الفرع علی الأصل، لأنّ الغُسل إنْ عُدّ مجزیا، کانت الصلاة السابقة أولی به .

أو یقال بکفایة الغُسل والوضوء السابقة المتعلقتان بالصلاة السابقة لهذه الصلاة، مضافا الی أنّ ذلک بحاجة الی دلیل یدل علیه، مع أن ذلک منقوضٌ علیه بما لو اغتسل وتوضأ للظهر ولم تبطلهما حتّی المغرب، فلابد من الالتزام بالکفایة، لأنّه لو کان تخلّل الاحداث مضرا فکذلک یکون للعصر والعشاء، وإنْ لم یکن مضرّا فلا فرق بین صلاتی العصر أو المغرب.

ولکن هذا النقض مدفوعٌ وغیر وارد علی القول المشهور، لأنهم قائلون بأنّ الحدث المتخلّل ناقض للوضوء، بل وللغسل، لولا الدلیل علی النفی فی الثانی، وهو الأخبار الکثیرة الدالة علی عدم احتیاج العصر والعشاء للغُسل إذا اجتمعا مع ما تلیهما.

والقول بالفرق بین حدثیة الدم فی الابتداء، دون الاستدامة، حتّی یکون الغُسل والوضوء للصلاة السابقة کافیة للتالیة ، مردودٌ :

أوّلاً: بأنه لو کان الأمر کذلک، فلِمَ لا یقال به للمغرب.

وثانیا: إنّه ممّا لا یکن الالتزام به الاّ بدلیل، وهو هنا مفقود، الاّ ما ادعی من دلالة الأخبار علیه، من تعلیق الأمر بالوضوء علی عدم ثقب الدم الکُرسف.

مع أنّه مندفع أوّلاً: بما قد ورد خلاف ذلک فی روایة آخری، مثل ما ورد فی روایة ابن أبی یعفور، عن أبی عبداللّه علیه السلام ، قال فی حدیثٍ: «اغتسلتْ واحتشتْ کُرسفها، وتنظر فانْ ظَهَر علی الکُرسف، زادت کرسفها وتوضأت وصلت»(1) .


1- وسائل الشیعة: الباب 1 من ابواب الاستحاضة، الحدیث 13 .

ص:407

حیث أنّ وجوب التوضی قد علّق علی ظهور الدم علی الکُرسف، حیث یجمع مع المتوسطة والکثیرة، اذ کلاهما مصداق لظهور الدم علی الکُرسف.

وثانیا: إنّ تعلیق الأمر بالوضوء فی تلک الأخبار، کان لبیان حکم القلیلة فی مقابل المورد الذی لا یجب فیها علیها الغُسل، لا لبیان انحصار وجوب الوضوء للقلیلة، أو هی مع المتوسطة کما توهم .

و کیف کان، فالأقوی عندنا هو القول المشهور، من وجوب الوضوء لکلّ صلاة فی الکثیرة، واللّه العالم .

أما قول المصنف رحمه الله فی هذا الفرع: «یلزمها مع ذلک غُسلان... الی آخره» فانه یفید ، وجوب غُسلین علیها _ غیر غُسل الصبح _ غُسل للظهر والعصر، تجمع بینهما، وغسل للمغرب والعشاء تجمع بینهما، وهذا الحکم منه حکمٌ ثابت بین الأصحاب، حتّی قال صاحب «الجواهر» عنه: بلا خلافٍ أجده، کما نفاه عنه غیر واحد، بل حُکی علیه الاجماع مستفیضا کالسنة.

فلا باس هنا بذکر بعض الأخبار _ التی فیها الصحیح وغیره _ الدالة علی هذا الحکم :

منها: صحیحة معاویة بن عمّار المرویة عن الصادق علیه السلام ، فی حدیث: «وإنْ رأت الدم یثقب الکُرسف، اغتسلت للظهر والعصر، تؤخّر هذه وتعجّل هذه، الحدیث»(1) .

منها: روایة عبداللّه بن سنان، فی الصحیح عن الصادق علیه السلام ، قال: «المرأة المستحاضة تغتسل التی لا تطهر عند صلاة الظهر، وتصلّی الظهر والعصر، ثم تغتسل عند المغرب، فتصلّی المغرب والعشاء، ثم تغتسل عند الصبح فتصلی


1- وسائل الشیعة: الباب 1 من ابواب الاستحاضة، الحدیث 1 .

ص:408

الفجر، الحدیث»(1) .

منها: صحیحة زرارة المرویة مضمرةً، وهی: «... ثم صلت الغداة بغسل، والظهر والعصر بغسل، والمغرب والعشاء بغسل، الحدیث»(2) .

منها: مضمرة سماعة، قال: «المستحاضة إذا ثقب الدم الکُرسف، اغتسلت لکلّ صلاتین وللفجر غُسلاً، الحدیث»(3) .

منها: صحیحة الصحّاف المرویة عن الصادق علیه السلام ، فی حدیثٍ: «وتغتسل للفجر، وتغتسل للظهر والعصر، وتغتسل للمغرب والعشاء الآخرة، الحدیث»(4) .

منها: روایة عبد الرحمن بن أبی عبداللّه(5)، وروایة یونس بن یعقوب(6)، وروایة زرارة عن أحدهما(7) وروایة اسماعیل بن عبد الخالق(8)، وغیر ذلک من الأخبار. فوجوب ثلاثة أغسال لکلّ وقت من الاوقات الثلاثة فی المستحاضة الکبیرة مما لا اشکال فیه .

هاهنا عدة فروع ینبغی التنبیه علیها، وهی :

الفرع الاوّل : إذا ثبت کون الاستحاضة الکبری موجبة للاغسال الثلاث، فهل


1- وسائل الشیعة: الباب 1 من ابواب الاستحاضة، الحدیث 4 .
2- وسائل الشیعة: الباب 1 من ابواب الاستحاضة، الحدیث 5 .
3- وسائل الشیعة: الباب 1 من ابواب الاستحاضة، الحدیث 6 .
4- وسائل الشیعة: الباب 1 من ابواب الاستحاضة، الحدیث 7 .
5- وسائل الشیعة: الباب 1 من ابواب الاستحاضة، الحدیث 8 .
6- وسائل الشیعة: الباب 1 من ابواب الاستحاضة، الحدیث 11.
7- وسائل الشیعة: الباب 1 من ابواب الاستحاضة، الحدیث 12 .
8- وسائل الشیعة: الباب 1 من ابواب الاستحاضة، الحدیث 15 .

ص:409

یشترط فی وجوبها استمرار الدم الموجب لذلک الی العشائین، بحیث لو استمر الی الظهرین، فلا یجب علیها الاّ غسلان، وان لم یستمر الیهما، فلا یجب علیها الاّ غسلاً واحدا، وهذا هو القول الاول فی هذا الفرع، وهو المستفاد من کلام العلامة فی «القواعد» علی المحکی فی «الجواهر»، بل قال: وأصرح فیها عبارة «جامع المقاصد» کالمنقول عن «الروض»، وفی «الحدائق» أنّه الظاهر من الأخبار.

ولعلّ هذا القول هو المشهور فی المسألة .

والقول الآخر: کفایة ایجاب الثلاثة فی الاستمرار، أو الحدوث قبل فعل الصلاة، ولو بلحظة کما فی «الریاض»، حیث قال: «وتجب الثلاثة مع استمرار الکثیرة من الفجر الی اللیل، أو حدوثها قبل فعل الصلاة، ولو بلحظة، ومع عدم استمرارها أو حدوثها کذلک، فاثنان ان استمرار أو حدث الی الظهر، أو واحدٌ إنْ لم یستمر ولم یحدث کذلک».

انتهی کلامه علی ما فی «الجواهر» وهذا هو القول الثانی .

والقول الثالث: أنّه یکفی فی ایجاب الثلاثة، استمرار الدم ولو لحظة، بعد کلّ من غُسلی الصبح والظهرین مثلاً، ما لم یکن الانقطاع للبرء، کما أنّه یکفی فی ایجاب الغُسلین، استمرار الدم ولو لحظة بعد غُسل الصبح، ومع عدمها فغسلٌ واحد. وهذا هو قول صاحب «کشف اللثام» ناسبا له لصاحب «التذکرة»، بل هو مختار صاحب «الجواهر»، حیث قال بعد نقل هذا القول: قلت الاخیر لا یخلو عن قوة. وهذا هو القول الثالث فیها، بل أضاف الیه صاحب «الجواهر» وجها رابعا بقوله: «لولا خوف الاجماع علی خلافه، واشعار بعض الأخبار، وهو امکان القول بایجابه الاغسال الثلاثة، وإنْ لم یستمرّ لحظة بعد الغُسل، فیکون هذا الدم حدثا بمجرد حدوثه للأغسال الثلاثة وان لم یستمرّ أصلاً».

فیصیر هذا قولاً رابعا فی هذا الفرع.

ص:410

اقول: ان القول الاوّل بلزوم الاستمرار والدوام، لایجاب کلّ غُسل، بأن یکون له السیلان الی أن یبلغ الفجر، ثم تغتسل وتصلّی الغداة، وهکذا لو استمر السیلان الی وقت الظهر، فیجب علیها الغُسل للظهرین، وهکذا لو استمر السیلان الی وقت المغرب والعشائین، بحیث یکون الاستمرار فی جمیع الاوقات شرطا لایجاب الثلاثة. فانّ هذا مما لا یمکن المساعدة علیه، لأنّ الأخبار لا یفهم منها ذلک، خصوصا علی الشرطیة.

نعم، لا یبعد شمولها لمثلها بطریق الأولویة، ولکن اثبات انحصار ایجاب الثلاثة علیه غیر مقبول، بل دعوی ظهور الاحتشاء والاستذفار والاستشفار علیه ممنوعة، لانّه لا یمکن اثبات الشرطیة بمثل هذه التعابیر، لامکان دعوی مثل ذلک فیما إذا کان الدم کثیرا علی هذه الکیفیة، لکن کان دفقه وخروجه لفترة قصیرة مثل الساعة الواحدة او دقائق معدودة، بل یمکن أن ندعی ذلک حتّی من قوله علیه السلام فی خبر الصحاف: «یسیل الدم من خلف الکُرسف صبیبا لا یوقأ، فانّ علیها أنْ تغتسل فی کلّ یوم ولیلة ثلاث مرات»

حیث أنّ المراد من (الصبیب) و إنْ کان هو الدم الکثیر خاصة اذا لاحظنا مدلول کلمة (یرقأ) بالهمزة التی هی بمعنی یسکن، فیکون المعنی المستفاد من الخبر کون الدم کثیرا لا یسکن؛ الاّ أنّه لا یفهم منه کونه کذلک دائما فی جمیع ساعات النهار، بل ینطبق هذا العنوان فیما إذا کان کذلک فی الجملة فیما بین کلّ غسل الی غسل آخر، فتصلی بینهما.

فدعوی الانحصار فی خصوص الدوام مما لا یقبله الذوق الدقیق العرفی، المناسب مع لسان الاخبار.

فان کان المقصود من الاستمرار فی کلام المشهور هذا المعنی، فباطلٌ قطعا، لعدم مساعدة الاخبار علیه، بل لا یظهر من کلامهم ذلک ولا صراحة فیه .

ص:411

و مثله فی الضعف ما ادّعاه صاحب «الجواهر» فی آخر کلامه، من کون صرف الوجود من الاستمرار کافیا فی ایجاب الثلاثة، حیث أنّ فهم ذلک من الأخبار ممنوعٌ، خصوصا مع ملاحظة بعض التعابیر الواردة فی الخبر مثل الاحتشاء والاستثغار والاستذفار، التی قد فسرّ بأنّ الاحتشاء هو ادخال شی ء من الکُرسف فی مخرج الدم لمنع الدم عن الخروج، والاستثغار استفعال من الثغر _ بالثاء المثلثة _ مصدر قولک: استثغر الرجل بثوبه، إذا أدخل طرفیه بین رجلیه الی حُجزته _ بضم الحاء وسکون الجیم والزاء المعجمة _ وهی معقد الإزار، بمعنی أنّها تأخذ خرقه طویلة عریضة تشدّ أحد طرفیها من قدام، وتخرجها من بین فخذیها، وتشد طرفها الآخر من ورائها، بعد أنْ تحتشی بشی ء من القطن، لتمتنع به من سیلان الدم، اذ من المعلوم أنّ فعل هذه الامور، لا یکون الاّ عند استمرار الدم وسیلانه لفترات طویلة لا لفترة قصیرة کالساعة، بل قد یستانس للذهن استمراره فی مدة طویلة، ولو بالدفعات المتکررة فی الیوم .

کما أنّ ما استظهره صاحب «الریاض» علی ما استفاده المحقق الهمدانی من کلامه، من کون الملاک المستفاد من الأخبار، هو أنّ الواجب ملاحظة وظیفة کلّ حالة عند وجود تلک الحالة فی وقت الصلاة _ الذی هو وقت الخطاب بتلک الوظیفة _ لا مطلقا، فلو رأت دما کثیرا بعد الفجر، فانّه یجب علیها اتیان الغُسل لفریضة الصبح، ولو رأت بعد الظهر یجب الغسل للظهرین، وبعد المغرب غُسلٌ للعشائین، أما اذا رأت الدم الکثیر فی غیر هذه الاوقات، فلا شی ء علیها.

و لذلک أورد علیه الهمدانی قدس سره بقوله: إنّ هذا أوهن من سابقه، اذ لیس فی شی ء من الأخبار ما یُشعر باختصاص سببّیة الاستحاضة للغسل بما إذا حدثت فی اوقات الصلاة.

ولکن العبارة المحکیّة فی «الجواهر» نقلاً عن «الریاض» یمکن توجیهها بما

ص:412

لا یرد علیه؛ مثل ذلک، والیک نصّ عبارته حیث قال : «وتجب الثلاثة مع استمرار الکثیرة من الفجر الی اللیل، أو حدوثها قبل فعل الصلاة ولو لحظة، ومع عدم استمرارها أو حدوثها کذلک، فاثنان إنْ استمر، أو حدث الی الظهر، أو واحد إنْ لم یستمر ولم یحدث کذلک» انتهی.

بأن یقال: انّ المراد من القبلّیة بالنسبة الی الصلاة، هی القبلیة بعد دخول الوقت أو الاعمّ، فان اُرید الاوّل فیرد علیه ما ذکروه، و لا یخلو ظهوره فیه.

واما إنْ ارید منه الثانی، فیصدق علیه القبلیة اذا رأت دما کثیرا بعد صلاة الصبح، وقبل وقت الظهر، فیجب علیها الغُسل للظهر، لأن الدم قد ظهر قبل الصلاة، لکنه خلاف لظاهر کلامه.

فالاشکال وارد علیه، لأنّ دخول الوقت لا مدخلیة فیه لسببیة دم الاستحاضة للغُسل، کما لا یخفی .

فظهر أنّ الاقوی عندنا هو لزوم الاستمرار _ ولو بلحظة _ بعد کلّ غُسل وقع لذلک الحدث، بخلاف ما لو لم تر شیئا من الدم بعد الغسل الی اللیل، وبعد ما غسلت للصبح، فانّه لا یجب حینئذٍ علیها الغُسل للظهرین والعشائین.

وهذا هو المستفاد من الأخبار، وهذا لا ینافی صدق الاستحاضة الکثیرة للمستمرة الدم من الصبح الی اللیل، بل هو القدر المتیقن من الأقوال، کما هو واضح. بل قد استدل لکون الغُسل واجبا لأجل حدوث الدم بعد الغُسل، بروایة الجعفی حیث قال فی حدیثٍ: «فاذا هی رأت طهرا (الطهر) اغتسلت، وإنْ هی لم تر طهرا اغتسلت واحتشت، ولا تزال تُصلّی بذلک الغُسل حتّی یظهر الدم علی الکُرسف، فاذا طهر (ظهر) أعادت الغُسل، وأعادت الکرسف»(1) .


1- وسائل الشیعة: الباب 1 من ابواب الاستحاضة، الحدیث 10 .

ص:413

بأن یقال: بأنّ المراد من قوله علیه السلام : «لا تزال تُصلّی بذلک الغُسل حتّی یظهر الدم علی الکُرسف، فاذا ظهر أعادت الغُسل» هو جواز الاقتصار علی الغُسل السابق، ما لم یظهر الدم علیه، فمتی ظهر _ سواء کان الظهور قبل وقت الصلاة أو بعده _ یجب علیها اعادة غسلها .

هذا، ولکن هذا إنّما یصح إذا حملنا الخبر علی هذا التفسیر، ولکن یحتمل أنْ یکون المراد فی تبدیل حالتها من رؤیة الدم من المتوسطة الی الکثیرة، یعنی إذا ظهر الدم علی الکُرسف، وعلمت أنّها صارت مستحاضة کثیرة، تجب علیها ما هو وظیفتها فی الکثیرة _ من ایجاب الثلاثة بها، أو وجوبها بعد ما رأت الدم فی وقت کلّ واحدة من الصلوات، أو إذا استمر الدم علیها _ کلٌّ علی حسب مذهبه، فلا تکون الروایة حینئذ مرتبطة ببحثنا.

نعم لو اُرید منها الاعمّ، بأن یراد أنّ ظهور الدم علیه موجبٌ لوجوب الغُسل حدوثا _ وذلک من جهة تغییر حالتها من المتوسطة الی الکثیرة _ وبقاءً _ لانها تعدّ مستحاضة کثیرة _ فله وجه.

ولکنه لا یعدّو کونه مجرد احتمال، ومعلومٌ أنه اذا جاء الاحتمال بطل الاستدلال. وکیف کان فانّ دلالة ظهور بعض الأخبار بکون الدم وظهوره یعدّ حدثا موجبا للغُسل، مما لا یخفی علی المتأمل فی الأخبار.

بل لا یبعد أنْ یکون الأمر کذلک فی القلیلة أیضا، یعنی إذا رأت المستحاضة الدم بالکیفیّة المتعلقة بها أوّل الصبح، فعملت بوظیفتها، ثم لم تر الدم حتی صباح الیوم الثانی، وکانت منذ البدایة تعلم أنّها سوف تری الدم غدا، فهل یجب علیها حینئذٍ اعادة الوضوء لکلّ صلاة، حتّی فی الغرض المذکور، أم لا یجب الاّ مع فرض الرؤیة لا مطلقا؟

الظاهر هو الثانی، وإنْ کان الأوفق بالاحتیاط فی کلا الموردین هو الاول، أی

ص:414

الاتیان بالغُسل والوضوء لکلّ صلاة ولو لم تر الدم واللّه هو العالم بالحقائق.

ثم إنّه قد استدل صاحب «الجواهر» بقوله: «نعم، قد یتجّه _ بناء علی المختار _ عدم الفرق بین کون الانقطاع للبرء وعدمه، إذا لم یتبعه غُسلٌ بعد انقطاعه، کما إذا انقطع للبرء بعد فعل الصلاة مثلاً، ولم نقل بوجوب اعادة الطهارة والصلاة، أو کان فی خارج الوقت بالنسبة للصبح مثلاً، سیّما بعد ثبوت کون هذا الاستمرار من دم الاستحاضة حدثا، وعدم ثبوت إجزاء الغسل المتقدم علیه عنه . اللّهم الاّ أن یثبت اجماعٌ علی عدمه، والظاهر عدمه. الی أنْ قال: علی أنّه لم یعقل الفرق بین الانقطاع للبرء وعدمه، لأنه إنْ کان الموجب للغُسل انّما هو ما وقع من الحدث قبل انقطاعه، فهو موجود فی الحالتین، والاّ فلا تفیده ما تجوز مجیئه من الحدث. اللّهم الاّ أنْ یقال ببقاء وصف المستحاضة کبری مثلاً فی الثانی، دون الاول، وللنظر فیه مجالٌ، سیّما مع عدم اطمئنانها بالعود، فتأمّل جیّدا»، انتهی(1) .

أقول أولاً: إنّ ما ذکره من عدم الفرق، إنّما یصحُّ علی فرض التسلیم علی ما ذکره فی آخر کلامه، بأن یکون صرف وجود حدث الأکبر بالاستمرار، موجبا لایجاب الثلاثة دون ما ذکره قبله، بأن یکون المسبّب هو وجود الدم بعد کلّ غسل من الصبح والظهر، حیث أنّه لا یکون وجوب الغُسل الاّ للدم الحادث بعد الغُسل، فلا فرق فی ایجابه حینئذ الغسل بین کون الانقطاع للبُرء أو غیره، لأنّه إذا تحقق السبّب فلابدّ من تحقق المسبّب، ولا یرتفع الاّ بالغسل بعده، کما لا یخفی .

وثانیا: بما قد تفطّن الیه صاحب «الجواهر» نفسه من امکان الفرق، من حیث کون صرف وجوده موجبا لایجاب الثلاث، مشروطا بعدم کون الانقطاع للبرء، والاّ یجب علیها غسل واحد بعد رؤیتها للدم، ولکنه یحتاج الی دلیل یدل علیه


1- جواهر الکلام ج3/331 _ 330 .

ص:415

ویستظهر منه .

فی أحکام الاستحاضة / الاعتبار بوقت کمّیّة الدم

الفرع الثانی : اختلف فی أنّ الاعتبار فی کمیّة الدم من قلّته وکثرته، هل هو بوقت الصلاة أو أنه کغیره من الأحداث بأن یکون إذا حصل ولو للحظةٍ یکفی فی وجوب موجبه، سواءً حصل فی وقت الصلاة أو فی غیرها، إذا لم یتعقبه الغُسل بعده؟

علی قولین: أحدهما: للشهید الاوّل رحمه الله فی «الدروس» و«الذکری»، ونسبه الیه فی «جامع المقاصد» خلافا لما فی کتابه المسمی ب_«البیان».

وثانیهما: للشهید الثانی رحمه الله للشهید الاول فی کتابه المسمی ب_«البیان»، وصاحب «الجواهر»، والشیخ الاکبر والمحقق الآملی، وهو الاقوی، لما قد عرفت من کون دم الاستحاضة حَدَثٌ موجب للغسل _ إذا کان من القسم الثانی أو الثالث _ فی أیّ وقت حَصَل، سواء کان فی وقت الصلاة أو غیرها، غایة الأمر لزوم حدوثه قبل فعل الصلاة، حیث یجب الغُسل للصلاة، فتجب علیها الغُسل للظهرین بمجرد حصول الکثرة قبل الوقت، وإنْ طرأت القلة فیه، اذ من الواضح أنّ دخول الوقت لا دخل له فی تأثیر الاحداث ولا یکون شرطا لتاثیرها، بل هو الظاهر من خبر الصَّحاف المتقدم، من قوله علیه السلام : «ولتغتسل ثم تحتشی وتستذفر، وتُصلّی الظهرین، ثم لتنظر، فان کان الدم فیما بینها وبین المغرب لا یسیل من خلف الکُرسف، فلتتوضأ وتُصلّی عند وقت کلّ صلاةٍ.... ولا غُسل علیها. وإنْ کان الدم إذا أمسکت یسیل من خلف الکُرسف صبیبا لا یرقی، فانّ علیها أنْ تغتسل، الحدیث»(1) .

اذ من الواضح أنّ قوله علیه السلام : «فیما بینها وبین المغرب لا یسیل» یفید کون ظهور الدم فی ما بین الحدین یعدّ حدثا یوجب الغُسل، غایة الأمر أنّه إذا تحقق


1- وسائل الشیعة: الباب 1 من ابواب الاستحاضة ،الحدیث 7 .

ص:416

الحدث، کان منشاء أثره وظهوره، هو حصوله فی الوقت حیث یجب علیها الاتیان بالغُسل، لأجل الدم الحادث قبل الوقت.

فدلالة حدیث الصحاف علی ما ذکرناه أوضح من دلالته علی کون الدم الحادث فی وقت الصلاة حکمه کذا، حتی یقال إنّ قوله: «صبیبا لا یرقی» یدلّ علی لزوم بقاء الکثرة الی حین دخول وقت الصلاة، مع أنّ استفادة الشرطیة من هذه الجملة مشکل جدّا .

و یؤید ما ذکرناه ما ورد فی روایة عبد الرحمن من قوله علیه السلام : «فان ظهر علی الکُرسف، فلتغتسل»(1).

وما ورد فی روایة الجُعفی من قوله علیه السلام : «ولا تزال تُصلّی بذلک الغُسل، حتّی یظهر الدم علی الکُرسف، فاذا ظهر أعادت الغُسل»(2).

خصوصا إذا اراد من الظهور هو الأعم من تبدیل وضعها من المتوسطة الی الکثیرة أو للمتعدد فی الیوم، سواءً کان الظهور الموجب لاعادة الغُسل حادثا فی وقت الصلاة أم لا، ولأجل ذلک قال صاحب «الجواهر»: للاطلاق المتقدم من النصوص والفتاوی .

کما لا فرق فی کون السببیة للحدث الاکبر _ إذا تحقق قبل الوقت، من لزوم الغُسل لو تبدل الی القلة فی الوقت _ بین ما إذا انقطع للبرء، أم لغیر ذلک من العلل، لأنّه لا أثر فی وجود الحدث وتحققه الموجب للغُسل.

فالقید بالبرء الواقع فی کلام الشهید الاول فی «البیان» من قوله کما حکاه عنه صاحب «الجواهر»: «لو اختلفت دفعات الدم عمل علی أکثرها، ما لم یکن لبرءٍ»،


1- وسائل الشیعة: الباب 1 من ابواب الاستحاضة، الحدیث 8 .
2- وسائل الشیعة: الباب 1 من ابواب الاستحاضة، الحدیث 10 .

ص:417

لا یخلو عن نقاش، کما عرفت تفصیله .

و من هنا یظهر لک الحکم بأنّه لو کانت المستحاضة کثیرة، ثم عادت الی القلیلة، یجب علیها الغُسل، وإنْ کان العود الیها قبل وقت الصلاة، أو فی حینها قبل الاتیان بالصلاة، حتّی لو لم تغتسل للظهر عصیانا أو نسیانا، فانّه یجب علیها الغُسل، للعصر إذا لم یبق من الوقت الا للعصر، والاّ فیجب علیها اعادة الظهر بعد الغُسل، بل لا یبعد القول بوجوب الغُسل لقضاء الظهر، لو لم نقل بکفایة غُسل العصر للظهر القضائی، إذا جمعت بینهما.

ومثل ذلک یجری فی العشائین أیضا .

الفرع الثالث : فی بیان حکم انقطاع دم الاستحاضة، فی أقسامها المتصورة فیها، والتی لعلها تزید عن العشرة، فلا بأس بذکرها تفصیلاً، وبیان اقسامها، والأحکام المترتبة علیها ، فنقول ومن اللّه الاستعانة: الانقطاع یتصور علی عدة انحاء:

تارة: یکون للبرء، وتعلم به، أو یشک فیه.

واُخری: للفترة، مع العلم بها، أو مع الشک.

فنوجّه البحث أوّلاً الی صورة البرء، فهی أیضا علی أقسام:

القسم الاول: أنْ یکون الانقطاع للبرء، ولکنها علمت بذلک، لکن کان الانقطاع قبل الشروع باتیانها لواجبات الطهارة من الوضوء فی القلیلة، أو الوضوء مع الغسل فی المتوسطة والکثیرة.

فی أحکام الاستحاضة / أقسام انقطاع دم الاستحاضة

فلا اشکال حینئذ فی ترتب الأحکام علیه، من وجوب الوضوء فی القلیلة، والوضوء مع الغسل فی الکثیرة، بلا فرق فیه بین کون الانقطاع حدث فی وقت الصلاة أو قبلها، بناء علی ما عرفت فی التحقیق من عدم اعتبار تحققه فی الوقت، فی ترتیب أحکام الاستحاضة علیه.

نعم من شرط ذلک، فانّه یذهب الی ترتیب أحکام فی خصوص ما وجد منه

ص:418

فی وقت الصلاة .

وکیف کان، فالدلیل علی وجوب ترتیب الأحکام علیها هو أن الدم إذا وجد یقتضی ترتیب ما یترتب علیه، ولو بعد انقطاعه، کسائر الأحداث من الاصغر والاکبر، وهذا مما لا خلاف فیه ولا اشکال، بل ولم یوجد قول بنفی وجوب شی ء علیها فی هذه الصورة من الغسل والوضوء.

نعم، قد عرفت وجود الخلاف فی کون المدار فیه وجود الدم مطلقا _ کما هو المختار _ أو فی خصوص ما وجد فی الوقت، وکذلک وجود الخلاف فی أنّ الواجب علیها بعد الانقطاع فی غیر القلیلة، هو الوضوء فقط، أو هو مع الغُسل، کما قد قرر فی محلّه، اذ من الواضح أنّ الانقطاع بنفسه لا یزید فی حکم غیر ما یجب ترتبه علیها، لأجل الحدث، کما لا یخفی .

القسم الثانی: ما إذا حصل الانقطاع بالبرء، مع علمها به حال اتیانها لواجبات الطهارة من الوضوء أو الغسل وفی اثنائهما، فالواجب حینئذ استئناف تلک الطهارة من الوضوء أو الغسل.

وهذا هو المعروف بین الاصحاب، ولم یروی الخلاف فیه عن أحد.

والدلیل علیه: أنّ وجود الدم فی حال الطهارة الی زمان الانقطاع، یعدّ حدثا قطعا، لما قد عرفت من دعوی الاجماع علی حدثیته من العلاّمة فی «المختلف».

نعم لو کان الدم مستمرا الی آخر فترة الطهارة، وورد الدلیل علی کونه مفعوا، فانه یختلف الأمر، وأمّا المنقطع منه فی الاثناء، الذی قد ارتفعت به الضرورة بانقطاعه، لم یرد دلیلٌ علی کونه معفوّا، فیجب حینئذٍ ملاحظة مقتضی الأصل والقاعدة، فیصیر حکم الدم فی اثناء الطهارة، حکم البول إذا وجد فی اثنائها، حیث لا اشکال فی انه مزیلا للطهارة إذا لم تکن الضرورة مقتضیة لاعتبار عدم حدثیته البول الخارج کما فی المسلوس أو المبطون .

ص:419

فاذا ثبت حدثیته، فانّه فتجب ازالته للاقدام علی اتیان الاعمال المشروطة بالطهارة، وهی لا تحصل الاّ باستئناف الطهارة .

القسم الثالث: ما إذا حصل الانقطاع بعد الطهارة، وقبل الشروع فی الصلاة، فهل یجب علیها الاستئناف ام لا؟

فالمشهور _ کما فی «الطهارة» _ عدم کفایة هذه الطهارة، ووجوب استئنافها، بل فی «الجواهر» استظهار الاتفاق علی لزوم الاعادة.

بل فی «الذکری»: لا أظنّ أحدا قال بالعفو عن هذا الدم الخارج بعد الطهارة مع تعقب الانقطاع، إنّما العفو عنه کان مع قید الاستمرار .

خلافا للمحکیّ عن «المعتبر» و«الجامع»، حیث قال فی الاوّل: یمکن أنْ یقال ان خروج دمها بعد الطهارة معفوٌ عنه، فلم یکن مؤثرا فی نقض الطهارة، والانقطاع لیس بحدثٍ.

مضافا الی امکان الاستدلال باطلاق ما دلّ علی أنّ المستحاضة، بعد الاتیان بما علیها من الوظیفة، تکون بحکم الطاهر، حیث أنّه یشمل ما إذا استمر الدم عنها الی آخر الصلاة، أو انقطع ولو قبل الصلاة .

مضافا الی استصحاب الطهارة، لو شک فی بقائها عند انقطاع الدم بعدها، وباستصحاب العفو، وقاعدة الإجزاء، مع امکان المنع عن حدثیة دم الاستحاضة علی وجه العموم، وعدم الفرق بین انقطاع الدم بعد الصلاة وبین انقطاعه قبلها.

وفی «الجواهر» بعد نقل ما ذکرناه عن المحققین، قال: «لکن الانصاف أنّه لایخلو من قوة، لولا ظهور اتفاق الأصحاب علی عدمه، کما سمعته من الشهید فی «الذکری»، إذ یمکن تأییده مع عدم اشارة فی شی ء من النصوص الیه، بما سیاتی من قولهم: «اذا فعلت المستحاضة ما یجب علیها، کانت بحکم الطاهر» الی آخر ما ذکرناه من الاستصحابین المتقدمین، وقاعدة الإجزاء، مع عدم تصور الفرق

ص:420

بین الانقطاع بعد الصلاة وبین الطهارة وبینهما» .

هذا، ولکن الحقّ هو ما علیه المشهور من اتفاقهم، کما عن الشهید قدس سره ، لما قد عرفت من اتفاق الأصحاب علی حدثیة دم الاستحاضة، کسائر الأحداث، فالقاعدة تقتضی المشی علی حدثیته الی أن تقوم لها الدلیل علی خلافه، فترفع الید عن مقتضاها قدر دلالة الدلیل، والدلیل الوارد هنا لیس الاّ النصوص السابقة، من الأمر بالوضوء فی القلیلة، أو الوضوء مع الغُسل صباحا فی المتوسطة، أو مع الثلاثة فی الکثیرة.

ولکن هذا الحکم ثابت فیما اذا کانت المرأة المتلبسة بالاستحاضة وعند استمرار سیلان دمها بعنوان الاستحاضة، لا ما إذا انقطعت عنها الاستحاضة، أو ظهر انقطاعها بالبرء، ففی هذین الموردین لاتشملها الدلیل، وعلیها الرجوع الی القاعدة، وهی تفید انها محدثة، فیجب علیها مراعاة واجبات المحدثة.

ومع وجود مثل هذه القاعدة، لا یبقی مورد للقول بأنّ المستحاضة إذا عملت بوظیفتها تکون کالطاهرة، لأن المفروض کون الوظیفة هنا هی حدثیتها بحدث الاستحاضة، غیر ما عملت به سابقا، ولذلک یجب علیها حینئذ الاتیان بالوضوء مجددا إنْ کانت من النوع المستحاضة القلیلة، أو هو مع الغسل لو کانت متوسطة، أو کثیرة، لا الوضوء خاصة.

کما أنه یوافقنا فیه صاحب «الجواهر» علی فرض قبول أصل لزوم الاعادة، بل هو مختار الشهید فی «الذکری» و«البیان»، والمحقق الثانی و غیرهم.

وکیف کان، فانّ الوظیفة بعد الانقطاع للبرء، _ لا قبل الانقطاع کما حاولوا اثباته فی المقام _ هی اعادة الطهارة، فاذا قامت باحضار ما هو واجب علیها من الواجبات، صارت بحکم الطاهرة .

و مما ذکرنا ظهر عدم تمامیة الاستصحابین، لأنک قد عرفت شمول دلالة

ص:421

عموم حدثیة دم الاستحاضة فی الدم المنقطع، لما ذکرنا من أنّ الطهارة والعفو الثابتین بالنصوص، کان للدم المستمر، لا للمنقطع.

کما ظهر هنا أیضا عدم تمامیة جریان قاعدة الأجزاء، لأنّ المفروض أنّه ما لم تعد الطهارة لم تکن ممتثلة للمأمور به، اذ الاتیان بالمأمور به علی وجهه منوط باعادة طهارتها، ومثل ذلک الدلیل الاجتهادی حاکم علی الاستصحابین.

فثبت بما ذکرنا، فساد القول بحصول الطهارة قبل الانقطاع، فیجب علیها اعادتها قبل فعل الصلاة، نظیر ما لو انقطع الدم اثناء الطهارة .

القسم الرابع: ما لو حصل الانقطاع بسبب البرء فی أثناء الصلاة، مع فرض علمها بذلک، فهل یوجب ذلک فساد الصلاة أم لا تبطل، ویحکم بصحتها وتحقق الامتثال. أو عدم البطلان، ولکن لابد من تجدید الطهارة أثناء الصلاة، والبناء علی ما سبق؟

وجوهٌ وأقوال: وقد ذهب الی القول الاوّل ابن ادریس فی «السرائر» والشهید فی «الدروس»، والمحقق فی «جامع المقاصد» وصاحب «الجواهر»، حیث قال بعد ذلک: وهو فی محلّه.

وذهب الی الثانی الشیخ فی «المبسوط»، والشهید الاول فی «البیان».

وذهب الی الثالث _ علی احتمالٍ _ الاستاذ الأکبر فی «شرح المفاتیح»، وان قال صاحب «الجواهر» بانه لم یفتر علی قائل به، ولعلّه لعدم امکان هذا البناء فی بعض الصور، مثل ما لو کانت متوسطة أو کثیرة، ولابد علیها أن تغتسل ثم تصلّی، فانه لا یجتمع الغُسل معها، کما هو واضح.

ولو سلّمنا امکان تجدید الوضوء فیها، أو الاتیان بالتیمم فیما وظیفتهما ذلک فانّ ذکر ذلک، کان من باب الاحتمال، نظیر المبطون والمسلوس.

فالعمدة فی المقام هما القولان، فقد استدلوا للصحة علیها بأمور وهی:

ص:422

أوّلاً: بدلیل عموم العفو.

وثانیا: باستصحاب الصحة، لأنه قد شرع الصلاة مع العمل بالوظیفة، وکان مشروعا له ذلک، فیستصحب ذلک بعد الانقطاع.

وثالثا: إنّ الانقطاع فی الاثناء کان مثل وجدان الماء للمتیمم فی أثناء الصلاة، حیث لا یوجب بطلانها، بل یتمها کذلک، فهکذا یکون فی المقام.

هذا، فضلاً عن الدلیل الوارد بالنهی عن الابطال، فی قوله تعالی:«ولا تُبْطِلُوا أعمالَکُم»(1) .

هذا، ولکن فی الجمیع نظر:

فأما عن دلیل عمومیة الحدث، فقد عرفت أنّه کان للمستمرة الدم لا للمنقطع دمها، فاذا لم تشملها عمومه، فیدخل المقام تحت القاعدة المقتضیة کونها محدثة بحدث جدید، فلابد لها من تحصیل الطهارة له، فان کان المورد مما قد ورد دلیلٌ علی جواز البناء علیه، وتجدید الطهارة مما قد أمکن تحصیلها فیها _ مثل الوضوء أو التیمم _ فتعمل به، والاّ لابدّ من القول بفساد الصلاة، لأنّ جواز البناء ولزوم التجدید فی الاثناء، یعدّ أمرا خلاف الاصل والقاعدة، فلابد فیه من الدلیل المجوزّ، وهو مفقودٌ فی المقام، فلا سبیل لنا الاّ الحکم بفساد الصلاة .

فاذا ثبت کون الانقطاع للبرء موجبا لحدثیة الدم، وکونها محتاجة لتحصیل الطهارة مجدّدا، فلا یبقی مورد حینئذ لاجراء استصحاب الصحة، لأن الدلیل الدال علی الحدثیة، حاکمٌ علی استصحاب الصحة، کما عرفت.

کما أنّ قیاس المقام بوجودان الماء للمتیمم فی اثناء الصلاة، قیاسٌ مع الفرق، لوضوح أنّ وجدان الماء لا یکون حدثا، غایته افادة رفع الإجزاء عن الأمر


1- سورة محمد: آیة 35 .

ص:423

الاضطراری، ولکن اذا کان البدء وادمة العمل بدلیل مجوّز، فیجوز اتمامه کذلک، ولا یبطل، خصوصا إذا قلنا بجواز البدار بدایة وحین الشروع فی العمل، فی أول الوقت. هذا، بخلاف المقام، حیث أنّ الدلیل بنفسه یدلّ علی أن الانقطاع یوجب کون دم الاستحاضة حدثا، ولا یشمله دلیل العفو، لکونه مخصوصا للمستمر دمها، فلا محالة تعدّ طهارتها منقوضة وفاسدة، فلابد من تجدیدها، فتصیر الصلاة فاسدة لفقد طهارتها، کما لا یخفی .

وامّا دلیل الابطال، فاوّلاً: هنا بطلان قهریٌ _ لأجل فقد الطهارة _ لا ابطال، حتّی یشمله دلیل الابطال.

وثانیا: إنّ الآیة یحتمل أنّ تکون نازلة فی حقّ المرتد الذی یوجب ارتداده بطلان اعماله وعباداته السابقة، فیکون المراد هو النهی عن الارتداد الموجب لابطال الاعمال، وحبطها، فلا تکون متعلقة وواردة لما نحن نبحث عنه.

وثالثا: إنّه مربوط بما إذا لم یرد دلیلٌ علی الابطال، إنْ سلّمنا کونه ابطالاً لا بطلانا. فالآیة غیر مربوطة بما نحن فیه.

نعم، الاجماع قائم علی حرمة ابطال العمل وقطعه، وهو أیضا إنْ سلمنا کونه إبطالاً، فانها تتعلق بغیر ما نحن فیه، لانّه دلیلٌ لبّی یجب الاقتصار فیه علی القدر المتیقن، وهوغیر مورد ا لانقطاع .

فاذا لم تتم الأدلة علی اثبات الصحة، فلا سبیل لنا الا القول بفساد الصلاة، کما علیه المشهور.

الاّ أنّ الاحوط هو الاتمام رجاءا، ثم الاستئناف بعد الطهارة، وذلک اقتضاءً لاثر الشیخ رحمه الله وغیره من الاعلام، حیث یعدّ الاحتیاط طریق النجاة.

القسم الخامس: ما إذا کان الانقطاع بعد الصلاة، ففی وجوب اعادة الصلاة بعد تحصیل الطهارة وعدمه، وجهان بل قولان: والأکثر قد ذهب الی الاوّل، کما هو

ص:424

الظاهر من کلام السیّد فی «العروة»، وکثیر من أصحاب التعلیق علیها.

وذهب آخرون الی عدم الوجوب، مثل صاحب «الجواهر» والشیخ الاعظم، وکاشف الغطاء، والعلامة البروجردی.

وقد تمسک واستدل القائلون بعدم وجوب اعادة الصلاة بدلیل اصالة الصحة، وانّها قد عملت بما هو وظیفتها، فالامتثال قد حصل وهو یقتضی الإجزاء عند اطلاق الادلة، لأنّ الواجب المطالب به فی حال العُذر والاضطرار، هو العمل الذی قامت باتیانها، به فالأمر إذا امتثل فی محلّه یوجب سقوط الأمر المتوجه الیه، یسقط فلا وجه للحکم بوجوب الاعادة .

و لکن الدقة والتأمّل یفید الحکم بوجوب الاعادة، خصوصا اذا کان الوقت باقیا، مع أنه لا فرق فی وجوب الاعادة، بین الاداء والقضاء، لأنّ المفروض کشف الخلاف، وظهور فساد الطهارة الاولی، أی کانت طهارة متخیّلة لا واقعیته، والصلاة المأتی بها کانت صلاة من دون وجود شرط الطهارة فیها، مع تخیّل وزعم وجود الطهارة، فلا وجه للحکم لصحتها، الاّ من جهة کونها مضطرة بمثل تلک الطهارة فی أوّل الوقت، ثم بأنّ لها ان المامور بها لم تکن الفعل المأتی به، بل بالاتیان بالطهارة الواقعیة، مع کون الوقت باقیا، فمع امکان احضار الفرد الاختیاری، لا وجه للقول بکفایة الفرد الاضطراری، حتّی علی القول بجواز البدار، لامکان کون جوازه فیما إذا لم ینکشف الخلاف فی الوقت لا مطلقا.

فالقول بوجوب الاعادة _ کما علیه الأکثر _ لا یخلو عن قوة.

فقد ظهر مما ذکرنا عدم تمامیة قول من ابتنی الصحّة والبطلان، علی القول بجواز البدار وعدمه، کما نقل ذلک عن صاحب «رسالة الدماء الثلاث»، لما قد عرفت من عدم وجود التفاوت فیما هو المقصود بین القولین .

فمن جمیع ما ذکرنا _ وجوب الاعادة للطهارة والصلاة _ ظهر حکم من

ص:425

انکشفت لها أنّه قد انقطع الدم قبل ذلک للبرء، وهی غیر عالمة به، وقامت باحضار فعل الطهارة بزعم کونه مستمرا، فحینئذٍ لافائدة فی تلک الطهارة، بل لابد لها من تحصیل الطهارة للمنقطع.

اللّهم الاّ أن یقال: إنّه زعمت وکانت قاصدة لتلک الطهارة، ولکن فی الحقیقة حیث کان علیها احضار طهارة من نوع خاص، وهی طهارة المنقطعة لکنها أخطأت فی التطبیق وظنت نفسها غیر منقطعة وأنّ دمها مستمرة، ولکنّها کانت فی کل الاحوال تقصد احضار الفعل المأمور به والأمر المتوجه الیها.

نعم إذا اتی بوظیفة دم المستمر، ثم رأت الدم بعده لمرة واحدة وانقطع للبرء، ولم تأت بوظیفته الثانیة، لعدم علمها بذلک، فللحکم بالاعادة من الطهارة والصلاة _ بعد کشف الخلاف _ وجه وجیه، وهذا هو مراد من یقول بوجوب الاعادة فی صورة کشف الخلاف، فلیتأمّل .

ثم إنّه بعد أن ذکرنا حکم الفروع السابقة، نعود الی البحث عن أصل الحکم فی المقام، فنقول:

بعد أن قلنا بوجوب اعادة الطهارة والصلاة، فانّه لا اشکال فی حکمها بالنسبة الی الصوم، لانّها إذا اعادت الطهارة، وصارت متطهرة للصلاة والصوم معا، فلا اشکال فیه. والذی ینبغی أنْ یبحث فیه هو ما لو قلنا بمقولة صاحب «الجواهر» ومن تبعه، من عدم وجوب اعادة الصلاة والطهارة، فحینئذٍ هل یجب علیها تحصیلها للصوم أم لا؟ فیه وجهان، بل قولان: قول بالوجوب، وهو مختار الشهید الاول فی «الذکری».

وقول بالعدم، وهو المستفاد من کلام صاحب «الجواهر»، حیث قد تنظّر فی کلام الشهید رحمه الله من جهة تبعیّة الصوم للصلاة، فلا یجب تحصیل الطهارة له مستقلاً، ثم قال: فتأمّل .

فی أحکام الاستحاضة / انقطاع الدم الناشئ من الفترة

ص:426

ولعلّ وجه التأمّل، کان لأجل أنّ وجه عدم وجوب اعادة الصلاة مسببٌ عن تحقق الطهارة التی تعدّ رافعا للحدث _ ولو لأجل الاضطرار المتخیّل لها _ ومع وجودها فانه تجری قاعدة الإجزاء بالنسبة الی الصلاة المؤداة، ولازمهما حصول الطهارة المشروطة فی الصوم أیضا، وبناءً علی هذا لا تحتاج المستحاضة الی اعادة الطهارة مرة اُخری لأصل الصوم ، لانها تعدّ تحصیلاً للحاصل.

وامّا إنْ قلنا بکفایتها هناک، لأجل تلک الصلاة التی کانت فی تلک الحالة داخلة تحت قاعدة الأجزاء لا مطلقا، فشمول تلک الطهارة للصوم، لا یخلو عن تأمل، بل یجب علیها اعادتها، لا لخصوص الصوم، بل حتّی بالنسبة الی سائر الصلوات، فلذلک نقول بأنّ الأحوط علیها هو اعادتها للصوم تحصیلاً لما هو الواجب تحصیله، وقضیة للقطع بفراغ الذمة، واللّه العالم.

هذا تمام الکلام فی الانقطاع الحاصل من البُرء والشفاء، وبیان أحکام أقسامه الخمسة وما الحق بها من الفروع.

حکم انقطاع الدم عن المستحاضة الناشی ء من الفترة:

وهو أیضا یکون علی أقسام، وهی:

تارة: تکون الفترة بحیث لم تکن تسع للطهارة والصلاة ففیها.

فلا اشکال فی کفایة الطهارة السابقة للصلاة، لأنّها لا تقدر _ علی الفرض _ باتیانها فارغة عن الحدث، فتکون مضطرة للاکتفاء بتلک الطهارة مع استمرار الدم.

وما ورد فی کلام الشیخ فی «المبسوطه» و«الخلاف» _ کما عن «الاصباح» و«المهذّب» _ من الاطلاق ایجاب الوضوء للانقطاع، سواء کان للبرء والشفاء أم لا، إذا کان الانقطاع قبل الشروع فی الصلاة .

یُحمل علی غیر هذا المورد، اذ لا وجه لایجاب الوضوء، أو الوضوء مع الغسل بغیر ما عملته اوّلاً، بعد فرض کونها مضطّرة فی ذلک، حیث لم تکن الفترة

ص:427

موسعة حتی تتمکن من اتیان الطهارة والصلاة ثانیة .

نعم، والذی ینبغی البحث عنه، هو فیما إذا کان الانقطاع حاصلاً فی فترة تسع لاتیانهما دون استمرار الدم، وهو القسم الثانی، ففی ذلک یأتی البحث عن کفایة ما أتت بها من الطهارة قبل الانقطاع بالنسبة الی حال الانقطاع والفترة، فیه وجهان بل قولان: قول: بوجوب الاعادة، کما هو الأقوی عند صاحب «الجواهر»، وفاقا للشهید الثانی والمحقق الثانی، والعلامة فی «نهایة الأحکام».

وقول: بالعدم کما نسب ذلک صاحب «الجواهر» الی بعضهم، وقال: وهو ضعیفٌ، لأنّهم استدلوا علی عدم الوجوب، بأنّ المستحاضة عند انقطاع دمها فی هذه الفترة تعدّ محدثة لادامة حدثها السابق، فحکمها فی هذه الفترة حکم النقاء المتخلل فی أیّام الحیض، حیث أنّه حیضٌ، لکونها فی الواقع حائضا. فالحدث فی المقام غیر مرتفع عن هذه المستحاضة، فلا اثر للفترة فی الانقطاع، فلا تجب علیها الاعادة .

وفیه: و لکن هذا الاستدلال ممنوعٌ، مخدوش لوضوح أنّ المرأة حینئذ لا تکون مضطّرة لاحضار الطهارة والصلاة، مع استمرار الدم المستوجب کونها محدثا، حتّی تشملها دلیل العفو، فاذا لم تشملها دلیل العفو، فلابد لها من العمل علی طبق مقتضی القاعدة، وهو الاتیان بالطهارة حال انقطاع الدم وفی الفترة، فلو طهرت حال الاستمرار، لابد من الاعادة.

وقیاس المقام بالنقاء المتخلّل فی أیّام الحیض غیر صحیح، ویکون مع الفارق، _ فضلاً عن بطلان القیاس فی مذهبنا _ لوجود الدلیل علی الالحاق فی الحیض دون المقام، ولولا الدلیل لما قلنا به فی الحیض أیضا، فضلاً عن المقام.

فالأقوی عندنا عدم الفرق فی الانقطاع، فی وجوب الاعادة، بین کونه للبرء والشفاء أو للفترة، فیترتب علی الفترة کلّ ما یترتب علی البُرء، فی جمیع تلک الصور .

ص:428

فعلی المختار من عدم الفرق بین الصورتین فی الانقطاع، فلا أثر حینئذ فی الشک بین کون الانقطاع للبرء أو للفترة، من حیث وجوب الاعادة.

نعم، یترتب فی الشک بین الموردین أثرٌ، وذلک لو قلنا بوجوب الاعادة فی أحدهما دون الآخر، فحینئذ یکون الشک فی ذلک راجعا الی الشک بین وجوب الاعادة والاستیناف وعدمه، حیث أنّ مقتضی اصل البراءة هو عدم وجوب الاعادة.

ولکن بعد التأمل والدقة، یظهر أنّه یصعب الحکم به، لأنّ الشغل الیقینی بالصلوات أمرٌ ثابتٌ، والفراغ منها بمثل هذه الطهارة التی تعدّ مشکوکة التحقیق، بالانقطاع المذکور غیر حاصل، مع کون مقتضی استصحاب بقاء الحدث _ الذی تکون رتبته مقدمة علی الشک فی الفراغ _ هو وجوب الاعادة. فاجراء أصل البراءة فی المقام، کما یظهر من کلمات البعض لا یخلو عن تأمّل .

نعم، لابد أن یکون حکم الشک المذکور _ الذی حکمنا فیه بوجوب الاعادة علی مختارنا _ حاصلاً فیما لو کان الشک بین کون الانقطاع للبرء أو للفترة، وأن تعلم _ علی تقدیر کونه للفترة _ أنّها تسع للطهارة والصلاة علی تقدیر ثبوتها، والاّ فلو جهلت بذلک، أو لم تعلم عدم سعتها لهما، أو کانت مشکوکة فی ذلک أیضا، فان شکها حینئذ یعود الی الشک وجوب الاعادة وعدمه، لأنّه إنْ کان الانقطاع للبرء أو للفترة الواسعة، فعلیها الاعادة، وانْ کان للفترة غیر الواسعة، فلیس علیها، وجوب الاعادة، فقد یقال بان الشک فی وجوب الاعادة هو عدمه، کما هو ظاهر من کلام صاحب «الجواهر»(1) والشیخ الاکبر، من أنّه لو شکت فی السعة وعدمها، مع العلم بکون الانقطاع للفترة، اذ هو مثل ما نحن فیه، فی کونه شکا فی وجوب الاعادة والاستئناف، واستدلا فیه بالاطلاق، ولزوم الحرج، قال فی


1- الجواهر: 3/335 .

ص:429

«الجواهر» فی هذه المسألة: «فانّه یحتمل القول بوجوب الطهارة، کما عساه یظهر من المنقول عن «نهایة الأحکام»، تمسکا باصالة عدم عوده، والاحتیاط لعدم العلم بصحة ما وقع من الطهارة الاولی .

ویحتمل العدم، تمسکا باستصحاب صحة ما وقع، واصالة عدم الشفاء، واستصحاب العفو عمّا وقع من الدم، ولعلّه الاقوی.

ومثل هذا الحکم، ما لو علمت أنّه لفترة، لکن لم تعلم أنّها تسع الطهارة والصلاة أو لا، بل لعلّ عدم وجوب الاعادة هنا أولی، لما فی التکلیف بمجرد هذا الاحتمال من المشقه والحرج، الذی لا یتحمل عادةً، مع أنّ الاصل مشروعیة هذا الحکم للتخفیف.

بل لعلّ الأخبار المکتفیة بافعال المستحاضة، ظاهرةٌ فیما قلنا، لتحقق الفترات غالبا، مع أنّها لم تعتبر فیما وصل الینا من الأخبار» انتهی(1).

وهذا هو مختار السیّد فی العروة فی المسألة الرابعة عشر .

و لا یخفی ما فی کلامهم من الاشکال، وذلک من جهة دعواهم الاطلاق _ أی أنّ الاطلاق یقتضی الحکم بصحة الطهارة الاولی، المشکوکة التحقق، بواسطة الشک فی کونها غیر واسعة _ مع أنّه لابدّ أن یحرز ذلک القید اولاً، حتّی نطمئن بتحقق الطهارة، ولکن الاطمئنان مفقود فی المقام، ووجود الفترات هنا حتی لو سلّمناها، لکن لا نسلّم کونها قلیلة غیر واسعة غایته، لامکان تحقّقها غالبا مع السعة، حیث لا تفید طهارتها حینئذ .

وأمّا التمسک بقاعدة الحرج، فممنوعٌ لما ذکرنا من عدم ثبوت الحرج النوعی فیه، أمّا الحرج الشخصی فان رفعه یدور مدار مقدار وجوده، وهو غیر مرتبط


1- الجواهر: 3/335 .

ص:430

بعموم الحکم، حیث یختلف باختلاف الاستحاضة واختلاف الحالات والازمنة .

مضافا الی ما عرفت من أنّه لا اشکال فی حدثیة دم الاستحاضة، فارتفاعها أو تحصیل ما یستباح بها الصلاة، لابد من احرازها، فانه بمجرد الشک فیه، یوجب الشک فی الفراغ عمّا قد تعلق بالذمه، فالقاعدة حینئذٍ تقتضی الحکم بالاشتغال لا البراءة.

هذا، فضلاً عن جریان اصالة تاخّر العود، وعدم ثبوت العفو عن مثل ذاک الدم.

ولأجل ذلک ذکرنا فی حاشیتنا علی «العروة» فی هذه المسألة، بأنّ الأحوط هو وجوب الاستئناف والاعادة، بلا فرق بین کون الشک فی الانقطاع بین کونه للبرء أو للفترة المرددة بین الواسعة وغیرها، وبلا فرق بین کون الانقطاع بالفترة معلوما، مع الشک فی کونها واسعة أو غیرها، وذلک لاشتراک الملاک بینهما.

و منه یظهر الحکم لو انکشف بعد الصلاة أو بعد الطهارة، کون الانقطاع کان علی نحو أحد تلک الوجوه، حیث أنّ حکم کلّ منها یظهر من حکم فعلیتها، من وجوب الاعادة وعدمه.

ولکن قد عرفت أنّ مختارنا فی أکثر تلک الموارد، هو الاعادة، فیکون الحکم فی حال الانکشاف أیضا کذلک.

واقتضاء الأمر الظاهری الاجزاء ونظائره، إنّما یصحّ فیمالم ینکشف، الخلاف وامّا إذا انکشف الخلاف، فالاکتفاء بتلک الطهارة و الصلاة مشکلٌ جدّا، واللّه العالم .

فی أحکام الاستحاضة / لو حدثت الاستحاضة الوسطی بعد صلاة الصبح

الفرع الرابع: فی أنّه لا اشکال فی أنّ الواجبات الثلاث من اعمال المستحاضة، أی الوضوء والغُسل وغیرهما، تعدّ شرطا للصلوات المتعقبة اللاحقة، دون الصلوات المتقدمة، مثلاً لو رأت المرأة الاستحاضة الکبری بعد صلاة الصبح، لا یجب علیها الغُسل شرطا لصحة الصلاة السابقة علیها، نعم یجب علیها احضار تلک الواجبات بالنسبة الی الظهرین، سواءً استمر الدم الی وقتهما أو لم یستمر، بناء علی عدم شرطیة حدوث الحدثیة لما بعد الوقت، کما هو المختار،

ص:431

و الاّ لا یجب علیها الغسل بالنسبة الی الظهرین اذا لم تکن تری الدم بعد حلول وقت الظهرین.

وکذلک یکون الحکم فی طرفیه من الاثبات والنفی بالنسبة الی العشائین، لو حدث الدم بعد الظهرین، حیث لا یکون الغُسل شرطا لصحة الظهرین، بل شرط لصحة صلاة للعشائین، سواءً استمر أم لم یستمر.

هذا اذا لم نقل بشرطیة حدوث الحدث فی الوقت شرطا فی حدثیة، والاّ لا یجب علیها الغسل للعشائین أیضا، الا إذا رأت الدم بعد دخول وقت العشائین .

و کذلک یکون الحکم فی المتوسطة، فی أنّ الغُسل الواحد لصلاة الفجر شرطٌ لصلاة الغداة، بخلاف ما لو حدث بعد صلاة الصبح، حیث لا یکون الغُسل شرطا وواجبا للصلاة السابقة علی الصبح بلا اشکال.

والسؤال هو إنّه هل یجب هذا الغُسل، إذا حدث الدم بعد صلاة الصبح، وقبل وقت الظهرین، أو حدث بعد حلول وقت الظهرین لمن یذهب الی اشتراط ذلک لاتیان الظهرین أم لا یجب؟

بل وهکذا لو حدث بعد الظهرین وبعد قیامها بالصلاة، فهل یجب هذا الغسل للعشائین أم لا یجب ذلک الغُسل الاّ مرة واحدة، وهو للصبح فقط، إذا کان حدوث الحدث قبل صلاة الصبح أو قبل دخول وقتها من الفجر؟

فیه وجهان، بل قولان: والذی قد یذهب الیه المشهور _ کما صرح به فی «جامع المقاصد»، فی مبحث الغایات، والشهید فی «الروضة» فی بحث الاستحاضة، والعلاّمة الطباطبائی فی «المصابیح»، وصاحب «الجواهر» _ الی عدم الوجوب، بل قد نسب ذلک الی اجماع الأصحاب الوجوب بل ان جماعة من الاصحاب قد نقلوا الاجماع علی عدم الوجوب، ومنهم الاستاذ الاکبر فی «شرح المفاتیح»، حیث قال: «وأمّا کون الغُسل لصلاة الصبح، فلعدم قائل

ص:432

بالفصل، اذ لم یقل أحد بأن المتوسطة علیها غُسل واحد، ولیس لخصوص صلاة الصبح، فکلّ من قال بالمتوسطة _ وهم المعظم _ قال کذلک، والشاذ الذی جعلها من الکثیرة، أوجب الأغسال الثلاثة، بل ربما کان بدیهی المذهب أنّه لو کان غُسلٌ واحد، فموضعه صلاة الصبح».

انتهی علی المحکی فی «الجواهر»(1) .

ولکن صاحب «الریاض» قد حکم بوجوب الغُسل للظهرین والعشائین، اذا ظهر الدم بعد صلاة الصبح، سواء استمر الدم أو لم یستمر، وسواء کان حین حدوث الدم فی وقت الظهرین أو قبله، ووافقه الشیخ الأکبر فی «طهارته»، بل هو المشهور بین المتأخرین، بل ولم نجد خلافا فی ذلک عند فقهاء عصرنا، أو من قارب، من القول بوجوب الغُسل لصلاة الظهرین والعشائین.

فلا بأس هنا بذکر أدلّة الوجوب، فان ثبت منها ذلک فهو، والاّ یجب الحکم بعدمه، فنقول: قد استدل الشیخ علی الوجوب، باطلاقات الأدلة حیث قال: «بأنّه لیس فی شی ء منها ما یقتضی قصر حدثیتها بما إذا حدثت فی الصبح، أو قبل صلاته بالخصوص، ففی روایتی سماعة: «فان لم یجز الدم الکُرسف فعلیها الغسل کلّ یوم مرّة، والوضوء لکل صلاة»(2) .

و فی روایة زرارة: «وإنْ یجز الدم الکُرسف صلّت بغسل واحد»(3) حیث أنّ الظاهر منها أنّها تصلّی الصلاة الواجبة علیها فی ذلک الیوم، بغُسل واحد، فی مقابل الکثیرة التی تُصلّی الخمس بثلاثة أغسال.

ووجه تقدیم الغُسل علی صلاة الصبح _ لو حدثت الاستحاضة قبلها _ کونها


1- الجواهر: 3/338 .
2- وسائل الشیعة: الباب 1 من ابواب الاستحاضة، الحدیث 6 .
3- وسائل الشیعة: الباب 1 من ابواب الاستحاضة، الحدیث 5 .

ص:433

أول الصلوات، مع استفادة شرطیة الغُسل لها علی نحو الشرط المتقدم .

وفی موثقة زرارة: «إذا نفذ الدم اغتسلت وصلّت»(1). وفی روایة الجُعفی «فاذا ظهر الدم علی الکُرسف، أعادت الغُسل، وأعادت الکُرسف»(2).

وفی روایة البصری: «فان ظهر الدم علی الکُرسف، فلتغتسل ثم تصنع کُرسفا آخر، ثم تصلّی»(3). هذا علی المحکی فی کتاب «مصباح الهدی»(4) .

اقول: و لقد أجاد فیما أفاد، لأنه حینما نلاحظ الأدلة والروایات فانّه لم نشاهد فی واحد منها أمرا بلزوم احضار غُسلٍ مستقل لصلاة الغداة، بل غایته هو الاتیان بغُسل واحد فی کلّ یوم، المنطبق أوّلاً علی أوّل الیوم المنطبق علی صلاة الصبح، إنْ کان الحدث وقع فیه لا مطلقا، والاّ یجب الغُسل فی کلّ وقت حدث فیه الدم من الیوم للصلاة المتعقبة بعدها، فقد ینطبق علی الظهرین أو علی العشائین.

فما علیه المشهور من المتأخرین، بل أتفاقهم، لا یخلو عن قوة .

مع أنّه لیس للقول الآخر دلیلٌ قوی یقاوم ما ذکرناه من الاطلاقات، اذ إنّهم تمسکوا لمختارهم باصالة البراءة عن وجود الغُسل غیر ما وقع ووجب للصبح، لو لم تکن قد اغتسلت لها، أو حدثت الاستحاضة بعدها.

ولکن هذا الاصل مندفع بوجود دلیل اجتهادی علی الحکم _ لا یرجع الی الاصل الذی هو دلیل فقاهتی _ وبالاجماع المستظهر من کلماتهم، من تخصیص الغُسل بالغداة، وعدم تعرضهم له فیما عداها من صوره.

وقد ینسب ذلک الی ان هذا الحکم یعدّ من البدیهیات عند الاصحاب.


1- وسائل الشیعة: الباب 1 من ابواب الاستحاضة، الحدیث 9 .
2- وسائل الشیعة: الباب 1 من ابواب الاستحاضة، الحدیث 10 .
3- وسائل الشیعة: الباب 1 من ابواب الاستحاضة، الحدیث 8 .
4- مصباح الهدی: 5/168 .

ص:434

ولکنه مندفع أیضا، من جهة أنّهم لم یتعرّضوا الاّ للصبح، لکونه غالبا کذلک، علی حسب کونه اوّل الیوم لمستمرة الدم، حیث ینطبق ذلک للصبح، ولکن مجرد انصراف الاطلاق الی هذا الفرد لا یوجب رفع الید عن الاطلاق.

مضافا الی أنّه لو لم یکن لنا دلیلٌ علی ذلک، فمقتضی قاعدة الاشتغال هو الفراغ الیقینی، وهو لا یحصل الاّ بتحصیل الغُسل للظهرین أو العشائین إنْ کان وقوع الحدث بعد الصبح وقبل الظهرین، أو بعد الظهرین وقبل العشائین.

هذا، بعد تسلیمنا علی دلالة الدلیل علی لزوم غُسل واحد، مع الشک فی أنّه هل هو لخصوص الصبح، أو أنّه واجب ولکنه غیر موقت بوقت معین ، فعند الشک فیه، یکون المرجع هو الاشتغال لا البراءة، کما لا یخفی .

و کذلک تمسکوا بالخبر المروی فی کتاب «فقه الرضا»، اذ فیه: «وإنْ ثقب الدم الکُرسف ولم یسل، صلّت اللیل والغداة بغُسل واحد وسائر الصلّوات بوضوء، وإنْ ثقب وسال، صلت اللیل والغداة بغُسل...» .

مع أنْ ورود ذکر الغداة فی الخبر المذکور، لا یوجب نفی الغُسل عن غیرها لو وقع الحدث بعد الغداة، مع امکان کون فرضه الاستمرار فی الدم، کما یؤید ذلک جعله هنا ذلک مقابلاً للکثیرة الّتی تجب فیها ثلاثة أغسال، وغالبا تکون فی مستمرة الدم.

مضافا الی عدم مقاومة الخبر المروی فی «فقه الرضا» مع تلک الأدلة، لو تمت دلالتها، لما قد عرفت منّا کرارا، أنّه لا یمکن جعله دلیلاً، فضلاً عن قدرتها علی المقاومة مع الادلة، بل غایته امکان جعله مؤیدا للادلة.

فالاقوی عندنا هو وجوب الغُسل لکلّ من الظهرین، انْ حدثت بعد الصبح، وللعشائین إنْ حدثت بعد الظهرین، أو حدثت قبل صلاة الغداة ولم تغتسل لها عصیانا أو نسیانا، لوحدة الملاک فی الجمیع .

ص:435

فاذا عرفت وجوب الغُسل لکلّ من الفرائض، إذا وقع الحدث قبل ذلک الفرض، یظهر حکم ما لو حدثت بعد الظهر، ولم تغتسل للظهرین والعشائین، حتّی بلغ بالغداة للغد، فانّه لابد لها من الغُسل بلا اشکال.

وامّا إذا اغتسلت للصبح فی الیوم، ولم یستمر الدم الی الغداة أو حدثت قبلهما بلا تخلّل فرض رؤیتها للدم بین الحدث وبین الغداة، فهل یجب علیها الغُسل أم لا؟

الظاهر وجوبه، لاطلاق ما دل علی ایجاب الغُسل، المنزّل علی ارادة الغداة، سواءً تخلّل بصلاة غیرها بینه وبینها أو لم یتخلّل، خصوصا علی مختارنا من وجوب الغسل حتّی لو حدثت بعد الصبح.

نعم علی مختار صاحب «الجواهر» ومن تبعه، فانه یحتمل أنْ لا تجب علیها الغسل إذا حدثت بعد الصبح، حتّی لغداة الغد، بدعوی انسباق غداة ذلک الیوم، والفرض حصول الحدث بعدها، فلا غُسل علیها حینئذ.

ولکنه قد تأمّل فیه أخیرا، لامکان کون الوجوب لجنس کلّ غدٍ متوسطٍ، لا خصوص غداة الیوم. وکیف کان، فان حکم والمسالة علی مختارنا واضحة لا غبار علیها، کما لا یخفی .

فی أحکام الاستحاضة / فی الجمع بین الصلاتین فی الاستحاضة الکبری

الفرع الخامس: الکثیرة التی یجب علیها الغُسل ثلاثة مرّات، فهل یجب علیها الجمع بین الصلاتین، فیما إذا أرادت اتیان غُسل واحد للظهرین أو العشائین، أو یجوز التفریق بین الصلاتین والاتیان بخمسة اغسال، حتّی تکون قد اغتسلت لکلّ صلاة من فرائضها الخمس أم لا؟

فیه وجهان، بل قولان: ففی «الجواهر»: إنّه قد یستظهر من عبارة المصنف وما ماثلها، کظاهر الأخبار، ایجاب الجمع للکثیرة بین الصلاتین، فلیس لها حینئذ فعل کلّ من الصلاتین بغُسل مستقل. وربما کان صریح المفید فی «المقنعة»، ومال الیه فی «الریاض» لظاهر الاخبار.

ص:436

بل وهو الظاهر من کلمات جماعة من الأصحاب، حیث عبروا بالجمع بین الصلاتین بغُسل واحد، المستفاد منه العزیمة .

و لکن المحکیّ عن صریح العلاّمة فی «المنتهی» والمحقق فی «جامع المقاصد»، و«المدارک» و«الذخیرة» هو الرخصة، بل قد صرّح بذلک صاحب «شرح المفاتیح» صرّح بل فی «جامع المقاصد» و«المدارک» أنّه جائز قطعا.

وفی «العروة» و أکثر اصحاب التعلیق، لولا کلهم، علی جواز التفریق، وکون الحکم بالجمع رخصة لا عزیمة .

بل فی «المنتهی»: قد جزم باستحباب الغُسل لکلّ صلاة، حتّی تصیر الأغسال خمسة کالصلوات، وقد استدلوا علی الاوّل بظاهر جملة من الأخبار الدالة علی وجوب الجمع بین الصلوتین بغُسل واحد، وهو مثل خبر ابن مسلم، عن أبی جعفر علیه السلام : «فلتجمع بین کل صلاتین بغسل»(1) .

و روایة صفوان بن یحیی، عن أبی الحسن علیه السلام ، فی حدیثٍ: «وتجمع بین صلاتین»(2) .

و روایة زرارة، عن أحدهما علیهماالسلام ، فی حدیثٍ: «وتجمع بین الظهر والعصر بغُسل، وتجمع بین المغرب والعشاء بغُسل»(3) .

و روایة ابن عمار، عن الصادق علیه السلام ، فی حدیثٍ من الأمر بتأخیر صلاةٍ وتعجیل اُخری، لحصول الجمیع، حیث قال: «اغتسلت للظهر والعصر، تؤخّر هذه وتعجّل هذه»(4) .


1- وسائل الشیعة: الباب 1 من ابواب الاستحاضة، الحدیث 14 .
2- وسائل الشیعة: الباب 1 من ابواب الاستحاضة، الحدیث 2 .
3- وسائل الشیعة: الباب 1 من ابواب الاستحاضة، الحدیث 12 .
4- وسائل الشیعة: الباب 1 من ابواب الاستحاضة، الحدیث 1 .

ص:437

و روایة ابن عبد الخالق، فی حدیثٍ عن الصادق علیه السلام : «فلتؤخّر الظهر الی آخر وقتها، ثم تغتسل، ثم تصلّی الظهر والعصر، فانْ کان المغرب فلتؤخّرها الی آخر وقتها، ثم تغتسل ثُمّ تصلّی المغرب والعشاء، الحدیث»(1) .

اذا من الواضح أنّه لو کان الجمع مرخصا فیه، فلا یناسب مع الأمر بالتأخیر و التعجیل، لتحصیل الجمع بین الصلوتین، خصوصا مع ملاحظة الأمر بالجمع، الظاهر فی الوجوب فی حدیث ابن مسلم .

هذا، و لکن یردّ هذا الاستدلال بامکان أنّ یکون الجمع بغُسل واحد مرخصا فیه ومن جهة ملاحظة التسهیل لحال المستحاضة، خاصة اذا لاحظنا ضعف المرأة فی تلک الایام وصعوبة اقدامها علی الاغتسال خمس مرات فی الیوم الواحد، فانّ التقلیل مطلوب بذاته، فیما لم یثبت الدلیل علی لزوم اتیانه.

ولعلّ الأمر بالجمع، الظاهر فی الوجوب فی غیر المقام، لإمکان أنْ یکون لأجل دفع توهم الخطر عن الجمع، فلا یدل حینئذ الاّ علی الرخصة والاباحة، خصوصا مع ملاحظة بعض الأخبار الدالة علی جواز التفریق، لو لم نقل دلالتها علی الاستحباب، کما أشار الیه العلامة فی «المنتهی»، وهو مثل ما فی موثقة یونس بن یعقوب، عن الصادق علیه السلام ، فی حدیثٍ. «فلتغتسل فی وقت کلّ صلاة، الحدیث»(2). وروایة یونس الطویلة: «قال: تغتسل فی وقت کلّ صلاة»(3). وروایة الحلبی، عنه علیه السلام فی حدیثٍ: «تغتسل المرأة الدمیة بین کلّ صلاتین»(4).

بل دلالة الثانیة علیه أولی، لامکان القول فی الاولی بکون المراد من (وقت


1- وسائل الشیعة: الباب 1 من ابواب الاستحاضة، الحدیث 15 .
2- وسائل الشیعة: الباب 1 من ابواب الاستحاضة، الحدیث 11 .
3- وسائل الشیعة: الباب 1 من ابواب الاستحاضة، الحدیث 2 .
4- وسائل الشیعة: الباب 3 من ابواب الحیض، الحدیث 4 .

ص:438

کلّ صلاة) اشارة الی المعهود فی الکثیرة من الغُسل للظهرین، والآخر للعشائین، فی مقابل الغُسل لصلاة الصبح ومثل هذا الاحتمال فی الثانیة، لأنّ (بین الصلاتین) لا ینطبق الاّ علی بین الظهرین والعشائین.

واحتمال کون المراد من قوله: «بین الصلاتین» هو بین الصبح والظهرین، أو بین الظهرین والعشائین.

بعیدٌ غایته، اذ لا یناسب ذلک مع قوله: «بین کل صلاتین» الظاهر فی البینونیة بین کلّ صلاة منفردة مع اُخری، لا مجتمعه مع اخری، أو منفردة مع مجتمعة، فلیتأمّل جیّدا .

نعم، الاستدلال لذلک بأبلغیّة التعدد، وکذلک للاستحباب، لما قد ورد فی بعض الأحادیث _ فی باب الوضوء_ : «بأنّ الطُهر علی الطُهر عشر حسنات»(1) .

لیس علی ما ینبغی، من جهة أنّ الغُسل فی الاستحاضة، لا یکون رافعا ومطهرا، حتّی یقال بذلک، بل هو مبیح إذا کان الدم مستمرا، والاستباحة حاصلة بالاوّل، فلا یبقی مورد للثانی، الاّ مع دلالة دلیل.

اللّهم إلاّ أنْ یقال ان الامور تعدّ نسبیّة، فالطهارة الحاصلة هنا مع استمرار الدم بالغُسل الثانی، أزید من الطهارة الحاصلة من الاوّل، ولکن اثبات ذلک بحاجة الی شاهد من الدلیل.

فی أحکام الاستحاضة / المبادرة إلی الصلاة بعد الوضوء أو الغسل

ومن هنا یظهر أنّ اثبات الاستحباب فی التفریق _ مع کثرة الأخبار الدالة علی الجمع، ووجود الشهرة علی وجوب الجمع، أو علی مطلوبیّته _ لا یخلو عن اشکال .

وبناءً علی ما ذکرنا، سواء قلنا بوجوب الجمع، أو بجوازه، أو باستحباب التفریق _ لو فرّق بین الصلاتین علی خلاف ما هو المتعارف فی الجمع _ فانّه


1- وسائل الشیعة: الباب 8 من ابواب الوضوء، الحدیث 3 .

ص:439

یجب علیها تعدد الاغسال، لأنّ الاکتفاء بغُسل واحد مشروطٌ بالجمع بین الصلاتین، ونشک فی کفایته عند التفریق بل کونه مقتضی وجوب الجمع بین الصلاتین، إذا ارادت الاتیان بغُسل واحد، لو قلنا بوجوب تعقب الصلاة للغُسل، وعدم جواز التخلّل بالفصل بینهما، حیث أنّ الدم الخارج بعد الغُسل حدث قطعا، والقدر المتیقن مما ثبت العفو عنه، هو ما یخرج بلا فصل بین الغسل والصلاة، زائدا علی الفصل المتعارف.

بل وهکذا فی الدم المتخلّل بین الصلاتین، الذی قام الدلیل علی العفو عنه، لا یکون الاّ اذا کان الاتصال بین الصلاة حاصلاً، والاّ یشکل الاکتفاء بالغُسل الواحد.

کما لا اشکال فی وجوب الغُسل لو حدثت الکبری بعد صلاة الظهر وقبل العصر، أو بعد المغرب وقبل العشاء، حتی لو جمعت بینهما .

و امّا إذا لم نقل بوجوب الاتیان بالصلاة متعاقبا علی الغُسل، وقلنا بجواز الفصل بینهما، فالقول بوجوب الجمع بین الصلاتین، یکون تعبدیا، وهو لا یخلو عن اشکال.

ولعلّ وجه الاشکال، هو صعوبة قبول القول بالجواز التعبدی فی التفکیک فی الفصل بین الغُسل والصلاة، بالجواز وعدمه بین الصلاتین.

ولکنه غیر وارد، لامکان القول بوجود الفارق بین الموردین، وذلک بوجود النص الدال علی وجوب الجمع بینهما، بخلاف الغُسل والصلاة، وإنْ کان الاصحاب استظهروا لزوم التعقب فی الغسل أیضا، کما سیاتی، واللّه العالم .

و قد ظهر من هذه الأخبار _ الدالة علی لزوم الجمع بین الصلاتین بغُسل واحد _ أنّه لا یجوز الجمع بغسل واحد فی أکثر من صلاتین فی یوم واحد قطعا، وامّا فی غیرها فانه سوف یأتی البحث عنه فی محلّه إنْ شاء اللّه تعالی .

الفرع السادس: وهو بیان وجوب تعقّب الصلاة للغسل، فقد صرّح بعض

ص:440

الاصحاب بوجوبه، بل فی «الجواهر»: ولم اعرف فیه مخالفا. کما عساه یشعر بنفیه ما فی «المدارک»، من نقل الاجماع فی القلیلة بالنسبة الی الوضوء دون الغُسل، کالمحکی عن «الحدائق» وغیره.

بل قد استدلوا لذلک، بأنّه یشعر بالحکم ما فی النص والفتوی، بالجمع بین الصلاتین بتأخیر الظهر وتعجیل العصر، إذ لو کان جائزا لم یکن فی تأخیر العصر عن الظهر بأس.

وقد عرفت عدم المنافاة _ مع ما قلناه سابقا من وجوب التعقیب _ من ظهور أخبار الجمع فی الرخصة لا العزیمة، لأنّه کان بملاحظة اتحاد الغُسل وتعدده، والاّ فلا ریب فی ظهورها فی الوجوب الشرطی، بمعنی أنّه لو أرادت فعل الصلاتین بغُسل واحد، کان هذا الجمع واجبا علیها، فلیتأمّل.

هذا کما فی «الجواهر» .

و لکن قد عرفت منا _ فی البحث السابق _ بأنّه علی القول بوجوب التعقیب، یکون وجوب الجمع أشدّ وأوّلی مما إذا لم نقل بوجوب التعقیب، حیث یکون وجوب الجمع حینئذ وجوبا تعبّدیا.

ولکن مع ذلک قد عرفت الجواب عنه، من جهة وجود الفارق بین الموردین، وهو کافٍ فی تجویز الافتراق والقول بوجوب التعقیب دون الجمع، کما لا یخفی .

و کیف کان، فقد حاولوا تأیید وجوب التعقیب بالاستعانة بما فی بعض أخبار الجمع من ورود (الباء) فیها، مثل قوله علیه السلام فی روایة صفوان: «تجمع بین صلاتین بغُسلٍ»(1)، حیث یشعر الباء بالمقارنة.


1- وسائل الشیعة: الباب 1 من ابواب الاستحاضة، الحدیث 3 .

ص:441

بل وهکذا کلمة (عند)، الموجود فی خبری أبی المعزا(1) أو خبر اسحاق بن عمار(2) من قوله: «انها تغتسل عند کلّ صلاتین»، وکذا مثله فی خبر عبداللّه بن سنان، عن الصادق علیه السلام ، قال: «المستحاضة تغتسل عند صلاة الظهر، وتصلّی الظهر والعصر، ثم تغتسل عند المغرب، فتصلّی المغرب والعشاء، ثم تصلّی عند الفجر»(3) .

هذا، مضافا الی ما قد عرفت منا سابقا، من قیام الاجماع علی حدثیة دم الاستحاضة، المانع عن الصلاة، الاّ ما خرج بالدلیل الدال علی العفو عنه، والقدر المتیقن منه هو ما إذا لم یتخلّل بین الغُسل وبین الصلاة أزید عما یفصل بینهما بحسب المتعارف، فما زاد منه یدخل تحت المانعیة الثابتة للدم، فلازمه وجوب التعقیب فورا بفوریة عرفیّة.

هذا جمیع ما استدل به علی وجوب التعقیب بین الغُسل أو الوضوء مع الصلاة .

ولکن أورد علیه صاحب «کشف اللثام»، وتبعه علی ذلک العلامة الطباطبائی، من جواز الفصل بینه وبین الصلاة حیث استدلوا علی بالأصل، أی الاصل هو البراءة عن هذا الوجوب، لکونه شکا فی التکلیف الزائد، فیرفع به.

وفیه أوّلاً: یندفع بما إذا لم یستظهر من الأدلة لزوم تعاقبها، والاّ لا یرجع الیه مع وجود دلیل اجتهادی.

ثانیا: من امکان کون الأصل هنا الاشتغال، لما قد عرفت من أنّ المرأة کانت مستمرة الدم، وهو حدثٌ قطعا، فاذا حدث انقطاع تشک فی دخولها تحت الاخبار الدالة علی العفو وعدمه، فانّ اصالة الاشتغال بالحکم السابق تکون جاریة، وعلیها الغُسل، لأنّ الشغل الیقینی یقتضی الفراغ الیقینی.


1- وسائل الشیعة : الباب 3 من أبواب الحیض، الحدیث 5 .
2- وسائل الشیعة: الباب 3 من ابواب الحیض، الحدیث 4 .
3- وسائل الشیعة: الباب 1 من ابواب الاستحاضة، الحدیث 4 .

ص:442

ثم استدلوا علی قولهم باطلاق بعض الأخبار، مثل خبر اسماعیل بن عبد الخالق، قال: «فاذا کان صلاة الفجر، فلتغتسل بعد طلوع الفجر، ثم تصلّی رکعتین قبل الغداة، ثم تصلّی الغداة»(1).

من تجویز الفصل بالنافلة وبعده بأداة (ثمّ) التی تدل علی الترافی، حیث قد ورد مثله فی خبر ابن بکیر من قوله: «فاذا مضی عشرة أیّام، فعلت ما تفعله المستحاضة، ثم صلّت»(2) .

و لکن یمکن أنْ یجاب عنه:

أمّا عن الاطلاق، بأنّه یصح لولا استظهار الفوّریة، بما ذکرنا من الأخبار، والاّ یکون مقیدا له.

وأمّا عن خبر اسماعیل، فانّه خارجٌ عما ذکرنا، بقیام الدلیل علی جواز الفصل بالنافلة _ أی مطلقا _ لأجل کونها من مقدمات الصلاة کالاذان والاقامة والادعیة الواردة قبل الصلاة، حیث لا تندرج فی اخبار العفو.

أو یقال بالاستثناء فی خصوص المورد، لو لم نقل بذلک العموم، وهذا لا یوجب الجواز حتّی بالنسبة الی ما لا دلیل علیه بجواز الفصل، کما هو المقصود هنا، مع أنّک ستعرف قریبا من تجویز الغُسل عن الفجر لصلاة اللیل، فضلاً عن اتیانه بعده، کما لا یخفی.

وأما الجواب عن الاستدلال بأداة (ثمّ)، فهو أن الأداة واردة للدلالة علی الترتیب تارة بروایة التراخی أیضا، واُخری بیان أصل التعاقب مرتبا من دون لزوم رعایة الفصل، والاّ للزم الجمود علیه وجوب التراخی، مع أنّه لم یلتزم به


1- وسائل الشیعة: الباب 1 من ابواب الاستحاضة، الحدیث 15 .
2- وسائل الشیعة: الباب 8 من ابواب الحیض، الحدیث 5 .

ص:443

أحد، ولیس ذلک الاّ لما قد ذکرناه .

ثم استدلوا علی جواز التراخی والفصل، بجواز الدخول فی المسجد والطواف قبل الصلاة، بل ولأن سائر الغایات کالطواف وقراءة العزائم والجماع _ علی القول بتوقفه علی الغُسل _ یجوز فیها الفصل، ولأنّ أکثر الغایات ممّا لا یمکن فی وقت واحد، فاذا اغتسلت لها وللصلاة، فلابد من تحقق الفصل فی البعض. والقول بتعدد الغُسل، وإفراد کلّ عبادة بغُسل مستقل خلاف الاجماع، کما قیل.

فیظهر من جمیع ما ذکر، جواز الفصل مطلقا، وهو المطلوب.

أقول: ان جمیع ما اقیم من الادلة لا تفید الجواز، لکن لا من جهة أنّ المستحاضة إذا فعلت ما أوجب علیها من الغُسل والوضوء للصلاة، کانت بحکم الطاهرة، فتستبیح لها غیرها من الغایات، من غیر لزوم تجدید غسل أو وضوء، من دون أن یکون الفصل حینئذ مضرا لمثل تلک الغایات، بل الواجب فی المقام علیها هو مراعاتها للحکم المترتب علیها فی المورد.

فالأقوی عندنا هو وجوب المبادرة وواتیان الصلاة عقیب الغُسل والوضوء فورا بالفوریة العرفیة لا العقلیّة، کما هو واضح .

الفرع السابع: فی أنّه هل یجوز تقدیم الغُسل علی الوقت فی المستحاضة المتوسطة والکثیرة، مع استمرار الدم أم لا.

فی «الجواهر»: أنّه لا یجوز، الاّ أنْ یدخل عند الفراغ، فان الظاهر حینئذ ما عن «نهایة الأحکام» من الإجزاء.

فی أحکام الاستحاضة / تقدیم الغسل علی الوقت للوسطی و الکبری

اقول: لعل وجه استثناء ذلک، شمول الأدلة لمثله، لأنّه یصدق علیها، أنّها اغتسلت عند الفجر أو الظهر، الظاهر کون وقوع الغُسل عند الفجر ولو بشروعه قبله، وبذلک یحمل ما فی بعض النصوص من ذکر کون الغُسل لصلاة الغداة أو لصلاة الظهر.

ص:444

فاذا سلّمنا ذلک، فیظهر أنّه لا یجوز التقدیم لغیر هذه الصورة، فما فی «الروض» من احتمال جوازه لأزید من ذلک، تمسکا بالاطلاق، لیس علی ما ینبغی، وجود اطلاق فی المقام، یشمل التقدیم مطلقا، الاّ «فقه الرضا» المشتمل علی تجویز تقدیم الغُسل علی الفجر لصلاة اللیل والغداة، حیث جاء فیه قوله : «قال: وانْ ثقب الدم الکُرسف، ولم یسل، صلّت اللیل والغداة بغُسلٍ واحد، وسائر الصلوات بوضوء، وإنْ ثقب وسال، صلت اللیل والغداة بغُسل»(1).

وعلیه فتوی جماعة من الأصحاب، ونسب «کشف اللثام» ذلک الی الصدوقین والشهیدین و«الذکری»، بل فی «الذخیرة»: إنّی لا اعلم فیه خلافا.

ونسبه غیره الی الأصحاب، مشعرا بدعوی الاجماع علیه. بل فی «الجواهر»: إنّه قد عرفت، کون الحکم مسلما عند الأصحاب، بل لعلّه یدخل تحت معقد اجماع «الخلاف»، فانه لما ذکر أحکام المستحاضة، التی من اقسامها الکبری، قال: «إنّها تجمع بین صلاة الظهر والعصر بغُسلٍ، والمغرب والعشاء بغُسل، والفجر وصلاة اللیل بغُسل قال: وتؤخر صلاة اللّیل الی قرب الفجر، وتصلّی الفجر بها. ثم قال: دلیلنا اجماع الفرقة، واخبارهم»، انتهی کلام الشیخ.

انتهی محل الحاجة من کلام صاحب «الجواهر»(2).

وامّا جواز تقدیمه لا زید من ذلک، فانّه لا یشمله دلیله.

وأمّا الاشکال فی «فقه الرضا» بأنّ التجویز فیه کان لخصوص المتوسطة _ کما فی «الجواهر» _ حیث قال: نعم، قد یستند له بما فی «فقه الرضا»، لکنه مع اختصاصه بالمتوسطة یشکل الاعتماد علیه، لعدم ثبوت حجیته... الی آخره.


1- المستدرک الباب 1 من ابواب الاستحاضة الحدیث 1.
2- جواهر الکلام: 3/345 .

ص:445

لا یخلو عن نقاش، لوضوح أنّه مشتملٌ للتجویز بذلک فی المتوسطة والکثیرة کلتیهما، کما هی صریحة .

و امّا الاشکال فی حجیته، فلا بأس بها، إذا انجبر بالمشهورة، خصوصا عند المتقدمین. بل قد عرفت کون الشهرة علی حدّ قد ادّعی فیه الاجماع ونفی الخلاف، کما فی «الذخیرة».

فالحکم بالتجویز فیه لا یخلو عن وجهٍ، وإنْ کان الاحتیاط الندبی یکون فی اتیان الغُسل بعد الفجر لخصوص صلاة الغداة، غیر الغسل الذی قد أتی به لصلاة اللیل. نعم إنْ أرادت الغُسل الواحد لهما، فلابد أنْ تأتیه قریب طلوع الفجر، حتّی لا تفصل بینه وبین صلاة اللیل وصلاة الغداة، بل ومع نافلتها التی قد وردت تجویز ذلک فی روایة اسماعیل بن عبد الخالق(1) .

فاذا عرفت الحکم فی مستمرة الدم فی المتوسطة والکثیرة، من اقتضاء القاعدة صدق الحدثیة علی ذلک الدم، فلابد من الاقتصار فی الاتیان بذلک علی القدر المتیقن، الوارد فی النص، فلازمه قصر جواز التقدیم المذکور علی الغایة المتقدمة، أعنی صلاة اللیل الّتی قد وردت النص وکلمات الأصحاب بجوازه فیها دون غیرها.

نعم، والذی یجب أنْ یبحث عنه أنّه لو اغتسلت لصلاة اللیل، فعرض لها عارضٌ منعها عن اتیانها وفعلها، فهل یجوز الاکتفاء به لصلاة الغداة أم لا؟

فانّه لا یبعد القول بکفایة ذلک، إنْ لم یفصل بین الغُسل وصلاة الغداة فصلاً یضرّ به، إذ قد ورد فی النص تجویز التقدیم بذلک الزمان، فعدم الاتیان بصلاة اللیل، لا یوجب کونها محدثا، بخلاف ما لو أتی بها.


1- وسائل الشیعة: الباب 1 من ابواب الاستحاضة، الحدیث 15 .

ص:446

ولکن المسألة لا تخلو عن اشکال، اذ لیس الکلام فی کون الصلاة رافعا للحدث، بحیث یعدّ ترکها سببا لوجود الحدث حتّی یقال بذلک، بل الوجه ما عرفت من أنّ عدم الاعتناء بمثل هذا الحدث، ثبت بمثل ذلک الشرط، فمع فقدان الشرط ینتفی المشروط، ای کون الدم معفوّا.

وکیف کان، فالاحوط هو اعادة الغسل، خصوصا مع قد عرفت فی صدر البحث من أن الأصل هنا مع الشک هو الاشتغال دون البراءة، کما لا یخفی .

هذا تمام الکلام فی الغُسل

و امّا حکم الوضوء فی المستحاضة القلیلة :

أمّا حکم الوضوء لکلّ صلاة، وفی المتوسطة والکثیرة لکلّ صلاة عند من اوجبهُ فیهما، أو فی سائر الصلوات فی المتوسطة _ غیر صلاة الغداة _ عند من لا یوجبه فیما فیه الغسل، یکون حکمه من حیث وجوب المبادرة وجواز التعقیب للصلاة وعدمه، حکم الغُسل من حیث وقوع الاختلاف فیه.

فقد ذهب کثیرٌ من الفقهاء الی وجوبه، کالشیخ فی «المبسوط» و«الخلاف» و«السرائر» و«الجامع» و«البیان» و«الوسیلة» و«الاصباح»، بل فی «الجواهر»: لا أجد فیه خلافا صریحا، الاّ من العلامة فی «المختلف» وتبعه العلامة فی «مصابیحه» مدّعیا فیها أنّه ظاهر الأکثر، حیث لم ینصّوا علی وجوب المعاقبة بین الطهارة وغایاتها المتعددة، مع اکتفائهم بالطهارة الواحدة فی الجمیع.

ولکن المختار عند المتأخرین کصاحب «العروة»، وأصحاب التعلیق علیها، هو وجوب المبادرة .

فی أحکام الاستحاضة / الحدّ المجاز من الفصل لتحصیل مقدّمات الصلاة

و حیث أنّ الادلّة المستدل بها للوجوب أو العدم مشترکة مع الغُسل فی کثیر منها لولا کلّها، فقد ترکنا التعرّض لها هنا، خصوصا بعد ما عرفت مقتضی القاعدة، من اعتبار کون الدم المستمر حدثا لم یعفو عنه الشارع _ الاّ ما اخرجه الدلیل عن

ص:447

الحدثیّة، وهو فیما اذا لم _ یفصل، لاسیما مع ملاحظة کون الأصل هنا مع الشک، هو الاشتغال لا البراءة، کما لا یخفی علی المتأمل، فان جمیع ذلک یوجب حصول الاطمئنان للفقیه علی أن یحکم بالوجوب .

الفرع الثامن: بعد أن ثبت وجوب المبادرة الی الصلاة بعد الغسل والوضوء مباشرةً، هل اللازم _ بناء علیه _ الاقتصار علی الفصل بالقدر الضرورة الذی لا محیص عنه، بحیث لا یجوز الفصل حتّی لتحصیل مقدمات الصلاة، مع تعارف تحصیلها بعد الغُسل والوضوء.

أم أنّه یجوز ذلک حتّی ولو لم یتعارف الفصل بذلک.

أو القول بالتفصیل من الجواز علی حدّ المتعارف ولو لم یکن للمقدمات، وعدم الجواز فی غیر المتعارف.

أو القول بهذا التفصیل فی تحصیل المقدمات فقط لا مطلقا.

وجوه واحتمالات، ناشئة من الاختلافات فی الأدلة التی تستدل بها لوجوب المبادرة: لأنّه إنْ کان المرجع فی الحکم هو مقتضی القاعدة الاوّلیة فی مستمرة الحدث، فمقتضاه الاقتصار علی الفرض الأوّل، لأنّه المتیقن فی العفو عن الحدثیة. ولکن لو کان المرجع الی الاخبار وکلمات الأصحاب، بل مقتضی الفهم العرفی، یکون الحکم هو الفرض الاخیر، أو غایته الفرض الثالث، اذ الاشتغال بالمقدمات مثل الاذان والاقامة، وتحصیل السیر والاجتهاد فی تحصیل القبلة وامثال ذلک، اشتغالٌ بنفس الصلاة فی الجملة، بل وقد یظهر من بعض الأخبار جواز الفصل بأزید من ذلک، مثل تحصیل الوضوء، والدخول الی المسجد للصلاة وغیرهما، کما قد ورد التصریح بذلک فی روایة ابن عمار حیث قال علیه السلام : «توضأتْ ودخلتِ المسجد، وصلّت کلّ صلاة بوضوء»(1).


1- وسائل الشیعة: الباب 1 من ابواب الاستحاضة، الحدیث 2 .

ص:448

بناء علی ارادة الوضوء لأجل الصلاة _ کما هو المتعارف _ لا لمجرد دخول المسجد من حیث هو، فیفهم من ذلک أنّ الرواح الی المسجد ونحوه من المقدمات القریبة للفعل، ممّا لا بأس به.

ومن هنا قد استظهر بعض أنْ یکون الانتظار لاقامة الجماعة غیر ضائر، خصوصا إذا کان فترة الانتظار قصیرا.

ولکن الاحتیاط فی مثل هذه الامور مما لا ینبغی ترکه، بل لا یخلو عن قوّة .

ثم لیعلم أنّ ما ذکرناه من عدم جواز الفصل زائدا عن الحدّ المتعارف، لتحصیل المقدمات، بحیث لو زاد لابد من تجدید الغُسل والوضوء، إنّما هو مع استمرار الدم، لا مع انقطاعه قبل الوضوء ولو لغیر بُرء، إذ لو توضأت ولم تصلّ، ومع ذلک لم یخرج شی ء من الدم، فلا اشکال فی صحة صلاتها بذلک الغُسل والوضوء، لأنّ ما یوجب خروجه عن الطهارة النسبیة أو عن الاباحة، هو الدم الخارج بعد الغُسل والوضوء، وإنْ ورد فی اطلاق بعض کلمات الأصحاب خلاف ذلک، ولکن لابد من حمله علی خروج الدم لا مطلقا.

ولا فرق فی ما ذکرنا کون الانقطاع لبُرء أو لفترة، حتّی ولو علمت بخروج الدم بعد مضیّ وقت، خلافا لما یظهر من الشهید فی «الذکری»، حیث جعل الانقطاع للفترة کالنقاء المتخلّل فی بعض أیّام العادة، أو العشرة المتخلل برؤیة الدم فی طرفیها، مع انقطاعه عند العشرة، حیث یکون ذلک بحکم الحیض، وهنا بحکم الاستحاضة. لکنه خلاف لظاهر الأدلة الواردة، کما لا یخفی .

الفرع التاسع: فی وجوب الاستظهار لمنع خروج الدم بحسب الامکان.

وقد أشار فی «الجواهر» الی ذلک بقوله: کما إذا لم یتضرّر بحبسه، بحشو الفرج بقطن أو غیره بعد غُسله، فانّ انحبس والاّ فبالتلجم والاستشفار، بأن تشدّ وسطها بتکة مثلاً، وتأخذ خرقة اخری مشقوقة الرأسین، تجعل أحدهما قدامها

ص:449

والآخر خلفها، وتشدّهما بالتکة، کما هو صریح جماعة وظاهر آخرین، بل لم أجد فیه خلافا.

أقول: علة وجوب الاستظهار، هو ما عرفت منّا کرارا من حدثیّة هذا الدم بالاجماع، فیکون مانعا لها عن اتیان ما یشترط فیه الطهارة، ولو بالنسبة _ أی حکما _ إنْ لم یمکن الخروج عنه حقیقة، فمعنی الخروج بالنسبیة هو ورود دلیل یدل علی لزوم حبسه بقدر الامکان، بواسطة الاحتشاء والاستشفار کما سیجی ء تفسیرهما لاحقا، وما لا یمکن حبسه لأجل شدة سیلانه وغلبته علی کلّ ما جعل لمانعیته، فیکون معفوا، لکونها مضطرة بالنسبة الی ذلک.

و امّا لو قصّرت فی ذلک، ولم تنتظر، ولم تمنع الدم عن الخروج تقصیرا، فلازمه بطلان الطهارة اللازمة، کما قد صرّح بذلک الشهید فی «الذکری» بقوله علی المحکیّ فی الجواهر: «ولو خرج دم الاستحاضة بعد الطهارة، اعتدت بعد الغُسل والاستظهار، إنْ کان التقصیر فیه، وان کان لغلبة الدم فلا للحرج» انتهی(1).

وانْ استشکل علیه صاحب «الجواهر» بقوله: «وفی استفادة ذلک من الادلة نظر، بل مقتضاها العفو عن حدثیته بعد الطهارة، نعم یستفاد منها شرطیته بالنسبة للصلاة خاصة، فلعلّ الأقوی حینئذ عدمه» .

فی أحکام الاستحاضة / الاستظهار لمنع خروج الدم

أقول : و لا یخفی ما فی کلامه، لأن القول بوجوب الاستظهار تکلیفا تعبدیا، بحیث لو تخلفت أتمت، ولا یترتب علیه أثر من جهة نفس الشرطیة، مما لا یقبله الذوق السلیم، کما کان الأمر کذلک فی کلّ ما یکون الشی ء الخارج حدثا، مثل البول والغائط فی المسلوس والمبطون .

و کیف کان، فانّه یجب علیها الاستظهار بما قد عرفت، لدلالة الأخبار علیه،


1- جواهر الکلام: 3/349 .

ص:450

کماتری فی حدیث ابن عمار ، من الأمر بالتحشیّ والاستشفار(1).

و هکذا فی حدیث زرارة، بقوله: واحتشت واستشفرت (واستذفرت)(2).

و روایة الحلبی: «وتستدخل قطنة وتستشفر (تستذفر) بثوبٍ(3)».

وروایة الصحاف: «ثم تحتشی وتستذفر(4)».

وروایة ابن أبی یعفور، بقوله: «واحتشت کُرسفها(5)».

وغیر ذلک من الاخبار الواردة فیها ذکر الاحتشاء بالخصوص، أو بتعبیر آخر مثل الامساک بالقطن أو ادخال القطنة ونظائره .

و الذی یظهر من جمیع هذه الاخبار، کون الغرض من الجمیع هو حفظ البدن عن التلوث بالدم، والمنع عن خروجه، وأمّا وجوب کون التحفظ بخصوص التحشی والاستشفار دون غیره لو امکن، فغیر معلوم اللزوم، بل المظنون هو العدم، لوضوح أنّ الوجوب فی مثل هذه الامور لیس الاّ طریقیا لا موضوعیا، کما قد یؤید ذلک ما ورد فی بعض الأخبار من التعبیر فیها بالاستیشاق لحصول التوقی، مثل خبر زرارة حیث قال: «فلتغتسل وتستوثق من نفسها» أیّ من أیّ طریق حصل.

ولعلّه الی ذلک یشیر ما ورد فی حدیث ابن عمار بقوله: «وتضم فخذها فی المسجد وسائر جسدها خارج) حیث یکون معناه _ کما فسّره فی «الوافی» بقوله: والواو فی قوله علیه السلام : «وسائر جسدها خارج» واو الحال، یعنی أنها لا تدخل


1- وسائل الشیعة: الباب 1 من ابواب الاستحاضة، الحدیث 1 .
2- وسائل الشیعة: الباب 1 من ابواب الاستحاضة، الحدیث 5 .
3- وسائل الشیعة: الباب 1 من ابواب الاستحاضة، الحدیث 2 .
4- وسائل الشیعة: الباب 1 من ابواب الاستحاضة، الحدیث 7 .
5- وسائل الشیعة: الباب 1 من ابواب الاستحاضة، الحدیث 13 .

ص:451

المسجد، ولکنها تجلس قریبا من المسجد، فتذکر اللّه عز وجل، بحیث یکون سجودها فیه، ضامّة فخذیها حین تدخل رأسها للسجود... الی آخره .

فوجوب التحشی والاستشفار، لیس الاّ لتوقی الدم عن الخروج، ویعدّ ذلک واجبا، وامّا غیر ذلک من بعض الامور المذکورة فی حدیث الحلبی، من تفسیر الاستذفار بأنّ تتطیب وتستجمر بالدخنة، وغیر ذلک، والاستشفار أنْ تجعل مثل ثغر الدابة، لابد أنْ یحمل علی الاستحباب، أو یقال بکون المراد من الاستذفار هنا، هو الاستثفار.

ولعلّه لذلک ورد فی روایة الحلبی: «أنّها تستذفر بثوب» کما احتمل «الوافی» اتحادهما معنیً من جهة قلب الثاء ذالاً، فیکون الاستذفار حینئذ واجبا کالاستثفار .

و هکذا یقال بعدم الوجوب، ما ورد فی روایة ابن عمّار _ برغم وجود الاضطراب فی متنه _ بقوله: «وتستثفر ولا تنخی» أو بالنون مع الخاء (و لا تحییی) بالبائین التحتانیتین، أوّلهما مشددة، أی لا تصلی تحیّة المسجد.

هذا، کما أرسل العلامة من أنّ المراد من لا تحنّی (بالنون وحذف حرف المضارعة) أی لا تختضب بالحناء، حیث لا یمکن القول بوجوب مثل هذه الامور، خصوصا مع وجود الاضطراب فی متنه.

وکیف کان، لیس الواجب الاّ أصل التوقّی عن خروج الدم، وما هو المذکور فی الروایات تعدّ من أسهل الطرق للوصول الی ذلک .

وقد ورد فی «الوافی»: أنّ فی بعض النسخ مکان (تحتشی أو تخبی) تحتبی (بالتاء المثناة من فوق، والباء الموّحدة) من الاحتباء، وهو جمع الساقین والفخذین الی الظهر بعمامةٍ ونحوها، لیکون ذلک موجبا لزیادة تحفظها من تعدّی الدم... الی آخر کلامه(1).


1- الوافی ج1 باب الاستحاضة /72 الطبقة القدیمة .

ص:452

فانه علی هذا التقدیر، یؤید کون المقصود هو التحفظ من التعدی، _ کما لا یخفی علی المتأمل فی الروایة _ لا ایجاب خصوص بعض الخصوصیات والکیّفیات .

ثم إنّ الاستظهار الواجب علیه،ا هل یجب کونه قبل الوضوء فی القلیلة والمتوسطة بالنسبة الی غیر صلاة الغداة، أو مطلق الصلوات عند من یذهب الی وجوب الوضوء لجمیع الصلوات فیها، بحیث أنّه لو حاولت الاستظهار فی اثناء الوضوء بما إذا لم یستلزم فوت الموالات، لم یجز، أو ذکرت ذلک قبل الوضوء لأجل أنّه المتعارف أسهل من غیره؟

قال فی «الجواهر»: إنّ الاقوی أیضا عدم الایجاب.

الی أن قال: وإنْ ذکره بعضهم قائلاً إنّه قضیة الأخبار، ولا یبعد کون المستفاد من حدیث ابن عمّار وسماعة والصحاف، من ترتب حکم الوضوء علی الاستظهار، استفادة وجوبه، إذ هو الأحسن، فیما یعتبر فی الوضوء من نیّتها بکونه وضوءا واجبا للقلیلة أو المتوسطة، مضافا الی أنّه مطابق للاحتیاط، وموافقٌ لاصالة الاشتغال المقتضی للفراغ الیقینی الحاصل بذلک .

نعم قد یستفاد من بعض الأخبار _ کصحیح الصحاف، وخبر عبد الرحمن _ کون الاستظهار بعد الغُسل لعطفه علیه (بثمّ).

ولکن صاحب «الجواهر» قال:«ومع ذلک فایجابه فیه أیضا محل نظر، لأولویة فعله فی اثناء الغُسل علیه بعده، ولانصراف الذهن الی عدم ارادة الایجاب من ذلک، بل هو فعلیة حصول مشقة الفعل فی الاثناء، وللعطف فی کثیر من الاخبار بالواو، وإنْ قدم فیها ذکر الغُسل علیه مرتبا بثم علی غیره، و لعله وقع الوهم من بعض، حتّی قال إنّ قضیة الاخبار وکلام الأخیار کون الاستظهار بعد الغُسل، وعلّله مع ذلک بعدم امکان الغُسل مسبوقا بالاستظهار، وفیه منعٌ واضح»،

ص:453

انتهی محلّ کلامه(1) .

و لکن التحقیق یقتضی أنْ یقال لا اشکال فی وجوب الاستظهار، وهو بمعنی أن تشدّ المراة علی وسطها خرقة کالتکة، وتأخذ خرقة اخری وتقعد أحد طرفیها من قدام بالخرقة الاولی، ثم تُدخل الخرقة الثانیة بین فخذیها، وتخرجها من خلفها، وتعقد طرفها الآخر بالخرقة الاولی، کل ذلک بعد غَسل الفرج وحشوه بالقطن _ هذا کما فی «الروض» _ وأمّا جعل الخرقة الاخری مشقوقة الرأسین، فهو أیضا ممکن، لکنه لعله لأجل سهولة عقدها بالتکة المشدودة بالوسط، لا لأجل مدخلیته للاستظهار.

والدلیل علی وجوب الاستظهار مضافا الی الاجماع، ونفی الخلاف فی لسان الاعلام، ما ورد فی جملة من الأخبار المتقدمة، مثل روایة ابن عمار، والحلبی وزرارة، وفی موضع من مرسلة یونس، مثل قوله: «وأمرها ان تغتسل وتستثفر بثوب».

وفی موضعٍ آخر منها، عند حکایة حَمنة بنت جحش، عن رسول اللّه صلی الله علیه و آله ، حیث قال له صلی الله علیه و آله : «انی استحضت حیضة شدیدة. فقال: احتشی کُرسفا. فقالت: إنّه أشد من ذلک، إنّی اثجّه ثجا. فقال صلی الله علیه و آله : تلجمی وتحیضی(2)».

وتسمی خرقة الاستشفار للمرأة ب_ (حیضته) بکسر الحاء، هذا کما فی کتاب «الطهارة» للشیخ الاعظم قدس سره ، ولکنه هنا بمعنی جعل الأیام حیضا، بقرینة قوله فی ذیلها: «تحیض فی کلّ شهر فی علم اللّه ستة أیّام»، الحدیث .

و روایة موثقة فضل وزرارة، بقوله: «وتحشی لصلاة الغداة» الحدیث. و صحیحة صفوان من قوله: «وتستدخل قطنة بعد قطنة».


1- الجواهر: 3/349 .
2- وسائل الشیعة: الباب 8 من ابواب الحیض، الحدیث 3 .

ص:454

مضافا الی الاستدلال لوجوب منع وصول النجاسة الی البدن فی حال الصلاة، بما دل علی اشتراط طهارة ظاهر البدن فی الصلاة، ووجوب تقلیل النجاسة مهما أمکن، وأنّ هذا الدم حدث فیجب منعه بقدر الامکان.

هذا، ولکن اثبات بعض ما ذکر فی الاخیر، لا یخلو عن اشکال، ولکن العمدة: وجوب اصل الاستظهار .

و امّا کون محل الاستظهار بعد الوضوء والغسل أو قبلهما؟

وحیث کان الغرض من الاستظهار، هو التحفظ عن خروج الدم مهما أمکن، والاقتصار فی العفو عن حدثیته علی ما لا یمکن التحرز، فلابد من فعله _ أی الاستظهار _ من ابتداء الشروع فی الغُسل والوضوء، للتحفظ عن خروج الدم حالهما بقدر الامکان، کما یجب تحفظه عنه بعدهما الی الفراغ من الصلاة .

ولکن استفادة ذلک من الاخبار لا یخلو عن غموض و اشکال، وإنْ اعترف بدلالة الاخبار وکلمات الأخیار الشیخ کاشف الغطاء فی محکیّ شرحه علی «المفاتیح»، بالنسبة الی الوضوء، ووافقه فی ذلک صاحب «الجواهر» فی خصوص صلاة الغداة.

ولکن الانصاف هو عدم الفرق فی لزوم تقدیم الاستظهار علی الوضوء، بین صلاة الغداة وغیرها، خصوصا إذا قلنا بوجوب المبادرة فی المعاقبة، ولیس لتوهم لزوم تأخره عنه منشأٌ أصلاً.

کما أنّ دعوی دلالة الاخبار علی التقدیم للاستظهار فی الوضوء، أمرٌ غیر بعید، لأن لسان الاخبار _ خصوصا مثل روایة ابن عمار، وعبد الرحمن، وزرارة، وسماعة، وابن أبی یعفور _ هو تقدیم الاستظهار علی الوضوء، من جهة ترتیب الکلام.

الاّ أنّ کلام بعض الفقهاء _ مثل السیّد فی «العروة» فی المسألة التاسعة _ هو التصریح بوجوب کون التحفظ بعد الوضوء والغُسل.

ص:455

ولعلّ وجهه، هو لزوم رعایة ذلک لأجل الصلاة، من جهة عدم الفصل بین الوضوء والصلاة، خصوصا عند من یوجب المبادرة الی المعاقبة، لأن الایقان بالاستظهار بعد الوضوء، کان أتقن فی عدم التعدی والتحفظ بما أمکن.

والحاصل، أن الحکم بوجوب التقدیم علی الوضوء جزما، لا یخلو عن تأمل، وإنْ لم نعلق فی هذه المسالة علی «العروة» ما یدلّ علی قبول ذلک فی رأینا هذاالوضوء .

وامّا الغسل: فهل یجب أن یکون الاستظهار من حین الشروع فی الغسل أو بعده؟

قولان: المنسوب الی المشهور هو الأخیر، بل وفی «شرح المفاتیح» أنّ الظاهر من تضاعیف الأخبار، کون الاستظهار بعد الغُسل.

ولعلّ وجهه أنّ الغُسل مع الشد والاستیثاق غیر میسور، ولعلّ الامر هو کذلک لما ورد فی حدیث الصحاف کمن قوله علیه السلام : «... فلتغتسل ثم تحتشی وتستذفر وتصلّی الظهر والعصر، فانّ علیها أنْ تغتسل فی کلّ یوم ولیلة ثلاث، مرّات وتحتشی... الی آخره»(1) .

و روایة عبد الرحمن، فی حدیثٍ: «فان ظهر عن (علی) الکُرسف، فلتغتسل، ثم تضع کرسفا آخر ثم تصلی»(2) .

و روایة زرارة، فی حدیثٍ: «ثم هی مستحاضة، فلتغتسل وتستوثق من نفسها، وتصلّی کلّ صلاة بوضوء، ما لم ینفد (یثقب) الدم، الحدیث»(3).

حیث أنّه مشتمل للترتیب المفید لتعاقب الاستظهار علی الغسل، وتقدیمه علیه بخلاف الوضوء، حیث کان موضعه بحسب ظاهره بعد الاشتیاق، مضافا الی


1- وسائل الشیعة: الباب 1 من ابواب الاستحاضة، الحدیث 7 .
2- وسائل الشیعة: الباب من ابواب الاستحاضة، الحدیث 8 .
3- وسائل الشیعة: الباب من ابواب الاستحاضة: الحدیث 9 .

ص:456

وجود أداة (ثم) الدال علی التراخی والتأخیر، فی حدیث عبد الرحمن .

و روایة الجعفی، فی حدیثٍ: «وان هی لم تر طهرا، اغتسلت واحتشت، و لا تزال تصلّی بذلک الغسل»(1) .

و روایة فضیل وزرارة، فی حدیثٍ: «ثم تغتسل کل یوم ولیلة ثلاث مرات، وتحتشی لصلاة الغداة، الحدیث»(2) .

و روایة ابن أبی یعفور، فی حدیثٍ: «اغتسلت واحتشت کُرسفها، وتنظر فان ظهر علی الکُرسف، زادت کرسفها وتوضأت وصلّت»(3).

هذا، بناء علی کون المراد من الغُسل هنا التداخل مع غُسل الحیض، فهو مشتملٌ للحکمین: من الغسل قبل الاحتشاء، والوضوء بعده بحسب ترتیب الکلام.

وکذلک یکون الأمر فی روایة ابن عمار(4) والحلبی(5) وصفوان بن یحیی(6) .

نعم فی روایة اُخری لزرارة، فی حدیثٍ: «فان انقطع الدم، والاّ اغتسلت واحتشت واستثفرت (و استذفرت) وصلّت، فان جاز الدم الکُرسف تعصبت واغتسلت، ثم صلّت الغداة، الحدیث».

بأن یکون المراد من الغُسل فی الاول، هو غسل النفاس، والثانی هو الاستحاضة، فانّه یوجب کون التعصّب قبل الغُسل إنْ ارید من التعصّب الاحتشاء، فیکون خلاف ما تقدم من دلالة الاخبار.


1- وسائل الشیعة: الباب من ابواب الاستحاضة، الحدیث 10 .
2- وسائل الشیعة: الباب من ابواب الاستحاضة، الحدیث 12 .
3- وسائل الشیعة: الباب من ابواب الاستحاضة، الحدیث 13 .
4- وسائل الشیعة: الباب من ابواب الاستحاضة، الحدیث 1 .
5- وسائل الشیعة: الباب من ابواب الاستحاضة، الحدیث 2 .
6- وسائل الشیعة: الباب من ابواب الاستحاضة، الحدیث 3 .

ص:457

لکن الخبر واردٌ فی خصوص النفاس، لان مورده کان کذلک .

و کیف کان، فمع وجود أخبار کثیرة دالة علی وجوب الاستظهار بعد الغسل فی الاستحاضة، فلا یبقی مورد للتنظر المستفاد من کلام صاحب «الجواهر» حیث قال: «فایجابه فیه محل نظر، لأولویة فعله اثناء الغُسل علیه بعده، ولانصراف الذهن الی عدم ارادة الایجاب من ذلک، بل هو لغلبة حصول مشقة الفعل فی الاثناء، وللعطف فی کثیر من الأخبار بالواو، وإنْ قدم فیها ذکر الغسل علیه مرتبّا بثم علی غیره».

لأنّه اجتهاد فی مقابل النصوص، ولا داعی لمثل ذلک مع عدم وجود خلاف فیه، الاّ فی حدیث وارد فی خصوص النفاس، مع عدم نصّه فیه، لامکان توجیهه بما یوجب الجمع مع غیره.

فالأقوی عندنا ما علیه المشهور، واللّه العالم .

ثم لا یخفی علیک أنّ وجوب الاستظهار کان الی حین تمام الصلاة والفراغ منها، فمتی ظهر الدم فی الاثناء نتیجة لتقصیرها فی الشدّ اتجه البطلان، وامّا إذا لم یکن للتقصیر، بل کان لغلبة الدم، فهو إنْ لم یکن للانتقال من مرتبة الأدنی الی الاعلی، فلا باس به علی الأظهر .

و امّا إذا کان للانتقال من الوسطی الی الکبری، أو من الصغری الی الوسطی، اتجّه حینئذ اعادة الطهارة والصلاة إنْ صلّت مع ذلک، فوجوب اعادة الطهارة ثابت، حتّی مع اتفاق الأثر، لأنّ ذلک حدث آخر لا یجزی عن الحدث الاول، فیجب الغُسل له بمجرد حدوث الکثیرة، سواء کان قبل الصلاة أو فی اثنائها، وإنْ کان قد اغتسلت للوسطی سابقا .

و کذا الحکم فی الوضوء بالنسبة الی عروض الوسطی علی القلیلة بالنسبة الی صلاة الظهر.

ص:458

نعم، ربما احتمل الإجزاء مع اتفاق الأثر غُسلاً ووضوءا، لعدم وجوب نیة کون الغُسل منه.

ولکنه ضعیف، لأنّ ما یدل علی العفو فی دم الحدث، کان للمرتبة السابقة، ولا یشمل المرتبة اللحقة، کما لا یخفی.

هذا کله للطهارة والاستظهار للصلاة .

و امّا وجوب الاستظهار فی تمام النهار علی الصائمة، ففیه خلافٌ: ففی «الذکری» قد نسب الی العلامة وجوبه علیها تمام النهار، نظرا الی اشعار توقف صحة صومها علی الغُسل، فظهور الدم یوجب التأثیر الغسل.

خلافا لصاحب «الجواهر»، حیث قال بعد نقل ذلک والمنع عنه، اذ لا دلیل علیه، بل قد تشعر الادلة بخلافه.

ولعلّه قد استفاد ذلک من کلام الامام علیه السلام من حکمه من ایجاب غسل واحد للوسطی، من دون ذکر تفصیل لذلک فی الصوم، مع امکان عروض ذلک کثیرا فی النساء، وکذلک وجوب ثلاثة أغسال للکثیرة دون أزید، مع أنّه یمکن حدوث ما هو أزید من ذلک لو أوجب الاستظهار للصوم فی تمام النهار.

وتحقیق الکلام فیه موکول الی محلّه فی باب الصوم .

ثم لا یخفی علیک وجوب الاستظهار فی المسلوس والمبطون، کما نص علیه جماعة، منهم الشیخ والعلامة والشهید، لورود النص علی ذلک فی المسلوس، وهو روایة حریز بن عبداللّه، عن أبی عبداللّه علیه السلام ، أنّه قال: «إذا کان الرجل یقطر منه البول والدم، إذا کان حین الصلاة، أخذ کیسا وجَعَل فیه قطنا، ثم علّقه علیه، وأدخل ذکره فیه، ثم صلّی، یجمع بین صلاتین الظهر و العصر، یؤخر الظهر ویعجل العصر باذان واقامتین، ویؤخر المغرب ویعجّل العشاء باذان واقامتین، ویفعل ذلک فی الصبح» .

ص:459

فانه یدلّ علی لزوم الاستظهار _ کما فی المستحاضة _ فی المسلوس، فیلحق به المبطون بالفحوی، إنْ صدق علیه الأولویة.

ولکنه لا یخلو عن اشکال، لأنّ نجاسة البول شرعا أقوی، لاحتیاج تطهیره بغسلتین، بخلاف الغائط.

ولکن لعلّ وجه الحاقه به، هو صدق الحدثیة علی الغائط مثل البول، لو لم یکن أشدّ من حیث تنفر الطبع عنه عرفا أزید بما یتنفر عن البول.

وکون البطن مثل البول فی الحدثیة، فیترتب علیه ما یترتب علی البول والاستحاضة، وإنْ منعه بعضٌ معلّلین بأنّ النص وارد فی الاستحاضة دونهما، والتعدی قیاسٌ.

ولکن الدقة والتأمل فی روایة حریز، حیث حکم فی حق المسلوس بالبول _ أو بالدم بما حکم فی المستحاضة _ من الجمع بین الصلاتین، وتأخیر صلاةٍ وتعجیل اُخری، یفید کون ذلک لأجل الحدثیة فی البول والدم، فلابد من ملاحظة الاستظهار فیهما، کما یلاحظ فی دم الاستحاضة، فیکون حکم التبدیل هنا کحکم التبدیل فی الاستحاضة.

فما نص علیه جماعة لا یخلو عن قوة.

لکن قد عرفت أنّ الواجب هو نفس التوقی عن خروج الدم أو البول، لا خصوص عمل خاص، الاّ لأجل کونه أسهل للوصول الی المقصود، کما لا یخفی.

فالواجب هنا هو حشو الإحلیل بقطن، وجعله فی خریطة، حتّی یحفظ البول عن التعدی الی سائر البدن، فما یخرج منه بغیر اختیار کان معفوا، لأجل تعذره أو تعسّره عن تحفظه، فیعفی عنه فی الصلاة، مع مراعاة ما یلزم رعایته فی حدث الاستحاضة الجاری فی المسلوس والمبطون، لإشتراک أکثر احکامهما مع أحکام المستحاضة، ولوحدة الملاک فی الموردین .

ص:460

أحکام استحاضة

قال المحقّق قدس سره : وإذا فعلت ذلک کانت بحکم الطاهرة (1).

(1) أی إذا قامت بوظیفتها فی الاستحاضة من القلیلة أو المتوسّطة أو الکثیرة، تصیر کالمرأة الطاهرة فی جمیع الأحکام، فلها ما لها وعلیها ما علیها، بلا خلاف فیه بین الفقهاء، سوی ما ستسمعه من ابن حمزة وعن الشیخ خاصّة بالنسبة إلی دخول الکعبة، حیث قالا بعدم جوازه لها کما سیأتی ذکره ، والإجماع قائم علی منطوق هذه القضیّة الشرطیّة وهی إذا فعلت...، والسؤال المطروح حینئذٍ عن إلخ .

مفهوم هذه الشرطیّة ففیها ثلاث احتمالات:

الاحتمال الأوّل: أنّ المستحاضة _ بأی قسم منها _ لو أخلّت بوظیفتها _ من تغییر الخرقة أو القطنة، أو من الوضوء فی القلیلة أو المتوسّطة _ لو أوجبناه فی غیر الغداة من الصلوات، أو حتّی فی الغداة، أو من الغُسل فی المتوسّطة للغداة فقط، أو فی الکثیرة فی ثلاث مرّات للصلوات _ هل تکون بحکم الحایض، ویترتّب علیها أحکامها، من حرمة الوطی، والدخول فی المساجد، والجواز عن المسجدین، وحرمة قراءة سور العزائم، وحرمة مسّ المصحف، وبطلان الصلاة والطواف باعتبار منطوق هذا الإجماع القائم؛ بحیث یکون الحکم فی طرفی القضیة منطوقاً ومفهوماً ثابت بالإجماع، کما یظهر ذلک من کلمات بعض الأصحاب ومنهم صاحب الجواهر وغیره من دفع هذا التوهّم من مثل عبارة المصنّف وغیره ممّا یماثلها .

فی أحکام الاستحاضة / المستحاضة بحکم الطاهر لو أتی بما علیها

الاحتمال الثانی: أن یکون المراد من القضیّة الشرطیّة بحسب الظاهر، أنّها مع

ص:461

ما تجب علیها من الأفعال حتّی مثل تغییر الخرقة والقطنة، تکون بحکم الطاهر من کلّ وجه، وحکمها حکم الطاهرة التی لم تتلبّس بشیء من هذا الدم . فمع الإخلال بشیء من ذلک، فلا تکون بحکم الطاهرة من کلّ وجه ؛ وإن جاز لها مسّ کتابة القرآن وقراءة العزائم مثلاً بدون تغییر الخرقة والقطنة، بأن یقال إنّه لیس لنا دلیلٌ علی شرطیّة غیر الصلاة بذلک ، فمع عدم التغییر المذکور لا یجوز لها الصلاة فقط دون غیرها من سائر الغایات إذا أتت بالوضوء والغسل غیر تغییر الخرقة والقطنة .

الاحتمال الثالث: أن یکون المراد من الشرطیّة منطوقاً ومفهوماً أمراً محدوداً، بأن تکون المستحاضة الفاعلة بالوظیفة بحکم الطاهرة فی خصوص الصلاة التی وجبت هذه الأفعال لها، أنّه لا یکون لها استمرار الدم فیها قادحاً بصحّة صلاتها، من دون تعرّض لحال سایر الغایات الخمسة المذکورة، بمعنی کما کان الأمر فی المفهوم أیضاً کذلک ؛ وبالتالی لو أخلّت بالوظیفة ولو بشیء من تلک الاُمور تکون صلاتها باطلة من دون تعرّض لحال غیرها من الغایات ، وأمّا سایر الغایات من جهة المنطوق والمفهوم فهی تابعة إلی دلالة غیر ما ورد فی حقّها بالنسبة إلی الصلاة .

أقول: والذی یظهر من کلام صاحب الجواهر اختیاره للأخیر، حیث قال بعد ذکره للاحتمال الأخیر.

وهذا هو المناسب، کما حُکی من الإجماع ونفی الخلاف، ضرورة کونه بهذا المعنی مفروغاً منه منطوقاً ومفهوماً ، بل لعلّه متیقّن فی عبارة المصنّف والقواعد وما شابهها، للنصّ فیه علی الصلاة الدالّ علی إرادته فی المنطوق .

ثمّ قال فی ذیل کلامه: هذا کلّه إن لم نقل إنّ المراد بالشرطیّة فی عبارات الأصحاب إنّما هو منطوقها خاصّة، لکونه معقد إجماع وأمر متیقّن بالنسبة إلی صیرورتها کالطاهر من غیر نظر إلی المفهوم، وهو کثیراً ما یستعمل فی عبارات الفقهاء ، إلاّ أنّ عبارات الأصحاب فی المقام لا تخلو عن إجمال، لکنّها لا تأبی

ص:462

الانطباق علی بعض ما ذکرنا )(1) .

وقال صاحب «المدارک» : والمراد من کونها بحکم الطاهر، أنّ جمیع ما یصحّ من الطاهر من الاُمور المشروطة بالطهارة، یصحّ منها، فتصحّ صلاتها وصومها ودخولها المساجد مطلقاً ویأتیها زوجها إن شاء ، هذا ممّا لا خلاف فیه بین العلماء .

وقال فی «المعتبر» : إذا فعلت ذلک صارت طاهراً ، مذهب علمائنا أجمع أنّ الاستحاضة حدثٌ تَبطل الطهارة بوجوده ، فمع الإتیان بما ذکره من الوضوء إن کان قلیلاً والأغسال إن کان کثیراً، یخرج عن حکم الحدث لا محالة، ویجوز لها استباحة کلّ ما تستبیحه الطاهر من الصلاة والطواف ودخول المساجد وحلَّ وطیها، وإن لم تفعل ذلک کان حدثها باقیاً، ولم یجز أن تستبیح شیئاً ممّا یشترط فیه الطهارة. ونحوه عبارة «المنتهی» و«التذکرة» .

والتحقیق أن یُقال : إنّه لا إشکال فی وقیام الإجماع علی أنّها إذا عملت بما علیها _ من الوضوء والغُسل وتغییر الخرقة والقطنة وتطهیر ظاهر البدن فی کلّ مورد بحسب مقتضاه _ أصبحت کالطاهرة فی جواز الغایات الخمسة من الاجتیاز من المسجدین والمکث فیهما وفی غیرهما من المساجد وقراءة العزائم ومسّ کتابة القرآن والوطی ، کما أنّها تکون حینئذٍ مکلّفة بالصلاة والصوم والطواف ،حیث یمکن استظهاره من بعض النصوص الواردة فی جواز وطیها بعد ما استحلّت لها الصلاة، وجواز طوافها الملازم مع جواز دخولها فی المسجد الحرام ومکثها فیه ، بل ولا حاجة للاستعانة بتلک النصوص بعد قیام الإجماع علی جواز ترتّب تلک الغایات علیها من التمسّک بإطلاق أدلّة تلک الغایات فی إثبات مشروعیّتها، حتّی یرد علیه بأنّ اشتراطها بالطهارة مانعٌ عن التمسّک


1- الجواهر : ج3 / 352 .

ص:463

بالإطلاق، لاحتیاجه إلی إحراز التمکّن من تحصیل الطهارة ، مع أنّها غیر محرزة .

مع أنّه أیضاً غیر صحیح فی حدّ نفسه ؛ لأنّ المانع هو إحراز عدم التمکّن، ومع عدمه یصحّ الحکم بالبطلان من دون الحاجة إلی إحراز التمکّن منه، وذلک لأنّ تقیید الإطلاق بالتمکّن من الطهارة المستفاد من أدلّة اشتراط تلک الغایات بها یتمّ من خلال دلیل عقلی ولا یخفی أنّه فی تقیید الدلیل العقلی وتخصیصه لابدّ من الاقتصار علی ما أحرز عدم التمکّن، ومع عدم الاحراز یکون المرجع عموم الأدلّة واطلاقها.

بل یمکن أن یُقال بامکان إحراز الشرط من خلال الرجوع إلی العام أو الإطلاق، فیما شکّ فی وجوده، لجواز الرجوع إلیهما فی الشبهة المصداقیّة إذا کان التخصیص أو التقیید لبّیاً .

هذا ، مضافاً إلی أنّه إذا رأینا تنصیص الإمام علیه السلام بجواز الإتیان بما یشترط فیه إحراز التمکّن من الطهارة، مثل الطواف الملازم للدخول فی المسجد الحرام، أوجب ذلک الاطمئنان للفقیه، بارتفاع المانع الذی یمنع عن ترتیب مثل تلک الغایات، لوحدة الملاک بین ما هو مورد النصّ وبین غیره ، فالتمسّک بالإطلاق لعلّه کان لأجل أنّهم فهموا من ذلک بأنّ الملاک فی جواز الرجوع إلی العام أو الإطلاق لیس هو إحراز التمکّن من تحصیل الطهارة، بل یکفی عدم إحراز عدم التمکّن منه فی الأخذ بالإطلاق .

وکیف کان، فالمسألة فی ناحیة المنطوق واضحة لا غبار علیها .

کما لا نقاش فی بطلان الصلاة فیما لو أخلّت بشیء من الأعمال، حتّی فی تغییر الخرقة والقطنة، قضاءً لحکم الشرط من الانتفاء، الانتفاء بلا فرق فیه بین العمد وغیره، إذا لم یقم دلیل علی الصحّة فی الثانی علی خلاف مقتضی الشرط .

هذا کلّه بالنسبة إلی الصلاة فی صورة الإخلال .

ص:464

وأمّا الکلام فی الإخلال بالنسبة إلی سائر الغایات: فقد یُقال بأنّ المعروف _ فیما سوی مسّ المصحف _ هو توقّف جوازها علی الغُسل فقط، ومع الإخلال به لا یجوز ترتّب الغایات الأربعة علی حسب مانسب إلی المشهور . وقد استدلّوا علیه بالإجماع والاستصحاب .

أمّا الإجماع: فقد عرفت تقریبه فی صدر البحث، من قیام الإجماع فی القضیّة الشرطیّة فی کلا طرفیها من المنطوق والمفهوم .

مع أنّه لو کان هذا الإجماع صحیحاً للزم القول بعدم جواز ترتّب الغایات الأربعة حتّی بالإخلال بواحدٍ من الأعمال الواجبة علیها من الغسل والوضوء وتبدیل الخرقة أو القطنة، إن اُرید من الانتفاء عند الانتفاء، انتفاء کلّ ما هو شرط المستلزم لانتفاء المشروط علی نحو نفی الإیجاب الجزئی ؛ لأنّ بانتفاء أحد الشروط ینتفی المشروط ، وهو لا یتناسب مع ما ادّعوه واستدلّوا علیه من عدم ترتیب الغایات الأربع بالإخلال فی خصوص الغسل ، کما أنّ المسّ یتوقّف علی الوضوء والغُسل معاً، لاشتراط جوازه بالخلو عن الحدثین ، فمع الإخلال بأحدهما لا یجوز المسّ.

بل قد یرد فیه أیضاً إنّه یصحّ المسّ إذا أخلّت بخصوص تغییر الخرقة والقطنة.

ودعوی دخالة مثلها فی جوازه یحتاج إلی دلالة دلیل .

فإثبات کلّ هذه الاُمور فی ناحیة المفهوم، المستلزم للاخلال بالإجماع، لا یخلو عن إشکال، خصوصاً بعد ملاحظة الاضطراب والإجمال فی معاقد جماعاتهم ، وغایة ما یستفاد منها الإیجاب الجزئی، وحرمة بعض ما یحرم علی الحائض علی المستحاضة لا کلّها، کما یشهد له کلام المحقّق فی «المعتبر» فی ناحیة الإخلال حیث یقوله : «ولو لم تفعل ذلک کان حدثها باقیاً ولم یجز أن تبیح شیئاً ممّا یشترط فیه الطهارة» .

ص:465

مع أنّه قدس سره قائل بجواز وطیها، ولو لم تفعل بما علیها من الأغسال الصلاتیّة، فیستکشف منه أنّه رحمه اللّه لا یقصد دعوی قیام الإجماع علی مفهوم القضیّة مطلقاً، وإلاّ کیف یخالف نفسه فی حکمه بجواز الوطی مع الإخلال بالأغسال ؟!

مضافاً إلی أنّ المستفاد من ذیل کلامه حیث یقوله : «ممّا یشترط فیه الطهارة لا یجوز» ، إخراج مثل الوطی حیث لا یکون ممّا یشترط فیه الطهارة .

اللّهمَّ إلاّ أن یستفاد شرطیّة الطهارة فیه بمعنی الإباحة ممّا ورد فی النص علی جواز وطیها، بعدما استحلّت لها الصلاة، حیث لو لم تکن الطهارة من هذا الدم شرطاً لما کان لقوله بالاستحلال لها إذا استحلّت لها الصلاة وجهاً وجیهاً کما لا یخفی . وبالجملة: فثبت عدم وجود إجماع فی طرف النفی والإخلال .

وأمّا تقریب الاستصحاب: بأن یقال إنّ الاستحاضة حیث کانت مسبوقة بالحیض، وکانت تلک الاُمور محرّمة علیها فی حال حیضها، وبعد انتقال حالها إلی الاستحاضة، یشکّ فی بقاء تلک الحالة السابقة، فیستصحب فیها.

هذا، فیما إذا کانت مسبوقة بالحیض .

وأمّا فی غیر المسبوقة، فتلحق بالمسبوقة به لعدم القول بالفصل ، هذا .

أقول: ویرد علی هذا الاستصحاب فی المسبوقة، بأنّه غیر جارٍ هنا، لأنّ اسراء الحکم من الحایض إلی المستحاضة، یکون من قبیل اسراء حکمٍ من موضوعٍ إلی موضوع آخر بالنظر إلی العرف، وکذا بالنظر إلی لسان الدلیل لوضوح الفرق بینهما فرقاً فاحشاً کتغایرهما عقلاً ، وفیه تأمّل کما لا یخفی .

کما أنّه لو سلّمنا الاستصحاب فی المسبوقة، ولکن قیل إنّه لا یمکن اسراءه فی غیر المسبوقة لعدم القول بالتفصیل، لأنّه إنّما یصحّ ذلک فی الحکم الواقعی القائم علیه الدلیل فی الحکم الظاهری .

هذا کما فی «مصباح الهدایة» للآملی ، وأراد من الحکم الظاهری، الحکم

ص:466

الثابت من الاُصول ؛ حیث ادّعی أنّه فی مثله لا مجال بحریات قاعدة القول بعدم الفصل .

وفیه: دعوی اختصاصه بالحکم الواقعی غیر ثابتة، وتحقیقها موکول إلی محله فی الاُصول .

وبالجملة، فالأقوی عندنا أن یقال فی طرف المنطوق بأنّه لا إشکال فی کونها بحکم الظاهر فی ترتیب جمیع الغایات بدلیل الإجماع وبما هو المستفاد من الأدلّة کما أشرنا إلیه .

وأمّا من جهة امتناعها من القیام بجمیع ما یجب علیها، فیکون حکمها علی حسب ما تقتضیه تلک الغایة من رفع ذلک المانع إذا فرضنا عدم دخول المفهوم تحت معاقد الإجماعات ، فلازم ذلک أنّه لو أخلّت بالأغسال لما جاز لها دخول المساجد والاجتیاز عن المسجدین وقراءة العزائم ومسّ المصحف والوطی، إن قلنا بممنوعیّة ذلک للمستحاضة الکثیرة والمتوسّطة .

وأمّا لو قامت بأتیان الأغسال بحسب ما تجب علیها ذلک، وأخلّت بخصوص الوضوء، لها تلک الاُمور إلاّ المسّ، حیث یجب فیه الخلوّ عن الحدثین ولا یحصل ذلک إلاّ بالغسل والوضوء .

وأمّا لو أخلّت بتغییر الخرقة والقطنة دون الغُسل والوضوء، جاز لها جمیع تلک الغایات، حتّی مسّ المصحف، بخلاف الصلاة حیث لا یجوز لها القیام بها بدون التغییر، بل وبدون غَسل الظاهر من البدن ؛ لأنّ فقد هذه الاُمور إمّا شرط لها أو وجودها مانع لها دون غیرها من الغایات .

والنتیجة: إنّ المستحاضة المخلّة بواجباتها لا تعدّ کالحائض، ودعوی الحاقها به (ممّا لا ینبغی الالتفات إلیه) کما صرّح بذلک صاحب الجواهر.

وخلاصة الکلام: ظهر من جمیع ما ذکرنا، أنّ المستحاضة المتوسّطة والکثیرة لا یجوز لها الدخول فی المسجدین، والمکث فی المساجد، وقرائة العزائم قبل

ص:467

الإتیان بالأغسال کما هو المشهور بین الأصحاب، کما ورد التصریح بذلک فی موضع من «المصابیح» کما قال، فی موضع آخر، قد تحقّق أنّ مذهب الأصحاب تحریم دخول المساجد وقراءة العزائم علی المستحاضة قبیل الغسل، ثمّ نقل أقوال المخالف لذلک ، وقال أخیراً : «ولا ریب فی شذوذ هذه الأقوال» .

وعن «شارح النجاة» الإجماع علی تحریم الغایات الخمس علی المحُدِث بالأکبر مطلقاً عدا المسّ ، بل ویستفاد ذلک من «الغنیة» و«المعتبر» و«التذکرة» کما تقدّم الإشارة إلیه .

هذا کلّه فی القول بالحرمة مع عدم الغسل .

وفی مقابل ذلک التزم جماعة من الأصحاب علی جواز الدخول لها بدون الأفعال، کما علیه صاحب «الریاض» تبعاً لصاحب «المدارک» و «الذخیرة» و«شرح المصابیح» و«مجمع البرهان»، وعن «روض الجنان» ناسباً له إلی «الدروس» وأنّه أطلق الجواز .

وربما استدلّ لذلک بخبر محمّد وفضیل وزرارة جمیعاً عن أبی جعفر علیه السلام : «أنّ أسماء بنت عمیس حملت بمحمّد بن أبی بکر، فأمرها رسول اللّه صلی الله علیه و آله حین أرادت الإحرام من ذی الحُلیفة أن تغتسل وتحتشی بالکرسف وتهلّ بالحجّ ، فلمّا قدموا ونسکوا المناسک سألت النبیّ صلی الله علیه و آله عن الطواف بالبیت والصلاة ، فقال لها : منذ کم ولدت؟ فقالت : منذ ثمانی عشرة ، فأمرها رسول اللّه صلی الله علیه و آله أن تغتسل وتطوف بالبیت وتُصلّی ولم ینقطع عنها الدم ففعلت ذلک(1) .

أقول: هذه الروایة لا تدلّ علی جواز دخول المستحاضة فی المسجد الحرام، أو غیره بدون الغسل، لأنّک قد رأیت من أمره صلی الله علیه و آله بأسماء بنت عمیس


1- وسائل الشیعة : الباب 3 من أبواب الاستحاضة، الحدیث 19 .

ص:468

بالاغتسال والاحتشاء للاهلال بالحج فی ذی الحلیفة باعتبار مسجدها، کما أمرها بالاغتسال لدخول مسجد الحرام للطواف والصلاة ، مضافاً إلی دلالته علی جواز إدخال النجاسة المسجد.

فی أحکام الاستحاضة / وطی المستحاضة

اللّهمّ إلاّ أن یرید الاستدلال بالخبر بناءً علی أنّ الاغتسال فی الموردین کان للإحرام فی الأوّل والطواف والصلاة فی الثانی لا لدخول المسجد، فکأنّه یدلّ علی جواز الدخول بلا غسل لولا الإحرام والطواف والصلاة ، هذا .

وفیه: الإنصاف عدم تمامیّة هذا الاستدلال، لإمکان کون الاغتسال لمثل الإحرام أو الصلاة أو الطواف کافیاً فی صدق جواز الدخول مع الغسل، ولا ینافی ذلک مع وجوب الاغتسال للدخول لولا تلک الاُمور ، فإثبات جواز الدخول بلا غسل مع الروایة المذکورة لا یخلو عن إشکال .

لکن الإنصاف کون الدلیل علی توقّف جواز الدخول فی المساجد أو الاجتیاز والمکث فی المسجدین أو المساجد، وجواز قراءة العزائم علی الغُسل هو المشهور بین الأصحاب علی نحو تکون شهرتهم معتضدة مع أخبارٍ دالّة علی الجواز مع الغُسل، لو لم نقل بدعوی قیام الإجماع، علیه کما أشار إلیه العلاّمة الطباطبائی فی «المصابیح»، تبعاً للآخرین مثل «شارح النجاة»، والمحکیّ عن «حواشی التحریر» ، وبذلک یخرج عن مقتضی الأصل الشرعی الدال علی الجواز مع الشکّ فی المنع لکونه شکّاً فی التکلیف، فیکون مجری أصل البراءة الشرعیّة بمقتضی قوله : «رفع ما لا یعلمون» وکذلک البراءة العقلیّة بمقتضی قاعدة قبح العقاب بلا بیان ؛ لإمکان کفایة ما ذکرناه دلیلاً علی المنع، خصوصاً مع ملاحظة من لم یقل بمقالة صاحب «الجواهر» من عدم حجّیة کلّ ظنّ حصل للمجتهد، فضلاً عن أنّ ما ذکرناه یعدّ موافقاً للاحتیاط، فلا یترک لا فی الدخول ولا فی قراءة العزائم، وإن لم نسلّم قیام الإجماع علی أنّ من أخلّت بالأفعال تکون

ص:469

کالحایض فی جمیع الخصوصیّات، حتّی یستلزم منه القول بلزوم تحصیل الوضوء للمستحاضة للدخول فی المسجد وقراءة العزائم، کما یظهر دعوی ذلک من العلاّمة الطباطبائی فی «المصابیح» علی ما نسب إلیه صاحب «الجواهر» .

نعم ، یجب علیها الغسل والوضوء للمسّ المصحف، لأنّ دم الاستحاضة حدثٌ إجماعاً، بل حدث کبیر فی المستحاضة المتوسّطة والکثیرة وحدث صغیر فی القلیلة ، للمحدث بالأکبر والأصغر .

بقی فرع: البحث عن حکم جواز الوطی وتوقّفه علی الأفعال : اعلم أنّ الأقوال فیه متعدّدة ، فلا بأس بذکرها وذکر أدلّتها، وما یرد علیها، حتّی یتّضح الحال، ویختار ما فیه حسن المقال : القول الأوّل : وهو المنسوب إلی «الموجز» و«التحریر» و«البیان» و«مجمع البرهان» و«المدارک» و«الکفایة» من القول بالإباحة، بلا کراهةٍ فی الفعل ولا رجحانٍ فی الترک، من دون توقّف علی شیء ممّا یجب علی المستحاضة للصلاة من الوظائف .

واستدلّ له بالأصل وهو البراءة والإباحة، وبعمومات الأدلّة الواردة فی حلّیة وطی الزوجة وملک الیمین کقوله تعالی : «وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّی یَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ»(1) .

وبما ورد فی بعض الأخبار من الترغیب والتجویز للوقاع إلاّ فی حال الحیض، مثل ما فی روایة معاویة بن عمّار من قوله علیه السلام: «وهذه یأتیها بعلها إلاّ فی أیّام الحیض»(2) .

ونحوه غیره من الأخبار ؛ مثل ما ورد فی خبر ابن سنان من قوله علیه السلام :


1- سورة البقرة : آیة 222 .
2- وسائل الشیعة : الباب 24 من أبواب الحیض، الحدیث 1 .

ص:470

«ولا بأس أن یأتیها بعلها متی شاء إلاّ فی أیّام حیضها» .

ولکن یرد علیه .

أمّا الأصل: فلا وجه له مع وجود دلیل اجتهادی من النصوص .

وأمّا العمومات: فلابدّ من تخصیصها بما سیأتی من الدلیل الدال علی جواز الوطی مع التوقّف علی الأفعال التی سیأتی الإشارة إلیها، حیث أن تلک الأدلّة علی هذه العمومات بالأظهریّة ، وبذلک یجاب عن الاستدلال بالآیة حیث أنّ الحکم بجواز المقاربة بعد الطهارة یکون بصورة الإطلاق ، فنقیّده بمن قامت بالأفعال المفروضة علی المستحاضة.

مضافاً إلی أنّ تجویز المقاربة فی الآیة کان ناظراً إلی حیث ما کان حراماً لأجله، وهو الحیضیّة، فلا ینافی عدم جوازه مع حالة اُخری مثل الاعتکاف والصوم والاستحاضة إذا وجبت علیها الغُسل، فیتوقّف جوازه فی مثل هذه الموارد علی رفع المانع عنها، وهو فی المستحاضة لا یتحقّق إلاّ من خلال قیامها باتیان ما علیها من الوظائف .

ولعلّ الوجه فی استفادة الجواز بلا کراهة ولا رجحان فی الترک هو ملاحظة الأمر بالإتیان بقوله تعالی : «فَأْتُوهُنَّ» .

ولکن یمکن أن یُجاب عنه: بأنّ الأمر فی مقام حیث وقع عقیب الخطر، کما لا یدلّ علی الوجوب، کذلک لا یدلّ علی نفی الکراهة ورجحان الترک، بل غایته الدلالة علی أصل الجواز فی قبال الحرمة، أی لا تکون المقاربة حینئذٍ حراماً، فلا ینافی مع کونه جائزاً مع الکراهة . وعلیه، فالاستدلال بالآیة علی الجواز بلا کراهة ولا رجحان فی الترک، لیس بسدید .

بل قد یمکن أن یجاب عن خبر عبد اللّه بن سنان ومعاویة بن عمّار، بإمکان أن یکون معنی قوله علیه السلام : «متی شاء» بالنظر إلی عدم وجود المانع لها من حیث

ص:471

الحیضیّة لا مطلقاً ، ولذلک تری أنّه لا ینافی مع عدم جواز المقاربة فی بعض الحالات کالاعتکاف أو الصوم ، فکذلک الاستحاضة إذا وجبت علیها الوظائف .

فإن قیل(1): إنّ هناک روایة تفید الجواز، وهی موثّقة زرارة، حیث ورد فیها قوله علیه السلام : «فإذا حلّت لها الصلاة حلّ لزوجها لیغشاها».

بناءً علی أن المراد من الحلّ هو الجواز بالمعنی الشامل للوجوب فیما یقابل الحرمة لا الصحّة فی مقابل الفساد.

قلنا: إنّ الدعوی المذکورة ممنوعة، لوضوح أنّه لا یدلّ إلاّ علی عدم لزوم الإتیان بالأفعال مستقبلاً، بعد إتیانها للصلاة، من دون تعرّض لصورتی الفصل بینها وبین الصلاة وعدمه، وهو غیر مدّعی الخصم من الجواز بدون الإتیان بها للصلاة أیضاً، فلا دلالة فیها علی النفی .

واستدلّوا للجواز أیضاً: بأولویّة جواز وطئها عن وطی الحایض بعد النقاء وقبل الاغتسال .

وفیه: إنّ القیاس مع الفارق، لأنّ الحائض بعد انقطاع دمّها تکون عاریة عن الدم والحدث إلاّ بقاء الحدث السابق، بخلافه هنا حیث أنّ الدم والحدث موجودان حال الوقاع، فجوازه بلا غسل وغیره یحتاج إلی دلیل یدلّ مفقود فی المقام، فضلاً عن وجود دلیلٍ علی عدم الجواز، کما سنشیر إلیه لاحقاً .

القول الثانی: هو الجواز من دون توقّف علی شیء لکن مع کراهته أو رجحان ترکه ، فمع الإتیان بالوظائف یخرج عن الکراهة ورجحان الترک.

وفیه: أمّا الجواز فقد عرفت الجواب عن أدلّته آنفاً.

وأمّا عن الحمل علی الکراهة أو الاستحباب، فمنوط علی عدم کون الأدلّة علی الحرمة تامّة الدلالة، وإلاّ لا وجه لذلک الحمل مع إمکان حفظ ظاهر الدلالة علی الحرمة، کما لا یخفی ، إذ النسبة بین الادلّة الدالّة علی الجواز والأدلّة الدالّة

ص:472

علی المنع هو الإطلاق والتقیید، ومقتضی الصناعة تقیید الإطلاق لا إبقائه علی إطلاقه، وحمل المقیّد علی الاستحباب أو الکراهة، إذ هو مقتضی تقدّم الأظهر علی الظاهر، کما هو واضح .

القول الثالث : القول بتوقّف الجواز علی تمام الأفعال ممّا یستباح بها الصلاة لها من هذا القول الوضوء، والغُسل، وغَسل الفرج، وتغییر القطنة والخرقة مع التلوّث ؛ وقد نُسب هذا القول إلی المشهور تارةً ، وإلی ظاهر الأصحاب اُخری .

وقد استدلّوا _ أو یمکن أن یُستدلّ به _ اُمور :

منها : الإجماعات المحکیّة علی أنّها إذا فعلت ما علی المستحاضة للصلاة، حلّت لها کلّ ما حرّم علیها للحیض ؛ بناءً علی القول بالمفهوم، بأنّه إذا أخلّت بها حرم علیها ما حرم للحایض ومنه الوطی .

وفیه: قد عرفت منّا سابقاً فی صدر البحث عدم وجود إجماع دالّ علی هذا الجامع خاصّة مع الاختلاف فی تعابیر القوم ، فاستفادة المنع بصوره السابقة الکلیّة ممنوعة ، بل غایته علی نحو السالبة الجزئیة مع أنّه کیف یمکن دعوی ذلک، مع القطع بعدم إرادة شرطیّة الوضوءات الواجبة فی الاستحاضة فی الصغری وغیرها وتغییر القطنة والخرقة والاستثفار فیها .

مضافاً إلی أنّ جواز الوطی غیر مشروط بالطهارة من الحدث الأکبر فضلاً عن الأصغر ، ولذا یجوز القیام بذلک فی حال الجنابة، وفی حال النقاء عن دم الحیض قبل الاغتسال مع بقاء حدث الحیض .

وبالجملة: فدعوی الإجماع هنا غیر مسموع ، بل مردودة .

ومنها : استصحاب الحرمة الثابتة فی حال الحیض، لو کانت الاستحاضة مسبوقة به .

وفیه: هذا الدلیل أیضاً فهو أیضاً مردود بما عرفت جوابه فیما سبق من تبدّل

ص:473

الموضوع فیه عرفاً ودلیلاً، فلا یمکن التمسّک به هنا ، فلا نعیده .

ومنها : الأخبار الکثیرة التی تمسّکوا بها لذلک.

الخبر الأوّل: وهو حدیث البصری، عن الصادق علیه السلام : «عن المستحاضة أیطأها زوجها، وهل تطوف بالبیت...»(1).

إلی أن قال : «وکلّ شیء استحلّت به الصلاة فلیأتها زوجها ولتطف بالبیت» .

الخبر الثانی: حدیث فضیل وزرارة، عن أحدهما علیهماالسلام فی حدیث : «فإذا حلّت لها الصلاة، حلَّ لزوجها أن یغشاها»(2) .

حیث علّق علیه السلام حلّیة الوطی علی حلّیة الصلاة، وهی لا تحلّ إلاّ بالأفعال ، فکذا یکون فی الوطی .

الخبر الثالث: صحیحة محمّد بن مسلم المرویّة فی «المعتبر» عن کتاب المشیخة للحسن بن محبوب فی الحائض ، إلی أن قال بعد بیان إمساک القطنة وعدم انقطاع الدم والحکم بالجمع بین الصلاتین بغسل .

«قال : ویصیب منها زوجها إن أحبّ وحلّت لها الصلاة.

بناءً علی أن قوله علیه السلام : «وحلّت لها الصلاة» عطف علی قوله : «أحبَّ» حیث یصبح مدخولاً لکلمة إذا وشرطاً لقوله : «ویأتیها زوجها» .

الخبر الرابع: صحیح صفوان بن یحیی، عن أبی الحسن علیه السلام ، فی حدیثٍ بعد السؤال عن المرأة إذا مکثت عشرة أیّام تری الدم ثمّ طهرت، فمکثت ثلاثة أیّام طاهراً، ثمّ رأت بعد ذلک الدم ؛ تُمسک عن الصلاة؟

«قال : لا ، هذه مستحاضة تغتسل وتستدخل قطنة بعد قطنة وتجمع بین


1- وسائل الشیعة: الباب 1، من أبواب الاستحاضة، الحدیث 8، 12 .
2- وسائل الشیعة: الباب 1، من أبواب الاستحاضة، الحدیث 8، 12 .

ص:474

الصلاتین بغُسل ویأتیها زوجها إن أراد» .

قیل فی الجواب فی «مصباح الهدی» بما خلاصته: بأنّه یمکن أن یُجاب عن خبری فضیل وزرارة والبصری بأنّه بالرغم من أنّ ظاهرهما تعلیق حلّیة الوطی علی حلیّة الصلاة، لظهور کلمة الفاء فی خبر البصری بقوله : «فلیأتها» ، وأداة الشرط وهی (إذا حلّت) فی الثانی ، إلاّ أنّ الکلام فی المراد من الحلّیة، وهل المقصود منها الحلّیة الفعلیّة من جمیع الجهات، أو الحلّیة بالنظر إلی ما کانت حالها قبل ذلک، من حیث کونها حایضاً وانتقلت إلی الاستحاضة، حیث قد أحلّت لها من تلک الناحیة کما کانت حراماً لها قبل ذلک، من دون نظر إلی الحلّیة من حیث ما هو شرط للحلّیة ولو من ناحیة اُخری، مثل کونها فی المسجد أو فی حال الاعتکاف والصوم وغیرها .

فعلی هذا التقدیر لا یستفاد منه کون حلّیة الوطی موقوفاً علی ما أتی بها للصلاة، بحیث لو أخلّت بواحدة منها لما حلّ لها الوطی .

وفیه: ولا یخفی ما فی هذا الجواب ؛ لوضوح أنّه لو سلّم دلالته علی الحلّیة من ناحیة الانتقال إلی الاستحاضة، بأتیانها لتلک الوظائف لیثبت نظر المستدلّ به، لأنّه لم یقصد بکللامه المذکور إلاّ إثبات توقّف الحلّیة للوطی علی تلک الوظائف ، فلابدّ أن یوجّه کلام المجیب بأنّ التعلیق لا یثبت إلاّ کون هذا الفرد من الإتیان بالوظائف محلّلاً للوطی .

وأمّا إثبات انحصار ذلک فی الحلّیة، بحیث لو أخلّت بواحد منها لما جازت لها الوطی فغیر معلوم ، بل یعلم عدمه بملاحظة بعض الروایات التی سنشیر إلیها لاحقاً. وهذا الجواب حلّی.

أمّا النقض: فقد یجاب عن الأخبار بجواب نقضی: بأنّه إن اُرید من الحلّیة الحلّیة الفعلیّة، بمعنی أنّه لو قامت باحضار ما علیها من الواجبات، جاز لها الصلاة

ص:475

بعدها عند دخول وقت الصلاة الثانیة واللاحقة، ومع ذلک لا یجوز وطیها ؛ لعدم حلّیة الصلاة اللاحقة فعلاً، إذ کان علیها القیام بتجدید الأفعال المذکورة، والحال أنّ هذا الحکم مناف لما علیه الأصحاب من الالتزام بأنّها إذا فعلت ما علیها کانت بحکم الطاهرة .

وفیه: إنّ الأفعال التی لها دخلٌ فی حلّیة الوطی یحاسب فی کلّ صلاة بحسب وقت تلک الصلاة، فکأنّها إذا فعلت ما علیها حلّت لها الصلاة فی ذلک الوقت بالخصوص، وکذلک یجوز وطیها، قبل الصلاة لو لم یخلّ هذا المقدار من الفصل ، مع أنّه إذا تحقّق الوطی قبل الصلاة وجب علیها غُسل الجنابة ، وأمکن القول بکفایته عن غسل الاستحاضة، فتصبح کمن أعاد ما وجب علیها، أو أتی بالوطی بعد الصلاة بلا فصل فی ذلک الوقت .

وأمّا إذا مضت وقت تلک الصلاة، ودخل فی وقت صلاة اُخری، وجب علیها وظائف اُخری مع استمرار الدم، ویعدّ ذلک تکلیفاً آخر للصلاة والوطی، وبالتالی فلا یعدّ نقضاً لما سبق، کما لا یخفی .

هذا ، إذا فرض الصلاتین غیر مترتّبتین، إذ فیهما یجمع بینهما بغُسل واحد فلا یلاحظ فیهما الوقتان المتفاوتان حتّی یقال بجواز الوطی فیما بینهما وعدمه.

وهذا بخلاف ما بین هذین مثل الظهرین وبین العشائین حیث أنّ الوقت فیهما متّسعٌ ، ففی مثله لا إشکال فی جواز الوطی فی البین، إذا قامت بأتیان ما یجب علیها للصلاتین إلی أن تبلغ إلی الوقت المخصّص للعشائین، وهو واضح .

والحاصل فی الجواب عن الخبرین المذکورین: أنّهما لا یثبتان انحصار حلّیة الوطی لمن أتی بما یجب علیها فقط ، بل غایته إثبات الحلّیة فی هذا الفرض قطعاً، فلا ینافی ذلک جوازه فیما إذا أخلّت بتغییر القطنة أو غسل الفرج أو الوضوء ، کما ستأتی الإشارة إلیه .

ص:476

هذا ما یتعلّق بالجواب عن الخبرین المذکورین .

وأمّا الجواب عن خبری صفوان وابن مسلم: فإن الأمر فیهما أوضح من الخبرین السابقین، لعدم وجود تعلیق فیهما ، وقوله علیه السلام : «ویأتیها زوجها» إن قصد أنّه لا یفهم منه إلاّ جواز وطیها حینئذٍ قطعاً، فهی إمّا جملة مستأنفة لبیان حکم المستحاضة، أو معطوفة علی الجملة السابقة ، وعلی کلا التقدیرین لا یدلّ علی التعلیق ولا یتوهّم منه إلاّ من جهة تعقیب ذکره عن ذکر الوظائف ، وعطفه بالواو، مع أنّ العطف بالواو لا یدلّ علی الترتیب ، مع أنّ خبر ابن مسلم خالٍ عن الترتیب الذکری أیضاً .

وبالجملة: فإثبات مدخلیّة لزوم الإتیان بالوظائف فی حلّیة الوطی أیضاً لا یخلو عن ضعف، خصوصاً مع القطع بعدم دخالة بعضها فی الحلیّة المذکورة کتغییر القطنة وغَسل الفرج، کما لا یخفی ، فإنّما هذا القول بالدلیل لا یخلو عن تأمّل برغم کونه منسوباً إلی الشهرة کما عرفت .

القول الرابع : القول بتوقّف جواز الوطی علی الوضوء والغُسل خاصّة دون غیرهما ممّا یجب علی المستحاضة .

وهذا القول منسوبٌ إلی ظاهر «المبسوط» و«نهایة الإحکام» ، وقد استدلّ له بخبر إسماعیل بن عبد الخالق المروی عن الصادق علیه السلام فی حدیث .

«قلت : یواقعها زوجها ، قال علیه السلام : إذا طال بها ذلک فلتغتسل ولتتوضّأ ثمّ یواقعها إن أراد»(1) .

وفیه أوّلاً: وهذا الخبر برغم أنّه یعدّ من أظهر الروایات فی دلالته علی لزوم الغُسل والوضوء قبل المواقعة، وعدم انجباره بالشهرة والإجماع لندرة القائل به،


1- وسائل الشیعة : الباب 1 من أبواب الاستحاضة ، الحدیث 15 .

ص:477

خصوصاً بالنسبة إلی الوضوء، حیث لا یکون الوطی ممّا یشترط فیه الطهارة عن الحدث الأکبر، فضلاً عن الأصغر، لما ثبت من جواز وطی المرأة حتّی مع جنابتها، أو فیما إذا کانت محدثة بحدث الحیض، إذا کان بعد انقطاع الدم وقبل الاغتسال .

وثانیاً: إنّه مشتمل علی ما لا یقول به الخصم أیضاً، وهو التزامه ذلک إذا طال الزمان الظاهر فی کون الاغتسال والوضوء لخصوص الوطی لا للصلاة.

والحمل علی ما إذا أخلّت ببعض الأفعال السابقة أو کلّها بعیدٌ ، فلا جرم من القول بالاستحباب، حتّی لا یدخل تحت قولٍ قام الإجماع علی بطلانه، إذ لم یقل أحد بوجوبهما لخصوص الوطی إذا أتت بالأفعال للصلاة ، مع أنّک قد عرفت فی صدر البحث من دعوی إجماع الأصحاب علی أنّها إذا قامت بأتیان ما علیها من الوظائف المذکورة کانت بحکم الطاهرة، ویجوز لها کلّ شیء حتّی الوطی ما لم یخرج عن الوقت الذی قد أتی بها فیه للصلاة ، فحمله علی الاستحباب بالتکرار لأجل الوطی إذا وقع الفصل بین الأفعال وبین الوطی بطول الزمان، ممّا لا یستنکره الاعتبار، بل هو موافق للاحتیاط أیضاً عملاً بمقتضی هذا الحدیث .

القول الخامس : القول بتوقّف جوازه علی الغُسل فقط لا ما عداه من الوضوء وغیره ، وهذا هو المشهور بین المتأخّرین، کما فی «العروة» و«حواشیها» من أصحاب التعلیق، تبعاً لظاهر الصدوقین فی «الرسالة» و «الهدایة» .

وعن «جامع المقاصد» المیل، إلیه بل القول به، والاعتراف بأنّ الخلاف لیس إلاّ فیه، وأنّ المراد من الأفعال فی عبارات الفقهاء هو الأغسال إذ لا تعلّق للوطی بالوضوء ، بل عن «المنتهی» اختیاره وإسناده إلی ظاهر الأصحاب، وهو المختار عند الشیخ الأعظم فی «کتاب الطهارة».

بل یمکن الاستدلال له ببعض الأخبار: منها : ما فی خبر مالک بن أعین فی

ص:478

النفساء المرویّ عن الباقر علیه السلام ، فی حدیث.

«ثمّ تتطهّر بیوم فلا بأس، بعد أن یغشاها زوجها، یأمرها فلتغتسل ثمّ یغشاها إن أحبّ»(1) .

أقول: إنّ ظاهر الحدیث یدلّ علی أنّ الأمر بالغُسل لأجل الوطی، أو لما یشترط اتیانه الطهارة .

وما فی «الجواهر»: «مع أنّ الجملة الخبریة ظاهر فی کون الغُسل عن حدث الحیض ، فیتّجه حینئذٍ حمله علی الاستحباب لما تقدّم فی محلّه کخبره الآخر ، ولا دلالة فیه علی کون الغسل غسل الاستحاضة».

لا یخلو عن نقاش، لوضوح أنّ الجملة بالنسبة إلی الغُسل جملة أمریة لا جملة خبریة ، إلاّ أنّ أمره لها بالغُسل من قبیل الأمر ، بالأمر ولعلّه أراد من الجملة الخبریة هذا المعنی.

هذا فضلاً عن أنّ فی دلالة ذلک علی الوجوب وعدمه خلاف، وتحقیقه موکول إلی علم الاُصول ، ولکنّه آکد فی الوجوب .

أمّا کون الغُسل غُسل الحیض لا الاستحاضة فممنوع.

أوّلاً : بإمکان کونه للاستحاضة لا الحیض، بقرینة استظهار یوم حیث یشعر أنّه قد أتت بغسل الحیض قبل الاستظهار ثمّ تستظهر .

وثانیاً: لو سلّمنا عدم إتیانه قبیل ذلک،فیمکن أن یکون الغُسل لهما بالتداخل.

وثالثاً: قد عرفت ماتقدّم من جواز الوطی بعد النقاء قبل الغُسل عن الحیض.

بل قد یظهر من خبر آخر مرویّ عن مالک بن أعین، عن الباقر علیه السلام فی حدیث : «ولا یغشاها حتّی یأمرها فتغسل، ثمّ یغشاها إن أراد»(2) .


1- وسائل الشیعة : الباب 3 من أبواب الاستحاضة، الحدیث 4 .
2- وسائل الشیعة : الباب 3 من أبواب الاستحاضة ، الحدیث 1 .

ص:479

إنّه یتکرّر بتکرّر الوطی ولعلّ مراد صاحب «الجواهر» من الجملة الخبریة هذه الروایة دون السابقة ، وقد عرفت أنّ الجملة الخبریة تکون آکد فی الدلالة علی الوجوب من غیرها ، فحینئذٍ قد یستفاد من هذه الروایة وجوب تکرار الغُسل بتکرار الوطی حیث یمکن ذلک من النفی والإثبات فی قوله علیه السلام : «ولا یغشاها حتّی یأمرها فتغتسل» .

وبالجملة: فإنّ التدبّر فی هذه الروایة والروایة السابقة یوصلنا إلی الأمر بالاغتسال إنّما هو لأجل جواز الوطی فی الاستحاضة دون الحیض .

کما یدلّ علی ذلک أیضاً ما جاء فی مضمرة سماعة، فی حدیث.

«وإن أراد زوجها أن یأتها فحین تغتسل ، الحدیث»(1) .

حیث تدلّ علی أنّ جواز الوطی یکون حین تغتسل .

فی أحکام الاستحاضة / تجدید وضوئها لکلّ مشروط بالطهارة

نعم، حمله صاحب «الجواهر» بعدم الکراهة، لکنّه لا یوجب رفع الید عن ظهورهما فی کون الجواز ثابت فی هذا الظرف بأیّ معنی کان .

وخلاصة الکلام: لولا الأخبار الدالّة علی کفایة الأغسال للصلاة علی جواز الوطی، لکان مقتضی هذه الأخبار لزوم الإتیان بالغُسل لخصوص الوطی، فمقتضی الجمع بین تلک الأخبار مع هذه الأخبار، جواز الاکتفاء بالأغسال للصلاة للوطی أیضاً إذا لم یأت بالوطی مستقلاًّ، وإلاّ فإنّ علیها الإغتسال لخصوص الوطی مستقلاًّ، وإن کان الأحوط هو الإتیان بالغُسل للوطی أیضاً، حتّی مع الإتیان بالغسل للصلاة، کما نسب ذلک إلی المشهور، فی قبال قولٍ ثالث یری بأنّ الغسل مفروض لخصوص الصلاة فقط، ویباح به الوطی أیضاً تبعاً، وإن کان الأحوط من جمیع ذلک هو الإتیان بجمیع الأفعال للوطی، کما یأتی بها


1- وسائل الشیعة : الباب 1 من أبواب الاستحاضة، الحدیث 6 .

ص:480

للصلاة، خصوصاً فی مثل مسّ کتابة القرآن، حیث أنّ قیامها بأتیان جمیعها أحسن، بل الأحوط منه ترک المسّ مطلقاً ، واللّه العالم .

فذلکة: ظهر ممّا ذکرنا أنّ المستفاد من کلمات الأصحاب فی المستحاضة، أنّها إذا فعلت ما علیها تکون بحکم الطاهر، بلا خلاف ظاهر فی جواز الإتیان بجمیع ما یشترط فیه الطهارة، من الصلوات _ فرضها ونفلها والصوم الواجب والمندوب، ومسّ کتابة القرآن، واجتیاز المسجدین، والمکث فیهما وفی غیرهما من المساجد، وقراءة العزائم، لأنّها نتیجة کونها بحکم الطاهر التی قد عرفت وجود الاتّفاق منهم علیه ، وهذا ممّا لا إشکال فیه .

وعلیه یأتی البحث فی أنّه کما ثبت أنّ علیها تجدید الوضوء لکلّ صلاة من الفریضة والنافلة فی المستحاضة بأی قسم کان، فهل یجب علیها تجدیده لکلّ مشروط بالطهارة غیر الصلاة، کالطواف، ومسّ کتابة القرآن الواجبین ، بل حتّی فی المندوبین إن أراد الإتیان بهما، إذا لم نقل بالممنوعیّة فی عدم الضرورة، لأجل کونها دائمة الحدث.

أو لم یجب علیها التجدید، بل یجوز لها الاکتفاء بوضوء واحد للجمیع.

قولان : فمن «مصابیح» العلاّمة الطباطبائی قدس سره بعد ذکر کلامهم المذکور فی صدر المسألة، قال : «قضیّة ذلک، عدم تجدید الوضوء والغُسل لغیر الصلاة من الغایات ... إلی أن قال : وینبغی القطع به علی القول بجواز فصل العمل عن الوضوء والغُسل، ومن البعید وجوب إعادة الغُسل علیها لصلاة الطواف بعد الغُسل للطواف ، ومن المعلوم عدم جوب استقلال دخول المساجد بغُسل غیر غُسل الطواف ، وکلام الأصحاب غیر محرزٍ فی هذا المقام ، فتدبّر»(1) .


1- الجواهر : ج3 / 362 .

ص:481

وعلّق علیه صاحب «الجواهر»:

قلت : لا ینبغی الإشکال فی ظهور عبارات الأصحاب بعدم وجوب تجدید شیء من ذلک علیها، بعد فرض محافظتها علی ما وجب علیها من الأفعال للصلاة، لأنّها تکون حینئذٍ بحکم الطاهر من هذا الدم، فلا یؤثّر استمراره أثراً .

نعم تحتاج إلی الوضوء أو الغُسل، مع عروض أسبابٍ اُخر موجبة لهما من الجنابة والبول ونحوهما .

إنّما الإشکال فی أنّ صیرورتها بمنزلة الطاهر من حدث هذا الدم، موقوفةٌ علی تلک الأفعال للصلاة خاصّة، فلا یشرع حینئذٍ فعلها تلک الأفعال مستقلّة کغیر الصلاة، ولا تفسدها طهارة بالنسبة إلیه ولا إلی غیره .

قد یشعر تصفّح عباراتهم فی المقام، وفی توقّف الصوم علی ذلک، بأنّ طهارتها واستباحتها لتلک الغایات تابعٌ للأفعال الصلاتیة .

نعم قد یلحق بالصلاة الطواف، لکونه صلاة، وللأخبار الواردة فی نفاس أسماء بنت عمیس .

وعلی هذا، فلو استحاضت المرأة فی غیر وقت الصلاة، لم یکن لها استباحة شیء من الغایات التی تتوقّف علی رفعه قبل أن یدخل وقت الصلاة، فتعمل ما علیها من الأعمال، ثمّ تستبیح بذلک غیرها، ولا یجزئها الاغتسال أو الوضوء قبل ذلک لتلک الغایة مثلاً، وقد یرشد إلیه _ زیادة علی ما یظهر من مطاوی کلماتهم ، خصوصاً فی توقّف الصوم والوضوء _ عدم ذکر جملة منهم ما یتوقّف علی أغسال المستحاضة ووضوءاتها فی غایات الوضوء والغُسل، ولعلّه لما ذکرنا أن لیست حینئذٍ غایاتٌ مستقلّة تشرع الأفعال لها ابتداً ، بل هی اُمور تابعة لتکلیفها الصلاتی، فتکون حینئذٍ من قبیل الأحکام فیها ؛ لکن الجرأة علی الجزم

ص:482

بذلک اعتماداً علی مثل هذه الإشعارات لا یخلو عن إشکال ونظر (1) .

أقول : المستفاد من ظاهر کلامه تثبیت کون تلک الأفعال للصلاة خاصّة، وکون ترتّب الغایات علیها إنّما یکون تابعة لها لا بالاستقلال .

نعم قد رجع عن کلامه بمقتضی ما أفتوا به بعدم جواز الفصل بین الأفعال، وبین الصلاة، الموجب کون الفصل ناقضاً لتلک الأفعال لخصوص الصلاة، فلا ینافی ذلک کون الأفعال موجباً لجواز ترتّب سائر الغایات علیها، وإن نقضت بالنسبة إلی الصلاة لأجل الفصل الواقع بینها وبین الصلاة ، هذا .

مع أنّه یرد علیه: أنّه إذا فرض تحقّق النقض بالفصل بالنسبة إلی الصلاة، فلابدّ من تحقّق النقض لغیر الصلاة من الغایات أیضاً، فإذا فرض کون الغایات المذکورة تابعة للصلاة ومن أحکامها، فلا وجه للافتراق فی النقض بین نفس الصلاة وبین غیرها من الغایات، حتّی یستنتج جواز کون الأفعال صادرة لسائر الغایات أیضاً.

بل الأولی حینئذٍ أن یُقال: إنّه إذا فرض عدم جواز الفصل بین الأفعال والصلاة، فإنّ المستفاد منه عدم جواز ترتّب الغایات علیها، إلاّ إذا أتت بالصلاة بعدها، فترتّب الغایات علی الأفعال باقٍ إلی أن یصدق علیها النقض، وهذا لا یتحقّق إلاّ بعد دخول وقت صلاة اُخری الموجب لوجوب إعادة الأفعال، خصوصاً إذا لم تقم بالجمع بین الصلاتین فی الوقت فی المترتّبین، أو بعد الصلاة الواحدة مثل الغداة، حیث یصحّ ترتیب الغایات علیها إلی أن یبلغ وقت صلاة الظهرین، حیث تجب علیها حینئذٍ إعادة الأفعال .

ولکن الدقّة والتأمّل فی الأخبار یفید الظنّ والاطمئنان للفقیه بأنّه یجوز لها


1- الجواهر : ج3 / 362 _ 363 .

ص:483

الإتیان بالأفعال لسائر الغایات، حتّی وإن لم تکن تابعة للصلاة:

منها: الخبر المروی عن مالک بن أعین، حیث جاء فیها: فی حدیث عن الباقر علیه السلام ، حیث قال : «ولا یغشاها حتّی یأمرها فتغتسل، ثمّ یغشاها إن أراد»(1) . بناءً علی عدم جواز الوطی من دون اغتسال .

ومنها: الخبر الآخر المروی عن مالک بن أعین، حیث جاء فیها: «ثمّ تستظهر بیوم، فلا بأس بعد أن یغشاها زوجها، یأمرها فلتغتسل ثمّ یغشاها إن أحبّ»(2) .

ومنها: الخبر المروی عن سماعة : «وإن أراد زوجها أن یأتیها فحین تغتسل ، الحدیث»(3) . فإذا قلنا بجواز الإتیان بالغُسل لغایة الوطی دون صلاة وترتّب علی التابعیّة، فکذلک یجوز لکلّ ما یشترط فیه الطهارة من الغُسل والوضوء، لعدم القول بالفصل بینهما .

کما یمکن استفادة کفایة غسلٍ واحد لترتّب غایتین من الصلاة وغیرها ، ما ورد من جواز الإتیان بالطواف والصلاة بعده بلا إعادة الغسل للثانیة، کما هو صریح الخبر الذی رواه محمد وفضیل وزرارة، کلّهم عن أبی جعفر علیه السلام فی حقّ أسماء بنت عمیس، وقد جاء فی سیاقها : «فأمرها رسول اللّه صلی الله علیه و آله أن تغتسل وتطوف بالبیت وتُصلّی، ولم ینقطع عنها الدم، ففعلت ذلک»(4) .

حیث أنّها اکتفت بغسل واحد للطواف والصلاة بعده ، فیستفاد منه أنّه یکفی فی جواز الإتیان بالغایات غیر الصلاة إذا کانت الأفعال لغیر الصلاة، من دون إعادة الغُسل للصلاة بعده .

هذا، لکن الجرأة علی التعدّی من مورد النصّ إلی غیره لیقال بذلک فی غیر


1- وسائل الشیعة : الباب 3 من أبواب الاستحاضة، الحدیث 1 و 4.
2- وسائل الشیعة : الباب 3 من أبواب الاستحاضة، الحدیث 1 و 4.
3- وسائل الشیعة : الباب 1 من أبواب الاستحاضة، الحدیث 6 .
4- وسائل الشیعة :الباب 3 من أبواب النفاس، الحدیث 19 .

ص:484

الطواف مشکل جدّاً ؛ لإمکان اختصاص الجواز بالطواف والصلاة تسهیلاً للعباد ولخصوص المورد ، باعتبار أنّ الأمر باعادة الغسل للصلاة بعد الطواف توجب المشقّت، خصوصاً مع أنّ الطواف بالبیت صلاة أیضاً کما لا یخفی .

بل لولا احتمال الاختصاص فی خصوص الطواف لأمکن جعل هذا الحدیث دلیلاً علی جواز ترتیب سائر الغایات علی الأفعال التی قامت بها لغایة غیر الصلاة کالطواف ، فبذلک یظهر صحّة ما اختاره صاحب «الجواهر» حیث قال: «بعد الإتیان بالأفعال لغیر الصلاة هل تکون بمنزلة الطاهر بالنسبة إلی سائر الغایات غیر الصلاة، أو یقتصر علی خصوص تلک الغایة التی فعلت الأفعال لها، اقتصاراً علی المتیقّن؟ لا یبعد الأوّل » . انتهی کلامه .

فی أحکام الاستحاضة / صلاتها و صومها لو أخلّت بما علیها

فالأقوی عندنا: واللّه العالم، جواز الإتیان بالأفعال لسائر الغایات، فیجب علیها تجدید الوضوء لکلّ غایة من الغایات فیما یشترط فیه الطهارة، مثل مسّ المصحف، وقراءة العزائم بالاعتبار إلی الغُسل ، وکذا الدخول إلی المسجدین، والمکث فی غیرهما من المساجد وأمثال ذلک، إذا لم تأت بالأفعال للصلاة ، وإلاّ قد عرفت کفایته فیما یصدق علیه التبعیّة، لأنّها بعد الأفعال تصبح کالطاهر، وإن کان الأحوط علیها تکرار الأفعال لمثل تلک الغایات .

ومن ما ذکرنا والتأمّل فیه، یظهر لک حکم النوافل والقضاء والآیات وغیرها من الصلوات، حیث یجوز الإتیان بالأفعال لها مستقلاًّ، والإتیان بالوضوء لکلّ صلاة کالأدائیّة ، بل یحتمل الحکم بجواز الاکتفاء بالأفعال التی أتی بها للأدائیّة من باب التبعیّة التی قد عرفت تحصیلها، وإن کان الأحوط عدم الإتیان بالقضاء حتّی النقاء من الدم، فیما لم إذا لم تجب علیها القضاء فوراً، وأن لا تقدّم ببعض الأعمال التی سبق ذکرها مثل کالإتیان بقضاء الصبح قبل الأداء فی ذلک الیوم، عند من یقول بوجوب تقدیم القضاء علی الأداء ، فتأمّل جیّداً .

ص:485

وإن أخلّت بذلک لم تصحّ صلاتها، وإن أخلّت بالأغسال لم تصحّ صومها (1).

هذه العبارة مشتملة علی مسألتین:

(1) الأولی: عدم صحّة الصلاة لو أخلّت المستحاضة بشیء من الأفعال الواجبة علیها، من الأغسال والوضوءات وتغییر القطنة والخرقة، وغَسل ظاهر الفرج والبدن، لما قد عرفت من دلالة الأدلّة المتقدِّمة علی وجوب تلک الأفعال، الظاهرة فی الوجوب الشرطی دون التکلیفی ، ولا دلیل علی خلاف ذلک، إلاّ ما ورد فی صحیحة علی بن مهزیار الآتیة، حیث أنّها مشتملة علی أنّها تقضی الصوم ولا تقضی الصلاة عند الإخلال بالأفعال ، مع أنّها شاذّة معرضٌ عنها الأصحاب، أو محمولٌ بما لا ینافی مع ما ذکرنا من وجوب الإعادة فی الوقت، والقضاء فی خارجها، وهی مسألة مسلّمة اتّفاقیّة، ولا خلاف فیها، فلا تحتاج إلی مزید بیان وکلام .

الثانیة : حکم عدم صحّة الصوم لو أخلّ بالأغسال اللاّزمة علیها، وهی فی الجملة ممّا لا خلاف فیه، کما فی «الجواهر».

حیث یقول: من غیر خلاف أجده فیه ، بل فی «جامع المقاصد» وعن حواشی «التحریر» و «منهج السداد» و «الطالبیة» و «الروض» بالإجماع علیه ، بل لا خلاف بین الأصحاب کما فی «الحدائق» فی أنّه لو اشتملت الأغسال الواجبة علیها فی حال التوسّط أو الکثرة فی الجملة، لم یصحّ صومها .

وفی «المدارک» و «الذخیرة» و «شرح المفاتیح» إنّه مذهب الأصحاب، والظاهر عدم الفرق فی الإخلال بالغُسل بین المتوسّطة والکثیرة، کما قد صرّح بذلک فی «جامع المقاصد» کالمحکی عن غیره ذلک .

فی أحکام الاستحاضة / حکم صومها لو أخلّت بما علیها من الأغسال

فما فی «البیان» وعن «الجعفریّة» و «الجامع» من التقیید بالکثیرة شاذ ، أو محمول علی ما یقابل القلّة ، إذ لا وجه للقول بالفرق بینهما، خصوصاً إذا أوجبنا

ص:486

غسل المتوسّطة فی الصبح بعد طلوع الفجر، حتّی یکون من قبیل الأغسال النهاریة التی ستعلم أنّ الإخلال بها موجبٌ لإبطال الصوم إجماعاً فی الجملة .

کما لا وجه للتوقّف فی أصل الحکم، أی الإبطال فی الصوم مع الإخلال بالأغسال، لأجل المناقشات فی الروایة المذکورة التی سیأتی تفصیلها، کما وقع ذلک للسیّد فی «المدارک»، قائلاً : إنّه قد یظهر التوقّف من الشیخ فی المبسوط فی هذا الحکم، حیث أسنده إلی روایة الأصحاب، وهو فی محلّه) .

مع أنّه فی غیر محلّه کما أشار إلیه صاحب «الجواهر» بقوله : «إذ قد عرفت أنّه فی غیر محلّه، بعدما سمعت من اتّفاق الأصحاب علی أنّ ما استظهر من الشیخ لتلک العبارة محلُّ منعٍ، سیّما بعد ملاحظة طریقته وطریقة مشارکیه من العاملین بأخبار الآحاد، حیث یسندون الحکم إلی روایة الأصحاب، مع عدم التعریض لطعن أو قدحٍ أنّه فی غایة الاعتماد عندهم ، بل ذلک من الشیخ مؤیّدٌ للمختار، لکونه إمّا روایة مستقلّة أو إشارة إلی الصحیحة المتقدِّمة علی کلّ حال ، فالتأیید به متّجه» ، انتهی کلامه(1) .

أقول: یقتضی المقام أن نستعرض أدلّة هذا الحکم، فنقول: استدلّ أصحابنا علی ذلک بصحیحة علی بن مهزیار ، قال : «کتبتُ إلیه إمرأةً طهرت من حیضها أودم نفاسها فی أوّل یوم من شهر رمضان، ثمّ استحاضت فصلّت وصامت شهر رمضان کلّه، من غیر أن تعمل ما تعمله المستحاضة من الغُسل لکلّ صلاتین ، هل یجوز صومها وصلاتها أم لا؟ فکتب علیه السلام : تقضی صومها ولا تقضی صلاتها ؛ لأنّ رسول اللّه صلی الله علیه و آله کان یأمر المؤمنات من نسائه بذلک».

هذا النصّ بحسب ما رواه الشیخ الصدوق فی «علل الشرائع» و «الفقیه» حیث


1- الجواهر : ج3 / 365 .

ص:487

خلا نصّیه عن ذکر فاطمة علیهاالسلام ، بخلاف المحکیّ عن «التهذیب» و «الکافی» حیث أن ضبط ذیل الخبر عندهما بقوله: «لأنّ رسول اللّه صلی الله علیه و آله کان یأمر فاطمة علیهاالسلام والمؤمنات من نسائه بذلک» .

قیل: إنّ هذه الروایة تدلّ علی وجوب قضاء الصوم، لأجل الإخلال بما علیها من الغُسل لکلّ صلاتین.

مضافاً إلی ما عرفت من ظهور الأدلّة السابقة فی الوجوب الشرطی للصلاة ، بل للصوم ، لما قد عرفت من کون دم الاستحاضة حدثاً إجماعاً، خصوصاً فی المتوسّطة والکبری، حیث یکون المُحدِث بالحدث الأکبر الموجب للغُسل مانعاً من الدخول فی الصلاة والصوم حتّی یرفع أو ینقشع بالغسل الموجب للظنّ أو الاطمئنان بذلک .

مع أنّه لو شکّ فی جوازه بلا غُسلٍ، فمقتضی الاشتغال الیقینی هو الفراغ الیقینی ممّا یستلزم الإتیان بالغسل أیضاً ، فلو أخلّت به وجب علیها قضاء الصوم .

هذا مضافاً إلی ما عرفت من وجود الإجماع علیه، فیکون ذلک ثالث الأدلّة علی الحکم فی المقام هذا غایة ما یمکن أن یستدلّ لذلک .

ولکن أورد علیه باُمور لا بأس بذکرها تفصیلاً ؛ أمّا سند الروایة: فقد قیل إنّها ضعیفة، لاشتمالها علی الإضمار والکتابة، مع أنّ واحدة منهما یکفی فی الضعف، فضلاً عن وجود کلاهما فیها .

وفیه: سبق وأن ذکرنا مراراً من أنّ المعیار فی حجّیة الأخبار هو الوثوق بصدورها، وهو یحصل باستناد المتقدّمین من الأصحاب علیه ، وهذه الروایة من هذا القبیل، إذ أنّها مرویّة فی الکتب المعتبرة الثلاثة، وقد استدلّ بها الفقهاء وأصحابنا المتقدّمین، وهو یکفی فی الاطمئنان بالصدور ، ولأجل ذلک تری أنّ الشیخ أسند الحکم المذکور إلی روایة الأصحاب، بناءً علی أن مراده هذه الروایة،

ص:488

ممّا یعدّ کلامه شهادة علی استناد الأصحاب إلیها .

مع أنّه لو کان مراده إلی غیر هذه الروایة أصبح ما أسنده إلیهم کالروایة المرسلة ویتمّ حجّیته بالاستناد .

مضافاً إلی أنّ الإضمار عن مثل ابن مهزیار المعلوم حاله فی الجلالة عند الشیعة، ممّا لا یقدح فی السند، کما لا یخفی .

مع أنّه لو سلّمنا ضعف الروایة بالإضمار والمکاتبة بالإجماع المدّعی هنا ، أو الشهرة العظیمة لو لم نسلّم الإجماع ، إمّا من جهة عدم حجّیة منقوله ، أو عدم حصول محصّله وهو یکفی فی کونه سنداً للحکم .

وأمّا دلالة الروایة: فقد قیل أنّها ساقطة دلالة لمخالفتها مع الأخبار المعتبرة الدالّة علی أنّ فاطمة علیهاالسلام لم تکن تری حُمرةً لا حیضاً ولا استحاضة ، هذا .

ولکن اُجیب عنه أوّلاً : بخلوّ الخبر عن لفظ فاطمة علیهاالسلام فی المرویّ عن «الفقیه» و «علل الشرائع» للصدوق، وإن ذُکرت فی المحکیّ عن «التهذیب» و «الکافی» .

وثانیاً: علی فرض قبول ذکرها، فلم یطمئنّ کونها فاطمة الزهراء بنت رسول اللّه صلی الله علیه و آله ، بل کان ذکر جملة علیهاالسلام من توهّم فهم السائل والکاتب ، ویحتمل کون المراد من فاطمة هی فاطمة بنت أبی حُبیش «بالمهملة والموحّدة والمعجمة مع التصغیر» واسمه قیس بن عبد المطّلب الأسدیّة صحابیّة ، وهی التی سئلت اُمّ سلمة عن حدیث الحیض ، وعن الباقر علیه السلام : «أنّها استحیضت سبع سنین».

وفی المحکی فی «مصباح الهدی» إنّها کانت مشهورة بکثرة الاستحاضة، والسؤال عن أحکامها کما یظهر من مرسلة یونس المتقدّمة مراراً(1) .


1- مصباح الهدی : ج5 / 195 .

ص:489

وثالثاً : لو سلّمنا کونها بنت رسول اللّه صلی الله علیه و آله ، وصدورها کذلک ، فمع ذلک یحمل علی أنّه صلی الله علیه و آله کان یأمر فاطمة علیهاالسلام أن تأمر المؤمنات بذلک، ویؤمئ إلی صحّة هذا الحمل والاحتمال ما ورد فی صحیح زرارة علی احتمال ، قال : «سألت الباقر علیه السلام عن قضاء الحائض الصلاة، ثمّ تقضی الصوم ؟ فقال علیه السلام : لیس علیها أن تقضی الصلاة، وعلیها أن تقضی صوم رمضان . ثمّ أقبل علیَّ فقال : إنّ رسول اللّه صلی الله علیه و آله کان یأمر بذلک فاطمة علیهاالسلام وکانت تأمر بذلک المؤمنات»(1) .

ثمّ استشکل فی الروایة من حیث الدلالة بأنّها مشتملة علی ما یخالف الإجماع، وهو عدم وجوب قضاء الصلاة فیما إذا أخلّت بالأغسال فی المستحاضة ، مع أنّ الإجماع قائمٌ علی وجوب القضاء .

واُجیب عنه بوجوه :

أوّلاً : بمثل ما ذکره الشیخ فی «التهذیب» من حمل عدم قضاء الصلاة علی ما إذا لم تعلم أنّ علیها لکلّ صلاتین غسل .

وثانیاً : بما أنکره المحقّق الأردبیلی من حمله علی ما کان ترک الصلاة فی أوقات الحیض ، ولعلّه إلیه یرجع ما فی «المنتقی» ووافقه علیه الأمین الاسترآبادی وبعض الأفاضل، من أنّ هذا جواب عن السؤال عن حکم الحائض، وأنّ الراوی توهّم أنّه جواب عن حکم الاستحاضة .

وثالثاً : یحتمل أن لا یکون لتوهّم السائل کذلک ، بل کان لاحتمال وجود التقیّة، فأجاب حکم النفساء التی کثیراً ما تبتلی بمثل الفرض غالباً، کما ورد فی أخبار کثیرة ممّا ورد فیها أمر النفساء بالجلوس أربعین یوماً، وما بین الأربعین والخمسین ولو کان لأجل التقیّه کما قد یؤیّده کونها مکاتبة .


1- وسائل الشیعة : الباب 41 من أبواب الاستحاضة، الحدیث2 .

ص:490

ورابعاً : ما عن صاحب «الجواهر» قدس سره ، وفی «مصباح الهدی» أنّه أحسنها بعدما أجاب عن الوجوه السابقة بأجوبة باردة، وهو صحّة التفکیک فی الحجّیة، وإنّ خروج بعض الخبر عن الحجّیة لا یخرج جمیعها عنها، إذ هو بالنسبة إلی الفقرات المشتمل علیها أخبار متعدّدة لا سیما فی المکاتبة التی هی مظنّة الوقوع فی الوهم الناظر إلیها .

أقول: ونحن نزید بیاناً وتوضیحاً بأنّ ظاهر الخبر وإن یقتضی وجوب القضاء فی الصوم وعدمه للصلاة ، ولکن نرفع الید عن مورد الصلاة لأجل الأخبار الدالّة علی وجوب القضاء فی الصلاة لو أخلّت بالأغسال ، کما لا یجب للصوم . وللإجماع والعمل بمضمونه فی مورد الصوم ، فلا غروّ من القول بکون الروایة مستند المشهور فی القول بوجوب القضاء فی الصوم ردّاً علی ما جاء فی «مصباح الفقیه» حیث أنکر ذلک .

ومن ذلک یظهر عدم تمامیّة ما فی «مصباح الهدی» حیث قال : «إنّ الإجماع هنا غیر حجّة لکونه معلوم الملاک أو محتمله . هذا ولکن مخالفتهم فی مثل ذاک الوفاق الحاصل منهم فی الحکم بالبطلان مشکلة جدّاً ، وعلیه فلا محیص عن الحکم به کما حکموا، وإن کان تتمیمه بالدلیل لا یخلو عن الإشکال» ، انتهی(1) .

لما قد عرفت من تمامیّة دلیل الروایة وانجبارها بعمل الأصحاب، فضلاً عن أنّ الإجماع یعدّ مؤیّداً لها ویکون حجّة قطعاً، لتمامیّة دلالة الدلیل فی مورد الصوم ، مضافاً إلی کفایة نفس وجود الإجماع والاتّفاق علیه، حیث لم یعرف الخلاف فیه من أحد .

نعم ، حُکی عن المحقّق النراقی، صاحب «المستند» قدس سره حکایته عن


1- مصباح الهدی : ج5 / 196 .

ص:491

«المبسوط» و «المعتبر» التوقّف فی الحکم، واستظهر أیضاً عن جمع من المتأخّرین کالمدارک و «البحار» و «شرح القواعد» للهندی، و «شرح الإرشاد» للأردبیلی و «الحدائق»: أنّ وجه التوقّف وهن الخبر سنداً لإضماره، ومتناً لما فیه من الخلل، ودلالةً لقصوره عن إفادة وجوب قضاء الصوم ، بل نهایته الرجحان المحتمل للاستحباب، واحتمال أن یکون لفظ (تقضی) من باب التفعّل، ویکون المعنی أنّ صومها صحیح دون الصلاة وهو فی محلّه جدّاً ، والاحتیاط لا یترک مهما أمکن ) انتهی ما فی «مستند الشیعة»(1) علی المحکی فی «مصباح الفقیه» .

أقول: وقد عرفت ضعف هذا البیان والاحتمال ، وأنّ الأحوط وجوباً هو البطلان، لو لم یکن أقوی لو أخلّت بالأغسال فی الجملة .

فإذا عرفت صحّة توقّف الصوم علی الأغسال بما ذکرناه، یأتی الکلام فی بحث آخر وهو أنّه بناءً علی التوقّف ، فهل تتوقّف صحّة الصوم علی الأغسال النهاریّة خاصّةً أم لا؟

وجوه وأقوال : المحکیّ عن «المنتهی» و «التذکرة» و «البیان» وصاحب «الجواهر» وصاحب «العروة» هو الأوّل ، ولعلّ مستند هؤلاء الأعلام فی الحکم استفادة کون الوجه فی التوقّف هو منافاة حدیث الاستحاضة للصوم، ولا مدخلیّة للحدث الواقع فی اللیل للصوم الواقع فی النهار، ولا سیّما ما یقع منه فی اللیلة اللاّحقة ، وبذلک یفهم عموم الشرط لغسل صلاة الفجر، حیث إنّ له دخلاً فی رفع التنافی بین الحدث الواقع فی النهار وبین الصوم ، ولا ینحصر بخصوص غُسل الظهرین بدعوی الجمود علی ما جاء فی نصّ الخبر من قول السائل: «من غیر أن تفعل ما تعمله المستحاضة من الغُسل لکلّ صلاتین» حیث لا یشمل ذلک


1- مستند الشیعة للنراقی: ج3 / 38.

ص:492

لغسل صلاة الصبح .

کما یظهر من ذلک وجه توقّف صحّته علی الأغسال النهاریة وغسل اللیلة السابقة، وهو غُسل العشائین، إذ الوجه فی توقّفه علی الأغسال النهاریة هو ما عرفت ، وأنّ الوجه لتوقّفه علی غُسل العشائین فلعلّه لأجل مانعیّة الحدث عن الدخول فی الصوم، لأنّ المرأة محدثة حین الدخول فی الصوم ، وهذا هو الوجه للقول الثانی .

قد یُقال : بأنّ هذا الدلیل لو تمَّ لکان اللاّزم تخصیص شرطیّة غسل اللیلة الماضیة بما إذا لم تتقدّم غُسل صلاة الفجر علی الفجر، إذ تکون المرأة حینئذٍ کالمرأة المنقطع عنها الدم فی اللیلة الماضیة، مع عدم إتیانها بالغُسل قبل الفجر، فلابدّ لها من رفعه حتّی یصحّ لها الدخول فی الصوم، کما حُکی عن «الذکری» و «الروض»، واختاره الشیخ الأکبر فی «الطهارة» ، بناءً علی استفادة کون المانع عن صحّة الصوم هو الحدث لا التعبّد .

فإنّه یقال: لولا الدعوی علی الاشتراط بالنسبة إلی غسل اللیلة الماضیة مطلقاً، أی حتّی مع تقدیم غُسل الفجر علی الفجر، مع فرض استمرار الدم للمرأة ؛ لأنّ المفروض کون التوقّف لأجل الحدث، وهو لا یرتفع إلاّ بإتیان الغُسل فی اللیلة السابقة بما یصدق علیه أنّه غسل اللیلة وغُسل للفجر . نعم ، یصحّ لها أن تعید الغسل بعد الفجر لصلاة الصبح بعد غُسله للفجر قبل الفجر، أو انقطع عنها الدم بعد غُسل الفجر وقبیل الفجر بحیث لم یتحقّق الحدث لها بعد الغُسل، وبرغم أنّ ذلک صحیح، لکنّه خارج عن الفرض المبحوث عنه فی المقام ، وهذا هو الذی احتمله فی «الروض» ، بل هو مختار جماعة من الفقهاء کالعلاّمة البروجردی وغیره علی الأحوط.

ولا یخلو عن وجه، لما قد عرفت وجهه من دخالة الأغسال فی اللیلة السابقة

ص:493

والنهاریة فی رفع الحدث بمعنی الاستباحة ، إلاّ أنّ مع التقدیم فی الفجر علی الفجر یحکم بالإجزاء، باحتمال کونها کالمنقطعة، کما قد صرّح بذلک المحقّق البروجردی والآملی، وإن کان الأحوط منه هو ما عرفت من إعادة الغُسل بعد الفجر أیضاً .

وأمّا الوجه للقول الثالث: وهو القول بشرطیّة الأغسال النهاریة مع غُسل اللیلة اللاّحقة فقط دون السابقة، وهو ظاهر المشهور ، بل ظاهر کلّ من عبّر بتوقّف صحّة الصوم علی الاغتسال .

وأمّابالنسبة إلی غُسل صلاة الفجر،فلما عرفت من مانعیّة الحدث للصوم، وهو یقتضیالقول بلزوم إتیان هذا الغُسل قبل الفجر لا بعده،لأنّه یوجب نقض الغرض.

اللّهُمَّ إلاّ أن یُدّعی دخالته لرفع الحدث من أوّل الوقت، حتّی لو قامت بها بعد الفجر فحکمه حینئذٍ حکم دخالة غُسل الظهرین نفیاً وإثباتاً فی صحّة الصوم وعدمه، حیث یکون له وجه .

وأمّا دخالة غُسل الظهرین والعشائین اللاّحقین، فإنّما ذلک لأجل شمول إطلاق الدلیل المذکور فی الخبر من قوله علیه السلام : «من غیر أن تفعل ما تعمله المستحاضة من الغُسل لکلّ صلاتین» ، حیث یشمل إطلاقه غُسل العشائین .

وأمّا اختصاصه باللاّحقة دون السابقة، فلمّا تقدّم من عدم مدخلیّة الحدث الواقع فی اللیل للصوم الواقع فی النهار ، إلاّ فی اللاّحقة، لشمول إطلاق الدلیل، والتوجیه الصحیح لدخالته المستلزم کونه من قبیل دخالة الشرط المتأخّر فی المتقدّم حسبما فصّل فی الاُصول ، وإلاّ لکان الوجه فی التوقّف فیما عدا غُسل اللیلة اللاّحقة کما زعم ذلک القائلون بالقول الثانی .

أمّا وجه القول الرابع: وممّا ذکرنا ظهر وجه القول الرابع من التوقّف بالأغسال فی اللیلتین والنهاریة، حیث کان ذلک لأجل التمسّک بظاهر إطلاق الدلیل

ص:494

المذکور من ترک الغسل لکلّ صلاتین الشامل للعشائین فی اللیلتین والظهرین مع ضمیمة غُسل الفجر، لکونه رافعاً للحدث المبیح للدخول فی الصوم .

وأمّا وجه القول الخامس: من توقّف صحّة الصوم علی غُسل الفجر فقط، حیث لم یظهر له قائلٌ ، بل هو مجرّد احتمال احتمله «کشف اللِّثام» تبعاً لما احتمله العلاّمة فی «النهایة» .

وما یمکن أن یُقال فی توجیهه: هو کفایة الدخول فی الصوم مع الطهارة، وعدم اعتبار بقاء الطهارة فی تمام النهار .

ولکن علی هذا التقدیر لابدّ أن من الالتزام بوجوب تقدیم الغُسل علی الفجر، حتّی یصدق أنّه دخل فی الصوم مع الطهارة .

أقول: ولکنّه مخالف مع ما استُفید من الصحیح المذکور المروی عن ابن مهزیار من اعتبار الغُسل الواجب للصلاتین فی صحّة الصوم .

هذا کلّه هو بیان الوجوه للأقوال الخمسة أو محتملاتها .

خلاصة الکلام: الأحوط _ لولا الأقوی _ هو القول الثانی ؛ أعنی اعتبار الأغسال النهاریة وغُسل اللیلة الماضیة ؛ أی غسل صلاة الظهرین، وذلک لأنّه القدر المتیقّن من النصّ المذکور فیه لزوم الغُسل لکلّ واحد من الصلاتین .

وأمّا غُسل صلاة الفجر: فلاستفادة مانعیّة الحدث عن صحّة الصوم، واشتراط صحّته بما یشترط به صلاتها، مع دعوی الاتّفاق علی اعتباره فی صحّته إذ لم یحک القول بعدم توقّفها علیه عن أحد .

وأمّا غسل اللیلة الماضیة فلأجل استفادة المانعیّة للحدث ، وإن قیل هذا إنّما یصحّ بما أنّها لم تقدّم غُسل صلاة: الفجر علی الفجر، وإلاّ لکان غُسل صلاة الفجر کافیاً فی رفع المانعیّة ، ولکن الأحوط هو إعادة غُسل الفجر بعده أیضاً، إن قَدّم الغُسل علی الفجر، وإن کان قد ورد فی «فقه الرضا» بجواز تقدیمه

ص:495

لصلاة اللیل وصلاة الغداة .

وأمّا غسل اللیلة اللاّحقة: فلعدم مساعدة الدلیل علیه ، وإن کان الاحتیاط فیه حسناً، لعدم الاستبعاد فی تصحیح الشرط المتأخّر، کما وسبق توجیه ذلک فی الاُصول بامکانه لو قام الدلیل علیه .

ثمّ لا فرق فیما ذکرنا من التوقّف علی الأغسال بین الکثیرة والمتوسّطة، فی لزوم الإتیان بالغُسل الواجب علیها بحسب حالها، خلافاً لبعضٍ ممّن زعم اختصاصه بالکثیرة .

ثمّ إنّ ظاهر کلام المصنّف کظاهر غیره ، بل صریحه هو التوقّف علی خصوص الأغسال دون غیرها من الوضوءات، وتغییر القطنة والخرقة، خلافاً لما یظهر من «السرائر» کما عن صوم النهار، و «المبسوط» توقّفه علی غیرها من أفعالها لتعلیق الفساد علی الإخلال بما علیها، فیشمل غیر الأغسال أیضاً، کما یظهر من طهارة «المبسوط» توقّفه علی الأغسال وتجدید الوضوء، ناسباً مع الإخلال بذلک إلی روایة أصحابنا، ولعلّه للإشعار الموجود فی سؤال السائل فی روایة علی بن مهزیار، من أنّ المدار علی أفعال المستحاضة، وإن اقتصر فیه علی ذکر جمع الصلاتین بغسل واحد ، ولکن الأقوی عدم توقّفها إلاّ علی الغُسل فقط، بلا فرقٍ بین کون الوضوء واجباً فی نفس الاستحاضة کالوضوء الواجب لصلاة الصبح فی المتوسّطة والظهرین والعشائین فی الکثیرة، علی القول باختصاص الوجوب فیها أم لا ، لما قد عرفت فی بحث الجنابة من عدم دخالة الوضوء بنفسه لرفع الحدث الأکبر ، بل لو کان واجباً، لکان واجباً مستقلاًّ بدلیله ، فحینئذٍ ینبغی الاقتصار علی موضع الدلیل فی وجوبه وتوقّفه، وهو لیس إلاّ فی الصلاة دون الصوم ، وما ورد من حدیث ابن مهزیار فی خصوص الصوم لا یشمل إلاّ خصوص الغُسل دون الوضوء، وغیره من الأُمور من تغییر القطنة والخرقة .

ص:496

فالأقوی عندنا کون الإخلال فی خصوص الغُسل مضرّاً لصحّة الصوم دون الوضوء وغیره من سائر الأفعال ، مضافاً إلی عدم الدلیل علی اعتبار غیر الوضوء موجباً لرفع الخبث الدخیل فی الصلاة الذی یتوقّف صحّتها علی رفع الخبث دون الصوم، حیث لا یکون الدخیل فیه إلاّ من خلال رفع الحدث .

فی النفاس / تعریفها

هذا آخر ما أوردنا من البحث فی الاستحاضة. والحمدُ للّه أوّلاً وآخراً وصلّی اللّه علی سیّدنا محمّد وآله الطیبین الطاهرین.

* * *

هذا آخر کلامنا فی هذا الجزء، وکان الفراغ منه یوم الخمیس العاشر من شهر جمادی الاولی، سنة ألف وأربعمائة وأربعة وعشرین من هجرة النبیّ صلی الله علیه و آله ، کتبه بیمناه الداثرة أقلّ العباد السیّد محمد علی ابن المرحوم آیة اللّه السیّد سجاد العلوی الحسنی الحسینی الاسترابادی. وآخر دعوانا أن الحمدُ للّه ربّ العالمین.

ص:497

الفهرست

الفهرست

أحکام الحیض / وجوب الاستبراء إذا انقطع الدم قبل العشرة••• 5

أحکام الحیض / لو خرجت القطنة عند الاستبراء نقیّة••• 13

أحکام الحیض / وجوب الاستظهار إذا استمرّ الدم••• 17

أحکام الحیض / أیّام الاستظهار و حکمها••• 23

أحکام الحیض / حکم أعمالها أیّام الاستظهار••• 47

أحکام الحیض / حکم وطیها قبل الغسل إذا طهرت••• 50

الماء المستعمل فی الوضوء غیر الرافع للحدث••• 63

أحکام الحیض / إذا دخل وقت الصلاة فحاضت••• 64

أحکام الحیض / طهر الحائض قبل آخر الوقت••• 75

ما یحرم علی الحائض / کلّ ما یشترط فیه الطهارة••• 86

ما یحرم علی الحائض / مسّ کتابة القرآن••• 92

ما یحرم علی الحائض / فی کراهة حمل المصحف و لمس هامشه علیها••• 94

ما یحرم علی الحائض / فی عدم ارتفاع حدثها لو تطهّرت••• 96

ما یحرم علی الحائض / فی إتیان الحائض بالأغسال المستحبّة••• 98

ما یحرم علی الحائض / إتیان الحائض الأغسال الواجبة علیها••• 98

ص:498

ما یحرم علی الحائض / فی عدم صحّة الصوم منها••• 101

ما یحرم علی الحائض / اللبث فی المسجد••• 103

ما یحرم علی الحائض / فی حکم الاجتیاز فی المسجد علیها••• 107

ما یحرم علی الحائض / حکم قرائة العزائم و غیرها••• 111

ما یحرم علی الحائض / فی حکم سجدة التلاوة لها••• 116

ما یحرم علی الحائض / وطؤها حتّی تطهر••• 121

ما یحرم علی الحائض / فی من جامع امرأته و هی طامث••• 126

ما یحرم علی الحائض / وطؤها فی أیّام هی محکومة بالحیضیّة••• 127

ما یحرم علی الحائض / وطؤها فی أیّام الاستظهار••• 132

ما یحرم علی الحائض / فی استفسار الزوج عن حالها قبل الوطی••• 134

ما یحرم علی الحائض / فی الاعتماد علی إخبارها بطهارتها••• 137

ما یحرم علی الحائض / فی استمتاع الزوج بما عدا القبل••• 141

ما یحرم علی الحائض / کفّارة وطی الحائض••• 147

ما یحرم علی الحائض / مصرف کفّارة وطی الحائض••• 172

ما یحرم علی الحائض / حکم العاجز عن أداء کفّارة الوطی••• 180

ما یحرم علی الحائض / فی طلاق الحائض••• 183

غسل الحیض / هل یجب غسل الحیض لنفسه أم لا؟••• 184

غُسل الحیض / غسل الحیض مثل غسل الجنابة••• 186

غُسل الحیض / لو تخلّل الحدث الأصغر فی أثنائه••• 188

غُسل الحیض / عدم کفایته عن الوضوء••• 191

غُسل الحیض / فی کلّ غسل وضوء إلاّ الجنابة••• 194

غُسل الحیض / عدم کفایته عن الوضوء••• 196

غُسل الحیض / الوضوء قبله أو بعده؟••• 202

ص:499

غُسل الحیض / ثمرة تقدیم الوضوء علیه و تأخیره عنه••• 205

غُسل الحیض / فی أنّ ماء غسل الحائض علی الزوج••• 215

قضاء الصوم و الصلوات الفائتة عن الحائض••• 216

ما یستحب علی الحائض••• 227

کراهة الخضاب علی الحائض••• 237

الاستحاضة / أوصافها و علائمها••• 240

الاستحاضة / أوصافها و علائمها••• 243

الاستحاضة / ما تراه المرأة قبل التسع أو بعد الیأس••• 244

الاستحاضة / ما یزید عن العادة و یتجاوز العشرة••• 248

الاستحاضة / ما تراه الحامل••• 248

الاستحاضة / ما تراه المرأة مع الیأس أو قبل البلوغ••• 260

حکم المبتدأة••• 261

حکم المبتدأة إذا تجاوز الدم عشرة أیّام••• 262

الاستحاضة / فی حکم المبتدأة إذا فقدت التمییز••• 294

الاستحاضة / المبتدأة و المضطربة إذا تعذّر لهما الرجوع إلی عادة نسائهما••• 307

الاستحاضة / فی حکم ذات العادة إذا تجاوز الدم عشرة أیّام••• 324

الاستحاضة / فی حکم ذات العادة إذا تقدّمت العادة أو تأخّرت••• 332

الاستحاضة / فی حکم ذات العادة إذا رأت قبل العادة و بعدها••• 334

الاستحاضة / فی حکم المضطربة••• 337

الاستحاضة / فی حکم المضطربة لو ذکرت العدد و نسیت الوقت••• 340

الاستحاضة / فی حکم المضطربة لو ذکرت الوقت و نسیت العدد••• 346

الاستحاضة / فی حکم المضطربة ناسیة الوقت و العدد••• 352

الاستحاضة / الاستحاضة الصغری••• 356

ص:500

الاستحاضة / الاستحاضة الوسطی••• 374

الاستحاضة / الاستحاضة الکبری••• 395

الاستحاضة / الاعتبار بوقت کمّیّة الدم••• 415

الاستحاضة / أقسام انقطاع دم الاستحاضة••• 417

الاستحاضة / انقطاع الدم الناشئ من الفترة••• 425

الاستحاضة / لو حدثت الاستحاضة الوسطی بعد صلاة الصبح••• 430

الاستحاضة / فی الجمع بین الصلاتین فی الاستحاضة الکبری••• 435

الاستحاضة / المبادرة إلی الصلاة بعد الوضوء أو الغسل••• 438

الاستحاضة / تقدیم الغسل علی الوقت للوسطی و الکبری••• 443

الاستحاضة / الحدّ المجاز من الفصل لتحصیل مقدّمات الصلاة••• 446

الاستحاضة / الاستظهار لمنع خروج الدم••• 449

الاستحاضة / المستحاضة بحکم الطاهر لو أتی بما علیها••• 460

الاستحاضة / وطی المستحاضة••• 468

الاستحاضة / تجدید وضوئها لکلّ مشروط بالطهارة••• 479

الاستحاضة / صلاتها و صومها لو أخلّت بما علیها••• 484

الاستحاضة / حکم صومها لو أخلّت بما علیها من الأغسال••• 485

النفاس / تعریفه••• 496

المجلد 6

اشارة

ص: 1

تألیف

آیة اللّه العظمی الحاج السیّد محمّد علی العلوی الگرگانی

الجزء السادس

ص:2

ص:3

بسم الله الرحمن الرحیم

ص:4

ص:5

فصلٌ فی النفاس

قوله رحمه الله : الفصل الرابع فی النِفاس . النِفاس دم الولادة (1).

(1) النفاس (بکسر النون) لغةً ولادة المرأة، إذا وضعت فهی نفساء، وقد نفست المرأة کفرح، والولد منفوس، ومنه الحدیث: «المنفوس لا یرث شیئاً حتّی یصیح »، وجمع النفساء نفاس، ویُجمع أیضاً علی نفساوات، ونفست المرأة بالبناء للمفعول وهو من النفس وهو الدم ، انتهی ما فی «مجمع البحرین» .

وقریبه ما فی «الصحاح» و «القاموس» ، إلاّ أنّهما زادا : «والجمع نفاس بکسر النون مثل عشراء وعشار، ولا ثالث لهما» .

وعن «الغریبین»: یُقال : «نفست المرأة بضمّ النون وفتحها وفی الحیض بالفتح لا غیر کما قیل ، بل قد یجمع أیضاً علی نفساوات من تنفّس الرحم، أو من النفس بمعنی الولد، أو بمعنی الدم لمکان استلزام خروج الدم غالباً ، بل قد یُقال : بأنّ هذا المعنی أولی من سابقیه ، بل عن المطرزی إنّ اشتقاقه من تنفّس الرحم أو خروج النفس بمعنی الولد لیس بذاک .

ولکن لا یخفی علیک أنّ الموضوع فی باب اللغة یمکن أن یکون بالمعنی الواحد من الثلاث، ولا یبعد تناسبه مع النفس أی الولد، حیث إنّه یخرج من المرأة ، ولأجل ذلک قد یستعمل هذا فی لسان الأئمّة علیهم السلام بقولهم : «المنفوس _ أی الولد _ لا یرث إلی أن یصیح» أی یخرج من الرحم ، ولکن المناسبة مع ذلک بالنفس للرحم أو لخروج الدم موجودة ، إلاّ أنّ فی اصطلاح عرف الفقهاء المتّخذ

ص:6

من النصوص والأخبار _ کما نصّ علیه غیر واحد من الأصحاب _ هو الدم الذی یقذفه الرحم بسبب الولادة فی أیّام مخصوصة لا مطلقاً ، کما سیظهر لک خصوصیّة هذا العرف من الشروط التی قد ذکرت فی صدق دم النفاس .

ومن ذلک تعلم أنّ الدم إذا کانت قبل الولادة، لا یصدق علیه النفاس وإن أصابها الطلق ، کما أنّ الولادة من غیر دم وإن خرج الولد تامّاً لیست بنفاس إجماعاً محصّلاً ومنقولاً مستفیضاً حدّ الاستفاضة ، بل لعلّه متواتر ، بل حکی أنّه قد اتّفق ذلک فی زمان النبیّ صلی الله علیه و آله کما فی «المهذّب» للشیرازی(1) و «المغنی»(2) و «الشرح الکبیر»(3) و «المعتبر»(4) ، فأحکام النفاس نصّاً وإجماعاً معلّقة علی دم الولادة لا علی نفسها ، فلو لم ترَ دماً لا یبطل صومها ولا ینتقض طهارتها، خلافاً للمحکی عن بعض العامّة ؛ وانظر «الوجیز»(5) و «العزیز شرح الوجیز»(6) و«المهذّب» للشیرازی(7) و «المجموع»(8) و «روضة الطالبین»(9) و «التهذیب» للبغوی(10) و «المغنی»(11) .


1- المهذب : ج1 / 52 .
2- المغنی : ج1 / 393 .
3- الشرح الکبیر : 1 / 404 .
4- المعتبر : 1 / 353 .
5- الوجیز : 1 / 17 .
6- العزیز شرح الوجیز : 1 / 178 .
7- المهذّب: 1 / 37.
8- المجموع : 2 / 149 .
9- روضة الطالبین : 1 / 193 .
10- التهذیب : 1 / 325 .
11- المغنی : 1 / 394 .

ص:7

ولیس لقلیله حدّ فیجوز أن یکون لحظة واحدة ، ولو ولدت ولم ترَ دماً لم یکن لها نفاس ، وکذا لو رأت قبل الولادة (1).

کما عن الشافعی فی أحد قولیه، وأحمد فی إحدی الروایتین حیث حکی عمّا یخالف ذلک لیس فی محلّه .

وما یشاهد خلاف ذلک عن بعض أخبارنا لابدّ أن یحمل علی ما هو الغالب من الأفراد المتبادر منه بما إذا خرج الدم بسبب الولادة لا نفسها ، مضافاً إلی أنّه مع الشکّ فی صدق دم النفاس فی بعض أفراده، یجب الاقتصار فیما خرج عن الأصل علی موضع الیقین، إذ الأصل هو عدم تحقّق النفاس إلی أن یعلم به .

(1) أقول: وأمّا عدم کونه لقلیله حدٌّ فقد ادّعی علیه الإجماع ، کما فی الجواهر قدس سره حیث قال بعده: «إجماعاً محصّلاً ومنقولاً فی «الغُنیة» والخلاف والمعتبر والمنتهی والذکری والروض وغیرها ، مضافاً إلی الأصل» ، ولعلّ المقصود منه هو الأصل عن خروج الدم أزید منه من جهة البراءة عن شرطیّة استمرار الدم أزید من اللحظة فی صدق النفاس، فیصدق علیه ولو بالخروج لحظة .

مضافاً إلی إمکان استفادته من النصّ أیضاً، کما عن لیث المرادی عن أبی عبداللّه علیه السلام ، قال : «سألته عن النفساء کم حدّ نفاسها حتّی یجب علیها الصلاة، وکیف تصنع؟ قال : لیس لها حدّ»(1) .

فی النفاس / أقلّ النفاس

بأن یکون المراد فی الجواب من نفی الحدّ فی طرف القلّة لیس لها حدّ ، ورد ذلک فی الحیض بخلاف أکثرها، حیث قد ورد فیه الحدّ کما ورد فی الحیض أیضاً .


1- وسائل الشیعة : الباب 2 من أبواب النفاس، الحدیث 1 .

ص:8

ولکن قد أورد علیه: _ کما عن الشیخ الأنصاری _ حیث قال : «وفی الاستدلال بها إشکال، حیث إنّ ظاهرها بقرینة قوله : «حتّی تجب علیها الصلاة» ، وقوله : (کیف تصنع) ، السؤال عن حدّه فی طرف الکثرة ، ولعلّه لذا حمله الشیخ علی أنّه لیس لها حدّ شرعی لا یزید ولا ینقص ، بل ترجع إلی عادتها، وإن کان بعیداً بالنسبة إلی الجواب، إلاّ أنّ حمله علی حدّ القلّة بعید بالنسبة إلی السؤال »، انتهی موضع الحاجة(1) .

ولکن یمکن أن یُجاب : بأنّ ظاهر إطلاق الجواب، حیث قال : «لیس لها حدّ» شموله لکلا طرفیه من القلّة والکثرة ، وحیث أنّ الثانیة قد ذکر لها حدّ فی الأخبار فیخصّص فیه ویقیّد فینحصر فی طرف الأقل، ولا ینافی قوله : «حتّی یجب علیها الصلاة» ؛ لأنّه قابل للانطباق علی الأقلّ أیضاً ، حیث أنّ النفاس ولو کان بالأقلّ یمنع عن وجوب الصلاة لو اقامتها فی وقتها ، فلعلّ مراد الأصحاب من الاستدلال بهذا الحدیث للأقلّ لأجل ما ذکرناه وهو غیر بعید ، واللّه العالم .

ولعلّه إلی ذلک أشار صاحب الجواهر بقوله : «والمراد فی جانب القلّة للإجماع والنصوص فی ثبوت التحدید فی طرف الکثرة» .

بل یمکن استفادته من صحیح ابن یقطین(2)، قال : «سألت أبا الحسن الماضی علیه السلام عن النفساء، وکم یجب علیها ترک الصلاة ؟» «قال : تدع الصلاة ما دامت تری الدم العبیط إلی ثلاثین یوماً ، فإذا رقّ کانت صفرة اغتسلت وصلّت إن شاءاللّه ».


1- الطهارة للشیخ : 225 .
2- وسائل الشیعة : الباب 3 من أبواب النفاس، الحدیث 16 .

ص:9

حیث استدلّ صاحب «الجواهر» بأنّه یدخل فیه ما لو لم تر إلاّ لحظة .

هذا، ولکن قد أشکل علیه الشیخ الأعظم بعدما أورد علی الروایة السابقة، بقوله : «وأشکل من ذلک الاستدلال بصحیحة ابن یقطین» فذکر صاحب مصباح الفقیه وجه الاشکال بقوله : «وجه کون الاستدلال بالصحیحة أشکل من سابقتها، لکون إطلاقها _ مع ما فیه من الإشکال _ وارداً لبیان حکم آخر»(1) .

ولکن یمکن أن یجاب عنه : بأنّ سؤال السائل عن المدّة التی یجب فیها أن تترک النفساء العبادة یشمل کلا طرفیه من القلّة والکثرة ، وحیث لم یجبه إلاّ فی ناحیة الکثرة إلی ثلاثین یوماً، فإنّه یستفاد منه أنّه لیس لطرف القلّة حدّ، وإلاّ لکان علی الإمام علیه السلام البیان لکونه فی مقام ذلک، وإلاّ استلزم تأخیر البیان عن وقت الحاجة کما لا یخفی ، فلابدّ أن یشمله بإطلاقه، فلا یرد علیه ما أورد .

أقول: ثمّ لا یخفی أنّه بعدما عرفنا فی صدر البحث من قیام الإجماع والاتّفاق بین الأصحاب علی عدم صدق النفاس إذا ولدت المرأة ولو ولداً تامّاً دون رؤیة الدم، وعرفت تأییده بالأدلّة والإجماع ، بل قد سیأتی فی بعض الأخبار ما یستفاد منه ذلک . فإنّه یقتضی المقام البحث عمّا إذا ولدت ورأت الدم، فإنّ هذه الرؤیة یمکن تصویرها علی أنحاء:

فی النفاس / ما تراه المرأة قبل الولادة

تارةً : تری الدم قبل الولادة .

واُخری : بعد الولادة .

وثالثة : مع الولادة .

فلابدّ من ملاحظة کلّ واحد منه مع الدلیل .


1- مصباح الفقیه : ج4 / 358 .

ص:10

فأمّا الأوّل: فیما لو رأت الدم قبل الولادة ففی کلام المصنّف نفی النفاس عنه، حیث عطف ذلک بما سبق، وهو قوله : «لم یکن لها نفاس» ، بقوله : «ولو رأت قبل الولادة _ أی قبل أن یبرز شیء من الولد _ فإنّه لیس بنفاس بلا خلاف» کما فی «الجواهر» تبعاً للخلاف وإجماعاً کما فی المدارک والریاض .

فالدلیل علیه مضافاً إلی الإجماع _ کما عرفت _ هو اقتضاء الأصل عند الشکّ ؛ لأنّ الأصل عند الشکّ فی تحقّقه هو العدم، لأنّه من الحوادث ، فالأصل عدمه . فضلاً عن قیام نصوص یستفاد منه ذلک:

منها: ما ورد فی موثّق عمّار بن موسی، عن أبی عبداللّه علیه السلام : «فیالمرأة یصیبها الطلق أیّاماً أو یوماً أو یومین، فتری الصفرة أو دماً ؟ قال : تصلّی ما لم تلد، فإن غلبها الوجع ففاتتها صلاة لم تقدر أن تصلّیها من الوجع، فعلیها قضاء تلک الصلاة بعدما تطهر»(1) .

فی النفاس / ما تراه المرأة مع الولادة

ومنها: روایته الاُخری عنه علیه السلام ، قال : «سألته عن امرأة أصابها الطلق الیوم والیومین وأکثر من ذلک، تری صفرة أو دماً کیف تصنع بالصلاة؟ قال : تصلّی ما لم تلد ، الحدیث»(2) .

ومنها: وخبر زریق بن البریر الخرقانی، المروی عن مجالس الشیخ، عن أبی عبداللّه علیه السلام : «أنّ رجلاً سأله عن امرأة حاملة رأت الدم ؟ قال : تدع الصلاة . قلت : فإنّها رأت الدم، وقد أصابها الطلق فرأته وهی تمخض؟ قال : تصلّی حتّی یخرج رأس الصبی، فإذا خرج رأسه لم تجب علیها الصلاة، وکلّ ما ترکته من الصلاة فی تلک الحال لوجع أو لما هی فیه من الشدّة والجهد، قضته إذا خرجت


1- وسائل الشیعة : الباب 4 من أبواب النفاس، الحدیث 1_ 3 .
2- وسائل الشیعة : الباب 4 من أبواب النفاس، الحدیث 1_ 3 .

ص:11

من نفاسها . قال: قلت : جُعلت فداک! ما الفرق بین دم الحامل ودم المخاض ؟ قال : إنّ الحامل قذفت بدم الحیض، وهذه قذفت بدم المخاض إلی أن یخرج بعض الولد فعند ذلک یصیر دم النفاس، فیجب أن تدع فی النفاس والحیض، فأمّا ما لم یکن حیضاً أو نفاساً فإنّما ذلک من فتق فی الرحم»(1) .

فإنّ إطلاق الجواب بقوله : «تصلّی حتّی یخرج رأس الصبی» ، لولا مورد السؤال یوصلنا إلی أن علیها ترک الصلاة بمجرّد خروج رأس الصبیّ، سواءً خرج معه دم أم لا . ولکن إذا لوحظ الجواب مع الفرض الموجود فی السؤال، حیث قد فرض أنّها رأت الدم فی حال الطلق والمخاض، فإنّه یوجب التقیید والتضییق فیه، بأن یُراد مع فرض وجود الدم قبله، فیکون الحدیث فی مورد بحثنا، فلا یحکم بالنفاس ما لم یخرج من الولد شیئاً، فإذا لم یحکم بنفاسة الدم المذکور مع رؤیتها للدم قبل خروج شیء من الولد، مع فرض خروج الدم قبله ، فمع عدم خروج الدم قبله لا یکون نفاساً بطریق أولی ، فیصبح هذا الحدیث بدلیل مفهوم الموافقة من الأدلّة الدالة علی الحکم المذکور من عدم صدق النفاس مع عدم رؤیة الدم کما لا یخفی .

هذا کلّه بالنسبة إلی الدم الخارج قبل الولادة، وقد عرفت عدم الإشکال فی نفی النفاس عنه .

وأمّا الثانی: فی الدم الخارج بعد الولادة، فإنّه لا إشکال أیضاً، بل الإجماع قائم بلا اختلاف فی الحکم بنفاسة الدم الخارج بعد الولادة بتمامه، لدلالة الأخبار السابقة من حدیثی عمّار وزُریق علی عدم وجوب الصلاة بعد الولادة ، وقد


1- وسائل الشیعة : الباب 30 من أبواب الحیض، الحدیث 17 .

ص:12

صرّح فی ذیل حدیث زریق بأن علیها أن تدع الصلاة فی حال النفاس، وبیّن علیه السلام أنّ خروج بعض الولد فضلاً عن تمامه یجعل الدم الخارج موصوفاً بدم النفاس فالمسألة فیه واضحة لا کلام فیها .

وأمّا الثالث: فهو الدم الخارج مع خروج الولد، فینبغی أن یبحث فیه، لأجل وقوع الاختلاف من الدم الخارج المصاحب مع الولد حیث نوقش فی أنّه هل یعدّ من دم النفاس أم لا .

فی النفاس / ما تراه المرأة قبل الولادة

فالمشهور أنّه دم نفاس، ولکن المحکی عن ظاهر «مصباح» السیّد و «جمل» الشیخ و «الغنیة» و «الوسیلة» أنّه لیس بنفاس، لأنّهم فسّروه بما تراه المرأة عقیب الولادة إن لم یحمل علی الغالب، کما حمله العلاّمة فی «المختلف»، أو علی بعد ابتداء الولادة، وظهور شیء من الولد کما صنعه «کاشف اللِّثام» .

أقول أوّلاً: والحقّ مع المشهور، لأنّه المستفاد من النصوص، أو یحمل علیه بعد المعارضة، لما قد عرفت فی حدیث زُریق السابق من التصریح بذلک بقوله : «إلی أن یخرج بعض الولد فعند ذلک یصیر دم النفاس فیجب أن تدع فی النفاس»(1) .

وکذلک ما فی روایة السکونی عن جعفر عن أبیه علیهماالسلام أنّه قال : «قال النبیّ صلی الله علیه و آله : ما کان اللّه لیجعل حیضاً مع حبل»(2) . یعنی إذا رأت الدم وهی حامل، لا تدع الصلاة إلاّ أن تری علی رأس الولد إذا ضربها الطلق ورأت الدم ترکت الصلاة .

بناءً علی أن کلمة (یعنی) صادرة عن المعصوم من النبیّ أو الصادق أو غیرهما علیه السلام حیث یکون مفاد الجملة بعد یعنی دالّة علی المطلوب، وإلاّ فإنّ


1- وسائل الشیعة : الباب 30 من أبواب النفاس، الحدیث 17 .
2- وسائل الشیعة : الباب 30 من أبواب الحیض، الحدیث 12.

ص:13

نفس جملة السابقة علیها لا تفید إلاّ نفی الجمع بین الحیض والحبل، الذی قد مضی بحثه سابقاً .

وکیف کان التفسیر یناسب مع ما فی روایة زریق کما لا یخفی ، فبذلک ترفع الید عن الأصل بعدم صدق النفاس عند الشکّ فی صدقه، لأنّ الدلیل حاکم علی الأصل .

وثانیاً: کما أنّه مع وجود هذا النصّ یجب تقیید الإطلاق المستفاد من روایتی عمّار، حیث قال : «تصلّی ما لم تلد» . الظاهر فی خروج الولد تامّاً، حیث یستفاد من خلال المفهوم بأنّ الدم قبل خروج الولد بتمامه لیس بنفاس مطلقاً، سواء کان قبل الطلق والولادة، أو کان مصاحباً مع الولادة، فیقیّد هذا الإطلاق بأنّه لیس بنفاس ما کان قبلها لا معها، وهو المطلوب .

وثالثاً: مضافاً إلی أنّه لو سلّمنا المعارضة بین هاتین الروایتین مع ما تقدّم، فإنّه یجب تقدیم ما فی السابق علیهما، لأجل کون روایتی عمّار ممّا أعرض عنهما المشهور فی المقام ؛ لأنّ عملهم علی خلافهما ، مضافاً إلی إمکان دعوی الاتّفاق علیه لو حمل کلام المخالف علی الغالب أو علی ما فی «کشف اللِّثام» .

وبالجملة: فالأقوی صدق النفاس علی الدم المصاحب للولادة، فتترک الصلاة و سائر ما یحرم علیها القیام بها کما لا یخفی .

أقول: ثمّ بعدما عرفت من عدم کون الدم الخارج قبل الولادة نفاساً بالأدلّة المذکورة سابقاً، یبقی السؤال عن أنّ هذا الدم هل هو حیض مطلقاً، أو حیض إن وجد فیه شرائطه، من کونه فی أیّام عادته، وکونه ثلاثة أیّام متوالیات، ومع تخلّل أقلّ بینه وبین النفاس، ومع عدم تجاوز مجموعهما _ أی من الحیض والنفاس _ عن العشرة ؟

إن قلنا بشرطیّة عدم التجاوز، وعدم کون التخلّل بأقلّ الطهر وهو العشرة وإلاّ

ص:14

فلا ، أو کان الدم دم استحاضة مطلقاً ، فیه وجوه ومحتملات بل أقوال :

قولٌ: بکونه استحاضة مطلقاً، وهو الظاهر من إطلاق کلام المصنّف بقوله : «ولو رأت قبل الولادة کان طهراً » . وهو متّجه علی مبناه السابق الذِّکر من عدم إمکان اجتماع الحمل مع الحیض ، فکلّ من کان مبناه ذلک، کان علیه الالتزام بما قد ذکره المصنّف بلا فرق فیه وجود شرائط الحیض فی الدم أم لا .

وقول آخر: وهو القول بالحیضیّة للدم، ولو لم یوجد فیه شرطیّة الفصل بینه وبین دم النفاس بأقلّ الطهر، أی لم یقل بشرطیّة هذا الفصل، فیحکم بحیضیّة الدم قبل الولادة، إذا أمکن أن یکون حیضاً ولو لم یفصل بینه وبین دم النفاس بأقلّ الطهر حتّی ولو اتّصل بدم النفاس، کان الدم السابق حیضاً، بلا فرق فی الحکم بذلک بین کون المجموع من دم الحیض ودم النفاس قد تجاوز عن العشرة أم لا ، فیما إذا أمکن الحکم بنفاسیّة ذلک الدم بأن لا یتجاوز ثمانیة عشر یوماً ، وهذا هو المنسوب إلی العلاّمة فی «المنتهی» و «النهایة» وظاهر «التذکرة» واختاره صاحب «المدارک» و «جامع المقاصد» و «الذخیرة» ولم یتذکّروا جهة شرطیّة کون استمرار الدم ثلاث أیّام متوالیات ، ولا یبعد اعتباره عندهم، حیث یشاهد من بعض کلماتهم دعواهم: (إن أمکن کونه حیضاً) الظاهر فی کون المراد منه هو ذلک، کان الأمر کذلک بما هو مختارهم فی أصل المسألة، کما لا یخفی .

ولازم ذلک کون هذا القول أیضاً مفصّلاً فی کونه حیضاً بین ما لو رأت ثلاثة أیّام متوالیة قبل الولادة فهو حیض، وإلاّ فاستحاضة ، فینتج من ذلک عدم وجود قائل بکونه حیضاً مطلقاً، حتّی فیما لو لم یکن دمها قبل الولادة إلاّ بیوم أو یومین مثلاً .

وقول ثالث: وهو لصاحب «الجواهر» ومن تبعه، من التفصیل: بین ما لو کان الدم واجداً لشرائط الحیضیّة، من الاستمرار لثلاثة أیّام متوالیات قبل الولادة،

ص:15

وکون التخلّل بأقلّ الطهر بینه وبین دم النفاس، وإلاّ محکوم بالاستحاضة ، بل هذا هو المشهور بین الفقهاء وجعلوا وجه ذلک ، مضافاً إلی القول بإمکان اجتماع الحیض مع الحمل، أنّه یشترط فی الحکم بالحیضیّة _ بحسب قاعدة الإمکان، ودلالة الأخبار _ کون الدم مستمرّاً لثلاثة أیّام متوالیات ، فإذا لم یکن کذلک فلیس بحیض، فیخرج عنه ما لو رأت قبل الولادة بیوم أو یومین، فإنّه استحاضة ولیس بحیض . کما أنّه کذلک أیضاً لو رأت الدم مستمرّة لثلاثة أیّام ، ولکن لم تکن رؤیتها له مع الفصل بأقلّ الطهر بینه وبین دم النفاس، فإنّه استحاضة أیضاً ، لأنّه لا إشکال عندهم من الشرطیّة بهذا الشرط بین الحیضتین، وحیث کان النفاس عندهم دم حیض احتبس للحمل ، بل ولما دلّ علی مساواة حکم النفاس للحیض ، کما فی الروایة المضمرة المرویّة عن زرارة الواردة فی النفساء وبیان حکمها ، حیث جاء فیها: «قلت : والحایض ؟ قال : مثل ذلک سواء ، الحدیث»(1) .

فیلزم حینئذٍ أن لا یکون الدم المرئی قبل الولادة بأقلّ من الطهر حیضاً .

وقد استدلّ المشهور بعدم الحیضیّة فی الفرض المزبور:

أوّلاً: بإطلاق ما دلّ علی أنّ أقلّ الطهر عشرة، حیث یشمل بإطلاقه ما بین الحیضتین، وما بین الحیض والنفاس، مع تأخّر النفاس عن الحیض، کما هو فرضنا، أو مع تقدّمه علیه، بضمیمة ما عرفت کون النفاس أیضاً هو دم حیض احتبس .

وثانیاً: بما دلّ علی أنّ النفساء کالحایض .

وثالثاً: ولإطلاق ما ورد فی خبر زریق وموثّق عمّار المتقدّمین، حیث جاء فیهما: «تصلّی حتّی یخرج رأس الولد» ، وقوله : «کلّما ترکته من صلاة لوجع أو


1- وسائل الشیعة : الباب 1 من أبواب الاستحاضة، الحدیث 5 .

ص:16

لما فیه من الشدّة والجهد، قضته إذا خرجت من نفاسها» ؛ الشامل لما إذا کان قد تخلّل النقاء بین الدم الخارج منها قبل الولادة، وبین الدم الخارج منها بسبب الولادة بأقلّ من العشرة ، وکذا إطلاق قوله : «تصلّی ما لم تلد ، إلی آخره» .

وأمّا ما کان النقاء بینهما بقدر العشرة فهو حیض بالإجماع علی القول بإمکان اجتماع الحیض مع الجهل .

مضافاً إلی أنّ النفاس الواقع بعد الحیض یکون کالنفاس الواقع بعده الحیض فکما یعتبر النقاء بالعشرة فی الثانی بالإجماع والنصّ، ولا مجال للحکم علیه بالحیضیّة فی الدم إذا کان الفصل بالأقلّ من الطهر ، فکذلک یکون فی النقاء الفاصل بین الحیض والنفاس فی الأوّل، لعدم القول بالفصل، کما قد صرّح بعدم الفرق فی اعتبار الفصل المزبور بین الموردین صاحب کتاب «الروض» .

بل قد یستدلّ لذلک بصحیحة ابن المغیرة، عن أبی الحسن الأوّل علیه السلام : «فی امرأة نفست فترکت الصلاة ثلاثین یوماً ثمّ طهرت، ثمّ رأت الدم بعد ذلک ؟

قال : تدع الصلاة، لأنّ أیّامها أیّام الطهر قد جازت مع أیّام النفاس»(1) .

حیث أنّ ظاهرها مانعیّة عدم مضیّ أیّام الطهر عن الحکم بحیضیّة الدم المرئی بعد النفاس، وإن کان الاستدلال به لا یخلو عن تأمّل ، ولکن حیث أنّ الأدلّة السابقة فی إثبات الشرطیّة فی الفصل بأقلّ الطهر بین الحیض السابق علی النفاس وبین النفاس ، غیر وافیة، لأنّ ظهور إطلاق قوله علیه السلام فی روایة یونس، عن بعض رجاله، عن أبی عبداللّه علیه السلام ، قال : «إنّ الطهر عشرة أیّام . . . إلی أن قال :


1- وسائل الشیعة : الباب 5 من أبواب النفاس، الحدیث 1 .

ص:17

ولا یکون الطهر أقلّ من عشرة أیّام»(1) .

هو الطهر بین الحیضتین، لا بین الحیض والنفاس، کما تری ذلک فی روایْة محمّد بن مسلم صراحة، حیث روی أنّه قال أبی جعفر علیه السلام : «إذا رأت المرأة الدم قبل عشرة أیّام، فهو من الحیضة الاُولی، وإن کان بعد العشرة فهو من الحیضة المستقلّة»(2) .

وکذلک فی روایته الاُخری(3) ، بل وفی غیرها ما یفید عدم الإطلاق، أو انصرافه إلی الحیضتین فی الشرطیّة المذکورة الذی کان بالإجماع والنصّ ، وأنّه

لا یوجب لزوم إلحاق الحیض السابق علی النفاس بالحیضتین فی الشرطیّة، وأن قیاسه به قیاسٌ مع الفارق، کما لا یخفی .

کما أنّ کون الدم فی النفاس دم حیض احتبست، لا یوجب کون أحکامه أحکام دم الحیض، إلاّ بقدر ما یدلّ علیه الدلیل، لتبیعتنا فی ذلک.

ثمّ علی فرض قبول الإطلاق، وعدم کون الأقلّ من العشرة طهراً، فإنّ ذلک لا یوجب أن یکون الدم المتقدّم کذلک حیضاً، إذ من الممکن أن یکون النقاء المتخلّل الأقلّ من العشرة حیضاً بشرط ما لم یتجاوز مع أیّام رؤیة الدم فی النفاس عن عشرة أیّام، کالنقاء المتخلّل بین حیضة واحدة إذا لم یتجاوز هو مع الدم السابق علیه عن العشرة، فلا یرد ما أورده الشیخ رحمه الله فی «کتاب الطهارة» بکونه مخالف للإجماع .

کما أنّه یمکن تأیید ما ذکرنا، من عدم الشرطیّة بین الحیض المتقدّم وبین


1- وسائل الشیعة : الباب 11 من أبواب الحیض، الحدیث 2 .
2- وسائل الشیعة : الباب 11 من أبواب الحیض، الحدیث 3 و5 .
3- وسائل الشیعة : الباب 11 من أبواب الحیض، الحدیث 3 و5 .

ص:18

النفاس، وأنّه لا یعرف کون النفاس دم حیض احتبست، إلحاقها به فی کلّ الجهات، أنّه لا یشترط النقاء بذلک بین النفاسین فی التوأمین، مع أنّه لو کان کالحیضتین فلابدّ أن یلاحظ ذلک فیه أیضاً .

هذاکما عن المحقّق الآملی قدس سره .

وفیه: ان استدلاله ممنوع، لأنّه من الممکن أن لا یصدق النفاس فی مثله بالنفاسین، لإمکان القول بأنّ دم النفاس فی مثل ذلک نفاس واحد، ولو کان الولد خمساً فضلاً عن اثنین، ولذلک لا یجب علیه إلاّ غسل نفاس واحد ، إلاّ أن یکون الفصل علی حدّ یصدق عرفاً أنّه نفاسٌ آخر لولد آخر، وهو قلیل الوقوع لو لم نقل بامتناع وقوعه .

وکیف کان تأیید مثل ذلک للمقام لا یخلو عن شبهة .

وأمّا الجواب عن خبر زریق وعمّار، من عدم کون الدم فی أیّام الطلق والمخاض حیضاً، فلعلّ لأجل کون الغالب فیه کون الدم فیه أقلّ من ثلاثة أیّام کما هو کذلک ، إذ الطلق نوعاً بحسب الغالب محدود بیوم أو یومین ، ولا یبلغ إلی ثلاثة أیّامُ ، ولذلک لا مانع لمن رأی الدم أزید من الثلاث من دون طلق ومخاض، وکان واجداً لشرائط الحیضیّة، من الحکم علی دمها بأنّه حیض، کما هو المراد فی المقام.

کما أنّ القول بعدم الفصل بین المتخلّل بالأقلّ بین الحیض المتأخّر عن النفاس، وبین المتقدّم لیس بصحیح، لما قد عرفت الاختلاف فی الحیض المتقدّم حتّی عند من یقول بجواز الاجتماع بین الحیض والحمل، کما عرفت مخالفة صاحب «المدارک» والعلاّمة والمحقّق فی شرطیّة الفصل المذکور ، مع أنّهم قائلون بهذا الاشتراط فی الحیض المتأخّر عن النفاس، کما عرفت دعوی الإجماع والنصّ علی شرطیّة الفصل المذکور فی الحیض المتأخّر .

فی النفاس / ما تراه المرأة مع المضغة و العلقة

ص:19

وحیث قد عرفت ذهاب المشهور إلی الشرطیّة المذکورة برغم عدم لما فیه أدلّتهم، لکن خوفاً عن مخالفتهم، وحفظاً للأدلّة الدالّة علی خلاف مسلکهم، التزامنا فی المقام بالاحتیاط رعایة لمسلک المشهور، کما التزم بذلک العلاّمة البروجردی والاصفهانی وغیرهم حیث حکم هؤلاء بالاحتیاط، خصوصاً فی غیر ما إذا صادفت أیّام عادتها أو متّصلاً بدم النفاس إذا کان الفصل بأقلّ الطهر، وعلیه فالحکم هو لزوم مراعاة الاحتیاط فی هذه الموارد، واللّه العالم .

هنا فرعان مهمّان :

الفرع الأوّل : ثبت من خلال ما ذکرناه آنفاً أنّ الدم الخارج مع الولد دم نفاس ، فحینئذٍ لا فرق فیه بین کون الولد تامّ الخلقة أم ناقص کالسقط، ولا فی تام الخلقة بین ما قد ولجه الروح أم لا ؛ لأنّه إذا صدق علی الخارج من الرحم عنوان الولد المولود، فإنّ دمه یعدّ دم نفاس بلا إشکال ولا خلاف للإجماع والنصّ، کما استظهره فی «مفتاح الکرامة» ونفی عنه الإشکال فی «الجواهر» .

إنّما الکلام والإشکال فی ثلاثة موارد هی: المضغة والعلقة والنطفة .

أمّا المضغة: فالمعروف بین الأصحاب ، بل ادُّعی علیه الإجماع، بکون الدم الخارج منها أو بعدها نفاس ، بل قال فی «الجواهر»: «إنّی لم أجد فیه خلافاً بکونها کذلک» ، بل فی «التذکرة» الإجماع علیه ، قال فیها : «فلو ولدت مضغةٌ أو علقةٌ بعد أن شهدت القوابل أنّه لحمُة ولد ویتخلّق منه الولد کان الدم نفاساً بالإجماع، لأنّه دمٌ جاء عقیب حمل » ، انتهی علی المحکی فی «الجواهر» .

وأرسل عن «شرح الجعفریة» الإجماع أیضاً علیها، لکن مع التقیید بما قیّدها به فی «الذکری» و «الروضة» من الیقین .

ثمّ استشکل علیه صاحب «الجواهر» بقوله : «قلت : وکأنّه مستغنی عنه بعد

ص:20

تعلیق الحکم علی المضغة کالمتقدّم فی التذکرة ، إن قلنا إنّه قیّد فیها للمضغة ، ولعلّه للعلقة کما عساه یشعر به کلامه فی العلقة المشبهة» .

ولکن التحقیق أن یُقال : إنّ صدق دم النفاس إن دار مدار صدق الولادة، فربما یستشکل صدقها علی المضغة، فضلاً عن العلقة والنطفة ؛ لأنّ استعمال لفظ الولادة لا یکون إلاّ فیما یصدق علیه الولد، ولو لم یکن تامّاً کالسقط ، وُأمّا ما لا یصدق علیه الولد عرفاً، وإن کان مبدأ نشوء الآدمی، فلیس فیه الولادة .

وأمّا إن کان مدار حکم النفاس بما یصدق علیه أنّه مبدأ نشوء الآدمی، فلازمه صدق النفاس حتّی مع النطفة، فضلاً عن المضغة والعلقة ، ولعلّ وجه إنکار المحقّق الأردبیلی فی «شرح الإرشاد» کما نقله صاحب «مفتاح الکرامة» حیث قال فی شرح الإرشاد : «إنّ الخارج مع المضغة وبعدها لیس بنفاس، وإن علم کونها مبدأ آدمی لعدم العلم بصدق الولادة والنفاس بذلک . وکذلک إنکار صاحب «المدارک» علی جدّه صاحب «الروض» حیث قد استشکل علی توقّف المحقّق الثانی فی العلقة من التعلیل بعدم صدق الولادة .

فی النفاس / لو شکّت المرأة فی الولادة

أنّ الملاک عندهم فی النفاسیّة لیس کونه مبدأ نشوء الآدمی ، بل المدار هو صدق الولادة علیه، فکأنّ صدق الولادة علی المضغة مقبول عند المحقّق الثانی دون العلقة، بخلاف الأردبیلی حیث أنکر صدق الولادة حتی علی المضغة .

ولکن المستفاد من کلمات الأصحاب وجود الإجماع علی صدق دم النفاس علی ما یخرج مع المضغة أو بعدها، وإن لم یصدق علیه اسم الولادة ، بل یکفی فی ذلک صدق کونه مبدأ نشوء الإنسان ، فعلیه فلا یحتاج فی المضغة إلی قید الیقین کما ورد فی «الذکری» و «الروضة» ، بل لعلّ قید (وإن شهدت القوابل) الوارد فی کلام «التذکرة» کان للعلقة ، کما یحتمل أن یکون قید (الیقین) فی کلام العلمین أیضاً لها لا

ص:21

للمضغة ؛ لأنّ المضغة تعدّ مبدأ نشوء الآدمی قطعاً فلا یحتاج إلی أحد القیدین .

وبالجملة: فدم الخارج مع المضغة أو بعدها نفاس قطعاً ، إمّا للإجماع، أو لکونه ممّا ینشأ منها الولد قطعاً بحسب العرف ، هذا بخلاف العلقة إذ الأمر فی نفاسیّة ما یخرج بسبب خروجها أشکل من المضغة ، إذ یمکن الحکم بنفاسیّة ما یخرج بخروج المضغة، ولو علی القول باعتبار تحقّق الولادة فی صدق النفاس، والشکّ فی تحقّقها مع خروج المضغة ، لأجل وجود الإجماع فیها علی نفاسیّة دمها، ولو لم یصدق علیها دم الولادة ، بخلاف العلقة حیث أنّها علی فرض الشکّ فی دم الولادة علیها، وعدم قیام الإجماع فیها علی ذلک، لا یحکم بکونها دم نفاس إلاّ عند من یکتفی فی صدق دم النفاس علمه بکونه مبدأ نشوء الآدمی ، ولذلک لابدّ فیها قید الیقین والعلم بذلک للحکم بالنفاسیّة ، ولعلّه لذلک قد توقّف المحقّق الثانی فی نفاسیّة دم العلقة بخلاف المضغة ، ولکن حیث أنّ الملاک فی صدق النفاسیّة لیس عنوان صدق الولادة ، بل یکفی فیه صدق کونه مبدأ نشوء الآدمی ، وصدق هذا العنوان وانطباقه علی العلقة فی الجملة عرفاً ثابت ، فلذلک نحکم بنفاسیّة ما یخرج معها أو بعدها، وإذا قطع بکونها کذلک تکویناً کما هو الغالب، أو تشریعاً بقیام البیّنة والشهادة من القوابل ، وأمّا مع فقدان هذین الأمرین فالحکم بنفاسیّة دمها مشکل جدّاً .

أمّا النطقة: فقد ثبت ممّا ذکرنا ظهر حکم النطفة، إذ العلم بکونها مبدأ نشوء الآدمی فیها یعدّ أشکل من العلقة فضلاً عن المضغة، فإن حصل لها الیقین فی استقرارها فی الرحم بحیث یکون مبدأ نشوء الإنسان لولا سقوطها، تکون کالعلقة والمضغة فی الحکم بنفاسیّة دمها ، ولو سقطت قبل ذلک ، ولکن العلم بکونها کذلک بالنسبة إلی النطفة متعسّر بل متعذّر، إذ کثیراً ما یسقط عن الرحم

ص:22

و أکثر النفاس عشرة أیّام علی الأظهر(1).

قبل استقرارها کذلک ، فلا یحکم حینئذٍ بنفاسیّة دمها، خصوصاً مع الشکّ فیه، حیث یقتضی الأصل فیه العدم، کما لا یخفی علی المتأمّل .

الفرع الثانی : أنّه قد اتّضح ممّا قرّرناه إلی الآن، أنّ المعتبر شرعاً فی نفاسیّة الدم أمران .

فی النفاس / أکثر النفاس

خروج الدم. وکون خروجه بسبب الولد ولو ناقصاً أو خروج ما یعلم کونه مبدأ نشوء الآدمی .

فحینئذٍ ومع انتفاء الأمرین أو أحدهما فلا نقاش .

وعلی هذا، فلو شکّ فی الولادة أو فی کونه مبدأ نشؤه فلا نفاس ، بل هو حیض إن أمکن کونه حیضاً عند من یراه کذلک مع شرائطه وإلاّ فهو استحاضة بناءً علی کون الأصل فی الدم الخارج من الرحم _ إذا لم یکن حیضاً، ولا نفاساً ولو شرعاً _ کونه استحاضة، وإلاّ فالمرجع هو الأصل العملی من الرجوع إلی الحالة السابقة من الطهر أو غیره ، ولا یجب علیها الفحص مع التمکّن منه، لکون الشبهة فی المورد شبهة موضوعیّة، ولم یقم لنا دلیل علی وجوب الفحص فی المقام بالخصوص، فیعمل هنا علی طبق القواعد المتعارفة فی غیر المقام ، واللّه العالم .

(1) أقول: الکلام فی حدّ الأکثر خلافی جدّاً، بعد الالتزام بأنّه لا ریب فی عدم کون الأکثر مثل الأقلّ فی نفی الحدّ له ؛ لأنّ الإجماع والنصوص ناطقان فیه بالحدّ، فضلاً عمّا قد یشاهد فی بعض الأخبار کروایة لیث المرادی عن

ص:23

الصادق علیه السلام قال : «لیس لها حدّ»(1) من لزوم حملها إمّا علی الأقلّ کما علیه صاحب «الجواهر»، أو طرحه کما احتمله هو أیضاً، أو حمله علی ما ذهب الیه الشیخ من دلالتها علی أنّه لا حدّ له بما لا یزید ولا ینقص .

حکم النفاس / أکثر النفاس

وکذا یطرح أو یأوّل بما لا ینافی ممّا علیه الأصحاب ، ما ورد فی خبر آخر عن «المقنع» عن الصادق علیه السلام حیث قال : «إنّ نسائکم لیس کالنساء الأول، إنّ نسائکم أکثر لحماً وأکثر دماً فلتقعد حتّی تطهر»(2) .

لأنّه لابدّ إن أرید من الأمر بالعقود، القعود إلی أن تطهر من الدم، فیوجب إلی أن یبلغ إلی أربعین أو خمسین أو غیرهما ولا ینقطع منها الدم، وهو حینئذٍ مخالف لإجماع الشیعة، إذ لم یذهب إلیه أحد من أصحابنا ، فالعمل بظاهر هذه الأخبار غیر ممکن .

فإذا عرفت من وجود الحدّ فیها للأکثر فقد وقع الخلاف بین الأصحاب فیه لأجل اختلاف لسان النصوص والأخبار ، وحیث أنّ ما فی النصوص قد یشاهد فی الحدّ ما لم یقبله الأصحاب ولم یفتوا علی طبقه، فلا بأس من التعرّض إلی النصوص قبل الورود فی أصل الاختلاف الحاصل بینهم، فنقول ومن اللّه الاستعانة :

منها : الأخبار الواردة فی بیان حدّ الأکثر بالثلاثین أو أزید .

1 _ صحیحة علیّ بن یقطین.

قال : سألت أبا الحسن الماضی علیه السلام عن النفساء وکم یجب علیها ترک الصلاة؟

قال : تدع الصلاة ما دامت تری الدم العبیط إلی ثلاثین یوماً، فإذا رقّ وکانت


1- وسائل الشیعة : الباب 2 من أبواب النفاس، الحدیث 1 و27 .
2- وسائل الشیعة : الباب 2 من أبواب النفاس، الحدیث 1 و27 .

ص:24

صفرة اغتسلت وصلّت إن شاء اللّه(1) .

2 _ صحیحة محمّد بن مسلم، عن أبی عبداللّه علیه السلام ، قال : «تقعد النفساء إذا لم ینقطع عنها الدم ثلاثین أو أربعین یوماً إلی الخمسین»(2) .

3 _ صحیحة حفص بن غیاث، عن جعفر، عن أبیه عن علیّ علیه السلام ، قال : «النفساء تقعد أربعین یوماً، فإن طهرت وإلاّ اغتسلت وصلّت، ویأتیها زوجها، وکانت بمنزلة المستحاضة تصوم وتصلّی»(3) .

4 _ روایة محمّد بن یحیی الخثعمی، قال : «سألت أبا عبداللّه علیه السلام عن النفساء ؟ فقال : کما کانت تکون مع ما مضی من أولادها، وما جرّبت . قلت : فلم تلد فیما مضی؟ قال : بین الأربعین إلی الخمسین»(4) .

5 _ روایة الصدوق فی «الخصال» عن الصادق علیه السلام : «النفساء لا تقعد أکثر من عشرین یوماً إلاّ أن تطهر قبل ذلک، فإن لم تطهر قبل العشرین اغتسلت واحتشت وعملت عمل المستحاضة»(51) .

6 _ روایة عبداللّه بن سنان، عن الصادق علیه السلام : «تقعد النفساء تسع عشرة لیلة، فإن رأت دماً صنعت کما تصنع المستحاضة»(5) .

7 _ مرسلة الصدوق فی «المقنع»، قال : «وقد روی أنّها تقعد ما بین أربعین یوماً إلی خمسین یوماً»(6) .

أقول: ولا یخفی علیک أنّ الوارد فی روایة ابن سنان المنقول فی «الوسائل» سبع عشرة لیلة بدل تسع عشرة، وکلاهما غیر معمولاً به عند الأصحاب .

بل وهکذا غیر معمول به ما ورد فی صحیحة محمّد بن مسلم، قال :


1- وسائل الشیعة : الباب 3 من أبواب النفاس، الحدیث 11 _ 17 .
2- وسائل الشیعة : الباب 3 من أبواب النفاس، الحدیث 11 _ 17 .
3- وسائل الشیعة : الباب 3 من أبواب النفاس، الحدیث 11 _ 17 .
4- وسائل الشیعة : الباب 3 من أبواب النفاس، الحدیث 11 _ 17 .
5- وسائل الشیعة : الباب 3 من أبواب النفاس، الحدیث 11 _ 17 .
6- وسائل الشیعة : الباب 3 من أبواب النفاس، الحدیث 11 _ 17 .

ص:25

قلت لأبی عبداللّه علیه السلام : کم تقعد النفساء حتّی تصلّی؟

قال : ثمان عشرة سبع عشرة، «ثمّ تغتسل وتحتشی وتُصلّی»(1) .

فإنّ ذکر عددین إن کان للتخییر فمخالف للإجماع إذ لم یذهب إلیه أحد من الخاصّة ولا من العامّة، کما لا حجّة لثمان عشر أیضاً إن کان شکّاً من الراوی کما فی «الجواهر» ، ولکن نقول علی فرض التردید من الراوی یؤخذ بالثمان عشر لکونه مؤیّداً بأخبار عدیدة، فبذلک یخرج عن التردید ویصیر من عداد أخبار ثمانیة عشرة .

هذه جملة ما وجد من الأخبار بعضها صحاح وبعضها غیر صحیحة ، وجمعها دالة علی شیء من الأعداد فی حدّ النفاس لم یوجد بین الأصحاب من أفتی به ، ولأجل ذلک حُملت هذه الأخبار علی التقیّة، لأنّها أولی من طرحها، فضلاً عن اعراض الأصحاب عنها وإعراضهم موهن للأخبار ، کما أنّ عملهم منجبر لضعفها . بل قد یؤیّد الحمل علی التقیّة، وجود بعض هذه فی الأقوال بین العامّة، فلا بأس هنا لذکر أقوالهم علی المحکی فی «التذکرة» الذی قد حکی عنه صاحب «الجواهر» ، قال العلاّمة رحمه الله : «قال الشافعی أکثره ستّون یوماً، وهو روایة لنا، وبه قال عطاء والشِّعبی وأبو ثور ، وحکی عن عبداللّه بن الحسن العنبری والحجّاج ابن أرطاة. إلی أن قال : وقال أبو حنیفة والثوری وأحمد وإسحاق وأبو عبیدة أکثر أربعون یوماً، وهو روایة لنا أیضاً، وحکی ابن المنذر عن الحسن البصری أنّه قال خمسون یوماً وهو روایة لنا ، وحکی الطحاوی عن اللیث أنّه قال من الناس من یقول إنّه سبعون یوماً» ، انتهی(2) .


1- وسائل الشیعة : الباب 3 من أبواب النفاس، الحدیث 12 .
2- الجواهر : ج3 / 379 .

ص:26

فإذا عرفت الوجوه الغیر المقبولة، فلا بأس حینئذٍ أن نرجع إلی أصل المسألة ونبحث عمّا ذکره الأصحاب فی حدّ النفاس، وملاحظة فتاواهم ومطابقتها مع ما فی النصوص المقبولة فی العمل ، فحینئذٍ ینبغی أن نتعرض بدوّاً (أقوال علماء الشیعة فی المسألة ، فالمعروف بینهم قدیماً وحدیثاً کون دمّ النفاس کالحیض فی أن أکثره عشرة ، والقائلون به أیضاً علی طائفتین :

طائفة: تقول بأنّ بکون أکثره عشرة مطلقاً، سواء انقطع علی رأس العشرة أو تجاوز عنها ، ومع التجاوز سواء کانت ذات العادة فی الحیض أو لم تکن، وسواء کانت عادتها عشرة أو أقلّ، فإذا کانت عادتها فی الحیض خمسة مثلاً وتجاوز دمها عن العشرة، تکون العشرة بتمامها نفاساً لا مقدار أیّام عادتها فی الحیض، وهو الذی عبّر عنه صاحب الجواهر بالعشرة الفعلیّة ، وهذا هو المنسوب إلی القدماء ، بل قد ینسب إلی المشهور بین الأصحاب ولکن فی النسبة إشکال .

وطائفة ثانیة: تقول بکون أکثره عشرة کالحیض، بمعنی إمکان کونه عشرة أیّام، فإن لم تکن المرأة ذات عادة فی الحیض أو کانت وانقطع دمها علی العشرة تکون العشرة بتمامها نفاساً ، وإن کانت ذات العادة فی الحیض وکانت عادتها أقلّ من العشرة وتجاوز دمها عن العشرة، تکون العادة نفاساً، وهذا یعبّر عنه بإمکان کون العشرة نفاساً، لا أنّها بتمامها دائماً نفاس لما قد عرفت أنّه قد ترجع إلی عادتها فی ذات العادة ، وهذا القول هو الأشهر، کما هو المختار عندنا وعند کثیر من المتأخّرین مثل صاحب «العروة» وأکثر أصحاب التعلیق علیها لولا کلّهم .

وطائفة ثالثة: وهو المحکی عن «الفقیه» والانتصار ناسباً له إلی انفراد الإمامیّة و «المراسم» وظاهر «الهدایة» ، وحکاه «المختلف» عن المفید وابن الجنید فی أکثر النفاس ثمانیة عشر.

ص:27

وطائفة رابعة: وهو للعلاّمة فی المختلف، وهو التفصیل بین ذات العادة بکون عادتها نفاساً، وبین غیرها من المبتدئة والمضطربة بکون عادتهما ثمانیة عشرة، واستحسنه الفاضل المقداد فی «التنقیح» ، بل ربما مالَ إلیه بعض متأخّری المتأخّرین .

والقول الخامس: وهو المحکی عن المفید أحد عشر یوماً .

القول السادس : وعن العُمّانی ابن أبی عقیل أنّه أحدی وعشرین.

والقول السابع: وهو المحکی عن «البیان» أنّ المبتدئة عند تجاوز دمها عن العشرة ترجع إلی التمییز، ثمّ النساء ثمّ العشرة ، والمضطربة ترجع إلی التمییز ثمّ العشرة .

هذه جهة الأقوال فی المسألة ومنشأ الاختلاف فیها هو الاختلاف فی الأخبار الواردة فیها .

فإذا عرفت حال الأقوال فی العامّة والخاصّة، وما فی الأخبار المطروحة أو المحمولة علی التقیّة، بلغ أوان الکلام إلی أن نتعرّض للأخبار الدالّة علی ما هو المعمول بین الأصحاب، وملاحظة دلالة لسانها فی المقام، حتّی یتّضح فیه ما هو الحقّ والصواب ، واللّه الهادی إلی سبیل الرّشاد .

البحث عن الأخبار الواردة فی المقام: فنتعرّض أوّلاً ما للأخبار المستدلّ بها لإثبات کون العشرة الفعلیّة دون الإمکانیّة هی الحدّ الشرعی الأکثر النفاس، حیث استدلّوا _ علی ما فی «مصباح الهدی» _ ما بظاهره یدلّ علیه:

منها: المرسلة المرویّة عن «المقنعة» قال : «جاءت أخبار معتمدة بأنّ انقضاء مدّة النفاس مدّة الحیض وهی عشرة أیّام»(1) .

وهذا هو المنقول فی «الوسائل» عن «المقنعة»، مع أنّ ما ورد فی «المصباح»


1- وسائل الشیعة : الباب 3 من أبواب النفاس، الحدیث 10 .

ص:28

هو : «إنّ أقصی مدّة النفاس أقصی عدّة الحیض وهی عشرة أیّام»(1) . إذ من الواضح تعبیر الأوّل بالعشرة الإمکانیّة أولی من التعبیر الثانی .

هذا لکن مع ذلک مضافاً إلی کونه مرسلاً، یمکن أن یکون مقصود المفید قدس سره هو الأخبار الظاهرة فی إمکان کون أقصی النفاس العشرة لا العشرة الفعلیّة ، کما یشهد له ویؤیّده تشبیهه بالحیض، إذ من المعلوم أنّ أقصی عدّت الحیض بالعشرة لیس إلاّ الإمکان دون الفعلیّة ، فکذلک یکون فی النفاس .

وثانیاً : بالخبر الرضوی الوارد فیه، أنّه قال : «النفساء تدع الصلاة أکثر أیّام حیضها وهی عشرة أیّام»(2) .

من باب الأخذ بظاهره بکون العشرة موضوعاً مطلقاً حتّی لذات العادة، فتکون العشرة الفعلیّة عدّة النفاس لا أقصاها ومنتهاها لغیر ذات العادة مثل المبتدئة والمضطربة .

هذا ولکن التأمّل والدقّة یحکم بردّ ذلک، لأنّ الفقه الرضوی لا یمکن جعله دلیلاً بنفسه فی قِبال ما سیأتی من الأخبار الکثیرة الدالّة علی کون العشرة إمکانیّة لا فعلیّة، إذ لم یذهب إلیه المعروف من الأصحاب حتّی من القدماء، وإن نسب ذلک إلی ظهور کلام العلاّمة فی «المختلف» والشهید الأوّل فی «الذکری»، وبتبعهما بعض متأخِّری المتأخِّرین، کما فی «الجواهر» حیث نسبا إلی الأصحاب بأنّ مرادهم بقولهم «أکثر النفاس عشرة» أنّ العشرة بتمامها نفاساً مع استمرار الدم وإن کانت ذات عادة ، ومن هنا قال الشهید فی «الذکری»: «بأنّ


1- مصباح الهدی : ج5 / 249 .
2- المستدرک : ج1 الباب 1 من أبواب النفاس ، الحدیث 1 .

ص:29

الأخبار الصحیحة المشهورة، تشهد برجوعها إلی عادتها فی الحیض، والأصحاب یفتون بالعشرة، وبینهما تناف ظاهر »، انتهی .

هذا ، مع إمکان التشکیک فی روایة الرضوی، بدعوی ظهور هذه الجملة فی کونها من کلام صاحب الکتاب ولیس من الروایة، والشاهد علی ذلک أنّه قال بعدها: «وقد رُوی ثمانیة عشر یوماً، وروی ثلاثة وعشرون یوماً» وبأنّ هذه الأخبار جاز أخذها من باب التسلیم .

ثمّ علی فرض التسلیم فی ظهور هذین الخبرین علی العشرة الفعلیّة، فغایتهما الإطلاق فی ذات العادة وغیرها، فیقیّد إطلاقها بذوات العادة فیؤخذ بهما فی المبتدئة والمضطربة التی استمرّت دمهما.

لا یقال: إنّه یوجب التقیید بالفرد النادر لندرة الفردین المزبورین .

لأنّا نقول: بأنّ ذلک أولی من الطرح، لأنّه لا یمکن رفع الید عن المستفیضة الدالّة علی رجوع ذات العادة إلی عادتها فی مستمرّة الدم بواسطة هذین الخبرین الضعیفین غیر المنجبرین بعمل الأصحاب وشهرتهم، کما لا یخفی .

وهکذا ثبت إلی الآن أنّه بالرجوع إلی الأخبار الدالّة علی وفاق مسلک المشهور من کون حدّ النفاس فی الأکثر هو العشرة الإمکانیّة، أی یکون حدّها هو العشرة لو لم ینقطع الدم قبلها، وإلاّ یجب الأخذ بما قد قطع بمثل الحیض، بلا فرق بین ذات العادة وغیرها فی المنقطع قبلها .

وأمّا لو تجاوز دمّها عن العشرة، ففی ذات العادة ترجع إلی عادتها فی الحیض، وفی غیرها من المبتدئة والمضطربة تکون العشرة بتمامها نفاساً ، والأخبار الدالّة علی ذلک واصلة إلی حدّ الاستفاضة بل التواتر، وها هی بین یدیک نذکرها بعون اللّه الملک العلاّم .

ص:30

منها : خبر یونس بن یعقوب، قال : «سمعت أبا عبداللّه علیه السلام یقول : تجلس النفساء أیّام حیضها التی کانت تحیض،ثمّ تستظهر وتغتسل وتُصلّی»(1) .

بناءً علی کون المراد من الاستظهار هو المتعارف فی الحیض بعد العادة إلی العشرة .

ومنها : روایة زرارة، عن أحدهما علیهماالسلام ، قال : «النفساء تکفّ عن الصلاة أیّامها التی تمکث فیها ثمّ تغتسل وتعمل کما تعمل المستحاضة»(2) .

ومنها : روایته الاُخری عن أبیجعفر علیه السلام ،قال: «قلت له: النفساء متی تصلّی؟ قال : تقعد قدر حیضها وتستظهر بیومین فإن انقطع الدم وإلاّ اغتسلت ، الحدیث ».(3)

ومنها : روایة اُخری لیونس، عن الصادق علیه السلام : «عن امرأة» ولدت فرأت الدم أکثر ممّا کانت تری ؟ قال : فلتقعد أیّام قرئها التی کانت تجلس ثمّ تستظهر بعشرة أیّام ، الحدیث (4).

قال الشیخ : یعنی تستظهر إلی عشرة أیّام ، بأن یکون الباء بمعنی إلی ، ویمکن إبقاء ظاهر کلمة الباء علی ظاهرها، بأن یُراد من الاستظهار فی ما بقی من العشرة بلحاظ الابتداء من رؤیة الدم کما مرّ ذلک فی الحیض ، فیکون المراد هنا مع أیّام الاستظهار عشرة من ابتداء الولادة .

ومنها: خبر مالک بن أعین، قال : «سألت أبا جعفر علیه السلام عن النفساء یغشاها زوجها وهی فی نفاسها من الدم؟ قال : نعم ، إذا مضی فیها منذ یوم وضعت بقدر


1- وسائل الشیعة : الباب 1 من أبواب النفاس، الحدیث 1 .
2- وسائل الشیعة : الباب 3 من أبواب النفاس، الحدیث 1 و 2 .
3- وسائل الشیعة : الباب 3 من أبواب النفاس، الحدیث 1 و 2 .
4- وسائل الشیعة : الباب 3 من أبواب النفاس، الحدیث 3 .

ص:31

أیّام عدّة حیضها، ثمّ تستظهر بیوم فلا بأس بعد أن یغشاها زوجها ، الحدیث»(1) .

ومنها : روایة اُخری ثالثة لزرارة، عن أبی عبداللّه علیه السلام ، قال : «تقعد النفساء أیّامها التی کانت تقعد فی الحیض وتستظهر بیومین»(2) .

ومنها : مضمرة عبد الرحمان بن أعین، قال : «قلت له : إنّ امرأة عبد الملک ولدت فعدّ لها أیّام حیضها ثمّ أمرها اغتسلت واحتشت ، الحدیث»(3) .

وهذه سبعة أخبار تدلّ علی رجوع النفساء إلی عادتها فی الحیض، والاستظهار بعد العادة إلی العشرة، فإن انقطع قبلها فکلّها نفاس وإلاّ فعلیها أن ترجع إلی عادتها، وفی غیرها کلّ العشرة نفاس .

نعم ، فی بعض الأخبار ما یدلّ علی التفصیل بین ذوات العادة وغیرها، بأنّ غیر ذات العادة إذا کانت لا تعرف أیّام نفاسها ترجع إلی أقاربها من الاُمّ والاُخت والخالة، وهو مثل خبر أبی بصیر عن أبی عبداللّه علیه السلام ، قال : «النفساء إذا ابتلیت بأیّام کثیرة، مکثت مثل أیّامها التی کانت تجلس قبل ذلک واستظهرت بمثل ثلثی أیّامها، ثمّ تغتسل وتحتشی وتصنع کما تصنع المستحاضة ، وإن کانت لا تعرف أیّام نفاسها فابتلیت جلست بمثل أیّام اُمّها أو اُختها أو خالتها واستظهرت بثلثی ذلک، ثمّ صنعت کما تصنع المستحاضة تحتشی وتغتسل»(4) .

فإنّ المراد بمن لا تعرف أیّام نفاسها إمّا کان لنسیانها أو اختلافها، فتنطبق علی المضطربةُ . وإن کان المراد من لا عادة لها بالفعل ولو لعدم تقرّر عادة لها، أو کونها فی ابتداء دمها فتنطبق علی المبتدئة .

وعلی کلّ حال، هذه الروایة تدلّ علی ذلک التفصیل، ولکن مع ذلک حیث قد


1- وسائل الشیعة : الباب 30 ، من أبواب الحیض، الحدیث 13 .
2- وسائل الشیعة : الباب 30 ، من أبواب الحیض، الحدیث 13 .
3- وسائل الشیعة : الباب 30 ، من أبواب الحیض، الحدیث 13 .
4- وسائل الشیعة : الباب 30 ، من أبواب الحیض، الحدیث 13 .

ص:32

جعل الاستظهار فیه بثلثی أیّامها حملها أصحابنا علی صورة ما إذا کانت عادتها ستّة أیّام أو أقلّ، حتّی لا یوجب انضمام أیّام الاستظهار مع أیّام حیضها التجاوز عن العشرة ، فحینئذٍ یوافق مع الأخبار السابقة فیوجب تأییدها کما لا یخفی .

بل قد یؤیّد کون أکثر أیّام النفاس کأثر أیّام الحیض العشرة، ما ورد فی بعض الأخبار بأنّ دم النفاس حیضٌ محتبس، وأنّ النفساء بمنزلة الحائض، کما تری ذلک فی الخبر المروی عن المقرن، عن أبی عبداللّه علیه السلام ، قال : «سأل سلمان علیّاً علیه السلام عن رزق الولد فی بطن اُمّه ؟ فقال : إنّ اللّه تبارک وتعالی حبس علیه الحیضة فجعلها رزقه فی بطن اُمّه»(1) .

وروایة سلیمان بن خالد، قال : قلت لأبی عبداللّه علیه السلام : جُعلت فداک! الحبلی ربما طمثت ؟ قال : نعم ، وذلک أنّ الولد فی بطن اُمّه غذائه الدم، فربما کثر ففضل عنه، فإذا فضل دفعته، فإذا دفعته حرمت علیها الصلاة»(2) .

أقول: وأمّا ما دلّ علی مساواة النفساء مع الحائض فهو ما جاء فی صحیح زرارة فی حدیثٍ _ بعد بیان حکم النفساء بالرجوع إلی العادة فی حیضها _ قال : «قلت : والحائض ؟ قال مثل ذلک سواء انقطع عنها الدم، وإلاّ فهی مستحاضة تضع مثل النفساء سواء، ثمّ تصلّی ولا تدع الصلاة علی حال، فإنّ النبیّ صلی الله علیه و آله قال : الصلاة عماد دینکم»(3) .

بل قد یمکن الاستظهار والتأیید بالخبر المرسل عن الصادق علیه السلام علی ما حکاه فی «کشف اللِّثام» عن «السرائر» عن المفید «وإن قال صاحب


1- وسائل الشیعة : الباب 30 من أبواب الحیض، الحدیث 14.
2- وسائل الشیعة : الباب 30 من أبواب الحیض، الحدیث 14.
3- وسائل الشیعة : الباب 1 من أبواب الاستحاضة، الحدیث 5 .

ص:33

«الجواهر» انّی لم أجده فیها».

«قال : سئل المفید کم قدر ما تقعد النفساء عن الصلاة، وکم تبلغ أیّام ذلک، فقد رأیت فی کتاب أحکام النساء أحد عشر یوماً . وفی المقنعة ثمانیة عشر یوماً . وفی کتاب الاعلام أحد وعشرین یوماً ، فعلی أیّها العمل دون صاحبه ؟

فأجابه بأن قال : الواجب علی النفساء أن تقعد عشرة أیّام ، وإنّما ذکرت فی کتبی ما رُوی من قعودها ثمانیة عشرة یوماً ، وما رُوی فی النوادر استظهاراً بأحد وعشرین یوماً، وعملی فی ذلک علی عشرة أیّام، لقول الصادق علیه السلام : لا یکون دم نفاس زمانه أکثر من زمان حیض»(1) .

ویستفاد من جمیع ما ذکرنا فیما استدلّ علی کلام المشهور بکون النفاس مثل الحیض یظهر ثلاث مطالب :

الأوّل : کون أکثر أیّام النفاس کأکثر أیّام الحیض هو العشرة .

الثانی : بأنّ ذات العادة ترجع إلی عادتها فی النفاس إذا تجاوز الدم عن العشرة، کما ترجع الحایض إلیها إذا تجاوز .

الثالث : کون المبتدئة والمضطربة مدّة حیضها هی العشرة إذا تجاوز عنها الدم ، کما أنّ مجموع الأیّام حیض فی الثلاث إذا لم یتجاوز الدم عن العشرة .

هذا کلّه عن إثبات کلام المشهور بالدلیل .

دلالة الأصل علی صحّة کلام المشهور: کما أنّه قد استدلّ لإثبات کلامهم بالأصل ، فلابدّ أوّلاً من أن نقرّر المراد من الأصل المستدلّ به فی المقام : فقد یقال : إنّه أصلٌ موضوعیّ من الاستصحاب، أیّ أصالة عدم کون دم الحادث بعد


1- الجواهر : ج3 / 377 .

ص:34

العشرة نفاساً .

ولکنّه قد یرد: بأنّه معارض مع أصالة عدم کونه دم الاستحاضة، لأنّ الدم الحادث یردّد بینهما ولا یمکن إثبات أحدهما لأجل معارضته بمثله فی الأخیر، کما لا یمکن إثبات کونه استحاضة بنفی کونه نفاساً بالأصل، لکونه من الاُصول المثبتة ، کما أنّ عکسه یکون کذلک، إذ العلم بالآخر مع نفی عِدْله لا یکون إلاّ لأجل العلم بدورانه بینهما، لا بمقتضی لسان نفس الأصل، لولا العلم المذکور ، کما لا یخفی .

أقول: لابدّ أن یکون المراد من الأصل هو الحکمی منه ؛ أعنی أصالة عدم وجوب ما یترتّب فی العدم الموجود بعد العشرة من أحکام النفاس .

لکن قد اعترض علیه: بمحکومیّته باستصحاب أحکام النفاس الثابتة قبل انقضاء العادة .

لکنّه مردود، بأنّ استصحابها متوقّف علی استصحاب موضوعها لیترتّب علیه أحکامه، ولا یصحّ إجرائه لکون النفاس من الاُمور التدریجیّة التی لا یجری فیها الاستصحاب ، ولکون الشکّ فی ترتّب أحکام النفاس بعد العشرة من جهة الشکّ فی تقیّد دم النفاس بکونه فی العشرة .

وهذه الإشکالات غیر واردة، لأنّا قرّرنا فی الاُصول:

أوّلاً : صحّة جریان الاستصحاب فی التدریجیّات .

وثانیاً: بعدم الحاجة إلی إجراء الأصل فی النفاس الذی هو من التدریجیّات، لإمکان إثبات الموضوع باستصحاب بقاء الحدث وعدم ارتفاعه بالغُسل فی صورة استمرار الدم، وعدم انقطاعه، لکون الحدث الحادث أمراً ثابتاً قارّاً یحدث بحدوث الدم، ویبقی ما لم یرتفع برافع، وأنّ مدّة النفاس عرفاً ربما تزید علی

ص:35

العشرة، والقدر المتیقّن منه شرعاً وإن کان هو العشرة لکنّه لا یمنع عن إجراء الاستصحاب فی بقائه إذا کان المدار فی بقاء الموضوع فی الاستصحاب ما هو الموضوع عند العرف لا بالدقّة ولا بالنظر إلی الدلیل .

اللّهُمَّ إلاّ أن یُقال: بأنّ استصحاب بقاء أحکام الحدث هنا غیر جارٍ، لأنّه شکّ فی وجودها لأجل کون شکّه شکّاً فی المقتضی لا الرافع ، والثابت عدم جریان الاستصحاب فی الشکّ فی المقتضی، لأنّا نحتمل بحسب مقتضی لسان الأدلّة تقیید موضوع النفاس بما إذا کان فی العشرة فی العادة وغیرها ، فحینئذٍ لا یمکن الرجوع إلی استصحاب الأحکام إلاّ عند من یقول بحجّیة الاستصحاب حتّی فی الشکّ فی المقتضی ، واللّه العالم .

هذا ، مضافاً إلی إمکان دعوی معارضة استصحاب الأحکام الثابتة للنفاس قبل انقضاء العادة لما بعد العشرة ، باستصحاب الأحکام الثابتة للطاهرة قبل عروض دم النفاس، حیث قد یقتضی إثبات وجوب العبادات وجواز ارتکاب المحرّمات الثابتة للنفساء قبل انقضاء العشرة أو العادة الذی قد أبدعه المحقّق النراقی قدس سره ، وحیث أنّا لم نوافقه _ تبعاً للشیخ الأعظم _ فلا وجه للتمسّک به هنا کما لایخفی .

وأیضاً: یمکن أن یُراد من الأصل هنا، أصالة الاشتغال باعتبار أنّ الذمّة کانت مشغولة بالعبادات ، فاللازم هو الاقتصار فی سقوطها علی المتیقّن من النفاس ، کما قد یستظهر ذلک من کلام الشیخ فی «التهذیب» حیث قال : «قد ثبت بأنّ ذمّة المرأة مرتهنة بالصلاة والصوم قبل نفاسها بلا خلاف ، فإذا طرأ علیها النفاس یجب أن لا یسقط عنها ما لزمها إلاّ بدلالة ، ولا خلاف بین المسلمین أنّ عشرة أیّام إذا رأت الدم من النفاس نفاس ، وما زاد علی ذلک مختلفٌ فیه، فلا ینبغی أن

ص:36

تصیر إلیه إلاّ بما یقطع العذر) ، انتهی علی المحکی فی «مصباح الهدی» .

ثمّ قال بعده : «وهذا التقریب للأصل لعلّه سلیم عن المناقشة»(1) .

قلنا : بل لعلّ هذا الأصل قابل للاعتماد لو لم یثبت الدلیل علی خلافه .

أقول : التزم بعض الفقهاء بإمکان اعتبار فترة النفاس أکثر من العشرة بأن یبلغ إلی ثمانیة عشر یوماً کما علیه فتوی بعض الفقهاء، مستشهدین لذلک بطائفة من الأخبار:

منها : صحیحة محمد ابن مسلم، قال : «سألت أبا جعفر علیه السلام عن النفساء کم تقعد؟ قال : إنّ أسماء بنت عمیس أمرها رسول اللّه صلی الله علیه و آله أن تغتسل لثمان عشرة، ولا بأس بأن تستظهر بیوم أو یومین»(2) .

ومنها : روایة محمّد وفضیل وزرارة جمیعاً عن أبی جعفر علیه السلام : «أنّ أسماء بنت عمیس نفست بمحمّد بن أبی بکر، فأمرها رسول اللّه صلی الله علیه و آله حین أرادت الإحرام من ذی الحُلیفة أن تغتسل وتحتشی بالکرسف وتهلّ بالحجّ ، فلمّا قدموا ونسکوا المناسک سألت النبیّ صلی الله علیه و آله عن الطواف بالبیت والصلاة ، فقال لها : منذ کم ولدت؟ فقالت : منذ ثمانی عشر ، فأمرها رسول اللّه صلی الله علیه و آله أن تغتسل وتطوف بالبیت وتصلّی ولم ینقطع عنها الدم ، ففعلت ذلک(3)» .

وبإسناده عن الحسین بن سعید عن حمّاد عن حریز عن زرارة عن أبی جعفر نحوه .

ومنها : مرسل الصدوق کالمسند، قال : «إنّ أسماء بنت عمیس نفست بمحمّد ابن أبی بکر فی حجّة الوداع، فأمرها رسول اللّه صلی الله علیه و آله أن تقعد ثمانیة عشر یوماً»(4) .


1- مصباح الهدی : ج5 / 254 .
2- وسائل الشیعة : الباب 3 من أبواب النفاس، الحدیث 15 و19 .
3- وسائل الشیعة : الباب 3 من أبواب النفاس، الحدیث 15 و19 .
4- وسائل الشیعة : الباب 3 من أبواب النفاس، الحدیث 21 .

ص:37

قال : والأخبار التی رویت فی قعودها أربعین یوماً وما زاد إلی أن تطهر، معلومة کلّها وردت للتقیّة ، لا یعتنی بها إلاّ أهل الخلاف .

حیث یستفاد من کلام الصدوق فی ذیله قبول ثمانیة عشرة ، وحمل ما زاد عنها علی التقیّة .

ومنها : مرسلة جاء فیها قوله : وقد رُوی أنّه صار حدّ قعود النفساء عن الصلاة ثمانیة عشر یوماً ؛ لأنّ أقلّ أیّام «الحیض ثلاثة أیّام، وأکثرها عشرة أیّام وأوسطها خمسة أیّام ، فجعل اللّه عزّ وجلّ للنفساء أقلّ الحیض وأوسطه وأکثره»(1) .

ونحوه روایة حنّان بن سدیر، قال : «قلت لأبی عبداللّه علیه السلام : أعطیت النفساء ثمانیة عشر»(2) .

ومنها : ما فی «عیون الأخبار» بإسناده عن الفضیل بن شاذان عن الرضا علیه السلام فی کتابه إلی المأمون، قال : «والنفساء لا تقعد عن الصلاة أکثر من ثمانیة عشر یوماً ، فإن طهرت قبل ذلک صلّت «وإن لم تطهر حتّی تجاوز ثمانیة عشر یوماً، اغتسلت وعملت بما تعمل المستحاضة» .

ومنها : مرسل الصدوق فی «المقنع» قال : «رُوی أنّها تقعد ثمانیة عشر یوماً(3)» .

ومنها : الخبر المرفوع الذی رواه الشیخ الکلینی فی «الکافی» عن علیّ بن إبراهیم، عن أبیه رفعه، قال : «سألتْ امرأةٌ أبا عبداللّه علیه السلام ، فقالت : إنّی کنت أقعد فی نفاسی عشرین یوماً حتّی أفتونی بثمانیة عشر یوماً ؟ فقال أبو عبداللّه علیه السلام : ولِمَ أفتوک بثمانیة عشر یوماً؟ فقال رجلٌ : للحدیث الذی رُوی عن رسول اللّه صلی الله علیه و آله أنّه قال لأسماء بنت عمیس حیث نفست بمحمّد بن أبی بکر ، فقال أبو


1- وسائل الشیعة : الباب 3، من أبواب النفاس، الحدیث 24 و 26 و 7
2- وسائل الشیعة : الباب 3، من أبواب النفاس، الحدیث 24 و 26 و 7
3- وسائل الشیعة : الباب 3، من أبواب النفاس، الحدیث 24 و 26 و 7

ص:38

عبداللّه علیه السلام : إنّ أسماء سألت رسول اللّه صلی الله علیه و آله وقد أتی لها ثمانیة عشر یوماً ، ولو سألته قبل ذلک لأمرها أن تغتسل وتفعل ما تفعل المستحاضة(1)» .

فإنّ ظاهر هذا الحدیث هو نفی ثمانیة عشر، توجیه کلام رسول اللّه صلی الله علیه و آله من العمل بالاستحاضة بعد ثمانیة عشر یوماً وأنّه لیس بحدٍّ لأکثر النفاس .

ومثله روایة حمران بن أعین، قال : «قالت امرأة محمّد بن مسلم وکانت ولوداً اقرأ أبا جعفر علیه السلام وقل له : إنّی کنت أقعد فی نفاسی أربعین یوماً وأنّ أصحابنا ضیّقوا علیَّ فجعلوها ثمانیة عشر یوماً . فقال أبو جعفر علیه السلام : مَن أفتاها بثمانیة عشر یوماً؟ قال : قلت : الروایة التی رووها فی أسماء بنت عمیس أنّها نفست بمحمّد بن أبی بکر بذی الحُلیفة، فقالت : یارسول اللّه صلی الله علیه و آله کیف أصنع؟ فقال لها : اغتسلی واحتشی وأهلّی بالحجّ ، فاغتسلت واحتشت ودخلت مکّة ولم تطف ولم تسع حتّی تقضی الحجّ ، فرجعت إلی مکّة فأتت رسول اللّه صلی الله علیه و آله فقالت : یا رسول اللّه صلی الله علیه و آله أحرمت ولم أطف ولم أسعَ ، فقال لها رسول اللّه صلی الله علیه و آله : وکم لکِ الیوم؟ فقالت : ثمانیة عشر یوماً ، فقال : أمّا (الآن) فاخرجی الساعة، فاغتسلی واحتشی وطوفی واسعی ، فاغتسلتْ وطافتْ وسعتْ وأهلّتْ . فقال أبو جعفر علیه السلام : إنّها لو سألت رسول اللّه صلی الله علیه و آله قبل ذلک وأخبرته لأمرها بما أمرها به . قلت : فما حدّ النفساء؟ قال : تقعد أیّامها التی کانت تطمث فیهنّ أیّام قرئها ، فإن هی طهرت وإلاّ استظهرت بیومین أو ثلاثة أیّام، ثمّ اغتسلت واحتشت، فإن کان انقطع الدم فقد طهرت، وإن لم ینقطع الدم فهی بمنزلة المستحاضة تغتسل لکلّ صلاتین وتُصلّی»(2) .


1- وسائل الشیعة : الباب 3 من أبواب النفاس، الحدیث 11 .
2- وسائل الشیعة : الباب 3 من أبواب النفاس، الحدیث 11 .

ص:39

حیث تدلّ علی نفی کون الثمانیة عشر أکثر حدّ النفاس وأنّ تعیین تلک المدّة کانت لأجل کون هذه المدّة قد مضت لأسماء حین ما سألت عن رسول اللّه صلی الله علیه و آله . وحیث أنّ الامّة ابتعدت نتیجة للأهواء والسیاسات الظالمة عن باب الولایة وأهل البیت علیهماالسلام ، مع أنّهم علیهم السلام أدری بما فی البیت بما ورد من الأحکام علی جدّهم صلی الله علیه و آله ، وقعوا فی اشتباه عظیم وتوهّموا کون هذه المدّة هو حدّ أکثر النفاس ، ولذلک أفتوا بذلک، وأوجب مثل هذه الفتوی أن تصدر الأخبار الموافقة لها من الأئمّة تقیّة ولذلک تری أنّ علیّ بن موسی الرضا علیه السلام وقّع فی مکاتبته للمأمون (بأنّ النفساء لا تقعد عن الصلاة أکثر من ثمانیة عشر یوماً) فی قبال ذهاب بعض العامّة إلی ثلاثین أو أربعین أو خمسین أو ستّین، وهکذا تخبطت الأُمّة فی أحکامها الشرعیّة، نیتجة لابتعادهم عن أبواب العلم والهُدی.

هذا فضلاً عن قوّة احتمال التقیّة فی أغلب المکاتبات.

وهکذا یظهر أنّه لا مجال للفقیه أن یعتمد علی مثل هذه الأخبار فی تحدید مدّة النفاس، مضافاً إلی أنّ ما یؤیّد هذا المدّعی التردید المنقول عن مثل محمّد بن مسلم الناقل لثمانیة عشر یوماً فی حدیثه المنقول عن أبی أیّوب ، عن محمّد بن مسلم ، بقوله : «قال : قلت لأبی عبداللّه علیه السلام : کم تقعد النساء حتّی تصلّی؟ قال : ثمان عشرة، سبع عشرة، ثمّ تغتسل ، الحدیث(1)» .

مع أنّ سبع عشرة لم یرد فی حدیث أصلاً، ولم یفت به أحد من الفقهاء، ممّا یدلّ علی أنّه کان یتّقی فی بیان الأحکام .

هذا فضلاً عن أنّه قد یؤیّد ما ذکرنا وقوع الاشتباه فی القعود عن الصلاة


1- وسائل الشیعة : الباب 3 من أبواب النفاس، الحدیث 12 .

ص:40

لزوجة محمّد بن مسلم التی کانت زوجته، حیث لولا ظروف التقیّة لما أمکن فرض جهلها وعدم تعلیم زوجها إیّاها لمثل هذا الحکم المبتلی به عامّة النساء، حتّی یصل الأمر إلی أبی جعفر علیه السلام فیشیر إلی منشأ اشتباه العامّة فیه ، بل لا یحتمل أنّ محمّد بن مسلم أیضاً کان لا یعلم المسألة بهذه الکیفیّة إلی زمان نقل أبی جعفر علیه السلام ، حیث قد کشف الغطاء عن وجهها ، واللّه العالم .

بل قد یؤیّد ما ذکرنا من عدم کون حدّ الأکثر ثمانیة عشر، هو بیان الاستظهار بیوم أو یومین أو ثلاثة، حیث لا ینطبق ذاک إلاّ مع العشرة بما إذا انقطع الدم قبل العشرة، علی حسب اختلاف حالات النساء، من کون عادتهنّ سبعة أو ثمانیة أو تسعة، فی مقابل من کانت عادتها عشرة، أو علی بیان حال حکم المسألة من لزوم الاستظهار فی تلک الأیّام .

بیان تأییده: أنّه لم یلتزم أحد من الفقهاء بلزوم هذا الاستظهار بتلک الأیّام فی ثمانیة عشر یوماً، لاستلزامه حینئذٍ فرض امتداد مدّة النفاس إلی أحد وعشرین یوماً ، وهو باطل قطعاً .

مضافاً إلی إعراض الأصحاب عن الأخبار الدالّة علی أنّ حدّ النفاس فی الأکثر ثمانیة عشر، لما قد عرفت من قیام الشهرة العظیمة بین القدماء والمتأخّرین علی أنّه العشرة فی ذات العادة وغیره ، لو لم ینقطع الدم إلیها، وإلاّ علی قدر العادة لمَن کانت معتادة، أو جمیع الأیّام التی کانت دون العشرة لمن لم تکن لها عادة کالمبتدئة والمضطربة، أو جمیع العشرة لمن انقطع دمها لغیر ذات العادة .

وهکذا ثبت أنّه لا مجال للفتوی بهذه المدّة مراعاةً لفتاوی بعض الأعلام کالصدوق والسیّد المرتضی فی «الانتصار» حیث أفتوا فی حدّه إلی ثمانیة عشر، وقد وردت إلیها الإشارة فی کلام السیّد فی العروة، حیث یقول فی مسألة الأولی

ص:41

من مسائل باب النفاس : «وأکثره عشرة أیّام، وإن کان الأولی مراعاةً الاحتیاط بعدها أو بعد العادة إلی ثمانیة عشر یوماً من الولادة» ، خصوصاً مع ملاحظة کونها مناسباً مع أصالة الاشتغال .

إلاّ أنّک قد عرفت تمامیّة دلالة الأدلّة علی المدّعی ، فمع وجود الدلیل علی الحکم لا تصل النوبة إلی التمسّک بالأصل، کما لا یخفی .

أقول: وممّا ذکرنا ظهر عدم تمامیّة ما ذهب إلیه الشهید فی «البیان» من رجوع المبتدئة تجاوز دمها عن العشرة إلی التمییز، ثمّ إلی النساء ثمّ العشرة ، والمضطربة إلی التمییز ثمّ العشرة تمسّکاً بخبر أبی بصیر، بقوله : «وإن کانت لا تعرف أیّام نفاسها فابتُلیت ؛ جَلَسْت بمثل أیّام اُمّها واُختها وخالتها واستظهرت ثلثی ذلک ، ثمّ صنعت کما تصنع المستحاضة تحتشی وتغتستل .

وذلک لأجل عدم معلومیّة المراد من الاستظهار بثلثی الأیّام ، ولذلک حمل علی الاختلاف فی ذات العادة من الأیّام ، فالاعتماد علی مثل هذا الخبر الذی لم یفت به الأصحاب ، بل ولم یتعرّضوا له فی باب حکم النفاس مشکل جدّاً ، واللّه العالم بحقائق الأحکام .

وأیضاً: ظهر ما ذکرنا ضعف التفصیل الذی تعرّض له العلاّمة فی «المختلف» والشهید فی «الذکری» وتبعهما بعض المتأخّرین، من أنّ مراد الأصحاب بقولهم: «أکثر النفاس عشرة» أنّ العشرة بتمامها نفاسٌ مع استمرار الدم وإن کانت ذات عادة ، مع ذهاب العلاّمة فی المحکی عن «المختلف» إلی التفصیل بین ذات العادة فی أکثریّة النفاس وهی العشرة، وبین المبتدئة إلی ثمانیة عشر : لما قد عرفت أنّ ظاهر الأدلّة دالّة علی أنّ النفاس کالحیض فی مطلق النسوة، سواءً کانت من ذوات العادة أو غیرها من المبتدئة والمضطربة، إذ کلامه خرق للإجماع المرکّب

ص:42

احتمالاً ، فإنّ الأصحاب بین قائل بکون أکثره عشرة مطلقاً لذات العادة وغیرها ، وبین قائل بثمانیة عشر مطلقاً . ذهب إلیه رحمه الله لا شاهد له فی الأخبار أوّلاً .

فی النفاس / لو استمر الدم بعد النفاس

وثانیاً: أنّ حمل أخبار ثمانیة عشر کلّها علی المبتدئة حملٌ علی الفرد النادر.

وثالثاً: أنّ قضیّة ثمانیة عشر کانت فی قضیّة أسماء بنت عمیس التی کانت زوجةً لعبداللّه بن جعفر قبل ذلک، وکانت لها منه أولاد وبنین، فکیف یمکن الالتزام بعدم وجود عادة لها إلی زمان الزواج مع أبی بکر حتّی تکون حالها حال المبتدئة ؟! فیکون الأخبار الواردة فی حقّها، والمشهورة حکایتها بین العامّة والخاصّة مبیّنة لحکم المرأة المبتدئة من ذات النفاس .

وبالجملة: فالأقوی عندنا من اعتبار ما ذهب إلیه المشهور، من اعتبار أکثر النفاس عشرة أیّام، بلا فرق فی ذلک بین ذات العادة وغیرها ، وإن کان الأولی والأحوط هو العمل بالجمع بین وظیفتی النفساء والطاهرة بعد العشرة إلی ثمانیة عشرة کما عرفت تفصیل دلیلها ، فلا نعید .

وأخیراً: بعدما ثبت لزوم القعود فی النفاس إلی العشرة، یأتی الکلام فی أنّ المراة ذات النفاس إذا کانت مستمرّة الدم، وعمل بوظیفتها، فهل یعتبر الفصل بأقلّ الطهر _ أی العشرة _ بین المدّة المحکومة بالنفاس، وبین الدم المحکوم بکونه دم الحیض بعد النفاس أم لابدّ فیه من مضیّ شهر حتّی یحکم کذلک؟

وقد یظهر من بعض الأصحاب _ کما فی «المعتبر» _ هو الأوّل، ولکن احتمل صاحب «الجواهر» الثانی، ویظهر وجهه ممّا تقدّم فی المباحث السابقة فی الحیض.

والأقوی عندنا هو القول بالاحتیاط الوجوبی، بلزوم الفصل بینهما بأقلّ الطهر فی المتأخّر، نظیر ما قلنا بذلک الاحتیاط فی الفصل بینهما فی المتقدّم، واللّه العالم.

ص:43

ولو کانت حاملاً باثنین، وتراخت ولادة أحدهما، کان ابتداء نفاسها من الأوّل، وعدد أیّامها من وضع الأخیر (1).

(1) أقول : کون مبدأ احتساب مدّة النفاس من الأوّل ممّا علیه إجماع الخاصّة، کما یظهر ذلک من قول العلاّمة فی «المنتهی» و «التذکرة» بقوله: «عند علمائنا کما هو الظاهر من الأدلّة » لأنّ الدم إذا خرج مع الولد الأوّل صدق علیه أنّه دم الولادة، فینطبق علیه ما ورد فی بعض الأحادیث (بأنّها تصلّی ما لم تلد) المتعقّب بقوله: «تری صفرة أو دماً کیف تصنع بالصلاة؟» کما ورد فی حدیث عمّار بن موسی عن أبی عبداللّه علیه السلام .

فی النفاس / فی ما إذا تعدّد الولد

أو ما فی روایة السکونی عن جعفر عن أبیه علیهماالسلام ، أنّه قال : «قال النبیّ صلی الله علیه و آله : ما کان اللّه لیجعل حیضاً مع حبل ؛ یعنی إذا رأت المرأة الدم وهی حامل لا تدع الصلاة، إلاّ أن تری علی رأس الولد إذا ضربها الطلق، ورأت الدم ترکت الصلاة»(1) .

هذا فیما إذا اعتبرنا قوله (یعنی) من الإمام دون الراوی، حیث أنّ الخبران یدلان علی أنّ الدم الخارج مع الولد یصدق علیه النفاس، ولو کان بجزء من الولد کالرأس کما أشار إلیه فی الروایة ، غایة الأمر حیث قد تعاقبها ولادة الولد الثانی، لابدّ أن یلاحظ: بأنّ تعاقبها یوجب کون احتساب العشرة من ابتداء الدم فی الأوّل، بحیث لو وقع فصل بین الولادتین بیومین مثلاً، کان المعتبر مراعاة الباقی من الأیّام العشرة وهی الثمانیة وإن لم یکن کذلک بالنظر إلی الثانی، أو تحتسب المدّة من وضع الأخیر، فیلزم أن یکمل العدد من الثانی عشرة، وإن زاد العدد فی


1- وسائل الشیعة : الباب 4 من أبواب النفاس، الحدیث 2 .

ص:44

الفرض المزبور عن العشرة بیومین .

أقول: ما صرّح به المصنّف هو الثانی، حیث قال : «واستیفاء عدد أیّامها من وضع الأخیر، فیلزم منه التداخل فیه ما بقی من عدد أیّام النفاس الأوّل» .

وظاهر کلامه هو الإطلاق من حیث التخلّل بالعشرة بین الولادتین وعدمه ، لکن صرّح صاحب «الجواهر» بما إذا لم یتخلّل بینهما بالعشرة، وإلاّ کان عدد کلّ مستوفی تامّاً مستقلاًّ من غیر تداخل .

ولا یخفی أنّ مقتضی طبع القضیّة هو ما ذکره صاحب «الجواهر» ، إذ لا معنی للتداخل بعد مضیّ العشرة ؛ لأنّ منتهی مدّة النفاس علی الفرض هو العشرة ، فبعد انقضاء هذه المدّة لا یمکن احتساب النفاس للأوّل، فینفرد الثانی بعد معلومیّة أنّه لا یمکن نفی النفاسیّة لدم الولادة فی الولد الثانی إلاّ علی القول بشرطیّة الفصل بأقلّ الطهر بین العشرة للأوّل، واحتساب دم النفاس للثانی، کما یحتسب کذلک بین الحیضتین ، فبناءً علیه یلزم القول فی فرضنا کون دم الولادة الثانیة دم الاستحاضة لا النفاس، والالتزام بذلک مشکل جدّاً .

وکیف کان ، فما ذکره المصنّف هو مختار جماعة کبیرة من الفقهاء، مثل الشیخ فی «المبسوط» والسیّد فی «الانتصار» و «السرائر» و «الجامع» و «المنتهی» و «القواعد» و «الإرشاد» و «جامع المقاصد» و «الناصریات والخلاف» و «الوسیلة» و «المهذّب» و «الجواهر» و «الإصباح» ، بل وکثیر من المتأخّرین من صاحب «الجواهر» و «العروة» و «مصباح الهدی» للآملی ، بل وجماعة کبیرة من أصحاب التعلیق علی «العروة» .

فلازم هذا القول إمکان کون جلوسها عشرین یوماً إذا فرضنا کون نفاس کلّ واحدٍ من الولدین عشرة أیّام .

ص:45

وعلیه، فما فی المعتبر من التردّد فی نفاسیّة الأوّل، لأنّها حامل ولا حیض ولا نفاس مع حمل .

ممّا لا یمکن المساعدة علیه، بعد کون مختارنا إمکان الجمع بین الحیض والحمل، لو سلّمنا عدم کونه نفاساً، وإلاّ نقول إنّه دم نفاس بالنسبة إلی الأوّل، وإن صدق علیها الحمل بالنسبة إلی الثانی، کما یصدق علی الثانی نفاساً آخر إذا کان ولادة الثانی بعد العشرة ، وهکذا فی الثالث إذا کانت ولادته بعد مضیّ عشرین یوماً بلا خلاف ظاهر ، بل نقل الإجماع علیه مستفیض، ولم یحک فیه خلاف إلاّ عن «المعتبر» کما عرفت .

مع أنّه من الواضح صدق الولادة مع بقاء الحمل ، وأنّ الأقوی إمکان اجتماع الحیض مع الحمل.

أمّا لزوم الفصل بالعشرة بین النفاسین کالحیضین، من جهة استظهاره بما قد ورد بکون النفاس هو دم حیض احتبس، أو بما دلّ علی کون أحکام النفاس کأحکام الحیض، کما یظهر قبول ذلک من صاحب «الجواهر» .

ممّا لا یمکن قبوله ؛ لأنّ دلیل التساوی بین الحیض والنفاس هو الإجماع، ولا إجماع هنا فی مساواتهما فی عدم الاجتماع مع الحمل ، بل الإجماع علی خلافه کما عرفت ، فلا محلّ لهذا التردید(1) .

أقول: إنّ دلیل المساواة لیس خصوص الإجماع، لما قد عرفت وجود دلالة بعض الأخبار علی ذلک ؛ مثل الخبر المضمر المروی عن زرارة فی حدیث قال : «قلت : والحایض؟ قال : مثل ذلک سواء، فإن انقطع عنها الدم وإلاّ فهی مستحاضة


1- مصباح الهدی للآملی : ج5 / 272 .

ص:46

تصنع مثل النفساء سواء ثمّ تصلّی ، الحدیث»(1) .

إلاّ أنّه لا منافاة بین ما فی هذا الخبر وبین القول هنا بجواز تعاقب النفاسین قبل الفصل بالعشرة، لأجل إمکان القول بالمقیّد فی الإطلاق بالمساواة فی مثل المقام بما قد یستفاد من أدلّة صدق النفاس علی الدم مع الولادة المنطبق للولد الثانی والثالث أیضاً ، مضافاً إلی وجود الإجماع أیضاً علی ذلک کما عرفت فی صدر البحث .

وممّا بیّناه من وجود النفاس للولد الثانی أیضاً، یظهر عدم تمامیّة القول باختصاص النفاس للأوّل فقط، بأن یؤخذ ابتدائه من الأوّل إلی أن یکمل العدد ولو وقع الثانی فی أثنائه، بحیث لایکون للولدالثانی فیه أثر، حتّی یلزم علی ذلک أنّه لو فرض ولادة الثانیبعدالعشرة لم یکن له نفاس أصلاً،کما هوالمنقول عن بعض العامّة.

کما أنّه ظهر عدم تمامیّة قول آخر من العامّة من کون ابتداء النفاس من حین ولادة الولد الثانی دون الأوّل .

لأنّ لسان الأدلّة لا یساعد إلاّ مع ما ذکرناه، کما هو مراد الأصحاب من کون استیفاء تمام عدّة النفساء من وضع الثانی، وإن کان ما عدّته بعد الأوّل نفاساً أیضاً .

نعم ، قد یشکل الأمر فیما لو تقطّعت أجزاء الولد، کما لو سقط عضو من الولد وتخلّف باقی الأجزاء إلی ما بعد العشرة ، فهل هنا نفاسان ، أو نفاس واحد للأوّل فقط ، أو للثانی ، أو یتوقّف تحقّق صدق النفاس علی خروج المجموع هنا ؛ أی فی الانفصال، وإن قلنا بالاکتفاء ببروز الجزء مع الاتّصال، بدعوی الفرق بین الاتّصال والانفصال، کما احتمله صاحب «الجواهر»، خلافاً للشهید فی


1- وسائل الشیعة : الباب 1 من أبواب الاستحاضة، الحدیث 5 .

ص:47

«الذکری» و«الدروس» حیث احتمل کونه نفاسین کالتوأمین ؟ وجوه .

أقول: الأقوی عندنا کما ذکرناه فی تعلیقتنا علی «العروة» ذیل المسألة الخامسة، بکون النفاس من حیث خروج ذلک البعض إذا کان معدوم وإن کان مبدأ العشرة من حین التمام بالخروج، لأنّه یصدق هنا أنّه نفاس واحد، بخلاف التوأمین حیث یمکن الإشکال فیه بکون ابتداء الحساب من حین ولادة الثانی ؛ لأنّ کلّ واحد من الولدین یصدق علیه نفاس کما لایخفی .

وأمّا إذا کان لم یکن معه دم ؛ بإنّ تخلّل نقاء، فإن کان عشرةً فطهر وإلاّ لحق بالنفاس، کما قلنا بذلک فی الطهر المتخلّل فی الحیض إذا کان أقلّ من العشرة، وإن احتیاط السیّد فی «العروة» بالجمع بین أحکام الطاهر والنفساء ، ومعلومٌ أنّ الاحتیاط حسنٌ علی کلّ حال، إذا أتی بالعمل رجاءً کما لا یخفی .

فرع: فی التوأمین: بعدما عرفت کون ابتداء النفاس من حین ولادة الولد الأوّل واستیفاء العدد بالثانی، وکون النفاس هنا متعدّداً، فی أنّ المراد من الاستیفاء هو انتهاء نفاسیّة الأوّل بتحقّق الثانی، بحیث لا ینفرد الثانی بالنفاسیّة، أو کان المراد من العبارة أنّ الأوّل یشارک الثانی فیما بقی من عدده، وینفرد الثانی فی الزائد، فیه احتمالان ، بل قولان ، والأقوی هو الثانی کما علیه صاحب «الجواهر» ، بل هو الظاهر من بعضهم، لصدق النفاس علی کلّ واحدٍ منهما، وعدم المنافاة فی الاجتماع فی السببین من باب التداخل إذ لا وجه لإخراج الثانی عن حکم النفاسیّة مستقلاًّ بعد الانفراد ، هذا إن علم أنّ الدم الثانی کان بسبب الولادة الثانیة من غیر مدخلیّة للاُولی فیها، وإلاّ فإنّ علیها الرجوع إلی الأوّل فقط فی تکمیل العدد .

وتترتّب علیه ثمرة ومع أنّه لو حصلت لها بیاضاً بعد الولادة الثانیة، ثمّ رأت دماً بعد ذلک فی أیّام یمکن عدّها من نفاسیّة الأوّل، حیث یمکن الحکم بنفاسیّة

ص:48

ولو لم ترَ دماً ثمّ رأت فی العاشر، کان ذلک نفاساً (1).

أیّام البیاض للأوّل لکون البیاض واقعاً بین دمی نفاس واحد للأوّل ، هذا علی الثانی بخلافه علی الاحتمال الأوّل، إذ هو ابتداء بنفاس آخر للثانی، لأنّه قد انتهی الأوّل بولادة الثانی ، فالبیاض لیس بنفاس بل ثمرات اُخری یتّضح بالتأمّل والدقّة، خصوصاً إذا لم نشترط الفصل بأقلّ الطهر وهو العشرة بین النفاسین، کما أنّ الأمر کذلک ، إذ لا دلیل لنا بلزوم المساواة بین الحیض والنفاس فی جمیع الجهات حتّی بین النفاسین کما هو الحال بین الحیضتین .

فی النفاس / فی ما إذا لم تر إلی العاشر دماً

(1) أقول: الحکم بکون الدم المرئی فی العاشر نفاساً لأنّ الدم قد وقع فی المدّة التی کان وجوده فیها محکوماً بالنفاس ، وقد عرفت منّا فی صدر البحث، أنّ الأیّام السابقة علیه من حین الولادة لیست بنفاس ؛ لأنّ صدق النفاس موقوف علی وجود الدم مع الولادة، وهو مفقود هنا ، ولیس تعاقب الدم بعد الولادة شرطاً فی صدقه، إذ لا دلیل علیه ، بل المستفاد من الأدلّة خلاف ذلک ، مضافاً إلی أنّه ملحوق بالنفاس مع الاشتباه، کما یلحق المشتبه بالحیض إلی الحیض، خصوصاً إذا قلنا بجریان قاعدة الإمکان هنا کجریانها فی الحیض. هذا المستفاد من ظاهر کلام المصنّف هو الظاهر من کلمات غیره من الففقهاء کما فی «السرائر» و «الجامع» و «المعتبر» و «المنتهی» و «التحریر» و «الإرشاد» وغیرها ، بل فی «المدارک»: «أنّ هذا الحکم مقطوعٌ به فی کلام الأصحاب» .

فما تری فی کلام صاحب «المدارک» من قوله : «إنّ هذا الحکم مشکلٌ، لعدم العلم باستناد هذا الدم إلی الولادة، وعدم ثبوت الإضافة عرفاً» ، لیس علی ما ینبغی، لأنّه لیس إلاّ مجرّد الدعوی . ثمّ إنّ ظاهر إطلاق کلام المصنّف غیره من

ص:49

الحکم بنفاسیّة یوم العاشر خاصّةً دون غیرها، هو الإطلاق الشامل للمعتاد وغیرها، سواءٌ تجاوز الدم العاشر أو انقطع عنها . ففی «الجواهر»: «أنّه متّجهٌ بناءً علی ما اختاره فی «المعتبر» من التحیّض بالعشرة مطلقاً _ أی فی المعتاد وغیرها، تجاوز عنها أم لا» _ .

وأمّا بناءً علی ما اخترناه من الرجوع إلی العادة، فینبغی تقیید الحکم المذکور بما إذا انقطع علی العاشر، أو کانت مبتدأة أو مضطربة أو ذات عادة هی عشرة ، أمّا إذا لم یکن کذلک، کما لو کانت عادتها دون العشرة، ورأت الدم فی العاشر، ثمّ استمرّ الدم متجاوزاً، فلا یتّجه الحکم بالنفاسیّة حینئذٍ، للأمر بالرجوع إلی العادة مع التجاوز ، والفرض عدم الدم فیها) ، انتهی محلّ الحاجة(1) .

قلنا : فکأنّه أراد إدخال هذه الصورة فی حکم الحیض ؛ لأنّه قال بعد ذلک : «لکن قد یشکّ فی شمولها لمثل المقام، لظهور اخبارها فیمن رأت الدم فی العادة وخارجها واستمرّ ، فتبقی قاعدة الإمکان وغیرها سالمة عن المعارض، سیّما بعد إطلاق الأصحاب الحکم» .

مع أنّه یرد علیه أوّلاً بالنقص : بأنّ الحیض فی المعتاد أیضاً إذا کان بهذه الرؤیة، لابدّ أن یرجع إلی العادة ، وکیف ترجع مع عدم وجود الدم لها فیها ، فالحکم بالحیض مشکل مثل النفاس .

ثانیاً بالجواب الحلّی: بأنّ الرجوع إلی العادة إذا تجاوز العشرة فی المعتاد، إنّما یصحّ فیما إذا أمکن الحکم بالحیضیّة والنفاسیّة، لا مطلقاً حتّی فیما لا دم لها فی تلک الأیّام من عادتها ، کما فی الفرض ، ففی مثل ذلک یحکم بنفاسیّة خصوص


1- جواهر الکلام : ج3 / 395 .

ص:50

یوم العاشر، کما یحکم بالحیضیّة فیه بالخصوص ، فإطلاق المصنّف وغیره کان فی محلّه علی جمیع المبانیّ، کما لا یخفی .

فإذا أحکمنا بنفاسیّة خصوص یوم العاشر بما ذکرنا، یظهر عدم تمامیّة کلام صاحب «الریاض» من الإشکال أیضاً فی المعتادة دون العشرة، مع رؤیتها الدم فی العاشر خاصّة وانقطع، حیث ذهب إلی الشکّ فی صدق دم الولادة علیه، مع کون وظیفتها الرجوع إلی أیّام العادة التی لم ترَ فیها شیئاً بالمرّة .

لما قد عرفت بأنّ الحکم بنفاسیّة یوم العاشر یکون مطلقاً کالحیض، فیما إذا لم یمکن الحکم بالرجوع إلی العادة، لأجل عدم وجود الدم لها .

مضافاً إلی ما عرفت من وجود اجتماع الأصحاب علی الحکم بالنفاسیّة فی هذه الموارد ، فالمسألة واضحة بحمد اللّه .

أقول: إذا عرفت اختصاص حکم النفاس لخصوص یوم العاشر دون غیره، ولو تجاوز الدم عنه، یظهر لک أنّه لا یجوز لها فی المعتاد أن یکمل عادتها من خارج العشرة . کما کان الأمر کذلک فی الحیض ، بل ولو أجبرنا التکمیل فی الحیض لإمکان دعوی وجود الفرق بین المقام وبین الحیض، من إمکان القول بالرجوع إلی الصفات فی الحیض إذا عجزنا عن الحکم بالرجوع إلی العادة بخلاف النفاس ؛ لأنّ الأصحاب اتّفقوا علی أنّ مبدأ النفاس من حین الولادة ، کما یستفاد من حدیث مالک بن أعین، بقوله : «إذا مضی لها منذ یوم وضعت بقدر أیّام عدّة حیضها» .

وروایة الفضلاء: «أنّ أسماء سألت النبیّ صلی الله علیه و آله عن الطواف بالبیت والصلاة ، فقال لها : منذ کم ولدتِ» .

فی النفاس / فی النقاء المتخلّل فی أیّام العادة

وأنّ أکثر أیّام النفاس عشرة، بلا فرق فیه بین کونها قد رأت الدم بعد العشرة أم

ص:51

لا ، بل حتّی لو لم ترَ الدم إلاّ بعد العشرة ، حیث ظاهر کلامهم هو عدم صدق النفاس علیه إلاّ عند من یجوّز صدق النفاس إلی ثمانیة عشر ولو بالاحتیاط وإلاّ لا یکون نفاساً بالقطع ، فاحتمال کون هاتین الروایتین لمَن استمرّت الدم ورأت بعد الولادة ، ولا یشمل لمثل المفروض الذی یعدّ فرضاً نادراً، کما احتمله صاحب «الجواهر» حتّی یوجب جواز تکمیل أیّام العادة من خارج العشرة، ممّا لا یمکن المساعدة معه، کما لا یخفی علی المتأمّل فی کلمات الأصحاب .

ومن ذلک یتّضح أنّها لو رأت رابع الولادة مثلاً وسابعها لمعتادتها، واستمرّ إلی أن تجاوز العشر، فالأحوط وجوباً الجمع بین الوظیفتین إلی العشرة، واستحباباً إلی ثمانیة عشر، وذلک بمقتضی جریان قاعدة الإمکان إن قلنا بها فی النفاس وإلی الاستصحاب ومساواة الحایض ، ومن جهة ملاحظة حال أیّام العادة فقط بالنظر إلی الأخبار فی ذات العادة، إذا تجاوز الدم عن العشرة ، وهذا الاحتیاط یجریفیما لو رأت فییوم السابع وتجاوز دمّها إلی العشرة وتجاوز عنها، بل وحتّی فیما لو رأت بعد أیّام العادة مثل یوم الثامن أو التاسع ، واستمرّ تجاوز العشرة لمن کانت عادتها سبعة ، فالقول بتکمیل أیّام العادة من بقیّة الأیّام إلی العشرة ، بل ومن خارجها إذا لم یتجاوز العدد من العشرة، لا ینبغی أن یُصغی إلیه .

کما أنّه ظهر من مختارنا أنّ النقاء المتخلّل فی أیّام العادة ملحقٌ بالنفاس، إذا کان فیما بین العشرة، کما لو رأت أوّل یوم من السبعة والیوم السابع فقط دون الأیّام فی الوسط، حیث إنّ النقاء المتخلّل ملحقٌ بالنفاس ، فإذا تجاوز الدم عن العشرة علیها الرجوع إلی العادة وهی سبعة ؛ لأنّها عادتها ، وقس علی ذلک بقیّة المحتملات والصور، فلا نطیل بذکرها ، وللسبب الذی ذکرناه، فقد ما ذکر المصنّف فی کلامه اللاحق أنّ ما رأته المرأة عقیب الولادة ومن ثمّ انقطع عنها إلی یوم العاشر، أنّ کلا الدمین نفاساً .

ص:52

ولو رأت عقیب الولادة ثمّ طهرت، ثمّ رأت فی العاشر أو قبله، کان الدمّان وما بینهما نفاساً (1).

ویحرم علی النفساء ما یحرم علی الحایض ، وکذا ما یکره لها ، ولا یصحّ طلاقها ، وغسلها کغسل الحایض (2).

(1) بلا فرق فیه بین ما لو تجاوز العشرة أم لا ، سواء کان لذات العادة أو غیرها إلاّ فی ذات العادة بعد التجاوز، فإنّ علیها أن ترجع إلی عادتها ، وسواء کانت عادتها عشرة أو أقلّ ، کما أنّ العشرة کلّها نفاس للمبتدأة والمضطربة، إن استمرّ الدم وتجاوز العشرة، کما عرفت تفصیلها . کما أنّه یحکم بنفاسیّة النقاء المتخلّل إذا کان أقلّ من الطهر، إذ هو شرط فی النفاس الواحد، بخلاف النفاس فی التوأمین، حیث أنّه کان من النفاسین، فلا یضرّ النقاء ولو کان أکثر من العشرة ؛ لأنّ دم الثانی ربما یکون للولد الثانی، وهو نفاس آخر غیر ما کان للولد الأوّل، فلا یجری هذا الشرط هنا کما هو واضح .

(1) أقول: حیث قد عرفت أنّ حکم النفاس کحکم الحیض، وأنّ أحکامه کأحکامه ، یفهم ما جاء فی کلام المصنّف، من أنّه یحرم علی النفساء ما یحرم علی الحائض، کما یکره أو یباح لها کما کان للحائض .

هذا، فإنّه من جهة الأحکام لا یصحّ الطلاق فی حال النفاس ، کما لا یصحّ فی حال الحیض، ومن جملة أحکامه کون غُسلها کغسلها وجوباً وکیفیّةً، وکونه مستغنیاً عن الوضوء وعدمه ، کما أنّ الثانی هو المختار، نظیر حرمة اللّبث فی المساجد، وحرمة قراءة العزائم، ومسّ کتابة المصحف، وندب الوضوء للذکر ونحوه، وأمثال ذلک بما یکون من الأحکام کما علیه الإجماع، حیث قال صاحب «الجواهر» : «بلا خلاف أجده فیه ، کما فی «التذکرة» : بل بین أهل العلم کما فی

ص:53

«المنتهی»، وفی «المعتبر»: أنّه مذهب أهل العلم لا أعلم فیه خلافاً . وفی «الغُنیة» : والنفساء والحایض سواء فی جمیع الأحکام، إلاّ فی حکم واحد، وهو أنّ النفاس لیس لأقلّه حدٌّ وذلک بدلیل الإجماع السالف » ، انتهی .

ولعلّ وجه عدم استثناء المصنّف مثل ذلک ولا الاختلاف فی أکثره بخلاف الحیض، ولا ذکر عدم الرجوع إلی العادة فی النفاس ولا عادة النساء ولا إلی الروایات بالنسبة إلی المبتدئة والمضطربة، وعدم دلالة النفاس علی البلوغ وعدم انقضاء العدّة بالنفاس إلاّ نادراً کما فی الحامل من زنا وغیر ذلک ، کان ذلک لأنّ المقصود من التساوی هو التساوی فی الأحکام من الحرمة والإباحة والکراهة ، لا مثل تلک الاُمور، أو کان لأجل أنّ بعضها خارج بالدلیل، والمقصود بیان أصل التساوی بینهما الجملة إلاّ ما خرج بالدلیل، وإن هناک خلاف فی بعض ما ذکرناه بین العلماء، کشرطیّة أقلّ الطهر فی الفصل المتخلّل بین الدمّین فی التوأمین مثلاً ، وکیف کان فإنّه لا إشکال فی الجملة من جهة التساوی بین النفساء والحایض فی الأحکام إلاّ ما خرج بالدلیل ولو کان الدلیل، هو الإجماع ، واللّه ورسوله والأئمّة المعصومین صلوات اللّه علیهم أجمعین هم العالمون بحقائق الأحکام .

هذا آخر الکلام فی الدِّماء الثلاثة ، وقد تمّ ذلک فی الیوم الثلاثاء المصادف لذکری یوم ولادة اُمّ الأئمّة النجباء النقباء فاطمة الزهراء علیهاالسلام ، وهو الیوم العشرین من جمادی الثانیة من سنة أربعة وعشرین وأربعمائة بعد الألف من الهجرة النبویّة .

وکان تسوید الأوراق، وتبییض الأذهان، وتنویر الأفکار من خلال شرح ما جاء فی کتاب «شرائع الإسلام» بید أقلّ العباد الحاج السیّد محمد علی العلوی الحسینی الاسترآبادی الگرگانی، ابن المرحوم حجّة الإسلام والمسلمین آیة اللّه الحاج السیّد السجّاد العلویّ، عفی اللّه عنهما وجعل الجنّة مثواهما أمین .

ص:54

فصلٌ فی الأموات

قوله قدس سره : الفصل الخامس: فی أحکام الأموات(1).

(1) أقول: الأحکام المتعلّقة بالأموات خمسة:

الأوّل: فی الاحتضار :

وقد جرت سیرة الفقهاء والأصحاب علی التعرّض للأحکام المتعلّقة بالمکلّفین بالنسبة إلی الأموات ، بل وجملة ممّا یناسب ذکره فی هذا الباب، کآداب حالة الاحتضار، وإن کان البحث المقصود بالأصالة هنا هو البحث عن غُسلها ، ولکن نِعْمَ ما صنعه المصنّف قدس سره ، حیث جعل عنوان البحث عن أحکام الأموات، استغناءً عن جعل البحث عن غُسل المیّت بحثاً وباباً مستقلاًّ _ کما صنعه غیر بحث کیفیّة الصلاة،ولعلّه ذکرها فیما یناسبها من المباحث المرتبطة بالصلوات.

هذا، ومن جملة ما یناسب ذکره هنا، هو البحث عن ما یتعلّق بهم فی حال المرض ، فنقول ومن اللّه الاستعانة : ینبغی للمریض أن یَحمد اللّه ویشکره فی حال مرضه کحال الصحّة، إذ یمکن أن یکون من أفضل نِعَم اللّه علیه وهو لا یعلم ؛ کما أشار إلی ذلک فی بعض الأخبار:

منها: ما ورد فی الخبر عن سیّد البشر صلی الله علیه و آله وسلم وهو المنقول عن عون بن عبداللّه بن مسعود ، عن أبیه ، عن رسول اللّه صلی الله علیه و آله : «أنّه تبسّم، فقیل (فقلت له) : ما لکَ یا رسول اللّه صلی الله علیه و آله تبسّمت؟ فقال : عجبتُ للمؤمن وجزعه من السّقم، ولو یعلم ما له

ص:55

من السقم من الثواب، لأحبّ أن لا یزال سقیماً حتّی یلقی ربّه عزّ وجلّ»(1) .

ومنها: ما ورد فی أنّ أنینه تسبیح، وهو کما فی خبر حمّاد بن عمرو، وأنس بن محمّد عن أبیه جمیعاً، عن جعفر بن محمّد، عن آبائه علیهم السلام فی وصیّة النبیّ صلی الله علیه و آله لعلیّ علیه السلام ، قال : «یا علیّ أنین المؤمن تسبیح، وصیاحه تهلیل، ونومه علی الفراش عبادة، وتقلّبه من جنبٍ إلی جنب جهاد فی سبیل اللّه، فإن عُوفی مشی فی الناس وما علیه من ذنب»(2) .

ومنها: ما یدلّ علی أنّ المرض قد یوجب تناثر الذنوب کتناثر الورق من الشجر، کما فی خبر یوسف بن إسماعیل المنقول فی «ثواب الأعمال» بإسناد له قال : «قال رسول اللّه صلی الله علیه و آله : إنّ المؤمن إذا حمّ حمأة واحدة تناثرت الذنوب منه کورق الشجر ، الحدیث»(3) .

ومنها: ما یدلّ علی أنّ المرض فی جسم المؤمن یوجب أن لا یکتب له الذنب، بل یکتب له بالخیر ما دام فی مرضه ، کما ورد ذکر ذلک فی حدیث درست، قال : «سمعت أبا إبراهیم علیه السلام یقول : إذا مرض المؤمن أوحی اللّه تعالی إلی صاحب الشمال: لا تکتب علی عبدی ما دام فی حبسی ووثاقی ذنباً ، ویوحی إلی صاحب الیمین: أن اکتب لعبدی ما کنت تکتب له فی صحّته من الحسنات»(4).

ومنها: ما یدلّ علی أنّ حمّی لیلة واحدة تعدل عبادة سنة ، وهکذا تزید فی زیادة لیالیه، کما فی روایة أبی حمزة، عن أبی جعفر علیه السلام ، قال : «حُمّی لیلة تعدل عبادة سنة، وحُمّی لیلتین تعدل عبادة سنتین، وحُمّی ثلاث لیال تعدل عبادة سبعین سنة . قال : قلت : فإن لم یبلغ


1- وسائل الشیعة : الباب 1 من أبواب الاحتضار، الحدیث 19 و 11 .
2- وسائل الشیعة : الباب 1 من أبواب الاحتضار، الحدیث 19 و 11 .
3- وسائل الشیعة : الباب 1 من أبواب الاحتضار، الحدیث 7 و 10.
4- وسائل الشیعة : الباب 1 من أبواب الاحتضار، الحدیث 7 و 10.

ص:56

سبعین سنة؟ قال : فلأبیه ولاُمّه . قال : قلت : فإن لم یبلغا؟ قال : فلقرابته ، قال : قلت : فإن لم یبلغ قرابته؟ قال : فجیرانه»(1) .

ومنها: ما دلّ علی أنّ الحمّی ربما یکون لأجل نظر اللّه إلی عبده، کما فی حدیث جابر ، عن أبی جعفر علیه السلام ، قال : «إذا أحبّ اللّه عبداً نظر إلیه، فإذا نظر إلیه أتحفه بواحدة من ثلاث ؛ إمّا صداع، وإمّا حمّی، وإمّا رمد»(2) .

إلی غیر ذلک من الأخبار الکثیرة الواردة فی ذلک ، المسطورة فی محلّها، ومَن أراد الاطّلاع علیها فلیراجع إلی أخبار باب الاحتضار من «وسائل الشیعة» .

بل ینبغی للمؤمن أن یصبر علی المرض، ویحتسب ذلک عنه اللّه حتّی ینال أجراً وثواباً آخر غیر ما ذکر ، کما سیشیر إلیه فی بعض الأخبار، ویستفاد منها الاستحباب ، بل یستحبّ الحمد علیه . وهو کما فی خبر عبداللّه بن سنان ، عن أبی عبداللّه علیه السلام فی حدیثٍ قال : «أیّما رجلٍ اشتکی فصبر واحتسب، کتبَ اللّه له من الأجر أجر ألف شهید(3) ».

وحدیث العرزمی ، عن أبیه ، عن أبی عبداللّه علیه السلام ، قال : «مَن اشتکی لیلة فقبلها بقبولها وأدّی إلی اللّه شکرها کانت کعبادة ستّین سنة ». «قال أبی : فقلت له : ما قبولها؟ قال : یصبر علیها ولا یخبر بما کان فیها ، فإذا أصبح حمدَ اللّه علی ما کان»(4).

بل قد یستفاد من بعض الأخبار رجحان ترک الشکایة بصورة الإطلاق، مثل خبر العرزمی المتقدّم جاء فیه : ولا یخبر بما کان فیها ، الحدیث ».

وکالمروی عن النبیّ صلی الله علیه و آله أو الصادق علیه السلام ، قال : «أربع من کنوز الجنّة ؛ کتمان


1- وسائل الشیعة : الباب 1 من أبواب الاحتضار، الحدیث 23 .
2- وسائل الشیعة : الباب 1 من أبواب الاحتضار، الحدیث 23 .
3- وسائل الشیعة : الباب 1 من أبواب الاحتضار، الحدیث 23 .
4- وسائل الشیعة : الباب 3 من أبواب الاحتضار، الحدیث 2 .

ص:57

المصیبة ، وکتمان الوجع ، وکتمان الصدقة ، وکتمان الحاجة»(1) .

وفی نقل: «کتمان المرض» بدل «الوجع» کما نقله المحقّق الآملی فی «مصباح الهدی» عن الرسول صلی الله علیه و آله .

ولکن فی بعض الأخبار ما یدلّ علی استحباب الکتمان فی ثلاثة أیّام ؛ نظیر خبر بشیر الدهّان، عن أبی عبداللّه علیه السلام ، قال : «قال اللّه عزّ وجلّ : أیّما عبدٍ ابتلیته ببلیّةٍ فکتم ذلک عُوّاده ثلاثاً، أبدلته لحماً خیراً من لحمه، ودماً خیراً من دمه، وبَشَراً خیراً من بشره ، فإن أبقیته أبقیته ولا ذنب له، وإن مات مات إلی رحمتی»(2).

ومثله مرفوعة ابن أبی عمیر، قال : قال أبو عبداللّه علیه السلام : «مَنْ مرض ثلاثة أیّام فکتمه ولم یخبر به أحداً، أبدل اللّه له لحماً خیراً من لحمه ، الحدیث»(3) .

وروایة جابر عن أبی جعفر علیه السلام ، قال : «قال رسول اللّه صلی الله علیه و آله : قال اللّه عزّ وجلّ : من مرض ثلاثاً فلم یَشْکُ إلی أحدٍ من عُوّاده أبدلته ، الحدیث»(4) .

وروایة «الخصال» بإسناده عن علیّ علیه السلام ، فی حدیث الأربعمائة، قال : «مَن کتم وجعاً أصابه ثلاثة أیّام من الناس، وشکی إلی اللّه عزّ وجلّ، کان حقّاً علی اللّه أن یعافیه منه»(5) .

وفی بعض الأخبار ما یدلّ علی رجحان کتمانه بلیلة ویوم، وهو کما فی خبر المناهی عن الحسین بن زید عن الصادق علیه السلام ، عن أبیه ، عن آبائه علیهم السلام ، قال : «قال رسول اللّه صلی الله علیه و آله : من مرض یوماًولیلة، فلم یَشْکُ إلی عُوّاده، بَعثَه اللّه یوم


1- کتاب الاثنی عشریة فی المواعظ العددیة للعاملی قدس سره .
2- وسائل الشیعة : الباب 3 من أبواب الاحتضار، الحدیث 1 و3 و6 و 8 و 9 .
3- وسائل الشیعة : الباب 3 من أبواب الاحتضار، الحدیث 1 و3 و6 و 8 و 9 .
4- وسائل الشیعة : الباب 3 من أبواب الاحتضار، الحدیث 1 و3 و6 و 8 و 9 .
5- وسائل الشیعة : الباب 3 من أبواب الاحتضار، الحدیث 1 و3 و6 و 8 و 9 .

ص:58

القیامة مع خلیله إبراهیم خلیل الرحمان حتّی یجوز الصراط کالبرق اللاّمع»(1).

وفی بعض الأخبار طلب کتمانه فی لیلة، مثل حدیث المیثمی، عن رجل ، عن أبی عبداللّه علیه السلام ، قال : «مَن مرض لیلة فقبلها بقبولها، کتب اللّه له عبادة ستّین سنة . قلت : وما معنی قبلها بقبولها؟ قال : لا یشکو ما أصابه فیها إلی أحد(2) . ومثله حدیث العرزمی السابق حیث جاء فیه : «من اشتکی لیلة ، إلی أن قال : ولا یخبر بما کان فیها ، الحدیث»(3) .

بل فی «مصباح الهدی» للآملی دعوی دلالة بعض الأخبار علی مرجوحیّة الشکوی، وتمسّک فی ذلک بالمروی عن النبیّ صلی الله علیه و آله من قوله: «ألا مَن شکی مصیبةً نزلت به فإنّما یشکو ربّه» .

وعنه صلی الله علیه و آله : «أوحی اللّه تعالی إلی عُزیر علیه السلام : یا عُزیر إذا نزلت إلیک بلیّة فلا تشکُ إلی خلقی، کما لا أشکوک إلی ملائکتی عند صعود مساویک وفضائحک»(4) . انتهی محلّ الحاجة .

قلنا : التمسّک بمثل هذه الأخبار موقوف علی شمول لفظ المصیبة والبلیّة للمرض، وإلاّ یمکن أن یکون المراد هنا، عدا الأمراض المتعارفة وإن کان قد یُطلق علیه فی غیر المقام بمناسبة مّا، لأنّه مصیبة وبلیّة أیضاً کما لا یخفی .

وفی بعض الأخبار ما یدلّ علی المنع عن الشکوی من المرض إلی الکافر أو إلی المخالف فی الدِّین ؛ وهو مثل خبر یونس بن عمّار، قال : «سمعت أبا عبداللّه علیه السلام یقول : أیّما مؤمن شکا حاجته أو ضرّه إلی کافر أو إلی من یخالفه


1- وسائل الشیعة : الباب 3 من أبواب الاحتضار، الحدیث 5 .
2- وسائل الشیعة : الباب 3 من أبواب الاحتضار، الحدیث 5 .
3- مصباح الهدی : ج5 / 335 .
4- مصباح الهدی : ج5 / 335 .

ص:59

علی دینه، فإنّما شکی اللّه عزّ وجلّ إلی عدوٍّ من أعداء اللّه ، وأیّما رجلٍ مؤمن شکی حاجته وضرّه إلی مؤمن مثله کانت شکواه إلی اللّه عزّ وجلّ»(1) .

وروایة حسن بن راشد، قال : قال أبی عبداللّه علیه السلام : «یا حسن! إذا نزلت بک نازلة، فلا تَشْکُها إلی أحدٍ من أهل الخلاف ، ولکن اذکرها لبعض إخوانک، فإنّک لن تُعدم خصلة من خصال أربع : إمّا کفایة بمال ، وإمّا معونة بجاه ، أو دعوة تُستجاب ، أو مشورةٍ برأی»(2) .

ومثلها روایة أبی معاویة ، عن أبیه(3) ، وروایة مسعدة بن صدقة(4) .

أقول: وقد یظهر من بعض الأخبار جواز إظهار المرض وإعلامه لبعض الإخوان، وأنّه ولیس کلّ إظهار ألمٍ معدود من الشکوی، کما یشیر بذلک روایة حسن بن راشد بناءً علی شمول لفظه، (نازلة) للمرض ، وهو غیر بعید .

وأظهر منه فی الدلالة علیه صحیحة عبداللّه بن سنان، قال : «سمعت أبا عبداللّه علیه السلام یقول : ینبغی للمریض منکم أن یؤذن إخوانه بمرضه فیعودونه، فیُؤجر فیهم ویؤجرون فیه . قال : فقیل له : نعم فهم یؤجرون فیه بممشاهم إلیه ، فکیف یُؤجَرُ فیهم؟ قال : فقال : باکتسابه لهم الحسنات فیؤجر فیهم، فیُکتب له بذلک عشر حسنات، ویُرفع له عشر درجات، ویُمحی بها عنه عشر سیّئات»(5) .

وکذا روایة یونس، قال : قال أبو الحسن علیه السلام : «إذا مرض أحدکم فلیأذن للناس یدخلون علیه، فإنّه لیس من أحد إلاّ وله دعوة مستجابة»(6) .


1- وسائل الشیعة : الباب 6 من أبواب الاحتضار، الحدیث 1 .
2- وسائل الشیعة : الباب 6 من أبواب الاحتضار، الحدیث 2 و3 .
3- وسائل الشیعة : الباب 6 من أبواب الاحتضار، الحدیث 2 و3 .
4- وسائل الشیعة : الباب 6 من أبواب الاحتضار، الحدیث 2 و3 .
5- وسائل الشیعة : الباب 8 من أبواب الاحتضار، الحدیث 10 .
6- وسائل الشیعة : الباب 9 من أبواب الاحتضار، الحدیث 1 .

ص:60

ومثله روایة الوشاء عن الرضا علیه السلام ، وقال بعد قوله : «دعوةٌ مستجابة ، ثمّ قال : أتدری من الناس؟ قلت : اُمّة محمّد صلی الله علیه و آله ، قال : الناس هم الشیعة»(1) .

إذ یظهر من هذه الأخبار محمودیّة إظهار المرض للشیعة، حتّی یدعوا له ویستجاب بالشفاء، ولیس ذلک بالشکوی .

بل المراد من الشکایة، هو القول بأنّی ابتلیت بما لم یبتل به أحدٌ ، أو لقد أصابنی ما لم یصب به أحداً ، کما ورد هذا التعبیر فی صحیحة جمیل بن صالح ، عن أبی عبداللّه علیه السلام ، قال : «سئل عن حدّ الشکایة للمریض ، فقال : إنّ الرجل یقول حممتُ الیوم، وسهرتُ البارحة، «وقد صدق ولیس هذا شکایة، وإنّما الشکوی أن یقول : لقد ابتُلیتُ بما لم یبتلِ به أحد ، ویقول : لقد أصابنی ما لم یصب أحداً ، ولیس الشکوی أن یقول سهرتُ البارحة، وحممتُ الیوم ونحو هذا»(2) .

ومثله المرسلة المرویّة عن حمّاد(3) .

أقول: ولا منافاة بین رجحان الکتمان واستحباب الإظهار للإخوان، رجاء عیادتهم ودعائهم ؛ لأنّ رجحانیّة الأوّل کانت بالذات لولا عروض العوارض المرجّحة ، فلا ینافی مع رفع الید بواسطة تلک العوارض، نظیر رجحان الصوم واستحبابه مع رجحان ترکه لإجابة دعوة المؤمن ، وعلیه فهذا هو المناسب للجمع بین هاتین الطائفتین لا ما احتمله صاحب «الجواهر» من کون المراد من الکتمان کتمان، الشدّة لا أصل المرض ، أو ما یمکن کتمانه کبعض الأمراض الخفیّة، أو کتمانه ابتداءً مقدار ثلاثة أیّام ونحو ذلک .


1- وسائل الشیعة : الباب 9 من أبواب الاحتضار، الحدیث 2 .
2- وسائل الشیعة : الباب 5 من أبواب الاحتضار، الحدیث 1 و3 .
3- وسائل الشیعة : الباب 5 من أبواب الاحتضار، الحدیث 1 و3 .

ص:61

نعم ، یصحّ الجمع بین أخبار الکتمان الدالّة علی رجحانه، بحمله علی مراتب الفضیلة لو خلّی وطبعه من أصل الکتمان، أو کتمانه بلیلة أو بیوم ولیلة، أو بثلاثة أیّام، حیث أنّ الأوّل أفضل من الجمیع ثمّ الثلاثة ثمّ أدنی منه .

وأمّا المنع عن الشکوی عند المخالف فی الدین والکافر، حیث قد عرفت وروده فی بعض الأخبار: فاوّلاً أنّها کانت للحاجة والضرّ لا أصل المرض ، إلاّ أن یقال بشموله بإطلاقه .

وثانیاً : قیل کما فی «مصباح الهدی» إنّه منع عن الاستنصار منهم لا مجرّد إظهار البلاء عندهم .

ولکن الإنصاف أنّ ما ذکره لیس علی ما ینبغی، لأنّه من الممکن کون المنع لأجل عدم سرور المخالف بذلک، أو أنّ المنع لدفع توهّم کونه شکایةً عن اللّه فی ذلک إلی غیر أهله ، ولذلک قد تری فی بعض الأخبار من التصریح بأنّ الشکایة عند المؤمن یعدّ کالشکایة إلی اللّه ، فحمل المنع للاستنصار دون الإظهار فی غیر محلّه .

کما أنّه قدس سره صرّح بکون المنع عن الشکایة فی الأخبار بأن یقول: «لقد ابتلیت، أو لقد أصابنی... إلی آخره» ، بمعنی الحرمة، لأجل اشتماله علی الکذب وهو حرام ؛ لأنّه من أین أحرز عدم ابتلاء أحد بما ابتُلی به حتّی یخبر بذلک ، ولذلک صرّح فی آخر کلامه بأنّ هذا القسم من الشکایة حرام(1) .

وفیه: أنّه لیس علی ما ینبغی ؛ لوضوح أنّ إظهار مثل هذه الجملات عن المریض إنّما هو فی مقام المبالغة لإظهار شدّة مرضه، فکأنّه یدّعی أنّه بمفرده قد ابتلی بذلک ، فالقول بالحرمة لأجل ذلک لا یخلو عن وهن ، فالأولی هو الحکم


1- مصباح الهدی : ج5 / 337 .

ص:62

بالمرجوحیّة لأجل کونه شکوی من اللّه تعالی ، والحال أنّ المؤمن لابدّ له من التسلیم إلی قضاء اللّه وقدره فی أمثال هذه المصائب؛ لأنّه لا ینزل به المرض إلاّ لأجل مصلحة فیه وهو لا جاهلٌ بها.

وبالجملة: فإنّه لا تعارض ولا تنافی بین الأخبار یعدّ الجمع بینها میسوراً ، بل وبینها کمال الملائمة والمناسبة ، وهو المطلوب .

أقول: ثمّ لا یخفی أنّه یستفاد من الأخبار استحباب عیادة المرضی، کما هو المجمع علیه بیننا ، بل لعلّه من الضروریّات ، بل فی «الجواهر»: «أنّه قد ورد فی ثوابها من الأخبار عن الأئمّة الأطهار علیهم السلام والنبیّ المختار صلی الله علیه و آله ما یقصر العقل عن إدراکه» ، فلا بأس هنا بذکر بعض الأخبار الواردة فی ذلک .

منها: مثل روایة أبی هریرة وعبد اللّه بن عبّاس، فی خطبةٍ طویلة لرسول اللّه صلی الله علیه و آله یقول فیها : «ومَن عادَ مریضاً فله بکلّ خطوة خطاها حتّی یرجع إلی منزله سبعون ألف ألف حسنة، ویُمحی عنه سبعون ألف ألف سیّئة، ویرفع له سبعون ألف ألف درجة، ووکّل به سبعون ألف ألف مَلَک یعودونه فی قبره، ویستغفرون له إلی یوم القیامة»(1) .

ومنها: روایة مسعدة بن صدقة، عن أبی عبداللّه علیه السلام ، قال : «قال رسول اللّه صلی الله علیه و آله : مَن عاد مریضاً نادی منادٍ من السماء باسمه یا فلان طبت وطاب ممشاک بثواب الجنّة»(2) .

والأخبار الواردة فی ذلک کثیرة ، ومَن أراد الاطّلاع علیها فلیراجع إلی الباب


1- وسائل الشیعة : الباب 10 من أبواب الاحتضار، الحدیث 6 .
2- وسائل الشیعة : الباب 10 من أبواب الاحتضار، الحدیث 9 .

ص:63

العاشر من أبواب الاحتضار فی «وسائل الشیعة» .

بل فی بعض الأخبار ما یدلّ علی أهمّیة العیادة، حتّی ربما یعیر اللّه عُبداً من عباده بترک عیادة المریض المؤمن :

منها: الخبر المنقول فی کتاب «المجالس والاخبار» لمحمّد بن الحسن، عن جماعة ، عن أبی المفضّل ، عن أحمد بن محمّد بن الحسین العلوی ، عن جدّه الحسین بن إسحاق ، عن أبیه إسحاق بن جعفر ، عن أخیه موسی ابن جعفر ، عن آبائه علیهم السلام ، عن النبیّ صلی الله علیه و آله ، قال : «یعیّر اللّه عزّ وجلّ عبداً من عباده یوم القیامة، فیقول : عبدی ما منعک إذا مرضت أن تعودنی؟ فیقول : سبحانک سبحانک أنت ربّ العباد لا تمرض ولا تألم ، فیقول : مرض أخوک المؤمن فلم تعده ، وعزّتی وجلالی ولو عدته لوجدتنی عنده، ثمّ لتکفّلتُ بحوائجک فقضیتها لک، وذلک من کرامة عبدی المؤمن وأنا الرحمن الرحیم»(1) .

إلی غیر ذلک من الأخبار الواردة فیه .

بل قد یُقال بتأکّد العیادة فی الصباح والمساء ، ولعلّه لأجل ورود بعض النصوص فی خصوص الوقتین.

منها: الخبر المروی عن معاویة بن وهب، عن أبی عبداللّه علیه السلام ، قال : «أیّما مؤمن عاد مؤمناً مریضاً حین یُصبح، شیّعه سبعون ألف ملک ، فإذا قعد غمرته الرحمة واستغفروا له حتّی یُمسی ، وإن عاده مساءاً کان له مثل ذلک حتّی یُصبح»(2) .

ومنها: روایة شعبة، عن الحکم بن عبداللّه بن رافع: «أنّ أبا موسی عاد الحسن بن علیّ علیهماالسلام ، فقال الحسن علیه السلام : أعائداً جئت أو زائراً؟ فقال : عائداً ، فقال : ما


1- وسائل الشیعة : الباب 11 من أبواب الاحتضار، الحدیث 1 و3 .
2- وسائل الشیعة : الباب 11 من أبواب الاحتضار، الحدیث 1 و3 .

ص:64

من رجل یعود مریضاً مُمسیاً إلاّ خرج معه سبعون ألف ملک یستغفرون له حتّی یُصبح، وکان له خریف فی الجنّة»(1) .

والخریف کما جاء فی تفسیره، زاویة فی الجنّة یسیر الراکب فیها أربعین عاماً .

ویستحبّ للعائد التماس الدُّعاء من المریض ؛ لأنّه کان من أحد الثلاثة الذین یُستجاب دعائهم، کما ورد فی حدیث عیسی بن عبداللّه القمّی، فی حدیث قال : سمعت أبا عبداللّه علیه السلام یقول : ثلاثة دعوتهم مستجابة ؛ الحاج والغازی والمریض، «فلا تغیظوه ولا تضجروه»(2) .

بل دعائه مثل دعاء الملائکة کما تری ذکر ذلک فی روایة سیف بن عُمیرة، قال : قال أبو عبداللّه علیه السلام : «إذا دخل أحدکم علی أخیه عائداً له فلیسأله یدعو له، فإنّ دعائه مثل دعاء الملائکة»(3) .

ویستحبّ تخفیف الجلوس عنده، إلاّ إذا أحبّ ذلک وأراد وسأل، کما أشار إلیه فی روایة مسعدة بن صدقة، عن أبی عبداللّه علیه السلام ، قال : «إنّ أمیر المؤمنین علیه السلام قال : إنّ من أعظم العوّاد أجراً عند اللّه لمن إذا عاد أخاه خفّف الجلوس ، إلاّ أن یکون المریض یُحبّ ذلک ویریده ویسأله ذلک . وقال : من تمام العیادة للمریض أن یضع العائد إحدی یدیه علی الاُخری أو علی جبهته»(4) .

وکذا یستحبّ وضع إحدی یدیه علی الاُخری، أو علی جبهته، أو علی ذراعه کما أشار إلیه فی الروایة المرویة عن مسعدة بن صدقة المتقدّمة .


1- وسائل الشیعة : الباب 12 من أبواب الاحتضار، الحدیث 1 .
2- وسائل الشیعة : الباب 12 من أبواب الاحتضار، الحدیث 2 .
3- وسائل الشیعة : الباب 15 من أبواب الاحتضار، الحدیث 2 و 3.
4- وسائل الشیعة : الباب 15 من أبواب الاحتضار، الحدیث 2 و 3.

ص:65

وفی خبر موسی بن قادم، عن رجل، عن أبی عبداللّه علیه السلام ، قال : «تمام العیادة للمریض أن تضع یدک علی ذراعه وتعجّل القیام من عنده، فإنّ عیادة النوکی أشدّ علی المریض من وجعه»(1) .

بل قد یستحبّ استصحاب هدیّة له من فاکهة أو طیب أو بخور أو غیر ذلک، لما ورد فی الحدیث من الحثّ فیه، وهو کما فی روایة أبی زید عن مولی جعفر بن محمّد، قال : «مرض بعض موالیه فخرجنا إلیه نعوده ونحن عدّة من موالی جعفر ، فاستقبلنا جعفر علیه السلام فی بعض الطریق، فقال لنا : أین تریدون؟ فقلنا : نرید فلاناً نعوده ، فقال لنا : قفوا ، فوقفنا، فقال : مع أحدکم تفّاحة أو سفرجلة أو اتُرجة، أو لعقة من طیبٍ أو قطعة من عود بخور؟ فقلنا : ما معنا شیءٌ من هذا ، فقال : أما تعلمون أنّ المریض یستریح إلی کلّ ما اُدخل به علیه»(2) .

وکذا یستحبّ للمریض إخراج الصدقة أو للغیر إخراج الصدقة عنه ، لما قد ورد فی «طبّ الأئمّة» للحسین بن بسطام عن أخیه عن إبراهیم بن یسار، عن جعفر بن محمّد بن حکیم، عن إبراهیم بن عبد الحمید، عن زرارة بن أعین ، عن أبی جعفر علیه السلام ، عن آبائه علیهم السلام ، قال : قال رسول اللّه صلی الله علیه و آله : داووا مرضاکم بالصدقة»(3) .

وعنه علیه السلام ، قال : «الصدقة تدفع البلاء المبرم ، فداووا مرضاکم بالصدقة»(4) .

وغیر ذلک من الأخبار الواردة فی إعطاء الصدقة .

أمّا الوصیّة: فإنّه یستحبّ أو یجب الوصیّة فی حال المرض، کما یدلّ علیه صحیحة محمّد بن مسلم، قال : قال أبو جعفر علیه السلام : «الوصیّة حقّ، وقد أوصی


1- وسائل الشیعة : الباب 17 من أبواب الاحتضار، الحدیث 2-4 .
2- وسائل الشیعة : الباب 17 من أبواب الاحتضار، الحدیث 2-4 .
3- وسائل الشیعة : الباب 22 ، من أبواب الاحتضار، الحدیث 1 و2 .
4- وسائل الشیعة : الباب 22 ، من أبواب الاحتضار، الحدیث 1 و2 .

ص:66

رسول اللّه صلی الله علیه و آله ، فینبغی للمؤمن أن یُوصی»(1) .

وروایة أبی الصباح عن أبی عبداللّه علیه السلام ، قال : «سألته عن الوصیّة ، فقال : هی حقّ علی کلّ مسلم»(2) .

وقیل: کما فی «القواعد» وغیره من «جامع المقاصد» بوجوب الوصیّة علی کلّ من علیه حقّ للّه تعالی أو للناس، معلّلاً فی «کشف اللِّثام» بوجوب استبراء الذمّة کیف أمکن . بل عن بعض وجوبها مطلقاً علی کلّ مسلم، لعموم قوله علیه السلام : الوصیّة حقٌّ علی کلّ مسلم.

أقول: لا یخفی علیک أنّ الوصیّة.

تارةً: تلاحظ بالنسبة إلی الحقّ الذی کان علی عهدته من اللّه أو من الناس ، فلا إشکال حینئذٍ فی وجوبها، خصوصاً لو علم تضییعه فیما لو ترک العمل الوصیّة ؛ إمّا لأجل عدم اطّلاع الوارث أو الغیر حتّی یؤدّی، أو لعدم إمکانه بالعمل لمواجهته ببعض الموانع، أو غیر ذلک ممّا یوجب تحقّقه بعد الموت ، فلا إشکال حینئذٍ فی وجوبها لأجل وجوب ذیها ومتعلّق الوصیّة .

واُخری: تلاحظ الوصیّة بنفسها من غیر وجود شیء کان واجباً علیه ، فحینئذٍ إثبات الوجوب للوصیّة بنفسها من الأدلّة المذکورة لا یخلو عن إشکال ؛ لأنّ قوله: «الوصیّة حقّ علی کلّ مسلم» لا یدلّ بنفسه زائداً علی أصل الرجحان ، کما قد یؤیّد ذلک بما جاء فی الأخبار:

منها: ما ورد فی روایة محمّد بن مسلم من التفریع علیه بقوله : «فینبغی للمؤمن أن یوصی» .


1- وسائل الشیعة : الباب 29 من أبواب الاحتضار، الحدیث 2 و3 .
2- وسائل الشیعة : الباب 29 من أبواب الاحتضار، الحدیث 2 و3 .

ص:67

فالقول بوجوبها مطلقاً لا یخلو عن تأمّل، کما أشار إلیه المحقّق الهمدانی فی «مصباح الفقاهة» .

ومنها: ما ورد من أنّه یستحبّ للمریض أن یوصی بشیء من ماله فی أبواب الخیر، کما أشار إلیه فی روایة أبی حمزة، عن بعض الأئمّة علیهم السلام ، قال : «إنّ اللّه تبارک وتعالی یقول : ابن آدم تطوّلت علیک بثلاثة : سترتُ علیک ما لا یعلم به أهلک ما وارءک ، وأوسعتُ علیک ، واستقرضتُ منک فلم تُقدّم خیراً ، وجعلتُ لک نظرةً عند موتک فی ثلثک فلم تُقدّم خیراً»(1) .

ومنها: روایة السکونی، عن جعفر بن محمّد ، عن أبیه علیهماالسلام ، قال : «قال علیّ علیه السلام : مَن أوصی فلم یجف ولم یضارّ کان کمَن تصدّق به فی حیاته»(2) .

ویستحبّ له بل قد قیل یجب له حسن الظنّ باللّه عند موته فإنّه تعالی أرحم الراحمین، وأنّه عند ظنّ عبده به، کما ورد ذلک فی الأخبار .

منها: ما ورد فی الخبر الذی رواه الصدوق فی «العیون» عن الصادق علیه السلام ، عن بعض أهل مجلسه فقیل علیلٌ فقصده عائداً، وجلس عند رأسه فوجده دنفاً ، فقال له : «أحسن ظنّک باللّه ، فقال : أمّا ظنّی باللّه فحسن ، الحدیث»(3) .

ومنها: روایة أمالی أبی علیّ ابن الشیخ، مسنداً عن أنس، قال : «قال رسول اللّه صلی الله علیه و آله : لا یموتنّ أحدکم حتّی یُحسِن ظنّه باللّه عزّ وجلّ، فإنّ حُسن الظنّ باللّه ثمن الجنّة»(4) .

وغیر ذلک من الآداب المرتبطة بالمریض عند الاحتضار .


1- وسائل الشیعة : الباب 30 من أبواب الاحتضار، الحدیث 1 و2 .
2- وسائل الشیعة : الباب 30 من أبواب الاحتضار، الحدیث 1 و2 .
3- وسائل الشیعة : الباب 31 من أبواب الاحتضار، الحدیث 1 و 2 .
4- وسائل الشیعة : الباب 31 من أبواب الاحتضار، الحدیث 1 و 2 .

ص:68

قوله قدس سره : ویجب فیه توجیه المیّت إلی القبلة، بأن یُلقی علی ظهره ویجعل باطن قدمیه ووجهه إلی القبلة، وهو فرض کفایة ، وقیل هو مستحبّ (1).

اللّهُمَّ ارزقنا التجافی عن دار الغرور، والإنابة إلی دار الخلود، والاستعداد للموت قبل حلول الفوت ، آمین.

فی أحکام الأموات / توجیه المحتضر و المیت إلی القبلة

أقول: فإذا فرغنا عن بحث ما یتعلّق بالمکلّفین فی مرض الموت، ینبغی صرف عِنان الکلام إلی ما فی المتن، وهی الأحکام الخمسة المتعلّقة بالأموات :

الأوّل : فی الاحتضار : وهو افتعال من الحضور ؛ أی السوق بمعنی نزع الروح عن الجسد، أعاننا اللّه علیه، وثبّتنا بالقول الثابت لدیه .

ولعلّ وجه التسمیة بذلک هو حضور المریضُ الموتَ، أو حضور الموتُ عنده، أو لحضور الملائکة عنده، أو الأئمّة علیهم السلام خصوصاً أمیر المؤمنین علیّ بن أبی طالب علیه السلام ، کما ورد فی روایة نقلها الشّعبی وجماعة من أصحابنا، عن الحارث الأعور ، عن أمیر المؤمنین علیه السلام ، قال : «ولا یموت عبدٌ یحبّنی إلاّ رآنی حیثُ یحبّ ، ولا یموت عبدٌ یبغضنی إلاّ رآنی حیث یکره»(1) .

أو لحضور المؤمنین عنده لیشیّعوه، أو لاستحضار عقله، أو لجمیع ذلک .

(1) أقول: والمراد من المیّت: إمّا مَنْ خرج روحه عن جسده، فیکون میّتاً بالفعل کما هو الغالب فی الاستعمال ، بل هو المنصرف إلیه عند الإطلاق ، فحینئذٍ یکون متعلّق التکلیف هو الغیر، ولا یشمله لأنّه حینئذٍ خارج عن التکلیف بالموت.

أو یُراد منه مَن کان مشرفاً علی الموت، کما هو مختار صاحب «الجواهر» ، وانعقد البحث فیه .


1- البحار : ج6 / 191 ، الحدیث / 38 .

ص:69

فعلی هذا، لا یبعد أن یکون المخاطب بالوجوب أو الاستحباب عند من یستحبّ، هو الأعمّ من نفس المحتضرِ ؛ أی یجب کفایة فی الغیر أو لنفسه عیناً، أن یجعل نفسه مواجهاً للقبلة .

والسؤال حینئذٍ هو: هل التوجیه الیها واجبٌ أو مستحبٌ؟

أمّا القول الأوّل: فقد ذهب إلیه المشهور علی ما فی «الذکری» و «الروضة» و «المدارک» _ وعلی الأشهر فتواً وخبراً _ کما فی موضع من «الذکری» _ وعلی الأشهر وعلیه الفتوی کما فی «جامع المقاصد» ، وهو مختار عدّة کثیرة من الفقهاء من صاحب «المقنعة» و «النهایة» فی موضع منها، و «المراسم» و «الوسیلة» و «السرائر» و «المنتهی» و «المختلف» و «الإرشاد» و «البیان» و «الدروس» و «الذکری» و «اللمعة» و «جامع المقاصد»، وظاهر «الروضة» و «التنقیح» ، ولعلّه الظاهر من «الهدایة» و «الغنیة» حیث روی فیهما ما یدلّ علیه، کما لعلّه الظاهر أیضاً من الشیخ فی «التهذیب»، وحکاه فی «کشف اللِّثام» عن «المهذّب» و «الإصباح» ، وفی «الجواهر» أنّه أحوط القولین إن لم یکن أقواهما .

أمّا القول الثانی: وهو القول بالاستحباب فقد نُسب إلی المفید والسیّد المرتضی والشیخ فی «المبسوط» و «الخلاف» و «النهایة»، والمحقّق فی «المعتبر»، والعلاّمة فی «التذکرة» ، بل هو مختار جماعة من المتأخّرین کالأردبیلی وصاحب «المدارک» وصاحب «الکفایة» و «کاشف اللِّثام» ، ونسب إلی المشهور، هذا کما فی «مصباح الهدی» للآملی(1) ، حیث مالَ أیضاً إلی الاستحباب ، إلاّ أنّه احتاط بالاحتیاط اللازم فی عدم ترکه لذهاب الأکثر الیه،


1- مصباح الهدی : ج5 / 351 .

ص:70

وقیام العمل به، خلافاً للشیخ المرتضی حیث مالَ إلی الاستحباب .

أقول : منشأ الاختلاف هو الاختلاف فی الاستنباط من النصوص الواردة فی هذا الباب ، فالأولی إیراد الأخبار المربوطة بالبحث حتّی یلاحظ سندها ودلالتها .

ومنها: وممّا استدلّ لذلک روایة سلیمان بن خالد، قال : «سمعت أبا عبداللّه علیه السلام یقول : إذا مات لأحدکم میّت فسجّوه تجاه القبلة ، وکذلک إذا غسل یحفر له موضع المغتسل تجاه القبلة، فیکون مستقبل باطن (مستقبلاً بباطن) قدمیه ووجهه إلی القبلة(1)» .

ورواه الصدوق مرسلاً إلی قوله : «تجاه القبلة» . ورواه الشیخ بإسناده عن ابن أبی عمیر مثله إلی آخره .

وقد أورد علیه فی «المدارک» بالضعف من حیث السند بإبراهیم بن هاشم إذ لم ینصّ علمائنا علی توثیقه ، وبسلیمان بن خالد لعدم ثبوت توثیقه ، ومن حیث المتن بأنّ المتبادر منها أنّ التسجیة تجاه القبلة إنّما تکون بعد الموت لا قبله .

قلنا : وأمّا الضعف فی السند من حیث إبراهیم بن هاشم .

فمدفوع أوّلاً: بما قد حقّقنا فی محلّه بمناسبة ذکره، أنّه معدود من أجلاّء الأصحاب ومشایخ الإجازة، یعدّ أوّل من نشر احادیث الکوفیّین فی قم بعد انتقاله من الکوفة، إذ القمّیون فی تلک الأزمنة کانوا لا یقبلون الأحادیث من غیر الثقة، ولشدّة اهتمامهم فی ذلک أخرجوا أحمد بن محمّد بن خالد البرقی من قم، مع عدالته وجلالته لمجرّد اتّهامه بروایته عن الضعفاء واعتماده المراسیل ، وبرغم ذلک فقد اعتمدوا علی أخبار إبراهیم بن هاشم، ولیس ذلک إلاّ لوثاقته وصدقه


1- وسائل الشیعة : الباب 45 من أبواب الاحتضار، الحدیث 2 .

ص:71

وتحرّزه، والشواهد علی جلالة قدره کثیرة، مَن أراد الاطّلاع علیها فلیراجع الجزء الرابع من «الجواهر» ذیل هذه المسألة.

وثانیاً : لو سلّمنا ما ذکره المعترض فی حقّ إبراهیم بن هاشم ، ولکن نقول : إنّ هذه الروایة قد نقلها الصدوق فی «الفقیه» مرسلاً بصورة الجزم الذی یعدّ کالمسند لأنّه قد ضمن فی أوّل کتابه بأن لا یروی فی کتابه إلاّ ما یعتمد علیه ویعمل به، ومثل هذه الشهادة کافیة فی جواز العمل به وصحّته .

وثالثاً : لو أغمضنا عن جمیع ذلک، وسلّمنا ضعفه من حیث السند، لکنّه ینجبر ضعفه بالشهرة کما هو دأبنا فی غیر المقام .

وبذلک یظهر الجواب عن ضعف سنده بسلیمان بن خالد بعدم ثبوت توثیقه حیث أنّه غیر ضائر ، مع أنّه أیضاً مصحّح بواسطة کونه مرویّاً عن ابن أبی عمیر الذی یعدّ من أصحاب الإجماع ؛ أی ممّن أجمعت العصابة علی تصحیح ما یصحّ عنه ، مع أنّ العلاّمة فی «الخلاصة» قد نصّ علی توثیقه ، وقد ذکر النجاشی فیه أنّه کان قارئاً وفقیهاً ووجیهاً ، وأنّه توجّع الصادق علیه السلام لفقده، ودعا لولده وأوصی بهم أصحابه، وأنّه رجع عمّا رمی به من الزیدیّة، کما عن بعض علمائنا التصریح به، کما فی الجواهر(1) .

وأمّا البحث عن الدالة: فإنّ المناقشة فیها تکون تارةً : فی کلمة التسجیة ، واُخری فی کلمة المیّت .

وأمّا الأوّل: فالظاهر کون المراد من (التسجیة) هی التغطیة، وهی لا یکون إلاّ بعد الموت ، فعلیه لا تکون التسجیة حینئذٍ واجبةً قطعاً ، بل هی مستحبّة قطعاً ،


1- الجواهر : ج4 / 9 .

ص:72

فلابدّ أن یکون الحدیث مربتطاً بما بعد الموت، ولا یمکن جبر الدلالة بالشهرة ، فما فی «الجواهر» فی ذیل ذلک بأنّه: «مدفوعٌ بما عرفت من دعوی الشهرة الجابرة لذلک کلّه» ، لیس علی ما ینبغی، لأنّها جابرة لضعف السند إلی الدلالة، کما لا یخفی .

وأمّا الثانیة: فإن قوّینا ظهور کلمة (التسجیة) فی التغطیة، فهو یوجب حفظ ظهور کلمة المیّت فیما هو المتبادر منه، وهو لزوم وقوعها بعد الموت، فیوجب ذلک حمل الروایة علی الدلالة باستحباب التغطیة باعتبار جعله تجاه القبلة ، اللّهُمَّ إلاّ أن یستفاد وجوب التوجیه إلی القبلة من دلیل آخر، فذلک یوجب کون التسجیة مستحبّاً باتجاه القبلة للمیّت بعد الموت ، مع أنّه مخالف للإجماع، حیث لم یفت أحد بوجوب ذلک بعد الموت .

فعلی کلّ حال، بناءً علی حفظ ظهور کلمة (المیّت) علی ظاهرها المتعارف، یستلزم عدم وجوب التوجیه المذکور باتجاه القبلة واجباً .

نعم ، یصحّ احتمال الوجوب بناءً علی حمل المیّت علی من کان مشرفاً علی الموت، إذ حینئذٍ _ مع أنّه غیر مناسب مع کلمة (التسجیة) کما عرفت _ یعدّ مخالفاً لظاهر کلمة (مات) الواقعة فی صدرها، حیث لا معنی فیها بجعلها بمعنی الإشراف علی الموت ، فالإشکال فی هذه الروایة فی الدلالة علی المقصود لا یخلو عن وجاهة فلیطلب المقصود _ وهو وجوب التوجیه إلی القبلة _ من سائر أخبار الباب إن تمّت دلالتها ، واللّه العالم .

ومنها: استدلّ بها فی المقام المرسلة التی رواها الصدوق فی «الفقیه»، قال : «وقال أمیر المؤمنین علیه السلام : دخل رسول اللّه صلی الله علیه و آله علی رجل من ولد عبد المطّلب، وهو فی السَوْق (النزع)(1) وقد وُجِّه لغیر (إلی غیر) القبلة .


1- السوق : النزع . النهایة لابن أثیر : 2 / 424 .

ص:73

فقال : وجّهوه إلی القبلة، فإنّکم إذا فعلتم ذلک أقبلتْ علیه الملائکة، وأقبل اللّه عزّ وجلّ علیه بوجهه، فلم یزل کذلک حتّی یقبض(1) .

ورواه فی «العلل» وفی «ثواب الأعمال» مسنداً ، فلیراجع «الوسائل» .

حیث أنّه مشتمل علی الأمر بالتوجیه، وظهور الأمر فی الوجوب .

ولکن قد نُوقش فیه: بأنّ سنده ضعیفٌ لإرساله ، کما أنّ دلالته علیه ضعیفة لکونه معلّلاً بالتعلیل الموجب لحمله علی الاستحباب ، مضافاً إلی کونه قضیّة فی واقعة ، فلا یمکن الاستدلال به للوجوب عموماً ، هذا کما عن المحقّق فی «المعتبر» .

أقول: لکن کلا الإشکالین غیر واردان .

أمّا ضعف سنده، لأنّ مرسل الصدوق بمنزلة المسند ؛ حیث أسنده إلی الإمام علیه السلام جزماً، وقد ضمن فی أوّل کتابه بأنّ کلّ خبر قد أسنده جزماً إلی الإمام علیه السلام لا یکون إلاّ معتمداً موثوقاً به عنده، مضافاً إلی کونه مشهورة مقبولة، بل معتضدة بجملة من المعتضدات ، والشهرة جابرة لضعفه عندنا .

وأمّا ضعف دلالته: بما قد ذکر من کونه قضیّة فی واقعة.

فقد قیل أوّلاً: فی جوابه بأنّه لو کان الأمر کذلک: _ أی کونه تقیّة فی واقعة مانعة عن الاستدلال، لانسدّ باب الاستدلال فی معظم الأحکام بالأخبار .

مع أنّه یمکن أن یُقال فی جوابه ثانیاً: بأنّه لیس من قبیل القضیّة فی الواقعة ، بل کان یعدّ من قبیل المورد لشأن بیان الحکم ؛ أی صدور هذا الحکم، وهو وجوب التوجیه أو استحبابه من رسول اللّه صلی الله علیه و آله ، قد رأی رسول اللّه صلی الله علیه و آله من ولد عبد المطّلب فی سکرة الموت فأمر أصحابه بذلک فیصیر من قبیل ما یقال من أنّ


1- وسائل الشیعة : الباب 35 من أبواب الاحتضار، الحدیث 6 .

ص:74

العبرة بعموم الوارد لا بخصوص المورد ، إذ القضیّة بجمیع خصوصیّتها مذکورة فی الروایة، وهو توجیهه إلی غیر القبلة ، فحکم النبیّ صلی الله علیه و آله بتوجیهه إلی القبلة والاستدلال بمثل هذه الاُمور من الأخبار کثیر جدّاً ولا منع فیه .

وأمّا ضعف دلالته بواسطة التعلیل: حیث قیل انّها قرینة علی الفضیلة وهو الذی قرّره شیخنا الأنصاری قدس سره فی کتاب «الطهارة» وادّعی ظهور الروایة بقرینة التعلیل فی الاستحباب، ثمّ قال تعریضاً علی من أنکره بل نفی إشعارها بذلک، ومنع إشعارها بالاستحباب (أنّ دعواه خلاف الإنصاف ممّن له ذوق سلیم) ، انتهی(1) .

وقد تنظّر فیه المحقّق الهمدانی قدس سره وقال : وفیه نظر، فإنّ هذا النحو من التعلیلات المشتملة علی ذکر فائدة العمل، إنّما تصلح قرینة للاستحباب فیما إذا کانت الفائدة المذکورة عائدة إلی نفس المکلّف ، وأمّا إذا کانت عائدة إلی غیره کما فیما نحن فیه، فیشکل ذلک .

وسرّه أنّ تعلیل الطلب بفائدة عائدة إلی المکلّف، یوهن ظهوره فی کونه مولویّاً ، بل یجعله ظاهراً فی کونه إرشادیّاً محضاً ، ولذا ربما یتأمّل فی دلالته علی الاستحباب أیضاً إذا کانت الفائدة المعلّل بها دنیویّة محضة، کما قال : «ادخل الحمام غبّاً فإنّه یُکثر اللّحم» .

وأمّا فی محلّ المقام، فإنّما یفهم الاستحباب من معلومیّة کون المرشد إلیه راجحاً ومحبوباً عند اللّه، کما لو بیّنه بجملة خبریّة نظیر ما لو قال : «إذِّن وأقم قبل صلاتک ، فإنّ من أذّنَ وأقام صلّی خلفه صفّان من الملائکة» ، فإنّه لا یفهم منه إلاّ ما یفهم من قوله : «مَن صلّی بأذان وإقامة یصلّی خلفه صفّان من الملائکة» .


1- کتاب الطهارة : 278 .

ص:75

فکما یفهم الاستحباب من الثانی مع عدم اشتماله علی الطلب ، کذلک یفهم من الأوّل، فیکون الأمر بالفعل نظیر أمر الطبیب للإرشاد إلی ما هو الأصلح بحال المکلّف .

وأمّا إذا کانت الفائدة عائدة إلی غیره، فلا یوهن ظهوره فی کونه مولویّاً بل یؤکّده کما لا یخفی وجهه .

وحینئذٍ یشکل ترخیص العقل جواز المخالفة ما لم یستظهر من الدلیل رضا المولی بترک المأمور به، ودعوی استفادته من هذا الخطاب ممنوعة جدّاً .

نعم ، لا نتحاشی عن استشمام رائحة الاستحباب، بل استشعاره من هذا السنخ من الأخبار المعلّلة بنزول الملائکة أو الرحمة أو وفور الأجر ونحوها .

لکن لا یکفی ذلک فی ترخیص العقل بترک امتثال الأمر الصادر من المولی لا علی جهة الإرشاد، خصوصاً فی مثل المقام الذی یکون بیان الفائدة لطفاً فی امتثال المأمور به ، فإنّ أحداً لا یقدم علی تفویت هذه الفائدة العظمی علی المیّت بهذا العمل الیسیر فی هذا المضیق، خصوصاً أهله وأقاربه .

فالإنصاف، أنّ القول بالوجوب بالنظر إلی ظاهر هذه الروایة ، مع أنّه أحوط لا یخلو عن قوّة) ، انتهی کلامه(1) .

وقد أورد علیه المحقّق الآملی فی «مصباح الهدی» بقوله: «إنّ هذا التفاوت من الافتراق برجوع الفائدة إلی المکلّف أو إلی غیره، لا یقدح فی دعوی الظهور فی الاستحباب، حیث أنّ المستظهر من ذکر الفائدة ولو بالنسبة إلی الغیر، هو انحصار ما فی امتثال ذاک الأمر بما ذکر من الفائدة ، ولذلک ربما یستشکل فی حمله علی الاستحباب أیضاً لظهوره فی الإرشاد . إلاّ أنّ الإنصاف کشفه عن رضا الأمر


1- مصباح الفقیه : ج5 / 16 .

ص:76

بفعله، وحُسنه عنده الدال علی رجحانه» ، انتهی کلامه(1) .

قلنا : ما ذکره المحقّق الأوّل بالافتراق ممّا لا یمکن الالتزام به بهذا التفاوت، لوحدة الملاک فی التعلیل بین الموردین .

ولکن الذی لابدّ أن یُقال فی المقام: إنّ التعلیل إنّما یوجب الوهن بلحاظ ما یلاحظ فی نفس العلّة، بکونها بصورة الاستحباب، أو الالتزام فی الوجوب أو الحرمة ، لولاه لزم کون ذکر التعلیل فی ذیل کلّ حکمٍ دلیلاً علی الاستحباب فی الإثبات والکراهة فی النفی ، مع أنّ الأمر لیس کذلک ؛ لوضوح أنّ قوله: «لا تشرب الخمر» معلّل بقوله: «لأنّه مسکر» ، مع أنّه لا یوجب کون النهی فیه تنزیهیّاً، بل یؤکّد تحریمه ؛ لأنّ نفس العلّة تفید ذلک، حیث أنّ الإسکار یوجب زوال العقل وهو قبیح قطعاً ، فالتعلیل الوارد فی تعقیب الحکم لیس مطلقاً موجباً لوهن الظهور عن الوجوب والحرمة ، بل لابدّ أن یلاحظ مورده .

فإذا عرفت ذلک فنقول فی المقام : إنّ التعلیل الوارد هاهنا لو کان ذکر إقبال الملائکة علی المیّت فقط، لأمکن القول بکونه قرینة علی الاستحباب ، إلاّ أنّه مشتمل علی أمر زائد، وهو إقبال اللّه سبحانه وتعالی بوجهه علیه، وهو أمرٌ لازم للمیّت فی تلک الحالة ، فلا معنی لکونه أمراً راجحاً استحبابیّاً بالنسبة إلی المیّت ، فمثل هذا التعلیل لا یوجب، وهن ظهور الأمر عن الوجوب إذ من الواضح أنّه لولا إقبال اللّه ورحمته علیه لعدّ المیّت المسکین هالکاً ولما ارتاح من العذاب وشدّة الموت وسکراتها، وعلیه فهذا التوجیه حینئذٍ یعدّ أمراً لازماً واجباً ولا یحصل إلاّ بتوجیهه إلی القبلة لمن کان أهلاً لذلک .


1- مصباح الهدی : ج5 / 352 .

ص:77

کما قد یؤیّد ذلک ما جاء فی الخبر من أنّ إقبال اللّه علیه ثابت ، فلم یزل کذلک حتّی یقبض ، من الإشارة إلی شدّة احتیاجه إلی ذلک إلی حین خروج الروح . اللّهمَّ ارحمنا فی تلک الحالة بحقّ محمّد وآله .

ولذلک نقول : بأنّ الوجوب بواسطة هذه الروایة لا یخلو عن قوّة، کما علیه الشهرة من المتقدّمین والمتأخّرین .

هذا ، مضافاً إلی إمکان الاستدلال لذلک بنصوص أُخری:

منها: موثّقة معاویة بن عمّار، قال : «سألت أبا عبداللّه علیه السلام عن المیّت؟ فقال : استقبل بباطن قدمیه القبلة(1)» .

ومنها: الخبر الذی رواه الصدوق مرسلاً، عن الصادق علیه السلام : «أنّه سُئل عن توجیه المیّت ؟ فقال : استقبل بباطن قدمیه القبلة»(2) .

ومنها: روایة ابن أبی عمیر، عن إبراهیم الشعیری، و(عن) غیر واحد، عن أبی عبداللّه علیه السلام : «فی توجیه المیّت ؟ قال : تستقبل بوجهه القبلة، وتجعل قدمیه ممّا یلی القبلة»(3) .

حیث أنّ ظاهر الأمر بالاستقبال فی خبری ابن عمّار والصدوق أو الجملة المضارعة فی مقام الإنشاء یفید ذلک، وهو المطلوب .

ولکن قد نوقش فیها: بأنّ هذه الروایات مشتملة علی احتمالات ثلاث :

أحدها : ما عرفت من بیان حکم وجوب التوجیه للمشرف علی الموت، بأن یراد من المیّت معناه المجازی .


1- وسائل الشیعة : الباب 35 من أبواب الاحتضار، الحدیث 4 و 3.
2- وسائل الشیعة : الباب 35 من أبواب الاحتضار، الحدیث 4 و 3.
3- وسائل الشیعة : الباب 35 من أبواب الاحتضار، الحدیث 5 .

ص:78

وثانیها : کون المراد بیان حکم الاستقبال بباطن قدمی المیّت لما بعد موته ، ومن الواضح أنّ هذا القسم من الاستقبال لم یکن واجباً، فلابدّ من حمله علی الاستحباب بمقتضی الإجماع علی استحبابه .

وثالثها : کون المراد هو السؤال عن کیفیّة الاستقبال، کما یؤیّده أخبار اُخر .

منها: ما رواه الکلینی فی الکافی عن الصادق علیه السلام : «فی توجیه المیّت ؛ تستقبل وتجعل قدمیه ممّا یلی القبلة»(1) المنقول فی «مصباح الهدی» .

ومنها: خبر ذریح المحاربی، عن الصادق علیه السلام ، فی حدیث، قال : «إذا وجّهت المیّت للقبلة فاستقبل بوجهه القبلة لا تجعله معترضاً کما یجعل الناس، فإنّی رأیت أصحابنا یفعلون کذلک ، الحدیث».

وحیث أنّ إرادة المعنی المجازی عن لفظ (المیّت) یحتاج إلی القرینة وهی منتفیة ، فیدور الأمر بین الاحتمالین الآخرین وهما غیر مرتبطین بما نحن بصدده ، مضافاً إلی أنّه لو سلّمنا وجود احتمال المعنی المجازیة أیضاً فإنّه یدور الأمر والاحتمال بین الثلاث، فتساوی الاحتمالات لا یوجب الإجمال، فتسقط الروایة عن الاستدلال لوجوب توجیه المحتضر لأجل الإجمال، کما لا یخفی .

وبالجملة: ثبت من جمیع ذلک أنّ أحسن حدیث یمکن الاستدلال به للوجوب، هو الخبر المرسل کالمسند للصدوق، المعتضدة مع ذهاب الأکثر علی الوجوب کما أشرنا إلیه ، فوجوب التوجیه کما علیه الأکثر لا یخلو عن قوّة، خصوصاً مع إمکان تأییده بالسیرة المستمرّة بالعمل فی الأعصار والأمصار علی ذلک ، ومن المعلوم أنّه لو کان مستحبّاً لما ظلّوا مستمرّین علیه کذلک، والشاهد


1- مصباح الهدی : ج5 / 353 ، وفی الوسائل فی الباب 35 من أبواب الاحتضار الحدیث 3 .

ص:79

علیه اعتبارهم لیس شیء الموت إلی غیر القبلة من سوء التوفیق ومن الاُمور الشنیعة، وعکسه من الاُمور المقرونة بالسعادة، وأنّ مثل ذلک لولا الدلیل علی وجوبه، لما استوجب الفتوی بالوجوب، إذ غایته إثبات الرجحان ، ولعلّه لذلک أمر صاحب «الجواهر» بالتأمّل فی ذیل نقل القول بالاستحباب، والأمر کذلک . وقد عرفت أنّ وجوبه کما فی المتن لا یخلو عن قوّة .

هاهنا عدّة فروع:

الفرع الأوّل: قال صاحب «الجواهر» : «ثمّ إن أوجبنا دوام الاستقبال بهذا الوجه کما یقتضیه ظاهر الروایة، فلا إشکال فی التشبیه، وإلاّ وجب الحمل علی التسویة بینهما فی أصل التوجیه، وإن اختلف الوجه فیهما بالوجوب والاستحباب ، إنّما یصحّ لو کان مدرک الوجوب هو خبر سلیمان بن خالد المشتمل لحکم المیّت والغُسل، حیث أنّ التوجیه فی الأوّل واجب وفی الثانی مستحبّ»

وفیه: سبق وان استدللنا علی أنّ الخبر المذکور لا یدلّ علی الوجوب، بل غایته بیان الاستحباب فی الحالتین، والذی یستفاد منه الوجوب _ کما علیه المحقّق الهمدانی ومختارنا _ هو خبر الصدوق المرسل ، فحینئذٍ لا نحتاج إلی ما ذکره من التوجیه إذ الأمر فی حدیث سلیمان بن خالد لا یدلّ علی أزید من الرجحان والاستحباب فی الموردین ، ولکنّه فی المحتضر نحکم بالوجوب وبها ویتمّ المطلوب .

بقی هنا شیء: وهو أنّ القائلین بالاستحباب ربما یستظهروا ذلک بما ورد فی حقّ النبیّ صلی الله علیه و آله ، وهو کما استظهره المفید فی «الإرشاده» فی وفاة النبیّ صلی الله علیه و آله حیث أخّر التوجیه عن الموت فقال صلی الله علیه و آله فی وصیّته لعلیّ علیه السلام عند استحضاره : «فإذا فاضت نفسی فتناولها بیدک، فامسح بها وجهک ، ثمّ وجّهنی إلی القبلة،

ص:80

وتولّ أمری ، إلی أن قال صلوات اللّه علیه وید أمیر المؤمنین علیه السلام الیمنی تحت حنکه، ففاضت نفسه فیها فرفعها إلی وجهه فمسحه بها ثمّ وجّهه وغمّضه ومدَّ علیه إزاره» ، الحدیث(1) .

وقد أجاب عنه صاحب «الجواهر» بجعل الظاهر إرادة الاستمرار فی روایة المفید ، فمن المعلوم أنّه راجح ویستبعد عدمه فی تلک الحال منه صلی الله علیه و آله إن لم یمتنع هذا جوابه . ونِعْمَ ما أجاب .

أقول: ولکن إن سلّمناه، فیمکن أن یکون وفاته صلی الله علیه و آله کان بعد ذلک العمل فصار نزع روحه الشریف حال توجّهه إلی القبلة لا قبله، فیرتفع الإشکال .

وکیف کان، فإنّ رفع الید عمّا یدلّ علی الوجوب، مع ذهاب الأعاظم إلی الوجوب مشکل جدّاً، کما لا یخفی علی المتأمّل والملاحظ فی فتاوی الأعیان فی جمیع الأعصار والأمصار، والعمل أمراً واجباً ثابتاً عندهم ، واللّه العالم بحقائق الاُمور .

هذا مع إمکان أن یکون توجّهه لأجل مراقبته لئلاّ ینحرف عن القبلة بعض أعضائه حال الموت، حتّی لا ینافی الاستقبال الواجب .

الفرع الثانی : ثمّ علی القول بالوجوب، یسقط وجوبه بتحقّق الموت، فلا یجب استمراره مستقبلاً، کما لا یجب ابتدائه بعد الموت لو لم یستقبل حینه، لعدم قیام دلیل علی بقاء الوجوب وصدق الامتثال فی الأوّل إلی حلول الموت ، مع أنّ الأصل یقتضی عدم الوجوب مع عدم الدلیل .

مع أنّه یمکن استفادة غایة الوجوب إلی الموت، من الروایة المرسلة التی رواها الصدوق، حیث قال : «فلم یزل کذلک حتّی یُقبض» .


1- الجواهر : ج4 / 10 .

ص:81

نعم ، لا یبعد القول باستحبابه کما یشعر بذلک الأخبار الواردة فی بیان کیفیّة الاستقبال ، مضافاً إلی روایة سلیمان بن خالد، حیث قد بیّن رجحانه فی حال الموت والغُسل ، فلا یبعد کون مراده الاستمرار کذلک إلی حال الغُسل، فیتمّ المطلوب فی الاستحباب لما بعد الغُسل بالإجماع المرکّب، إذ القائل بالاستحباب یقول به حتّی لما بعد الغسل ، ومن لا یقول به لا یقول به فی الطرفین، وإن کان القائل بعدم الاستحباب غیر معلوم کما لا یخفی .

مضافاً إلی روایة المفید ، وإلی الأمر به فی حال الغُسل والصلاة والدفن وإن اختلفت فی الکیفیّة .

مضافاً إلی ما عرفت من احتمال کون المراد من (المیّت) فی الأخبار هو المیّت حقیقةً، کما یشعر بذلک لفظ التسجیة، بناءً علی الاکتفاء بمثل هذا الاحتمال فی ثبوت الاستحباب لابتناء التسامح فیه علی الاحتیاط العقلی، وظهور النقلی فی الجملة، کما فی المقام ، کما لا یخفی .

الفرع الثالث : ثمّ علی القول بالوجوب، لا فرق فیه بین کون المیّت صغیراً أو کبیراً ، حرّاً أو عبداً ، إناثاً أو ذکوراً ، بعد فرض الإسلام أو من بحکمه .

نعم ، قد یُقال بعدم وجوبه فی المخالف، وإن قلنا بإسلامه، لما ورد من قاعدة الإلزام المستفاد من قوله علیه السلام : «الزموهم بما التزموا به من مذهبهم» ؛ حیث لا یرون الوجوب فی المورد ».

قال صاحب «الجواهر»: «علی إشکال فی شمولها لمثل ذلک ، وإن صرّح بعضهم» .

ولعلّ وجه الإشکال، کون الخطاب فی هذا الخبر موجّه إلی المؤمن دون المخالف ، فلا یبعد القول بوجوب العمل لذلک لمن یصدق علیه أنّه مسلم، ولو

ص:82

کان مخالفاً، وإن لم یکن ذلک واجباً فی مذهبهم، وإن کان مقتضی الأصل عند الشکّ فی شمول الدلیل هو عدم الوجوب، کما لا یخفی ، کما أنّ لفظ (أحدکم) فی خبر سلیمان، والتعلیل الوارد فی المرسل بقوله : «فإنّکم» ، مُشعران بخروج المخالف عن هذا الحکم ، وهو غیر بعید .

الفرع الرابع : لا یخفی أنّ وجوب الاستقبال بالمیّت إنّما یکون مع التمکّن من معرفة بتعرّف القبلة وجهتها ، أمّا مع الاشتباه ولو إلی جهتین مع الجهل بالمشرق والمغرب فلا یجب ، إلاّ مع وجود کون أحدهما أقرب إلیها، وإلاّ فلا یجب، لعدم التمکّن من الامتثال ، فلو علم الشرق والغرب فیحتمل قویّاً وجوب استقبال ما بینهما، لما ورد کون القبلة جهتها وهو یصدق لما بینهما . وأمّا بالنسبة إلی الجهات الأربع فلا یمکن تحقّقه ، وعلیه فما فی «الذکری» من احتمال الوجوب بالنسبة إلی الأربع فضلاً عن الجهتین، ضعیفٌ إن اُرید ذلک إلی أن یتحقّق الموت ، اللّهُمَّ إلاّ أن یرید تقسیمه فی الزمان بالنسبة إلی الأربع إلی أن یقبض ، والقول بوجوب ذلک لم یقم علیه دلیل، کما لا یخفی .

الفرع الخامس : بعدما ثبت وجوب توجیه المحتضر إلی القبلة _ أو علی الاستحباب _ یأتی الکلام فی کیفیّته .

فنقول: تحدّث صاحب «الشرائع» و «المعتبر» و «التذکرة» و «الخلاف» عن الإجماع علی الکیفیّة وهی: بأن یُلقی علی ظهره، ویُجعل باطن قدمیه ووجهه إلی القبلة، بحیث لو جلس لکان مستقبلاً ؛ لأنّه المستفاد من الأخبار المتقدّمة ، مضافاً إلی الصراحة الواردة فی خبر ذریح المحاربی، عن الصادق علیه السلام فی حدیث، قال : «إذا وجّهت المیّت إلی القبلة، فاتسقبل بوجهه إلی القبلة، ولا تجعله

ص:83

معترضاً کما یجعل الناس ، الحدیث»(1) .

وخبر موثّقة معاویة بن عمّار، قال : «سألت أبا عبداللّه علیه السلام عن المیّت ؟ فقال : استقبل بباطن قدمیه القبلة»(2) .

وحدیث إبراهیم بقوله : «ویستقبل بوجهه القبلة»(3) .

ولا إشکال فی وجوب الاستقبال بالکیفیّة المذکورة علی القول بالوجوب لدی التمکّن منه ، ولکن الإشکال یقع فیما لو لم یتمکّن بالکیفیّة الخاصّة ، فهل هناک کیفیّة أُخری أقرب منها حتّی یلاحظ کونه جالساً مستقبلاً مقدّماً علی المضطجع علی الأیمن وهو علی الأیسر ، أم لا یجب شیئاً ، أو یجب فی الأوّل دون غیره من المرتبتین؟

أقول: والذی یقتضیه ظاهر الفتوی والنصّ ، بل الأصل هو عدم ثبوت کیفیّة أُخری لو عجزوا عن التوجیه المذکور لأنّ المنصوص مخصوص فی ما عرفت دون غیره ، إلاّ أنّ صاحب «الجواهر» احتمل الوجوب بالترتیب ، ولعلّه لأجل مقایسة المقام مع ما یجب فیه رعایة الاستقبال کذلک مثل الصلاة، حفظاً لوجوب الاستقبال، أو لأجل إجراء قاعدة المیسور فی حفظ المراتب ، ولکنّه منوط بصدق المیسور علی مثل ذلک، وهو غیر معلوم، خصوصاً بالنسبة الأیمن والأیسر، خصوصاً مع إمکان شمول النهی فی ذیل الحدیث (بأن لا یجعله معترضاً لمثل الأیمن والأیسر) لو لم نقل بانحصار المنع والنهی لخصوص التمکّن لا مع الفرض المزبور من عدم التمکّن لذلک .


1- وسائل الشیعة : الباب 35 من أبواب الاحتضار، الحدیث 1 .
2- وسائل الشیعة : الباب 35 من أبواب الاحتضار، الحدیث 3 و4 .
3- وسائل الشیعة : الباب 35 من أبواب الاحتضار، الحدیث 3 و4 .

ص:84

وکیف کان، لا یبعد القول بالوجوب بصورة الجلوس مستقبلاً، لصدق المیسور علیه، لوقوع وجهه وقدمیه إلی القبلة ، هذا إن لم یستلزم الإیذاء للمیّت، لأنّه ربما یشکل جعله کذلک،کما علیه صاحب «الجواهر» والمحقّق الآملی ، مع إمکان القول بوجوب رعایة الترتیب مع التمکّن عن الجلوس رعایةً للأقرب فالأقرب.

الفرع السادس : فی أنّ وجوب استقبال المحتَضِر، هل وجوب کفائی لمطلق المکلّفین، من دون لزوم الاستیذان من الولیّ ، بل ربما یمکن أن یفرض علی هذا الاحتمال أنّ الولی لیس له المنع عنه ، بل لو منع کان ممّا یجب علیهم فلا یطاع ، ولو کان منعه لأجل مباشرة نفسه بذلک لکونه ولیّاً ، هذا هو ظاهر ما عدا «الحدائق» بما أطلق کونه واجباً کفائیّاً علی المتمکّن، العالم بالحال، من دون ذکر شرطیّة الاستیذان، کما علیه صاحب «الجواهر» وغیره .

أو أنّ الوجوب أوّلاً متوجه إلی ولیّ المیّت، وبعده إلی الحاکم الشرعی، وإن لم یمکن فعدول المؤمنین کفایة، کما هو الأمر کذلک فی سائر أحکام المیّت من الغُسل والکفن والصلاة والدفن ؟

فیه وجهان ، بل قولان : وقد استدلّ للثانی باُمور :

أوّلاً: بالإجماع الذی ادّعاه صاحب «جامع المقاصد» .

وثانیاً : بقوله تعالی: «وَأُوْلُوا الاْءَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَی بِبَعْضٍ فِی کِتَابِ اللّه ِ»(1) .

وثالثاً : بروایة إسحاق بن عمّار، عن أبی عبداللّه علیه السلام ، قال : «الزوج أحقّ


1- سورة الأنفال : آیة 76 .

ص:85

بامرأته حتّی یضعها فی قبرها»(1) .

ورابعاً : عموم ما ورد من «أنّ أولی الناس بأحکام المیّت أولاهم بمیراثه» بناءً علی شمول عموم المقام(2) .

وخامساً : أنّ توجیهه إلی القبلة تصرّف فیه، فلا یجوز إلاّ بإذن ولیّه .

أقول: ولکن جمیع ما ذکر من الأدلّة غیر ممنوع .

أمّا الإجماع أوّلاً فغیر ثابت، لکثرة المخالف فی المسألة .

وثانیاً : إنّ قیام الإجماع کان علی أحکام المیّت لا علی خصوص المحتضر الذی لم یصدق علیه المیّت بعدُ، لشمول إطلاق معاقد الإجماع لمثله مشکوک ، وحیث أنّه دلیل لبیّ، یجب فیه الاقتصار علی القدر المتیقّن، وهو بعد حصول الموت ، وبذلک یظهر الجواب عن بقیّة الأدلّة، حیث أنّها ثابتة للمیّت ، فشمولها لمثله غیر معلوم، کما لا یخفی .

وأمّا کونه تصرّفاً فیه ، فإنّه مع إمکان المنع بصدق التصرّف فی مثل ذلک، أنّه لو سُلّم یوجب الاستیذان من نفس المحتضر إن أمکن، وإلاّ عن ولیّه لا عینه مطلقاً ، مع أنّه غیر لازم أیضاً بعد استفادة الجواز من الأخبار الدالّة علی کونه مأذوناً من المالک الأصلی، وهو اللّه تبارک وتعالی ، بل المستفاد من الأدلّة کون وجود الاستقبال له مطلوباً ولو عن غیر مکلّف ، ولأجل ذلک لا یبعد القول بوجوب ذلک علی نفس المحتضر إن أمکن کان له شعوراً بذلک ، فالخطاب حقیقة متوجّه إلیه أوّلاً وبالذات، ولکن الغالب عجزه وعدم شعوره فی تلک الحالة لمثل ذلک، فیوجّب إلی غیره .


1- وسائل الشیعة : الباب 26 من أبواب الدفن، الحدیث 2 .
2- مصباح الهدی : ج5 / 355 .

ص:86

ویستحبّ تلقینه الشهادتین، والإقرار بالنبیّ صلی الله علیه و آله والأئمّة علیهم السلام ، وکلمات الفرج(1).

وکیف کان، فالقول بعدم لزوم الاستیذان عندنا قویّ، وإن کان الأحوط الاستیذان من ولیّه الخاص، وإلاّ الولیّ العام وهو الحاکم الشرعی ، بل الاحتیاط فیه وجوبی لإمکان کون ذلک من الاُمور العامّة المخوّلة أمرها إلی الحکّام ، فمع الإمکان من الاستیذان منهم کان ذلک مقدّماً من الاستیذان عن ولیّه الخاصّ، وإلاّ فمن عدول المؤمنین إن قلنا بوجوب الاستیذان ، ولکن قد عرفت الإشکال فی أصل وجوبه ، واللّه العالم .

(1) أقول: أصل استحباب التلقین ممّا علیه الاتّفاق، کما قد صرّح بذلک فی «کشف اللِّثام» ، فمتعلّق التکلیف هو الولیّ أو مأذونه أو غیرهما مع عدمهما ، بل لا یبعد فیه عدم اختصاصه بالولیّ أوّلاً ، لولا ورود نصّ خاصّ یتوجّه إلی الولیّ، وکأنّهم استفادوا اختصاصه به من توجیه الخطاب فی الأخبار بقوله علیه السلام : «إذا حضرت قبل أن یموت فلقّنه» حیث کان هو الولیّ وأهل بیته أولی ، مع أنّه فیه أیضاً من احتمال العموم لکلّ أحدٍ إذا حضر المحتضر، کما هو الأحسن ، وکیف، کان یستحب لکلّ أحد من المؤمنین إذا کان حاضراً عند الموت .

فی أحکام الأموات / تلقین المحتضر

والدلیل علی استحبابه عدّة أخبار معتبرة مستفیضة الدلالة علی ذلک.

منها: ما رواه الحلبی عن الصادق علیه السلام ، قال : «إذا حضرت المیّت قبل أن یموت فلقّنه شهادة أن لا إله، إلاّ اللّه وحده لا شریک له وأشهد أنّ محمّداً عبده ورسوله»(1) .


1- وسائل الشیعة : الباب 36 من أبواب الاحتضار، الحدیث 1.

ص:87

ومنها: ما رواه أبی خدیجة، عن أبی عبداللّه علیه السلام ، قال : «ما من أحد یحضره الموت إلاّ وکّل به إبلیس من شیاطینه مَن یأمره بالکفر ویشکّکه فی دینه حتّی یخرج نفسه ، فمن کان مؤمناً لم یقدر علیه ، فإذا حضرتم موتاکم فلقّنوهم شهادة أن لا إله إلاّ اللّه وأنّ محمّداً رسول اللّه صلی الله علیه و آله حتّی یموتوا»(1) .

بل قد یظهر من ذکر الغایة بالموت استحباب تکرار التلقین إلی أن یموت .

بل وفی الکافی وفی روایة اُخری : «فلقّنه کلمات الفرج والشهادتین وتسمّی له الإقرار بالأئمّة علیهم السلام واحداً بعد واحد حتّی ینقطع عنه الکلام»(2).

حیث یستفاد من هذا الحدیث کون ان التلقین بالولایة بتسمیة الأئمّة واحداً، بعد واحد أو ذکرهم بالجملة بالتلقین یعدّ من أصل الولایة، کما یستفاد ذلک من خبر أبی بصیر عن أبی جعفر علیه السلام ، قال : «کنّا عنده فقیل له : هذا عکرمه فی الموت وکان یری رأی الخوارج ، فقال لنا أبو جعفر علیه السلام : انظرونی حتّی أرجع إلیکم ، فقلنا : نعم ، فما لبث أن رجع ، فقال : أما أنّی لو أدرکت عکرمة قبل أن تقع النفس موقعها، لعلّمته کلمات فینتفع بها ، ولکنّی أدرکته وقد وقعت موقعها ، فقلت : جعلت فداک وما ذاک الکلام؟ قال : هو واللّه ما أنتم علیه، فلقّنوا موتاکم عند الموت شهادة أن لا إله إلاّ اللّه والولایة»(3) .

بل قد یظهر من بعض الأخبار أنّ الإقرار بالشهادتین والولایة یفید المیّت عند موته، ولو کان قبله عابد وثن، وهو کما فی الخبر الذی رواه الحضرمی عن الصادق علیه السلام ، قال : «واللّه لو أنّ عابد وثن وصف ما تصفون عند خروج نفسه ما


1- وسائل الشیعة : الباب 36 من أبواب الاحتضار، الحدیث 3.
2- وسائل الشیعة : الباب 37 من أبواب الاحتضار، الحدیث 2 و 3.
3- وسائل الشیعة : الباب 37 من أبواب الاحتضار، الحدیث 2 و 3.

ص:88

طمعت النار من جسده شیئاً أبداً»(1).

نعم ، قد ورد فی روایتی محمّد بن مسلم، عن أبی جعفر علیه السلام وحفص بن البختری، عن أبی عبداللّه علیه السلام ، قال : «إنّکم تلقّنون موتاکم عند الموت لا إله إلاّ اللّه ونحن نلقّن موتانا محمّدٌ رسول اللّه»(2).

حیث بظاهره ینافی مع ما تقدّم من التلقین الصادر عنهم علیهم السلام .

فأجاب عنه صاحب الوافی ؛ باستغناء الأئمّة عن تلقین التوحید، لأنّهم خمّر بطینتهم لا ینفکّون عنه ، وکأنّه رحمه الله فهم عن قوله : «ونحن نلقّن موتانا» ، کون المراد هو نفس الأئمّة علیهم السلام ، مع أنّه لو کان الأمر کذلک ، فکما هم خمّر بطینتهم لا ینفکّون عن التوحید ، کذلک لا ینفکّون عن الشهادة بالرسالة ، فأیّ وجه فی التفکیک بین الشهادتین؟ فما حمله لیس علی ما ینبغی ، فلابدّ من بیان آخر ، ولعلّ ما حمله صاحب «الجواهر» بکونه إشارة إلی العامّة أو إلی المعمول فی بلادهم من التلقین بالتوحید فقط، أرادوا علیهماالسلام کون واقعیّة التقلین هو الإقرار بالشهادتین ، بل مع الولایة کما اُشیر إلیه فی بعض النصوص، خصوصاً، مع ملاحظة کون التلقین لرفع بعض وساوس الشیطان کما قد صرّح بذلک فی روایة أبی خدیجة(3) ، ومن المعلوم براءة الأئمّة علیهم السلام عن ذلک ، ولذلک لم یرو فی شیء من الأخبار فعل ذلک مع أحد من الأئمّة علیهم السلام ، بخلاف غیرهم من أهل بیتهم وبنی هاشم، کما جاء فی الأحادیث أنّهم لقّنوا حین احتضارهم، کما فی الخبر الذی رواه الحلبی، عن الصادق علیه السلام ، قال له : «إنّ رسول اللّه صلی الله علیه و آله دخل علی رجلٍ من


1- وسائل الشیعة : الباب 37 من أبواب الاحتضار، الحدیث 4.
2- وسائل الشیعة : الباب 36 من أبواب الاحتضار، الحدیث 2 و3 .
3- وسائل الشیعة : الباب 36 من أبواب الاحتضار، الحدیث 2 و3 .

ص:89

بنی هاشم وهو یقضی ، فقال له رسول اللّه صلی الله علیه و آله : قُل لا إله إلاّ اللّه العلیّ العظیم إلی قوله : والحمد للّه ربّ العالمین ، فقالها ، فقال رسول اللّه صلی الله علیه و آله : الحمد للّه الذی استنقذه من النار»(1) .

ومنها: ما ورد فی خبر میمون القدّاح، عن أبی عبداللّه علیه السلام ، قال : «کان أمیر المؤمنین علیه السلام إذا حضر أحداً من أهل بیته الموت، قال له : قُل لا إله إلاّ اللّه الحلیم الکریم ، إلی قوله : فإذا قالها المریض ، قال : اذهب فلیس علیک بأس»(2) .

لا یُقال : إنّ هذه الکلمات المعروفة بکلمات الفرج غیر مشتملة علی الإقرار بالشهادتین ، بل مختصّ بالإقرار علی التوحید ، وکیف ذلک مع توصیتهم بلزوم ذکر الشهادتین .

لأنّا نقول : ذکر کلمات الفرج یعدّ أمراً زائداً علی التلقین لا بدلاً عنه ، أو هی حتّی یقال بذلک الإشکال ، ولذلک تری فی کلام المصنّف قدس سره ذکر استحباب کلمات الفرج ، مضافاً إلی استحباب أصل التلقین ، لا أنّه مکانه کما لا یخفی .

ویشهد لذلک ما ورد فی صحیح زرارة، عن أبی جعفر علیه السلام ، قال : «إذا أدرکت الرجل عند النزع فلقّنه کلمات الفرج : لا إله إلاّ اللّه الحلیم الکریم ، لا إله إلاّ اللّه العلیّ العظیم ، سبحان ربّ السماوات السبع وربّ الأرضین السبع وما فیهنّ وما بینهنّ وربّ العرش العظیم ، والحمد للّه ربّ العالمین ، الحدیث»(3) .

وما یشاهد من الاختلاف من زیادة : (وما تحتهنّ) قبل (ربّ العرش العظیم ، وسلامٌ علی المرسلین) بعده کما فی «کشف اللِّثام» نقلاً عن «الفقیه» .


1- وسائل الشیعة : الباب 38 من أبواب الاحتضار، الحدیث 1 .
2- وسائل الشیعة : الباب 38 من أبواب الاحتضار، الحدیث 2 و 1 .
3- وسائل الشیعة : الباب 38 من أبواب الاحتضار، الحدیث 2 و 1 .

ص:90

غیر ضائر إن قلنا بالتخییر فی الدّعاء بکلّ منهما ، بل الأولی الإتیان بالجمع بین الفروض، خصوصاً بنیّة الرجاء ، فالبحث فی أنّ أیّهما ورد دون غیره غیر لازم ، مع أنّ الزیادة مذکورة فی «الحدائق» و «الریاض» کما فی الفقه «الرضوی» وإن لم ینقلا صاحبی «الوافی» و «الوسائل» عن «الفقیه» هذه الزیادة .

وکیف کان، فقد یستفاد من بعض الأخبار استحباب التلقین زیادةً علی ما سمعت من الدّعاء، مثل الخبرالمروی عن سالم ابن أبی سلمة، عن الصادق علیه السلام ، قال: «حضر رجلاً الموت ، فقیل : یا رسول اللّه صلی الله علیه و آله إنّ فلاناً قد حضره الموت ، فنهض رسول اللّه ... إلی أن قال صلی الله علیه و آله : قُل اللّهُمَّ اغفر لی الکثیر من معاصیک، واقبل منّی الیسیر من طاعتک ... إلی أن قال : فقال أبو عبداللّه علیه السلام : إذا حضرتم میّتاً فقولوا له هذا الکلام لیقوله»(1) .

وأیضاً الخبر المرسل الذی رواه الصدوق فی «الفقیه» قال ، قال الصادق علیه السلام : «اعتقل لسان رجل من أهل المدینة فدخل علیه رسول اللّه صلی الله علیه و آله فقال له : قُل لا إله إلاّ اللّه فلم یقدر علیه ، إلی أن قال بعد رضایة اُمّه ، وقول المیّت بلا إله إلاّ اللّه ، قال صلی الله علیه و آله : قُل یا من یقبل الیسیر، ویعفو عن الکثیر، إقبل منّی الیسیر، واعف عنّی الکثیر، إنّک أنت العفوّ الغفور ، الحدیث»(2) .

بل قد یستفاد من خبر حریز بن عبداللّه، عن الباقر علیه السلام استحباب الدعاء زیادة علی ما تقدّم ، قال : «إذا دخلت علی مریض وهو فی النزع الشدید، فقُل له : ادع بهذا الدّعاء یخفّف اللّه عنک ؛ أعوذ باللّه العظیم ربّ العرش الکریم من کلّ عرقٍ نفّار (نعّار)، ومن شرّ حرّ النار سبع مرّات ، ثمّ لقّنه کلمات الفرج، ثمّ حوّل وجهه


1- وسائل الشیعة : الباب 39 من أبواب الاحتضار، الحدیث 1 و 3.
2- وسائل الشیعة : الباب 39 من أبواب الاحتضار، الحدیث 1 و 3.

ص:91

ونقله إلی مصلاّه أو علیه (1).

إلی مصلاّه الذی کان یصلّی فیه، فإنّه یخفّف عنه ویسهّل أمره بإذن اللّه»(1).

هذا الدعاء لعلّه لمن کان نزعه شدیداً کما قد صرّح فی الروایة، أو جواز إتیانه لکلّ أحدٍ عند موته، لأجل نفس محبوبیّة الدّعاء غیر بعید، خصوصاً إذا قُرأ رجاء بالمطلوبیّة، وإن لم یکن نزعه شدیداً ، واللّه العالم .

(1) أقول: ومن المستحبّات نقله إلی مصلاّه، وهو المکان الذی کان یصلّی فیه طیلة حیاته، أو کان یُکثر الصلاة فیه المعروف فی الفارسیّة ب_ (نمازخانه)، وقد تعارف قدیماً بناء غرفة لخصوص الصلاة، أو علی السجّادة التی یصلّی علیها ، الوارد ذلک فی «کشف اللثام» وغیره کالمتن للمصنّف قدس سره ، لعلّ هذا الحکم مبنیٌّ علی ما جاء فی الخبر المضمر الذی رواه زرارة، قال : «إذا اشتدّ علیه النزع فضعه فی مصلاّه الذی کان یصلّی فیه أو علیه»(2) .

والتردید یحتمل أن یکون من الراوی أو من الإمام علیه السلام ، فعلی الثانی یدلّ علی استحباب أحد الأمرین . وعن «الوسیلة» الجمع بین استحباب نقله إلی موضع صلاته وبسط ما کان علیه تحته . وقال فی «الجواهر» : «لم أجد له شاهداً غیر الاعتبار» .

فی أحکام الأموات / نقل المحتضر إلی مصلاّه

فنقول : یمکن استظهار المحبوبیّة للجمع من مضمر زرارة إن کان التردید من الإمام علیه السلام ، لإمکان أن یکون وجه التردید هو الاهتمام بإتیان واحد منهما علی الأقلّ، لا لبیان کون الاستحباب لأحدهما فقط، حتّی یقال بعدم استحباب


1- وسائل الشیعة : الباب 40 من أبواب الاحتضار، الحدیث 7 .
2- وسائل الشیعة : الباب 40 من أبواب الاحتضار، الحدیث 2 .

ص:92

الجمع ؛ لأنّه یفهم ما قلنا من مناسبة الحکم للموضوع عند العرف، کما لا یخفی . جاء فما وعلیه فی «الوسیلة» لا یخلو عن وجه، وکون التردید من الإمام هو الأصل فیتّبع دون غیره إلاّ بقرینة مفقودة، خصوصاً فی المندوبات المنبیّة أمرها علی التسامح .

وما فی کتاب «طهارة» للشیخ الأکبر من ترجیح کون التردید من الراوی، وإلاّ یلزم استعمال لفظ (المصلّی) فی أکثر من معنی .

لا یخلو عن وهن ؛ لإمکان کون لفظ (المصلّی) مستعملاً فی الجامع بین المکان والسجّادة، أو بإمکان تقدیر حکمة المصلّی الآخر بعد حرف العطف کما هو متعارف فی العرب ، وکیف کان کون التردید من الإمام أولی عندنا ، واللّه العالم .

والدلیل علی استحباب نقله إلی مصلاّه، قیام أخبار دالّة علیه:

منها: الخبر المروی عن عبداللّه بن سنان، عن أبی عبداللّه علیه السلام ، قال : «إذا عسر علی المیّت نزعه وموته، قرّب إلی مصلاّه الذی کان یصلّی فیه»(1) .

ومنها: وروایة ذریح، قال : سمعت أبا عبداللّه علیه السلام یقول : «قال علیّ بن الحسین علیه السلام : إنّ أبا سعید الخدری کان من أصحاب رسول اللّه صلی الله علیه و آله وکان مستقیماً فنزع ثلاثة أیّام فغسّله أهله ثمّ حُمل إلی مصلاّه فمات فیه»(2) .

ومنها: وروایة لیث المرادی، عن أبی عبداللّه علیه السلام قال : «قال : إنّ أبا سعید الخدری قد رزقه اللّه هذا الرأی، وأنّه اشتدّ نزعه، فقال : احملونی إلی مصلاّی فحملوه فلم یلبث أن هلک»(3) .

ومنها: وروایة حریز قال : «کنّا عند أبی عبداللّه علیه السلام فقال له رجلٌ : إنّ أخی


1- وسائل الشیعة : الباب 40 من أبواب الاحتضار، الحدیث 1 و3 و4 .
2- وسائل الشیعة : الباب 40 من أبواب الاحتضار، الحدیث 1 و3 و4 .
3- وسائل الشیعة : الباب 40 من أبواب الاحتضار، الحدیث 1 و3 و4 .

ص:93

منذ ثلاثة أیّام فی النزع، وقد اشتدّ علیه الأمر فادعُ له . فقال : «اللّهمَّ سهِّل علیه سکرات الموت» ثمّ أمره، وقال : حوّلوا فراشه إلی مصلاّه الذی کان یُصلّی فیه، فإنّه یخفّف علیه إن کان فی أجله تأخیر ، وإن کان منیّته قد حضرت فإنّه یسهّل علیه إن شاء اللّه»(1) .

ومنها: وروایة اُخری لذریح(2) مضمونه کمضمون الخبر السابق، وقد نقله الشیخ الطوسی وکذلک الکلینی رحمهماالله .

نعم ، قد ورد فی روایة اُخری لحریز بن عبداللّه، عن أبی جعفر علیه السلام فی حدیث، قال فی صدره : «إذا دخلت علی مریض وهو فی النزع الشدید، فقُل له : ادع... إلی أن قال : ثمّ حوّل وجهه إلی مصلاّه الذی کان «یصلّی فیه، فإنّه یخفّف عنه ویسهّل أمره بإذن اللّه»(3) .

والظاهر کون المراد من تحویل وجهه إلی مصلاّه أی تحویل بدنه ونقله إلیه حتّی یکون مثل ما فی سائر الأخبار من نقله کما احتمله المجلسی فی «البحار» ، ونِعْمَ ما قال .

فما فی «مصباح الفقیه» بقوله : «وأولی من تحویل وجهه کما فی هذه الروایة نقله إلی مصلاّه» ، حیث یفهم أنّه استظهر کونه غیر النقل إلی المصلّی .

غیر ظاهر، بمناسبة کثرة استعمال ذلک فی مثله کما لا یخفی .

ثمّ إنّ مفاد هذه الأخبار المتقدّمة إنّما هو استحباب نقله إلی مصلاّه إذا اشتدّ علیه النزع لا مطلقاً، کما علیه أکثر الأصحاب، کما یظهر قبوله عن صاحب «الجواهر» و «مصباح الفقیه» و «مصباح الهدی»، خلافاً لجماعة اُخری مثل


1- وسائل الشیعة : الباب 40 من أبواب الاحتضار، الحدیث 5 و6 و7 .
2- وسائل الشیعة : الباب 40 من أبواب الاحتضار، الحدیث 5 و6 و7 .
3- وسائل الشیعة : الباب 40 من أبواب الاحتضار، الحدیث 5 و6 و7 .

ص:94

صاحب «الشرائع» والعلاّمة فی «الإرشاد» تبعاً للمحقّق فی کتبه، والشهید فی «اللّمعة» ، بل وهو الأظهر .

مضافاً إلی إمکان استفادة الإطلاق من التعلیل الوارد فی روایة حریز، بقوله : «فإنّه یخفّف علیه إن کان فی أجله تأخیر، وإن کانت منیّته قد حضرت فإنّه یسهّل علیه إن شاء اللّه» ، إذ لم یقیّده بکونه ذا عسرة فی نزعه، وکون مورد الروایة فی الاشتداد لا یوجب الاختصاص ؛ لأنّ العبرة بعموم الوارد لا بخصوص المورد ، لأنّ نفس النقل إلی الموضع المذکور إذا کان له تلک الخاصّیة فیفهم کونه مستعدّاً لذلک، ولو لم یکن المیّت کذلک، لأنّ محلّ الصلاة یعدّ موضع هبوط ملائکة الرحمة ، ولأجله لا یبعد کونه محبوباً مطلقاً .

فی أحکام الأموات / الإسراج عند المیّت

أقول: التزم صاحبی «الجواهر» و «مصباح الفقیه» من تأیید عدم النقل فی غیر الصورة المفروضة ، بما ورد فی النصوص من إبقائه علی حاله، وعدم التعرّض له بمسّه قبل خروج روحه، فضلاً عن نقله من مکانه ، کما یدلّ علیه خبر زرارة، قال : «ثقل ابنٌ لجعفر وأبوه جالس فی ناحیة، فکان إذا دنی منه إنسان قال : لا تمسّه فإنّه إنّما یزداد ضعفاً وأضعف ما یکون فی هذه الحال ، ومَن مسّه علی هذه الحال أعان علیه، فلمّا قضی الغلام أمر به فغمض عیناه وشدّ لحیاه،الحدیث»(1).

لیس علی ما ینبغی : لأنّ النقل عن المکان إلی المصلّی یعدّ أعمّ من مسّ المیّت ، لإمکان أن یکون المیت فی شیء من الملحفة وغیرها، وینتقل معها إلی المصلّی ، بل ربما لابدّ أن یقیّد بما لا یلزم نقل نفس المیّت بتسریع فوته، کما


1- وسائل الشیعة : الباب 44 من أبواب الاحتضار، الحدیث 1 .

ص:95

ویکون عنده مصباح إن مات لیلاً (1).

قد یتّفق ذلک لمن عرض له موت الفجأة، الذی یُقال له السکتة ، ولأجل ذلک قیّد فی «العروة» فی جواز نقله بما لا یستلزم أذاه ، وهو حسن جیّداً .

وکیف کان فالقول باستحباب النقل مطلقاً لا یخلو عن وجهٍ حسن ، واللّه العالم .

(1) ولا یخفی أنّ ظاهر عبارته کون الاسراج عنده إن مات لیلاً، سواء کان المیّت فی المکان الذی مات فیه، أو نقل بعد موته إلی مکان آخر .

ولکن جاء فی «المقنعة»: «إن مات لیلاً فی البیت أسرج فی البیت مصباح إلی الصباح» حیث أنّ ظاهره استحباب الإسراج فی البیت الذی مات فیه ولو نقل عنه مع التقیید بموته لیلاً . ومثل هذه العبارة مذکورة فی «العروة» للسیّد الطباطبائی .

ولکن الظاهر _ کما أشار إلیه صاحب «مفتاح الکرامة» _ هو الإسراج عنده سواء کان موته فی البیت أو إبقائه فی بیت فی اللیل ؛ لأنّ المقصود من الجمیع عدم وقوع المیّت فی ظلمة اللیل بلا سراج، فی أیّ مکان کان، سواء مات فیه أو انتقل إلیه ، بلا فرق بین کون البیت بیت مسکنه فی حیاته أم لا ، وسواءً بقی فی ذلک المکان إلی الصباح أو نُقل عنه إلی مکانٍ آخر .

والدلیل علی ذلک: ما أفتی به الشیخان وجماعة من الأصحاب، ونسبه فی «جامع المقاصد» إلی الأصحاب، المُشعر بدعوی الإجماع، علیه کما یشهد له التتبّع ، وإن کان بین کلماتهم نوع اختلاف کما عرفت .

وممّا استدلّ به علی الحکم المذکور ما قاله صاحب «الجواهر» : «والذی ظفرنا به فی المقام خبر سهل بن زیاد، عن عثمان بن عیسی، عن عدّة من أصحابنا: «أنّه لمّا قُبض الباقر علیه السلام أمر الصادق علیه السلام بالسراج فی البیت الذی

ص:96

یسکنه حتّی قبض أبو عبداللّه علیه السلام ، ثمّ أمر أبو الحسن علیه السلام بمثل ذلک فی بیت أبی عبداللّه علیه السلام حتّی أخرج به إلی العراق ، ثمّ لا أدری بما کان»(1) .

ورواه الشیخ بإسناده عن محمّد بن یعقوب مثل ما قد نقل الکلینی ، ورواه الصدوق مرسلاً نحوه .

وقد استشکل فیه: فضلاً عن الضعف فی السند، أنّه حکایة حال ولا اختصاص له بالموت أو بقاء المیّت لیلاً ولا ببیت الموت ، بل ولا باللیل ، ولعلّه لنحو ذلک قال فی «المعتبر»: «فهی ساقطة لکنّه فعل حسن» .

وأجاب عنه صاحب «الجواهر»: بأنّه یدفع الأوّل بعدم قدح مثله فیما نحن فیه، سیّما بعد الانجبار بما عرفت .

لکن أورد علیه المحقّق الآملی: بأنّ ضعف الدلالة لا یمکن انجباره بعمل الأصحاب .

قلنا : ونِعْمَ ما أجاب ، ولکن یمکن أن یکون مقصوده من الأوّل، ضعف سنده لا دلالته، ومراده من ما بعده غیره من الوجوه، وحکایة حال لا یضرّ بالمقصود، إذا کان معمولاً به بین الأصحاب .

مع أنّه یمکن أن یکون مقصوده، بأنّه یدفع ما بعده بأصالة الاشتراک فی الحکم، وهو الجواب عن کونه حکایة حال للمعصوم مثلاً ، کما یؤیّد ذلک قوله : «بأنّ ما تضمّنه الحدیث یندرج فیه المدّعی ویشمل صورة وقوع الموت فیه» ، بل قد أضاف «أو یقال إنّ استحباب ذلک یقتضی استحباب الإسراج عند المیّت بطریق أولی» .


1- وسائل الشیعة : الباب 45 من أبواب الاحتضار، الحدیث 1 .

ص:97

لکن الثانی مبنیّ علی الفتوی بهذا الحکم حتّی تکون الأولویّة معتبرة ، ولعلّنا نقول به وإن لم أجد من صرّح بذلک، إلاّ أنّه قد تقبله بعض العبارات ، فتأمّل . وبأنّ الإسراج یظهر کونه باللیل ، کلّ ذا مع التسامح فی أدلّة السنن وفتوی الأصحاب بذلک کما عرفت .

وربما یؤیّده الاعتبار ویُشعر به، ترک إبقاء المیّت وحده خوفاً من عبث الشیطان، واستحباب قراءة القرآن عنده المستلزمة غالباً ذلک ، فتأمّل ). انتهی ما فی الجواهر(1) .

أقول : ما ذکره جمیعاً أمرٌ حسن من حیث الاعتبار ، إلاّ أنّ إثبات ذلک من الروایة المذکورة مشکل ؛ لإمکان أن یکون حسن إسراج السراج فی البیت الذی کان یسکنه إلی أن قبض الإمام الذی کان فاعله، لعلّه کان من مختصّات الأئمّة الذین کانوا من الشخصیّات العِظام المقتضیة للتجلیل بعد موته، باستضائة بیته للناس حتّی یبقی ذکره خالداً ویمکن تسریة الحکم المذکور منهم علیهماالسلام إلی نوّابهم العامّة والخاصّة کالعلماء والمراجع وأمثالهم لا لمطلق الناس ، بل قد یمکن أن یعدّ استمرار هذا العمل لعامّة الناس بالإسراج فی بیتهم سرفاً والعمل به سفهاً، بخلاف من کان ذو شأن وبالتالی فاستفادة هذا الحکم من هذه الروایة مشکل جدّاً .

نعم ، یصحّ الحکم بذلک بمقتضی قاعدة التسامح، إن سلّمنا شمول عموم البلوغ لمن بلغه ذلک من فتوی الأصحاب وعملهم، والشهرة الفتوائیّة بذلک، الکاشفة عن وجود دلیل تحمل قد فقد ولم یصل إلینا، وهو غیر بعید ، واللّه العالم .


1- جواهر الکلام : ج4 / 21 .

ص:98

ومن یقرأ القرآن (1).

ومن المعلوم أنّه علی القول باستحباب الإسراج کان غایته إلی الصباح، کما صرّح به جماعة ، وفی «المعتبر»: «وهو حسن لا فی علّة السراج ، غایتها المصباح» ، انتهی .

فی أحکام الأموات / قراءة القرآن عند المحتضر و المیّت

وقد علّق صاحب «الجواهر» بأنّه جیّد، ونحن نقول به، والأمر کذلک بشهادة فهم العرف، کما لا یخفی .

(1) أقول: استحباب قراءة القرآن عند المحتضر ثابتٌ قبل الموت وبعده، للتبرّک واستدفاع الکرب، والعذاب، سیّما سورة یآس والصافّات ، بل وفی محکی «الذکری»: «ویستحبّ قراءة القرآن بعد خروج روحه، کما یستحبّ قبله استدفاعاً عنه»(1) .

وفی «کشف اللثام»: «أنّه رُوی أنّه یقرأ عند النازع آیة الکرسی، وآیتان بعدها، ثمّ آیة السخرة «إِنَّ رَبَّکُمْ اللّه ُ الَّذِی خَلَقَ» إلی آخرها ، ثمّ ثلاث آیات من آخر البقرة :«للّه ِِ مَا فِی السَّمَوَاتِ وَمَا فِی الاْءَرْضِ»(2) إلی آخرها ، ثمّ یقرأ سورة الأحزاب(3)» .

وعنه صلی الله علیه و آله : «من قرأ سورة یآس وهو فی سکرات الموت، أو قُرأت عنده، جاء رضوان خازن الجنّة بشربةٍ من شراب الجنّة فسقاها إیّاه وهو علی فراشه، فیشرب فیموت ریّان، ویُبعث ریّان، ولا یحتاج إلی حوض من حیاض الأنبیاء علیهم السلام » .


1- الذکری : ج1 / 297 .
2- سورة البقرة : آیة 284 .
3- الدعوات للراوندی : 252 / 709 .

ص:99

وعنه صلی الله علیه و آله : «أیّما مسلم قرأ عنده إذا نزل به ملک الموت سورة یآس، نزل بکلّ حرفٍ منها عشرة أملاک، یقومون بین یدیه صفوفاً، یصلّون علیه ویستغفرون له ویشهدون غسله ویتّبعون جنازته ویصلّون علیه، ویشهدون دفنه »، انتهی(1) .

وروی الکلینی بإسناده عن سلیمان الجعفری، قال : «رأیت أبا الحسن علیه السلام یقول لابنه القاسم : قُم یا بُنیّ فاقرأ عند رأس أخیک والصافّات صفّاً حتّی تستتمّها ، فقرأ ، فلمّا بلغ «أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقا أَمْ مَنْ خَلَقْنَا»(2) قضی الفتی، فلمّا سجّی وخرجوا أقبل علیه یعقوب بن جعفر، فقال له : کنّا نعهد المیّت إذا نزل به الموت یقرأ عنده (یآس والقرآن الحکیم) فصرت تأمرنا بالصافّات؟ فقال : یا بُنیّ لم تقرأ عند مکروب ومن موت قطّ إلاّ عجّل اللّه راحته»(3) .

ورواه الشیخ بإسناده عن محمّد بن یحیی . وفی «الجواهر» رواه عن سلیمة .

والأمر بالإتمام یشمل القراءة بعد الموت أیضاً، کما یشمل قبله وحین النزع . وفی «الجواهر»: «قیل : وعن النبیّ صلی الله علیه و آله مَن دخل المقابر فقرأ یآس خفّف اللّه عنهم یومئذٍ، وکان له بعدد مَن فیها حسنات»(4) . وکذلک عن عدّة الداعی(5) .

وفی «الجواهر» قال : «ولم أقف علی دلیل خاصّ لما هو المتعارف فی بلادنا الآن وغیرها من القراءة علی قبر المیّت ثلاثة أیّام بلیالیها فصاعداً بغیر فتور ، فلعلّ فاعله بقصد الخصوصیّة مشرّع فی الدِّین ، بل لم أعرف دلیلاً علی أصل


1- جواهر الکلام : ج4 / 22 .
2- سورة الصافّات : آیة 12 .
3- وسائل الشیعة : الباب 41 من أبواب الاحتضار، الحدیث 1 .
4- الجواهر : ج4 / 22 .
5- عدّة الداعی : 133 _ 134 .

ص:100

وإن مات غمضت عیناه، واُطبق فوه، ومدّت یداه إلی جنبیه، وغطّی بثوب (1).

استحباب قراءة القرآن عدا یآس ونحوها عند قبور الموتی، وإن أطلق جماعة استحباب قراءة مطلق القرآن قبل الموت وبعده ، إلاّ أنّ ظاهرهم قبل الدفن، لکن لا یبعد الفتوی به مطلقاً لما عساه یشعر به ما ورد فی یآس وإنّا أنزلناه ونحوهما، مع ما یظهر من غیر ذلک أیضاً ، فتأمّل جیّداً» . انتهی کلامه رفع مقامه(1) .

أقول: بل لا یبعد استفادة الاستحباب من الأخبار التی دلّت علی حُسن التوسّل بالقرآن لدی الشدائد وشدّة مناسبتها لتلک الحالة ، بل نفس سیرة المتشرّعة بقراءة القرآن عند الجنائز والمقابر ، مضافاً إلی کفایة مثل فتوی الشهید وغیره من کبراء الأصحاب فی مثل تلک المندوبات التی یکفی فی إثبات استحبابها بمعونة من بلغ الوارد فی التسامح فی أدلّة السنن، مع إمکان تحصیل مؤیّدات لذلک بأکثر من ما ذکر، کما لا یخفی علی المتتبّع العارف بذلک ، بل قد یمکن استفادته علی احتمالٍ ممّا جاء فی فقه الرضوی من قوله : «إذا حَضَر أحدکم الوفاة فاقرأوا عنده القرآن، وذکر اللّه والصلاة علی رسول اللّه صلی الله علیه و آله » بناءً علی عدم اختصاصه بحال الموت فقط .

(1) ویدلّ علی استحباب غمض العین ما ورد فی حدیث زرارة فی حدیث: «فلمّا قضی الغلام أمر به فغُمّض عیناه وشدّ لحیاه»(2) .

وروایة أبی کهمش، عن أبی عبداللّه علیه السلام ، قال : «حضرتُ موت إسماعیل وأبو


1- الجواهر : ج4 ح 22 .
2- وسائل الشیعة : الباب 44 من أبواب الاحتضار، الحدیث 1.

ص:101

عبداللّه علیه السلام جالس عنده، فلمّا حضره الموت شدّ لحییه وغمّضه وغطّی علیه الملحفة ، الحدیث»(1) .

فی أحکام الأموات / بعض آداب المیّت

ومن هذین الحدیثین یظهر استحباب إطباق الفم وشَدّه ، وإنّما ذلک صوناً عن قبح المنظر، ودخول الهوام، وأمّا شدّ اللّحی حذراً عن الاسترخاء وانفتاح الفم ، ولعلّ المراد من إطباق الفم هو شدّه، إذ لا یتحقّق ذلک نوعاً بعد الموت إلاّ بالشدّ ، فالاختلاف فی تعابیر القوم بالإطباق أو الشدّ غیر قادح ، ولعلّ مراد الجمیع واحد ، مع أنّه قد نفی الخلاف عن الاستحباب فی الأوّل والثانی فی «المنتهی» ، بل وغیره ، وذلک یکفی فی إثباته کما لا یخفی ، وذکر الصون عن قبیح المنظر وأمثال ذلک لیس وجهاً ودلیلاً للاستحباب ، بل کان حکمة فی ذلک إن ذکر فی التعابیر، والاعتراض علیه غیر وارد .

وأمّا الدلیل علی استحباب مدّ یدیه إلی جنبیه، بل ومدّ رجلیه کما فی «العروة» ما جاء فی «الجواهر» من قوله: «بلا خلاف أجده فی استحبابه (أی الأوّل) ، بل نسبه جماعة إلی الأصحاب، مشعرین بدعوی الإجماع علیه، وهو کاف فی إثباته ، مع أنّه أطوع للغاسل وأسهل للمُدْرِجْ ، فلا یقدح حینئذٍ فی استحبابه بعد ذلک ما فی «المعتبر» من أنّی لم أعلم فی ذلک نقلاً عن أهل البیت علیهم السلام لعدم انحصار الدلیل فی ذلک» ، انتهی .

ولعلّ وجه عدم ذکره فی الأخبار، کون الغالب فی الأموات _ لو خلّی وطبعه _ وقوع یدیه فی جنبیه أو القریب منهما، کما لم یذکر مدّ الساقین والرجلین ، مع أنّه مستحبّ لو کانتا منقبضتین ، لأنّه قد نسب ذلک فی «الروض» إلی الأصحاب


1- وسائل الشیعة : الباب 44 من أبواب الاحتضار، الحدیث 3.

ص:102

ویعجّل بتجهیزه ، إلاّ أن یکون حاله مشتبهة، فیتبرّأ بعلامات الموت، أو یصبر علیه ثلاثة أیّام (1).

کظاهر «کشف اللثام» المُشعر بوجود الإجماع أو السیر المستمرّة لدی المتشرّعة فی ذلک ، وهو یکفی فی إثبات الاستحباب، کما لا یخفی .

کما یکفی فی إثبات استحباب التغطیة بالثوب، ما ورد فی حقّ النبیّ صلی الله علیه و آله کما سیجیء(1) ، و کما أشار إلیه فی روایة الحارث عن أبیه، عن جدّه، قال : «قبض رسول اللّه صلی الله علیه و آله ، فسُتر بثوب رسول اللّه صلی الله علیه و آله خلف الثوب»(2) . وروایة أبی کهمش، فی حدیث : «وغطّی علیه الملحفة»(3) .

ونفی الخلاف فی «المنتهی» ، بل وفیه: «سترٌ عن الأبصار» ، مضافاً إلی ما ورد فی حدیث المتقدّم لسلیمان بن خالد، بأنّه: «إذا مات لأحدکم میّت فسجّوه تجاه القبلة»(4).

فی أحکام الأموات / التعجیل التعجیل بتجهیز المیّت

وخبر الجعفری، وفیه : «فلما سجّی وخرجوا ، الحدیث»(5) .

(1) استحباب تعجیل التجهیز بما قام علیه الإجماع محصّلاً ومنقولاً مستفیضاً کما فی «الجواهر» ، بل فی بعض الأخبار ما یدلّ علی الوجوب، بواسطة ظهور الأمر فی الوجوب ، إلاّ أنّها حملت علی الاستحباب، مضافاً إلی الإجماع وعدم تمامیّة أسانید بعضها، فضلاً عن قیام بعض الأخبار المفهم للاستحباب، کما فی خبر


1- وسائل الشیعة : الباب 2 من أبواب التکفین، الحدیث 6 .
2- وسائل الشیعة : الباب 44 من أبواب الاحتضار، الحدیث 2 و 3.
3- وسائل الشیعة : الباب 44 من أبواب الاحتضار، الحدیث 2 و 3.
4- وسائل الشیعة : الباب 35 من أبواب الاحتضار، الحدیث 2 .
5- وسائل الشیعة : الباب 41 من أبواب الاحتضار، الحدیث 1 .

ص:103

الصدوق، قال : «قال رسول اللّه صلی الله علیه و آله : کرامة المیّت تعجیله»(1) .

وروایة السکونی، عن الصادق علیه السلام ، قال : قال رسول اللّه صلی الله علیه و آله : «إذا مات المیّت أوّل النهار فلا یقیل(2) إلاّ فی قبره»(3) .

وعلیه یحمل ما یستشمّ منه رائحة الوجوب، مثل روایة جابر، عن أبی جعفر علیه السلام ، قال : قال رسول اللّه صلی الله علیه و آله : «یا معشر الناس لا ألفینَّ(4) رجلاً مات له میّت لیلاً فانتظر به الصبح ، ولا رجلاً مات له میّت نهاراً فانتظر به اللیل، لا تنظروا بموتاکم طلوع الشمس ولا غروبها ، عجّلوا بهم إلی مضاجعهم یرحکمم اللّه . قال الناس : وأنت یا رسول اللّه یرحمک اللّه»(5) .

وروایة جابر، قال : «قلت لأبی جعفر علیه السلام : إذا حضرت الصلاة علی الجنازة فی وقت صلاة المکتوبة فبأیّهما أبدأ؟ فقال : عجِّل المیّت إلی قبره، إلاّ أن یخاف أن یفوت وقت الفریضة، ولا تنتظر بالصلاة علی الجنازة طلوع الشمس ولا غروبها»(6) .

وروایة العیص، عن أبی عبداللّه علیه السلام ، عن أبیه علیه السلام ، قال : «إذا مات المیّت فخذ فی جهازه وعجّله ، الحدیث»(7) .

وروایة السکونی، عن أبی عبداللّه علیه السلام ، عن آبائه علیهم السلام ، قال : «قال رسول اللّه صلی الله علیه و آله : ما أدری أیّهم أعظم جرماً، الذی یمشی مع الجنازة بغیر رداء، أو الذی


1- وسائل الشیعة : الباب 47 من أبواب الاحتضار، الحدیث 7 .
2- القائلة الظهریة القیلولة نومة نصف النهار . لسان العرب : 11 / 577 قیل .
3- أی لا أجدنّ منکم أحداً کذلک . مجمع البحرین : 1 / 377 لفا .
4- وسائل الشیعة : الباب 47 من أبواب الاحتضار، الحدیث 1 و 2 و 3 و 6 و 7.
5- وسائل الشیعة : الباب 47 من أبواب الاحتضار، الحدیث 1 و 2 و 3 و 6 و 7.
6- وسائل الشیعة : الباب 47 من أبواب الاحتضار، الحدیث 1 و 2 و 3 و 6 و 7.
7- وسائل الشیعة : الباب 47 من أبواب الاحتضار، الحدیث 1 و 2 و 3 و 6 و 7.

ص:104

یقول قفوا ، أو الذی یقول استغفروا اللّه غفر اللّه لکم»(1) .

هذه جملة الأخبار الدالّة علی محبوبیّة التعجیل بحسب الطبع الأوّلی .

ولکن یستثنی منه ما لو کانت اشتبه الأمر فی موته وعدمه لسکتة ونحوها، فحینئذٍ لا یستحبّ التعجیل ، بل ربما یحرم لاستصحاب الحیاة عند الشکّ فی تحقّقه ، بل وکذا سائر الاُصول العدمیّة الجاریة فی التصرّف فی أمواله وغیرها ، مضافاً إلی أصالة الاحتیاط الجاریة فی النفوس ، بل الإجماع والنصوص إلی أن یستبرئ بعلامات الموت المفیدة للعلم والیقین بالموت من حصول الریح أو التغییر وغیره .

فالمدار فی غایة تحریم التعجیل أو عدم رجحانه، هو العلم بالموت دون غیره، إلاّ أن یقوم طریق یؤدّی إلی حصول العلم به ، الأطبّاء وأمّا قول الأطباء فی علامات الموت مثل استرخاء رجلیه، وانفصال کفّیه، ومیل أنفه، وامتداد جلده ووجهه، وانخساف صدغیه، وتقلّص انثییه إلی فوق مع تدلّی جلده .

أو ما نُقل عن ابن سینا: أنّ علامته زوال النور من بیاض العین وسوادها وذهاب النفس وزوال النبض .

أو عن جالینوس : ینبض عروق أو عرق فی باطن الإلیة أو تحت اللِّسان أو فی بطن المنخر .

وغیر ذلک من العلائم لا أثر لها، لو لم یفید العلم بالموت ، إذ لم یکن فی الأخبار من ذلک شیء ولا أثر .

واحتمال شمول لفظ (التغیّر) الموجود فی الأخبار لجمیع ذلک کما مرّ ، لا سیّما بعد کون ظهور الریح منه مراداً کما لا یخفی .

أقول: والذی یسهّل الخطب، کون المدار هو حصول العلم والاطمئنان بالموت

ص:105

الذی قد یحصل بواسطة حصول التغیّر الوارد فی بعض الأخبار، أو الانتظار لثلاثة أیّام الموجب لحصول التغیّر، أو ظهور الریح المستلزم عادةً وغالباً لحصول العلم بالموت، وإلاّ لولا ذلک لما کان شیء منهما بنفسه حدّاً شرعیّاً لذلک، بحیث یوجب الحکم بالموت، ولو لم یحصل العلم بذلک، کما لو فرض _ ولو نادراً _ وجود قرحة فی بدن المیّت أو باطنه المقتضی لخروج الریح النتن عنه مع عدم حصول العلم العادی بموته ، فإنّه لا یجوز دفنه إلی أن یحصل العلم بموته، کما أشار إلیه فی حدیث عمّار من قوله : «الغریق یُحبس حتّی یتغیّر ویعلم أنّه قد مات» ، کما سیأتی(1) .

وإلی ذلک یشیر ما ورد فی بعض الأخبار من ذکر التغیّر أو الریح أو الصبر لثلاثة أیّام، کما فی خبر علی بن أبی حمزة، قال : «أصاب (الناس) بمکّة سنة من السنین صواعق کثیرة مات من ذلک خلقٌ کثیر، فدخلت علی أبی إبراهیم علیه السلام فقال مبتدأً من غیر أن أسأله : ینبغی للغریق والمصعوق أن یتربّص به (بهما) ثلاثاً لا یُدفن، إلاّ أن یجیء منه ریحٌ تدلّ علی موته . قلت : جعلت فداک! کأنّک تخبرنی أنّه قد دفن ناس کثیر أحیاءاً . فقال : نعم ، یا علیّ قد دفن ناسٌ کثیر أحیاءاً ما ماتوا إلاّ فی قبورهم»(2) .

وروایة هشام بن الحکم، عن أبی الحسن علیه السلام فی المصعوق والغریق، قال : «ینتظر به ثلاثة أیّام إلاّ أن یتغیّر قبل ذلک»(3) .

وروایة شهاب بن عبد ربه، قال : قال أبو عبداللّه علیه السلام : «خمس ینتظر بهم إلاّ أن


1- وسائل الشیعة : الباب 48 من أبواب الاحتضار، الحدیث 4 و1 و2.
2- وسائل الشیعة : الباب 48 من أبواب الاحتضار، الحدیث 4 و1 و2.
3- وسائل الشیعة : الباب 48 من أبواب الاحتضار، الحدیث 4 و1 و2.

ص:106

یتغیّر ؛ الغریق والمصعوق والمبطون والمهدوم والمدخّن»(1) .

وروایة إسحاق بن عمّار، قال : «سألته _ یعنی أبا عبداللّه علیه السلام _ عن الغریق أیغسّل؟ قال : نعم، ویستبرء ، قلت : وکیف یستبرء؟ قال : یُترک ثلاثة أیّام قبل أن یُدفن ، وکذلک صاحب الصاعقة فإنّه ربما ظنّوا أنّه مات ولم یمُت»(2) .

حیث أنّه أیضاً یدلّ بأنّ الظنّ بالموت ما لم یبلغ بالموت غیر کاف ؛ لأنّه ربما یظنّ به ولم یمُت .

ولأجل ذلک قال المحقّق فی «العتبر» ، ونِعْمَ ما قال: «ویجب التربّص مع الاشتباه حتّی تظهر علامات الموت، وحدّة العلم وهو إجماع» ، انتهی .

ومثله فی المحکی عن «التذکرة»: «أنّه لا یجوز التعجیل مع الاشتباه، حتّی تظهر علامات الموت، ویتحقّق العلم به بالإجماع» .

أمّا ما قاله صاحب «الریاض»: من أنّه لا یبعد المصیر إلی تلک الأمارات مطلقاً للشهرة القرینة علی الفرد غیر المتبادر).

لا یخلو عن نظر، إن اُرید اعتبارها حتّی مع عدم حصول العلم ولعلّه أراد ادّعاء حصول العلم بمثل تلک العلامات نوعاً ، وهو غیر بعید .

ومن ما ذکرنا ظهر أنّ ذکر ثلاثة أیّام المذکورة فی الأقوال لأقصی مدّة التربّص، إنّما هی لحصول العلم بالموت فی تلک المدّة، لأجل الملازمة فیها وبین الموت .

وأمّا کونها تحدیداً شرعیّاً حتّی لایقدح احتمال الحیاة کما قد صرّح بعضهم.

لیس علی ما ینبغی، لانصراف الأخبار المشتملة علیها، إلی ما هو الغالب من تحقّق الموت بمضیّها .

بل قد یؤیّد ذلک ورود الاختلاف فی تعلیق الحکم من العلم، والدلالة والتغییر، وظهور الریح وغیر ذلک من التعابیر ، بل الانتظار غیر منحصر بالاصناف الخمسة


1- وسائل الشیعة : الباب 48 من أبواب الاحتضار، الحدیث 5 و 3 .
2- وسائل الشیعة : الباب 48 من أبواب الاحتضار، الحدیث 5 و 3 .

ص:107

من الأموات الواردة فی خبر شهاب بن عبد ربّه .

کما أنّه ربما یحصل العلم بالموت بالوسائل المستحدثة فی عصرنا، الموجب لحصول العلم قبل حصول التغییر أو الصبر لثلاثة أیّام أو ظهور الریح، کما لایخفی .

ثمّ إنّه نقل صاحب «الجواهر» عن العلاّمة فی «نهایة الإحکام» قصّة مشتملة علی تأیید ذلک، وهی: إنّه ، شاهد رجلاً فی لسانه دفعة، فسأله عن سببها، فقال : مرضت مرضاً شدیداً واشتبه الموت، فغُسّلت ودفنت فی ابرخ ، ولنا عادة إذا مات شخص فتح عند باب الأبرخ بعد ثلاثة أیّام أو لیلتین إمّا زوجته أو اُمّه أو اُخته أو ابنته، فتنوح عنده ساعة ثمّ تطبق علیه هکذا یومین أو ثلاثة ، ففتح علیَّ فعطست فجاءت اُمّی بأصحابی وأخذونی من الابرخ وذلک منذ سبعة عشر سنة) ، انتهی .

ثمّ جعل ذلک شاهداً علی عدم الاختصاص فی الانتظار بما ذکر فی الحدیث ، بل کون الخمسة من قبیل ذکر الأمثلة لذلک ، وهو غیر بعید .

أقول: کان المتعارف فی بلادنا _ مدینة استرآباد _ سابقاً أنّهم لا یعجّلون بدفن بمن عرضت له السکتة، وانقطعت عنه آثار الحیاة، بل کانوا ینتظرون ثلاثة أیام ثمّ بعد ذلک یقومون بدفنه، وقد سمعت أن بعض الحجّامین قام بفصد المریض فی هذه الفترة، فعادت إلیه روحه.

بل یمکن أن یستثنی من استحباب التعجیل، تعطیله وتأخیره لبعض المصالح الراجعة إلی المیّت، من العمل بالوصیّة أو تهیئة مقدّمات تشییع یتناسب مع مکانة المیّت، أو تهیئة مقدّمات الأعاظم لنقله إلی مکان أنسب بحال المیّت وبحال الناس، وأمثال ذلک ، ولعلّه منه حمله إلی جوار قبور الأئمّة علیهم السلام لا سیما أمیر المؤمنین علیه السلام ، بل التأخیر لذلک لا ینافی استحباب التعجیل فی تجهیزه، لصدق ذلک فی هذه الموارد بعد الشروع بمقدّماته فی النقل والتجهیز، وکانت السیرة

ص:108

ویُکَره أن یُطرح علی بطنه حدید (1).

المستمرّة فی القدیم إلی زماننا هذا فی محاضر العلماء والمجتهدین وفی جمیع الأعصار وتمام الأمصار علی هذا المنهج، ولم یتعرّضوا بالمنع عنه، أو التوبیخ بکونه أمراً مرجوحاً، مع شدّة اهتمامهم لمثل هذه الاُمور فی تلک الأزمنة، بما لا نشاهد مثله فی عصرنا وزماننا، کما لا یخفی علی العارف باحوال الزمان .

وعلیه فما استشکله صاحب «الجواهر» فی ذلک بملاحظة تلک الأخبار، ومستدلاًّ علیه بعدم وجود شیء من ذلک فی آثار الأئمّة الأطهار علیهم الصلاة والسلام فی اللیل والنهار، لیس علی ما ینبغی ، واللّه العالم .

(1) عند المشهور کما فی «المختلف» و «الروضة» ، بل فی «الخلاف»: «الإجماع علی کراهة وضع الحدید علی بطن المیّت مثل السیف» ویکفی لإثبات الکراهة بمثل ذلک قیام الشهرة والإجماع المنقول مع التسامح فی مثل هذه الأدلّة إذا قلنا فی الکراهة مثل الاستحباب، کما هو المقبول عند الفقهاء _ مثل صاحب «الجواهر» وغیره _ بتصریحهم بوحدة التسامح بینهما، ممّا یفید حجیّة ذلک.

مضافاً إلی ما فی «التهذیب» من أنّه (سمعناه من الشیوخ مذاکرةً) ، بل وإلی مخالفته للعامّة، حیث قد نَسب فی «الخلاف» إلی الشافعی استحباب وضع الحدید علی بطن المیّت، وفی «المقنعة» نسبة طرح الحدید علیه إلی العامّة، فیشمله دلیل أنّ (الرشد فی خلافهم) .

فی أحکام الأموات / کراهة وضع الحدید علی بطن المیّت

ولکن صاحب «المعتبر» نسب کراهة ذلک إلی القبل المشعر بتوقّفه فیه ، بل قد صرّح بذلک معلّلاً له بعدم ثبوت نقل به عن أهل البیت علیهم السلام ، ولکن قال صاحب «الجواهر» : «إنّه لیس فی محلّه بعدما عرفت من الإجماع المتعضد بالشهرة

ص:109

المحصّلة والمنقولة ، بل لعلّها إجماع، إذ لم یعرف فیه خلافٌ سوی ما هو المحکی عن ابن الجنید، من أنّه قال : یضع علی بطنه شیئاً یمنع من ربوه (أی انتفاخه) ، بل عن «المختلف» بأنّه لم أقف علی موافق له من أصحابنا ، بل عن «جامع المقاصد» و «الروض» إجماع الأصحاب علی خلافه ، مع أنّه غیر ما نحن بصدده إلاّ أنّه یشمله بعمومه» .

أقول : ولعلّ وجه توقّف المحقّق فی «المعتبر» لیس لأجل توقّفه فی الإجماع والشهرة ، بل لأجل عدم قبوله التسامح فی الأدلّة إلاّ فی المستحبّات دون غیرها من المکروهات، کما یشعر بذلک وجود کلمة الثواب فی روایة من بلغ ، فلا یشمل لمثل المقام .

ولکن الأقوی إثباته فیها، للتعلیل الوارد فی أخبار من بلغ، حیث یوجب تعمیمه للمکروهات ، ولعلّه لذلک قد أفتی المصنّف جزماً بالکراهة فی «الشرایع» .

ثمّ الظاهر عدم إلحاق غیر الحدید به ؛ لأنّه أمرٌ مخالف للأصل المقتصر فی مورده ، مضافاً إلی عدم بلوغ الحکم بالکراهة عن نفیه وغیره فی غیر الحدید، وإن کان قد صرّح بعض بالإلحاق، لکنّه لیس علی حدّ الشهرة أو الإجماع حتّی یثبت به الکراهة ، اللّهمَّ إلاّ أن یعمّم البلوغ حتّی یشمل لمثل ذلک ، مضافاً إلی ظهور المساواة وإلغاء الخصوصیّة عن الحدید، لکنّه لا یخلو عن تأمّل .

ثمّ علی الکراهة، هل هو مختصّ بما بعد الموت أم یعمّ ما قبله؟

ظاهر المصنّف لما بعد الموت للأصل ، بل هو ظاهر معقد الإجماع والشهرة فی المختلف ، بل لعلّه الظاهر من مطاوی فحوی کلمات الأصحاب ، بل فی «الجواهر» : «ویؤیّده مع ذلک أنّ المتجّه قبل الموت الحرمة لما فیه من الأذیّة للمیّت والإعانة علی خروج نفسه» .

ص:110

وإن یحضره جنب أو حائض (1).

اللُّهمَّ أن یُراد بکراهة وضع الحدید حینئذٍ علیه، إنّما هو من حیث الحدید، وإلاّ فلا إشکال فی الحرمة فیه وفی غیره مع الثقل المؤذی، المعین علی خروج نفسه، کما هو واضح ، بل قد یشعر لذلک ما ورد من النهی عن مسّ المیّت، کما ورد فی روایة زرارة، عن أبی جعفر علیه السلام ، وقال علیه السلام : «لا تمسّه فإنّه إنّما یزداد ضعفاً، وأضعف ما یکون فی هذه الحال ومن مسّه علی هذه الحال أعان علیه»(1) .

بل قد قیل وسمع بأنّه لابدّ فی حال نزع المیّت رفع بعض الذی کان یثقل علیه من الألبسة والملحفة وغیرهما ، فضلاً عن وضع شیء ثقیل علیه .

فی أحکام الأموات / کراهة حضور الجنب و الحائض عند المحتضر

أقول: ولکن الذی لابدّ من التنبیه علیه أنّ مسألة إیذاء المیّت وحرمته بالنظر إلی وضع الثقیل علیه، أمر آخر غیر مرتبط بما نحن بصدده من جهة الکراهة الخاصّة من وضع الحدید ، فلا یبعد کون الکراهة الثابتة هنا مختصّة بالحدید دون غیره، ولو لم یستلزم إیذاء المیت ، مع أنّ ثبوت الکراهة الشرعیّة لمجرّد التحرّز عن الأذی فی المیّت لا یخلو من إشکال ، بل لا یبعد القول باستحباب رفع الأشیاء الثقیلة عنه لا کراهة الوضع علیه ، والفرق بینهما واضح.

(1) کراهة حضور الجنب أو الحائض عند المحتضر إنّما هی لأجل الأخبار الواردة فی ذلک، المعتضدة بفتوی المشهور، معلّلة أنّ ذلک حضورهما عنده یوجب تأذّی الملائکة ، مثل روایة علی ابن أبی حمزة، قال : «قلت لأبی الحسن علیه السلام : المرأة تقعد عند رأس المریض وهی حائض فی حدّ الموت ؟ فقال :


1- وسائل الشیعة : الباب 44 من أبواب الاحتضار، الحدیث 1 .

ص:111

لا بأس أن تمرّضه، فإذا خافوا علیه وقرب ذلک فلتنح عنه وعن قربه، فإنّ الملائکة تتأذّی بذلک»(1) .

وبالنهی الوارد فی روایة یونس بن یعقوب، عن أبی عبداللّه علیه السلام ، قال : «لا تحضر الحائض المیّت، ولا الجنب عند التلقین، ولا بأس أن یلیا غسله»(2) .

وبما رواه الصدوق فی «العلل» ، عن أبیه ، بإسناد متّصل یرفعه إلی الصادق علیه السلام ، أنّه قال : «لا تحضر الحائض والجنب عند التلقین، لأنّ الملائکة تتأذّی بهما»(3) .

فإنّ الأخبار وإن کان ربما یوهم إفادة الحرمة، خصوصاً مع کون ظاهر النهی کذلک والأمر بالتنحّی ، إلاّ أنّها محمولة علی الکراهة ، مضافاً إلی وجود الإجماع وعدم الخلاف فی الکراهة، حیث یفیدان أنّ الأصحاب لم یفهموا من هذه الأخبار إلاّ الکراهة ، فضلاً عن إنّ التعلیل الوارد فی الخبرین مؤیدٌ ذلک ، فلعلّ هذا _ أی الکراهة _ هو المراد من ما فی «الهدایة» و «المقنّع» التعبیر بذلک بعدم الجواز(4) بأن یکون المقصود اشتداد الکراهة ، واللّه العالم .

ثمّ إنّ ظاهر الأخبار اختصاص الکراهة بحال الاحتضار ، فتزول الکراهة بالموت، کما یدلّ علیه قوله علیه السلام : «وإذا خافوا علیه وقرُب ذلک فلیتنح عنه وعن قربه» حیث یستفاد منه کونه لأجل احتضار المیّت .

فی أحکام الأموات / کراهة إبقاء المحتضر وحده

بل ویدلّ علی ذلک ما فی خبر الجعفریّات من قوله : «إذا احتضر المیّت، فما کان من امرأة حائض أو جنب فلیقم»(5) .


1- وسائل الشیعة : الباب 43 من أبواب الاحتضار، الحدیث 1 و2 و3 .
2- وسائل الشیعة : الباب 43 من أبواب الاحتضار، الحدیث 1 و2 و3 .
3- وسائل الشیعة : الباب 43 من أبواب الاحتضار، الحدیث 1 و2 و3 .
4- المستدرک : الباب 33 من أبواب الاحتضار ، الحدیث 1 و4 .
5- المستدرک : الباب 33 من أبواب الاحتضار ، الحدیث 1 و4 .

ص:112

خصوصاً مع ملاحظة ما فی خبر یونس بقوله : «ولا بأس أن یلیا غسله» .

نعم ، جاء فی خبر جابر الجعفی المنقول فی «الخصال»(1) ، قوله علیه السلام : «لا یجوز إدخالهما المیّت قبره» کما حُکی مثله عن «الفقه الرضوی»: «لا بأس أن یلیا غسله ویصلّیا علیه ولا ینزلا قبره»(2) .

وفی «الجواهر» و «الحدائق»: «ولم أجد من أفتی بهما فی الکراهة فضلاً عن غیرهما» ، ولکن القول بالکراهة لدلالة هذین الخبرین هو الاوفق بقاعدة التسامح ، اللّهُمَّ إلاّ أن یتمسّک بإعراض الأصحاب عنه ، وما فی الإشکال بشمول دلیل من بلغ لمثل الکراهة أوجب الإشکال فیه خصوصاً فی المقام، فله وجه .

والظاهر عدم الفرق فی الحایض بین المنقطع وعدمه قبل الطهارة، کما فی الکثیر من أحکامها .

نعم ، قد یُقال بارتفاع الکراهة فی الحایض المنقطع والجنب إذا تیمّم بدل الغُسل، إذا کان عاجزاً عن الماء أو ممنوعاً عنه، وإن احتمل العدم بتوهّم عدم خروجهما عن الوصف بذلک ، لکنّه غیر مسموع .

نعم ، مشروعیّة التیمّم لخصوص ضیق الوقت عن هذه الغایة _ أی لو اغتسلت مثلاً لم تدرکه حیّاً _ غیر معلوم .

أقول: لا یخفی أنّ المصنّف رحمه الله لم یتعرّض لجملة من المکروهات والمستحبّات:

منها: کراهة إبقاء المیّت وحده ، لروایة أبی خدیجة، عن أبی عبداللّه علیه السلام ، قال :


1- الخصال : ص142 المطبوعة بسنة 1302 .
2- المستدرک : الباب 33 من أبواب الاحتضار ، الحدیث 3 .

ص:113

«لیس من میّت یموت ویترک وحده إلاّ لعب الشیطان فی جوفه»(1) .

فإنّ قوله: «یموت» ظاهرٌ فی أنّ المراد من المیّت هو المحتضر حال الموت لا بعده، کما یشعر علیه قوله: «لعب الشیطان فی جوفه» حیث یناسب حال نزع الروح الذی قد ورد فیه استحباب الدّعاء والتلقین لرفع وساوس الشیطان ، وعلیه فما عن المجلسی قدس سره فی «شرح الکافی» علی المحکی فی «مصباح الهدی»: بأنّ المراد بلعب الشیطان إرسال الحیوان والدیدان إلی جوفه ، مضافاً إلی أنّه یناسب لما بعد الموت.

خلاف للظاهر المراد ، وإن قال بعده : «ویحتمل أن یکون المراد بقوله : یموت حال الاحتضار ؛ أی یلعب الشیطان فی خاطره بإلقاء الوساوس والتشکیکات» .

لکنّه عقبّه بقوله: «ولکن الأصحاب حملوه علی ظاهره» ، انتهی(2) .

وأیضاً: یدلّ علی الحکم المذکور ما أرسله الشیخ الصدوق کالمسند، أنّه قال : «قال الصادق علیه السلام : لا تدعنّ میّتک وحده فإنّ الشیطان یعبث فی جوفه»(3) .

فإنّ إطلاق ذلک یشمل حال بعد الموت، إنّ لم نقل بقرنییّة قوله: «عبث الشیطان» علی کون المراد حال الاحتضار ، واللّه العالم .

فی أحکام الأموات / آداب اُخری للمحتضر و المیّت

ومنها: کثرة الکلام عنده ، وکذا التخلیة بینه وبین النساء خوف هجومهنّ علیه، وارتفاع الأصوات، وکثرة الضجیج، کما ذکره صاحب «کشف الغطاء» .

ومنها: مسّه حال نزعه ؛ لما ورد فی الحدیث، عن زرارة، قال : «ثقل ابنٌ لجعفر


1- وسائل الشیعة : الباب 42 من أبواب الاحتضار، الحدیث 1 .
2- مصباح الهدی : ج5 / 374 .
3- وسائل الشیعة : الباب 42 من أبواب الاحتضار، الحدیث 2 .

ص:114

وأبو جعفر جالس فی ناحیة مکان إذ دنی منه إنسان، قال : لا تمسّه فإنّه إنّما یزداد ضعفاً، وأضعف ما یکون فی هذه الحال ، ومَن مسّه علی هذه الحال أعان علیه ، الحدیث»(1) .

ولا یبعد أن یکون هذا الحدیث وجهاً لکراهة التخلیة بینه وبین النساء، لأنّهنّ غالباً یمسّونه فی هذه الحالات للمناحة والبکاء علیه، أو لکثرة الکلام الصادر منهنّ الذی هو أیضاً من المکروهات ، ولعلّ ترک بعض هذه کان لأجل أنّه لم یرد فی بعضها نصّ، فلا یثبت الکراهة بفتوی الفقیه .

أقول: کما أنّه کان علی المصنّف ذکر بعض المستحبّات، مثل إعلام إخوان المؤمنین لیشیّعوه ، لما ورد فی الحدیث الذی رواه أبو ولاّد عبداللّه بن سنان ، قال : «ینبغی لأولیاء المیّت منکم أن یؤذنوا إخوان المیّت بموته فیشهدون جنازته، ویصلّون علیه، ویستغفرون له، فیکتسب لهم الأجر، ویُکتب (ویکتسب) للمیّت الاستغفار، ویکتسب هو الأجر فیهم ، وفیما اکتسب له من الاستغفار»(2) .

وروایة ذریح المحاربی، عن أبی عبداللّه علیه السلام ، قال : «سألته عن الجنازة یؤذن بها الناس؟ قال : نعم»(3) .

والإیذان یعمّ النداء ، فما فی «الخلاف». (إنّی لا أعرف به نصّاً) لیس علی ما ینبغی، إلاّ إذا أراد الخصوصیّة .

فلا یجامع ذلک مع ما هو المنقول من الجُعفی _ کما فی «الذکری» _ من کراهة المضیّ إلاّ أن یرسل أو یکره النعی، إلاّ إذا یرسل صاحب المصیبة إلی من یختصّ به، لما قد عرفت من حُسن الإعلام بحضور الناس للتشییع والترجیع والصلاة


1- وسائل الشیعة : الباب 44 من أبواب الاحتضار، الحدیث 1 .
2- وسائل الشیعة : الباب 1 من أبواب الصلاة الجنازة، الحدیث 1 و3 .
3- وسائل الشیعة : الباب 1 من أبواب الصلاة الجنازة، الحدیث 1 و3 .

ص:115

والتعزیة، وما فیه من الاتّعاظ والتذکّر لاُمور الآخرة، وتنبیه القلب القاسی وانزجار النفس الأمّارة .

بل قد ورد فی روایة إسماعیل بن أبی زیاد بواسطةٍ عن جعفر، عن أبیه علیهماالسلام : «أنّ النبیّ سُئل عن رجل یدعی إلی ولیمة وإلی جنازة، فأیّهما أفضل؟ وأیّهما یُجیب؟ قال : یُجیب الجنازة، فإنّها تُذکِّر الآخرة، ویَدَع الولیمة فإنّها تُذکِّر الدُّنیا»(1) .

هذا تمام الکلام فی بحث الاحتضار، ومایناسبه من المکروهات والمستحبّات والحمد للّه أوّلاً وآخراً .


1- وسائل الشیعة : الباب 34 من أبواب الاحتضار، الحدیث 1 .

ص:116

غُسل المیّت

قال المحقّق قدس سره : الثانی فی الغُسل :

وهو فرضٌ علی الکفایة، وکذا تکفینه ودفنه والصلاة علیه (1).

(1) أقول: لا یخفی أنّ وجوب الغُسل للمیّت وجوبٌ کفائیّ کسائر أحکام المیّت من التلقین والتکفین والتدفین والصلاة علیه، وکونها کذلک ممّا لا خلاف فیه کما عن «الغُنیة» و «المنتهی»، وبإجماع العلماء کما عن «التذکرة» وهو مذهب أهل العلم کما عن «المعتبر» .

بل وجوبه من ضروریّات المذهب ، بل یعدّ من الأُمور المفروضة علی کلّ مکلّف عالم متمکّن کسائر التکالیف بصورة الکفایة، أی بمعنی سقوطه بقیام البعض والعقاب للجمیع مع الإخلال .

بل قال صاحب «الجواهر» _ بعد ذکر الإجماعات منقولاً ومحصّلاً علی وجوبه، وجعله حجّة، ووجود الأمر بذلک کلّه فی المستفیض من الأخبار ، بل المتواتر من غیر تعیین للمباشر ، قال : «فالأصل مع العلم بعدم إرادة تکراره من کلّ مکلّف، ولا مشارکة الجمیع فیه ، ممّا یثبت ذلک وینقّحه».

ثمّ یستنتج: «بأنّ ما یشرف الفقیه علی القطع والیقین، أنّ المراد إبراز هذه الاُمور إلی الوجود الخارجی لا من مباشر بعینه» ، انتهی(1) .


1- جواهر الکلام : ج4 / 31 .

ص:117

وکأنّه جعل معنی الوجوب الکفائی هو هذا المعنی .

وفیه: وقد اعترض علیه شیخنا الأنصاری قدس سره فی «کتاب الطهارة»، وقال بعد نقله الإجماعات المتقدّمة: «وهی الحجّة بعد ظهور جملة من الأخبار الواردة فی جملة من أحکام المیّت ، دون ما یقال من أنّا نعلم أنّ مقصود الشارع وجود الفعل لا عن مباشر معیّن، فإنّ ذلک لا یثبت إلاّ سقوط الواجب بفعل أیّ مباشر کان ، وهذا لا یوجب الوجوب الکفائی علی جمیع المباشرین ؛ لأنّ غیر الواجب قد یسقط به الواجب ، ولذا یسقط وجوب الاستقبال بالمیّت بفعل صبیّ بل بهیمة أو ریح عاصف ، بل صرّح جماعة بجواز تغسیل الصبیّ الممیّز للمیّت ، وحینئذٍ فیحتمل أن تکون اُمور المیّت واجبة علی بعضٍ، مستحبّة علی آخر، وتسقط الواجب بفعلهم ، مع أنّها مصادرة مع من یقول بوجوبها علی الولیّ عیناً، فإن امتنع فعلی غیره کفایة کما اختاره فی «الحدائق» ، انتهی کلامه(1) .

قلنا : والظاهر أنّ ما ذکره صاحب «الجواهر» فی معنی الواجب الکفائی هو بیان أنّ المطلوب عند الشرع لیس إلاّ أصل وجود هذا الواجب فی الخارج بأیّ وجهٍ اتّفق . غایة الأمر حیث کان المخاطب للتکلیف هو الإنسان حیث أوجبه علیه بالکیفیّة المخصوصة، بحیث یجوز إتیانه وصدوره عن کلّ أحدٍ بلحاظ أصل تحقّق المطلوب، بحیث لو تحقّق خارجاً بأمر غیر اختیاریّ مثل الریح العاصف فیسقط الواجب أیضاً لعدم بقاء موضوع له، لا بما أنّه قد امتثل الأمر ، ولکن ربما کان المطلوب لیس مجرّد وجوده فی الخارج ، بل وجوده مع قصد القربة المتمشّی عن المکلّف ، ففی مثل هذا الواجب الکفائی لا یصدق علیه هذا


1- کتاب الطهارة : 275 .

ص:118

وأولی الناس به أولاهم بمیراثه (1).

التعریف ؛ لأنّ المطلوب هنا لیس أصل الوجود فی الخارج ، بل وجوده مع کیفیّة خاصّة التی لا تتحقّق إلاّ من المکلّفین ، ولعلّ المقام معدود من هذا القبیل .

نعم ، هذا التعریف ثابت فی الواجبات التفصیلیّة إذا لم یکن الواجب مقیّداً بصدور من مباشر معیّن ، ولعلّ مراد الشیخ قدس سره هنا من الإشکال المذکور هو عدم إمکان الجمع بین هذا التعریف وبین ما ذهب إلیه الأعلام ، ویدلّ علیه الدلیل القائم علی أنّ الوجوب متوجه إلی الولیّ علی نحو الوجوب العینی کما علیه صاحب «الحدائق»، حیث هذا المعنی یکون مفاده کون مطلوبیّته أوّلاً وبالذات متوجّهه إلی الولی، فإن امتنع عن القیام به أو لم یأذن للغیر، أصبح حینئذٍ واجباً کفائیّاً فیتناسب مع تعریفه، لولا ما ذکرناه من الإشکال من عدم جریانه فی مثل الغسل والصلاة، وسائر ما یحتاج إلی قصد القربة ، فلابدّ حینئذٍ من جواب آخر عن الإشکال الذی سوف نتحدّث عنه تفصیلاً.

وکیف کان، فقد ظهر ممّا ذکرنا عدم تمامیّة ما ذکره صاحب «الجواهر» فی تعریف الواجب الکفائی هنا علی کلّ تقدیر ، مضافاً إلی الإشکال الآخر الذی تعرّض لذکره صاحب «الجواهر» من أنّه کیف یجامع کون وجوب الغسل أو التلقین والصلاة علیه واجباً کفائیّاً ، مع أنّه قد ورد فی کلمات الأصحاب نصوص الأخبار بأنّ أولی الناس بذلک أولاهم بمیراثه کما تری ذلک فی کلام المصنّف قدس سره .

فی أحکام الأموات / أولی الناس بغسل المیّت و تجهیزه

(1) أقول: هذا کما فی «کتاب فی الصلاة»، وأیضاً فی «النافع» ، بل فی «القواعد» و «اللّمعة» ، وکذا فی «النهایة» و «المبسوط» و «المهذّب» و «الوسیلة» و «المعتبر» وفی «جامع المقاصد»: «الظاهر أنّه إجماعی» ، وفی

ص:119

«الجواهر»: «ولعلّه کذلک وإن ترکه بعضهم فی بعض المقامات ... إلی آخره» .

نعم ، نقل صاحب «الجواهر» عن «کشف اللِّثام» عن ظاهر «الکافی» أنّه قال : «لا أولویّة للولیّ ، ولکنّه قال بعده : إنّه لا ریب فی شذوذه، سیّما بعد ملاحظة کلام الأصحاب فی صلاة المیّت، وأنّ الأولی بها هو الأولی بالمیراث» .

بل ادّعی علیه الإجماع، کما عن «الخلاف» و ظاهر «المنتهی» حیث یشرف الفقیه علی القطع بالأولویّة المتقدّمة .

مضافاً إلی إمکان استفادة الأولویّة من بعض الأخبار.

منها: الخبر المروی عن غیاث بن إبراهیم الرزامی، المروی فی «التهذیب» عن جعفر ، عن أبیه ، عن علیّ علیه السلام ، أنّه قال : «یغسّل المیّت أولی الناس به»(1) .

ومنها: المرسلة المرویّة فی «الفقیه» کالمسند ، قال : قال أمیر المؤمنین علیه السلام : یُغسّل المیّت أولی الناس، أو من یأمره الولیّ بذلک»(2) .

والروایتان مقبولتان ، والاُولی منهما لکونها مصحّحة بابن المغیرة المعدود من أصحاب الإجماع ، فلا بأس حینئذٍ بضعف السند من ناحیة غیاث حیث ادّعی أنّه مجهولٌ باللّقب المذکور (الرزامی) ، بل غیر مذکور فی کتب الرجال .

وعلی فرض قبول ضعف السند من جهة علیّ بن الحسین، لو لم نقبل کونه ابن بابویه، أو من جهة محمّد بن أحمد بن علیّ لو لم نقبل کونه ابن الصلت، فیکون راویاً عن عمّ أبیه عبداللّه لکان ضعفه منجبراً بالشهرة، لو لم نقل بقیام الإجماع علی الحکم فی المقام .

کما أنّ الثانیة مقبولة أیضاً، لما قد تعهّد ابن بابویه فی أوّل «الفقیه» بأن


1- وسائل الشیعة : الباب 26 من أبواب غسل المیّت، الحدیث 1 و2 .
2- وسائل الشیعة : الباب 26 من أبواب غسل المیّت، الحدیث 1 و2 .

ص:120

لا یروی إلاّ ما کان موثوقاً عنده، إذا أسند الروایة جزماً إلی الإمام کما فی المقام .

بل قد یمکن استفادة الأولویّة فیما ورد فی الصلاة علی المیّت، من خبر السکونی، عن جعفر ، عن أبیه ، عن آبائه علیهم السلام ، قال : «قال أمیر المؤمنین علیه السلام : إذا حضر سلطانٌ من سلطان اللّه جنازة فهو أحقّ بالصلاة علیها إن قدّمه ولیّ المیّت، وإلاّ فهو غاصب(1)» .

وأیضاً المرسلة التی رواها ابن أبی عمیر، عن بعض أصحابه، عن أبی عبداللّه علیه السلام ، قال : «یُصلّی علی الجنازة أولی الناس بها أو من یأمر من یحبّ»(2) .

ومثله خبر البزنطی(3) ، وغیر ذلک من الأخبار الدالّة علی اختصاص الولیّ بالصلاة علیه أوّلاً.

مثل ما ورد فی الزوج والزوجة، کخبر إسحاق بن عمّار ، عن أبی عبداللّه علیه السلام ، قال : «الزوج أحقّ بامرأته حتّی یضعها فی قبرها»(4) .

ومثله خبری أبی بصیر(5)_(6) ، حیث یتعیّن الحکم المذکور بقیام الأولویّة فی الاُمور المرتبطة بالمیّت، المعتضدة بالآیات الشریفة، مثل قوله تعالی : «وَأُوْلُوا الاْءَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَی بِبَعْضٍ فِی کِتَابِ اللّه ِ»(7) ، وقوله تعالی : «وَلِکُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِیَ مِمَّا تَرَکَ الْوَالِدَانِ وَالاْءَقْرَبُونَ»(8) .

أقول: من کلمات الأصحاب، ولسان الأخبار لزوم صدور تلک الاُمور من الولیّ، أو ممّن یأذنه ، فالوجوب متوجّهه إلیه ؛ أی بشخصه عیناً، فلا یجامع مع


1- وسائل الشیعة : الباب 23 من أبواب الصلاة علی الجنازة، الحدیث 1 و 2 و4 .
2- وسائل الشیعة : الباب 23 من أبواب الصلاة علی الجنازة، الحدیث 1 و 2 و4 .
3- وسائل الشیعة : الباب 23 من أبواب الصلاة علی الجنازة، الحدیث 1 و 2 و4 .
4- وسائل الشیعة : الباب 24 من أبواب الصلاة علی الجنازة، الحدیث 1 و 2 و3 .
5- وسائل الشیعة : الباب 24 من أبواب الصلاة علی الجنازة، الحدیث 1 و 2 و3 .
6- وسائل الشیعة : الباب 24 من أبواب الصلاة علی الجنازة، الحدیث 1 و 2 و3 .
7- سورة الأنفال : آیة 76 .
8- سورة النساء : آیة 33 .

ص:121

کونه واجباً للجمیع بوجوب الکفایة بحیث یکون مطلوباً من الجمیع بالوجوب المطلق أی لا ینوط برأی شخص خاصّ ، فکیف التخلّص من ذلک الإشکال عند من یقبل کلا الأمرین من لزوم صدوره من الولیّ أو من یأمره، وفی کونه واجباً کفائیّاً ؟

نعم ، من أنکر الأولویّة ووجوبه تعبّداً فلا یرد علیهم الإشکال ، کما یظهر من المحقّق الأردبیلی قدس سره حیث أنکر قیام الدلیل علیها، بمعنی عدم جواز الاشتغال إلاّ بالإذن ، بل وکذا المحکی عن «الغنیة» فی الصلاة علی المیّت، حیث قال : «والمستحبّ أن یقوم للصلاة أولی الناس بالمیّت أو من یقدّمه» ؛ مستدلاًّ علیه بالإجماع . وقوّاه صاحب «کشف اللِّثام» للأصل ، وضعّف الخبر سنداً ودلالةً ومنع الإجماع علی أزید من الأولویّة .

ولکن الکلام فی أصل دعواهم، إذ لا یبعد استفادة الوجوب للولیّ أوّلاً مع کونه واجباً کفائیّاً کسائر المکلّفین أیضاً بوجوب کفائی ، فلابدّ من الجواب عن هذا الإشکال . وقد اُجیب عند بأجوبة غیر وافیة لذلک :

منها: ما ورد فی بعض حواشی «الإرشاد» من أنّ الوجوب علی غیر الوارث، إنّما هو مع عدم ظنّ قیام الوارث وتوجیهه إلی الفعل ؛ لوضوح أنّ ذلک یوجب کون الوجوب لسائر المکلّفین واجباً مشروطاً، لکن دعواه مخالف للفرض من کونه واجباً مطلقاً کفائیّاً .

ومنها: ما قیل من أنّ المراد بکفائیّته ولو بالنسبة إلی الوارث، لمکان سقوطه بفعل بعضهم، واتّفاق اتّحاده فی بعض الأوقات، فیکون عینیّاً، حیث لا ینافی کما فی کلّ واجب کفائی ؛ لوضوح أنّه لو کان للوارث واجباً عینیّاً لزم أن لا یسقط الأمر إلاّ بمباشرته أو بأمره ، مع أنّا نعلم بسقوط الواجب بفعل الغیر ولو لم یکن وارثاً، حیث یتناسب ذلک مع الوجوب الکفائی، فلا معنی للجمع بین الوجوب

ص:122

التعیینی للوارث مع وجوبه الکفائی له وللغیر، کما لا یخفی .

ومنها: ما قیل من أنّ المراد بوجوبه الکفائی هنا، هو الوجوب المشروط لا المطلق .

فهو أیضاً فاسد ؛ لوضوح أنّ مراد الأصحاب من الکفایة هنا هو المطلق کما فی غیر المقام ، أی کون الوجوب للجمیع علی السویّة من حیث تحقّق الامتثال بأیّ فردٍ کان، وتوجّه العقوبة إلی الجمیع لو تساهلوا فی امتثاله، مع تمکّنهم من الامتثال . کما عرفت عدم صحّة دعوی عدم کونه واجباً کفائیّاً، ولا دعوی عدم الوجوب لمن أولی الناس بالمیّت أو بمیراثه ، فلابدّ من جواب آخر للتخلّص من الاشکال المذکور.

فالتحقیق فی الجواب: کما علیه المتأخّرین، ویظهر ذلک من المحقّق الهمدانی، والسیّد فی «العروة» وبعض أصحاب التعلیق علیها، هو أن یُقال: «إنّ الوجوب المتوجّه هنا لجمیع المکلّفین إنّما هو الوجوب الکفائی المطلق حتّی للوارث والولی ، ولکن ذلک لا ینافی أن یکون الإذن من الولیّ فی حقّ الغیر شرطاً فی صحّة العمل، لا شرطاً لوجوبه علیه ، فلو أراد الغیر امتثال الأمر وسقوطه، فلابدّ له من الاستیذان من الولیّ، فإن باشر بنفسه یسقط الواجب عن الغیر أیضاً ، کما أنّه لو أذِنَ للآخر وفعل سقط الواجب أیضاً» .

وفی غیر هاتین الصورتین یسقط شرطیّة الإذن، فیکون مباشرة الغیر للعمل صحیحاً ومسقطاً، ولا ینوط بإذن الولیّ، وعلیه فالوجوب بالنسبة إلی الجمیع کفائیّ بلا فرق بین الولیّ وغیره ، کما أنّه مطلق من حیث الوجوب، وإن کان مشروطاً من حیث الصحّة ، وهذا ممّا یقبله العقلاء والذوق السلیم ، ویمکن تقریب الأمر بما هو الحال فی الغزوات والحروب من لزوم دفع العدوّ علی کلّ

ص:123

أحد بوجوب کفائیّ إلاّ أنّه لا ینافی کون العمل منوطاً برأی شخص خاصّ یتولّی ادارة شؤون فی بعض الأحوال، وإن سقط هذه الإناطة فی بعض الأحوال ، فتأمّل جیّداً . نعم ، یبقی هنا مسألة اُخری وهی أنّه بناءً علی الامتناع من المباشرة فی الفعل ، والإذن للغیر، فهل للحاکم إجباره علی أحد الأمرین أم لا؟

فیه قولان :

قولٌ: علی الإثبات لأنّه ولیّ للممتنع، وهنا أیضاً ممتنعٌ فله إجباره باختیار أحدهما، کما قد صرّح بذلک السیّد فی «العروة» فی المسألة العاشرة، بقوله : «نعم لو أمکن للحاکم الشرعی إجباره، فله أن یجبره علی أحد الأمرین، وإن لم یمکن یستأذن من الحاکم» . ووافقه کثیرٌ من أصحاب التعلیق، حیث لم یعلّقوا علیه بشیء .

والقول الآخر: هو قول وبالنفی أی لا یجب ، بل لیس للحاکم إجباره، ولا یلزم الاستیذان من الحاکم حتّی مع عدم القدرة علی الإجبار ، هذا کما قد صرّح به المحقّق الهمدانی قدس سره والآملی قدس سره حیث علّلا ذلک بأنّ الإذن المولی حقّ له ولا علیه، فله إعماله کما له المنع عن الاعمال بالمباشرة والإیذان ، والحاکم ولیّ الممتنع عن أداء حقّ لا غیر دون الممتنع عن إیفاء الحقّ نفسه کما فی المقام ، فالحاکم فی التصرّف فی ذلک یکون کأحد من الناس .

مضافاً إلی أنّ إجبار الحاکم للغیر إنّما یکون بعد ثبوت الوجوب للولیّ فی ذلک، وهو أوّل الکلام، لما قد عرفت أنّ وجوبه علیه کوجوبه علی آحاد الناس من الوجوب الکفائی، ولیس وجوبه وجوباً عینیّاً حتّی یحقّ للحاکم اجباره فی حال الامتناع ، بل نتیجة امتناعه عن اختیار أحدهما، لیس إلاّ سقوط حقّه، أی لا یشترط لصحّة عمل الغیر الاستیذان منه ، کما أنّه لیس للولیّ المنع عن الغیر حینئذٍ لعدم وجود حقّ له حتّی یمنعه عن الغیر ، فیجب حینئذٍ علی الغیر الحاکم

ص:124

الإتیان به بالوجوب الکفائی، وهو المطلوب .

قلنا : هذا کلام متین إن ثبت کون حقّ الولیّ ساقطاً بمجرّد الامتناع عن اختیار أحدهما ، ولکن من المحتمل أن لا تثبیت حقّه بمجرّد الامتناع.

وبعبارة أولی: سقوط شرطیّة الاستیذان فی عمل الغیر موقوف علی عدم إمکان إجبار الحاکم له علی أحدهما ، فحینئذٍ لا یسقط ذلک إلاّ بعد عدم الإمکان مع الإجبار لأجل فقد الحاکم أو لعدم بسط یده علیه ، وأمّا مع الإمکان، فالأحوط هو ما فی کلام السیّد کما لا یخفی .

اللّهُمَّ إلاّ أن یستشکل فی أصل وجوب هذا الحقّ علی الولیّ إذا فرضنا کون وجوب التجهیز له کوجوب غیره کفائیّاً لا عینیّاً ، فحینئذٍ لا یبقی للإجبار وجهٌ وجیه ، ولکن حیث لا تکون هذه المسألة منقّحة لأجل کثرة اختلاف الفقهاء فیه ، فالاحتیاط یقتضی إجباره علیه، إن کان یصدق علیه الاحتیاط، وهو غیر معلوم ، واللّه العالم .

بل قد یُقال : کون الاحتیاط بعد امتناعه وعدم إمکان الإجبار، هو الاستیذان من الولیّ المتأخّر رتبةً کما هو المختار فی «العروة» حیث حکمنا بالاحتیاط الوجوبی تبعاً للعلاّمة البروجردی، والسیّد عبد الهادی الشیرازی وغیرهما من الأعلام، وخلافاً للسیّد حیث أنّ ظاهره الاستحباب ، لکن فی ظهوره فی ذلک إشکال .

ومن هنا یظهر حکم من کان ولیّاً، لکنّه عاجز عن للقیام بما علیه من الواجبات تجاه المیّت کالصبیّ والغائب والمجنون فیما لا یمکن الاستیذان منه ، وحینئذٍ هل یجب الاستیذان من الصبیّ والمجنون أو تنتقل الولایة فی ذلک إلی المرتبة المتأخّرة أو إلی الحاکم ، ومع عدمه إلی عدول المسلمین ، أو لا ینتقل إلی أحدٍ منهم ، بل یسقط الحقّ رأساً ویصبح الواجب واجباً کفائیّاً مطلقاً لجمیع المسلمین،

ص:125

من دون توقّف علی الاستیذان ؟ وجوه : والأحوط هو الجمع فی الاستیذان من الولیّ المتأخّر والحاکم إن أمکن .

وأمّا عدول المسلمین فغیر معلوم ؛ لعدم دلیل یثبت ولایتهم فی ذلک ، مع ما عرفت الإشکال فی أصل ولایة الحاکم هنا، فضلاً عن عدول المسلمین کما لا یخفی ، إذ الولایة هنا لیس من قبیل الحقوق المالیّة حتّی یلاحظ فیه الترتیب المذکور، سیّما مع عدم ورود إشارة فی شیء من الأخبار لذلک .

ثمّ إنّه هل یکفی العلم بالرضا، أو لابدّ من الرضا الفعلی؟

ظاهر بعض الأخبار مثل قوله علیه السلام فی باب الغُسل کما سیأتی: «یغسّله أولی الناس به أو من یأمره الولیّ» هو الرضا الفعلی ، ولکن الأقوی کفایة علمه به ؛ لأنّه إذا لاحظنا المناسبة بین الحکم والموضوع فالمستفاد کون المقصود وقوع العمل عن رضاه وإن لم یظهره ، بل فیه من قرینة المقام أو فحوی الحال ما لم یعارضه شیء، ولم یحتمل خلافه باحتمال عقلائی، وإلاّ لابدّ من تحصیل رضاه بالفعل کما هو واضح .

فرع : هل یجب الاستیذان فمیا إذا فرض التکلیف منحصراً بمکلّف به بعینه، مثل ما لو لم یکن للمیّت إلاّ مثله کالمرأة فی المرأة الواحدة .

إذ لا إشکال فی تعیّن الغسل علی المرأة لأجل المماثلة ، وبرغم ذلک هل علیها الاستیذان من ولیّه أم لا؟

فیه وجهان : من جهة کون الوجوب عینیّاً فی حقّه، ولیس له المنع عن ذلک لکونه موقوفاً علیه .

ومن جهة أنّه حقّ للولیّ ، فلابدّ علیه الإتیان بالواجب مع مراعاة الحقّ، فیکون وجوبه تعبّدیّاً فیجب وهو الأحوط لو لم یکن أقوی، کما لا یخفی ، لأنّه قد

ص:126

یستظهر من الأخبار الواردة لزوم مراعاة هذا الحقّ، سواء کان التکلیف علی الولیّ عینیّاً أو کفائیّاً .

فرع: بعدما عرفت کون الولایة ثابتة للولی فی تجهیز المیّت وتغسیله وتکفینه والصلاة علیه وتدفینه ، یأتی البحث حینئذٍ فی المراد من الولیّ ، وقد ذکر أو احتمل فیه احتمالات :

الاحتمال الأوّل : کون المراد منه هو الوارث الفعلی، وهو المُعبّر عنه عند الأکثر (بمن هو أولی بمیراثه) کما صرّح به غیر واحد من الأصحاب ، بل نُفی الخلاف عنه ناسباً له إلی الأصحاب، المشعر بکونه إجماعیّاً ، فیکون المراد من الأولی الوارد فی بعض النصوص المتقدّمة هو ذلک ، بل قد ادّعی أنّه المتبادر المنساق إلی الذهن من إطلاقه ، والمقصود منه هو الذی یرث المیّت بالنسبة إلی من لا یکون کذلک کالطبقة الاُولی إذا لوحظت مع الطبقة الثانیة .

الاحتمال الثانی : (هو الذی احتمله صاحب «المدارک»، وهو أن المراد أشدّ الناس علاقة بالمیّت .

الاحتمال الثالث : أن یُراد منه الأولویّة العرفیّة ، المعنی أنّ الأولی به من هو أقرب إلیه عرفاً.

الاحتمال الرابع: أن یکون المراد منه مطلق الأرحام والأقارب لا خصوص طبقات الورّاث، هو الذی احتمله صاحب «الجواهر»، لکنّه عقّبه بقوله: «لم نجد أحداً صرّح به»

الاحتمال الخامس : ما نقله فی «الجواهر» عن بعض متأخّری علماء البحرین بأن المراد من الولیّ هنا هو المحرم من الوارث لا مطلقه ، ومع تعدّده فالترجیح لأشدّهم علاقةً به، حیث یکون هو المرجع له فی حیاته، والمعزّی بعد وفاته .

ص:127

الاحتمال السادس : ما احتمله فی «المدارک» معترفاً بأنّ الأصحاب لم یعتبروه، وهو أن یکون المراد منه أکثر نصیباً من المیراث، کالابن إذا کان واحداً بالنسبة إلی الأب مثلاً .

هذا وقد استدلّ کلّ واحد من القائلین لمدّعاهم بمناسبات ذکروها ، مثلاً ذکر صاحب «الجواهر» دلیل علماء البحرین بأنّه ظاهر أخبار الباب فی کون الولیّ ممّن له مباشرة التغسیل فعلاً، ولو عند عدم المماثل، کقوله علیه السلام ؛ «یغسّله أولی الناس به»(1) .

وفی موثّقة الساباطی : الصبیّة یغسلها أولی الناس بها من الرجال»(2) .

وفی الخبر الحسن : «تغسله أولاهنّ به»(3) .

فلا یتمّ حینئذٍ إرادة مطلق الوارث ، وقد یستأنس له أیضاً بإطلاق الولیّ فی بعض أخبار حجّ المرأة من دون ولیّها(4) .

أقول: ولا یخفی ما فی استدلالهم من الإشکال، حیث لا ملازمة بین کونه ولیّاً وبین المحرّمیة، لوضوح أنّ الولایة لا تستلزم کون التغسیل بمباشرته شرعاً صحیحاً ، لإمکان ثبوت الولایة ولو بالإذن إلی مباشرة غیره بالتغسیل کما هو الغالب ، لما قد عرفت من ما ذکرنا سابقاً من ثبوت الحقّ للولیّ من حیث أنّه یمکن له أن یمنع عن شخص ویأذن للآخر، ولو کان بنفسه ممنوع المباشرة لعدم کونه مماثلاً، ولا فی بینهما قرابت ، فالاستدلال بمثل هذه الأخبار لذلک لا یخلو


1- وسائل الشیعة : الباب 27 من أبواب غسل المیّت ، الحدیث 1 .
2- وسائل الشیعة : الباب 20 من أبواب غسل المیّت، الحدیث 6 و11 .
3- وسائل الشیعة : الباب 20 من أبواب غسل المیّت، الحدیث 6 و11 .
4- وسائل الشیعة : الباب 57 من أبواب وجوب الحجّ والشرائطه، الحدیث 1 .

ص:128

عن وهن، لما اشتمل ذلک من تضییع حقوق بعض من کان ولیّاً فی الواقع، وتثبیت الحقّ لمن لم یکن فی الواقع ولیّاً .

کما أنّهم استدلّوا فی صورة تعدّد الولیّ بالترجیح لأشدّهم علاقة به، بحیث یکون هو المرجع له فی حیاته، والمعزّی علیه بعد وفاته ، بأخبار قد وردت فیها تولّی الباقر علیه السلام أمر ابن ابنه کما فی حدیث زرارة فی حدیث : «ثمّ أمر (أی أبو جعفر علیهماالسلام ) به فغسّل ولبس جبّة ، الحدیث»(1) .

وکذا جاء فی خبر آخر أنّه: «باشر الصادق علیه السلام أمر إسماعیل وأبو عبداللّه علیه السلام جالس عنده ، فلمّا حضره الموت شدّ لحییه وغمّضه وغطّی علیه الملحفة، ثمّ أمر بتهیئته»(2) .

وفیه: أنّ الاستدلال لذلک بمثل هذه الأخبار غیر مقبول، لإمکان کون الإمام هو الولیّ الحقیقی، حتّی مع وحدة الولیّ، فضلاً عن تعدّده ، لأنّ حکم الإمام المعصوم مختلف مع غیره ، لأنّ الولایة للإمام ثابتة من اللّه تبارک وتعالی .

مع أنّا لو سلّمنا کونه کغیره ، ولکن یمکن أن یکون المقام ممّا یعلم رضاء الأولیاء بذلک قطعاً ، مع أنّه یمکن أن یکون إجراء ذلک بأمره علیه السلام لتعلیم العمل فی هذه الموارد ، وغیر ذلک من الأجوبة ، فمثل هذه الأخبار لا یمکن جعلها دلیلاً علی إثبات مثل ذلک ، کما لا یخفی .

کما أنّه قد علّل القول الرابع بما فی أخبار الصلاة والغسل أیضاً من الحکم بأولویّة بعض الأرحام علی بعض، بأنّ المراد منها مطلق الأرحام والقرابة .


1- وسائل الشیعة : الباب 58 من أبواب الدفن ، الحدیث 6 .
2- وسائل الشیعة : الباب 29 من أبواب التکفین، الحدیث 1 .

ص:129

وفیه: هذا الاستدلال ممنوع، لامکان کون هذه الأخبار تتحدّث عن صورة التشاح بینهم لا مطلقاً فضلاً عن أنّه معارض مع ما سیأتی من النصوص التی ورد التصریح فیها بمتعلّق الأولویّة، بقوله : «أولی بمیراثه» ، بل العرف یشهد أنّه لا معنی للولایة علی ابن الابن الابن مع وجود الابن ، مع أنّه من المحارم والأقارب .

کما یظهر الجواب لما استدلّ به صاحب «المدارک» بکون المراد منه أشدّ الناس علاقة به ، مع أنّه لا وجه لجعل الأولویّة بشدّة العلاقة العرفیّة، لو لم یرد العلاقة المقصودة فی نظر الشرع، وإلاّ ربما یصیر موافقاً للمشهور کما ستعرف .

کما یظهر الجواب عمّا احتمله صاحب «المدارک» بکون المراد أشدّ الناس نصیباً بالإرث، إذ من الواضح أنّه لا مدخل له فی حکم الولایة، أو ربما یکون سهم الابن إذا کان واحداً أکثر من الأب ، مع أنّ العرف لا یساعد کون الولایة لابن المیّت أو بنتها دون أبیه .

وعلیه فالأولی الرجوع إلی ما استدلّ به المشهور، وهی الأخبار الواردة المعتضدة بفهم الأصحاب، المؤیّده بالإجماع المحکی عن الأصحاب ، مضافاً إلی کونه هو المتبادر المنساق إلی الذهن ، وهو مثل حسنة حفص بن البختری، عن أبی عبداللّه علیه السلام .

«فی الرجل یموت وعلیه صلاة أو صیام؟

«قال : یقضی عنه أولی الناس بمیراثه ، قلت : فإن کان أولی الناس به امرأة؟ فقال : لا ، إلاّ الرجال»(1) .

فیکون هذا هو المراد من أولی الناس بالمیّت الوارد فی خبر غیاث بن إبراهیم


1- وسائل الشیعة : الباب 23 من أحکام شهر رمضان، الحدیث 5 .

ص:130

الرزامی ، عن أبی عبداللّه ، عن أبیه ، عن علیّ علیهم السلام ، قال : «یغسّل المیّت أولی الناس به(1) .

أو ما أرسله الصدوق فی «الفقیه» عن أمیر المؤمنین علیه السلام إنّه قال : «یغسّل المیّت أولی الناس به أو من یأمره الولیّ بذلک»(2) .

بل قد استدلّ صاحب «الجواهر» لذلک بموثّقة زرارة، عن الصادق علیه السلام ، قال : «سمعته یقول : «وَلِکُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِیَ مِمَّا تَرَکَ الْوَالِدَانِ وَالاْءَقْرَبُونَ».

قال : إنّما عنی بذلک أولی الأرحام من الوارث، ولم یعن أولیاء النّعمة، فأولاهم بالمیّت أقربهم إلیه من الرحم التی تجرّه إلیها»(3) .

وصحیحة هشام بن سالم، عن یزید الکناسی ، عن أبی جعفر علیه السلام ، قال : «ابنک أولی بک من ابن ابنک ، وابن ابنک أولی بک من أخیک ، قال : وأخوک لأبیک واُمّک أولی بک من أخیک لأبیک ، وأخوک لأبیک أولی بک من أخیک لاُمّک ، الحدیث»(4) .

فإنّ هذه الأخبار فی الجملة تدلّ علی أنّ الأولویّة ثابتة فیمن هو أولی للمیّت بالنسبة إلی المیراث، وإن أمکن المناقشة فیها بعدم صلاحیّتها لإثبات ما علیه الأصحاب، من ترتّب الولایة هنا علی حسب طبقات الإرث عدا ما یستثنی ، هذا فضلاً عن اشکالات أُخری:

أوّلاً : أنّها مختصّة بالقضاء والإرث .

وثانیاً : بأنّ القضاء مختصّة بالذکور دون الإناث ، مع أنّ الولایة هنا ربما تکون للإناث أیضاً .


1- وسائل الشیعة : الباب 26 من غسل المیّت ، الحدیث 1 و 2 .
2- وسائل الشیعة : الباب 26 من غسل المیّت ، الحدیث 1 و 2 .
3- وسائل الشیعة : الباب 1 من أبواب موجبات الإرث، الحدیث 1 و 2 .
4- وسائل الشیعة : الباب 1 من أبواب موجبات الإرث، الحدیث 1 و 2 .

ص:131

إذا کان الأولیاء رجالاً ونساءً فالرجال أولی (1).

وثالثاً: والإجمال فی روایة زرارة .

کما أنّ فی روایة یزید الکناسی لزوم الاقتصار علی بعض الذکور ، بل فیها ما لا ینطبق ما علیه الأصحاب هنا من القول بالتشریک فی الأخوین للأبوین، والأخ للاُمّ لکونهما وارثین، وتشریک الأخ للأب مع الأخ للاُمّ لاشتراکهما فی الإرث، وإن کان اختصاص هذه الصحیحة لخصوص الإرث غیر معلوم ، بل کونه للأعمّ أظهر .

وعلی کلّ حال، دلالة هذه الأخبار فی الجملة علی المدّعی من کون المراد من (أولی الناس بالمیّت) (أولاهم فی المیراث) غیر خفیّة ، وهو المطلوب ، فلا یبعد أن یکون ذلک هو المراد هنا ، واللّه العالم .

(1) هذا ، کما صرّح به بعض هنا، وبعض آخر فی الصلاة ، بل عن العلاّمة فی «المنتهی» نفی الخلاف عنه فیها ، وظاهر إطلاق کلامهم عدم الفرق فی ذلک بین کون المیّت رجلاً أو امرأة ، بل فی «المدارک» أنّه جزم بهذا التعمیم المتأخّرون ، وفی «الحدائق» نسبته إلی الأکثر .

وخالف المحقّق الثانی هذا التعمیم، حیث خصّه ذلک بما إذا کان المیّت رجلاً وإلاّ انعکس الحکم وکان النساء أولی .

أقول: إنّ هنا دعویان :

إحداهما : أصل الأولویّة للرجال علی النساء إذا اجتمعا .

والثانیة : دعوی عکس الحکم إذا کانت المیّت إمرأةً .

أمّا الدعوی الاُولی فربما یمکن الإشکال فیه حیث لم یرد لنا دلیل یدلّ

ص:132

بالصراحة أو بالظهور علی تقدیم الرجال علی النساء إلاّ بعض اُمور من التوجیهات التی لا یمکن جعلها وجهاً ومستنداً للحکم الشرعی ، مثل ما فی الجواهر بأنّه قد یشهد الاعتبار له لکون الرجال غالباً أعقل وأقوی علی الاُمور وأبصر بها ، أو یقال بعد وجود السیرة سیما إذا کان المیّت رجلاً یمکن الاحتجاج لذلک بأصالة عدم ثبوت الولایة للمرأة مع وجود الرجال سیّما مع کون الخطاب ظاهراً للذکور .

ومن الواضح عدم تمامیّة شیء من ذلک ؛ لأنّ الأعقلیّة والاقوائیّة غالباً أمرٌ مسلّم ولکنّه لیس ذلک ملاکاً شرعیّاً وإلاّ کان للشارح بیان ذلک ، مع أنّه لم یذکر ولم یشر فی حدیث بمثله ، مع أنّه لو کان ذلک ملاکاً للتقدیم لکان ینبغی أن لا یتفاوت فیه بین کون المیّت رجلاً أو امرأة ، حیث یستفاد من کلام المحقّق من القول بالافتراق أنّه لم یقبل ذلک، کما هو الحقّ؛ لأنّ الولایة هنا لیس لخصوص من یباشر التغسیل والتدفین حتّی یلاحظ ما هو الأعقل والأقوی ، بل الولایة بمعنی الأعمّ من المباشرة کونه بحیث یشمل حتّی الإذن ، ومن المعلوم أنّه فی خصوص لا حاجة لمن یتّصف بصفتی الأعقلیّة والاقوائیّة .

کما لا یمکن الاعتماد علی السیرة هنا، لإمکان أن تکون متّخذة من فتوی الفقهاء لا من الدلیل الشرعی، وإلاّ لو کان لبانَ إلی الآن، مع اهتمام المتقدّمین علی ضبط الأدلّة الشرعیّة، خصوصاً مع ملاحظة وجود الدلیل علی خلاف ذلک، وهو قولهم علیه السلام : «أولی الناس بالمیّت أولاهم بمیراثه» ، المقتضی إطلاقه عدم الفرق بین الرجال والنساء وکون کلیهما ولیّاً مع وجودهما .

وبما ذکرنا ثبت اندفاع أصالة عدم ثبوت الولایة للمرأة مع وجود الرجل ، کما یردّ بذلک ما قیل إنّ ظاهر الخطاب موجّه إلی خصوص الذکور لوضوح المنع فیه،

ص:133

إذ الدلیل ورد علی نحو یشمل کلیهما، کما لا یخفی ، وهو کلمة (أولی) المساوی فیه المذکّر والمؤنّث ، وإلاّ لولا ذلک لأشکل ثبوت أصل الولایة للمرأة حتّی مع عدم وجود الرجال فی طبقاتها، خصوصاً إذا کان مقتضی الأصل الأوّلی هو عدم الولایة ، وحیث قد أثبتنا أصل الولایة لکلّ من الرجل والمرأة ، فلزوم تقدیم الرجل علیها إذا کان معاً یحتاج إلی دلیل خاصّ، مفقود فی المقام .

قال المحقّق الهمدانی: فی معرض الاستدلال علی التقدیم بعدما بیّن معنی الولیّ هنا، بالتبادر فیمن یتصرّف فی أمر المیّت عن استحقاق، وتبیین أنّ النصّ والإجماع علی أنّ الأحق بذلک من هو أولاهم بمیراثه ، بل هو الذی یساعد علیه العرف فی الجملة ، قال : «وإذا تعدّدت الورثة، فلا ینصرف الذهن عند الأمر بالرجوع إلی ولیّ المیّت والاستیذان منه، إلاّ إلی بعضهم ممّن کان له نحو تقدّم ورئاسة واعتبار عرفاً أو شرعاً بالنسبة إلی اُمور المیّت . ثمّ قال : فمع تعدّد الوارث، وکون بعضهم رجالاً وبعضهم نساءاً، لا ینسبق إلی الذهن إرادة النساء من الأمر بالرجوع إلی ولیّ المیّت ، بل یمکن أن یُقال إنّ المتبادر فی مثل الفرض لیس إلاّ إرادة أکبر الذکور وأرشدهم ... إلی آخر کلامه»(1) .

أقول : إنّ ما ذکره متین بالنظر إلی فعل العرف والناس ، ولکن ذلک لا یوجب سلب الولایة عن النساء، مع وجود الرجال شرعاً . کما أنّه لا یوجب سلب الولایة عن أصغر أولاد الذکور مع وجود أکبرهم ، وإن کان المتبادر والعرف من جهة الاحترام والتعظیم یقدّمون أکبرهم وأرشدهم ، فما ذکره لا یمکن جعله مستنداً للحکم الشرعی، والحکم بعدم الولایة للنساء مع وجود الرجال شرعاً کما هو المدّعی .


1- مصباح الفقیه : ج5 / 56 .

ص:134

مضافاً إلی أنّ المفروض تبادر الوارث الفعلی من لفظة الولیّ، وتساوی الإناث والرجال فی ذلک _ أی فی أصل الإرث _ کما أنّ المفروض تساویهما فی الطبقة .

وبالجملة: ثبت من خلال ما ذکرنا إلی الآن، أنّ ما ذهب إلیه المحقّق الآملی من جواز الاکتفاء بالرجوع إلی النساء، بناءً علی جواز الرجوع إلی بعض ما فی الطبقة الواحدة ، مع وجود الرجال معهنّ هو الحقّ مع أنّ ظاهر کلام بعض الفقهاء کالسیّد فی «العروة» فی المسألة الثانیة من مسائل أحکام غسل المیّت، حیث قال : «فی کلّ طبقة الذکور مقدّمون علی الإناث » کون الحکم إلزامیّاً وواجباً ، وإن کان ظاهر کلام المصنّف هنا حیث عبّر بقوله: : «فالرجال أولی» ، هم الأولویّة بمعنی کونه أحسن وأفضل .

اللّهُمَّ إلاّ أن یُراد منه الأولویّة الواردة فی قوله تعالی: «وَأُوْلُوا الاْءَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَی بِبَعْضٍ»المقصود منه الإلزام دون الأفضلیّة .

وکیف کان ، إن اُرید منه الحکم الالزامی فی المقام کما هو ظاهر کلام السیّد .

فیردّ علیه: بأنّه إذا فقد ذلک کیف حکم فی المسألة الرابعة بتقدیم الاُمّ علی ذکور أولاد المیّت مع کونها امرأة ، فلعلّ المقصود من أصل الحکم فی الصدر هی الأفضلیّة ، وهو یناسب مع الاعتبار المذکور فی کلام صاحب «الجواهر» ، ومع ما ذکره صاحب «مصباح الفقیه» بالنسبة إلی ما ینسبق إلیه الذهن ، کما أنّه مطابق للاحتیاط أیضاً ؛ لأنّ الرجوع إلی الرجال إذا قلنا بجواز الاکتفاء بإذن واحد من الطبقة الواحدة، کان هو القدر المتیقّن، بخلاف النساء مع وجود الرجال، حیث یکون مورد الشکّ والاختلاف، ومقتضی الأصل _ لولا دلالة الدلیل _ هو عدم الولایة ، فالاکتفاء به خلاف للاحتیاط کما لا یخفی .

فبناءً علی ما ذکرنا من احتمال حمل معنی الأولویّة علی الأفضلیّة دون

ص:135

والزوج أولی بالمرأة من کلّ أحد فی أحکامها کلّها (1).

الالتزام، فإنّ ذلک یُغنینا عن قبول ما احتمله صاحب «الجواهر» من کون محتمل کلام الأصحاب فی تقدیم الرجال إنّما هو عند التشاح ؛ لأنّه إذا فرضنا کون کلّ منهما ولیّاً بحسب الدلیل، فلا مجال حینئذٍ للحکم بوجوب تقدیم الرجال إلزاماً ، فلابدّ أن تکون بالأولویّة الغیر الالتزامیّة ، فبناءً علیه لا نحتاج أن نصیر إلیه عند التشاح ، بل یصحّ أن یُقال به فی غیر حال التنازع کما عرفت .

تمام الکلام فی هذا الدعوی الأُولی .

وأمّا الکلام فی الدعوی الثانیة: من ما ذکره المحقّق الثانی من لزوم الإذن عن النساء، إذا کان المیّت امرأة ، ولعلّه یری ظاهر ما دلّ من الأخبار علی جواز إذن الولیّ بأنّ له المباشرة ، وهی لا یمکن إلاّ فی المماثلة، فیقدّم المرأة علی الرجل إذا اجتمعا .

أقول: هذا إنّمایصحّ إذا قلنا بلزوم المباشرة فی الولایة ، وأمّا إذا قلنا بالأعمّ منها حتّی یشمل الإذن للغیر، فمسألة المماثلة غیر مطروحة حینئذٍ لإمکان کون الولایة للرجال ، مع إذنها للمرأة بالمباشرة فی التغسیل والتکفین ، کما یمکن عکسه بکون الولایة للمرأة ولکنّها تأذن للرجل بالمباشرة ، مضافاً إلی أنّ ذلک لا یناسب مع إطلاق الدلیل من قوله : «أولی الناس به أولاهم بمیراثه »؛ حیث یشمل صورة المماثلة وغیرها .

وبالجملة: فالجواب الولایة عبارة عمّا یشمل کلا الفرضین من المباشرة والإذن ، فیرجع البحث إلی ما ذکرناه فی المتقدّم، کما لا یخفی .

(1) بلا خلاف أجده فیه، کما اعترف به الشهید رحمه الله فی «الذکری» ، بل قد یظهر

ص:136

ذلک من عبارة «التذکرة» حیث قال : «عندنا أنّ الزوج أولی من کلّ أحد فی جمیع أحکامها من الغسل وغیره... إلی آخره» .

فی أحکام الأموات / الزوج أولی بغسل المرأة و تجهیزها

کما هو صریح «المعتبر» حیث حکی الاتّفاق علی مضمون ما جاء فی موثقة إسحاق بن عمّار المروی فی «الکافی» و «التهذیب» عن الصادق علیه السلام ، قال : «الزوج أحقّ بامرأته حتّی یضعها فی قبرها»(1) .

وخبر أبی بصیر عنه علیه السلام ، قال : «قلت له : المرأة تموت ، مَن أحقّ بالصلاة علیها؟ قال : زوجها ، قلت : الزوج أحقّ من الأب والولد والأخ؟ قال : نعم ویغسّلها»(2) .

ومثله ما فی «المنتهی» ، بل عن المحقّق الأردبیلی نسبته إلی عمل الأصحاب ، فالإجماع وعمل الأصحاب یؤیّدان الخبرین، ویجعلانهما حجّة ، مضافاً إلی مناسبته مع الاعتبار، فبملاحظة محرّمیّته تکون الأولیّة أشدّ وأولی من الغیر لو لم یخرج بالموت عن تلک الحالة ، مضافاً إلی ما عرفت من شمول إطلاق الدلیل فی قوله : «أولاهم بالمیت أولی بمیراثه» ، ومن الواضح تقدّم الإرث بالمزاوج فی غیر المتعة علی سائر الورّاث، حتّی الوالدین، فیدخل تحت ذلک الإطلاق .

کلّ ذلک یکفی فی تقویة هذا القول والفتوی به.

قال صاحب «المدارک»: إنّه یمکن المناقشة فی هذا الحکم بضعف المستند .

وقد عرفت جوابه بالانجبار بالإجماع وشهرة الأصحاب وعملهم ، فضلاً عن معارضته مع صحیحة حفص بن البختری، عن أبی عبداللّه علیه السلام : «فی المرأة تموت ومعها أخوها وزوجها ، أیّهما یصلّی علیها؟ فقال : أخوها أحقّ بالصلاة علیها»(3) .


1- وسائل الشیعة : الباب 24 من أبواب غسل المیّت، الحدیث 1 و9 .
2- وسائل الشیعة : الباب 24 من أبواب غسل المیّت، الحدیث 1 و9 .
3- وسائل الشیعة : الباب 24 من أبواب صلاة الجنازة، الحدیث 5 .

ص:137

وروایة عبدالرحمان بن أبی عبداللّه، قال : «سألت أبا عبداللّه علیه السلام عن الصلاة عن المرأة الزوج أحقّ بها أو الأخ؟ قال : الأخ».

ولکن یمکن أن یُجاب عنه أوّلاً: بما فی الکتب الفقهیّة وما جاء فی «الوسائل» من قول الشیخ : «الوجه حمل الخبرین علی التقیّة لموافقتهما للعامّة» .

وأجاب فی«الوسائل» بقوله : «أقول : ویحتمل الحمل علی الإنکار، وعلی صغر الزوج، وعلی کون الزوجة مطلقة، وعلی کون الزوج مخالفاً وغیر ذلک ».

ولکن الأولی أن یُقال : إنّهما بإعراض الأصحاب یخرجان عن الحجّیة، خصوصاً فی الصحیحة، لأنّهم مع کونها صحیحة قد ترکوا العمل بها، فیکشف أنّهم لم یعتبروا فیها الحکم حکماً صادراً عن المعصوم ؛ لأنّ کلّ ما زیدَ فی صحّته زیدَ فی ضعفه .

مضافاً إلی معارضته فی خصوص الصلاة دون غیرها ، وغایته التخصیص فی الصلاة فقط دون غیرها ، بل فی الأخیرین یعارض مع دلیل الأولویّة بالنظر إلی الزوج، لأنّه أولی بالإرث من الأخ، کما لا یخفی .

وبالجملة: فالأقوی ما علیه الإجماع المشهور ، کما هو واضح .

هاهنا فروع

الفرع الأوّل : بعدما ثبت من أحقّیة الزوج بالنسبة إلی الزوجة من غیرها، یأتی البحث فی أنّ هذه الأحقّیّة هل هی مختصّة بالدائمة، أو یُراد بها الأعمّ فیشمل المنقطعة أیضاً ؟

فإنّ مقتضی إطلاق النصّ، وفتاوی الأصحاب، عدم الفرق فی الزوجة بینهما ، بل ولا بین الحُرّة والأمَة ، وإن تعدّ دعوی انصراف النصوص والفتاوی عن

ص:138

الأخیرة ؛ کدعوی انصرافها عن الزوج إذا کان عبداً، حتّی لا یکون ولیّ المملوک إلاّ سیّده ، غیر بعیدة، کما علیه صاحب «مصباح الفقیه» .

لکنّها مردودة، لأنّ الانصراف فی مثل هذه الموارد الذی کان لأجل ندرة وجودها ، غیر قادح ، فالأخذ بالإطلاق کما قد صرّح به فی غیر واحد من النصوص هو الأقوی عندنا، وإن کان الأحوط الاستئذان عن سیّدها أیضاً .

ولکن قد یشکل الحکم فی المنقطعة، لأنّها علی ثلاث أقسام :

(1) قسم قد انقضی أجلها قبل موتها ، فلا إشکال فی عدم الجواز لصیرورتها أجنبیّة .

(2) قسم آخر ما قد انقضی أجلها بعد موتها قبل تجهیزها، ففیها أیضاً لا یبعد القول ، بل نقطع بعدم الجواز لحصول الانقطاع عن الزوجیّة حین التجهیز .

(3) وقسم ما کانت باقیة علی مدّتها ، فالإشکال فیها حینئذٍ لأجل احتمال کونها کالعین المستأجرة إذا ماتت ، ولذلک فالأحوط هو الاستیذان من المرتبة المتأخّرة، کما أشار إلیه فی «العروة الوثقی» .

الفرع الثانی : هل للزوج ولایة علی المطلّقة الرجعیّة إذا ماتت فی العدّة أم لا؟ وجهان: من کونها زوجة کما جاء فی بعض الأخبار ، ویؤیّده ما فی بعض الأخبار، مثل صحیحة زرارة، عن الصادق علیه السلام : «فی الرجل یموت ولیس معه إلاّ النساء ، قال : تغسله امرأته لأنّها منه فی عدّة ، وإذا ماتت لم یغسّلها لأنّه لیس منها فی عدّة»(1) .

من التعلیل فی جواز تغسیل الزوجة زوجها بکونها فی العدّة، کما قد صرّح بالجواز صاحب «الجواهر» حیث قال : «نعم ، الظاهر بقاء ولایته علی المطلّقة


1- وسائل الشیعة : الباب 24 من أبواب غسل المیّت، الحدیث 13 .

ص:139

الرجعیّة إذا ماتت فی العدّة لکونها زوجة فیها» .

فی أحکام الأموات / هل الزوج أولی بالمطلّقة الرجعیّة فی العدّة؟

ومن إمکان دعوی أنّ عموم تنزیل الرجعیّة منزلة الزوجة، لا یشمل مثل هذا الحکم ، بل لعلّ خبر زرارة علی خلاف المطلوب أدلّ ؛ لأنّه إذا لم یجوز غسل المرأة المتزوّجة لزوجها، لعدم وجود العدّة للرجل، ففی المطلّقة الرجعیّة یکون بطریق أولی ، ولأجل ذلک توقّف فیه العلاّمة فی محکی «المنتهی» ، بل قد أشکل علیه العلاّمة البروجردی فی کلّ من الطرفین من تغسیل المطلّقة للمطلّق وعکسه ، وإن کان الأمر لتغسیل المطلّقة للمطلّق أهون إن أجرینا التعلیل فی صحیحة زرارة فی المطلّقة الرجعیّة، وقلنا بلزوم عدّة الوفاة علیها .

أقول: وکیف کان ، فالأحوط ترک التغسیل فی کلّ من الطرفین، خصوصاً مع وجود المماثل کما لا یخفی، لا سیّما إذا کان المغسّل هو المطلّق کما عرفت .

الفرع الثالث: فی تغسیل أحد الزوجین للآخر، فی أنّه هل یجوز مطلقاً ؛ أی سواء کان الغاسل هو الزوج أو الزوجة ، أو یجوز فی خصوص عدم وجوده المماثل کالمحارم ، أو التفصیل بین الزوج، فیجوز مطلقاً سواء وجد المماثل أم لا ، دون الزوجة حیث لا یجوز أن تغسل الرجل إلاّ فی حال الضرورة ؟

وجوهٌ وأقوال :

القول الأوّل: هو قول بالجواز مطلقاً، مع سعة الإطلاق فی جمیع أقسامه ، وهو مختار المصنّف هنا و«المعتبر» و«السرائر» و«المنتهی» و«القواعد» و«الإرشاد» و«المختلف» و«الذکری» و«اللمعة» و«البیان» و«جامع المقاصد» و«الروضة»، وهو المنقول عن السیّد المرتضی وابن الجنید والجُعفی ، وحُکی عن الشیخ فی غیر «الخلاف» وکتابی الاخبار ، ونسبه العلاّمة فی «المختلف» وغیره إلی أکثر علمائنا ، بل فی «الجواهر» هو المشهور نقلاً وتحصیلاً کما هو مختاره ومختار

ص:140

صاحب «مصباح الفقیه» والسیّد فی «العروة»، وأکثر أصحاب التعلیق علیها لولا کلّهم علی ما هو الموجود عندنا ، وإن احتاطوا بترکه مع وجود المماثل ومع التجرّد .

القول الثانی: وهو قولٌ للشیخ رحمه الله من التفصیل بین الزوج فی الجواز مطلقاً دون الزوجة، کما یظهر من «الخلاف» علی احتمال، حیث قال : «مسألة: یجوز عندنا أن یُغسِّل الرجل زوجته والمرأة زوجها ، أمّا غسل المرأة زوجها فیه إجماع، إذا لم یکن رجال قرابات ولا نساء قرابات... إلی آخره» .

حیث أنّه رحمه الله قیّد الجواز بصورة فقد المماثل .

اللّهُمَّ إلاّ أن یرجع التقیید إلی الإجماع لا الجواز، أی معقد الإجماع کان فیه وإلاّ کان الجواز مطلقاً، فیصیر هو أیضاً موافقاً مع المشهور .

القول الثالث: للشیخ فی التهذیبین، وابن زهرة فی «الغُنیة» والحلبی فی «إشارة السبق»، وربما کان هو الظاهر من «الوسیلة» وغیرها ، بل فی «الذکری»: «أنّ الذی یظهر من کلام کثیر من الأصحاب أنّهما کالمحارم، وهم الذین یحرم التناکح بینهم نسباً أو رضاعاً أو مصاهرةً» ، فلازم هذا القول _ کما قد حکی عن «کشف اللِّثام» _ أنّ ظاهر الأکثر فی المحارم الاختصاص بحال الضرورة ، فبضمیمة هذین النقلین من «الذکری» و«کشف اللِّثام» معاً تحصل الشهرة لهذا القول أیضاً .

أقول: والأقوی عندنا هو القول الأوّل، لقوّة دلالة أدلّته ، مضافاً إلی ما عرفت من الشهرة العظیمة، بل کادت أن تکون إجماعاً ، وإلی إطلاقات الآمرة بالتغسیل إن سلّمنا کون إطلاقها لذلک، لما قد عرفت منّا کراراً بأنّ الأخذ بالإطلاق إنّما یکون فیما إذا کان الشارع فی صدد بیان الإطلاق لذلک ، وإلاّ فربما یشکل الأخذ

ص:141

بالإطلاق، کإطلاق «وَللّه ِِ عَلَی النَّاسِ حِجُّ الْبَیْتِ»(1) لرفع الشرطیّة عن شیء فی الحجّ، أو عدم المانعیّة عنه فیه، کما لا یخفی .

نعم ، یصحّ الأخذ بإطلاق ما ورد بأنّ الزوج أحقّ بامرأته حتّی یضعها فی قبرها فی روایة إسحاق بن عمّار(2) حیث یشمل لمثل التغسیل أیضاً، وإن کان مفاده أخصّ من المدّعی، لاختصاصه بخصوص الزوج، ولا یشمل الزوجة ، فلابدّ فیه من التمسّک بدلیل آخر کما سیأتی إن شاء اللّه .

بل یمکن الاستدلال لذلک بما قد عرفت سابقاً من الأخبار الدالّة علی أنّ التغسیل وغیره ثابت فی حقّ من هو أولی بالمیّت فی میراثه ، وهو کما فی خبر غیاث ابن إبراهیم الزرامی(3) ، وروایة الفقیه عن أمیر المؤمنین(4) إذ الزوج والزوجة فی الإرث کان مقدّماً علی سائر الورثة ، فیجوز لکلّ واحدٍ منهما التصدّی للتغسیل بالمباشرة أو التسبیب ، ولکنّه لا یعیّن جواز المباشرة خاصّة، لإمکان کون ولایتهما بصورة التسبیب ، فالاستدلال به لجواز المباشرة موقوف علی عدم ورود دلیل یخصّصه بصورة خاصّة، کما لا یخفی .

بل قد استدلّوا لذلک باستصحاب جواز النظر واللّمس إن کان عدمهما المانع عن ذلک ؛ أی عن الغسل .

هذا ، ولکن الاستدلال به موقوف علی القول بجریان الاستصحاب لما بعد الموت ؛ لأجل احتمال تغییر الموضوع ، ومن شرط جریان الاستصحاب بقاء


1- سورة الحجّ : آیة 97 .
2- وسائل الشیعة : الباب 24 من أبواب غسل المیّت، الحدیث 9 .
3- وسائل الشیعة : الباب 24 من أبواب غسل المیّت، الحدیث 1 و 2 .
4- وسائل الشیعة : الباب 24 من أبواب غسل المیّت، الحدیث 1 و 2 .

ص:142

الموضوع فی المستصحب .

أقول: وممّا استدلّوا به لذلک ما جاء فی أمر الإمام زین العابدین اُمّ ولده بتغسیله، الوارد فی روایة إسحاق بن عمّار، عن جعفر عن أبیه: «أنّ علیّ بن الحسین علیه السلام أوصی أن تغسّله اُمّ ولد له إذا مات ، فغسّلته»(1) .

وقال صاحب «الجواهر» : «إن ثبت، ولعلّه لأجل أنّ المرویّ فی أحادیث کثیرة أنّ الإمام لا یُغسّله إلاّ الإمام ، فمعنی الوصیّة هنا المساعدة علی الغُسل والمشارکة فیه ، أو کان لأجل التقیّة وإن کان المتولّی فی الواقع الإمام الباقر علیه السلام » .

وأیضاً: ممّا استدلّوا به تغسیل أمیر المؤمنین علیه السلام فاطمة علیهاالسلام ، وإن اشتمل علی التعلیل بأنّها صدِّیقة لا یُغسّلها إلاّ صدِّیق، لعدم الإنکار علیه لمن لا یعتقد هذا الحکم ، فیشعر هذا بمشهوریّة الحکم فی الصدر الأوّل کما فی «الذکری» .

هذا کلّه مع إمکان الاستدلال بأخبار دالّة علی جواز ذلک .

منها : صحیح عبداللّه بن سنان المروی علی لسان المشایخ الثلاث ، قال : «سألت أبا عبداللّه علیه السلام عن الرجل، أیصلح له أن ینظر إلی امرأته حین تموت، أو یغسّلها إن لم یکن عندها من یغسّلها ، وعن المرأة هل تنظر إلی مثل ذلک من زوجها حین یموت؟ فقال : لا بأس بذلک ، إنّما یفعل ذلک أهل المرأة کراهیّة أن ینظر زوجها إلی شیء یکرهونه منها»(2) .

أقول: إن حملنا السؤال الوارد فی الخبر علی حکم النظر أو فرض التغسیل ، فإنّ الخبر یختصّ حینئذٍ بمن لم یکن عندها من یغسّلها من المماثل أی فی حالة


1- وسائل الشیعة : الباب 25 من أبواب غسل المیّت، الحدیث 1 .
2- وسائل الشیعة : الباب 24 من أبواب غسل المیّت، الحدیث 1 .

ص:143

الضرورة، إلاّ أنّ جواب الإمام بقوله: «لا بأس» مع تعلیله بأنّ أهلها یکرهونه منها، یدلّ علی الجواز فی أصل الحکم ولعلّ ما جاء فی الخبر التالی توضیح لذلک، فقد جاء فی صحیحة محمد بن مسلم، قال : «سألته عن الرجل یغسّل امرأته ؟ قال : نعم إنّما یمنعها أهلها تعصّباً»(1) .

والروایة وإن کانت مضمرة، إلاّ أنّ مثل محمد بن مسلم لا یروی عن غیر الإمام علیه السلام قطعاً، فمع ضمیمة هذا الحدیث مع سابقه یوجب ثبوت الجواز فی التغسیل، مع عدم لزوم رعایة وجود المماثل کما لا یخفی .

ومنها: موثّقة سماعة (مضمرة)، قال : «سألته عن المرأة إذا ماتت ؟ قال : یُدخِل زوجها یده تحت قمیصها إلی المرافق» .

ورواه الشیخ بإسناده عن أحمد بن محمد مثله وزاد: (فیغسّلها)(2) .

وإن کان فی روایة الحلبی فی مثله فرض عدم وجود المماثل، حیث قال: عن أبی عبداللّه علیه السلام : «فی المرأة إذا ماتت ولیس معها امرأة تغسّلها؟ قال : یُدخل زوجهایده تحت قمیصها فیغسّلها إلی المرافق»(3) .

ولکن إن ثبت جواز التغسیل حتّی مع وجود المماثل بتلک الأخبار، فیحمل هذا الخبر علی أنّ الأفضل ترک التغسیل مع وجود المماثل، کما لا یخفی .

ومنها: روایة محمّد بن مسلم فی الصحیح، قال : «سألته عن الرجل یغسّل امرأته ، قال : نعم من وراء الثوب»(4) .

ومنها: روایة الحلبی، عن أبی عبداللّه علیه السلام ، قال : «سُئل عن الرجل یغسّل امرأته ؟ قال : نعم من وراء الثوب، لا ینظر إلی شعرها، ولا إلی شیء منها ، والمرأة


1- وسائل الشیعة : الباب 24 من أبواب غسل المیّت، الحدیث 4 و 5 و 8 و 2.
2- وسائل الشیعة : الباب 24 من أبواب غسل المیّت، الحدیث 4 و 5 و 8 و 2.
3- وسائل الشیعة : الباب 24 من أبواب غسل المیّت، الحدیث 4 و 5 و 8 و 2.
4- وسائل الشیعة : الباب 24 من أبواب غسل المیّت، الحدیث 4 و 5 و 8 و 2.

ص:144

تغسّل زوجها ؛ لأنّه إذا مات کانت فی عدّة منه ، وإذا ماتت هی فقد انقضت عدّتها ، الحدیث»(1) .

ومنها: صحیحة زرارة المشتملة علی التعلیل المذکور فی طرفی القضیّة وهی: عن أبی عبداللّه علیه السلام : «فی الرجل یموت ولیس معه إلاّ النساء؟ قال : تغسّله امرأته لأنّها منه فی عدّة، وإذا ماتت لم یغسّلها لأنّه لیس منها فی عدّة»(2) .

حیث یظهر منه الجواز من ناحیة الزوجة للزوج لکونها فی عدّته، فإذا ثبت جوازه فی هذا الطرف فیلحق به الآخر بواسطة الأخبار السابقة من التصریح بالجواز لتغسیل الرجل لزوجته ، مثل روایة محمد بن مسلم ، مع أنّه ینافی مع مذهب الخصم ، فینبغی الحمل علی التقیّة لأنّه موافق لأشهر مذاهب العامّة .

ومنها: صحیح منصور، قال : «سألت أبا عبداللّه علیه السلام عن الرجل یخرج فی السفر ومعه امرأته أیغسّلها؟ قال : نعم ، واُمّه واُخته ونحو هذا یلقی علی عورتها خرقة(3)» .

إلی غیر ذلک من الأخبار الدالّة علی الجواز فی الطرفین، أو فی طرف واحد.

أقول: بالرغم من هذه الأخبار فقد خالف فی المسألة الشیخ فی التهذیبین، وابن زهرة فی «الغنیة» والحلبی فی «إشارة السبق» ، بل وهو الظاهر من «الوسیلة» وغیرها ، بل فی «الذکری»: «أنّ الذی یظهر من کلام کثیر من الأصحاب أنّها کالمحارم الذین یحرم التناکح بینهم نسباً أو رضاعاً أو مصاهرةً» .

مع أنّ المحکی عن «کشف اللِّثام» بأنّ ظاهر الأکثر فی المحارم اختصاص


1- وسائل الشیعة: الباب 24 من أبواب غسل المیّت، الحدیث 11 و13.
2- وسائل الشیعة: الباب 24 من أبواب غسل المیّت، الحدیث 11 و13.
3- وسائل الشیعة : الباب 20 من أبواب غسل المیّت، الحدیث 1 .

ص:145

الجواز بحال الضرورة، فلازمه عدم جواز المباشرة للتغسیل لأحدهما علی الآخر ، إلاّ مع عدم وجود المماثل ، بل لا یبعد مع هذه الحکایة حصول الشهرة لهذا القول أیضاً .

وقد یستدلّ لذلک بروایة أبی حمزة، عن أبی جعفر علیه السلام ، قال : «لا یغسل الرجل المرأة إلاّ أن لا توجد امرأة»(1) .

وروایة علیّ بن أبی حمزة، عن أبی بصیر، قال : قال أبو عبداللّه علیه السلام : «یغسل الرجل امرأته فی السفر، والمرأة زوجها فی السفر إذا لم یکن معهم رجل»(2) .

أقول: ولکن لا یخفی ما فیهما من الإشکال فی السند والدلالة :

فأمّا السند: فهو ضعیف من جهة أبی حمزة علی ما هو المعروف من حاله .

وأمّا الدلالة: لإمکان أن یکون المراد من المرأة هی الأجنبیّة دون الزوجة . أمّا بأن یکون المراد هو ذلک أو ما یدل علیه فی الثانی بینهما من التجویز فی الرجل لزوجته فی السفر، وعدم تجویزه للزوجة فی السفر إلاّ مع عدم الرجل، حیث یخالف حتّی مع الأخبار المعلّلة بالعدّة، حیث یفید غسلها مضافاً إلی اشتماله علی التفصیل المذکور الذی لم یذهب إلیه أحد ، بل مشتمل علی خصوصیّة السفر فی ذلک التفصیل، حیث لم یلتزم به أحد من الفقهاء، فإذا کان الأمر فلا یصحّ رفع الید عن تلک الأخبار الکثیرة المشتملة علی الصحاح وقوّة الدلالة، بمثل هاتین الروایتین مع ما فیهما من الإشکال ؟!

کما أنّه یظهر بالتأمّل جواب ما استدلّ للمنع، بالتعلیل الوارد فی تغسیل


1- وسائل الشیعة : الباب 20 من أبواب غسل المیّت، الحدیث 10 .
2- وسائل الشیعة : الباب 24 من أبواب غسل المیّت، الحدیث 14 .

ص:146

علیّ علیه السلام لفاطمة علیهاالسلام بکونها: «صدِّیقة لا یغسّلها إلاّ صدّیق» ؛ حیث إنّ المقصود من ذلک لیس لأجل إنکار ذلک التوجیه له ، بل المقصود بیان عظمة الزهراء علیهاالسلام ؛ یعنی هذا التعلیل حیّ وجیّد حتّی مع وجود النساء مع علی علیه السلام ، نظیر ما قیل فی حقّ الإمام علیه السلام من أنّه (لا یلی أمر الإمام إلاّ الإمام) من دون نظر إلی وجود المماثل وعدمه ، وبذلک یظهر وجه ذکر قصّة تغسیل عیسی لاُمّه مریم علیهماالسلام بعده، لرفع الاستبعاد من جهة أصل العمل، لا من حیث عدم کونه مماثلاً، کما هو مراد الخصم .

وبالجملة: ومن ذلک یظهر أنّه لو سلّمنا استفادة الکراهة فی المباشرة فی الزوجین من الأخبار المانعة مع وجود المماثل، لکن یستثنی منه فی حقّ علیّ وفاطمة علیهماالسلام للتعلیل المذکور کما لا یخفی .

بل قد استدلّ لعدم الجواز فیهما مع وجود المماثل کالمحارم، بروایة زرارة المتقدِّمة الدالّة علی عدم التجویز من ناحیة الزوج ؛ لأنّه لیس منها فی عدّة .

والجواب عنه: مضافاً إلی ما عرفت ممّا ذکرناه فی ذیلها، أنّه یمکن حملها علی شدّة الکراهة فی حقّ الزوج، أو علی أنّه لم یغسّلها مجرّدة لشهادة صحیح الحلبی حیث صرّح بالجواز من وراء الثوب ، ونهی عن النظر إلی شعرها ولا إلی شیء منها ، ولعلّ السبب فی ذلک ما جاء فی روایة داود بن سرحان ، عن أبی عبداللّه علیه السلام : «فی رجل یموت فی السفر، أو فی الأرض لیس معه فیها إلاّ النساء ؟ قال : یدفن ولا یُغسل . وقال فی المرأة تکون مع الرجال بتلک المنزلة، إلاّ أن یکون معها زوجها، فإن کان معها زوجها فلیغسلها من فوق الدرع، ویسکب علیها الماء سکباً، ولتغسله امرأته إذا مات، والمرأة لیست مثل الرجل والمرأة أسوءُ منظراً حین یموت»(1) .


1- وسائل الشیعة : الباب 24 من أبواب غسل المیّت، الحدیث 7 و 12.

ص:147

حیث یشتمل علی التعلیل للمنع، بأنّ المرأة لیست مثل الرجل لکونها أسوء منظراً منه .

وهکذا خبر أبی الصباح الکنانی، عن أبی عبداللّه علیه السلام ، قال : «قال فی الرجل یموت فی السفر. إلی أن قال : والمرأة تکون مع الرجال بتلک المنزلة ، تُدفن ولا تغسل، إلاّ أن یکون زوجها معها ، فإن کان زوجها معها غسّلها من فوق الدرع، ویسکب الماء علیها سکباً، ولا ینظر إلی عورتها، وتغسّله امرأته إذا مات ، والمرأة إذا ماتت لیست بمنزلة الرجل ، المرأة أسوء منظراً إذا ماتت»(1) .

أقول: وبملاحظة هذین الخبرین أفتی الشیخ فی «الاستبصار» بوجوب التغسیل من وراء الثیاب للمرأة والاستحباب فی الرجل ، بل قال فی «الجواهر»: «وهو لا یخلو عن قوّة، وإن کان الأقوی فیهما معاً عدم الوجوب، وفاقاً للتهذیب والمعتبر، والمحکی عن صریح النهایة والتذکرة، وظاهر الغُنیة وعلم الهدی وغیره ، واختاره فی مجمع البرهان والمدارک والحدائق والریاض ، ولعلّه الظاهر عن من أطلق جواز تغسیلهما من غیر تقیید» .

ونحن نزید علیه تأییداً بما دلّ علی أنّ المنع عن الرؤیة المذکور فی الأخبار بملاحظة حال أهل المرأة لا من الشرع حتّی تصبح الرؤیة إلیها حراماً ؛ والشاهد علی ذلک ما جاء فی روایة عبداللّه بن سنان، فی حدیثٍ: «فی السؤال عن جواز التغسیل للمرأة ؟ قال : لا بأس بذلک إنّما یفعل ذلک أهل المرأة کراهیّة أن ینظر زوجها إلی شیءٍ یکرهونه منها»(2) .

وأیضاً: روایة محمد بن مسلم، قال : «سألته عن الرجل یغسّل امرأته ؟ قال :


1- وسائل الشیعة : الباب 24 من أبواب غسل المیّت، الحدیث 1 و4 .
2- وسائل الشیعة : الباب 24 من أبواب غسل المیّت، الحدیث 1 و4 .

ص:148

نعم ، إنّما یمنعها أهلها تعصّباً»(1) .

حیث یفهمنا أنّ منع الشارع فی هذه الموارد کان بلحاظ مراعاة حال أهل المرأة ، فالأحسن أن یکون الغسل من وراء الثوب رعایةً لذلک ، لا بأن یکون واجباً کما نسب ذلک ظاهراً إلی «المنتهی» و«المختلف» و«البیان» و«جامع المقاصد» و«المسالک» و«الروض» و«الروضة»، بل فی «الذخیرة» کما عن «المسالک» أنّه المشهور ، وفی ظاهر المختلف نسبته إلی أکثر علمائنا .

بل لا یبعد الحکم بالتغسیل من وراء الثیاب حتّی بالنسبة إلی الزوجة للزوج لما قد ورد فی صحیح الشحّام قوله : «سألت أبا عبداللّه عن امرأة ماتت ... إلی أن قال : وسألته عن رجل مات فی السفر مع نساء لیس معهنّ رجل؟ فقال : إن لم یکن له فیهنّ امرأة فلیُدفن فی ثیابه ولا یغسّل ، وإن کان له فیهنّ امرأة فلیغسَّل فی قمیص من غیر أن تنظر إلی عورته»(2) .

بأن یکون المراد حن المرأة فی الأخیرة هی الزوجة، کما لا یبعد بقرینة هذا اللّفظ فی صدرها ، إذ المرأة فی النساء لا تکون إلاّ الزوجة ، واحتمال المحارم فیها بعید . وفی «الجواهر» بدل المرأة (امرأته) مع الضمیر ، فدلالته علی المقصود یصبح أوضح کما لا یخفی .

أقول: لکن لابدّ أن تحمل هذه الأخبار علی الاستحباب جمعاً بینه وبین الأخبار السابقة الدالّة علی جواز التغسیل مجرّداً، کما هو مقتضی الأصل والإطلاقات الآمرة بالغسل لولا التقیید، بل والاستصحاب للزوجیّة وآثارها ، لولا الإشکال باحتمال تغییر الموضوع وتعدّده .


1- وسائل الشیعة : الباب 20 من أبواب غسل المیّت، الحدیث 7 - 8 .
2- وسائل الشیعة : الباب 20 من أبواب غسل المیّت، الحدیث 7 - 8 .

ص:149

فاحتمال انقطاع العصمة وعلقة الزوجیّة بینهما کاملاً، کما احتمله العلاّمة فی «المنتهی»، بل علّل الحکم بعدم جواز نظرها إلی عورته بذلک .

ممّا لا یقبله الذوق السلیم ، بل ینافی مع لسان بعض الأخبار الصحیحة الموثوقة، کالخبر المروی عن محمّد بن مسلم قال : «سألت أبا جعفر علیه السلام عن امرأة توفّیت أیصلح لزوجها أن ینظر إلی وجهها ورأسها؟ قال : نعم»(1) .

حیث یدلّ علی بقاء العصمة بینهما .

بل فی «الجواهر»: «لعلّه کان عدم انقطاع العصمة کالضروری من مذهبنا» .

نعم ، یحتمل الحمل علی الکراهة بواسطة النهی عن النظر فی شیء من شعرها وغیره المذکور فی صحیحة الحلبی . کما احتمل فی «الجواهر» حرمة النظر إلی عورتها بخصوصها لوقوع النهی عنه فی صحیحة زید الشحّام بالنسبة للرجل إلی زوجته ، أی لا تنظر الزوجة إلی عورة زوجها فیؤخذ بذلک فی عکسه بالأولویّة، باعتبار أنّ النهی فی الزوجة مع وجود العدّة لها ، یستلزم النهی فی عکسه بالأولویّة، حیث لا عدّة للزوج مع الزوجة .

ولکن الالتزام بالحرمه جزماً مع وجود التعلیلات السابقة بکون النهی بلحاظ کراهة أهلها، لا یخلو عن تأمّل، وإن کان مقتضی الاحتیاط هو ذلک کما لایخفی .

فالأقوی عندنا هو الکراهة فی النظر إلی العورة، وشدّتها فی نظر الرجل إلی عورة زوجته .

وبالجملة: فظهر من جمیع ما قدّمنا ضعف القول بوجوب کون التغسیل من وراء الثیاب، بلا فرق بین کون الغاسل زوجاً أو زوجة، وإن کان هو المشهور فی


1- وسائل الشیعة : الباب 24 من أبواب غسل المیّت، الحدیث 10 .

ص:150

الأخبار فی غسل الزوج للزوجة ، بل ربما قیل بعدم التعارض بین تلک الأخبار وبین غیرها إلاّ بالإطلاق والتقیید ، فیقیّد مطلقها .

ولکن الإنصاف والدقّة یقتضی الحکم بجواز التجرید لبدنها، لدلالة کثیر من الأخبار بالإطلاق ، وظهور بعضها فی التجرید لو لم نقل بصراحته ، مثل ما جاء فی بعض الأخبار من قوله علیه السلام : «یُلقی علی عورتها خرقة» . وقوله علیه السلام : «إنّما یمنعها أهلها تعصّباً» . وما دلّ علی جواز النظر إلی ما عدا عورتها . بل یستفاد ذلک من الفقرة الأخیرة الواردة فی خبر عبداللّه بن سنان، قال : «سمعت أبا عبداللّه علیه السلام یقول : إذا مات الرجل مع النساء، غسّلته امرأته، وإن لم تکن امرأته معه غسّلته أولاهنّ به، وتلفّ علی یدیها خرقة»(1).

بل دلالة نفس اختلاف الأخبار فی التغسیل، من إدخال الید تحت القمیص، أو سکب الماء من فوق الدرج ووراء الثیاب ، والإشعار المستفاد من التعلیل بکونها (أسوء منظراً إذا ماتت) یدلّ علی أنّ المانع هو النظر دون التجرید نفسه .

مع إمکان أن یکون المانع فی بعضها هو النظر الأجنبی کما هو غیر بعید، لکون محلّ التغسیل والمغسل عادةً یکون فی متناول أبصار الناظرین، فالقول بالاستحباب قویّ، وإن کان الأحوط کونه من وراء الثیاب، خصوصاً للرجل بالنسبة إلی زوجته .

فی أحکام الأموات / کیفیّة تطهیر المیّت من وراء الثیاب

فرع: فی کیفیّة تطهیر المیّت من وراء الثیاب؟ أی إذا غسّل المیّت فی الرجل أو المرأة من فوق القمیص بسکب الماء علیه ، کیف یتطهّر؟

ففی «الجواهر»: «أنّه لا إشکال فی عدم سرایة النجاسة من الثوب، الحاصلة


1- وسائل الشیعة : الباب 20 من أبواب غسل المیّت، الحدیث 6 .

ص:151

من مباشرته للمیّت إلی المیّت بعدما غسله، لظهور الأخبار فی حصول الطهارة للمیّت بإتمام الغسل، وإدراجه فی کفنه من غیر حاجة إلی شیء آخر» .

فکأنّه رحمه الله أراد بیان أنّ الثوب المتنجّس إذا فرضنا کون تطهّره محتاج إلی العصر، فقبل عصره وتطهیره، بما أنّ مباشرته لجسد المیّت یوجب تنجیسه ممّا یقتضی تنجیس الجسد بالتبع أیضاً، فینبغی أن یشار إلی کیفیّة التطهیر فی هذه الحالة فی الأخبار، مع أنّه لم یشاهد فی الأخبار ما یدلّ علی ذلک ، فلابدّ من ملاحظة علاج لذلک .

والذی قیل فیه ثلاثة احتمالات :

الاحتمال الأوّل : حصول الطهارة للثوب بمجرّد صبّ الماء، من غیر حاجة إلی العصر هنا، وإن احتاج فی تطهیره فی غیره إلیه .

هذا هو مختار الشهید فی «الذکری» و«الروضة» و«جامع المقاصد» وغیرها ، واختاره صاحب «الجواهر» قدس سره ، بل هو الذی مالَ إلیه صاحب «مصباح الفقیه» ، وهو قویّ عندنا باعتبار تبنّی قاعدة التبعیّة وإسقاط حکم العصر هنا فی تطهیره ؛ لأنّه من الثابت بین الأصحاب عدم لزوم تطهیر بدن المیّت بعد إتمام الغسل، حیث یستفاد منه عدم تنجّس بدنه بالنجاسة العَرَضیّة الثابتة للثوب ، والإلزام بکون الثوب المتنجّس لا یوجب التنجّس حتّی مع کونه ملاصقاً لبدن المیّت، ممّا لا یمکن القبول ، فلا محیص من القول بحصول الطهارة للثوب بمجرّد الصبّ، من دون حاجة إلی العصر فی تطهیره، إذ هو أهون من الالتزام بحصول الطهارة للمیّت، وبقاء النجاسة للثوب، وعدم سرایته إلیه مع الملاصقة ، ونظیره موجود فی الخرقة الساترة للعورة، حیث لا یحتاج تطهیرها إلی العصر مع کونها من الخرقة .

ص:152

ومناقشة صاحب «الجواهر»: بأنّه قیاس لا نقول به لو سلّم الحکم فی المقیس علیه . لیس علی ما ینبغی، لأنّه لیس بقیاس ، بل هو من قبیل وحدة الملاک فی الموردین، لأنّه إذا فرضنا عدم إمکان العصر فی تطهیره ، ومع کونه ملاصقاً علی بدن المیّت، لأنّ المفروض أنّ رفعه یوجب الخروج عمّا وقع فی الدلیل من الأمر بتغسیله فی القمیص، وتجویزه کذلک ، فلا یمکن الجمع إلاّ بالقول بحصول الطهارة تبعاً بلا عصر .

فی أحکام الأموات / فروع تتعلّق بتغسیل الزوجین للآخر

الاحتمال الثانی: عدم تنجّس الثوب بملاقاته لبدن المیّت، ولکن ظهر ممّا ذکرنا خلال البحث عن الاحتمال الأوّل عدم تمامیّة القول بعدم تنجّس الثوب بملاقاته لبدن المیّت، لأنّه یوجب رفع الید عمّا یدلّ علی تنجّس ملاقی النجس بالملاقاة.

الاحتمال الثالث: عدم تنجّس بدن المیّت بعد تمام غُسله، وهذا الاحتمال أیضاً ظهر عدم تمامیّته بما ذکرناه آنفاً لعدم صحّته حتّی مع فرض قبول نجاسة الثوب الملاصق لبدن المیّت، لما قد عرفت من تمامیّة دلالة تلک القاعدة فی الطرفین من البراءة من سرایة النجاسة من المیّت إلی الثوب، ومن الثوب النجس إلی المیّت .

وبالجملة: ظهر بذلک عدم صحّة ما اختاره المحقّق الآملی فی مصباحه من أوّل الاحتمالین، من القول بعدم تنجیس الثوب من أوّله کما هو القول والاحتمال الأوّل . ولکن فی بیان الدلیل ذکرنا فی الاحتمالین من عدم تنجّس بدن المیّت بتنجّس الثوب النجس الملاصق للبدن .

وکیف کان ، فقد عرفت أنّ الأقوی عندنا هو القول بطهارة الثوب تبعاً لطهارة ید الغاسل وأوانی الغَسل من دون حاجة إلی العصر ، اللّه العالم .

ص:153

قال صاحب الجواهر: «إنّ الأحوط منه التغسیل من تحت الثیاب، من دون نظر من الغاسل، بأن یغطّی المیّت بالثوب مرتفعاً عنه، کأن یقبض علیه من جانبیه أو نحو ذلک».

قلنا : کلامه متین لولا ملاحظة الأخبار ، فإنّ نصوص الأخبار ومدلولها لا توافق مع دعواه، فقد ورد فی بعضها التصریح بلزوم صبّ الماء علی الثوب والتغسیل معه، فلا محیص من الالتزام بما قد ذکر من الوجوه والمحتملات الثلاثة، کما لا یخفی .

هنا عدّة فروع ینبغی التعرّض لها:

الفرع الأوّل: ما المراد من الثیاب الذی ینبغی أن تُغسّل المیتة فیه؟ هل المراد المعهود منه، حیث لا یستر الوجه والکفّین والقدمین، کما علیه صاحب «الجواهر» ممّا یستلزم عدم وجوب تغطیة الوجه والکفّین والقدمین فی حال الغسل .

أو أنّ المراد من الثیاب ما یستر جمیع بدن المیّت، کما علیه المحقّق فی «جامع المقاصد» ؟

والظاهر هو الثانی ، بل هو الأقوی ؛ لأنّه المناسب للحکم بوجوب الغسل من وراء الثیاب إذ المناسبة بین الموضوع والحکم یقتضی ذلک، خصوصاً مع ملاحظة بعض الأخبار الدالّة علی النهی عن النظر إلی شعرها وسائر أعضاء جسدها.

واحتمال الاستثناء هنا من وجوب الستر ، لو سلّمناه فی مثل الکفّین والقدمین والوجه ، لکن لا یمکن التسلیم به فی مثل الرأس ، مع أنّ الثیاب المتعارفة فی الأبدان غیر ساترة للرؤوس عادةً .

اللّهُمَّ إلاّ أن یُراد من الثیاب ما تغطّی جمیع البدن من الرأس إلی القدمین کما هو الحال فی الثوب المعروف ب_ (الشادور) عند الإیرانیّین حیث یستر جمیع البدن.

ص:154

وکیف کان، فما اختاره المحقّق هو الأقوی عندنا .

الفرع الثانی: لا فرق فیما ذکرنا من الأحکام فی الزوجة، بین الحرّة والأمَة ، ولا بین الدائم والمنقطع ، ولا بین المدخول بها وغیرها .

نعم ، قد یرد الإشکال فی المنقطع إذا کان قد انقضی عنها الأجل بعد الموت، من حیث أنّه یکفی فی جواز تلک الاُمور کون حین الموت زوجةً وحلالاً ، والخروج بعد الموت بانقضاء الأجل لا یؤثّر فی الحکم، إذ العرف یقال انّها زوجته قد ماتت ، بل قد یجری فیها الأصل إذا فرض کونها زوجة بعد الموت مدّة ولو بلحظة ثمّ انقضی الأجل ، فعند الشکّ فی جواز تلک الاُمور یستصحب .

اللّهُمَّ إلاّ أن یستقلّ فی وحدة الموضوع حیث کانت زوجته والآن قد خرجت ، فبذلک قد یوجب الإشکال فی جوازه .

ومثله یأتی الکلام فی الزوج إذا انقضی عند الأجل ، ولکن حیث کانت فی العدّة له بحیضتین ربما یحتمل الجواز فیها .

ولکنّه مندفع، بأنّ هذه العدّة لیست رجعیّة حتّی تکون بمنزلة الزوجة ، بل تکون حالها کحال ذات العدّة البائنة ؛ لأنّ الرجوع إلیها یحتاج إلی عقد جدید ، فالأحوط ترک المباشرة مع وجود المماثل وفقد الضرورة ، بل حتّی مع الضرورة ینبغی الغُسل من وراء الثیاب والامتناع عن تجریدها ، واللّه العالم .

الفرع الثالث: فی حکم المطلّقة الرجعیّة، فقد اُلحقت بالزوجة وقیل إنّ حکمها حکم الزوجة ؛ حیث صرّح به جماعة من الأصحاب ، بل لا أجد فیه خلافاً من أحد، سوی ما فی «المنتهی» حیث قال : «لو طلّق امرأته، فإن کان رجعیّاً ففی جواز تغسیل الآخر له نظر» .

ولعلّه لاحتمال المناقشة فی الأدلّة، بدعوی انصرافها إلی کونها زوجة غیر

ص:155

مطلّقة ، لکنّه ضعیف بعد القول بکونها زوجة قبل خروجها عن العدّة ، فللمرأة أن تغسّل الرجل إن مات قبیل خروجها من العدّة ، وإن مات بعدها فهی أجنبیّة کالمطلّقة بائناً ، وهو واضح لا کلام فیه .

الفرع الرابع: وقد تعرّض له صاحب «الجواهر»، وبرغم ندرة تحقّقه، لکن لا بأس بالتعرّض له، وهو أنّه لو مات رجل فی حال بقاء الزوجیّة، ولم یُغسّل حتّی انقضی زمان العدّة للمرأة ، فهل یجوز لزوجته حینئذٍ مباشرة تغسیله أم لا؟

قال الشهید فی «الذکری»: «ولا عبرة بانقضاء عدّة المرأة عندنا ، بل لو نکحت جاز لها تغسیله، وإن کان الفرض عندنا بعیداً» ، انتهی .

ونحوه فی «الروض» و«الروضة» و«جامع المقاصد» ، بل کلمة (عندنا) مُشعرة علی أنّ الحکم مجمع علیه عند الإمامیّة ، فلابدّ من تحقیق الأمر عن المراد من العدّة المفروضة فی کلامهم ؟

والذی ینسبق إلی الذهن، کون المراد هو انقضاء عدّة الوفاة ؛ لأنّ المقصود من عنوان هذا البحث هو ملاحظة أنّ الموت هل یوجب انقطاع العصمة والمحرّمیة بینهما، أم أنّ الموت غیر قاطع لهما، أو لا یوجب حتّی مع الانقضاء ؛ لأنّ من مذهب العامّة _ کأبی حنیفة _ من یدّعی الانقطاع بالموت کما سیظهر کلامه عن قریب ، ولعلّ المقصود من (عندنا) فی کلام الشهید وغیره، هو ردّ کلام أبی حنیفة من دعوی الانقطاع .

وکیف کان، لو اتّفق کذلک أی بقی جسد الزوج بلا غُسل إلی أن خرجت زوجته عن العدّة، فهل یجوز لها تغسیله أم لا؟

استشکل فی الحکم بعض متأخّری المتأخّرین، بدعوی صیرورتها أجنبیّة بعد الانقضاء ، فکیف یجوز لها مباشرة تغسله، خصوصاً مع الشکّ فی شمول

ص:156

الإطلاقات لمثل ذلک لندرته ، بل قد یشعر التعلیل الوارد فی صحیحة الحلبی وغیرها بأنّها (فی عدّة منه) فی جواز تغسیله، علی أنّه لا یجوز بعد الخروج منها، فضلاً عمّا إذا تزوّجت وأصبحت زوجة لغیر المتوفّی .

أقول: ولکن بالتأمّل والدقّة ربما یقتضی القول بالجواز ؛ لأنّه لا إشکال فی کون الزوجیّة أو المحرّمیة باقیة لما بعد موتها ، ولأجل ذلک قد أُجیز مباشرتها بالتغسیل فی ابتداء الأمر ، مع أنّه لو کان قد انقطعت العصمة بمجرّد الموت، فلابدّ من القول بعدم الجواز فی ذلک أیضاً ، مع أنّه مخالفٌ لصریح النصوص السابقة من التجویز ، فمجرّد مضیّ الزمان أو انقضاء عدّة الوفاة لا یوجب الانقطاع بالنسبة إلی الزوج الأوّل، بل قد ورد فی بعض الأخبار ما یدلّ علی أنّ المرأة المؤمنة تتخیّر فی الجنّة فی المصاحبة بین زوجها الأوّل أو الثانی أو غیرهما، ممّا قد یؤیّد بأنّ أصل الزوجیّة لم تعدم بمجرّد الموت ، بل هی باقیة حتّی بعد انقضاء العدّة ، فمسّ جسدها بعد ذلک أو النظر إلیه لا یکون لها حراماً .

وأمّا قضیّة ندرة وقوعه، فممنوع أوّلاً ، لإمکان الاحتفاظ بجثّة المیّت لفترات طویلة فی المستشفیات والثلاّجات وما إلی ذلک لأسبابٍ عدیدة .

وثانیاً : أنّ الإطلاقات بدلالتها العرفیّة تشمله، ولا یلاحظ حال کثرة وقوعه وندرته، إلاّ لأجل الانصراف البدوی إلیه، وهو غیر ضائر فی الإطلاقات، کما لایخفی .

وأمّا الاستشعار بالتعلیل بکونها (فی عدّة منه) لتجویز غسله، إنّما کان ذلک لأجل تجرید المیّت من ثیابه، حیث قد ورد فی بعض النصوص معلّلاً بکونها (فی عدّة منه) ، فیجوز لها أن تجرّده، لکن لا یجوز لها أن تنظر إلی عورته، کما وردت الإشارة إلیه فی بعض الأخبار، مع إمکان أن یکون عکس ذلک، لأجل أهلهنّ حیث یکرهون ذلک لزوجها بعد موتها ، لا أن یکون حراماً شرعاً ، کما یؤیّد ذلک

ص:157

عدم الحکم بذلک فی عکسه ؛ بمعنی أنّه إذا أراد الزوج أن یغسّل زوجته جاز لها ذلک، ولم یلاحظ فیه ذلک، حیث لا عدّة له، فیظهر أنّ التعلیل لا یرتبط بالمحرّمیة، وإلاّ لاستلزم حرمة التغسیل فی عکسه أیضاً کما لا یخفی .

وقال صاحب «الجواهر» تلو هذه المسألة : «وربما فرضت المسألة فی صورة أقرب ممّا ذکرناه، وهی فیما إذا کانت حاملاً، ثمّ وضعت بعد موته، فإن قلنا إنّ عدّتها تنقضی بالوضع فقط کما هو مذهب ابن أبی عقیل ، فإذا نکحت غیره قبل تغسیله، لم یمنع ذلک من تغسیلها ، إلاّ أنّ ذلک لا یتمّ بناءً علی ما هو المعروف من مذهب أصحابنا من العدّة بأبعد الأجلین».

أقول: ینبغی الإشارة إلی أنّ وضع الحمل إن کان مخرجاً للزوجة عن العدّة من جمیع الجهات، من حکم الزوجین، وجواز النظر واللّمس وغیرهما ، ومن جهة حرمة التزویج ، فلذلک الفرض وجه بلا إشکال، کما علیه ابن أبی عقیل ، بل وکذا یصحّ ذلک لو قلنا بأنّ وضع الحمل موجب لجواز التزویج بالغیر، وإن لم یستلزم ذلک بقاء جواز النظر والمسّ، فلا إشکال حینئذٍ جواز تغسیلها للزوج وإن کانت منکوحة الغیر؛ لأنّه علی الفرض وإن لم تکن باقیة علی جواز النظر والمسّ لعدم خروجها عن العدّة بوضع الحمل ، إلاّ أنّه لا یمنع عن جواز التغسیل، ولو صارت زوجة للغیر .

وأمّا علی فرض کون وضع الحمل بالخصوص غیر مخرج عن عدّتها، وکان وجود العدّة موجباً للمنع عن التزویج للغیر ، کما أنّه غیر مخرج عن جواز النظر والمسّ ، فالمسألة غیر منطبقة علی ما ذکره صاحب «الجواهر»، لوضوح أنّ ذلک منوط بخروجها عن العدّة، وهو لا یکون إلاّ بأبعد الأجلین، فیعود إلی ما فرضه سابقاً من ندرة وقوعه لبُعد المدّة .

ص:158

ولکن یمکن أن ندّعی بأنّ للزوج إذا ماتت زوجته جاز له مباشرة التزویج باُختها أو بأربعة أزواج؛ لأنّ عدّة الوفاة لیست کعدّة الطلاق الرجعی حتّی لا یجوز التزویج له ، بل حکم عدّتها تکون کحکم عدّة الطلاق البائن ، هذا بخلاف حکم النظر والمسّ، حیث لا یخرج عن حکم جوازهما حتّی بعد خروجها عن العدّة، لأنّها کانت زوجته وماتت ، وهکذا یکون فی طرف الزوجة بالنسبة إلی حکم النظر والمسّ، حیث لا یخرج عنهما بسبب خروج العدّة، وإن لم نجوّز للزوجة التزویج بالغیر إلاّ بعد خروجها عن عدّتها .

فیظهر من ذلک أنّ ما ذکره العلاّمة فی «المعتبر» من قیام الشهرة بین الأصحاب علی القول بجواز التزویج لها بمجرّد الولادة ، یؤیّد ما قلناه سابقاً من القول بعدم الملازمة بین جواز التزویج، وحرمة النظر والمسّ، حتّی یوجب تحریم تغسیلها لزوجها کما لا یخفی .

هذا کلّه بالنسبة إلی کون المراد من العدّة فی کلام الشهید فی «الذکری» هی عدّة الوفاة، کما هو الأقرب .

وأمّا لو کان المراد منها عدّة الطلاق الرجعی ، فحینئذٍ یشکل الحکم فیه ، إلاّ إذا فرضنا حدوث موت الرجل فی آخر یوم العدّة، حیث أنّ موته یقارن مع خروجها عن العدّة، فإذا تزوّجت قبل تغسیل زوجها ، فهذا یصحّ لو لم نقل بتبدّل عدّتها فی ذلک إلی عدّة الوفاة ، إذ حینئذٍ لا یمکن فرض المسألة ؛ لأنّه لا یجوز لها التزویج إلی الغیر إلاّ بعد انقضاء عدّة الوفاة ، وهکذا یتّحد هذه المسألة مع المسألة السابقة، فیکون حکمها حکم تلک المسألة کما لا یخفی .

هذا کلّه تمام الکلام فی حکم الأحرار من الزوج والزوجة.

أمّا حکم الإماء: فی أنّ الأمَة هل هی ملحقة بالزوجة فی هذه الأحکام مطلقاً،

ص:159

فیجوز لکلّ منهما تغسیل الآخر سواء کانت اُمّ ولد أو لا إذا لم تکن مزوّجة أو معتدّة أو مبعّضة أو مکاتبة، فینتج أنّه یجوز لها تغسیله وله تغسیلها _ أم لا؟

هنا عدّة أقوال:

أمّا القول الأوّل: فقد ذهب إلیه صاحب «القواعد» و«البیان» و«مجمع البرهان» ، بل لا خلاف فیه بالنسبة إلی الثانی، أی تغسیل السیّد لأمتها، کما یستظهر نفی الخلاف فی «مجمع البرهان» ، بل فی «جامع المقاصد»: «أنّ تغسیله لها جائز قطعاً إذا کان وطئها جائزاً» .

أمّا القول الثانی: فقد التزم به المحقّق فی «المعتبر» من أنّ الأقرب أن لا تغسل المملوکة غیر اُمّ الولد سیّدها، معلّلاً ذلک بأنّ ملکها انتقل عنه إلی غیره، فحرم علیها النظر .

القول الثالث: هو التوقّف، کما فی «المنتهی» و«التحریر» و«النهایة» و«التذکرة» .

القول الرابع: هو المنع مطلقاً، أی من الطرفین حتّی من اُمّ ولد .

أقول: والظاهر کون الحقّ مع القول الأوّل، ولا وجه للحرمة، لوضوح أنّ الملکیّة لا تنقطع بالموت، کما لا تنقطع الزوجیّة به ، بل لأجل کون الملکیّة باقیة یتوارث الوارث ، وإلاّ لا معنی لمالکیّتهم للعبد أو الأمَة بالموت ، ولأجل ذلک لو فرضنا عودة الحیاة إلیه بعد موته بسببٍ من الأسباب المعیدة کانت ملکیّته لها ثابتة باقیة ، ویجوز لکلّ منهما النظر إلی الآخر بسبب بقاء الملکیّة الأوّلیّة، ولا یوجب انتقاله إلی ملک الوارث سلب الملکیّة عن السیّد، بل مالکیّة الوارث منوطة بعدم حیاة المورث ، فإذا فرض الحیاة له بالرجوع، لکان ملکیّته باقیة، ولا یبعد سلب الملکیّة عن الورّاث، لاستحالة توارد المالکین بالتمام علی مملوک

ص:160

واحد ، فمالکیّة الوارث کانت من شؤون مالکیّة السیّد، فکأنّ ملکیّته متحقّقة فی ضمن ملکیّة الورثة ، هذا .

مضافاً إلی إمکان دعوی الانصراف فی الأدلّة الدالّة علی المنع عن التغسیل فی غیر المماثل عن مثل السیّد والأمَة، المسبوق بالمحرّمیة کالزوجیّة ، حیث أنّ العرف لا یساعد مع دعوی کون التغسیل بینهما من قبیل تغسیل الأجنبی للأجنبیّة أو بالعکس ، مع أنّ الموت لو کان سبباً لخروج الأمَة عن الأهلیّة للتملّک، لکان موت السیّد أیضاً موجباً لخروجه عن الأهلیّة للمالکیّة ، إذ الملکیّة من الاُمور الاعتباریّة ذات الإضافة ، فحینئذٍ لا وجه للقول بالتفصیل بین التجویز فی طرف السیّد للأمَة دون عکسها ، فلابدّ من دعوی التساوی فی الصورتین فی الجواز کما هو الأقوی وعدمه .

هذا ، مضافاً إلی إمکان الرجوع إلی الأصل الحکمی، لو لم نقل بإمکان جریان الأصل الموضوعی _ أی استصحاب بقاء العلقة الملکیّة _ بدعوی أنّ الموت مغیّر للموضوع، فلا تبقی حینئذٍ شروط الاستصحاب: من وحدة الموضوع فی المستصحب ، وهو استصحاب جواز النظر والمسّ واللّمس من دون توجّه إلی حال موضوعها، لو لم یکن لنا دلیل علی کون الموت موجباً لصیرورتهما أجنبیّین کما هو المفروض ، بل الدلیل هنا قائم علی خلافه ولو فی خصوص اُمّ ولد ، مضافاً إلی أنّ الأصل عند الشکّ فی شرطیّة شیء أو مانعیّته عدمهما ، فهکذا یکون فی المقام بالنسبة إلی الحیاة فی الشرط والموت فی المنع .

هذا، ومن جهة اُخری هناک بعض الأخبار الدالّة علی الجواز، المستفاد منه ملاک الجواز:

منها: الخبر المروی عن إسحاق بن عمّار ، عن جعفر ، عن أبیه ، عن أبیه : «أنّ

ص:161

علیّ بن الحسین علیه السلام أوصی أن تغسّله أُمّ ولد له إذا مات، فغسّلته»(1) .

بناءً علی کون المراد من التغسیل هو غُسل المیّت المتعارف المشروع ، فیدلّ علی کون الملاک فی جوازه، بقاء علقته بعد الموت، وعدم صیرورتها أجنبیّة ، وإلاّ إن کان الموت سبباً للانقطاع، فلا فرق فی ذلک بین کونها اُمّ ولد أم لا ، وبین کون الغاسل أَمَة أو سیّداً .

فهذا علی فرض القبول یکون الغُسل غُسلاً مشروعاً تامّاً ، وإلاّ لأصبح أجنبیّاً عن المقام، بأن یحمل علی الإعانة والمساعدة، کما ورد فی حقّ أسماء مع علیّ علیه السلام فی تجهیز فاطمة علیهاالسلام ، حیث قالت: «إنّ فاطمة أوصتنی بأن لا یغسلها إلاّ أنا وعلیّ علیه السلام » ، أو کان جوازه بلحاظ حال التقیّة ؛ لأنّ الإمام علیه السلام لا یغسله إلاّ إمام .

بل قد یؤیّد المحرّمیة بالملکیّة الروایة المرویّة فی «الفقه الرضوی»: «ونروی أنّ علیّ بن الحسین علیه السلام لمّا مات، قال الباقر علیه السلام ؛ لقد کنت أکره أن أنظر إلی عورتک، فما أنا بالذی أنظر إلیها بعد موتک ، فأدخل یده وغسل جسده، ثمّ دعا اُمّ ولد له فأدخلت یدها فغسّلت عورته [وفی الجواهر: (فغسّلته) بدون ذکر و کذلک فعلت أنا بأبی(2) .

ولا یبعد أن یکون المقصود هو إعانة اُمّ الولد للإمام بخصوص غسل العورة فی کلّ مرّة من الأغسال الثلاثة ، فإنّ التعلیل المذکور فی الصدر یومی إلی أنّ عورته علیه السلام لم تصبح بالموت محرّمة النظر علیها ، وکذلک المسّ ، فیمکن أن یکون قد أدخلت یدها ومسّتها للغسل الذی کان غیر جائز للإمام علیه السلام ، فالروایة


1- وسائل الشیعة : الباب 25 من أبواب غسل المیّت، الحدیث 1 .
2- مصباح الفقیه : ج5 / 79 .

ص:162

ویجوز أن یغسل الکافرُ المسلم، إذا لم یحضره مسلمٌ ولا مسلمةٌ ذات رحم ، وکذا تغسل الکافرة المسلمة إذا لم تکن مسلمة ولا ذو رحم (1).

مؤیّدة للمطلب، خصوصاً إذا کان الراوی للروایة هو الإمام الرضا علیه السلام ، فروایته تعدّ حجّة قاطعة ، بل لو کان الراوی غیره علیه السلام فلا شبهة فی کونه واحداً من أجلّة فقهاء المذهب ، فیکون اعتماده بما أرسله من الروایة، منشأً للوثوق بها، کما وردت الإشارة إلیه فی «مصباح الفقیه».

لا یقال: إنّ بقاء الملکیّة بعد الموت، یستلزم توارد المالکین من المیّت والوارث علی مملوک واحد، وهو محال .

لأنّا نقول: بإمکان أن یکون بقاء الملکیّة للمیّت من حیث الآثار، من جواز النظر واللّمس ونحو ذلک، لا أصل الملکیّة حتّی ترد هذه الشبهة، وشبهة عدم القابلیّة والأهلیّة للملکیّة من الطرفین کما عرفت بحثه .

والحاصل : أنّ انتقال الأمَة بموت سیّدها إلی الغیر، لا یمنع عن بقاء حکم جواز النظر والمسّ لها ، کما لا یُمنع السیّد بانعتاق اُمّ الولد أو حرّیة المدبّرة عنهما ، فکذلک عن حکم جواز تغسیلهما للآخر .

نعم ، غایته توقّف مباشرتها للتغسیل علی إذن الوارث الذی قد انتقلت إلیه ، وهکذا یکون الحکم فی عکسه، أی فیما إذا ماتت الأمَة، فیجوز لسیّدها تغسیلها، إذ لا تخرج بالموت عن حکم الملکیّة من حیث الآثار، لعدم وجود دلیل علی المنع، کما لا یخفی، واللّه العالم .

(1) هذا هو المشهور کما حکاه جماعة منهم الشهیدان .

بل فی «الذکری»: «لا أعلم لهذا الحکم مخالفاً من الأصحاب، سوی المحقّق

ص:163

فی «المعتبر»». وفی «التذکرة» نسبته إلی علمائنا ، إلاّ أنّه زاد: «مع حضور الأجانب من المسلمین والمسلمات فیأمرون الکافر بالاغتسال أوّلاً ، ثمّ یعلّموه کیفیّة غسل المسلمین ، فیغسل».

فی أحکام الأموات / تغسیل الکافر والکافرة للمسلم

بل هو مقعد بعض حکایة الشهرة، خلافاً للآخرین من عدم ذکر ذلک ، ولکن أصل الحکم مقبول عند کثیر من الأصحاب، کما صرّح بذلک فی «المقنعة» و«التهذیب» و«الوسیلة» و«المنتهی» و«القواعد» و«الإرشاد» و«اللّعمة» و«البیان» و«روض الجنان» و«الروضة» و«الذخیرة» و«الحدائق» و«المبسوط» و«النهایة» و«المراسم»، والصدوقین وابن الجنید والصهرشتی وابن سعید ، بل هو مختار صاحب «الجواهر» و«مصباح الفقیه» و«مصباح الهدایة» والسیّد فی «العروة» ، وکثیر من أصحاب التعلیق علیها لولا کلّهم .

نعم ، لم یتعرّض إلی هذه المسألة ابن أبی عقیل والجُعفی وابن البرّاج فی کتابیه، وابن زهرة وابن إدریس والشیخ فی «الخلاف»، وعدم ذکرهم لا یضرّ بالشهرة لعدم صیرورتهم مخالفاً فی المسألة .

لکن فی المقابل هناک جماعة من فقهاءنا توقّفوا فی حکم هذه المسألة، منهم: المحقّق فی «المعتبر»، ووافقه فی ذلک جملة من المتأخّرین، کما فی «الروضة»، وعن «حاشیة القواعد» و«مجمع البرهان» و«حاشیة المدارک» ، وعن «المدارک» وعن «جامع المقاصد».

أمّا الدلیل: فقد استند المشهور لحکم هذه المسألة:

أوّلاً: بالإجماع المدّعی المستفاد من «الذکری» و«التذکرة».

ثانیاً: بالشهرة المتحقّقة .

ثالثاً: الأخبار الدالّة علیه:

ص:164

منها: موثّقة عمّار بن موسی المرویّة فی «الکافی» و«التهذیب»، عن الصادق علیه السلام فی حدیث، قال : «قلت : فإن مات رجلٌ مسلم، ولیس معه رجل مسلم، ولا امرأة مسلمة من ذوی قرابته، ومعه رجالٌ نصاری ونساءٌ مسلمات، لیس بینه وبینهنّ قرابة؟ قال : یغتسل النصاری، ثمّ یغسّلونه فقد اضطرّ . وعن المرأة المسلمة تموت ولیس معها امرأة مسلمة ولا رجلٌ مسلم من ذوی قرابتها، ومعها نصرانیّة ورجال مسلمون (ولیس بینها وبینهم قرابة) ؟ قال : تغتسل النصرانیّة ثمّ تغسّلها»(1) .

ومنها: روایة عمر بن خالد ، عن زید بن علیّ ، عن آبائه ، عن علیّ علیهم السلام ، قال : «أتی رسول اللّه صلی الله علیه و آله نفرٌ فقالوا : إنّ امرأة توفّیت معنا ولیس معها ذو محرم ؟ فقال : کیف صنعتم؟ فقالوا : صببنا علیها الماء صبّاً . فقال : أوما وجدتم امرأة من أهل الکتاب تغسّلها؟ قالوا : لا ، قال : أفلا یممتموها»(2) .

ویؤیّده ما عن «الفقه الرضوی» من قوله: «فإنّ میّت بین رجال نصاری ونسوة مسلمات، غسّله الرجال النصاری بعدما یغتسلون، وإن کان المیّت امرأة مسلمة بین رجال مسلمین ونسوة نصرانیّة اغتسلت النصرانیّة وغسّلتها»(3) .

ولکن قال صاحب «المعتبر»: بعد نقل الخبرین الأوّلین : «وعندی فی هذا الوقف ، والأقرب دفنها من غیر غسل ؛ لأنّ غسل المیّت یفتقر إلی النیّة، والکافر لا تصحّ منه نیّة القُربة».


1- وسائل الشیعة : الباب 19 من أبواب غسل المیّت، الحدیث 1 .
2- وسائل الشیعة : الباب 19 من أبواب غسل المیّت، الحدیث 2 .
3- مستدرک وسائل الشیعة : الباب 18 من أبواب غسل المیّت، الحدیث 1 .

ص:165

ثمّ طعن فی الحدیث الأوّل بأنّ رجال إسناده کلّهم فطحیّون، وفی الحدیث الثانی بأنّ رجاله زیدیّه ، فلابدّ من طرح هذه الأخبار أو حلمها علی التقیّة من حیث دلالتها علی طهارة أهل الذمّة .

أقول: ولا یخفی ما فی کلامه من الإشکال حتّی علی مبنی المحقّق فی غیر المورد، حیث قد یعمل بما قبله الأصحاب من الروایات وإن ضعف سنده ، فکیف الظنّ بمثل هاتین الروایتین، خصوصاً الموثّقة منهما ، فإنّه لم ینقل من أحد ممّن تقدّم علیه طرحهما والتصریح بخلافهم، وإن قد یستشعر ذلک من بعضٍ لأجل سکوتهم عن هذا الفرع کالحلّی وغیره ، وهو غیر ضائر فی جبر الضعف، خصوصاً مع ملاحظة حجّیة الموثّقة بنفسها ولذاتها من دون حاجة إلی الجبر، لکون المدار فی الحجّیة هو الوثوق بصدور الخبر، ولو کان حاصلاً من الجهات الخارجیّه التی من أعظمها استناد الأصحاب إلیه فی عملهم ، ولعلّه لأجل ذلک قد اختار المحقّق فی «الشرائع» ما علیه المشهور من الأصحاب .

أقول: بقی هنا اشتمال هذا الحکم علی اُمور لعلّها مستبعدة کما سنذکرها عن قریب ، برغم أنّ البحث عنها یعدّ اجتهاداً فی مقابل النصّ، مع إمکان اندفاعها فی الجملة کما سنشیر إلیها ، فلا بأس حینئذٍ بذکرها، والتفصیل فی توضیحها، وما یمکن أن یُجاب عنها ، فنقول وباللّه الاستعانة ، وإنّما الکلام یقع فی اُمور :

الأمر الأوّل : فی أنّ المذکور فی خبر عمّار و«الفقه الرضوی»: «ویغسّل النصرانی المسلمَ» و«تغسّل النصرانیّة المسلمة» ، فهل یقتصر علی النصرانی بالخصوص أم یسری ویتعدّی إلی أهل الکتاب کلّهم؟

والظاهر عدم الإشکال فی الثانی ، مضافاً إلی ما فی خبر عمر بن خالد من التصریح بأهل الکتاب علی النحو المطلق باعتبار أنّ ذکر النصرانی والنصرانیّة

ص:166

کان من باب المثال، ولکثرتهم بالنسبة إلی غیرهم من أهل الکتاب، ولشدّة قُربهم إلی المسلمین بالمودّة دون سائر أهل الکتاب ، کما أشار إلیها قوله تعالی : «وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِینَ آمَنُوا الَّذِینَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَی»(1) ، هذا ممّا لا کلام فیه .

نعم ، والذی ینبغی البحث فیه هو أنّه هل یصحّ التعدّی إلی المشرکین وسائر الکفّار، بدعوی عدم الفرق بین أنحاء الکفر ؛ لأنّ الکفر ملّة واحدة، یشترک أهلها فی انفعال الماء بملاقاتهم، وحصول الغرض بفعله، فلا یتعقّل الفرق بین أقسامه، ولأجل ذلک تری کلام المصنّف وغیره من التعبیر بالکافرین، دون ذکر أهل الکتاب .

أو لا یصحّ ذلک بل ینبغی الاقتصار علیهم دون غیرهم ؟

أقول: الظاهر هو الثانی ؛ لأنّ أصل الحکم علی خلاف القاعدة، فلابدّ أن یقتصر فیه علی مورد النصّ والیقین، والتعدّی یحتاج إلی الدلیل، خصوصاً مع احتمال کون أهل الکتاب طاهرین کما علیه البعض، وإن کان غیر مقبول عند المشهور وعندنا ، ولکنّه یوجب احتمال الفرق، خصوصاً مع ملاحظة قُربهم إلی الحقّ، ولعلّه موجب لجواز تغسیلهم ومسّهم لمیّت المسلم فی حال الضرورة دون غیرهم .

ومن ذلک یظهر عدم تمامیّة دعوی عدم القول بالتفصیل، لظهور کلام کثیر من الأصحاب إلی أهل الکتاب لا مطلق الکافر ، فالقول بالتعمیم لا یخلو عن وهن .

الأمر الثانی : لا إشکال فی صحّة تغسیل الکافر والکافرة للمسلم والمسلمة، فیما إذا لم یکن المماثل ولا الرحم ، ولکن بشرط أن یأمر به المسلم أو المسلمة


1- سورة المائدة : آیة 82 .

ص:167

إذا کانا حاضرین ، وعلیه فهل یجوز لهما التغسیل إذا لم یکن بأمرهما، وکان الکافر الکتابی عالماً بکیفیّة غسل المیّت أم لا ؟

فیه وجهان :

من جهة إطلاق الأخبار، حیث لم یذکر فیها هذا الغیر کما هو الملاحظ فی المتن .

ومن جهة أنّ بعض الأصحاب صرّحوا بذلک کصاحب «الوسیلة» وغیره، کصاحب «التذکرة» حیث قال: «مع حضور الأجانب من المسلمین أو المسلمات فیأمرون الکافر بالاغتسال أوّلاً ثمّ یعلّمون کیفیّة غسل المسلمین فیغسل».

وجه ذکر القید: إمّا لأجل کون الغالب عدم اطّلاعهم بکیفیّة الاغتسال أوّلاً .

أو عدم اطّلاعهم بکیفیّه غسل المیّت ، کما یومی إلیه ذکر الأمر بالاغتسال وتعلیم الغسل لهم، فیکون ذکر القید حینئذٍ واجباً طریقیّاً للإیصال إلی ما هو الواجب ، لا أن یکون نفس حضورهم بلا حاجة إلی الأمرین المذکورین واجباً ذاتیّاً .

أو کان ذکر القید للحاجة إلی مباشرة المسلم للنیّة، عند تصدّی الکافر ؛ لأنّ النیّة لا تتمشّی من الکافر .

أو للنیّة مع صبّ الماء علیه من ناحیة المسلم ، لأنّه حینئذٍ یجعل فعل الکافر کأنّه صادراً عن المسلم، لأنّه آلة له، ویکون المسلم بمثابة الفاعل، فتجب النیّة منه دون الکافر، کما صرّح بذلک الشهید وصاحب «کشف اللّثام» .

نعم ، یبقی هنا إشکال وهو أنّ لزوم قیام المسلم بأمر الکافر بالتغسیل، هل لأجل أنّ علیه النیّة أم لا ؟

أقول: المشکلة الناشئة فی صحّة تغسیل الکافر للمیّت، من جهة کون الغُسل عبادة وهی لا تتمشّی من الکافر إمّا لعدم صلاحیّة الکافر للتقرّب ، وإمّا لاعتقاده

ص:168

عدم مشروعیّة التغسیل لکی یتقرّب به .

أجاب عنه المحقّق الهمدانی بقوله: «بأنّ الأظهر عدم توقّف صحّة الغسل إلاّ علی قصد حصول عنوانه، ممیّزاً عمّا یشارکه فی الجنس، أی قصد إیجاد تلک الماهیّة المعهودة المأمور بها فی شریعة سیّد المرسلین . وإمّا اعتبار أمر آخر وراء ذلک ؛ أی کون العمل مخلصاً للّه تعالی، فلم یدلّ علیه دلیل بالنسبة إلی غسل المیّت ، فهو منفیّ بالأصل الذی تقدّم تحقیقه فی نیّة الوضوء . ولذا یقوی الصحّة فیما إذا لم یکن الباعث علی الغسل، إلاّ قصد أخذ الاُجرة، فیأتی بتلک الطبیعة المعهودة الواجبة فی الشریعة لأجلها لا للقُرب بها إلی اللّه تعالی ، کما أنّه کثیراً ما یتّفق فی مثل هذه الأعصار التی تقارن فیها بذل الاُجرة علیه . فعلی هذا لا مانع من حصوله من الکافر من هذه الجهة، فإنّه ینوی بغسله إیجاد الطبیعة المأمور بها فی شرعنا، وإن لم یعتقد حقیقةً، خصوصاً بعد مساعدة الدلیل» ، انتهی کلامه(1) .

أقول: وفیه ما لا یخفی ، لأنّ غسل المیّت لیس إلاّ کسائر الأغسال الواجبة والمستحبّة التی تتوقّف صحّتها علی قصد القربة، وکون فعلها لأجل التقرّب إلی اللّه ، وإلاّ لزم القول بالصحّة حتّی لو نوی خلاف قصد القربة کإزالة الأوساخ عن جسمه أو غیر ذلک ، مع أنّه غیر صحیح کما علیه المشهور لولا الکلّ ، فلا إشکال فی کونه عبادة ومحتاجاً إلی قصد القُربة والنیّة ، بل لزوم قصد الماهیّة المعهودة المأمور بها فی الشریعة لیس راجعاً إلاّ إلی قصد القربة، أی امتثالاً للأمر الصادر من الشرع فی الإتیان بهذا العمل .

فأمّا جواز أخذ الاُجرة علیه، فله أجوبة مذکورة فی سائر الاُمور الواجبة


1- مصباح الفقیه ج5 / 83 .

ص:169

العبادیّة، والمقام منها ، والعمل الصادر عن عامّة الناس لا یعدّ دلیلاً علی صحّة ذلک کما لا یخفی .

ولکن لو قصد بکلامه أنّ المقام من الموارد التی لا تحتاج إلی قصد القربة، لأجل قیام الدلیل علیه ومساعدته لا مطلقاً .

فهو وإن کان خلاف ظاهر کلامه ، ولکن له وجه ، فلابدّ أن یلاحظ هل هو صحیح أم لا .

الجواب الثانی : قیل إنّ المتولّی للنیّة هو المسلم لا الکافر المباشر للتغسیل، فالغسل فعل المسلم دون المباشر الکافر، بل هو آلة له ، ولأجل ذلک تری فی بعض الفتاوی _ کما فی متن «العروة» للسیّد الطباطبائی _ تقییده بأنّه یأمر المسلم الکافر بالغسل .

وفیه : أنّه مخالف لظاهر الأخبار، حیث لیس فیها الأمر بالغُسل من ناحیة المسلم ، بل قد أسند الغسل إلی النصرانی والنصرانیّة ، مع أنّه لیس بشرط فی صحّة غسل الکافر ، بل الأدلّة قد تفید صحّة غسله ولو لم یکن معه مسلم أو مسلمة ، بل لو سلّمنا الشرطیّة _ کما قد یظهر من بعض عبائر الأصحاب _ کان شرطاً خارجیّاً تعبّدیّاً، لا من جهة توقّف صحّة ماهیّة الغسل الصادر منه علی أمر المسلم، من جهة أنّه فاعلاً للتسبیب .

الجواب الثالث: وهو الالتزام بأنّ هذا الغسل بالخصوص لا یحتاج إلی النیّة وقصد القربة، تخصیصاً للأدلّة الدالّة علی لزوم ذلک، وکأنّ الوجه فیه هو الدلیل الوارد هنا علی صحّته من الکافر، مع أنّا نعلم عدم صحّة العبادة منه .

أقول: یکشف من هذین الأمرین:

(1) إمّا خروج غُسل الکافر عن أدلّة لزوم قصد القربة فی غسل المیّت . وهو

ص:170

غیر بعید بعدما سلّمنا وقبلنا دلالة الدلیل علیه، کما هو المفروض ، فعلیه یعدّ العمل الصادر من الکافر صحیحاً، ولو لم یکن المسلم أو المسلمة حاضرین .

(2) وإمّا تخصیص ما دلّ علی عدم صحّة العبادات من الکافر بما عدا غسل المیّت ، لأنّ ما دلّ علی عدم صحّة العبادات منه، کان بالإطلاق القابل للتقیید إذا قام علیه الدلیل کما فی المقام ، نظیر قیام الدلیل علی صحّة عتقه ووقفه وصدقته ، بناءً علی کونها عبادة وصحّتها منه مع هذا الوجه .

وهکذا یتّفق نتیجة هذا الجواب مع نتیجة الجواب السابق من إخراج غسل المیّت منه ، غایة الأمر :

تارةً: بلحاظ خروجه منه موضوعاً، أی لیس هذا الفعل منه عبادة وبالتالی یکون حکم وجوب النیّة وقصد القربة ساقطین .

واُخری : إخراجه حکماً أی برغم أنّ الفعل الصادر عبادة، ولکنّه لا یحتاج فی صحّته إلی النیّة وقصد القربة کما فی الوقف والعتق .

ولا خفاء بأنّ الالتزام بالأوّل أهون من الثانی، إذ لا معنی لکون الشیء عبادٍ مع عدم لزوم قصد القربة والنیّة فیه کما لایخفی علی المتأمّل .

الجواب الرابع: بأنّ هذا الغسل لیس من الأغسال الشرعیّة المشروطة بالنیّة، بل هو فعل أوجبه الشارع فی هذا الحال یشبه الغسل فی الصورة ، ولذا عبّر بعضهم عنه بالغسل الصوری ، ولذا لا یکتفی به لو أمکن صدور الغسل عن المسلم قبل الدفن .

أقول : إن اُرید أنّه خارج عن الغسل المتعارف بلزوم النیّة وقصد القربة لأجل قیام الدلیل علیه، فهو یرجع إلی الجواب السابق ولیس بأمرٍ زائد .

وإن اُرید إنکار أصل الغسل، وکونه غیر غسل المیّت، فهو خلاف لظاهر الأدلّة

ص:171

التی أوجبت هذا الغسل.

وعدم الاکتفاء به مع إمکان غسل المسلم، لا دلیل علی عدم کونه غسلاً، لوضوح أنّ جواز صدور هذا الغسل کان لأجل الاضطرار والضرورة ، فإذا ارتفعت الضرورة فلا یمکن الحکم بصحّته لفقدان شرط صحّته کما لا یخفی .

وبالجملة: ظهر من جمیع ذلک أن الالتزام هنا بما هو مخالف للقواعد إذا ساعده الدلیل لیس ببعید ، بل ولا بعزیز ، وکم له من نظیر .

الأمر الثالث : أنّ تغسیل الکافر للمیّت المسلم یستلزم تنجیسه بالنجاسة العَرَضیّة علی القول بنجاسة أهل الکتاب کما علیه المشهور ، ولذا خالف فیه صاحب «الحدائق» وقال بعدم جواز تغسیله تبعاً للمحقّق فی «المعتبر» ، لکن لا لأجل تضعیف دلیله ، بل لأجل معارضته مع ما یدلّ علی نجاسة الکافر، وترجیح دلیل التنجیس .

ولکن المشهور مع کونهم قائلین بنجاسته حکموا بصحّة غسله، ولم یعتنوا بدلیل التنجیس .

وذکر لرفع المعارضة بینهما وجوه :

الوجه الأوّل : القول بالعفو عن هذه النجاسة العَرَضیّة الحاصلة من مباشرة الکافر، وعدم مانعیّتها عن صحّة الغسل، مع الالتزام بتنجیس الماء وبدن المیّت بملاقاة ید الکافر ، ولکن عفی عنه، لمکان الضرورة، وترتفع بذلک النجاسة الذاتیة الحاصلة لبدن المیّت بالموت، ویبقی بدنه نجساً بالعرض معفوّاً عنه ، وقد علّق المحقّق الآملی علی هذا الوجه بقوله: «وهذا الوجه لیس ببعید» .

أقول: ولا یخفی ما فی التعبیر بکون نجاسة بدن المیّت المسلم نجاسة ذاتیّة، ونجاسة الکافر بالعرضیّة من الاشکال . لوضوح الفرق بین نجاسة المیتة ونجاسة

ص:172

میّت الإنسان، حیث أنّ الأوّل غیر قابل للتطهیر ، فنجاسته ذاتیّة بخلاف المیّت حیث أنّه قابل للتطهیر فنجاسته عرضیّة ، بل لولا قیام الدلیل فی المقام علی الجواز وکذا فی نظائره ، لأمکن القول بعکس ما ادّعی، بأن تکون نجاسة الکافر ذاتیّة والمیّت المسلم عرضیّة .

ولکن مع ملاحظة الأدلّة یستفاد أنّ نجاسة الکافر أیضاً حکمیّة عرضیّة لا ذاتیّة کالکلب والخنزیر ، فالحکم هنا بنجاسة بدن المیّت عرضاً، وکونه معفوّاً عنه لیس بمطلوب، ومخالف لظاهر أدلّته الدالّة علی کون حکم غسله فی هذه الحالة کحکم غسل المسلم لبدن المیّت، من حصول الطهارة وسقوط الوظیفة .

الوجه الثانی : الالتزام بعدم انفعال الماء المستعمل فی الغسل ولا بدن المیّت، وذلک بتخصیص ما یدلّ علی تنجیس ملاقی النجس بما عدا هذا المورد ، وبعد فرض قیام الدلیل علی صحّة الغسل وعدم وجوب تطهیر بدن المیّت بعده .

أقول: لا یبعد صحّة هذا الوجه، وذلک بمقتضی الجمع بین الدلیل الوارد هنا بصحّة غسله وعدم وجوب تطهیر بدنه بعده، مع ما دلّ علی نجاسة الکافر حیث یکون هو القول بعدم انفعال الماء وبدن المیّت، لأجل عدم کون الکافر هنا محکوماً بالنجاسة کسائر الموارد حیث لا یبعد صحّة الالتزام بذلک ، لأنّ النجاسة لیس إلاّ أمراً اعتباریّاً علی حسب اعتبار المعتبر فیحکم به ، ولذلک نجد أنّ الشارع یحکم بعدم نجاسة الدم والبول والغائط ما دام کونها فی داخل البدن ، فإذا خرج یحکم بنجاستهما وهکذا فی حکم الشارع بعدم نجاسة بدن الحیوان بعد زوال العین عن بدنه، من دون تطهیره بالماء ، فلا مانع هنا أیضاً بأن یکون من هذا القبیل، کما لایخفی .

الوجه الثالث : الالتزام بعدم تنجّس بدن المیّت بملاقاته مع الماء النجس وبدن

ص:173

الکافر، مع الالتزام بتنجیس الماء الملاقی مع بدن الکافر، ولازمه تخصیص ما یدلّ علی تنجیس ملاقی النجس بما عدا بدن المیّت فقط ، مع القول بعدم اعتبار طهارة ماء غسله فیما إذا عرضه النجاسة بملاقاته مع الکافر فی هذا المورد .

قال المحقّق الآملی : «وهذا الوجه ممّا لا بُعد فیه».

ولکن نقول: إذا قبلنا الوجه السابق الذی کان أوفق بالقواعد والاُصول، فلا یبقی مجالٌ للالتزام بما قیل هنا حیث یکون الالتزام به أبعد بالقبول من سابقه ، فما قیل قبل ذلک أحسن الوجوه ممّا سبق ، وممّا سنذکره فی الوجه التالی .

الوجه الرابع: وهو الالتزام باشتراط غسل الکافر بالماء المعتصم کالکرّ والجاری، أو علی وجهٍ لا یلاقیه الکافر برطوبة مسریة، کأن یُدخل فی یده فی کیسٍ یمنع وصول سرایة النجاسة والماء فیتحقّق الغُسل دون أن ینجس بدن المیّت.

وفیه: إنّ هذا الوجه یعدّ مخالفاً لظاهر أدلّته من النصّ والفتاوی، حیث لم یشر فی واحدٍ منها إلی هذه الطریقة، بل الأخبار آمرة بإتیان الغُسل علی الوجه المتعارف، والکیفیّة المعلومة عند المسلمین، من مباشرة ید الغسّال بالماء وبدن المیّت ، ولکن مع ذلک کلّه الاحتیاط بتعیّن عدم مسّ الکافر لبدن المیّت أو تغسیله إیّاه بالماء المعتصم، ممّا لا ینبغی ترکه ، بل لا یخلو عن وجه وجیه، لإمکان الإشکال فی صدق الضرورة مع إمکان الفرض المذکور، والحال أنّ إحراز الضرورة فی الجواز لا یخلو عن وجه کما یومی إلیه قوله علیه السلام : «فقد اضطرّ» فی موثّقة عمّار .

الأمر الرابع: فی أنّه لو وجد المماثل أو المحارم بعد التغسیل وقبل الدفن، فهل تجب الإعادة أم لا؟ وهل یستلزم المسّ الواقع بعده قبل الدفن وجوب غسل مسّ المیّت إذا وجد المسلم من المماثل والمحارم أم لا؟

ص:174

فیه وجهان ، بل قولان :

القول الأوّل : عدم الوجوب فی کلا الأمرین، کما صرّح به المحقّق الهمدانی ، بل هو ظاهر «المنتهی» فی الأوّل ، وفی «القواعد» _ کما حکی عن «التحریر» _ الإشکال فیه، حیث قال : «وفی إعادة الغسل لو وجد المسلم بعده إشکال» .

وقد استدلّ لعدم وجوب الإعادة _ کما فی «مصباح الفقیه» _ بأنّه: «ظاهر النصوص والفتاوی بل صریحها، بأنّ الغسل الذی یأتی به الکافر هنا لیس إلاّ نفس الطبیعة التی کان یأتی بها المماثل والمَحرم فیما لو کانا موجودین لا ماهیّة اُخری مشابهة للغسل صورةً أوجبها الشارع تعبّداً عند تعذّر الغسل ، فلا یستفاد من النصّ والفتاوی بالنسبة إلی هذا الفرع إلاّ ما یفهم منها بالنسبة إلی سائر الفروع، کتغسیل الزوجة زوجها والرجل محارمه وهکذا .

والشاهد علی کون المأتی به عین تلک الطبیعة المعهودة، حصول الإجزاء بفعله، وسقوط الطلب الکفائی المتعلّق به عن عامّة المکلّفین، وخروج المیّت من کونه بحکم المیتة، ومن نجاسة الید الملاقیة مع بدنه المستلزمة لغُسل مسّ المیّت، إلی غیر ذلک من آثار الغُسل الصحیح .

وتنظیر بالمتیمّم الواجد للماء قیاسٌ مع الفارق إذ لا أثر للتیمّم إلاّ عند الضرورة، حیث أنّه طهور اضطراریّ ، وأمّا الغسل فأثره رفع الحدث مطلقاً ، لکن لا یصحّ من الکافر إلاّ عند الضرورة ، فإذا تحقّقت الضرورة یصحّ غسله ویترتّب علیه کلّ ما هو أثر الغُسل الصحیح ، فالضرورة فی المقام أثّرت فی صحّة الغسل، وفی باب التیمّم أثّرت فی استباحة الغایات عندها، وبینهما فرق بیِّن .

قد یُقال فی المقام : بأنّ تجدّد القدرة کاشف عن عدم تحقّق الضرورة المُبیحة لغسل الکافر.

ص:175

والجواب: وفیه ما لا یخفی، وقد ظهر لک بما تقدّم ضعف ما ذکره شیخنا المرتضی قدس سره حیث قال : (فلو طرأ التمکّن من الغُسل الاختیاری ، فالأقوی عدم سقوطه، وفاقاً للشهیدین والمحقّق الثانی وغیرهم ، للعمومات وعدم کفایة مجرّد وجوب الشیء عند الاضطرار لبدلیّته ، إلاّ إذا فهم البدلیّة من دلیله کما فی التیمّم ونحوه» ، انتهی .

لما عرفت من أنّ صریح النصوص والفتاوی إنّما هو کون ما یوجده الکافر عین غسل المیّت لا شیئاً آخر أجنبیّاً عنه أوجبه الشارع تعبّداً حین الضرورة، حتّی یکون مدّعی البدلیّة مطالباً بالدلیل ، واللّه العالم) ، انتهی ما فی «مصباح الفقیه»(1) .

أقول: ولکن الإنصاف بعد التأمّل والدقّة یقتضی الحکم بخلافه، کما علیه کثیر من الفقهاء، کما عن «التذکرة» و«الذکری» و«جامع المقاصد» والشهید الثانی والمحقّق الآملی ، بل فی «الجواهر» دعوی عدم وجدان الخلاف بین من تعرّض له، ولم ینقل فیه الخلاف عن أحد غیر ما ذکرناه فیما تقدّم آنفاً .

وأمّا الدلیل علی وجوب الإعادة علی ما قیل أو یمکن أن یُقال :

الوجه الأوّل: بأنّه من المعلوم أنّ المأمور به الحقیقی الأوّلی لیس هذا، فیبقی فی العهدة إلی أن یحصل الیقین بالفراغ ، وهو لا یکون إلاّ بشمول الأدلّة الدالّة علی الاجتزاء بتغسیل الکافر، وشموله لمثل المقام مشکوک ، فمقتضی الأصل والاشتغال البقاء ، باعتبار أنّ الاکتفاء بتغسیل الکافر إنّما کان للضرورة ، ولا ضرورة قبل الدفن، وإمکان تغسیل المسلم ولو بعد حین، فضلاً عمّا بعد الإتمام، ما لم ینته إلی التسویف فی التجهیز بما یوجب هتک المیّت، فیکشف مع وجود


1- مصباح الفقیه : ج5 / 85 _ 86 .

ص:176

المسلم عدم تحقّق الضرورة واقعاً، وأنّه إنّما کانت ضرورة خیالیّة، کما یؤیّد ذلک أنّه لو فقد المماثل المسلم، ولکن نعلم بتحقّقهما بعد نصف یوم أو بیوم ممّا لا یوجب التهتّک والفساد ، فلا إشکال فی عدم الکفایة ، ولیس ذلک إلاّ لعدم صدق الضرورة ، مع أنّه یصدق علیه عنوان عدم الوجدان فی ذلک الزمان ، فسیکشف بذلک أنّه لیس الموضوع إلاّ صدق الضرورة المذکورة فی النصّ إلاّ علی حسب ما هو المتعارف، من عدم وجدان المماثل والمحارم عن قریب ، وهذا شاهد علی أنّ المقصود من الضرورة هنا لیس إلاّ الواقعی منها ولو بالظاهر لا بالتخیّل المکشوف خلافه بعد تمام الغسل وقبل دفنه ، کما هو واضح .

الوجه الثانی: فی وجه وجوب الإعادة ما ذهب إلیه المحقّق الآملی، حیث یقول: «إنّ الکافر یکلّف بهذا الغسل فی رتبة عصیانه الغسل المکلّف به جمیع المکلّفین کفایة من المسلم والکافر ، حیث أنّ الکافر کالمسلم مکلّف بالفروع، ولا ظهور فی الأدلّة فی بدلیّة ما کلّف به، بالخصوص فی رتبة عصیان التکلیف المتوجّه إلیه فی ضمن تعلّقه بالجمیع، بحیث یسقط به التکلیف الأوّل ولم یعاقب علیه ، کیف وإنّه متأخّر عن عصیانه، وقد أخذ عصیان الأوّل فی موضوعه، ولا یعقل أن یکون الحکم رافعاً لموضوعه، ولا تنافی بین وجوب هذا الفعل علیه مع وصف الکفر عند عصیانه للتکلیف الأوّل المتوجّه إلیه فی حال الکفر، وبین وجوب هذا الفعل بالتکلیف الأوّل علیه وإن فعل الثانی، کما فی نظائره من موارد الترتّب، حیث أنّ فعل الصلاة مع عصیان الإزالة لا یوجب سقوط التکلیف بالإزالة ، بل هو فی کلّ آن من آنات اشتغاله بالصلاة مکلّف بالإزالة، مع تکلیفه فی رتبة عصیان الأمر بالإزالة بإتیان الصلاة، ویترتّب علیه صحّة صلاته لو أتی بها کذلک مع جواز قطعها فی کلّ آن، إذ الأمر بالإزالة فی کلّ آنٍ یقتضی عقلاً هدم

ص:177

الصلاة والاشتغال بالإزالة ، ولکن الأمر بالصلاة لا یقتضی هدم الإزالة والاشتغال بالصلاة، وإنّما اقتضائه الاشتغال بالصلاة فی رتبة عصیان الأمر بالإزالة . وبما ذکرنا یظهر عدم سقوط الغسل الحقیقی عن الکافر بفعله الغسل المأمور به عند عصیانه الخطاب الأوّل ، ومع عدم سقوطه عنه یکون عدم سقوطه عن غیره أولی»(1) .

أقول : یمکن أن یُجاب عن هذا الوجه بجوابین:

الجواب الأوّل: بأنّ هذا الاستدلال یجری حتّی مع عدم وجدان المماثل والمحارم ؛ لأنّ الکافر علی کلّ حال مکلّف بالفروع، ومنها غسل المیّت الصحیح مع قبول الإسلام ، فتکلیفه بإتیان الغسل مع الکفر کان بأمر الشارع علی موضوع عصیانه للأمر الأوّل علی نحو الکفایة ، فإذا أتی بالغسل بالأمر الصادر علی فرض عصیانه، أوجب ذلک سقوط هذا الأمر بتحقّق الغسل المفروض وجوبه مع کفره، فلیس لنا حینئذٍ مثبت یفید وجوب غسل المیّت، لأنّه قد حصل بفعل الکافر ، فکما یسقط هذا التکلیف المتعیّن علیه بالخصوص، یسقط عموم التکلیف بالکفایة الشامل للکافر والمسلم ، لأنّه لا یعقل أن یکون الغسل وقع صحیحاً عند الشارع للمیّت ، ومع ذلک بقی التکلیف الواقعی الکفائی باقیاً بحاله، إذ یلزم فرض الحکم دون فرض تحقّق الموضوع وهو محال ، فلا محیص إلاّ عن القول بأنّ التکلیف یرتفع إلاّ أنّه لا یوجب زوال حسن العقوبة عن الکافر من باب القاعدة المعروفة من أنّ (الامتناع بالاختیار لا ینافی الاختیار) فیصبح المقام مثل المسلم الذی کان عنده میّت وجب علیه غسله فألقاه فی البحر عمداً وبذلک أزال موضوع الحکم ، فحینئذٍ لا یبقی علیه تکلیف وجوب الغسل، لعدم وجود


1- مصباح الهدی : ج5 / 474 .

ص:178

الموضوع، ولکنّه لا یوجب عدم حسن عقوبته ، بل یعاقب علی فعله ، وکذلک الحال فی المقام ، فعلیه بقاء التکلیف هنا لیس لما ذکره المحقّق المزبور ، بل لأنّ بوجود المماثل یکشف أنّ التکلیف فی حقّه لیس إلاّ غسل المسلم دون الکافر کما عرفت تفصیله، فلا یرتبط هذا بقاعدة الترتّب من هذه الناحیة .

الجواب الثانی: للمحقّق الآملی نفسه حیث قال : «إنّ هذا التقریب مع دقّته لا یخلو عن وهن، وذلک لابتناء صحّته علی دعوی منع بدلیله الغسل الصادر منه فی حال الکفر والعصیان، عن الغسل المأمور به بالأمر الأوّل ، ویمکن منعها بدعوی عدم کفایة مجرّد وجوب الشیء عند الاضطرار لبدلیّته، إلاّ إذا فهم البدلیّة من دلیله، وهو خفیّ .

ودعوی: صراحة النصوص والفتاوی فی کون ما یوجده الکافر عین غسل المیّت لا شیئاً آخر أجنبیّاً عنه أوجبه الشارع تعبّداً حین الضرورة .

غیر واضحة، مع أنّها علی قدر تسلیمها لا تنفع بعد انکشاف عدم الضرورة، لوجود المسلم بعد تغسیل الکافر إیّاه، کما فی التکالیف العذریّة من أُولی الأعذار. اللّهُمَّ إلاّ أن یقوم دلیل علی صحّة الاکتفاء بما أتی به فی حال العذر ، ولذا یکون الأصل عدم جواز البدار لاُولی الأعذار، إلاّ فیما ثبت جوازه بالدلیل، کما فصّل فی مبحث التیمّم. فالأقوی حینئذٍ وجوب إعادة الغسل عند وجود المسلم بعد تمام الغسل وقبل دفن المیّت»(1) .

أقول : لا یخفی علیک صحّة کلامه فی الأخیر دون جوابه ما قبله ، لوضوح أنّ إثبات بدلیّة غسله عن الغسل الواقعی، أو عدم إثباته لا تأثیر له فیما هو المقصود


1- مصباح الهدی : ج5 / 474 .

ص:179

من سقوط الأمر الأوّل بإتیانه علی ما هو وظیفته، فیما إذا لم یوجد المماثل، وعدم سقوطه عند وجوده، کما عرفت توضیحه ، فلا نعید .

فالأحسن فی الجواب: هو دعوی عدم إحراز الموضوع للحکم بعد وجود المماثل، والأصل یقتضی عدم السقوط حتّی یحرز ذلک له کما لا یخفی .

أقول: ومنه یظهر حکم مسّ المیّت قبل وجدان المماثل، حیث یجب بعد وجدانه ، لأنّ عدم وجوبه مشروط بالشرط المتأخّر إن سلّمنا عدم السقوط .

ولکن مع ذلک کلّه حیث یحتمل کفایة الضرورة حال الفعل فی سقوط التکلیف، وفی تحقّق رفع الحدث ، ولا یکون وجود المماثل بعده مثل حدوث الحدث، وأن لا یکون وجوده کاشفاً عن عدم رفع الحدث من أوّل الأمر _ کما بیّنه المحقّق الهمدانی قدس سره تفصیلاً _ ذهب جماعة من الفقهاء کالخوانساری والشیرازی والخمینی والگلبایگانی وغیرهم إلی الاحتیاط الوجوبی فی الإعادة کما هو المختار فی تعلیقتنا علی «العروة» ، هذا علی فرض لزوم المباشرة بالماء ومسّه، وعدم وجود ماء الکرّ أو الجاری ، وإلاّ کان الغسل بذلک أولی وأحوط ، بل هو المتعیّن لعدم صدق الضرورة حینئذٍ .

ثمّ هذا کلّه لو لم یوجد المماثل المخالف، وإلاّ فهو مقدّم من دون الحاجة إلی ذکر القیود: من عدم المسّ بالماء، أو کون الماء عاصماً، أو کون الغسل من وراء الثیاب ونظائره ؛ لأنّه طاهر بعد قدرته علی قصد القُربة .

فما احتمله صاحب «الجواهر» بقوله : «فالمتّجه حینئذٍ التقیید بالذمّی ، بل لا یبعد عدم إلحاق المخالف بهم فضلاً عن غیره» ، لا یخلو عن وهن وضعف .

وکذلک لا یحتاج فی حقّه الأمر بالاغتسال قبل الغسل، کما قد أمر به فی الذمّی تطهیراً للنجاسات الظاهرة والعرضیّة ؛ لأنّ ذلک لیس إلاّ لأجل دلالة النصّ علیه .

ص:180

کما لا فرق فی جواز تغسیل المخالف للمؤمن المیّت، بین الناصب وغیره، إلاّ عند من قال بنجاسته ، کما هو مختارنا فی مبحث النجاسات ، فحینئذٍ ملحق بالکافر الغیر الذمّی لکونه حینئذٍ خارجاً عن متعلّق النصّ والتعبّد ، فتکون القواعد حینئذٍ هی المتحکّمة وتحکم بعدم الجواز.

أقول: ثمّ بعدما عرفت من وجوب إعادة الغسل عند وجود المماثل ، ولو علی الأحوط، یأتی السؤال عن أنّه هل یجب علی الماسّ لبدن المیّت بعد الغسل الکذائی، غسل مسّ المیّت أم لا؟

فعلی فرض کشف بطلان غسل المیّت بعد الوجدان، فلا یبعد کشف بطلان آثاره ومنها ذلک .

بل فی «الجواهر»: «ذکر بعضهم من أنّه لو مسّه أحد، وجب علیه الغسل ولو مع عدم مجیئ المماثل، لما عرفت من عدم حصول الطهارة بهذا الغسل وعدم بدلیّته عنها ، بل هو أشبه شیء بالتکلیف الجدید عند العصیان بالأوّل» .

وفیه: ولکن قد عرفت عدم تمامیّة ذلک ؛ لأنّ ظاهر الأدلّة کون هذا الغسل مثل الغسل الواقعی فی الآثار المترتّبة علیه ما دام یصدق علیه الضرورة . وأمّا بعد کشف الخلاف فکما یجب إعادة أصل غسل المیّت ، هکذا یظهر فقدان آثاره ، ومنها رفع حکم غسل المسّ . فدعوی کونه أمراً مخالفاً للقواعد فلا یترتّب علیه إلاّ خصوص مورد النصّ وهو سقوط غسل المیّت عن المکلّفین، مخالف لظاهر الدلیل .

فالالتزام بما ذکره المحقّق الهمدانی من عدم وجوب إعادة غسل المیّت، حتّی مع مجیئ المماثل قبل الدفن ، وما ذکره صاحب «الجواهر» من وجوب غسل المسّ علی الماسّ ولو لم یجیئ المماثل ، ممّا لا یمکن المساعدة معهما ، واللّه العالم .

ص:181

ویغسّل الرجل محارمه من وراء الثیاب (1).

(1) والمراد من المحارم مَنْ حرم علیه نکاحها مؤبّداً، بنسبٍ أو رضاع أو مصاهرة ، وجواز تغسیله بلا خلاف أجده فی الجملة ، بل هو إجماعی ، والأخبار به مستفیضة إن لم تکن متواترة کما سیجیئ ذکرها إن شاء اللّه .

غسل الأموات / کیفیّة الغُسل

کما أنّه لا فرق فی جواز التغسیل فی المحارم، بین کون الغاسل رجلاً أو امرأة ؛ لعدم القائل بالفصل، إذ کلّ من جوّزه فی الرجل جوّزه للمرأة أیضاً، کما هو المستفاد من الأخبار، إذ لا خصوصیّة فی الرجل کما لا یخفی .

کما لا فرق فی المحارم بکونها بنسب ورضاع أو بالمصاهرة، وإن ترکها السیّد ذکرها فی «العروة»، إذ الأخبار وإن کانت منصرفة عن إثبات الحکم علی نحو العموم لیشمل مثل المصاهرة کاُمّ الزوجة مثلاً ، لکن جملة منها تفی بذلک:

منها: موثّقة عبد الرحمن، بقوله : «تغسّله امرأته أو ذات محرمه»(1) .

ومنها: صحیحة منصور بن حازم : «نعم واُمّه واُخته ونحوهما»(2) .

إذ المتبادر من قوله : «ونحوهما ، المشابهة فی المحرّمیة التی هی سبب جواز النظر واللّمس ».

ومنها: مثلهما فی الدلالة موثّقة سماعة، فی حدیثٍ قال : «تغسّله امرأة ذات محرم منه»(3).

ومنها: روایة عمر بن خالد، عن زید بن علی، عن آبائه، عن علیّ علیه السلام فی حدیث قال : «وإذا کان معه نساء ذوات محرم یؤزرنّه ، الحدیث»(4) .


1- وسائل الشیعة : الباب 20 من أبواب غسل المیّت، الحدیث 4 و10 و9.
2- وسائل الشیعة : الباب 20 من أبواب غسل المیّت، الحدیث 4 و10 و9.
3- وسائل الشیعة : الباب 20 من أبواب غسل المیّت، الحدیث 4 و10 و9.
4- وسائل الشیعة : الباب 20 من أبواب غسل المیّت، الحدیث 8 .

ص:182

مضافاً إلی عدم القول بالفصل فی المحارم بین النسب والرِّضاع، وبین المصاهرة ، فثبت العموم بذلک ، وفیه غنی وکفایة ولا کلام فیه .

بحث: والذی ینبغی أن نتکلّم عنه أنّه هل یجب أن یکون التغسیل من وراء الثیاب، ویعدّ شرطاً فی المقام أم لا ؟

فیه قولان :

القول الأوّل : الوجوب والاشتراط إمّا من باب الفتوی أو من باب الاحتیاط، کما هو ظاهر المشهور أو صریحه ، بل فی «الذخیرة» نسبته إلی الأصحاب مشعراً بدعوی الإجماع علیه، کما یُشعر به عبارة العلاّمة فی «التذکرة» والشیخ البهائی فی «الحبل المتین» ، بل فی «العروة»: أنّه لا یترک الاحتیاط.

کما قد صرّح به عدّة من أصحاب التعلیق علیها لو لم یکن أقوی کما فی «الجواهر» .

القول الثانی : عدم الاشتراط کما هو صریح بعض متأخّری المتأخّرین، وظاهر «الغنیة» و«الکافی» و«الإصباح» و«التذکرة» .

الدلیل علی القول الأوّل: هو الأمر به فی بعض الأخبار:

منها: ما جاء فی موثّقة عمّار، عن أبی عبداللّه علیه السلام فی حدیث : «تغسّله عمّته وخالته فی قمیصه ولا تقربه النصاری ... إلی أن قال : یغسّلانها ولا تقربها النصرانیّة کما کانت تغسلها ، غیر أنّه یکون علیها درع فیصبّ الماء من فوق الدرع»(1) .

ومنها: روایة عبد الرحمن بن أبی عبداللّه، فی حدیث ، فقال : «تغسله امرأته أو


1- وسائل الشیعة : الباب 20 من أبواب غسل المیّت، الحدیث 5 و4 و9 و7.

ص:183

ذات محرّمة وتصبّ علیه النساء صبّاً من فوق الثیاب»(1) .

ومنها: روایة سماعة، فی حدیث قال : «تغسّله امرأة ذات محرم منه، وتصبّ النساء علیه الماء، ولا تخلع ثوبه ... إلی أن قال : وإن کان معها ذو محرم لها غسّلها من فوق ثیابها»(2) .

ومنها: روایة زید الشحّام علی احتمال، قال : «سألت أبا عبداللّه علیه السلام عن امرأة ماتت ، إلی أن قال : وسألته عن رجل مات فی السفر ، إلی أن قال : وإن کان له فیهنّ امرأة فلیغسّل فی قمیص من غیر أن تنظر إلی عورته»(3) .

فإنّ المراد من (الامرأة) إن کانت زوجته أو ذات محرم دلّ علی المقصود من حیث أنّه قد أمر بالغسل فی قمیصه فی الزوجة التی هی محرم له ، ففی غیرها من المحارم أیضاً تکون ذلک .

وأمّا إن کان المراد من (المرأة) ذات محرم، فیکون مضمونه لما نحن بصدده ، فعلی الوجه الثانی یکون المراد من الجملة السابقة: بأن لم یکن له فیهنّ امرأة فلیدفن فی ثیابه ولا یغسل إن لم یکن من ذوات محرم لا الزوجة فقط .

ومنها: روایة محمّد بن مسلم، قال : «سألته عن الرجل یغسل امرأته ، قال : نعم من وراء الثوب»(4) .

حیث حکم فی الزوجة بتغسیل زوجها من وراء الثوب مع کونها محرماً .

ومنها: روایة الحلبی، عن أبی عبداللّه علیه السلام «أنّه سُئل ، إلی أن قال : وفی المرأة إذا ماتت یدخل زوجها یده تحت قمیصها فیغسّلها»(5) .


1- وسائل الشیعة: الباب 24 من أبواب غسل المیّت، الحدیث 2 و3 و8 و5 و7.
2- وسائل الشیعة: الباب 24 من أبواب غسل المیّت، الحدیث 2 و3 و8 و5 و7.
3- وسائل الشیعة: الباب 24 من أبواب غسل المیّت، الحدیث 2 و3 و8 و5 و7.
4- وسائل الشیعة: الباب 24 من أبواب غسل المیّت، الحدیث 2 و3 و8 و5 و7.
5- وسائل الشیعة: الباب 24 من أبواب غسل المیّت، الحدیث 2 و3 و8 و5 و7.

ص:184

ومثلها روایته الاُخری(1) .

ومنها: روایة اُخری لسماعة، قال : «سألته عن المرأة إذا ماتت ، قال : یدخل زوجها یده تحت قمیصها إلی المرافق»(2) .

ومنها: روایة داود بن سرحان، عن أبی عبداللّه علیه السلام : «فی رجل ، إلی أن قال : فإن کان معها زوجها فلیغسلها من فوق الدرع ، الحدیث»(3) .

ومنها: روایة ثالثة للحلبی، عن أبی عبداللّه علیه السلام قال : «سُئل عن الرجل یغسل امرأته ، قال : نعم من وراء الثوب ، الحدیث»(4) .

ومنها: روایة أبی الصباح الکنانی، عن أبی عبداللّه علیه السلام فی حدیث : «ولا تُغسّل إلاّ أن یکون زوجها معها، فإن کان زوجها معها غسّلها من فوق الدرع، ویسکب الماء علیها سکباً ، الحدیث(5)» .

أقول: هذه هی الأخبار الدالّة علی ذلک، بعضها فی المحارم مطلقاً، وبعضها فی الزوجة ، ومنها تتعدّی إلی غیرها ، وتلک عشرةٌ کاملة دالّة علی لزوم التغسیل من وراء الثیاب ، وعلیها تحمل الأخبار المطلقة تحکیماً لقاعدة حمل المطلق علی المقیّد ، بل قد علّله المحقّق فی «المعتبر»: «بأنّ المرأة عورة، فیحرم النظر إلیها ، وإنّما جاز مع الضرورة من وراء الثیاب جمعاً بین التطهیر والستر» ، انتهی .

ولکن خالف المشهور عمدة من الأصحاب سبق وأن ذکرناهم، بل هو مختار بعض أصحاب التعلیق علی «العروة»، ومنهم المحقّق الآملی حیث قال فی مصباحه بعد ذکر أدلّة الجواز فی التغسیل مع التجرید : «بأنّ هذا هو الأقوی، وإن کان الأوّل أحوط» .

إذ جعل وجه کلام المحقّق بالمنع _ مع ابتنائه علی اشتراط تغسیل المحارم بالاضطرار، وفقد المماثل، حیث جعل المدار علی الضرورة _ متوقّفاً علی حرمة


1- وسائل الباب 24 غسل المیت، الحدیث 11 و 12 و 13 و 15 و 17.
2- وسائل الباب 24 غسل المیت، الحدیث 11 و 12 و 13 و 15 و 17.
3- وسائل الباب 24 غسل المیت، الحدیث 11 و 12 و 13 و 15 و 17.
4- وسائل الباب 24 غسل المیت، الحدیث 11 و 12 و 13 و 15 و 17.
5- وسائل الباب 24 غسل المیت، الحدیث 11 و 12 و 13 و 15 و 17.

ص:185

نظر المحرم إلی جسد محرمه عاریاً _ کما حکی عن العلاّمة التصریح فی حدّ المحارب _ وهی ممنوعة .

ثمّ قال : «بل الأقوی جوازه واختصاص الحرمة بالعورة» .

ثمّ ذکر من یجوّز ذلک وقال بعدم الاشتراط فی عدم التجرید، بحمل الأخبار الموهمة للاشتراط علی الاستحباب، لما ورد فی بعضها من تعبیر: «ضمّ الزوجة إلی المحارم» کما جاء فی موثّقة البصری وسماعة .

ولا یخفی ما فی کلامه فی سماعة، إذ لا تشتمل علی الزوجة، والاقتصار علی ذکر ستر العورة فی مقام بیان الحکم، کما فی صحیحة منصور وخبر زید الشحّام، وفیه: «وإن کان معهم زوجها أو ذو رحم لها فلیغسّلها من غیر أن ینظر إلی عورتها» .

وفی الخبر المروی عن زید بن علیّ : «فإن کان معه نساء ذوات محرم یؤزرانه، ویصببن علیه الماء صبّاً، ویمسسن جسده، ولا یمسّن عورته»»(1) . انتهی کلامه رفع مقامه(2) .

أقول: لکن الإنصاف والتأمّل یقضیان أن یُقال بمقالة المشهور ولو لأجل الاحتیاط الوجوبی ؛ لأنّ من یقول بلزوم مراعاة الاحتیاط أو یفتی فی غسل المحارم بجواز ذلک فیما إذا فقد المماثل، وکون الغسل من وراء الثیاب ، بل قد عرفت ورود بعض الأخبار فی حقّ الزوجة مع فقد المماثل، بلزوم تغسیل زوجها لها من وراء ثیابها ، ولکنّها محمولة علی استحباب ذلک فی حقّه للتعلیل


1- وسائل الشیعة : الباب 20 من أبواب غسل المیّت، الحدیث 8 .
2- مصباح الهدی : ج5 / 460 .

ص:186

إذا لم تکن مسلمة ، وکذلک المرأة (1).

الوارد فی بعض الأخبار بأنّ ذلک لأجل تعصّب أهلها حیث یرون ذلک عملاً مشیناً، وإلاّ یجوز له التجرید مع الاجتناب عن النظر إلی عورتها کما أشار إلیه فی بعض الأخبار .

وأمّا فی المحارم، فلا یبعد جواز تغسیلها مع رعایة الحجاب، بعدم التجرید، بأن یکون التغسیل من وراء الثیاب ، ولعلّ المقصود من التوزیر فی الخبر المروی عن عمر بن خالد هو الإزار بما یستر جمیع بدنه لا الإزار مع التجرید ، لکنّه لا یجتمع مع قوله علیه السلام لاحقاً : «یمسّنّ جسده، ولا یمسن عورته» ، حیث یکون المراد مسّ البشرة فی التجویز والنهی کما لا یخفی .

ولکن رفع الید عمّا عرفت من الأخبار، بالحکم علی کون الغسل من وراء الثیاب، أو النهی عن خلع الثوب، مشکل جدّاً، خصوصاً مع ملاحظة صحیحة عبداللّه بن سنان أو حسنته، قال : «سمعت أبا عبداللّه علیه السلام یقول : إذا مات الرجل مع النساء، غسّلته امرأته، فإن لم تکن امرأته معه غسّلته أولاهنّ به، وتلفّ علی یدیها خرقة»(1).

حیث تدلّ علی لزوم أن یتمّ الغسل من دون مباشرة الید للبشرة ، فیکون هذا أحوط من وراء الثیاب .

واحتمال کون ذلک الاجتناب عن مسّ العورة، حملٌ للإطلاق علی المقیّد الخارج عن الذهن ، فالأخذ بما علیه المشهور هو أحوط ، واللّه العالم .

(1) لا یخفی أنّ تقیید جواز تغسیل الرجل محارمه بما إذا لم تکن مسلمة أو


1- وسائل الشیعة: الباب 20 من أبواب غسل المیّت، الحدیث 9 .

ص:187

زوجاً، عند من یجوّز التغسیل فی الزوجین اختیاراً، کان مشهوراً عند الفقهاء ومستفاداً من ظاهر کلامهم ، بل صریحه ، بل قد یظهر من العلاّمة فی «التذکرة» والبهائی فی «الحبل المتین» الإجماع علیه ، بل هو مختار المصنّف وصاحب «الجواهر» والمحقّق الهمدانی والآملی والسیّد فی «العروة»، وکثیر من أصحاب التعلیق علیها ، بل وکذلک للمرأة إذا لم یکن مسلماً ولا زوجة ، خلافاً للحلّی والعلاّمة فی المنتهی وجماعة من متأخّری المتأخّرین، کصاحب «کشف اللِّثام» و«المدارک» و«الذخیرة» و«التلخیص» ، ولعلّه الظاهر من «النافع» کغیره ممّن أطلق ذلک، حیث أنّهم جوّزوا مع الاختیار .

أقول: وقد استدلّ لقول المشهور بروایة أبی حمزة، عن أبی جعفر علیه السلام ، قال : «لا یغسل الرجل المرأة إلاّ أن لا توجد امرأة»(1) .

وضعف سنده بمحمّد بن سنان منجبر بالشهرة وعمل الأصحاب .

مع إمکان استفادة ذلک إشعاراً من صحیح عبداللّه بن سنان، قال : «سمعت أبا عبداللّه علیه السلام یقول : إذا مات الرجل مع النساء، غسّلته امرأته، وإن لم تکن امرأته معه غسّلته أولاهنّ به وتلفّ علی یدیها خرقة»(2).

وجه الإشعار: احتمال کون المراد (بأولاهنّ) مَنْ کانت محرماً له، حیث أنّ الأجنبیّة لا یُطلق علیها الأولویّة، حیث أنّها لا تباشر الغسل غالباً ، فحینئذٍ تکون الروایة دالّة علی أنّ مباشرة المحارم تکون ثابتة وجائزة بعد فقد الزوجة، لأنّه قد فرّع علی صورة فقد الزوجة ، فإذا کانت الزوجة مقدّمة علی المحارم، فتقدیم المماثل علی المحارم تکون بالأولویّة ؛ لأنّ المماثل : إمّا یکون فی عرض


1- وسائل الشیعة : الباب 20 من أبواب غسل المیّت، الحدیث 10 و 6.
2- وسائل الشیعة : الباب 20 من أبواب غسل المیّت، الحدیث 10 و 6.

ص:188

الزوجة، لو قلنا بجواز تغسیلها الرجل اختیاراً .

أو مقدّماً علیها، لو قلنا بعدم الجواز، لتقدیم الزوجة علی المحارم حیث یلزم عرفاً تقدیم المماثل علیها . نعم ، لو قلنا بتقدیم الزوجة علی المماثل أیضاً، فلا یلزم حینئذٍ تقدیم المماثل علی المحارم ، ولکن لم یکن هذا معروفاً بین الفقهاء ، بل ولم یکن متعارفاً بین المسلمین، کما لا یخفی .

هذا ، مع إمکان تأیید کلام المشهور بما فی «الجواهر» بقوله : «بل قد ینساق إلی الذهن أنّ الحکم معروفٌ فی الزمن السابق، من حیث أنّ السائل إذا سأل یفرض عدم النساء إن کان المیّت امرأة، وعدم الرجال إن کان رجلاً ، ومع ظهور سؤاله فیما قلنا، لم یبرز من الإمام من الجواب ما یرفع ذلک، فکأنّه کالتقریر له علی معتقده» ، انتهی(1) .

وبذلک یرفع الید عن الأصل _ أی أصالة البراءة عن الاشتراط _ عند الشکّ فیه ؛ لأنّه دلیل فقاهتی لا موقع له مع قیام الدلیل الاجتهادی، کما یفید بذلک الإطلاقات المتمسّک بها فی الأمر بالتغسیل للأموات ، بل وکذا الإطلاق الموجود فی صحیحة منصور، قال : «سألت أبا عبداللّه علیه السلام عن الرجل یخرج فی السفر ومعه امرأته یغسّلها؟ قال : نعم ، واُمّه واُخته ونحو هذا یلقی علی عورتها خرقة»(2) .

والملاحظ أنّ هذا الخبر جعل الاُمّ والاُخت فی عِداد الزوجة، حیث یشمل بإطلاقه حتّی ولو کان معها مماثلٌ، بناءً علی عطف الاُمّ والاُخت علی الغیر المنصوب فی قول السائل یغسّلها ، فبعد التقیید یصبح جواز ذلک فی فرض فقدان


1- الجواهر : ج4 / 66 .
2- وسائل الشیعة : الباب 20 من أبواب غسل المیّت، الحدیث 1 .

ص:189

المماثل، کما یحتمل کون الأمر کذلک بظهور لفظ السفر فیه ؛ أی فی عدم المماثل نوعاً، کما لا یخفی .

بل وهکذا تقیّد الأخبار الکثیرة المتقدِّمة التی قد قارنت المحارم مع الزوجة، مثل روایة زید الشحّام الوارد فیها قوله علیه السلام : «وإن کان معهم زوجها أو ذو رحم لها، فلیغسّلها من غیر أن ینظر إلی عورتها» .

وفی صحیح الحلبی : «تغسّله امرأته أو ذات قرابته إن کانت له».

وغیر ذلک من الأخبار . فتحمل جمیع هذه الأخبار علی صورة فقد المماثل، فضلاً عمّا عرفت من وجود قرینة السفر فیه ، بل کثیراً ما نشاهد ذلک حتّی فی الحضر حیث لا یقبلون المماثل لمباشرة الغسل ، إمّا لخوفهم من التقرّب إلی جثّة المیّت کما فی بعض الناس ، وإمّا لعدم علمهم وجهلهم بکیفیّة الغسل وعدم وجود مَن یعلّمه ، أو لعدم قیامهم بذلک تعالیاً واستنکافاً عن مثل هذا العمل، وأمثال ذلک ، حیث یکفی فی المقام صدق الضرورة العرفیّة، لصدق عنوان فقد المماثل وتجویز مباشرة المحارم للتغسیل .

فمن ذلک ظهر عدم تمامیّة دعوی المحقّق الهمدانی رحمه الله من وجود المماثل فی السفر کثیراً ، فلا إشعار فی فرض السفر الموجود فی صحیح منصور الحلبی .

وبالجملة: وبما ذکرنا ظهر صحّة دعوی الاضطرار بامتناع المماثل من المباشرة ولو عصیاناً ، فضلاً عمّا قد قرّر من أحد الوجوه السابقة ، مع أنّه قد لا یمکن إجباره عملاً أو قلنا بعدم صحّة الفعل مع الجبر هنا، لاشتراط قصد القُربة ، وهو لا یحصل بالإجبار بناءً علی کون غسل المیّت من العبادات، کما هو الأقوی .

نعم ، صرّح صاحب «الجواهر» بکلام فی المقام لا یمکن الموافقة معه، وهو قوله: «ویحتمل قویّاً هنا القول بسقوط الغسل عن غیر المماثل، لانحصار

ص:190

التکلیف فی المماثل، مع عدم الدلیل علی انتقاله إلی غیره بمجرّد عصیانه ، فالأصل البراءة»(1) .

وفیه أوّلاً : صدق الاضطرار فی الفرض المزبور فی صحّة غسل المحارم ، فیکون مجزیاً عن الأمر الوارد فی غسل الأموات .

وثانیاً : أنّ دعوی انحصار التکلیف بالمماثل دون غیره، لا یجامع مع کون الواجب هنا کفائیّاً ، المفهم بأنّه إذا امتنع المماثل عصیاناً أو عن غیر عصیان وجب لسائر المکلّفین _ ومنهم المحارم _ مباشرة التغسیل ، ففی مثله لا نحتاج إلی الدلیل الدال علی الانتقال، حتّی نرجع فی صورة الشکّ إلی أصل البراءة، إذ الدلیل الأوّل بنحو العموم یشمله کما لا یخفی .

بل لا مانع من أن ندّعی فی المقام بأنّ غسل المحارم یعدّ مجزیاً صحیحاً، حتّی مع وجود المماثل المستعدّ للمباشرة ، ولکن لم یعلم المحرم ذلک، أو تخیّل صحّة غسله مع ذلک حتّی لا یضرّ بقصد قربته وقد تمشّی منه قصد القربة ، بل وحتّی مع علمه بذلک، ولکن لم نعتبر فی الغسل قصد القربة ، فغسله صحیح . غایته أنّه قد أثِمَ وعصی فی ذلک .

فدعوی بطلان غسله، إنّما یصحّ ویحسن فیما إذا اجتمع فیه تمام تلک الخصوصیّات: من العلم بوجود المماثل، والتمکّن منه بالإتیان، واعتبار قصد القربة فی صحّة الغسل ، ولکنّه لم یراع هذه الاُمور، فمن الطبیعی بطلان الغُسل المذکور کما لا یخفی علی المتأمّل .

اللّهُمَّ إلاّ أن یُقال: بکون الحکم بتقدیم المماثل تعبّدی لا لأجل استلزامه


1- الجواهر : ج4 / 67 .

ص:191

الحرام ، فعدم صحّته حینئذٍ یکون له وجه .

فرع :

ولو باشر المحارم الغسل مع فقد المماثل ثمّ وجد قبل دفن المیّت ، فهل تجب الإعادة أم لا؟

فیه وجهان :

(1) من جهة أنّه مأمور بالغسل واقعاً من جهة قصد المماثل حین الغسل، وتحقّق الامتثال بالنسبة إلی أمره، وهو یقتضی الإجزاء، ولو شکّ فی وجوب إعادته عاد إلی البراءة .

واحتمال اختصاص البدلیّة فی المقام بصورة عدم التمکّن من المماثل ، فإذا وجد ینکشف عدم صحّة غسله .

مندفع بالمنع عن کون فعل المحرم المباشر من باب البدلیّة عن فعل المماثل ، وذلک للعلم بکون وجوب الغسل کفائیّاً، وأنّ الشارع لا یرضی بترکه مهما أمکن .

(2) ومن جهة عدّ الضرورة من شرائط صحّة غسله إلی حین الدفن، وهو غیر حاصل لانکشاف خلافه ، فینکشف عدم وجود أمر للمحرم مع وجود المماثل ، فالأمر حقیقةً لم یتمثّل فلا یجزی ، فلابدّ من إعادته امتثالاً لأمره .

أقول: الأقوی هو الأوّل ؛ لأنّ الضرورة العرفیّة حال الغسل، تکفی للحکم بصحّة غسله ولو انکشف خلافه قبل الدفن، لأنّ ما وقع صحیحاً حال تحقیقه لا ینقلب عمّا هو علیه . والفرق بین المقام وبین صورة ما تقدّم فی الکافر ، واضح لمن کان له أدنی دقّة .

ص:192

ولا یغسل الرَّجلَ من لیست بمحرم (1).

(1) أقول: الحکم المذکور لا یختصّ بالرجل بل یشمل المرأة أیضاً، فلا یجوز غسل المرأة من لیس بمحرم لها ، أی من لم یحرم علیه أو علیها نکاحها أو نکاحه مؤبّداً بنسب أو رضاع أو مصاهرة :

فالأوّل: کالاُمّ والاُخت والبنت ونحوها .

والثانی: کالاُمّ والاُخت الرضاعیّتین .

والثالث: کاُمّ الزوجة، وزوجة الأب، وحلیلة الابن، وبنت الزوجة المدخول بها .

وإنّما قیّد الحرمة بالمؤبّدة، لإخراج اُخت الزوجة وبنت الزوجة إذا کانت غیر مدخول بها ، وقد قیّد الأبدیّة بنسب أو رضاع أو مصاهرة لإخراج الملاعنة والمطلقة تسعاً ، واُمّ المزنی بها وببنتها ونحو ذلک ، حیث أنّ الحرمة الأبدیّة فی جمیع ذلک بما أنّها لیست من جهة النسب أو الرضاع أو المصاهرة، فلا توجب الحرمة الأبدیّة فیها جواز النظر وحصول عنوان المحرّمیة، کما لا یخفی .

وکیف کان لا یجوز للأجنبیّة التصدّی لغسل الرجل وبالعکس، علی المشهور بین الأصحاب، شهرةً کادت أن تکون إجماعاً ، بل فی «التذکرة» نسبته إلی علمائنا . وفی «الخلاف» إلی الأخبار المرویّة عنهم علیهم السلام والإجماع ، مع نسبة ما دلّ علی خلاف ذلک من الأخبار إلی الشذوذ .

وفی «المعتبر»: «ولا یغسّل الرجل أجنبیّةً، ولا المرأة أجنبیّاً ، وهو إجماع أهل العلم» ، انتهی . وهو مختار ابنا حمزة وسعید والفاضلان والشهیدان والمحقّق الثانی ، وهو المحکی عن «المقنع» و«النهایة» و«المبسوط» و«المهذّب» و«الإیضاح»، والتزم به صاحب «الجواهر» و«مصباح الفقیه» و«مصباح الهدی»

ص:193

وصاحب «العروة» وأصحاب التعلیق علیها جمیعاً ، ولا خلاف فی المسألة ، بل فی «الجواهر»: «لعلّه محصّل، لعدم صراحة عبارة المخالف فی «الخلاف»» إلاّ ما یظهر عن المفید فی «المقنعة» والشیخ فی «التهذیب»، کما عن أبی الصلاح فی «الکافی»، وابن زهرة فی «الغُنیة» بین إیجاب الغسل من وراء الثیاب ، إلاّ أنّ فی الأخیر جعله أحوط، وزاد کالحلبی اعتبار تغمیض العینین، وتبعهم فی «المفاتیح» علی ما حکی عنه .

الدلیل علی القول الأوّل: الأخبار الکثیرة وفیها الصحیح :

منها: صحیح الحلبی، عن أبی عبداللّه علیه السلام : «أنّه سأله عن المرأة تموت فی السفر، ولیس معها ذو محرم ولا نساء ؟ قال : تُدفن کما هی بثیابها . وعن الرجل یموت ولیس معه إلاّ النساء لیس معهنّ رجال ؟ قال : یُدفن کما هو بثیابه» .

ورواه الشیخ، عن المفید، عن الصدوق، عن أبیه، عن محمد بن أحمد بن علی، عن عبداللّه بن الصلت، عن ابن أبی عمیر، عن حمّاد عن الحلبی، مثله ، إلاّ أنّه فی آخره : «ولیس معه ذو محرم ولا رجال»(1) .

ومنها: صحیح عبداللّه ابن أبی یعفور: «أنّه سأل أبا عبداللّه علیه السلام عن الرجل یموت فی السفر مع النساء لیس معهنّ رجل کیف یصنعنّ به؟ قال : یلفّفنه لفّاً فی ثیابه، ویدفننّه ولا یغسّلنّه»(2) .

بناءً علی حمله علی ما لم یکن معه محرماً، بما قد عرفت بلزوم الغسل علی المحارم مع عدم وجود المماثل .


1- وسائل الشیعة : الباب 21 من أبواب غسل المیّت، الحدیث 1 .
2- وسائل الشیعة : الباب 21 من أبواب غسل المیّت، الحدیث 2 و 3 .

ص:194

ومثله فی الحمل مضمرة عبد الرحمن بن أبی عبداللّه، قال : «سألته عن امرأة ماتت مع رجال ؟ قال : تلفّ وتُدفن ولا تُغسّل» .

ومنها: صحیح أبی الصباح الکنانی، عن أبی عبداللّه علیه السلام ، قال : «قال فی الرجل یموت فی السفر فی أرض لیس معه إلاّ النساء ؟ قال : یُدفن ولا یُغسل ، والمرأة تکون مع الرجال بتلک المنزلة تُدفن ولا تُغسل، إلاّ أن یکون زوجها معها ، الحدیث» .

والمستفاد من ذیل الحدیث من استثناء کون زوجها معها، أنّ المراد ما لو لم یکن معه المحرم، وإلاّ وجب علیها المباشرة للغسل .

ومنها: روایة داود بن سرحان ، عن أبی عبداللّه علیه السلام : «فی رجل یموت فی السفر أو فی الأرض لیس معه فیها إلاّ النساء ؟ قال : یُدفن ولا یغسل . وقال فی المرأة تکون مع الرجال بتلک المنزلة ، إلاّ أن یکون معها زوجها ، الحدیث»(1) .

ومنها: روایة زید الشحّام، قال : «سألت أبا عبداللّه علیه السلام عن امرأة ماتت وهی فی موضع لیس معهم امرأة غیرها ؟ قال : إن لم یکن فیهم لها زوج أو ذو رحم دفنوها بثیابها ولا یغسّلونها . إلی أن قال : قال: وسألته عن رجل مات فی السفر مع نساء لیس معهنّ رجل ؟ فقال : إن لم یکن له فیهنّ امرأة، فلیدفن فی ثیابه ولا یغسل ، الحدیث»(2) .

بل تمسّک صاحب «الجواهر» بأصالة حرمة اللمس والنظر، حیث یتوقّف الغسل علیها ، بل قد یمکن استفادة عدم جواز المباشرة حتّی لو فرض إمکان


1- وسائل الشیعة : الباب 24 من أبواب غسل المیّت، الحدیث 8 .
2- وسائل الشیعة : الباب 20 من أبواب غسل المیّت، الحدیث 6 .

ص:195

الغُسل من وراء الثیاب، وعدم مماسّة شیء من البدن، أو غمض عن النظر من إطلاق الأمر بالدفن مع الثیاب، والنهی عن الغسل، الشامل حتّی لهذه الصورة ، مضافاً إلی عدم ثبوت العفو عن نجاستها هنا لو غسَّلت من وراء الثوب، لو لم تحصل الطهارة مع الثیاب، کما لو غسلت بالماء القلیل، ولم یکن تحصیل التطهیر بذلک .

وکیف کان، فما علیه المشهور من عدم الجواز هو الأقوی .

الدلیل علی القول الثانی: هی الأخبار الدالّة علی إیجاب الغسل من وراء الثیاب بشرط عدم المماسّة کما فی «التهذیب»:

منها: الخبر المروی عن أبی سعید، قال : «سمعت أبا عبداللّه علیه السلام یقول : إذا ماتت المرأة مع قوم لیس لها فیهم محرم، یصبّون علیها الماء صبّاً . ورجل مات مع نسوة لیس فیهنّ له محرم ؟ فقال أبو حنیفة : یصببن الماء علیه صبّاً ، فقال أبو عبداللّه علیه السلام : بل یحلّ لهنّ أن یمسسن منه ما کان یحلّ لهنّ أن ینظرن منه إلیه وهو حیّ، فإذا بلغن الموضع الذی لا یحلّ لهنّ النظر إلیه ولا مسّه وهو حیّ، صببن الماء علیه صبّاً»(1) .

وفی بعض کتب الأخبار أبی بصیر بدل أبی سعید ، ولذا أورده صاحب «الجواهر» مردّداً وحکم بضعفها.

ومنها: الخبر المروی عن أبی حمزة، عن أبی جعفر علیه السلام ، قال : «لا یغسّل الرجل المرأة إلاّ أن لا توجد امرأة»(2) .

فإنّ ظاهرها الجواز عند الضرورة مطلقاً إن أخذ بإطلاقه لیشمل الأجنبی، وإلاّ یحتمل أن یکون المراد الزوجین ، بناءً علی تقدیم المماثل علیها، أو یحمل علی


1- وسائل الشیعة : الباب 22 من أبواب غسل المیّت، الحدیث 10 و 7 .
2- وسائل الشیعة : الباب 22 من أبواب غسل المیّت، الحدیث 10 و 7 .

ص:196

المحارم مع فقد المماثل ، فحینئذٍ لا یکون منافیاً لما نحن فیه .

ومنها: الخبر الذی رواه جابر عن أبی جعفر علیه السلام : «فی رجل مات ومعه نسوة، لیس معهنّ رجل ؟ قال : یصببن علیه الماء من خلف الثوب، ویلففنه فی أکفانه من تحت الصدر، ویصلّین علیه صفّاً، ویدخلنّه قبره . والمرأة تموت مع الرجال لیس معهم امرأة ؟ قال : یصبّون الماء من خلف الثوب، ویلففونها فی أکفانها ویصلّون ویدفنون»(1) .

حیث أنّه مطلق فیمکن حملها علی صورة کون النسوة من المحارم ، وکذلک فی الرجال ، فحینئذٍ یحکم بتجویز التغسیل فیه مع فقد المماثل ، ویخرج منه ما کان من الأجانب، فیدخل فی حکم السابق من الدفن بلا تغسیل ، وبذلک یخرج الحدیث عن المعارضة .

ومنها: الخبر الذی رواه عبداللّه بن سنان، قال : «سمعت أبا عبداللّه علیه السلام یقول : المرأة إذا ماتت مع الرجال، فلم یجدوا امرأة تغسّلها غسّلها بعض الرجال من وراء الثوب، ویستحبّ أن یلفّ علی یدیه (یده) خرقة»(2) .

بناءً علی حمله بصورة المحارم ، بل فی «مصباح الفقیه» جعل الجملة الأخیرة مشعراً علی کونه للمحارم، فکأنّه أراد بیان أنّه لو کان للأجانب کان ذلک العمل واجباً لحرمة اللّمس والمسّ فیها ، مع أنّه یمکن أن یکون الاستحباب حتّی فی الأجانب التی غسّلتها من وراء الثوب ولا تمسّه حذراً وحفظاً عن وقوع المسّ بلا اختیار فی بعض حالات التغسیل . وکیف کان لابدّ من حمله علیه ولو کان مخالفاً للظاهر بدواً.

نعم ، لا یقبل حدیث زید بن علیّ مثل هذا الحمل، وهو الخبر الذی رواه عن


1- وسائل الشیعة : الباب 22 من أبواب غسل المیّت، الحدیث 5 و 9 .
2- وسائل الشیعة : الباب 22 من أبواب غسل المیّت، الحدیث 5 و 9 .

ص:197

آبائه عن علیّ علیهم السلام قال : «إذا مات الرجل فی السفر مع النساء، لیس فیهنّ امرأته، ولا ذو محرم من نسائه؟ قال : یؤزرنّه إلی رکبتیه، ویصببن علیه الماء صبّاً، ولا ینظرن إلی عورته، ولا یلمسنه بأیدیهنّ ویطهّرنه ، الحدیث»(1) .

لأنّه قد صرّح بعدم وجود المحرم مع ذکر صورة وجود المحرم فی الخبر الذی أشار إلیه فی باب آخر من نفس الأبواب(2).

ولکن الخبر المذکور ضعیف من حیث السند، من جهة الحسین بن علوان فهو عامّی غیر موثّق صراحة، وإن کان تأییده لا یخلو عن وجه ، وهکذا عمرو بن خالد .

وکیف کان، الحدیث مشتمل لما لا یلتزم به أحد ، لأنّ التأزیر إلی الرکبة یقتضی أن یبقی بدن المیّت مجرّداً لما فوق الرکبتین ، فکیف یجوز النظر إلی جسده عدا عورته مع کونه أجنبیّاً للغاسل کما هو الفرض .

وبالتالی فأوّلاً: إن اُرید الائتزار مع الثوب فلا وجه لذلک .

وثانیاً: قوله علیه السلام : «لا یلمسنّه بأیدیهنّ» لا یخلو عن الإیماء بمجرّدیّته .

وکیف کان، لا یمکن رفع الید عن تلک الأخبار الکثیرة بمثل هذا الخبر، أو غیره بما یمکن حمله بما لا ینافی تلک الأخبار . فالأقوی ما علیه المشهور من الدفن بغیر غسل مع فقد المماثل والمحارم ، ولو أمکن التغسیل من وراء الثوب .

نعم ، هنا طائفة اُخری من الأخبار لا مجال للجمع بینها:

منها: ما یدلّ علی وجوب غسل موضع الوضوء من المرأة ، مثل خبر المرویّ عن أبی بصیر، قال : «سألت أبا عبداللّه علیه السلام عن امرأة ماتت فی سفر ولیس معها نساء


1- وسائل الشیعة : الباب 22 من أبواب غسل المیّت، الحدیث 3 .
2- وسائل الشیعة: الباب 20 من أبواب غسل المیّت، الحدیث 8 .

ص:198

ولا ذو محرم ؟ فقال : یغسل منها موضع الوضوء ویصلّی علیها وتُدفن»(1) .

إذ من الواضح أنّ مواضع الوضوء مثل الذراعین والقدمین _ لو لم نقل حتّی الوجه کما هو مختارنا _ محرّم للأجنبی، فکیف یمکن غسلها بالمسّ واللّمس وإن کان بدونه مع أنّه غیر ممکن عادةً، فیکون حکم غیر مواضع الوضوء مثل مواضعها لاشتراک الملاک ، فالحمل علی الاستحباب _ کما یظهر من الشیخ فی «الاستبصار» لهذا الخبر وغیره _ ممّا لا یمکن المساعدة معه، کما لا یخفی .

ومنها : ما یدلّ علی وجوب غسل کفّیها کالخبر المروی عن جابر ، عن أبی عبداللّه علیه السلام ، قال : «سُئل عن المرأة تموت ولیس معها محرم ؟ قال : یغسل کفّیها»(2) .

ومثل حدیث داود بن فرقد، قال : «مضی صاحبٌ لنا یسأل أبا عبداللّه علیه السلام عن المرأة تموت مع رجال لیس فیهم ذو محرم هل یغسّلونها وعلیها ثیابها؟

فقال : إذا یدخل ذلک علیهم ولکن یغسّلون کفّیها»(3) .

فإنّ تغسیل الکفّین لیس بواجب ولم یفت به أحد ، غایته الاستحباب لو لم یستلزم الحرام من المباشرة والمماسّة والنظر إن حرّمناه .

ومنها : ما یدلّ علی وجوب التیمّم بها ، مثل خبر عمرو بن خالد ، عن زید بن علیّ ، عن آبائه ، عن علیّ علیه السلام ، قال : «أتی رسول اللّه صلی الله علیه و آله نفرٌ، فقالوا : إنّ امرأة توفّیت معنا، ولیس معها ذو محرم؟ فقال : کیف صنعتم بها؟ فقالوا : صببنا علیها الماء صبّاً . فقال : أما وجدتم امرأة أهل الکتاب تغسلها؟ فقالوا : لا ، فقال : أفلا یممتموها»(4) .

أقول: العمل بهذا الحدیث مشکل ، لأنّه مضافاً إلی اشتماله بما یلزم فیه تحقّق


1- وسائل الشیعة : الباب 22 من أبواب غسل المیّت، الحدیث 6 و 8 .
2- وسائل الشیعة : الباب 22 من أبواب غسل المیّت، الحدیث 6 و 8 .
3- وسائل الشیعة : الباب 22 من أبواب غسل المیّت، الحدیث 2 و4 .
4- وسائل الشیعة : الباب 22 من أبواب غسل المیّت، الحدیث 2 و4 .

ص:199

الحرام وهو مسّ بدن الأجنبیّة بمواضع التیمّم، المستلزم لعدم تحقّق التیمّم الذی یعدّ أمراً عبادیّاً ، ولا یصحّ التقرّب بما هو حرام _ لم یفت علی طبقه أحدٌ من الفقهاء ، فتکون ساقطة عن الحجّیة بإعراض الأصحاب عنه .

ومنها : ما یدلّ علی وجوب غسل مواضع التیمّم ، مثل الخبر الذی رواه مفضّل بن عمر، قال : «قلت لأبی عبداللّه علیه السلام : جُعلت فداک ما تقول فی المرأة تکون فی السفر مع الرجال، لیس فیهم لها ذو محرم، ولا معهم امرأة فتموت المرأة ، ما یصنع بها؟ قال : یُغسل منها ما أوجب اللّه علیه التیمّم، ولا تمسّ، ولا یکشف لها شیء من محاسنها التی أمر اللّه بسترها . قلت : فکیف یصنع بها؟ قال : یغسّل بطن کفّیها ثمّ یغسّل وجهها ، ثمّ یغسّل ظهر کفّیها»(1) .

فإنّ تغسیل الوجه والکفّین ببطنها وظهرها، إن لم یستلزم المماسّة والنظر واللّمس الحرام، یحمل علی الاستحباب، حیث لا ینافی مع الدفن ثبوتها بلا غسل ، وإلاّ لا یجوز ذلک لما قد عرفت من الإشکال .

مضافاً إلی ما عرفت من خبر آخر مروی عن زید بن علیّ الذی قد ذکرناه آنفاً من الحکم بالاتّزار إلی الرکبتین، وصبّ الماء علی الرجل، من دون النظر إلی عورته ولا یلمسنّه بأیدیهنّ .

وکذلک خبر أبی بصیر المتقدّم الدالّ علی جواز مسّ النساء للرجل، ما کان یحلّ لهنّ النظر إلیه فی حال حیاته .

ممّا لا یمکن المساعدة معها، لما قد عرفت من استلزام أکثرها صدور الفعل الحرام منه ، مضافاً إلی منافاتها مع الأخبار الناهیة عن الغسل، والآمرة بالدفن


1- وسائل الشیعة : الباب 22 من أبواب غسل المیّت، الحدیث 1 .

ص:200

إلاّ ولها دون ثلاث سنین (1).

بلا غسل ، حتّی أنّ صاحب «الجواهر» ادّعی منافاتها مع الاستحباب ، وقال : «فلعلّ الأحوط الترک حینئذٍ» ، فلابدّ من حمل کلامه بما یستلزم الحرام نوعاً لا مطلقاً، وإلاّ لا ینافی مع الاستحباب، کما علیه الشیخ فی «الاستبصار» والمحقّق الآملی فی مصباحه ، واللّه العالم .

وإن کان ظاهر کلام صاحب «الجواهر» هو عدم صحّة غسل الرجل الأجنبیّة حتّی ولو فرض إمکان التغسیل بلا وقوع حرام من النظر واللّمس، حتّی یقال بکونه وجهاً للإفساد ، لأجل أنّ المستفاد من الأدلّة والأخبار شرطیّة المماثلة أو المحرّمیة أو الزوجیّة تعبّداً ، فلا یصحّ التغسیل حتّی لو قلنا بعدم اشتراط النیّة فی التغسیل، إذ غایة اقتضاء ذلک خروج الغسل عن حکم العبادات لا غیر .

فبناءً علیه یلزم منافاته مع حمل الأخبار علی الاستحباب ، فیکون المراد من الاحتیاط فی الترک، هو مطلقاً لا خصوص ما یستلزم وقوع الحرام .

فالأحوط ما قاله صاحب «الجواهر» بأن تدفن بلا غسل ، بلا فرق بین کون الغاسل رجلاً للمرأة أو امرأةً للرجل ، لأنّ الملاک هو عدم المماثلة والمحرّمیة ، ولا فرق فیه بین صورتی المسألة إلاّ ما استثنی، کما سنذکره فی المسألة اللاّحقة.

(1) قلنا : کان کلام المصنّف آنفاً فی تغسیل الرجل لمن لیست له بمحرم، فإنّ الاستثناء المذکور هنا وارد علیه ، فیصبح المراد من الجملة المذکورة هنا أنّه یجوز أن یقوم الرجل بتغسیل البنت الأجنبیّة فیما إذا کانت دون ثلاث سنین، ثمّ یلحق بعده بالمرأة لمخالفها .

وکیف کان، فالأولی بیان المسألة علی نسقٍ یدلّ علی المطلوب بجمیع أقسامه :

ص:201

فنقول : إنّ البحث هنا یکون علی اُمور :

الأمر الأوّل : أنّه لا إشکال فی جواز تغسیل الطفل الذی لا یزید سنّه عن ثلاث سنین مع عدم المماثلة ، بلا فرق بین الذکر والاُنثی ، ولا خلاف یعتدّ به . وعن «التذکرة» و«النهایة» نسبته إلی جمیع علمائنا المُشعر بوجود الإجماع علیه ، بل فی «الجواهر»: «أنّه لم أجد فیه خلافاً بین أصحابنا المتقدّمین والمتأخّرین، إلاّ عن المصنّف فی «المعتبر» من التفصیل بین الابن بالجواز والبنت بعدمه» .

والدلیل علی الجواز هو الأصل، أی أصالة البراءة عن شرطیّة المماثلة فی الصبیّ والصبیّة ، وعدم شمول الأخبار الدالّة علی الشرطیّة لما نحن فیه، لورودها فی الرجل والمرأة، أو انصراف إطلاقها إلیهما، وظهورها فیمن یحرم النظر إلیه ولمسه، مضافاً إلی العمومات الدالّة علی وجوب الغُسل ، السلیمة عمّا یوجب تخصیصها، بعد عدم شمول الأخبار الدالّة علی الاشتراط للصبی والصبیّة ، فضلاً عن وجود أخبار خاصّة واردة لخصوص المورد الدالّة علی الجواز کما سنشیر إلیه .

فإذا عرفت عدم الإشکال فی أصل الحکم ، نتعرّض الآن إلی الابن والبنت ، قلنا : لا إشکال فی جواز تغسیل المرأة للصبی قبل ثلاث سنین، فیدلّ علیه فضلاً عن الإجماع وعدم الخلاف، الخبر المروی عن أبی النمیر مولی الحارث بن المغیرة النضری، قال : «قلت لأبی عبداللّه علیه السلام : حدّثنی عن الصبی إلی کم تغسّله النساء؟ فقال : إلی ثلاث سنین»(1) . ودلالته واضحة لا خلاف فیها .

والذی وقع الخلاف فیه، هو تغسیل الرجل للصبیّة، حیث قال المحقّق فی «المعتبر» : «الأولی المنع ، والفرق بین الصبیّ والصبیّة أنّ الشرع أذِنَ فی اطّلاع


1- وسائل الشیعة : الباب 23 من أبواب غسل المیّت، الحدیث 1 .

ص:202

النساء علی الصبی لافتقاره إلیهنّ فی التربیة ، ولیس کذلک الصبیّة، والأصل حرمة النظر» ، انتهی .

أقول: ولا یخفی ما فیه من الإشکال، لأنّه : إن أراد بدعواه حرمة النظر إلی عورتها، فبعد التسلیم ولو بالنسبة إلی غیر الممیّز، إذ مقتضاها لیس إلاّ صیرورتها کالمحارم ، غایتها یلقی علی عورتها خرقة ویغسّلها لا المنع منه مطلقاً .

وإن أراد حرمة النظر إلی الصبیّة مطلقاً، ولو إلی ما عدا العورة من غیر تمییزها ، ففیه ما لا یخفی من مخالفته للسیرة القطعیّة ، مضافاً إلی عدم الخلاف فی جواز النظر إلیها قبل البلوغ أو قبل التمییز ، بل قیل بدلالة النصّ الصحیح علی جوازه قبل البلوغ .

فالأولی أن یستدلّ لهذا التفصیل بموثّقة عمّار ، عن أبی عبداللّه علیه السلام : «أنّه سُئل عن الصبیّ تغسّله امرأة ؟ فقال : إنّما تغسّل الصبیان النساء . وعن الصبیّة تموت ولا تُصاب امرأة تغسّلها ؟ قال : یغسّلها رجلٌ أولی بها»(1).

بناءً علی إفادة ما لا یعمّ غیر المحارم من الأولی ، فیفهم المنع لغیرها .

وفیه : أنّ المنع عن غیر الولیّ أعمّ من المحارم وغیرهم ، لوضوح أنّه یمکن أن یکون الغیر من المحارم کالعمّ والخال ، فعلی فرض وجود المفهوم فیه یفهم منه المنع حتّی للمحارم ، فیدلّ علی لزوم کون الغاسل من المماثل لو لم یکن ولیّاً، وإلاّ یجوز ولو مع فقد المماثل ، هذا إذا کان الولیّ موجوداً .

وأمّا مع فقده، فالروایة ساکتة عنه، ولا تعرّض فیها له إثباتاً ولا نفیاً ، مضافاً إلی أنّ المراد من أولی بها، إن کان الوارث لمالها، فهو یصبح أعمّ من المحارم ،


1- وسائل الشیعة : الباب 23 من أبواب غسل المیّت، الحدیث 5 .

ص:203

وأمّا لو اُرید من الولیّ من له ولایة علیها، وهو عبارة عن الأب والجدّ مع فقدْ الأب، أو معه والحاکم مع فقدهما، وتصدّی الحاکم للغسل بالمباشرة یکون من غیر المحارم والمماثل، فلا یمکن اعتبار هذا الحدیث دلیلاً لإثبات الحرمة، مع إمکان أن یکون وجه ذلک الولیّ، وتخصیصه استحباب مباشرته للفعل بنفسه، وکونه ولیّ الأمر ، وحیث أنّ تغسیل الرجل للصبیّة مخالفٌ لما هو المتعارف، فلا یقدم علیه أحد بلا داع قویّ بخلاف صورة العکس ، لأنّ تربیة الصبیان موکولة إلی النسوان علی المتعارف فتتصدّی لها ، فلا یفهم من مثل هذه الروایة بطلان غسل الغیر إذا کان بأمر الولیّ، کما لا یخفی .

وبالجملة: ثبت أنّه لا دلیل علی المنع مطلقاً عن غسل الصبیّ والصبیّة بالخصوص. نعم ، لابدّ أن یلاحظ سبب تحدید عمرها بأقلّ من ثلاث سنین الوارد فی کلمات الأصحاب: فأمّا بالنسبة إلی الصبی فیستفاد ذلک من الخبر المروی عن أبی النمیر، حیث کان السؤال عن کم تغسّله النساء ، فأجاب علیه السلام : «إلی ثلاث سنین» ، وضعف الحدیث منجبر بما عرفت من دعوی الإجماع وعمل الأصحاب .

وأمّا فی الصبیّة فلم یرد فی نصّ بالصراحة، ولم یتّضح لنا مستندهم فی التحدید المذکور، إلاّ أن یدّعی الأولویّة فی المنع من حدیث الصبی بنظر العرف، لأنّه إذا کان الصبیّ الذی یعدّ أهون بنظر العرف لتصدّی النساء له محدوداً إلی ثلاث سنین ، ففی الصبیّة یکون بطریق أولی ، لأنّها أشدّ قبحاً عند العرف من الصبیّ فی مباشرة الرجل لها ، ولذلک فقد حدّدها المشهور أیضاً بالثلاث کما ورد فی المتن .

أقول: ولکن عن «المقنعة» و«المراسم» جواز تغسیل الصبیّ مجرّداً إن کان ابن

ص:204

خمس سنین ، وإن کان أکثر غسّلته من فوق الثیاب .

والظاهر أنّ حکمهما بالجواز بالتغسیل من فوق الثیاب، مبنیّ علی جواز الغسل من الأجنبیّ ، فالتحدید حینئذٍ إنّما هو بالخمس .

ومثل ذلک ورد فی حقّ البنت ، فقد روی الشیخ الصدوق فی «الفقیه» عن محمّد بن الحسن، فی جامعه: «فی الجاریة تموت مع رجال فی السفر ؟ قال : إذا کانت ابنة أکثر من خمس سنین أو ستّ دُفنت ولم تُغسّل ، وإن کانت بنت أقلّ من خمس غسّلت».

قال : وذکر الحلبی حدیثاً فی معناه ، وفی «الذکری»: أنّه أسند الصدوق فی کتابه «مدینة العلم» ما فی «الجامع» إلی الحلبی عن الصادق علیه السلام (1) .

وفیه: لا مجال للاعتماد علی هذا الخبر فی الجاریة ، لأنّه :

أوّلاً: یعارض مع الأولویّة بالمنع المستفادة من حدیث الصبیّ .

وثانیاً : منافاة هذه الروایة أیضاً بهذا النقل مع الخبر المروی فی «التهذیب» عن أحمد بن محمّد مرسلاً ، قال : «وروی فی الجاریة تموت مع الرجل ، فقال : إذا کانت بنت أقلّ من خمس سنین أو ستّ دُفنت ولم تغسّل»(2) .

حیث یناسب هذا الحدیث مع ما فی حدیث أبی النمیر من عدم التجویز لمن تجاوز عمره عن الثلاث فی الصبیّ، وفی الصبیّة إلحاقاً به ، وإن کان قد نقل عن ابن طاووس رحمه الله أنّه قال : «إنّ لفظ أقلّ هنا وهم وأصله أکثر»(3) ، وأیّده علی ذلک صاحب «الوسائل»، فمفهوم الشرط غیر مراد فیما زاد علی الثلاث ، لأنّه القدر المتیقّن ، فالاعتماد علی مثل هذه الروایات مع وجود الاضطراب فی متنه


1- وسائل الشیعة : الباب 23 من أبواب غسل المیّت، الحدیث 4 و 3 و 2.
2- وسائل الشیعة : الباب 23 من أبواب غسل المیّت، الحدیث 4 و 3 و 2.
3- وسائل الشیعة : الباب 23 من أبواب غسل المیّت، الحدیث 4 و 3 و 2.

ص:205

والإرسال فی سنده مشکل جدّاً ، ولأجل ذلک عمل الأصحاب فی الصبیّة بما ورد فی الصبیّ ولم یتجاوزا عنه .

أقول: ومن هنا ظهر أنّ ما ذهب إلیه بعض الفقهاء، کصاحب «الجواهر» رحمه الله تبعاً لصاحب «الحدائق» رحمه الله إلی دوران جواز التغسیل فی الصبیّ والصبیّة مدار جواز النظر واللّمس، المؤیّد بروایة موثّقة عمّار المتقدّمة فی الصبیّة والموافق للأصل والقواعد ، مخالفٌ لفتاوی الأصحاب وعملهم، ولروایة أبی النمیر المتعضدة بعمل الأصحاب ، فالالتزام به مشکل ، فالذی یقتضیه الاحتیاط هو تغسیل الصبیّ والصبیّة بعد الثلاث من فوق الثیاب عند الضرورة، بناءً علی ما هو الأظهر من جوازه للأجنبی، وإن کان الأحوط فیما بعد البلوغ ترکه ودفنه بثیابه، کما عرفت حکمه سابقاً .

وبالجملة: فحکم الصبیّ والصبیّة علی ثلاث أقسام :

(1) قسمٌ یغسّل مجرّداً ، وهو ما دون الثلاث .

(2) وقسمٌ یغسّل من فوق ثیابه، وهو ما فوق الثلاث .

(3) وقسمٌ یُدفن بثیابه من غیر غسل ، وهو المراهق قبل البلوغ .

فاختصاص الحکم بالضرورة کان لما بعد الثلاث دون قبله، إذ فیه یجوز غسله مجرّداً بلا ضرورة فی حال الاختیار ، لإطلاق النصوص والفتاوی، فضلاً عن أنّه مطابق لمقتضی الأصل والعمومات،خلافاً للشیخ فی«المبسوط» و«النهایة» و«السرائر» و«المقنعة» ، بل لعلّه الظاهر من «الوسیلة» باشتراط ذلک مع فقد المماثل ، ولعلّهم یتمسّکون بشمول قوله علیه السلام : «لایغسّل الرجل امرأة، إلاّ أن لا توجد امرأة»(1) ، لمثل ذلک .


1- وسائل الشیعة : الباب 20 من أبواب غسل المیّت، الحدیث 10 .

ص:206

فیه ما لا یخفی، إذ لیس المورد ممّا ینطبق علیه الرجل أو المرأة فی حال الصبابة ، مضافاً إلی الطعن فی سنده لأجل ضعف محمّد بن سنان .

فالأقوی عندنا جوازه عن اختیار کما علیه صاحب «الجواهر» و«مصباح الفقیه» وغیرهما .

نعم ، اختلفوا فی تحدید الجواز ، فظاهر المصنّف کما فی «المبسوط» و«الإصباح» وبعض آخر، کونه بما دون الثلاث . ولکن المشهور هو الثلاث فما دون، کما عن «المقنعة» و«المراسم» من تجویز تغسیل النساء الصبیّ مجرّداً إن کان ابن خمس سنین ، وإن کان ابن أکثر غسّلته من فوق الثیاب .

وکیف کان ، فمنشأ القولین الأوّلین هو خبر ابن النمیر بقوله : «إلی ثلاث سنین» ، من حیث دخول الغایة وخروجها . ولکن قال صاحب «الجواهر» : «وظنّی أنّ القول الأوّل راجع إلی الثانی بإرادة الثلاث فما دون، کما یرشد إلیه ما فی «النهایة» من دعوی الاتّفاق علی جواز تغسیل ابن ثلاث سنین».

بل وکذا فی «المنتهی» و«التذکرة» وإن کانت عباراتهم غیر وافیة لذلک ، فلا إشکال عندنا فی الجواز فی ثلاث سنین .

نعم ، والذی ینبغی الإشکال فیه هو قصر الحکم علیها، وعدم جواز التغسیل لمن زاد علیها، خصوصاً مع ملاحظة إطلاق حدیث عمّار عن الصادق علیه السلام بعد أن سئل عن الصبیّ تغسّله امرأة ؟ قال : «إنّما تغسّل الصبیان النساء» ، خصوصاً مع جواز لمسهن والنظر إلیهنّ لمن زاد علیها ، فحینئذٍ یشمله إطلاق الأمر بالتغسیل ، مضافاً إلی ما عرفت من عدم شمول ما یدلّ علی عدم تغسیل الرجل إلاّ للرجل والمرأة إلاّ للمرأة لما نحن فیه لخروج الطفل عن العنوانین .

هذا ، ولکن حدیث ابن المنیر بعد انجباره بالشهرة وعمل الأصحاب، یوجب

ص:207

وکذلک المرأة ، ویغسّلها مجرّدة(1).

التقیید فی تمام هذه المطلقات ویرفع الإشکال کلّه ، ولا ینافیه جواز النظر واللّمس، إذ یحتمل أن یکون ذلک من الشروط التعبّدیّة ، فالاقتصار علی ذلک الحدّ فی جواز التغسیل _ کما علیه المشهور _ لا یخلو عن قوّة ، واللّه العالم .

(1) أی فی النفی والإثبات، أمّا جانب النفی ففی عدم تغسیلها للرجل الأجنبیّ، والإثبات فی الابن البالغ عمره ثلاث سنین أو أقلّ منها، مثل الرجل للأجنبیّة،واستثناء الصبیّة التی کانت أقلّ من ثلاث سنین منها ، وقد عرفت تفصیل المسألة فی کلا الطرفین من الرجل والمرأة فلا نعیده.

هذا وبعدما ثبت جواز التغسیل لأقلّ من ثلاث سنین ، قال المحقّق بجوازه مجرّداً، أی یجوز للمرأة أن تغسّل الصبیّ مجرّداً عن ثیابه بلا خلاف فیه ، بل علیه الإجماع فی «التذکرة» و«النهایة» کما عرفت تحقیقه ، فالأقوی حینئذٍ الجواز مع التجرید، کما صرّح به جماعة ویقتضیه إطلاق آخرین .

بل قد قیل بأنّ مقتضی بعض الإطلاقات، عدم وجوب ستر العورة، فضلاً عن غیرها، کما صرّح به فی «جامع المقاصد» و«الروض» ، بل نسبه فی الأوّل إلی إطلاق النصّ والأصحاب .

أقول: ثمّ لا یخفی أنّ المراد من التحدید بثلاث، کون نهایة الجواز وقوع الموت علیها لا قبلها حتّی یقع التغسیل علیها، کما یظهر ذلک من «جامع المقاصد» من القول بکون الغسل واقعاً قبل ذلک، لوضوح أنّ مرور الزمان بعد الموت لا تأثیر فی الحکم ، فوقوع الغسل بعد الثلاث جائز لا منع فیه .

هذا کلّه فی حکم الصبیّ والصبیّة، إذا کانا معلومی الذکوریّة أو الاُنوثیّة ، بل

ص:208

ومجهولها إذا رفع الإشکال والجهل بواسطة بعض القرائن والعلامات .

أمّا الخُنثی: ففی المشکل منه أیضاً الحکم کذلک بناءً علی اعتبار القرعة وعدّ الأضلاع ، لأنّه یخرج بذلک حینئذٍ عمّا یصدق علیه العنوان ، بل وهکذا فی الخُنثی المشکل الذی لا یمکن رفع إشکاله بسبب القرعة وعدّ الأضلاع ونحوها، لعدم اعتبارها مثلاً عند من لا یقول باعتبارها، إذا کان سنّه ثلاثاً أو أقلّ ، لعدم الممنوعیّة حینئذٍ علی کلّ التقدیرین من الذکوریّة والاُنوثیّة .

بل، وهکذا فی الخُنثی المشکل المذکور إذا کان عمره أکثر من الثلاث ، ولکن کان له أمة ، وقلنا بجواز مباشرتها بالغسل ، أمّا فی خصوصها من المحارم أو لأجل الإجازة لکلّ المحارم ومنها الأمة، سواء کانت الأمَة للخنثی علی الذکوریّة أو لا الاُنوثیّة ، کما یظهر بناءً علی الوجه الأخیر عدم شرطیّة وجود المماثل فی المحارم مطلقاً فی جواز التغسیل منها ، ولو لم یکن من أمة من سائر المحارم، لاشتراک وجه الجواز بین الأمة وبینهم ، وهذه ممّا لا إشکال فیه .

ولکن الذی ینبغی أن یبحث فیه فیما إذا فقدت الأمة، أو التزمنا بعدم جواز مباشرتها بالخصوص، أو کذلک فی سائر المحارم أیضاً ما لم یصدق علیه الضرورة ، ففی ذلک یکون الوجوه والأقوال فی المسألة ثلاثة :

القول الأوّل: ما علیه العلاّمة فی «التذکرة» و«المنتهی» و«القواعد» و«الإرشاد» و«الذکری» و«جامع المقاصد» و«الروض» أنّه یغسّله محارمه من الرجال والنساء ، معلّلین ذلک بالضرورة لتعذّر المماثل . وعن أبی علی أنّه تغسّله أمَته ، وعن ابن البرّاج أنّه یتیمّم ولا یُغسّل .

وقال صاحب «الجواهر»: «للنظر فی الجمیع مجال ، أمّا الأوّل فلعدم تناول ما دلّ علی الضرورة المسوّغة لغیر المماثل لمثل ذلک، لظهورها أو صریحها فی

ص:209

معلوم الرجولیّة والاُنوثیّة . ودعوی أنّ المخالفة مانع لا أنّ المماثلة شرط ، فی غایة الوهن، ومخالفة لصریح کلام الخصم . ومنه یظهر فساد التمسّک بالعمومات لکونها مخصّصة عند الخصم بما دلّ علی اشتراط المماثلة ، إلاّ مع التعذّر فی خصوص المحارم ، ولذلک احتاج هنا إلی التعلیل بالضرورة ، مع أنّ قضیّتها عدم الاقتصار علی المحارم، کالتمسّک باستصحاب جواز النظر واللّمس، إذ هما غیر صالحین لإثبات العبادة التوقیفیّة» ، انتهی کلامه(1) .

أقول: ولا یخفی ما فیه من الإشکال ، لوضوح أنّه لا إشعار فی شیء من الأدلّة، فضلاً عن الظهور أو الصراحة بکون موردها العلم بالرجولیّة والاُنوثیّة علی نحوٍ کان مأخوذاً فی موضوع الحکم، حتّی یختصّ حکم جواز التغسیل بالضرورة لموضوعه .

إلاّ أنّ مورد سؤال السائلین کان عمّن مات فی السفر ولیس معه إلاّ النساء فی الرجل أو الرجال فی المرأة، مع کونهم معلومی الحال ، لا أن یکون بیانه علی نحو الموضوعیّة حتّی لا یشمل غیرها ، ولیس المقام من حیث السؤال والجواب بالنسبة إلی الخصوصیّات، إلاّ کسائر المشخّصات والخصوصیّات الواقعة فی موضوعات الأحکام، التی لا ینسبق إلی الذهن إلاّ إرادة حکم تلک الموضوعات التی أحرزها من حیث هی، لا من حیث کونها معلومة بالتقیید کما توهّمه صاحب «الجواهر» ، فیصدق هنا الضرورة مع فقد المماثل لو لم یرد فیه إشکال من ناحیة اُخری سنشیر إلیها إن شاء اللّه تعالی .

نعم ، قد یتوجّه الإشکال هنا فی صدق الضرورة، بأن یُقال إنّه لا یصدق علیه الضرورة المبیحة بفقد المماثل من حیث ملاحظة إمکان تحصیل تغسیل المماثل


1- الجواهر : ج4 / 78 .

ص:210

بتکریر الغسل بفعل الرجال والنساء .

أجاب المحقّق الهمدانی بقوله: بعد نقل ما قلناه من فقد الضرورة : «لکن یتوجّه علیه أنّ العبرة بحسب الظهور إنّما هی بالاضطرار إلی حصول التغسیل من غیر المماثل، لا عدم إمکان حصوله من المماثل فی الواقع، ومعلوم أنّ الضرورة متحقّقة فی فعل من یغسّله ولو عند إرادة الاحتیاط، فیصحّ غسله ولو علی تقدیر عدم المماثل ، فلیتأمّل» انتهی(1) .

فکأنّه أراد بأنّ الاضطرار هنا إنّما یحصل بواسطة وقوع الغسل عن غیر المماثل، المستلزم للنظر واللّمس المحرّمان المتحقّقین بتکریر الغسل، لا عدم إمکان حصوله من المماثل ، لأنّه قد حصل بالتکرار قطعاً إذا لم تکن الخُنثی وجوداً ثالثاً غیر الذکوریّة والاُنوثیّة ، وهذا إنّما یصحّ بناءً علی القول بجواز التکرار، المستلزم لوقوع الحرام الیقینی، کما سیتّضح لک فی بیان وجه الوجوه إن شاء اللّه .

القول الثانی: قال عنه صاحب «الجواهر» : «وأمّا الثانی قول أبی علی بأنّ أمَته تغسّله ، فمع ابتنائه علی ما تقدّم سابقاً غیر مطّرد، إذ قد لا تکون عنده أمَة .

واحتمال التکلیف بشراء أمة له من ترکته، فإن لم یکن عنده ترکة فمن بیت المال کما عن أحد وجوه الشافعیّة . ممّا لا ینبغی أن یصغی إلیه بعد فرض عدم الدلیل علیه»(2) .

قلنا : لعلّ أبو علی رحمه الله أراد صورة وجود الأمَة لا مع عدمها کما هو المفروض، حتّی یفرض إرادة تحصیل الأمة له من ترکته، لإمکان أن یناقش فیه بأنّ


1- مصباح الفقیه : ج5 / 104 .
2- الجواهر : ج4 / 78 .

ص:211

تحصیلها منها لا یجعلها ملکاً له ، لأنّ الملکیّة من الاُمور المترتّبة علی الحیّ دون المیّت .

اللّهُمَّ إلاّ أن یُقال : إنّه یجعلها ملکاً له إذا اشتری ممّا کان للمیّت من الثلث من الترکة، حیث قد أجاز الشارع کونه للمیّت ، فتحصیل شیء منه یجعله للمیّت ، فله وجه ، ولکن ما ذکره التزام بما لا دلیل علیه .

القول الثالث: فقال عنه صاحب «الجواهر»: وأمّا الثالث فلا دلیل علی وجوب التیمّم مع لزوم المحذور أیضاً ، لأنّه مشترک مع الغسل فی لزوم اللّمس علی الأجنبیّ علی احتمال، أو قطعاً لو تکرّر ، فإذا صار کذلک فلا وجه لترک الغسل والأخذ بما یشارکه من اللّوازم فیخرج بذلک عن الضرورة المسوّغة للتیمّم، کما لا یخفی علی المتأمّل .

أقول: إذا بلغ الأمر إلی هنا، فیدور الکلام فی واحد من ثلاث وجوه وأقوال:

الوجه الأوّل : هو سقوط الغسل حینئذٍ وجواز دفنها بدونه ، هذا کما عن «التذکرة» ، ومنشأه فرض المقام من قبیل واجدی المنی فی الثوب المشترک، حیث لا یجب الغسل علی واحدٍ منهما ، لأنّ کلّ واحدٍ منهما یرجع إلی أصل البراءة .

ولا بأس بذکر توضیح فی المقام وهو أن یُقال : لا إشکال فی أنّ لنا عمومات دالّة علی وجوب تغسیل المیّت، وقد خصّصت بما یدلّ علی اشتراط المماثلة ، وکلّ واحد من الرجال والنساء من أفراد المکلّفین شاکّ فی وجوب تغسیل الخُنثی علیه للشکّ فی المماثلة ، والشکّ فی الشرط موجب للشکّ فی المشروط ، فیرجع کلّ واحد منهما إلی أصل البراءة.

ولا یعارض جریانه فی کلّ واحد مع جریانه فی الآخر کما فی واجدی المنی ، لعدم علم کلّ واحد منهما بتوجّه تکلیف منجّزٍ علیه ، ومع الشکّ فیه فالمرجع البراءة .

ولا یصحّ حینئذٍ الرجوع إلی عمومات وجوب الغسل، لأنّها مخصّصة بما یدلّ

ص:212

علی اشتراط المماثلة، خرج موضوعاتها عن کونه تمام الموضوع وصار جزءً منه ، ولا یصحّ حینئذٍ الرجوع إلیها لکونه رجوعاً إلی العموم فی الشبهات المصداقیّة للخاصّ، وهو ممنوع عند المحقّقین .

هذا غایة ما یمکن أن یستدلّ لجواز ترک التغسیل ودفنه بلا غسل .

أقول: لکن هذا الاستدلال لا یثبت إلاّ جواز ترک الغسل لا عموم جواز فعله ، بل الأصل هنا یقتضی جواز فعله ولو مجرّداً عن الثیاب، کجواز مسّها وجواز النظر إلیها ؛ لأنّ شرط حرمتهما إحراز عدم المماثلة کشرط وجوب الغسل إحراز المماثلة، فیرجع فی نفی الحرمة فی الأوّل ونفی الوجوب فی الثانی إلی أصل البراءة، فیبقی فعل الغسل علی أصل الجواز .

وتوهّم: أنّه لا یمکن إتیانه بداع قربی، لعدم إحراز رجحانه حینئذٍ .

مدفوع : أنّه یکفی فی إتیانه عبادةً بداعی احتمال الأمر والمحبوبیّة، کما هو الحال کذلک فی جمیع موارد الاحتیاط ، فلازم هذا الاستدلال عدم وجوب التغسیل وجواز دفنه بلا غسل حتّی لا یستلزم وقوع الحرام، وهذا إنّما یصحّ إذا استلزم الغسل وقوع النظر واللّمس المحرّم ، وإلاّ إن أمکن غسله مع غمض العینین، وعدم لمس یده لجسمه بلفّ خرقة علیه وتغسیله من وراء الثیاب _ حتّی یستشکل بعدم إحراز القدر المعفوّ عنه فی النجاسة عند الغسل مع الثیاب، کما أشار إلیه بعض _ .

فلا إشکال حینئذٍ من الحکم بعدم شرطیّة المماثلة .

اللّهُمَّ إلاّ أن یدّعی أنّ شرطیّته تعبّدی، بحیث یعدّ فعل الغسل مع عدم المماثل حراماً ذاتیّاً کما قاله بعض فی مثل معلوم الرجولیّة والاُنوثیّة ، فحینئذٍ یصحّ الحکم بترک الغسل ودفنه بلا غسل ، بل یرجع الأمر حینئذٍ بین المحذورین لکلّ

ص:213

واحدٍ من الرجال والنساء ؛ لأنّه یعلم کلّ واحد منهما بأنّ غسل الخُنثی إمّا واجب له فی صورة المماثلة ، أو حرام فی عدم المماثلة، فلا محیص من اختیار أحد الأمرین من الفعل أو الترک، أو الرجوع إلی القرعة لیرفع هذا الإشکال عند القول بالحرمة الذاتیّة فقط لا مطلقاً، کما لا یخفی .

الوجه الثانی: وهو أنّه یجب غسلها مرّة واحدة بمباشرة الرجال أو النساء ، لکن من فوق الثیاب ، ولا یجوز لأحدهما غسلها من دون ثیاب لاحتمال أن یکون رجلاً مع کون الغاسل امرأة أو امرأة، مع کون الغاسل رجلاً ، هذا کما عن العلاّمة فی «المنتهی» .

قلنا : لعلّ مراده _ وإن کان خلاف الظاهر _ من الأمر بوجوب غسلها من وراء الثیاب هو الحجاب المانع عن النظر واللّمس دون الثیاب الملتصق ببدن المیّت، حتّی یستشکل بعدم المعفویّة فی نجاستها .

وکیف کان، قیل فی وجهه کما عن «مصباح الهدی» للآملی بما ملخّصه: «إنّ شرطیّة المماثلة کما یظهر بالتدبّر فی أدلّتها ناشئة عن غلبة ابتلاء المباشرین للغسل بالنظر واللّمس المحرّمین علی الأجنبیّ ، ولذلک نهی الشارع عن مباشرة الأجنبیّ إذا کان عن غیر المماثل .

ثمّ قال : إنّ الشرطیّة والمانعیّة قد یستفاد من خطاب وضعی أو تکلیفی غیری، فلا یستفاد منه حینئذٍ إلاّ الشرطیّة والمانعیّة ، وقد یستفاد من خطاب نفسی متوجّه إلی شیء لا یجتمع امتثاله مع امتثال الأمر المتعلّق إلی شیء آخر، مثل النهی عن الغصب مع الأمر بالصلاة .

إلی أن قال : اشتراط المماثلة فی المقام یکون من قبیل الثانی، حیث أنّ الناظر فی أدلّة اشتراطها یقطع بأنّ اعتبار الشارع لهذا الشرط، إنّما هو لعدم رضاه

ص:214

بمباشرة الأجنبی لهذا العمل المتوقّف فی الغالب علی النظر واللّمس ، فنهیه عنه إنّما هو لکون فعله ملزوماً لأمرٍ مبغوض للشارع، نظیر الصلاة فی المکان المغصوب، والوضوء بماءٍ مغصوب ، فالفعل من حیث هو فعل لا یکون قبیحاً بالقبح الفعلی، وممّا لا یمکن أن یتقرّب به ، وإنّما القبح ینشأ من حیث صدوره عن الفاعل بالقبح الفاعلی، وکونه ممّا لا یمکن أن یتقرّب به ، والقبح إنّما یتحقّق عند تنجّز النهی علیه ، ومع عدم تنجّزه فلا موجب لبطلان الفعل، لا من حیث نفسه حیث أنّه لا یکون قبیحاً بالقبح الفعلی، ولا من حیث صدوره عن الفاعل، لعدم تنجّز النهی علیه، فیکون فعله صحیحاً .

وعدم تنجّز النهی إمّا یکون للجهل به بجهل یعذر فیه ، أو ما یکون بحکمه کما فی المقام، فیکون تغسیل الأجنبی للخُنثی کتغسیله لمیّت بزعم المماثلة أو المحرّمیة ، فانکشف خطأه بعد الفراغ عن غسله حیث أنّ الغسل صحیح قطعاً، ولیس لصحّته وجه إلاّ عدم تنجّز النهی علی الغاسل مع عدم اتّصاف غسله من حیث هو غسل بالقبح الفعلی .

فإن قلت : تردّد الخُنثی بین کونها مماثلاً للغاسل أو غیر مماثل، یوجب تحقّق علم إجمالی بوجوب تغسیلها، أو حرمة لمسها والنظر إلیها ، حیث أنّها إن کانت مماثلاً یجب غسلها، وإن لم یکن مماثلاً یحرم لمسها والنظر إلیها ، وهذا العلم الإجمالی یقتضی الجمع بینها فی الامتثال، حیث یمکن الجمع بینهما .

قلت: هذا العلم الإجمالی لا ینفع فی إیجاب الجمع بین امتثال طرفیه ، لأنّ الموجب لعدم وجوب الغسل، إنّما هو حرمة اللّمس والنظر بالحرمة المنجّزة، وإلاّ فلا مانع عن وجوبه ، فلابدّ من أن یکون التردید بین وجوب التغسیل علی تقدیر المماثلة، وبین حرمة اللّمس والنظر بالحرمة المنجّزة علی تقدیر المخالفة ،

ص:215

والمفروض عدم تنجّز الحرمة من حیث هی حرمة، وإنّما التنجّز یحصل من قبل العلم بها، فیکون المقام نظیر الدوران بین وجوب الصلاة فی خصوص هذا المکان، وبین حرمة الوقوف فیه لاحتمال کونه مغصوباً، حیث أنّ هذا العلم الإجمالی لا یؤثّر شیئاً ، بل یجب الصلاة فیه ؛ لأنّ المانع عن وجوبه هو احتمال کونه مغصوباً وهو لیس بمانع ؛ لأنّ حرمة الغصب ما لم تکن منجّزة لا تکون مانعة کما لا یخفی»(1) .

أقول: ما ذکره المحقّق الآملی رحمه الله فی غایة المتانة والجودة، إن ثبت وجوب الصلاة علیه فی المماثل ووجوب الغسل فی المماثل، وکان ثبوتهما بدلیل مطلق فی جمیع الموارد، إلاّ فیما ثبت فیه وجود مانع عن وجوبه منجّزاً أو محرزاً ، فحینئذٍ کلّ مورد شکّ فی ثبوت المانع ولم یحرز ذلک، یجب الرجوع فیه إلی عموم دلیل الوجوب والأخذ به ، ووجهه ما ذکره رحمه الله خصوصاً إذا کان مقتضی الأصل هو عدم وجود المانع، حیث أنّ مثل هذا الأصل یمنع عن إحراز وجود المانع وینفیه ، فلا یکون حینئذٍ احتمال وجود النهی منجّزاً ممّا لم یحرز النهی، ومع عدم تنجّزه لا مانع عن وجوب الصلاة هناک وعن وجوب الغسل هنا .

وأمّا لو لم یکن الأمر کذلک ، بل کان التکلیف فی أصل ثبوت وجوب الغسل أو حرمته، لأجل فقد المماثلة ثابتاً بالعلم الإجمالی، أی علم إجمالاً لأجل الإجمال والإبهام فی المتعلّق أنّ التکلیف المنجّز علیه یکون أحدهما ؛ أمّا وجوب الغسل فی المماثلة ، أو حرمته فی غیر المماثلة . فحینئذٍ کما أنّ النهی عن الغسل للأجنبی یکون بالاحتمال فی أطراف العلم الإجمالی ، کذلک الأمر


1- مصباح الهدی: 5 / 445 _ 446 .

ص:216

بالغسل فی غیره _ أی فی المماثل _ یکون بالاحتمال ، وکلاهما متماثلان حینئذٍ، فلا مجال لتقدیم أحدهما علی الآخر ، فحینئذٍ لا یبقی وجه لما ذکره من وجوب الغسل علیه لعدم مانعیّة احتمال النهی عن مباشرة الأجنبی، لکونه غیر منجّز .

وبالجملة: فمدار الکلام یکون فی أصل ثبوت کون وجوب الغسل فی جمیع الموارد إلاّ ما خرج بإحراز المانع ، ولا یبعد أن یکون کذلک بالنظر إلی الأدلّة الأوّلیّة المتکفّلة لإیجاب الغسل علی المکلّفین لکلّ مسلم إلاّ ما خرج بوجود المانع بصورة الإحراز .

الوجه الثالث: وقد أشار إلیها الآملی رحمه الله بقوله: «هو لزوم تغسیلها مرّتین ؛ مرّة بمباشرة الرِّجال ، واُخری بمباشرة النساء _ کما علیه السیّد فی «العروة» وکثیر من أصحاب التعلیق علیها _ غایة الأمر بإضافة کون غسلها من وراء الثیاب، کما ورد فی متن «العروة».

والدلیل: علی ما قیل هو دعوی أنّ وجوب الغسل کفایةً علی عامّة المکلّفین یقتضی عدم اختصاص التکلیف بمن یباشر بنفسه ، فالمماثلة شرط الوجود لا شرط الوجوب ، فالواجب علی کلّ مکلّف هو السعی فی إیجاب الغسل من المماثل، ولو بالسعی وإعانة بعضهم لبعض ، فیجب فی المقام علی المکلّفین السعی فی حصول غسل الخُنثی من مماثله، وهو أمرٌ مقدور یتوقّف العلم بحصوله علی تکریر الغسل من الرجال والنساء ، فیجب ذلک من باب الاحتیاط إذا لم یتوقّف علی ارتکاب حرام کنظر الأجنبیّ ولمسه، وکان الغسل من وراء الثیاب ، أو علی تغمیض العینین ولَفّ خرقة بالیدین ، بناءً علی کون حرمة تغسیل الأجنبی من جهة استلزامه للنظر واللّمس المحرّمین .

وأمّا بناءً علی کون حرمته ذاتیّة، أو عدم إمکان التحرّز عن النظر واللّمس ،

ص:217

فالمتّجه حینئذٍ سقوط التکلیف بالغسل من المماثل، لتردّده وتردّد الموضوع المشتبه منه بین الواجب والحرام، واستلزامه الاحتیاط فیه لارتکاب الحرام الیقینی .

ثمّ قال فی آخر کلامه: ولا یخفی أنّ الأحسن منها هو الوجه الثانی ؛ أعنی جواز الاکتفاء بغسل واحد مع التخییر بین کونه بمباشرة الرجال أو النساء، وإن کان الأحوط تغسیلها مرّتین من کلّ من الرجال والنساء ، لکن من وراء الثیاب» انتهی محلّ الحاجة(1) .

أقول: ولا یخفی علیک أنّ التغسیل من وراء الثیاب إن أمکن وقلنا بمعفویّة النجاسة فی الثوب الملتصق بالبدن بالتبع ، فحینئذٍ لا إشکال فی کفایة غسل واحد، سواء کان بمباشرة الرجال أو النساء، لصحّة الغسل من دون استلزامه الحرام ، فلا وجه للحکم بلزوم التغسیل مرّتین ، هذا إن کان وجه حرمته لاستلزامه الحرام .

وأمّا إن کان لأجل حرمته ذاتاً ، فعلیه لابدّ أن یُقال بالتخییر لکلّ واحدٍ من الرجل والمرأة، من اختیار أحد الأمرین من فعل الغسل أو ترکه ؛ لأنّه إمّا واجب فی المماثل ، أو حرام فی غیره ، فحیث لا یعلم لا محیص باختیار الفعل أو الترک لدوران الأمر بین المحذورین لکلّ واحدٍ من المکلّفین ، فلا وجه للقول بسقوط التکلیف حینئذٍ ، لأنّه لا یکون الحرام هنا لأجل ملازماته، بل لأجل اعتبار حرمته ذاتیّة ، أی حرام ولو لم یستلزم النظر واللّمس المحرّمین کالغسل من وراء الثیاب .

هذا کلّه لو لم نقل بجواز تغسیل المحارم فی غیر المماثل، وإلاّ فإنّ علیهم مباشرة الغسل بلا ضرورة أو مع الضرورة کما فی المقام ، فلا تصل النوبة إلی ما


1- مصباح الهدی : ج5 / 466 .

ص:218

فصّلناه ، وحیث کان احتمال الحرمة الذاتیّة ضعیفاً، والغسل من وراء الثیاب ممکناً، کان احتمال الاکتفاء بواحد قویّاً ، ولکن الأحوط غسلها مرّتین من وراء الثیاب ، وإن کان القول بکفایة القرعة فی تعیّنها غیر بعید، لصدق المشکل حقیقةً حینئذٍ، فیدخل تحت عنوان ما ورد (إنّ القرعة لکلّ أمرٍ مشکل) والمقام منه ، واللّه العالم .

أقول: ثمّ لا یخفی علیک أنّ صاحب «الجواهر» وإن ذهب إلی اختیار القول الثالث لکونه موافقاً للاحتیاط ، إلاّ أنّه قد مالَ عنه فی آخر کلامه بقوله : «وهو الذی یقوّی فی نفسی إلی القول الثانی بکفایة کون الوجوب لأحدهما بواسطة وجود العمومات الدالّة علی وجوب غسل المیّت مطلقاً، ما لم یحرز المانع عن تنجّزه . ثمّ قال بعده : ومنه یظهر الکلام فیما لو وجد میّت أو بعضه ممّا یجب تغسیله، واشتبه ذکوریّته واُنوثیّته لظهور کونها من وادٍ واحد ، فتأمّل» انتهی(1) .

فیظهر من کلامه کفایة غسل واحد لأحدهما فی المیّت المشتبه خارجاً أو العضو المنقطع کذلک ، بناءً منه علی کون شرطیّة المماثلة مخصّصاً لمن کان حاله معلوماً بالذکوریّة والاُنوثیّة، ولا یشمل المشکوک، فیدخل مثله تحت عمومات وجوب الغسل ما لم یحرز المانع .

ولکنّه عقّب قوله أخیراً بالتأمّل، ولعلّ وجهه إمکان دعوی الفرق بین الخُنثی المشکل، وبین المقام، خصوصاً فی العضو المشتبه ، حیث أنّ النظر والمسّ فی الخنثی یصدق علیه کونهما بالأجنبیّ ولو احتمالاً ، فیکون حراماً . هذا بخلاف المسّ والنظر للعضو المفارق، خصوصاً إذا کان صغیراً کالإصبع ونحوه ، حیث لا یصدق بمسّه والنظر إلیه، أنّه قد مسّ الأجنبیّ ونظر إلیه فیصحّ من الأصحاب


1- الجواهر : ج4 / 79 .

ص:219

وکلّ مُظهرٍ للشهادتین وإن لم یکن معتقداً للحقّ، یجوز تغسیله، عدا الخوارج والغُلاة (1). غسل الاموات / المستثنی من غسل المیّت

ذهابهم إلی عدم اعتبار المماثلة فیه، مع اعتبارهم ذلک فی الخُنثی، فلا یردّ علیهم أنّهم کیف أجازوا غسل الرجل للعضو ولو لم یقطع کونه من الرجل ، وکذلک فی المرأة ، کما استشکل علیهم صاحب «الجواهر» فی تلک المسألة .

نعم ، الإشکال وارد علیهم فی ما إذا کان المقطوع عظیماً، أو کان المیّت بنفسه مشکوکاً بین الرجل والاُنثی، حیث یکون حکمهما حینئذٍ حکم الخُنثی ، هذا علی ما بیّنه المحقّق الآملی فی مصباحه .

أقول: لکن الإنصاف عدم تمامیّة هذه الدعوی ، إذ الاتّصال والانفصال والصغر والکبر فی العضو، لا یوجب فرقاً عرفیّاً فی صدق کون المسّ والنظر واللّمس للأجنبی لو ثبت التخالف ، کما أنّ الحیاة والممات لا یؤثّران فی ذلک ، ولأجل ذلک یرد علی ما قال السیّد فی «العروة» فی المسألة الثانیة (أنّه یغسّله کلّ من الرجل والاُنثی من وراء الثیاب) بل الفتوی بذلک ، مع أنّه احتاط فی الخنثی ، مع أنّ الفرق بین المسألتین غیر معلوم ، فإن قلنا بوجود العمومات ولم یشترط المماثلة فی المشکوک، فلا فرق بین الموردین بکفایة غسل واحد لأحدهما، وإلاّ یصحّ الإتیان بمرّتین للاحتیاط کما فی الموردین ، واللّه العالم .

(1) أقول: إنّ غسل المیّت المسلم واجب بوجوب کفائی علی کلّ مسلم ، أمّا المسلم فهو عبارة عمّن أظهر الشهادتین، ولم یعلم منه عدم الإذعان بهما أو بأحدهما، وإن لم یعتقد الحقّ الذی لا یخرجه عن حکم الإسلام فی الدُّنیا کمَن أنکر الإمامة والعدل للّه تبارک ، إلاّ من کان من أهل الخوارج، أی قد خرج علی

ص:220

إمام زمانه ، والمعروف منهم من خرج علی أمیر المؤمنین علیّ علیه السلام عند تحکیم الحکمین ، وکذا الغُلاة أی الذی أصبح غالیاً واعتقد الإلوهیّة لأحدٍ من الناس کما فی «الروض» ، والمعروف منهم من اعتقد إلوهیّة علیّ علیه السلام ، وکذا کلّ من ارتکب ما یوجب الکفر بسببه من قولٍ أو فعل أو غیرهما مثل النواصب والمجسّمة، ومنکروا ضروریّ من ضروریّات الدِّین، ونحوهم، فلا یجوز تغسیلهم لأجل کونهم محکومین بالکفر ، والکافر لا یجوز تغسیله .

أدلّة عدم جواز تغسیل الکافر:

فإذا بلغ الکلام فلا بأس بذکر الأدلّة الدالّة علی عدم جواز تغسیل الکافر ؛ فقد استدلّ لذلک:

أوّلاً : بالإجماع محصّلاً منقولاً علی لسان مثل الشیخ والعلاّمة والشهید وغیرهم فی کتبهم .

وثانیاً: بالأصل، أی لو شکّ فی أنّه لو لم یشمله دلیل وجوب الغسل، فهل یجب علینا غسله أم لا؟ فالأصل البراءة، لأنّه شکّ فی أصل التکلیف لا المکلّف به.

وثالثاً: أنّ الأدلّة الدالّة علی وجوب التغسیل عموماً، ظاهرة فی وجوبه فی غیر الکافر .

رابعاً: مع أنّ الدلیل بالخصوص موجود، یدلّ علی عدم الوجوب للکافر.

منها: ما رواه الشیخ بإسناده عن عمّار بن موسی، عن أبی عبداللّه علیه السلام : «إنّه سُئل عن النصرانی یکون فی السفر وهو مع المسلمین فیموت ؟

قال : لا یغسّله مسلم ولا کرامة، ولا یدفنه ولا یقوم علی قبره وإن کان أباه» .

ومنها: ما رواه الصدوق بإسناده عن عمّار بن موسی ، ورواه الکلینی عن

ص:221

محمّد بن یحیی ، عن أحمد بن محمد ، عن أحمد بن الحسن مثله إلی قوله : «ولا یقوم علی قبره» (1).

حیث قد نهی عن تغسیل النصرانی ولا خصوصیّة فیه ، فیکون مثله غیره مثل من الیهود والمجوس والمشرک، لوحدة الملاک وهو الکفر .

ومنها: ما رواه جعفر بن الحسین بن سعید المحقّق فی «المعتبر» نقلاً من «شرح الرسالة» للسیّد المرتضی، أنّه روی فیه عن یحیی بن عمّار ، عن أبی عبداللّه علیه السلام : «النهی عن تغسیل المسلمُ قرابَته الذمّی والمشرک، وأن یکفّنه ویُصلّی علیه ویلوذ به»(2) .

بل قد یمکن استفادة النهی والمنع بالأولویّة عمّا ورد بالنهی عن الغسل والکفن والصلاة علی الخوارج، أی لمن خرج علی إمام زمانه کأصحاب معاویة ، لأنّهم بالرغم من تظاهرهم بالإقرار بالشهادتین ، لکن مُنع المؤمنون عن تغسیلهم، ففی الکافر والمشرک یکون بطریقٍ أولی .

منها: رواه أحمد بن علی بن أبی طالب الطبرسی فی «الاحتجاج» عن صالح بن کیسان : «أنّ معاویة قال للحسین : هل بلغک ما صنعنا بحجر بن عدیّ وأصحابه شیعة أبیک؟ فقال علیه السلام : وما صنعت بهم؟ قال : قتلناهم وکفّناهم وصلّینا علیهم . فضحک الحسین علیه السلام ، فقال : خصمک القوم یا معاویة ! لکنّا لو قتلنا شیعتک ما کفّناهم ولا غسّلناهم ولا صلّینا علیهم ولا دفناهم (لا قبرناهم)»(3) .

حیث یظهر منه تصریح الإمام علیه السلام بذلک ، لأنّهم کانوا من الخوارج ، حیث قد


1- وسائل الشیعة : الباب 18 من أبواب غسل المیّت، الحدیث 3 و4 .
2- وسائل الشیعة : الباب 18 من أبواب غسل المیّت، الحدیث 3 و4 .
3- وسائل الشیعة : الباب 18 من أبواب غسل المیّت، الحدیث 3 .

ص:222

خرجوا علی إمامهم أمیر المؤمنین علیه السلام ، فلا یجوز تغسیلهم أو التکفین والتدفین ، فهم محکومون بالکفر، وملحقون بهم، فیکونون مثلهم فی عدم جواز تجهیزهم فیتمّ المطلوب ، فالمسألة فی الکافر واضحة من حیث الدلیل، ولا کلام فیها ولا إشکال، ولا شبهة تعتریها .

أمّا المؤمن: والمراد منه الإمامی المعتقد للحقّ، أی إمامة الأئمّة الاثنی عشر علیهم السلام ، فیجب تغسیله ما لم یحصل منه سبب الکفر ، بل هو إجماعی بکلا قسمیه إن لم یکن ضروریّاً ، بل لا یبعد أن یکون کذلک ، لأنّه هو القدر المتیقّن والمسلّم من الدلیل الوارد فی وجوب غسل میّت المسلم، فهو ممّا لا کلام فیه ولا إشکال ولا خلاف یعتریه .

نعم ، الذی وقع الخلاف فیه، وینبغی أن یبحث عنه هو المسلم غیر المؤمن کالعامّة ، بل قد یلحق بهم فرق الإمامیّة المنحرفة کالواقفیّة والفطحیّة والناووسیّة والإسماعیلیّة وغیرهم من أمثالهم ؟

أقول: المشهور تحصیلاً ونقلاً کما فی «الذکری» و«الروض» و«الحدائق» و«الریاض» التغسیل ، بل عن «التذکرة» و«نهایة الإحکام» الإجماع علی وجوب تغسیل المیّت المسلم ، بل هو الظاهر من «المنتهی»، حیث حمل کلام المفید رحمه الله بعدم الجواز علی من عُلِم نصبه ، بل علیه جمیع المتأخّرین ممّن قارب عصرنا من السیّدین فی «العروة» و«الوسیلة» وأصحاب التعلیقة علیهما جمیعاً فی الجملة .

فقد یستدلّ علی الوجوب:

أوّلاً: دعوی الإجماع والشهرة کما عرفت .

وثانیاً: الاستصحاب لجریان أحکام المسلم علیه .

ص:223

وثالثاً: وممّا یظهر من المشهور فی باب الصلاة علی المیّت من الصلاة علیه وإن دعی علیه فیها ، بل قال العلاّمة فی «المنتهی» : «وتجب الصلاة علی المیّت البالغ من المسلمین بلا خلاف».

رابعاً: الأخبار الدالّة علی ذلک :

منها: ما رواه الشیخ عن طلحة بن زید ، عن أبی عبداللّه علیه السلام ، عن أبیه علیهماالسلام ، قال : «صلِّ علی من مات من أهل القبلة وحسابه علی اللّه»(1) .

ورواه الصدوق مرسلاً . ورواه فی «المجالس» ، عن محمّد بن موسی بن المتوکّل ، عن عبداللّه بن جعفر الحمیری ، عن محمد بن الحسین بن أبی الخطّاب ، عن الحسن بن محبوب مثله .

فإنّه قد أمر بالصلاة علی کلّ من کان من أهل القبلة ، وحیث لا قائل بالفرق بین الغُسل والصلاة فی المخالف فإن أُجیز بالصلاة علیه فیجوز التغسیل علیه ، فالملازمة بینهما موجود .

خصوصاً مع أنّ الصلاة مشروطة بالغسل ، بل قد یدّعی الأولویّة ، یعنی إذا کانت الصلاة علیه جائزة فالغسل یکون بطریق أولی ، فإذا ثبتت هذه الملازمة بینهما فیمکن الاستدلال لجواز تغسیل المخالف، بکلّ ما دلّ بعمومه علی جواز الصلاة علی المخالف .

خامساً: بل قد یشعر علی ذلک بالفحوی المستفاد من أخبار الباب وکلام الأصحاب، من إیجاب تغسیل المیّت فی بلاد الإسلام ، بل أبعاضه وإن لم یُعرف مذهبه، ولا أصل یلحقه بالإمامی .


1- وسائل الشیعة : الباب 37 من أبواب صلاة الجنازة ، الحدیث 2 .

ص:224

سادساً: مضافاً إلی إمکان الاستدلال علیه، بإطلاقات الأدلّة وعمومها:

منها: ما رواه الکلینی بإسناده عن سماعة، عن أبی عبداللّه علیه السلام ، فی حدیثٍ، قال :«غسل الجنابة واجب ... وغسل المیّت واجب»(1) .

ومنها: مضمرة أبی خالد، قال : «اغسل کلّ الموتی الغریق، وأکیل السبع، وکلّ شیء إلاّ ما قتل بین الصفّین، فإن کان به رمق غُسِّل وإلاّ فلا»(2) .

سابعاً: مضافاً إلی ما علم من سیرة النبیّ صلی الله علیه و آله .

أقول: وقد نوقش فی الجمع : أمّا الاستصحاب: فإنّ المتیقّن السابق لیس إجراء جمیع أحکام المسلمین علیهم بعنوان العموم، حتّی یستصحب عند الشکّ فی بقائه ، کیف ومن أحکام المسلمین التجهیز الذی یشکّ فی ثبوته فی حقّهم من أوّل الأمر ، ولو علم ثبوت إجراء جمیع أحکام المسلمین علیهم، فإنّما هو بالنسبة إلی أحکام المسلمین فی حال الحیاة، ولا یشمل عمومها لما بعد وفاتهم الذی منه التجهیز ، بل أفعال التجهیز تعدّ من الأحکام المترتّبة علیهم فی الآخرة التی لا یشارکون فیها مع المسلمین.

هذا کما عن المحقّق الآملی فی مصباحه(3) .

وفیه: ولکن یمکن أن نوجّه الاستصحاب بوجه صحیح بأن یُقال إنّ أحکام الإسلام فی حال الحیاة کان متیقّن الثبوت علیه، من النکاح والطهارة وحقن الدم والمعاملات، وکلّ ما یترتّب علی المسلم بما هو مسلم ، وعند عروض الموت


1- وسائل الشیعة : الباب 1 من أبواب غسل المیّت، الحدیث 1 .
2- وسائل الشیعة : الباب 14 من أبواب غسل المیّت، الحدیث 3 .
3- مصباح الهدی : ج5 / 414 .

ص:225

علیه إن ثبت بالأدلّة کفرهم بعد الموت، فلا إشکال حینئذٍ فی عدم جریان حکم المسلم علیه، لانقلاب الموضوع، وإن لم یثبت ذلک وشکّ فی أنّه بالموت هل بقیت أحکام الإسلام ثابتة فی حقّه أم لا، نستصحب ما کان ثابتاً علی المسلم من الإکرام والتغسیل والتکفین والتدفین والتجهیز ما لم یقم الدلیل علی خلافه ، ولعلّ لهذا السبب تعامل المؤمنین مع أموات المخالفین معاملة المسلم منذ زمن الأئمّة علیهم السلام إلی زماننا هذا.

اللّهُمَّ إلاّ أن یثبت من لسان الأخبار خروجهم عن الإسلام، ودخولهم فی سلک الکافرین، کما کان الأمر کذلک فی حقّ بعضهم . فما ذکره الآملی قدس سره من مشکوکیّة حکم التجهیز من أوّل الأمر، لیس علی ما ینبغی ، لأنّ تلک الأحکام مرتبطة بما بعد الموت ، ففی حال الحیاة لا موضوع له، حتّی یُقال إنّه مشکوک أو متیقّن .

اللّهُمَّ إلاّ أن یقصد جریان الاستصحاب التعلیقی علی نحو التعلیق فی الموضوع، لکن حجّیته مثل ذلک لا یخلو عن شبهة .

أمّا الخبر: فقد ناقش الآملی رحمه الله فیه بقوله: «وأمّا المروی عن الصادق علیه السلام : «صلِّ علی من مات من أهل القبلة» . فبعد تسلیم سنده، لا یفهم منه إلاّ مشروعیّة الصلاة لورود الأمر بها فی مقام توهّم الحظر، مع احتمال کون الأمر بها لأجل المداراة معهم أو التقیّة ، وبهذا الاحتمال لا یصحّ التمسّک بوجوب الصلاة لوجوب غسله وسائر أفعال تجهیزه، لاحتمال کون وجوبها لأجل المداراة معهم أو للتقیّة ، فتأمّل»(1) .

أقول: وفیه ما لا یخفی علیک من الإشکال ، ولعلّه لذلک أمر بالتأمّل ، لأنّ


1- مصباح الهدی: 5 / 414 .

ص:226

العمل علی التقیّة لا یثبت إلاّ بقیام قرینة دالّة علیه، لا مثل هذه الجملة التی قد تفید بیان حکم کلّی لأهل القبلة ، بل وأحسن منه فی الدلالة علی ذلک روایة غزوان السکونی ، عن جعفر ، عن أبیه ، عن آبائه علیهم السلام ، قال : «قال رسول اللّه صلی الله علیه و آله : صلّوا علی المرجوم من اُمّتی، وعلی القاتل نفسه من اُمّتی، لا تَدَعوا أحداً من اُمّتی بلا صلاة»(1) . ورواه الصدوق مرسلاً .

فإنّ قوله: «لا تَدَعوا أحداً من الاُمّة» عام یشمل العامّة ، وحمله علی خصوص مثل المرجوم والقاتل المؤمن غیر مقبول ، لإمکان القول بالتعمیم فیها أیضاً ، فمثل ذلک الحدیث لا یمکن حمله علی المداراة والتقیّة ، کما لا یمکن حمل الأمر فیه علی المشروعیّة لدفع توهّم الحظر لوجوب الصلاة علی مثل المذکورین من المؤمن منهم ، وهو الدلیل علیه ، فالاستدلال بمثل ذلک علی وجوب الغسل وجیهٌ، لو ثبتت الملازمة بینهما ولم نقل بإمکان التفکیک فیهما .

ثمّ ناقش الآملی قدس سره لما بعده وقال : «وأمّا خبر أبی خالد مضافاً إلی إضماره، لا دلالة فیه علی العموم من حیث الاعتقاد ، بل الظاهر منه هو العموم من حیث أفراد الموتی من الغریق والأکیل ونحوهما ، کما یدلّ علیه استثناء الشهید .

وأمّا بالنسبة إلی حالات کلّ فرد فلا عموم فیه ، بل لو دلّ لکانت دلالته بالإطلاق ، لکنّه لا یدلّ علیها لعدم کونه فی مقام البیان من تلک الجهة» .

أقول: وکلامه فی المقام متین ، لأنّ ظهور قوله: «کلّ الموتی» ناظر إلی ما هو الواجب فیه غسل المیّت المفروض المتعیّن حکمه فی الخارج، فلیس الخبر المذکور بصدد بیان إیجاب الغسل لکلّ الأموات حتّی یستفاد منه العموم ، کما لا


1- وسائل الشیعة : الباب 37 من أبواب الصلاة علی الجنازة، الحدیث 3 .

ص:227

یکون بصدد بیان الإطلاق فی حالات المیّت ، فهو خارج عن الدلیلیّة ، ولکن یحتمل کونه دلیلاً علی العموم إلاّ ما خرج بالدلیل کالکافر، فیکون من الأدلّة ولا بُعد فیه .

ثمّ قال : «وقوله : (غُسل المیّت واجبٌ» وارد فی أصل المشروعیّة، ولا عموم له بالنسبة إلی أفراد الأموات ویکون نظیر الأوامر الواردة فی الصلاة والزکاة ومشروعیّة الصلاة، لا یستلزم مشروعیّة تغسیله ولا جواز غسله، لاحتمال کون الصلاة المشروعة علیه بعد تغسیله من أهل مذهبه، کما هو الغالب، ومنع أولویّة جواز تغسیله عن جواز الصلاة علیه، والإجماع علی عدم الفصل بینهما غیر ثابت) .

ولکن یمکن أن یُقال : إنّ ذلک الحدیث مشتمل علی صور یحتمل کونه قرینة علی ذیله، وهو قوله : «غسل الجنابة واجب» ، ولا إشکال فی أنّه واجب لکلّ مسلم حتّی للمخالف ، فکذلک یکون فی غسل المیّت .

غایة الفرق بین الموردین ؛ أنّ الأوّل یجب علی نفسه ، والثانی علی المؤمنین أن یغسّلوه ، فربّما ینکر الثانی دون الأوّل ، وذلک لا یوجب الفرق فی الوجوب .

کما أنّ دعوی أنّ الخبر فی مقام بیان أصل المشروعیّة کالأوامر المذکورة حول الصلاة والزکاة .

لا یخلو عن إشکال ؛ لأنّ کلمة (الوجوب) فی قوله : «غسل المیّت واجب» ، صریح فی الوجوب لو سلّم عموم مورده، کما یکون هو الدلیل لوجوب غسل المیّت فی المؤمن، ولا نحتاج لإثبات الوجوب فیه إلی دلیل آخر .

أقول: وأمّا دعوی الملازمة بین جواز الصلاة، وجواز الغسل علیه، فلیس ببعید عن الصواب ، لأنّ کلیهما مشترکان فی کونهما لما بعد الموت الذی کان یعدّ

ص:228

من شؤون الآخرة ، فإن اُجیز فی الأولی فلا یبعد ثبوت الجواز فی الثانی .

ثمّ قال : «کما أنّ ما علم من سیرة النبیّ صلی الله علیه و آله بالصلاة علی المنافقین، لا یدلّ علی الوجوب، لاحتمال کونها لأجل المداراة معهم ، مع أنّ المنافقین من الکفّار، وإنّ فعل الصلاة لا یدلّ علی وجوبها» .

وفیه: ولا یخفی ما فی الجواب من الإشکال :

أوّلاً : لا داعی لنا بالحمل علی المداراة والتقیّة، بعدما لم یظهر لنا ما یدلّ علی خلافه حتّی نلجأ إلی ذلک .

وثانیاً : علی فرض التسلیم بما ذکر، فلماذا لا نتابعه صلی الله علیه و آله فی هذا العمل الذی یؤدّی إلی تقلیل دواعی الحقد بین المسلمین، فإذا فرض کون الصلاة علیهم عن النبیّ صلی الله علیه و آله ثابتاً، ولم نقف علی ما یدلّ علی خلافه، فنحمل العمل علی الوجوب لا علی الجواز .

أقول: بقی أن نذکر بعض الأخبار الظاهرة فی إرادة المؤمن :

منها: الخبر الذی رواه سعد الاسکاف، عن أبی جعفر علیه السلام ، قال : «أیّما مؤمن غسّل مؤمناً فقال إذا قلّبه : اللّهُمَّ إنّ هذا بدن عبدک المؤمن، قد أخرجتَ روحه منه وفرّقت بینهما ، فعفوک عفوک عفوک ، إلاّ غفر اللّه له ذنوب سنة إلاّ الکبائر»(1) .

ومنها: روایة إبراهیم بن عمر (عثمان)(2) ، ونحوهما من الأخبار الواردة فی الغسل أو الکفن والدفن، حیث أنّ مفهوم هذه الأخبار یدلّ علی عدم مشروعیّة تجهیز غیر المؤمن، وظهور بعض منها فی کون التغسیل احتراماً للمیّت وتکرمة له، کما یستفاد من روایة عمّار بن موسی المتقدّمة فی علّة عدم التغسیل للکافر،


1- وسائل الشیعة : الباب 7 من أبواب غسل المیّت، الحدیث 1 و2 .
2- وسائل الشیعة : الباب 7 من أبواب غسل المیّت، الحدیث 1 و2 .

ص:229

حیث قال علیه السلام : «لا یغسله مسلم ولا کرامة»(1) «ولا یصلح له إلاّ المؤمن».

بل وفی خبر «العیون» و«العلل» أنّ الرضا علیه السلام کتب إلیه فی جواب سائله: «علّة غسل المیّت أنّه یغسل لیطهر وینظف عن أدناس أمراضه، وما أصابه من صنوف علله، لأنّه یلقی الملائکة ویباشر أهل الآخرة ، فیستحبّ إذا ورد علی اللّه عزّ وجلّ ولقی أهل الطهارة ویماسّونه ویماسّهم أن یکون طاهراً نظیفاً متوجّهاً إلی اللّه عزّ وجلّ لیطلب وجهه ولیشفع له»(2) .

ومن الواضح أنّه لا حرمة ولا کرامة للمخالف، ولا طهارة له حتّی یجب التغسیل لأجله، وغیر هذه الأخبار والأدلّة، حیث تمسّک بها من ذهب إلی عدم جواز التغسیل.

أقول: ولکن فی جمیع ما ذکروه من النظر مجالاً واسعاً للنظر: أمّا ما یشتمل للثواب بغسل المؤمن أو کفنه ودفنه ، فلا بأس بالالتزام بالاختصاص فی الثواب للمؤمن فقط دون غیره ، ولکنّه لا یوجب استفادة عدم الجواز لغیر المؤمن، إذ أنّ مثل هذه الاُمور تنحصر دلالتها علی المنطوق، وعلی عدم الثواب لعدمه لا عدم الجواز،مضافاً إلی عدم حجّیة مفهوم اللقب، کما لایخفی.

وأمّا عدم الإکرام والاحترام وعدم الطهارة للمخالف :

أوّلاً: کلیة ممنوعة إذ منهم لا یکون مقصّراً فی اختیار مذهبهم، کما اُشیر إلیه فی الروایة الصادرة عن الإمام الحجّة عجّل اللّه تعالی فرجه الشریف ؛ ففی مثلهم لا یبعد الالتزام بما ورد فی الأخبار .


1- وسائل الشیعة : الباب 18 من أبواب غسل المیّت، الحدیث 1 .
2- وسائل الشیعة : الباب 1 من أبواب غسل المیّت، الحدیث 3 .

ص:230

وثانیاً : أنّ الاُمور المذکورة فی هذه الأخبار إنّما هی حکمة الأحکام لا علّة لها، وفی حکمة الجعل والتشریع یکفی وجود الحکمة فی الأغسال فی الجملة لا بالجملة کما هو الحال فی علّة الأحکام، فیصیر تمام الکلام فی الدلیل راجعاً إلی وجود دلیل عام أو مطلق یشمل بعمومه وإطلاقه له ، وقد عرفت وجودهما، وإن أنکر بعض المحقّقین ذلک، وحصر الدلیل علی الوجوب بالإجماع ونفی الخلاف، کما صرّح بذلک المحقّق الأردبیلی فی «مجمع البرهان» ، قال : «وأمّا وجوب غسل کلّ مسلم، فلعلّ دلیله الإجماع ، إلی أن قال : والظاهر أنّه لا نزاع فیه لأحد من المسلمین کما فی «المنتهی»» .

والأصل فی الخلاف فی المقام من شیخنا المفید قدس سره فی «المقنعة» حیث قال : «ولا یجوز لأحد من أهل الإیمان أن یغسل مخالفاً للحقّ فی الولایة، ولا یصلّی علیه إلاّ أن تدعوه ضرورة إلی ذلک من جهة التقیّة» ، انتهی .

وربما ظهر من الشیخ فی «التهذیب» موافقته علیه، حیث استدلّ علیه بأنّه کافر ولا یجوز تغسیل الکافر بإجماع الاُمّة، کما أنّه حُکی عن «السرائر» و«المراسم» و«المهذّب» من أنّ المخالف لا یغسّل .

ولعلّ المراد من المخالف للحقّ، هم الغاصبین المحکومین بالکفر فی الدُّنیا فضلاً عن الآخرة ، وإن کان هذا الحمل مخالف للظاهر .

وکیف کان، فجعل مدار البحث فی الجواز وعدمه مدار الحکم بإسلامهم وکفرهم کما فی «الحدائق»، لا یناسب مع فتواهم بطهارتهم بإظهار الشهادتین.

اللّهُمَّ إلاّ أن یقصدوا أنّ هؤلاء بالموت یصبحون من الکفّار ، فلا یجوز حینئذٍ تغسیلهم وتکفینهم کالنصاری والیهود ، لکن الالتزام بذلک مشکل من حیث الحکم، مع التزام کثیر من الفقهاء بوجوب التغسیل، حتّی ادّعی الإجماع وعدم

ص:231

الخلاف فیه . فالأقوی ما علیه المشهور من وجوب تجهیزهم کوجوب تجهیز المؤمن ، واللّه العالم .

هذا کلّه، مع إمکان أن یُقال : بأنّ المستفاد من الأدلّة بل ومن الإجماع ثبوت وجوب ذلک علی النحو الکلّی ، لکن کفی فی المسألة ما دلّ علی أنّه تجب المعاملة معهم معاملة المسلمین المؤمنین فی الاُمور المتعلّقة بالمعاشرة، التی من أهمّها أن لا یعامل مع موتاهم معاملة الکفّار ، فلابدّ من القیام بتغسیلهم غُسلاً صحیحاً، کما یظهر ذلک من کلام شیخنا الأنصاری قدس سره فی طهارته(1) ، وهو الحقّ.

الفرع الأوّل: إذا ثبت وجوب تغسیل المخالف، فهل یجب تغسیله علی المذهب الحقّ أو علی مذهبه الباطل ؟

فقد اختلف الأصحاب فی ذلک بحسب اختلاف مبانیهم: والمحکی عن «جامع المقاصد» هو أنّ المستفاد من ظاهر کلمات الفقهاء أنّه لا یجوز تغسیله غسل أهل الولایة .

مع أنّه ممّا لا یمکن المساعدة معه مطلقاً ، لوضوح أنّه إذا قلنا بأنّ المستفاد من العموم والإطلاق هو وجوب تغسیلهم وتجهیزهم، کتجهیز أهل الحقّ ، فلابدّ حینئذٍ من القول بوجوبه علی وفق مذهبنا ، لأنّ لسان الأدلّة بالنظر إلی أصل الوجوب والکیفیّة بالنظر إلی المؤمن والمخالف یکون لساناً واحداً من غیر فرق بینهما ، مضافاً إلی أنّه لا معنی للأمر بالعبادة الفاسدة لغیر التقیّة ، لأنّا نعتقد بطلان غسلهم، وأنّه غیر مطهّر للمیّت، لو لم یدلّ الدلیل علی کفایته کما فی مورد التقیّة .

نعم ، لو قلنا بأنّ الحکم بوجوب تغسیلهم کان لأجل التقیّة ، ففی ذلک قولان :


1- کتاب الطهارة للشیخ الأنصاری رحمه الله : 277 .

ص:232

(1) قولٌ بأنّه یجب التغسیل علی کیفیّتهم لأنّ الاتّقاء لا یتمشّی إلاّ بذلک .

(2) وقولٌ بأنّه یغسل علی وفق مذهبنا کالمداراة معهم .

أقول: ولکن لا یخفی أنّ ملاحظة التقیّة والمداراة تختلف بحسب اختلاف الموارد، إذ قد یکون الاتّقاء أو المداراة یقتضیان الإتیان علی طبق مذهبنا، لأجل أنّهم قد یلاحظون کیفیّة تصرّف المؤمنین مع أمواتهم مع علمهم باعتقادنا ببطلان غسلهم، فإذا غسّلنا أمواتهم کما نغسِّل أمواتنا تحقّقت التقیّة المداراتیّة، دونما إذا غسّلنا أمواتهم بمقتضی مذهبهم الباطل حسب اعتقادنا، حیث لا تحصل به التقیّة حینئذٍ.

هذا، ولکن الظاهر أنّه فرض نادر، بل الأغلب عکس ذلک، بأن یتحقّق التقیّة فیما لو قام المؤمن بتغسیل میّتهم بما یوافق مع مذاهبهم.

وکیف کان ، فالأولی فی هذه الموارد ملاحظة ما یصدق علیه التقیّة والمداراة .

وما قیل: _ کما ربما یظهر عن بعض _ من وجوب التغسیل علی مذهبهم ولو استفدنا وجوب تجهیزهم من عموم الأدلّة وإطلاقها، کما تمسّکوا بها لعدم وجوب توجیههم إلی القبلة، کما تقدّم فی مبحث استقبال المحتَضر ، وذلک بمقتضی قاعدة الإلزام (إلزموهم بما ألزموا به أنفسهم).

مردود : بأنّ المخاطب هنا لیس هو المیّت حتّی یُقال بتلک المقالة لأجل مذهبه ، بل المخاطب هو المغسّل الحیّ الذی هو من أهل الحقّ ، فلا إشکال حینئذٍ أنّ المأمور به هنا لیس إلاّ الغسل الصحیح علی طبق مذهب الحیّ وهو لا یکون إلاّ غسل أهل الحقّ .

وبالجملة: فالأقوی عندنا _ کما علیه صاحب «الجواهر» والسیّد فی «العروة» _ وجوب تغسیلهم بحسب المذهب الإثنی عشری مع عدم التقیّة، وإلاّ یغسّلهم علی طبق مذهبهم إن کان الاتّقاء حاصلاً بذلک کما هو الغالب .

ص:233

ثمّ لا إشکال _ بناءً علی المختار _ من ترتّب جمیع الأحکام المترتّبة علی غسل المیّت الصحیح إذا کان غسله علی وفق مذهبنا، من طهارة بدنه وعدم وجوب الغسل مع مسّه ، کما کان الأمر کذلک إذا غُسل علی طبق مذهبهم لأجل التقیّة ، لأنّ الغسل الصحیح حینئذٍ یکون کذلک .

نعم ، والذی ینبغی أن یبحث فی کفایته وعدمه، هو ما إذا کان المورد ممّا یجب فیه الغسل علی وفق مذهبهم لأجل التقیّة، أو لأجل کون المستفاد من الأدلّة هو ذلک لإنکار عمومها وإطلاقها کما علیه البعض، لکن المؤمن غسّله علی وفق مذهبنا فقد یُقال: تارةً بعدم الکفایة ، لأنّ المأمور به لم یتمثّل ، فالغسل الواجب فی حقّه لم یتحقّق ، فلا وجه لترتیب الآثار علیه .

واُخری بأنّ الغسل الحقیقی هو هذا . غایة الأمر رُفع الید عنه لأجل التقیّة، أو لأجل عدم تمامیّة دلیله ، فإذا أتی به مع قصد القربة _ إن تمشّی منه، وقلنا بلزومه _ فلا یبعد کفایته عمّا هو الواجب فی المورد ، وإن کان الأحوط هو التکرار بما هو الواجب علیه تحصیلاً للتکلیف الواقعی .

کما أنّه لا إشکال فی کفایته إذا کان الغسل علی وفق مذهبهم، لأجل کونه المستفاد من الدلیل فی حقّهم، کما علیه المحقّق فی «جامع المقاصد» والمحقّق الهمدانی ، أو کان الغسل صادراً من أهل الخلاف علی وفق مذهبهم، حیث یترتّب علی غسلهم ما یترتّب علی غسلنا .

الفرع الثانی: أنّ مثل المصنّف تبعاً لجماعة من الأصحاب برغم التزامهم بوجوب غُسل أهل الخلاف، صرّحوا بالکراهة، وقالوا إنّ ذلک مکروه ، فإن اضطرّ غسله غُسل أهل الخلاف ، فکیف الجمع بین الوجوب والکراهة مع وجود التنافی بینهما؟

ص:234

فقد قیل فی جوابه: بأنّ المراد من المکروه فی العبارة، خصوصاً فی المقام هو کراهة تولّی مباشرة المخالف مع وجود غیره، نظیر ما قلنا فی استحباب مباشرة الولیّ بخصوصه للمیّت مع کون غسل المیّت واجباً ، إذ لا فرق فی التنافی بین الوجوب وبین الاستحباب والکراهة إذ کلیهما ینافی الوجوب ، هذا کما عن صاحب «الجواهر» ، وکلامه موهم بأنّ المراد کراهة مباشرة المخالف لغسل المیّت مع وجود المؤمن، فکأنّه إذا وجد میّتاً متروکاً من أهل الخلاف یکره ترک غسله حتّی یباشره أهل الخلاف ، مع أنّ المقصود ظاهراً خلاف ذلک ، کما یظهر ذلک من کلام المحقّق الهمدانی ، أی یعدّ غسل المیّت ولو من أهل الخلاف واجباً کفائیّاً ، لکنّه یکره للمؤمن مباشرته، مع وجود من یقوم بذلک من أهل الخلاف ، فهو لا ینافی وجوبه کفایة عند عدم قیام شخص منهم علی ذلک ، واللّه العالم .

هاهنا فروع ذکرها صاحب «الجواهر» :

الفرع الأوّل : فی حکم الأطفال من جهة وجوب التغسیل والتجهیز.

فنقول : لا إشکال فی تبعیّة ولد المسلم للمسلم فی الأحکام المذکورة بحسب الأدلّة الواردة فی حکم تغسیل الصبیّ والصبیّة، کما مرّ فی المماثل وغیره بالإثبات والمنع، بحسب مراتب السنّ فی الجنس المخالف .

وأمّا أطفال الکفّار: فمع القول بالتبعیّة، فهم کآبائهم فی الأحکام من النجاسة وعدم وجوب التجهیز، کما هو الأقوی والمقبول عند کثیر من الأصحاب ، بل قد یُقال بذلک حتّی مع الإشکال فی التبعیّة، کما صدر ذلک عن المحقّق الآملی فی باب النجاسات .

ولعلّ وجه عدم الإشکال فی الحکم _ أی عدم وجوب التجهیز _ کما یظهر من کلام صاحب «الجواهر» ، مع إمکان أن یکون وجه نفیه عن الإشکال لأجل عدم

ص:235

إشکاله فی التبعیّة لا مع الإشکال فیها کما فهمه الآملی قدس سره .

وکیف کان، فقد استدلّ علی دعواه بأنّه: «ویمکن أن یستدلّ له بالسیرة القطعیّة، إذ لم یسمع من مسلمٍ قط أن تصدّی لتجهیز طفلٍ من أطفال الکفّار فی عصرٍ من الأعصار ، مع ما هم علیه من الاهتمام بتجهیز أولاد المسلمین» .

ولکن یمکن أن یناقش فیه: بإمکان أن یکون ابتناء السیرة علی القول بالتبعیّة کما علیه الأکثر، لا مطلقاً حتّی علی الإشکال فیها، کما هو فرض الکلام ، وقد عرفت مختارنا ، فلا بحث فیه ، هذا کلّه فی ولد غیر الزنا .

وأمّا حکم ولد الزنا: من المسلم والکافر ، ففی وجوب تغسیلهما معاً وعدمه کذلک ، أو التفصیل بین ولد المسلم بالإلحاق وولد الکافر بعدمه ، أو عکس ذلک بعدم الإلحاق فی الأحکام فی المسلم والإلحاق فی الکافر، فیها وجوه واحتمالات :

أمّا وجه الوجوب فیهما : باعتبار أنّ أحکام التغسیل وغیره مترتّبة علی کلّ میّت غیر الکافر ولو لم یثبت کونه مسلماً . فالعمومات الواردة فی لزوم تغسیل کلّ میّت إلاّ ما خرج بثبوت الکفر فیه، توجب الحکم بوجوب التغسیل فی کلّ ولد ما لم یثبت فیه الکفر ، فإن قلنا بأنّ التبعیّة فی الکافر مختصّة بالولد غیر الزنا، فلا یشمل دلیل المخصّص لمثل الولد الکذائی، فهو داخل تحت العمومات الدالّة علی وجوب التغسیل .

مضافاً إلی ما دلّ الدلیل علی أنّ (کلّ مولد یولد علی الفطرة) ، حیث یحتمل شمول عمومه لکلّ ولد ولو من الزنا لو لم نقل بانصرافه، أو مورده الولد الحلال غیر الزنا، أخذاً بالعموم اللّغوی لکلمة (المولود) کما احتمله صاحب «الجواهر» ، فمقتضی کونه علی الفطرة إجراء أحکام الإسلام علیه، کما یحکم حینئذٍ بطهارته لو لم نقل فیه بالتبعیّة .

ص:236

مضافاً إلی إطلاق کلام الشیخ بقیام الإجماع علیه فی «الخلاف» بقوله : «ولد الزنا یغسّل ویصلّی علیه . وبه قال جمیع الفقهاء ... دلیلنا إجماع الفرقة»(1) . کما تمسّک به صاحب «الجواهر»، لو لم نقل أنّ مراده هو المتولّد من المسلم بقرینة السیاق والمورد، کما ورد التصریح بقید المسلم فی کلام الآملی قدس سره ، مع أنّه لیس فی کلام الشیخ قدس سره ، واحتماله غیر بعید ، فبناءً علیه یکون دلیلاً للتفصیل الآتی، فلا یشمل ولد الکافر المتولّد من الزنا ، کما لا یخفی .

وأمّا عدم الوجوب فیهما : فأمّا فی المتولّد من الکافر فواضح ، بناءً علی التبعیّة ، بل وکذلک علی فرض عدم القول بالتبعیّة ، ولکن لم نلتزم بوجود العمومات علی الوجوب مطلقاً إلاّ ما خرج ، فمع الشکّ فی الوجوب وعدم دلیل اجتهادی علیه، یکون المرجع إلی أصل البراءة عن الوجوب ، فلا وجه للحکم بالوجوب کما لا یخفی .

فأمّا المتولّد من الزنا من المسلم: فلانتفاء نسبته إلی المسلم شرعاً، وإن انتسب إلیه تکویناً، وقلنا بأنّ التبعیّة مختصّة بالولد الشرعی لانطباق إطلاق العنوان علیه بالخصوص کما فی المقام .

أقول: وأمّا وجه التفصیل بین الإلحاق بالمسلم فی المتولّد منه، دون المتولّد من الکافر :

أوّلاً: بالإجماع المدّعی عن «الخلاف» إن سلّمنا کونه فی ولد المسلم بالخصوص أو کان هو القدر المتیقّن لأجل کونه دلیلاً لبّیاً، فلا إطلاق له ، بل یؤخذ بما هو المتیقّن .


1- الخلاف: 1 / 290 الطبعة الاُولی .

ص:237

وثانیاً : بدلیل التبعیّة لو لم نقل باختصاصها بالولد الحلال ، مضافاً إلی شمول العمومات لمثله إن قلنا بوجود العمومات کذلک، لعدم ثبوت الکفر فیه حتّی یخرج لو لم نقل بکونه مسلماً بالتبعیّة، کما لا یخلو وجود العمومات عن قوّة .

وأمّا وجه عدم الإلحاق فی الکافر، کان للقول بعدم وجود العمومات حتّی یؤخذ بها فی المقام، أو القول بالتبعیّة فی ولد الزنا من الکافر، وعدم اختصاصها بالمتولّد من غیر الزنا،فإنّه حینئذٍ یکون حکمه حکم أبیه، وعلی هذا یوجب خروج الولد الثابت فیه عن العمومات لو التزمنا وجودها ، وهذا هو الأقوی عندنا .

وأمّا وجه التفصیل بالعکس: أی عدم الوجوب فی المتولّد من المسلم ووجوبه فی الکافر ، فهو لأجل أنّ دلیل انتفاء النسب شرعاً یثبت اختصاص الحکم بالمسلم فقط ، فهو یوجب خروجه عن حکم أبیه ، فلا أثر للتبعیّة حینئذٍ مع وجود هذا الدلیل . بخلاف الکافر حیث یجب فیه مضافاً إلی عدم التبعیّة فی الزنا، عدم وجود دلیل ینفی انتسابه شرعاً، مع وجود العمومات الدالّة علی الوجوب فیشمله .

أقول: ولکن قد عرفت أنّ دلیل التبعیّة فی الموردین قویّ ؛ لأنّ ولد الزنا ولد للزانی والزانیة حقیقةً وعرفاً، ویترتّب علیه حکم أبیه فی جمیع الآثار من الإسلام أو الکفر إلاّ ما خرج بالدلیل، مثل التوارث فی المسلم لکون مورده الامتنان أی وجود التوارث امتنان فرفعه الشارع لأجل الزنا ، هذا بخلاف نفی الإلحاق بالکافر حیث یکون نفیه امتنانیّاً، فلا یکون مرفوعاً بدلیل النفی شرعاً .

فالاحتمال الثالث هو المختار کما علیه السیّد فی «العروة» وجمیع أصحاب التعلیق علیها فی الجملة ، واللّه العالم .

الفرع الثانی: فی حکم المجنون من جهة وجوب التجهیز وعدمه ، فلابدّ من

ص:238

بیان أقسامه حتّی یتّضح حکم کلّ واحد بالنسبة إلیه إثباتاً ونفیاً :

القسم الأوّل : المجنون البالغ من المسلمین بعد وصفه بالإسلام، فالإجماع قائم علی أنّه بعد بلوغه وقبل طروّ جنونه ، ملحق بالمسلمین فی وجوب تجهیزه، کما صرّح به فی «مستند الشیعة».

وأیضاً للأدلّة الدالّة علی وجوب تجهیز المیّت، من غیر فرق بین العاقل والمجنون منه ، لأنّه یصدق علیه أنّه مجنون ومسلم، حیث أقرَّ بالإسلام قبل جنونه، ولا یخرج عن حکم الإسلام بالجنون ، ولذلک فإنّ الحکم ثابت لا نقاش فیه، ممّا یستلزم ترتّب آثار المسلم علیه جمیعاً ، إلاّ فیما یشترط فیه العقل من الأحکام، فهو خارج لأجل فقدان شرطه .

وللسیرة القطعیّة علی تجهیز المجانین من المسلمین کتجهیز عقلائهم ، مع أنّه لو شکّ فی وجوبه بعد الجنون، فإنّ الاستصحاب التعلیقی یثبت ذلک، بأن یُقال إنّ هذا لو مات فی حال قبل طروّ جنونه لوجب علینا التجهیز ، فالآن کذلک عند موته .

القسم الثانی : المجنون البالغ من الکفّار بعد تعلّق وصف الکفر به، وبعد بلوغه وقبل طروّ الجنون علیه ، فهو ملحق بالکافر لاستصحاب بقائه علی حکم الکافر فی التجهیز، من عدم الوجوب الثابت قبل الجنون .

وللسیرة المستمرّة علی معاملة المجانین من الکفّار معاملة سائر الکفّار إذا طرأ علیهم الجنون بعد کفرهم فی حال البلوغ کالیهودیّ إذا صار کذلک، فلا یجب التجهیز فی حقّهم .

القسم الثالث : المجنون الذی طرأ علیه الجنون قبل بلوغه فی حال صغره من المسلم، واتّصل إلی ما بعد البلوغ ، فحکمه حکم أولاد المسلمین للتبعیّة، کما کان الأمر کذلک فی حال صغره قُبیل جنونه من وجوب التجهیز ، فیستصحب بقائه

ص:239

بعد بلوغه لو شکّ فیه بالتقریب الذی تقدّم .

کما أنّ الأمر فی نقیضه کذلک فی حقّ ولد الکافر إذا عرض علیه الجنون قبل بلوغه ؛ فهو ملحق بالکافر فی عدم الوجوب للتبعیّة ، هذا .

ولکن قد یشکل علیه فی ذلک: بأنّ دلیل تبعیّة الأولاد لآبائهم فی الکفر والإسلام مختصّ بالطفل فلا یعمّ المجنون ، وعلیه فلا یکون المجنون البالغ الذی خرج عن الطفولیّة بعد البلوغ، داخلاً فی العنوان فلا یکون ملحقاً بالمسلم ولا بالکافر ، فلا یمکن عدّه مسلماً ولا کافراً ، فیجب تجهیزه لأجل العمومات ما لم یحرز کفره کما فی المقام ، لأنّه لم یثبت أنّ وجوب التجهیز مختصّ بالمؤمن، ممّا یقتضی وجوب تجهیز ولد المسلم والکافر کما هو مختار صاحب «الجواهر» أوّلاً، لکنّه قال أخیراً: «إلاّ أنّه کما تری بالنسبة إلی ولد الکافر» وهو الحقّ ، لأنّه:

أوّلاً: دلیل التبعیّة یشمل العاقل والمجنون فیهما.

وثانیاً: لو سلّمنا الاختصاص فإنّ المرجع فی حال الطفل المجنون هو استصحاب بقاء الوجوب الثابت قبل جنونه، ولو بالاستصحاب التعلیقی ، وهو صحیح عندنا ، بل هو أولی بالتمسّک من الدلیل الأوّل من القول بعمومیّة التبعیّة لهما ، لأنّه إنّما یصحّ إذا کان طفلاً لثبوت التبعیّة لعاقل الطفل ومجنونه ، وأمّا إذا خرج عنه البلوغ فلا دلیل لنا علی التبعیّة .

اللّهُمَّ إلاّ أن یدّعی الإلحاق لأجل فقدان الطفل للإرادة والاختیار من الکفر والإسلام ، وهذا الملاک موجود فی المجنون ، بل وفی بعض أفراده أشدّ منه، کما لا یخفی ، فلذلک یؤخذ به کما عرفت .

الفرع الثالث: فی حکم الطفل الأسیر، هل هو تابع لآسره أم لا؟

فهو تارةً: لا یکون مع أبویه أو مع أحدهما .

ص:240

واُخری: یکون معهما أو مع أحدهما .

والاحتمالات هنا ثلاث :

غُسل الأموات / فی الشهید

تارةً: یحکم بتبعیّته لآسره مطلقاً، أی سواء کان معه أبواه أو أحدهما ، أم لم یکن .

واُخری: لم یحکم بتبعیّته لآسره إذا کان مع أبویهما ومع أحدهما .

وثالثة: التفصیل فی التبعیّة وعدمها مع وجود الأبوین وفقدهما.

أقول: الظاهر وجوب التجهیز إذا لم یکن معه الأبوان أو أحدهما ، بل الجدّ والجدّة، للسیرة المستمرّة فی الأعصار والأمصار علی ترتیب حکم المسلم علیه حیّاً ومیّتاً، التی منه وجوب تجهیزه ودفنه فی مقابر المسلمین .

وأمّا إذا کان معه الأبوان أو أحدهما أو الجدّ والجدّة أو أحدهما ، فالظاهر من الشرط الوارد فی کلام السیّد فی «العروة» عدم ترتّب آثار الآسر علیه، فیما کان کذلک ، لأنّ تبعیّته للأبوین أو أحدهما یعدّ أشدّ من التبعیّة للآسر فی حکم الإسلام والکفر ، ولکن مع ذلک الحکم فی التغسیل هو الوجوب لما قد عرفت من العمومات المقتضیة لذلک ، إلاّ ما اُحرز کفره ، وقد عرفت الإشکال فیه فیما تقدّم.

وبالجملة: فالحکم هنا هو الوجوب، ولو لم نحکم بإسلامه، لأجل التبعیّة لآسره، قیام العمومات الدالّة علی وجوب التغسیل لکلّ میّت إلاّ ما ثبت کفره .

الفرع الرابع : فی لقیط دار الإسلام فإنّه محکومٌ بحکم المسلم ، فیجب غسله، وکذا لقیط دار الکفر ، مع إمکان التولّد من المسلم، لوجوده ، واحتمال تولّده منه، من غیر فرق فی دار الکفر الذی فیه المسلم، بین أن یکون المسلم فیه مستوطناً ولو أسیراً، وبین ما إذا دخلها المسلم لا بعنوان الاستیطان ، والتفصیل بین الصورتین المنقول عن الشیخ غیر مقبول عندنا ، بل عن بعض الحکم بجریان الإسلام علیهما ، فإن قلنا به فالمسألة واضحة، وإن لم نحکم بإسلامهما جزماً

ص:241

والشهید الذی قُتل بین یدی الإمام علیه السلام ومات فی المعرکة ، لا یُغسّل ولا یُکفّن ، ویُصلّی علیه (1).

لکن یجب هنا الحکم بلزوم تغسیله قضاءً للعمومات کما هو الأقوی عند صاحب «الجواهر»، وإن نسب إلی ظاهر کلام الأصحاب عدم وجوب الغسل لرفضهم قیام مثل هذه العمومات المدعاة الدالّة علی الوجوب .

وأمّا لقیط دار الکفر، فإنّه مع فقد الاحتمال المذکور، فلا إشکال فی ترتیب أحکام الکافر علیه ، لأنّه حینئذٍ ملحق به قطعاً ، فلا وجه حینئذٍ لاحتمال وجوب الغسل ، واللّه العالم.

(1) أقول: المستثنی من وجوب الغسل والکفن هو الشهید ، والمراد به هنا الذی قُتل فی المعرکة بین یدی النبیّ أو الإمام أو نائبهما الخاصّ ، وهذا هو مراد الأکثر کما قد صرّح بذلک صاحب «الوسیلة» و«السرائر» و«الجامع» و«المنتهی» و«المبسوط» و«النهایة» ، ولذا قال فی «مجمع البرهان» إنّه المشهور ومذهب الأکثر، وإن اختصّ بعضهم بذکر الإمام علیه السلام فقط کالمصنّف قدس سره ، لکن المقصود منه الأعمّ الشامل للنبیّ صلی الله علیه و آله ، بل النائب الخاصّ، بل قد صرّح بعضهم _ مثل «الغُنیة» وکذا «إشارة السبق» وصریح «المعتبر» و«الذکری» و«الدروس» و«المدارک» و«الذخیرة» و«الحدائق»، وظاهر «الروضة» و«الروض» ، وعن ظاهر «الخلاف» ومحتمل «التذکرة» و«نهایة الإحکام» _ بتعمیم الحکم حتّی للشهید فی الجهاد بحقّ، ولو لم یکن تحت رایة النبیّ أو الإمام، کما لو دهم المسلمین من یخاف منه علی بیضة الإسلام ولو فی حال الغیبة ، بل ظاهر «الغُنیة» أو صریحه الإجماع ، بل هو مقبول صاحب «الجواهر» و«مصباح الفقیه» و«مصباح الهدی» وغیرهم .

ص:242

الدلیل علی الاستثناء: هی الأخبار الواردة فی المقام:

منها: الروایة الحسنة کالصحیحة المرویّة عن أبان بن تغلب، قال : «سألت أبا عبداللّه علیه السلام عن الذی یُقتل فی سبیل اللّه أیُغسّل ویُکفّن ویحنّط؟

قال : یُدفن کما هو فی ثیابه، إلاّ أن یکون به رمق «فإن کان به رمق ، ثمّ مات فإنّه یغسّل ویکفّن ویحنّط ویُصلّی علیه ، لأنّ رسول اللّه صلی الله علیه و آله صلّی علی حمزة وکفّنه وحنّطه، لأنّه کان قد جُرّد»(1) .

ومنها: نحوه الخبر الآخر المروی عنه، قال: «سمعت أبا عبداللّه علیه السلام یقول : الذی یُقتل فی سبیل اللّه یُدفن فی ثیابه ولا یغسّل إلاّ أن یدرکه المسلمون وبه رمق ، ثمّ یموت بعد فإنّه یُغسل ویکفّن ویحنّط ، إنّ رسول اللّه صلی الله علیه و آله کفّن حمزة فی ثیابه ولم یغسّله ولکنّه صلّی علیه»(2) .

ومنها: روایة أبی خالد (مضمرة)، قال : «اغسل کلّ الموتی الغریق، وأکیل السبع، وکلّ شیء إلاّ ما قُتل بین الصفّین، فإن کان به رمق غُسّل وإلاّ فلا»(3) .

بل قد یمکن استفادة ذلک من الأخبار التی قد علّق الحکم فیها علی الشهید:

منها: روایة أبی مریم الأنصاری ، عن الصادق علیه السلام ، أنّه قال : «الشهید إذا کان به رمق غسّل وکفّن وحنّط وصلّی علیه ، وإن لم یکن به رمق کفّن فی أثوابه»(4) .

ومنها: روایة عمرو بن خالد، عن زید بن علیّ ، عن آبائه ، قال : قال أمیر المؤمنین علیه السلام : «ینزع عن الشهید الفرو والخفّ والقلنسوة والعمامة والمنطفة والسراویل ، إلاّ أن یکون أصابه دم، فإن أصابه دم تُرک، ولا یُترک علیه شیء


1- وسائل الشیعة : الباب 14 من أبواب غسل المیّت، الحدیث 7 و9 و3 و1.
2- وسائل الشیعة : الباب 14 من أبواب غسل المیّت، الحدیث 7 و9 و3 و1.
3- وسائل الشیعة : الباب 14 من أبواب غسل المیّت، الحدیث 7 و9 و3 و1.
4- وسائل الشیعة : الباب 14 من أبواب غسل المیّت، الحدیث 7 و9 و3 و1.

ص:243

معقود إلاّ حُلّ»(1) .

ومنها: روایة فضل بن الحسن فی «مجمع البیان» قال : «قال النبیّ صلی الله علیه و آله فی شهداء أُحد : زمّلوهم بدمائهم وثیابهم»(2) .

ومنها: روایة «قرب الإسناد»، عن أبی البختری وهب بن وهب ، عن جعفر ، عن أبیه : «أنّ علیّاً علیه السلام لم یُغسّل عمّار بن یاسر ولا عتبة یوم صفّین، ودفنهما فی ثیابهما وصلّی علیهما»(3) .

ومنها: روایة زرارة ، عن أبی جعفر علیه السلام ، قال : «قلت له : کیف رأیت الشهید یُدفن بدمائه ؟ قال : نعم فی ثیابه بدمائه ولا یحنّط ولا یُغسل ودفن کما هو . ثمّ قال : دفن رسول اللّه عمّه حمزة فی ثیابه بدمائه التی اُصیب فیها ، الحدیث»(4) .

قد یُقال : بأنّ الأخبار التی علّق الحکم فیها علی لفظ الشهید، ینافی القول بعدم وجوب الغسل لمن یُقتل فی سبیل اللّه فی الجهاد أو غیره ، مع عدم الإمام أو نائبه الخاصّ ، لأنّ هذا العنوان یُطلق علی من یُقتل بإذن الإمام أو نائبه ، لأنّه المعتبر فی مسمّی الشهید ، ولا أقلّ من الشکّ فی صدقه، خصوصاً بعد الاعتضاد بفتوی من عرفت من الأصحاب باشتراط ذلک فی الشهید، کما عن «الذخیرة» ، فإذا شککنا فی صدقه یرجع إلی عموم ما ورد من وجوب غسل کلّ الموتی، الشامل لما نحن بصدده ، مع إمکان دعوی انصراف تلک الأخبار _ أی ما کان فیه لفظ یقتل فی سبیل اللّه _ إلی المقتول بین یدی الإمام أو نائبه .

لأنّا نقول : لم یرد فی نصّ بالخصوص من لزوم کون الشهید شرعاً فیمن یُقتل بین یدیّ الإمام أو نائبه ، بل قد عرفت فی عبارة کثیر من الأصحاب بأنّ من قُتل


1- وسائل الشیعة : الباب 14 من أبواب غسل المیّت، الحدیث 10 و11 و12 و 8 .
2- وسائل الشیعة : الباب 14 من أبواب غسل المیّت، الحدیث 10 و11 و12 و 8 .
3- وسائل الشیعة : الباب 14 من أبواب غسل المیّت، الحدیث 10 و11 و12 و 8 .
4- وسائل الشیعة : الباب 14 من أبواب غسل المیّت، الحدیث 10 و11 و12 و 8 .

ص:244

فی سبیل اللّه فی جهاد حقّ فهو شهید، ولو کان لدفع العدوّ فیما یخاف منه علی بیضة الإسلام عند المسلمین ، ولذلک تری أنّ الشهید فی «الدروس» قد استدلّ لذلک بعموم لفظ الشهید ، فیما استشکل صاحب «کشف اللِّثام» من جهة هذا اللّفظ، بکون الشهید لابدّ أن یکون مقتولاً بین یدیّ الإمام أو نائبه، وکلامه لا یخلو عن ضعف، کما لا یخفی علی المتأمّل .

ثمّ علی فرض تسلیم منعه عن الشمول ، فدعوی التنافی بین ما یدلّ بالإطلاق، وبین ما یدلّ فی مورد الشهید المأذون .

ممنوعة، لأنّهما مثبتین لا تنافی بینهما، مع عدم إحراز وحدة المطلوب ، فیمکن ترتیب آثار الشهید علی مَن قُتل بالإذن، وعلی مَن قتل لدفع العدوّ المقتول فی فی سبیل اللّه ، فما نُقل وحکی عن الشیخین فی «المقنعة» و«المبسوط» و«النهایة» باشتراط سقوط الغسل عن الشهید فیما إذا کان مقتولاً بین یدیّ إمامٍ عادل أو نائبه، لا یخلو عن وهن ، کما صرّح به المحقّق فی «المعتبر» بقوله: «ما اعتبره الشیخان من الشرط زیادة لم تعلم من النصّ» .

مضافاً إلی أنّه مع التسلیم للدعوی المذکورة، فإنّه لیست هذه الروایات ، إلاّ کالأخبار الواردة فی الوقائع الخاصّة ، مثل ما فی قضیّة عمّار وعتبة أو هاشم بن عتبة، من أنّ علیّاً علیه السلام لم یغسّلهما یوم صفّین ودفنهما فی ثیابهما .

وأیضاً صحّة إطلاق الشهید عرفاً علی من قتل فی سبیل اللّه، ولو لم یکن مع إذن الإمام أو نائبه الخاصّ ، بل کان فی طریق جهاد حقّ، أو لدفع العدوّ عن بلاد المسلمین ، ولا إشکال فی استعمال لفظ الشهید علی مثل هذا المقتول ، والأصل فی الاستعمال الحقیقة بدعوی الوضع للکلّی الشامل لمثله وللمقتول المأذون ، إذ الحقیقة خیرٌ من المجاز، کما هو المصداق له فی الصدق العرفی حقیقة ، وهو

ص:245

کاشف عن غیره حتّی لو کان المعنی شرعیّاً، من غیر فرق بین القول بوضعه له شرعاً أو لا ، إذ العرف المتشرّع ضابط للمراد الشرعی مجازاً کان أو حقیقةً .

کما قد یؤیّد کون المراد من الشهید هو المطلق موافقاً للعرف ، ما ورد فی کتب اللّغویّین فی معناه مثل «القاموس» حیث عرّف الشهید بأنّه: «القتیل فی سبیل اللّه تعالی ، لأنّ ملائکة الرحمان تشهده ، أو لأنّ اللّه تعالی وملائکته شهودٌ له بالجنّة ، أو لأنّه ممّن یستشهد به یوم القیامة علی الاُمم الخالیة ، أو لسقوطه علی الشهادة أی الأرض ، أو لأنّه حیّ عند ربِّه حاضرٌ ، أو لأنّه یشهد ملکوت اللّه وملکه» ، انتهی .

ومثله المنقول عن المغرب بتفاوت یسیر کما نقله صاحب «الجواهر»(1) .

أقول: إذا ثبت صحّة إطلاق الشهید علی مطلق مَنْ قُتل فی سبیل اللّه، فیظهر صحّة إطلاق الشهید علی من قتل فی سبیل اللّه، وإن لم یکن زهوق روحه عند تقابل العسکرین، کالمقتول اتّفاقاً عند قیامه بواجب من واجبات جیش الإسلام دون القتال، کما لو قتل عند نقله الرسالة إلی قادة الکفّار، أو کان عیناً من عیون العسکر فاُخذ وقُتل ، أو ذهب لإصلاح طریق هجوم العساکر علی العدوّ فقُتل ، وأمثال ذلک .

ولا ینافی ما ذکرناه بما جاء فی مضمر أبی خالد، من قوله : «إلاّ ما قتل بین الصفّین» ، لإمکان أن یکون بیاناً لأجلی مصادیق الشهید ، أو لعلّه من قبیل بیان المثال جریاً للغالب ، لا ذکر ما هو الشرط فی صدقه کما زعمه بعض کالشیخین» .

فرع: إنّه قد اشترط فی الشهید _ مضافاً إلی ما ذکرناه فی معناه _ وأن یکون مصرعه فی أرض المعرکة، کما صرّح بذلک المصنّف وغیره من الفقهاء فی


1- الجواهر : ج4 / 88 .

ص:246

مصنّفاتهم الفقهیّة، بل نسبه غیر واحد إلیهم مُشعراً بدعوی الإجماع علیه ، بل فی «مجمع الفائدة البرهان» کان دلیله الإجماع .

قال العلاّمة فی «التذکرة»: «الشهید إذا مات فی المعرکة لا یغسّل ولا یکفّن ، ذهب إلیه علمائنا أجمع» .

ونحوه فی ذلک «المعتبر» و«الغُنیة» و«الخلاف» .

غایة الأمر ، هل الشرط فی اعتباره شهیداً أن لا یدرکه المسلمون إلاّ وهو مقتولٌ، أو أنّه شهید حتّی إذا أدرکه المسلمون وبه رمق الحیاة، فیُطلق علیه الشهید وحکمه حکم الشهید؟

فیه وجهان ، بل قولان :

القول الأوّل: ما التزم به الشیخ فی «الخلاف» بأنّه إذا خرج من المعرکة، ثمّ مات بعد ساعة أو ساعتین قبل تقضی الحرب حکمه حکم الشهید ، واستحسنه فی «المنتهی» ، ومقتضی ذلک هو الإطلاق کما هو معقد الإجماع، وإطلاق الشهید والقتیل فی سبیل اللّه ، بل هو مقتضی أصل البراءة، خصوصاً بعدما عرفت صحّة إطلاق الشهید علیه عرفاً ، بل قد یساعده الاعتبار من جهة غلبة عدم الموت بأوّل الجراحة ویبقی بعدها ولو آناً مّا غالباً ، مع أنّه لو کان الغسل لمثله واجباً لوجب تغسیل جمیع العسکر من باب المقدّمة العلمیّة ، إذ لا ظهور یستند إلیه بکون موته حال الإصابة ، مع ما فی ذلک من العُسر والحرج، سیّما إذا أدرک وحیاته غیر مستقرّة مع عدم انقضاء الحرب .

بل قد یمکن استفادة ذلک من الخبر المروی عن النبیّ صلی الله علیه و آله ، أنّه قال یوم اُحد : «من ینظر إلی ما فعل سعد بن الربیع ؟ فقال رجل : أنا أنظر لک یا رسول اللّه صلی الله علیه و آله ، فنظر فوجده جریحاً وبه رمق، فقال له : إنّ رسول اللّه صلی الله علیه و آله أمرنی أن أنظر، أفی

ص:247

الأحیاء أنت أم فی الأموات؟ فقال : أنا فی الأموات ، فابلغ رسول اللّه عنّی السلام ، قال : ثمّ لم أبرح إلی أن مات ولم یأمر النبیّ9 بتغسیل أحد منهم»(1) .

ولقد استظهره المحقّق الهمدانی بکونه بعد تقضی الحرب،لکنّه لایخلو عن تأمّل.

بل وکذا خبر عمرو بن خالد، عن زید، عن أبیه ، عن آبائه ، عن علیّ علیهم السلام ، قال : «قال رسول اللّه صلی الله علیه و آله : إذا مات الشهید من یومه أو من الغد، فواروه فی ثیابه ، وإن بقی أیّاماً حتّی تتغیّر جراحته غُسّل»(2) .

أقول: لکنّه لا یبعد کونه بعد تقضّی الحرب، إذ یشکل حمله علی إرادة البقاء فی المعرکة ، ولعلّه لذلک حمله الشیخ وغیره علی التقیّة، خصوصاً بعد ملاحظة ضعف سنده .

وکیف کان ، قد عرفت ما به الغنی والکفایة لإثبات الإطلاق کما علیه صاحبی «الجواهر» و«المصباح» وهو أحد القولین فی المسألة .

والقول الآخر: هو المنقول عن المفید فی ظاهر «المقنعة»، والشهیدین فی ظاهر «الذکری» و«الروض» ، بل وهو المحکی عن ابن البرّاج فی «المهذّب» وتبعهم جماعة من متأخّری المتأخّرین، من وجوب التغسیل بمجرّد إدراکه حیّاً ، مستدلاًّ له بما تقدّم من خبری أبان بن تغلب، ومضمرة أبی خالد وأبی مریم عن الصادق علیه السلام ، قال : «الشهید إذا کان به رمق غُسِّل وکفّن وحنّط وصلّی علیه ، وإن لم یکن به رمق کفّن فی أثوابه»(3) .

بناءً علی أنّ المراد من الإدراک حال الحرب ، مع أنّه لا یبعد أن یحمل علی


1- کتاب سیرة ابن هشام علی هامش الروض الانف : ج2 ص141 .
2- وسائل الشیعة : الباب 14 من أبواب غسل المیّت، الحدیث 5 و 10 .
3- وسائل الشیعة : الباب 14 من أبواب غسل المیّت، الحدیث 5 و 10 .

ص:248

صورة انقضاء الحرب وإطفاء نائرتها، خصوصاً مع ملاحظة قوله علیه السلام : «إلاّ أن یدرکه المسلمون» بصیغة الجمع، حیث لا یخلو عن إشعار بتقضّی الحرب والموت بعد انقضاءها، حیث لا إشکال فی وجوب التغسیل، کما نقل الشیخ فی «الخلاف» الإجماع علی وجوبه بعد انقضاء الحرب، حتّی لو کان غیر مستقرّ الحیاة، کما عرفت عدم بُعد کون المراد من تلک الأخبار أیضاً هو هذا ، وإن قال صاحب «الجواهر» بأنّه لا یخلو عن تأمّل .

بل قد یؤیّد ما ادّعیناه من عدم وجوب الغسل مع بقاء الحرب ولو أدرکه حیّاً، قضیّة عمّار بن یاسر ، فإنّ الظاهر حضور المسلمین عنده حین استقی فسُقی اللّبن الذی کان آخر شرابه من الدُّنیا ، مع أنّ أمیر المؤمنین علیه السلام لم یغسّله کما وردت بها أخبار مستفیضة .

وکیف کان فإنّ الملاک فی وجوب التغسیل وعدمه، بقاء الحرب وعدمه، سواءً کان الإدراک حال حیاته أو بعد موته .

نعم ، المستفاد من مجموع الأخبار _ علی ما یشهد لذلک متونها _ من أنّ المراد من المقتول فی سبیل اللّه، لیس إلاّ المقتول فی الجهاد، لا مطلق من بذل نفسه فی طاعة اللّه من غیر جهاد، فمثله یجب غسله بلا خلاف فیه ، بل صرّح المحقّق فی «المعتبر» والعلاّمة فی «التذکرة» قیام الإجماع علیه ، وهذا هو الحجّة .

کما یمکن دعوی انسباق الذهن والمتبادر من إطلاق کلمة (القتل فی سبیل اللّه) حین یطلق لیس إلاّ القتل فی أثناء المعرکة ، ولعلّه إلی ذلک الانسباق یشیر قوله علیه السلام : «إلاّ ما قُتل بین الصفّین» فی روایة أبی خالد .

بل یمکن تأییده بما ورد من روایة العلاء بن سیّابة، قال : «سُئل أبو عبداللّه علیه السلام وأنا حاضر عن رجل قُتل، فقُطع رأسه فی معصیة اللّه ، أیُغسَّل أم یفعل به ما یفعل

ص:249

بالشهید؟ فقال : إذا قُتل فی معصیة یُغسّل أوّلاً منه الدم ثمّ یصبّ علیه الماء صبّاً ، الحدیث»(1) .

أقول: ولعلّ وجه التأیید، کونه فی قِبال القتل فی طاعة اللّه من الجهاد، حیث لا یغسّل من دمه بل یدفن معه ، وإلاّ کان اللاّزم فیه الأعمّ ، لأنّ القتل فی غیر معصیة یطلق علی فردین: من القتل فی طاعة اللّه مع کونه فی الجهاد، أو القتل فی طاعة اللّه فیما عدا الجهاد ، فإیجاب الغسل فی القتل فی المعصیة لا یستلزم إیجابه فی الطاعة فی القتل بدون الجهاد کما هو المقصود .

وکیف کان، ففی قیام الإجماع، وما ذکرناه من التبادر غنیً وکفایة، ولا نحتاج إلی مثل هذه الروایة .

البحث عن أقسام الشهید

أقول: بعدما ثبت حکم وجوب الغسل وعدمه بالنسبة إلی الشهید وغیره، یقتضی المقام صرف عنان الکلام إلی بیان أقسام الشهید.

قال صاحب «الجواهر» قدس سره : «لا فرق فیما ذکرنا من حکم الشهید بین الحرّ والعبد، ولا بین المقتول بحدید أو غیره ، ولا بین المقتول بسلاحه أو غیره ، ولا بین المقتول خطأً أو عمداً .

إلی أن قال : وکذا لو داسته خیول المسلمین، أو رمته فرسه فی نهرٍ أو بئر بسبب جهاد الکفّار، لصدق کونه قتیلاً فی سبیل اللّه وغیره . بل صرّح جماعة من الأصحاب بعدم الفرق بین البالغ وغیره، وبین الرجل والمرأة ، بل قد یظهر من


1- وسائل الشیعة : الباب 15 من أبواب غسل المیّت، الحدیث 1 .

ص:250

«کشف اللِّثام» فی آخر الباب دعوی الإجماع علی ذلک بالنسبة إلی الصبیّ والمجنون للإطلاق والصدق» ، انتهی محلّ الحاجة(1) .

أقول: ولقد أجاد فیما أفاد ، لأنّه ما لا خلاف فیه حیث یصرف إطلاق الأدلّة وعمومها إلیه . نعم ، فی «المعتبر» نسبة الخلاف فی الصغیر إلی أبی حنیفة وردّه بالإطلاق ، بل قال شیخنا الأنصاری فی کتاب «الطهارة» بعدما نقل ما عرفت، قال : «وهو حسن، إلاّ أنّ الظاهر من حسنة أبان وصحیحته المقتول فی سبیل اللّه، فیختصّ بمن کان الجهاد راجحاً فی حقّه أو جُوهد به، کما إذا توقّف دفع العدوّ علی الاستعانة بالأطفال» ، انتهی(2) .

وفیه: استفادة کون الجهاد فی حقّه راجحاً من قوله: «المقتول فی سبیل اللّه» یوجب أن لا یشمل عنوان الشهید للصبیّ والمجنون ، بل حتّی لمن لا یکون ناویاً بفعله التقرّب ، بل کان لإظهار الشجاعة وتحصیل الغنیمة ، أو حفظ وطنه والدفاع عن بلده ، ونحو ذلک ممّا ینافی الإخلاص المصحّح کونه عبادة، وعلیه الالتزام بذلک ممّا لا یناسب مع ما ورد فی بعض التواریخ والسِّیر والأخبار مثل ما ورد بأنّ حارثة بن النعمان بن نقع شهید بدرٍ واُحد والخندق(3).

وکذا ورد فی ترجمة عمیر بن أبی وقّاص بأنّه استعرض رسول اللّه صلی الله علیه و آله الجنود ببدر فاستصغر عمیر فردّه فبکی فأجازه ، وقال أخوه سعد کنت أعقد محامل سیفه من صغره فقُتل وهو ابن ستّ عشرة سنة، قتله عمرو بن عبد ودّ


1- الجواهر : ج4 / 91 .
2- کتاب الطهارة : 314 .
3- الإصابة فی معرفة الصحابة: 1 / 283 .

ص:251

العامری الذی قتله علیّ علیه السلام یوم الخندق . ولذلک قال صاحب «الجواهر» : ولمّا روی أنّه «قد کان فی شهداء بدر واُحد حارثة بن النعمان، وعمیر بن أبی وقّاص، أخو سعدٍ، وهما صغیران ولم یأمر النبیّ بتغسیل أحد منهم ، لو لم یستشکل فی حقّ عمیر بأنّ سنّه کان بحدّ البلوغ فخرج عن الصبابة ، ولکن فی حارثة بن النعمان غیر معلوم»(1) .

مضافاً إلی ما روی المفید علیه الرحمة فی «الإرشاد» من استشهاد عبداللّه الرضیع ولد الحسین علیهماالسلام فی وقعة کربلاء، ولم ینقل عن أحد تغسیله(2) .

اللّهُمَّ إلاّ أن یناقش بأنّ إتیانه الحسین علیه السلام إلی المعرکة للمطالبة بالماء له کان استعانة لدفع العدوّ، وتحصیلاً لاسترحامهم فی حقّه وحقّ أهل بیته .

لکنّه مندفع بأنّه صحیحٌ علی روایة، لکن هناک روایة اُخری تقول وردت فی بعض المقاتل أنّه قُتل حین أراد الحسین أن یقبِّله عند باب الفسطاط ، وبرغم ذلک لم ینقل أرباب المقاتل ما یدلّ علی أنّ الحسین علیه السلام قام بتغسیله. ولکن مع ذلک کلّه لا یمکن الحکم جزماً بعدم وجوب التغسیل فیمن لم یخاطب بالجهاد، خصوصاً مع وجود عموم دلیل وجوب الغسل لکلّ میّت، وعدم القطع بخروج هذا القسم منه ودخوله فی عنوان الشهید یوجب الحکم بالاحتیاط فی تغسیلهم ، واللّه العالم .

قد یُقال: بدلالة خبر طلحة بن زید ، عن جعفر علیه السلام ، عن أبیه ، عن علیّ بن الحسین علیهم السلام أنّه قال : «سُئل النبیّ صلی الله علیه و آله عن امرأةٍ أسرها العدوّ فأصابوا بها حتّی


1- نفس المصدر: 3 / 36 .
2- الإرشاد: 224، طبعة طهران سنة 1377 ق .

ص:252

ماتت أهی بمنزلة الشهید؟ قال : نعم ، إلاّ أن تکون أعانت علی نفسها»(1) .

علی کونها من الشهداء .

فإنّه یُقال: الظاهر منه کون الإصابة خارج المعرکة ، والموت بذلک لا یُدخلها إلاّ فی ثواب الشهداء، نظیر المقتولین ظلماً، والمدافعین عن أنفسهم أو مالهم أو عرضهم ، أو من مات بداء البطن أو الطاعون أو فی النفاس حیث اُطلق علیهم عنوان الشهید ، فهؤلاء برغم تسمیتهم بالشهید لکن ممّن یجب تغسیلهم إجماعاً، علی ما نقله غیر واحد من الأصحاب، ولا یعدّون من الشهداء حقیقةً حتّی یسقط الغسل عنهم .

الفرع الأوّل: ثمّ بعدما عرفت من سقوط الغسل عن الشهید، فهل یجب علیه الغسل إذا کان جنباً أو حائضاً أو نفساء أو مستحاضة کثیرة أو متوسّطة، أم أنّ الغسل ساقط عنهم مطلقاً؟

فیه قولان :

قولٌ: بالوجوب ، وهو المنقول عن ابن الجنید والسیّد المرتضیواستدلاّ لمذهبهما بما قد روی عن النبیّ صلی الله علیه و آله أنّه قال لمّا قُتل حنظلة ابن الراهب : «ما شأن حنظلة رأیت الملائکة یغسّلونه، فقالوا: إنّه جامع فسمع الصیحة فخرج إلی القتال»(2) .

بل فی «مصباح الفقیه»: «وربما استشهد له بما روی من أنّ المیّت الجنب یغسّل غُسلین ، ومن أنّه غسلٌ واجب لغیر الموت، فلا یسقط بالموت» .


1- وسائل الشیعة : الباب 14 من أبواب غسل المیّت، الحدیث6 .
2- المستدرک : الباب 30 من أبواب غسل المیّت ، الحدیث 3 .

ص:253

مع أنّ کلا الدلیلین أو الأدلّة مخدوشة.

فأمّا الأوّل: إذ لا دلالة فیه علی المطلوب ، بل دلالته علی عکس المطلوب أدلّ ، لأنّه من الواضح أنّ غسله لو کان واجباً لابدّ إخراجه من قبره لذلک، فلا أثر لتغسیل الملائکة للسقوط عنّا ، فحیث لم یأمر بذلک فیفهم أنّه لیس بواجب علینا ، مع أنّ فعلهم لا یدلّ علی الوجوب علینا ، بل لإفهام المسلمین بعلوّ مقامه وعظمته، حتّی صار معروفاً بحنظلة (غسیل الملائکة) لأجل عظمة عمله وفعله، من رفع الید عن زوجته لیلة زفافه.

وأمّا عن الثانی: فإنّه إشارة إلی حدیث عیص عن الصادق علیه السلام ، قال : «سألته عن رجل مات وهو جنب ؟ قال : یُغسل غسلة واحدة ثمّ یغسّل بعد ذلک»(1) .

وإلی خبره الآخر عنه علیه السلام فی حدیث، قال : «إذا مات المیّت وهو جنب غُسّل غسلاً واحداً ثمّ یغسل بعد ذلک»(2) .

وإلی خبره الثالث عنه علیه السلام ، قال : «الرجل یموت وهو جنب ؟ قال : یغسل من الجنابة ثمّ یغسل بعدُ غسل المیّت»(3)

فإنّه یُجاب عنه أوّلاً : بأن قوله علیه السلام : «غسلاً واحداً» قرینة لدفع توهّم التکرار والتعدّد .

وثانیاً : إنّ قوله : «یغتسل بعد ذلک» ، یرجع ضمیره إلی الغاسل، أی یغسل غسل مسّ المیّت کما ذکره صاحب «الوسائل» ولا یمتلک الفعل المذکور فی الجملة مفعولاً لیعود إلی المیّت، ولو فرض وجوده کان مفعولاً مطلقاً، ومثل ذلک


1- وسائل الشیعة : الباب 31 من أبواب غسل المیّت، الحدیث 6 و 8 و 7 .
2- وسائل الشیعة : الباب 31 من أبواب غسل المیّت، الحدیث 6 و 8 و 7 .
3- وسائل الشیعة : الباب 31 من أبواب غسل المیّت، الحدیث 6 و 8 و 7 .

ص:254

فی غیره من الروایات الثلاث المنقولة کلّها عن عیص ، مع إمکان الجواب فی الثالث بإمکان کون غسل بدن المیّت عن المنی وتطهیره عنه أوّلاً ثمّ یغسّل بعد غسل المیّت فلا یتعدّد غسله حینئذٍ .

وأمّا عن الدلیل الثالث أوّلاً : إنّ غسل الجنابة لا یکون واجباً إلاّ لأجل الغایات .

وثانیاً : لو سلّمنا وجوبه فی نفسه لنفسه، فإنّه کسائر التکالیف تسقط بالموت عمّن کُلّف بها ، ولا تنتقل إلی غیره ، مع أنّ کلّ میّت یجنب عند موته ، وغسل المیّت یعدّ فی الحقیقة بدلاً عن تلک الجنابة ، فمع ذلک قد أسقط الشارع مثل هذا الغسل عن الشهید ، فیفهم منه أنّ الشهادة تجبر کلّ ذلک وتطهّره ، واللّه العالم .

وبالجملة: فالأقوی ما علیه المشهور، من عدم وجوب غسل الشهید أو الشهیدة إذا کان جنباً أو کانت حائضاً أو غیرها .

الفرع الثانی: وهو أنّه لا إشکال فی سقوط الغسل عن الشهید الذی عثر علی جثّته داخل المعرکة بین عسکر الإسلام وعلیه أثر القتل، فلا خلاف فیه ظاهراً، عملاً بظاهر الحال، وشهادة الأمارة، کما علیه بناء العرف فی تشخیص الموضوع ، إذ من الواضح أنّه لولا ذلک لما یبقی أو قلّ ما یبقی للأخبار المتقدّمة مورد، إذ کثیراً ما یوجد الشهید فی المعرکة، ووجوده فیها ووجود الأثر علیه یوجب الظنّ أو الاطمئنان بکونه شهیداً، فیترتّب علیه آثاره وهو ممّا لا کلام فیه .

وإنّما الکلام فیمن وجد فیها ولم یکن فی بدنه أو فیه أثر القتل ؟

فعن ظاهر المشهور الحکم بکونه شهیداً، وسقوط الغسل عنه، عملاً بظاهر الحال، فإنّ القتل لا یستلزم وجود أثره علیه وظهوره فیه .

وعن ابن الجنید الحکم بالعدم ، ولعلّه لأصالة وجوب تغسیل الأموات، مع الشکّ فی تحقّق الشرط الموجب لسقوطه هنا .

ص:255

وفی «الجواهر» قال بعده : «وهو لا یخلو عن قوّة ، فتأمّل» .

أقول: لکن عن ظاهر «الذکری» و«الروض» التوقّف، حیث اقتصروا علی نقل الخلاف ، ولکن قال الهمدانی فی «مصباح الفقیه»: «والأظهر ما هو المشهور من عدم تغسیله، ولو لم نقل بحجّیّة ظاهر الحال، فإنّ الأصل براءة الذمّة عن التکلیف به، والتمسّک بعمومات وجوب الغسل لا یجری فی الشبهات المصداقیّة، کما عرفته غیر مرّة ، واللّه العالم» ، انتهی محلّ الحاجة(1) .

ولکن قال السیّد فی «العروة»: «فالأحوط تغسیله وتکفینه، خصوصاً إذا لم یکن فیه جراحة، وإن کان لا یبعد إجراء حکم الشهید علیه» .

أقول: ولعلّ وجه الاحتیاط _ خصوصاً مع القید المذکور، حیث علّقنا علیه فی حاشیتنا علیها إنّه لا یترک _ لأجل عدم جواز التمسّک بالعام فی الشبهة المصداقیّة ، أو کان المشکوک من الشبهة فی الفرد العام لا فی الفرد المخصّص کما هنا، إذ المشکوک هنا کان لأجل أنّه لا یدری أنّه هل من الشهداء حتّی لا یجوز تغسیله فضلاً عن وجوبه وجوازه أم لا ؟ فالأصل العدم، ویجوز عرفاً التمسّک بالعام فی الشبهة المصداقیّة للخاصّ، إذ التخصیص لا یوجب إعطاء العام عنواناً بکون المیّت غیر الشهید، حتّی یصبح بالرجوع إلی العام من قبیل الرجوع إلیه فی الشبهة المصداقیّة لنفس العام حیث لا یجوز قطعاً ، فمقتضی حجّیة عموم العام هو جواز الرجوع إلیه إلی أن یحرز عنوان الخاصّ .

نعم ، والذی أوجب القول بالاحتیاط هنا، کان لأجل شبهة أنّ حجّیة ظاهر الحال عند العرف من کونه قتیلاً فی المعرکة یکفی فی الحکم بکونه شهیداً أم لا؟


1- مصباح الفقیه : ج5 / 123 .

ص:256

فعلی الأوّل یوجب دخوله فی العنوان الخاصّ ، ولعلّه لذلک قال السیّد بعده : «ولا یبعد إجراء حکم الشهید علیه»، ولکن قد عرفت هنا فیتعلیقتنا علی «العروة» کونه الأحوط وجوباً ولا یترک تغسیله إذا لم یکن فیه جراحة ، واللّه العالم .

ثمّ قال صاحب «الجواهر»: «کما أنّه لا فرق أیضاً فی الشهید بین قتیل المشرکین، وقتیل أهل البغی، ونسبه فی «المنتهی» و«التذکرة» إلی فتوی علمائنا ، ویدلّ علیه مضافاً إلی ذلک وإلی تناول أخبار الشهید له، خصوص خبر عمّار عن جعفر ، عن أبیه علیهماالسلام : «إنّ علیّاً علیه السلام لم یغسّل عمّار بن یاسر، ولا هاشم بن عتبة وهو المرقال ، ودفنهما فی ثیابهما»(1) . ولا ینافی ذلک ما فی ذیله من عدم الصلاة علیهما، لوجوب حمله بالنسبة إلیه خاصّة علی التقیّة کما عن الشیخ ، أو أنّه وهم من الراوی» ، انتهی کلامه(2) .

أقول: لم یصلّ علیه لانشغاله بالمعرکة فأمر غیره بالصلاة علیه، فضلاً عن الإشارة إلی صلاته علیه السلام فی حدیث آخر.

والظاهر أنّ أخبار الشهید بکون قتله فی سبیل اللّه یکفی فی إثبات المطلب ؛ لأنّه من الواضح أنّ من یُقتل فی معرکة کانت لأجل ردّ البُغاة یصدق علیه أنّه مقتول فی سبیل اللّه، خصوصاً بعدما عرفت من سقوط الغُسل عنه فیما لو کان بإذن الإمام أو نائبه الخاصّ ، بل حتّی لو علموا لزوم الدفاع عن بیضة الإسلام، ولو لم یمکن تحصیل إذن الإمام أو نائبه لوجب علیهم الدفاع ، فإنّ القتیل دفاعاً یصدق علیه الشهید، ولو کان دفاعه صدّاً لأهل البغی.


1- وسائل الشیعة : الباب 14 من أبواب غسل المیّت ، الحدیث 4 .
2- الجواهر : ج4 / 93 .

ص:257

الفرع الثالث: فی أنّه لا یجب تکفین الشهید.

قال المصنّف: «ولا یکفّن ویصلّی علیه».

ففی «الجواهر»: إجماعاً فی الجمیع، محصّلاً ومنقولاً مستفیضاً، إن لم یکن متواتراً کالأخبار فهو الحجّة بضمیمة الثانیة وهی الأخبار، کما فی روایتی أبان بقوله : «یدفن فی ثیابه» . وفی خبره الآخر : «یدفن کما هو فی ثیابه»، فی قِبال سؤال السائل : «أیکفّن» ، یفهم کون المراد من بدلیّة الثیاب عن کفنه .

ومثلهما خبر أبی مریم فی قبال مَن به رمق، حکم فیه بالغسل والکفن ، قال : «وإن لم یکن به رمق کفّن فی أثوابه».

کما یومی إلی ذلک عمل رسول اللّه صلی الله علیه و آله فی حقّ حمزة الوارد فی خبر أبان ، حیث قال : «إنّ رسول اللّه صلی الله علیه و آله کفّن حمزة وحنطّه لأنّه کان قد جُرّد» ، حیث یفهم من ذلک أنّه لو لم یکن مجرّداً لم یکفّنه ، فمن ذلک یفهم حکم آخر وهو أنّ عدم التکفین إنّما یکون فیما إذا کان له ثیاب، وإلاّ وجب تکفینه کما فعل رسول اللّه صلی الله علیه و آله فی حقّ حمزة سیّد الشهداء.

أمّا الصلاة: فهی واجبة، ویجب أن یُصلّی علی الشهید کما ورد الحکم بها فی حدیث أبان من أنّ رسول اللّه صلی الله علیه و آله لم یغسّل حمزة ولکنّه صلّی علیه ، وکذا فی خبر أی مریم بقرینة رفع حکم الکفن فقط، فیما إذا لم یکن به رمق ، فالصلاة باقٍ علی حاله ، وکذا فی قصّة عمّار حیث ورد فیها أنّ علیّاً لم یغسّل عمّار وهاشم بن عتبة ولم یکفّنهما، فی حدیثٍ: «أنّه لم یصلِّ علیهما» ، وفی آخر (صلّی علیهما) ، حیث قد حمل الأوّل منهما علی التقیّة أو وهم الراوی أو أمر غیرهما.

وبالجملة: ثبت من مجموع ما ذکرناه أنّ الشهید لیس علیه التغسیل ولا التکفین ولا التحنیط، أمّا الصلاة فهی واجبة علیه ولم یعرف ولم ینقل الخلاف فیها عن أحد ، فکأنّه من المسلّمات عند فقهاء الإمامیّة رضوان اللّه تعالی علیهم جمیعاً .

ص:258

وکذلک من وجب علیه القتل، یؤمر بالاغتسال قبل قتله، ثمّ لا یُغسّل بعد ذلک (1).

(1) أقول: لا إشکال فی سقوط وجوب الغسل فی حقّ من وجب علیه القتل قصاصاً أو رجماً، بلا خلاف فیهما، مع إطلاق فی کلام المصنّف، بلا استثناء لصورة الحدّ بغیر الرجم، کما هو الحال فی نصّ «القواعد» و«الجامع» و«الإرشاد» ، بل صرّح فیهما کما فی «الذکری» و«جامع المقاصد» و«الروض» وغیرها ، بعدم الفرق بین کون الحدّ رجماً أو غیره ، بل فی «الروض» نسبته إلی الأصحاب کالحدائق إلی ظاهرهم ، وکالمحقّق من عبارة «مجمع البرهان» قال مثل ما قال «الإرشاد» واستدلّ له بالإجماع.

غُسل الأموات / فی المحدود

ولکن قال صاحب «الجواهر» : «ومع ذلک کلّه لا یخلو الإطلاق من تأمّل ، بل منع وفاقاً لصریح «المنتهی» و«کشف اللِّثام» و«الحدائق» ، وعن «نهایة الإحکام» وظاهر غیرهم حیث اقتصروا علی المقتول قِوداً ورجماً استدلالاً بالوقوف فیما خالف الأصل علی محل النصّ، الذی هو مستند الحکم ، وما فی «الذکری» بالتعلیل للإلحاق بالمشارکة بین الحدّ والرجم بالسبب، أی کان سبب کلیهما شیئاً واحداً، وهو وجوب القتل بواسطة ارتکاب ما أوجب ذلک ، ممّا لا محصّل له بحیث ینطبق علی مذهبنا من حرمة القیاس .

فإن قیل: قد یمکن أن یکون الوجه فی ذکر خصوص الرجم دون الحدّان لأجل أنّ ما یستلزم القتل لیس غالباً إلاّ فی الرجم، إذ فی غیره لا موت فیه من أثر الحدّ بالذات، وإن وقع فیه القتل فی مورد یمکن أن یکون لأجل أمر آخر .

قلنا: لکنّه مندفع بأنّ إجراء بعض الحدود لا یتحقّق إلاّ بالقتل مثل من زنا

ص:259

بمحارمه کالاُمّ أو البنت، أو کمَن وجد زوجته مع رجل یزنی بها، حیث أجاز الشارع له قتلهما، ففی مثل ذلک الأقوی عندنا سقوط وجوب الغسل لعموم وجوب غسل المیّت، فیُؤخذ به إلاّ فیما یحرز کونه داخلاً فی المخصّص دون المشکوک ، إلاّ أن یثبت الإجماع فیه وهو غیر ثابت إلاّ فی المتیقّن منه، لکونه دلیلاً لبّیاً ، فینحصر فی القصاص والرجم کما لا یخفی .

أقول: فبعدما عرفت موضع سقوط الغسل، فیؤمر بمن کان حکمه کذلک بالاغتسال قبل قتله ، والدلیل لهذا الحکم، هو الأخبار فهی برغم ضعف أسنادها، لکنّها متعدّدة الطرق:

منها: ما رواه الکلینی بسندٍ ضعیف عن مسمع کردین ، عن أبی عبداللّه علیه السلام ، قال : «المرجوم والمرجومة یغسّلان ویحنّطان ویلبسان الکفن قبل ذلک، ثمّ یُرجمان ویصلّی علیهما ، والمقتصّ منه بمنزلة ذلک، یغسّل ویحنّط ویلبس الکفن (ثمّ یقاد) ویصلّی علیه»(1) .

ورواه الصدوق مرسلاً عن أمیر المؤمنین ، وکذلک الشیخ بإسناده عن الکلینی مثله ، ولکن المذکور فی «التهذیب»: (یغتسلان) من باب الافتعال بدل (یغسّلان) بالتشدید مع البناء للمجهول المذکور فی الکافی والفقیه .

فلا إشکال فی العمل بهذا الخبر، مع ضعف سنده، لانجباره بفتوی الأصحاب حیث لم یعرف الخلاف من أحد فیه، کما اعترف به فی «المعتبر» ، مضافاً إلی ما عرفت من «مجمع البرهان» من القول بقیام الإجماع علیه، کما علیه الشیخ فی «الخلاف» بقوله : «دلیلنا إجماع الفرقة فإنّهم لا یختلفون فیه» ، انتهی .


1- وسائل الشیعة : الباب 17 من أبواب غسل المیّت، الحدیث 1 .

ص:260

نعم ، اقتصر الشیخ المفید وسلاّر فی خصوص المقتول قِوداً ، ولعلّه کان ذکره من باب المثال والمصداق، لا التعیین فی خصوصه، وإلاّ فهو مدفوع بما قد عرفت ، کما لا یخفی .

هاهنا فروع تتولّد من ذلک :

الفرع الأوّل : فی أنّ الغسل الذی قد أمر به قبل القتل، هل هو غُسل المیّت الذی لا یجب إلاّ بعد تحقّق الموت حتّی یجب بالثلاث ؛ مرّة بماء السدر ، واُخری بماء الکافور ، وثالثة بماء القراح ، أم أنّ هذا الغُسل هو مثل غسل الأحیاء کالغسل فی الجنابة؟

فیه وجهان ، بل قولان :

القول الأوّل: والذی یظهر من المشهور کما علیه صاحب «الجواهر» والسیّد فی «العروة» وجمیع أصحاب التعلیق علیها ، بل ظاهر النصّ والفتوی، کما صرّح به جماعة أنّه کغُسل المیّت.

القول الثانی: أنّه کغُسل الأحیاء، وإلیه ذهب العلاّمة فی «القواعد» وتبعه بعض من تأخّر عنه ، بل قد صرّح بالخلاف المحقّق الهمدانی قدس سره فی «المصباح» وإن احتاط فی آخر کلامه بالاغتسال بالثلاث مع الخلیطتین بما لا ینبغی ترکه ، بل عن «المقنعة» أنّه یغتسل کما یغتسل من الجنابة ، ولعلّه أراد بیان کیفیّة الغسل لا فی کونه بالوحدة کما علیه «المصباح» .

أقول: وکیف کان ، فإنّ وجه الاستدلال هو ظهور النصوص الواردة الدالّة علی سقوط غُسل المیّت منه، فضلاً عن أنّ فیها قرینة الحنوط والکفن، حیث یؤیّد المدّعی . وبذلک نخرج عن مقتضی أصل البراءة عن وجوب أزید من الوحدة أو وجوب مزج الخلیطین ؛ لأنّه دلیل فقاهتی ولا مورد له مع وجود الدلیل

ص:261

الاجتهادی ، کما نخرج عمّا قیل بأنّ المعهود فی غسل الأحیاء الوحدة ، کما لا یصغی إلی ما قیل بأنّ إطلاق الأمر بالاغتسال فی النصّ والفتوی یتحقّق مع الوحدة، لما قد عرفت من دعوی ظهور النصّ بضمیمة فهم الأصحاب بما قیل من غیر خلاف، إلاّ عمّن عرفت .

مضافاً إلی إمکان تأییده بما قد ورد من مرفوعة أحمد بن محمد بن خالد ، رفعه إلی أمیر المؤمنین علیه السلام ، قال : «أتاه رجل بالکوفة ، فقال : یا أمیر المؤمنین إنّی زنیت فطهّرنی ، ثمّ ذکر أنّه أقرّ أربع مرّات ، ثمّ ساق الحدیث فی حکایة رجمه فموت الرجل، فأخرجه أمیر المؤمنین فأمر فحفر له حفیرة فصلّی علیه ودفنه .

فقیل : یا أمیر المؤمنین ألا تغسّله؟ فقال : قد اغتسل بما هو طاهر إلی یوم القیامة، لقد صبر علی أمرٍ عظیم»(1) .

فإنّ قوله علیه السلام : «قد اغتسل بما هو طاهر» ، وإن احتمل کون المراد منه عن نفس الرجم بکونه تطهیراً له ، إلاّ أنّه لا یخلو عن إشعار بأنّه قد اغتسل قبله، ومثل هذا التعبیر معهودٌ کما تری نظیره فی الخبر الذی أرسله الصدوق إلی أمیر المؤمنین علیه السلام بذلک ، فیفهم من هذا الحدیث ومن الروایة السابقة بأنّ غُسله غسل المیّت، وأنّه قد طهّر بذلک عن النجاسة العارضة علی المیّت بالموت .

کما یفهم منه أنّه یترتّب علیه آثار المیّت الذی قد غُسّل: من الطهارة، وعدم وجوب الغُسل بمسّه، ونحو ذلک .

وبالجملة: ثبت أنّه لا وجه للاستبعاد فی ترتّب فی شیء من ذلک بعدما ثبت ظهوره فیه، کما لا یخفی .


1- وسائل الشیعة : الباب 17 من أبواب غسل المیّت، الحدیث 4 .

ص:262

مضافاً إلی الإجماع حیث صرّح به المحقّق فی «المعتبر» بقوله: «إنّ الخمسة وأتباعهم أفتوا بذلک، ولم أعرف لأصحابنا فیه خلافاً، ولا طعناً بالإرسال مع العمل». ونحوه ما فی «الذکری» و«الحدائق» وغیرهما .

الفرع الثانی : فی ملاحظة حال هذا الغسل _ أی الغُسل الذی یفعله المرجوم وقرینه _ قبل القتل ، بالنسبة إلی الاحداث من الصغیر والکبیر الحادثة بعد الغسل ، أو فی أثنائه ، أو قبله ، وبالنسبة إلی التداخل معه لو کانت لأحداث قبله وعدمه؟

فینبغی البحث عمّا فی المقام، فنقول هنا بحوث عدیدة:

البحث الأوّل : عن قادحیّة الحدث الأصغر بعده وعدمه ؟

والظاهر أنّه غیر قادح ، لأنّ بعض الأغسال ثبت اعتباره لأصل وجوده ویترتّب علیه الأثر ، ولو تحقّق الحدث بعده، مثل الأغسال الواردة لبعض الأزمان ولم یقیّد بإتیان شیء معه قبل حدوث الحدث، مثل غسل الجمعة، وغُسل النصف من شهر شعبان ورجب ورمضان فی لیالی القدر ونظائرها ، والعلّة فی ذلک تحقّق الامتثال بإتیانه، ممّا یوجب ترتّب الأثر مطلقاً .

مضافاً إلی أنّه لو کان الحدث الأصغر مضرّاً وناقضاً، کان علی الآمر التنبیه إلی ذلک لکون المقام مقتضیاً للبیان . فمقتضی الإطلاق فی مقام البیان، یوجب الحکم بالالتزام بعدم إضرار الحدث الصادر بعده، کما صرّح بذلک جماعة من الأصحاب مثل صاحب «الجواهر» و«مصباح الفقیه» و«مصباح الهدی» والسیّد فی «العروة» وأصحاب التعلیق علیها، کما هو الحقّ.

البحث الثانی: فیما إذا صدر الحدث الأصغر أثناءالغُسل،فهل یضرّ به أم لا؟

قد یُقال : إنّه لا یضرّ ، کما صرّح به بعضهم ، ولکن احتمل الشهید فی «الذکری» مساواته حینئذٍ لغسل الجنابة ، أی یقال فی حقّه بما قیل فی غسل الجنابة من

ص:263

الفتوی بإعادة الغسل، أو عدم إضراره به، أو الحکم بلزوم إتمامه ومن ثمّ إعادته؟

وجوه واحتمالات : فقد استدلّ لذلک بما ورد من علی تشبیهه هذا الغسل بغسل الجنابة، وأنّه بمنزلته ، ولعلّه أراد الإشارة إلی روایة محمّد بن مسلم المرویّة عن الباقر علیه السلام فی حدیثٍ قال : «غسل المیّت مثل غسل الجنب ، الحدیث»(1) .

بل فی بعضها تعلیل أصل غسل المیّت بخروج النطفة منه ، هذا کما فی الأخبار الواردة فی الباب الثالث من أبواب غسل المیّت، من التصریح بذلک فی روایات متعدّدة .

ففی «الجواهر»: «إنّه ضعیف لعدم تناول ذلک کلّه لمثله»(2) ، ووافقه المحقّق الآملی فی «مصباح الهدی» بقوله : «ولا یخفی أنّ عموم تنزیل غسل المیّت منزلة غسل الجنابة، لا یقتضی ثبوت ما فی غسل الجنابة من حکم تخلّل الحدث فی أثنائه لغسل المیّت لانصرافه عنه . وما ورد من کون غسل المیّت بنفسه غُسل الجنابة، معلّلاً بخروج النطفة منه ، ممّا تعجز عقولنا عن إدراکه، والتعلیل المذکور له بخروج النطفة ممّا لا یصحّ لنا جعله ملاکاً لحکم شرعی، مثل الحکم المترتّب علی تخلّل الحدث فی أثناء غسل الجنابة . وبما ذکرنا یظهر عدم الاجتزاء بذلک الغسل عن الوضوء، مع تقدّم الحدث الأصغر علیه ، فلو کان محدثاً بالأصغر واغتسل بعده، لا یصحّ له الإتیان بما یشترط فی صحّته أو فی جوازه الوضوء إذا أراد إتیانه قبل قتله، بلا إشکال فیه، وإن قال فی «الجواهر» علی إشکال فیه» ، انتهی کلامه(3) .


1- وسائل الشیعة: الباب 3 من أبواب غسل المیّت، الحدیث 5 .
2- الجواهر : ج4 / 96 .
3- مصباح الهدی : ج6 / 17 .

ص:264

أقول : إنّ ما ورد من التنزیل لیس إلاّ لبیان الکیفیّة، لا لکونه مثله فی جمیع الآثار ، ولذلک لم یکن هذا الغسل کافیاً عن الوضوء ، مثل سائر الأغسال . ولذلک لا نری فی الحکم لصحّة هذا الغُسل إشکالاً، وإن استشکل فیه صاحب «الجواهر» بقوله : «علی إشکال فیه» ، إلاّ أنّه لا یوجب القطع بعدم إضرار تخلّل الحدث الأصغر بالغسل، لإمکان احتمال شرطیّة أثر الطهارة فی جمیع الأعضاء، هو عدم تخلّل الحدث فی الأثناء، کما ورد فی بعض الأخبار کما فی الخبر المروی عن «الفقه الرضوی» وأیضاً المروی فی «المجالس» للصدوق ، فهذا الاحتمال لو کان لما یختصّ بخصوص غسل الجنابة، بل یجری فی کلّ الأغسال، ومنها هذا الغسل ، وإن کان الأقوی عندنا _ کما اخترنا فی غسل الجنابة أیضاً _ عدم البطلان ، ولکن حکمنا بالإعادة من باب الاحتیاط وجوباً ، فیجری ذلک هنا مثل سائر الأغسال ، فاحتمال الشهید بالمساواة مع غسل الجنابة لا یخلو عن وجه ، لا لأجل التنزیل أو خروج النطفة عنه عند الموت، حتّی یصیر الغسل غسل جنابة ، بل لما عرفت من ذلک الاحتمال .

هذا تمام الکلام فی الحدث الأصغر، إذا حدث بعد الغسل، أو فی أثنائه، أو قبله، حیث التزمنا بأنّه لا یکفی هذا الغسل عن الوضوء کما أشرنا إلیه.

البحث الثالث: یدور حول ملاحظة هذا الغسل مع الحدث الأکبر بعده، وفی أثنائه، وقبله ولو کان جنابة .

أمّا وقوعه بعده: فقد عرفت وجه عدم إضراره، بأنّ هذا الغسل أثره مترتّب بتحقّقه، ولا تبطله الأحداث بعده، وإن أوجبنا علیه الغسل لجنابته أو مطلقاً ، أو لوجوب غایاته علی حسب الاختلاف فی وجوبه لنفسه أو للغایات أو للغیریّة أو استحبابه مطلقاً، وإن عرض علیه الوجوب بالعرض ، وکذا مثله سائر الأغسال

ص:265

مثل الحیض والاستحاضة .

وأمّا وقوعه فی الأثناء: فقد عرفت الکلام فی الأصغر، فیجری فیه أیضاً بطریق أولی، وإن جزم بعدم القدح فیه صاحب «الجواهر» و«مصباح الهدی» وغیرهما، وقد عرفت کونه هو الأقوی عندنا، وإن کان الاحتیاط یقتضی الإعادة، لاحتمال ارتباط الأغسال الثلاثة فی الإکمال .

وأمّا وقوعه قبله: فلا إشکال فی وجوب غسل الجنابة أو الحیض أو استحبابهما علیه علی حسب المبنی المذکور .

هذا، ولکن الذی ینبغی أن یبحث فیه هو أنّه هل یتداخل ذلک فی هذا الغسل بالنیّة أم لا ، بل لابدّ أن یؤتی به مستقلاًّ؟ فهل یمکن تحقّق هذا الغسل قبل الإتیان بغسل الجنابة ونحوه أم لا؟

أقول: إن قلنا بالتداخل فی الغسل الموظّف للرجم، فلازمه جواز الإتیان بما یشترط فی صحّته أو فی جوازه وهو الطهارة من الحدث الأکبر، کالصلاة، والدخول فی المساجد، والمکث فیها ، أو المرور من المسجدین وغیر ذلک، بخلاف ما لو لم یتداخل، حیث لا یجوز الإتیان بشیء منها إلاّ بعد الغسل عن الحدث الأکبر .

ثمّ علی القول بعدم التداخل: یقع الکلام : تارةً: فی حکم نفس الذی حکم علیه بالرجم، إذا أراد الإتیان بما یشترط فیه الطهارة، حیث یجب أو یستحبّ رفع الحدث بغسل آخر غیر الغسل الموظّف أم لا ؟ وهل یجب تقدیم هذا الغسل الرافع، حتّی یکون طاهراً عند الغسل المأمور به ، أو لا یکون واجباً ، بل یصحّ تأخیره عن الغسل الموظّف؟

أقول: الظاهر عدم الدلیل علی شرطیّة طهارته فی صحّة الغسل المأمور به،

ص:266

وإن کان أرجح بملاحظة مناسبة الحکم والموضوع، لأنّه یجامع هذا الغسل المأمور به مع الحدث فی المرأة إذا کانت حائضاً، ولم یشترطوا کونها حین الغسل طاهرةً عنه، ولو بالصبر حتّی تطهر فی المرأة مثلاً، ولو شکّ فیه فالأصل البراءة .

واُخری : یقع الکلام فی حکم نفسه بالنسبة إلی الموت الذی یصیبه عند الرجم ، فهل یجب علیه رفع الحدث السابق بإتیان غُسلٍ غیر الغسل المأمور به لأجل عدم التداخل حتّی یلقی ربّه طاهراً، أو لا یجب علیه ذلک، حیث کان فی غیر المقام یکفیه غسل المیّت ، ولکن هنا لیس له ما یکفیه ؟

أقول: کما أنّه لیس لنا دلیل علی لزوم تطهیر جسمه من الحدث الأکبر والأصغر عند الرجم، وإن کان حُسنه ورجحانه ممّا لا ریب فیه، وذلک لدلالة أخبار کثیرة دالّة علی حسن الطهارة والمداومة علیها، لیکون عند إدراکه الموت طاهراً، وعلیها سیرة الأصحاب من الصلحاء والأتقیاء منذ القدم فی تحصیل الطهارة، بدوام الوضوء والاستمرار علیه، ولو شکّ فی وجوبه فالأصل البراءة .

نعم ، یجب علیه غسل الجنابة أو الحیض عند من یقول بوجوبه، نفسیّاً أو لأجل الغایات الواجبة ، کما أنّ الأخیر عندنا هو الأقوی ، أی لا یجب بنفسه ، بل یجب للغایات الواجبة .

وثالثة: فی حکم تغسیل الأحیاء لأحداثه السابقة علی موته، بناءً علی عدم التداخل مطلقاً، سواءً کان غسل المیّت قبل موته بمباشرته، أو کان بعد موته بمباشرة الأحیاء ، فهل یجب علیهم تغسیله عن الجنابة وغیرها أم لا؟

أقول: الظاهر عدم الخلاف فی عدم وجوبه، إلاّ فی الشهید إذا استشهد جنباً ، حیث أنّ المحکی عن ابن الجنید والسیّد المرتضی وجوب تغسیله عن الجنابة ، فلا یبعد عندهما القول بوجوبه للقتیل بالرجم، إذ هو لیس بأهمّ من الشهید ، فإذا

ص:267

وجب فیه ذلک، فلا یبعد الإلحاق فیه أیضاً .

اللّهُمَّ إلاّ أن یدّعی الفرق بینهما، والفارق هو النصّ وهو مفقود فی القتیل المرجوم .

ولکن حیث عرفت فی البحث عن الشهید الجنب ضعف هذا المبنی لضعف دلیله ، فعدم وجوبه هنا أیضاً واضح، لفقد الدلیل ووجود أصالة العدم .

نعم ، لا یبعد القول بالاستحباب، وإن أنکره المحقّق فی «المعتبر» حیث نفی التعدّد وجوباً واستحباباً فی الجنب والحائض إذا ماتا، مدّعیاً أنّه مذهب أهل العلم .

خلافاً لظاهر الشیخ بالقول بالاستحباب، لأجل خبر عیص بن القاسم فی المیّت الجنب حیث ورد فیه قوله علیه السلام : «أنّه یغسّله جنباً ثمّ یغسله غسل المیّت»(1) ، بناءً علی حمل الخبر علی هذا الاحتمال من الاحتمالین ، فراجعه.

أمّا القول بتداخل الأغسال: فینبغی البحث عنه وأنّ القول به فی المقام هل هو صحیح أم لا ؟

المحکی عن «جامع المقاصد» و«الروض» وصاحب «الجواهر» والشیخ الأنصاری قدس سرهم عدم التداخل ، واستدلّ له الشیخ رحمه الله فی «الطهارة» بأصالة عدم التداخل فی الأسباب ، مع عدم الدلیل علیه فی المقام .

خلافاً للشهید رحمه الله فی «الذکری» حیث یقول : «وفیه نظر، من فحوی الأخبار السابقة، کما فی خبر زرارة عن الباقر علیه السلام : «فی المیّت جنباً یغسل غسلاً واحداً، یجزی ذلک للجنابة ولغسل المیّت، لأنّهما حرمتان اجتمعتا فی حرمة واحدة»(2)».


1- وسائل الشیعة: الباب 31 من أبواب غسل المیّت، الحدیث 8 .
2- وسائل الشیعة : الباب 31 من أبواب غسل المیّت، الحدیث 5 و6.

ص:268

بل یمکن أن یُضاف إلیه أخبار اُخری دالّة علی ذلک فی الجملة:

منها: روایة أبی بصیر، عن أحدهما علیهماالسلام : «فی الجنب إذا مات ؟ قال : لیس علیه إلاّ غسلة واحدة»(1) .

ومنها: روایة علیّ عن أبی إبراهیم علیه السلام ، قال : «سألته عن المیّت یموت وهو جنب ؟ قال : غسل واحد»(2) .

بتقریب أن یُقال : إنّ تغسیل الأحیاء إیّاه بعد موته إذا کان مجزیاً عن غُسل الجنابة، ینبغی أن یکون الاجتزاء بالغسل الصادر منه نفسه قبل قتله أولی .

بل قد یؤیّد ذلک الخبر الدالّ علی الاجتزاء بغسل واحد للحائض والنفساء إذا ماتت، بالخبر المروی عن عمّار الساباطی، عن الصادق علیه السلام : «أنّه سُئل عن المرأة إذا ماتت فی نفاسها کیف تغسّل؟ قال : مثل غسل الطاهر ، وکذلک الحائض، وکذلک الجنب، إنّما یغسّل غسلاً واحداً فقط»(3) .

حیث قد صرّح فی ذیله بعد ذکر النفساء والحائض والجنب بکون غسلها کغسل الطاهر ، وقد صرّح بکفایة غسل واحد عن الجمیع، وهو لیس إلاّ غسل المیّت ، ففی «مصباح الهدی» قد منع المحقّق عن دلالته علی ذلک ، بل لعلّ دلالته علی عدم وجوب الأزید من غسل المیّت أظهر، لیس ما ینبغی، لأنّه إذا قال کذلک فی الحائض، لدلّ علی کفایة غسل واحد عن الجمیع، فضلاً عن التصریح به فی ذیله کما عرفت .

قیل: إنّ دعوی التداخل المنقول بفحوی الأخبار المتقدّمة، ممنوعة؛ لأنّ الجنابة والحیض ونحوهما لا توجب غسلاً بعد الموت حتّی یدخل فی غسل


1- وسائل الشیعة : الباب 31 من أبواب غسل المیّت، الحدیث 2 .
2- وسائل الشیعة : الباب 31 من أبواب غسل المیّت، الحدیث 2 .
3- وسائل الشیعة : الباب 31 من أبواب غسل المیّت، الحدیث 2 .

ص:269

المیّت، ولو علی القول بوجوبه النفسی ، وذلک لسقوط التکلیف بالموت ، فلابدّ من صرف تلک الأخبار عن ظاهرها فیسقط الاستدلال بها للمقام .

وقد اُجیب عنه : بأنّ سقوط التکلیف بالموت، لا ینافی بقاء أثر حدث الجنابة ووصفه، بحیث لا یرتفع إلاّ بالغسل، کما هو ظاهر الصحیح المتقدّم حیث قد علّل التداخل بقوله: «حرمتان قد اجتمعتا فی حرمة واحدة» ، بل قد یشعر إلی ذلک الحدیث المشتمل علی تغسیل الملائکة لحنظلة بن أبی عامر، إذ یدلّ علی بقاء أثر جنابته حتّی لما بعد الموت ، فالموت لا یوجب رفع أثر الجنابة ، هذا فضلاً عن أنّه یقتضیه جمیع ما دلّ علی تحقّق وصف الجنابة والحیض ونحوهما بمجرّد حصول أسبابها، من غیر فرق بین تعقّبها بالموت وعدمه .

أقول: بل ربما یمکن تأیید التداخل فی خصوص المرجوم أو مطلقاً ، بما ورد عن زرارة، قال : «إذا اغتسلت بعد طلوع الفجر أجزأک غسلک ذلک للجنابة والحجامة وعرفة والنحر والحلق والذبح والزیارة ، فإذا اجتمعت علیک حقوق (اللّه) أجزأهما عنک غسلٌ واحد . قال : ثمّ قال : وکذلک المرأة یجزیها غسل واحد لجنابتها وإحرامها وجمعتها وغسلها من حیضها وعیدها»(1) .

وقال فی «الجواهر»: بعد نقله لروایة الحقوق تأییداً: نعم، قد یستشکل فی شمول خبر الحقوق لمثل هذا الفرد، سیما مع عدم العموم اللغوی فیها).

ووافقه الآملی فی مصباحه بقوله: «للمنع عن شمول خبر الحقوق له».

ولم یبیّنا وجه المنع عن الشمول ، مع أنّ التعبیر بقوله : «إذا اجتمعت علیک حقوق أجزأها عنک غسل واحد» ، جملة جامعة تشمل مثل أغسال المقام إذا


1- وسائل الشیعة : الباب 43 من أبواب غسل الجنابة، الحدیث 1 .

ص:270

أراد تداخلها فی غسله المأمور به.

اللّهُمَّ إلاّ أن یکون وجه المنع، استفادة ذلک من الدلیل الذی یدلّ علی وجوب هذا الغسل لأجل الرجم ، مع أنّه لیس إلاّ توهّم اختلاف الکیفیّة الموجودة بین هذا الغسل مع سائر الأغسال ، حیث أنّه مرکّب من الثلاثة ، فکیف تداخل الأغسال فیه ، مع أنّ کلّ غسل من الثلاث هنا عضو وجزئه من غسل واحد .

فأجاب عنه صاحب «الجواهر» بقوله : «قد یدفع بأنّه لا مانع من أن یدخل تمام رافع الجنابة مثلاً فی بعض غسل المیّت، لو سلّمنا أنّ غسل المیّت مرکّب من الأغسال الثلاثة بحیث یکون کلّ واحد جزءاً» ، انتهی(1) .

قلنا : ولو سلّمنا کون الأغسال الثلاثة غسلاً واحداً، بتنظیر کلّ واحد من الثلاث نظیر جزء واحد من غسل ، ولکن مع ذلک لا مانع من أنی یکون الرافع تحقّق جمیع الأغسال، الصادق علیها غسل واحد، لو لم نقل بکون التداخل فی خصوص ماء القراح الواقع فی الأخیر، إذ هو المحصّل للطهارة الحقیقیّة المطلوبة دون الآخرین ، بل هو المشابه لسائر الأغسال دون غیره ، فمثل هذا لا یوجب المنع عن التداخل .

نعم ، قد استشکل صاحب «الجواهر» بإشکال آخر بقوله : «ویستشکل أیضاً فی کون هذا التداخل بالنسبة إلی غسل المیّت قهریّاً أو لا ، بل یتبع نیّة المکلّف کما هو المختار فیما تقدّم من تداخل الأغسال من ظاهر الأخبار» ، انتهی(2).

قلنا : هذه المسألة مبنیّة علی أنّ الأغسال هل هی ماهیّات متفاوتة أم لیس الأمر کذلک بل جمیعها ذات ماهیّة واحدة ؟


1- الجواهر : ج4 / 97 .
2- الجواهر : ج4 / 97 .

ص:271

فإن قلنا بالأوّل، فعدم حصول التداخل إلاّ بالنیّة کان أوجه ، وهذا هو الأقوی ، وإلاّ یکفی تحقّق واحد منها عن البقیّة قهراً، إلاّ أن یستظهر من الدلیل لزوم النیّة فی تحقّق کلّ واحد بخصوصه أو فی ضمن الآخر .

وکیف کان، والذی یقوی فی النفس ویستکشف من الأخبار، هو کفایته عن الجمیع مثل سائر الأغسال إذا نوی التداخل ، ولکن الأحوط الإتیان بسائر الأغسال لو أراد الإتیان بما یشترط فیه الطهارة، حذراً عن مخالفة من عرفت من الأعلام لقولهم بعدم التداخل، وکونه أوفق بالاحتیاط، وتحصیل القطع بالفراغ عمّا وجب علیه مشروطاً بالطهارة، خصوصاً مع احتمال ذلک _ أی عدم التداخل _ من خبر عیص بن القاسم، قال : «قلت لأبی عبداللّه علیه السلام : الرجل یموت وهو جنب ؟ قال : یغسّل من الجنابة، ثمّ یغسّل بعد غُسل المیّت»(1) .

بناءً علی أن لا یکون المراد منه غسل مسّ المیّت کما هو أحد الاحتمالین .

الفرع الثالث : فی أنّ هذا الغسل یکفی عن غسل المیّت بعد الموت، کما هو ظاهر النصّ، وفتوی جملةٍ من الأصحاب، وصریح آخرین إذا قتل بذلک السبب ، فیترتّب علیه آثاره من عدم تنجیس بدنه بالموت کالشهید ، فیکون خروج المقتول عمّا یدلّ علی نجاسة بدن المیّت : إمّا بالتخصیص، بناءً علی عموم نجاسة کلّ میّت بالموت .

أو بالتخصّص، بناءً علی ظهور الدلیل الدال علی التنجّس بالموت، بالمیّت الذی یجب غسله بعد موته، لا مطلقاً حتّی یشمل للشهید والمقتول فی المورد .

أقول: الأوجه هو القول الأوّل ، لما تری من نجاسة بدن الکافر بالموت ، مع


1- وسائل الشیعة : الباب 31 من أبواب غسل المیّت، الحدیث 7 .

ص:272

عدم وجوب غسله، وإن کان بدنه نجساً بکفره قبل موته ، ولکن لا ضیر فی الجمع بین العنوانین فی النجاسة کدم الکافر ونجس العین، حیث أنّه نجس بما إنّه دم، ونجس بما إنّه للکافر ، بل قد یجتمع فیه الثلاث کالدم المزبور إذا کان میّتاً ، فجمع فیه الثلاث من الکافر والدم والمیّت .

ومن الآثار المترتّبة أیضاً، عدم وجوب غُسل المسّ بمسّه کالشهید ، خلافاً للمحکی عن الحلّی، حیث حکی عنه وجوب الغسل بمسّه ، وعن «الذخیرة» و«الحدائق» التردّد فی وجوبه .

والظاهر هو الأوّل ، لأنّا إذا حکمنا بطهارة بدنه بذلک، فیصیر بدنه حینئذٍ کبدن المیّت المغسول طاهراً، فکما لا یجب عند مسّه لزوم غُسل المسّ، هکذا فی المقام .

فالقول بالافتراق بین الحکم بالطهارة، وبین وجوب الغسل بمسّه لا یخلو عن وهن وغرابة ، لأنّ مقتضی الحکمین لیس إلاّ الموت ، فإن کان مؤثّراً أثّر فی الموردین وإلاّ فلا ، فالتفصیل بینهما یحتاج إلی دلیل آخر مفقود فی المقام .

وبالجملة: وکیف کان ، فوجه عدم تأثیر الموت فیما یقتضیه : إمّا یکون لأجل عدم المقتضی لتأثیره ، أو یکون لأجل کون الغُسل المتقدّم علی الموت مانعاً عن تأثیره .

أقول: ولا یبعد کون الثانی أقرب إذا دلّ الدلیل علیه ، فلا یتوهّم کیف یمکن المانعیّة قبل تحقّق المقتضی ، لأنّا نقول بتحقّق قابلیّته، وأمّا فعلیّته فموقوف علی تحقّق الموت .

بل قد یؤیّد هذا الحکم، مرفوعة أحمد بن محمد بن خالد المتقدِّمة حیث رجم أمیر المؤمنین علیه السلام المُقرّ بالزنا دون أن یغسّله بعد الرجم، وقد ردّ علی مَن استفهم ذلک بقوله: «وقد اغتسل بما هو طاهر إلی یوم القیامة»(1) .


1- وسائل الشیعة : الباب 14 من أبواب حدّ الزنا، الحدیث 4 .

ص:273

وعدم تعرّضه لتقدّم الغسل من المرجوم قبل الرجم، لا تضرّ بما نقصد منه التأیید به، وإن لم یصحّ الاستدلال به ، مع إمکان کونه قد اغتسل، إلاّ أنّ الراوی لم یتعرّض لذکره اعتماداً علی وضوحه ومعرفة الجمیع بذلک، واللّه العالم .

الفرع الرابع : أنّه لابدّ من القیام بتغسیل من اغتسل للرجم أو للقصاص ، ولکنّه مات حتف الأنف قبل الاقتصاص منه، أو قُتل بسبب آخر غیر ما اغتسل له ، کما لو قُتل للارتداد مثلاً قبل الاقتصاص منه أو رجمه، فإنّ وجوب الغسل فی هذه الموارد کان لأجل الاقتصار فی ما خالف الأصل علی مورد النصّ والمتیقّن .

نعم ، استشکل صاحب «الجواهر» «فی وجوب التجدید لو عدل عن قتله بذلک السبب إلی سبب آخر ، سیّما فیما لو کان موافقاً للأوّل، کما لو کان القصاص مثلاً علیه بسبب قتل شخصین فأراد ولیّ أحدهما القصاص منه فاغتسل لذلک، ثمّ إنّه عفی عنه مثلاً، فأراده الآخر ، وإن استظهره جماعة منهم الشهیدان والمحقّق الثانی ، بل لعلّ الأقوی عدمه، وإن کان الأحوط الأوّل ، سیّما مع اختلاف السبب کالقود والرجم ، فتأمّل» ، انتهی(1) .

بل هو مختار المحقّق الهمدانی من تأیید الأوّل والاحتیاط بالثانی ، لأجل الاقتصار فی الحکم فیما خالف الأصل علی مورده ، ولکن صاحب الجواهر نفی البُعد فی الاجتزاء به فی کتابه «الطهارة» حیث قال : «لا یبعد الإجتزاء فی بعض الفروض» ، ولعلّ مراده من بعض الفروض هو هذا الفرض، أی ما لو تغیّر بتغیّر الفرد من القصاص ، ولعلّ وجهه دعوی منع الانصراف فیه، لصدق الغسل قبل أن یُقتل قصاصاً وإن لم یکن الغسل لأجل هذا الفرد من القصاص .


1- الجواهر : ج4 / 98 .

ص:274

أقول: ولا یخفی أنّ مقتضی الجمود علی ظاهر العبارة، ومقتضی الأصل، هو عدم الفرق بین کون التغیّر من جهة فرد بفرد آخر من جنس واحد، أو بین جنس وجنس آخر، مثل ما لو اغتسل للرجم فتبدّل إلی القصاص ، لأنّ ملاک الوجوب یحتمل کون الخصوصیّة الثابتة فیما یجب علیه، ولو کان کلاهما من جنس القصاص، فالأحوط وجوباً التجدید . ولعلّه لذلک قد أمر صاحب «الجواهر» بعده بالتأمّل .

الفرع الخامس : فی أنّه هل یجب الأمر بالغسل من الإمام أو نائبه ، أو ممّن یتصدّی ذلک، أم لا یجب ، بل الوجوب متعلّق بنفس العمل وهو الغسل ، فإذا أحضره من دون أمر فقد عمل بالتکلیف ولم یترک شیئاً واجباً ؟ نعم ، إن کان جاهلاً یجب الإرشاد ، وإن کان تارکاً یجب الأمر بالمعروف ، فیه خلاف:

القول الأوّل: وجوب صدور الأمر به، وهو فتوی أکثر الأصحاب ، بل عن السلاّر وابن إدریس التصریح بوجوب الأمر به ، بل هو الظاهر من کلمات صاحب «الجواهر» والسیّد فی «العروة» وأکثر أصحاب التعلیق علیها ذلک.

القول الثانی: وهو ما ذهب إلیه بعض المتأخّرین کالشهید فی «الذکری» من القول بالتخییر بین الأمر به وبین تغسیله بعد قتله وغیره .

واستدلّ له بکون هذا الغسل قائماً مقام الغسل الواقع بعد القتل ، فالاجتزاء بالمبدل منه هو الأولی.

أقول: وفیه ما لا یخفی أنّ کونه مقام ذلک وبدله لا ینافی کون الأمر به أوّلاً واجباً ، ولکن لوترک وعصی فیجب إتیانه بعد القتل لکونه بدله ، فالبدلیّة لا تنافی الاجتزاء بالمبدل، ولکنّه لا یوجب الحکم بالوجوب التخییری کما قیل.

کما أنّ استظهار البدلیّة من النصّ لا یخلو عن إشکال، إذ لا یفهم منه إلاّ وجوب الأمر بالغُسل ، خصوصاً مع ما فی ضبط الکافی بجملة (یغسّلان) بالبناء

ص:275

علی المجهول من باب التفعیل، بعد القطع بعدم إرادة مباشرة الغیر لتغسیله، فیحمل علی أقرب المجازات إلیه حینئذٍ وهو الأمر بالغسل ، ولا ینافی ذلک مع ما ورد من ضبط آخر للکلمة وهو (یغتسل)، لأنّ وحدة السیاق فی قوله: «یحنطّان» حیث أنّه من باب التفعیل بالبناء للمجهول یوصلنا إلی ما قلناه .

کما أنّ عدّ الأمر فی المقام إرشادیّاً، فیما إذا کان جاهلاً أو تارکاً للمعروف غیر مأنوس للذهن ، لعدم تناسبه مع المقام، إذ المتبادر من الأمر المستفاد من ظهور الجملة کونه أمراً تکلیفیّاً لا إرشادیّاً ، ولذا التزم بعض الفقهاء بلزوم مباشرة الآمر بالنیّة دون المغتسل، والحقّ عندنا أنّ الأحوط نیّة المغتسل مع نیّة الآمر .

فالرأی الثالث الذی التزم به المحقّق الآملی من اعتبار وجوب الأمر هنا بناءً علی وجوبه للإرشاد عند الجهل أو الترک للمعروف لا مطلقاً ، غیر مقبول عندنا ، کما لا نسلّم القول الرابع من عدم الوجوب أصلاً الذی التزم به المحقّق الهمدانی رحمه الله بقوله : «أقواها الأخیر وهو عدم الوجوب تمسّکاً بالأصل وخلوّ النصّ الذی هو مستند الحکم عن ذکره» .

وقد ثبت ما ذکرناه آنفاً إمکان الاستظهار الوجوب التکلیفی من النصّ فلا نعید .

الفرع السادس: هل الأمر بالغُسل _ الذی ثبت وجوبه _ یعدّ شرطاً لصحّة غُسل المأمور به أم لا؟ فیه احتمالان: مالَ إلی الاحتمال الأوّل صاحب «الجواهر» حیث قال : «بل قد یدّعی بناءً علی ما ذکرنا اشتراط صحّة هذا الغسل بتحقّق الأمر ، فلو اغتسل من دون أمر به لم یکن مجزءاً ، فلیس الأمر حینئذٍ هنا للتعلیم حتّی یختصّ بصورة الجاهل کما ظُنّ» ، انتهی .

أقول: إنّ التأمّل فیما ذکرناه فی الفرع السابق یرشدنا إلی عدم شرطیّة الأمر المذکور، لإمکان أن یکون الوجوب تکلیفیّاً فی حقّ من یأمره الإمام أو نائبه أو

ص:276

ممّن یصحّ التصدّی لأصل الغسل بعد القتل، من المماثل والمحرم، بحیث یجب علیه القیام بذلک مع إذن الحاکم ، لأنّ الأمر المتوجّه إلی المادّة یدلّ علی طریقیّته المطلوبة لمتعلّقه من غیر دلالة فیه علی کونه شرطاً فی الصحّة ، فإذا قام المأمور بما وجب علیه مطابقاً لما هو مأمور به، أجزأه الفعل الصادر وبتبعه یسقط الأمر لعدم بقاء الموضوع للأمر، کما هو أحد أفراد سقوط الأمر ، فالالتزام بالشرطیّة مشکل جدّاً ، ولعلّه لذلک أسندها صاحب «الجواهر» إلی المجهول بقوله : «بل قد یُدّعی» حیث لم یتبنّاه فی مقام الفتوی.

وکیف کان، فإنّ إثبات الشرطیّة خالٍ عن الدلیل ، مضافاً إلی أنّه لو شککنا فیه فالأصل یقتضی العدم بلحاظ الشرطیّة، وإن کان الأصل بالنظر إلی أصل الغسل هو الاشتغال ، ولکنّه غیر ثابت ، بل العدم _ أی الشرطیّة _ هو المستظهر من الدلیل کما عرفت .

الفرع السابع: هل یجب أن یکون الأمر صادراً من الإمام أو نائبه ، أو یجب الالتزام به مطلقاً حتّی ممّن یصحّ تصدّی غسله بعد قتله کالمماثل من المحارم ، أو یجوز حتّی ممّن لا یجوز تصدّیه کالمرأة الأجنبیّة إذا کان المحکوم رجلاً ؟ وجوهٌ: المحکی عن «جامع المقاصد» هو القول الأوّل وهو لزوم أن یکون الأمر صادراً من الإمام ونائبه لا خصوص الإمام ، وإلاّ لتعطّلت الأحکام فی غیر عصره أو فی الغایب عنه علیه السلام ، وعلیه الشهید الثانی فی «الروض» ، وقد استدلّ له بکون المتولّی للحدّ هو الإمام علیه السلام أو نائبه ، فیجب أن یکون الأمر صادراً منهما.

وفیه: ولکن لا یخفی عدم کفایة ذلک لإثبات الاختصاص، وإن کان أصل الحکم والأمر یکون من قبله، ولکن اعتبار وإلزام صدوره منه لا یتمّ إلاّ بعد قیام الدلیل الدالّ علیه، مع أنّ الأصل یقتضی العدم، کما علیه صاحب «الجواهر».

ص:277

مضافاً إلی أنّ مقتضی الحکم کون الوجوب للإرشاد أو للأمر بالمعروف.

وکون هذا الغسل بدلاً عمّا یباشره بعد قتله، ممّا یقتضی أن یکون لمن یصحّ التصدّی منه مثل المماثل والمحارم لقیامه مقامه _ هذا کما عن الآملی والمحقّق الهمدانی رحمهماالله _ لا یخلو عن ضعف ، لإمکان التفاوت فی البدل والمبدل من ذلک .

أقول: لکن الإنصاف أولویّة القول الأوّل کما علیه الفتوی فی «العروة» وأکثر من علّق علیها ، لأنّه لا یستبعد أن یکون ذلک من شؤون الإمام علیه السلام والحاکم، نظیر أصل الحکم . نعم ، لو لم یتمکّن أو کان تحصیله مع المشقّة انتقل إلی غیره إن استلزم ترک العمل لولاه ، وإلاّ یحتمل أن یکون العمل والامتثال لاغیاً فیما لو صدر الغُسل خالیاً عن الأمر المذکور.

الفرع الثامن: إذا ترک الأمر المذکور لغفلة أو غیرها :

تارةً: یفرض قیامه بالغُسل بالرغم من فقدان الأمر .

واُخری: یفرض عدم قیامه بالغُسل عند عدم وجود الأمر .

ففی الثانی لا إشکال ظاهراً فی وجوب تغسیله بعد قتله، للعمومات الدالّة علی الوجوب مطلقاً إلاّ ما استثنی، وهو ما لو توجّه إلیه الأمر وقام بإحضاره، فالباقی یبقی تحت العموم وهو الأقوی .

خلافاً للحلّی فی «السرائر» من التصریح بعدمه، لظهور الأدلّة فی انحصار مشروعیّة الغسل المذکور بملحوقیّته للأمر وتحقّقه قبل القتل.

لکن لا یخلو کلامه عن إشکال، خصوصاً علی القول بقیام هذا مقام الغسل بعد القتل ، کما لا یخفی .

وممّا ذکرنا یظهر حکم ما لو أمر بالغسل ، ولکن ترک للنسیان أو العصیان ،

ص:278

حیث أنّه یجب غسله بعد قتله، لما قد عرفت کون المطلوب کلیهما من الأمر والغسل لا أحدهما حتّی یکتفی بخصوص الأمر ، فالمسألة واضحة .

الفرع التاسع: بعدما ثبت أنّه یجب توجّه الأمر إلی الغُسل قبل القتل فی المرجوم والمقتصّ منه، فالسؤال حینئذٍ عن أنّ الأمر المذکور هل یجب أن یلحقه أمرٌ آخر بوجوب التجهیز من التحنیط والتکفین مثل ما قیل فی التغسیل فیهما ، أم أنّ تلک الأحکام مختصّة بالغسل فقط ؟

والظاهر هو الأوّل ، لأنّ مستند کلّ ذلک هی الأخبار المشتملة علی الثلاثة، وما یشاهد من بعض الفقهاء _ مثل المصنّف فی المقام والشیخ فی «الخلاف» من الاقتصار علی ذکر الغسل بترک الآخرین کما عن «المبسوط» بترک التکفین فقط ، وکالجامع بترک التحنیط _ إنّما هو لأجل الاختصار لا لبیان المختار .

نعم ، لا إشکال عند الأصحاب علی الظاهر فی تأخّر الصلاة علیه بعد الموت، کما هو صریح مسمع بالنسبة إلی المرجوم والمقتصّ منه.

وما فی «الجواهر» من عدم التصریح فیه وإلحاقه به لأجل التنزیل .

ممنوعٌ، والظاهر أنّه سهو من قلمه الشریف، لوجود تصریحات عدیدة به کما مرّ ذکرها، فضلاً عن دلالة صریح خبر مسمع.

الفرع العاشر: فی حکم الدم الذی یصیب کفن المحدود بعد إجراء الحدّ علیه، فالظاهر عدم وجوب غسل الکفن منه، حیث لم نجد بذلک تصریحاً من الأصحاب، کما لم یتعرّضوا لکیفیّة تکفیه إذا اُرید منه القصاص ، والظاهر أنّه یجب ترک تکفین موضع الحدّ، ولعلّ عدم الإشارة إلیه فی کلمات الفقهاء لوضوح الأمر فیه، واللّه العالم.

ص:279

وإذا وجد بعض المیّت ، فإن کان فیه الصدر أو الصدر وحده، غُسّل وکُفّن وصُلّی علیه ودُفن (1).

(1) أقول: هذا الحکم متّفقٌ علیه، والبحث عنه من جهتین:

الجهة الاُولی: فی أقوال الفقهاء فی المقام:

فقد قال صاحب «الجواهر»: «بلا خلافٍ محقّقٍ أجده فی شیءٍ من ذلک بین المتقدّمین والمتأخّرین».

غُسل الأموات / فی الأجزاء

وعدم ذکر بعض الأعلام لبعض الأحکام کما فی «المبسوط» و«النهایة» و«المراسم» بترک ذکر الدفن مثلاً ، وکذا ترک ما عدا الصلاة فی جملةٍ من الکتب ، أو ما فی «السرائر» و«النافع» من الاقتصار علی ما فیه الصدر ، وفی «الوسیلة» و«الغنیة» و«المبسوط» و«النهایة» من التعبیر (بموضع الصدر)، کما عن «الخلاف»: «إذا وجد قطعة من میّت فیه عظم وجب غسله، وإن کان صدره وما فیه القلب وجب الصلاة علیه» . وفی «الجامع»: «إن قطع نصفین فعل ما فیه القلب کذلک» ؛ یعنی الغسل والکفن والصلاة .

لا یوجب مثل هذا الاختلاف اختلافاً فی أصل المسألة ، لإمکان الاتّحاد بین الجمیع عند التأمّل، وترک بعض الأحکام کان لأجل ظهوره، أو أولویّة غیر ما هو المذکور مثل ذکر خصوص الصلاة، إذ لا إشکال فی أنّ الصلاة تسبقها الطهارة ، فکان الثانی أولی من الصلاة ، وهکذا .

نعم ، قد یظهر من المصنّف فی «المعتبر» _ حیث اقتصر فی الصلاة علی ما فیه القلب أو الصدر أو الیدان أو لعظام المیّت جمیعها _ وقوع الخلاف فی ذلک بالنسبة إلی الصلاة علی الصدر وحده ، وقد ضعّفه صاحب «الجواهر» قدس سره .

ص:280

هذا کلّه بالنسبة إلی الأقوال، حیث یمکن إثبات قیام الإجماع علی ترتّب الأحکام علی الصدر سواء انضمّ معه الأطراف أم لا .

الجهة الثانیة: فی البحث عن الأدلّة المتکفّلة لهذه الأحکام للصدر وغیره ، وهی اُمور :

الأمر الأوّل : الاستدلال لذلک بالأخبار الواردة:

منها: ما رواه الصدوق فی «الفقیه» بإسناده عن الفضل بن عثمان الأعور ، عن الصادق علیه السلام ، عن أبیه علیهماالسلام : «فی الرجل یُقتل، فیوجد رأسه فی قبیلةٍ، ووسطه وصدره ویداه فی قبیلة، والباقی منه فی قبیلة ؟ قال : دیته علی من وجد فی قبیلته صدره ویداه، والصلاة علیه»(1) .

وقد نقل الشیخ مثله فی «التهذیب» أیضاً .

فإنّ هذه الروایة مشتملة لحکم الصلاة علی الصدر والیدین ، فیثبت سائر الأحکام من الغسل والکفن والدفن بالملازمة والأولویّة، إذ الصلاة لا یمکن أن یؤتی بها إلاّ بعد الغسل والکفن ، فذکرها کنایة عن بیان ما هو الوظیفة فی تجهیز المیّت ، کما أنّه لا إشکال فی وجوب الدفن ، لأنّه من الضروریّات بالنسبة إلی جنازة المؤمن فلا حاجة إلی ذکره بخصوصه .

مضافاً إلی إمکان استفادة ذلک من الإجماع الموجود فی وجوب الغسل فی القطعة ذات العظم، الشامل لعظم الصدر أیضاً ، مضافاً إلی إمکان الاستظهار من اتّفاقهم من اشتراط تقدّم الغسل علی الصلاة فی غیر الشهید .


1- وسائل الشیعة : الباب من ابواب صلاة الجنازة ، الحدیث 4 .

ص:281

کما أنّه یمکن تأیید ذلک من خلال الاستقراء فی حکم المیّت ، بل ادّعی صاحب «الجواهر»: «بأنّه لم أجد من وجب الصلاة علیه ولم یوجب تغسیله».

مع إمکان تیمّمه بعدم القول بالفصل، حیث کلّ من أوجب الصلاة علی صدر میّتٍ أوجب الغسل علیه فی المقام ، وبذلک یتمّ المطلوب .

فتوهّم: کون الواجب فی مثله فقط الصلاة کما ورد فی الحدیث، دون بقیّة الأحکام المعروفة ، ممّا لا یعتنی به لعدم وجود قائل به کما لا یخفی .

فإن قیل: إنّ الأحکام المذکورة مختصّة بالصدر مع الیدین، کما وقع فی الحدیث، دون خصوص الصدر الذی هو مورد الإجماع ، ولأجل ذلک قال المصنّف فی «المعتبر» : «بأنّ وجوب الصلاة مشروط بالصدر مع وجود الیدین» حیث أنّ کلامه مُقتبسٌ من هذا الحدیث .

قلنا: مضافاً إلی وجود الإجماع منقولاً ومحصّلاً علی وجوبها للصدر فقط غیر مشروط بوجود الیدین ، کما أنّ غیر الصلاة من الأحکام أیضاً کانت کذلک ، إنّ ذکر الیدین مع الصدر کان لأجل التطابق بین السؤال والجواب، لا لبیان مدخلیّة وجودها معه فی الحکم ، فدلالة الحدیث علی المطلوب تامّة، خصوصاً مع ما عرفت من المؤیّدات، فلا یعتنی بما قد نُوقش فیه .

وأمّا المناقشة فی سنده: مضافاً إلی أنّ طریق الصدوق إلی فضل بن عثمان الأعور صحیح ، کما أشار العلاّمة إلی صحّته فی «خلاصة الأقوال» فی الفائدة الثامنة(1).

أنّه علی فرض قبول ضعف السند، فلا إشکال فی انجباره بعمل الأصحاب، لما قد عرفت قیام الإجماع فی ترتیب الأحکام علیه .


1- خلاصة الأقوال: 88 ، وأیضاًراجع: مصباح الفقیه: کتاب الطهارة: 134 من الطبعة الحجریّة.

ص:282

ومنها : ما رواه المحقّق فی «المعتبر» نقلاً عن کتاب «الجامع» لأحمد بن محمّد بن أبی نصر البزنطی، عن بعض أصحابنا، رفعه قال : «المقتول إذا قطع أعضائه یصلّی علی العضو الذی فیه القلب»(1) .

فإنّه إشارة إلی الصدر إذ هو المشتمل للقلب .

ومثله المرسل المنقول عن الصدوق رحمه الله ، قال : «وسُئل الصادق علیه السلام عن رجل قتل ووجدت أعضائه متفرّقة ، کیف یُصلّی علیه؟ قال : یصلّی علی الذی فیه قلبه»(2) .

ومنها : روایة طلحة بن زید ، عن أبی عبداللّه علیه السلام ، أنّه قال : «لا یُصلّی علی عضو رجل من رجلٍ أو یدٍ أو رأس ، فإذا کان البدن فصلِّ علیه، وإن کان ناقصاً من الرأس والید والرجل»(3) .

إذ من الواضح أنّ البدن بعد انتفاء الرأس والید والرجل لا ینطبق إلاّ علی الصدر والبطن ، فبقرینة سائر الأخبار یحمل علی خصوص الصدر .

ومنها : المرسلة التی رواها عبداللّه بن الحسین ، عن بعض أصحابه ، عن أبیعبداللّه علیه السلام ، قال :«إذا وسط الرجل بنصفین،صلّی علی النصف الذی فیه القلب»(4) .

ومنها : روایة خالد بن ماد القلانسی ، عن أبی جعفر علیه السلام فی حدیث : فإذا کان المیّت نصفین صلّی علی النصف الذی فیه قلبه»(5) .

ومنها : روایة أحمد بن محمد بن خالد ، عن أبیه ، عن بعض أصحابه (وهی مصحّحة بالبزنطی لکونه من أصحاب الإجماع) عن أبی عبداللّه علیه السلام ، قال : «إذا وجد الرجل قتیلاً، فإن وجد له عضوٌ تامّ صلّی علیه ودُفن ، وإن لم یوجد له عضو


1- وسائل الشیعة : الباب 38 من أبواب صلاة الجنازة، الحدیث 12 و3 و 8 .
2- وسائل الشیعة : الباب 38 من أبواب صلاة الجنازة، الحدیث 12 و3 و 8 .
3- وسائل الشیعة : الباب 38 من أبواب صلاة الجنازة، الحدیث 12 و3 و 8 .
4- وسائل الشیعة : الباب 38 من أبواب صلاة الجنازة، الحدیث 12 و3 و 8 .
5- وسائل الشیعة : الباب 38 من أبواب صلاة الجنازة، الحدیث 11 و 6 و 10 و 1.

ص:283

تامّ لم یصلّ علیه ودفن»(1) .

بناءً علی صدق العضو التامّ علی الصدر المشتمل علی القلب أو الذی لم یشتمل ، واشتماله علی ما لا نقول به لا یخرجه عن الاستدلال .

ومنها: الصحیحة التی استدلّ بها صاحب «الجواهر» وهی عن علیّ بن جعفر: «أنّه سأل أخاه موسی بن جعفر علیه السلام عن الرجل یأکله السبع أو الطیر فتبقی عظامه بغیر لحم، کیف یصنع به؟ قال : یغسّل ویکفّن ویُصلّی علیه ویُدفن»(2) .

بناءً علی أنّ أکیل السبع نوعاً لا یوجب بقاء جمیع العظام ، فیمکن أن یشمل إطلاقه لما بقی من الصدر أیضاً .

وغیر ذلک من الأخبار التی یمکن الاستدلال بها لجمیع الأحکام، وذکر الصلاة بالخصوص إنّما هو لأجل کونها أخصّ الأحکام عند الشرع والمتشرّعة ، مضافاً إلی ما عرف من قیام الإجماع علیها کما لا یخفی .

قد تمسّک فی «الجواهر» لوجوب إجراء الأحکام بقاعدة المیسور والإدراک، حیث أنّ المیّت کان مجموع بدنه متعلّقاً للأحکام ، فما لا یمکن إدراک الجمیع والکلّ لا یترک حکمه ، کما أنّ المیسور من الأعضاء فی ترتیب الأحکام لا یسقط بالمعسور ، وکذا الاستصحاب حیث إنّ الصدر إذا کان متّصلاً بجسم المیّت کانت الأحکام لازمة الإجراء علیه ، وبعد انفصال بعض أعضاءه نشکّ فی ثبوتها، فالاستصحاب یفید بقاءها.

أقول : التمسّک بمثل هذه الاُصول تأییداً لما یدلّ علیه الدلیل الاجتهادی غیر مانع ، وأمّا کونه دلیلاً مستقلاًّ فی المقام لا سیما الاستصحاب، فهو ممّا لا یمکن المساعدة معه، کما لا یخفی .

وما قیل: والقائل هو المحقّق الآملی فی «مصباحه»: «وبها _ أی بالأخبار _

ص:284

یرفع الید عن الاستصحاب، وقاعدة المیسور : حیث أنّ الأوّل یرجع إلیه عند عدم وجود الأمارة فی البین ولو کانت علی طبق الاستصحاب . والثانی یحتاج إلی الجابر ، ولو لأجل تشخیص موضوع المیسور ، ومع عدم عمل الأصحاب بها فی المقام، لا سبیل إلی إحراز الموضوع ، فیکون التمسّک بها من قبیل التمسّک بالعام فی الشبهة المصداقیّة منه، الذی لا یصحّ إجماعاً . مع أنّه علی تقدیر عدم الحاجة إلی العمل لتشخیص الموضوع، تکون الأخبار المتقدّمة مخصّصة للعموم المستفاد من تلک القاعدة . مضافاً إلی أنّ مقتضی القاعدة هو الإتیان ببعض الصلاة إذا تعسّر الإتیان بجمیعها، لا الإتیان بجمیعها علی بعض المیّت عند تعسّرها علی کلّه» ، انتهی کلامه رفع مقامه(1) .

فممنوع: لما قد عرفت فی الاُصول أنّه لا یرجع إلیها دلیلاً مع وجود الأمارة، لا تأییداً لعدم التنافی بین مقتضاهما .

نعم ، قد یُقال فی وجه عدم صحّة الرجوع إنّ الأمارات إذا وجدت یرفع بها الشکّ، فلا یبقی للأصل موضوع حتّی یرجع إلیه .

نعم ، یصحّ أن یقال بأنّ الأصل یبقی متأخّراً لا یصحّ الأخذ به مع قیام الأمارة إلاّ عند سقوطها بعد التعارض، أو عند عدم إمکان الجزم بالصدور سنداً ، أو لعدم القطع بالمفاد لأجل الإجمال فی المضمون ، فحینئذٍ تصل النوبة إلی الأصل ، فدلیلیّة الأصل معلّقة علی سقوط الأمارة عن الدلالة علی ما عرفت ، ولعلّ هذا المعنی هو مراد من یقول بوجوده کصاحب «الجواهر» قدس سره ، بل الظاهر کون الأصل یعدّ حینئذٍ دلیلاً لا مؤیّداً.


1- مصباح الهدی : ج6 / 40 .

ص:285

وأمّا عن القاعدة، فبما أنّ تشخیص الموضوع فی القاعدة أمرٌ مربوط بالعرف وهو الحاکم بذلک، ولا یحتاج فی تشخیصه إلی الجابر، فمعرفة موضوعها یصادف مع انطباق الحکم علیه، وبالتالی لا یعدّ التمسّک بها فی مورد التشخیص من قبیل التمسّک بالعام فی الشبهة المصداقیّة .

وأمّا تخصیصها بتلک الأخبار المتقدّمة فهو أمرٌ مقبول ، ولا نقاش فیه، لوضوح أنّ الرجوع إلی القاعدة إنّما یکون فیما إذا لم یکن لنا دلیل بالخصوص علی إخراج شیء منها، وإلاّ یقدّم الدلیل قطعاً بحسب القاعدة، من تخصیص العام بالخاصّ والإطلاق بالمقیّد.

والعجب من کلامه فی الأخیر، حیث اعتبر أنّ المعسور من الأعضاء لا یوجب المیسور منها بالنسبة إلی الصلاة دون إلی المیّت . وهذا تطبیق جدید للقاعدة لم نعهد بمثله، إذ لا یخفی أنّ ملاحظة المیسور من المعسور مرتبط بإجراء الأحکام للمتعلّق، بمعنی أنّ إجراء الأحکام علی المتعلّق علی قسمین:

تارةً: یکون إجزاء الأحکام علی جمیعه میسوراً.

واُخری: یکون میسوراً علی بعضه، والمراد من القاعدة هو الأخیر دون ما لو کان نفس الحکم فی إجرائه غیر میسور بالکلّ ، بل یقدر علی إجراء بعضه ، وهو خارج عن مورد البحث، وإن کان فی مورده صحیح کما لا یخفی .

أقول: هنا عدّة فروع:

الفرع الأوّل: البحث عن حکم ما لو بقی من الصدر بعضه ، فهل یجب فیه الغسل والصلاة أم لا؟ فیه وجهان :

تارةً : یلاحظ فیه تلک الأدلّة من الاستصحاب وقاعدة المیسور والإدراک، وکان البعض علی حدٍّ یصدق علیه المیسور، أو یجری فیه الاستصحاب ولو

ص:286

تعلیقاً ، فیجب فیه کما لو کان فیه القلب أیضاً .

واُخری : ما لا یکون کذلک، أو لم نقل بحجّیة الاستصحاب التعلیقی، والتزمنا بأنّ الحکم فی عبارات الأصحاب معلّقٌ علی الصدر الذی لا یصدق علی البعض ، فلا تجب الصلاة علیه.

نعم، الأحوط هو الأوّل خصوصاً إذا کان مع القلب أو بعض العظم الذی یوجب صدق الصدر علیه.

الفرع الثانی: أنّه قد یظهر من جماعة من الأصحاب ممّن أطلق مساواة الصدر أو ما فیه الصدر للمیّت ، وجوب الحنوط، کما عن صریح الشیخ وسلار ، ولکن أشکل فیه «القواعد» و«النهایة» و«التذکرة» باعتبار (اختصاصه بالمساجد، ومن الحکم بالمساواة بإجراء أحکام المیّت جمیعاً علی الصدر وما بحکمه) ، انتهی .

ولکن الأقرب أن یلاحظ ما یصدق علیه ذلک، بوجود محلٍّ یجب وضع الحنوط علیه وهو المساجد ، فإذا لم یکن له ذلک، فلا معنی لإیجاب التحنیط فیه ، بل قد یستظهر من عدم ذکره فی النصوص، واختصاصه بخصوص التغسیل والتکفین والصلاة هو عدم وجوبه .

فالأظهر أن یعلّق وجوبه وعدمه علی وجود محلّ الحنوط وعدمه ، وعلیه یحمل ما عن الشیخ وسلاّر کما استظهره بعضهم .

نعم ، یکفی فی الوجوب وجود بعض المساجد، ولا یشترط فی الوجوب وجود جمیعها ، ولذلک قال المحقّق فی «جامع المقاصد» : «إنّه لو وجد عضو من المساجد کالید حُنّطت» ، وهو جیّد.

الفرع الثالث : هل یجب التکفین بالقطع الثلاثة، کما هو المنساق من إطلاق النصوص والفتوی ، أو یجب ما عدا المئزر، لعدم مدخلیّة الصدر فیه، ولعدم وصوله إلیه؟

ص:287

وإن لم یکن وکان فیه عظم غُسّل (1).

ظاهر الأصحاب الأوّل ، ولکن الأقرب الثانی لولا وجود الإجماع وإلاّ یؤخذ به . کما أنّ الاستصحاب والقاعدتان لا یثبتان الوجوب عند فقد محلّه أو لما عداه، فوجوبه یحتاج إلی دلیل آخر بالخصوص ، ولو کان هو الإجماع . وإن کان الأحوط ذلک حذراً عن مخالفة الأصحاب، إذ لم یصرّح أحد بعدم الوجوب إلاّ ما نقل عن بعض الفقهاء کالشهید قدس سره فی الروض حیث استشکل فی وجوبه .

هذا کلّه تمام الکلام إذا کان بعض المیّت صدره أو ما فیه الصدر .

(1) وما ذکره المصنّف رحمه الله متعلّق بما إذا کان الباقی من المیّت صدره الذی فیه بعض العظام لا عظم الصدر، حیث حکم بوجوب الغسل ، ففی «الجواهر» نقلاً عن «المنتهی» مع اختیاره: «أنّه بغیر خلاف بین علمائنا، وإجماعاً کما فی «الخلاف» و«الغُنیة» ، وقد ذکره الأصحاب کما فی «جامع المقاصد» ، وما یشعر من کلام بعض من نسبته إلی الشهرة ، کما عن جماعة ، یکون فی غیر محلّه» .

أمّا الدلیل علیه: فقد استدلّ الأصحاب بعدّة أدلّة:

الدلیل الأوّل: الإجماع، وقد تردّد فیه بعض متأخّری المتأخّرین من حیث انحصار المدرک فی المسألة بالإجماع المنقول ومناقشته فیه .

ولکنّه غیر مضرّ فی المقام، لحجّیة الإجماع هنا ، لأنّه لیس بمنقول فقط ، بل الظاهر کونه محصّلاً لشدّة ندرة المخالف المعلوم نسبه الذی لا یضرّ بحال الإجماع .

الدلیل الثانی: إمکان تأییده أیضاً بقاعدتی المیسور والإدراک والاستطاعة _ مع انجبارها بعمل الأصحاب وشهرتهم _ وبالاستصحاب، بأن یقال : إنّ هذا العظم إذا کان متّصلاً ببدن المیّت کان الغسل علیه واجباً ، فکذا مع انفصاله کما عن «الجواهر» قدس سره .

ص:288

وفیه: قد أورد علیها _ کما عن «مصباح الفقیه» و «مصباح الهدی» _ بأنّ: «من شرطهما أی المیسور والاستصحاب اتّحاد الموضوع المشکوک حکمه مع المتیقّن، ولو بمسامحة عرفیّة کی یصدق علی الحکم بثبوت الحکم فی زمان الشکّ ولو أنّه إبقاء المتیقّن ، وأنّه میسور المتعذّر» .

ونظیر الاستدلال بهما فی الضعف، الاستدلال له بقوله علیه السلام : «ما لا یدرک کلّه لا یترک کلّه»(1) . وقوله : «إذا أمرتکم بشیء فأتوا منه ما استطعتم»(2) .

فإنّ مقتضاه صحّة بعض الغسل حال التعذّر الذی هو خلاف الإجماع لا غسل البعض . وأوْلُ الثانی الأوّل لدی التحلیل، لا یجدی فی استفادة حکمه من الدلیل عند انتفاء موضوع الحکم الأوّل عرفاً .

فلو اُرید الاستصحاب فی مثل المقام فلیستصحب عدم تأثیر غسل البعض فی رفع حدثه وخبثه، وعدم وجوب غسله منفرداً حال اتّصاله بسائر الأجزاء، علی تقدیر تعذّر غسل ما عداه، لا الوجوب الغیری الثابت له حال التمکّن المعلوم انتفائه ، لکنّک ستعرف توجیه الاستدلال بهذه القواعد فیما سیأتی) ، انتهی محلّ الحاجة من المحقّق الهمدانی فی «مصباح الفقیه»(3) .

أقول: ولا یخفی ما فی کلامهما من الإشکال ، لوضوح أنّ موضوع الحکم المتیقّن هو العضو المفروض کونه متّصلاً ببدن المیّت الذی یجب غسله قطعاً ،


1- غوالی اللآلی : 4 / 58 / 307 .
2- صحیح مسلم : 2 / 975 / 412 . وسنن البیهقی : 4 / 326 .
3- مصباح الفقیه : ج5 / 142 .

ص:289

وحیثما نشکّ لأجل التردّد فی دخالة الاتّصال فی الحکم المزبور وعدمه ، فالحکم المتیقّن یحکم ببقائه، ولا إشکال فی کون العضو المفروض میسوراً فی التغسیل بالنسبة إلی تعذّر غسل تمام بدن المیّت ، فالقاعدة حاکمة حینئذٍ بعدم السقوط، أو بعدم الترک فی الإدراک، أو بالإتیان فی الاستطاعة .

والعجب منهما ملاحظة التعذّر وعدم الإدراک بالنسبة إلی نفس الحکم وهو وجوب الغسل ، مع أنّ التعذّر والقدرة إنّما یلاحظان لإجراء الحکم علی تمام المتعلّق أو بعضه کما هو المتعارف .

وأمّا الإشکال: بتبدّل الحکم الغیری بالاستقلالی ، لأنّ العضو حال الاتّصال وجوب غسله غیری، وحال الانفصال استقلالی، فلا یبقی الموضوع حتّی یستصحب، أو یلاحظ فیه الیسر والعسر والإدراک وعدمه .

فممنوع: لأنّ الاستقلال وغیره إنّما یلاحظ مع مجموع العضو بالنسبة إلی مجموع بدن المیّت، حیث کان بعده مستقلاًّ وقبله غیریّاً ، وإلاّ فإنّه بالنسبة إلی کلّ جزءٍ جزء من العضو غیری فی المرحلتین ، فیصحّ استصحاب حالته السابقة، ومعلوم أنّ المستصحب لیس إلاّ تحصیل الطهارة الصادقة فی کلّ من المرحلتین، ولا یلاحظ فیها الغیریّة والاستقلالیّة، کما اعترف بذلک المحقّق الهمدانی بعده ، فالحقّ مع صاحب «الجواهر» القائل بإمکان إجراء الاستصحاب والقواعد عند فقد الدلیل الاجتهادی کما هو المفروض .

الدلیل الثالث : قد یؤیّد وجوب غسله ما روی صحیحاً عن علیّ بن جعفر ، عن أخیه أبی الحسن علیه السلام ، قال : «سألته عن الرجل یأکله السبع أو الطیر فتبقی

ص:290

عظامه بغیر لحم کیف یصنع به؟ قال : یُغسّل ویکفّن ویُصلّی علیه ویُدفن»(1) .

بأن یُقال بصدق العظام علی التامّة والناقصة ، سیّما بعد غلبة التفریق والنقصان فی مثل أکیل السبع ونحوه .

أقول: ناقش صاحب «الجواهر»: فیها بظهور الصحیح فی وجود تمام العظام أو أکثرها ، ثمّ تأمّل أخیراً.

ومثل صحیح علی بن جعفر، الخبر المروی عن القلانسی، عن أبی جعفر علیه السلام ، قال : «سألته عن رجل یأکله السبع أو الطیر فتبقی عظامه بغیر لحم ، کیف یصنع به؟ قال : یغسّل ویُکفّن ویُصلّی علیه ویُدفن ، الحدیث»(2) .

فالکلام فیه کالکلام فی الخبر السابق، بظهور العظام فی الجمیع بالنظر إلی الجمع المضاف .

قد یُقال: بإمکان الاستدلال بالخبرین، بأنّ وجوب التجهیز فی البعض یکون من جملة وجوب التجهیز للجمیع ، فالاتّصال والانفصال لا یؤثّران فی الحکم .

ولکن الإنصاف إمکان الاستفادة من ذلک، بکون الحکم مربوطاً للعظم بلا لحم، خصوصاً مع ملاحظة ما یتحقّق کثیراً من تشتّت العظام بواسطة الطیور وترافع الحیوانات والسبع، الموجب لتقطیع العظام بعضها عن بعض ، بل قد یؤیّد ذلک ما فی خبر محمد بن مسلم فی الحسن کالصحیح _ بل هو صحیح عندنا _ عن أبی جعفر علیه السلام ، قال : «إذا قتل قتیلٌ فلم یوجد إلاّ لحم بلا عظم لم یصلِّ علیه ، وإن وجد عظم بلا لحم فصلّی علیه»(3) .

حیث أنّه لم یذکر بصورة الجمع حتّی یتوهّم لزوم اتّصال جمیع العظام ، فمع ضمیمة أنّ الصلاة علی العظم یلازم کونها بعد تغسیله، یفهم لزوم تطبیق جمیع


1- وسائل الشیعة : الباب 38 من أبواب صلاة الجنائز، الحدیث 5 و 6.
2- وسائل الشیعة : الباب 38 من أبواب صلاة الجنائز، الحدیث 5 و 6.
3- وسائل الشیعة : الباب 38 من أبواب صلاة الجنائز، الحدیث 9.

ص:291

الأحکام علیه ، فصحّة الاستدلال بمثل هذه الأخبار للمطلوب غیر بعید .

الدلیل الرابع : هو الدلیل الذی استدلّ به الشیخ الطوسی أو اعتبره مؤیّداً للمقام فی «الخلاف» والعلاّمة فی «المنتهی» نقلاً عن کتب العامّة، من أنّ طائراً ألقت یداً بمکّة _ فی وقعة الجمل _ فعرفت بالخاتم فیها، فکانت ید عبد الرحمن بن عتاب بن أسید، فغسّلها أهل مکّة وصلّوا علیها(1) .

وکأنّه قدس سره استدلّ به فی مقابل أبی حنیفة ردّاً علیه ، وإلاّ کیف یمکن الاستدلال أو التأیید بمثل هذا الخبر لعدم حجّیة فعل أهل مکّة ، ولذا زاد فی المعتبر علی ما فی «الخلاف» بعد قوله : «أهل مکّة» ، قوله : «بمحضرٍ من الصحابة، ولم ینکر أحد ، فصار إجماعاً» ، ثمّ أورد علیه باختلاف نقله مع ما نقل عن البلاذری من کون سقوط الید بالیمامة، وأنّه لا حجّیة فی فعل أهل الیمامة ، وقال : «ولو سُلّم کونه بمکّة لم یکن الصلاة علیها حجّة، لأنّه لم یبق فیها بعد خروج علیّ علیه السلام مَن یُعتدّ بفعله» .

ثمّ إنّ ابن إدریس _ علی ما نقله المحقّق الآملی فی مصباحه _ أورد علی الشیخ فی حکایته إلقاء الطائر ید عبد الرحمن بمکّة ، وقال : «إنّ البلاذری ذکر أنّها وقعت بالیمامة ، وهو الصحیح ، لأنّ البلاذری أبصر بهذا الشأن» .

وأورد المحقّق فی «المعتبر» علی ابن إدریس: بأنّ ما ذکره (إقدامٌ علی الشیخ، وجرأةً من غیر تحقیق، فإنّا لا نسلّم أنّ البلاذری أبصر منه ، بل لا یصل غایته .

ثمّ قال : ولا یخفی ما فی هذه المناقشات، مع ما فی أصل الاستدلال بتلک الواقعة، مع ما فی أصل القضیّة من البُعد، حیث یبعد أخذ طائر یداً من أرض


1- اُنظر اُسد الغابة : 3 / 472 / 3347 ، والإصابة : / ص72 .

ص:292

البصرة _ حیث إنّها موضع وقعة الجمل _ وإلقائها فی مکّة أو الیمامة وحملها طول هذه المسافة البعیدة ، والأولی إسقاط هذه الاُمور عن کتب الفقه ، وإنّما ذکرناها للاستطراف) ، انتهی کلامه(1) .

أقول: ولقد أجاد فیما أفاد، حیث لا یناسب ذکر اعتبار هذه القصص تأییداً، فضلاً عن الاستدلال ، اللّهُمَّ إلاّ أن یحتمل الإعجاز فی مثله ، وهو غیر معلوم ، واللّه العالم .

الدلیل الخامس : هو الخبر المرسل الذی رواه أیّوب بن نوح فی الصحیح عن بعض ، عن أبی عبداللّه علیه السلام ، قال : «إذا قطع من الرجل قطعة فهی میتة، فإذا مسّه إنسان فکلّ ما کان فیه عظم فقد وجب علی مَن یمسّه الغُسل، فإن لم یکن فیه عظم فلا غسل علیه»(2) .

تقریب الاستدلال علی ما فی «الحدائق» أوّلاً : «بأنّ المراد من المیتة هنا میتة الإنسان، لا مطلق المیتة لیتمّ تفریع قوله : فإذا مسّه إنسان فکلّ ما فیه عظم...) ، وإذا ثبت إطلاق اسم میتة الإنسان علی القطعة المذکورة شرعاً، یثبت لها الأحکام المتعلّقة بمیّت الإنسان، من التغسیل والتحنیط والدفن وغیر ذلک ، إلاّ ما أخرجه الدلیل . والاقتصار هنا علی تفریع غسل المسّ لا یوجب نفی ما سواه من الأحکام ، ولعلّ تخصیصه بالذِّکر لأنّه أخفی بالحکم» ، انتهی کلامه(3) .

وثانیاً : ما فی ذیل کلامه بوجوب غسل المسّ بمسّه وجوب تغسیله کما استظهره الشهید فی «الذکری»، واعترف بها الشهید الثانی فی «الروض» ونسبه


1- الحدائق: ج3 / 426 _ 427 .
2- وسائل الشیعة : الباب 2 من أبواب غسل مسّ المیّت، الحدیث 1 .
3- وسائل الشیعة : الباب 2 من أبواب غسل مسّ المیّت، الحدیث 1 .

ص:293

فی «الحدائق» إلی ظاهر الأخبار والأصحاب .

أقول: وقد اعترض علی الوجه الأوّل المحقّقان الهمدانی والآملی:

قال الهمدانی: «إنّ التفریع لا یقتضی إلاّ صدق کون القطعة میتة من الإنسان، فی مقابل کونها من سائر الحیوانات ، وهو بدیهی ، فثبت بهذه الروایة اطّراد حکم وجوب الغسل بالمسّ لمثلها المبانة من الحیّ، وعدم اختصاصها بخصوص أجزاء المیّت ، ولا یتوقّف ثبوت حکم المسّ علی صدق عنوان میّته الإنسان علی خصوص ما یقع علیه المسّ، حتّی یشهد به لمدّعاه».

قال الآملی: «إنّ الظاهر فی الحکم بکونها میتة الإنسان، توطئة لبیان وجوب الغسل بمسّها ، لکن لا مطلقاً ، بل فیما إذا کانت ممّا فیه العظم ، بل هذا التفکیک بنفسه دلیلٌ علی عدم إرادة ترتیب مطلق أحکام میّت الإنسان علیها، حیث فرّق علیه السلام فی ترتیب وجوب الغسل بمسّها بین ما له العظم وغیره ، فلا یمکن إرادة میتة الإنسان، بمعنی ما یترتّب علیه جمیع أحکامها من حکمة میّته فی قوله علیه السلام : «فهی میتة» ، التی تعمّ ما له العظم وغیره ، فلا وجه لدعوی ظهور الکلام فی إرادة جمیع ما یترتّب علی میّت الإنسان علی تلک القطعة من الحکم بکونها میتة» .

أقول : لا یخفی ما فی کلامهما من الإشکال، بعد التأمّل فی الروایة.

فیرد علیهما أوّلاً بالحلّ: لوضوح أنّه لو سلّمنا کون حکم میتة الإنسان هو الغسل والحنوط والکفن والصلاة والدفن وغسل المسّ قبل الغسل ، واستفدنا من غیر هذه الروایة وجود الفرق بین ما فیه العظم وغیره فی ترتیب الأحکام وعدمه، فیصیر ذلک بمنزلة الکبری فی المسألة وهذه الروایة بمنزلة بیان الصغری وذکر المصداق فی قوله : «إنّها میتة الإنسان» ، ثمّ ذکر حکم ما هو الأخفی من الأفراد فیصیر ما ذکره صاحب «الحدائق» جیّداً، کما قبله صاحب «الجواهر» قدس سره أیضاً ،

ص:294

لکن مع الأمر بالتأمّل فی آخر کلامه .

کما أنّه لا یصحّ ما اعترضا علیه فی بیان الملازمة بین وجوب غسل المسّ، ووجوب غسل الممسوس، بقولهما بمنع الملازمة علی وجه الإیجاب الکلّی أوّلاً وإن صرّح کثیر من الأصحاب بل معظمهم بثبوت الحکمین، فیما هو المفروض فی المقام فی الجملة ، وهذا لا یقتضی التلازم بینهما، بحیث یستدلّ لإثبات کلّ منهما بثبوت الآخر .

وثانیاً بالنقض: بما إذا اتّصل الجزء الذی یقع علیه المسّ بالمیّت، أو انفصل عنه عند وجود سائر الأجزاء، وعدم تمکّنه إلاّ من غسل هذا البعض، لفقد الماء أو غیره من الأعذار ، مع أنّه لا یجب غسله قطعاً فی الفرض الأوّل ، وعلی إشکال فیه فی الجملة فی الفرض الثانی ، مع أنّ مسّه یوجب الغسل جزماً .

إذ من الواضح أنّ الملازمة لو ثبتت، لثبتت فی حکم البعض مع الکلّ، لولا عروض عارض فی الخارج ، وما أورد علیه من النقض لا یکون نقضاً ، لأنّه قد ینعکس من عدم وجوب الغسل للبعض الذی یعجز عن تغسیله لأمرٍ خارجی مع کون الباقی واجباً ، فلابدّ من ملاحظة الملازمة بطبع القضیّة فی الکلّ والبعض کما لا یخفی .

فما ذکروه من التلازم _ کما علیه معظم الأصحاب _ لا یخلو عن وجاهة ، فالتمسّک بالحدیث لإثبات وجوب ترتیب الأحکام علی ما فیه العظم، أمرٌ مقبول عندنا ، واللّه العالم بحقائق الأحکام .

تتمّة: فی حکم القطعة المُبانة من الحیّ، وهل تلحق بالمبانة من المیّت أم لا؟

فیه قولان:

القول الأوّل: إلحاق القطعة المبانة من الحیّ بالقطعة المبانة من المیّت، إذا کان

ص:295

ویلفّ فی خرقة ویُدفن (1).

فیها عظماً، فیجب الغسل بمسّها کما ادّعی الشیخ فی «الخلاف» الإجماع علیه ووافقه کثیر من الأصحاب مثل ابن إدریس فی «السرائر» والعلاّمة فی «المنتهی» و«التذکرة»، والشهید فی «الذکری» و«الدروس» وغیرها ، بل فی «الحدائق» أنّه ظاهر الأکثر ، وفی «المسالک» أنّه أشهر القولین ، بل قد یقضی التدبّر فی عبارة «المنتهی» أنّه لا خلاف فیه بین علمائنا، کما هو مختارنا فی تعلیقتنا علی «العروة» تبعاً للسیّد وأکثر أصحاب التعلیق علیها لولا کلّهم .

القول الثانی: عدم إلحاقها، وإلیه ذهب جماعة من الفقهاء منهم «المعتبر» و«الروض» و«مجمع البرهان» و«المدارک» و«الریاض» وظاهر المصنّف هنا، حیث لم یوجبوا تغسیلها للأصل، وکونها من جملة ما لا غُسل فیه .

أقول: لکن قد عرفت دلالة بعض الأدلّة علی وجوب الغسل وغیره، ولو من حیث التلازم بین وجوب غسل المسّ ووجوب غسل الممسوس، فلا نعیده .

(1) بلا خلاف فیه فی کلا الحکمین، بعدما عرفت من وجوب تغسیل البعض ذی العظم من المیّت، کما قد صرّح به صاحب «الجواهر»، وإن اختلفت عبارات الأصحاب بالنسبة إلی الأوّل ، تارةً : بما فی کلام المصنّف ، واُخری بالتکفین ، والظاهر کون المقصود منهما شیئاً واحداً ، وإن قیل إنّ الأظهر هو التفصیل بأنّه إن کان ممّا یتناوله القطع الثلاث حال الاتّصال وجب، وإن لم یکن بتلک الخصوصیّات وإلاّ فإثتنتان ، وإلاّ فواحدة ، وعلیه یحمل بعض الإطلاقات تمسّکاً بقاعدة المیسور والاستصحاب .

أقول: ولکن لا یخفی أنّ التمسّک بهما، إنّما یصحّ إذا صدق علی الباقی من

ص:296

العظم بالنسبة إلی التکفین أو اللّف بالخرقة میسوراً بالنسبة إلی الواجب الأوّلی ، لأنّه من الواضح أنّ اعتبار اللّف فی الخرقة لمَن کان میسوراً للتکفین المتعارف عرفاً لا یخلو عن إبهام، وإن کان صدقه بلحاظ أصل الستر وکونه مستوراً لا یخلو عن وجه ، لأنّ بمقدار هذا الواجب یکون میسوراً، وإن لم یکن واجداً لشرائط التکفین من القطع الثلاث ولو بعدم إمکانه ، کما أنّ الاستصحاب لابدّ أن یلاحظ بالنظر إلی أنّ ستر هذا المقدار کان واجباً قبل ذلک، ولو کان فیما إذا اتّصل، والآن أیضاً واجب، ومنشأ الشکّ انفصاله عن بقیّة الأعضاء . ودعوی تغیّر الموضوع بذلک لا یمکن المساعدة معه، وإلاّ لولا ذلک استلزم إثبات الحکم من دلیل آخر غیرهما (أی المیسور والاستصحاب) وهو غیر موجود .

اللّهُمَّ إلاّ أن یثبت الحکم بالإجماع، لعدم وجود خلاف فیه، أو استفادته ممّا قد عرفت من إثبات التلازم بین وجوب غُسل المسّ ووجوب سائر الأحکام، من التکفین والدفن وهو غیر بعید .

ومنه یظهر حکم وجوب التحنیط أیضاً، حیث یجب مع وجود شیء من المحلّ الذی یمکن وضع الحنوط علیه، وإلاّ فلا ، لارتباطه بالمساجد، فإن وجد أحدها فیجب وإلاّ فلا ، کما أشار إلیه العلاّمة فی «التذکرة»، حیث قال : «وهو حسن إن کان أحد المساجد موجوداً وإلاّ فلا» .

فروع لا بأس بذکرها لارتباطها بالمقام

الفرع الأوّل : فی العظم المجرّد عن اللّحم، هل یجب تغسیله وتکفینه إن أمکن، أو لفّه فی خرقة لو لم یمکن تکفینه، ودفنه بلا صلاةٍ لو لم یکن مع الصدر، أو لم یجب فیه التغسیل، وإن وجب غیره من سائر الأحکام؟

ص:297

فیه وجهان : ففی «الجواهر» إلحاقه بالقطعة ذات العظم فی وجوب ترتیب الأحکام علیه، کما هو ظاهر بعض عبارات الأصحاب، وتصریح بعض کابن الجنید وغیره ، بل لعلّه هو المراد من القطعة ذات اللّحم، خصوصاً لما یشعر بذلک مقابلته بذکر اللّحم بلا عظم، إنّ علّة ترتیب الأحکام هو العظم ، بل قد ادّعی أنّه لم یجد أحداً قد صرّح بعدم تغسیل العظم المجرّد، وإن نقل القول بعدم الوجوب بعض المتأخّرین ، ولعلّه صدرَ عمّن أنکر وجوب التغسیل لأصل القطعة ذات العظم لا لخصوصه مع وجوب التغسیل للقطعة .

نعم ، قد یظهر التردید والتوقّف عن صاحب کشف اللِّثام، حیث قال : «إنّ فیه وجهین ینشآن من الدوران، وقول الکاظم. إلی أن قال : ومن ضعف الدوران وعدم تنجیس العظم بالموت إلاّ نجاسة عرضیّة بمجاورة اللّحم ونحوه ، واحتمال (یغسل) فی الخبرین التخفیف من الغسل للنجاسة العرضیّة» ، انتهی کلامه .

أقول: ولا یخفی ما فی الوجه الثانی من کلامه من الضعف :

أوّلاً : بدلالة بعض الأخبار علی الوجوب، وهو مثل صحیح علیّ بن جعفر المتقدّم الوارد فیه قوله: «فی الرجل یأکله السبع أو الطیر، فتبقی عظامه بغیر لحم ؟ قال : یغسّل ویُکفَّن ویُصلّی علیه ویُدفن»(1) .

فإنّ العظام حیث کان جمعاً ومضافاً وإن کان ظاهراً فی جمیع العظام ، ولکنّه ظاهر فی کونها بلا لحم ، فعمومه یشمل لکلّ عظم بلا لحم لکونه جزءاً منها ، فإذا وجب فی الجمیع منها، فیجب فی بعضها أیضاً ، لعدم دخالة الاتّصال والانفصال فی ذلک ، ولو شککنا فیه فیستصحب الحکم بالوجوب .


1- وسائل الشیعة : الباب 38 من أبواب صلاة الجنائز، الحدیث 1 .

ص:298

واحتمال کونه یغسل بالتخفیف ضعیف لوقوعه فی ردیف سائر أحکام المیّت من الکفن والدفن الموجب لظهوره فی کونه بالتشدید فیدلّ علی المطلوب .

ومثله فی الدلالة والإشکال والجواب خبر القلانسی عن الباقر علیه السلام (1) .

بل یمکن أن یستدلّ علی ذلک بالخبر الصحیح المروی عن محمّد بن مسلم عن الباقر علیه السلام ، قال : «إذا قتل قتیل فلم یوجد إلاّ لحم بلا عظم لم یصلِّ علیه ، وإن وجد عظم بلا لحم فصلّی علیه»(2) .

بعد حمله علی إرادة وجدانه تامّاً، أو ما یقرب منه عظماً بلا لحم، مع ما عرفت سابقاً من استلزام الصلاة الغُسل قبلها، یتمّ المطلوب ، هذا .

مضافاً إلی عدم کون وجوب التغسیل دائراً مدار النجاسة الحاصلة بالموت ، لوضوح أنّ هذا الغسل ثابت لأجساد جمیع الأموات حتّی النبیّ والولیّ ، مع أنّ أجسادهم طاهرة قطعاً، منزّهة عن الأرجاس والأدناس جزماً، حتّی قد ورد فی الحدیث أنّه لمّا قبض رسول اللّه صلی الله علیه و آله سمعنا صوتاً فی البیت : «أنّ نبیّکم طاهر مطهّر فادفنوه ولا تغسّلوه ، قال : فرأیت علیّاً علیه السلام رفع رأسه فزعاً فقال : إخسأ عدوّ اللّه، فإنّه أمرنی بغسله وکفنه ودفنه وذا سنّة»(3) .

مع أنّ دعوی طهارة عظم میّت الإنسان کعظم سائر الحیوانات، لا تخلو عن منع، لانصراف أدلّة طهارة ما لا تحلّه الحیاة من المیتة، إلی ما عدا میّت الإنسان وإن قبلنا طهارته بواسطة الغسل کبدن المیّت، حیث ینجّس بالموت ویطهّر بالغسل ، مضافاً إلی إمکان المنع عن کون العظم فی البدن ممّا لا تحلّه الحیاة، لما


1- وسائل الشیعة : الباب 38 من أبواب صلاة الجنائز، الحدیث 6.
2- وسائل الشیعة : الباب 38 من أبواب صلاة الجنائز، الحدیث 9 .
3- وسائل الشیعة : الباب 1 من أبواب غسل المیّت ، الحدیث 2 .

ص:299

تری من وجود الوجع الشدید فی کسره، الکاشف ممّا تحلّه الحیاة، بخلاف مثل الشعر ونحوه ممّا لا تحلّه الحیاة ، اللّهُمَّ إلاّ أن یدلّ الدلیل علی ذلک .

فالأقوی هو إلحاق العظم المجرّد عن اللّحم إلی العظم المشتمل علیه فی وجوب ترتیب الأحکام علیه ، واللّه العالم .

نعم ، لابدّ أن یستثنی من ذلک السّن والظُّفر ونحوهما، للسیرة القطعیّة علی عدم وجوب شیء من ذلک ، بل یمکن أن یکون وجه الاستثناء هو عدم حلول الحیاة فیهما بالذات، وإن اشتمل علیهما باعتبار محلّهما ، بل فی «الجواهر» : «ولو قطع معهما شیء یسیر من اللّحم ، لظهور قولهم: «قطعة ذات عظم» فی غیر ذلک ، فتأمّل» .

قلنا : لعلّ ظهور القطعة فی غیرهما، وإلاّ لزم شمولهما من حیث ملاحظة معنی اللّغوی ، أو لأجل دعوی الانصراف عن مثلهما، کما لا یحکم بذلک فی حال انفصالهما مع اللّحم فی حال الحیاة إذا کان یسیراً .

الفرع الثانی : هل یعتبر المماثلة فی العضو المقطوع من الرجل والاُنثی، بأن یقوم الرجل بتغسیل عضو الرجل والاُنثی للمقطوع من الاُنثی أم لا؟

قال صاحب «الجواهر» : «إنّ ظاهر الأصحاب عدم الاعتبار ، وهو مناف لما تقدّم من ظاهر بعضهم وصریح آخر من اشتراط المماثل، وأصالة البراءة من حرمة اللّمس والنظر لا تحقّق ذلک . نعم ، یتّجه ذلک بناءً علی ما أشرنا إلیه سابقاً من أنّ اعتبار المماثلة إنّما هو بعد تحقّق حال المیّت ، فتأمّل جیّداً» ، انتهی .

أقول : قد مضی ذکر هذا البحث خلال البحث عن غسل الخُنثی المشکل ، وذکرنا کلام المحقّق الآملی قدس سره من بیان الفرق بین المقام وبین الخنثی، لصدق اللّمس والنظر عرفاً للأجنبیّ فی الخُنثی، دون العضو المقطوع، خصوصاً إذا کان

ص:300

صغیراً کالإصبع ، وعرفت إشکالنا علیه بعدم کون الانفصال والاتّصال والکبر والصغر دخیلان فی الحکم فی لزوم اعتبار المماثلة ، وقد حقّقنا عدم إمکان إجراء الأصل فیما إذا کان الدلیل الاجتهادی موجوداً ومبیّناً ، فالأحوط عندنا ملاحظة التماثل فی تغسیله، وکان حکمه مشتبهة کمشتبه نفس المیّت، من جهة لزوم الغسل بالرجل والاُنثی معاً أو بکفایة أحدها من أنّ الکلام فیه کالکلام فی تمام بدنه .

الفرع الثالث : هل تجب رعایة الترتیب فی غسل الأعضاء إذا کانت متفرّقة، بحیث یجب أوّلاً غسل الید الیُمنی علی الیسری إذا کانا موجودین متفرّقین أم لا یجب؟ وفی «الجواهر» : «الظاهر عدم وجوب مراعاة الترتیب بالنسبة إلی الجانبین مع تفرّق الأعضاء ، فیجوز تغسیل الید الیسری مثلاً قبل الیمنی ، مع احتماله» ، انتهی .

قلنا : لا وجه فی عدم الوجوب إلاّ احتمال مدخلیّة الاتّصال فی ذلک، وهو ضعیف جدّاً ، لوضوح أنّ العظام التی تبقی من أکیل السبع أو الطیر إنّما تبقی مشتّتة متفرّقة ، لأنّ السباع عادةً تتنازع وتتکالب علی الفریسة ممّا یقتضی تقطیع الأجزاء وتفرّقها، فمع ذلک حُکم بمقتضی إطلاق الأدلّة بإجراء الأحکام علیه، وهو لیس إلاّ الغسل علی حسب المشروع من تقدیم الیمنی علی الیسری .

فالأظهر وجوب رعایته مع الإمکان ووجود الأعضاء بعضها مع بعض ، فضلاً عن أنّه یمکن استفادة وجوبه من الاستصحاب علی حسب ما قرّرناه فی أصل وجوب غسلها ، لأنّ الاتّصال والانفصال لا یوجبان تغییر تعلیقیّاً، بل هما یوجبان الشکّ المنشأ فیستصحب ولو تعلیقیّاً بأنّه لو کان متّصلاً کان رعایته واجباً قطعاً ، فالآن کما کان . ومن ذلک یظهر وجوب التکرار فی غسل الیدین مع الاشتباه

ص:301

تحصیلاً للیقین بالفراغ بعدما عرفت وجوب مراعاته .

نعم ، قد یظهر من صاحب «الجواهر» القول بوجوب رعایته، إذا أمکن جمع أعضائه المتفرّقة کما یشیر إلیه قول الصادق علیه السلام فی خبر العلاء بن سیابة بعد أن سأل عن القتیل فی معصیة اللّه ، إلی أن قال : «قلت : فإن کان الرأس قد بانَ من الجسد وهو معه کیف یغسّل؟ فقال : یغسل الرأس إذا غسل الیدین والسفلة بدئ بالرأس ثمّ بالجسد ثمّ یوضع القطن فوق الرقبة، ویضمّ إلیه الرأس، ویجعل فی الکفن ، وکذلک إذا صرت إلی القبر فتناولته مع الجسد وأدخلته اللّحد ووجّهته للقبلة»(1) .

فکلامه هنا مع ما قبله لا یخلو عن إبهام فی الجملة ، لأنّ المراد من التفرّق فی الأعضاء : إن اُرید منه انفراد کلّ ید عن الاُخری بفصل زمانی ومکانی ، فملاحظة الترتیب فیه لا یکون معناه إلاّ الاحتفاظ بالید إلی أن یوجد الاُخری ، فهذا لا یکون إلاّ مع العلم بوجدان الاُخری فیما بعد ذلک عن قریب ، وإلاّ یقتضی الواجب الإسراع فی غسل ذلک العضو بمجرّد الوجدان بما لا یصدق التهاون فی التکلیف .

وإن اُرید منه مطلق التفرّق، فلا یجامع مع ما ذکره فی الذیل .

وکیف کان، فالأظهر ما عرفت من وجوب رعایته کلّما أمکن تحصیل الترتیب، بما لم یستلزم التهاون فی الوظیفة، کما لا یخفی .

الفرع الرابع : هل تجب الصلاة علی القطعة ذات العظم، أم فیما اذا کان عضواً تامّاً کالرِّجل أو الید أو الرأس ؟


1- وسائل الشیعة : الباب 15 من أبواب غسل المیّت ، الحدیث 10 .

ص:302

ظاهر المصنّف بل صریحه کما هو صریح جماعة عدم الوجوب ، بل قد یظهر من «الخلاف» _ إن لم یکن صریحه _ الإجماع علیه، کما هو المنقول عن «جامع المقاصد» و«الروض» وغیرهما ، بل لعلّ الإجماع محصّل لتعلیق الوجوب فی کلامهم علی الصدر أو ما فیه القلب، کما هو مختار السیّد فی «العروة» وجمیع أصحاب التعلیق علیها .

ولا خلاف فی المسألة إلاّ عن الإسکافی، وعلیّ بن بابویه علی احتمال ، لاحتمال إرادة ما فیه الصدر من قوله: «ولا یُصلّی علی عضو المیّت والقتیل،إلاّ أن یکون عضواً تامّاً بعظامه أو یکون عظماً مفرداً» ، للأوّل . وقوله : «فإن کان المیت أکیل السبع، فاغسل ما بقی منه ، وإن لم یبق منه إلاّ عظام جمعتها وغسّلتها وصلّیت علیها ودفنتها» ، للثانی ، فیکون عدم الوجوب مورد وفاق للجمیع حینئذٍ، کما لا یخفی .

والدلیل علیه: مضافاً إلی ماعرفت من الإجماع،دلالة بعض الأخبار علیه:

منها: روایة طلحة بن زید، عن أبی عبداللّه علیه السلام ، أنّه قال : «لا یصلّی علی عضو رجل أو ید أو رأس منفرداً، فإذا کان البدن فصلّی علیه، وإن کان ناقصاً من الرأس والید والرجل»(1) .

ومنها: صحیحة محمّد بن مسلم، عن أبی جعفر علیه السلام ، قال : «إذا قتل قتیل فلم یوجد إلاّ لحم بلا عظم لم یصلّ علیه ، وإن وجد عظم بلا لحم فصلّی علیه»(2) .

بناءً علی إرادة وجدان القتیل بتمام بدنه أو أکثره ، ولم یشمل العظم المطلق،


1- وسائل الشیعة : الباب 38 من أبواب صلاة الجنائز، الحدیث 8 .
2- وسائل الشیعة : الباب 38 من أبواب صلاة الجنائز، الحدیث 9 و 10 و 12.

ص:303

وإلاّ خالف حتّی مع ما یدلّ علی الوجوب فی العضو لا العظم المجرّد الأقلّ من العضو ، فالخروج من المخالفة عن ذلک، یقتضی حمله علی تمام البدن، أو ما یشمل الصدر أو القلب .

ومنها: المرسل المروی عن أحمد بن محمد بن خالد ، عن أبیه ، عن بعض أصحابه ، عن أبی عبداللّه علیه السلام _ بناءً علی نقل الصدوق رحمه الله _ قال : «وإن لم یوجد منه إلاّ الرأس لم یصلِّ علیه»(1) .

فهذا الخبر یوجب حمل صدره فی قوله : «إذا وجد الرجل قتیلاً، فإن وجد له عضو تامّ صلّی علیه ودفن» علی العضو المشتمل علی الصدر أو القلب .

بل قد یمکن استفادة ذلک ممّا یدلّ علی کون الصلاة واجباً لما فیه الصدر أو القلب من الأعضاء مثل الخبر المرفوع الذی رواه البزنطی عن بعض أصحابنا رفعه، قال : «المقتول إذا قطع أعضائه یصلّی علی العضو الذی فیه القلب»(2) .

حیث یفهم أنّ ما یجب فیه الصلاة هو هذا دون غیره من الأعضاء .

ومنها: مرسل عبداللّه بن الحسین، عن بعض أصحابه ، عن أبی عبداللّه علیه السلام ، قال : «إذا وسّط الرجل بنصفین، صلّی علی النصف الذی فیه القلب»(3) .

ومنها: خبر القلانسی، عن الباقر علیه السلام فی حدیث : «فإذا کان المیّت نصفین صلّی علی النصف الذی فیه قلبه»(4) .

لوضوح أنّ النصف الذی لم یشتمل علی القلب، ربما کان مشتملاً علی العضو الکامل، مثل الرِّجل أو الید أو الرأس ، ومع ذلک لم یجب فیه الصلاة فیؤیّد القول بعدم الوجوب .


1- وسائل الشیعة : الباب 38 ، من أبواب صلاة الجنائز، الحدیث 12 و 11 و6 و10.
2- وسائل الشیعة : الباب 38 ، من أبواب صلاة الجنائز، الحدیث 12 و 11 و6 و10.
3- وسائل الشیعة : الباب 38 ، من أبواب صلاة الجنائز، الحدیث 12 و 11 و6 و10.
4- وسائل الشیعة : الباب 38 ، من أبواب صلاة الجنائز، الحدیث 12 و 11 و6 و10.

ص:304

لا یقال: لعلّ الحکم بعدم الوجوب هنا لأجل أنّ الصلاة لا تجب إلاّ مرّة واحدة للمیّت، فإذا وجبت لما فیه القلب من النصفین، فلا یبقی مورد لها للنصف الآخر ، ولو کان مشتملاً علی العضو الکامل .

لأنّا نقول : إذا فرضنا استفادة وجوب الصلاة للعضو الکامل من الدلیل، فلازمه القهری تعدّدها بتعدّد وجدان العضو فی طول الزمان ، فحیث لم یکن کذلک، فیوجب هذا تأییداً آخر لکلام الأصحاب من عدم الوجوب .

فبذلک نرفع الید عن الاستصحاب وقاعدة المیسور ، لأنّهما إنّما یرجع إلیهما مع فقد الدلیل ، مع أنّه موجود من الإجماع والأخبار .

کما یجب رفع الید عن مثل الخبر المرسل المروی عن البزنطی حیث قد نقل عن الصادق علیه السلام : «أنّه إذا وجد الرجل قتیلاً فإن وجد له عضو تامّ صلّی علیه ودُفن»(1) .

وکذلک الخبر المرسل الذی رواه الکلینی : «وروی أنّه یصلّی علی الرأس إذا أفرد من الجسد» .

وروایة ابن المغیرة أنّه قال : «بلغنی عن أبی جعفر علیه السلام أنّه یصلّی علی کلّ عضوٍ، رِجلاً کان أو یداً، والرأس جزء، فما زاد فإذا نقص عن رأس أو ید أو رجل لم یصلِّ علیه»(2) .

وصحیح إسحاق بن عمّار ، عن الصادق ، عن أبیه علیهماالسلام : «أنّ علیّاً علیه السلام وجد قطعاً من میّت فجمعت ثمّ صلّی علیها ثمّ دُفنت»(3) .

قیل: بالرغم من أنّ هذا الخبر مرسل، لکنّه غیر ضائر لکونه عن البزنطی الذی


1- وسائل الشیعة : الباب 38 من أبواب صلاة الجنائز، الحدیث 13 و 2 و 8 .
2- وسائل الشیعة : الباب 38 من أبواب صلاة الجنائز، الحدیث 13 و 2 و 8 .
3- وسائل الشیعة : الباب 38 من أبواب صلاة الجنائز، الحدیث 13 و 2 و 8 .

ص:305

هو من أصحاب الإجماع .

وفیه: أنّه لم یرد فی حقّه أنّ مرسلاته کمسنداته ، کما ورد فی حقّ ابن أبی عمیر ، فإرساله یحتاج إلی الجابر وهو مفقود ، بل الإعراض موهن ، فضلاً عن أنّه معارض مع نقله الآخر بجعل الصلاة لما فیه القلب ، معارض مع ما أرسله الصدوق وزاد فی ذیله : «وإن لم یوجد منه إلاّ الرأس لم یصلِّ علیه» ، مع کونه عضواً تامّاً .

والالتزام بالتخصیص فیه بالخصوص، مخالف للإجماع المرکّب، وعدم القول بالفصل . کما أنّه یمکن حمله علی ما یشمل الصدر والقلب فی الجزء المقطوع، الوارد فی الصحیح، لإطلاقه القابل لهذا الحمل، جمعاً مع ما دلّ علی عدم الوجوب فی غیرهما ، مضافاً إلی أنّه لا عموم فیه ولا إطلاق حتّی نحتاج إلی هذا الحمل ، لأنّه حکایة حالٍ وقضیّةٌ فی واقعة، ولیست حالها معلومة حتّی یمکن عدّها دلیلاً .

وأخیراً: فلا یبقی لنا هنا إلاّ روایة واحدة لابن المغیرة، فهی: مضافاً إلی سقوطها عن الحجّیة، لأجل إعراض الأصحاب عنها: یمکن حملها علی العضو المشتمل علی الصدر أو القلب مع الرِّجل أو الید أو الرأس، لا انفراد کلّ عضو .

أو حملها علی التقیّة، کما عن صاحب «الوسائل» إن ثبت فتوی العامّة بالوجوب .

أو غایة الأمر حملها علی الاستحباب، حذراً عن المخالفة، خصوصاً مع کونه موافقاً للاحتیاط الذی هو طریق النجاة ، واللّه العالم.

ص:306

وکذا السِّقْط إذا کان له أربعة أشهر فصاعداً(1) .

(1) أی یجب تغسیله بأنْ یلفّ فی خرقة ویُدفن ولا یصلّی علیه :

أمّا التغسیل: فلم أجد فیه خلافاً بین الأصحاب، کما فی «الجواهر» ، وقال: «بل فی «الخلاف» الإجماع علیه» . وفی «المعتبر» نسبته إلی علمائنا ، وفی «المنتهی» إلی أکثر أهل العلم ، وفی «الذکری» و«جامع المقاصد» و«الروض» إلی الأصحاب ، وفی «کشف اللِّثام»: «لا نعرف فیه خلافاً إلاّ من العامّة» ، بل هو مختار جمیع المتأخّرین کصاحب «الجواهر» و«مصباح الفقیه» و«مصباح الهدی» والسیّد فی «العروة» وجمیع أصحاب التعلیق علیها .

والدلیل علیه: مضافاً إلی الإجماع، طائفة من الأخبار :

منها: الخبر الذی رواه زرارة عن الصادق علیه السلام ، قال : «السقط إذا تمَّ له أربعْة أشهر غسّل»(1) .

غُسل الأموات / فی السقط

ومنها: مرسلة أحمد بن محمّد ، عمّن ذکره ، قال : «إذا تمّ السقط أربعة أشهر غسّل»(2) . وضعف سندهما منجبر بالإجماع وعمل الأصحاب .

بل قد استدلّ المحقّق فی «المعتبر» وغیره بموثّقة سماعة ، عن أبی عبداللّه علیه السلام ، قال : «سألته عن السقط إذا استوت خلقته یجب علیه الغسل واللّحد والکفن؟ قال : نعم ، کلّ ذلک یجب علیه إذا استوی» .

ونقله الکلینی عن أبی الحسن الأوّل مثله من دون ذکر قوله: «إذا استوی» .


1- وسائل الشیعة : الباب 12 من أبواب غسل المیّت ، الحدیث 4 و2.
2- وسائل الشیعة : الباب 12 من أبواب غسل المیّت ، الحدیث 4 و2.

ص:307

بناءً علی أنّ المراد من الاستواء هو بلوغه أربعة أشهر، بأن یدّعی التلازم بینهما وإلاّ قد یوجب الإشکال کما عن صاحب «المدارک» وتبعه صاحب «الذخیرة» بأنّ الحکم فیها علی الاستواء دون الأربعة، خصوصاً بناءً علی نقل الشیخ فی «التهذیب» دون نقل الکلینی ، مع احتمال کون ذکره لیس لأجل تقیید الحکم ، بل هو إعادة لما فی السؤال ، فکأنّه یبیّن الحکم علی ما فرضه السائل فی سؤاله، لا لأجل التعلیق فی الحکم حتّی یؤخذ منه المفهوم، فیوجب التعرض علی احتمال للأربعة کما ذکره صاحب «المدارک» ، لإمکان أن یکون الاستواء مطابقاً للتمام الوارد فی الروایة مرفوعة لأحمد بن محمد فی حدیث ، وقال : «إذا تمّ له ستّة أشهر فهو تامّ ، وذلک أنّ الحسین بن علیّ ولد وهو ابن ستّة أشهر»(1)

وروایة زرارة عن أبی عبداللّه علیه السلام ، قال : «إذا سقط لستّة أشهر فهو تامّ، وذلک أنّ الحسین بن علیّ ولد وهو ابن ستّة أشهر»(2) .

ولکن یمکن أن یجاب عنه أوّلاً : بأن یکون المراد من (التام) فی الخبرین هو التمام لأجل أنّه یعیش فی ستّة أشهر، کما یؤیّده استشهاده بمولد الحسین علیه السلام لا من حیث حکم الغسل حتّی یعارض تلک الأدلّة .

وثانیاً : ذکر کلا الأمرین فی مرفوعة أحمد بن محمّد، حیث ورد فیها الأمر بالغسل فی أربعة فی صدره مع ذکر التمام فی ستّة أشهر فی ذیله، قرینة اُخری علی ما ذکرناه ، وإلاّ لوقع التعارض بین الصدر والذیل فی روایة واحدة، مع أنّه لیس کذلک .

وثالثاً : کون المراد من الاستواء فی موثّقة سماعة هو الأربعة دون الستّة مبنیٌّ علی ما ورد من التصریح فی «الفقه الرضوی» بأنّ حدّ التمام هو الأربعة، قال: «إذا أسقطت المرأة وکان السقط تامّاً غُسّل وحنّط وکفّن ودُفن ، وإن لم یکن تامّاً فلا


1- وسائل الشیعة : الباب 12 من أبواب غسل المیّت ، الحدیث 1 و2 و 3 .
2- وسائل الشیعة : الباب 12 من أبواب غسل المیّت ، الحدیث 1 و2 و 3 .

ص:308

یغسّل ویدفن بدمه ، وحدّ تمامه إذا أتی علیه أربعة أشهر»(1) .

بل قد یؤیّد ذلک وجود أخبار کثیرة دالّ علی ذلک، منها الخبر الذی رواه الکلینی بسنده عن الحسن بن الجهم، قال : «سمعت أبا الحسن الرضا علیه السلام یقول : إنّ النطفة تکون فی الرحم أربعین یوماً، ثمّ تصیر علقة أربعین یوماً ، ثمّ تصیر مضغة أربعین یوماً ، فإذا کمل أربعة أشهر بعث اللّه ملکین خلاقین فیقولان یا ربّ ما تخلق ذکراً أو اُنثی فیؤمران ، الحدیث»(2) .

وأیضاً: الخبر الذی رواه الکلینی بسنده عن محمّد بن إسماعیل، قال : «قلت لأبی جعفر علیه السلام : جُعلت فداک ندعوا للحُبلی أن یجعل اللّه ما فی بطنها ذکراً سویّاً ؟ قال : تدعوا ما بینه وبین أربعة أشهر، فإنّه أربعین لیلة نطفة، وأربعین لیلة علقة، وأربعین مضغة، فذلک تمام أربعة أشهر، ثمّ یبعث اللّه ملکین خلاّقین ، الحدیث»(3) . ومثله الخبر الصحیح المروی عن زرارة.

إذ قد صرّح فی حدیث محمّد بن إسماعیل بأنّ ذلک تمام أربعة أشهر، فلا یبعد أن یکون مراده علیه السلام من ذکر (تامّ) لأجل الغسل ، وللاعاشة ستّة أشهر، فیرتفع التعارض بینهما .

مضافاً إلی إمکان دعوی وجوب الغسل للأربعة، سواء صدق علیه التام ولزمه أم لا، تمسّکاً بما عرفت من الإجماع والأخبار .

نعم ، إن صدق علیه التمام قبل الأربعة لأجل حکمة الاستواء، فلا ینبغی ترک


1- فقه الرضا علیه السلام : 175 الحدیث 3 و 4.
2- وسائل الشیعة: الباب 6 من أبواب العقیقة، الحدیث 3 .
3- وسائل الشیعة: الباب 6 من أبواب العقیقة، الحدیث 9 و 4 .

ص:309

الاحتیاط فی غسله ، ولکنّه مجرّد فرض، لما قد عرفت عدم تحقّق الخلقة إلاّ بعد الأربعة ، فعلیه یحمل ما فی خبر محمد بن فضیل، قال : «کتبت إلی أبیجعفر علیه السلام أسأله عن السقط کیف یصنع به؟ فکتب إلیّ : السقط یُدفن بدمه فی موضعه»(1).

أی بأن یکون قبل الأربعة .

فرع: هل یعتبر فی وجوب التغسیل من حلول الحیاة فیه، أو یجب ولو قبل حلولها فیه؟

والظاهر من «الجواهر» هو الثانی، حیث قال : «کما أنّ الأقوی ذلک أیضاً، وإن لم نقل بحلول الحیاة فیه إذا بلغ هذه المدّة» .

ولکن یشعر بذلک التعلیل الوارد فی «کشف اللثام» وجوب التغسیل لدی الأربعة بحلول الحیاة کالذکری ، بل فی «الذکری»: «أنّ فی «الخلاف» اعتبر الحیاة فی وجوب الغسل ، والظاهر أنّ الأربعة مظنّتها».

بل نقل صاحب «الجواهر» عن «الذکری» أنّه قال: «ویلوح ذلک من الخبر المروی عن محمّد بن مسلم، عن الباقر علیه السلام ، إلی أن قال : «وروی عن النبیّ صلی الله علیه و آله : إذا بقی أربعة أشهر ینفخ فیه الروح»(2) .

وفی خبر الدیلمی عن الصادق علیه السلام إشارة إلیه» ، انتهی .

أقول : یتضمّن الخبر المروی عن محمّد بن مسلم عن الباقر علیه السلام تکملةً وهی مرویّة فی باب آخر، حیث جاء فیها بعد ذکر المضعة: «قال : ثمّ تصیر إلی عظم ، قلت : فما صفة خلقته إذا کان عظماً؟ فقال : إذا کان عظماً شقّ له السمع والبصر،


1- وسائل الشیعة : الباب 12 من أبواب غسل المیّت ، الحدیث 5 .
2- وسائل الشیعة : الباب 12 من أبواب غسل المیّت، الحدیث 6 .

ص:310

ورتّبت جوارحه ، فإذا کان کذلک فإنّ فیه الدیة کاملة»(1) . حیث قد استفاد الأصحاب من (ترتیب الجوارح) حلول الروح فیه، وهو لا یتحقّق إلاّ بعد إکمال الأربعة، وإلاّ لیس فیه تصریح بذلک ، بل لابدّ من ضمّه إلی ما تقدّم بأنّ الإتمام لا یکون إلاّ بالأربعة ، فیلج فیه الروح، ویصیر حینئذٍ دیته کاملة لصیرورته إنساناً کاملاً، ولعلّه لذلک قال : «یلوح منه» ، وهو لا ینافی مع ما فی خبر یونس الشیبانی المنقول عن أبی شبل فی حدیثٍ، قال : «فإذا وکزها فسقط الصبی ولا یدری أحیّاً کان أم لا ؟ قال : هیهات یا أبا شبل إذا مضت خمسة أشهر، فقد صارت فیه الحیاة وقد استوجب الدیة»(2) .

لأنّه یدلّ علی کونه فی هذه المدّة قد حلّت فیه الحیاة، فلا ینافی هذا النقل مع القول بأنّ حلولها فی الأربعة، لأنّه إخبار بوجود الحیاة فیه، فتجب الدیة علیه ، ولعلّه علیه السلام أراد بیان معرفة الناس بذلک خارجاً مع صرف النظر عن علمه بالإمامة بإفهامه ذلک ، فما فی «الجواهر» من دعوی التنافی فیه مع ما تقدّم، لیست بتامّة کما لا یخفی . هذا تمام الکلام فی تغسیله .

وأمّا حکم التکفین: فی السقط الذی کان له أربعة أشهر فصاعداً.

فیدور البحث فی المقام عن أنّه هل الواجب أن یلفّ فی خرقة کما هو ظاهر عطف المصنّف بما قبله، لا بما فی الصدر الجملة السابقة کما هو ظاهر «التحریر» أیضاً . أم أنّ الواجب هو التکفین المعهود فی سائر الأموات؟

أقول: التزم أکثر الفقهاء بالأخیر، بل هو مدلول الخبر الموثّق المروی عن


1- وسائل الشیعة : الباب 19 من أبواب دیات الأعضاء، الحدیث 4 .
2- وسائل الشیعة : الباب 19 من أبواب دیات الأعضاء، الحدیث 6.

ص:311

فإن لم یکن له عظم اقتصر علی لفّه فی خرقةٍ ودفنه (1).

سماعة بقوله : «یجب علیه الغسل واللّحد والکفن ؟ قال : نعم کلّ ذلک یجب علیه إذا استوی»(1) . وأیضاً ما جاء فی «الفقه الرضوی» من قوله : «غُسل وحنّط وکفّن ودفن، الحدیث»(2) .

وهو الأقوی عندنا عملاً بما فی الأحادیث، وما علیه الإجماع، وإمکان إرجاع کلام المصنّف إلیه، فیشمله عموم الدلیل الدال علی وجوب الکفن للمیّت، خصوصاً إذا کان المفروض حلول الحیاة فیه ، بل قد یجب التحنیط بواسطة مضمون ما جاء فی الخبر المنقول فی «الفقه الرضوی» حیث کما هو صریح جماعة وظاهر آخرین ، ولا إشکال فی کونه أحوط لو لم یکن أقوی، کما لا خلاف ولا إشکال فی وجوب دفنه علی حسب المتعارف ، کما لا إشکال فی عدم وجوب الصلاة علیه، عملاً بالروایات فی المرحلتین إثباتاً ونفیاً، حیث لم یتعرّض فیها للصلاة کما ذکر فیها الدفن ، واللّه العالم.

(1) أی إذا کان بعض المیّت لحماً مجرّداً، فلا یجب تغسیله إجماعاً، کما فی «الغنیة» و«الحدائق» ، وکذا «الخلاف» ، بل قد ادّعی الإجماع فی «الخلاف» لنفی التکفین المعهود والصلاة، وهو الحجّة ، بل یمکن استفادة عدم وجوب الصلاة، ممّا دلّ علی عدم جوبها علی العضو الناقص ، بل وعلی العظم المجرّد ، فیستفاد من فحواها علی عدم وجوبها علی اللّحم المجرّد عن العظم .


1- وسائل الشیعة : الباب 12 من أبواب غسل المیّت، الحدیث 1 .
2- فقه الرضا علیه السلام : 175 .

ص:312

وکذا السِّقط إذا لم تلجه الروح (1).

فبذلک نخرج عمّا یقتضیه الاستصحاب وقاعدة المیسور، باعتبار کونه من جملة ما یجب فیه الغسل، حیث لم یستفد ذلک جلّ الأصحاب ، مع کونهم من أهل الخبرة .

فدعوی خفاء هذا الدلیل علیهم، وعدم تنبّههم له مع کونهم ممارسین لتلک القواعد عاملین بها فی مواردها العدیدة ممنوعة، ناشئة عن الإعوجاج والاستبداد فی الرأی، فنفس إعراضهم عن الاعتماد علیها فی هذه الموارد أدلّ دلیل علی خروج هذه الموارد عن تلک القواعد ، إمّا لقصورها عن الشمول ، أو لوجدانهم دلیلاً علی خلاف ذلک، وهو بعید جدّاً .

نعم ، یصحّ التمسّک بتلک القواعد فی الکفن والدفن بواسطة عملهم وانجبارها بذلک . ولذلک ربما قیل بوجوب اللّف فی خرقة کما فی «النافع» و«القواعد» ، وقد ورد فی عبارة المصنّف ما لا إشکال فیه من قوله : «اقتصر علی لفّه فی خرقة» ، لأنّ الإجماع علی عدم وجوب التکفین _ علی فرض الثبوت _ کان علی المعهود من الکفن، ولا یشمل مثل اللّف ، فلا إشکال فی کونه أحوط، وإن اختار المحقّق فی المعتبر عدم الوجوب، وتبعه جماعة ممّن تأخّر عنه للأصل ، ولذلک لم یمکن القول بوجوب ذلک تعییناً کما لا یخفی .

(1) بأن کان عمره دون أربعة أشهر، فلا یغسل ولا یکفّن ولا یصلّی علیه، بلا خلاف فیه . نعم ، فی «المعتبر» بعد نفی الثلاثة، قال : «بل یلفّ فی خرقة ویُدفن» . ومثله فی «النهایة» و«المبسوط» و«المقنعة» ، وقال : «وهو مذهب العلماء إلاّ ابن سیرین ولا عبرة بخلافه ، ولأنّ المعنی الموجب للغسل وهو الموت مفقود» ، انتهی .

ص:313

والدلیل علیه: مضافاً إلی الإجماع وإلی الأصل ، ومفهوم الأخبار السابقة الدالّة علی عدم الوجوب فی الأقلّ من الأربعة من الغسل ، المکاتبة المرویّة عن محمّد بن الفضیل : «سأل أبا جعفر علیه السلام عن السقط کیف یصنع به؟ فکتب إلیه : السقط یُدفن بدمه فی موضعه» . وقد سبق وأن ذکرنا أنّه محمول علی ما دون الأربعة . نعم ، لیس فیه اللّف فی خرقة ، بل هو مُشعر بعدمه، ولذلک قال فی «الریاض» تبعاً «للمدارک» و«الذخیرة» : «إنّ مستند اللّف غیر واضح ، بل فی الرضوی المتقدّم وغیره الاقتصار علی الدفن بدمه ، ولذا خلا عنه کلام الشیخ وغیره ، ولکنّه منقول عن المفید وسلاّر والقاضی والکیدری، وهو أحوط» ، انتهی ما فی «الریاض» .

أقول: لکن قد عرفت دعوی الإجماع عن المحقّق فی «المعتبر» والعلاّمة فی «التذکرة» علی اللّف فی الخرقة والدفن ، بل المحکی عن «مجمع البرهان» نفی الخلاف عنه علی الظاهر، کما هو الظاهر من کلام المصنّف، حیث قد عطف علی سابقه من ذکر اللّف فی اللّحم بلا عظم ، بل فی «الروض» نسبة وجوبه إلی المتأخّرین ، فالقول بالوجوب لا یخلو عن قوّة إن تمّ الإجماع ، وإلاّ کان الأحوط وجوباً أن یلفّ فی الخرقة .

کما لا إشکال فی وجوب الدفن، کما فی الأخبار السابقة التصریح بالدفن کما ورد فی مکاتبة محمّد بن الفضیل الآنفة، و«الفقه الرضوی» والإجماعین السابقین عن العلمین الفاضلین، کما قد یشعر بذلک ما فی بعض المعتبرة من الأمر بوضع شعر المیّت وما سقط منه فی کفنه، مع عدم ظهور الإشکال فیه من أحد من الأصحاب. وممّا ذکرنا یظهر حکم أبعاض السقط من حکم نفس السقط بأدنی تأمّل، فلا حاجة للبحث عنه مستقلاًّ.

ص:314

وإذا لم یحضر المیّت مسلمٌ ولا کافرٌ ولا محرمٌ من النساء، دفن بغیر غُسلٍ ولا تقربه الکافرة ، وکذا المرأة ، ورُوی أنّهم یُغسّلون وجهها ویدیها (1).

ویجب إزالة النجاسة عن بدنه أوّلاً (2).

(1) وقد قدّمنا تفصیل الکلام فی مسألة کیفیّة تغسیل الرجل والمرأة عند عدم وجود مماثلهما من المسلم والکافر ، فلا یحتاج إلی الإعادة ، والحمد للّه أوّلاً وآخراً وظاهراً وباطناً .

غُسل الأموات / عند عدم المماثل

(2) أقول: ظاهر عبارة المصنّف وجوب الإزالة قبل الشروع، بل صریحه، إمّا بوجوب تعبّدی أو شرطی، بأن تکون الإزالة السابقة شرطاً فی غسل المیّت، بحیث لو لم یتحقّق ذلک وصبّ صبّة واحدة للإزالة والغسل کان الغُسل باطلاً.

غُسل الأموات / کیفیّة الغسل

وعلیه، فلابدّ من ملاحظة الأدلّة، وهل تدلّ علی الشرطیّة أو أنّ الإزالة حکمٌ تعبّدی؟ فنقول: ورد القول بالوجوب قبل الغسل فی کلام صاحب «القواعد» و«المعتبر» و«المنتهی» ، بل فی الأخیر نفی الخلاف فیه ، کما أنّ فی «التذکرة» و«نهایة الإحکام» الإجماع علی وجوب البدء بإزالة النجاسة عن بدنه ، وفی «المدارک» أنّ هذا الحکم مقطوع به بین الأصحاب ، کما أنّ فی «مجمع البرهان» و«الذخیرة» أنّ الظاهر أنّه لا خلاف فیه ، وعن «المفاتیح» الإجماع علیه ، هذا هو الحجّة . بل قد یستدلّ علیه بما تقدّم من مساواة غُسل المیّت مع غسل الجنابة ، بل فی بعض الأخبار أنّه عینه، فمن أوجب تقدیم الإزالة علی الغسل فیها، أوجب ذلک فی المقام ، مضافاً إلی أنّ العمل بما تقدّم موجب للقطع بالبراءة، بناءً علی اعتبار مثل ذلک فی مثله .

بل یمکن استفادته من بعض النصوص:

ص:315

منها: الخبر المروی عن فضل بن عبد الملک ، عن أبی عبداللّه علیه السلام ، قال : «سألته عن غسل المیّت ؟ فقال : اقعدهُ واغمز بطنه رفیقاً، ثمّ طهّره من غمز البطن، ثمّ تضجعه ، ثمّ تغسّله تبدأ بمیامنه ، الحدیث»(1) .

ومنها: الخبر المروی عن معاویة بن عمّار، قال : «أمرنی أبو عبداللّه علیه السلام أن أعصر بطنه ثمّ أوضّیه بالاُشنان ثمّ أغسل رأسه ، الحدیث»(2) .

ومنها: الخبر المروی عن یونس عنهم علیهم السلام ، قال : «إذا أردت غُسل المیّت ... ثمّ اغسل فرجه ونقّه ثمّ اغسل رأسه بالرغوة ، الحدیث»(3) .

ومنها: الخبر المروی عن عبداللّه الکاهلی، قال : «سألت أبا عبداللّه علیه السلام عن غُسل المیّت . . . ثمّ ابدأ بفرجه بماء السدر، والحرض فاغسله ثلاث غسلات، وأکثر من الماء، فامسح بطنه مسحاً رفیقاً، ثمّ تحوّل إلی رأسه ، الحدیث»(4) .

بل یصحّ فی المقام التمسّک بالأخبار الواردة فی غسل الجنابة، المشتملة علی الأمر بغسل الفرج قبل الغُسل، خصوصاً مع ملاحظة الأخبار الواردة فی الباب الثالث من أبواب غسل المیّت الدالّة علی مساواة غسل المیّت بغسل الجنابة ، حیث یستفاد منها وجوب ذلک فیه کما یجب فی غسل الجنابة، لا سیما إذا کان عینه، کما فی بعض الأخبار حیث یتمّ بها المطلوب .

ومنها: الخبر المروی عن العلاء بن سیابة، قال : «سئل أبو عبداللّه علیه السلام وأنا حاضر، عن رجل قتل فقطع رأسه فی معصیة اللّه أیغسّل أم یفعل به ما یفعل بالشهید؟ فقال : إذا قُتل فی معصیة یغسّل أوّلاً منه الدم، ثمّ یصبّ علیه الماء صبّاً ، الحدیث»(5) .


1- وسائل الشیعة : الباب 2 من أبواب غسل المیّت ، الحدیث 9 و 8 و 3 و 5 .
2- وسائل الشیعة : الباب 2 من أبواب غسل المیّت ، الحدیث 9 و 8 و 3 و 5 .
3- وسائل الشیعة : الباب 2 من أبواب غسل المیّت ، الحدیث 9 و 8 و 3 و 5 .
4- وسائل الشیعة : الباب 2 من أبواب غسل المیّت ، الحدیث 9 و 8 و 3 و 5 .
5- وسائل الشیعة : الباب 15 من أبواب غسل المیّت، الحدیث 1 .

ص:316

هذا کلّه هو الدلیل من جهة النصوص والفتاوی ، ولکن بعض الفقهاء کالمحقّق فی «المعتبر» علّل وجوب الإزالة قبل الغسل بأنّ المراد یطهّره، وإذا وجب الإزالة الحکمیّة، فوجوب الإزالة العینیّة عنه أولی، ولئلاّ ینجّس ماء الغسل بملاقاتها ، انتهی علی المحکی فی «مصباح الهدی»(1) .

وقد ذکر الشیخ الأعظم فی «الطهارة» هذه العبارة، واستفاد منها للاستدلال بوجوه ثلاثة : من توقّف تطهیر المیّت علی الإزالة ، وأولویّة إزالة النجاسة العینیّة من الحکمیّة ، وصون ماء الغسل عن النجاسة .

ثمّ قال : بأنّ مقتضی الأوّل والأخیر هو الوجوب الشرطی ، ومقتضی الثانی هو الوجوب النفسی .

ولکن استشکل علی وجوب تطهیره ، أوّلاً :

بأنّ بدن المیّت قبل الغسل میتةٌ نجس العین ، بناءً علی المشهور من نجاسته کسائر المیتات ، إلاّ أنّه قابل للتطهیر بالتغسیل، ولا یتصوّر تطهیره من نجاسته العرضیّة قبل تغسیله ، لأنّ نجس العین لا یطهر، ولا یصحّ تطهیر الدم مثلاً عن تنجیسه بالبول .

قال فی «کشف اللِّثام» : «بدن المیّت نجسٌ منجّس للماء، لا یطهر إلاّ بعد التغسیل ، فالتقدیم ممتنعٌ، إلاّ أن تجوز الطهارة من نجاسة دون اُخری ولم یعهد» ، انتهی .

واُجیب عن کلام «کشف اللِّثام»: بأنّ النجاسة والطهارة أمران توقیفیّان، فلا استحالة فی أن تؤثّر بعض أعیان النجاسات بملاقاته لنجاسة اُخری، وکان ممّا یرتفع أثره بغسله بالماء، فلا مانع عن صحّة الالتزام به إذا دلّ علیه الدلیل) .


1- مصباح الهدی : ج6 / 54 .

ص:317

واعترض علیه المحقّق الآملی، وقال فی مصباحه : «ولایخفی أنّ ما ذکر فی الجواب و وإن لم یکن ممتنعاً عقلاً ، لکن الإنصاف أنّه لم یعهد ذلک شرعاً، مع ما فی قیام الدلیل علیه کما ستعرف» . انتهی کلامه(1) .

أقول : لا یخلو کلامه وجوابه عن إشکال، لما قد عرفت دلالة الأخبار الواردة فی المقام علی ذلک، فبعد قیام الدلیل علیه، لا مانع من الالتزام بالافتراق فی الطهارة والنجاسة.

کما قاله المعترض علی من منع إمکان تطهیر النجس ، وما قاله الفاضل الهندی من عدم المعهودیّة من الشرع فی الافتراق وأیّده الآملی .

مندفعٌ : بأنّه کیف لا یکون معهوداً مع وجود مشابهه فی طهارة العنب المراد قلبه خلاًّ، حیث أنّه بعد صیرورته خمراً ینجس، ثمّ بعد انقلابه خلاًّ یتطهّر، إن لم یکن قد نجّسه نجاسة عارضیّة خارجیّة حیث لا یتطهّر ، فإنّ الطهارة والنجاسة مع کونهما أمران اعتباریان، ولکن الشارع قد اعتبرها طاهرة بالانقلاب بالنسبة إلی ذاته، ونجسة بالنسبة إلی عارضه ، مع أنّ النجاسة قبل صیرورته خلاًّ کانت ثابتة بالنظر إلی أمرین، وبعده لیس إلاّ بخصوص النجاسة العرضیة، ونظیره فی المتصدی لغُسل المیّت حیث یتطهّر بنفس طهارة بدن المیّت ، مع أنّه یکون کذلک ما لم ینجّس بنجاسة خارجیّة، وکذلک فی طهارة ماء الاستنجاء ما لم یتجاوز النجاسة عن موضع الغائط، أو ما لم یخرج معه نجاسة اُخری مثل الدم وإلاّ کانت غسالته نجسة ، ولیس هذه الاُمور إلاّ من جهة أنّ الأحکام الشرعیّة اُمور اعتباریّة مرتبطة بکیفیّة اعتبار الشارع لها.


1- مصباح الهدی : ج6 / 56 _ 57 .

ص:318

فربما کان المقام من هذا القبیل، أی أنّ الشارع اعتبر فی الماء الذی یرید أن یطهّر به بدن المیّت ویغسله به، أن یکون طاهراً من النجاسات العرضیّة کالدم والغائط والبول ونحوها ، ولو کان الماء قد یتنجّس بنفسه بملاقاته ببدن المیّت إلی أن یتمّ الغسل، فیصیر حینئذٍ مطهّراً للبدن، ومحقّقاً للغسل الواجب ، فلا ینافی عند الشرع بین هذین الأمرین اللّذین یتوهّم التنافی بینهما بظاهر العرف، لولا قیام الدلیل علیه کما لا یخفی .

الجواب عن الإشکال الثانی: وممّا ذکرنا فی الجواب من الإشکال الأوّل ، ظهر الجواب عن الإشکال الثانی، وهو أنّ إزالة النجاسة العرضیّة عن بدنه ممتنعة، لملاقاة بدنه بماء الإزالة المفروض کونه نجس العین قبل التغسیل ، لما قد عرفت من عدم الاستبعاد بحصول التطهیر والغسل بذلک الماء الذی قد تنجّس بالملاقاة، نظیر طهارة ماء القلیل لموضع الغائط بعد إزالة النجاسة، حیث اعتبر الشارع غسالة الاستنجاء طاهرةً ، مع أنّ انفعال ماء القلیل بالنجاسة یعدّ من الضروریّات الشرعیّة فی غیر هذا المورد.

وبالجملة: فالأقوی عندنا _ کما دلّ علیه النصوص _ لزوم تقدیم إزالة النجاسة علی الغسل ، لکن السؤال أنّه: هل یجب هذا التقدیم لمجموع البدن بحیث یکون البدء بغُسل المیّت بعد خلوّ جسم المیّت من النجاسات مطلقاً، بحیث لو بقیت النجاسة فی جزء صغیر من جسمه لکان غُسله باطلاً ؟

أو یکفی فی التقدیم إزالة النجاسة عن نفس العضو المغسول دون سائر الأعضاء؟

والظاهر کفایة الثانی، لإمکان أن یکون ملاحظة المجموع فی التقدیم بلحاظ تسهیل الأمر فی ذلک من دون أن یکون فیه خصوصیّة تعبّدیّة.

وممّا ذکرنا یثبت أنّ ما التزم به المحقّق الهمدانی أو ما استفید من کلام بعض

ص:319

ثمّ یغسّل بماء السدر، یبدأ برأسه ثمّ جانبه الأیمن ثمّ الأیسر (1).

الأصحاب، من تجویز التقدیم فی بعض الأعضاء متدرّجاً إلی أن یشمل تمام البدن، لیس مخالفاً مع من یری وجوب الإزالة مطلقاً قبل الغُسل.

وهنا نواجه سؤالاً آخر وهو إنّه علی فرض لزوم التقدّم، فهل الوجوب شرطی أو تعبّدی؟ فإن کان الأوّل، فلازمه بطلان الغسل فی صورة تخلّفه بخلاف الثانی حیث لم یترتّب علیه إلاّ العصیان .

أقول: ولا یبعد کون الأوّل هو الأوجه، لما قد عرفت من تصریح الشیخ الأعظم أنّ صون الماء عن النجاسة قبل الغُسل شرطی ، کما أنّ نفس الإزالة لطهارة الموضع من النجاسة العرضیّة أیضاً شرطی، وإن کان بنفسه نجساً بسبب الموت، کما فی «العروة» من الحکم بوجوب التقدیم وهو مختارنا کما هو مختار کثیر من الفقهاء ممّن علّق علی «العروة».

مضافاً إلی أنّ التقدیم موافق للاحتیاط فی کلّ ما اشتغلت به الذمّة یقیناً، مع عدم ثبوت خصوص المبرئ شرعاً، خصوصاً إذا قدّم الإزالة علی کلّ الغسل، کما هو المنصرف إلیه فی النصوص، وإن کان الحکم بالتقدیم کذلک جزماً غیر ثابت ، واللّه العالم .

(1) أقول: لا یخفی أنّ وجوب غسل المیّت الثابت بالأدلّة السابقة، لا یسقط إلاّ بالامتثال، وهو لا یحصل إلاّ بالنیّة ؛ لأنّ مثل هذه الفرائض والواجبات الشرعیّة لا تصحّ ولا تتحقّق إلاّ مع القصد والنیّة ، لأنّه من الواضح أنّه لیس المقصود من الأمر بذلک تحقّق ذات العمل کیفما اتّفق ، بل الواجب إیجادها علی ما هو المطلوب شرعاً ، وهو لیس إلاّ بإتیانه بکیفیّة خاصّة، وإیجادها علی ذلک لا یکون إلاّ من خلال النیّة.

ص:320

غایة الأمر، هل یکفی مجرّد ذلک، أم لابدّ أن یقوم بإحضار الفعل المطلوب مع قصد القربة حتّی یصیر عبادة ؟

قال صاحب «الجواهر»: «إنّ قصد القربة شرط فیه علی الأقوی، وفاقاً للمشهور نقلاً وتحصیلاً ، بل نسبه فی «جامع المقاصد» ، تارةً : إلی ظاهر المذهب ، واُخری : إلی المتأخّرین . بل عن «المعتبر» و«الذکری» و«جامع المقاصد» نقلاً عن الشیخ فی «الخلاف» الإجماع علیه ، لکن لم نتحقّقه إذ الموجود فیما حضرنی من نسخته: «مسألة: غُسل المیّت یحتاج إلی نیّة، ثمّ نقل عن الشافعی، إلی أن قال : دلیلنا طریقة الإمامیّة ، لأنّه لا خلاف فی أنّه إذا نوی الغسل یجزی دون ما لم ینو» انتهی، وهو کما تری . وکیف کان، فنحن فی غُنیة منه، لأصالة العبادة فی کلّ ما أمر به...»(1) .

قلنا : قیام الشهرة أو الإجماع علی اعتبار النیّة ، بل کونها هو قصد القربة ، مسلّم، خصوصاً عند المتأخّرین حتّی المعاصرین ، وهما أو أحدهما هو الحجّة، لا سیما مع ملاحظة وجود الإجماع علی لزوم قصد القربة فی غسل الجنابة، الذی مضی بحثه تفصیلاً فی محلّه ، فإذا انضمّ إلیه ما ورد فی الأخبار المستفیضة من کون غسل المیّت کغسل الجنابة أو عینه ، فینتج لزوم قصد القربة فیه ، بل فی بعضها التعلیل بخروج النطفة من المیّت عند الموت ، ومثل ذلک لا یحسن التشبیه بإزالة النجاسة والخبث ، کما وقع ذلک فی دلیل المخالفین ومنهم السیّد المرتضی فی «المصریّات» ، واختاره العلاّمة فی «المنتهی»، ومالَ إلیه بعض متأخّری المتأخّرین اعتماداً علی الأصل وإطلاق الأدلّة .


1- الجواهر : ج4 / 118 .

ص:321

ومنع کونه عبادة لا تصحّ إلاّ مع النیّة، فضلاً عن جریان أصالة عدم التخصیص والتقیید فی الإطلاق والعموم ، مضافاً إلی أنّ الإتیان مع قصد القربة مطابق للاحتیاط . فإذا لاحظنا هذه الاُمور، مع قیام الإجماع یصحّ حینئذٍ الحکم والفتوی بلزوم النیّة وقصد القربة.

وأمّا الاستدلال علی لزوم قصد القربة بما استدلّ به صاحب «الجواهر» هنا، وفی باب الوضوء تفصیلاً حیث جعل الأصل فی جمیع الأوامر العبادیّة ممّا تقتضی القصد، فممنوع لعدم خلوّ کلّها أو جلّها عن النقاش ، ومَن أراد الاطّلاع علیها وعلی تفصیلها فلیرجع إلی باب الوضوء ، فعلی ذلک لا مجال للشکّ والتردّد فی الحکم بلزوم القصد کما وقع فی «المعتبر» و«التذکرة» و«نهایة الإحکام» وغیرهم ممّن تبعهم ، فلا تحتاج هذه المسألة للمزید من المناقشة وبیان أزید من ذلک .

کما لا نحتاج هنا البحث عن حکم قصد الوجه من الوجوب والندب ، إذ لم نعتبره فی سائر الواجبات العبادیّة التی تعدّ أشدّ عبادیّة من غسل المیّت کما عرفت تحقیقه فی باب الوضوء، فضلاً عمّا فی المقام .

کما أنّه لا مجال للبحث عن لزوم قصد رفع الحدث أو نیّة الاستباحة ، بل فی «الجواهر» لعلّ الأمر هنا اتّفاقی إلی عدم وجوبه لعدم المقتضی .

وتوهّم: أنّ خروج النطفة الوارد فی الروایات قد یوجب وجوب نیّة رفعه، أو أنّ اشتراط التکفین والصلاة علیه قد یوجبان قصور الاستباحة .

مندفع : بأنّ ذکر الأولی لیست إلاّ من باب بیان الحکمة التی اقتضت جعل الحکم، لا بیان جهة الحدث حتّی یحتاج رفعه إلی النیّة.

أقول: ولا یخفی ما فیه من الإشکال، لعدم التنافی بینهما، لأنّه من الممکن کونه

ص:322

حکمة من جهة، وبیاناً دالاًّ علی أنّه حدثٌ من جهةٍ اُخری، فیجب قصد رفعه.

فالأولی أن یُقال : إنّه لو کان ذلک واجباً، لکان المقتضی أن یذکر فی الأدلّة الشرعیّة ببیان أوفی وأصرح، ومع عدمه، فالأصل یقتضی عدم اعتباره.

کما یندفع عن الثانیة بأنّها اُمور واجبة مترتّبة علیه، ولیست من الاُمور التی تجب نیّتها، کما لا یخفی علی المتأمّل .

أقول: هاهنا عدّة فروع یقتضی المقام التعرّض لها:

الفرع الأوّل : قال صاحب «الجواهر» : إنّ الظاهر الاجتزاء بنیّة واحدة للأغسال الثلاثة، وفاقاً لصریح جماعة وظاهر آخرین وخلافاً لصریح «الروض» و«الروضة» و«الریاض» ، حیث أوجبوا تعدّدها للأغسال الثلاثة، وکأنّه لعموم ما دل علی أنّه لا عمل إلاّ بنیّة ونحوها ، فالأصل یقتضی إیجابها لکلّ عمل ، بل ما شکّ فی کونه عملاً واحداً أو أعمالاً متعدّدة ، بل لولا الإجماع علی عدم وجوب تجدیدها فی أجزاء العمل الواحد لکان المتّجه ذلک فیه أیضاً .

فکیف مع ظهور الأعمال المتعدّدة المستقلّة فی المقام، کما یوحی إلیه تشبیه کلّ واحدٍ منها بغسل الجنابة فی النص والفتوی، وما سیأتی من عدم سقوط بعضها عند تعذّر الآخر ، ومع ذلک فهو الموافق للاحتیاط .

أقول : أفضل ما یمکن أن یتمسّک به لإثبات لزوم التعدّد، نفس الأخبار الواردة حیث قد عبّر عن الواجب بالأغسال الثلاثة .

واحتمال کون المقصود من الأوّلین التنظیف ونحوه، وأنّ الغسل الحقیقی هو الأخیر . ضعیف، ولا ینافی التعدّد بأن یطلق علیه بلفظ الوحدة من غسل المیّت فی قبال سائر الأغسال من الجنابة وغیرها ، ففی هذا اللّحاظ ینظر إلی وحدة الثلاث بلحاظ کونها غسلاً للمیّت ، ولأجل ذلک لا یبعد کفایة النیّة الواحدة

ص:323

بملاحظة هذا الغسل الذی هو قریب من الأغسال الثلاثة، فکأنّه قد نوی الغسل بماء السدر أوّلاً وبماء الکافور ثانیاً وبماء القراح ثالثاً ، وإلاّ فی الحقیقة یحتاج کلّ واحدٍ منها إلی نیّة مستقلّة .

ولذلک لو غفل عن النیّة وغسل واحد منها غیر قاصد کونه غسلاً، کان کافیاً فی تحقّق غسل المیّت ، بل لابدّ من إعادته وإعادة ما بعده ، کما أنّه لو لم یکن مجزیاً فیما لو أوجد بعضها بقصد الغسل فارتدع عن قصده وأتی بما عداه لا بقصد الغسل حیث لم یکن مجزیاً.

وما ورد فی بعض الأخبار کالمروی عن الإمام موسی بن جعفر علیهماالسلام : «عن المیّت یموت وهو جنب ؟ قال علیه السلام : غسل واحد»(1) .

وهکذا فی الخبر المروی عن أبی بصیر عن أحدهما علیهماالسلام : «فی الجنب إذا مات ؟ قال : لیس علیه إلاّ غسلة واحدة»(2) .

وغیر ذلک من الأخبار، حیث تدلّ ظاهرها وإطلاق العنوان علیه علی الوحدة فی غسل المیّت . لا ینافی ما ادّعیناه من التعدّد ، لأنّ المقصود من الوحدة هنا هو ما یقابل ضمّ غسل آخر إلیه للجنابة، لا فی قبال تثلیث غسله ، إذ غسل المیّت المقابل مع ضمّ غسل الجنابة إلیه واحد، وإن کان مشتملاً علی أغسال متعدّدة، کما یظهر ذلک من بعض الأخبار الواردة، کالخبر المروی عن حریز، عن زرارة، عن الباقر علیه السلام : «فی میّت مات وهو جنبٌ کیف یغسّل ؟ وما یجزیه من الماء؟

قال علیه السلام : یغسّل غسلاً واحداً، یجزی ذلک للجنابة، ویغسّل المیّت لأنّهما حرمتان اجتمعتا فی حرمة واحدة»(3) .

فإذا استفدنا الحکم المذکور من الأخبار التی تعدّ من الأدلّة الاجتهادیة، فلا


1- وسائل الشیعة : الباب 31 من أبواب غسل المیّت، الحدیث 3 و 2 و 1 .
2- وسائل الشیعة : الباب 31 من أبواب غسل المیّت، الحدیث 3 و 2 و 1 .
3- وسائل الشیعة : الباب 31 من أبواب غسل المیّت، الحدیث 3 و 2 و 1 .

ص:324

یبقی للأصل وهو البراءة عن التعدّد فی النیّة موردٌ، لأنّه دلیل فقاهتی .

مع أنّه لو سلّمنا جواز الرجوع إلی البراءة، لاحتمال وجوب کون المقام من موارد الاحتیاط ؛ لأنّه قاطع بشغل ذمّته، فلابدّ من القطع بالفراغ ، کما أنّ التشبیه الوارد فی بعض الأخبار بکون غسل المیّت کغسل الجنابة، منصرف إلی إرادة بیان الکیفیّة لا المشابهة فی جمیع الجهات حتّی فی الوحدة ، أو یحمل علیه لو سلّمنا ذلک، لمعارضته مع ما دلّ علی التثلیث .

وعلیه فالقول بالتعدّد کما هو المشهور، هو المنصور ، واللّه العالم .

الفرع الثانی: بناءً علی المختار فی الفرع السابق، لابدّ من نیّة مستقلّة لکلّ غُسل من الأغسال الثلاثة، برغم أنّ کلّ واحد منها یعدّ جزءاً لأصل غُسل المیّت، لکن هذه الجزئیّة لا تنافی استقلالیّة کلّ واحد منها فی نفسه، فلا یقاس المقام بأجزاء العمل الواحد من کفایة نیّة واحدة، وبعبارة اُخری لا یکون کلّ واحد منها مثل الجزء بالنسبة إلی الکلّ حتّی یقال بعدم جواز تجدید النیّة فی أجزاء عمل واحد، إن اُرید نیّة الجزء لا من حیث الجزئیّة، وإلاّ لا یضرّ، کما لا یضرّ حینئذٍ عدم قصد شیء من ذلک ، ولذلک یجوز لمن أراد الاحتیاط هنا بتجدید النیّة أن یجدّدها من دون تعرّض للجزئیّة وعدمها، لو قلنا بجواز ذلک وکفایته، وإلاّ لیس ذلک احتیاطاً لمن أوجب النیّة علی التعدّد لکلّ واحدٍ منها .

ومن ذلک تعرف إمکان توزیع الثلاثة فی العمل علی المکلّفین، لعدم کونه عملاً واحداً حتّی یتوهّم عدم الجواز ، مع أنّه أیضاً جائز إذا أوجبنا النیّة علی کلّ واحد منهم، علی فرض کون الثلاثة من أجزاء الغسلة الواحدة .

نعم ، یشکل ذلک لو أوجبنا الوحدة فی العمل للمکلّف، واشتراط صحّة وقوع کلّ العمل بمجموعه عن واحد منهم ، فحینئذٍ لا یمکن فیه فرض التوزیع، لکن لا

ص:325

دلیل علی ذلک .

الفرع الثالث: أنّه لا إشکال فی اعتبار صدور النیّة عمّن یقوم بعملیّة الغُسل حقیقةً، سواء کان متّحداً أو متعدّداً ، لکونه هو المأمور به للتغسیل ، فلا عبرة بنیّة غیره .

غایة الأمر یقع الکلام فی أنّه لو تعدّد من یقوم بعملیّة الغسل فاشترک جماعة فیها بأن یصبّ أحدهم الماء والآخر یقلّب المیّت والثالث یناولهم وهکذا، فهل الواجب صدور النیّة من الأوّل أو الثانی أو کلاهما؟

فقد یظهر من الشهید فی «الذکری» القول بالاجتزاء بنیّة المقلّب، لکون الصابّ کالآلة حینئذٍ .

ولکن صرّح صاحب «الجواهر»: أنّه ضعیف إن أراد صحّة النیّة منه ، وإن لم یصدق علیه اسم الغاسل ، وکذا إن ادّعی أنّه الغاسل حقیقة، لظهور أنّ الغسل إنّما هو إجراء الماء ولا مدخلیّة للمقلّب فیه .

أقول: ولکن الإنصاف یقتضی بملاحظة من ما یصدق علیه عرفاً کونه غاسلاً فیجب النیّة منه ، ولا یبعد فی بعض الموارد دوران الصدق علیهما، لو لم یکن فی البین قرینة علی التعیین، کما لو کان الصابّ مجنوناً أو صبیّاً علی حدّ لا شرعیّة للعمل الصادر منه، فحینئذٍ یکون عمله فی الصبّ نظیر الأنابیب التی تنقل المیاه حیث لا دخالة لإسناد الغسل إلیها .

فعلی هذا یدور الحکم مدار الصدق العرفی فی تصدّی النیّة، فلا یبعد لزوم صدور النیّة عن کلیهما فی بعض الموارد ، وکما هو الموافق للاحتیاط، حتّی لو التزمنا بصحّة العمل فیما إذا کان أحد المتصدّین مجنوناً أو صبیّاً، إذا فرض کون الصدق هنا عرفاً مستنداً إلی المقلّد .

وعلی کلّ حال، القول بلزوم النیّة کلیهما عمّن یصحّ منه ذلک، یعدّ أظهر وأوفق

ص:326

بالاحتیاط، بمقتضی الاشتغال الیقینی حیث یستدعی الفراغ الیقینی.

أقول: وممّا ذکرنا یظهر جواز صدور غسل المیّت عن المتعدّد، بأن یترتّب الغاسلون فی فعل غَسلة واحدة، بحیث یتصدّی کلّ واحد منهم لغُسل واحد، بأن یغسله الأوّل بالسدر والثانی بالکافور والثالث بماء القراح ، اعتبرت النیّة من کلّ منهم ، لأنّ عمل کلّ واحد بنفسه عملٌ یحتاج إلی نیّة، ولا یجوز له الاکتفاء بالنیّة الصادرة من الآخر.

وتوهّم: ظهور الأدلّة فی الاتّحاد فی المباشر، أو ظهورها فی شرطیّة الاتّحاد وبکونه شرطاً فی صحّة العمل .

غیر وجیه ، لإطلاق الأدلّة فی ذلک، وکون ظهورها فی لزوم أن یقوم واحد بغسل بدن المیّت من بین سائر المکلّفین، وکونه مورد الخطابات الشرعیّة، لا شرطیّة الوحدة فی الغاسل فی صحّة غسل المیّت ، ولکن مع ذلک کلّه الاحتیاط فی الوحدة ، فلا ینبغی ترکه .

الفرع الرابع : فی أنّ الواجب فی غسل المیّت ثلاثة أغسال بالکیفیّة التی ذکرها المصنّف فی کلامه، من الغسل أوّلاً بماء السدر، ثمّ بماء الکافور ثانیاً ، وأخیراً بماء القراح ثالثاً، وهذه الکیفیّة متّفقة علیها، لم أجد فیها خلافاً بین الأصحاب، إلاّ عن سلاّر کما اعترف به جماعة منهم المصنّف فی «المعتبر» ، بل عن «الخلاف» و«الغنیة» الإجماع علیه .

والدلیل علیه أوّلاً: الإجماع بکلا قسمیه من المنقول کما عرفت، والمحصّل حیث لم یشاهد مخالفاً إلاّ عن الشاذّ المعروف نسبه ، وهو غیر قادح، کما لا یخفی .

ثانیاً: دلالة أخبار مستفیضة المشتملة علی الأمر بذلک، المؤیّدة بالتأسّی .

بل قد یقال _ کما فی «الوسائل» _ إنّه روی العلاّمة فی «المختلف» عن ابن أبی

ص:327

عقیل، أنّه قال : «تواترت الأخبار عنهم علیهم السلام أنّ علیّاً علیه السلام غسّل رسول اللّه صلی الله علیه و آله ثلاث غسلات فی قمیصه، وباستمرار العمل علیه، ولا شیء من المستحبّ لذلک» .

فلا بأس بذکر الأخبار فی الجملة .

منها : صحیحة ابن مسکان، عن أبی عبداللّه علیه السلام ، قال : «سألته عن غسل المیّت ؟ فقال : اغسله بماءٍ وسدر، ثمّ اغسله علی أثر ذلک غسلة اُخری بماء وکافور وزریرة(1) إن کانت، واغسله الثالثة بماء قراح .

قلت : ثلاث غسلات لجسده کلّه؟ قال : نعم ، الحدیث»(2) .

ومنها : صحیحة الحلبی عن أبی عبداللّه علیه السلام ، قال : «إذا أردت غسل المیّت فاجعل بینک وبینه ثوباً یستر عنک عورته، إمّا قمیص وإمّا غیره ، ثمّ تبدأ بکفّیه ورأسه ثلاث مرّات بالسدر ثمّ سائر جسده ، وابدأ بشقّه الأیمن فإذا أردت أن تغسّل فرجه . إلی أن قال : فإذا فرغت من غسله بالسدر، فاغسله مرّة اُخری بماء وکافور، وشیء من حنوطه ، ثمّ اغسله بماء بحت غسلة اُخری ، حتّی إذا فرغت من ثلاث غسلات ، الحدیث»(3) .

ومنها : روایة اُخری مرویّة عن الحلبی أیضاً ، قال : «قال أبو عبداللّه علیه السلام : یغسّل المیّت ثلاث غسلات ؛ مرّة بالسدر، ومرّة بالماء یطرح فیه الکافور، ومرّة اُخری بالماء القراح ، ثمّ یکفّن ، الحدیث»(4) .

ومنها : روایة یونس، عنهم علیهم السلام قال : «إذا أردت غسل المیّت فضعه علی


1- زریرة : نحوٌ من الطیب .
2- وسائل الشیعة : الباب 2 من أبواب غسل المیّت، الحدیث 1 .
3- وسائل الشیعة : الباب 2 من أبواب غسل المیّت، الحدیث 2 و 4 .
4- وسائل الشیعة : الباب 2 من أبواب غسل المیّت، الحدیث 2 و 4 .

ص:328

المغتسل ، إلی أن قال : واعمد إلی السدر فصیّره فی طشت، وصبّ علیه الماء واضربه بیدیک حتّی ترتفع رغوته . إلی أن قال : ثمّ اغسل رأسه بالرغوة، وبالغ فی ذلک واجتهد أن لا یدخل الماء منخریه ومسامعه ، ثمّ اضجعه علی جانبه الأیسر وصبّ الماء من نصف رأسه إلی قدمیه ثلاث مرّات، وادلک بدنه دلکاً رفیقاً، وکذلک ظهره وبطنه ، ثمّ اضجعه علی جانبه الأیمن، وافعل به مثل ذلک . إلی أن قال : ثمّ صبّ الماء فی الآنیة، والق فیه حبّات کافور، وافعل به کما فعلت فی المرّة الاُولی ، إلی قوله : والآنیة صبّ فیها ماء القراح، واغسله بماء قراح کما غسلته فی المرّتین الاُولتین ، الحدیث»(1) .

ومنها : روایة الکاهلی ، قال : «سألت أبا عبداللّه علیه السلام عن غسل المیّت ؟

فقال : استقبل ببطن قدمیه القبلة ، إلی أن قال : ثمّ ابدأ بفرجه بماء السدر، والحرض فاغسله ثلاث غسلات .

إلی أن قال : ثمّ ردّه علی جانبه الأیمن، لیبدو لک الأیسر فاغسله بماء من قرنه إلی قدمیه، وامسح یدک علی ظهره وبطنه ثلاث غسلات بماء الکافور والحرض ، وامسح یدک .

إلی أن قال : ثمّ ردّه علی ظهره ثمّ اغسله بماء قراح کما صنعت أوّلاً ، الحدیث»(2) .

ومنها : روایة سلیمان بن خالد، قال : «سألت أبا عبداللّه علیه السلام عن غسل المیّت کیف یغسّل؟ قال : بماءٍ وسدرٍ، واغسل جسده کلّه أو اغسله اُخری بماءٍ وکافور،


1- وسائل الشیعة : الباب 2 من أبواب غسل المیّت، الحدیث 3.
2- وسائل الشیعة : الباب 2 من أبواب غسل المیّت، الحدیث 3.

ص:329

ثمّ اغسله اُخری بماء ، قلت : ثلاث مرّات؟ قال : نعم ، الحدیث»(1) .

ومنها : روایة یعقوب بن یقطین ، قال : «سألت العبد الصالح عن غسل المیّت ؟ إلی أن قال : غُسل المیّت تبدأ بمرافقه فیغسل بالحرض، ثمّ یغسل وجهه ورأسه بالسدر ، ثمّ یُفاض علیه الماء ثلاث مرّات... ویجعل فی الماء شیء من السدر وشیء من الکافور ... ثمّ یغسّل الذی غسّله یده قبل أن یکفّنه إلی المنکبین ثلاث مرّات ، الحدیث»(2) .

ومنها : روایة أبان ، عن الحسین بن سعید ، عن فضالة ، عن حسین _ یعنی ابن عثمان _ عن ابن مسکان جمیعاً ، عن أبی العبّاس _ یعنی الفضل بن عبد الملک _ عن أبی عبداللّه علیه السلام ، قال : «سألته عن غسل المیّت ؟ إلی أن قال : ثمّ تضجعه ثمّ تغسله تبدأ بمیامنه، وتغسله بالماء والحرض، ثمّ بماء وکافور ، ثمّ تغسله بماء القراح واجعله فی أکفانه»(3) .

ومنها : روایة عمّار بن موسی، عن أبی عبداللّه علیه السلام فی حدیثٍ : «ثمّ تبدأ فتغسل الرأس واللّحیة بسدر حتّی ینقیه ... ثمّ بجرّة من کافور یجعل فی الجرّة من الکافور نصف جهة، ثمّ تغسل رأسه ولحیته ... ثمّ تغسله بجرّة من ماء القراح، فذلک ثلاث جرار فإن زدت فلا بأس ، الحدیث»(4) .

ومنها : الروایة المعتبرة عن مؤذّن بنی عدی ، عن أبی عبداللّه علیه السلام ، قال : «غسّل علیّ بن أبی طالب علیه السلام رسول اللّه صلی الله علیه و آله بالسدر، والثانیة بثلاثة مثاقیل من کافور، ومثقال من مسک، ودعا بالثالثة بقربة مشدودة الرأس


1- وسائل الشیعة : الباب 2 من أبواب غسل المیّت، الحدیث 6 و 7.
2- وسائل الشیعة : الباب 2 من أبواب غسل المیّت، الحدیث 6 و 7.
3- وسائل الشیعة : الباب 2 من أبواب غسل المیّت، الحدیث 9 و 10.
4- وسائل الشیعة : الباب 2 من أبواب غسل المیّت، الحدیث 9 و 10.

ص:330

فأفاضها علیه ، ثمّ أدرجه»(1) .

أقول: فهذه جملة من الأخبار الدالّة بالصراحة علی ذلک، وتبلغ حدّ التواتر ، مضامینها دالّة علی المطلوب متّفقة ، فالأقوی عندنا ما علیه المشهور ، بل الإجماع من وجوب ثلاث أغسال بالکیفیّة المذکورة فی کلام المصنّف قدس سره .

وعلیه فلا یعتنی بما ذهب إلیه سلاّر من إیجاب غسل واحد تمسّکاً بالأصل، وهو البراءة عن الزائد ، لأنّه غیر وجیه لو سلّمنا أصله، لإمکان المناقشة بکون الأصل هنا الاشتغال أو الاستصحاب ببقاء الحدث أو الخبث قبل الإتیان بالثلاثة بواسطة الأخبار المذکورة إذ مع وجودها وصراحتها لا یبقی شکّ حتّی نضطرّ للرجوع إلی الأصل ، کما لا یخفی .

کما أنّ الاستدلال بما دلّ بکون غسل المیّت کغسل الجنابة .

مدفوعٌ بکون التشبیه فی الکیفیّة لا فی الوحدة المذکورة .

وأمّا ما ورد فی بعض الأخبار من الإشارة إلی وحدة الغسل لمن مات جنباً ، محمول علی عدم لزوم تعدّد الغسل، بل یکفی الواحد للجنابة والمیّت، لا لبیان وحدة الغسل .

مع أنّه یمکن أن تکون الوحدة بلحاظ إسناده إلی المیّت، فی قبال غسل الجنابة والحیض وغیرهما ، فلا ینافی کونه بنفسه مشتملاً علی أغسال ثلاثة ، ولذا قال العلاّمة فی «المختلف» بعد ذکره ذلک مستنداً لسلاّر: «ولیس بدالّ علی صورة النزاع ، لأنّ غسل المیّت عندنا واحد ، إلاّ أنّه یشتمل علی ثلاثة أغسال» ، انتهی .

فلعلّ بذلک یرتفع النزاع فیصبح نزاعاً لفظیّاً، ویثبت أنّ التثلیث فی غسل المیّت إجماعیّ لا خلاف فیه .

کما أنّه لا إشکال فی دلالة الأخبار المتقدّمة علی وجوب الخلیطین والترتیب


1- وسائل الشیعة : الباب 2 من أبواب غسل المیّت، الحدیث 11 .

ص:331

بالسدر والکافور وأخیراً الماء القَراح (بفتح القاف) ، خلافاً لما یظهر من عبارتی ابنا حمزة وسعید علی استحباب الخلیطین، حیث قال الأوّل : «فالواجب ستّة أشیاء ... والمندوب سبعة وعشرون شیئاً ، إلی أن قال : وغسله أوّلاً بماء السدر وثانیاً بماء جلال الکافور ، وثالثاً بالماء القراح» ، انتهی.

وأصرح منه کلام ابن سعید، حیث قال : «وإنّ من الواجب غسله ثلاثة أغسال، علی صفة غسل الجنابة، إلی أن قال : ویستحبّ إضافة قلیل سدر إلی الماء الأوّل ، ونصف مثقال من کافور إلی الثانی» . انتهی.

ومن هنا حکی عنهما «کاشف اللِّثام» وصاحب «الجواهر» ما ذکرنا ، بل قد نسب صاحب «المختلف» و«الذکری» إلی ابن حمزة خلافه فی وجوب الترتیب ، ولکن قد عرفت کلامهما، وظهوره فی استحباب الخلیطین، لا نفی وجوب الترتیب، ولعلّه یفید ذلک من أجل القول باستحباب الخلیطین، لأنّهما هما الممیّز للأوّلیة والثانویّة ، فإذا ثبت استحبابهما فلا یبقی مورد لوجوب الترتیب کما لا یخفی .

وعلی أیّ حال، لا إشکال ولا خلاف فی وجوبهما أوّلاً لدلالة الدلیل، وثانیاً لقیام الإجماعین السابقین المعتضدین بالتتبّع فی کلمات الأصحاب، وثالثاً بمقتضی الاحتیاط والتأسّی ، ورابعاً بدلالة الأخبار المتواترة الصریحة فی ذلک .

وما یتوهّم: خلاف ذلک من الأخبار، مثل الروایة المرویّة عن معاویة بن عمّار، قال : «أمرنی أبو عبداللّه علیه السلام أن أعصر بطنه ثمّ أوضّأه بالاُشنان، ثمّ أغسل رأسه بالسدر ولحیته، ثمّ أفیض علی جسده منه ، ثمّ أدلک به جسده ، ثمّ أفیض علیه ثلاثاً ثمّ أغسله بالماء القراح ، ثمّ أفیض علیه الماء بالکافور وبالماء القراح،

ص:332

وأطرح فیه سبع ورقات سدر»(1) .

وکذا روایة یعقوب بن یقطین، عن العبد الصالح علیه السلام ، أنّه قال : «یبدأ بمرافقه فیغسل بالحرض، ثمّ یغسل وجهه ورأسه بالسدر، ثمّ یفاض علیه الماء ثلاث مرّات ، ولا یغسل إلاّ فی قمیص یدخل رجل یده ویصبّ علیه من فوقه، ویجعل فی الماء شیء من سدر وشیء من کافور»(2) .

ممنوع: بل لابدّ من تأویلهما بما یطابق الأخبار السابقة أو طرحها ، إذ من الواضح عدم قدرة هذین الخبرین علی معارضة الأخبار المعتبرة المستفیضة لولا المتواترة ، فالمسألة واضحة لا سترة فیها .

فإن قیل: لا یجب الغَسل بالسدر لما عدا الرأس من البدن، لما نقل عن الشیخ فی «المبسوط» و«النهایة» _ علی المحکی فی «الجواهر» _ بأنّه لا نجد تصریحاً بالغسل بالسدر فی الغسل الأوّل إلاّ فی غسل الرأس دون سائر الجسد .

قلنا: لیس علی ما ینبغی ، لأنّه :

أوّلاً : ورد التصریح فی بعض الأخبار بکون الغسل بالسدر فیالغسلة الاُولی لجمیع الجسد کما فی خبر ابن سنان ، وصحیح الحلبی وسلیمان بن خالد .

وثانیاً : إنّ الأخبار المشتملة لخصوص غسل الرأس _ مثل روایة یونس _ أیضاً فیها ما یدلّ علی کونه للجمیع کما فی قوله : «فصیّره فی طشتٍ وصبّ علیه الماء» ، وإن کان بعده ما یوهم اختصاص الغسل بالرأس کما فی قوله علیه السلام : «اغسل رأسه بالرغوة» ، لکن لا یمکن الأخذ بظاهره، لأنّه یستلزم أن یکون


1- وسائل الشیعة: الباب 2 من أبواب غسل المیّت، الحدیث 13.
2- وسائل الشیعة: الباب 2 من أبواب غسل المیّت، الحدیث 14 .

ص:333

وأقلّ ما یلقی فی الماء من السِّدر، ما یقع علیه الاسم، وقیل مقدار سبع ورقات (1).

الغسل الثانی بالکافور والثالث بالقراح أیضاً لخصوص الرأس ، لأنّه قال فی حقّقهما افعل به کما فعلت فی المرّة الاُولی ، وفی الثالث فی المرّتین، والالتزام بذلک مخالف للإجماع والنصوص، کما لا یخفی ، فبذلک یظهر لزوم حمل ما اشتمل علی خصوص الرأس _ مثل روایة یعقوب بن یقطین _ علی کونه مشیراً إلی تمام بدن المیّت، بأن یکون الشروع من الرأس غیر مختصّاً به کما توهّم، وإلاّ فإنّه یقتضی طرحها لمخالفتها مع الأخبار الصریحة المعتبرة المستفیضة الدالّة علی التعمیم کما لا یخفی .

بل الظاهر من الأخبار کون الترتیب بالکیفیّة المذکورة واجباً، وشرطاً فی صحّة غسل المیّت ، فلو تخلّف عن ذلک عمداً أو سهواً أو نسیاناً، لابدّ من الإعادة بما یحصل الترتیب ؛ لأنّه الظاهر المستفاد من الأخبار .

فما یظهر من العلاّمة فی «التذکرة» و«نهایة الأحکام»: «من أنّه لو أخلّ بالترتیب فقدّم الکافور أو القراح، ففی الإجزاء وعدمه وجهان: من حصول النقاء، ومن مخالفة الأمر» .

لا یناسب مع الأخبار التی عرفت ظهورها فی الشرطیّة لا الوجوب تعبّداً فقط ، فلا فرق فیه حینئذٍ بین العمد والسهو ، مع أنّ إطلاق کلامه قد یوهم الجواز حتّی مع العمد، خصوصاً مع ملاحظة دلیله الأوّل بقوله: «من حصول النقاء» الجامع مع العمد، وفساده أوضح کما هو واضح .

(1) أقول: لا خلاف فی هذا الحکم، وإلیه ذهب العلاّمة فی «القواعد» حیث

ص:334

قال : «ویطرح فیه من السدر ما یقع علیه اسمه» ، ومعنی هذه الجملة هو لزوم عدم خروج الماء عن اسم الإطلاق ؛ یعنی یطلق علیه أنّه ماء وسدر، لا ما یصدق السدر المخلوط بالماء کالحنّاء، حیث لم یطلق علیه الماء بعد خلطه بالحنّاء.

وعلیه عبارة الأکثر ومختارهم، کالمحکی عن «المبسوط» و«النهایة» و«الاقتصاد» و«المنتهی» و«نهایة الإحکام» و«السرائر» وغیرهم ، حیث قد یعبّرون عن المطلوب ب_ (شیء من السدر) أو (قلیل من السدر) أو (بمقدار لا یخرج الماء عن اسم الإطلاق) وغیرها .

بل فی «المدارک» أنّه المشهور ، وقد یمکن الاستظهار من کلمة (الغسل) حیث أنّه بحسب فهم العرف یطلق علی الاغتسال بالماء المطلق، ولو کان فیه إضافة شیء بسیط کالسدر أو الطین، لا ما یخرج بالکثرة عن اسم الماء مثل الحنّاء والنورة وأمثال ذلک .

ولذا تری قول السیّد فی «العروة»: «أن لا یکون طرف الکثرة بمقدارٍ یوجب إضافته وخروجه من الإطلاق» ، وعلیه أکثر أصحاب التعلیق لو لم نقل کلّهم .

بل یمکن أن یُقال : إنّه المستفاد من الأخبار:

منها: ما ورد فی صحیح ابن یقطین : «ویجعل فی الماء شیء من سدر وشیء من کافور» .

وصحیح ابن مسکان : «اغسله بماءٍ وسدر، ثمّ اغسله علی اثر ذلک بماء وکافور ، الحدیث» .

حیث یفهم منها أنّ الجمع بینهما یجب أن یکون بحیث لا یزیل اسم الماء، ولذلک نقول الأولی إناطة الحکم بالصدق العرفی کما عبّر بذلک الشیخ فی «الخلاف» والسیّد فی «الغُنیة» واختاره صاحب «الجواهر» ، بل قد یقهم من

ص:335

عبارتیهما أنّه معقد الإجماع، کما عن «الجمل والعقود» و«المعتبر» و«النافع» و«الإرشاد» و«المصباح» ومختصره و«الفقیه» و«الهدایة» و«المقنع» و«الوسیلة» و«الإصباح» و«الکافی» و«التبصرة» ، بل هو الظاهر من کلام العلاّمة فی «التحریر» والمصنّف فی «الشرائع» کما صرّح به بعض أو جماعة من متأخّری المتأخّرین .

أقول: ولعلّ هذا هو مراد من عبّر بکفایة الغُسل بمسمّی السدر وإن قلّ جدّاً ، لأنّه أراد إبلاغ عدم الکثرة بما یوجب خروجه عن الماء المطلق ، فبذلک یرتفع التنازع ، لوضوح أنّه لو خرج عن اسم المطلق، ولم یصدق علیه الماء، فلا یصدق علیه الغسل ، ولأجله صرّح جماعة منهم الحلبی فی «الإشارة» والعلاّمة فی «القواعد» والشهید الثانی فی «الروضة» وغیرهم ، بل قیل : الظاهر أنّ المشهور عدم الإجزاء بمثله، للشکّ فی الامتثال معه ، وعدم صلاحیّة المضاف للطهوریّة ، بناءً علی لزوم الطهور المستفاد من لفظ (الغسل) ، وإلاّ ربما یشکل بعدم لزوم صدق ذلک ، بل یکفی حصول التنظیف به قبل الغسل، وهو حاصل، مع ما عرفت من لزوم صدق الغسل، وهو لا یحصل إلاّ مع وجود الماء المطلق .

نعم ، لا یضرّ صدق الإضافة بلحاظ أنّه قد وقع فیه السدر، نظیر ما یطلق ماء الملح للماء الذی فیه ملح ، مع أنّه ماء مطلق ، فکذلک یکون فی المقام .

وبالجملة: بعدما ثبت لزوم مراعاة ذلک، فإنّه لا یمکن الاعتماد علی ما نقل عن الشیخ المفید فی «الذکری» بلزوم أن یکون السدر المضاف إلی الماء قدر رطل، أو کما قاله ابن البرّاج برطل ونصف إذ لم یرد مثل هذین التحدیدین فیما بأیدینا من النصوص، فضلاً عن أنّ إضافة هذا المقدار من السدر إلی الماء یوجب خروج اسمه عن المطلق.

ص:336

ودعوی: صحّة الغُسل حتّی بما لا یصدق علیه اسم الماء، لما ورد فی مرسلة یونس من قوله علیه السلام : «واعمد إلی السدر فصیّره فی طشتٍ وصبّ علیه الماء، واضربه بیدک حتّی ترتفع رغوته _ أی زبده _ واعزل الرغوة فی شیء، وصبّ الآخر فی الاجانة التی فیها الماء، ثمّ اغسل یدیه ثلاث مرّات ، إلی قوله : ثمّ اغسل رأسه بالرغوة وبالغ فی ذلک واجتهد ، الحدیث»(1) .

حیث یدلّ ظاهرها علی خروج الماء عن الإطلاق بوجود مثل هذه الرغوة الکثیرة، مع أنّ الخبر یتحدّث عن الغُسل الواجب للرأس، فیأمر بغسله بالرغوة المذکورة الموجودة فی الماء، ولذلک ظنّ صاحب «الریاض» أنّ الاستدلال به إنّما هو التغسیل بما یبقی من الماء بعد ارتفاع رغوته.

ممنوعة: لأنّ تحقّق الرغوة المذکورة وارتفاعها علی سطح الماء من خلال زبدها لا یوجب خروج الماء عن الإطلاق ، بل غایته إسناد الماء إلی السدر الواجب فی الغسل الأوّل ، ولذلک أجاب عنه فی «الریاض» بعدم استلزام الإرغاء إضافةً إلی الماء الذی تحت الرغوة ، وخصوصاً مع صبّه فی الماء المطلق الذی فی الاجانة الاُخری کما فی الخبر .

وکیف کان، فإنّه لیس فی الأخبار ما ینافی ما ادّعیناه، کما لا یخفی علی المتأمّل الدقیق .

وأمّا ما وقع فی کلام المصنّف حیث نسب أنّه قیل یضاف السندر بمقدار سبع ورقات ، فقد علّق علیه صاحب «الجواهر» بقوله: «ولم نعرف قائلاً ولا من نسب إلیه ذلک» .


1- وسائل الشیعة : الباب 2 من أبواب غسل المیّت، الحدیث 3 .

ص:337

بل الأخبار المشتملة علی ذلک وهو خبر معاویة بن عمّار فی حدیث، قال : «ثمّ أفیض علیه الماء بالکافور وبالماء القراح، واطرح فیه سبع ورقات سدر»(1).

هو کون ذلک فی الماء القراح .

وأصرح منه حدیث عبداللّه بن عبید، فی حدیث: «ثمّ بالماء القراح یطرح فیه سبع ورقات صحاح من ورق السدر فی الماء»(2) .

فإنّهما مع الإشکال فی سندهما لم یفت أحد علی طبقهما ، مضافاً إلی اشتمال الحدیث الأوّل بما لم یقل به أحد ، کما لایخفی .

أقول: ثمّ لا یخفی علیک بعدما عرفت من وجوب إضافة السدر إلی الماء فی الغسلة الاُولی، فإنّ الإضافة یجب أن تکون بحیث ممّا یصحّ مزجه مع الماء، لأجل کونه مسحوقاً ومطحوناً ، لأنّ المراد به هو التنظیف حیث لا یتحقّق بدون الطحن .

نعم ، قال فی «جامع المقاصد» بعد ذکره ما ذکرناه : «نعم لو مرس الورق الأخضر بالماء حتّی استهلک أجزأه، کفی ذلک» ، انتهی .

وفیه: حصول الاستهلاک بذلک مشکل ، إلاّ أن نکتفی بالرغوة الحاصلة الحاصلة بالمرس إن تحقّق ذلک .

وکیف کان ، فلا یبعد استفادة ذلک _ مضافاً إلی ما عرفت من حصول النقاء والتنظیف، کما ورد فی الروایة، حیث لا یحصل إلاّ بالطحن والسحق _ من الحدیثین الأخیرین حیث ورد فیهما ذکر سبع ورقات من السدر فی قبال السدر المسحوق فی الغسلة الاُولی، کما یظهر ذلک بالتأمّل .


1- وسائل الشیعة : الباب 2 من أبواب غسل المیّت، الحدیث 8 و2 .
2- وسائل الشیعة : الباب 2 من أبواب غسل المیّت، الحدیث 8 و2 .

ص:338

وبعد بماء الکافور علی الصفة السابقة (1).

(1) أقول: یعتبر فی ماء الغسلة الثانیة عدّه اُمور:

اعتبار اسم الکافور علیه، والبقاء علی الإطلاق، ولزوم رعایة الترتیب، ووجوب خلیطه کما فی السدر .

أمّا المقدار من الکافور الذی یجب إضافته إلی الماء، فلم یرد له تحدید فی الأخبار، وإن قدّره المفید وابن سعید وسلاّر بنصف مثقال ، لکن لم یعلم منهم إرادة الوجوب، کما یؤیّد ذلک من ذهاب ابن سعید بعدم وجوب الخلیط والتزامه بکفایة غسل واحد بالقراح . نعم ، ورد فیالحدیث المروی عن عمّار عن الصادق علیه السلام أنّ المقدار هو النصف(1) .

وفی خبر مغیرة مؤذّن بنی عدی، عن الصادق علیه السلام : «أنّ أمیر المؤمنین علیه السلام غسّل رسول اللّه صلی الله علیه و آله بالسدر، ثمّ بثلاثه مثاقیل من الکافور»(2) .

کما جاء فی الخبر المروی عن یونس، عنهم علیهم السلام : «والق فیه حبّات کافور»(3) .

ولا یمکن إرادة الوجوب منها، وإلاّ لزم الاختلاف فی نفس الأخبار ، ولأجل ذلک لم نشاهد الفتوی علی طبق واحدٍ من هذه الروایات ، فثبت أنّ المدار هو الصدق بکونه ماء الکافور بمثل ما فی السدر کما لا یخفی .

ولا فرق فی الکافور بین کونه جلالاً کما یظهر من بعض قدماء الأصحاب وجوب کونه منه ، بل حکی عن الأکثر منهم ، والمراد کما قیل الخام الذی لم یطبخ أو غیره أی غیر الجلال .


1- وسائل الشیعة : الباب 2 من أبواب غسل المیّت، الحدیث 10 و11 و3.
2- وسائل الشیعة : الباب 2 من أبواب غسل المیّت، الحدیث 10 و11 و3.
3- وسائل الشیعة : الباب 2 من أبواب غسل المیّت، الحدیث 10 و11 و3.

ص:339

وبماء القراح أخیراً(1) .

وأرسل عن أبی علیّ ولد الشیخ أنّه قال : «إنّ الکافور صمغٌ یقع من شجر ، وکلّما کان جلالاً _ وهو البار من قطعه لا حاجة إلی النار _ ویقال له الخام ، وما یقع من صغاره فی التراب، فیؤخذ فیطرح فی قدر ویغلی فذلک لا یجزی عن الحنوط» ، انتهی .

قیل : ولعلّ منشأ عدم الإجزاء بالصغار ما یقال أنّ مطبوخه یطبخ بلبن الخنزیر لیشتدّ بیاضه به، أو بالطبخ، وربما یحصل العلم العادی بالنجاسة من حیث أنّ الطابخ من الکفّار .

هذا ، ولکن ظاهر الأخبار إجزاء المطبوخ، إذ لم ترد فی الأخبار إشارة إلی لزوم کونه جلالاً . ولعلّ وجهه عدم حصول الیقین بالنجاسة، خصوصاً مع وجود أصل الطهارة ، ولذا لم یفصّل المتأخّرون بینهما .

نعم ، قد یقال بالاستحباب فی الخام ، ولعلّه لأجل الخروج عن شبهة الخلاف أو شبهة النجاسة ، واللّه العالم.

(1) وفی «الجواهر»: «إجماعاً محصّلاً منقولاً، وسنّةً مستفیضة أو متواترة...»، والمراد من القراح (بفتح القاف کما فی اللغة من «القاموس» وغیره) هو الخالص، أی غیر مشوبٍ بشیء کما ورد فی «الصحاح» ، والمراد هنا هو الخالص من الخلیطین وهما السدر والکافور، لا مطلق الخالص حتّی من الطین کماء السیل ونحوه کما توهّمه بعضٌ من عدم جواز استعمال ماء السیل فی غَسل الأموات وإن أطلق علیه الماء المطلق، کما تری هذا التوهّم فی کلام صاحب «السرائر» لابن إدریس، حیث قال : «القراح الخالص من إضافة شیء إلیه» .

ص:340

کما یُغسّل من الجنابة (1).

ولکن یمکن أن یکون مقصودهم تفسیر اللفظ لا اعتبار شیء فیه علی نحو ینافی ماء السیل کماء الفرات ونظائره ، مع أنّه معلوم کونه مطلقاً ومطهّراً للأحداث والأخباث ، مع بُعد احتمال لزوم الخلوص حتّی عن مثله هنا تعبّداً، وإن لم یکن کذلک فی غیر المقام من الأحکام ، بل یستفاد من قیام المقابلة بین القراح وماء السدر والکافور کون المراد هو الخالص عنهما ، ولذلک تری بعض الأخبار خلوّة عن هذا القید . نعم ، والذی یفهم من الأخبار اعتبار سلب اسم الخلیط عنه فی الغسل الثالث بالماء .

وعلیه فما فی «الروضة»: «من أنّ المراد من الماء القراح هو المطلق الخالص من الخلیط ، یعنی کونه غیر معتبر فیه، لا أنّ سلبه عنه معتبر» .

لیس علی ما ینبغی، کما قد یؤیّد ذلک ما فی خبر یونس من الأمر بغسل الإجانة والآنیة قبل صبّ القراح فیها .

ولا ینافی ذلک ما ورد فی خبری معاویة بن عمّار وعبداللّه بن عبید من الأمر بطرح سبع ورقات صحاح من ورق السدر فیه ، لأنّه لا یوجب المزج فیه الموجب لصدق الإضافة علیه ، ولأجل ذلک التزم المحقّق الهمدانی باستحباب ذلک بمقتضی مدلول هذین الخبرین، فلا بأس به بناءً علی القول بالتسامح فی أدلّة السنن لو لم یزاحمه سائر الأخبار .

کما لا یبعد أن یکون کذلک ، ولکن مع ذلک کان الأحوط ترکه تخلّصاً عمّا یوهم التنافی، واللّه العالم .

(1) أقول : التشبیه کان فی أصل الکیفیّة بأن یبدأ بالرأس ، ثمّ بالجانب الأیمن،

ص:341

ثمّ الأیسر بالترتیب کما یجب ذلک فی الغسل بالمائین السابقین من غیر خلاف فیه ، کما أشار إلیه صاحب «الجواهر» بقوله: «من غیر خلاف أجده فی شیء من ذلک ، بل علی الإجماع فی «الانتصار» و«الخلاف» و«المعتبر» و«الذکری» وغیرها . وفی «التذکرة» نسبته إلی علمائنا» ، انتهی .

والدلیل علیه: مضافاً إلی الإجماع، قیام الأمر بذلک الترتیب فی الأخبار السابقة کما عرفت ذکرها ، وعلیها یحمل ما فی بعضها من المطلقات بمقتضی القواعد الاُصولیّة.

ولا ینافی ذلک اشتمال الأخبار علی کثیر من المستحبّات ، لما عرفت من اعتضادها بفتاوی الأصحاب وعملهم .

واشتمال بعض الأخبار مثل خبر یونس علی الأمر بإفاضة الماء علی الجانب الأیمن من القرن إلی القدم ، وکذا الأیسر بعد غسل الرأس، حیث نقل عن الصدوق والشیخ فی «الفقیه» و«المبسوط» وجوب ذلک ، یعدّ أمراً زائداً علی أصل غسل الواجب، وغیر مناف له ، ولذلک ذکر غسل الرأس أوّلاً ثمّ أمر بذلک ثلاث مرّات .

أقول: التزم جماعة باستحباب الحکم المذکور باعتبار عدم وجود ذلک فی سائر الأخبار، حیث أنّ هذه الأخبار برغم کثرتها واعتبارها خالیة عن ذکر ذلک ، فیوجب حمل ذلک علی الاستحباب .

بل قد یؤیّد وجوب الترتیب أیضاً الأخبار المستفیضة الدالّة علی أنّ غسل الأموات یشبه بغسل الجنابة ، بل فی بعضها التعلیل بأنّه (جنب بخروج النطفة) ، بل وفی بعضها أنّه عینه فکما یجب الترتیب فی غسل الجنابة ، فکذلک هنا .

وهذا التشبیه قد أوجب الانقداح لجماعة من المتأخّرین کالعلاّمة فی

ص:342

وفی وضوء المیّت تردّد، والأشبه أنّه لا یجب (1).

«القواعد» والشهید فی «الذکری» والمحقّق الثانی فی ظاهر «جامع المقاصد» والفاضل المعاصر فی «الریاض» اختیار سقوط الترتیب عند تغسیله ارتماساً کالجنب .

ولکن علّق صاحب «الجواهر» علی کلامهم بأنّه: «لا یخلو عن نظر ، مستدلاًّ علی ذلک بالأصل والتأسّی والاحتیاط، وظاهر الفتاوی، ومعقد الإجماعات، والأخبار المفصّلة لکیفیّاتها، واحتمال التشبیه بغسل الجنابة فی الترتیب ، بل ظهوره سیما بعد معروفیّة الترتیب فی غسل الجنابة فی تلک الأزمان» ، انتهی .

أقول: ولقد أجاد فیما أفاد، خصوصاً ما ذکره أخیراً ، لأنّ الأخبار قد بیّن وجوب الترتیب من دون أن ترد فی واحد منها الإشارة إلی إمکان الارتماس ، مع أنّ ثبوته یتوقّف علی بیان زائد لمخالفته مع ما هو المتعارف یحتاج إلی بیان، ولعلّه لذلک قال : «وظهور الأخبار فی تشبیهه کان فی الترتیب لا مطلقاً» .

وبالجملة: فالأقوی عندنا _ کما علیه السیّد فی «العروة» _ عدم الاجتزاء کما علیه صاحب «کشف اللِّثام» وصاحب «الجواهر» وأکثر أصحاب التعلیق علیها، کالعلاّمة البروجردی والسیّد الأصفهانی والمیرزا عبدالهادی الشیرازی قدس سرهم .

نعم ، الحکم بجواز الارتماس فی کلّ عضو من الأعضاء فی الأغسال الثلاثة دون نفس الأغسال، بأن یجعل تمام البدن تارةً فی السدر ، واُخری فی الکافور ، وثالثة فی القراح ، وإن لا یبعد، لکنّه لا یجوز، بل الأحوط ترک الارتماس فی کلّ عضو أیضاً تخلّصاً عن شبهة الخلاف وشغل الذمّة، کما لا یخفی .

(1) أقول : یقع البحث فی أنّه هل یجب وضوء المیّت وضوء الصلاة قبل غُسله بغیر ما یغسل یدیه إلی ذراعیه أو إلی المنکبین ، أم أنّه یستحبّ ، أو أنّه غیر

ص:343

مشروع؟ وجوه ومحتملات .

قولٌ بالوجوب وهو المنسوب إلی «المقنعة» و«المهذّب» وإن لم تکن عبارتهما بالصراحة کما اعترف به العلاّمة فی «المختلف» والفاضل الهندی فی «کشف اللِّثام» . نعم ، حکی هذا القول الفاضل الهندی عن صریح «النزهة» وظاهر «الاستبصار» و«الکافی» .

وکیف کان إن وجد قائل کان فی المتقدّمین ، إذ لا قائل به عند المتأخّرین.

والدلیل علی القول الأوّل : هو الأخبار الدالّة علیه:

منها: الخبر المروی عن عبداللّه بن عبید، قال : «سألت أبا عبداللّه علیه السلام عن غسل المیّت ؟ فقال : تطرح علیه خرقة، ثمّ یغسل فرجه، ویوضّأ وضوء الصلاة ، الحدیث»(1) .

ومنها: الخبر المروی عن حریز، عن أبی عبداللّه علیه السلام ، قال : «المیّت یبدأ بفرجه ثمّ یوضّأ وضوء الصلاة ، الحدیث»(2) .

ومنها: الخبر المروی عن أبی خیثمة، عن أبی عبداللّه علیه السلام ، قال : «إنّ أبی أمرنی أن أغسّله إذا توفّی ، وقال لی : اکتب یا بنی، ثمّ قال : إنّهم یأمرونک بخلاف ما تصنع ، فقل لهم هذا کتاب أبی ولست أعدو قوله ، ثمّ قال : تبدأ فتغسل یدیه، ثمّ توضّیه وضوء الصلاة ثمّ تأخذ ماءاً وسدراً ، الحدیث»(3) .

ومنها: عموم روایة حمّاد بن عثمان أو غیره ، عن أبی عبداللّه علیه السلام ، قال : «فی


1- وسائل الشیعة : الباب 6 من أبواب غسل المیّت، الحدیث 2 و 1 .
2- وسائل الشیعة : الباب 6 من أبواب غسل المیّت، الحدیث 2 و 1 .
3- وسائل الشیعة : الباب 6 من أبواب غسل المیّت، الحدیث 4.

ص:344

کلّ غسل وضوء إلاّ الجنابة»(1) .

والظاهر من القائلین بالوجوب هو الشرعی لا الشرطی، إذ لم یسمع من أحد القول ببطلان غسل المیّت بترک الوضوء .

وفیه: إنّ ما یمکن أن یناقش به الأخبار المذکورة خلوّ أکثر الأخبار الواردة فی غسل المیّت عن ذکر ذلک ، مع کونها فی مقام بیان حکم الوظیفة والواجب الشرعی، ومعلومٌ أنّ تأخیر البیان عن وقت الحاجة قبیح ، فینتج عدم کونه واجباً ، مع أنّ هذه الأخبار قد اشتملت لبیان جملة من المستحبّات ، فکیف یجوز ترک مثل هذا الواجب الناقض واجباً خصوصاً لمشابهته مع غسل الجنابة حیث یقتضی کونه مثله فی عدم الوضوء .

کما أنّ مثل هذا الأمر لم یرد فی کلام الإمام موسی علیه السلام فی جواب سؤال علیّ ابن یقطین فی الصحیح ، قال : «سألت العبد الصالح علیه السلام عن غسل المیّت أفیه وضوء الصلاة أم لا؟ فقال : غسّل المیّت، تبدأ بمرافقه فیغسل بالحرض، ثمّ یغسل وجهه ورأسه بالسدر ، ثمّ یُفاض علیه الماء ثلاث مرّات ، الحدیث»(2) .

فإنّ عدم إشارة الإمام علیه السلام لذلک، دلیل علی عدم الجواب عنه کان لأجل عدم وجوبه ، بل عدم استحبابه ، وإلاّ لکان ینبغی أن یذکره الإمام علیه السلام .

ولعلّ مثل هذا الحدیث من إعراضه علیه السلام عن جوابه رأساً أوجب اُنس الذهن بکون الأخبار المشتملة علیه صدرت تقیّة، کما یظهر ذلک فی هذا الحدیث من شائبة التقیّة فیه؛ وبناءً علیه فقد التزم الشیخ الطوسی فی «الخلاف» بعدم


1- وسائل الشیعة : الباب 6 من أبواب غسل المیّت، الحدیث 5 .
2- وسائل الشیعة : الباب 2 من أبواب غسل المیّت، الحدیث 7 .

ص:345

ولا یجوز الاقتصار علی أقلّ من الغسلات المذکورة إلاّ عند الضرورة (1).

مشروعیّته ، کما أنّ الأمر کذلک، لأجل موافقته لمذاهب العامّه العامّة کما فی «الجواهر» .

ومن جهة اُخری إذ لاحظنا أنّ هذا الحکم ممّا یعمّ به البلوی، فلا یتصوّر خفاء مثل هذا الحکم لعامّة الشیعة، فضلاً عن خواصّهم ، خصوصاً مع ملاحظة أنّ بدن المیّت نجس قبل إکمال الغسل ، فالقیام بوضوءه لولا الدلیل مشکلٌ جدّاً ، ولذلک التزم المصنّف بأنّ الأشبه عدم الوجوب ، بل قد عرفت احتمال عدم المشروعیّة، کما عن ظاهر «التذکرة» و«نهایة الإحکام» ، بل هو ظاهر «الخلاف» أو صریحه .

وحیث أنّ الشهرة بین المتأخّرین هو الاستحباب ، وربما کان الإتیان به هو الأحوط، تخلّصاً عن شبهة احتمال الوجوب، برغم ثبوت ضعفها، ولا یعارضها احتمال الحرمة ، لأنّه لا نهی صریح فیه ، فالحرمة إن کانت لابدّ أن تکون لأجل التشریع وهو غیر مفروض، کما لا یخفی .

ولعلّ إدراج المحقّق الیزدی وضوء المیّت فی «العروة» فی عِداد المستحبّات کان لذلک، برغم ما یرد علیه بأنّه جعله أمام الغُسلین الأوّلیِّین حیث قال فی المسألة التاسعة عشر: «أن یوضّأه قبل کلّ من الغسلین الأولین وضوء الصلاة...».

مع أنّ الأخبار المذکورة لیس فیها إلاّ کونه قبل الأغسال الثلاثة ، أو عدم الاستحباب رأساً، کما عرفت ، فما علیه السیّد لم نجد له دلیلاً کما أشار إلیه العلاّمة البروجردی والآملی .

(1) وقد عرفت فیما تقدّم وجوب الغسلات الثلاث ، خلافاً للمحکی عن سلاّر من القول بکون غُسل المیّت یعدّ غسلاً واحداً ، وقد عرفت الإشکال والمناقشة فیه .

ص:346

نعم ، یصحّ ذلک عند الضرورة، وهو کما لو لم یجد الماء إلاّ لغسلة واحدة أو لغسلتین، فیقتصر علیه حینئذٍ، ولا یسقط الغسل بفوات ذلک، حتّی علی القول بأنّه عمل واحد، إذ هو مقتضی قاعدة المیسور والاستصحاب علی بعض الوجوه ، حیث أنّ الغسل کان واجباً بما له من الأفراد لتحصیل الطهارة ، فبفقد بعض أفراده یستصحب وجوب بقیّة الأفراد، تحصیلاً للطهارة اللاّزمة فی غسل المیّت الذی کان واجباً قبل حصول التعذّر فی بعض أفراده، کما وقد أفتی الشهیدین والمحقّق الثانی وغیرهم من الفقهاء والأصحاب بذلک .

کما کان الأمر کذلک فی الأعمال المشابهة لهذا العمل، من الترکیب من أعمال متعدّدة من جهات عدیدة ، مضافاً إلی إطلاق دلیل یدلّ علی وجوب کلّ غسلة بنفسه من دون اشتراط وجوبه بالاجتماع مع غیره، حتّی یستوجب سقوطه عند تعذّر الغیر ، هذا .

أقول: وقد یرد علی الاستصحاب المذکور عدّة إیرادات:

الإیراد الأوّل : بأنّ الأغسال الثلاثة إذا کان عملاً واحداً، فوجوب الغسل فی کلّ واحدٍ منها یعدّ بنفسه وجوباً غیریّاً ، وهو معلوم الانتفاء بتعذّر الجمیع، کما أنّ إثبات الوجوب النفسی الذی یراد إثباته بالاستصحاب مشکوک الحدوث والأصل عدمه .

لکنّه یندفع أوّلاً : ثبت ممّا ذکرنا آنفاً أنّ غُسل المیّت ثلاثة أغسال لا غُسل واحد، فهو لیس کالمرکّب بالنسبة إلی الأجزاء، حتّی یقال إنّ وجوب کلّ جزء منه وجوبه غیری ، بل المستفاد من الأدلّة أنّ الغسلات الثلاث یعدّ وجوبها وجوباً نفسیّاً لتحصیل عنوان غسل المیّت، حیث یکون بالنظر إلی هذا الإسناد عملاً واحداً فی قبال غسل الجنابة والحیض ، فإذا کان ذلک الواحد من الغسل واجباً

ص:347

عند القدرة علی الجمیع ، فمع تعذّر بعضها یشکّ فی بقاء وجوبه، فیستصحب بقائه وبذلک یندفع الإشکال المذکور.

وثانیاً : لو سلّمنا کون الوجوب للغسل الواحد واجباً غیریّاً قبل عروض التعذّر ، ولکن یمکن أن یدّعی بقائه علی ذلک بعد التعذّر من دون أن یتبدّل إلی النفسی ، لیقال حینئذٍ إنّه مشکوک الحدوث . بل الصحیح أن یُقال: إنّه واجب لتحصیل الطهارة، خصوصاً بناءً علی لزوم قصد القربة فی حصول الطهارة المعنویة للمیّت بالغسل ، مضافاً إلی الطهارة الظاهریّة . فوجوب الغسل فی کلا الموردین _ سواءً قبل التعذّر أو بعده _ یعدّ وجوباً غیریّاً ، فعند الشکّ فی وجوبه لتعذّر بعض الأجزاء استُصحب بقاءه، وبذلک یندفع الإشکال .

وثالثاً : أن یقال بأنّ المستصحب لو کان هو الوجوب المتعلّق لخصوص ذلک الجزء، فیمکن القول بکونه وجوباً غیریّاً . وأمّا لو جعلنا المستصحب هو الوجوب المتعلّق للغسل المستند إلی المیّت، فإنّه کان واجباً قبل عروض هذه الحالة ، فنشکّ فی وجوبه متحقّقة فی ضمن الغسل المقدور من الغسلات الثلاث، فیستصحب وجوبه بلزوم الإتیان بما هو المقدور، وهو لیس شیئاً آخر لیقال بأنّه یوجب الأصل المثبت ، لأنّ العرف یری الغسل وجوده بوجود هذا الغسل وجوداً واحداً بالمسامحة، فیجری فیه الاستصحاب بالوجوب النفسی، فیندفع الإشکال .

الإیراد الثانی: وهو من المحقّق الآملی، ما خلاصته: إنّه لو اُرید منه الاستصحاب التنجیزی، فهو لا یکون إلاّ إذا عرض التعذّر بعد الموت، وبعد وجود الماء الکافی للغسل ، فحینئذٍ یصحّ استصحاب الوجوب المتحقّق قبل التعذّر .

وأمّا إذا کان التعذّر قبل حصول الموت، فیصبح الاستصحاب حینئذٍ تعلیقیّاً، أی لو کان التعذّر بعد الموت لکان واجباً ، فالآن کما کان، فإجراء هذا

ص:348

الاستصحاب موقوف علی القول بصحّة إجرائه فی التعلیق(1) .

ولکن یمکن أن یُجاب عنه: بأنّ هذا إنّما یصحّ إذا کان الوجوب فی مثل هذه الواجبات شخصیّاً ، ولکنّه لیس کذلک ، لأنّ الوجوب المذکور فی القوانین الشرعیّة یعدّ حکماً کلّیاً للمکلّفین من دون ملاحظة ما هو فی الخارج، وعلیه فیمکن تقریر ذلک بأن یُقال: غسل المیّت المرکّب من ثلاث غسلات واجب لمن یمتلک الماء الکافی، ومع نقصانه وعدم کفایته للثلاث یشکّ فی أنّه هل یجب علیه الإتیان بالباقی أم لا ، فیستصحب البقاء ، فعلی هذا التقدیر یکون الاستصحاب تنجیزیّاً مطلقاً، کما لا یخفی .

أقول: وهکذا ومن خلال ما ذکرنا ثبت أنّه مع نقصان الماء وعدم کفایته إلاّ لغسل واحد، لا یوجب تعذّر الغسلین الآخرین أو أحدهما سقوط أصل الغسل بالنسبة إلی الواحد المقدور ، وذلک بمقتضی دلالة قاعدة المیسور الجاریة فی موارد عدیدة، وکذلک الاستصحاب الذی عرفت حاله تفصیلاً .

فرع: البحث عن مورد استعمال الماء المتوفّر بمقدار یفی بغسل واحد، فهل یجب صرفه فی الغسل الأوّل کما علیه الشهید فی «البیان» والمحقّق والشهید الثانیین وصاحب «الجواهر» والشیخ الأعظم والهمدانی وغیرهم؟

أو یجب صرفه الأخیر کما علیه الشهید الأوّل فی الذکری کما نسب إلیه صاحب «الجواهر» ؟

أو التخییر بین صرفه فی کلّ من الأغسال الثلاثة علی البدل ، کما علیه المحقّق الآملی فی «المصباح» ؟


1- مصباح الهدی : ج6 / 77 .

ص:349

أم یجب القیام بالغُسل من دون تعیین نوعه، بل ما هو الواجب فی الذمّة، إذا فرض فقد الخلیطین، وإلاّ لا یبعد الحکم بتقدیم الأوّل کما هو المختار ، وجوهٌ وأقوال .

أقول: استدلّ للصرف فی الأخیر _ کما فی «الذکری» _ بظهور الأدلّة الدالّة علی أهمّیة ماء القراح بالنسبة إلی أخویه (وأنّه الذی به یحصل رفع الحدث ، بل قد یظهر من الأدلّة أنّ غیره إنّما هو لتنظیف البدن أو حفظه من الهوام ، فهو أقوی من غیره فی التطهیر ولعدم احتیاجه إلی جزء آخر) ، انتهی(1) .

ویضاف علی الکلام المذکور بأنّ ذلک صحیح خصوصاً علی القول بجواز کون ماء الخلیطین مضافاً حیث یختصّ التطهیر بالأخیر .

لکن أجاب عنه صاحب «الجواهر» بقوله : «مع ضعف ما سمعته فی الوجه الأوّل، إذ هی بین دعوی فاقدة للدلیل ، وبین اعتبار لا یصلح مدرکاً لحکم شرعی» ، انتهی(2) .

أقول: وأیضاً ممّا استدلّ به للصرف فی الأوّل ، دعوی أنّه المستفاد من الأدلّة مع ظهور عدم تقیید ذلک بالتمکّن ممّا بعده، کظهورها فی اشتراط الترتیب، القاضی بعدم صحّة القراح حتّی یسبق بالغسلین ، فالأصل یقضی بسقوطه عند تعذّر شرطه، من غیر فرق بین الاختیار والاضطرار، وللاستصحاب فی بعض الوجوه ، بل قاعدة المیسور عند التأمّل ، لأنّه هو المیسور من المکلّف به ، هذا کما فی «الجواهر» .

أمّا التخییر: فقد استدلّ للتخییر _ کما عن الشیخ الأعظم علی المحکیّ فی


1- الجواهر : ج4 / 136 _ 137 .
2- الجواهر : ج4 / 136 _ 137 .

ص:350

«مصباح الهدی» للآملی _ بأنّه (ربّما یتوهّم التخییر من جهة أنّ نسبة العجز إلی الجزئین علی السواء ، والأمر لا یتجدّد بالنسبة إلیهما تدریجاً، فلا مرجّح لتعلّقه بالأوّل) ، انتهی .

وفیه: التزم الشیخ قدس سره «بأنّ التخییر هنا غیر جارٍ ، لأنّ الفردین هنا کالمقیّدین بالزمان، حیث یجب تقدیم المتقدّم منهما مطلقاً إلاّ إذا کان المتأخّر أهمّ ، لأنّ العجز عن الجزء إنّما یتحقّق فی الجزء الأخیر من المرکّب المتدرّج فی الوجود ، فالجزء الأخیر هو الذی یعجز عنه ، لأنّه یعتبر أن یؤتی به علی النحو الذی تعلّق به الأمر، وهو حال انضمامه بما تقدّم علیه ، وامتثاله إنّما هو بإتیانه متّصفاً بکونه بعدما تقدّم علیه، وهو بهذا الوصف غیر مقدور» ، انتهی .

وأجاب عنه المحقّق الآملی قدس سره : «بأنّ وصف المتقدّم والمتأخّر وصفان إضافیّان ، فمع عدم المتقدّم یکون وصف المتأخّر منتفیاً ، کذلک مع عدم المتأخّر ینتفی وصف التقدّم فی المتقدّم ، فتعذّر الانضمام یوجب تعذّر الوصفین فی رتبة واحدة ، کما أنّ المتّصفین مع قطع النظر عن وصفی التقدّم والتأخّر بذاتهما، مشترکان فی کون کلّ واحدٍ منهما میسوراً علی البدل ، ومقتضی ذلک هو وجوب الإتیان بأحدهما علی البدل ، وهذا معنی التخییر، کالمتزاحمین المطلقین الذین لا ترتیب بینهما، مثل إنقاذ الغریقین فیما لم یکن أحدهما أهمّ .

إلی أن قال : فالحقّ حینئذٍ هو القول بالتخییر فی صَرف ما عنده من الماء فی کلّ من الأغسال الثلاثة علی البدل، لا تعیّن صرفه فی الغسلة الاُولی، ولا فی الغسلة الأخیرة ، وحیث أنّ مفروض الکلام إنّما هو فی صورة فقد الخلیطین، فیکون تمیّز ما یصرفه فیه بالنیّة ویأتی بالتیمّم بدلاً عن الآخرین» ، انتهی کلامه .

أقول : ولا یخفی ما فی کلامه قدس سره ، لأنّ وصفی التقدّم والتأخّر وإن یعدّان

ص:351

إضافیّین بالنسبة إلی کلّ منهما، بمعنی عدم إمکان فرض واحد منهما بدون الآخر بلحاظ الاتّصاف ، إلاّ أنّ وجه الحکم فی تقدیم الامتثال فی أحدهما علی الآخر لا یکون ملحوظاً بوصف التقدّم والتأخّر، حتّی یلاحظ فیهما حیثیّة التقدّم والتأخّر ، بل الملاک فی صدق الامتثال هو إمکان کلّ واحد منهما فی ظرف الامتثال للأمر المتعلّق به ، ولذلک یمکن فرض التفکیک بینهما، مثل ما لو فرض وجود القدرة لجمیع الأغسال ابتداءً، ثمّ عرض العجز بعد الإتیان بالأولی للثانی والثالث ، فلا إشکال فی صدق الإجزاء والامتثال للاُولی من دون توقّف علی الإتیان بالثانیة ، فلا یلاحظ فیه حالة الانضمام ، فالملاک فی التقدیم هو التقدیم من حیث الأمر الصادر من الشارع، وهو لازم الاتّباع ما لم یظهر من دلیل خارجی أو قرینة داخلیّة أهمّیة ما هو المتأخّر عن المتقدّم ، فحینئذٍ یقدّم المتأخّر .

وبالجملة: فالحقّ حینئذٍ مع القائلین بتقدیم الاُولی ، إلاّ أن یحرز الأهمّیة فی الأخیرة ، ولا یبعد أن یکون الأمر کذلک ، وحیث لا نقطع بذلک فلابدّ أن یؤتی بأحدهما بنیّة ما فی الذمّة من الاُولی أو الأخیرة فیما دار الأمر بینهما ، أو بضمیمة الثانیة إذا کان دوران الأمر بین الثلاثة ، هذا إذا فرض فقد الخلیطین .

وأمّا إذا فرض وجود الخلیطین، مع عدم کفایة الماء إلاّ لواحدٍ من الثلاث، فقد صرّح صاحب «مصباح الفقیه»: «بأنّ الأحوط حینئذٍ هو الإتیان به مشتملاً علی السدر والکافور بقصد امتثال الواجب الواقعی ، بل لا یبعد القول بوجوه ، لإمکان دعوی کون المجموع عملاً واحداً، وکون الغسل المشتمل علی الخلیطین میسور الجمیع الذی لا یسقط بمعسوره . بل هذا هو الأحوط، وإن قلنا بکون الخلوص عزیمة، إذ غایة ما یمکن ادّعائه إنّما هو اشتراط خلوص الغسل بالماء القراح عن الخلیطین، وبماء الکافور عن السدر دون عکسه ، فله طرح شیء من الکافور فی

ص:352

ماء السدر الذی یغسّل به ، فلا ینبغی ترکه فی مثل المقام الذی یحتمل قویّاً وجوبه ، واللّه العالم» ، انتهی(1) .

وفی قِباله القول بالتخییر الذی یظهر من کلام صاحب «العروة» علی احتمال ، وقد أیّده المحقّق الآملی قدس سره جزماً کما فی السابق علیه ، خلافاً للشهید فی «البیان» والمحقّق والشهید الثانیین حیث ذهبوا بوجوب صرفه فی الأوّل .

ولکن فی «الذکری» احتمل صرفه فی الثانی وهو الکافور لکثرة نفعه ، ولکنّه اختار بعد ذلک صرفه إلی الأخیرة .

والنتیجة: أنّ الأولی عندنا _ کما ذکره صاحب «العروة» _ أوّلاً اختیاره للأوّل والتیمّم بدلاً عن الآخرین، عملاً بقاعدة المیسور فی الترتیب الواجب فیه ، ولا یسقط بمعسوره فی غیره، لو لم یحرز أهمّیة الأخیرة من الدلیل ، کما لا یبعد أن یکون الأمر کذلک، أی لا دلیل لنا یبیّن أهمّیة الأخیرة .

أقول: هنا عدّة حالات یتبیّن حکمها ممّا ذکر آنفاً، والمقام یقتضی البحث عنها:

الاُولی: لو کان عنده خصوص السدر، مع کون الماء یکفی لغسل واحد، فلا مانع حینئذٍ من مراعاة الترتیب مع الخصوصیّة بالنسبة إلی الأوّل ، فیجب رعایته ، ففی الآخرین یتبدّل إلی التیمّم، وإن کانت المحتملات السابقة وأقوالها تجری فیه أیضاً .

الثانیة: لو کان عنده الکافور دون غیره مع الماء الذی یکفی لغسل واحد، فلا یبعد أن نقول بتقدیم صرفه فی الأوّل، رعایةً للترتیب مع خلط مائه بالکافور احتیاطاً، والنیّة بالامتثال للأمر الواقعی بین الأوّل والثانی ، بأن یقصد أداء ما فی ذمّته، إذ الخلوص إن کان لازماً عن الخلیط کان فی الأخیر فقط ، وهو ماء القراح ،


1- مصباح الفقیه : ج5 / 194 .

ص:353

دون فی الأوّل والثانی .

فالإتیان بما هو الواجب بینهما مع خلط الماء بالکافور غیر ضار حینئذٍ ، ثمّ الإتیان بالتیمّم عن الآخرین، مع قصد الامتثال بما هو فی ذمّته بدلاً عن الأوّل أو الثانی أو الثالث .

الثالثة: لو کان عنده الماء بقدر غسلتین، مع وجود الخلیطین وعدمهما ، أو وجود أحدهما، فإنّه یمکن معرفة حکم هذه الصورة ممّا ذکرناه سابقاً، فلا حاجة للإعادة والتکرار.

فرع: قد وقع الخلاف بین الأعلام فی أنّه هل یجب التیمّم بدلاً عن الفائت أو الفائتین ، أم لا؟ فهنا قولان:

القول الأوّل: وجوب التیمّم بدلاً عن الفائت.

ذهب إلیه جماعة من الفقهاء کالشهید فی «البیان» والمحقّق الثانی فی «جامع المقاصد» والشهید الثانی فی «الروض» و«المسالک» ، بل هو مختار صاحب «العروة» وکثیر من أصحاب التعلیق علیها لولا کلّهم ، کما هو المختار.

والدلیل علیه: أوّلاً إنّ التراب أحد الطهورین، وأیضاً لعموم البدلیّة، ولاستقلاله فی الاسم والحکم ، مع أنّ الأغسال الثلاثة وإن کان عند بعض یعدّ عملاً واحداً ، ولکن لا إشکال فی وجوب الغسل متعدّداً ، فإذا تعذّر کلّ واحد من الغسلات، فیتبدّل حکمه إلی بدله وهو التیمّم ، إذ البدل فی الحکم والتعدّد تابع للمبدّل ، فکما أنّه إذا لم یجز أحد أقسام المبدل منه، ولم یأت به بما هو الوظیفة، فإنّ بدله أیضاً کذلک .

ومن ذلک یظهر کون غسل المیّت عملاً واحداً لا یوجب استلزام تیمّم واحد عن الجمیع ، لإمکان کونه کذلک مع اشتماله لأعمال متعدّدة مستقلّة کالحجّ ، فمع

ص:354

تعذّر بعض دون بعض لابدّ أن یؤتی ببدله .

القول الثانی: سقوط التیمّم.

وقد ذهب إلیه الشهید فی «الذکری» من احتمال سقوط التیمّم، مستدلاًّ له بعدم قیام الدلیل علی بدلیّة التیمّم عن الجزء، وحصول مسمّی الغسل ولو بواحد منها .

وفیه: أنّ دلیله مدفوع، لأنّ الظاهر من الأدلّة هو صدق الغسلات علی الثلاثة، لا غسلة واحدة، حتّی یکون التعدّد فی ضمنه بمنزلة الأجزاء .

وما قیل: من الإشکال علی البدلیّة للغسلتین ، بناءً علی کفایه الماء المضاف بالخلیطین، حیث لا یکون فیهما حینئذٍ الغسل حتّی یتبدّل إلی بدله .

ممنوع: لوضوح أنّ ما اُطلق علیه فی الأخبار لیس إلاّ الغسل، سواء صدق علیه الإضافة أم لا ، مع أنّه لیس علی ما توهّم ، لأنّه یعتبر فی الخلیط أن لا یکون بمقدار یخرج الماء عن الإطلاق والمائیّة، وإن صدق علیه الإضافة فی الجملة، کما عرفت تفصیله سابقاً .

وبالجملة: ظهر من جمیع ما ذکرنا لزوم التیمّم بدل الفائت . کما ظهر أیضاً ممّا ذکرنا تعدّد التیمّم عند تعدّد المتعذّر من الأغسال .

وعلیه فاحتمال کون التیمّم الواحد کافیاً عن المجموع، ولو تعذّر أحد الغسلتین أو الاثنتین، لاحتمال کفایة تیمّم واحد عن الثلاثة عند تعذّرها، کما احتمله صاحب «الجواهر».

لیس علی ما ینبغی، وإن کان احتمال وحدة العمل فی الأغسال الثلاثة استلزم الحکم بالاحتیاط وجوباً فی «العروة» بالإتیان بتیمّم واحد لمجموع الأغسال الثلاثة أو لغسلتین ، ثمّ الإتیان بالتیمّم لکلّ واحدٍ من الأغسال المتعذّرة، للخروج عن الشکّ المحتمل فیه، إذ الاحتیاط المذکور یستلزم الیقین والقطع بالفراغ عن الاشتغال الثابت من صورتی التعدّد والوحدة ، کما لایخفی، واللّه العالم .

ص:355

غُسل المیّت

قوله قدس سره : ولو عُدم الکافور والسِّدر غُسّل بالماء القراح، وقیل: لا تسقط بفوات ما یطرح فیها، وفیه تردّد (1).

(1) اعلم أن_ّه قد اختلف فیما إذا عدم الخلیطین بأن یُغسّل بماء القراح مرّة واحدة، أو یُغسّل بثلاثٍ کلّها بالماء القراح، اثنان منها للموردین بفقد ما یطرح فیها والآخر بالأصالة.

فی أحکام الأموات / لو تعذّر بعض الأغسال الثلاثة

وأمّا القول: بسقوط الغُسل رأساً، وتبدیله بالتیمّم لأجل کون الغُسل عملاً واحداً، فإذا تعذّر بعض أجزائه، معناه تعذّر نفسه بالکلّ، فلابدّ من الإتیان ببدله شرعاً، ممّا لا یُلتفت إلیه، ولذلک لم نجد قائلاً مصرّحاً بذلک، بل فی «الجواهر» بعد نقل احتمال الأوّل، قال: «بلا إشکالٍ ولا خلافٍ أجده بین کلّ من تعرّض لذلک من الأصحاب کالشیخ والحِلّی والفاضلین والشهیدین والمحقّق الثانی، وغیرهم من متأخّری المتأخّرین»، انتهی.

فإذا دار الأمر بین الاحتمالین، فلابدّ من ملاحظة الدلیل الدالّ علیه.

استدلّ للأوّل: _ کما هو مختار «المعتبر» و«النافع» و«مجمع البرهان» و«المدارک»، وظاهر «الذکری»، ومحتمل «المبسوط» کما عن «النهایة» _ بأنّ الخلیطین أُخذا بصورة الجزئیّة، فیفوت کلّ غسلة بفوت جزئها، لأنّ المراد بالسِّدر الاستعانة علی إزالة الدرن والقذارة الظاهریّة، وبالکافور تطییب المیّت وحفظه بخاصّیة الکافور من إسراع التغییر وحفظه عن الهوام، ومع فقدهما لا أثر لتکرّر غَسله بالماء، أو لیس فیه ذلک الأثر خصوصاً مع ملاحظة قاعدة المیسور

ص:356

للغَسلات بالنسبة إلی الغَسلتین المعسورتین التی توجب وجوب الإتیان بالثالث فقط، وکذلک قاعدة الإدراک والاستطاعة، مضافاً إلی اعتضادهما بأقوال العلماء والشهرة.

وما یتوهّم: المخالفة فی أصل الوجوب من «المبسوط» و«السرائر» حیث قالا: «ولا بأس بالغَسل بماء القراح» کما فی «الجواهر».

فقد أجاب عنه فیه: بأنّ الظاهر إرادة الوجوب، لأن_ّه متی جاز هنا وجب، ثمّ أمر بالتأمّل، ولعلّه أراد بعدم تمامیّته الکلیّة، إذ الجواز یعدّ أعمّ من الوجوب.

ولکن یمکن أن یُجاب عنه: لعلّه أراد من کلمة (هنا) بیان تصدیق أعمیّته، وهو لاینافی الوجوب فی غیر المقام، إلاّ أن_ّه هنا کان منحصراً فی الوجوب، إذ القائل هنا بیّن وجوب الغَسل بماء القراح فقط، أو بوجوب الثلاث بالقراح، فالقول بجواز غسلة مرّة بماء القراح أمرٌ مخالف للإجماع المرکّب، إذ هو منفیّ علی کلا القولین، هذا.

مع أنّ المنقول منهما علی المحکیّ من کتاب «مصباح الهدی» للآملی قدس سره خلاف ذلک، حیث قال بعد نقل ذلک: «ولکنّه فی النسبة تأمّل لأنّ عبارة «المبسوط» علی ما یُحکی عنه فی «مفتاح الکرامة» هکذا: لا بأس بتغسیله ثلاثاً بالقراح، وهی وإن کانت مُشعرة بعدم الوجوب، لکن فی التغسیل ثلاث مرّات لاینفی أصل وجوب التغسیل»، انتهی(1).

نعم، فی «الحدائق» ما یظهر منه المیل إلی القول بسقوط الغَسل رأساً، وإن لم یتجرّء بالإفتاء به صریحاً، حیث قال: «ربّما لاح من بعض الأخبار سقوط الغسل


1- مصباح الهدی: ج6 / 67 .

ص:357

بالکلیّة فی هذه الصورة _ أی صورة فقد الخلیطین _ مثل موثّقة عمّار، قال: «قلت للصادق علیه السلام : ما تقولُ فی قومٍ کانوا فی سفرهم یمشون علی ساحل البحر، فإذا هم برجلٍ میّت عریان قد لفظه البحر وهم عُراة، لیس علیهم إلاّ الإزار، کیف یصلّون علیه وهو عریان، ولیس علیهم فضلٌ یلفّونه فیه؟ قال علیه السلام : یُحفر له ویُوضع فی لحده ویوضع اللَّبن علی عورته لیستر عورته باللَّبن، ثمّ یُصلّی علیه ویُدفن»(1).

ثمّ نقل خبر محمّد بن مسلم(2) قریباً من الموثّقة.

وقال فی تقریب الاستدلال: إنّ ترک التعرّض لذکر الغَسل یدلّ علی عدم وجوبه، والظاهر أن_ّه لا وجه لسقوطه إلاّ فقد الخلیطین، فإنّ ظاهر تلک الحال یشهد بتعذّر وجوده، وإلاّ فمجرّد کونه عریاناً لا یمنع من وجوب غَسله، سیّما وهم علی ساحل البحر)، انتهی ما فی «مصباح الهدی» نقلاً عن «الحدائق»(3).

أقول: ولا یخفی ما فی کلامه، لوضوح أن_ّه لم یکن السؤال عن حکم الغسل، ولعلّه کانوا عالمین بالوظیفة فی ذلک، خصوصاً مثل عمّار وأمثاله، فالاستظهار بالسقوط لأجل السکوت ممّا لا یساعده الفروق الفقهیّة، کما لا یخفی .

وأمّا أدلّة القول الثانی: وهو وجوب غَسلاتٍ ثلاث للمیّت بماء القراح، بأنّ ظهور کثیرٍ من الأخبار بکونه واجباً مستقلاًّ لا جزءً کما تری أن_ّه قد صرّح بذلک فی کلام الصادق علیه السلام : «غسّله بماءٍ وسدر»، حیث یکون المأمور به شیئان متمایزان وإن امتزجا فی الخارج. ولا یکون الاعتماد بوجوب الخلیط بخصوص ما اشتمل علی الأمر بماء السِّدر خاصّةً، حتّی یرتفع الأمر بالمضاف بارتفاع


1- الوسائل: الباب 36 من أبواب صلاة الجنازة، الحدیث 1 و 2 .
2- الوسائل: الباب 36 من أبواب صلاة الجنازة، الحدیث 1 و 2 .
3- مصباح الهدی: ج6 / 67 .

ص:358

المضاف إلیه.

مضافاً إلی أن_ّه بعد تسلیم ذلک، لا نُسلّم کون فوات الکلّ بفوات الجزء بعد قیام المعتبرة المنجبرة بعمل الأصحاب فی الجملة علی لزوم الإتیان بالجزء الآخر، وبعدم سقوط المیسور وهو الماء بالمعسور وهو السِّدر والکافور، بل عن «المختلف» الحکم بوجوب الإتیان بالجزء مع انتفاء الکلّ، حتّی مع قطع النظر عن قاعدة المیسور، ففی «الجواهر»: «لعلّه لثبوت وجوب الجزء بوجوب الکلّ، بضرورة استلزام وجوب المرکّب وجوب أجزائه، ولم یعلم سقوط ذلک بعد انتفائه فیستصحب وجوبه حینئذٍ».

ونحن نزید علیه: بأنّ الأصحاب قد بحثوا عن حکم الخلیط، وأن_ّه هل یجوز أن یجعل فی الماء علی حدٍّ یجعل الماء مضافاً أم لا، حیث یرشدنا ذلک بأنّ الواجب الأصلی فی المرکّب هو الماء مع وجوب وجود جزءٍ آخر فیه من السِّدر أو الکافور، فإذا تعذّر ذلک الجزء، فإنّه لا یمکن رفع الید عن وجوبه الأصلی وهو الماء، وبذلک یرفع الإشکال الذی تصدّاه صاحب «الجواهر» فی إجراء قاعدة المیسور، وهو قوله باختصاص القاعدة بالمرکّبات الشرعیّة دون غیرها .

أقول أوّلاً: لا نُسلّم هذه الدعوی، لوضوح عموم القاعدة وأمثالها لکلّ مرکّب کان مأموراً به سواء کان شرعیّاً أو عرفیّاً متعلّقاً لحکم شرعی.

وثانیاً: کون المقام أیضاً کذلک _ أی من المرکّبات الشرعیّة _ إذ الشارع قد جعل هذا الترکیب واجباً فی غُسل المیّت، إذ لولا الشرع لما فَهم العرف وجوب ذلک فی غُسل المیّت، خصوصاً إذا قلنا بوجوب قصد القربة، وکونه شرطاً فی صحّة الغسل کما هو واضح للمتأمّل.

نعم، الذی ینبغی أن یراعی فی إجراء هذه القاعدة هو صدق المیسور عرفاً بما

ص:359

یبقی بعد تعذّر الجزء، وهو کذلک فی المقام، لأن_ّه یصدق فیه أنّ الإتیان بالماء القراح بعد تعذّر السِّدر أو الکافور أن_ّه میسور للمرکّب کما لا یخفی .

هذا، لکن مع إمکان استفادة وجوب ذلک من ما ورد فی حقّ المیّت ال_مُحْرِم فی کون غُسله کال_مُحلّ، إلاّ أن_ّه لا یقربه الکافور لأن_ّه یعدّ من الطیب وهو غیر جائز لل_مُحْرِم(1)، فإذا تعذّر الجزء شرعاً حُکم بإتیان جزءٍ آخر وهو ماء القراح، مع أن_ّه لو عمل بما هو مقتضی القاعدة لاستلزم الحکم بالسقوط بتعذّر أحد جزئیه، کان اللاّزم الحکم بسقوط تلک الغسلة، فحیث أنّ الإمام علیه السلام حکم بوجوب إتیان جزء آخر، فهمنا کون وجوب کلّ واحد من الجزئین فی الموردین یعدّ واجباً استقلالیّاً غیر مرتبط بالآخر، فمع ضمیمة أنّ المتعذّر العقلی کالمتعذّر الشرعی ینتج المطلوب.

فی أحکام الأموات / التمییز بالنیّة لو تعذّر بعض الأغسال الثلاثة

مضافاً إلی أنّ الإتیان بالباقی مطلقاً للاحتیاط _ کما أشار إلیه صاحب «الجواهر» فی آخر کلامه إذ قال: «وإن کان الثانی أحوط إن لم یکن أولی» _ ولذلک تری أنّ المشهور بین المتأخّرین _ والشاهد علیذلک ما ورد فی«العروة» _ هو الحکم بالغسلات الثلاث بماء القراح، وهذا هو المختار.

فروع غُسل المیّت

هاهنا فروع لا بأس بذکرها لأجل تفرّعها علی البحث المذکور:

الفرع الأوّل: بعدما عرفت من لزوم الغسلات الثلاث بماء القراح، فهل یجب التمییز بین الغسلات بالنیّة، محافظة علی الترتیب أم لا ؟


1- وسائل الشیعة: الباب 13 من أبواب غسل المیّت فی أخبار متعدّدة.

ص:360

فقد نُقل عن المحقّق صاحب «جامع المقاصد» وجوبه، ولکن فی «الجواهر» بعد نقل کلامه قال: «وفیه تأمّلٌ بل منع».

وأجاب عنه الشیخ الأکبر قدس سره : بأنّ مقتضی قاعدة المیسور هو إتیان المیسور علی النحو الذی یؤتی به عند الانضمام، ولازمه وجوب مراعاة الترتیب حیث لا تمیّز فی الخارج بین الغسلات، لاشتراک الجمیع فی کونها بالماء القراح، وتکون مراعاة الترتیب بالنیّة.

إلاّ أن یقال: إنّ القدر المسلّم من وجوب الترتیب إنّما هو مع وجوب الخلیطین، وتغایر الغسلات بالممیّز الخارجی، ومع انتفاء المغایرة بانتفاء الخلیط، فلا دلیل علی وجوب مراعاة الترتیب حتّی تکون مراعاته بالنیّة، ومع الشکّ فی وجوبها المرجع إلی البراءة.

ثمّ فی «مصباح الهدی» بعد نقل کلام الشیخ، قال: «وهذا الأخیر لا یخلو عن قوّة».

أقول: ولا یخفی ما فی کلامه من الإشکال، لأن_ّه من الواضح أنّ الترتیب فیما سبق أی قبل عروض التعذّر لأحد الخلیطین أو کلیهما، واجباً بلا إشکال، فمع الشکّ فیه بعد التعذّر المرجع إلی الاستصحاب لا البراءة للحکم ببقاء ما کان واجباً، مضافاً إلی إمکان استفادة وجوب الترتیب من نفس الدلیل الذی یحکم بترتیب الغسلات بین الثلاث، فوجود الخلیط وعدمه لا أثر له فی الحکم المستفاد من الدلیل، ونقل وجه الحکم بعدم لزوم النیّة فیه هو تحقّقه بالطبع علی حسب ترتیب حال عدم التعذّر، وهو یکفی فی تحقیقه.

فی أحکام الأموات / إعادة الغسل لو وجد الخلیطان

نعم، یصحّ البحث حینئذٍ عن أن_ّه لو عکس فی النیّة، أی قصد تحقّق الثالث بالأوّل، فهل یکفی عن الواجب أم لا، فیصحّ أن یقال بعدم الکفایة، لأجل

ص:361

ماعرفت فی دلیل وجوب الترتیب، فیصحّ أن یقال إنّ الترتیب قهراً یتحقّق بالإتیان خارجاً تبعاً للدلیل. إلاّ أن ینوی خلافه، واللّه العالم.

الفرع الثانی: عمّا قاله صاحب «الجواهر» من المنع والتأمّل فیوجوب التیمّم عند تعذّر بعض الغسلات، بناءً علی سقوط کلّ غَسلةٍ بتعذّر خلیطها، کما هو مختاره رحمه الله فی «الجواهر»، مستدلاًّ بعدم ظهور تناول أدلّة المشروعیّة لمثل المقام.

أقول: وفیه ما لا یخفی کما أشرنا إلی ذلک کراراً فی کلّ موضع من الموارد التی جُعل الماء سبباً لتحصیل الطهارة من الأغسال، إذ لسان الأدلّة الواردة فی المتیمّم بقوله علیه السلام : «التراب أحد الطهورین»، أو «یکفیک عشر سنین» وأمثال ذلک، کان لسان التنزیل والمشروعیّة له مکان الماء فلا یبعد بدلیّته مع تعذّر الغسلة بتعذّر خلیطه، ولأجل ذلک التزمنا فی حاشیتنا علی «العروة» بالاحتیاط وجوباً بضمّ التیمّم مع الغسلة بماء القراح فی الاُولی والثانیة تحصیلاً للاحتیاط، لاحتمال سقوط الغسلة بواسطة تعذّر خلیطه أو وجوبه علیه کما التزم به جماعةٌ من الفقهاء، بناءً علی شمول دلیل مشروعیّته لمثل المقام کما لایخفی.

الفرع الثالث: فی أن_ّه هل تجب إعادة الغسل لو وجد الخلیطان أم لا؟ فیه ثلاثة صور:

الصورة الاُولی: ما لو وجد قبل الدفن: ففی «الجواهر» وجوبها علی کلّ من القولین _ أی القول بسقوط المتعذّر حتّی بمیسوره، أو عدم سقوط میسوره _ وفاقاً للذکری و«جامع المقاصد» و«الروض»، وهذا ما التزم به صاحب «العروة» وأکثر المحشّین علیها، خلافاً لصریح«المدارک» وظاهر «مجمع البرهان»، وصریح کلام صاحب«مصباح الفقیه».

ومنشأ القولین هو البناء علی : أنّ العمل الناقص والبدل هل هو بدلٌ عن الغسل

ص:362

التامّ، بمعنی أن_ّه قد أثّر مثل أثر عمل التامّ دائماً ولا یتغیّر أثره بعد رفع التعذّر، نظیر بدلیّة وضوء الجبیرة عن الوضوء التامّ، ووضوء الأقطع الذی هو بدل عن التامّ الصحیح، بل مثل الوضوء فی حال التقیّة الذی هو بدلٌ عن الوضوء فی غیر حالها. أو أنّ بدلیّته مادامیّة، أی یُجزی عن التامّ ما دام الاضطرار باقیاً، فالتکلیف ساقط مادام الاضطرار باقیاً لا مطلقاً.

وبعبارة اُخری: یدور البحث أن_ّه هل الاضطرار یوجب تبدّل الواجب من التامّ إلی الناقص نظیر تبدّل حالتیالمکلّف إلی السفر والحضر فی القصر والإتمام، حیث یکون لازمه الإجزاء بالمأتی به؛ لأنّ التکلیف قد امتثل فی محلّه وسقط، فلا وجه للحکم بالإعادة، أو أنّ التکلیف بالتامّ یضلّ باقیاً علی ما هو علیه، وإنّما العجز عن امتثاله أوجب الرخصة فی ترک امتثاله والإتیان ببدله، ما دام بقاء العذر، لأنّ العقل یقبّح المطالبة بشیء عمّن هو عاجزٌ عن الإتیان به، ومن المعلوم أنّ هذا الحکم باقٍ ما دام العذر باقیاً، فمع ارتفاعه یعود وهو المطلوب ؟

الظاهر من الأخبار _ کما قلنا فی محلّه _ هو الأخیر، ولا أقلّ من الشکّ فیه، فمقتضی استصحاب بقاء التکلیف بالتامّ، وأصالة عدم ترتّب الأثر علی ما أتی به من الناقص والبدل من زوال الخَبَث والحَدَث، هو الإعادة قبل الدفن فی المقام.

الصورة الثانیة: ما لو کان زوال العذر بعد الدفن، بحیث لو أراد الإتیان به استلزم ذلک النبش الحرام، فلا یجب الإعادة قطعاً، لما قد عرفت من حکم العقل بالقبح ما دام العذر باقیاً، ومن المعلوم أنّ المتعذّر الشرعی هو کالمتعذّر العقلی، فالإجزاء فی هذه الصورة مورد وفاق الفقهاء.

نعم، الذی ینبغی البحث فیه هو الصورة الآتیة.

الصورة الثالثة: ما لو أخرج من القبر علی وجه جائزٍ أو محرّم، فهل تجب

ص:363

إعادة غسله حینئذٍ أم لا؟ فیه وجهان: من أن_ّه بناءً علی وجوب اعاده غسله بالتامّ قبل الدفن، فیکون حاله کحال من دفن من غیر غُسل حیث یجب غُسله إذا اتّفق خروجه.

ومن الفرق بین الدفن بدون الغُسل، وبین الدفن مع الغُسل الناقص، بتنزیل الناقص منزلة انتهاء التکلیف إذ کان زمان التکلیف بالغُسل هو من أوّل حدوث الموت إلی زمان الدفن، مضافاً إلی إطلاق کلامهم فی التقیید بقولهم قبل الدفن، وعدم انصراف عمومات وجوب الغُسل إلی تغسیل المیّت المدفون، مضافاً إلی أصل البراءة عند الشکّ فی وجوب الغُسل ثانیاً، ولإطلاق ما حکاه فی «الریاض» من الإجماع علی عدم وجوب الغسل.

أقول: لکن الأحوط وجوباً الحکم بالإعادة کما فی «العروة» وأکثر المحشّین علیها، لأن_ّا نجد بالوجدان الفرق بین رفع العذر قبل الدفن، وبین رفعه بعد الدفن، حیث إنّ التکلیف الثابت قبل الدفن لم یمتثل لو ارتفع العذر قبل دفنه، فیصحّ الحکم بالإعادة، بخلاف ما لو امتثل التکلیف بالناقص إلی انتهاء زمانه وهو الدفن، فهذا التکلیف قد سقط عن کلّ من التامّ والناقص، فأمّا الأوّل بالتعذّر، وأمّا الثانی بالامتثال، فالحکم بالإعادة بعد الخروج عن القبر لأجل التمکّن یحتاج إلی دلیل آخر، فعند الشکّ المرجع إلی البراءة، هذا بخلاف ما لو رفع التعذّر قبل الدفن، فإنّ التکلیف بالأوّل باقٍ کما عرفت.

ومن ناحیة اُخری یمکن أن یُقال: إنّه قد تخیّل بإتمام زمان التکلیف وانتهائه إلی الدفن، إذ فی الحقیقة والواقع لم یکن الأمر کذلک، مثل ما لو فرض علمه بذلک، فإنّه تجب الإعادة لأجل تحصیل امتثال أمر الأوّل، وحیث لا یکون الوجه فی أحد الطرفین مُسلّماً، لذلک قد حکمنا بالاحتیاط وجوباً بالإعادة کالسیّد قدس سره فی «العروة».

فی أحکام الأموات / المغسّل بالماء القراح کالمغسّل بالخلیطین

ص:364

الفرع الرابع: فی أنّ المُغسَّل بالماء القراح لفقد الخلیطین أو أحدهما، هل هو کالمُغسَّل بالغُسل الکامل من حیث ترتیب الآثار علیه من الطهارة عن الخَبَث والحَدَث الحاصلین فیه بالموت، فلازمه عدم تنجّس ملاقیه، وعدم وجوب الغَسل بمسّه، أو لا یکون مثله؟ فیه قولان: مختار غیر واحدٍ من المحقّقین هو الأوّل، إذ من الواضح سقوط شرطیّة الخلیط مع فقده، فالواجب حینئذٍ هو التغسیل بالماء القراح فی جمیع الأغسال الثلاثة، فهو غسلٌ شرعیّ فی حقّه، فیقوم مقام الغُسل الکامل، ویترتّب علیه جمیع آثاره ما دام العذر باقیاً، ولا ینافیه وجوب تغسیله مع الخلیط ثانیاً إذا وجد قبل الدفن، لإمکان کون الرافعیّة للحدث والخبث ما دامیّة أی ما دام العُذر باقیاً، فلأجل ذلک تری أنّ السیّد فی «العروة» فی مسألة 12 حکم بعدم وجوب الغَسل بمسّه فی هذه الصورة، وإن احتاط استحباباً بالغَسل لمسّه، ووافقه بعض أصحاب الحواشی، بل فی «الجواهر» جعل ذلک _ أی عدم وجوب الغَسل فیه _ ممّا لا یخلو عن قوّة، وإن قال: کان الأولی _ کما علیه مَن عرفت من الأصحاب _ وجوب الغَسل.

ولکن المحکیّ عن «جامع المقاصد» والشهید الثانی فی «الروض» هو بقاء نجاسته وحَدَثه، فیجب غَسل ملاقیه، والغَسل بمسّه، بدعوی انصراف الأدلّة الدالّة علی کون غسل المیّت رافعاً إلی الغسل الکامل، فیرجع فیما نحن فیه إلی إطلاق ما دلّ علی وجوب غَسل ملاقیه والغسل بمسّه، ولو منع وجود الإطلاق فیرجع إلی استصحاب الوجوب الثابت قبل الغسل الناقص، هذا.

أقول: ولکن التأمّل فی الأدلّة الدالّة علی الإتیان بالغسل الناقص مکان الکامل هو ترتیب آثاره علیه ولو بصورة الموقّت وما دامیّة، خصوصاً مع ملاحظة أنّ الغَسل بماء القراح الواقع فی الأخیر هو المحصّل للطهارة دون

ص:365

الغَسلتین السابقتین، حیث کانتا لإزالة الدَرَن وحفظ البدن عن التغییر والهوام.

قیل: مع أنّ وجود الماء القراح فیهما بنفسه وبدل الخلیط یکفی فی حصول الطهارة فی حال الاضطرار، فکیف یرضی الإنسان أن یقال بأنّ الغَسلات الثلاث بدون الخلیطین لا یؤثّر تحقّق من الطهارة من الحَدَث والخَبَث، وکان أثره فقط هو الرخصة فی دفنه وحصول الخفّة فی حَدثه وخَبثه.

وبعبارة اُخری: کون الغَسل بالماء هنا فی الغسلات الثلاث اضطراراً بمنزلة مسح النجاسة وإزالتها بغیر الماء، لو قیل بوجوب ذلک عند تعذّر التطهیر بالماء، حیث أنّ بدلیّته عن الغُسل بالماء، وجواز إیقاع الصلاة لا یقتضیان طهارة المحلّ بحیث یحکم بعدم تنجّس ملاقیه، کما عن المحقّق الآملی قدس سره . لا یخلو عن تکلّفٍ، لوضوح الفرق بین الموردین، وإن کانت الأحکام الشرعیّة اُموراً تعبّدیّة مقتضاها جمع المتشتّتات وتفریق المجتمعات والمشبّهات، ونحن تابعون لدلالة الدلیل.

وکیف کان، حیث لا یمکن الجزم بأحد الطرفین، خصوصاً مع ملاحظة مخالفة جمعٍ من الأعاظم، حکمنا بالاحتیاط بوجوب الغَسل بالمسّ.

فی أحکام الأموات / تغسیل المیّت بالخطمی لو تعذّر السدر

الفرع الخامس: فی أنّ المیّت المتیمّم لفقد الماء أو نحوه من الأعذار هل یعدّ کالمغسَّل بالقراح لفقد الخلیط، بناءً علی وجوب الغَسل والغُسل بمسّه؟

أو أن_ّه لا یجب ذلک فیه وإنْ قلنا بوجوبهما فی المُغسَّل بالقراح ؟

أو أن_ّه یجب فیهما ولو لم نقل بوجوبهما فی المُغسَّل بالقراح.

وجوهٌ واحتمالات: من أنّ التیمّم بدلٌ عن الغسل الکامل فی حال الاضطرار، فیکون حکمه حکم الغُسل الناقص فی عدم ترتّب الآثار علیه، کما لایترتّب الأثر بالغُسل الناقص، وغایته حصول الرخصة فی دفنه کما قلنا بذلک فی الناقص علی قول.

ومن أنّ التیمّم کان أولی فی ترتیب الأثر علیه من الناقص، لما ورد فیه بأنّ:

ص:366

«التراب أحد الطهورین» وکونه بمنزلة الماء، حیث یکون معناه لزوم ترتیب الآثار علیه، نظیر ما یترتّب علی الغُسل الکامل من حیث حصول الطهارة عن الحَدَث والخبث، فلازم ذلک هو الحکم بترتیب الآثار علیه ولو لم نقل بذلک فی الغُسل الناقص فی المُغسَّل بماء القراح کما لا یخفی .

ومن أنّ وجوب غَسل الملاقی ووجوب الغسل بمسّه کان من آثار النجاسة الحاصلة بالموت، أو من أثر الموت ولو لم یکن البدن نجساً لو قلنا بأنّ النجاسة تحصل بالبرد مع الموت لا بالموت فقط، وهذه النجاسة والأثر لا یرتفعان بالتیمّم خصوصاً النجاسة، ولو سلّمنا ذلک بالنسبة إلی أثر الموت بواسطة التیمّم، مضافاً إلی أنّ مبدّل التیمّم هنا هو الماء والخلیط، ولم یرد دلیلٌ علی بدلیّة التیمّم عن الخلیط فیما له من الأثر، وکونه بمنزلة الماء أو أحد الطهورین لا یقتضی حصول أثر الخلیط به أیضاً، فلازم هذا التقریر هو القول بالتفصیل من وجوب الغَسل والغُسل فی التیمّم وعدمهما فی الغُسل الناقص، وهذا هو مختار الآملی قدس سره حیث قال: «ولعلّ هذا الأخیر هو الأظهر»، کما قوّاه صاحب «الجواهر» أیضاً، إلاّ أن_ّه قال: «لم نقف علی هذا التفصیل لأحدٍ من الأصحاب».

وحیث قد عرفت وجود الدلیل والأقوال فی کلّ من الوجوب وعدمه، حکمنا هنا بالاحتیاط وجوباً، تبعاً لکثیرٍ من الأعاظم کالمحقّق البروجردی والخوانساری والإصبهاناتی، وبعض المعاصرین، علی وجوب الغَسل بالملاقی والغُسل بمسّه .

وإن کان القول بین الحَدَث والخبث، بالرفع فی الأوّل فلا یجب الغَسل بمسّه، وعدمه فی الثانی فیجب الغَسل بملاقاته، لا یخلو عن وجهٍ، إلاّ أن_ّه مخالفٌ للإجماع إذ لم نشاهد أحداً ذهب إلیه، فالأقوی ما فی حاشیة «العروة» من

ص:367

الاحتیاط وجوباً فی کلا الموردین من الحَدَث والخبث، واللّه العالم.

حکم الغُسل عند فَقْد السِّدر

یدور البحث فی أن_ّه هل یقوم مقام السِّدر شیءٌ مثل الخطمی لو تعذّر السِّدر، أم لا؟

قال صاحب «الجواهر»: «إنّ ظاهر الأصحاب والأخبار أن_ّه لا یقوم شیءٌ مقام السِّدر فی الاختیار والاضطرار، لکن حُکی عن العلاّمة فی «التذکرة» و«النهایة» أن_ّه قال: إذا تعذّر السِّدر ففیتغسیله بما یقوم مقامه من الخطمی إشکالٌ، من عدم النصّ وحصول الغرض»، انتهی.

ثمّ قال صاحب «الجواهر»: «وعندی لا إشکال فی الجواز وعدم الوجوب ولا ینافیه ما فی «الوسائل» عن الصدوق بإسناده إلی عمّار الساباطی، عن الصادق علیه السلام ، أن_ّه قال: «إذا غسّلت رأس المیّت ولحیته بالخطمی، فلا بأس».

و ذکر هذا فی حدیثٍ طویل یصف فیه غسل المیّت»(1)، انتهی ما فی«الجواهر»(2).

ولعلّه أراد بذلک الحدیث الذی رواه الشیخ الکلینی عن المفید عن الصدوق رحمهم الله بإسناده عن عمّار بن موسی، عن أبی عبد اللّه علیه السلام فی حدیثٍ: «وإن غسلت رأسه ولحیته بالخطمی فلا بأس»، الحدیث.(3)

فإذا جاز استعمال الخطمی مع السِّدر للرأس واللّحیة، فمع تعذّره یکون بطریقٍ أولی، فأمّا وجوبه فلا کما یؤمی إلیه جملة: «فلا بأس» حیث یکون فی


1- وسائل الشیعة: الباب 2 من أبواب غسل المیّت ، الحدیث 10 و 12 .
2- الجواهر: ج4 / 142.
3- وسائل الشیعة: الباب 2 من أبواب غسل المیّت ، الحدیث 10 و 12 .

ص:368

قوله قدس سره : ولو خیفَ من تغسیله تناثر جلده کالمحترق والمجدور ، یتیمّم بالتراب(1).

مقام دفع توهّم شرطیّة کون الماء خالیاً عن مثله، ولعلّه لذلک احتمله العلاّمة وجعله مکان السِّدر عند تعذّره، ولکن الالتزام بذلک مشکلٌ، کما هو کذلک إذا راجعنا إلی أخبار الباب وکلمات الأصحاب .

(1) قد یتعذّر تغسیل المیّت فی موارد: تارةً یکون لأجل عدم وجود الغاسل، واُخری لعدم وجود الماء، وثالثة لعدم قابلیّة المیّت للغسل ولو بصبّ الماء علیه کالمجدور أو المحترق أو مقطّع الأعضاء ونحو ذلک، وجب تیمّمه بإجماعنا کما عن غیر واحدٍ من أصحابنا دعواه، بل بلا خلاف أجده بین رؤوساء الأصحاب، بل علیه إجماع العلماء کما فی «التذکرة»؛ بل علیه إجماع المسلمین إلاّ الأوزاعی، فإنّه قال: «یُدفن من غیر غسل» ولم یذکر التیمّم.

فی أحکام الأموات / التیمّم بدل الغسل لو تعذّر تغسیله

أقول: ولا إشکال ظاهراً أن_ّه إن أمکن الغُسل ولو بالصبّ وجب کذلک، کما یدلّ علیه الأخبار مثل الخبر الذی رواه محمّد بن سنان، عن أبی خالد القمّاط، عن ضریس، عن علی بن الحسین أو عن أبی جعفر الباقر علیهماالسلام ، قال: «المجدور والکسیر والذی به القروح یُصبّ علیه الماء صبّاً».

وخبر عمرو بن خالد، عن زید بن علی، عن آبائه، عن علیّ علیهم السلام : «أن_ّه سُئِلَ عن رجلٍ یحترق بالنار، فأمرهم أن یصبّوا علیه الماء صبّاً، وأن یصلّی علیه».

وأمّا إن لم یمکن الغُسل قالوا بالصبّ فلابدّ من التیمّم ، فإنّه یدلّ علیه _ مضافاً إلی ما عرفت من الإجماع _ خبر زید بن علیّ علیه السلام ، عن آبائه عن علیّ علیه السلام ، قال: «إنّ قوماً أتوا رسول اللّه صلی الله علیه و آله فقالوا: یا رسول اللّه مات صاحبٌ لنا وهو مجدورٌ،

ص:369

فإن غسّلناه انسلخ، فقال: یمّموه»(1).

حیث یدلّ علی وجوب التیمّم الذی فی حقّ من مجدوراً لا یمکن تغسیله.

وتوهّم اختصاصه بالمجدور فقط، مندفعٌ بإمکان إلغاء الخصوصیّة مع ذکر وجه عدم الإمکان، حیث یفهم کون الملاک هو عدم إمکان غسله ولو کان بواسطة الاحتراق، أو مقطّعیة الأعضاء بحوادث السیر فی عصرنا هذا.

کما أنّ توهّم ضعف سند الخبر لکون الراوی فیه من الزیدیّة، مندفعٌ بانجباره بعمل الأصحاب علی ما هو طریقتنا فی حجّیة الخبر، کما أن_ّه بذلک _ أی بحجّیته _ یوجب انقطاع الأصل الذی تمسّک به صاحب «المدارک»، لوضوح أنّ الأصل وهو البراءة عن وجوب التیمّم إنّما یرجع إلیه إذا لم یکن فی المورد دلیلاً اجتهادیّاً وهو النصّ.

أقول: بقی هنا ما ادّعی معارضته مع صحیح عبد الرحمن ابن الحجّاج علی ما فی «المدارک»، أن_ّه سأل أبا الحسن موسی بن جعفر علیه السلام : «عن ثلاثة نفر کانوا فی سفر؛ أحدهم جُنبٌ، والثانی میّت، والثالث علی غیر وضوء، وحضرت الصلاة ومعهم من الماء قدر ما یکفی أحدهم، من یأخذ الماء وکیف یصنعون؟ قال: یغتسل الجُنُب، ویدفن المیّت، ویتیمّم الذی هو علی غیر وضوء، لأنّ غُسل الجنابة فریضة، وغُسل المیّت سنّة، والتیمّم للآخر جائز»(2).

حیث یظهر منه عدم وجوب التیمّم فی دفن المیّت.

ولکن علّق صاحب «الحدائق» بعد نقله کلام صاحب «المدارک»، بقوله: «لا


1- وسائل الشیعة: الباب 16 من أبواب غسل المیّت، الحدیث 3 .
2- الحدائق: ج3 / 473 .

ص:370

یخفی أنّ الراوی لهذه الروایة فی کتب الأخبار إنّما هو عبد الرحمن بن أبی نجران لا عبد الرحمن بن الحجّاج کما ذکره هنا، وهو أیضاً قد ذکر هذه الروایة فی بحث التیمّم فی مسألة اجتماع الجُنُب والمیّت وال_مُحْدِث، ونَقلها عن عبد الرحمن بن أبی نجران».

وأمّا ما وصفها به من صحّة السند : فإن کان نقله لها من «التهذیب» فهی لیست بصحیحة، لأنّ فی طریقها فی الکتاب المذکور محمّد بن عیسی وهو مشترک، وفیه عبد الرحمن عمّن حدّثه.

وإنْ کان من «الفقیه» فهی صحیحة، لأن_ّه رواها فیه عن عبد الرحمن ابن أبی نجران، وطریقه إلیه صحیح فی المشیخة، إلاّ أنّ متنها فیه لیس کما ذکره، بل الذی فیه: «ویدفن المیّت بتیمّم ویتیمّم الذی هو علی غیر وضوء.. إلی آخره» وهی صریحة فی تیمّم المیّت خلافاً لما یدّعیه.

وبالجملة: فإن کان نقله لها من «التهذیب» فمتنها فیه علی ما ذکره، إلاّ أنّ السند غیر صحیح، وإن کان من «الفقیه» فالسند صحیحٌ کما وصفه، إلاّ أنّ متنها لیس کما ذکره، لکن صاحب الوافی و«الوسائل» قد نقلا أیضاً هذه الروایة من «التهذیب» بهذا المتن الذی ذکره ثمّ نقلاها عن «الفقیه» وأحالا المتن علی ما نقلاه عن «التهذیب» ولم ینبّها علی الزیادة التی ذکرناها، وهو محتملٌ لاتّحاد هذا المتن فی الکتابین کما ذکره السیّد ومحتملٌ لوقوع السهو منهما علی التنبیه علی ذلک فإنّه قد جری لهما مثل ذلک فی مواضع عدیدة.

وبالجملة: فإنّی قد تتبّعت نسخاً عدیدة مضبوطة من «الفقیه» فوجدت الروایة فیها کما ذکرته من الزیادة المذکورة، واللّه العالم) انتهی ما فی «الحدائق»(1).


1- الحدائق: ج3 / 473 _ 474 .

ص:371

مع أنّ روایة ابن الحجّاج مرسلٌ لا مسند.

أقول: إنّ الروایة المذکورة فی «الوسائل»(1) منقولة عن «الفقیه» والسند فیه صحیح، إلاّ أن_ّه یکون لنا لا علینا، حیث قد کرّر فیه التیمّم، ولذلک قال صاحب «الجواهر» لعلّه سقط ذلک من قلم الشیخ أو النسّاخ لتوهّم التکرار.

ولکن نقول: إنّ القول باحتمال السقط لا یحقّق المطلب، لما قد عرفت من الاختلاف فی الراوی أیضاً إذ لیس بابن الحجّاج بل المذکور هنا هو عبد الرحمن ابن أبی نجران.

وکیف کان، فدعوی المعارضة بمثل هذا الخبر الموصوف بهذه الصفة غیر مقبولة، کما لا یخفی علی المتأمّل، فما ادّعاه السیّد السند صاحب «المدارک» من عدم وجوب التیمّم مع تعذّر الغُسل ممّا لا یمکن المساعدة معه، وعلیه فقول المشهور هو المنصور لو لم نقل إنّه إجماعی کما أنّ الأمر کذلک .

قلنا: بعدما عرفت دلالة روایة ابن أبی نجران مع صحّة سندها علی لزوم التیمّم للمیّت عند تعذّر الغُسل، ولو لأجل وجود مزاحمٍ أهمّ، فیصیر هذا دلیلاً علیه فی المقام أیضاً، ولو لأجل وجود المانع فی المیّت من کونه مجدوراً أو محترقاً، مضافاً إلی روایة زید بن علیّ علیه السلام المنجبرة ضعفها بالإجماع وعمل الأصحاب، وهما یغنیان عن التمسّک بعموم أدلّة: «أنّ التراب أحد الطهورین» أو کونه بمنزلة الماء، حتّی یُستشکل فیه بما فی «الجواهر» من المناقشة فیه من ظهورها فی غیر المقام من حیث شرکة غیر الماء مثل السِّدر والکافور مع الماء، ومن ظهورها فی رفع الأحداث خاصّة، لا فی مثل ما نحن فیه من الغُسل الذی


1- وسائل الشیعة: الباب 18 من أبواب التیمّم، الحدیث 1 .

ص:372

یحصل به رفع الخبث وغیره، مع عدم تمامیّة شیء من الدعویین، لوضوح أنّ البدلیّة إنّما کانت فی خصوص الماء فی المرکّب لا عنهما، ولذلک لم نقل بتبدیل الغُسل بالتیمّم بمجرّد تعذّر السِّدر أو الکافور؛ لأنّ مع تمکّن الماء الذی هو مُبدّلٌ لا وجه لإتیان البدل.

کما لا وجه للدعوی الثانیة أیضاً، لأنّ البدلیّة کانت عن الغُسل بما له من الأثر إن کان لخصوص الحَدَث فبدلٌ عنه خاصّة، وإن کان له أثران من رفع الحَدَث وزوال الخبث فللبدل أیضاً کذلک، فالسعة والضیق فی البدلیّة تابعان لمدلول الدلیل کما لایخفی.

تتمیمٌ للبحث: بعدما ثبت وجوب التیمّم بعد تعذّر الغسل بأیّ وجهٍ اتّفق، یدور البحث عن أن_ّه هل یجب تیمّمٌ واحد عن مجموع الأغسال الثلاثة، کما هو دعوی صاحب «الجواهر» بکونه مقتضی أدلّة الحکم، بل قال: «یُشعر نسبته إلی الأصحاب فی «الذکری» وکشف اللِّثام بالإجماع».

ثمّ أضاف: «وینبغی القطع به إذا جعلنا التطهیر بماء القراح، ومثله أیضاً علی المختار من أنّ غسل المیّت عملٌ واحد»، انتهی ما فی «الجواهر»(1).

خلافاً للعلاّمة فی «التذکرة» والمحقّق الثانی فی «جامع المقاصد» معلّلاً فی الأخیر: «بأن_ّه بدلٌ عن ثلاثة أغسال، وکونها فی قوّة واحد لا یُخرجها عن التعدّد، وإذا وجب التعدّد فی المبدل منه مع قوّته ففی البدل الضعیف بطریقٍ أولی»، انتهی.

فاستشکل علیه صاحب «الجواهر» بقوله: «وهو کما تری مع مخالفته لإطلاق


1- الجواهر: ج4 / 143 .

ص:373

النصّ والفتوی لا محصّل له، بحیث یصلح مدرکاً شرعیّاً، بل ظاهر وجوب ذلک حتّی علی البناء علی کونه عملاً واحداً وهو عجیب؛ إذ کیفیّة المبدّل منه لا تنسحب إلی البدل کما هو واضح»، انتهی(1).

أقول: الظاهر أنّ وجه الاختلاف ینشأ من ملاحظة الدلیل فی المبدّل منه والبدل هل یظهر منهما التعدّد أو الوحدة، فمن یدّعی التعدّد فی العمل وکونه هو المستظهر من الأدلّة، فلازمه القول بثلاث تیمّمات، ومن یدّعی الوحدة فی أصله فلا معنی له بالقول بالتعدّد، فلا یرتبط ذلک بملاحظة کیفیّة تأثیر کلّ غسلة فی تحقّق الغسل من کونه بصورة الاستقلال فیتعدّد، أو تخصیص الغَسلة الثالثة دون غیرها، فالوحدة أو تأثیر کلّ مرتبطٌ بالآخر بصورة المجموع، فالوحدة کما عن المحقّق الآملی قدس سره فی مصباحه لوضوح أنّ کلّ واحدٍ من الغسلات له أثرٌ فی تحقیق ما هو المقصود من الغسل، حتّی بصورة الترتیب، ولکن لا ینافی ذلک باختیار التعدّد فی البدل أو وحدته تبعاً لدلالة الدلیل، فالعمدة فی الاستظهار

فی أحکام الأموات / کیفیّة تیمّم المیّت

ملاحظة لسان الدلیل وهو قوله علیه السلام : یمّموه، فی روایة زید بعدما قال الراوی: «فإنْ غسلناه انسلخ»، وفی صحیحة ابن أبی نجران فی قوله: «یُدفن المیّت بتیمّم»؛ حیث لا یبعد دعوی ظهورهما فی الوحدة؛ لأنّ المراد من قوله: «فإن غسلناه انسلخ»، هو الثلاثة معاً حتّی یصدق علیه الغسل، لا خصوص الاُولی والثانیة، وإن کان لا ینافی شموله لهما أیضاً فی الانسلاخ، ولکن علی کلّ حال أُرید من الانسلاخ المانع عن حصول أصل الغُسل الواجب، فجعل التیمّم بدله، وهو لا یکون إلاّ بالوحدة، کما کان الظاهر فی الروایة الثانیة أیضاً الوحدة، حیث


1- الجواهر: ج4 / 143 .

ص:374

کما یتیمّم الحیّ العاجز(1).

أنّ اللّفظ النکرة مع التنوین فی قوله: «یتیمّم» یفسد الوحدة، ولأجل ذلک قلنا فی حاشیتنا علی «العروة» بکون الأحوط وجوباً هو تقدیم التیمّم علی المجموع عن ثلاث تیمّمات، لو اُرید العمل بالاحتیاط علی القولین، کما أنّ هذا الاحتیاط وجوبی أیضاً، تخلّصاً عمّا یمکن الاستدلال به للتعدّد، ونتیجة کلامنا: لزوم الإتیان بتیمّم واحد للمجموع أوّلاً عملاً بالاحتیاط بتقدیمه علی ثلاث تیمّمات احتیاطاً وکلاهما وجوبی، واللّه العالم.

***

(1) أراد المصنّف من التشبیه تشبیهه بتیمّم العاجز الذی لا یقدر علی شیء من الفعل ولو بمُعینٍ، حیث یتولّی الأجنبی تمام الأفعال إلاّ النیّة، فإنّها واجبة لنفس العاجز، بخلاف المقام حیث أن_ّه یجب النیّة علی المباشر، مضافاً إلی وجوب سائر الأفعال، لوضوح أنّ المکلّف بالفعل هنا هو المتیمّم ببناء الفاعل لا المیّت، بخلاف الحیّ العاجز حیث أنّ المکلّف فیه هو العاجز، هذا هو الذی استظهره صاحب «الجواهر» من التشبیه، وجعل القید فی کلامه بقوله: «رأساً الذی لا قابلیّة له بأن یتولّی.. إلخ» قیداً احترازیّاً من احتمال کون التشبّه بالعاجز فی طرفی الاحتمال، بأن یجب کون ضرب الید علی الأرض بید المیّت إن أمکن، کما کان الأمر کذلک فی العاجز، وإلاّ بید المباشر، کما أنّ الحقّ یحتمل فیه کلیهما بواسطة الإطلاق فی الکلام، لو لم نقل ظهوره فی الأخیر، وجعل منشأ القولین فی «مصباح الهدی» بکون ضرب الید علی الأرض من أجزاء التیمّم وماهیّتیه، فیؤیّد الأخیر، أو لا یکون فیؤیّد الأوّل، کما علیه «الجواهر» والشیخ فی «کتاب

ص:375

الطهارة»، بل قد نسب فی الأخیر کون ذهاب المشهور علی کون الوجوب بید المباشر مطلقاً، فجعل هذا دلیلاً علی خروج ضرب الید عن حقیقة التیمّم.

أقول: ولکن الإنصاف بعد التأمّل والدقّة هو صحّة ماذکره صاحب «الجواهر»؛ لأنّ المخاطب بالفعل وإجراء التیمّم لیس إلاّ من کان مخاطباً بالغسل، کما أنّ المقصود فی الغُسل إصدار کلّ عمل مربوط بالغَسل عن الغاسل علی المیّت، فهکذا یکون فی إصدار کلّ عمل مربوط بالتیمّم، ولو بضرب الید علی الأرض، کما هو المساعد للاعتبار، مضافاً إلی کون الغالب صعوبة ضرب ید المیّت لصیرورته بعد البرد کالخشبة المسندة، لا یمکن رفعهما وضربهما علی الأرض، إلاّ مع إیذاء المیّت، ولعلّ علی ما ذکرنا هو کون التیمّم بید المباشر مطلقاً حتّی مع إمکان إجرائه فی المیّت، وحتّی علی القول بکون ضرب الید علی الأرض من مفهوم التیمّم وماهیّته، ولکن مع ذلک کلّه الأحوط هو الإتیان بالتیمّم بید المیّت أیضاً بعد تیمّم المباشر بیده إن أمکن ولم یستلزم إیذاء المیّت، عملاً بما قد یتوهّم ذلک من کلام بعض الفقهاء مثل الشیخ المفید فی «المقنعة» کما نسب إلیه صاحب «الجواهر»، وتبعاً لمن حکم بالاحتیاط وجوباً فی المقام، وإن لم یکن وجوبه ثابتاً لنا.

هذا کلّه تمام الکلام فی واجبات غُسل المیّت .

***

ص:376

سُنن غُسل المیّت

قوله قدس سره : وسُنن الغُسل أن یوضع علی ساجةٍ مستقبل القبلة (1).

(1) أقول: لا إشکال ولا خلاف فی استحباب وضع المیّت علی ساجةٍ، کما ادّعاه العلاّمة فی «المنتهی»، أو مطلق مکان مرتفعٍ من سریرٍ أو دکّةٍ أو غیر ذلک، کما فی «الغُنیة» مدّعیاً علیه الإجماع، وهو کافٍ فی إثبات استحبابه بناءً علی التسامح فی أدلّة السنن، مع أن_ّه فی المقام ممّا یرشد إلیه لسان بعض الأخبار من التصریح بوضعه علی الساجة علی ما ادّعاه صاحب «مجمع البحرین» حیث قال: «وفی حدیث المیّت وتغسیله علی ساجةٍ، وهی لوحٌ من الخشب المخصوص، والمراد وضعه علیها أو علی غیرها ممّا یؤدّی مؤدّاها»، انتهی ما فی «المجمع».

أقول: لکن قد فحصنا ولم نجد الحدیث مشتملاً علی هذا اللّفظ، بل الموجود فی الحدیث: «وضعه علی مغتسلٍ» وهو قابلٌ للانطباق علی کلّ ما کان معدّاً للغسل من السّاجة أو السریر أو الدکّة، بل کلّ مکان مرتفع، ومع ذلک کلّه الأولی رعایة الساجة لما وقع فی کلمات الأصحاب والفقهاء ومنهم المصنّف، مضافاً إلی مناسبة أرفعیّة مکانه لحفظ بدن المیّت من التلطّخ، کما ینبغی أن یکون مکان الرأس أرفع من مکان الرجلین لحصول المقصود بخروج الفضلات بواسطة الانحدار، کما نصّ علیه بعضهم.

وقد فسّر السّاجة صاحب «کشف اللّثام» بقوله: «إنّ السّاج خشبٌ أسود یُجلَب من الهند، والساجة الخشبة المربّعة منها» انتهی.

ص:377

وفی «المجمع»، عن «المُغرِب»: «أنّ الساج شجرٌ عظیم جدّاً، ولا ینبت إلاّ ببلاد الهند».

وأیضاً: یستحبّ وضع المیّت مستقبل القبلة علی هیئة المحتضر، فیستقبل بباطن قدمیه ووجهه القبلة، وهو ممّا لا خلاف فیه بین أصحابنا فی أصل الکیفیّة.

نعم، قد وقع الخلاف بینهم بالنسبة إلی الحکم بکونه استحبابیّاً کما علیه الأکثر، بل المشهور، أو وجوبیّاً کما علیه الشیخ فی «المبسوط»، والعلاّمة فی «المنتهی»، والمحقّق الثانی فی «جامع المقاصد».

وقد استدلّ القائلون بالوجوب: بظاهر الأوامر المتعلّقة بوضع المیّت تجاه القبلة، کما ورد فی الأخبار، وممّا یشتمل علیه حدیث سلیمان بن خالد، قال: «سمعت أبا عبد اللّه علیه السلام یقول: إذا مات لأحدکم میّتٌ فسجّوه تجاه القبلة، وکذلک إذا غُسّل یحفر له موضع المغتسل تجاه القبلة، فیکون مستقبلاً بباطن قدمیه ووجهه إلی القبلة»(1).

بل وکذلک خبر یونس، بقوله علیه السلام : «إذا أردت غُسل المیّت فضعه علی المغتسل مستقبل القبلة، فإنْ کان علیه قمیص فاخرج یده من القمیص،الحدیث»(2).

وخبر الکاهلی فی حدیثٍ، فقال: «استقبل بباطن قدمیه القبلة حتّی یکون وجهه مستقبل القبلة ثمّ تلین مفاصله، الحدیث»(3).

قلنا: ما ادّعوه من حیث ظهور الأمر فی الوجوب أمرٌ مقبول، ولیس ما أجابوا عنهم بالقصور فی السند أو باشتمال الأحادیث علی کثیر من المستحبّات


1- وسائل الشیعة: الباب 35 من أبواب الاحتضار، الحدیث 2 .
2- وسائل الشیعة: الباب 2 من أبواب غسل المیّت، الحدیث 3 و 5 .
3- وسائل الشیعة: الباب 2 من أبواب غسل المیّت، الحدیث 3 و 5 .

ص:378

وأن یُغسّل تحت الظلال(1).

الموجبة لحملها علی بیان مطلق الرجحان جواباً شافیاً، لوضوح أن_ّه لا یجوز رفع الید عن ظاهر الأمر فی موضوعٍ لاشتمال أمرٍ مستحبّ آخر الذی کان له دلیلاً أو قرینةً علی الاستحباب، بل الذی یقتضی ذلک هنا لیس إلاّ لوجود ما یدلّ علی عدم الوجوب، وهو کما فی صحیح یعقوب بن یقطین، قال: «سألت أبا الحسن الرضا علیه السلام عن المیّت: کیف یُوضع علی المغتسل موجّهاً وجهه نحو القبلة أو یوضع علی یمینه ووجهه نحو القبلة؟ قال: یوضع کیف تیسّر فإذا ظهر وُضع کما یوضع فی قبره»(1).

فإنّ جواب الإمام علیه السلام بما تیسّر لیس ظاهراً فقط فی عدم الوجوب فی الحالتین المذکورتین فی سؤال السائل، بل یشمل حتّی ما لو لم تکن بتلک الحالة منهما ممّا یصدق علیه الیُسر. فما ادّعاه البعض من کون المقصود نفی وجوب المتعسّر لیس علی ما ینبغی، لوضوح عدم توهّم الوجوب فیه حتّی یکون فی مقام دفع توهّمه، فیکون المراد بیان نفی توهّم الوجوب، المستفاد من بعض الأخبار المشتملة علی الأوامر الظاهرة فی الوجوب، فکأنّه علیه السلام أراد بیان أنّ ما یدلّ علی وضع المیّت مستقبل القبلة بأیّ طریق من القسمین لیس بنحو الواجب، ولا ینافی کون فردٍ منهما أرجح من الآخر ومن غیره وهو المطلوب، وعلیه فصار کلام المشهور هو المنصور.

(1) أقول: هذه العبارة موجودة فی کلمات بعض الأصحاب، کما فی «جامع


1- وسائل الشیعة: الباب 5 من أبواب غسل المیّت، الحدیث 2 .

ص:379

المقاصد»، والسیّد فی «العروة» فی قِبال بعض آخر مثل المحقّق فی «المعتبر»، حیث قال: «ویستحبّ أن یُغسّل تحت سقفٍ»، ومثله العلاّمة فی «التذکرة»، ولأجل ذلک قال صاحب «الجواهر» ذیله: «سقفاً کان أو غیره»، ومثله صاحب «مصباح الفقیه»، وقد فسّره فی «العروة»: «من کونه سقفاً أو خیمة». ولعلّ التعبیر بتحت الظلال کان أحسن لأعمّیته عن کلمة السقف، لأن_ّه لا یستعمل إلاّ للفوق المرتفع، مع أن_ّه یمکن أن یکون المراد من الظلال هو الأعمّ حتّی یشمل مثل الخیمة التی تستر، فتشمل للسقف والأطراف. ولعلّ هذا کان أنسب بما ورد فی الحدیث مثل الخبر الصحیح الذی رواه علیّ بن جعفر، عن أخیه أبی الحسن علیه السلام ، قال: «سألته عن المیّت هل یغسّل فی الفضاء؟ قال: لا بأس وإن ستر بستر فهو أحبُّ إلیّ»(1).

حیث یمکن أن یکون المراد من الستر ما یشمل جمیع الأطراف لا خصوص الفوق، حتّی ینطبق بخصوص السقف فقط، والحکمة فیه لیس بما ورد فی«المعتبر» حیث قال: «ولعلّ الحکمة کراهة أن یُقابل السماء بعورته»؛ لإمکان رفع ذلک بوضع خرقةٍ علیها، کما هو واجبٌ مع عدم الأمن من النظر، ومندوبٌ مع الأمن منه، کما أشار إلیه المحقّق الآملی فی مصباحه، بل لعلّ الحکمة _ واللّه العالم _ حفظ الأمانة من حیث وجود عیبٍ ونقص فی بدنه، فلا یقع فی مرئی ومنظر الناظرین کما استظهر ذلک من ما ورد فی حقّ الغسّال بأن یکون أمیناً فله من الأجر کذا، فراجع الأحادیث الواردة فی هذا الخصوص مثل ما رواه الصدوق، عن الصادق علیه السلام : «من غسّل شیئاً فستر وکتم خَرَج من الذنوب کیوم


1- وسائل الشیعة: الباب 30 من أبواب غسل المیّت، الحدیث 1 .

ص:380

وإن یجعل لماء الغُسل حفیرة، ویکره إرساله فی الکنیف، ولا بأس بالبالوعة(1).

ولدته اُمّه»(1).

وقد فسّره الصدوق فیالخبر الذی رواه فی«عقاب الأعمال»، عن رسول اللّه صلی الله علیه و آله ، أن_ّه قال فی خطبةٍ طویلة: «من غسّل میّتاً فأدّی فیه الأمانة کان له بکلّ شعرة منه عتق رقبة، ورفع له مأة درجة. قیل : یا رسول اللّه وکیف یؤدّی فیه الأمانة؟ قال: یستر عورته فی الدُّنیا والآخرة»(2).

ولعلّ من الستر جعل غسله فی محلٍّ یستره بجمیع أطرافه، حتّی لا ینظر إلیه أحدٌ غیر الغسّال ومَن یُعینه، فکان الستر بمثل الخیمة أحسن من السقف تحصیلاً للغرض الأقصی، ولذلک تری الصادق علیه السلام فی خبر طلحة بن زید ینسب ذلک إلی أبیه بقوله علیه السلام : «إنّ أباه کان یستحبّ أن یجعل بین المیّت وبین السماء ستراً یعنی إذا غسّل»(3). ولعلّ هذا التعبیر الذی قد یکون صادراً من الإمام علیه السلام ، کما یحتمل أن یکون من الراوی، صریحٌ فی استحباب ذلک _ وإن کان ذکر السماء موهماً للوجه الآخر _ کراهة جعله فی الفضاء کما یوهم ذلک کلام العلاّمة فی «التذکرة» بقوله: «ولا یکون تحت السماء» وإن صرّح قبله بالاستحباب تحت السقف، کما هو صریح ما فی صحیحة یحیی بن جعفر، بقوله: «فهو أحبّ إلیّ»، فلا إشکال فی استحبابه لأجل الإجماع ودلالة الروایة، وهو واضح.

(1) من المندوبات حفر حفیرةٍ مختصّةٍ لماء الغُسل، کما علیه الإجماع، کما


1- وسائل الشیعة: الباب 8 من أبواب غسل المیّت، الحدیث 2 و 5 .
2- وسائل الشیعة: الباب 8 من أبواب غسل المیّت، الحدیث 2 و 5 .
3- وسائل الشیعة: الباب 30 من أبواب غسل المیّت، الحدیث 2 .

ص:381

فی «الغنیة»، مضافاً إلی دلالة روایة سلیمان بن خالد فی الحسن فی حدیث: «وکذلک إذا غُسّل یُحفر له موضع المغتسل تجاه القبلة، فیکون مستقبل باطن قدمیه ووجهه إلی القبلة»(1).

ولکن استشکل صاحب «مصباح الفقیه» بأنّ الظاهر کون الروایة فی مقام بیان الاستقبال. والمراد بحفر الحفیرة إنّما هو حفرها عند رجل المیّت کی یجری إلیها ماء الغسیل ولا یتلوّث به بدن المیّت، لا أن_ّه یستحبّ صبّ الماء إلی حفیرة مطلقاً ولو بعد الغُسل کما یوهمه کلمات الأصحاب، واللّه العالم.

قلنا: الظاهر أنّ ذکر حَفر الحفیرة فی موضع القدم مستقبل القبلة إرشادیّاً، لیسهل الأمر، فلا ینافی کون المقصود منه بیان حفرة مخصوصة لذلک، ولو کان لما بعد تمام الغسل، وأمّا کراهیة إرساله إلی الکنیف _ وهو ما یقع فیه قضاء الحاجة من البول والغائط _ فهی لما فی «الذکری» عن الشهیدین: «أجمعنا علی کراهیة إرسال الماء فی الکنیف دون البالوعة»، مضافاً إلی مکاتبة الصفّار، وهی کتب محمّد بن الحسن، إلی أبی محمّد علیه السلام : «هل یجوز أن یُغسّل المیّت وماؤه الذی یصبّ علیه یدخل إلی بئر کنیفٍ، أو الرجل یتوضّأ وضوء الصلاة أن ینصبّ ماء وضوئه فی کنیف؟ فوقّع علیه السلام : یکون ذلک فی بلالیع»(2).

والبلالیع جمعُ البالوعة، وهی علی ما فی «الوافی»: «بئرٌ ضیّق الفم یجری فیها ماء المطر ونحوه».

وصرّح بعضهم بإلحاق بالوعة البول بالکنیف، وهو حسن، کما یدلّ علیه ما فی


1- وسائل الشیعة: الباب 35 من أبواب الاحتضار، الحدیث 2 .
2- وسائل الشیعة: الباب 29 من أبواب غسل المیّت، الحدیث 1.

ص:382

وأن یفتق قمیصه وینزع من تحته(1).

«فقه الرِّضا»: «ولا یجوز أن یدخل ما ینصبّ علی المیّت من غَسله فی کنیف، ولکن یجوز أن یدخل فی بلالیع لا یُبال فیها أو فی حفیرة»(1).

فیصیر هذا الحدیث دلیلاً آخر لمدّعی الفوق، وبضمیمة الأصل یفهم عدم الحرمة من لا یجوز، فمن ذلک یظهر أنّ جواز الصبّ فی البالوعة یکون فیما إذا لم یکن للبول والغائط، وأمّا شرطیّة طهارته من سائر النجاسات وغیرهما غیر معلوم، ولذلک قال فی «الجواهر» بعد قول المصنّف: «ولا بأس بالبالوعة وإن اشتملت علی نجاسةٍ لإطلاق الصحیح».

وما سمعته من «الذکری»، فهو حسن، لو لم یرد الإطلاق الشامل للبول والغائط، کما هو الظاهر؛ لأن_ّه حینئذٍ یصیر کنیفاً عند العرف کما لایخفی.

فثبت ممّا ذکرنا استحباب حفر الحفیرة مختصّة به، وکراهیة إرسال الماء إلی الکنیف دون البالوعة، واللّه العالم.

(1) الظاهر کون المسألة مشتملة علی استحبابین من الفتق للقمیص، والنزع من تحته، وهما المنصوصان فی خبر عبد اللّه بن سنان، قال: «قلتُ لأبی عبد اللّه علیه السلام : کیف أصنع بالکفن... إلی قوله: ثمّ یخرق القمیص إذا غُسّل وینزع من رجلیه»(2).

والبحث یدور عن أن_ّه هل یشترط العمل بهذا الاستحباب أی الفتق والخرق إلی الإذن من الوارث أو لا، بل یجوز حتّی مع النهی فضلاً عن الإذن، بل حتّی ولو


1- مصباح الدروس للآملی: 6 / 112 .
2- وسائل الشیعة: الباب 2 من أبواب التکفین، الحدیث 8 .

ص:383

کان الوارث صغیراً، أو لا یمکن الاستیذان للغیبة ونحوه؟

الظاهر من کثیرٍ من الفقهاء _ مثل صاحب «الحدائق» وصاحب «الجواهر»، بل لعلّ هذا هو المشهور هو الإطلاق علی حسب ما یستفاد من الخبر، خلافاً للشهید فی «المسالک»، والسیّد السند فی «المدارک»، وصاحب «مصباح الفقیه»، والسیّد فی «العروة» _ کونه موقوفاً علی الإذن فیما احتاج إلیه، وهذا هو الأقوی والأحوط، لإمکان أن یکون الإطلاق محمولاً علی الغالب من وجود الإذن من البالغ الرشید علی العمل بما هو المتعارف، وفی غیره علی کون الروایة فی بیان ما هو المستحبّ فی ذاته، لولا وجود عوارض خارجیّة من کونه مال الصغیر والغیّب المحتاج إلی الإذن من ولیّهما، وملاحظة مصلحتهما، من جهة عدم جواز التصرّف فی مال الغیر إلاّ بإذنه، فکون العمل مستحبّاً بالذات، لا ینافی مع شرطیّة الإذن عن صاحبه مع وجود ذلک فی غالب الموارد لولا الصغیر والمجنون، وإن کان ذکر الإطلاق فی مثل هذه الموارد التی قد یتّفق وجود الصغار کثیراً، لا یخلو عن شائبة، ولکن مع ذلک الأحوط لولا الأقوی هو تحصیل الإذن إن أمکن، أو ترک الخرق والفتق مع عدم إمکانه، هذا أحد الاستحبابین.

الاستحباب الآخر: إخراجه من تحت رجلیه، کما فی «جامع المقاصد» من أنّ هذا الحکم ممّا لا خلاف فیه بین الأصحاب .

مضافاً إلی تأییده بأنّ ذلک أدعی لسلامة الأعالی من تلطّخ النجاسة التی هی مظنّة وقوعها من المریض، وکونه أسهل فی الإخراج، ولکن أصل الدلیل فی الاستحباب هو ذکره فی الخبر، وهو الموجب له، وإلاّ لأمکن المناقشة فی بعض ما ذکر من المناسبة کما لا یخفی .

أقول: والذی ینبغی أن یبحث فیه هو:

ص:384

1 _ أنّ المستحبّ هل هو تغسیله مع القمیص کما علیه ابن أبی عقیل، وظاهر الصدوق، والمحقّق الهمدانی، والحکیم، وبعض متأخّری المتأخّرین؟

2 _ أو تغسیله عریاناً مستور العورة، کما هو صریح المحقّق فی «المعتبر» و«التذکرة»، بل فی «المختلف» وغیره أن_ّه المشهور، کما هو کذلک ومشاهدٌ فی کلام السیّد فی «العروة»، وقبول أکثر المحشّین وأصحاب التعلیق علیها؟

3 _ أو التخییر بینهما، کما هو مختار صاحب «الجواهر» والمحقّق الآملی تبعاً للخلاف و«جامع المقاصد» ؟

وکلٌّ أقاموا الدلیل علی مسلکهم.

فأمّا الدلیل علی القول الأوّل: هو دعوی تواتر الأخبار علی التغسیل تحت القمیص، کما ورد الدلیل کذلک علی تغسیل علیّ علیه السلام لرسول اللّه صلی الله علیه و آله فی قمیصه ثلاث غسلات، مضافاً إلی الأخبار المتکاثرة الواردة فی تغسیل أحد الزوجین للآخر، هذا فضلاً عن جود جملة من الأخبار الدالّة علی ذلک:

منها: صحیح ابن مسکان فی حدیثٍ: «وإن استطعت أن یکون علیه قمیص تغسّله من تحته»(1).

ومنها: صحیح ابن یقطین: «ولا یُغسّل إلاّ فی قمیص یدخل رجل یده ویصبّ علیه من فوقه»(2).

ومنها: صحیح سلیمان بن خالد، قال: «وإن استطعت أن یکون علیه قمیص فیغسل من تحت القمیص»(3).

ونحن نزید علیه بأنّ هذه الطریقة تکون أستر للعیوب التی ربّما یمکن أن


1- وسائل الشیعة: الباب 2 من أبواب غسل المیّت، الحدیث 1 و 7 و 6 .
2- وسائل الشیعة: الباب 2 من أبواب غسل المیّت، الحدیث 1 و 7 و 6 .
3- وسائل الشیعة: الباب 2 من أبواب غسل المیّت، الحدیث 1 و 7 و 6 .

ص:385

یکون فی بدن المیّت.

أمّا الدلیل علی القول الثانی: حیث استدلّوا علی کلامهم _ مضافاً إلی التعلیل الموجود فی کلام «المعتبر» و«التذکرة» _ بأنّ الثوب ینجس بذلک، ولا یطهر بصبّ الماء فینجس المیّت والغاسل، فیکون العریان أمکن فی التطهیر من التغسیل فی القمیص، ولأنّ الحیّ یغتسل مجرّداً فالمیّت أولی، هذا کما فی «الجواهر» وجود ما یفهم ذلک منه.

منها: الخبر المرسل المرویّ عن یونس، عنهم علیهم السلام فی حدیثٍ: «فإن کان علیه قمیص فاخرج یده من القمیص، واجمع قمیصه علی عورته، وارفعه عن رجلیه إلی فوق الرُّکبة ، وإن لم یکن علیه قمیص فالقِ علی عورته خرقة»(1).

ومنها: صحیح الحلبی، عن الصادق علیه السلام ، قال: «إذا أردت غسل المیّت فاجعل بینک وبینه ثوباً یستر عنک عورته، إمّا قمیصٌ وإمّا غیره، الحدیث».

مضافاً إلی ما فی «الخلاف» من التصریح باستحباب ذلک عریاناً، بقوله: «یُستحبّ أن یُغسّل المیّت عریاناً مستور العورة، إمّا بأن یترک قمیصه علی عورته، أو ینزع قمیصه ویترک علی عورته خرقة... دلیلنا إجماع الفرقة وعملهم أن_ّه مخیّر بین الأمرین»، انتهی ما فی «الخلاف».

بناءً علی أن یکون المراد من الأمرین هو التغسیل فی القمیص أو عریاناً، لا أن یرجع إلی ما فی قوله أوّلاً من الستر بالقمیص أو الخرقة.

أقول: لکنّ الإنصاف عدم دلالة صحیحة الحلبی علی استحباب التغسیل عریاناً؛ لإمکان أن یکون فی مقام بیان ما لو کان مجرّداً فإنّ وظیفته فی حال


1- وسائل الشیعة: الباب 2 من أبواب غسل المیّت، الحدیث 3 .

ص:386

الغسل ستر العورة بالقمیص أو غیره، ولیس فی حدود بیان استحباب ذلک، حتّی یُجعل دلیلاً فی قبال تلک الأدلّة، وعلیه فلا یبقی للحکم بالاستحباب إلاّ مرسل یونس حیث یمکن الجمع بینه وبین تلک الأخبار بجواز التغسیل عریاناً بحمل بعض الأوامر بالتغسیل فی القمیص علی الاستحباب ولا یتوهّم الوجوب.

وأمّا استفادة کون التغسیل عریاناً أفضل فلا، بل الظاهر من روایة صحیحة ابن یقطین من النفی والإثبات بقوله: «ولا یُغسّل إلاّ فی قمیص» هو شبهة الوجوب بخلاف ما علیه ابن حمزة من إیجاب التغسیل مجرّداً، وحیث کان کلامهما مخالفاً للإجماع، فلا أقلّ من القول بالأفضلیّة.

وأمّا ذکر التعلیلات فی أفضلیّة الغُسل عریاناً، ممّا لا یمکن الاعتماد علیها، لوضوح أنّ نجاسة القمیص یرتفع بارتفاع نجاسة بدن المیّت تبعاً، ولا یحتاج إلی العصر هنا للدلیل، ولو قلنا بلزومه فی غیر المورد، کما أشار إلیه شیخناالبهائی قدس سره فی «الحبل المتین»، ونِعْمَ ما قال کما یقال بطهارته بالتبعیّة بواسطة الدلیل هنا بخلاف ذلک فی غیر المقام، فمثل هذه المناسبات والتعلیلات لا یوجب رفع الید عمّا ذکرنا من الأخبار .

أمّا القول الثالث: فمن ذکر هذین الدلیلین یظهر وجه القول بالتخییر من حیث الجمع بینهما، کما ظهر الجواب عنه بما قد عرفت من تقویة أفضلیّة الغُسل فی القمیص، وإن کان التغسیل عریاناً کان جائزاً، وإن کان مختارنا فی حاشیتنا علی «العروة» هو استحباب التغسیل عریاناً کما هو مختار السیّد قدس سره فی «السرائر»، ولم نذکر له حاشیة فی المورد، واللّه العالم.

ولعلّ الوجه فی عدم ذکر الأفضلیّة فی حاشیتنا کان لأجل التخلّص عن مخالفة المشهور بشهرة عظیمة علی استحباب التغسیل مجرّداً، خصوصاً بعدما عرفت من فتوی ابن حمزة رحمه الله علی وجوبه.

ص:387

ویَستُر عورته(1) .

(1) ومن جملة المندوبات سَتر عورة المیّت. وقد أضاف صاحب «الجواهر» قیداً آخر، وهو: «حیث لا یوجد ما یقتضی الوجوب، کما لو کان المغسّل أعمی، أو واثقاً من نفسه بعدم النظر، أو کان المغسَّل بالفتح ممّن یجوز النظر إلی عورته کما لو کان طفلاً أو زوجاً» وإلاّ فلا إشکال فی وجوب ستر العورة عن الناظر المحترم.

ثمّ ناقش فی ثبوت استحباب بعض ما تقدّم إن لم یکن الجمیع، وقال: «إذ الوجوه الاعتباریّة لا تصلح مدرکاً للأحکام الشرعیّة، والأمر فی الأخبار بستر العورة ظاهره الوجوب، فهو محمولٌ علی غیرها»، انتهی کلامه(1).

أقول: إن اُرید إثبات ذلک من الأخبار الواردة فی ذلک، ولعلّها تبلغ إلی ستّة أو أزید، فإنّه یستفاد منه وجوب ستر العورة أخذاً بظاهر الأمر، إلاّ أنّ الظاهر من کلمات الأصحاب، بل قد یمکن دعوی الإجماع علی استحباب ذلک، إن لم نشاهد من أحدٍ القول بالوجوب إلاّ عملاً بالقاعدة، مثل سائر الموارد من وجوب ستر العورة عن ناظرٍ محترم غیر ال_مُحرّم، مع أنّ المقتضی بالأخذ بالظاهر، مع إطلاقه لزوم القول بوجوب الستر حتّی للمحارم، بل الإطلاق ربما کان أوسع من ذلک حتّی یشمل ما إذا کان الغاسل أعمی أو المیّت طفلاً.

وحیث إنّ الالتزام بمثل ذلک لا یناسب مع العلم بعدم وجوب الستر فی مثلهم، أوجب ذهاب العلماء إلی القول بالاستحباب حتّی للمحارم أیضاً، وکان المقصود من هذا الحکم إفهام محبوبیّة هذا العمل بنفسه، احتراماً للمیّت، وتوقیراً له بستر


1- الجواهر: ج 4/149.

ص:388

وتُلیّن أصابعه برفق(1).

عورته، ولا ربط له من جهة حفظ العورة عمّن یجب الستر عنه، وعمّن لا یجب، حتّی یقال بمقالة صاحب «الجواهر». کما لا نحتاج حینئذٍ إلی بیان الاستدراک الذی ذکره صاحب «الجواهر» بقوله: «نعم، قد یقال وجوب الستر إنّما هو علی المنظور، وإلاّ فالناظر إنّما یحرم علیه النظر، وبعد فرض سقوط الأوّل هنا بالموت، فلم یبق إلاّ الثانی، وهو لا یستلزم وجوب الستر، لعدم التوقّف علیه، فیستحبّ خصوص الستر حینئذٍ استظهاراً وحذراً من الغفلة ونحوها، وحینئذٍ فلا ینبغی أن یخصّ الحکم بما ذکر بل هو علی إطلاقه، فتأمّل جیّداً»، انتهی(1).

لما قد عرفت أنّ جعل هذا الحکم کان لغرضٍ آخر، وکان المخاطب بهذا الخطاب هو الغاسل قطعاً، فلا یرتبط إلی حکم النظر حتّی یلاحظ من یخاطب فیقال بما قیل کما لا یخفی .

(1) ومن جملة المستحبّات تلیین أصابع المیّت برفق، فإن تعسّر یترکها، وهو مورد اتّفاق الفقهاء، کما أشار إلیه المحقّق فی «المعتبر» بقوله: «وهو مذهب أهل البیت علیهم السلام »، ومثله فی سائر الکتب، کما أنّ فی الخلاف من إجماع الفرقة وعملهم علی استحباب تلیین أصابع المیّت، حیث یکون هذا الإجماع أو الشهرة جابراً لما ورد فیالأخبارالضعیفة، فیوجب صحّة التمسّک بها مثل الخبر الذی رواه الکاهلی: «ثمّ تُلیّن مفاصله فإن امتنعت علیک فدعها.. الحدیث»(2).


1- الجواهر: ج4 / 150 .
2- وسائل الشیعة: الباب 2 من أبواب غسل المیّت، الحدیث 5 .

ص:389

وروایة «الفقه الرضوی»: «وتُلیّن أصابعه ومفاصله ما قدرت بالرفق وإن کان یصعب علیک فدعها»(1).

فمع ضمیمة هذا مع الحدیث السابق یفهم استحباب التلیین لکلّ من الأصابع والمفاصل، وإن ترک المصنّف ذکر المفاصل، مع أن_ّه کان أولی، لوجوده فی الروایتین، وسیأتی وجه ترکه قدس سره .

وکیف کان، فما ذهب إلیه ابن أبی عقیل بأن_ّه لا یغمز له مفصلاً، بدعوی تواتر الأخبار علیهم بذلک، کما یشاهد ذلک فی خبر طلحة بن زید، عن الصادق علیه السلام : «کره أن یغمز له مفصل »(2)، وکذا فی روایة حسنة حمران بن أعین،عن الصادق علیه السلام ، قال: «إذا غسلتم المیّت منکم فارفقوا به ولا تعصروه، ولا تغمزوا له مفصلاً»(3).

حیث یستفاد منهما النهی عن الغمز فی المفصل، وإن حمل الشیخ الثانیة علی ما بعد الغسل لا حال التغسیل، وردّه صاحب «الجواهر» قدس سره بدعوی ظهوره عند التغسیل. لا یمکن المساعدة علیه، لأن_ّه مضافاً إلی ما عرفت من مخالفته للإجماع أو الشهرة علی أقلّ تقدیر، ومخالفته لصریح الروایتین السابقتین، مع أن_ّه إن أبیت عن الجمیع، وبنیت علی الخبرین، فلا أقلّ یقبل فی خصوص المفاصل لا الأصابع، ولعلّه لذلک ترک المصنّف المفاصل، ولکن الظاهر إمکان حمل إطلاق المنع علی صورة التعسّر والمجوّز علی صورة الرّفق، وبذلک یحصل الجمع بین الطائفتین، فالأقوی ما علیه المشهور فی کلا الموردین.


1- المستدرک: ج1 الباب 2 من أبواب غسل المیّت، الحدیث 3 .
2- وسائل الشیعة: الباب 11 من أبواب غسل المیّت، الحدیث 4 .
3- وسائل الشیعة: الباب 11 من أبواب غسل المیّت، الحدیث 6 .

ص:390

ویغسل رأسه برغوة السِّدر أمام الغُسل(1).

(1) من جملة المستحبّات هو هذا، بدعوی اتّفاق فقهاء أهل البیت علیهم السلام علیه، کما فی «المعتبر»، مع إضافة الجسد علی الرأس، فیکون هذا حجّة علیه، مضافاً إلی ما فی مرسل یونس بقوله علیه السلام : «ثمّ اغسل رأسه بالرغوة، وبالغ فی ذلک، واجتهد أن لا یدخل الماء منخریه ومسامعه، ثمّ اضجعه علی جانبه الأیسر، الحدیث»(1).

وینبغی الإشارة إلی ما ورد قبل هذه العبارة فی الحدیث من قوله: «واعمد إلی السِّدر فی طشتٍ وصبّ علیه الماء واضربه بیدک حتّی ترتفع رغوته، واعزل الرغوة فی شیء وصبّ الآخر فی الاجانة التی فیها الماء، ثمّ اغسل یدیه ثلاث مرّات... ثمّ اغسل فرجه ونقِه ثمّ اغسل رأسه، الحدیث».

فإنّ التدقیق فیه یوصلنا إلی صحّة القول بکونه من الغسل، أی کان الشروع به بعد غَسل الفرج، فلا یبعد کونه منه، أمّا کونه واجباً فلا؛ لأجل خلوّ الأخبار الکثیرة عنه، فلذلک یُحمل علی الندب لأجل الإجماع علی ثبوته مع الخبر المرسل المنجبر به، ویکفی ذلک فی إثبات الاستحباب علی القول بالتسامح، فضلاً عن الدلیل المقبول فی المقام، فإثبات استحباب کونه أمام الغسل کما صرّح به المصنّف هنا والعلاّمة فی جملةٍ کتبه غیر معلوم، ولکن الاحتیاط فی العمل یتحقّق فی إتیانه بقصد ما فی الذمّة من حیث کونه فی الغُسل أو أمامه لأجل تحصیل شرطیّة الإطلاق فی الماء فی الغسل، حیث یقتضی خروجه عن الغسل


1- وسائل الشیعة: الباب 2 من أبواب غسل المیّت، الحدیث 3 .

ص:391

ویَغسّل فرجه بالسّدر والحرض(1).

مبنیّاً علی کون الرغوة _ بالفتح أو بالکسر _ عبارة عن الزبد الحاصل عن ضرب الید بالسِّدر، وکونه مضافاً، ولذلک تری أنّ السیّد فی «العروة» ذکرها من المستحبّات بصورة المطلق ولم یقیّد بکونه أمام الغسل.

ثمّ إنْ تعذّر السِّدر، ففی «التذکرة» و«المنتهی» و«التحریر» جَعَل مکانه الخطمی وشبهه فی التنظیف، لکن قال صاحب «الجواهر»: «ولم نقف له علی دلیلٍ صریح فیه. نعم، قد یشهد له ما فی خبر عمّار: «وإن غسلت رأسه ولحیته بالخطمی فلا بأس»»(1).

مع أنّ ظاهر الحدیث تجویز ذلک مع وجود السِّدر، کما أشار إلیه فیما قبله، إلاّ أن یحمل ذلک علی صورة تعذّره، قضیّةً من إیماء لفظ فلا بأس، حیث یوهم کونه مع السِّدر غیر محبوب، واللّه العالم.

(1) استحباب غَسل الفرج بالسِّدر قبل الغسل کان لإزالة توهّم النجاسة، إذ الاستحباب محفوظ ولو مع العلم بالطهارة، خصوصاً مع ذکر السّدر والحرض أی الاشنان، یدلّنا علی حصول النظافة.

ویدلّ علیه: مضافاً إلی الشهرة العظیمة التی کادت أن تکون إجماعاً،روایتان:

الاُولی: الخبر المرویّ عن الکاهلی، بقوله: «ثمّ ابدأ بفرجه بماء السِّدر والحرض واغسله ثلاث غسلات وأکثِر من الماء، الحدیث»(2).


1- وسائل الشیعة: الباب 2 من أبواب غسل المیّت، الحدیث 10 .
2- وسائل الشیعة: الباب 2 من أبواب غسل المیّت، الحدیث 5.

ص:392

وتُغسّل یداه(1).

حیث یستفاد منه _ مضافاً إلی ما عرفت _ استحباب الغسل ثلاثاً، وإکثار صبّ الماء علیه.

والثانیة: الروایة المرسلة المرویّة عن یونس(1) حیث یشتمل علی غَسل الفرج فی کلّ غسلة من الغسلات الثلاث، قبل الشروع فی تلک الغسلة .

وکان ینبغی للمصنّف أن یذکر غَسل الفرج بعد غسل یدیه تبعاً للروایة.

(1) ودلیله الإجماع کما فی «الغنیة» وإن خلت من النجاسة وإلاّ فیجب، وفی «الذکری» نسبته إلی الأصحاب المشعر بالإجماع، وهو یکفی فی إثباته، مع کونه معتضداً بمرسل یونس من قوله: «ثمّ اغسل یدیه ثلاث مرّات کما یُغسّل الإنسان من الجنابة إلی نصف الذراع، الحدیث»(2).

کما یستفاد منه استحباب کونه بالتثلیث، وکونه بالسّدر، کما أنّ «الفقیه» قد نصّ علیه ولا بأس به.

والمراد بالیدین هو من رؤوس الأصابع إلی نصف الذراع، بل إلی المرافق، بحمل اختلاف الأخبار فیه علی مراتب الفضل ، جمعاً بین الأخبار الدالّة علی الثلاث وبین الخبر الدالّ علی الأربع وهو صحیح الحلبی بقوله: «ثمّ تبدأ بکفّیه»(3). ومرسل یونس(4) و«الفقه الرضوی»(5) إلی نصف الذراع،(6)


1- وسائل الشیعة: الباب 2 من أبواب غسل المیّت، الحدیث 3 .
2- وسائل الشیعة: الباب 2 من أبواب غسل المیّت، الحدیث 2 و 7 .
3- وسائل الشیعة: الباب 2 من أبواب غسل المیّت، الحدیث 2 و 7 .
4- وسائل الشیعة: الباب 2 من أبواب غسل المیّت، الحدیث 2 و 7 .
5- المستدرک : ج1 الباب 2 من أبواب غسل المیّت، الحدیث 3 .
6- المستدرک : ج1 الباب 2 من أبواب غسل المیّت، الحدیث 4 .

ص:393

ویبدأ بشق رأسه الأیمن(1).

وصحیح ابن یقطین بالمرفق بقوله: «غسل المیّت تبدأ بمرافقه»(1). فثبت استحباب تغسیل الیدین بالتحدید المذکور بواسطة الإجماع ، و الأخبار الدالّة علی ذلک ، وهو المطلوب.

(1) والدلیل علی استحبابه، مضافاً إلی الإجماع المستفاد ممّا ورد فی «المعتبر» بقوله: «ویبدأ بغسل یدیه قبل رأسه ثمّ یبدأ بشقّه الأیمن ثمّ الأیسر، ویغسل کلّ عضو ثلاثاً فی کلّ غسلة، وهو مذهب فقهائنا أجمع، إلی قوله: وعمل الأصحاب علی مضمونه»، انتهی.

و«التذکرة» للعلاّمة، حیث قال: «یستحبّ أن یبدأ بغسل یدیه قبل رأسه، ثمّ غسل رأسه یبدأ بشقه الأیمن ثمّ الأیسر، ویغسل کلّ عضو منه ثلاث مرّات؛ قاله علمائنا»، انتهی.

دلالة خبر الکاهلی علیه، قال: «ثمّ تحوّل إلی رأسه، وابدأ بشقّه الأیمن من لحیته ورأسه»(2).

وضعف سنده منجبرٌ بما قد عرفت من الإجماع، مع أن_ّه یکفی فی إثبات الاستحباب التسامح فی أدلّة السنن، فضلاً عمّا فیه الدلیل المنجبر کما فی المقام وما یلیه من استحباب غسل کلّ عضو منه ثلاث مرّات فی کلّ غسلة کما یأتی فی النَّص التالی .


1- وسائل الشیعة: الباب 2 من أبواب غسل المیّت، الحدیث 7 .
2- وسائل الشیعة: الباب 2 من أبواب غسل المیّت، الحدیث 5 .

ص:394

ویغسل کلّ عضو منه ثلاث مرّات فی کلّ غسلة(1). ومسح بطنه فی الغَسلتین الأولیین(2). إلاّ أن یکون المیّت امرأة حاملاً(3).

(1) حیث یکون الدلیل علیه _ مضافاً إلی ما عرفت من إجماعی «المعتبر» و«التذکرة» علی تثلیث غَسل أعضائه کلّها، من الیدین والفرجین والرأس والجنبین _ دلالة مرسل یونس(1) المنجبر بذلک الإجماع وکذلک الکاهلی إذ فیه: «ثمّ إبدأ بفرجه بماء السِّدر والحرض، فاغسله ثلاث غسلات.. إلی قوله: ثمّ اغسله من قرنه إلی قدمیه، وامسح یدک علی ظهره وبطنه ثلاث غسلات.. إلی قوله: وامسح یدک علی ظهره وبطنه ثلاث غسلات بماء الکافور والحرض»(2).

هکذا ذکر فی المرحلة الثالثة من الغسل، وهذا کافٍ فی إثبات الاستحباب.

(2) کما عرفت دلالة الخبر المذکور _ أی الکاهلی _ علیه، ولیکن ذلک قبل الغسلتین، حذراً من خروج شیء بعد الغسل، بل وکذلک خبر یونس من قوله: «ثمّ بفرجه، وامسح بطنه مسحاً رفیقاً، فإن خرج منه شیء فانقه، ثمّ اغسل رأسه، الحدیث»(3). مضافاً إلی الإجماع المُدّعی فی «الغنیة» و«المعتبر»، بل الظاهر دخوله تحت معقد إجماع «الخلاف» .

(3) فإنّه استثناءٌ من الاستحباب، أی لا یکون المسح حینئذٍ مستحبّاً، وعلیه فهل هو مکروه أو حرام؟ فیه خلافٌ، إذ یظهر من «الوسیلة» و«الجامع» و«المنتهی» النصّ علی الکراهة، حذراً من الإجهاض، ولخبر اُمّ أنس بن مالک:


1- وسائل الشیعة: الباب 2 من أبواب غسل المیّت، الحدیث 3 و 5 .
2- وسائل الشیعة: الباب 2 من أبواب غسل المیّت، الحدیث 3 و 5 .
3- وسائل الشیعة: الباب 2 من أبواب غسل المیّت، الحدیث 3 .

ص:395

«أنّ رسول اللّه صلی الله علیه و آله قال: إذا توفّیت المرأة فأرادوا أن یغسلوها فلیبدؤوا ببطنه فلتمسح مسحاً رفیقاً إن لم تکن حُبلی، فإن کانت حُبلی فلا تحرّکیها، الحدیث»(1).

فإنّ النهی عن الحرکة بقوله: «فلا تحرّکیها» ربما یدلّ علی الحرمة، کما یظهر ذلک من «المعتبر» حیث قال: «إنّه لا یؤمَن معه الإجهاض، وهو غیر جائز کما لا تجوز التعرّض له فی الحیّة. بل یحتمله ما فی «الذکری» و«جامع المقاصد»، بل وفی الأخیر أنّها لو أجهضت فعُشر دیّة اُمّه، نبّه علی ذلک فی «البیان»»، انتهی.

ولکن قال صاحب «الجواهر»: «ولکن الذی یقوی فی النظر عدم الحرمة فی نحو المسح الرفیق، لقصور الخبر عن إفادته ، فیبقی الأصل سالماً. نعم، قد یُقال بها مع العنف کما فی الحیّة للاستصحاب، ولحرمة المؤمن میّتاً کحرمته حیّاً، فتأمّل»، انتهی(2).

أقول: ویقتضی المقام أن نتعرّض لحکم هذه المسألة تفصیلاً، فنقول: فی «مصباح الهدی» للآملی ذکر ما لا یخلو عن کلام، وهو نصّه بعد نقل کلام صاحب «الجواهر» قدس سره : «وماأفاده الأصحاب فیالمقام غیر منقّح، ففیغیر واحد من عبائرهم استثناء مطلق الحامل عن استحباب مسح البطن، من غیر تقیید بمن مات ولدها فی بطنها، وفی «کتاب الطهارة» للشیخ الأکبر قدس سره کما فی المتن _ أی «العروة» _ تقیید الحکم بمن مات ولدها، حکی ذلک عن «البیان» و«الروض» و«جامع المقاصد» .

والتحقیق أن یُقال: أمّا فیما إذا کان الولد حیّاً فی بطنها، فیجب إخراجه منه


1- وسائل الشیعة: الباب 6 من أبواب غسل المیّت، الحدیث 3 .
2- الجواهر: ج4 / 154 .

ص:396

کما یأتی فی المسألة الخامسة عشر فی أحکام الدّفن.

وأمّا فیما إذا کان الولد میّتاً، فلا یحرم الإجهاض فی حال الحیاة حتّی یستصحب، ولیس فی إجهاضه هتکٌ للمیّت حتّی یقال: «إنّ حرمة المؤمن میّتاً کحرمته حیّاً»، مع أنّ الولد إذا کان میّتاً فی حال حیاة اُمّه، وجب إخراجه من بطنها ولو بتقطیعه، ومع الشکّ بعد موتها یکون المرجع استصحاب جواز الإخراج الثابت حال الحیاة لا استصحاب الحرمة، والخبر المرویّ عن النبیّ صلی الله علیه و آله لا یستفاد منه أزید من الکراهة» انتهی کلامه(1).

أقول: کون کلام الأصحاب غیر منقّح لیس بجیّد، لوضوح أنّ القرائن فی تلک الموارد موجودة وشاهدة علی کون الولد میّتاً، إذ من الواضح أن_ّه لو کان حیّاً لما تؤتی اُمّه للتغسیل، فالکلام فی الولد المیّت دون الحیّ، فحینئذٍ نبحث عن أن_ّه هل یجوز إجهاضه أم لا؟ ففی الثانی یکون بالکراهة أو الحرمة، فلا إشکال فی ظهور النهی فی الثانی، إلاّ أن یکون معه قرینة صارفة عنها إلی الکراهة، ولعلّه کان کذلک هنا، لاحتمال کون النهی فی مقام توهّم الأمر بالغمز والمسح لأجل وجود ذلک فی غیر الحامل.

وهذا قرینة علی أنّ المراد من النهی، هو النهی عن الاستحباب المجامع مع الکراهة، فیکون الحقّ مع الأکثر القائلین بالکراهة.

وأمّا ما استدلّ به المحقّق فی «المعتبر» من الحرمة، استدلالاً بأن_ّه یلزم الإجهاض، وهو غیر جائز، کما لا یجوز له التعرّض حیّة، أمرٌ متین لولا الدلیل هنا بالحمل علی الکراهة، لوضوح أنّ الولد المیّت فی بطن اُمّه المیّتة لا یجوز


1- مصباح الهدی: ج6 / 117 .

ص:397

وأن یکون الغاسل له عن یمینه (1).

إجهاضها بلا غرض عقلائی فیه؛ لأن_ّه هتک فی الجملة، کما أنّ التعرّض للحامل حتّی یسقط ولدها المیّت بالخارج من الأمر المتعارف الذی یفعل الطبیب أیضاً حرامٌ، لکونه هتکاً للمؤمن، بخلاف إجهاضها بوسیلة الطبیب والقابلة، فإنّه ربما یکون واجباً ولا یخالفه المحقّق، لأن_ّه خارج عن الفرض موضوعاً، کما لا یخفی. فاستصحاب الحرمة علی فرض الأوّل الصادق علیه الهتک فی حال حیاتها إلی حال غیر جنایة أمرٌ مقبول ولا إشکال فیه .

هذا، وظاهر کلام المصنّف بل صریحه فی حکمه بالمسح فی الغسلتین الأولیین من دون تعرّض للثالثة، هو اقتصار استحبابه فی خصوصها دون الثالثة، کما علیه الإجماع المدّعی فی «المعتبر» وفی «التذکرة» و«الذکری»، کما هو مقتضی أصل البراءة، بل فی «الخلاف» وغیره النصّ علی الکراهة، بل ربما یشمله إجماعه فیه، ولعلّه کان للنهی الموجود فی بعض الأخبار، مثل ما ورد فی «فقه الرضا» من قوله: «واغسله الثالثة ولا تمسح بطنه فی ثالثة»(1). المؤیّد ضعفه بالإجماع المزبور.

وعلیه، فما فی «الجواهر» من خلوّ الأخبار عنه لیس علی ما ینبغی.

(1) کما عن «النهایة» و«المصباح» ومختصره، و«الجمل» و«العقود» و«المهذّب» و«الوسیلة» و«السرائر» و«الجامع»، بل فی «الغنیة» الإجماع علیه، وهو الحجّة فیه بعد المسامحة مع رجحان التیامن فی العموم، وذلک یکفی فی


1- المستدرک: ج1 الباب 2 من أبواب غسل المیّت، الحدیث 3 .

ص:398

ویغسل الغاسل یدیه مع کلّ غسلة(1).

إثبات مطلق الاستحباب فیأصل الجانب، وکان تیامنه أفضل،کما یساعده اعتبار احترام المیّت.

وعلیه، فما فی «المقنعة» و«المبسوط» و«المراسم» و«المنتهی» من عدم التقیید بالأیمن للأصل، وخلوّ النصوص، لا یخلو من نظر کما عرفت .

(1) أی بعدها بلا خلافٍ فیه فی الجملة، بل وفی المرسل المرویّ عن یونس من الأمر بغسلهما إلی المرفقین بعد کلّ غسلة من الغسلتین الأولتین(1). ولکن فی صحیح ابن یقطین: «ثمّ یغسل الذی غسله قبل أن یکفّنه إلی المنکبین ثلاث مرّات»(2). حیث أنّ الظاهر منه کون التغسیل بعد الفراغ عن الغسلات الثلاث، بل هذا هو المراد من ما فی روایة عمّار: «ثمّ تغسل یدیک إلی المرافق ورجلیک إلی الرکبتین»(3).

حیث إذا انضمّ هذین الحدیثین مع خبر یونس یفید استحباب غَسل فی کلّ غسلة، وکونه بعد الثالثة ثلاث مرّات.

أمّا استحباب کون الغسلة إلی المنکبین والرجل إلی الرکبتین، فإنّه بدلیل التسامح فی أدلّة السّنن، وإن قال صاحب «الجواهر»: «إنّی لم أعثر علی من صرّح به» أی إلی المنکبین، وکونه بالتثلیث لأحدٍ من الأصحاب، ولکنّه غیر قادح، فیجوز القول به مع وجود الأخبار الضعیفة، فضلاً عن کون بعضه صحیحاً کالخبر المرویّ عن ابن یقطین، وإن لم یتعرّض المصنّف للرجل تبعاً لجماعةٍ.


1- وسائل الشیعة: الباب 2 ، من أبواب غسل المیّت، الحدیث 3 و 10 و 7 .
2- وسائل الشیعة: الباب 2 ، من أبواب غسل المیّت، الحدیث 3 و 10 و 7 .
3- وسائل الشیعة: الباب 2 ، من أبواب غسل المیّت، الحدیث 3 و 10 و 7 .

ص:399

ثمّ یُنشّفه بثوب بعد الفراغ(1).

(1) کون استحبابه بعد الفراغ منصوصٌ علیه فی الأخبار:

منها: الخبر المرویّ عن الحلبی بقوله: «حتّی إذا فرغت من ثلاث غسلات جعلته فی ثوب نظیف ثمّ جفّفته»(1).

ومنها: مرسل یونس بقوله: «ثمّ تنشّفه بثوبٍ طاهر واعمد إلی قطن، الحدیث»(2).

ومنها: خبر عمّار بن موسی بقوله: «ثمّ تجفّفه بثوب نظیف»(3).

إلاّ أن_ّه واردٌ بعد غسل الیدین، وهو أمرٌ یساعده الاعتبار، کما وقع فی عبارة المصنّف قدس سره ، إلاّ أنّ ما فی خبر عمّار خلافه، إذ فیه بعد ذکر التجفیف: «ثمّ تغسل یدیک إلی المرفق ورجلیک إلی الرکبتین ثمّ تکفّنه، الحدیث».

ولعلّه کان أمرٌ ندبی مستقلّ لأجل التکفین وهو غیر بعید، ولکن لم أعثر علی من أفتی بذلک صریحاً، واللّه العالم.

هذا تمام الکلام فی مستحبّات الغسل، ویلیه البحث عن المکروهات .


1- وسائل الشیعة: الباب 2 ، من أبواب غسل المیّت، الحدیث 2 و 3 و 10 .
2- وسائل الشیعة: الباب 2 ، من أبواب غسل المیّت، الحدیث 2 و 3 و 10 .
3- وسائل الشیعة: الباب 2 ، من أبواب غسل المیّت، الحدیث 2 و 3 و 10 .

ص:400

مکروهات الغُسل

قوله قدس سره : ویُکره أن یجعل المیّت بین رجلیه(1). وأن یقعده(2).

(1) وهو مورد وفاق للأکثر، بل فی «الجواهر»: «لم أقف علی من حکی الخلاف فیه، فضلاً عن الوقوف علیه»، بل قد یساعده الاعتبار من جهة احترام المیّت، لأنّ جعله بین رجلیه خارج عن شؤون المیّت، إلاّ أن یکون ذلک لغرض عقلائی من حفظ المیّت عن الوقوع علی وجهه فی حال الغسل والتقلیب، ولعلّ ذلک هو الوجه فی الجمع بین ما یدلّ علی النهی فی خبر عمّار بقوله: «ولا یجعله بین رجلیه فی غسله ویقف من جانبه»(1). الظاهر فی الحرمة ولکنّه یحمل علی الکراهة.

وبین نفی البأس المستفاد من حدیث العلاء بن سیّابة بقوله: «لا بأس أن تجعل المیّت بین رجلیک وأن تقوم فوقه فتغسله إذا قلبته یمیناً وشمالاً تضبطه برجلیک لئلاّ یسقط لوجهه»(2).

بل لولا مخالفته للإجماع، لأمکن القول بالحرمة فی صورة عدم الحاجة لجعله بین رجلیه عملاً بظاهر النهی، وحیث لا یمکن ذلک فیُقال بالکراهة إلاّ فی صورة الحاجة حیث لا کراهة فیه.

(2) ومن المکروهات الإقعاد، والدلیل علیه: مضافاً إلی کونه وفاقاً للمحکی


1- وسائل الشیعة: الباب 2 من أبواب غسل المیّت، ، الحدیث 10 .
2- وسائل الشیعة: الباب 33 من أبواب غسل المیّت، ، الحدیث 1.

ص:401

وأن یقصّ أظفاره ، وأن یرجّل شعره(1).

عن المعظم، بل فی «الخلاف» دعوی إجماع الفرقة وعملهم علیه، وفی «التذکرة» نسبته إلی علمائنا .

دلالة خبر الکاهلی علیه بقوله: «إیّاک أن تقعده»(1).

ولأن_ّه ضدّ الرفق المأمور به عموماً وخصوصاً فی المیّت، ولعلّه لأجل تصلّبه بالبرد وإقعاده موجبٌ لإجهاده وهو خلاف الإرفاق.

نعم، قد یعارضه ما فی «فقه الرضا»: «ثمّ تقعده فتغمز بطنه غمزاً رفیقاً»(2). وصحیح الفضل بن عبد الملک، قال: «اقعده واغمز بطنه غمزاً رفیقاً ثمّ طهّره من غمز البطن»(3). وحیث أنّ الأصحاب أعرضوا عنهما، فلابدّ أن یحمل علی التقیّة، أو علی صورة الحاجة بأن یکون إخراج ما بطنه موقوفاً علی ذلک، ولکن الأوّل أولی لکونه موافقاً لعامّة العامّة، ولعلّه للعمل بظاهر الصحیح و«فقه الرضا» قد أفتی ابن سعید علی الحرمة، و«الغنیة» علی عدم الجواز، وما أبعد بین هذا القول والقول بالجواز من دون کراهة، کما عن المحقّق و«المعتبر» فی الأقلّ فی أصل الکراهة للصحیح المتقدّم، ولکن قد عرفت أن_ّه لا یبعد الحمل علی الجواز بدون الکراهة مع عدم الحاجة، ومع الکراهة معها، واللّه العالم.

(1) اختلف الفقهاء فی حکم قصّ الأظفار وترجیل الشعر وجزّه ونتفه من عانة المیّت أو إبطیه أو شاربه، من حیث الحکم بالکراهة والحرمة والاحتیاط وجوباً


1- وسائل الشیعة: الباب 2 من أبواب غسل المیّت، ، الحدیث 5 و 9 .
2- المستدرک : ج1 الباب 2 من أبواب غسل المیّت، الحدیث 3 .
3- وسائل الشیعة: الباب 2 من أبواب غسل المیّت، ، الحدیث 5 و 9 .

ص:402

فی ترکها: فقد ذهب إلی الأوّل مضافاً إلی المصنّف هنا وفی «المعتبر» ونسبته إلی المشهور، وکذا العلاّمة فی «التذکرة»، بل قد ادّعی الإجماع فی «المعتبر» و«التذکرة»، وعلیه صاحب «الجواهر» خلافاً إلی جماعة اُخری من التصریح بالحرمة کابنی حمزة وسعید وصاحب «الحدائق» بعدم الجواز وهو کما عن «الخلاف»، بل ادّعی علیه الإجماع کما عن «الغنیة» أیضاً کذلک فی عدم الجواز، ودعوی الإجماع، کما أنّ جماعة ثالثة ذهبوا إلی الاحتیاط الوجوبی بالترک کالعلاّمة البروجردی والحکیم والمحقّق الهمدانی والآملی والخمینی، بل ظاهر کلام السیّد فی «العروة» وهو المختار فی تعلیقتنا علی «العروة».

استدلّ القائلون بالکراهة: مضافاً إلی الإجماعین فی «المعتبر» و«التذکرة» بعدّة أخبار :

منها: خبر غیاث، عن أبی عبد اللّه علیه السلام ، قال: «کره أمیر المؤمنین علیه السلام أن یحلق عانة المیّت إذا غسّل أو یقلّم له ظفراً ویجزّ له شعر»(1).

ومنها: خبر طلحة بن یزید، عن أبی عبد اللّه علیه السلام ، قال: «کره أن یقصّ من المیّت ظفر أو یقصّ له شعر أو یحلق له عانته أو یغمز له مفصل»(2).

وهذان الخبران هما أحسن مایتمسّک به للکراهة، بخلاف الخبرینالآخرین.

ومنها: مرسل ابن أبی عمیر الذیفیحکم المسندالصحیح، عن بعض أصحابه، عن أبی عبد اللّه علیه السلام ، قال: «لا یمسّ عن المیّت شعر ولا ظفر وإن سقط منه شیء فاجعله فی کفنه».(3)


1- وسائل الشیعة: الباب 11 من أبواب غسل المیّت، ، الحدیث 2 .
2- وسائل الشیعة: الباب 11 من أبواب غسل المیّت، الحدیث 4 و 1.
3- وسائل الشیعة: الباب 11 من أبواب غسل المیّت، الحدیث 4 و 1.

ص:403

ومنها: خبر أبی الجارود: «أن_ّه سأل أبا جعفر علیه السلام عن الرجل یتوفّی أتقلّم أظافیره وتنتف إبطاه وتُحلق عانته إن طالت به من المرض؟ فقال: لا»(1).

ومنها : خبر عبد الرحمن بن أبی عبد اللّه ، قال : «سألت أبا عبد اللّه علیه السلام عن المیّت یکون علیه الشعر فیحلق عنه أو یُقلّم ؟ قال: لا یُمسّ منه شیء ، اغسله وادفنه»(2).

أقول: ولا یخفی أنّ ظهور هذه الأخبار، خصوصاً الثلاثة الأخیرة فی الحرمة أشدّ، لظهور النهی فیها إلاّ ما یوجد فیه ما یوجب الانصراف إلی معنی الکراهة بقرینة داخلیّة أو خارجیّة.

فأمّا الاُولی منهما: لیست إلاّ ما ادّعاه صاحب «الجواهر» من ذکر الغمز فی خبر طلحة بقوله: «للقطع بإرادة الکراهة من لفظ کره فیه لا الأعمّ حتّی یحمل علی الحرمة»، مع أن_ّه مخدوش بأنّ إرادة ذلک فیه لیس إلاّ من جهة وجود دلیل خارجی فیه علی معنی الکراهة بالمعنی الأخصّ، وهو غیر مستنکر، ولکنّه لایوجب کون الکراهة فی غیره هو هذا، خصوصاً مع وجود قرینة خارجیّة دالّة علی الحرمة فی غیر الغمز.

وأمّا الثانیة: فقد عرفت وجود القرینة علی الحرمة دون الکراهة وحمل الکراهة علی الحرمة خصوصاً مع کثرة الأخبار المستعملة علی ذلک، یعدّ أهون من رفع الید عن ظهور النهی فی الحرمة، خصوصاً مع نقل الإجماعین علیها، وتصریح ابنی حمزة وسعید وصاحب «الحدائق» علی الحرمة، بل لعلّه هو المراد من عدم الجواز فی کلام العلَمَین وهما الشیخ والسیّد ابن زُهرة، بل هو أولی من


1- وسائل الشیعة: الباب 11 من أبواب غسل المیّت، الحدیث 5 و 3 .
2- وسائل الشیعة: الباب 11 من أبواب غسل المیّت، الحدیث 5 و 3 .

ص:404

حمله علی الکراهة.

فعلی ما ذکرنا یلزم ترجیح جانب الحرمة علی فرض صورة التعارض، فلاتصل النوبة إلی التساقط والرجوع إلی أصل البراءة، کما أشار إلیه صاحب «الجواهر» قدس سره .

ولکن مع ذلک حیث کانت الشهرة علی الکراهة، ویحتمل إعراض الأصحاب عن الحرمة، بالرغم من أنّ ظهور الأخبار کذلک، أوجب ذهابنا إلی القول بالاحتیاط الوجوبی بالترک، بل لا یبعد کون المراد من الأحوط فی کلام السیّد هو هذا لأنّ الترقّی بعد الکراهة لیس إلاّ الحرمة لا الأحوط الاستحبابی، فعلی هذا نحن موافقون مع السیّد صاحب «العروة» ومع کلّ من تبعه فیها من دون ذکر (لا یترک) فی حاشیتهم علیها، موافقون فی لزوم ترک هذه الاُمور، کما یؤیّد ذلک ما فی «المعتبر» من أنّ ما یسقط من المیّت یُطرح فی کفنه بصورة الإلزام، حیث کان تناسبه مع حرمة التسریح والقصّ والحلق أشدّ من الکراهة، وإن کان لاینافیه، لإمکان الجمع بین الحکمین من الکراهة فی تلک الاُمور، ولکن إن سقط منه شیءٌ وجب دفنه معه.

وعلیه، فما فی «مصباح الهدی» من أن_ّه لا معنی لقصّ شاربه وأظفاره مع القول بدفنها معه لیس علی ما ینبغی، کما لا یخفی.

فی أحکام الأموات / فروع تتعلّق بقصّ أظفار المیّت

فروع تتعلّق بقصّ أظفار المیّت

الفرع الأوّل: لا فرق فی حرمة قصّ الأظفار أو کراهته بین کونها طویلة أو قصیرة لإطلاق الدلیل فی المنع، بل وردت الإشارة إلیه بخصوصه فی خبر أبی الجارود، بقوله: «إن طال به المرض» حیث أنّ هذه الجملة تشیر إلی المنع حتّی

ص:405

فی صورة إطالة مرضه.

وأیضاً لا فرق بین ما کانت الوسخ تحتها وغیره، کما دلَّ علیه خبر الکاهلی بإطلاقه بقوله: «ولا تخلّل أظفاره»، بل عن الشیخ دعوی الإجماع علی عدم جواز تنظیفها عن الوسخ باخللال. وعن «المنتهی» النصّ علی عدم الجواز.

ولکن عن «التذکرة» أن_ّه لا ینبغی إخراج الوسخ من بین أظفاره بعود لیّن، قال: «وإن شدّ علیه قطناً کان أولی».

وأورد علیه الشهید فی «الذکری» بکونه مخالفاً للإجماع المنقول عن الشیخ ولخبر الکاهلی.

ولکن یمکن حمل کلام العلاّمة فی «التذکرة» علی صورة کون الوسخ مانعاً عن وصول الماء إلی البدن، فلا ینافی المنع إذا لم یکن کذلک، کما علیه خبر الکاهلی وکلام الشیخ رحمه الله .

ولکن مع ذلک کلّه ترک ذلک یعدّ أولی لاقتضاء المقام بالبیان وترک.

الفرع الثانی: لو سقط من المیّت شیء من ظفره أو شعره ونحوهما،فالمعروف أن_ّه یجب دفنه. ولعلّه للإجماع المدّعی علیه، ولخبری ابن أبی عمیر، بقوله: «لا یمسّ عن المیّت شعر ولا ظفر وإن سقط منه شیء فاجعله فی کفنه»(1).

وخبر عبد الرحمن فی قوله: «لا تمسّ منه شیء، اغسله وادفنه».(2) وعلیه الفتوی.

الفرع الثالث: هل یجب غَسل الساقط عن المیّت بالضمّ أم لا؟

ظاهر خبر عبد الرحمن هو الأوّل إن أرجعنا الضمیر فی اغسله إلی ما سقط


1- وسائل الشیعة: الباب 11 من أبواب غسل المیّت، ، الحدیث 1 و 3 .
2- وسائل الشیعة: الباب 11 من أبواب غسل المیّت، ، الحدیث 1 و 3 .

ص:406

وأن یغسّل مخالفاً، فإن اضطرّ غَسَله غُسل أهل الخلاف(1).

دون المیّت کما أبداه المحقّق الأردبیلی قدس سره ، لکنّه بعیدٌ فی الغایة، اذ لا یوافقه قوله علیه السلام : «ولا یمسّ منه شیء». وکون القراءة فیه هو الضمّ حتّی یکون المراد هو الغُسل المعهود بالمیاه الثلاثة إن کان السقوط قبل الغُسل، وإلاّ فلا یحتاج إلیه، دون الفتح حتّی یکون المراد هو الغَسل بمطلق الماء أی القراح، إذ هو بعیدٌ خصوصاً إذا کان ممّا لا تحلّه الحیاة، ولا ینفعل بالموت، هذا بخلاف الغُسل بالضمّ حیث یمکن کونه واجباً تعبّداً حتّی فی الشعر الذی هو ممّا لا تحلّه الحیاة، کما لا یخفی.

الفرع الرابع : فی أن_ّه إذا مسّ المیّت وسقط منه شیءٌ ، هل یجب دفنه معه فی کفنه ؟ أو یجب دفنه معه ولو لم یکن فی کفنه ؟ أو یجب دفنه مطلقاً ولو لم یکن معه؟ وجوه: المعروف هو الأوّل، وعن العلاّمة والشهیدین والمحقّق الثانی: «أن_ّه قول علمائنا» المُشعر بالإجماع، بل ظاهر «الذخیرة» أن_ّه ممّا لا خلاف فیه ، وعن «التذکرة»: «أن_ّه لو سقط من المیّت شیءٌ غُسّل وجُعل معه فی أکفانه بإجماع العلماء».

فی أحکام الأموات / مکروهات غسل المیّت

هذا فضلاً عن أنّ جعل جمیع أجزاء المیّت فی موضع واحد أولی، وعلیه الفتوی، لما قد عرفت من دلالة خبر ابن أبی عمیر بقوله علیه السلام : «فاجعله فی کفنه»(1) علی ذلک، فیجب دفنه کما دلّ علیه خبر عبد الرحمن بقوله: «وادفنه»(2).

(1) وقد تقدّم الکلام فیه مفصّلاً فی بحث: «وجوب غُسل کلّ مُظهرٍ للشهادتین»، وبیّنا أنّ الکراهة فی تغسیل موتی أهل الخلاف کان إذا وجد من


1- وسائل الشیعة: الباب 11 من أبواب غسل المیّت، ، الحدیث 1 و 3.
2- وسائل الشیعة: الباب 11 من أبواب غسل المیّت، ، الحدیث 1 و 3.

ص:407

أهلیهم للمباشرة، فلا ینافی الوجوب کفایة، لو لم یجد من یباشره منهم، ولکن إن اضطرّ للغُسل فلیغسّله غُسل أهل الخلاف.

أقول: اعلم أنّ المصنّف قد ترک جملة من المندوبات والمکروهات، ومن المکروهات أیضاً تغسیل المیّت بماء اُسخن بالنار أو بغیرها، وهو أیضاً بلا خلاف فیه ظاهراً، بل عن «المنتهی» نسبته إلی علمائنا، المشعر بوجود الإجماع فیه، ویدلّ علیه عدّة أخبار:

منها: صحیحة زرارة، عن أبیجعفر علیه السلام ، إنّه قال: «لا یُسخّن الماء للمیّت»(1). ولایخفی أنّ إطلاق الخبر یشمل کون التسخین بالنار الشامل ما یُسخّن بالنار أو الکهرباء أو الشمس.

ومنها: روایة عبد اللّه بن المغیرة، عن رجلٍ، عن أبی جعفر وأبی عبد اللّه علیهماالسلام قالا: «لا یُقرّب المیّت ماءاً حمیماً»(2).

ومنها: روایة یعقوب بن یزید، عن عدّة من أصحابنا، عن أبیعبداللّه علیه السلام ، قال: «لا یُسخّن للمیّت الماء لا تعجّل له النار ولا یخیط بمسک»(3).

ومنها: روایة الصدوق، قال: «قال أبو جعفر علیه السلام : لا یسخّن الماءللمیّت»(4).

وفی روایة اُخری، وروی مثله إلاّ أن_ّه قال فی آخره: «إلاّ أن یکون شتاءاً بارداً فتوقّی المیّت بما توقی منه نفسک»(5).

ویقرب منه ما عن «فقه الرضا»(6).

فی أحکام الأموات / وجوب تکفین المیّت


1- وسائل الشیعة: الباب 10 من أبواب غسل المیّت، ، الحدیث 1 و 2 و 3 و 4.
2- وسائل الشیعة: الباب 10 من أبواب غسل المیّت، ، الحدیث 1 و 2 و 3 و 4.
3- وسائل الشیعة: الباب 10 من أبواب غسل المیّت، ، الحدیث 1 و 2 و 3 و 4.
4- وسائل الشیعة: الباب 10 من أبواب غسل المیّت، ، الحدیث 1 و 2 و 3 و 4.
5- وسائل الشیعة: الباب 10 من أبواب غسل المیّت، ، الحدیث 5 .
6- الفقه الرضا: 167 .

ص:408

ولعلّه لأجله قد استثنی جماعة عن الکراهة صورة البرد الشدید، وظاهر الروایة مراعاة حال المیّت لا الغاسل، إلاّ أن_ّه حُکی عن الشیخ أن_ّه قال: «لو خشی الغاسل من البرد انتفت الکراهة».

هذا، ولکن لا یخفی إمکان کون المراد من قوله علیه السلام : «تُوقِی المیّت بما توقّی منه نفسک» إشارة إلی حال الغاسل، وإلاّ لما کان البرد مؤثِّراً فی حال المیّت، إلاّ من جهة التأثیر فی کیفیّة الغسل فی التخفیف فیه حذراً من شدّة البرد.

ومن جملة المکروهات: الدخنة بالعود وغیره، کما عن المشهور، خلافاً للجمهور، حیث إنّهم استحبّوها، والدلیل علیه:

1 _ روایة أبی حمزة، قال: «قال أبو جعفر علیه السلام : لا تقربوا موتاکم النار»(1) یعنی الدُخنة علی ما فسّر به فی «التهذیب» ذیل الحدیث.

2_ وروایة محمّد بن مسلم، عن أبی عبداللّه علیه السلام : «لاتجمروا الأکفان، الحدیث».(2) ولعلّ وجه ترک المصنّف لمثله باعتبار أن_ّه من مکروهات الکفن دون الغُسل.


1- وسائل الشیعة: الباب 6 من أبواب التفکین، الحدیث 12 و 5 .
2- وسائل الشیعة: الباب 6 من أبواب التفکین، الحدیث 12 و 5 .

ص:409

تکفین المیّت

الثالث: فی تکفینه(1)

(1) اعلم أنّ من أحکام الأموات هو التکفین، وهو واجبٌ کفائیّ علی عامّة المکلّفین کالتغسیل وغیره من أحکامها، والواجب هو ستره فی الکفن لا بذله وإن کان مستحبّاً مؤکّداً، کما یدلّ علیه صحیحة سعد بن طریف، عن أبی جعفر علیه السلام قال: «من کفّن مؤمناً کان کمَن ضمن کسوته إلی یوم القیامة»(1). وعلیه فأصل التکفین لا خلاف فی حکمه، إلاّ أنّ البحث فی المقام عن أن_ّه هل یجب فیه قصد القُربة أم لا؟ وهل هو شرطٌ فی صحّته أم لا یکون کذلک، بل یتوقّف استحقاق الأجر علیه، حیث لا استحقاق إلاّ مع الإطاعة، ولا إطاعة إلاّ مع القصد؟

أقول: الأخیر هو الأقوی، والدلیل علیه _ مضافاً إلی أنّ الأصل فی الواجبات هو التوصّلیّة، لأنّ التعبّدیّة أمرٌ زائد علی أصل الوجوب، فیحتاج ثبوتها إلی الدلیل، ومع فقده فالأصل عدمها، کما مرّ بحثه وتحقیقه فی محلّه _ عدم تعلّق الغرض الباعث فی الطلب إلاّ حصول الفعل وبروزه فی الخارج من أیّ وجهٍ اتّفق، ولو من دون قصد، کما أنّ الأمر کذلک فی تحنیطه وحمله ودفنه، بل لعلّه مورد ظهور الإجماع من الأصحاب، وأنّها لیست من الاُمور التی یقصد بها تکمیل النفس وریاضتها وقربها إلی اللّه تعالی.

نعم، یعتبر ذلک فی حصول الثواب، کما فی غیرها من الأفعال التی هی کذلک،


1- وسائل الشیعة: الباب 26 من أبواب التفکین، الحدیث 1.

ص:410

ویجب أن یُکفّن فی ثلاثة أقطاع(1).

بل قد یحتمل ترتّب الثواب حتّی مع عدم النیّة، لدلالة ظواهر الأدلّة علیه ما لم ینو العدم، بل ربما یظهر من المحکیّ عن الأردبیلی قدس سره ترتّب الثواب علیه حتّی مع نیّة العدم، ولعلّه أراد أن_ّه یفهم من الأدلّة أنّ هذا العمل بنفسه کإغاثة الملهوف ونحوها من الاُمور التی لها آثار ذاتیّة، یحدث بواسطتها کمال للإنسان، فیتقرّب بها إلی اللّه جلَّ جلاله، لأجل وجود خاصّیة فی أصل العمل، کما کان الأمر کذلک بالنسبة إلی الأعمال الحسنة المؤثّرة فی تهذیب النفس، ولعلّه لذلک قال صاحب «الجواهر» _ بعد نقل المحکیّ عن الأردبیلی رحمه الله _ : «وهو لا یخلو عن وجه» وعلیه فیکون معنی توقّف الأخیر علی النیّة هو إرادة التفضّل من الثواب لا أصله، ولیس ببعید.

فی أحکام الأموات / عدد قطع الکفن

وعلیه، فما عن بعض متأخّری المتأخّرین _ کما نقله الشیخ الأکبر فی طهارته عن بعض مشایخه _ من توقّف صحّة التکفین علی النیّة، فلو وقع من دونها وجب إعادته لأن_ّه من التعبّدیّات التی لا یُعلم بحصول الغرض منها بمجرّد الوجودالخارجی، ضعیفٌ جدّاً، کضعف ما حُکی عن صاحب «الریاض» من القول بلزوم النیّة فی الکفن والحنوط: «لأن_ّهما فعلان واجبان، لکن لو أخلّ لم یبطل الفعل.. إلی آخره». لما قد عرفت من عدم ثبوت کونهما من التعبّدیّات، فالأصل یقتضی العدم، فلا وجه للقول باقتضاء الوجوب ذلک، واللّه العالم .

(1) وجوب الثلاث ثابتٌ فی حال الاختبار ولا أقلّ منه، ولا خلاف فیه علی الظاهر، بل الإجماع بقسمیه علیه، ولم یشاهد الخلاف إلاّ عن سلاّر، حیث حُکی عنه باجتزاء ثوبٍ واحد، لکنّه ضعیفٌ ومحجوجٌ، لأن_ّه قد استدلّ له :

ص:411

1 _ بالأصل المنقطع قطعاً بالإجماع والدلیل.

2 _ وبصحیحة زرارة المحکیّة عن «تهذیب» الشیخ، قال: «قلت لأبی جعفر علیه السلام : العمامة للمیّت من الکفن هی؟ قال: لا، إنّما الکفن المفروض ثلاثة أثواب أو ثوب تامّ، لا أقلّ منه یواری فیه جسده کلّه، فما زاد فهو سُنّة إلی أن یبلغ خمسة، فما زاد فمُبتدَع. وقال: أمر النبیّ صلی الله علیه و آله بالعمامة، الحدیث»(1).

حیث یدلّ علی جواز الاکتفاء بثوب واحد أیضاً .

فهی أیضاً غیر ناهضة للمعارضة مع ما سنذکره من الأخبار من وجوه:

أوّلاً: من إعراض الأصحاب عن العمل بها فی خصوص ذلک .

وثانیاً: لما فیها من الاضطراب والإجمال فی المتن؛ لأنّ الکلینی قدس سره قد نقل هذا الحدیث عن زرارة ومحمّد بن مسلم مثل ما فی «التهذیب» إلاّ أن_ّه قال: «إنّما الکفن المفروض ثلاثة أثواب وثوب تامّ»(2). بالواو العاطفة، حیث یکون حینئذٍ من قبیل عطف الخاص علی العام، بقرینة غیرها من الأدلّة، فیکون دلیلاً علی المشهور، بل المنقول عن «الحبل المتین» أنّ فی بعض نسخ «التهذیب» أیضاً کما فی «الکافی»، فیؤیّد ما ذکرناه، بل حکی الشیخ الأکبر فی «کتاب الطهارة» أن_ّه حُکی عن أکثر نسخ «التهذیب» روایتها بخلاف الثوب حتّی تکون العبارة: «إنّما الکفن ا لمفروض ثلاثة أثواب» تامّ. بل قد یظهر من «الحدائق» أنّ هذا هو الموافق لأصل نسخة «التهذیب» المکتوبة بخطّ الشیخ رحمه الله ، حیث استظهر سقوط لفظ الثوب من قلم الشیخ رحمه الله .

وکیف کان، فلا وثوق بصحّة النسخة المشتملة علی لفظ (أو)، مع أن_ّه لو


1- وسائل الشیعة: الباب 2 من أبواب التفکین، الحدیث 1 و 2 .
2- وسائل الشیعة: الباب 2 من أبواب التفکین، الحدیث 1 و 2 .

ص:412

سلّمنا ذلک، و وقع التعارض بین نسخة «التهذیب» ونسخة «الکافی» کانت الثانیة أولی لکونها أضبط.

وثالثاً: مع غضّ النظر عن جمیع ذلک، وتسلیمنا وجود کلمة (أو)، وقلنا بإفادتها التخییر، فإنّه لا معنی لوجود الواو، فیلزم التخییر فی الفرض الذی جعله قسیماً للسنّة بین الأقلّ والأکثر لا مع المغایرة بینهما بوجه، کما فی القصر والإتمام، فکیف یکون کذلک فی الواجب بلا مغایرة بین الفردین؟!

نعم، لو أمکن الالتزام بجواز التکفین بثلاثة أثواب ناقصة، تحصل مواراة جسد المیّت بمجموعها من حیث المجموع، من دون أن یکون أحدها شاملاً لجمیع البدن لأمکن الالتزام بالتخییر، لکنّه علی الظاهر ممّا لا یقول به أحد، فلابدّ حینئذٍ أن تنزّل الروایة علی تقدیر ثبوتها: إمّا علی حالتی الاختیار فی الأوّل والاضطرار فی الثانی کما هو الأقرب فی الجمع بین الأخبار.

أو الالتزام بکونها واردة مورد التقیّة حیث أنّ العامّة یکتفون فی الکفن بثوب واحد. أو کون (أو) بمعنی الواو .

أو طرح الروایة لأجل إعراض الأصحاب عنها، وعدم مقاومتها للمعارضة مع ما سنذکر من الأخبار الدالّة علی لزوم کون الکفن ثلاث أثواب ، وهی عدّة أخبار:

منها: ما رواه الشیخ بإسناده عن سماعة، قال: «سألته عمّا یکفّن به المیّت؟ قال: ثلاثة أثواب، وإنّما کفّن رسول اللّه صلی الله علیه و آله فی ثلاثة أثواب، الحدیث»(1).

ومنها: روایة محمّدبن مسلم، عن أبیجعفر علیه السلام ، قال: «یکفّن الرجل فی ثلاثة


1- وسائل الشیعة: الباب 2 من أبواب التفکین، الحدیث 6.

ص:413

مئزرٌ وقمیصٌ وإزارٌ(1).

أثواب، والمرأة إذا کانت عظیمة فی خمسة، الحدیث»(1).

ومنها: روایة عبد اللّه بن سنان، عن أبی عبداللّه علیه السلام ، قال: «المیّت یکفّن فی ثلاثة سوی العمامة والخرقة، الحدیث»(2).

وغیر ذلک من الأخبار الدالّة علی أنّ کفن رسول اللّه صلی الله علیه و آله کانت ثلاثة، کما هی أیضاً فی وصیّة أبی جعفر علیه السلام بثلاثة أثواب، بل وبما یستفاد لزوم الثلاثة فی ضمن الخمسة فیالمرأة، ولأجل ذلک قال صاحب «الجواهر» قدس سره : «لا فرق فی ذلک بین الرجل والمرأة لإطلاق الأدلّة وخصوص بعضها»، بل ادّعی علیه الإجماع.

(1) هذا هو المشهور المعروف بین المتقدّمین والمتأخّرین، خلافاً لصاحب «المدارک»، وتبعه الأمین الاسترآبادی، ونسب ذلک إلی ابن الجنید رحمه الله والصدوق رحمه الله بعدم کفایة المئزر فی الکفن من الثلاثة، لأن_ّه أوجب التکفین بثوبین محیطین بجمیع البدن وقمیص، أو بثلاثة أثواب شاملات مخیّراً بینهما، وادّعی أن_ّه المستفاد من الأخبار، ولیس فی الأخبار ما یدلّ عل کون المئزر من الکفن، وأنّ ما ذهب إلیه المشهور هو الذی استفاده الشیخان وأتباعهما من الأخبار.

أقول: والذی ینبغی البحث عنه هنا بعد ثبوت أنّ قطع الکفن ثلاثة، اُمور:

الأمر الأوّل: فی بیان معنی المئزر، وکونه هو الإزار الشامل لجمیع البدن، أو غیره، من حیث اللّغة والاستعمال؟

أقول: المئزر بکسر المیم، ثمّ الهمزة الساکنة، فی اللّغة بمعنی الإزار. وحَکی


1- وسائل الشیعة: الباب 2 من أبواب التفکین، الحدیث 9 و 12.
2- وسائل الشیعة: الباب 2 من أبواب التفکین، الحدیث 9 و 12.

ص:414

فی «مجمع البحرین» عن «الصحاح» وغیره، بل یستفاد أیضاً من «الغریبین» کون الإزار بمعنی (لنگ) بالفارسیّة کما عن «کنز اللّغة»، وفی «مجمع البحرین»: «الإزار بالکسر معروفٌ یذکّر ویؤنّث، ومعقد الإزار الحقوین»، انتهی.

بل هو المستعمل فی باب الفقه والأخبار کما سنشیر إلیه عن قریب.

أمّا حدود هذا المئزر بمعنی الإزار، فقد اختلفت کلمات الفقهاء فیه: ففی «جامع المقاصد» تحدیده بما یستر به من السُّرّة إلی الرُّکبة ، بحیث یسترهما.

وفی «الروضة»: «هو ما یستر ما بین السُّرّة والرّکبة» بإخراج ستر نفس السُّرّة والرّکبة عنه، فیکون تحدیده أقصر من تحدید الشهید قدس سره .

واحتمل فی «الروض» الاجتزاء بما یَستر به العورة خاصّة.

وعن « المقنعة » و « المراسم » تحدیده بما یستر من السُّرّة إلی حیث یبلغ من الساقین.

وعن «المصباح»: «ما یواری به من السُّرّة إلی حیث یبلغ المئزر».

هذا کلّه مشیرٌ إلی ما یصدق علیه عرفاً إنّه مئزر، ولا یکون تحدیداً حقیقیّاً بحیث یخرج عن صدقه لو زاد أو نقص عمّا قالوا، ولذلک الأولی إحالته إلی العرف، والاجتزاء بما یتحقّق به مسمّاه عرفاً، وأمّا کفایة ستر خصوص العورة فی صدق ذلک عرفاً تأمّل.

والمِئزر بمعنی ذلک الذی یطلق علیه الإزار، قد ورد الحدیث عنه فی الأخبار کثیراً فی باب آداب الحمّام وغیره، فلا بأس بالإشارة إلی بعضها حتّی یظهر ما یستدل به علی ردّ صاحب «المدارک» وغیره:

منها: خبر الکاظم علیه السلام ، قال: «لا تدخل الحمّام إلاّ بمئزر»(1).


1- وسائل الشیعة: الباب 9 من أبواب آداب الحمّام، الحدیث 7 .

ص:415

ومنها: فی خبر حمّاد، عن الصادق علیه السلام ، عن أبیه، عن علیّ علیه السلام أن_ّه قیل له: «إنّ سعید بن عبد الملک یدخل مع جواریه الحمّام؟ قال: وما بأس إذا کان علیه وعلیهن الإزار، ولا یکونوا عُراة کالحمیر»(1).

وعلیه، فلا نقاش فی أنّ المراد من الإزار هنا هو المئزر حیث یظهر منهما اتّحاد معناهما.

ومنها: خبر الحلبی المرویّ فی «التهذیب» و«الفقیه» عن الصادق علیه السلام : «فی الحائض ما یحلّ لزوجها منها؟ قال علیه السلام : تتّزر بإزار إلی الرکبتین وتخرج سرّتها ثمّ له ما فوق الإزار»(2).

فإنّ هذا الحدیث ظاهرٌ بل صریح فی أنّ الإزار هنا بمعنی المئزر غیر شامل لجمیع البدن، وعلیه یحمل الإزار الوارد فی أخبار الکفن، لو لم نقل بظهوره فیه أوّلاً، وهی أخبار عدیدة:

منها: خبر معاویة بن وهب، عن أبی عبد اللّه علیه السلام ، قال: «یکفّن المیّت فی خمسة أثواب؛ قمیص لا یزرّ علیه وإزار وخرقة یعصّب بها وسطه وبُردٍ یلفّ فیه وعمامة یعتمّ بها ویلقی فضلها علی صدره(3).

أقول: بعد معلومیّة استحباب الخرقة والعمامة ینحصر الواجب فی الثلاثة، مضافاً إلی قرینة قوله: «وبُردٍ یلفّ فیه» من اختصاص التلفیف بالبُرد دون الإزار، یوجب توجّه الذهن إلی کون المراد منه هو المئزر، وإلاّ کان ینبغی إعمال اللّفافة


1- وسائل الشیعة: الباب 12 من أبواب آداب الحمّام، الحدیث 1.
2- وسائل الشیعة: الباب 26 من أبواب الحیض، الحدیث 1 .
3- وسائل الشیعة: الباب 2 من أبواب آداب الحمّام، الحدیث 13 .

ص:416

فی حقّه وأن یقال بلفّافتین إحداهما بُردٌ والاُخری الإزار، فتصیر هذه قرینة معیّنة لهذا الفرد من الإزار إن قلنا بالاشتراک فیه بین المئزر والإزار الشامل لجمیع البدن، أو قرینة صارفة إن قلنا بالحقیقة للشامل والمجاز للمئزر.

ومنها: صحیحة عبداللّه بن سنان، قال: «قلت لأبی عبد اللّه علیه السلام : کیف أصنع بالکفن؟ قال: تؤخذ خرقة فیشدّ بها علی مقعدته ورجلیه.

قلت: فالإزار؟ قال: لا، إنّها لا تعدّ شیئاً، إنّما تُصنع لتُضمّ ما هناک لئلاّ یخرج منه شیء، وما یصنع من القطن أفضل منهما، ثمّ یخرق القمیص إذا غُسّل وینزع من رجلیه.

قال: ثمّ الکفن قمیص غیر مزرور ولا مکفوف، وعمامة یعصّب بها رأسه ویردّ فضلها علی رجلیه»(1).

قال صاحب «الوسائل»: «أقول: هذا تصحیفٌ، والصحیح یردّ فضلها علی وجهه، ذکره صاحب «المنتقی» ویأتی ما یشهد له»، انتهی.

قلنا: ولعلّ الصحیح علی صدره کما وقع فی روایة معاویة بن وهب.

توضیح الحدیث: إنّه بعدما ذکر من أخذ الخرقة والتشدید، سئل الراوی عن الإزار بأن_ّه هل یستغنی بالخرقة عن الإزار، وهل یحصل بذلک المطلوب؟ قال: لا، أی لا تعدّ الخرقة من الکفن، فلا یستغنی بها عن الإزار، ولا تزید قطع الکفن عن الثلاثة، وإنّما فائدة الخرقة والشدّ بها هو ضمّ ما هناک حتّی لا یخرج منه شیء، ولذلک قال علیه السلام : «لو وضع القطن فی الموضع کان أفضل من الخرقة» والإزار بلا قطن. فدلالة الحدیث علی کون الإزار من الواجب واضحة، وأمّا


1- وسائل الشیعة: الباب 2 من أبواب آداب الحمّام، الحدیث 8 .

ص:417

استفادة کون الکفن هو ثلاثة قطع کما علیه المشهور من هذا الحدیث مشکلٌ، حیث لم یتعرّض لذکر البُرد الذی یلفّ به، ولکن یفهم من الحدیث کون الراوی والسائل عالماً بکون الإزار من الواجب من الکفن، فلا یبعد أن یکون ترک البُرد لإحالته علی ظهوره فی کونه واجباً منه .

ومنها: صحیحة محمّد بن مسلم، عن أبی جعفر علیه السلام ، قال: «یکفّن الرجل فی ثلاثة أثواب، والمرأة إذا کانت عظیمة فی خمسة: درع ومنطق وخمار ولفافتین»(1).

فهذا الخبر أیضاً ممّا یدلّ علی کون الإزار هو المئزر، لأنّ الدرع هو القمیص، والشاهد علیه ما ورد فی «مجمع البحرین»: «درع المرأة قمیصها وهو مذکّر والجمع أدراع ومنطق کمنبر ما یشدّ به الوسط، وفی «المجمع»: المنطق شقّة تلبسها المرأة وتشدّ وسطها، ثمّ ترسل أعلاها علی أسفلها إلی الرُّکبة والأسفل إلی الأرض، وبه سمّیت أسماء بنت أبی بکر ذات النطاقین»، انتهی ما فی المجمع.

ولا إشکال فی أنّ المرأة تشترک مع الرَّجل فی الدِرع والمنطق واللّفافة إجماعاً، وأمّا الزائد علیها فهو الخمار واللّفافة الثانیة، فتکون الروایة حینئذٍ مثل غیرها فی الدلالة علی کلام المشهور.

ومنها: روایة موثّقة لعمّار بن موسی، عن الصادق علیه السلام فی حدیثٍ: «ثمّ تبدأ فتبسط اللّفافة طولاً ثمّ تذر علیها من الذریرة(2) ثمّ الإزار طولاً حتّی یغطّی الصدر والرِّجلین، ثمّ الخرقة عرضها قدر شبر ونصف، ثمّ القمیص تُشدّ الخرقة علی القمیص بحیال العورة والفرج حتّی لا یظهر منه شیء، الحدیث»(3).


1- وسائل الشیعة: الباب 2 من أبواب التکفین، الحدیث 9 .
2- الذریرة قضیب طیّب یجاء به من الهند أو مطلق الطیب.
3- وسائل الشیعة: الباب 14 من أبواب التکفین، الحدیث 4 .

ص:418

فإنّ الإزار فی هذا الحدیث ظاهرٌ فی المئزر، کما یؤیّد ذلک تحدیده بتغطیته الصدر والرجلین، فهو علی هذا غیر اللّفافة المحیطة بجمیع البدن .

وأیضاً: من الأخبار الدالّة علی ذلک مرسلة یونس، وفیها: «ابسط الحِبرة(1) ثمّ ابسط علیها الإزار ثمّ ابسط القمیص علیه وترد مقدّم القمیص علیه...

إلی أن قال: ثمّ یحمل فیوضع علی قمیصه، ویرد مقدّم القمیص علیه ویکون القمیص غیر مکفوف ولا مزرور»(2).

فإنّه یدلّ علی أنّ الأکفان ثلاثة قطع، فلا یبعد أن یکون الإزار هنا أیضاً بمعنی المئزر.

وأظهر منه ما ورد فی «فقه الرّضا» من قوله: «یکفّن المیّت بثلاثة أثواب لفّافة وقمیص وإزار»(3).

لأن_ّه إنْ کان المراد من الإزار هو الشامل کان الأنسب أن یقال قمیص ولفّافتان.

بل یمکن التأیید لذلک بالأخبار التی تتضمّن تکفین رسول اللّه صلی الله علیه و آله والأئمّة علیهم السلام فی ثوبی الإحرام:

منها: ما رواه معاویة بن عمّار فی الصحیح عن أبی عبداللّه علیه السلام ، قال: «کان ثوبا رسول اللّه صلی الله علیه و آله اللّذین أحرم فیهما یمانیین عبری وأظفار(4) وفیهما کُفّن»(5).


1- الحبرة: کعنبة البرد الیمانی.
2- وسائل الشیعة: الباب 14 من أبواب التکفین، الحدیث 3 .
3- المستدرک: ج1 الباب 1 من أبواب الکفن، الحدیث 1 .
4- عبری وأظفار بلدان بالیمن یکون ثوبهما نفیساً، وفی بعض النسخ ظُفار وهو الصحیح.
5- وسائل الشیعة: الباب 5 من أبواب التکفین، الحدیث 1 .

ص:419

فإنّ أحد ثوبی الإحرام علی حسب المتعارف والمعمول هو المئزر الذی لا یشمل جمیع البدن، وإن کان من الجائز أن یکون کبیراً صالحاً لأن یشمل جمیع البدن، ویستعمل فی الکفن، ولکنّه غیر متعارف، بل ولو شکّ فی وجوب ستر البدن أزید ممّا یستره الإزار، فالأصل عدم وجوبه.

ومنها: والذی یعدّ مثل الخبر السابق فی التأیید والاستدلال ما رواه یونس بن یعقوب، عن أبی الحسن الأوّل، قال: «سمعته یقول: إنّی کفّنتُ أبی فی ثوبین شطویین کان یحرم فیهما، وفی قمیصٍ من قمیصیه، وفی عمامة کانت لعلیّ بن الحسین علیهماالسلام ، وفی بُردٍ اشتریته بأربعین دیناراً لو کان الیوم تساوی أربعمائة دینار»(1).

فظهر من مجموع هذه الأخبار بالظهور أو الصراحة أو الملازمة العرفیّة کون الإزار بمعنی المئزر هو أحد أثواب الثلاثة، وهو غیر شامل لستر جمیع البدن، وإن کان فی الفقه ربما یُطلق عنوان الإزار ویُراد به الثوب الشامل، فحینئذٍ لابدّ عند إرادة أحدهما بالخصوص من حصول القرینة الدالّة علی أحدهما کما لا یخفی.

وما یتوهّم صاحب «المدارک» ومن تبعه کون الإزار بمعنی الشامل، استظهاراً من الأخبار المستفیضة الدالّة علی کون کفن المیّت ثلاثة أثواب مثل روایة سماعة الذی قد تقدّم متنه، وقد صرّح فی الجواب عمّا یکفّن به المیّت أن_ّه ثلاثة أثواب کما کُفّن رسول اللّه صلی الله علیه و آله فی ثلاثة أثواب.

ومنها: مرسلة یونس فی حدیث ، قال : « الکفن فریضة للرِّجال ثلاثة أثواب، الحدیث ».

ومنها: حسنة الحلبی، عن أبی عبد اللّه علیه السلام ، قال: «کتب أبی فی وصیّته أن


1- وسائل الشیعة: الباب 18 من أبواب التکفین، الحدیث 5 .

ص:420

اُکفّنه فی ثلاثة أثوابٍ أحدها رداء له حبرة کان یصلّی فیه یوم الجمعة، وثوبٌ آخر وقمیص، الحدیث»(1).

ولا یخفی ظهور کلمة الثوب لما یستر جمیع البدن.

ومنها: صحیحة أبی مریم الأنصاری، قال: «سمعتُ أبا جعفر علیه السلام یقول: کُفّن رسول اللّه صلی الله علیه و آله فی ثلاثة أثواب بُرد أحمر حبرة وثوبین أبیضین صحاریین»(2).

وصحیحة زرارة المتقدّمة فی أوّل البحث، هذا.

مع أنّه من المعلوم عدم التنافی بین وجوب ثلاثة أثواب، وکون الإزار هو المئزر، لصحّة إطلاق الثوب لغةً وشرعاً علی المئزر، کما قد یدلّ علیه ما ورد فی الحدیث بأنّ رسول اللّه صلی الله علیه و آله کُفِّن فی ثوبی الإحرام، المعلوم کون أحدهما هو المئزر الذی اُطلق علیه الإزار.

مضافاً إلی أن_ّه لو سلّمنا ظهور اللّفظ فی الثوب الشامل عند إطلاقه، فلا ینافی کون المراد منه المئزر بمعونة القرینة الصارفة، لو قلنا إنّ لفظ الثوب یشمل إمّا خصوص الشامل أو کلاهما بناءً علی الاشتراک، خصوصاً مع ملاحظة قیام الإجماع المُدّعی والشهرة المحکیّة من المتقدّمین والمتأخّرین، والسیرة العملیّة من المؤمنین علی التکفین بطریقة المشهور من خواصّهم وعوامّهم، خلفاً عن سلف، مع شدّة اهتماهم بمراعاة ما ورد من الشرع فی التکفین، بحیث یحصل الاطمئنان للفقیه بأن_ّه نشأت عن تعلیمات الأئمّة المعصومین علیهم السلام ، ولو کان الأمر غیر هذا لورد التنبیه علیه فی الأزمنة السابقة، خصوصاً مع ملاحظة شدّة الحاجة إلی مثل هذه الاُمور، وکثرة الابتلاء بها فی طول الزمان، وعلیه فما علیه المشهور هو المنصور.


1- وسائل الشیعة: الباب 2 من أبواب التکفین ، الحدیث 10 و 3.
2- وسائل الشیعة: الباب 2 من أبواب التکفین ، الحدیث 10 و 3.

ص:421

الأمر الثانی: حیث قد عرفت مقدار الإزار بمعنی المئزر علی اختلاف الأقوال من دخول ستر السُّرّة والرُّکبة أو خروجهما، وکونه من الصدر إلی الرجلین أو أنقص، یقع البحث عن أن_ّه: هل یجب الاقتصار علی قدر الواجب منه، بحیث متی زیدَ عنه اعتبر رضا الورثة أو العصبة به، فیمنع إن کان الوارث صغیراً؟

أو یجوز الإتیان بالفرد الأفضل من دون توقّف علی رضاهم، بل یجوز حتّی مع وجود الصغار، إذ لا فرق فی صورة المنع بین صغار الورثة وکبارهم من لزوم الاسترضاء عنهم ؟

منشأ البحث فیه هو ورود حدیث فی الکفن عن ابن سنان _ یعنی عبد اللّه _ عن أبی عبد اللّه علیه السلام ، قال: «ثمن الکفن من جمیع المال»(1).

أقول: فی المسألة قولان:

1 _ قولٌ لصاحب «جامع المقاصد» وتبعه صاحب «العروة» وبعض أصحاب الحاشیة علیها بالاحتیاط الوجوبی، وبعض آخر إنّه أقوی، باعتبار أن_ّه إذا زیدَ عنه لابدّ فیه من تحصیل رضا الورثة لو کانوا بالغین، فلا یجب الزائد علی الصغار منهم ولا علی الکبار مع عدم رضاهم، ولو أوصی بالزائد یُحسب من الثلث إلاّ مع رضا الورثة بخروجه من الأصل، فیما یکون فی رضاهم الأثر بأن کانوا بالغین.

2 _ وقولٌ آخر وهو مختار صاحب «الجواهر»، والمحقّق الآملی، والسیّد الإصفهانی، والمحقّق السیّد أحمد الخوانساری، وبعض آخر من أصحاب التعلیق علی «العروة» کما هو المختار عندنا، بأن_ّه یجوز ذلک ولا یحتاج إلی الاستئذان، لأنّ الفرد المشتمل علی الزیادة یعدّ من أحد أفراد الواجب المخیّر، إلاّ


1- وسائل الشیعه: الباب 31 من ابواب التکفین، الحدیث 1.

ص:422

أن_ّه من أفضل أفراده، لا أنّ الواجب هو نفس المزید علیه فقط دون الزائد، حتّی یکون حینئذٍ من قبیل المستحبّ فی الواجب من غیر أن یصیر المجموع منه ومن المزید علیه فرداً للواجب، مضافاً إلی أنّ الشارع إذا کان فی مقام التشریع قد شرّع حکم الکفن علی مصداقین من الواجب والمستحبّ، أو فی الواجب أیضاً قد جوّز ما هو اللاّئق بحال المیّت، وقد أجاز أخذ ثمنه من أصل المال، وهذا معناه جواز أخذه من المال مطلقاً أی من دون لزوم تحصیل الإذن والرضا من الورثة، وإلاّ کان اللاّزم علیه ذکر ذلک الشرط فی استحباب أخذ الزائد أو اللاّئق، ولأجل ذلک قلنا فی «الحاشیة» إنّه یجوز ذلک إذا کان الزائد علی مقدار ما هو المتعارف فی أموات الناس، ولکن مع ذلک کلّه کان مراعاة الاحتیاط خصوصاً فی الصغار حسناً جدّاً، بل قد یؤیّد الجواز إطلاق الأخبار الواردة من رجحان إجادة الکفن، وکونه زینة المیّت، وأنّ الموتی یتباهون بأکفانهم.

الأمر الثالث: إنّه یجب من الکفن القمیص، وکونه من إحدی القطعات الثلاث ممّا لا إشکال فیه ولا خلاف، والذی وقع البحث فیه أن_ّه هل یتعیّن فی خصوص القمیص کما علیه المشهور نقلاً وتحصیلاً، بل هو معقد إجماع «الخلاف» و«الغنیة» وغیرهما؟

أو یتخیّر بینه وبین الثوب الشامل لجمیع البدن، کما علیه صاحب «المدارک»، وفاقاً للمحکی عن «المعتبر» وابن الجنید، وعن جملةٍ من متأخّری المتأخّرین ومنهم صاحب «الحدائق» المیل إلیه ؟

أقول: الظاهر هو الأوّل کما هو مختار السیّد فی «العروة» وجمیع أصحاب التعلیق والحاشیة علیها، مضافاً إلی ما عرفت من الشهرة ونقل الإجماع، وکونه الموافق للاحتیاط فی وجهٍ کما فی «الجواهر»، وبإمکان أن یقال فی حقّه بأن_ّه

ص:423

إذا دار الأمر فی الوجوب بین القمیص وهو ثوب خاصّ، أو الثوب المطلق الشامل، لکان العمل بالمقیّد عملاً بالاحتیاط، وأمّا لو قلنا بأنّ هذین الفردین لیسا من قبیل المطلق والمقیّد، بل یکونان کالفردین المتباینین، کما یقرب ذلک إلی الذهن من تعبیرهم بالتخییر، فحینئذٍ لا یکون اتّخاذ القمیص موافقاً للاحتیاط إلاّ من جهة قوّة الدلیل وکثرته.

وکیف کان، فقد استدلّ لوجوب القمیص بعدّة أخبار:

منها: صحیحة عبد اللّه بن سنان أن_ّه علیه السلام قال: «ثمّ الکفن قمیص غیر مزرور ولا مکفوف»(1).

ومنها: خبر معاویة بن عمّار بقوله: «قمیص لا یزرّ علیه»(2).

ومنها: حسنة حمران: «ثمّ یکفّن بقمیص».(3)

ومنها: صحیح ابن مسلم، عن الباقر علیه السلام : «تکفّن المرأة إذا کانت عظیمة فی خمسة درع ومنطق وخمار».(4)

ومنها: خبر الحلبی: «وثوب آخر وقمیص».(5)

ومنها: خبر یونس بن یعقوب: «وفی قمیصٍ من قُمصه».(6)

ومنها: ما فی «فقه الرضا» : « یکفّن المیّت بثلاثة أثواب لفّافة وقمیص وإزار»(7).

وغیر ذلک من الأخبار الواضحة الدلالة علی أنّ القمیص من الثلاثة، ویبدو أنّ


1- وسائل الشیعة: الباب 2 من أبواب التکفین،الحدیث 8 و 14 و 9 و10 و 15.
2- وسائل الشیعة: الباب 2 من أبواب التکفین،الحدیث 8 و 14 و 9 و10 و 15.
3- وسائل الشیعة: الباب 14 من أبواب التکفین، الحدیث 5 .
4- وسائل الشیعة: الباب 2 من أبواب التکفین،الحدیث 8 و 14 و 9 و10 و 15.
5- وسائل الشیعة: الباب 2 من أبواب التکفین،الحدیث 8 و 14 و 9 و10 و 15.
6- وسائل الشیعة: الباب 2 من أبواب التکفین،الحدیث 8 و 14 و 9 و10 و 15.
7- المستدرک: ج1 الباب 1 من أبواب الکفن، الحدیث 1 .

ص:424

القضیّة ثابتة ومعهودة عند المتشرّعة، وهی مأخوذة من الأخبار علی حدٍّ یوجب انصراف الإطلاق إلیه، وکثرة الأخبار ورجوع الصحاح فی بعضها، وفی آخر المنجبر بالشهرة ونقل الإجماع، یوجبُ قوّة الاستدلال بها سنداً ودلالةً، کما یوجب رفع الشکّ والشبهة فی ترجیح هذا القول علی القول الآخر الذی قد عرفت من اختاره. استدلالاً ببعض الأخبار الذی لا یقاوم، مع ما عرفت _ لو سلّمنا صحّة دلالتها وسندها _ مع کون الأمرین المذکورین فیهما مورد النقاش من إطلاق لفظ الأثواب وغیره، وهو مثل الخبر الذی رواه محمّد بن سهل عن أبیه، قال: «سألت أباالحسن علیه السلام عن الثیاب التییصلّی فیها الرَّجل ویصوم،أیُکفّن فیها؟ قال: أحبّ ذلک الکفن یعنی قمیصاً. قلت: یُدرج فی ثلاثة أثواب؟ قال: لا بأس به والقمیص أحبّ إلیَّ»(1).

ولعلّ الروایة التی أرسلها فی «الفقیه» هی هذه الروایة، وهی قوله: «وسُئل موسی بن جعفر علیه السلام عن المیّت یموت أیُکفّن فی ثلاثة أثواب بغیر قمیص؟ قال: لا بأس بذلک والقمیص أحبّ إلیّ»(2).

لأنّ السند فیه ضعف، کما أنّ ما نقله الصدوق رحمه الله روایة مرسلة باعتبار قوله: «سُئل» لا الإسناد جزماً إلی الإمام علیه السلام حتّی یصیر کالمستند، لأجل تعهّده فی أوّل «الفقیه» مع إمکان الخدشة فی دلالته، لاحتمال کون الألف واللاّم فی القمیص عهدیّاً ومشیراً إلی القمیص الذی صلّی فیه، لا مطلق القمیص حتّی یدلّ علی مختار الخصم.

مضافاً إلی أن_ّه لو سلّمنا صحّة السند والدلالة، لکن یعدّ من الموارد التی


1- وسائل الشیعة: الباب 2 من أبواب التکفین، الحدیث 5 .
2- وسائل الشیعة: الباب 2 من أبواب التکفین، الحدیث 5 .

ص:425

أعرض عنها الأصحاب من الشهرة أو الإجماع، مع أن_ّه لا یقاوم مع ما دلّت علیه أخبار کثیرة واضحة الدلالة علی المطلوب.

الأمر الرابع: اختلفت عبارات الأصحاب فی تعیین مقدار القمیص: ففی «جامع المقاصد» تحدیده بما یستر به من السُّرّة إلی الرّکبة بحیث یسترهما.

وفی «الروضة» هو ما یستر ما بین السُّرّة والرُّکبة، فیکون هذا أنقص من قبله لاعتبار سترها فی سابقه دونه.

واحتمل فی «الروض» الاجتزاء بما یستر به العورة خاصّة.

وعن «المقنعة» و «المراسم» التحدید بما یستر من السُّرّة إلی حیث یبلغ من الساقین.

وعن «المصباح» ما یواری به من السُّرّة إلی حیث یبلغ المئزر.

وفی «العروة» یجب أن یکون من المنکبین إلی نصف الساق ، والأفضل إلی العدم.

أقول: ولکن کون الأفضل ذلک غیر معلوم، إذ الأولی إحالة مقداره إلی العرف بقدر ما یصدق به القمیص کما علیه المحقّق الآملی، وإن کان صدقه بخصوص ستر العورة مشکلٌ، کما أنّ کون ستر السُّرّة والرّکبة داخلان فی جهة صدق القمیص أیضاً مشکل، فالأولی إحالته إلی العرف فی صدقه، واللّه العالم.

الثالث من قطع الکفن: وهو الإزار، وهو عبارة عن ثوب یشمل جمیع بدن المیّت طولاً وعرضاً، بلا خلاف أجده فیه، ولعلّه قد استفید من الأخبار بما فیه من اللّفافة، مثل ما فی روایة الحلبی فی حدیث أن_ّه علیه السلام قال: «ولیس تعدّ العمامة من

ص:426

الکفن إنّما یعدّ ما یلفّ الجسد»(1).

وروایة زرارة فی حدیثٍ: «ثلاثة أثواب أو ثوب تامّ لا أقلّ منه یواری فیه جسده کلّه، الحدیث»(2).

وروایة محمّد بن مسلم فی حدیث: «ولفّافتین»(3).

وغیر ذلک من الأخبارالمشتملة علی ذلک ولو تلویحاً بذکر البُرد وما یشابه، الذی یکون الغالب فیه خارجاً ما یشمل جمیع البدن. فهذا ممّا لا إشکال فیه ولا کلام.

أقول: إنّما الکلام فی أنّ الزیادة عن مقدار ما یُلفّ به الجسد هل تجب زیادة عنه حتّی یشدّ عنه فی جهة الطول وفی العرض بوضع أحد جانبیه علی الآخر، أو یستحبّ فیهما، أو یجب فی الأوّل دون الثانی ؟

فیه أقوالٌ ووجوه:

فی أحکام الأموات / کیفیّة تکفین المیّت

1 _ قولٌ بالاستحباب، کما صرّح به صاحب «الجواهر» نقلاً عن بعضهم.

2 _ وقولٌ بالوجوب، کما عن «جامع المقاصد» و«الریاض» بناءً علی أنّ ذلک واجب فی الموردین، مع أنّ ظاهر کلام «جامع المقاصد» هو التفصیل بین الطول بالوجوب، والعرض بالاستحباب، ولذلک اعترض علیه الشیخ الأکبر قدس سره بقوله: «وفی الفرق بین الطول والعرض نظر، فالاکتفاء فی الأوّل أیضاً له وجهٌ»، والظاهر کون الأمر کذلک، لأنّ الواجب المستفاد من الأدلّة لیس إلاّ وجوب أصل اللّف وهو یحصل بالخیاطة من دون زیادة.

نعم، کون الغالب خارجاً بالزیادة أمرٌ مقبول، ولعلّه أوجب التبادر إلیه فی الإطلاق، فیعدّ القول به أمراً مطابقاً للاحتیاط کما فی «العروة»، وعلیه فالقول بالاحتیاط الوجوبی غیر بعید، وإن استشکل فیه صاحب «الجواهر» بقوله بعد الحکم بالاحتیاط: «وإن کان فی تعیّنه تأمّلٌ».


1- وسائل الشیعة: الباب 2 من أبواب التکفین، الحدیث 10 و 1 و 9.
2- وسائل الشیعة: الباب 2 من أبواب التکفین، الحدیث 10 و 1 و 9.
3- وسائل الشیعة: الباب 2 من أبواب التکفین، الحدیث 10 و 1 و 9.

ص:427

کیفیّة تکفین المیّت

یدور البحث فی المقام عن کیفیّة تکفین المیّت، والمشهور فیه علی ما حکاه جماعة بل فی المحکیّ من عبارة «الذکری» نسبته إلی الأصحاب، کما أنّ فیه عن الشیخ حکایة الإجماع علیه .

وکیفیّته: أن یبدأ أوّلاً بلفّ فخذی المیّت، ثمّ لفّه بالمئزر ثمّ بالقمیص، والظاهر أنّ هذه الکیفیّة مستفادة من مجموع الأخبار بضمّ بعضها مع بعض، حیث أنّ فی بعضها ما یدلّ علی لفّ الفخذین وشدّهما ، مثل ما فی روایة عمّار بن موسی بقوله: «ثمّ تُکفّنه تبدأ وتجعل علی مقعدته شیئاً من القطن وذریرة، ثمّ تضمّ فخذیه ضمّاً شدیداً، وجمّر ثیابه بثلاثة أعواد، ثمّ تبدأ فتبسط اللّفافة طولاً، ثمّ تذرّ علیها من الزریرة. ثمّ الإزار طولاً حتّی یغطّی الصدر والرجلین، ثمّ القمیص تشدّ الخرقة بحیال العورة، الحدیث»(1).

وبالجملة : المراد من الإزار هنا هو المئزر بقرینة تغطیة الصدر إلی الرجلین المناسب لذلک.

والمراد من اللّفافة هو الإزار الذی یقع فوق جمیع قطعات الکفن، لأنّ بسطه کذلک یوجب جمعه واشتماله لجمیع بدن المیّت بعد المئزر والقمیص، نظیر البُرد، فلا یرد علیه کیف جُعل ذلک أوّلاً والحال أنّ الإزار عندالمشهور ثابتٌ بعد القمیص، لیطابق ما ورد فی الحدیث مع ما علیه المشهور.

ومثله فی التوضیح لثلاث قطع من الکفن فی الترتیب ما ورد فی روایة مرسل


1- وسائل الشیعة: الباب 14 من أبواب التکفین، الحدیث 4.

ص:428

یونس فی قوله علیه السلام : «ابسط الحِبرة بسطاً، ثمّ إبسط علیها الإزار، ثمّ ابسط القمیص»(1).

ومراده من الفقرة الاُولی هو البرد والإزار لیشمل القمیص والمئزر فی آخر الأمر. والمراد من الفقرة الثانیة هو المئزر.

فالابتداء بالتنظیر إلی الملتصق ببدن المیّت یکون هو المئزر، ثمّ القمیص، ثمّ الإزار، فیوافق ذلک مع فتوی المشهور .

نعم قد یظهر ممّا ورد فی روایة حمران بن أعین تقدیم القمیص علی اللّفافة والبُرد بعد شدّ الفخذین، فقد ورد فیه: «فقلت: فالکفن؟ فقال: یؤخذ خرقة فیشدّ بها سفله، ویضمّ بها لیضمّ ما هناک وما یضع من القطن أفضل، ثمّ یکفّن بقمیص ولفّافة وبرد یجمع فیه الکفن»(2).

حیث لابدّ من القول بأنّ مراده باللّفافة لعلّه هی اللّفافة الثانیة المستحبّة مع ترک التعرّض للمئزر، أو أنّ الروایة مجملة بالنسبة إلی لزوم القطعات الثلاث من دون بیان لزوم هذا الترتیب .

وکیف کان، فمع ملاحظة الشهرة والإجماع المنقول علی الکیفیّة السابقة، ومطابقته مع الروایتین، وإمکان الجمع مع هذه الروایة بالتوجیه المذکور _ وإن کان بعیداً بظاهره _ یوجب تقویة ما علیه المشهور والأخذ به، کما لا یخفی .

تفریع: هل یعتبر فی کلّ ثوبٍ من الأثواب الثلاثة:

1 _ أن لا یکون حاکیاً عن جسد المیّت کما عن «جامع المقاصد» وتبعه صاحب «الروض» مستدلاًّ بأن_ّه المتبادر منه، مع اعتضاده بما ادّعی علیه


1- وسائل الشیعة: الباب 14 من أبواب التکفین، الحدیث 3 و 5 .
2- وسائل الشیعة: الباب 14 من أبواب التکفین، الحدیث 3 و 5 .

ص:429

الإجماع من اشتراط کون ما یکفّن به ممّا یُصلّی فیه .

2 _ أو یکفی فی کون المجموع ساتراً، فلا یضرّ کون بعضها حاکیاً لحصول غرض التکفین به .

3 _ أم لا یعتبر شیء من ذلک للأصل وإطلاق الأدلّة؟

وجوهٌ وأقوال.

لا إشکال فی کون الأوّل أوفق بالاحتیاط، إلاّ أنّ إثباته بالتعیّن حتّی یوجب عدم الجواز إذا کان بعضها حاکیاً مشکل جدّاً، خصوصاً مع شمول الإطلاق له، وإن کان فی بعض الأخبار ما یستفاد منه کفایة الوجه الثانی، کما یستفاد من ظاهر ما ورد فی صحیحة زرارة: «أو ثوب تامّ لا أقلّ منه، یواری فیه جسده کلّه»(1)، حیث یصدق فیما إذا کان أحدها کذلک کما لا یخفی، إذ به یحصل غرض الشارع، بل قد یؤیّده الاعتبار، وبه یظهر ضعف الاحتمال الثالث، فضلاً عمّا قال عنه الشیخ رحمه الله فی «کتاب الطهارة» بقوله: «مضافاً إلی شذوذه حیث لم ینقل ذلک إلاّ عن بعض متأخّری المتأخّرین».

أقول: ولکن مع ذلک کلّه الأحوط وجوباً لزوم أن یکون کلّ واحدٍ من القِطَع ساتراً لما تحته کما یحتمله صحیحة زرارة، حیث وصف الثوب بأن_ّه یلزم أن یکون تامّاً قابلاً لأن یوری جسد المیّت، وهو عنوانٌ یجب صدقه علی کلّ واحد من قطع الکفن الثلاث کما علیه صاحب «العروة» وکثیرٌ من أصحاب التعلیق علیها.

وأیضاً: علی القول بوجوب الساتریّة للکفن، هل یجب کون الثوب بنفسه


1- وسائل الشیعة: الباب 14 من أبواب التکفین، الحدیث 1.

ص:430

وتجزئ عند الضرورة قطعة(1)

کذلک، أو یکفی الستر ولو بطلیه بما یصیر به ساتراً کالنشاء _ وهو معرّب نشاسته _ ونحوه؟ وجهان:

فی أحکام الأموات / لو تعذّر بعض قطعات الکفن

من تبادر ساتریّة الکفن فی کونه بنفسه کذلک، ومن صدق الستر به ولو بمعونة غیره، وهذا هو الأقوی وإن کان مراعاة الاحتیاط حسناً علی کلّ حال.

هذا، وقد یحتمل التفصیل فی ساتریّة کلّ قطعة بما یخصّها من البدن وبین غیره مما یلقی منها علی قطعة اُخری، فی اعتباره فی الأوّل دون الثانی، فلا یجب فی القمیص علی هذا الفرض، لحصول الستر قبله بالمئزر بالنسبة إلی العورة وما حولها ممّا یستره المئزر.

نعم، یجب فی ما وقع تحت القمیص من أعالی البدن بلا حیلولة المئزر، ولکن قال عنه صاحب «الجواهر»: «ولا أعرف من ذکره».

(1) لا إشکال فی وجوب ما هو المقدور من القطعات ولو بقطعة واحدة عند الضرورة عقلاً أو شرعاً، فلا یجوز ترک التکفین لمجرّد فقد الثلاثة معاً، بلا خلاف علی الظاهر، بل عن «التذکرة» دعوی الإجماع علیه.

وعلیه، فما فی «الحدائق» من الإشکال فی وجوب الإتیان بما تیسّر من القطعات الثلاث، لعدم کونه الکفن الذی أوجبه الشارع، حیث أنّ الواجب هو القطع الثلاث، والکلّ ینتفی بانتفاء جزئه.

ممّا لا یمکن المساعدة معه، لاُمور:

أوّلاً: بضرورة قضاء العرف والشرع فی مثل المقام الذی یعلم منه غرض

ص:431

الشارع من الحکم وهو ستر البدن، وعدم ظهور بدن المیّت أمام أعین الناس کما اُشیر إلیه فی بعض الأخبار الواردة فی علل تشریع الحکم، بأن_ّه لستر ما یقبح ظهوره عند جمع من الناس.

وثانیاً: إنّ ظاهر الأخبار هو تعدّد الوجوب بتعدّد الأکفان، نظیر تعدّد وجوب الصوم بالنذر فی الأیّام، حیث لا یکون الوجوب فی مثله من المرکّبات حتّی یحتاج فی تعیین الوجوب لکلّ فرد من الأفراد المیسورة إلی قاعدة المیسور، بل یجب الإتیان بکلّ قطعة مقدورة من القطعات بنفس الدلیل المثبت للوجوب، کما لا یبعد استفادة هذا من المعنی من صحیحة زرارة ونحوها.

وثالثاً: لو سلّمنا کون الوجوب فی الأکفان من قبیل المرکّبات التی قد تتعذّر بعض أفرادها دون بعض، ولکن المرجع مع ذلک إلی قاعدتی المیسور والإدراک فی المورد، بل لا یبعد الحکم بلزوم ذلک فیما إذا عُدّ عند العرف ساتراً کما لو لم یتمکّن إلاّ من بعض تلک القطع، بحیث لم یدخل فی مسمّیات شیء منها، ولکن یمکن أن یستر به عورة المیّت، فإنّه یجب حینئذٍ علی الظاهر ستر عورته وإن لم یصدق علیه شیءٌ منها، لما قد عرفت من معلومیّة اعتناء الشارع والعرف بستر العورة، فلا یسقط میسوره بمعسوره.

نعم، شمول القاعدتین لما یستر بعض البدن بما لا یصدق علیه شیء منها، بکونه میسور الإزار أو میسور القمیص بنظر العرف لا یخلو عن تأمّل.

هذا کلّه مع إمکان إجراء استصحاب الوجوب کما علیه صاحب «المعتبر»، بل یمکن دعوی صحّة إجراء القاعدتین بالنسبة إلی تقدیم الإزار علی القمیص _ وهو علی المئزر _ کما علیه المحقّق الثانی فی «جامع المقاصد»، لما قد عرفت من أنّ مطلوب الشارع هو ستر البدن جمیعاً إن قدر، وإلاّ فالأشمل والأشمل، کما

ص:432

یؤمی إلیه ما فی صحیحه زرارة، بقوله: «أو ثوب تامّ یواری جسده کلّه»، حیث یحتمل أن یکون ذلک لأجل أصل مطلوبیّة الستر، کما قد یستفاد من ما ورد فی حکمة وجوب التکفین فی خبر فضیل بن شاذان، عن الرضا علیه السلام ، قال: «إنّما أمر أن یکفّن المیّت لیلقی ربّه عزّ وجلّ طاهر الجسد، ولئلاّ تبدو عورته لمن یحمله أو یدفنه، ولئلاّ ینظر الناس علی بعض حاله وقبح منظره، ولئلاّ یتعسّر القلب بالنظر إلی مثل ذلک، الحدیث»(1).

هذا، مع إمکان إجراء الاستصحاب التخییری فیما إذا طرء التعذّر بعد الموت، والتعلیقی فیما إذا کان قبله، إن قلنا بحجّیته إن کان الوجوب فی الأکفان الثلاثة من قبیل المرکّبات کما لا یخفی.

ودعوی: کون وجوب الستر والکفن من قبیل الحکمة، فلا یوجب الاطّراد حتّی یوجب الحکم بتقدیم المراتب المذکورة کما عن المحقّق الآملی.

لیست بجیّدة، لما قد عرفت من أنّ ذلک یوجب کون المستفاد من الدلیل مطلوبیّة ذلک من الشارع علی حدّ الوجوب، کما کان کذلک فی أصله، فلعلّ ذلک أوجب ذهاب المحقّق الخوئی والهمدانی والسیّد فی «العروة» وبعض أصحاب التعلیق علیها إلی الاحتیاط أو الفتوی بالوجوب فی التقدیم.

وعلیه، فالأحوط لو لم یکن أقوی لزوم مراعاة الترتیب فی التقدیم، کما یساعده الاعتبار والاحتیاط فی العمل، فضلاً عن الاحتیاط فی الحکم والدلیل، واللّه العالم.


1- وسائل الشیعة: الباب 1 من أبواب التکفین، الحدیث 1.

ص:433

ولا یجوز التکفین بالحریر(1).

(1) لا یجوز أن یکون کفن المیّت من أشیاء:

فی أحکام الأموات / ما لا یجوز التکفین به

الممنوع الأوّل: من المغصوب، کما ادّعی الإجماع علیه فی «الجواهر» محصّلاً ومنقولاً، فلا یجوز لأحد تکفینه فیه لا الولی ولا غیره ولو فی حال الاضطرار؛ لأنّ دلیل عدم الجواز هو إطلاق الدلیل الوارد بأن_ّه لا یجوز لأحد أن یتصرّف فی مال الغیر إلاّ بإذنه ورضاه، والاضطرار لا یکون مجوّزاً لإباحة التصرّف فیه من دون رضا صاحبه، کما لا یجب علی مالک الکفن أن یبذل الکفن لتکفینه، بل یدفن عاریاً، أو یدخل فی مصادیق الواجب الکفائی، فیجب علی کلّ أحد تکفینه بأخذ الکفن من ترکته، أو من مال ولیّه إن قلنا به، أو وجوب تحصیل الکفن له علی جمیع الناس، وتفصیله مذکورٌ فی محلّه.

وعلیه، فلو کفّن المیّت فی ثوبٍ مغصوب وجب نزعه منه، والظاهر أنّ المکلّف بالنزع هو المباشر لذلک، ولیّاً کان أو غیره، حتّی ولو کان الغاصب نفس المیّت، لأنّ التکفین فیه تصرّف منه فی المغصوب، فیکون إبقائه فیه استدامة للتصرّف، بل یجوز للمالک انتزاعه ولو بعد دفنه لعموم قوله علیه السلام : «الناس مسلّطون علی أموالهم»، ولا یعارضه حرمة نبش القبر لحکومة القاعدة المذکورة علی مثل دلیل حرمة النبش، بل هو من موارد الاستثناء کما هو مذکورٌ فی محلّه؛ لأنّ الدلیل علی حرمة النبش لیس إلاّ الإجماع، وهو غیر شامل لمثل الفرض، فلا فرق فی عدم الشمول بین کون النبش مستلزماً للهتک أم لا، لحکومة قاعدة السلطنة علی التصرّف الغاصب، خصوصاً إذا کان الغاصب نفس المیّت، أی کان الغصب بفعله، بأن کان الکفن من مخلّفاته التی استولی علیها عدواناً، فإنّ

ص:434

تخلیصه عن مثل هذا الکفن الذی هو نارٌ محیطةٌ به فی القبر ویوم النشر أولی من مراعاة احترامه الصوری الذی هو عمدة حکمة التشریع فی حرمة النبش، خصوصاً بعد ملاحظة ما ورد فی الغصب من أن_ّه یؤخذ بأشقّ الأحوال أو حقّ أحرق ظالم، وأمثال ذلک، کما أنّ الأمر کذلک إذا کان الغصب بفعل غیر المیّت، لأنّ تخلیصه عن مثل هذا الکفن واجبٌ علی کلّ أحد خصوصاً علی الولی، لأن_ّه المکلّف فیه أوّلاً مثل تجهیز سائر اُموره، وعلیه فلو کفّن فی المغصوب : فهل یسقط وجوب التکفین بذلک مطلقاً، أو إذا لم یکن المباشر نفس الغاصب، أم لا یسقط مطلقاً؟ وجوه .

والأظهر هو الأخیر لإمکان القول بوجوب نزع الکفن عنه علی الولیّ، إن کان، وإلاّ فعلی غیره إن قلنا بالوجوب الکفائی فیه، بأن یکون هذا من الحسبة التی تجب تکفّلها علی کلّ أحد لو لم یکن الحاکم فی البین، وإلاّ فهو المکلّف بذلک، لأنّ الأمر بالتکفین أمرٌ واجب لابدّ أم أن یُمتثل، ولا یتحقّق الامتثال إلاّ بما یمکن تعلّق الأمر به، وهو اللّف بالثوب المباح، ولا فرق فیه بین کون وجوب التکفین واجباً توصّلیّاً أو تعبّدیّاً، غایة الأمر لو کان من قبیل الأوّل ربما یتوهّم کون المطلوب هو تحقّق الستر للمیّت، وهو حاصل بذلک ولو فی المغصوب المحرّم، نظیر التطهیر فی المتنجّس بالماء المغصوب.

أقول: لکنّه غیر مقبول، لوضوح الفرق بین الموردین، خصوصاً إذا کان مباشر اللّف هو الغاصب، فوجوب نزعه عنه علیه واضح، کما لا یخفی، حتّی ولو استلزم ذلک دفنه عاریاً، لما قد عرفت أنّ التکفین بالکفن المباح واجبٌ إن وجد، وإلاّ لا یجب بذله علی المکلّفین، بل یجب دفنه حینئذٍ عاریاً.

الممنوع الثانی: ممّا لا یجوز التکفین فیه، هو الکفن النجس اختیاراً، بلا

ص:435

خلاف ظاهر فیه ، بل عن «المعتبر» و «الذکری» دعوی قیام الإجماع علی اعتبار طهارته .

والدلیل علیه : هو ما یدلّ علی وجوب إزالة النجاسة عن الکفن وثوب المیّت لو تنجّس بعد التکفین ، حیث یدلّ بالفحوی علی وجوب إزالتها عنه قبله بطریقٍ أولی .

ولا فرق فی وجوب الإزالة بین کون النجاسة ذاتیّة کجلد المیتة وشعر الخنزیر، أو عَرَضیّة کالنجاسات العرضیّة التی تعرض علی الثوب أو الکفن کالدّم والبول وغیرهما.

کما لا فرق فی عدم الجواز بین ما عُفی عنها فی الصلاة وما لم یُعف عنها فیها، لإطلاق معقد الإجماع المُدّعی فی «المعتبر» و«الذکری».

اللّهُمَّ إلاّ أن یدّعی الانصراف إلی ما لا تجوز الصلاة فیه، کما یؤیّده الإجماع المحکیّ عن «الغنیة» علی عدم جواز التکفین فیما لا یجوز فیه الصلاة، کما قد یؤیّده أیضاً أنّ استثناء ما عُفی فی الصلاة یکون علی خلاف القاعدة علی حسب دلالة الدلیل، فلابدّ فیه الاقتصار علی موضع الدلیل من النصّ أو الإجماع، وعلیه فالأحوط لولا الأقوی وجوب الاجتناب عنها مطلقاً کما هو مختارنا فی حاشیتنا علی «العروة».

الممنوع الثالث: وهو المذکور فی المتن، وهو أن_ّه لا یجوز أن یکون الکفن من الحریر المحض إجماعاً، علی الظاهر المحکیّ عن جماعةٍ کالمحقّق فی «المعتبر»، والشهید فی «الذکری»، والعلاّمة فی «التذکرة»، وظاهرهم، بل صریح المحکیّ عن «الذکری» عدم الفرق فی معقد إجماعهم بین الرّجل والمرأة، واستدلّ له بالمضمرة التی رواها الکلینی رحمه الله فی «الکافی» عن الحسن (أو

ص:436

الحسین) بن راشد، وعن أبی الحسن الثالث مرسلاً فی «الفقیه»، قال: «سألته عن ثیاب تُعمل بالبصرة علی عمل العصب(1) (القصب) الیمانی من قرّ وقطن، هل یصلح أن یُکفّن الموتی فیها؟ قال: إذا کان القطن أکثر من القزّ فلا بأس»(2).

حیث یدلّ علی المنع لو کان خالصاً أو حریره أکثر من القطن فبالأولویّة یشمل الأوّل.

لکن قد أورد علیه أوّلاً: من جهة سنده بالإضمار علی ما فی «الکافی»، وبالإرسال علی ما فی «الفقیه».

لکنّه مندفع : بما قد عرفت منّا کراراً من الانجبار بالشهرة والإجماع وعمل الأصحاب .

وثانیاً: فی الدلالة، بأنّ المفهوم لیس إلاّ ثبوت البأس فیما إذا لم یکن القطن أکثر من القزّ، وهو لا یقتضی الحرمة؛ لأنّ البأس أعمّ من الحرمة، مضافاً إلی القطع بعدم الحرمة فی بعض أفراده، مثل ما إذا کان الحریر منه ممزوجاً بالقطن، سواءً کان مساویاً مع القطن أو کان أکثر مع صدق اسم الخلیط علیه، مضافاً إلی أنّ إثبات الحرمة فی الحریر الخالص به أیضاً لا یستقیمُ لأن_ّه خارجٌ عن موضوع السؤال فی الخبر، فلا یفهم منه ثبوت البأس فیه إلاّ بفحوی الخطاب.

ولکنّه مندفع: بأنّ کثیراً ما یکون مفهوم لا بأس هو البأس بمعنی الحرمة، إلاّ إذا کان فی الکلام ما یوجب الصرف إلی غیر الحرمة، والمورد لیس منه، وخروج


1- العصب بالعین والصاد المهملتین هو البرد لأن_ّه یصبغ بالعَصب وهو نبت کذا ذکره فی الذکری. وقال ابن الأثیر فی النهایة: العصب برود یمنیّة یعصب عزلها أی یجمع ویشدّ ثمّ یصبغ وینسج بها (الوافی).
2- وسائل الشیعة: الباب 23 من أبواب التکفین، الحدیث 1.

ص:437

بعض الأفراد منه لیس إلاّ باعتبار ما یدلّ علیه الدلیل أیضاً .

کما أنّ إثبات الحرمة فی الخالص یفهم من مورد سؤال السائل، حیث لم یذکر فی سؤاله إلاّ صورة الاختلاط، فیفهم منه أن_ّه کان مفروغاً عنه عنده فی الحرمة، وإلاّ کان هو الأولی فیالسؤال عنه، فدلالة الحدیث علی الحرمة غیر بعید، کما لا یخفی علی المتأمِّل فیه .

نعم، یبقی الإشکال علی فرض قبول المفهوم بعموم البأس، حتّی فیما إذا کان قزّه أکثر من القطن، ولم یکن حریراً خالصاً، فإنّه قد أجازوا مثل ذلک، بل قد یظهر من بعضهم _ کما فی «مصباح الفقیه» _ عدم الخلاف فی جواز التکفین بغیر الخالص الذی یجوز للرجل أن یُصلّی فیه.

وفیه: إنّ مقتضاه هو هکذا، إلاّ أن یستفاد من دلیلٍ آخر أو من الإجماع خروجه واستثنائه، فیکون ذلک تقییداً لإطلاق المنع المستفاد من هذا الدلیل، فتنحصر الحرمة حینئذٍ بالحریر الخالص، کما وقع التصریح بذلک فی عبارات الأصحاب مثل «الجواهر» و«مصباح الفقیه» للهمدانی، دون المحقّق فی«الشرائع» وغیره حیث قد أطلقوا المنع فی الحریر ولم یقیّدوه بالخالص.

وقد یستدلّ للمنع أیضاً: بما فی الأخبار المستفیضة من النهی عن التکفین بکسوة الکعبة، مع الإذن فی البیع وسائر أنحاء التصرّف فیها:

منها: روایة مروان ابن عبد الملک، قال: «سألت أبا الحسن علیه السلام عن رجلٍ اشتری من کسوة الکعبة شیئاً فقضی ببعضه حاجته ، وبقی بعضه فی یده ، هل یصلح بیعه؟ قال: یبیع ما أراد، ویهِب ما لم یرده، ویستنفع به ویطلب برکته. قلت: أیکفّن به المیّت؟ قال: لا»(1). ورواه الصدوق مرسلاً.


1- وسائل الشیعة: الباب 22 من أبواب التکفین، الحدیث 1.

ص:438

ومنها: روایة أبی مالک الجهنی، عن الحسین بن عمارة، عن أبی جعفر علیه السلام قال: «سألته عن رجلٍ اشتری من کسوة البیت شیئاً هل یکفّن به المیّت؟ قال: لا»(1).

ومنها: روایة عبد الملک بن عتبة الهاشمی(2).

بناءً علی أنّ علّة النهی لیست إلاّ کونها حریراً، إذ لولا ذلک لکان التکفین به راجحاً لأجل التبرّک .

وقد یُجاب عنه: بعدم العلم بانحصار الوجه فیه، لإمکان أن یکون المنع عنه لاقتضاء التکفین به نجاسته بعد الدفن المنافیة لاحترامه .

ولکنّه لا یخلو عن تأمّل، لأن_ّه قد اُجیز فی الکفن وجود کلمة اللّه أو غیره من أسماء الجلالة وآیات القرآن وکتابة دعاء الجوشن الکبیر، فلو کان الوجه هو هذا، لکان الحریّ المنع عن کتابة مثل هذه الأسماء، لاشتماله بما یکون فی کسوة الکعبة، فلا یبعد کون الوجه فیه هو ما قیل فیه، واللّه العالم.

بل قد یستدلّ للمنع أیضاً: بما عن «فقه الرضا»: «لا تکفّنه فی کتّان ولا ثوب إبریسم، وإذا کان ثوب معلّم فاقطع علمه، ولکن کفّنه فی ثوب قطنٍ، ولا بأس فی ثوب صوف»، انتهی(3).

حیث یکون منعه بنحو المطلق الشامل للرجال والنساء، وبما یصدق علیه ثوب إبریسم بأن یکون حریراً خالصاً أو قزّه أکثر، ممّا یوجب الصدّق علیه عرفاً لندرة خلیطه، وضعفه منجبر کما عرفت.

بل قد یؤیّد المنع فی خصوص الرجال ما ورد فی الخبر المرسل المروی فی


1- وسائل الشیعة: الباب 22 من أبواب التکفین، الحدیث 2 و 3 .
2- وسائل الشیعة: الباب 22 من أبواب التکفین، الحدیث 2 و 3 .
3- فقه الرضا : ص169 .

ص:439

«دعائم الإسلام» عن أمیر المؤمنین علیه السلام : «أنّ رسول اللّه صلی الله علیه و آله نهی أن یُکفّن الرجال فی ثیاب الحریر»(1).

فإنّ ظاهر هذا المرسل وإن کان مشعراً باختصاص المنع للرِّجال، المستلزم جوازه للنساء، لکنّه یندفع :

أوّلاً: أنّ ذلک مبنیٌّ علی حجّیة المفهوم فی اللقب والأسماء إذا وقع متلوّ الحکم، مع أن_ّه غیر معلوم، بل الظاهر خلافه، لاحتمال کون الذِّکر للاهتمام فیه، أو ملاحظة مورد الحاجة فی السؤال.

وثانیاً: بأنّ مقتضی الإطلاقات فی المنع بضمیمة قضیّة عموم التشبیه المستفاد من روایة محمّد بن مسلم، عن أبی عبد اللّه علیه السلام ، قال: «قال أمیر المؤمنین علیه السلام : لا تجمّروا الأکفان، ولا تمسحوا موتاکم بالطیب إلاّ بالکافور، فإنّ المیّت بمنزلة ال_مُحْرِم»(2).

هو تقییده بخصوص الرِّجال، لأنّ قضیّة ال_مُحْرِم من النساء هو جواز لبس الحریر علیها بخلاف الرجال، فإذا کان حکم المیّت حکم ال_مُحْرِم، استلزم کون الحکم مختصّاً بالرجال، ولکن مقتضی عموم الإطلاقات بالمنع _ المؤیّد بالإجماع والشهرة والفتاوی، بل قد یُدّعی عدم الخلاف فی عموم المنع فی الحریر المحض الشامل للنساء _ یوجب الاطمئنان للفقیه بذلک، أی عدم الفرق فی المنع عن التکفین بالحریر بین الرجال والنساء.

وبالجملة: بناءً علی ما ذکرنا، یفهم أنّ الحکم بالجواز فی النساء ممّا هو


1- المستدرک: ج1 الباب 19 من أبواب التکفین، الحدیث 2.
2- وسائل الشیعة: الباب 6 من أبواب التکفین، الحدیث 5 .

ص:440

معرضٌ عنه الأصحاب، فلا یمکن الذهاب إلیه کما احتمله العلاّمة فی محکی «النهایة» و«المنتهی» من تجویز التکفین فیه للنساء، ولعلّه اعتمد فیه علی الروایة المرسلة المتقدّمة المرویّة عن أمیر المؤمنین علیه السلام فی «دعائم الإسلام»، وخبر إسماعیل بن أبی زیاد، عن جعفر، عن أبیه، عن آبائه علیهم السلام ، قال: «قال رسول اللّه صلی الله علیه و آله : نِعْمَ الکفن الحُلّة، ونِعْمَ الاُضحیة الکبش الأقرن»(1).

بناءً علی کون الحُلّة مصنوعة من الإبریسم فقط، وفیه المنع عن ذلک، لأن_ّه قد ورد فی «القاموس» بأنّ الحُلّة إزار ورداء بُردٍ أو غیره، ولا یکون إلاّ ثوبین أو ثوب له بطانة. فیمکن حمله علی ما لا یکون من الإبریسم، ولو جمعاً بینه وبین الأخبار المانعة السابقة، مع أنّ الشیخ قدس سره قد حمله علی التقیّة، لموافقته مع العامّة، مع أنّک قد عرفت کونه مُعرَضاً عنه الأصحاب، فتخرج عن الحجّیة لو سلّمنا کون الحُلّة من جنس الإبریسم فقط.

فتحصّل من جمیع ما ذکرنا: أنّ مقتضی الأدلّة الاجتهادیّة هو ما علیه المشهور أو الإجماع من المنع مطلقاً.

وأمّا بحسب الاُصول فقد یقال: بأنّ مقتضاها هو الاحتیاط، وکذلک الاستصحاب أی استصحاب بقاء الحرمة الثابتة للرِّجال فی حال الحیاة.

ولکن قد أورد علی الأوّل: بأنّ مقتضی الأصل هنا البراءة، لکونه شکّاً فی التکلیف بعد فرض تسلیم الإجمال فی مدلول النصّ؛ لأنّ الشکّ هنا یرجع إلی الشکّ فی الجزئیّة والشرطیّة ولو علی القول بثبوت الحقیقة الشرعیّة فی الکفن، ولعلّ من زعم جریان قاعدة الاحتیاط هاهنا، کان من جهة توهّم أن_ّه إذا أمرنا


1- وسائل الشیعة: الباب 23 من أبواب التکفین، الحدیث 2 .

ص:441

بإتیان الامتثال فی الأمر بالتکفین، فمع الإتیان بالحریر نشکّ فی تحقّق الامتثال به، لأجل احتمال کون المأمور به فی ترک هذا الجنس، ومع الشکّ فی الامتثال یساوق لترکه .

لکنّه یندفع: بأنّ ملاک الشکّ ما یکون لأجل احتمال المانعیّة، فالأصل عدمه، أو لأجل احتمال الشرطیّة، فمع عدم إحراز الشرطیّة، لا دلیل لنا علی لزوم الامتثال به؛ لأنّ الشکّ حینئذٍ فی أصل الشرطیّة، والأصل عدمه.

نعم، لو أحرز الشرطیّة، وشُکّ فی تحقّقها، فالقاعدة تقتضی الاحتیاط، لکنّه مخالفٌ للفرض.

هذا کلّه بالنسبة إلی أصالة الاحتیاط.

کما أن_ّه یرد علی الاستصحاب: بأنّ الحرمة المتیقّنة فی حال الحیاة للرجال قد انتفت قطعاً بالموت لانقطاع التکلیف عنه، فلا وجه للحکم ببقاء الحرمة علیه، وإن اُرید إثبات الحرمة لسائر المکلّفین، أی لمن یباشر التکفین، فلیس له حالة سابقة متیقّنة حتّی یستصحب، وإن اُرید إثبات الحرمة علیه من استصحاب المتعلّق بالمیّت فهو فاسدٌ لتغیّر موضوعه، فالتمسّک به هنا لا یُسمن ولا یُغنی عن جوع، کما لا یخفی علی المتأمّل.

الأمر الرابع: فی أنّ الممنوع من الکفن : هل هو منحصر فی خصوص المغصوب والنجس والحریر الخالص، کما هو ظاهر غیر واحدٍ من الأساطین، حیث قد اقتصروا فی المنع فی خصوص الحریر من جنس الکفن کما عن «المبسوط» و«النهایة» و«الاقتصاد» و«الجامع» و«التحریر» و«المعتبر» و«التذکرة» و«نهایة الاحکام»؟

أو مع إضافة النجاسة إلی الغصب کما عن صاحب «الجواهر»،

ص:442

و«مصباح الفقیه»، و«العروة» وأصحاب التعلیق علیها، بل کلّ ما لا یجوز فیه الصلاة کالمُذهّب وأجزاء ما لا یؤکل لحمه، بل المستظهر من بعضهم کون المنع عنه من المسلّمات کما عن «الغنیة» من أن_ّه لا یجوز أن یکون ممّا لا تجوز فیه الصلاة من اللّباس، وأفضله الثیاب البیاض من القطن أو الکتّان، کلّ ذلک بدلیل الإجماع.

بل قد یظهر من جماعة اشتراط ذلک فی الکفن، وهو کما عن المصنّف فی «النافع»، والعلاّمة فی «القواعد»، بل فی «الجواهر» أن_ّه: «ظاهر کلّ من عبّر بأنّ ما جازت الصلاة فیه جاز التکفین فیه کالسرائر وغیرها»، وفی «جامع المقاصد»: «لایجوز التکفین بجلد ووبر ما لا یؤکل لحمه قطعاً)، بل أضاف فی «الجواهر» بعده: «أن_ّه قد عرفت غیر مرّة أن_ّها ممّن لا یَعمل بالظنیّات تجری مجری الإجماع، بل المحکیّ من «مجمع الفائدة والبرهان» للأردبیلی، وأمّا اشتراطهم کون الکفن من جنس ما یصلّی فیه وکونه غیر جلد فکان دلیله الإجماع»، انتهی.

وقد یستدلّ للأوّل: بأن_ّه لا یستفاد من الأخبار المانعة أزید من المنع فی الحریر الخالص، ومن ناحیة لم یثبت مُسمّی شرعی للکفن حتّی یحتاط فی تحصیله بالاجتناب عن کلّ ما یحتمل لزوم الاجتناب عنه، مع أن_ّه علی تقدیر وجود الحقیقة الشرعیّة فیه، فإطلاق الأدلّة کافٍ فی بیانه.

وما ورد من النهی عن الکتّان کما فی حدیث أبی خدیجة، عن الصادق علیه السلام قال: «الکتّان کان لبنی إسرائیل یکفّنون به، والقطن لاُمّة محمّد صلی الله علیه و آله »(1).

وفی روایة یعقوب بن یزید، عن عدّة من أصحابنا، عن أبیعبداللّه علیه السلام ، قال: «لا یکفّن المیّت فی کتّان».(2)


1- وسائل الشیعة: الباب 20 من أبواب التکفین، الحدیث 1 و 2 .
2- وسائل الشیعة: الباب 20 من أبواب التکفین، الحدیث 1 و 2 .

ص:443

حیث یفهم منه أنّ النهی محمولٌ علی الکراهة والندب، وإن کان ربما یظهر من «الخلاف» وجوب ذلک، بل دعوی الإجماع علیه .

ولکن اعترضوا علیهم عدّة من الفقهاء وذهبوا إلی المنع، واستدلّوا للمنع بنحو العموم فی کلّ ما لا تجوز فیه الصلاة بعدّة اُمور :

أوّلاً: لیس الدلیل منحصراً بتلک الأخبار المانعة السابقة، إذ یمکن استفادة المنع من دلیلٍ آخر کالإجماع والشهرة ، کما عرفت دعوی الإجماع عن عدّة من الفقهاء.

وثانیاً: یمکن استفادة المنع من بعض الروایات التی وقع فیه التنزیل للمیّت بکونه بمنزلة ال_مُحْرِم، وهو مثل روایة محمّد بن مسلم، عن أبی عبد اللّه علیه السلام ،

قال: «قال أمیر المؤمنین علیه السلام : لا تجمّروا الأکفان، ولا تمسحوا موتاکم بالطیب إلاّ بالکافور، فإنّ المیّت بمنزلة ال_مُحْرِم»(1).

بضمیمة ما ورد فی حقّ ال_مُحْرِم والإحرام من وجوب کون ما یُحرَم فیه من جنس ما یُصلّی فیه، مثل حسنة حریز، عن أبی عبد اللّه علیه السلام ، قال: «کلّ ثوبٍ تصلّی فیه فلا بأس أن تحرم فیه»(2).

حیث یفهم الملازمة من النفی والإثبات.

ویؤیّد التنزیل المذکور فی الروایة السابقة، بل قد یشعر بذلک ما فی روایة الحسین بن المختار، قال: «قلت لأبی عبداللّه علیه السلام : یحرم الرجل بالثوب الأسود؟


1- وسائل الشیعة: الباب 6 من أبواب التکفین، الحدیث 5 .
2- وسائل الشیعة: الباب 27 من أبواب الإحرام، الحدیث 1.

ص:444

قال: لا یحرم فی الثوب الأسود، ولا یکفّن المیّت به»(1). حیث یؤیّد التشابه بین ال_مُحْرِم والمیّت.

ولکن قد اعترض علیه المحقّق الهمدانی قدس سره فی مصباحه بقوله: «أقول: إثبات عموم المنزلة بمثل هذه الروایة، مع عدم فهم الأصحاب عنها ذلک، وعدم اعتمادهم فی الحکم علیها، فی غایة الإشکال، کیف ولم یتوهّم متوهّمٌ تعمیم تروک الإحرام وأفعاله بالنسبة إلی المیّت لأجل هذه الروایة، خصوصاً مع کون التنزیل الواقع فی الروایة علّة لکراهة تجمیر الأکفان والطیب لا الحرمة.

والاعتذار عنه بعدم کون ترک مسّ الطیب من الأرکان بخلاف کسوته، غیر مسموع؛ إذ لا یوجب ذلک ظهور الروایة فی وجوب کون کفن المیّت کثیاب ال_مُحْرِم شطراً وشرطاً، بعد عدم کون الحکم المنصوص علیه المعلّل له باقیاً علی ظاهره، بل ربما یُستشمّ من المعتبرة المستفیضة الواردة فی حکم من مات مُحْرِماً کصحیح محمّد بن مسلم: «یغطّی وجهه ویُصنع به ما یصنع بالمُحِلّ غیر أن_ّه لایُقربه طیباً»(2). وغیرها عدم کون المیّت بمنزلة ال_مُحْرِم فی الأحکام، وأن_ّه إذا مات المحرم یرتفع أثر إحرامه ما خلا الطیب.

کما أن_ّه یفهم من هذه الأخبار کون النهی فی الروایة السابقة محمولاً علی الکراهة، فکونه منزّلاً منزلة ال_مُحْرِم لیس إلاّ علی جهة الاستحباب لا اللّزوم.

وکیف کان، فاستفادة المطلوب من الروایة المتقدّمة فی غایة الإشکال، والعمدة فیه إنّما هو الإجماع المنقول المعتضد بالشهرة، ولا یبعد الاعتماد علیه


1- وسائل الشیعة: الباب 26 من أبواب الإحرام، الحدیث 1.
2- وسائل الشیعة: الباب 13 من أبواب غسل المیّت، الحدیث 4.

ص:445

وإن لا یخلو عن إشکال، فالاحتیاط ممّا لا ینبغی ترکه، واللّه العالم)، انتهی کلامه رفع مقامه(1).

أقول: وفیه ما لایخفی علی المتأمّل؛ لأنّ عدم ذکر الأصحاب ذلک فی کتبهم، مع تصریحهم بالمنع بنحو العموم، یوجب سلب الاطمئنان بعدم رؤیتهم ذلک، لإمکان أن یکون علیه فتواهم بذلک، هو ملاحظة ذلک الحدیث، ولکنّهم لم یذکروا إلاّ أصل الفتوی کما نشاهد مثل ذلک منهم کثیراً، هذا أوّلاً .

وثانیاً: عدم توجّههم به أو عدم رؤیتهم لا یوجبُ لنا اتّباعهم فیه بعدما رأینا تمامیّة دلالتها علی المطلوب.

وأمّا کون التنزیل فی خصوص الکراهة والاستحباب دون اللّزوم، وفی خصوص مسّ الطیب دون غیره.

ففیه: أن_ّه غیر منافٍ لکون التنزیل فیها وفی اللّزوم أیضاً إذا ضمّ إلیه دلیلٌ آخر یدلّ علی التشابه کحسنة حریز وغیرها، أی کان عموم التنزیل فی الحکمین أو الأحکام من الاستحباب والکراهة واللزوم غیر ما خرج من العموم بواسطة الدلیل، مثل ما ورد فی تجویز تغطیة وجه المیّت فی ال_مُحْرِم وغیره، مع أنّا لا ندّعی العموم فی جمیع التروک والأفعال حتّی یُجاب بذلک الجواب، بل ندّعی عموم التشابه فیما ورد فی الحدیث من جهة لزوم ترک الکفن بما لا یجوز فیه الصلاة کالإحرام من النجس والغصب، وکلّ ما لا یؤکل لحمه، وهو أمرٌ مقبولٌ ومستفاد من الحدیثین وغیرهما، کما أشرنا إلیه، فیصیر ذلک تأییداً للإجماع والشهرة أیضاً، فلا ینحصر الدلیل فی المنع بخصوص الإجماع والشهرة، حتّی


1- مصباح الفقیه: ج5 / 249 _ 250 .

ص:446

یُدّعی الإشکال فیه.

وبالجملة: فالأقوی عندنا ما علیه المشهور من عدم جواز التکفین من کلّ ما لا یجوز الصلاة فیه من المُذهّب وما لا یُؤکل لحمه.

الأمر الخامس: هل یعتبر فی الکفن أن لا یکون من جلد ما یؤکل لحمه أم لا؟

فیه قولان: المصرّح به فی کلام جماعةٍ بالفتوی أو الاحتیاط الوجوبی کالشهید فی «الذکری»، والأردبیلی، وصاحب «الجواهر»، و«مصباح الفقیه» بالفتوی، والسیّد فی «العروة»، وبعض أصحاب التعلیق علیها بالاحتیاط، هو الأوّل.

بل الظاهر من کلام الأردبیلی کونه مظنّة الإجماع، حیث قال: «وأمّا اشتراطهم کون الکفن من جنس مایُصلّی فیه، وکونه غیر جلد،فکان دلیله الإجماع».

بل استدلّوا لذلک بکون ظهور الأدلّة فی اشتراط کون الکفن من مصداق الثیاب المتبادر منها ما عدا الجلود وضعاً أو انصرافاً، ویؤیّده الأمر بنزع الجلد عن الشهید.

واحتمال المناقشة فیها بحمل التقیید فیها بذلک علی الغالب، ضعیفٌ، ولا ریب فی عدم التلازم بین ما یُصلّی فیه وبین الثوب، إذ لا إشکال فی تحقّق الأوّل بما لا یدخل تحت مسمّی الثوب من جلد ما یؤکل لحمه ونحوه، بخلاف الثانی، خلافاً لجماعة اُخری کما هو المحکیّعن ظاهر «الغنیة» و«الدروس» و«الروضة» والمحقّق الآملی من القول بالجواز إذا صدق علی الجلود الثوب کالمخیط منه بصورة اللّباس کالفرو ونحوه، وهذا هو الأقوی، فحینئذٍ فلا بأس بالتکفین فی الجلد إذا خیط بنحو القمیص والمئزر مثلاً لصدق الثوب علیه.

ودعوی انصراف الثوب عن الجلد بصورة الإطلاق ممنوعٌ.

ولکن مع ذلک کلّه، الاحتیاط بترکه ممّا لا ینبغی ترکه، تمشیّاً مع رأی الأعلام

ص:447

فی الحکم بالمنع.

وعلیه، فإذا قلنا بجواز التکفین من الجلود، مع صدق الثوب علیه، فجوازه بصوف ما یؤکل لحمه ووبره وشعره مسلّمٌ، کما علیه جمیع الفقهاء، سوی المحکیّ عن ابن الجُنید من منعه عن وبر ما یؤکل، بل ربما حُکی عنه المنع عن الشعر أیضاً، ولعلّ فتواه ناظرٌ إلی ما لا یصدق علیه الثوب، وإلاّ فلا وجه للمنع مع صدقه، بل فی «الریاض» دعوی الإجماع علی جواز التکفین فی الصوف.

نعم، ربّما یُستدلّ للمنع بموثّق عمّار بن موسی، عن أبی عبد اللّه علیه السلام ، قال: «الکفن یکون بُرداً، فإن لم یکن بُرداً فاجعله کلّه قطناً، فإن لم تجد عمامة قطنٍ فاجعل العمامة سابریّاً»(1).

فإنّه لا یدلّ علی الاشتراط، غایته الاستحباب فی کونه قطناً، مع أن_ّه علی فرض تسلیم دلالته علی الاشتراط، یکون مُعرَضاً عند الأصحاب، إذ لم یفتِ به أحدٌ بالخصوص.

نعم، استحبابه غیر بعید، کما یظهر ذلک أیضاً من الخبر المرویّ عن أبی خدیجة ، عن أبی عبد اللّه علیه السلام ، قال : «الکتّان لبنی إسرائیل یُکفّنون به، والقطن لاُمّة محمّد صلی الله علیه و آله »(2).

ولذلک لم یفهم الأصحاب منها إلاّ الاستحباب لا الوجوب کما لایخفی.

الأمر السادس: وقد عرفت تفصیلاً فی المباحث السابقة عدم جواز التکفین فی المغصوب والنجس والحریر والجلد المأکول، وفیما لا یُؤکل لحمه من جلده


1- وسائل الشیعة: الباب 13 من أبواب التکفین، الحدیث 1.
2- وسائل الشیعة: الباب 2 من أبواب التکفین، الحدیث 1.

ص:448

ووبره وشعره فی حال الاختیار بلا إشکال، لأجل وجود الدلیل من النصّ أو الإجماع، ویقع البحث الآن عن حکم المذکورات عند حلول الضرورة والاضطرار، فهل یجوز التکفین بتلک الاُمور مطلقاً، أو ممنوع مطلقاً ویُدفن عریاناً، أو فیه تفصیل؟ وجوه: ثمّ فی جمیع المحتملات :

تارةً: تفرض الضرورة بوجود جنس واحد من الاُمور.

واُخری: بالأزید من الجنسین أو أکثر .

أمّا الصورة الاُولی: ما لو فرض الضرورة فی جنس واحد، والظاهر أن_ّه لا خلاف فی عدم الجواز لو کان النجس الواحد هو المغصوب، بل فی «الحدائق» دعوی الوفاق علیه، والأمر کذلک، ضرورة أنّ التجنّب عن التصرّف فی مال الغیر أهمّ فی نظر الشارع من تکفین الموتی، کیف لا یکون کذلک، والحال أنّ مع عدم وجود ترکةٍ قابلةٍ لصرفها فی کفنه، وعدم وجود باذلٍ له، یسقط وجوب التکفین؛ لأنّ الواجب علی الأولیاء أو الناس لیس إلاّ مواراته فی الکفن بعد وجوده، لا وجوب بذله، وهذا شاهد علی عدم جواز تکفینه فی المغصوب، وإن لم یوجد غیره بعد ما ثبتت أهمّیة الغصب فی نظر الشارع من حکم التکفین، وعلیه فیُدفن حینئذٍ عریاناً.

الصورة الثانیة: هی مثل ما سبق، إلاّ أنّ الجنس الواحد کان غیر المغصوب من سائر الممنوعات مثل الحریر والنجس، أو ما لا یؤکل لحمه مطلقاً، أو الجلد ممّا یؤکل لحمه، فإذا انحصر بواحدٍ منها، فالأقوال فیها متعدّدة:

1 _ قولٌ للشهید رحمه الله فی «الذکری» حیث قال: «إنّ فیه وجوهاً ثلاثة: المنع مطلقاً لإطلاق الدلیل، والجواز کذلک لئلاّ یدفن عریاناً مع وجوب ستره ولو بالجمر، والوجه الثالث وجوب ستر العورة فی حال الصلاة ثمّ ینزع عنه».

ص:449

2 _ وقولٌ للمحقّق فی «جامع المقاصد» بالفرق بین النجس وغیره، فأجاز فی الأوّل لعدم وجوب نزعه عن المیّت لو تنجّس بعد التکفین به، ولم یُمکن غسله ولا قرضه، ولأن_ّه یؤول إلی النجاسة عن قریب، فأمره أخفّ، ومَنَع فی الثانی لإطلاق أدلّة المنع کما فی الحریر، وللأمر بنزع الجلود عن الشهید.

3 _ وقولٌ لصاحب «الریاض» بالفرق بین ما منع عنه للدلیل، وما منع عنه لعدم الدلیل علی جوازه، بناءً علی المنع عنه عند الشکّ، لأصالة الاشتغال بالمنع فی الأوّل، لإطلاق الدلیل والجواز فی الثانی لانتفاء المانع، لاختصاصه بصورة وجود غیره.

4 _ وقولٌ للشیخ الأکبر قدس سره بوجوب الستر بکلّ واحدٍ من هذه الاُمور الممنوعة عنها عند الانحصار، حیث استدلّ لقوله بأن_ّه قد استفید من أخبار علّة تکفین المیّت، ومن کون حرمته میّتاً کحرمته حیّاً، ومن أنّ أصل ستر بدن المیّت مطلوبٌ، مضافاً إلی إطلاق ثلاثة أثواب فی بیان الکفن الواجب، وانصراف أدلّة المنع عن المذکورات إلی حال الاختیار.

هذه هی الأقوال فی المسألة.

أقول: والذی یختلج بالبال واللّه هو العالم بحقیقة الحال، إنّه لا إشکال فی أنّ مقتضی الأدلّة الأوّلیّة هو وجوب ستر بدن المیّت بالکفن، وهو مطلوبٌ عند الشارع بصورة الإلزام مطلقاً ، وهذا الإطلاق متّبعٌ حتّی یرد دلیلٌ معتبرٌ علی خلافه، وهو لا یخلو:

1 _ إمّا بالنصّ کما فی النجس والحریر، حیث قد ورد النّص بالمنع عنهما فی الکفن، وعلیه فلا إشکال فی شمول ذلک لحال الاختیار، فبذلک یخرج عن الإطلاقات الدالّة علی الوجوب.

ص:450

وأمّا فی صورة الاضطرار:

فتارةً: یدّعی أنّ إطلاق أدلّة المنع منصرفٌ إلی صورة الاختیار فلا یشمل حال الضرورة، فیدخل ذلک فی الإطلاقات الأوّلیّة، ولازمه وجوب الستر والکفن بالنجس والحریر عند الانحصار، هذا کما علیه الشیخ الأکبر قدس سره .

واُخری: یدّعی الشکّ فیه، فحینئذٍ یبتنی علی المبنی من أن_ّه عند الشکّ فی المخصّص هل المرجع هو عموم العام وإطلاق المطلق، أم المرجع إلی إطلاق دلیل المخصّص إن کان له إطلاق، وإلاّ یجب الرجوع إلی الاُصول العملیّة، فإن کان الشکّ فی مانعیّة النجس والحریر، فالأصل عدمها، وإن کان الشکّ فی الشرطیّة فحیث لم یُحرز الشرطیّة من الدلیل، فمقتضی الأصل عدمها.

نعم، لو کانت الشرطیّة قد اُحرزت من لسان الدلیل، وکان الشکّ فی تحقّقها فی الخارج ، فالأصل حینئذٍ الاشتغال ، وحیث کان المقام من القسم الأوّل فالأصل عدمه. هذا کلّه بالنظر إلی دلیل المخصّص وهو النصّ.

مع أن_ّه علی فرض قبول الرجوع إلی الدلیل المخصّص فی المشکوک، وقلنا بإطلاق دلیله شمل صورة المشکوک، وإلاّ ربّما یمکن أن یُقال بأنّ مقتضی ملاحظة وجوب الستر والکفن، حیث یقتضی کونه واجباً مع الطهارة، وعدم کونه من الحریر، فحیث لا یمکن تحصیل ذلک الشرط من الطهارة أو عدم الحریر، فیجری فیه قاعدة المیسور، وهو تفید الاکتفاء بالکفن حتّی مع فقد شرطه من الطهارة وغیرها، فلازم ذلک أیضاً لزوم الکفن کذلک .

2 _ وإمّا یکون دلیل المخصّص والمقیّد هو الإجماع، هذا کما فی غیر النجاسة والحریر مثل جلد ما یؤکل لحمه، أو ممّا لا یؤکل لحمه من الجلد والشعر والوبر، فحینئذٍ یکون المرجع إطلاق دلیل وجوب التکفین، لأنّ الإجماع حجّة فی القدر

ص:451

المتیقّن وهو حال الاختیار دون الانحصار، لکونه دلیلاً لبیّاً.

والنتیجة: إنّ القول بوجوب التکفین ولو مع فقدْ الشروط فی حال الانحصار مطلقاً؛ أی سواء کان الدلیل المخصّص هو النصّ أو الإجماع لا یخلو عن قوّة بمقتضی دلیل قاعدة المیسور، حیث إنّه دلیلٌ اجتهادیّ حاکمٌ علی إطلاق دلیل القید، وهو المطلوب.

الصورة الثالثة: ما لو لم یکن الموجود من الممنوعات جنساً واحداً فی حال الاضطرار، مثل ما لو دار الأمر بین التکفین فی الجلد المأکول أو غیره من الحریر والنجس وغیر المأکول:

ففی «الروضة»: إنّه یُقدّم الجلد من المأکول علی غیره من الجمیع، کما حُکی ذلک أیضاً عن الشهید فی «الذکری» معلّلاً بعدم النهی الصریح عنه، وربما یُعلّل بأن_ّه یجوز الصلاة فیه اختیاراً فیقدّم علی ما لا یجوز الصلاة فیه.

أقول: ولا یخفی علیک من لزوم تقدیم الجلد علی غیره، بناءً علی صدق الثوب علیه، حیث إنّ المنع عنه کان بدلالة الإجماع، وبما أن_ّه دلیلٌ لبّی لا یشمل صورة الانحصار والاضطرار، والمرجع حینئذٍ إلی إطلاقات وجوب التکفین، کما أنّ الأمر کذلک أیضاً لو قلنا بأنّ الدلیل علی المنع هو النصّ، لا لأجل عدم صدق الثوب علیه، بل للتعبّد فیه، وقلنا بعدم ظهور فیالإطلاق حتّی یشمل حال الاضطرار.

وأمّا لو کان دلیل المنع هو النصّ، وکان له إطلاق یشمل صورة الضرورة، أو کان وجه المنع فیه هو عدم صدق الثوب علیه إمّا وضعاً أو انصرافاً، فالحکم بتقدیم الجلد ممنوعٌ، وحیث أنّ الأقوی عندنا غیر هذین الاحتمالین الأخیرین، وقلنا بصدق الثوب علیه عرفاً، فالأقوی هو صحّة القول بتقدیمه علی غیره، کما علیه السیّد فی «العروة» وفاقاً لأکثر المحشّین علیها.

ص:452

الصورة الرابعة: ما لو دار الأمر فی حال الضرورة بین النجس والحریر، أو بین النجس وبین ما لا یؤکل لحمه: فالمصرّح به فی «الذکری» تقدیم النجس، معلّلاً بأنّ المانع فیه عَرَضی بخلاف الحریر وقال به فیما یؤکل لحمه .

وقال أیضاً فی مبحث لباس المصلّی: «لو دار الأمر بین المتنجّس وغیره یقدّم المتنجّس، لأنّ فوات الوصف أولی من فوات الموصوف».

وقد وجّهه الشیخ الأکبر قدس سره فی «کتاب الطهارة» بأنّ التقدیم ینشأ من آخر مرتبة التقیید بالأمر العرضی عن رتبة التقیید بالأمر الذاتی.

توضیح کلامه: أن_ّه قد اعتبر فی الکفن أن لا یکون حریراً ولا من غیر المأکول، فإنّ المنع عنهما ذاتی، أی أُخذ المنع فی الصلاة فیهما بذات الثوب والکفن بخلاف اعتبار کونه طاهراً عن النجاسة، حیث یعتبر فی الثوب والکفن الذی لا یکون حریراً ولا غیر المأکول أن یکون طاهراً، والمفروض عدم تمکّن حصول هذا الوصف فی الکفن، فیسقط هذا ولا یسقط الکفن، هذا.

أقول: الإنصاف عدم تمامیّة هذا التقریر؛ لأنّ المنع فی الموصوف والوصف بالقیاس إلی الثوب والکفن یکون علی السواء وفی مرتبةٍ واحدة، إذ من الواضح أنّ المنع عمّا لا یؤکل فی الصلاة حکمٌ ثابتٌ سواء کان أجزاء الثوب منه، أو إن أصبح جزءاً من الثوب بصورة الإلصاق حتّی یعدّ مثل النجاسة العارضة، فتنزیل المسألة بصورة المراتب لیس علی ما ینبغی بحسب ما عرفت من المثال، والالتزام بالافتراق بین الصورتین فی ما لا یؤکل عهدته علی مدّعیه.

وعلیه فالأولی أن نلتزم بالتساوی بین جمیع الأقسام، ولازمه القول بالتخییر بین المتنجّس وغیره.

اللّهُمَّ إلاّ أن یقال : بإحراز أهمیّة المنع فی غیر المتنجّس بالنسبة إلیه ، کما قد

ص:453

یُدّعی عدم استبعاد ذلک ، سیّما مع قلّة النجاسة وعدم تلوّثها ، والالتزام بذلک غیر بعید ، لعدم منافاته مع التخییر أیضاً لو اکتفی بالمتنجّس مع ملاحظة الوصفین کما لا یخفی .

الصورة الخامسة: ما لو دار التکفین بین الحریر وبین ما لا یؤکل لحمه: أمّا صاحب «الجواهر» فقد حکم بالتخییر بینهما، ثمّ احتمل تقدیم الحریر. ونفی الشیخ الأکبر قدس سره البُعد عن تقدیم الحریر للنساء، وتقدیم غیر المأکول للرِّجال.

وقیل: لعلّ الوجه فی تقدیم الحریر هو ما علّله الشهید قدس سره فی «الذکری» من جواز الصلاة فیه للنساء، دون ما لا یؤکل لحمه، حیث لا تجوز الصلاة فیه للرجال والنساء، هذا.

وقد یرد علیه: _ کما عن المحقّق الثانی رحمه الله _ بأنّ جواز الصلاة لهنّ فیه لایوجب جواز التکفین فیه لهنّ لعدم الملازمة، مع أن_ّه علی فرض ثبوت الملازمة، یلزم اختصاص جواز التکفین به لهنّ حتّی مع حال الاختیار، کما تجوز الصلاة فیه لهنّ، والظاهر عدم کون الأمر کذلک .

کما أن_ّه یمکن أن یکون وجه التفصیل بین النساء والرجال فی الحریر فی تقدیمه علی غیرالمأکول فیهنّ دون الرِّجال، أنّ المنع عن الحریر للرِّجال کان لوجهین:

أحدهما: کونه حراماً تکلیفاً ذاتاً علی الرجال دونهنّ .

وثانیهما: کونه بالمنع عن الصلاة لهم بخلاف النساء حیث لا یکون فیهنّ وجه لعدم الجواز حتّی لا یکون مانعاً للصلاة، هذا.

أقول: ولکن لا یخفی علی المتأمّل من إمکان الإشکال علیه بأنّ هذا إنّما یصحّ إن سلّمنا بقیام الملازمة بین الصلاة والتکفین فی ذلک، حتّی یستفاد منه جواز تقدیم الحریر علی غیر المأکول فی تکفین النساء، مع أن_ّه أوّل الکلام، مضافاً إلی

ص:454

أنّ النساء والرجال مشترکان فی جواز اللّبس من غیر المأکول فی غیر حال الصلاة، کما هما مشترکان فی المنع عنه فی حال الصلاة، وعلیه فالأولی عندنا هو القول بالتخییر بینهما فی التکفین فی حقّهما، کما علیه السیّد فی «العروة» تبعاً لصاحب «الجواهر»، بل علیه أکثر أصحاب التعلیق علیها .

الصورة السادسة: ما لو دار الأمر بین جلد غیر المأکول وبین سائر أجزائه من صوفه وشعره ووبره: فقد یُقال بتقدیم الثانی علی الأوّل، لصدق الثوب علیه دون الأوّل، إذ غایته الشکّ فی صدقه .

ولکنّه لیس بتامّ لما قد عرفت من إمکان الالتزام بصدق الثوب علی المصنوع من الجلد نظیر الثیاب المصنوعة من فرو الأغنام ونظائرها کما هو المتعارف فی زماننا هذا، ویُطلق علیه بالفارسیّة «پوستین»، کما لا یطلق علی غیر الملبود من الصوف وغیر الممتزج عنوان الثوب. وعلیه، فالأولی أن یعلّق الحکم بالجواز علی صدق ذلک علیه وعدم الجواز مع عدم الصدق، بلافرق بین الموردین، واللّه العالم.

ص:455

حکم الحنوط

ثمّ یأتی الکلام فی حنوط المیّت(1)

(1) یدور البحث فی المقام عن حکم الحنوط وأنّ استعماله فی حقّ المیّت واجبٌ أو مستحبّ؟ فیه قولان:

فی أحکام الأموات / فی وقت الحنوط

فالمشهور علی الوجوب، کما فی «الجواهر»، بل قال: «لا أجد فیه خلافاً، سوی ما یُحکی عن سلاّر ولم یثبت»، بل المحکیّ من ظاهر أوّل کلامه الوجوب. ونزید علی کلامه سوی الأردبیلی من التأمّل فی وجوبه، لأجل ملاحظة اختلاف الأخبار فی مواضع الحنوط واشتمال الأخبار علی کثیر من المندوبات، خصوصاً مع کون بعضها بعد السؤال عن کیفیّة التحنیط.

ولکن قد نقل فی وجوبه الإجماع عن مثل الشیخ فی «الخلاف»، والعلاّمة فی «المنتهی» و«التذکرة»، والشهید رحمه الله فی «الروض»، کما نُقل ذلک عن صاحب «المفاتیح»، بل وظاهر «الغنیة»، کما أنّ الإجماع المحصّل أیضاً حاصل، کما قد عرفت من عدم وجود الخلاف إلاّ عن من کان معروفاً فی النسب، فلا یضرّ مخالفته کما لایخفی، خصوصاًبالنسبة إلی سلاّر من احتمال الوجوب فیأوّل کلامه.

أقول: ثمّ بعدما ثبت من وجوب الحنوط، فلابدّ من تحدید وقت استعماله، وأنّ وقته بعد الغسل والتیمّم فلا یجوز قبلهما، کما یدلّ علیه غیر واحدٍ من الأخبار، مثل قوله: «إذا جفّفت المیّت»، أو ما ورد فی «فقه الرضا» من قوله: «إذا فرغت من غسله حنّطه»، ونحو ذلک وهو ممّا لا بحث فیه ولا کلام .

ولکن الذی وقع الخلاف فیه هو: هل استعمال الحنوط بعد تمام التکفین أو

ص:456

قبله، کما أنّ وقوعه قبله _ أی قبل تمام التکفین وبعد لبسه بالمئزر _ أو بعد لبسه

القمیص أو قبله مطلقاً، أو أن_ّه مخیّرٌ فی ذلک فی تمام هذه الأقسام ؟

ذهب إلی کلّ واحدٍ منها بعض الفقهاء: فقد اختار صاحب «الجواهر» و«کشف اللّثام» والسیّد فی «العروة» وکثیرٌ من أصحاب التعلیق علیها إلی الأخیر، وذهب إلی الأوّل الصدوق رحمه الله ، وإلی الثانی صاحب «المراسم» و«المنتهی» و«النهایة» وغیرهم، وإلی الثالث صاحب «المقنعة» وغیره.

أقول: الأقوی هو الأخیر، وإن کان الأولی والأوجه هو کونه قبل التکفین مطلقاً،کماعلیه صاحب «القواعد» وغیره،فیصیر هذا خامس الأقوال، والدلیل علیه:

1 _ صحیحة زرارة حیث روی عن الصادقین علیهماالسلام : «إذا جفّفت المیّت عَمَدت إلی کافورٍ مسحوق فمسحت به آثار السجود»(1).

2 _ والحدیث المروی فی «دعائم الإسلام»: «إذا فرغ من تغسیله نشّفه بثوب واجعل الکافور فی موضع سجوده»(2).

3 _ وعن «فقه الرضا»: «إذا فرغت من غسله حنّطت، الحدیث»(3).

4 _ بل قد یستفاد ذلک من مرسل یونس أیضاً بقوله: «ابسط الجمرة بسطاً ثمّ ابسط علیها الإزار ، ثمّ ابسط القمیص علیه ، وترد مقدّم القمیص علیه ، ثمّ اعمد إلی کافور مسحوق فضعه علی جبهته ، إلی أن قال : ثمّ یحمل فیوضع علی قمیصه، الحدیث»(4).


1- وسائل الشیعة: الباب 16 من أبواب التکفین، الحدیث 6 .
2- المستدرک: ج1 الباب 12 من أبواب أحکام الکفن، الحدیث 2 و 1 .
3- المستدرک: ج1 الباب 12 من أبواب أحکام الکفن، الحدیث 2 و 1 .
4- وسائل الشیعة: الباب 14 من أبواب التکفین، الحدیث 3.

ص:457

وما فی المستمسک من المناقشة فی صحیح زرارة بعدم تعرّضه للکفّین فلا یصلح للتقیید فی الإطلاقات، والأمر بالتخفیف أعمّ من کونه قبله أو بعده.

لیس علی ما ینبغی، لوضوح أنّ قوله علیه السلام : «عمدتَ» ظاهرٌ فی کون الحنوط بعد الغُسل قبل التکفین، کما هو المتفاهم عند العرف، وهو مختار «الدروس» و«البیان» و«الذکری»، بل هو المناسب للاعتبار بالمسح لمواضع السجود الشامل للرکبتین، فلا یتحقّق عادةً إلاّ قبل التکفین، خصوصاً إذا اُرید منه بعد تمام التکفین، حیث لا یجامع مع کون المسح لموضع السجود، إلاّ أن یقال بکفایة مسح ظاهر الکفن فی تلک المواضع، وهو کما تری.

أقول: أمّا حکم سائر الأقوال _ ولو بعضها _ فهو أیضاً مستفاد من بعض الأخبار، مثلاً یمکن استفادة ما ذهب إلیه الصدوق رحمه الله بکونه بعد التکفین ممّا ورد فی «فقه الرضا» فی موضعٍ آخر غیر ما عرفت من قوله: «وإذا فرغت من کفنه حنّطه بوزن ثلاثة عشر درهماً.. الحدیث»(1).

إلاّ أن یحمل إلی الفراغ من بسط الکفن بأجزائه بعضها فوق بعض، علی ما ذُکر تفصیله فی خبر یونس، لا بعد الفراغ عن التکفین کما هو الظاهر، ولو کان الحمل لأجل الجمع مع تلک الأخبار .

کما أنّ فی بعض الأخبار مثل حدیث عمّار بن موسی، عن الصادق علیه السلام أن_ّه قال: «واجعل الکافور فی مسامعه وأثر سجوده منه»(2)، أن_ّه یکون بعد الکفن وقبل لفّ العمامة، ولعلّ وجه التخییر فی کونه قبل التکفین أو فی أثنائه أو بعده


1- المستدرک: ج1 الباب 13 من أبواب أحکام الکفن، الحدیث 10 .
2- وسائل الشیعة: الباب 14 من أبواب التکفین، الحدیث 4.

ص:458

ویجبُ أن یمسحَ مساجده(1).

هی الإطلاقات وأصالة عدم الوجوب لخصوص واحدٍ منها واختلاف لسان الأخبار، وإن کان تقدیمه علی التکفین أولی وأوفق بالاحتیاط من جهة کثرة الأخبار الواردة فیه، وإن قال صاحب «الجواهر» وصاحب «مصباح الهدی» کون وجه التخییر عدم الطریق إلی الاحتیاط، ولکن مرادهم من حیث العمل مع التعیین فی وجوبه، وإلاّ لأمکن تحصیله بالجمع بین قبل التکفین وبعده لو لوحظ الوجوب فی کلّ مع الخصوصیّة، بخلاف ما لو کان الوجوب بصرف الوجود بالتحنیط حیث لا یمکن الاحتیاط فیه بشیء، کما لا یخفی علی المتأمّل، ولعلّ هذا هو مرادهم من عدم الطریق إلی الاحتیاط، واللّه العالم.

(1) ما وقع فی کلام المصنّف رحمه الله من وجوب مسح المساجد، هو مورد معقد إجماع «التذکرة» و«الروض»، بل هو مورد صریح بعض الأخبار:

منها : صحیح الحلبی المرویّ فی « الکافی » عن الصادق علیه السلام ، قال: «إذا أردت أن تحنّط المیّت فاعمد إلی الکافور فامسح به آثار السجود منه ومفاصله کلّها.. الحدیث»(1).

فی أحکام الأموات / مواضع الحنوط

ومنها: روایة یونس، عنهم علیهم السلام فی حدیثٍ: «ثمّ اعمد إلی کافور مسحوق فضعه علی جبهته موضع سجوده وامسح بالکافور علی جمیع مفاصله من قرنه إلی قدمه».(2)

ومنها: روایة «فقه الرضا» فی حدیثٍ: «فإذا فرغت من کفنه حنّطته بوزن


1- وسائل الشیعة: الباب؟؟؟، من أبواب التکفین، الحدیث 1 و 3 .
2- وسائل الشیعة: الباب؟؟؟، من أبواب التکفین، الحدیث 1 و 3 .

ص:459

ثلاثة عشر درهماً من الکافور، وتبدأ بجبهته وتمسح مفاصله»(1).

ومنها: صحیحة زرارة، عن أبی جعفر وأبی عبد اللّه علیهماالسلام ، قال: «إذا جفّفت المیّت عمدت إلی الکافور فمسحت به آثار السجود ومفاصله کلّها..الحدیث»(2).

وفی قِبال هذه الأقوال والأخبار وجود ما یدلّ علی کفایة الوضع والجعل والإمساس فی الحنوط، کما علیه جماعة من الفقهاء، مثل الشیخ فی جمله من کتبه، والحلّی فی «السرائر»، وابن حمزة فی «الوسیلة»، وابن زهرة فی «الغُنیة»، والمصنّف فی نافعه، والعلاّمة فی منتهاه، بل قد صرّح فی «الجمل» و«الوسیلة» باستحباب المسح ، حیث یوصلنا إلی کون الوضع واجباً ، کما یدلّ علیه جملة من الأخبار:

منها: روایة عمّار بن موسی، عن الصادق علیه السلام فی حدیثٍ: «واجعل الکافور فی مسامعه وأثر سجوده منه وفیه.. الحدیث»(3).

ومنها: روایة حمران بن أعین، عنه علیه السلام فی حدیثٍ: «قلت: فالحنوط کیف أصنع به؟ قال: یوضع فی منخره وموضع سجوده ومفاصله.. الحدیث»(4).

ومنها: روایة سماعة، عنه علیه السلام فی حدیث: «ویجعل شیئاً من الحنوط علی مسامعه ومساجده وشیئاً علی ظهر الکفن»(5).

ومنها: روایة عبد الرحمن بن أبی عبد اللّه، قال: «سألت أبا عبد اللّه علیه السلام


1- المستدرک: ج1 الباب 12 من أبواب أحکام الکفن، الحدیث 1.
2- وسائل الشیعة: الباب 16 من أبواب التکفین، الحدیث 6.
3- وسائل الشیعة: الباب 14 من أبواب التکفین، الحدیث 4 و 5 .
4- وسائل الشیعة: الباب 14 من أبواب التکفین، الحدیث 4 و 5 .
5- وسائل الشیعة: الباب 15 من أبواب التکفین، الحدیث 2.

ص:460

عن الحنوط للمیّت، فقال: اجعله فی مساجده»(1).

ومنها: روایة عبد اللّه بن سنان، قال: «قلت لأبی عبد اللّه علیه السلام : کیف أصنع بالحنوط؟ قال: تضع فی فمه ومسامعه وآثار السجود.. الحدیث» (2).

ومنها: روایة حسین بن المختار، عن أبی عبد اللّه علیه السلام ، قال: «یوضع الکافور من المیّت علی موضع المساجد وعلی اللّبة(3)وباطن القدمین.. الحدیث»(4).

بل قد یستفاد ذلک من الأخبار الدالّة علی النهی المتعلّق بالجعل والوضع، بقرینة التقابل والمسّ، مثل :

1 _ روایة عثمان النوا، عن الصادق علیه السلام فی حدیث: «ولا تمسّ مسامعه بکافور.. الحدیث».(5)

2 _ وروایة عبد الرحمن ابن أبی عبد اللّه، عنه علیه السلام ، قال: «لا تجعل فیمسامع المیّت حنوطاً»(6).

3 _ وروایة السکونی ، عنه علیه السلام : «أنّ النبیّ صلی الله علیه و آله نهی أن یوضع علی النعش الحنوط»(7).

4 _ وروایة غیاث بن إبراهیم، عنه، عن أبیه علیهماالسلام : «إنّه کان یجمّر المیّت بالعود فیه المسک وربما جعل علی النعش الحنوط وربما لم یجعله.الحدیث».

هذه جملة الأخبار الدالّة علی الوضع والإمساس والجعل، والنسبة بین هذه الأخبار مع الأخبار السابقة نسبة المطلق والمقیّد، إذ الوضع وما یلیه أعمّ من


1- وسائل الشیعة: الباب 16 من أبواب التکفین، الحدیث 1 و 3
2- وسائل الشیعة: الباب 16 من أبواب التکفین، الحدیث 1 و 3
3- أی المنخر، کما فی الصحاح .
4- وسائل الشیعة: الباب 16 من أبواب التکفین، الحدیث 5 و 2 و 4 .
5- وسائل الشیعة: الباب 17 من أبواب التکفین، الحدیث 1 و 2 .
6- وسائل الشیعة: الباب 17 من أبواب التکفین، الحدیث 1 و 2 .
7- وسائل الشیعة: الباب 17 من أبواب التکفین، الحدیث 1 و 2 .

ص:461

المسح، فتجری فیهما القاعدة من التقیید إذا کانتا مثبتتین فی الحکم الإلزامی، بل یمکن دعوی کون روایة یونس شاهد جمعٍ لذلک، حیث أمر فی صدرها بالمسح بقوله: «وامسح بالکافور»، ثمّ فی ذیلها نهی عن الجعل بقوله: «ولا یجعل فی منخره ولا فی بصره ومسامعه ولا علی وجهه قطناً ولا کافوراً، الحدیث». حیث قد استعمل فیها کلتا المادّتین.

ولا فرق فی وجوب المسح بمقتضی الجمع والتقیید بین الراحة وغیرها من المساجد، خلافاً للشیخ فی «المبسوط» حیث حکم بالمسح فیالاُولی دون غیرها.

البحث عن محلّ وجوب المسح بالکافور

یدور البحث فی المقام عن محلّ وجوب المسح وموضعه: صریح کلام بعض أو ظاهره کالمصنّف وغیره کونه فی المساجد السبعة الذی هو المنصرف إلیها عند الإطلاق، کما هو مقتضی أصل البراءة عند فقد الدلیل والشکّ فی وجوبه، بل دلالة بعض الأخبار علیه؛ مثل ما فی روایة عبد الرحمن من قوله علیه السلام : «اجعله فی مساجده». بل وفی روایة حسین المختار: «یوضع الکافور من المیّت علی موضع المساجد»، وإن ضمّ إلیها غیرها فی هذا الحدیث، ولکن مع ملاحظة ورود النهی عن ذلک فی بعض الأخبار، بضمیمة نقل الإجماع، وعمل الأصحاب فی خلاف الشیخ علی ترک الوضع علی الأنف والاُذن والعین والفم، مع الإجماع المنقول فی «الخلاف» أیضاً علی ترک ما زاد من الکافور، وجعله علی صدر المیّت _ ردّاً علی الشافعی حیث استحبّ مسح جمیع بدنه به _ ینتج کون الواجب هو خصوص المساجد السبعة، خصوصاً مع ملاحظة ضعف سند بعضها، وإعراض الأصحاب عنه عدا النادر منهم.

ص:462

مضافاً إلی موافقتها للعامّة، حیث أوجب حمل بعض الأصحاب کصاحب «الوسائل» وغیره کصاحب «مصباح الفقیه» و«مصباح الهدی» علی التقیّة، فلا إشکال فی غیر المساجد السبعة من عدم الوجوب.

أقول: ولکن الذی ینبغی أن یبحث فیه، هو أن_ّه هل مسح غیر المساجد السبعة من سائر أعضاء المیّت مستحبٌّ، أم یکون مکروهاً أو حراماً، أو یجب التفصیل بین الأنف وغیره من الاستحباب فیه دون غیره؟ وجوهٌ واحتمالات: یظهر من محکی الصدوق أن_ّه یجعل مضافاً إلی أثر السجود _ علی بصره وأنفه ومسامعه وفمه ویدیه ورکبتیه ومفاصله کلّها _ فلا أقلّ من الاستحباب بعد کون الوجوب فیها مخالفاً للإجماع، ولکن لسان الأخبار فی المقام متفاوت، إذ فی بعضها ما یدلّ علی وضع الکافور علی مساجده فقط، من دون تعرّض بالنفی أو الإثبات لغیرها، وهو مثل موثّق عبدالرحمن المتقدّم بقوله: «اجعله فی مساجده».

وفیبعضها من الأمر بالوضع علی ما عدا المساجد أیضاً من دون النهی عنه، وهو مثل المفاصل والراحة والرأس واللّحیة والصدر والعنق واللّبّة _ أی المنخر وموضع القلادة _ والمغابن _ أیالإباط واُصول الأفخاذ کما فی«مجمع البحرین» _ وباطن القدمین، وهو کما فی صحیح الحلبی، ومرسل یونس، وخبر حسین بن المختار وزرارة.

وفی بعضها ما یدلّ علی الأمر بالوضع فی بعض غیر المساجد، مع النهی عن الجعل فی بعضٍ آخر، وهو مثل ما فی «فقه الرّضا» من الأمر بالوضع علی المفاصل کلّها، وإلقاء ما بقی علی صدره وفی وسط راحتیه، ومن النهی عن الجعل فی فمه ومنخره وعینیه ومسامعه ووجهه.

وخبر حمران من الأمر بالوضع فی منخره ومفاصله، ومن النهیعن التقریب

ص:463

إلی الاُذن بقوله: «ولا تقربوا اُذنیه شیئاً من الکافور».

وفی بعضها ما یدلّ علی النهی عن بعض غیر المساجد، من غیر اشتمال علی الأمر بالوضع، وهو مثل ما ورد فی خبر عبد الرحمن بقوله: «ولا تجعل فی مسامع المیّت حنوطاً». ولعلّه متّحدٌ مع الخبر السابق لوحدة الراوی والمرویّ عنه، مع تعدّد طریق النقل، فبناءً علیه یدخل الخبر فیما یشتمل علی کلا الأمرین.

وخبر الکاهلی علی المنقول عن الصدوق، عن الصادق علیه السلام فی حدیث: «إیّاک أن تحشو مسامعه شیئاً، الحدیث»(1).

وروایة السکونی عنه علیه السلام بقوله: «إنّ النبیّ صلی الله علیه و آله نهی أن یوضع علی النعش الحنوط»(2). هذه حال الأخبار، فکیف الجمع بینها؟

الذی ینبغی أن یُقال: إنّه لا إشکال فی وجوب تحنیط المساجد السبعة قطعاً، وهو ممّا لا خلاف فیه، وأمّا ما دلّ علی الأمر بالوضع فی غیرها، ففی بعضها یُحمل علی الاستحباب مثل الأنف کما صرّح به الشیخ المفید والعلاّمة، وزادا علی المساجد طرف الأنف کما عن الحسن والحلبی والقاضی، بل قد یظهر من الثانی أن_ّه لا خلاف فیه کما فی «الجواهر» حیث قال: «مسألة: ثمّ یعمد إلی الکافور الذی أعدّه أوّلاً لحنوطه، فیسحقه بیده، ویضع منه علی مساجده السبعة، وطرف أنفه، فإن فَضُلَ من الکافور شیءٌ کشف قمیصه وألقاه علی صدره، ولا خلاف فی ذلک»، انتهی.

ثمّ علّق علیه صاحب «الجواهر»: «ولعلّهم أخذوه من لفظ المساجد فی


1- وسائل الشیعة: الباب 16 من أبواب التکفین، الحدیث 7.
2- وسائل الشیعة: الباب 17 من أبواب التکفین، الحدیث 1.

ص:464

الأخبار من حیث استحباب إرغامه فی السجود».

وحیث أنّ عبارتهما یوهم الوجوب فی الأنف، قال صاحب «الجواهر»: «ولا ریب فی ضعف الوجوب للأصل، وتبادر السبعة من المساجد من النصّ والفتوی کما هو کذلک، وخلوّ کثیر من الأخبار عن ذکره»، لکن حیث أن_ّه منقول فی بعض الأخبار، مثل ما ورد فی «دعائم الإسلام» من قوله علیه السلام : «جبهته وأنفه ویدیه، الحدیث». وعدم اشتمال الأخبار الناهیة لمثله، فلا یبعد القول بالاستحباب فیه، کما قد یؤیّده صدق المسجد علیه فی بعض الأحیان بلحاظ الإرغام الذی قد ورد فی بعض الأخبار.

وأمّا الکلام فی غیره: من سائر الأعضاء من غیر المساجد والأنف الذی قد وقع فیه الأمر والنهی فی لسان الأخبار، فوجه الجمع بینها لا یخلو عن إشکال، وقد ذکر فیه وجوهٌ لا یخلو ذکرها عن فائدة:

الوجه الأوّل: ما هو المحکیّ عن الشیخ الطوسی رحمه الله من حمل ما تضمّن الأمر بوضع الکافور فی مسامعه، علی أنّ (فی) فی هذه الأخبار مثل خبر زرارة بقوله: «واجعل فی فیه ومسامعه ورأسه، الحدیث». بمعنی (علی)، فیکون مورد الأمر الوضع علی المسامع، ومورد النهی الوضع فیها والحشو فیها، هذا.

ولکنّه ممّا لا یلائم مع ما فی بعض الأخبار من النهی عن مسّ المسامع أو عن التقریب بها، کما ورد الأوّل فی حدیث عثمان بن النوا، والثانی فی خبر حمران کما لا یخفی.

الوجه الثانی: بحمل أخبار النهی علی الکراهة، کما احتمله صاحب «وسائل الشیعة»، وهو وإن کان ممکناً إذا قامت القرینة علیه، إلاّ أن_ّه لا یجتمع مع الأمر بالوضع حیث أنّ مقتضی الأمر لولا الوجوب کان أقلّه الرجحان، فکیف تجمع

ص:465

الکراهة مع الرجحان؟ فلازم الحمل علی الکراهة هو رفع الید عن ظاهر الأخبار الآمرة بالوضع، وهو کما تری .

الوجه الثالث: حمل الأخبار الآمرة بالوضع علی التقیّة؛ أی کون التقیّة فی استعمال الأمر فی تلک الموارد لا التقیّة بمعنی الأمر بالمأمورین بالعمل بالتقیّة، فالمأمور به باقٍ علی ما هو الواقع من الحکم له، وحینئذٍ فیمکن الجمع بینهما بحمل أخبار الناهیة علی الکراهة ، وأنّ الحکم الواقعی هو مرجوحیّة الفعل فی الواقع مکان تعلّق الأمر به للتقیّة ، فحینئذٍ یناسب هذا الجمع مع ما ذهب إلیه المشهور من الکراهة.

أقول: ولعلّ هذا الجمع هو الأحسن، لو ثبت کون مذهب العامّة وعملهم علی جعل الکافور فی تلک المواضع، وکونه مخالفاً لظهور الأخبار الناهیة، حیث أنّ ظهورها فی التحریم _ کما نُسب إلی المحقّق الآملی فی «مصباح الفقاهة»، وکذلک جعل الحمل علی الکراهة مخالفاً للاحتیاط، لیس علی ما ینبغی، خصوصاً مع ملاحظة ذهاب بعض إلی استحباب ذلک، کما یومی إلیه کلام صاحب «الجواهر»، وعلیه فالقول بالکراهة فیها کما علیه المشهور لا یخلو عن وجه، فالأوجه هو ترک التطیّب فضلاً عن الوضع علیها.

فی أحکام الأموات / مقدار الکافور فی الحنوط

وأمّا وجوب وضع الزائد علی الصدر أو تحنیطه، فهو مقتضی إجماع المنقول عن الشیخ رحمه الله مع نفی الخلاف عنها العلاّمة فی «المنتهی» کما هو مقتضی دلالة بعض الأخبار مثل ما ورد فی «فقه الرّضا» وغیره مشکلٌ، لا لأجل ما قاله صاحب «الجواهر» رحمه الله بقوله بعد نقل الإیجاب: «لکنّه لا یخفی علیک ضعفه إن أراداه سیّما الأوّل، بل ینبغی القطع بعدم إرادتهما له لإناطتهما له بالزیادة الغیر

ص:466

بما تیسّر من الکافور(1).

اللاّزمة، فتأمّل جیّداً»، انتهی(1).

لوضوح أنّ القائل به یقول بشرط وجود الزائد لا مطلقاً حتّی یرد علیه بذلک، بل الإشکال فی وجوبه من جهة عدم قیام دلیل معتدّ به علی الوجوب إلاّ مثل الخبر المرویّ فی « فقه الرّضا » والإجماع المنقول المذکور ، ولکن مع ذلک کلّه الأحوط بل الأقوی العمل به کما یظهر ذلک من کلام السیّد فی « العروة »، واللّه العالم.

(1) فی هذه المسألة اُمور :

الأمر الأوّل: فی بیان المقدار الواجب من الکافور: یوجد اختلافٌ شدید فی الفتاوی فی تحدید ما یجب من الکافور المستعمل، تبعاً للاختلاف الثابت فی لسان الأدلّة والنصوص، وعلی أیّة حال ففی المسألة أقوال:

1 _ القول الأوّل: المشهور بین الفقهاء لا سیّما المتأخّرین منهم قدّس اللّه أسرارهم هو القول بکفایة المسمّی، ولو کانت القلّة بمثقال أو بأزید من المثقال والدرهم ، بل لا تقدیر للمقدار الواجب عندهم ، وحملوا النصوص المشتملة علی الأزید من ذلک، الظاهرة فی الوجوب، علی الفضل والاستحباب، مستدلّین فی ذلک بالأصل، إذ هو المرجع عند فقد الدلیل، وبعد التساقط نتیجة التعارض، أو عند عدم وجوده للضعف فیسنده أو فیدلالته، کما ادّعی ذلک هنا،والظاهر کون المراد من الأصل هو البراءة عن الوجوب عقلاً وشرعاً،بعد فرض فقدان الدلیل


1- جواهر الکلام: ج4/181.

ص:467

الاجتهادی. مضافاً إلی إطلاق کثیرٍ من الأدلّة، وقصور أکثرها فیما دلّ علی التقدیر سنداً أو دلالةً عن إفادة الوجوب، مع التصریح فی بعضها بالفضل الدالّ علی الاستحباب، واختلاف بعضها بل جمیعها فی المقادیر قلّةً وکثرة، الموجب لاختلاف فتاوی الأصحاب فیها .

ولأجل ذلک حملوها علی الاستحباب، وإن کان ظاهر بعضها لا یأبی عن الدلالة علی الوجوب، ولکن لا تصریح فیه، ولذا یشاهد دعوی بعضهم نفی الخلاف علی عدم الوجوب. وفی «الریاض»: «أن_ّه لیس محلّ خلاف یُعرف»، بل قد یدّعی کونه داخلاً تحت معقد جملة من الإجماعات، وعلیه فلا بأس هنا بذکر کلام المحقّق فی «المعتبر» قدس سره حیث یقول: «أقلّ المستحبّ من کافور الحنوط درهم، وأفضل منه أربعة دراهم، وأکمل منه ثلاثة عشر درهماً وثلاث، کذا ذکره الخمسة _ وهم الصدوق ووالده، والمفید، والمرتضی، والشیخ الطوسی قدس سرهم _ وأتباعهم، ثمّ لا أعلم للأصحاب فیه خلافاً».

حیث یظهر من کلامه عدم الخلاف فی استحبابه فی مقدار الأقلّ من درهم.

2 _ القول الثانی: وهو لصاحب «الحدائق» رحمه الله حیث قال فی معرض ردّه علی المحقّق رحمه الله : «نعم، ما ذکره فی «المعتبر» فی الأقلّ من أن_ّه درهم لم أقف له علی دلیل، والذی فی الأخبار إنّما هو مثقال کما فی عبارة کتاب الفقه، ومرسلة ابن أبی نجران الاُولی، أو مثقال ونصف کما فی مرسلته الثانیة، وعبارة کتاب الفقه الثانیة)، انتهی(1).

فهو أحد الأقوال فی المسألة، فیکون قولاً ثانیاً بالنسبة إلی القول بالمسمّی.


1- الحدائق: ج4 / 26 .

ص:468

3 _ القول الثالث: للصدوق، وهو المثقال فی جانب الأقلّ.

4 _ القول الرابع: وهو المنقول عن الجُعفی من المثقال وثُلث، لکن قیل إنّه لم نقف علی دلیله.

5 _ القول الخامس: فی طرف الأکثر لابن البرّاج من التحدید بثلاثة عشر درهماً ونصف، لکن لم یرد علی وفقه دلیل.

فهذه هی الأقوال فی المسألة، والأقوی والأظهر ما علیه المشهور، کما ورد فی المتن وهو أن_ّه یجب بما تیسّر من الکافور، الصادق علی المسمّی، ویُحمل الزائد علی الأفضلیّة کما یدلّ علیها لسان بعض الأخبار.

الأمر الثانی: هو ذکر الروایات الواردة فی المقام وهی عدیدة:

منها : مرفوعة الکلینی ، عن علی بن إبراهیم، عن أبیه، رفعه قال : «السُنّة فی الحنوط ثلاثة عشر درهماً وثلث أکثره، وقال : إنّ جبرئیل علیه السلام نزل علی رسول اللّه صلی الله علیه و آله بحنوط وکان وزنه أربعین درهماً، فقسّمها رسول اللّه صلی الله علیه و آله ثلاثة أجزاء؛ جزء له وجزء لعلیّ وجزء لفاطمة»(1).

ومنها: ما رواه الصدوق، قال: «إنّ جبرئیل أتی النبیّ صلی الله علیه و آله بأوقیة کافور من الجنّة، والأوقیة أربعون درهماً، فجعلها النبیّ صلی الله علیه و آله ثلاثة أثلاث؛ ثُلثاً له وثُلثاً لعلیّ وثُلثاً لفاطمة»(2).

ومنها: ما رواه فی «العلل»، عن أبیه، ومحمّد بن الحسن، بإسناده عن ابن سنان، یرفعه قال: «السُّنة فی الحنوط ثلاثة عشر درهماً وثلث»(3).

قال محمّد بن أحمد: «ورووا أنّ جبرئیل نزل علی رسول اللّه صلی الله علیه و آله بحنوط


1- وسائل الشیعة: الباب 3 من أبواب التکفین، الحدیث 1 و 6 و 7.
2- وسائل الشیعة: الباب 3 من أبواب التکفین، الحدیث 1 و 6 و 7.
3- وسائل الشیعة: الباب 3 من أبواب التکفین، الحدیث 1 و 6 و 7.

ص:469

وکان وزنه أربعین درهماً فقسّمه رسول اللّه صلی الله علیه و آله ثلاثة أجزاء؛ جزء له وجزء لعلیّ وجزء لفاطمة علیهم السلام »(1).

ومنها: خبر علیبن عیسی فی «کشف الغمّة» قال: «رُوی أنّ فاطمة علیهاالسلام قالت: إنّ جبرئیل أتی النبیّ صلی الله علیه و آله لمّا حضرته الوفاة بکافور من الجنّة فقسّمه أثلاثاً؛ ثلثاً لنفسه وثلثاً لعلیّ وثلثاً لی، وکان أربعین درهماً»(2).

ومنها: خبر علی بن موسی بن طاووس فی کتاب «الطُرَف»، عن عیسی بن المستفاد، عن أبی الحسن موسی بن جعفر علیهماالسلام ، عن أبیه، قال: «قال علیّ بن أبی طالب علیه السلام : کان فی الوصیّة أن یدفع إلیَّ الحنوط، فدعانی رسول اللّه صلی الله علیه و آله قبل وفاته بقلیل فقال: یا علیّ ویا فاطمة هذا حنوطی من الجنّة دفعه إلیَّ جبرئیل، وهو یقرءکما السلام ویقول لکما أقسماه واعزلا منه لی ولکما، فلی ثُلثه، ولیکن الناظر فی الباقی علیبن أبیطالب علیه السلام ، فبکی رسول اللّه صلی الله علیه و آله وضمّها إلیه، وقال: یا علیّ قل فی الباقی، قال: نصف ما بقی لها والنصف لمن تری یا رسول اللّه صلی الله علیه و آله ؟ قال: هو لک فاقبضه»(3).

فهذه خمس روایات مفادهاواحد وهو أنّ الحنوط النازل من الجنّة کان أربعین درهماً، فیکون تثلیثه بثلاثة عشر درهماً وثلث، وکان الصریح فی مرفوعة الکلینی وابن سنان أنّ السُّنة فیالحنوط کذا، حیث لایبعد کون المقصود هو الاصطلاحیأی الاستحباب، وهی إذا انفردت عن مقابلتها مع الغرض تکون ظاهرة فیالاستحباب.


1- وسائل الشیعة: الباب 3 من أبواب التکفین، الحدیث 8 .
2- وسائل الشیعة: الباب 3 من أبواب التکفین، الحدیث 10.
3- وسائل الشیعة: الباب 3 من أبواب التکفین، الحدیث 10.

ص:470

نعم، قد یطلق علی ما سَنّه رسول اللّه صلی الله علیه و آله أی فرضه فی مقابل ما فرضه اللّه تعالی، لکنّه یحتاج إلی قرینة دالّة علیه، وهی هنا مفقودة.

أقول: ثمّ إنّ المراد من الحنوط فی هذه الأخبار، هو الکافور المستعمل فی تطییب المیّت بعد غسله، وإرادة الأعمّ منه وممّا یُستعمل فی الغُسل مخالفٌ لظاهر إطلاق هذا اللّفظ فی المحاورات، وإن ادّعی ظهوره فی ذلک أیضاً .

نعم، یلزم علی ما بیّناه کون الکافور اللاّزم فی الماء للغُسل کافوراً آخر غیر ذلک، أی غیر ما نزل به جبرئیل علیه السلام ، ولا یخلو عن بُعدٍ .

وأیضاً: من الأخبار الدالّة علی التقدیر مرسل ابن أبی نجران، عن بعض أصحابه، عن أبی عبد اللّه علیه السلام ، قال: «أقلّ ما یجزی من الکافور للمیّت مثقال»(1).

قال الکلینی: وفی روایة الکاهلی وحسین بن المختار عن أبی عبد اللّه علیه السلام ، قال: «القصد من ذلک أربعة مثاقیل»(2).

وفی «الحدائق»: «والمراد من القصد یعنی الحدّ الوسط بین الأقلّ والأکثر، والاقتصاد فی الاُمور سلوک سبیل الوسط».

وروی الشیخ فی الحَسَن عن عبد اللّه بن یحیی الکاهلی، والحسین بن المختار، عن الصادق علیه السلام : «القصد من الکافور أربعة مثاقیل»(3).

وروایة اُخری مرسلة لابن أبی نجران، عن بعض رجاله، عن أبی عبد اللّه علیه السلام ، قال: قال: «أقلّ ما یُجزی من الکافور للمیّت مثقال ونصف»(4).

وفی الروایة الواردة فی «فقه الرّضا» فی موضعٍ منه قال: «التحنیط بوزن ثلاثة عشر درهماً وثلث، وإن لم یقدر علی هذا المقدار فأربعة دراهم، وإن لم یقدر


1- وسائل الشیعة: الباب 3 من أبواب التکفین، الحدیث 2 و 3 و 4 و 5 .
2- وسائل الشیعة: الباب 3 من أبواب التکفین، الحدیث 2 و 3 و 4 و 5 .
3- وسائل الشیعة: الباب 3 من أبواب التکفین، الحدیث 2 و 3 و 4 و 5 .
4- وسائل الشیعة: الباب 3 من أبواب التکفین، الحدیث 2 و 3 و 4 و 5 .

ص:471

فمثقال لا أقلّ من ذلک لمن وجده».

إلاّ أن_ّه قال فی موضعٍ آخر منه: «إذا فرغت من غُسله، حنّطته بثلاثة عشر درهماً وثلث درهم کافوراً تجعل فی المفاصل ولا تقرب السمع والبصر وتجعل فی موضع سجوده، وأدنی ما یجزی من الکافور مثقال ونصف».(1)

هذا مجموع ما وصل إلینا من النصوص، وأنت تری وتعلم قیام الاختلاف الشدید بینها فی المقدار حتّی فی مرحلة أقلّ ما یجزی بین کونه بمثقال لمن وجده إن لم یقدر علی أربعة دراهم، وبین کونه مثقال ونصف کما فی مرسل ابن أبی نجران و«فقه الرضا».

کما أنّ أربعة دراهم قد ورد تارةً لمن لا یقدر علی ثلاثة عشر درهماً وثلث، واُخری للقصد أو الفضل کما فی خبر الکاهلی وحسین بن المختار.

نعم، لا اختلاف فی کون الأکثر هو ثلاثة عشر درهماً وثلث، إلاّ أنّ الاختلاف قد وقع فی کون هذا المقدار فی ناحیة الأکثر بالوجوب کما فی مطلقات بعض الأخبار مثل ما ورد فی«فقه الرضا» بقوله: «التحنیط بوزن ثلاثة عشر درهماً وثلث»، ثمّ علّق الأقلّ منه علی عدم القدرة علیه، وکما فی مرسل الصدوق وکتاب «الطُرَف» للسیّد ابن طاووس.

أو أنّ بالنسبة إلی الثلث کما ورد التصریح بذلک فی خبری مرفوع «الکافی» وابن سنان بقولهما: «السنّة فی الحنوط ثلاثة عشر درهماً وثلث أکثره».

ولأجل ذلک حملها الأصحاب علی الاستحباب، بل الظاهر عدم التصریح من أحد علی الوجوب، وإن کان ظاهر بعضهم لا یأباه، بل ادّعی بعضهم بلا خلاف


1- «فقه الرّضا»: ص20 .

ص:472

یُعرف فیه کما عن «الریاض»، بل ربما یُدّعی دخوله تحت معقد جملةٍ من الإجماعات، فیکون المراد من الأخبار هو حصول المسمّی بالحنوط، ولعلّه یحصل ذلک بمثقال أو به والنصف، فالأکثر منه یکون محمولاً علی مراتب الفضل وهو المختار کما ورد فی المتن من قوله: «بما تیسّر من الکافور».

الأمر الثالث: فی أنّ هذه المقادیر هل هی لخصوص الحنوط الواقع بعد الغُسل، أو أن_ّه له وللغُسل؟

فقد یؤیّد الأوّل ورود التعبیر بالتحنیط والحنوط حیث لا یطلق ذلک إلاّ لخصوصه دون الغسل، هذا کما فی خبر «الکافی» وابن سنان و«فقه الرّضا»، وفی موضع آخر من الأخیر قال: «إذا فرغت من غُسله حنّطه بثلاثة عشر درهماً وثلث درهم کافور»، وکذلک فی خبر «الطُرف»، هذا کما علیه المشهور حیث یقولون بأنّ الکافور الذی یُمزج بماء الغُسل خارجٌ عن هذا المقدار الذی ورد فی الحنوط، خلافاً لما حکاه فی «السرائر» عن بعض الأصحاب من مشارکة الغُسل مع الحنوط فی ذلک المقدار، ولم یعرف ذلک البعض الذی حکاه عنه، ومالَ إلیه بعض المتأخّرین، وکذا لصاحب «مصباح الفقیه» بعض المیل إلیه، وقد یؤیّد ذلک بل یُستدلّ علیه بإطلاق ما دلّ علی هذا التقدیر للمیّت من غیر تعرّض لخصوص تحنیطه، حیث یشمل بعمومه لما یمزج بماء الغُسل أیضاً، مع إمکان دعوی استبعاد کون تغسیل النبیّ صلی الله علیه و آله بکافور آخر غیر الذی نزل به جبرائیل علیه السلام ، بل فی «مصباح الفقیه» دعوی ظهوره فی العموم، ومنع انصرافه إلی خصوص الحنوط، کما یشهد لذلک إطلاق الحنوط فی جملةٍ من الأخبار علی مطلق الکافور.

أقول: لکن الأقوی عندنا ما علیه المشهور، لانسباق الحنوط عند إطلاقه إلی ما یُستعمل بعد الغُسل، ولا ینافی مع إطلاقات بعض النصوص، لإمکان إجراء

ص:473

إلاّ أن یکون المیّت مُحْرِماً فلا یُقرّبه الکافور(1).

قاعدة الإطلاق والتقیید، خصوصاً بعد التصریح بالبُعدیّة والفراغ فی «فقه الرّضا» المنجبر ضعفه بفتوی المشهور، بل المسألة قریبة بالإجماع، ولم ینقل مخالف صریح فیها، یحتمل اندراجها فی معقد إجماع «الغنیة» و«المعتبر»، ولا نسلّم استبعاد وجود کافورٍ آخر لتغسیل النبیّ صلی الله علیه و آله وغیره، خصوصاً مع التصریح بالحنوط فی أخباره الذی لا یطلق إلاّ لما یستعمله بعد الغُسل کما لا یخفی.

فی أحکام الأموات / عدم جواز تحنیط المحرم بالکافور

الأمر الرابع: فیأنّ المحکیّعن الصدوق رحمه الله فیالحدّ الأوسط هو أربعة مثاقیل، کما هو المحکیّ عن ابن الجُنید أیضاً، ویدلّ علیه خبر الکاهلی والحسین ابن المختار، حیث قد وقع التعبیر بالقصد من ذلک أو الفضل من ذلک بأربعة مثاقیل، لکن المروی عن «فقه الرّضا» أربعة دراهم، مع أنّ الأولی أصرح وأکثر من الثانی، ولعلّه لذلک أوجب ذهاب الحلّی رحمه الله إلی تفسیر المثاقیل الواردة فی الأخبار بالدراهم، مع أنّ المشهور علی خلاف ذلک، کما هو الأقوی، ولأجل ذلک یمکن العمل بکلا القسمین من الأخبار حملاً للاستحباب علی مراتب الفضل، وعلیه فیکون الأخذ بأربعة مثاقیل أفضل من أربعة دراهم، کما لا یخفی .

(1) لا إشکال فی أنّ التحنیط واجبٌ لکلّ میّت من الرِّجال والنساء، ولا یخرج عن هذا الحکم إلاّ طائفة واحدة وهو ال_مُحْرِم، حیث لا یجوز أن یقرّب إلیه الکافور مطلقاً، فی الغُسل ولا فی غیره من التطیّب، وهذا حکمٌ ثابتٌ لا خلاف أجده فیه کما فی «الجواهر»، وکما اعترف به فی «المنتهی» و«جامع المقاصد»، بل فی «الخلاف» و«الغنیة» دعوی الإجماع علی عدم تطیّبه بالکافور وبغیره من الطیب، ویکون إطلاق ذلک کإطلاق النصوص فی عدم الفرق بین الغُسل وغیره،

ص:474

بل تصریح بعض الفقهاء بذلک مستتبعاً بدعوی الإجماع کما فی «جامع المقاصد» حیث حکاه تعقیباً علی عبارة «القواعد»: «ولا یجوز تقریبهما _ أی الکافور والذریرة _ ولا غیرهما من الطیب فی غُسلٍ ولا حنوط».

کما أن_ّه نسبها فی «کشف اللّثام» إلی المعروف بین الأصحاب، خصوصاً بالنظر إلی بعض النصوص الصحیحة، کالخبر الذی رواه ابن مسلم من النهی عن التقریب بالطیب، الشامل والصادق لما یُمزج فی ماء الغُسل أیضاً.

وعلیه، فما عن شیخنا المرتضی الأنصاری قدس سره من أن_ّه لولا الإجماع علی عدم جواز تغسیله بماء الکافور لأمکن الخدشة فیه، ممّا لا یمکن المساعدة معه .

وبالجملة: فالدلیل علی ذلک _ مضافاً إلی الإجماع وعمل الأصحاب _ قیام نصوص مستفیضة إن لم تکن متواترة علیه:

منها: صحیح عبد الرحمن بن أبی عبد اللّه، قال: «سألتُ أبا عبد اللّه علیه السلام عن ال_مُحرم یموت کیف یصنع به ؟ قال : إنّ عبد الرحمن بن الحسن مات بالأبواء مع الحسین علیه السلام وهو مُحْرِمٌ ومع الحسین علیه السلام عبد اللّه بن العبّاس وعبد اللّه بن جعفر، وصنع به کما یُصنع بالمیّت ، وغطّی وجهه ولم یمسّه طیباً، قال: وذلک فی کتاب علیٍّ علیه السلام »(1).

ومنها: صحیح محمّد بن مسلم، عن أبی جعفر علیه السلام ، قال: «سألته عن ال_مُحْرِم إذا مات کیف یصنع به؟ قال: یُغطّی وجهه ویُصنع به کما یصنع بالحلال غیر إنّه لایقربه طیباً»(2).

فإنّ النهی عن تقریب الطیب یشمل حتّی لما یخرج فی ماء الغسل، لو لم ندّع


1- وسائل الشیعة: الباب 13 من أبواب الغسل، الحدیث 1 و 4.
2- وسائل الشیعة: الباب 13 من أبواب الغسل، الحدیث 1 و 4.

ص:475

ظهور لفظ المسّ فی الروایة الاُولی بالنفی فیه أیضاً، فعلیه یمکن التمسّک بما ورد فی الروایة المضمرة المرویّة عن سماعة، قال: «سألته عن ال_مُحْرِم یموت؟ فقال: یُغسّل ویُکفّن بالثیاب کلّها ویغطّی وجهه ویُصنع به کما یُصنع بالمُحِلّ، غیر أن_ّه لا یمسّ الطیب»(1).

ومثل الروایة الاُولی فی المضمون روایة عبد اللّه بن سنان(2).

ومنها: روایة أبی مریم، عن أبی عبد اللّه علیه السلام ، قال: «خرج الحسین بن علیّ وعبد اللّه وعبید اللّه ابنا العبّاس وعبد اللّه بن جعفر ومعهم ابنٌ للحسین یُقال له عبد الرحمن فمات بالأبواء وهو مُحْرِم، فغسّلوه وکفّنوه ولم یحنّطوه، وخمّروا وجهه ورأسه ودفنوه»(3).

هذا مشتمل علی النهی عن التحنیط، فربّما یمکن أن یقال بعدم شموله لما یُمزج فی ماء الغسل، لکن ساکتٌ عنه، فیمکن دخوله فی الأدلّة السابقة بلا معارض له، ومثله خبره الآخر(4).

هذا بخلاف الأخبار الواردة الناهیة عنه وعن المسّ :

منها: خبر ابن أبی حمزة، عن أبی الحسن علیه السلام : «فی ال_مُحْرِم یموت؟ قال: یُغسّل ویُکفّن ویغطّی وجهه ولا یحنّط ولا یمسّ شیئاً من الطیب»(5).

حیث بإطلاقه یشمل الکافور وغیره من أنواع الطیب.

ومنها: خبر یحیی بن عمّار، عن أبی عبد اللّه علیه السلام ، قال: «سألته عن المرأة ال_مُحرِمة تموت وهی طامث؟ قال: لا تمسّ الطیب وإن کنّ معها نسوة حلال».


1- وسائل الشیعة: الباب 13 من أبواب الغسل، الحدیث 2 و 3 و 5 .
2- وسائل الشیعة: الباب 13 من أبواب الغسل، الحدیث 2 و 3 و 5 .
3- وسائل الشیعة: الباب 13 من أبواب الغسل، الحدیث 2 و 3 و 5 .
4- وسائل الشیعة: الباب 13 من أبواب الغسل المیّت، الحدیث 8 و 7 و 9.
5- وسائل الشیعة: الباب 13 من أبواب الغسل المیّت، الحدیث 8 و 7 و 9.

ص:476

وهذه الأخبار کما عرفت تمامیّة دلالتها علی النهی عن التقریب والتحنیط والمسّ بالطیب، کذلک تدلّ علی جواز تغطیة وجه المیّت ال_مُحْرِم ورأسه، فلا یمکن القول بعدم جواز التغطیة للرأس أو لبسهما کما صدرَ عن السیّد والحسن بن أبی عقیل والجُعفی بالنسبة إلی الأوّل مستدلاًّ بأنّ النهی عن الطیب دلیلٌ علی بقاء إحرامه، وبقول الصادق علیه السلام فی مرسل الصدوق: قال: «قال الصادق علیه السلام : من مات محرماً بعثه اللّه ملبّیاً».(1)

وتمسّکاً بما روی عن ابن عبّاس أنّ مُحْرِماً وقصت به ناقته فذکر ذلک للنبیّ صلی الله علیه و آله وسلم فقال: «اغسلوه بماءٍ وسدر وکفّنوه ولا تمسّوه طیباً ولا تخّمروا رأسه فإنّه یُحشر یوم القیامة مُلبّیاً»(2).

أقول: لا شیء من هذه الاُمور قابلٌ للإثبات: فأمّا عن الأوّل: فهو اجتهادٌ فی مقابل النصّ لما قد عرفت تصریح الأئمّة علیهم السلام بالجواز فی حقّ المیّت ال_مُحْرِم من تغطیة الوجه والرأس، مع النهی عن التطیّب.

وأمّا عن الثانی: فلا یفید المنع بعد تصریحهم بالجواز، لأنّ غایته إثبات کونه محرِماً، مع أن_ّه لازم أعمّ، لإمکان کون المنع فی ذلک مختصّاً بالحیّ دون المیّت.

فأمّا عن الثالث: لأن_ّه لم یرد ولم یثبت عندنا، مع أن_ّه عاجز عن المقاومة مع ما ورد من طرقنا من التجوّز.

وعلیه، فما ذهب إلیه السیّد ومن تبعه غیر مقبول عندنا.

قلنا: لا یخفی علیک أنّ بعض هذه الأخبار وإن کان فیه ما یُحمل علی کون


1- وسائل الشیعة: الباب 13 من أبواب الغسل المیّت، الحدیث 6 .
2- صحیح البخاری 2: 96، صحیح مسلم 2: 865 / 94، سنن ابن ماجه 2: 1030 / 3084، سنن أبی داود 3: 219 / 2238، سنن النسائی 5: 195، سنن البیهقی 3: 392.

ص:477

المراد من ال_مُحرِم هو المُحرِم بإحرام العمرة لا الحجّ، إلاّ أنّ إطلاق بعضٍ آخر مثل خبر ابن مسلم وسماعة وابن أبی حمزة وإسحاق بن عمّار یشمل کلیهما، کما أنّ إطلاقها أیضاً یشمل جمیع أقسام العمرة مفردة کانت أو غیرها ومن الحجّ کذلک.

کما أنّ ظاهر هذه الأخبار کون الموت حال الإحرام ولم یخرج منه، فلابدّ أن یکون الموت قبل طواف الزیارة، لأنّ تحریم الطیب یزول به، فلا فرق فی هذا الحکم بین کون الموت قبل الحلق أو التقصیر أو بعدهما قبل طواف الزیارة، ویحتمل أن یکون الحکم دائراً مدار قبل الحلق أو التقصیر لا بعده، لخروجه فی الثانی عن صورة المحرمین بلبسه وأکله ما لا یلبسه ولا یأکله المحرم.

وللاقتصار فی الخروج عن عموم حکم الغسل بالکافور والتحنیط به علی القدر المتیقّن منه، بعیدٌ جدّاً، لصدق ال_مُحْرِم علیه شرعاً، فالحکم بالجواز یحتاج إلی دلیل مخرجٍ عن تلک الأدلّة وهو غیر موجود، فخروجه عن بعض المحرّمات الذی کان غیر مربوط بالطیب لا یوجبُ الحکم بالخروج عمّا هو مربوط بالطیب کما لایخفی.

کما یؤیّد ذلک ما لو مات بعد طواف الزیارة، الموجب خروجه عن حرمة مسّ الطیب حیّاً، فإنّ ذلک لا یوجب حرمة استعمال الطیب علیه، بل یجب له ما کان واجباً للمُحِلّ وإن صدق علیه ال_مُحْرِم بالنسبة إلی النساء مثلاً؛ لأن_ّه غیر مربوط بما نحن بصدده، ولأن_ّه إذا کان الطیب له حلالاً فی حال الحیاة، فبعد الموت یکون بطریقٍ أولی، واحتمال کون الحکم مدار صدق المحرم علیه فی الجملة ولو من غیر ناحیة الطیب بعیدٌ جدّاً، فالأولی حینئذٍ القول بالخروج عن العمومات هنا بما هو المتیقّن فی البین کما لا یخفی، وهو مختار العلاّمة فی «النهایة» واستقربه صاحب «الجواهر» قدس سره .

فی أحکام الأموات / مقادیر الفضل فی کافور الحنوط

ص:478

وأقلّ الفضل فی مقداره درهم(1).

وأخیراً: هل یُلحق بال_مُحْرِم کلّ من کان استعمال الطیب له حراماً من المعتدة للوفاة والمعتکف أم لا ؟

الظاهر هو الثانی، لما قد عرفت من لزوم العمل بالعمومات الأوّلیّة حتّی یرد دلیل محکم متقن علی خلافه کما فی المیّت المحرم، فإجراء هذا الحکم لغیره بمحرم، وکون الطیب لهم حراماً فی حال الحیاة، لا یوجب ذلک، خصوصاً مع ملاحظة بطلان القیاس عندنا وکونه مخالفاً للدلیل والأصل، مع أنّ الاعتداد والاعتکاف یبطلان بالموت، فلا یبقی حکمهما لما بعد الموت، کما لایخفی.

(1) قد عرفت کون ذلک فی الحنوط فقط لا هو مع الغُسل کما هو ظاهر المصنّف والأکثر، وصریح جماعةٍ، خلافاً لما حکاه فی «السرائر» عن بعض الأصحاب ولم یعرف من هو، ومالَ إلیه بعض المتأخّرین، وقد عرفت قوّة القول الأوّل کما علیه صاحب «الجواهر» حیث قال: «لکن الأحوط بل الأقوی القول بالاختصاص، سیّما بالنسبة إلی مقدار الوسط والأقلّ». وعلیه، فلا تحتاج المسألة للبحث عنها أکثر من هذا .

کما لا إشکال فی کون الأقلّ فی الفضل هو الدرهم، فمتی نقص عنه کان هو مسمّی الواجب، وإلاّ لم یشاهد له فی الأخبار شیءٌ، لأنّ ما فی الأخبار فی طرف الأقلّ لا یکون إلاّ مثقال أو هو مع نصف، اللّهُمَّ إلاّ أن یثبت ما ادّعاه العلاّمة فی «المنتهی» أنّ المراد بالمثقال هنا الدرهم نحو ما ادّعاه فی «السرائر» بالنسبة إلی مقدار الوسط بأربعة دراهم، حیث قال: «وفی بعض الکتب مثاقیل والمراد بها الدراهم»، وعلّل الشهید رحمه الله فی «الذکری» ما فی «السرائر» بالنظر إلی

ص:479

وأفضل منه أربعة دراهم(1). وأکمله ثلاثة عشر درهماً وثُلث(2).

قول الأصحاب، لکن طالبه السیّد ابن طاووس بالمستند، وفی «الجواهر»: «وهو فی محلّه؛ لأنّ المثقال الشرعی علی ما قیل درهم وثلاثة أسباع الدرهم، فالدرهم نصف المثقال وخُمسه، ولذا کانت العشرة دراهم سبعة مثاقیل شرعیّة، والصیرفی علی ما قیل مثقال وثلث من الشرعی».

أقول: فظهر من ذلک کلّه أنّ تحدید الأقلّ بالدرهم لا مستند له إلاّ ما عرفت من کونه هو الطرف الآخر بعده بالمسمّی الواجب، فیکون الدرهم حینئذٍ أقلّ من المثقال، فیکون الثانی بالنسبة إلیه فی طرف الأفضل لکونه أکثر کما لایخفی.

(1) وهو أیضاً مثل سابقه فی عدم وروده فی الأخبار من حیث العدد، إلاّ فی روایة واحدة مرویّة فی کتاب «فقه الرضا» حیث قال: «إن لم یقدر علی مقدار الأکثر فأربعة دراهم»، وإلاّ فالموجود فی الأخبار هو أربعة مثاقیل کما فی حسن الکاهلی والخبر الذی رواه حسین بن المختار، فالکلام فیه کما فی سابقه، فلا نعید.

(2) وهذا کما عرفت وروده فی الأخبار الکثیرة، وبیّناها مفصّلاً، مضافاً إلی الإجماع المنقول فی «الخلاف» وغیره، المؤیّد بنفی الخلاف المنقول عن «المعتبر»، فیکون مقتضی الجمع بین جمیع الأخبار، هو حمل الحنوط فیها علی مراتب الفضل، وأن تکون المرتبة العلیا هی هذه، والمرتبتان هو ما عرفت.

وعلیه، فما هو المنقول عن ابن البرّاج من تحدید الأکثر بثلاثة عشر درهماً ونصف، مخالف لما علیه الأصحاب ودلالة الأخبار.

کما أنّ ما قاله صاحب «الحدائق» _ من الإشکال بحمل الأخبار علی مراتب الفضل والاستحباب، وأنّ الواجب الاجتزاء بالمسمّی _ : «بأنّ هذه الأخبار

ص:480

وعند الضرورة یُدفن بغیر کافور(1).

ظاهرة فی الوجوب وأن_ّه لا یصار إلی العلیا إلاّ مع تعذّر الوسطی ولا إلی الدُّنیا إلاّ مع تعذّر الوسطی» کما ورد التصریح به فی الروایة المرویّة فی «فقه الرّضا».

غیر وجیه بعدما عرفت الاختلاف الشدید فی الأخبار حتّی فینفس الروایة المذکورة فی «فقه الرضا» بنقل آخر وفی موضع غیره، ومخالفته مع إجماع الأصحاب، حیث قام علی ما بیّناه.

وبالتالی فالمسألة واضحة لا تحتاج ببیان أزید ممّا مرّ، واللّه العالم.

(1) لأن_ّه من الواضح أنّ وجوب الحنوط ولو بالمسمّی من الکافور، ثابت عند التمکّن والاختیار، وإلاّ مع العجز یسقط ویدفن بغیر کافور، بلا فرق بین کون الضرورة شرعیّة کما فی المُحْرِم، أو عقلیّة کما فی غیره، مع عدم إمکان تحصیل الکافور للحنوط، إذ لا بدل له شرعاً حتّییقوم مقامه، مضافاً إلی الإجماع المحکیّ عن «التذکرة» کما هو مقتضی الأصل، بل وخلوّ الأدلّة عن ذکر بدل له، کما أنّ ظاهر الأدلّة حصر الحنوط بالکافور، إذ ورد التصریح بذلک فی بعض الأخبار:

منها: الخبر المرویّ عن ابن المغیرة، عن غیر واحدٍ، عن أبی عبد اللّه علیه السلام ، قال: «الکافور هو الحنوط»(1).

ومنها: روایة داود بن سرحان، قال: «قال أبو عبد اللّه علیه السلام : فی کفن أبی عبیدة الحذّاء: إنّما الحنوط الکافور»(2).

ومثله روایته الاُخری الواردة فیها قوله: «واعلم أنّ الحنوط هو الکافور».(3)

فی أحکام الأموات / تطییب المیّت بغیر الذریرة والکافور


1- وسائل الشیعة: الباب 6 من أبواب التکفین، الحدیث 4 و 7 و 8 .
2- وسائل الشیعة: الباب 6 من أبواب التکفین، الحدیث 4 و 7 و 8 .
3- وسائل الشیعة: الباب 6 من أبواب التکفین، الحدیث 4 و 7 و 8 .

ص:481

ولا یجوز تطییبه بغیر الذریرة والکافور(1).

إذ لا فرق فی کون الحنوط هو الکافور بین ما ورد الخبر بأنّ التطیّب بالمسک بدل الکافور عند فقده أو مطلقاً، أم لم یرد بذلک خبر إلاّ مع فقده بالوجوب أو الاستحباب، لعدم التلازم بین جوازه فی نفسه، وبدلیّته عن الکافور مع فقده.

(1) اعلم أنّ المسألة من جهة جواز التطییب وعدمه حرمةً وکراهةً واستحباباً مورد خلافٍ بین الفقهاء: التزم جماعة منهم بعدم الجواز بمعنی الحرمة، کما هو ظاهر المتن، وعلیه العلاّمة فی «القواعد»، والشهید فی «الدروس» و«البیان»، وظاهر «الذکری»، بل العلاّمة فی «التحریر» و«نهایة الاحکام»، والشیخ فی «المبسوط»، حیث قال: «لایخلط بالکافور مسکٌ أصلاً، ولاشیء من أنواع الطیب». وفی«الجامع»: (لایُحنّط بالمسک)، بل وفی «الغنیة» الإجماع علی أن_ّه لایجوز أن یطیّب بغیر الکافور.

هذا کلّه ظاهر الأقوال و کلمات الفقهاء ، کما ادّعی أنّ النصوص ظاهرة فی الحرمة ، وجعلوها الحجّة لما اختاروا ، فلا بأس بذکرها مع ما عرفت من الإجماع المنقول.

أقول: النصوص المستدلّ بها علی هذا الحکم نصوصٌ مستفیضة فی الجملة، ویجوز الاعتماد علیها لولا وجود المعارض الموجب لصرفها عن ظاهرها:

منها: حدیث محمّدبن مسلم، عن أبیعبداللّه علیه السلام ، قال: «قال أمیر المؤمنین علیه السلام : لا تجمّروا الأکفان ، ولا تمسحوا موتاکم بالطیب إلاّ بالکافور ، فإنّ المیّت بمنزلة المحرم»(1).


1- وسائل الشیعة: الباب 6 من أبواب التکفین، الحدیث 5 .

ص:482

وهو أحسن حدیث دلالةً علی النهی، خصوصاً مع تشبیه المیّت بالمُحْرِم، حیث یؤیّد أنّ المراد من المنع هو الحرمة، کما أنّ الأمر کذلک فی المُحْرِم.

ومنها: روایة یعقوب بن یزید، عن عدّة من أصحابنا، عن أبی عبداللّه علیه السلام ، فی حدیثٍ: «ولا یحنّط بمسِک»(1).

بناءً علی أنّ النهی عن الحنوط بالمسک بلحاظ التطییب به مع فرض وجود الکافور، وإلاّ یمکن فرض کون النهی بلحاظ بدلیّته عنه، فیکون الحکم بالنسبة إلی التطییب مسکوتاً عنه، ولأجل ذلک ربما یستفاد المنع عنه أیضاً من الأخبار الدالّة علی حصر الحنوط بالکافور دون غیره، کما وردت الإشارة إلیه فی «الجواهر»، کما قد یستفاد المنع من التطیّب فی الأخبار الدالّة علی المنع عنه بالنسبة إلی الکفن، حیث ورد النّهی عن تجمیر الکفن، کما فی مرسل ابن أبی عمیر، عن بعض أصحابه، عن أبی عبد اللّه علیه السلام ، قال: «لا یجمّر الکفن»(2).

وکذلک روایة ابن أبی حمزة، قال: «قال أبو جعفر علیه السلام : لا تقربوا موتاکم النار، یعنی الدُخنة»(3). ولا یخفی أنّ التدخین کان لأجل التطیبب، فنهی عن تقریبه إلیه.

بل قد یستفاد ذلک من روایة إبراهیم بن محمّد الجعفری، قال: «قلت: أرأیت جعفر بن محمّد علیهماالسلام ینفض بکمّه المسک عن الکفن ویقول: لیس هذا من الحنوط فی شیء»(4).

هذا مضافاً إلی کونه مستلزماً لتضییع المال وإتلافه، من دون أن یترتّب علیه غرض عقلائی یعتدّ به، مضافاً إلی موافقته للعامّة التی جعل اللّه الرّشد فی خلافهم، حیث إنّهم ذهبوا إلی استحباب التطیّب بالمسک، بل ما فی بعض الأخبار


1- وسائل الشیعة: الباب 6 من أبواب التکفین، الحدیث 6 و 2 و 12 و 11 .
2- وسائل الشیعة: الباب 6 من أبواب التکفین، الحدیث 6 و 2 و 12 و 11 .
3- وسائل الشیعة: الباب 6 من أبواب التکفین، الحدیث 6 و 2 و 12 و 11 .
4- وسائل الشیعة: الباب 6 من أبواب التکفین، الحدیث 6 و 2 و 12 و 11 .

ص:483

من کون الحنوط هو الکافور المذکور فی خبر کفن أبی عبیدة الحذّاء، حیث قال علیه السلام فی ذیله: «ولکن اذهب واصنع کما یصنع الناس»(1). فإنّه إشارة إلی ما کانت تفعله العامّة من استعمال المسک لکفن المیّت.

هذا هو ما وصل إلینا بما استدلّ به دلیلاً أو تأییداً للحرمة، کما علیه جماعة من الفقهاء، خصوصاً المتقدّمین منهم، هذا.

أقول: لکن بعد التأمّل والدقّة ربما یشرف «الفقیه» علی الحکم بالجواز ولو مشوباً بالکراهة، حیث تکفی المخالفة مع العامّة بهذا المقدار، ولا حاجة إلی القول بالحرمة کما توهّمه بعض.

کما أنّ دعوی الإجماع علی الحرمة غیر سدید، لذهاب کثیر منهم إلی الکراهة، حتّی أنّ العلاّمة ادّعی فی «المختلف» بأنّ المشهور علی کراهة أن یُجعل مع الکافور مسک، بل قد ادّعی علیه الإجماع عن «الخلاف» و«الإصباح»، کما ادّعی فی الأوّل الإجماع علی کراهیة تجمیر الأکفان بالعود، وعلی کراهیة تبخیر المجمرة عند تغسیل المیّت، وکذلک قال فی «المعتبر»، بل فی «التذکرة»: «کره علمائنا أجمع تجمیر أکفان المیّت».

هذا بالنسبة إلی الأقوال والإجماعات.

کما أنّ حکم المسألة من جهة الأصل أیضاً واضح لدی الشکّ فی الجواز عند فقد الدلیل، أو التساقط بالتعارض مع البراءة عن الحرمة عقلاً وشرعاً.

وعلیه، فالعمدة فی المسألة ملاحظة حال الأخبار والجواب عنها، والذی یمکن دعوی ظهوره فیالحرمة هو خبر محمّدبن مسلم، لأنّ غیره مثل خبر


1- وسائل الشیعة: الباب 6 من أبواب التکفین، الحدیث 7 .

ص:484

یعقوب بن یزید حیث کان قبله، والوارد فیه قوله علیه السلام : «لا تُسخّن للمیّت الماء ولا تُعجّل له النار» حیث لم یذهب أحد إلی حرمة تسخین الماء، ممّا یقتضی أن یکون المراد منه الکراهة، فمقتضی وحدة السیاق هو الکراهة حتّی فی التطییب، فلا یبقی للنهی ظهورٌ فیالحرمة، مع أن_ّه یمکن أن یکون المنع فیه من حیث کون التحنیط بالمِسْک عوض عن الکافور لا فی أصل التطییب، ولعلّه هو المراد من الروایة التی رواها الحمیری فی «قرب الإسناد»، کما یؤیّد ذیله بقوله: «وهذا لیس من الحنوط فی شیء»،بل وهکذا یمکن حمل النهی عن تجمیرالکفن، أو النهی عن التقریب بالدخنة علی الکراهة، بواسطة وجود ما یدلّ علی الجواز أو التصریح بالکراهة، کما أن_ّه یکفی القول بالکراهة فی کونه مقابلاً لحکم العامّة، لأنّهم یقولون بالاستحباب.

نعم، یصحّ ردّ کلام الصدوق رحمه الله فی «الفقیه» حیث ذهب إلی استحباب التطییب تمسّکاً بما قد روی فی تکفین النبیّ صلی الله علیه و آله بأن_ّه رُوی أن_ّه «حُنّط بمثقال مسک سوی الکافور»(1)، وبما هو المرویّعن الهادی علیه السلام أن_ّه: «سُئل عنه هل یُقرّب إلی المیّت المسک والبخور؟ قال: نعم»(2).

لکونه موافقاً للعامّة، الموجب لصحّة احتمال کونه محمولاً علی التقیّة؛ لأنّ الرّشد فی خلافهم، أو یُحمل علی الجواز فی مقابل أخبار النهی بمقتضی الجمع بینهما، کما علیه صاحب «الوسائل»، مضافاً إلی أنّ هذا المرسل المرویّ عن ابن الحسن الهادی علیه السلام یکون مثل الخبر الذی رواه مغیرة مؤذّن بنی عَدی، عن أبی عبد اللّه علیه السلام ، قال: «غسّل علیّبن أبی طالب علیه السلام رسول اللّه صلی الله علیه و آله بدأه بالسِّدر،


1- وسائل الشیعة: الباب 6 من أبواب التکفین، الحدیث 10 و 9 .
2- وسائل الشیعة: الباب 6 من أبواب التکفین، الحدیث 10 و 9 .

ص:485

والثانیة بثلاثة مثاقیل من کافور، ومثقال من مسک، ودعا بالثالثة بقربةٍ مشدودة الرأس فأفاضها علیه ثمّ أدرجه»(1)، فی دلالتها علی الجواز مع الاستحباب خصوصاً فی الخبر الثانی.

وحمله علی التقیّة غیر وجیه، مع ملاحظة زمان وقوعه، إلاّ أن یکون المقصود من التقیّة زمان صدوره، ففی ذلک أیضاً بعیدٌ، بأن توجب ذکر الواقعة بما لا یکون مطابقاً للواقع وکذباً.

کما أنّ حمله علی أن یکون المراد بیان أصل الجواز، مع تسلیم کونه مرجوحاً ومکروهاً، لیس بوجیه أیضاً، فلا سبیل إلاّ بطرح الخبرین من جهة ذهاب الأصحاب إلی المرجوحیّة، الجامعة بین التحریم والکراهة، فیصیر الخبران ممّا أعرض عنهما الأصحاب، فیختلّ فیهما شرط صحّة العمل بهما لعدم حصول الوثوق بهما، فیصیر قول الصدوق بالاستحباب ضعیفاً.

یبقی لنا الأخبار الدالّة علی المنع، الظاهرة فی الحرمة، مثل الخبر المرویّ عن محمّد بن مسلم، لکنّه مندفع من جهات:

تارةً: من التعلیل فی ذیله بأنّ المیّت بمنزلة ال_مُحْرِم، إذ من الواضح عدم اطّراد إجراء جمیع أحکام المُحْرِم علیه قطعاً، فبذلک ینثلم ظهوره فی الحرمة، فلا یستفاد منه إلاّ الکراهة.

واُخری: معارضته مع ما دلّ فی المیّت المُحْرِم من أن_ّه إذا مات فإنّه کالمُحِلّ فی جمیع الأحکام إلاّ الکافور، حیث یفهم منه جواز التطیّب فیه کما یجوز فی المُحلّ، فکیف یَحرمُ علیه الطیب. نعم، یصحّ ویجمع مع الکراهة.


1- وسائل الشیعة: الباب 2 من أبواب غسل المیّت، الحدیث 11 .

ص:486

وثالثة: لوحدة السیاق مع القول بالکراهة فی تجمیر الأکفان، الواقع فیها قبله، لأجل وجود أخبار کثیرة دالّة علی الجواز، کما سنشیر إلیه:

منها: الخبر الذی رواه عبد اللّه بن سنان، عن أبی عبد اللّه علیه السلام ، قال: «لا بأس بدخنة کفن المیّت، وینبغی للمرء أن یدخن ثیابه إذا کان یقدر»(1).

ومنها: روایة غیاث بن إبراهیم، عن أبی عبد اللّه علیه السلام ، عن أبیه علیهماالسلام : «إنّه کان یُجمّر المیّت (الکفن) بالعود فیه المسک، وربما جعل علی النعش الحنوط، وربما لم یجعله وکان یکره أن یتبع المیّت بالمجمرة»(2).

ومنها: روایة عمّار بن موسی، عن أبی عبد اللّه علیه السلام ، فی حدیث: «وجَمَّر ثیابه بثلاثة أعواد.. الحدیث».(3)

حیث یجمع مع الأخبار المانعة بالحمل علی الکراهة، فحکم ما بعده یکون کذلک کما لا یخفی .

أقول: بقی هنا استدلالهم علی نفیه بکون استعمال الطیب حینئذٍ إسرافاً وتضییعاً للمال دون غرضٍ صحیحٍ وهو حرامٌ.

فقد أجاب عنه صاحب «الجواهر»: بأن_ّه خروج عن محلّ البحث من الحرمة من حیث کونه تطییباً للمیّت، ولا یجری حینئذٍ فیما لو اُرید تکفینه بثیابٍ کانت مطیّبة بذلک سابقاً، کما قد یدفع بالاکتفاء بظهور طیب رائحته لمن یشمّه من المشیّعین مثلاً فی کونه غرضاً صحیحاً، ونحو ذلک .

أمّا الجواب الأوّل: ففیه ما لا یخفی، لوضوح أنّ ذلک کان علی فرض قبول


1- وسائل الشیعة: الباب 6 من أبواب التکفین، الحدیث 13 و 14 .
2- وسائل الشیعة: الباب 6 من أبواب التکفین، الحدیث 13 و 14 .
3- وسائل الشیعة: الباب 14 من أبواب التکفین، الحدیث 4 .

ص:487

حرمته، فیوجب انطباق الإسراف والتضییع شرعاً، وهو لیس بأمرٍ خارج عن التطییب، بل مبتنٍ علیه.

نعم، یصحّ ما قاله فیما بعده خصوصاً بالنسبة إلی الحیازة التی تغیّرت رائحتها نتیجة التأخیر فی دفنها المستلزم لإیذاء المشیّعین، کما کان یتّفق سابقاً فی الجنائز المحمولة من البلاد البعیدة إلی العتبات المقدّسة، والروضة العلویّة بالخصوص، علی مَن حلَّ بها آلاف التحیّة والثناء.

ومن ذلک یظهر حکم کراهة تجمیر الکفن، واتّباع الجنازة بالمجمرة، لما قد ورد فی بعض الأخبار من التصریح بالکراهة، نظیر الخبر الصحیح أو الحسن الذی رواه الحلبی، عن أبی عبد اللّه علیه السلام ، قال فی حدیثٍ: «وأکره أن یتبع بمجمرة»(1)، المؤیّد بالشهرة والإجماع علی أنّ المراد من الکراهة هی المصطلح منها لا الحرمة، وبذلک نتصرّف فی النهی الوارد فی الروایة التی رواها السکونی عن أبی عبد اللّه علیه السلام : «إنّ النبیّ صلی الله علیه و آله نهی أن یتبع جنازة بمجمرة»(2). وتُحمل علی الکراهة کما هو واضح.

فی أحکام الأموات / سُنن التکفین

کما لا فرق فی کراهة التطییب بین استعمال الطیب للمیّت حین التکفین، أو تکفینه بالأکفان المطیّبة، لأنّ ظاهر الأخبار هو الکراهة فی تقریب الطیب، الصادق علی کلا فردیه، فحمل کلام الصدوق رحمه الله بالاستحباب علی الفرض الثانی لا یوجب قبول کلامه کما احتمله صاحب «الجواهر» لعدم مساعدته مع مضامین الأخبار الناهیة، کما لا یخفی علی المتأمّل فیها.

***


1- وسائل الشیعة: الباب 6 من أبواب التکفین، الحدیث 1 و 3 .
2- وسائل الشیعة: الباب 6 من أبواب التکفین، الحدیث 1 و 3 .

ص:488

هذا تمام الکلام فیما یتعلّق بالمسائل المبحوث عنها فی هذا الجزء، وقد وقع الفراغ من کتابته یوم الأربعاء السابع والعشرون من شهر ربیع الثانی، سنة ألف وأربعمائة وخمسة وعشرون من الهجرة النبویّة الشریفة، الموافق للیوم السابع والعشرون من شهر خرداد، سنة ألف وثلاثمائة وثلاث وثمانین هجری شمسی، بید أقلّ العباد وأفقرهم إلی رحمة اللّه الغفّار الحاج السیّد محمّد علی العلوی الحسینی الاسترآبادی الشهیر بالگرگانی، ابن المرحوم آیة اللّه الحاج السیّد سجّاد العلوی الحسینی، غفر اللّه لهما وجعل الجنّة مثواهما.

وآخر دعوانا أن الحمد للّه ربّ العالمین، وصلّی اللّه علی سیّدنا محمّد وعلی آله الطیّبین الطاهرین.

* * *

ص:489

الفهرست

الفهرست

النفاس / أقلّ النفاس••• 7

النفاس / ما تراه المرأة قبل الولادة••• 9

النفاس / ما تراه المرأة مع الولادة••• 10

النفاس / ما تراه المرأة قبل الولادة••• 12

النفاس / ما تراه المرأة مع المضغة و العلقة••• 18

النفاس / لو شکّت المرأة فی الولادة••• 20

النفاس / أکثر النفاس••• 22

النفاس / أکثر النفاس••• 23

النفاس / لو استمر الدم بعد النفاس••• 42

النفاس / فی ما إذا تعدّد الولد••• 43

النفاس / فی ما إذا لم تر إلی العاشر دماً••• 48

النفاس / فی النقاء المتخلّل فی أیّام العادة••• 50

النفاس / إذا رأت الدم ثمّ طهرت ثمّ رأت فی العاشر أو قبله••• 52

النفاس / فی أحکام النفاس و أنّها کأحکام الحیض••• 52

الأحکام .فی أحکام الأموات / فی المرض و آداب المریض••• 53

ص:490

أحکام الأموات / توجیه المحتضر و المیت إلی القبلة••• 68

أحکام الأموات / تلقین المحتضر••• 86

أحکام الأموات / نقل المحتضر إلی مصلاّه••• 91

أحکام الأموات / الإسراج عند المیّت••• 94

أحکام الأموات / قرائة القرآن عند المحتضر و المیّت••• 98

أحکام الأموات / بعض آداب المیّت••• 101

أحکام الأموات / التعجیل بتجهیز المیّت••• 102

أحکام الأموات / کراهة وضع الحدید علی بطن المیّت••• 108

أحکام الأموات / کراهة حضور الجنب و الحائض عند المحتضر••• 110

أحکام الأموات / کراهة إبقاء المحتضر وحده••• 111

أحکام الأموات / آداب اُخری للمحتضر و المیّت••• 113

أحکام الأموات / غسل المیّت و... واجبات کفائیّة••• 115

أحکام الأموات / أولی الناس بغسل المیّت و تجهیزه••• 118

أحکام الأموات / الزوج أولی بغسل المرأة و تجهیزها••• 136

أحکام الأموات / هل الزوج أولی بالمطلّقة الرجعیّة فی العدّة؟••• 139

أحکام الأموات / کیفیّة تطهیر المیّت من وراء الثیاب••• 150

أحکام الأموات / فروع تتعلّق بتغسیل الزوجین للآخر••• 152

غسل الأموات / کیفیّة الغُسل••• 181

غسل الأموات / فی المستثنی منه••• 220

غُسل الأموات / فی الشهید••• 241

غُسل الأموات / فی المحدود••• 258

ص:491

غُسل الأموات / فی الأجزاء••• 279

غُسل الأموات / فی السقط••• 306

غُسل الأموات / عند عدم المماثل••• 314

غُسل الأموات / کیفیّة الغسل••• 314

أحکام الأموات / لو تعذّر بعض الأغسال الثلاثة••• 355

أحکام الأموات / التمییز بالنیّة لو تعذّر بعض الأغسال الثلاثة••• 359

أحکام الأموات / إعادة الغسل لو وجد الخلیطان••• 360

أحکام الأموات / المغسّل بالماء القراح کالمغسّل بالخلیطین••• 363

أحکام الأموات / تغسیل المیّت بالخطمی لو تعذّر السدر••• 365

أحکام الأموات / التیمّم بدل الغسل لو تعذّر تغسیله••• 368

أحکام الأموات / کیفیّة تیمّم المیّت••• 373

أحکام الأموات / سنن غسل المیّت••• 375

أحکام الأموات / مکروهات غُسل المیّت••• 399

أحکام الأموات / فروع تتعلّق بقصّ أظفار المیّت••• 404

أحکام الأموات / مکروهات غسل المیّت••• 406

أحکام الأموات / وجوب تکفین المیّت••• 407

أحکام الأموات / عدد أقطاع الکفن••• 410

أحکام الأموات / أقطاع الکفن••• 413

أحکام الأموات / کیفیّة تکفین المیّت••• 426

أحکام الأموات / لو تعذّر بعض قطعات الکفن••• 430

أحکام الأموات / ما لا یجوز التکفین به••• 433

ص:492

أحکام الأموات / فی وقت الحنوط••• 455

أحکام الأموات / مواضع الحنوط••• 458

أحکام الأموات / مقدار الکافور فی الحنوط••• 465

أحکام الأموات / عدم جواز تحنیط المحرم بالکافور••• 473

أحکام الأموات / مقادیر الفضل فی کافور الحنوط••• 477

أحکام الأموات / تطییب المیّت بغیر الذریرة والکافور••• 480

أحکام الأموات / سُنن التکفین••• 487

المجلد 7

اشارة

ص: 1

تألیف

آیة اللّه العظمی الحاج السیّد محمّد علی العلوی الگرگانی

الجزء السابع

ص:2

ص:3

بسم الله الرحمن الرحیم

ص:4

ص:5

سُنن التکفین

قال رحمه الله : وسُنن هذا القسم: أن یغتسل الغاسل قبل تکفینه، أو یتوضّأ وضوء الصلاة(1). سُنن التکفین

(1) هذا کما علیه المحقّق فی «المعتبر» و«النافع» و«القواعد» و«الإرشاد» و«الذکری» و«الدروس» و«اللّمعة» و«جامع المقاصد» و«الروضة»، وعن «النهایة» و«المبسوط» و«السرائر» و«الجامع» وغیرها، بل فی «الحدائق» نسبته إلی الأصحاب، بل فی «کتاب الطهارة» لشیخنا المرتضی قدس سره نسبته إلی المشهور، وهو کذلک لما قد عرفت من کثرة الذاهبین إلیه من الفقهاء، بل هو کافٍ فی إثبات الاستحباب من باب التسامح فی أدلّة السنن لو لم نجد علیه دلیلاً من الأخبار، کما أشار إلیه صاحب «مصباح الفقیه»، مع إمکان أن یقال فی وجهه بأنّ استحباب تحصیل الطهارة لعلّه لما عرض علی الغاسل من الحَدَث بواسطة مسّ بدن المیّت بالتغسیل، خصوصاً إذا قلنا بکون الغُسل والوضوء هنا هو الغُسل والوضوء الواجبان للمسّ لا غَسل وضوء آخر غیرهما.

کما قد یؤیّد ذلک ما فی«المعتبر» من الاستدلال له: «بأنّ الاغتسال والوضوء علی من مسّ میّتاً واجبٌ أو مستحبّ، وکیف کان الأمر به علی الفور فیکون التعجیل أفضل»، انتهی(1).

أقول: ما ذکره وجیه وحَسَن فلا یرد علیه التعریض المذکور فی «الجواهر»


1- المعتبر: ج1 / 284 .

ص:6

بقوله: «وهو کما تری»، ولا ما قاله الهمدانی فی «مصباح الفقیه» بقوله: «لکن فی الاستدلال بظاهره ما لا یخفی».

نعم، الذی یمکن أن یرد علی ما فی المتن ونحوه، هو عدم انطباق ذلک علی التخییر من الاغتسال والوضوء، کما لا یناسب مع التعلیل المذکور فی «المنتهی» بقوله: «لیکون علی أبلغ أحواله من الطهارة المزیلة للنجاسة العینیّة والحُکمیّة عند تکفین البالغ فی الطهارة، فإن لم یتمکّن من الغُسل استحبّ له أن یتوضّأ لأن_ّه إحدی الطهارتین، فکان مستحبّاً کالآخر ومرتّباً علیه لنقصانه عنه».

لأنّ ظاهر کلامه بل صریحه یفید أنّ الوضوء مرتّبٌ علی الغسل، مع أنّ مقتضی ما ذکرناه هو الجمع بینهما، کما نقل ذلک عن الصدوق رحمه الله فی «الفقیه» علی ما هو المحکیّ فی «الحدائق» عنه بقوله: «ثمّ یغتسل الغاسل، یبدأ بالوضوء، ثمّ یغتسل، ثمّ یضع المیّت فی أکفانه» إلاّ أن_ّه قال بتقدیم الوضوء علی الغُسل نظیر ما یقال بذلک فی وضوء الحائض والاستحاضة قبل غسلهما.

أقول: وکیف کان، فإنّ المقصود من جمیع ذلک أنّ الحکم باستحباب الغُسل والوضوء قبل التکفین لا یبعد أن یکون لما ذکرناه، وإن کان لا یساعد مع التخییر، فلا یرد علیه بما فی «الجواهر» بأن_ّه: «وجهٌ اعتباری لا یصلح أن یکون بمجرّده مدرکاً لحکم شرعی معارض باستحباب التعجیل فی تجهیز المیّت وبغیر ذلک».

لوضوح أن_ّه یکفی بمثل هذه الشهرة وحسن اعتبار الطهارة للتکفین أن یکون مدرکاً للحکم الشرعی، کما لا ینافی التأخیر بمثل ذلک عن حسن التعجیل فی التجهیز، حیث لا یعدّ مثله تأخیراً منافیاً له، خصوصاً إذا قلنا إنّه کان من الآداب، فتحمل تلک الأدلّة علی الخارج عن مثل تلک الاُمور المطلوبة شرعاً فی ذلک کما لا یخفی.

ص:7

مناقشة: هذا کلّه، ولکن قد یتأمّل فیما ذکرنا إذا لوحظت النصوص الدالّة علی خلاف ذلک من الحکم بالاغتسال بعد التکفین، وهی عدّة أخبار:

منها: الخبر الصحیح المرویّ عن محمّدبن مسلم، عن أحدهما علیهماالسلام فی حدیث: «فالذی یغسله یغتسل، فقال: نعم، قلت: فیغسله ثمّ یُلبسه أکفانه قبل أن یغتسل؟ قال: یغسّله ثمّ یغسل یدیه من العاتق ثمّ یلبسه أکفانه ثمّ یغتسل، الحدیث»(1).

ومنها: روایة صحیحة یعقوب بن یقطین، عن العبد الصالح، وذکر صفة غُسل المیّت إلی أن قال: «ثمّ یغتسل الذی یغسله یده قبل أن یکفّنه إلی المنکبین ثلاث مرّات ثمّ إذا کفّنه اغتسل»(2).

ومنها : روایة « الخصال » عن أبی بصیر وابن مسلم، عن الصادق علیه السلام ، عن أمیرالمؤمنین علیه السلام ، قال: «ومن غَسّل منکم میّتاً فلیغتسل بعد أن یسلبه أکفانه».(3)

فهذه النصوص دالّة علی أنّ الغسل یکون بعد التکفین، وهو مخالفٌ لما ورد فی المتن إن کان المراد من الغُسل هو الغُسل لمسّ المیّت المذکور فی النصوص ومتون الأصحاب. وأمّا لو قلنا بالافتراق بینهما، بأن یکون المراد من الغُسل فی کلمات الأصحاب قبل التکفین غُسلاً مستقلاًّ مندوباً بالخصوص للتکفین، غیر غُسل مسّ المیّت، فحینئذٍ یمکن الجمع بینهما، بأن یکون المراد من الغُسل فی النصوص هو ما یجب لمسّ المیّت دون خصوص التکفین، فحینئذٍ یلزم أن یکون الدلیل لاستحباب هذا الغسل أو الوضوء هی الشهرة وعمل الأصحاب، بخلاف غُسل مسّ المیّت حیث یجب أو یستحبّ بواسطة النصوص،فحینئذٍ یبقی السؤال عن أن_ّه هل یمکن فرض التداخل بینه وبین الغسل الواقع قبل التکفین


1- وسائل الشیعة: الباب 35 من أبواب التکفین ، الحدیث 1 و 2 .
2- وسائل الشیعة: الباب 35 من أبواب التکفین ، الحدیث 1 و 2 .
3- وسائل الشیعة: الباب 1 من أبواب غسل المیّت، الحدیث 13 .

ص:8

بإحضارهما فی غسلٍ واحد أم لا؟

ولا دلیل علی نفی ذلک إلاّ دعوی کون الأصل هو عدم التداخل، لو سلّمنا وجود غسل مندوب لخصوص التکفین کما سیأتی بحثه عن قریب.

هذا بالنسبة إلی النصوص الثلاثة.

أقول: بقی هنا روایة واحدة مرویّة عن عمّار بن موسی، عن أبی عبداللّه علیه السلام أن_ّه قال: «ثمّ تغسل یدک إلی المرافق ورجلیک إلی الرکبتین ثمّ تکفّنه»(1).

حیث لم یذکر فیها إلاّ غَسل الیدین إلی المرافق، والرِّجلین إلی الرّکبتین، من دون إشارة إلی الغُسل بعد التکفین، مع أنّ غَسل الیدین إلی الکتفین أو إلی المنکبین وقع فی روایتی ابن مسلم وابن یقطین أیضاً دون الرِّجلین إلی الرکبتین، فلازم العمل بتمام ذلک هو القول باستحباب غَسل الیدین أوّلاً إلی الکتفین أو المنکبین وهو الأفضل، ثمّ إلی المرافق، وأفضل منهما انضمام الرجلین فی الغَسل إلی الرکبتین، کلّ ذلک مع استحباب الغُسل أو الوضوء قبل التکفین معاً لا التخییر بین الثلاث الذی أشار إلیه صاحب «الجواهر» بقوله: «کدعوی إضافة ما فیها إلی ذلک مخیّراً بینها فیکون المستحبّ أحد اُمور ثلاثة؛ الاغتسال أو الوضوء أو غسل الیدین إلی المنکبین».

ولعلّ ما فی «المقنعة» و«المقنع» و«المراسم» و«الکافی» حیث لم یذکروا إلاّ غَسل الیدین إلی المرفقین، استناداً فی ذلک علی خصوص روایة عمّار، إلاّ أن_ّه یبقی السؤال عن علّة ترک غَسل الرِّجلین مع التصریح بذلک فیها.

وکیف کان، إن قلنا فی إثبات أمر المندوب بالتسامح فی الأدلّة ولو بالشهرة والإجماع، فلا إشکال حینئذٍ بإمکان : أن یقال: إمّا بالجمع بین الاغتسال أو


1- وسائل الشیعة: الباب 35 من أبواب التکفین، الحدیث 3.

ص:9

الوضوء مع غَسل الیدین إلی الکتفین أو إلی المرفقین، والرِّجلین إلی الرکبتین قبل التکفین، عملاً بظاهر النصوص وما علیه الأصحاب معاً کما لا یخفی .

أو یُقال: بإتیان غَسل الیدین بأحد الوجهین مع غسل الرِّجلین إلی الرکبتین عملاً بالنصوص، أو الاکتفاء بخصوص الغُسل أو الوضوء بدل تلک الاُمور، کما نَسب المحقّق الهمدانی ذلک إلی المشهور، وإن کانت البدلیّة غیر معلومة حیث لم یصرّحوا بذلک.

نعم، بناءً علی تسلیم ما علیه الأصحاب من إثبات الاغتسال قبل التکفین ولو بالشهرة، یأتی البحث عن أن_ّه هل هو غَسل المسّ أو غیره؟

قال صاحب «الجواهر»: «ثمّ ظاهر الأصحاب أنّ الغُسل غُسل المسّ کما یشعر به تعلیلاتهم، وبه صرّح بعضهم، لکنّه حکی فی «کشف اللّثام» عن «الذکری» أنّ من الأغسال المسنونة الغُسل للتکفین، وعن «النزهة» أنّ به روایة. قلت: وقد یحتمله عبارة المصنّف، والظاهر أنّ ما حکاه عن «الذکری» فی غیر المقام، وإلاّ فقد صرّح فیها هنا بأن_ّه غُسل المسّ»، انتهی محلّ الحاجة(1).

أقول: لو سلّمنا ثبوته قبل التکفین، کان ذلک وراء غُسل المسّ، وإن أمکن القول بإمکان التداخل فیه بانضمام قصد غُسل المسّ معه، خصوصاً إذا قلنا بأنّ الأغسال لیست إلاّ حقیقة واحدة، ولا علاقة بین القول بالتفکیک فی هذا الغسل بالحدیثین الذین أشار إلیهما صاحب «الجواهر» وهما روایتی ابن مسلم ومرسل الصدوق حیث ورد فی الاُولی: «وإذا غَسلت میّتاً أو کفّنته أو مسسته بعدما یبرد»(2). وفی الثانیة مثله إلاّ فی کون (الواو) مکان (أو) فی قوله: «کفّنته»(3)،


1- الجواهر: ج4 / 193 .
2- وسائل الشیعة: الباب 1 من أبواب الأغسال المسنونة، الحدیث 11 و 4 .
3- وسائل الشیعة: الباب 1 من أبواب الأغسال المسنونة، الحدیث 11 و 4 .

ص:10

لأنّ ظاهرهما أنّ الغسل بعد التکفین لا قبله، وعلیه فلا تکون مرتبطة ببحثنا، وعلیه فلابدّ لإثبات المختار من التمسّک بقول الأصحاب وشهرتهم وراء النصوص، فیلزم من ذلک إثبات أغسال ثلاثة؛ أحدها قبل التکفین، وثانیها بعد التکفین، وثالثها غُسل المسّ الذی یمکن وقوعه فی کلّ من الموردین بالقصد، والالتزام بذلک لا یخلو عن بُعد فی الجملة، ولعلّ وجهه إمکان وقوع التداخل فی مثل ذلک، واستبعاد التفکیک بالقصد المستلزم للتثلیث کما لا یخفی .

أقول: ثمّ یأتی الکلام بالنسبة إلی الوضوء الذی یأتی به قبل التکفین، حیث یقع البحث عن أن_ّه هل هو رافع للحدث الأصغر، ویکون مثل الوضوء الذی یأتیه مع غسل المسّ فی صحّة الصلاة معه إذا رفع الحَدَث الأکبر مع غسله أم لا؟

قال صاحب «الجواهر»: «الظاهر من فحاوی بعض کلمات الأصحاب أیضاً أنّ هذا الوضوء إنّما هو الوضوء الذی یفعل مع غُسل المسّ لرفع الأصغر، بناءً علی توزیع الفعلین علی الحدثین، فالغُسل للأکبر والوضوء للأصغر، فحینئذٍ لا ینبغی الإشکال فی صحّة استباحة الصلاة به وغیرها ممّا یشترط بالطهارة إذا تعقّبه بعد ذلک ما یرفع الحَدَث الآخر، ولا حاجة إلی نیّة الرفع أو الاستباحة به بناءً علی ما هو التحقیق من الاکتفاء بنیّة القربة، هذا».

وهو الأقوی عندنا بخلاف من یعتبر فی صحّة الوضوء الرافع والمبیح من نیّتهما، فلا یحصل لمثله إلاّ صحّة ترتّب التکفین علیه بنحو الأکمل بدون نیّتهما.

واحتمال کون نیّة التکفین قائماً مقام نیّة رفع الحَدَث أو الاستباحة، نظیر ما یقال فی الوضوء لقراءة القرآن ونحوها ممّا یُستحبّ لها الطهارة، بدعوی انصراف وقوع التکفین علی الوجه الأکمل لا یکون إلاّ بذلک .

غیر سدید؛ إلاّ أن یرجع إلی ما ذکرنا، من عدم لزوم قصد رفع الحَدَث أو

ص:11

وأن یُزاد للرجل حِبرة عبریّة غیر مطرّزة بالذَّهب(1) .

الاستباحة فی صحّة الوضوء، إذا أتی به مع قصد القربة، حیث یترتّب علیه حصول الطهارة ولو کانت غایته حصول التکفین بالوجه الأکمل.

وعلیه، فدعوی کون هذا الوضوء صوریّاً للتکفین فقط، دون ما یشترط فیه الطهارة مثل الصلاة وغیرها إذا لم ینو به ما یتضمّن رفع الحَدَث کما علیه العلاّمة فی «القواعد»، ممنوعة.

فحمل کلام المصنّف بقوله: «أو یتوضّأ وضوء الصلاة علی صورة الوضوء لا علی ما یحصل به الطهارة للصلاة»، لا یخلو عن وهن؛ إذ الوضوء أمرٌ واحد معلوم ولیس لتحقّقه إلاّ سبیل واحد، ولا یحتاج بیانه إلی قید توضیحی حتّی یقال بما قد قیل فیه، کما لایخفی.

وبالجملة: ممّا ذکرناه وبیّناه من قبول ما ورد فی کلمات الأصحاب من استحباب الغُسل أو الوضوء لخصوص التکفین، یفهم عدم الفرق فی ذلک بین کون المباشر للتکفین هو المباشر للتغسیل أو غیره، بل لعلّه أولی بذلک من الأوّل من بعض الجهات، وهو عدم التأخیر فی التجهیز، وعدم لزوم العسر والحرج فی الجملة الذی هو أقلّ فیه من الثانی، وإن اختار بعضٌ آخر الأوّل، باعتبار حصول المسّ للمیّت بواسطة التغسیل فیه دون الثانی کما لا یخفی .

(1) إنّ هذا الفرع مشتملٌ علی ذکر اُمور :

الأمر الأوّل: یدور البحث عن أنّ استحباب زیادة الحِبرة علی کفن المیّت، هل هی مختصّة بالرِّجال فقط، کما تفیده عبارة «الوسیلة»، والتصریح بذلک المنقول عن «الإصباح» و«التلخیص» وظاهر المصنّف ؟

ص:12

أو أن_ّها أعمّ بحیث یشمل المرأة کما قد صرّح بذلک صاحب «الجواهر»، بل وفی معقد الإجماع المنقول عن «الذکری»، وقضیّة إطلاق «الغنیة» و«الخلاف» هو ذلک، بل لعلّ ترکها المصنّف کان لأجل ما یدلّ علیه فی بعض الأخبار من التعمیم؛ کما فی مرسل سهل مضمراً عن بعض أصحابنا رفعه، قال: «سألته کیف تُکفَّن المرأة؟ فقال: کما یُکفّن الرجل، غیر أنّها تُشدّ علی ثدییها خرقة تضمّ الثدی إلی الصدر، وتشدّ علی ظهرها، ویصنع لها القطن أکثر ممّا یصنع للرِّجال، ویُحتشی القُبُل والدُّبر بالقطن والحنوط، الحدیث»(1).

مضافاً إلی أصالة اشتراک الرِّجال مع النساء فی الأحکام ؟

فیه وجهان، بل قولان، والمشهور المنصور هو الثانی، لما قد عرفت، ولقیام الدلیل علی شمول الحکم لخصوص المرأة _ فضلاً عن الرّجل _ کما ورد التصریح بذلک فی الخبر المرویّ عن عبد الرحمن بن أبی عبد اللّه، قال: «سألت أبا عبداللّه علیه السلام : فی کم تُکفّن المرأة؟ قال: تکفّن فی خمسة أثواب أحدها الخمار»(2). وغیره، بناءً علی ما سیأتی من کون أحد الأکفان الخمسة هی الحِبرة فی الرِّجال، فکذلک یکون فی النساء.

وما تری فی بعض الأخبار من ذکر خصوص کفن رسول اللّه صلی الله علیه و آله أو غیره من الأئمّة علیهم السلام ، فإنّ وجه الاختصاص لأجل المورد، لکن من المعلوم أنّ العبرة لعموم الوارد لا بخصوص المورد، فدعوی الاختصاص بالرجال فقط ضعیفٌ غیر مقبول، کما صرّح به صاحب «الجواهر» و «مصباح الفقیه» .

الأمر الثانی: البحث فیه عن أن_ّه هل زیادة الحِبرة تعدّ من الاُمور المستحبّة فی کفن المیّت کما علیه جماعة کبیرة من الأصحاب ومنهم المصنّف هنا، بل فی


1- وسائل الشیعة: الباب 2 من أبواب التفکین، الحدیث 16 و 18 .
2- وسائل الشیعة: الباب 2 من أبواب التفکین، الحدیث 16 و 18 .

ص:13

«المعتبر» والعلاّمة فی «التذکرة» نسبته إلی علمائنا، بل عن صریح «الخلاف» و«الغنیة» وظاهر «البیان» أو صریحه دعوی الإجماع علی استحبابها نظیر ما فی «جامع المقاصد» من النسبة إلی جمیع علمائنا؟

أم لا تکون مستحبّاً، بل تکون الحِبرة داخلة فی ثلاثة أثواب واجبة کما ورد التصریح بذلک فی الأخبار المستفیضة الدالّة علی أنّ رسول اللّه صلی الله علیه و آله کُفّن فی ثلاثة أثواب؛ ثوبین صحاریین وبُردٍ أحمر، وغیرها ممّا تقدّم بعضها عند بیان الواجب من قطعات الکفن، هذا کما علیه صاحب «المدارک»، وجماعة ممّن تأخّر عنه کصاحب «الریاض» و«الذخیرة» وغیرهما، بل ربّما یُدّعی دلالة بعض الأخبار علی عدم استحباب الزبادة عن الثلاث، وأنّ الزیادة من بدع العامّة کما فی «الجواهر»؟

فیه وجهان، بل قولان.

أقول: قبل الورود فی بیان الوجهین یقتضی المقام أن نتعرّض لبیان لفظ (الحِبرة) وتسمیتها وکیفیّتها من حیث التلفّظ.

قیل: _ کما فی «الحدائق» و«الجواهر» _ : حِبَرة بکسر الحاء وفتح الباء الموحّدة کعنبة؛ ضَرْبٌ من برود تُصنع بالیمن من قطن أو کتّان، من التحبیر وهو التزیین والتحسین.

قیل: ویُقال ثوبٌ حِبرة علی الوصف والإضافة إلی الوشی، لا علی أنّ حبرة موضعٌ أو شیءٌ معلوم، بل هو شیء اُضیف إلیه الثوب، کما قیل: ثوبٌ قرمز، والقرمز صبغة.

بل وقد زاد المصنّف بعدها (عِبریّة) کما فی «المبسوط» و«الوسیلة» و«النافع» و«القواعد» و«التحریر» و«النهایة» و«الإصباح»، بل هو معقد إجماعی «المعتبر» و«التذکرة»، وقد تبیّن فی تلفّظها أن_ّها بکسر العین أو فتحها، منسوبة

ص:14

إلی العبر جانب الوادی أو موضع.

فبعدما عرفت ذلک، نرجع إلی أصل، المطلب فنقول: استدلّ لعدم الاستحباب بهذه الزیادة، بعدم ظهور أخبار الباب علی ذلک، بل فی «کشف اللّثام» أنّ ظاهر أکثرها کونها اللّفافة المفروضة بلا الزیادة المذکورة:

منها: ما ورد فی خبر أبی مریم الأنصاری، قال: «سمعت أبا جعفر علیه السلام یقول: کُفّن رسول اللّه صلی الله علیه و آله فی ثلاثة أثواب؛ بُرد أحمر حِبرة، وثوبین أبیضتین (أبیضین) صحاریین.

إلی أن قال: وقال إنّ الحسن بن علیّ علیهماالسلام کفّن اُسامة بن زید فی بُردٍ أحمر حبرة، وأنّ علیّاً علیه السلام کفّن سَهل بن حنیف فی برد أحمر حِبرة»(1).

ومنها : روایة مضمرة سماعة، قال: «سألته عمّا یُکفّن به المیّت ؟ قال: ثلاثة أثواب ، وإنّما کفّن رسول اللّه صلی الله علیه و آله فی ثلاثة أثواب ؛ ثوبین صحاریین ، وثوب حبرة، الحدیث»(2).

ومنها: صحیحة الحلبی، عن أبی عبد اللّه علیه السلام ، قال: «کتب أبی فی وصیّته أن اُکفّنه فی ثلاثة أثواب: أحدها رداء له حِبرة کان یصلّی فیه یوم الجمعة، وثوبٌ آخر، وقمیص.

فقلت لأبی: لِمَ تکتب هذا؟ فقال: أخاف أن یغلبک الناس، فإن قالوا کفّنه فی أربعة أثواب أو خمسة فلا تفعل .

قال: وعمّمه بعد بعمامة ولیس تعدّ العمامة من الکفن إنّما یعدّ ما یلفّ الجسد»(3).


1- وسائل الشیعة: الباب 2 من أبواب التکفین، الحدیث 3 .
2- وسائل الشیعة: الباب 2 من أبواب التکفین، الحدیث 6 و 10 .
3- وسائل الشیعة: الباب 2 من أبواب التکفین، الحدیث 6 و 10 .

ص:15

بل قد أیّده صاحب «الریاض» بما فی بعض المعتبرات المتضمّنة لذکر الثلاثة، وأنّ ما زاد فهو سُنّة إلی أن یبلغ خمسة أثواب، فما زاد مبتدع، والعمامة سُنّة، قال: «ولا ریب أنّ الزائد فی الثلاثة الذی هو سنّة هو العمامة والخِرقة المعبّر عنها بالخامسة».

ومقصوده من بعض المعتبرات هی المستفیضة وهی صحیحة زرارة، قال: «قلت لأبی جعفر علیه السلام : العمامة للمیّت من الکفن هی؟

قال: لا إنّما الکفن المفروض ثلاثة أثواب أو ثوب تامّ لا أقلّ منه یواری فیه جسده کلّه، فما زاد فهو سنّة، إلی أن یبلغ خمسة، فمازاد فمبتدع، والعمامة سنّة»(3).

هذا کلّه مع استدلالهم لذلک بأنّ فی الزیادة إتلافٌ للمال وإضاعة وإسراف المنهی عنها فی الشریعة کما لا یخفی .

أقول: ولکن الذی یختلج بالبال بعد التأمّل فی کلمات الأصحاب، ولسان الروایات، هو أن یقال إنّ فی کلمات الأصحاب ومعاقد الإجماعات لیس إلاّ بیان أصل استحباب زیادة الحِبرة فی الأکفان، لا من حیث الأعداد، یعنی بأن یکون المستحبّ فی الکفن مضافاً إلی الثلاثة المفروضة وجود کفنٍ آخر من جنس الحِبرة، حتّی تکون رابع الأکفان، بل المستحبّ تحصیل الحِبرة فی الکفن ولو کان ذلک فی الثلاثة المفروضة فی الرجال أو فی الخمسة فی النساء، إذ معقد الإجماع لیس إلاّ زیادة وصف الحِبرة وأنّ زیادتها مستحبّة لا استحبابها فی کفن مستقلّ غیر الثلاثة أو الخمسة، وإن شئت الوقوف علی صحّة دعوانا فراجع کلماتهم منها ما فی المتن بأن_ّه: «یستحبّ للرجل زیادة حِبرة» حیث یجامع مع ما قلناه.

نعم، علی ما قد حکی عن «الغنیة» بحسب نقل الشیخ الأنصاری فی طهارته کما فی «مصباح الفقیه» حیث قال: «والمستحبّ إن زاد علی ذلک لفافتان

ص:16

إحداهما حِبرة وعمامة وخرقة یشدّ بها فخذه، إلی أن قال: کلّ ذلک بدلیل الإجماع المشار إلیه»، انتهی ما فی «الغنیة»(1)، وکذلک المحکیّ عن «المصباح»(2).

وأیضاً: یدلّ علی صحّة ما ادّعی فی «الجواهر» وغیره من أنّ معقد الإجماع فی کلمات الأصحاب استحباب زیادة أصل الکفن المتّصف بهذا الوصف، مع إمکان أن یُحمل کلامه أیضاً علی أنّ مراده بیان استحباب أصل زیادة الأکفان إلی الخمسة التی قد ورد ذکرها فی بعض الأخبار، کما سنشیر إلیه إن شاء اللّه، فلا ینافی ذلک حینئذٍ أن یکون واحداً منهما من الحِبرة، کما یجوز أن یکون من الثلاثة، فحینئذٍ یجامع کلمات الأصحاب مع مفاد الأخبار أیضاً، ولا یکون معارضاً لها کما توهّم.

نعم، الذی یُسلّم عن ما فی کلمات الأصحاب من ردّ کلام صاحب «المدارک» و«الریاض» و«الذخیرة» من دعواهم عدم استحباب أصل زیادة الأکفان من الثلاثة، وأنّ الزیادة تعدّ من العامّة، حیث أن_ّه لا إشکال فی کون الزائد عن الثلاثة مستحبّاً، کما ورد التصریح ذلک فی بعض الأخبار أیضاً، هذا بالنسبة إلی کلمات الأصحاب ومعاقد الإجماعات.

وأمّا بالنظر إلی الأخبار: فدعوی دلالتها علی لزوم کون الحِبرة من غیر الثلاثة المفروضة بصورة الاستحباب غیر سدیدة؛ لأنّ لسانها مختلفة : إذ فی بعضها دلالة علی کون الحِبرة من الثلاثة، مثل مضمرة سماعة المتقدّمة من التصریح بذلک بعد السؤال عمّا یکفّن به المیّت، فقال: «ثلاثة أثواب»، ثمّ شرح أن_ّه قد کُفّن رسول اللّه صلی الله علیه و آله فی ثلاثة أثواب ثوبین صحاریین وثوب حبرة. ومثل حدیث


1- الغنیة: 102 .
2- مصباح الفقیه: ج5 / 281 .

ص:17

الحلبی عن الصادق علیه السلام فی وصیّة أبیه أن یکفّنه فی ثلاثة أثواب أحدها رداء حبرة، ومثله حدیث أبی مریم الأنصاری المتقدِّم.

کما أنّ فی بعضها دلالة علی کون البُرد والحِبرة من غیر الثلاثة:

منها: روایة یونس بن یعقوب، عن أبی الحسن الأوّل علیه السلام ، قال: «سمعته یقول: إنّی کفّنت أبی فی ثوبین شطویین کان یحرم فیهما، وفی قمیص من قمصه، وعمامة کانت لعلیّ بن الحسین، وفی بُرد اشتریته بأربعین دیناراً لو کان الیوم لساوی أربعمائة دینار»(1).

حیث أنّ الظاهر من هذا الخبر کون البرد رابع الأکفان، اللّهُمَّ إلاّ أن یجعل ثوبین شطویین ثوباً واحداً، وهو کما تری .

ومنها: روایة معاویة بن وهب، عن أبی عبد اللّه علیه السلام ، قال: «یکفّن المیّت فی خمسة أثواب؛ قمیص لا یزرّ علیه، وإزار وخرقة یُعصّب بها وسطه، وبردٌ یُلفّ به وعمامة یعتمّ بها ویلقی فضلها علی صدره»(2). حیث جعل البُرد فی الرابع.

إلاّ أنّ الإشکال الذی یرد فیه: أن_ّه قد احتسبت العمامة والخرقة التی یعصّب بها وسطه من أقسام الخمسة من الکفن، مع أن_ّه قد ورد فی بعض الأخبار مثل خبر عبد اللّه بن سنان من التصریح بأنّ الخرقة والعمامة لابدّ منهما ولیستا من الکفن(3).

وکذا ورد فی روایة زرارة، عن أبی جعفر علیه السلام ، قال: «العمامة للمیّت من الکفن هی؟ قال: لا، الحدیث»(4). فهی تدلّ علی عدم کون العمامة والخرقة من الکفن، فإن سقطت الخرقة عنه، یصبح البُرد فی روایة معاویة من الثالث من الکفن،


1- وسائل الشیعة: الباب 2 من أبواب التکفین، الحدیث 15 .
2- وسائل الشیعة: الباب 14 من أبواب التکفین، الحدیث 5 .
3- وسائل الشیعة: الباب 2 من أبواب التکفین، الحدیث 13 و 12.
4- وسائل الشیعة: الباب 2 من أبواب التکفین، الحدیث 13 و 12.

ص:18

فیناسب مع الأخبار السابقة.

کما أنّ أکثر الأخبار التی تمسّک بها صاحب «الجواهر» للدلالة علی أنّ الحِبرة فی غیر الثلاثة مثل روایة حمران بن أعین علی أحد الاحتمالین أو أظهرهما بعد أن سأله عن الکفن، فقال: «یؤخذ خرقة فیشدّ بها سفله، ویضمّ فخذیه بها لیضمّ ما هناک، وما یصنع من القطن أفضل، ثمّ یکفّن بقمیص ولفافة وبرد یجمع فیه الکفن»(1). تکون الحِبرة فیها من الثلاثة لا من غیرها؛ لأن_ّک قد عرفت عدم کون الخرقة من الکفن، فبإخراجها عنه یصیر البُرد من الثلاثة، فکیف یکون أحد الاحتمالین أو أظهرهما کونه خارجاً عن الثلاثة کما ادّعاه صاحب «الجواهر».

کما أنّ ممّا یدلّ علی أن_ّه من الثلاثة حدیث یونس المرویّ عنهم علیهم السلام ، بقوله: «ابسط الحِبرة بسطاً ثمّ ابسط علیها الإزار ثمّ ابسط القمیص علیه»(2). حیث یدلّ علی أنّ الحِبرة من الثلاثة المفروضة.

وأمّا خبر محمّد بن مسلم، عن أبی جعفر علیه السلام ، قال: «یکفّن الرجل فی ثلاثة أثواب، والمرأة إذا کانت عظیمة فی خمسة: درع ومنطق وخمار ولفافتین»(3). حیث قد استظهر صاحب «الجواهر» من اللّفافة فیما یشمل الجسد مع عدم القول بالفصل بین المرأة والرجل بالنسبة إلی ذلک، وقال: «واحتمال إرادة لفّافة الثدیین من إحدی اللفافتین بعیدٌ»، وعلیه فالأظهر ما قلناه، وعلیه حینئذٍ یحتمل الخمسة فی خبر عبد الرحمن بن أبی عبد اللّه، قال: «سألت أبا عبد اللّه علیه السلام : فی کم تکفّن المرأة؟ قال: تکفّن فی خمسة أثواب أحدها الخمار»(4)، انتهی.


1- وسائل الشیعة: الباب 2 من أبواب التکفین، الحدیث 1.
2- وسائل الشیعة: الباب 14 من أبواب التکفین، الحدیث 3 .
3- وسائل الشیعة: الباب 2 من أبواب التکفین، الحدیث 9 و 18 .
4- وسائل الشیعة: الباب 2 من أبواب التکفین، الحدیث 9 و 18 .

ص:19

أقول: هذان الخبران غیر مشتملین علی ذکر الحِبرة حتّی یقال إنّها من الثلاثة أو غیرها، نعم هما ممّا یدلاّن علی أنّ الأکفان الخمسة خصوصاً فی المرأة من السنن، وفی الرجل بالإلحاق بها بواسطة الإجماع المرکّب، فلیس الزائد من الثلاثة من العمامة حتّی یقال إنّها بدعة، فیصیر هذان الخبران موافقین لما ورد فی الخبر المرویّ عن زرارة من أنّ الزائد عن الثلاثة المفروضة من السنّة، حیث قال علیه السلام : «إنّما الکفن المفروض ثلاثة أثواب، إلی أن قال: فما زاد فهو سُنّة إلی أن یبلغ خمسة فما زاد فمبتدع والعمامة سنّة»(1).

نعم، إذا انضمّ هذان الخبران إلی ما عرفت من الأخبار السابقة علیهما، أمکن استفادة کون الحِبرة فی واحدٍ منها، بلا فرق بین کونها فی الثلاثة أو فی غیرها، وإن کان الأولی هو الأوّل لکثرة الحدیث عن ذلک فی الأخبار .

إذن دعوی کون الزائد عن الثلاثة غیر مستحبّ، أو کون الحِبرة فی غیر الثلاثة فقط هو المستحبّ دون ما فی الثلاثة، غیر سدید بملاحظة تلک الأخبار وکلمات الأصحاب، کما أنّ الظاهر أنّ الخمسة المستحبّة فی الکفن تکون فی غیر العمامة والخرقة لا معهما، لما قد عرفت من تصریح الروایات بکونهما من السُنّة، ولیستا من الکفن کما فی خبر عبد اللّه بن سنان، ویستفاد من حدیث زرارة بالنسبة إلی العمامة حیث یذکرها مستقلاًّ بعد نقل الخمسة ثمّ یقول إنّها من السُنّة، وهذا موافق مع ما ذهب إلیه صاحب «الجواهر» حیث قال فی آخر کلامه: «بل لعلّ الأقوی فی نظری أنّ استحباب الحِبرة لیس مخصوصاً بالثوب الرابع، بل یجزی لو کان هو الثالث مع الاقتصار علی الثلاثة علی ما صرّح به کاشف اللّثام، ویدلّ علیه کثیر من الأخبار المتقدّمة، بل ومع عدم الاقتصار عیها بأن زیدَ لفافةٌ غیر


1- وسائل الشیعة: الباب 2 من أبواب التکفین، الحدیث 1 .

ص:20

حبرة، وجُعل الحِبرة هی الثالثة، وإن کان الأولی مع وجود الحِبرة أن تجعل اللّفافة الثانیة کما یشعر به خبر یونس فی أحد الاحتمالین» انتهی.

أقول: وأُضیف إلیه بأنّ اتّخاذ الحِبرة بنفسه مستحبّ ولو لم تکن فی الثلاثة المفروضة، وهذا لا ینافی مع کلمات الأصحاب، لأن_ّهم کانوا فی صدد بیان استحباب أصل لفّ الحِبرة لا کونها فی الزائدة عن الثلاثة مندوبة، وإن ورد کذلک فی عبارات بعض الأصحاب کما عرفت.

والنتیجة: هی ما ذهب إلیه صاحب «الجواهر» من أنّ اتّخاذ الحِبرة زائداً علی الثلاثة یعدّ مستحبّاً فی مستحبّ، کما أنّ کونها عبریّة مستحبٌّ آخر غیر استحباب کونه حبرة، أی مع فقدها لا یوجب فقد أصل استحباب الحِبرة، فاستحباب العبریّة لا یثبت إلاّ بکلمات الأصحاب بواسطة دلیل التسامح، أو مع تأیید بما رواه زرارة، عن أبی جعفر، قال: «کفّن رسول اللّه صلی الله علیه و آله فی ثلاثة أثواب؛ ثوبین صحاریین وثوب یمنه عبریّ أو اظفار».

والصحیح عبریّ من ظفار، وهما بلدان(1).

أو بما رواه معاویة بن عمّار، عن الصادق علیه السلام ، قال: «کان ثوبا رسول اللّه صلی الله علیه و آله اللّذان أحرم فیهما یمانیین عبریّ واظفار، وفیهما کُفِّن»(2).

فإنّه یدلّ علی استحبابه، وإن تردّد فی الاُولی صاحب «الجواهر» من جهة اشتماله علی التردید، لکنّه غیر ضائر، خصوصاً مع التفسیر الواقع فی ذیله، سواء کان خارجاً عن الروایة کما هو الظاهر أو منها فبطریقٍ أولی، لکنّه بعیدٌ جدّاً.

وأمّا دلالته علی کونها فی الثانیة، فلا، کما کان الأمر کذلک، إذ لیس لنا بالخصوص دلیلٌ علی ذلک، لا سیّما مع ملاحظة اختلاف لسان الأخبار فی ذلک .


1- وسائل الشیعة: الباب 2 من أبواب التکفین، الحدیث 4.
2- وسائل الشیعة: الباب 5 من أبواب التکفین، الحدیث 1.

ص:21

أقول: ظهر من جمیع ذلک عدم صحّة ما ادّعاه صاحب «الجواهر» بقوله: «لولا ظهور اتّفاق الأصحاب علی أنّ المستحبّ حِبرة، واحدة لأمکن القول باستحباب حبرتین: أحدهما اللّفافة الاُولی الواجبة، والثانیة الزائدة، أمّا الاُولی فللأخبار، وأمّا الثانیة فللإجماعات السابقة»، انتهی .

لما قد عرفت من موافقة الأخبار مع کلمات الأصحاب فی استحباب أصل الحِبرة بلا فرق بین کونها فی الثلاثة أو فی غیرها .

نعم، قد یستفاد من بعض الأخبار تجویز جعل البُرد خارجاً عن الثلاثة ولم یلف المیّت به، بل یُطرح علیه طرحاً، فإذا اُدخل القبر وضع تحت خدّه وتحت جنبه، فحینئذٍ لا یکون البُرد فی ذلک المورد من الکفن أی من الثلاثة، وإلاّ لا ینافی کونه من الکفن الزائد المستحبّ بلحاظ طرحه فی قبره تحت خدّه وجنبیه، إذ صدق الکفن غیر منوط بعدم کونه کذلک حتّی یستفاد منه أن_ّه لا یکون من الکفن کما أشار إلیه صاحب «الجواهر»، والخبر هو الخبر الذی رواه عبد اللّه بن سنان وأبان جمیعاً، عن أبی عبد اللّه علیه السلام ، قال: «البرد لا یلفّ به ولکن یطرح علیه طرحاً ، فإذا اُدخل فی القبر وضع تحت جنبه».

وفی آخر لابن سنان مثله، إلاّ أن_ّه قال: «فإذا اُدخل القبر وضع تحت خدّه وتحت جنبه»(1).

نعم، یصحّ هذا الکلام فی مثل الحدیث المرویّ عن یحیی بن أبی العلاء، عن أبی عبد اللّه علیه السلام ، قال: «ألقی شقران مولی رسول اللّه صلی الله علیه و آله فی قبره القطیفة»(2).

حیث لا یکون ذلک من الکفن، إلاّ أن یلاحظ کونه معه فیکفی فی صدقه، وله وجهٌ.

بل قد یظهر من کلمات بعض الأصحاب أنّ الإلقاء علی المیّت یکون بعد أن


1- وسائل الشیعة: الباب 14 من أبواب التکفین، الحدیث 6 .
2- وسائل الشیعة: الباب 27 من أبواب الدفن، الحدیث 2.

ص:22

یدخل القبر ولا یکون معه، هذا کما عن «الفقیه» حیث قال: «وإن شاء لم یجعل الحِبرة معه حتّی یُدخله قبره فیلقیه علیه»؛ حیث یکون فی دلالته علی عدم کونه من الکفن أولی.

وبالجملة: بعدما تبیّن من خلال البحث الآنف الذِّکر حول استحباب الحِبرة وکونها عبریّة، المستفاد ذلک من الأخبار وکلمات الأصحاب، فلایبقی مورد حینئذٍ للاستدلال علی عدم الجواز بکونه إسرافاً وتضییعاً للمال؛ لأنّ الاستحباب إذا ثبت فالعمل به لا یعدّ إسرافاً، خصوصاً مع ملاحظة ما ورد فی استحباب کون الکفن والعمامة من المغالات کما وردت الإشارة إلیه فی الخبر الذی رواه یونس بن یعقوب وقد مرَّ سابقاً، وورد فیه: «وعمامة کانت لعلیّ بن الحسین علیهماالسلام فی بُرد اشتریته بأربعین دیناراً لو کان الیوم لساوی أربعمائة دینار»، حیث یفید أنّ العمل بالاُمور المستحبّة المقتضیة لصرف مال کثیر لا یعدّ إسرافاً، فلا یشمله دلیل المنع.

کما ظهر ممّا حقّقناه أنّ ما یعدّ من البدعة هو ما زاد عن الخمسة، کما ورد التصریح به فی روایة زرارة.

وعلیه، فحمل الأخبار الدالّة علی الزائد عن الثلاثة المفروضة علی التقیّة، لموافقته مع فتاوی العامّة لیس علی ما ینبغی، لأن_ّه :

أوّلاً: یقتضی ثبوت قولهم بذلک وهو غیر معلوم.

وثانیاً: لا یناسب مع ما ذکرنا من أخبارنا الدالّة علی استحباب الزائدة مع الحِبرة أو غیرها، وإن ورد فی «فقه الرّضا» بقوله: «ویُکفّن بثلاث قطع وخمس وسبع»(1). فلعلّه یُراد من السبع إضافة العمامة والخرقة من الثلاث مع اللفافتین، فلایکون حینئذٍ مخالفاً لما اخترناه، واللّه العالم.


1- فقه الرضا علیه السلام : 182 .

ص:23

وخرقةٌ لفخذیه، یکون طولها ثلاثة أذرع ونصفاً فی عرض شبر تقریباً، یُشدّ طرفاها علی صقویه، ویُلفّ بما استرسل منها فخذاه لفّاً شدیداً(1).

الأمر الثالث: یشترط فی الکفن أن لا یکون مطرّزاً بالذّهب، وقد استدلّوا علیه _ مضافاً إلی الإجماع المُدّعی فی «المعتبر» و«التذکرة» _ :

1 _ أن_ّه إتلافٌ وتضییعٌ للمال من غیر إذن من الشارع بذلک.

2 _ وإلی ما فی «جامع المقاصد» من التعلیل فی المنع من جهة ما علیه الفقهاء من المنع فی الکفن بما یمتنع فی الصلاة، والظاهر عدم الخلاف فی اشتراط کون الکفن من جنس ما یُصلّی فیه الرجل.

ومن ذلک یظهر حکم وجه إلحاق الحریر، لو کان طرازه علی وجهٍ یمنع من الصلاة فیه، أی لم یکن من قبیل مزج السداء واللّحمة، وإلاّ یجوز بعد صدق الحِبرة علیها، بل رجحانها، سیّما مع ملاحظة ما ورد من استحباب المغالاة فیثمن الکفن.

نعم، لو حُسّنت الحِبرة باُمور خارجة عن مادّتها، کأنْ اُضیف إلیها شیءٌ من الذهب ونحوه اتّجه المنع للإتلاف وغیره کما عرفت تفصیله، فلا نعید.

(1) أقول: هذه العبارة مشتملة علی اُمور :

الأمر الأوّل: فی أنّ أخذ الخرقة وزیادتها هل هو مستحبّ أو واجب؟

اختار المصنّف وغیره الأوّل، بل فی «الجواهر»: «إجماعاً محصّلاً ومنقولاً مستفیضاً کالنصوص»، وإن کان ظاهر بعض النصوص هو الوجوب نتیجةً لورود الفعل المضارع مکان الأمر الظاهر فیه، مثل الوارد فی خبر ابن سنان من قوله علیه السلام : «تؤخذ خرقة فیشدّ بها علی مقعدته ورجلیه»(1).


1- وسائل الشیعة: الباب 2 من أبواب غسل المیّت، الحدیث 8.

ص:24

بل فی بعضها أنّ الخرقة والعمامة لابدّ منهما ولیستا من الکفن کما فی روایة اُخری لابن سنان(1).

ولکن مع ذلک کلّه لابدّ من حمله علی الاستحباب _ مضافاً إلی الإجماع الذی سمعت بکلا فردیه _ بناءً علی دلالة بعض الأخبار من عدم کونها من الکفن الواجب:

منها: ما ورد فی الخبر الأوّل المرویّ عن ابن سنان، وفیه: «أن_ّها (أی الخرقة) لا تعدّ شیئاً إنّما تصنع لتضمّ ما هناک لئلاّ یخرج منه شیء، وما یصنع من القطن أفضل منهما».

ومنها: روایة حمران بن أعین، عن الصادق علیه السلام ، فی حدیث:

فقلت: فالکفن؟ فقال: یؤخذ خرقة فیشدّ بها أسفله ویضمّ بها لیضمّ ما هناک، وما یصنع من القطن أفضل، ثمّ یکفّن بقمیص ولفافة وبُرد یجمع به الکفن»(2). هذا کما فی «الجواهر» قدس سره .

أقول: ولکنّ الإنصاف أن_ّه لولا الإجماع المُدّعی علی الاستحباب فإنّه لا سبیل لاستفادة الاستحباب من هذین الخبرین، لوضوح أنّها إن لم تکن من الکفن لا یستلزم أن لا یکون أحدها واجباً؛ لأنّ الوجوب بالأخذ منها یکون هو اللاّزم الأعمّ من الکفن، فلابدّ فی إثبات الاستحباب من بعض الروایات التی تدلّ علی أنّ الواجب فی الکفن إنّما یکون هو الثلاثة، والزائد عنها مندوبة ولو لم یکن من الکفن، وهو مثل صحیحة زرارة من التصریح بذلک بقوله: «إنّما الکفن المفروض ثلاثة أثواب أو ثوب تامّ ، لا أقلّ منه یواری فیه جسده کلّه ، فما زاد فهو سنّة


1- وسائل الشیعة: الباب 2 من أبواب غسل المیّت، الحدیث 12 .
2- وسائل الشیعة: الباب 14 من أبواب غسل المیّت، الحدیث 5 .

ص:25

إلی أن یبلغ خمسة ، فما زاد فمبتدع ، والعمامة سنّة، الحدیث»(1).

فإنّک تری تصریحه بأنّ الزائد سُنّة وإطلاقها یدلّ علی أن_ّه لا فرق فیه بین کونها من الکفن أو لم تکن مثل العمامة، ولأجل ذلک تری صراحة بعض الأخبار فی أنّ رسول اللّه صلی الله علیه و آله کُفِّن فی ثلاثة، وکذلک کُفِّن أبو جعفر علیه السلام ؛ الدالّین علی عدم لفّ الخرقة علیهما لعدم احتیاجهما إلیها، لأجل طهارتهما وعدم احتمال خروج ما یخرج عن الإنسان العادی منهما علیهماالسلام بعد موتهما، فیکون ذلک فضیلةٌ لهما وامتیازاً عن غیرهما، بخلاف العمامة حیث ورد ذکرها فی بعض الأحادیث وصرّح بکونها من السنّة کما فی صحیحة زرارة السابقة، وکذلک ورد التصریح بها فی مرفوعة یونس، عن بعض رجاله، عن أبی عبد اللّه، أو أبی جعفر علیهماالسلام قال: «الکفن فریضة للرجال ثلاثة أثواب، والعمامة والخرقة سُنّة، وأمّا النساء ففریضة خمسة أثواب»(2).

وغیرهما ممّا یستأنس أو یستشعر منه ذلک .

الأمر الثانی: هل الخرقة هی المئزر والإزار، أو أن_ّها غیرهما؟

ففی «الجواهر» نسب إلی «الفقیه» و«المقنع» للصدوق قدس سره أن_ّه یظهر منه کونها هو المئزر، ولکن الذی یظهر من الروایات خلافه، مثل ما فی صحیح ابن سنان حیث صرّح علیه السلام بعد سؤال الراوی بقوله: «قلت: فالإزار؟ قال: لا، إنّها لا تعدّ شیئاً»(3).

وقد شرح ذلک الفیض الکاشانی قدس سره فی «الوافی»: «یعنی أنّ الخرقة لا تُعدّ من الکفن ولا تُغنی عن الإزار، والإزار لابدّ منه».

وکذا فی خبر عمّار بن موسی، عن الصادق علیه السلام فی حدیث: «ثمّ الإزار طولاً حتّی


1- وسائل الشیعة: الباب 2 من أبواب غسل المیّت، الحدیث 1 .
2- وسائل الشیعة: الباب 2 من أبواب غسل المیّت، الحدیث 7 و 8 .
3- وسائل الشیعة: الباب 2 من أبواب غسل المیّت، الحدیث 7 و 8 .

ص:26

یُغطّی الصدر والرِّجلین، ثمّ الخرقة عرضها قدر شبر ونصف، ثمّ القمیص، الحدیث»(1).

والمختار عندنا هو المذکور فی هذا الخبر .

الأمر الثالث: فیأنّ الخرقة مستحبّة للرجل والمرأة، وأن_ّها لاتختصّ بأحدهما.

قیل: ویدلّ علیه مضافاً إلی الأصل _ ولعلّ المراد هو أصالة الاشتراک لا الأصل العملی، وإلاّ کان مقتضاه لو أجریناه فی المندوبات البراءة فی مورد الشکّ لأن_ّه مرفوع _ واتّحادالمقتضی؛ أیالملاک فیهما واحد، وهو کونه میّتاً، المقتضی لذلک إلاّ فیما صرّح بخلافه کاللّفافة التی یشدّ بها الثدی حیث تکون مختصّة بالمرأة.

المرفوعة المضمرة المرویّة عن سهل، عن بعض أصحابنا رفعه، قال: «سألته کیف تُکفّن المرأة؟ فقال: کما یُکفَّن الرّجل، غیر أنّها تشدّ علیثدییها خرقة تضمّ الثدی إلی الصدر، الحدیث»(2).

حیث تدلّ علی کون المرأة کالرجل فی الکفن من جمیع الجهات فرضاً وندباً غیر خرقة الثدی، وهو هکذا کما لا یخفی .

بحثٌ : هذه الخرقة هل هی الخامسة من الکفن أم لا ؟

الذی یوهمه بعض الروایات وعبارات الأصحاب هو هکذا، ولکن الأقوی أنّ استحباب الخرقة والعمامة استحبابٌ مستقلٌّ خارجٌ عن ما یجب ویستحبّ فی الکفن، ولعلّه لذلک أشار إلیه فی روایة ابن سنان من أن_ّهما لیستا من الکفن أی مطلقاً من فرضه وندبه، فالمندوب من الکفن غیر الثلاثة هما اللّفافتان اللّتان أشار إلیهما فی روایة محمّد بن مسلم بقوله: «فیما یروی عن أبی جعفر علیه السلام ، قال: یکفّن الرجل فی ثلاثة أثواب، والمرأة إذا کانت عظیمة فی خمسة؛ درع ومنطق وخمار ولفافتین»(3).


1- وسائل الشیعة: الباب 14 من أبواب غسل المیّت، الحدیث 4.
2- وسائل الشیعة: الباب 2 من أبواب غسل المیّت، الحدیث 16 و 9 .
3- وسائل الشیعة: الباب 2 من أبواب غسل المیّت، الحدیث 16 و 9 .

ص:27

فهذه الروایة وإن أوهمت اختصاص ذلک بالمرأة دون الرجل، نظیر المرسل المروی عن یونس، عن أحدهما علیهماالسلام علی التردید، قال: «الکفن فریضة للرِّجال ثلاثة أثواب، والعمامة والخرقة سنّة، وأمّا النساء ففریضة خمسة أثواب»(1).

إلاّ أنّک قد عرفت التصریح بکون الخمسة مستحبّة ومن السُنّة فی الروایة المرویّة عن زرارة حیث یقتضی إطلاقه ثبوتها لکلّ من الرجل والمرأة، إلاّ أن یقیّد ویختصّ بالمرأة، ویحتمل الإطلاق علی إرادة بیان ما هو الجامع فی الکفن، من غیر نظرٍ إلی خصوصیّة الإطلاق، فله وجه .

وعلی کلّ تقدیر فلیست الخرقة والعمامة من الخمسة، بل هما خارجتان کما رأیت دلالة الروایة المرسلة المرویّة عن یونس علیه بالصراحة، مضافاً إلی ما عرفت منّا سابقاً، من دلالة الخبر المرویّ فی «فقه الرّضا» علیه حیث جعل القِطع ثلاثة وخمس وسبع(2). وقد جمعنا بکون المراد من السبع هو الخرقة والعمامة مع تلک الخمسة، واللّه العالم.

أقول: وممّا ذکرنا یظهر أن_ّه لو نذر أحدٌ الکفن وأراد الأعمّ من الواجب والمندوب، لما استلزم نذره وجوب الخرقة والعمامة علیه، لأجل العذر، بخلاف من جعلهما من الکفن المندوب، حیث یجب علیه بذلک لدخولهما فی متعلّق النذر.

الأمر الرابع: فیبیان ما هو حدّ الخرقة طولاًوعرضاًبالنظر إلی لسان الأخبار؟

أقول: الأخبار فی تحدیدها مختلفة، فإنّ المذکور فی خبر عمّار بن موسی، عن الصادق علیه السلام فی حدیثٍ قال: «ثمّ الخرقة عرضها قدر شبر ونصف، ثمّ القمیص تشدّ الخرقة علی القمیص بحیال العورة.. إلی أن قال: التکفین أن تبدأ بالقمیص ثمّ بالخرقة فوق القمیص علی إلییه وفخذیه وعورته، ویجعل طول


1- وسائل الشیعة: الباب 2 من أبواب غسل المیّت، الحدیث 7 .
2- فقه الرضا علیه السلام : 182 .

ص:28

الخرقة ثلاثة أذرع ونصفاً وعرضها شبراً ونصفاً، الحدیث»(1)، فرض المقدار فی طرف الطول بثلاثة أذرع ونصف، وفی العرض فی الموردین بشبرٍ ونصف.

لکن المذکور فی عرضها بمقدار شبر دون ذکر النصف ، وفی طرف الطول لم یذکر شیء، وإلیک نصّ کلامه ، قال علیه السلام : «وخُذ خرقةً طویلة عرضها شبر فشدّها من حقویه ... إلی أن قال : وتکون الخرقة طویلة تلفّ فخذیه من حقویه إلی رکبتیه لفّاً شدیداً»(2).

ولأجل هذا الاختلاف فی ناحیة العرض، وعدم تعرّض الأخبار إلی الطول وتعرّض الخبرین لثلاثة أذرع ونصف، جمع المصنّف بینهما بکونهما تقریبیّاً لا تحقیقیّاً، لأنّ أصل الغرض هو تحقّق الواجب باللّف بالخرقة مطلقاً، مراعاةً وتحفّظاً عن خروج شیء من المیّت یخلّ بحرمته وکرامته، وهی تحصل بأیّ وجهٍ اتّفق مع مراعاة أصل ما ورد فی الحدیث، وإن کان اختیار الأزید أفضل، فالأرجح هو الأخذ بما فی خبر عمّار فی ناحیة العرض، کما هو کذلک فی الطول أیضاً، لعدم التنافی مع الطولیّة فی خبر یونس کما لا یخفی، کما لا یجوز الأقلّ منهما عرضاً وطولاً إذا حصل أصل الغرض والمطلوب ولم یخلّ بها.

الأمر الخامس: فی بیان کیفیّة لفّ الخرقة : إنّ لسان الأخبار فیها أیضاً مختلف، فبعضها خالٍ عن ذکر الکیفیّة:

منها: خبر عمّار المتقدّم، إذ المذکور فیه أصل أخذ الخرقة، حیث قال: «أن تبدء بالقمیص ثمّ بالخرقة فوق القمیص علی إلییه وفخذیه وعورته»(3).

ومنها: خبر حمران الذی فیه: «یؤخذ خرقة فیشدّ سفله، ویضمّ فخذیه بها، لیضمّ ما هناک»(4).


1- وسائل الشیعة: الباب 14 من أبواب التکفین، الحدیث 4 .
2- وسائل الشیعة: الباب 2 من أبواب غسل المیّت، الحدیث 3 .
3- وسائل الشیعة: الباب 14 من أبواب التکفین، الحدیث 4 و 5 .
4- وسائل الشیعة: الباب 14 من أبواب التکفین، الحدیث 4 و 5 .

ص:29

ومنها: خبر ابن سنان الذی فیه: «والخرقة یشدّ بها ورکیه کی لا یبدو منه شیء»(1).

حیث یفهم من الأخیر أنّ الغرض من شدّ الخرقة ولفّها هو أن لا یبدو منه شیء، فبالنظر إلی هذا التعلیل یفهم کفایة ما یحصل ذلک من لفّ الخرقة بأیّ وجهٍ اتّفق.

أقول: ولکن فی بعضٍ آخر منها یتعرّض لکیفیّتها مع اختلاف بینهما، فلا بأس بذکرها:

منها: خبر یونس: «فشدّها من حقویه»(2) وضمّ فخذیه ضمّاً شدیداً ولفّها فی فخذیه، ثمّ أخرج رأسها من تحت رجلیه إلی الجانب الأیمن، واغرزها فیالموضع الذی لففت فیه الخرقة ، وتکون الخرقة طویلة تلفّ فخذیه من حقویه إلی رکبتیه لفّاً شدیداً»(3).

وعلّق صاحب «الجواهر» فی ذیل الحدیث بقوله: «والظاهر أنّ (فی» فی قوله علیه السلام : «فی فخذیه»، بمعنی (علی)، کما أنّ الظاهر إرادة الغمز فی الموضع الذی انتهی عنده اللفّ منه)، انتهی.

ومنها: خبر الکاهلی: «ثمّ ازره بالخرقة ویکون تحتها القطن تذفره به إذفاراً قطناً کثیراً ثمّ تشدّ فخذیه علی القطن بالخرقة شدّاً شدیداً حتّی لا تخاف أن یظهر شیء، الحدیث»(4).

ولا یخفی علیک من وجود الاختلاف فی ضبط کلمات الخبر، فعلی تقدیر کون اللّفظ ما ذکرناه (ثمّ ازره)، فالمزر بتقدیم المعجمة الجمع الشدید والشدّ؛ أی


1- وسائل الشیعة: الباب 2 من أبواب التکفین، الحدیث 12.
2- الحقو بفتح المهملة وسکون القاف موضع شدّ الإزار وهو الخاصرة («مجمع البحرین»).
3- وسائل الشیعة: الباب 14 من أبواب غسل المیّت، الحدیث 5 .
4- وسائل الشیعة: الباب 14 من أبواب غسل المیّت، الحدیث 5 .

ص:30

کون الشدّة للخرقة أی یؤزر بالخرقة علیه.

وفی بعض النسخ: (اذفره) وکأنّه بمعناه کما فی حاشیة «مصباح الهدی»، ولکن فی «الجواهر» والإذفار إنّما هو بالقطن، بمعنی الاثفار، حیث یفهم منه التفاوت بین الکلمتین بکون الاُولی لنفس الشدّ والثانیة لشدّ البطن.

هذا، وقد جاء فی حاشیة «مصباح الهدی»: والإذفار کأنّه لغة فی الإثفار بالثاء المثلّثة، وهو الشدّ بالثفر (وافی) والثفر للدابّة معروف، والجمع أثفار مثل (سبب وأسباب) وهو الذی یجعل تحت ذنبها («مجمع البحرین»)، ویقال بالفارسیّة (پاردم) وآن چرمی باشد پهن که برپس پالان دوزند، و بعضی گویند که چرمی باشد که برپس زین اسب بندند، و بر زیر دُم اسب اندازند (برهان قاطع) »، انتهی ما فی حاشیة «مصباح الهدی»(1).

أقول: یقتضی المقام أن نوضّح صورة الإذفار، فالمراد به حسب ما قیل أی تثفر به إثفاراً، فلابدّ أن یشدّ أحد طرفی الخرقة فی وسط المیّت _ حیث یناسب ذلک مع ما فی خبر معاویة بن وهب: «وخرقة تُعصّب بها وسطه»(2)_ أمّا بأن یشقّ رأسها ویربط أحد طرفیها بوسطه، أو یربط رأسها بخیط ونحوه ویشدّ الخیط علی وسطه، ثمّ تدخل الخرقة بین فخذیه ویضمّ بها عورته ضمّاً شدیداً، ویخرجها من تحت الشداد الذی علی وسطه ثمّ یلفّ حقویه وفخذیه بما بقی لفّاً شدیداً، فإذا انتهت فادخل طرفها تحت الجزء الذی انتهت عنده، وهذا هو المستفاد من الأخبار کما علیه المحقّق الآملی، وعرفت کلامه، فلقد أجاد فیما أفاد.

وفیه: یصعب تطبیق ما ورد فی لسان الأخبار فی بیان کیفیّة شدّ الخرقة، مع ما


1- مصباح الهدی: ج6 / 194 .
2- وسائل الشیعة: الباب 2 من أبواب التکفین، الحدیث 13 .

ص:31

بعد أن یجعل بین إلیتیه شیءٌ من القطن(1). سنن التکفین

ورد فی کلمات الأصحاب فی ذلک، مثل ما فی «الشرائع» من أن_ّه یشدّ طرفاها علی حقویه، ویُلفّ بما استرسل منها فخذاه لفّاً شدیداً، إذ شدّ الطرفین علی الحقوین لا یتصوّر إلاّ بما ذکرناه وبیّناه.

نعم، أحسن ما وقع فی المتون هو الذی جاء فی کلام الشهید فی «الروض» وتبعه سبطه صاحب «المدارک» کما أشار إلیه صاحب «الجواهر» وصاحب «مصباح الهدی» وغیرهما حیث یوافق ما فی الأخبار .

وبالجملة: فالإنصاف أنّ هذا الخبر بل وغیره لا یخلو عن إجمال، ولذلک نقول إنّ الحقّ هو القول بکفایة الشدّ علی نحوٍ یحصل به المطلوب من حفظ المیّت عن خروج شیء منه بعد الغُسل والکفن، کما ورد هذا التعلیل فی حدیث ابن سنان بقوله:«کی لایبدو منه شیء»،فشدّ الخرقة کیفما اتّفق یکفی فیحصول الامتثال، وإن کان الأولی المحافظة علی ما فیخبر یونس، کما لایخفی علی المتأمّل، واللّه العالم.

(1) الظاهر کون استحباب وضع الخرقة بعد ذلک الجعل هو المستفاد من النصّ والفتوی، ولا نقاش فیه ولا إشکال کما یظهر ذلک من لسان بعض الأخبار، وتبعاً له ما فی کلمات الأصحاب .

هذا، ولکن الذی ینبغی أن یقال: إنّ استحباب کلّ منهما (من الوضع والجعل) هل یکون مشروطاً بالآخر، أم یکون کلّ واحدٍ منهما مستحبّاً فی نفسه؟

الظاهر هو الأخیر، کما أشار إلیه صاحب «الجواهر»، وتبعه صاحب «مصباح الفقیه» وصاحب «مصباح الهدی» .

ص:32

والدلیل علیه: _ مضافاً إلی إجماع الشیخ رحمه الله فی «الخلاف» ونقل ذلک عن آخرین، بل فی «الجواهر»: «لا أجد فیه خلافاً فی الجملة» إذ لا ینافیه الاقتصار علی حشو الدُّبر من غیر تعرّض للوضع علیه کما حکی عن جماعةٍ _ دلالة بعض الأخبار علیه:

منها: ما فی خبر عمّار بقوله علیه السلام : «ثمّ تکفّنه، تبدء وتجعل علی مقعدته شیئاً من القطن وذریرة»(1).

ومنها: مرفوعة مضمرة المرویّة عن سهل بقوله علیه السلام : «ویحتشی القبل والدُبُر بالقطن والحنوط ثمّ یشدّ علیها الخرقة شدّاً شدیداً»(2).

وإلیه یرجع ما قاله القاضی رحمه الله : «ویشدّ دبره بالقطن شدّاً جیّداً».

ومنها : روایة یونس من قوله علیه السلام : «واحش القطن فی دبره لئلاّ یخرج منه شیء»(3).

بل لا اختصاص لهذا الاستحباب بخصوص الدبر، بل الحکم ثابت فی فیکون القُبُل أیضاً لدلالة روایة مرفوعة سهل، وکذلک ما فی خبر یونس عنهم علیهم السلام فی قوله: «واعمد إلی قطن فذَر علیه شیئاً من حنوط فضعه علی فرجه قُبلاً ودبراً»(4).

بل قد صرّح بذلک جماعة، کما هو الأمر کذلک، مع إمکان دعوی شمول قوله علیه السلام : «ما بین الإلیتین» لهما خصوصاً فی المرأة لأن_ّه کنایة عمّا یقبح ذکره.

ثمّ عن «التذکرة» و«نهایة الاحکام» وصف القطن بنزع الحبّ، قال فی «الجواهر»: (ولا بأس به)، ولعلّه لأجل کون الغالب من إطلاق کلمة القطن عند


1- وسائل الشیعة: الباب 14 من أبواب التکفین، الحدیث 4.
2- وسائل الشیعة: الباب 2 من أبواب التکفین، الحدیث 16.
3- وسائل الشیعة: الباب 2 من أبواب التکفین، الحدیث 3 .
4- وسائل الشیعة: الباب 2 من أبواب التکفین، الحدیث 3 .

ص:33

وإنْ خَشی خروج شیء، فلا بأس أن یُحشّی فی دبره قطناً(1).

العرف هو ذلک، کما قد صرّح أیضاً بعدم البأس فی التعدّی عن القطن إلی غیره من القماش وما یفید فائدته، ولعلّه استفاد ذلک من التعلیل الوارد من التحفّظ عن خروج شیء منه، وهو حاصلٌ بغیره ممّا هو مثله، ثمّ أمر بالتأمّل، ولعلّه لأجل احتمال الخصوصیّة فی استحباب استعمال القطن فیه، وهو غیر بعید.

(1) هذا کما فی «القواعد» و«المنتهی» و«الخلاف» و«الجامع» وغیره، بل لعلّه مراد کلّ من أطلق کلمة حشوه من دون اشتراط ذلک الشرط، وعلیه فجعل القائلین بالإطلاق فی مقابل القائلین بالشرط المذکور _ کما فی المتن، کما عن بعض متأخّری المتأخّرین _ لیس فی محلّه، ولعلّه کون الغالب وجود هذا الخوف والشرط، أعرضوا عن ذکره ولم یذکروه فی کلامهم .

وکیف کان، فإنّه لا إشکال فی استحبابه عند وجود الشرط، لو لم نقل باستحبابه مطلقاً، لأجل إطلاق بعض الأخبار الذی علّله بنفس احتمال الخروج لا وجود خوفه.

نعم، الذی یقابل قول المصنّف ما یستفاد من ظاهر «السرائر» أو صریحه، بل حُکی عن «نهایة الاحکام» المنع عن ذلک مطلقاً، وعلّله بأنّ حرمة المؤمن میّتاً کحرمته حیّاً؛ لأنّ ذلک هتک .

أقول: وکلامهما لا یخلو عن ضعف، مضافاً إلی کونه اجتهادٌ فی مقابل النصّ، لأنّ الهتک فی عدم المراعاة لا فی المراعاة، إذ من الواضح أنّ ذلک ممّا یدلّ علیه الأخبار المؤیّدة بالإجماع وعمل الأصحاب، بل فی بعضها ما یدلّ علی أنّ المرأة احتیاجها إلی ذلک أشدّ من الرجل، وهو کما فی المرسل المرفوع إلی سهل بن

ص:34

زیاد، من قوله علیه السلام : «ویصنع لها القطن أکثر ممّا یصنع للرِّجال، ویحشی القُبُل والدُّبر بالقطن والحنوط»(1). وذلک لأنّ قُبُل المرأة أقرب إلی المثانة التی هی مجمع البول، ولتجوّفه یتقبّل القطن فی جوفه أکثر من عورة الرجل، ولذلک تری ذکر زیادته فی خبر عمّار وذکر مقدار القطن بنصف المنّ للمرأة بقوله: «تحتاج المرأة من القطن لقُبُلها قدر نصف منّ»(2)، وإن کان هذا التقدیر غیر مذکور فی الفتاوی وأکثر النصوص، ولعلّه ربّما یحتاج إلی أزید منه أو أقلّ، فالأولی وکول المقدار إلی کلّ موردٍ بحسبه .

هذا، ومن جهة اُخری هناک أخبارٌ دالّة علی ذلک _ مضافاً إلی ما عرفت من خبری سهل وعمّار _ فمنها خبر یونس عنهم علیهم السلام فی قوله: «واحش القطن فی دبره لئلاّ یخرج منه شیء»(3).

وقد أشار إلی هذا الحدیث صاحب «الجواهر» بقوله: «نعم، یتّجه الاقتصار علی ما ذکره المصنّف من الاشتراط، کما یشعر به ما فی الأخیر ویؤیّد مراعاة حرمة المؤمن میّتاً کحرمته حیّاً»، مع أنّ الروایة خالیة عن الإشعار إلیه لإمکان أن یکون ذلک علّةً لأصل مطلوبیّة هذا العمل مطلقاً، حتّی مع عدم وجود خوف خروج الشیء منه، ولکن حیث قد وقع الشرط فی کلمات الأصحاب فلا بأس بقبوله.

کما یستفاد من خبر عمّار استحباب حشوه، مع وضع القطن علیه أیضاً، فالاقتصار علی الحشو فقط کما علیه بعضهم لا یخلو عن نظر، کما أشار إلیه صاحب «الجواهر»، واللّه العالم.


1- وسائل الشیعة: الباب 2 من أبواب التکفین، الحدیث 16.
2- وسائل الشیعة: الباب 14 من أبواب التکفین، الحدیث 4 .
3- وسائل الشیعة: الباب 2 من أبواب غسل المیّت ، الحدیث 3.

ص:35

وعمامة یعمّم بها محنّکاً، یلفّ بها رأسه، ویُخرج طرفاها من تحت الحنک، ویلقیان علی صدره(1).

(1) أقول: هذه المسألة مشتملة علی اُمور :

الأمر الأوّل: استحباب زیادة العمامة علی سائر ما یلفّ به المیّت، وعلیه الإجماع محصّلاً ومنقولاً مستفیضاً کالنصوص والفتاوی، وإن کان فی بعض النصوص ما یظهر منه الوجوب :

منها: ما فی صحیحة ابن سنان، بقوله علیه السلام : «والخرقة والعمامة لابدّ منهما ولیستا من الکفن»(1).

ومنها: ما ورد فی روایة یونس من استعماله فعل المضارع فی مقام الإنشاء الظاهر فی الوجوب، بقوله: «ثمّ یعمّم یؤخذ وسط العمامة، الحدیث»(2).

ومنها: خبر عمّار بقوله علیه السلام : «ثمّ عمّمه بطهور»(3).

ومنها: ما ور فی خبر حمران(4)من الأمر بها، الدالّ علی الوجوب، لکن لابدّ أن یصرف إلی الاستحباب لصراحة بعض الأخبار فی کونها سنّة، مثل حدیث زرارة فی قوله: «والعمامة سُنّة»(5).

وروایة مرسل یونس فی قوله: «والعمامة والخرقة سُنّة»(6).

وکون المراد من السنّة هو فرض النبیّ صلی الله علیه و آله فی مقابل فرض اللّه، بعیدٌ جدّاً ومخالفٌ للإجماع وفتاوی الأصحاب، وعلیه فأصل الحکم فیها ثابتٌ لا غبار علیه.

الأمر الثانی: فی بیان مقدار العمامة: ففی «الجواهر»: «ولا مقدار لها فی


1- وسائل الشیعة: الباب 2 من أبواب التکفین، الحدیث 12 و 1 و 7 .
2- وسائل الشیعة: الباب 14 من أبواب التکفین، الحدیث 2 و 4 و 5 .
3- وسائل الشیعة: الباب 14 من أبواب التکفین، الحدیث 2 و 4 و 5 .
4- وسائل الشیعة: الباب 14 من أبواب التکفین، الحدیث 2 و 4 و 5 .
5- وسائل الشیعة: الباب 2 من أبواب التکفین، الحدیث 12 و 1 و 7 .
6- وسائل الشیعة: الباب 2 من أبواب التکفین، الحدیث 12 و 1 و 7 .

ص:36

النصوص والفتاوی، فیکون المدار علی ما یحصل به اسمها، لکن صرّح جماعة أن_ّه یعتبر فیها بالنسبة إلی الطول ما یؤدّی الهیئة التی ستأتی، بأن یلفّ بها رأسه، ویکون لها ذؤابتان من الجانبین یلقیان علی صدره، وفی العرض ما یُطلق معه اسم العمامة»، انتهی .

ثمّ استشکل علی نفسه، بقوله: «قد یناقش فیه بالنسبة إلی الأوّل بأنّ ذلک مستحبٌّ فی مستحبّ، وإلاّ فلا یعتبر فیها ذلک، فالأولی حینئذٍ جعل المدار فیهما معاً علی صدق اسمها».

أقول: إنّ ما ذکره هو الذی ذهب إلیه أکثر الفقهاء من المتأخّرین، ولکن بعد الدقّة فی بعض الأخبار :

1 _ مثل خبر یونس فی قوله: «ثُمّ یعمّم، یؤخذ وسط العمامة فیثنّی علی رأسه بالتدویر، ثمّ یلقی فضل الشقّ الأیمن علی الأیسر والأیسر علی الأیمن ثمّ یمدّ علی صدره»(1).

2 _ وخبر عمّار بن موسی فی قوله: ویطرح فضل العمامة علی وجهه(2).

3 _ وخبر حمران: «ثمّ خذوا العمامة فانشروها مثنیة علی رأسه واطرح طرفیها من خلفه وابرز جبهته»(3).

وغیر ذلک من الأخبار، یوصلنا إلی أنّ العمامة المأخوذة علی حدّ من جانب الطول یتحقّق به ذلک، بأن یرجع ذلک إلی أصل الاستحباب، لا کونه مستحبّاً فی مستحبّ، بحیث لو عمّم ولم یکن فیها شیء من ذلک فقد عمل بالاستحباب.

نعم، یصحّ ذلک فی ناحیة العرض بأن یقال بکفایة ما یصدق علیه العمامة عرفاً، ولکن مع ذلک کلّه لا یبعد القول بمقالة الأصحاب، خصوصاً إذا لم یمکن


1- وسائل الشیعة: الباب 14 من أبواب التکفین، الحدیث 3 و 4 و 5 .
2- وسائل الشیعة: الباب 14 من أبواب التکفین، الحدیث 3 و 4 و 5 .
3- وسائل الشیعة: الباب 14 من أبواب التکفین، الحدیث 3 و 4 و 5 .

ص:37

تحصیل الزائد فی الطول، حیث لا إشکال فی حصول أصل الاستحباب بنفس العمامة، ولو لم تکن بما یکفی ذلک .

بل قد یظهر من بعض الأخبار النهی عن ترک الحنک، لأنّ ترکها یجعل العمامة مثل عمامة الأعراب، وعِمّة الأعرابی عبارة عن عمامة لم تکن لها الحنک، کما أشار إلیه صاحب «الحدائق» نقلاً عن الشیخ فی «المبسوط»، والنهی حینئذٍ راجع إلی الکیفیّة لا أصل العمامة.

هذا، وقد أمر صاحب «الجواهر» بالتأمّل بعده، ولعلّه نظر إلی أنّ النّهی قد تعلّق فی متن الروایة بأصل العمامة کما فی خبر عثمان النوا فی حدیثٍ: «وإذا عمّمته فلا تعمّمه عمامة الأعرابی»(1).

وکذا فی الخبر المرویّ فی « فقه الرّضا » فی حدیث: «وإیّاک أن تعمّمه عِمّة الإعرابی»(2).

أقول: الإنصاف أنّ النّهی موجّهٌ إلی الکیفیّة کما أشار إلیه، لا لکونها بنفسها منهیّاً عنها، کما لا یخفی .

الأمر الثالث: فی أنّ العمامة هل هی من الکفن الواجبة ومندوبة، أم لا؟

الظاهر هو الثانی کما صرّح به جماعة، بل حکاه فی «کشف اللّثام» عن المعظم، وعن «کشف الالتباس» نسبته إلی الأصحاب، المشعر إلی کونه إجماعیّاً، فیکون هو الدلیل، منضمّاً إلی دلالة بعض الأخبار المصرّح لذلک:

منها: روایة الحلبی فیقوله علیه السلام : «ولیس تعدّ العمامة من الکفن إنّما ما یلفّ به الجسد»(3).


1- وسائل الشیعة: الباب 16 من أبواب التکفین، الحدیث 20.
2- مستدرک الوسائل: ج1 الباب 12 من أبواب التکفین، الحدیث 1 .
3- وسائل الشیعة: الباب 2 من أبواب التکفین، الحدیث 10.

ص:38

ومنها: الخبر المرویّ عن زرارة فی الصحیح فی من سأل أبا جعفر علیه السلام فی خصوص ذلک بقوله: «العمامة للمیّت من الکفن هی؟ قال علیه السلام : لا، إنّما الکفن المفروض ثلاثة أثواب أو ثوب تامّ لا أقلّ منه یواری فیه جسده کلّه، فما زاد فهو سنّة إلی أن یبلغ خمسة، فما زاد فمبتدع، والعمامة سنّة»(1).

وهذه الروایة مشتملة علی جهات عدیدة:

أوّلاً: نفی کونها من الکفن .

وثانیاً: کون النفی فی کلتا جهتی الکفن من الواجب فیها ثلاثة، ومن المندوب منها فی الزائد عنها إلی الخمسة.

وثالثاً: کون العمامة بنفسها من المندوب لا بما أنّها من الکفن، حیث تظهر ثمرته فی النذر وغیره، حیث لا یجب الوفاء به من حیث العمامة إذا تعلّق النذر بالکفن للأعمّ من الواجب، کما لا یخفی علی المتأمّل.

وعلیه، فما فی «الذکری» و«جامع المقاصد» و«الروضة» فیکتاب الحدود، من أن_ّها لیست من الواجبة، وأن_ّها تعدّ من المندوبة، جمعاً بین هذه الأخبار وبین ما یظهر منه کونها منه:

1 _ مثل صحیح ابن سنان فی قوله: «ثمّ الکفن قمیص غیر مزرور ولا مکفوف وعمامة یعصّب بها رأسه»(2).

2 _ وخبر معاویة بن وهب: «یکفّن المیّت فی خمسة.. إلی أن قال: وعمامة یتعمّم بها»(3).

3 _ وخبر یونس بن یعقوب: «إنّ أباه أوصاه فقال: اشتر لی بُرداً واحداً وعمامة


1- وسائل الشیعة: الباب 2 من أبواب التکفین، الحدیث 1 و 8.
2- وسائل الشیعة: الباب 2 من أبواب التکفین، الحدیث 1 و 8.
3- وسائل الشیعة: الباب 2 من أبواب التکفین، الحدیث 13 .

ص:39

وأجدهما فإنّ الموتی یتباهون بأکفانهم»(1).

4 _ ومثله فی حدیثٍ آخر(2).

لیس علی ما ینبغی، لعدم ظهورٍ فی ذلک یقاوم تلک الأخبار، غایته الدلالة علی استحباب العمامة، إمّا کونها منه أم لا، فهی ساکتة عنه، بل لا دلالة فیها إلاّ بنحو من الإشعار، فلا یُصار إلیه مع وجود تلک الأخبار الواضحة، وعلیه فلا حاجة حینئذٍ إلی حملها بکونه علی نوع من المجاز فی الإطلاق، کما نقله صاحب «الجواهر» قدس سره بقوله: «قد یقال»، وعلیه فالمسألة واضحة.

الأمر الرابع: فی بیان هیئة وضع العمامة، وهل یجب أن تکون محنّکة بأن یلفّ بها رأسه ویخرج طرفاها من تحت الحنک، ویلقیان علی صدره أم لا ؟

الظاهر أنّ الإجماع علی ما ورد أوّلاً کما فی «کشف اللّثام» وعلیه الأصحاب، کما فی «المعتبر»، وذهب إلیه علمائنا کما فی «التذکرة»، ولا خلاف فیه کما فی «الذخیرة» ومجمعٌ علیه کما فی «الحدائق»، والحجّة علیه مضافاً إلی ما عرفت دلالة الأخبار علیه، کما فی مرسل ابن أبی عمیر عن الصادق علیه السلام : «فی العمامة للمیّت فقال: حنّکه»(3).

بل قد یستفاد ذلک من النهی عن عِمّة الأعرابی _ التی قد علمت تفسیرها عن «المبسوط» و«الحدائق» _ التی هی عمامة لا حنک لها کما ورد فی روایة عثمان النوا بقوله: «وإذا عمّمته فلا تعمّمه عِمّة الأعرابی»(4).


1- وسائل الشیعة: الباب 18 من أبواب التکفین، الحدیث 1 و 7 .
2- وسائل الشیعة: الباب 16 من أبواب التکفین، الحدیث 2.
3- وسائل الشیعة: الباب 18 من أبواب التکفین، الحدیث 1 و 7 .
4- وسائل الشیعة: الباب 14 من أبواب التکفین، الحدیث 2.

ص:40

وفی روایة «فقه الرّضا»: «وإیّاک أن تعمّمه عمّة الأعرابی»(1).

وعلیه، إذا ثبت استحباب التحنّک فی العمامة، فإنّه یمکن استفادة کیفیّة لفّها علی المیّت من الأخبار الواردة:

منها: ما ورد فی المتن مثل الروایة المرسلة المرویّة عن یونس فی حدیث: «ثمّ یعمّم یؤخذ وسط العمامة فیثنّی علی رأسه بالتدویر، ثمّ یلقی فضل الشقّ الأیمن علی الأیسر، والأیسر علی الأیمن، ثمّ یمدّ علی صدره»(2).

ومنها : حدیث ابن سنان: «وعمامة یعصّب بها رأسه ویردّ فضلها علی رجلیه»(3).

ومنها: حدیث حمران(4).

بل قد یفهم ذلک أیضاً من خبری معاویة بن وهب وعمّار بن موسی: فقد جاءفیالأوّل قوله علیه السلام : «وعمامة یعتمّ بها ویلقی فضلهاعلیصدره».(5)

وفی الثانی قوله علیه السلام : «ثمّ العمامة ویطرح فضل العمامة علی وجهه»(6).

أقول: الظاهر کون المندوب إلقاء طرفی العمامة علی صدر المیّت، کما وقع فی حدیث یونس والخبر المرویّ فی «فقه الرّضا»، وخبر معاویة، ولعلّه هو المراد من (علی وجهه) الوارد فی حدیث عمّار ومعاویة بن وهب علی نسخة الشیخ فی «التهذیب»، مع کون نسخة «الکافی» هو المصدر لأن_ّه أضبط، بأن یکون فی بیان


1- «فقه الرّضا» فی المستدرک: ج1 الباب 12 من أبواب التکفین، الحدیث 10.
2- وسائل الشیعة: الباب 2 من أبواب التکفین، الحدیث 12 و 13.
3- وسائل الشیعة: الباب 14 من أبواب التکفین، الحدیث 3 و 15.
4- وسائل الشیعة: الباب 2 من أبواب التکفین، الحدیث 12 و 13.
5- وسائل الشیعة: الباب 14 من أبواب التکفین، الحدیث 3 و 15.
6- وسائل الشیعة: الباب 2 من أبواب التکفین، الحدیث 12 و 13.

ص:41

التقابل مع الخلف أی یجعل فی طرف الوجه، کما یحتمل أن یکون هذا هو المراد من الرجلین فی حدیث ابن سنان بناءً علی نسخة «التهذیب»، مع أنّ صاحب ویُزاد للمرأة لفافة لثدییها ونمطاً(1).

«الوسائل» بعد نقل الرجلین، قال: «أقول: هذا تصحیفٌ، والصحیح: «یردّ فضلها علی وجهه»، ذکره صاحب «المنتهی» ویأتی ما یشهد له»، انتهی کلامه.

قلنا: ولعلّ هذا التصحیف وقع فی روایة حمران بن أعین، حیث جاء فیها قوله علیه السلام : «واطرح طرفیها من خلفه وابرز جبهته».

أو المراد منه وراء الجبهة أی سواها، وهو بعیدٌ غایته، أو لابدّ من طرحه کما احتمله صاحب «الجواهر» قدس سره ، فالأولی هو القول بالاستحباب بإلقاء طرفیها علی صدر المیّت، واللّه العالم .

(1) واستحباب ذلک _ أی اللّفافة _ ثابتٌ لا خلاف فیه عند الفقهاء کما ورد التصریح بذلک فی «المبسوط» و«الوسیلة» و«السرائر» و«الجامع» و«النافع» و«المعتبر» و«القواعد» و«الإرشاد» و«التحریر» و«المنتهی» وغیرها، بل فی «الجواهر»: «لا أجد فیه خلافاً»، وعلیه فنسبته إلی الشهرة کما عن بعضٍ، أو التوقّف فی استحبابه کما عن بعضٍ آخر لضعف مستنده، وهو الخبر المرفوع المضمر لسهل، لا یخلو عن وهن، لما قد عرفت من احتمال وجود الإجماع فضلاً عن الشهرة وهو الحجّة، وجابرة لضعف الخبر کما هو دیدنهم فی سائر الموارد، وإلیک الخبر الذی استند إلیه فی المقام وهو الذی رواه الکلینی بإسناده عن سهل عن بعض أصحابنا رفعه، قال: «سألته کیف تُکفّن المرأة؟ فقال: کما یُکفّن الرّجل غیر أنّها تشدّ علی ثدییها خرقة تضمّ الثدی إلی الصدر، وتشدّ علی ظهرها، الحدیث»(1).

هذا فضلاً عن مدلول أدلّة التسامح فی السنن.


1- وسائل الشیعة: الباب 2 من أبواب التکفین، الحدیث 16.

ص:42

وعلیه، فما فی «الریاض» من عدم جواز المسامحة فی مثله، لاستلزامه تضییع المال المحرّم، غیر سدیدٍ، لوضوح أن_ّه بعدما قام الدلیل علیه ولو بواسطة الانجبار أصبح ذلک بمنزلة الدلیل الحاکم علی دلیل التضییع ووارداً علیه، لأن_ّه یخرج المورد عن التضییع موضوعاً، لأنّ الشارع بنفسه قد أخرجه، بلا نظر إلی ملاکه من ترتیب نفع دنیوی أو اُخروی أو هما معاً علیه أم لا، لعجزنا عن درک الملاکات الواقعیّة النفس الأمریّة، مع أن_ّه هنا موجودٌ ویکفی فیه کونه موجباً لعدم ظهور حجم ثدییی المرأة المیّتة، وعدم انتشار الأکفان بهما مثلاً، وغیر ذلک من المنافع، مضافاً إلی إمکان ترتّب نفع أخروی علیهما، وعلیه فلا یعدّ استعمال القماشین المذکورین فی لفّ ثدیّی المرأة تضییعاً لا لغةً ولا عرفاً ولا شرعاً، کما لایخفی، وعلیه فلا یبقی هنا موردٌ للبحث عن التعارض بین دلیل التسامح والخبر الضعیف المنجبر، مع دلیل حرمة التضییع، ومن ثمَّ الحکم بتقدیم دلیل التسامح علی أدلّة التشریع، إذ لیس المورد من قبیل الخاص والعام حتّی یلاحظ التقدیم فی أحدهما، کما لا یکون المقام مقام جریان دلیل الاحتیاط فیه، بعدما عرفت من قیام دلیل معتبر علی استحبابه کما هو واضح .

أقول: بقی أن نبحث فی المقام عن المراد من النمط الوارد ذکره فی المتن، وأن_ّه هل هو الحِبرة التی قد عرفت بحثها واستحبابها؟ أو هو من القسم الواجب من الکفن ؟ أو هو شیءٌ زائد فی المرأة غیر الواجب والمندوب من الکفن ؟ وجوهٌ وأقوال.

ظاهر المصنّف وغیره أنّ النمط قماشٌ غیر الحِبرة، ومستحبّ معها، فیکون النمط عبارة عن قماش زائد غیر الواجب والمندوب، فیکون النمط عبارة عن القماش الذی یلفّ به ثلاثة أقمشة أُخری؛ أحدها الواجب، فهو مغایر عن الخرقة

ص:43

والحِبرة والعمامة، وخرقة تُشدّ بها الثدی، کما یظهر ذلک من کلام صاحب «الوسیلة» و«المقنعة» و«الخلاف» و«المبسوط»، ومحکی «المراسم» و«النهایة»، حیث قد عبّر بعضهم أن_ّه یستحبّ للمرأة أن تزاد لفافتین، والظاهر أنّ غیر ما هو الواجب والمندوب فی الرجل _ کما عن «الاقتصاد» بعد ذکر الرجل بأن تزاد له لفافة اُخری _ إمّا حبرة أو ما یقوم مقامها، قال: «وإن کان امرأة زیدَ لفّافة اُخری، وروی أیضاً نمط» حیث یفهم من کلامه المغایرة.

بل قد یظهر من «الفقیه» و«الهدایة» کما عن «رسالة علی بن بابویه» والده، والحلبی استحباب النمط للرجال والنساء معاً لذکرهم له مطلقاً: قال فی الأوّل: «تبدأ بالنمط وتبسطه وتبسط علیه الحِبرة، وتبسط الإزار علی الحِبرة، وتبسط القمیص علی الإزار».

ونحوه عن رسالة أبیه، حیث یحتمل کون مرادهم جعل النمط من الأکفان، کما یحتمل غیره بأن یکون خارجاً عنها ویلفّ به المیّت، کما یحتمل أن لا یکون ممّا یلفّ به المیّت بأن یکون فرشاً یوضع تحت کفن المیّت .

وکیف کان، فالظاهر من کلمات الأصحاب أنّ النمط قماش غیر الکفن وغیر الحِبرة وإن أمکن عدّ الحِبرة من الکفن استحباباً، کما أنّ الظاهر أن_ّه غیر الخرقة لشدّ الثدیین والفخذین وغیر العمامة فی الرجل والقناع فی المرأة، ولکن مع ذلک کلّه لابدّ أن یلاحظ أن لا یزاد فی الکفن _ إن جعلناه منه _ عن الخمسة، لما قد عرفت من دلالة صحیحة زرارة علی أنّ السنّة إلی الخمسة حیث قال علیه السلام بعد ذکر الکفن المفروض وأن_ّه ثلاثة أثواب، قال: «فما زاد فهو سنّة إلی أن یبلغ خمسة فما زاد فمبتدع»(1)، وظاهرها عموم الحکم فی کلّ میّت رجلاً کان أم


1- وسائل الشیعة: الباب 2 من أبواب التکفین، الحدیث 1.

ص:44

امرأة، وغایة ما یمکن الالتزام به هو إخراج مثل العمامة وخرقة الفخذین ولفافة الثدیین والقناع عن الکفن، حتّی لا یعارض مع الصحیحة، کما لا یبعد ذلک، لانصراف لفظ الثوب عن مثل هذه الاُمور عرفاً کما لا یخفی .

وعلیه، فما لم یبلغ ما یصدق علیه الکفن عمّا زاد عن الخمسة، لا مانع من الالتزام به، وعلیه فما ورد فی حدیث یونس: «وأمّا النساء ففریضته خمسة أثواب»(1)، وروایة محمّد بن مسلم: «والمرأة إذا کانت عظیمة فی خمسة: درعٌ ومنطق وخمار ولفافتین»(2). لا یکون منافیاً للصحیحة.

فما فی «مصباح الفقیه» من إمکان دعوی القطع من تتبّع النصوص وغیرها بعدم إرادة الشارع لفّ المیّت فی لفائف أربع أو خمس؛ ولو صحّ لکان فی الرجال لا النساء، إن أراد من اللفائف ما یشمل الکفن فهو، وإلاّ لصحّ کلامه فی حقّ کلّ من الرجل والمرأة.

أقول: بقی هنا استعراض مارواه المجلسی قدس سره فی«البحار» عن «مصباح الأنوار» عن جعفر بن محمّد، عن أبیه علیهماالسلام : «أنّ فاطمة علیهاالسلام کُفّنت فی سبعة أثواب»(3). حیث أنّ السبعة فی الکفن لا یناسب مع ما ورد فی الصحیحة من أنّ الزائد مبتدَع، فکیف الجواب؟

قلنا: علی فرض تسلیم ورود هاتین الروایتین، وصحّتهما، فإنّه یمکن الجمع بینهما:

أوّلاً: بحملهما علی کون المراد من السبعة جمیع ما استعمل فی الکفن من خرقة الفخذ والثدیین، کما ورد ذکرهما فی «فقه الرّضا» بأنّ القطع ثلاثة وخمس وسبع، واستبعاده هنا هو عدم صحّة إطلاق الکفن علی الجمیع، کما تری صحّة ذلک فی «فقه الرّضا» من إطلاق القطع علیها دون الکفن.


1- وسائل الشیعة: الباب 2 من أبواب التکفین، الحدیث 7 و 9 .
2- وسائل الشیعة: الباب 2 من أبواب التکفین، الحدیث 7 و 9 .
3- المستدرک : ج11 الباب 1 من أبواب التکفین، الحدیث 9 .

ص:45

وثانیاً: من إمکان القول بالاستثناء فی حقّ فاطمة علیهاالسلام ، أی لا تکون هذه الزیادة بدعة فی حقّها وحقّ غیرها من الأئمّة علیهم السلام ، کما هو الحال من الاستثناء فی عدد تکبیرات الصلاة علیهم علیهم السلام ، ولو فی حقّ بعضهم، أو تغیّر کیفیّة الصلاة علی جنائزهم الطاهرة علیهم السلام ، وعلیه فلا یجب أن یقاس ما فعل بهم مع ما هو الواجب فی حقّ سائر المؤمنین ، إلاّ فی موارد حکمت الأخبار بوجوب التسویة فیها بین الجمیع .

هذا کلّه علی فرض ثبوت حکم النمط عندنا، وإلاّ فقد استشکل صاحب «الجواهر» قدس سره بقوله: «وإن کنّا لم نقف فی شیء من أخبارنا الموجودة فی«الوسائل» و«الوافی» علی ذکر النمط».

أقول: لکنّ الظاهر من کلمات الأصحاب ومنهم المصنّف قدس سرهم معلومیّة استحبابه، حیث نقلوا ذلک فی المندوبات جزماً بلا تردید، فلا بأس به بملاحظة التسامح فی أدلّة السنن .

وأمّا الکلام فی توضیح معنی النمط: فأحسن ما قیل فیه هو ما فی«الجواهر»، حیث قال ما نصّه: «وأمّا النمط فعن «الصحاح»: إنّه ضربٌ من البُسُط، وعن «شمس العلوم»: فراشٌ منقوش بالعِهن، وعن «العین» و«المحیط»: طهارة الفراش، وعن «النهایة» الأثیریّة: ضربٌ من البُسُط له خَملٌ رقیق. إلی أن قال: وعن تهذیب الأزهری: النمط عند العرب والزوج ضربٌ من الثیاب المصبوغة، ولا یکادون یقولون النمط والزوج إلاّ لما کان ذا لونٍ من حُمرة أو خُضرة أو صُفرة، فأمّا البیاض فلا یقال له نمط. وفی «القاموس»: النمط طهارة فراش ما أو ضَربٌ من البُسُط، والطریقة والنوع من الشیء، وثوبٌ یُطرح علی الهودج»، انتهی ما فی «الجواهر»(1).


1- الجواهر: ج4 / 215 _ 216 .

ص:46

ویُوضع لها بدلاً عن العمامة قِناعٌ(1).

أقول: الظاهر _ کما علیه المحقّق فی «المعتبر» والعلاّمة فی «المنتهی» و«التذکرة»، وابن إدریس فی «السرائر»، والمحقّق الثانی فی «جامع المقاصد»، وصاحب «الجواهر» وغیرهم _ کون المراد من النمط هو ثوبٌ وسیعٌ یشمل جمیع بدن المیّت کاللّفافة والحِبرة فیناسب مع الکفن المذکور فی البحث السابق، واللّه العالم.

(1) والمراد من القناع هو الخِمار، ولعلّ التعبیر بالخمار کان أصوب تبعاً للنصّ، وإن کان المآل واحداً، لأن_ّه قد فُسّر القناع بالخِمار، إذ الخمار من باب تخمیر الرأس بالمقنعة أی تغطیته، إذ المراد من کلّ شیء غطّیته هو خمّرته، کما هو الحال فی المقنعة بالکسر، وهی ما تقنّع به المرأة رأسها.

وقال الجوهری: «والقناع أوسع من المقنعة».

والدلیل علیه: _ مضافاً إلی الإجماع لما فی «الجواهر»: «بلا خلاف أجده بین المتأخّرین» ما نسبه غیر واحدٍ إلی الأصحاب مشعراً بدعوی الإجماع علیه _ روایتی محمّد بن مسلم(1) وعبد الرحمن: ففی الأُولی: «فی خمسة: درع ومنطق وخمار». وفی الثانیة: «خمسة أثواب أحدها الخمار»(2).

والظاهر کفایة المسمّی، لعدم وجود تحدید فیه، حیث یکون المرجع حینئذٍ إلی العرف کالعمامة فی ناحیة العرض ، لو لم نقل فی طولها ، فالمسألة فی المرأة واضحة.

أقول: لکن الذی ینبغی أن یبحث فیه هو الخنثی المُشکل، فهل هی ملحقة


1- وسائل الشیعة: الباب 2 من أبواب التکفین، الحدیث 9 و 18 .
2- وسائل الشیعة: الباب 2 من أبواب التکفین، الحدیث 9 و 18 .

ص:47

بالمرأة فی المسألة أم لا؟ فیه وجهان واحتمالان: فالمحکی عن فخر المحقّقین فی «شرح الإرشاد» إلحاقها بالاُنثی، معلّلاً بکون حکم الخنثی فی حال الحیاة هو الاستتار بالخمار، وأنّ جسدها عورة، وفی الإحرام تکون بحکم النساء.

وأورد علیه: صاحب «مصباح الهدی» بقوله: «ولا یخفی ما فیه؛ لأنّ إلحاقها بالنساء فی حال حیاتها فی بعض الأحکام، لا یقتضی إلحاقها بأحکامهنّ بعد الموت، ولیس المناط فی جعل الخمار لمیّت النساء هو رعایة استتارها حتّی یقال بإلحاق الخنثی بها، مع أن_ّه لو کان کذلک لم یوجب الإلحاق، لأنّ کون الخنثی مثلها فی التستّر فی حال الحیاة لا یوجبُ إلحاقها بهنّ فی وظیفة الخمار لها بعد الموت، لکونها مستورة باللّفافة من غیر حاجة فی سترها إلی الخمار»، انتهی(1).

وفیه: لا یخفی ما فی کلامه من الإشکال، لوضوح أنّ المناط إذا لم یکن لأجل التستّر فیرد مثل هذا الإشکال علی النساء، لأنّهنّ أیضاً مستورات باللّفافة، فلا حاجة لهنّ إلی الخمار، فیفهم أنّ ذلک لیس إلاّ لأجل التأدّب والتعبّد حین توجّههنّ إلی ربّ الأرباب، فلابدّ لهنّ من الحجاب والتستّر کما هو الأمر کذلک فی حال صلاتهن، فإذا حکم الشارع فی حقّ الخنثی بحکم الاُنثی فی الإحرام والتستّر فی حال الحیاة، یفهم حکمها أیضاً فی حال الموت، فیلحق بهنّ، وعلیه فما ذهب إلیه الفخر لا یخلو عن وجه .

أقول: وبما ذکرنا یظهر أن_ّه لا وجه للحکم بالجمع جمعاً بین الاستحبابین من العمامة والخمار، عملاً بالأصل فی کلّ منهما، إذ الأصل عدم کونها امرأة، کما أنّ الأصل عدم کونها رجلاً، مع أنّ مقتضی الأصل حینئذٍ هو ترکهما، سواء قلنا بکون الحکم فی کلّ منهما حرمة العمل بما هو مقتضی کلّ واحدٍ منهما من العمامة


1- مصباح الهدی: ج6 / 189 .

ص:48

وأن یکون الکفن قُطناً(1).

والخمار، أو قلنا باستحباب العمل بمقتضی کلّ واحدٍ کما وردت الإشارة إلیه فی «مصباح الفقیه» لا الجمع کما أشار إلیه صاحب «الجواهر»، مع أنّ الحرمة لایتوجّه إلی المیّت حتّی یُستصحب، بل متوجّهة إلی الأحیاء المتکفّلین لغسلها، کما أنّ حکم الاستحباب أیضاً کذلک.

وبالجملة: فما ذکره الفخر وإن کان لا یخلو عن وجهٍ، ولکن حیث لا یمنع ذلک عن العمل بالاحتیاط، لما قد ظهر فی محلّه من عدم ثبوت الحرمة فی الإتیان بخلاف مقتضی کلّ واحدٍ إلاّ بالتشریع لا برجاء المطلوبیّة کما فی المقام، فالإتیان بالجمع _ کما علیه صاحب «الجواهر» وصاحب «مصباح الهدی» _ یکون أوجه کما لا یخفی علی المتأمّل الدقیق المطّلع علی القواعد، و اللّه العالم.

(1) استحباب ذلک مورد إجماعٍ کما یظهر من کلام المحقّق فی «المعتبر» بقوله: «هو مذهب العلماء»، بل فی «التذکرة» بإضافة الکافّة کما عن «النهایة» الإجماع علیه، وهو الحجّة، مع إمکان التمسّک بالتأسّیالذی قد نقله فی«المعتبر»و«التذکرة» وأنّ النبیّ صلی الله علیه و آله کُفّن بالقطن الأبیض، هذا فضلاً عن قیام نصوص دالّة علیه:

منها: ما فی خبر أبی خدیجة، عن أبی عبد اللّه علیه السلام ، قال: «الکتّان کان لبنی إسرائیل یکفّنون به، والقطن لاُمّة محمّد صلی الله علیه و آله »(1).

کما أن_ّه یستحبّ أن یکون الکفن أبیض لما ورد فی الخبر المرویّ عن ابن القدّاح، عن أبی عبد اللّه علیه السلام أن_ّه قال: «قال رسول اللّه صلی الله علیه و آله : البسوا البیاض فإنّه


1- وسائل الشیعة: الباب 20 من أبواب التکفین، الحدیث 1.

ص:49

أطیب وأطهر وکفّنوا فیه موتاکم»(1). ومثله روایة الحنّاط.

ومنها: روایة جابر، عن أبی جعفر علیه السلام ، قال: «قال النبیّ صلی الله علیه و آله : لیس من لباسکم شیء أحسن من البیاض، فالبسوه وکفّنوا فیه موتاکم»(2).

ومنها : ما عن «المعتبر» و «التذکرة» أن_ّهما أرسلا : «أنّ النبیّ صلی الله علیه و آله کُفِّن بالقطن الأبیض».

وبالجملة: فدلالة هذه الأخبار علی الحکم المذکور واضحة ولا لبَس فیها.

لا یُقال: قد ورد الأمر بذلک فی الروایات وهو ظاهر فی الوجوب.

لأن_ّا نقول: _ مضافاً إلی قیام الإجماع علی الاستحباب عدا ما فی«الخلاف» حیث یظهر منه القول بالوجوب، إلاّ أن یحمل علی الاستحباب المؤکّد، کما قد یُطلق الوجوب علی مثله فی کلام المتقدّمین _ إنّ التعلیل بکونه أحسن وأطهر وأطیب یناسب مع الاستحباب،خصوصاً مع ملاحظة انضمامه بلباس الأحیاء،حیث لم یذهب إلی الوجوب أحدٌ، فوحدة السیاق یقتضیذلک، کما لایخفی علی المتأمّل.

أقول: ثمّ الظاهر کون البیاضیّة فی الکفن مستحبٌّ فی مستحبّ من باب تعدّد المطلوب، لا بصورة التقیید علی القطن حتّی یصیران معاً مستحبّاً واحداً، کما علیه صاحب «الجواهر»، إذ التقیید بالمُثبتین مع إمکان التعدّد فی المطلوب وحمله علی الأفضلیّة ممّا لا وجه، فالتکفین بالقطن الأبیض یعدّ أفضل ممّن کفّن فی القطن بالخصوص أو فی خصوص القماش الأبیض غیر القطن.

وما ذکرناه لا ینافی مع معقد الإجماع أیضاً، کما یؤیّده ما عرفت من أنّ کفن النبیّ صلی الله علیه و آله کان مشتملاً علی القطن والأبیضیّة.


1- وسائل الشیعة: الباب 19 من أبواب التکفین، الحدیث 1 و 2 .
2- وسائل الشیعة: الباب 19 من أبواب التکفین، الحدیث 1 و 2 .

ص:50

بحثٌ: ظاهر الأحادیث أنّ ترک ذلک یعدّ ترکاً للمستحبّ لا فعلاً للکراهة إلاّ فیما ورد فیه النهی الملازم للکراهة مثل الکتّان _ کما سیأتی ورود الحدیث فی ترکه _ أو التکفین فی القماش الأسود، والدلیل علی ذلک: سنن التکفین

1 _ قیام الإجماع علی ترکه کما ادّعاه فی «المعتبر» و«التذکرة» و«نهایة الأحکام»، بل وفی «المنتهی»: «لا نعرف فیه خلافاً».

2 _ وللنهی عنه فی خبر الحسین بن المختار عن الصادق علیه السلام قال: «لا یکفّن المیّت فی السواد»(1).

وفی روایته الاُخری، قال: «قلت لأبی عبد اللّه علیه السلام : الرجل یحرم فی ثوب أسود؟ قال: لا یحرم فی الثوب الأسود ولا یکفّن به»(2).

3 _ مضافاً إلی ما عندنا من کراهة لبس الثیاب السود إلاّ فی عزاء أهل البیت علیهم السلام .

وعلیه، فما عن المشهور من کراهة غیر الأبیض مطلقاً، أو کراهة مطلق الصبغ کما عن «الذکری» ممّا لا دلیل علیه.

کما لا وجه للمنع عن التکفین بالمصبوغ، کما نقل ذلک عن ابن البرّاج، ولعلّ حکمه مبنیٌّ علی العمل بظاهر الأمر، الدالّ علی الوجوب فی الأبیض، ولذلک منع عن مطلق المصبوغ.

ولکن قد عرفت ضعفه، مع أنّ مقتضاه هو وجوب الأبیض وحرمة ترکه لا حرمة مطلق المصبوغ، کما لا یخفی .

نعم، یصحّ القول بالکراهة فی غیر الأبیض، بناءً علی أدلّة التسامح فی السنن


1- وسائل الشیعة: الباب 21 من أبواب التکفین، الحدیث 1 .
2- وسائل الشیعة: الباب 21 من أبواب التکفین، الحدیث 2 .

ص:51

الشامل للمکروه أیضاً، لأجل ذهاب المشهور إلیه، وهو یکفی فی إثباتها کما فی نظائر المقام.

أقول: کما أنّ الظاهر استثناء الحِبرة والبُرد عن الأبیض، لأن_ّها ملوّنة بالأحمر کما ورد فی الحدیث، ویکون التکفین فیها بالخصوص من مراتب الفضیلة، فتکون من موارد الاستثناء، وهنا روایة ناظرة إلی هذا الأمر وهی الروایة التی رواها عمّار بن موسی، عن الصادق علیه السلام فی قوله: «والکفن یکون بُرداً، وإن لم یکن بُرداً فاجعله کلّه قطناً، فإن لم تجد عمامة قطنٍ فاجعل العمامة سابریّاً، الحدیث»(1).

حیث یظهر منه مغایرة البُرد للقطن وأفضلیّته علیه، ولعلّه الممتزج بالإبریسم، بل ربّما یؤیّد ذلک قول الکاظم علیه السلام : «وکفّنتُ أبی... إلی قوله: وفی بُردٍ اشتریته بأربعین دیناراً ولو کان الیوم لساوی أربعمائة دینار»(2).

حیث علّق صاحب «الجواهر» علی الاستبعاد المذکور فی الروایة من بلوغ قیمته هذا المبلغ، کونه قطناً خالصاً، هذا.

ولکن یمکن أن یُقال: فی وجه غلاء قیمته، کونه مشتملاً علی کتابة قرآن أو دعاء کما ورد التصریح بهما فی کفن موسی بن جعفر علیه السلام وأن_ّه کُفِّن فی: «حبرة استعملت له بألفین وخمسمائة دینار علیها القرآن کلّه»(3). المنقول فی «عیون أخبار الرضا» وفی «إکمال الدِّین».

وأمّا الأخبار الدالّة علی کون الحِبرة والبُرد أحمر: فهی الروایة المرویّة عن أبی مریم الأنصاری، عن أبی جعفر علیه السلام ، قال: «کفّن رسول اللّه صلی الله علیه و آله فی ثلاثة أثواب: بُرد أحمر، حِبرة وثوبین أبیضین صحاریین... إلی أن قال: وقال: إنّ


1- وسائل الشیعة: الباب 14 من أبواب التکفین، الحدیث 4.
2- وسائل الشیعة: الباب 18 من أبواب التکفین، الحدیث 5 .
3- وسائل الشیعة: الباب 30 من أبواب التکفین، الحدیث 1.

ص:52

وتُنثر علی الحِبرة واللّفافة والقمیص ذَریرة(1).

الحسن بن علیّ علیهماالسلام کَفّن اُسامة بن زید فی بُردٍ أحمر حِبرة، وأنّ علیّاً علیه السلام کَفّن سهل بن حُنیف فی بُردٍ أحمر حبرة»(1).

ومثلها روایة سماعة(2)، وغیر ذلک من الأخبار الدالّة علی کون الکفن من البُرد والحِبرة أفضل.

کما ینبغی الاستثناء من القطن الأبیض النمط أیضاً، لما قد عرفت فی تفسیره من اشتماله لبعض الألوان إن قلنا کونه من الکفن، وإلاّ مع احتمال کونه ممّا یُلفّ به المیّت بل یطرح علی المیّت أو یکون فراشاً، فیکون حینئذٍ خارجاً عنه موضوعاً کما لایخفی.

وأیضاً: یستحبُّ أن تکون العمامة من القُطن، لما ورد فی روایة عمّار من قوله علیه السلام : «فإن لم تجد عمامة قُطنٍ فاجعل العمامة سابریّاً»(3).

حیث یظهر منه أفضلیّة القطن عن غیره، بل لا یبعد القول بذلک فی الخرقة سواء قلنا أن_ّها من الکفن أم لا، حیث قد ورد فی روایة عمّار قوله علیه السلام : «فیما إذا لم یکن بُرداً؟ قال: فاجعله کلّه قطناً». حیث لا یبعد شمول الکلیّة لجمیع ما یُستعمل فی کفن المیّت، کما لا یبعد القول باستحباب کونهما أبیضاً لمطلوبیّته فی حال الحیاة، فکذلک بعد الممات، مع إمکان الاستشعار من تلک الأحادیث السابقة کما لایخفی.

(1) وهی مشتملة علی اُمور :

الأمر الأوّل: لا إشکال ولا خلاف فی استحباب تطییب کفن المیّت بشیءٍ من


1- وسائل الشیعة: الباب 2 من أبواب التکفین، الحدیث 3 و 6 .
2- وسائل الشیعة: الباب 2 من أبواب التکفین، الحدیث 3 و 6 .
3- وسائل الشیعة: الباب 14 من أبواب التکفین، الحدیث 4.

ص:53

الذریرة فی الجملة، بل قد ادّعی علیه الإجماع کما فی «المعتبر» و«التذکرة» بقوله فی الأوّل: «وقد اتّفق العلماء علی استحباب تطییب الکفن بها أی بالذریرة»، بل عن الأخیر الإجماع أیضاً علی استحباب تطییب المیّت بها أیضاً، فیدلّ علی کلّ واحدٍ منهما بعض الأخبار:

منها: خبر عمّار: «والقِ علی وجهه ذریرة»(1).

ومنها: خبر سماعة: «وإذا کفّنت المیّت فذَر علی کلّ ثوبٍ شیئاً من الذریرة وکافور»(2).

بل فی الأوّل منهما: «ثمّ تبدأ فتبسط اللّفافة طولاً، ثمّ تذَر علیها من الذریرة.. إلی أن قال: ویجعل علی کفنه ذریرة».

بل ویُستحبّ جعلها علی القطن الذی یُوضع علی فرج المیّت، لما فی خبر عمّار السابق: «وتجعل علی مقعدته شیئاً من القطن وذریرة».

کما یحتمله خبر یونس بقوله: «واعمد إلی قطنٍ فذر علیه شیئاً من حنوط فضعه علی فرجه قُبُلاً ودُبراً، الحدیث»(3).

فإن اُرید من الحنوط الذریرة، أو هی مع الکافور دون الأخیر فقط، فالقول بالاقتصار فی الاستحباب علی خصوص الحِبرة واللّفافة، أو خصوص الثلاثة فی المتن دون غیرها من سائر الکفن أو المیّت، أو دون ظاهر اللّفافة کما عن «المنتهی» لیس بوجیه، لما قد عرفت دلالة الأخبار علی استحبابه فی الجمیع.

أقول: وممّا ذکرنا یظهر الأمر الثانی: وهو استحباب تطییب المیّت، فإنّه یظهر


1- وسائل الشیعة: الباب 14 من أبواب التکفین، الحدیث 4 .
2- وسائل الشیعة: الباب 15 من أبواب التکفین، الحدیث 1.
3- وسائل الشیعة: الباب 2 من أبواب التکفین، الحدیث 3.

ص:54

حکمه ممّا ذکرنا فی الأمر الأوّل، هذا فضلاً عن دلالة خبر عمّار علیه بقوله: «فالقِ علی وجهه ذریرة» فالحکم واضح لا یحتاج إلی مزید بیان.

الأمر الثالث: فی ذکر المراد من الذریرة وأنّ المقصود منها هل الوصفی أو الإسمی والعلمی؟

الذی یظهر من «المعتبر» و«التذکرة» هو الأوّل، إذ قالا: «والمراد منها هو الطیب المسحوق»، بل عن الأوّل منهما: «أن_ّه المعروف بین العلماء» حیث نسب ما قاله بعض الأصحاب من أن_ّه نباتٌ یُعرف بالقمّحان (القُمّحة بفتح القاف وسکون المیم، أو بضمّ القاف وتشدید المیم المفتوحة) إلی الخلاف المعروف بین العلماء، ویرجع إلیه ما عن الصنعانی من أن_ّها: «فعیلة بمعنی مفعولة وهی ما یذَر علی الشیء»، بل هو مختار بعض متأخّری المتأخّرین کالمحقّق الثانی والشهید الثانی رحمة اللّه علیهما.

هذا، ولازم هذا القول أخذ معناه الوصفی، فینبغی تقیید الأدلّة الدالّة علی کراهة تطییب المیّت به من المسک والعنبر ونحوهما بما إذا لم یکونا مسحوقین، وإلاّ کانا من الذریرة، وعلیه فلابدّ أن یُحمل ما فی خبر إبراهیم بن الجعفری، قال: «رأیت جعفر بن محمّد علیهماالسلام ینفض بکُمّه المِسک عن الکفن ویقول لیس هذا من الحنوط فی شیء»(1).

علی المعنی الوضعی والوصفی؛ أی بما لم یُسحق مثلاً دون الإسمی والعلمی، مع أنّ الأقوی والأوجه عندنا _ کما عن «المبسوط» و«النهایة» وصاحب «الجواهر» و«المدارک» و«مصباح الهدی» _ هو الثانی، لدلالة کلامهم علی أن_ّه فی عصرهم کان إسماً لطیبٍ مخصوص موسوم بالذریرة، کما صرّح بذلک


1- وسائل الشیعة: الباب 6 من أبواب التکفین، الحدیث 11 .

ص:55

صاحب «المدارک» وقال بوجود طیب مخصوص فی عصره فی بغداد وما والاها موسومٌ بالذریرة، ولعلّه هو الذی نصّ علیه فی «المقنعة» و«المبسوط» و«النهایة» و«المصباح» بأن_ّها القُمّحة. کما عبّر بذلک صاحب «العروة» أیضاً، ولعلّها هی التی تؤخذ من القصب الذی یُجاء به من الهند، کما عن الشیخ فی «التبیان»، ولعلّ ما هو المنقول عن الشهید رحمه الله فی «الروض» حکایةً عن خطّ شیخه الشهید قدس سره من أن_ّه: «یُجاء به من نهاوند» تصحیفٌ لکلمة الهند، لقربهما فی الحروف، إذ لم یسمع مثل ذلک عن نهاوند إلی الآن، واللّه العالم بحقیقة الحال، فلا تحتاج المسألة إلی مزید بیان .

أقول: والقُمّحة _ علی المحکیّ عن القاضی وعن الراوندی _ قیل: «إنّها حبوب تشبه حَبّ الحنطة التی تسمّی بالقمح تُدقّ تلک الحبوب کالدقیق، لها ریحٌ طیّبة»، هذا فی «الجواهر» وتبعه فیه صاحب «العروة» بذکرها کذلک، ثمّ حکی صاحب «الجواهر» تلک الحکایة عن «الروض» قدس سره بقوله: «إنّه وجد بخطّ الشهید رحمه الله نقلاً عن بعض الفضلاء أنّ قصب الذریرة هی القمحة التی یؤتی بها من ناحیة (نهاوند)، وأصلها قصبٌ نابتٌ فی أجمّة بعض الرساتیق، یحیط بها حائط، والطریق إلیها علی عدّة عقبات، فإذا طال ذلک ترک حتّی یجفّ، ثمّ یقطع عقداً وکعاباً، ثُمّ یعبّئ فی الجوالقات، فإذا اُخذ علی عقبة من تلک العقبات المعروفة عفن وصار ذریرة ویسمّی قمحة، وإن سلک به علی غیر تلک العقبات بقی قصباً لا تصلح إلاّ للوقود»، انتهی ما فی «الروض».

ثمّ فی «مصباح الهدی» بعد نقل قسمٍ من تلک الحکایة قال: «ثمّ أتی بحکایة غریبة لا تخلو عن بُعد. وکیف کان، الذریرة أمرٌ واضح فی زماننا هذا فی البلاد الإسلامیّة من بغداد وغیرها»، وعلیه فلا حاجة لإطالة الکلام عن حقیقتها.

ص:56

وتکون الحِبرة فوق اللّفافة ، والقمیص باطنها(1).

ویُکتب علی الحِبرة والقمیص والإزار والجریدتین(2)،

(1) وقد عرفت منّا سابقاً استحباب جعل أحد الأکفان من الحِبرة، وإلاّ یمکن أن لا یکون بُرداً أصلاً کما أشار إلیه فی خبر عمّار بقوله: «والکفن یکون بُرداً وإن لم یکن بُرداً فاجعله کلّه قطناً»(1).

وقد عرفت فی الأخبار السابقة من أنّ کفن رسول اللّه صلی الله علیه و آله کان حِبرة، وکذلک کفن اُسامة بن زید .

أقول: والدلیل علی الکیفیّة المذکورة: ما ورد فی روایة یونس من قوله علیه السلام : «ابسط الحِبرة بسطاً ثمّ ابسط علیها الإزار ثمّ ابسط القمیص علیه، إلی آخرها»(2). بناءً علی أن یکون المراد من الإزار هو اللّفافة الواجبة، کما هو أحد الاحتمالین، بل أظهرهما کما فی «الجواهر». ولکن یجوز أن تکون اللّفافة ظاهرة ثمّ الحِبرة أو غیرها ثمّ القمیص عَملاً بما هو مقتضی مفاد خبر عمّار(3)؛ ولأجل ذلک قال المصنّف باستحباب تقدیم الحِبرة علی اللّفافة کما هو محتمل روایتی أبی مریم الأنصاری وسماعة من تقدیم بُردٍ أحمر حِبرة علی الثوبین الآخرین.(4) وفی «الجواهر»: «بلا خلافٍ أجده فیه بین الأصحاب» حیث یدلّ علی أنّ الکیفیّة المذکورة مجمع علیها وهو الحجّة فی المسألة، فلا بحث فیها.

(2) استحباب الکتابة علی الأکفان الثلاثة المذکورة، وکذلک استحباب وضع الجریدتین، وقد قع فی العدید من مؤلّفات فقهاءنا مثل «الهدایة» و«المبسوط»


1- وسائل الشیعة: الباب 14 من أبواب التکفین، الحدیث 4 و 3 و 4 .
2- وسائل الشیعة: الباب 14 من أبواب التکفین، الحدیث 4 و 3 و 4 .
3- وسائل الشیعة: الباب 14 من أبواب التکفین، الحدیث 4 و 3 و 4 .
4- وسائل الشیعة: الباب 2 من أبواب التکفین، الحدیث 3 _ 6.

ص:57

و«المعتبر» و«القواعد» و«الإرشاد» و«الفقیه» و«المراسم»، مع ترک الإزار عن المفید، وترک الحِبرة عن ابن زُهرة فی «الغنیة»، مع إسقاط الجریدتین عن «التحریر»، ومع زیادة العمامة فی «المبسوط» و«الدروس» و«النهایة» و«الوسیلة» و«الإصباح»، کما أن_ّه وقع فی بعض کتب الأصحاب بصورة الأکفان بالنحو المطلق کما فی«السرائر» و«المهذّب» و«الاقتصاد» و«المصباح» ومختصره.

والدلیل علیه فی الجملة: _ فضلاً عن دعوی الإجماع علیه کما یستفاد ممّا ورد فی المتن مع ترک الحِبرة فقط _ دلالة الروایة الواردة فی الکفن بصورة المطلق أو الإزار فقط: فالأوّل منهما: کما فی خبر أبی کیهمس، قال: «حضرتُ موت إسماعیل، ورأیتُ أبا عبداللّه علیه السلام وقد سجدَ سجدة، إلی أن قال: حتّی إذا فرغ دعا بکفنه فکتب فی حاشیة الکفن: إسماعیلُ یشهد أن لا إله إلاّ اللّه»(1).

والثانی: فی «الاحتجاج» عن محمّد بن جعفر الحمیری، عن صاحب الزمان علیه السلام أن_ّه کتب إلیه: «قد روی لنا عن الصادق علیه السلام إنّه کتب علی إزار إسماعیل أنّ إسماعیل یشهد.. إلی آخره»(2).

حیث أن_ّه یلاحظ أنّ الإطلاق _ لولا التقیید بالخبر الثانی _ فیها دالّة علی جواز الإتیان بذلک فی أحد هذه الاُمور، فلا یبعد أن یکون ذکرها لبیان الجواز فی أحدها دون التکرار الزائد، حتّی یوجب الاعتراض بکفایة المرّة الواحدة لأجل التبرّک ونحوه، وعدم الحاجة إلی الزائد _ کما فی «الجواهر» _ حتّی یُجاب عنه، بأن_ّه لا مانع منه بعد ثبوت الجواز السالم عن المعارض، للقطع بعدم الإهانة بمثل ذلک، بل هو تعظیمٌ للمیّت، یدرکه الإنسان عند التأمّل.

وأمّا من حکم بعدم استحباب الکتابة لاحتمال الإهانة بنتیجة لتلوّثها


1- وسائل الشیعة: الباب 39 من أبواب التکفین، الحدیث 2 و 3 .
2- وسائل الشیعة: الباب 39 من أبواب التکفین، الحدیث 2 و 3 .

ص:58

اسمه ، وأنّه یشهد الشهادتین . وإنْ ذَکَر الأئمّة علیهم السلام وعَدَّدهم إلی آخرهم کان حَسناً(1).

بالنجاسة، فدعواه مدفوعة، _ مضافاً إلی أصالة عدمه، خصوصاً إذا کانت الکتابة فی موضع عید عن احتمال التلوّث، ولم یجعله فی محاذاة ما یوجب الهتک کالقرب من العورة قُبُلاً ودُبراً _ أن_ّه لا یُحکم بالنجاسة بالنسبة إلی ما هو مستورٌ تحت الأرض ما لم یظهر، إذ النجاسة التی یحکم بوجوب الاجتناب عنها هی الظاهرة دون الباطنة کالدّم فی البدن والقاذورات فی البطن فی الحیّ والمیّت، وهکذا النجاسة تحت الأرض، فالانفساخ بعد الدفن تحت الأرض لا یوجبُ الحکم بالنجاسة، فلا یصدق علیه الهتک والإهانة ما لم یترتّب علیه الإهانة حال قبل الدفن، کما لایخفی.

أقول: بعدما ثبت عدم صدق الهتک بمثل ذلک، فلا نحتاج فی إثبات جوازه إلی ملاحظة حال قصده من التبرّک وغیره، وإثبات الرجحان من هذا الطریق، بل یکفی فی إثبات الراجحیّة وجود الإجماع وبعض الأخبار ولو ضعیفاً بملاحظة أخبار التسامح فی الأدلّة، خصوصاً إذا ضممنا البلوغ وقلنا بشموله لفتوی «الفقیه» لکونه نوعاً من البلوغ، فلا تصل النوبة إلی ملاحظة التعارض بین أدلّة الرجحان وأدلّة الهتک والإهانة بنحو العموم من وجه، کما أشار إلیه صاحب «الجواهر»، حتّی یُجاب بما قد أجاب عنه صاحب «الجواهر»، فراجع.

(1) فی الحدیث کما قد ورد فی روایتی أبی کهمس والاحتجاج استحباب کتابة اسم المیّت علی الکفن، ولکن زاد فی «الهدایة» کما عن سلاّر اسم أبیه، وفی «الجواهر»: «ولم أقف علی ما یدلّ علیه».

ص:59

قلنا: لعلّهما قد استفادا ذلک من حکم التلقین، حیث یقال فیه اسمه واسم أبیه، ولو التزمنا بذلک لزم إضافة اسم الاُمّ ولو بصورة الکلّی، کما یقال حین الصلاة علیه: «إنّ هذا عبدک وابن عبدک وابن أمَتُک»، ولکن إثباته لا یخلو عن إشکال، لما تری خلافه فی الروایات المذکورة، حیث أنّ الصادق علیه السلام کتب علی الکفن خصوص اسم إسماعیل دون والده أو اُمّه، ثمّ ذکر الشهادتین؛ الشهادة بالوحدانیّة، والشهادة بالرسالة، کما هو مذکور فی الروایة: إسماعیلُ یشهد أن لا إله إلاّ اللّه اللّه. وفی «المبسوط» بزیادة: «لا شریک له» بعده، هذا کما عن الصدوق فی «الهدایة» و«الفقیه» و«المراسم» و«المقنعة» و«العزیة» بخصوص هذه الشهادة، مع أنّ فی «النهایة» وکتاب ابن إدریس وابن الجُنید کالمصنّف إضافة ذکر أنّ محمّداً رسول اللّه صلی الله علیه و آله إلیها، ولعلّ وجه الانحصار فی کلمات من عرفت للشهادة الاُولی، هو الاقتصار بما جاء به فی الأخبار الواردة عن مثل الصادق علیه السلام عند کتابته علی کفن ولده إسماعیل.

أقول: ولکن الأولی إضافة الشهادة الثانیة أیضاً، لأن_ّه _ مضافاً إلی ما عرفت أو ستعرف من کونه معقد إجماعی الخلاف و«الغنیة»، وکونه مشهوراً بین الأصحاب کما وقع فی المتن، وکونهما خیراً محضاً، واشتراکما مع الاُولی فی کلّ ما یتصوّر من جلب النفع ودفع الضرر _ تأیید وقوع ذلک _ حسبما جاء فی «الجواهر» بأن_ّه: «روی المجلسی رحمه الله فی «البحار» نقلاً عن «مصباح الأنوار» عن عبد اللّه بن محمّد بن عقیل، قال: «لمّا حضرت فاطمة علیهاالسلام الوفاة دعت بماءٍ فاغتسلت، ثمّ دعت بطیب فتحنّطت به، ثمّ دعت بأثواب کفنها فاُتیت بأثواب غلاظ خشنة، فتلفّفت بها ثمّ قالت: إذا أنا مُتُّ فادفنونی کما أنا ولا تُغسّلونی. فقلت: هل شهد معک ذلک أحد؟ قال: نعم، شهد کُثَیر بن عبّاس، وکتب فی أطراف کفنها کثیر

ص:60

ابن عبّاس: «تشهد أن لا إله إلاّ اللّه وأنّ محمّداً رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم ».

وقال بعده: سیّما مع ضمیمة ظهور علم أمیر المؤمنین والحسنین علیهم السلام بذلک»، انتهی کلامه(1). سنن التکفین

أقول: بعدما عرفت حسن انضمام الشهادة للرسول صلی الله علیه و آله بالرسالة مع الشهادة لِلّه سبحانه و تعالی بالوحدانیّة کما هو المتداول فی کلّ ما یعتبر فیه الشهادة من التلقین وغیره، وکفایة ثبوت استحبابه بما عرفت من فتاوی الفقهاء، فلا نحتاج أن نؤیّد ذلک بمثل هذه الروایة التی قد وقع فیها الکلام، واشتملت علی ما ینافی فی الظاهر من شؤونها علیهاالسلام من کون الرجل بمحضرها، وحکمها علیهاالسلام بإتیان الماء للغُسل ولبسها أثواب الکفن، خصوصاً قوله: «دَعَت بأثواب کفنها فاُتیت» الظاهر أنّ الراوی کان مخاطباً لا حاکیاً للقضیّة، مع ما فیها من أنّ کثیر بن عبّاس قام بکتابة الشهادتین علی أکفانها، حیث یستبعد أن یکون هذا الرجل دون علیّ بن أبی طالب کاتباً، خصوصاً مع ملاحظة ما ورد فی ذیل «البحار» نقلاً عن «الاستیعاب» لابن عبد البرّ و «اُسد الغابة» لابن الأثیر بأنّ کثیراً بن العبّاس ولد قبل وفاة النبیّ صلی الله علیه و آله بأشهر فی السنة العاشرة من الهجرة، فکان له حین وفاة فاطمة وشهادتها سنة، فکیف یمکن أن یکون کاتباً لها، راجع البحار(2).

وبالجملة: التأمّل فی مثل هذه الأخبار وتوجیهها بما یوافق شؤونهم علیهم السلام ، واللّه العالم بحقیقة الحال، ولذلک ینبغی فی مثل هذه الاُمور والأخبار ردّ علمها إلی أهلها، ونحن مسلّمون بأمرهم، ومهتدون بهدایتهم صلوات اللّه علیهم أجمعین، ومنتظرون لفرجهم بقیام الحجّة وظهوره، حتّی یکشف عنّا مثل هذه


1- الجواهر: ج4 / 225 .
2- البحار: ج78 / 335 _ 338 .

ص:61

الاُمور الخفیّة، اللّهُمَّ عجِّل لولیّک الفرج والنصر والعافیة ، واجعلنا من أنصاره وأعوانه ، آمین ربّ العالمین.

أقول: وأمّا الدلیل علی استحباب کتابة أسماء الأئمّة علیهم السلام جمیعاً علی الکفن والذی یعدّ إقراراً بإمامتهم الذی ورد فی عبارة المصنّف وجوازه فهو نقل الإجماع عن «الخلاف» و«الغنیة» علی ذلک، حیث قال الأوّل: «الکتابة بالشهادتین والإقرار بالنبیّ صلی الله علیه و آله والأئمّة علیهم السلام ووضع التربة فی حال الدفن انفرادٌ محض لایوافقنا أحدٌ من الفقهاء، دلیلناإجماع الفرقة وعملهم علیه»(1).

وفی الثانی: «ویستحبُّ أن یکتب علی الجریدتین وعلی القمیص والإزار ما یستحبّ أن یلقّنه المیّت من الإقرار بالشهادتین وبالأئمّة وبالبعث... کلّ ذلک بدلیل الإجماع»، انتهی(2).

أقول: ولا بأس بالالتزام به، إذ قد عرفت عدم استبعاد شمول دلیل من بلغ لفتوی الفقیه فضلاً عمّا نقل فیه الإجماع، حیث لا یبعد أن یکون عندهم ما لم یبلغ إلینا وکان هو مستند فتواهم، مضافاً إلی ما عرفت من وجود الحُسن والخیر والبرکة فی أسمائهم وترتّب الآثار المهمّة علی الإقرار بإمامتهم، کما ورد ذلک فی عملیّة تلقین المیّت کما أشار إلیه السیّد ابن زُهرة، فبناءً علیه لا یقدح حینئذٍ عدم وجود نصّ خاصّ دالّ علیه بالخصوص، کما ذکره جماعة من متأخّری المتأخّرین بقولهم: إنّه شیء ذکره الأصحاب .

بل قد استأنس فی «الجواهر» حسن ذلک من بعض الوصایا الصادرة عن بعض الأجلاّء من الکتابة أو النقش علی الکفن وغیره، ومنه ما حکاه العلاّمة المجلسی فی «البحار» نقلاً عن فلاح السائل أن_ّه قال: «کان جدّی ورّام بن أبی


1- الجواهر: ج4 / 223.
2- الجواهر: ج4 / 223.

ص:62

فراس _ قدّس اللّه جلَّ جلاله روحه _ وهو ممّن یُقتدی بفعله قد أوصی أن یُجعل فی فمه بعد وفاته فُصّ عقیق علیه أسماء أئمّته علیهم السلام ، فنقشتُ أنا فُصّاً عقیقاً علیه: اللّه ربّی ومحمّد نبیّی وعلیّ.. وسمّیت الأئمّة علیهم السلام أئمّتی ووسیلتی، وأوصیتُ أن یجعل فی فمی بعد الموت لیکون جواب الملکین عند المسائلة فی القبر سهلاً إن شاءاللّه»(1).

ومنه أیضاً ما حکاه صاحب «الجواهر» عن اُستاذه الأعظم (وهو کاشف الغطاء رحمه الله ) حکایةً عن «کشف الغمّة» من: «أنّ بعض الاُمراء السامانیّة کتب الذی رواه الرضا علیه السلام لأهل نیشابور بسنده عن آبائه علیهم السلام إلی الربّ تعالی بالذهب وأمر بأن یُدفن معه، فلمّا مات رُئی فی المنام فقال: غَفَر اللّه لی بتلفّظی بلا إله إلاّ اللّه، وتصدیقی بمحمّدٍ صلی الله علیه و آله ، وإنّی کتبتُ هذا الحدیث تعظیماً واحتراماً)، انتهی ما فی «کشف الغمّة».

ثمّ ذکر صاحب «الجواهر» فی ذیل تلک الصفحة: «قلتُ: ولعلّه لذا سُمّی بسلسلة الذهب، وإنّی کثیراً ما أکتبه فی کأس وأمحوه بماء وأضع علیه شیئاً من تربة الحسین علیه السلام فأری تأثیره سریعاً والحمدُ للّه، ولی فیه رؤیا عن أمیر المؤمنین علیه السلام تُصدّق ذلک، لکنّها مشروطة بالصدقة بخمسة قروش، ونسأل اللّه التوفیق منه»، انتهی ما فی «الجواهر»(2).

ومنه أیضاً ما فیه وبما نقله غیر واحدٍ عن کتاب «الغیبة» للشیخ الطوسی: «عن أبی الحسن القمّی أن_ّه دخل علی أبی جعفر محمّد بن عثمان العَمْری رحمه الله وهو من النوّاب الأربعة وسُفراء الصاحب علیه السلام فوجده وبین یدیه ساجة ونقّاش ینقش


1- الجواهر: ج4 / 224 .
2- الجواهر: ج4 / 226.

ص:63

علیها آیاتٍ من القرآن، وأسماء الأئمّة علیهم السلام علی حواشیها. فقلت: یا سیّدی ما هذه السّاجة؟ فقال: لقبری تکون فیه وأوضع علیها، أو قال اُسند إلیها، وفرغتُ منه وأنا کلّ یوم أنزل إلیه وأقرأ فیه أجزاءاً من القرآن». انتهی ما أردنا نقله عنه.

وعلیه، فلا بأس بالقول بحُسن ذلک لأجل مثل هذه الاُمور التی صدرت عمّن کان سفیراً ونائباً ومورداً للعنایة من قِبَل صاحب الأمر والأئمّة علیهم السلام ، إذ من الواضح أن_ّه لو کان عملهم مستنکراً لنبّهوا علی ذلک، وأشاروا إلیه فی مؤلّفاتهم، واشتهر عندهم، فعدم الاشتهار شاهدٌ علی تعارفهم علی ذلک وعدم استنکارهم، خصوصاً إذا قام بالکتابة المذکورة بقصد الرجاء والمطلوبیّة دون الورود حیث لا مانع فیه ولا شبهة تعتریه، ولهذا قال صاحب «الجواهر» ونِعْمَ ما أفاد: «قلت: ومنه یستفاد ما هو مشهور فی زماننا، حتّی صار ذلک فیه من الاُمور التی لا یعتریها شوب الإشکال، وعلیه أعاظم علماء العصر من استحباب کتابة القرآن علی الکفن»(1).

بل یزید فی حسنه وتأییده ما رواه صاحب «الوسائل» نقلاً عن «عیون أخبار الرضا علیه السلام » و «إکمال الدِّین» للصدوق رحمه الله ، عن الحسن بن عبد اللّه الصیرفی، عن أبیه فی حدیثٍ: «أنّ موسی بن جعفر علیه السلام کُفّن بکفنٍ فیه حِبرة استعملت له بألفین وخمسمائة دینار علیها القرآن کلّه»(2).

حیث یستفاد منه جواز کتابة القرآن علی الکفن، لکن ناقش فیه المجلسی¨ قدس سره فی «البحار» فإنّه قال بعد نقل القضیّة عن کتاب «عیون أخبار الرضا علیه السلام »: «توفّی موسی بن جعفر علیهماالسلام فی یدی سندی بن شاهک، فحُمل علی نعشٍ، ونُودیَ علیه: هذا إمام الرافضة، فسمع سلیمان بن أبی جعفر الصیاح، ونزل عن


1- الجواهر: ج4 / 227 .
2- وسائل الشیعة: الباب 30 من أبواب التکفین، الحدیث 1.

ص:64

قصره، وحضر جنازته، وغسّله وحنّطه بحنوط فاخرٍ، وکفّنه بکفن فیه حِبرة استعملت له بألفین وخمسمائة دینار علیها القرآن کلّه. ثمّ قال: بیان الاستدلال بهذا الخبر علی استحباب کتابة القرآن بعیدٌ، إذ لیس من فعل المعصوم ولا تقریر منه فیه. إلاّ أن یقال: وردت الروایة فی حضور الرضا علیه السلام فیتعیّن تأییدها، ولا یخفی ما فیه» انتهی ما فی «البحار»(1).

أقول: ولا یخفی ما فی کلامه، إذ من المعلوم أنّ هذا العمل لو کان مرجوحاً فضلاً عن کونه حراماً لما أجازه الإمام علیه السلام ؛ لاعتقادنا بأنّ أمر الإمام علیه السلام لا یلیه إلاّ الإمام علیه السلام ، فلا مجال لفرض ترک الإمام العمل بما هو واجب أو مستحبّ علیه خاصّةً فی حقّ الإمام المتوفّی، ممّا یعنی أنّ ما وقع کان جائزاً بل راجحاً علی أقلّ التقادیر فی حقّ الإمام علیه السلام الذی یعدّ ممّن طهّره اللّه عن الرِّجس تطهیراً، مع إمکان التعدّیعنه إلیغیره تمسّکاً بما قاله صاحب «الجواهر» قدس سره بعد نقل قضیّة المجلسی¨ رحمه الله : «قلت: لکنّا فی غنیً عن إقامة الدلیل بالخصوص علیه، بعد ثبوت الجواز بأصالته، وعدم حصول التحقیر والإهانة له بذلک بعد کتابته بقصد التبرّک واستدفاع الشرّ واستجلاب الخیر، مع احتمال أو ظنّ ترتّب ذلک جمیعه علیه، ولا استبعاد فیه من حیث عدم ورود نصّ بالخصوص به، مع ما نراه من زیادة اهتمام أئمّتنا علیهم السلام بذکر ما له أدنی نفع فی أمثال هذا المقام؛ وذلک إمّا لاکتفائهم علیهم السلام بهذه التلویحات اعتماداً علی حسن أنظار علماء شیعتهم، أو لأن_ّه لم یصل إلینا من أخبارهم إلاّ القلیل، أو لغیر ذلک»، انتهی محلّ الحاجة(2).

حیث قد أدّی حقّ المطلب، لا سیّما بعد ملاحظة الأخبار الکثیرة الواردة فی


1- البحار: ج78 / 328 .
2- الجواهر: ج4 / 228 .

ص:65

التمسّک بالآیات وأن_ّها تدفع الشرور عن النفس و الجسم .

وعلیه، فبعدما ثبت من إمکان ثبوت استحباب ذلک من الموارد المختلفة والمواضع المتفرّقة، لا یبقی مجال للتردّد والتوقّف فیه، کما یظهر من الشهید فی «الذکری»، أو دعوی المنع کما قد یظهر من المحقّق الثانی فی «جامع المقاصد»، حیث قال بعد ذکر الشهادتین وأسماء الأئمّة علیهم السلام : «ولم یذکر الأصحاب استحباب کتبه شیءٌ غیر ما ذکروا، ولم ینقل شیءٌ یعتدّ به یدلّ علی الزیادة، وإعراض عن التعرّض للزیادة یُشعر بعدم تجویزه، مع أنّ هذا الباب لا مجال للرأی فیه، فیمکن المنع»، انتهی.

وبالجملة: الأقوی عندنا جوازه، خصوصاً إذا أتی به بقصدالرجاءوالمطلوبیّة، واجتنب عن وضع القرآن وأسماء الجلالة وأسماء الأئمّة علیهم السلام عمّا لا یلیق بهم ممّا یکون فیه مظانّ حصول التنجّس، ککتابتها فی مواضع یلامس الأرض أو یقرب إلی موضع العورتین، کما هو المرسوم والمتعارف. ولأجل جمیع ما ذکرنا نجد أنّ صاحب «الجواهر» یقول: «ولعلّی اُوصی بفعل ذلک لی فی قبری إن شاء اللّه، ومن اللّه أسأل التوفیق»، ونِعْمَ ما قال أعلی اللّه مقامه وجزاه اللّه عنّا خیر الجزاء.

بل ممّا یؤیّد استحباب کتابة الأدعیة والأذکار والقرآن، الخبر الذی رواه الکفعمی فی کتاب «جُنّة الأمان» عن السجّاد علیه السلام ، عن أبیه، عن جدّه علیهم السلام ، عن النبیّ صلی الله علیه و آله ، قال: «نزل جبرئیل علی النبیّ صلی الله علیه و آله فی بعض غزواته وعلیه جوشن ثقیل آلمه ثقله، فقال: یا محمّد صلی الله علیه و آله ربّک یُقرئک السلام ویقول لک: اخلع هذا الجوشن، واقرأ هذا الدّعاء، فهو أمانٌ لک ولاُمّتک. إلی أن قال: ومن کَتَبه علی کفنه استحیی اللّه أن یعذّبه بالنار.. إلی أن قال: قال الحسین علیه السلام : أوصانی أبی علیه السلام بحفظ هذا الدّعاء وتعظیمه، وأن أکتبه علی کفنه، وأن اُعلّمه أهلی وأحثّهم»، ثمّ ذکر دعاء الجوشن الکبیر. وقد روی صاحب «البحار» نقلاً عن «البلد الأمین»

ص:66

أیضاً بهذا الإسناد، وزادَ فیه اُمورٌ اُخری من أراد الاطّلاع علیه فلیراجع إلی «البحار»(1).

هذا، وقد أفتی بالاستحباب صاحب «الحدائق» والمتأخّرین بعده حتّی السیّد فی «العروة» وأکثر أصحاب التعلیق علیها، بل قد أضاف إلیه فی «الحدائق» استحباب کتابة القرآن بتمامه إن أمکن، وإلاّ فیما تیسّر منه، کما یظهر هذان الاستحبابان من کلام السیّد بحر العلوم فی منظومته المسمّاة ب_ «الدرّة النجفیّة»، حیث قال:

وسُنَّ أن یُکتب بالأکفان شهادة الإسلام والإیمانِ

وهکذا کتابة القرآنِ والجوشن المنعوت بالأمانِ

مع أنّ دعاء الجوشن الکبیر مشتملٌ علی الاسم الأعظم، وعلی أسماء اللّه تبارک وتعالی اللاّزم احترامه کالقرآن فی تمام الجهات کما لا یخفی علی «الفقیه» العارف، فإذن لا تبقی شبهة فی الجواز، بل وفی رجحانه، کما لا یترتّب علیه احتمال حرمة التشریع لو أتی بقصد الرجاء والمطلوبیّة، مع أن_ّه لا شبهة فی استحبابه بناءً علی التسامح فی أدلّة السنن إن قلنا بکفایته فی إثبات الاستحباب، وإن أنکره بعض الفقهاء وقالوا إنّه لا یوجب الحکم بثبوت الاستحباب، بل غایته ثبوت أصل الجواز وإعطاء الثواب به، وتحقیق ذلک موکولٌ إلی محلّه.

کما یُستحبّ أیضاً: أن یکتب الجوشن الکبیر أو الصغیر علی احتمال فی جام من الکافور والمسک وغسله ورشّ ذلک علی کفن میّت؛ حیث یترتّب علیه ما ورد فی « البلد الأمین » من روایة الکفعمی من أن_ّه إذا فُعل بالمیّت ذلک «أنزل اللّه تعالی علی قبره مائة ألف نور ویدفع اللّه عنه هول منکرٍ ونکیر ، الحدیث»(2)


1- البحار: ج78 / 331 .
2- وسائل الشیعة: الباب 12 من أبواب التکفین، الحدیث 2 .

ص:67

واللّه العالم.

ویکون ذلک بتربة الحُسین علیه السلام ، وإن لم توجد فبالإصبع(1).

(1) ویظهر من المصنّف استحباب أمرین: أحدهما الکتابة، والآخر أن تکون بالتربة، ففی ذلک جمعٌ بین المستحبّین، ورجاءً لترتّب المقصود مع التبرّک بالتربة الحسینیّة التی هی شفاءٌ من کلّ داء، ودافع لکلّ عذابٍ وبلاء، کما تری وتسمع عن ما حکم به الصادق علیه السلام بوضع التربة علی قبر من لا یقبل صاحبها لأجل إحراق ولدها المتخلّق عن ماء الزنا بعد إخبار اُمّها بذلک(1). خصوصاً مع ملاحظة ما هو المحکیّ عن «الاحتجاج» و«الغیبة» للشیخ فیما کتب محمّد بن عبد اللّه بن جعفر الحمیری، قال: «کتبتُ إلی «الفقیه» أسأله عن طین القبر یوضع مع المیّت فی قبره، هل یجوز ذلک أم لا؟ فأجاب علیه السلام : _ وقرأت التوقیع ومنه نسخت _: توضع مع المیّت فی قبره ویخلط بحنوط إن شاء اللّه»(2).

وما رواه الطبرسی فی «الاحتجاج» عن الحمیری أیضاً، عن صاحب الزمان علیه السلام أن_ّه کتب إلیه: «قد روی لنا عن الصادق علیه السلام إنّه کتب علی إزار إسماعیل ابنه: إسماعیل یشهد أن لا إله إلاّ اللّه، فهل یجوز لنا أن نکتب مثل ذلک بطین القبر أو غیره؟ فأجاب: یجوز ذلک بحمد اللّه».(3)

لکن قال صاحب «الجواهر» إنّه: «لا صراحة فیه باستحباب طین القبر مقدّماً علی طین غیره»، بل ظاهره موافقة المحکیّ فی «الذکری» عن المفید فی الرسالة من التخییر بین التربة وغیرها من الطین.

أقول: إنّ التخییر وقع فی سؤال السائل لا فی کلام الإمام علیه السلام ، فلا یبعد مع


1- وسائل الشیعة: الباب 12 من أبواب التکفین، الحدیث 2 و 10.
2- وسائل الشیعة: الباب 12 من أبواب التکفین، الحدیث 2 و 10.
3- وسائل الشیعة: الباب 29 من أبواب التکفین، الحدیث 3.

ص:68

ملاحظة صدر الحدیث إن صدَرَ مع ذیله معاً استظهار الأفضلیّة لطین القبر، حیث قد ذکر فیصدره بالخصوص وأمر بالوضع مع المیّت فی القبر، وخلطه مع الحنوط، فلا أقلّ من دلالته علی الأرجحیّة من غیره، وعلیه فلا وجه حینئذٍ للإطلاق الموجود فی کلام ابن الجنید من أنّ المطلوب الطین والماء، ولا مع عدم التعیین فی کلام ابن بابویه. بل الأولی ما علیه المصنّف من تقدیم التربة.

نعم، لیس فی الأخبار ما یدلّ علی الحکم لما بعد فقد التربة، إلاّ أن_ّه قد نُسب إلی المشهور _ کما فی «المختلف» و«کشف اللّثام» _ من البدل بالإصبع _ کما جاء فی کلام الماتن بقوله: «وإن لم توجد (أی التربة) فبالإصبع».

ولکن عن بعض فقهاءنا کما فی «الاقتصاد» و«المصباح» ومختصره و«المراسم» التخییر بین الکتابة بما سبق وبینه، بل فی «المقنعة» الأمر بالکتابة بالإصبع، ثمّ قال: «ولو کتب بالتربة الحسینیّة ففیه فضلٌ کثیر».

ولکن فی «الذکری» و«جامع المقاصد» و«الروض» و«کشف اللّثام» حاکیاً له فی الأخیر عن أبی علیّ وعِزّیّة المفید الأمر بالتربة الحسینیّة أوّلاً، فإن لم توجد فبالطین والماء، ومع عدمه فبالإصبع، بل فی الأخیر أن_ّه: «لو قیل بالکتابة المؤثّرة قبل ذلک ولو بالماء کان حسناً».

أقول: الظاهر أنّ المراد من الکتابة المؤثّرة، کما یدلّ علیه ما ورد فی حدیث التوقیع هی الکتابة بالتربة، الظاهر کونها مع الماء من باب الحمل علی المتعارف من کون المراد من ذکر الطین هو خلطه مع الماء الموجبة للتأثیر، فحینئذٍ إن قلنا بتقدیم التربة مع وجود التأثیر فیه، فیکون الواجب عند فقدها هو الطین الفاقد للتربة مقدّماً علی سائر الکتابات مثل الکتابة مع الإصبع أو مع الماء غیر المخلوط مع التربة، بل یکون الثانی مقدّماً علی الأوّل لکونه مؤثّراً عند الکتابة،

ص:69

فإن فُقِدت الحِبرة یُجعل بدلها لفافة اُخری (1).

ویزول بعد الجفاف، فیکون أولی من الکتابة بالإصبع الذی لا تأثیر فیه أصلاً، وحیث لا نصّ فی المقام، بل قد وقع هذا الترتیب فی کلمات الأصحاب، فیکون رعایته أولی من باب تقدیم الأشرف علی الأشرف کما وردت الإشارة إلیه فی کلام کاشف الغطاء، حتّی قیل بتقدیم تراب قبور الأئمّة علیهم السلام عن سائر الترب، وهو غیر بعید .

وکیف کان، کون المدار حصول الکتابة المؤثّرة مع رعایة الأولی فالأولی إلی أن یبلغ بما لا تأثیر فیه جیّدٌ، واحتمال کون المراد فیها الاستحباب فی الاستحباب فی الکتابة المؤثّرة کما فی «الجواهر» لا یخلو عن بُعد فی الجملة.

نعم، علی فرض لزوم التأثیر یکون إیجاد تأثیره بالسواد أو بمطلق الصبغ مکروهاً لما سیأتی عن النهی عن مثل ذلک .

(1) أقول: استحباب جعل لفافة اُخری بدلاً عن الحِبرة عند فقدها ثابتٌ بالإجماع من الأصحاب قدیماً وحدیثاً، وهو کافٍ فی إثبات الحکم، هذا فضلاً عن أن_ّه یمکن استفادته من الخبر الذی رواه زرارة وقد جاء فیه قوله علیه السلام : «فما زاد فهو سنّة إلی أن یبلغ خمسة»(1). حیث یفید إطلاقه جواز التبدیل بعد فقد أحد الأکفان إلی أن یبلغ الخمسة، فإذا انضمّتا مع الروایات الاُخری الدالّة علی استحباب کون بعض الکفن حِبرة أو بُرداً، أنتج ذلک استحباب استعمال لفافة اُخری غیر الحِبرة بعد فقدها .

وعلیه، فما وقع فی المتن یمکن أن یکون حاصل ما ذکرناه من التقیید، کما وقع فی ظاهر «السرائر» أیضاً، وهو جیّدٌ وحسنٌ کما لایخفی.


1- وسائل الشیعة: الباب 2 من أبواب التکفین، الحدیث 1 و 9 .

ص:70

وأن یُخاط الکفن بخیوطٍ منه ، ولا تُبلّ بالرِّیق(1).

ویجعل معه جریدتان من سَعَف النخل (2).

(1) لم نجد فی الأخبار والروایات إشارة ولا تصریح بما یدلّ علی استحباب الحکم الأوّل وکراهة الثانی، بل الحجّة فیها هو احتمال دعوی الإجماع أو الشهرة علیها ، ولکن قال صاحب «الجواهر»: «بلا خلافٍ أجده فی الموردین وهو کافٍ فیه».

وبیان أنّ ذکر کون الحنوط منه کان من باب التجنّب عمّا لم یبلغ مبلغه فی حلّه وطهره، لیس إلاّ ذکر مناسباتٍ صدرت بعد الوقوع وهی مجرّد استحسانات لا اعتبار بها، ولذلک یمکن الإشکال بأنّ ظاهر کلامهم وجود الاستحباب المذکور حتّی مع وجود ذلک الشرط أیضاً، کما لا یخفی .

کما أنّ کراهة بلّ الخیوط بالرِّیق ثابتٌ بما عرفت، وإن أمکن أن یکون هذا الحکم لأجل الاحتراز عن فضلات ما لا یؤکل لحمه، فلأجل ذلک یمکن القول بعدم الکراهة لو کان البلّ بغیر الرِّیق، کما صرّح به غیر واحدٍ، مضافاً إلی أنّ الأصل عدم جریان الوجه المزبور فیه، بل لعلّه یشعر به الاقتصار علی الرِّیق فی کلامهم، واللّه العالم.

(2) أقول: ممّا یُستحبّ أن یُفعل بالمیّت، هو جعل جریدتین معه من سَعَف النخل، وهذا الفرع مشتمل علی عدّة اُمور نتعرّض لها:

الأمر الأوّل: فی أصل استحبابه:

فقد ادّعی علیه الإجماع بکلا قسمیه، کما فی «الجواهر» حیث قال: «إجماعاً من الفرقة المحقّة محصّلاً ومنقولاً مستفیضاً، بل متواتراً کالنصوص، خلافاً

ص:71

لغیرهم من أهل الباطل، والحمد للّه علی عدم توفیقهم لذلک، سیّما بعدما ورد أنّها تنفع المؤمن والکافر والمُحسن والمُسیی ء، وأنّها یتجافی عن المیّت العذاب والحساب بسببها ما دامت رطبة»، انتهی(1). سُنن التکفین

مضافاً إلی وجود نصوص یدلّ علیه:

منها: ما فی الصحیح عن زرارة _ علی حسب نقل الصدوق رحمه الله فی «الفقیه» _ عن الباقر علیه السلام ، قال: «قلت لأبی جعفر علیه السلام : أرأیت المیّت إذا مات لِمَ تُجعل معه الجریدة؟ فقال: یتجافی عنه العذاب والحساب مادام العود رطباً، إنّما العذاب والحساب کلّه فی یومٍ واحدٍ فی ساعةٍ واحدة، قدر ما یدخل القبر ویرجع القوم، وإنّما جُعلت السعفتان لذلک، فلا یُصیبه عذابٌ ولا حسابٌ بعد جفوفهما إن شاء اللّه»(2).

ورواه فی «العلل»، عن أبیه، عن سعد بن عبد اللّه، عن یعقوب بن یزید، عن حمّاد بن عیسی، عن حریز، عن زرارة.

ورواه الکلینی عن علیّ بن إبراهیم، عن أبیه، عن حمّاد. ورواه الشیخ أیضاً بإسناده عن محمّد بن یعقوب مثله.

ومنها: ما رواه الصدوق رحمه الله بإسناده عن الحسن بن زیاد: «أن_ّه سأل أبا عبداللّه علیه السلام عن الجریدة التی تکون مع المیّت؟ فقال: تنفع المؤمن والکافر»(3).

ومنها: ما رواه بإسناده عن یحیی بن عبادة المکّی، أن_ّه قال: «سمعتُ سفیان الثوری یسأل أبا جعفر علیه السلام عن التخضیر، فقال: إنّ رجلاً من الأنصار هلک فأوذن رسول اللّه صلی الله علیه و آله بموته، فقال لمن یلیه من قرابته: خضّروا صاحبکم، فما أقلّ


1- الجواهر: ج4 / 233 .
2- وسائل الشیعة: الباب 7 من أبواب التکفین، الحدیث 1.
3- وسائل الشیعة: الباب 7 من أبواب التکفین، الحدیث 2 .

ص:72

المخضّرین یوم القیامة، قال: وما التخضیر؟ قال: جریدةٌ خضرة تُوضع من أصل الیدین إلی أصل الترقوة»(1).

ومنها: مرسل الصدوق، قال: «سُئل الصادق علیه السلام عن علّة الجریدة؟ فقال: إنّه یتجافی عنه العذاب ما دامت رطبة»(2).

ومثله روایة حریز وفضیل وعبد الرحمن بن أبی عبد اللّه، کلّهم، قال: «قیل لأبی عبد اللّه علیه السلام : لأیّ شیء.. الحدیث»(3).

ومنها: روایة سماعة، عن أبی عبداللّه علیه السلام ، قال: «یُستحبّ أن یدخل معه فی قبره جریدة رطبة.. الحدیث»(4).

بل یفهم التأکید بذلک عن روایة أیّوب بن نوح، قال: «کتب أحمد بن القاسم إلی أبی الحسن الثالث علیه السلام یسأله عن المؤمن یموتُ فیأتیه الغاسل یُغسّله وعنده جماعة من المُرجئة، هل یغسّله غُسل العامّة ولا یعمّمه ولا یُصیّر معه جریدة؟

فکتب: یُغسّل غُسل المؤمن وإن کانوا حضوراً، وأمّا الجریدة فلیستخف بها ولا یرونه ولیجتهد فی ذلک جهده»(5).

حیث أنّ العامّة لا یقومون بفعل ذلک تجنّباً عن مجاراة الشیعة فی تجهیزهم، مع أن_ّه قد ورد من طرقهم ذلک أیضاً، کما یشهد لذلک کلام الشیخ رحمه الله فی «التهذیب» حیث قال: «وقد روی من طریق العامّة فی أصل التحضیر شیءٌ کثیر» هذا کما فی «الحدائق»، ولعلّه إشارة إلی ما ورد من الأخبار بطرق العامّة کما (فی «صحیح البخاری» باب الجریدتین علی القبر، و«صحیح مسلم» باب الدلیل علی نجاسة البول، ووجوب الاستبراء منه، و«سنن أبی داود» باب الاستبراء من البول،


1- وسائل الشیعة: الباب 7 من أبواب التکفین، الحدیث 3 و 4 و 7 و 8 .
2- وسائل الشیعة: الباب 7 من أبواب التکفین، الحدیث 3 و 4 و 7 و 8 .
3- وسائل الشیعة: الباب 7 من أبواب التکفین، الحدیث 3 و 4 و 7 و 8 .
4- وسائل الشیعة: الباب 7 من أبواب التکفین، الحدیث 3 و 4 و 7 و 8 .
5- وسائل الشیعة: الباب 7 من أبواب التکفین، الحدیث 9 .

ص:73

و«سنن النسائی» باب التنزّه عن البول، و«سنن البیهقی» باب التوقّی عن البول، عن الأعمش: «سمعتُ مجاهداً یحدّث عن طاووس، عن ابن عبّاس؛ مرّ النبیّ صلی الله علیه و آله علی قبرین فقال: إنّهما یُعذّبان وما یعذّبان فی کبیر، أمّا أحدهما فکان یمشی بالنمیمة، وأمّا الآخر فکان لا یتنزّه عن البول ، فدعا بعسیب رطب فشقّه نصفین ثمّ غَرَس علی هذا واحداً وعلی هذا واحداً ، وقال : لعلّه أن یخفّف عنهما العذاب ما لم ییبسا»)(1).

بل فی «الحدائق» بعد نقل کلام الشیخ فی «التهذیب» قال: «إلاّ أنّ العامّة لمزید تعصّبهم علی الشیعة، والسعی فی خلافهم، قد عدلوا عن کثیرٍ من السُّنن مراغمةً للشیعة، حیث إنّهم یواظبون علیها ویؤکّدون العمل بها، ومنها هذا الموضع کما سیظهر لک من الأخبار، ومنها تسطیح القبور، حیث عدلوا عنه إلی التسنیم مع اعترافهم بأنّ السنّة إنّما هی التسطیح، وإنّما صاروا إلی التسنیم مراغمةً للشیعة، ومنها التختّم بالیمین، ومنها ترک الصلاة علی الأئمّة المعصومین علیهم السلام ، ونحو ذلک ممّا أوضحنا الکلام فیه فی کتابنا «سلاسل الحدید فی تقیید ابن أبی الحدید»» انتهی کلامه(2).

بل قد عرفت فی صدر المسألة أنّ استحبابه مجمعٌ علیه بین الأصحاب، کما أشار إلیه صاحب «الحدائق»، ثمّ قال: «والجریدة هی العود الذی یُجرّد عنه الخوص وما دام الخوص فیه فإنّه یسمّی سعفاً. قال شیخنا المفید فی «المقنعة»: والأصل فی وضع الجریدة مع المیّت إن شاء اللّه تعالی، لمّا اُهبط آدم من الجنّة إلی الأرض استوحش فی الأرض، فسأل اللّه تعالی أن یُنزّل إلیه شیئاً من أشجار


1- الحدائق: ج4 / 39 فی ذیل الصفحة .
2- الحدائق: ج4 / 39 .

ص:74

الجنّة یأنس به، فأُنزلت علیه النخلة، فلمّا رآها عرفها وآنس بها وآوی إلیها، فلمّا جَمع اللّه بینه وبین زوجته حوّاء وأقام معها ما شاء اللّه تعالی أن یُقیم وأولدها ثمّ حضرته الوفاة جَمَع ولده وقال: یا بُنیّ إنّی کنتُ قد استوحشت عند نزولی هذه الأرض، فآنسنی اللّه تعالی بهذه النخلة المبارکة، وأنا أرجو الاُنس بها فی قبری، فإذا قضیتُ نحبی فخذوا بها جریدة فشقّوها باثنین وضعوها معی فی أکفانی، ففعل ذلک ولده بعد موته، وفعلته الأنبیاء بعده، ثمّ اندرس أثره فی الجاهلیّة فأحیاه النبیّ صلی الله علیه و آله وشرّعه ووصّی أهل بیته باستعماله، فهو سنّة إلی أن تقوم الساعة»، انتهی(1).

ثمّ قال: وقال فی «التهذیب»: سمعتُ ذلک مرسلاً من الشیوخ ومذاکرةً ولم یحضرنی الآن إسناده، وجملته أنّ آدم علیه السلام لمّا أهبطه اللّه تعالی من الجنّة.. وساق الکلام المذکور.

ثمّ قال: وقد روی أنّ اللّه عزّ وجلّ خلق النخلة من فضلة الطینة التی خلق منها آدم علیه السلام ، فلأجل ذلک تُسمّی النخلة عمّة الإنسان)، انتهی محلّ الحاجة من کلام صاحب «الحدائق» هنا(2).

أقول: وکیف کان، فالأخبار الدالّة علی استحباب لفّ المیّت بالجریدة أکثر من هذه المذکورات وسنذکر جملة منها إن شاء اللّه خلال ذکر الاُمور المرتبطة بخصوصیّات الجریدة، وعلیه فاستحبابها من المسلّمات عند الفرقة المحقّة المسمّاة بالشیعة الاثنی عشریّة، کثّرهم اللّه، وأبقاهم علی حیاةٍ طیّبة فی ظلّ الولایة، حتّی یعجّل اللّه فرج ولیّهم إن شاء اللّه تعالی.


1- وسائل الشیعة : الباب 7 من أبواب التکفین، الحدیث 1 .
2- الحدائق: ج4 / 38 .

ص:75

الأمر الثانی: فی أن_ّه هل یشترط أن تکون الجریدتان رطبتین أم لا؟

الذی یظهر من معقد إجماعی «الانتصار» و«الخلاف» وغیرهما هو الأوّل، خصوصاً مع ملاحظة ما فی بعض الأخبار مثل الخبر الذی رواه زرارة من قوله علیه السلام : «یتجافی عنه العذاب والحساب ما دام العود رطباً»، بل وتصریح بعض الأخبار النهیعن استعمال الجریدة الیابسة مثل ماورد فی خبر محمّدبن علیبن عیسی،قال: «سألت أبا الحسن علیه السلام عن السعفة الیابسة إذا قطعها بیده، هل یجوز للمیّت توضع معه فی حفرته؟ فقال: لا یجوز الیابس»(1).

بل عن جماعةٍ من متأخّری المتأخّرین من استحباب وضع القطن علی الجریدتین، ناسبین ذلک إلی الأصحاب، ومعلّلین بالمحافظة علی بقاء الرطوبة، حیث یفهم منه اعتبارالرطوبة فیها، وإن ناقش معهم صاحب «الجواهر» قدس سره فی أصل استحباب وضع القطن، وإن استدرک بعده بقوله: «اللّهُمَّ إلاّ أن یقال باستحبابه تعبّداً لا لما ذکروه من العلّة»، وهو حسنٌ إن ثبتت النسبة إلی الأصحاب.

بل ادّعی صاحب «الجواهر» أنّ الرطوبة جزءٌ من مفهوم الجریدة،ونسبه إلی کتاب «العین» و«المحیط» و«تهذیب اللّغة»، ولعلّ ترک المصنّف ذکره فی متنه کان لمعلومیّته وإن کان بعیداً ومنافیاً للإطلاق العرفی، أو لکونه مأخوذاً فی مفهومها، فالظاهر من الأدلّة بل وصریحها لزوم کونها رطبة إذ هی الملاک والمناط فی رفع العذاب، فیلزم رعایة ذلک مع الإمکان.

نعم، قد یُقال باعتبار لزوم خرط الخوص أیضاً لدخالته فی مفهوم الجریدة، وإلاّ تُسمّی بالسعفة کما نصّ علیه الشهید الثانی فی «الروض».

ولکن قد عرفت دلالة صحیحة زرارة علی الاکتفاء بالسعف، حیث قال:


1- وسائل الشیعة: الباب 9 من أبواب التکفین، الحدیث 1 .

ص:76

«وإنّما جُعلت السعفتان لذلک»، نعم لا إشکال فی کون المخروطة مطابقاً للاحتیاط، إلاّ أنّ الحکم بلزومها لا یخلو عن إشکال.

الأمر الثالث: فی أنّ استحباب وضع الجریدة هل هو مختصٌّ بمن لا یؤمَن علیه العذاب من عذاب القبر وغیره؟

أو أن_ّه للأعمّ لیشمل الصغیر والمجنون والکبیر الذی مات بعد التوبة؟

فیه وجهان: ظاهر إطلاق الأخبار وکلمات الأصحاب هو الثانی، إلاّ أنّ ظاهر التعلیل فی الأخبار بأن_ّه: «یتجافی عنه العذاب والحساب ما دام العود رطباً» الذی قد تکرّر ذکره فی أکثر أخبارها لولا الکلّ قد یؤیّد الأوّل، حیث یلزم بناءً علیه عدم مشروعیّة الجریدة لمن یؤمَن علیه من عذاب القبر وسائر العقوبات، ممّا یعنی أن_ّه لا تشرع وضع الجریدة للصبی والمجنون وغیرهما.

هذا، ولکن قد نصَّ بعض المتأخّرین کالشهید رحمه الله فی «البیان» و«الذکری» أن_ّها للأعمّ، بل نَسب الثانی ذلک إلی الأصحاب، وقال: «ویوضع مع جمیع أموات المسلمین حتّی الصغار لإطلاق الأمر»، بل قد یؤیّده، بل یدلّ علیه ما رواه الشیخ المفید فی «المقنعة» من قصّة وصیّة آدم علیه السلام ومتابعة الأنبیاء له، وإحیاء النبیّ صلی الله علیه و آله له بعد اندراسها فی الجاهلیّة، ووصیّته صلی الله علیه و آله لأهله بذلک، مع أن_ّه لا إشکال عندنا فی عصمتهم ومأمونیّتهم عن العذاب کلّه من أهوال القبر وغیره، فیفهم من جمیع ذلک أنّ هذا التعلیل لیس من قبیل العلّة والمعلول حتّی یدور أمر الحکم مدارها، بل إنّما هو من قبیل الحکمة فی التشریع نظیر العِدّة فی الطلاق المعمول تحرّزاً عن اختلاط المیاه،ونظیر استحباب غُسل الجمعة حیث ورد فیتشریعه عن الصادق علیه السلام : «بأنّ الأنصار کانت تعمل فی نواضحها وأموالها، فإذا حضروا الصلاة یوم الجمعة تأذّی الناس بریح آباطهم وأجسادهم، فشکوا

ص:77

ذلک إلیه صلی الله علیه و آله ، فأمر بالغُسل للجمعة، فجرَت بذلک السنّة»(1). حیث لم تکن العلّة المذکورة علّة حقیقةً، وإنّما هی حکمة، وکذلک الأمر فیما نحن فیه.

وعلیه، فالأقوی عندنا هو الثانی کما علیه صاحب «الجواهر» و«الحدائق» و«مصباح الفقیه» وغیرهم من المتأخّرین.

الأمر الرابع: هل تحقّق الاستحباب فی الجریدة مشروط بالجریدتین بحیث لو لم یأت بهما معاً لما عُدّ ممتثلاً للأمر المستحبّی؟

أم لیس الأمر کذلک، بل یکفی لتحقّق الاستحباب وضع أحدهما کما عن العُمّانیحیث التزم بأنّ المستحبّ جریدة واحدة، کما لایبعد کونه مختاراً لصاحب «الوسائل»، فإنّه بعد نقله الأخبار الدالّة علی الوحدة، ونقله کلام الصدوق رحمه الله قال: «هذا محمولٌ علی جواز الاقتصار علی واحدة، ویأتی مثله کثیراً»، انتهی(2).

بل قال صاحب «مصباح الفقیه» بعده: «أقول: وهذا هو الأوفق بالقواعد فی السنن، لکن الأولی عدم العمل بهذه الروایات، بل الأخذ بما عداها ممّا ستسمعه من الأخبار الآتیة المعمول بها لدی الأصحاب. وأمّا إنکار ظهورها فی إرادة الواحدة، فلا یخلو عن مجازفة)، انتهی ما فی «المصباح»(3).

أقول: لکن الأقوی عندنا فی صورة الإمکان هو المتعدّد، کما هو الوارد فی کثیرٍ من الأخبار وکلمات الأصحاب. نعم، یصحّ الاجتزاء بالواحدة عند الضرورة ولو بقسمة الجریدة الواحدة إلی قسمین إن أمکن، وإلاّ تکفی جریدة واحدة عملاً بقاعدة المیسور وغیرها.


1- وسائل الشیعة: الباب 6 من أبواب أغسال المسنونة، الحدیث 15.
2- وسائل الشیعة: ج2 / 737 .
3- مصباح الفقیه: ج5 / 310 .

ص:78

والدلیل علیه: _ مضافاً إلی کونه معقد إجماع الفرقة کما وقع فی المتن _ دلالة أخبار کثیرة علیه :

منها: صحیحة زرارة، حیث قال علیه السلام : «وإنّما جُعلت السعفتان لذلک..الحدیث»(1).

ومنها: روایة حسن بن زیاد الصیقل حیث قال علیه السلام : «توضع للمیّت جریدتان واحدة فی الیمین واُخری فی الأیسر، الحدیث»(2).

ومنها: روایة علی بن بلال بقوله علیه السلام : «إنّه یتجافی عنه العذاب ما دامت الجریدتان رطبتین، الحدیث».(3)

ومنها: مرسل یونس فی حدیثٍ: «وتُجعل له _ یعنی المیّت _ قطعتین من جرید النخل رطباً، الحدیث».(4)

ومنها: روایة فضیل بن یسار فی حدیثٍ، قال: «توضع للمیّت جریدتان واحدة فی الأیمن والاُخری فی الأیسر»(5).

بل قد یستفاد التعدّد ما ورد ممّا یدلّ علی جواز شقّ الجریدة الواحدة إلی قسمین مثل الخبر المرسل الذی رواه الصدوق، قال: «مرَّ رسول اللّه صلی الله علیه و آله علی قبرٍ یُعذَّب صاحبه، فدعا بجریدةٍ فشقّها نصفین، الحدیث».(6)

وکما فی المرسل المنقول عن الشیخ المفید فی «المقنعة»، وفیه: «فخذوا منها جریداً وشقّوه بنصفین وضعوهما معی فی أکفانی، الحدیث»(7).

ولأجل ذلک تری الصدوق رحمه الله قد أفتی بلزوم جریدتین فی ذیل الخبر الذی


1- وسائل الشیعة: الباب 7 من أبواب التکفین، الحدیث 1 و 6 و 10.
2- وسائل الشیعة: الباب 7 من أبواب التکفین، الحدیث 1 و 6 و 10.
3- وسائل الشیعة: الباب 8 من أبواب التکفین، الحدیث 2.
4- وسائل الشیعة: الباب 10 من أبواب التکفین، الحدیث 5 و 6 .
5- وسائل الشیعة: الباب 10 من أبواب التکفین، الحدیث 5 و 6 .
6- وسائل الشیعة: الباب 11 من أبواب التکفین، الحدیث 4 .
7- وسائل الشیعة: الباب 7 من أبواب التکفین، الحدیث 1 و 6 و 10.

ص:79

رواه یحیی بن عبادة عن أبی عبد اللّه علیه السلام ، أن_ّه سمعه یقول: «إنّ رجلاً مات من الأنصار فشهده رسول اللّه صلی الله علیه و آله فقال: خضّروه فما أقلّ المخضّرین یوم القیامة(1). فقلت لأبی عبد اللّه علیه السلام : وأیّ شیء التخضیر؟ قال: تؤخذ جریدة رطبة قدر ذراع فتوضع _ وأشار بیده _ إلی عند ترقوته تلفّ مع ثیابه»(2).

وقال فی «الفقیه»: «جاء هذا الخبر هکذا، والذی یجب استعماله أن یوضع للمیّت جریدتان من النخل خضراوین».

أقول: برغم ذکر الجریدة الواحدة فی بعض الأخبار کالخبر المرویّ عن سماعة، عن الصادق علیه السلام : «یستحبّ أن یدخل معه فی قبره جریدة رطبة، الحدیث»(3)، وکذلک خبر یحیی المذکور وغیرهما، فإنّ المراد منها هو جنس الجریدة الصادق علی المتعدّد أیضاً، کما یشهد لذلک ما فی صحیحة زرارة، حیث ورد ذکر الجریدة فی صدر الحدیث مفردةً بقوله: «لم تجعل معه الجریدة»، ولکن قال فی ذیله: «وإنّما جعلت السعفتان لذلک، الحدیث»(4).

وخبر آخر لیحیی(5)حیث جاء فیه: «جریدة خضرة توضع من أصل الیدین إلی أصل الترقوة»، حیث لا یخلو قوله علیه السلام : «أصل الیدین» إشعاراً إلی التعدّد، فیصیر اللّفظ المفرد دالاًّ علی الجنس القابل للانطباق علی الواحد والمتعدّد، وهذا هو الأقوی.

الأمر الخامس: فی بیان حدّ الجریدة: الذی یظهر من کلمات الفقهاء الأعلام أنّ لهم فی هذه المسألة أقوال خمسة أو ستّة:

1 _ قولٌ بالإطلاق من دون تحدید بحدّ؛ وهو المنسوب إلی ظاهر إطلاق


1- ولعلّه إشارة إلی الشیعة العاملین بذلک وهم الأقلّون المخضّرون لقلّتهم بالنسبة إلی العامّة.
2- وسائل الشیعة: الباب 7 من أبواب التکفین، الحدیث 5 و 8 و 1 و 3.
3- وسائل الشیعة: الباب 7 من أبواب التکفین، الحدیث 5 و 8 و 1 و 3.
4- وسائل الشیعة: الباب 7 من أبواب التکفین، الحدیث 5 و 8 و 1 و 3.
5- وسائل الشیعة: الباب 7 من أبواب التکفین، الحدیث 5 و 8 و 1 و 3.

ص:80

المصنّف کإطلاق کثیر من الأخبار، بل صرّح الشهید رحمه الله فی «الذکری» حیث قال: «إنّ الکلّ جائزٌ لثبوت أصل الشرعیّة، وعدم القاطع علی قدر معیّن». وتبعه بعض متأخّری المتأخّرین.

2 _ وقولٌ بالتخییر بین قدر عظم الذراع ومن الذراع وبین شبر، وهو المستفاد من کلام الصدوق رحمه الله حیث قال: «طول کلّ واحدة قدر عظم الذراع، وإن کانت قدر ذراع فلا بأس أو شبر فلا بأس»، حیث استفاد منه صاحب «الحدائق» التخییر ونسبه إلیه، مع أنّ ظاهر کلامه هو استحباب الأوّل وأنّ الآخرین رخصة کما قاله صاحب «الجواهر».

3 _ وقولٌ ثالث وهو المنسوب إلی الشهرة، بل علیه دعوی الإجماع فی «الانتصار» و«الغنیة»، وإن کان قد ادّعی صاحب «الجواهر» ضعف اندراجه فی معقد إجماع «الغنیة»، وهو کون طولهما قدر عظم الذراع.

4 _ وقولٌ رابع هو ما نُسب إلی الصدوق واختاره صاحب «الجواهر» من کونه مستحبّاً فی مستحبّ؛ أی المستحبّ الأوّل کونه قدر عظم الذراع ثمّ الآخرین، أو یقال إنّ المستحبّ الأوّل هو المطلق، ثمّ المستحبّ الآخر کونه علی قدر عظم الذراع أو الذراع أو الشبر.

5 _ وقولٌ خامس هو هذا القول، إلاّ أن یُقال بمراتب الاستحباب، هذا کما عن «الروضة» ونسبته إلی الشهرة حیث قال: «والمشهور أنّ قدر کلّ واحدة طول عظم ذراع المیّت، ثمّ قدر شبر، ثمّ أربع أصابع».

وقد أورد علیه صاحب «الجواهر» بأنّ أصله مشهورٌ، وأمّا التقیید بذراع المیّت فإنّه لم یذکره أحدٌ من الأصحاب .

6 _ وقولٌ سادس: هو کونه قدر أربع أصابع وما فوقها، وهو المنسوب إلی ابن أبی عقیل.

ص:81

هذا ولم نجد من صرّح بتحدید الجریدة بقدر الشبر، وإن کان ورد ذکره فی الأخبار کما سنبیّنه إن شاء اللّه تعالی.

الدلیل علی القول المشهور: هو أنّ طولها قدر عظم الذراع ممّا یقتضی أن تکون أصغر من نفس الذراع، مضافاً إلی دعوی الإجماع من العَلَمین؛ فقد ورد فی «رسالة علیّ بن بابویه» والتی قیل بأنّ الفتاوی المذکورة فیها هی نصوص الأخبار، ولذا کانوا یعملون بها عند إعواز النصوص، وقیل الأمر کذلک فی نهایة الشیخ رحمه الله ، کما ورد فی «فقه الرضا» أن_ّه قال: «وروی أنّ الجریدتین کلّ واحدةٍ بقدر عظم الذراع»(1).

خصوصاً إذا قلنا بأنّ المراد من الذراع هو عظمه حقیقةً، کما ادّعاه صاحب «کشف اللّثام».

هذا فضلاً عن أنّ فی المقام خبران آخران أیضاً یدلاّن علی هذا التحدید: الخبر الأوّل: ما ورد فی المرسل المرویّ عن یحیی بن عبادة بقوله: «تؤخذ جریدة رطبة قدر ذراع»(2).

الخبر الثانی: هو الخبر الذیرواه إبراهیم، عن رجاله، عن یونس، عنهم علیهم السلام : «ویجعل له قطعتان من جرید النخل رطباً قدر ذراع، تجعل له واحدة بین رکبتیه، نصف ممّا یلی الساق ، ونصف ممّا یلی الفخذ ، ویجعل الاُخری تحت إبطه الأیمن»(3).

وقد یکون ذلک قرینة علی أنّ المراد هنا من الذراع هو العظم مجازاً، لما قد


1- المستدرک: ج1 الباب 8 من أبواب التکفین، الحدیث 10 .
2- وسائل الشیعة: الباب 10 من أبواب التکفین، الحدیث 4 .
3- وسائل الشیعة: الباب 10من أبواب التکفین، الحدیث 5 .

ص:82

عرفت وروده فی کلمات الأصحاب وبعض الأخبار المعتضدة بشهرة الأصحاب کما فی «فقه الرضا»، خصوصاً إذا أیّدناه بالخبر الصحیح أو الحسن المرویّ عن جمیل بن درّاج، أن_ّه قال: «إنّ الجریدة قدر شبر توضع واحدة من عند الترقوة»(1).

ولا یخفی أنّ وضعه عند الموضع المذکور یکون بالقرب من عظم الذراع کما یُعرف ذلک بالاختبار .

کما قد یؤیّد کون المراد هو عظم الذراع لا نفسه عدم ذکر الأصحاب التقدیر بالذراع إلاّ الصدوق رحمه الله فی کلامه، مع ما عرفت ما هو ظاهر کلامه.

وبالجملة: لازم هذا التحقیق هو تأیید کلام المشهور، وهو کفایة طول عظم الذراع، وإن کان الاکتفاء بالأقلّ والأکثر منه أیضاً مُجزیاً، ولعلّ الأقلّ یطابق مع ما علیه العمّانی من أربع أصابع، وإن استدلّ علیه بالخبر المرویّ عن یحیی بن عبادة التی ورد فیها: «توضع من أصل الیدین إلی أصل الترقوة»(2). لأجل کونه ممّا یجتزئ به من حیث تحقّق المطلق فیه، ولکنّه لا یخلو عن تأمّل.

الأمر السادس: هل یستحبّ أن تکون الجریدة مشقوقة إلی شقّین أم لابدّ أن تکون قطعتین، إلاّ عند الضرورة حیث یجوز شقّ الجریدة الواحدة إلی قسمین؟

ظاهر بعض الأخبار هو الأوّل، مثل ما ورد فی مرسل «المقنعة» للمفید رحمه الله فی قصّة آدم علیه السلام حیث ورد فیها أن_ّه قال: «فإذا متّ فخذوا جریداً وشقّوه نصفین وضعوهما معی، الحدیث»(3).

ومثلها مرسلة الصدوق، حیث قال: «مرَّ رسول اللّه صلی الله علیه و آله علی قبرٍ یُعذَّب


1- وسائل الشیعة: الباب 7 من أبواب التکفین، الحدیث 7 و 3.
2- وسائل الشیعة: الباب 7 من أبواب التکفین، الحدیث 7 و 3.
3- وسائل الشیعة: الباب 7 من أبواب التکفین، الحدیث 10.

ص:83

صاحبه فدعا بجریدة فشقّها نصفین، فجعل واحدة عند رأسه، والاُخری عند رجلیه، الحدیث»(1).

هذا، ولکن استفاد صاحب «الجواهر» عدم الاستحباب من ترک المصنّف ذکره کما نصّ علی العدم بعض المتأخّرین، بل لعلّ الشقّ ینافی مع التوصیة إلی استبقاءها رطبة قدر الإمکان، بل قد عرفت ذهاب بعض المتأخّرین إلی استحباب وضع القطن علی الجریدتین ناسبین له إلی الأصحاب، معلّلین ذلک بالمحافظة علی بقاء الرطوبة، ولذلک یصعب الجمع بین هذه العلّة والحکم بجواز شقّ الواحدة إلی اثنین، لأنّ ذلک یؤدّی إلی سرعة زوال الرطوبة.

ولکن قد یقال: بأنّ التعلیل علیلٌ؛ لأنّ مقتضی ما فی صحیحة زرارة هو ترتّب الأثر علی الجریدة حین ما یدخل المیّت فی القبر، ویرجع القوم، وإنّما جعلت السعفتان لذلک، فلا یصیبه عذاب ولا حساب بعد جفافهما، إن شاء اللّه تعالی، ومن المعلوم أنّ بقاء الرطوبة فیها بهذا القدر من الزمان لا یحتاج إلی اختیار جریدة غلیظة _ کما علیه السیّد فی «العروة» _ ولا إلی وضع القطن علیها لحفظ رطوبتها.

وعلیه، فالأولی فی المقام أن یقال فی الجمع بین مرسل الصدوق وبین الأخبار الآنفة، باختصاص الشقّ لما بعد الدفن، والتعدّد للوضع حین الدفن، وإن کان ذلک لا یناسب مع الخبر المرسل المرویّ فی «المقنعة» حیث أوصی آدم علیه السلام بذلک قبل الدفن من الشقّ حین الدفن.

اللّهُمَّ إلاّ أن یُدّعی بالاختصاص فی ذلک الزمان لو ثبت وروده کذلک عن المعصوم علیه السلام ، وعلیه فالأولی عدم الشقّ، واختیار جریدتین إن أمکن أوّلاً، وإلاّ جاز شقّ جریدة واحدة وتقسیمها إلی قسمین عند الضرورة، واللّه العالم.


1- وسائل الشیعة: الباب 11 من أبواب التکفین، الحدیث 4 .

ص:84

فإن لم یوجد فمن السِّدر ، وإلاّ فمن الخلاف، وإلاّ فمن شَجَرٍ رَطِبٍ(1).

(1) ظاهر المتن بل صریحه عدم سقوط أصل المشروعیّة والاستحباب بعدم وجدان جریدة النخل، بل یبدّل إلی غصن شجرة اُخری. وفی «الجواهر»: «بلا خلافٍ أجده فی ذلک، بل ظاهر الأصحاب الاتّفاق علیه».

نعم، یظهر من المصنّف رحمه الله فی «النافع» و«المعتبر» التوقّف فی الاستحباب بعد عدم وجدان جریدة النخل، استضعافاً للأخبار الآتیة المعیّنة للعوض.

أقول: وإن کان کلامه فی ضعف الأخبار من حیث السند جیّدٌ، إلاّ أن_ّه غیر قادح بالنظر إلی ما هو مبنی الأصحاب فی الأخبار الضعیفة، من جبر ضعفها وإثبات حجّیتها عن طریق عمل الأصحاب وشهرتهم، الموجب لحصول الوثوق بصدورها، ولو کان ذلک الوثوق حاصلاً من الخارج، ومن أعظمه عمل الأصحاب واستنادهم إلی الخبر فی مقام العمل کما فی المقام، والشاهد علی ذلک أنّ المحقّق قدس سره بنفسه اعتمد علی هذه القاعدة فی الأشباه والنظائر کما لایخفی.

هذا، وقد وجّه صاحب «الجواهر» کلام المصنّف باحتمال أن یکون مقصوده بیان التخییر حینئذٍ بین الأشجار، حیث یناسب مع بقاء أصل المشروعیّة والاستحباب.

الفرع الأوّل: بعد الفراغ عن أصل الاستحباب، تصل النوبة إلی أن_ّه مع وجود جریدة النخلة هل هی مقدّمة علی غیرها، أو أنّ الحکم هو التخییر بینها وبین غیرها من أغصان الأشجار؟

المشهور علی الأوّل، بل فی «الجواهر»: «بلا خلاف أجده فیه سوی ما یظهر من الشیخ رحمه الله فی «الخلاف» من القول بالتخییر بینه وبین غیره، حیث قال: یستحبّ أن یوضع مع المیّت جریدتان خضراوان من النخل أو غیرها من

ص:85

الأشجار، وخالف جمیع الفقهاء فی ذلک، ثمّ قال: دلیلنا إجماع الفرقة».

ولا یخفی أنّ کلامه غیر صریح فیما ادّعی، لإمکان أن یکون بیانه للتخییر فی أصل المشروعیّة بینها وبین غیرها، کما یؤیّد ذلک إشارته لمخالفة لذلک جمیع الفقهاء _ أی العامّة المنکرین لأصل الاستحباب _ ولذلک قال: «ودلیلنا إجماع الفرقة»، وبذلک یخرج هو أیضاً عن المخالفة، فیصیر دعوی الإجماع واتّفاق الأصحاب علی هذا الحکم ثابتاً متیناً.

الفرع الثانی: عند فقد جریدة النخل، هل الحکم حینئذٍ رعایة الترتیب بین ما سیأتی من السِّدر والخلاف وغیرهما، أم أن_ّه التخییر بین سائر الأشجار؟

ذهب المشهور إلی الأوّل، خلافاً لابن إدریس فی «السرائر» وکذلک «إشارة السبق» وابن البرّاج حیث ذهبوا إلی الثانی، ولعلّهم استندوا إلی مکاتبة علیّ بن بلال الذی نقله الصدوق رحمه الله فی «الفقیه» بإسناده، أن_ّه: «کتب إلی أبی الحسن الثالث علیه السلام : الرّجل یموتُ فی بلادٍ لیس فیها نخل، فهل یجوز مکان الجریدة شیءٌ من الشجر غیر النخل، فإنّه قد روی عن آبائک علیهم السلام إنّه یتجافی عنه العذاب ما دامت الجریدتان رطبتین، وأن_ّها تنفع المؤمن والکافر؟

فأجاب علیه السلام : یجوز من شجرٍ آخر رطب»(1).

وکذا ما رواه الشیخ الکلینی بإسناده عن مکاتبة علیّ بن بلال بلا ذکر المکتوب إلیه، قال: «إنّه کتب إلیه یسأله عن الجریدة إذا لم یجد یجعل بدلها غیرها فی موضع لایمکن النخل؟ فکتب: یجوز إذا اعوزت الجریدة، والجریدة أفضل، وبه جاءت الروایة»(2).


1- وسائل الشیعة: الباب 8 من أبواب التکفین، الحدیث 1.
2- وسائل الشیعة: الباب 8 من أبواب التکفین، الحدیث 2.

ص:86

فإنّ ظاهر هذین الخبرین هو الإطلاق فی الرجوع إلی سائر الأشجار من دون تعیین للترتیب، خصوصاً إذا لاحظنا کون المقام مقتضیاً للذِّکر، ممّا یلزم تأخیر البیان عن وقت الحاجة، خصوصاً مع ملاحظة ما ورد فی «مصباح الفقیه» حیث قال بعد ذکر الإطلاق المذکور: «لکن قد یقال بأنّ مقتضی الجمع بینها وبین المرسلة المتقدّمة، تقیید إطلاقها بما فی تلک المرسلة، لکن الأوفق بالقواعد فی مثل المقام، عدم ارتکاب التقیید، بل حمل المقیّد علی الأفضل»، انتهی(1).

ولکن یرد علیه أوّلاً: بما جاء فی «مصباح الهدی» من أنّ ما ذکره المحقّق الهمدانی قدس سره من عدم حمل المطلق علی المقیّد فی المستحبّات المقرّر فی الاُصول متینٌ، فیما إذا کان دلیل المطلق قد تمّ فی حجیّته، لا فیما لا یکون کذلک کما فی المقام؛ لأنّ الإطلاق هنا معرض عنه الأصحاب، والشهرة قائمة علی خلافه.

وثانیاً: یمکن أن یکون المقصود بیان أصل عدم سقوط الاستحباب مع عدم وجود جریدة النخل؛ أی یجوز استعمال غصن شجرٍ رطب من دون التصدّی لأصل الإطلاق فی التخییر، کما یؤیّد ذلک کیفیّة السؤال والجواب بقوله: «هل یجوز مکان الجریدة شیء من الشجر غیر النخل؟ فأجاب: یجوز من شجرٍ آخر رطب». فلا ینافی هذا الجواب مع کون ذلک بالترتیب الوارد فی سائر الأخبار کما علیه المشهور، وهو عبارة عن تعیّن عود السِّدر بعد فقد الجریدة، ومع تعذّر السّدر فعود الخلاف، ومع تعذّر الخلاف فعود کلّ شجرٍ رطب.

والدلیل علیه: الروایة المرسلة المرویّة عن سهل بن زیاد، عن غیر واحدٍ من أصحابنا، قالوا: «قلنا له: جَعلنا اللّه فداک إن لم نقدر علی الجریدة؟ فقال: عود السِّدر، قیل: فإن لم نقدر علی السِّدر؟ فقال: عود الخلاف»(2).


1- مصباح الفقیه: ج5 / 312 .
2- وسائل الشیعة: الباب 8 من أبواب التکفین، الحدیث 3 .

ص:87

فحیث یکون هذا القول موافقاً للمشهور، ومعتضداً بهذه الروایة، یکون مقدّماً علی القول بالتخییر بین الأشجار بعد فقد الجریدة، مع أنّ الروایة المشتملة علی التخییر جاء فی جوابها قوله علیه السلام : «فکتب یجوز إذا أعوزت الجریدة، والجریدة أفضل، وبه جاءت الروایة». حیث لا یناسب الأفضلیّة فی الجریدة مع فرض الفقدان، فلابدّ أن تکون الأفضلیّة مع فرض وجود الجریدة، فیفهم منه أنّ استعمال أغصان الأشجار الاُخری غیر النخل مع إمکان النخل یعدّ عملاً بالمستحبّ، إلاّ أن_ّه خارجٌ عن الأفضلیّة، فلا تخلو هذه الجملة من الإشارة إلی أنّ الترتیب مع إمکانه من قبیل تعدّد المطلوب أی مستحبٌّ فی مستحبّ.

وعلیه، فأصل الاستحباب کون الشجرة رطبة، والاستحباب بعده ملاحظة الترتیب من الجریدة، ثمّ السِّدر، ثمّ الخلاف، ثمّ الرمّان إن قلنا به، ثمّ غصن مطلق الشجرة الرطبة. سنن التکفین

ومن هنا یظهر عدم تمامیّة کلام صاحب«الجواهر» حیث صدّق کلام«جامع المقاصد» و«الروض» اللّذین نسبوا الحکم إلی الأصحاب، مشعرین بدعواهم ذلک قیام الإجماع علی جواز واستحباب الرجوع إلی مطلق الشجرة الرطبة بعد فقد شجرة السِّدر والخلاف أو إعوازهما معاً ومع الرمّان، حیث قال: «ولولا ظهور اتّفاق الأصحاب علی الانتقال إلی الشجر الرطب عند تعذّر الاثنین أعنی السِّدر والخلاف، أو الثلاثة یعنی الاثنین المذکورین مع الرمّان؛ لأمکن المناقشة بأنّ قضیّة الإطلاق والتقیید سقوط المستحبّ عند تعذّرهما، أو تعذّرها لا الانتقال إلی الشجر الرطب»، انتهی(1).

لوضوح أنّ أصل الاستحباب إذا فرض ثابتاً بمطلق الشجر الرطب بدلالة


1- الجواهر: ج4 / 240 .

ص:88

روایة علی بن هلال _ کما مرّ آنفاً من التصریح بأفضلیّة النخل مع إمکانه _ فإنّه یستفاد منها الترتیب المذکور ترتیبٌ فی مراتب الفضیلة، وغایة دلالتها مطلق الشجر الرطب لا سقوط أصل الاستحباب مع تعذّر المراتب، کما ادّعاه قدس سره .

ومن ذلک یظهر أنّ المراتب بعد النخل أیضاً علی الأفضلیّة، کما علیه الشهید فی «الذکری» و«الدروس» و«البیان»، وتبعه جماعة.

نعم، یبقی هنا التزام بعض الفقهاء کالشهید الأوّل فی «البیان» و«الدروس» من أن_ّه یتعیّن بعد تعذّر السّدر والخلاف عود الرمّان، ثمّ بعد تعذّره المرجع إلی مطلق الشجر الرطب، خلافاً للمشهور الذین جعلوا المرجع إلی الشجر المطلق بعد تعذّر السِّدر والخلاف، ولعلّ وجه فتواهم ملاحظة ما ورد فی الروایة التی رواها الشیخ الکلینی فی «الکافی» ذیل روایة سهل بن زیاد، عن علیّ بن إبراهیم فی روایة اُخری، قال: «یجعل بدلها عود الرمّان»(1)، ویبدو أن_ّهم استفادوا منها دلالتها علی جواز استعمال عود الرمّان بعد تعذّر السِّدر والخلاف، مع أنّ ظاهر الروایة بملاحظة رجوع ضمیر التأنیث فی قوله: «بدلها» إلی الجریدة أنّ عود الرمّان مرجع بعد تعذّر الجریدة لا بعد تعذّرهما.

هذا، ولازم الجمع بین هذا الحدیث وبین روایة سهل هو أنّ التخییر بعد إعواز الجریدة یکون بین السِّدر والرمّان، لا أنّ الرمّان یکون بعد فقد السِّدر والخلاف کما هو مختار الشهید قدس سره .

وکیف کان، ولعلّ وجه ترک المصنّف لذکره مخالفته للمشهور، وعدم مقاومة هذه المرسلة للمعارضة مع المرسلة المتقدّمة لسهل بن زیاد، المعتضدة والمنجبرة بالشهرة، لقصورها عن مرتبة الحجّیة .


1- وسائل الشیعة: الباب 8 من أبواب التکفین، الحدیث 4.

ص:89

نعم، لا بأس من الاعتماد علی مدلوله استناداً إلی التسامح فی أدلّة السنن، مع ملاحظة عدم ورود مطلق الشجر الرطب فی متن الحدیث حتّی یتبع ویعارض هذا الحدیث، وعلیه فالالتزام به غیر بعید.

وأمّا ما فی «المقنعة» و«الجامع» و«المراسم» من الحکم بعکس الترتیب الذی علیه المشهور، من أن_ّه بعد إعواز الجریدة ینبغی الرجوع إلی الخلاف، ثمّ بعده إلی السِّدر، فلم یعلم مستندهم، فلا یصار إلیه .

وبالجملة: بناءً علی ما ذکرناه آنفاً واستفدناه من روایة علی بن هلال، فإنّه یجوز استعمال أغصان أشجار اُخری غیر النخل مع وجوده، کما یجوز الرجوع إلی الخلاف مع وجود السِّدر، إلاّ أنّ الأفضل الرجوع إلی ما قبل کلّ واحدٍ منها، خلافاً لصاحب «الجواهر» حیث قال: «ثمّ إنّ ظاهر النصّ والفتوی تقیید مشروعیّة الخلاف بتعذّر السِّدر والشجر الرطب بالخلاف».

ثمّ بعد نقله الخلاف عن «الذکری» وما استدلّ به بما ذکرناه من قبل ذلک قال: «وهو لا یخلو عن تأمّلٍ بعد بیان التخضیر فی الأخبار بالجریدة، ومعارضة إشعار الأفضلیّة بما فی هذا الخبر نفسه من تقیید الجواز بالإعواز، فضلاً عن ظهور غیره فیه أیضاً، فتأمّل»، انتهی(1).

ولا یخفی ما فی کلامه، لأنّ التقیید بالإعواز قابلٌ لأن یکون بلحاظ الأفضلیّة لا أصل المشروعیّة، لأن_ّه منوط بما یؤخذ فی متعلّقه من أحد الأمرین، کما لا ینافی تفسیر التحضیر بالجریدة بأن یشمل غیرها، لکونها هی أفضل الأفراد، فیلاحظ الأثر بالنسبة إلیه حالاً إلی غیرها، وعلیه کما ذکره السیّد فی «العروة» فی المسألة الاُولی بقوله: «أن تکونا من النخل وإن لم یتیسّر فمن السِّدر.. إلی آخره» متینٌ جدّاً، ولعلّ لما ذکرنا أمر صاحب «الجواهر» قدس سره بالتأمّل.


1- الجواهر: ج4 / 238 .

ص:90

وتجعل إحداها من جانبه الأیمن مع الترقوة ، ویَلصقها بجِلده، والاُخری من الجانب الأیسر بین القمیص والإزار(1).

(1) إنّ هذه المسألة ذات وجوه وأقوال، لأنّ الأقوال فی کیفیّة وضع الجریدتین علی خمسة:

1 _ قولٌ، وهو القول المشهور، وقد ادّعی فی «الغنیة» علیه الإجماع، وهو المذکور فی المتن بأن تجعل إحداهما من جانبه الأیمن مع الترقوة، ویلصقها بجلده، والجریدة الاُخری توضع مع الترقوة من الجانب الأیسر إلاّ أنّها بین القمیص والإزار. والترقوة وإن لم ینصّ بها فی الجانب الأیسر إلاّ أن_ّه هو المراد ظاهراً، کما نصَّ علیه فی الروایة وبعض الأصحاب.

ویدلّ علیه: _ مضافاً إلی الشهرة والإجماع _ صحیحة جمیل بن درّاج المضمرة، قال: «قال: إنّ الجریدة قدر شبرٍ توضع واحدة من عند الترقوة إلی ما بلغت ممّا یلیالجلدالأیمن،والاُخری فیالأیسر عند الترقوة إلی ما بلغت من فوق القمیص»(1).

فإنّها صریحة فی المطلوب، وإضمارها لا یقدح لصدورها عن مثل جمیل، مع أنّ تأییدها بالشهرة والإجماع أیضاً جمیلٌ، وعلیها یُحمل بعض الأخبار المطلقة مثل الخبر الذی رواه الفضیل بن یسار، عن أبی عبد اللّه علیه السلام ، قال: «توضع للمیّت جریدتان واحدة فی الأیمن والاُخری فی الأیسر(2). ومثله روایة الحسن بن زیاد الصیقل عنه علیه السلام »(3).


1- وسائل الشیعة: الباب 10 من أبواب التکفین، الحدیث 2.
2- وسائل الشیعة: الباب 7 من أبواب التکفین، الحدیث 6 .
3- وسائل الشیعة: الباب 10 من أبواب التکفین، الحدیث 6.

ص:91

وقد أورد علی الصحیحة: _ مضافاً إلی مشکلة الإضمار کما فی «المعتبر»، وقد عرفت جوابه _ بأن_ّه مشتمل علی تحدید الشبر وهو ما لم یلتزم به المشهور.

لکن یمکن الجواب عنه: بأن_ّه یمکن أن یکون من باب التقریب، فیساوی مع عظم الذراع کما یشهد علیه الاختبار، هذا أوّلاً .

وثانیاً: علی فرض التسلیم کونه غیر عظم الذراع، فلا یضرّ ذلک بأصل المطلب؛ لأن_ّه موضوعٌ مستقلّ غیر الوضع، فیصحّ الأخذ بأحدهما لکونه معمولاً به عند الأصحاب، ورفع الید عن الآخر لأجل معارضته بما هو أقوی منه، إذا کان المطلبان مستقلّین، ولا یخفی جواز ترک جزء من الخبر والعمل بالباقی، إذ لا یضرّ الأخذ بأحدهما وترک الآخر .

کما یمکن تأیید ذلک بملاحظة تحدید الترقوة المذکور فی الخبر المرویّ مرسلاً عن یحیی بن عبادة، عن أبی عبد اللّه علیه السلام ، قال: «تؤخذ جریدة رطبة قدر ذراع وتوضع _ وأشار بیده _ من عند ترقوته إلی یده تلفّ مع ثیابه»(1).

وکذلک روایته الاُخری المرویّة فی « معانی الأخبار » ، عنه علیه السلام فی حدیثٍ، قال: «تؤخذ جریدة رطبة قدر ذراع فتوضع _ وأشار بیده إلی عند ترقوته _ تلفّ مع ثیابه»(2).

والروایة صحیحة السند، واشتمالها علی الجریدة الواحدة غیر قادحة، لما قد عرفت من احتمال کون المراد بیان الجنس دون العدد، فلا ینافی التعدّد المستفاد من سائر الأخبار، مع احتمال کونه بصدد بیان أصل الوضع من دون نظر إلی حالتی الوحدة والتعدّد، أو لعلّ مراده حال الضرورة وعدم وجدان الأزید من الواحد ونحو ذلک .


1- وسائل الشیعة: الباب 10 من أبواب التکفین، الحدیث 4.
2- وسائل الشیعة: الباب 7 من أبواب التکفین، الحدیث 5 .

ص:92

نعم، قد یُدّعی منافاة هذا الخبر المرسل مع متعلّق إجماع «الغنیة» من التقیید بکون وضع الجریدة قائمة، وإن أطلق غیره من الأصحاب، ثمّ أمر بالتأمّل، ولعلّه کان لأجل إمکان الجمع بینهما بکونه فی بیان أصل الوضع لا فی الخصوصیّة.

2 _ والقول الثانی هو المحکیّ عن الصدوقین، وهو أن تُجعل الیسری عند وَرَک المیّت(1) ما بین القمیص والإزار، والیمنی مثل ما علیه المشهور، واستدلّ له بما ورد فی «فقه الرضا» من قوله: «واجعل معه جریدتین إحداهما عند ترقوته یلصق بجلده، ثمّ تمدّ علیه قمیصه، والاُخری عند ورکه»(2).

ولکنّه لا یقاوم مع ما علیه المشهور فی الناحیة الیسری، لأجل کونه بالنسبة إلیها معرضٌ عنه الأصحاب، إذ لم ینقل ذلک عن أحدٍ إلاّ عن الصدوقین.

وأمّا بالنسبة إلی الأیمن فموافق مع المشهور، ویؤیّده، مضافاً إلی أن_ّه لم یرد ذکر الأیمن والأیسر فی الروایة؛ بل استفید ذلک من الترتیب فی الذکر.

3 _ القول الثالث وهو المحکیّ عن الجُعفی: «أن تضع إحداهما تحت الابط الأیمن، والاُخری بین رکبتیه ممّا یلی الساق ونصفها علی الفخذ»، وقد استدلّ علیه بما ورد فی الخبر الذی رواه یونس فی حدیثٍ: «یجعل له واحدة بین رکبتیه نصف فیما یلی الساق ونصف فیما یلی الفخذ، ویجعل الاُخری تحت إبطه الأیمن، الحدیث»(3).

أقول: هذا القول غیر موافق مع ما علیه المشهور فی شیء من الجریدتین،


1- الوَرَک بالفتح والکسر ککتف ما فوق الفخذ، مؤنّثة، والورکان ما فوق الفخذین کالکتفین فوق العضدین. «مجمع البحرین».
2- المستدرک: ج1 الباب 6 من أبواب التکفین، الحدیث 1 .
3- وسائل الشیعة: الباب 6 من أبواب التکفین، الحدیث 6 .

ص:93

فیکون الخبر بالنسبة إلی ذلک معرضاً عند المشهور، أو غایته الحمل علی التخییر، کما سنشیر إلیه إن شاء اللّه.

ودعوی: أن_ّه یوافق مع قول الصدوقین کما عن «المختلف»، لیس علی ما ینبغی. نعم، یوافق ذیل الحدیث مع ما علیه المحکیّ عن ابن أبی عقیل من جعل واحدة تحت إبطه الأیمن مقتصراً علیها، فیصیر هذا قولاً سادساً منضمّاً إلی ما سیأتی من الترتیب.

4 _ القول الرابع وهو المحکیّ عن «الاقتصاد» و«المصباح» ومختصره، بأن یُجعل إحداهما فی الیمنی علی الجلد عند حقوه(1)الأیمن، والیسری علی الأیسر بین القمیص والإزار.

لکن علّق صاحب«الجواهر» علی هذا الرأی بقوله: «إنّا لا نعرف له شاهداً»، اللّهُمَّ إلاّ أن یحتجّ له بمضمر جمیل فی روایته الاُخری فی الصحیح، قال: «سألته عن الجریدة توضع من دون الثیاب أو فوقها؟ قال: فوق القمیص ودون الخاصرة. فسألته من أیّ جانب؟ فقال: من الجانب الأیمن»(2).

ولکن مع ظهوره فی کون الجریدة واحدة، ولا یمکن حملها علی الجنس لما جاء فی ذیل الخبر من السؤال عن أیّ جانب توضع، حیث یقوی أنّ المراد منها واحدة، مع احتمال کون دون الخاصرة غیر الحقو، أو ما احتمله صاحب «کشف اللّثام» من أن تکون القراءة بالحاء المهملة أی اللّفافة المحیطة، فیسقط عن کونها شاهداً له کما لایخفی.


1- الحقو بالفتح وسکون القاف موضع شدّ الإزار وهو الخاصرة، ثمّ توسّعوا حتّی سمّوا الإزار حقواً. «مجمع البحرین» .
2- وسائل الشیعة: الباب 10 من أبواب التکفین، الحدیث 3 .

ص:94

وعلیه، فبالنظر إلی هذه الاحتمالات، لا مجال للالتزام به، ویکفی مجرّد الاحتمال لما اشتهر من أن_ّه إذا جاء الاحتمال بطل الاستدلال .

5 _ القول الخامس وهو المحکیّ عن المحقّق فی «المعتبر»، واستحسنه جماعة ممّن تأخّر عنه، ومنهم السیّد فی «العروة»، وعلیه عدّة من أصحاب التعلیق علیها، وهو استحباب وضعها مع المیّت أو فی قبره بأیّ صورةٍ کانت، حیث أن_ّه بعد ذکره لخبر جمیل المتقدّم وخبر یحیی الذین هما مستند المشهور، قال قدس سره : «والروایتان ضعیفتان، لأنّ القائل فی الاُولی مجهولٌ، والثانیة مقطوعة السند، ومع اختلاف الروایات والأقوال یجب الأخذ بالقدر المشترک منها وهو الاستحباب)، انتهی کلامه فی «المعتبر».

أقول: ولا یخفی أنّ ما علیه المشهور هو الأقوی والأولی من غیره کما علیه صاحب «الجواهر» والمحقّق الهمدانی والآملی، بل مالَ إلیه الشیخ الأعظم فی «کتاب الطهارة» بعض المیل، لما قد عرفت منّا کراراً أنّ الخبر ولو کان ضعیفاً یکفی فی حجیّته إذا صار موثوق الصدور ولو بواسطة الشهرة والإجماع، وإن کان العمل بأحد هذه الأخبار والحکم بمضمونه عملاً بالاستحباب أیضاً مع الاختیار، واللّه العالم.

وأمّا عند التقیّة: فیکفی فی تحقّق الاستحباب وضعها حیث یمکن ولو فی القبر، لمرفوعة سهل بن زیاد، قال: «قیل له: جُعلت فداک ربما حضرنی مَن أخافه فلا یمکن وضع الجریدة علی ما رویتنا؟ فقال: ادخلها حیث ما أمکن»(1).

ورواه الشیخ بإسناده عن محمّد بن أحمد بن یحیی مرسلاً مثله، وزاد فیه قال: «فإن وضعت فی القبر فقد أجزأه»(2).


1- وسائل الشیعة: الباب 11 من أبواب التکفین، الحدیث 1 و 2.
2- وسائل الشیعة: الباب 11 من أبواب التکفین، الحدیث 1 و 2.

ص:95

وأنْ یسحق الکافور بیده(1) .

وعلیه یُحمل ما ورد فی الخبر الذی رواه عبد الرحمن بن أبی عبد اللّه، عن أبی عبد اللّه علیه السلام ، قال: «سألته عن الجریدة توضع فی القبر؟ قال: لا بأس».(1)

ومثله المرسل بعده.(2)

بل لا یبعد القول بالاستحباب بوضع الجریدة فوق القبر لو نسیت، أو ترکت عمداً، للروایة التی رواها الصدوق رحمه الله عن رسول اللّه صلی الله علیه و آله ، قال: «مرَّ رسول اللّه صلی الله علیه و آله علی قبرٍ یُعذَّب صاحبه، فدعا بجریدة فشقّها نصفین، فجعل واحدة عند رأسه والاُخری عند رجلیه وأن_ّه قیل له لِمَ وضعتهما؟ قال: إنّه یخفّف عنه العذاب ما کانتا خضراوین».(3)

وقال صاحب «الجواهر»: «وإن کان فی تناوله لما ترک عمداً تأمّل، فتأمَّل».

ولعلّه أمره رحمه الله بالتأمّل کان فی محلّه لوضوح أنّ التعلیل معمّمٌ للحکم، فیشمل صورة ترک العمد أیضاً لمحبوبیّة أصل العمل علی کلّ حال، واللّه العالم .

(1) أقول: یعدّ طحن الکافور وسحقه بالید من جملة السنن کما فی «المقنعة» و«القواعد» و«المنتهی»، بل حکاه المحقّق فی «المعتبر» عن الشیخین، وقال: «لم یظهر مستنده، وإن استدلّ لأصل السحق بروایة یونس عنهم علیهم السلام : «ثمّ اعمد إلی کافور مسحوق»(4). إلاّ أن_ّه لا یدلّ علی لزوم کونه بیده».

وعلّل الشهید فی «الذکری» بخوف الضیاع، وعلّق علیه صاحب «الجواهر» بقوله: «وهو کما تری غیر صالح لإثبات حکم شرعی، فللتوقّف فیه حینئذٍ مجال».


1- وسائل الشیعة: الباب 11 من أبواب التکفین، الحدیث 3 و 5 و 4 .
2- وسائل الشیعة: الباب 11 من أبواب التکفین، الحدیث 3 و 5 و 4 .
3- وسائل الشیعة: الباب 11 من أبواب التکفین، الحدیث 3 و 5 و 4 .
4- وسائل الشیعة: الباب 14 من أبواب التکفین، الحدیث 3 .

ص:96

ویُجعل ما یفضل من مساجده علی صدره(1) .

مع أنّ الظاهر کون التعلیل لأصل السحق لا کونه بیده، والدلیل علیه موجود وهو روایة یونس، فحینئذٍ لا وجه لحکمه بالتوقّف فیه ولا بقوله: «وهو کما تری».

کما أنّ مضمون التعلیل أیضاً یناسب مع أصل السحق، إذ الضیاع یتحقّق بغیره کما لا یخفی .

ولعلّ الشیخین استفادا استحباب أن یکون الطحن بیده من قوله علیه السلام : «واعمد إلی کافورٍ مسحوق»؛ أی تعمّد السحق لا بمعنی القصد إلیه کما هو المنسبق إلی الذهن.

هذا،ولو التزمناباستحباب السحق بالید،یصبح طحنه بالحجر أو غیره مکروهاً إن قبلنا کون ترک المستحبّ مکروهاً، وإلاّ یکون تارکاً للاستحباب لا مکروهاً.

وکیف کان، فلا إشکال فی مطابقة السحق بالید مع الاحتیاط.

(1) هذا العمل یعدّ من جملة السنن عند المشهور، کما عن «کشف اللّثام»، بل فی «الخلاف» الإجماع علی وضع الفاضل علی صدره، وفی ظاهر «المنتهی» نفی الخلاف عنه، لکن زاد علی المساجد طرف الأنف.

وقد استدلّ لذلک: بخبر حسن الحلبی بقوله: «فاعمد إلی الکافور فامسح به آثار السجود منه ومفاصله کلّها ولحیته وعلی صدره من الحنوط»(1).

وخبر زرارة: «واجعل فی فمه.. إلی أن قال: وعلی صدره»(2).

وقال صاحب «الجواهر» بعد ذکر الخبرین: «لکنّهما لا دلالة فیهما علی أزید من استحباب تحنیطه، لا وضع الفاضل علیه».


1- وسائل الشیعة: الباب 14 من أبواب التکفین، الحدیث 1.
2- وسائل الشیعة: الباب 16 من أبواب التکفین، الحدیث 6 .

ص:97

أقول: ولا یخفی ما فی کلامه؛ لأنّ ظهور کلمة (علی) فی الروایة الاُولی فی الوضع فی مقابل المسح أمرٌ غیر خفیّ. کما أنّ المذکور فیالروایة الثانیة أیضاً کذلک حیث قال علیه السلام : «واجعل فی فمه.. إلی قوله: وعلی صدره»، حیث أنّ معنی الجعل هنا بمعنی الوضع، حتّی أنّ الشیخ رحمه الله حمل حرف (فی) فی قوله: «فی فمه» علی حتّی ممّا یفید معنی الوضع، الصادق والمنطبق علی الفاضل من الحنوط. وعلیه فکلام المشهور لا یخلو عن دلیل.

مضافاً إلی إمکان استفادة رأیهم من الخبر المرویّ فی «فقه الرّضا» حیث قال: «تبدء بجبهته وتمسح مفاصله کلّها به وتلقی ما بقی علی صدره»(1).

وإنْ أورد علیه: بمخالفته أیضاً من حیث عدم الاقتصار علی المساجد.

لکن قال صاحب «الجواهر»: «ولعلّ الإجماع السابق المؤیّد بنفی الخلاف إن لم یرید الوجوب وبالرضوی کافٍ فی استحبابه. لکنّک خبیر بأن_ّه ینبغی تقیید ذلک بما إذا لم نقل باستحباب تحنیط غیر المساجد کما تقدّم سابقاً، وإلاّ اتّجه إرادة الفاضل عنها وعن المساجد حینئذٍ، أو یقال حینئذٍ بالتخییر فی المستحبّ بین وضع تمام الباقی علی الصدر وتحنیطها، فتأمّل جیّداً».

أقول: قد عرفت قیام الدلیل علیه الذی یدلّ علی استحبابه، کما یدلّ علی الوضع فی الصدر فی مقابل المسح، فلا وجه حینئذٍ للتحنیط، ولو سلّمنا تعمیم التحنیط لغیر المساجد، الشامل للمفاصل وغیرها، لکنّه نقول إنّه کذلک فی غیر الصدر، لما قد عرفت اختصاصه بالذکر فی الأخبار مع کلمة (علی) الدالّة علی کونه للفاضل والإلقاء، کما وقع فی الروایة المنقولة فی «فقه الرّضا».

وبالجملة: ما وقع فی کلام الماتن یعدّ موافقاً للمشهور، وکان فی محلّه، ولا إشکال فیه، و اللّه العالم .


1- المستدرک: ج 11 الباب 13 من أبواب التکفین، الحدیث 1 .

ص:98

وأن یُطوی جانب اللّفافة الأیسر علی الأیمن والأیمن علی الأیسر(1).

(1) هذه الکیفیّة لطوی اللّفافة مذکورة فی «المقنعة» و«المبسوط» و«الخلاف» و«الوسیلة» وغیرها، بل فی «الخلاف» دعوی إجماع الفرقة وعملهم علیها، کظاهر«الذکری» حیث نسبه إلی الأصحاب. وفی «الجواهر»: «لا أجد فیه خلافاً».

أقول: هذه الکیفیّة مشهورة بین الأصحاب، واعترف کثیرٌ منهم بعدم النصّ علیها، کما یظهر ذلک من «الجواهر» حیث قال: «وکفی بذلک مستنداً لمثله»؛ حیث أراد من المشار إلیه خصوص قول الأصحاب ممّا یعنی أن_ّه یعتقد أن_ّه لیس فی المسألة نصّ.

ولکن لا یبعد إمکان تمسّک الأصحاب بالخبر المرویّ فی «فقه الرّضا» لإثباته، حیث جاء فیه أن_ّه قال علیه السلام : «وتلفّه فی إزاره وحِبرته، وتبدأ بالشقّ الأیسر وتمدّ علی الأیمن، ثمّ تمدّ الأیمن علی الأیسر، وإن شئت لم تجعل الحِبرة معه حتّی تُدخله القبر فتلقیه علیه»(1).

وقد نقل الصدوق فی «الفقیه» هذه العبارة بعینها وأفتی بذلک، ولا یبعد أن تکون العبارة کذلک فی الرسالة التی وجّهها والد الصدوق لابنه، لکثرة المطابقة بین مضامین «فقه الرّضا» والرسالة المذکورة، حتّی توهّم بعضهم بأنّ الکتاب منه لا من الإمام الرضا علیه السلام .

وکیف کان، فلا یبعد أن یکون الأصحاب قد تبعوا فی ذلک الصدوق رحمه الله ، وهو


1- المستدرک: ج1 الباب 12 من أحکام الدفن، الحدیث 1 .

ص:99

استفاد الحکم من الخبر المرویّ فی «فقه الرضا»، فیصیر الاستحباب ثابتاً لأجل هذه الروایة الضعیفة المؤیّدة بشهرة الأصحاب وإجماعهم، الموجب للوثوق بصدوره عن المعصوم علیه السلام .

قال صاحب «المدارک»: «ولعلّ وجهه التیمّن والتبرّک»؛ أی التیمّن بالتیامن کما قاله صاحب «الجواهر» قدس سره فی بیان مراده، لکنّه أورد علیه بقوله: «وفیه أن_ّه أوضح فی العکس، والظاهر أنّ خلاف المستحبّ العکس، أو هو وجمعهما من غیر وضع فقط، وإن کان فی شمول نحو العبارة للثانی تأمّلٌ لا ترک اللفّ أصلاً أو من جانبٍ سیّما الأوّل، لعدم صدق اللّفافة حینئذٍ، ولا الجمع فیکون المستحبّ حینئذٍ السِّعة، فتأمّل»، انتهی.

أقول: یمکن أن یُجاب عن ما أورده علیه بأنّ التیمّن کان بلحاظ طرف المطویّ الذی یقع أوّلاً من الأیسر إلی الأیمن، لا نفس الإطواء حتّی یلاحظ عکسه، نظیر صبّ الماء من الید الیسری علی الیمنی فی الوضوء، والذی یعدّ دلیلاً علی تفضیل الیمنی بلحاظ وقوع الصبّ وصدوره عنه لا بلحاظ المصبّ.

کما أنّ خلاف المستحبّ یتحقّق إذا لم یقع علی النحو الصادر بأیّ قسمٍ کان، سواء کان فیه اللفّ أو لم یکن، وقع بالجمع أم لا، ولعلّ ترک بعض الفقهاء لذکر هذه الکیفیّة لتوهّم عدم وجود النّص الدالّ علیها، واحتمال أن_ّها من اجتهادات الأصحاب، مع أن_ّه لو کان الأمر کذلک أیضاً، لکفی ذلک فی إثبات استحبابه، کما أشار إلیه صاحب «الجواهر».

أقول: ثمّ الظاهر من إطلاق کلمة (اللّفافة) تحقّقها بکلّ ما یصدق علیه ذلک، کما عن المهذّب، وتبعه صاحب «الجواهر»، فیشمل الحِبرة والنمط إن کانا من اللفائف، هذا إذا کان المدرک إطلاق الکلمة المذکورة .

ص:100

وأمّا إذا کان المدرک هو الخبر المرویّ فی «فقه الرّضا» فقد عرفت أن_ّه لم یدرج الحِبرة فیها، لکن یستفاد من ظهور کلمة (وإن شئت) التخییر فیه، وفی جعله علی المیّت إذا أُدخل فی القبر، أو جعله تحت خدّه، وتحت جنبه الوارد فی الروایة الصحیحة التی رواها عبد اللّه بن سنان عن الصادق علیه السلام ، قال: «البُرد لا یلفّ به، ولکن یطرح فیه طرحاً، فإذا اُدخل القبر وضع تحته خدّه وتحت جنبه»(1).

حیث لا یبعد القول بالتخییر جمعاً بین ما ورد فی «فقه الرّضا» وبین هذه الروایة، بحمل قوله: «لا یُلفّ به» علی النهی التنزیهی، بأن یکون ترک اللّف أرجح من فعله بعدما کان مخیّراً فیهما، کما علیه بعض مشایخ المحقّقین من متأخّری المتأخّرین علی المحکیّ فی «الحدائق».

ثمّ علی فرض اختیار اللّفافة من الحِبرة أیضاً، فهل یأتی بالهیئة المذکورة فی کلّ واحدٍ منهما مستقلاًّ، أو یجمع جانبهما معاً فیطویان ؟

قال صاحب «الجواهر»: «فیه وجهان، والظاهر جوازهما معاً، ولا یبعد کون الأوّل هو الأرجح، إذ هو مقتضی العمل بما صدر وإن کان الجواز فی کلّ واحدٍ منهما مسلّم أیضاً، واللّه العالم».

أقول: هنا مستحبّان آخران ذکرهما الأصحاب فی کتبهما:

أحدهما: استحباب إعداد الإنسان أکفانه والنظر إلیها کما ورد فی الأخبار:

منها: روایة السکونی، عن الصادق علیه السلام ، قال: «إذا أعدّ الرجل کفنه فهو مأجور کلّما نظر إلیه»(2).


1- وسائل الشیعة: الباب 14 من أبواب التکفین، الحدیث 6 .
2- وسائل الشیعة: الباب 27 ، من أبواب التفکین، الحدیث 1 .

ص:101

ومنها: روایة محمّد بن سنان، عمّن أخبره عنه علیه السلام ، قال: «من کان کفنه فی بیته لم یُکتب من الغافلین، وکان مأجوراً کلّما نظر إلیه»(1).

ومنها: روایة إسماعیل بن مسلم، عن الصادق علیه السلام ، عن آبائه علیهم السلام ، قال: «قال رسول اللّه صلی الله علیه و آله : إذا أعدَّ الرجل کفنه کان مأجوراً کلّما نظر إلیه»(2).

والظاهر أنّ نفس الإعداد بنفسه یعدّ مستحبّاً مستقلاًّ ولو لم ینظر إلیه، فلو نظر بعد الإعداد یکون مستحبّاً فی مستحبّ کما یؤمی إلیه روایة ابن سنان، حیث جعل نفس الإعداد دلیلاً علی أن_ّه لم یکن من الغافلین، وهو بنفسه محبوبٌ مستقلّ عدا النظر الذی یعدّ فی نفسه محبوباً آخر.

ثانیهما: تجدید الکفن وإجادته وتبدیله إلی الأحسن والأفخر والتنوّق فیها، لما قد روی من أنّ الأموات یتباهون یوم القیامة بأکفانهم، قال صاحب «المنتهی»: «ویستحبّ اتّخاذ الکفن من أفخر الثیاب وأحسنها».

ثمّ قال فی مسألة اُخری: «ویستحبّ أن یکون بالجدید بلا خلاف».

أقول: لا نعرف علی لزوم کونه جدیداً دلیلاً ینصّ علی ذلک کما هو الظاهر من العبارة المذکورة، بل یُستشعر من أخبار الإعداد خلافه.

اللّهُمَّ إلاّ أن یقوم بتعویضه بعد مضیّ مدّة، لکن الالتزام بمثل ذلک مع عدم تعرّض الفقهاء له مشکلٌ. اللّهُمَّ إلاّ أن یرید من الجدید هو التجدید، فله وجه.

وکیف کان، فلا إشکال فی استحباب التجدید، لدلالة النصوص المستفیضة علیه:

منها: روایة یونس بن یعقوب، قال: قال أبو عبد اللّه علیه السلام : «إنّ أبی أوصانی عند الموت: یا جعفر کفّنی فی ثوبٍ کذا وکذا، واشتر لی بُرداً واحداً وعمامة،


1- وسائل الشیعة: الباب 27 من أبواب التفکین، ، الحدیث 2 و 3 .
2- وسائل الشیعة: الباب 27 من أبواب التفکین، ، الحدیث 2 و 3 .

ص:102

وأجدهما، فإنّ الموتی یتباهون بأکفانهم»(1).

ولعلّ المراد من (أجدهما) فی هذه الروایة هو الجدید الوارد فی کلام العلاّمة فی «المنتهی» حیث قال: «أی الجدید الوارد فی السوق من القماش»، فیصیر ذلک دلیلاً علی ما وقع فی «المنتهی»، وهو غیر بعید.

ومثله روایته الاُخری.(2)

ومنها: الروایة الصحیحة التی رواها ابن أبی عمیر عن بعض أصحابنا، عن أبی عبد اللّه علیه السلام ، قال: «أجیدوا أکفان موتاکم فإنّها زینتهم».(3)

ومثله مرفوعة محمّد بن عیسی.(4)

ومنها: روایة ابن سنان،عنه علیه السلام ، قال: «تنوّقوا فیالأکفان فإنّهم یُبعثون بها».(5)

ومثله روایة أبی خدیجة.(6)

ومنها: روایة یونس بن یعقوب، عن أبی الحسن الأوّل علیه السلام قال: «سمعته یقول: إنّی کفّنتُ أبی فی ثوبین شطویین کان یحرم فیهما، وفی قمیصٍ من قمصه وعمامة کانت لعلیّ بن الحسین علیه السلام ، وفی بردٍ اشتریته بأربعین دیناراً ولو کان الیوم لساوی أربعمائة دینار».(7)

ومنها: الروایة المرویّة عن «عیون أخبار الرضا علیه السلام » و«إکمال الدِّین» بإسنادهما عن الحسن بن عبداللّه الصیرفی، عن أبیه فی حدیثٍ: «إنّ موسی بن جعفر علیه السلام کُفّن بکفنٍ فیه حِبرة استعملت له بألفین وخمسمائة دینار علیها القرآن کلّه».(8)

وقد سبق أن ذکرنا أنّ هذا الأمر قد تحقّق بمحضر من الإمام المعصوم


1- وسائل الشیعة: الباب 18 من أبواب التفکین، الحدیث 1 و7 و16 و6 و2 و4 و5 .
2- وسائل الشیعة: الباب 18 من أبواب التفکین، الحدیث 1 و7 و16 و6 و2 و4 و5 .
3- وسائل الشیعة: الباب 18 من أبواب التفکین، الحدیث 1 و7 و16 و6 و2 و4 و5 .
4- وسائل الشیعة: الباب 18 من أبواب التفکین، الحدیث 1 و7 و16 و6 و2 و4 و5 .
5- وسائل الشیعة: الباب 18 من أبواب التفکین، الحدیث 1 و7 و16 و6 و2 و4 و5 .
6- وسائل الشیعة: الباب 18 من أبواب التفکین، الحدیث 1 و7 و16 و6 و2 و4 و5 .
7- وسائل الشیعة: الباب 18 من أبواب التفکین، الحدیث 1 و7 و16 و6 و2 و4 و5 .
8- وسائل الشیعة: الباب 30 من أبواب التفکین، الحدیث 1.

ص:103

ویُکره تکفینه بکتّانٍ(1).

لاعتقادنا بأنّ أمر الإمام لا یلیه إلاّ الإمام، فلو کان ذلک مکروهاً ولو من جهة کتابة القرآن، لأعلن علیه السلام مخالفته لذلک، وکذلک لو کان فی غلاء القیمة بأساً لعارض ذلک، فظهر من جمیع ما ذکرنا استحباب ذلک .

هذا کلّه فی المندوبات الکفن ومستحبّاته .

***

مکروهات الکفن

(1) ورد ذکر کراهة التکفین فی الکتّان فی «التذکرة» و«جامع المقاصد» و«نهایة الأحکام» حیث عبّروا عن حکم الکراهة بقولهم: «عند علمائنا» الظاهر فی الإجماع، وعلّق صاحب «الجواهر» علی دعواهم بقوله: «ولعلّه کذلک»، کما قد صرّح بالإجماع فی «الغنیة» بقوله: «وأفضل الثیاب البیض من القطن والکتّان» مدّعیاً علیه الإجماع، حیث یحتمل کون الإجماع لأجل استحباب البیاض لا الکتّان، وإلاّ لأصبح کلام الأصحاب علی خلافه.

فی أحکام الأموات / مکروهات التکفین

نعم، ورد التصریح بالمخالفة عن الشیخ الصدوق فقط، حیث قال: «لا یجوز» الظاهر فی الحرمة، مع احتمال أن یکون مقصوده الکراهة دون الحرمة، کما قد وقع منه ذلک فی غیر المقام أیضاً، وإن کان ظاهر دعواه موافقاً للصحیحة التی رواها الشیخ بإسناده إلی یعقوب بن یزید، عن عدّة من أصحابنا، عن الصادق علیه السلام ، أن_ّه قال: «لا یکفّن المیّت فی کتّان»(1).


1- وسائل الشیعة: الباب 20 من أبواب التفکین، الحدیث 2.

ص:104

وأن یعمل للأکفان المبتدأة أکمام(1).

وروایة «فقه الرّضا»، قال: «لا تکفّنه فی کتّان ولا ثوب إبریسم»(1).

حیث أنّ ظاهر النهی هو التحریم، لکن لابدّ من رفع الید عنه لضعف الأوّل بالإرسال، وإن رواه عدّة من الأصحاب، لأن_ّه معرضاً عنه عند الأصحاب، کما أنّ الأمر کذلک فی الروایة الثانیة، فإنّه فضلاً عن ضعف سنده الموجب لعدم حجیّتها، قد أعرض الأصحاب عنها، وعلیه فلابدّ من حمل النهی علی الکراهة، خصوصاً مع ملاحظة ما فی الروایة التی رواها أبی خدیجة، عن الصادق علیه السلام ، قال: «الکتّان کان لبنی إسرائیل یکفّنون به، والقطن لاُمّة محمّد صلی الله علیه و آله »(2).

حیث یفهم منه الکراهة لإشعاره بترکه عندنا، وإن احتمل کونه فی صدد بیان أنّ القطن أفضل، کما احتمله صاحب «کشف اللّثام»، لکن الأوّل أولی.

فإذن بعد ملاحظة إجماع الأصحاب، وجریان الأصل فی مثله من عدم الحرمة، وإطلاق الأدلّة الأوّلیّة علی الجواز، یقطع الفقیه بأنّ الحکم هو الکراهة.

ثمّ لا فرق فی ثبوت الکراهة بین کون الکفن کتّاناً خالصاً أو ممزوجاً به، إذا صدق علیه عرفاً کونه کتّاناً، لإطلاق الأدلّة، کما لا یخفی .

(1) وکراهته مشهورةٌ بین الأصحاب، بل نسبه جماعة إلیهم، بل نسب کاشف اللّثام ذلک إلی قطع الأصحاب .

والدلیل علیه: _ مضافاً إلی الشهرة _ دلالة الخبر المرسل الذی رواه محمّد بن سنان عمّن أخبره، عن أبی عبد اللّه علیه السلام ، قال: «قلت: الرجل یکون له القمیص


1- «فقه الرّضا»: ص18 .
2- وسائل الشیعة: الباب 20 من أبواب التفکین، الحدیث 1.

ص:105

أیکفّن فیه؟ فقال: اقطع أزراره.

قلت: وکُمّه؟ قال: لا، إنّما ذلک إذا قطع له وهو جدید لم یجعل له کمّاً، وأمّا إذا کان ثوباً لبیساً فلا یقطع منه إلاّ الأزرار»(1).

وقال الهمدانی فی «مصباح الفقیه» بعد نقل الروایة: «وقد یتأمّل فی دلالتها علی الکراهة، لولا اعتضادها بفهم الأصحاب، وکون المقام مقام المسامحة لإمکان أن یکون الغرض بیان عدم منافاة الکُمّ للکفن، وإنّما یُجعل له الکُمّ إذا قطع له وهو جدید لعدم الحاجة إلیه، لا لمرجوحیّته ذاتاً» انتهی(2).

أقول: لا تأمّل فی دلالتها علی الکراهة؛ لأنّ الظاهر من قوله علیه السلام : «لم یَجعل له کُمّاً» أن_ّه فی مقام النهی عن ذلک جواباً لسؤال السائل بقوله: «قلت: وکُمّه؟» حیث یفهم أن_ّه أراد السؤال عن الحکم الشرعی، لا الحکایة عمّا یحتاج وما لایحتاج، حتّی یقال بما قال، ولذلک نقول: لولا فهم الأصحاب، ودعوی قطعهم بالکراهة، لم یبعد إمکان دعوی فهم المنع منه، کما عن «المهذّب» دعوی المنع بقوله: «لا یجوز»، لکن بما أنّ الروایة ضعیفة السند، والشهرة قائمة علی الکراهة، فلا مجال إلاّ الحکم بها تبعاً للمشهور، وتمسّکاً بالأصل والإطلاقات بعد رفع الید عن ظاهر الروایة.

هذا کلّه إذا کان الکفن مبتدأً.

وأمّا إذا کان ذا کُمٍّ فی اللبیس، سواء کان لنفسه أو لغیره، فلا یُقطَّع، کما یدلّ علیه هذا الخبر بقوله: «فأمّا إذا کان ثوباً لبیساً فلا تقطع منه إلاّ أزراره».

بل قد یستفاد ذلک من الخبر الصحیح الذی رواه ابن بزیع، قال: «سألتُ أبا


1- وسائل الشیعة: الباب 28من أبواب التفکین، الحدیث 2.
2- مصباح الفقیه: ج5 / 325 .

ص:106

جعفر علیه السلام أن یأمر لی بقمیص أعدّه لکفنی، فبعث به إلیَّ، فقلت: کیف أصنع؟ قال: انزع أزراره»(1).

ومن المعلوم أنّ القمیص مشتملٌ علی الکمّ، ولم یأمره علیه السلام بالقطع والنزع مع کونه فی مقام الحاجة والبیان، حیث قد سئل عنه بقوله: «ما أصنع» فلو کان ذلک مکروهاً کان ینبغی علی الإمام علیه السلام أن ینبّهه علیه، بخلاف الأزرار فإنّه أمره بالقطع مطلقاً سواء لنفسه أو لغیره، بل یمکن استفادة جواز بقاء الکُمّ من الأخبار الواردة فی الحثّ والترغیب علی التکفین فی الثیاب التی کان المیّت یصلّی فیها ویصوم:

منها: الخبر الذی رواه محمّد بن مسلم، عن أبی جعفر علیه السلام ، قال: «إذا أردت أن تکفّنه فإن استطعت أن یکون فی کفنه ثوبٌ کان یصلّی فیه نظیف فافعل، فإنّ ذلک یستحبّ أن یکفّن فیما کان یصلّی فیه»(2).

ومنها: الروایة التی رواها محمّد بن سهل، عن أبیه: «أن_ّه سأل أبا الحسن علیه السلام عن الثیاب التی یُصلّی فیها الرجل ویصوم، أیکفّن فیها؟

قال: کتب أبی فی وصیّته إلیّ أن اُکفّنه فی ثلاثة أثواب: رداءٌ له حِبرة کان یصلّی فیه یوم الجمعة»(3).

وکذا روایة مرسل ابن المغیرة(4).

حیث إنّه من المعلوم اشتمال الثیاب بحسب المتعارف علی الکُمّ، ولم یرد وجوب قطع أکمامها فی الروایات الآنفة.

أقول: الذی ینبغی أن یبحث عنه فی المقام هو عن الأزرار فی الثوب


1- وسائل الشیعة: الباب 28 من أبواب التفکین، الحدیث 1.
2- وسائل الشیعة: الباب 4 من أبواب التفکین، الحدیث 1.
3- وسائل الشیعة: الباب 4 من أبواب التفکین، الحدیث 3 و 2.
4- وسائل الشیعة: الباب 4 من أبواب التفکین، الحدیث 3 و 2.

ص:107

الملبوس، وأن_ّه هل یجب نزعها کما لم یجعل لها إذا کان جدیداً، أم لا یجب ولا یحرم الإبقاء، بل یُکره؟

ظاهر الأمر بالنزع فی صحیحة ابن بزیع، والنفی والإثبات فی حدیث ابن سنان الدلالة علی الوجوب فی النزع، وحرمة الإبقاء، کما صرّح بذلک صاحب «الجواهر» والشیخ الأعظم فی «کتاب الطهارة» حیث قالا: «فالقول بوجوب نزع الأزرار متّجه لو لم یکن إجماعٌ علی عدمه، وإلاّ فالأصل والإطلاق لا یعارضان».

أقول: ما ذکراهما حسنٌ ومتین، ولکن الأحسن إتمام ذلک بوجود معارض دالّ علی خلافه، الموجب لحمل الأمر علی الندب، والنهی علی الکراهة، وهو _ مضافاً إلی معروفیّة القول بالاستحباب، وعدم معروفیّة الوجوب _ الخبر المرسل الذی رواه الصدوق رحمه الله والدالّ علی الکراهة أو الاستحباب، حیث قال: «قال الصادق علیه السلام : ینبغی أن یکون القمیص للمیّت غیر مکفوف ولا مزرور»(1).

حیث أنّ ظهور کلمة (ینبغی) علی الاستحباب یوجبُ صرف ظاهرالأمر عن الوجوب.

لا یقال: إنّ المرسل کیف یقاوم مدلول صحیح ابن بزیع؟!

لأن_ّا نقول: إنّ المرسل مؤیّدٌ بالأخبار السابقة الدالّة علی الحثّ والترغیب بالتکفین فی الثیاب التی یُصلّی المیّت ویصوم فیها، مع أن_ّها مشتملة علی الأزرار بحسب القاعدة، ولم یذکر فیها بذلک، وعلیه فلا یخلو عن الإیماء، وإن سلّمنا عدم کونها فی صدد بیان هذا المطلب، بل یمکن القول بإحالتها علی الحکم المذکور بذلک فی مورده من قطع الأزرار دون الأکمام، خصوصاً إذا لاحظنا ما فی خبر محمّد بن مسلم من الأمر بلزوم أن یکون الثوب نظیفاً، فإنّه یومی بأن_ّه لو کان إبقاء الأزرار حراماً لکان من الحریّ أن یذکره فی مثل المقام، بخلاف ما لو کان


1- وسائل الشیعة: الباب 28 من أبواب التفکین، ، الحدیث 3.

ص:108

الإبقاء مکروهاً أو نزعه مستحبّاً حیث لا مانع فی ترک ذکرهما کما لا یخفی .

وبالجملة: فلا إشکال فی صلاحیّة تلک الأخبار علی ذلک، أی تأیید عدم کون الإبقاء حراماً ولا النزع واجباً.

کما أن_ّه یمکن التأیید لما ذکرناه فی الجملة بطائفة من الأخبار :

منها: الخبر الذی رواه عبد اللّه بن سنان، عن أبی عبد اللّه علیه السلام فی حدیث: «إنّ فاطمة بنت أسد أوصت إلی رسول اللّه صلی الله علیه و آله فقبلَ وصیّتها، فلمّا ماتت نزع قمیصه وقال: کفّنوها فیه»(1).

ومنها: ما رواه الشیخ الصدوق فی «علل الشرائع» بإسناده عن عیسی بن عبد اللّه، عن أبیه، عن جدّه، فی حدیث: «أنّ رسول اللّه صلی الله علیه و آله دفن فاطمة بنت أسد، وکفّنها فی قمیصه، ونزل فی قبرها، وتمرّغ فی لحدها»(2).

ومنها: ما ورد فی «المجالس» بإسناده عن عبد اللّه بن عبّاس، فی حدیث وفاة فاطمة بنت أسد اُمّ أمیر المؤمنین علیه السلام ، قال: «قال النبیّ صلی الله علیه و آله لعلیّ علیه السلام : خُذ عمامتی هذه، وخُذ ثوبی هذین فکفّنها فیهما، ومُر النساء فلیُحْسِنَّ غُسلها».

حیث لم یأمر صلی الله علیه و آله بقطع الأزرار من القمیص.

أقول: سبب حکمنا بأنّ هذه الأخبار تدلّ علی الحکم فی الجملة، لأنّ هذه الأخبار تعدّ إخباراً عن قضیّة شخصیّة لا یعلم فیها حال القمیص المستعمل للکفن، إذ من الممکن أن لا یکون لها أزرار کما رأینا ذلک فی الأزمنة السابقة


1- وسائل الشیعة: الباب 26 من أبواب التفکین ، الحدیث 4 .
2- وسائل الشیعة: الباب 26 من أبواب التفکین، الحدیث 3 .

ص:109

وأن یُکتب بالسواد وأن یجعل فی سمعه أو بصره شیئاً من الکافور(1).

حیث أنّ بعض العلماء والصلحاء کانوا یلبسون قمصاناً لا أزار لها إلاّ من الخیط والقیطان، ولهذا السبب فإنّ شمول الحکم لمثلهما لا یخلو عن خفاء لعدم صدق الأزرار علیها عرفاً، واللّه العالم.

(1) ورد الحکم بکراهة الکتابة بالسواد فی کتب القدماء وفتاویهم، منها «الوسیلة»، و«الجامع» و«المعتبر» و«النافع» وکثیر من کتب المتأخّرین، تبعاً للشیخ فی «المبسوط» حیث قال: «ولا یکتب»، وفی «النهایة»: (لا یجوز)، حیث یحمل النّهی فیهما علی الکراهة.

هذا، ولکن یجب الإشارة إلی أن_ّه إذ لم نقف علی دلیل یدلّ علی الکراهة ویقتضی ذلک، فضلاً عن الحرمة، سوی دعوی تناول دلیل النهی عن التکفین بالسواد _ الذی قد مضی بحثه _ له، ولکن شموله لمثل ذلک لا یخلو عن تأمّل، لأن_ّه مربوط بصبغ الکفن بنفسه لا ما یکتب علیه من الشهادتین.

اللّهُمَّ إلاّ أن یُدّعی أنّ حکم الکراهة إنّما کان لأجل نفس السواد ولو کان قلیلاً، فتأتیه الکراهة لا الحرمة، مضافاً إلی إمکان الحکم بثبوت الکراهة اعتماداً علی قاعدة التسامح فیالأدلّة بروایة: «من بلغ» إن قلنا بشمول البلوغ حتّی للفتوی.

والتعلیل للکراهة بالاستبشاع، وبأنّ وظائف المیّت متلقّاة، فتتوقّف علی الدلالة کما فی «المعتبر»، لا یمکن الاعتماد إلیه إذ لم یکن فیه بشاعة، بل هو اعتبارٌ محض، کما أنّ الثانییقتضیالمنع لو قلنابأن_ّه وظیفته،لا عدم الکراهة، حیث یجتمع مع الجواز، وعلیه فالتمسّک بقاعدة التسامح لإثباتها هو الأحسن والأولی.

ص:110

قوله قدس سره : مسائل ثلاث:

الاُولی: إذا خرج من المیّت نجاسةٌ بعد تکفینه ، فإن لاقَتْ جسده غُسّلت بالماء(1).

(2) قد تقدّم الکلام فی کراهة ذلک مفصّلاً، فلا نحتاج إلی الإعادة.

(2) اعلم أنّ المسألة ذات شقوق ووجوه، فلا بأس بذکرها تفصیلاً لکثرة فائدتها وزیادة الابتلاء بها، فنقول ومن اللّه الاستعانة:

الوجه الأوّل: ما لو خرجت النجاسة بعد الغُسل وقبل التکفین، فلا إشکال ولا خلاف فی وجوب إزالتها بالغَسل، کما لا إشکال ولا خلاف فی عدم وجوب إعادة الغُسل حتّی عند ابن أبی عقیل الذی یقول بالإعادة إذا کانت النجاسة فی الأثناء، والذی یُنسب إلیه بأن_ّه یقول بوجوب الإعادة حتّی بعد تمام الغُسل لیس بتمام، ولو کان الانتساب صحیحاً لقلنا إنّه محجوجٌ بما ستعرف من وجود الإجماع والأخبار الدالّة علی عدم وجوب الإعادة، ولا فرق فی عدم وجوبها بین کون النجاسة خارجیّة کالدم النجس الخارجی، أو کانت داخلیّة من دم المیّت کالرّعاف، أو کانت نجاسة حَدَثیّة من البول والمنی إذا خرجتا بعد تمام الغُسل وتنجّس بدنه قبل تکفینه، فإنّه فی جمیع هذه الصور تجب الإزالة بالغَسل بالإجماع، کما هو ظاهر الأصحاب، کما اعترف به صاحبی «الجواهر» و«کشف اللّثام»، وقال: «بلا خلاف أجده فی الأوّل وعلیه الإجماع فی الثانی».

فی أحکام الأموات / لو خرج من المیّت نجاسة بعد تکفینه

مع إمکان استفادته من فحوی الأخبار التی سنذکرها من الحکم بقرض الکفن عند تنجّسه، مضافاً إلی ما ورد فی بعض الأخبار من مطلوبیّة ملاقاة المیّت لربّه طاهر الجسد، مثل الخبر الذی رواه الشیخ الصدوق فی «علل الشرائع» و«عیون أخبار الرضا علیه السلام » بإسناده عن محمّد بن سنان، أنّ الرضا علیه السلام کتب إلیه فی جواب مسائله: «علّة غُسل المیّت أن_ّه یغسّل لأن_ّه یطهّر وینظّف من أدناس أمراضه، وما أصابه من صنوف علله، لأن_ّه یلقی الملائکة، ویباشر أهل الآخرة، فیستحبّ إذا ورد علی اللّه عزّ وجلّ ولقی أهل الطهارة ویماسّونه ویماسّهم أن

ص:111

یکون طاهراً نظیفاً متوجّهاً إلی اللّه عزّ وجلّ، الحدیث»(1).

حیث أنّ التعلیل المذکور فی الخبر عامٌ شاملٌ للنجاسة الحادثة بعد الغُسل أیضاً.

بل یشعر علی ذلک جملة من الأخبار الدالّة علی لزوم حفظ المیّت عن إصابته بالنجاسة:

منها: خبر یونس فی حدیث، قال: «ثمّ اغسل فرجه ونقّه... فإن خرج منه شیء فانقه، الحدیث»(2).

ومنها: روایة محمّد بن سنان، عن الکاهلی الدالّة علی لزوم حفظ المیّت عن إصابته بما یخرج من النجاسة من المنخرین، بقوله: فإن خفت أن یظهر من المنخرین شیءٌ فلا علیک أن تُصیّر ثَمَّ قُطناً، الحدیث»(3).

وغیر ذلک من الأخبار .

أقول: مضافاً إلی جمیع ذلک هناک طائفة اُخری من الروایات تدلّ علی المطلوب بشکل آخر:

منها: روایة روح بن عبد الرحیم، عن الصادق علیه السلام ، قال: «إن بدا من المیّت شیءٌ بعد غُسله فاغسل الذی بدا منه ولا تُعِد الغُسل»(4).

ومنها: روایة یحیی الکاهلی، والحسین بن المختار، عن أبی عبد اللّه علیه السلام ، قالا: سألناه عن المیّت یخرج منه الشیء بعدما یفرغ من غُسله؟

قال: یُغسَل ذلک ولا یُعاد علیه الغُسل.(5)

فإنّ هذین الخبرین مطلقان من حیث الشیء الذی یخرج من المیّت من کونه صنف الحدث کالبول والمنی أو غیرهما کدم الرعاف علی کلّ فرض کون


1- وسائل الشیعة: الباب 1 من أبواب غسل المیّت، الحدیث 3 و 5 .
2- وسائل الشیعة: الباب 1 من أبواب غسل المیّت، الحدیث 3 و 5 .
3- وسائل الشیعة: الباب 32 من أبواب غسل المیّت، الحدیث 1 و 2 و 5 .
4- وسائل الشیعة: الباب 32 من أبواب غسل المیّت، الحدیث 1 و 2 و 5 .
5- وسائل الشیعة: الباب 32 من أبواب غسل المیّت، الحدیث 1 و 2 و 5 .

ص:112

الخروج بعد تمام الغُسل، حیث حکم الإمام علیه السلام بوجوب الغَسل والإزالة وعدم الإعادة للغُسل، فإذا کان الأمر کذلک فی الأحداث ففی غیرها یکون بطریقٍ أولی، فلذلک یمکن استفادة غیر الحَدَث أیضاً من الخبر المرفوع الذی رواه سهل عن بعض أصحابه رفعه، قال: «إذا غُسّل المیّت ثمّ أحدَث بعد الغُسل فإنّه یُغسَلُ الحَدَث ولایُعاد الغُسل».(1)

الوجه الثانی: ما لو تنجّس بدن المیّت فی أثناء الغُسل، وفیه عدّة صور:

تارةً: یکون الشیء النجس من الخارج.

واُخری: من المیّت.

وفی الثانی أیضاً تارةً: یکون من غیر الحَدَث کدم الرعاف.

واُخری: یکون من صنف الحَدَث کالبول والمنی.

أقول: فلا إشکال ولا خلاف ظاهراً فی عدم وجوب إزالتهما عن العضو الذی غُسّل فی تمام الأقسام إذا تنجّس بعد تمام غُسل ذلک العضو، وقبل إتمام الغُسل بالنسبة إلی باقی الأعضاء، وإن احتمل وجوب الإزالة بالنسبة إلی الباقی من الغَسَلات قبل الشروع فیها، کما لو کانت النجاسة موجودة قبل الشروع فی أصل الغُسل، حیث أنّ منشأ الحکم بوجوب الإزالة حینئذٍ باعتبار طهارة المحلّ الذی یرید غُسله.

فی أحکام الأموات / لو خرج من المیّت نجاسة بعد تکفینه

وأمّا لو فرض إصابة العضو الذی تمّت غسلاته الثلاث بالنجاسة، فحینئذٍ فلا یعدّ کون وجوب إزالتها شرطاً فی صحّة الغسل بالإتمام.

نعم، قد تجب الإزالة بناءً علی أصل لزوم تحصیل الطهارة للتکفین، کما قد عرفت دلالة الأخبار السابقة علی وجوب الإزالة بعد الطهور، ولو لم یکن شرطاً للصحّة لما سبق من الغُسل، ولذلک صرّح صاحب «الجواهر» قدس سره بقوله: «وإلاّ کان


1- وسائل الشیعة: الباب 32 من أبواب غسل المیّت، الحدیث 6 .

ص:113

له تأخیر الإزالة بعد تمامها للأصل، وإطلاق الأدلّة السالمین عن المعارض».

هذا کلّه بالنسبة إلی الغَسل بالفتح.

وأمّا الکلام بالنسبة إلی وجوب إعادة أصل الغُسل (بالضمّ)، فلا إشکال ولا خلاف فی عدم وجوب إعادة الغسل لو کانت النجاسة فی الأثناء غیر حَدَثیّة، سواء کانت خارجیّة أو داخلیّة، لما قد عرفت من عدم وجه للحکم بوجوب الإعادة لما وقع صحیحاً، إذ لم تکن طهارة الموضع إلی آخر الغُسل شرطاً فی صحّة الغُسل حتّی یحکم بوجوب إعادته بمجرّد وقوع النجاسة فی الأثناء أو غیره، وهذا واضح.

وأمّا لو کانت النجاسة الحادثة فی الأثناء حَدَثیّة مثل البول والمنیّ، فالمشهور بین الأصحاب _ کما فی «کشف اللّثام» و«الجواهر» وغیرهما، بل قد یظهر من بعض الأصحاب انحصار المخالف فی ابن أبی عقیل _ عدم وجوب إعادة الغُسل، لما ستعرف ذلک عند بیان ردّ الاستدلال الذی استُدلّ به للحکم بالإعادة، وهو المنسوب إلی العُمّانی، حیث قال: «فإن انتقض منه شیء استقبل به الغُسل استقبالاً».

وقالوا فی وجه الاستدلال: ولعلّه لکونه کغُسل الجنابة أو نفسه، حیث ینتقض بالحدوث، ولإرادة خروجه من الدُّنیا طاهراً، ولما یشعر به تقیید عدم الإعادة فی خبر روح وغیره بالخروج بعده، أو کان لأجل ما ورد فی وجه وجوب الغُسل أن_ّه بعد الموت یخرج من النطفة، فکأنّه یوجبُ الجنابة فکذلک ما یخرج فی الأثناء من المنیّ، هذا.

أقول: ولکن اُجیب عن الجمیع:

فأمّا عن الأوّل: مضافاً إلی أن_ّه مبنیٌّ علی القول بإعادة غُسل الجنابة بذلک، الذی قال عنه صاحب «الجواهر»: «وهو خلاف التحقیق کما عرفت أن_ّه قد یُدفع

ص:114

بانصراف التشبیه الوارد فی الأخبار إلی إرادة بیان الکیفیّة لا کونها جنابة حقیقیّة، وهو کما فی خبر محمّد بن مسلم عن أبی جعفر علیه السلام ، قال: «غُسل المیّت مثل غُسل الجُنب، الحدیث»(1).

وإن کان یظهر من بعض الأخبار تحقّق الجنابة بالموت لخروج النطفة منه، وهو کما فی خبر محمّد بن سلیمان الدیلمی، عن أبیه، عن أبی عبد اللّه علیه السلام ، قال فی حدیثٍ: «إنّ رجلاً سأل أبا جعفر علیه السلام عن المیّت لم یُغسّل غُسل الجنابة؟

قال: إذا خرجت الروح من البدن، خرجت النطفة التی خُلِق منها بعینها منه کائناً ما کان صغیراً أو کبیراً ذکراً أو اُنثی، فلذلک یُغسّل غسل الجنابة، الحدیث»(2).

لکن لعلّ المراد منه بیان الحکمة لا العلّة حتّی یقال بوجوب الغُسل بخروجه فی الأثناء، هذا أوّلاً .

وثانیاً: نمنع أن یکون خروج المنی فی أثناء الغُسل موجباً لإعادته من جهة کونه ناقضاً للغُسل، بل إنّما هو لأجل أن_ّه یعدّ جنابة جدیدة موجبة لغُسلٍ جدید لا علاقة له بالغُسل السابق، والفارق بینهما یظهر فی مثل المقام، حیث أن_ّه لو سلّمنا کون غُسل المیّت کغُسل الجنابة فی الناقضیّة، یلزم کون خروج المنی ناقضاً هنا أیضاً إذا قلنا بناقضیّته فی الجنابة، بخلاف ما لو قلنا إنّه کان لأجل جنابةٍ جدیدة فإنّه موجود فی الجنابة دون المقام.

وثالثاً: انصراف أدلّة ناقضیّة الحَدَث عمّا یخرج من المیّت، وعموم تشبیه غُسله بغُسل الجنابة لیس فی جهة الناقضیّة، بل للکیفیّة کما عرفت.

وإنْ اُرید استفادة الناقضیّة من ما ورد بخروج النطفة منه بصیرورته جنباً، وهو


1- وسائل الشیعة: الباب 3 من أبواب غسل المیّت، الحدیث 1.
2- وسائل الشیعة: الباب 3 من أبواب غسل المیّت، الحدیث 2.

ص:115

ممّا لا تناله عقولنا، والأولی ردّ علمه إلی أهله وهم الأئمّة علیهم السلام الذین هم الراسخون فی العلم، ولا یصحّ استنباط الحکم الشرعی الفرعی منها، بل اللاّزم التوقّف فیها.

فتحصّل من جمیع ما ذکرنا: عدم وجود دلیلٍ مقنع علی وجوب الاستئناف، فیکون المرجع حینئذٍ هو الأصل المقتضی لعدم وجوب الإعادة، لأن_ّه عبارة: إمّا عن الاستصحاب ببقاء أثر الغُسل بالنسبة إلی الطهارة بعد ضمیمة الباقی إلیه.

أو استصحاب بقاء ماوقع بالنسبة إلیذلک العضو المغسول بأن لایصیر کالعدم.

أو أصالة البراءة عن التکلیف بوجوب الإعادة عقلاً وشرعاً.

وأمّا عن الثانی: _ مع أن_ّه مبنیّ علی أنّ الموت من الأحداث _ إنّه مصادرة محضة، کما قاله صاحب «الجواهر».

أقول: لایخفی ما فی کلامه، لوضوح أنّ الموت قد أوجب علیه الغُسل،فکونه من الأحداث بالمعنی الأعمّ مسلّم، ولکن فی الأثناء لم یحصل له الموت ثانیاً حتّی یقال بوجوب إعادة الغسل.

نعم، لابدّ أن یقرّر هکذا: بأنّ خروج مثل هذا الحَدَث الذی یعدّ کالبول أو المنی هل یوجب تحقّق حَدَثٍ آخر حتّی یحتاج إلی إعادة الغُسل لصیرورته مُحْدِثاً، فلابدّ من تطهیره حتّی یخرج من الدُّنیا طاهراً، أم لا؟ فدعوی کونه کذلک مصادرة محضة، لأن_ّه هو أوّل الکلام .

وأمّا عن الثالث: إنّه معارض بما ورد فی بعض الأخبار من لزوم مسح بطن المیّت قبل کلّ غَسلةٍ من الغَسَلات الثلاث مثل روایتی یونس ومحمّد بن سنان حیث قد تکرّر فیهما قوله علیه السلام : «وامسح بطنه مسحاً رفیقاً، فإن خرج منه شیء فانقه فی کلّ غسلة»، أو بتعبیرٍ آخر یشابهه، ولم یأمر الإمام علیه السلام بعده بإعادة غُسله الذی خرج منه شیء، مع أنّ الخارج غالباً بالمسح یکون إحدی الأحداث،

ص:116

سواء کان قبل الغُسل بالکافور أو بعده، بل ظاهرهما عدم وجوب الإعادة کما تری التصریح بذلک فی خبر یونس.

هذا فضلاً عن أن_ّه علی فرض تسلیم دلالة الخبر بالتقیید علی عدم الإعادة بعد الغُسل ودلالة مفهومه بأن_ّه إذا کان الخروج قبله یُعید، لکنّه لیس علی حدٍّ یدلّ علی الوجوب الموجب لأن یُحکم به ویقیّد به الأصل بمعنییه والإطلاقات، خصوصاً المؤیّدین بالشهرة المحکیّة، وإن قال صاحب «الجواهر» بعده: (وإنْ فی تحقّقها نظر لقلّة من تعرّض لخصوص المسألة من الأصحاب)، بل لعلّ اقتصار جملةٍ منهم علی ذکر الخروج بعد الغسلات الثلاث یُشعر بالخلاف فی المقام، ولأجل ذلک نقول بأنّ الاحتیاط هنا لا ینبغی أن یُترک، خصوصاً إذا کان الخروج فی أثناء الغُسل بالماء القَراح، لا سیّما علی القول بوجوب مراعاة الاحتیاط فی مثل هذه، ولذلک کان مراعاة الاحتیاط هنا أولی من سائر الموارد، ولأجل ذلک أوجب کثیرٌ من الفقهاء من أصحاب التعلیق علی «العروة» الاحتیاط فی المقام، وکتبوا فی حواشیهم أن_ّه لا یُترک .

ومن ذلک یظهر عدم إعادة الوضوء، لو کان قد توضّأ المیّت قبل الغُسل، للأصل واقتضاء الأمر الإجزاء، المؤیّدین بخلوّ النصوص وأکثر الفتاوی منه، بل فی «الخلاف»: «الإجماع علیه لو کان الحَدَث بعد الثالثة»، وهو کذلک، إذ الوضوء لیس بأولی من الغُسل فی ذلک ، وإن کان بالنسبة إلی الناقضیّة بالحدَث أضعف من الغُسل.

هذا، ولا یخفی أنّ مراعاة الاحتیاط و الإعادة برجاء المطلوبیّة فی هذه الصورة لا یخلو عن حُسن .

هذا کلّه بالنسبة إلی قبل التکفین.

الوجه الثالث: ما إذا کان خروج النجاسة عن المیّت بعد تکفینه، فإنّه لا إشکال

ص:117

فی عدم وجوب إعادة الغُسل حیث قد ظهر الدلیل علیه ممّا سبق، ولکن إنْ لاقت جسده غُسّلت بالماء.

الوجه الرابع: إصابة النجاسة بدن المیّت قبل دفنه.

أقول: لا خلاف فی وجوب إزالة النجاسة قبل الدفن، ولکن الذی ینبغی أن یبحث فیه أنّ ظاهر إطلاق کلام المصنّف کغیره هو وجوب غَسل البدن مطلقاً، أی سواء کان بعد طرحه فی القبر أم لا، وسواء کان التطهیر متوقّفاً علی الإخراج من القبر أم لا، کما هو مقتضی بعض الإطلاقات السابقة من وجوب تطهیر البدن عن النجاسة مطلقاً، سواء کان حَدَثاً أم لم یکن، لکن الإطلاق المذکور فی المقام مشکلٌ لما ستعرف إن شاء اللّه من دلالة بعض الأخبار من الأمر بقرض الکفن فی الموردین، من دون تعرّض لغَسل البدن مع تلازم نجاسة البدن مع نجاسة الکفن غالباً، المُشعر بوقوع العفو بالنسبة إلی نجاسة البدن، ولأجل ذلک نری تصریح صاحب «الحدائق» بقوله: «إنّ الظاهر من کلامهم اغتفارها فی مثل ذلک، اللّهُمَّ إلاّ أن یُحمل ذلک علی غَلَبة تعذّر غَسل البدن المعتبر شرعاً حینئذٍ فیه، وإخراجه عنه لذلک هتکٌ لحرمته، وأذیّةٌ له من غیر دلیل یدلّ علیه. نعم، إن أمکن الإزالة بما لایوجب الإخراج، ولا یوجب أذیّته، لأمکن القول بوجوب الإزالة بما لا یوجب تنجیس بدن المیّت ولا کفنه.

وعلیه، فوجوب الإزالة لما قبل الدفن عن البدن مسلّم، بل ربّما حکی عن المحقّق الأردبیلی قیام الإجماع علی وجوب إزالة النجاسة عن البدن قبل الدفن مطلقاً، أی سواء تنجّس الکفن معه أم لا، بل وهکذا تجب الإزالة بعد إدخال المیّت فی قبره وغسل بدنه وإن استلزم الإخراج منه، لکن بشرط أن لا یستلزم الهتک أو یکون متعذّراً بواسطة حصول الأذیّة للمیّت، ولقد أجادالمحقّق فیما

ص:118

أفاد،حیث قال: «تجب إزالة النجاسة علی کلّ حال، وإن وضع فی القبر، إلاّ مع التعذّر، ولا یجوز إجراحه بحالٍ لما فیه من هتک المیّت، مع أنّ القبر محلّ النجاسة»، انتهی علی المحکیّ فی «الجواهر» قدس سره .

الوجه الخامس: ما لو خرجت النجاسة عن المیّت، ولاقَت کفنه کما لاقت جسده، فقد عرفت حکم وجوب الإزالة عن البدن قبل الوضع فی القبر، بل وحتّی بعد وضعه فیه إن کان غَسله میسّراً، ولم یلزم منه الهتک والإیذاء، وإلاّ سقط وجوب غَسل بدن المیّت، خلافاً لبعض الفقهاء من اعتبار مثل هذه النجاسة مغتفرة ومعفوّة إذا کان تنجّس بدنه بعد التکفین، خصوصاً إذا کان بعد الوضع فی القبر، إلاّ أن یُحمل کلامهم علی ما هو الغالب من استلزام خروجه لتغسیل البدن هتکاً أو أذیّةً له، وهو غیر بعید.

وکیف کان، إذا تنجّس کفنه، فهل یجب غَسله کالبدن مطلقاً، أو یقرض مطلقاً، أو لابدّ من التفصیل: تارةً: بین کونه بعد الوضع فی القبر یُقرض، وبین قبله فیُغسل.

واُخری: بین ما لو کان الغَسل میسوراً فیُغسَل مطلقاً، سواء کان قد أُدخل القبر أم لا، وبین ما لم یکن کذلک فیقرض کفنه ولو لم یکن موضوعاً فی القبر، أو لایجب شیءٌ من القرض والغسل إذا تنجّس بعد الوضع فی القبر، کما احتمله صاحب «المدارک» علی المحکیّ فی «الحدائق»؟

وجوهٌ وأقوال:

أقول: ظاهر کلام المصنّف وکثیرٌ من المتأخّرین، بل فی «المدارک» نسبته إلی الصدوقین وأکثر الأصحاب، وفی «مجمع البرهان» نسب إلی الأصحاب وجوب إزالتها بالغَسل کالبدن ما لم یوضع فی القبر، وإلاّ تقرض مطلقاً، أی لایجب الغسل حینئذٍ مطلقاً، سواء کان الغَسل میسوراً أم لا.

ص:119

اللّهُمَّ إلاّ أن یُحمل إطلاق حکم قرض کفن المیّت إلی ما هو الغالب من استلزامه هتک حرمته أو حصول الإیذاء له، فیرجع حینئذٍ هذا القول إلی الاحتمال الثالث مع ملاحظة التفصیلین فیه.

فی أحکام الأموات / لو خرج من المیّت نجاسة بعد تکفینه

وفی قِبال هذا القول هناک قول آخر وهو وجوب قرض کفن المیّت مطلقاً، وهو المنسوب إلی الشیخ وابنی حمزة وسعید وابن البرّاج، خلافاً للمحقّق الثانی تبعاً للشهید الأوّل فی «البیان» من التزامهما بالقول الأوّل وهو وجوب غَسل الکفن مطلقاً، سواء کانت الإصابة بالنجس قبل وضع المیّت فی القبر أو بعده إن کان میسوراً، ومع التعذّر عنه یرجع إلی قرض کفنه، کما أن_ّه یسقط قرض کفنه والغَسل إن تعذّرا معاً.

أقول: هذا هو مختارنا وإن کان مدلول ظاهر الأخبار الواردة فی القرض علی الإطلاق فی القرض بین الوضع فی القبر وعدمه، وبین التمکّن من الغَسل وعدمه، وعلیه فلا بأس حینئذٍ أن نتعرّض للأخبار وبیان دلالتها، ومقتضی الجمع بینها وبین غیرها، فنقول ومن اللّه الاستعانة:

ومنها: ما رواه الکلینی بإسناده الصحیح أو الحسن إلی ابن أبی عمیر، عن بعض أصحابه، عن أبی عبداللّه علیه السلام ، قال: «إذا خرج من المیّت شیء بعدما یُکفّن فأصاب الکفن قرض منه»(1).

ومنها: ما رواه الشیخ بإسناده عن الکاهلی، عن أبی عبد اللّه علیه السلام ، قال: «إذا خرج من منخر المیّت الدّم أو الشیء بعدما یُغسّل فأصاب العمامة أو الکفن قرض عنه»(2).

ومنها: ما رواه الشیخ بإسناده إلی ابن أبی عمیر وأحمد بن محمّد ابن أبی نصر


1- وسائل الشیعة: الباب 24 من أبواب التکفین، الحدیث 1 و 3 .
2- وسائل الشیعة: الباب 24 من أبواب التکفین، الحدیث 1 و 3 .

ص:120

البزنطی، عن غیر واحدٍ من أصحابنا، عن أبی عبد اللّه علیه السلام ، قال: «إذا خرج من المیّت شیءٌ بعدما یُکفّن فأصاب الکفن قُرض من الکفن»(1).

حیث تری دلالة ظاهر کلّ منها علی لزوم قرض الکفن مطلقاً الشامل لصورتی کون التنجّس قبل الوضع فی القبر أو بعده، ولأجل ذلک ذهب عدّة من الأصحاب إلی إطلاق الحکم کما عرفت.

ولکن المنقول عن صاحب «المدارک» _ علی ما هو المحکیّ عنه فی «الحدائق» _ تضعیف الروایات المذکورة آنفاً : أمّا المرسلتین لابن أبی عمیر فقد حکم بضعفهما للإرسال.

وأمّا الآخر فبعدم توثیق الکاهلی.

ثمّ قال رحمه الله : «ولولا تخیّل الإجماع علی هذا الحکم، لأمکن القول بعدم وجوب القرض والغَسل مطلقاً، تمسّکاً بالأصل، واستضعافاً للروایة الواردة بذلک»، انتهی کلام صاحب «المدارک» .

أقول: لکن علّق علی دعواه صاحب «الحدائق» واعتبرها مجازفة منه لا یلیق بشأنه، فقال: «أقول: لا یخفی أن_ّه قد ورد الإجماع فی غیر موضعٍ مع التصریح به، فکیف یستند هنا إلی مجرّد تخیّله، علی أنّ الروایات المذکورة من أقوی الأدلّة وأمتنها، أمّا روایة الکاهلی فهی معدودة فی الحسن عند أصحاب هذا الاصطلاح، والقسم الحَسَن معمولٌ علیه بینهم. وأمّا روایة ابن أبی عمیر فهی صحیحة، وإرساله لها غیر منافٍ للصحّة عند أرباب هذا الاصطلاح، ومثلها مرسلته بمشارکة أحمد بن محمّد ابن أبی نصر الذی قد عُدّ ممّن أجمعت العصابة علی تصحیح ما یصحّ عنه، مع أنّ هذه العبارة وهو قولهما «عن غیر واحدٍ» ممّا


1- وسائل الشیعة: الباب 24 من أبواب التکفین، الحدیث 4 .

ص:121

ینادی باستفاضة النقل المذکور وشهرته. وهذه العبارة أقوی دلالة علی الصحّة من التعبیر برجل ثقة، ولهذا أنّ صاحب «الذخیرة» الذی من عادته اقتفاء أثره تنظّر فی کلامه هنا، واللّه العالم»، انتهی کلامه(1).

قلنا: لقد أجاد فیما أفاد بالنظر إلی الأخبار من حیث الاعتبار، إلاّ أنّ الإشکال الذی یرد علی الأخبار المذکورة من جهتین:

الاُولی: أنّ ظاهرها عدم وجوب تطهیر البدن بعدما یُقرض الکفن حیث لم تشر الأخبار المذکورة إلی ذلک، ولذلک یحتمل الاغتفار فیه.

وتنزیل الأخبار علی صورة ما لو لم یتنجّس البدن بذلک مع تنجّس الکفن إذا کانت النجاسة خارجة عن المیّت . بعیدٌ فی الغایة لامتناع خروجها عنه، مع عدم إصابة بدنه عادةً.

وأبعد من هذا الحمل حملها علی إرادة قرض الکفن بعد نزعه عن جسد المیّت وغَسل جسده، إذ لا وجه حینئذٍ لقرضه، بل یتعیّن غسله حفظاً من إتلاف المال، ولأن_ّه یوجب انکشاف بدن المیّت وانتفاء کون الکفن ساتراً أحیاناً، بل دائماً بالنسبة إلی أحد أثوابه الذی یقرض منه لو قلنا اعتبار کون کلّ واحدٍ من أثوابه ساتراً.

واحتمال کون القرض وجوبه تعبّدیّاً لا لأجل النجاسة، ضعیفٌ جدّاً لایلتفت إلیه.

هذا کما استظهره المحقّق الآملی فی «مصباح الهدی» والمحقّق الهمدانی فی «مصباح الفقیه».

أقول: ولکن مع ذلک لا یمکن استفادة حرمة نزع الکفن للتطهیر أو التبدیل حتّی یستظهر منه وجوب إبقاء الکفن وقرضه، لإمکان أن یکون الوجه فی ذلک


1- الحدائق: ج4 / 63 .

ص:122

هو بیان أسهل الطرق إلی إزالة النجاسة، حتّی لا یستلزم المشقّة والعُسر لتطهیره، فلا یکون وجوب القرض تعبّدیّاً کما عرفت، بل یکون الأمر به إرشادیّاً، هذا.

ولکن یمکن أن یقال فی جواب هذا الإشکال: من احتمال کون الغالب فی تنجیس الکفن، هو خروج النجاسة عن فم المیّت ومنخریه حال الإدخال فی القبر، نتیجة الهزّات والحرکات التی تحصل عادةً حین حمل جسد المیّت، فلا یبعد أن یکون وجه الحکم بقرض الکفن هو عدم تیسّر إخراج المیّت عن القبر بلا تکلّف ومشقّة، بل ربما یوجب الهتک والإیذاء له، فلا یبعد حینئذٍ أن یرخّص الشارع بتطهیر البدن ثمّ اکتفی فی تطهیره بقرض کفنه من دون غَسل جسمه، وهذا لا یوجب المخالفة مع الإجماع المنقول عن الأردبیلی بلزوم إزالة النجاسة عن الجسد قبل الدفن، فلازم هذا البیان هو وجوب تطهیر البدن بالغُسل، والکفن بالغَسل أو القرض إذا کان التنجّس قبل الوضع فی القبر، هذا.

مع إمکان أن یقال: إنّ عدم تعرّض الأخبار لوجوب غَسل البدن بما یصیبه ممّا یخرج من المیّت، لا یوجب دلالة الأخبار علی اغتفار غیر نجاسة بدنه، لإمکان أن یقال إنّ الأخبار لیست بصدد بیان هذا الحکم، لأن_ّه هو مستفاد من دلیلٍ آخر، بل المقصود من هذه الروایات بیان تجویز تحصیل التطهیر فی الکفن بالقرض أیضاً، دفعاً لتوهّم المنع بکونه إتلافاً للمال ونحو ذلک، کما یمکن تحصیله بالتطهیر، وهو لا یوجب المنع عن التطهیر بالماء فی الکفن .

الجهة الثانیة: بالرغم من أنّ إطلاق الأخبار من حیث الوضع فی القبر وعدمه فی حکم القرض صحیحٌ، ولکنّه قابل للتقیید بخصوص صورة الوضع، إمّا لأجل ما عرفت من کون الغالب فی التنجّس کذلک، أو لأجل وجود بعض الأخبار المقیّدة، مثل الخبر المنقول فی «فقه الرضا»، قال: «فإن خرج منه شیء بعد الغُسل فلا تُعد غُسله، ولکن اغسل ما أصاب من الکفن إلی أن تضعه فی لحده،

ص:123

فإن خرج منه شیءٌ فی لحده لم تَغسل کفنه لکن قَرَضت من کفنه ما أصاب من الذی خرج منه، ومددت أحد الثوبین علی الآخر»(1).

فإنّ هذا الحدیث صریحٌ فی لزوم غَسل الکفن قبل الدخول فی القبر، فبذلک یقیّد تلک الإطلاقات.

لا یقال: هذا الخبر ضعیفٌ من حیث السند، لایقاوم تلک المطلقات الصحاح.

لأن_ّا نقول: الأمر کذلک إذا لم یؤیّد بالشهرة المحکیّة عن الفقهاء، خصوصاً مع ملاحظة وجود نقل الإجماع علی لزوم الغَسل وإزالة النجاسة عن بدن المیّت قبل الدفن، وإن کان قرض الکفن حینئذٍ جائزاً أیضاً، خصوصاً إذا کان قلیلاً لم یوجب الإتلاف عرفاً، بل لا یبعد القول بوجوب تطهیر البدن بالغُسل، والکفن به أو بالقرض بعد الوضع فی القبر، إذا کان إخراجه منه أو تطهیره فیه میسوراً، لا یلزم تلویث وتنجیس البدن ولا الکفن أزید ممّا کان علیه، جمعاً بین الدلیلین علی حسب القواعد المقرّرة، وبالتالی فما علیه المحقّق الثانی والشهید الأوّل رحمهماالله لایخلو عن وجه.

وبالجملة: ظهر ممّا ذکرنا أنّ استثناء المصنّف الغَسل لما بعد إدخال المیّت فی القبر علی إطلاقه غیر مقبول، إلاّ أن یُحمل کلامه علی ما هو الغالب من عروض الهتک والإیذاء والعسر والمشقّة غالباً فی الإخراج، وهو فی محلّه، کما نشاهد ذلک فی عصرنا أیضاً، ففی هذه الصورة یجوز، لأن_ّه هو القدر المتیقّن من تلک المطلقات، کما لایخفی.

فرع: بقی الکلام فیما لو استلزم قرض الکفن زوال ساتریّة الکفن للبدن فی جمیع الأثواب أو فی بعضها، فحینئذٍ هل یجب القیام بالقرض برغم ذلک عملاً


1- «فقه الرّضا»: 169 .

ص:124

بإطلاقات الأخبار الحاکمة بالقرض وغیر المقیّدة بإخراج هذه الصورة، أو لابدّ من التقیید بما لا یلزم ذلک.

أقول: إنّه لو کان قلیلاً بقدر تحصیل الستر ولو ببعض من ثوبٍ آخر من الأثواب، لزم ذلک ولا حاجة إلی التقیید، خصوصاً إذا قلنا بأنّ المواراة اللاّزمة ثابتة فی الابتداء فی التکفین لا فی استدامتهما، فلا یوجب مثل ذلک الحکم بلزوم الغَسل وتعیّنه.

فی أحکام الأموات / کفن المرأة علی زوجها

وأمّا لو کانت النجاسة علی الکفن کثیرة بحیث یوجب قرض الکفن انکشاف الجسد، فإنّه فی هذه الصورة لا یبعد دعوی انصراف الأخبار عن مثله، ولکن مع ذلک لا یبعد القول حینئذٍ بدخول هذا الفرض فی ما نذکر لاحقاً من صورة ما إذا کان معظم الکفن متنجّساً الموجب لنقض غرض التکفین لو قرض منه المواضع المتنجّسة، فحینئذٍ لا یبعد القول بلزوم التبدیل علی الولیّ، إن لم یقدر علی الغسل بالإخراج، لأنّ الواجب علیه تحصیل الستر بالکفن الشرعی، وهو غیر حاصل، کما أنّ علیه أن یکون ساتراً وهو فاقد لهذه الخصوصیّة.

وقد یقال: بسقوط الغَسل والقرض معاً کما عن الشهید فی «الذکری» والمحقّق الثانی فی «جامع المقاصد» لحصول الحرج، واقتضاء الأصل وجوب تحصیل ماهیّة الکفن علی الولیّ، وقد حصل، وهذه تکالیف مستقلّة فتسقط بالتعذّر، هذا.

أقول: الإنصاف عدم إمکان القول بذلک إذا کان التبدیل ممکناً بلا عُسرٍ ولا حرجٍ، وإلاّ نلتزم به تمسّکاً بالأصل، وانصرافاً للأخبار عنه، متابعةً لفتوی للعلَمَین الذین قد نقل عنهما صاحب «الجواهر» قدس سره ، فلیتأمّل فإنّ بالتأمّل فی مثل ذلک جدیرٌ.

ص:125

الثانیة: کفن المرأة علی زوجها وإن کانت ذا مال(1).

(1) وجوب دفع کفن الزوجة وإخراج قیمته من مال زوجها وإن کانت ذا مال ممّا وقع علیه الإجماع، وادّعی فیه ذلک کما عن «الخلاف» و«التنقیح» و«نهایة الاحکام» و«کتاب الطهارة» للشیخ الأکبر، وعلیه فتوی الأصحاب کما فی «المعتبر» و«الذکری»، و(عند علمائنا) فی «المنتهی» و«التذکرة»، وهو أحد الأدلّة ویعدّ حجّة، هذا فضلاً عن قیام دلیل آخر من الأخبار علیه، مثل الخبر الذی رواه السکونی، عن جعفر، عن أبیه علیهماالسلام : «أنّ أمیر المؤمنین علیه السلام قال: علی الزوج کفن امرأته إذا ماتت»(1).

هذا، و قیل إنّ لهذه الروایة صدراً، وهو ما نقله الشیخ رحمه الله فی «التهذیب»، والکلینی فی «الکافی» بإسنادهما عن ابن سنان _ یعنی عبد اللّه _ عن أبی عبداللّه علیه السلام ، قال: «ثمن الکفن من جمیع المال»(2).

لکن لم یرد الذیل المذکور فی هذین الکتابین، ولأجل ذلک ذهب صاحب «الحدائق» إلی أنّ هذا الذیل لیس من تتمّة الصحیح، بل هی روایة مرسلة للصدوق کما هی قاعدته فی الکتاب المذکور، ثمّ قال: «ویؤیّده أنّ الکلینی رواها فی «الکافی» عن محمّد بن یحیی، عن أحمد بن محمّد، عن الحسن بن محبوب إلی آخر السند خالیة عن هذه الزیادة، والشیخ رواها فی «التهذیب» تارةً عن أحمد إلی آخر السند، وتارةً اُخری عن الحسن بن محبوب إلی آخر السند، خالیة من ذلک أیضاً .

والعجب هنا أن_ّه قد سری هذا الوهم إلی جملةٍ من المتأخّرین کشیخنا البهائی


1- وسائل الشیعة: الباب 32 من أبواب التفکین، الحدیث 2 و 1 .
2- وسائل الشیعة: الباب 32 من أبواب التفکین، الحدیث 2 و 1 .

ص:126

فی «الحبل المتین»، وصاحب «الوسائل» اغتراراً بکلام صاحب «المدارک»، ولا یخفی علی من عرف عادة الصدوق فی الکتاب المذکور، أن_ّه إن لم یکن ما ذکرناه أقرب، فلا أقلّ أن یکون مساویاً فی الاحتمال، وبه لا یتمّ الاستدلال، ولم أرَ مَن تفطّن لما ذکرناه إلاّ الفاضل الخراسانی فی «الذخیرة» مع اقتفائه غالباً أثر صاحب «المدارک»»، انتهی کلامه(1).

قلنا: لا یخلو ما ذُکر فی ذیل الصحیحة من أحد الأمرین : إمّا کونه من الصحیحة، فعلیه لا بحث فی حجّیته، وکونه دلیلاً علی المسألة کما علیه بعض.

أو روایة مرسلة مستقلّة منقولة عن الصدوق رحمه الله کما هو الأظهر عند الشیخ الأکبر، وصاحب «الحدائق»، وصاحب «الذخیرة» والمحقّق الهمدانی، ولا یخلو عن قوّة مع حجّتها لکونها مؤیّدة بالشهرة والإجماع وعمل الأصحاب الموجب لصیرورتها موثوقة الصدور، ویکفینا ذلک فی إثبات المطلب والحکم بوجوب کفن الزوجة علی الرجل.

نعم، أضاف بعض الفقهاء کالمحقّق فی «المعتبر» إلی الأدلّة التعلیل الوارد فی الأخبار بأنّ کفن الزوجة من الإنفاق الواجب علی الزوج لبقاء الزوجیّة بعد الموت، وبه یجوز له تغسیلها، والنظر إلی ما لا یجوز النظر إلیه إلاّ من الزوج، کما أنّ القرآن الکریم سمّاهنّ أزواجاً بعد موتهنّ فی قوله تعالی: «وَلَکُمْ نِصْفُ مَا تَرَکَ أَزْوَاجُکُمْ»(2).

ثمّ قال فی «المعتبر»: «إذا ثبت تسمیتها زوجة لزم کفنها، ولأنّ سقوط أحکام الزوجیّة إنّما یتحقّق متأخّراً عن الوفاة، والکفن یجب عند الوفاة مقارناً لا


1- الحدائق: ج4 / 64 _ 65 .
2- سورة النساء: آیة 12 .

ص:127

متأخّراً، وباستصحاب بقاء أحکام الزوجیّة التی منها وجوب الإنفاق علیها، کما یُستصحب جواز النظر واللّمس ونحوهما من الأحکام الثابتة حال الحیاة»، انتهی ماهو المحکیّ عنه فی «مصباح الهدی»(1).

أقول: إثبات هذا الحکم بالتعلیلات المذکورة والأدلّة المزبورة لا یخلو عن إشکال و مناقشة :

فأمّا عن الأوّل: لأنّ کون وجوب الکفن علی الزوج من جهة کونه من مصادیق وجوب الإنفاق، لا یخلو عن تأمّل، لأن_ّه إن کان الأمر کذلک، وصدق علیه دلیل وجوب الإنفاق، کان اللاّزم ثبوت هذا الحکم لکلّ من وجبت نفقته علیه من الأب والاُمّ والولد وغیرهم، خصوصاً إذا کانوا معسرین، حیث یصدق علی هذه الطائفة أن_ّهم واجبی النفقة، فیجب علی الزوج الإنفاق علیهم مع هذا الشرط، بناءً علی عدم ثبوت وجوب الإنفاق لمن کان موسراً فی حال الحیاة فضلاً عن حال موته.

مع أن_ّه لیس الأمر کذلک، إذ لم یفتِ أحدٌ بوجوب کفن الولد علی الأب إذا مات، بناءً علی ثبوت وجوب الإنفاق علیه فی حال حیاته إذا کان معسراً، فیظهر أن_ّه لا یکون ذلک من هذا الباب.

الجواب عن الثانی: یظهر ممّا ذکرنا فی الجواب الأوّل لأن_ّه لا یدور هذا الحکم مدار بقاء الزوجیّة المستلزم لبقاء وجوب الإنفاق علی الزوج، بل الحکم بذلک ثابت ولو قلنا بانقطاع علقة الزوجیّة بالموت، کما علیه العامّة وبعض فقهاء الإمامیّة رحمهم الله ، بل نقول هذا الحکم ثابتٌ حتّی لو قلنا بعدم وجوب النفقة علی الزوج بعد موت زوجته، لما قد عرفت ثبوت هذا الحکم، وأنّ ثبوته لا یدور مدار وجوب النفقة، ولأجل ذلک نحکم بوجوب کفن المرأة علی الزوج حتّی لو کانت


1- مصباح الهدی: ج6 / 159 .

ص:128

المرأة متمتّعٌ بها أو ناشزة حیث لا یجب علی الزوج الإنفاق علیهما حال حیاتهما.

الجواب الثالث: إنّ وجوب ذلک ثابت حتّی لو لم نقل بجواز اللّمس والنظر إلی ما لا یجوز لغیر زوجها، أو لم نقل بجریان استصحاب أحکام الزوجیّة، إمّا باعتقاد القول بأنّ الموضوع قد تبدّل بالموت کما علیه البعض، أو لأجل عدم ثبوت وجوب الکفن فی حال الحیاة حتّی یُستصحب؛ لأنّ وجوبه یثبت بالموت، فلیس له حالة سابقة متیقّنة حتّی یُستصحب بعد الموت.

الجواب الرابع: أن_ّه لا حاجة لإثبات هذا الحکم من التمسّک بالآیة الواردة فی المیراث، حتّی یُجاب عنه بأنّ ذلک کان من جهة تسمیتهنّ أزواجاً بلحاظ حال تلبّسهنّ بالزوجیّة حال الحیاة، بناءً علی ما هو الحقّ فی المشتقّ من کونه حقیقة فی حال التلبّس وإلاّ فیمکن أن یکون باعتبار حال الانقضاء کما ذکره المحقّق الآملی فی «المصباح»، بل الحکم المذکور ثابتٌ _ کما ظهر لک _ حتّی لو لم نقل ببقاء الزوجیّة بعد الموت، وإن کان الحقّ هو ما ذکره من ثبوت الزوجیّة وبقائها وترتّب أحکامها علیها بعد الموت إلاّ ما خرج بالدلیل، أو خرج لأجل فقدان ما هو المانع نظیر تزویج الاُخت والخامسة، حیث إنّ النهی عن الجمع بین الاُختین منصرفٌ إلی حال الحیاة لا مطلقاً، وکذلک الحال فی الخامسة، لذلک أفتی الفقهاء بجواز نکاحهما، کما أنّ الاستمتاع والوطی خارجان، لقیام الدلیل علی تعزیر مرتکبهما، باعتبار أن_ّهما عملان قبیحان موجبان لهتک حرمة المیّت، وقد نهی الشارع عن مثل ذلک بأشدّ أنواع النّهی والزجر، وبرغم ذلک لا یعدّ ارتکابهما حراماً، و الشاهد علی ذلک عدم ترتّب الحَدّ علی فعلهما، مع أنّها لو أصبحت أجنبیّة بالموت لاقتضی ارتکابهما ترتّب الحَدّ دون التعزیر، کما أنّ الأمر کذلک فی حقّ الأجنبیّة فی غیرها.

ص:129

وأیضاً الحقّ عندنا عدم جریان الاستصحاب هنا بالنسبة إلی وجوب کفن الزوجة، لکن لا لأجل توهّم تبدّل الموضوع بالموت کما علیه بعضٌ؛ لأن_ّه غیر صحیح بحسب نظر العرف، إذ عندهم أن_ّها حتّی بعد الممات تعدّ زوجةً وحلیلة لزوجها، بل الأمر کذلک حتّی بالنظر إلی الأدلّة الشرعیّة حیث یطلق عنوان الزوجة علیها حتّی بعد موتها .

ودعوی: کونها بالمجاز والمسامحة بلحاظ حالة السابقة، لیس بأولی من القول بکونها بنحو الحقیقة من جهة الإطلاق العرفی کما عرفت.

بل الوجه فی عدم جریان الاستصحاب هو عدم وجود حالة سابقة متیقّنة حتّی یُستصحب، إذ الوجوب إن حدث حَدَث بحسب الموت لا قبله فی حال الحیاة، ومع قیام الشکّ لا یمکن إجراء الاستصحاب، بل لولا الدلیل الشرعی کان مقتضی الأصل عند الشکّ هو عدم الوجوب، کما لا یخفی .

کما أن_ّه یظهر ممّا بیّناه فی عدم کون وجوب الکفن من باب النفقة، أن_ّه لو فرض الإخلال بکفنها لأجل الإعسار أو العصیان وقام زوجها بدفنها عاریةً، أو تصدّی لبذل الکفن لها غیر زوجها، فإنّه لم یستقرّ الکفن أو قیمته علی ذمّة الزوج، کما هو الأمر کذلک فی الکسوة وغیرها من النفقات الواجبة علیه، حیث یفهم منه صحّة ما ادّعیناه.

وعلیه، فوجوب الکفن أمرٌ مستقلّ وواجبٌ منفرد ثابتٌ بالدلیل فی جمیع الحالات، فلا فرق فی وجوبه بین کون الزوجة المتوفّاة دائمة أو مؤقّتة، ولا بین المدخول بها وغیره، ولا بین الحُرّة والأمَة إذا کانت متزوّجة، ولا بین الناشزة والمطیعة، بل یعمّ الحکم حتّی المطلّقة الرجعیّة لأنّها زوجة، ولا بین العاقلة والمجنونة، ولا بین الصغیرة والکبیرة.

ص:130

فدعوی: عدم شمول إطلاق الدلیل للصغیرة، لاشتمال الأدلّة علی لفظ (المرأة) فی مقابل الرجل، وهو غیر صادق علی الصغیرة کما عن «مصباح الهدی».

لا یخلو عن نظر؛ لوضوح أنّ المقصود من (المرأة) مطلق الزوجة بشمول العموم، أو لو سلّمنا کونه محدوداً فی غیر الصغیرة کان من باب الغَلَبة فی الاستعمال لکثرة الکبیرة وندرة الصغیرة، حتّی صارت کالعدم کما یقال، وقد اشتهر علی الألسنة أنّ النادر کالمعدوم. وعلیه فدعوی انصراف الأدلّة أو خروجها عنه غیر مسموعة.

نعم، لا یبعد صحّة تلک الدعوی فی حقّ المُحلّلة، حیث لا یصدق علیها عنوان (الزوجة)، کما أنّ الأمر کذلک بالنسبة إلی الأمَة غیر المتزوّجة، لولا وجوبها من جهة دلیل آخر، وهو وجوب الکفن علیه من جهة ما ورد فی حقّ السیّد والعبید والإماء من الوجوب.

نعم، قد یقال فی حقّ الأمَة المتزوّجة بعدم وجوب کفنها علی زوجها، لتنافی دلیل وجوب کفنها علی الزوج، مع دلیل وجوب کفنها علی مولاها، فیتعارضان فی مورد التصادق، لکون النسبة بین الدلیلین هو العموم من وجه، فیتساقطان والمرجع حینئذٍ: إمّا إلی الأصل وهو البراءة، بناءً علی ما اخترناه من منع صدق النفقة علی الکفن ونحوه من شؤون التجهیز.

وإمّا إلی استصحاب وجوب النفقة علی مولاها، إن التزمنا بأنّ الکفن من مصادیق النفقة، وقلنا بتقدیم هذا الوجوب زماناً علی وجوب النفقة المتعلّقة بذمّة الزوج ولم نقل بسقوط الوجوب عن مولاها بسبب التزویج، وإلاّ کان المرجع حینئذٍ إلی استصحاب ذلک الوجوب علی الزوج.

أقول: ولکن الحقّ والإنصاف هو الحکم بتقدّم دلیل وجوب الکفن علی الزوج

ص:131

علی دلیل وجوبه علی مولاها، لأظهریّته، فلا یتساقطان بالتعارض، فالأولی الحکم بتعلّق الوجوب علی الزوج دون المولی، واللّه العالم.

ثمرة الفرق بین دلیلی وجوب الکفن علی الزوج

أقول: لا یخفی ثمرة الفرق بین الدلیلین فی إیجاب الکفن، وأنّ إیجابه لأجل النفقة، أو لإطلاق الدلیل ومعقد الإجماعات.

فی أحکام الأموات / کفن المرأة عند إعسار الزوج أو کون العقد متعة

فإنّه علی الأوّل: ربما یثبت به الحکم فی غیر الکفن من مؤونة سائر التجهیزات من ثمن السِّدر والکافور وغیرهما، لأن_ّها أیضاً ممّا یصدق علیه نفقة الزوجة، ولعلّه لذلک صرّح صاحب «الجواهر» بقوله: «فیتّجه الاستدلال به علی ما نصّ علیه جماعة من الأصحاب، بل لا أجد خلافاً من إیجاب باقی مؤن التجهیز کثمن السِّدر والکافور ونحوهما، وإن لم تنهض الإطلاقات علیه، لکنّه لا یخلو من نظر لما عرفته من المناقشة السابقة فی التعلیل، فیبقی الأصل حینئذٍ محکماً، ولعلّه من هنا توقّف فیه جماعة من متأخّری المتأخّرین، اللّهُمَّ إلاّ أن یستفاد ذلک من فحوی وجوب الکفن فتأمّل جیّداً»، انتهی کلامه(1).

وأمّا علی الثانی: فلا إشکال فی عدم دخول مؤونة التجهیز فی الإطلاقات، بل یجب العمل فیها بالقواعد، وهی هنا لیس إلاّ الأصل وهو البراءة عن الوجوب، إلاّ أن یستفاد ذلک من فحوی دلیل وجوب الکفن، کما ادّعاه بعض الأصحاب، أو یقال إنّه یُفهم ذلک من دلیل وجوب الکفن بأن یقال إنّ المتبادر إلی الذهن أن_ّه أراد بیان ما یعمّ مؤونة التجهیز، وإلاّ لکان التشبیه هنا لازماً لو لم یکن غیر الکفن واجباً علیه، لکی لا یقع المخاطب فی الشبهة، کما عن «مصباح الفقیه».


1- الجواهر: ج4 / 255 _ 256 .

ص:132

أقول: ولکن شیءٌ من ذلک لا یکفی فی إثبات ذلک، إذ الأولویّة غیر واضحة، مع أنّ الأولی عکسه، لأن_ّها لو کانت واجبة لکان بالتذکّر ألیق لتقدّمها علی الکفن، فحیث لم یرد ذکر لها إلاّ فی ضمن الکفن فإنّ ذلک مؤیّداً لعدم الوجوب.

وأیضاً: ما ذکره المحقّق الهمدانی رحمه الله لیس علی ما ینبغی، لأنّ ما ذکره صحیح لو قلنا بوجوبها، وإلاّ لما کان فی البین شُبهة بعدما اتّضح عدم قیام الدلیل، بل وجود الدلیل علی العدم وهو الأصل من البراءة بکلا قسمیها.

نعم، لا یبعد القول بالاحتیاط الوجوبی، لأجل دعوی قیام الإجماع وعدم الخلاف فیه، کما نقل ذلک عن صاحب «الجواهر» والشیخ الأکبر فی «کتاب الطهارة».

هذا کلّه إذا کان الزوج موسراً.

حکم الکفن عند إعسار الزوج أو انقطاع الزوجة

وأمّا إذا کان الزوج مُعْسِراً لا یملک _ بعد المستثنیات فی الدّین _ أزید من قوت یوم ولیلة له ولعیاله، حتّی بملاحظة الإرث الذی انتقل من زوجته إلیه، أو کانت الزوجة معقودة بالانقطاع التی لم یکن له شیئاً من الإرث، فحینئذٍ هل یجب علی الزوج کفن زوجته، أو ینتقل الحکم إلی الأخذ من ترکة الزوجة؟

صرّح جماعة _ بل فی «الذخیرة» نسبته إلی الأصحاب، بل فی «المدارک» إلی قطعهم _ بأن_ّها تکون من ترکتها، کما هو المفتی به عند المتأخّرین، کما عن السیّد فی «العروة»، وعن أصحاب التعلیق علیها، بل ظاهر کلامهم _ کما عن «الجواهر» _ سقوطه عن الزوج حتّی لو أیسر بعد الدفن، فلا یجب علیه شیء لا للمیّت ولا لمورّثه.

وربّما علّل فی وجه أصل الحکم بأنّ الإرث إنّما هو بعد الکفن، فلابدّ إخراجه من ترکتها، هذا.

ص:133

أقول: ولکن لا یخفی أنّ البحث فی أنّ الإرث یثبت بعد الکفن، إنّما یصحّ بعد الفراغ عن سقوط الحکم من الزوج بالإعسار، فلابدّ قبل ذلک من البحث عن بیان وجه السقوط، وهو لا یصحّ إلاّ أن یُعرف وجه وجوب الکفن علی الزوج؛ لأن_ّه إن کان بواسطة وجوب الإنفاق علیه _ کما علیه بعضٌ کالمحقّق فی «المعتبر» وغیره _ فلا وجه للسقوط، کما لا یسقط فی غیره من سائرالمؤن والنفقة بالإعسار، بل تبقی ذمّته مشغولة بهما، ویؤدّی إذا أمکن ولو إلی ورثتها، وکذلک الأمر فی المقام، حتّی لو قلنا بلزوم دفع ثمن کفن مثل هذه المیّتة من بیت المال، أو من ترکتها، أو علی المؤمنین تکفینها بوجوب کفائی لو لم تکن لها ترکة، أو تُدفن عاریة کما احتمله بعضٌ علی حسب الوجوه والمحتملات.

وأمّا لو قلنا بأن_ّه یعدّ وجوب الکفن علی الزوج وجوباً تکلیفیّاً مستفاداً من النصّ والإطلاق، فحینئذٍ یکون الخطاب فی مثل ذلک متوجّهاً إلی الزوج الموسر القادر دون المُعسِر العاجز، وعلیه فإذا کان الزوج معسراً دخل تحت القاعدة، وهی عدم وجوب کفن أحدٍ علی أحد إلاّ فیما ثبت بدلیل وجوبه علیه، فتکون المرأة حینئذٍ مثل سائر الناس فی ذلک الحکم، فلابدّ من الرجوع حینئذٍ إلی النصّ الوارد فی المقام، وهو الخبر الصحیح المنقول عن الشیخ فی «التهذیب» بإسناده عن الحسن بن محبوب، عن ابن سنان _ یعنی عبد اللّه _ عن أبی عبد اللّه علیه السلام ، قال: «ثمن الکفن من جمیع المال»(1).

ورواه الصدوق أیضاً بإسناده عن الحسن بن محبوب، ولا یخفی أنّ إطلاقه یشمل المرأة والرجل إذا کانا موسرین، فإرث الوارث یکون بعد إخراج الکفن عن الترکة، کما علیه المشهور، بل الإجماع کما یستظهر ذلک من صاحب


1- وسائل الشیعة: الباب 2 من أبواب التفکین، الحدیث 1.

ص:134

«الجواهر» حیث قال: «عدم معروفیّة الخلاف فیه من الانتقال إلی ترکتها»، وبذلک یظهر عدم تمامیّة ما أورده صاحب «الجواهر» من أن_ّه لولا الإجماع لکان اللاّزم أن یُقال بکون الکفن علی الزوج مطلقاً، حتّی ولو کان معسراً إن أمکن تحصیله فیجب، وإلاّ یکون کفاقد الکفن تُدفن عاریة، أو تکفّن من بیت المال، أو نحو ذلک، ثمّ علّل رحمه الله کلامه بأنّ سقوط الخطاب عن الزوج حینئذٍ لعدم قدرته، لا یقضی بالانتقال إلی ترکتها، کما أنّ عصیانه مع یساره وعدم التمکّن من إجباره لا یوجب الانتقال إلی ترکتها.

ویمکن توجیهه بأن_ّه لا یستفاد من الدلیل الدالّ علی أنّ الکفن علی الزوج کونه من الإنفاق والنفقة حتّی یقال إنّه ینتقل إلی الذمّة مثل سائر النفقات فی الزوجة، فلا یسقط إطلاق حکم کون کفنها علی زوجها بواسطة الإعسار أو العصیان، وعلیه فلابدّ للزوج من أدائه بعد الیسار ولوالی ورثتها، بل هو حکمٌ مستقلّ وواجبٌ تکلیفی علی الزوج مع التمکّن، فإطلاق ما دلّ علی کون ثمن الکفن من أصل المال یشمل إطلاقه للزوجة إلاّ صورة یسار زوجها، حیث قد خرج بواسطة دلیلها فیتعلّق بذمّة الزوج، وتبقی صورة الإعسار أو العصیان الموجب لسقوط التکلیف مع الإثم، داخلة تحت عموم دلیل أنّ ثمن الکفن من أصل مالها، فلا وجه للحکم بأنّها تُدفن عاریة أو من بیت المال أو غیرهما، کما لا یخفی. وإن کان احتمال کونه من الإنفاق غیر بعید.

أقول: نعم، ما ذکره یصحّ عند من یقول إنّ ثمن الکفن أو نفسه من النفقة، فحینئذٍ یأتی الکلام أن_ّه لا ینحصر بالیسار، بل یکون کذلک مطلقاً؛ أی حتّی مع الإعسار، فیجب علیه تحصیله مع الإمکان، وإلاّ فینتقل إلی ذمّته، فلابدّ من أدائه عند الیسار.

ص:135

ولکن مع ذلک یمکن أن یقال أیضاً: إنّه مع عدم الامکان من تحصیله یسقط عنه التکلیف بالفعل لأجل الاضطرار، فلا یبعد الحکم حینئذٍ بوجوب أخذ کفنها من ترکتها فعلاً، ثمّ بعد الیُسر یؤدّیها إلی ورثتها، فلا یحکم بالدفن عاریة أو من بیت المال. إلاّ إذا لم تکن لها ترکة أصلاً، فیدخل تحت دلیل «من مات ولیس له شیء ولم یکن عنده أحداً یتکفّله للتجهیز»، فحینئذٍ یحکم إمّا بوجوب کفنها علی المؤمنین وجوباً کفائیّاً، أو یکفّن من بیت المال مقدّماً علی سابقه أو مؤخّراً، وإلاّ تُدفن عاریة علی احتمالات ذُکرت فی محلّها.

وبعبارة أوفی: ورد فی بعض الأخبار التعرّض لهذه القضیّة :

منها: الخبر الذی رواه السکونی، عن أبی عبد اللّه علیه السلام ، قال: «أوّل شیء یبدأ به من المال الکفن، ثمّ الدَّین، ثمّ الوصیّة، ثمّ المیراث»(1).

ونحوه ما روی عن «دعائم الإسلام» عن أمیر المؤمنین علیه السلام (2).

ومنها: صحیحة زرارة، قال: «سألته عن رجلٍ مات وعلیه دَین وخلّف قدر ثمن کفنه؟ قال: یجعل ما ترک فی ثمن کفنه إلاّ أن یتّجر علیه بعض الناس فیکفّنوه ویقضی ما علیه ممّا ترک»(3). وظاهر هذه الأخبار وأضرابها جواز أخذ الکفن أو ثمنه من ترکة المیّت مطلقاً، فلا إشکال فی خروج ما بذله الزوج مع یساره وعدم تمرّده عن الأداء، فیبقی الباقی تحت عموم العام، فلا وجه لتخصیص ذلک فی حقّ الزوجة مع وجود الترکة لها فیعمل بهذا العموم، کما أنّ الأمر کذلک حتّی مع عصیان الزوج عنه، ولا فرق فی ذلک بین القول بسقوط التکلیف عن الزوج فعلاً


1- وسائل الشیعة: الباب 28 من أبواب التفکین، الحدیث 1.
2- المستدرک: ج1 الباب 24 من أبواب الکفن، الحدیث 2.
3- وسائل الشیعة: الباب 27 من أبواب الکفن، الحدیث 2.

ص:136

فقط، أو بسقوطه مطلقاً؛ أی حتّی مع الیسار وإرادة الامتثال المستلزم للحکم بالأداء إلی ورثتها، وهذا هو المطلوب.

هاهنا فروع لابأس بذکرها:

الفرع الأوّل: لو أعسر عن البعض، فهل یجب علیه ذلک، أو یسقط التکلیف؟ فیه وجهان:

من جهة أنّ التکلیف قد تعلّق بالکلّ وهو متعذّر، فبتعذّر الکلّ یسقط التکلیف.

ومن جهة أنّ إیجاب الکفن یقتضی إیجاب جمیع أجزائه، خصوصاً إذا ما قلنا بتعدّد التکلیف بتعدّد أعداد الکفن _ أی لیس الکفن المتعلّق به الحکم هو أمرٌ واحدٌ بل متعدّد _ لزم الأمر بتعدّد القطعات، فبتعذّر بعضها لا یوجب سقوط الآخر، خصوصاً مع ملاحظة دلیل قاعدة المیسور وأن_ّه لا یسقط بالمعسور، سیّما إذا قلنا بمقالة المحقّق فی «المعتبر» بأنّ وجوب الکفن من الإنفاق حیث لا یسقط بالإعسار، فلابدّ من الأداء بجمیعه؛ بعضه فی حال التکفین، وبعضه الآخر بعده إلی الورثة، وعلیه فعدم السقوط عندنا أقوی، واللّه العالم.

الفرع الثانی: هل یزاحم وجوب الکفن حقّ الدیّان أو النفقة الواجبة ونحوهما من الحقوق المالیّة، أو یقدّم وجوب الکفن علیها؟ احتمالان: ففی «الجواهر» أقواهما الأوّل، ولکن بعد التأمّل یظهر أنّ هذا الحکم مبنیٌّ علی ملاحظة المبنی إن قلنا بکون الکفن من الإنفاق، فقد یحتمل تقدّمه علی غیره، حتّی یکون مثل سائر المستثنیات ومن الدَّین مثل قوت الیوم والدار والخادم من الضروریّات، فلا یبعد أن یکون الکفن مثله کما یحتمل إطلاقه، بخلاف ما لو قلنا بوجوبه تکلیفاً مستقلاًّ، فقد یحتمل الحکم بتقدّم حقّ الدیّان والنفقة الواجبة علیه کما علیه صاحب «الجواهر»، خصوصاً إذا قلنا بانصراف النصّ عن مثله، فلا إطلاق له، لا

ص:137

سیّما مع ملاحظة وجود بدل له حیث ینتقل الحکم بعد المزاحمة إلی حکمٍ آخر کالأخذ من بیت المال أو الوجوب علی المؤمنین بنحو الوجوب الکفائی أو الدفن عاریة، علی اختلاف الوجوه والمحتملات، أو الانتقال إلی ترکة الزوجة إن کان التزاحم بالنسبة إلی الزوج لا الزوجة حیث یکون هذا الاحتمال مقدّماً علی المحتملات السابقة کما لا یخفی علی المتأمّل الدقیق العارف بمذاق الفقه.

الفرع الثالث: لو تعلّق به حقّ الدیّان وأصبح محجوراً لفلسٍ قبل موت الزوجة، سقط وجوب الکفن عنه علی الظاهر، خصوصاً إذا قلنا باستقلال وجوبه لا من باب الإنفاق حتّی یحتمل تعلّقه بالذمّة کسائر الإنفاق للزوجة، وإن کان القول به غیر بعید، فیتصرّف فیه بإذن الحاکم.

ومثله فی الحکم ما لو کان مال الزوج مرهوناً لامتناع تصرّفه فیه قبل موتها، إلاّ أن یبقی بعد أداء الدَّین فی الأوّل _ أی السابق علیه _ بقیّته، فیجب التوصّل إلی صرفها بحسب الممکن شرعاً إن بلغ إلی ما یقدر علیه التکفین، فیکون حاله کحال النفقة، کما لا یخفی علی المتأمّل.

الفرع الرابع: ما لو اقترن موت الزوجین، ففی «الجواهر» الظاهر السقوط للأصل، مع ظهور انصراف الأدلّة لغیره.

أقول: هذا واضحٌ لو أحرز التقارن، لأنّ التکلیف بالتکفین لابدّ من إحراز موضوعه من جهة المکلّف، فمع القطع بعدمه، لا وجه للحکم بالوجوب حتّی یتعلّق بالأموال والذمه نظیر سائر الحقوق المالیّة، بل الأمر کذلک عند الشکّ فی التقارن إذا لم یطمئن بالتعاقب فی الزوج، لأن_ّه مع الشکّ فیه یرجع الشکّ إلی تحقّق وقوع التکلیف، والأصل العدم، نعم، لو مات بعدها لم یسقط لکونه من الواجبات المالیّة.

ص:138

الفرع الخامس: فی المفروض السابق لو لم یکن عنده إلاّ کفن واحدٌ، فهل یقدّم الزوج علی الزوجة أم العکس؟ فیه احتمالان: یحتمل تقدّمها علیه لسبق التعلّق علیه، فلا یبقی حینئذٍ مورد لتعلّق الوجوب علیه لنفسه، لکن استضعفه صاحب «الجواهر» وقال بتقدّم حقّ الزوج حتّی لو کان قد وضع الکفن علیها، لعدم زوال ملکه عنه بذلک، ولذا کان له إبداله.

أقول: لا بأس بذکر تفصیل المسألة وشقوقها، بعدما ثبت أنّ الفرض هو کفن واحد لمن کان موته بعد زوجته، الموجب فی الظاهر تعلّق حقّ الزوجة به، وهذه المسألة مشتملةٌ علی عدّة صور:

الصورة الاُولی: ما لو کان موت الزوج بُعید موتها، وقبل وضع الکفن علی الزوجة، ففی هذه الحالة الظاهر تقدیم الزوج، فیستفاد الکفن فی تجهیزه دونها لعدم تعلّق حقّ الزوجة بالعین حتّی یحکم بتقدّمها علیه، بل حقّها متعلّقٌ بالذمّة کسائر الدّیون، فیکون حکمه حکمها وإن لم یکن دَیناً حقیقةً، مع أن_ّه لو کان حقّها متعلّقة بالعین أیضاً، لزم تقدیم حقّه فی الکفن علی حقّها فیه، لما سیأتی عن قریب من تقدّم حقّه فی الکفن علی سائر الاُمور بحسب ما فی النصوص والفتاوی.

الصورة الثانیة: ما لو کان موته بعد وضع الزوجة فی الکفن وقبل دفنها، ففی هذه الحالة الأقوی أیضاً تقدیمه علیها بنزع الکفن عنها وصرفه فی الزوج، لعدم خروج الکفن عن ملکه بمجرّد وضعه علیها، ولذا یجوز للزوج إبداله قبل دفنه، فاحتمال الاختصاص بالزوجة فیه کما احتمله صاحب «الروض»، ولعلّه کان لاحتمال خروجه عن ملک الزوج بالإعراض فیصیر لها، ممّا لا وجه له، لما قد عرفت من عدم خروجه عن ملکه بذلک .

الصورة الثالثة: ما إذا کان موته بعد إدخال الزوجة فی القبر، وقبل مواراتها

ص:139

بالتراب، والظاهر أیضاً جواز نزعه عنها، لما قد عرفت وجهه فیما سبق، اللّهُمَّ إلاّ أن یستلزم ذلک هتکها ولو بإخراجها للنزع فلا یجوز.

الصورة الرابعة: ما إذا کان موته بعد مواراة الزوجة فی الأرض بإهالة التراب علیها، فحینئذٍ لا إشکال فی عدم جواز النبش والنزع، کما لا یجوز نبشه لإخراج الکفن عن المیّت إذا رجع المتبرّع عن تبرّعه بعد الدفن، کما أشار إلی ذلک صاحب «الروض»، وقال: «وأمّا بعد الدفن فلا إشکال فی الاختصاص»، وقال صاحب «الجواهر»: «نعم لو دُفِنت فلا إشکال فی اختصاصها به، وإن لم نقل بخروجه عن ملکه أیضاً بذلک، مع أن_ّه محتمل لثبوت استحقاقها له. لکنّه ضعیف لعدم صلاحیّة المیّت للملک ابتداءً».

الصورة الخامسة: ما إذا اتّفق ظهور جسد الزوجة مع الکفن، ثمّ فُقِدَ الجسد بالسیل أو بأکل السّبع وبقی الکفن:

1 _ فهل یرجع إلی الزوج بناءً علی استصحاب الملکیّة.

2 _ أو أن_ّه یکون لورثة الزوجة لصیرورته لها بالمواراة تحت الأرض، وإعراض الزوج عنه.

3 _ أو أنّ الناس فیه شرعٌ سواء لصیرورته کالمباح بالأصل،لإعراض الزوج عنه، فیخرج عن ملکه، کما لا یملکه المیّت حتّی یکون إرثاً؟

وجوهٌ واحتمالات: والأقوی هو الأوّل، لعدم خروجه عن ملکه بذلک؛ لأنّ إعراضه لیس بصورة المطلق، بل کان لأجل ما کلّفه الشارع من وجوب تکفینها وإمتاعها إیّاه، نظیر الإنفاق علیها فی حال حیاتها، فإذا زال المانع بفقدان الجسد، بقی المال علی حاله السابق نظیر رجوعه إلی بیت المال، أوإلی المتبرّع لو کان الکفن منهما وصار الفرض کذلک، بل قد یشعر إلیه ما ورد فی الخبر الذی رواه فضل بن یونس الکاتب المروی عن الکاظم علیه السلام ، قال: «فقلت له: ما تری فی رجلٍ من أصحابنا یموت ولم یترک ما یکفّن به، أشتری له کفنه من الزکاة؟ فقال:

ص:140

إعط عیاله من الزکاة قدَر ما یجهّزونه، فیکونون هم الذین یجهّزونه... إلی أن قال: قلت فإن اتّجر(1)علیه بعض إخوانه بکفنٍ آخر وکان علیه دَین، أیکفّن بواحدٍ ویقضی دَینه بالآخر؟ قال: لا، لیس هذا میراثاً ترکه إنّما هذا شیء صار إلیه بعد وفاته، فلیکفّنوه بالذی اتّجر علیه، ویکون الآخر لهم یصلحون به شأنهم»(2).

حیث أنّ الخبر مشعرٌ بأنّ الکفن الذی یبذله المؤمنون لا یدخل فی ترکة المیّت حتّی یتعلّق به الإرث، فهکذا یکون فیما یعطی الزوج لها من الکفن، فیرجع بعد رفع الحاجة إلی ما کان علمه سابقاً.

فی أحکام الأموات / کفن من وجبت نفقته عدا الزوجة

الفرع السادس: بعدما عرفت حکم کفن الزوجة من کونه علی عهدة زوجها، فهل یلحق بالزوجة کلّ من وجبت نفقته علیه من الأقارب والأباعد، أم لا؟

الحقّ هو الثانی، حیث لایلحق بها فیه إلاّ المملوک علی ماصرّح به الفاضلان والشهیدان والمحقّق الثانی¨ وصاحبا «المدارک» و«الحدائق» و«الذخیرة» و«الریاض»، بل فی«الجواهر»: «لا أجد خلافاً فی کلّ من الحکمین»، بل فی «المعتبر» و«التذکرة» و«الذکری» و«الروضة» و«المدارک» الإجماع علیه بالنسبة إلی المملوک، حیث قال: «وقضیّة الإطلاق عدم الفرق بین أقسامه من: القنّ والمدبر، واُمّ الولد والمکاتب، مشروطاً أو مطلقاً لم یتحرّر منه شیء، وأمّا لو تحرّر منه شیءٌ فبالنسبة، بل قد یظهر من «الذکری» وغیرها اندراج الحکم تحت ما ادّعاه من الإجماع، وکفی بذلک حجّة علیه. هذا بالنسبة إلی المملوک. کما أن_ّه لو قصر ما ترکه فی المبعّض، ولم یکف سهم المولی لستر عورته وکفنه، فلایبعد الحکم بسقوط الوجوب عن المولی،فیکون حینئذٍ مثل سائر الناس. أمّا بالنسبة


1- قال الجزری فی حدیث الأضاحی: کلوا واتّجروا، أی تصدّقوا طالبین الأجر، ولا یجوز فیه اتّجروا بالإدغام لأنّ الهمزة لا تدغم فی التاء وإنّما هو من الأجر لا من التجارة (بحار الأنوار، باب التکفین).
2- وسائل الشیعة: الباب 33 من أبواب التفکین، الحدیث 1.

ص:141

إلی الحکم الأوّل، أی غیره ممّن وجبت نفقته علیه، فعدم وجوب الکفن علیه ممّا لم یجد فیه من توقّف فیه ممّن عادته ذلک، فضلاً عن المخالف، کما هو الظاهر من العلاّمة رحمه الله حیث لم ینقل فیه خلافاً إلاّ من الشافعی حیث أوجبه علی من وجبت علیه النفقة. والدلیل علی عدم الإلحاق هو الأصل؛ أی أصالة عدم وجوب ذلک علی الغیر مع فقد المعارض، والزوجة خرجت بالدلیل کما عرفت، مع ما عرفت الإشکال فیها من جهة عدم کون ذلک من الإنفاق حتّی یسری فی غیرها، مع أن_ّه لو کان الأمر کذلک أیضاً لا نقول به لأجل القیاس الباطل عندنا، بل الظاهر من «الروض» أن_ّه من المسلّمات، فإنّه فی مقام نقض الاستدلال علی وجوب کفن الزوجة بوجوب الإنفاق علیها، قال بانتفاضه بواجب النفقة من الأقارب، فإنّه لایجب تکفینهم علی القریب وإن وجبت علیه نفقتهم»، انتهی المحکیّ عن «الروض» فی «مصباح الهدی»(1).

نعم، قد استدلّ للوجوب بإطلاق ما دلّ علی الوجوب بواسطة الأمر بالتکفین، حیث یقتضی إیجاب مقدّماته التی منها بذل الکفن.

لکنّه مدفوع أوّلاً: بأنّ المقتضی هو عمل التکفین مع وجود الکفن، لا بذله بصورة الوجوب المطلق المقتضی لوجوب تحصیله عند عدمه.

وثانیاً: أن_ّه علی فرض التسلیم یوجب وجوب بذله بالنسبة إلی الجمیع، لا خصوص من وجبت نفقته بالقرابة .

وثالثاً: بأنّ الإجماع بکلا قسمیه قائمٌ علی کون الکفن من صُلب مال المیّت، ولأجل ذلک یعلم کون المراد من المطلقات بالأمر علی ذلک هو عمل التکفین کما أشرنا إلیه.

فی أحکام الأموات / من أین یؤخذ الکفن؟


1- مصباح الهدی: ج6 / 169 .

ص:142

ویؤخذ کفن الرّجل من أصل ترکته مقدّماً علی الدِّیون والوصایا(1).

واحتمال: الاستدلال لذلک بما ورد من وجوب الإنفاق علیهم میّتاً کما یجب ذلک علیهم حیّاً، لأنّ ما دلّ علی حرمة بدن المسلم میّتاً کحرمته حیّاً یقتضی ذلک.

مدفوع: بأنّ الحیوانات ربما کانت نفقتها واجبة علیه حیّاً، ولا یجبُ ذلک فی میّتها، لأجل کون نفقتها واجبة علیه حیّاً إذ لا یصدق الإنفاق علی مثل تلک التجهیزات بعد الموت.

وعلیه، فما فی «مصباح الفقیه» من نفی البُعد عن الالتزام بالوجوب، إذا لم یکن للمیّت ترکة، لیس علی ما ینبغی، إن اُرید إثباته فی خصوص الأقارب، وإلاّ لابدّ من الرجوع إلی مقتضی الدلیل فی الجمیع.

أقول: وممّا ذکرنا فی الکفن للأقارب من عدم الوجوب، یظهر حکم عدم الوجوب فی سائر مؤن التجهیز أیضاً کقیمة السِّدر والکافُور، وقیمة الحمل والأرض وغیرها، حیث لا یجب علیه بطریقٍ أولی، إذا لم نقل بوجوب الکفن علیه؛ لأن_ّه مقتضی الأصل وعدم وجود دلیل یدلّ علی الانتقال إلیه، عندما لایکون له ترکة، فضلاً عمّا إذا کان له مالاً، ولا فرق فی ذلک بین القلیل والکثیر، وبین شدّة قُرب المیّت وعدمها، وقابلیّته للملک إن قلنا به وعدمه کالسقط، کما لا یخفی علی المتأمّل، و اللّه العالم.

(1) اعلم أنّ خروج الکفن عن أصل الترکة دون ثلثها مورد إجماع الفرقة، ولم یختلفوا فی ذلک کما فی «الخلاف»، بل هو مذهب أهل العلم إلاّ شُذّاذ من الجمهور، کما فی «المعتبر» و«التذکرة».

هذا بالنسبة إلی الکفن الواجب ثابتٌ لا خلاف فیه، لما عرفت من الإجماع

ص:143

بقسمیه علیه، وبما دلَّ علیه من النصوص :

منها: ما فی صحیح عبد اللّه بن سنان، عن أبی عبداللّه علیه السلام ، قال: «الکفن من جمیع المال»(1). أی لا من ثلثه ولا ممّا بقی من الدَّین والوصیّة.

ومنها: صحیحة زرارة المضمرة، قال: «سألته عن رجلٍ مات وعلیه دَین بقدر ثمن کفنه؟ قال: یجعل ما ترک فی ثمن کفنه، إلاّ أن یتّجر علیه بعض الناس فیکفّنوه ویقضی ما علیه ممّا ترک»(2).

وقد عرفت سابقاً بأنّ المراد من کلمة (یتّجر) هو طلب الأجْر لا التجارة؛ أی لو تصدّق بعض المؤمنین کفنه طلباً للأجر، فحینئذٍ یُصرف ترکته فی الدَّین.

ومنها: روایة اُخری للسکونی، عن أبی عبداللّه علیه السلام ، قال: «أوّل شیء یبدأ به من المال الکفن، ثمّ الدَّین، ثمّ الوصیّة، ثمّ المیراث»(3).

ونحوه الروایة التی رواها «دعائم الإسلام»، عن أمیر المؤمنین علیه السلام (4).

فإنّ هذه النصوص تدلّ علی أنّ ثمن الکفن من أصل المال، وهو مقدّمٌ علی الدَّین کما نصَّ علی ذلک روایة السکونی، فبطریقٍ أولی مقدّم علی الوصیّة والإرث، لأن_ّه _ مضافاً إلی ما فی الروایة _ یستفاد ذلک بالأولویّة، لأن_ّه إذا کان الدَّین المقدّم علی الوصیّة والمیراث متأخّراً عن الکفن، فغیره ممّا هو متأخّرٌ یکون بالأولویّة، مع أن_ّه قد ادّعی علیه الإجماع کما عن «کشف اللِّثام» و«الروض» وغیرهما، وهذا ممّا لا إشکال فیه.

فی أحکام الأموات / فی تقدّم الکفن علی سائر الحقوق وعدمه


1- وسائل الشیعة: الباب 27 من أبواب الوصایا، الحدیث 1 و 2 .
2- وسائل الشیعة: الباب 27 من أبواب الوصایا، الحدیث 1 و 2 .
3- وسائل الشیعة: الباب 28 من أبواب أحکام الوصایا، الحدیث 1 .
4- المستدرک: ج1 الباب 24 من أبواب الکفن، الحدیث 2 .

ص:144

فی تقدّم الکفن علی سائر الحقوق وعدمه

والذی ینبغی أن یُبحث فیه هو عن تقدّمه علی حقوق اُخری مثل حقّ الرهن والجنایة وغرماء المفلّس وعدمه، فقد اختلف القوم فی ذلک :

تارةً: بالتقدیم مطلقاً، وهو ظاهر عدّة من الأصحاب، منهم صاحب «الجواهر»، حیث أمضاه بقوله: «قلت: ولعلّه کذلک»، الراجع إلی ما ذکره قبله من احتمال التقدیم علی الثلاثة، وإن کان یحتمل أیضاً رجوعه إلی کون تقدیمه علی غرماء المفلس المذکور فی الأخیر دعوی القطع فیه عن صاحب «الروض»، لکنّه بعیدٌ علی ذکره، ممّا یوجب الشکّ للشمول بعده ومنعه عنه، حیث یؤیّد الاحتمال الأوّل، وکذا صاحب «مصباح الفقیه» من دون ذکر حقّ الجنایة.

وأُخری: بالتقدیم فی غیر الرهن، وأمّا فیه: إمّا بالتردّد فیه لسبق التعلّق بالعین، وتقدّمه علی النفقة فی الحیاة کما عن المحقّق والشهیدین» .

أو الجزم بالتقدّم للرهن علی الکفن، کما عن الشهید فی «الذکری».

واُخری بالتقدیم فی غیر الرهن، والجنایة بالأولویّة فی الثانیة، مع سبق حقّ الجنایة فی العبد الجانی علی الموت.

وثالثة: بالفرق بینهما من القول بالتقدیم للکفن فی خصوص الرهن دون الجنایة، بدعوی تناول الأدلّة للرهن دون الجنایة.

وجوهٌ وأقوال، بل قد یحتمل الغضّ عن الفرق فی الجنایة بین العمد والخطأ، من تقدیمه علی الکفن فی الأوّل دون الثانی فی مقابل من قال بالتساوی بینهما فی التقدیم وعدمه.

أقول: والأقوی عندنا _ کما علّقنا علی «العروة» _ هو القول بتقدیم الکفن علی حقّ الغرماء وحقّ الرهانة، دون الجنایة بکلا قسمیها، فیما إذا کان الحقّ المتعلّق مقدّماً علی الموت، والوجه فی ذلک هو أن حقّ الغرماء والرهانة یتعلّق بالعین

ص:145

بلحاظ الدَّین الموجود علی ذمّة المدیون، فإذا کان مفاد إطلاق روایة السکونی _ فضلاً عن الإجماع _ بأنّ أوّل ما یبدء به هو الکفن، ثمّ الدَّین، فلا یبقی وجهٌ للحکم بتقدیم الکفن علی الحقّین المذکورین المستتبعین للدَّین الذی کان الکفن مقدّماً علیه، فلو صُرف المال فی الدَّین المستوعب فی حقّ الغرماء أو الرهانة لزم من ذلک المخالفة مع ما ورد فی روایة السکونی من التصریح بتقدیم الکفن علی الحقّین بلحاظ دینهما بالحکومة أو الورود، لأنّ صرف المال فی الدَّین یکون معناه الحکم بتقدیم الدَّین علی الکفن، مع أنّ أوّل ما یجب البدء به هو الکفن لا الدَّین، هذا.

مضافاً إلی أنّ الحجر فی المفلّس لیس معناه إلاّ المنع عن التصرّف فی المال بحکم الحاکم، لا خروج المال عن مِلْک صاحبه، فإذا کان المال باقیاً فی مِلکه فلا یبعد الحکم بتقدیم الکفن علی الحقّ باعتبار بقاء ملک صاحبه، فغایته مباشرة الحاکم أو بإذنه لأخذ الکفن عنه دون المفلّس، لممنوعیّته عن التصرّف فیه، کما أنّ العین أیضاً باقیة فی ملک صاحبها فی الرهن أیضاً، لکن لا یجوز له التصرّف لکونها وثیقة الدین، فحینئذٍ یحکم بتقدّم الکفن علیه، ولأجل ذلک حکمنا تبعاً لعدّة من الفقهاء بل أکثرهم علی التقدیم.

هذا، بخلاف الجنایة، والعمدیّة منها، لأنّ حقّ الجنایة فی أوّل الأمر یتعلّق برقبة العبد الجانی، بحیث أنّ للمجنیّ علیه إخراجه عن مِلْک مولاه واسترقاقه وإدخاله فی ملکه، ومع تقدّمه علی الموت، فلا دَین فی البین حتّی یقال إنّ صرفه فی الدَّین یوجبُ المخالفة مع الروایة؛ لأنّ الحقّ لا یتعلّق بالذمّة حتّی یقال بذلک، فالعبد الجانی یصبح بعد جنایته مِلکاً للمجنی علیه وله استرقاقه، فإذا شکّ فی البقاء لما قبل الموت إلی ما بعده، لزم الحکم بالبقاء بالاستصحاب، وهکذا یکون الأمر فی الجنایة الواقعة خطاءً أیضاً لکونه مثل العمدیّة، إلاّ أنّ للمولی فکّ

ص:146

استرقاقه فیه، فلا فرق بینهما فی کیفیّة تعلّق الحقّ علی الرقبة، ولأجل ذلک یحکم بتقدیم حقّ الجنایة علی الکفن.

أقول: نعم، هنا إشکالٌ من جهة أن_ّه وإن لم یکن فی الموردین حتّی یکون مثل حقّ الغرماء والرهانة، إلاّ أنّ المال لم یخرج عن ملک مولاه بمجرّد الجنایة، بل باقٍ فی ملکه إلی أن یسترقّه المجنیّ علیه، فإذا کان باقیاً علی ملکه ولم یسترقّه یحتمل أن یکون من مصادیق الروایة، باعتبار کونه من ترکة المیّت، فیدخل فی عموم قوله: «وأوّل ما یبدأ به هو الکفن» ویقتضی تقدّم الکفن علی حقّ الجنایة.

هذا کما عن المحقّق الهمدانی رحمه الله ، ولعلّه لذلک کان مراعاة الاحتیاط فی تحصیل رضاهم أمراً حسناً کما فی «العروة»، ولکن لا یمکن الحکم بذلک جزماً، لأنّ العین هنا کان مقیّداً بحقّ الجنایة، فلا یمکن صرفها فی الکفن مع فرض عدم وجود دَین هنا حتّی یحکم بدخوله تحت العموم ، کما کان کذلک فی أخویها، واللّه العالم.

هذا کلّه فیما إذا وقع الموت بعد تعلّق الحقوق الثلاثة.

وأمّا إذا وقع الموت قبل تعلّق الحقوق: یقع البحث عن أن_ّه هل یُحکم بتقدیم الکفن علی الحقوق أم لا؟

حُکی عن «الروض» القطع بتقدیم الکفن علی حقّ الجنایة، تبعاً للمحقّق الثانی فی «جامع المقاصد» ولم یذکروا حکم الحقّین الآخرین، ولعلّه کان بالأولویّة فیها، فیحکم بتقدیم الکفن لأجل وقوع الخلاف فی حقّ الجنایة فی السابق، فهنا یکون بطریقٍ أولی.

أقول: ولکن مع ذلک لا تخلو المسألة عن نقاش، کما أشار إلیه بعض المحقّقین منهم صاحب «مصباح الهدی»، کما تأمّل فیه صاحب «مصباح الفقیه»، بل عن «البیان»: «تعارض سبق الکفن بعینه ولحوق تعلّق الجنایة»، وعلیه فلا بأس بذکر

ص:147

وجه الإشکال والمناقشة کما طرحه المحقّق الآملی فی «المصباح» بقوله: «ولا یخفی أنّ اللاّزم من البدئة بالکفن وتقدّمه علی الدَّین والوصایا والإرث هو بقاء مقدار الکفن علی مِلک المیّت، وعدم تعلّق حقّ الدیّان به، ولا جواز صرفه فی الوصایا، ولم ینقل إلی الورثة، ولیس مِلک المیّت له بعد موته وصرفه فی کفنه بأعظم من ملکه فی حال حیاته وصرفه فی ضروریّاته من ملبسه ومطعمه ونحوهما. ومن المعلوم أنّ ملکه له فی حال الحیاة لا یمنع عن تعلّق حقّ المجنی علیه به، بل إنّما یتعلّق حقّه بملکه فلا یجوز صرفه فیما یحتاج إلیه، وکذلک بقاء المِلْک للمیّت لا یمنعُ من تعلّق حقّ المجنیّ علیه به إذا جنی بعد موته، ومقتضی ذلک تقدیم حقّ المجنیّ علیه علی الکفن کتقدیمه علی ما یحتاج إلیه فی حال حیاته، هذا. ولکنّ الإنصاف أنّ الحکم بتقدیم حقّه أو تقدیم الکفن لا یخلو من التأمّل»، انتهی کلامه رفع مقامه(1).

فی أحکام الأموات / تعارض المندوب من الکفن مع سائر الحقوق

قلنا: تأمّله فیه لا یخلو عن الوجاهة؛ لوضوح الفرق بین بقاء مِلْک المیّت حیّاً وبقائه میّتاً، لما تری من الحکم بتقدیم الکفن فی ترکة المیّت مع وجود حقّ الدیّان، مع أن_ّه لیس الأمر کذلک فی حال حیاته، حیث یحکم بتقدیم حقّ الدیّان فی المنع من التصرّف، ولو کان محتاجاً لصرفه فی ملبسه ومطعمه ویصیر محجوراً علیه فی تصرّفه فی غیر المستثنیات، فالحکم بتقدیم حقّ المجنیّ علیه علی الکفن فیما وقع الجنایة بعد الموت لا یخلو عن إشکال، خصوصاً مع ملاحظة أنّ حقّ المیّت قد تعلّق بعین الکفن، فلا یبقی حینئذٍ موردٌ لتعلّق الجنایة علیه، واللّه العالم.

هذا کلّه تمام الکلام فی الکفن الواجب .


1- مصباح الهدی: ج 6/170.

ص:148

حکم تعارض الکفن المندوب مع الحقوق الاُخری

وأمّا فی المندوب ففیه صور ثلاث:

1 _ صورة ما لو لم یکن متعلّق الوصیّة.

2 _ واُخری ما لو أوصی به.

3 _ وثالثة ما لو أوصی بعدم المندوب.

أمّا الصورة الاُولی: فتارةً یفرض کون المندوب موجوداً مستقلاًّ منحازاً عمّا تعلّق به الوجوب کالعمامة مثلاً، فإنّها مستحبّة فی قِبال القِطع الثلاث الواجبة.

واُخری: ما لا یکون کذلک، بل کان لأجل خصوصیّةٍ من خصوصیّات الکفن الواجب کإجارة الکفن وکون الإزار بُرداً وحِبرة.

وهذان القسمان یجریان فی الصورتین الاُخریین أیضاً .

أقول: الظاهر من کلمات بعض الأصحاب بل صریحها _ کالعلاّمة فی «التذکرة»، والمحقّق فی «المعتبر»، والمحقّق فی «جامع المقاصد» _ من تقیید الکفن بالواجب، هو خروج المندوب عن ذلک، إلاّ أن یکون برضا الوارث، بل صرّح فی «المعتبر»: «أن_ّه لو کان هناک دَینٌ مستوعبٌ منع من المندوب وإن کنّا لانبیع ثیاب التجمّل للمفلّس لحاجته إلی التجمّل، بخلاف المیّت فإنّه أحوج إلی براءة ذمّته ، ولو أوصی بالندب فهو من الثُلث ، إلاّ مع الإجازة»، انتهی المحکیّ عن «المعتبر».

وعلیه، إذا کان الأمر کذلک فی الصورتین کما ورد التصریح به، ففی الصورة الثالثة یکون کذلک عند المحقّق وأمثاله بطریقٍ أولی، أی لا یجوز إلاّ مع رضا الورثة إن أجزنا أصله لکونه خلافاً للوصیّة.

وکیف کان، فقد اعترض صاحب «الجواهر» فی المندوب الذی کانت زیادته

ص:149

فی القِطع الواجبة مثل إجارة الکفن مثلاً، بقوله : «إنّ المخاطب به فی المستحبّات المالیّة هو الولیّ، فیکون اختیار التعیین مفوّضاً إلیه، غایة الأمر کأنّ الخطاب ندبیّاً من غیر توجّه إلی غیر الولی من الورّاث صغاراً کانوا أم کباراً، فیکون حکمه من قبیل استحباب إخراج الزکاة من مال الطفل، ثمّ أیّده بإطلاق ما دلّ علی أنّ الکفن من صُلب المال، من غیر تخصیصٍ له بالواجب والمندوب، فالواجب منه واجب، والمندوب منه مندوب، بل لعلّ حقّ الدَّین أیضاً لا یزاحم ذلک، لما دلّ علی تعلّق الدَّین بعده. نعم، لو کان المخاطب بالندب نفس الوارث کان اعتبار رضاه متّجهاً، فتأمّل». انتهی کلامه(1).

أورد علیه الشیخ الأکبر رحمه الله : فی «کتاب الطهارة» علی کلامه فی القسم الثانی؛ أی ما کانت زیادته فی الندب بخصوصیّةٍ نظیر إجارة الکفن بقوله: «والتأمّل فی القسم الثانی، بناءً علی أنّ المندوب أحد أفراد القدر المشترک الواجب ، فلا تسلّط للولیّ علی مزاحمة الوارث بعد بذل الوارث القدر المشترک»، انتهی(2).

وناقشه المحقّق الهمدانی فی مصباحه، وقال: «وفیه أنّ تقدّم حقّ المیّت وأحقّیته بکفنه من سائر الناس، یمنعهم من مزاحمة الولیّ فیما یختاره، ما لم یکن خارجاً من المتعارف اللاّئق بحال المیّت، کما تقدّم الکلام فیه مفصّلاً، فإنّ إطلاقات أدلّة التکفین _ مع ما فیها من الأجزاء المستحبّة، فضلاً عن واجباتها _ علی الإطلاق حاکمة، بل واردة، علی ما دلّ علی استحقاق الورثة وغیرهم انصباءهم، فکما أن_ّه لیس لهم مزاحمة الولیّ فی أصل التکفین، لیس لهم مزاحمته فیما یقتضیه إطلاق أدلّة التکفین. نعم، لا یتمشّی ذلک فیما أثبتنا


1- الجواهر: ج4 / 260 .
2- کتاب الطهارة للشیخ الأعظم: 310 .

ص:150

استحبابه بالمسامحة کما هو ظاهر. لکنّک عرفت فیما سبق، أنّ الأحوط اقتصار الولیّ فی امتثال المطلق عند قصور الورثة أو مزاحمتهم، علی أقلّ ما به یتحقّق المُسمّی، ما لم یوجب استحقار المیّت ومهانته، وأولی بمراعاة الاحتیاط هو الاقتصار علیه عند مزاحمته حقّ الدیّانین للوجه الاعتباری الذی تقدّم نقله من «المعتبر»، واللّه العالم». انتهی کلامه رفع مقامه(1).

إیراد المحقّق الآملی علیهما: أورد علی صاحبی «الجواهر» و«المصباح» المحقّق الآملی بقوله: «أقول: وما أفادوه قدّس اللّه أسرارهم لایخلو عن خفاء، والتحقیق أن یقال: لا إشکال فی تعلّق حقّ المیّت بالقدر المشترک بین الأفضل وغیر الأفضل، کما لا إشکال فی أنّ ثبوت حقّه علی الجامع بین الفردین، یقتضی جواز اقتصار الوارث علی دفع غیر الأفضل، لو لم یکن للولی اختیار تعیین الخصوصیّة. کما لا إشکال أیضاً فی أنّ للولی السلطنة علی أخذ الجامع، ولو فی ضمن غیر الأفضل، وإنّما الکلام فی أنّ له السلطنة علی تعیین الأفضل حتّی یمنع عن اقتصار الوارث علی دفع غیر الأفضل؟ والحقّ عدم دلالة دلیلٍ علی اختیار الولیّ فی ذلک: أمّا ما یدلّ علی سلطنة الولی علی الجامع، فهو لا یدلّ علی السلطنة علی الأزید من صرف وجودالکفن، ولایثبت سلطنته علیتعیین ذلک فیالفرد الأفضل. وما یدلّ علی الأمر بالأفضل، فهو لا یدلّ إلاّ علی رجحانه، ولا یقتضی جواز تصرّف الولی فی ترکة المیّت فی اختیار الأفضل من دون إجازة الوارث. فالمحکم حینئذٍ هو اختیار الوارث فیتعیین الأفضل» انتهی محلّ الحاجة(2).

أقول: وجه الإشکال والشبهة إنّما کان فی عنوان الکفن الذی قد خرج بالدلیل


1- مصباح الفقیه: ج5 / 347 _ 348 .
2- مصباح الهدی: ج6 / 176 .

ص:151

من أصل الترکة ولا یزاحمه حقّ الدَّین، هل المراد منه خصوص الواجب وهو المستثنی، أو الأعمّ منه ومن المستحبّ مطلقاً، سواءٌ کان خارجاً عن المتعارف أم لا، أو المستحبّ فی خصوص المتعارف منه دون غیره، حتّی یصدق علیه جواز إخراج الجامع، وإلاّ لو قلنا بالانحصار فی خصوص الواجب، فلا وجه لما ذکره من تجویز إخراج الجامع للفردین بدون إجازة الورثة.

نعم، یصحّ مع الإجازة، إذ لا بحث فی صحّة هذه الحصّة، والذی یمیل إلیه نظرنا هو الأخیر، أی الجامع بصورة المتعارف لا مطلقاً، أی مثل المستحبّات التی کانت تعمل بها فی الکفن بحسب المعمول اللاّئق بحال المیّت، ولکن مع ذلک کلّه نری أنّ رعایة الاحتیاط فی تحصیل رضاهم، خصوصاً فی الصغار بترکها فی غایة الحُسن، إلاّ فیما إذا استلزم ترکها هتک حرمة المیّت، فحینئذٍ لابدّ من العمل بها لو توقّف عملها علی صرفه فیها.

أقول: ومنه یظهر حکم الصورة الثانیة، وهی ما لو أوصی بالمستحبّات،حیث قد عرفت فی کلام المحقّق فی «المعتبر» بأن_ّه یؤخذ من الثلث إلاّ مع الإجازة، ولکن علی مختارنا یکون کذلک فیالزائد علی المتعارف، دون ما هو المعمول والمرسوم، وإن کان تحصیل الرضا أوفق بالاحتیاط کما لا یخفی علی المتأمّل.

وأمّا الصورة الثالثة: وهی فیما لو أوصی بعدم الندب: ففی «الجواهر» احتمل إلغاء ذلک ونفوذه، ثمّ قال: «ولعلّ التفصیل بملاحظة المصلحة إمّا رفقاً بالورثة، أو حصول الفضاضة علیه بتبرّعِ متبرّعٍ فتنفذ وإلاّ فلا، لا یخلو عن قوّة»، انتهی.

قلنا: بأنّ الوصیّة نافذة ما لم یستلزم الهتک بالمیّت، لأنّ حرمة المیّت المسلم کحرمته حیّاً، والوصیّة لا تُنفّذ إلاّ فیما کان مشروعاً لولاها، فما کان حراماً لا یجوز الوصیّة به، و اللّه العالم .

ص:152

فإن لم یکن له کفنٌ دُفن عاریاً، ولا یجبُ علی المسلمین بذل کفنه، بل یُستحبّ. وکذا ما یحتاج إلیه المیّت من کافورٍ وسِدْرٍ وغیره(1).

(1) إنّ هذه المسألة مشتملة علی اُمور :

الأمر الأوّل: لا خلاف ظاهراً فی عدم وجوب بذل الکفن للمیّت الفاقد له، ولا سائر مؤن التجهیز من السِّدر والکافور وماء الغسل ونحو ذلک علی أحدٍ من المسلمین، کما صرّح به جماعة من الأصحاب، بل نسبه فی «جامع المقاصد» إلی کثیر منهم، بل تصریح صاحب «المدارک» أن_ّه لا خلاف فیه بین العلماء، وکذا فی «الذخیرة»، بل ادُّعی علیه الإجماع کما عن «اللّوامع» و«الروض»، کما أرسل بعضهم عن «نهایة الاحکام» الإجماع علی الاستحباب، بل یُستحبّ کما عن «کشف اللّثام» الاتّفاق علیه.

فی أحکام الأموات / لو لم یکن له کفن

لا یقال: کیف لا یجبُ بذل الکفن علی أحدٍ، مع أنّ مقتضی إطلاقات وجوب التکفین؛ وجوب مقدّماته التی منها بذل الکفن، فیما إذا استلزم ترکه دفن المیّت عریاناً، کما أنّ وجوب الغُسل فی الأحیاء یقتضی وجوب تحصیل الماء له ولو بالشراء، والأمر بغَسل الثوب والبدن وغَسل مواضع الوضوء والغُسل یفید الأمر بتحصیل الماء لها عند فقده وامکان تحصیله.

لأن_ّا نقول أوّلاً: إنّه لیس لنا دلیلٌ یفهم منه وجوب المطلق لتحصیل الکفن ولو بالبذل عند فقد الکفن للمیّت، إذ ما یدلّ علی الوجوب لا یدلّ إلاّ علی أصل التکفین والقیام به، أی وجوب لفّ المیّت به علیتقدیر وجوده، لا وجوب تحصیله عند عدمه، إذ الدلیل علیه لیس إلاّ الإجماع والضرورة والنصوص، وشیءٌ منها لا یزید فی دلالتها علی أصل العمل والفعل لا علی البذل .

ص:153

واُجیب عنه ثانیاً: إنّه لو سلّمنا وجود إطلاق بالنحو المُدّعی، لکنّه بعد ملاحظة أدلّة وجوب الکفن فی ترکة المیّت، وثبوت کفن المرأة علی زوجها، وثبوته فی المملوک علی مولاه، یظهر أنّ تلک المطلقات لا تفید الأزید من وجوب ستر المیّت فی الکفن الذی من ماله أو المبذول له، لا وجوب ستره فیمطلق الکفن، بحیث یقتضیذلک وجوب تحصیله بالمال، وإلاّ لکان بذله واجباً علی الجمیع کفایةً بالوجوب المقدّمی، وعلی الزوج والمالک بالوجوب العینی النفسی، وهو بعیدٌ، فوجوب الکفن علی الزوج والمالک کاشف عن أنّ الوجوب المستفاد من تلک المطلقات هو عمل التکفین بالکفن علی تقدیر وجوده، لا تحصیل الکفن عند عدمه، هذا کما عن «مصباح الهدی» للآملی قدس سره (1).

أقول: ولکن الإنصاف عدم تمامیّة هذا التقریر، کما قد استشکل القائل المذکور علی نفسه بعده بقوله: «فإن قلت: قضیّة إطلاق أدلّة التکفین.. إلی آخره»، لوضوح أن_ّه یمکن الالتزام بالوجوب الکفائی بعد فقد من یکفله، أو فقد من یجب علیه، إذ مع وجود هذه الموانع، وعدم القصور فی حقّه، فإنّه لا یحتاج إلی الکفن حتّی یقال بوجوب البذل علی أحدٍ من المسلمین؛ لأنّ الوجوب الکفائی إنّما یکون فیما إذا لم یتحقّق ولم یمتثل الأمر، ویبقی الجسد بلا کفن، فإذا فرض الوجوب عیناً نفسیّاً لموردٍ أو موارد فلا تصل النوبة إلی الوجوب الکفائی، إلاّ مع تعذّر تحقّقه ولو بالعصیان، وعلیه فالأحسن فی الاستدلال علی عدم وجوب البذل هو القول بعدم قیام الدلیل علی الوجوب المطلق، لیدلّ علی وجوب البذل مطلقاً، وما هو الموجود هو وجوب الکفن فقط، کما هو الحال بالنسبة إلی الحَیّ فإنّ الأدلّة تفید وجوب ستر العورة علیه ولا یجب علی


1- مصباح الهدی: ج6 / 181 _ 182 .

ص:154

الآخرین بذل المال لتحقّق ذلک، إلاّ إذا توقّفت حیاته علی ذلک .

وأمّا أنّ دعوی صاحب « مصباح الفقیه » : من حکومة أدلّة نفی الضرر علی تلک المطلقات.

فممنوعة أوّلاً: بمنع الصدق علی مثله مطلقاً.

وثانیاً: علی تقدیر صدقه، اللاّزم تخصیص القاعدة به _ کما فی أمثاله _ بما دلّ علی وجوب شراء الماء للوضوء والغُسل ولو بأضعاف قیمته ما لم یکن إجحافاً، بل لا یبعد التمسّک بعموم الخبر الذی رواه العیّاشی فی تفسیره، عن الحسین بن أبی طلحة، قال: «سألتُ عبداً صالحاً علیه السلام عن قول اللّه عزّ وجلّ: «أَوْ لاَمَسْتُمْ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَیَمَّمُوا صَعِیدا طَیِّبا»(1)، ما حدّ ذلک؟

قال: فإن لم تجدوا بشراءٍ وبغیر شِراء.

قلت: إن وجد قدر وضوءٍ بمأة ألف أو بألف وکم بلغ؟ قال: ذلک علی قدر جِدَته»(2).

ولعلّ ما توقّف علیه الواجب من الکفن هکذا ما لم یکن إجحافاً، ولکن الإشکال هنا فی أصل وجود الدلیل علی الإطلاق کما عرفت .

نعم، حَکی الشیخ الأکبر قدس سره عن بعض مشایخه استدلاله علی وجوب تحصیل الکفن بإطلاق مثل ما ورد من أنّ: «الکفن فریضة للرِّجال ثلاثة أثواب».

ولکن ردّه وأجابه _ ونِعْمَ الجواب _ بأن_ّه: قد ورد مسوقاً لبیان مقدار الواجب، من دون تعرّضٍ لمن یجب علیه، مضافاً إلی إمکان کون المقصود هو التکفین فی ثلاثة أثواب لا لزوم تحصیله بنحو الواجب الکفائی کما هو المراد.

الأمر الثانی: أن_ّه لا إشکال فی استحباب البذل للمیّت المؤمن، کما عن


1- سورة النساء: آیة 43 .
2- وسائل الشیعة: الباب 26 من أبواب التیمّم، الحدیث 2.

ص:155

«کشف اللّثام» دعوی الإجماع علیه، بل قد استدلّ لذلک فی «الجواهر» وغیره بالخبر الصحیح الذی رواه سعد بن طریف، عن أبی جعفر علیه السلام ، قال: «مَن کفّن مؤمناً کان کمَن ضمن کسوته إلی یوم القیامة»(1).

بل لا یبعد استفادة محبوبیّة ذلک ممّا قام به رسول اللّه صلی الله علیه و آله حین وصّی علیّاً علیه السلام بتکفین اُمّه فاطمة بنت أسد سلام اللّه علیها، کما عن عبد اللّه بن عبّاس فیحدیث وفاة فاطمة بنت أسد اُمّ أمیرالمؤمنین علیه السلام ، قال: «قال النبیّ صلی الله علیه و آله لعلیّ علیه السلام : خُذ عمامتی هذه، وثوبیّ هذین فکفّنها فیهما، ومُر النساء فلیُحسنَّ غُسلها»(2).

إلاّ أنّ الإشکال فیه: أنّ عمله صلی الله علیه و آله کان عملاً بوصیّتها سلام اللّه علیها، علی ما ورد فی حدیثٍ آخر، وهو خبر عبد اللّه بن سنان، عن أبی عبد اللّه علیه السلام فی حدیثٍ: «أنّ فاطمة بنت أسد أوصت إلی رسول اللّه صلی الله علیه و آله فقبلَ وصیّتها، فلمّا ماتت نزع قمیصه وقال: کفّنوها فیه».(3) وهو غیر ما نحن بصدده. نعم، لا یبعد ذلک _ أی استحباب البذل _ بالنسبة إلی ما نقله أبو الحسن الأوّل، عن أبیه علیهماالسلام ، بقوله: «کان أبی یقول: إنّ حرمة بدن المؤمن میّتاً کحرمته حیّاً ، فوارِ بدنه عورته، الحدیث»(4).

فإنّه وإن ورد الأمر المذکور بالنسبة إلی الأخذ من الزکاة، إلاّ أنّ تعمیمه إلی غیرها من البذل وغیره لا یخلو عن وجهٍ کما استظهره المحقّق الآملی قدس سره لذلک، لکنّه یؤیّد عدم کون البذل واجباً، مضافاً إلی قیام الأصل وجریانه فی البراءة عن وجوب البذل.

کما قد یؤیّد ذلک بما سیأتی من خبر الفضل أیضاً.


1- وسائل الشیعة: الباب 26 من أبواب التکفین، الحدیث 1 و 2 و 4 .
2- وسائل الشیعة: الباب 26 من أبواب التکفین، الحدیث 1 و 2 و 4 .
3- وسائل الشیعة: الباب 26 من أبواب التکفین، الحدیث 1 و 2 و 4 .
4- وسائل الشیعة: الباب 33 من أبواب التکفین، الحدیث 1 .

ص:156

وظاهر بعض الأصحاب اختصاص الاستحباب بصورة ما لم یوجد الکفن فی ترکة المیّت أو ما بحکم الترکة، بل عن المحقّق الآملی قدس سره : «وفی المروی عن الباقر علیه السلام : «من کفن.. إلی آخره»، إشعارٌ إلیه، حیث أنّ ضمان کسوته إلی یوم القیامة یصدق فیما کان لولا بذله لکان عاریاً».

ثمّ أجاب عنه بنفسه قدس سره بقوله: «لکن الإنصاف عدم بلوغ الإشعار المذکور إلی حدٍّ یمکن أن یقال له باختصاص الاستحباب بما ذُکر، بل نحن نقول لا إشعار فیه أصلاً، لأن_ّه کان فی صدد بیان التنظیر بمن کان کذلک، لا أن_ّه محبوب لمن لا کفن له لولاه، فالأقوی عموم الاستحباب وإن کان فی فاقد الکفن آکد».

الأمر الثالث: أن_ّه قد عرفت عدم قیام الدلیل علی وجوب بذل الکفن للولیّ ولا لغیره، بل یُستحبّ، کما أن_ّه یجوز أخذ الکفن من الزکاة، لما قد ورد فی الخبر الذی رواه ابن محبوب، عن الفضل بن الکاتب، قال: «سألتُ أبا الحسن موسی علیه السلام فقلت له: ما تری فی رجلٍ من أصحابنا یموتُ ولم یترک ما یُکفّن به، أشتری له کفنه من الزکاة؟ فقال: إعط عیاله من الزکاة قدر ما یجهّزونه، فیکونون هم الذین یجهّزونه. قلت: فإن لم یکن له ولدٌ ولا أحدٌ یقوم بأمره، فاُجهّزه أنا من الزکاة؟ قال: کان أبی یقول: إنّ حرمة بدن المؤمن میّتاً کحرمته حیّاً، فوارِ بدنه وعورته وجهّزه وکفّنه وحنّطه واحتسب بذلک من الزکاة، وشیّع جنازته. قلت: فإن اتّجر علیه بعض اخوانه بکفنٍ آخر، وکان علیه دَین، أیُکفّن بواحدٍ ویُقضی دَینه بالآخر؟ قال: لا، لیس هذا میراثاً ترکه إنّما هذا شیءٌ صار إلیه بعد وفاته، فلیکفّنوه بالذی اتّجر علیه، ویکون الآخر لهم یُصلحون به شأنهم»(1).

حیث دلالته علی الأخذ من الزکاة واضحة.


1- وسائل الشیعة: الباب 33 من أبواب التکفین، الحدیث 1 .

ص:157

وحینئذٍ، هل یجب أن تُصرف الأموال علیه من سهم الفقراء أو من سهم سبیل اللّه؟

إطلاق الروایة یقتضیالتعمیم، فیجوز من کلیهما،إذ یصدق علی مثله أن_ّه من مال بیت المال، کما استفاد ذلک من هذا الخبر جماعة؛ منهم العلاّمة والشهیدان رحمهماالله ، إذ المراد من بیت المال علی ما فی «جامع المقاصد» الأموال التی تجمع من خراج الأرضین المفتوحة عنوةً، وسهم سبیل اللّه من الزکاة، علی القول بأنّ المراد به کلّ قربة لا الجهاد وحده.

ثمّ قال: «ولو أمکن الأخذ من سهم الفقراء والمساکین من الزکاة جاز؛ لأنّ المیّت أشدّ فقراً من غیره» انتهی کلامه .

أقول: الأحوط صرف سهم سبیل اللّه فی ذلک، لا سهم الفقراء والمساکین؛ لانصراف إطلاق دلیل المصارف لصرفه فی الأحیاء، کما هو مقتضی کلمة إیجاب الزکاة، بل لعلّه لذلک قد أمر الإمام علیه السلام بإعطائه إلی ورثته لیجهّزوه حتّی یتحقّق الصرف فی الأحیاء، مضافاً إلی إمکان کون الحکمة فی الأمر بالإعطاء إلی عیاله هو دفع المهانة عنهم، فیکون المقصود بذلک جَبر قلوبهم المکسورة، وستر فقرهم بذلک لئلاّ یدخل علیهم الوهن والحزازة من جهة مباشرة الأجنبی لتکفین میّتهم. نعم، یعطی إلی الورثة إن کانوا مستحقّین لها .

فرع: هل یجب إعطاء الأموال المذکورة إلی أهله، وهل إعطائها لهم جائز أم مستحبّ؟

ظاهر الروایة هو الأوّل مع التمکّن، ولکن حملها علی الندب بالنسبة إلی ذلک أولی، لعدم القائل بالوجوب کما اعترف به فی «الروض».

نعم، والذی ینبغی أن یُقال هو: إن_ّه هل یجبُ صرف الزکاة لشراء الکفن فیما إذا لم یکن للمیّت ترکة یُشتری بها الکفن أم یُستحبّ؟ فیه قولان: المحکیّ عن

ص:158

«المنتهی» و«جامع المقاصد» و«الذکری» و«الروض» و«الجواهر» هو الأوّل للأمر به فی الروایة.

وقولٌ آخر بالاستحباب؛ کما علیه المحقّق الهمدانی، والمحقّق الآملی، وقد استدلّوا علی ذلک بجهات:

الاُولی: إنّ الأمر واردٌ فیمقام توهّم الخطر، فلا یدلّ علی أزید من الجواز والاستحباب.

الثانیة: ظاهر استدلال الإمام بقول أبیه علیهماالسلام فی الاستحباب.

الثالثة: تشبیهه بدن المیّت ببدن الحَیّ فی الحرمة، مع أن_ّه لا یجب إکساء الحیّ العاری من الزکاة، بل یتخیّر بینه وبین صرف الزکاة فی مصرف آخر.

الرابعة: سوق الأمر بالمواراة والتکفین والتحنیط من الزکاة مساق أمره بتشییع جنازته.

أقول: ولکن الإنصاف أنّ شیئاً من الوجوه المذکورة لا یقاوم قیام القطع علی ضرورة صرف الأمر عن ظهوره، وإن کان یوجب الاحتمال فیه، ولأجل ذلک قلنا إنّه یجب صرفه فیه بالاحتیاط الوجوبی حذراً عن مخالفة الأصحاب وتبعاً للسیّد فی «العروة»، وأکثر أصحاب التعلیق علیها، واللّه العالم.

الأمر الرابع: بعدما عرفت حکم الکفن من أن_ّه یؤخذ من أصل الترکة لا من الثُلث، وأن_ّه لا یجب علی أحدٍ من المسلمین بذله، بل یُستحبّ حتّی ولو لم یکن للمیّت مال، یصل البحث إلی أنّ الأمر فی سائر مؤن التجهیز کذلک، حیث یؤخذ من الأصل کالکفن مطلقاً ؟

أم لابدّ من التفصیل بین ما هو القدر الواجب من الأعیان المصروفة فی التجهیز کالماء والخیطین واُجرة الدفن، وبین غیرها من مقدّمات الأفعال کحفر

ص:159

القبر واُجرة الحمل والغسل؟

وأشکل منها ما لو توقّف مباشرة الفعل علی بذل مالٍ لظالم یمنع من الغُسل والدفن فی الأرض المباحة، حیث یؤخذ الأوّل من الأصل، والثانی من الثلث أو من الورثة الکبار فی حصّتهم، أو من بیت المال إن وجد، وإلاّ علی عموم المسلمین بصورة الکفایة؛ أی واجباً کفائیّاً، أو التفصیل بین القدر الواجب والزائد منه، بقدر ما هو المتعارف فی العرف، فیصحّ أخذه من الترکة، وبین الزائد عنه وعن القدر المتعارف، فینتقل إلی الورثة الکبار فی حصّتهم إن لم یتعیّن الثلث، أو لم یعیّن المیّت فی وصیّته لذلک بالخصوص فی ثلثه شیئاً، وإن لم یکن له ورثة ولا ثلث أُخذ من بیت المال، وإلاّ فعلی المؤمنین تکفّله بنحو الوجوب الکفائی؟

وجوهٌ وأقوال:

القول الأوّل: هو الظاهر من کلام صاحب «المدارک» تمسّکاً بتعلیله بقوله: «أمّا الوجوب من أصل المال فظاهر؛ لأنّ الوجوب متحقّق، ولا محلّ له سوی الترکة إجماعاً»، انتهی.

کما هو معقد الإجماع الذی ادّعاه الشیخ رحمه الله فی «الخلاف»، کما هو ظاهر إطلاق المحقّق الهمدانی رحمه الله بقوله: «ما یحتاج إلیه المیّت من کافور وسدر وغیره، بناءً علی تعمیم لفظ غیره لجمیع ما یحتاج إلیه المیّت».

القول الثانی: ما ذهب إلیه الشیخ الأنصاری، وصاحب «الجواهر» من التفصیل بین القدر الواجب وغیره، حیث أجازوا فی الأوّل من أصل الترکة دون غیره، کما هو ظاهر کلام السیّد فی «العروة» أیضاً .

أقول: ولکن الأقوی عندنا هو التفصیل الثانی، لکن الذی یوجب التأمّل فیه هو أن_ّه : لو کانت المؤونة لأجل منع ظالمٍ من مطلق دفن المیّت، أو فی أرضٍ

ص:160

الثالثة: إذا سقط من المیّت شیءٌ من شعره أو جسمه ، وجبَ أن یُطرح معه فی کفنه (1).

مخصوصة مع عدم التمکّن من غیرها، فهل یجوز حینئذٍ أخذ ذلک من أصل الترکة أم لا ؟

الأحوط فی مثله تحصیل الرِّضا من الورثة الکبار فی حصّتهم، إن لم یکن للمیّت ثلثٌ أو وصیّة، وإلاّ یؤخذ منهما، وإلاّ من بیت المال إن کان تجهیزه موقوفاً علیه، وإلاّ فعلی المؤمنین کفایة، واللّه العالم.

فی أحکام الأموات / لو سقط شیء من شعر المیّت أو جسمه

وأمّا لو کان المنع أو الامتناع من مکان خاصّ مع وجود غیره ممّا لا یلزم الدفن فیه من هتک الحرمة للمیّت، فأخذه من أصل الترکة غیر جائز، لعدم الدلیل علی الجواز، وانصراف الدلیل المجوّز عن مثله، کما لا یخفی.

(1) کما هو صریح جماعة، وظاهر آخرین، بل فی «الذخیرة»: «لا أعلم فیه خلافاً»، وفی «التذکرة»: «وإن سقط من المیّت شیءٌ غُسّل وجعل معه فی أکفانه بإجماع العلماء؛ لأنّ جمیع أجزاء المیّت فی موضع واحد أولی»، انتهی. ونحوه فی«النهایة».

وفهم جماعة ممّن تأخّر عنه الوجوب کما هو کذلک .

وفی «الجواهر»: «قد یشعر تعلیل «التذکرة» الاستحباب، کما قد صرّح به «جامع الجامع»»، ولعلّه أراد به استفادته من کلمة (أولی)، حیث یُشعر منها الاستحباب. ولکن یمکن أن یکون الاستحباب فی جعله فی کفنٍ واحد لا فی أصل لزوم الدفن.

وکیف کان، لا إشکال فی وجوب جعله فی کفنه حیث یدلّ علیه _ مضافاً إلی

ص:161

الإجماع _ الخبر المرسل الذی رواه ابن أبی عمیر فی الصحیح، عن الصادق علیه السلام ، قال: «لا یمسّ من المیّت شعر ولا ظُفر وإن سقط منه شیء فاجعله فی کفنه»(1).

نعم، یظهر من العلاّمة فی «التذکرة» لزوم التغسیل ثمّ الطرح فی الکفن، وبه صرّح بعضهم. وفی «الجواهر»: «إنّه هو کذلک»، واستشکل علیه المحقّق الهمدانی قدس سره بقوله: «إن أرادوا عدم إهماله حین تغسیل المیّت بجعله بمنزلة المتّصل، نظراً إلی اهتمام الشارع به وعدم رفع الید عنه حیث أوجب دفنه، فله وجهٌ، وإن کان لایخلو عن نظر، وإن أرادوا وجوب غسله مستقلاًّ، ففیه منعٌ ظاهر، خصوصاً بالنسبة إلی الشعر ونحوه، لعدم الدلیل لو لم ندّع الدلیل علی العدم، واللّه العالم»، انتهی کلامه(2).

قلنا: إنّ کلام العلاّمة رحمه الله : «إن سقط من المیّت شیءٌ غُسّل» مطلقٌ ربما یشمل غیر الشعر من أجزاء البدن، کما یؤمی إلیه تعلیله: «لأنّ جمیع أجزاء المیّت...» فحینئذٍ إن کان ذلک الجزء ممّا یَجبُ غُسله ولم یُغسّل فلا إشکال فی وجوب غسله، وإن لم یکن کذلک، إمّا إن کان ممّا لا غُسل فیه، أو کان قد غُسّل ثمّ سَقَط، فلا وجه للحکم بوجوب الغُسل فیه ثانیاً کما لا یخفی.

ولعلّ مرادهم من السقوط هو ما سقط قبل الغُسل وکان ممّا یجب غُسله، حیث یصبح وجوب الغُسل حینئذٍ واضحاً .


1- وسائل الشیعة: الباب 11 من أبواب غسل المیّت، الحدیث 1.
2- مصباح الفقیه: ج5 / 355 .

ص:162

أحکام دفن المیّت

الرابع: مواراته فی الأرض، وله مقدّمات مسنونة کلّها(1).

(1) هذا الحکم من أحکام الأموات مشتملٌ علی اُمور تعدّ مقدّمة له، ولکنّها غیر مرتبطة ولا موقوفة علیها هذا الحکم، بل هی مسنونات مستقلّة تستحبّ مراعاتها قبل دفن المیّت ومواراته:

فی أحکام الأموات / فی تشییع المیّت

المستحبّ الأوّل: التشییع، فإنّ استحبابه إجماعیٌّ لو لم یکن ضروریّاً، والأخبار الواردة فیه مستفیضة لو لم تکن متواترة ، فلا بأس هنا بذکرها ولو فی الجملة:

منها: خبر الکلینی، عن میسّر، قال: «سمعتُ أبا جعفر علیه السلام یقول: مَن تبِعَ جنازة مسلمٍ اُعطی یوم القیامة أربع شفاعات، ولم یقل شیئاً إلاّ وقال الملک: ولکَ مثل ذلک»(1).

ومنها: خبر أبی الجارود، عن أبی جعفر علیه السلام ، قال: «کان فیما ناجی به موسی ربّه أن قال: یا ربّ ما لمَن شیّع جنازة؟ قال: أُوکِل به ملائکةً من ملائکتی معهم رایات یشیّعونهم من قبورهم إلی محشرهم».(2)

ومنها: خبر جابر، عن أبی جعفر علیه السلام ، قال: «إذا دخل المؤمن قبره نُودیَ ألا وأنّ أوّل حبائک الجنّة، ألا وأنّ أوّل حباء مَن تبعک المغفرة».(3)

ومنها: خبر إسحاق بن عمّار، عن أبی عبد اللّه علیه السلام ، قال: «أوّل ما یُتحف المؤمن به فی قبره أن یغفر لمن تبع جنازته».(4)


1- وسائل الشیعة: الباب 2 من أبواب الدفن، الحدیث 1 _ 4 .
2- وسائل الشیعة: الباب 2 من أبواب الدفن، الحدیث 1 _ 4 .
3- وسائل الشیعة: الباب 2 من أبواب الدفن، الحدیث 1 _ 4 .
4- وسائل الشیعة: الباب 2 من أبواب الدفن، الحدیث 1 _ 4 .

ص:163

ومنها: خبر الصدوق رحمه الله قال: «قال أمیر المؤمنین علیه السلام فی حدیثٍ: ضمنتُ لستّة علی اللّه الجنّة: رجلٌ خَرَج فیجنازة رجلٍ مسلم فمات فله الجنّة،الحدیث»(1).

ومنها: الخبر الذی رواه الشیخ الصدوق فی «عقاب الأعمال» بإسناده عن رسول اللّه صلی الله علیه و آله فی حدیث، قال: «من شیّع جنازة فله بکلّ خطوة حتّی یرجع مائة ألف ألف حسنة، ویُمحی عنه مائة ألف ألف سیّئة، ویُرفع له مائة ألف ألف درجة، فإن صلّی علیها شیّعه فی جنازته مائة ألف ألف مَلک کلّهم یستغفرون له (حتی) یرجع، فإن شهد دفنها وکَّلَ اللّه به ألف ملک کلّهم یستغفرون له حتّی یُبعث من قبره، ومَن صلّی علی میّتٍ صلّی علیه جبرئیل وسبعون ألف ملک، وغَفَر له ما تقدّم من ذنبه، وإن أقام علیه حتّی یدفنه وحثا علیه من التراب انقلب من الجنازة وله بکلّ قدمٍ من حیث شیّعها حتّی یرجع إلی منزله قیراط من الأجر ، والقیراط مثل جَبَل اُحد یکون فی میزانه من الأجر».(2)

ومنها: خبر أصبغ بن نُباتة، قال: «قال أمیر المؤمنین علیه السلام : مَن تبع جنازةً کتب اللّه من الأجر له أربع قراریط؛ قیراط باتّباعه، وقیراط للصلاة علیها، وقیراط بالانتظار حتّی یفرغ من دفنها، وقیراط للتعزیة».(3)

ومنها: خبر زرارة، قال: «کنتُ مع أبی جعفر علیه السلام فی جنازةٍ لبعض قرابته، فلمّا أن صلّی علی المیّت قال ولیّه لأبی جعفر علیه السلام : ارجع یا أبا جعفر علیه السلام مأجوراً، ولا تَعنی، لأن_ّک تضعفُ عن المشی، فقلت أنا لأبی جعفر علیه السلام : قد أذِنَ لک فی الرجوع فارجع، ولی حاجة اُرید أن أسألک عنها.

فقال لی أبو جعفر علیه السلام : إنّما هو فضلٌ وأجرٌ فبقدر ما یمشی مع الجنازة یُؤجر


1- وسائل الشیعة: الباب 2 من أبواب الدفن ، الحدیث 5 و 6 و 1 .
2- وسائل الشیعة: الباب 2 من أبواب الدفن ، الحدیث 5 و 6 و 1 .
3- وسائل الشیعة: الباب 2 من أبواب الدفن ، الحدیث 5 و 6 و 1 .

ص:164

الذی یتبعها، فأمّا بإذنه فلیس بإذنه جئنا، ولا بإذنه نرجع»(1).

ومنها: خبرٌ آخر لزرارة، قال: «حضر أبو جعفر علیه السلام جنازة رجلٍ من قریش وأنا معه وکان فیها عطاء، فصرخت صارخةً، فقال عطاء: لتسکتنّ أو لنرجعنّ! قال: فلم تسکت فرجع عطاء.

قال: فقلت لأبی جعفر علیه السلام : إنّ عطاء قد رجع، قال: ولِمَ؟ قلت: صرختْ هذه الصارخة فقال لها لتسکتنَّ أو لنرجعنّ، فلم تسکت فرجع.

فقال: امض بنا فلو أن_ّا إذا رأینا شیئاً من الباطل مع الحقّ ترکنا له الحقّ لم نقض حقّ مسلم؟!

قال: فلمّا صلّی علی الجنازة قال ولیّها لأبی جعفر علیه السلام ارجع مأجوراً رحمک اللّه، فإنّک لا تقوی علی المشی، فأبی أن یرجع.

قال: فقلت: قد أذِنَ لک فی الرجوع، ولی حاجة اُرید أن أسألک عنها.

فقال: امض فلیس بإذنه جئنا ولا بإذنه نرجع، وإنّما هو فضلٌ وأجرٌ طلبناه، فبقدر ما یتبع الجنازة الرّجل یؤجر علی ذلک»(2).

وغیر ذلک من الأخبار التی یمکن استفادة الاستحباب منها.

أقول: هنا أُمورٌ ینبغی البحث عنها:

الأمر الأوّل: أیّ مقدار من التشییع یؤجر، فهل یلزم أن یکون التشییع إلی المصلّی بحیث لو کان أقلّ منه لا یؤجر، أو یؤجر بمقدار ما شیّع ولو بالأقلّ منه؟

ظاهر کثیرٍ من الفقهاء ومنهم صاحب «الجواهر» وصاحب «مصباح الهدی» هو الثانی، خلافاً لما یظهر من العلاّمة رحمه الله فی «المنتهی» حیث قال: «إنّ أدنی


1- وسائل الشیعة: الباب 2 من أبواب الدفن ، الحدیث 5 .
2- وسائل الشیعة: الباب 40 من أبواب صلاة الجنازة، الحدیث 1؛ الباب 3 ، الحدیث 7 .

ص:165

مراتب التشییع أن یتبعها إلی المصلّی، فیُصلّی علیها ثمّ ینصرف»، وقد استدلّ لذلک بالخبرین الأخیرین.

لکن تعجّب صاحب «الجواهر» قدس سره من کلامه واستدلاله؛ لأنّ دلالة الحدیثین کانت علی خلافه، ودافع الآملی رحمه الله عن العلاّمة بأنّ دلالتهما علیه لیست بمثابةٍ یوجب التعجّب؛ لأنّ ظاهر صدره وإن کان مساعداً لما ذکره صاحب «الجواهر»، إلاّ أنّ فی قوله بعدما قیل له ارجع مستتبعة للجملة السابقة: «بما بعد أن صلّی علی الجنازة.. إلی آخره»، یضعّف ظهوره فی الإطلاق، بحیث لا مانع لأجله أن یحمل قوله: «فبقدر ما یمشی»، علی المشی مع الجنازة إلی المصلَّی .

أقول: ولکن الإنصاف _ کما اعترف به المدافع _ انثلام ظهور قوله علیه السلام ، خصوصاً ظهور التعلیل بقوله: «وإنّما هو فضلٌ وأجرٌ طلبناه»، فی الإطلاق وآبٍ لسانه عن التقیید بما بعد الصلاة کما لا یخفی علی المتأمّل.

وبالجملة: فمّما ذکرنا من الاستحباب بالمشی بأیّ مقدارٍ کان، ولو بأقلّ من المصلّی یظهر عدم تمامیّة ما صدرَ عن ابن الجنید قدس سره من أن_ّه لا یجوز الرجوع قبل الدفن ما لم یأذن أهله بالانصراف إلاّ لضرورة، واستدلّ له بمرفوعة البرقی عن الصادق علیه السلام ، قال: «قال رسول اللّه صلی الله علیه و آله : أمیران ولیسا بأمیرین، لیس لمن تبع جنازة أن یرجع حتّییدفن أو یؤذن، ورجل یحجّ مع امرأةٍ فلیس له أن ینفر حتّیتقضی نُسکها»(1).

لإمکان أن یکون مراده الإشارة إلی لزوم مراعاة ذلک من الناحیة الأخلاقیّة لا الشرعیّة؛ أی أنّ الشأن یقتضی أن یتبع المشیّع الجنازة إلی حین الانتهاء من دفنه، کما أنّ الأمر کذلک بالنسبة إلی الفقرة الثانیة لو لم تقضی الضرورة خلافه، مع أنّ


1- وسائل الشیعة: الباب 3 من أبواب الدفن ، الحدیث 6 .

ص:166

الروایة شاذّة أعرض عنها الأصحاب، ومجرّد عمل الإسکافی بها لایُخرجه عن کونها معرضاًعنها،فالمتعیّن هو الأخذ بما علیه المشهور أو الإجماع.

الأمر الثانی: یظهر من الخبرین :

1 _ أن_ّه لا یحتاج التشییع إلی إذن أولیاء المیّت.

2 _ وأن_ّه حقٌّ للمیّت المسلم علی الناس.

ویدلّ علی الأوّل: قوله علیه السلام : «فلیس بإذنه جئنا ولا بإذنه نرجع»، حیث یدلّ علی أنّ الرجوع لا ینوط بإذنه أیضاً .

وعلی الثانی: قوله علیه السلام : «فلو أن_ّا إذا رأینا شیئاً من الباطل مع الحقّ ترکنا له الحقّ لم نقضِ حقّ مسلم»، حیث یدلّ علی أنّ التشییع من حقوق المسلمین وأن_ّه یعدّ توقیراً للمیّت، فکلّما کثر الاجتماع فیه کان أوقر.

الأمر الثالث: لا یبعد صدق التشییع عرفاً علی ما هو المتعارف فی زماننا هذا، تبعاً لسیرة القدماء من تبعیّة الجنازة عند إرادة نقلها من بلدٍ إلی بلدٍ آخر؛ لأنّ مثل هذه المشایعة یعدّ عرفاً تشییعاً ویُقال له التشییع، فیشمله أدلّة الاستحباب والثواب المترتّب علی التشییع، ولو منع منه مانعٌ بجموده علی لفظ التشییع، فنقول: تشمله الأدلّة المشتملة علی التبعیّة مثل المرسل المرویّ عن أمیرالمؤمنین علیه السلام أن_ّه قال: «ضمنتُ لستّة علی اللّه الجنّة ؛ رجلٌ خرج فی جنازة رجل مسلم فمات فله الجنّة»(1).

وغیره من الأخبار المعبّر عنها بالتبعیّة، فلا یحتاج حینئذٍ إلی ما یعتبر فی التشییع من المشی خلف الجنازة، أو أحد جانبیها، أو الکراهة فی التقدّم علیها ممّا هو معتبر فی التشییع المتعارف، مع إمکان القول بصدق المشی فی خلفها


1- وسائل الشیعة: الباب 2 من أبواب الدفن ، الحدیث 5 .

ص:167

المتحقّق بالمشی خلف المرکب الذی ینقل الجنازة ولو فی الجملة حتّی بسبعة أقدام الذی یعدّ مستحبّاً فیه، ولعلّه لذلک تأمّل صاحب «الجواهر» بعد دعوی ظهور انصراف تلک الأدلّة إلی غیرهم.

الأمر الرابع: الظاهر کون استحباب التشییع بما إذا کان محلّ الدفن أو الغُسل أو الصلاة محتاجاً إلی النقل، وأمّا إذا لم یکن فی البین شیء من الثلاثة، کما إذا اُرید غُسله ودفنه والصلاة علیه فی محلّ موته، فهل یُستحبّ إخراج الجنازة لمجرّد تشییعها ثمّ ردّها إلی محلّ الدّفن أم لا؟ وجهان : من إطلاق ما دلّ علی فضل التشییع ، خصوصاً إذا کان من الأجلاّء والعلماء فیستحبّ.

ومن أن_ّه لو کان مستحبّاً لفعله أمیر المؤمنین علیه السلام مع جنازة النبیّ صلی الله علیه و آله ، بل المنصرف من أدلّة التشییع أن_ّه یستحبّ إخراج جنازة المیّت من محلّ وفاته تفید استحباب لتحصیل أحد الثلاثة فی غیر محلّ الموت، فلا تفید استحباب إخراجها والسیر بها فی السکک والشوارع لمجرّد درک فضیلة التشییع.

اللَّهُمَّ إلاّ أن نعتمد علی ما قیل من إخراج جنازة فاطمة علیهاالسلام من بیتها ثمّ أُعیدت إلی بیتها للدفن إن کان البیت محلّ دفنها، کما نُقل مثل ذلک بالنسبة إلی جثمان الإمام الهادی علیه السلام من تشییعه فی سکک سامراء .

لکن قال المحقّق الآملی رحمه الله : «إنّهما لا أصل لهما، واللّه العالم»، ولکنّه أضاف بعد ذلک مستدرکاً بقوله: «نعم لا مانع من القول باستحباب نقل المیّت إلی المصلّی للصلاة علیها، وحینئذٍ یتحقّق موضوع التشییع، ولکن استحباب ذلک لعلّه مختصٌّ بما إذا کان کثرة المشیّعین بحیث لا یمکن معها اجتماعهم علی الصلاة علیه فی بیته، ولم ینقل الدلیل علیه حتّی یستظهر منه الاستحباب».

ص:168

وأن یمشی المشیّع(1).

ولعلّ مقصوده الاستظهار من الأدلّة الواردة فی محبوبیّة تعظیم جنازة الأجلاّء، کما ربّما یشعر بذلک ما ورد من استحباب إعلام المؤمنین، وتأخیر تشییع جنازتهم لتحصیل ذلک، فإن کان مقصوده هذا فله وجهٌ، فإذا ثبت ذلک لزم توجیه ما فعله أمیر المؤمنین علیه السلام بجنازة النبیّ صلی الله علیه و آله من عدم إخراجه من بیته وعدم تشییعه، ولعلّه _ و اللّه العالم _ ترک ذلک بناءً علی عدم قیام الجماعة للصلاة علیه صلی الله علیه و آله ، وأنّ من دخل علیه اکتفی بقراءة قوله تعالی: «إِنَّ اللّه َ وَمَلاَئِکَتَهُ یُصَلُّونَ عَلَی النَّبِیِّ»(1)، أو غیر ذلک من المحامل.

(1) المستحبّ الثانی: استحباب المشی فی التشییع.

والدلیل علیه: _ مضافاً إلی دعوی «الغنیة» و«المنتهی» من قیام الإجماع علیه _ الأخبار الکثیرة الواردة الآمرة بالمشی خلف الجنازة، أو أحد جانبیها کما سیأتی، فإنّها وإن سیقت لبیان أنّ المشی المستحبّ یکون خلفها أو إلی أحد جانبیها دون أمامها، إلاّ أن_ّها تدلّ علی مفروغیّة أصل استحباب المشی کما لا یخفی.

فی أحکام الأموات / سنن التشییع

هذا فضلاً عن التأسّی بسیرة النبیّ صلی الله علیه و آله والأئمّة علیهم السلام ، حیث أنّ الأخبار تفید أن_ّهم کانوا یمشون خلف الجنازة، ولا یخفی أنّ المشی أشقّ من الرکوب، وقد ورد فی الحدیث: «أنّ أفضل الأعمال أحمزها»، ولکون التشییع عبادة وطاعة، والأنسب المشی لحصول التواضع والتوجّه إلی حال المیّت الذی یسیر إلی ربّه ونفسه الذی سیکون مصیره کذلک عاجلاً أم آجلاً .

مع إمکان استفادة مطلوبیّة المشی ممّا ورد فی کراهة الرکوب أیضاً، إذ الأمر


1- سورة الأحزاب: 56 .

ص:169

منحصر بینهما ولا ثالث لهما، ممّا یقتضی أن یکون الأقوی کراهة الرکوب فی التشییع، إذ مضافاً إلی دعوی الاتّفاق فی «المنتهی» حیث قال: «ویستحبّ المشی فی الجنازة، ویکره الرکوب، وهو قول العلماء کافّة»، وجود أخبار دالّة علیه:

منها: صحیح عبد الرحمن، عن الصادق علیه السلام ، قال: «مات رجلٌ من الأنصار من أصحاب رسول اللّه صلی الله علیه و آله ، فخرج رسول اللّه صلی الله علیه و آله فی جنازته یمشی، فقال له بعض أصحابه: ألا ترکب یا رسول اللّه؟ فقال: إنّی أکره أن أرکب والملائکة یمشون»(1).

وفی «الکافی»، وعن الصدوق مع زیادة: «وأبی أن یرکب».

ومنها: خبر غیاث بن إبراهیم، عن أبی عبد اللّه، عن أبیه، عن علیّ علیهم السلام : «أن_ّه کره أن یرکب الرجل مع الجنازة فی بدأته(2) إلاّ من عذر، وقال: یرکب إذا یرجع»(3).

بل قد یؤکّد الکراهة الخبر المرسل الذی رواه ابن أبی عمیر، عن أبی عبد اللّه علیه السلام ، قال: «رأی رسول اللّه صلی الله علیه و آله قوماً خلف جنازة رکباناً، فقال: ما استحیی هؤلاء أن یتبعوا صاحبهم رکباناً وقد أسلموه(4)علی هذه الحال».(5)

وبذلک یقیّد إطلاق الأخبار الدالّة علی استحباب مطلق التبعیّة والتشییع، لا إرادة خروجه من استحباب أصل التشییع مع الرکوب، مع أن_ّه لا یبعد أن یکون المراد من الکراهة فی هذه الموارد هو الأقلّ ثواباً لا سلب الثواب المطلق علیه؛ لأنّ الظاهر کون المشی مستحبٌّ فی مستحبّ.


1- وسائل الشیعة: الباب 6 من أبواب الدفن ، الحدیث 1 .
2- أی حال الذهاب حین یبدء بالمشی (الوافی) .
3- وسائل الشیعة: الباب 6 من أبواب الدفن ، الحدیث 2 و 3 .
4- أی خلوه وترکوه (الوافی).
5- وسائل الشیعة: الباب 6 من أبواب الدفن ، الحدیث 2 و 3 .

ص:170

وراء الجنازة أو إلی أحد جانبیها(1).

بل قد یظهر من خبر غیاث عدم الکراهة مع العُذر، کما لا کراهة فی الرکوب عند الرجوع، کما عن «التذکرة» و«نهایة الأحکام» الإجماع علی الکراهة فی الأوّل منهما کما یساعد ذلک مع الأصل أیضاً فی الموردین، کما لا یخفی.

(1) المبحث الثالث: أن یمشی المشیّع علی أحد جانبی الجنازة فهو أفضل من الأمام.

أقول: هذا ممّا لا إشکال فیه، لما فی «المعتبر» و«التذکرة» نسبته إلی فقهائنا، بل فی «جامع المقاصد»: «أن_ّه یستحبّ أن یکون مشی المشیّع خلف الجنازة أو إلی أحد جانبیها لا أمامها بإجماع علمائنا»، وظاهره أن_ّه الأفضل من الأمام، ولکن صرّح فی «المعتبر» أن_ّه مباحٌ، مع أنّ الأخبار تکفینا فی الدلالة علی الموضع المستحبّ، فقد ورد فی بعضها التصریح بلفظ التشییع والإتّباع، ولا یخفی أن_ّهما یفیدان ویصدقان علی الماشی خلف الجنازة دون الأمام والجانبین، کما أنّ المشی علی أحد الجانبین بعد الخلف أفضل لما فی الأخبار ما یدلّ علیه:

منها: خبر إسحاق بن عمّار، عن أبی عبد اللّه علیه السلام ، قال: «المشی خلف الجنازة أفضل من المشی بین یدیها»(1).

فإنّه یدلّ علی أنّ المشی بین یدیها فیه فضلٌ، وسوف نبحث عن ذلک عن قریب إن شاء اللّه .

ومنها: خبر جابر، عن أبی جعفر علیه السلام ، قال: «مشی النبیّ صلی الله علیه و آله خلف جنازةٍ فقیل: یا رسول اللّه ما لکَ تمشی خلفها؟ فقال: إنّ الملائکة رأیتهم یمشون أمامها ونحن نتبع لهم».(2)


1- وسائل الشیعة: الباب 4 من أبواب الدفن ، الحدیث 1 و 2 .
2- وسائل الشیعة: الباب 4 من أبواب الدفن ، الحدیث 1 و 2 .

ص:171

وهاتان الروایتان لا تدلاّن علی أفضلیّة المشی خلف الجنازة عن المشی علی أحد جانبیها، فلا ینافی ما یدلّ علی أفضلیّة المشی علی أحد الجانبین عن المشی فی الأمام أو ما هو مطلقٌ فی الفضیلة، مثل الخبر الذی رواه سدیر، عن أبی جعفر علیه السلام ، قال: «من أحبّ أن یمشی مشی الکرام الکاتبین فلیمش جنبیّ السریر»(1).

فی أحکام الأموات / حکم المشی أمام الجنازة

کما لا ینافی مع ما یدلّ علی أنّ المشی باتّباع الجنائز دون اتّباع الجنائز لهم، وهو مثل الخبر الذی رواه السکونی عن جعفر، عن أبیه، عن آبائه، عن علیّ علیهم السلام ، قال: «سمعتُ النبیّ صلی الله علیه و آله یقول: اتبعوا الجنازة ولا تتبعکم، خالفوا أهل الکتاب»(2).

ومثله ما فی «المقنع» من المرسل، قال: «روی اتّبعوا الجنازة ولا تتبعکم فإنّه من عمل المجوس»(3).

وهذان الخبران وإن دلاّ علی النهی عن اتّباع الجنائز، والأمر بعکسه الموهم بعدم مطلوبیّة غیر خلف الجنازة، إلاّ أن_ّه مع ملاحظة ذکر التعلیل، والنهی عن اتّباع الجنازة، یفهمنا کون المقصود نفی التقدّم عن الجنازة، فلا ینافی ثبوت الفضیلة أیضاً لمن یمشی علی أحد الجانبین، فعلیه یُحمل ما قاله الشیخ فی «الخلاف» والصدوق رحمهماالله من الاقتصار علی أفضلیّة المشی خلفها من دون تعرّض لغیره، مستدلاًّ علیه بإجماع الفرقة وإخبارهم، فلا یکون کلامهما مخالفاً لفضیلة المشی إلی الجانبین، مع أنّ احتمال کون الأفضلیّة مختصٌّ للخلف دون


1- وسائل الشیعة: الباب 6 من أبواب الدفن ، الحدیث 3.
2- وسائل الشیعة: الباب 4 من أبواب الدفن ، الحدیث 4 .
3- وسائل الشیعة: الباب 5 من أبواب الدفن ، الحدیث 6 .

ص:172

غیره من الإمام وغیره، أمرٌ جیّد، ولا ینافی فضیلة المشی فی أحد الجانبین أیضاً، وأفضلیّته دون الأمام مثلاً، کما یستفاد رجحانیّته من فعل النبیّ صلی الله علیه و آله والإمام علیه السلام ، خصوصاً مع العلّة المنقولة عن النبیّ صلی الله علیه و آله فی حدیث جابر.

نعم، قد یستفاد من الخبر المرویّ فی «فقه الرضا» من قوله علیه السلام : «وأفضل المشی فی اتّباع الجنازة ما بین جنبی الجنازة وهو مشی الکرام الکاتبین»(1)، عکس ما عرفت.

ولکن الظاهر کون المقصود بیان وجود الفضیلة فیه، کما فی خبر سُدیر، حیث وردت فیه تلک الجملة، وکما قد یؤیّد ذلک بیان ما قبله: «وإنّما یؤجر من تبعها لا من تبعته» حیث یفید أنّ الأجر ثابتٌ لمن یسیر خلف الجنازة، ولا أقلّ أنّ فیه الأفضلیّة، کما لا یخفی علی المتأمّل.

هذا کلّه تمام الکلام بالنسبة إلی الخلف وأحد الجانبین.

حکم المشی أمام الجنازة

البحث عن أن_ّه هل یعدّ المشی أمام الجنازة عملاً مکروهاً کما صرّح به بعضهم، وحکی عن ظاهر آخرین، بل فی «الذکری» نسبته إلی کثیر من الأصحاب، بل قد یظهر من «الروض» دعوی الإجماع علیه، حیث قال: «ویمکن تقدیمها عندنا»، وکذلک قال فی «المنتهی»: «ویُکره المشی أمام الجنائز للماشی والراکب معاً، بل المستحبّ أن یمشی خلفها أو من أحد جانبیها، وهو مذهب علمائنا أجمع»، ثمّ نقل خلاف العامّة فی ذلک .

بل قد یؤیّد الکراهة التعلیل الوارد فی الخبرین المتقدّمین بأن_ّه من عمل


1- المستدرک: الباب 4 فی أبواب الدفن، الحدیث 1 .

ص:173

المجوس وأهل الکتاب، خصوصاً مع الأمر بالمخالفة لهم فی أحدهما، کما قد یؤیّد ذلک ما ورد فی «فقه الرّضا» من النهی عن التقدّم بقوله: «إذا حضرت جنازة فامش خلفها ولا تمش أمامها، الحدیث». وقد سبق القول إنّ ضعفها منجبرٌ بما عرفت من نقل الإجماع.

وهذا أحد الأقوال فی المسألة.

القول الثانی: عدم الکراهة مطلقاً، وهو المنقول عن صریح ما ورد فی «المعتبر» و«الذکری»، وعن ظاهر «النهایة» و«المبسوط»، ولازمه ثبوت الفضیلة فیه أیضاً، إلاّ أنّ الآخَرَین کانا أفضل منه، ولعلّهم أفتوا بذلک استناداً إلی الخبر الذی رواه محمّد بن مسلم، عن أحدهما علیهماالسلام ، قال: «سألته عن المشی مع الجنازة ؟ فقال : بین یدیها وعن یمینها وعن شمالها وخلفها»(1).

والروایة صحیحة، ولکن دلالتها علی ذلک لا یخلو عن تأمّل؛ لأنّ السؤال عن مطلق المشی لا ما فیه الفضیلة، ولا إشکال فی صدق المشی علی الجنازة لمن تقدّم أیضاً.

نعم، یصحّ الاستدلال بخبرٍ آخر رواه محمّدبن مسلم عن أبیجعفر علیه السلام ، قال: «امش بین یدی الجنازة وخلفها».(2)

فأمر الإمام علیه السلام بالمشی بین یدی الجنازة الشامل للمتقدّم علیها یدلّ علی أنّ فی التقدّم أیضاً فضلٌ.

بل وکذا یستفاد ذلک من الخبر الذیرواه إسحاق بن عمّار،عن أبیعبداللّه علیه السلام ، قال: «المشی خلف الجنازة أفضل من المشی بین یدیها»(3).


1- وسائل الشیعة: الباب 5 من أبواب الدفن ، الحدیث 1 و 2 .
2- وسائل الشیعة: الباب 5 من أبواب الدفن ، الحدیث 1 و 2 .
3- وسائل الشیعة: الباب 4 من أبواب الدفن ، الحدیث 1 .

ص:174

فإنّ أفضلیّة الخلف عن التقدّم یدلّ علی أنّ فیه الفضل، خصوصاً مع ملاحظة ما نقله الشیخ عن الکلینی رحمه الله هذا الخبر مع زیادة قوله : «ولا بأس بأن یمشی بین یدیها»(1)، حیث یؤیّد عدم وجود الکراهة فیه.

بل قد یستدلّ لذلک بفعل الإمام علیه السلام المنقول فی خبر الحسین بن عثمان قال: «لمّا مات إسماعیل بن أبی عبد اللّه علیه السلام ، خرج أبو عبد اللّه علیه السلام فتقدّم السریر بلا حذاء ولا رداء»(2). وهذا الخبر صریح فی تقدّم الإمام علیه السلام علی جنازة ابنه، والإمام لا یفعل فعلاً مکروهاً.

وإن اُجیب عنه: بأن_ّه قضیّة فی واقعة، لا یمکن الاستدلال بها مع إمکان توجیه فعله علیه السلام بما یأتی فی القول الثالث .

القول الثالث: هو التفصیل فی ذلک بین جنازة المؤمن وغیرها، وقد وردت أخبار عدیدة تفید هذا التفصیل، لا بأس بذکرها:

منها: خبر السکونی، عن أبی عبد اللّه علیه السلام ، قال: «سأل کیف أصنع إذا خرجتُ مع الجنازة، أمشی أمامها أو خلفها، أو عن یمینها، أو عن شمالها؟

فقال : إن کان مخالفاً فلا تمش أمامه، فإنّ ملائکة العذاب یستقبلونه بألوان العذاب»(3).

ومنها: خبر یونس بن ظبیان، عن أبی عبد اللّه علیه السلام ، قال: «امش أمام جنازة المسلم العارف، ولا تمش أمام جنازة الجاحد، فإنّ أمام جنازة المسلم ملائکة


1- وسائل الشیعة: الباب 4 من أبواب الدفن ، الحدیث 3 .
2- وسائل الشیعة: الباب 27 من أبواب الحتضار، الحدیث 7 .
3- وسائل الشیعة: الباب 5 من أبواب الدفن ، الحدیث 3 .

ص:175

یُسرعون به إلی الجنّة، وأنّ أمام جنازة الکافر ملائکة یُسرعون به إلی النار»(1).

ومنها: خبر أبی بصیر، قال: «سألتُ أبا عبد اللّه علیه السلام کیف أصنع إذا خرجتُ مع الجنازة، أمشی أمامها، أو خلفها، أو عن یمینها، أو عن شمالها؟ فقال : إن کان مخالفاً فلا تمش أمامه ، فإنّ ملائکة العذاب یستقبلونه بأنواع العذاب».(2)

ومنها: مرسل الصدوق ، قال: «ورُوی إذا کان المیّت مؤمناً فلا بأس أن یمشی قدّام جنازته، فإنّ الرحمة تستقبله، والکافر لا تتقدّم أمام جنازته فإنّ اللّعنة تستقبله».(3)

ومنها: خبر «قرب الإسناد»، عن أبی البَختری، عن جعفر، عن أبیه، عن علیّ علیهم السلام ، قال: «قال رسول اللّه صلی الله علیه و آله : إذا لقیتَ جنازة مشرکٍ فلا تستقبلها، خُذ عن یمینها وعن شمالها».(4)

فإنّ هذه الأخبار تدلّ علی التفصیل المذکور، وهو مختار صاحب «کشف اللّثام» والعُمّانی، من المنع فی تقدیم جنازة المعادی لذوی القُربی، حیث یحتمل استناده إلی هذه الأخبار، وإن لم یرد فیها ذکرٌ لذوی القربی بالخصوص، فیصیر هذا قولاً رابعاً فی المسألة.

القول الخامس: لابن الجُنید من التفصیل بین صاحب الجنازة فیقدّم، وبین غیره فلا، ولعلّه اعتمد فی هذا الحکم علی خبر حسین بن عثمان من تقدیم الإمام علی سریر ابنه.

هذه هی الأقوال فی هذه المسألة.

أقول: الأقوی عندنا بملاحظة الجمع بین هذه الأدلّة هو جواز التقدّم ولکن مع الکراهة، بمعنی أقلّ ثواباً لجنازة المؤمن، وأشدّها فی جنازة غیره، وهو لا ینافی


1- وسائل الشیعة: الباب 5 من أبواب الدفن ، الحدیث 4 و 5 و 7 و 8 .
2- وسائل الشیعة: الباب 5 من أبواب الدفن ، الحدیث 4 و 5 و 7 و 8 .
3- وسائل الشیعة: الباب 5 من أبواب الدفن ، الحدیث 4 و 5 و 7 و 8 .
4- وسائل الشیعة: الباب 5 من أبواب الدفن ، الحدیث 4 و 5 و 7 و 8 .

ص:176

مع عمل الإمام علیه السلام لأنّ ابنه کان من المؤمنین، وارتکاب الکراهة بهذا المعنی عنه علیه السلام لیس ممّا یُنکر، مضافاً إلی ما عرفت من کونه قضیّة فی واقعة.

فیظهر ممّا ذکرنا أن_ّه لا إشکال فی رجحان المشی علی أحد جانبی الجنازة أو خلفها عن أمامها، حتّی صار ذلک علامةً للشیعة، وکانت العامّة یعرفوننا بذلک، حتّی نسبوا ذلک إلی أهل البیت علیهم السلام ، کما تری ذلک عن بعض شُرّاح کتاب «صحیح مسلم» حیث قال: «کون المشی وراء الجنازة أفضل من أمامها قولُ علیّ بن أبی طالب علیه السلام ، ومذهب الأوزاعی وأبی حنیفة. وقال جمهور الصحابة والتابعین ومالک والشافعی وجماهیر العامّة: المشی قدّامها أفضل، وقال الثوری وطائفة: هما سواء»، انتهی(1).

هذا علی ما نقله المجلسی رحمه الله فی «البحار».

فی أحکام الأموات / سنن التشییع

وبالجملة: ثبت ممّا ذکرنا أن_ّه فی المرتبة اللاّحقة بعد الجانبین لکون المشی أمام الجنازة جائزاً، بل فیه الثواب، لکن ثوابه أقلّ من الآخرین، ومکروهاً بأشدّ الکراهة إذا کانت الجنازة للمشرک والجاحد، وأمّا التفصیل المذکور الذی تبنّاه ابن الجُنید وغیره فلا اعتبار به عندنا، واللّه العالم.

المستحبّ الرابع: یستحبّ للمشیّع التفکّر فی مآله، والاتّعاظ بالموت، والتخشّع، وجعل نفسه مکان المیّت فی التابوت کأن_ّه هو الذی تحمله الأیادی إلی القبر، فیستغیث ویسأل ربّه الرجوع إلی الدُّنیا لکی یعمل صالحاً ولا یقترب من المعاصی، ولکن هیهات هیهات!!، وقد وردت الإشارة إلی هذا فی الخبر الذی رواه عجلان أبی صالح، قال: «قال لی أبو عبد اللّه علیه السلام : یا أبا صالح إذا أنتَ حَملت جنازةً فکن کأن_ّک أنت المحمول، وکأن_ّک سألتَ ربّک الرجوع إلی الدُّنیا


1- الجواهر: ج4 / 268 .

ص:177

ففعل، فانظر ماذا تستأنف. قال: ثمّ قال: عجبٌ لقومٍ حبس أوّلهم عن آخرهم ثمّ نُودی فیهم الرحیل وهم یلعبون»(1).

بل یُستحبّ أن یتجنّب عن الضحک واللّعب واللّهو لأنّها مکروهة خلف الجنازة، لما روی عن علیّ علیه السلام : «أن_ّه شیّع جنازة فسمع رجلاً یضحک، فقال: کأنّ الموت فیها لغیرنا کُتِب، الحدیث»(2).

بل ورد فی «نهج البلاغة»: «قال أمیر المؤمنین علیه السلام وقد تبع جنازة فسمع رجلاً یضحک ، فقال : کأنّ الموت فیها علی غیرنا کُتب ، وکأنّ الحقّ فیها علی غیرنا وَجَب».(3)

ثمّ قال السیّدالرضیّ قدس سره : «ومن الناس من ینسب هذا الکلام إلی رسول اللّه صلی الله علیه و آله ».

وفی «الحدائق»: «ورواه الکراجکی فی «کنز الفوائد» عن النبیّ صلی الله علیه و آله ».

أقول: ونِعْمَ ما قال الشاعر:

وإذا حَمَلتَ إلی القبور جنازةً فاعلم بأن_ّک بعدها محمولُ

بل المنقول عن المصنّف رحمه الله فی «المعتبر» نقلاً عن علیّبن بابویه رحمه الله فیرسالته أن_ّه قال: «إیّاک أن تقول أرفقوا به، أو ترحّموا علیه، أو تضرب یدک علی فخذک فیحبط أجرک».

ولعلّه أخذه ممّا جاء فی «فقه الرّضا» بعینه، إلاّ أنّ فیه زیادة قوله: «فإنّه یحبط أجرک عند المصیبة».

أمّا التی ذکرها المحقّق رحمه الله ، فلعلّه مستندٌ إلی الروایة التی رواها السکونی، عن الصادق علیه السلام ، عن آبائه، عن أبی عبد اللّه علیهم السلام ، قال: «قال رسول اللّه صلی الله علیه و آله : ثلاثة ما


1- وسائل الشیعة: الباب 59 من أبواب الدفن ، الحدیث 1 .
2- المستدرک: ج1 الباب 53 من أبواب الدفن، الحدیث 2 و 3.
3- المستدرک: ج1 الباب 53 من أبواب الدفن، الحدیث 2 و 3.

ص:178

أدری أیّهم أعظم جُرماً: الذی یمشی مع الجنازة بغیر رداء، أو الذی یقول قفوا؛ أو الذی یقول: استغفروا له غَفَر اللّه لکم»(1).

وعلی نقل الصدوق فی «الخصال»: ارفقوا مکان قفوا. وفی «التهذیب»: ولعلّ قفوا تصحیف (ارفقوا) .

ولعلّ النهی عن الوقوف لأجل ما هو متعارف عند بعض الناس من إیقافهم حرکة الجنازة للنعی والبکاء علی المیّت .

أو مستندٌ إلی الخبر الذی رواه عبد اللّه بن الفضل الهاشمی، عن أبی عبداللّه علیه السلام ، قال: «ثلاثة لا أدری أیّهم أعظم جُرماً؛ الذی یمشی خلف جنازةٍ فی مصیبة غیره بغیر رداء، والذی یَضربُ علی فخذه عند المصیبة، والذی یقول ارفقوا وترحّموا علیه یرحمکم اللّه»(2).

ولعلّ الوجه فی هذه الاُمور هو تحقیر المیّت وتوهینه بذکر هذه الجملات، أو إظهار الجَزَع والفزع فی الخروج بغیر رداء فی مصیبة الغیر، کما اُشیر إلیه فی الروایة، لا فی مثل الولد کما قد خَرَج الصادق علیه السلام فی مصیبة ابنه إسماعیل بلا حذاء ولا رداء، بل قد ورد فی بعض الأخبار بأنّ صاحب المصیبة یفعل هکذا حتّی یُعرف، کما ورد التصریح بذلک فی الخبر الذی رواه الشیخ الصدوق بإسناده عن أبی بصیر، عن الصادق علیه السلام ، قال: «ینبغی لصاحب المصیبة أن لا یلبس رداء، وأن یکون فی قمیص حتّی یُعرف»(3).

بخلاف ما کان فی مصیبة الغیر، حیث ورد فیه الذّم، بل اللَّعن کما فی الخبر


1- وسائل الشیعة: الباب 47 من أبواب الاحتضار، الحدیث 2 .
2- وسائل الشیعة: الباب 47 من أبواب الاحتضار ، الحدیث 3 .
3- وسائل الشیعة: الباب 27 من أبواب الاحتضار، الحدیث 1.

ص:179

الذی رواه أبی بصیر، عنه علیه السلام ، قال: «وقال: ملعونٌ ملعونٌ من وضع ردائه فی مصیبة غیره».(1)

بل قد یؤیّد ما سبق الخبر المرسل الذی رواه ابن أبی عمیر، عن بعض أصحابه، عن أبی عبد اللّه علیه السلام ، قال: «ینبغی لصاحب المصیبة ألا یضع ردائه حتّی یَعلم الناس أن_ّه صاحب المصیبة».(2)

فی أحکام الأموات / مکروهات التشییع

والمراد بوضع الرداء عدم نزعه إن کان ملبوساً، وعدم لبسه إن کان منزوعاً، هذا کما فی «الجواهر»، ولعلّه استفاد ذلک من تقابل الرداء مع المصیبة، التی تقتضی خلاف حالته السابقة لیُعرف بها، فلا بأس به.

أقول: ومن ذلک یمکن استفادة جواز تغییر الحال فی اللّباس، فیما لم یکن وضع الرداء متعارفاً فی تلک البلاد، فلا یبعد أن یشمل لبس مثل لباس السواد لصاحب المصیبة کما هو متعارفٌ فی زماننا هذا فی غیر أیّام مصائب الأئمّة علیهم السلام .

بل لا یبعد استحباب وضع الرداء فی جنازة الغیر إذا کان المیّت من الأعاظم من الأولیاء والصلحاء والفقهاء، تمسّکاً بالروایة التی رواها عبداللّه بن سنان، عن أبی عبد اللّه علیه السلام ، فی حدیثٍ: «أنّ رسول اللّه صلی الله علیه و آله أمر بغسل سعد بن معاذ حین مات، ثمّ تبعه بلا حذاءٍ ولا رداء، فسُئِل عن ذلک، فقال: إنّ الملائکة کانت بلا رداءٍ ولا حذاءٍ فتأسّیتُ بها»(3).

ومثله روایة الصدوق فی «العلل».(4)

ولا یبعد جواز تحصیل التمییز بمثل إرسال طرف العمامة المُسمّی تحت الحنک، أو أخذ مئزرٍ من فوقها، کما عن ابن الجُنید تجویزه فی مصیبة الأب


1- وسائل الشیعة: الباب 27 من أبواب الاحتضار، الحدیث 2 و 8 .
2- وسائل الشیعة: الباب 27 من أبواب الاحتضار، الحدیث 2 و 8 .
3- وسائل الشیعة: الباب 27 من أبواب الاحتضار، الحدیث 5 و 4 .
4- وسائل الشیعة: الباب 27 من أبواب الاحتضار، الحدیث 5 و 4 .

ص:180

والأخ، وتحلیل الأزرار فی جنازة الأب والجَدّ، کما عن أبی الصلاح، والظاهر أن_ّهما استفادا ذلک من التعلیل الوارد فی الأخبار السابقة مثل قوله علیه السلام : «لکی یُعرف» أو مثل قوله: «أن یکون فی قمیص»، الواقع فی حدیث أبی بصیر.

نعم، لا خصوصیّة فیما ذکراه من الأب والجدّ والأخ لإطلاق النصوص، کما لا یبعد استفادة الجواز منه، أو استحباب المشی حافیاً لصاحب المصیبة، لکونه من العلامات، کما لا یخفی .

هذا تمام الکلام فی جانبٍ مهمّ من مستحبّات التشییع، ویصل الدور إلی المکروهات.

مکروهات تشییع المیّت

ذکر صاحب «الجواهر» جملةً من المکروهات:

1 _ جلوس المشیّع قبل وضع المیّت فی لحده، کما صرّح به بعضهم، تمسّکاً بصحیح عبد اللّه بن سنان، عن أبی عبداللّه علیه السلام ، قال: «ینبغی لمن شیّع جنازة أن لا یجلس حتّی یُوضع فی لحده، فإذا وُضع فی لحده فلا بأس بالجلوس»(1).

وعلیه جمعٌ من الأصحاب، منهم المحقّق والعلاّمة وابن أبی عقیل وابن حمزة وصاحب «الجواهر» قدس سرهم .

خلافاً لعدّة اُخری مثل الشیخ رحمه الله فی الخلاف وابن الجنید، بل یظهر من کلام صاحب «الحدائق» وصاحب «مصباح الفقیه» عدم کراهته، بل صرّح الأخیر بأنّ ترک الجلوس مستحبّ لا فعله مکروه.

ولعلّ القائلون بالکراهة تمسّکوا بمفهوم ذیل الصحیحة، حیث یدلّ علی البأس قبل وضع المیّت فی اللّحد.


1- وسائل الشیعة: الباب 45 من أبواب الدفن، الحدیث 1 .

ص:181

ولکن یمکن أن یُجاب عنه: _ کما عن «مصباح الفقیه»، وجوابه أحسن ما اُجیب به فی المقام _ وهو أنّ هذا المفهوم لا وقع له مع وجود صدره الدالّ علی استحباب ترک الجلوس، المستفاد من کلمة ینبغی، فالصدر أولی فی القرینیّة من الذیل لانصراف المفهوم عمّا لو خُلّی وطبعه یدلّ علیه لقوّة دلالة المنطوق علی المفهوم، مضافاً إلی الأصل الموافق لعدم الکراهة، کما یساعد الاستحباب الاستمرار المستفاد من لفظ (کان) فی روایة عبادة بن الصامت، حیث قال: «کان رسول اللّه صلی الله علیه و آله إذا کان فی جنازةٍ لم یجلس حتی یوضع فی اللّحد.

فقال یهودیٌّ: إنّا لنفعل ذلک، فجَلَس وقال: خالفوهم»(1).

ولا یخفی أنّ سیاق الحدیث یکون أوفق مع الاستحباب .

وعلیه، فما فی «الجواهر» تبعاً لغیره: (بأنّ (کان) تدلّ علی الدوام، والجلوس لمجرّد إظهار المخالفة، فدلالته علی المطلوب أولی من العکس) أی علی الکراهة.

غیر سدید؛ لإمکان إرجاعه إلی ینبغی، الدالّ علی الاستحباب.

وأیضاً مثله فی الضعف ما ورد فی «الذکری» ردّاً علی الشیخ رحمه الله القائل بعدم الکراهة تمسّکاً بروایة عُبادة، الدالّة علی جلوس رسول اللّه صلی الله علیه و آله ، قال: «بأنّ الفعل لا عموم له، فجاز وقوع الجلوس تلک المرّة والقول أقوی من الفعل عند التعارض».

وجه الضعف: هو ما قاله شیخنا البهائی ما خلاصته: «بأنّ لابن الجنید أن یقول: بأنّ احتجاجی لیس بمجرّد الفعل، بل بقوله صلی الله علیه و آله : «خالفوهم»»، انتهی کما فی «الحدائق»(2)، حیث أنّ کلمة «خالفوهم» تفید حسن الجلوس للمخالفة، وأن_ّه أفضل من ترکه المحبوب بدون ذلک .


1- سنن البیهقی: ج4 / 28 .
2- الحدائق: ج4 / 78 .

ص:182

وقد استند صاحبی «الحدائق» و«مصباح الفقیه» للاستحباب، بروایة داود ابن النعمان، قال: «رأیتُ أبا الحسن علیه السلام یقول: ما شاء اللّه لا ما شاء الناس، فلمّا انتهی إلی القبر تنحّی فجلس، فلمّا اُدخل المیّت لحده قام فحثا علیه التراب ثلاث مرّات بیده»(1).

وجه التأیید: عدم انتظار الإمام حتّی یوضع المیّت فی لحده، بل بمجرّد أن انتهی إلی القبر تنحّی جانباً وجلس، وما فعله علیه السلام عبارة عن ترکه المستحبّ لا فعله مکروهاً، فما ذکرناه من الاستحباب لعلّه لم یکن مراد الشیخ رحمه الله لأنّ ابن الجنید نفی الکراهة، ولم یقول بالاستحباب.

اللّهُمَّ إلاّ أن یُدّعی وجود التلازم هنا، وإن لم یکن کذلک فی غیر المقام، واللّه العالم.

2 _ ومن جملة المکروهات اتّباع النساء الجنائز، تمسّکاً بعدّة روایات:

منها: روایة المناهی الذی نقله الشیخ الصدوق، وهو خبر حسین بن زید، عن الصادق، عن آبائه علیهم السلام ، عن النبیّ صلی الله علیه و آله ، قال فی حدیثٍ: «إنّه نهی عن اتّباع النساء الجنائز»(2).

وروی فی «الأمالی» مثله.

ومنها: روایة الشیخ، عن عُبّاد بن صُهیب، عن الصادق، عن أبیه علیهماالسلام ، عن ابن الحنفیّة، عن علیٍّ علیه السلام : «أنّ رسول اللّه صلی الله علیه و آله خَرج فرأی نسوة قعوداً، فقال: ما أقعدکنّ هاهنا؟ قلن: لجنازةٍ، قال: أفتحملین فیمن یَحمل؟ قُلن: لا، قال: أفتغسلن مع من یُغسّل؟ قلن: لا، قال: أفتُدلین فیمن یُدلی؟ قلن: لا، قال: فارجعن مأزورات غیر مأجورات»(3).


1- وسائل الشیعة: الباب 29 من أبواب الدفن، الحدیث 1 .
2- وسائل الشیعة: الباب 69 من أبواب الدفن، الحدیث 3 و 5 .
3- وسائل الشیعة: الباب 69 من أبواب الدفن، الحدیث 3 و 5 .

ص:183

والمراد من الإدلاء هنا الإلقاء والإدخال ، أی إدخال وإنزال المیّت فی حفرته.

ونقل الطریحی رحمه الله فی «مجمع البحرین» الحدیث فی مادّة وزر، وقال: فی الحدیث: «ارجعن مأجورات غیر مأزورات».

وعلی هذا النقل یصبح المعنی أنّهنّ فی الرجوع مأجورات غیر مأزورات.

ولکن الموجود فی «الذکری» و«الحدائق» و«الوسائل» و«المستند» تقدیم المأزورات، فیکون المعنی: أن_ّهنّ آثماتٍ فی خروجهنّ إلی الجنازة لا مأجورات.

وکیف کان، فالروایة تدلّ علی أن_ّه یُکره خروجهنّ إلی تشییع الجنازة، بحمل المأزورات علی شأنیّة تحقّق الإثم لا علی الفعلیّة حتّی توجب الحرمة.

ومنها: روایة «دعائم الإسلام»: «أنّ رسول اللّه صلی الله علیه و آله مشی مع جنازة فنظر إلی امرأة تتبعها، فوقف وقال: ردّوا المرأة، فرُدّت، فوقف حتّی قیل قد توارت بجدر المدینة یا رسول اللّه صلی الله علیه و آله ، فمضی»(1).

ومنها: المحکیّ فی «البحار» عن «المجالس» عن الصادق، عن آبائه علیهم السلام ، قال: «نهی رسول اللّه صلی الله علیه و آله عن الرنّة عند المصیبة ونهی عن النیاحة والاستماع إلیها، ونهی عن اتّباع الجنائز»(2).

ولعلّه هو الذی قلنا فی صدر المسألة ممّا رواه فی «الأمالی»، فیکون الخبر المحکیّ فی «البحار» مع المنقول فی أوّل البحث واحداً، واللّه العالم.

هذا، مضافاً إلی ما فی «الذکری» بعد ذکر حدیث النبیّ: «مأزورات.. إلی آخره»، قال: «ولقول اُمّ عطیّة نُهینا عن اتّباع الجنازة، ولأن_ّه تبرّج» انتهی(3).


1- المستدرک: ج1 الباب 57 من أبواب أحکام الدفن، الحدیث 3 .
2- مصباح الهدی للآملی: ج6 / 283 .
3- الحدائق: ج4 / 84 .

ص:184

ثمّ قال صاحب «الحدائق»: «وأمّا حدیث اُمّ عطیّة فالظاهر أن_ّه من روایات العامّة، کما یشعر به کلام العلاّمة فی «المنتهی»، فإنّی لم أقف بعد التتبّع علیه فی شیء من اُصولنا».

وفی «المنتهی»: «ویُکره للنساء اتّباع الجنائز، ذکره الجمهور لأن_ّهنّ اُمِرْنَ بترک التبرّج والحبس فی البیوت، وردّت اُمّ عطیّة فقالت: نُهینا عن اتّباع الجنائز ولم یعزم علینا»(1). انتهی محلّ الحاجة من «الحدائق».

أقول: بل یحتمل استفادة کراهة الخروج بالخصوص للمرأة الشابّة عن روایة أبی بصیر، عن الصادق علیه السلام ، قال: «لیس ینبغی للمرأة الشابّة تخرج إلی الجنازة (و) تصلّی علیها؛ إلاّ أن تکون امرأة دخلت فی السنّ»(2).

بناءً علی ما فی نسخة «الحدائق» و«مصباح الهدی» من وجود الواو بین الجنازة وتصلّی، حیث یحتمل کون المراد من قوله: «لیس ینبغی»، هو النهی عن أمرین: اتّباع الجنازة بالخروج، والصلاة علیها ولو لخصوص المرأة الشابّة.

کما أنّ الاستثناء أیضاً یفید الأمرین لمَن دخل فی السنّ، وهما: عدم کراهة الاتّباع علیها، ولا الصلاة.

هذا بخلاف ما فی نسخة«الوسائل» و«الجواهر» من إسقاط الواو من البین، فإنّه یخرج عن الاستدلال للمقصود، ویختصّ الحکم بالصلاة فقط، کما لا یخفی.

کما یحتمل مع فرض وجود الواو أیضاً أن تکون الکراهة للمجموع بکراهة واحدة، فیخرج حینئذٍ عن الاستدلال لإثبات الکراهة فی خصوص الاتّباع بلا صلاة، کما هو واضح لمن تأمّل فیما أفدناه.


1- کما فی المغنی: ج2 / 477 .
2- وسائل الشیعة: الباب 39 من أبواب صلاة الجنازة، الحدیث 3 .

ص:185

ومنها: _ أی وممّا یؤیّد الکراهة فی المقام _ خبر غیاث، عن الصادق علیه السلام ، عن أبیه علیه السلام ، قال: «لا صلاة علی جنازة معها امرأة»(1).

وحَمَله الشیخ رحمه الله علی نفی الأفضلیّة دون الإجزاء.

ثمّ قال صاحب «الجواهر»: «کما أن_ّه یحتمل تقیید الکراهة بما إذا لم یکن المیّت إمرأة، لما روی أنّ زینب بنت النبیّ صلی الله علیه و آله لمّا توفّت خَرَجت فاطمة علیهاالسلام فی نسائها وصلّت علی اُختها. أو یُقال: إنّ أمرالصلاة غیر التشییع، فتأمّل جیّداً»، انتهی.

کما أنّ العلاّمة المجلسی نسب فی «البحار» الکراهة إلی الشهرة، ولکنّه قال: «الأخبار الدالّة علیها لا تخلو عن ضعف، ووردت أخبار کثیرة بجواز صلاتهنّ علی الجنازة فإنّ فاطمة علیهاالسلام صَلّت علی اُختها».

أقول: ولا یخفی ما فی کلامه، إذ ضعف الأخبار منجبرٌ بعمل الأصحاب وشهرتهم، وقد ثبت کراهة التشییع علیهنّ، ولا ینافی ذلک مع عدم الکراهة إذا کان خروجهنّ لأجل خصوص الصلاة دون التشییع کما ورد فی الخبرین المنقولین عن یزید بن خلیفة فی حدیثٍ، عن أبی عبد اللّه علیه السلام : «أن_ّهُ سئل: أتُصلّی النساء علی الجنائز؟ فقال: إنّ زینب بنت رسول اللّه توفّیت، وأنّ فاطمة علیهاالسلام خرجت فی نسائها فصلّت علی اُختها»(2). ومثله روایته الاُخری(3).

تفصیلها؛ عن یزید بن خلیفة، قال: «سأل عیسی بن عبد اللّه أبا عبد اللّه علیه السلام وأنا حاضر، فقال: تخرج النساء فی الجنازة؟ فقال: إنّ الفاسق آوی عمّه المغیرة بن أبی العاص، ثمّ ذکر حدیث وفاة زوجة عثمان بطوله، إلی أن قال: وخرجت فاطمة علیهاالسلام ونساء المؤمنین والمهاجرین فصلّین علی الجنازة».

حیث یظهر منها أنّ الخروج أعمّ من کونه للتشییع، لإمکان کونه لخصوص


1- وسائل الشیعة: الباب 49 من أبواب صلاة الجنازة، الحدیث 2.
2- وسائل الشیعة: الباب 39 من أبواب صلاة الجنازة، الحدیث 1 و 2.
3- وسائل الشیعة: الباب 39 من أبواب صلاة الجنازة، الحدیث 1 و 2.

ص:186

الصلاة، ولذلک قال صاحب «الحدائق»: «ویفهم من خبری یزید بن خلیفة أنّ خروجها علیهاالسلام مع النساء کان مرّتین؛ مرّة فی موت اُختها زینب زوجة أبی العاص الأمویّ، ومرّة اُخری فی زوجة عثمان».

حیث یدلّ علی جواز الخروج الذی قد ألجأ صاحب «الحدائق» إلی القول بالجواز بدون الکراهة حتّی فی التشییع، وقد أسند الکراهة إلی العامّة وتبعیّة الأصحاب منهم لأجل روایة الشیخ عن عُبّاد بن صهیب الذی کان عُدّ من فرقة البُتریّة من فِرق العامّة .

هذا، مع أنّ الأمر لیس کذلک، لوضوح أنّ جواز خروج النساء أعمّ من التشییع، لإمکان کون الخروج لأجل الصلاة علی الجنازة لا التشییع، فلا منافاة بین الحکم بکراهة الخروج للتشییع، وعدم الکراهة للصلاة، إذا کانت الجنازة جنازة امرأة، فلا فرق فی کراهة التشییع بین کون الجنازة رجلاً أو امرأة، أجنبیّاً أو قریباً، کما لا فرق فی عدم الکراهة فی الصلاة بین کون المیّت أجنبیّة أو غیرها. وأمّا إذا کان رجلاً لم یرد فیه منع من الروایات ، فمقتضی الأصل هو الجواز ، واللّه العالم.

نعم، کراهة الصلاة علی الجنازة لخصوص الشابّة موقوفة علی أن یکون المراد من الخروج المذکور فی خبر أبی بصیر لخصوص الصلاة، أی بلا ذکر الواو أو معه، لکن کان الخروج مقدّمة للصلاة وتوضیحاً، وألا یحتمل التفکیک فیه أیضاً بین الشابّة وغیرها کما بیّناه.

3 _ ومن جملة المکروهات: الإسراع فی نقل الجنازة علی وجهٍ یُنافی الرفق بالمیّت:

ألف _ لقول النبیّ صلی الله علیه و آله : «علیکم بالقصد فی جنائزکم»(1)، فقد روت العامّة أن_ّه صلی الله علیه و آله «مرَّ بجنازةٍ تمخض مخضاً».


1- سنن البیهقی: ج4 / 22 .

ص:187

ب _ ولقول ابن عبّاس فی جنازة میمونة زوج النبیّ صلی الله علیه و آله المنقول عن عطاء، قال: «حضرنا مع ابن عبّاس جنازة میمونة زوج النبیّ صلی الله علیه و آله بسرف، فقال ابن عبّاس: هذه میمونة إذا رفعتم نعشها فلا تزعزوه ولا تزلزلوه وارفقوه».(1)

ج _ بل قد روی من طرقنا کما عن «أمالی» ابن الشیخ، وفیه: «مرّوا بجنازةٍ تُمخض کما تُمخض الزق، فقال النبیّ صلی الله علیه و آله : علیکم بالسَکینة علیکم بالقصد فی جنائزکم»(2).

د _ مضافاً إلی دعوی الشیخ رحمه الله فی «الخلاف» قیام الإجماع علی الکراهة، حیث قال: «دلیلنا إجماع الفرقة وأخبارهم».

وقال المحقّق فی «المعتبر»: «ومراده _ أی مراد الشیخ _ کراهة ما زاد عن المعتاد»، انتهی .

نعم، قال الجعفی: «السعی بها أفضل».

وقال ابن الجنید: «یمشی بها خَبَبا»(3).

أقول: والخبران المذکوران موافقان للعامّة حیث حُکی عنهم ذلک.

هذا، ولا یتوهّم منافاة کراهة الإسراع، مع ما ورد فی أخبارٍ کثیرة مستفیضة من استحباب تعجیل الأموات إلی مضاجعهم؛ لأنّ المراد من التعجیل هو بلحاظ التجهیز وحمل الجنازة لا الإسراع فی المشی.

فی أحکام الأموات / استحباب تربیع الجنازة

نعم، جعل صاحب «الجواهر» و«الحدائق» شاهداً لما صدر عن الجُعفی وقرینة علی کلامه، ما رواه الصدوق، عن الصادق علیه السلام : «أنّ المیّت إذا کان من


1- سنن البیهقی: ج4 / 22 .
2- وسائل الشیعة: الباب 64 من أبواب صلاة الجنازة، الحدیث 1 .
3- الخبب: بفتحتین أی الخاء المنقطة والباء الموحّدة، نوع من العَدْو .

ص:188

وأن تُربّع الجنازة(1)

أهل الجنّة نادی عجّلوا بی، وإن کان من أهل النار نادی ردّونی»(1).

ولکن الإنصاف عدم ارتباطه بما نحن فیه، لوضوح أنّ الحکم بالتسریع وعدمه هنا کان للأحیاء بحسب حال التکلیف، والخبر دالّ علی حکایة حال المیّت بکونه من أهل الجنّة أو النار، فلا علاقة بین الموردین، واللّه العالم.

(1) ومن المسنونات: تربیع الجنازة، بکسر الجیم سریر المیّت، وقیل: المیّت بسریره کما فی «الذکری»، وبفتحها المیّت .

والتربیع مستحبٌّ بکلا معنییه، بلا خلافٍ بین الأصحاب، بل لعلّه عندنا مجمعٌ علیه کما ادّعاه بعضهم.

وعلیه، فالمعنی الأوّل هو حمل السریر بأربعة رجال إذ هو أدخل فی توقیر المیّت، وأسهل من الحمل بین العمودین بشخصین کما یحمل کذلک الأعراب کثیراً، بل قد یحمل شخصٌ واحد الجنازة بأن یضع وسط السریر علی رأسه.

هذا، ویحمل استفادة التربیع بهذا المعنی من الخبر الذی رواه جابر عن أبی جعفر علیه السلام ، قال: «السنّة أن یُحمل السریر من جوانبه الأربع ، وما کان بعد ذلک من حمل فهو تطوّع»(2).

حیث أن_ّه کما یحتمل أن یکون المراد بیان تعدّد الحامل بتعدّد الأربع فی الجوانب، کذلک یحتمل أن یکون المراد بیان استحباب التربیع بشخصٍ واحد.

کما لا یبعد استفادة الثانی من مرسل الصدوق، بقوله: «وقال أبو جعفر علیه السلام : من حَمَل أخاه المیّت بجوانب السریر الأربعة، محی اللّه عنه أربعین کبیرة من الکبائر، والسنّة أن یحمل السریر من جوانبه الأربعة، وما کان بعد ذلک تطوّع».(3)


1- من لا یحضره الفقیه: ج1 / 123 طبعة النجف .
2- وسائل الشیعة: الباب 7 من أبواب الدفن، الحدیث 2 و 6 .
3- وسائل الشیعة: الباب 7 من أبواب الدفن، الحدیث 2 و 6 .

ص:189

بقرینة صدره وإن کان یحتمل الأوّل، لکن یدلّ علیه أیضاً باعتبار کون الصدر والذیل مشتملین علی حکمین مستقلّین، وعلیه فاستحبابه ثابتٌ عندنا بالإجماع، بل وافقنا علیه من العامّة النخعی، والحسن البصری، والثوری، وأبا حنیفة، وأحمد علی ما حُکی عنهم، خلافاً للمنقول عن الشافعی، حیث جعل حمل الجنازة بین العمودین أولی من حملها من الجوانب الأربع، وضعفه واضح.

وأمّا المعنی الثانی هو حمل الرجل الواحد کلاًّ من جوانبه الأربع، وهو أیضاً مستحبٌّ بالإجماع، کما ادّعاه بعض، بل الأخبار فیه علی حَدّ الاستفاضة:

منها: الخبر المرویّ عن جابر، قال: «من حمل جنازة من أربع جوانبها غَفَر اللّه له أربعین کبیرة»(1).

ومثله عن ابن أبی عمیر.

ومنها: خبر عیسی بن راشد، عن رجلٍ من أصحابه، عن أبی عبد اللّه علیه السلام ، قال: «سمعته یقول: من أخذ بجوانب السریر الأربعة غفر اللّه له أربعین کبیرة».(2)

ومنها: خبر سلیمان بن خالد، عن رجلٍ، عن الصادق علیه السلام : «من أخذ بقائمة السریر غفر اللّه له خمساً وعشرین کبیرة، وإذا ربّع خرج من الذنوب».(3)

ومثله سلیمان بن صالح عن أبیه، عن أبی عبد اللّه علیه السلام .(4)

ومنها: خبر إسحاق بن عمّار، عن الصادق علیه السلام ، أن_ّه قال: «إذا حملت جوانب السریر سریر المیّت اُخرجت من الذنوب کما ولدتک اُمّک».(5)

أقول: بعدما ثبت استحباب التربیع بکلا معنییه، ینبغی القول باستحباب الابتداء بأیّ موضعٍ من الجوانب الأربع اتّفق، کما یقتضیه قول الباقر علیه السلام الوارد فی الخبر الذی رواه جابر _ بناءً علی أحد الاحتمالین _ بأن یحمل شخص واحد


1- وسائل الشیعة: الباب 7 من أبواب الدفن، الحدیث 1 و 3 و 4 و 8 و 7 .
2- وسائل الشیعة: الباب 7 من أبواب الدفن، الحدیث 1 و 3 و 4 و 8 و 7 .
3- وسائل الشیعة: الباب 7 من أبواب الدفن، الحدیث 1 و 3 و 4 و 8 و 7 .
4- وسائل الشیعة: الباب 7 من أبواب الدفن، الحدیث 1 و 3 و 4 و 8 و 7 .
5- وسائل الشیعة: الباب 7 من أبواب الدفن، الحدیث 1 و 3 و 4 و 8 و 7 .

ص:190

ویبدأ بمقدمها الأیمن ، ثمّ یدور من ورائها إلی الجانب الأیسر(1).

کلّ واحد من الجوانب الأربع، فضلاً عمّا ورد فیما کتبه الحسین بن سعید إلی الرضا علیه السلام : «یسأله عن سریر المیّت یحمل له جانب یبدأ به فی الحمل من جوانبه الأربعة، أو ما خفَّ علی الرجل یحمل من أیّ الجوانب شاء؟ فکتب من أیّها شاء»(1).

ولا ینافی مع ما سنذکر من استحباب کون الابتداء بموضع خاصّ، لإمکان حمل ذلک علی الأفضلیّة، لکون کلا الدلیلین مشتملین علی أمر إثباتی فیصحّ العمل بهما بلا تقیید فی الحکم، بل یحمل الآخر علی مراتب الفضیلة، فالتعبّد هنا بخصوص الابتداء بأیّ موضع فقط _ کما یظهر عن ابن الجنید، ویلوح من صاحب «المدارک» أیضاً _ لیس فی محلّه. و اللّه العالم.

(1) ما ذکره المصنّف هنا هو بیانٌ لکیفیّة الابتداء بالحمل، ولا إشکال فی إرجاع ضمیر (مقدمها) إلی الجنازة، وکون الأیمن وصفاً للمقدّم، غایة الأمر وقع الکلام فی کون الأیمن بلحاظ الجنازة (بالفتح) وهی المیّت، کما اختاره صاحب «الجواهر»، ونَقل عن «کشف اللّثام» أن_ّه المشهور، حتّی یستلزم وضع السریر علی الأیمن الحامل خروج بدنه عن السریر، فیحمل علی عاتقه الأیمن أیمن المیّت، ثمّ ینقل إلی الرِجْل الأیمن بعاتقه الأیمن، ثمّ یدور بالأیسر فی الرِجْل بعاتقه الأیسر، ثمّ ینتقل إلی الأیسر فی المقدم فیکمل الأربع، هذا کما فی خلاف الشیخ، بل وعلیه أکثر المتأخّرین، الذین ادّعوا أن_ّه الموافق للأخبار المشتملة علی الأیمن المیّت والحامل، واختاره صاحب «الجواهر» قدس سره ، وهذه إحدی الکفّتین.

فی أحکام الأموات / استحباب الابتداء فی حمل الجنازة بمقدّمها الأیمن

أو أنّ وصف الأیمن فی المتن وصفٌ للجنازة (بالکسر) وهو السریر:


1- وسائل الشیعة: الباب 8 من أبواب الدفن، الحدیث 1.

ص:191

فتارةً: یلاحظ السریر کإنسان قائمٍ، فحینئذٍ یستلزم کون أیمن السریر ممّا یلی یسار المیّت، ویسار السریر ممّا یلی یمین المیّت عکس ما سبق. فإن أراد الحامل وضع السریر علی عاتقه الأیمن، وجب جعل بدنه ورأسه تحت السریر، إلاّ أن یضع علی عاتقه الأیسر یمین السریر حتّی یوجب خروج بدنه ویسهل الحمل.

واُخری: ما ذکره صاحب «الجواهر»، وحمل کلام الشیخ فی «المبسوط» و«النهایة» علیه، حیث قال بالاستحباب علی الابتداء بیمین السریر المقدم، ثمّ بمؤخّره، ثمّ بمؤخّر الأیسر ثمّ بمقدمه کذلک، علی أن یکون یمین السریر ویساره بحسب ما جاور من جانبی المیّت، فعلیه یکون یمین مقدّم السریر هو یمین المیّت، ومؤخّره مؤخّر یمین رجل المیّت، ثمّ یدور بیسار رِجْل المیّت المجاور لیسار السریر فی ناحیة الرِجْل، ثمّ بمقدمه الأیسر، فیطابق هذه الکیفیّة مع ما فی «الخلاف»، وعلیه جماعة من المتأخّرین.

أقول: الأحسن والأولی مراجعة الأخبار وملاحظة کیفیّة دلالتها علی المطلوب الشرعی:

أمّا الکیفیّة الاُولی: وهی التی ذکرها الشیخ فی «الخلاف» واختاره صاحب «الجواهر» قدس سره ، ویدلّ علیها:

1 _ الخبر الذی رواه علی بن یقطین، عن أبی الحسن موسی علیه السلام ، قال: «سمعته یقول: السُنّة فی حمل الجنازة أن تستقبل جانب السریر بشقّک الأیمن، فتلزم الأیسر بکفّک الأیمن، ثمّ تمرّ علیه إلی الجانب الآخر، وتدور خلفه إلی الجانب الثالث من السریر، ثمّ تمرّ علیه إلی الجانب الرابع ممّا یلی یسارک»(1).

فیکون المراد من (الأیسر) فی قوله: «فتلزم الأیسر بکفّک الأیمن» هو یسار


1- وسائل الشیعة: الباب 8 من أبواب الدفن، الحدیث 4 .

ص:192

السریر المجاور لیمین المیّت، والمراد من الجانب الآخر هو یسار السریر برِجْل المیّت، ومن الجانب الثالث هو رِجْل السریر بیمین المیّت، ثمّ بمقدمه کذلک حتّی تکمل الدورة بالنسبة إلی الجوانب الأربع علی الترتیب المذکور، وعلیه فتکون الروایة موافقة مع ما ذکره الشیخ فی «الخلاف».

2 _ کما قیل هو المراد ممّا ورد فی الخبر المرسل الذی رواه فضل بن یونس، قال: «سألت أبا إبراهیم علیه السلام عن تربیع الجنازة؟ قال: إذا کنت فی موضع تقیّة فابدأ بالید الیمنی، ثمّ بالرِجل الیمنی، ثمّ ارجع من مکانک إلی میامن المیّت، لا تمرّ خلف رجلیه البتّة حتّی تستقبل الجنازة، فتأخذ بیده الیسری ثمّ رجله الیسری، ثمّ ارجع من مکانک لا تمرّ خلف الجنازة البتّة حتّی تستقبلها، تفعل کما فعلت أوّلاً، فإن لم تکن تتّقی فیه فإنّ تربیع الجنازة الذی جرت به السُنّة: أن تبدأ بالید الیمنی، ثمّ بالرِجْل الیمنی، ثمّ بالرِجْل الیسری، ثمّ بالید الیسری حتّی تدور حولها»(1).

بناءً علی ما فی «الجواهر» و«الحدائق» و«مصباح الهدی» و«مصباح الفقیه»، حیث جعلوا المراد من (الید الیمنی) و(الرِجْل الیمنی) من المیّت لا الحامل، فیصیر موافقاً لما ذکروه.

غایة الفرق بین العامّة والخاصّة هو الدور الحاصل بالرجوع فی ناحیة الرِجْل الیمنی إلی الرِجل الیسری علی الخاصّة بخلاف العامّة، حیث یرجع بعد الرِجل الیمنی إلی طرف رأس الجنازة، ثمّ یأتی بالید الیسری ثمّ برجله کذلک حتّی لا یحصل الدور.

أقول: هذا التفسیر جیّد لولا مدلول قوله علیه السلام : «ثمّ ارجع من مکانک إلی میامن


1- وسائل الشیعة: الباب 8 من أبواب الدفن، الحدیث 3 .

ص:193

المیّت»، لأن_ّه لو کان المراد من الید الیمنی والرِجل الیمنی هو المیّت فی الابتداء، لما بقی وجهٌ للرجوع إلی ما کان فیه قبله، بخلاف ما لو اعتبرنا المراد من الید الیمنی بالنسبة إلی السریر، المجاور لیسار المیّت، حیث یصحّ القول بالرجوع إلی میامن المیّت التی یُحاذی یسار السریر، ولعلّه لذلک قال صاحب «الحدائق» بأنّ الأصحاب استدلّوا بهذه الروایة علی المذهب المشهور الذی نسبه إلی ما یوافق قول الشیخ فی «المبسوط» و«النهایة»، وعلیه فالاستدلال بهذه الروایة لما ذهب إلیه الشیخ فی «الخلاف» لا یخلو عن تأمّل.

کما لا یصحّ الاستدلال لمذهب الشیخ رحمه الله فی «الخلاف» بما ورد فی الخبر الصحیح الذی رواه البزنطی، عن ابن أبی یعفور، عن أبی عبد اللّه علیه السلام ، قال: «السُنّة أن تستقبل الجنازة من جانبها الأیمن، وهو ممّا یلی یسارک، ثمّ تصیر إلی مؤخّره، وتدور علیه حتّی ترجع إلی مقدّمة»(1).

بأن یکون المراد من الجنازة هو سریر المیّت بکسر الجیم، فیکون المراد من جانبها الأیمن من سریر المیّت هو الذی یلی یسار المشیّع إذا کان مستقبلاً إلی الجهة التی تسیر إلیها الجنازة، إذ احتمال أن یکون المراد من الجانب الأیمن، هو یمین المیّت المستلقی فی السریر علی قفاه، لکی ینطبق علی الکیفیّة الموافقة لمذهب الشیخ رحمه الله فی «الخلاف» بعیدٌ غایته، بقرینة قوله: «ممّا یلی یسارک»، حیث یفید أنّ المراد من الأیمن یمین السریر دون المیّت.

أقول: وممّا یحتمل الأمرین خبر العلاء بن سیّابة، عن أبی عبد اللّه علیه السلام ، قال: «تبدء فی حمل السریر من الجانب الأیمن، ثمّ تمرّ علیه من خلفه إلی الجانب الآخر، ثمّ تمرّ علیه حتّی ترجع إلی المقدم کذلک دوران الرحی علیه».(2)


1- وسائل الشیعة: الباب 8 من أبواب الدفن، الحدیث 2 و 5 .
2- وسائل الشیعة: الباب 8 من أبواب الدفن، الحدیث 2 و 5 .

ص:194

وإن یُعلِم المؤمنون بموت المؤمن(1).

من جهة أنّ المراد من الجانب الأیمن هو أیمن السریر أو أیمن المیّت .

وأمّا فی «فقه الرّضا»: «إذا أردت أن تربّعها فابدأ بالشقّ الأیمن فخذه بیمینک، ثمّ تدور إلی المؤخّر فتأخذه بیمینک، ثمّ تدور إلی المؤخّر الثانی فتأخذه بیسارک، ثمّ تدور إلی المقدم الأیسر فتأخذه بیسارک»(1).

فی أحکام الأموات / استحباب الإعلام بموت المؤمن

فإنّه یوافق مذهب الشیخ رحمه الله فی «الخلاف» إذا اُرید من الأیمن والأیسر یمین المیّت ویساره حتّی یساعد مع یمین الحامل ویساره فی الحمل.

خلاصة الکلام: بما أنّ الکفّتین کلتاهما وردت فیهما الأخبار، فلایبعد الحکم بجواز کلتیهما، وأنّ المکلّف مخیّرٌ فی الإتیان بهما، وإن کان طریق الشیخ الطوسی فی «الخلاف» أولی وأحسن لکثرة القائلین به، وکونه أشهر لو لم یکن مشهوراً، واللّه العالم .

(1) استحباب الإعلام حکمٌ ثابتٌ لا خلاف فیه وعلیه الإجماع کما ادّعاه الشیخ فی «الخلاف»، وقال عنه صاحب «الجواهر»: «بلا خلاف أجده إلاّ عن الجعفی من أن_ّه یکره النعی إلاّ أن یرسل صاحب المصیبة إلی من یختصّ به»، ولا یبعد أن یکون المراد من النعی ما یظهر منه الجزع والفزع لا مطلق الإعلام، وإلاّ کان الإجماع علیه.

هذا، فضلاً عن الأخبار الدّالة علیه:

منها: الخبر الصحیح المرویّ عن ابن سنان وأبی ولاّد جمیعاً، عن أبی عبداللّه علیه السلام ، قال: «ینبغی لأولیاء المیّت منکم أن یؤذنوا اخوان المیّت بموته،


1- المستدرک: ج1 الباب 8 من أبواب الدفن، الحدیث 1 .

ص:195

فیشهدون جنازته، ویُصلّون علیه، ویستغفرون له، فیُکتسب لهم الأجر، ویُکتب للمیّت الاستغفار، ویکتسب هو الأجر فیهم وفیما اکتسب له من الاستغفار»(1).

ومنها: خبر ذُریح المحاربی، عن أبی عبد اللّه علیه السلام ، قال: «سألته عن الجنازة یؤذن بها الناس؟ قال: نعم».(2)

ومنها: الخبر المرسل الذی رواه قاسم بن محمّد عن بعض أصحابه، عن أبی عبد اللّه علیه السلام ، قال: «إنّ الجنازة یؤذن بها الناس».(3)

فهذان الخبران یدلاّن علی أنّ الإعلام لیس علی الأولیاء فقط، بل یُستحبّ علی غیرهم ذلک، کما أنّ المراد من إخوان المیّت فی خبر ابن سنان لیس هو النَسَبی أو السببی، بل یُستحبّ إعلام غیرهم من الاخوان المؤمنین، فالاستحباب عام من الطرفین، بل یجوز النداء المستفاد من یؤذن فی الجملة.

کما یُستحبّ للمؤمنین الإسراع فی الإجابة، کما یدلّ علیه الأخبار :

منها: ما ورد فی الخبر الذی رواه الشیخ الصدوق، قال: «قال النبیّ صلی الله علیه و آله : إذا دُعیتم إلی الجنازة فاسرعوا، وإذا دعیتم إلی العرائس فابطؤوا»(4).

ومنها: ما یدلّ علی تقدّمه علی الولیمة، لکونه تذکاراً للآخرة وهی تذکار للدّنیا، کالخبر الذی رواه إسماعیل بن أبی زیاد بواسطة جعفر، عن أبیه علیهماالسلام : «أنّ النبیّ صلی الله علیه و آله سُئل عن رجلٍ یُدعی إلی ولیمة وإلی جنازة ، فأیّهما أفضل ، وأیّهما یُجیب؟ قال: یُجیب الجنازة فإنّها تذکّر الآخرة، ولیدَع الولیمة فإنّها تذکّر الدُّنیا»(5).


1- وسائل الشیعة: الباب 1 من أبواب صلاة الجنازة، الحدیث 1 و 3 و 4 .
2- وسائل الشیعة: الباب 1 من أبواب صلاة الجنازة، الحدیث 1 و 3 و 4 .
3- وسائل الشیعة: الباب 1 من أبواب صلاة الجنازة، الحدیث 1 و 3 و 4 .
4- وسائل الشیعة: الباب 34 من أبواب الاحتضار، الحدیث 2 .
5- وسائل الشیعة: الباب 34 من أبواب الاحتضار، الحدیث 1 .

ص:196

وأن یق_ول ال_مشاهد للج_نازة: الحَمدُ ل_لّه ال_ذی ل_م یَجع_لنی م_ن السَّواد المُختَرم(1).

ومنها: روایة «قُرب الإسناد»، عن مسعدة بن زیاد، عن جعفر، عن أبیه علیهماالسلام : «أنّ النبیّ صلی الله علیه و آله قال: إذا دُعیتم إلی العرسات فابطؤوا، فإنّها تُذکِّر الدُّنیا، وإذا دُعیتم إلی الجنائز فاسرعوا فإنّها تُذکِّر الآخرة».(1)

مضافاً إلی أنّ الإعلام ودعوة المؤمنین للتشییع والصلاة علی المیّت توقیرٌ وإکرامٌ للمیّت، وثوابٌ وأجر للمشیّعین والمصلّین، وموجبٌ لغفران المیّت وسبب لاسترجاعهم الذی فیه الأجر والثواب، کما أشار إلیه قوله تعالی: «الَّذِینَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِیبَةٌ قَالُوا إِنَّا للّه ِِ وَإِنَّا إِلَیْهِ رَاجِعُونَ»(2)، وهذا واضحٌ لا خفاءَ فیه.

(1) أی من المسنونات دعاء المشاهد للجنازة بهذا الدُّعاء المأثور من الأخبار کما ورد ذکره فی الخبر الذی رواه أبی حمزة، قال: «کان علیّ بن الحسین علیهماالسلام إذا رأی جنازةً قد أقبلت، قال: الحمدُ للّه الذی لم یجعلنی من السواد المخترم».

ورواه الصدوق مرسلاً إلاّ أن_ّه أسقط قوله: «قد أقبلت»(3).

فی أحکام الأموات / استحباب الدعاء بالمأثور لمن شاهد الجنازة

واستحباب ذلک لا یختصّ بالمشیّع، بل ثابتٌ لکلّ من رأی الجنازة.

أمّا کلمة (السواد): فالمراد منه هو الشخص، قیل ویُطلق علی عامّة الناس واجتماعهم، ومنه الحدیث المشهور: «علیکم بالسَّواد الأعظم»؛ أی البلد الکبیر


1- وسائل الشیعة: الباب 34 من أبواب الاحتضار، الحدیث 3 .
2- سورة البقرة: آیة 156 .
3- وسائل الشیعة: الباب 9 من أبواب الدفن، الحدیث 1 .

ص:197

حیث یُطلق علیه لأجل کثرة الناس فیها، ولعلّه هذا هو المراد من قول صاحب «الجواهر»: «قیل: أو عن بعضهم زیادة القریة أیضاً».

والمخترم: هو الهالک أو المستأصل، والمراد هنا الجنس، أی لم یجعلنی من هذا القبیل.

واحتمال: کونه کنایة عن الکافر لأن_ّه هالکٌ حقیقة، فیکون الحمد حینئذٍ فی محلّه، أو یُراد به الهالک قبل الأربعین سنة کما فی «الجواهر».

لایخلو عن بُعد: إذ لایناسب مع کون صاحب الجنازة مؤمناً أو مسنّاً بالغاً حَدّ الشیخوخة؛ لأنّ ظاهر الحمد فیعدم کونه مثل صاحب السریر میّتاً کما لایخفی.

ومثله الروایة المرفوعة التی رواها النهدی، عن أبی جعفر علیه السلام وفیها أداة (کان)(1).

وأیضاً: یستحبّ أن یقول الحامل عند حمله للجنازة، کما ورد الأمر به فی الخبر الذی رواه عمّار الساباطی عن أبی عبد اللّه علیه السلام ، قال: «سألته عن الجنازة إذا حُملت کیف یقول الذی یحملها؟ قال: یقول: بسم اللّه وباللّه، وصلّی اللّه علی محمّد وآل محمّد، اللّهُمَّ اغفر للمؤمنین والمومنات».(2)

بل یستحبّ لکلّ من یستقبل الجنازة أو رآها أن یقول ما فی خبر عنبسة بن مصعب، عن أبی عبد اللّه علیه السلام ، قال: «قال رسول اللّه صلی الله علیه و آله : من استقبل جنازةً أو رآها فقال: اللّه أکبر، هذا ما وعدنا اللّه ورسوله، وصَدَق اللّه ورسوله، اللّهُمَّ زِدنا إیماناً وتسلیماً، الحمد للّه الذی تعزّز بالقدرة،وقَهَر العبادبالموت،لم یبق فیالسماء مَلکٌ إلاّ بکی رحمةً لصوته».(3)


1- وسائل الشیعة: الباب 8 من أبواب الدفن، الحدیث 3 و 4 .
2- وسائل الشیعة: الباب 8 من أبواب الدفن، الحدیث 3 و 4 .
3- وسائل الشیعة: الباب 19 من أبواب الدفن ، الحدیث 2.

ص:198

لا یقال: إنّ الحمد علی أنّ اللّه تعالی لم یجعله من السواد المخترم، أی من الأموات، ینافی مع ما ورد من محبوبیّة لقاء اللّه المستلزم لمحبوبیّة الموت.

لأن_ّا نقول: إنّ هذا الحبّ لم یقیّد بوقتٍ خاصّ، فیحمل علی حال الاحتضار ومعاینة ما یُحبّ، کما ورد فی الخبر المرسل الذی رواه عبد الصمد بن بشیر عن بعض أصحابه، عن أبی عبد اللّه علیه السلام ، قال: «قلت: أصلحک اللّه! من أحبّ لقاء اللّه أحبّ اللّه لقائه، ومَن أبغض لقاء اللّه أبغض اللّه لقائه؟ قال: نعم. قلت: فواللّه إنّا لنکره الموت؟ قال: لیس ذلک حیث تذهب، إنّما ذلک عند المعاینة، إذا رأی ما یُحبّ فلیس شیءٌ أحبَّ إلیه من أن یتقدّم، واللّه تعالی یحبّ لقائه، وهو یحبُّ لقاء اللّه حینئذٍ، وإذا ما یکره فلیس شیءٌ أبغض إلیه من لقاء اللّه، واللّه یبغض لقائه»(1).

بل روت العامّة عن النبیّ صلی الله علیه و آله : «أن_ّه من أحبّ لقاء اللّه أحبَّ لقائه، ومن کره لقاء اللّه کره اللّه لقائه. فقیل له صلی الله علیه و آله : إنّا لنکره الموت؟ فقال: لیس ذلک، ولکن المؤمن إذا حضره الموت بُشّر برضوان اللّه وکرامته، فلیس شیءٌ أحبّ إلیه ممّا أمامه، فأحبّ لقاء اللّه وأحبَّ اللّه لقائه، وأنّ الکافر إذا حضر بُشّر بعذاب اللّه فلیس شیءٌ أکره إلیه ممّا أمامه ، فکره لقاء اللّه وکره اللّه لقائه»(2).

بل قد یستفاد من غیر واحدٍ من الأخبار بأنّ بقیّة عمر المؤمن غالیة لا ثمن لها، ویکره علیه تمنّی الموت قبل حضوره، کما وردت الإشارة إلیه فی بعض مصادر العامّة من أنّ النبیّ صلی الله علیه و آله قال: «لا یتمنّی أحدکم الموت، ولا یدعُ به من قبل أن یأتیه، إنّه إذا مات انقطع عمله، وأن_ّه لا یزید المؤمن عمره إلاّ خیراً»(3).


1- وسائل الشیعة: الباب 19 من أبواب الدفن، الحدیث 2.
2- کنز العمّال: ج8 ص80 الرقم 1495 .
3- سنن البیهقی: ج3 / 272 .

ص:199

وأن یضع الجنازة علی الأرض إذا وصل القبر ممّا یلی رجلیه، والمرأة ممّا یلی القبلة(1).

کما روی بهذا المضمون فی مصادرنا عن أمیرالمؤمنین علیه السلام أن_ّه قال: «بقیّة عمر المؤمن لا ثمن لها، یدرک بها ما فات، ویحیی بها ما مات»(1).

(1) استحباب وضع الجنازة علی الأرض إذا وصل إلی القبر حکمٌ ثابتٌ لا خلاف فیه کما فی «الجواهر»، وعلیه الإجماع کما فی «الغنیة»، مضافاً إلی دلالة النصوص الکثیرة البالغة حدّ الاستفاضة:

منها: صحیح ابن سنان، عن أبی عبد اللّه علیه السلام ، قال: «ینبغی أن یُوضع المیّت دون القبر هُنیئةً ثمّ واره»(2).

فی أحکام الأموات / کیفیّة وضع الجنازة عند القبر

ومنها: خبر محمّد بن عطیّة، قال: «إذا أتیت بأخیک إلی القبر فلا تقذفه به، ضعه أسفل من القبر بذراعین أو ثلاثة حتّییأخذ أهبّةً ثمّ ضعه فیلحده، الحدیث».(3)

ومنها: خبر محمّد بن عجلان، قال: «سمعتُ صادقاً یصدق علی اللّه _ یعنی أبا عبداللّه علیه السلام _ قال: إذا جئتَ بالمیّت إلی قبره فلا تفدحه بقبره، ولکن ضعه دون قبره بذراعین أو ثلاثة أذرع وودّعه حتّی یتأهّب للقبر ولا تفدحه به، الحدیث».(4)

ومنها: خبر یونس، قال: «سمعتُ عن أبی الحسن موسی علیه السلام ما ذکرته وأنا فی بیتٍ إلاّ ضاقَ عَلیّ، یقول: إذا أتیت بالمیّت إلی شفیر القبر فامهله ساعة فإنّه یأخذ أهبّته للسؤال».(5)

ومنها: خبر محمّد بن عجلان، قال: «قال أبو عبد اللّه علیه السلام : لا تفدح میّتک بالقبر، ولکن ضعه أسفل منه بذراعین أو ثلاثة ودَعه حتّی یأخذ أهبّته».(6)


1- جواهر الکلام: ج4 / 281 .
2- وسائل الشیعة: الباب 16 من أبواب الدفن، الحدیث 1 و 2 و 3 و 4 و 5 .
3- وسائل الشیعة: الباب 16 من أبواب الدفن، الحدیث 1 و 2 و 3 و 4 و 5 .
4- وسائل الشیعة: الباب 16 من أبواب الدفن، الحدیث 1 و 2 و 3 و 4 و 5 .
5- وسائل الشیعة: الباب 16 من أبواب الدفن، الحدیث 1 و 2 و 3 و 4 و 5 .
6- وسائل الشیعة: الباب 16 من أبواب الدفن، الحدیث 1 و 2 و 3 و 4 و 5 .

ص:200

ومنها : ما رواه الصدوق ، قال : «وفی حدیثٍ آخر : إذا أتیت بالمیّت القبر فلا تقدح به القبر فإنّ للقبر أهوالاً عظیمة، وتعوّذ من هول المطلع، ولکن ضعه قرب شفیر القبر ، واصبر هُنیئة ثمّ قدّمه قلیلاً واصبر علیه لیأخذ أهبّته ، ثمّ قدّمه إلی شفیر القبر».(1)

وبالجملة: هذه الطائفة المبارکة من الأخبار تدلّ علی استحباب وضع الجنازة علی الأرض دون القبر.

وأیضاً: یستحبّ أن یکون الوضع ممّا یلی رجلیه، کما یستفاد ذلک من طائفة من الأخبار:

منها: صحیح الحلبی، عن أبی عبد اللّه علیه السلام ، قال: «إذا أتیت بالمیّت القبر فسلّه من قِبل رِجلیه، الحدیث»(2).

أی أدخله فی القبر إذ أخذه منه شخص لوضعه فیه.

أقول: بل یمکن الاستشعار لذلک من عدّة أخبار تدلّ علی أنّ لکلّ شیء باباً، وباب القبر من قِبل الرِّجلین:

منها: حدیث عمّار الساباطی، عن الصادق علیه السلام ، قال: «لکلّ شیء بابٌ وباب القبر ممّا یلی الرِّجلین، إذا وضعت الجنازة فضعها ممّا یلی الرِّجلین، ویخرج المیّت ممّا یلی الرِّجلین، الحدیث».(3)

ومنها: حدیث الحضرمی، قال: «قال رسول اللّه صلی الله علیه و آله : إنّ لکلّ بیتٍ باباً وأنّ باب القبر من قِبل الرِّجلین».(4)

ومنها: حدیث الأعمش، عن جعفر بن محمّد علیهماالسلام ، فی حدیث شرائع الدِّین،


1- وسائل الشیعة: الباب 16 من أبواب الدفن، الحدیث 6 .
2- وسائل الشیعة: الباب 22 من أبواب الدفن، الحدیث 1 و 6 و 7.
3- وسائل الشیعة: الباب 22 من أبواب الدفن، الحدیث 1 و 6 و 7.
4- وسائل الشیعة: الباب 22 من أبواب الدفن، الحدیث 1 و 6 و 7.

ص:201

قال: «والمیّت یُسلّ من قِبل رِجلیه سَلاًّ»(1).

ولعلّ هذا هو المراد من الخبر الذی رواه ابن سیّابة، عن أبی عبد اللّه علیه السلام ، قال: «سلّ المیّت سلاًّ».(2)

ومنها: خبر محمّدبن مسلم، عن أحدهما علیهماالسلام ، قال: «سألته عن المیّت؟ فقال: تسلّه من قِبل الرِّجلین، الحدیث».(3)

ومنها: الخبر المرسل الذی رواه الشیخ الکلینی، قال: «وفی روایة اُخری قال رسول اللّه صلی الله علیه و آله : إنّ لکلّ بیتٍ باباً وأنّ باب القبر من قِبل الرِّجلین».(4)

ومنها: حدیث أبی مریم الأنصاری، قال: «سمعتُ أبا جعفر علیه السلام یقول: کفّن رسول اللّه صلی الله علیه و آله .. إلی أن قال: فسألته أین وضع السریر؟ فقال: عند رِجل القبر وسُلّ سلاًّ، الحدیث».(5)

أقول: لا یخفی أن_ّه لم یکن فی شیء من هذه الأخبار دلالة علی التفصیل بین الرَّجُل والمرأة، حیث یستظهر من ظاهرها عدم التفاوت بینهما، ولکن قد یقیّد تلک الإطلاقات بمثل خبر الأعمش السابق الذی جاء فیه: «قال: والمیّت یُسلّ من قِبل رجلیه سَلاًّ، والمرأة تؤخذ بالعرض من قِبل اللّحد، الحدیث».(6)

حیث یظهر منه مغایرة حکم میّت المرأة عن الرَّجل، بأن یکون وضعها فی القبر من قِبل اللّحد، وإلی ذلک یشیر کلام المصنّف بقوله: «والمرأة ممّا یلی القبلة».

بل فی «الغنیة» وظاهر «المنتهی» وعن ظاهر «التذکرة» و«النهایة» الإجماع علیه، ولعلّ إجماعهم مستندٌ إلی خبر الأعمش، بل والخبر المرویّ فی «فقه الرّضا»، إذ جاء فیه: «وإن کان امرأة فخُذها بالعَرض من قِبل اللّحد، ومأخذ الرَّجل من قِبل رجلیه تسلّه سلاًّ»(7).


1- وسائل الشیعة: الباب 22 من أبواب الدفن، الحدیث 5 و 3 و 2 و 4 .
2- وسائل الشیعة: الباب 22 من أبواب الدفن، الحدیث 5 و 3 و 2 و 4 .
3- وسائل الشیعة: الباب 22 من أبواب الدفن، الحدیث 5 و 3 و 2 و 4 .
4- وسائل الشیعة: الباب 22 من أبواب الدفن، الحدیث 5 و 3 و 2 و 4 .
5- وسائل الشیعة: الباب 22 من أبواب الدفن، الحدیث 5 و 3 و 2 و 4 .
6- وسائل الشیعة: الباب 22 من أبواب الدفن، الحدیث 5 و 3 و 2 و 4 .
7- المستدرک: ج الباب 22 من أبواب الدفن، الحدیث 4 .

ص:202

وأن ینقله فی ثلاث دفعات(1).

فیکفی مثل ذلک مع الإجماع المُدّعی فی إثبات استحبابه، وتقیید الإطلاقات المذکورة، مع إمکان تأییده أیضاً فی الرَّجل والمرأة بما قاله صاحب «الجواهر» من أنّ هذه الکیفیّة من الوضع فیهما الیسر فی فعل ما هو الأولی بهما من إرسال الرّجل سابقاً برأسه والمرأة عرضاً.

وأمّا اختیار جهة القبلة فلعلّه لشرافتها علی سائر الجهات.

(1) من جملة المندوبات نقل المیّت مطلقاً _ رجلاً کان أو امرأة _ إلی قبره بثلاث دفعات، لإطلاق الدلیل واستعمال لفظ (المیّت) فیه الشامل لهما، فتخصیص بعضهم هذا الحکم بالرَّجل دون المرأة ممّا لا وجه له .

کما یؤیّده إطلاق التعلیل لهما من التهیّؤ للدخول إلی القبر وعالمه رفعاً للأهوال، حیث لا فرق فیه بینهما من هذه الجهة.

فی أحکام الأموات / آداب نقل الجنازة إلی القبر

والمراد من الدفعات الثلاث فی النقل، هو وضع المیّت أوّلاً علی الأرض، والثانی هو رفعه ثمّ وضعه قریب شفیر القبر هُنیئةً، ثمّ تقدیمه إلی شفیر القبر وإنزاله فیه أخیراً، وهذا هو المستفاد من الحدیث المرویّ عن الصدوق فی «العلل» قال: «إذا أتیت بالمیّت القبر فلا تفدح به القبر، فإنّ للقبر أهوالاً عظیمةً، وتعوّذ من هول المطّلع، ولکن ضعه قرب شفیر القبر، واصبر علیه هُنیئةً، ثمّ قدّمه قلیلاً واصبر علیه لیأخذ اُهبّته، ثمّ قدّمه إلی شفیر القبر»(1).(2)

والظاهر أنّ هذا النصّ مأخوذٌ من کتاب «فقه الرّضا»(3)، إذ لا تفاوت بینهما،


1- وسائل الشیعة: الباب 16 من أبواب الدفن، الحدیث 6 .
2- ولا تفدح أی لا تفجأ به القبر. الاُهبّة بالضمّ التهیّأ والاستعداد، یُقال: أخذ للسفر اُهبّته أی تهیّأ واستعدّ.
3- المستدرک: ج1 الباب 16 من أبواب الدفن، الحدیث 10 .

ص:203

ولعلّ الصدوق جعل متنه موضوعاً لفتواه وأوردها فی کتابه.

کما قد یؤیّد ذلک ما نقله المجلسی الأوّل رحمه الله فی شرحه الفارسی علی «الفقیه» عند قول الصدوق قدس سره : «وإن مات الولد فی جوفها... إلی آخره»، علی ما فی «مصباح الهدی»(1) للآملی ما حاصله: «أنّ فقه الرضا علیه السلام کان مشهوراً بین القدماء، وکانوا یعملون به، والظاهر أنّ السبب فی عدم شهرته الکاملة عندهم، هو أنّ مولانا الرضا علیه السلام کتب هذا الکتاب لأهل خراسان، وأنّ الصدوق لمّا ذهب إلی خراسان أخذه من علمائهم، وجاء به إلی العراق، ولم یکن وصل الکتاب إلیهم قبله، فاجتمع محدّثوا العراق إلی الصدوق واستجازوا منه وعملوا منه بأقواله، فکان یُفتیهم بمضمون هذا الکتاب». انتهی کلام المجلسی قدس سره .

ولعلّه لذلک احتمل بعض الأصحاب أنّ الکتاب للصدوق رحمه الله .

وکیف کان، فالنصّ فی کلا الحدیثین یطابق مع ما فی المتن، فیثبت بذلک استحبابه بالثلاث، وکون الرفع بعد الوضع مرّتین، حتّی یصیر الوضع ثلاث مرّات، ویکفی فی إثبات الاستحباب وجود ذلک فی «العلل» و«فقه الرّضا» مع التوجّه بکونه من ما یتسامح فیه من المندوبات.

ودعوی: صاحب «المدارک» بقوله: «والذی وقفتُ علیه من الأخبار صحیحة عبد اللّه بن محمّد عن الصادق علیه السلام ، قال: «ینبغی أن یوضع المیّت دون القبر هنیئةً ثمّ واره»(2).

ومرسلة محمّد بن عطیّة، قال: «إذا أتیت بأخیک القبر فلا تفدحه به، ضعه أسفل القبر بذراعین أو ثلاثة، ودَعه حتّی یأخذ اُهبّته ثمّ ضعه فی لحده».(3)


1- مصباح الهدی: ج6 / 450 .
2- وسائل الشیعة: الباب 16 من أبواب الدفن، الحدیث 1 و 2.
3- وسائل الشیعة: الباب 16 من أبواب الدفن، الحدیث 1 و 2.

ص:204

وروایة محمّد بن عجلان، قال: «سمعتُ صادقاً یُصدِّق علی اللّه _ یعنی أبا عبد اللّه علیه السلام _ قال: إذا جئتَ بالمیّت إلی قبره فلا تفدحه بقبره، ولکن ضعه دون قبره بذراعین أو ثلاثة أذرع، ودَعه حتّی یتأهّب للقبر ولا تفدحه به»(1). ثمّ قال رحمه الله : ولا یخفی انتفاء دلالة هذه الأخبار علی ما ذکره الأصحاب؛ أی نقل المیّت ثلاث دفعات، ووضعه فی القبر فی الثالثة، بل إنّما تدلّ علی استحباب وضعه دون القبر هُنیئةً ثمّ دفنه، وبمضمونها أفتی ابن الجُنید والمصنّف _ یعنی المحقّق _ فی «المعتبر» فی آخر کلامه، وهو المعتمد» انتهی ما فی «المدارک»(2).

ممنوعة: لوضوح أن_ّه لا ینافی کون فتوی الأصحاب بذلک مستندةً إلی روایتی «العلل» و«فقه الرّضا» الموافق مع ما فی «الفقیه»، مع ما عرفت کون الحکم ندبیّاً یمکن أن یُتسامح فیه، وقد مرَّ مراراً حجیّة کتاب «فقه الرّضا» فیما یثبت فیه إسناده إلی الإمام علیه السلام ، مع موافقته لمذهب الأصحاب، وعدم وجود مستند لفتواهم سوی هذین الخبرین، وإن لم یصرّحوا بالاستناد إلیه لجلالتهم عن أن یفتوا من غیر مدرک، فبذلک یحصل الاطمئنان للفقیه، فیصحّ له العمل بما فیه کما عملوا به، واللّه العالم.

تنبیه: ورد فی ذیل الخبر المنقول فی «فقه الرّضا»: «ویُدخله القبر من یأمره الولیّ إن شاء شفعاً وإن شاء وتراً»(3)، حیث یفهم تخییر الولیّ فی إرسال الشخص فی القبر شفعاً أو وتراً، وهذا تعریضٌ بما حُکی عن الشافعی من استحباب أن یکون عدد من ینزل القبر وتراً، خلافاً لما حُکی عن أصحابنا من القول بالتخییر


1- وسائل الشیعة: الباب 16 من أبواب الدفن، الحدیث 3 .
2- «المدارک» (ط ق): 76 .
3- المستدرک: ج1 الباب 16 من أبواب الدفن، الحدیث 1 .

ص:205

وأن یرسله إلی القبر سابقاً برأسه، والمرأة عرضاً(1).

فیه؛ أی یجوز أن یدخل فی القبر أزید من واحد، کما یؤیّد ذلک ما فی خبر أبی مریم الأنصاری، قال: «سمعتُ أبا جعفر علیه السلام یقول: کُفّن رسول اللّه صلی الله علیه و آله .. إلی أن قال: ثمّ دخل علیٌّ القبر فوضعه علی یدیه، وأدخل معه الفضل بن العبّاس، فقال رجلٌ من الأنصار من بنی الخیلاء یقال له أوس بن خوّلی: أنشدکم اللّه أن تقطعوا حقّنا، فقال له علیّ علیه السلام : ادخل، فدخل معهما، الحدیث»(1).

(1) من جملة المندوبات إرسال المیّت إلی القبر سابقاً برأسه إذا کان رجلاً، وإرساله عرضاً إن کانت امرأة، ولأجل ذلک ورد عن الشیخ فی «النهایة» و«المبسوط»، والصدوق فی «الفقیه»: «أن_ّه یضع المیّت علی الأرض إذا وصل إلی القبر ممّا یلی رجلی القبر إذا کان رجلاً، وممّا یلی القبلة إذا کانت امرأة».

وقد ادّعی الإجماع علی کلا الحکمین کما فی «الجواهر» حیث قال: «بلا خلاف أجده فیه أیضاً»، بل فی «الغنیة» و«الخلاف»، وعن ظاهر «التذکرة» الإجماع علیه کما عن «شرح الجمل» للقاضی نفی الخلاف عنه.

ویدلّ علیه: _ مضافاً إلی ذلک _ النصوص الواردة فیه، وهی علی طائفتین:

الطائفة الاُولی: الأخبار المطلقة التی لا تفصّل بین الرَّجل والمرأة:

منها: صحیحة الحلبی، عن أبی عبداللّه علیه السلام ، قال: «إذا أتیتَ بالمیّت القبر فسلّه من قِبل رجلیه، الحدیث»(2).

ومنها: روایة محمّد بن مسلم، قال: «سألتُ أحدهما علیهماالسلام عن المیّت؟ فقال:


1- وسائل الشیعة: الباب 24 من أبواب الدفن، الحدیث 2.
2- وسائل الشیعة: الباب 22 من أبواب الدفن، الحدیث 1 .

ص:206

تسلّه من قِبل الرِّجلین، الحدیث».(1)

ومنها : روایة عبدالرحمن بن سیّابة، عن أبی عبداللّه علیه السلام ، قال: «سلّ المیّت سلاًّ».(2)

ومنها: الخبر الذی رواه عمّارالساباطی، عن أبیعبداللّه علیه السلام ،فیحدیثٍ،قال: «إذا وضعت الجنازة فضعها ممّا یلی الرِّجلین، ویخرج المیّت ممّا یلی الرِّجلین، الحدیث»(3).

الطائفة الثانیة: هی المفصّلة بین الرّجل بأن یُسلّ من قِبل الرِّجلین، والمرأة تُؤخذ عَرضاً مستقبل القبلة عند اللّحد:

منها: خبر الأعمش فی حدیث شرائع الدِّین، قال: «والمیّت یُسلّ من قِبل رجلیه سلاًّ، والمرأة تُؤخذ بالعرض من قِبل اللّحد، الحدیث».(4)

فإنّ ذکر المرأة بعده دلیلٌ علی أنّ المراد من المیّت هو الرَّجل، بل لعلّه یوجبُ صرف الذهن فی المقام بکون المیّت المطلق فیما یُسلّ هو الرَّجل دون المرأة التی لا تشملها إطلاق عنوان المیّت .

ومنها : الخبر المرویّ فی «فقه الرّضا» ولعلّه أظهر من هذا الخبر فی التفصیل، قال: «وإن کان امرأة فخذها بالعرض من قبل اللّحد، وتأخذ الرَّجل من قِبل رجلیه تسلّه سلاًّ»(5).

ومنها: ما رواه الشیخ فی «التهذیب» عن عبد الصمد بن هارون رفع الحدیث،


1- وسائل الشیعة: الباب 22 من أبواب الدفن، الحدیث 2 و 3.
2- وسائل الشیعة: الباب 22 من أبواب الدفن، الحدیث 2 و 3.
3- وسائل الشیعة: الباب 22 من أبواب الدفن، الحدیث 5 و 6 .
4- وسائل الشیعة: الباب 22 من أبواب الدفن، الحدیث 5 و 6 .
5- «فقه الرّضا»: ص18 .

ص:207

قال: «قال أبو عبد اللّه علیه السلام : إذا أدخلت المیّت القبر إن کان رجلاً یسلّ سلاًّ، والمرأة تؤخذ عرضاً فإنّه أستر»(1).

ومنها: خبره الآخر، عن عمرو بن خالد، عن زید بن علیّ، عن آبائه، عن أمیر المؤمنین علیّ بن أبی طالب علیهم السلام ، قال: «یُسلّ الرَّجل سلاًّ، وتستقبل المرأة استقبالاً، ویکون أولی الناس بالمرأة فی مؤخّرها»(2).

والقاعدة فی المقام تقتضی تقیید تلک المطلقات بهذه الأخبار المقیّدة، ولأجل ذلک ذهب الأصحاب إلی استحباب وضع الرّجل بحیث یقع رأسه ممّا یلی رجلی المیّت فی القبر، لو دخل المیّت فی القبر ثمّ یرفع منه ویدخل فی القبر من رأسه أوّلاً إلی أن ینتهی إلی تمام بدنه برفق وتأنّ، فکأنّ ذلک إشارة إلی أنّ المیّت یقول بلسان حاله لربّه عزّ وجلّ إنّی وإن کنت عاصیاً، لکن جئتک الآن بالرأس ذلیلاً مسکیناً خائفاً، ولیکون دخوله فی القبر مشابهاً لخروجه من رحم اُمّه، وهذا الاعتبار لو تمّ لاقتضی التساوی بین الرَّجل والمرأة، ولکن الاختبار المذکور موجبٌ للفرق بینهما، ولا مناص من وجوب الالتزام بما ورد عن المعصومین سلام اللّه علیهم.

فی أحکام الأموات / آداب نزول القبر لمن یتولّی الدفن

وأمّا استحباب الوضع فی القبر مع الرفق والتأنّی، فإنّه یستفاد :

1 _ خبر محمّد بن عجلان، بقوله فی حدیث: «فلا تفدحه به»(3).

2 _ والخبر الآخر المرویّ عنه: «لا تفدح میّتک بالقبر»(4) أی لا تفجأ بالمیّت فی القبر، فیساوق معنی الرفق کما لا یخفی .


1- وسائل الشیعة: الباب 38 من أبواب الدفن، الحدیث 1 .
2- وسائل الشیعة: الباب 38 من أبواب الدفن، الحدیث 2.
3- وسائل الشیعة: الباب 16 من أبواب الدفن، الحدیث 3 و 5 .
4- وسائل الشیعة: الباب 16 من أبواب الدفن، الحدیث 3 و 5 .

ص:208

وأن ینزل من یتناوله حافیاً، ویکشف رأسه ویحلّ أزراره(1).

(1) من جملة المندوبات أن یکون الرجل الذی یتناول المیّت فی قبره حافیاً ومکشوف الرأس ومحلول الأزرار، لکونه مقام اتّعاظٍ وخشوع، کما یستفاد ذلک من عدّة أخبار:

منها: الخبر الذی رواه ابن أبی یعفور، عن أبی عبد اللّه علیه السلام ، قال: «لا ینبغی لأحدٍ أن یدخل القبر فی نعلین ولا خُفّین ولا عمامة ولا رداء ولا قلنسوة»(1).

ومنها: خبر الحضرمی، عن أبی عبد اللّه علیه السلام ، قال: «لا تنزل القبر وعلیک العمامة، ولا القلنسوة ولا رداء ولا حذاء، وحلّل أزرارک.

قال: قلت: والخفّ؟ قال: لا بأس بالخفّ فی وقت الضرورة والتقیّة».(2)

ومنها: خبر سیف بن عمیرة، عن أبی عبد اللّه علیه السلام ، قال: «لا تدخل القبر وعلیک نعل ولا قلنسوة ولا رداء ولا عمامة. قلت: فالخفّ؟ قال: لا بأس بالخفّ فإنّ فی خلع الخفّ شناعة»(3).

فإنّ ظاهر هذه الأخبار المشتملة علی النهی هو الکراهة، خصوصاً مع ملاحظة لفظ (لا ینبغی) فی حدیث ابن أبی یعفور، إلاّ أن_ّه ورد فی حدیث علیّ بن یقطین، قال: «سمعتُ أبا الحسن الأوّل علیه السلام یقول: لا تنزل فی القبر وعلیک العمامة والقلنسوة ولا الحذاء ولا الطیلسان، وحلّل أزرارک، وبذلک سُنّة رسول اللّه صلی الله علیه و آله جرت، الحدیث»(4).

ومثله المروی عن «العلل»، لکن زاد فیه: «قلت: فالخُفّ؟ قال: فلا أری به


1- وسائل الشیعة: الباب 18 من أبواب الدفن، الحدیث 3 و 4 و 5 .
2- وسائل الشیعة: الباب 18 من أبواب الدفن، الحدیث 3 و 4 و 5 .
3- وسائل الشیعة: الباب 18 من أبواب الدفن، الحدیث 3 و 4 و 5 .
4- وسائل الشیعة: الباب 18 من أبواب الدفن، الحدیث 1 .

ص:209

ویُکره أن یتولّی ذلک الأقاربَ إلاّ فی المرأة(1).

بأساً، قلت: لِمَ یکره الحذاء؟ قال: مخافة أن یعثر برجلیه فیهدم».(1)

ما تدلّ أولاهما علی الکراهة بواسطة النهی، إلاّ أن_ّهم فهموا منها الأمر بالنزع، وقالوا بأن_ّه مستحبّ، ولعلّهم فهموا ذلک من قوله: «وبذلک سُنّة رسول اللّه صلی الله علیه و آله جَرت، الحدیث» حیث یُستشعر منه الاستحباب.

کما أنّ ما فی خبر «العلل» من نفی البأس فی الخُفّ یُحمل إطلاقه علی الضرورة والتقیّة، کما أشار إلیه حدیث الحضرمی، فالأخذ بإطلاقه کما عن ابن الجُنید لا یخلو عن ضعف.

فی أحکام الأموات / کراهة تولّی الأقارب لدفن الرجل

أقول: لا إشکال فی عدم وجوب شیء من ذلک للإجماع المنقول عن «الذکری»، ولخبر إسماعیل بن بزیع، قال: «رأیتُ أبا الحسن علیه السلام دخل القبر ولم یحلّ أزراره»(2)، حیث حمله الشیخ رحمه الله علی الجواز ونفی التحریم، ویُحتمل الحمل علی التقیّة، ولکن علی کلّ حال لم ینقل ولم یُشاهد فتوی بالوجوب بالنزع أو التحریم عن أحدٍ، فلا یدلّ الأمر الوارد فی هذه الأخبار علی الجواز ولا النهی علی الکراهة.

(1) وهو المشهور بین الأصحاب، کما صرّح بالکراهة الشیخ فی «المبسوط» وصاحب «الوسیلة» و«المعتبر» و«التذکرة» و«المنتهی» وغیرها. بل لعلّه یرجع إلیه من عبّر عن ذلک باستحباب کون النازل أجنبیّاً، کما فی «القواعد» وغیرها، فالمشهور هو فتوی الأصحاب، وإلاّ لم یشاهد فی النصّ ما یدلّ علیه بالنسبة إلی الأقارب فی الرجل خاصّة.


1- وسائل الشیعة: الباب 18 من أبواب الدفن، الحدیث 1 و 6 .
2- وسائل الشیعة: الباب 18 من أبواب الدفن، الحدیث 1 و 6 .

ص:210

نعم، قد عَلّل بعضهم بما ورد بأنّ ذلک یورث قسوة القلب، کما قد استند بعضهم بالأخبار المستفیضة الدالّة علی المنع لإدخال الوالد ولده فی القبر ودفنه مطلقاً؛ أی بلا فرق بین الذَّکر والاُنثی:

منها: خبر حفص بن البَختری وغیره، عن أبیعبداللّه علیه السلام ، قال: «یُکره للرّجل أن ینزل قبر ولده»(1).

ومنها: خبر ابن راشد، عنه علیه السلام ، قال: «الرجل ینزل فی قبر والده ولا ینزل الوالد فی قبر ولده».(2)

ومنها: روایة عبد اللّه بن محمّد بن خالد، عن أبی عبد اللّه علیه السلام ، قال: «الوالد لا ینزل فی قبر ولده، والولد ینزل فی قبر والده».(3)

ومنها: روایة عبد اللّه العنبری، قال: «قلتُ لأبی عبد اللّه علیه السلام : الرَّجل یدفن ابنه؟ فقال: لا یدفنه فی التراب.

قال: قلت: والابن یدفن أباه؟ قال: لا بأس».(4)

ومنها: روایة عبد اللّه بن راشد، قال: «کنتُ مع أبی عبد اللّه علیه السلام حین مات إسماعیل ابنه، فأنزل فی قبره، ثمّ رمی بنفسه علی الأرض ممّا یلی القبلة، ثمّ قال: هکذا صنع رسول اللّه صلی الله علیه و آله بإبراهیم، ثمّ قال: إنّ الرجل ینزل فی قبر والده ولا ینزل فی قبر ولده»(5).

بل یستفاد ذلک من فعل الإمام علیه السلام استناداً إلی فعل جدّه صلی الله علیه و آله مثل مرسل محمّد بن أبی حمزة، عن رجل، عن أبی عبد اللّه علیه السلام فی حدیثٍ: «أن_ّه لم ینزل فی قبر ولده إسماعیل وقال هکذا فعل النبیّ صلی الله علیه و آله بإبراهیم ولده».(6)


1- وسائل الشیعة: الباب 25 من أبواب الدفن، الحدیث 1 و 2 و 5 و 6 .
2- وسائل الشیعة: الباب 25 من أبواب الدفن، الحدیث 1 و 2 و 5 و 6 .
3- وسائل الشیعة: الباب 25 من أبواب الدفن، الحدیث 1 و 2 و 5 و 6 .
4- وسائل الشیعة: الباب 25 من أبواب الدفن، الحدیث 1 و 2 و 5 و 6 .
5- وسائل الشیعة: الباب 25 من أبواب الدفن، الحدیث 7 و 3.
6- وسائل الشیعة: الباب 25 من أبواب الدفن، الحدیث 7 و 3.

ص:211

حیث أنّ الاستشهاد بعمل الرسول صلی الله علیه و آله یومی إلی ذلک .

ومثله خبر مُرّة مولی محمّد بن خالد، قال: «لمّا مات إسماعیل فانتهی أبو عبداللّه علیه السلام إلی القبر أرسل نفسه فقعد علی حاشیة القبر ولم ینزل فی القبر، ثمّ قال: هکذا صَنَع رسول اللّه صلی الله علیه و آله بإبراهیم ولده».(1)

بل قد یظهر ذلک من روایة علی بن عبد اللّه، قال: «سمعتُ أبا الحسن موسی علیه السلام قال فی حدیثٍ عن علیّ علیه السلام : لمّا قُبض إبراهیم بن رسول اللّه صلی الله علیه و آله ، قال: یا علیّ انزل فالحد ابنی، فنزل علیه السلام فألحد إبراهیم فی لحدٍ، فقال الناس: إنّه لا ینبغی لأحدٍ أن ینزل فی قبر ولده إذ لم یفعل رسول اللّه صلی الله علیه و آله ، فقال لهم رسول اللّه صلی الله علیه و آله : یا أیّها الناس إنّه لیس علیکم بحرام أن تنزلوا فی قبور أولادکم، ولکنّی لستُ آمن إذا حلَّ أحدکم الکفن عن ولده أن یلعب به الشیطان فیدخله عند ذلک من الجزع ما یحبط أجره، ثمّ انصرف علیه السلام ».(2)

فإنّ هذه الأخبار کما تری تدلّ علی نفی البأس عن نزول الولد فی قبر والده دون العکس حیث نهی عن ذلک، ولأجل ذلک استثنی ابن سعید عن حکم الکراهة إنزال الولد والده فی قبره، بل مالَ إلیه العلاّمة فی «المنتهی»، ولکن حمل سائر الأصحاب الکراهة المذکورة فی الولد علی خفّة الکراهة لا نفیها، مع ما فی روایة علیّ بن عبد اللّه من مباشرة علیّ بن أبی طالب علیه السلام لدفن إبراهیم الذی کان یعدّ من أرحامه لکونه ولد ابن عمّه، فیفهم عدم الکراهة.

کما یدلّ علی عدم الکراهة ما ورد فی روایة أبی مریم الأنصاری الوارد فی دفن رسول اللّه صلی الله علیه و آله ، قال: «سمعتُ أباجعفر علیه السلام یقول: کفّن رسول اللّه صلی الله علیه و آله .. إلی أن قال: ثمّ دخل علیٌّ علیه السلام القبر فوضعه علی یدیه وأدخل معه الفضل بن العبّاس، الحدیث»(3).


1- وسائل الشیعة: الباب 25 من أبواب الدفن، الحدیث 8 و 4 .
2- وسائل الشیعة: الباب 25 من أبواب الدفن، الحدیث 8 و 4 .
3- وسائل الشیعة: الباب 24 من أبواب الدفن، الحدیث 2 .

ص:212

فلو سلّمنا کون القضیّة فی حقّ الرسول وعلیّ علیهماالسلام بالاستثناء، لأن_ّه لا یلی أمر الصدِّیق إلاّ الصدِّیق أو أمر الولیّ إلاّ الولیّ، لکن ماذا یقال فی حقّ فضل بن العبّاس الذی یعدّ من أرحامه صلی الله علیه و آله ؟

وعلیه، فما فی «الجواهر» قدس سره فی وجه استثناء علیّ علیه السلام بقوله: «اللّهُمَّ إلاّ أن یقال إنّه علیه السلام مأمونٌ من الجزع».

لیس علی ماینبغی،لأن_ّه إنّما ورد فیحقّ الوالد لولده لا مطلقاً کما لایخفی، مضافاً إلی ما عرفت وجه الاستدلال به لفضل بن العبّاس أیضاً بکونه رحماً.

وبالجملة: فأصل إثبات الکراهة لتولّی أقارب الرّجل المیّت من الأخبار فی غایة الإشکال، إذ لم یصلنا ما یدلّ علیه إلاّ فتوی الأصحاب، مع أن_ّه معارض مع إطلاق بعضهم کالشیخ فی «المبسوط» والعلاّمة فی «المنتهی» وغیرهما من استحباب نزول الولیّ القبر أو من یأمره، بل نصَّ بعضهم فی خصوص ذلک علی الرّجل، بل قد یظهر من «المنتهی» قیام الإجماع فی حقّ الرَّجل، حیث قال فیه: «ویستحبّ أن ینزل إلی القبر الولیّ أو من یأمره الولیّ إن کان رجُلاً، وإن کان امرأة لا ینزل إلی قبرها إلاّ زوجها، أو ذو رحمٍ لها، وهو وفاق العلماء» انتهی.

أقول: قد یقال بإمکان استفادة جواز ذلک بلا کراهةٍ من الأخبار:

منها: روایة محمّد بن عجلان فی حدیث، عن أبی عبد اللّه علیه السلام : «فإذا وضعته فی لحده فلیکن أولی الناس به ممّا یلی رأسه ولیذکر اسم اللّه، الحدیث»(1).

ومنها: خبره الآخر، قال: «سمعته علیه السلام یقول: فإذا أدخلته إلی قبره فلیکن أولی الناس به عند رأسه ولیحسر عن خدّه، الحدیث».(2)

ومنها: خبر محمّد بن عطیّة فی حدیثٍ: «ضعه فی لحده، وألصق خدّه بالأرض، وتحسّر عن وجهه، ویکون أولی الناس به ممّا یلی رأسه».(3)


1- وسائل الشیعة: الباب 20 من أبواب الدفن، الحدیث 5 و 8 و 7 .
2- وسائل الشیعة: الباب 20 من أبواب الدفن، الحدیث 5 و 8 و 7 .
3- وسائل الشیعة: الباب 20 من أبواب الدفن، الحدیث 5 و 8 و 7 .

ص:213

حیث تدلّ علی محبوبیّة قیام الولیّ بهذه الاُمور .

ولکن یمکن أن یُجاب عنه: بأنّ هذه الأخبار مشتملة علی محبوبیّة نزول الولیّ فی القبر، لا علی إنزال المیّت فیه الذی هو مورد البحث فی المقام، فعلی هذا لا منافاة بین القول بکراهة الإنزال کما علیه الأصحاب، وأولویّة النزول فی القبر للولیّ عملاً بهذه الأخبار.

وعلیه، فلا بأس بما ذهب إلیه المجلسی قدس سره فی «البحار» من الحکم بعدم الکراهة إن أراد النزول فیه، وإلاّ ففیه إشکالٌ کما عرفت، فالالتزام بالکراهة فی الإنزال ولو لأجل فتوی الأصحاب، لا یخلو عن حُسن، کما لا یخفی.

وأیضاً: قد یُستأنس للکراهة فی تولّی الأقارب دفن أقربائهم بفحوی ما ورد من النهی عن إهالة التراب علی الولد والأقارب من ذوی الرحم:

منها: روایة عبیدبن زرارة، قال: «ماتَ لبعض أصحاب أبی عبد اللّه علیه السلام ولدٌ، فحضر أبو عبد اللّه علیه السلام ، فلمّا أُلحِد تقدّم أبوه فطرح علیه التراب، فأخذ أبو عبد اللّه علیه السلام بکفّیه وقال: لا تطرح علیه التراب، ومن کان میّته ذا رحم فلا یطرح علیه التراب، فإنّ رسول اللّه صلی الله علیه و آله نهی أن یطرح الوالد أو ذو رحمٍ علی میّته التراب.

فقلنا: یابن رسول اللّه صلی الله علیه و آله أتنهانا عن وحده؟ فقال: أنهاکم أن تطرحوا التراب علی ذوی أرحامکم فإنّ ذلک یورث القسوة فی القلب، ومَن قسا قلبه بَعُد من ربّه»(1).

ولعلّ التعلیل الوارد فی «المبسوط» و«المعتبر» و«المنتهی» و«التذکرة»، وفی النهایتین مأخوذٌ من هذا الخبر وأضرابه .

هذا کلّه حکم الرّجل المیّت.

فی أحکام الأموات / من یتولّی لدفن المرأة

حکم من یتولّی قبر المرأة: فرّق الأصحاب وفصّلوا بین الرّجل والمرأة فی مَن


1- وسائل الشیعة: الباب 30 من أبواب الدفن، الحدیث 1.

ص:214

یتولّی الدفن، وحکموا فی المرأة بأن_ّه یتولّی ذلک فیها الزوج أو الأرحام، بل فی «المنتهی» دعوی قیام الإجماع علیه کالتذکرة، حیث صرّح بأولویّة الأرحام.

بل قد یؤیّده _ فضلاً عن أنّ المرأة تعدّ عورة، ولا یناسب مع غیرة المؤمن أن یتولاّها غیر المحارم والزوج _ دلالة طائفة من الأخبار علی ذلک:

منها: ما فی خبر السکونی، عن أبی عبد اللّه علیه السلام ، قال: «قال أمیرالمؤمنین علیه السلام : مضت السُنّة من رسول اللّه صلی الله علیه و آله أنّ المرأة لا یدخل قبرها إلاّ من کان یراها فی حال حیاتها»(1).

ومنها: خبر إسحاق بن عمّار، عن أبی عبد اللّه علیه السلام ، قال: «الزوج أحقُّ بامرأته حتّی یضعها فی قبرها».(2)

ومنها: حدیث زید بن علیّ، عن آبائه، عن أمیر المؤمنین علیهم السلام ، قال: «یکون أولی الناس بالمرأة فی مؤخّرها».(3)

وهذا الخبر فی قِبال الرجال، وقد ورد فی حدیث محمّد بن عجلان، عن أبی عبد اللّه علیه السلام ، قال: «إذا وضعته فی لحده فلیکن أولی الناس ممّا یلی رأسه».(4) الدالّ علی أنّ من یلی رأس المیّت هو أولی الناس بالمیّت، فمقتضی الجمع بینهما هو اختصاص ذلک بالرِّجال. ولعلّه لذلک قال الشیخ المفید باختصاص المرأة بالمؤخّر علی حسب عبارته المحکیّة عنه، حیث قال: «وینزّلها القبر اثنان، یجعل أحدهما یدیه تحت کتفیها، والآخر یدیه تحت حقویها، وینبغی أن یکون الذی یتناولها من قِبل ورکیها زوجها، أو بعض ذوی أرحامها کابنها أو أخیها أو أبیها إن لم یکن لها زوج»، انتهی.

وحمل خبر المؤخّر علی فرض عدم تعدّد الرَّحم ممّا لا ضرورة فیه؛ لأنّ ذلک


1- وسائل الشیعة: الباب 26 من أبواب الدفن، الحدیث 1 و 2 و 3 و 4 .
2- وسائل الشیعة: الباب 26 من أبواب الدفن، الحدیث 1 و 2 و 3 و 4 .
3- وسائل الشیعة: الباب 26 من أبواب الدفن، الحدیث 1 و 2 و 3 و 4 .
4- وسائل الشیعة: الباب 26 من أبواب الدفن، الحدیث 1 و 2 و 3 و 4 .

ص:215

بنفسه مطلوبٌ، سواء کان الرّحم متعدّداً أم لا، کما لا یخفی .

کما یظهر من خبری الولایة، وفتوی المفید رحمه الله بکون الترتّب فی الأولیاء هنا بالأقرب فالأقرب، لأن_ّه مقتضی الولایة.

کما أنّ الظاهر من خبر ابن عمّار کون الزوج أولی بها من غیره من الأولیاء خصوصاً من کان یراها فی حیاتها ما لا یراه غیره، ولا یخلو قوله: «إلاّ من کان یراها فی حال حیاتها» إشارةً وإشعاراً إلی ذلک، وإن کان عمومه یشمل المحارم أیضاً فیما عدا النظر إلی عورتها کما هو واضح.

کما أنّ مقتضی هذه الأخبار أنّ الأولی بالنساء هم الأولیاء وإنْ کُنَّ أرحاماً، خلافاً لأحمد حیث جعل النساء أولی. وضعّفه صاحب «الجواهر» قدس سره وقال: «هو ضعیفٌ لاحتیاج الدفن إلی مباشرة ما تضعف النساء عنه غالباً، وإلی ما یمنعن منه من جهة حضور الرِّجال غالباً ککشف الوجه والساعد».

أقول: ولا یخفی ما فی التعلیل إذا کانت المباشرة من الأرحام حیث تشمله العبارة، وإن کانت المناسبات المذکورة لا تخلو عن وجاهة غالباً، خصوصاً مع ما فی الأخبار الدالّة علی ترک مباشرة النساء لمثل ذلک .

نعم، إن لم یکن زوجٌ ولا رحمٌ من الرِّجال فالنساء، فإن تعذّرن، فالأجانب من الصُّلحاء، وإن کانوا شیوخاً فهم أولی کما فی «التذکرة» وتبعه علیه غیره.

فرع: بقی أن نبحث عن أنّ تصدّی الزوج أو الرّحم فی المرأة :

هل هو إلزامیٌ وواجبٌ کما یظهر من ظاهر «جُمل العلم والعمل» و«النهایة» و«المبسوط» و«المنتهی»؟

فی أحکام الأموات / استحباب الدعاء عند نزول القبر للدفن

أو استحبابی کما هو ظاهر العبارة هنا و«التذکرة» و«النهایة»، وصریح «المعتبر» و «الذکری»، وکذا صاحب «الجواهر»، حیث قال: «لا ینبغی الإشکال

ص:216

ویُستحبّ أن یدعو عند إنزاله القبر(1).

فی جواز تولّی النساء لذلک، ولا ینافیه الخبر کما هو الأقوی والمناسب لکلمة أولی الواردة فی الخبر»؟

نعم، قد یُشکل الأمر فی الأجانب مع وجود المحارم أو الزوج.

قال صاحب «الجواهر»: «ولا ریب أنّ الأحوط ترکه، وإن کان فی تحریمه نظرٌ وتأمّلٌ، بل منع، فتأمّل جیّداً».

مختارنا: أنّ الحکم بالحرمة مشکلٌ جدّاً، والأقوی استحبابه وإن کان الاحتیاط بترکه حسنٌ جدّاً، و اللّه العالم.

(1) الظاهر کون المراد استحباب الشروع بالدّعاء عند الإنزال، حتّی لا ینافی ما ورد من أنّ الدُّعاء یکون عند وضع المیّت فی القبر، کما هو الوارد فی أکثر أخباره:

منها: حدیث سماعة، عن الصادق علیه السلام ، قال: «إذا وضعت المیّت علی القبر قُل: اللّهُمَّ عبدک وابن عبدک وابن أمتَک نزل بک وأنت خیرُ منزولٍ به.. الخبر»(1).

ومنها: حدیث محمّد بن مسلم، عن أحدهما علیهماالسلام ، قال: «إذا وضع المیّت فی لحده فقُل: بسم اللّه وفی سبیل اللّه، وعلی ملّة رسول اللّه، اللّهُمَّ عبدک وابن عبدک، نزلَ بک وأنت خیرُ منزولٍ به، الحدیث».(2)

ومنها: روایة إسحاق بن عمّار، عن أبی عبد اللّه علیه السلام ، فی حدیثٍ: «فإذا وضعته فی قبره ففلّ عقدته وقُل: اللّهُمَّ یا ربّ عبدک وابن عبدک نزل بک، الحدیث».(3)

نعم، لا یبعد استفادة استحباب الدّعاء عند الإنزال من ذیل روایة الحلبی دون صدره، إذ الوارد فی صدره قوله: «عن أبی عبداللّه علیه السلام فی حدیثٍ: فإذا وضعته فی


1- وسائل الشیعة: الباب 21 من أبواب الدفن، الحدیث 4 و 2 و 6 .
2- وسائل الشیعة: الباب 21 من أبواب الدفن، الحدیث 4 و 2 و 6 .
3- وسائل الشیعة: الباب 21 من أبواب الدفن، الحدیث 4 و 2 و 6 .

ص:217

القبر فاقرأ آیة الکرسی وقُل بسم اللّه وباللّه وفی سبیل اللّه وعلی ملّة رسول اللّه».

ثمّ جاء فی ذیلها نقلاً عن علیّ بن الحسین علیه السلام ، هکذا: «وکان علیّ بن الحسین إذا أدخل المیّت القبر قال: اللّهُمَّ جاف الأرض عن جنبیه، وصاعد عمله، ولقّه منک رضواناً»(1).

فی أحکام الأموات / فروض دفن المیّت

والأمر متوقّفٌ علی کیفیّة قراءة کلمة (أدخل) فإن قُرأ علی نحو المبنی أفاد الحکم المذکور للفاعل، بخلاف ما لو قُرأ مبنیّاً علی المجهول حیث یساعد مع الوضع، وهو حسنٌ، مضافاً إلی مناسبته مع الصدر، حیث یناسب مع ما یفهم من الدّعاء بقوله: «جاف الأرض عن جنبیه»، فلیتأمّل.

وکیف کان، فاستحباب الدّعاء بعد الوضع مورد اتّفاق العلماء، کما فی «المعتبر»، بل عن «النهایة» و«المقنعة» و«المبسوط» و«المصباح» ومختصره و«التذکرة» و«المنتهی» و«نهایة الأحکام» أن_ّه یقول إذا تناوله: «بسم اللّه وباللّه، وعلی ملّة رسول اللّه صلی الله علیه و آله ، اللّهُمَّ إیماناً بک وتصدیقاً بکتابک، هذا ما وَعَدنا اللّه ورسوله، وصَدَق اللّه ورسوله، اللّهُمَّ زدنا إیماناً وتسلیماً».


1- وسائل الشیعة: الباب 21 من أبواب الدفن، الحدیث 1 .

ص:218

واجبات وفروض الدفن

وفی الدّفن فروض وسُنن .

فالفروض: مواراته فی الأرض مع القدرة(1).

(1) لا خلاف ولا کلام فی وجوب الدّفن کفایةً عند المسلمین، إن لم یکن ضروریّاً، کما حکاه جماعة منهم الفاضلان، مضافاً إلی التأسّی بالنبیّ وعترته صلوات اللّه علیهم أجمعین ، وتبعیّة المسلمین عنهم بعدهم ، بل دلالة السنّة علیها کما سیأتی ، بل الکتاب کما فی قوله تعالی : « أَلَمْ نَجْعَلْ الاْءَرْضَ کِفَاتا أَحْیَاءً وَأَمْوَاتا»(1).

وفی «مجمع البحرین»: «کفاتاً أی أوعیة، واحدها کَفَتْ... وکانوا یسمّون البقیع الغرقد کفته، لأن_ّها مقبرة تضمّ الموتی من الکِفات بالکسر الذی یکفت فیه الشیء أی یضمّه»، انتهی(2).

ولعلّه إشارة إلی جمع الموتی تحت الأرض بالدفن فیها، کما یستفاد ذلک أیضاً من قوله تعالی: «مِنْهَا خَلَقْنَاکُمْ وَفِیهَا نُعِیدُکُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُکُمْ تَارَةً أُخْرَی»(3). وغیر ذلک من الآیات التی یمکن استفادة ذلک منها.

والدّفن: لغةً وعرفاً وشرعاً عبارة عن مواراة المیّت فی الأرض، بأن یُحفر له


1- سورة المرسلات: آیة 25 و 26 .
2- «مجمع البحرین»، مادّة (کفت).
3- سورة طه: آیة 55 .

ص:219

حفیرة ویُدفن فیها، هذا وقد نصَّ جماعة علی أنّ الحفیرة یجب أن تکون مشتملة علی أمرین: أن تحرسه من السِّباع، وتکتم رائحته عن الناس.

بل فی «المدارک»: «أن_ّه قد قطع الأصحاب وغیرهم بأنّ الواجب وضعه فی حفیرة تستر عن الإنس ریحه، وعن السِّباع بدنه، بحیث یعسر نبشها غالباً»، انتهی.

والظاهر کون الأمرین من فائدة الدفن المترتّب علیه، لا من ما توقّف مسمّاه علیه، لوضوح أنّ الدفن حقیقةً لا یتوقّف علیهما. نعم، لا یبعد کونه الغرض الأصلی منه ذلک، فیکون مطلوباً للشرع، وقد وردت الإشارة إلی ذلک فی کلام الإمام أبی الحسن الرضا علیه السلام علی ما فی «العلل» عن ابن شاذان، قال: «إنّما أمر بدفن المیّت لئلاّ یظهر الناس علی فساد جسده،وقبح منظره،وتغیّر رائحته، ولا یتأذّی الأحیاء بریحه، وما یدخل علیه من الآفة والفساد، ولیکون مستوراً عن الأولیاء والأعداء فلا یشمت عدوّه ولا یحزن صدیقه»(1).

بل ربما یمکن الحکم بوجوب الدفن أیضاً حتّی لو ترتّب علیه أحد الأمرین فقط، دون الآخر، کما لو دفن فی موضعٍ لم یکن فیه أحداً من الناس، أو کان فی محلٍّ محفوظ عن السِّباع.

نعم، قد یناقش فی کفایة ما لو وضع المیّت فی مکان لا یعدّ حفیرة لکنّه یحفظه عن السباع وانتشار الرِّیح، فلو کان الإجماع قائماً علی وجوب الدفن بالنحو المتعارف کما هوالمتداول عملاً عند المسلمین وعلیه سیرتهم، فلازمه وجوبه مطلقاً، کما لا إشکال فی حصول البراءة لو دفن کذلک .

ولکن استشکل صاحب «الجواهر» فی قیام هذا الإجماع المدّعی، إذ لم یدّعه أحدٌ قبل صاحب «المدارک»، فإثبات وجوبه تعبّداً حتّی مع تحصیل الوصفین


1- وسائل الشیعة: الباب 1 من أبواب الدفن، الحدیث 1.

ص:220

مشکلٌ جدّاً، فالقول بالاکتفاء بمسمّی الدفن عرفاً قویّ.

هذا ، ولکن لا یجوز أن یجعله فی بناءٍ أو فی تابوتٍ من صخر أو غیره مغطّیً أو مکشوفاً لعدم صدق الدفن علیه من وجه، بل هو خلاف الاحتیاط، ومخالفٌ لسیرة المتشرّعة کما لا یخفی ، وإن حصل بهذا النوع من الوضع الوصفان المذکوران.

نعم، وجوب الدفن بالمواراة یعدّ أمراً کفائیّاً، یتوقّف علی حصول القدرة علی المواراة بالحفر، وإلاّ یجب بما أمکن کما سنشیر إلی بعض مصادیقه.

أمّا دفن المیّت فی الأرض مع التابوت، فهو جائزٌ ولکنّه مکروه إجماعاً، کما عن الشیخ وصاحب «الجواهر»، ولعلّ الکراهة من جهة کونه دفناً بغیر المتعارف المسموع والمنقول عن النبیّ والأئمّة الأطهار صلوات اللّه علیهم.

نعم، یصحّ الدفن مع التابوت من دون أن یواریها الأرض لو تعذّر حفر لصلابة الأرض أو کثرة الثلج، وعدم إمکان شقّه، فیُدفن مع التابوت بشرط تحصیل الوصفین مع الإمکان بناءً علی اعتبارهما حتّی مع صدق الدفن بدونهما کما هو الأقوی، فإنّه مضافاً إلی دعوی الإجماع فیه، یمکن استفادة وجوبهما من التأمّل فی الأدلّة، ومراعاة حرمة المؤمن خصوصاً مع ملاحظة ما ورد فی کلام الإمام علیه السلام فی «العلل»، بل قد یمکن الاستیناس لذلک ممّا ورد فی راکب البحر من الحکم بالتغسیل ثمّ توثیق رجلیه بالحَجَر، ثمّ رمیه فی البحر، حیث لا یکون ذلک إلاّ دعایةً لحرمة المؤمن لئلاّ تطفو جثّته علی سطح الماء تتقاذفها الأمواج، حیث یوجب هتک حرمة بدن المؤمن، وهو واضح، وبملاحظة جمیع هذه الاُمور والمؤیّدات یُشرف الفقیه علی القطع بذلک .

فرع: هل یعتبر رعایة الأقرب فالأقرب إلی الدفن ومسمّاه؟ وجهان.

ص:221

لا إشکال فی کون المراعاة هو الأحوط، تحصیلاً لما هو المطلوب عند الشرع، هذا کلّه مع فرض عدم إمکان حمله ونقله إلی ما یمکن فیه الدفن، مع حفظ الحرمة بعدم تعفّن البدن وانتفاخه وتفسّخه الموجب للهتک ، وإلاّ وجب الدفن بالنقل إلیه.

کما أنّ الأمر کذلک لو أمکن الانتظار إلی حین تحصیل الواجب، خصوصاً مع ملاحظة وجود الأجهزة المبرّدة فی زماننا، حیث یمکن الاحتفاظ بالجنازة والانتظار إلی حین تهیئة مقدّمات الدفن دون أن یقع ما یوجب الوهن والهتک فی تأخیره.

قال صاحب «الجواهر»: «لم أقف علی نصٍّ هنا من أخبار الباب وکلام الأصحاب علی تحدید عدم الامکان، فهل هو مخافة تغیّره وظهور رائحته، أو حصول العُسر والمشقّة ونحوهما بنقله أو غیر ذلک؟» انتهی کلامه .

أقول: لا یبعد إمکان استفادة ذلک ممّا ورد فی راکب البحر، حیث حکم الإمام علیه السلام بالإلقاء برغم إمکان تحصیل الدفن عن قریب مع العُسر والمشقّة فی بعض أقسامه.

وعلیه، فالأولی ملاحظة العُسر والحَرج العرفیّان فی أمثال ذلک، فی إحرازه وتأخیره، کما تحصل تلک الاُمور غالباً عند تأخیر الدفن من تغییر لون جسد المیّت وظهور رائحته عادةً إلاّ إذا احتفظ به فی أجهزة التبرید المتداولة فی هذا العصر، وعلیه فالحکم فی المقام مثل سائر المقامات.

بل لا یخفی علیک وجوب الانتقال أو الانتظار عند فقد سائر الواجبات من الکافور والغُسل والکفن ونحوها ما لم یستلزم ترتّب تلک الاُمور من الفساد وهتک الحرمة، وإلاّ یقدّم الدفن علیها قطعاً، لأن_ّه المستفاد من تتبّع کلمات الأصحاب، بل یظهر منها کون ذلک من المسلّمات عندهم، واللّه العالم.

ص:222

وراکبُ البحر یُلقی فیه: إمّا مثَّقلاً، أو مستوراً فی وعاءٍ کالخابیة ونحوها(1).

(1) إذا مات راکبُ السّفینة فی البحر أو فی الأنهار العظیمة کالبحر، یفعل فی حقّه کما یُفعل لسائر الأموات خارج البحر من التغسیل والتکفین والتحنیط والصلاة علیه ونظائرها، ثمّ یُلقی فی البحر، إجماعاً محصّلاً ومنقولاً، وسنّةً مستفیضة، وفیها الصحیح وغیره، لکن یُخیّر بین إلقائه : إمّا بالتثقیل بأن یُشدّ برجلیه حَجراً أو حَدیداً أو نحوهما ممّا یوجب نزول المیّت سریعاً إلی تحت الماء، ویمنع عن ظهوره علی وجه الماء.

أو یُجعل فی خابیةٍ ونحوها ممّا تغوص فی الماء سریعاً وتذهب إلی قاع البحر، لثقلها لا صندوقاً وشبهه ممّا یظهر علی وجه الماء.

والتخییر هو المشهور بین الأصحاب علی ما حکاه بعض، بل قد یُنسب إلی الأصحاب بنحو مشعر بالإجماع علیه. وفی «الجواهر» ولعلّه کذلک.

ولکن فی کتب بعض الأصحاب الاقتصار علی أحد الأمرین: ففی «المقنعة» و«المبسوط» و«الوسیلة» و«السرائر» و«الفقیه» و«النهایة» الاقتصار علی الأوّل.

وفی «الخلاف»، ومالَ إلیه فی «المدارک» و«کشف اللّثام» و«الریاض» الاقتصار علی الثانی .

أقول: ولکن الظاهر عدم قصدهم بذلک بیان الاختصاص، بل لأجل بیان المصداق، والشاهد علی ذلک دعوی الشیخ رحمه الله فی «الخلاف» قیام إجماع الفرقة وأخبارهم علی مدّعاه، مع أنّ الروایة الصحیحة قد وردت علی نحو الثانی، وبرغم ذلک کیف یمکن أن یترک الأصحاب له ویقتصروا علی الأوّل، مع أنّ الخیار الثانی أولی لأنّ فیه صیانة المیّت عن الحیوانات، فکلّ ذلک قرینة علی

ص:223

أنّهم أرادوا بیان أحد فردی التخییر الذی علیه الأصحاب.

کما قد یؤیّد ذلک أنّ مثل الشیخ رحمه الله الذی اقتصر علی ذکر الخابیة فی خلافه، قد اقتصر علی ذکر التثقیل بالحَجر ونحوه فی غیر «الخلاف» کغیره ممّن عرفت من الأصحاب، بل لا أعرف أحداً ممّن تقدّمه اقتصر علی الخابیة، ولا هو فی غیر «الخلاف»، فلعلّ نقله الإجماع أقوی دلیل علی إرادة بیان أحد الفردین من التخییر، وکذا النسبة إلی الأخبار، مع أنّ الخابیة لم تُذکر إلاّ فی روایة واحدة صحیحة بخلاف التثقیل.

هذا، وینبغی التعرّض إلی الأخبار المشتملة علی أحد الأمرین :

منها: صحیحة عبداللّه بن مسکان، عن أیّوب بن الحرّ، قال: «سُئل أبو عبد اللّه علیه السلام عن رجلٍ مات وهو فی السفینة فی البحر کیف یصنع به؟

قال: یوضع فی خابیة وتوکأ(1) رأسها وتطرح فی الماء»(2).

فهذه الروایة هی الوحیدة المشتملة علی ذِکر الخابیة، بخلاف سائر الأخبار التی ورد فیها ذکر الأمر الآخر:

منها: روایة وهب بن وهب، عن أبیعبداللّه علیه السلام ، قال: «قال أمیرالمؤمنین علیه السلام : إذا مات المیّت فی البحر غُسّل وکُفّن وحُنّط، ثمّ یُصلّی علیه ثمّ یُوثق فی رجلیه حجرٌ ویُرمی به فی الماء»(3).

ومنها: روایة مرسلة أبان، عن رجل، عن أبی عبد اللّه علیه السلام ، أن_ّه قال: «فی الرجل یموت مع القوم فی البحر؟


1- الوکاء بالکسر والمدّ خیط یشدّ به السُّرّة والکیس والقربة ونحوها «مجمع البحرین».
2- وسائل الشیعة: الباب 40 من أبواب الدفن، الحدیث 1 .
3- وسائل الشیعة: الباب 40 من أبواب الدفن، الحدیث 2.

ص:224

فقال: یُغسّل ویُکفّن ویُصلّی علیه ویُثقل ویرمی به فی البحر».(1)

ومنها: روایة مرفوعة سهل بن زیاد، رفعه عن أبی عبد اللّه علیه السلام ، قال: «إذا مات الرجل فی السفینة ولم یقدر علی الشطّ؟ قال: یُکفّن ویحنّط فی ثوب ویصلّی علیه ویُلقی فی الماء».(2)

ومنها: روایة «فقه الرضا»: «وإن مات فی سفینةٍ فاغسله وکفّنه وثقّل رجلیه وألقه فی البحر»(3).

ولا یقدح ما فی سند بعضها من الإرسال والرفع أو غیرهما کما فی روایات کتاب «فقه الرّضا»، لانجبارها بما قد عرفت من الإجماع والشهرة کما لا یخفی . ولا خصوصیّة فی ذکر الأمرین، بل یجوز بکلّ ما یوجب وصول جسد المیّت إلی قاع البحر بما إذا لم یستلزم الهتک فیه، فلیتأمّل.

أقول: ثمّ لا یخفی أن_ّه یمکن استفادة الحکم المذکور _ أی الإلقاء بشدّ الجنازة بشیء یهوی بها إلی قاع البحر أو النهر سریعاً _ ما إذا خیف علی میّت نبش قبره وإخراجه والتمثیل به، فیجوز الإلقاء حفظاً عن ذلک وفراراً عن هتک حرمته ولحوق الإهانة به، کما قد یؤیّد ذلک ما ورد فی خبر سلیمان بن خالد، المرویّ عن «الکافی»، قال: «سألنی أبو عبد اللّه علیه السلام فقال : ما دعاکم إلی الموضع الذی وضعتم فیه عمّی زیداً.. إلی أن قال : کم إلی الفرات من الموضع الذی وضعتموه فیه ؟ فقلت: قذفة حجر.

فقال: سبحان اللّه أفلا کنتم أوقرتموه حدیداً وقذفتموه فیالفرات، وکان أفضل»(4).


1- وسائل الشیعة: الباب 40 من أبواب الدفن، الحدیث 3 و 4 .
2- وسائل الشیعة: الباب 40 من أبواب الدفن، الحدیث 3 و 4 .
3- «فقه الرّضا»: 173، المستدرک: ج1 الباب 37 من أبواب الدفن، الحدیث 1.
4- وسائل الشیعة: الباب 41 من أبواب الدفن، الحدیث 1.

ص:225

وروایته الاُخری، قال: «قال لی أبو عبد اللّه علیه السلام : کیف صنعتم بعمّی زیداً؟

قلت: إنّهم کانوا یحرسونه، فلمّا شف الناس أخذنا جثّته وقذفناه فی حرف علی شاطئ الفرات، فلمّا أصبحوا جالت الخیل یطلبونه فوجدوه فأحرقوه.

فقال: ألا أوقرتموه حدیداً وألقیتموه فی الفرات، صلّی اللّه علیه، ولعن اللّه قاتله».(1)

بل قد یُقال بوجوب ذلک وعدم جواز الدفن فی الأرض مع العلم بذلک، کما صرّح بذلک العلاّمة فی «المنتهی» وکذلک فی «کشف اللّثام»، ولا بأس به، کما یشعر به اللّوم المذکور فی الخبرین بترکه، ولکن فی الخبر الأوّل قال: «کان أفضل»، وقیل إنّه کالصریح فی عدم الوجوب.

ولکن یمکن أن یُجاب عنه: أن_ّه لا ینافی الوجوب؛ لأنّ الأفضلیّة هنا إشارة إلی ما قد مضی من السؤال والجواب وتأثّر الإمام علیه السلام بما فُعِل بجسد عمّه رحمه الله ، فلا ینافی الوجوب مع ما یستفاد من ظاهر الخبر، ولأجل ذلک التزم أصحابنا بالوجوب مع أن_ّهم رأوا هذه الکلمة فی الروایة.

فرع: هل تجب رعایة الاستقبال حال الإلقاء لأجل کونه دفناً أو کالدفن؟

فیه وجهان بل قولان: المحکیّ عن ابن الجنید وجماعة هو الوجوب.

لکن لا إشکال فی کونه أحوط، إلاّ أنّ مقتضی إطلاق الأدلّة والأصل عدمه، بل لا یشمله ما دلّ علی رعایة الاستقبال فی الدفن لمثله لعدم کونه دفناً عرفاً، ولکن مع ذلک کلّه رعایته لا یخلو عن حُسن جدّاً، خصوصاً مع محبوبیّة الاستقبال فی کلّ شیء، کما لا یخفی.

ولأجل ذلک ذهب صاحب «الحدائق» و«الجواهر» و«مصباح الهدی» إلی عدم الوجوب، برغم حُسن الاحتیاط فی مثل هذا الأمر، و اللّه العالم.


1- وسائل الشیعة: الباب 41 من أبواب الدفن، الحدیث 2.

ص:226

مع تعذّر الوصول إلی البرّ (1).

(1) حکم جواز الإلقاء موقوفٌ علی تعذّر الوصول إلی البرّ أو تعسّره، کما فی «الجواهر» حیث قال: «بلا خلاف أجده»، ولا حکاه عن أحدٍ سوی ما فی «المدارک» من أنّ ظاهر المفید فی «المقنعة» والمصنّف فی «المعتبر» جواز ذلک ابتداءً، وإن لم یتعذّر البرّ، ولکن أنکر ظهور کلامهما فیه، والأمر کذلک؛ لأنّ وجوب الدفن فی الأرض من ضروریّات دیننا، بل دین الیهود والنصاری وأکثر الکفّار، فلا یحتاج إلی ذکر القید فی الأخبار بعدما یعدّ من الواضحات، وعلیه فلا وجه للاستدلال علی وجوب الإلقاء بشرط التعذّر بترک الاستفصال، لأن_ّه من المعلوم من حال السائل بحسب الغالب أن_ّه یسأل عن حکم المیّت فی البحر عند تعذّر الوصول إلی الأرض والدفن فیها، وإلاّ لا داعی لهم بالسؤال کما لا یخفی.

هذا فضلاً عن ذکر القید فی مرفوع سهل بن زیاد، عن أبی عبداللّه علیه السلام ، قال: «إذا مات الرجل فی السفینة، ولم یقدر علی الشطّ؟ قال: یُکفّن ویحنّط فی ثوب ویصلّی علیه ویلقی فی الماء»(1).

وضعفه ینجبر بفتوی الأصحاب، فیقیّد به الإطلاقات، فیرفع به الإشکال.

ومن هنا یظهر حکم ما لو کان له الرجاء بالتمکّن لقصر مدّته، وعدم فساد بدنه، حیث یعدّ الصبر واجباً، فلا وجه للتردّد فیه من جهه إطلاق الأدلّة وعدم العلم بتعذّر الدفن، کما صدر عن «جامع المقاصد»، أو الحکم بعدم التربّص به کما عن ظاهر «الذکری»؛ لوضوح مثل ذلک بمناسبة الحکم والموضوع، فلا وجه للأخذ بالإطلاق کما لا یخفی علی المتأمّل، وعلیه فالأقوی وجوب التربّص به إلی حین بلوغ الأرض ودفنه فیها .


1- وسائل الشیعة: الباب 40 من أبواب الدفن، الحدیث 4 .

ص:227

وأن یُضجعه علی جانبه الأیمن مستقبل القبلة(1).

(1) من جملة الواجبات إضجاع المیّت علی جانبه الأیمن، وجعله مستقبل القبلة، والمسألة موضع وفاقٍ بین المتقدّمین والمتأخّرین، بل لا یُعرف فیه خلافاً إلاّ عن ابن حمزة فی «الوسیلة» حیث عدّه من المستحبّات، وإن یحتمل ذلک عبارات بعضهم علی ما فی «الجواهر»، کما یحتمل ذلک من حصر الشیخ الواجب علی خصوص الدفن، بل ربّما ظهر من ابن سعید فی «الجامع» وفاقه لوجوب الاستقبال، والنزاع أو الاستحباب فی الأوّل _ أی الإضجاع _ حیث قال: «الواجب دفنه مستقبل القبلة، والسنّة أن تکون رجلاه شرقیّاً ورأسه غربیّاً علی جانبه الأیمن»، انتهی.

أقول: الأقوی هو الوجوب فی کلیهما، للإجماع المحکیّ فی ظاهر «الغنیة»، بل صریحها، المعتضد بنفی الخلاف فیه عن «شرح الجُمل» للقاضی، وبما فی «المعتبر» و«الذکری» و«جامع المقاصد» من أنّ علیه عمل الصحابة والتابعین، وبالتأسّی بالنبیّ المختار صلی الله علیه و آله والأئمّة الأطهار علیهم السلام ، وبدلالة صحیحة معاویة بن عمّار التی رواها الصدوق، عن أبی عبد اللّه علیه السلام ، قال: «کان البراء بن المعرور الأنصاری بالمدینة ورسول اللّه بمکّة وأن_ّه حضره الموت، وکان رسول اللّه صلی الله علیه و آله والمسلمون یصلّون إلی بیت المقدس، فأوصی البراء أن یُجعل وجهه إلی تلقاء النبیّ صلی الله علیه و آله ، وأن_ّه أوصی بثُلث ماله فجَرَت به السنّة»(1).

ورواه الکلینی بإسناده إلی معاویة بن عمّار نحوه، إلاّ أن_ّه أسقط ذکر مکّة وقال: «أن یُجعل وجهه إلی رسول اللّه صلی الله علیه و آله إلی القبلة، وأن_ّه أوصی بثُلث ماله،


1- وسائل الشیعة: الباب 61 من أبواب الدفن، الحدیث 1 .

ص:228

فنزل به الکتاب وجَرَت به السنّة»(1).

والمراد بالسنّة هنا هو الطریقة الواجب اتّباعها لا الاستحباب، کما یمکن استفادة ستحباب ذلک من الخبر الذی رواه العلاء بن سیابة، عن أبی عبد اللّه علیه السلام فی حدیث القتیل إذا قطع رأسه، قال: «إذا أنت صرت إلی القبر تناولته مع الجسد وأدخلته اللّحد ووجّهته القبلة».(2)

فلو لم یکن التوجّه إلی القبلة فیالبدن واجباً، لما کان للحکم بذلک فیالرأس توجیه.

بل قد یستفاد الحکم المذکور من الخبر المرسل الذی رواه الصدوق فی هدایته عن الصادق علیه السلام ، أن_ّه قال: «إذا وضعت المیّت فی لحده فضعه علی یمینه مستقبل القبلة».(3)

حیث أنّ ظاهر الأمر یدلّ علی الوجوب، مع انجبار إرساله بالشهرة والإجماع، وهکذا یقال فی الخبر الذی رواه صاحب «دعائم الإسلام» عن علیّ علیه السلام : «أن_ّه شهد رسول اللّه صلی الله علیه و آله جنازة رجلٍ من بنی عبد المطّلب، فلمّا أنزلوه قبره، قال: اضجعوه فی لحده علی جنبه الأیمن مستقبل القبلة، ولا تکبّوه لوجهه ولا تلقوه لظهره».(4)

وکذلک الخبرالمرویّ فی «فقه الرضا»: «ضعه فی لحده علی یمینه مستقبل القبلة»(5).

هذا کلّه مع إمکان الاستفادة بالفحوی عمّا ورد فی کیفیّة دفن الذمیّة الحامل


1- وسائل الشیعة: الباب 61 من أبواب الدفن، الحدیث 2 و 3 .
2- وسائل الشیعة: الباب 61 من أبواب الدفن، الحدیث 2 و 3 .
3- المستدرک: ج1 الباب 19 من الدفن، الحدیث 2 .
4- المستدرک: ج1 الباب 51 من أبواب الدفن، الحدیث 1 .
5- المستدرک: ج1 الباب 19 من الدفن، الحدیث 1 .

ص:229

إلاّ أن تکون امرأةً غیر مسلمةٍ حاملاً من مُسلمٍ فیُستدبر بها القبلة(1).

من المسلم، بأن تدفن علی نحوٍ یکون ظهرها مستقبل القبلة حتّی یقع وجه الطفل إلی القبلة، مع أنّ مناسبة الحکم والموضوع تقتضی ذلک، لأن_ّه إذا کان فی حال الاحتضار یجب الاستقبال، ففی هذا الحال تکون الحاجة أشدّ، مع ملاحظة حُسن الإتیان بما فیه رجاء الصلاح والنفع إلیه أشدّ من سائر الأحوال، وعلیه فالوجوب ثابتٌ ولا وجه للتشکیک فیه بما فی «الجواهر» بقوله: «هذا کلّه والمسألة بعده لاتخلو من شوب الإشکال».

کما أن_ّه لا إشکال علی القول بالوجوب لزوم رعایة ذلک فی مثل ما یصدق علیه أن_ّه من ما یوجب صدق تحقّق الاستقبال کالرأس وتمام الجسد بلا رأس، بل حتّی خصوص الصدر، الموجب لصدق الاستقبال بمقادیم البدن به، لو لم نقل به فی جمیع الأجزاء مع التمکّن، بحیث یلتئم منه شخصٌ مستقبل به، کما لا یخفی.

(1) أقول: لا فرق فی هذا الاستثناء بین کون المرأة ذمّیة أو غیرها، وبین سبق الإسلام علی الحمل، أو تأخّره کأن أسلم علیها وهی حامل، بل ولا بین کون الحمل من الزِّنا أو غیره، وقیل بأنّ الاستثناء منقطعٌ لعدم وجوب الاستقبال لغیر أهل الاستقبال حتّی یُستثنی منه ذلک .

نعم، یصحّ الاستثناء حقیقةً من حرمة دفن غیر المسلم فی مقابر المسلمین هنا إن أجزنا ذلک فیه، ولم نقل بوجوب دفنها فی مکانٍ ثالث لا فی مقابر الکفّار ولا المسلمین، إذ حرمة دفن غیر المسلم فی مقابر المسلمین مسلّمٌ ومجمعٌ علیه کما فی «التذکرة» و«الذکری» و«جامع المقاصد» و«الروض»، بل علّل ذلک فی «نهایة الأحکام» بقوله: «لئلاّ یتأذّی المسلمون بعذابهم»، بل قال الشهید رحمه الله : «إنّه

ص:230

لو دفن نُبش إن کان فی الوقت، ولا یبالی بالمثلة، فإنّه لا حرمة له، ولو کان فی غیره أمکن صرفاً للأذی عن المسلمین، ولأن_ّه کالمدفون فی الأرض المغصوبة، بخلاف الذمیّة الحامل من مسلمٍ، فإنّها تدفن فی مقابرهم احتراماً لولدها».

وقال صاحب «الجواهر»: «بلا خلافٍ أجده، بل عن «الخلاف» الإجماع، وفی «التذکرة»: قاله علمائنا».

ومنه یُفهم حکم وجوب دفن المرأة الحامل علی نحو یحصل القبلة للولد بالإجماع، مضافاً إلی أنّ الولد محکومٌ بالإسلام، فلا یجوز دفنه فی مقابر الکفّار لإجراء أحکام المسلمین علیه.

نعم، یبقی هنا بأن_ّه هل یجوز شقّ بطنها وإخراج الولد منه أم لا؟

قال صاحب «الجواهر»: «الجواز غیر معلوم، بل معلوم العدم؛ لأن_ّه ربما یکون فی ذلک هتکُ حُرمة المیّت، وإن کان ذمیّاً لغرض ضعیف، بل لعلّه هتکٌ لحرمة الولد، فلم یبق حینئذٍ إلاّ دفنها فی مقابر المسلمین».

أقول: ولکن لا یخفی ما فیه، إذ الذمیّة لا حرمة لها حتّی یصدق فی حقّها الهتک، فالأولی إسناد الهتک إلی الولد المسلم، باعتبار أنّ بطنها حینئذٍ یکون بمنزلة وعاءٍ یضمّ الولد، وبقاء الولد فیه موجبٌ لإیذاء الولد المیّت، ولعلّ نفس هذه المجاورة أوجب أن لا یسری عذابها إلی سائر المؤمنین، أو أوجب ظرفیّتها للولد المسلم تخفیفاً فی عذابها، ولأجل ذلک ورد فی الروایة بالدفن معها، وأجاز الفقهاء دفنها فی مقابر المسلمین، والعلم عند اللّه عزّ وجلّ. بل قد ادّعی الإجماع علیه عن «الخلاف»، بل فی التذکرة نسبته إلی علمائنا.

وربّما استدلّ علیه أیضاً: _ أی مضافاً إلی الإجماع _ بروایة یونس، قال: «سألتُ الرضا علیه السلام عن الرجل یکون له الجاریة الیهودیّة والنصرانیّة فیواقعها

ص:231

فتحمل، ثمّ یدعوها إلی أن تسلم فتأبی علیه، فدنی ولادتها فماتت وهی تطلق، والولد فی بطنها ومات الولد، أیُدفن معها علی النصرانیّة، أو یُخرج منها ویُدفن علی فطرة الإسلام؟ فکتب: یُدفن معها»(1).

فإنّ الروایة وإن هی ساکتة عمّا یدفن فیه، ولکن مع التوجّه بحرمة دفن المسلم فی مقابر الکفّار، لابدّ أن یُحمل علی أنّ الإمام علیه السلام حکم بدفنها فی مقابر المسلمین لأجل حرمة الولد المسلم، فیصرف قوله علیه السلام : «یُدفن معها» إلی ذلک.

هذا، والروایة وإن هی ضعیفة السند، إلاّ أن_ّها منجبرة بفتوی الأصحاب وعملهم، فاعتراض المحقّق فی «المعتبر» بضعفها سنداً ودلالةً غیر مقبول.

کما أنّ کون الأصل فی الدفن هو الشرعی منه، لأجل کونه حقیقة شرعیّة.

غیر تامّ؛ لأنّا نقول بذلک حتّی علی القول بعدم ثبوت الحقیقة الشرعیّة، لأجل انصراف الدفن إلی ما هو المشروع فی حقّ المسلم، وهو لیس إلاّ دفنه فی مقابر المسلمین کما لا یخفی.

أقول: ینبغی ملاحظة أمرٍ وهو أنّ الروایة لو خلّیت وطبعها، لولا ملاحظة کلمة الدفن المنصرفة إلی الشرعی منه، ظاهرةٌ بل صریحة _ کما فی «مصباح الهدی» _ فی نفی شقّ البطن، ومشعرةٌ بلزوم الدفن فی مقابر المسلمین دون الکفّار کما لایخفی علی المتأمّل فیقوله: «أیدفن معها علی النصرانیّة؟ وجواب الإمام علیه السلام : یُدفَن معها». ولکن حیث یعلم من الخارج عدم جواز الدفن فی مقابر الکفّار، ومن ناحیة لم یجوّز شقّ البطن، یفهم کون الوظیفة هو الدفن فی مقابر المسلمین، لأجل کون الولد ملحقاً بالإسلام والمسلمین، وکون بطن الاُمّ هنا بمنزلة الوعاء الذی یضمّ الولد، فیلزم رعایته کسائر الأموات، فتدفن فی مقابر المسلمین کما علیه الأکثر، بل الکلّ.


1- وسائل الشیعة: الباب 39 من أبواب الدفن، الحدیث 2.

ص:232

نعم، لولا ذلک لأمکن اختیار شقٍّ رابع: غیر شقّ البطن، ولا الدفن فی مقابر الکفّار لحرمته لأجل الولد، ولا مقابر المسلمین لأجل اُمّه، بل تُدفن فی مکانٍ ثالث منفصل عن المقبرتین، وإن لم یمکن دفنت فی مقابر المسلمین.

ولکنّ الأصحاب أطلقوا فی جواز الدفن فی مقابر المسلمین من غیر تقیید، وجعلوا المورد من موارد الاستثناء عن حرمة الدفن فی مقابرهم، فنتبعهم فیه.

أقول: هاهنا فروعٌ مفیدة یقتضی المقام التعرّض لها:

الفرع الأوّل: هل یعتبر فی الولد أن یکون موته بعد ولوج الروح فیه کما هو ظاهر الروایة؛ أی قد فرض فیها أن_ّه مات، أو لا یعتبر ذلک فیه، بل لابدّ أن یلاحظ هذا الحکم حتّی لو لم یلج فیه الروح؟

ذهب الشیخ والحلّی إلی الأوّل، خلافاً للمحقّق والعلاّمة والسیّد فی «العروة» والمحقّق الآملی تبعاً لصاحب «الجواهر» وغیره، لتنقیح المناط، وهو حرمة ولد المسلم، ووجوب دفنه مستقبل القبلة، وهو متحقّق فیمن لم یلج فیه الروح.

نعم، یظهر من ظاهر عبارات الأصحاب اعتبار تمامیّة الحمل، وعدم الاکتفاء بمطلقه، وإن کان إطلاق العبارة وغیرها یتناوله، ولعلّه للاحترام کما فی اُمّ الولد، مع عدم الإجماع علی حرمة الدفن فی هذا الحال، وعدم صدق الولد علی غیر التامّ منه الذی هو معقد الإجماع .

الفرع الثانی: هل یعتبر کون الولد من سبب حلالٍ کالنکاح أو الوطئ بالشبهة أو ملک یمینٍ، أو لا یعتبر، بل یجری هذا الحکم لکلّ مولودٍ من المسلم ولو کان بسبب غیر مشروع کالزِّنا ؟

ظاهر إطلاق عبارة «الشرائع» هو الثانی، حیث قال: «إلاّ أن تکون إمرأة غیر مسلمة حاملاً من مسلم»، ولعلّه یقتضیه تغلیب جانب الإسلام والولادة علی

ص:233

الفطرة کما اُشیر إلیه فی الحدیث المشهور عن النبیّ صلی الله علیه و آله : «کلّ مولودٍ یولد علی الفطرة فإنّ أبواه یُهوّدانه ویُنصّرانه ویُمجّسانه».

هذا، ومن جهةٍ اُخری یحتمل أن یختصّ الحکم بغیر ولد الزِّنا، إذ لا تبعیّة فی مثله، ولا حرمة له. واختصاص الخبر بالولد الحلال ولا یشمل لمثله، وهو مختار صاحب «الجواهر» وغیره، حتّی مثل السیّد فی «العروة» حیث قیّدوا الحکم بما إذا کان بنکاح أو شُبهةٍ أو ملک یمین، والظاهر أن_ّه قد أخرج ولد الزِّنا عنه، بل لعلّه المتبادر من إطلاق المصنّف والعلاّمة وغیرهما لمعقد إجماع «الخلاف» و«التذکرة»، فلا یتحقّق حینئذٍ خلافٌ فی المسألة.

أقول: الظاهر أن_ّه لم یُشاهد من أحد من الفقهاء من المتقدّمین والمتأخّرین التصریح فی إلحاقه بالمسلم فی هذا الحکم، فلعلّ الإجماع القائم علی عدم جواز دفن الکافرة فی مقابر المسلمین یبتنی علی عمومه وقوّته، ولم یقطع بشمول الدلیل الدالّ علی الاستثناء لمثله، فیرجع فی المشکوک إلی حکم عموم العام، فلا یمکن إلحاقه بالولد الحلال فی ذلک، بعدما عرفت من عدم وجود دلیلٍ علی إلحاقه واستثنائه. کما أنّ الروایة النبویّة: «الولد یولد علی الفطرة» راجعة إلی حکمٍ آخر غیر مرتبط بما نحن بصدده، کما لا یخفی .

الفرع الثالث: ظاهر عبارة المصنّف حیث عبّر عنها: (بغیر مسلمة)، وبعض آخر عبّر عنها بالمشرکة، أن_ّه لا فرق بین أقسام الکفّار، بل معقد إجماع «الخلاف» هو عدم الفرق بین الذمیّة وغیرها، وإن کان مورد الخبر الأوّل کجملة عبارات الأصحاب، بل المحکیّ عن ظاهر الأکثر الاقتصار علی المتیقّن.

ولکن الأقوی عندنا هو التعمیم للعلّة المومی إلیها.

واحتمال تجویز شقّ البطن فی المشرکة دون الذمیّة، لأجل عدم الاحترام للاُولی بخلاف الثانیة .

ص:234

غیر مقبول، لأنّ البطن هنا لیس إلاّ کالوعاء للولد، ولا فرق فی ذلک بین الموردین کما لا یخفی.

الفرع الرابع: فی بیان کیفیّة دفن المرأة الکافرة الحامل:

قال المصنّف رحمه الله بأن_ّه یستدبر بها القبلة لیکون وجه الجنین فی بطنها إلی القبلة، لأنّ وجهه وهو فی البطن إلی ظهر اُمّه، ولأجل ذلک قیّد بعضهم الکیفیّة بهذه الطریقة کما فی «التذکرة» حیث قال: «یستدبرها إلی القبلة علی جانبها الأیسر لیکون وجه الجنین إلی القبلة علی جانبه الأیمن، وهو موضع وفاق»، انتهی.

فوجوب ذلک ثابتٌ لا خلاف فیه، بل هو بعض معقد إجماع «الخلاف»، فکان التقیّد بذلک لازماً لأجل تحصیل ما هو الواجب لمیّت المسلم الذی هو الطفل.

واحتمال سقوط رعایة ذلک للأصل، ودعوی عدم ظهور الأدلّة لشموله.

ضعیفٌ غایته، بل لولا دلالة الدلیل لقلنا بوجوب شقّ البطن وإخراجه للتغسیل والتحنیط وغیره، ولذلک یجب الاقتصار علی سقوط ما ینافی الاحترام دون غیره کما لا یخفی، فیحمل إطلاق کلام المصنّف رحمه الله وغیره علی صورة التقیید، وإنّما ترکوه اکتفاءً بما ذکروه فی کیفیّة دفن الأموات.

ص:235

مستحبّات الدفن

والسُنن: أن یُحفر القبر قدر قامة أو إلی الترقوة(1).

(1)استحباب الحفر إلی القامة أو إلی الترقوة إجماعیٌّ، وبذلک صرّح صاحب «الجواهر» وقال: «عند علمائنا أجمع، کما فی «التذکرة» و«جامع المقاصد»».

وفی «کشف اللّثام»: «قطع به الأصحاب ومذهبهم کما فی «المدارک»».

بل إلیه یرجع کلام «الخلاف» من دعوی قیام الإجماع من الفرقة والعمل منهم علی استحباب حفر القبر قدَر قامة وأقلّه إلی الترقوة، بل أیّدهم صاحب «الجواهر» بعدم العثور علی مخالفٍ محقّق من الأعلام، وإن شوهد عن بعضٍ کصاحب «الغنیة» إلی الاقتصار بالأوّل منهما، وادّعی الإجماع وتَرَک ذکر الآخر، لکنّه لیس مخالفاً للأصحاب کما یظهر للمتأمّل.

فی أحکام الأموات / سنن الدفن

کما أنّ ذکر واحدٍ منهما فی بعض الأخبار لا ینافی التخییر المستفاد من الإجماعات ومن ضمّ بعض الأخبار مع بعض.

أقول: المهمّ فی المقام التعرّض للأخبار الواردة فی الباب:

منها: خبر ابن أبی عمیر، عن بعض أصحابه، عن أبی عبد اللّه علیه السلام ، قال: «حدّ القبر إلی الترقوة. وقال بعضهم إلی الثدی، وقال بعضهم قامة الرجل حتّی یمدّ الثوب علی رأس من القبر، وأمّا اللّحد فبقدر ما یمکن فیه الجلوس.

قال:ولمّا حضر علیّبن الحسین علیه السلام الوفاة قال: احفروا لی حتّی تبلغوا الرشح»(1).(2)


1- وسائل الشیعة: الباب 14 من أبواب الدفن، الحدیث 2.
2- الرشح: هو الذی فی أسفل الأرض .

ص:236

وروی الصدوق مرسلاً عن الصادق علیه السلام نحوه إلی قوله: «الجلوس فیه».

ورواه الکلینی عن عدّة من أصحابنا، عن سهل بن زیاد، قال: «روی أصحابنا أنّ حدّ القبر..» وذکر نحوه.

ویحتمل أن یکون المراد من (البعض) المذکور فی الروایة:

1 _ إمّا أن یکون من کلام ابن أبی عمیر دون الإمام علیه السلام ، لاستبعاد أن ینقل الإمام علیه السلام قول غیره؛ لأن_ّه غیر معهود عنهم علیهم السلام فی مقام بیان الأحکام، فیحتمل حینئذٍ أن یکون مقصود ابن أبی عمیر من البعض هو أحد الأئمّة علیهم السلام ، فحینئذٍ یوجبُ التخییر بین الثلاثة الواردة فی الحدیث ، لأن_ّه حینئذٍ یرجع الحکم إلی کلام الإمام علیه السلام .

2 _ أو یحتمل أن یکون المراد بعض أصحاب الأئمّة علیهم السلام ، کما یشهد به ما فی «الکافی»، عن سهل بن زیاد، قال: «روی أصحابنا أنّ حدّ القبر إلی الترقوة، وقال بعضهم: إلی الثدی، وقال بعضهم: قامة الرجل».

وذکر نحوه فی خبر ابن أبی عمیر، إلی أن قال: «ولمّا حضر علیّ بن الحسین علیهماالسلام الوفاة اُغمی علیه، فبقی ساعة ثمّ رفع عنه الثوب، ثمّ قال: الحمد للّه الذی أورثنا الجنّة نتبوّأ منها حیث نشاء فنِعْمَ أجرالعاملین. ثمّ قال: احفروا لی وابلغوا إلی الرشح، ثمّ مدّ الثوب علیه، فمات علیه السلام »(1).

فعلیه أیضاً یوجب الحکم بالتخییر، بناءً علی أنّ أصحاب الأئمّة لا ینقلون ذلک إلاّ عن الأئمّة علیهم السلام ، ولا یکون ذلک فتواهم، لعدم المعهودیّة بذلک عنهم، فیکون هذا النقل عنهم کالخبرین المرسلین المنقولین عنهم علیهم السلام .

3 _ أن یکون المراد من البعض بعض العامّة، لکنّه بعیدٌ جدّاً إذ لا موقع لنقل کلامهم بعد کلام الصادق علیه السلام .


1- مصباح الهدی: ج6 / 446 .

ص:237

هذا بناءً علی کونه من کلام ابن أبی عمیر.

وأمّا بناءً علی الاحتمال الآخر، وهو أن یکون نقل الأقوال من کلام الصادق علیه السلام ، وممّا یؤیّد ذلک ما ذکره الصدوق رحمه الله فی «الفقیه» حیث یقول: «وقال الصادق علیه السلام : حَدّ القبر إلی الترقوة، وقال بعضهم: إلی الثدیین، وقال بعضهم: قامة الرجل.. إلی آخره».

بناءً علی أن یکون نقل الأقوال من کلام الإمام علیه السلام لا الصدوق، فیحتمل أن یکون نقل الإمام کلامهم لأجل التقیّة، أو لبیان تشتّت آرائهم، والحال أنّ المتعیّن من حیث الاستحباب هو الترقوة.

کما یحتمل أن یکون المراد من بعضهم أحد آبائه المعصومین علیهم السلام حتّی یکون الخبر دالاًّ علی التخییر بین الثلاث.

وکیف کان، فهذه الاحتمالات غیر مانعة عن الاستدلال بهذا الخبر علی استحباب الحفر إلی الترقوة.

نعم، قد یتوهّم معارضته مع ما أمره السجّاد علیه السلام من الحفر إلی الرشح، حیث أنّ الحفر إلی ذلک _ أی الرشح وهو الذی فی أسفل الأرض _ ربما یزید عن القامة بکثیر.

والجواب: منع الکلیّة فی ذلک، لإمکان أن یکون البلوغ إلی ذلک مختلفاً فی الأراضی؛ أی بأن یبلغ إلیه بأقلّ من القامة، فلعلّ أرض البقیع کانت کذلک.

وأیضاً: قد یتوهّم التنافی بین الحَدّ المذکور مع ما فی خبر السکونی، عن أبی عبد اللّه علیه السلام : «أنّ النبیّ صلی الله علیه و آله نهی أن یعمق القبر فوق ثلاثة أذرع»(1).

بدعوی _ ما فی «الحدائق» _ من أنّ النهی عن ذلک لا یجامع استحباب العامّة،


1- وسائل الشیعة: الباب 14 من أبواب الدفن، الحدیث 1.

ص:238

فإنّ الثلاثة أذرع إنّما یصل إلی الترقوة فیکون مرجع حدیثی الثلاثة أذرع والترقوة إلی أمر واحد، والجواب عنه بقلّة الفصل بین القامة والترقوة غیر وجیه.

نعم، یصحّ أن یقال: إمّا بکون أرض البقیع کذلک کما قیل إنّه کذلک، فالنهی هنا خاصّ، فیطابق ذلک مع ما أمره السجّاد علیه السلام ، فلا یسری إلی سائر الأراضی.

أو یُقال: کون المستحبّ إلی خصوص الترقوة، والزائد عنه یعدّ مکروهاً لأجل هذا الحدیث، بحمل نهیه علی الکراهة دون الحرمة، وإلاّ خالف الإجماع کما لا یخفی.

وأیضاً: قد یتوهّم التنافی بین الحَدّ المذکور مع روایة أبی الصلت الهروی(1)، عن الرضا علیه السلام فی حدیثٍ، أن_ّه قال له: «سیحفر لی فی هذا الموضع، فتأمرهم أن یحفروا لی سبع مراقی إلی أسفل، وأن یشقّ لی ضریحة، فإن أبوا إلاّ أن یلحدوا، فتأمرهم أن یجعلوا اللّحد ذراعین وشبر، فإنّ اللّه سیوسّعه ما شاء» .

حیث إنّه یفید أمره بالحفر زائداً عن القامة.

اللّهُمَّ إلاّ أن یفرض تقارب المراقی حتّی لا تزید عن القامة کما فی «الجواهر» ولیس ببعید، ولا وجه لاستبعاده کما عن الآملی قدس سره .

ویحتمل أن یکون لجهةٍ بالخصوص فیه، وأراد علیه السلام أن یخرج محلّ دفنه عن سطح ما دفن فیه الرشید، فلا یکون حینئذٍ حکماً عامّاً لجمیع الناس، خصوصاً مع ملاحظة النهی الوارد فی ازدیاد التعمیق، وهذا الحمل غیر بعید، واللّه العالم.

أقول: ثمّ لا فرق فی هذا الحکم بین الرَّجل والمرأة، کما ادّعی العلاّمة فی «المنتهی» نفی الخلاف فیه، کما أنّ المراد من القامة والترقوة لمن کان مستوی الخلقة بحسب المتعارف، فالاکتفاء بغیره فی أحدهما لا یخلو عن ضعف؛ ولا یخفی أنّ التحدیدات فی جمیع الموارد عادةً تُحمل علی المتعارف ومنها المقام، واللّه العالم.


1- وسائل الشیعة: الباب 15 من أبواب الدفن، الحدیث 4 .

ص:239

ویَجعل له لحداً ممّا یلی القبلة(1).

(1) من جملة السُنن جعل اللّحد للمیّت، وهو أفضل من الشقّ إذا کانت الأرض صلبة.

والمرادُ من اللّحد کما فی «الجواهر» وغیره هو: أن_ّه إذا انتهی إلی أرض القبر، حَفَر فی جانبه مکاناً یوضع فیه المیّت.

والمراد من الشقّ: هو أن یحفر فی قعره شبه النهر، ویوضع فیه المیّت، ثُمّ یُسقف علیه .

وحیث کان السقف فی الأوّل هو نفس الأرض التی یحفر جنبه بقدر المیّت، فلابدّ ذلک من کون الأرض صلبة، إذ لا یمکن فعل ذلک فی الرخوة لأن_ّه ینهدم.

أقول: بعد الوقوف علی تفسیر المصطلحین، یقتضی المقام التعرّض لأصل الحکم وهو أفضلیّة الأوّل علی الثانی مع الصلابة، فقد ادُّعی قیام الإجماع وفتاوی الأصحاب علی ذلک، قال صاحب «الجواهر»: «بلا خلاف معتبر أجده، بل فی «الخلاف» و«الغنیة» الإجماع علیه مع زیادة عمل الفرقة فیالأوّل. وفی«التذکرة» و«المنتهی»: ذهب إلیه علمائنا، وفی «الذکری» و«جامع المقاصد» و«الروض»: عندنا، وفی «الحدائق»: أنّ علیه اتّفاق ظاهر کلام الأصحاب»، انتهی.

وعلیه، فالمسألة من حیث الإجماع وفتوی الأصحاب ثابتة لا خلاف فیها.

أمّا الأخبار: فقد وردت روایات تفید الحکم المذکور:

منها: صحیح الحلبی، عن أبی عبد اللّه علیه السلام : «أنّ رسول اللّه صلی الله علیه و آله لَحّد له أبو طلحة الأنصاری»(1).


1- وسائل الشیعة: الباب 15 من أبواب الدفن، الحدیث 1 .

ص:240

والمناقشة فیه: بأن_ّه لا یدلّ علی أمره به، فلعلّ فعله إنّما هو لکونه أحد الفردین المخیّرین بینه وبین الشقّ.

مدفوعة: بأنّ الظاهر کونه بإذن أمیر المؤمنین علیه السلام ، لأن_ّه کان المتولّی لدفن رسول اللّه صلی الله علیه و آله ، بل فی نفس العدول عن الشقّ إلی اللّحد علی ما فی الثانی من الکُلفة الزائدة، دلیلٌ علی أفضلیّته.

ومنها: روایة علیّ بن عبد اللّه، قال: «سمعتُ أبا الحسن موسی علیه السلام قال: فی حدیثٍ عن علیّ علیه السلام : لمّا قُبض إبراهیم ابن رسول اللّه صلی الله علیه و آله قال یا علیّ انزل فألحد ابنی، فنزل فألحد إبراهیم فی لحدٍ، الحدیث»(1).

حیث إنّه یدلّ أو فیه إشعارٌ بمعروفیّة اللّحد فی ذلک الوقت، حیث أمره علیه السلام بذلک، فیکون دالاًّ علی أفضلیّته.

ومنها: الخبر المرویّ عن أبی بصیر والذی یدلّ علی معروفیّة اللّحد، وجاء فیه قوله علیه السلام : «إذا وضعته فی اللّحد فضع فمک علی اُذنه فی الأوّل»(2).

ومنها: الخبر المرویّ عن زرارة، وجاء فیه: «إذا وضعت المیّت فی لحده قرأت، الحدیث»(3).

ومنها: خبر ابن عجلان: «فإذا وضعته فی لحده، فلیکن أولی الناس به ممّا یلی رأسه، الحدیث».(4) .

وغیر ذلک من الأخبار الواردة فی الباب (20) من أبواب الدفن فی کتاب «الوسائل».

بل قد احتجّ بعضهم بالخبر النبویّ الواصل إلینا من طرق العامّة، وهو


1- وسائل الشیعة: الباب 25 من أبواب الدفن، الحدیث 4 .
2- وسائل الشیعة: الباب 20 من أبواب الدفن، الحدیث 3 و 2 و 5 .
3- وسائل الشیعة: الباب 20 من أبواب الدفن، الحدیث 3 و 2 و 5 .
4- وسائل الشیعة: الباب 20 من أبواب الدفن، الحدیث 3 و 2 و 5 .

ص:241

قوله صلی الله علیه و آله : «اللّحد لنا والشقّ لغیرنا»(1).

ولا بأس به إذا کان مؤیّداً بما عرفت من الإجماعات المعتضدة بالنصوص من طرقنا، کما لا یخفی.

أقول: فی مقابل هذه الطائفة من الأخبار، هناک أخبارٌ تدلّ علی کون الشقّ أفضل من اللّحد :

منها: خبر إسماعیل بن همّام، عن أبی الحسن الرضا علیه السلام ، قال: «قال أبو جعفر علیه السلام حین احضر: إذا متُّ فاحفروا لی وشقّوا لی شقّاً، فإن قیل لکم إنّ رسول اللّه صلی الله علیه و آله لُحّد له فقد صدقوا»(2).

ومنها: روایة الحلبی فی حدیثٍ، قال: «قال أبو عبداللّه علیه السلام : إنّ أبی کتب فی وصیّته.. إلی أن قال: وشققتُ له الأرض من أجل أن_ّه کان بادناً».(3)

ومنها: روایة أبی الصلت الهروی المرویّ فی «العلل» و«العیون» عن الرضا علیه السلام ، فی حدیث إنّه قال: «سیُحفر لی فی هذا الموضع، فتأمرهم أن یحفروا لی سبع مراقی إلی أسفل، وأن یشقّ لی ضریحة، فإن أبوا أن یلحدوا، فتأمرهم أن یجعلوا اللّحد ذراعین وشبراً فإنّ اللّه سیوسّعه ما شاء».(4)

أقول: ولکن الإنصاف عدم دلالة هذه الأخبار علی أفضلیّة الشقّ، لما وقع فی الأوّل ما یدلّ علی کون اللّحد أفضل، حیث قال الإمام علیه السلام : «إن قیل لکم إنّ رسول اللّه صلی الله علیه و آله قد لُحّد له فقد صَدَقوا» فهذا بنفسه دالّ علی أفضلیّة اللّحد علی الشقّ.

کما ورد فی روایة الحلبی وجه تقدیم الشقّ علی اللّحد، وهو أن_ّه علیه السلام کان بدیناً، فلا یمکن توسیع القبر لرخاوة الأرض فینهدم، ولذلک أمر بالشقّ.


1- کنز العمّال: ج8 ص88 الرقم 1681 .
2- وسائل الشیعة: الباب 15 من أبواب الدفن، الحدیث 2 و 3 و 4 .
3- وسائل الشیعة: الباب 15 من أبواب الدفن، الحدیث 2 و 3 و 4 .
4- وسائل الشیعة: الباب 15 من أبواب الدفن، الحدیث 2 و 3 و 4 .

ص:242

کما أنّ فی روایة الهروی جهة خاصّة قد أمر بذلک، نظیر حکمه بالحفر إلی سبع مراقی.

وعلیه، فرفع الید عن تلک الأخبار بواسطة هذه الأخبار فی غایة الإشکال، ولذلک قام بعض الفقهاء بتقیید معقد إجماع «الخلاف» فی استحباب اللّحد بالصلبة، کما نصّ بعضهم مثل الفاضل والشهید علی استحباب الشقّ فی الرخوة، لکن قال المصنّف رحمه الله فی «المعتبر»: «إنّه یُعمل فی الأرض الرخوة شبه اللّحد من بناء تحصیلاً للفضیلة».

وقال صاحب «الجواهر»: «وهو لا یخلو من تأمّل لعدم صدق اللّحد علیه».

أقول: احتمال الأفضلیّة للّحد فی الفرض المزبور حتّی یحصل بالبناء، لایخلو عن تأمّل، لما قد عرفت من الخبرین من الحکم بالشقّ، ولکن مع صرف النظر عن ذلک، فإنّ احتمال درک الفضیلة بمثل ذلک حتّی یشابه مثل الحفر فقط، لایخلو عن وجه، کما لا یخفی.

وأمّا کون اللّحد ممّا یلی القبلة، فقد نصّ علیه جماعة، بل قد یظهر من بعض _ کالفاضل فی «التذکرة» _ دخوله فی مسمّی اللّحد، وعلیه یکون ذلک داخلاً فی معقد الإجماع أیضاً.

وجاء فی «جامع المقاصد» و«الروض» أن_ّه: «قال الأصحاب: وهو یکفی فی إثبات استحبابه».

بل یمکن استیناس ذلک من غیر کلام الأصحاب من محبوبیّته من ناحیة القبلة فی کلّ شیء، فضلاً عن مثل المقام، الموجب لإیصال الرحمة إلی المیّت فیه، کما لا یخفی.

ص:243

وتُحلُّ عُقد الأکفان من قِبل رأسه ورجلیه(1).

وکذا ینبغی أن یکون اللّحد واسعاً بقدر مایمکن للرّجل الجلوس فیه، لدلالة:

1 _ مثل خبر ابن أبی عمیر، عن بعض أصحابه فی حدیثٍ، عن الصادق علیه السلام : «وأمّا اللّحد فبقدر ما یمکن فیه الجلوس»(1).

2 _ ومعقد إجماع «الخلاف».

3 _ ولیسهل الجلوس لمنکرٍ ونکیر فیه.

وأیضاً: یستحبّ أن یکون اللّحد ذراعین وشبر کما ورد فی خبر أبی الصلت الهروی المتقدّم ذکره(2).

(1) أجمع الفقهاء علی استحباب حَلّ عُقد الأکفان، کما عن «الغنیة» و«المعتبر»، مضافاً إلی الأخبار التی سنشیر إلیها، مع أنّ فی حَلّ عقدها تسهیل لجلوس المیّت للمسألة، ولأنّ شدّها إلی حین الدفن کان لحفظ البدن عن خوف الانتشار، وغیر ذلک من الدواعی.

أمّا النصوص الدالّة علیه:

منها: خبر أبی بصیر، قال: «سألت أبا عبد اللّه علیه السلام عن عقد کفن المیّت؟ فقال: إذا أدخلته القبر فحلّها»(3).

ومنها: روایة حمزة، قال: «قلت لأحدهما علیهماالسلام : یحلّ عقد کفن المیّت؟ قال: نعم ویُبرز وجهه».(4)


1- وسائل الشیعة: الباب 14 من أبواب الدفن، الحدیث 2.
2- وسائل الشیعة: الباب 15 من أبواب الدفن، الحدیث 4.
3- وسائل الشیعة: الباب 19 من أبواب الدفن، الحدیث 3 و 1.
4- وسائل الشیعة: الباب 19 من أبواب الدفن، الحدیث 3 و 1.

ص:244

ویجعل معه شیء من تُربة الحسین علیه السلام (1).

ومنها: روایة إسحاق بن عمّار، عن أبی عبد اللّه علیه السلام ، قال: «إذا وضعته فی لحده فحلّ عقده».(1)

ومنها: روایة سالم بن مکرم، عن أبی عبد اللّه علیه السلام ، أن_ّه قال: «یُجعل له وسادة من تراب، ویجعل خلف ظهره مدرة لئلاّ یستلقی، ویحلّ عقد کفنه کلّها، ویکشف عن وجهه ثمّ یُدعا له».(2)

والظاهر کون المراد من شقّ الکفن هو حلّه کما وردت هذه الکلمة فی عدد من الأخبار :

منها: مرسلة ابن أبی عمیر، عن أبی عبد اللّه علیه السلام ، قال: «یُشقّ الکفن من عند رأس المیّت إذا اُدخل قبره»(3).

ومنها: خبر حفص بن البختری، عن أبی عبد اللّه علیه السلام ، قال: «یُشقّ الکفن إذا اُدخل المیّت فی قبره من عند رأسه».(4) .

وعلیه فالمراد من الشقّ هو الحلّ دون الشقّ بمعناه الظاهری الأوّلی، کما فهمه المحقّق فی «المعتبر»، وأورد علیه: «أن_ّه مخالفٌ لما علیه الأصحاب، وفیه تضییع للمال وإفساده علی وجهٍ غیر مشروع».

أقول: والصواب الاقتصار علی الحلّ؛ لأنّ الروایات السابقة قرینة علی ذلک، وإن کان بعض ما ذکره من الإشکال لا یخلو عن تأمّل، کما لا یخفی.

(1) واستحباب ذلک علی ما ذکره الأصحاب: «من غیر خلاف یُعرف فیه»، بل الشهرة قائمة علی أنّ فی وضعها مع المیّت یکون للتبرّک والتیمّن والاستشفاع،


1- وسائل الشیعة: الباب 19 من أبواب الدفن، الحدیث 4 و 5 .
2- وسائل الشیعة: الباب 19 من أبواب الدفن، الحدیث 4 و 5 .
3- وسائل الشیعة: الباب 19 من أبواب الدفن، الحدیث 6 و 2 .
4- وسائل الشیعة: الباب 19 من أبواب الدفن، الحدیث 6 و 2 .

ص:245

وکونه أماناً من کلّ خوف، ویکفی فی إثبات استحبابه مضافاً إلی ذلک ما فی «فقه الرّضا»: «ویُجعل فی أکفانه شیء من طین القبر وتربة الحسین علیه السلام »(1).

بل لعلّه هو المراد من الطین الوارد فی الصحیح المرویّ عن محمّد بن عبد اللّه بن جعفر الحمیری، قال: «کتبتُ إلی الفقیه أسأله عن طین القبر یوضع مع المیّت فی قبره، هل یجوز ذلک، أم لا؟ فأجاب _ وقرأتُ التوقیع ومنه نسخت _ : توضع مع المیّت فی قبره، ویخلط بحنوطه إن شاء اللّه».(2)

والظاهر أنّ المراد من کلمة الطین، هو طین قبر الحسین علیه السلام ، وعدم ذکر اسمه علیه السلام کان للتقیّة، أو لشیوع هذا الإطلاق یومئذٍ فیه، ولذلک لم یذکر أحد من الأصحاب استحباب ذلک بدونه.

وعلیه، یکون کلمة الطین الواردة فی حدیث «المصباح» للشیخ، عن جعفر ابن عیسی، أن_ّه سمع أبا الحسن علیه السلام یقول: «ما علی أحدکم إذا دفن المیّت ووسّده التراب أن یضع مقابل وجهه لبنة من الطین، ولا یضعها تحت رأسه»(3)، کما فهمه الشیخ، وصاحب «الوسائل» و«الجواهر» وغیرهم، والأمر کذلک کما قد یؤیّده ذلک ویستأنس له زیادةً علی ما عرفت ما نقله العلاّمة رحمه الله فی «منتهی المطلب» رفعه، قال: «إنّ امرأة کانت تزنی وتوضع أولادها وتحرقهم بالنار خوفاً من أهلها، ولم یعلم به غیر اُمّها، فلمّا ماتت دفنت، فانکشف التراب عنها ولم تقبلها الأرض، فنقلت من ذلک المکان إلی غیره فجری لها ذلک، فجاء أهلها إلی الصادق علیه السلام وحکوا له القصّة، فقال لاُمّها: ما کانت تصنع هذه فی حیاتها من المعاصی؟ فأخبرته بباطن أمرها.


1- وسائل الشیعة: الباب 12 من أبواب التکفین، الحدیث 1 و 3 .
2- وسائل الشیعة: الباب 12 من أبواب التکفین، الحدیث 1 و 3 .
3- وسائل الشیعة: الباب 12 من أبواب التکفین، الحدیث 3 .

ص:246

ویُلقّنه(1).

فقال الصادق علیه السلام : إنّ الأرض لا تقبل هذه ، لأن_ّها کانت تُعذِّب خلق اللّه بعذابِ اللّه ، اجعلوا فی قبرها شیئاً من تربة الحسین علیه السلام ، ففعل ذلک بها فسَتَرها اللّه تعالی»(1).

ثمّ ظاهر العبارة _ کالمبسوط و«القواعد» و«المنتهی»، بل عن أکثر العبارات کالصحیح المتقدّم والقصّة الأخیرة _ کفایة مطلق الاستصحاب، سواء کانت تحت خدّه، أو تلقاء وجهه، أو فی کفنه أو غیر ذلک کما عن «المختلف» التصریح به، وتبعه علیه غیره من الأصحاب .

نعم، صرّح الشیخ المفید وجماعة بجعلها تحت خدّه، ولم نقف علی مأخذه، کما هو الحال بالنسبة إلی ما حُکی عن «المعتبر» من الوضع فی الأکفان، لکنّه موافق لما ورد فی «فقه الرّضا» بخلاف ما قبله لما قد نهی عن جعله تحت رأسه فی الخبر الذی رواه جعفر بن عیسی: «أو تحت خدّه» فی بعض نسخه.

نعم، یوافق الاحتیاط مع وضعه فی مقابل وجهه کما ورد فی هذا الخبر، بل هو الأوفق بالاحتیاط باعتبار أنّ ذلک یحفظ جسده عن وصول النجاسة إلیه، فیصیر هذا أحسن من وضع التربة أمام وجهه کما فی «الاقتصاد»؛ وإن کان العمل بالمستحبّ یحصل مع الجمیع ولو بأقلّ ثواباً فی الجملة مع التوجّه بالنهی، واللّه العالم.

(1) أی بالشهادتین، والإقرار بالأئمّة علیهم السلام بأسمائهم حتّی إمام زمانه علیه السلام ، وذلک بعد وضعه فی لحده وقبره وقبل صبّ اللّبن.


1- وسائل الشیعة: الباب 12 التکفین، الحدیث 2.

ص:247

وفی «الجواهر»: «بلا خلافٍ أعرفه فیه»، بل فی «الغنیة»: «الإجماع علیه»، و«الأخبار به کادت أن تکون متواترة» کما فی «الذکری».

أقول: والأمر کذلک فقد وردت روایات کثیرة دالّة علیه، فلا بأس بذکرها فی الجملة:

منها: الخبر الصحیح الذی رواه زرارة، عن أبی جعفر علیه السلام ، قال: «قال: إذا وضعت المیّت فی لحده فقل: بسم اللّه وفی سبیل اللّه وعلی ملّة رسول اللّه صلی الله علیه و آله ، واقرأ آیة الکرسی، واضرب یدک علی منکبه الأیمن، ثمّ قُل: یا فُلان قُل: رضیتَ باللّه ربّاً، وبالإسلام دیناً، وبمحمّدٍ صلی الله علیه و آله رسولاً، وبعلیٍّ إماماً، وتُسمّی إمام زمانه، الحدیث»(1).

وجاء مثله فی الخبر الحسن الذی رواه، إلاّ أن_ّه قال فی آخره: «سَمّ (حتّی) إمام زمانه».(2)

ومنها: روایة محفوظ الإسکاف، عن أبی عبد اللّه علیه السلام ، قال: «إذا أردت أن تدفن المیّت فلیکن أعقل من ینزل فی قبره عند رأسه، ولیشکف عن خدّه الأیمن حتّی یفضی به إلی الأرض، ویُدنی فمه إلی سمعه، ویقول: اسمع افهم _ ثلاث مرّات _ اللّه ربّک، ومحمّد نبیّک، والإسلام دینک، وفلان إمامک، اسمع وافهم، وأعدها ثلاث مرّات هذا التلقین»(3).

ومثله خبر أبی بصیر.(4)

ومنها: خبر علیّ بن یقطین، قال: «سمعتُ أبا الحسن علیه السلام یقول: لا تنزل فی القبر وعلیک العمامة.. إلی أن قال: ولیتعوّذ باللّه من الشیطان الرجیم، ولیقرأ فاتحة


1- وسائل الشیعة: الباب 20 من أبواب الدفن، الحدیث 6 و 2 .
2- وسائل الشیعة: الباب 20 من أبواب الدفن، الحدیث 6 و 2 .
3- وسائل الشیعة: الباب 20 من أبواب الدفن، الحدیث 4 و 3 .
4- وسائل الشیعة: الباب 20 من أبواب الدفن، الحدیث 4 و 3 .

ص:248

الکتاب، والمعوّذتین، وقُل هو اللّه أحد، وآیة الکرسی، وإن قدر أن یحسر عن خدّه ویلصقه بالأرض فلیفعل، ولیتشهّد، ولیذکر ما یعلم حتّی ینتهی إلی صاحبه».(1)

وهذا الخبر مشتملٌ علی کثیرٍ من المستحبّات من الدّعاء علی المیّت، وتعوّذه من الشیطان، وقراءة السور، والإقرار بالشهادتین والأئمّة علیهم السلام إلی أن ینتهی إلی صاحبه.

ومثله فی اشتماله علی هذه الاُمور حدیث ابن عجلان.(2)

بل فی بعض الأخبار ما یشمل أزید ممّا ذکر :

منها: خبر إسحاق بن عمّار، قال: «سمعتُ أبا عبد اللّه علیه السلام یقول: إذا نزلت فی قبرٍ فقُل: بسم اللّه وباللّه، وعلی ملّة رسول اللّه، ثمّ تسلّ المیّت سلاًّ، فإذا وضعته فی قبره فحلّ عقدته، وقُل: اللّهُمَّ یاربّ عبدک ابن عبدک، نزل بک، وأنت خیر منزولٍ به، اللّهُمَّ إن کان محسناً فزد فی إحسانه، وإن کان مسیئاً فتجاوز عنه، والحقه بنبیّه محمّد صلی الله علیه و آله وصالح شیعته، واهدنا وإیّاه إلی صراطٍ مستقیم، اللّهُمَّ عفوک عفوک، ثمّ تضع یدک الیسری علی عضده الأیسر وتحرّکه تحریکاً شدیداً ثمّ تقول: یا فلان ابن فلان إذا سُئلت فقُل: اللّه ُ ربّی، ومحمّدٌ نبیّی، والإسلامُ دینی، والقرآنُ کتابی، وعلیٌّ إمامی، حتّی تسوق الأئمّة علیهم السلام ثمّ تعید علیه القول، ثمّ تقول: أفَهِمْتَ یافلان. قال علیه السلام : فإنّه یُجیب ویقول نعم. ثمّ تقول: ثَبَّتَکَ اللّه بالقول الثابت، وهداک اللّه إلی صراطٍ مستقیم، عَرَّف اللّه بینک وبین أولیائک فی مستقرٍّ من رحمته. ثمّ تقول: اللّهُمَّ جافِ الأرضَ عن جنبیه، وأصعِدْ بروحه إلیک، ولقّهِ منک برهاناً، اللّهُمَّ عفوک عفوک. ثمّ تضع الطین واللَّبن، فما دمت تضعُ اللَّبن والطین، تقول: اللّهُمَّ صِلْ وحدته، وآنِس وحشته، وآمِن روعته، وأسکِن إلیه من رحمتک رحمةً تُغنیه بها عن رحمة من سواک، فإنّما رحمتک للظالمین.

ثمّ تخرج من القبر وتقول: إنّا للّه وإنّا إلیه راجعون، اللّهُمَّ ارفع درجته فی أعلی


1- وسائل الشیعة: الباب 20 من أبواب الدفن، الحدیث 1 و 5.
2- وسائل الشیعة: الباب 20 من أبواب الدفن، الحدیث 1 و 5.

ص:249

ویَدْعوا له(1).

علیّین، وأخلف علی عقبه فی الغابرین، وعندک نحتسبه یا ربّ العالمین»(1).

ومثله مع بعض الإضافات فی الجملة الروایة المرویّة عن سالم بن مکرم(2)، راجع الوسائل فی الباب 21 من أبواب الدفن.

والاختلاف فی الکیفیّة فی التلقین بین الأخبار غیر قادح؛ لأنّ المناط هو تفهیم المیّت، وتذکیره بالعقائد الحقّة بأیّ وجهٍ، ولأجل ذلک ورد بکیفیّة اُخری فی کتب الشیخ المفید والشیخ الطوسی والعلاّمة فی «المنتهی» غیر ما فی هذه الأخبار، کما أشار إلیه فی «الجواهر»، فراجع.

ثمّ إنّ هذا التلقین هو التلقین الثانی بعد التلقین فی حال الاحتضار، بل قد یقال بإمکان جعله تلقیناً ثالثاً ، بدعوی استحبابه فی حال التکفین أیضاً، ولکن علّق علی هذا صاحب «الجواهر» بقوله : «إنّا لم نقف له علی مستندٍ»، واللّه العالم.

(1) استعرضنا فی الأبحاث السابقة الأخبار الدّالة علی استحباب الدّعاء للمیّت حین الدفن وبعده، وإلیک أخبارٌ اُخری فی هذا المضمار:

منها: ما رواه سماعة، قال: «قلتُ لأبی عبد اللّه علیه السلام : ماذا أقول إذا أدخلتُ المیّت منّا قبره؟ قال: قُل اللّهُمَّ هذا عبدک.. إلی آخره»(3).

ومنها: خبر محمّد بن مسلم، عن أحدهما علیهماالسلام ، قالا: «إذا وضع المیّت فی لحده فقُل: بسم اللّه، وفی سبیل اللّه، وعلی ملّة رسول اللّه صلی الله علیه و آله ، اللّهُمَّ عبدک وابن عبدک، نزل بکَ وأنتَ خیر منزولٍ به، اللّهُمَّ افسح له فی قبره، وألحقه بنبیّه، اللّهُمَّ أن_ّا لا نعلم منه إلاّ خیراً، وأنتَ أعلمُ به منّا.. الخبر».(4)


1- وسائل الشیعة: الباب 21 من أبواب الدفن، الحدیث 6 و 5 .
2- وسائل الشیعة: الباب 21 من أبواب الدفن، الحدیث 6 و 5 .
3- وسائل الشیعة: الباب 21 من أبواب الدفن، الحدیث 3 و 2 .
4- وسائل الشیعة: الباب 21 من أبواب الدفن، الحدیث 3 و 2 .

ص:250

ثمّ یشرج اللّبن(1).

ومنها: روایة اُخری مرویّة عن سماعة، عن الصادق علیه السلام ، قال: «فإذا سوّیت علیه التراب، قُل: اللّهُمَّ جاف الأرض عن جنبیه، وصَعّد روحه إلی أرواح المؤمنین فی علیّین، والحقه بالصالحین».(1)

وغیر ذلک من الأخبار التی یستفاد منها استحباب الدّعاء للمیّت فی أکثر أحواله، کإنزاله ووضعه فی لحده، وعند رؤیة قبره، وعند تشریح لبنه، والخروج وتسویة التراب علیه، ونحو ذلک .

(1) استحباب تشریج اللّبن _ والمراد من التشریج هو نضد لحده باللَّبن لئلاّ یصل إلیه التراب _ إجماعیٌ ولا نعلم فیه خلافاً کما صرّح به العلاّمة رحمه الله فی «المنتهی»، وفی «الغنیة» و«المدارک» و«المفاتیح» دعوی قیام الإجماع علیه.

وفی «المعتبر»: «مذهب فقهائنا وهو الحجّة».

أقول: فضلاً عن هذه الدعاوی علی الإجماع هناک أخبارٌ دالّة علیه:

منها: الخبر المرویّ عن محمّد بن مسلم فی حدیثٍ: «إذا وضعت علیه اللّبن، الحدیث»(2).

ومنها: روایة إسحاق بن عمّار فی حدیثٍ: «ثمّ تضع الطین واللبن فما دمت تضع اللّبن والطین تقول.. الحدیث».(3)

ومنها: صحیح أبان بن تغلب، قال: «سمعتُ أبا عبد اللّه علیه السلام یقول: جَعل


1- وسائل الشیعة: الباب 21 من أبواب الدفن، الحدیث 4 .
2- وسائل الشیعة: الباب 21من أبواب الدفن ، الحدیث 2 و 6.
3- وسائل الشیعة: الباب 21من أبواب الدفن ، الحدیث 2 و 6.

ص:251

علیٌّ علیه السلام علی قبر رسول اللّه صلی الله علیه و آله لبناً، فقلت: أرأیت إن جعل الرجل علیه آجراً هل یضرّ المیّت؟ قال: لا»(1).

بل یستفاد استحباب الترتیب من عبارة المصنّف الآنفة، کما یستفاد ذلک من الأخبار أیضاً، وکذا یستحبّ تسویته بالطین لیکون أبلغ فی المنع عن وصول التراب، کما یستفاد ذلک من الخبر الذی رواه الصدوق فی کتاب «المجالس»، فی المجلس الحادی والستّون، نقلاً عن «علل الشرائع» بإسناده عن عبداللّه بن سنان، عن الصادق علیه السلام ، عن النبیّ صلی الله علیه و آله فی حدیثٍ: «حتّی انتهی به إلی القبر، فنزل حتّی لَحّده، وسَوّی علیه اللّبن، وجعل یقول: ناولنی حجراً، ناولنی تراباً رطباً نسدّ به ما بین اللَّبنتین، فلمّا أن فرغ وحثا التراب علیه، وسَوّی قبره، قال النبیّ صلی الله علیه و آله : إنّی أعلم أن_ّه سَیَبلی ویَصِلُ إلیه البلی، ولکنّ اللّه عزّ وجلّ یحبُّ عبداً إذا عَمِل عملاً أحکمه»(2).(3)

إلی غیر ذلک من الأخبار الدالّة علی استحباب اللّحد ومعروفیّته فی ذلک الزمان.

وفی «المنتهی» وغیره: «أن_ّه یقوم مقام اللَّبن مساویة فی المنع من تعدّی التراب، کالحَجَر والقَصَب والخَشَب».

أقول: لا بأس به، بل قد یستفاد من خبر ابن سنان أیضاً، وإن کان اللَّبن أولی لمعروفیّته فی الاستعمال الوارد فی النصوص.

کما لا بأس بالحکم بتقدیم التشریج، والابتداء به من ناحیة رأس المیّت، لأن_ّه الأهمّ والأعظم فی الحرمة، کما حُکی ذلک عن الراوندی بأن_ّه عمل العارفین من الطائفة.


1- وسائل الشیعة: الباب 28 من أبواب الدفن، الحدیث 1.
2- وسائل الشیعة: الباب 21 من أبواب الدفن، الحدیث 6 .
3- الجواهر: ج10 / 308 .

ص:252

ویَخرُج مِن قِبل رِجْل القبر(1).

(1) لأن_ّه بابُ القبر کما ورد فی الخبر المرویّ عن جبیر أن_ّه قال: «لکلّ بیتٍ باباً وبابُ القبر من قِبل الرِّجلین»(1).

ونحوه مرسل الکلینی.(2)

وروایة عمّار الساباطی،(3) مع تفاوتٍ یسیر واختلافات فی التعابیر.

بل فیخبرالسّکونی: «مَن دخل القبر فلایخرج منه إلاّ من قِبل الرِّجلین».(4) فإنّ جمیع هذه الأخبار تدلّ علی کراهة الخروج عن غیره لأجل النهی، کما قد یؤیّد ذلک مرفوعة سهل بن زیاد المضمر، قال: «قال: یدخل الرَّجل القبر من حیثُ یشاء، ولا یخرجُ إلاّ من قِبل رِجلیه».(5)

بل قد یمکن القول باستحباب الدخول من قِبل الرِّجلین أیضاً _ کما عن «المنتهی» _ لأجل کونه باب القبر، وشأنه الدخول عنه والخروج منه، ولا ینافی ما فی خبر سهل من قوله: «یدخلُ من حیثُ یشاء» لإمکان کونه لأجل بیان الجواز، أی لا کراهة فیه، بخلاف الخروج حیث یکره من غیره، فلا وجه لردّ بعض متأخّری المتأخّرین ذلک لخبر السکونی وسهل.

أقول: ظاهر الأخبار هو عدم الفرق فی هذا الحکم بین الرَّجل والمرأة، کما یؤمی إلیه التعلیل بأن_ّه بابُ القبر، وعلیه فما عن ابن الجُنید من الموافقة فی الرَجُل، ومن عند الرأس فی المرأة ممّا لا یمکن المساعدة معه، و اللّه العالم.


1- وسائل الشیعة: الباب 22 من أبواب الدفن، الحدیث 7 و 4 و 6 .
2- وسائل الشیعة: الباب 22 من أبواب الدفن، الحدیث 7 و 4 و 6 .
3- وسائل الشیعة: الباب 22 من أبواب الدفن، الحدیث 7 و 4 و 6 .
4- وسائل الشیعة: الباب 23 من أبواب الدفن، الحدیث 1 و 2 .
5- وسائل الشیعة: الباب 23 من أبواب الدفن، الحدیث 1 و 2 .

ص:253

ویهیلُ الحاضِرونَ التُراب بظهور الأکُفّ، قائلین: إنّا للّه وإنّا إلیه راجعون(1).

(1) استحباب إهالة الحاضرین التراب غیر اُولی الأرحام بظهر الکفّ، ثابتٌ بدلالة الأخبار والفتاوی علیه:

منها: مرسل محمّد بن الأصبغ، عن بعض أصحابنا، قال: «رأیتُ أبا الحسن علیه السلام وهو فی جنازةٍ، فحثا التراب علی القبر بظهر کفّه»(1).

ومنها: المحکیّ عن الرضا علیه السلام : «ثمّ احثُ التراب علیه بظهر کفّک ثلاث مرّات، وقُل: اللّهُمَّ إیماناً بک، وتصدیقاً بکتابک، هذا ما وَعَدنا اللّه ورسوله، وصَدَقَ اللّه ورسوله. فإنّه من فَعَل ذلک وقال هذه الکلمات کَتَب اللّه له بکلّ ذرّة حسنة»(2).

وبعینه عبّر عنه فی «الهدایة» وکذا فی «الفقیه». هذا علی ما فی «المعتبر» من نسبة المذکور مقیّداً بما قلنا من الاسترجاع إلی الشیخین، وابن بابویه، وأنّ علیه فتوی الأصحاب، فهو مشعرٌ بالإجماع کالمدارک، ولعلّ هذا کافٍ فی إثبات استحبابه، واستحباب الاسترجاع، وإن قال صاحب «الجواهر» بالنسبة إلی الاسترجاع وغیره بأن_ّه: «بتمام هذه الکیفیّة لم نعثر علیه فی خبر».

قلنا: ثبت ممّا ذکرنا أن_ّه لا تبقی من الکیفیّة إلاّ خصوص الاسترجاع فی هذا الحال غیر مذکورٍ فی النصّ، وإلاّ فإنّ سائر المستحبّات المذکورة قد ورد فیه النّص کما عرفت، ومنها الاسترجاع، فقد جاء فی الحدیث أیضاً فی غیر هذا الموضع، کما فی الخبر الذی رواه إسحاق بن عمّار: «أن_ّه یخرج من القبر ویقول إنّا للّه وإنّا إلیه راجعون، الحدیث»(3).


1- وسائل الشیعة: الباب 29 من أبواب الدفن، الحدیث 5 .
2- المستدرک : ج1 الباب 28 من أبواب الدفن، الحدیث 3.
3- وسائل الشیعة: الباب 21 من أبواب الدفن، الحدیث 6.

ص:254

وکذا فی «الهدایة»: «قال الصادق علیه السلام : إذا خرجتَ من القبر فقُل وأنتَ تنفض یدک من التراب: إنّا للّه وإنّا إلیه راجعون، ثمّ أحث التراب»(1).

نعم، قد یظهر من بعض الأخبار استحباب إمساک التراب فی یده ثمّ طرحه فی القبر، وهو مثل الخبر المرویّ عن عمر بن اُذینة، قال: «رأیتُ أبا عبد اللّه علیه السلام یطرح التراب علی المیّت، فیمسکه ساعةً فی یده ثمّ یطرحه، ولا یزید علی ثلاثة أکفّ .

قال: فسألته عن ذلک؟ فقال: یا عُمر کنت أقولُ: إیماناً بک، وتصدیقاً ببعثک، هذا ما وعدنا اللّه ورسوله، وصدقَ اللّه ورسوله، اللّهُمَّ زدنا إیماناً.. إلی قوله وتسلیماً، هکذا کان یفعل رسول اللّه صلی الله علیه و آله وبه جرَت السنّة»(2).

أقول: ولعلّ الجمع بینهما یقتضی القول بالتخییر بین الکفّتین، بل لعلّ الثانی أرجح، حیث أضاف فی ذیله بأن_ّه فعل رسول اللّه صلی الله علیه و آله وبه جرَتِ السنّة.

بل یستحبّ أن تکون الإهالة ممّا یلی رأس المیّت بثلاث مرّات، کما ورد ذکرها فی الخبر المرویّ عن محمّد بن مسلم، قال: «کنت مع أبی جعفر علیه السلام فی جنازة رجلٍ من أصحابنا، فلمّا أن دفنوه، قام إلی قبره فحثا التراب علیه ممّا یلی رأسه ثلاثاً بکفّه، ثمّ بسط کفّه علی القبر، ثمّ قال: اللّهُمَّ جاف الأرض عن جنبه إلی آخر الدعاء، ثمّ مضی»(3).

وکذا فی حدیث داود بن النعمان، قال: «رأیتُ أبا حسن علیه السلام یقول: ما شاء اللّه، إلی أن قال: فلمّا أُدخل المیّت لَحده، قام فحثا علیه التراب ثلاث مرّات بیده».(4)

کما أنّ الإهالة یمکن أن تکون بظهر الکفّ أو بباطنه، إمّا بالتخییر أو أنّ الأوّل


1- المستدرک: ج1 الباب 28 من أبواب الدفن، الحدیث 3.
2- وسائل الشیعة: الباب 29 من أبواب الدفن، الحدیث 2.
3- وسائل الشیعة: الباب 29 من أبواب الدفن، الحدیث 3 و 1 .
4- وسائل الشیعة: الباب 29 من أبواب الدفن، الحدیث 3 و 1 .

ص:255

ویرفع القبرَ بمقدار أربع أصابع(1).

أرجح، لکنّه بعیدٌ لاحتمال کون الفعل أمراً عادیّاً لکنّه لا یخلو عن تأمّل، فهمه الأصحاب ومنهم المصنّف، وعلیه فالإتیان بالظَهَر أولی، واللّه العالم.

وأخیراً: یجب أن تکون الإهالة صادرة من غیر ذی رحم، لما ورد من النهی فی خبر عبید بن زرارة فی حدیثٍ، وقال: «لا تطرح علیه التراب، ومن کان ذا رحمٍ فلا یطرح علیه التراب، الحدیث»(1).

(1) ومن المستحبّات رفع قبر المیّت عن الأرض بمقدار أربعة أصابع لیُعرف فیُزار، ویُحترم ویُترحّم علی صاحبه، ولا یُنبَش. والأخبار الواردة فیذلک مختلفة:

1 _ فبعضها تکون بنحو الإطلاق من دون تعیین مقدار الرفع، مثل خبر قدامة بن زائدة، عن الباقر علیه السلام قال: «إنّ رسول اللّه صلی الله علیه و آله سَلَّ إبراهیم ابنه سلاًّ ورفع قبره»(2).

والظاهر انحصار الإطلاق بخصوصه، فلا یبعد حینئذٍ القول بأن_ّه أوّل مرتبة الاستحباب، بل هو ذلک، والتحدیدات التی ستذکر تعدّ مستحبّاً فی مستحبّ.

2 _ وبعضها تبیّن وتحدّد المقدار بأربعة أصابع من دون أن تحدّد کونها مضمومات أو مفروجات، وهی أخبار عدیدة:

منها: خبر محمّد بن مسلم، عن أبی جعفر علیه السلام فی حدیث: «ویرفع القبر فوق الأرض أربع أصابع».(3)

ومنها: خبر عتبة بن بشیر، عن أبی جعفر علیه السلام فی حدیث: «وارفع قبری من الأرض أربع أصابع».(4)


1- وسائل الشیعة: الباب 30 من أبواب الدفن، الحدیث 1.
2- وسائل الشیعة: الباب 31 من أبواب الدفن، الحدیث 2 و 1 و 3 .
3- وسائل الشیعة: الباب 31 من أبواب الدفن، الحدیث 2 و 1 و 3 .
4- وسائل الشیعة: الباب 31 من أبواب الدفن، الحدیث 2 و 1 و 3 .

ص:256

ومنها: خبر حمّاد بن عثمان، عن أبی عبد اللّه علیه السلام ، فی حدیثٍ: «وارفع قبری أربع أصابع».(1)

ومنها: خبر عبد الأعلی مولی آل سام، عن أبی عبد اللّه علیه السلام فی حدیث: «وترفعه أربعة أصابع».(2)

3 _ وبعضها ما یدلّ علی الرفع بالأربع مضمومات، مثل الخبر المرویّ عن سماعة، عن أبی عبداللّه علیه السلام فی حدیثٍ: «ویرفع قبره من الأرض قدر أربع أصابع مضمومة، الحدیث»(3).

4 _ وبعضها ما یدلّ علی التحدید بالأربع مفرّجات:

منها: الخبر الصحیح الذی رواه الحلبی، عن أبی عبد اللّه علیه السلام فی حدیثٍ، قال: «إنّ أبی أمرنی أن أرفع القبر من الأرض أربع أصابع مفرجات، الحدیث».(4)

ومنها: خبر الحلبی ومحمّد بن مسلم، عن أبی عبد اللّه علیه السلام مثله.(5)

ومنها: الخبر الذی رواه الشیخ الصدوق فی «عیون أخبار الرضا علیه السلام » عن أبی الحسن موسی بن جعفر علیه السلام ، فی حدیث: «ولا ترفعوا قبری أکثر من أربع أصابع مفرجات».(6)

5 _ وبعضها ما یدلّ علی الرفع بقدَر الشبر ، مثل ما جاء فی روایة إبراهیم ابن علیّ، عن جعفر، عن أبیه علیهماالسلام : «أنّ قبر رسول اللّه صلی الله علیه و آله رُفع شبراً من الأرض، الحدیث».(7)

أقول: والتحقیق فی الجمع بین هذه الأخبار هو أن یقال إنّ التحدید بالشبر قریب من التحدید بأربع أصابع مفرّجات، والأخبار التی لم تعیّن المقدار إمّا لا


1- وسائل الشیعة: الباب 31 من أبواب الدفن، الحدیث 5 و 9.
2- وسائل الشیعة: الباب 31 من أبواب الدفن، الحدیث 5 و 9.
3- وسائل الشیعة: الباب 31 من أبواب الدفن، الحدیث 4 و 6 و 7 و 11 و 8 .
4- وسائل الشیعة: الباب 31 من أبواب الدفن، الحدیث 4 و 6 و 7 و 11 و 8 .
5- وسائل الشیعة: الباب 31 من أبواب الدفن، الحدیث 4 و 6 و 7 و 11 و 8 .
6- وسائل الشیعة: الباب 31 من أبواب الدفن، الحدیث 4 و 6 و 7 و 11 و 8 .
7- وسائل الشیعة: الباب 31 من أبواب الدفن، الحدیث 4 و 6 و 7 و 11 و 8 .

ص:257

ویُربّع (1).

إطلاق فیها، بل المقصود بیان استحباب أصل الرفع، أو أن_ّها مطلقة فتقیّد بما قد حُدّد بالأربع، فیبقی هنا ما یدلّ علی أحد التقدیرین: من أربع أصابع مضمومات أو مفرّجات، فالحکم فیها بالتخییر الأولی أرجح لکثرة أخبارها .

نعم، یبقی هنا خبرٌ واحد وهو الخبر المشتمل علی تحدید الرفع بالشبر وأربع أصابع معاً، وهو الخبر الذی رواه أبی البَختری، عن جعفر، عن أبیه، عن علیّ علیه السلام : «أنّ قبر رسول اللّه صلی الله علیه و آله رفع من الأرض قدر شبر وأربع أصابع»(1).

وحیث أنّ هذا الخبر یعدّ مخالفاً مع روایة اُخری مرویّة عن الإمام علیه السلام ، وقد ورد فیها خصوص الشبر، فنرفع الید عنه أو یُحمل بأن تکون کلمة (واو) بمعنی أو، أو بنفسها کانت، أو بحذف الألف فی النسخة، أو التقیّة، فبذلک یرتفع التنافی بین الأخبار، واللّه العالم.

أقول: وعلی ما ذکرنا من الجمع، یمکن حمل النهی الموجود فی الخبر المرویّ فی «عیون أخبار الرضا» فی قوله علیه السلام : «ولا ترفعوا قبری أکثر من أربعة أصابع مفرّجات»، علی الکراهة، وهو لیس ببعید إن لم نقل اختصاص النهی بخصوصه سلام اللّه علیه.

(1) ومن جملة المندوبات تربیع القبر، وعلیه الإجماع المحکیّ فی «الغنیة» و«المعتبر» و«المدارک»، وله معنیان:

أحدهما: أن یکون المراد منه خلاف التدویر والتسدیس، أی ما کانت له أربعة زوایا قائمة لا الربع المتساوی الأضلاع لأن_ّه فضلاً عن أنّ ذلک یوجب شغل


1- وسائل الشیعة: الباب 31 من أبواب الدفن، الحدیث 10 .

ص:258

مساحة کبیرة من الأرض، لم یکن تعطیل کثیر من الأرض وعدم کونه معهوداً فی الأزمنة الغابرة کما نری فیما بقی من آثار قبور تلک الحقبة.

وثانیهما: ما عن بعضهم من أنّ المراد من التربیع هو خلاف التسنیم، وربما استظهر ذلک عن «التذکرة».

أقول: الأخبار فی هذا الأمر واردة علی کلا المعنیین:

أمّا المعنی الأوّل: فهی الأخبار المعلّلة:

منها: الخبر المرسل الذی رواه الشیخ الصدوق فی «العلل» بإسناده عن الحسین بن الولید: «لأیّ علّة یُربّع القبر؟ قال: لعلّة البیت لأن_ّه نزل مربّعاً»(1). ولعلّه المراد ممّا ورد فی خبر محمّد بن مسلم من قوله: «ویربّع قبره».(2)

ومنها: حدیث عبد الأعلی مولی آل سام، المرویّ فی «إرشاد» المفید، عن الصادق علیه السلام فی حدیث: «وأن یُربّع قبره ویرفعه من الأرض أربع أصابع».(3)

أمّا المعنی الثانی: فیدلّ علیه روایة الأعمش المرویّ فی «الخصال»، عن جعفر بن محمّد علیهماالسلام فی حدیثٍ: «والقبور تُربّع ولا تُسنّم»(4).

وأیضاً الخبر المرویّ فی «فقه الرّضا» فیحدیثٍ: «ویکون مسطّحاً لا مُسنّماً».(5)

أقول: إن کان المراد من النهی هو التسنیم ثبت أنّ المطلوب هو التربیع، بل قیل کون المراد من التسطیح أیضاً هو التربیع خلاف التسنیم، مضافاً إلی معروفیّة التربیع عند الشیعة، ولأجل ذلک ادّعی الإجماع علی التربیع فی «الخلاف» و«التذکرة» و«جامع المقاصد» کظاهر غیرها، أی علی التربیع، فمع ملاحظة


1- وسائل الشیعة: الباب 31 من أبواب الدفن، الحدیث 9 _ 12 _ 13.
2- وسائل الشیعة: الباب 31 من أبواب الدفن، الحدیث 9 _ 12 _ 13.
3- وسائل الشیعة: الباب 31 من أبواب الدفن، الحدیث 9 _ 12 _ 13.
4- وسائل الشیعة: الباب 22 من أبواب الدفن، الحدیث 2 و 5 .
5- وسائل الشیعة: الباب 22 من أبواب الدفن، الحدیث 2 و 5 .

ص:259

النهی عن التسنیم یفید الکراهة، مضافاً إلی استحباب التسطیح حتّی عند العامّة، لما روی عن أبی هریرة، أن_ّه قال: «السنّة التسطیح» إلاّ أنّ العامّة عدلوا عنه إلی التسنیم بعد أن عملت الشیعة بالسُنّة.

بل قد یؤیّد النهی عنه ما فی روایة الأصبغ بن نُباتة، قال: «قال أمیر المؤمنین علیه السلام : مَن جَدّد قبراً(1)، أو مثّل مثالاً فقد خرج عن الإسلام»(2).

حیث یکون حینئذٍ بمعنی سَنّم.

وکذا روایة السکونی، عن أبی عبد اللّه علیه السلام ، قال: «قال أمیر المؤمنین علیه السلام : بعثنی رسول اللّه صلی الله علیه و آله إلی المدینة، قال: لا تَدَعْ صورةً إلاّ محوتها، ولا قبراً إلاّ سوّیته، ولا کلباً إلاّ قتلته».(3)

بأن یکون المراد من التسویة مثل التسطیح خلاف التسنیم، وأیضاً مثله خبر أبی الریاح الأسدی، جاء فیه: «ألا أبعثک علی ما بَعَثنی علیه رسول اللّه صلی الله علیه و آله : أن لا تدَع تمثالاً إلاّ طمسته، ولا قبراً مُشرّفاً إلاّ سوّیته»(4).

بأن یکون المراد من الإشراف تعلیة القبر بنحو التسنیم والتحدید، حیث یُطلق الإشراف علی المکان العالی، ولأجل ذلک سُمّی الشریف شریفاً تشبیهاً للعلوّ المعنوی بالعلوّ المکانی لا مطلق العلوّ.

وبالجملة: مع ملاحظة هذه الأخبار، لا إشکال فی ثبوت کراهة التسنیم، بل عن جماعةٍ التصریح بکونه حراماً فی بعض الوجوه لکونه بدعة، کما قد عرفت التصریح من العامّة بکون التسطیح هو السنّة، وأن_ّهم عدلوا عنه مخالفةً للشیعة،


1- بناء علی الحاء المهملة علی ما رواه سعد بن عبد اللّه .
2- وسائل الشیعة: الباب 43 من أبواب الدفن، الحدیث 1 و 2 .
3- وسائل الشیعة: الباب 43 من أبواب الدفن، الحدیث 1 و 2 .
4- صحیح مسلم: ج1 / 357 .

ص:260

ویَصبُّ علیه الماء من قِبل رأسه ، ثمّ یدور علیه، فإن فَضُل من الماء شیءٌ ألقاه علی وسط القبر(1).

فالإتیان بذلک بداعی کونه من السنّة، یعدّ مع کونه بدعة، مخالفةً للشیعة حراماً بالتشریع، وهو غیر بعیدٍ لکونه إدخالاً فی الدِّین ما لیس منه، فلا ینافی ذلک مع کون التسنیم جائزاً مع الکراهة، لو لم یأت به بذلک القصد، ولعلّه لذلک قال العلاّمة فی «المنتهی»: «إنّ التسطیح أفضل من التسنیم وعلیه علمائنا»، حیث یظهر منه أن_ّه لا کراهة فیه، بل یتضمّن فضلاً زائداً علی الإباحة لمکان أفعل التفضیل، اللّهُمَّ إلاّ أن یحمل علی غیر ذلک فی مقابلة العامّة، و اللّه العالم.

(1) استحباب صبّ الماء علی القبر إجماعیٌ کما فی «الجواهر» حیث قال: «بلا خلافٍ أجده فیه»، بل فی «المنتهی»: «علیه فتوی علمائنا»، ثمّ أقام علیه مساعدة الاعتبار بقوله: «ویشهد له مع ذلک الاعتبار من حیث إفادته استمساکاً للتراب، فلا یفرّقه الرِّیح ونحوه وتذهب آثار القبریّة عنه».

بل تدلّ علیه الأخبار المستفیضة حدّ الاستفاضة، بل کادت تکون متواترة کخبر عقبة بن بشیر المتقدّم، وصحیح حمّاد والحلبی، وصحیح ابن أبی عُمیر وغیرها من الأخبار، بل فی الأخیر، عن بعض الأصحاب، عن الصادق علیه السلام : «فی رشّ الماء علی القبر ؟ قال : یتجافی عنه العذاب ما دام الندی فی التراب»(1).

والظاهر کون الاستحباب غیر مقیّد بأمرٍ آخر، بخلاف ما یظهر من عبارة المصنّف وغیره بکونه مقیّداً بما بعده، مع أن_ّه لا یبعد أن یکون ذلک من قبیل مستحبّ فی مستحبّ کما عن «الجواهر».


1- وسائل الشیعة: الباب 32 من أبواب الدفن، الحدیث 2.

ص:261

والأمر الآخر: هو أن یکون صبّ الماء من قِبل رأسه إلی آخره، ویدلّ علی هذا الترتیب:

1 _ خبر موسی بن أکیل النمیریّ، عن أبی عبد اللّه علیه السلام ، قال: «السنّة فی رشّ الماء علی القبر أن تستقبل القبلة، وتبدأ من عند الرأس إلی عند الرجل، ثمّ تدور علی القبر من الجانب الآخر، ثمّ یرشّ علی وسط القبر، فکذلک السنّة»(1).

فمنه یستفاد استحباب استقبال الصبّ کما فی «المنتهی» وغیره.

2 _ کما یستفاد ذلک من خبر سالم بن مکرم، المرویّ فی «الفقیه»، عن الصادق علیه السلام فی حدیثٍ: «فإذا سُوّی قبره تصبّ علی قبره الماء، وتجعل القبر أمامک وأنت مستقبل القبلة، وتبدأ بصبّ الماء عند رأسه، وتدور به علی قبره من أربع جوانبه حتّی ترجع إلی الرأس، من غیر أن تقطع الماء، فإن فَضُل من الماء شیء فصُبّه علی وسط القبر، ثمّ ضع یدک علی القبر للمیّت واستغفر له»(2).

وقال صاحب «الجواهر» بعد نقل الخبر: «لکن الظاهر أنّ ذلک من عبارة الصدوق لا من تتمّة خبر سالم، کما لا یخفی علی من لاحظها، سیّما ولم یذکره أحدٌ فی المقام مع اشتماله علی جملة وافیة من الأحکام. نعم، قد یظهر من صاحب «الوسائل» ذلک. وربّما یؤیّد ما قلنا أیضاً أن_ّه بعینه عبّر فی المحکیّ عن «فقه الرضا»(3). والممارس العالم بغلبة اتّحاد تعبیرهما معه یکاد یقطع أنّ ذلک لیس من تتمّة الراویة»، انتهی(4).

قلنا: لو سلّمنا کونه فی «فقه الرضا» فهو یکفی فی إثبات استحبابه، خصوصاً


1- وسائل الشیعة: الباب 32 من أبواب الدفن، الحدیث 1.
2- وسائل الشیعة: الباب 21 من أبواب الدفن، الحدیث 5.
3- المستدرک: ج1 الباب 30 من أبواب الدفن، الحدیث 2 .
4- الجواهر: ج4 / 317 .

ص:262

مع ملاحظة دلیل التسامح فی أدلّة السنن، بل حتّی لو کان ذلک من کلام الصدوق رحمه الله ، إذ هو لا یقول إلاّ عن منبع موثّق حدیثی لجلالة شأنه، فالالتزام بما فی الخبر جمیعاً لا یخلو عن وجهٍ وقوّة.

أقول: وأمّا حکم إلقاء فضل الماء علی وسط القبر، فقد عرفت وجوده فی روایتی سالم و«فقه الرضا»، بل قد ذکره غیر واحدٍ من الأصحاب، بل فی «المعتبر» نسبته إلیهم مشعراً بدعوی الإجماع علیه، بل لا یبعد القول باستحباب رشّ الماء فی الوسط ابتداءً کغیره من الجوانب، لدخوله فی خبر موسی، کما یستفاد حکم عدم قطع الماء عن خبری سالم و«فقه الرضا» وموسی.

بحث: بعدما ثبت استحباب رشّ الماء بعد الدفن یأتی البحث عن أنّ ذلک هل مختصٌّ به فقط ، أو فیه وفی کلّ زمانٍ وإن تأخّر حتّی إلی أربعین یوماً بل شهراً؟

المنساق إلی الذهن من فتاوی الأصحاب، بل ولسان الأخبار هو الأوّل، ولکن روی الکشّی فی رجاله، عن علیّ بن الحسن، عن محمّد بن الولید: «أنّ صاحب المقبرة سأله عن قبر یونس بن یعقوب، وقال: مَن صاحب هذا القبر، فإنّ أبا الحسن علیّ بن موسی الرضا علیه السلام أمرنی أن أرشّ قبره أربعین شهراً أو لأربعین یوماً فی کلّ یوم مرّة»(1).

فإنّ هذا الخبر مخالفٌ لما علیه فتوی الأصحاب.

ولکن القول به لیس به بأس، کما علیه السیّد فی «العروة»، والشکّ فی علیّ ابن الحسن کما فی «الجواهر» غیر قادح لما قد عرفت من التسامح فی أدلّة السنن، خصوصاً بعد فتوی عدّة من الأصحاب به، حیث یکون جابراً فی الجملة کما لا یخفی، ولعلّه لذلک أمر صاحب «الجواهر» بالتأمّل، بعد تشکیکه فی حقّ علیّ بن الحسن.


1- وسائل الشیعة: الباب 32 من أبواب الدفن، الحدیث 6 .

ص:263

ویوضع الید علی القبر(1).

(1) من جملة المندوبات وضع الید مفرّجة الأصابع غامزاً(1) بها علی القبر عند رأسه، بعد نضحه بالماء، تأسّیاً بالنبیّ صلی الله علیه و آله ، حیث وضع یده عند رأس ولده إبراهیم غامزاً بها حتّی بلغت الکوع(2) وقال: «بسم اللّه ختمتک من الشیطان أن یدخلک»، کما رواه صاحب «البحار» نقلاً عن «دعائم الإسلام» عن أمیرالمؤمنین علیه السلام مرسلاً(3).

بل قد یستفاد تأثیر الید علی القبر من عدّة أخبار :

منها: ما فی صحیح زرارة، عن أبی جعفر علیه السلام ، قال: «إذا حثا علیه التراب، وسوّی قبره، فضع کفّک علی قبره عند رأسه، وفرّج أصابعک واغمز کفّک علیه بعدما ینضح بالماء»(4).

ومنها: روایته الاُخری، عن الصادق علیه السلام ، قال: «إذا فرغت من القبر فانضحه، ثمّ ضع یدک عند رأسه وتغمز کفّک علیه بعد النضح»(5).

ظاهر الخبرین کون الوضع عند الرأس، ولا یبعد کونه مستحبّاً فی مستحبّ، کما أنّ الأمر کذلک بالنسبة إلی الوضع وکونه بعد النضح أیضاً.

ویتأکّد استحباب الوضع لمن لم یحضر الصلاة، کما أشار إلیه فی الخبر الذی


1- الکبس بالید .
2- الکوع بالضمّ طرف الزند الذی یلی الإبهام، والجمع أکواع کقفل وأقفال. «مجمع البحرین»
3- المستدرک: ج1 الباب 32 من أبواب الدفن، الحدیث 4 .
4- وسائل الشیعة: الباب 33 من أبواب الدفن، الحدیث 1 .
5- وسائل الشیعة: الباب 32 من أبواب الدفن، الحدیث 4.

ص:264

رواه إسحاق بن عمّار، قال: «قلت لأبی الحسن الأوّل علیه السلام : إنّ أصحابنا یصنعون شیئاً إذا حضروا الجنازة ودفن المیّت لم یرجعوا حتّی یمسحوا أیدیهم علی القبر، أفسنّةٌ ذلک أم بدعة؟ فقال: ذلک واجبٌ علی من لم یحضر الصلاة علیه»(1).

بحمل الوجوب علی تأکّد الاستحباب، کما یحمل النهی أو النفی لمن لم یدرک الصلاة علی عدم التأکّد، هذا کما فی خبر محمّد بن إسحاق، عن الرضا علیه السلام بعد سؤاله عن ذلک، قال: «إنّما ذلک لمن لم یُدرک الصلاة علیه، فأمّا من أدرک الصلاة علیه فلا».(2)

لکن إطلاق الأخبار وفتاوی الأصحاب الحکم المذکور إطلاقاً کاد أن یکون کالصریح فی خلاف ذلک، بل قد ورد فی الصحیح المشتمل علی فعل النبیّ صلی الله علیه و آله أن_ّه قام بذلک علی قبر ولده إبراهیم، مع أنّ إخبار الراوی عن فعل الأصحاب وتقریر الإمام علیه السلام بنفسه دلیلٌ وحجّة علی استحبابه، بل فی «الجواهر»: «ولم أعثر علی من نصَّ علی التأکّد وعدمه کما قلناه قبل الشهید، وتبعه بعض من تأخّر عنه، ولا بأس به».

ونحن نقول أیضاً بأن_ّه لا بأس بذلک، بل لا بأس بالقول بزیادة تأثیر الید بزیادة الغمز، إذا کان القبر لهاشمیّ، تأسّیاً بالنبیّ صلی الله علیه و آله علی قبر ابنه، وإن لم یذکره الأصحاب، بل قد ورد فی صحیح زرارة، عن أبی جعفر علیه السلام ، قال: «کان رسول اللّه صلی الله علیه و آله یصنع بمن مات من بنی هاشم خاصّة شیئاً لا یصنعه بأحدٍ من المسلمین ، کان إذا صلّی علی الهاشمیّ ، ونضح قبره بالماء ، وضع رسول اللّه صلی الله علیه و آله کفّه علی القبر حتّی تری أصابعه فی الطین، فکان الغریب یَقدِم أو المسافر من أهل المدینة


1- وسائل الشیعة: الباب 33 من أبواب الدفن، الحدیث 2 و 3 .
2- وسائل الشیعة: الباب 33 من أبواب الدفن، الحدیث 2 و 3 .

ص:265

فیری القبر الجدید أثر کفّ رسول اللّه صلی الله علیه و آله ، فیقول: من مات من آل محمّد صلی الله علیه و آله ؟»(1).

واحتمل صاحب «الجواهر» أن تکون هذه الصنیعة المختصّ بالهاشمیّ فی أصل الوضع، لمکان کرامة بنی هاشم لا لعدم مشروعیّته لغیره.

لکن قال صاحب «البحار»: إنّه روی عن «العلل»، عن محمّد بن علی بن إبراهیم بن هاشم، قال: «إنّ النبیّ صلی الله علیه و آله کان إذا ماتَ رجلٌ من أهل بیته، یرشّ قبره، ویضع یده علی قبره لیعرف أن_ّه من العلویّة وبنی هاشم من آل محمّد صلی الله علیه و آله ، فصارت بدعة فی الناس کلّهم ولا یجوز ذلک»(2).

حیث یظهر منه عدم الجواز لغیره.

أقول: هذا الخبر لابدّ من طرحه أو تأویله بما لا ینافی بما ورد فی الأخبار من تجویز ذلک لغیرهم، هذا فضلاً عن أن_ّه غیر مرویّ عن معصوم علیه السلام ، ولذلک فهو عاجزٌ عن المعارضة کما لا یخفی.

وعن بعض الأصحاب استحباب أن یکون وضع الید علی القبر مستقبل القبلة، ولعلّه لأن_ّه خیر المجالس، وأقرب إلی استجابة الدّعاء للمیّت.

أقول: العمدة فی ذلک وجود أخبار کثیرة علی ذلک :

منها: خبر محمّد بن أحمد بن یحیی قال: «کُنت بفید(3) وذکر نحوه.. إلی أن قال: أخبرنی صاحب هذا القبر _ یعنی محمّد بن إسماعیل بن بزیع _ أن_ّه سمع أبا جعفر علیه السلام یقول: من زار قبر أخیه المؤمن وجلس عند قبره واستقبل القبلة ووضع


1- وسائل الشیعة: الباب 33 من أبواب الدفن، الحدیث 4 .
2- المستدرک: ج1 الباب 31 من أبواب الدفن، الحدیث 3 .
3- فِیْد علی وزن بیع ، منزل بطریق مکّة ، ویقال بلیدةٌ بنجد علی طریق الحاجّ العراقی. «مجمع البحرین».

ص:266

یده علی القبر فقرأ إنّا أنزلناه فی لیلة القدر سبع مرّات أمِنَ من الفزع الأکبر»(1).

ومنها: خبر أحمد بن محمّد، قال: «کنتُ أنا وإبراهیم بن هاشم فی بعض المقابر، إذ جاء إلی قبرٍ فجلس مستقبل القبلة، ثمّ وضع یده علی القبر فقرأ.. إلی آخر الحدیث».(2)

ومنها: خبر عبد الرحمن بن عبد اللّه، قال: «سألت عن وضع الرجل یده علی القبر ما هو ولِمَ صنع؟ فقال: صنعه رسول اللّه صلی الله علیه و آله علی لبنة بعد النضح. قال: وسألته کیف أضع یدی علی قبور المسلمین؟ فأشار بیده إلی الأرض ووضعها علیها ثمّ رفعها وهو مقابل القبلة»(3).

حیث أنّ ظاهر الأخبار أنّ عملهم کان مستنداً إلی فعل المعصومین علیهم السلام .

ومنها: ما رواه صاحب «فقه الرّضا»، قال: «ضع یدک علی القبر وأنت مستقبل القبلة وقل اللّهُمَّ...»(4).

بل یمکن استشعار محبوبیّة ذلک من خبر موسی بن أکیل(5) وسالم بن مکرم(6)، فقد ورد فیه أن_ّه استقبل القبلة، ثمّ صبّ الماء ورشّه وجعل القبر أمامه، ویکفی مثل ذلک لإثبات الاستحباب کما لا یخفی .

أقول: الظاهر من الأخبار _ خصوصاً خبر محمّدبن أحمد(7)_ عدم اختصاص ذلک الوضع لخصوص حال الدفن، بل یُستحبّ فی کلّ زیارة للقبر، کما یدلّ علی


1- وسائل الشیعة: الباب 57 من أبواب الدفن، الحدیث 3 و 6 .
2- وسائل الشیعة: الباب 57 من أبواب الدفن، الحدیث 3 و 6 .
3- وسائل الشیعة: الباب 33 من أبواب الدفن، الحدیث 5 .
4- المستدرک: ج1 الباب 31 من أبواب الدفن، الحدیث 2.
5- وسائل الشیعة: الباب 32 من أبواب الدفن، الحدیث 1.
6- وسائل الشیعة: الباب 31 من أبواب الدفن، الحدیث 5 .
7- وسائل الشیعة: الباب 57 من أبواب الدفن، الحدیث 3.

ص:267

استحباب زیارة قبور الاخوان، واستحباب قراءة سورة القدر سبع مرّات، بل الأخبار الواردة حول استحباب زیارة القبور من الکثرة البالغة حدّ الاستفاضة، وقد تداولتها کتب الأصحاب کما حُکی علیه الإجماع من العلاّمة والشهید.

ویتأکّد استحبابه یوم الاثنین وغداة السبت، تأسّیاً بالمحکیّ عن فعل فاطمة علیهاالسلام فی زیارتها لقبر حمزة الشهید بأُحُد، کما ورد فی صحیح هشام بن سالم، عن أبی عبد اللّه علیه السلام ، قال: «سمعته یقول: عاشت فاطمة بعد أبیها خمسة وسبعین یوماً لم تُر کاشرة ولا ضاحکة، تأتی قبور الشهداء فی کلّ جمعةٍ مرّتین الاثنین والخمیس، فتقول: هاهنا کان رسول اللّه صلی الله علیه و آله ، هاهنا کان المشرکون»(1).

وروایة یونس، عن أبی عبد اللّه علیه السلام ، قال: «إنّ فاطمة کانت تأتی قبور الشهداء فی کلّ غداة سبتٍ، فتأتی قبر حمزة وتترحّم علیه وتستغفر له».(2)

بل وکذا یستحبّ زیارة القبور عشیّة یوم الخمیس وأن یکون الخروج فی ملأ من المؤمنین ، کما یظهر ذلک من فعل النبیّ صلی الله علیه و آله المرویّ من صفوان الجمّال، قال: «سمعتُ أبا عبداللّه علیه السلام یقول: کان رسول اللّه صلی الله علیه و آله یخرجُ فی ملأٍ من الناس من أصحابه کلّ عشیّة خمیسٍ إلی بقیع المدنیین، فیقول: السّلامُ علیکم یا أهل الدِّیار ثلاثاً، رَحمکم اللّه ثلاثاً. الحدیث»(3).

بل قد یظهر من فعل فاطمة علیهاالسلام استحباب زیارة القبور للنساء أیضاً، کما نصَّ علیه بعض الأصحاب، ومنهم صاحب «الجواهر»، خلافاً للمصنّف فی «المعتبر» حیث کرهها لهنّ، بل ظاهره أو صریحه نسبة ذلک فیه إلی أهل العلم. وعلّله بمنافاته للستر والصیانة.


1- وسائل الشیعة: الباب 55 من أبواب الدفن، الحدیث 1 و 2 .
2- وسائل الشیعة: الباب 55 من أبواب الدفن، الحدیث 1 و 2 .
3- وسائل الشیعة: الباب 55 من أبواب الدفن، الحدیث 3 .

ص:268

أقول: ولکنّ الأقوی عندنا هو الأوّل، إن لم یستلزم ما ینافی الستر وغیره، وإلاّ ربّما أوجبت الحرمة، خصوصاً إذا استلزم الجَزَع والفزع، وعدم الصبر لقضاء اللّه وقدره أمام ملأ الناس، وخروجها عن حدّ المتعارف، وإلاّ لولا ذلک کان أصل الاستحباب ثابتاً للجمیع بالأدلّة والأخبار الدالّة بالعموم علیه، وبعض الأخبار الحاکی عن فعل المعصوم کفاطمة علیهاالسلام .

ومنه یظهر استحباب زیارة قبور الأئمّة علیهم السلام لکثرة العمومات الدالّة علی رجحانها، المنجبرة بعمل الأصحاب، فالقول بکراهتها المنقول عن المحقّق قدس سره ممّا لا یمکن المساعدة معه .

ثمّ قد عرفت دلالة الأخبار علی استحباب کون زائر القبور مستقبل القبلة کما فی «فقه الرضا»، وما فی المحکیّ عن الکشّی، فبذلک یمکن دعوی الفرق بین قبر المعصوم علیه السلام وغیره حیث یستحبّ للأوّل کون القبلة بین کتفیه، وفی الثانی علی وجهه.

ثمّ نقل صاحب «الجواهر» قدس سره عن صاحب «مجمع الفائدة» قوله: «إنّی رأیت فی بعض الروایات أنّ زیارة غیر المعصوم مستقبل القبلة وزیارته مستقبلها ومستدبرها».

ثمّ قال صاحب «الجواهر» بعده: «قلت: لکن الذی علیه العمل الآن بالنسبة إلی زیارة العبّاس وعلیّ بن الحسین علیهم السلام ونحوهما علی نحو زیارة المعصوم علیه السلام ، ولعلّه لعدم اندراجهم فی الأوّلین، ولذا لم نرَ أحداً عاملهم بالنسبة إلی قراءة الفاتحة، وإنّا أنزلناه ونحو ذلک معاملتهم مع اعتبار مقابلة الزائر للمزور، وهو لایخلو عن قُرب، واللّه أعلم»، انتهی(1).


1- الجواهر: ج4 / 323 .

ص:269

ویترحّم علی المیّت (1).

أقول: الظاهر کون الحکم هو الاستقبال بالوجه فی الجمیع، إلاّ ما خرج بالدلیل، بواسطة ورود أخبار دالّة علی زیارتهم بکیفیّة خاصّة فی مواضع مخصوصة، ولو کان مستدبر القبلة، کما نشاهد ذلک فی بعض الزیارات المرویّة للأئمّة علیهم السلام کأبی الحسن الرضا علیه السلام ، ولعلّ منه ما ورد فی حقّ الشهداء فی أرض کربلاء کالعبّاس وغیره سلام اللّه علیهم أجمعین .

(1) ومن جملة المندوبات الترحّم علی المیّت بالأدعیة الواردة فی ذلک، خصوصاً الدّعاء الوارد عن الإمام الباقر علیه السلام ، وهو أفضله کما فی «الجواهر»، فقد روی محمّد بن مسلم، قال: «کنتُ مع أبی جعفرٍ علیه السلام فی جنازة رجلٍ من أصحابنا، فلمّا أن دفنوه قام علیه السلام إلی قبره فحثا التراب علیه ممّا یلی رأسه ثلاثاً بکفّه، ثمّ بسط کفّه علی القبر، ثمّ قال: اللّهُمَّ جافِ الأرض عن جنبیه، وأصعِد الیک روحه، ولقّه منک رضواناً، واسکن قبره من رحمتک ما تُغنیه به عن رحمة من سواک»(1).

ومثله ما فی خبر ابن سالم بن مکرم السابق(2) وخبر سماعة(3)، وما فی «فقه الرّضا».(4)

أقول: لا یخفی أنّ استحباب الترحّم أمرٌ مستقلّ عن استحباب وضع الید علی القبر، فکلّ مستحبٍّ برأسه لا علاقة له بالآخر، کما أنّ الاستقبال إلی القبلة مستحبٌّ برأسه أیضاً ، کما لایخفی.


1- وسائل الشیعة: الباب 29 من أبواب الدفن، الحدیث 3.
2- وسائل الشیعة: الباب 21 من أبواب الدفن، الحدیث 5 و 4 .
3- وسائل الشیعة: الباب 21 من أبواب الدفن، الحدیث 5 و 4 .
4- المستدرک: ج1 الباب 31 من أبواب الدفن، الحدیث 2.

ص:270

ویلقّنه الولیّ بعد انصراف الناس عنه بأرفع صوته(1).

(1) من جملة المندوبات استحباب أن یقوم الولیّ بتلقین المیّت بعد انصراف الناس عنه، واستحبابه إجماعیٌ بکلا قسمیه، وعلیه الأخبار ، وهو التلقین الثالث _ لو لم یکن رابعاً علی تقدیر تلقینه فی القبر _ وبه یندفع سؤال منکرٍ ونکیر، وینصرفان عنه کما تدلّ علیه الأخبار، والظاهر عدم الالتزام بما ورد فی الأخبار من الأقوال؛ لأنّ المقصود تلقینه بأُصول دینه ومذهبه حتّی قیل بجواز تلقین المیّت بلسان شخصه الذی یفهمه فی حال حیاته، بل قیل إنّه أولی، ولکنّه لیس علی ما ینبغی؛ لأنّ الإنسان إذا انتقل إلی ذلک العالم یفهم جمیع الألفاظ، ویخرج عن القیود الدنیویّة، خصوصاً إذا التزمنا بأنّ العربیّة هی لسان أهل الجنّة، مع ما ورد من الأخبار من الحثّ علی تعلیمها لجمیع الناس، فالأولی لو لم یکن أقوی حفظ ما ورد فی الأخبار من حیث العربیّة، کما ورد لزوم مراعاة ذلک فی الأدعیة الواردة فی أیّام الحیاة، وکذلک یکون بعد الموت أیضاً .

أمّا الأخبار الدّالة علی تلقین الولیّ:

منها: الخبر الذی رواه یحیی بن عبد اللّه، قال: «سمعتُ أبا عبد اللّه علیه السلام یقول: ما علی أهل المیّت منکم أن یدرؤوا عن میّتهم لقاء منکرٍ ونکیر؟! قال: قلت: کیف نصنع؟ قال: إذا أفرد المیّت فلیستخلف عنده أولی الناس به، فیضع فمه عند رأسه، ثمّ ینادی بأعلی صوته: یا فلان بن فلان، أو یا فلانة بنت فلان، هل أنتَِ علی العهد الذی فارقتنا علیه من شهادة... قال: فیقول منکرٍ لنکیر انصرف بنا عن هذا فقد لقّن حجّته»(1).


1- وسائل الشیعة: الباب 35 من أبواب الدفن، الحدیث 1 .

ص:271

ومنها: خبر جابر بن یزید، عن أبی جعفر علیه السلام ، قال: «ما علی أحدکم إذا دفن میّته وسوّی علیه وانصرف عن قبره أن یتخلّف عند قبره، ثمّ یقول: یا فلان بن فلان.... فإنّه إذا فعل ذلک، قال أحد المَلَکین لصاحبه: قد کفینا الوصول إلیه ومسألتنا إیّاه، فإنّه قد لقّن حجّته، فینصرفإنّ عنه ولا یدخلان علیه».(1)

أقول: هل یعتبر أن یکون الملقّن ولیّ المیّت کما هو صریح الروایة الاُولی، أو یجوز صدوره عن غیره کما هو مقتضی إطلاق حدیث جابر؟

الأوّل هو الأولی لصراحة الروایة، والاحتمال الثانی یقدّم إن کان الضمیر المضاف إلیه فی میّته إشارةً إلی الولیّ، کما هو الظاهر، خصوصاً مع ملاحظة التصریح بذلک فی الخبر المرسل المرویّ عن إبراهیم بن هاشم، عن بعض أصحابه، عن أبی عبد اللّه علیه السلام ، قال: «ینبغی أن یتخلّف عند قبر المیّت أولی الناس به بعد انصراف الناس عنه، ویقبض علی التراب بکفّیه ویُلقّنه برفیع صوته، فإذا فعل ذلک کفی المیّت المسألة فی القبر».(2)

نعم، لا یبعد کفایة تلقین من یأمره الولیّ حتّی یکون ذلک من قبیل الوظائف التی کان ذلک علی عهدته ولو بالتسبیب، لو لم یمکن علیه ذلک بالمباشرة عرفاً من جهة وجود مانع یمنعه نوعاً، ولو من جهة أنّ الناس عادةً یرفقون بأولیاء المیّت ولا ینصرفون إلاّ أن یستصحبوا الولیّ معهم، ولا یترکونه علی قبر عزیزه وحده خوفاً من عروض الجزع علیه إن تفرّد بقبر عزیزه المفارق له، ولعلّه لذلک قال صاحب «الجواهر»: «بل الظاهر الاکتفاء بمن یأمره الولیّ ایضاً کما فی معقد إجماع «الذکری»».

حکم المتبرّع بالتلقین: یبقی حکم المتبرّع من غیر الأولیاء: فهل یکفی _ کما


1- وسائل الشیعة: الباب 35 من أبواب الدفن، الحدیث 2 و 3.
2- وسائل الشیعة: الباب 35 من أبواب الدفن، الحدیث 2 و 3.

ص:272

یظهر عن «الجامع» حیث قال: «یلقّنه الولیّ أو غیره»؟

أم لا یکفی ذلک لانحصار الدلیل به دون سواه کما صرّح به صاحب «الجواهر»: «أن_ّه لا دلیل علیه»؟

ولکن نقول: لایبعد الاجتزاء به لو لم یحصل منهما، لاحتمال أصل المطلوبیّة، خصوصاً مع ملاحظة ما یترتّب علیه من الأثر الحاصل من غیرهما أیضاً، وهو تلقینه باُصول الدِّین والمذهب کما لا یخفی.

أقول: ثمّ المطلوب هو تلقینه بأرفع صوته، کما عبّر به الشیخان وجماعة علی ما حُکی، ونسبه فی «جامع المقاصد» و«الروض» إلی الأصحاب، کما إلیه یرجع ما عن الحلبی برفع صوته کما وقع فی خبر إبراهیم بن هاشم، أو بأعلی صوته کما وقع فی حدیث یحیی بن عبد اللّه.

هذا إن لم یمنع عنه مانع کالتقیّة، وإلاّ أجزأه سِرّاً کما عن «المهذّب» و«الجامع»، بل ظاهر «مجمع البرهان» نسبته إلی الأصحاب، ولعلّ الحقیقة هو وصول صوت الملقّن إلیه وهو بالرفیع أولی، وفی السرّ بعنایة اللّه یکون کالجهر إن شاء اللّه تعالی، کما لایخفی.

فرع: هل یستحبّ للملقّن أن یجعل نفسه مستقبل القبلة، أو مستقبل المیّت بوجهه ومستدبرها، أو یقف عند رأسه؟ وجوه.

من ملاحظة إطلاق بعض الأدلّة حیث یجوّز کلّ منها، ومن کون القبلة خیر المجالس، فیقدّم الأوّل.

وأمّا بملاحظة أنّ التلقین مقابل رأسه واُذنه أوقع فی نفس المیّت فیُقدّم الثانی.

أو یعمل بما أوصی به الإمام علیه السلام ، کما فی خبر یحیی بن عبد اللّه، حیث قال:

ص:273

«یضع الملقّن فمه عند رأسه ثمّ یُنادی»، وهو الأولی کما لا یخفی .

کما لا بأس بالعمل بما فی مرسل إبراهیم بن هاشم حیث قال: «یقبض علی التراب بکفّه ویلقّنه برفیع صوته».

أقول: ولا یخفی أنّ جمیع ذلک یکون من مراتب الفضیلة والاستحباب لا من باب تقیید المطلقات، حتّی ینحصر الاستحباب بخصوص المقیّد کما هو المتعارف فی باب المثبتتات.

فرع: هل یختصّ هذا الحکم بالکبیر فقط کما هو المنساق إلی الذهن أوّلاً من ملاحظة الأخبار والتعلیل الوارد فیها ؟

أم لا کما یظهر عن «جامع المقاصد» بعدم الفرق کما فی حکم الجریدة. وفی «الجواهر» (لا بأس به لو کان هناک عمومٌ واضح یتناوله).

أقول: الظاهر خلافه، لأن_ّه لو کان الأمر کذلک، لکان ینبغی أن یُنقل ذلک عن رسول اللّه صلی الله علیه و آله عند قبر ابنه إبراهیم علیه السلام ،وعلیه فالا ءقوی اختصاصه بالکبیر، واللّه العالم.

هذا کلّه بالنظر إلی الخاصّة، مع أن_ّه قد وردت الروایة عن طرق العامّة علی استحباب ذلک، مثل ما رووه عن أبی اُمامة الباهلی، أنّ النبیّ صلی الله علیه و آله قال: «إذا مات أحدکم وسوّیتم علیه التراب، فلیقم أحدکم عند قبره، ثمّ لیقل: یا فلان بن فلانة فإنّه یسمع ولا یُجیب، ثمّ یقول: یا فلان بن فلانة الثانیة، فیستوی قاعداً ثمّ لیقل: یا فلان بن فلانة فإنّه یقول: أرشدنا رَحِمک اللّه، فیقول: اذکر ما خرجتَ علیه من الدُّنیا بشهادة أن لا إله إلاّ اللّه، وأنّ محمّداً عبده ورسوله، وأن_ّک رضیتَ باللّه ربّاً، وبالإسلام دیناً، وبمحمّدٍ صلی الله علیه و آله نبیّاً، وبالقرآن إماماً، فإنّ منکراً ونکیراً یتأخّر کلّ واحدٍ منهما فیقول: انطلق فما یقعدنا عند هذا، وقد لُقّن حجّته. فقیل: یا رسول اللّه

ص:274

فإن لم یعرف اُمّه؟ قال: فلینسبنّه إلی حوّاء»(1).

والعجب منهم مع وجود هذا الخبر من طرقهم فقد أنکر أرباب مذاهبهم وأئمّتهم استحبابه، إلاّ أنّ الشهید قدس سره نقل عن بعض العامّة _ کالرافعی _ القول باستحبابه.

وکیف کان، فلا إشکال عندنا فی أصل استحبابه، بل قال المجلسی قدس سره فی «البحار»: «لا یبعد أن یکون اشتراط انصراف الناس ووضع الفم عند الرأس کما ورد فی الأخبار للتقیّة، والأولی مراعاة ذلک».

أقول: لو کان الأمر کما ذکره رحمه الله فلا وجه للقول بتلقینه بأعلی صوته کما فی الخبر. نعم، لا یبعد أن یکون الوجه فیه أنّ المیّت حیث یری أنّ مشیّیعه اللّذین کان مستأنساً بهم قد انصرفوا، یحسّ بوحشة من ذهابهم، مع ما فیه من الوحدة والغربة والشدّة، فیناسب إقامة الولیّ إلی جانبه بعد انصرافهم، ورفع صوته بالتلقین، وتذکیره بمعالم دینه والعقائد الحقّة، لیطمئن بها ویجعلها جُنَّةً من تلک المخاوف والأهوال، أعاننا اللّه سبحانه علی هول المطلع، وآنس وحشتنا بمنّه وکرمه، بمحمّدٍ وآله صلوات اللّه علیه وعلیهم أجمعین، فهو أرحم الراحمین وأکرم الأکرمین.

ومن جملة المندوبات: ما عن الکفعمی إبراهیم بن علیّ فی «المصباح»، قال: «صلاة الهدیّة لیلة الدفن رکعتان فی الاُولی الحمد وآیة الکرسی، وفی الثانیة الحمد والقَدَر عشراً، فإذا سلّم قال: اللّهُمَّ صلِّ علی محمّد وآل محمّد وابعث ثوابها إلی قبر فلان»(2).


1- مصباح الهدی للآملی: ج6 / 479 .
2- وسائل الشیعة: الباب 44 ، من أبواب بقیّة الصلوات المندوبة، الحدیث 2 .

ص:275

وفی روایة اُخری: بعد الحمد التوحید مرّتین، فی الاُولی وفی الثانیة بعد ألهاکم التکاثر عشراً ثمّ الدّعاء المذکور).(1)

قلنا: هاتان الروایتان نقلهما الکفعمی فی حاشیة «المصباح» عن «موجز» ابن فهد، ولکن فی «مرآة الکمال «للمامقانی قدس سره : «رُوی عن حُذیفة، عن النبیّ صلی الله علیه و آله أن_ّه لا یأتی علی المیّت ساعة أشدّ من أوّل لیلة، فارحموا أمواتکم بالصدقة، فإن لم تجدوا فلیُصلِّ أحدکم رکعتین یقرأ فی الاُولی بفاتحة الکتاب مرّة، وقل هو اللّه أحد مرّتین، وفی الثانیة فاتحة الکتاب مرّة، وألهاکم التکاثر عشر مرّات، ویُسلّم، ویقول: اللّهُمَّ صلِّ علی محمّد وآل محمّد، وابعث ثوابها إلی قبر ذلک المیّت فلان ابن فلان، فیبعث اللّه من ساعته ألف مَلکٍ إلی قبره مع کلّ ملکٍ ثوبٌ وحُلّة، ویوسّع فی قبره من الضیق إلی یوم یُنفخ فی الصور، ویُعطی المصلّی بعدد ما طَلَعت علیه الشمس حسنات، وترفع له أربعون درجة»(2).

ولعلّ العمل بالکیفیّة الثانیة أولی وأفضل من الاُولی، لأن_ّها قد أضاف إلیها الروایة الثانیة مع مشارکتها للاُولی فی الروایة، وإن کان العمل بهما معاً أفضل.

والظاهر من الخبر الثانی أن_ّه لم یُشرّع العمل المذکور إلاّ لمرّة واحدة من شخص واحد، عند عدم التمکّن من الصدقة أو مطلقاً بحسب الروایتین السابقتین، إلاّ أنّ المتعارف فی زماننا هو استیجار الأربعین رجلاً یصلّون الصلاة المذکورة، فیأتی البحث عن أن_ّه: هل یجوز تکرارهابهذا العدد،فضلاً عن أن_ّه


1- وسائل الشیعة: الباب 44 من أبواب بقیّة الصلوات المندوبة، الحدیث 3.
2- مصباح الهدی: ج6 / 500 .

ص:276

هل یجوز الاستیجار علیها أم لا؟

أمّا علی الأوّل: فقد قال صاحب «العروة»: «وإتیان أربعین أولی، لکن لا بقصد الورود والخصوصیّة، کما أن_ّه یجوز التعدّد من شخص واحدٍ إهداء الثواب».

ولعلّ الوجه فی اختیار هذا العدد لأجل ما ورد من استحباب دعاء أربعین مؤمناً للمیّت وأنّ دعائهم لا یُرَدّ، ولا یخفی أنّ هذه الصلاة مشتملة علی الدّعاء ولو بما ورد فی آخرها، أو لما ورد من استحباب شهادة أربعین أو خمسین من المؤمنین بأن_ّهم لا یعلموا من المیّت إلاّ الخیر، لأنّ دعائهم یتضمّن الشهادة له بذلک، ولکن مع ذلک کلّه لا یوجب ذلک جواز الإتیان بقصد الورود، کما لا یخفی.

وأمّا علی الثانی: أی جواز الاستیجار علیها، فقد قال عنه المحقّق الهمدانی رحمه الله فی «مصباح الفقیه»: «وفی صحّة الاستیجار علیها _ کما هو المتعارف فی هذه الأعصار _ إشکالٌ یأتی البحث عنه فی کتاب الصلاة إن شاءاللّه»(1).

أقول: بعد الفراغ عن جواز الإتیان بها متعدّدةً، أو الإتیان بواحدةٍ الذی ورد فی الخبر، فیجوز الإتیان بالثانیة بقصد الورود بمثل ما نجیز الاستیجار فی العبادات کالحجّ والصلاة، وعلیه فلا وجه للمناقشة فی خصوص المورد، لأن_ّه عملٌ، والأعمال الصادرة من المؤمنین محترمة، یجوز أخذ الاُجرة علیها، ولم یکن قصد القربة منافیاً لذلک، کما حقّقناه فی موضعه، وعلیه فالأولی إرجاع تفصیل البحث فیه إلی محلّه المُعدّ له.


1- مصباح الفقیه: ج5 / 420 .

ص:277

والتعزیة مستحبّة(1).

(1) بلا خلاف بین المسلمین، بل لعلّها من ضروریّات الدِّین، وقد فعلها سیّد المرسلین صلی الله علیه و آله فی حقّ علیّ بن أبی طالب علیه السلام فی مصیبة أخیه جعفر الطیّار وبالنسبة إلی أهله، وعلیه سیرة الأئمّة الطاهرین علیهم السلام ، بل والملائکة المقرّبین یوم وفاة النبیّ صلی الله علیه و آله ، وفیها أجرٌ عظیم وثوابٌ جزیل، حتّی ورد أن_ّها تُورِث الجنّة کما فی الروایة التی رواها السکونی، عن الصادق، عن أبیه، عن آبائه علیهم السلام ، قال: «قال رسول اللّه صلی الله علیه و آله : التعزیة تورث الجنّة»(1).

وفی خبر وهب، عن الصادق علیه السلام ، قال: قال رسول اللّه صلی الله علیه و آله : «من عَزّی مصاباً کان له مثل أجره من غیر أن ینتقص من أجر المصاب شیء».(2)

وغیر ذلک من إلاّ خبار، ولعلّ اختلاف مقدار الثواب والأجر، لأجل شدّة المصاب وعدمه بحسب اختلاف الموارد، ولذلک ورد فی الروایة التی رواها علیّ ابن عیسی عن جدّه وعن أبیه، قال: «قال أمیر المؤمنین علیه السلام : من عزّی الثکلی أظلّه اللّه فی ظلّ عرشه یوم لا ظلّ إلاّ ظلّه».(3)

والمراد من الثکلی علی الظاهر المرأة التی فقدت ولدها أو حمیها، وکأنّه لعظم مصابها باعتبار ضعف النساء ورقّة قلوبهنّ، أمّا أن یکون احتمال المراد منها أعمّ من الرجال والنساء بعیدٌ لما یشاهد من استعمالها فی حقّ النسوة عادةً دون الرِّجال.

أقول: لاریب فی حصول التعزیة بطلب تسلّی المصاب، والتصبّر عن الحزن، وإسناد المصیبة إلی عدله وحکمته تعالی، وطلب الرحمة للمتوفّی وأن یعمّه برحمته ومغفرته ورضوانه، وأن یؤجره علی المصاب وعلی الصبر علی


1- وسائل الشیعة: الباب 46 من أبواب الدفن، الحدیث 8 و 2 و 5 .
2- وسائل الشیعة: الباب 46 من أبواب الدفن، الحدیث 8 و 2 و 5 .
3- وسائل الشیعة: الباب 46 من أبواب الدفن، الحدیث 8 و 2 و 5 .

ص:278

وهی جائزة قبل الدفن وبعده(1).

المصاب، ولا یخفی أنّ هذه أُمورٌ لا تتوقّف علی کیفیّة خاصّة، أو عبارة معیّنة، واحتمال حصر ذلک بما ورد عن النبیّ صلی الله علیه و آله أو الأئمّة علیهم السلام فی هذا المقام ممّا لا وجه له، وإن کان التأسّی بهم فی ذلک أیضاً لا یخلو عن رجحان ومحبوبیّة، لما ورد من الأمر بالتأسّی برسول اللّه صلی الله علیه و آله «لَقَدْ کَانَ لَکُمْ فِی رَسُولِ اللّه ِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ»(1)، فإنّ عمومها تشمل جمیع الموارد ومنها ما نحن فیه .

(1) جوازها مطلقاً إجماعیٌ بکلا قسمیه، مستفیضاً إن لم یکن متواتراً منّا، بل وعن غیرنا عدا الثوری فإنّه کرهها بعد الدفن، وعلّل ذلک بأنّ الدفن خاتمة أمر المیّت، ولا یخفی تفاهة کلامه لأن_ّه خاتمة لأمر المیّت لا لأهله، والتعزیة موجّهة لأهل المیّت لا للمیّت، فما حکاه «الذکری» عن ابن البرّاج منّا ممّا یقرب مع المحکیّ عن الثوری ضعیفٌ جدّاً ومخالفٌ لسیرة أئمّتنا، لأن_ّهم جعلوا التعزیة لأصحابهم لما بعد الدفن، هذا فضلاً عمّا عرفت من قیام الإجماعات نقلها وتحصیلها، بل هی بعد الدفن أفضل من قبله کما صرّح بذلک الشیخ والمصنّف رحمهم الله والعلاّمة وغیرهم، وظاهر الشهید والمحقّق الثانی، بل فی «المدارک» أن_ّه مذهب الأکثر بشهادة الاعتبار من حیث غیبوبة شخص المتوفّی وانقطاع العُلقة فی ذلک الوقت مع اشتغالهم قبل الدفن بتجهیزه، خصوصاً مع ما ورد من الأخبار فیه:

منها: ما فی مرسل ابن أبی عمیر، عن بعض أصحابه، عن أبی عبد اللّه علیه السلام ، قال: «التعزیة لأهل المصیبة بعدما یدفن»(2).


1- سورة الأحزاب: الآیة 21 .
2- وسائل الشیعة: الباب 48 من أبواب الدفن، الحدیث 1 .

ص:279

ومنها: مرسلة محمّد بن خالد، عن بعض أصحابه، عنه علیه السلام ، قال: «التعزیة الواجبة بعد الدفن».(1)

ومنها: روایة الصدوق، قال: «قال الصادق علیه السلام : التعزیة الواجبة بعد الدفن.

وقال: کفاک من التعزیة أن یراک صاحب المصیبة».(2)

والمستظهر من هذه الروایة أنّ أقلّ التعزیة هو أن یراه صاحب المصیبة.

کما تثبت التعزیة عند القبر أیضاً، کما فی خبر إسحاق بن عمّار، عن أبی عبداللّه علیه السلام ، قال: «لیس التعزیة إلاّ عند القبر ثمّ ینصرفون لا یحدث فی المیّت حَدَثٌ فیسمعون الصوت»(3).

حیث یفهم منه أنّ المقصود بیان الوظیفة بعد الدفن، إذ لابدّ لهم من الانصراف حتّی لا یسمعوا من حدث المیّت ما یکرهوه أو یفزعوا، لا بیان انحصار التعزیة فی خصوصه، أو یُحمل علی مراتب الفضیلة، بأن تکون التعزیة عند القبر أفضلها بالقیاس إلی ما قبل القبر وما بعده، لشدّة الحاجة إلیها فی ذلک الوقت.

فرع: هل للتعزیة حدٌّ شرعاً من حیث الزمان، أو المرجع فی تحدیدها إلی العرف وهو یتفاوت بحسب حال المیّت جلالةً وضِعَةً؟

ذهب صاحب «الجواهر» إلی الأوّل، ونَسب الثانی إلی قیل المشعر بتمریضه.

أقول: الأقوی هو الثانی ما لم یطل الزمان إلی حَدٍّ یستنکره العرف ذکرها، الموجب لتجدید الحزن.

وعلیه، فما فی «الذکری» حیث قال: «ولا حدّ لزمانها عملاً بالعموم. نعم، لو أدّت التعزیة إلی تجدید حزنٍ قد نسی کان ترکها أولی»، جیّدٌ مع ضمّ اختلاف


1- وسائل الشیعة: الباب 48 من أبواب الدفن، الحدیث 3 و 4 .
2- وسائل الشیعة: الباب 48 من أبواب الدفن، الحدیث 3 و 4 .
3- وسائل الشیعة: الباب 48 من أبواب الدفن، الحدیث 2.

ص:280

الحالات فی الموارد.

نعم، قد ورد فی بعض الأخبار ما یدلّ علی أنّ المآتم أو إرسال الطعام إلی أهل المصیبة یجب أن تکون فی الأیّام الثلاثة بعد الوفاة:

منها: صحیح زرارة، عن أبی جعفر علیه السلام ، قال: «یصنع للمیّت الطعام للمآتم ثلاثة أیّام بیومٍ مات فیه»(1).

ومثله مرسل الصدوق(2).

ومنها: مصحّح ابن أبی عمیر، عن حفص بن البَختری وهشام بن سالم، عن أبی عبد اللّه علیه السلام ، قال: «لمّا قُتل جعفر بن أبی طالب أمر رسول اللّه صلی الله علیه و آله فاطمة علیهاالسلام أن تتّخذ طعاماً لأسماء بنت عُمیس ثلاثة أیّام، وتأتیها ونسائها وتُقیم عندها ثلاثة أیّام، فجَرَت بذلک السنّة أن یُصنع لأهل المصیبة طعاماً ثلاثة».(3)

وغیر ذلک من الأخبار الموافقة للسابقة، ولکن کلّ ذلک لا یوجب تحدید التعزیة بثلاثة أیّام، لأن_ّها لازم أعمّ، إذ ربّما یمکن القول بالافتراق بینهما إذ لا ملازمة بینهما، کما لا یستلزم هذا التحدید ما ورد فی مرسل الصدوق، قال: «قال الصادق علیه السلام : لیس لأحدٍ أن یحدّ أکثر من ثلاثة أیّام إلاّ المرأة علی زوجها حتّی تقضی عدّتها»(4).

لما قد عرفت من عدم التلازم بین التعزیة والحِداد، فیمکن القول فی الاُولی بأکثر من ثلاثة أیّام دون الحِداد فی غیر الزوجة.

وعلیه، فما عن التقی رحمه الله من أنّ السنّة لتعزیة أهل المیّت ثلاثة أیّام، وحمل الطعام إلیهم لا یرید به التحدید فی أصل التعزیة، بل یرید إمّا التأکّد، أو التعزیة


1- وسائل الشیعة: الباب 67 من أبواب الدفن، الحدیث 3.
2- وسائل الشیعة: الباب 67 من أبواب الدفن، الحدیث 4 و 1 .
3- وسائل الشیعة: الباب 67 من أبواب الدفن، الحدیث 4 و 1 .
4- وسائل الشیعة: الباب 82 من أبواب الدفن، الحدیث 1.

ص:281

تمام الثلاثة کما فعلته فاطمة علیهاالسلام ، أو تکرار ذلک من الشخص الواحد، أو نحو ذلک کما فی «الجواهر».

فرع: هل یکره الجلوس والاجتماع لأجل تعزیة أهل العزاء لثلاثة أیّام، أو أزید أو أقلّ أم لا ؟

صرّح الشیخ فی «المبسوط» قیام الإجماع علی الکراهة، وتبعه ابن حمزة والمصنّف فی ظاهر «المعتبر»، کما عن العلاّمة فی «المختلف»، خلافاً لصاحب «الجواهر» والسیّد فی «العروة» والمحقّق الآملی فی «المصباح»، والمحقّق فی «مصباح الهدی» من الحکم بعدم الکراهة ولا الاستحباب، بل هو جائزٌ ومباحٌ لو لم یُضمّ إلیه ما یوجب الرجحان أو خلافه، فربّما یوجب الحرمة أو الکراهة لأجله.

أقول: وهذا هو الأقوی لعدم تمامیّة ما استدلّوا علیه من الإجماع، کما وقع فی کلام الشیخ، لما قاله صاحب «الجواهر»: «من إنّا لم نعرف أحداً ممّن تقدّم علیه قد نصّ علی الکراهة ولا اُشیر إلیها فی روایة».

وممّا قد قیل فی توجیهه: بأنّ فی ذلک _ أی الجلوس للتعزیة والمصیبة _ منافاة للرِّضا بقضاء اللّه والصبر، ونحوهما.

ولکنّه ممنوع، لوضوح عدم صحّة ذلک، بل الأمر یکون بالعکس، إذ ربما تکون هذه المجالس تذکرةً لأهل المصیبة بالصبر والتأسّی فیه بأهل بیت العصمة والطهارة علیهم السلام فی صبرهم علی الشدائد والمصائب المهولة، بل قد یظهر من بعض الأخبار خلاف ما ذکروه مثل ما فی الصحیح عن زرارة أو غیره، قال: «أوصی أبو جعفر علیه السلام بثمان مائة درهم لمآتمه، وکان یری ذلک من السنّة؛ لأنّ رسول اللّه صلی الله علیه و آله قال: اتّخذوا لآل جعفر طعاماً، فقد شغلوا»(1).


1- وسائل الشیعة: الباب 68 من أبواب الدفن، الحدیث 1.

ص:282

حیث یظهر منه عدم الخزازة فی أصل الجلوس للتعزیة، وإن لم یبیّن حدّه، حیث یشمل إطلاقه للأزید من الثلاثة لولا التقیید من الخارج.

بل قد یظهر من بعض الأخبار تجویز المأتم بأزید منها، مثل الخبر المرسل الذی رواه الشیخ الصدوق جزماً، قال: «أوصی أبو جعفر علیه السلام أن یندب فی المواسم عشر سنین»(1).

بل قد یؤیّد ذلک بصورة الإطلاق أیضاً ما فی خبر عبد اللّه الکاهلی، قال: «قلت لأبی الحسن علیه السلام : إنّ امرأتی وامرأة ابن مارد(2) تخرجان فی المآتم فأنهاهما، فتقول لی امرأتی إن کان حراماً فانهنا عنه حتّی نترکه، وإن لم یکن حراماً فلأیّ شیء تمنعناه، فإذا مات لنا میّتٌ لم یجئنا أحد؟

قال: فقال أبو الحسن علیه السلام : عن الحقوق تسألنی؟ کان أبی یبعث اُمّی واُمّ فروة تقضیان حقوق أهل المدینة».(3)

حیث لم یقیّد ولم یحدّد علیه السلام کیفیّة أدائهنّ الحقوق، بل ولا مجال لتقیید تلک الإطلاقات، لما قد سمعت منّا کراراً من عدم الإلزام إلی التقیید فی المثبتتات، بل یحمل علی مراتب الفضیلة وعلی أفضل الافراد، ولأجل ذلک أنکر ابن إدریس رحمه الله علی الشیخ دعوی إجماعه، وقال: «إنّه لم یذهب أحدٌ من أصحابنا المصنّفین إلی ذلک، ولا وضعه فی کتابٍ، وإنّما هذا من فروع المخالفین وتخریجاتهم، وأیّ کراهة فی جلوس الإنسان للقاء إخوانه، والدُّعاء والتسلیم علیهم، واستجلاب الثواب لهم فی لقائه وعزائه».

ومالَ إلیه جماعةٌ ممّن تأخّر عنه منهم الشهید فی دروسه وذکراه وبیانه.


1- وسائل الشیعة: الباب 69 من أبواب الدفن، الحدیث 2 و 1 .
2- وفی نقل الصدوق أنّ امرأتی واُختی وهی امرأة محمّد بن مارد .
3- وسائل الشیعة: الباب 69 من أبواب الدفن، الحدیث 2 و 1 .

ص:283

واعترضه المصنّف فی «المعتبر»: بأنّ الاجتماع والتزاور من حیث هو مستحبٌّ، أمّا إذا جُعل لهذا الوجه، واعتقد شرعیّته، فإنّه یفتقر إلی الدلالة، ثمّ استدلّ بالإجماع علی الکراهة، باعتبار أن_ّه لم ینقل عن أحدٍ من الصحابة الجلوس لذلک، فاتّخاذه مخالفٌ لسنّة السَّلف، لکن لا یبلغ أن یکون حراماً.

أقول: وفیه ما لا یخفی؛ لأنّ عدم فعل السلف لا یوجبُ المنع والکراهة، وإن کان أصل الفعل _ لولا عروض العارض من الرجحان والمحبوبیّة البالغة حَدّ الوجوب، أو المرجوحیّة المستلزمة تارةً للحرمة _ هو الإباحة، فالجلوس للتعزیة بالخصوص من حیث هو لیس بمکروهٍ، کما لا یکون مستحبّاً، لولا دلالة بعض الأخبار علی الاستحباب کما عرفت، وقد تعارف فی عصرنا إقامة مثل هذه المجالس، بل ربّما بالغ بعض الناس فی إقامتها بحیث یصل إلی حدّ الإسراف، وإتلاف الأموال الطائفة فی سبیل ذلک بما لا یصل إلی روح المیّت شیئاً ممّا تُصرف فیها، مثل إرسال باقات الورود الثمینة التی تُداس تحت الأقدام بعد ساعات، أو طبع یافطات کبیرة تحمل صورة المتوفّی، أو طبع الدعوة لحضور المدعوین إلی مجلس العزاء علی أوراق ثمینة تکلّف أصحاب المیّت غالیاً، أو دعوة المدعوین إلی صالات فخمة، وما إلی ذلک من أمورٍ لیس فی استطاعة الفقیه الحکم بجوازها، لأنّها بعیدة عن روح الشریعة المقدّسة وتعالیم النبیّ صلی الله علیه و آله والأئمّة المعصومین علیهم السلام ، بل لا تخلو عن شبهة الحرام فی بعض الموارد، بل قد تکون بعض التصرّفات محرّمة قطعاً، ونستعیذ باللّه ممّا یرتکبه أبناء هذا الزمان فی أمثال هذه الاُمور الخارجة عن حدود الشریعة، ونستعین باللّه فی امتثال أوامره ونواهیه فی جمیع الاُمور، بجاه محمّد وآله صلوات اللّه علیه وعلیهم أجمعین من الآن إلی لقاء یوم الدِّین .

ص:284

ولعلّه لأجل ذلک أو لغیره ورد فی بعض الأخبار من الذّم والتوبیخ لبعض الأفعال ووصفه بالأفعال والأعمال الجاهلیّة، مثل ما ورد فی حدیث الصدوق مرسلاً عن الصادق علیه السلام ، قال: «الأکل عند أهل المصیبة من عمل أهل الجاهلیّة، والسنّة البعث إلیهم بالطعام کما أمر به النبیّ صلی الله علیه و آله فی آل جعفر بن أبی طالب لمّا جاء نعیه»(1).

وغیرهما ممّا یفید عدم جواز تکلیف أهل المیّت فی أیّام مصیبتهم بالاُمور المتعارفة مثل إطعام الضیوف وما إلی ذلک، فتأمّل جیّداً.

ثمّ الظاهر عدم الفرق فی استحباب التعزیة لأهل المصیبة بین الکبار والصغار، والذکور والإناث، حتّی الشابّات من النساء فیما لا یوجب خوف وقوع الفتنة أو توهّم ذلک ، ولا اختصاص فی التعزیة بالمشافهة فقط، بل یمکن المشارکة فیها عن طریق المکاتبة وإرسال الرّسل، وإبلاغ التعازی إلی المعزّی بالطرق المتعارفة فی هذه الأیّام مثل البرید والبرق والهاتف وما إلی ذلک، بل لعلّ تعزیة النساء أولی، لرقّة قلوبهنّ وشدّة تأثّرهنّ بالمصاب، کما ورد من تعزیة النبیّ صلی الله علیه و آله لعیال جعفر بن أبی طالب، وأولی من ذلک تعزیة الیتیم، وإن کانت الکیفیّة فیها بالنسبة إلی الأفراد مختلفة مثل المسح علی رأس الیتیم مثلاً مترحّماً له، أو تهدئة النساء وإسکاتهنّ بذکر حکمة الموت وما یترتّب علی التسلیم لقضاء اللّه وقدره، وغیر ذلک.

فما عن بعض من کراهة توجیه التعزیة للنساء الشابّات، معلّلاً بخوف الفتنة، أو عن بعضٍ آخر بأن_ّه لا سُنّة فی تعزیة النساء، ممّا لا یمکن المساعدة معه، بعدما ورد من العمومات الدالّة علی استحبابها کما لا یخفی .

ثمّ إنّه هل یُستحبّ أن یقوم بعض الأفراد المصابین بالمصیبة تعزیة بعضهم لبعض، أم لا؟


1- وسائل الشیعة: الباب 67 من أبواب الدفن، الحدیث 6 .

ص:285

الظاهر ذلک، لما ورد من تعزیة رسول اللّه صلی الله علیه و آله لأمیر المؤمنین علیه السلام فی استشهاد أخیه جعفر، مع کونه صلی الله علیه و آله بنفسه من أهل العزاء، وهکذا عزّی صلی الله علیه و آله عیاله، کما ورد فی بعض الأخبار من تعزیة الأئمّة بعضهم البعض فی المصائب التی حلّت بآل البیت علیهم السلام .

وعلیه، فدعوی عدم شمول الأدلّة لهم غیر مسموعة.

نعم، شمول تلک الأدلّة فی تعزیة أهل الذمّة والمخالفین مع عدم العوارض مشکلٌ، لکن لا یبعد الحکم بالجواز إذا لاحظنا سیرة الأئمّة علیهم السلام وطریقة معاشرتهم مع المخالفین بل مع أهل الذِّمة، لولا عروض العارض، وإلاّ ربّما أمکن الحکم بالجواز کما ربما یوجب الحرمة إن استلزم المودّة التی ورد النّهی عنها تجاه المخالفین. ولعلّه لذلک قال العلاّمة فی «التذکرة»: «الأقرب جواز تعزیة أهل الذمّة، لأن_ّها کالعیادة، وقد عاد النبیّ صلی الله علیه و آله غلاماً من الیهود».

وإن استشکل علیه: بالفرق بین العیادة والتعزیة، بکونها لرجاء الإسلام والدعاء له، کما حُکی أن_ّه أسلم الولد بتلک العیادة دون التعزیة.

مع أن_ّه مردود: بإمکان أن تکون التعزیة حینئذٍ ربما توجب ذلک وتؤدّی إلی هدایته، ولکن کلا الموردین داخلان فی عنوان عروض العارض، وقد عرفت وجهه.

وکیف کان، لو لم نقل بالاستحباب فیه، فلا أقلّ من الإباحة بمقتضی الأصل وعدم قیام الدلیل علی أحد الطرفین من الکراهة والاستحباب.

ثمّ لا فرق فیها _ من استحباب التعزیة أو الکراهة أو الإباحة _ بین کون المیّت مسلماً أو غیر مسلم. نعم، یعتبر فی الثانی الدّعاء للمسلم.

قال صاحب «الجواهر»: «وینبغی أن یکون دعائه حیث یُعزّی المخالفَ للحقّ بإلهام الصبر لا بالأجر، ویجوز لهم الدعاء بالبقاء لما ثبت من جواز الدعاء لهم» لکنّه تأمّل فی جواز ذلک أخیراً.

ص:286

ویکفی أن یراه صاحبها(1).

أقول: إن أجزنا التعزیة فلیس فیها إلاّ الدعاء بالصبر والأجر وطول العمر للمعزّی، غایة الأمر أن_ّه لعلّه یجوز ذلک لرجاء هدایته إلی الحقّ وبصیرته بذلک، فیما إذا لم یستلزم ذلک مخالفة التقیّة، إذا أدرک المخالف غایة المعزّیتجاهه.

(1) مرَّ فی تضاعیف البحث السابق الدلیل علی هذا الأمر، وهو المرسلة التی رواها الشیخ الصدوق رحمه الله ،أن_ّه قال علیه السلام : «کفاک من التعزیة أن یراک صاحب المصیبة».

قال صاحب «الجواهر» فی ثواب التعزیة: «وإلاّ لأمکن المناقشة فیه، لعدم صدق التعزیة علیه».

قال المحقّق الآملی: «وفیه ما لا یخفی: لإمکان أن یکون المراد من التعزیة هو التسلّی لأهل المصیبة، وهو :

تارةً: یتحقّق بالقول مثل أن یقول: أحسن اللّه لک العزاء أو أعظم اللّه لک الأجر.

واُخری: بالعمل کحضوره عنده بحیث یراه المصاب، فلا یُحمل حینئذٍ علی الثواب کما قاله»(1).

نعم، لا ریب فی کون الأفضل منهما هو الأوّل .

أقول: هذا تمام الکلام فی المسنونات الواردة فی أحکام المیّت وأهله.


1- مصباح الهدی: ج6 / 482 .

ص:287

مکروهات الدفن

قوله قدس سره : ویکره فرش القبر بالساج الاّ لضرورة (1) فی أحکام العترة الطاهرة

(1) بعد أن أتممنا البحث أن مسنونات أحکام دفن المیّت، نشرع فی مکروهات الدفن، فنقول: کراهة فرش القبر به ممّا لا خلاف فیه، کما فی «الجواهر»، بل فی «الذکری» و«مجمع البرهان» و«جامع المقاصد» و«روض الجنان» نسبته إلی الأصحاب، مشعرین بدعوی الاجماع. والمراد من الساج _ علی ما فی «الصحاح» وغیره _ هو (الخشب المعروف والطیلسان الأخضر)، وفی «الحدائق»: «المراد هنا هو الأوّل» ولا یخلو ما فیه، بل الظاهر لو لم یکن أظهر هو الثانی، ولو من غیر الطیلسان من القطیفة وغیرها، کما یشهد لذلک ملاحظة ما استدلّوا به للمقام، نظیر الاستدلال بإشعار التعلیل الوارد فی الروایة المرویّة عن «دعائم الاسلام» عن علیّ علیه السلام : «أنّه فرش فی لحد رسول اللّه صلی الله علیه و آله قطیفةً لأنّ الموضع کان ندیّا سبخا»(1) حیث یستفاد منه أنّ جواز فرش القبر ثابت فیما لو کانت أرض القبر ندیةً لا مطلقا، وألاّ لمکان ذکر القید بلا فائدة، بل وکذلک استفادوا الکراهة من الروایة المشتملة علی السؤال فی مکاتبة علی بن بلال، وهو خبر علی بن محمّد القاسانی قال: «کتبَ علیّ بن بلال إلی أبی الحسن علیه السلام : أنّه ربما ماتَ عندنا المیّت، وتکون الأرض ندیّة، فیفرش القبر بالساج أو یطبق


1- المستدرک، ج 1، الباب 27 من أبواب الدفن المیت، ح 1.

ص:288

علیه، فهل یجوز ذلک؟ فکتب ذلک جایزٌ»(1) والسؤال عن حالّة خاصة، فیستفاد عدم الجواز فی غیرها.

مضافا أنّه یستفاد کراهته من نقل الاجماع فی «المبسوط» علی کراهة دفن المیت فی التابوت، فیکون مشابها للمقام فیما اذا فرشت أرض القبر بالسّاج، مع ملاحظة استحباب وضع الخَدّ علی الأرض، وما فی وضعه علی الأرض من الخشوع والخضوع ما یرجی بسببه نزول الرحمة له _ هذا فضلاً عمّا یستفاد من فحوی الکتاب والسنة من التأکید علی وضع الأموات علی الأرض وبالخصوص وجه المیّت، لأنّهم خلقوا منها والفیها یعیدون، قال اللّه عزّوجلّ «مِنْهَا خَلَقْنَاکُمْ وَفِیهَا نُعِیدُکُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُکُمْ تَارَةً أُخْرَی».

فانّ جمیع هذه الأمور بضمیمة التسامح فی ادلة السنن تکفی لاثبات الکراهة.

والاّ لولا ذلک، لم یرد ولم نعثر _ کما فی «الجواهر» علی نصٍ صریحٍ دالّ علیها. بل ربما یمکن دعوی عسکها من مضمون بعض الأخبار فیما ستعرف.

منها: ما رواه الصّدوق مرسلاً عن أبی الحسن الثالث علیه السلام : «اطلاق فی أن یفرش القبر بالساج، ویطبق علی المیّت بالساج»(2) والمراد من الاطلاق هو الجواز والرخصه کما فی «الوافی»، فیدلّ علی نفس الکراهة، بل قد ورد من طرق العامة عن ابن عباس: «أنّه جُعل فی قبر النّبی صلی الله علیه و آله قطیفة حمراء»(3)

بل ورد مثله من طرقنا، وهو خبر یحیی بن أبی العلاء، عن أبی عبداللّه علیه السلام ،


1- وسائل الشیعة: الباب 27 من أبواب الدفن، الحدیث 1_3.
2- المصدر السابق نفسه.
3- کما فی صحیح مسلم، ج 1، ص 36؛ سنن البیهقی، ج 3، ص 408.

ص:289

قال: «ألقی شُقران مولی رسول اللّه صلی الله علیه و آله فی قبره القطیفة»(1).

غایة الأمر یصح تقییدها بما ورد من کون القبر ندیّة، فَما اشیر الی ذلک فی خبر «دعائم الاسلام» وبه یتم المطلوب بکون الکراهة مختصة بغیر مورد الضرورة والاّ لا کراهة فیه. مکروهات الدفن

نعم، قد علّل الکراهة بأن جعل الساج أ غیره من القطیفة فیه موجبٌ لاتلاف المال ولا اذن فیه

وفیه: إنّه لو تمّ لاقتضی الحرمة لا الکراهة، مع وضوح أنّ بذل المال غیر موقوف علی الاذن الشرعی، بل یکفی فیه وجوازه عدم کونه سفها ومنه المقام. مضافا إلی استفادة وجود الاذن فیه، من تلک الأخبار بقوله: «اطلاق» وعمل شقران مولی رسول اللّه صلی الله علیه و آله لو لا حمله علی ندیّة الأرض هو افضلاً عن أنّه لم یمکن فعله من عند نفسه بل کان فی محضر أمیرالمؤمنین علیه السلام ، بل قد یستفاد ذلک من صحیح عبدالله بن سنان وأبان جمیعا عن أبی عبداللّه علیه السلام ، قال: «البُرد لا یلفّ به ولکن یُطرح علیه طرحا، فإذا دخل القبر وضع تحت خدّه وتحت جنبه»(2).

بل قد یستفاد الجواز من عمل أحد النواب الأربعة، وهو أبو جعفر محمد بن عثمان، فقد روی علی بن أبی أحمد الدلاّل، قال: «دخلتُ علی أبی جعفر محمّد بن عثمان _ یعنی وکیل مولانا المهدی صلوات اللّه علیه _ یوما لأسلّم علیه فوجدت بین یدیه ساجةً... إلی أن قال: فقلت له: یا سیّدی ما هذه الساجة؟ فقال لی: هذه لقبری تکون فیه أوضع علیها أو أسند الیها، الحدیث»(3).


1- وسائل الشیعة: الباب 27 من أبواب الدفن، الحدیث 2.
2- وسائل الشیعة:الباب 14 من أبواب التکلفین، الحدیث 6.
3- المستدرک، ج 1، الباب 27 من أبواب الدفن، الحدیث 4.

ص:290

وأن یهیل ذو الرّحم علی رحمه (1) وتجصیص القبور (2)

فلو کان العمل مکروها لما قام به مثل هذا الرجل لما بعد موته، الذی ینبغی أن یلاحظ فیه ترک ما لا یناسب فیه ولو بالکراهة وکیف کان، هذا التعلیل غیر تام کما أشار الیه صاحب «الجواهر» تبعا للشهید وغیره، ولکن علی کلّ حال ثبوت الکراهة بمثل هذه الأمور، کما أن ثبوت الندب بها أیضا مشکلٌ جدّا، وإن کان لا یبعد رجحان الوضع علی الأرض، بأن لا کراهة فیما یسوغ وضع. أو لاجل ذلک أطلق ابن الجنید القول بأنّه: «لا بأس عن الوطأ فی القبر واطباق اللّحد بالساج» مطلقا، کما لا بأس بذلک مع الضرورة قطعا کما فی المتن.

(1) من جملة المکروهات إحالة ذو الرحم التراب علی رحمه، لقول الصادق علیه السلام فی موثق عبید بن زراة لأبی المیت: «لا تطرح علیه التراب فإنّ رسول اللّه صلی الله علیه و آله نهی أن یطرح الوالد أو ذو رحمٍ علی میّته التراب. ثم قال: أنهاکم أن تطرحوا التراب علی ذوی أرحامکم، فإنّ ذلک یورث القسوة فی القلب، ومن قسی قلبه بَعُد عن رّبه»(1) ولما فی «المعتبر» و«الذکری» نسبته إلی الأصحاب.

(2) ومن جملة المکروهات تجصیص القبور، للاجماع المحکی فی صریح «المبسوط» و«التذکرة» و«نهایة الأحکام» و«المفاتیح» وظاهر «المنتهی» علیه وللأخبار:

منها: خبر علیّ بن جعفر، قال: «سألت أبا الحسن موسی علیه السلام عن البناء علی القبر، والجلوس علیه، هل یصلح؟ قال: لا یصلح البناء علیه ولا الجلوس ولا


1- وسائل الشیعة:الباب 30 من أبواب الدفن المیّت، الحدیث 1.

ص:291

تجصیصه ولا تطینیه»(1).

ومنها: خبر حسین بن زید، عن الصادق علیه السلام ، عن آبائه، عن رسول اللّه صلی الله علیه و آله فی حدیث المناهی: «أنّه نهی أن یُجصّص المقابر»(2).

ومنها: مرفوعة قاسم بن عبید، رفعه عن النبی صلی الله علیه و آله ،: «أنّه نهی عن تقصیص القبور؛ قال: وهو التجصیص»(3)، بل قد یستشعر ذلک عن خبر مثل ابن القدّاح عن الصادق علیه السلام ، قال: «قال أمیرالمؤمنین علیه السلام : بعثنی رسول اللّه صلی الله علیه و آله فی هدم القبور وکسر الصّور»(4)

وفی حدیثٍ آخر وقد تقدم: «لا تَدَع صورةً الاّ محوتها، ولا قبرا إلاّ سویته»(5).

وفی خبر جرّاح المدائنی، عن الصادق صلی الله علیه و آله ، قال: «لا تبنوا علی القبور ولا تصوّروا سقوف البیوت، فإنّ رسول اللّه صلی الله علیه و آله کره ذلک»(6).

ومنها: خبر یونس بن ظبیان، عنه علیه السلام : «قال: نهی رسول اللّه صلی الله علیه و آله أن یُصلّی علی قبرٍ أو یقعد علیه أو ینبی علیه»(7).

بل وکذا قول الصادق علیه السلام _ علی ما رواه الصدوق _ أنّه قال: «کلّ ما جُعل علی القبر من غیر القبر فهو ثقل علی المیّت»(8).


1- وسائل الشیعة: الباب 44 من أبواب الدفن، الحدیث 1.
2- المصدر السابق، الحدیث 4.
3- المصدر السابق، الحدیث 5.
4- المصدر السابق، الحدیث 6.
5- المصدر السابق، الحدیث 7.
6- المصدر السابق، الحدیث 3.
7- المصدر السابق، الحدیث 2.
8- وسائل الشیعة:الباب 36 من أبواب الدفن، الحدیث 3.

ص:292

هذه جملة من الأخبار الدالة والمشعرة علی النهی عن التجصیص.

أقول: ثمّ إنّ مقتضی اطلاق الأدلة، هو عدم الفرق بین التجصیص ابتداءً أو بعد الاندراس، الاّ أنه یظهر من جماعة القول بالتفصیل بحمل النهی علی الثانی، کما حُکی عن الشیخ دون الأول، ومال الیه عدّة، وذلک لأجل الجمع بین الأخبار المتقدمة، وبین خبر یونس بن یعقوب، قال: «لما رجع أبو الحسن موسی علیه السلام من بغداد ومضی إلی المدینة، ماتت له ابنة بفید، وهی بین طریق مکة، فدفنها وأمر بعض موالیه أن یجصّص قبرها، ویکتب علی لوحٍ اسمها ویجعله علی القبر»(1).

ولکن فی «الجواهر» أنکر ذلک عن الشیخ بل ظاهر کلامه فی «المبسوط» و«النهایة» و«المصباح» ومختصره، اطلاق الکراهة فی التجصیص قال: «لا بأس بالتطیّین فی الابتداء» فکانّهم فهموا الاتّحاد بین التطیّین والتجصیص.

ثم قد یؤید کون الأمر کذلک، استبعاد وجود الجصّ. نعم بقلقة فید التی هی فی طریق مکة، کما قد ورد استبعاد ذلک فی عبارت الشیخ من حیث ذکره کلاً منهما مستقلاً برأسه. بل قد یدّعی دخوله حینئذٍ بالتجدید الذی ذکره مستقلاً، ثم اختار رحمه الله کراهة التجصیص مطلقا، مع قصور المعارض له من وجوهٍ، وعدم الشاهد علی الجمع المذکور، کاحتمال الجمع بینهما بارادة باطن القبر فی الأوّل، وظاهره فی الثانی، بل هو أولی بالبطلان من سابقه کما لا یخفی)(2).

أقول: الأوْلی هو الحکم بالکراهة مطلقا، إذا لم یترتب علیه غرض عقلائی من خوف نبش القبر بسبب الحیوانات، أو خروج بعض الحشرات ودخولها، المستلزم لایذاء المیّت، أو لکونه علامةً لقبره لوقوعه فیما یحتاج إلی تشخیصه


1- وسائل الشیعة:الباب 37، من أبواب الدفن، الحدیث 2.
2- الجواهر ع ج 4، ص 336.

ص:293

و تجدیدها (1)

إلی ذلک، أو لأنّ القبر لشخصیّة معروفة یتناسب تجصیصه لکی یعرفه من اراد زیارته، وغیر ذلک من الأمور. والظاهر عدم الفرق بین الباطن والظاهر، وإنْ کان الأولی أولی بالکراهة من الثانی، ولعلّه لذلک فصّل بعضٌ بینهما بالجواز فی الثانی دون الأوّل.

وعلیه، یصحّ ما ورد فی «المدارک» تبعا لغیره بعد أن ذکر الکراهة، قال: «ینبغی أن یستثنی من ذلک قبور الأنبیاء والأئمة علیهم السلام ».

ثمّ إنه لا فرق فیما ذکرنا من الکراهة بین کون القبر فی الأرض المباحة والمملوکة أم لا، وإنْ کان یظهر من معقد اجماع «المبسوط» تخصیصها بالأوّل، ولعلّه لأجل أنّ المتبادر فی الثانی أنّ اعمال التجصیص فیه نوعا، ولکن هذا التفصیل ممّا لا وجه له لاطلاق الادلّة، الاّ أن یدخل تحت تلک الأغراض العقلائیة المستلزمة عرفا مراعاتها، فیکون له وجه.

(1) أی من جملة المکروهات، تجدید القبور بعد اندراسها، کما فی «المبسوط» و«الوسیلة» و«السرائر» و«التحریر» و«القواعد» و«النهایة» و«المصباح» ومختصره وغیرها. ولا دلیل علیه سوی روایة واحدة، وهی ما رواه الأصبغ نُباتة عن أمیرالمؤمنین علیه السلام ، _ المرویّ عن الصدوق والشیخ والبرقی _ أنّه قال: «من جَدّد قبرا أو مثّل مثالاً فقد خرج عن (من) الاسلام»(1).

ولا یخفی أن الاستدلال بها موقوف علی تحدید معنی کلمة (جُدّد) هل هو بالجیم والدالین أو غیره ففیها عدة احتمالات: 1. التّجدید، ولا بأس لتوضیح ذلک


1- وسائل الشیعة:الباب 43 من أبواب الدفن، الحدیث 1.

ص:294

بنقل کلام صاحب «الوسائل» الواقع فی ذیل هذا الحدیث، قال: «أقول: نقل الشیخ وغیره عن الصّفار، أنه رواه (جَدّد) بالجیم، وأنه قال: لا یجوز تجدید القبر

ولا تطیین جمیعه بعد مرور الأیام وبعد ما طیّن، ولکن اذا مات میّت وطین قبره فجائزٌ أن یرمّ سائر القبور».(1)

2. وعن سعد بن عبداللّه: أنه رواه (حدّد) بالحاء غیر المعجمة، یعنی به من سَنّم قبرا،

3. وعن البرقی: أنّه رواه (من جَدّث قبرا) بالجیم والثاء، ویمکن أن یکون معناه أن یجعل القبر دفعة أخری قبرا لإنسان آخر، لأنّ الجدث القبر.

4. قال الصدوق إنّما هو من (جدّد) بالجیم ومعناه نَبَشَ قبرا.

5. وعن المفید: أنّه (خدّد) بالخاء المعجمة والدالین، من قوله تعالی «قُتِلَ أَصْحَابُ الاْءُخْدُودِ» والخَدّ هو الشقّ، فالنهی تناول شقّ القبر إما لیدفن فیه أو علی جهة النبش، ولا یبعد صحّة الجمیع، وتعدّد الروایة واللّه أعلم) انتهی .

وفی «مصباح الفقیه»: «أنه مع هذه الاحتمالات لا تنهض لاثبات شی ء، لکنها لا تخلو عن التایید، خصوصا مع احتمال کون ما نقل الشیخ عن الصفار روایة أخری»(2). وقد اکتفی نفسه الشریف لاثبات کراهة تجدید القبور بحکم جملةٍ من الأصحاب بذلک من باب المسامحة والتسامح فی الادلّة.

ولا یخفی علیک أنه علی احتمال کون الجملة بالحاء والدالین _ کما نقله الصدوق عن سعد بن عبداللّه _ کان المنهیّ عنه هو تسنیم القبور کما هو فعل العامة، فربما یوافق علی هذا الاحتمال، ویؤیده بما ورد نحوه من أبی الهیاج الأسدی _ کما نقله الشیخ فی «الخلاف» من صحاح العامة، وهو علی ما قیل متن


1- وسائل الشیعة، ج 2، ص 868.
2- مصباح الفقیه، ج 5، ص 427.

ص:295

الحدیث علی صحیح مسلم عن أبی الهیاج الاسدی _ أنّه قال: «الا أبعثک علی ما بعثنی علیه رسول اللّه صلی الله علیه و آله أن لا تدع تمثالاً الاّ طمسته، ولا قبرا مشرفا إلاّ سوّیته»(1).

بناءً علی کون المراد من الاشراف هو التسنیم، کما ورد ذلک من طرقنا قریب منه، وهو روایة السکونی، عن أبی عبداللّه علیه السلام ، قال: قال أمیرالمؤمنین علیه السلام بعثنی رسول اللّه صلی الله علیه و آله إلی المدینة، فقال: لا تدع صورةً الاّ محوتها، ولا قبرا الاّ سوّیته، ولا کلبا الاّ قتلته»(2).

ولا ینافیه ذکر الخروج عن الاسلام بفعله، لما تعارف فی الزجر والترغیب فی المکروهات والمندوبات ذکر مثل هذه التعابیر تأکیدا لهما، أو یراد من ذلک صورة الاستدلال ونحوه ممّا یجعل ذلک بدعةً وحراما لادائه إلی الکفر، فعلیه یصحّ التعبیر بذلک لصیرورته حراما.

کما أنّ الأمر مثل ذلک لو أرید من التجدید ایجاد قبرٍ آخر لإنسان آخر، المستلزم لنبش القبر وهو حرام، هذا کما فی «التهذیب» کما یحتمل أن یکون المراد النبش الحرام ما قد نسب إلی المفید بالخاء والدالین، بکون المراد هو الشق فی القبر بذلک، فیکون حراما، ویناسب مع ذیله بخروجه عن الاسلام، بخلاف ما لو أرید منه الشق المقابل اللّحد الذی قد مضی بحثه، وقد ورد فی الحدیث النبوی: «اللّحد لنا والشقّ لغیرنا»(3) حیث لا یناسب مع ذیله الاّ بالتقریر الذی ذکرناه.

6. کما قد یؤید التحریم أیضا مع الجیم والدالین، بما نُقل عن الصدوق _ مضافا إلی ما عرفت کونه بمعنی النبش الحرام _ أن یراد منه قتل المؤمن عدوانا، لأنّ من


1- صحیح مسلم، ج 1، ص 357.
2- وسائل الشیعة:الباب 43 من أبواب الدفن، الحدیث 2.
3- کنزالعمال، ج 8، ص 88، الرقم 1681.

ص:296

قتله فقد جدّد قبرا فجدّدا بین القبور، وهو مستقلّ فی هذا التجدید، فیجوز اسناده الیه، بخلاف مالو قتل بحکم الشرع وهو المناسب للمبالغة بالخروج عن الاسلام.

7. وقد یراد منه لاشارة إلی القبور والصور التی أرسله رسول اللّه صلی الله علیه و آله لهدمها وتسویتها واطمسها ومحوها، فتکون معنی الروایة: مَن جَدّد قبرا من تلک القبور أو مثل مثالاً فی التماثیل التی أمر رسول اللّه صلی الله علیه و آله بهدمها وطمسها، فقد خرج من الاسلام لمخالفته مع حکم رسول اللّه صلی الله علیه و آله ، ولعلّه یدخل فیها حینئذٍ من صَنَع قبرا مثلها، وإنْ لم یکن القبر من تلک القبور، علی عموم المجاز، بارادة القدر المشترک بینه وبین تجدید ما اذهبه رسول اللّه وأماته من هذه الطریقة.

8. أو یراد بتجدید القبور، البناء علیها بصورة القباب ونحوها، ویستثنی منها قبور الأنبیاء والأئمة والعلماء کما ورد ذکر الاستثناء، فی «جامع المقاصد» وغیره فیلزم حینئذٍ کون ذلک مکروها ابتداءً، مع امکان فرضه فیما لا یکره ابتداء، کما فی الأرض المملوکة لو قلنا به.

ولکن الصفار علی ما حُکی عنه ذهب إلی کون المراد من التجدید هو المعنی الأوّل، أی إنّه المعنون فی کلام المصنّف والمطلوب هنا، حیث قال هو بالجیم لا غیر، وعن محمّد بن أحمد بن الولید أنّه قال: «لا یجوز تجدید القبر ولا تطیین جمیعه بعد مرور الایّام، وبعد ما طیّن فی الأوّل، ولکن إذا مات میّت وطیّن قبره فجائزٌ أن یرمّ سائر القبور من غیر أن تجدّد»(1).

ولکن یُبعّده صاحب «الجواهر» ویقول بعد نقل کلامه: «الاّ أنّه لم یکن ذلک مستعملاً فی ذلک الوقت حتی یبالغ هذه المبالغة فی النهی عنه، علی أنّ المراد بتجدیدها بحسب الظاهر انّما هو ظاهرها، ولیس لظاهرها حالة سابقه معتدة بها


1- الجواهر، ج 4، ص 338.

ص:297

حتی ینهی من تجدیدها لکراهة التجصیص والبناء علیها والتظلیل، ونحو ذلک ابتداءً من دون تجدید، بل وکذا التطیین بغیر ترابها، بل وبترابها إلاّ علی قولٍ، فلا کراهة فیها، فلم یکن ثَمّ حالة کان علیها ینهی عن تجدیدها. قلنا: کون الأولی هو التشکیک فی أصل الحدیث بالاجمال فیه الذی یشکل الاعتماد الیه فی الحکم، مع کثرة الاحتمالات والاختلافات فی أحکامها، لا بیان مثل تلک الامور التی کانت بالاستحسانات أشبه، خصوصا مع ملاحظة ما أتی به فی ذیله، بقوله: اللّهم إلاّ أن یقال: إنّه لا ریب فی تفاوت القبر الجدید لغیره بارتفاعه عن الأرض مثلاً والعلامة والتطیین بطینةٍ ونحو ذلک ممّا یفید الناظر الیه أنّه قبر جدید، ومرجعه الحقیقی العرف أیضا، فلا ینبغی اطلاق الکراهة، إذ التجدید بهذا المعنی قد یکون محرما، وهو ما إذا کان فی الأرض المسبلة وقد اندرس المیّت فی قبره، مما یستلزم سقطو حقه منه وتعلّق حقّ غیره به، فاللازم حینئذٍ تقیید الکراهته بما یحترز عن هذا وشبهه» انتهی محلّ الحاجة(1).

أقول: وکیف کان، فإنّه لا اشکال فی أن کلّمة التجدید قابلٌ للتطبیق علی تلک المحتملات، فتعیین أحدها یحتاج إلی قرنیة معینة، والاّ الاستدلال لاثبات واحد منها بالخصوص مشکلٌ، الاّ أن یتمسک بالتسامح، وجعل الحدیث تأییدا علی احتمالٍ فله وجه.

وأما الاشکال فیه بضعف سنده بواسطة محمّد بن سنان وأبی الجارود _ کما عن «المعتبر» _ حیث قال: «فحینئذ الروایة ساقطة، فلا ضرورة إلی التشاغل بتحقیق نقلها» و تبعه صاحب «المدارک»، مندفعٌ بناءً علی المبنی فی مثل ذلک من قابلیة الانجبار بالاجماع أو الشهرة المنقولین لو لم یکونا محصّلین، خاضة وأنّ


1- الجواهرع ج 4، ص 339.

ص:298

الحکم هو الکراهة، حیث تکون أخفّ مؤنة من غیرها، فلا یقدح مثل ذلک فیها، خصوصا مع ملاحظة أنّ جماعة من الافاضل والأعلام مثل الصّفار وسعد بن عبداللّه وأحمد بن أبی عبداللّه البرقی، والصدوق والشیخین نقلوا الخبر وتحدثوا عن الاحتمالات المذکورة دون التعرّض لسنده ممّا یؤذن بثبوت الطریق، وأن البحث یقع فی مدلوله کما یقع مثل ذلک فی کثیرٍ من الأحادیث التی اشتهرت، وعلم موردها مع العلم بضعف اسنادها، هذا کلّه مع احتمال کون الروایة متعددة، کما أشار الیه صاحب «الوسائل»، ولعلّه لذلک یلاحظ قول الشهید فی «الدروس»: «ویکره تجدیده بالجیم والحاء والخاء، لکن ینبغی ان یقیّد الأخیر بما لا یستلزم النبش المحرّم، وإلاّ کان حراما لا مکروها».

تذنیبٌ

استثنی صاحب «جامع المقاصد» و«المدارک» من کراهة التجدید والتجصیص، حکم قبور الأنبیاء والأئمّة علیهم السلام حیث قالا: عند الاستدلال علیه: «لإطباق السلف والخلف علی فعل ذلک بها».

وفی «الکافی»: «ولاستفاضته الروایات بالترغیب فی ذلک»، بل ألحق الثانی بهما قبور العلماء والصلحاء أیضا، استضعافا لخبر المنع، والتفاقا إلی تعظیم الشعائر وکثیرٍ من المصالح الدینیة:

أقول: الأمر کذلک، لأنا نفهم الاستثناء من عمل الأصحاب فی حقّهم علیهم السلام ، لا لما ذکره صاحب «الجواهر» قدس سره بأنّ قبورهم لا تندرج فی تلک الاطلاقات حتّی تحتاج إلی الاستثناء، لوضوح أنّه لو لا الاستثناء لکان اطلاق الدلیل شاملاً لهم، سواءٌ کان فی حکم التجصیص والتجدید والبناء علی قبورهم أو غیرها من

ص:299

الأمور المکروهة، لأنّ ظاهر أدلة المنع هو المنع مطلقاً إلی أن یخرج ذلک بواسطة دلیل من قولٍ أو عملٍ صادرٍ عمّن کان شأنه الاتّباع عنه فی مثل تلک الأمور، بل قد یستفاد الاستثناء بواسطة قیام المناسبة بین الحکم والموضوع وتنقیح المناط لغیر المنصوص أیضا، کما هو ثابت هنا، إذ الروایات وردت فی خصوص الأئمة من الترغیب فی تعمیر قبورهم، الاّ أنه یُلحق بهم أولادهم کأبی الفضل العبّاس وعلیّ بن الحسین علیهماالسلام ، بل وأصحابهم الکرام کسلمان وأبی ذرّ وعلی بن مهزیار وغیرهم، بل هکذا العلماء الأعلام، والصلحاء الکرام، کلّ ذلک لأجل أن حتی یُعرفوا ویُزاروا ویتوسّل الناس بهم إلی اللّه سبحانه وتعالی. وعلیه فالتشکیک فی الحاقهم کما عن صاحب «الجواهر» من التأمل فیه ممّا لا ینبغی أن یُصغی الیه.

فإذا عرفت هذه المقدمة، یقتضی الاشارة إلی بعض الأخبار الواردة فی الترغیب إلی عمارة قبور الأئمة علیهم السلام ، خصوصا الأخبار التی صدرت عن النبیّ صلی الله علیه و آله فی حقّهم، وهو مثل خبر عمارة بن زید، عن أبی عامر الکنانی (واعظ أهل الحجاز) قال: «أتیت أبا عبداللّه علیه السلام فقلت له: ما لمن زار قبره یعنی أمیرالمؤمنین علیه السلام وعمّر تربته؟ فقال: یا أبا عمّار حدّثنی أبی عن أبیه عن جدّه الحسین بن علی عن علیّ علیهم السلام ، أنّ النبی صلی الله علیه و آله قال له: واللّه لتُقتلنّ بأرض العراق وتدفن بها قلت: یا رسول اللّه صلی الله علیه و آله ما لمن زار قبورنا وعمّرها وتعاهدها؟ قال لی: یا أبا الحسن إنّ اللّه قد جعل قبرک وقبر ولدک بقاعا من بقاع الجنة، وعرصةً من عرصاتها، وأنّ اللّه جعل قلوب نجباء من خلقه وصفوة من عباده تحنّ الیکم، وتحتمل الأذی والمذلّة فیکم، فیعمرون قبورکم ویکثرون زیارتها تقرّبا منهم إلی اللّه، ومودّةً منهم لرسوله، اولئک یا علیّ المخصوصون بشفاعتی، والواردون علیّ حوضی، وهم زوّاری غدا فی الجنة. یا علیّ مَن عَمّر قبورکم وتعاهدها فکأنّما

ص:300

ودفن میّتین فی قبرٍ واحدٍ (1)

أعان سلیمان بن داود علی بناء بیت المقدس، ومن زار قبورکم عدل ذلک له سبعین حجّة بعد حجّة الاسلام، وخرج من ذنوبه حتی یرجع من زیارتکم کیوم ولدته أمّه، فابشر وبشّر أولیائک ومحبیک من النعیم وقرّة العین بما لا عینٌ رأت وأذن سمعت، ولا خطر علی قلب بشرٍ، ولکن حثالة من الناس یعیّرون زوّار قبورکم بزیارتکم کما تُعیّر الزانیة بزناها، اولئک شِرار أمّتی لا أنالهم اللّه بشفاعتی ولا یردون حوضی»(1).

والنتیجة أنّ استحباب التعمیر لقبورهم لاستحباب زیارتهم والمقام عندهم، کاد أن یکون من ضروریات المذهب، إنْ لم یکن من الدین، بل منه لانّهم لم ینفصلوا عنه عنداللّه، لانّهم حقیقة الدین والاسلام، «وَمَن یَبْتَغِ غَیْرَ الإِسْلاَمِ دِینا فَلَن یُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِی الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِینَ» والرجاء من اللّه أن یجعلنا من شیعتهم ومحبیّهم، وأن نکون معهم فی الدنیا ونُحشر معهم فی الآخرة، آمین ربّ العالمین.

وبالجملة: ظهر ممّا ذکرنا صحة الحاق قرور أولاد الائمّة علیهم السلام والعلماء والصلحاء بقبور الانبیاء والأئمة علیهم السلام فی ذلک، کما علیه السیرة المستمرّة مع ما فیه من کثیر من المصالح الدنیویّة والأخرویّة، کما لا یخفی علی المتفطن العارف بحقیقة أحکام الشریعة المقدسة.

(1) یعدّ هذا الحکم من جملة المکروهات، وهو: تارةً: یقع فی الابتداء کما هو المحتمل هنا وأخری: الحاق میّتٍ آخر فی قبره بعده، أنّ الاطلاق یشمل کلیهما، أمّا الأوّل فمّما لا خلاف فیه عند من تعرّض له، کابن حمزة والفاضلین والشهید


1- وسائل الشیعة:الباب 26 من أبواب المزار وما یناسبه، الحدیث 1.

ص:301

وغیرهم عدا ابن سعید فی «الجامع» حیث قد نهی عن ذلک، ولعلّه یرید الکراهة لا الحرمة للأصل ولضعف المرسل المنقول عن الشیخ فی محکی «المبسوط» مرسلاً عنهم علیهم السلام : «لا یُدفن فی قبر اثنان»(1).

کما یحتمل ارادتهم اثبات غیر الکراهة، وأنّه لا وجه للحکم بالحرمة، کما لا وجه فی التوقف عن الحکم بالکراهة مع امکان تأییده، فضلاً عن جریان المسامحة فیه بواسطة الاجماع الدال علی أولویّة کراهته عن کراهة جمع المیّتین فی جنازة واحدة، المنصوص علیها فی «الوسیلة» و«المعتبر» و«المبسوط» و«النهایة» وغیرها، المستفادة من الجملة الواردة فی مکاتبة محمّد بن الحسن الصفار، قال: «کتبتُ إلی أبی محمّد علیه السلام : أیجوزُ أن یجعل المیتین علی جنازة واحدة فی موضع الحاجة وقلّة الناس، وإنْ کان المیّتان رجلاً وامرأة یُحملان علی سریرٍ واحد ویُصلّی علیهما؟ فوقّع علیه السلام لا یُحمل الرجل مع المرأة علی سریرٍ واحد»(2).

بناءً علی أن یکون المنع لاجل الجمع بین میّتین فی جنازة واحدة، لا کون أحدهما رجلاً والآخر إمرأة ویجمع بین الأول والثانی، فإنّه لا خلاف فی المنع عن ذلک خصوصا اذا کانت المرأة أجنبیّتة کما هو الغالب، وعلیه فاثبات الأولویة منه فی غایة الاشکال، بل شمول منعه حتی للرجلین أو المرأتین لا یخلو عن تأمل، نعم یصحّ القول بکراهته أیضا إنْ ثبتت الشهرة علی المنع من باب التسامح، هذا حکمه مع الاختیار

أما مع الضرورة فلا ریب فی ارتفاع الکراهة فی الدفن فی قبرٍ واحدٍ، بخلاف


1- المبسوط، ج، ص 155.
2- وسائل الشیعة: الباب 43 من أبواب الدفن، الحدیث 1.

ص:302

الجنازة إذا کانتا مختلفین، للمنع عنه حتّی مع الحاجة وقلّة الناس، فلابد فیه من وجود ضرورة أشدّ من ذلک کما لا یخفی، والدلیل علی الارتفاع حینئذٍ ما روی عن فعل النبی صلی الله علیه و آله یوم أحد بجعل اثنین وثلاثة فی قبرٍ واحدٍ وتقدیم أکثرهم قرآنا(1).

بل وفی «المعتبر» و«التذکرة» و«الإحکام»: تقدیم الأفضل، ولعلّه لأجل ما عرفت من تقدیم أکثرهم قرآنا، وأنّه ینبغی جعل حاجزٍ بین کلّ اثنین لیشبها المنفردین.

وعن «المهذّب» جعل الخنثی خلف الرجل وأمام المرأة، وجعل ترابٍ حاجزا بینهما وفی «الجواهر»: «لم أعثر علی خبرٍ یدلّ علی هذه التفصیلات، فلیس الاّ مراعاة الجهات العامّة کالابوة ونحوهما، والاستیناس بالاشباه والنظائر لکون الحکم استحبابیا»(2) هذا کلّه تمام البحث ان کان الدفن بمیتین فی قبرٍ واحد ابتداءا.

وأمّا الثانی: وهو ما لو أرید حفر قبر فیه میّت مع العلم بدفنه فیه، لیدفن فیه میّتٌ آخر، وهو یتصوّر علی صورتین:

أحدهما: ما لا یلزم منه نبش لقبر الاوّل، والظاهر هذا هو المراد من الکراهة، وإنْ کان فی صدق کون المیتین فی قبرٍ واحد مسامحة، الاّ أنّ العُرف یطلق علیه ذلک، کما علیه «المبسوط» و«النهایة»، بل «القواعد»، واطلاق العبارة، مع أنّه قد صرّح فیه أیضا مما یقتضی الحرمة کما اختاره جماعة، بل عن «الذکری» أنّ علیه اجماع المسلمین، حیث انه یمکن حمله بما إذا اقتضی نبش لقبر الاوّل حتی یدفن الثانی بجنبه، ففی هذه الصورة یکون حراما قطعا، لأجل حرمة النبش، وهو أمر آخر، ولا ینافی مع کونه حراما مشتملاً علی الکراهة، لأجل الجمع فی قبرٍ واحد.


1- کنزالعمال، ج 8، ص 119، الرقم 2214.
2- الجواهرع ج 4، ص 342.

ص:303

وأن یُنقل من بلدٍ إلی الآخر، إلاّ إلی أحد المشاهد المشرفة(1)

کما یمکن أن یکون مقصودهم من الحرمة فی أصل الدفن فیه، حتّی لو لم یستلزم النبش، بأن یکون مقصودهم من حرمة النبش لأجل أنّ القبر صار حقا للأوّل خاصّة، کما عساه یومی الیه ما دلّ علی قطع ید السارق منه لکونه حِرزا له، وعدم جواز تحویله منه إلی غیره، ومن هنا حمل المصنّف فی «المعتبر» الکراهة فیه علی الحرمة.

أقول: قد عرفت أنّ حکم النبش حکمٌ مستقلٌ وأمرٌ خارج عمّا نحن بصدده، کما أنّ دعوی أحقیّته به بحیث یمنع من مثل هذا التصرف، حتّی لو کان مالکا للأرض، ممنوعٌ. نعم یمکن أن یکون حکم الحرمة لأجل أنّ المیّت قد اشتری القبر لنفسه بخصوصه، فإنّه حینئذٍ لا یجوز دفن غیره الاّ مع اجازة ورثته، علی تأمّل فیه، کما أنّ أخبار قطع لید السارق لا تدل علی المنع فی المورد، خصوصا إذا کانت الارض مسبلةً. کما لا یرتبط ببحثنا عدم جواز تحویله لو سُلّم، أی لا یوجب ذلک المنع عن التصرّف لذلک. وعلیه فالأقوی _ کما فی «الجواهر»

هو الکراهة فی الصورتین، أی الابتدائی وغیره، کما لا فرق فی الکراهة بین الأزج أی القبر الذی یُبنی طولاً وغیره وأْن کان الأوّل قد لا یصدق علیه النبش، کما لا یخفی.

(1) أی من جملة المکروهات نقل المیّت من مات فیه إلی الآخر، هذا ممّا ادّعی علیه الاجماع کما فی «الجواهر» بقوله: «بلا خلاف أجده فیه» بل فی «المعتبر» و«التذکرة» و«الذکری» و«جامع المقاصد»، وعن «نهایة الأحکام» وغیرها الاجماع، وکفی بذلک حجة علیها.

ص:304

هذا ولکن أولاً: الأصل یقتضی الجواز، لکونه شکا فی التکلیف الالزامی، والأصل هو البرائة

ثانیا: خصوصا مع ما ورد من الأدلّة المتضمّنة للجواز المقابل للحرمة، خصوصا بعد الاجماع علی حمل الأوامر علی التعجیل علی الاستحباب، فتبقی أنّه حینئذٍ لا معارض لها ثالثا.

ورابعا: فلما رواه الصدوق فی «الفقیه»، قال: «قال الصادق علیه السلام : إنّ اللّه تبارک وتعالی أوحی إلی موسی بن عمران علیه السلام أن أخرج عظام یوسف من مصر ووعده طلوع القمر، فأبطأ طلوع القمر علیه، فسأل عمّن یعلم موضعه، فقیل له: هنا عجوزٌ تعلم، فبعث الیها فأتی بعجوزةٍ مقعدة عمیاء، فقال: تعرفین قبر یوسف علیه السلام ؟ قالت: نعم، قال: فأخبرینی بموضعه، قالت: لا أفعل حتی تعطینی خصالاً: تطلق رجلی، وتعید الیّ بصری، وترد الیّ شبابی، وتجعلنی معک فی الجنة، فکبر ذلک علی موسی، فأوحی اللّه عزّوجلّ الیه: إنّما تعطی علیّ، فأعطها ما سألتْ، ففعل فدلّته علی قبر یوسف، فاستخرجه من شاطی ء النیل فی صندوق مرمرٍ، فلما أخرجه طلع القمر، فحمله إلی الشام، فلذلک یحمل أهل الکتاب موتاهم إلی الشام(1).

وجه الدلالة: _ علی ما فی «الحدائق» _ الظاهر من نقلهم شیعتهم وتقریرهم علیه جواز ذلک، کما وقع فی مواضع، أو کان وجه الدلالة من تجویز النقل بعد الدفن فقبله یکون بطریق أولی

وعلی هذا المنوال ما ورد فی نقل نوح عظام آدم الی الغری، وهو کما فی خبر مفضّل بن عمر، عن الصادق علیه السلام _ علی ما هو المنقول فی «مصباح الهدی» وفیه:


1- الفقیه، ج 1، ص 194.

ص:305

«إنّ اللّه تبارک وتعالی أوحی إلی نوح وهو فی السفینة أن یطوف بالبیت أسبوعا، فطاف کما أوحی اللّه الیه، ثم نزل فی الماء إلی رکبتیه، فاستخرج تابوتا فیه عظام آدم علیه السلام ، فحمل التابوت فی جوف السفینة، حتّی طاف ما شاء اللّه أن یطوف، ثمّ ورد إلی باب الکوفة فی وسط مسجدها، ففیها قال اللّه للأرض: أبلعی مائک فبلعت مائها من مسجد الکوفة کما بدأ الماء من مسجدها، وتفرّق الجمع الذی کان مع نوح فی السفینة، فأخذ نوح التابوت فی الغریّ وهو قطعة من الجبل الذی کلّم اللّه علیه موسی تکلیما الحدیث»(1).

والظاهر من هاتین القصتین أنّ النقل کان بعد الدفن، ولأجل ذلک استشکل بعض فی الاستدلال بهما للمقصود، بأنهما مشتملان علی ما یکون فیه حراما، وهو نبش القبر، فلا وجه للحکم بالکراهة بهما، فضلاً عن أنه لا مجال للاستدلال بهما فی الماقم لاختصاص ذلک بالشرائع السابقة، ولیس لنا العمل بمثل ذلک.

نعم، یصحّ الاستدلال للمراد بحدیثٍ نقله صاحب «مجمع البیان» عن محمّد بن مسلم، عن أبی جعفر الباقر علیه السلام ، فی حدیثٍ قال: «لما مات یعقوب حَمَله یوسف علی نبیّنا وعلی آله وعلیه السّلام فی تابوتٍ إلی ارض الشام، فدفنه فی بیت المقدس»(2). و حیث کان النقل فیه قبل الدفن، فانّه یدلّ علی الجواز

نعم، بقی الاشکال اوّل وهو کونه للشرائع السابقة، فلا یدلّ علی الجواز عندنا

وثانیا: امکان ان یکون الحکم مختصا بالانبیاء فلا یشمل لغیرهم من سائر الناس

وثالثا: لعلّه کان النقل فیها إلی موضعٍ أفضل من المشاهد المشرفة التی نشیر إلیه فی کونه من المستثنی منه، فلا یفهم الجواز مطلقاً حتی لغیر تلک المشاهد


1- مصباح الهدی للآملی، ج 7، ص 19.
2- وسائل الشیعة:الباب 13 من أبواب الدفن، الحدیث 9.

ص:306

ولکن یمکن أن یجاب عنه: بأنّ العمل بالأحکام السابقة لو لم یرد فیها نسخٌ جایزٌ کما هو مقتضی الاستصحاب المقرّر فی موضعه. نعم إذا صدر فی الشریعة اللاحقة حکما خلافا له، فلا یجوز العمل حینئذ الاّ باللاحق، کما أنّ احتمال اختصاص الحکم بالأنبیاء بعیدٌ، لانّه لو کان الأمر کذلک لأشاروا الیه فی نقلهم للقضیّة، مع عدم الاشارة الیه، فضلاً عن کون الجواز مطابقا للاصل الأولی، فیفهم منه حکمه المطلق کما لا یخفی

وامّا احتمال کون النقل إلی الأفضل، ففیه تأمل بالنسبة إلی بعض الأماکن، وإنْ کان لا یبعد فی بعضه الآخر.

وکیف کان، لو لم تکن هذا الأخبار والقصص قابلة للاستدلال بها، لکنها لا یخلو عن تأیید للمراد.

وأمّا وجه کون الجواز هنا بصورة الکراهة دون الحرمة، فإنّه مضافا إلی ذلک والاجماع، یمکن الاستشهاد لذلک بالخبر المروی فی «دعائم الاسلام» عن علیّ علیه السلام : «أنه رفع إلیه أنّ رجلاً مات بالرستاق، فحملوه إلی الکوفة فأنهم عقوبة»(1)، وقال: ادفنوا الأجساد فی مصارعها، ولا تفعلوا کفعل الیهود تنقل موتاهم إلی بیت المقدس. قال: إنّه لما کان یوم أحد أقبلت الأنصار لتحمل قتلاهم إلی دورها، فأمر رسول اللّه صلی الله علیه و آله منادیا ینادی: أدفنوا الأجساد فی مصارعها»(2).

فانّه وإنْ کان بظاهره یدلّ علی الحرمة، لدلالة الانهکاک علیها، إلاّ أنه مع کونه مخالفا للاجماع والشهرة، مخالفٌ لما نُقل من الأخبار الدالة علی النقل، فیحمل علی الکراهة.


1- یقال نهکه السلطان کسحعة ینهکه نهکا ونهوکة، من بالغ فی عقوبته، والنهک المبالغة فی کلّ شیء (مجمع البحرین).
2- المستدرک، ج 1، الباب 13 من أبواب الدفن، الحدیث 15.

ص:307

بل قد یستدل للکراهة بأنّ النقل منافٍ للأمر بالتعجیل فی الدفن،

لکنه مندفع أوّلاً: بأنه لا یقتضی الکراهة، بل غایته ترک العمل بالاستحباب وثانیا: مع أنّه لا یقتضی الکراهة بما أنّه نقلٌ من حیث هو نقلٌ، بل کراهته من حیث المنع عن التعجیل، وهو خلاف للمطلوب

وثالثا: نمنع کلیّته، وربما یمکن عکس ذلک بأن یکون النقل خصوصا بالوسائل المستحدثة فی هذا العصر أقرب بالتعجیل من تمهید القبر فی البلد.

والحاصل: أنّه لا اشکال فی أصل الکراهة. لکن لابدّ من رفع الید عن الکراهة النقل إلی أحد المشاهد الشریفة، حیث لا کراهة فیه، بل مستحب بلا خلاف فیه، کما فی «الجواهر»، بل فی «المعتبر»: «أنّه مذهب علمائنا خاصة» بل فیه وفی «التذکرة» و«الذکری» و«جامع المقاصد» وغیرها أنّ علیه عمل الامامیّة من زمن الأئمّة علیهم السلام إلی الآن من غیر تناکر، ولذلک قال فی «الذکری»: «فکان اجماعا»، بل ربما یقوی ذلک فحوی دلالة بعض الأخبار علیه:

منها: خبر محمّد بن مسلم، عن الباقر علیه السلام الذی مر نصّه حیث کان النقل فیه إلی بیت المقدس، فإنّه لو لم یکن من أحد المشاهد المشرفة یکون بالفحوی فی المقام، والاّ کان مثله فی الدلالة، کما یستفاد الجواز بالأولویة فی نقل عظام یوسف حیث کان بعد الدفن، فقبله یکون بطریق أولی.

ومنها: ولعلّه أحسن من الجمیع فی الدلالة هو الخبر المضمر الهروی علی بن سلیمان، قال: «کتبت إلیه أسأله عن المیّت یموت بعرفات، یدفن بعرفات أو ینقل إلی الحرم، فأیّهما أفضل؟ فکتب: یُحمل إلی الحرم ویدفن فهو أفضل»(1).

ومنها: خبر سلیمان مثله، الاّ أنّه جاء فیه: «کتبت إلی أبی الحسن علیه السلام أسأله


1- وسائل الشیعة: الباب 44 من أبواب مقدمات الطواف، الحدیث 2.

ص:308

عن المیّت یموت بمنی أو عرفات، الوهمُ منّی»(1) ثم ذکر مثله.

ومنها: خبر الیمانی الذی رواه الدیلمی فی «الارشاد»، والسیّد عبدالکریم بن السیّد أحمد ابن طاوس فی کتاب «فرحة الغری» من حدیث الیمانی الذی قدم بأبیه علی ناقةٍ إلی الغریّ، قال فی الخبر: إنّه کان أمیرالمؤمنین علیه السلام إذا أراد الخلوة بنفسه ذهب إلی طرف الغریّ، فبینما هو ذات یوم هناک مشرف علی النجف، فإذا رجلٌ قد أقبل من الیمن راکبا علی ناقة قدّامه جنازة، فحین رآه علیّا علیه السلام قصده حتّی وصل إلیه وسلّم علیه، فرّد علیه، وقال: «مِنْ أین؟ قال: من الیمن، قال: وما هذه الجنازة التی معک؟ قال: جنازة أبی لأدفنه فی هذه الأرض، فقال له علیّ علیه السلام : لم لا دفنته فی أرضکم؟ قال: أوصی بذلک وقال إنّه یُدفن هناک رجلٌ یدخل فی شفاعته مثل ربیعة ومضر، فقال علیه السلام أتعرف ذلک الرجل؟ قال: لا، قال: أنا واللّه ذلک الرجل (ثلاثة) فادفن، فقام فدفنه»(2).

بتقریب أن یقال: بأن الامام علیه السلام قرّر المیت علی وصیته، ولم یعیب أباه بذلک، فیعلم من ذلک صحته ورجحانه، ونحن نقول ولعلّ السیرة المستمرّة إلی الآن من نقل الأموات فی أطراف الدنیا إلی وادی السّلام فی النجف نشأت من هذه الواقعة، فتصیر السیرة التی وقعت علی المرأی والمسمع من العلماء الکرام والمراجع العظام فی العصور المختلفة وعدم استنکارهم ومنعهم، تأییدا آخر لرجحان ذلک، ولیس هذا لأجل الرجحان الواقع فی تلک المشاهد المشرفة، وبذلک تندفع الکراهة الکائنة فی أصل النقل.

ومنها: خبر هارون بن خارجة، عن الصادق علیه السلام ، قال: «من دفن فی الحرم


1- المصدر السابق، الحدیث 3.
2- وسائل الشیعة:الباب 44 من أبواب مقدمات الطواف، الحدیث 1.

ص:309

أمن الفزع الأکبر، فقلت له: من بَرّ الناس وفاجرهم؟ قال من بَرّ الناس وفاجرهم»(1).

ولعلّه لذلک أفتی صاحب «الجامع» بذلک، فقال: «لو مات فی عرفة فالأفضل نقله إلی الحرم»

هذا مضافا إلی المرسلات المنقولة فی ذلک منها ما نقله صاحب «الذکری» نقلاً عن «المسائل الغریّة» فی حدیثٍ یدلّ علی رخصته فی نقل المیّت إلی بعض مشاهد آل الرسول علیه السلام إنْ أوصی المیّت بذلک(2).

ومنها؛ ما فی «المصباح» لمحمّد بن الحسن، قال: «لا ینقل المیّت من بلدٍ إلی بلدٍ فإنّ نقل إلی المشاهد کان فیه فضل، ما لم یدفن، وقد رویت بجواز نقله إلی بعض المشاهد روایة والأوّل أفضل»(3).

ومنها؛ فی «النهایة»: «فإن دفن فی موضعٍ، فلا یجوز تحویله من موضعه، وقد ورد روایة بجواز نقله إلی بعض مشاهد الأئمّة علیهم السلام ، سمعناها مذاکرةً، والأصل ما قدّمناه»(4).

ومنها؛ ما أرسل فی «المبسوط» وعن «النهایة» من الروایة الدالة علی الرخصة فی نقله بعد دفنه، بناء علی العمل بها إذ ما نحن فیه أولی، هذا کما فی الجواهر(5).

وفیه مالا یخفی، إذ ما فی «النهایة» قبوله عدم الجواز، حیث قال: «والأصل ما


1- الارشاد: 255، الحدائق: 4/ 149.
2- وسائل الشیعة:الباب 13 من أبواب الدفن، الحدیث 5.
3- المصدر السابق، الحدیث 3.
4- المصدر السابق، الحدیث 4.
5- الجواهر، ج 4، ص 345.

ص:310

قدّمناه» ولعلّه لذلک عقّبه بقوله: بناءً علی العمل بها.

وکیف کان، قد یؤیّد جمیع ما ذکر بما فیه من التمسّک بمن له أهلیّة الشفاعة، کما فی خبر الیمانی وهو حسنٌ بین الأحیاء توصّلاً إلی فوائد الدنیا، فالتوصل إلی فوائد الآخرة أولی.

والقول: بأنّه لا دلیل علی حصول ذلک بالقُرب المکانی إلی قبر الامام علیه السلام ، غیر وجیه، مع أنّه ربما یمکن دعوی الاستغناء عن الدلیل لکثرة وضوحه، أنّه لا اشکال فی أنّ حرمتهم علیهم السلام امواتا کحرمتهم احیاءا، ولذلک قال المجلسی قدس سره فی «البحار»: «وردت أخبار کثیرة فی فضل الدفن فی المشاهد المشرّفة، لاسیّما الغّری والحائر».

قلت: والأمر بالشیء ندبا أمر بمقدمته کذلک، فیستحب النقل حینئذٍ، وحُکی فی کتاب المزار منه(1) عن «ارشاد القلوب» للدیلمی أنّه قال: «من خواص تربة الغرّی اسقاط عذاب القبر، وترک محاسبة منکر ونکیر للدفن هناک، کما وردت به الأخبار الصحیحة عن أهل البیت علیهم السلام » انتهی کلامه.

ثمّ فی «الجواهر» بعد نقل کلام المجلسی قال: قلت: وفی بالی إنّی سمعت من بعض مشایخی ناقلاً له عن المقداد، انّه قال: «قد تواترت الأخبار أنّ الدفن فی سائر مشاهد الأئمّة علیهم السلام مسقطٌ سؤال منکرٍ ونکیر» انتهی محل الحاجة(2).

هذا کله مع قطع النظر عمّا ورد فی الأرض من الفضل والبرکة، فانظر الأخبار الواردة فی کتاب المزار من الباب 16 و 68 من «الوسائل» وفیهما الروایات الکثیرة المتضمّنة لذلک البالغة حدّ الاستفاضة بل متواترة دالةً علی فضیلة أرض


1- البحار، ج 22، ص 37 من طبعة الکمبانی.
2- الجواهر، ج 4، ص 346.

ص:311

مکة والمدینة والکوفة وکربلاء وطوس فان لذلک مدخلیّة فی مسألة الدفن قطعا.(1)

بل استشعر صاحب «الجواهر» التأیید لذلک عن بعض المراسیل وغیرها لوجود الفضیلة فی بعض الأراضی للدفن فیها: المرسل النبوی،

ومنها: قال صلی الله علیه و آله : «إنّ موسی علیه السلام لما حضرته الوفاة سأل وأن یدنیه إلی الأرض المقدّسة رمیة حجرٍ، وقال صلی الله علیه و آله : لو کنتُ ثمّ لأریتکم قبره عند الکثیب الأحمر»(2).

ومنها: قول أمیرالمؤمنین علیه السلام عند ارادة دفنه للنبیّ صلی الله علیه و آله فی بیته، قال: «قبض فی أشرف البقاع فلیدفن فیها»(3).

ومنها: قول أمیرالمؤمنین أیضا _ لما نظر إلی ظهر الکوفة قال: «ما أحسن منظرک وأطیب قعرک اللّهمّ اجعله قبری»(4).

ومنها: اصرار أبیالحسن الرضا علیه السلام علی دفن یونس بن یعقوب بالبقیع(5).

ومنها: حکایة دفن الحسن علیه السلام مع جدّه صلی الله علیه و آله (6).

ومنها: ما ورد فی فضل الغرّی مع قطع النظر عن دفن أمیرالمؤمنین علیه السلام ، معللاً: «بأنّ منه یُحشر سبعون ألفا یدخلون الجنّة بغیر حساب، یشفع کلّ واحد منهم کذا وکذا»(7).


1- طبعة دار الکتب الاسلامیة بطهران.
2- صحیح البخاری، ج 2، ص 98، المطبوعة بمصر، سنة 1313.
3- البحار، ج 6، ص 1044، من الطبعة الجدیدة.
4- البحار، ج 22، ص 37، من طبعة لکمبانی.
5- البحار، الجزء الاول من المجلد 15، ص 292، من طبعة الکمبانی.
6- وسائل الشیعة:الباب 13 من أبواب الدفن، الحدیث 9، 8 و 10.
7- البحار، ج 22، ص 35، من طبعة الکمبانی.

ص:312

وکذلک شراء إبراهیم علیه السلام هذه الأرض معلّلاً بمثل ذلک(1).

ومنها: شراء أمیرالمؤمنین علیه السلام أرض الکوفة، کما فی روایة عقبة بن علقمة، وخیما سُئل عن وجه شرائها، قال علیه السلام : «سمعت رسول اللّه صلی الله علیه و آله یقول کوفان کوفان یرد أوّلها علی آخرها، یحشر من ظهرها سبعون ألفا یدخلون الجنّة بغیر حسابٍ، فاشتهیت أن یُحشروا من ملکی»

وصدر الحدیث عن عقبة بن علقمة، قال: «اشتری أمیرالمؤمنین علیه السلام أرضا مابین الخورنق إلی الحیرة إلی الکوفة (وفی خبرٍ آخر ما بین النجف إلی الحیرة إلی الکوفة) من الدهاقین بأربعین ألف درهم، وأشهد علی شرائه. قال: فقلت له: یا أمیرالمؤمنین تشتری هذا بهذا المال، ولیس ینبت خطأً؟! فقال: سمعتُ... إلی آخره»(2).

وغیر ذلک من الأخبار التی یمکن استفادة ذلک منها، والمفیدة والمؤثرة فی اثبات الرجحان للدفن فیها، لا لخصوص الاحتیاج إلی الأخبار الواردة فی التمسک بها علی رجاء النفع للمیت، ودفع الضرر عنه بالدفن قرب من له أهلیّة الشفاعة لذلک، بل لأجل الأرض المبارکة والمشرّفة بدفنهم فیه أو بغیره، سیّما مع ما کان بفضلها تعلّق بالدفن ونحوه کمقبرة بُراثا، لما فی خبر أبی الحسن الحذّاء، عن الصادق علیه السلام : «أنّ إلی جانبکم لمقبرةٍ یُقال لها بُراثا یُحشر بها عشرون ومأة ألف شهیدٌ کشهداء بدر»(3).

وفی «الجواهر» بعد نقل هذه الروایة، قال: «قلت: لکن کأنّه یظهر من المجلسی فی «البحار» انّه فهم منه مقبرة الغرّی حیث رواه عن سهل فی هذا المضمار».


1- البحار، ج 22، ص 35، من طبعة الکمبانی.
2- وسائل الشیعة:الباب 12 من أبواب الدفن، الحدیث 1.
3- البحار، ج 22، ص 36، من طبعة الکمبانی.

ص:313

وکیف کان، فلا یبعد الحاق قبور العلماء والشهداء والصلحاء بقبورهم علیهم السلام فی رجحان النقل إلیها لنیل البرکة منها، ولاجل ذلک نقل هذا الالحاق الشهید تبعا للشیخ فی «المبسوط»، وتبعهما بعض من تأخّر عنها، فانظر کلام الشیخ فی «المبسوط» علی ما هو المحکی فی «الجواهر»، حیث قال: «ویستحب أن یدفن المیّت فی أشرف البقاع، فإن کان بمکة فمقبرتها، وکذلک المدینة والمسجد الأقصی، ومشاهد الأئمّة علیهم السلام ، وکذا کلّ مقبرةٍ تُذکر بخیرٍ من شهداء وصلحاء وغیرهم» انتهی(1).

وبالجملة: ثبت من جمیع ما ذکرنا رجحان نقل المیّت من بلدٍ إلی بلدٍ آخر، إذا کان فیه وجه الفضیلة والبرکة بالأمور المذکورة التی مرّت تفصیلها.

نعم، قد یستثنی من هذا الرجحان موردان أو أزید

المورد الأول: الشهید فی المعرکة والحرب، حیث أنّه یدفن فی أرض مصرعه ولا ینقل: غیرها، لما قد عرفت فی خبر «دعائم الاسلام» عن النبیّ صلی الله علیه و آله ، قال: «لما کان یوم أحد أقبلت الأنصار تحمل قتلاهم إلی دورها، فأمر رسول اللّه صلی الله علیه و آله منادیا ینادی: ادفنوا الأجساد فی مصارعها»(2). و هذا ما نصّ علیه فی «الذکری»، بل فی «الدروس» انّه المشهور، وهو واضح لا اشکال فیه

والمورد الثانی: ما إذا کان النقل مستلزما لتغیّر المیّت وفساده فیما لو کان التغییر بحیث یکاد یستطیع أحدٌ أن یتقرّب أن الیه، وربما تقطّعت أوصاله، وتفسّخت أطرافه، ونحو ذلک، ففی جواز النقل حینئذٍ أقوال ثلاثة: 1. قول بالجواز مطلقا، وهو المنسوب إلی الشیخ الجعفر کاشف الغطاء تغمده اللّه برحمته،


1- الجواهر، ج 4، ص 348.
2- المستدرک، ج 1، الباب 13 من أبواب الدفن، الحدیث 15.

ص:314

حیث قال: «ولو توقف نقله علی تقطیعه إربا إربا جاز ولا هتک فیه للحرمة، إذا کان بعنوان النفع له، ودفع الضرر عنه کما یضع مثله فی الحیّ»(1)، حیث یظهر منه جواز التقطیع بأن یقوم أحدٌ بذلک حتی ینقل المیّت إلی المشاهد المشرّفة ولا هتک فیه، کما قد یتّفق ذلک فی الاحیاء، هذا ولکن لم نسمع من وافقه فی ذلک من علماء المتأخرین إن أراد ذلک مطلقا.

2. وقولٌ بالتفصیل بین کون التغییر حاصلاً لأجل طول المدّة، أو حرارة الهواء، أو تبدله فی البرودة الی الحرارة حین النقل فیجوز، کما قد یستدلّ لذلک بحدیث الیمانی حیث أنّه نقل جنازة أبیه من الیمن إلی الغرّی، ولا شک فی تغیّر جسده لطول المسافة وحرارة الهواء وعدم ما هو متوفر الآن من حفظ الجسد من التفسّخ.

وبین ما لو کان التقطیع بعمل عامل علی وجهٍ غیر مشروع، کما إذا توقف نقله علی شقّ بطنه واستخراج أمعائه مثلاً، أو تقطیع اعضائه لتسهیل النقل من جعله فی کیسٍ یحمل بها وامثال ذلک فلا یجوز، وهذا هو الذی اختاره غیر واحدٍ من المحققین، ومنهم المحقّق الهمدانی قدس سره فی مصباحه مستدلاً له بالأصل لو لا دلیل علی المنع، والشک فیه، وعدم ما یوجب المنع، لعدم تمامیة ما یستدلّ به للمنع، وهو صدق الهتک بذلک وهو حرام.

أقول: وجه عدم تمامیته هو أنّ الابقاء کان لا بعنوان الاهانة، بل لأجل التوصل إلی دفنه فی المشاهد المشرّفة، الذی لا یعدّ بنظر العرف هتکا، بل هو من أعظم انحاء الشرف والرفعة.

لا یقال: إنّ الأصل فی حکمة الدفن إنّما هو ستر جسد المیت عن مثل هذه الأمور مراعاة لحرمته وکرامته.


1- الجواهر، ج 4، ص 348.

ص:315

لانا نقول: کون ذلک حکمة لا یقتضی الإطّراد کالعلّة، حیث یدور الحکم مدارها، نظیر ما یلاحظ مثله ما فی حکم عدّة المطلّقة المدخول بها، وبذلک یظهر الفرق بین المقام وبین ما یقید اطلاقات التجهیز من الغُسل والسّدر والکافور وغیره بما إذا لم یؤد إلی ظهور فساد المیّت، حیث أوجبوا دفنه مع خوف ذلک، کما تری حکمهم فی مثله فیمن مات فی السفینة بلزوم القائه فی البحر، ولم یحکموا بوجوب حفظه إلی حین الوصول الی الساحل لیدفن فی الأرض، ولیس هذا الاّ لاجل ما عرفت، وبالتالی یمکن الحکم بجوازه لمثل فی النقل إلی المشاهد المشرّفة، حیث لا یعدّ ذلک عند العرف هتکا.

ومن ذلک یظهر أنه لا تلاحظ النسبة فی مثل مانحن فیه من المندوبات مع المحرّمات بما دلّ علی حرمة الهتک، بأن یقال إنّها کانت علی نحو العام والخاص من وجه، فیرجّح جانب الحرمة من الهتک علی الجانب الآخر فیما إذا لم یوص المیّت بنقله، لما قد عرفت من أن أدلة الهتک مخصّصة بل هی خارجة تخصصا حیث لا یعدّ مثل ذلک هتکا، لکونه لایصال النفع الیه ودفع الضرر عنه

کما قد یؤید ذلک أنّه لو کان هذا یعدّ هتکا وحراما لما حکم بجواز الوصیّة به، لأنّ الوصیّة لا تجوز الاّ فیما اذا کان جائزا شرعا، فیفهم من ذلک أن النقل الموجب لعروض ذلک لا یعدّ هتکا، بل هو تکریم وتعظیم للمیّت، ولعلّ لذلک یلاحظ قیام السیرة من الفقهاء العظام علی الوصیّة بجواز النقل أجسادهم الأئمّة علیهم السلام والی عصرنا الحاضر، مثل نقل جثمان الشیخ المفید قدس سره من أیام الامامین الکاظمیین علیهماالسلام بعد ما دفن فی داره، ومثل ما حکی جثمان من نقل السیّد بن الشریفین الرضی رحمه الله والمرتضی رحمه الله بعد دفنهما فی بیتهما ببغداد إلی جوار مولانا الحسین علیه السلام ، وکذلک حکی أیضا فی حقّ الشیخ البهائی من نقل

ص:316

وأن یستند إلی القبر أو یمشی علیه(1)

جنازته إلی مشهد الرضا علیه السلام بعد دفنه فی اصفهان، ومن المعلوم أنّ وقوع مثل ذلک فی تلک الأزمنة کان بمرئی من علماء زمانهم وتجویزهم لذلک.

وبالجملة: ممّا ذکرنا فی الجواب عن وجه عدم الجواز بصورة الاعتراض والنقد علیه، ظهر دلیل القائلین بعدم الجواز مطلقا، کما هو مختار کثیر من الفقهاء، ومنهم صاحب الجواهر والمحقّق الآملی وهو القول الثالث: أمّا الأول فقد صرّح: «بأنّی لم أعثر علی من نصّ علی جواز حمله» وأمّا الثانی فقد ردّ هذه السیرة المدّعاة بقوله: «إنّ قیام مثل هذه التی لم یمضها الفقهاء فی عصرهم ولم یرتدعوا بردعهم لا أثر لها فی الجواز، کما لا یجوز الوصیّة بذلک، لمعلومیّة صدق الهتک عرفا بذلک، ولا یحتاج تحقّق الهتک إلی القصد، حتّی یلاحظ عدم صدقه بقصد بعض الأمور المرجّحة، فإذا لم یجز فی مثل ما یوجب التغییر مع طول المدّة وحرارة الهواء، فعدم جوازه فی مثل النقل المستلزم للمُثلة والتمثیل من قطع الأعضاء واستخراج الأمعاء یکون بطریق اولی».

أقول: ولکن الحکم بالقطع الیقین علی الحرمة فی صورة النقل، المستلزم للتغییر من دون عملِ عاملٍ مطلقا، فی غایة الاشکال، وإنْ کان لترکه خوفا من وقوع تلک الأمور لا یخلو عن وجه وصیه، وعلیه فالأحوط هو ترکه وان کان القول بالحرمة لمن عمل أو أوصی بذلک مشکلٌ جدّا، ولا یخلو عن تأمّل، واللّه العالم.

(1) أی من جملة المکروهات هو الاستناد إلی القبر والمشی علیه، وأضاف الیه فی «الجواهر» الجلوس علیه، ثمّ ذکر الدلیل علیه بقوله: «عند علمائنا أجمع» وأکثر أهل العلم کما فی «التذکرة»، وقول العلماء کما فی «المعتبر» فی «المدارک»

ص:317

نَسب ما فی المتن إلی الأصحاب من دون علم بخلافٍ فیه، بل حُکی عن «الخلاف» الاجماع، وکفی بمثل ذلک الدلیل علی اثبات الکراهة مع التسامح، مضافا إلی أن فی ذلک من الاستهانة بالمیّت مع اتحاد حرمة المؤمن حیّا ومیّتا، ولعلّه لذلک حکی المجلسی الأوّل قدس سره عن جماعةٍ من الأصحاب، استحباب المشی حافیا فی المقابر لأجل احترام موتی المؤمنین، ولاجل التواضع والتذلّل، ولا بأس به وإنْ لم یرد به دلیل بالخصوص.

بل فی «الجواهر» قد استشعر أو استدلّ لذلک بروایة الصّدوق، قال: «قال الصادق علیه السلام : کلّ ما جُعل علی القبر من غیر تراب القبر، فهو ثقل علی المیّت»(1). من جهة أن المشی علیه أیضا ثقلٌ علی المیّت، بل وهکذا الجلوس .

وفیه: مالا یخفی، لوضوح أنّه لیس المراد من الثقل علیه بأمثال ذلک، بل المقصود هو ما یجعل علی قبره من الأحجار وغیرها من غیر تراب القبر من نفس هذا القبر حتّی لا یبعد شموله لتراب آخر غیر تراب هذا القبر، فشموله لمثل المقام بعیدٌ غایته وعلیه، فالأولی الاعراض عنه والرجوع إلی سواه.

نعم، قد یستدلّ لکراهة الجلوس بخبر علیّ بن جعفر، عن أخیه علیه السلام فی حدیثٍ قال: «لا یصلح البناء علیه، ولا الجلوس الحدیث»(2).

وکذا خبر یونس بن ظبیان، عن أبی عبداللّه علیه السلام قال: «نهی رسول اللّه صلی الله علیه و آله أن یُصلّی علی قبرٍ أو یُقعد علیه أو یُبنی علیه»(3).

وإلی ما احتجّ به فی «الخلاف» بما روی عن النبی صلی الله علیه و آله أنّه قال: «لأن یجلس


1- وسائل الشیعة:الباب 36 من أبواب الدفن، الحدیث 3.
2- وسائل الشیعة: الباب 44 من أبواب الدفن، الحدیث 1.
3- المصدر السابق، الحدیث 2.

ص:318

أحدکم علی جمرٍ فتحترق ثیابه وتصل النار إلی بدنه أحبّ الیّ من أن یجلس علی قبر»(1)، ویکفی ذلک فی اثبات الکراهة.

کما یکفی فی اثبات الکراهة فی المشی علی القبر، _ مضافا إلی ما عرفت من نقل الاجماع _ الروایة التی نقلها العلاّمة فی «المنتهی» عن النبیّ صلی الله علیه و آله قال: ورد عن رسول اللّه صلی الله علیه و آله أنّه قال: «لأن أمشی علی حمرةٍ أو سیفٍ أو أخصف نعلی برجلی أحبّ الیّ من أن أمشی علی قبر مسلمٍ»(2).

وفی «کشف اللثام» عنه صلی الله علیه و آله : «لأن أطأ علی جمرةٍ أو سیفٍ أحبّ إلی من أن أطأ علی قبر مسلم»(3).

ولعلّ الحدیثان متحدان، فضلاً عن أنّهما عامیان منقولان عن «کنزالعمال»، ولیس فی أخبارنا ما یدلّ علی کراهة المشی علی القبور، ولذلک صرّح المجلسی الأوّل قدس سره فی شرحه الفارسی علی «الفقیه»: «بأنی لم اَرَ خبرا صریحا من طرق أهل البیت علیهم السلام یدلّ علی کراهته، نعم قد ورد بطرق العامّة أنّه صلی الله علیه و آله نهی عن المشی علی القبور، بل قد روی فی «الفقیه» عن الکاظم علیه السلام أنّه قال: «إذا دخلتَ المقابر فطأ القبور، فمن کان مؤمنا استروح الی ذلک، ومن کان منافقا وجد ألَمه»»(4).

حیث یظهر من کلامه عدم میله الکراهة فی المشی، ولیس ببعید فیما إذا کان المشی علی قبوب المؤمنین، أو کان الزائر قاصدا لزیارتهم، أو لضرورةٍ کما هو


1- کنزالعمال، ج 8، ص 99، الرقم 1871.
2- کنزالعمال، ج 8، ص 98، الرقم 1869.
3- کنزالعمال، ج 8، ص 98، الرقم 1868.
4- وسائل الشیعة: الباب 62 من أبواب الدفن، الحدیث 1.

ص:319

المتعارف فی زماننا هذا من المشی علی القبور فی طریق الوصول إلی زیارة الأئمّة علیهم السلام وأولادهم حیث تکون الأموات مدفونة عادةً فی اطرافهم ونواحیهم، ولا سبیل للزائر للوصول الی الضریح إلاّ بالمشی علیها، و علیه فالالتزام بالکراهة مطلقا کما هو ظاهر بعضٍ مشکلٌ جدّا.

وأمّا الاتکاء والاستناد إلیه: فإنّه لم نجد فیه نصا لا من العامّة ولا الخاصة، اللّهمّ الاّ ان یستفاد ذلک من النهی عن الجلوس، فیلحق به فی الکراهة، خصوصا مع ملاحظة ما فی «الجواهر» من استناد الکراهة فیه إلی علمائنا أجمع وأکثر أهل العلم(1)، فعلیه یکفی ذلک فی اثبات الکراهة.

ودعوی: اختصاصه بالقبر الظاهر، غیرُ معلومٍ.

ثم فی «الجواهر»: «ومنها _ أی من جملة المکروهات _ تزیین النعش، بوضع الثوب الأحمر والأصفر علیه» کما أشار إلیه العلاّمة الطباطبائی فی منظومة،هذا لما فی «دعائم الاسلام» عن علیّ علیه السلام : «أنّه نظر إلی نعشٍ ربطت علیه حُلّتان أحمر أصفر تزّین بهما، فأمر بها فنزعت، وقال: سمعتُ رسول اللّه صلی الله علیه و آله یقول: أوّل عدل الآخرة القبور، لا یُعرف فیها غنیٌ من فقیر»(2).

فیظهر من التعلیل تحسین ترکه، فیستحب ترک التزیین، اللّهمّ الاّ أن یستفاد الکراهة من أمره علیه السلام بالنزع، حیث أنّه لو کان العمل هو مجرّد ترک مستحبٍ لما فعل ذلک، فیدل علی الکراهة، فله وجه جدّا.

* * *


1- الجواهر، ج 4، ص 351.
2- المستدرک، ج 1، الباب 79 من أبواب الدفن، الحدیث 6.

ص:320

الخامس: فی اللّواحق (1)

وهو مسائل أربع:

الأولی: لا یجوز نبش القبور (2)

(1) أی الفصل الخامس من الفصول الخمسة یکون البحث فیه عن اللّواحق.

(2) وهو ممّا لا خلاف فیه، کما اعترف به بعضهم، وقال صاحب «الجواهر»: «بل هو مجمعٌ علیه بیننا کما فی «التذکرة»، وموضعٍ من «الذکری» و«جامع المقاصد» و«مجمع البرهان» و«کشف الالتباس»، بل وبین المسلمین کما فی «المعتبر» و«نهایة الأحکام»، وموضعٍ آخر من الذکری» ولعلّه یرجع إلیه ما فی «السرائر» فی المسألة الآتیة، وهی نقل المیّت بعد دفنه أنّه بدعة فی شریعة الاسلام، فالاجماع الموجود هنا حجّة.

هذا، مع امکان تأیید الاجماع بالخبر الذی _ مرّ فی الفصل السابق وهو الخبر الذی رواه الصدوق والبرقی(1) الأصبغ: «من جَدّد قبرا _ بالجیم المعجمة، أو خَدّد بالخاء المعجمة الفوقیة بمعنی الشق، وکونه کنایة عن النبش کما هو کذلک فی الجیم أیضا _ فقد خَرَج عن الاسلام» فی دون ملاحظة لاحتمالات الموجودة فیها مع احتمال صحة الجمیع وتعدد الروایة قال صاحب «الوسائل»: «بل وهکذا امکان استفادة حرمة النبش عمّا ورد فی الأخبار المستفیضة فی قطع ید النبّاش السارق، المذکورة فی باب الحدود» مثل روایة الجُعفی المروی فی «الکافی»، قال: «کنت عند الباقر علیه السلام وجاءه کتابٌ من هشام بن عبدالملک فی رجلٍ نبش قبر امرأةٍ به فسلبها ثیابها ثم نکحها، فإنّ الناس قد اختلفوا علینا، طائفة قالوا


1- وسائل الشیعة: الباب 43 من أبواب الدفن، الحدیث 1.

ص:321

اقتلوه، وطائفة قالوا أحرقوه، فکتب الیه أبو جعفر علیه السلام : «إنّ حرمة المیّت کحرمة الحیّ، تقطع یده لنبشه وسلبه الثیاب، ویقام علیه الحدّ فی الزنا، إنْ أحصن رجم وإنْ لم یکن أحصن جُلد مائة»(1). حکم نبش قبر

حیث یدلّ بالملازمة علی حرمة نبشه، کما یستفید منه حرمة سلبه

مائة لا یقال: نقل القطع کان لهما معا، فتکون الحرمة هکذا لا للنبش بخصوصه

لانا نقول: بإمکان أن یکون القطع للنبش، کما صرّح بذلک فی خبرٍ آخر لابراهیم بن هاشم، عن أبی جعفر علیه السلام حیث صرّح فیه بقوله: «یقطع یمینه للنبش»(2).

اللّهم إلاّ أن تکون هذه الاشارة إلی سرقة الثیاب، والاّ لا یصدق السرقة بمجرد النبش حتّی یقطع، فله وجه وکیف کان، لو لم یکن دلیلاً لکان تأییدا علیه.

بل قد یؤید الحرمة والاجماع ما فی النبش من المثلة بالمیّت وهتکه، والاطلاع علی ما لا ینبغی الاطلاع علیه بما صَنَع به فی القبر.

ولا یخفی ما فیه من الکلیّة، حیث ربما یمکن تحقّق النبش من دون تعرّضٍ لجسد المیّت، حتّی یصدق علیه المُثلة إنْ سلّمنا صدق الهتک علیه.

وعلیه، فما قد یؤیّد بالأدلّة الدالّة علی وجوب الدفن، والمشتملة علی الأمر به الشامل بعمومه لسائر الأوقات التی منها زمن النبش، فمقتضاه حینئذٍ وجوب ابقاء دفنه وستره، کما أنّ مقتضی تلک الأدلّة وجوب ایجاد مقدمات دفنه قبل دفنه، فاذن یکفی هذه التأییدات والاجماع لاثبات حرمة لنبش، کما علیه صاحب «الجواهر»، و«الفقیه» و«مصباح الهدی» وغیرهم.


1- وسائل الشیعة: الباب 19 من أبواب حد السرقة، الحدیث 2.
2- وسائل الشیعة: الباب 19 من أبواب حد السرقة، الحدیث 6.

ص:322

الموارد المستثناة التی یجوز فیهما النبش

المورد الأوّل: ما لو بلی المیّت وصار رمیما، کما نصّ علیه جماعة، بل لعلّه اتفاقی کما صرّح به المحقق فی «جامع المقاصد»، ویقرب منه ما فی «کشف اللّثام» من دعوی القطع به، ولعلّ الأمر کان کذلک، لأنّه لا یصدق علیه النبش، لأنّ ذلک فرع وجود المیّت فی القبر، فإذا أصار رمیما فلا شیء فیه حتّی یصدق علیه النبش، وبانّه فی الأراضی المسبلة أو المباحة یلزم من منعه حینئذٍ تعطیل کثیر من الأراضی، فلا دلیل لنا علی الحرمة، ومع الشک الأصل هو الجواز.

نعم، إن کان تحقّق الرمیمیة مختلف باختلاف الأراضی والأماکن، فمع القطع بحصوله فالحکم واضح، ولکن مع الشک فیه، فقد قیل إنّ الظاهر الرجوع فیه إلی أهل الخبرة، وحینئذٍ هل یکتفی بقولهم أم لا؟

إنْ حصل العلم والیقین به، فلا اشکال فی کفایته، والاّ ففیه نظرٌ وتأمّل، وإن کان لا یبعد القول بکفایة حصول الاطمینان لاعتباره عند العقلاء.

نعم، فی کفایة الظن منا من دون اخبارهم أو حتی مع اخبارهم اشکالٌ.

وعن بعض الأصحاب التصریح بالجواز، وانّه إنْ وجد فیه شیء من المیّت طمّه، ولکنه لا یخلو عن تأمل، لأنّ مقتضی استصحاب عدم الاندراس بملاحظة الأصل الموضوعی وحرمة النبش بالأصل الحکمی مع حکومة الأوّل علی الثانی، هو الحرمة، کما هو الأقوی. والاکتفاء بقول أهل الخبرة هنا فی الجواز لا یخلو عن ریب، لعدم دلیل علی اعتبار قولهم فی مثل ذلک، وبناء العقلاء علی الرجوع فی مثل ذلک الیهم، والاعتماد فیه بهم، بحیث یعدّ دلیلاً شرعیّا قد أمضا الشارع، غیر ثابتٍ کما علیه صاحب «الجواهر» و«المصباح» للآملی.

نعم، قد یستثنی عن جواز النبش فی المیّت الذی یعلم، انّه بلی عظامه وصار

ص:323

رمیما، قبور الأنبیاء والأئمّة المعصومین علیهم السلام ، بل لا یعبد الحاق قبور العلماء والصلحاء والشهداء بهم، وبل کلّ ما کان فی نبشه مترتبا علیه ما یترتب علی قبور من عرفت من کونه منافاةً للتعظیم اللاّزم فیه، وتحقّق الهتک فی ذلک، بل وعدم معلومیّة اندراسهم بأجسادهم، لو لم یکن الخلاف فی بعضهم معلوما، کما قد یتّفق فی بعض موارد النبش قهرا وبلا اختیار أو مع الاختیار، کما اشتهر وقوعه فی مثل الحُرّ الشهید أو الصدوق رحمه الله وغیرهما.

بل، وهکذا فی أولاد الأنبیاء والأئمّة علیهم السلام ، خصوصا فیما إذا اتخذ الناس قبورهم مزارا وملاذا وأحاطوه بانواع التعظیم والتبجیل، وقضیت حاجات الناس من خلال التوسّل بهم الی اللّه سبحانه و تعالی.

المورد الثانی: من الموارد المستثناة عن حرمة النبش، هو أن یدفن فی أرضٍ مغصوبة، أو فی أرضٍ مشترکة فدفن فیها بلا إذن شرکائها، حیث یصیر ذلک غصبا، کما صرّح به جماعة من الأصحاب منهم الفاضلان والشهید، بل فی «الجواهر»: «لا اعرف فیه خلافا» بل قد یظهر من «کشف اللّثام» وغیره أنّه مقطوع به. وعلیه فحکم المسألة فی أصلها واضحة فیما إذا لم یترتّب علی اخراجه مالا یناسب شأن المیّت، لکون الدفن فیه قریبا یمکن اخراجه منها دون حصول ما یوجب هتکه، وعلیه فلا اشکال فی جواز النبش، فی هذه الحالة، بل وجوبه مع مطالبة المالک نبشه، واخراجه إن لم یرض ببقاءه کما أنّه لا یجب علی الملاّک قبول القیمة لو بذلت لهم.

أقول: الذی ینبغی أن یبحث فیه، هو ما لو لم یمکن دفنه فی أرضٍ آخری، فهل یجب علی المالک قبول ابقائه بالقیمة أم لا؟

قیل، نعم لانّه واجبٌ علیه ذلک، کما کانّ الأمر کذلک فی الابتداء، لأنّ دفنه فی

ص:324

الأرض کان واجبا علیه وعلی غیره ابتداءً بنحو الکفایة، فیکون الابقاء کذلک. وقد قبله صاحب «الجواهر» فلا یبعد کون الحکم کذلک، لأنّه مع أخذ القیمة یتحقّق الجمع بین الحقین: حقّ المیّت علی الکلّ ومنهم المالک، وحقّ المالک فی أرضه بأخذ القیمة کما فی «الجواهر» أنّه الاقوی، ولا یخلو عن وجاهة.

وأما اذا کان الدفن فی غیر هذه الأرض ممکنا، فمقتضی الأصل وتوقّف التجارة عن التراضی، هو الاخراج أو الابقاء مع التراضی بأخذ القیمة، کما لا یخفی.

هذا، ولا فرق فی ذلک بین قلّة ضرر المالک أو کثرته، ولا بین الوارث والرحم وغیرهما.

فرع 1: اذا کان الاخراجُ مستلزما لتقطیع أجزاء المیت، بنحوٍ یوجب انطباق عنان هتک الحرمة علیه، فهل یجب حینئذٍ اخراجه مع مطالبة المالک أو لا یجوز تقدیما لحقّ المیّت علی حقّ المالک، فیجب علیه الابقاء وأخذ القیمة حفظا لحقّ المیّت؟

ظاهر اطلاق کلمات الأصحاب بوجوب الاخراج وجواز النبش، یقتضی الحکم بالجواز فی المورد أیضا، خلافا للآخرین کما قد صرّح بذلک صاحب «الجواهر» حیث قال: «ولو لا ظهور اتفاق من تعرّض لذلک علیه إنْ لم یکن اتفاقا مطلقا، لأمکن المناقشة فی اطلاق هذا الحکم، من حیث عدم ذکر دلیلٍ له سوی أنه مراعاة حرمة الحّی، وحقّه الذی هو مبنیّ علی الضیق.

وفیه: أنّه معارضٌ بحرمة المیّت التی هی کحرمته، وفعل الغاصب إنّما یسقط حرمة نفسه لا حرمة غیره التی یجبُ مراعاتها علیه وعلی المالک. فالمتجه حینئذٍ بعد مراعاة المیزان فی الحرمتین، وفرض التساوی فیهما، الجمع بین الحقین ببذل القیمة ولو من ترکة المیّت من ثلاثة أو بیت المال، ولا تتعین علی الغاصب. وکیف کان فلا ریب أنّ الأولی بل الأفضل کما صرّح به غیر واحدٍ _ قبول القیمة من

ص:325

المالک، سیّما إذا کان وارثا أو رحما» انتهی کلامه(1).

ولکن التحقیق أن یقال: إنّ حکم المسألة أولاً مبنیٌ علی أنّ الدلیل علی حرمة النبش هل هو منحصر فی الاجماع، ولا دلیل علیه سواه، فمن الواضح أن الاجماع فی المورد مفقود، ومع فقدانه یصیر أصل النبش جائزا، فاذا صار أصل النبش جائزا فلا مزاحمة بین حقّ والمالک حرمة النبش حتی یلاحظ بأنّ أی الحرمتین أقوی واهمّ لیقدّم، بل اشکال حینئذٍ فی أن عموم قاعدة السلطنة الموجودة للمالک، وقاعدة نفی الضرر المدافع عن حقّ المالک یشمل المورد، إذ من الواضح أنّ مع دفن المیّت فی الأرض ربما یوجب نقصان قیمة لأرض، أو عدم رغبة أحدٍ فی شراء مثل هذه الأرض وأمثال ذلک، وعلیه فمثل تلک القواعد تکون حاکمة علی العمومات الأولیّة من التکالیف، ولا یزاحمها شیءٌ الاّ دلیل حرمة هتک المیّت، المستفاد من الدلیل الدال علی أنّ حرمة المسلم میتا کحرمته حیّا، أو ظهور مالا یحسن النظر إلیه من تغییراته الکریهة، ومن الواضح أنّ هذه الأحکام هی أحکام إولیة، لا قدرة لها علی المعارضة مع الأحکام الثانویّة من نفی الضرر وغیره، بالتالی الأقوی رعایة حقّ الحیّ وهو المالک، ولزوم اخراجه وإنْ استلزم ذلک التمثیل به، وإنْ کان الأفضل والأحوط هو تقدیم حقّ المیّت باعطاء القیمة من ترکته أو ثلثه أو بیت المال، وتحصیل رضا المالک بأخذ القیمة رعایة للحقین، خصوصا إذا کان المالک وارثا أو رحما کما لا یخفی. فروع دفن المیت

وبعد الوقوف علی حکم ملک العین فی دفن المیّت، فانه یمکن أن نلحق به حکم من کان مالکا لمنفعة الأرض، کما لو آجر المالک أرضه، فلا یجوز للمالک أن یدفن المیّت فی أرضه بدون إذن المستأجر، بل یجب اخراجه اذا طالبه ذلک


1- الجواهر، ج 4، ص 354.

ص:326

المنفعة، کما لا یجب علی مالک المنفعة قبول قیمتها إذا بذلت. ولا فرق فیه بین ما یستلزم التقطیع والمثله أم لا، کما عرفت فی السابق، وإنْ کان الأحوط والأفضل، هو ملاحظة الجمع بین الحقین، بل هنا أولی بالاحتیاط من السابق، کما لا یخفی.

کما یقوی الإلحاق فیما إذا کان فی ابتداء وضعه بحقّ شرعی دون الاستدامه، مثل من استأجر أرضا فی مدّةٍ یدفن فیها میتا، ثم انقضت المدّة، فبرغم صحة تصرفه بدوا، لکن فیه اشکال استدامةً لأنّه تصرف فی حق لمالک، فیجوز له المطالبة بالاخراج، خصوصا مع ملاحظة ما یترتّب علیه من الضرر.

نعم، قد یحتمل العدم، لأنه وإن کان دفنه بلا اذنٍ من صاحبه، ولکن کان ذلک مع الإذن الشرعی، وقلنا بأنّ الإذن الشرعی کالإذن المالکی، فلا یکون حینئذٍ غاصبا حتّی یحقّ للمالک مطالبته اخراجه، وعلیه فلابد حینئذٍ من الجمع بین الحقین بأخذ القیمة والرضا بالدفن.

ولکن الأوّل أقوی کما لا یخفی، ولذلک أمّر صاحب «الجواهر» بعد نقل هذا الاحتمال بالتأمّل، واللّه العالم.

فرع 2: ثم إنّه کما یجوز للمالک اخراج المیّت من ملکه، فله أن یطالب الدافن باخراجه، لأن وضعه کان بفعله، کما أنّه إذا طالبه وجب علیه اخراجه وأمّا أولیاء المیّت فانّه لا یجب علیهم الاخراج إذا لم یکن الدفن من فعلهم ولا بأمرهم، وکذا لا یجب علی المسلمین ذلک علی نحو الواجب الکفائی، مثل أصل الدفن

اللّهمّ الا أن یقال: بأنّ الدفن فی المکان الغصبی لا یعدّ دفنا شرعیّا حتی یسقط التکلیف، فیجب علیهم ذلک عند ترک الدافن لاخراج تحصیلاً للامتثال والفراغ عن ماهو واجب علی العموم کفائیا، فحینئذٍ له وجه، ولکن وجوبه لهم یکون فی طول وجوبه للدافن لا فی عرضه، أی الوجوب لهم یکون بعد عصیان الدافن عن الامتثال.

ص:327

وکیف کان، فلو فرض ثبوت مؤنةٍ فی الاخراج کما هو کذلک غالبا، فعلی الدافن لانّه هو الضامن، لانّه وقع بفعله.

المورد الثالث: من تلک الموارد مالو کُفّن بثوب مغصوب، فیجوز النبش لنزعه عنه، أو یجوز لمالکه اخراجه من غیر خلافٍ أجده فیه، کما فی «الجواهر»، بل قد یظهر من «کشف اللّثام» کونه مقطوعا به أیضا، الاّ عن العلاّمة فی «المنتهی» حیث فرّق بین المقام وبین السابق من تعذّر التقویم فی الأرض إلی بلی المیّت بخلافه هنا، فلا یلزم الاخراج بل یقوّم هنا. واعترض علیه صاحب «الجواهر» بانّه یمکن هنا تقویمها مدّة یقطع فیها بفناء المیّت تبعا للشهید فی «الذکری»، والأمر کذلک، مضافا إلی امکان تحصیل التراضی والتصالح حیث یجتمع مع مجهولیّة القمیة فضلاً عما اذا کانت معلومة.

کما لا وجه فی الفرق بین الموردین باشراف الثوب علی التقطیع والزوال بالتکفین بخلاف الأرض، لأنّ المفروض أنه مع بقاء الثوب یحقّ لصاحبه المطالبة بأی وجه کان، حیث لا یوجب مثل ذلک الفرق فی الحکم.

کما لا وجه للاحتمال الذی ذکره الشهید فی «الذکری» وتبعه غیره من أنّه إنْ أدی ذلک إلی هتک المیّت بظهور ما ینفر منه لم ینبش، وإلاّ نبش، لما دلّ حدیث فضل بن یونس الکاتب عن أبی الحسن موسی علیه السلام فی حدیثٍ: «إنّ حرمة بدن المؤمن میّتا کحرمته حیّا» الحدیث(1)، علی تساوی حرمته.

وفی المعلوم امکان جریان مثل ذلک فی السابق أیضا، وإنْ کان الغالب هنا هو هذا، لأن الکفن ربما یکون باقیا وساترا فی السابق فیحصل به المطلوب دون المقام

وفی حکم کفن المغصوب، لو دفن مع المیّت مالٌ مغصوبٌ أو دفن معه مال


1- وسائل الشیعة: الباب 33 من أبواب التکفین، الحدیث 1.

ص:328

المیّت نفسه بعد انتقاله إلی الوارث بموته، إذا لم یکن قد أوصی بدفنه معه، ولم یکن الدفن معه اسرافا وبذلاً فی غیر ما یجوّزه العقلاء، کما أنّه یشترط أن لا یکون زائدا عن ثلث ماله کما لا یخفی.

المورد الرابع: مالو وقع فی القبر ماله قیمة من ماله أو مال غیره، فانّه یجوز أو قد یجب نبشه لاخذه، بلا خلافٍ أجده فیه أیضا کما فی «الجواهر»، وبه صرح فی «المعتبر» و«التذکرة» و«الذکری» و«جامع المقاصد» وغیرها، من غیر فرقٍ فیه بین القلیل والکثیر ولا بین ما إذا بذل قیمته أم لا، کما نصّ علیهما بعضهم.

قال فی «الذکری»: «وروی أنّ المغیرة بن شُعبة طرح خاتمه فی قبر رسول اللّه صلی الله علیه و آله ثم طلبه ففتح موضع منه فأخذه، فکان یقول: أنا آخرکم عهدا برسول اللّه صلی الله علیه و آله »

أقول: لا بأس فلا هنا بذکر ما ورود فی کتاب العامة وغیره، فقد جاء فی «المهذّب» وفی «السیرة الحلبیّة»: وقیل آخر من طلع من قبره صلی الله علیه و آله المغیرة بن شعبة، لانّه ألقی خاتمه فی القبر الشریف، وقال لعلیّ علیه السلام : یا أبا الحسن خاتمی، وإنّما طرحته عمدا لامسّ رسول اللّه صلی الله علیه و آله وأکون آخر الناس عهدا به، قال: أنزل فخده، وقیل ألقی الفأس فی القبر ویقال إنّ علیّا علیه السلام لما قال له المغیرة ذلک نزل وناوله الخاتم أو الفأس، أو أمر من نزل وناوله ذلک، وقال له إنّما فعلت لتقول أنا آخر الناس برسول اللّه عهدا. واعترض بأنّ المغیرة لم یکن حاضرا للدفن(1)).

وفیه: هذه الروایة مردودة من جهات:

أوّلاً: کونها عامیّة ولم ترو من طرقنا

وثانیا: کون الطرح عمدیا، وینبغی القطع بعدم الجواز فی مثله لکونه المضیّع لماله لو لم یخرج، مضافا إلی أنه یستلزم تحقّق النبش بذلک لو أرید الاخراج، وهو حرام آخر.


1- المهذّب، ج 1، ص 138؛ و فی السیرة الحلبیّة، ج 3، ص 403.

ص:329

وثالثا: عدم سریان مثل هذا الحکم بالنسبة الی قبر النبیّ صلی الله علیه و آله ، وإنْ أطلق الاصحاب وقلنا لا یبعد صحة اطلاقه لعدم صدق الهتک علیه بذلک لو کان حدث بغیر عمد

ورابعا: قال البحرانی فی «الحدائق»: «وقد ورد فی بعض الأخبار(1) التی لم یحضرنی الآن موضعها عن علیّ علیه السلام تکذیبه فی دعواه ذلک»

وفی «الجواهر»: «قلت: وهو الصواب، فإنّ المغیرة وأمثاله من المنافقین کانوا فی السقیفة یومئذٍ وأین هم من حضور دفنه صلی الله علیه و آله ».

وخامسا: علی فرض التسلیم، وغمض البصر عن جمیع ما ذکرناه، یمکن المناقشة فی أصله، حیث أن ظاهره کون ذلک قبل وضع اللّحد علیه، لانّه قال: «نزل وناوله الخاتم، أو أمر من نزل وناوله» الظاهر فی کونه ممّا یمکن النزول فیه قبل اتمام الستر والوضع، واللّه العالم.

المورد الخامس: مالو توقف اثبات حقٍّ من الحقوق علی رؤیة جسده، کما لو توقف ثبوت الضمان علی رؤیة جسده، أو لقسمه میراثه واعتداد زوجته وغیرهما ممّا یتوقف ثبوتها علی نبش القبر.

ولکن لابد أنْ یُعلم أنّ جواز النبش فی مثل هذه الموارد منوط بالعلم بکون النبش محصّل للمطلوب، والاّ لو کان جسده متغیّرا ولم یمکن التشخیص لتغیّر هیئته، فلا یجوز، بل قد یُدّعی أنّه منافٍ مع اطلاق الاجماع القائم علی حرمة النبش فی «المعتبر» حیث ادّعی رحمه الله قیامه فیما عدا أربعة صور، ولیست منها هذه الصورة. ولکن المتأخرین تبعا للشهید فی «الذکری» عدّو هذا المورد من المسثنیات کما فی «الجواهر» و«مصباح الفقیه» و«مصباح الهدی» تبعا للسیّد


1- کنز العمال، ج 4، ص 56، الرقم 1128_1129.

ص:330

فی «العروة» مع جمیع أصحاب التعلیق علیها.

المورد السادس: هو ما ذکره الشیخ فی «المبسوط» من أنّه: «لو دفن فی أرضٍ ثُمّ بیعت، فانّه یجوز للمشتری حینئذٍ قلعه)، وفی «الجواهر»: «ولعلّ وجهه أنه لم تسبق منه اذنٌ، فکان کالمغصوبة بالنسبة إلیه».

قلنا: لعلّه أراد صورة ما لو کانت الأرض أرضا من شأنها أن تکون خالیة عن ذلک فاصبحت کما کانت کذلک، هذا لو لم نقل بکونها عیبا یجوز الفسخ به، والاّ لا تکون هذه بمنزلة المغصوبة، فاتیان الدلیل بکونه بلا اذن منه ممّا لا وجه له.

وکیف کان، هذا الحکم ممّا لم یقبله جماعة من المتأخرین کالفاضلین والشهید والمحقّق الثانی وصاحب الجواهر وغیره، والأمر کذلک، لوضوح أنّه لم ینتقل للمشتری الاّ السلطنة التی کانت ثابتة للبایع دون غیرها اذ هو فرعه، فکما لا یجوز للبایع اخراجه ونبشه، وإنْ کان علی نحو العاریة إلی أن یبلی المیّت لمکان اتبنائها علیه، هکذا یکون للمشتری، لأنّه تابع له فی ذلک. وعلیه فما استدلوا له هنا بأنّ حرمة النبش منشائها الاجماع وهو مفقود فی المقام، فالأصل الجواز ممّا لا یمکن المساعدة علیه، لانّه لا شک فی شمول ذلک حکم الحرمة إذا لو لم یزاحمه لاجماع، وهو أیضا ممّا لا یزاحمه حتی یقال بتلک المقالة. ولو سلّمنا ذلک فإنّ خروج الشیخ لا یقدح فی المحصّل منه فضلاً عن المنقول، کما لا یخفی علی المتأمّل.

المورد السابع: ما لو دفن بغیر غُسلٍ، فهل:

1. یجوز نبشه حینئذ مطلقا کما علیه العلاّمة فی «المنتهی»، حیث قال: «ولا یجوز مطلقا کما علیه الشیخ فی «الخلاف»»

وتبعه المصنّف فی «المعتبر»، والعلاّمة فی «التذکرة» وکذلک فی «الذکری»

ص:331

و«جامع المقاصد» وغیرها

2. أو یفصّل بین ما لو تُرک الغسل لعذرٍ شرعی حتّی یدفن فلا یجوز، وبین غیره فیجوز وجهان وقولان:

وجه القول الاّول: هو وجوب الحفظ للواجب الذی یمکن تدارکه، ولا دلیل علی سقوطه بذلک، فاستصحابه محکمٌ

أو أنه لا دلیل علی حرمة النبش فی مثل المقام، فأصالة البراءة تکون محکّمة مع امکان أن یقال: إنّ هذا الدفن بهذه الصورة لم یکن شرعیا ومحترما، لکونه منهیا عنه من حیث تأخّر الأمر به عن الغُسل أو ما یقوم مقامه، فلا اعتبار به لانصراف حرمة النبش إلی الدفن الشرعی.

نعم، لابدّ أن یقیّد بما إذا لم یخش فساد المیّت بالتقطیع وشبهه، وصدق المثلة مع عدم الفساد مشکل، فلا یکون مسقطا للواجب.

ومن ذلک یظهر وجه القول الثانی، وهو صدق المثلة، فیسقط الغُسل معها؛ ولاطلاق الفتاوی بحرمة النبش من دون استثناء ذلک، بل لعلّ بعض معاقد الاجماعات المحکمیّة یکون کذلک. وفی «الخلاف»: «یدلّ علیه عموم کلّ خبرٍ یتضمن النهی عن نبش القبور»، وفی «الجواهر» قال: «ولعلّه وقف علی ما لم نقف علیه کما هو مظنة ذلک».

وجه القول الثالث: وهو کون الاخلال بالغُسل لأجل العُذر الشرعی من فقد الماء ونحوه ثم زال بعد الدفن.

وفیه: لا یجوز ذلک، لانّ ادلّة وجوب النبش منصرف عن هذه الصورة، بخلاف مالو کان الاخلال لأجل العصیان والغفلة بترک الغُسل أو ظهور بطلانه. فحینئذٍ یجب اخراجه، لانصراف أدلّة حرمة النبش عن مثل ذلک، بل لعلّ دفنه لا یعدّ

ص:332

دفنا. نعم کلّ ذلک مع عدم انتهاک الحرمة من جهةٍ أخری کالفساد الطاری ونحوه، والاّ وجب مراعاتها.

أقول: الأقوی عندنا هو الوجه الأوّل، إذ أنّ أدلة حرمة النبش لیس الاّ بالاجماع أو صدق هتک حرمة المؤمن، والحال أنّ ألادلة منصرفة عن مثل المقام

کما أنّ التفصیل أیضا لا وجه له، لانّه من الواضح أنه إذا تعذّر الماء، فلابدّ له من اتیان بدله، وهو التیمم، ثم بعد الاتیان بذلک یکون قد أفرغ ذمته من التکلیف. وعلیه فخروج ذلک یکون بالتخصّص لا بالتخصیص: حتّی یقال بالتفصیل. وعلیه فالکلام منحصرٌ فیما إذا کانت الوظیفة غُسله أو تیممه فتُرک لأجل الغفلة والعصیان، أو تبیّن الفساد بعد الدفن، فلا اشکال فی أنّ اخراجه ونبشه، یعدّ واجبا لا جائزا

وصدق المثلة أو الهتک بذلک مالم یخش الفساد بتأخیر المدّة لا یخلو عن وهن، لأنّ العرف والعقلاء یساعدون علی جواز الاخراج لتحصیل التکلیف الذی ثبت وجوبه علیهم قبل الدفن، ولأجل ذلک تری اتفاق المتأخرین کالسیّد فی «العروة» وجمیع أصحاب التعلیق علی الحکم بالجواز، بل عن بعضٍ کالمحقق الحائری والگلپایگانی القول بالجوب، بل لعلّه لا ینافی مع الجواز الذی قاله بعضٌ، لامکان أن یکون مقصودهم من الجواز هو عدم الحرمة الذی یجامع مع الوجوب أیضا، کما أنّ الأمر کذلک، واللّه العالم.

تنبیهٌ: الظاهر کون حکم ترک الکفن أو ترک ما یجب فیه من الکفن، حکم ترک الغُسل لو تنبّه بعد الدفن فی جواز النبش المجامع مع وجوبه، لاتحاد طریق المسألتین فی الاستدلال.

واحتمال کفایة ستر القبر عن الستر الحاصل بالکفن کما قیل، وصرّح به العلاّمة فی «المنتهی» و«المعتبر»، بل (لا أجد فیه خلافا) کما فی «الجواهر» فی

ص:333

الکفن والصلاة فی عدم جواز النبش لهما، الاّ عن الشهید فی «البیان» وکذلک فی «المدارک» من جواز النبش للکفن کما اخترناه، غیر وجیهٍ، لامکان کون الواجب هو تحصیل الکفن بنفسه لا لجهة الستریة فقط، حتّی یقال بتلک المقالة، کما قد یؤیّد ذلک وجوب الکفن بخصوصیاته ولو حصل الستر بأقلّ منه، فشمول دلیل حرمة النبش لمثل المقام مشکلٌ لانصرافه عنه، خصوصا إذا کان دلیله الاجماع الذی هو دلیل لبّی یکتفی بالقدر المتیقن، وهو غیر فرضنا.

نعم، یصحّ القول بعدم جواز النبش للصلاة المتروکة المکشوفة فسادها بعد الدفن، لامکان تحصیلها وتدارکها من غیر نبشٍ، بأنّ یصلّی علیه فوق بقبره،

هذا، بخلاف مالم یمکن تحصیله الاّ بالنبش، وکان تحصیله واجبا، فانّه یجوز نبشه بل یجب تحصیلاً لفراغ الذمة، فمنه هو ترک الاستقبال

واحتمال دوران الأمر هنا بین الواجب والحرام والرجوع إلی المرجّحات الخارجیة، وکون المرجّح عند التساوی جانب الحرمة أو التخییر کما عن صاجب «الجواهر»

لیس علی ما ینبغی، لانّ الدوران متفرعٌ علی أمرین:

1. تحقّق الاطلاق فی دلیل حرمة النبش، والمدّعی أنّه لا اطلاق له لمثل المورد لانصرافه عنه

2. أو قیام الاجماع وهو غیر شامل للمقام، لانّه دلیل لبّی، فیکتفی فیه بالقدر المتیقن

وعلیه، فالحکم فی ترک توجیه المیت الی القبلة، وکذا فی الکفن غیر المشروع، مثل مالو کُفّن فی الحریر أو فی جلد المیتة ونحوهما، هو النبش بلا اشکال، ولا یلاحظ فیه التخییر ولا جانب الحرمة، کما لا یخفی، سواء کان صدور هذه الأفعال عن عمدٍ أو عن سهو وعصیان وجهل.

ص:334

وعلیه، فما عن الشهید والمحقّق الثانی وغیرهما من حرمة النبش، أو فی «کشف اللّثام» أنّ فیه وجهین: «من کونه کالمغصوب وکذی القیمة الواقع فی القبر فانّه غیر مشروع، ومن أنّ الحقّ فیه للّه، وحقوق الآدمیّین أضیق».

لیس علی ما ینبغی، مع أنّ فی الحریر أیضا حقّ آدمی لعدم خروج الکفن عن ملک مالکه بالتکفین، إلاّ أنّ الکلام فی أنّ المالک بنفسه أقدم بذلک، فهو المتلف لماله. ولکن مع ذلک کلّه یجب النبش لتحصیل شرائط الکفن الذی یعدّ واجبا کما لا یخفی.

هنا فروع مهمّة ینبغی التعرّض لها:

فروع باب دفن المیّت

الفرع الأوّل: ما لو ابتلع الانسان ماله قیمة کجوهرة ونحوها بالاختیار أو غیره، ثم مات ودفن، فهل یجوز النبش لاخراج المال أم لا؟ أو یجب التفصیل بین کونه لنفسه فلا وبین کونه للغیر فنعم، وجوهٌ وأقوال: والذی صرّح به الشیخ فی «الخلاف» العدم، واستدلّ له بأن حرمته میّتا کحرمته حیّا، ولا یجوز شقها فی الحیّ لذلک فکذا المیّت. ولا فرق فیه بین کون المال له فانتقل إلی الورثة بموته، وبین کونه لغیره

وقد اختاره جماعة من الفقهاء، ولکن المحکیّ عن «التذکرة» هو التفصیل بین کونه للغیر فاستوجه الشقّ وفاقا للشافعی، لمافیه من دفع الضرر عن المالک بردّ ماله الیه، وعن المیّت بإبراء ذمّته، وعن الورثة بحفظ الترکة لهم، وبین کونه لنفسه حیث لم یحکم بالشقّ.

وفی «الجواهر»: «إنّ ظاهره هو التوقف من کونه مالاً له واستهلکه فی حیاته فلم یثبت للورثة حقّ، ومن أنّها صارت ملکهم بموته فهی کالمغصوبة.

ص:335

وقولٌ بالتوقف مطلقا، سواءٌ کان مالاً لنفسه أو لغیره، وهو مختار صاحب «الجواهر»، بل هو ظاهر «المعتبر» وغیره، مستدلاً بما قد ذکره الشیخ فی «الخلاف».

واحتمال القول بأنّه أسقط حرمته بابتلاعه، أو احتمال تقدیم حقّ الآدمی الحیّ علیه کما مرّ نظیره، لا یفید النفس اطمینانا تعذر به عند بارئها.

أقول: بل نضیف بأنّ الابتلاع ربما لا یکون عن عمدٍ حتّی یوجب الاسقاط، مع أنّ عمده بذلک لا یغیّر واجبنا، خصوصا مع ملاحظة امکان الجمع بین الحقین باعطاء العوض بالمثل والقیمة، بل ربما اداءه علی نحو بدل الحیلولة لو فرض امکان تحصیله بمرور مدّة یعلم ببلاء بدنه، وصیرورته رمیما، فیؤخذ المال إنْ فرض بقاء مالیته بعد تلک المدة، لکن الفرض بعید الوقوع، وعلیه فالتبدیل بالعوض وتحصیل الابراء بذلک یعدّ أولی، لأنّ حفظ حرمة المؤمن عند الشارع یعدّ أهمّ من حرمة المال

هذا إن صدق الهتک بالنبش والشق، والاّ أمکن التشکیک فی أصل صدق الشق والنبش فی المورد. بل ولزوم حفظ المال عن الضیاع ربما یوجب القول بالجواز، ولعلّه لذلک أمر بالتأمّل فی «الجواهر» ولکن الالتزام بالجواز _ فانّه مضافا إلی أنّه مخالفٌ للاحتیاط _ لم نجد من أفتی بالجواز صریحا إلاّ العلاّمة فی صورة کونه مال الغیر، کما عرفت، ومن هنا ظهر أنّ حکم جواز النبش موقوفٌ علی جواز الشقّ إنْ قلنا به فیجوز، والاّ فلا.

الفرع الثانی: أنّه إذا لم ینبش لأجل ما عرفت، فیجب أخذ القیمة من ترکته کما صرّح به الشهید فی «الذکری»، لأنّه حینئذ یکون کما لو أتلف ماله فی حیاته، إلاّ أنّ الفرق بینهما أنّه لو اتفق خروجه إمّا بأن یبلی جسده وتنتفی المُثلة بنبش قبره فنبش ووجد، أو بغیر ذلک کما لو خرج بدنه بالسیل أو أخرجه السّبع وقطع

ص:336

اعضائه فأمکن أخذ المال، فحینئذٍ یجب اعادة المال، إلی صاحبه، فتکون القیمة حینئذٍ بدلاً للحیلولة قهرا، لأنّ المال لم یخرج عن ملک صاحبه بذلک، وکان العوض لأجل صدق التلف عرفا علیه ظاهرا، فإذا ظهر الخلاف رجع إلی مالکه، کما لا یخفی، وتحقیق الکلام فی ذلک بأزید منه موکولٌ إلی محلّه فی باب الغصب.

الفرع الثالث: مالو وجد أجزاء المیّت بعد دفنه، فهل یُنبش کالأوّل فیدفن الی جنبه، أو لم یُنبش بل دفنت فی جانبه؟ فیه وجهان بل قولان: ففی «الذکری»: «أنّه لو أمکن ایصاله بفتح موضعٍ من القبر بحیث لا یؤدّی إلی ظهور المیّت أمکن الجواز، لأنّ فیه جمعا بین أجزائه وعدم هتکه» انتهی.

وقد عُلّل فی قبول ذلک بأنّ فی النبش من المثله التی لیست فی تفرق الأجزاء _ والظاهر أنّ المقصود من النبش الحرام هو ظهور جَسد المیّت دون قبله، فلو نبش القبر إلی حدّ لا یصل إلی ظهور الجسد، لدفن میّتٍ آخر، أو لدفن بعض أجزائه یجوز

نعم، ظاهر کلمات الأصحاب هو وجوب الجمع بین وضع الأجزاء الی جنبه وبین عدم تحقّق النبش المحرّم الذی یظهر فیه جسد المیّت، ولاجل ذلک قلنا فی تعلیقتنا: الأحوط وجوبا اختیار ذلک، ولو بأن یحفر فی جنبه إلی محاذات الجسد، ویضع الأجزاء فی جنبه

ومن هذا یظهر حکم مسألتین:

الأولی: جواز نبش القبر لمیّتٍ آخر غیر ما یصدق علیه الهتک کالقبور العلماء والصلحاء والأنبیاء والائمة علیهم السلام وأولادهم

والثانیة: جواز النبش لتمام القبر لمیّتٍ جُعل جسده فی تابوتٍ مطبق علیه، حیث لا یصدق علیه النبش المحرّم، وهو الذی یظهر فیه الجسد.

ص:337

قوله قدس سره : ولا یجوزُ نقل الموتی بعد دَفنهم(1)

(1) إنّ نقل الموتی بعد دفنهم یکون علی قسمین: حکم نقل المیت

تارة: یکون النقل إلی غیر المشاهد المشرّفة لغرضٍ آخر، کما قد یتفق بین الناس اللذین یریدون أن ینقلوا أمواتهم إلی بلادهم، لیدفنوا عند أهلهم، فهذا نقل للمیّت قبل دفنه، وقد عرفت کراهته.

وقد یکون النقل بعد الدفن الی بلدانهم، فصریح کلام المصنّف قدس سره عدم الجواز، والدلیل علیه:

أوّلاً: هو الاجماع کما فی «المسالک» و«الریاض»، وفی «الجواهر» ولعلّه الصحیح، بملاحظة تحریم النبش فیکون هذا دلیلاً آخر غیر الاجماع إنْ ثبت حرمته من غیر الاجماع أیضا، ولعلّه أراد ذلک من قوله: «بالنظر إلی تحریم النبش» حیث قال بعد ذلک: «وإلی ماهنا من التتّبع»،

أقول: لم نعثر علی مخالفٍ عدا ما عساه یظهر من «الوسیلة» حیث قال: «یکره تحویله من قبرٍ إلی آخر، ولا أحد حُکی عنه سوی ابن الجنید حیث إنّه أطلق نفی البأس عن التحویل لصلاحٍ یُراد بالمیّت» حیث أن ظاهر کلامه جواز النقل من غیر کراهة. مع أنّه یمکن حمل عبارتهما علی ارادة النقل بعد وضع المیّت فی القبر قبل تحقّق الدفن، أو ارادة النقل لضرورةٍ، کما لا یبعد استفادة ذلک من کلام ابن الجنید حیث قال: «لصلاحٍ یُراد بالمیّت»، أو حمل کلامهما إلی مورد النقل للمشاهد المشرّفة ان أخزناه. مع أنّه علی فرض مخالفتهما فإنّه لا یقدح فی الاجماع، لکونهما معلومی النسب

وعلیه، ففی صورة استلزامه النبش، لااشکال فی حرمته، وأمّا إذا ظهر الجسد

ص:338

بسبب کالسیل أو السبع أو عصیانا أو کان بالغفلة والجهل والنسیان، أو غسّله انسان غیر مکلّف، فإنّه لا اشکال فی عدم حرمته، بل یصیر حینئذٍ حکم نقل المیّت فی القسم الأول وقبل الدفن من الکراهة لو انتقل إلی غیرالمشاهد المشرّفة، وإلاّ لا کراهة فیه لو انتقل الیها، کما لا یخفی.

وأخری: مالو کان النقل بعد الدفن لأجل النقل الی المشاهد المشرّفة، فیه قولان:

1. الحرمة وهو ظاهر اطلاق کلام المصنّف، بل هو المشهور کما فی «الروض» و«الحدائق» وعن «المسالک» و«الکفایة»، بل لعلّها محصّلة، إذ هو خیرة عددٍ کثیر من الفقهاء من «السرائر» و«النافع» و«التذکرة» و«القواعد» و«المنتهی» و«المختلف» و«الذکری» و«البیان» و«کشف اللّثام»، وعن «الغریة» و«نهایة الأحکام» و«الاصباح»، وظاهر «المسالک». بل فی «السرائر»: «أنّه بدعة فی شریعة الاسلام» فهو أحد القولین فی المسألة، وقد اختاره صاحب «الجواهر» والسیّد الأصفهانی بالاحتیاط الواجب

2. الجواز بالجواز مالم یبلغ المیّت حالة یلزم من نقله هتکه أو مثلته، بأن یصیر متقطعا ونحوه، وقد حکم به جماعة کثیرة أیضا کما هو ظاهر «الروض» و«المدارک»، والمحکی عن أبی العباس فی «الموجز» والمحقّق الثانی فی «الجعفریة» و«جامع المقاصد». کما قیل إنّ الجواز لا یخلو عن قوة کما عن «فوائد الشرایع» و«حاشیة الارشاد» و«شرح الجعفریة»، والقید المذکور وقع فی کلام الثلاثة الأخیرة. بل وفی «المبسوط» وعن «النهایة» و«مختصر المصباح»: «ورود رخصته بالجواز سمعناها مذاکرة» إلاّ أنّه قال فی الاوّل: «الأفضل العدم» کما انّه فی الثانی: «والأصل ما قدّمناه»، وفی الثالث: «الأحوط العدم» ولعلّه یستفاد منه _ فی غیر «النهایة» _ الجواز.

ص:339

وفی «الجامع»: «یحرم نبشه بعد الدفن، ورویت رخصته فی جواز نقله إلی بعض المشاهد، سمعت مذاکرة»

وفی «المصباح»: «وإذا دفن فلا ینبغی نقله، وقد رویت روایة بجواز نقله إلی بعض المشاهد، والأوّل هو الافضل، مع ما سمعت الجواز من ابن حمزة وابن الجنید» کما اختاره صاحب «مصباح الفقه» و«مصباح الهدی» تبعا للسیّد فی «العروة»، وکثیرٌ من أصحاب التعلیق، وهذا هو الأقوی عندنا، وإنْ کان الأحوط ترکه لو لم یوص المیّت بذلک، والاّ فلا اشکال فی جوازه، بل هو الأحوط.

والتحقیق: تمسّک المانعون _ مضافا إلی الاجماع _ بأنّ الانتقال المستلزم للنبش حرام، لکونه مثلةً وهتکا، وإن کان ظاهر کلام بعضٍ موهمٌ لکون نفس النقل من دون النبش حرامٌ، کما هو ظاهر عبارة المصنّف و«القواعد» حیث قد عطفاهما معا، أی جعلا الحرم أولاً فی النبش والثانی فی نقل الموتی بعد دفنهم، حیث أنّ لازم هذا الکلام أنّ من ارتکب النقل بعد الدفن یکون قد ارتکب حرامین، والحال أنّه لیس الأمر کذلک، إذ من الواضح أنّه لو خَرج البدن عن القبر بسبب آخر وصار مکشوفا، وأراد النقل إلی المشاهد، فإنّه لیس بحرامٍ قطعا، بل غایته الکراهة.

فإذا صار وجه الحرمة هو النبش، فیدور الأمر فی أن وجه الحرمة لیس الاّ صدق الهتک والمثلة به، کما ورد ذکره فی کلام بعضٍ، فإذا لم نُسلّم ذلک _ أی صدق الهتک والمثلة فی النبش _ فلا یبقی حینئذ وجه للحرمة الاّ الاجماع، وهو:

اوّلاً: غیر معلوم التحقق، لکثرة القائلین بالجواز

وثانیا: أنّه لو سُلّم، فهو دلیل لبّی فیکتفی فیه بالقدر المتیقن، وهو فیما إذا أحرز فیه الهتک والمثلة، لا فیما لم یکن کذلک، کما هو مدّعی المجوّزین، وغایته الشک

ص:340

فی صدقه واحتمال کون النقل من قبره بعد الدفن بنفسه یعدّ هتکا للحرمة ومثلة به، بخلاف قبل الدفن، فلذا یحکم بالحرمة من دون نظرٍ إلی النبش

مدفوعُ کما فی «الجواهر» بانّه ممنوعٌ، بل هو مساوٍ لما قبل الدفن فی جمیع أحکامه، وأنّه یلزم اختصاص الحرمة بما إذا کان النقل من نفس القبر، وأمّا لو کان من غیره کما لو اتفق أنّه نبشه نابشٌ فأخرجه عن قبره فلا، بل اللازم اختصاص الحرمة بالآن الذی أخرج منه، أمّا بعد خروجه وارادة نقله فلا، مع أنّه لا اشکال فی جوازه.

وبالجملة: یظهر من جمیع ذلک أنّ الحرمة لو کانت، کانت من جهة استلزامه النبش الحرام، فلو لم نسلّم کونه هتکا ومثلة، فلا یبقی وجه للحرمة.

وما ذهب إلیه صاحب «الجواهر» من لحاظ: «اطلاق الاجماعات المنقولة، بل اطلاق أوامر الدفن وغیر ذلک، ممّا لا یمکن المساعدة علیه، لوضوح أنّ الحکم بالدفن استدامةً لما بعد الدفن لا یمنع حکم التخصیص المستفاد من الادلّة، أو من فقد وجه المنع فیه، کما لا یمنع تلک الأوامر للنقل قبل الدفن إذا أرید النقل إلی المشاهد، والاّ لزم منه القول بالحرمة لما قبل الدفن أیضا تحصیلاً لأمتثال تلک الأوامر. کما لا منافاة بینها وبین جواز النقل للدفن فی المشاهد قبل الدفن، هکذا یکون فی عدم التنافی بینهما لما بعد الدفن أیضا، کما لا یخفی. هذا کلّه مع امکان التأیید للجواز بالأخبار الواردة، والمرسلات المنقولة الدالة علی جواز النقل قبل الدفن وبعده، وبها تقیّد المطلقات الدالة علی المنع لو سلّمنا شمول لمثل المقام، والاّ یکون خروجه تخصصا لا تخصیصا، حتی یقال إنّه لا یمکن القول بالتخصیص بمثل تلک المرسلات لتلک الاطلاقات، خصوصا مع عدم جابریته بشیء، بل الشهرة هاهنا کائف قائمة علی خلافها، وموهنة لتلک

ص:341

المرسلات» هذا کما فی «الجواهر».

أقول: والمرسلات التی ورد ذکرها فی کلامه هی الأخبار التی قد نقلناها فی البحث السابق عن نقل بعض الموتی قبل الدفن مثل نقل نوح عظام آدم علیه السلام إلی الغری، ونقل موسی لیوسف علیه السلام إلی الشام. وکون ذلک وقع بعد الدفن وکونه فعل الشرع السابق، قد عرفت دفعه، فضلاً عن أنّه مورد للاستصحاب أیضا لو لا قیام دلیل علی المنع

مع أنّه ربما یکون لصلاح المیّت ونفعه فی الآخرة، ودفع الضرر عنه بمجاورته من هو أهل لذلک، بل قد عرفت التأیید بالأخبار المطلقة الدالة علی استحباب الدفن فی تلک الأراضی، الذی یشمل حتّی لما بعد الدفن، حیث لا تلاحظ النسبة حینئذٍ بین حرمة النبش وأدلة الجواز وکونها عموما من وجه فیرجّح جانب الحرمة، کما أشار الیه صاحب «الجواهر» قدس سره ، لأنّ کل ذلک یکون بعد الفراغ عن اطلاق ادلّة المنع حتی للمورد. وأمّا إذا قلنا بعدم اطلاقها وکون المقام خارجا عنها بالتخصّص لا بالتخصیص لاجل عدم صدق الهتک، فلا وجه حینئذٍ لملاحظة النسبة بینهما، کما لا یخفی.

أقول: إذا بلغ الکلام إلی هنا، فلا وجه للردّ علی دعوی المنع من بعض المتقدمین بدفن شیخنا المفید قدس سره فی داره ثمّ نقله إلی جوار الإمامین علیهماالسلام ، ودفن السیّد المرتضی والرضی رحمهما اللّه فی دارهما، ثمّ النقل إلی جوار سیّد الشهداء علیه السلام ، ونقل جنازة شیخنا البهائی إلی مشهد الرضا علیه السلام بعد دفنه باصبهان، بما فی «الجواهر»: «بأنّ نقل أولئک العلماء مع عدم ثبوته لا یقضی بکون ذلک رأی فضلاء الوقت، بل یکفی فیه تقلید الولی لواحدٍ، وإنْ کان الباقی علی خلافه، علی أنّ ذلک لیس من الحجج الشرعیّة» انتهی کلامه.

ص:342

لما قد عرفت من کون هذا العمل کان بمرأی العلماء الفقهاء العدول، والمتعصبین فی دینهم أشدّ منا علی دیننا،ولذلک نجد أنّ الشیخ محمّد تقی المجلسی قدس سره بعد نقله، الأخبار الدالة علی جواز النقل یقول: «إنّ النقل إلی المشاهد لم یکن مکروها فضلاً عن الحرمة، بل کان مستحبا لصلاح حال المیّت ونفعه بحسن جوار الأئمة علیهم السلام » حکم البکاء علی المیت

وعلیه، فالقول بالجواز قویّ جدّا، وإنْ کان الأحوط لو لم یکن فیه الوصیة ترکه حذرا عن مخالفة کثیرٍ من الفقهاء العظام رضوان اللّه تعالی علیهم، وحشرنا معهم فی جوارهم مع الائمة الأطهار علیهم السلام .

ولیکن فی ذکر منک أنّ الجواز انّما یکون فیما إذا لم یستلزم النبش والنقل ایذاءً للمسلمین، وتقطیعا لجسد المیّت بما یصدق علیه الهتک عرفا أزید ممّا یوجب بخصوص النبش إنْ سلّمناه، والاّ فلا یجوز لأجل ذلک، لا لحرمة خصوص النبش کما علیه فتوی الفقهاء، بل لعلّه مجمعٌ علیه، کما عرفت التقیید بذلک فی کلام «جامع المقاصد» و«الروض» هنا، بل ربما یظهر من الأردبیلی کون ذلک مجمعا علیه بینهم، واللّه العالم.

حکم البکاء علی المیّت

إنّ البکاء علی المیّت جائزٌ قطعا نصا وفتوی، للأصل والأخبار التی لا تقصر عن التواتر المعنوی، ولعلّ أقوی الشواهد علی ذلک ما دلّ علی بکاء النبی صلی الله علیه و آله علی حمزة، بل توبیخه لأهل المدینة وتألّمه لعدم وجود البواکی لحمزة کما رواه الصدوق، وقال: «لما انصرف رسول اللّه صلی الله علیه و آله من وقعه أحد إلی المدینة سمع من کلّ دارٍ قُتل من أهلها قتیل نوحا وبکاءا، ولم یسمع من دار حمزة عمّه، فقال صلی الله علیه و آله :

ص:343

لکنّ حمزة لا بواکی علیه، فآلی أهل المدینة أن لا ینوحوا علی میّتٍ ولا یبکون حتی یبدؤوا بحمزة فینوحوا علیه ویبکوه، فهم إلی الیوم علی ذلک»(1).

وکذلک بکاء رسول اللّه صلی الله علیه و آله لابنه إبراهیم، کما فی روایة ابن القداح، عن أبی عبداللّه علیه السلام فی حدیثٍ، قال: «لما مات إبراهیم ابن رسول اللّه صلی الله علیه و آله هملت عین رسول اللّه بالدموع، ثمّ قال رسول اللّه: «تدمع العین ویحزن القلب، ولا نقولُ ما یُسخط الربّ، وإنّا بک یا إبراهیم لمحزونون» الحدیث(2).

وخبر أبی بصیر، عن أحدهما علیه السلام قال: «لما ماتت رقیة بنت رسول اللّه صلی الله علیه و آله قال رسول اللّه صلی الله علیه و آله : الحقی بسلفنا الصالح عثمان بن مظعون وأصحابه. قال: وفاطمة علیهاالسلام علی شفیر القبر تنحدر دموعها فی القبر»(3).

بل وکذا ما روی الشیخ زین الدین فی «مسکّن الفؤاد» مرسلاً: «إنّ فاطمة علیهاالسلام ناحت علی أبیها وأنّه أمر بالنوح علی حمزة»(4)

وکذا الأخبار الواردة فی بکاء فاطمة علیهاالسلام وعلیّ بن الحسین علی أبیهما حتّی عدوّا من البکائین، وهو مثل خبر محمّد بن سهل البحرانی یرفعه الی أبی عبداللّه علیه السلام المرویّ عن خصال الصدوق، قال علیه السلام : «البکّائون خمسة: آدم ویعقوب ویوسف وفاطمة بنت محمّد صلی الله علیه و آله وعلی بن الحسین علیهماالسلام » الحدیث(5)

بل ربما یستفاد من بعض الأخبار استحبابه عند اشتداد الوجد لتحصیل السکینة:

منها: مرسل الصدوق، عن الصادق علیه السلام ، قال: «من خاف علی نفسه من وجدٍ


1- وسائل الشیعة: الباب 88 من أبواب الدفن، الحدیث 3.
2- وسائل الشیعة: الباب 87 من أبواب الدفن، الحدیث 3.
3- المصدر السابق، الحدیث 10.
4- المصدر السابق، الحدیث 7.
5- وسائل الشیعة: الباب 70 من أبواب الدفن، الحدیث 4.

ص:344

بمصیبته فلیخض من دموعه، فانّه یُسکن عنه»(1)

ومنها: خبر محمّد بن منصور الصیقل، عن أبیه، قال: «شکوتُ إلی أبی عبداللّه علیه السلام وجد أوجدته علی ابن لی هَلَک حتّی خفتُ علی عقلی. فقال: إذا أصابک من هذا شیءٌ فافض من دموعک فانّه یسکن عنک»(2).

بل وملاحظة مطالبة إبراهیم علیه السلام من اللّه سبحانه وتعالی ذلک وهو کما فی خبر محمّد بن الحسن الواسطی، عن أبی عبداللّه علیه السلام ، قال: «إنّ إبراهیم خلیل الرحمن سأل ربّه أن یرزقه ابنة تبکیه بعد موته»(3).

بل وکذا کثرة بکاء رسول اللّه صلی الله علیه و آله علی جعفر بن أبی طالب، المروی عن الصدوق، قال: «وقال الصادق: إنّ رسول اللّه صلی الله علیه و آله حین جائته وفاة جعفر بن أبی طالب وزید بن حارثة کان إذا دخل بیته کثر بکائه علیهما جدّا، ویقول: کانا یُحدّ ثانی ویؤنسانی فذهبا جمیعا»(4).

و غیر ذلک من الأخبار التی تدلّ علی جواز البکاء علی المیّت، وأنّه الأمور المباحة لا المذمومة ولا الممدوحة. بل قد عرفت صیرورته فی بعض المواقع _ کما عند الوجد _ ممدوحا، بل مأمورا به لو خاف علی نفسه الهلاکة بالترک.

نعم، یبقی أن نبحث عن بعض الأخبار التی یفهم منها الذمّ، مثل الخبر المرویّ عن معاویة بن وهب، عن أبی عبداللّه علیه السلام فی حدیث، قال: «کلّ الجزع والبکاء مکروه ما سوی الجزع والبکاء تقتل الحسین علیه السلام »(5).


1- وسائل الشیعة: الباب 87 من أبواب الدفن، الحدیث 5.
2- المصدر السابق، الحدیث 2.
3- وسائل الشیعة: الباب 70، من أبواب الدفن، الحدیث 3.
4- وسائل الشیعة: الباب 87، من أبواب الدفن، الحدیث 6.
5- وسائل الشیعة: الباب 87 من أبواب الدفن، الحدیث 9.

ص:345

فحمولٌ علی ضربٍ من التأویل، من کون الجزع والبکاء علی حِدٍّ یوجب عدم الرضا بقضاء اللّه سبحانه، التوأم بالمقالات الموهمة لذلک، أو حمل الکراهة علی ما لا أجر له ولا ثواب، کما قد یستشعر من استثنائه حیث کان فیه الأجر والثواب لمصیبة الحسین علیه السلام لا الکراهة بمعنی المذمّة.

نعم، یبقی هنا ما رواه البخاری ومسلم فی خبر عبداللّه بن عمران عن عائشة وحفصة أنّ النبیّ صلی الله علیه و آله قال: «إنّ المیّت یُعذّب ببکاء أهله»(1).

وروی أنّ حفصة بکت علی عُمر، فقال: مهلاً یا بنیّه ألم تعلمی أنّ رسول اللّه صلی الله علیه و آله قال: «إنّ المیّت یُعذّب ببکاء أهله»(2).

وقد تکفّل للجواب عنه الشهید رحمه الله فی «الذکری» تفصیلاً ومن أراد الاطلاع علیه فلیراجع إلیه

أقول أولاً: إنّهما روایتان عامیتان منقولتان عن مثل عایشة وحفصة وعبداللّه بن عمر ولا اعتبار بروایاتهم عندنا

وثانیا: قد کذّبها عایشة ذلک بردها ذلک علی ابن عمر، فقد روی مسلم عن هشام بن عروة، عن أبیه أنّه ذُکر لعایشة قول ابن عمر إنّ المیّت یُعذّب ببکاء أهله علیه، فقالت: رحم اللّه أبا عبد الرحمن، سمع شیئا فلم یحفظ، إنّما مَرّت علی رسول اللّه صلی الله علیه و آله جنازة یهودی وهم یبکون علیه، فقال: أنتم تبکون وإنّه لیعذّب»(3)، و لا یخفی أنّ مورد هذا الخبر _ علی فرض التسلیم بوروده _ هم


1- فی البخاری، ج 1، ص 195 وفی صحیح مسلم، ج 1، ص 342_344، کنزالعمال، ج 8، ص 90، الرقم 1725.
2- صحیح مسلم، ج 1، ص 341.
3- صحیح مسلم، ج 1، ص 344.

ص:346

الیهود، فلا یعمّ المسلمین.

وثالثا: إنّه لا یتفق مع العقل والنقل، کقوله تعالی: «وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَی»کما استشهد بها فی «الذکری» و«الجواهر» رحمهما اللّه.

ورابعا: لا یقاوم مثل الأخبار التی مرّت ذکرها، هذا وهناک أخبار أخری:

منها: ما یشتمل علی النهی عن البکاء، مثل خبر ابن أبی ملکیة، عن عائشة، قالت: «لما مات إبراهیم بکی النبی صلی الله علیه و آله حتّی جرت دموعه علی لحیته، فقیل: یا رسول اللّه صلی الله علیه و آله تنهی عن البکاء أنتِ وتبکی؟! فقال: لیس هذا البکاء، وإنّما هی رحمة، ومن لا یَرحم لا یُرحم»(1).

ومنها: روایة الصدوق مرسلاً، قال: «من الفاظ رسول اللّه صلی الله علیه و آله الموجزة التی لم یسبق إلیها: النیاحة من عمل الجاهلیة»(2).

ونظائر ذلک، ولا یخفی أن المراد منها هو البکاء المشتمل علی الحرام، من علوّ الصوت عند الأجانب، أو الشقّ واللّطم والجَزع الکاشف عن عدم الرضا لقضاء اللّه سبحانه وتعالی، والشاهد علی ذلک ما ورد فی وصیة رسول اللّه صلی الله علیه و آله لفاطمة علیهاالسلام حیث أمرها بأن لا تخدش وجهها ولا ترخی شعرها ولا تنادی بالعویل والصراخ لفقدها ایّاه صلی الله علیه و آله کما ورد فی خبر عمرو بن أبی المقدام(3).

ومن جمیع ذلک یظهر جواز النوح والنیاحة علی المیّت أیضا، لملازمته مع البکاء غالبا، بل الأخبار الواردة فی ذلک ترقی إلی حدّ الاستفاضة المعمول بها علی المشهور بین أصحابنا، بل فی «المنتهی» الاجماع علی جوازه إذا کان بحقّ


1- وسائل الشیعة: الباب 87 من أبواب الدفن، الحدیث 8.
2- وسائل الشیعة: الباب 83 من أبواب الدفن، الحدیث 2.
3- وسائل الشیعة: الباب 83 من أبواب الدفن، الحدیث 5.

ص:347

کالاجماع علی حرمته إذا کان بباطل، بل قد روی کما فی «البحار» أنّ فاطمة علیهاالسلام ناحت علی أبیها فقالت:

یا أبتاه مَن ربّه ما أدناه یا أبتاه إلی جبرئیل أنعاه

یا أبتاه أجاب ربّا دعاه(1).

کما رُوی عن علیّ علیه السلام أنّها أخذت قبضة من تراب قبر النبیّ صلی الله علیه و آله ، فوضعتها علی عینها، ثم قالت:

ماذا علی المشتم تربة أحمد صلی الله علیه و آله أنْ لا یشمّ مدی الزمان غوالیا

صبّت علیّ مصائب لو أنّها صُبّت علی الأیّام صِرن لیالیا(2)

وروی أنّ أمّ سلمة ندبت لابن عمّها المغیرة، کما ورد فی روایة الثمالی عن الباقر علیه السلام ، قال: «مات الولید بن المغیرة، فقالت أمّ سلمة للنبیّ صلی الله علیه و آله إنّ آل المغیرة أقاموا مناحةً فأذهب إلیهم؟ فأذن لها، فلسبت ثیابها وتهیّأت، وکانت من حُسنها کأنّها کان جانّ، وکانت إذاً قامت فأرْخَت شعرها جَلّل جسدها، وعقدت بطرفیه خلخالها، فندبت ابن عمّها بین یدی رسول اللّه صلی الله علیه و آله فقالت:

انعی الولید بن الولید أبا الولید فَتَی العَشیرة

حامی الحقیقة ماجد یسمو إلی طلب الوتیرة

قد کان غیثا فی السنین وجعفرا عدِقا ومیرة

فما عاب رسول اللّه صلی الله علیه و آله ذلک ولا قال شیئا»(3).

بل قد یستفاد من بعض الأخبار حسن ذلک إذا کان المندوب ذا صفاتٍ


1- البحار، ج 6، ص 1042، الطبعة القدیمة.
2- المغنی لابن قدامة: ج 2، ص 547.
3- وسائل الشیعة: الباب 17 من أبواب ما یکتسب به، الحدیث 2.

ص:348

یستحق الندب له، کما فی الصحیح لیونس بن یعقوب، عن الصادق علیه السلام : «أنّه قال لی أبی: یا جعفر أوقف لی من مالی کذا وکذا النوادب تندبننی عشر سنین بمنی أیّام منی»(1).

وقال الشهید فی «الذکری» بعد ذکر هذا الخبر: «إنّ المراد بذلک تنبیه الناس علی فضائله واظهارها لیتقدی بها، ویعلم ما کان علیه أهل هذا البیت لیقتضی آثارهم لزوال التقیة بعد الموت».

وقد سبق القول عن تألّم رسول اللّه صلی الله علیه و آله لعدم النیاحة علی عمّه حمزة رحمه الله ، ولذلک قام أهل المدینة بالنیاحة علیه اوّلاً ثمّ لأمواتهم، وقد استمروا علی ذلک زمنا طویلاً. وغیر ذلک من الأخبار الدالّة علی الترغیب بالنیاحة ممّا لا أثم فیه، وإنْ کان هناک أخبار تدلّ علی المذمة، وقد عمل الشیخ وابن حمزة علی المحکی عنهما بمضمونها، وقالا بعدم الجواز، وادّعوا علیه الاجماع.

لکن لابد من حمل ذلک علی القسم المشتمل علی الحرام من باب العمل نقاعدة الاطلاق والتقیید، بل یحتمل تنزیل کلامهما علیه، ویرشد إلیه دعوی الاجماع منه لما عرفت وجود مظنة الاجماع لما قلنا لا لما ادّعی کما هو ظاهر کلامهما.

حکم أخذ الأجرة علی النیاحة

بعد ما ثبت جواز النیاحة، یظهر حکم جواز أخذ الأجرة علیها، کما ورد التصریح بذلک فی بعض الأخبار إذا کان محلّلاً،

منها: فی مرسلة الصدوق، قال: «سُئل الصادق علیه السلام عن أجر النائحة؟ فقال: لا بأس


1- وسائل الشیعة: الباب 17 من أبواب ما یکتسب به، الحدیث 1.

ص:349

به، قد نیح علی رسول اللّه صلی الله علیه و آله »(1) ولا یخفی أنّ هذا الحکم موافق للاصول والقواعد.

ومنها: ما رواه فی «التهذیب» و«الفقیه» فی الصحیح عن أبی بصیر، قال: أبو عبداللّه علیه السلام : لا بأس بأجر النائحة التی تنوح علی المیّت»(2).

ومنها: ما ورد فی ذیل مرسل الصدوق المتقدم، ثمّ قال: «وروی أنّه لا بأس بکسب النائحة إذا قالت صدقا»(3). النیاحة علی المیت

ومنها: فی خبرٍ آخر تستحلّه بضرب إحدی یدیها علی الأخری، کما فی خبر ابن أبی عذافر قال: «سألت أبا عبداللّه علیه السلام من کسب النائحة؟ فقال: تستحلّه بضرب احداها علی الأخری»(4) لاسیّما إذا لم تشارط علی الأجر، وتقبل کلّ ما اعطیت لها، الوارد فی حدیث حنّان بن سدیر، قال: «کانت امرأة معنا فی الحیّ ولها جاریة نائحة، فجائت إلی أبی فقالت: یا عمّ أنت تعلم أنّ معشیتی من اللّه عزّوجلّ ثمّ من هذه الجاریة النائحة، وقد أحببتُ أن تسأل أبا عبداللّه علیه السلام عن ذلک، فإن کان حلالاً والاّ بعتها وأکلتُ من ثمنها حتّی یأتی اللّه تعالی بالفرج

فقال له أبی واللّه إنی لأعظم أبا عبداللّه علیه السلام أن أسأله عن هذه المسألة. قال: فلمّا قَدمنا علیه أخبرته أنا بذلک ،فقال علیه السلام : أتشارط؟ قلت: واللّه ما أدری تُشارط أم لا؟ فقال: قل لها لا تشارط وتقبل کُلّ ما اُعطیت»(5)

هذا وما ورد من النهی عنه بُحمل علی ما اشتملت علی الباطل والحرام فله وجه.


1- وسائل الشیعة: الباب 71 من أبواب الدفن، الحدیث 2.
2- وسائل الشیعة: الباب 17 من أبواب ما یکتسب به، الحدیث 7.
3- المصدر السابق، الحدیث 9.
4- المصدر السابق، الحدیث 4.
5- المصدر السابق، الحدیث 3.

ص:350

أقول: ولکن یُکره النوح باللّیل کما ورد فی حدیث خدیجة بنت عمر بن علی بن الحسین بن أبی طالب علیهم السلام ، أنّها قالت: «سمعتُ عمّی محمّد بن علی وهو یقول: إنّما تحتاج المرأة فی المأتم إلی النوح لتسیل دمعتها، ولا ینبغی لها أن تقول هجرا، فإذا جائها اللیل فلا تؤذّی الملائکة بالنوح»(1).

نعم، لا یجوز اللّطم والخدش وجَزّ الشعر اجماعا، کما حکاه الشیخ فی «المبسوط» لما فیه من السخط القضاء اللّه تعالی، ولما ورد فی الأخبار النهی عن ذلک، مثل روایة عمر بن أبی المقدام، قال: «سمعتُ أبا الحسن وأبا جعفر علیهماالسلام یقول فی قول اللّه عزّوجل «ولا یعصنیک فی معروفٍ» قال: إنّ رسول اللّه صلی الله علیه و آله قال لفاطمة علیهاالسلام إذا أنا متُّ فلا تخمشی علیّ وجها، ولا ترخی علیّ شعرا، ولا تنادی بالویل، ولاتقمین علیّ نائحة. قال: ثمّ قال: هذا المعروف الذی قال اللّه عزّوجلّ فی کتابه: «وَلاَ یَعْصِینَکَ فِی مَعْرُوفٍ»(2).

ولکن إذا قامت النانحة بفعل واحد من الأمور المذکورة، ففی بعضها مثل الخدش المدعی والجزّ للشعر کفارة دون اللّطم کما ورد فی حدیث خالد بن سدیر أخی حنّان بن سدیر، قال: «سألتُ أبا عبداللّه علیه السلام عن رجل شقّ ثوبه إلی أن قال: فإذا خدشت المرأة وجهها أو جزّت شعرها أو نتنفته، ففی جزّ الشعر عتق رقبة أوصیام شهرین متتابعین أو اطعام ستّین مسکینا، وفی الخدش إذا أدمیت وفی النتف کفارة حنث یمین، ولا شیء فی اللّطم علی الخدود سوی الاستغفار والتوبة، ولقد شققن الجیوب ولطمنَ الخدود الفاطمیّات علی الحسین بن علی علیه السلام ، وعلی مثله تُلطم الخدود وتُشقّ الجیوب»(3).


1- وسائل الشیعة: الباب 71 من أبواب الدفن، الحدیث 1.
2- وسائل الشیعة: الباب 83 من أبواب الدفن، الحدیث 5.
3- وسائل الشیعة: الباب 31 من أبواب الکفارات، الحدیث 1.

ص:351

ولا شَقّ الثوب علی غَیر الأب والأخ(1)

(1) عدم جواز شقّ الثوب فی غیرهما هو المشهور، کما علیه «الوسیلة» و«المنتهی» و«الارشاد»، ونسبه فی «المبسوط» إلی الروایة، بل و فی ظاهر «المدارک» نسبته إلی ظاهر الاصحاب، بل فی «الجواهر»: «فلا أعرف خلافا معتدا به فی حرمته بالنسبة للرجل فی غیر الأب والأخ»، بل فی المحکی عن «مجمع البرهان» دعوی الاجماع علیه کظاهر غیره، سوی ما یحکی عن کفارات «الجامع» لصاحب «الشرایع» حیث قال: «لا بأس بشقّ الانسان ثوبه لموت أخیه ووالدیه وقریبه، والمرأة لموت زوجها» لکنه ضعیف وموهونٌ بالاجماع بالنسبة إلی الرجل فی غیر الأب والأخ. حکم شق الثوب

نعم، ظاهر اطلاق کلام المصنّف عدم الفرق فیه بین الرجل والمرأة، لکن من الشیخین التصریح بالجواز للمرأة، بل علی جمیع الأقارب، أی بدون الاختصاص فیها للأب والأخ، کما قد یشعر ذلک اقتصار العلامة فی «القواعد» علی الرجل کما عن «النهایة» التصریح بذلک، ومال إلیه صاحب «المدارک» وکذا «الذکری»، کما عن المحقّق الثانی فی فوائد الکتاب. وقد یظهر من صاحب «الجواهر» استفادة منع الشق للرجال والنساء کما فی المتن، والمؤیّد بکونه اتلافا للمال وتضیعا له، ومنافیا للصبر والرضا بقضاء اللّه تعالی، وإنْ أنکر ذلک المحقق الهمدانی قدس سره لو لا وجود النهی، لأنّه مما یترتب علیه اقدام العقلاء فی مقاصدهم العقلائیة علی ارتکاب مثل هذه الأمور من دون أن یعدّ تبذیرا واسرافا کی یکون محرّما. وامکان تحقّقه علی وجهٍ لا یکون ساخطا بقضاء اللّه جلّ جلاله.

وکلامه لا یخلو عن وجه، لأنّه لو کان مثل هذه الأمور مانعا لما استثنی فی

ص:352

مثل الأب والأخ، مع صدق ذلک فی مثله أیضا، فیعلم أنّ المانع لیس إلاّ المنع الوارد فی الأخبار لحکمةٍ کانت فیه،

ونحن لا نعلمه، والقول بالاستثناء عن تلک المحرّمات مع وجودها فیه لها لا یخلو عن تأمّل وکیف کان، الوجه فی المنع هو ما عرفت من قیام الاجماع المستفاد من أخبار الباب،

منها: روایة الخزّاز عن رجلٍ، عن الصادق علیه السلام : «فی قول اللّه عزّوجلّ «ولا یعصینک فی معروفٍ» قال: المعروف أن لا یشققن جیبا ولا یلطمن خدا (وجها) الحدیث»(1).

ومنها: الخبر الصحیح المرویّ عن أبان

وغیر ذلک(2) ممّا یستفاد منه ذلک مثل ما ورد من الکفارة فی شقّ الزوج ثوبه لزوجتها، أو الوالد لولده، کما سنشیر إلیه فی خبر خالد بن سدیر.

وعلیه، فحرمته علی الرجل مسلّم، فالقول بالجواز مطلقا ضعیف.

ثمّ قد استدلّ بعضهم للجواز بالأصل عند الشک فی جوازه، وفرض فقد الدلیل علی المنع، لکن قد عرفت وجوده فیقطع الأصل به، مضافا إلی الاستدلال له بحدیث خالد بن سدیر أخی حنّان حیث قد تقدّم تفصیل الحدیث، وفیه وفی أوّله بعد أن سئل عن الصادق علیه السلام عن رجل شقّ ثوبه علی أبیه أو علی أمّه أو علی أخیه أو قریب له، قال: «لا بأس بشقّ الجیوب، قد شقّ موسی علی أخیه هارون، الحدیث»(3)، حیث اجاز ذلک.


1- وسائل الشیعة: الباب 116 من أبواب مقدمات النکاح وآدابه، الحدیث 2.
2- المصدر السابق، الحدیث 4.
3- وسائل الشیعة: الباب 31، من أبواب الکفارات، الحدیث 1.

ص:353

لکنه مندفع بأنّه وإن أجاز علیه السلام فی أوّله بصورة المطلق فی الجملة، الاّ أنّه یستفاد من المنع عن الوالد لولده وعن الزوج لمرأته ما ذکرنا من المنع فیتمسّک بعدم القول بالفصل بین الموردین وبین غیرهما، فیحکم بالحرمة لجمیع الموارد إلاّ ما استثنی من المرأة لزوجها والوالد لولده والأخ لاخیه، فلا یکون الحدیث مخالفا لما علیه المشهور أو الاجماع، مضافا إلی الضعف فی سنده، دون أن یوقم ما یجبره. بل یکون الاجماع أو الشهرة مخالفا وموهنا له کما لا یخفی.

وأیضا: استدلّوا للجواز وأفتی به علی کراهة صاحب «المدارک» فی غر الأخ والأقارب أو مطلقا، بروایة الحسن الصیقل _ أو عن امرأة الحسن الصیقل کما فی «الوسائل» _ عن أبی عبداللّه علیه السلام ، قال: «لا ینبغی الصیاح علی المیّت، ولا شقّ الثیاب [أو لا تشق الثیاب کما فی «الوسائل»(1)] بناءً علی نسخة غیر «الوسائل» یدلّ علی الکراهة لظهور کلمة (لا ینبغی) فیه.

والظاهر أنّه لا یکون مخالفا، لامکان ارادة الحرمة من کلمة (لا ینبغی) فی الأخبار، وقیل إنّها شایعة فیها، فلا أقل أنّه هنا یُحمل علی الحرمة بقرینة اقترانه مع الصیاح الذی عُدّ حراما لما ورد فی الأخیار من المنع عنه، لانّ الصیحة عبارة عن رفع الصوت والنداء بالویل والعویل فوق حدّ الاعتدال، وهو ممنوعٌ بقرینة حرمة ذلک بفهم حرمة الشقّ أیضا، حذرا عن احتمال کلمة واحدة وهی (لا ینبغی) فی المعنی المشترک بین الحرام والکراهة، أو عن الاستعمال فی الحقیقة والمجاز معا، مضافا إلی أن ما ورد فی نسخة «الوسائل» کان: «ولا تشقّ الثیاب»فیکون نهیا مستقلاً دالاً علی الحرمة، کما عرفت الاختلاف فی السند بین مرأة الحسن أو نفسه. مع أنّ فی «الذکری» ذکر (الصغار) بدل (الصیقل).


1- وسائل الشیعة: الباب 84 من أبواب الدفن، الحدیث 2.

ص:354

مع أنّه کیف یمکن الذهاب إلی کراهة شق الثوب، مع ورد النهی عنه فی أخبار کثیرة أزید بما عرفت:

ومنها: الروایة المحکیّة عن «البحار» عن «دعائم الاسلام» عن جعفر بن محمّد علیهماالسلام : «أنّه أوصی عند ما احتضر، فقال: لا یلطمنّ علیّ خَدّ ولا یشقن علیّ جیبٌ، فما من إمرأةٍ تشق جیبها إلاّ صدع لها فی جهنم صدع کلما زادت زیدت»(1).

ومنها: روایة «مسکّن الفؤاد» عن ابن مسعود، قال: «قال رسول اللّه صلی الله علیه و آله : «لیس منّا من ضرب الحخدود وشق الجیوب»(2).

ومنها: روایة أبی أمامة: «أنّ رسول اللّه صلی الله علیه و آله لعن الخامشة وجهها والشّاقة جیبها والداعیة بالویل والثبور»(3).

فثبت من جمیع ما بینّاه أنّه لا اشکال فی حرمة الشق للرجل، لو لم نقل بالمطلق حتّی یشمل المرأة، کما فی المتن، لأجل ما ورد فی حدیث خالد بن سدیر من تجویزه لها فی موت زوجها، مع أنّ الأحوط الترک لها أیضا لقوة أدلّة المنع وکثرتها، وضعف ما یقابلها، وعدم جابریتها من الشهرة لو لم ندّع خلافها.

نعم، لا اشکال فی جواز الشقّ فی الأب والأخ، ففی المرأة بطریق أولی إن أجزناه فیالرجل کما لا یعبد، بل جوازه فی الرجل قویّ، قضیة للأخبار المنقولة فیذلک.

وعلیه، فما نقل عن الحلیّ من الحکم بالحرمة مطلقا، حتّی فی الموردین، ضعفه ظاهر، لانّه محجوج بعدة أخبار:

منها: خبر الصدوق، قال: «لما قُبض علی بن محمّد العسکری علیه السلام رؤی


1- البحار، ج 82، ص 101.
2- البحار، ج 2، ص 93، ح 45.
3- البحار، ج 82، ص 93 ومسکّن الفؤاد، ص 99.

ص:355

الحسن بن علیّ علیه السلام وقد خرج من الدار وقد شقّ قمیصه عن خلف وقدّام»(1).

ومنها: خبر جماعة من بنی هاشم منهم الحسن بن الحسن الأفطس، أنّهم حضروا یوم توفی محمّد بن علی بن محمّد باب أبی الحسن یعزّونه، إلی أن قال: «إذ نظر إلی الحسن بن علی إذ جاء مشقوق الجیب حتّی قام عن یمینه»(2).

ومنها: روایة «کشف الغمّة» نقلاً من کتاب «الدلائل» لعبداللّه بن جعفر الحمیری، عن أبی هاشم الجعفری، قال: «خرج أبو محمّد علیه السلام فی جنازة أبی الحسن علیه السلام وقمیصه مشقوق، فکتب الیه ابن عون: مَنْ رأیت أو بلغک من الأئمة شقّ قمیصه فی مثل هذا؟

فکتب الیه أبومحمّد علیه السلام : یا أحمق وما یدریک ما هذا، قد شقّ موسی علی هارون»(3).

ومنها: ما نقله الکّشی إلاّ أنّه قال: «فکتب الیه أبو عون الأبرش...(4)

ومثله فی روایة ابراهیم بن الخضب، قال: «کتب أبو عون الأبرش قرابة نجاح بن سملة إلی أبی محمّد علیه السلام : إنّ النّاس قد استوهنوا من شقّک علی أبی الحسن علیه السلام ! فقال: «یا أحمق مالَک وذاک قد شقّ موسی علی هارون»(5).

ومنها: روایة الفضل بن الحارث، قال: «کنت بسرّ من رأی بعد خروج سیّدی أبی الحسن علیه السلام فرأینا أبا محمّد علیه السلام قد شقّ ثوبه»(6).


1- وسائل الشیعة: الباب 84 من أبواب الدفن، الحدیث 4.
2- المصدر السابق، الحدیث 3.
3- وسائل الشیعة: الباب 84، من أبواب الدفن، الحدیث 5.
4- المصدر السابق، الحدیث 6.
5- وسائل الشیعة: الباب 4 من أبواب الدفن، الحدیث 7.
6- المصدر السابق، الحدیث 8.

ص:356

مضافا إلی ما عرفت من روایة خالد بن سدیر، عن الصادق علیه السلام وقد مرّ ذکره وقد جاء فیه، فقال: «لا بأس بشقّ الجیوب، قد شقّ موسی بن عمران علی أخیه هارون»(1).

ولاجل کثرة الأخبار وعمل الامام علیه السلام سیّد الابرار، قلنا بجواز ذلک فی الموردین، بل فی «الجواهر»: «لا یبعد القول حینئذٍ بالاستحباب للتأسّی» فلا کراهة فیه لو لم نقل بالاستحباب فضلاً عن کونه حراما، بل ویظهر من الروایة الأخیرة وغیرها جواز التمسک بالأحکام الواردة فی الأمم السابقة والشرائع السابقة ما لم یرد دلیلٌ علی خلافها، کما اشار إلیه صاحب «الحدائق» هنا.

وأمّا جواز ذلک فی غیر الموردین للرجال بل النساء مشکلٌ، حیث لا دلیل علی جوازه إلاّ الاصل، وهو منقطعٌ ممّا عرفت.

وأمّا عمل الفاطمیّات الواقع فی حدیث خالد بن سدیر عن الصادق علیه السلام ، وفیه: «ولقد شققن الجیوب، ولطمن لخدود الفاطمیّات علی الحسین بن علی علیهماالسلام »(2).

ولکن یمکن أن یجاب عنه: أولاً بامکان أن یکون ذلک فعل من کان ذات الأب والأخ لا غیره حتّی یستفاد من تقریر الامام علیه السلام رضاه

وثانیا: علی فرض کون العمل لعموم الفاطمیّات أعم ممّن ذات الأب والأخ وغیرهما، کما هو الظاهر من اطلاق الفاطمیّات، یمکن استثناء مثل الانبیاء والأئمّة علیهم السلام خصوصا مثل سیّد الشهداء سلام اللّه علیه، کما یوص الیه ما ورد فی ذیله بقوله: «وعلی مثله تُلطم الخدود وتُشقّ الجیوب» خصوصا بما عرفت فی روایة معاویة بن وهب عن الصادق علیه السلام قال: «کُلّ الجزع والبکاء مکروه ما خلا


1- وسائل الشیعة: الباب 31 من أبواب الکفارات، الحدیث 1.
2- وسائل الشیعة: الباب 31 من أبواب الکفارات، الحدیث 2.

ص:357

الثانیة: الشهید یُدفن بثیابه(1) احکام الشهید

الجزع والبکاء لقتل الحسین علیه السلام »(1)، من استثناء ذلک فی حق سیّد الشهداء فی مثل الجزع المذموم فی حقّ غیره، فهکذا یکون فی مثل لطم الخدود وشقّ الجیوب کما أن شقّ المرأة الجیب لزوجها حیث قد ورد فی روایة خالد المتقدم حیث قد أفتی به بعض بضم عدم القول بالفصل فی حقّها لغیر الزوج، فیکون جایزا لا یخلو عن تأمّل، لکون الروایة مخالفة للمشهور، فضلاً عن ضعف سنده بما لا أنجبار فیه، لو لم یکن موهنا، فالأحوط هو ترک الشقّ للمرأة أیضا کما لا یخفی. واللّه العالم.

(1) دفن الشهید بثیابه واجبٌ اجماعا بقسمیه وفضلاً عن النصوص. سواءٌ أصابه الدم أم لا، بل عن «المعتبر» حکایة اجماع المسلمین علیه، وکذا المحقّق الثانی، واجماع العلماء کما فی «التذکرة» و«المدارک»، إذ خلافٌ بین علماء الاسلام إلاّ أنّه نُقل عن الشافعی وأحمد جواز التکفین بغیرها. وإنّ احتمال عدم ثبوت النقل المذکور، أو أرادوا العلماء بالاجماع فی أصل الجواز لا الوجوب محتملاً، ینافی مخالفة الشافعی وأحمد للاجماع حینئذٍ فی الوجوب.

ثمّ اعلم أنّ السراویل أیضا معدودة من الثیاب فمحکوم بحکمها وفاقا للأکثر، خلافا للمفید وسلاّر وابن زُهرة وأبی علی بأنه تُنزع إنْ لم یصبها الدّم، بل ظاهر ابن زُهرة کون ذلک تحت اجماعهم بالنزع، ولعلّ هذا حجتهم، ولقول أمیرالمؤمنین علیه السلام فی حدیث الزیدیة _ أی زید بن علی، عن آبائه علیهم السلام _ قال: «قال أمیرالمؤمیین علیه السلام : «ینزع عن الشهید الفرو والخف والقلنسوة والعمامة والمنطقة والسراویل، إلاّ أن یکون أصابه دم، فإنْ أصابه دم ترک، ولایترک علیه


1- وسائل الشیعة: الباب 78 من أبواب الدفن، الحدیث 9.

ص:358

شیء معقود إلاّ حلّ»(1).

لکنّه مندفع بعدم ثبوت دعوی الاجماع فی «الغنیة»، وعلی فرض الثبوت معارض مع دعوی الشیخ فی «الخلاف» بعدم النزع عنه إلاّ الجلود. والخبر المذکور مع ضعف سنده لا یقدر علی المقاومة مع النصوص الکثیرة الدالّة علی وجوب الدفن مع ثیابه الصادق علی السراویل:

ومنها: خبری أبان بن تغلب(2) وزرارة واسماعیل بن جابر، قالا: کیف رأیت الشهید یدفن بدمائه؟ قال: نعم فی ثیابه بدمائه الحدیث»(3).

کما أنّ الأمر کذلک فی القلنسوة والعمامة والمنطقة علی فرض صدق الثیاب علیها، وإن صرّح علیّ بن بابویه بالنزع بقوله: «لا ینزع منه شیئا الاّ الخُفّ والمنطقه والقلنسوه والعمامة والسراویل، فإنْ أصاب شیئا من ثیابه دمٌ لم ینزع عنه» کما نصّ علی ذلک فی «المقنعة» و«الغنیة» و«المراسم» و«السرائر» فی القلنسوة.

هذا وقد صرّح المفید علی أنّ العمامة لیست من الثیاب، قیل ولم یُدخلها الأصحاب فی الکسوة فی الکفارة، واختلفوا فیها فی الحبوة، فیظهر من الجمیع أنّ استثنائهم لتلک کان لأجل الشبهة فی کونها من الثیاب.

ولکن الأقوی عندنا صدق الثیاب علی جمیعها إلاّ فی بعض أفراد المنطقة، إذا کان من جنس الجلود، فحنیئذٍ یُنزع کما وقع فی المستثنی اجماع «الخلاف»، بل قد یقال فی غیر المنطقة الجلدیة أنّها یدفن مع الثیاب، وإنْ لم یدخل تحت الثیاب حقیقةً بالتبع فی الأمر بالدفن مع الثیاب کدخول طریق الدار فیها، ورسن الدابة بها فی البیع.


1- وسائل الشیعة: الباب 14 من أبواب غسل المیّت، الحدیث 10.
2- المصدر السابق، الحدیث 7.
3- المصدر السابق، الحدیث 8.

ص:359

یُنزع عنه الخُفّان والفرو، أصابهما الدّم أو لم یُصبهما علی الأظهر(1)

(1) هو الأشهر، بل لا خلاف فیه إذا لم یُصبهما الدّم، بل الاجماع بقسمیه علیه، بل وکذلک إنْ أصابهما الدّم علی المشهور، بل فی «الغنیة» دعوی قیتک الاجماع علیه، کما یدخل فی معقد اجماع «الخلاف» حیث قال: «إذا لم یکونا جلودا وهما جلود، خصوصا إذا لم یصدق علیه الثیاب قطعا، فیکون دفنه تضیعا للمال».

واحتمال شمول الدلیل الناطق بالدفن بدمائه لمثلهما، حتّی لو لم یصدق علیها الثیاب ممنوعٌ، حیث یمکن أن یکون المراد من الحکم بالدفن مع ثیابه اشارة علی عدم وجوب الغُسل والتغسیل، کما أن التمسک بقول أمیرالمؤمنین علیه السلام من الحکم بالترک مع إصابة الدم ضعیفٌ، لما قد عرفت الاشکال فیه. مع احتمال کون قید (إنْ أصابه دمٌ) متعلقا بالسراویل فقط لا بالجمیع. وعلیه فما فی «الوسیلة» و«السرائر» و«المراسم» و«نهایة الأحکام» الدفن معه لو أصابهما الدم ضعیف.

أقول: ولعلّ الوجه فی اختلافهم هو أنّهم اختلفوا فی صدق اسم الثوب علی الفرو وعدمه، فخروج الفرو مع عدم صدق الثوب علیه ثابتٌ، لاحتمال کون اسم الثوب صادقا علی خصوص ما یکون منسوجا، والفردیس منسوجا وعلیه فلا یشمله الحکم، أو علی اقلّ تقدیر یکون شموله له مشکوکا، وبالتالی فلا وجه حینئذٍ للحکم فیه الاّ من جهة ما عرفت من امکان الاستعانة بعموم ما ورد من قوله علیه السلام : «یدفن بثیابه وبدمائه» بل وکما روی صاحب «مجمع البیان» قال: «قال النبیّ صلی الله علیه و آله فی شهداء اُحد زملّوهم بدمائهم وثیابهم»(1) حیث یشمل الأمر دفنه مع کل ما معه.


1- وسائل الشیعة: الباب 14 من أبواب غسل المیّت، الحدیث 11.

ص:360

ولا فرق بین أن یُقتل بحدیدٍ أو غیره (1)

الرابعة: إذا مات ولد الحامل قُطّع وأخرج (2)

وکیف کان، مع احتمال عدم اختصاص عنوان الثوب بالمنسوج فقط، سیّما فی بعض أقسام الفرو، ینبغی التوقف شمول الحکم، مع أنّه قد لا یکون معه الاّ الفرو. المجرّد فیکفن، وهو کما تری، أو دعوی دفنه مجرّدا. هذا ولا یخفی أنّ الخفّ والفرو بحسب الحقیقة یعدّان من أفراد الجلود، فلابد من نزعهما، سواء أصابهما الدم أم لا، کما هو واضح.

(1) وتقدم الکلام عنه فی باب غُسل المیّت، کما ذکرنا حکم المسألة اللاحقة فیما سبق عند قوله قدس سره «الثالثة: حکم الصبی والمجنون إذا قتلا شهیدا حکم البالغ العاقل» وعلیه فلا حاجة للبحث عن حکمهما فی المقام.

(2) حکم وجوب قطع الولد واخراجه من بطن الأمّ إذا مات فی الرحم، ولم یمکن خروجه صحیحا أمرٌ ثابتٌ بین الفقهاء، بل (علیه الاجماع) کما فی «الخلاف»، و(مذهب الأصحاب) کما فی «المدارک»، بل یساعده الاعتبار لنجاة أمّه من التلف، وفرض عدم امکان خروجه بدون ذلک. هذا فضلاً عن امکان استفادة هذا الحکم من الحدیث المروی فی «الکافی» باسناده عن وهب بن وهب، عن أبی عبداللّه علیه السلام ، قال: «قال أمیرالمؤمنین علیه السلام : إذا ماتت المرأة وفی بطنها ولد یتحرّک، یشقّ بطنها ویخرج الولد. وقال: فی المرأة یموت فی بطنها الولد فیتخوّف علیها؟ قال: لا بأس بأن یدخل الرجل یده فیقطعه ویخرجه»(1)

وجاء فی روایةٍ فی موضع آخر مثله، الاّ أنّه قال: «یتحرّک ویتخوّف علیه» وزاد فی آخره: «إذا لم توفق النساء».


1- وسائل الشیعة: الباب 46 من أبواب الاحتضار، الحدیث 3.

ص:361

وفی روایة أخری رواها الحمیری فی «قرب الاسناد» عن السندی بن محمّد، عن أبی البختری وهب بن وهب مثله، الاّ أنّه ترک الحکم الاوّل.

لکن نوقش فی هذا الخبر _ کما عن «المعتبر» _ حیث قال بعد ذکر الخبر: «وهب هذا عامی ضعیف لا یُعمل بما ینفرد به. فالوجه أنه إن أمکن التوصل إلی اسقاطه صحیحا بشیءٍ من العلاجات، والاّ وتوصّل الی اخراجه بالأرفق فالارفق، ویتولّی ذلک النساء، فان تعذّرنّ فالرجال المحارم فان تعذّر فغیرهم دفعا عن نفس الحیّ» انتهی کلامه رفع مقامه. حکم ولد الحامل المیت

إنّ ضعف الراوی منجبرٌ بالاجماع وعمل الأصحاب، والترتیب المذکور فی کلامه هو الذی یقتضیه بالاُصول والقواعد، وعلیه ولا تکون الروایة منافیة لها، خصوصا بعد ملاحظة وجود الذیل بقوله: «أن ترفق النساء» أو «لم تتفق له النساء» کما فی بعض النسخ.

لعلّه رأی التنافی بین المذکور فی الذیل مع صدر الحدیث، حیث قال فی أوّله: «لا بأس بأنْ یُدخل الرجل یده... الی آخره» حیث لا یجوز ذلک ابتداءً لکنّه یجب أن یقیّد بالذیل وبالاصول والقواعد المسلّمة فی المقام.

وکیف کان، هناک تطابق بین مدلول هذا الحدیث مع فتوی الأصحاب، کما یؤید ذلک ما فی «فقه الرضا» بقوله: «وان مات الولد فی جوفها أدخل انسانٌ یده فی فرجها وقطع الولد بیده و اخرجه»(1)

کما هو موافقٌ لکلام بعض الأصحاب فقل قول الشیخ فی «الخلاف»، حیث قال: «فإنْ مات الجنین ولم یخرج والأمّ حیه، جاز للقابلة ومن تقوم مقامها أن تدخل یدها فتقطع الجنین وتخرجه» انتهی.

وعلیه، فحکم المسألة واضح لا کلام فیه. هذا کله إنْ مات الولد وأمّه حیّة.


1- المستدرک، ج 1، الباب 35 من أبواب الاحتضار، الحدیث 1.

ص:362

إن ماتت هی دونه، شُقّ جوفها وانتزع وخیط الموضع(1)

(1) وإن ماتت الأمّ وعلمنا بحیاة الجنین من خلال حرکاته أو من خلال الأجهزة الحدیثة، حیث یرون الولد ویشاهدون بنفسه وحرکاته ونَفَسه. فإن لم یمکن اخراجه من دون شقّ البطن، وجب ذلک لنجاة الولد صحیحا حیّا، (بلا خلافٍ أجده فیه عندنا) کما اعترف به الشیخ فی «الخلاف»، بل بلا خلافٍ ظاهر فیه بین العلماء) وفی «التذکرة» نسبته إلی علمائنا، بل یساعده الاعتبار، ویدل علیه الأخبار المستفیضة، بل فوق حدّ الاستفاضة کما فی «الجواهر»:

ومنها: صدر الروایة المتقدمة لوهب بن وهب.

ومنها: مرسل ابن أبی عمیر، عن بعض أصحابه، عن أبی عبداللّه علیه السلام : «فی المرأة یموت ویتحرّک الولد فی بطنها، أیشقّ بطنها ویخرج الولد؟ قال: فقال: نعم، ویخاط بطنها»(1).

ومثله خبر علی بن یقطین،(2) وهکذا روایة علی بن أبی حمزة(3) وتصّها مثل نصّ الروایات السابقة فی الدلالة علی المطلوب، وروایة أخری لعلیّ بن یقطین.(4)

ومنها: روایة الکّشی فی کتاب «الرجال» باسناده من ابن بکیر، عن محمّد بن مسلم أنّ امرأة سألته، فقالت: لی بنت عروس ضربها الطلق فی فما زالت تطلق حتّی ماتت والولد یتحرّک فی بطنها، ویذهب ویجیء، فما أصنع.


1- وسائل الشیعة: الباب 46 من أبواب الاحتضار، الحدیث 1.
2- المصدر السابق، الحدیث 2.
3- المصدر السابق، الحدیث 4.
4- المصدر السابق، الحدیث 6.

ص:363

قال: قلت: یا أمة اللّه سُئل محمّد بن علی الباقر علیه السلام عن مثل ذلک فقال: یُشقّ بطن المیّت ویستخرج الولد»(1).

هذه جملة أخبار تدلّ علی لزوم شقّ لبطن، ومعقد اجماع الخلاف موضع الشق من الجانبین أو وسط البطن، حیث أنّ مقتضی ظاهر الاطلاق جواز الشق لأی موضع من البطن، الاّ أن التقید بالایسر وقع فی کلام «الفقیه» و«المقنعة» و«المبسوط» و«الجامع» و«التذکرة» و«التحریر» و«جامع المقاصد»، وغیره من کتب الأصحاب من المتقدّمین والمتأخرین. بل فی «التذکرة» نسبته إلی علمائنا، ویشهد له ما فی «فقه الرضا» حیث کان التقید فیه بالأیسر.(2) لعلّه القدر المتیقن الموافق للاحتیاط بحسب فتوی الفقهاء، وهی تؤید ضعف فقه الرضا، وعلیه الأقوی حینئذٍ ملاحظة شقّ الأیسر، کما وقع فی «العروة»، وهو مختارنا ومختار أکثر المحققین فی عصرنا.

وأمّا حکم خیاطة الموضع: کما فی المتن فهو أیضا واجبٌ لوروده فی روایة «الکافی» عن ابن أبی عمیر، قال: «یخرج الولد ویُخاط بطنها» کما جاء لزوم الخیاطة فی روایة مرسلة أخری قال: «أیشقّ بطنها ویخرج الولد. قال: فقال: نعم، ویخاط بطنها».

وهو یکفی فی الحکم إذا الارسال فی مثل ابن أبی عمیر غیر قادح، لکونه من أصحاب الاجماع، أی ممّن اجتمعت العصابة علی تصحیح ما یصحّ عنه، وعلیه، فلا مجال أن نتوقف فی الحکم کما أشار إلیه المصنّف فی «النافع» بقوله بعد قوله: «یخیط الموضع» قال: «فی روایةٍ» ثم قال فی «المعتبر»: «إنّما قلنا فی روایةٍ لأنّها


1- المصدر السابق، الحدیث 8.
2- المستدرک، ج 1، الباب 37 من أبواب الاحتضار، الحدیث 1.

ص:364

روایة ابن أبی عمیر عن ابن اذنیة، وهی موقوفة، فلا تکون حجّة ولا ضرورة إلیه _ أی الخیاطة _ لأنّ مصیرها إلی البلاء» واستحسنه فی «المدارک».

مع انّک قد عرفت أن هنا خبر آخر رواه الکلینی مرسلاً عن ابن أبی عمیر فی «الکافی»، وهو حجّة ینبغی العمل به. هذا فضلاً عمّار ورد من لزوم حفظ حرمة المیّت وکرامته بالتغسیل والتکفین ولا یتمّ ذلک فی مثل هذه المرأة الاّ بخیاطة جانبها.

تنبیهٌ: لا فرق عندنا فی الشقّ المذکور: بین رجاء بقاء الولد بعد خروجه وعدمه، کما صرّح به بعض الأصحاب، ویقتضیه اطلاق الباقین کالأدلّة

ولابین وجود القوابل وعدمه کما عرفت، خلافا للمحکّی عن الشافعی وأحمد من أنّ: «القوابل یُخرجنه من غیر شقّ، فإنْ فُقِدن تُرک حتّی یموت ثُم تدفن الأمّ معه» بناءً علی أنّ مثل هذا الولد لا یعیش عادةً فلا ینبغی هتک حرمة الأم لمثله لأمر موهوم، وهو کما تری ممّا لا یقبله الذوق السلیم، فضلاً عن الشرع المبین.

نعم، والشقّ واجب عند القطع بحیاة الولد فی بطنها بعد موت أمّها، وأمّا مع عدم القطع فالظاهر حرمة الشق محافظة لحرمة المیّت، ولا یثمر استصحاب حیاتها قبل موت أمّها. نعم، یجب الانتظار حتّی یقطع بموته لو کان حیّا لعدم التلازم بین الأمرین.

وأمّا لو کانا حیّین معاً وخشی الموت علی کلّ منهما، فالظاهر الصبر إلی أن یقضی اللّه أمرا کان مفعولاً ولا ترجیح شرعا لتقدیم أحدهما علی الآخر، والأمور الاعتباریة المتداولة کثیرا فی عصرنا، من غیر وجود دلیل شرعی علیها لا یلتفت إلیها، واللّه العالم بحقائق الأمور.

هذا آخر ما توفقّت له بمشیئة اللّه عزّوجلّ من تسوید وجوه هذه الصفحات فی بحث أحکام الأموات، وسیتلوه إنْ شاء اللّه بحث الأغسال المسنونة، ونستعین باللّه عزّوجلّ نسأله التوفیق والأمن والصحّة والعافیة وحسن العاقبة تحت رعایة

ص:365

مولانا الامام الحجّة بقیّة اللّه الأعظم روحی وأرواح من سواه فداه وعجّل اللّه تعالی فرجه الشریف. وکان ختام البحث آخر تیر جمادی الأولی سنة 1427 من الهجرة النبویّة الشریفة الموافق لیوم الخامس من شهر یتر سنة 1385 هجریّة شمسیة. وأنا أقلّ العباد المحتاج إلی رحمة ربّه یوم التناد، الحاج السیّد محمّد علی العلوی الحسینی الأسترآبادی المشهور بالگُرگانی، ابن المرحوم آیة اللّه الحاجّ السیّد سجّاد العلوی رحمة اللّه علیه، وآخر دعوانا أن الحمدُ للّه ربّ العالمین.

* * *

ص:366

قوله قدس سره : وأمّا الاغسال المسنونة، فالمشهور منها ثمانیة وعشرون غُسلاً. (1)

بعد الفراغ عن بحث الأغسال الواجبة، یصل الدور الی البحث عن الأغسال المسنونة:

(1) لا یخفی أنّ المرأة من المسنونة ما کانت کذلک بالأصل والذات، والاّ فقد تجب بالعارض النذر وأخویه، أو بأمر الوالد والحاکم، کما أنّ المراد بالواجبة فی السابق أیضا هو کذلک، وإلاّ فقد تکون مستحبة من جهة الغایة ونحوها. الأغسال المسنونة

ثمّ إن المعروف والمشهور أنّ عددها ثمانیة وعشرون، والاّ فإنّ الأقوال فی تعدادها متفاوتة، کما أشار الی ذلک صاحب «العروة» بقوله: «وهی کثیرة، وعدّ بعضهم إلی سبع وأربعین، وبعضهم إلی خمسین، وبعضهم إلی أزید من ستّین وبعضهم إلی سبع وثمانین وبعضهم إلی مأة» انتهی.

ولأجل ذلک قال صاحب «الجواهر» قدس سره : «ففی «النفلیة» أنّه یستحبّ الغسل لخمسین، بل فی «المصابیح» أنّ الأغسال المندوبة المذکورة هنا تقرب من مائة وإنْ قال أنّ الثابت من هذا الأغسال بالنصّ أو غیره أکثر من ثمانین» انتهی.

وفی «المستند»: «أنّ بعض الأجلّة عدّ منها نیّفا وستّین».

أمّا المصنف فقد التزم بقول المشهور وذهب الی أن الأغسال المسنونة لا تتجاوز ثمانیة وعشرون غُسلاً.

ص:367

غُسل الجمعة

قوله قدس سره : ستّة عشر للوقت، وهی: غُسل یوم الجمعة(1)

(1) استحبابه هو المشهور بین الأصحاب شهرةً کادت تکون اجماعا، وأقرّ به صاحب «الجواهر» بقوله: «بل هی کذلک، لانقراض الخلاف فیه علی تقدیره، بل لم تعرف حکایته فیه بین من تقدّم من أصحابنا کالمفید، بل ظاهره عدمه فی «المقنعة» حیث قال: وأمّا الأغسال المسنونة فغُسل یوم الجمعة سنّةٌ للرجال والنساء، وغُسل الاحرام سنّة أیضا بلا اختلاف. وکذا ابن حمزة حیث قسّم الغُسل إلی: فرضٍ وواجب ومختلف فیه ومندوب، وصدّر المندوب بغُسل الجمعة. وعن «شرح الجُمل» لابن البرّاج: غُسل الجمعة من السنن المؤکدة عندنا، ونقل القول بالوجوب عن بعض العامّة. وظاهر کلمة (عندنا) هو الاجماع.بل وکذا فی «التهذیب» وصریح «الغنیة» وموضعین من «الخلاف» الاجماع علیه، بل فی أحدهما نسبة القول بالوجوب إلی أهل الظاهر داود وغیره. هذا بالنسبة إلی کلام المتقدّمین. نعم، قد عرف ذلک من المصنّف والعلاّمة ومن تأخر عنهما، فنسبوا القول بالوجوب إلی الصدوقین، والظاهر أنّ القائلین فی ظاهر کلامهم أو المیل إلیه یکون عددهم إلی خمسة أو أزید من الصدوقین والکلینی ووالده والشیخ البهائی فی «حبل المتین»، بل وکذا یظهر المیل إلیه، وأیّده الشیخ سلیمان بن عبداللّه البحرانی کما فی «الحدائق». بل قد یظهر ذلک من العلاّمة فی «المختلف» بعد التحقیق فی لفظ السّنة والواجب، ثمّ قال فی آخر

ص:368

کلامه: علی المحکّی فی «الحدائق» قال: وبهذا یظهر أنّ قول الصدوقین غیر بعید عن الصواب» انتهی.

أقول: أراد صاحب «الجواهر» توجیه کلامهم حتی لا یکونوا مخالفین، فذهب الی أن مرادهم من السّنة هو الاستحباب المرسوم فی زمانهم، وأمّا قید الواجبة المنضّمة إلیها کان لأجل بیان التأکید، أی أنّ غُسل الجمعة من الأغسال المندوبة المؤکدة، ثمّ استشهد لکلامه وتوجیهه بما جاء فی کلام الصدوق رحمه الله فی أمالیه، حیث قال إنّ استحباب غُسل الجمعة والقول به من الأحکام الثابتة عند الامامیّة، ثمّ قال: والکلینی ووالده من أجلاّء الامامیّة، فکیف یمکن اخراجهما عن اتفاقهم؟! فیُعلم أنّ الجمیع قائلون بالاستحباب لا الوجوب.

هذا بالنظر إلی أقوال الفقهاء.

وأمّا بیان المختار فی المسألة: فلابد من ذکر الأخبار والأدلّة وملاحظة دلالتها، والجمع بینهما إنْ کانت متعارضة فنقول: نتعرّض أوّلاً للأخبار المتضمّنة لبیان الوجوب أو ما یستفاد منها ذلک، وهی عدّة روایات بعضها صحیحٌ وبعضها الأخر حسنة، فلا بأس بذکرها، فنقول ومن اللّه الاستعانة:

فمنها: روایة الکلینی باسناده عن عبداللّه بن المغیرة، عن أبی الحسن الرضا علیه السلام ، قال: «سألته عن الغُسل یوم الجمعة؟ فقال: واجب علی کلّ ذکرٍ أو أنثی عبد أو حرّ»(1).

ورواه الشیخ باسناده عن محمّد بن عبداللّه بن المغیرة، مثله.

ومنها: روایة زرارة فی الصحیح، قال: «قال أبوجعفر علیه السلام : لا تدع الغُسل یوم


1- وسائل الشیعة: الباب 6 من ابواب الاغسال المسنونة، الحدیث 3.

ص:369

الجمعة... إلی أن قال: وقال: الغُسل واجبٌ یوم الجمعة»(1).

ومنها: روایة البزنطی، عن محمّد بن عبداللّه (عبیداللّه)، قال: «سألت الرضا علیه السلام عن غسل یوم الجمعة؟ فقال: واجب علی کلّ ذکر وأنثی من عبدٍ أو حرّ»(2).

ومنها: محمّد بن مسلم فی الصحیح، عن أحدهما علیهماالسلام ، قال: «اغتسل یوم الجمعة إلاّ ان تکون مریضا أو تخاف علی نفسک»(3).

ولا یخفی أنّ ظاهر الأمر فی الوجوب، خصوصا مع ملاحظة مع ما فی المستثنی. ومنها: روایة اُخری لزرارة المحکیّة عن الصدوق باسناده إلیه، عن أبی جعفر علیه السلام فی حدیث الجمعة، قال: «والغُسل فیها واجب»(4).

ومنها: الروایة المرفوعة لمحمّد بن أحمد بن یحیی، قال: «غُسل الجمعة واجب علی الرجال والنساء فی السفر والحضر، الاّ انّه رُخصّ للنساء فی السفر لقلّة الماء»(5).

ومنها: الروایة المرسلة التی رواها المفید فی «المقنعة» عن العبد الصالح علیه السلام ، أنّه قال: «یجب غُسل الجمعة علی کلّ ذکر وأنثی من حرٍّ أو عبدٍ»(6).

ومنها: روایة ابن عمر، قال: «قال رسول اللّه صلی الله علیه و آله من جاء إلی الجمعة فلیغتسل»(7) حیث أنّ ظاهر الأمر هو الوجوب.


1- المصدر السابق، الحدیث 5.
2- المصدر السابق، الحدیث 6.
3- وسائل الشیعة: الباب 6 من أبواب الاغسال المسنونة، الحدیث 11.
4- المصدر السابق، الحدیث 13.
5- المصدر السابق، الحدیث 17.
6- المصدر السابق، الحدیث 20.
7- المصدر السابق، الحدیث 21.

ص:370

ومنها: روایة حریز عن بعض أصحابنا، عن أبی جعفر علیه السلام ، قال: «لابدّ من الغسل یوم الجمعة فی السفر الحضر، ومن نسی فلیعد فی الغد»(1).

بل قد یستفاد الوجوب من روایة عمّار الساباطی، قال: سألت أبا عبداللّه علیه السلام عن الرجل ینسی الغُسل یوم الجمعة حتّی صلّی؟ قال: إذا کان فی وقت فضیلة یغتسل ویعید الصلاة، وإنْ مضی الوقت فقد جازت صلاته»(2).

ومنها: روایة أبی بصیر أنّه سأل أبا عبداللّه علیه السلام : «عن الرجل یدع غُسل یوم الجمعة ناسیا أو متعمدا؟ فقال: إذا کان ناسیا فقد تمّت صلاته وإنْ کان متعمدا فلیستغفر اللّه ولا یعد»(3).

هذه جملة أخبارٍ قد تمسّک بها عن ذهب الی وجوب الغُسل فی یوم الجمعة.

وفی قبال هذه الأخبار عدّة نصوص تدلّ علی کونه مندوبا وسنّة:

منها: روایة علی بن یقطین فی الصحیح، قال سألت أبا الحسن علیه السلام عن الغُسل فی الجمعة والأضحی والفطرة؟ قال: سُنّة ولیس بفریضة»(4).

وهذا الخبر _ مضافا إلی التصریح فیه بالسنة وتعقیبه بقیدٍ توضیحی تصریحی بأنّه ولیس بفریضة _ قد قرن غسل الجمعة بما هو مسنون قطعا وهو غُسل العیدین.

ومنها: روایة زرارة فی الصحیح عن أبی عبداللّه علیه السلام ، قال: «سألته عن غسل یوم الجمعة؟ فقال: هو سنة فی الحضر والسفر، الاّ أن یخاف المسافر علی نفسه القرّ»(5) یعنی البرد، وهذا الخبر صریح فی خلال لفظ (السّنة) علی أن الغُسل مستحبٌ.


1- وسائل الشیعة: الباب 10 من أبواب الاغسال المسنونة، الحدیث 1.
2- وسائل الشیعة: الباب 8 من أبواب الاغسال المسنونة، الحدیث 1.
3- وسائل الشیعة: الباب 8 من أبواب الاغسال المسنونة، الحدیث 2.
4- وسائل الشیعة: الباب 6 من أبواب الاغسال المسنونة، الحدیث 9.
5- المصدر السابق، الحدیث 10.

ص:371

ومنها: روایة علیّ، قال: «سألت أبا عبداللّه علیه السلام عن غُسل العیدین أ واجب هو؟ قال: هو سنة. قلت: فالجمعة قال هو سنّة»(1).

ومنها: الروایة المرسلة للمفید فی «المقنعة»، قال: «وردت عن أبی عبداللّه علیه السلام أنّه قال: غسل الجمعة والفطر سنّة فی السفر والحضر»(2)،

والأخبار الدالّة علی ذلک بالکنایات والاشعارات أزید من ذلک. والبحث المهمّ حینئذٍ هو عن کیفیّة الجمع بینهما مع وجود التعارض فیها:

أقول: من ذهب إلی الوجوب _ کالشیخ البهائی فی «الحبل المتین» _ حمل الأخبار الدالّة علی السنّة علی ما ثبت وجوبه بالسنّة، فی قبال ماهو واجب بالکتاب، وأنت خبیر بأنّ الجمع بینهما بحمل السنّة علی ما ثبت وجوبه بالسنّة، والفریضة علی ما ثبت وجوبه بالکتاب غیر بعید، بل وهو اصطلاح للصدوق فی «الفقیه» کما یشعر به قوله: «الغُسل کلّه سُنة ماعدا غُسل الجنابة» مما یعنی أنّ غُسل الجنابة هو الوحید الذی ورد فی القرآن فی قوله تعالی «وان کنتم جنبا فاطّهروا» أمّا سائر الأغسال: کالحیض والنفاس والاستحاضة والأموات ومسّ المیّت واجبة أیضا الاّ انّها ثابتة بالنصوص والسنّة لا الکتاب، کما وردت الاشارة الی ذلک فی روایات عدیدة مثل ما ورد فی «التهذیب» عن الرضا علیه السلام بطرق عدیدة: عن الغُسل من الجنابة فریضة وغسل المیّت سنة»(3).

قال الشیخ: یرید أنّ فرضه عُرف من جهة السنّة، لأنّ القرآن لا یدلّ علی فرض


1- المصدر السابق، الحدیث 19، وفی«الحدائق» والظاهر انّه ابن حمزة _ لو کان الأمر کذلک فضعفه واضح.
2- المصدر السابق، الحدیث 19.
3- وسائل الشیعة: الباب 18 من أبواب التمیم، الحدیث 4 ومثله حدیث 1 أیضا.

ص:372

غُسل المیّت، کما أشار إلی ذلک ما رواه عن سعد بن أبی خلف، قال: «سمعتُ أبا عبداللّه علیه السلام یقول: الغُسل فی أربعة عشر موطنا، واحد فریضة والباقی سنة»(1).

وحملُ السنة علی هذا المعنی لیس بأبعد من حمل الوجوب علی المبالغة فی الاستحباب، کما یفعله القائلون بالندب.

واحتمال کون الوجوب حقیقة شرعیة فی المعنی المصطلح، أی الوجوب فی مقابل السنّة والاستحباب، لیس بأقوی من جریان هذا الاحتمال مثله فی السنّة، وعلیه فکلا الاحتمالین متعارضین لا یمکن تقدیم أحدهما علی الآخر. وبالتالی فوجه التقدیم لیس الاّ ما عرفت.

أقول: وبما ذکرنا ظهر وجه القائلین بالاستحباب حیث اعتمدوا علی الأخبار المشتملة علی حکمة (السّنة) وحملوها علی المعنی المصطلح فیها وهو الندب، وحملوا الوجوب علی المعنی اللغوی أی الثبوت، أو علی الاستحباب المؤکّد، لعدم ثبوت کون الوجوب فی ابتداء الشرع حقیقة فی المعنی الاصطلاحی المتداول فی زماننا.

هذا هو الوجه لبیان القولین، فلابدّ حینئذٍ من ملاحظة أنّ أیّهما یقدم علی الآخر لیکون هو المختار، فنقول:

الذی یقوی فی النظر ما هو علیه المشهور من الاستصحباب، لوجود قرائن کثیرة دالّة علی ذلک، فلا بأس بذکرها:

فمنها: اقتران غُسل الجمعة مع ما هو مسلّم بین الفقهاء من کون غسله مندوبا، مثل غسل العیدین.

ومنها: أنّ احتمال کون (السنّة) بمعنی ماهو الواجب بالسنّة غیر جارٍ فی مثل


1- وسائل الشیعة: الباب 1 من أبواب الجنابة، الحدیث؟؟؟.

ص:373

روایة علیّ بن أبی حمزة بقوله: «أ واجب هو؟ قال: هو سنّة» فإنّ الواجب لا یُطلق الاّ فی مقابل السنّة بالمعنی الاصطلاحی، بخلاف الفریضة؛ فهذا دلیل علی أنّ المراد هو الاستحباب کما لا یخفی.

ومنها: ما وقع فیه الترخیص للنساء فی السفر بقلّة الماء، حیث لا یناسب ذلک مع الوجوب، لوضوح أنّه لو کان الأمر کذلک فإنّه لا فرق فی الحکم بین النساء والرجال، لأنّ قلة الماء إن کان عذرا کان لهما، والاّ فلا یکون لأحدهما أیضا، فبذلک یفهم کون المراد من ذلک هو الاستحباب المؤکد، فیفصّل حینئذٍ بین الرجال والنساء بأن یکون الحکم فی الرجال آکد من النساء.

ومنها: ما ورد فی خبر الحسین بن خالد، قال: «سألت أبا الحسن الأوّل علیه السلام کیف صار غسل الجمعة واجبا؟ فقال: إنّ اللّه أتمّ صلاة الفریضة بصلاة النافلة، وأتمّ صیام الفریضة بصیام النافلة، وأتمّ وضوء النافلة (الفریضة) بغُسل یوم الجمعة، ما کان فی ذلک من سهوٍ أو تقصیرٍ أو نسیانٍ أو نقصان»(1).

حیث یستفاد منها أنّ المتمّم والمکمّل یتحقّق بأمرٍ استحبابی لا بأمر وجوبی، فیفهم أنّ استعمال الوجوب فی السؤال أیضا یکون فی غیر معناه المصطلح، کما لا یخفی.

ومنها: استعمال لفظ (التطوّع) الذی مورد استعماله فی الأخبار کثیرا ما یکون فی المندوب، وهو کما فی خبر أبی البختری، المروی عن «جمال الإسبوع» عن جعفرٍ، عن أبیه علیهماالسلام ، عن النبیّ صلی الله علیه و آله ، أنّه قال: «یا علیّ علی النّاس فی کلّ سبعة أیّام الغُسل، فاغتسل فی کلّ جمعة، ولو أنّک تشتری الماء بقوت یومک وتطویه فانّه لیس شیء من التطوّع بأعظم منه»(2).


1- وسائل الشیعة: الباب 6 من أبواب الاغسال المسنونة، الحدیث 7.
2- المستدرک، ج 1، الباب 3 من أبواب الاغسال المسنونة، الحدیث 9.

ص:374

ومنها: ما هو المحکی فی «الجواهر»: «عن خصال الصدوق، المرویّ عن جابر الجُعفی، عن الباقر علیه السلام من التصریح بعدم وجوب الغُسل یوم الجمعة للناس فی السفر والحضر(1) فیتمّ بالاجماع المرکب، أی لیس فی المسألة قائلٌ بالتفصیل فی الوجوب فی الرجال والندب فی النساء، فیلحق الرجال بالنساء فی عدم الوجوب».

ومنها: ما فی بعض الأخبار من جعل غُسل الجمعة فی عداد المندوبات فی یوم الجمعة، وهو مثل ما ورد فی «فقه الرضا»، قال: «وعلیکم بالسنن یوم الجمعة وهی سبعة: اتیان النساء، وغَسل الرأس واللّحیة بالخطمی، وأخذ الشارب، وتقلیم الأظافر وتغییر الثیاب، ومسّ الطیب، فمن أتی بواحدة من هذه السنن نابت عنهنّ وهی الغُسل... إلی ان قال: وانّما سُنّ الغُسل یوم الجمعة تتیمما لما یلحق الطهور فی سائر الایّام من النقصان»(2).

أقول: هذه جملة من القرائن الدالّة علی حمل الوجوب فی الأخبار السالفة علی غیر المعنی الاصطلاحی فی عرف المتشرّعة، لو لم نقل کونه کذلک فی عرف الشرع فی صدرالاسلام، کما یدعیه بعضٌ منهم صاحب «الجواهر» قدس سره .

وعلی ذلک، لا یبعد کون المراد من الوجوب المستند إلی الصدوق وغیره هو هذا المعنی المقصود فی الأخبار، لانّهم کانوا معتمدین ومقیّدین بتطبیق فتاواهم مع لسان الأخبار والسنّة، کما یمکن ملاحظة ذلک فی کلام والد الصدوق فی کتابه المسمّی بالشرائع حیث طابق فتواه بما ورد فی لسان الأخبار، وأیضا ممّا یؤیّد ذلک ما عرفت آنفا من کلام الصدوق فی «الأمالی» من اسناد الندب فی غُسل یوم الجمعة إلی الامامیّة.


1- الجواهر، ج 5، ص 5؛ المستدرک، ج 1، الباب 3 من أبواب الاغسال المنسونة، الحدیث 3.
2- کتاب فقه الرضا، ص 11 علی ماهو المحکی فی الحدائق، ج 4، ص 222 عنه.

ص:375

وبالجملة: بملاحظة ما ذکرنا من الجمع بین الطائفتین من الأخبار، یرتفع التعارض بینهما، فلا نحتاج حینئذٍ إلی الجمع بینهما عن طریق اصالة الجهة، بحمل أخبار الوجوب علی التقیة لذهاب أکثر الجمهور إلی الوجوب، کما علیه بعضٌ علی المحکی فی «الحدائق». نعم یصحّ هذا لو عجزنا عن علی الجمع الذی قلناه وألحّ الخصم فی الاصرار علی حفظ الوجوب علی ظاهره وهو المعنی الاصطلاحی، والسنّة علی ظاهرها وهو الندب بمعناه المتعارف الاصطلاحی، فیقع التعارض، ویجب حمل الوجوب حینئذٍ علی التقیة فیترک ویؤخذ بخلافه لأنّ الرشد فی خلافهم کما فی الروایة.

هذا فضلاً عن أنّ المشهور قد أعرضوا عن الأخبار الدالة الوجوب، لو سلّمنا ظهورها فیه، والاعراض کما أنّه موهنٌ لتلک الاخبار، مؤید وجابر للأخبار الدالّة علی الاستحباب لو کان فی سند بعضها ضعف، کما لا یخفی.

هذا مع أنّه لو أغمضنا عن جمیع ما بیّناه، وسلّمنا التکافؤ بین الطائفتین، وصار المقام فی موارد اجمال النصّ، یسقط کلام الطرفین عن الاستدلال بهما، وبعد التساقط یجب الرجوع إلی الاصول العملیة وهو هنا البراءة الشرعیّة من (رُفع مالا یعلمون) والبراءة العقلیة من قُبح العقاب بلا بیان، وإنْ کان الاحتیاط هنا بعدم الترک قویّا، لأجل دلالة بعض الأخبار علی الاتیان به استعجالاً فی یوم الخمیس:

منها: خبر حسین بن موسی بن جعفر، عن أمّه وامّ أحمد ابنة موسی بن جعفر علیهماالسلام قالتا: «کنّا مع أبی الحسن علیه السلام بالبادیة ونحن نرید بغداد، فقال لنا یوم الخمیس اغتسلا الیوم لغد یوم الجمعة، فإنّ الماء بها غدا قلیل، فاغتسلنا یوم الخمیس لیوم الجمعة»(1).


1- وسائل الشیعة: الباب 9 من أبواب الاغسال المسنونة، الحدیث 2.

ص:376

ومنها: الروایة المرسلة عن محمّد بن الحسین، عن أبی عبداللّه علیه السلام ، قال: «قال لأصحابه: إنّکم تأتون غدا منزلاً لیس فیه ماء فاغتسلوا الیوم لغدٍ، فاغتسلنا یوم الخمس للجمعة».

ومنها: الأخبار الواردة فی قضاء من فاته الغُسل یوم الجمعة، وأیضا ما دلا علی أنّ تارکه فاسقٌ کخبر جعفر بن أحمد القمی، عن الصادق علیه السلام : «لا یترک غسل یوم الجمعة الاّ فاسق، ومن فاته غسل الجمعة فلیقضه یوم السبت»(1).

فإنّه یستفاد من مجموع هذه الأخبار علی أقلّ تقدیر الکراهة الشدیدة إذا له نقل بحرمته،

ومنها: الخبر الذی یدلّ علی لزوم الاستغفار علی ترکه مثل خبر سهل، قال: «سألت أبا الحسن علیه السلام عن الرجل یدع غُسل الجمعة ناسیا وغیر ذلک، قال: إن کان ناسیا فقد تمّت صلاته، وإنْ کان متعمّدا فالغسل أحبّ الیّ، فإنْ هو فعل فلیستغفر اللّه ولا یعود»(2).

أقول: وإنْ لم یصرّح الأصحاب فی کتبهم الفقهیة بالکراهة کما فی «الجواهر»، ولکن لا یبعد القول به کما اختاره «الجواهر»، کما یستفاد ذلک ممّا ورد فی التوبیخ بکون الشخص أعجز من تارک الغُسل، کما فی خبر الأصبغ، قال: «کان أمیرالمؤمنین علیه السلام إذا أراد أن یوبخ الرجل یقول: واللّه لأنت أعجز من تارک الغسل یوم الجمعة، فإنّه لا یزال فی طهر إلی الجمعة الاُخری»(3).

لوضوح أنّ التوبیخ بذلک لا ینساب مع تارک أمر واجبٍ، فجمیع ذلک یؤیّد، الندب.


1- المستدرک، ج 1، الباب 4 من أبواب الاغسال المسنونة، الحدیث 2.
2- وسائل الشیعة: الباب 7 من أبواب الاغسال المسنونة، الحدیث 3.
3- وسائل الشیعة: الباب 7 من أبواب الاغسال المنسونة، الحدیث 2.

ص:377

قوله قدس سره : ووقته مابین طلول الفجر إلی الزوال(1)

هذا، مضافا إلی انّه لو أغمضنا النظر عن جمیع ذلک، وسلّمنا وجوبه، فالسئوال الذی یجب البحث عنه أنه واجب بأی وجوبٍ، کان واجبا نفسیا أی لنفسه أو لغیره، وفی کلیها اشکال. أمّا الأول فإنّه مناف لحصر الواجبات فی الأخبار المتواترة فی غیره،

وعلی الثانی _ فمع أنّه خلاف لقول المخالف وأدلّته کما فی «المصابیح» _ ینافیه ضبط شرائط الصلاة وحصرها فی کلام الأصحاب والأخبار الصحیحة زرارة: «لا تعاد الصلاة الاّ من خمس» وغیرها فی غیر غسل الجمعة، ولیس هو من الطهور قطعا، أی لا یعدّ رافعا للحدث عند الصدوقین ومن تبعها فی ذلک، حیث لم یذهبا إلی کفایة هذا الغُسل عن الوضوء، والاّ یمکن دخوله فی الطهور الواقع فی الحدیث، کما لا یخفی.

وأخیرا: الظاهر من الأدلّة أن هذا الغُسل لیوم الجمعة فقط لا له وللیلتها کما اختاره الحلبی فی «اشارة السبق» إذ لم نعرف له موافقا ومستندا سوی ما یحکی عن الاسکافی من اثبات الغُسل لکلّ زمانٍ شریف، ولم یبین له دلیلاً، فلیتأمّل.

(1) أوّل وقت القیام بغُسل الجمعة هو طلوع الفجر الثانی والمسمّی بالفجر الصادق، وعلیه الاجماع، فلا یجوز تقدیمه علیه فی غیر موارد الاستثناء، هذا کما فی الجواهر، حیث قال: «بلا خلافٍ أحده فیه» بل فی «الخلاف» و«التذکرة» التصریح بالاجماع، کما عن غیرها تصریحا أو ظاهرا، بل قد یؤید الاجماع توقیفیة العبادة، أی أنّ العمل بالعبادة موقوف علی ما ورد عنهم علیهم السلام ، وعلیه فلا اشکال فی کفایة غُسل یوم الجمعة إذا وقع فی وقتٍ یصدق علیه الیوم ظرفا

ص:378

بالنسبة إلی قبل الزوال لما بعد طلوع الفجر، کما اعترف به فی طهارة «الخلاف»، ولاجل ذلک قال صاحب «المصابیح»: «أمّا أنّ أوّل وقته من الفجر الثانی فهو موضع وفاق بین الأصحاب، کما أنّ تحقق الیوم بطلوع الفجر لغةً وعرفا وشرعا ثابت فیقع الغسل فیه».

أقول: مضافا إلی جمیع ذلک، فإنّه یدلّ علیه الأخبار التی بعضها صحیح:

منها: خبر زرارة والفضیل، قالا: قلنا له: «أیجزی إذا اغتسلت بعد الفجر للجمعة؟ فقال: نعم»(1).

هذه الروایة وإنْ هی مضمرة ولکن شأن العَلَمین أجلّ من أن ینقلا عن غیر الامام، وقد نقل ابن ادریس مثله فی آخر «السرائر» مسندا عن کتاب حریز بن عبداللّه عن الفضیل وزرارة عن أبی جعفر علیه السلام .

ومنها: روایة ابن بکیر، عن أبیه، قال: «سألت أبا عبداللّه علیه السلام فی حدیث، قلت: فإنْ نام بعد الغُسل؟ قال هو مثلُ غُسل یوم الجمعة إذا اغتسلت بعد الفجر أجزأک»(2).

ومنها: روایة اُخری لابن بکیر مثله الاّ أنْ بدل أجزأک: کفاک(3).

ومنها: روایة أخری لزرارة، قال: «إذا اغتسلت بعد طلوع الفجر أجزأک غُسلک ذلک للجنابة والجمعة وعرفة والنحر والحلق والذبح والزیارة، فإذا اجتمعت علیک حقوق أجزأک عنها غُسلٌ واحد، الحدیث»(4).

هذا بالنسبة الی أول الوقت وبدایته، وأما آخر وقت الغُسل فقد جاء فی المتن


1- وسائل الشیعة: الباب 11 من أبواب الاغسال المسنونة، الحدیث 1.
2- المصدر السابق، الحدیث 2.
3- المصدر السابق، الحدیث 4.
4- وسائل الشیعة: الباب 21 من أبواب الاغسال المسنونة، الحدیث 1.

ص:379

أنّه الی الزوال، وهذا هو المشهور بین الأصحاب، بل فی «الجواهر»: «لا أعرف فیه خلافا ولا حکی سوی ما عن علی بن بابویه وولده ظهور الاجتزاء بالغُسل للرواح أی للصلاة ولو بعد الزوال کالشیخ فی «الخلاف» فی باب الصلاة: «وقته مابین طلوع الفجر الثانی إلی أن تُصلّی الجمعة، ثمّ نقل خلاف مالک أنّه إنْ راح عقیب الاغتسال اجتزی ء به (أی إنْ صلّی) والاّ فلا، وقال: دلیلنا اجماع الفرقه» مع أنّ الشیخ قال فی باب الطهارة أیضا «یجوز غُسل الجمعة من عند طلوع الفجر إلی قبل الزوال، وکلّ ما قرب إلیه کان أفضل...» إلی أن قال: «بعد أن حکی خلاف الأوزاعی _ دلیلنا اجماع الفرقة وهو مناف للاوّل إذا روعی المفهوم».

ثمّ جمع رحمه الله بینهما بقوله: «ویمکن ارجاع الجمیع إلی المشهور بارادة الغالب من زمن الرواح، وهو قبل الزوال أو الزوال أو بعده بحیث یکون الغُسل قبله، وبأوّل وقت الصلاة من الصلاة، وبالزمان الذی لا یمکن فیه الغُسل بما قبل الزوال، فیجتمع الجمیع علی ارادة التحدید بذلک».

وربما یُرشد إلیه ما فی «المعتبر» من اجماع النّاس علی التحدید بما قبل الزوال، مع أنّه قبله بیسیرٍ ذکر التحدید بالصلاة عن الشیخ، فالظاهر أنّه لم یفهم منه الخلاف انتهی ما فی «الجواهر»(1).

أقول: ولقد أجاد فیما أفاد، لانّ هذه التعابیر لیست الاّ لایصال المطلب بأنّ غایة الوقت هو الزوال، بعد ملاحظة لزوم مقدار من الوقت قبله لایقاع الفعل، حتّی تتحقّق الصلاة فی أوّل الوقت مع الغُسل، بل قد یفهم من کلام المحقق بقوله: «اجماع الناس علی التحدید بما قبل الزوال» کونه اجماعیّا بین العامّة والخاصّة، والامر کذلک کما یُترأی ذلک من «التذکرة» حیث قال: «ووقته مابین طلوع الفجر


1- الجواهر، ج 5، 8.

ص:380

الثانی إلی الزوال، وکلّ ما قَرُب کان أفضل، قاله علمائنا وما فی «الذکری»: «ویمتدّ إلی الزوال اجماعا»، وما فی «المصابیح»: «أنّ علیه الاجماع المعلوم بالنقل والفتوی والعمل».

نعم، هنا قول رابعٌ وهو استمرار وقته إلی خروج الیوم، تمسکا بظاهر اطلاق کلمة (الیوم) حیث یصدق علی تمام الیوم حتی الغروب، کما احتمله جماعة من متأخری المتأخرین. بل قیل إنّه یستفاد من اطلاق «المقنعة» و«الاقتصاد» و«الجُمل والعقود» و«المراسم» و«الکافی» و«الوسیلة» و«الغنیة» و«الارشاد» و«النفلیة» لأنّهم اقتصروا فیه علی أصل الحکم وهو استحباب غسل الجمعة أو الغسل فی یومها، مع أنّه خلاف ظاهر الاجماعات المتقدمة من المتقدّمین والمتأخّرین علی عدم استمرار وقته إلی الغروب، بل إلی أحد الأقوال الثلاثة من أن غایته قبل الزوال أو حین الزوال أو بالصلاة.

والأقوی عندنا هو القول بالزوال، لانّه _ مضافا إلی کونه مورد الاجماعات المنقولة والمحصّلة کما فی المتن _ هو المقصود کما نصّ علیه صحیحة زرارة بقوله: «ولیکن فراغک قبل الزوال»(1)، حیث یکون المراد بیان وقوع کل الغُسل فی هذا الوقت المعیّن بحیث لم یتجاوز عن حدّه، لا بیان کون الوقت وغایته هو قبل الزوال، کما هو أحد الأقوال، وقد عرفت احتمال کون القائل بما قبل الزوال متحدا مع القائل بالزوال، بأن یراد من کلامه ما بیّناه فی روایة زرارة، وعلیه فیتحد القولان، فلا یکون هذا القول حینئذٍ مخالفا لما اخترناه.

وأمّا احتمال کون الغایة نفس صلاة الجمعة: فمندفع بعدم اختصاص خطاب الغُسل لمن یصلّی صلاة الجمعة، بل یشمل لمثل العبید والنساء أیضا، وتعلیقه


1- وسائل الشیعة: الباب 47 من أبواب صلاة الجمعة، الحدیث 3.

ص:381

علی فعل الغیر یوجب التعلیق علی أمر غیر منضبطٍ لاختلاف الاشخصاص فی الاتیان بها، وإنْ کان الاختلاف فی الجملة جزئیا، الاّ أنّه بعید صدور مثل ذلک عن الشارع، اللّهم الاّ أن یرجع إلی عنوانٍ مشیرٌ إلی الزوال الذی هو أوّل وقت شروع الصلاة، فحینئذٍ له وجه، ویرجع إلی ما اخترناه.

ودعوی: مخالفته لروایة سماعة وابن بُکیر، حیث قال فی الأوّل:

«فی الرجل لا یغتسل یوم الجمعة فی أوّل النّهار؟ قال: یقضیه آخر النهار، الحدیث»(1).

وجاء فی الخبر الثانی: «عن رجل فاته الغُسل یوم الجمعة؟ قال: یغتسل ما بینه وبین اللیل، الحدیث»(2) حیث قد اطلق الفوت والقضاء لمن لم یأت به اوّل النّهار، فیفهم کون الوقت قبل الصلاة.

غیر مقبولة: لأنّ الأخذ بأوّل النهار یوجب کون الاتیان حین الزوال فوتا وقضاءً لعدم صدق اوّل النّهار علیه هذا أولاً. وثانیا آخر النّهار الذی یصدق علیه القضاء متأخرٌ عن وقت صلاة الجمعة کثیرا، فلا ینافی ذلک، مع أنّ الصلاة غایة للغسل کما لا یخفی.

وأمّا القول الرابع: وهو کون غاتیه إلی الغروب، فلا دلیل لقائله إلاّ التمسک باطلاق الأمر بالغُسل فی یوم الجمعة، حیث لا ینافی ذلک مع ارادة الأعمّ من القضاء والاداء فیها، إذا قام الدلیل علی ذلک. والدلیل علیه الاجماعات السابقة الدالة علی أنّ وقته الأدائیة هو قبل الزوال، کما عرفت نقل الاجماع فی کلام المحقق فی «المعتبر»، بل وما فی «التذکرة» من نقل الاجماع علیه وجعل ما هو الأقرب إلیه أفضل.


1- وسائل الشیعة: الباب 10 من أبواب الاغسال المسنونة، الحدیث 3.
2- المصدر السابق، الحدیث 4.

ص:382

مضافا إلی روایة سماعة بن مهران، عن الصادق علیه السلام ، حیث قال لمن لم یکن قد اغتسل یوم الجمعة فی أوّل النهار: «یقضیه آخر النّهار، فإنْ لم یجد فلیقضه یوم السبت»(1)، حیث اطلق علیه السلام حکم القضاء علی من اغتسل آخر النهار.

واحتمال کون القضاء هنا بمعنی الاتیان، کما هو أحد معانیه لا القضاء الاصطلاحی، مندفعٌ بکون المراد هنا هو الثانی بقرینة عدیله بقوله: «فلیقضه یوم السبت» لوحدة السیاق، فیندفع بذلک احتمال عدم کونه مصطلحا فی الزمن السابق، لاستلزامه عدم کونه کذلک فی یوم السبت أیضا، وهو کما تری، مع انجباره بفتاوی الأصحاب.

والمناقشة فیه: بعدم دلالته علی المدّعی، وهو کون وقته إلی الزوال، لأنّه جعل ترکه فی أوّل النّهار ملاکا للقضاء فی آخره.

مدفوعة: _ مضافا إلی قیام الاجماع بعدم اختصاصه باوّل النّهار، بل قد عرفت تصریحهم بکون الأقرب إلی الزوال هو الأفضل _ أنّه یمکن استفادة کفایته إلی الزوال من دلیلٍ آخر بعد تسلیم کونه لخصوص أوّل النّهار، وهو الخبر المرویعن عبداللّه بن بکیر: «فیمن فاته الغسل یوم الجمعة؟ قال: یغتسل مابینه وبین اللّیل، فإنْ فاته اغتسل یوم السبت»(2).

بناء علی أن المراد من (الفوت) فوته فی الزمن المتعارف المعهود الذی یقع قبل الزوال، لا الفوت فی جمیع ساعات الیوم، بحیث یشمل العصر إلی الغروب، بقرینة جعل التدارک فیما بینه وبین اللّیل من قسم التدارک للفوت کیوم السبت، مع أنّه لو سلّمنا تساوی الاحتمالین، فالاجماعات تکون مرجحةً لذلک الاحتمال، فیقدم، فینتج المطلوب.


1- وسائل الشیعة: الباب 10 من أبواب الاغسال المسنونة، الحدیث 3.
2- المصدر السابق، الحدیث 4.

ص:383

بل قد یؤید کون غایة وقته إلی الزوال ما ورد فی الخبر المرسل الذی رواه الصدوق فی ا«لهدایة» عن الصادق علیه السلام : «لأنْ نسیتَ الغسل أو فاتک لعلّةٍ فاغتسل بعد العصر أو یوم السبت»(1).

وکذا المحکی عن «فقه الرضا»: «وإنْ نسیتَ الغُسل ثمّ ذکرت وقت العصر أو من الغد فاغتسل»(2).

وجه التأیید: لفظ ظهور النسیان والفوت فی مضّی الوقت. ولعلّ وجه عدم الدلالّة امکان کون النسیان مستعملاً فی الأعم من القضاء وانقضاء وقت الفضیلة، فلا ینافی عدم صدق القضاء علیه لو أتی به فی الیوم ولو فی طرف العصر إلی الغروب.

بل قد یؤیّد ذلک ملاحظة حکمة أصل التشریع المستفادة من مرسل الصدوق، قال: «وقال الصادق علیه السلام : فی علّة غُسل یوم الجمعة أنّ الأنصار کانت تعمل فی نواضحها وأموالها، فإذا کان یوم الجمعة حضروا المسجد فتأذی الناس بأرواح آباطهم وأجسادهم، فأمرهم رسول اللّه بالغُسل فجرت بذلک السُّنة»(3).

حیث یفهم أنّ حکمة تشریع غُسل الجمعة هی لازالة أرواح الآباط والأجساد، حیث یفید ضرورة القیام بذلک قبل الزوال للاتیان بصلاة الجمعة، کما یستشعر ذلک من حدیث الساباطی، قال:

«سألت أبا عبداللّه علیه السلام عن الرجل ینسی الغُسل یوم الجمعة حتّی صلّی؟

قال: إنْ کان فی وقت فعلیه أن یغتسل فیعید الصلاة، وإنْ کان مضی الوقت جازت صلاته»(4).


1- الهدایة، ص 23، المطبوعة بطهران، سنة 1377.
2- المستدرک، ج 1، الباب 6 من الاغسال المسنونة، الحدیث 1.
3- وسائل الشیعة: الباب 6 من أبواب الاغسال المسنونة، الحدیث 15.
4- وسائل الشیعة: الباب 8 من أبواب الاغسال المنسونة، الحدیث 1.

ص:384

فإنّ بقاء الوقت ومضیّه لوحظا بلحاظ حال قبل الصلاة فی اتیان الغُسل المنطبق علی قبل الزوال.

نعم، قد یستفاد من هذا الحدیث أنّ غُسل الجمعة معلقٌ بالوقت أو بصلاة الجمعة، فلو أتی بها قبل الزوال أغناه عن الثانی، والاّ یستمر وقته إلی فعل صلاة الجمعة ولو کان بعد الزوال، ولعلّه لذلک ذهب بعضٌ إلی أنّ وقته إلی الصلاة کما ذکره الشیخ وغیره، وهو أمر جیّدٌ لو لم یقم الاجماع علی خلافه.

تکمیلٌ جمیلٌ: نعم روی الحمیری فی «قرب الاسناد» عن البزنطی فی الصحیح عن الرضا علیه السلام ، قال: «کان أبی یغتسل یوم الجمعة عند الرواح»(1).

وفی «الجواهر»: «أنّ المراد من الرواح فیه علی الظاهر معناه المعهود وهو المضیّ إلی الصلاة دون الرواح بمعنی العشیّ أو مابین الزوال إلی اللّیل، ثم استشهد لذلک بوجود لفظ (کان) الدال علی الاستمرار، ومن المعلوم أنْ لیس هذا الوقت راجحا حتی یستمر علیه الإمام ویدام به.

ثم قال: «ولعلّ هدا الخبر هو مستند ما ذکره الصدوق فی «الفقیه» حیث قال _ بعد أن ذکر أنّه یجوز الغُسل من وقت طلوع الفجر إلی قرب الزوال _: (وأنّ الأفضل ما قَرُب إلیه، ویجزی الغُسل للجمعه کما یکون للرواح».

وقوله: «یجزی ء» لبیان أنّه لا یشترط فی حصول وتحقّق الغسل أن یکون عند الرواح والذهاب إلی صلاة الجمعة، کما نُقل عن بعض العامّة، بل کما یکون للرواح إلی الصلاة یکون لذات یوم الجمعة وفضیلة هذا الیوم، وإن لم یقصد التوجه الی صلاة الجمعة بعد الغُسل، کما قیل.

ثمّ قال: «قلت: ولعلّ حملها علی ما ذکرناه سابقا من تعلّق الغُسل بالوقت


1- وسائل الشیعة: الباب 11 من أبواب الاغسال المسنونة، الحدیث 3.

ص:385

والصلاة، وانّه یجزی ء الثانی عن الاوّل عند الصدوق، وإنْ کان بعد الزوال أولی فتأمّل» انتهی محلّ الحاجة(1).

أقول: ولا یخفی أنّ ما ذکره الصدوق فی «الفقیه» لا یناسب مع ما ذکره صاحب «الجواهر»، لأنّ فی الروایة کان عند الرواح، فیمکن توجهیه بما ذکره، بخلاف ما فی «الفقیه» حیث قال: «کما یکون للرواح» من التشبه فحینئذٍ یجب ملاحظة والتدقیق فی حال النسختین المنقولتین عن «الفقیه»:

فبناءً علی ما فی «الجواهر» لابدّ أن یُوجّه بأن المقصود بیان إجزاء غُسل الجمعة لامرین: لیوم الجمعة وکونه للصلاة، أی المراد من الرواح هو الصلاة للعشیّ أو بعد الزوال إلی اللّیل، فما ذکرناه ینطبق علی ما اختاره صاحب «الجواهر» من کفایة الغُسل للجمعة للرواح أیضا، هذا بناء علی هذه النسخة.

وأمّا بناءً علی النسخة الاُخری وهو بالزاء والجیم المعجمتین، حیث لم ترد لفظة هذه النسخة فی خبر الحمیری، بل قد نقل فی کلام الصدوق فی «الفقیه» والیک نصّ کلامه، قال: «ویجزی ء الغُسل للجمعة فما یکون للرواج والوضوء فیه قبل الغسل».

فتارة: تلاحظ هذه الجمعة أو الوضوء... الی آخره، متصلةً بما سبق، وأخری: تلاحظ مستقلةً.

فعلی الاوّل: کما فهمه المحقّق خلیفة سلطان فی حواشیه علی «الفقیه» حیث قال: «کذا فی أکثر النسخ» والظاهر أنّ المراد به أنّه یُجزی ء الغسل للجهة بکیفیّة غُسل الجنابة، فالمراد بالزواج الجنابة، والغرض من التشبیه بیان کیفیّة غُسل الجمعة وأعماله، بانّه مثل الجنابة، الاّ أنّ فیه الوضوء قبل الغُسل، وهذا هو الذی


1- الجواهر، ج 5، ص 12.

ص:386

اختاره صاحب «الحدائق»، والأمر کذلک، لأنّه هو أوفق وأولی بسیاق العبارة عن احتمالٍ آخر قد نُسب إلی القیل، وهو أن یکون المراد أنّه یُجزی نیة غسل الجنابة عن غسل الجمعة، ویترتّب علیه اثره، إذ هو لا یناسب مع ذیله بلزوم الوضوء قبله، لأنّه من المعلوم عندنا عدم جواز الاتیان بالوضوء قبل غُسل الجنابة. نعم، لو لم یکن هذه الذیل لم یکن هذا الاحتمال ببعیدٍ. هذا کله لو قلنا باتصال الذیل بما قبله.

وأمّا علی الثانی: ما لو کانت جملة (والوضوء فیه) جملة مستقلّة مستأنفه مع کون العبارة للزواج بالزاء والجیم المعجمتین.

ففی «الحدائق»: «کما قد یؤیّده ما حکاه الشیخ سلیمان بن عبداللّه البحرانی، قال بعض الاعلام: سمعت الشیخ العالم الصالح الشیخ علی بن سلیمان البحرانی أنّه کانت عند شیخنا العلاّمة البهائی قدس سره نسخة قدیمة مصحّحة، وفیها (للزواج) بالزای والجیم، وهو الذی ضبطه الفاضل المحدّث الکاشانی فی «المحجّة البیضاء». ویؤیّد ذلک أیضا ما ذکره المحقّق العماد میر محمّدباقر الداماد فی تعلیقاته علی الکتاب، قال: «الصواب ضبط هذه اللفظة بالزای قبل الواو، والجیم بعد الألف، وهو الذی سمعناه من الشیوخ ورأیناه فی النسخ» انتهی کلام میرداماد. ثم قال صاحب «الحدائق» وظاهر هذا الکلام الظاهر ماعدا هذه النسخة) انتهی کلام صاحب «الحدائق»(1).

أقول: ثمّ علی تقدیر هذه النسخة مع کون الجملة مستقلّة، قیل فی معناه: أنّ غسل الجمعة یُجزی عن غسل الجنابة، وهو الذی جَزم به المحدّث الکاشانی فی «المحجّة البیضاء» حیث قال: «أمّا قوله: «ویُجزی ء الغسل للجمعة کما یکون للزواج» فمعناه أنّه یُجزی ء لهما غسل واحد، وهذا حقٌ فإنّ الصحیح تداخل


1- الحدائق، ج 4، ص 232.

ص:387

بعضها بعضا إذا اجتمعت أسبابها کالوضوء، ویدلّ علی ذلک الروایات الصحیحة عن أهل البیت علیهم السلام » انتهی کلامه علی ما هو المحکی فی «الحدائق»(1).

وفیه: قد عرفت الاشکال فیه من جهة عدم کفایته عن الوضوء، اللّهم الاّ أن یکون المقصود بیان أصل الإجزاء من دون نظرٍ إلی ذلک، فحینئذٍ له وجه. الاّ أنّه لا یناسب مع ترکه فیما کان المورد مقتضیا للتذکّر، لئلا یستلزم تأخیر البیان عن وقت الحاجة، وهذا بخلاف مالو قیل بعکس ذلک، وهو أنّ غُسل الجنابة بأی وجه أتی به: من نیة رفع الحدیث، أو الاستباحة، أو مطلقا یکفی عن غُسل الجمعة أیضا، وهو أمر مقبولٌ ویکفی عن الوضوء أیضا. أو یقال بالوجه الأوّل مع فرض کون جملة (والوضوء فیه) متصلّة بالصدر، فیکمل الحکم، أی یجزی ء غُسل الجمعة عن الجنابة إذا انضمّ إلیه الوضوء.

هذا کلّه إنْ أجزنا التداخل حتّی بین الواجب والندب، کما هو أحد الأقوال فی المسألة، والاّ یشکل أصل الحکم أو یجوز عکسه بأن یکفی الواجب _ وهو غُسل الجنابة _ عن الجمعة الذی هو مندوبٌ.

وکیف کان، فذکر هذه المطالب علی هذه النسخة متینٌ وغیر بعیدٌ من دون أن یقتضی التعجّب، کما ذکره صاحب «الجواهر» قدس سره .

کیفیّة نیّة الغُسل بعد الزوال

بعد الوقوف علی جمیع الأقوال فی المسألة، ومعرفة المختار منها وهو کون وقته إلی الزوال کما علیه المشهور، مؤیّدا بروایة صحیحة زرارة بقوله: «ولیکن فراغک من الغُسل قبل الزوال» یقع الکلام فی أنّه هل فهل یوجب ذلک لزوم نیة القضاء لمن اغتسل بعد الزوال إلی الغروب أم لا؟


1- الحدائق، ج 4، ص 233.

ص:388

قوله قدس سره : وکلّ ما قَرُب من الزوال کان أفضل(1)

قال صاحب «الجواهر»: «والذی یسهل الخطب فی ذلک عدم ایجاب التعرّض فی النیّة للأداء والقضاء، ومن هنا ذکر بعض متأخر عن المتأخّرین أنّه ینبغی الاقتصار علی نیّة القُربة فی الغسل بعد الزوال»:

قلنا لعلّ وجهه عدم الجزم بصدق القضاء علیه مع صدق الیوم علیه، واطلاق الیوم علیه فی بعض الأخبار.

واحتمال کون المراد من القبلیة الواقع فی روایة زرارة القبلیة المطلقة، الشاملة لما بین الطلوع والزوال، بعیدٌ حیث جعل الأمر علی الفراغ قبله، الظاهر فی القبلیة القریبة به، فیحتمل منه أن یرید المنع من التأخیر والتعجیل عنه، حتّی یوجب صدق القضاء علی التأخیر عنه، وإنْ سلّمنا جوازالتعجیل عن الزوال بدلیلٍ خارجی.

ولکن مع ذلک کلّه الأولی والأحوط اتیان الغُسل فی الفترة ما بعد الزوال إلی الغروب بنیّة القربة المطلقة، الجامعة مع الأداء والقضاء، واللّه العالم.

(1) کما نصّ علیه والد الصدوق فی رسالته، والشیخان وأکثر الأصحاب، بل الظاهر دخوله فی معقد اجماع «الخلاف» و«التذکرة»، سیّما «الکافی»، بل قد عرفت وجود النصّ علیه بعینه فی «فقه الرضا»(1). بل قد یناسبه الاعتبار بکون الغرض منه الطهارة والنظافة عند الزوال، فکلّ ما قرب منه کان أفضل، بل یکفی لاثباته التسامح فی أدلّة السنن.

نعم، قد یستشعر الفضیلة عن ما فی خبر زرارة بقوله: «ولیکن فراغک قبل الزوال» وأمّا اثبات کونه أفضل مشکلٌ جدّا، لاسیّما إنْ أرید اثبات الأفضلیة


1- المستدرک، ج، الباب 7 من أبواب الاغسال المسنونة، الحدیث 1.

ص:389

للاقرب فالأقرب. نعم اثبات أصل المحبوبیّة بالفراغ منه قبل الزوال وقریبه غیرُ بعیدٍ، خصوصا مع ملاحظة بالأخبار الدالّة علی الاجزاء إنْ أتی به بعد طلوع الفجر، حیث لا تخلو هذه الکلمة من الاشعار بعدم کونه وقت الفضیلة، بل یکون الأفضل غیره المستمر إلی الزوال، فیساعد مع القول بکون الأقرب والاقرب إلیه أفضل. واللّه العالم.

أقول: الذی ینبغی أن یبحث فیه هو ملاحظة التنافی بین ما عرفت من أفضلیة الغسل بالأقرب إلی الزوال، وبین ما ورد فی الأخبار الکثیرة ما یدلّ علی استحباب التکبیر للمسجد فی یوم الجمعة مثل خبر جابر، قال: «کان أبو جعفر علیه السلام یکبّر إلی المسجد یوم الجمعة حین تکون الشمس قید رمح، فإذا کان شهر رمضان یکون قبل ذلک»(1).

بناء علی اعتبار تقدیم الغسل فی حصول وظیفة التکبیر کما یفیده بعض الأخبار مثل ما جاء فی الخبر المنقول فی رسالة «أعمال الجمعة» للشهید الثانی عن النبیّ صلی الله علیه و آله ، قال: «من غسل واغتسل ثم بکروا بتکر ولم یرکب ودنا من الامام واستمع ولم یلغ کان له، الحدیث»(2).

ومثله روایة ابن أبی جمهور فی «درر اللئالی» عن أوس الثقفی، عن النبیّ صلی الله علیه و آله : «من غسل واغتسل وغدا وابتکر ودنا ولم یلغ کان له، الحدیث»(3).

فکیف التوفیق فی الجمع بین هاتین؟ فهنا أقوال:

القول الأول: قد یقال فی الجمع بینهما باستحباب کلّ فی موضعه من التکبیر


1- وسائل الشیعة: الباب 27 من أبواب صلاة الجمعة وآدابها، الحدیث 2.
2- المستدرک، ج 1، الباب 21 من أبواب صلاة الجمعة وآدابها، الحدیث 7.
3- المصدر السابق، الحدیث 8.

ص:390

والاتیان بالغسل مع التأخیر إلی قریب الزوال.

أجاب عنه صاحب «الجواهر» بقوله: «فلا جهة له بعدم تیسّره غالبا، ومافیه من التخطیّ لرقاب الناس، والتفرقة بینهم لأجل اتیان الغسل، ومن کلمة التبکیر هو التجنّب عنها أی التخطی والتفرقة کما لا جهة فی الجمع بینهما ما قد قیل فی الجمع بالغسل للتبکیر ثم تکریره قرب الزوال، لأنّه مضافا إلی استلزامه لما عرفت فی قبله أنّه لا دلیل علی مشروعیة ذلک».

القول الثانی: قد یقال فی الجمع بینهما بتنزیل الأوّل أی أفضلیة الأقرب علی من لم یتسیر له التبکیر کما هو الغالب، والثانی علی من تیسّر له ذلک.

وقد أورد علیه: أنّه تحکیمٌ لأدلّة التبکیر علی اطلاق معظم الأخبار لاستحباب التأخیر من غیر استثناءٍ، منع ندرة تیسّر التبکیر قد لا یفعله لکن ذلک لا یعنی عدم التیسّر.

مع أنّه لیس بأولی من العکس، بأن نخصّ استحباب البکور بعد الغُسل بما إذا لم یتمکن منه فی آخر الوقت.

وفیه: هذا لا یناسب مع روایة جابر، حیث قال بلفظة کان (أبوجعفر علیه السلام ) الدال علی الاستمرار بالتبکیر، فکیف یمکن أن یکون لمن لم یتمکن من الاتیان به إلاّ مع التأخیر دائما.

القول الثالث: قد یقال إنّه لا تنافی بین استحباب نفس التبیکر وتأخیر الغُسل بحیث یحتاج إلی الجمع، بل ذلک من باب تعارض المستحبات علی المکلّف، فیتخیّر أو یرجّح، والاّ فالغسل باقٍ علی مرجوحیته بالسنة إلی آخر الوقت، وإنْ رجح التبکیر علی غیره من أنواع المجی ء، ولاغضاضة فی مشروعیة ذلک بحسب اختلاف الاشخاص والاوقات، ولعلّ کثیرا من المستحبّات من هذا القبیل، فتأمّل.

ص:391

قوله قدس سره : ویجوز تعجیله یوم الخمیس لمن خاف إعواز الماء (1)

أقول: برغم أنّ له وجه الاّ أنّ الذی یبعّده کون الطائفتین من الأخبار واردتان فی موضوع واحد وهو غُسل یوم الجمعة فی یومها ممّا یقتضی تنافیهما، وهذا یباین موضوع تعارض المستحبّات بعضها مع بعض فی بعض الموارد لبعض الأشخاص، حیث یمکن الجمع بینهما بالتخییر أو الترجیح.

وبالجملة: أحسن الوجوه فی الجمع عندنا، هو الذی ذهب إلیه صاحب «المفاتیح» حیث خصّ استحاب تقدیم الغُسل بمرید البکور، واستحباب التأخیر لغیره.

ومناقشة صاحب «الجواهر» بأنّ الارارة لا تقتضی الترجیح، ممّا لا ینبغی أن یُصغی إلیه، لانّه لا مانع منه اذا اقتضی لسان الدلیل الجمع بینهما بمقتضی قاعدة: الجمع مهما أمکن أولی من الطرح، واللّه العالم.

(1) إنّ هذه المسألة مشتملة علی أمور:

الأوّل: جواز تعجیل غُسل الجمعة یوم الخمیس فی الجملة هو المشهور بین الأصحاب، بل فی «الجواهر»: «لا أعرف فیه خلافا» کما اعترف به فی «الحدائق»، بل فی «کشف اللثام» نسبته إلی الاصحاب، المشعر بالاجماع. وبالتالی فالدلیل علیه _ مضافا إلی ما عرفت من الشهرة والاجماع _ دلالة أخبارٍ بعضها صحیحة:

منها: ما رواه المشایخ الثلاثة فی الصحیح عن الحسین أو الحسن بن موسی بن جعفر علیهماالسلام ، من أمّه وأمّ احمد ابن موسی، قالتا: «کنّا مع أبی الحسن بن موسی بن جعفر علیهماالسلام فی البادیة ونحن نرید بغداد، فقال لنا یوم الخمیس: اغتسلوا الیوم لغدٍ یوم الجمعة، فإنّ الماء بها غدا قلیل. قالتا: فاغتسلنا یوم الخمیس لیوم الجمعة»(1).


1- وسائل الشیعة: الباب 9 من أبواب الاغسال المسنونة، الحدیث 2.

ص:392

ومنها: ما رواه الشیخ فی الصحیح عن محمّد بن الحسین، عن بعض أصحابه، عن أبی عبداللّه علیه السلام ، قال لأصحابه: «إنّکم تأتون غدا منزلاً لیس فیه ماء، فاغتسلوا الیوم لغدٍ، فاغتسلنا لیوم الجمعة»(1).

ومنها: یؤیّده ما فی «فقه الرضا» من قوله: «وإنْ کنتَ مسافرا تخوّفت عدم الماء یوم الجمعة فاغتسل یوم الخمیس»(2).

الأمر الثانی: فی أنّ ظاهر المصنّف و«القواعد» _ کالمحکی من ظاهر جماعةٍ من الأصحاب _ اقتصار الجواز فی خصوص اعواز الماء، وقوفا علی مورد النصّ، کما علیه جماعة من المتأخّرین. ولکن عن آخرین من المتقدّمین والمتأخّرین کالنهایة و«المبسوط» و«السرائر» و«التذکرة» و«الدروس» و«البیان» و«النفلیة» و«المعالم» و«الروض» و«المسالک» و«کشف اللثام» کون الملاک هو عدم التمکن من الغسل لمرضٍ أو بردٍ أو فقد الثمن، أو غیر ذلک من العوارض. وذکر الإعواز إنّما هو من باب المثال لا الاختصاص والخصوصیة کما قد قطع بذلک واختاره صاحب «المصابیح»، کما هو کذلک عندنا، إذ لا خصوصیّة فیه، کما أنّه یؤیّد مثله فی باب التیمّم أیضا. وان خالفنا فی ذلک صاحب «الجواهر» وقال: «ولعلّ الأقوی الاکتفاء به» ولکن مع ذلک لو أتی بالغُسل فی غیر مورد النص بقصد الاحتیاط والرجاء فی المطلوبیة لا التنظیف کان أولی، اقتصارا فی الحکم المخالف للأصل علی موضع النصّ کما علیه الهمدانی فی «مصباح الفقیه» کما قد یؤید الاطلاق السابق ما سنذکره فی الفرع الاحق.

الأمر الثالث: هل الحکم بجواز التعجیل مخصوصٌ بحال السفر دون الحضر،


1- المصدر السابق، المصدر 1.
2- المستدرک، ج 1، الباب 5 من أبواب الاغسال المسنونة، الحدیث 1.

ص:393

أو أنّ الحکم لمطلق الخوف سواءٌ کان للسفر أو للحضر؟

ذهب المشهور إلی الثانی، مع أنّ النصّ ورد فی خصوص السفر کما ورد التصریح بذلک فی الخبر الأول والثالث، مع أنّه ظاهر الخبر الاوّل، ولکن المشهور فهموا منه المطلق، والغاء الخصوصیة عن خصوص السفر، وذکره کان لأجل أنّ خوف الاعواز یحصل غالبا فی السفر دون الحضر، فمثل ذلک أیضاً یؤید الغاء الخصوصیّة عن مثل خصوص الاعواز، کما اشرنا إلیه سابقا.

وعلیه، فیصیر مناط الجواز حینئذٍ هو تعذّر الغُسل فی وقت ادائه کما لا یخفی.

الأمر الرابع: فی أنّ المشهور بل شهرة عظیمة کادت أن تکون اجماعا علی کفایة مطلق الخوف فی الجواز، سواءٌ حصل له الیأس من التمکن منه أم لا، وسواءٌ حصل له الظن بعدمه أم لا، خلافا لما فی «الخلاف» حیث قال: «لم یجز التقدیم الاّ إذا کان آیسا» بل وهکذا خلافا للعلاّمة فی «المنتهی» حیث علق الحکم تارةً علی غلبة الظن، وأخری علی خوف الاعواز.

أقول: الأقوی عندنا ما علیه المشهور، لظاهر الصحیح الأوّل، وصریح الرضوی المنجبر ضعفه بالشهرة والاجماع، وعمل الأصحاب وکفایته فی الاثبات بانضمام التسامح فی ادلّة السنن، ولشهادة التتبع فی نظائره مثل التیمم وغیره، حیث عُلّق الحکم فیه علی مطلق الخوف فی سقوط الواجبات، والاکتفاء بالاتیان بالأبدال الاضطراریة ولتعذّر حصول العلم بعدم التمکن قبل مجیی ء وقته غالبا، ولا ینافیه ما فی الصحیح الثانی من قوله: «إنّکم تأتون غدا منزلا لیس فیه ماء الظاهر فی القطع بعدمه، لانّه لا یدلّ علی نفی جواز التعجیل فیما عداه، لعدم المفهوم فیه بالنسبة إلی غیر مورده، وعلیه یکون المرجع فیه إلی الصحیح الاول الذی فیه: «فإنّ الماء بها غدا قلیل» فإنّ قلّة الماء لا یوجب القطع بعدم التمکن بل هو أعمّ منه کما لا یخفی.

ص:394

الأمر الخامس: فی أنّ الظاهر المنساق فی الذهن کون الحکم معلّقا علی خوف الاعواز فی خصوص وقت الاداء، أی یجوز له التعجیل بالاتیان حینئذٍ کما هو ظاهر من علّق الحکم علی الفوات، بأن یصیر خوف الفوت قبل الزوال بالخصوص جوّزا للغُسل لا مطلقا حتّی یشمل لمثل القضاء فی عصر یوم الجمعة إلی الغروب، حیث تظهر الثمرة فیما لو علم تمکّنه من الماء لما بعد الزوال، حیث یجوز له التعجیل فی الفرض دون عند من یعتبر الخوف لتمام الیوم، حیث لا یجوز له ذلک. کما لا عبرة بالتمکّن من الماء فی یوم السبت فی جواز التعجیل فی یوم الخمیس، بل له التعجیل ولو مع العلم بالتمکن فی یوم السبت، کما صرّح بذلک فی «البیان» و«روض الجنان» ونسبه بعض المحقّقین إلی الاکثر.

أقول: برغم أنّ الوارد فی الأخبار هو یوم الجمعة، الشامل لجمیع الیوم، الاّ أنه ینصرف _ بواسطة تلک الادلّة _ الی الوقت المعهود المتعارف وقوع الغذسل فیه، وهو وقت الاداء منه، فبذلک یرتفع الخلاف من البین من کلمة (الیوم) الوارة فی کلام «الفقیه» و«النهایة» و«المهذّب» و«المعتبر» و«الجامع» و«التلخیص» و«التحریر» و«المحرر» و«الدروس» والواردة فی الأخبار.

ولکن الانصاف عدم اطمئنان بنفس بذلک، لامکان أن یکون الملاک فی جواز الاتیان قبل الوقت هو خوف الاعواز فی جمیع الیوم، لا خصوص قبل الزوال، لاسیّما مع ما عرفت من عدم منقحیة کون بعد الزوال قضاءا، ولذلک حکمنا أنّ علیه أن ینوی الاتیان بعد الزوال بالقربة المطلّقة لا بیّنة الأداء ولا القضاء، وهذا مؤیّد بالأصل، أی مقضی الأصل عدم جواز الاتیان الاّ بعد احراز صدق خوف الفوت، وهو لا یکون الاّ بعد الخوف لتمام الیوم لا إلی الزوال فقط، وعلیه فالأحوط أنّه لو أراد أن یعجّل الاتیان مع خوف الاعواز لخصوص قبل الزوال،

ص:395

علیه أن یأتی به بقصد القربة ورجاء المطلوبیة لا بقصد الوظیفة الفعلیة.

الأمر السادس: فی أنّه إذا دار الأمر بین الاتیان أو اتیانه قضاءا متجّلاً: فهل یحکم بتقدیم الأوّل کما علیه صاحب «الجواهر»، حیث قال فی ذیل المسألة السابقة: «ومنه ینقدح أفضلیة التعجیل علی القضاء، لاطلاق الأمر به، الشامل لصورة التمکّن من وقت القضاء کما ذکرناه، وعموم المسارعة. واحتمال العکس کما فی صلاة اللیل بالنسبة للشباب، ضعیفٌ لا دلیل علیه. والقیاس لا نقول به کالأمور الاعتباریة الخالیة عن المدارک الشرعیة، وإنْ استحسنها العقل؟ وفی مقابل ذلک القول بتقدیم القضاء علی التعجیل، کما أنّ الأمر کذلک فی صلاة اللّیل للشباب، حیث یکون القضاء عند بعض الفقهاء أفضل.

وفیه: هذا الرأی مخدوش حتّی فی أصل صلاة اللّیل، حیث یحتمل أنّ التعجیل فیه أفضل، وقد یفهم ذلک من لسان الأخبار الواردة فی ذلک، حیث أجاز للشباب والمریض والذی یخاف فوتها اتیانها فی أول اللیل، الشامل باطلاقه حتّی لمن هو قادر علی القضاء لما بعد الوقت، فلا یبعد أن یکون الحکم هناک أیضا کذلک.

أقول: لابدّ هنا من الحکم بتقدیم التعجیل علی القضاء لو أرید من القضاء مثل یوم السبت الممّحضّ فی القضائیة، بخلاف الحکم فیما بعد الزوال یوم الجمعة، لما قد عرفت من امکان صدق الاداء علیه، وبالتالی فالحکم بتقدیم التعجیل علیه قطعا لا یخلو عن اشکال، کما یقال بذلک بالأولویة فیما لو کان بعد الزوال، لکن قریبه وتعقیب الصلاة علیه، فإنّ فی مثل ذلک یشکل الحکم جزما بتقدیم التعجیل. وعلیه فالأحوط عندنا فی مثل ذلک الحکم بالتقدیم برجاء المطلوبیة لا بقضاء الوظیفة الفعلیة. ولیس ذلک لأجل الشبهة فی أفضلیة التقدیم، بل لأجل

ص:396

الشبهة فی أصل صدق القضاء لما بعد الزوال کما عرفت.

الأمر السابع: فی أنّه هل یجوز التقدیم لمن خاف إعواز الماء قبل یوم الخمیس من لیلته، أو الایام واللّیالی قبله من الاسبوع؟

فیه احتمالان، بل قیل _ وإنْ لم یکن القائل معلوما مذکورا فی الکتب المتداولة بایدینا _ هو الجواز:

أقول: مختار المعظم بل الکُلّ فی الجملة عدم جواز لاقتصار فی النصوص بخصوص یوم الخمیس، فالتقدیم علیه حتّی فی لیلته خارجٌ عن الدلیل، بل ادّعی صاحب «المصابیح» الاجماع علی عدم الجواز.

فإنْ ثبت الاجماع علی ذلک، فاتیانه قبله بقصد الرجاء أیضا یصیر مشکلاً، لأنّ الاجماع یوجب کون المورد فی ذلک حراما ومبغوضا فلا معنی حینئذٍ لرجاء المطلوبیة.

اللّهمّ الاّ أنْ یکون المراد من الاجماع، عدم جواز اتیانه بکونه مطلوبا شرعیا جزما، فلا ینافی حینئذ جواز اتیانه برجاء المطلوبیة لو کان کذلک فی الواقع، وهو غیرُ بعیدٍ لکنّه لا یناسب مع ذکر خصوص یوم الخمیس فی النص کما لا یخفی.

أقول: الذی ینبغی أن یبحث فیه هو عن اتیانه لیلة الجمعة: فهل هو جائزٌ کما علیه المعظم من الاصحاب، بل قد ادّعی علیه الاجماع فی «المصابیح» کما عن «مصباح الفقیه»، ولعلّ وجهه أنّ ذکر یوم الخمیس لیس الاّ لبیان ابتداء التحدید لا لخصوصیة فی الیوم، کما قد یؤیّد ذلک ما فی «الموجز» حیث قال: «ویعجّل من أوّل یوم الخمیس لخائف العوز فی یوم الجمعة»، کما قد یؤیّده ما عن «الخلاف» و«التذکرة» من قیام الاجماع علی لحوقها بالخمیس، بل قیل إنّه اولی من الیوم لقربه من یوم الجمعة، بل هو مقتضی الاستصحاب، أی استصحاب الجواز الموجود فی الیوم إلی لیلة الجمعة.

ص:397

ولا یعارضه ما ورد من المنع عن الغُسل قبل طلوع الفجر، لأنّه مخصوص للمختار دون المضطر، تقدیما للخاص علی ظهور العام، کما یقال فی تقدیم النجاسة والحرمة علی عمومات الطهارة والحلیّة، خصوصا مع ملاحظة التعلیل الوارد فی روایة موسی بن جعفر علیهماالسلام بقوله: «فإنّ الماء بها غدا قلیل» والمفهوم فی الروایة الأخری بقوله: «إنّکم تأتون غدا منزلاً لیس فیه ماء».

هذا ولکن مجرد عدم جریان ذلک فی السابق علی الخمیس للدلیل لا یمنع من التمسّک به فی اللاحق، سیّما مع ظهور الفرق بینهما.

واحتمال کون الجواز لخصوص یوم الخمیس لا مطلقا، حتی یشمل لیلة الجمعة، ممّا لا یقبله الذوق السلیم، ولأجل ذلک وللتسامح فی أدلّة السنن مع دعوی الاجماع، فقد أفتی صاحب «الجواهر» و«المصباح» للهمدانی بالالحاق.

نعم، الذی ینبغی أن یلاحظ فی خصوصیة یوم الخمیس، هو احتمال ملاحظة التماثل فی جواز فعل الغُسل، أی بأن یکون واقعا فی الیوم کیوم الجمعة لا مطلقا. وإنْ کان یُبعّد ذلک، عدم قبول وقوعه فی الیوم لما بعد زوال یوم الجمعة، مع صدق اسم (الیوم) علیه. و علیه فلا یبقی فی البین وجه للمنع، إلاّ دعوی کون یوم الخمیس واقعا فی النصّ، فلابدّ فی التسریة إلی غیره من تنقیح المناط، ودعوی الأولویة ولو کان ظنّیا لا قطعیّا ولأجل ذلک لا یبعد القول بالالحاق، إلاّ أنّ الأحوط والأولی اتیانه فی لیلة الجمعة بقصد رجاء المطلوبیة لا بقصد الوظیفة العملیة، لأنّ الاحتیاط طریق النجاة.

الأمر الثامن: انّه إذا اغتسل یوم الخمیس عند خوفه الاعواز، ثمّ تمکّن من الماء یوم الجمعة قبل الزوال، فهل یستحب اعادة الغُسل أم لا؟

القول الاول: هو استحباب الاعادة، ذهب الیه کثیر من الفقهاء بالتصریح أو

ص:398

الظهور، مثل العلاّمة فی «المنتهی» و«القواعد»، والشهید فی «الذکری» وفی «المدارک» و«کشف اللثام» و«الفقیه» و«التذکرة» و«التحریر» و«نهایة الأحکام» و«المعالم» و«الموجز» و«الذخیرة» و«البحار» و«شرح الدروس»، بل هو مختار صاحب «الجواهر» وصاحب «مصباح الهدی».

وعلّلوا ذلک بسقوط حکم البدل بالتمکّن من المبدل منه، واطلاق الأدلّة الدالّة علی استحباب غُسل الجمعة الشامل للتمکین الابتدائی أو العارضی، بعد خوف الاعواز واتیانه بالبدل.

القول الثانی: عدم استحباب الاعادة، فقد ذهب الیه جماعة من الفقهاء احتمال الاکتفاء معلّلین ذلک بأنّ البدل قد وقع صحیحا لوجود شرطه وهو خوف الاعواز، فلو حکمنا باستحباب الاتیان بالمبدل بعد التمکّن، لزم الجمع بین البدل والمبدل مع أنّ الأمر ولو کان ندبا یقتضی الاجزاء بالنسبة إلیه.

هذا فضلاً عن أنّ اطلاق الأوامر بالغُسل یوم الجمعة لا یقتضی الاّ غُسلاً واحدا علی المکلف، وهو قد حصل بالمتقدّم، فالحکم باستحباب الاتیان ثانیا یتوقف علی قیام دلیل آخر یدلّ علیه، وهو مفقود.

بل ربما ظهر من بعضهم أنّه وقتٌ للاضطراری منه فیکون اداءً.

وربما یشهد علی ذلک أنّه لو قلنا باستحباب الاعادة هنا، لزم من ذلک القول بذلک أیضا لصلاة اللّیل فیما لو قدّمها الشاب، وکذا الوقوف بالمشعر مع القدرة علیه، ولم ینقل عنهم ذلک، بل قیل: «وقد روی تقدیم الاغسال اللّیلیة فی شهر رمضان علی الغروب» مع أنّه لا مجال للقول بالاعادة فی مثله.

أقول: ملاحظة هذه النظائر والاشباه ربما یوجب اطمینان النفس علی عدم استحباب الاعادة، إذ لیس الوجه فی الحکم بالاعادة إلاّ التمسک بأنّ شرط صحة

ص:399

قوله قدس سره : وقضائه یوم السبت (1)

حکم البدل وکفایته عن الواقع، هو عدم کشف الخلاف، فیکون الإجزاء فی البدل مادامیا لا داعیّا.

کما یؤید کون الأمر کذلک وقوع التعلیل فی الروایة من خوف الاعواز، حیث یفید ذلک بأنّ محبوبیة التقدیم لیس إلاّ لأجل خوف ترک المطلوب لاعواز الماء، فإذا تمکّن العاجز من المبدل وکشف له الخلاف، فان الالتزام بصحة کفایة البدل عن المبدل غیر معلوم، إلاّ ما یشاهد فی الدلیل کفایته عنه مطلقا، ولعلّ الأمر کذلک فی الأمثلة المتقدمة.

وبالجملة: الحکم باستحباب الاعادة لو لم یکن أقوی کان أحوط قطعا، فلو أتی بقصد الرجاء والمطلوبیة _ کما عن «مصباح الفقیه» _ کان حسنا.

هذا بالنسبة الی استحباب الاعادة فیما لو وجد الماء قبل الزوال، وأمّا لو وجد الماء بعد الزوال، أی بعد صیرورة الغسل قضاءً، خصوصا عند من قطع بصیرورته قضاءً بعده، فإنّه لا وجه حینئذٍ للحکم باستحباب الاعادة کما علیه المحقّق البرجرودی وبعض آخر، وإن کان القول بجواز الاتیان برجاء المطلوبیة فی هذا الفرض أیضا جیّدا.

ومنه یظهر الحکم لقضاء فی یوم السبت، حیث لا یستحب الاعادة لو وجد الماء یوم السبت، بعد ما کان مفقودا یوم الجمعة، لما قد عرفت أنّه کان بدلاً عن الغُسل فی وقت الاداء لا مطلقا، وعلیه فلا وجه للاستحباب بعد القضاء واللّه العالم.

(1) لا اشکال فی جواز قضاء غُسل الجمعة بعد زوال الجمعة وفی یوم السبت، ولا خلافٍ أجده فیه فی أصل القضاء، بل حکی علیه الاجماع فی «المصابیح»

ص:400

نصا وفی غیره ظاهرا، فالدلیل علیه مضافا إلی الاجماع وجود أخبار مستفیضة علیه من غیر اختصاص بخصوص یوم السبت کما یوهم ذلک عبارة المتن، إذا کان هذا الظاهر مرادا، والاّ یمکن أن یکون مقصوده بیان تحدید نهایة القضاء، أو ابلاغ جواز القضاء فیه، بأن لا یکون منحصرا فی بخصوص بعد الزوال یوم الجمعة، أو لبیان أنّ القضاء لا یکن الاّ فی یوم السبت من جهة الشبهة فی صدق القضاء علی ما بعد الزوال، لاطلاق التزمنا بانّ کلمة (الیوم) فی الأخبار الشامل لما بعد الزوال أیضا.

وکیف کان، لو أرید الظاهر منه فهو محجوجٌ بما فی الأخبار التی وردت فیها الاشارة الی شمول القضاء لما بعد الزوال أیضا قضاءا، والاحتیاط فی یقتضی الاتیان بقصد الرجاء فیما بعد الزوال.

أمّا الأخبار: فهی عدیدة:

منها: خبر عبداللّه بن جعفر القمی، المنقول من کتاب «العروس» عن أبی عبداللّه علیه السلام ، قال: «لا یترک غسل یوم الجمعة إلاّ فاسق، ومن فاته غسل الجمعة فلیقضه یوم السبت»(1).

ومنها: خبر سماعة: «فی الرجل لا یغتسل یوم الجمعة أوّل النهار؟ قال: یقضیه آخر النهار، فان لم یجد فلیقضه یوم السبت»(2).

ومنها: موثقة ابن بکیر، عن أبی عبداللّه علیه السلام ، قال: «سألته عن رجل فاته الغسل یوم الجمعة؟ قال: یغتسل ما بینه وبین اللّیل، فإنْ فاته اغتسل یوم السبت»(3).

ومنها :المرسل المحکی عن «الهدایة»، عن الصادق علیه السلام : «إنْ نسیتَ الغسل


1- المستدرک، ج 1، الباب 6 من أبواب الاغسال المسنونة، الحدیث 2.
2- وسائل الشیعة: الباب 10 من أبواب الاغسال المسنونة، الحدیث 3.
3- المصدر السابق، الحدیث 4.

ص:401

أو فاتک لعلّةٍ فاغتسل بعد العصر أو یوم السبت»(1).

ومنها: مرسلة حریز، عن الباقر علیه السلام : «لابدّ من غسل یوم الجمعة فی السفر والحضر، فمن نسی فلیعد من الغد»(2).

ومنها: خبر «فقه الرضا»: «وإنْ نسیت الغُسل ثمّ ذکرت وقت العصر أو من الغد فاغتسل»(3).

وعلیه، فما فی موثق ذریح عن الصادق علیه السلام : «فی الرجل هل یقضی غسل الجمعة؟ قال لا»(4) مطرح أو محمول بما لا ینافی بما سبق بارادة ما بعد السبت، خصوصا إذا أشیر بالرجل إلی المعهود، أو علی نفی الوجوب، أو علی نفی ثبوت القضاء من غیر تحدیدٍ، أو محمولٌ علی التقیّة فإنّ اثبات القضاء هنا ممّا اختص به أصحابنا الامامیّة کما فی «المصابیح»، أو حمله علی النهی عن ترکه فی الوقت بنهی تنزیهی لا تحریمیّ، أی لا یترک فی الاداء ولا یقضی بترکه فی وقته، أو غیر ذلک من الوجوه.

أقول: ثم الظاهر عدم اختصاص القضاء بخصوص یوم السبت کما هو ظاهر المتن کالتلخیص و«النفلیة» من الاختصاص به، بل کاد أن یکون بالتصریح فی «المهذّب»، ولعلّه لما سمعت فی بعض الأخبار من ذکر القضاء لیوم السبت فقط، ولکن الأولی حمله علی من فاته غُسل الجمعة بیومه اداءً وقضاءا، فلا ینافی حینئذٍ مع صدق القضاء علی ما بعد زوال یوم الجمعة، کما قد جمع بینهما فی مثل


1- المصدر السابق، الحدیث 1.
2- الهدایة ،ص 103؛ مصباح الفقیه، ج 6، ص 21.
3- فقه الرضا، ص 175.
4- وسائل الشیعة: الباب 10 من أبواب الاغسال المسنونة، الحدیث 5.

ص:402

روایة سماعة کما علیه أکثر العبارات، سیّما مع النصّ منهم علی ثبوت القضاء فی الوقتین، کما عن المصنّف فی «المعتبر» والشهید فی غیر «النقلیة»، والعلاّمة فی غیر «التلخیص»، أو یراد فی کلامهم تحدید الآخر.

کما أنّ الظاهر عدم اختصاص القضاء فی یوم الجمعة بخصوص بعد عصره، بل یجوز الاتیان بالقضاء بعد الزوال، حتّی قبل العصر، وإنْ کان ظاهر الصدوقین هو الأوّل، ولعلّه للمرسل المتقدّم فی کتاب «الهدایة» عن الصادق علیه السلام : «إنْ نسیتَ الغُسل أو فاتک لعلّةٍ فاغتسل بعد العصر» أو ما فی «فقه الرضا»: «وإنْ نسیت الغُسل ثمّ ذکرت وقت العصر أو من الغد فاغتسل» وکذا فی خبر سماعة بقوله: «یقضیه فی آخر النهار».

ولکن الانصاف عدم ارادة ظاهر کلامهما من التخصص والتقیید بخصوص ذلک، بل المقصود هو الاشارة إلی ما بعد الزوال إلی اللّیل، کما وقع فی موثقة ابن بکیر المتقدم بقوله یغتسل ما بنیه وبین اللیل».

مع أنّه لا داعی إلی ارتکاب التخصیص مع کون السابق عن العصر فی القضاء أولی ممّا بعده، لأقربیته إلی الأداء المطلوب فی مثل ذلک، مع کونه من المسارعة إلی الخیر المطلوب عند الشرع.

ولا یخفی أنّ هذه المناسبات والاستحسانات إنّما نذکرها بعد مساعدة الدلیل علیه لا مطلقا کما یفعلهما العامّة.

وبالجملة: بعد الوقوف علی حکم القضاء فی الوقتین من یوم الجمعة وقضاء یوم السبت، یبقی الکلام فی الاتیان بالقضاء فی لیلة السبت، وفی باقی الأیّام من الاسبوع ولیالها غیرالسبت، فهل یجوز ذلک أم لا؟

أمّا الاوّل منهما: فظاهر بعض الأصحاب کونها کیومها فی الاستحباب، بل فی

ص:403

«البحار» نسبته إلی ظاهر الأکثر، وفی المجمع إلی الأصحاب، المُشعر بالاجماع کما عن الشیخ وابنی ادریس وسعید والبراج، والعلاّمة فی بعض کتبه کالشهید واختاره فی «المصابیح».

خلافا لظاهر المصنّف وغیره ممّن اقتصر علی ذکر یوم السبت، أو هو مع نهار یوم الجمعة، کما هو مقتضی الأصل وظاهر الاخبار من النص فی القضاء بیوم السبت أو الغد. وعلیه فما فی خبری مرسل حریز وجعفر بن أحمد القمی _ من احتمال ارادة السبت فیهما لما یشمل اللّیل _ کما تری.

مع احتمال اعتبار التماثل، فینفی الأولویة المدعاة هنا فی اللیلة.

والتمسک بالاستصحاب للقضاء الثابت فی یوم الجمعة وسرایته إلی اللّیل، فمقطوعٌ جریانه بظاهر تلک الأخبار، مع کون المثبت للقضاء هو النافی له فی اللّیلة.

والتمسک بالاجماع علی ثبوته ممنوعٌ، لأنّ من الأصحاب من خصّ الحکم بیوم السبت، کل ذلک مع اطلاق خبر ذریح المتقدّم فی نفی القضاء، فخروج نهار الجمعة والسبت یکون بالدلیل والباقی یبقی تحت عمومه واطلاقه، وخروجهما کذلک غیر قادح بالاستدلال کما لا یخفی.

أقول: ولکن برغم جمیع ذلک فإنّ الأقوی عندنا _ کما یساعد علیه کلام صاحب «الجواهر» وجماعة من المتأخّرین _ هو الجواز، کما نسب ذلک الی الاصحاب أیضا المشعر بالاجماع، فمجرّد احتمال اعتبار المماثلة لا یمنع عنه، هذا فضلاً عن أنّ مقتضی الاصل عدم اعتباره للبراءة عمّا لا نعلم وجوبه.

ودعوی ذکر (الیوم) فی الأخبار هو الموجب للعلم بالحکم، موقوفةٌ علی احراز کونه لأجل اعتباره، وهو أوّل الکلام، لامکان أن یکون القید واردا مورد الغالب، حیث أنّ الناس لا یدخلون الحمّام ولا یغتسلون غالبا الاّ فی النهار _ أی

ص:404

الیوم _ دون اللیل، ولذلک یذکر، وعلیه فلیس لذکره مفهومٌ حتّی یتمسک به لنفی الحکم فی غیره.

هذا، فضلاً عن امکان التمسک باستحصاب أصل القضاء، الثابت لما بعد الیوم من الجمعة.

وهنا احتمال آخر وهو امکان أن یکون ذکر یوم السبت لبیان أنّه یعدّ آخر زمان التحدید للصحة إنْ قلنا به، ولعلّ اطلاق بعد العصر یشمل غسل اللّیلة، لانّها أیضا تکون بعد العصر، وإنْ کان بعیدا.

هذا مع امکان التمسک بموثقة ابن بکیر المتقدمة، بناءً علی أن المراد بیوم الجمعة تمامه کما هو ظاهره، فیراد حینئذ من قوله: «ما بینه وبین اللّیل» إلی آخر اللیل، فیدلّ علی جواز القضاء لیلة السبت،

وجعل ارادة تمام اللّیل قرینة علی ارادة الیوم، هو الوقت المعهود والمتعارف، لیکون منتهی القضاء فی الیوم هو أوّل اللّیل، لیس باولی من عکسه، بأن یجعل (الیوم) أی تمام الیوم قرینةً علی أنّ المراد من اللّیل فی قوله: «ما بینه وبین اللّیل» من أوّل اللّیل إلی آخره، فیدلّ علی المطلوب.

هذا کلّه، مع أنّه لو سلّمنا رجحان الاحتمال الأوّل علی الثانی، وقلنا بأنّه یکفی فی ثبوت الاستحباب فی اللیلة من التمسک بأدلّة التسامح فی السنن بعد ما ثبت الاجماع أو الشهرة، لا أقلّ علی استحبابه، مع کونه موافقا للاحتیاط العقلی، وإنْ کان الاتیان القیام به بقصد الرجاء والمطلوبته جایزا قطعا وحسنا لعدم اثبات المنع من مضمون تلک الأدلّة اوّلاً، مع أنّه او سلّمنا کونه کذلک، یکون المنع بلحاظ کونه مستحبا بالوظیفة تشریعا لا منعا بحیث یشمل حتّی فیما لو أتی به بقصد الرجاء والمطلوبیة، کما لا یخفی.

ص:405

نعم، لا یبعد القول باستحباب اتیانه یوم السبت قضاءا ورجاءا مع امکانه، بعد ما أتی به فی اللّیلة تحصیلاً للمطلوب.

وأمّا الثانی: فالذی یظهر من صاحب «الجواهر» هو عدم الجواز، حیث قال: «نعم، قد یحصل _ أی الاشکال المذکور قبله _ فی جواز القضاء فی غیرهما من لیلة السبت خاصة، والاّ فغیرهما من اللّیالی والایّام، فلم أعرف أحدا نصّ علی شیءٍ منها، بل ظاهر الجمیع کالأدلّة العدم، إلاّ ما فی فقه الرضا: «فإنْ فاتک الغسل یوم الجمعة قضیت یوم السبت أو بعده من ایّام الجمعة»(1). وفی «البحار»: «إنّی لم أر به قائلاً ولا روایةً. قلت: فالأولی عدم العمل لظهور الاعراض عنه» انتهی محلّ الحاجة(2).

أقول: لکن الأقوی عندنا، هو ما علیه السید فی «العروة»، والمحقّق الآملی والمحقّق الهمدانی نقلاً عن «المصابیح» أنّه احتمله بعض مشایخنا المعاصرین، من جواز الاتیان به إلی آخر الاسبوع، تسامحا فی أدلّة السنن، بعد ما ثبت وروده فی «فقه الرضا»، وإنْ اعترض علیه صاحب «المصابیح» بأنّه لیس بجیّدٍ، لأنّ ظاهر الأدلّة ینفی ذلک، وأدلّة التسامح لا تجری مع ظهور المنع، فإنّه مخصوص بما یؤمن معه الضرر مع رجاء النفع. انتهی، هذا کما فی «کتاب الطهارة» للشیخ الانصاری.

ولکنک خبیر بأنّ الأدلّة المتقدّمة لا تنفی ذلک إلاّ بنحو السکوت، وهی غیر مفیدة. والتمسک بما فی الدلیل من ذکر یوم السبت فقط، حیث أنّه موجبٌ،

لذلک مندفعٌ بأنّه لا دلالة فیه، بل غایته الاشعار لذلک، فلا مانع من الاتیان به برجاء المطلوبیة، بل من الاتیان به بعنوان الاستحباب أیضا لکن من باب


1- فقه الرضا، المستدرک، ج 1، الباب 6 من أبواب الاغسال المسنونة، الحدیث 1.
2- الجواهر، ج 5، ص 20.

ص:406

المسامحة، بعد ما ورد فیه روایة ضعیفة غیر منجبرة بعمل الأصحاب والشهرة.

بل قد عرفت منّا سابقا بأنّه لو سلّمنا دلالة الأدلّة علی المنع، لکنها لا تمنع الاّ عن اتیانه بقصد الورود الواجب الفعلی _ ومثل هذا الفرض یعدّ تشریعا محرّما _ ولا تمنع عن الاتیان بقصد الاحتیاط والرجاء، لأجل ورود فی روایة ضعیفة غیر منجبرة. وعلیه فما احتمله بعض المشایخ _ کما فی «العروة» _ یکون فی غایته الجوردة والمتانة، واللّه العالم.

حکم ترک غُسل الجمعة عمدا

ثبت من خلال ما ذکرناه إنّ استحباب القضاء غیر منحصر بما إذا کان الترک لعذرٍ، بل هو ثابت حتی فیما لو ترک عمدا کما هو المشهور، کما فی «الکفایة» و«الذخیرة»، و«البحار». وفی «کشف اللثام» أنّه (ظاهر الأکثر) وهو الأقوی، کما علیه صاحبی «الجواهر» و«مصباح الفقیه» لاطلاق موثقة ابن بکیر وسماعة، وخبر عبداللّه بن جعفر القمی، بل وسائر الاطلاقات، بل هو مقتضی التسامح فی أدلّة السنن، فلیس فی البین ما یوجب الخلاف إلاّ وقوع التقیید والتخصیص فی مرسل «الهدایة» وحریز و«فقه الرضا» من التقیید بالنسیان فی الثلاث والعلّة فی الأوّل حیث لا یوجب تقیید المطلقات فی المثبتات، خصوصا فی باب المستحبات، مع عدم ظهورها فی التقیید، لامکان أن یکون ذکر ذلک من باب الغلبة لمن أراد الاتیان بالغُسل نوعا. أو کون التخصیص فی مثله من باب ذکر الفرد الخفی من القضاء مع العذر من باب التنبیه بالأدنی علی الاعلی، والاّ فإنّ مقتضی وجود المصلحة وهو قابلیة تدارک الغُسل هو جواز الاتیان بل استحبابه عند التمکن، ولو کان ترکه عمدا. بل قد یستشعر محبوبیة مطلقا من التعلیل

ص:407

الوارد فی بعض الأخبار:

منها: حیث قال فی ذیله: «فإنّه لا یزال فی طهر إلی الجمعة الأخری»(1).

ومنها: روایة ابراهیم بن اسحاق مثله، إلاّ أنّه قال: «فانّه لا یزال فی همّ إلی الجمعة الاخری» حیث یستفاد منهما ومن اضرابهما أن الغُسل ولو بنحو القضاء مطلوب لرفع الهمّ أو تحصیل الطهر.

فبناء علی ما ذکرنا لا یکون الصدوقان المفتیان بمرسل «الهدایة» من المخالفین فی المسألة، وبالتالی فلا خلاف فیها الاّ عن «موجز أبی العباس» حیث قال: «ویقضی لو ترک ضرورةً إلی آخر السبت» مع امکان أن یکون مراده بیان حکم القضاء لمن ترکه لضرورةٍ عند أهل الغسل والمتشرعة ممّن یواظبه، لا بأن یکون قیدا احترازیا حتی یصیر مخالفا فی المسألة، کما تُوهمه عبارته.

وأیضا: لا فرق فی استحباب القضاء بین کونه تارکا عمدا للغُسل یوم الجمعة لما بعد الزوال، أو تارکه لتمام الیوم، فیقضی فی السبت، خلافا لما یستشعر من کلام العلاّمة فی «التحریر» حیث قال: «لو ترک تهاونا ففی استحباب قضائه یوم السبت اشکال) لأنّ القضاء کما یستحبّ فی ترکه العمدی فی نهار الجمعة، کذلک یستحبّ لتارکه فی یوم الجمعة عمدا اتیانه یوم السبت، لاطلاق الأدلّة.

وأیضا: لا فرق فی استحبابه وصحة وقوعه فی یوم السبت بین ممن کان قادرا علی اتیانه یوم الجمعة وترکه، أو کان معذورا فی اتیانه وترکه؛ وإنْ یوهم هذا التفصیل خبر سماعة حیث قال علیه السلام :«نهار الجمعة، وإنْ لم یجد یقضی یوم السبت»، بل قد أفتی بمضمونه صاحب «النهایة» لأنّه من الواضح عند العرف أنّ ذکر هذا القید لیس للتقیید وبیان شرط الصحة، لوجود اطلاقات کثیرة تدلّ علی محبوبیته مطلقا.


1- وسائل الشیعة: الباب 7 من أبواب الاغسال المسنونة، الحدیث 2.

ص:408

نعم، یمکن القول باستحباب التسریع فی القضاء باتیانه فی نهار الجمعة، لأنّ ذلک یعدّ مسارعة إلی الخیر والقرب إلی الاداء، بل الحکم کذلک فی یوم السبت تعجیله وتسریعه أحسن وأولی، حتّی لا یتأخر، إذ فی التأخیر احتمال وجود موانع تمنع عنه بالمرّة، ولأجل ذلک یمکن القول باستحباب التسریع فی خصوص السبت، الاّ من جهة رعایة قرب الزوال فیه مثل یوم الجمعة، بأن یکون تأخیر الغُسل یوم السبت قضاءً الی قریب الزوال أفضل، فکما قیل بذلک فی حق الأداء، کذلک یقال فی حقّ القضاء، فحینئذٍ لا معنی للحکم باستحباب التسریع فی اتیانه أوّل النهار من یوم السبت، ولا یخفی علی المتأمّل وجاهة هذا الأمر.

بیان المراد من حکم الجواز

ثم إنّ المراد من الجواز فی کلام الماتن من التعجیل والقضاء، لیس هو الاباحة، بل المراد هو الاستحباب قطعا، إذ لا معنی للاباحة فی باب العبادات، هذا بناءً علی القول باستحباب غُسل الجمعة، حیث لا یمکن تقدّم الفرع علی الأصل، بأن یکون أصل الغسل اداءً مباحا وقضائه مستحبا، فلابدّ أن یکون المراد هو الاستحباب.

نعم، بناءً علی القول بالوجوب یحتمل فیهما الاستحباب والوجوب کأصله، کما لعلّه الظاهر من الأمر به فی عبارة الصدوقین، وعن «الکافی» ما یشعر به أیضا. اللّهم إلاّ أن یحمل الأمر فیه تأکّد الاستحباب کما مضی بحثه، ففی القضاء وعدمه أیضا یکون کذلک، ولعلّه لذلک أمر بالتأمّل فی «الجواهر» بعد ذکره بقوله: «فتأمل» والأمر سهلٌ.

وأمّا کیفیّة غُسل الجمعة تکون علی حسب کیفیة غُسل الجنابة ونحوها من

ص:409

الأغسال الواجبة بلا فرق بینهما، فیمکن أن یأتی به کسائر الاغسال المسنونة علی نحو الترتیب والارتماس، وهکذا یشترک معها فی سائر أحکامها کما لا یخفی.

ویستحبّ الدعاء عند غُسل الجمعة بما هو المأثور، ومنه ما عن الصادق علیه السلام بأن یقول: «اللّهم طهّر قلبی من کلّ آفة تمحق بها دینی، وتبطل بها عملی، اللّهمّ اجعلنی من التوابّین، واجعلنی من المتطهرین». آمین رب العالمین.

ص:410

الأغسال المستحبة فی شهر رمضان

الأغسال المستحبة فی شهر رمضان

قوله قدس سره : وستة فی شهر رمضان أوّلها أوّل لیلةٍ منه (1)

(1) من الاغسال التی تستحبّ اتیانها للوقت، هی الأغسال الرمضانیّة، وهی ستة عشر غسلاً:

الغُسل الأوّل: غُسل لیلة من رمضان:

واستحبابه مسلمٌ عند الاصحاب، کما فی «المعتبر» و«الروض»، بل فی الأخیر و«الغنیة» دعوی القیام الاجماع علیه وهو الحجّة، مضافا إلی دلالة بعض الاخبار علیه:

منها: خبر سماعة، عن الصادق علیه السلام : «وغسل أوّل لیلة من شهر رمضان مستحبّ»(1).

ومنها: روایة فضل بن شاذان، عن الرضا علیه السلام : «وأوّل لیلة من شهر رمضان»(2).

ومنها: فی روایة «الاقبال» روی ابن أبی قرّة فی کتاب «عمل شهر رمضان»، باسناده إلی الصادق علیه السلام : «یستحب الغُسل فی أوّل لیلة من شهر رمضان ولیلة النصف منه(3).

ثمّ قال: إنّی رأیت فی کتابٍ اعتقد أنّه تألیف أبی محمّد جعفر بن أحمد القمی


1- وسائل الشیعة: الباب 1 من أبواب الاغسال المسنونة، الحدیث 3.
2- المصدر السابق، الحدیث 6.
3- وسائل الشیعة: الباب 14 من أبواب الاغسال المسنونة، الحدیث 1.

ص:411

عن الصادق علیه السلام : «من اغتسل فی اوّل لیلة من شهر رمضان فی نهر جار ویصبّ علی رأسه ثلاثین کفا من الماء طهر إلی شهر رمضان من قابل»(1).

ثمّ قال أیضا: ومن الکتاب المشار إلیه عن الصادق علیه السلام أیضا: «من أحبّ أن لا تکون به الحکّة فلیغتسل أوّل لیلةٍ من شهر رمضان، فلا تکون به الحکّة الی شهر رمضان من قابل»(2) انتهی ما فی الاقبال.

فهذه الاخبار کما رأیت قد دلّت علی استحباب الغُسل فی اوّل اللّیلة من رمضان.

بل قد یثبت استحبابه لاوّل للیوم الأول منه _ وان لم یذکره المصنّف قدس سره _ من بعض الأخبار أیضا، وهو مثل ما رواه السید فی «الاقبال» باسناده عن السکونی، عن جعفر بن محمّد، عن أبیه، عن آبائه، عن أمیرالمؤمنین علیهم السلام ، قال: «من اغتسل أوّل یوم من السنة فی ماء جارٍ، وصّب علی رأسه ثلاثین غرفةً، کان دواء السنّة، وإنّ أوّل کُلّ سنة أوّل یوم من شهر رمضان»(3).

ولعلّ وجه ترک المصنّف له هو أنّ اوّل السنة عنده هو أوّل المحرم، کما تری «البحار» حیث نقل هذه الروایة إلی قوله: «دواء السنة» ثم احتمل لذلک فی أوّل السنة من المحرّم ومن شهر رمضان، مع انّه یرد علیه: أنّه ترک نقل تتمة الخبر، حیث صرّح بأنّ أوّل السنة هو أول شهر رمضان، کما ورد التصریح کذلک فی روایات عدیدة نقل السیّد رحمه الله جملة منها فی «الاقبال»، ثمّ قال: «واعلم أنّی وجدت الروایات فی أنّ أوّل السنة محرّم أو شهر رمضان، لکنی رأیت عمل من أدرکته من علماء أصحابنا المعتبرین، وکثیرا من تصانیف علمائهم الماضین، أنّ


1- وسائل الشیعة: الباب 14 من أبواب الاغسال المسنونة، الحدیث 4.
2- المصدر السابق، الحدیث 5.
3- وسائل الشیعة: الباب 14 من أبواب الاغسال المسنونة، الحدیث 7.

ص:412

اوّل السنة شهر رمضان علی التعیین» انتهی ما فی «الاقبال»(1).

بل وفی «مصباح» الشیخ: «أنّ المشهور من روایات أصحابنا أنّ شهر رمضان أوّل السنة» ولذلک رتّب کنابه علیه، ففی هذا کنایة فی اثبات الاستحباب للیوم الأوّل من شهر رمضان، وإنْ جاز القیام به فی أوّل المحرم رجاءً أیضا عملاً بالاحتمال المذکور فی الروایات المشتملة علی الاطلاق بأوّل یوم السنة.

بل وکذا یستحبّ الغُسل فی سائر لیالی فرادی شهر رمضان، وفاقا لجماعة من أساطین أصحابنا، منهم: الشیخ، قال _ علی ما نُقل عنه _ : «وإنْ اغتسل لیالی الإفراد کلّها، وخاصة لیلة النصف کان له فضل کثیر» انتهی. ولعلّه قاله اعتمادا علی ما رواه السید فی «الاقبال»(2).

وقال فی سیاق أعمال اللّیلة الثالثة من الشهر: «وفیها یستحبّ الغُسل علی مقتضی الروایة التی تضمنّت أنّ کلّ لیلة مفردةٍ من جمیع الشهر یستحبّ فیها الغسل».

ثمّ قال صاحب «الجواهر»: «وذلک کافٍ فی اثباته».

بل وکذا یستحب الغُسل فی العشر الأواخر کلّها شفعها ووترها، للمرسل المروی عن ابن أبی عمیر، المنقول فی «الاقبال» نقلاً من کتاب علی بن عبدالواحد النهدی، عن بعض أصحابنا: «کان رسول اللّه صلی الله علیه و آله یغتسل فی شهر رمضان فی العشر الأواخر فی کلّ لیلة»(3).

وأیضا رواه فی «الاقبال» نقلاً عن أحمد بن عیاش، قال: «قال أمیرالمؤمنین علیه السلام : لما کان أوّل لیلة من شهر رمضان قام رسول اللّه صلی الله علیه و آله فحمداللّه


1- الاقبال، ص 4.
2- الاقبال، ص 121.
3- وسائل الشیعة: الباب 14 من أبواب الاغسال المسنونة، الحدیث 10.

ص:413

واثنی علیه... إلی أن قال: حتّی إذا کان اوّل لیلة من العشر، قام فحمداللّه واثنی علیه، وقال مثل ذلک، ثمّ قام وشمّر وشدّا المئزر وبرز من بیته واعتکف وأحیی اللّیل کلّه، وکان یغتسل کلّ لیلةٍ منه بین العشائین») انتهی ما فی «الاقبال»(1).

أقول: بناءً علی رجوع الضمیر فی منه إلی العشر، یصیر المراد منه العشر الأواخر لا کلّ لیلةٍ من الشهر کما استظهره المجلسی فی «زاد المعاد» إذ علی هذا التقدیر یصیر هذه الروایة دلیلاً علی استحباب الغُسل فی کلّ لیلة من الشهر بلا اختصاص بالعشر الأواخر.

ولکن فی «العروة» قال: «قیل باستحباب الغُسل فی جمیع لیالیه، حتّی لیالی الأزواج، وعلیه یصیر اثنان وثلاثون، ولکن لا دلیل علیه، لکن الاتیان لاحتمال المطلوبیة فی لیالی الازواج من العشرین الأوّلین لا بأس به» انتهی کلامه.

مع أنّه بناءً علی ما نُقل من رجوع الضمیر فی منه فی خبر ابن عیّاش إلی الشهر، یثبت استحبابه فی کلّ لیلة کما فهمه المجلسی، فلا یکون حینئذٍ حکمه بلا دلیل علیه.

ولکن قد یبعّده أنّه لو کان الأمر کذلک، فلا وجه حینئذٍ لبیان استحباب الغُسل فی کلّ لیلة فرادی، أو ما یذکر من اللّیالی الخاصّة، الاّ أن یراد به غسلاً خاصا آخر وراء ذلک غیره، فحینئذٍ یلزم صیرورة اعداد الغُسل أکثر ممّا ذکره صاحب «العروة»!

.هلیخ، فالأولی ارجاع الضمیر إلی العشر الأواخر کما فهم ذلک منه صاحب «الجواهر» وغیره، حیث قال: «الاّ أنّه لم أعثر علی ناصٍّ علیه إلاّ بما عن المحدّث فی «الوسائل» حیث قال علی ما نُقل بعد ذکره الروایة السابقة: إنّ الظاهر عود الضمیر إلی الشهر فانّه أقرب الوجوه» وکیف کان، فإنّه لا بأس باتیان الغسل فی


1- الاقبال، ص 21.

ص:414

قوله قدس سره : ولیلة النصف(1)

کلّ لیلة رجاءً، کما لا اشکال فی استحباب الغُسل فی کل لیلةٍ من العشر الأواخر علی التقدیرین.

هذا مضافا إلی ما ورد فی استحبابه فی خصوص لیلة القدر منه، فیحمل علی التأکید لما ورد غسله فی کل لیلة، فیصیر هذا جوابا للمبعّد الذی ذکرناه، کما قد ورد الأمر بالخصوص عن الصادق علیه السلام علی ما هو فی «الاقبال» من الغُسل فی لیلة أربعة وعشرین نقلاً عن «کتاب الحسین بن سعید»(1)، ونحوه فی«الخصال»(2)، بل وکذا فی الخمس والعشرین، والسبع والعشرین، والتسع والعشرین(3). مضافا إلی انّها تعدّ من لیالی الفرادی التی استحب فیها الغسل، بل عن «فلاح السائل» نقلاً عن کتاب ابن أبی قرّة فی کتاب عمل شهر رمضان: «وغسل لیلة أربع وعشرین منه» وروی فی ذلک روایات، مع أنّه من المسلّم عند الفقهاء بأنّ المستحب یثبت بأدنی من ذلک، کما لا یخفی.

(1) الغُسل الثانی: من الأغسال الستة المستحبة، هو غُسل لیلة النصف من رمضان، ولا خلاف فی استحبابه، وإنْ کان ربما توقف فیه بعض متأخری المتأخّرین، ولعلّه لم یجد مستندا من النص، لکنّه محجوج:

1_ مضافا إلی نصّ بعض الأساطین علی استحبابه، بل قد ادّعی فی «الغنیة» الاجماع علیه، وفی «الوسیلة» من عدم الخلاف، وهو کافٍ فیه.


1- الاقبال، ص 215.
2- وسائل الشیعة: الباب 1 من أبواب الاغسال المسنونة، الحدیث 5.
3- وسائل الشیعة: الباب 14 من أبواب الاغسال المسنونة، الحدیث 12_13.

ص:415

2_ مع انّه یشمله ما ورد فی استحباب الغُسل فی کلّ لیلة فرادی.

3_ أنّه بالخصوص منصوصٌ علیه وهو کما فی «الاقبال»: روی ابن أبی قرة فی کتاب عمل شهر رمضان، باسناده إلی الصادق علیه السلام : «یستحب الغسل فی أوّل لیلةٍ من شهر رمضان ولیلة النصف منه»(1).

وفی المرسل من «المقنعة» عن الصادق علیه السلام : «انّه یستحبّ الغُسل فی لیلة النصف من شهر رمضان»(2). إلی غیر ذلک: «فکانّ المصنّف فی «المعتبر» لم یعثر علی شیء ممّا ذکرنا، حیث استدلّ علی ذلک _ بعد أن نسبه إلی الثلاثة _ بأنّه لعلّه لشرف تلک اللّیلة فاقترانها بالطهر حسن، ولکن قد عرفت وجود الدلیل الخاص.

وبالجملة: لا نحتاج لاثبات استحبابه بخصوصه الی هکذا استدلال، وإن کان ما ذکره من جهة کون الغُسل مستحبا فی نفسه وإنْ لم یحصل شیءٌ من موجباته وجیهٌ، کما ذکره فی غُسل التوبة، وغُسل شهر رجب وغیرهما کما عن العلاّمة مثله فی غسل التوبة فی «المنتهی» بامکان أنّ نظرهما الی ما ورد من: «أنّ الطهر علی الطهر عشر حسنات»(3)، أو قوله علیه السلام : «أیُّ وضوءٍ أطهر من الغسل»(4)، وما ورد فی بعض الروایات من الأمر بالغُسل بماء الفرات من غیر تعیین علّة أو غایة(5)، أو غیر ذلک بما یستفاد منه ذلک.

ولکن الانصاف عدم دلالة شیء منها علی ذلک، لأنّ التعلیل مشیرٌ إلی ما فیه


1- وسائل الشیعة: ج 6، الباب 14 من أبواب الاغسال المسنونة، الحدیث 1.
2- وسائل الشیعة: الباب 8 من أبواب الوضوء، الحدیث 3.
3- وسائل الشیعة: الباب 8 من أبواب الوضوء، الحدیث 3.
4- وسائل الشیعة: الباب 33 من أبواب الجنابة، الحدیث 1.
5- وسائل الشیعة: الباب 59 من کتاب المزار، الحدیث 1.

ص:416

الطهر الثابت بدلیلٍ، وهو أوّل الکلام لکلّ غسل بلا موجبٍ، کما لا یخفی. هذا فضلاً عن أنّ الأصل یقتضی خلافه، بل الاصحاب حصروه فی غیر هذا الموارد.

نعم، اتیانه بذلک مع رجاء المطلوبیة غیر بعید فی ما ثبت فی الجملة وروده، ولو بنقل کلام العلماء، بمقتضی قاعدة التسامح فی أدلّة السنن، فاستحبابه بهذا المعنی _ أی بالاحتیاط العقلی _ أمر مقبول.

کما أنّ مشروعیة تجدید الأغسال المسنونة بذلک المعنی غیر بعیدٍ، لکن لا بالاستحباب المتعارف فی سائر الاغسال، إذ الأقوی حینئذٍ عدمها کما علیه صاحب «الجواهر» وفاقا للمنقول عن نصّ العلاّمة والشهید، ونسبه بعض المحقّقین إلی ظاهر الأصحاب، بل إلی المعلوم من طریقة المسلمین للأصل وعدم وضوح دلیل علیه، ولعلّه هو مراد العلاّمة فی «المنتهی» فی غُسل الاستحاضة من مشروعیته بمقتضی دلیل التسامح فی أدلة السنن، لما قد نقل عن «الکافی» من القول باستحباب الغُسل فی کلّ زمانٍ شریف ومکانٍ شریف.

وربما یشهد له فحوی کثیر من الأخیار کالتعلیل الوارد فی غُسل العیدین عن الرضا علیه السلام (1)، وکذا فی غُسل الجمعة(2)، وأغسال لیالی القدر(3) ونحوه، خصوصا مع ملاحظة ما قلنا سابقا بأنّ المستحب یثبت بأدنی شیءٍ من الدلیل یوجب صحة اتیانه بنحو الرجاء والمطلوبیة، وارادة ذلک من المشروعیة أمر وجیه. واللّه العالم.


1- وسائل الشیعة: الباب 6 من أبواب الاغسال المسنونة، الحدیث؟؟؟.
2- المصدر السابق، الحدیث؟؟؟.
3- المستدرک، ج 1، الباب 2 من أبواب الاغسال المسنونة، الحدیث 1.

ص:417

قوله قدس سره : وغُسل سبع عشرة (1)

قوله قدس سره : وتسع عشر، واحدی وعشرین، وثلاث وعشرین (2)

(1) الغُسل الثلث: من الأغسال المستحبة فی شهر رمضان، هو غسل لیلة السابع عشرة من شهر رمضان، وهو ثابت لاخلاف علیه کما ادّعی علیه الاجماع فی «الغنیة» و«الروض» و«الوسیلة» بعدم الخلاف فیه، وفی «المعتبر» نسبته إلی الاصحاب، مضافا إلی امکان الاستدلال علیه بما ورد من الغُسل فی کلّ لیلة فرادی. هذا فضلاً عن دلالة النصوص المعتبرة بالخصوص علیه:

ومنها: صحیح محمّد بن مسلم، عن أحدهما علیهماالسلام ، قال: «الغسل فی سبعة عشر موطنا لیلة سبع عشرة من شهر رمضان، وهی لیلة التقی الجمعان، الحدیث»(1).

ومنها: الروایة الحسنة المرویة عن الباقر علیه السلام مثله(2).

ومنها: خبر الأعمش عن الصادق علیه السلام (3). وأیضا خبر فضل بن شاذان عن الرضا علیه السلام (4) المرویّ فی العیون، وأیضا مرسلتی «الفقیه»(5) و«الاقبال»(6).

(2) الغُسل الرابع والخامس والسادس: من الأغسال المستحبة، غُسل هذه اللیالی الثلاثة. والدلیل علیه:

مضافا إلی الاجماع المحکی _ إنْ لم یکن محصّلاً _ فی «الغنیة» و«الروض»


1- وسائل الشیعة: الباب 1 من أبواب الاغسال المسنونة، الحدیث 11.
2- المصدر السابق، الحدیث 5.
3- المصدر السابق، الحدیث 8.
4- المصدر السابق، الحدیث 6.
5- المصدر السابق، الحدیث 4.
6- الاقبال، ص 158.

ص:418

و«المصابیح»، نصوص معتبرة بالفة حدّ الاستفاضة علی ذلک، بل فی بعضها ما یدلّ علی النهی من الترک فی الأخیر، مثل خبر سماعة فی حدیثٍ طویل عن الصادق علیه السلام ، قال: «وغسل لیلة ثلاث وعشرین سنّة لا تترکها»(1) حیث یحتمل أن یرجع ضمیر (لا تترکها) إلی السُّنة، فیشمل لیلة احدی وعشرین وثلاث وعشرین، ولذلک قال صاحب «الجواهر» فی الأخیرین: «أو یرجع إلی خصوص الأخیر علی ما احتملنا» ولکن الأولی غیر الثانی، أی رجوعه إلی کلّیهما کما فی «الجواهر» والنهی محمول علی الکراهة أو علی تأکد الاستحباب.

ومن ذلک یظهر أنّ استحبابه أشدّ من استحبابه فی لیلة التاسع عشرة، کما قد یؤیده کونه من العشر الأواخر. کما یظهر من الأخبار أنّ غُسل لیلة الثالث والعشرین آکد من غُسل لیلة احدی وعشرین، مع أنّهما مشترکان فی کونهما من العشر الأواخر وکونهما من الفرادی، ولکنه یمتاز بأنها محلاً لغُسلٍ آخر فی آخر اللیل، لانّه أرجی بکونه من لیلة القدر، کما یؤمی الیه خبر الجهنی(2) وغیره، کما ثبت استحباب تکریر الغُسل فی آخر اللّیل بمقتضی روایة بُرید المضمرة، قال: «رأیته اغتسل فی لیلة ثلاث وعشرین مرتین، مرّة من أوّل اللّیل ومرّة من آخر اللّیل»(3).

وروی السیّد فی «الاقبال» مثله، عن أبی عبداللّه علیه السلام ، الاّ أنّه قال: «لیلة ثلاث وعشرین من شهر رمضان».

وبذلک یرتفع اضماریته، لاحتمال الاتحاد، مع أنّ برید بن معاویة وهو الفقیه الکبیر أجلّ شأنا أن ینقل مثل ذلک عن غیر الامام علیه السلام .


1- وسائل الشیعة: الباب 1 من أبواب الاغسال المسنونة، الحدیث 3.
2- وسائل الشیعة: الباب 32 من أبواب احکام شهر رمضان، الحدیث 11.
3- وسائل الشیعة: الباب 5 من أبواب الاغسال المسنونة، الحدیث 1.

ص:419

کما انّه لو أتی بالغسل فی الاثناء کان کافیا عن الغسل فی الآخر، إذا کان قد أتی بالغسل فی اوّل اللّیل إنْ أجزنا اتیان الغُسل قبل وقته بالنسبة إلی آخر اللّیل، اقتصارا فی مشروعیته علی ما وصل الینا.

کما أنّه لو أتی بالغسل فی اوّل اللّیل اکتفی به بالغسل فی آخر اللّیل دون الحاجة الی تکراره فی الاثناء.

نعم له الاکتفاء بواحدٍ منهما کما أشرنا، ولذا کان ذلک فی خصوص الاثناء ولو بقصد الرجاء لمن ترک الغُسل فی الاوّل ویعلم عدم قدرته علی الاتیان فی الآخر، ولعلّه لذلک أمر بالتأمّل فی «الجواهر» بل صرّح بعد ذلک بجواز الاتیان بواحدٍ فی أی جزءٍ من أجزاء اللّیل مخیرا إذا أضیف الغُسل إلی اللّیل أو الیوم، من غیر فرقٍ بین غسل لیالی القدر وغیرها.

بل قد یدلّ علی الجواز کذلک، ما فی ورد صحیح عیص بن القاسم، عن الصادق علیه السلام : قال: «سألته عن اللّیلة التی یُطلب فیها ما یطلب متی الغُسل؟ فقال: من أوّل اللّیل وإنْ شئت حین تقوم من آخره، الحدیث»(1).

هذا لو لم نقل بأنّ المقصود فیه هو الغُسل الوارد فی اللّیل علی النحو المطلق، والاّ لما یشمل ما ورد فیه بخصوص أوّله أو آخره، ولاجل ذلک قلنا إنّ الاتیان فی مثله بغیر وقته بقصد الرجاء کان أولی. نعم فی القسم الأوّل لا یبعد کون أوّل اللّیل فالأوّل أحبّ للمسارعة، وکونه فی الاوقات الزائدة بعده یکون مع الطهارة، وهو مطلوب شرعی، ولعلّه لذلک ورد: فی صحیح محمد بن مسلم، عن أحدهما علیهماالسلام ، قال: «والغسل فی أوّل اللّیل وهو یُجزی... إلی آخره»(2).


1- وسائل الشیعة: الباب 13 من أبواب الاغسال المسنونة، الحدیث 3.
2- وسائل الشیعة: الباب 13 من أبواب الاغسال المسنونة، الحدیث 1.

ص:420

وکذا فی خبر ابن بکیر: «أنّه سأل أبا عبداللّه علیه السلام عن الغسل فی رمضان، إلی أن قال: والغُسل أوّل اللّیل. قلت: فإن نام بعد الغُسل؟ قال: فقال: ألیس هو مثل غُسل یوم الجمعة إذا اغتسلت بعد الفجر کفاک»(1).

أقول: کما قد یشعر إلی ما ذکرنا من أنّ المسارعة الیه محبوبٌ وعن الانحصار به تشبیهه بغسل الجمعة لو أتی به بعد الفجر، هذا کما فی «الجواهر».

ولکن لا یخفی أن التشبیه المذکور کان فی نفس الأجزاء باتیانه فی أوّل الوقت وبأنّه لا یَبطُل بالنوم أو بسائر الأحداث کالغُسل فی یوم الجمعة _ لکون الغسل فی ذلک من الأغسال الزمانیة، التی إذا تحققت یثبت إلی الجمعة الأخری _ لا فی کون المسارعة والتعجیل فیه أحسن ،لما عرفت أن الحکم عکسه فی غُسل الجمعة _ باعتبار أنّ التأخیر إلی الزوال فیه أفضل.

بل قد استدلّ لذلک فی «الجواهر» بما ورد عن النبی صلی الله علیه و آله أنّه کان یغتسل کلّ لیلة منه بین العشائین،(2) بضمیمة روایة الأخری مطلقة وهی روایة النهدی عن بعض أصحابنا، عن أبی عبداللّه علیه السلام ، قال: «کان رسول اللّه صلی الله علیه و آله یغتسل فی شهر رمضان فی العشر الأواخر فی کلّ لیلة»(3).

وفی روایة أخری فی کتاب النهدی مثله(4). الأغسال المستحبة فی شهر رمضان

وبالجملة: مقتضی الجمع بین الادلّة هو ما ذکرنا من کفایة الغسل فی أی جزءٍ من اجزاء اللّیل. وعلیه فما فی «المصابیح» من التوقیت بخصوص ما بین


1- وسائل الشیعة: الباب 11 من أبواب الاغسال المسنونة، الحدیث 4.
2- وسائل الشیعة: الباب 14 من الاغسال المسنونة، الحدیث 6.
3- المصدر السابق، الحدیث 10.
4- المصدر السابق، الحدیث 14.

ص:421

العشائین للعشر الأواخر لا یخلو عن نظر».

ولکن نقول لا یبعد أن یکون الاتیان بالغُسل فی هذا الوقت الخاص سببا لزیادة الأجر والثواب من الاتیان فی سائر الاوقات.

أقول: ثمّ لا یخفی أنّ مقتضی ظاهر خبر ابن بکیر عدم ناقضیة النوم للغسل المتعلق بالزمان، فیکون غسل شهر رمضان فی أی وقتٍ منه کغُسل الجمعة فی عدم نقضه بمثل النوم، فلا استحباب فی اعادته کما هو مقتضی الاصول والقواعد، لأنّ مقتضاه لیس الاّ الاتیان بالغُسل علی نحو صرف الوجود وقد حصل به الامتثال وسقط التکلیف، لحصول الغرض، بل لازمه حصول ذلک حتّی بالنسبة إلی سائر الأحداث من الصغیرة والکبیرة غیر النوم أیضا، ولأجل ذلک ادّعی الاجماع علی عدم الاعادة بهذه الأحداث صاحب «المصابیح» حتّی قال: «لو أعاد بواسطة الأحداث الصادرة لکان مشرّعا وحرام».

نعم لو أعاد لأجل احتمال تحقق الخلل فیه، أو من باب الاحتیاط لکان راجحا، کما أنّ الأمر کذلک فی غیر المقام من سائر الموارد المشابهة لذلک.

توضیح ذلک: أقول إنّ ما ذکر بالنسبة إلی غُسل الزمان ممّا لا اشکال فیه ولا خلاف ظاهرا، الاختلاف فی الأغسال المربوطة بالأفعال _ کغُسل الاحرام ودخول مکّة وغیرهما _ فقد نوقش فی أنّه لو نام بعد الغُسل وقبل الاتیان بالفعل الذی اغتسل لأجله هل یوجب النوم أو غیره من الأجداث نقض الغُسل لتستحبّ الاعادة أم لا؟

أقول: البحث وان لم یکن المقام محلّه، ولذلک ترکه بعض الفقهاء هنا کصاحب «مصباح الفقیه» قدس سره ، ولکن تعرّض له صاحب «الجواهر»، فالمناسب أن نبحث عنه، فنقول: جاء فی بعض الأخبار وفیها الصحیح أنّه: «لو نام بعد الغُسل قبل

ص:422

الاتیان بالفعل اعاده» حیث یستفاد من ظاهره أنّ النوم ناقضٌ للغُسل. وهذه الأخبار وإنْ وردت فی خصوص النوم وسائر الأحداث بعد غُسل الاحرام وغُسل دخول مکّة غیر، ولکن ظاهر بعض الأخبار عدم الفرق بین هذین الغُسلین وبین غیره من الأغسال المستحبة للأفعال، لوحدة الملاک والمناط، حتّی أنه قد نسب بعض المحققین ذلک إلی الأصحاب المشعر بوجود الاجماع علیه، بل قد یستفد ذلک من التعلیل الموجود فی خبر عبدالرحمن بن الحجاج، قال: «سألتُ أبا ابراهیم علیه السلام عن الرجل یغتسل لدخول مکّة ثم ینام فیتوضأ قبل أن یدخل، أیجزئه ذلک أو یعیده؟ قال: لا یُجزئه لانّه إنّما دخل بوضوء»(1). والمستفاد فی ظاهر هذا الخبر کونه مشیرا إلی بیان ما هو العلّة لا عادته، حیث یفید أنّه لم یترتب علی الغسل غایته المشروعة له، لأنّ نقضه کان قبل ترتیب الأثر علیه، مما یفید أن ناقضیته تکن مثل نقض الوضوء بالنوم قبل الاتیان بالصلاة.

الاّ أنّه قد خالف فیه ابن ادریس، وجعل الغُسل للافعال کالغسل للزمان بکفایة مجرد حصول الامتثال بالاتیان ولولم یترتب علیه الفعل، خصوصا مع تأییده بما ورد فی الأخبار بأنّ الغُسل فی اول اللّیل أو أوّل الیوم یُجزی لآخرهما، بل فی «الجواهر» أنّه موافق للأصل لولا الاجماع علی خلافه، الاّ أنّه ضعّفه لأجل الأخبار الخاصة الواردة فیه من الحکم بالاعادة، هذا.

ولکن الانصاف أن یقال: إنّ مقتضی الأصل هنا ما دلّ علیه النصّ، لما قد بینا من الفرق بین الموردین، حیث أنّ المقصود من الأغسال فی الزمان لیس إلاّ صرف تحقق الغُسل، فاذا حصل وامتثل سقط الأمر فلا یبقی للنقض بالنوم وغیره موقع


1- وسائل الشیعة: الباب 6 من مقدمات الطواف من کتاب الحج، الحدیث 1.

ص:423

ومحلّ، وهذا بخلاف الغُسل الفعلی حیث أنّ الغرض منه لیس مجرد تحقّقه، بل الغرض منه هو ترتّب ما یترتب علی الغُسل، وهو لم یکن حاصلاً. إلاّ بعد ایجاد الناقض القابل للاتّصاف بالناقضیة قبل حصول الاثر وترتّبه علیه. فاذا دعوی حصول الامتثال وسقوط التکلیف به، وکونه مطابقا للأصل هنا مجازفة، فالأولی ردّ قوله لکونه مخالفا للأصل والنصوص.

أقول: وممّا ذکرنا بالنسبة الی النوم ظهر حکم سائر الاحداث غیره فی الموردین، من عدم الناقضیة فی الأغسال الزمانیة، والناقضیة فی الأغسال الافعالیة، لوحدة الملاک والمناط فی الموردین، کما هو مورد وفاق المحکیّ عن العلاّمة والشهید وأبو العباس، وإنْ اقتصرت الأخبار بالناقضیة لخصوص النوم.

هذا، وقد خالف فیما ذکرناه بعض آخرین بدعوی أنّ مقتضی الأصل ذلک وقد عرفت فساده، وتمسکا بالأخبار الدالّة علی إجزاء غُسل اوّل اللیل لأخره. مع أنّه مندفع بکونه مخصوصا للأغسال الزمانیة، وقد عرفت صحة ذلک دون الغُسل للأفعال.

کما ظهر بما ذکرنا عدم تمامیة ما ادّعاه صاحب «الجواهر» من عدم تحقق نقض الغُسل بالنوم وغیره هنا، وإنْ کان اعادة الغسل مستحبةً لأجل الجمع بین الأدلّتین، مع انّک قد عرفت التفاوت بینهما، وعدم الحاجة إلی مثل هذا الجمع، مع أنّه قد اعترف بظهور خبر عبدالرحمن فی النقض، وحَمَله علی النقض فی الکمال والفضل دون الإجزاء لیس علی ما ینبغی کما لا یخفی.

نعم، نتیجة ما ذکره بملاحظة ورود الخبر الصحیح عن العیص بن القاسم، قال: «سألت أبا عبداللّه علیه السلام عن الرجل یغتسل للاحرام بالمدینة ویلبس ثوبین، ثمّ ینام قبل أن یحرم؟ قال لیس علیه غسل»(1)، الواقع مقابل خبر عبدالرحمن


1- وسائل الشیعة: الباب 10 من أبواب الاحرام، الحدیث 3 من کتاب الحج.

ص:424

وغیره، ممّا یدلّ علی لزوم الاعادة إذا وقع النوم قبله، الظاهر فی حصول الانتقاض، فلا محیص الاّ من الحمل علی استحباب الاعادة، والحکم بأنّ النقض بلحاظ کماله ولیس أصله. ولعلّ هذا هو مقصود صاحب «الجواهر» هنا، وإنْ کان هذا الحمل مخالفٌ لظاهر ما صرّح قبله بکون عدم الاعادة مطابقا للاصل فیما نحن فیه، وقد عرفت فساده.

یقع البحث والکلام فی أنّه هل یکون القضاء فی الأغسال المسنونة الزمانیة مشروعا فی ما عدا غُسل الجمعة أم لا؟

ظاهر المصنّف وغیره من الأصحاب _ ممّن نصَ علی مشروعیة القضاء فی غسل الجمعة وترکه فی غیره، _ هو عدم المشروعیة، کما هو کذلک للأصل، واحتیاج القضاء بأمرٍ جدید وهو مفقود، بل لعلّه مورد الاجماع حیث قال صاحب «الجواهر»: «لم نعرف فیه خلافا فیما نحن فیه فی الأغسال الزمانیة، سوی ما یُحکی عن المفید من قضاء غُسل یوم عرفة» ثمّ احتمل صاحب «الجواهر» أنّ دلیله هو الخبر المروی عن زرارة، عن أبی جعفر علیه السلام ، قال: «إذا اغتسلت بعد طلوع الفجر أجزاک غسلک ذلک للجنابة والجمعة وعرفة والنحر والحلق والذبح والزیارة، الحدیث»(1). حیث جمع بین غُسل عرفة وأغسال یوم العید، ولا یمکن تصوّر ذلک فی الأداء ولذلک لابدّ من حمله علی القضاء.

ولکنّه أجاب عنه اوّلاً: بامکان معارضته باحتمال جواز تقدیم غسل العید، أی جعل ذلک دلیلاً علی جواز التعجیل، والاّ رُدّ علیه بأنّ جوازه أیضا أوّل الکلام لو لا ذلک.

وثانیا: أنّه واردٌ لبیان الإجزاء بالغُسل الواحد للمتعدد، حیث تجتمع کما یُشعر به قوله علیه السلام بعده: «وکذلک المرأة یجزیها غُسلٌ واحد لجنابتها واحرامها وجمعتها


1- وسائل الشیعة: الباب 31 من أبواب الاغسال المسنونة، الحدیث 1.

ص:425

وغسلها من حیضها وعیدها» ثم قال: فتأمّل، ولعلّ الوجه فیه هو عدم التنافی بین کونه فی صدد بیان کفایة غُسلٍ واحد للمتعدد مع کون بعض الأفراد منه للقضاء.

فالأولی فی الجواب أن یقال: إنّ المراد من الروایة بیان الکفایة فیما یمکن الاجتماع، کما لو صادف الجمعة مع عرفة تارةً ومع العید أخری، ومع غیرهما ثالثةً، وعلیه فلا نظر فیه إلی الجمع بصورة الأداء والقضاء حتّی یستفاد منه ذلک، وبالتالی یسقط الحدیث عن الاستدلال به.

وأیضا: نُقل عن الشهید رحمه الله من قضاء غُسل لیالی الافراد الثلاثة، مسندا ذلک فی «الذکری» و«الدروس» إلی روایة ابن بکیر عن الصادق علیه السلام ، وردّه فی «الجواهر» بقوله: «لکنّا لم نعثر علی غیر الروایة السابقة لابن بکیر••• (1) ولا ریب فی ظهورها بارادة الاغتسال للجمعة بعد الفجر، فتأمّل جیدا».

أقول: أمّا صدر الروایة فهو: «سألته عن الغُسل فی شهر رمضان وأی اللیالی اغتسل؟ قال: تسع عشرة، واحدی وعشرین، وثلاث وعشرین».

وأمّا ذیل الروایة: والغُسل أوّل اللیل. قلت: فإن نام بعد الغُسل؟ قال: هو مثل غُسل یوم الجمعة إذا اغتسلت بعد الفجر أجزأک».

ولیس فی شیء من الصدر والذیل اشارة إلی قضاء غُسل اللیالی الأفراد الثلاثة کما لا یخفی، الاّ أن یکون عنده خبرٌ لابن بکیر غیر هذه الروایة، تکون مشتملة علی ذلک.

وکیف کان، فلعلّ الوجه فی جواز القضاء فی المستحبات وعدمه إذا کانت موقته، هو أنّه مبنی علی أنّ الموقتات فی الواجب والمستحب هل یکون من قبیل


1- صدر الروایة فی الوسائل، ج 2، الباب 1 من الاغسال المسنونة، الحدیث 15، وذیله فی الباب 11، الحدیث 4.

ص:426

قوله قدس سره : ولیلة الفطر (1)

تعدد المطلوب أو لا؟ فعلی الأوّل یوجب جواز الاتیان بالمطلوب الاوّل لو تعذّر عن اتیان مطلوب الوقت، بخلاف الثانی حیث لا یجوز لأنّه لا یخلو إمّا امتثل أو عصی فی الوقت، وعلی کلا التقدیرین یکون قد سقط تکلیفه، فلا یبقی شیء حتّی یقوم به فی غیر وقته، وحیث أنّ الأصل الاولی والقدر المتیقن هو الأوّل، فیحتاج اثبات الثانی الی دلیل یدلّ علیه، ولذلک قیل إنّ الأصل عدم القضاء الاّ ما ورد فی مورده دلیل، وهو هنا مفقود. نعم یصحّ الاتیان بقصد الرجاء فیما إذا کان فی مورده الروایة المحتملة لذلک کما ورد بالنسبة الی عرفه أو صدر بالنسبة له فتویً من فقیهٍ کما بالنسبة لیالی الثلاثة الافراد فی شهر رمضان، واللّه العالم.

(1) أی من الاغسال المستحبّة غُسل لیلة الفطر، والدلیل علیه: _ مضافا إلی الاجماع المدّعی فی «الغنیة» _ خبر الحسن بن راشد علی ما نقله الکلینی فی «الکافی»، قال: «قلت لأبی عبداللّه علیه السلام : إنّ الناس یقولون إنّ المغفرة تنزل علی من صام شهر رمضان لیلة القدر؟ فقال: یا حسن إنّ القاریجار إنّما یُعطی أجرته عند فراغه وذلک لیلة العید. قلت: جعلت فداک فما ینبغی لنا أن نعمل فیها؟ فقال: إذا غَرُبت الشمس فاغتسل، الحدیث»(1).

وفی «الوسائل»: «أقول: القاریجار فارسیٌ معرّب، معناه العامل والأجیر، قاله بعض مشایخنا».

هذا، وقد جاء فی هامش طبعة «الوسائل» للربّانی قدس سره قوله: «أقول: فی «الکافی» الفاریجان، وفی بعض نسخه الناریجان وهو الصحیح، وما ذکره من التعریب لم یُسمع من العرب».


1- وسائل الشیعة: الباب 15 من أبواب الاغسال المسنونة، الحدیث 1.

ص:427

وکیف کان، فإنّ معنی هذه الکلمة بالفارسیة هو ما یقابل العامل وهو (کارگر) کما فی «مصباح الفقیه» للهمدانی، والظاهر من الروایة وکلام المصنّف عن معقد الاجماع إجزاء اتیانه بأی جزء من اللّیل إذا تحقق ما ذکره من التوقیت بقوله: «إذا غربت الشمس» فهو بیان دخول وقته، یعنی إذا غربت الشمس یتحقق اللّیل فیؤتی فیه فی أی جزء منه. وأمّا إذا قلنا بأنّ الغروب بیان لکون وقته فیه، فلازمه کون وقته أوّل اللّیل لا فی أیّ جزء منه، ولعلّ الاحتمال الاوّل هو المقبول عندهم بحسب اطلاق کلامهم.

نعم، لازم التوقیت عدم جواز الاتیان به قبل الغروب، کما هو مقتضی الأصل فی الموقت، إذا کان التقدیم اختیاریا، ولکن روی صاحب «الوسائل» عن السیّد ابن طاووس فی اقباله _ فی آداب لیلة الفطر _ أنّه روی: «أنّه یغتسل قبل الغروب من لیلة إذا علم أنّها لیلة العید»(1).

لکن علّق علیه صاحب «الجواهر» بأنّه: «لا صراحة فیه، بل ولا ظهور فی اتحاد هذا الغُسل مع الغسل اللّیلی، فلعلّه مستحبٌ آخر، وعلی تقدیره فلابدّ من القول حینئذٍ بکون الوقت للغسل من قبل الغروب، وأنّ الاضافة فی النص والفتوی للجزء الأغلب ونحو ذلک».

ونحن نزید علی کلامه: بانّه یمکن أن یکون الغُسل متحدا مع ما فی اللّیل، بأن جعل قوله: «إذا غربت الشمس» ظرفا لوقوع الغروب، بان یکون قبل الغروب جزءا قریبا للغروب ولو بواسطة هذه الروایة المرسلة المنقولة عن السیّد ابن طاوس فلا ینافی حینئذٍ القول بوحدة الغُسل، فبناءً علیه لا یبعد کفایة غُسلٍ واحد قبل الغروب برجاء المطلوبیة، کما یجوز الاتیان بالغُسلین أیضا کذلک عملاً باحتمال کون المطلوب تعدد الغُسل.


1- وسائل الشیعة: الباب 15 من أبواب الاغسال المسنونة، الحدیث 2.

ص:428

قوله قدس سره : ویومی العیدین (1)

(1) من جملة الأغسال المستحبّة غُسل العیدین، وهو مستحبٌ بالاجماع نقلاً وتحصیلاً، بل یدلّ علیه صراحةً بعض الأخبار بأنّ غُسل یومی الفطر والأضحی مستحبٌ وسنّة:

منها: ما فی خبر سماعة فی حدیثٍ عن الصادق علیه السلام : «وغُسل یوم الفطر وغُسل یوم الأضحی سنّة لا أحبّ ترکها»(1).

ومنها: حدیث علی بن یقطین، قال: «سألت أبا الحسن علیه السلام عن الغُسل فی الجمعة والأضحی والفطر؟ قال: سنّة ولیس بفریضة»(2).

ومنها: مرسل المفید، قال: «روی عن أبی عبداللّه علیه السلام أنّه قال: غُسل الجمعة والفطر سنّة فی السفر والحضر»(3).

وغیرها من الأخبار المطلقة التی ذکر فیها أنّ غُسل یومی العید من الأغسال الظاهر فی الاستحباب بوحدة سیاقها، الاّ ما خرج بالدلیل. نعم، فی بعض الأخبار ورد بصورة الأمر بالغُسل، المتوهّم منه الوجوب، أو بصِفة الجملة الاسمیّة: (علیه الغُسل):

منها: روایة محمّد الحلبی، عن أبی عبداللّه علیه السلام ، قال: «اغتسل یوم الاضحی والفطر والجمعة، الحدیث»(4).


1- وسائل الشیعة: الباب 1 من أبواب الاغسال المسنونة، الحدیث 3.
2- وسائل الشیعة: الباب 6 من أبواب الاغسال المسنونة، الحدیث 9.
3- المصدر السابق، الحدیث 19.
4- وسائل الشیعة: الباب 1 من أبواب الاغسال المسنونة، الحدیث 9.

ص:429

ومنها: روایة علی بن یقطین والذی ورد فیها الأمر بالغُسل، ولکن تنصرف هذه الأخبار إلی الاستحباب بواسطة تلک الأخبار والاجماع، لاستعمال الأمر فی الاستحباب کثیرا، کما لا یخفی، وهذا ما قصده صاحب «الجواهر» بقوله: «وإن کان فی بعضها ما یقضی بالوجوب، وکیف کان استحبابه بما لا اشکال فیه ولا کلام».

أقول: الذی ینبغی أن یبحث فیه، هو عن وقته، وأنّه هل: یمتد وقته بامتداد الیوم، کما هو مقتضی اطلاق النصّ والفتوی والاضافة فیهما، کما هو ظاهر معاقد الاجماعات، بل وصریحها، وهو مختار جماعة منهم صاحب «الجواهر»، و«مصباح الفقیه»، بل هو الأقوی عندنا لعدم وجود ما یعتنی به ممّا یوجب الانصراف عنه، الاّ بعض ما یتوهّم منه التقیید إلی الصلاة أو إلی الزوال، کما هو مختار الحلّی، وأحد قولی العلاّمة بل للأوّل منهما، حیث صرّح الثانی منهما فی «المنتهی» وقال: «الأقرب تضیّقه عند الصلاة، لقول الصادق علیه السلام فی موثق عمّار الساباطی: «فی رجلٍ ینسی أن یغتسل یوم العید حتّی صلّی؟ قال: إن کان فی وقت فعلیه أن یغتسل ویعید الصلاة، وإن مضی الوقت فقد جازت صلاته»(1).

بل ربّما یظهر منه أنّ الغسل إنّما شُرّع لأجل صلاة العید، کالمروی عن «العلل» و«العیون» عن الرضا علیه السلام : «فی علّة غُسل الجمعة والعید تعظیما لذلک الیوم، وتفصیلاً له علی سائر الأیّام، وزیادة فی النوافل والصلاة»(2).

وفیه: لا یخفی ما فی الاستدلال بهاتین الرواتین لما تمسّکا به، فانهما لا یقاومان الموثقه التی تفید ظاهرها أنّ الغُسل شُرّع لا لأجل، فهی بظاهرها تدلّ علی اشتراط الصلاة بالغُسل ووجوب اعادتها عند الاخلال به مادام وقتها باقیا،


1- وسائل الشیعة: الباب 16 من أبواب الاغسال المسنونة، الحدیث 3.
2- وسائل الشیعة: الباب 6 من أبواب الاغسال المسنونة، الحدیث 18.

ص:430

ولازم ذلک وجوب تقدیم الغُسل علی الصلاة من باب المقدمّة لها، وهو لا ینافی استحباب الغُسل لنفسه لمن لم یقصد الصلاة، فحینئذٍ لا تکون الصلاة تحدیدا لوقتها، بل یمکن الجمع بینهما بالقول باستحباب الغُسل مطلقا، مع وجوب الغسل للصلاة وکونه شرطا لها، لو سلّمنا دلالة الحدیث فی ذلک، ولم یخرج منه بواسطة الاجماع ونحوه عن عدم کونه شرطا لصحتها، فلا جرم تحمل الموثقه علی استحباب الغُسل قبل الصلاة استخلاصا عن طرح الموثقه، کما لا یخفی. وعلیه فما اختاره العلمان ممّا لا یمکن المساعدة معه بالتحدید إلی الصلاة.

2_ أو أن وقته یتمد إلی الزوال، وهو الذی مال الیه صاحب «الریاض» تشبیها للعید بیوم الجمعة، لکثرة الأحکام المتشابه بینهما، ولدلالة خبر «فقه الرضا» حیث قال: «إذا طلع الفجر یوم العید فاغتسل وهو أوّل أوقات الغُسل ثم إلی وقت الزوال»(1).

ولعلّه إلی ذلک أو سابقه یرجع کلام الشهید فی «الذکری» حیث قال: «الظاهر امتداد غُسل العیدین بامتداد الیوم، عملاً باطلاق الیوم، ویستخرج من تعلیل الجمعة إلی الصلاة إلی الزوال الذی وقت صلاة العید، وهو ظاهر الاصحاب» انتهی.

وفیه: دعواه ممنوعة لامکان أنّ یکون التخریج من باب بیان الحکمة لا العلة، ولا ینافی کون حکمة الجعل هو ذاک، ولکن وقته یکون ممتدّا إلی الغروب، کما تری عدم منافاة وجود الاستحباب لمن لم یرد اتیان الصلاة لأجل العذر أو غیره کما لا ینافی حمل الأخبار المطلقة وخبر فقه الرضا علی الأفضلیّة، أی أنّه من الأفضل أن یکون الغُسل أقرب إلی الزوال کما فی غُسل صلاة الجمعة، وإن لم یکن وقته محدودا به.


1- المستدرک، ج 1، الباب 11 من أبواب الاغتسال المسنوبة، الحدیث 1.

ص:431

قوله قدس سره : ویوم عرفة (1)

وعلیه، فالأقوی عندنا هو امتداد وقته بامتداد الیوم کاغسال سائر الموارد المستندة إلی اللیل أو الیوم، وهذا مختار جماعة من المتأخرین.

کما قد یؤیّد الأفضلیة إلی قبل الزوال، خبر عبداللّه بن سنان، الذی رواه عن أبی عبداللّه علیه السلام ، قال: «الغُسل من الجنابة ویوم الجمعة الفطر ویوم الأضحی ویوم عرفة عند زوال الشمس، الحدیث»(1).

کما قد یُستشعر ویفهم منه ذلک من ذکر الجمعة مع ضمیمة الأخبار المطلقة.

هذا، والأفضل اتیان الغُسل علی نحو تکون الصلاة مقترنة معه لأجل ارتباطها به، خصوصا مع ملاحظة أنّ الصلاة غالبا تؤدّی أوّل الصبح، فلا وجه لذلک إلاّ أنّ أصل وقته ممتد بامتداد الیوم، وهو المطلوب.

(1) أی من جملة الأغسال المسنونة، غُسل یوم عرفة، واستحبابه مسلّمٌ لا خلاف فیه، لدلالة أخبارٍ مستفیضة علیه، مضافا إلی الاجماع المدّعی عن «الغنیة» و«المدارک». واستحبابه غیر مختصٍ بالناسک بعرفات لاطلاق النصوص والفتوی الدالة علی کون الغُسل للیوم لا لکونه فی عرفات فی هذا الیوم، خصوصا أنّ روایة عبدالرحمن بن سیابة، عن أبی عبداللّه علیه السلام ، قال: «سألته عن غُسل عرفة فی الأمصار؟ فقال: اغتسل أینما کنتَ»(2) دالة علی ذلک بالصراحة، کما هو واضح.

کما أنّ الظاهر امتداد وقته بامتداد الیوم کما فی سابقیه، للأصل واطلاق النصّ والفتوی، کما أنّ اوّل وقته الفجر من یوم عرفة کغسل الجمعة والعیدین، ویدلّ


1- وسائل الشیعة: الباب 1 من أبواب الاغسال المسنونة، الحدیث 10.
2- وسائل الشیعة: الباب 2 من أبواب الاغسال المسنونة، الحدیث 1.

ص:432

علیه خبر زرارة المروی فی «الکافی» و«التهذیب»: «إذا اغتسلت بعد طلوع الفجر أجزأک غسلک الجنابة والجمعة وعرفة والنحر، الحدیث»(1).

بل قد یدلّ علیه ما رواه الشیخ الکلینی فی «الکافی»، عن أحدهما علیهماالسلام : «إذا اغتسل الجنب بعد طلوع الفجر أجزأ عنه ذلک الغسل من کُلّ غُسل یلزمه فی ذلک الیوم»(2).

بناء علی شمول قوله: «یلزمه فی ذلک الیوم» للغُسل المندوب، فیکون أوّل وقته طلوع الفجر وآخر وقته الغروب، کما عرفت ذلک فی غُسل سائر الاّیام.

ولکن المحکی عن علی بن بابویه أنّه قال: «واغتسل یوم عرفة قبل زوال الشمس» ولعلّه أفتی بذلک اعتمادا علی الخبر الذی رواه عبداللّه بن سنان، عن الصادق علیه السلام : «الغُسل من الجنابة والجمعة ویوم الفطر ویوم الأضحی ویوم عرفة زوال الشمس»(3).

ولکن لابدّ من حمله الی أفضل أوقاته مع رجحان الاشتغال بعد الغُسل بالاعمال المطلوبة والادعیّة، لانّه لولا ذلک لزم منه طرحه لأجل اعراض الأصحاب من هذا التحدید، فحمله علی ما ذکرنا أولی کما لا یخفی.

وإذا عرفت ذلک فی أول الوقت وآخره فی یوم عرفة، فإنّه یجری مثل ذلک بالنسبة الی غُسل یوم الترویة، لدلالة النصوص علیه، وکون البحث فیه کما فی غیره، ویدلّ علیه أیضا:

1_ صححیة محمد بن مسلم، عن أحدهما علیهماالسلام ، قال: «الغسل فی سبعة عشر موطنا، وعدّ منها یوم الترویة ویوم عرفة»(4).


1- وسائل الشیعة: الباب 31 من أبواب الاغسال المسنونة، الحدیث 1.
2- وسائل الشیعة: الباب 31 من أبواب الاغسال المسنونة، الحدیث 3.
3- وسائل الشیعة: الباب 1 من أبواب الاغسال المسنونة، الحدیث 10.
4- المصدر السابق، الحدیث 11.

ص:433

قوله قدس سره : ولیلة النصف من رجب (1) الأغسال المستحبة فی شهر رمضان

2_ وصحیحة معاویة بن عمّار، عن أبی عبداللّه علیه السلام : «إذا کان یوم الترویة فاغتسل الحدیث»(1).

کما قد صرّح به جملة من الأصحاب، وعلیه فما عن النرافی فی «المستند» ممنوع.

(1) واستحبابه فیها مشهور شهرةً کادت تکون اجماعا بین الأصحاب، بل فی «الوسیلة» عدّه من المندوب بلا خلاف، وعن العلاّمة فی «النهایة»، والصیمری فی «کشف الالتباس» نسبتة إلی الروایة ومثل ذلک یکفی فی اثبات الاستحباب استنادا الی أدلة التسامح، مضافا إلی امکان تأییده بما عن ابن الجنید من استحباب الغُسل لکلّ زمان شریف ومنه هذه اللّیلة، بل قد یؤیده ولو باطلاقه ما عن السیّد ابن طاوس فی «الاقبال» حیث قال: «وجدت فی کتب العبادات عن النبیّ صلی الله علیه و آله أنّه قال: «من أدرک شهر رجب فاغتسل فی أوّله ووسطه وآخره خرج من ذنوبه کیوم ولدته امّه»»(2)، حیث أنّ الادراک یطلق علی درک لیلةٍ، بل یُحتمل عدم اختصاص الاستحباب بخصوص اللّیل بل یمتدّ إلی آخر النّهار، وذلک بملاحظة إلی اطلاق هذه الروایة، فیکون الاستحباب فی غُسلٍ واحد. بل فی «مصباح الفقیه» و«الجواهر» وغیرهما احتمال الکتریر فی کلّ منهما علی الأحوط، لصحة اطلاق الادراک فی کلّ منهما بخصوصه، من دون نظر إلی الآخر، مع امکان کون الوجه هو دلالة الاجماع والشهرة علی استحباب غسلاً واحدا فی


1- الوسائل، ج 9، الباب 53 من أبواب الاحرام، الحدیث 1، هذا کما اثبتناه المصدر ولکن فی النسخ الخطیّة والحجریّة زرارة بدل معاویة بن عمّار.
2- وسائل الشیعة: الباب 22 من أبواب الاغسال المسنونة، الحدیث 1.

ص:434

قوله قدس سره : ویوم السابع والعشرین منه(1)

اللّیلة کما فی المتن، وغسلاً آخر للیوم بملاحظة اطلاق الحدیث بقوله: «من أدراک شهر رجب بأوّله...» حیث یشمل أوّل الیوم ووسطه منه أیضا، کما یصحّ اطلاقه علی من الیوم أیضا، فلا یبعد القول باستحبابة أیضا، لاجءل هذا الحدیث. وارساله غیر قادحٍ بملاحظة قاعدة التسامح فی السنن، وکون الشهرة أو الاجماع جابران لضعفه، کما لا یخفی.

(1) وهو یوم المبعث، واستحبابه _ کما فی «الجواهر» _ ممّا لا خلاف أجده فیه، بل فی «الغنیة» الاجماع علیه، و«الوسیلة» عدّه فی المندوب بلا خلافٍ، والعلاّمة والصمیری نسبا ذلک إلی الروایة، وإنْ اعترف بعض _ کما فی «الذکری» علی ما حکی عنه الشیخ مرتضی الانصاری فی «کتاب الطهارة» _ بعدم الوجدان، ولعلّه أراد من ذلک النصّ بالخصوص، والاّ یمکن ادخاله فی ماورد فی بعض الأخبار المرسلة من استحباب الغُسل فی کلّ عیدٍ، کالمرسل المرویّ عن النبیّ صلی الله علیه و آله أنّه قال فی جمعةٍ من الجمع: «هذا الیوم جعله اللّه عیدا للمسلمین فاغتسلوا فیه»(1)، حیث فرّع صلی الله علیه و آله حکم الغُسل علی کونه عیدا، ولاجل ذلک یستحبّ الغُسل لیوم المولود وهو الیوم السابع عشر من ربیع الأوّل علی المشهور، أو الثانی عشر منه کما عن الکلینی لروایة، والأوّل أقوی لانّه عید ویکفی فی اثبات استحباب الجمیع وجود هذا الخبر مع التسامح، مضافا إلی ما عرفت من استحباب الغُسل لکلّ زمانٍ شریف علی مذهب ابن الجنید، بل ومنه یظهر امکان القول باستحباب الغسل لیوم التاسع من شهر ربیع الأوّل لروایةٍ رواها


1- زاد المعاد، ص 373.

ص:435

قوله قدس سره : ولیلة النصف من شعبان (1)

المجلسی فی «زاد المعاد» من قیام احمد بن اسحاق القمی بالغُسل فی یوم التاسع معّللاً ذلک بانّه یوم عید.(1) بل یظهر منه أنّ الغسل فی کلّ عیدٍ من الاعیاد یعدّ من الأمور المعهودة المسلّمة المفروغ عنها، بل لعلّه هو مراد ابن الجنید من استحبابه فی کلّ زمان شریف، وإنْ کان ما علیه یکون أوسع ممّا علیه الروایة، ولأجل ذلک نقل الشیخ فی «الخلاف» قیام الاجماع علی استحباب الغسل فی الجمعة والأعیاد، بصیغة الجمع.

(1) ومن الأغسال المستحبّة غسل لیلة النصف من شعبان، والدلیل علیه: _ مضافا إلی عدم الخلاف فیه ظاهرا، بل قد ادّعی الاجماع علیه ابن زهرة فی «الغنیة» وابن حمزة فی «الوسیلة» _ النّصوص الوارد:

منها: خبر أبی بصیر، عن أبی عبداللّه علیه السلام ، قال: «صوموا شعبان واغتسلوا لیلة النصف منه ذلک تخفیف من ربّکم ورحمة»(2).

ومنها: قول النبی صلی الله علیه و آله فی خبر سالم مولی أبی حذیفة المروی عن «المصباح»: «من تطهر النصف من شعبان فأحسن التطهیر، ولبس ثوبین نظیفین... إلی أن قال: قضی اللّه له ثلاث حوائج»(3).

بناءً علی أن یکون المراد من التطهیر هو الغُسل، مع کونها من الزمان الشریف، فیستحبّ فیه الغسل لو قلنا به فی کلّ زمان کذلک، کما علیه ابن الجنید.


1- کنز العمّال، ج 4، ص 152، الرقم 2367.
2- وسائل الشیعة: الباب 23 من أبواب الاغسال المسنونة، الحدیث 1.
3- وسائل الشیعة: الباب 8 من أبواب بقیة الصلوات المندوبة، الحدیث 6.

ص:436

قوله قدس سره : ویوم الغدیر (1)

(1) وهو یومٌ أخذ فیه النبیّ صلی الله علیه و آله البیعة لأمیرالمؤمنین علیه السلام فی غدیر خُمٍّ، وکان ذلک یوم الثامن عشر من شهر ذی الحجّة من السنة العاشرة من الهجرة علی المشهور بین الاصحاب، کما نسبه الیهم غیر واحدٍ، بل فی «التهذیب» و«الغنیة» و«الروض» الاجماع علیه، مضافا إلی ما سمعت من استحباب الغسل فی کلّ عیدٍ من الاعیاد، وهو منها، بل هو العید الأکبر کما وردت الاشارة إلیه فی الأخبار. وعلیه فاستحبابه فیه مسلّم.

ولکن مع ذلک کلّه، فقد ورد فیه من النصوص ما یصرّح به:

منها: خبر علی بن الحسین العبدی، قال: «سمعت أبا عبداللّه علیه السلام ، یقول: صیام یوم غدیر خمّ یعدل صیام عمر الدنیا... إلی أن قال: ومن صلّی فیه رکعتین یغتسل عند زوال الشمس من قبل أن تزول مقدار نصف ساعة، إلی أن قال: عَدَلت عنداللّه مأة ألف حجة ومأة ألف عمرة، الحدیث»(1).

ومنها: عن کتاب «الاقبال»، عن أبی الحسن اللیثی، عن الصادق علیه السلام فی حدیثٍ ذکر فیه فضل یوم الغدیر، قال: «فإذا کان صبیحة ذلک الیوم وجب الغُسل فی صدر نهاره»(2).

أقول: ولا یخفی أنّ ظاهر کلمات الأصحاب واطلاقاتها، أنّ وقته ممتد إلی آخر الیوم کما عرفت نظائره فی ما سبق، حیث أنّه المستفاد من الغُسل ظاهر اسناده الغُسل إلی الیوم کما هو کذلک، وظاهر هذین الحدیثین هو الاختلاف فی


1- وسائل الشیعة: الباب 28 من أبواب الاغسال المسنونة، الحدیث 1.
2- الاقبال، ص 474.

ص:437

قوله قدس سره : ویوم المباهلة (1)

التوقیت من الزوال فی الأول و(صدر النهار) فی الثانیة، فلا یبعد القول حینئذٍ بالجمع مع کلمات الأصحاب علی الحمل بالاستحباب والأفضلیة علی کونه قبل الزوال، کما لا یبعد القول بکون صدر النهار أفضل إلاّ من اراد الاتیان بالصلاة کان له قبل الزوال أفضل.

ومن ذلک یظهر ضعف قول ابن الجنید من اختصاص وقته بطلوع الفجر إلی قبل صلاة العید، لما عرفت أنّه یلزم کون الاستحباب مختصا لمرید الصلاة دون غیره، مع انّه لیس کذلک، بل الاستحباب ثابت للجهتین من الصلاة والیوم کما علیه الاجماعات السابقة، وعلیه لا یلتفت إلی ما حُکی عن الصدوق قدس سره فی «الفقیه» حیث قال: «فأمّا خبر صلاة الغدیر والثواب المذکور فیه لمن صامه فإنّ شیخنا محمّد بن الحسن کان لا یُصحّحه، ویقول: إنّه من طریق محمّد بن موسی الهمدانی، وکان غیر ثقة، وکلّ ما لم یصحّحه هذا الشیخ ولم یحکم بصحته فهو عندنا متروک غیر صحیح» انتهی.

لانّه یلزم المخالفة مع ما عرفت من الاجماعات، واقتضائه عدم العمل بالأخبار الضعاف فی الآداب والسنن، مع انّک قد عرفت جوازه فیها بملاحظة قاعدة لأجل التسامح فی أدلّة السنن. کما انّه یمکن أن یکون المراد ابطال خصوص ما فی هذا الخبر من الثواب المخصوص، وإنْ وافق أصل الاستحباب ومطلقة واللّه العالم.

(1) وهو الیوم الذی بأهل فیه النبیّ صلی الله علیه و آله مع نصاری نجران، وقد وقع الخلاف فیه:

فقیل: هو الرابع والعشرین من ذی الحجّة وهو المشهور، بل عن «الاقبال» نسبته إلی أصحّ الروایات وهو الأقوی عندنا،

ص:438

وقیل: إنّه الواحد والعشرین، وهناک قولٌ بأنّه السابع والعشرین وقولٌ بأنّه الخامس والعشرین لم یحکه السیّد فی «الاقبال» إلاّ أنّ المصنّف نقله فی «المعتبر»، فتصیر الأقوال فیه أربعة.

ثمّ لا اشکال فی استحباب غُسل هذا الیوم کما علیه الشهرة، بل قریب الی الاجماع وهو الحجّة، مضافا إلی ما ورد فی النصّ من الغُسل فیه، الاّ أنّه قد وقع الکلام فی أنّ الغسل هل هو للیوم أو لفعل المباهلة، فلا بأس بذکر الدلیل علی أصل استحباب الغُسل، فإنّه مضافا إلی ما عرفت من الشهرة أو الاجماع :

1_ ما رواه السید فی «الاقبال» بسنده إلی ابن أبی قرة، باسناده إلی علی بن محمّد القمی، رفعه، قال: «إذا أردت ذلک فابدأ بصوم ذلک الیوم شکرا، واغتسل والبس أنظف ثیابک»(1).

2_ وأیضا ما فی «مصباح» الشیخ، عن محمّد بن صدقة النبری، عن أبی ابراهیم موسی بن جعفر علیهماالسلام ، قال: «یوم المباهلة یوم الرابع والعشرین من ذی الحجّة، تصلّی فی ذلک الیوم ما أردت. ثمّ قال: وتقول وأنت علی غُسلٍ: الحمدللّه ربّ العالمین... إلی آخره»(2).

وضعف السند فی الروایتین منجبر بالشهرة القریبة الی الاجماع، بل فی «الغنیة» الاجماع علی غُسل المباهلة. والظاهر من المحدّثین کون الغسل للیوم لا للفعل کما هو ظاهر کلام «الغُنیة» لاستبعاد دعوی الاجماع علی غُسل الفعل، بل لعلّ هذا هو مراد ما فی خبر سماعة قال: «وغسل المباهلة واجب»(3)، کما


1- الاقبال، ص 515.
2- وسائل الشیعة: الباب 47 من أبواب بقیة الصلوات المندوبة، الحدیث 2.
3- وسائل الشیعة: الباب 1 من أبواب الاغسال المسنونة، الحدیث 3.

ص:439

فهمه الأصحاب، وإن کان مقتضی أصالة عدم تقدیر الیوم هو کونه للفعل، وهو احتمالٌ وارد.

هذا ولکن فی «الحدائق» ما یظهر منه دلالة الروایة علی کونه للفعل، وإنْ احتاط باختیار فهم الاصحاب من کونه للیوم، فلا بأس بنقل کلامه، قال: «ورأیت فی بعض الحواشی المنسوبة إلی الموالی محمّدتقی المجلسی مکتوبا علی الحدیث المشار إلیه (أی حدیث سماعة) ما صورته: لیس المراد بالمباهلة الیوم المشهور وهو الرابع والعشرون والخامس والعشرون من ذی الحجّة، حیث باهل النبیّ صلی الله علیه و آله مع نصاری نجران، بل المراد به الاغتسال لایقاع المباهلة مع الخصوم فی کلّ حین کما فی الاستخارة، وقد وردت به روایة صحیحةً فی «الکافی»، وکان ذلک مشتهرا بین القدماء علی ما لا یخفی» انتهی.

ثمّ قال: «أقول: وما ذکره وإنْ کان خلاف ما هو المهفوم من کلام الأصحاب کما اشرنا الیه، الاّ أنّ الخبر کما عرفت مجملٌ لا تخصیص فیه بالیوم کما ذکروه، بل ظاهره إنّما هو ما ذکره الفاضل المشار إلیه» انتهی محلّ الحاجة من کلامه(1).

3_ وأیضا الروایة الصحیحة المنقولة فی «أصول الکافی» باسناده الی أبی مسروق، عن الصادق علیه السلام ، قال: «قلت إنا نتکلم مع الناس فنحتجّ علیهم بقول اللّه عزّوجلّ: «أَطِیعُواْ اللّهَ وَأَطِیعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِی الأَمْرِ مِنکُمْ» فیقولون: نزلت فی امرأء السرایا، فنحتجّ بقول اللّه عزّوجلّ: «قُل لاَّ أَسْأَلُکُمْ عَلَیْهِ أَجْرا إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِی الْقُرْبَی»فیقولون: نزلت فی مودّة قربی المسلمین، فیحتجّ بقول اللّه عزّوجلّ: «إِنَّمَا وَلِیُّکُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ»فیقولون: نزلت فی المؤمنین، فلم أدع شیئا ممّا حضرنی ذکره من هذا وشبهه الاّ ذکرته! فقال لی: إذا کان ذلک فادعهم


1- الحدائق، ج 4، ص 190.

ص:440

إلی المباهلة، قلت: فکیف أصنع؟ قال: أصلح نفسک ثلاثا واظنّه قال وصُم واغتسل وأبرز أنتَ وهو إلی الجبّان، فشبّک أصابعک الیمنی فی أصابعهم، ثمّ الصفة وأبدأ بنفسک، وقل: «أللّهمّ ربّ السموات وربّ الأرضین، عالم الغیب والشهادة الرحمن الرّحیم» إنْ کان أبو مسروق جَحَد حقا وادعی باطلاً، فأنزل علیه حسبانا من السماء، أو عذابا الیما ثُمّ ردّ علیه فقل: وان کان فلانٌ جحد حقا أو ادّعی باطلاً، فأنزل علیه حسبانا من السماء أو عذابا الیما. ثمّ قال: فإنّک لا تلبث الاّ أن تری ذلک. فواللّه ما وجدت خلقا یجیبنی إلی ذلک(1).

حیث یستفاد من هذه الروایة مشروعیة المباهلة، واستحباب الغُسل لها، ولکن هذا لا ینافی أن یکون هو غُسلاً آخر غیر غُسل یوم المباهلة لخصوص یوم الرابع والعشرین من ذی الحجّة، کما هو الظاهر من الخبرین الأوّلین، خصوصا خبر «المصباح» من التصریح بذلک، فانّه ربّما یکون وقوع المباهلة المتحققة المتجددة فی غیر هذا الیوم. نعم، لو وقعت فیه یلزم علی المختار تعدّد الغسل أو لم نقل بالتداخل حینئذٍ کما هو المحتمل، کما تری فی مشابهه أیضا، واللّه العالم. وعلیه فالأحوط هو الاتیان بالغُسل فی ذلک الیوم برجاء المطلوبیة.

استدراک للأغسال الزمانیّة

قد عرفت فی الأغسال الزمانیة ما هو مورد وفاق الأصحاب وما مذکورٌ فی کتب أکثرهم، بل قد عرفت عدم وجود الخلاف فی بعضها، والآن نتعرّض لبعض الأغسال الزمانیة الذی لم یذکره المصنّف، ولکنّه وارد علی لسان بعض الأصحاب وکتبهم، وکان الأخری ذکره حتّی یطّلع الفقیه علیه ویحکم له بما


1- اصول الکافی فی باب المباهلة من کتاب الدعاء، ج 2، ص 513.

ص:441

یناسبه من الحکم الشرعی من اثبات الاستحباب وعدمه، فنقول ومن اللّه الاستعانة:

ومنها: غسل لیلة الجمعة:

ذکره السیّد فی «العروة»، بقوله: «الرابع عشر: کلّ لیلةٍ من لیالی الجمعة علی ماقیل» واشار بذلک إلی کلام الحلبی فی «اشارة السبق من اثبات غُسل آخر لیلة الجمعة عدا ما یستحبّ فی یومها، قال فی «الجواهر»: «لم نعرف له موافقا ولا مستندا» وکذا قال صاحب «مصباح الفقیه» بأنّه غیر معلوم المستند، لکن لا بأس بالالتزام بهما من باب المسامحة فی أدلة السنن.

ونضیف إلیه امکان تأییده بما ورد فی استحباب الغُسل لکلّ زمانٍ شریف، المنقول عن ابن الجنید، إذ لا خلاف فی شرف هذه اللّیلة، وأی شرفٍ أعظم من کون المنادی فیها ینادی من أولها إلی طلوع الفجر ویدعو العباد إلی الدعاء والاستغفار، ویبشّرهم بأنّ باب الرحمة والاجابة مفتوح إلی طلوع الفجر، فهل من تائب یتوبٍ إلی اللّه... إلی آخره، مضافا إلی کونه من الاعیاد، واستحباب الغُسل ثابتٌ لکلّ عیدٍ لو لم نقل اختصاصه بخصوص الیوم، والاّ لا یشملهما هذا الدلیل.

وکیف کان، اتیان الغسل من باب الرجاء لا الورود أمرٌ مطلوب قطعا، ولا تجی ء فیه شبهة التشریع، مع ما قیل فی اتیانه بقصد الورود احتمال ذلک، کما صرّح بذلک المحقق الآملی فی «مصباح الهدی»، بقوله: «لکن الاتیان لا بقصد الورود ممّا لا بأس به حذرا من التشریع المحرّم، طهرنا اللّه تعالی من کلّ عیب خاصة من الجهل» انتهی(1).

ولکن الظاهر من صاحب «مصباح الفقیه» تجویزه بقصد الورود من باب التسامح فی أدلة السنن.


1- مصباح الهدی، ج 7، ص 94.

ص:442

البحث عن مدلول قاعدة التسامح

بعد بلوغ الکلام إلی هذا المقام خطر ببالنا أن نبحث عن مدلول قاعدة التسامح فی الادلّة بحثا مفصلاً کلی یظهر مقدار حجیتها، بل فی أصل حجیتها کما یشاهد البحث والمناقشة عنها فی بعضٍ کلمات الأصحاب وحیث أنّ صاحب «الحدائق» قد ورد فیه بأحسن الوجه تفصیلاً جامعا للنقض والابرام، فصّممنا أن نکتفی بذکر کلامه تفصیلاً، ثمّ نبیّن ما هو مختارنا إنْ شاء اللّه تعالی.

قال رحمه الله : فی ذیل البحث عن غُسل المولود وغُسل رؤیة المصلوب، حیث أثبت استحبابهما المحقق فی «المعتبر» وصاحب «المدارک»، فردّ علیهما المحقّق صاحب «الحدائق» بضعف الخبر، ثمّ قال: «والقول بأن أدلّة الاستحباب ممّا یتسامح فیها ضعیف، وبذلک صرّح فی «المدارک» أیضا، حیث قال فی أوّل الکتاب فی شرح قول المنصّف، بعد عدّ اسباب الوضوء الموجبة له أو الندب ما عداه، فذکر فی هذا المقام جملة الوضوءات المستحبّة، المستفادة من الأخبار، وطعن فی جملةٍ منها بأنّ فی کثیرٍ منها قصورا من حیث السند، قال: (وما قیل من أنّ أدلة السنن یتسامح فیها بما لا یتسامح فی غیرها، فمنظورٌ فیه، لأنّ الاستحباب حکمٌ شرعی فیتوقف علی الدلیل الشرعی کسائر الأحکام» هذا کلامه.

وإنْ خالفه فی جملةٍ من المواضع کهذا الموضع وغیره، وکُلّ ذلک ناشٍ من ضیق الخناق فی هذا الاصطلاح الذی هو إلی الفساد أقرب منه الی الصلاح.

ثمّ قال: أقول: لا یخفی أنّه قد وقع لنا تحقیق نفیسٌ فی هذه المسألة لا یحسن أن یخلو عنه کتابنا هذا، وهو أنّه قد صرّح جملة من الأصحاب فی الاعتذار عن جواز العمل بالأخبار الضعیفة فی السنن، بأنّ العمل فی الحقیقة لیس بذلک الخبر الضعیف إنّما هو بالأخبار الکثیرة التی فیها الصحیح وغیره، الدالّة علی أنّ: «من

ص:443

بلغة شیءٌ من الثواب علی عملٍ فعمله اببتغاه ذلک الثواب، کان له وإنْ لم یکن کما بلغه»، ومن الأخبار الواردة بذلک ما رواه فی «الکافی» فی الصحیح أو الحسن بابراهیم بن هاشم، عن هشام بن سالم، عن الصادق علیه السلام ، قال: «من سمع شیئا من الثواب علی شیءٍ من العمل فصنعه، کان له وإنْ لم یکن علی ما بلغه»(1).

وفی بعضها: «من بلغه شیءٌ من الثواب علی شیءٍ من الخیر فعمله کان له أجر ذلک وإنْ کان رسول اللّه صلی الله علیه و آله لم یقله»(2) إلی غیر ذلک من الأخبار الکثیرة المذکورة فی مظانّها.

وقد اعترضهم فی هذا المقام بعض فضلاء متأخری المتأخرین، فقال بعد ذکر جملةٍ من تلک الأخبار والاستدلال بها علی جواز العمل بالخبر الضعیف ما صورته:

قد اعتمد هذا الاستدلال الشهید الثانی وجماعة من المعاصرین، وعندی فیه نظر، لأحادیث المذکورة إنّما تضمّنت ترتّب الثواب علی العمل، وذلک لا یقتضی طلب الشارع له، لا وجوبا ولا استحبابا، ولو اقتضی ذلک لاستندوا فی وجوب ما تضمّن الحدیث الضعیف وجوبه إلی الأخبار، کاستنادهم الیها فی استحباب ما تضمّن الخبر الضعیف استحبابه، وإذا کان الحال کذلک، فلقائل أنْ یقول لابدّ من شرعیة ذلک العمل وخیریته بطریقٍ صحیح، ودلیل مُسلّم صریح، جمعا بین هذه الاخبار وبین ما دلّ علی اشتراط العدالة فی الراوی. وأیضا الآیة الدالّة علی ردّ خبر الفاسق، وهی قوله تعالی: «إِن جَاءکُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَیَّنُوا»(3)، أخصّ من هذه الأخبار، إذ الآیة مقتضیة لردّ خبر الفاسق سواءٌ کان بما یتعلّق بالسنن أو


1- وسائل الشیعة: الباب 18 من أبواب مقدمة العبادات، الحدیث 6.
2- المصدر السابق، الحدیث 1.
3- سورة الحجرات، آیة 6.

ص:444

غیره، وهذه الأخبار تقتضی ترتّب الثواب علی العمل الوارد بطریق عن المعصوم علیه السلام ، سواءٌ کان المخبر عدلاً أو غیر عدل، طابق الواقع أم لا، ولا ریب أنّ الأوّل أخصّ من الثانی، فیجبُ تخصیص هذه الأخبار بالآیة جریا علی القاعدة من العمل فی مورده وبالعام فیما عدا مورد الخاص، فیجب العمل بمقتضی الآیة وهو ردّ خبر الفاسق، سواءٌ کان علی عملٍ یتضمّن الثواب أو غیره، ویکون معنی قوله علیه السلام : «وإذ لم یکن کما بلغه» ونحوه اشارة إلی أنّ خبر العدل قد یکذب إذ الکذب والخطاء جائزان علی غیر المعصوم، والخبر الصحیح لیس بمعلوم الصدق) انتهی کلامه.

ثم قال: وأورد علیه بعض مشایخنا المعاصرین، حیث أورد أوّلاً جملةً الأخبار الدالّة: «من بلغه شیء من الثواب علی عملٍ فعمله کان له ذلک، وإنْ لم یکن کما بلغه». ثم أورد اعتراض هذا الفاضل، ثمّ قال:

وأنت خبیر بما فیه، أمّا الأوّل: فقد ظهر بما صوّرناه ضعفه علی أن الحکم بترتّب الثواب علی عملٍ یُساوق رجحانه جزما، إذ لا ثواب علی غیر الواجب والمستحبّ:

توضیح ذلک: تقتضی المقام أن توصّح المراد من هذا الرّد لکلام بعض المشایخ فی عصر صاحب «الحدائق»، فنقول:

إنّ ترتّب الثواب أو العقاب علی فعلٍ أو ترک الفعل یکون بنحوین:

تارة: یکون بحکم أوّلی کما هو الغالب، فلیس هذا الاّ المستحب والواجب الثابتین بالأخبار المعتبرة أو الأدلّة المقبولة، وهو ممّا لا کلام فیه ولا اشکال.

وأخری: یکون ذلک بعنوانٍ ثانوی کسائر العناوین الثانویة من الضرور الحرج وغیرهما.

ص:445

والمقام من هذا القبیل، أی یکون الاستحباب الثابت فی ذلک العمل نتیجة عروض عنوان من بلغه، أی بهذا الاعتبار أجح مستحبّا نظیر الحرمة الثابتة علی عمل لأجل انطباق عنوان الضرر علیه، أی یعاقب علی فعله أو ترکه فی الثانی کما یترتّب علیه الثواب والاستحباب بعنوان ثانوی وهو البلاغ، حتی وإنْ لم یکن فی الواقع مستحبا، إذ حتّی لو کان مکروها وظنّ أنّه مستحبّ لأجل خبرٍ ضعیفٍ یفید الثواب، فیستحق الثواب من المولی المجرد هذا البلوغ، وإن کان الفعل أو الترک مکرها فی الواقع أو قلنا بالتهاتر أو غمض النظر عنه من حیث التفضّل من اللّه الکریم، وعلیه فالاستحباب بهذا المعنی یصدق علیه الطلب من الشارع، أی یجوز له الاتیان بالفعل والتک بهذا المعنی لحصول الانقیاد فی نفس المکلف وتحقّق الرغبة عنها لتحصیل هذه الاعمال، ولو لا ذلک لوجب علی المولی النهی عن الاتیان والتوعید علیه ولم یفعل.

وامّا نقض الفاضل بأنّ لازم الالتزام بذلک الحکم بوجوب من بلغه بخبر ضعیف. فهو مندفع، للمنوعیته صغرویا وکبرویا.

أمّا الأولی فنحن نلتزم بذلک لو ورد من الشارع مثل ذلک فی الواجبات ولم یکن أمرا محالاً، ولکنه لم یصدر عنه ذلک، ولذلک لم نقل به.

وأمّا الصغری أی لم یثبت من الشارع مثله فی الواجبات، لانّه لم یرد فی نصّ معتبر وغیر معتبر دلیلٌ علی أنّ من ترک واجبا قد بلغه یعاقب علی ترکه، ولو لم یکن کما بلغه، والاّ نلتزم به أیضا.

وعلیه فالنقض غیر وارد کما لا یخفی عند التأمّل.

ثمّ وجّه البحرانی کلام بعض المشایخ إلی النسبة الملحوظة بین أخبار من بلغ وآیة النباء، بکونها من العموم والخصوص المطلق، وقال فی ردّه: «والتحقیق أنّ بین تلک الروایات وبین ما دلّ علی عدم العمل بقول الفاسق فی الآیة المذکورة

ص:446

ونحوها عموما من وجه کما اشرنا الیه، فلا ترجیح لتخصیص الثانی بالأوّل، بل ربما رجّح العکس لقطعیة سنده، وتأیّده بالأصل، إذ الأصل عدم التکلیف وبرائة الذمة کان أقرب إلی الاعتبار والاتجاه، مع ما فیه من النظر والکلام، أو یمکن أن یقال إنّ الآیة الکریمة إنّما تدلّ علی عدم العمل بقول الفاسق بدون التثبت والعمل به فیما نحن فیه، بعد ورود الروایات المعتبرة المستفیضة، لیس عملاً بلا تثبتٍ کما ظنّه السائل، فلم تتخصص الآیة الکریمة بالأخبار، بل بسبب ورودها خرجت تلک الأخبار الضعیفة عن عنوان الحکم المثبّت فی الآیة الکریمة••• فتأمّل» انتهی کلام صاحب الحدائق(1).

قلنا: لا یخفی علی المتأمّل بین الدلیلین أنّ النسبة لا تلاحظ هکذا، لوضوح أنّ الخبر الضعیف لو لوحظ بنفسه لولا أخبار من بلغ، فإنّه لا اشکال فی تقدیم الآیة علیه وحکوممتها علیها، ولأجل ذلک لم نحکم بمفاده. وأمّا مع ملاحظة أخبار من بلغ التی فیها الصحیحة والمعتبرة فقد روعی فیها الآیة علی الفرض.

فعلی کلّ حال، الحکم بتقدیم الآیة أمرٌ ثابت، ومشروعیّة العمل إنّما ثبت بواسطة اخبار من بلغ لا بالأخبار الضعیفة، ولیس نص المشروعیّة هنا الاّ الترخیص من ناحیة الشارع فی الایقا برجاء الثواب، بل الاتیان به کاشفٌ عن وجود حالة الانقیاد فی العبد لما هو محبوب عنداللّه، والثواب المعطی له کان لذلک، ونحن لا نقصد من الاستحباب الاّ محبوبیة عند الشارع ولو انقیادا بواسطة أخبار البلوغ، ولا نرید من المشروعیة هنا أزید من ذلک.

نعم، إن أرادو کونه مطلقا ومستحبا بالحکم الأوّلی فلا نُسلّمه، بل لا اظنّ أن یلتزم به أحد من القائلین بالتسامح فی أدلّة السنن.


1- الحدائق، ج 4، ص 200 الی 197.

ص:447

وبالجملة: ثبت ممّا عدم تمامیة کلام صاحب «الحدائق» الذی ذکر بعده تأیید الفاضل المعاصر له بنفی الاستحباب وما جاء فیه من الکلام الطویل ترکنا ذکره روما للاختصار، وترکا للتکرار، وما توفیقی الاّ باللّه علیه توکلت وإلیه انیب.

بقیة الأغسال المستحبة

ومنها: غُسل یوم دَحو الأرض، وهو یوم الخامس والعشرین من ذی القعدة. وقد نُسب استحبابه فی «الذکری» إلی الأصحاب، وقبل ذلک فی «الذکری» و«البیان» و«الدروس» وکذا «جامع البهائی» واثنی عشریّته، بل عن «الفوائد العلیّة» و«الدیقة» نسبة ذلک إلی المشهور، وهو یکفی فی اثبات استحبابه من باب المسامحة، مضافا إلی کونه یومٌ شریف ذو فضل وأنّ صومه تعدل صوم ستین شهرا، وفی خبرٍ سبعین سنة، وأن اللّه سبحانه ینزّل الرحمة فی هذا الیوم، وأنّ مولانا الحجّة ارواحنا فداه یظهر فیه إلی آخر ما فی الحدیث، فلا یعتنی حینئذٍ بما فی «المصابیح» من قوله: «إنّا لم نجد لذلک ذکرا فی غیر ما ذکر، وکتب الفقه والأعمال خالیة منه بالمرّة» وکان الشهید رحمه الله وجده فی بعض کتب الأصحاب فعزاه إلی الأصحاب بقصد الجنس دون الاستغراق، ففَهِم منه الشهید وغیره اراده الظاهر، فنسبوه الی المشهور، ونحن قد تتبعنا ما عندنا من مصنّفات الأصحاب ککتب الصدوقین والشیخین وسلاّر وأبی الصلاح وابن البراج وابن ادریس وابن زُهرة وابن أبی المجد، وابن سعید، وکتب العلاّمة وابن فهد وابن طاوس فلم نجد له اثرا. وعلیه فالشهرة مقطوع بعدمها، إنّما الشأن فی من ذکره قبل الشهید. انتهی علی المحکی فی «الجواهر»(1).


1- الجواهر، ج 5، ص 41.

ص:448

ومنها: غُسل یوم النوروز.

وهو المشهور بین المتأخرین، بل لم نعثر علی مخالفٍ فیه والدلیل علیه _ مضافا إلی الشهرة، _ دلالّة خبر معلّی بن خُنیس، عن الصادق علیه السلام ، المروی فی «المصباح» ومختصره، قال: «إذا کان یوم النیروز فاغتسل... الحدیث»(1).

بل یمکن اثبات استحباب الغُسل فیه باعتبار أنه یومٌ شریف ذی فضل علی حسب روایة المعلّی.

وأیضا: عن الصادق علیه السلام المروی علی لسان الشیخ الجلیل الشیخ احمد بن فهد فی مهذّبه، حکاه فی «المصابیح» وفی «الوسائل»، قالا: «حدّثنی السید العلامة بهاء الدین علی بن عبدالحمید، باسناده إلی المعلّی بن خنیس، عن الصادق علیه السلام : أنّ یوم النیروز هو الیوم الذی أخذ فیه النبیّ صلی الله علیه و آله لأمیرالمؤمنین العهود بغدیر خمّ فأقروا له بالولایة فطوبی لمن ثبت علیها، والویل لمن نکثها_ وهو الیوم الذی وجّه فیه رسول اللّه صلی الله علیه و آله علیّا إلی وادی الجنّ، وأخذ علیهم العهود والمواثیق، وهو الیوم الذی ظفر فیه بأهل النجران، وقتل ذی الثدیّة، وهو الیوم الذی فیه یظهر قائمنا أهل البیت وولاة الأمر، ویظفره اللّه بالدّجال فیصلبه علی کُناسة الکوفة، وما من یوم نیروزٍ الاّ ونحن نتوقّع فیه الفرج، لانّه من أیّامنا حفظه الفرس وضیعتموه. ثمّ إنّ نبیّا من أنبیاء بنی إسرائیل سأل ربّه أن یُحیی القوم الذین خرجوا من دیارهم وهم ألوف حَذَر الموت فأماتهم اللّه، فأوحی اللّه إلیه أن صبّ علیهم الماء فی مضاجعهم، فصبّ علیهم الماء فی هذا الیوم فعاشوا وهم ثلاثون الفا، فصار صبّ الماء فی الیوم النیروز سُنّة ماضیة، لا یَعرف سببها الاّ الراسخون فی العلم، وهو أوّل یومٍ من سنة الفرس».


1- وسائل الشیعة: الباب 48 من أبواب بقیة الصلوات المندوبة، الحدیث 1.

ص:449

قال المعلّی: وأملی علیّ ذلک، فکتبتُ من املائه(1).

أقول: بملاحظة وقوع هذه الأمور العظیمة فی مثل هذا الیوم، وقبول جماعة یعدّون من الاساطین، منهم الشیخ یحیی بن سعید، والعلاّمة والشهید وغیرهم یکفی فی ثبوت الاستحباب، وعلیه فلا وجه للمناقشة فی السند أو غیره کما فی «الجواهر». کما لا وجه للقول بالمعارضة بما عن «المناقب» لابن شهر آشوب أنّه قال: «حُکی أنّ المنصور تقدم إلی موسی بن جعفر علیهماالسلام إلی الجلوس للتهنئة فی یوم النیروز وقبض ما یُحمل إلیه. فقال: إنّی قد فتشّتُ الأخبار عن جَدّی رسول اللّه صلی الله علیه و آله فلم أجد لهذا العید خبرا، وأنّه سُنّة الفرس ومحاها للاسلام، ومعاذ اللّه أن نُحیی ما محاه الاسلام. فقال المنصور: إنّما نفعل هذا سیاسةً للجند، فسألتک باللّه العظیم الاّ جلست فجلس، الحدیث»(2).

فإنّ هذا الخبر یحتمل: للتقیّة، ولأجل الفرار عن عمّا کان یقصد الخلفاء ککسب الوجهاة لأنفسهم من الأئمّة علیهم السلام ، فکانوا یقومون بأفعال وتصرفات ثم ینسوها لهم الیهم علیهم السلام ویدّعون رضاهم بذلک.

أو یحتمل أنّ الیوم المذکور فی الروایة غیر ما هو المعهود المتعارف فی زماننا هذا للاختلاف الموجود فیه، وعلیه فالأقوال فی المقام متعددة، فلا بأس بذکرها مزیدا للاطلاع:

1_ القول المشهور المعروف فی زماننا هذا، انّما هو یوم انتقال الشمس إلی بُرج الحَمَل، بل لا یعرف غیره کما عن المجلسیّین النصّ علیه فی «الحدیقة» و«زاد المعاد»، بل هو الأقوی عندنا کما علیه الشهید الثانی فی «الروضة»


1- وسائل الشیعة: الباب 48 من أبواب بقیّة الصلوات المندوبة، الحدیث 2.
2- المناقب لابن شهر آشوب، ج 5، ص 74، طبعة بمبئی.

ص:450

و«الفوائد العلیة»، بل کان علی شهرته فی زمانه وزمان الشیخ أبی العباس ابن فهد، حیث نقل الروایة الواردة حول فضیلة هذا الیوم ممّا یدلّ علی شهرته فی عصره. وقد یؤیّد ذلک ما جاء فی خبر المعلّی من قوله: «إنّه فیه الشمس، وهبت فیه الریاح اللّواقح، وخُلقت فیه زهرة الأرض» حیث تصادف هذه الأمور مع الیوم الأوّل من أیّام الربیع، بل هو الیوم الذی اُخذ فیه العهد لامیرالمؤمنین علیه السلام فی غدیر خمّ، فانّه علی ما قیل یوافق وقوع تلک الواقعة فی یوم النوروز بحسب التقاویم الحالیة، ویتفق زمانه مع زمان نزول الشمس فی برج الحمل، وهو الیوم التاسع عشر من ذی الحجّة بحسب التقویم، ولم یکن الهلال السابق قد شوهد لیلة الثلاثین، فیصیر الزمان بناءً علیه موافقا مع یوم الثامن عشر علی الرؤیة، ویصادف کلّ ذلک إلی مع الاعتدال الربیعی، هذا هو القول الأوّل المؤیّد عندنا.

کما قد یؤیّده ما جاء فی روایة أخری لمعلّی بن الخنیس أیضا، قال:

«دخلت علی أبی عبداللّه علیه السلام فی صبیحة یوم النیروز، فقال یا معلّی أتعرف هذا الیوم؟ قلت: لا ولکنه یوم تعظّمه العجم وتتبارک فیه.

قال: کلا والبیت العتیق الذی ببطن مکّة، ما هذا الیوم إلاّ. لأمرٍ قدیم أفسرّه لک حتّی تعلمه.

قلت: لعلمی بهذا من عندک أحبّ إلیّ من أن تعیش اترابی ویهلک اللّه اعدائکم.

قال: یا معلّی یوم النیروز هو الیوم الذی أخذ اللّه فیه میثاق العباد: لأن یعبدوه ولا یُشرکوا به شیئا، وأن یدینوا لرسله وحُججه وأولیائه، وهو أوّل یوم طلعت فیه الشمس.

إلی أن قال: وهو الیوم الذی کسر فیه ابراهیم أصنام قومه، وهو الیوم الذی حُمل فیه رسول اللّه صلی الله علیه و آله علیا علیه السلام علی منکبه حتّی رضّ أصنام قرش من فوق البیت الحرام وهشّمها، الحدیث بطوله»(1).


1- وسائل الشیعة: الباب 48 من أبواب بقیة الصلوات المندوبة، الحدیث 3.

ص:451

2_ بعد الغض عن هذا القول یکون القول الآخر وهو أوّل یوم فروردین عند قدامی الفرس والمسمّی بتقویم الیزدجری، والمطابق فی هذه الاعصار مع التاسع من برج الأسد، والموافق مع التاسع من مرداد ماه أقوی، لانّه الاکثر استعمالاً فی زمن صدور الأخبار فی استحباب الغسل فیه.

3_ وقیل إنّه الیوم العاشر من أیّار الرومی، کما عن بعض المجلسیّین، وعلماء الهیئة، وهو المطابق مع الیوم الثانی من برج الجوزاء، الموافق مع الثانی من أردیبهشت.

4_ وقیل إنّه التاسع من شهر شباط، المطابق مع الثالث من برج الحوت، الموافق مع الثالث من شهر اسفند کما عن صاحب کتاب «الانوار».

5_ وقیل إنّه یوم نزول الشمس فی أوّل الجدی، وعن «المهذّب البارع» أنّه المشهور بین فقهاء العجم بخلاف أوّل الحمل، فانّهم لا یعرفونه بل ینکرون علی من اعتقده.

6_ وقیل إنّه السابع عشر من کانون الأوّل، بعد نزول الشمس فی الجدی بیومین، وهو الیوم التاسع من برج الجدی الموافق مع التاسع من شهر ذی وهو صوم الیهود.

أقول: هذه الأقوال ضعیفة، بل ربما احتمل فی القول الثانی کون الایار مصحّف آذار، فیوافق المشهور. وکیف کان قد عرفت ما هو المختار فلا نعیده:

ومنها: غُسل یوم التاسع من شهر ربیع الاوّل، فقد حکی أنّه من فعل احمد بن اسحاق القمی معللاً له بانّه یوم عیدٍ، لما روی أنّه قد اتفق فیه من الأمر العظیم الذی یسرّ المؤمنین ویکید المنافقین(1).

لکن قال فی «المصابیح»: «إنّ المشهور بین علمائنا وعلماء الجمهور أنّ ذلک


1- البحار، ج 8، ص 315 من طبعة الکمبانی.

ص:452

واقعٌ فی السادس والعشرین من ذی الحجة، وقیل إنّه فی السابع والعشرین منه».

وفی الجواهر: «قلت: لکن المعروف الآن بین الشیعة إنّما هو یوم تاسع ربیع، وقد عثرتُ علی خبرٍ مسندا إلی النبیّ صلی الله علیه و آله فی فضل هذا الیوم وشرفه وبرکته، وأنّه یوم سرور لهم علیهم السلام ما یُحیی به الأرض، وهو طویلٌ وفیه تصریحٌ باتفاق ذلک الأمر فیه، فلعلّنا نقول باستحباب الغُسل فیه، بناء علی استحبابه لمثل هذه الأزمنة، وسیّما مع کونه عیدا لنا ولأئمّتنا علیهم السلام » انتهی ما فی الجواهر.

والروایة المشارُ الیها مذکورة فی البحار(1).

أقول: خصوصا مع کونه مصادفا مع اوّل یوم امامة ولی العصر عِجّل اللّه تعالی فرجه الشریف، فیعدّ یوما مبارکا شریفا من هذه الجهة أیضا، رزقنا اللّه ظهوره وزیارته فی ذلک الیوم بحقّ جد المصطفی صلی الله علیه و آله وعلی المرتضی علیه السلام وبحقّ أمّه فاطمة الزهراء علیهاالسلام وابنیهما الحسن والحسین سید الشهداء صلوات اللّه علیهم أجمعین، ونغتسل لزیارته إن شاء اللّه تعالی، وأیّ عیدٍ لنا أفضل من ذلک.

هذا کله فی الاغتسال المستحبّة للزمان.


1- البحار، ج 8، ص 315 من طبعة الکمبانی.

ص:453

الأغسال المستحبة للأفعال

قوله قدس سره : وسبعة للفعل وهی: غُسل الاحرام (1)

(1) بعد فرغنا أن الأغسال الزمانیة، یصل الدور الی البحث عن الأغسال التی تستحبّ للفعل وقد ذکر المصنّف سبعة:

الأوّل: غُسل الاحرام: لا اشکال ولا خلاف فی مشروعیته فی الجملة، بل الأخبار الدالّة علیه کادت تکون متواترة. نعم، قد وقع الخلاف فی استحبابه، وإنْ ادّعی صاحب «الجواهر» قدس سره بأنّه «لا خلاف محقّق معتدّ به فیه، ولذا نفاه عنه فی «المقنعة» وحَجّ «الغنیة» وطهارة «الوسیلة» و«المنتهی»، بل فی طهارة «الغنیة» وحج «الخلاف» و«التذکرة» الاجماع علیه، کما عن ظاهر «المجالس» نسبته إلی دین الامامیة، وعن «التهذیب» (عندنا إنّه لیس بفرض)، کما عن حجّ «التحریر» (لیس بواجبٍ اجماعا)، وعن ابن المنذر (أجمع أهل العلم أنّ الاحرام جائز بغیر اغتسال)، وفی «المصابیح» (أن علیه الاجماع المعلوم بالنقل المستفیض وفتوی المعظم واطباق المتأخرین» هذا کما فی «الجواهر».

ولکن مع ذلک کلّه قد حُکی عن ابن أبی عقیل وابن الجنید الوجوب، بل ربّما نُسب إلی ظاهر الصدوق وغیره، بل قوّاه صاحب «الحدائق»، وعلیه فلا بأس أوّلاً بذکر أدلّة القائلین بالوجوب: فقد استدلوا:

1_ بروایة مرسلة وهی عن یونس، عن بعض رجاله، عن أبی عبداللّه علیه السلام ، قال: «الغسل فی سبعة عشر موطنا منها الفرض، ثلاثة... إلی أن قال: الجنابة

ص:454

وغُسل من غَسّل میتا والغسل للاحرام»(1).

2_ وبروایة «فقه الرضا» الذی تمسّک به صاحب «الحدائق»، حیث قال: «والغسل ثلاثة وعشرون، ثمّ عدّها وقال: والفرض من ذلک غُسل الجنابة، والواجب غُسل المیّت، وغُسل الاحرام، والباقی سُنّة»ة(2).

ثمّ قال صاحب «الحدائق»: «وهذان الخبران فی الوجوب کما تری، والتأویل وإنْ أمکن ولو علی بُعدٍ الاّ أنّه فرّع وجود المعارض، ولیس إلاّ الروایة المتقدمّة [ویقصد بها روایة معاویة بن عمّار] وقد عرفت ما فیها. وأمّا ما فی موثقة سماعة من قوله: «وغُسل المُحْرِم واجبٌ»، فلا دلالة فیه کما سیأتی تحقیقه فی غُسل الجمعة. وبالجملة فالقول بالوجوب لا یخلو عن قوّة، والاحتیاط یقتضی المحافظة علیه» انتهی کلامه(3).

أقول: ولکن التحقیق یقضی خلاف ما ذکره، لأنّ روایة یونس کما هو معلومٌ روایة مرسلة، مضافا إلی ضعف محمدبن عیسی _ علی ما فی «المعتبر» عمّا یرویه عن یونس، حیث استثناه به ابن الولید کما ذکره ابن بابویه، فلابد فی العمل بالروایة من اعتبارها بذاتها أولاً، أو الانجبار بالشهرة والاجماع، وکلاهما مفقودان مع أنّ الشهرة أو الاجماع قائمان علی خلافه. وعلیه فالواجب أو الروایة العمل بالأخبار المعتبرة دونما هی ضعیفة بعد ضعف هذه بنفسها کروایة یونس، فهی خارجة عن الاستدلال، أما روایة «فقه الرضا» حیث حکم بوجوب هذا الغُسل، لکن نصّ الروایة التی نقلها المجلسی وصاحب «مصباح الفقیه» و«مصباح الهدی» هکذا: «الغُسل أربعة عشر وجها ثلاث منها غُسلٌ واجب


1- وسائل الشیعة: الباب 1 من أبواب الجنابة، الحدیث 4.
2- فقه الرضوی، ص 4.
3- الحدائق، ج 4، ص 184.

ص:455

مفروض متی نسبه ثمّ ذکره بعد الوقت اغتسل، وإذا لم یجد الماء یتیمّم، ثمّ إن وجدتَ فعلیک الاعادة. وأحد عشر غسلاً سُنّة: العیدین والجمعة وغُسل الاحرام، ویوم عرفة، الحدیث»(1).

وعلیه فتصج الروایة حینئذٍ مضطربةٌ لا یُدری أی الظبطین هو الأصحّ، فیصیر التمسّک بها مشکلٌ لکلا طرفی المسألة، فلم یبق هنا ما یدلّ علی الواجب إلاّ موثقة سماعة بقوله: «وغُسل المُحْرِم واجب»(2).

هذا مضافا إلی اشتمال روایة الوجوب علی اغسالٍ کان استحبابها مقطوعا به عند الأصحاب، مثل غُسل یوم عرفة، وغُسل الزیارة، وغُسل دخول الحرم، فیصیر هذا قرینة علی أنّ المراد من الوجوب فیه هو المتسحب المؤکد، مع امکان أن یکون المراد من (غُسل المُحْرِم) هو الحاج الذی قد تلبّس بالاحرام ثمّ مات، فإنّه یُغسّل غُسل المیت ولا یسقط عنه هذا الغُسل لکونه محرما لا یصحّ استعمال الکافور فیهع وعلیه منه غسل المحرم إذا مات أی فلا یرتبط الخبر حینئذٍ بما نحن فی صدده، فإذا سقطت هذه الروایات عن الاستدلال، یجب الرجوع إلی ما یدلّ علی الاستحباب دلیلاً أو اشعارا:

فمن الأوّل: روایة فضل بن شاذان، عن الرضا علیه السلام فیما کتبه إلی المأمون وغُسل یوم الجمعة سنّة، وغُسل العیدین، وغُسل دخول مکّة والمدینة، وغُسل الزیارة، وغسل الاحرام. إلی أن قال: هذه الأغسال سنّة، وغُسل الجنابة فریضة، وغسل الحیض مثله»(3).


1- حکاه المجلسی فی البحار، ج 81، ص 13، ولکن فی فقه الرضا، ص 3 لیس فیه غُسل الاحرام، وعدّه من الواجب فی ص 83.
2- وسائل الشیعة: الباب 1 من أبواب الاغسال المسنونة، الحدیث 3.
3- وسائل الشیعة: الباب 1 من أبواب الاغسال المسنونة، الحدیث 6.

ص:456

قوله قدس سره : وغُسل زیارة النبیّ صلی الله علیه و آله والأئمة علیهم السلام (1)

حیث صرّح باستحبابه، مع دلالة ترادفه مع الاغسال المسنونة علیه أیضا کما لایخفی.

ومن الثانی: صحیحة معاویة بن عمّار، عن أبی عبداللّه علیه السلام ، قال: «إذا انتهت إلی العقیق مِن قِبل العراق، أو إلی وقتٍ من هذه المواقیت وأنت ترید الاحرام إن شاء اللّه تعالی، فانتف ابطیک، وقلّم أظفارک، وأطل عانتک، وخذ شاربک. إلی أن قال: استک واغتسل والبس ثوبیک»(1) حیث یشعر ترادفه مع المستحبات کون الغُسل أیضا کذلک.

هذا کلّه مع أنّه مقتضی الأصل، بل مطابق للسیرة فی المقام، إذ لو کان واجبا لکان شرطا فی صحة الاحرام، لاستبعاد وجوبه النفسی، ومن المستبعد بل الممتنع أن یکون ذلک شرطا کما عرفت دعوی اجماع أهل العلم عن ابن المنذر علی جواز الاحرام بغیر غُسلٍ، مع أنّه لو کان واجبا لکان محفوظا عند العلماء ولتوفرّت الدواعی علی حفظه لتکرر الحج فی کلّ عام، فلو کان لبان قطعا، وعلیه فالاقوی عندنا عدم الوجوب کما علیه معظم الأصحاب، واللّه العالم.

(1) الثانی: غُسل حرم المعصومین علیهم السلام .

واستحبابه کذلک هو المشهور بین الأصحاب، بل فی «کشف اللثام» و«المصابیح» نسبته إلی قطع الأصحاب، المشعر بدعوی الاجماع علیه، بل فی «الغنیة» دعواه صریحا کالوسیلة حیث عدّه من المندوب بلا خلافٍ، وهو الحُجة. مضافا إلی الأخبار الکثیرة المتواترة الواردة فی موارد متعدده من الزیارات کما نشیر ف إلیه إن شاء اللّه


1- وسائل الشیعة: الباب 39 من أبواب المزار وما یناسبه، الحدیث 2.

ص:457

منها: خبر علاء بن سیّابة، عن أبی عبداللّه علیه السلام ، فی قوله عزّوجلّ: «خذوا زینتکم عند کلّ مسجد» قال: الغُسل عند لقاء کلّ امام»(1) فهذا الخبر دالّ علی المطلوب بناء علی ظهوره بقرینة لفظ وقوعه تفسیرا للآیة، الظاهرة فی تعدد المسجد فی کلّ زمان، حیث یدلّ علی تعدّد مشاهد الأئمة علیهم السلام فی کلّ زمان، فیشمل الأموات والأحیاء لا خصوص الأحیاء أو بقاءً علی دعوی عدم الفرق بین زیارتهم علیهم السلام حیّا ومیّتا، کما ورد فی زیارتهم «إنّی أعتقد حرمة هذا المشهد الشریف فی غیبته کما اعتقدها فی حضرته واعلم أنّ رسولک وخلفائک أحیاءٌ عند ربّهم یُرزقون» کما یؤیّدها بعض الشواهد النقلیة والمناسبات العقلیة.

ومنها: ما یمکن استفادة ذلک منه ما ورد فی استحباب الغُسل لزیارة الجامعة التی یُزار بها کلّ امام علیه السلام .

ومنها: الاستدلال بما هو المرویّ عن «کامل الزیارات» لابن قولویه، عن سلیمان بن عیسی، عن أبیه، قال: «قلت لأبی عبداللّه علیه السلام : کیف أزورک إذا لم أقدر علی ذلک؟ قال: قال لی: یا عیسی إذا لم تقدر علی المجیء، فإذا کان یوم الجمعة فاغتسل وتوضّأ واصعد إلی سطحک، وصلّ رکعتین، وتوجّه نحوی فانّه من زارنی فی حیاتی فقد زارنی فی مماتی، ومن زارنی فی مماتی فقد زارنی فی حیاتی»(2).

إذ من المعلوم أنّه إذا کان الغسل مندوبا لمن یزور عن بُعدٍ بدلالة هذا الحدیث، فللقریب یکون بطریق أولی، کما أنّه لا فرق فی ذلک بین الصادق علیه السلام وغیره من سائر الأئمة علیهم السلام .

بل کذلک یُستفاد استحباب ذلک من الأخبار الکثیرة الواردة فی خصوص


1-
2- وسائل الشیعة: الباب 95 من أبواب المزار وما یناسبه، الحدیث 4.

ص:458

زیارة النبی صلی الله علیه و آله وأمیرالمؤمنین، وأبی عبداللّه الحسین، وأبی الحسن علی بن موسی الرضا علیهم السلام من الأمر بالاغتسال لزیارتهم بما هو غنی عن الذکر، بل روی ابن قولویه فی «کامل الزیارات» عن أبی الحسن علیه السلام : «إذا اردت زیارة موسی بن جعفر ومحمّد بن علی علیهماالسلام فاغتسل وتنظف والبس ثوبیک الطاهرین»(1).

وأیضا: عن الکتاب المذکور، قال: «وروی عن بعضهم علیهم السلام : «إذا أردت زیارة قبر أبی الحسین علی بن محمّد، وأبی محمّد الحسن بن علی تقول بعد الغُسل إنْ وصلت إلی قربهما، والاّ أو ماتَ بالسّلام من عند الباب الذی علی الشارع، الحدیث»(2).

ثمّ انّه لم یرد فی نصٍ غُسلاً لزیارة الأئمة الأربعة فی البقیع بالخصوص، وإن تشملهم العناوین العامّة غیر المختصة لامام خاص، وقال صاحب «الجواهر»: «ولعلّ عدم ورود ذلک فی خصوص ائمة البقیع، للاکتفاء بغُسل زیارة النبی صلی الله علیه و آله للتداخل، وإنْ کان ذلک رخصة لا عزیمة. نعم، قد تحتمل العزیمة فی المجتمعین فی قبرٍ واحد کالکاظم والجواد علیهماالسلام ، والهادی والعسکری، کما یُشعر به الخبر المذکور فتأمّل» انتهی.

أقول: ولعلّ الوجه فیه أنّه لا یحتاج إلی کونه فی قبر واحد، بل یمکن التداخل علی نحو القرب حیث یصدق عرفا أنّ الغسل الواحد وقع لهم جمیعا، ففی مثل ذلک لا یحتاج کلّ واحد منهم الی غُسلٍ مستقلّ عن غُسل الآخر، لأنّ المناط هو اتیان الزیارة لهم مع الغُسل، وهو یحصل بغسل واحد، فلعلّ من هذه الجهة لم یُذکر غُسلاً للأئمة الأربعة غُسلاً مستقلاً لأنّ زیارتهم غالبا تکون مع زیارة النبی صلی الله علیه و آله لقرب قبرهم معه، واللّه العالم بحقایق الامور.


1- کامل الزیارات، ص 310 وعنه فی البحار، 7102/1.
2- کامل الزیارات، ص 313.

ص:459

هذا، مضافا إلی شمول ما دلّ علی استحباب غُسل الزیارة بصورة المطلق الشامل للنبی صلی الله علیه و آله والأئمة علیهم السلام والمسجد الحرام کما ورد ذلک فی صحیحتی محمد بن مسلم(1) وعبداللّه بن سنان،(2) وموثقة سماعة،(3) وفضل بن شاذان،(4) أو فی خصوص الأخیر کما فی صحیح معاویة بن عمّار(5). وعلیه فهذه الأدلة المتکثرة کلّها دالة علی المطلوب وکافیة لاثبات الدعوی. وفی جهة أخری یمکن أن ندّعی أنه یمکن أن یکون المراد من یوم الزیارة الموجود فی بعض الأخبار کنایة عن الغُسل لاتیان الزیارة فی ذلک الیوم، حتّی یکون الغسل للفعل لا للزمان.

بل قد یستفاد من بعض الأخبار استحباب الغُسل لرؤیة أحد الأئمة علیهم السلام والنبی صلی الله علیه و آله فی المنام، فضلاً عن رؤیاهم فی حال الیقظة للزیارة، وهو کخبر أبی المعزی، عن موسی بن جعفر علیهماالسلام ، المروی عن کتاب «الاختصاص» للمفید رحمه الله ، قال: «من کانت له إلی اللّه حاجة، وأراد أن یرانا وأن یعرف موضعه، فلیغتسل ثلاث لیال یناجی بنا فانّه یرانا ویُغفر له بنا، الحدیث»(6).

وبالجملة: ظهر ممّا ذکرنا استحاب الغُسل لزیارة البیت العتیق کما وقع فی روایة معاویة بن عمّار کما عن جماعةٍ النص علیه، بل عن «الغنیة» الاجماع علیه، وظاهر الخبر الاطلاق أی استحبابه لزیارة البیت، سواءٌ کان قبل منی أو بعد رجوعه منها. ولکن یظهر عن بعض _ کما قد صرّح به «الجواهر» _ کون استحبابه


1- وسائل الشیعة: الباب 1 من أبواب الاغسل المسنونة، الحدیث 5.
2- المصدر السابق، الحدیث 7.
3- المصدر السابق، الحدیث 3.
4- المصدر السابق، الحدیث 6.
5- المصدر السابق، الحدیث 1.
6- المستدرک، الباب 22 من أبواب الاغسال المسنونة، الحدیث 1.

ص:460

بعد الرجوع عن منی، والأقوی هو الأوّل. اللّهم الاّ أن یکون عنوان زیارة البیت عنوانا مشیرا إلی الراجع عن منی فللاختصاص حینئذٍ وجه، ولکن ذلک فرع اثباته کذلک، وهو غیر معلوم.

نعم، لا یستفاد منه استحبابه لکلّ طواف بالبیت، وإنْ لم یُسمّ زیارةً کما عن جماعة. اللّهمّ إلاّ أن یستفاد استحبابه للطواف من خبر علی بن أبی حمزة، عن أبی الحسن علیه السلام ، قال: «قال لی: إن اغتسلت بمکّة ثمّ نمت قبل أن تطوّف فاعد غُسلک»(1)، بأن تکون اعادته لاجل الطواف، کما نقل الاجماع عن الشیخ فی «الخلاف» علی الغُسل للطواف؛ وفی «الجواهر» اختیار حیث قال: «ولیس ببعید».

ولکن یمکن المناقشة فی الروایة: بأن تکون الاعادة لأجل أنّ الغُسل لزیارة دخول البیت إنّما هو لکی یتعقّبه الطواف، فحیث نام قبل الطواف بطل الغسل أو یستحبّ اعادته لدرک ثوابه، فحینئذٍ لیس الغسل لنفس الطواف، فیصح حینئذٍ أن یقال بعده: إذا کان الأمر کذلک فلا فرق حینئذٍ بین طواف الزیارة وطواف العُمرة وطواف النساء أو طواف الوداع وغیرها، فالأحوط ایتانه لرجاء المطلوبیة لو لم نقل باستحبابه جزما للطواف.

وکذلک یستحبّ الغُسل للوقوف بعرفات، لأجل دعوی قیام الاجماع علیه عن الشیخ فی «الخلاف»، وابن زُهرة فی «الغنیة» وتمسکا بخبر معاویة بن عمّار فی قوله فی حدیث: «فإذا زالت الشمس یوم عرفة فاغتسل وصلّ الظهر والعصر بأذانٍ واحدٍ واقامتین، الحدیث»(2)، بناءً علی أن یکون الغسل للوقوف _ کما یحتمل ذلک وعلیه صاحب «الجواهر» _ لا لنفس یوم عرفة حتّی یکون من الاغسال الزمانیة، کما احتمله المحقّق الآملی فی «مصباح الهدی».


1- وسائل الشیعة: الباب 6 من أبواب مقدمات الطواف، الحدیث 2.
2- وسائل الشیعة: الباب 9 من أبواب احرام الحج والوقوف بعرفة، الحدیث 1.

ص:461

نعم، قد یستحسن الاستدلال بحدیث عمر بن یزید، عن أبی عبداللّه علیه السلام ، قال: «إذا زاغت الشمس یوم عرفة فاقطع التلبیة واغتسل، الحدیث»(1).

حیث أنّ الأمر بقطع التلبیة اشعار بانّه فی مقام بیان وظائف الحاجّ یوم عرفة، فیفید أن استحباب الغسل کان لأجل الوقوف بعرفات، ولکن مع ذلک کلّه لا یمکن الجزم بذلک، لامکان التفکیک بین الحکم بقطع التلبیة للوقوف أی بالغُسل لیوم عرفة کما لا یخفی:

وأیضا: کذلک یُستحبّ الغُسل للوقوف بالمشعر ویدلّ علیه _ مضافا إلی دعوی قیام الاجماع علیه عن «الخلاف» ما حکی الشهید فی «الدروس» عن الصدوق الاستبحاب تمسکا بروایة معاویة بن عمّار، عن أبی عبداللّه علیه السلام ، قال: «أصبح علی طُهرٍ بعد ما تُصلّی الفجر، الحدیث»(2).

فان الغسل طهارة، بل «أیُّ طهارةٍ أنقی من الغُسل» کما ورد فی الخبر، هذا کما فی «مصباح الهدی».

أقول: یکفی فی ثبوت الاستحباب نقل الاجماع عن مثل الشیخ واختیار الصدوق من باب التسامح، واحتمال کون المراد من الطهارة هو الغُسل ولو بکونه أحد الفردین، والاّ یحتمل کون المراد هو تحصیل الطهارة بالوضوء لغلبة الاستعمال فیه فی المطلق منها. مضافا إلی مکان التمسک لاستحبابه کون المعشر من الأمکنة الشریفة، فیستحبّ فیه ذلک لو قلنا بمقالة ابن الجنید رحمه الله ، بل فی «الجواهر»: «بالمعشر لأولّویته من سابقه»، ولعلّه یقصد لأشرفیة المشعر علی العرفات لکونه من الحرم، وأنّه أعظم حرمة من عرفات.

وعلیه، اذا ثبت استحبابه بعرفات ففی المشعر یکون بطریق أولی.


1- وسائل الشیعة: الباب 9 من أبواب احرام الحج والوقوف بعرفات، الحدیث 4.
2- وسائل الشیعة: الباب 11 من أبواب الوقوف بالمعشر، الحدیث 1.

ص:462

أقول: اثبات الأولویة لا توجب شرعیة الغُسل إلاّ علی القول باستحباب الغُسل لکلّ مکانٍ الشریف، فیثبت حینئذٍ استحبابه فیه بالأولویة کما لا یخفی فاذا طریق الاحتیاط هو اتیانه برجاء المطلوبیة کما هو واضح کان لمن کان له أدنی تأمّلٍ.

وأیضا: یستحب الغُسل للنحر والذبح والحِلق، لدلالة حسنة زرارة، قال: «إذا اغتسلت بعد طلوع الفجر أجزأک غُسلک ذلک للجنابة والحجامة وعرفة والنحر والحَلق والذبح والزیارة، الحدیث»(1) وهذه الروایة تفید تداخل الاغسال لواضیع وعناوین متعددة.

وأمّا لرمی الجمار: فقد نقل عن المفید استحبابه، لکن نفاه بصحیح الحلبی أو حسته، بقوله: «سألت أبا عبداللّه علیه السلام عن الغُسل إذا رمی الجمار؟ فقال: فعلت فأمّا السنة فلا ولکن من الحرّ والعَرَق»(2).

وأیضا روایة أخری مرویة عنه علیه السلام : «عن الغسل إذا أراد أن یرمی؟ فقال: ربما اغتسلتُ فأمّا السُّنة فلا»(3) حیث ینفی الاستحباب، بل یؤکّد أنه فعله لاجل الحرّ والعرق لما بعد الرمی أو قبله، کما یدلّ علی الثانی الروایة الثانیة. وعن «الخلاف» دعوی الاجماع علی عدم الاستحباب، کما هو مقتضی أصل عدم المشروعیة.

ولعلّ وجه اختیار المفید اعتماده علی:

1_ ما ورد فی خبر محمد بن مسلم، قال: «سألت أباجعفر علیه السلام عن الجمار؟ فقال: لا تِرْم الجِمِار الاّ وأنتَ علی طُهرٍ»(4).


1- وسائل الشیعة: الباب 43 من أبواب الجنابة، الحدیث 1.
2- وسائل الشیعة: الباب 2، من أبواب رمی جمرة العقبة، الحدیث 2.
3- المصدر السابق، الحدیث 4.
4- وسائل الشیعة: الباب 2 من أبواب رمی جمرة العقبة، الحدیث 1.

ص:463

قوله قدس سره : وغُسل المفرّط فیصلاة الکسوف مع احتراق القرص، إذا أراد قضائها علی الأظهر (1)

2_ وروایة الواسطی، عن أبیالحسن علیه السلام : قال: «لا ترم الجِمار الاّ وأنت طاهر»(1).

3_ وروایة معاویة بن عمّار(2) بناء علی أن تکون الطهارة هو الغَسل، ولکن قد عرفت خلافه لأجل الغلبة فی غیره، خصوصا مع ملاحظة نفی کوه من السنة فی الخبرین یحمل علی الوضوء، کما لا یخفی.

(1) الثالث: غُسل المفرّط، والکلام فیه یقع فی أمورٍ:

الأمر الاوّل: فی حکمه، وهل الغُسل فیه واجبٌ أو مستحبّ؟

فالمحکی عن غیر واحدٍ من القدماء هو الوجوب، کالمفید فی «المقنعة»، والشیخ فی غیر واحدٍ من کتبة، بل عن «الخلاف» دعوی الاجماع علیه، ومال الیه فی محکی «المنتهی» و«المدارک»، کما مال إلیه بل قال: «لو لم یکن الوجوب أقوی کان أحوط» المحقق الآملی فی «مصباح الهدی» تبعا للمحقق الهمدانی فی مصباحه. ومن القدماء صاحب «المراسم» و«المهذّب» و«الکافی» و«الوسیلة» و«شرح الجُمل» للقاضی والصدوقین نصّا فی بعضها وظهورا فی الباقی.

هذا، ولکن المشهور بین المتأخرین الندب، کما فی «کتاب طهارة» شیخنا الأنصاری هو الاستحباب، بل عن «الغنیة» الاجماع علیه، إذ أکثر المتأخرین علیه کما فی «الذخیرة» و«البحار». بل فی «المنتهی» أنّه مذهب الاکثر، بل عن «کشف الالتباس» أنّ ذلک هو المشهور، بل عن «غایة المرام» نسبته إلی


1- المصدر السابق، الحدیث 6.
2- المصدر السابق، الحدیث 3.

ص:464

المتأخرین _ کالمصابیح _ أنّ علیه اطباق المتأخرین من زمان ابن زهرة وابن ادریس عدا النادر. وفیها أیضا: «أنّ أکثر من قال بالوجوب من القدماء کالشیخین والمرتضی وسلاّر وابن البراج وابن حمزة، فقد خالف نفسه فی موضعٍ آخر من کتابه أو کتابٍ آخر له فذهب إلی الندب، أو تردد بینه وبین الوجوب، فلم یتمحّض للقول بالوجوب الاّ الصدوق والحلبی، بل الحلبی وحده لعدم صراحة کلام غیره فیه» انتهی ما فی «المصابیح».

ولأجل ذلک اختار صاحب «الجواهر» الندب. وعلیه، فلا بأس حینئذٍ بنقل الأخبار الواردة فی المقام، وملاحظة دلالتها، ومقتضی جمع بعضا مع بعضٍ، وهی عدّة طوائف:

منها: خبر محمّد بن مسلم، المروی فی «الخصال»، عن أبی جعفر علیه السلام ، قال: «الغُسل فی سبعة عشر موطنا، وعدّها إلی أن قال: وغسل الکسوف إذا احترق القرص کلّه، فاستیقظت ولم تصلّ فاغتسل وتقضی الصلاة، وغُسل الجنابة فریضة، الحدیث»(1).

ومنها: روایة «الفقیه» مرسلاً مثله(2). الأغسال المستحبة فی شهر رمضان

ومنها: صحیحة أخری لمحمّد بن مسلم المرویة عن «التهذیب» عن أحدهما علیهماالسلام ، قال: «الغُسل فی سبعة عشر موطنا إلی أن قال: وغُسل الکسوف إذا احترق القرص کلّه فاغتسل»(3).

ومنها: روایة مرسلة عن أبی عبداللّه علیه السلام ، قال: «إذا انکسف القمر فاستیقظ الرجل فکَسَل أن یصلّی [ولم یصلّ]، فلیغتسل من عدٍ ولیقض الصلاة، وإنْ لم


1- وسائل الشیعة: الباب 1 من أبواب الاغسال المسنونة، الحدیث 5.
2- المصدر السابق، الحدیث 4.
3- المصدر السابق، الحدیث 11.

ص:465

یستیقظ ولم یعلم بانکساف القمر، فلیس علیه الاّ القضاء بغیر غُسل»(1).

ومنها: ما عن «فقه الرضا»: «وإنْ انکسف الشمس أو القمر، ولم تعلم به، فعلّک أن تصلیها إذا علمت، فإنْ ترکتها متعمدا حتّی تصبح فاغتسل وصلّ وإنْ لم یحرق القرص فاقضها ولا تغتسل»(2).

أقول: ظاهر هذه الأخبار من الآمرة بالغُسل هو الوجوب، الاّ أن یأتی بما یوجب الصرف عنه، ولیس ذلک الاّ الاصل الذی یقتضی البراءة عنه، وهو غیر دافعٍ للأخبار لکونه دلیلاً عندما لم یکن فی البین نصّ اجتهادی، ومع وجود النصّ لا یبقی للأصل مورد.

وحصر الأغسال الواجبة فی جملةٍ من الروایات فی عداه أیضا صحیح لو لم یثبت الوجوب من تلک الأخبار، وإلاّ لحق هو أیضا لالواجبات.

وعدّه فی الأخبار فی عداد الأغسال المستحبة _ کما صرّح بأنّ غُسل الجنابة فریضة بعد ذکر غُسل الکسوف _ تکون قرینة علی ذلک، ولکن حیث أنّ قوله علیه السلام : «غُسل الجنابة فریضة» لیس فی الروایة المرویّة فی «الخصال» وءاْن نقلها صاحب «الوسائل» عنه. نعم هی موجودة فی المرویة عن «التهذیب» لزم منه الشک فی قرینیّة ذلک.

لا یقال: إنّ دعوی قیام الاجماع علی الاستحباب کما عن «الغنیة» کافٍ لاثبات ذلک.

لانا نقول: هو أیضا معارضٌ مع نقل الاجماع عن «الخلاف» علی الوجوب.

وعلیه، فلا یبقی فی البین ما یوجب الاطمینان علی أحد الطرفین، خصوصا مع مشاهدة الاختلاف فی نقل فقیه واحدٍ فی الموردین _ فی صلاة الآیات وفی


1- وسائل الشیعة: الباب 25 من أبواب الاغسال المسنونة، الحدیث 1.
2- فقه الرضا، ص 135.

ص:466

کتاب الطهارة _ مما یوجب التردد، فلا یبعد القول بالاستحباب تبعا للمشهور، وإنْ کان الأحوط عدم ترکه، کما قلنا بذلک فی «تعلیقنا علی العروة» تبعا للسیّد وکثیر من أصحاب التعلیق.

البحث عن المراد من الکسوف

الأمر الثانی: فی المراد من الکسوف، وهل هو مختصٌ بالشمس أو یعمّ القمر أیضا؟

الظاهر هو الثانی، کما صرّح به بعض الاصحاب، بل نسب إلی کثیر منهم، بل ظاهر بعضهم الاجماع علیه، بل فی «المصابیح» أنّه مورد وفاق.

بل قد یؤیده ما فی «فقه الرضا» بقوله: «وإنْ انکسف الشمس أو القمر»، کما أنّ فی مرسل حریز قد استعمل کلمة (الانکساف للقمر) خصوصا مع ذکر الاستیقاظ الدالّ علی کونه فی خسف القمر، فهی قرینة علی توجیه ما ورد فی خبر «الخصال» من ذکر الاستیقاظ من دون ذکر القمر بحمله علی الخسوف ثبت حکم استحبابه فی انکساف القمر لتارک صلاته عمدا، فیمکن حینئذٍ دعوی الأولویة فی الشمس إذا ترک صلاته متعمدا، لأنّ لفظ (الانکساف) بصورة الاطلاق کثیرا ما یستعمل فی الشمس، کما فی خبر محمّد بن مسلم، خصوصا أنّ انکساف من القمر، والشمس أظهر فی کونه آیةٍ من الآیات، الشاهد علی ذلک أنّ النبیّ صلی الله علیه و آله دفع توهم وقوعه لموت ولده ابراهیم، وقال: إنّه لا علاقة لکسوف الشمس بموته بل هو من الآیات الالهیّة.

شروط غُسل کسوف الشمس

الأمر الثالث: فی أنّ الغُسل بناء علی الوجوب أو الاستحباب هل هو مشروط بشرطین من: لزوم أن یکون الاحتراق مستوعبا. وکون ترک المکلف لصلاة الآیات عن عمد أم لا؟

ص:467

الظاهر هو الاوّل، فمع تحقّق الشرطین یلزم علیه الغسل، أی بذلک یصیر الغُسل مشروعا قطعا، بل لا نعرف فیه خلافا نصا وفتوی، بل الاجماع _ إنْ لم یکن محصّلاً _ المنقول کالمحصّل علیه. کما لا ینبغی التردید فی عدم مشروعیة الغُسل مع انتفاء أحد الشرطین، فضلاً عن کلیهما، للأصل أی البرائة عنه وجوبا أو ندبا، وظاهر الأخبار من تعلیق الغُسل علی القیدین، کروایة «الخصال» حیث قال: «وغُسل الکسوف إذا احترق القرص کلّه واستیقظت ولم تُصلّ فاغتسل واقض الصلاة».

واحتمال أنّه ترک الصلاة لأنّه استیقظ بعد الانجلاء، فلم یکن قد ترکها عمدا، مخالفٌ لظاهر الروایة _ حیث أنّ ظاهره ترتّب ترک الصلاة علی الاستیقاظ، المُشعر بکونه عامدا لترکها _ فضا عن انّه لم یقل به أحدٌ من الاصحاب من استحباب الغسل أو وجوبه للترک غیر العمدی.

وبالجملة: ما یظهر عن بعض من تقیّد استحبابه بخصوص التعمّد _ کما عن «المقنعة» والسیّد فی «المسائل الموصلیّة» و«المصباح» ضعیفٌ کضعف ما اقتصر فی القید بخصوص الاستیعاب، کالمحکی عن «الذکری»، وحکاه فی «کشف اللّثام» عن الصدوق رحمه الله ، وإنْ کان لسان بعض الأخبار التقیید بواحدٍ منهما کما وردت الاشارة الی الأوّل. منهما فی خبر مرسل حریز من خلال اطلاقه، والی الثانی منهما باطلاق خبر ابن مسلم. ولکن لابدّ من تقیید کلّ منها بواسطة الأخبار الاخر الدالّة علی لزوم القیدین، نظیر خبر «الخصال» وغیره، کما صرّح بعدم لزوم الغُسل عند فقد أحد القیدین فی خبر «فقه الرضا» بقوله: «وإنْ لم یحترق القرص فاقضها ولا تغتسل» حیث نفی الغُسل، فحینئذٍ یجتمع مع عدم الاستیعاب، ومع وجوده کما لا یخفی.

ص:468

هل غُسل صلاة الآیات نفسی أو غیری

الأمر الرابع: یدور البحث فیه عن أنّ الأمر بالغُسل وجوبیّا کان أو ندبیّا، هل هو نفسی أو غیری؟

من حیث أن الظاهر من الأمر بالغُسل کونه عقوبة أو کفارة لتفریظه فی ترک الصلاة، نظیر الغُسل لرؤیة المصلوب فیکون أمرا نفسیا، کما یظهر من اطلاق خبر محمّد بن مسلم، حیث أمر بالغُسل من دون الأمر بالقضاء.

ومن أنّ الظاهر من الأمر بالغُسل فی أخبار عدیدة _ مثل مرسل حریز بقوله فلیتغسل ولیقض الصلاة»، وکذا فی «فقه الرضا» من قوله: «فاغسل وصلّ»، وکذا فی خبر «الخصال» بقوله: «فعلیک ان تغتسل وتقضی الصلاة» _ یفید کون الأمر به لاجل الاتیان بالقضاء.

فعلی القول بالوجوب یصیر الغُسل حینئذٍ شرطا لصحة القضاء، ویکون الأمر غیّریا، کما أنّه غیری علی القول بالندب أیضا، وهذا هو الأظهر، لترتّب القضاء علی الغسل، فیکون کالصریح فی کون المطلوب هو الاتیان بالقضاء مغتسلاً، من غیر فصلٍ معتدٍّ بینهما، فیحمل اطلاق خبر ابن مسلم بحسب نقل الشیخ فی «التهذیب» علی خبر ابن مسلم علی حسب نقل الصدوق فی «الخصال»، بل عن صاحب «الحدائق» أنّه هو بعینه وإنّما ذکره الشیخ قدس سره فی ا«لتهذیب» مختصرا، فالنقض مسنوب الیه لا الی نفسی الخبر.

کما أنّ کون الغُسل عقوبة أو کفارة علی تقریظ المکلّف فی الاداء لا ینافی کونه شرطا فی الصحة للقضاء علی القول بالوجوب، وإنْ کان الأولی والأحوط اتیان الغُسل بقصد القربة، من غیر نیّة کونه غایة للقضاء، کما أنّ الأحوط اتیان القضاء بعد الغُسل بلا فصلٍ بینهما بناقضٍ، کما هو شأن الأغسال الفعلیة التی شُرّعت لاتیان الفعل بعدها.

ص:469

قوله قدس سره : وغُسل التوبة سواءٌ کان عن فسقٍ أو کفرٍ(1)

وأخیرا: الظاهر من لسان الأخبار أنّ ثبوت هذا الغُسل إنّما هو للقضاء لا مطلقاً حتّی یشمل حکم الغُسل للاداء إذا احترق القرص کلّه، ولکن یظهر من العلاّمة فی «المختلف» استحبابه للأداء أیضا، وربما مال الیه بعض من تأخّر عنه. ولعلّه لاطلاق خبر ابن مسلم المنقول فی «التهذیب»، حیث علّق أمر الغسل علی الاحتراق، الشامل باطلاقه لصلاة الأداء أیضا.

وفیه: بناءً علی قول صاحب «الحدائق» من دعوی العینیّة بملاحظة الخبر المنقول فی «الخصال» لا یبقی وجهٌ لقول العلامة، فضلاً عن أنّه بناء علی سببیة الاحتراق لذلک، فلا یبقی حینئذٍ مجالٌ مدخلیة صلاة القضاء، لأنّ ظهره دالٌ علی الوجوب، فلا صارف له الی الندب، الاّ کونه للقضاء، مع أنّه لو کان للاداء فربما یجوز فعل الأداء قبل تحقّق الاحتراق، فحینئذٍ لم یبق وجه للقول بوجوب الغُسل بعد الاحتراق، لعدم وجوب الصلاة حینئذٍ، فیجب التخصیص فی الروایة بخصوص القضاء، فلا أقلّ من اتیان الغُسل للأداء برجاء المطلوبیة لا بقصد الوظیفة والورود، واللّه العالم.

(1) الرابع: غُسل التوبة: وهو الأغسال المسنونة، بلا فرق بین کونه ثابتٌ عن فسقٍ متحققٍ من الکبیرة أو من الاصرار علی الصغیرة، کما لا فرق فی الکفر بین کونه أصلیا أو ارتدادیا. وفی «الجواهر»: «بلا خلافٍ أجده فیهما»، بل فی «المنتهی» الاجماع علی ذلک، بل وکذا فی «الغنیة» و«المصابیح» وفی «المعتبر» نسبته إلی فتوی الأصحاب.

أقول: الدلیل علیه: _ مضافا إلی الاجماع أو الشهرة _ خبر مسعدة بن زید الذی

ص:470

نقله الکلینی عن علی بن ابراهیم، عن هارون بن مسلم، عن مسعدة (وإنْ روی الطوسی هذا الخبر فی «التهذیب» والصدوق فی «الفقیه» مرسلاً) قال: «کنت عند أبی عبداللّه علیه السلام فقال له رجل: بأبی أنت وأمیّ إنّی أدخُل کنیفا ولی جیران وعندهم جوارٍ یتغنین ویضر بن العود؛ فربّما أطلت الجلوس استماعا منّی لهن؟ فقال: لا تفعل.

فقال الرجل: واللّه ما أتیتهنّ إنّما هو سماعٌ أسمعه بأذنی.

فقال علیه السلام باللّه أنت أما سمعت أنّه یقول: «إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ کُلُّ أُولئِکَ کَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً»؟

فقال: بلی، واللّه کأنّی لم أسمع بهذه الآیة من کتاب اللّه من عربی ولا عجمی، لا جرم انی لا أعود إنْ شاء اللّه، وإنّی استغفراللّه.

فقال له: قم فاغتسل وصلّ ما بدالک، فإنّک کنت مقیما علی أمرٍ عظیم ما کان أسوء حالک لو مِّتَ علی ذلک، أحمِداللّه وسَله التوبة من کلّ ما یکره، فإنّه لا یکره إلاّ کلّ قبیح والقبیح دعه لأهله فإنّ لکلٍّ أهلاً»(1).

وتضیعفه بالارسال کما فی «المعتبر»، وتبعه علیه صاحب «المدارک»، لیس بجیدٍ، لما قد عرفت أنّ الارسال کان علی نقل «التهذیب» و«الفقیه» بخلاف روایة «الکافی» حیث رواه مسندا وجمیم سلسلة سنده من الثقات کما عن النجاشی وغیره. وعلیه فالخبر صحیح فی غایة المتانة.

کما أنّ المناقشة فیه بأنّه مخصوص لمورده کما عن «المعتبر»، غیر مسموعٍ لأنّه مشتمل علی ما یستفاد منه العموم من التمسک بالآیة وذکر انّه: «قبیح وکلّ قبیح لابدّ من أن یدع لاهله» فالروایة قابلة للاستدلال بلا اشکال.


1- وسائل الشیعة: الباب 18 من أبواب الاغسال المسنونة، الحدیث 1.

ص:471

مع أنّه لو سلّمنا کونه مرسلاً، فهو مجبورٌ بالشهرة المتحققة التی کادت أن تبلغ مرتبة الاجماع، بل لو لا اجماع العلماء علی الاستحباب لکان المحتمل هو وجوب الغُسل لظاهر الامر فیه. وعلیه فاستحبابه مستفادٌ منه قطعا وهو المدرک لفتوی الأصحاب، بل قیل باستفادة استحباب الغُسل للتوبة ولو عن الصغیرة کما یقتضیه عبارة من اطلق الغُسل لها، بل فی صریح «المنتهی» الاجماع علیه، بدعوی اشعار الاستدلال علیه بالآیة الشریفة کقوله علیه السلام فی آخره: «وأسأله التوبة عن کلّ ما یکره» هذا کما فی «الجواهر» ونعم ما قال.

وأیضا: قد استدلّوا لذلک بما ورد من أمر النبی صلی الله علیه و آله لقیس بن عاصم بالاغتسال لمّا أسلم،(1) وکذا أمر لثمامة بن أثال _ بالثاء المثلثة _ وقصته مذکورة فی «المستدرک»(2) وخلاصتها: أنّ النبی صلی الله علیه و آله أرسل قِبل نجدِ سریة فأسروا واحدا اسمه ثمامة بن أبال الحنفی، سیّد یمامة فأتوا به وشدّوه إلی ساریةٍ من سواری المسجد، فمرّ به النبی صلی الله علیه و آله فقال: ما عندک یا ثمامة؟ فقال: خیر، إن قتلتَ قتلتَ وارما، وإنْ مننتَ مننت علی شاکرٍ، وإن أدرت مالاً قُلْ تعطَ ما شئت. فترکه ولم یقل شیئا، فمرّ به الیوم الثانی فقال مثل ذلک، ثمّ مرّ به الیوم الثالث فقال مثل ذلک ولم یقل النبی صلی الله علیه و آله شیئا، قال: اطلقوا ثمامة. فاطلقوه، فمرّ واغتسل وجاء وأسلم، وکتب الی قومه فجاءوا مسلمین».

قلنا: الظاهر من هذه الروایة کون الاغتسال هنا بمعنی الغَسل بالفتح لا الغُسل بالضم، لأنّ الغُسل لابد أن یکون بعد الاسلام لا قبله، اذ لا أثر له قبله من جهة


1- البحار، ج 17، ص 50 من طبعة الکمبانی، ورواه أحمد فی المسند، ج 5، ص 61، وابن حجر فی مجمع الزوائد، ج 7، ص 404.
2- المستدرک، ج 1، الباب 12 من أبواب الاغسال المسنونة، الحدیث 4.

ص:472

کونه کافرا. وظاهر الخبر هو تقدیم الغسل علی الاسلام وعلیه فما فی «الجواهر» من: «أنّه قد أمر بالغُسل لما أسلم» لا یساعد مع ظاهر الخبر.

وکیف کان، لو کان المقصود هو الغُسل بعد الاسلام یکون داخلاً فی المبحث، واحتمال کون الغُسل للجنابة مندفعٌ بعدم اختصاص الجنابة بهما.

أقول: لا یبعد هذا الغُسل للتوبة وما فی ذمّته من الجنابة أیضا، کما أنّ الأمر کذلک فی غُسل المیّت إذا کان جُنُبا أو علیه غُسلٌ من الأغسال الواجبة، ولذلک ینوی الغاسل فی ضمن غسله فراغ ذمته عن جمیع ما علیه.

وأیضا: استدلوا علی غُسل التوبة بالحدیث القدسی: «یا محمّد من کان کافرا وأراد التوبة والایمان فلیطهّره لی ثوبه وبدنه) بناءً علی أن المراد بتطهّر البدن هو تطهیره بالغُسل لا بظاهره کما یشعر بذلک ما فی قوله تعالی: «إِنَّ اللّهَ یُحِبُّ التَّوَّابِینَ وَیُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِینَ»(1) مع ما فیه من المناسبة بالتفأل للطهارة المعنویة بالطهارة الحسیّة.

فی حکم غُسل التوبة من الکفر

أقول: بعد ما ثبت استحباب الغُسل للتوبة عن الذنوب، یأتی الکلام عن الدلیل علی شمول الدلیل للتوبة من الکفر:

فإن کان الدلیل خصوص روایة مسعدة فهو. وأمّا إن تمسکنا بالدلیل الذی مرّ ذکره تبعا لصاحب «الجواهر» من الأمر بالغُسل لمن عرفت، فحکم غُسل التوبة من الکفر أیضا ثابت.

نعم، قد استدل بعض لغُسل التوبة عن الکفر بالأولویة کما عن «المنتهی»، قال:


1- السورة البقرة: آیة 222.

ص:473

«بأنّ الکفر أعظم من الفسق، وقد ثبت استحباب الغُسل للفاسق فالکافر أولی».

أجاب عنه صاحب «الحدائق»: «بکونه من القیاس الممنوع.

أقول: هذا الجواب غیر جیّد لأنّ استدلاله قائم علی تنقیح المناط المفید للأولویة، وهو لیس بقیاس.

نعم، لو لا الأدلة المذکورة فإن دعوی تحقق الأولویة القطعیة فی المورد مشکلٌ، ولکن نحن فی غنی من ذلک بعد ما عرفت ورود فی الأخبار بذلک، والافتاء به من الأصحاب فالعمل بها ولا یخفی لا أقلّ من باب المسامحة.

وأیضا: استدلّ بعضٌ لغُسل التوبة بعدّة أخبار أخری وفی دلالة بعضها اشکال، فنشیر الیها:

منها: الخبر الذی رواه فی «مستدرک الوسائل» عن معروف بن خربوز، عن الباقر علیه السلام ، قال: «دخلت علیه فانشأت الحدیث فذکرت باب القدر، فقال لا أراک الاّ هناک أخرج عنی. قال: قلت: جُعلتِ فداک، إنّی أتوب منه. فقال: لا واللّه حتّی تخرج إلی بیتک وتغتسل وتتوب منه إلی اللّه کما یتوب النصرانی من نصرانیّته. فقال: فغفلت»(1).

فدلالة هذا الحدیث لغُسل التوبة عمّا فعل واضحٌ، فلو لم یکن عمله معصیةً لما بقی وجه للتوبة عنها. بل ربّما یحتمل کونه کفرا حیث قد شبّه توبته بتوبة النصرانی عن نصرانیّته، فیکون الحدیث من الأدلة الدالة علی ثبوت الغُسل عند التوبة من الکفر، ولکن اثبات الکفر بذلک مشکلٌ جدّا، فیحتمل کون التشبیه لترغیبه علی الغُسل.

ومنها: ما فی «المستدرک» ایضا، فی اسلام أُسید بن خضیر من الأوس،


1- المستدرک، ج 1، الباب 12 من أبواب الاغسال المسنونة، الحدیث 1.

ص:474

ودخوله علی مصعب بن عمیر، فقال: «کیف تضعون إذا دخلتم فی هذا الأمر قال: نغتسل ونلبس ثوبین طاهرین، ونشهد الشهادتین، ونصلّی رکعتین؛ فرمی بنفسه مع ثیابه فی البئر ثمّ خرج وعصر ثوبه»(1).

ودلالته هذا الخبر علی غُسل التوبة غیر بعیدٍ، إذ احتمال کون المرد من الغُسل هو الغَسل (بالفتح) وتطهیر لبدن بعیدٌ، خصوصا مع ملاحظة ما فی سیاتة من الشهادة والصّلاة.

ومنها: ما عن «الجعفریّات» فی حدیثٍ غریب مرویّ عن النبی صلی الله علیه و آله أنّه: «فیما أنزل اللّه علیّ أنّه لیس من عبدٍ عَمل ذنبا کائناً ما کان وبالغا ما بلغ، ثمّ تاب إلاّ تاب اللّه علیه، فقم الساعة واغتسل وخرّ للّه ساجدا الحدیث»(2).

فدلالته علی المطلوب واضحة، إذ لیس المراد منه الاّ غُسل التوبة، فیدلّ علی محبوبیته لکلّ ذنبٍ ولو کانت صغیرا.

ومنها: ما فی «مصباح الهدی» للآملی، فی حدیث اسلام سعد بن معاذ: «أنّه لما أراد أن یُسلم بعث إلی منزله وأتی بثبوبین طاهرین واغتسل وشهد الشهادتین»(3).

لکن دلالة هذا الخبر علی الغُسل الشرعی مشکلٌ، لانّ وقوعه قبل الشهادتین قرینة علی کونه غَسلاً (بالفتح) لا غُسلاً بالضم، لعدم تحقق الغُسل مع نجاسة البدن، وعدم تمشی قصد القربة منه قبل الاسلام والشهادتین، کما لا یخفی.

أقول: سیق أنّهم قد استدلّوا للتوبة عن الصغیرة بروایة مسعدة بن زیاد، مع أنّ الشهید فی «الذکری» نقل عن الشیخ المفید رحمه الله أنّه قیّده بالتوبة عن الکبائر، وقد


1- المستدرک، ج 1، الباب 12 من أبواب الاغسال المسنونة، الحدیث 5.
2- المصدر السابق، الحدیث 3.
3- مصابیح الهدی، ج 7، ص 112.

ص:475

قبله صاحب «الحدائق» وقال: «ظاهر الخبر یساعده» ثمّ نقل قول المحقّق الثانی فی «شرح القواعد» بانّ ظاهر الخبر یدفع التقیید بالکبیرة، وقال: «قوله غیر ظاهر، فإنّ ظاهر الخبر انّ الرجل کان مصرّا علی الذنب، وإنْ کان صغیرة ولا صغیرةً، مع الاصرار، ویشهد به قوله علیه السلام : «کنتَ مقیما علی أمرٍ عظیم ما کان أسوأ حالک لو مِتّ علی ذلک» هذا.

ولکن قد استظهر المحقّق الهمدانی رحمه الله فی «مصباح الفقیه» بکون الاستماع إلیه من الصغائر، واستشکل کون الاصرار به من الجاهل موجبا لکونه من الکبائر، إذ المفروض أنّ السائل کان جاهلاً بالحرمة.

و فی «المستند»: «أنّ ما فی الخبر لیس الا صغیرة، ولم یُعلم من السائل أنّه کان مصّرا به، فإنّه عبّر بقوله: «فربّما أطلتُ الجلوس... الی آخره»، وظاهر کلمة (ربّ) للتعلیل، فیدلّ الخبر علی استحباب الغسل للتوبة عن الصغیرة.

قلنا: ولنا فی ذلک کلامٌ وتحقیق، وهو:

الاشکال تارة: یکون فی کون نفس استماع الغناء عن الجواری المغنیّات من الصغیرة أو الکبیرة محرّمٌ.

أخری: فی کون استماعه علی أی تقدیر مع سبق الاصرار کبیرة مع جهله بالحرمة، ولو سلمنا کون الاستماع بنفسه صغیرة.

وعلیه، فدلالة الخبر علی استحباب غُسل التوبة:

قد یکون لأجل نفس الاستماع، الموجب لکونه صغیرة، ولازم ذلک هو استحباب غُسل التوبة.

وقد یکون أمر الامام بالتوبة لأجل اصراره علی هذا العمل، حیث یکون الاصرار ولو علی الصغیرة من الکبیرة، فعلی هذا التقدیر یکون الخبر من الأدلة الدالة علی استحباب غُسل التوبة علی الکبیرة.

ص:476

هذا، ولکن قد یُنکر کون الاصرار مع کون السائل جاهلاً بالحرمة یعدّ کبیرة کما قاله الهمدانی.

وقد ینکر أصل الاصرار فی هذا الخبر موضوعا لا حکما کما عن المستند لأجل قول السائل: «ربّما أطلتُ الجلوس» الظاهر فی التقلیل.

هذه هی الوجوه المحتملة فی الروایة.

أقول: نجیبُ عن الأخیر بأنّ فعل الرجل یعدّ اصرارا موضوعا قطعا، لأنّ تکرار العمل ولو لفترة قلیلة یعدّ اصرارا أیضا، لأنّ معنی الاصرار عرفا لیس إلاّ تکرار العمل بأزید من مرّة.

کما أنّ کلام الهمدانی من المناقشة فی صدق الکبیرة عند الاصرار من الجاهل بالحرمة، لیس علی ما ینبغی، لأنّ علم العامل بالمعصیة وجهله غیر دخیل فی صدق الاصرار علی المعصیة، الموجب لصیرورتها کبیرة.

وبعبارة أخری: دخالة علم العامل فی الاصرار المحقّق للکبیرة غیر معلوم، کما صرّح بذلک المحقق الآملی فی مصباحه، بل یمکن استفادته من الخبر أیضا، حیث أن قوله علیه السلام : «کنتَ مقیما علی أمرٍ عظیم» إمّا أن یکون المراد منه کون نفس الاستماع بذاته من الکبیرة، أو أنّ اصراره علیه، فلا یمکن جمع بین کون الاستماع صغیرة، مع عدم صدق الاصرار علیه کبیرة، ومع ذلک کونه مقیما علی أمرٍ عظیم؟!، فالأولی عندنا أن عدّ الاستماع _ خصوصا عن مثل المغنیّات _ من الصغیرة غیر معلوم، بل الأمر علی خلافه کما یظهر ذلک بالتمسک بآیة السمع والبصر حیث نحتمل أنّ الامام علیه السلام أراد تنبیهه علی کبر ذنبه، وأنّه من المعاصی الکبیرة.

ثمّ لو سلّمنا کونه من الصغیرة کما هو المحتمل أیضا، فلا اشکال فی صیرورته کبیرة لأجل الاصرار. وعلیه فالخبر الدال علی حُسن غُسل التوبة إنّما یدلّ علی

ص:477

التوبة من الکبیرة فی المورد، إمّا لأن الاستماع بنفسه کبیرة، أو أنّ الاصرار علیه کذلک. فاذا فرض کون الوارد فی هذا الخبر من استحباب غُسل التوبة کان لأجل الصغیرة، أمر غیر محتمل وکذلک الأمر فی الجعفریّات، لأنّه حیث یکون الغُسل فی التوبة عن الکبیرة علی کلّ حال. وأمّا حُسن غُسل التوبة عن الصغیرة فالّه یفهم من الأدلة العامة، ومن اجماع العلامة فی «المنتهی»، المؤیّد بذهاب المشهور إلی استحبابه، کما لا یخفی.

والاشکال: بأنّ الصغیرة لا تحتاج إلی التوبة، لانّها مکفّرة بترک الکبیرة.

مندفع: بأنّها مکفّرة فی حال الغفلة والنسیان، وأمّا مع التذکر فالتوبة واجبة لکلّ صغیرة وکبیرة، والصغیرة مع ترک التوبة مع التکرار تصیر کبیرة، مع أنّ الکلام فی حُسن غُسل التوبة عن الصغیرة، حیث یجامع مع استحباب التوبة عنها، حیث لا اشکال فی استحبابها ولو لم نقل بوجوب التوبة عن الصغیرة، مع أنّ الصغیرة المکّفرة کان من تارک الکبیرة، لا ممّن یرتکب الکبیرة، کما تدلّ علیه الآیة: «إِن تَجْتَنِبُواْ کَبَآئِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ...».

ودعوی: أنّ التائب لابدّ أن یبادر إلی التوبة من الکبائر، فإذا تاب منها تکون الصغائر مکفّرة.

مدفوعه: بامکان أنّه لا یتمشّی منه التوبة من الکبائر أحیانا لغلبة شهوة العبد، مع امکانه من التوبة من الصغیرة. وعلیه فالتبعیض فی التوبة بین الصغیرة والکبیرة ممکن، بلا اشکال لأجل تفاوت الذنوب بملاحظة شهوة العبد، أو لأجل عادته الیها کما لا یخفی علی المتأمل،

فظهر من جمیع ما ذکرنا استحباب الغُسل للتوبة مطلقا، أی بلا اختصاص لخصوص الکبیرة أو الصغیرة، واللّه العالم.

***

ص:478

وهذا آخر الجزء السابع من أبحاث کتاب الطهارة، ویلیه الجزء الثامن إن شاء اللّه تعالی، وکان تاریخ الفراغ من تحریره عصر یوم الاثنین الثامن من أیّام شهر جُمادی الاُولی سنة 1427 من الهجرة النبویّة الشریفة، الموافق لیوم الخامس عشر من شهر خرداد سنة 1385 هجریّة شمسیّة. علی ید أقلّ العباد، المحتاج إلی رحمة ربّه القادر المتعال، الحاج السیّد محمّد علی ابن المرحوم آیة اللّه السیّد السجّاد العلویّ الحُسینی الأسترآبادی، عفی اللّه عنهما، وجعل الجنّة مثواهما، وحَشَرهما اللّه مع أجدادهم الطیّبین محمّدٍ وآله الأطهار. وآخر دعوانا أن الحمد للّه ربّ العالمین ، وصلّی اللّه علی سیّدنا ونبیّنا محمّد وعلی آله الطیّبین الطاهرین المعصومین.

* * *

ص:479

الفهرست

الفهرست

سُنن التکفین••• 5

مکروهات الکفن••• 103

ثمرة الفرق بین دلیلی وجوب الکفن علی الزوج••• 131

حکم الکفن عند إعسار الزوج أو انقطاع الزوجة••• 132

فی تقدّم الکفن علی سائر الحقوق وعدمه••• 144

حکم تعارض الکفن المندوب مع الحقوق الاُخری••• 148

أحکام دفن المیّت••• 162

حکم المشی أمام الجنازة••• 172

مکروهات تشییع المیّت••• 180

واجبات وفروض الدفن••• 218

مستحبّات الدفن••• 235

مکروهات الدفن••• 287

تذنیبٌ••• 298

الموارد المستثناة التی یجوز فیهما النبش••• 322

هنا فروع مهمّة ینبغی التعرّض لها:••• 334

ص:480

حکم البکاء علی المیّت••• 342

حکم أخذ الأجرة علی النیاحة••• 348

غُسل الجمعة••• 367

کیفیّة نیّة الغُسل بعد الزوال••• 387

حکم ترک غُسل الجمعة عمدا••• 406

بیان المراد من حکم الجواز••• 408

الأغسال المستحبة فی شهر رمضان••• 410

استدراک للأغسال الزمانیّة••• 440

البحث عن مدلول قاعدة التسامح••• 442

بقیة الأغسال المستحبة••• 447

الأغسال المستحبة للأفعال••• 453

البحث عن المراد من الکسوف••• 467

شروط غُسل کسوف الشمس••• 467

هل غُسل صلاة الآیات نفسی أو غیری••• 469

فی حکم غُسل التوبة من الکفر••• 473

المجلد 8

اشارة

ص: 1

تألیف

آیة اللّه العظمی الحاج السیّد محمّد علی العلوی الگرگانی

الجزء الثامن

ص:2

ص:3

بسم الله الرحمن الرحیم

ص:4

ص:5

بعض الأغسال المستحبة

وقوله قدس سره : وصلاة الحاجة وصلاة الاستخارة (1)

(1) الخامس: الغُسل لبعض الصلوات أی من جملة الأغسال المسنونة الغُسل لهما، بلا خلافٍ أجده فیهما کما فی «الجواهر»، بل فی «الغنیة» الاجماع علیهما، وفی «الوسیلة» من المندوب بلا خلافٍ، وفی «المعتبر» مذهب الاصحاب، وفی «الروض» أنّه عمل الاصحاب، وعن «التذکرة» عند علمائنا. وفی هذه الأقوال کفایة لاثبات الاستحباب من باب المسامحة، ولو لم یکن فی البین خبرٌ، مع أنّ فی الأخبار الکثیرة من الأمر بالغُسل مقدما علی الصلاة عند طلب الحوائج. نعم، هذه الأخبار مشتملة علی الغُسل قبل الصلاة لطلب الحاجة والاستخارة، إلاّ انّها وردت بکیفیّة خاصّة لا مطلق صلاة یصلّیها الرجل لهما. ولا یبعد کون هذه الأخبار واردة فی الأداب المستحسنة من دون أن یتقیّد بها مطلوبیة صلاتها أو الغسل لها، کما یؤید ذلک خبری عبدالرحیم القصیر(1) ومقاتل(2) المذکورین فی «الوسائل». کما ویؤیّد ذلک اطلاق الاصحاب فی فتاویهم ومقعد اجماعهم، فإنّ ظاهرها استحباب الغُسل لمطلق صلاة الحاجة والاستخارة، وإنْ لم تکن بالکیفیّة الواردة فی الأخبار الآمرة بالغُسل. وعلیه فالأشبه شرعیّة الغُسل لمطلق صلاتهما. کما أنّ الأظهر شرعیّة الصلاة لهما مطلقا، وإنْ لم تکن بالآداب المعیّنة المنصوصة علیها، بل قد یقال کون الأقوی شرعیّة الغسل لنفس طلب الحاجة


1- وسائل الشیعة: الباب 30 من أبوب الاغسال المسنونة، الحدیث 1.
2- المصدر السابق، الحدیث 2.

ص:6

والاستخارة من دون صلاةٍ، کما یستظهر ذلک من کلام العلاّمة فی «التذکرة» ناسبا ذلک إلی علمائنا.

بل قد یؤیّد ذلک ما ورد:

1_ فی خبر سماعة، عن الصادق علیه السلام فی حدیثٍ: «وغُسل الاستخارة به مستحب»(1).

2_ المحکّی عن «فقه الرضا»: «وغُسل الاستخارة وغُسل طلب الحوائج من اللّه تبارک وتعالی»(2).

حیث لم یذکر فی الحدیثین الصلاة لهما، وإنْ کان لا یبعد شرعیة الصلاة لهما من دون غُسلٍ أو معه بواسطة الاجماع المؤید بما عرفت، الذی ادّعاه صاحب «الغنیة» من باب التسامح.

والمورد الآخر الذی یستحبّ له الغُسل هو الطلب من اللّه الخیرة له فی الأمر الذی یطلبه، ولعلّ بهذا المعنی هو المراد من الصحیح الذی رواه زرارة عن أبی عبداللّه علیه السلام : «فی الأمر یطلبه الطالب من ربّه؟ فقال یتصدّق فی یومه... إلی أن قال: فإذا کان اللیل فاغتسل فی ثلث الباقی... إلی أن قال: فإذا رفع رأسه من السجدة الثانیة استخار من اللّه، مأة مرة یقول، وذکر الدعاء»(3).

ورواه الصدوق باسناده عن مرازم عن العبد الصالح علیه السلام نحوه(4).

والظاهر منهما مشروعیّة الغُسل والصلاة للاستخارة بکلا معنییه؛ أمّا


1- وسائل الشیعة: الباب 1 من أبواب الاغسال المسنونة، الحدیث 3.
2- المستدرک، ج 1، الباب 1 من أبواب الاغسال المسنونة، الحدیث 1.
3- وسائل الشیعة: الباب 31 من أبواب الاغسال المسنونة، الحدیث 1.
4- المصدر السابق.

ص:7

بالاجماع کما دُعی، أو بدلالة الأخبار کمشروعیة کلّ واحدٍ منهما مستقلاً أیضا بلا ضمیمة أحدهما الی الآخر، مع أنّ الاستخارة أیضا داخلة تحت طلب الحوائج بصورة المطلق لتشملها تلک الأدلة العامة أیضا، کما أنّها داخلة تحت الأدلة التی وردت وتتحدث عن الاستخارة بکیفیّة خاصة من الصلاة مع سورة الاخلاص خمس عشرة مرة _ علی نحو صلاة التسبیح _ وصیام ثلاثة أیام ونحو ذلک.

أقول: لا یبعد اندراج بعض الأغسال المسنونة التی اهمل المصنّف ذکرها فی مدلول هذه الأخبار:

منها: الغُسل لصلاة الاستسقاء:

وقد حُکی الاجماع علیه فی «الغنیة»، کما ورود ذکرها فی موثقة سماعة: «وغُسل الاستسقاء واجبٌ»(1) وفی الواضح أنّ المراد من الوجوب هو الاستحباب المؤکّد باتفاق الأصحاب کما قیل، لکن لا صلاة فیها إلاّ أنّه یکفی فی اثبات استحباب الصلاة له ما جاء فی «الغنیة» من دعوی الاجماع علیه من باب التسامح.

نعم، ورد ذکر الصلاة فی «فلاح السائل» نقلاً عن ابن بابویه فی کتاب «مدینة العلم» عن الصادق علیه السلام : «أنّه روی حدیثا فی الأغسال، ذکر فیها غُسل الاستخارة، وغُسل صلاة الاستسقاء، وغُسل الزیارة»(2). ثمّ قال: «رأیتُ فی بعض الأخبار من غیر کتاب «مدینة العلم» أنّ مولانا علیّا علیه السلام کان یغتسل فی اللیالی الباردة طلبا للنشاط»(3).

بل لا یبعد استفادة استحباب الغُسل للنشاط من هذه الروایة، ولعلّه لذلک ذکر


1- وسائل الشیعة: الباب 1 من أبواب الاغسال المسنونة، الحدیث 3.
2- المستدرک، ج 1، الباب 1 من أبواب الاغسال المسنونة، الحدیث 2.
3- المستدرک، ج 2، الاب 22 من أبواب الاغسال المسنونة، الحدیث 2.

ص:8

الأصحاب محبوبیّة نیّة ما فی الذمّة فی الأغسال الوارة فی الجمعة وغیرها، ومن خلالها یمکن أن ندرج غُسل النشاط فی ضمن الأغسال المستحبة کما لا یخفی.

ومنها: الغُسل لصلاة الظلامة، لما قد ورد عن «مکارم الأخلاق» عن الصادق علیه السلام ، قال: «إذا طلبت بمظلمةٍ فلا تدع علی صاحبک فإنّ الرجل یکون مظلوما فلا یزال یدعو حتّی یکون ظالما، ولکن إذا ظُلِمت فاغتسل وصلّ رکعتین فی موضعٍ لا یحجبک عن السماء، ثمّ قل: اللّهمّ إنّ فلان بن فلان ظَلَمنی، الحدیث»(1).

ومنها: الغُسل لصلاة الخوف من الظالم، وهو المحکی عن «مکارم الأخلاق»، قال: «اغتسل وصلّ رکعتین واکشف عن رکبتک الحدیث»(2).

ومنها: الغُسل لصلاة الشکر، مدّعیا فی «الغنیة» الاجماع علیه، وهو یکفی فی اثبات الاستحباب من باب التسامح. وأمّا دعوی کونه داخلاً فی الحوائج کما فی «الجواهر»، لقوله تعالی «لَئِن شَکَرْتُمْ لأَزِیدَنَّکُمْ»(3) لکون الشکر موجبا لمزید النعمة التی هی من أعظم الحوائج المطلوبة، لا یخلو عن تعسّف وتکلّف، کما لا یخفی.

ومنها: أی ممّا یدخل أیضا فی طلب الحوائج ما ورد من الغُسل لأخذ التربة الحسینیّة، للمرسل عن ابن طاووس فی «مصباح الزائر» بقوله: «یروی فی أخذ التربة أنّک إذا أردت أخذها، فقم آخر اللّیل واغتسل والبس أطهر ثباک وتطیّب بُسعدٍ، وأدخل وقف عند الرأس وصلّ أربع رکعات، الحدیث»(4).

ونحوه فی«البحار» عن «المزار الکبیر» عن جابر الجعفی، عن الباقر علیه السلام (5).


1- وسائل الشیعة: الباب 15 من بقیة الصلوات المندوبة، الحدیث 1.
2- المستدرک، ج 1، الباب 27 من بقیة الصلوات المندوبة، الحدیث 2.
3- سورة ابراهیم، آیة 7.
4- البحار، ج 27، ص 147 من طبعة الکمبانی.
5- المستدرک، ج 2، الباب 56 من أبواب المزار، الحدیث 1، من کتاب الحج.

ص:9

تتمة الأغسال المستحبة للأفعال

1_ منها: قتل الوزغ، حیث یستحبّ الغُسل لقتله، لما ورد فی عدّة أخبار من الفریقین علی ترغیب الغُسل بل واستحباب الغُسل لقتله، ومنها ما جاء فی الحدیث النبوی صلی الله علیه و آله : «اقتلوا الوزغ ولو فی جوف الکعبة» کما نقله السیّد فی «العروة الوثقی».

وفی روایة أخری: «من قتله فکأنّما قتل شیطانا» کما نقله السیّد رحمه الله أیضا.

الدلیل علی استحباب الغسل: ما رواه الکلینی فی «الکافی» وأیضا فی «بصائر الدرجات» و«الخرائج والجرائح» باسناده عن عبداللّه بن طلحة، قال: «سألت أبا عبداللّه علیه السلام فی الوزغ؟ فقال: هو رجسٌ وهو مسخ کلّه، فإذا قتلته فاغتسل»(1).

ومرسل الصدوق فی «الهدایة»، قال: «روی أنّ من قتل وزغا فعلیه الغُسل»

قال: وقال بعض مشایخنا: «العلّة فی ذلک انّه یخرج من ذنوبه فیغتسل منها»(2).

وناقش المحقّق فی «المعتبر» فی اثبات استحبابه بعدم حجیة الخبر الدال علیه، قال: «إنّ العلّة لا جدوی فیها، ولو صحّت لما اختصّ الحکم بقتل الوزغ، بل ینبغی القول باستحباب الغُسل عند الاتیان بکلّ مکفّر للذنب».

وفیه: أولاً لا مانع من فی حجّیة الخبر فانه مرویٌ فی «الکافی»، ومنجبر بعمل الأصحاب، ولم یثبث إعراض الباقین عنه، هذا فضلاً عن أنّه لا معارض له، وظاهر الأمر وإنْ کان هو الوجوب، إلاّ أنّه یحمل علی الاستحباب لقیام الاجماع علی استحبابه.


1- وسائل الشیعة: الباب 19 من أبواب الاغسال المسنونة، الحدیث 1.
2- المصدر السابق، الحدیث 2.

ص:10

وثانیا: العلّة المذکورة فی «الهدایة» لیست بعلّة حقیقیّة حتّی یُتعدّی عن موردها، لأنّ العلل الشرعیة لیست کالعلل العقلیة حتّی تکون مطرّده؛ بل انّها من قبیل الحکم ولا یلزم فیها الاطراد، کما لا حاجة الی الوجهین المذکورین فی «العروة» بقوله: «لأجل الشکر للّه فی حصول التوفیق لقتله، أو لحصول القذارة من قتله» بل الوجه فی استحبابه هو روایة الکافی المنجبرة بعمل الأصحاب.

قال صاحب «الجواهر»: «والظاهر أنّ سامّ ابرس والورک بعض افراده»(1).

وفی «مصباح الفقیه» عن «حیاة الحیوان»: «إنّ سامّ أبرص (بتشدید المیم) قال: أهل اللغة: هو کبار الوزغ» انتهی ما فی المصباح.

أقول: لا یخفی انّ روایة عبداللّه بن طلحة المرویة فی روضة «الکافی» متقطعة من حدثت طویل منقول فی ذکر أحوال بنی امیّة، وجاء فی تتمة.

عن الصادق علیه السلام : «إنّ أبی کان قاعدا فی الحِجر ومعه رجل یحدّثه، فاذا هو بوزغٍ یولول بلسانه. فقال أبی للرجل: أتدری ما یقول هذا الوزغ؟ قال: لا علم لی بما یقول. قال: فإنّه یقول واللّه لئن ذکرتم عثمان بشتیمةٍ لاشتمنّ علیا علیه السلام حتّی یقوم من هیهنا.

قال: وقال أبی: لیس یموتُ من بنی امیّة میّتٌ إلاّ مُسِخ وزغا. قال: وقال: إنّ عبدالملک بن مروان لمّا نزل به الموت مُسِخ وزغا، فذهب من بین یدی من کان عنده وکان عنده ولده؛ فلما أن فقدوه عظم ذلک علهیم، فلم یدروا کیف یصنعون. ثمّ اجتمع أمرهم علی أن یأخذوا جذعا فیضعوه کهیئة الرجل. قال ففعلوا ذلک وألبسوا الجذع درع حدیدٍ ثُمّ لفّوه فی الأکفان، فلم یطّلع علیه أحد من الناس إلاّ أنا وولده». انتهی الخبر علی ما هو المنقول فی «الحدائق»(2).


1- الجواهر، ج 5، ص 58.
2- الحدائق، ج 4، ص 195.

ص:11

ثم نقل بعده روایات ولا یخلو ذکرها من فائدة، قال: وروی فی «الکافی» عن عبداللّه بن أبی عبداللّه، قال: «سمعتُ أبا عبداللّه علیه السلام یقول: خرج رسول اللّه صلی الله علیه و آله من حجرته ومروان وأبوه یستمعان الی حدیثه، فقال له: الوزغ ابن الوزغ، قال أبو عبداللّه علیه السلام : فمن یومئذٍ یرون أنّ الوزغ یستمع الحدیث».

وروی فیه عن زرارة، قال سمعت أبا جعفر علیه السلام یقول: لما ولد مروان عرضوا به لرسول اللّه صلی الله علیه و آله أن یدعوا له، فارسلوا به الی عائشة، فلما قربته منه، قالت: أخرجوا عنی الوزغ ابن الوزغ، قال زرارة ولا أعلم إلاّ انّه قال: ولعنه»(1).

ثمّ قال صاحب «الحدائق»: «أقول: نَقل بعض مشایخنا رضوان اللّه علیهم ورود مثل هذه الأخبار من طرق العامة أیضا، کما فی کتاب «حیاة الحیوان» وفی «مستدرک الحاکم»(2)، عن عبدالرحمن بن عوف، أنّه قال: «کان لا یولد لأحدٍ مولودٌ إلاّ أُتی به النبی صلی الله علیه و آله فیدعوا له، فأدخل علیه مروان بن الحکم، فقال: هو الوزغ بن الوزغ الملعون ابن المعلون».

انتهی ما فی «الحدائق»(3).

2_ ومنها: غُسل مسّ المیّت بعد تغسیله.

وحُکی القول باستحبابه عن «جامع» البهائی و«المفتاتیح» وشرحه، و«الحدیقه» تبعا للشیخ فی «الاستبصار»، والظاهر أنّهم استندوا فی ذلک علی موثقه عمّار الساباطی المرویة فی «التهذیب» و«الاستبصار» عن أبی عبداللّه علیه السلام ، قال: «یغتسل الذی غَسّل المیّت وکلّ من مسّ میّتا فعلیه الغُسل وإنْ کان المیّت قد غُسّل»(4).


1- رواه فی الوافی، ج 2، ص 58.
2- مستدرک الحاکم، ج 3، ص 479، ثم قال: (هذا حدیث صحیح الاسناد ولم یخرجاه).
3- الحدائق، ج 4، ص 196.
4- وسائل الشیعة: الباب 3 من أبواب غسل المسّ ، الحدیث 3.

ص:12

وفی «الوسائل»: «قال: أقول: حَمَله الشیخ علی الاستحباب، ویحتمل الحمل علی أنّه غُسّل بالسّدر وحده أو به وبالکافور، ولم یُغسّل بالماء القراح، أو علی أنّ المیّت غُسّل بدنه من النجاسة والوسخ ولم یُغسّل غُسل الموت، أو علی أنّ غسل المسّ الواقع قبل غسل المیّت واجب، وإنْ کان المیّت غُسّل لم یسقط، ویحتمل غیر ذلک».

مناقشة صاحب «الجواهر»: فقد استشکله رحمه الله فی الحدیث، وقال بعد نقله: «وفیه بحثٌ» لکنه لم یبیّن لم یبن وجهه ولعلّ وجه الاشکال دلالة بعض الأخبار علی عدم الغُسل.

مثل خبر محمد بن مسلم، عن أبی جعفر علیه السلام ، قال: «مس المیّت عند موته وبعد غسله، والقُبلة لیس بها بأس»(1).

وکذا خبر عبداللّه بن سنان، عنه علیه السلام : «لابأس بأن یمسّه بعد الغُسل ویقبله»(2).

مع أنّ ظاهر قوله علیه السلام : «فعلیه الغُسل» وجوبه، وغیره من جماعة من الفقهاء. علی استحبابه بمناسبة الجمع بین الدلیلین، کما علیه المحقق الآملی، وعلیه فلا نحتاج الی الحمل علی بعض المتحملات المذکورة فی «الوسائل»، الا أن یقوم الاجماع علی عدم الاستحباب، وهو غیر معلوم، بل المعلوم عدمه وبالتالی فالاستحباب عندنا قوی کما علیه السیّد فی «العروة» وأصحاب التعلیق علیها.

3_ ومنها: الغُسل عند ارادة غُسل المیت وتکفینه عن «الذکری» و«النزهة»، وعن الأخیر نسبته إلی الروایة، ولعلّه أراد بها خبر محمد بن مسلم، عن أحدهما فی حدیثٍ: «وإذا غسّلت میّتا أو کفّنته أو مسسته بعد ما یبرد، الحدیث»(3).


1- وسائل الشیعة: الباب 3 من أبواب غسل المسّ، الحدیث 1.
2- المصدر السابق، الحدیث 2.
3- وسائل الشیعة: الباب 1 من أبواب الاغسال المسنونة، الحدیث 11.

ص:13

ونحوه عن أبی جعفر علیه السلام (1)

وفی «الجواهر» قال بعده: «وهو غیر ظاهرٍ فی ذلک، بل هو محتمل وجوها عدیدة، فتأمّل جیدا یظهر لک بطلان ما عن الصدوق ووجّهه فی «المجالس» و«الهدایة» من الفتوی بمضمون الخبر المتقدّم مع التصریح بالوجوب».

قال المجلسی قدس سره فی توضیحه: «قیل المراد ارادة التکفین، أی یستحب ایقاع غُسل مسّ المیّت قبل التکفین، وقیل باستحباب الغُسل لتغسیل المیّت وتکفینه قبلهما وإنْ لم یمسّ، وظاهر الخبر لزوم الغُسل بعد تکفین المیّت. ویمکن حمله علی الاستحباب کما یظهر عن غیره أیضا استحباب الغُسل للمسّ بعد الغُسل، أو حمله علی ما إذا مسّ میّتا لم یُغسّل وإنْ تیمّم، فإنّ الظاهر وجوب الغُسل لمسّه... إلی أن قال: وذکر المسّ بعد ذلک تعمیم بعد التخصیص، وحَمَله بعض الأصحاب علی ما بعد الغُسل استحبابا، وهو بعیدٌ جدّا» انتهی هذا علی المحکی عنه فی «مصباح الهدی» للآملی قدس سره .

ثمّ قال بعد نقله: «ولا یخفی أنّه مع تکثّر هذه الاحتمالات لا یمکن استفادة استحباب الغُسل لمن یرید یغتسل المیّت أو تکفینه، ولو لم یمسّ المیّت، فالقول به ممّا لا دلیل علیه».

أقول: ولقد أجاد فیما أفاد، حیث أنّ ظاهر الخبر وحکمة هو وقوع الغُسل بعد التغسیل والتکفین لا قبلهما لمن یرید اتیانها، نعم، یمکن أن نلتزم باستحبابه لو کان قد غسل ثُمّ بعد الغُسل أراد ذلک کما فی التکفین، أو نلتزم بوجوبه اذا کان المسّ قبل اتمام الغُسل، حیث یصیر الغُسل حینئذٍ علیه واجبا لتحقّق المسّ قبل تمامیّة الغُسل. ولعلّ مقصود الصدوق بالوجوب هو هذه الصورة، بأن کان الغُسل


1- المصدر السابق، الحدیث 5.

ص:14

علیه واجبا لوقوع المسّ حین قیامه بغُسل المیّت وتکفینه حیث یجب علیه الغسل حینئذٍ کما لا یخفی.

3_ ومنها: الغُسل للتوجه إلی السفر مطلقا، خصوصا السفر لزیارة الحسین علیه السلام .

والدلیل للاوّل: هو ما رواه السیّد ابن طاووس فی «ألامان من أخطار الأسفار والأزمان» أنّه روی: «أن الانسان یستحبّ له إذا اراد السفر أن یغتسل، ویقول عند غُسله: بسم اللّه وباللّه ولا حول ولا قوّة الاّ باللّه»(1).

وللثانی: أی السفر لزیارة الحسین علیه السلام ، هو ما رواه الشیخ فی «التهذیب» عن أبی بصیر، عن أبی عبداللّه علیه السلام ، قال: «إذا أردت الخروج الی أبی عبداللّه علیه السلام فصم قبل أن تخرج ثلاثة أیّام: یوم الأربعاء ویوم الخمیس ویوم الجمعة، فإذا أمسیتَ لیلة ا لجمعة فصلّ صلاة اللّیل، ثمّ قم فانظر فی نواحی السماء فاغتسل تلک اللیلة قبل المغرب، ثمّ تنامُ علی طهرٍ، ثمّ إذا أرادت المشی الیه فاغتسل، ولا تطیّب ولا تدهن ولا تکتحل حتّی تأتی القبر»(2).

4_ ومنها: الغُسل لعمل الاستفتاح، المعروف بعمل أُمّ داوود.

والدلیل علی ذلک ما رواه الشیخ والصدوق وابن طاووس بطرقٍ متعددة عن الصادق علیه السلام ، أنّه قال فی حدیثٍ طویل: «صُم فی رجب یوم ثلاثة عشر وأربعة عشر وخمسة عشر، فإذا کان یوم الخامس عشر فاغتسل عند الزوال»(3).

وفی روایة أخری: «قریبا من الزوال»(4).


1- الأمان من أخطار الأسفار والأزمان، ص 33.
2- التهذیب، ج 6، ص 76، الحدیث 150 و وسائل الشیعة: الباب 77، الحدیث 1.
3- اقبال الاعمال، ص 659.
4- جواهر الکلام، ج 5، ص 59.

ص:15

5_ ومنها: غُسل من أهرق علیه ماءٌ غالب النجاسة، أی مظنون النجاسة کما عن المفید فی «الاشراف»(1).

ولعلّ المراد به الغَسل (بالفتح) بمعنی التطهیر فاشبهوا فی نقله.

ولکن فی «الجواهر»: «ولعلّه للاحتیاط، مع أنّه یکن هناک وجه لو أرید الغُسل (بالضم) لأنّ الغُسل عبادة تحتاج فی اثبات رجحانها إلی الدلیل، نعم یصحّ الاحتیاط لو أرید به الغَسل (بالفتح) لتحصیل الطهارة بالیقین، کما له وجه بملاحظة کونه مظنون النجاسة».

6_ ومنها: الغُسل لمن أفاق امن لجنون، کما عن العلاّمة فی «النهایة»، قال: «لما قیل إنّ من زال عقله أنزل) انتهی. لکن نفاه فی «المنتهی» لعدم الدلیل.

أقول: وفیه ما لا یخفی، خصوصا أنّ الاستحباب فیه کلی عن الحنابلة کما حکاه العلاّمة فی «المنتهی» وکذلک «المغنی» و«الشرح الکبیر»(2).

7_ ومنها: الغُسل لمن شرب مُسکِرا فنام.

والدلیل علی ذلک ما ورد فی الحدیث عن النبی صلی الله علیه و آله ما مضمونه: «ما من أحدٍ نام علی سُکرٍ إلاّ وصار عروسا للشیطان إلی الفجر، فعلیه أن یغتسل غُسل الجنابة» کما عن السیّد فی «العروة».

وأیضا ما ورد فی الخبر الذی ورد فی «جامع الأخبار» و«تفسیر أبی الفتوح» عن النّبی صلی الله علیه و آله : «ما من أحدٍ یبیتُ سکرانا إلا کان للشیطان عروسا إلی الصباح، فاذا أصبح وجب علیه أن یغتسل کما یغتسل من الجنابة، فإن لم یغتسل لم یُقبل منه صرفٌ ولا عَدل»(3).


1- المنتهی، ج 1، ص 132.
2- المغنی والشرح الکبیر، ج 1، ص 244.
3- مصباح الهدی، ج 7، ص 127.

ص:16

أقول: لم أر من الفقهاء من أفتی بذلک إلاّ السیّد فی «العروة» کما هو ظاهر کلامه بل صریحه، ووافقه المحقّق الآملی فی مصباحه، ونحن نقول لا بأس به إذا دلّ علیه دلیلٌ روائی، وظاهر الروایة وإنْ دلّ علی وجوب الغُسل، لکنه یُحمل علی الاستحباب للاجماع علی عدم وجوبه.

8_ ومنها: الغُسل لمن وجد المنی فی الثوب المشترک للاحتیاط.

9_ ومنها: استحباب اعادة الغُسل لأولی الأعذار بعد زوال العُذر، عند من لم یُوجبها احتیاطا، خروجا من شبهة وجوبه.

10_ ومنها: غُسل من بات جُنُبا قبل تغسیله، علی ما عن بعضهم، لکن عن «المعتبر» الاجماع علی عدم استحبابه، وقد تقدّم لنا کلام فیه فی مظانّه کان وجهه ورود روایتین فی ذلک:

الأولی: ما رواه عیص عن أبی عبداللّه علیه السلام ، قال: «سأله عن رجلٍ مات وهو جُنُبٌ؟ قال% یُغسّل غَسلة واحدةً بماءٍ ثم یَغتسل بعد ذلک»(1).

وروایة أخری له أیضا: عنه علیه السلام قال: قلت له: الرجل یموت وهو جنبٌ: قال یُغسّل من الجنابة ثمّ یُغسّل بعد غُسل المیت»(2).

أقول: ذکر صاحب «الوسائل» أنّ المراد من (الغسل) هو التطهیر من الجنابة، أی المنی لا الغُسل الشرعی بالضم. وکیف کان لو لم یثبت الاجماع علی خلافه لا یبعد استحبابه استنادا الی هاتین الروایتین، ولکن مع ذلک مقتضی الاحتیاط اتیانه بقصد الرجاء والمطلوبیته.

11_ ومنها: الغُسل لمن أراد العود إلی الجماع، لما ورد فی «الرسالة الذهبیة»


1- وسائل الشیعة: الباب 31 من أبواب الغسل المیّت ، الحدیث 6.
2- المصدر السابق، الحدیث 7.

ص:17

التی کتبها الرضا علیه السلام للمأمون، وجهاء فیها: «والجماع بعد الجماع من غیر فصلٍ بینهما بغسلٍ یورث للولد الجنون»(1).

أقول: فی هذه الروایة احتمالات:

الاوّل: کون لفظ (الغُسل) بالضم، وإراده غُسل الجنابة کما هو الظاهر، فیصیر الحکم هو استحباب الاتیان بغُسل الجنابة بینهما، لا غسلاً استحابی لتکرار الجماع خاصة.

الثانی: هو بالضم أیضا لا من جهة غُسل الجنابة بل لاتیان جماعٍ آخر بعد الجماع فیصیر داخلاً فی بحثنا من أن یکون من الأغسال المسنونة، کما هو الظاهر من جماعة من الفقهاء ومنهم صاحب «الجواهر» وغیره.

الثالث: أن یکون (الغُسل) بالفتح، ویکون المراد تطهیر الآلة من الدَنَس، وعلیه فاستفادة استحباب الغسل بخصوص تکرار الجماع بخصوصه مشکلٌ، مع امکان أن یقال: إنّ ظاهر الخبر کراهة الجماع بعد الجماع ما لم یغسل، لا استحباب الغُسل للجماع، فحینئذٍ یصیر حکم هذه المسألة مثل حکم کراهة الجماع للمحتلم قبل الغُسل، للمرویّ فی «مجالس الصدوق» وخصاله بقوله: «وکَرُه أن یغشی الرجل المرأة وقد احتلم حتّی یغتسل من احتلامه الذی رأی، فإن فعل وخرج الولد مجنونا فلا یلومنّ الاّ نفسه»(2).

هذا، وقد نفی المحقق کراهته فی «المعتبر»، ونسب نفی الکراهة إلی جماعةٍ من الأصحاب، قال: «ویدلّ علیه فیما روی عن النبی صلی الله علیه و آله أنّه کان یطوف علی نسائه بغُسلٍ واحد»(3).


1- البحار، ج 14، ص 558 من طبعة الکمبانی.
2- کما فی مصباح الهدی، ج 7، ص 116.
3- کما فی مصباح الهدی، ج 7، ص 116.

ص:18

أقول: یستبعد صدور فعل هذا التصرف عن النبی صلی الله علیه و آله ، خصوصا مع منافاته مع القسم بین أزواجه، حیث یستفاد منه أنه کان یخصّص کلّ لیلةٍ لزوجة واحدة، وعلیه فلا یبعد القول بالکراهة بلا فصل غُسلٍ استنادا الی ما فی «الرسالة الذهبیة».

هذا، وقد بقی بعض الأغسال المسنونة التی لم یرد لها ذکر فی «الجواهر» و«مصباح الفقیه» وإنْ ذکره بعض آخرین:

12_ منها: غُسل المرأة اذا تطیّبت لغیر زوجها، حیث ذکره السیّد فی «العروة»، والدلیل علیه ما فی «الکافی» عن سعد بن أبی عمرو الجلاّب، قال: قال أبو عبداللّه علیه السلام : «فی حدیثٍ أیّما إمرأةٍ تطیّبت لغیر زوجها لم تُقبل منها صلاة حتی تغتسل من طیبها کغُسلها من جنابتها»(1). وروی الصدوق عن السکونی مثل ذلک.

قال صاحب «الحدائق»: بعد نقل الحدیث عن «الوسائل»: «الظاهر أنّ المراد من الاغتسال فی الخبر إنّما هو غِسل الطیب وازالته عن بدنها، بأن تُبالغ فیه کما تبالغ فی غُسلها من جنابتها بایصال الماء الی جمیع بدنها وشعرها».

قال فی «مصباح الهدی»: «وما ذکره وإنْ کان هو الظاهر من قوله: «حتّی تغتسل من طیبها» إلاّ أنّه لا یلائم مع «کغسلها من جنابتها» إذ الظاهر کون الغُسل بالضم من الطیب کالغُسل من الجنابة، وتقدیر المبالغة فی الغُسل بعیدٌ جدّا، مضافاً الی امکان القول بظهور قوله: «تغتسل» فی الغُسل بالضم، وإلاّ لکان الألیق أن یقال: حتّی تغسل طیبها» انتهی محلّ الجاجة(2).

أقول: هذا الوجه المذکور أخیرا وجیةٌ غایة الوجاهة، لاسیّما بعد تشبیهه بغُسل الجنابة، حیث لا معنی للمبالغة فی المشبّه به. وعلیه فالقول باستحباب


1- وسائل الشیعة: الباب 30 من أبواب الاغسال المسنونة، الحدیث 1.
2- مصباح الهدی، ج 7، ص 126.

ص:19

قوله: وخمسة للمکان: وهی غُسل دخول الحرم (1)

الغُسل فی هذا الفعل لا یخلو عن قوة. نعم، ظاهر الروایة وجوب الغُسل، وکونه شرطا لصحة صلاتها، وحیث لم یذهب الیه أحدٌ من الأصحاب، فلابدّ من حمله علی اشتراط الغُسل لقبول الصلاة وکمالها لا فی أصل صحتها. ومن هنا ظهر وجه ترک ذکره فی کلمات الأصحاب حیث حککوا بأّ المراد منه بمعنی الغسل عن الطیب وازالته لا الغُسل الشرعی، واللّه العالم.

هذا، ولا یخفی أنّ ما ذُکر من غُسل الافعال، تارة ما یکون الفعل غایةً له فیکون الغسل مقدما علیه، وأخری یکون سببا له فیؤخّر الغسل عنه نظیر التطیّب للمرأة، والمسألة واضحة لا تحتاج الی مزید بیانٍ.

* * *

رالأغسال المکانیّة المستحبة

(1) قیل بأنّ الغُسل للمکان هو أیضا غسلٌ للأفعال، لأنّ الدخول أیضا یعدُّ فعلاً من الافعال، لکن قد نعرّق بینهما بأنّ هناک بینهما تفاوتا من جهة الحیثیّة، أی یکون استحباب الغُسل لحیثیّة شرف المکان، لا من جهة دخوله فیه حتی یصیر فعلاً من الافعال.

ثم الدلیل علیه: مضافا الی دعوی الاجماع من «الغنیة»، المعتضد بنفی الخلاف فی «الوسیلة» بکونه من المندوب، لکن فی «کشف الّلثام» نقلاً عن الشیخ فی «الخلاف» الاجماع علی عدم الاستحباب، ولکن مندفع بما فی «المصابیح» بقوله: «إنّی لم أجد ذلک فی «الخلاف»، بل الموجود خلافه»، وکیف کان لا یقاوم المنقول عن «الخلاف» مع ما عرفت من التصریح بالاجماع علی

ص:20

قوله: والمسجد الحرام(1)

الاستحباب، خصوصا مع تأییده بالاخبار العدیدة.

منها: خبر موثقه سماعة المروی فی «الفقیه» و«التهذیب» عن الصادق علیه السلام فی حدیثٍ: «وغُسل دخول الحرم، ویستحبّ أن لا یدخله الاّ بغسل»(1).

ومنها: ما رواه فی «الفقیه»: «وغُسل دخول الحرم واجبٌ، ویستحب أن لا یدخل الرجل الاّ بغسل»(2).

(1) حیث یفهم من ذیله أنّ الوجوب فی الأخبار لیس منحصرا بما هو المتعارف بین الفقهاء من اطلاقه علی ما لا یجوز ترکه، بل قد یستعمل للمستحب المؤکد، ولأجل ذلک صرّح بانّه (یستحبّ أن لا یدخله إلاّ بغسل).

ومنها: صحیح المروی عن عبداللّه بن سنان: «الغُسل فی سبعة عشر موطنا... إلی أن قال: ودخول المدینة ودخول الحرم»(3).

بناءً علی أنّ المراد من الحرم بصورة الاطلاق فی الأخبار الثلاثة هو حرم مکّة المکرّمة، برغم أنّ هذه الکلمة بمعناها اللغوی الموضوع لها تشمل حرم المدینة أیضا ولا تختصّ بمکّة، کما ورد التصریح بذلک فی الخبر المرسل الذی رواه الصدوق فی «الفقیه» عن الباقر علیه السلام : «الغُسل فی سبعة عشر موطنا... إلی أن قال: وإذا دخلتَ الحرمین» بناء علی أن المراد منه حرم مکّة ومدینة، کما هو الظاهر، لأنّ ارادة غیرهما بصورة الجنس لا یناسبه، لعدم امکان تعینیه بالتشبیه کما


1- وسائل الشیعة: الباب 1 من أبواب الاغسال المسنونة، الحدیث 3.
2- المصدر السابق، ذیله.
3- المصدر السابق، الحدیث 7.

ص:21

قوله: والکعبة(1)

لا یخفی، مع أنّ الألف واللام للعهد الذهنی، ومن هذا یظهر حکم استحباب الغُسل للدخول الی حرم المدینة ایضا.

(1) لاجماعی «الغنیة» و«الخلاف»، المعتضدین بما فی «الوسیلة» أیضا من المندوب بلا خلافٍ. وفی «الجواهر»: «وفحوی ما دلّ علیه لمسجد النّبی صلی الله علیه و آله ، لأنّه أفضل».

أقول: إحراز الأفضلیة مشکل، الاّ أن نستفیدها من أفضلیة الصلاة فیه من الصلاة فی مسجد النبی صلی الله علیه و آله ، لکن اثبات الملازمة بینهما لا یخلو عن تأمّل مع إنّا لم نحتاج الیها مع وجود اجماع دالّ علیه، الذی یکفی فی اثبات استحبابه من باب التسامح. کما لا نحتاج الی التمسک بروایة علی بن أبی حمزة، عن الکاظم علیه السلام : «إنْ اغتسلت بمکّة ثم نمت قل أن تطوف فاعد غُسلک»(1) لا مکان القول فیه بکون الغسل للطواف لا لدخول المسجد الحرام. وعلیه فالقول بالاستحباب لأجل قیام الاجماع المنقول قوی. وأمّا الوجوب الذی نُقل عن الجعفی فلا اعتبار به لانّه شاذ لا یلتفت إلیه إذ لا دلیل علیه.

(1) علی هذا الغُسل المستحب هو: والدلیل علیه:

1_ ما جاء فی خبر سماعة: «وغُسل دخول البیت واجب»(2).

2_ صحیح ابن مسلم عن أحدهما علیهماالسلام : «ویوم تدخل البیت»(3).

3_ مع ما فی «الغُنیة» و«الخلاف» من الاجماع علیه، معتضدا بما سمعته من «الوسیلة».


1- وسائل الشیعة: الباب 6 من أبواب مقدمات الطواف ، الحدیث 2.
2- وسائل الشیعة: الباب 1 من أبواب الاغسال المسنونة، الحدیث 3.
3- وسائل الشیعة: الباب 1 من أبواب الاغسال المسنونة، الحدیث 7.

ص:22

4_ وخبر ابن عمّار، بقوله: «وحین الکعبة، الحدیث»(1).

أقول: إنّ المصنف قدس سره لم یتعرّض لغُسل دخول مکّة مع وقوع التصریح به فی کثیرٍ من الاخبار:

منها: ما رواه معاویة بن عمّار، عن أبی عبداللّه علیه السلام ، قال: «سمعته یقول: الغُسل من الجنابة، الی أن قال: وحین تحرم، وحین تدخل مکّة والمدینة الحدیث»(2).

ومنها: ما رواه الفضل بن شاذان، عن الرضا علیه السلام فی کتابٍ کتبه إلی المأمون: «وغُسل دخول مکّة والمدینة، الحدیث»(3).

ومنها: خبر الاعمش: «وغُسل دخول مکّة وغسل دخول المدینة»(4).

ومنها: خبر عبداللّه بن سنان، عن أبی عبداللّه علیه السلام ، قال: «الغُسل من الجنابة، الی أن قال: وعند دخول مکّة والمدینة ودخول الکعبة»(5).

ولعلّ وجه عدم تعرّضه لذلک کان لأحد الأمرین: إمّا أنّ قصد ذلک من دخول الحرم بلحاظ أنّ الدخول فی الحرم مستلزم نوعا لدخول البلد لمن أو أراد زیارة البیت أو اراد ذلک من قوله باستحباب الغُسل لدخول کعبة، کما یؤیّد ذلک بأنّ الأخبار المُصرّحة بالغُسل لدخول مکّة خالیة عن ذکر الغُسل لدخول الحرم، وکذلک الأخبار المشتملة علی غُسل دخول الحرم خالیة عن ذکر غُسل دخول مکّة. نعم قد اشتمل خبر «فقه الرضا»(6) علی الغُسل لهما أی لدخول الحرم


1- المصدر السابق، الحدیث 11.
2- وسائل الشیعة: الباب 1 من أبواب الاغسال المسنونة، الحدیث 1.
3- المصدر السابق، الحدیث 6.
4- المصدر السابق، الحدیث 8.
5- المصدر السابق، الحدیث 10.
6- المستدرک، ج 1، الباب 1 من أبواب الاغسال المسنونة، الحدیث 1.

ص:23

ومکّة، ولأجل ذلک کان الأظهر هو جعل کلّ واحد منهما غایةً مستقلة للغُسل، کما هو ظاهر عبارات الأصحاب.

مضافا الی إمکان استفادة استحباب ذلک من فحوی ما دلّ علیه فی دخول المدینة، کما فی «الجواهر»، وقد عرفت منا سابقا الاشکال فیه بأنّ القطع بالأولویة فی مثل هذه الأمور الشرعیة مشکلٌ جدّا، ولکن مع ذلک لا یخلو فی مثله عن تأییدٍ کما هو واضح.

نعم، یمکن الاستدلال لاستحباب الغُسل لدخول مکّة بصحیح الحلبی، قال: «أمرنا أبو عبداللّه علیه السلام أن نغتسل من فخ قبل أن ندخل مکّة»(1).

بل وکذلک لا یبعد أّه المراد ما جاء فی خبره الآخر الذی رواه عن أبی عبداللّه علیه السلام ، قال: «إنّ اللّه عزّوجلّ یقول فی کتابه وطهّرا بیتی للطائفین والعاکفین والرکّع السجود، فینبغی للعبد أن لا یدخل مکّة الاّ وهو طاهرٌ قد غَسل عرقة والأذی وتطهّر»(2).

حیث یشمل عنوان (الطهارة) للغُسل، کما یشمل الوضوء، خصوصا ما ورد فی ذیله من قوله: «تطهّر» حیث أنّ احتمال الغذسل منه غیر بعیدٍ، ولو لأجل الاحتراز عن التکرار لذکر الطاهر فیما قبله.

وأمّا احتمال کون المراد من مکّة هو البیت، کما عن صاحب «الجواهر» قدس سره لا یخلو عن وهنٍ. وکیف کان فمع وجود هذه الأخبار الکثیرة الدالّة علیهع لا حاجة للتعرّض الی توجیهات أخری موهونة.


1- وسائل الشیعة: الباب 5 من أبواب مقدمات الطواف، الحدیث 1.
2- المصدر السابق، الحدیث 3.

ص:24

قوله: والمدینة(1)

(1) ومن جملة الأغسال المسنونة، الغُسل لدخول المدینة، کما یدلّ علیه:

1_ ما عرفت ذکره من خبر معاویة بن عمّار: «وحین تدخل مکة والمدینة»(1)،

2_ وصیحح ابن سنان، بقوله: «وعند دخول مکّة والمدینة»(2).

3_ وروایة أخری لمعاویة بن عمّار، عن الصادق علیه السلام : «اذا دخلت المدینة فاغتسل قبل أن تدخلها أو حین تدخلها»(3).

4_ وروایة الفضل بن شاذان وقد مرّت آنفا وجاء فیها: «وغُسل دخول مکّة ومدینة الحدیث»(4).

5_ وخبر الأعمش وفیه: «وغُسل دخول مکّة وغُسل دخول المدینة»(5).

مضافا الی دعوی الاجماع فی «الغنیة» المعتضد بما سمعت من «الوسیلة» ثم الظاهر أنّ اطلاق استحباب الغُسل لدخول مکة أو مدینة عدم الفرق بین کون الدخول لاداء فرض أو نفلٍ أو غیرهما، و علیه فما عن المقنعة من دعوی اختصاصه بالأولین ممّا لا وجه له، الاّ التمسّک بالمناسبات العرفیة من تناسب الغُسل لمثل، أداء الفرض والنفل لا لمثل الدخول للتجارة ونحوها، ولکن الجزم بذلک مشکلٌ، خصوصا مع احتمال کون الغسل لشرافة المکان لا لمناسبة الأعمال، واللّه العالم.


1- وسائل الشیعة: الباب 1 من الاغسال المسنونة ، الحدیث 1.
2- المصدر السابق، الحدیث 3.
3- وسائل الشیعة: الباب 6 من أبواب المزار، الحدیث 1.
4- وسائل الشیعة: الباب 1 من أبواب الاغسال المسنونة، الحدیث 6.
5- المصدر السابق، الحدیث 8.

ص:25

قوله: ومسجد النبیّ صلی الله علیه و آله (1)

(1) ومن جملة الأغسال المسنونة، الغُسل لدخول مسجد الرسول صلی الله علیه و آله ، کما یدلّ علیه خبر ابن مسلم بقوله: «إذا أردت دخول مسجد الرسول صلی الله علیه و آله (1)» المؤیّد باجماع «الغنیة» المعتضد بما سبق من «الوسیلة» ایضا.

غُسل زیارة المشاهد المشرّفة

ومنها: الغُسل لدخول المشاهد المشرفة غیر الغُسل الوارد لزیارتهم، وقد ورد ذکره فی «الموجز»(2) وشرحه،(3) و«نهایة الأحکام»(4) حیث جعلوا هذا الغُسل من الأغسال المکانیّة بعد أن ذکروا استحبابه للزیارة، وجعلوه من أغسال الأفعال.

وفی «الجواهر» و«مصباح الفقیه»: (لم نعرف له شاهدا، سیّما اذا أرید البلد إلاّ فحوی ثبوته للمدینة ومکّة ومسجدیهما) انتهی(5).

أقول: لا یمکن اقامة الدلیل علیه الاّ اعتمادا علی القول باستحباب الغُسل لکلّ مکانٍ شریف أو زمانٍ شریف، کما حُکی ذلک عن أبی علی، بل وکذا لکلّ فعلٍ یتقرب به إلی اللّه، ولیس علی شیءٍ من ذلک دلیل.

وفحوی ثبوت استحبابه للمدینة ومکّة ممنوعة، لما قد عرفت من عدم ثبوت


1- وسائل الشیعة: الباب 1 من أبواب الاغسال المسنونة، الحدیث 12.
2- الموجز ضمن الرسائل العشر، ص 54.
3- کشف الالتباس، ج 1، ص 341 و 342.
4- نهایة الاحکام، ج 1، ص 177 و 178.
5- الجواهر، ج 5، ص 62.

ص:26

الأولویة القطیعة، مع أنّ أصل الدعوی ربّما یکون هنا ممنوعا، والقیاس لا نقول به.

ولعلّ وجه القول باستحبابه للموارد الثلاثة المحکیّة عن ابن الجنید _ کما عن «الذکری» _ کان لأجل حجیّة القیاس عنده، کما فی «الجواهر»، الذی نقله ثمّ أمر بالتأمّل.

ولعلّ الأمر بالتأمل کان من جهة امکان ملاحظة ما صَدَر عن بعضٍ من استحباب الغُسل مطلقا، ولو من غیر سببٍ کالوضوء، فضلاً عمّا کان له سببٌ فیکون الوجه فی استحبابه کذلک هو کون الغُسل کالوضوء طهورا، فیدلّ علیه ما فی قوله تعالی: «إِنَّ اللّهَ یُحِبُّ التَّوَّابِینَ وَیُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِینَ»(1)، وقوله علیه السلام : الطهر علی «الطهر عَشرُ حسناتٍ»(2) إلی غیر ذلک.

وأمّا کون الغُسل طهورا مطلقا فربما یفهم ذلک من:

1_ بعض الروایات، مثل قوله علیه السلام : «أیّ وضوءٍ أطهر من الغُسل»(3).

2_ وممّا ورد من استحباب الغُسل بماء الفرات علی الاطلاق(4).

ولکن الاستدلال بمثل هذه الأمور للمدّعی لا یخلو عن تأمّلٍ، لامکان أن یکون مضمون الآیة مشیرا إلی ما ورد فی الشریعة من الأغسال والوضوءات لا کلّ ما أراد الانسان اتیانه من عند نفسه من دون أمرٍ من الشرع، وکذلک یقال فی الأطهریة والغُسل بماء الفرات أی فیما ورد فیه الأغسال. نعم، ایتانه بقصد الرجاء والمطلوبیّة لا بأس به.


1- سورة البقرة، آیة 222.
2- وسائل الشیعة: الباب 1 من أبواب الوضوء، الحدیث 3.
3- وسائل الشیعة: الباب 33 من أبواب الجابة، الحدیث 1.
4- وسائل الشیعة: الباب 44 من أحکام المساجد، الحدیث 22.

ص:27

قوله: مسائل أربع: الأولی: ما یُستحبّ للفعل والمکان یقدّم علیهما(1)

واحتمال: التشریع المحرّم به مع الشک فیه، أو عدم امکان تمشّی قصد القربة به.

مندفع: بما قد حقّقناه فی موضعه من أن التشریع لا یجری فی المورد، کما أنّ قصد القربة یتمشّی مع الشک أیضا، وتفصیل الکلام فیه موکول الی محلّه.

(1) قلنا إنّه لا اشکال فی أنّ تکون بعض أغسال الافعال مقدما علی الفعل، إذا کان الفعل غایةً له، کما قد نصّ بذلک فی بعض الأخبار، مثل روایة محمد بن مسلم، قال: قال علیه السلام : «وإذا أردتَ دخول البیت الحرام، وإذا أردت دخول مسجد الرسول، الحدیث»(1) وکالغُسل لصلاة الحاجة الواردة فی الخبر، حیث یکون الفعل فی مثلهما غایةً له، بمعنی أنّ المقصود بالفعل هو التوصّل إلی ایجاد ذلک الفعل متطهّرا، کما کان الأمر کذلک فی الغُسل للمکان.

هذا، لکن الاشکال فی بعض الأغسال للافعال إذا کان الفعل سببا له، کغُسل قتل الوزغ والسعی إلی رؤیة المصلوب، حیث یکون وقت الغسل بعد تحقّق السبب لا قبله، من دون توقیت أو تضییق إلاّ عند من یقول بکون الأمر للفور العرفی، مع أنّه فی حیّز المنع، و علیه فالأظهر حینئذٍ الحکم ببقاء مطلوبیته مطلقا مادام العمر باقیا إلی أن یتحقّق الامتثال، أو بما هو منزلته الموجب لسقوط الطلب.

فما فی «الجواهر» من استفادة الفوریة من آیة المسارعة والأخبار، بل التوقیت عند التأمل لیس علی ما ینبغی، ولأجل ذلک تری بعض الفقهاء لم یرضوا بالاطلاق فی تقدیم الغُسل علی الفعل، بل استثنوا مثل غُسل التوبة أو غُسل قتل الوزغ أو غُسل السعی إلی رؤیة المصلوب، وبعضٌ آخر منهم قسّموا الغُسل إلی


1- وسائل الشیعة: الباب 33 من أبواب الجنابة، الحدیث 12.

ص:28

زمانی وغائی وسببی، وأدخلوا المکانی فی الغائی علی خلاف تقسیم المشهور، حیث قسموا الغُسل إلی الزمانی والفعلی والمکانی.

وبالنتیجة: بناءً علی ما ذکرنا یظهر حکم کلّ واحدٍ منهما، وحیث أنّ المسألة واضحة عند الاصحاب، ولا أثر من الخلاف فیها کتسالمهم فی أصل الحکم، کان الإعراض عن البحث عنها فی هذه الجهة أولی.

أقول: نعم، قد یُناقش فیما یظهر من بعض النصوص من شرعیة غُسل المکان بعد الدخول أیضا لا قبله فقط، وهو:

1_ حسنة معاویة بن عمّار السابقة والذی جاء فیها قوله علیه السلام : «اذا دخلت المدینة فاغتسل قبل أن تدخلها أو حین تدخلها»(1) بناءً علی أن یکون التردید من الامام علیه السلام لا من الراوی.

لکن قد یُحمل علی أنّ المراد هو بیان التخییر بین التقدیم بفصلٍ وغیره، کما عساه یشهد له ما فی خبره الآخر من قوله علیه السلام : «إذا انتهیتَ الی الحرم إن شاء اللّه فاغتسل حین تدخله، وإنْ تقدّمت فاغتسل من بئر میمون أو فخّ أو من منزلک بمکّة، الخبر»(2).

2_ وکذا یناقش بأصعب ممّا سبق فی خبر ذریح، قال: «سألته عن الغُسل فی الحرم قبل دخوله أو بعد دخوله؟ قال: لا یضرّک أیّ ذلک فعلت، وإن اغتسلت فی بتیک حین تنزل بمکّة فلا بأس»(3)، وهو صریحٌ بعدم التفاوت بین قبل الدخول وبعده، ولأجل ذلک حملوه علی ارادة غسل دخول الکعبة أو المسجد أو غیر


1- وسائل الشیعة: الباب 6 من أبواب المزار، الحدیث 1.
2- وسائل الشیعة: الباب 2 من أبواب مقدمات الطواف فی الحج، الحدیث 2.
3- المصدر السابق، الحدیث 1.

ص:29

ذلک، کما أنّه نقل عن الشیخین والأکثر تنزیل هذه الأخبار علی العذر والاضطرار.

وأمّا صاحب «الجواهر» فقال: «وفیه: إنّه مبنیٌ علی جوازه عندهما ولو قضاءً، وهو محلّ بحثٍ، وإن ظهر من المحکی عن «الذکری» جوازه فی سائر أغسال الأفعال، إلاّ أنّه لا یخلو من نظرٍ، إذ لو جاز لاقتصر فیه علی محلّ النصّ، فتأمل جیدا» انتهی.

قلنا: لا یخفی أنّ حمل مثل خبر ذریح علی العُذر والاضطرار خلاف لظاهره، حیث أنّه صریح فی أنّه یجوز له العمل بأحدهما. وعلیه فالأظهر أن یقال إنّ ما ورد فی الحدیث من التجویز خارجٌ عن حکم ما سبق من کون الغُسل مقدما، بل الحکم فی مثله منوط بوجود الطهارة بأحد الطریقین إمّا قبله أو بعده من غیر فصلٍ، کما أنّ الجواب بالبناء علی جواز القضاء ممّا لا وجه له، لأنّه إذا فرض کونه مطلوبا لأجل الدخول فی المکان، فلا وجه للحکم بتدارکه بعد تحقّق ذی المقدمة، کما لا یخفی.

ما یتعلّق بتقدیم الغُسل المکانی

بقی هنا بحثان آخران:

البحث الأول: فی تحدید المقدار الذی یجوز فیه التقدیم، بعد معلومیة جواز التقدیم.

أقول: بناءً علی القدر المتیقن الذی لا ینبغی التأمل فیه، مع قطع النظر عن الأدلة الخارجیة من نصٍّ أو اجماعٍ، إنّما هو الفصل بین هذه الاغسال وغایاتها بما یقضی به العرف والعادة فی امتثال مثل هذه الأوامر کساعة أو ساعتین أو ما یقربهما، وعلیه فالأولی أن یقال بأنّ المعتبر هو أن یکون الفصل علی وجهٍ یصدق معه کون الغُسل للدخول فی ذلک الشیء عرفا، وعلی هذا المعنی یُحمل ما کلام صاحب «الجواهر» بقوله: «إنّه یظهر من ملاحظة الأدلة ارادة الاتصال العرفی،

ص:30

فلا یعتبر التعجیل والمقارنة، کما لا یجتزی ء بمطلق التراخی»، بل لعلّ هذا المعنی هو مقصود الشیخ فی «کتاب الطهارة» حیث حکم ببقاء الأثر المقصود من الغُسل إلی زمان الدخول، وجعله حدّا عرفیا أی ما یری العرف بقائه بحسب فهمه، ففی مثله لا حاجة إلی الاحاطة بذلک الأثر حتّی یرد علیه بما فی «مصباح الهدی» أنّه حیث لم یکن له الاحاطة بالأثر من حیث البقاء وعدمه، یکون من باب الاحاطة علی المجهول، ثمّ مثّل ذلک فی ذیل کلامه بقوله: «نظیر قول الآمر: تنظّف لفعل کذا».

هذا کلّه بالنظر إلی ما عدا الأدلة والنصوص الخارجیة الواردة فی ذلک، وأمّا مع قطع النظر عن أدلة نفس الأمر بالغُسل للدخول والرجوع إلی النصوص، فالأخبار فی ذلک مختلفة: فالذی یُستظهر من صحیح جمیل، کفایة غُسل الیوم للیلة وغُسل اللیلة لیومه، فانّه قال: «رُوی عن الصادق علیه السلام أنّه قال: غُسل یومک یجزئک للیلتک وغُسل لیلتک یجزئک لیومک»(1).

ومقتضی اطلاقه بقاء أثر الغُسل یوما ولیلة، کما قد أفتی به الصدوق فی «المقنع»، بل وکذا روایة اسحاق التی رواها فی «التهذیب»، قال: «سألته عن غُسل الزیارة یغتسل بالنهار ویزور باللیل بغُسل واحدٍ؟ قال: یجریه إن لم یحدث، فإنْ أحدث ما یوجب وضوءا فلیعد غسله»(2) حیث یدل علی البقاء للیوم واللیلة.

مع أن المستظهر من طائفة أخری من الأخبار کفایة غُسلٍ فی الیوم لیومه وفی اللیل للیلته:

منها: صحیح عمر بن یزید، عن الصادق علیه السلام : «یجزیک غُسل یومک لیومک وغُسل لیلک للیلتک»(3).


1- وسائل الشیعة: الباب 9 من أبواب الاحرام، الحدیث 1.
2- وسائل الشیعة: الباب 3 من أبواب زیارة البیت، الحدیث 3.
3- وسائل الشیعة: الباب 9 من أبواب الاحرام، الحدیث 2.

ص:31

ومنها: خبر أبی بصیر، قال: «سأله رجل وأنا حاضر، فقال له: أغتسل بعض أصحابنا فعرضت له حاجة حتّی أمسی؟ قال علیه السلام : یعیدُ الغُسل، یغتسل نهارا لیومه ذلک ولیلاً للیلته»(1).

ومنها: خبر عثمان بن یزید، قال: «من اغتسل بعد طلوع الفجر کفاه غُسله إلی اللیل فی کلّ موضعٍ یجب فیه الغُسل، ومن اغتسل لیلاً کفاه غُسله إلی طلوع الفجر»(2) وهذا هو مختار المشهور، وعلیه فلابد من الجمع بین الطائفتین.

فربّما یقال: فی صحیح جمیل یکون اللاّم فیه بمعنی الی فیطابق مع الطائفة الثانیة ویرتفع التخالف، أو ارادة الاغتسال فی اللیل قُبیل الفجر وکذا العکس، مع أنّ الظاهر من الحدیث هو الاطلاق، بأن یکون الغُسل فی أوّل اللیل کافیا لیومه وکذا عکسه.

وأمّا روایة اسحاق فمتنه مضطربٌ، لأنّ المنقول فی «الکافی» الذی هو أضبط من «التهذیب»: «أنّ الرجل یغتسل باللیل» مکان بالنهار، وعلیه فالأولی الرجوع الیها، فتنطبق حینئذٍ علی ما علیه المشهور.

أقول: تصدّی بعض المحشّین (وهو المحقّق القزوینی کما فی طهارة الشیخ الأعظم قدس سره ) لتوجیهه بحمل الباء فی (یغتسل بالنهار) علی السببیة، أی بسبب انقضاء النهار یغتسل بغُسلٍ واحد فی اللیل لزیارته فی اللیل، فیوافق مع ما علیه المشهور.

أو یقال: فی الجمع بین الطائفتین بحمل الأخبار الدالّة علی کفایة الغُسل للیوم واللیلة علی الإجزاء، کما قد یؤید ذلک استخدام لفظ (الاجتزاء) فیه المشیر إلی ذلک، والأخبار الطائفة الثانیة علی مرتبة الفضیلة، وأنّه یستحب الاعادة فی اللّیل


1- المصدر السابق، الحدیث 4.
2- وسائل الشیعة: الباب 9 من أبواب الاحرام، الحدیث 4.

ص:32

إذا اغتسل فی النهار وبالعکس.

ولا یخفی حُسن هذا الجمع بالنسبة إلی ما سبق منه، والاّ کان وجه الجمع الأوّل بجعل اللاّم بمعنی الی أحسن من غیره، کما لا یخفی.

نعم، یبقی هنا ما هو مذکور فی خبر عثمان بن یزید من کفایة الغُسل بعد طلوع الفجر عن غُسل کلّ موضعٍ یجب فیه الغسل إلی اللیل، حیث أنّه یختلف عمّا نحن بصدده من کفایة غسل الیوم للیوم لا عن کلّ غسل یجب علیه، وعلیه فلابدّ من تأویله عن ظاهره الی ما کنا بصدده، فیخرج عن المنافاة عند المعارضة کما لا یخفی علی المتأمّل.

وکیف کان، فالفصل بمقدار الیوم واللیل أی فی أربع وعشرین ساعة غیر مضرّ فی الإجزاء، لو لم یعرض علیه الانتفاض بالحدث ونحوه، وإنْ کان الأحسن الاکتفاء بما فی الغسل فی الیوم بالیوم وفی اللیل باللیل.

قال صاحب «الجواهر»: «قد ادّعی القطع بعدم الکفایة بالفصل بالزمان الطویل کالیومین والثلاث قطعا، لظهور الأدلة أو صراحتها لعدمه ککلام الأصحاب».

جواب المحقق الهمدانی رحمه الله : قال: «وفیه: إنّه لا ظهور فی الأدلة فضلاً عن صراحتها فی عدم الاجتزاء به مع الفصل».

أقول: لا یبعد استفادة ذلک من صحیح جمیل ولو بالمفهوم، فدعوی عدم الظهور ممّا لا یمکن المساعدة.

اللّهم إلاّ أن یقال: بعدم حجیّة مثل هذا المفهوم، ولکن برغم ذلک نحتاج للحکم بالجواز الی الدلیل وهو مفقود، إذ لیس لنا هنا دلیل لاثبات البقاء إلاّ التمسّک بالأصل فی ابقاء ذلک الأثر إلی أن یعلم ارتفاعه، فیعمل بالاستصحاب عند الشک، مع أنّه أیضا مندفع: بأنّ الاستحصاب فی الشک ینفع إذا کان الشک مسبّبا عن

ص:33

الشک فی حدوث المانع والمزیل ذاتا أو وصفا، حتّی یکون الاستصحاب حینئذٍ فی الشک فی الرافع، بخلاف الشک هنا حیث یکون منشأ الشک فی مقدار القابلیة، أی الشک الجاری هنا شکٌ فی المقتضی، فلا یمکن التمسک به الاّ عند من قال بحجیة الاستصحاب فیه، کحجیّته فی الشک فی الرافع، وهو اول الکلام، کما لا یخفی.

وبالجملة: ظهر من جمیع ما بیّناه حکم ما لو اغتسل آخر النهار للدخول فی اللیل، أو فی آخر اللیل للدخول فی النهار من الإجتزاء بالأولویة، لأنّا قد أجزنا الفصل بتمام الیوم أو اللیل ففی بعضهما یکون بطریق أولی، فیحمل حینئذٍ ما فی خبر أبی بصیر من الحکم بالاعادة «لمن عرضت له الحاجة بعد الغُسل حتّی أمسی علی صورة استحباب الاعادة».

البحث عن حکم الوقت التلفیقی

تفریع: لقد عرفت من تضاعیف البحث مختارنا بجواز الاکتفاء بغُسل الیوم للیل وبالعکس، جمعا بین الأخبار، ولکن إنْ لم نقل بذلک وقلنا بلزوم الاقتصار الیوم للیوم وفی اللیل باللیل، فحینئذٍ:

تارةً: یقع الغُسل فی أوّل کلّ منها، فالکلام هو الذی عرفت.

وأخری: یقع الغُسل فی الاثناء، فهنا وجوه:

1_ هل یعتبر التلفیق بمعنی التکمیل باللیل إنْ ثلثا بالثلث وإنْ ربعا فربع وهکذا،

2_ أو یعتبر التقدیر بمعنی تقدیر زمان النهار مثلاً بساعات فیؤخذ بقدر ما یتم به النهار من الساعات من اللیل، وإنْ لم یفِ فمن النهار الثانی وهکذا اللیل.

3_ أو المعتبر الانقضاء بالانقضاء، فلا تلفیق ولا تقدیر.

وفی قال صاحب «الجواهر» قال: «أقواها أوسطها، لظهور کون عدم قادحیة

ص:34

الفصل، وأضعفها آخرها، بل موثّق سماعة وأبی بصیر: «من اغتسل قبل طلوع الفجر قد استحمّ قبل ذلک ثمّ أحرم من یومه أجزأه غُسله» صریحٌ فی بطلانه»(1) انتهی.

قلنا: إنْ أخذنا بظاهر الأخبار من تقیید لزوم الاعادة وعدمه) بقید الیوم واللیل، أی بأن یکون غُسل الیوم لیومه والیل للیلته، کان الأخیر هو الاقوی، وأمّا لو قلنا بأنّ الملاک المانع هو حصول الفصل المعتدّ به وعدمه، کان ما ذکره أقوی وأمّا الروایة المذکورة فإنّه یمکن توجیهه فی کفایة الغُسل فی آخر کلّ واحدٍ منهما للدخول فی الآخر، وهو لا یوجب کفایته حتّی لو وقع الغُسل فی أواسط النهار واللیل کان کافیا.

ولکن الانصاف أن الخبر لا یخلو عن اشعارٍ فی افادة عدم دخالة خصوصیّة الیوم واللیل فی لزوم إعادة الغُسل، فیؤید الوجه الثانی کما علیه صاحب «الجواهر» قدس سره .

أقول: بعد الوقوف علی أنّ الملاک فی الاعادة وعدمها هو الفصل المعتدّ به، یظهر عدم جواز التقدیم علی الفعل أزید من ذلک الفصل، بلا فرق فی ذلک بین کونه لأجل الاضطرار إلی ذلک التقدیم المُضرّ لأجل إعواز الماء فی ذلک الوقت أو غیره، لوحدة الملاک فیهما.

وحمل المقام علی مثل غُسل الجمعة الذی أجیز فیه التقدیم بقبل الیوم(2).

یعدّ قیاسا لا نقول به لعدم الدلیل علیه.

وعلیه، فالمتّجة حینئذٍ فی المقام سقوط التکلیف بالغُسل المتقدم کذلک.

ولکن نُقل عن الشهید جواز التقدیم للاعواز، ولعلّه لما روی من تقدیمه علیه السلام الغُسل بالمدینة مخافة اعواز الماء بذی الحُلیفة، ودفعه صاحب «الجواهر» قدس سره


1- وسائل الشیعة: الباب 9 من أبواب الاحرام، الحدیث 5.
2- وسائل الشیعة: الباب 8 من أبواب الاحرام، الحدیث 1.

ص:35

بقوله: «إنّه لا مسافة بینهما بحیث تزید علی مسیر الیوم أو اللیلة حتی ینتقل منه الی جواز ذلک فتأمّل».

ولکن نقول: ربّما تکون المسافة علی الظاهر أزید من مسیرة یوم، نعم لا تزید عن یومٍ ولیلة، فلعلّه یصیر ذلک الخبر مؤیدا آخر لکفایة هذا الفصل أیضا کما قلنا.

مع انّه یمکن الجواب عنه ثانیا: باستثناء هذا المورد بواسطة هذا الخبر مثل غُسل یوم الجمعة، فلا یکون حینئذٍ قیاسا، ولعلّه لذلک أمر بالتأمّل، واللّه العالم.

کیفیّة انتقاض هذه الأغسال

یدور البحث هنا عن انتقاض هذه الأغسال، وهل ذلک یحصل بالأحداث الناقضة للوضوء أم لا؟ فیه تفصیل:

1_ لأنّ الاغسال التی وقعت لنفس الزمان مثل غُسل الجمعة ونحوه لا تنتقض بها قطعا، لأنّ المطلوب فی مثلها لیس إلاّ نفس تحقّق الغُسل الموجب للطهارة المتحققة منه بحدوثه وبقائه الی المدّة المعیّنة بالشرع من جمعةٍ الی جمعةٍ اخری، فمثله لا ینقض لا بالحدث الأکبر ولا بالأصغر فیما بین الحدّین، کما لا یخفی.

2_ کما لا ینتقض الأغسال التی هی مستحبة للأفعال إذا کانت الأفعال سببا للأغسال لأنّ امتداده بامتداد العمر، لأنّ ذلک مقتضی ثبوته لوجود السبب من دون توقیت بالوقت؛ فبعد تحقّق الغُسل لا ینتقض بالحدث قطعا للاصل، وظواهر الأدلة، ومحکی الاجماع، لأنّ المطلوب فی مثل هذه الاغسال لیس الاّ تحققها إمّا عقوبةً کرؤیة المصلوب، أو للمبادرة الی عملٍ کالتوبة، أو للتفألّ کالخروج من الذنوب لقتل الوزغ، أو کشیء یکره البقاء علیه کمسّ المیّت.

نعم، یجری البحث والکلام فی الأغسال التی تقع للأفعال بما أنّها غایات لها،

ص:36

مثل الغُسل لدخول مکّة والمدینة أو للاحرام ونظائرها، فهل ینتقض هذه الأغسال بالأحداث مطلقا، أو فیه تفصیلٌ بالنقض فی بعض الأحداث کالنوم دون بعضٍ کالبول وغیره؟

صرّح غیر واحدٍ بانتقاض هذه الأغسال بالنوم، واستدل له بأخبار معتبرة:

منها: صحیحة ابن الحجّاج، قال: «سألت أبا ابراهیم علیه السلام عن الرجل یغتسل لدخول مکّة، ثم ینام فیتوضأ قبل أن یدخل أیجزئه أو یعید؟ قال: لا یجزیه إنّما دخل بوضوء»(1).

ومنها: صحیحة نضر بن سوید، عن أبی الحسن علیه السلام عن الرجل یغتسل للاحرام ثمّ ینام قبل أن یُحرم؟ قال: علیه اعادة الغسل»(2): «وغیر ذلک ممّا ورد فی باب الاحرام.

واختصاص هذه الأخبار بالاحرام، غیر ضائرٍ، لما عن «المصابیح» من أنّ الأصحاب لم یفرّقوا بینه وبین غیره.

أقول: وفی قبال هذه الأخبار أخبار تدلّ علی خلافه:

منها: صحیحة العیص بن القاسم، قال: «سألت أبا عبداللّه علیه السلام عن الرجل یغتسل للاحرام بالمدینة ویلبس ثوبین ثمّ ینام قبل أن یحرم؟ قال: لیس علیه غُسل»(3).

بل قد یؤیده ما فی صحیحة جمیل المتقدمة، حیث روی عن الصادق علیه السلام : «غُسل یومک یجزئک للیلتک وغسل لیلتک، یجزئک لیومک»(4) باعتبار غلبة


1- وسائل الشیعة: الباب 6 من أبواب مقدمات الطواف، الحدیث 1.
2- وسائل الشیعة: الباب 10 من أبواب الاحرام، الحدیث 1.
3- المصدر السابق، الحدیث 3.
4- وسائل الشیعة: الباب 9 من أبواب الاحرام، الحدیث 1.

ص:37

النوم فی هذه المدة من الیوم خصوصا فی اللیل.

وأجیب: عن صحیحة عیص بامکان أن یکون ذلک فی مقام دفع توهّم السائل بوجوب اعادة الغُسل بعد تحقّق حدث النوم، فأجاب أنّه لیس علیه غُسلٌ، أی لا یجب علیه، فلا ینافی ذلک مع استحباب اعادته المستفاد من تلک الأخبار. کما قد یؤید ذلک سوق العبارة من تنکیر لفظ (الغسل) فی الجواب، کما عن «التهذیب» حملها علیه، فلا تصلح لمعارضة ما تقدّم، هذا کما فی «مصباح الفقیه».

ولکن یرد علیه: إنّ ذلک حسنٌ لو کان غُسل الاحرام فی الابتداء واجبا، والاّ فلا معنی لتوهّم وجوبه بعد النوم، بعد ما کان مستحبّا فی أوّل الامر، اذ لا یتوهّم أحد بکون نفس النوم مسببا للوجوب بعد ما لم یکن فی الاوّل واجبا، فالحمل علیه لا یخلو عن بُعدٍ، إلاّ أن یکون ذلک مقتضی الجمع بینه وبین غیره من باب کون الجمع مهما أمکن أولی من الطرح، فله وجه.

کما أنّ معارضة صحیحة جمیل تلک الأخبار ضعیفة، لأجل أنّ صحیحة جمیل لیست فی مقام بیان الاجزاء وعدمه بلحاظ النوم وغیره، بل فی صدد بیان أصل الکفایة ولو فرض فیما لم یعرضه النوم فی تلک المدة.

وعلیه فالعمل حینئذٍ یکون مع ما یدل علی النقض بالنوم، وبذلک تقیید اطلاقات الأخبار الدالة علی کفایة غُسل الیوم للیوم واللیل للیل، مع أنّ اطلاق هذه الأخبار لیس فی حدود بیان کفایته حتی مع النوم، بل لا ناظر له، اذ المقصود منها بیان أصل الاجتزاء لغُسل الیوم للیوم واللیل للیل بلا نظرٍ إلی ما یعرضه من الاحداث.

وعلیه فما یظهر عن بعضٍ _ مثل صاحب «المدارک» _ من المیل أو القول بعدم ناقضیة النوم واستحباب اعادة الغسل، جمعا بین الروایات، لیس علی ما ینبغی.

هذا کلّه فی البحث عن ناقضیة النوم.

ص:38

وأمّا ناقضیّة غیر النوم من الأحداث الموجبة للوضوء:

مثل البول وغیره، فالمشهور بین الأصحاب عدم الناقضیّة، کما عن «الحدائق» للأصل: واطلاقات الأخبار المتقدمة التی یشکل التقید فی بعضها مثل الاطلاقات الموجود فی روایة عثمان بن یزید، قال: قال علیه السلام : «من اغتسل بعد طلوع الفجر کفاه غُسله الی اللیل فی کلّ موضعٍ یجب فیه الغُسل، ومن اغتسل لیلاً کفاه غُسله الی طلوع الفجر»(1) حیث لا یناسب ذلک مع فرض عدم حدوث الحدث فی هذه المدّة غالبا، فحمل الخبر مع کونه فی بیان ما یقتضیه الغُسل من حیث هو مع قطع النظر عن الطواری بعیدٌ جدّا.

خلافا للمحکی عن الشهیدین، وظاهر «الموجز» وشرحه، وقوّاه غیر واحدٍ من المتأخرین، بل قد علّله بعضٌ (وهو الشیخ المرتضی الانصاری قدس سره ) بفحوی لزوم الاعادة بالنوم.

وأجاب عند المحقق الهمدانی، بقوله: «وفیه ما لا یخفی، حیث لم یعلم أنّ قدح النوم من حیث الحدیثّة حتّی یقال إنّ غیره أقوی فی الحدثیّة علی ما یظهر من أدلّتها، فلا یبعد أن یکون المقصود بهذه الأغسال حصول النشاط والنظافة وارتفاع الکساله ونحوها بما ینافیها النوم أو الفصل الطویل أو نحو ذلک، دون البول ونحوه من أسباب الوضوء».

قلنا: ما ذکره المحقّق المذکور فی الجواب، لیس مما ُعنی عن جوع، لوضوح أنّ ناقضیة النهار لو کان کان لأجل حدثیته لا لتلک الأمور التی قد أشار الیها، إلاّ أنّ المشهور الذین ذهبوا الی عدم ناقضیة غیر النوم، لعلّه کان لأجل ملاحظة عدم ورود دلیلٍ یدلّ علیه ویؤخذ به، مع أنّ تلک الأخبار الدالة علی الناقضیة منحصرة


1- وسائل الشیعة: الباب 9 من أبواب الاحرام، الحدیث 4.

ص:39

قوله: وما یستحبّ للزمان یکون بعد دخوله (1)

فی خصوص النوم، ولیس فی واحدٍ منها اشارة ولو بالاطلاق علی کون الحدث ناقضا حتّی یستشهد به للمورد، فإذا لم یکن الدلیل بالخصوص موجودا؛ فبضمیمة اختصاص تلک الأخبار فی الانتقاض بخصوص النوم، یفهم أنّ تلک الأحداث غیر ناقضة. ولکن مع ذلک لا یبعد القول بجواز اعادة الغُسل برجاء المطلوبیة بعد حدوث الأحداث، واللّه العالم.

(1) أی الأغسال التی استحبّت للزمان، فوقتها علی الظاهر نفس ذلک الزمان الذی أمر بغسله، فلا یکون الغُسل مستحبّا إلاّ بعد دخوله ویمتدّ الوقت بامتداد ذلک الزمان، لظهور الاضافة فی ذلک إنْ لم یکن أمرا بوقوعه فیه. وملاحظة الأدلة تُغنی عن تکلیف الاستدلال.

نعم، ظاهر التوقیت جواز اتیانه فی أی جزءٍ من ذلک الزمان، من دون تقییدٍ بجزءٍ خاصّ منه، سیّما إذا أمر به فی الوقت، بخلاف مالو قیّد بجزءٍ خاصّ من ذلک الزمان، کما أنّ الأمر کذلک فی بعض الأغسال، وقد مضی بحثه.

أقول: وکلّ غُسلٍ کان للزمان، لا یجوز تقدیمه علیه، کما لا یجوز الاتیان بقضاءه، إلاّ غُسل الجمعة للأصل وفقد النص، وبطلان القیاس بغُسل الجمعة عند اعواز الماء فی التقدیم أو القضاء عند ترکه فی وقته، کما أنّ ظاهر الأصحاب هو الاقتصار علی الجمعة فیهما.

نعم، قد نقل عن المفید رحمه الله جواز قضاء غُسل یوم عرفة، تمسکا لقول أبی جعفر علیه السلام فی خبر زرارة: «إذا اغتسلت بعد طلوع الفجر أجزأک غُسلک ذلک للجنابة والجمعة وعرفة والنحر، الحدیث»(1).

ولکن حکمه ممنوع لاستحالة الجمع بین غُسل یوم عرفة اداءا مع غُسل یوم


1- وسائل الشیعة: الباب 43 من أبواب الجنابة، الحدیث 1.

ص:40

النحر کذلک، فلابدّ من حمله علی القضاء فی اتیان الغُسل یوم النحر.

لکنه ضعیفٌ، لوضوح أنّه لیس إلاّ فی مقام بیان الاتیان بالغُسل فی کلّ هذه الافراد مستقلاً، واجزائه بعد طلوع الفجر للجمع بینها. نعم، یفید إجزاء غُسلٍ واحدٍ عن أسباب متعددة فیما أمکن اجتماعها وجَمَع، مع أنّه لو کان المقصود هو الجمع معا فی تمام الأفراد، فربّما یمکنُ العکس بأن یأتی فی یوم عرفة للنحر من باب التقدیم، کما یجوز ذلک فی غُسل الجمعة. هذا کما فی «الجواهر».

ولکن یمکن أن یندفع: بأنّ الحکم فی القضاء یکون أولی من الحکم فی التقدیم، لأنّه وقع بعد ما صار المطلوب فعلیا ثم قضی، بخلاف التقدیم، ولعلّه لذلک أمر بالتأمل.

رأی الشهید رحمه الله : ویظهر من الشهید فی «الذکری» جواز التقدیم والقضاء فی سائر الأغسال الزمانیة کغُسل الجمعة، ومثل قضاء غُسل لیالی القدر، تمسکا بخبر ابن بکیر عن الصادق علیه السلام : «فی أی اللیالی أغتسل فی شهر رمضان؟ قال: فی لیلة تسع عشرة، ولیلة احدی وعشرین، ولیلة ثلاث وعشرین، والغُسل فی أوّل اللیل.

قلت: فإنْ نام بعد الغُسل؟ قال: هو مثل غُسل الجمعة إذا اغتسلت بعد طلوع الفجر أجزأک»(1).

ولعلّه اراد استفادة ذلک من التشبیه بکونه مثل غُسل الجمعة علی جواز التقدیم والقضاء، مع أنّه یمکن أن یکون المقصود هو عدم ناقضیة النوم للغُسل کما أنّ الأمر کذلک فی غُسل الجمعة فیما إذا أتی به عبد طلوع الفجر حیث یکفیه ولو نام بعده.

ولکن فی «مصباح الفقیه» قال بعد نقل الروایة: «إنّه أراد أنّه مثل غُسل الجمعة لو لم یأت به فی أوّل الوقت یأتیه فی آخره».


1- وسائل الشیعة: الباب 1 من أبواب الاغسال المسنونة، الحدیث 14.

ص:41

مع أنّه لا یناسب مع المشبّه به، إذا الغُسل فی یوم الجمعة بعد طلوع الفجر کان فی اوّل الوقت أو قبله، لو کان اوّل الیوم هو طلوع الشمس.

وکیف کان، الاستدلال بهذا الخبر لاجراء هذا الحکم فیها لا یخلو عن تأمل.

بل وکذا جواز التقدیم فی غیر الجمعة فی مثل غُسل لیالی القدر أو غُسل لیلة العید لما روی فی الصحیح عن زرارة والفضیل، عن أبی جعفر علیه السلام ، قال: «الغُسل فی شهر رمضان عند وجوب الشمس قُبیله، ثمّ یصلّی ویفطر»(1).

بأن یکون المراد غُسل لیلة العید، جواز اتیانه قبل الغروب، نظیر ما روی السیّد ابن طاووس فی «الاقبال» مرسلاً: «أنّه یغتسل قبل الغروب اذا علم أنّها لیلة العید»(2).

وعلّق علیه صاحب «الجواهر» بعد نقله: «إنّه قد یُشکل بمنافاة التوقیت الثابت هنا إجماعا کما قیل، لاستحباب التقدیم اختیارا. نعم لا ینافیه التقدیم مع العذر محافظةً علی مصلحة أصل الفعل، بل لعلّه یکون حینئذٍ وقتا اضطراریا اذ أقصی مفاد التوقیت منع التقدیم علیه».

ثُم تصدّی للجواب: بوجوه، بقوله: «وقد یدفع: إمّا بالتوسّع فی زمان الغُسل، فیُجعل اللیل مع شیءٍ ممّا تقدمه، فالتوقیت باللیل فی الأخبار وکلام الأصحاب تغلیبا للاکثر، أو لکون الجزء المتقدم بمنزلة اللیل لاتصاله به، أو لأنّ اللیل هنا من سقوط القرص المتقدم علی الغروب الشرعی».

ثمّ أجاب عنه بقوله: وفیه: إنّ ذلک کلّه إن أمکن فی الأخبار، فغیر ممکنٍ فی کلام الاصحاب لعدم الشاهد له، بل هو علی خلافه موجود، والقول إنّ المستحبّ یُتسامح فیه، یدفعه أنّ ذلک ما لم یظهر إعراض الأصحاب) عنه انتهی محل محاجة(3).

قلنا: إنّ الجواب الأوّل أمرٌ یساعده الاعتبار، ولا ینافیه کلام الأصحاب، کما


1- وسائل الشیعة: الباب 13 من أبواب الاغسال المسنونة، الحدیث 6.
2- وسائل الشیعة: الباب 15 من أبواب الاغسال المسنونة، الحدیث 2.
3- الجواهر، ج 5، ص 68.

ص:42

قوله: الثانیة: إذا اجتمعت أغسالٌ مندوبة، لا تکفی نیّة القُربة ما لم ینو السبب. وقیل: إذا انضمّ الیها غُسلٌ واجبٌ کفاه نیّته، والأوّل أولی. (1)

قوله: الثالثة والرابعة: قال بعضُ فقهائنا بوجوب غُسل من سعی الی مصلوبٍ لیراه عامدا بعد ثلاثة أیّام. (2)

اشار الیه فی کلامه، وقال: «إنّه فی لسان الأخبار وکلام الأصحاب هو التوسعة فی اللیل فی المورد، ولو بواسطة تلک الأخبار، أو حمله علی مراتب الفضیلة، بکون الأکل هو الاتیان فی أصل الوقت، وإنْ کان إتیانه قبله أیضا له مرتبة أدنی من ایءتانه فی الوقت» وإنْ کان هذا أیضا مخالفٌ لظاهر الاخبار المتقدمّة، لأنّ ظاهرها کون فضیلة الاتیان قبل الوقت کفضیلة الوقت کما لا یخفی؛ ولعلّه لأجل ذلک تری ظاهر الصدوق والکلینی وبعض المتأخرین العمل بذلک، وعن شارح «الدروس» حمله علی الأفضل.

(1) لا یخفی أّن هذه المسائل قد تم بحثها فی باب الأغسال الواجبة، وقلنا إنّ المعتبر فی اجتماع الأسباب فی الأغسال المسنونة، هو نیة السبب فی کلّ واحدٍ، فمع النیة کذلک یکفیه غُسلٌ واحد عن الجمیع، وأمّا بدون نیة السبب والاتیان بنیة القربة فقط بقصد امتثال الأمر، فلا یکفی. نعم، یکفیه ولو بصورة الاجمال کما فی الذمّة. کما یکفیه بصورة التفصیل. نعم، قد یکفی الغُسل الواجب عن جمیع الأغسال المسنونة کغُسل الجنابة، ولکن مع ذلک لو قصد کلّ واحدٍ منها مستقلاً کان أولی، من حیث اقتضائه مزید الأجر، وکان أحوط.

وامّا فی غیر غُسل الجنابة من الأغسال الواجبة وکفایته عن الاغسال المندوبة بمجرد قصد الأمر الواجب فیه، خلافٌ کما مرّ تفصیله فی محلّه.

(2) قلنا ظاهر الصدوق وصریح أبی ¨الصّلاح هو وجوب الغُسل علی من سعی إلی رؤیة المصلوب عامدا بعد ثلاثة ایّام، حیث أنّ الأوّل منهما لم یزد علی ذکر

ص:43

المرسلة التی هی مستند أصل الحکم، وهو الجزء الذی رواه الصدوق فی «الفقیة»، قال: «وروی أنّ من قصد الی مصلوبٍ فنظر الیه وجب علیه الغسل عقوبة»(1).

لکنه بضمیمة ما تعهده فی أوّل کتابه یظهر منه العمل به، ولکن الثانی قد صرّح بذلک وقیّد المصلوب بکونه من المسلمین، وذکرا القصد بدل السعی، وترک التصریح بالعمد، حیث قال _ علی ما حُکی عنه _: «إنّ الأغسال المفروضة ثمانیة... الی أن قال: وغسل القاصد لرؤیة المصلوب من المسلین بعد ثلاثة».

أقول: لم نجد قائلاً علی ذلک غیرهما، وإنْ تردّد بعضهم ظاهرا فی أصل الحکم، فضلاً عن وجوبه، لما قد عرفت منا سابقا من احتمال کون الوجوب هنا مستعملاً للندب المؤکد، لا المصطلح فی زماننا، کما ذکرنا فی روایة سماعة، حیث قد استعمل هذا اللفظ فیما هو مستحبٌ قطعا، لا سیّما مع ملاحظة حصر الواجبات من الأغسال فی الأخبار وکلمات الأصحاب، الموجب لاثبات إعراض الأصحاب عن وجوب غُسلٍ مثل ذلک، خصوصا مع ملاحظة نقل الاجماع عن «الغنیة» علی استحبابه.

وعن ظاهر «السرائر» أیضا عدم الخلاف فیه عند ذکره اختلاف الأصحاب فی انواع الغُسل الواجب، خصوصا مع ملاحظة التسامح فی المستحبّ، یُحمل علی الندب المؤکّد.

فروع غُسل رؤیته المصلوب

أقول: هاهنا فروعٌ لا بأس بذکرها:

الفرع الأوّل: قد عرفت أنّ المرسلة لم یذکر فیها قید ثلاثة أیّام، مع أنّه مذکورٌ


1- وسائل الشیعة: الباب 19 من أبواب الاغسال المسنونة، الحدیث 3.

ص:44

فی کلام غیر واحدٍ من الأصحاب، بل نسبه فی «المصابیح» الیهم عدا الصدوق والمفید. کما أنّه قیّد به فی معقد اجماع «الغُنیة» وهذا المقدار یکفی فی الحاق هذا القید فی الروایة، مضافا إلی ما قیل بأنّ الصلب شرعا هدفه تفضیح المصلوب، ولا یتم ذلک إلاّ مع حضور الناس، وهما لا یحصلان الاّ بالرؤیة، وعلیه فیکون النظر فی المدّة المضروبة لصلبه وهی ثلاثة أیام بالنص والاجماع جائزا بل مطلوبا شرعا، فلا یترتّب علیه عقوبة، مع أنّه قد صرّح فی النص المرسل بکون الغسل عقوبة علی النظر الی المصلوب، وعلیه فلابدّ من تخصیصه بالنظر الممنوع، وهو ما بعد ثلاثة أیام لا قبلها إذ النظر فی الثلاثة جائز ولا عقوبة فیه.

الفرع الثانی: مما ذکرنا حکم الفرع الثانی، وهو اختصاص ذلک بالمصلوب بالحق دون الظلم، لعدم استحقاقه التفضیح، لحرمة صلبه ووجوب انزاله وتخلیصه عن الخشیة، مع التمکن منه مطلقا، سواءٌ کان فی الثلاثة أو بعدها. وعلیه فیصیر النظر الیه غیر جائزٍ حتی فی الثلاثة، فیصحّ الحکم بالغُسل مطلقا، مع أنّه مضافٌ لاطلاق کلام الأصحاب من عموم الحکم للمصلوب، بل قد صرّح بهذا التعمیم عدد کثیر من الأصحاب کما فی «جامع المقاصد» و«الروضة» و«فوائد الشرایع» و«منهج السداد» و«الروض» و«المسالک» و«الفوائد العلیّة» وتعلیق الارشاد، ولازم اطلاق الاصحاب لزوم الغسل لکلیهما بعد ثلاثة أیام، وجعل القید تقیدا لاطلاق الغُسل، وارادة أن الغُسل مقیدٌ لما بعد الثلاثة، لا لبیان کون الغسل مطلقا (أی فی النوعین من المصلوب) لازمٌ، وهو کما تری اذ لازم الاطلاق فی المصلوب هو الاطلاق فی حکمه لما بعد الثلاثة، مع أنّ الغُسل فی المصلوب بظلمٍ کان فی الثلاثة أیضا، ولعلّه لذلک قد حکی عن الصمیری تخصیص المصلوب فی کلامهم بالمصلوب بحقّ، بمعنی عدم ثبوت الغسل

ص:45

بالسعی الی رؤیة المصلوب بظلمٍ، مع أنّه منافٍ للنصّ بحسب اطلاقه، کما أنّه منافٍ للتعلیل الوارد فیه بکونه عقوبة مع قید الثلاثة للحق دون الظلم، کما انّه منافٍ لدعوی مساواته مع المصلوب بحقّ فی عدم ثبوت الغُسل إلاّ بعد ثلاثة، لاطلاق النص فی ثبوت الغُسل عقوبةً حتّی یشمل فی الثلاثة للمظلوم لو لم یقید بالثلاثة، ومع التقیید یلزم کون العقوبة بعد الثلاثة فی کلا الفردین وفی کلا الموردین اشکالٌ، اذ مع تخصیص المصلوب بالحقّ یقتضی سقوط الغُسل فی المظلوم، مع ما عرفت الاشکال فیه، ومع تعمیمه یقتضی تقییده بالثلاثة کالمستحقّ. وبما ذکرنا من الاشکال ثبت أنّه لا یناسب کون العقوبة بعد الثلاثة فیالمظلوم.

أقول: لکن المتجه _ کما اختاره صاحب «الجواهر» _ اختصاصه بالمستحقّ، وتنزیل کلماتهم علیه. کما قد یدّعی تبادره من الخطابات الشرعیة، مع ما عرفت مناسبته بما قد أجاز الشرع بالثلاثة فی المصلوب، وهو لیس الاّ فی المستحقّ لا فی المظلوم، فیلحق به المظلوم، سواءٌ کان فی الثلاثة أو بعدها للتعلیل بانّه عقوبة، فیشمل لمظلوم حتّی فی الثلاثة، فضلاً عن بعدها، بضمیمة قاعدة التسامح فی أدلة السنن، فیثبت بذلک حکم الغُسل للمصلوب فی کلیهما فی الحقّ بعد الثلاثة، وفی المظلوم مطلقا وإنْ لم یکن الأخیر داخلاً فی عبارات الأصحاب، ولعلّ هذا هو الظاهر من ذیل عبارة «کشف اللثام» واللّه العالم.

وأخیرا: الظاهر عدم الفرق فی الحکم المذکور آنفا بین کون الصلب بالشبهة الشرعیة أو غیرها، وإن کان الظاهر من الأدلة هو الاوّل، إلا أنّه یلحق به غیرها أیضا کالحاق الصلب بالظلم أیضا، لوحدة الملاک، وهو صدق الصلب علیه عرفا، وما یترتب علیه من الاعبتار، کما لا یخفی.

الفرع الثالث: یدور البحث فیه عن أن الحکم المذکور آنفا هل یشمل المقتول

ص:46

بغیر الصلب من السیف وغیره ولو کان بحقّ أم لا؟

فالظاهر هو الثانی تعبدا باللفظ الوارد فی النص، کما لا یجری هذا الحکم للمصلوب بعد انزاله من الخشبة، وزوال هیئة الصلب، لتبادر المصلوبیة حین الرؤیة، فلا یشمل لما بعدها.

کما أنّ الظاهر أنّ مبدأ الثلاثة من حین الصلب لا الموت، لأنّ الحکم معلّق علی الصلب بعد الثلاثة، سواءٌ مات شرعا أم لم یمت، خلافا لبعضهم حیث قیدوا الثلاثة بما بعد الموت بالصّلب، وممّا یبعّد ذلک أنّ فی بعض أقسام الصلب لا یموت المصلوب إلاّ بعد مضی زمانٍ کثیر لأجل الجوع وغیره، مثل الصلب بغیر شدّ الحبل حول الحلقوم، کما کان ذلک معمولاً به فی بعض الازمان.

الفرع الرابع: الظاهر أنّ ما یُلزم الغُسل وجوبا أو ندبا، هو تحقّق شرطه تحقّق وهو النظر الی المصلوب کما وقع فی الخبر،: «ونظر الیه» کما عن جماعةٍ التصریح به، بل هو مراد الباقین الساکتین عن هذا القید، ولعل ترکهم کان لأجل غلبة تحقّقة فی السعی الیه، کما أنّ من الشروط أن یکون السعی للنظر وإنْ ترک ذلک، کما هو المستفاد من الخبر أو من کلام الأکثر، ولکن ظاهر لفظ (القصد الیه) هو ذلک، کما هو کذلک فی مقصد اجماع «الغُنیة».

والنتیجة: هی أنّه لو خلا النظر عن السعی، أو السعی عن النظر لم یثبت الغُسل، کما أنّه لو تحقّق النظر بلا قصدٍ، لم یوجب ذلک الغُسل، کل ذلک اعتمادا علی ظاهر النص والفتوی، خصوصا ما فی عبارة المصنّف.

الفرع الخامس: أنّه قد عرفت لزوم الغُسل لو کان السعی بعد الثلاثة، والنظر لما بعدها أیضا، والسؤال حینئذٍ هو أنّه هل یلزم الغُسل علیه لو کان السعی فی الثلاثة والنظر بعدها؟ فیه قولان: قول لصاحب «الجواهر» من عدم الثبوت، للأصل وتبادر تعلق ظرف (بعد الثلاثة) بالسعی لا بالرؤیة، وإنْ قربت الیه، فحیث لم یکن

ص:47

سعیه بعد الثلاثة، فلا یتعلّق علیه الغسل، مع أنّ الغالب اتحادهما فی الزمان، بل لعلّه کاد یکون صریح بعضهم، حیث ذکره بعد فعل السعی.

وقولٌ آخر للعلامة الطباطبائی فی مصابیحه: من اثبات الغُسل علیه حاکیا عن ظاهر المعظم، من حیث ظهور کون الظرف متعلقا بالرؤیة، سواءٌ کان سعیه بعدها أیضا أو فی الثلاثة.

أقول: هذا القول عندنا أظهر، لأنّ تعلّق الطرف بالأقرب یمنع تعلقه بالأبعد، لأنّ الظاهر کون الملاک فی اثبات الغُسل هو الرؤیة لا السعی، غایة الأمر کونها بعد السعی شرط فیه.

ومن ذلک یظهر وجوب الغُسل أو ندبه فی السعی بصورة الأعم، أی لینظر فیها أو بعد الثلاثة، فإنّه یجب أو یندب علیه الغُسل علی مسلکنا أیضا، ولا یثبت علی مسلک صاحب «الجواهر» بطریق أولی کما لا یخفی.

الفرع السادس: إنّه لا فرق فی رؤیة المصلوب بین کونه حیا أو میّتا، لاطلاق النص والفتوی، کما أنّ ظاهر جملة: (عقوبة له) یقتضی أن لا یکون النظر لغرضٍ شرعی لابد له من النظر الیه، کما لو کان للشهادة علیه بعینه ونحوها، حیث لا یثبت الغُسل علیه حینئذٍ.

الفرع السابع: البحث فیه عن أنّه هل الغُسل:

1_ نظر الی المصلوب المسلم، کما وقع التصریح به فی کلام أبی الصلاح، فلا یثبت لو وقع علی الکافر منه، لعدم الحرمة للکافر، اذ لا احترام له حتّی یکون النظر الیه مصلوبا حراما أو مکروها، وهو مختار صاحب «الجواهر»، وقال: «کما هو معقد اجماع «الغنیة»، فلا عقوبة بالسعی الی النظر الیه».

2_ أم أنّ مطلق النظر الی المصلوب مثبتٌ للغسل، کما هو ظاهر الصدوق تبعا للاطلاق فی المرسلة، بل واطلاق کلام الماتن أیضا، حیث لم یقید بهذا القید.

ص:48

قوله: وکذلک فی غَسل المولود (1)

قوله: والأظهر الاستحباب (2)

أقول: الأخیر هو الأقوی، کما علیه المحقّق الهمدانی، لو لا مخالفة الاجماع، لأنّه لم یظهر کون الغسل لأجل الذنب الذی صدر عنه، حتّی یقع الغسل عقوبةً وکفارةً له، حتی یستظهر کونه لأجل حرمة النظر الذی کان للمسلم لأجل احترامه دون الکافر الذی لا حرمة فی هتکه، بل یحتمل أن لا یکون ذلک إلاّ الکراهة، اذ لا امتناع فی أن یکون السعی لرؤیة المصلوب من حیث هو مکروها، یقتضی التکفیر عنه بالغُسل.

والنتیجة: الأشبه عدم الفرق بین کون المصلوب کافرا أو مسلما، ولا أقلّ من الاتیان بالغُسل فی الکافر بنحو الرجاء، لأنّه احوط کما لا یخفی.

(1) أفتی بوجوبه بعض فقهائنا کابن حمزة، استنادا لقول الصادق علیه السلام فی الخبر المروی عن سماعة فی تعداد الأغسال: «وغسل المولود واجب»(1)، بل قد یظهر ذلک من الصدوق أیضا.

ولکن المشهور نقلاً وتحصیلاً ذهبوا الی الندب، بل نسبه فی «المصابیح» الی الأصحاب تارةً والی سائر المتأخّرین أخری. کما أنّه حُکی عن ظاهر «السرائر» نفی الخلاف فیه، بل فی «الغنیة» الاجماع علی ذلک، ولعلّه کذلک اذ لم یبحث الخلاف فیه إلاّ ممّن عرفت، مع أنّه رمی فی «المعتبر» هذا القول بالشذوذ، وفی «المنتهی» بالمتروکیة، ولذلک قال المصنّف بالندب فانظر.

(2) وجهه ما عرفت منا سابقا من استعمال لفظ (الوجوب) فی الأزمنة السابقة


1- وسائل الشیعة: الباب 1 من أبواب الاغسال المسنونة، الحدیث 3.

ص:49

فی المستحب المؤکّد، مع معارضة الموثقة بما دلّ علی حصر الواجبات فی غیر هذا من الأخبار، خصوصا علی کون هذا الغسل فی الموثقة فی عداد أغسالٍ کانت مستحبة بلا خلاف، فیصیر هذا قرینة صارفة عن الوجوب الاصطلاحی، فیحمل الخبر تأکّد الاستحباب أو مطلق الثبوت، ولا دلیل علیه سوی موثقة سماعة.

نعم، قد یتوهّم التمسک بخبر الذی رواه أبو بصیر عن الصادق علیه السلام ، عن آبائه، عن علی علیهم السلام ، قال: «اغسلوا صبیانکم من الغَمَرْ، فإنّ الشیطان یشمّ الغَمَر فیفزع الصبّی فی رقاده، ویتأذّی به الکاتبان»(1).

والغَمَر علی ما قیل بالتحریک، ریحُ اللّحم وما تعلّق بالیدین من دَسَمه؛ فالحدیثُ علی هذا لا یشمل الصبی المولود، بل ورد فی الصبّی الذی یلصق یدیه باللّحم والدّسم، ولو اشتمل للصبی المولود کان المراد من الغَسل (بالفتح) تنظیف بدن الصّبی عن الدّسم ودم الرحم وغیره، فلا یرتبط بالغُسل (بالضم) الذی هو مرادنا.

لا یقال: لعلّ المراد من الغُسل فی خبر سماعة أیضا هو الغَسل (بالفتح) لا الغُسل بالضُم.

لانّا نقول: علی ما فی «الجواهر» _ إنّ ظاهر الموثقة کعبارات الأصحاب وأصالة العبادة فی الأوامر، أنّه غُسلٌ بالضم لا غَسل بفتحها، فیعتبر فیه حینئذٍ من النیّة وغیرها کسائر الأغسال، ولا یقدح ذلک ما وفع فی بعض الأخبار، ویشعر کونه لازالة القذارة عنه ونحوه، لما تری مثل ذلک فی ما یعلم أنّه عبادة کغُسل الجمعة ونحوها، اذ ورد فیها أنّه استحبّ للنظافة وغیرها، لأنّ المراد من ذلک بیان الحِکَم المترتبة علی فعله. وعلیه فما عن بعضهم من احتمال کونه للتنظیف فقط ولیس من العبادة فی شیءٍ، لیس علی ما ینبغی.


1- وسائل الشیعة: الباب 27 من أبواب الاغسال المسنونة، الحدیث 1.

ص:50

کما لا ینبغی القول بعدم لزوم رعایة الترتیب فی غَسل الأعضاء حتّی ولو کان عبادةً للاصل من غیر معارضٍ له، ولعدم تناول ما دلّ علی لزوم الترتیب لمثله.

لوضوح أنّه إذا أصبح غُسلاً کسائر الأغسال لابدّ فیه ما لابدّ فی غیره من الترتیب وغیره لتعارف الترتیب فی الغُسل ومعهودیتّه فیه، وأنّه کیفیّة ثابتة له، ومتی اطلق انصرف الیه، ومن هنا لا حاجة الی اقامة الدلیل علیه فی کلّ غُسل.

مع أنّ الیقین بالامتثال لا یحصل الاّ مع رعایته وغیره ممّا یعتبر فی الغُسل دون مالو لم یراع. هذا ولکن العمدة ما عرفت من سابقه فی وجه الوجوب، والاّ لو لا ذلک لأمکن الجواب عن الأخیر بانّه لا وجه له بعد جریان أصل البراءة، لأنّه حجّة علی تحقّق الامتثال من دون ترتیب.

وکیف کان، فقد یظهر الوجه بما ذکرناه من لزوم رعایة شرائط الغُسل وعدمه فی الوجهین من جریان الارتماس فیه إنْ کان غُسلاً، وعدمه مع عدمه، کما لا یخفی علی الفطن العارف بالفقه.

وقت غُسل المولود: وقع البحث فی وقت هذا الغُسل، هل من حین الولادة کما هو ظاهر المحکی من عبارات الأصحاب، أو ما دام یصدق علیه ویتحقّق معه غُسل المولود کالیوم والیومین ونحوهما ممّا یُسمّی به مولودا عرفا، ولو الی یوم السابع، کما لعلّه یشعر به اطلاق النصّ ولم یستبعده فی «المعتبر»؟

ففی «الجواهر»: «أحوطهما الثانی، إنْ لم یکن أقواها، لانّه المعهود المتعارف، فینصرف الاطلاق الیه، فتأمل».

ولعلّ الأمر بالتأمل کان فی محله، لاستبعاد الانکار فی التعارف لمثل الیوم، لو لم نقل کذلک الی السابع، کما لا یخفی.

هذا آخر ما اردنا کتابته فی بحث الطهارة المائیّة من الوضوء والغُسل، وقد وقع

ص:51

الفراغ منها یوم الخمیس العشرین من شهر شعبان المعظّم سنة سبعة وعشرین وأربعمائة بعد الألف من الهجرة النبویّة، الموافق للیوم الثالث والعشرین فی الشهر السادس من سنة 1385 شمسیّة هجریّة. وأنا أقلّ العباد المحتاج الی رحمة ربّه الحاج السیّد محمد علی العلوی الحسینی، ابن المرحوم آیة اللّه الحاج السیّد سجّاد العلوی الأسترآبادی الگُرگانی طاب ثراه، وجعل الجنة مثواه. وآخر دعوانا أن الحمدللّه ربّ العالمین والصلاة والسلام علی محمدٍ وعلی آله الطیّبین الطاهرین.

* * *

ص:52

ص:53

فی بحث التیمّم

الرکن الثالث

فی الطهارة الترابیّة (1)

الطهارة الترابیة

(1) نشرع فی البحث عن هذا الرکن الذی رتّبه المصنّف رکنا ثالثا، وقد سبقه الرکن الأوّل فی الوضوء، والثانی فی الغُسل من الطهارة المائیّة. وموضع الرکن والثالث هو الطهارة المُسمّاة بالطهارة الاضطراریّة، وهی طهارة مستفادة من آیة التیمم، الواردة فی موردین من القرآن:

الأولی: هی فی سورة النساء، وهی قوله تعالی: «یَا أَیُّهَا الَّذِینَ آمَنُواْ لاَ تَقْرَبُواْ الصَّلاَةَ وَأَنتُمْ سُکَارَی حَتَّیَ تَعْلَمُواْ مَا تَقُولُونَ وَلاَ جُنُبا إِلاَّ عَابِرِی سَبِیلٍ حَتَّیَ تَغْتَسِلُواْ وَإِن کُنتُم مَّرْضَی أَوْ عَلَی سَفَرٍ أَوْ جَاء أَحَدٌ مِّنکُم مِّن الْغَآئِطِ أَوْ لاَمَسْتُمُ النِّسَاء فَلَمْ تَجِدُواْ مَاء فَتَیَمَّمُواْ صَعِیدا طَیِّبا فَامْسَحُواْ بِوُجُوهِکُمْ وَأَیْدِیکُمْ إِنَّ اللّهَ کَانَ عَفُوّا غَفُورا»(1).

الثانیة: وهی فی سورة المائدة، قال تعالی: «یَا أَیُّهَا الَّذِینَ آمَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَی الصَّلاةِ فاغْسِلُواْ وُجُوهَکُمْ وَأَیْدِیَکُمْ إِلَی الْمَرَافِقِ وَامْسَحُواْ بِرُؤُوسِکُمْ وَأَرْجُلَکُمْ إِلَی الْکَعْبَینِ وَإِن کُنتُمْ جُنُبا فَاطَّهَّرُواْ وَإِن کُنتُم مَّرْضَی أَوْ عَلَی سَفَرٍ أَوْ جَاء أَحَدٌ مَّنکُم مِّنَ الْغَائِطِ أَوْ لاَمَسْتُمُ النِّسَاء فَلَمْ تَجِدُواْ مَاء فَتَیَمَّمُواْ صَعِیدا


1- سورة النساء، آیة 43.

ص:54

طَیِّبا فَامْسَحُواْ بِوُجُوهِکُمْ وَأَیْدِیکُم مِّنْهُ مَا یُرِیدُ اللّهُ لِیَجْعَلَ عَلَیْکُم مِّنْ حَرَجٍ وَلَکِن یُرِیدُ لِیُطَهَّرَکُمْ وَلِیُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَیْکُمْ لَعَلَّکُمْ تَشْکُرُونَ»(1).

أقول: قد أورد علی الآیة بأنّه کیف جُعلت الأمور الأربعة شرطا ورتّب علیها جزاءٌ واحد وهو الأمر بالتیمّم، خصوصا مع جعل أداة (أوْ) فی کلّ واحدٍ من الأربعة، مع أنّ عدم وجدان الماء الموجب لایجاب التیمّم لا یختصّ بخصوص المرضی و المسافرین، لانّه یجب لغیرهما أیضا اذا لم یجدوا ماءً کما لا یخفی؟

وقد أجیب عنه بأجوبه:

الجواب الأوّل: ما عن «الکشّاف» علی ما فی «الجواهر» من أنّه سبحانه أراد أن یُرخّص للذین وجب علیهم التطهّر، وهم عادمون الماء فی التیمم بالتراب، فخصّ أوّلاً من بینهم مرضاهم وسفرهم، لأنّهم المتقدمون فی استحقاق بیان الرخصة لهم لکثرة السفر والمرضی، وغلبتهما علی سائر الأسباب الموجبة للرخصة، ثمّ عَمّم کلّ من وَجَب علیه التطهّر واعوزه الماء لخوف عدوّ، أو َسُبعٍ، أو عدم آلة الاستقاء أو ازهاق فی مکانٍ لا ماء فیه، أو غیر ذلک ممّا لا یکثر کثرةً المرض أو السفر(2).

وفیه: لا یخفی أنّ هذا التوجیه لم یتضمّن الجواب عن مادّة الاشکال، لوضوح أنّ الملاک فی وجوب التیمّم لیس إلاّ فقدان الماء، أو وجوده مع العذر عن استفادته، فلا وجه لذکر أداة (أو) فیمابین (سفر) وبین (جاء أحدٌ منکم) إلاّ أن یجعل (أوْ) بمعنی الواو، فیلزم المجاز.

الجواب الثانی: عن البیضاوی، علی المحکیّ فی «الجواهر» من أنّ وجه هذا التقسیم هو أنّ المترخّص بالتیمّم إمّا مُحْدِثٌ أو جُنُب، والحال المقتضیة له غالبا


1- سورة المائدة، آیة 6.
2- الجواهر، ج 10، ص 74.

ص:55

إمّا مرضٌ أو سفر، والجُنُب لمّا سبق ذکره اقتصر علی بیان حاله، والحدث لمّا لم یجیء له ذکر، ذکر من أسبابه ما یَحدثُ بالذات وما یحدث بالعرض، واستغنی عن تفصیل أحواله بتفصیل حال الجُنُب وبیان العذر مجملاً، فکأنّه قال: وإنْ کنتم جُنبا أو مرضی أو علی سفرٍ، أو محدثین جئتُم من الغائط أو لامستم النساء فلم تجدوا ماءا(1).

وفیه: هذا الجواب أیضا غیر وافٍ، لأنّ أصل الاشکال فی عدم وجه التردید بأداة (أوْ) فیمابین (السفر) وبین (جاء أحدٌ منکم) باقٍ بحاله، ولم یذکر له وجهٌ. فضلاً عن أنّه لا یناسب ولا یوافق ما هو ثابتٌ عندنا من أّن المراد بالملامسة الجماع، کما لا یخفی.

الجواب الثالث: الصادر عن صاحب «الجواهر» ظاهرا عقیب الاشکالین، فإنّه بعد ذکر الاشکال قسّم الأربعة علی أنّ سببیة الأولین لترخّص لتیمّم، والأخیرین لوجوب الطهارة، عاطفا لها ب(أو) المقتضیة لاستقلال کلّ واحدٍ منهما بترتّب الجزاء.

وفیه: إن لم یجتمع أحد الأخیرین مع واحدٍ من الأولین مثلاً لا یحصل وجوب التیمّم الذی هو الجزاء من غیر حاجة الی جعل أوْ فیها بمعنی واو.

هذا ویمکن أن یکون مراده بیان أصل الأشکال لا الجواب عنه، إذ بل جوابه ما قاله لاحقا بقوله: «إلاّ أن یُحمل علی ارادة جعل قید عدم الوجدان للأخیرین خاصّة دون الأولین، للاستغناء عنه بالتعلیق علی المرض والسفر الغالب معهما عدم التمکن من الماء، استعمالاً أو وجودا، کما أنّه یستغنی عن تقییدهما بالحدث لمکان العطف فیهما علی ما سبقهما، فیکون المقصود حینئذٍ من الآیة بیان المحدثین من الأصغر أو الأکبر اذا کانوا مرضی أو مسافرین، وخصّهما (لغلبتهما


1- الجواهر، ج 10، ص 74.

ص:56

أو غیره _ بیانهما کذلک إذا لم یجدوا ماءا أو إنْ لم یکن مرضی أو علی سفرٍ، فلا اشکال حینئذٍ من تلک الجهة، بل ولا من تکریر ذکر الجنابة، فلاحظ وتأمّل)»

انتهی کلامه(1).

قلنا: الظاهر رجوع قید (إن لم تجدوا ماءً) لجمیع ما سبق حتی الأوّلین لا الی خصوص الاخیرین، کما صرّح به صاحب «الجواهر» لکونه خلاف ظاهر القید الراجع الی الجمیع، وحکم التیمّم أمر مستقل یباین الوضوء والغسل، فلا وجه لجعل الحدیث السابق قیدا للمریض والمسافر، حیث قال إنّهما یستغنیان عنه، بل الظاهر کون القید _ وهو عدم الوجدان _ قیدا للجمیع.

وعلیه فیمکن دفع الاشکال بتقریبٍ آخر وهو: أن یکون المراد بیان ما یجب فیه التیمّم: تارةً بالمرض مع الحدث، صغیرا کان أو کبیرا، وأخری بالسفر، غایة الأمر فی الاوّل تارةً یکون بعدم الوجدان لأجل العذر عن الاستعمال، فلا یجد الماء أی لا یستطیع أن یستعمل الماء فی بدنه لکونه ممنوعا عن الاستعمال عقلاً أو شرعا، أو لا یجد الماء لأجل فقدانه. وفی الثانی لا یکون وجوبه لفقدان الماء فقط، أو أنّ وجوب التیمّم هو عدم وجود الماء مع وجود الحدث من الأصغر أو الأکبر، ولم یکن مریضا ولا مسافرا فضلاً عن کونه مریضا أو مسافرا، وعلیه فهذه الآیة مشتملة علی ثلاث حالات یجب فیها التیمّم، وهی:

تارةً: حالة المرض مع عدم وجدان الماء بکلا معنییه.

وأخری: من السفر کذلک.

وثالث: یجد الماء ولو لم یکن مریضا أو مسافرا.

وهکذا تدخل جمیع الأقسام فی حکم وجوب التیمم، وتفید أداة (أو) حینئذٍ


1- الجواهر، ج 10، ص 75.

ص:57

هذه الموارد، فلا یلزم المجاز، فتأمّل.

بیان حول الآیة: أنّ ذکر نفی الحرج فی ذیل آیة سورة المائدة بقوله تعالی بعد ذکر حکم التیمّم «مَا یُرِیدُ اللّهُ لِیَجْعَلَ عَلَیْکُم مِّنْ حَرَجٍ وَلَکِن یُرِیدُ لِیُطَهَّرَکُمْ وَلِیُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَیْکُمْ» الآیة صادرٌ لأجلّ بیان التفضّل واللطف من اللّه تعالی علی عباده، من حیث أنّه صادرٌ بلسان الاعتذار عن العباد من حیث ایجاب الطهارات الثلاث علیهم، بأنّه سبحانه تعالی أراد تطهیرکم واتمام النعمة علیکم، لأجل اشتمال تلک الطهارات علی قصد القربة والعبادة المقرّبة الیه سبحانه، لا ایجاد الحرج والمشقّة المتربة علی ظاهر هذه الأعمال، وعلی هذا التقدیر یکون هذا الذیل مرتبطا بجمیع الثلاثة لا خصوص الطهارة الترابیّة التی هی بدل اضطراری للطهارتین المائییّن کما یستشعر ذلک، لو لم یکن ظاهرة من کلام صاحب «مصباح الفقیه»، حیث قال: «ویحتمل أن یکون بیانا للحکمة المقتضیة لشرع التیمّم وبدلیّته من الوضوء والغُسل، فیفهم منه علی هذا التقدیر اختصاص الأمر بالوضوء والغُسل بغیر مورد الحرج الذی هو أعمّ من سائر الضرورات المسوغّة للتیمّم، وکون المشروع فی مثل الفرض هو التیمّم تسهیلاً للعباد ورأفة بهم، وتفضّلاً علیهم، کی یسهل علیهم الطهارة فی جمیع الأحوال».

وتظهر الثمرة بین الموردین: ان الشیء الحرجی لم یکن مقصودا ومرادا للشرع حتّی ولو کانت فی الطهارة الترابیّة، هذا بخلاف ما ذکره المحقّق المذکور حیث یدور الحکم مدار خصوص المبدل منهما لا البدل، لأنّه حینئذٍ أصبحت حکمة التشریع هی بیان جعل الطهارة الترابیّة فقط لا مطلق الطهارة.

أقول: وبما ذکرنا ظهر ضعف احتمالٍ آخر ذکره المحقّق المزبور، بقوله: «ویحتمل أن یکون قوله تعالی: «مَا یُرِیدُ اللّهُ لِیَجْعَلَ» الی آخره مسوقا لدفع

ص:58

والنظر فی أطرافٍ أربعة: الأوّل: فیما یصحّ معه التیمّم، وهو ضروبٌ(1)

توهّم کون التکلیف بالطهارة عند کلّ صلاةٍ حرجیّا، مع ما فی التیمم من التذلّل والخضوع الذی ربّما یشق علی المؤمنین فی بدء الاسلام تحّمل مثله تعبّدا» انتهی.

لما ثبت أنّ المکلّف بعد تحصیل الطهارة بما هو وظیفته، فلا وجه لتوهّم وجوب تحصیلها ثانیا لکلّ صلاةٍ حتّی یوجب ویستلزم علیه الحرج، فدفع سبحانه وتعالی التوهّم بهذه الآیة. وأمّا ما ورد فی الدلیل: «الوضوء علی الوضوء نورٌ علی نور) إنّما هو للترغیب والحثّ علیه، وأنّ وجوده لا یوجب المنع عن التجدید فی مثل الوضوء لا لتأیید ذلک التوهّم، کما لا یخفی.

(1) الثبت فی الشرع عدم صحّة التیمم مطلقا وفی جمیع الحالات، بل یجوز ذلک فی موارد معینة وجاهها ما ذکره «صاحب الجواهر» قدس سره بقوله: «مرجعها _ أی الضروب _ الی شیءٍ واحدٍ عند التحقیق، وهو العجز عن استعمال الماء عقلاً أو شرعا»، وعلیه لا ینافی ذلک مع ما ذکره المصنّف هنا من حصر جواز التیمم بحالات ثلاثة وهی: عدم الماء، وعدم الوصلة الیه، والخوف من استععاله) کما لا ینافی ذلک مع تعابیر أخری مذکورة فی کلمات الفقهاء:

منهم صاحب «المنتهی» حیث قال: «إنّ أسبابه ثمانیة: فقده، والخوف من اللّص ونحوه، والاحتیاج له للعطش والمرض والحرج وشبههما، وفقد الآلة التی یتوصل بها الیه والضعف عن الحرکة، وخوف الزحام یوم الجمعة وعرفة وضیق الوقت».

ومنهم صاحب «الوسیلة» حیث ذکر شرط التیمم: «فقد الماء أو ما فی حکمه» ثم أدرج فی الثانی اثنی عشر موردا. فإنّ کل ذلک یدخل فی الجامع الذی ذکر فی الاوّل، اذ ربّما یمکن أن تکون الاسباب الموجبة للعجز أزید ممّا ذکر. نعم، فی ضیق الوقت الموجب له بحثٌ سیأتی فی محلّه، ان شاء اللّه.

ص:59

قوله: الأوّل: عدم الماء (1)

أسباب التیمّم

(1) السبب الأول: هو عدم الماء.

أقول: ویدلّ علی سببیّة ذلک للتیمّم الکتاب والسنة والاجماع بکلا قسمیه، کما فی «الخلاف» و«المنتهی» دعواه علیه بالخصوص، ولا فرق فی سببیّته له بین السفر والحضر، وفی الأوّل بین الطویل والقصیر، کما ادّعی علی ذلک الاجماع فی «المنتهی»، لکن فی بعض نسخ «المدارک»: «أنّه أجمع علمائنا کافة إلاّ من شَذّ علی وجوب التیمّم للصلاة مع فقد الماء، سواءٌ فی ذلک الحاضر والمسافر»، حیث أنّ ظاهر أداة «نا» کون الشاذّ منّا أی من الامامیّة، ولذلک قال صاحب «الجواهر»: «لم أعثر علی الشاذّ الذی استثناه إلاّ ما أرسله بعضهم هنا عن علم الهدی فی «شرح الرسالة» أنّه: «أوجب الاعادة علی الحاضر، وهو مع عدم کونه مخالفا لأصل وجوب التیمّم، غایة الأمر أوجب الاعادة علی الحاضر بعد ذلک» هذا فضلاً عن عدم ثبوت صحة هذا النقل عنه هنا.

بل لعلّ الصواب ما جاء فی کلام صاحب «المدارک» من أنّه: «أجمع العلماء إلاّ من شذّ» ویرد به ما عن بعض العامّة حیث أنکر وجوب التیمّم والصلاة للحاضر، مستدلاً بظاهر الآیة، حیث علّق الحکم فی التیمّم علی السفر، مع أنّ التعلیق جارٍ مجری الغالب، ففی مثله لا یکون حجّة اجماعا کما فی «الجواهر» نقلاً عن «المنتهی»، مع أنّه لا یجری فی المریض الحاضر أیضا؛ مع أنّک قد عرفت أنّ الظاهر من ذکرهم الأسباب الاربعة (من السفر والمرض واتیان الغائط ومسّ النساء) کلّ واحد منها یعدّ سببا مستقلاً لأصل ایجاب التیمّم مع وجود شرطه.

ص:60

قوله: ویجب عنده الطلب (1)

هذا، فضلاً عن أنّ الأخبار أیضا دالّة علی عدم الفرق بین السفر والحضر فی وجوب التیمّم کما لا یخفی، کما لا فرق فی حکم السفر بین کونه طاعة أو معصیة لأطلاق الادلة.

(1) أی تلک الأسباب انّما توجب التیمّم إذا کان بعد طلب الماء ولم یوجد، فمتی تیمّم قبله مع حصول شرائط وجوبه من الرجاء وسعة الوقت وعدم الخوف ونحو ذلک، لم یصحّ ذلک لعدم تحقّق شرط التیّمم، اذ لا یصدق مع عدم الطلب عدم الوجدان، فالوجوب فی الطلب الذی ورد فی کلام المصنّف لیس بوجوب تعبّدی خاصة، لوضوح أنّه إنّما عُدّ واجبا لتحصیل شرطه، والاّ ربما لا یجب التیمّم، فلا یجب الطلب حینئذٍ شرعا قطعا، وإنْ وجب شرطا.

بل فی «الخلاف» و«المنتهی»، وعن «المعتب»ر الاجماع علی ما یقتضی الشرطیّة، مضافا الی دعوی الاجماع علی أصل وجوب الطلب فی «الخلاف» و«الغنیة» و«المنتهی» و«جامع المقاصد»، وعن «التذکرة» و«التنقیح».

هذا کلّه مع ورود الأمر به فی الأخبار أیضا:

منها: صحیح زرارة، عن أحدهما علیهماالسلام ، قال: «اذا لم یجد المسافر الماء فلیطلب مادام فی الوقت، الحدیث»(1).

قال صاحب «الجواهر» بعد نقل الروایة: «بناءً علی احدی النسختین وأحد الوجهین».

ولعلّ مراده الاشارة الی ما فی «الحاشیة علی المدارک» للمحقق البهبهانی من:


1- وسائل الشیعة: الباب 1 من أبواب التیمّم، الحدیث 1.

ص:61

«أنّ هذه الروایة وردت باسناد آخر (فلیمسک) بدل (فلیطلب)» انتهی،(1) فحینئذٍ لا تکون الروایة مرتبطة بطلب الماء، بل واردة فی مقام بیان عدم جواز البدار لأولی الأعذار.

ومنها: خبر السکونی، عن جعفر بن محمد، عن أبیه، عن علی علیهم السلام أنّه قال: «یُطلب الماء فی السفر إنْ کانت حزونة فغلوة، الحدیث»(2).

مضافا الی امکان القول بوجوب تحصیل شرط الواجب المطلق لأجل اطلاق وجوبه، ولا یکفیه عدم احراز قدرته علیه، بل الّذی یسقطه هو العلم بالعجز فهکذا فی المقام، فإنّه لا یسقط وجوب تحصیل الماء وطلبه الاّ بالعلم بالیأس، کما هو الحال فی طلب لتراب فی الطهارة الترابیّة کذلک، بل حتّی یمکن القول بوجوب التحصیل ولو بأزید من التحدید المذکور فی روایة السکونی (من الغلوة فی الحزونة والغلوتین فی السهلة) بحسب ما تقتضیه القواعد والضوابط، خصوصا مع دلالة صحیحة زرارة علی التوسعة لوجوب الطلب ما دام الوقت باقیا، مع أنّ روایة السکونی _ علی فرض قبول التحدید بذلک _ تکون دلالتها علی أصل وجوب الطلب تامة، وعلیه فالبحث عن التحدید بالحدین المذکورین أمر آخر کما لا یخفی.

هذا بحسب مقتضی الدلیل من الکتاب بتعلیق التیمّم علی عدم وجدان لماء الذی لا یتحقّق عادة إلاّ بالعجز، ودلالة الأخبار علی وجوبه، بل قد عرفت أنّ وجوبه موافق للقاعدة والضابطة وعلیه الاجماع.

أقول: بقی هنا ملاحظة حکم الأصل العملی الجاری فی المقام، وأنّه الاشتغال


1- الحاشیة علی مدارک الاحکام، ج 2، ص 90.
2- وسائل الشیعة: الباب 1 من أبواب التیمم، الحدیث 2.

ص:62

أو البراءة بعد ما عرفت حکم العقل بوجوب تحصیل موضوع وجوب التیمم، وهو فقدان الماء؛ فمع احتمال وجوده بالطلب اذا شکّ فی تحقّق الموضوع، فلا یصحّ ترتب الحکم علیه.

قد یقال: ان القدرة علی الطهارة المائیّة شرط فی تعلّق الحکم بها، فما لم تُحرز القدرة یبقی وجوبها من خلال أصالة البراءة، فیتعیّن علی المکلف تحصیل الطهارة الترابیّة.

لکنّه مندفع أوّلاً: إنّ أصل البراءة عن التکلیف لا یجری لاحراز العجز عن الطهارة المائیة الذی هو شرط فی صحة الطهارة الترابیة، فما لم یحرز الشرط لم یحرز الموضوع حتّی یترتب علیه الحکم.

وثانیا: إنّ القدرة علی امتثال التکلیف تعدّ من الشرائط العقلیّة التی لا ترجع عند الشک فیها الی البراءة لأنّ الشک فی تحقّق القدرة علی الامتثال لابدّ فیه من تحصیل القطع بالعجز أو الیقین بالفراغ بالامتثال، فلا یجوز فیه الرجوع الی البراءة، لأنّ قاعدة الاشتغال قاضیة بوجوب تحصیل القطع بالخروج عن عهدة التکلیف بالصلاة مع الطهور، المتوقّف علی احراز العجز عن الطهارة المائیة الذی هو شرط فی صحّة الطهارة الترابیّة. وعلیه فالأدلّة الأربعة تامّة فی الدلالة علی لزوم طلب لماء عند الشک فی وجدانه، وهو المطلوب، کما ظهر لک أن مقتضی القاعدة هو لزم الفحص والطلب الی أن یحصل العلم بالیأس، بلا فرق فیه بین الحضر والسفر، ولا بین الأرض الحزنة والسهلة، کما لا تقدیر عقلاً بین مقدار غلوة سهم أو اکثر، کما لا فرق فی السفر بین القصیر والطویل، هذا.

رأی الأردبیلی: نقل صاحب «الجواهر» عن المقدّس الأردبیلی قدس سره بأنّه یقول باستحباب الطلب، فلا بأس أن نلاحظ کلامه _ فی «مجمع الفائدة»، قال: «لیس

ص:63

علیه _ لیس علی وجوب الفحص _ دلیل، والأصل یقتضی العدم، والاجماع غیر ظاهر، وما نقل فیه من الخبر لیس بصحیحٍ ولا صریح، وهو خبر النوفلی عن السکونی، وهو معارض بما ورد فی روایة علی بن سالم: «لا یطلب الماء یمینا وشمالاً» وهذه أوضح دلالة وسندا، وإنْ کان علی بنّ سالم مجهولاً، والاستحباب طریق الجمع» انتهی علی ما هو المحکی فی «مصباح الهدی» للآملی(1).

وهذا الکلام کما تری صریحٌ فی استحباب الطلب لا المقدار، ولیس فی کلامه اشارة الی عدم وجوب هذا المقدار الذی ورد فی روایة السکونی، الاّ أن یستشعر ذلک من استحباب أصل الطلب، المستلزم لاستحباب مقداره ایضا.

أقول: ولکن کلامه لا یخلو عن وهنٍ، اذ الأصل لا وجه له مع وجود الدلیل الاجتهادی وهو الأخبار کما ستعرف إن شاء اللّه، کما أنّ وجود الاجماع هنا ظاهرٌ _ کما عرفت صدوره فی صدر البحث ونُقل عن جماعة _ ویفهم منه عدم ظهور الخلاف فیه بین فقهائنا. بقی هنا ملاحظة الأخبار الدالّة علی عدم وجوب الفحص:

منها: خبر علی بن سالم، عن أبی عبداللّه علیه السلام ، قال: «قلت له: التیمّم «الی أن قال» فقال له داود الرقّی: أفأ طلب الماء یمینا وشمالاً؟ فقال: لا تطلب الماء یمینا ولا شمالاً ولا فی بئرٍ، إن وجدته علی الطریق فتوضّأ، وإن لم تجده فامض»(2).

ومنها: روایة داوود الرقی، قال: «قلت لأبی عبداللّه علیه السلام : أکون فی السفر فتحضر الصلاة ولیس معی ماء، ویقال إنّ الماء قریب منّا، فأطلب الماء وأنا فی وقتٍ یمینا وشمالاً؟ قال: لا تطلب الماء، ولکن تیمّم فإنّی أخاف علیک التخلّف عن أصحابک فتضلّ ویأکلک السّبع»(3).


1- مصباح الهدی، ج 7، ص 141.
2- وسائل الشیعة: الباب 2 من أبواب التیمّم ، الحدیث 3.
3- المصدر السابق، الحدیث 1.

ص:64

ومنها: روایة یعقوب بن سالم، قال: «سألت أبا عبداللّه علیه السلام عن رجلٍ لایکون معه ماءٌ، والماء عن یمین الطریق ویساره غلوتین أو نحو ذلک، قال: لا آمره أن یغرّر بنفسه فیعرض له لصّ أو سبع»(1).

حیث تدلّ علی عدم وجوب الطلب إذا لم یکن عنده ماء، ولو کان الماء قریبا علی یمین الطریق أو یساره، مضافا إلی اطلاق طهوریّة التراب وبدلیته عن الماء، حیث یشمل حتّی للمفروض، کما لا یخفی.

ولکن یمکن أن یجاب عنه أولاً: بأنّ الاطلاق قابلٌ التقیید بما قد ورد فی الآیة من لزوم صدق عدم الوجدان عرفا، وهو لا یکون الاّ فیما إذا لم یکن الماء من قریب أو فی حکمه من جهة وجود الخوف والخطر، المستلزم لصدق عدم الوجدان مع هذا الوصف، کما وقع هذا التوصیف فی خبر علی بن سالم، فهو دلیل علی خلاف مدّعی الخصم من الاستحباب.

وثانیا: أنّها مشتملة علی ما یدلّ علی أنّ مورده وجود الخوف، کما ورد التصریح بذلک فی خبر داود الرقی، بل یشیر الیه فی خبر یعقوب بن سالم من التغریر والتعریض باللصّ والسبع، فلا یشمل مالو علم عدم وجود شیء من ذلک، کما هو المقصود فی المقام.

وثالثا: بضعف الاسناد، ففی الروایة الأولی علی بن سالم مشترکٌ بین الضعیف والمجهول، مع اعتراف الخصم بمجهولیته. وفی الروایة الثانیة بالضعف جدّا کما فی رجال النجاشی، بل قال فیه أیضا: «قال أحمد بن عبدالواحد: قلّ ما رأیتُ له حدیثا سدیدا»، وعن ابن الغضائری: «أنّه کان فاسد المذهب، ضعیف الروایة، لا یلتفت الیه»، کما أنّ الکّشی: عدّة فی أرکان الغُلاة.


1- المصدر السابق، الحدیث 2.

ص:65

وفی الثالثة بما ورد فی معلّی بن محمد بکونه: «مضطرب الحدیث والمذهب، وبانّه یُعرف ویُنکر» هذا کما فی «الجواهر»(1).

ورابعا: موافقة هذا الحکم مع مذهب أبی حنیفة، مع کون الرشد فی خلافهم.

هذا کلّه، مع أنّه علی فرض التسلیم لما فی هذه الأخبار، فهی تعارض مع ما یدلّ علی وجوب الفحص والطلب، مع کون بعض أخباره صحیحا ومورد قبول الأصحاب وفتواهم.

مع أنّه علی فرض التسلیم تکون النسببة بینها وبین تلک الأخبار، هو الاطلاق والتقیید، فیقدّم الثانی علی الاوّل کما لا یخفی. وقد أشار الی هذا القید _ وهو الخوف _ فی روایة داوود البرقی، مع أنّه لیس فی هذه الأخبار اشارة الی الاستحباب الفحص الذی ادّعاه الأردبیلی غایته عدم وجوب الطلب لا استحبابه. مضافا الی أنّ القول بالجمع بینهما بالاطلاق فی نفی الفحص مطلقا فیهذه الأخبار هو التقید بعدم وجوبه بما فی خبر السکونی، أی فی الزائد عن الغلوة والغلوتین.

وعلیه، فالعمل بهذه الأخبار موهونٌ بأمورٍ قد عرفت، فثبت أنّ الواجب هو طلبه کما علیه المشهور.

فإذا لم یجد بنفسه وعجز عنه، علیه أن یستنیب وکیلاً إن امکن الاستنابة فیه وقلنا باعتبارها کما سیأتی البحث عنها إن شاء اللّه، لأنّ وجوب الطلب حکم عامٌ یشمل الجمیع حتّی النائب لصدق الوجدان بالواسطة أیضا، وإن اطلق غیر واحدٍ من الاصحاب بسقوط الوجوب اذا عجز بنفسه، فلابدّ من حمل حکمهم علی صورة العجز بنفسه ووکیله من الأخبار المسوقة للتیمم، مثل صحیحة الحلبی،


1- الجواهر، ج 5، ص 78.

ص:66

قال: «سألتُ الصادق علیه السلام عن الرجل یمرّ بالرکیة ولیس معه دلوٌ؟ قال: لیس علیه أن یدخل الرکیة، إنّ ربّ الماء هو ربّ الأرض فلیتیمّم»(1).

یدور الکلام فی کیفیة تحقّق عدم الوجدان، فلا اشکال فی تحققه بالعلم والیقین بعدم الوجدان للأصل، وظهور دلیل وجوب الطلب علی وجود الرجاء فی طلبه، إنّما السؤال عن أنّه هل یتحقق ذلک بالظن، أی یسقط عند تکلیف الطلب بالظنّ بالعدم أم لا؟

عن العلاّمة فی «المنتهی» و«التحریر» وغیرهما عدم السقوط، لاطلاق الأمر به. ولکن الانصاف عدم صحة اطلاق هذا القول، لأنّه ربّما یکون الظنّ حاصلاً من سبب شرعی کشهادة العدلین، بل العدل الواحد إن أوجب الوثوق له.

نعم، نتیجته عدم السقوط إذا لم یکن کذلک، لعموم ما دلّ علی اعتبار العدلین أو العدل الشامل لما نحن فیه أیضا، بل لا یبعد القول بالسقوط إذا حصل الوثوق والاطمینان بالمخبر ولو لم یکن عادلاً، اذا علم أنّه صادق فی مثل تلک الأخبار. وعلیه فالاعتبار حینئذٍ لأجل حصول الوثوق، لا لما أنّه کان مخبرا کما لا یخفی ذلک فی نظائره أیضا.

ودعوی: عدم تحقّق عدم الوجدان بذلک عرفا، غیر مسموعة، وعلیه فما فی «الموجز الحاوی» من الاطلاق بعدم الاجتزاء بخبر غیر النائب _ کما عن «نهایة الأحکام» _ لعلّه کان لما ذکرناه لیس بجیّدٍ، لأنّه یصدق علیه عدم الوجدان شرعا. وأولی من ذلک مالو کان بطریق النیابة ولو کان عن متعددین، ولذلک صرّح الشهید فی «الذکری» والمحقّق فی «جامع المقاصد» بجواز النیابة فی الطلب لحصول الظنّ، غایة الأمر قد نصّ المحقق والشهید فی «المسالک» باشتراط العدالة، ولکن


1- وسائل الشیعة: الباب 2 من أبواب التیمّم ، الحدث 1.

ص:67

قوله: ویضرب غَلْوة سهمین فی کلّ جهةٍ من الجهات الأربع، إنْ کانت الأرض سهلة(1)

قد عرفت احتمال کفایة حصول الوثوق ولو من غیر عدلٍ، لأجل علمه بکونه أمینا، لأنّ فعله حینئذٍ فعل موکلّه.

وبالجملة: ثبت ممّا ذکرنا عدم تمامیة کلام العلاّمة فی «المنتهی» علی عدم الاجتزاء بالنیابة، من غیر فرق بین العدم وغیره، لأنّه علّل بأنّ الخطاب بالطلب للمتیمّم، فلا یجوز أن یتولاّه غیره، ومن الواضح أنّ مورد التخاطب (کونه بنفسه) لا یوجب لزوم المباشرة، فما تجوز فیه النیابة والوکالة ذاتا، دالٌ علی جوازهما فی المقام، خصوصا مع وجود عموم دلیل الوکالة الشامل للمقام أیضا.

وقیاس المقام بنفس التیمّم، قیاسٌ مع الفارق، بناءً علی ما قیل من أنّ مثله لا یمکن تحقّقه أوّلاً إلاّ بالمباشرة، نظیر نفس الوضوء، فمع العجز یتولّی غیره مع الدلیل، فیشبه المورد بالتیمم غیر وجیه، کما صرّح بذلک أیضا صاحب «الجواهر» قدس سره .

(1) لا یخفی أنّ المراد من طلب الماء هو الفحص عنه فی کلّ مکان یحتمل وجوده، سواءٌ فی رحله، أو عند رفقائه، أو بالضرب فی الأرض، إذ من الواضح أنّ وجوب الطلب حتّی بالمقدار المذکور لیس وجوبا تعبّدیا صرفا، یعنی لا یکون الطلب واجبا حتّی لو علم أو اطمئن بعدم وجود الماء، بل وجوبه طریقی لأجل تحصیل الماء، فیکون وجوبه وجوبا مقدمیا لأجل وجوب ذیّه، ولأجل ذلک یجب تحصیله وطلبه فی کلّ جهةٍ من الجهات الأربع مع وجود احتمال وجدان الماء فی تلک الجهات، وإنْ کان النصّ خالیا عن قید کلّ جهة من الجهات، وعلیه المشهور نقلاً وتحصیلاً، بل فی «الغنیة» التصریح بالأربع مع ذکر

ص:68

الاجماع علیه، وعن «التذکرة» نسبته الی علمائنا، کما أنّه قد ینطبق علیه اجماع «ارشاد الجعفریّة» علی ما قیل، ولعلّ ذلک هو الحجّة، مضافا الی حکم العقل بلزوم الطلب عند احتمال وجود الماء فی جهةٍ من الجهات، فلا تحصل البراءة إلاّ بالجمیع.

والقول بعدم المرجّح لبعضها علی البعض لیتعیّن وجوب الجمیع، لیس بجیّدٍ، لأنّه لو لا ما قدّمناه لأمکن القول بالتخییر.

مقدار وأمّا مقداره علی حسب ما ورد فی النصوص فهو غلوة سهمین فی الأرض السهلة، أی مقدار رمیة سهمین فیها، والغَلْوة بالفتح عبارة عن رمیة سهمٍ، وعن بعض أهل اللغة کصاحب «العین» و«الاساس»: «أنّ الفرسخ التام خمس وعشرون غَلوة».

وعن «المُغرب» عن جماعةٍ: «أنّ الغلوة قدر ثلاثمأة ذراع الی أربع ذراع» وقد استقر به صاحب «مصباح الفقیه» وعن «الارتشاف»: «أنّها مأة باع، والباع مدّ الیدین یمینا وشمالاً ما بینهما من البدن».

والمیل عشر غلاء، والمعروف بین الفقهاء فی تفسیرها هو مقدار رمیّة سهمٍ، وحیث أنّها تخفف باختلاف قوّة الرامی والقوس والسهم، وسکون الهواء ووجود الریح، فقد قرّروا المناط فیها المعتدل من الرمی فی جمیع ما ذکر من الأمور.

أقول: بعد ما ظهر وجوب الطلب فی جمیع الجهات، ظهر عدم تمامیة ما فی «الوسیلة» من الاقتصار علی الیمین والیسار، مع أنّه احتمل ارادة الأربع، وکذلک المحکی عن المفید والحلبی من زیادة الأمام من دون ذکر الخلاف، إلاّ أنّه علّله فی «کشف اللّثام» بکونه مفروغا عنه فی المسیر، لکنه ضعیفٌ اذ لا ملازمة بین مسیره فی تلک الجهة وحصول الفحص، لامکان غفلته عنه وقت مسیره، لأنّ التوجّخ غالبا فی حال السیر یکون الی الجهة الذی یسیر فیه دون جوانبه، کما فی «الجواهر».

ص:69

لکن یمکن أن یجاب: أنّه إنّما یصحّ لمن لم یکن فاحصاً الشیء کما فی المقام کما لا یخفی.

وعلیه ثبت أنّ الطلب للجمیع، بأن یجعل مبدأ طلبه کمرکز دائرةٍ نصف قطرها المتحقق من مرور قطرین من تلک الدائرة، بحیث یتلاقیان علی المرکز، وتحصل من تلاقیهما أربع زوایا قوائم، فیجب الطلب فی کلّ نصف قطرٍ من القطرین المذکورین الی محیط الدائرة، حتّی یستوعب ما احتمل وجود الماء فیه من ذلک. والاجماع قائم علی عدم وجوب الطلب عن الأزید من ذلک، مع عدم احتمال وجود الماء فیه، بل وإنْ احتمل، حیث لأنّه الواجب بحسب القاعدة، لأنّ وجوبه لا یکون تعبدیا کما عرفت، ولکن الروایة تدلّ علی عدم وجوب الفحص فی الزائد عن الغلوة والغلوتین، فلا بأس بذکر النصوص وملاحظة دلالتها:

منها: روایة السکونی، عن جعفر بن محمّد، عن أبیه، عن علی علیهم السلام ، أنّه قال: «یُطلب الماء فی السفر إنْ کانت الحزونة فغلوة، وإنْ کانت سهولة فغلوتین، لا یطلب أکثر من ذلک»(1).

أقول: الکلام فی هذه الروایة من جهات:

الأولی: فی معنی الحزنة بالفتح والسهلة کذلک.

والأولی عبارة عن الأرض التی فیها غلظ من الأحجار والأشجار، ومن العلوّ والهبوط أو نحوها، والجمع هو الحزونة، مفردها حزنة بفتح الحاء وسکون الزاء. والسهلة تکون علی خلافها کما قد عرفت معنی الغلوة فلا نعید.

الثانیة: فی سند الروایة حیث أنّه ضعیفٌ. ولکن لا یلتفت الیه، لأنّه قد عمل بها الأصحاب واستعانوا بکلماتها فی فتاویهم، بل علیه المشهور، بل فی «الغنیة»


1- وسائل الشیعة: الباب 1 من أبواب التیمّم ، الحدیث 2.

ص:70

و«الارشاد» و«الجعفریّة» و«الفقیه» الاجماع علی مضمونها، بل عن «التذکرة» نسبته الی علمائنا، وعلیه فضعف الخبر منجبر بذلک ولا یمنع عن العمل به.

الثالثة: فی روایتها حیث أنّ الروایة مطلقة من حیث المقدار المذکور فیه بالنظر الی الضرب الی الجهات الأربع التی قد ورد فی فتاوی الفقهاء، کما فی المتن، ولکنه غیر ضائر، بل لعلّ الاطلاق مطلوبٌ لأجل شموله لکلّ ما یحتمل وجود الماء فیه من الجهات الأربع، إذ لیس المراد بالروایة الأمر بطلب الماء فی مثل الفرض فی جهةٍ معینة، ولا مطلق الجهة أی جهةٍ تکون، ضرورة عدم کون الحکم تعبّدیا محضا کی یتطرق فیه لمثل هذه المحتملات، بل المقصود بیان لزوم السعی فی تحصیل الماء بالمقدار المنصوص علیه فی مواقع احتماله لا أزید، فإن لم یحتمل وجود الماء إلاّ فی جهةٍ أو جهتین مثلاً، یقتضی علیه الطلب فی خصوص تلک الجهة إن احتمل وجود الماء فضلاً عما لم یحتمل، حیث قد نصّ فیه بانّه لا یطلب أکثر من ذلک، وحمله علی خصوص عدم الاحتمال ممّا لا داعی له، لامکان أن تکون الوظیفة هو هذا المقدار دون أزید منه.

وعلیه، فإن لم یحتمل وجود الماء إلاّ فی جهةٍ أو جهتین مثلاً، یقتصر علی الطلب علیهما، وإن احتمل فی أزید فکذلک، ولا یوجب ذلک ارتکاب التجوز والاضمار فی الروایة، لأنّها مسوقة لبیان تحدید مقدار الطلب فی ما من شأنه أن یطلب الماء فیه، وهو یختلف باختلاف الموارد. وعلیه فاحتمال وجوب الطلب مطلقا ولو لم یحتمل وجود الماء فی تلک الناحیة أمر غیر وجیه، ومخالفٌ لظاهر الفتاوی والروایة أیضا إذ الروایة حینئذٍ واردة علی القاعدة الأولیّة المقتضیة لوجوب الفحص مع الامکان، ما لم یحصل الیأس، أو یتحقّق عذرٌ آخر. فاذن الروایة برغم ضعف سندها لکنها معمول بها عند الأصحاب، ومعتضدة بفتوی

ص:71

المشهور بل الاجماع کما عرفت.

الجهة الرابعة: ملاحظتها مع معارضها وهو الخبر الحسن _ بل الصحیح عند صاحب «الجواهر» وعندنا _ الذی رواه الکلینی باسناده عن زرارة، عن أحدهما علیهماالسلام ، قال: «إذا لم یجد المسافر الماء فلیطلب مادام فی الوقت، فإذا خاف أن یفوقته الوقت فلیتمم ولیصلّ، الحدیث»(1).

بل قد عرفت منا سابقا _ کما اشار الیه صاحب «الجواهر» هنا _ من الاختلاف فی النسخة علی ما حکاه الفیض فی «الوافی»، ومع ما فی «حاشیة المدارک» للمحقق البهبهانی قدس سره من أنّ بدل (فلیطلب) فی النسخة قوله: «فلیمسک مادام فی الوقت»، حیث أنّ ظاهر هذه الروایة لزوم الطلب مادام الوقت باقیا، فکیف الجمع بینهما، وقد أجیب عنه بأجوبة أو یمکن أن یجاب عنه:

أوّلاً: بامکان أن یکون مورد روایة زرارة هو ما یحتمل وجدان الماء فی الوقت بأزید منه باحتمال مقبول عند العقلاء، کما قد یتفق ذلک فی بعض الأحیان، کما یساعد هذا الاحتمال وجود النسخة الأخری وقد ورد فیها: (فلیمسک) وعلیه فلا ینافی حینئذٍ أن یکون مورد روایة التحدید غیر ذلک، بأن یکفی فی تحصیل الماء وطلبه فی غیر المورد السابق الی ذلک المقدار، وجواز البدار الی التیمم بعده، فلازم ذلک هو العمل بالخبرین مع ملاحظة التقیید والاطلاق والجمع بینهما بما دلّ علی جواز البدار بالتیمم فی سعة الوقت، لکن لا مطلقا، بل فی المورد الذی عرفت.

وثانیا: بما فی «جامع المقاصد» وغیره، بأن یکون المراد من التحدید فی خبر زرارة بیان تحدید زمان الطلب لا مقداره، لأن الطلب قبل الوقت لا یجزی لعدم توجه الخطاب الیه فعلیه حینئذٍ لا یراد منه استیعاب الوقت بالطلب حتّی یوجب


1- وسائل الشیعة: الباب 1 من أبواب التیمّم ، الحدیث 1.

ص:72

التعارض مع خبر السکونی، هذا.

ولکن فیه: إنّ هذا الحمل وإن کان بذاته حسن، لکن لا یناسب مع ما فی ذیله من الحکم بالتیمم مع خوف الفوت، حیث یفهم منه کون المقصود من التحدید هو ترک التیمم الی ذلک الحدّ، لا بیان وقت الطلب. نعم، لا بأس بالحمل علیه مع الضرورة بالجمع بین الخبرین، لأنّ الجمع بحفظ الظاهر مهما أمکن ولو بارتکاب خلاف الظاهر أولی من الطرح.

وثالثا: ما نُسب الی القیل من أنّ خبر زرارة مسوقٌ لبیان وجوب الطلب فی سعة الوقت لا مع الضیق، مع أنّه أیضا بعید، لوضوح أنّ روایة زرارة صریحة فی ارادة أنّه یطلب الماء الی ان یتضیّق الوقت ویخاف فوت الصلاة.

ورابعا: بما فی «مصباح الفقیه» من حمل روایة زرارة علی وجوب الطلب مادام الوقت باقیا تخییرا منه وبین تحصیل الوثوق بعدم الماء فی الجهات الأربع بمقدار النصاب، فلازم ذلک وجوب طلب الماء للمسافر فی طریقه ولو بالسیر فی الجهة الموصلة الی مقصده مادام الوقت باقیا، الاّ أن یحصل له الوثوق بفقدان الماء فیما حوله بمقدار النصاب، وبذلک یرفع التنافی بین الخبرین هذا.

وفیه: إنّه یوجب رفع الید عن اطلاق کلّ من الخبرین، لأنّ مقتضی اطلاق خبر زرارة هو وجوب الطلب الی أن یتضیّق، سواءٌ کان فی المکان النازل بالفحص فی جوانبه الی أن یتضیّق أو کان بالسیر الی طرف مقصده طلبا للماء الی أن یتضیّق، فلازم ذلک عدم جواز الاکتفاء بالنصاب الوارد فی خبر السکونی، کما أنّ مقتضی اطلاق خبر السکونی هو جواز الاکتفاء بالنصاب فی الموردین، فحمل کلّ واحدٍ منهما بخصوص مورد دون الآخر طردٌ لکلا الخبرین باطلاقها، فلابد من شاهد لذلک الجمع، مع أنّه مخالفٌ لاطلاق فتاوی الاصحاب، حیث قد عملوا بمضمون

ص:73

خبر السکونی باطلاقه، وقیدوا اطلاقه بما إذا أوجب الفحص بالنصاب ضیق الوقت، حیث یسقط حینئذٍ حکم وجوب الفحص الی النصاب.

وخامسا: بما فی «المدارک» من الجمع من حمل الأمر بالطلب الی أن یتضیّق الوقت فی خبر زرارة علی الاستحباب، ووافقه فی «الجواهر» وقال: لا بأس به.

وسادسا: بما فی «الحدائق» من حمل خبر زرارة علی صورة الظن بوجوب الماء فی الزائد علی النصاب، فیجب الفحص فی الزائد اتباعا للظن، وخبر السکونی علی صورة الاحتمال من غیر ظنٍّ، فیکفی فیه النصاب، وهذا أیضا حمل بعیدٌ ممّا لا شاهد له، بل اطلاق الفتاوی علی خلافه، مضافا الی أنّ حکم الظن له وجه مستقل سیأتی بحثه فی محلّه.

هذا کلّه فی بیان رفع التعارض بین الخبرین، مع أنّه لا مقاومة لخبر زرارة فی التعارض مع السکونی، مع اعتبار سند الأوّل دون الثانی لأنّ اعراض الأصحاب عن الأوّل موهن له، وعملهم بالثانی موجب لانجبار ضعفه فالأقوی عندنا هو ما علیه المشهور.

لا یقال: إنّه لا یصدق علیه عدم الوجدان، مع وجود الظن بالماء، ولو بالأزید من النصاب، خصوصا مع ملاحظة اطلاق متعلق (لم تجدوا) حیث لم یذکر فی متعلقة تقدیرٌ، فلا یوجب الاطلاق الاجمال فیه، بل الحکم یدور مدار صدق العنوان وحصول شرطه حتّی یجوز التیمم.

لانّا نقول: هذا کلّه حسن ما لم نقل ونفتی بما فی خبر السکونی، إذ الحکم علی مضمونه یقتضی التقیید فی الاطلاق، وتعیین مصداق شرط عدم الوجدان فی هذا النصاب من الغلوة والغلوتین فی الضرب، فالطلب الی ذلک یکفی فی تجویز التیمم، ولو مع وجود الظنّ غیر المتاخم الی العلم بوجود الماء فی الأزید فی

ص:74

مورد الضرب فی الأرض الذی کان مورد النصّ فی التقدیر. نعم، لابدّ من مراعاة هذا الاطلاق فی لزوم الطلب فی غیر مورد الضرب، احتمال وجود الماء عند القافلة، أو عند الاشخاص حیث یجب الطلب الی حصول الیأس، فمع وجود الظن بل الاحتمال علی وجود الماء یجب الطلب لتحصیل شرط جواز التیمم من صدق عدم وجدان الماء، عملاً بمقتضی عموم الآیة واطلاقها، من دون وجود دلیلٍ علی تقییدها هنا کما لا یخفی.

حکم طلب الماء قبل الوقت

الکلام فی انّه لا ثبت مما مضی أنّه اشکال فی وجوب طلب الماء فی الوقت، وجواز التیمم بعد عدم الوجدان لتحقق شرطه، ولکن الذی ینبغی أن یبحث فیه هو ما لو طلب قبل الوقت ولم یجد، فهل یکفی ذلک فی جواز الرجوع الی التیمم، مطلقا أو لا یجوز إلاّ مع العلم بالفقد بعد دخول الوقت، أو لا یجوز حتّی مع العلم بذلک بأن یکون وجوب الطلب وجواز الاکتفاء به کلیهما فی الوقت؟ وجوه بل أقوال: صرّح جماعة من الأصحاب، منهم المصنّف فی «المعتبر»، والعلاّمة فی «المنتهی» والشهید فی «الذکری» بأنّه لو طلب الماء قبل الوقت فلم یجده لم یعتدّ به، ووجب اعادته، إلاّ أن یعلم استمرار الفقد الأوّل قبل الوقت.

وقد استدلّ علیه: _ کما فی «الجواهر» وغیره _ بإمور:

الأوّل: بالکتاب العزیز الدالّ علی اشتراط عدم الوجدان فی التیمم، الظاهر فی کون ذلک عند ارادة الصلاة، وفی زمان یصحّ فیه التیمم، وهو لیس إلاّ بعد دخول الوقت لا قبله.

وفیه: لا یخفی ما فی هذا الاستدلال، لوضوح أنّ وجوبه لا یکون الاّ بعد

ص:75

دخول الوقت، وهو لا یوجب عدم جواز الطلب قبل الوقت، وعدم جواز الاکتفاء، لوضوح أنّ الطلب لیس مطلوبیة الاّ طریقیّا للایصال الی الماء، وهو ربّما یمکن طلبه قبل السیر وقبل دخول الوقت، فإذا لم یوجد فیه ربما یوجب ذلک الیأس عنده حتّی لما بعد دخول الوقت. وعلیه فالآیة لا تدلّ الاّ علی أنّ جواز الاکتفاء بالتیمم لا یکون الاّ بعد الطلب فی الجملة، وعدم الوجدان لسببه سواءٌ کان طلبه قبله أو بعده.

الأمر الثانی: بحسنة أو صحیحة زرارة المتقدمة، التی جاء فیها: «إذا لم یجد المسافر الماء فیلطلب مادام الوقت» الدّال علی وجوب الطلب عن الماء عند کلّ صلاة.

ولکن مخدوش اوّلاً: بامکان أن یکون المقصود بیان غایة وجوب الطلب فی الانتهاء لا مع الابتداء حتّی یستفاد لزوم کون الطلب جائزٌ بعد دخول الوقت.

وثانیا: لو سلّمنا شموله للابتداء أیضا، فیمکن أن یکون المراد بیان اصل الوجوب الذی هو مورد التسالم بیننا وبین الخصم لا مطلقا حتّی من جهة جواز الاکتفاء.

وثالثا: قد عرفت معارضة خبر السکونی الدّال علی جوب الطلب بالحدّین، بلا تقییدٍ بکونه فی الوقت.

ولا یقال: إنّ اطلاقه یقیّد بروایة زرارة کما هو مقتضی الجمع بین المطلق والمقید.

لانا نقول: إنّ خبر زرارة قد أعرض عنه الأصحاب، فیسقط عن الحجیّة، بخلاف خبر السکونی حیث إنّه معتضدٌ بعمل الاصحاب وفتواهم کما لا یخفی.

نعم، یمکن الجواب عن التعارض المذکور فی کلام المحقّق الآملی قدس سره فی «مصباح الهدی» بأنّ خبر السکونی لم یکن فی صدد بیان ذلک الحکم، أی بکون الطلب فی الوقت أو لا، بل الحکم المتکفل لبیانه فیه هو أنّ الواجب لزوم کون الطلب الی الحدّین فلا اطلاق له من حیث البیان حتی تقیّد بحسنة زرارة. وعلیه

ص:76

فالاحسن الأولی فی الجواب هو ما قبله من الوجهین.

الأمر الثالث: اطلاق معاقد الاجماعات علی وجوب الطلب، والوجوب لا یتحقق إلاّ بعد الوقت، لکون وجوبه غیریا مقدّمیا لأجل الصلاة، وهو لا یتحقّق إلاّ بعد تنجّز وجوب الصلاة، وهو لا یکون الاّ بعد الوقت.

وفیه ما لا یخفی أولاً: إنّ قیام الاجماع أو کلّ دلیلٍ علی وجوب الفحص لا یوجب اثبات کون وجوب الطلب والفحص حکما تعبّدیا، بل المدار فی الفحص لیس إلاّ أحد الأمرین: من الظفر بالماء، أو حصول الیأس منه فی غیر البریة، أو الیأس فی النصاب فی البریّة، ولا فرق فی حصول هذا الیأس عنه بعد الفحص کونه بعد الوقت أو قبله، فالوجوب الطریقی بهذا المعنی لا یحتاج الی تنجیز ذی المقدمة، بل بعد حصول الیأس من فحصه السابق، یتنجّز علیه حکم التیمم، بتحقّق موضوعه.

هذا، مضافا الی ما عرفت من أنّ وجوب الطلب بعد الوقت یکون لازما أعمّا من جواز الاکتفاء، به لامکان وجود الثانی مع عدم وجود أصل الوجوب، لأجل تحقّق الشرط فی جواز التیمم، کما لا یخفی.

الأمر الرابع: بأنّه لو اکتفی به قبل الوقت لصحّ الاکتفاء به مرّة واحدة للایّام المتعددة، وهو معلوم البطلان.

والجواب عنه أوّلاً: نلتزم به لو فرض امکان وقوعه بالنسبة الی المسافر الذی تحتمل بقائه فی البریّة لعدّة ایّام وعدم حاجته الی ابطال التیمم.

وثانیا: أنّه لیس بنقض لمدّعانا، بل هو ممّا یتفرع علی هذا القول لو أمکن تصویره فی المسافر أو فی غیره ممّن یصدق علیه الطلب ولو فی غیر البریّة من القافلة والأمکنة کما لا یخفی.

ص:77

الأمر الخامس: قاعدة الاشتغال، فإنّ الاکتفاء فی امتثال الأمر بالصلاة باتیانها مع الطهارة الترابیّة إنّما ثبت یقینا، فیما إذا وقع بعد الفحص عن الماء عند کلّ صلاةٍ، ومع عدمه یکون الامتثال والفراغ عن عهدة ما اشتملت به الذمّة به مشکوکا، والاشتغال الیقینی یقتضی الفراغ الیقینی.

أقول: ولا یخفی ما فیه، لأنّ قاعدة الاشتغال إنّما تجری فیما لو علمنا اشتغال الذمة بلزوم الطلب بعد الوقت، وعرض الشک بعد الفراغ عنه، هذا بخلاف ما لو شک فی أصل زیادة وجوب الفحص، بأن یکون وجوبه منوطا بدخول الوقت مقیّدا، بحیث لو لم یحصل هذا القید لم یکن الفحص فیه موجبا لتحقق شرط جوار التیمم، ولا یکون مفیدا، ففی هذه الصورة یکون الشک فی أصل التکلیف زائدا عن اصل وجوب الفحص، ومقتضی أصالة البراءة فی هذه الحالة عدم مدخلیة هذا القید فی تحقّق الشرط ووجوده، مضافا الی أن الرجوع الی هذا الأصل یکون بعد فقدان دلیل حاکمٍ علیها، وهو کالاطلاقات المستفادة من الدلیل الشرعی وفتاوی الأصحاب.

مع أنّه ربّما یدّعی محکومیّة هذا الأصل بالنسبة الی الاستصحاب الذی یجری فی مثل المقام، کما سنذکره إن شاء اللّه، ویقتضی الحکم بالصحة.

وبالجملة: الأقوی عندنا کفایته، وعدم وجوب الفحص بعد دخول الوقت، إلاّ أنْ یحتمل احتمالاً عقلائیا بتجدّد الماء بعد الفحص لا مطلقا، کما لو احتمل وجود الماء فیه حین الفحص السابق، ولکن غفل عنه أو اشتبه علیه. والدلیل علی الکفایة هو طریقیة الفحص، وعدم کونه حکما تعبدیا محضا، فدخول الوقت وعدمه لا یکون مؤثرا فی ذلک لو لا عروض عارضٍ یقتضی ذلک، فلا یبعد استفادة ذلک من اطلاق الکتاب العزیز، من تعلیق حکم جواز التیمم علی عدم

ص:78

الوجدان من دون تقیید بوقتٍ خاص، وإنْ کان لا ینافی ذلک کون وجوب الطلب والفحص موقوفا علی دخول الوقت لتنجّز التکلیف فیه حینئذٍ، کما لا یخفی، وهو کافٍ لاثبات الطلب، فلا نحتاج فی اثباته الی الاستصحاب حتی یرد علیه ما قیل فیه وعلیه فلا بأس بالاشارة الیه تفصیلاً کما ذکره المحقق الآملی فی «مصباح الهدی»، قال رحمه الله : «ومنها الاستصحاب، ویقرّر بوجوهٍ:

أحدها: استصحاب عدم حدوث الماء وتجدّده إذا کان الشک فی ذلک.

الثانی: استصحاب کونه فاقدا للماء أو استصحاب عدم کونه واجدا له.

الثالث: استصحاب بقاء عجزه عن الماء مع الشک فی التمکّن منه.

ثمّ أورد علیه بأنّ موضوع وجوب التیمم هو العجز عن الماء، وهو لا یُحرز بالاستصحاب علی الوجهین الأولین، وأمّا جریانه فی نفس عنوان العجز، کما هو الوجه الثالث فغیر صحیح، لأنّ العجز موضوع عرفی وجدانی یعلم وجوده وعدمه بالوجدان، ولا یصحّ احرازه بالأصل التعبّدی.

وأجاب عنه: بأنّ الشرط فی وجوب التیمم هو عدم الماء من حیث هو أمرٌ عدمی لا شیء آخر، ولو سُلّم کون العجز عن الماء من حیث إنّه أمر وجودی شرطا فیه، فلأنّ عدم الوجدان من اسباب تحقّق العجز، فیصحّ اجراء الأصل فی السبب، لیترتب علیه تحقّق المسبّب، فالأصل وإنْ لم یجر فی نفس عنوان العجز، لکونه من الحالات والصفات الوجدانیّة، إلاّ أنه یجری فی سببه وهو عدم حدوث الماء وتجدّده، أو عدم وجدانه علی أحد التقریرین.

أقول: إنّ المتعرض لاجراء الاستصحاب هو صاحب «الجواهر» قدس سره والمجیب عنه هو المحقق الهمدانی رحمه الله ، والمحقق الآملی قدس سره قد أیّد کلام المعترض بقوله: «أقول: قد عرفت أنّ المستفاد من خبر السکونی هو وجوب الفحص فی النصاب

ص:79

المذکور فیه، حتّی یحصل له الیأس من الماء، والاطمینان والوثوق بعدمه فی الجوانب الأربع، بالمقدار المحدود، فحصول الیأس هو الموضوع والشرط لجواز التیمم للمسافر فی البادیة، ولا یخفی أنّ عناوین الیأس من الماء والاطمینان والوثوق بعدمه أمور وجدانیة عارضة للنفس، لا یمکن تحقّق الشک فیها ولا یمکن اثباتها بالتعبد. واستصحاب عدم تجدّد الماء وحدوثه لا یوجب للنفس حالة الیأس ولا الاطمینان والوثوق، فالحقّ عدم صحّة التمسک بالاستصحاب هنا فی الاکتفاء بالفحص قبل الوقت» انتهی محل محاجة(1).

أقول: ولکن الدقة والتأمّل فی القضیة یقتضی خلاف ذلک، لأنّه من الواضح أنّ الطهارة عن الحدث تعدّ من شروط لصلاة ولابدّ من احرازها والیقین بها، لجواز الدخول فی الصلاة مع الشرط، فکیف یستصحب ویحکم ببقاء الطهارة المحرزة السابقة للصلاة، مع أنّ الاطمینان والیقین یعدّان من الأمور الوجدانیة النفسیّة، الاستصحاب هکذا أمور. وکذا استصحاب عدم خروج الحَدَث الموجب لحصول الاطمینان ببقاء الطهارة السابقة، لکن من جهة أخری لا اشکال لدی الفقهاء شرطیة الطهارة المحرزة للصلاة، وعلیه فالاحراز التعبدی أیضا یکون کالاحراز الوجدانی فی ترتّب الآثار علیه، وتحصیل الشرط به. فإذن لا اشکال هنا أیضا من احراز الیأس التعبدی من خلال الأصل باستصحاب عدم تجدّد الماء وعدم وجدانه، وحصول شرط جواز التیمم، والصلاة معه حنیئذٍ یکون من قبیل الأصل الجاری فی السبب لیترتب علیه المسبب، حیث یزول الشک عن المسبّب بواسطة الأصل الجاری فی السبب، وإنْ کان الاحتیاط فی مثل المقام بالفحص بعد دخول الوقت حسنا جدّا، حذرا عن المخالفة مع الأصحاب، واللّه العالم.


1- مصباح الهدی، ج 7، ص 154_153.

ص:80

أقول: الذی اخترناه موافق لجماعة أخری من أصحابنا کالشهید فی «الذکری» حیث قال بالاکتفاء بالطلب مرّة فی الصلوات اذا ظنّ الفقد بالاوّل، مع اتحاد المکان، حیث یشمل اطلاق کلامه للصلوات ذوات الاوقات المختلفة کالمغرب بالنسبة الی الظهرین، حیث أنّ الطلب بالنسبة الی المغرب یکون قبل الوقت.

ومنهم المحقّق الثانی فی «جامع المقاصد»، وأوضح منهما کلام العلاّمة فی «التحریر» حیث قال: «ولو دخل علیه وقت صلاةٍ أخری، وقد طلب فی الأولی، ففی وجوب الطلب ثانیا اشکالٌ أقربه عدم الوجوب، ولو انتقل عن ذلک المکان وجبَ اعادة الطلب» انتهی.

واحتمال الفرق بین کون الطلب فی وقت صلاةٍ بالاجتزاء وعدمه عدمه کما ذکره صاحب «الجواهر» ممّا لا وجه له، لوضوح عدم الخصوصیة فیه لما نحن بصدده، مع عدم وجود دلیلٍ لذلک.

کما لا فرق علی الاجتزاء بین کونه للصلاتین المشترکتین فی الوقت أو المفترقتین، مع اتحاد المکان، کما لا فرق فی وجوب الطلب فی الانتقال عن المکان بین کونه للصلاتین المشترکتین فی الوقت وغیرهما، کما لا فرق فی وجوب الطلب فی مدّة الانتقال وعدمه فی صورة عدم الانتقال، بین ما لو فرّق بین الصلاتین المشترکتین فی الوقت، وبین الصلاتین المتفرقتین فی الوقت، لوحدة الملاک فی الاثبات والنفی، کما لا یخفی.

نعم، لا اشکال فی وجوب الطلب للصلاة الثانیة أو اعادته بعد دخول الوقت، لو احتمل احتمالاً عقلائیا معتدا به بتجدید الماء بعد الطلب الأول، بلا فرق فیه بین تمام الصور المذکورة آنفا حتّی لو احتمل ذلک بعد الطلب ویتمم ثمّ فُرّق بینه وبین الصلاة بمضّی وقتٍ، جری فیه هذا الاحتمال أیضا، لاشتراک الجمیع فی وحدة الملاک علی حسب ما عرفت حتی مع اتحاد المکان، فلیتأمّل.

ص:81

قوله: ولو أخلّ بالضرب حتّی ضاق الوقت، أخطأ وصحّ تیمّمه وصلاته علی الأظهر(1)

(1) ما ذکره قدس سره مشتمل علی فروع: الاخلال بشروط التیمم

منها: مالو أخلّ المکلف بالضرب، أی الطلب الذی کان واجبا علیه، وصلّی مع سعة الوقت، فلا یخلو حینئذٍ:

تارة: کان ما لو طلب وجد الماء.

وأخری: ما لو طلبه لم یجده.

وقد یکون الاخلال عن علمٍ وعمد تارةً وأخری عن جهل ونسیان.

ثمّ فیما لم یجد لو طلب: تارةً یتمشّی منه قصد القربة، وأخری لا یتمشّی. والذی لا اشکال فی بطلان الصلاة هو ما لو صلّی کذلک عامدا عالما بلا قصد القربة، مع وجودان الماء لو طلبه، وعلیه الاجماع منقولاً إنْ لم یکن محصّلاً، بل حصوله غیر بعیدٍ. ووجهة واضحٌ، لأنّ مقتضی الشرطیّة توقف صحّتها علی عدم وجدان الماء مع الطلب، فإذا لم یحصل الشرط فلا یکون التیمم مکفیا لصحّتها.

نعم، الذی ینبغی أن یُبحث فیه، ووقع فیه الخلاف، هو: مالو صادف عدم الماء فی زمان الطلب لواجده، فإنّه لا اشکال أیضا فی بطلانه، لو لم یتمشّ منه قصد القربة، لکونه عامدا عالما فی ترکه، لما عرفت من فقد الشرطیة، هذا بخلاف ما لو تمشّی منه قصد القربة إمّا لأجل أنّه أتی بها رجاءً، أو لأجل نسیانه عن حکم وجوب الطلب أو جهله بذلک وأتی بالصلاة مع التیمم، بل طلب وصادف الواقع، فحینئذٍ یدور البحث فی أنّ وجوب الفحص والطلب بنفسه:

هل یعدّ شرطا واقعیا لصحّة التیمّم لیکون لازمه حینئذٍ بطلان الصلاة لأجل

ص:82

فقدان شرط صحة التیمم؟

وجوبه لأجل لاجل أن الفحص طریق للوصول الی الیأس والاطمینان الی عدم وجدان الماء، والمفروض، أنّه کان کذلک فی الواقع، فمع فرض حصول قصد القربة ومصادفته الواقع، هل قع صحیحة أم لا؟

فیه وجهان بل قولان: ذهب الی الأول صاحب «الجواهر» حیث صرّح بانّه لا فرق فی البطلان بین وقوع نیة التقرب به إنْ تصوّر ذلک وعدمه، ووافقه علیه جماعة من الفقهاء مثل النائینی والبروجردی وغیرهم. وخالفهم فی ذلک جماعة مثل العلاّمة فی «التحریر» والسیّد فی «العروة»، وبعض أصحاب التعلیق کالآملی والخمینی والحائری وهو المختار.

فیترتب علی هذا الفرع صحّة التیمم والصلاة لو نسی الطلب، وصلّی مع التیمم، ثمّ تبیّن عدم الماء، فإنّه مع النسیان یتمشّی منه قصد القربة، بل وهکذا بما یکون مع الجهل أیضا.

کما أنّه لا اشکال فی بطلان الصلاة مع النسیان فی الطلب لو ظهر وجودان الماء لو کان قد طلبه، وإنْ تمشّی منه قصد القربة، لفقد الشرط واقعا وحقیقة وإنْ لم یکن عالما به، والنسیان إنّما أثر فی تمشّی قصد القربة منه بالخصوص لا فی حصول الشرط، کما لا یخفی.

وممّا ذکرنا یظهر حکم بقیّة الفروع کما هو واضح للمتأمل.

ومنها: ما لو أخلّ بالطلب حتّی ضاق الوقت _ کما فی المتن _ فتیمّم وصلّی، وهی مشتملة علی جهات مختلفة:

تارة: یبحث فیها من حیث الحکم التکلیفی من جهة الاخلال بالطلب، مع أنّه لو طلب الماء لوجده، فیقع البحث عن أنّ الاخلال حینئذٍ حرام أم لا؟

ص:83

أقول: الظاهر کون الحرمة من المسلّمات التی لم ینقل الخلاف فیها عن أحدٍ کما عن «مصباح الفقیه» الاّ عن المحقق فی «المعتبر»، والدلیل علیه هو وجود الحکم التنجیزی علی الطلب، کما ورد فی حسنة زرارة وصحیحه، بل وکذا فی خبر السکونی فی النصاب. وعلیه فبعد تمامیّة الملاک وفعلیة الخطاب، فإنّ الاخلال العمدی الموجب لسقوط التکلیف وهو تحصیل الماء یستلزم الحرمة لأنّ الطهارة المائیة هی المطلوب الأوّلی الشرعی، وتفویته متعمّدا یوجب استحقاق العقوبة، فیکون حکمه حینئذٍ هو الحرمة، وتکون علی نحو المقدمة وهذا حکم لا خلاف وإنْ کان أصل التکلیف فیه للصلاة، ولکن وجوبه شرعی لا عقلی.

وأخری: یقع البحث فیه من جهة الحکم الوضعی، وهو صحّة التیمم فی هذه الصورة والصلاة معه؟

ذهب جمع کثیر من الفقهاء الی الصحة، ومنهم المصنّف، بل هو الأشهر بین الأصحاب، بل فی «المدارک» أنّه المشهور، وعن «الروض» نسبته الی فتوی الأصحاب، کما علیه صاحب «الجواهر» والسیّد فی «العروة»، وکثیر من أصحاب التعلیق منهم الآملی والمحقق الهمدانی وغیرهما، وهو المختار.

والدلیل علیه: إنّ ضیق الوقت الموجب لانتفاء القدرة علی تحصیل الطهارة المائیة للصلاة بنفسه یعدّ من مسوغات التیمم، حتّی مع القطع بوجود الماء، فضلاً عن احتماله، فلا یجب الطلب لعدم سعة الوقت لذلک، فحینئذٍ یدور الأمر: بین ترک الصلاة لأجل عدم القدرة علی تحصیل شرطها من الطهارة المائیة، وهو منافٍ لما ورد فی أخبار کثیرة متواترة بأنّها: «لا تترک بحال».

وبین الاتیان ببدلها وهو الطهارة الترابیّة.

فعند الدوران یکون الثانی أولی وأوجب، خصوصا مع وجود اطلاق ما دلّ

ص:84

علی بدلیّة التیمم، وکون (ربّ الماء هو ربّ الصعید). وعلیه فاطلاق الأمر بالصلاة یقتضی لاجزاء والصحّة عقلاً، حتی ولو کان بحیث لو طلب الماء لظفر به وعثر علیه.

هذا مضافا الی امکان استفادة الجواز والإجزاء من قول الصادق علیه السلام فی صحیح زرارة أو حسنته، بقوله: «فإذا خاف أن یفوته الوقت فلیتیمّم ولیصلّ» حیث یؤید ما ادّعیناه من أنّ ضیق الوقت من مسوّغات التیمم، وموجبات صحته والصلاة معه.

نعم، قد نسب الخلاف الی ظاهر «الخلاف» و«المبسوط» و«النهایة» حیث اطلق الشیخ رحمه الله عدم الصحة مع الاخلال، ولکن لا یبعد أن یکون مقصوده فی سعة الوقت، کما ادّعاه صاحب «الجواهر» وقال إنّه ظاهر الأوّل المذکور فی «الخلاف»، بل هو المحتمل فی الجمیع.

هذا کلّه بالنسبة الی الصحة فی الوقت.

وثالثة: یقع البحث فی حکم وجوب القضاء خارج الوقت عند اخلاله بالفحص فی الوقت:

فیه قولان:

1_ قول بالوجوب کما نسب ذلک الی الشهید فی «الذکری» والمحقق فی «جامع المقاصد» والشهید الثانی فی «المسالک»، وللمصنّف فیما یأتی، والعلاّمة فی «القواعد»، ولکن قیدوا ذلک بما (اذا وجد الماء فی محلّ الطلب) کما فی الثلاث الأوّل، أو (فی رحله) أو (عند أصحابه) کما عن العلاّمة، أو (الرحل) فقط کما عن «المبسوط» و«الخلاف» و«الاصباح».

2_ وقول بعدم الوجوب، لأجل ما عرفت من أنّه قد عمل بوظیفته فی آخر

ص:85

الوقت وإنْ هو آثمٌ فی تأخیره وتضیق الوقت، لاقتضاء الأمر الاجزاء، ولا یصدق علیه عنوان الفوات حتی یشمله الآمر الجدید بالقضاء، أو یقضی بناءً علی الأمر الاوّل من باب تعدّد المطلوب، لما قد عرفت أنّه لا یکون أسوء حالاً ممّن یقطع بوجود الماء عنده، ومع ذلک یُهمل حتی یضییق علیه الوقت حتّی یخرج عن القدرة عن تحصیل الطهارة المائیة، ویضطر لتحصیل الطهارة الترابیة، وعلیه فالحکم بوجوب القضاء مشکلٌ.

نعم، قد استدلّوا للوجوب بما لا یخلو عن اشکال، وهو أنّه کان مکلّفّا بالطهارة المائیة واقعا، اذ لو طلب لظفر بالماء، فهو قد فوّت علی نفسه الصلاة مع الطهارة المائیة بسوء اختیاره، فعلیه قضائها، لعموم: «من فاتته فریضة فلیقضها»، هذا فضلاً عن أنّ ما أتی به من الصلاة مع التیمم إنّما یسقط التکلیف بالصلاة مع الطهارة الترابیّة لا المائیة، فالصلاة مع الطهارة المائیّة تکون قد فاتته، وعلیه فیجب علیه قضائها.

أقول: لا یخفی ما فیه، لأنّه من الواضح أنّه لو کان ملاک الأمر وصحّة الصلاة هو ذلک _ أی تحصیل الطهارة المائیة، وکونه شرطا مطلقا _ فلازمه وجوب القضاء أیضا حتی مع الفحص والطلب، لو أفرط فی ترکه فضاق علیه الوقت، لأنّه قد فوّت الشرط عمدا، مع أنّ الأمر لیس کذلک، بل الملاک فی الصحة أحد الأمرین: تحصیل الطهارة المائیة مع التمکین، والترابیة مع العجز حتّی ولو کان ذلک بسوء اختیاره، لأنّه لا یؤثر إلاّ فی صحة العقوبة لا فی الانتقال الی البدل، وحیث أنّ المورد یصدق عند سوء اختیاره أنّه عاجزٌ عن تحصل الطهارة المائیة، فلابدّ له من تحصیل الطهارة الترابیّة، وقد حصل وهو المطلوب، ویسقط بذلک الأمر المتعلق بالصلاة، لحصول الامتثال بذلک.

ص:86

بل لا یبعد الاستدلال باطلاق صیححة العیص، قال سألت أبا عبداللّه علیه السلام عن الرجل یأتی الماء وهو جُنُبٌ وقد صلّی؟ قال: یغتسل ولا یعید الصلاة»(1).

حیث یشمل اطلاقه ما إذا کان وصل الی الماء خارج الوقت، وکان قد صلّی عند ضیق الوقت مع التیمم مع الاخلال بالطلب، متعمّدا کان أو غیره، ما لم یقم دلیل علی تخصیصه بالثانی.

وکذا صحیحة محمد بن مسلم، قال: «سألت أبا عبداللّه علیه السلام عن رجل أجنب فیتمّم بالصعید وصلّی، ثمّ وجد الماء؟ قال: لا یعید، إنّ ربّ الماء ربّ الصعید، فقد فعل أحد الطهورین»(2). فیشمل اطلاقه للصوة المذکورة أیضا.

نعم، فی «الحدائق» بعد ما نسب وجوب القضاء الی المشهور ذکر لکلامهم دلیلاً وهو الاستدلال بخبر أبی بصیر، قال: «سألته عن رجلٍ کان فی سفرٍ وکان معه ماء فنسیه فیتمم وصلّی، ثمّ ذکر أنّ معه ماء قبل أن یخرج الوقت؟ قال علیه أن یتوضّأ ویعید، الحدیث»(3).

أقول: ولکن فیه ما لا یخفی _ فإنّه مضافا الی ضعف سنده بالاضمار، حیث لم یذکر المرویّ منه _ إنّ مورده هو النسیان، وکون الصلاة فی الوقت، فلم ینجّز علیه الأمر بالطهارة الترابیّة، بخلاف ما نحن فیه، فتکون الاعادة هنا فی الوقت أو خارجه، مع فرض کون أنّه قد تذکّر ذلک فی آخر الوقت، فتکون الاعادة حینئذ بصورة القضاء. وعلیه فالحکم بوجوب القضاء فیه لا یوجب الحکم به فیما نحن فیه لتفاوت الملاک بینهما من تنجیز الأمر فیما نحن فیه المقتضی للإجزاء، دون


1- وسائل الشیعة: الباب 14 من أبواب التیمّم ، الحدیث 16.
2- المصدر السابق، الحدیث 15.
3- وسائل الشیعة: الباب 14 من أبواب التیمّم ، الحدیث 5.

ص:87

مورد الروایة کما لا یخفی، حیث یکون مَثَله مَثَلُ من نسی أصل الطهارة، فیکون العمل صادرا عن الأمر الخیالی لا الأمر الواقعی، لکونه مقصّرا فی نسیانه ولکونه واجدا للماء واقعا.

نعم، قد یأتی البحث فی الفرع المذکور _ أی من نسی أصل الطلب _ عن أنه تارةً ینکشف وجود الماء لو طلبه، وأخری ینکشف خلافه.

ذهب المرتضی رحمه الله الی عدم الطهارة للناسی مطلقا، فی الوقت وخارجه، طلب أو لم یطلب، مع اعتقاده عدم الماء.

وفی «الجواهر» قال: «وکأنّه لرفع القلم، وعدم القدرة علی زواله، وصدق عدم الوجدان، لأنّ المراد به فی اعتقاده لا واقعا، ولذا لا یعید مع الطلب وإنْ لم یصادف، وعدم شمول القضاء له، وهو لا یخلو عن وجهٍ، سیّما فی القضاء، وإنْ کان الأوجه الأوّل» انتهی محلّ المحاجة(1).

وفیه: لا یخفی علی المتأمّل أنّ ملاک وجوب الاعادة وعدمها فی الوقت أو فی خارجه، هو عدم سقوط الأمر بالاتیان کذلک، لأجل فقد شرطه، وهو عدم وجدان الماء، لکن ذلک بعد الاجتهاد والفحص ولو لم یصادف وأخطأ فی ذلک، لصدق اداءه وظیفته من الطلب، وأمّا من لم یأت بذلک ولو لاجل النسیان فی حکمه من وجوب الطلب، أو ظنّ أنّه یکفی فیه اعتقاد عدم الوجدان فیتمم وصلّی، فلا یقال لمثله أنّه قد وتحقّق له الشرط بکونه فاقد الماء، فلو تذکّر فی الوقت وأصج قادرا علی تحصیل شرطه من الطهارة المائیّة، فیجب علیه اعادة الصلاة لبقاء الأمر بها، بل لا یبعد الحکم باعادة تحصیل الطهارة الترابیّة واعادة الصلاة لو تذکّر فی الوقت المضیّق الذی لا یقدر فیه علی الطهارة المائیة، لکشف


1- الجواهر، ج5، ص 88.

ص:88

عدم صحة تیمّمه فی ذلک الوقت. ففی هذه الصورة لو ترک الاعادة فی الوقت متعمّدا أو جهلاً بالمسألة، وجب علیه القضاء لصدق الفوت علیه، بلا فرق بین کون القضاء بأمرٍ جدید أو بالأمر السابق.

نعم، الذی ینبغی أن یتأمّل فیه، هو مالو نسی الطلب واعتقد عدم الماء، وکان الأمر کذلک فی الواقع، أی لو طلبه لما وجده، ففی ذلک یأتی البحث عن أنّه هل یکفی مثل هذا الأمر مع کونه مطابقا للواقع أم لا؟ حیث إنّه قد قصّر فی ترک طلبه، فاطلاق خبر أبی بصیر من الحکم بالاعادة یشمل لمثله، حیث لم یرد فیه ذکر أنّه لو طلبه وجده أم لا؟ فیرجع الکلام فیه الی أنّ شرطیّة عدم وجدان الماء فی صحة التیمم.

هل هو شرطٌ واقعی أو اعتقادی؛ لیکون علی الأوّل محکوما بالبطلان مطلقا، وعلی الثانی غیر محکوم مطلقا، أو یفصّل بین ما لو انکشف الحال فی الوقت فیعد، وفی خارج الوقت فلا یعد؟

وجوه واحتمالات، فظاهر کثیرٍ من الفقهاء هو الأوّل عملاً بظاهر الحدیث واطلاقه وهو غیر بعید.

حکم فی انتقل تکلیفه من الاختیاری الی الاضطراری

ثمّ أضاف صاحب «الجواهر» هنا فرعا آخر وهو: من انتقل تکلیفه من الاختیاری الی الاضطراری، فحنئذٍ هل یکفی العمل بما هو وظیفته فی ذاک الحال من التیمّم أم لا، بل یجب علیه الاعادة فی الوقت والقضاء فی خارجه بعد وجدان الماء؟ فیه قولان أو اقوال:

قول: بعدم وجوب الاعادة مطلقا، أی فی الوقت وغیره، بل لا عصیان له فی تبدیله، هذا کما ما نسبه صاحب «الجواهر» رحمه الله الی المحقّق فی «المعتبر» حیث

ص:89

قال بجواز اراقة الماء فی الوقت، والصلاة مع التیمّم، بل وصریح المحقق الثانی فی «جامع المقاصد» من تجویز إراقه الماء لمن ظنّ ادراک الماء فی الوقت.

مع أنّ صاحب «الجواهر» ادّعی الاجماع علی خلافه، کما عساه یُشعر الی ذلک نسبة «الحدائق» ذلک الی الأصحاب، فلا بأس هنا من النظر الی ما استدلوا به لمختارهم، وهو أمران:

الأوّل: هو الأصل، ولعلّ مرداهم هو البراءة عن وجوب حفظ الماء بالنسبة الی الزمان آلاتی، لأنّه مشکوک، فیرفع بحدیث الرفع، وقبح العُقاب بلا بیان،

هذا، ولکن صحته موقوف علی عدم وجود دلیل علی خلافه، مع أنّ الدلیل قد یدل أو یستشعر بما یدلّ علی وجوب الطلب، المستفاد من حدیث السکونی وصحیحة زرارة من ایجاب الطلب فی الوقت، بل وهکذا من ما یدلّ علی وجوب تحصیل الماء ولو بالشراء مع التمکن، مضافا الی امکان الاستشعار ممّا یدلّ علی بدلیّة التیمم عن الوضوء والغُسل، حیث أنّ البدل لا یکون إلاّ مع عدم التمکن من الایصال الی المبدل، فالواجب تحصیله أوّلاً هو المبدل، فإعدام المبدل للوصول الی البدل أمرٌ غیر مقبول عند الشرع والعقلاء.

الأمر الثانی: أنّ ما یستفاد من أدلّة وجوب الصلاة هو وجوب کلیّ الصلاة فی أوّل الوقت، وکیفیّة أدائها یتبّع حاله کونه وقت الأداء واجدا الماء أو فاقده، وذلک لا یقتضی ایجاب حفظ الحالة الأولی والتی کانت مبدأً التکلیف، ولذا کان له السفر بعد الوقت، ونقل تکلیفه من الاتمام والقصر، بل تخییره فی أوقات الصلاة یقتضی عکسها، هذا کما فی «الجواهر».

أقول: هذا جیّد لو لم یقم الدلیل علی خلافه، کما فی القصر والاتمام فی السفر والحضر، حیث یکون حکم کلّ واحدٍ منهما تابعا لتحقّق موضوعه، فتغییر

ص:90

الموضوع یکون باختیار المکلّف فیقتضی حکمه أیضا، هذا بخلاف المقام لما قد عرفت من أن مقتضی البدلیّة والأدلّة هو وجوب تحصیل الطهارة المائیة أوّلاً، فإنْ لم یتمکّن ولو لأجل سوء اختیاره، ینتقل واجبه الی البدل، ولکنه لیس له أن یُخرج نفسه عمّا هو مقدمة للصلاة وجوبا، فقیاس المقام بمثل السفر والحضر قیاسٌ مع الفارق، من جهتة جواز اباحة التغییر فیه دون الثانی، وإنْ کان تخییره فی الأوقات من حیث الواجدیة والفاقدیة علی سواء، ولذلک تلاحظ عدم جود الاشکال فی السفر والحضر من حیث الانتقال من عنوان الی عنوان آخر، وإنْ ورد فیه نقاش من جهة اقدامه علی تغییر حکمه من کونه مکلّفا فی أوّل الوقت بتکلیفٍ الی غیره، وذلک بملاحظة عموم الأدلّة الدالة علی لزوم مراعاة ما کُلّف به اوّلاً، ولو من جهة دلیل الاستصحاب. ولکنه غیر مرتبط بما نحن بصدده.

مضافا الی انّه لو سلّمنا عدم اقضتاء نقل عنوان القواعد الحرمة، لکنه لا اشکال فی حرمته بعد ما عرفت الاجماع والأدلّة الدالة علی حرمة الانتقال کما لا یخفی، وهو لا ینافی کون الحکم بعد العصیان ونقل عنوان نفسه من الواجدیة الی الفاقدیة هو التیمم، لشمول الأدلة له، لکونه حینئذٍ یعدّ فاقد الماء، فیدخل تحت عموم الآیة، فإذا أتی بما هو تکلیفه لزم منه سقوطه، فلا وجه من الحکم بالاعادة بعد التمکین من الماء فی الوقت، وفاقا للمصنّف فی «المعتبر»، والفاضل الهندی فی «کشف اللّثام» وغیرهما، بل قد یستشعر عن عبارة «المعتبر» عدم الخلاف فیه، فإذا لم تجب الاعادة فی الوقت، فعدم وجوب القضاء فی خارج الوقت یکون بطریق أولی، لأنّه فرع صدق الفوت علیه وعدم انتقال الأمر، فمع امتثاله یسقط القضاء لو کان وجوبه بالأمر الاوّل، ومع عدم صدق الفوت یسقط وجوب القضاء لو کان وجوبه بأمرٍ جدیدٍ، فیصیر هذا العاصی بعد عصیانه کغیر العاصی

ص:91

فی صدق الامتثال، والاجزاء فی اتیان الصلاة مع التیمم. وعلیه فما فی «القواعد» وغیرها من الحکم بالاعادة عند التمکین، خصوصا اذا أراد الأعمّ حتّی یشمل القضاء أیضا ضعیفٌ جدّا، وإنْ کان الاحتیاط بالاعادة مطلقا حسنا حذرا عن مخالفة من عرفت.

نعم، قد ذکر فی «الجواهر» احتمالاً لوجوب الاعادة تأییدا لهم، بأن یقال: إنّ أدلة التیمم ومشروعیته منصرفة عن مثل من ینقل نفسه عن عمدٍ وعلمٍ، فیعاقب علی الصلاة حینئذٍ، وإنْ لم یقع منه وذلک لسوء اختیاره، فإذا وجد الماء أعاد أو قضی.

وفیه: لکنّه لیس بجیّد، لأنّه اذا لم یکن التیمم حینئذ مشروعا، فلا وجه للحکم علیه بلزوم اتیان الصلاة مع التیمم، اذ دلیل علی أنّ «الصلاة لا تُترک بحال» لا یقتضی الحکم باتیان الصلاة مع التیمم، بل غایته ایجاب أصل الصلاة فاقدة للطهارة، فیدخل تحت حکم من لم یکن عنده الطهارة، وکان فاقدة لهما، وأنّ مثله هل یجب علیه الصلاة حینئذٍ ویسقط أم لا؟ ففیه خلاف. وأمّا وجوبه للفراغ الیقینی من باب الاحتیاط، وتحصیل المقدمّة العلمیّة _ کما فی «الجواهر» فهو فرع وجود الدلیل فی أصل الوجوب والشک فی سقوطه، فاذا أثبتنا الاجزاء بواسطة الأدلّة، وقلنا بشمول عموم أدلة التیمم للمورد أیضا، فلا وجه حینئذٍ للحکم بوجوب ذلک من باب الاحتیاط، بل غایته حُسنه کما عرفت، وهو غیر بعید.

فرع: ثمّ علی فرض التسلیم بلزوم اعادة الصلاة التی أراق المکلف الماء فی وقتها، فهل هو مختصّ بالصلاة التی کانت بذلک الوصف، أو یشمل کلّ ما یمکن تأدیته بذلک الماء، وإنْ لم یدخل وقتها.

مقتضی القاعدة هو الأوّل، لانّه یکون مورد انصراف دلیل التیمم عنه لا مطلقا مضافا، الی أنّه مقتضی أصالة البراءة عن الوجوب عند الشک فیه، بل فی

ص:92

«الجواهر»: «لا یبعد دعوی اختصاص الظهر لو أراقه فی وقتها المختصّ به دون العصر، وإن احتمل بعضهم بناءً علی دخوله بمجرد انتهاء وقت الظهر، لکن الأوّل هو مقتضی الأدلّة السابقة، فتأمّل جیدا».

وفیه: لا یخفی قوة احتمال وجوب الاعادة للظهرین فی الفرض المزبور، لأنّ الوقت فی الدلیل یفرض لهما معا، فلا یبعد شمول دلیل وجوب الاعادة لهما حتّی فی الوقت المختصّ بالعصر فضلاً عمّا قبله. ولکن قد عرفت الاشکال فی أصل وجوبها وقضائها.

هذا کلّه البحث عن اراقة الماء بعد دخول الوقت.

حکم اتلاف الماء قبل دخول الوقت

تحصل اراقة الماء قبل دخول الوقت: تارة مع العلم بعدم الوصول الی الماء بعده، واخری مع احتماله.

ولا اشکال فی أنّه اذا أراق الماء ودخل الوقت، ولم یجد الماء بعد الطلب، تیمّم وصلّی ولا یعیدها قطعا، لما عرفت من عدم وجوب اعادتها فی الوقت، فقبله یکون بطریق أولی.

والکلام انّما یکون فی أنّ الاراقه توجب الاثم علیه حتی تصصج الاراقه علیه حراما أم لا؟

الذی یظهر من صاحب «الجواهر» أنّه لا اثم علیه، تمسکا بالأصل، ولعلّه اراد بها البراءة، وبعدم وجوب مقدمة الواجب الموسع قبله، سیّما فیما له بدل شرعی.

خلافا للاستاذ الأکبر فی «شرح المفاتیح» حیث أوجب حفظ أیضا مع الاحتمال فضلاً عن غیره، معلّلاً باستصحاب البقاء الی وقت الصلاة الواجبة،

ص:93

وکونها من الواجبات المطلقة اللازمة الصدور من المکلف علی أیّ تقدیر، وأنّها أشد الفرائض. وکأنّه قاس الواجب فی المقام بالواجب فی الحَجّ، فکما أنّه یجب فیه بعد حصول الاستطاعة من تحصیل مقدماته الوجودیة من الرفقة وغیرها قبل حصول وقته وموسمه، مع کون وقته متوسعا، فکذا الأمر فی المقام، فإنّ وجوب الصلاة بعد الوقت وإنْ کان موسّعا، إلاّ أنّ مقدماته الوجودیة مثل الطهارة یجب تحصیلها قبل دخول الوقت، اذا علم انحصارها فیه، بحیث لو لم یحصل قبل الوقت لعجز عن تحصیلها بعده، کما یجب تحصیل الرفقه قبل موسم الحجّ اذا علم انحصاره فیه ولم یقدر من تحصیل رفقةٍ أخری.

ولکن ردّ علیه صاحب «الجواهر» بقوله:: «وهو کما تری».

ومثله فی الضعف استدلاله بقوله: «یکون الواجب هنا واجبا مطلقا، أی یجب صدوره عن المکلّف علی أی تقدیر».

أقول: الدقة والتأمل هنا یقتضی القول بأنّ مقتضی القاعدة فی الواجبات المشروطة بالوقت کالصلاة، أن لا یکون تحصیل مقدماته واجبا إلاّ بعد تحقّق أصل وجوب ذیّها، کما یستظهر ذلک من قوله تعالی: «إِذَا قُمْتُمْ إِلَی الصَّلاةِ» أی اذا أردتم القیام للصلاة، التی هی کنایة عن وجوبها فاغسلوا وجوهکم، وإنْ لم تجدوا ماءا فتیمّموا، فما دام لم یجب أصل ذیّها، وجه لوجوب مقدماته، الاّ أن یستفاد من دلیل خارجی أهمیّة الواجب مع الشرط، حتّی یستکشف أنّه واجب التحصیل قبل الوقت لو علم عدم قدرته علی تحصیله بعده، ولعلّ هذا هو مراد الاستاذ من قوله: «وإنّها أشدّ الفرائض» بأنّه استفاد ذلک من دلیلٍ آخر لامن أصل دلیل ایجابه. وهذا وإن لم یکن خالیا عن الوجاهة، الاّ أنّه کذلک إن لم یکن للواجب بدل شرعی، لأنّ ظهور البدلیة یکون بملاحظة ما بعد حصول الوجوب

ص:94

ودخول الوقت، وعجزه عن تحصیل المبدل منه لا مطلقا، یعنی إذا عجز عن تحصیل الماء قبل الوقت، بحیث یفهم منه وجوب تحصیل المبدل قبل الوقت أیضا، فمقتضی هذا التقریر تأیید کلام صاحب «الجواهر»، ولعلّ هذا هو الوجه الفارق بین وجوب الصلاة مع الطهارة، مع وجوب الحجّ بتحصیل الرفقة، إذ لا بدل شرعی للثانی بخلاف الاوّل، وعلیه یترتب أنّه لا یجب علیه حفظ الماء إذا مرّ به قبل الوقت، مع احتمال عدمه فی ما بعد الوقت، کما لا یجب طلبه قبله مع احتمال عدم التیسّر له فیه، کما لا یجب علیه حفظ وضوئه وعدم ابطاله لو کان متوضّأً قبل دخول الوقت، وامثال ذلک.

هذا بخلاف ما لو التزمنا بمقالة الاستاذ الاکبر قدس سره حیث یستلزم وجوب جمیع تلک الموارد، مع أنّ صاحب «الجواهر» یدّعی القطع بعدم وجوبه، بل ادّعی حکایة الاجماع علی عدم وجوب الوضوء قبل دخول الوقت، کظاهر الأخبار المعلقة له علیه.

أقول: القاعدة وإن تقتضی ذلک، الاّ أن الاستشعار من الأخبار الواردة فی الصلاة فی الموارد المختلفة والدالة علی أهمیّته الصلاة مع الطهارة المائیة _ حتی أنّه ورد فی الأخبار النهی عن السفر إلی أرضٍ لا ماء فیها، وانّه هلاک الدین _ یفهم أن الشارع لم یرض فیها بالرجوع الی البدل فی صورة امکان تحصیل المبدل قبل الوقت بلا تکلّف، وأنّ غرضه، اوّلاً تحصیله مع الطهارة المائیة، وجعل البدل فی مورد الاضطرار حقیقة، أی عند عجزه حقیقةً عن تحصیله قبل الوقت بسهولة، فینتج أنّ حکم البدلیة لا یشمل الصورة المفروضة فی المسألة، ولعلّه لذلک حکم السیّد _ أو جماعة من أصحاب التعلیق _ فی «العروة» بالاحتیاط.

ولعلّ هذا الارتکاز هو الذی أوجب التزام «صاحب الجواهر» بمثل ذلک فیما

ص:95

لو ترک المقدمة التی توجب فوت الصلاة بعد الوقت من تحصیلها قبل الوقت، کالطهورین، یعنی اذا علم أنّه لو لم یحصل أحد الطهورین قبل الوقت سوف یعجز عن تحصیله بعده ویوجب فوت الصلاة حینئذاک.

کما قد یؤید ذلک _ أی اهمیّته الصلاة عند الشرع _ ملاحظة تحریم النوم لمن علم فوت الفریضة به، ولیس ذلک الاّ لأهمیّته ذلک، وإنْ لم یکن کذلک فی کلّ واجب موقت، بخلاف مدّعی استاذه حیث یمکن أن تکون دعواه ذلک فی کلّ واجب موقّت.

هذا، ویحتمل القول بالتفصیل بین ما لو أراد المکلف الاحتیال لاسقاط الواجب وترکه مثل الصلاة ونحوها، فیجب علیه تحصیله قبل الوقت، وبین غیره فلا یجب، وجوهٌ؛ فالأوّل هو الموافق للاحتیاط فلا یترک.

حکم التیمم من واجد الماء عند ضیق الوقت

الکلام فی أنّه هل یجب التیمم علی واجد الماء الذی لا یتمکّن من استعماله خوفا لفوات الوقت من الصلاة، حتّی بإدراک رکعة منها، وإنْ کان ذلک بتقصیرٍ وتفریط منه فضلاً عن غیره؟ کما علیه صاحب «الجواهر» وفاقا للعلامة فی «المنتهی» و«التذکرة» و«المختلف»، والشهید الثانی فی «الروضة» وغیرها.

خلافا للمحقق فی المعتبر وصاحب «جامع المقاصد» و«کشف اللّثام» و«المدارک» حیث ذهبوا الی وجوب تحصیل الطهارة المائیة، وإن استلزم ذلک قضاء الصلاة وخروجها عن الوقت؟

فیه وجهان بل قولان کما عرفت، وإنْ احتیاط صاحب «الجواهر» فی آخره بالاتیان بها مع التیمم ثمّ الطهارة والقضاء، سیّما مع التقصیر والتفریط، حیث قال: «لا ینبغی ترکه».

ص:96

بل یظهر منه وجود قول ثالثٍ هو: وجوب الاحتیاط المذکور مقدمة للفراغ الیقینی.

أقول: لا بأس هنا بذکر ادلّة الطرفین حتّی یتضّح الحق فی البین إنْ شاء اللّه، فنقول: استدلّ للقبول الأول: _ مضافا الی کونه هو الأشهر کما فی «الریاض» _ إنّ مقتضی عموم المنزلة _ أی تنزیل الطهارة الترابیة منزلة الطهارة المائیة _ یشمل لما نحن فیه أیضا، کما یشمله دلیل أنّه (أحد الطهورین) وإنّ (ربّ الارض هو ربّ الماء) خصوصا مع ملاحظة دلیل (إنّ الصلاة لا تسقط بحال)، بل وظهور مساواة الخوف لذلک مع الخوف لتلف الوقت فی السعی والطلب للماء أو اتمام السعی الیه، فإنّه کما یجب التیمم فی الثانی، کذلک یجب فی الأوّل، مضافا الی أنّ حکمة مشروعیة التیمم کان للمحافظة علی الصلاة فی وقتها، لأهمیّة ملاحظة حال الوقت عن ملاحظة حال الطهارة المائیة کغیرها من سائر الشرایط من تحصیل الساتر وغیره، حیث أنّ جمیعها تسقط عند ضیق الوقت، ولعلّه لذلک لم یعدّ ضیق الوقت من مسوّغات التیمم، أی لاجل سقوط سائر الشرایط مع المزاحمة بضیق الوقت لم یعدّ ذلک منها، وهذا هو العمدة من الأدلة، لأنّ هذا ممّا یظهر من ملاحظة الأدلة فی الموارد المختلفة، إذ غیر هذا یمکن المناقشة فیها فی الجملة، وإنْ کان التأیید بمثل تلک الصور لا یخلو عن وجه.

وأمّا الاستشعار لذلک بما ورد فی الموثّق المروی عن سماعة، عن أبی عبداللّه علیه السلام ، عن أبیه، عن علی علیه السلام : «أنّه سُئل عن رجلٍ یکون فی وسط الزحام یوم الجمعة أو یوم عرفة، فأحدث، أو ذکر انّه علی غیر وضوءٍ، ولا یستطیع الخروج من کثرة الزجام؟ قال: یتیمّم ویُصلّی معهم، ویعید إذا هو انصرف»(1) ومثله خبر السکونی(2).


1- وسائل الشیعة: الباب 15 من أبواب التیمم، الحدیث 2.
2- المصدر السابق، الحدیث 1.

ص:97

فانّهما وإنْ کانا یدلاّن علی تحصیل التیمم والصلاة معهم، الاّ أنّ حکمها بالاعادة اذا انصرف یضرّ بالاستدلال، إنْ کان وجه الاعادة لأجل التیمم فی الزحام وکونه من غیر ضرورة.

اللّهم الاّ أن یکون وجه الاعادة هو أنّ الصلاة مع العامّة تعدّ من انواع التقیّة المدارئیة، فلا بأس حینئذٍ بجعلها تأییدا للمدّعی.

کما أنّ الاستدال لذلک: بظهور الاتفاق علی مشروعیّة التیمّم لصلاة الجنازة، مع خوف فواتها، وعدم الفرق بینها وبین ما نحن فیه إلاّ بالوجوب والندب، وهو لا یصلح فارقا.

لا یخلو عن تأمّل، لأنّه أوّلاً: یمکن أن تکون صلاة المیت أیضا واجبة لاجل الأنحصار به، وعدم وجود شخصٍ آخر یصلّی علیه، فلا افتراق من هذه الناحیة بین الموردین.

وثانیا: امکان دعوی الفرق بین الموردین من جهة أخری، وهی أنّ صلاة المیّت لیست بصلاةٍ بل هو دعاء، حیث یجوز أن یقوم بها حتی الحائض والجنب، و علیه فلا بأس بالارفاق فیها بما لا یکون کذلک فی غیرها، فتجویز التیمم فیها لا یوجب تجویزه فی غیرها کما لا یخفی.

وخلاصة الکلام: الأقوی عندنا هو هذا القول، فلا یخلو ما استدلّ به الآخرون من عدم ایجاب التیمم بل وجوب تحصیل الطهارة المائیة والاتیان بالصلاة قضاءً عن ضعفٍ تمسکا منهم بعدم ثبوت مسوغیة ضیق الوقت للتیمّم، ولأنّ وجوبه متعلّق علی عدم الوجدان الذی لا یتحقق صدقه بذلک، لأنّه واجدٌ للماء لغةً وعرفا.

وبما ذکرنا یحصل الفارق بین ما نحن فیه وبین من أخلّ بالطلب حتّی ضاق الوقت، لأنّه من الواضح أنّه لیس المراد من (عدم الوجدان) الحقیقی منه، والاّ

ص:98

یصدق الواجد علی من یخاف استعماله لنفسه أو لعیاله، أو من یخاف فوته من نفس محترمة، ومع ذلک یحکم بالتیمّم، وإنْ کان ثبوت الحکم فی هذه بالدلیل، إلاّ انّه یصیر مبیّنا لمعنی المراد من عدم الوجدان، فلماذا لا یکون المقام کذلک أیضا.

وأمّا الجواب عن عدم ثبوت المسوغیّة لضیق الوقت، فقد عرفته منا آنفا فلا نعید.

کما أنّ القول بالاحتیاط بالجمع بینهما بتقدیم التیمّم علی الطهارة والقضاء، مبنیٌ علی الاحتیاط العملی من احتمال بقاء التکلیف علیه فی الواقع، لا الاحتیاط فی الجمع بین الدلیلین، لوضوح أنّه لو لا ترجیح دلیل حکم التیمم علی الآخر، لما أمکن الجمع بینها الاّ بالتخییر، لعدم امکان تحصیل ما یوجب الفراغ مع احتمال العصیان فی الواقع بما لا یتمکّن من تحصیل الواجب فی البین برغم تمامیة شرائطه کما لا یخفی علی المتأمّل.

ومن ذلک یظهر عدم تمامیّة القول بوجوب الاحتیاط، کما هو القول الثالث، لما قد عرفت من أقوائیة دلیل وجوب التیمم علی الآخر، الموجب لاقتضاء الأمر للاجزاء. وعلیه فلا وجه حینئذٍ للحکم بوجوب الاحتیاط مع ظهور دلیلٍ دالّ علی المراد، وعدم قدرة الآخر للمعارضة معه حتّی یوجب الحکم بوجوب العمل بکلیهما. واللّه العالم.

تفسیر معنی (ضیق الوقت)

یدور البحث عن أنّ إنّ ضیق الوقت المسوّغ للتیمم:

هل هو عبارة عمّا لا یلزم تحصیل الطهارة المائیة خروج الصلاة عن الوقت حتّی فی جزء منها کالتسلیم، فضلاً عن اکثر منه، والاّ وجب التیمم.

أو عبارة عمّا لا یلزم تحصیل الطهارة درک رکعة، والاّ یتطهّر بالطهارة المائیّة ولا یجوز التیمم؟

ص:99

قوله: ولا فرق بین عدم الماء أصلاً، ووجود ما لا یکفیه لطهارته(1)

فیه وجهان، بل قولان، بل ربّما قیل بالتفصیل: بین ماله بدلٌ شرعا کما نحن فیه، فلا یجوز الطهارة المائیة، ولو استلزم خروج جزءٍ، بل یجب فیه التیمم.

وبین ما لیس له بدلٌ کسائر الشرائط، فیجب تحصیل الطهارة إذا أمکنه درک رکعة فی الوقت فضلاً عن الزائد.

ثمّ أمر صاحب «الجواهر» بالتأمّل أخیرا.

أقول: إنّ لتأمّله وجه، لوضوح أنّ المقام معدود من باب دوران الأمر بین ترجیح الوقت علی سائر الشرائط من الستر والاستقبال والطهارة، وبین عکسه. فالظاهر تقدیم الوقت علی غیره لأهمیّة الوقت، وکونه شرطا لجمیع أجزاء الصلاة حتّی التسلیم، فضلاً عن غیره، کما یظهر ویؤیّد ذلک ملاحظة تکرار الصلاة فی أربع جهات لتحصیل القبلة، ما لم یستلزم تکرارها خروج الوقت، والاّ یکتفی بما یسعه الوقت.

وعلیه، فالأقوی عندنا کما علیه السید فی «العروة» وأکثر أصحاب التعلیق علیه، هو الاتیان بالتیمم، وایقاع تمام الصلاة فی الوقت، واللّه العالم.

(1) إذا وجد الماء ولکن بمقدار لا یکفی للوضوء أو الغُسل، فهل هو کعدم وجدان الماء فی وجوب التیمم، أو أنّه یجب علیه غَسل ما یمکن غَسله به من الاعضاء للغُسل أو الوضوء؟ وجهان:

المحکّی عن الشیخ فی بعض أقواله التبعیض، وهو قولُ بعض العامة علی ما فی «الروض»، ولکن قال صاحب «الجواهر»: «أنا لم أجد فیما حضرنی من کتبه کالمبسوط والخلاف، بل الموجود منهما خلافه، بل فی الأخیر الاجماع علی

ص:100

التیمم للمُجنب الذی کان عنده ما لا یکفیه لغُسله وکذا الوضوء».

وعن الشیخ البهائی، حیث قال: «وللبحث فی المنع عن التبعیض مجالٌ».

نعم، قد حکی عن العلامة فی «نهایة الأحکام» احتمالٌ فی الجُنب، وهو صرف الماء الی بعض اعضائه، معلّلاً ذلک باحتمال وجود مایکمله، والموالاة فیه لیست بشرط، هذا بخلاف المُحْدِث حیث یجب علیه التیمم لو وجد الماء بما لا یکفیه لشرطیة الموالاة فیه.

وفی «الجواهر»: «الظاهر انّه لیس خلافا لما نحن فیه من ایجاب التیمم، وعدم الاجتزاء بغُسل البعض، والتلفیق من الماء والتراب، بل هو واجبٌ آخرٌ خارجٌ عن ذلک من حیث احتماله لوجود ما یکمله، مع أنّه ممنوع أیضا، لعدم رجوعه الی أصلٍ یعوّل علیه».

أقول: لا یختصّ الاحتیاط بالطریق الذی ذکره العلاّمة، لامکان تحصیل الاحتیاط بطریقٍ آخر، بأن یحتاط بحفظ الماء الی أن یصل الی ما یکمل به الغُسل فیغتسل بالمجموع، ویغسل جمیع الاعضاء، وبهذا النحو من الاحتیاط یمکن احداث الوضوء أیضا، بل لعلّه أولی من الطریق الاوّل، لامکان تحصیل الجزم بالنیة فیه دون الأوّل، لأنّه حین الاتیان بغَسل بعض الاعضاء لا یتأتّی له القصد الی الغُسل الاّ برجاء الاتمام إذا وجد الماء لباقی الاعضاء.

وأمّا بالنسبة الی الدلیل علی عدم کفایة التبعیض، وصدق عدم الوجدان لما لا یکفی لجمیع العمل، فأمور:

الأوّل: عدم ورود دلیل علی مشروعیة التلفیق من الماء والتراب، لظهور دلیل کل واحد منهما علی ثبوت الحکم للجمیع، فکفایة البعض عن الکلّ یحتاج الی الدلیل، وهو هنا مفقود، بل لعلّ الدلیل یکون علی خلافه، کما نشاهد فی نظائر

ص:101

هذا المورد مثلاً فی الآیة الواردة فی کفارة الیمین «فَمَن لَّمْ یَجِدْ فَصِیَامُ ثَلاثَةِ أَیَّامٍ» أی لم یجد طعام عشرة مساکین بالفعل، حیث لم یقل بکفایة اطعام البعض واتمام البافی بالصیام یتحقّق الامتثال التلفیقی.

الأمر الثانی: قیام أخبارٍ مستفیضة _ کما فی «الجواهر» _ وفیها الصحیح تدلّ علی وجوب التیمم للجنب، وإنْ کان عنده مالا یکفیه:

منها: خبر الحلبی: «سألت أبا عبداللّه علیه السلام عن الرجل یجنب ومعه قُدر ما یکفیه من الماء الوضوء للصلاة، أیتوضّأ بالماء أو یتیمّم؟ قال: لا بل یتمم. الأ تری أنّه إنّما جعل نصف الوضوء»(1).

ولعلّ المراد من (نصف الوضوء) هو اشتمال التیمم للمَسحَتین دون الغَسلَتین وهما نصف الوضوء، فکأنّ الشارع قد خففّ علیه بالتیمّم، فینافی ما ورد من کفایة ما کان من الماء ما یکفی لغسل بعض الاعضاء، وأنّه یجب علیه الغسل للبعض، فیدلّ الحدیث بالمفهوم ولو من جهة السکوت فی مقام البیان عن حکم وجوب صرف هذا المقدار من الماء المکفی لغَسل بعض الاعضاء، مع أن دلالته علی نفی ذلک تکون أعلی من المهفوم، لأنّ المنطوق الدال علیه بأداة (بل) یفهم منه النفی الصریح علی عدم جواز صرف الماء الموجود فی غسل بعض ما یکفیه، خصوصا مع ملاحظة استعمال ما یعدّ شبه التعلیل بقوله: ألا تری.

وعلیه، فالاستدراک الذی صدر عن المحقق الآملی فی «مصباح الهدی» بقوله: «اللّهمّ الاّ أن یقال بمنع کونها فی مقام البیان من هذه الجهة، وأنّها فی مقام نفی وجوب الوضوء، لا فی مقام نفی وجوب غَسل بعض الاعضاء»(2).


1- وسائل الشیعة: الباب 24 من أبواب التیمّم ، الحدیث 1.
2- مصباح الهدی، ج 7، ص 139.

ص:102

لیس علی ما ینبغی، لأنّه من المعلوم انّه لا یجب علی الجنب الاّ أحد الطهورین، فإذا انتفی وجوب الوضوء عند فرض عدم تمکن الغِسل بتمامه، انحصر الحکم بوجوب التیمم ونفی وجوب غسل بعض الأعضاء، کما لا یخفی.

ومنها: فی الدلالة المختار بل أقوی خبر محمد بن حمران وجمیل بن دراج: «أنّهما سألا أبا عبداللّه علیه السلام عن امام قومٍ أصابته جنابة فی السفر، ولیس معه من الماء ما یکفیه للغسل أیتوضّأ بعضهم ویصلّی بهم؟ فقال: لا، ولکن یتیمم الجنب ویُصلّی بهم، فإنّ اللّه عزّوجلّ جعل التراب طهورا کما جعل الماء طهورا»(1).

فهذا الخبر مشتملٌ علی النفی الصریح بقوله علیه السلام : «لا ولکن یتیمّم».

ومنها: روایتی حسین ابن أبی العلاء(2) ومحمد بن مسلم(3) وخبر الحلبی الآخر فی هذا الباب فإنّ جمیعها صریحة فی ما ذکرناه. ومع وجود هذه الأخبار الصریحة أو کالصریحة علی وجوب التیمم، لا یبقی اشکال فی عدم صحة غَسل بعض الاعضاء.

الأمر الثالث: قیام الاتفاق عند علمائنا علیه کما ادّعاه المحقّق الآملی، حیث قال: «وأمّا فی باب الوضوء فالاجماع قائمٌ علی عدم التفکیک والتبعیض إلاّ الجبیرة علی التفصیل فیها، بل وفی باب الغسل أیضا، إذ لیس فیه مخالف معلوم منّا إلاّ ما تقدم من حکایته عن بعض کتب الشیخ، مع أنّه ادّعی الاجماع فی «الخلاف» علی عدم التبعیض، وأنّه إذا کان عنده ما لا یکفیه لغسله أو وضوئه یتیمم اجماعا» والاّ عن «نهایة الأحکام» للعلاّمة، وقد عرفت جوابه، وأنّه لا یعدّ خلافا فی المسألة کما هو واضح.


1- وسائل الشیعة: الباب من أبواب التیمم، الحدیث .
2- المصدر السابق، الحدیث 3.
3- المصدر السابق، الحدیث 4.

ص:103

هذا کلّه مضافا الی أنّه مقتضی قاعدة انتفاء الکلّ بانتهاء بعض الأجزاء، الاّ أن یقوم الدلیل علی عدم الانتفاء، وهو هنا مفقود،

عدا وجود بعض ما یتوهّم ذلک وهو مثل قاعدة المیسور والادراک والاستطاعة،

أقول: جریان القاعدة هنا محلّ اشکال:

أوّلاً: بما فی «مصباح الهدی» بالنسبة الی قاعدة المیسور، لأنّها هی المتوقفة علی تنقیح موضوعها بأن یعدّ عرفا ما یمکن اتیانه میسورا، لما لا یمکن الکل، حیث إنّه یتصور بثلاثة: تارة یکون المیسور متبیّنا مثل اتیان الصلاة جالسا للمتعذر عن القیام، وربّما یکون عدمه مبیّنا کتعذر الصلاة کلّها الاّ السلام، فإنّه بانفرادٍ لا یعدّ عندهم میسورا للصلاة، وقد یخفی علیهم وفی مثله یحتاج الی عمل الاصحاب، لا لانجبار سند القاعدة، فإنّها من القواعد المسلّمة، بل لتشخیص موضوعها، فإنّهم إنْ عملوا بها فی موردٍ، یستکشف أنّهم فهموا کون الباقی میسورا للکلّ، وحیث أنّ المقام _ أعنی التبعیض فی الوضوء والغسل _ ممّا لم یکن قد عمل به الفقهاء، وکان تشخیص موضوع القاعدة فیه غیر جلّی، فالاعتماد علی القاعدة فی الحکم فی التبعیض لا مورد له) انتهی ملخّص کلامه(1).

أقول: ولا یخفی للمتأمّل الدقیق ما فیه، لوضوح أنّ تشخیص الموضوع وتنقیحه لا یکون موقوفا علی عمل الأصحاب الکاشف عن کونه مصداقه، لأنّه من المعلوم أنّ تشخیص ذلک منوط علی العرف العامّ لا خصوص الفقهاء، حتّی ینتج ما قال به، فالملاک فی الصدق وعدمه، والانطباق وعدمه، هو العرف العام لا الخاص، فإذا صدق وانطبق جری فیه القاعدة، لو لا وجود محذورٍ آخر فیه، کما هو الحال فی المقام کما ستعرف ذلک عنقریبٍ إن شاء اللّه، فعمل الأصحاب لا


1- مصباح الهدی، ج 7، ص 137.

ص:104

یستلزم فهم تشخیصهم بذلک بل یعدّ عملهم مؤیدا لامکان العمل بتلک القاعدة، إمّا لأجل مشاهدة التمسک بها فی بعض الموارد الذی أوجب تعدّیهم الی النظائر والأشباه، أو استفادوا ذلک من بناء العقلاء علی ذلک، أو غیره من المحتملات.

وثانیا: إنّ مورد هذه القواعد هی فیما إذا تعلّق الأمر بموضوعٍ مرکب ذی أجزاء کالصلاة والحج، کما یشهد لذلک ما رواه الفیض فی «تفسیر الصافی» نقلاً عن «المجمع» عن أمیرالمؤمنین علیه السلام فی تفسیر قوله تعالی من سورة المائدة: «لاَ تَسْأَلُواْ عَنْ أَشْیَاء إِن تُبْدَ لَکُمْ تَسُؤْکُمْ»(1)، أنّه قال: «خَطَب رسول اللّه صلی الله علیه و آله فقال: إنّ اللّه کتب علیکم الحجّ. فقال عکاشة بن محصن _ ویروی سراقة بن مالک _ أفی کلّ عامٍ یا رسول اللّه صلی الله علیه و آله ؟ فأعرض عنه حتّی عاده مرّتین أو ثلاثا. فقال رسول اللّه صلی الله علیه و آله : ویحک وما یؤمّنک أن أقول نعم، واللّه لو قلتُ نعم لوجبتْ، ولو وجبت ما استطعتم، ولو ترکتم کفرتم، فاتوکونی ما ترکتم، فإنّما هلک مَن کان قبلکم بکثرة سؤالهم واختلافهم علی أنبیائهم، فإذا أمرتکم بشیء فأتوا منه ما استطعتم، واذا نهیتکم عنه فاجتنبوه»(2).

حیث انّه ظاهر أو صریح فی أن القاعدة تجری فی المرکب ذی الاجزاء لا مطلقا، فلا تعمّ ما نحن فیه، لأنّ المأمور به فی الوضوء والغُسل لیس الاّ نفس الغُسل والمسح حتّی یقال فیهما ما یقال فی مثل الصلاة والحج، بل المأمور به هو نفس الطهارة المسبب عن الغَسلتین والمَسحتین فی الوضوء، وعن غَسل جمیع الأعضاء فی الثانی. وعلیه، فحصول المسبّب لا یتحقّق الاّ بعد ضمّ غَسل جمیع الاعضاء فی الثانی أو الاتیان بجمیع الغَسلتین والمَسحتین فی الاوّل، أو الاتیان ببعضها بشرط تعقّبه ببقیّة الأجزاء، کالوصف الجاری علی نحو الشرط المتأخّر.


1- سورة المائدة، آیة 101.
2- الجواهر، ج 5، ص 95، نقلاً عن تفسیر الصافی ذیل الآیة.

ص:105

فمثل ذلک لا یمکن الاکتفاء فیه بایتان المیسور فقط، لانّه یوجب انتفاء کلّ المأمور به، لأنّ امتثاله موقوف علی اتیان جمیع ما هو المحقّق والمحصّل للمسبّب، فإذ أجح بعضها معسورا لزم منه فقد الجمیع، وهو یطابق مع قاعدة انتفاء الکلّ بانتفاء أحد اجزائه، وهذا واضح للتأمّل. ولعلّه لهذا السبب لا یجری الفقهاء قاعدة التجاوز فی الطهارات الثلاث عند الشک فی الإجزاء دون الصلاة.

ثالثا: إنّ العمل بهذه القواعد إنّما یصحّ فیها اذا لم یرد الدلیل والنصّ علی خلافها، والمقام من هذا القبیل، لما قد عرفت قیام نصوص مستفیضة علی عدم جواز التبعیض، ولزوم الرجوع الی التیمّم، فلا نعید.

أقول: عدم جواز التبعیض والتلفیق فی صورة قلّة الماء، یظهر أنّه لا فرق فی عدم الجواز بین کون منشؤه غیر قلّة الماء، وهو مثل مالو حصل لبعض الاجزاء والاعضاء مرضٌ لا یدخله تحت الجَبیرة ولواحقها، أو کان علیه نجاسة لا یستطیع غَسلها لألم وکسرٍ ونحوه، لوحدة الملاک فی الجمیع، کما صرّح بذلک جماعة من الأصحاب، منهم الشیخ فی مبسوطه وخلافه، والمصنّف فی «المعتبر»، والعلاّمة فی «المنتهی» وغیرهم، فواجب المکلف فی جمیع هذه الموارد هو التیمّم لا غیر.

نعم، نقل عن الشیخ فی «المبسوط» و«الخلاف» أن الأحوط غَسل الاعضاء الصحیحة، ثم التیمّم لیکون مؤدیا صلاته بیقینٍ، لکن علّق علیه فی «الجواهر»: «إنّه لا یخلو عن تأملٍ» إن کان یقصد بتأمّله الاشارة الی وجود مخالف فیه منّا.

نعم، إنْ أراد من حیث احتماله فی نفسه فلتأمّله وجه وجیه، لما سبق القول بحُسن الاحتیاط من حیث نفسه فی مثل الصلاة التی تعدّ من الأمور المهمّة عند الشرع.

وأیضا: یظهر ممّا ذکرنا من عدم جواز التبعیض والتلفیق فی الاکتفاء به، بین ما تکون الطهارة عن الحَدَث الأصغر أو الأکبر، کما لا فرق فی الثانی أیضا بین

ص:106

أنواعه الاّ فی ایجاب الوضوء به، لو کان یکفیه فی حَدَثٍ غیر الجنابة کالحیض والمسّ، حیث أنّهما یوجبان الطهارتین، فتعذّر إحداهما لا یسقط الأخری، بخلاف الجنابة حیث تکفی عن الاخری، ولذلک ورد النصّ فی الخبر المروی عن محمد بن مسلم عن أحدهما علیهماالسلام علی الأمر بالتیمّم والنهی عن الوضوء فی المجنب فی السفر، مع وجود الماء قدر ما یتوضأ معه،(1) کما هو ظاهر غیره.

حکم الماء المطلق الممزوج مع المضاف

لو تمکن المکلف من تحصیل الماء المطلق عن طریق مزجه مع الماء المضاف بما لا یوجب خروجه عن اسم الاطلاق، إلاّ انّه مع مزجه یوجب کفایته للغُسل أو الوضوء.

فهل یجب علیه ذلک، کما علیه بعض بالفتوی کالعلاّمة فی «التحریر» و«المنتهی» و«نهایة الأحکام»، أو بالاحتیاط کما عن الاصطهباناتی فی حاشیته علی «العروة»؟

أو لا یجب علیه إلاّ التیمّم کما علیه المشهور؟ وجهان بل قلوان:

والظاهر أنّ الثانی، وإنْ کان حُسن الاحتیاط بالجمع بینهما لا یخلو عن وجه حَسَن.

وأمّا توجیه الوجهان: فلأنّه من حیث أنّه تمکّن من تحصیل الطهارة المائیة ولو عن طریق العلاج المذکور، فیدخل حینئذٍ تحت عموم أو اطلاق (من وجد الماء فعلیه کذا) فلا یجوز له التیمّم.

ومن جهة عدم اعتناء العرف والعقلاء بمثل هذا العلاج فی حصول الوجدان، کما لا یعتنون بمثل مزج التراب فی الحنطة التی لا تبلغ حدّ النصاب بما لا یوجب الخروج عن اسم الحنطة حتّی یجب علیه الزکاة، للفرق عند العرف والعقلاء بین


1- وسائل الشیعة: الباب 24 من أبواب التیمّم ، الحدیث 4.

ص:107

قوله: الثانی: عدم الوصلة الیه (1)

صورة وجود التراب فی الحنطة بطبعه بمقدارٍ یوجب بلوغه النصاب ومن ثمّ الحکم بوجوب الزکاة علیه، وبین صورة تحصیل المزج بذلک حتّی یبلغ، لأنّ دلیل الدال علی وجوب الزکاة لمن یبلغ حنطته مقدار النصاب منصرفٌ عمّا کان بلوغه عن طریق علاج خارجی من المزج بالتراب، لوضوح أنّه لا یصدق علی من لا یبلغ حنطته بمقدار النصاب بطبعها أنّه مالک نصاب الحنطة. وعلیه فالحکم بوجب إخراج زکاة من یبلغ ماله النصاب بهذه الصورة یعدّ قبیحا لانّه تکلیف بما لا یطاق بمقتضی الطبع الأولی، وإن لم یکن کذلک مع المزج لکنه خارجٌ عن سیرة العقلاء، بخلاف ما لو کان حنطته بطبعها الأولی المأخوذه من الحقل قد بلغت النصاب، وإنْ کان فیها شیءٌ من التراب بما لا یوجب خروجها عن اسم الحنطة المتعلقة بها الزکاة.

وکیف کان، فإنّه فرق فی الاطلاق عند العرف والعقلاء بین ما لو کان المکلف واجدا للماء بطبیعته الأولیة المعروفة فیجب علیه الغُسل والوضوء، وبین ما لم یکن لذلک الاّ بعلاج من المزج المزبور، فلا یجب، کما هو الحال کذلک فی باب الحنطة والزکاة بالنسبة الی التراب. وعلیه فالأقوی عندنا هو وجوب التیمّم وإنْ کان الاحتیاط بالجمع بین الحکمین حسنا.

التیمّم عند عدم الوصول الی الماء

(1) السبّب الثانی لوجوب التیمّم: هو عدم الوصول الی الماء، لاجءل أحد أمور سوف یذکره (ولا خلاف أجد فی هذا الحکم) کما فی «الجواهر»، و(أنّ علیه اجماع أهل العلم) حکاه فیه «المعتبر» أو (عند علمائنا أجمع) کما عن «التذکرة» و«المنتهی».

ص:108

وعلّة عدم الوصول الی الماء قد یکون بأحد أمورٍ: إمّا لتوقفه علی ثمنٍ متعذّر علیه، أو لفقد الآلة التی یتوصّل بها الی الماء، کما إذا کان علی شفیر بئرٍ أو نهرٍ ولم یتمکّن من الوصول الی الماء الاّ بمشقةٍ، أو للتغریر فی النفس علی لصٍّ وسبع أو عدوٍّ، أو للعجز عن الحرکة المحتاج الی تحصیله لکبرٍ أو مرضٍ أو ضعف قوة، ولم یجد معاونا ولو بأجرة مقدورة، أو یکون موجودا فی محلّ یخاف من السعی الیه علی نفسٍ أو طرفٍ أو مالٍ محترم، أو بُضعٍ أو عِرض، أو ذهاب عقل ولو بمجرد الجُبن.

والدلیل علیه: _ مضافا الی الاجماع الذی قد عرفت تفصیله _ وجود نصوص دالة علی الحکم:

منها: خبر الحلبی، قال: «سألت أباعبداللّه علیه السلام عن الرجل یمرّ بالرکیة، ولیس معه دلو؟ قال: لیس علیه أن یدخل الرکیة، لأنّ رب الماء هو رب الأرض فلیتیمّم»(1) ونحوه خبر الآخر.

ومنها: خبر عبداللّه بن أبی یعفور وعنبسة بن مصعب، جمیعا عن أبی عبداللّه علیه السلام ، قال: «إذا أتیت البئر وأنت جنبٌ فلم تجد دلوا ولا شیئا تغرف به فتیمّم بالصعید، فإنّ ربّ الماء هو ربّ الصعید، ولا تقع فی البئر ولا تفسد علی القوم ماءهم»(2).

فانّ التعلیل بأنّ (ربّ الماء هو ربّ الصعید) یوصلنا بأنّ بناء أمر التیمم علی التوسعة والتسهیل، وأنّه لا یتوقف علی العجز العقلی المسقط للتکلیف، بل یکفی فیه أدنی عذر کالمشقة والخوف من نزول الماء، أو من اختلاط ماء البئر بالطین والوحل بواسطة نزوله فیه، الموجب لتنفّر الطبایع عن شرب الماء الذی یغتسل فیه، کلّ ذلک شاهد علی أن حکم الشارع مبنی علی السهولة فی عدم الوجدان والوصول.


1- وسائل الشیعة: الباب 3 من أبواب التیمّم ، الحدیث 1.
2- وسائل الشیعة: الباب 3 من أبواب التیمّم ، الحدیث 2.

ص:109

ومنها: ما ورد فی جواز التیمم عند ازدحام الناس کما فی خبر السکونی، عن جعفر، عن أبیه، عن علیّ علیهماالسلام : «أنّه سُئل عن رجل یکون فی وسط الزحام یوم الجمعة، أو یوم عرفة، لا یستطیع الخروج عن المسجد من کثرة الناس؟ قال: یتیمّم ویصلّی معهم ویعید اذا انصرف»(1).

والحکم بالاعادة امّا استحبابی کما عن المحقق الهمدانی رحمه الله ، أو لأجل کونه للتقیة المداراتیة معهم، لکن بما أنّ هذا المکلف قد یتیمّم وهو فی سعة الوقت الذی لا یکفی التیمّم عن الطهارة المائیة، فلابدّ له من الاعادة وجوبا، وعلیه، فدلالته علی المطلوب لا تکون الاّ فی الجملة، کما لا یخفی.

کلّ هذا مضافا الی استلزام التکلیف بالطهارة المائیة فی بعض الموارد الی التکلیف بما لا یطاق، وهو قبیح، مضافا الی دلیل نفی العسر والحرج والضرر فی الدین مع ملاحظة عموم بدلیة التراب عن الماء.

ومنها: حدیث داود الرقی، قال: «قلت لأبی عبداللّه علیه السلام : أکون فی السفر فتحضر الصلاة، ولیس معی ماء، ویقال إنّ الماء قریب منا فأطلب الماء وأنا فی وقتٍ یمینا وشمالاً؟ قال: لا تطلب الماء، ولکن تیمّم فإنّی أخاف علیک التخلف عن اصحابک فتضّل ویأکلک السبع»(2).

حیث یدلّ علی أنّ وجود الخوف یکفی فی جواز التبدیل، وعلیه یحمل أیضا ما فی خبر علی بن سالم، عن أبی عبداللّه علیه السلام ، قال: «قلت له: التیمم... الی أن قال: فقال له داود الرقی: أفاطلب الماء یمینا وشمالاً؟ فقال: لا تطلب الماء یمینا


1- المصدر السابق، الحدیث 3.
2- وسائل الشیعة: الباب 2 من أبواب التیمّم ، الحدیث 1.

ص:110

قوله: فمن عَدمُ الثمن، فهو کمن عَدم الماء، وکذا إنْ وجده بثمنٍ یَضرّ به فیالحال(1)

وشمالاً ولا فی بئرٍ، إنْ وجدته علی الطریق فتوضأ منه وإنْ لم تجده فامض»(1).

والخبر السابق شاهدٌ علیه.

ومنها: ما جاء فی خبر یعقوب بن سالم، قال: «سألت أبا عبداللّه علیه السلام عن رجلٍ لا یکون معه ماءٌ والماء عن یمین الطریق ویساره غلوتین أو نحو ذلک؟ قال: لا آمره أن یغرّر بنفسه فیعرض له لصّ أو سبع»(2).

والحاصل: المستفاد من ظواهر هذه الأدلة هو شرعیة التیمّم عند تعذّر الماء أو تعسّره أو التضرر به، کما تقتضیه قاعدة نفی الحرج والضرر الحاکمتان علی العمومات المثبتة للتکالیف، فمن وجد الماء ولکن شقّ علیه استعماله لبرودةٍ أو مرضٍ أو غیر ذلک مما توجب علیه مشقة لا تُتحمّل عادة، کان کمن لم یجده، فیتبدل الحکم الی التیمم.

وممّا ذکرنا یظهر أنّ من جملة ما یوجب التبدل هو فقد المکلف المال اللازم لشراء الماء، أو وجوده الاّ انّه یستلزم تضرّره علیه فی الحال أو فی المآل، وهذا ما تعرّض المصنّف قدس سره لذکره بقوله:

(1) کما هو فتوی فضلائنا علی ما هو فی «المعتبر»، والظاهر اتفاق الأصحاب علیه کما فی «شرح المفاتیح»، وإنْ کان التعابیر بین الفقهاء مختلفة: بعضهم قال: لو کان محتاجا له لنفقةٍ فإنّه لم یجب علیه الشراء قولاً واحدا کما فی «المنتهی».


1- المصدر السابق، الحدیث 3.
2- المصدر السابق، الحدیث 2.

ص:111

وبعضهم قال: إذا استلزم الاجحاف بماله أی استیصاله أو کاستیصاله، واقتصرعلی کلمة الاجحاف فی «الغنیة» و«الوسیلة»، وعن «الکافی»: «من غیر تعرّض للضرر».

أقول: لکن الظاهر أنّ مراد جمیعهم شیئا واحدا وعلیه معقد اجماعهم، وإنْ أطلق بعضهم بایجاب الشراء وإنْ کثر ثمنه، کما عن ابن سعید فی «الجامع» والمرتضی، ولکنهم أرادوا غیر ما ذکرناه، خصوصا إذا خاف التلف بصرف ثمنه فیه، کما یشعر بذلک جوازهم التیمّم مع خوف العطش، فبالثمن یکون بطریق أولی.

وعلیه، فما یظهر منهم الجواز حتّی مع استلزامه الضرر بالشراء، کما یظهر من المصنّف فی «النافع» و«المعتبر» من بیان القولین هنا، بل قد أوجب صاحب «الحدائق» الشراء مطلقا، إلاّ إذا خاف علی نفسه العطب تمسکا باطلاق ما دلّ علی شرائه بالثمن وإنْ کثر من الأخبار الآتیة.

لیس علی ما ینبغی، لمنافاته مع أدلة نفی الضرر والعُسر والحرج فی الدین، خصوصا إذا استلزم ذلّته وسوأله، خصوصا مع ملاحظة سهولة الملّة وسماحتها، مضافا الی ملاحظة الی عموم بدلیّة التراب عن الماء، وملاحظة الاستقراء فی امثال ذلک فی الواجبات الأصلیّة من رفع الحکم إذا استلزم الضرر، فضلاً عمّا هو مقدمة للواجب وکونها ذا بدلٍ شرعا.

فبجمیع ذلک نرفع الید عن الاطلاقات وتخصّص، بل تکون هذه الأدلة حاکمة علیها کما تری ذلک فی مشابهما فی سائر الموارد.

نعم، یمکن المناقشة فی أصل الموضوع بمنع کونه عسرا أو حرجا أو کان جعل الحکم بذاته حرجیّا لا یرفع حرجه القاعدة مثل الحج فی بذل المال والجهاد من بذل النفس، فهو أمر آخر.

أمّا احتمال کون المراد من نفی الضرر هو الضرر بالغیر، بأن یکون النهی عن أن

ص:112

یضرّ أحدٌ أحدا لا مثل ما نحن فیه، فغیر وجیهٍ، لوضوح أنّ المراد منه هی المشقة التی لا تتحمّل عادة وانْ کانت دون الطاقة.

نعم، مصادیق الضرر الموجب للشمول مختلفة، اذ ربّ موردٍ یقطع بکونه مصداقه ویتناوله الدلیل ویحکم علیه، وربّ موردٍ یکون علی خلافه، وموردٌ ثالث یشک فیه فاذن اجرائه فیه لا یخلو عن تأمل، ولذلک لم یعتبر المضرّة الیسیرة فی «المهذب» و«مجمع البرهان» علی ما حُکی عنهما سببا لجریان القاعدة.

نعم، قد لا یلاحظ الشارع فی بعض الموارد عند حکمه بتبدیل الواجب الی التیمم الضرر والاجحاف فیه، وهو کما لو استلزم السعی الی طلب الماء لتعریض المال للتلف لأجل خوف أخذ اللّص. وقیل فی وجه الفرق بین ما نحن فیه وبینه أنّه النصّ، فلذلک لم یؤخذ فیه ذلک القید، لأنّ أخذ اللّص ونحوه الأموال لا یعدّ من مصادیق الاعواض التی لا تتحمّل عادة، بل قد یعدّ مثله اضاعة للمال المنهیّ عنها، فلا تلاحظ فی مثله میزان الضرر والاجحاف.

بل ربّما قیل فی التفاوت بین الموردین: أنّ العوض فی ما نحن فیه هو تحصیل الثواب، بخلافه فی اللّص.

ولکن ناقش فیه الشهید فی «الذکری»: «بأنّه خیال ضعیفٌ، لانّه إذا ترک المال لابتغاء الماء، دخل فی حیّز الثواب».

ولا یخفی ما فیه، اذا الثواب فی ترکه إنّما یعطی له اذا جاز له ذلک، ولم نقل بتبدیل الطهارة بالوضوء الی التیمم، هذا بخلاف مالو قلنا بجواز شراء الماء اذا لم یستلزم الضرر والاجحاف، فإنّه یترتّب علیه العوض والثواب قطعا.

وعلیه، فالأولی جعل الملاک فی جواز التبدیل، هو قیام التراب مقام الماء شرعا فی مثل ذلک، بل والأقلّ من ذلک لأجل التسهیل والامتنان علی الناس کما لا یخفی.

ص:113

قوله: وان لم یکن مضرّا بالحال لزمه شرائه، ولو کان بأضعاف ثمنه المعتاد(1)

المراد من الضرر المسوّغ: ثم المراد من الضرر المسوّغ، هل هو فی الزمان الحال فقط، أو أنّه الأعمّ منه ومن الاستقبال؟

الظاهر من کلام عدّة هو الأعمّ، کما صرح به العلاّمة فی «التذکرة»، والشهید فی «الذکری» و«جامع المقاصد»، بل هو مختار صاحب «الجواهر» وغیره، کما هو الأقوی عندنا، کما یستفاد ذلک من عنوان (خوف العطش) أو (التلف) الصادق عرفا علی الزمن المستقبل، کما یؤید ذلک الاستقراء فی الاشباه والظائر.

وإنْ کان ظاهر عبارة المصنّف هنا بقوله: «ثمن یضرّ به فی الحال» هو زمان الحال لا حال المکلّف الذی وجّهه صاحب «الجواهر» واستدلّ علیه: بعدم العلم بالبقاء الی وقته، ولا مکان حصول مالٍ فیه علی تقدیر البقاء، ولانتفاء الضرر.

ولکن شیءٌ منها لا یسمن ولا یغنی عن جوع، لامکان اجرائه فی مثل خوف العطش وغیره أیضا کما لا یخفی.

نعم، لابدّ أن یلاحظ الاستقبال الی زمانٍ لم یکن التوقع فیه الی مرتبة لا یُحترز عن مثله عادةً، والاّ لم یکن معتبرا، لعدم عدّ مثله حینئذٍ من الضرر الذی یجب الاحتراز عنه، کما هو واضح.

(1) إنّ هذه الجملة قد تؤیّد ما احتمله صاحب «الجواهر» وتصج قرینة علی أنّ مراده المصنّف ممّا ذکره فی صدر کلامه هو حال المکلّف، وهو غیر بعید.

ووجوب الاشتراء إنْ کان بقدر ثمن المثل اتفاقی محصّلاً ونقلاً، لصدق الوجدان وکونه مقدمةً للواجب، کما أنّه کذلک إذا کان بأضعاف ثمنه المعتاد

ص:114

اجماعا، کما فی «الخلاف»، وعلیه فتوی فقهائنا کما عن «المهذّب البارع»، بل لعلّه مندرجٌ فی معقد اجماع «الغُنیة» کما فی «الجواهر»، وهو الحجّة کما هو مقتضی القاعدة عرفا، لصدق الوجدان معه. هذا فضلاً عن دلالة النصوص علیه:

منها: صحیح صفوان، قال: «سألت أبا الحسن علیه السلام عن رجل احتاج الی الوضوء للصلاة، وهو لا یقدر علی الماء، فوجد بقدر ما یتوضّأ به بماءة درهمٍ أو بألف درهم، وهو واجدٌ لها، یشتری ویتوضّأ أو یتیمم؟ قال: لا بل یشتری، قد أصابنی مثل ذلک فاشتریت وتوضّأت وما یسّرنی بذلک مال کثیر»(1).

ورواه الصدوق مرسلاً عن أبی الحسن الرضا علیه السلام نحوه، الاّ أنّه أسقط قوله: «وهو واجدٌ لها» و قال: «وما یسؤنی... الی آخره».

ومنها: خبر حسین بن أبی طلحة، قال: «سألت عبدا صالحا عن قول اللّه عزّوجلّ «أَوْ لاَمَسْتُمُ النِّسَاء فَلَمْ تَجِدُواْ مَاء فَتَیَمَّمُواْ صَعِیدا طَیِّبا» ما حدّ ذلک؟ قال: فإن لم تجدوا بشراءٍ وبغیر شراء. قلت: إن وجد قدر وضوء بمائة ألفٍ أو بألفٍ وکم مبلغ؟ قال: ذلک علی قدر جِدته»(2) أی ما یصدق علیه الواجدیّة.

ومنها: ما عن فخرالاسلام فی «شرح الارشاد»: «أنّ الصادق علیه السلام اشتری وضوءه بمائة دینار»(3) علی حسب المحکی فی «الجواهر».

ومنها: ما عن «دعائم الاسلام» الی أن قال: «وقالوا علیهم السلام فی المسافر یجد الماء بثمن غالٍ أن یشتریه اذا کان واجدا لثمن فقد وجده، إلاّ أن یکون فی دفعه الثمن ما یخاف منه علی نفسه التلف إن عدم والعطب، فلا یشتری ویتیمّم بالصعد ویُصلّی»(4)


1- وسائل الشیعة: الباب 26 من أبواب التیمّم ، الحدیث 1.
2- وسائل الشیعة: الباب 20 من أبواب التیمّم ، الحدیث 2.
3- الجواهر، ج 5، ص 100.
4- المستدرک، الباب 20، من أبواب التیمم، الحدیث 1.

ص:115

ودلالة هذه النصوص علی لزوم تحصیل الماء بالشراء ولو باضعاف قیمته واضحة لاخفاء فیها.

وعلیه، فما عن ابن الجنید من عدم ایجاب الشراء إذا کان غالیا، ولکن یجب الاعادة اذا وجد الماء.

ضعیفٌ، لأنّه إنْ کان وظیفته حینئذٍ هو التیمم فلا وجه للحکم بالاعادة بعد کون ظهور الأمر فی الاجزاء، وإنْ لم تکن الوظیفة، فلا وجه لعدم الایجاب. ولعلّه توهّم أنّه ضررٌ فی نفسه فیندرج تحت قوله صلی الله علیه و آله : لا ضرر و لا ضرار فی الاسلام»(1)، بلحاظ أنّه فی حدّ ذاته ضرر بالنسبة الی غالب الناس، وملاحظة سقوط السعی عند الخوف علی شیءٍ من ماله.

ولکن ثبت أنّه مخدوشٌ بواسطة قیام الاجماع، وصراحة النصوص علی لزوم الشراء ولو بثمنٍ غالٍ، والاجتهاد فی مقابل النص غیر مقبول ومسموع کما لا یخفی، کما ثبت أنّ الفارق بین ما نحن فیه وبین الخوف علی المال هو النصّ أیضا وهو متّبع.

بل قد لا نسمع الاشکال عند الاصحاب ولا خلافٍ _ کما نَسب صاحب «الحدائق» الی ظاهر الاصحاب _ من وجوب القبول لو وهب له الماء واهب، ولعلّه لأجل أنّ الغالب فی مثله علی المسامحة عرفا فلا منّة ولا ضرر، لکن قال صاحب «الجواهر»: «لکنّه لا یخلو من تأمل لاختلافه باختلاف الاشخاص رفعة وضعة والازمنة، والامکنة».

وکلامه جیّد ولکنه نادرٌ جدّا، والنادر کالمعدوم، وکلام الأصحاب ناظر الی


1- وسائل الشیعة: الباب 5 من أبواب الشفعة، الحدیث 1.

ص:116

الغالب، والاّ فللامتناع وجه کما لا یخفی.

وعلی الأوّل لو یتیمّم والحال هذه بطل مادام الماء المبذول قائما، لصدق الوجدان علیه کما صرّح به غیر واحدٍ من الأصحاب فیه وفی نظائره.

هذا فیما اذا وهب له الواهب الماء، وأمّا الهبة بالثمن لیشتری به الماء.

فهل یجب علیه القبول کما فی «المبسوط» و«المنتهی» و«المدارک» و«الحدائق» معلاً بأنّه للمقدمة المعدودة شرعا وعقلاً، اذا لا حرمة علیه فی تحمّل المنّة.

خلافا للمحقّق فی «المعتبر» والمحقق الثانی فی «جامع المقاصد» حیث علّل الأخیر هبة المال مما یمتن ذلک بقوله: «إنّ به فی العادة ویحصل به للنفس غضاضة واستهانه، وذلک من أشدّ أنواع الضرر علی نفوس الأحرار، ولا اثر لقلّته فی ذلک لعدم انضباط أحوال الناس، فربّما یعدّ القلیل کثیرا، بل مناط الحکم کون الجنس ممّا یمنّ به عادةً، کما لا نفرّق بین قلّة الماء وکثرته فی وجوب القبول اعتبارا بالجنس» انتهی کلامه.

أقول: الأقوی عندنا ملاحظة حال المورد والاشخاص، اذ لا یمکن اطلاق الحککم ایجابا ومنعا. نعم الغالب فی الأقوال حصول المنّة والضرر بحال الشخص الحرّ، وعلیه فکلّ موردٍ کان کذلک فلا یجب القبول، بلا فرقٍ فی ذلک بین خصوصیة الجنس، اذ لا مدخلیة له فی ذلک، وما لم یکن کذلک فیجب بلا اشکال. وعلیه فالحکم اثباتا ونفیا منوط بتشخیص نفس المکلّف، ولا فرق فیه بین کون الاعطاء بصورة البذل والاباحة أو الهبة، لاشتراک الملاک فیهما، کما لا فرق فیما ذکرنا من بیان الملاک فی الوجوب وعدمه علی نحو الاستیهاب والاکتساب حیث یجب فیما لا منّة فیه ولا ضرر وإلاّ فلا.

ص:117

قوله: وکذا القول فی آلالة (1)

قوله: الثالث: الخوف (2)

قوله: ولا فرق فیجواز التیمم بین أن یخاف لِصّا أو سَبُعا أو یَخاف ضیاع مالٍ(3)

(1) حکم الآلة لحکم الثمن لا لاشتراک الجمیع فی الملاک من الهبة وغیرها، بل فی الاکتساب والاستیهاب. نعم، یظهر ممّا ذکرنا حکم ما لو بُذل له الماء أو الثمن الی أجلٍ یستطیع وفائه فیه، حیث یجب علیه القبول، کما صرّح به جماعة. بل قد یستشعر من کلام المحقّق فی «المعتبر»، والعلامة فی «المنتهی» من نسبة الخلاف فیه الی خصوص الشافعی، عدم الخلاف فیه بیننا علی وجوب القبول ولعلّه منزّل عندهم بما لا یستلزم المنّة والضرر، کما هو کذلک غالبا. نعم قد حکی عن ابن فهدأنّه حَکی عن بعض مشایخه القول بالعدم، وقد بیّن وجهه صاحب «الجواهر» بقوله: «ولعلّه لأنّ نفس شُغل الذّمة مع احتمال عوارض عدم الوفاء ضرر» ثم قال: (وهو ضعیف).

ولکن الأولی أن یقال فی وجهه: إنّه أراد ذلک فیما اذا استلزم المنّة والضرر لا مطلقا کما هو الغالب، واللّه العالم.

(2) السبب الثالث لوجوب التیمم: بلا فرق فی متعلقة بین کونه علی النفس لو أراد تحصیل الماء، أو علی هو الخوف، المال من اللّص، کما أنّ الخوف علی الأول قد یکون من جهة القتل أو الجرح أو الأذیّة التی لا تُتحمّل عادةً، من غیر خلافٍ أجده کما فی «الجواهر». بل حُکی علیه الاجماع علی لسان جماعةٍ مع اختلاف معقده بتعابیر مختلفة، ذکرها تفصیلاً فی «الجواهر»، فلا داعی لذکرها، وخلاصة ما فی «المدارک» بأنّ هذا الحکم مجمعٌ علیه بین الأصحاب علی ما نقله جماعة کما لا یخفی.

(3) اذا عرفت قیام الاجماع فی الجملة علی الخوف فی الأمور المذکورة

ص:118

آنفا، فلا بأس هنا بذکر أمور مرتبطة بها لبیان موارد جواز التیمم فیها ممّا لا یجوز، علی حسب اختلاف الأقوال بین الفقهاء، فنقول:

الأمر الاوّل: إنّ وجوب حفظ النفس المحترمة _ نفسه أو غیره _ سواءٌ کان الخوف من السبع أو من اللّص فممّا لا اشکال فی وجوبه، کما لا خلاف فی أنّه موجب لتبدیل الحکم الی التیمم.

والدلیل علیه: مضافا الی الاجماع، دلالة الأخبار علیه:

منها: خبر یعقوب بن سالم: قال: «سألت الصادق علیه السلام عن الرجل لا یکون معه ماء والماء عن یمین الطریق أو یساره غلوتین أو نحو ذلک؟ قال: لا آمن أن یُعزّر بنفسه فیعرض له لصٌّ أو سَبعٌ»(1).

وغیر ذلک من الروایات السابقة التی جمیعها تفید تبدّل الحکم.

الإمر الثانی: وهو الخوف من اللّص علی المال، فالمصرّح به عند الأصحاب عدم الفرق بینه وبین الخوف علی النفس، بل هو اتفاقی عندهم، کما تری کلام صاحب «المدارک» فی شرح عبارة المصنف، حیث قال: «أو ضیاع مال» قال قدس سره : «هذا الحکم مجمعٌ بین الأصحاب علی ما نقله جماعة، بل قال فی «المنتهی» أنّه لا یُعرف خلافا بین أهل العلم».

ولکن صاحب «الحدائق» مع اعترافه باتفاق الاصحاب علیه، قد استشکل فی المال، وقال: «إنّ هذا ممّا لم یدلّ نصٌ علی الجواز فی خوف ذهاب المال، وخبر یعقوب بن سالم کان فی مورد الخوف علی النفس لا المال، مضافا الی أنّ النسبة بین قاعدتی نفی العُسر والحرج ونفی الضرر، وبین ما یدلّ علی الطهارة المائیة بالعموم من وجه، فلا وجه لتقدیم الأولیّن علیه، بل التقدیم له علیهما لکونه


1- وسائل الشیعة: الباب 2 من أبواب التیمّم ، الحدیث 2.

ص:119

أوضح، فلتحکم علیها، غایته وجود النسبة المزبورة وعدم تقدیم احداهما علی الاخری، اذ لیس یتحکّم تلک بأولی من الآخر والعکس».

أجابه صاحب الجواهر قدس سره : «بعد وجود الاجماع بقسمیه علی خلافه، سیّما فیما یتضرّر بتلفه، ومنع ظهور خبر یعقوب فی الخوف بالنفس، لوجود لفظ (اللّص) الظاهر فی الخوف منه علی المال، کما یشهد له فهم الأصحاب من ذلک. ولا ینافیه لفظ (النفس) قبله، وظهور استقراء أخبار التیمم فی سقوط المائیة بأقلّ من ذلک، بل وغیرها من الواجبات الأصلیة فضلاً عنها، مع أنّ أصل مشروعیة التیمم للیسر _ أنّ أدلّة العُسر والجرح غیر قابلة للتخصیص، لظهورها أنّ لیس فی الدین ما فیه حرج، فلیست هی من قبیل الأصل کما بیّن فی محلّه، وبعد التسلیم فهی أرجح من وجوه عدیدة لا یخفی» انتهی(1).

مناقشة الهمدانی: فقد بحث فی «مصباح الفقیه» عن دلالة الخبر الوارد فیه ذکر اللّص للمالٌ بقوله: «وفیه: إنّ الغالب عند عروض اللّص فی الطریق کون نفسه کماله فی معرض الخطر، أمّا الجنایة علیها أو بأخذ أمواله المحتاج الیها فی المعیشة، کما یشهد لذلک تفریعه فی الروایة علی قوله: (یغرّر بنفسه) فلا یبقی حینئذٍ له ظهورٌ فی اللّص ارادة تلف المال»(2).

أقول: لا یخفی ما فی کلامه، لوضوح أنّ اللّص یخاف منه أوّلاً علی المال وثانیا علی النفس کما قد یتفق کذلک ولذلک تری عدم خوف من لا مال له کما هو شأن الفقراء، حیث لا یخافن فی السفر، وعلیه فشمول الحدیث لخوف تلف الأموال ممّا لا کلام فیه. والتغریز یساعد مع خوف کلّ من النفس والمال ولا


1- الجواهر، ج 5، ص 103.
2- مصباح الفقیه، ج 6، ص 130.

ص:120

اختصاص له بالأولی فقط حتی یستظهر منه الخوف علی النفس فقط.

وعلیه، فیکون مضمون الخبر تجویر التیمم فی الخوف فی کلا الموردین، فیناسب مع دلیل نفی الحرج والعسر والضرر فیقدم بنحو الحکومة علی العمومات والاطلاقات الأولیة الدالة علی وجوب تحصیل الطهارة المائیة، وتقدیمه علیها یکون بالحکومة لا التعارض حتی تلاحظ النسبة. مع أنّه لو سلّمنا التعارض فإنّ النسبة هی الرجحان الدلیل التیمم للاجماع وملاحظة الأشباه والنظائر المؤیّدة تقدیم تلک الادلة علی العمومات والاطلاقات کما لا یخفی.

نعم، فی شمول دلیل نفی الحرج والعسر والضرر للمال القلیل بالنسبة الی بعض الأفراد اشکالٌ، إذ ربما لا یصدق علیه الضرر والحرج عرفا، وإنْ کان الاطلاق فی الاجماع وفی مضمون الحدیث یشمله أیضا، بل قد صرّح غیر واحدٍ من الأصحاب، بل نسب ذلک فی لسان جماعةٍ مشعرین بدعوی الاجماع علیه إن لم یکن تحصیلاً، بعدم الفرق بین القلیل والکثیر، وهو الفارق بینه وبین بذل المال وإنْ کثر فی الشراء. مضافا الی ما فی اغتصاب المال من الغضاضة التی لا تتحمّل عادة بخلاف البذل، حیث قد یجود بعض الناس بنفسه فیه، ولکن مع ذلک فی التأمّل فیه مجالٌ لامکان دعوی الانصراف فی الروایة عمّا لا یستلزم الحرج والضر، لوضوح أنّ سیاق هذه الروایات عن الضرر والحرج بحسب النوع لا مطلقاً، کما یشیر الی ذلک ملاحظة أنّ تنزیل الواجب الی بدله من التیمم کان لأجل الیسر دون العسر، کما یشعر لذلک لسان الأخبار التی تقول: «لا إنّ ربّ الماء هو ربّ التراب» و«التراب أحد الطهورین» ونحو ذلک، خصوصا مع ملاحظة أنّ اللّه تعالی یرید بعباده الیسر دون العسر، ومن المعلوم عدم وجود العسر فی تلف المال القلیل لبعض الأفراد، کما لا یخفی، وعلیه فلا وجه للقول بالتبدیل.

ص:121

الأمر الثالث: حکی عن «جامع المقاصد» وغیره من التصریح بأنّه لا فرق فی جواز التیمم بین الخوف علی مال نفسه ومال غیره بصورة الاطلاق، مع أنّه مشکلٌ جدّا، لأنّه إنّما یتّجه اذا کان متعلقا بنفسه بنحوٍ من التعلق، بحیث یوجب اهتمامه بحفظه، إمّا لتکلیفه شرعا بذلک کما اذا کان ولیا یجب علیه حفظه، أو امانةً أو غیر ذلک، بحیث کان التفریط فی حفظه موجبا للضمان، أو کان مهّما لدیه بحسب العرف والعادة بحیث یترتّب علیه بواسطة تلفه الخَجَل والندامة التی یشقّ تحمّلها عادةً کالتقصیر فی حفظ أموال الاصدقاء الواثقین بحفظه عند سعیهم فی حوائجهم.

والحاصل: کلّ موردٍ کان التکلیف فیه تحصیل الطهارة المائیة وهو لا یتحقّق إلاّ من خلال التلف الذی یعدّ بالنسبة الیه تکلیفا حرجیا. هذا بخلاف الموارد التی لم تکن کذلک، بل کان الحفظ فیها لمجرد الاحسان الیه، فهو وإنْ کان حسنا، لکنّه لا یصلح أن یکون عذرا فی رفع الید عن التکلیف الشرعی الواجب علیه، الذی لم یصرّح الشارع فیه بجواز ترکه.

أقول: بعد ما ثبت مال نفسه ومال غیره، نستیطع الوقوف علی حکمه عند توجّه حکم الخطر الی عرضه أو عرض غیره من جواز التبدیل فی الأوّل فیما لا یتحمّل منه عادة، وفی الثانی من التفصیل المذکور فی المال بالجواز فی صورةٍ دون أخری. بل قد یقال بأنّ الخوف فی العِرض أولی من الخوف فی المال کما هو کذلک عند الأحرار، وإنْ لم یرد ذلک فی نصٍّ، لوضوح أنّ ما ذکر فی النص کان للتمثیل لا للانحصار، اذ الملاک فی الجمیع هو صدق العسر والحرج والضرر، الموجب لدخولها فی أدلّتها فی رفع التکلیف، فیدور الحکم مدارها.

الأمر الرابع: فیما إذا کان الخوف فی النفس.

ص:122

والظاهر أنّه لا اشکال فی جواز التبدیل فیه، بین کونه علی نفسه أو علی نفس غیره إنْ کانت نفسا محترمة، مع الخوف علیها من السبع وشبهه، لاهتمام الشارع فی حفظها فی جمیع الموارد، فلا تفصیل فیه.

الأمر الخامس: ومن الموارد التی یوجب الخوف جواز التبدیل، هو ما لو استلزم استعمال الماء الحبس ظلما أو الحبس بحقّ، فیما اذا عجز عن تأدیته، إمّا لعدم تمکّنه من اثبات العجز، أو لغلبة الغریم، هذا بخلاف ما اذا خاف عن الحبس بحقّ لکنه قادر علی اداءه حیث لا شبهة فی وجوب اداءه واتیان الطهارة المائیة معه.

بل، عن «جامع المقاصد»: «إنّ من موارد جواز التبدیل لو خاف القتل قصاصا مع رجاء العفو بالتأخیر مجانا، أو بالصلح علی الدیة، لأنّ حفظ النفس مطلوبٌ. لکن قال فی «الجواهر»: وفیه تأمّل.

أقول: لکن لا یخفی ما فیه، اذ لا ینبغی التأمل فی صحّته، ضرورة انّه یجوز التسویف فی تأخیر القتل مع عدم مطالبة ولی الدّم للقصاص، ورجاء الجانی العفو مجانا أو مصالحة بالدیة، بل حتّی مع مطالبة ولیّ الدم إذا لم ینته التأخیر الی التهاون، ومع جوازه لا شبهة فی اقتحامه الحرج، ویجوز معه التیمم قطعا.

نعم، مع مطالبة ولی الدم للقصاص والیأس عن العفو، فإنّه لا اشکال فی عدم تسویغ التیمم بل یجب علیه الطهارة المائیة.

الأمر السادس: فیما لو نشأ الخوف من الجبن والتخیّل فهل هما یسوّغان للخائف التیمم کالخوف علی النفس والمال والعرض، أم لا یکون ذلک مسوّغا؟ فیه احتمالان بل قولان:

قول بعدم التسویغ، کما عن العلاّمة فی «التحریر»، بل توقف فیه فی «المنتهی».

وقول آخر بالتسویغ وهو الاقوی، کما علیه المصنّف فی «المعتبر»، والعلاّمة

ص:123

قوله: وکذا لو خَشی المرض الشدید (1)

فی غیر الکتابین، والشهیدین قدّس اللّه اسرارهم، لوضوح أنّ الملاک فی التسویغ هو الخوف الشخصی لا النوعی، وهو یختلف باختلاف الاشخاص، ولذا لو تحقّق سببه العادی ولم یحصل منه الخوف، کما فی بعض النفوس، کما اذا کان صیّادا ماهرا مثلاً لا یخاف السبع، فإنّه لا یسوغ له التیمم کما لا یخفی.

الأمر السابع: لا فرق فیما ذکرنا من الخوف المسوّغ:

بین ما یحصل فی طریق الوصول الی الماء، أو عند تخلّف الأموال والأهل حینما یذهب الی تحصیل الماء. کلّ ذلک لعموم دلیله وهو الحرج الرافع لتکلیف بالطهارة المائیة، والمسوغ للتیمم، واللّه العالم.

(1) السبب الرابع: خوف المرض الشدید.

اذا خاف المکلف من المرض اذا استعمل الماء للوضوء، خوفا یعتدّ به کالخوف من السبع واللّص فإنّ ذلک مسوّغ لجواز التیمّم. والخوف فی ذلک قد یکون باستعمال الماء أو المضیّ الیه أو ترک شربه، کما أنّ خوفه بالاستعمال إمّا یکون بخوف حدوث المرض أو زیادته أو بطوء بُرءه أو صعوبة علاجه، أو نحو ذلک ممّا لا یطاق تحمّله عادةً عند العقلاء.

والدلیل علیه: _ علی ما قیل بعد الاجماع الذی صرّح به صاحب «الجواهر» بقوله: «بلا خلافٍ أجده فیه، خصوصا مع خوف التلف معه، بل وغیره من الأصحاب _ هو الأدلة العامة الدالة علی رفع التکلیف عمّن لا یتحمّله عادةً، وهو نفی الحرج المستفاد من قوله تعالی:

1_ الآیات: مثل «وَمَا جَعَلَ عَلَیْکُمْ فِی الدِّینِ مِنْ حَرَجٍ»(1) وکذا من قوله


1- سورة الحج، آیة 78.

ص:124

تعالی: «یُرِیدُ اللّهُ بِکُمُ الْیُسْرَ وَلاَ یُرِیدُ بِکُمُ الْعُسْرَ»(1) وأیضا من قوله تعالی: «لاَ یُکَلِّفُ اللّهُ نَفْسا إِلاَّ وُسْعَهَا»(2) وأیضا من قوله تعالی: «وَلاَ تُلْقُواْ بِأَیْدِیکُمْ إِلَی التَّهْلُکَةِ»(3).

2_ ومن السنة: مثل قوله: «بعثت بالحنفیّة السمحة»(4)، وقوله: «لا ضرر ولا ضرار»(5)، وقولهم علیهم السلام : «انّ دین محمّد صلی الله علیه و آله أوسع ممّا بین السماء والأرض إنّ الخوارج ضیّقوا علی أنفسهم بجهالتهم، وإنّ الدین أوسع من ذلک»(6).

3_ الأدلة الخاصة: الواردة فی باب الوضوء، مثل قوله تعالی: «وَإِن کُنتُم مَّرْضَی أَوْ عَلَی سَفَرٍ أَوْ جَاء أَحَدٌ مِّنکُم مِّن الْغَآئِطِ أَوْ لاَمَسْتُمُ النِّسَاء فَلَمْ تَجِدُواْ مَاء فَتَیَمَّمُواْ صَعِیدا»الآیة(7).

حیث یستفاد من تفریع عدم وجدان الماء علی الأربع من: المرض، والسفر، ومجیء الغائط، ولمس النساء، أنّ المراد من (عدم الوجدان) هو الأعمّ من عدم وجود الماء، أو عدم التمکّن من استعماله، سواءٌ کان لأجل الضعف والعجز عن تناول الماء، أو کان لأجل تضرّره به، ففی جمیع هذه الصور یتیمّم، فالآیة تدلّ علی جواز التیمم فی صورة المرض، فضلاً عمّا یوجب شدّته.

بل یمکن استفادة ذلک ممّا جاء فی صحیح البزنطی، عن الرضا علیه السلام : «فی


1- سورة البقرة، آیة 185.
2- سورة البقرة: آیة 286.
3- سورة البقرة: آیة 195.
4- وسائل الشیعة: الباب 48 من أبواب مقدمات النکاح و آداب، الحدیث 1.
5- وسائل الشیعة: الباب 17 من أبواب الخیار، الحدیث 3.
6- وسائل الشیعة: الباب 55 من أبواب المصلی، الحدیث 1.
7- وسائل الشیعة: الباب 5 من أبواب التیمّم ، الحدیث 7.

ص:125

الرجل تصیبه الجنابة وبه قروح أو جروح، أو یخاف علی نفسه من البرد؟ فقال: لا یغتسل ویتیمّم»(1). ومثله روایة داود بن سرحان(2).

بل یستفاد من جمیع الأخبار الواردة فی ذی القروح والجروح والمجدور والمکسور والمبطون، بکثرتها مع صحة سند بعضها، جواز التیمم حتّی لمن یخاف زیادة المرض دون التلف، فضلاً عمّا یوجب التلف. بل قد یفهم جوازه بالفحوی والأولّویة ممّا ورد جواز التیمم لو خاف الشین من استعمال الماء.

وظاهر المصنّف حیث صرّح ب(لو خَشی المرض الشدید) رفع ما لو کان یسیرا، کما هو ظاهر «التحریر»، وصریح «المعتبر» و«المبسوط» عدم اعتباره، بل فی الأخیر نفی الخلاف عنه، بل هو المحکی عن «الخلاف» و«المنتهی»، وربّما یستظهر منهما الاجماع علیه، حیث قالا: «المرض لا یخاف منه التلف ولا الزیادة فیه»، بل فی الثانی: «إذا لا یخاف الضرر باستعمال الماء لا یجوز معه التیمم، والعلّة هو صدق وجدان الماء مع ما لا یتضرّر، وفاقا لمن عدا مالک أو بعض اصحابه، وداود تمسکا باطلاق «وَإِن کُنتُم مَّرْضَی» واطلاقه لمثل ما نحن فیه لا یخلو عن تأمل».

بل قد استشکل هنا مثل الشهید فی «الذکری»، والمحقق فی «جامع المقاصد» مستدلاً بالحرج، وبقول النبی صلی الله علیه و آله : «لا ضرر ولا ضرار»، وبأنّه أشد ضررا من الشین الذی سوّغوا التیمّم له، وبعدم الوثوق بیسیر المرض عن أن یصیر شدیدا.

قلنا: ظاهر استدلالهم یفید أنّهم أرادوا غیر ما فرضناه فی صدر المسألة، لأنّ ما یستلزم الحرج أو الضرر أو الخوف بأن یصیر شدیدا بحیث یجوز معه التیمم هو


1- المصدر السابق، الحدیث 8.
2- نفس المصدر، الحدیث 9 .

ص:126

مورد وفاق فقهائنا، فلا خلاف فیه بیننا فی هذه المسألة، وعلیه فیصیر النزاع لفظیا. کما یؤیّد ما ذکرنا ذکرهم غالبا قید (ما لا تتحمّله العقلاء عادة). وعلی کلّ حال إذا فرض کون المرض یعدّ للمکلف حرجیا وضرریا فی الجملة، فیجوز معه التیمم ولو فرض صدق الیسیر علیه، لأنّه ربّما یکون بعض الأمراض الیسیرة لبعض الأشخاص سببا للعُسر والحرج، وحینئذٍ فلا اشکال فی جواز الانتقال الی التیمم، کما هو الأمر کذلک فی سائر الموارد من الواجبات الأصلیة کالصوم والصلاة.

ولأجل ذلک نری أنّ الامام علیه السلام قد أوکل تشخیص ذلک الی نفس المکلّف کما هو مذکور فی موثقة زرارة، قال: «سألت الصادق علیه السلام ما حَدّ المرض الذی یفطر به الرجل، ویدع الصلاة به من قیام؟ فقال: بل الانسان علی نفسه بصیرة، هو أعلم بما یطیقه».

فإنّ الملاک فی الجواز هو صدق ما لا یطیق، وتشخیصه فیه مرتبط وموکل بنفس المکلّف، فالمرض الیسیر الذی لیس کذلک، لا یجوز فیه التبدیل کما لا یخفی.

هذا، والخوف الذی یجوز فیه ذلک، لا فرق فیه بین کون الشخص صحیحا یخاف حدوث المرض باستعمال الماء أو طلبه، أو کونه مریضا کذلک فالحکم سواء فی حالتی النفی والاثبات، إلاّ أن یصیر المریض بانضمام ذلک الیه ذا مشقة عظیمة، فیجوز حینئذٍ قطعا.

کما لا فرق فی ملاحظة الحالتین من الجواز وعدمه بین کون الخوف فی حصول المرض الیسیر من جنس المرض الذی کان فیه، أو من غیره، لوحدة الملاک فی جمیعها، ولذلک تری حکایة الاجماع عنهم علیه عند الخوف من زیادة المرض من دون تفصیل فی کلماتهم.

ص:127

بل لا یبعد الحاق التألّم بالمرض فی الصورتین، أی الجواز اذا کان ما لا یتحمله عادة وعدمه فی عدمه، کما هو المحکی عن الأکثر، بل عن ظاهر «الغنیة» الاجماع علیه، للحرج واطلاق: (وإنْ کُنتُم مرضی) الشامل للتألّم الذی لا یتحمّله عادةً، لأجل شدة بردٍ أو غیر ذلک. بل یمکن استفادته من ترک الاستفصال فی الأخبار الوارة فی الجروح والقروح بل وفحوی التیمم فی الشین، بل وکذا خبر من البزنطی وابن سرحان الواردین فیمن یخاف علی نفسه البرد، الشامل للتألّم ایضا. علیه فالجواز فیما لا یتحمّله عادةً أمرٌ ثابتٌ لا اشکال فیه، کما أنّ الحکم فی عدم الجواز فی الیسیر الذی یتحمّله عادة أیضا کذلک.

نعم، قد یظهر الخلاف من العلاّمة فی «القواعد»، والشهید فی «الذکری» وعن غیرهما، من القول بعدم الجواز مع التألّم والبرد، والظاهر أنّ مرادهم هو ما یتحمّل عادةً، وعلیه فلا خلاف حینئذ، والاّ لا مستند لهم غیر الأصل المخصّص بما ذکرناه، وعدم شمول النصوص لمثله ممنوعٌ فی مثل المریض وغیره.

وأمّا ما ورد من قوله علیه السلام : «أفضل الأعمال أحمزها» فإنّ المراد منه الأحمزیة فی نفس العمل لا بمثل المرض وغیره. نعم، قد ورد فی عدّة أخبار بعضها صحیح ما یؤیّد عدم الجواز، فلا بأس بذکرها:

منها: صحیح ابن مسکان، عن عبداللّه بن سلیمان، جمیعا عن أبی عبداللّه علیه السلام : «أنّه سُئل عن رجلٍ کان فی أرضٍ باردة، یتخوّف إنْ هو اغتسل أن یصیبه عنتٌ من الغسل، کیف یصنع؟ قال: یغتسل وإنْ أصابه ما أصابه. قال: وذکر أنّه کان وَجِعا شدید الوجع فأصابته جنابة وهو فی مکانٍ بارد، وکانت لیلة شدیدة الریح باردةٌ فدعوت الغلمة، فقلت لهم: احملونی فاغسلونی، فقالوا: إنّا نخافُ علیک. فقلت لهم: لیس بدّ، فحملونی ووضعونی علی خشباتٍ ثمّ صبّوا علیّ الماء فغسلونی»(1).


1- وسائل الشیعة: الباب 17 من أبواب التیمّم ، الحدیث 3.

ص:128

ومنها: صحیح محمد بن مسلم، قال: سألت أبا عبداللّه علیه السلام عن رجلٍ تُصیبه الجنابة فی أرضٍ باردة، ولا یجد الماء، وعسی أن یکون الماء جامدا؟ فقال: یغتسل علی ما کان.

حَدّثه رجلٌ أنّه فَعَل ذلک، فمرض شهرا من البرد، فقال: اغتسل علی ما کان، فإنّه لابدّ من الغسل.

وذکر أبو عبداللّه علیه السلام : أنّه اضطر الیه وهو مریضٌ، فأتوه مسخّنا فاغتسل، وقال: لابدّ من الغسل»(1).

فان ظاهرهما یدلّ علی وجوب الغُسل کیف ما کان، بل حتّی لو خاف علی نفسه التلف، کما یؤمی الیه قوله: «حدّثه رجل... الی آخره»، لکن لابدّ من الحمل أو التاویل حتّی یجامع مع ما سبق من الأخبار الدالة علی الجواز بأهون من ذلک، ومع القواعد المسلّمة بین الفقهاء من نفی العسر والحرج والضرر، ولأجل ذلک حملهما الشیخ فی خلافه علی صورة التعمّد، واختاره مدّعیا علیه اجماع الفرقة، وکذا اختاره المفید فی مقنعته والصدوق فی هدایته، للأصل وإدخاله الضرر علی نفسه باجناب نفسه مع علمه بحاله، مضافا الی الصحیحین، والأجماع المُدّعی، هنا شاهدُ جمع علی هذا الحمل وهو:

1_ الروایة المرفوعة من علی بن احمد رفعه الی أبی عبداللّه علیه السلام ، قال: «سألته عن مجدورٍ أصابته جنابة؟ قال: إنْ کان أجنب هو فلیغتسل، وإنْ کان احتلم فلیتیمّم»(2).

2_ مرفوعة ابراهیم بن هاشم، قال: «إنْ أجنب فعلیه أن یغتسل علی ما کان منه، وإنْ احتلم فلیتیمّم»(3).


1- المصدر السابق، الحدیث 4.
2- وسائل الشیعة: الباب 17 من أبواب التیمّم ، الحدیث 1.
3- المصدر السابق، ح 2.

ص:129

وهو مختار صاحب «الوسائل» و«المستند» علی ما هو المحکی عن الآملی فی مصباحه، فبهاتین الروایتین خصّصوا وقیّدوا الصحیحین بصورة التعمد.

ولکنّ المشهور أعرضوا عن مثل الصحیحین، وحکموا بجواز التیمم حتّی فی المتعمّد فضلاً عن غیره، والشهرة عظیمة محصّلاً ونقلاً علیهع وأدرجوا الحکم تحت اطلاق الاجماعات السابقة علی التیمم عند خوف التلف ونحوه، کما هو صریح کلام المصنّف وابن زُهرة، والعلاّمة وغیرهم، بل ظاهر «المنتهی» الاجماع علیه بالخصوص، حیث قال: «لو اجنب مختارا وخشی البرد یتیمم عندنا وهو الحجّة...» مضافا الی إطلاق (وإنْ کنتُم مرضی) الی آخر کلام صاحب «الجواهر» فی المقام من ذکر الاطلاقات والقواعد.

أقول: برغم أنّ مقتضی کلام الخصم هو القول بحرمة الاجناب، لأنّ ما یستلزم تحقّق ما یوجب المرض وشدّته، بل ربما یوجب خوف التلف مع وجوب الغسل علیه والحال هذه، کان اللازم حینئذٍ هو الحکم بالحرمة، مع أنّ المحقق فی «المعتبر» قد ادّعی الاجماع علی الاباحة، کلّ ذلک بمقتضی الأصل والعمومات مثل قوله تعالی: «نِسَآؤُکُمْ حَرْثٌ لَّکُمْ فَأْتُواْ حَرْثَکُمْ أَنَّی شِئْتُمْ» هذا کما فی «الجواهر».

ولکن الاستدلال بهذه الآیة علی الحکم المذکور حتی لو تمت سائر الأدلة علی المنع، لا یخلو عن تأمّلٍ لانّها بصدد بیان طبیعة القضیة وأنّ مثل المرأة به مثل الحرث فی جواز الاتیان من دون نظرٍ الی عروض بعض العوارض المانعة عن ذلک، فاثبات الاطلاق والعموم فیها من هذه الجهة لا یخلو عن اشکال.

کما أنّ قوله ربما: «یستلزم الحرج الشدید فی بعض الأحوال لو مُنع من الجماع) غیر مسموعٍ، لوضوح أنّه لا یستلزم الحکم بالجواز فیما لا یستلزم، بل غایته القول بالجواز فیما یستلزم ذلک، لا مطلقا کما هو المدّعی.

ص:130

أقول: مع الغضّ عن اشتمال الصحیح الأوّل علی ما لا یمکن الالتزام به، وهو فرض احتلام الصادق علیه السلام المستفاد من جملة: (فأصابته جنابة) الظاهرة فی کونه کذلک، مع قیام الأخبار الدالة علی أنّهم علیهم السلام منزّهون عن الاحتلام _ وإنْ شتت الاطلاع علیها فارجع الی «اصول الکافی» باب موالید الائمة علیهم السلام من کتاب الحجّة الحدیث 8 وغیره _ . فإنّه قد وردت الأخبار الدالة علی جواز الاجناب متعمدا، مع العلم بعدم الماء.

منها: خبر السکونی، عن جعفر، عن أبیه، عن آبائه، عن أبیذرٍّ رضی الله عنه : «أنّه أتی النبیّ صلی الله علیه و آله فقال: یا رسول اللّه هلکتُ، جامعت علی غیر ماءٍ. قال: فأمر النبیّ صلی الله علیه و آله بمحملٍ فاستترت به وبماءٍ فاغتسلت أنا وهی، ثم قال: یا أباذر یکفیک الصعید عشر سنین»(1).

ومنها: خبر اسحاق بن عمّار، قال سألت أبا ابراهیم علیه السلام عن الرجل یکون مع أهله فی السفر، فلا یجد الماء یأتی اهله؟ فقال: ما أحبّ أن یفعل ذلک، الاّ أن یکون شیئا أو یخاف علی نفسه»(2).

ورواه ابن ادریس فی آخر «السرائر» نقلاً من کتاب محمد بن علی بن محبوب مثله، وزاد:

قلت: «یطلب بذلک اللذّة؟ قال: هو له حلال. قلت: فإنّه روی عن النبی صلی الله علیه و آله أنّ أباذر سأله عن هذا فقال: أیت أهلک تُوجر؟ فقال: یا رسول اللّه وأوجر؟ قال: نعم إنّک إذا اتیت الحرام أزرت، کذلک اذا اتیتَ الحلال أجرت. فقال: ألا تری أنّه اذا خاف علی نفسه فأتی الحلال أُجر»(3).


1- وسائل الشیعة: الباب 14 من أبواب التیمّم ، الحدیث 12.
2- وسائل الشیعة: الباب 27 من أبواب التیمّم ، الحدیث 1.
3- المصدر السابق، الحدیث 2.

ص:131

هذا، مضافا الی أنّ ملاحظة الأخبار الواردة فی المجدور من التوبیخ علی ترک التیمم وتغسیله المستلزم لشدّة المرض أو تلفه، من دون استفصالٍ بأنّ جنابته کانت عن عمدٍ حتّی یکون شأنه هو الغُسل، أو الاحتلامٍ فالتیمّم، فنفس ترک الاستفصال یکشف أنّه علیه التیمم حتّی ولو کان متعمّدا فی جنابته، وإنْ لم یستلزم التلف کما قد یتفق.

فبعد ملاحظة هذه الأدلة المجوّزة الدالة التیمّم بصورة الاطلاق، لا یمکن الذهاب الی التفصیل المزبور، وهو وجوب الغُسل مع التعمّد فی الجنابة، والتیمم عند الاحتلام، بل لابدّ من رفع الید عن المرفوعتین لضعف سندهما، خصوصا مع کون الثانیة منهما مقطوعة، وفضلاً عن اعراض المشهور عنهما، بل ادّعی الاجماع علی خلافهما.

وامّا الصحیحان وإنْ أمکن الجمع بینهما وبین سائر الأخبار بحمل الصحیحین علی صورة خوف تلف النفس، وغیرهما علی عدم ذلک، ولکن هذا الجمع غیر محمودٍ:

أوّلاً: لاشتمال الصحیحین صراحةً بما لا یستلزم التلف أصلاً فکأنّه یأبی عن التخصیص.

وثانیا: انّهما لا یعمل بهما علی حسب من یقول بکون الشهرة جابرة وکاسرة، فههنا الصحیحان من القسم الثانی، حیث قد عرفت اعراض المشهور عن العمل بهما، مع امکان حملهما علی صورة الاستحباب،

وممّا یؤیّد ذلک کلمة (العنت) الواردة فی الصحیح الأوّل، الظاهر أنّه کان فی موردٍ لا یخاف التلف، بل غایته هو المشقّة التی تتحمّل عادة. وعلیه فالحکم بالغُسل فی ذلک ولو استحبابا غیر بعیدٍ، هذا بخلاف ما لو خاف التلف علی نفسه، أو کان سببا للمشقة التی لا تتحمّل عادة، فلابدّ فیه من التیمم.

ص:132

هذا، وقد یظهر من السیّد فی «العروة» أولویة الجمع بین الغُسل والتیمم، ولعلّه کان لأجل الخروج عن مخالفة من أوجبه الغسل، کما عرفت القائلین به من المتقدمین، والاّ یُشکل ذلک علی القول بوجوب الغُسل، لأنّ أمره حینئذٍ یدور بین الوجوب والحرمة، فکیف یمکن الاحتیاط فی فعله، مع احتمال کونه حراما.

نعم، یتیمم هذا فیما کان سقوط الغُسل علی تقدیر سقوطه رخصة لا عزیمة، ولکن معه حینئذٍ لا حاجة الی التیمّم.

وبالجملة: فالأقوی عندنا هو ما ذهب الیه المشهور من جواز التیمم، حتّی لمن تعمّد الجنابة، مع عمله بعدم الماء، فإنّ عمله وإن کان غیر محبوبٍ کما أشار الیه الامام الکاظم علیه السلام فی الروایة التی وردت عن المسافر الذی یأتی أهله فیجنب، بقوله: «ما أحبّ أن یغعل ذلک» التی هی أیضا مؤیده لقول المشهور بعدم کون عمله حراما، بل یجوز فیأتی بما هو وظیفته من التیمم بمقضتی القواعد التی قد عرفت تفصیلها، فلا نعید.

کیفیّة الوقوف علی تحقق الضرر

اعلم أنّ الضرر المسوّغ للتیمّم هنا بل وفی غیره هو ثبوته ثبوت تحقّقه علما وظنا، سواءٌ ثبت له من معرفةٍ أو تجربة أو إخبار عارفٍ _ وإنْ کان فاسقا أو صبیّا _ بما یوجب قوله الظن أو العلم، بل ولو کان ذمیّا بل وحربیّا اذا لم یکونا متهمین فی دینهما بعدم المبالات، لوضوح أنّ الملاک هو حصول هذه الصفة فی النفس، فربّما تحصل من أهل الخبرة من الکافر الحربی اذا کانوا من أهل الخبرة وغیر متهمین. لعلّ ما عن العلاّمة فی «المنتهی» من عدم قبول قول الذمّی کان لاجل التهمة وعدم حصول الظنّ من کلامه، والاّ فإنّه یقبل من غیره فضلاً عن مثله، فلا

ص:133

بأس حینئذٍ بدعوی عدم الخلاف فی کفایة الظن فی المسوّغیه، لقیام الاجماع علی وجوب دفع الضرر المظنون.

مضافا الی امکان استفادته من تعلیق الحکم علی الخوف المتحقّق بالظن علی الألسنة ومعاقد الاجماعات، بل قد یقال _ ولیس ببعیدٍ _ حصول الخوف المعلّق علی الشک والوهم الذی لا یستعبده العقلاء، فضلاً عن الظنّ، وإنْ کان ظاهر کلام بعض کالعلاّمة ومن تأخّر عنه کون التعلیق المجوّز هو الظن دون غیره.

واذا ثبت هذا فی الخوف علی التلف أو المرض الشدید، یثبت کون الخوف فی اللّص والسبع المسوّغ کالخوف فیما نحن فیه من هذه الجهة، أی یکفی فی حصوله الظنّ والشک والوهم، کما لا یخفی علی المتأمل.

کیفیّة تبدیل حکم الوضوء الی التیمم

ثمّ اذا عرفت حکم التیمم فیما یستلزم الوضوء أو الغُسل الضّرر، یقع البحث عن أنّ حکم ما یوجب ذلک من تبدیل الحکم منهما الی التیمم هل یکون علی نحو الرخصة أو العزیمة؟

فمقتضی ظاهر بعض الأخبار، مثل خبر محمد بن مسلم، المروی عن أبی جعفر علیه السلام : «فی القروح والجروح للجنب؟ قال: لا بأس بأن لا یغتسل ویتیمّم»(1) هو الاوّل، إلاّ أنّه یرفع الید عنه فی ما اذا کان نفس العمل حراما کالضرر علی النفس، لانتقال فرضه، فلا أمر له حینئذٍ، بل هو منهیّ عنه، کما یشهد لذلک وجود النهی فی بعض الأخبار:

منها: خبر أبی نصر البزنطی، عن الرضا علیه السلام : «فی حقّ الجنب اذا کان له قرح


1- وسائل الشیعة: الباب 5 من أبواب التیمم، الحدیث 5.

ص:134

وجروح أو یکون یخاف علی نفسه من البرد؟ قال: لا یغتسل ویتیمّم»(1).

ومثله خبر ابن سرحان(2)، بل قد یؤید ذلک ملاحظة الجمع بین کلمة (لا بأس) والنهی فی خبرٍ آخر لمحمد بن مسلم، المرویّ عن أبی جعفر علیه السلام علی حسب نقل الصدوق، حیث قال: «لا بأس بأن یتیمّم ولا یغتسل»(3)، الظاهر فی أنّ النهی قرینة لصرف ظهور کلمة (لا بأس) عن حکم الرخصة.

ودعوی عکسه بأن یکون الصدر قرینةً لصرف النهی عن التحریم الی الکراهة. ممنوعة _ فإنّه مضافا الی استبعاده بذاته _ مخالفٌ للاجماع حیث لم یظهر من أحدٍ الفتوی بالکراهة، مع أنّ فی صحة العمل العبادی مع الکراهة تأمّل، لمنافاته مع کونه متقربا به الی اللّه کما لا یخفی، فصحة الغسل أو الوضوء مع العلم بالضرر أو الظن به غیر معلومٍ، بل الأقوی عدمه، کما علیه صاحب «الجواهر» وغیره.

نعم، فیما لو لم یکن أصل العمل حراما، بل الحرمة تعلّقت بما یوصل الیها، کما لو کان فی موردٍ یخاف اللّص والسبع وبرغم ذلک ذهب وغَرّر بنفسه ووصل الی الماء، فهل یجوز له التیمم حینئذٍ، أو یجب علیه الغُسل والوضوء؟

الظاهر هو الثانی، لأنّه حینئذٍ یصدق علیه أنّه واجد الماء، فیعود الفرض له، وإن کان قد فعل حراما فی أصل العمل. وکذلک مثله فیما لو اشتری الماء وهو یتضرّر بشراءه ضررا لا یتحمّله العقلاء، اذ من المعلوم انّه وإنْ کان قد فعل حراما فی اصل المعاملة، الاّ أنّه لا یوجب فساد المعاملة، وکذلک فیما یستلزم طلب الماء أو الاشتراء تحمّل المهانة والذلّة فی طلبه أو طلب ثمنه، أو ارتکب لأجله


1- وسائل الشیعة: الباب 5 من أبواب التیمّم ، الحدیث 7.
2- المصدر السابق، الحدیث 8.
3- المصدر السابق، الحدیث 11.

ص:135

کسبا المهانة فی نفسه، وأمثال ذلک، خصوصا فیما اذا لم یکن فی بعض ذلک من الحرمة، لإمکان أن یکون فی بعضها موجبا لرفع وجوب الطلب وترخیص التیمم، ففی مثل ذلک لو حصل علی الماء، فإنّه لا اشکال فی تبدیل فرضه وصحّة عمله، ولا ینافی ذلک صدق الطهارة الاضطراریة، لامکان أن یکون ذلک من جهة الغلبة، أو لامکان جمعه مع اسقاط وجوب الطلب، اذا استلزم بعض تلک الأمور، إذ لا ینافی الاضطرار مع کونه جائزٌ شرعا، أی یجوز تحمّله، فمن تحمّل وحصّل فلا بأس بالقول بوجوب الوضوء والغسل علیه، بعد صدق الوجدان علیه، ورفع العسر والحرج بذلک، ففی جمیع هذه الصور التی یجوز له التیمم لو خالف وتطهّر، فلا یبعد القول بصحة عمله واجزائه، وإنْ استلزم ذلک ایلام نفسه فی الجملة، حیث لم تکن واجبة علیه الطهارة المائیة، لکنه لا یوجب البطلان لوجود الرجحان فی الطهارة فی حدّ ذاتها، وعدم المنافاة للندب مع الحرج، ولعدم ظهور الأدلة فی عدم مشروعیة الطهارة المائیة بهذه الکیفیّة لمثله، کما لا یخفی.

وکیف کان، فإنّ حرمة بعض المقدمات لا تنافی تبدل الفرض والحکم بالصحة بعد حصول الماء، لانطباق ما هو الملاک فی تبدّل الحکم، وهو وجدان الماء الموجب لایجاب الطهارة المائیة علیه، ویکون عمله حینئذٍ صحیحا، لأنّ حرمة المقدمات قد رفعت عنه حکم وجوب الطهارة المائیة، وصارت سببا لایجاد الرخصة علیه فی تبدیل فرضه بالتیمم، لکن ما دام لم ینطبق علیه عنوان واجد الماء، والاّ وجب علیه الطهارة الأولیّة ولا یکفی التیمم، کما لا یخفی.

حکم الوضوء عند ضیق الوقت المبیح للتیمم

ثبت سابقا أنّ ضیق الوقت مسوّغٌ للتیمّم، فحینئذٍ یدور البحث فی أنّه لو تخلّف عن التیمّم وأتی بالطهارة المائیة، فهل المفسد للوضوء والغُسل یکون نفس

ص:136

المخالفة مع قطع النظر عن حرمة الضدّ، بناءً علی أنّ فساده مبنیٌ علی هو عدم وجوب الأمر بالوضوء والغسل حینئذٍ، وانتقال فرضه فیهما الی التیّمم.

أو أنّ الفساد فیها مسبّبٌ عن القول بکون الأمر بالشیء مقتضیا للنهی عن ضده الخاص؟

قال صاحب «الجواهر»: (فیه وجهان، الأقوی فیهما هو الثانی، لأنّ سقوط الأمر لهما لهذه الصلاة لا یقتضی سقوط غیر هذا الأمر من الأوامر الدالة علی رجحانهما فی حدّ ذاتهما، أو الأمر لغیر هذه الصلاة ممّا کان فی وقته، الاّ أن یکون وجه الضدیة وحرمتها مستلزما لبطلانها، فالحکم حینئذٍ مبنیٌّ علی الضدیة).

قلنا: لا اشکال فی البطلان والفساد عند من یقول إنّ الأمر بالشیء یقتضی النهی عن ضدّه، حیث یکون البطلان حینئذٍ مستندا الی کونه منهیا عنه، والنهی فی العبادات یوجب الفساد، وأمّا عند من لا یقول بذلک، کما هو مختار أکثر المحققین والأصولییّن، فحینئذٍ لا وجه للقول بالفساد بمجرد عدم وجود الأمر له حینئذٍ، إلاّ عند من یشترط فی صحة العباد وجود الأمر حتّی بقصد امتثاله، فلا فرق عنده بین القول بحرمة الضدّ وعدمه، لأنّ ذلک فاسد قبل تعلّق النهی به، لفقد الأمر المتقدم رتبةً عن تعلّق النهی بضدّ المأمور به.

وأمّا عند من لا یشترط ذلک فی صحة العبادة، بل وجود ملاک الأمر ومحبوبیتها الذاتیة والرجحان، فمع وجود المزاحم عن ظهور الأمر لا یوجب فقده رجحانه، فالوضوء أو الغُسل یعدّ صحیحا إذا قصد غیر هذا الأمر المتعلّق بالصلاة، أو اتی بهما بملاحظة ملاکهما من رجحانها الذاتیّة، ولو لأجل الکون علی الطهارة أو غیر ذلک ممّا یوجب صحّة قصده. وعلیه فلا وجه حینئذٍ للقول بالبطلان.

بل وهکذا یحکم بالصحة من یقول بوجود الأمر الترتّبی، أی وجوده عند العصیان عمّا هو وظیفته، لأن حکمه فی المورد کان التیمّم، وعند عصیانه عنه یتحقّق الأمر بالوضوء والغُسل فیقصدهما فیصیر صحیحا.

ص:137

أقول: وممّا ذکرنا یظهر حکم ما یماثله، وهو ما اذا کان واجدا الماء، لکن وجب علیه صرفه فی غیر الطهارة ممّا لا بدل له کازالة النجاسة عن المسجد، حیث یمکن الحکم بالصحة بأحد الأمور السالفة، وما استدرکه صاحب «الجواهر» بعده بقوله: «اللّهم الاّ أن یقال إنّه بعد أمر الشارع بصرفه فی غیرها کان بمنزلة من لا ماء عنده، فلا خطاب بالطهارة حینئذٍ».

لیس علی ما ینبغی، لانّه حتّی لو سلّمنا عدم وجود خطابٍ له بالطهارة، فهو لأجل وجود المزاحم الأهم، فلا ینافی وجوده مع الترتّب، حیث عند فرض العصیان یوجد الأمر. کما لا ینافی وجود ملاک الأمر بالطهارة وهو المحبوبیّة الذاتیة. وعلیه فالأقوی عندنا هو الصحة وإنْ استحقّ العقوبة لأجل ترک ما هو الواجب علیه وهو التیمّم.

وبالجملة: ظهر من جمیع ما ذکرنا أن الضابط فی البطلان هو کون نفس العمل حراما إمّا بالنهی التحریمی المستقل، أو النهی لأجل القول باقتضاء الأمر النهی عن ضد الخاص، وأمّا المنهی عنه بالنهی الغیری لأجل کون مقدماته منهیّا عنها وفرض اتیانه، فإنّه حینئذٍ یعود حکمه، فیجب علیه الطهارة لصیرورته واجدا الماء حینئذٍ ولعلّه الی ذلک أشار العلاّمة الطباطبائی فی منظومته، وقال:

فالفرض فی هذا ونحوه البدل والأصل لا یجری اذا الفرضُ انتقل

لکن یعود إن تکلّف السبب وارتفع العذر بما قد ارتکب

وضابط البطلان تحریم العمل لا النهی عمّا یقتضیه إذ حصل

حدود الضرر المبیح للتیمم

ثمّ بعد ما عرفت انتقال الفرض الی التیمم عند خوف الضرر علی النفس، فإنّه لا فرق فیه بین کون خوف الضرر علی مجموع البدن أو بعضه، کما یظهر ذلک من الأخبار الواردة فی الجروح والقروح، کما أنّ الأمر کذلک اذا کان خوف الضرر

ص:138

علی الرّمد، حیث أنّ حکمه مع الخوف ینتقل الی التیمم، اذا فرض تضرّره بوضع الماء علی وجهه، أو اذا کان الخوف حاصلاً من قرب الماء الی ظاهر أجفانه، کما هو الغالب کذلک، ولا یدخله مثل ذلک الی حکم الجبیرة، ولا یشمله أدلة الجبیرة، لأنّ ظاهر تلک الأخبار أنّ حکم الجبیرة ثابت فی الجروح والقروح لا فی مثل الرمد فی العین.

وعلیه، فما فی «الحدائق»: «من أنّ الأقرب إنْ کان لا یتضرّر بغسل ما عدا العین، فالواجب الوضوء أو الغسل، أو غَسل ما حول العین ولو بنحو الدهن، لأصالة المائیة مع عدم ثبوت المخرج، وإلحاقا لها بحکم القروح والجروح، بل لعلّ الجواب فی بعض أخبارها متناولٌ لذلک، وإنْ کان السؤال مشتملاً علی خصوص الجرح والقرح، فإنّ العبرة بعمومه».

لا یخلو عن وهن وضعفٍ، لوضوح أنّ الرّمد لا یکون داخلاً تحت عنوان الجرح والقرح، وکون الجواب شاملاً له لا یخلو عن تأمل، لأنّ الظاهر أنّ الجواب موافقٌ للسؤال، فحینئذٍ إن أراد ترک غَسل الجفن ظاهرا حتّی فیما لم یتضرّر منه، فضعفه واضح، وإنْ اراد ترکه ولو مع العلم بالضرر، فلابدّ له من اتیان البدل مکانه، وهو لیس الاّ التیمم، لأنّ الجبیرة بدل فی الجروح والقروح دون غیرهما، والحاق مثله الیها ممّا لا دلیل علیه.

نعم، لو فرض کون الماء مضرا لنفس العین وباطنه، دون ظاهر الأجفان، وکان متمکنا من ایصال الماء الی الظاهر دون العین، کان الواجب علیه حینئذٍ الوضوء والغسل دون التیمم، ولکنه نادرٌ فی مثل الرمد، لأنّ الغالب هو وجود الخوف فی مثل هذا العمل للرمد، ولذا قال صاحب «الجواهر»: «إنّ المعمول علیه فی زماننا عند من عاصرناه من المشایخ ومقلدیهم التیمم عند حصول الرّمد».

ص:139

قوله: أو الشین باستعماله الماء جاز له التیمم (1)

نعم، لو فرض کون الضرر وصول الماء الی العین، وفرض امکان ایصال الماء الی الأطراف من الجفن وغیره فقط، ففی ذلک قد حکم بعضٌ بالاحتیاط وجوبا، جمعا بین ذلک وبین المسح علی الجبیرة بوضع الخرقة علیها، وبین التیمم، هذا کما عن السید فی «العروة» فی باب أحکام الجبائر لکن لا وجه للحکم بوجوبه، لأنّ العمل بهذا القسم من الاحتیاط حسنٌ، لما قد عرفت من الحکم بالتیمم، غایته هو الجمع بینه وبین ایصال الماء بالطریق الذی ذکرو، وأمّا اجراء حکم الجبیرة هنا ممّا لا وجه له کما لا یخفی.

(1) السبب الخامسّ المسوّغ للتیمم: الخوف من حصول الشین.

والمراد من الشین کما صرّح به صاحب «المدارک» والسیّد فی «العروة» وغیرهما، هو ما اذا لزم من استعمال الماء أن یعلوا البشرة من الخشونة المشوّهة للخلقه من البرد وغیره، بل قد یصل الی تشقّق الجلد وخروج الدم منه، وهو علی قسمین:

قسم یکون علی حدّ ما لا یتحمّله عادة وموجبا للمشقة الخارجة عن التحمل، ففی مثله لا اشکال فی تبدیل الفرض الی التیمم.

والدلیل علیه هو الاجماع، کما صرح به صاحب «الجواهر» بقوله: «فلا أعرف فیه خلافا بین الأصحاب» بل ظاهر المعتبر کنسبته الی «المنتهی» الی علمائنا، و«جامع المقاصد» الی اطباقهم، و«المدارک» وغیره الی قطع الأصحاب الاجماع علیه، اذ هو القدر المتیقن من معاقد الاجماعات.

ولکن صرّح بعض بعدم الفرق فی التبدیل بین هذه الصورة وبین الشین

ص:140

قوله: وکذا لو کان معه ماء للشرب، وخاف العطش إنْ استعمله (1)

الضعیف وهو القسم الثانی کما هو مقتضی اطلاق بعضهم، ولکن الالتزام بهذا الاطلاق مشکلٌ جدّا، لانّه لم یرد فیه دلیل بالخصوص حتّی یوخذ باطلاقه، بل الدلیل علیه لیس إلاّ عمومات العسر والحرج، واحتمال دخوله فی المرض، أو فی اطلاق ما دلّ علی التیمم عند خوف البرد، ومن المعلوم عدم وجود العسر فی الشین الضعیف، بل لا یکاد ینفکّ عن غالب الناس فی أوقات البرد، ولأجل ذلک قیّد بعض الفقهاء _ کالعلاّمة فی موضعٍ من «المنتهی» الشین بالفاحش، واختاره جماعة من المتأخرین کالمحقق الثانی فی جامعه، والشهید الثانی فی «الروضة»، والفاضل الهندی فی کشفه، بل هذا هو المراد من التقیید بما لا یتحمّل عادةً فی کلام العلامة البروجردی والآملی، بل لا یبعد کونه هو المراد من التعبیر بکونه شاقّا کما ورد فی کلام السید فی «العروة»، ولاجل ذلک نقل صاحب «الکفایة» عن بعضهم الاتفاق علی أنّ الشین اذا لم یغیّر الخلقه ویشوّهها لم یجز التیمم، وهذا هو الأقوی عندنا.

(1) هذه المسألة مشتملة علی صور عدیدة، فلا بأس بذکر کلّ واحدةٍ منها مستقلة حتّی نبحث عن حکمها.

الصورة الأولی: ما لو کان الخوف من استعمال الماء بالعطش علی نفسه فی الحال أو فی المآل، أی یخاف اذا صرف الماء للطهارة المائیة علی نفسه العطش الموجود فی الحال، أو یخاف من حدوثه له فی المآل، فحینئذٍ جاز له التیمم بلا خلافٍ، بل فی «الجواهر»: «إجماعا محصّلاً ومنقولاً عن علمائنا».

والدلیل علیه: هی جمیع العمومات الدالّة علی أهمیّة حفظ النفس عند

ص:141

الشارع حتّی فی الواجبات التی لا بدل لها، التی هی تعدّ عن الشارع مثل الصلاة، حیث یجوز قطعها عند خوف تلف النفس، فضلاً عن ماله بدل کالطهارة المائیة، بل قد رخّص فی ترکها فی أقلّ من ذلک بمراتب کثیرة، کما ورد التصریح بذلک فی الأخبار الواردة فی النهی عن تغریر النفس للسبع واللّص فی طلب الماء فی السفر، وما دلّ علی النهی عن النزول فی البئر اذا لم یکن معه دلوٌ أو حبل وغیر ذلک.

هذا، فضلاً عن خاصّة دالة علی جواز التبدیل:

منها: صحیح ابن سنان _ یعنی عبداللّه _ عن أبی عبداللّه علیه السلام ، أنّه قال: «فی رجلٍ أصابته جنابة فی السفر، ولیس معه الاّ ماء قلیل، ویخاف إنْ هو اغتسل أن یعطش؟ قال: إنْ خاف عطشاً فلا یهریق منه قطرة، لیتیمّم بالصعید، فإنّ الصعید أحبّ الیّ»(1).

فان تکرار العطش فی الجواب، مع ذکر عدم اراقة قطرة من الماء یفیدان شدّة القضیة وأهمیّتها عند الشارع، ممّا یوجب أن یکون المراد من جملة: «أحبّ الیّ» أی المحبوب من الوجوب، یعنی إن شئت معرفة ما هو الأحبّ عندنا من الفردین الواجبین، کان هو الصعید، ویدّل ذلک بالمفهوم علی المنع عن الآخر، لا کونه أرجح حتّی یجتمع مع کونه مندوبا ومخیّرا بینهما.

وبعبارة أخری: قوله: «فلا یهریق قطرة منه» تکون نهی وقرینة صارفة عن ما یتوهّم من کلمة (أحبّ الیّ) کما لا یخفی.

ثمّ حیث لم یُذکر متعلق (العطش) من أنه نفسه أو غیره، فلا اشکال فی شموله للأوّل لانّه القدر المتیقن، لانّه إمّا هو مرادٌ بالخصوص، أو یکون أعمّ منه، ففی کلا الفرضین یتمّم المطلوب.


1- وسائل الشیعة: الباب 25 من أبواب التیمّم ، الحدث 1.

ص:142

ومنها: روایة أخری لمحمد الحلبی، قال: «قلت لأبی عبداللّه علیه السلام : الجنب یکون معه الماء القلیل، فإن هو اغتسل به خاف العطش، أیغتسل به أو یتیمّم؟ فقال: بل یتیمّم، وکذلک اذا أراد الوضوء»(1).

ومنها: موثقة سماعة، قال: «سألت أبا عبداللّه علیه السلام عن الرجل یکون معه الماء فی السفر، فیخاف قلّته؟ قال: یتیمّم بالصعید ویستبقی الماء فإنّ اللّه عزّوجلّ جعلهما طهورا: الماء والصعید»(2).

فإنّ خوف القلّة یشمل بعموم کلمته حتّی صورة العطش لنفسه بطریق أولی، کما عرفت فیما سبق فیکون الأمر کذلک من جهة عدم ذکر المتعلّق أیضا فلا نعید.

ومنها: حدیث ابن أبی یعفور، قال: «سألت أبا عبداللّه علیه السلام عن الرجل یجنب ومعه من الماء قدر ما یکفیه لشربه، أ یتیمّم أو یتوضّأ به؟ قال: یتیمّم أفضل ألا تری أنّه إنّما جعل علیه نصف الطهور»(3).

ومنها: حدیث حسین ابن أبی العلاء، قال سألت أبا عبداللّه علیه السلام عن الرجل یجنب ومعه من الماء بقدر ما یکفیه لوضوئه للصلاة، أیتوضّأ بالماء أو یتیمّم؟ قال: تییمّم ألا تری إنّه جعل علیه نصف الطهور»(4).

فإنّه وإن لم یذکر جهة مقابلته فی استعمال الماء، ولکن باطلاقه یشمل موردنا، أی بان یکفی الماء للشرب مع الوضوء، وبرغم ذلک أمر بالتیمم رعایةً لما یقابله.

والمراد بنصف الطهور فی هذین الخبرین، هو مسح نصف اعضاء الوضوء، أی


1- وسائل الشیعة: الباب 25 من أبواب التیمّم ، الحدیث 2.
2- المصدر السابق، الحدیث 3.
3- المصدر السابق، الحدیث 4.
4- وسائل الشیعة: الباب 24 من أبواب التیمّم ، الحدیث 3.

ص:143

باثبات موضع المغسولین فی التیمم وهما الوجه والیدان دون الممسوحین أعنی الرأس والرجلین، وهذا المعنی أحسن وأتقن ممّا قد وجّهه المحدّث الکاشانی فی «حاشیة الوافی» بامکان أن یکون المراد منه کنایة عن أحد المعادلین، قال قدس سره : «یعنی إنّ اللّه تعالی جعل التراب طهورا کما جعل الماء طهورا وهما سیّان عدیلان، لا فرق بینهما فی الطهوریة کنصفی الشیء الواحد المتساویین، وإنّما عبّر عن کلّ منهما بالنصف لأنّهما معا کشیءٍ واحدٍ فی الاحتیاج الیها فی الطهارة، لا یُغنی أحدهما فی محلّه عنی الآخر» انتهی کلامه.

ثمّ إنّه رحمة اللّه علیه بعد نقل المعنین، قال: «إن الثانی أقرب الی الصواب»، مع أنّ الأوّل هو اقرب کما اعترف به المحقّق الآملی فی مصباحه، والمجلسی فی «مرآة العقول»، ویؤیّده بما قد ورد فی خبر الحلبی من التصریح بکونه نصف الوضوء، والخبر رواه الصدوق رحمه الله باسناده عن عبیداللّه بن علی الحلبی، قال: «سألت أبا عبداللّه علیه السلام عن الرجل یجنب ومعه قدر ما یکفیه من الماء لوضوء لصلاة أیتوضّأ بالماء أو یتیمم؟ قال: لا بل یتیمم، ألا تری أنّه إنما جعل علیه نصف الطهور»(1).

وهذه الأخبار جملةً تدّل علی لزوم التیمم عند خوف العطش، فإنّه وإن کان موردها ما یؤل الی العطش، ولکن لا اشکال فی التبدیل فی فرض هذه الصورة بطریق اولی لأنّها داخلة فی مدلولها بالفحوی کما لا یخفی.

الصورة الثانیة: اذا خاف فی استعمال الماء عطش أولاده أو عیاله أو بعض متعلقیه أو صدیقه، أو من کان مصاحبا معه، أو من کان ممّن یجب علیه، بلا فرقٍ بین کون خوف العطش حالاً أو مآلاً علی النحو الذی تقدّم، فالحکم فی هذه الصورة أیضا انتقال التکلیف الی التیمّم، بلا اشکال ولا خلاف، لعموم دلیل نفی


1- وسائل الشیعة: الباب 24 من أبواب التیمّم ، الحدیث 1.

ص:144

الحرج والعسر، واهمیة حفظ النفس المحترمة الذی تجب رعایتها. بل قد یشملها اطلاق بعض الأخبار السابقة مثل حدیث محمد الحلبی، حیث أطلق فیه (خوف العطش) دون أن یبیّن متعلقه، وخبر ابن سنان المعبرّ فیه (بالعطش) منکرا بقوله: «إن خاف عطشا» وعلیه، فدعوی اختصاصه بعطش نفسه ممّا لا یمکن أن یصغی الیها، لوضوح شموله لعطش جمیع الأفرد التی قد ذکرناها.

کما لا فرق فی المصاحب والرفیق من انتقال الحکم فیهما بین ما لو کان خوف العطش لهما بالتلف أو الضعف الموجب للاضرار أم لا، لأنّ الملاک فی الانتقال هو أصل خوف العطش وهو موجود، فلا ینافی معه وجود عنوان مجوّز آخر لذلک.

الصورة الثالثة: ما لو کان الخوف علی نفسٍ محترمة، وإنْ لم تکن معه ولا مرتبطة به، کنفس مؤمنٍ أجنبی، فالحکم أیضا کما سبق، لأنّ حفظ النفس المحترمة من التلف أمر واجبٌ علی کل مسلم، ولا اشکال فی أهمیّته هذا الواجب الذی لا بدل له فی مقابل ماله بدل وهو الطهارة المائیة.

نعم، قد یشکل الأمر اذا لم تکن النفس ممّن یجب حفظهما، وإنْ لم یجز اتلافها وقتلها کالذّمی المحتون دمه.

وجه الاشکال: هو عدم وجوب حفظه عن التلف من جهة حتّی یقابل مع الطهارة المائیة، ومن جهة أخری یچب احترامه ولو لکونه محقون الدم، حیث لا یرضی الشارع بقتله عطشانا، بل لعلّ صرف الماء فی الوضوء الموجب لتلفه بالعطش موجبا لصدق الاتلاف الذی قد عرفت عدم جوازه، خصوصا مع مملاحظته أن الشارع قد اکتفی فی الانتقال بالأهون من ذلک مثل خوف الشین والبرد ونظائرها، ولما فی النفوس الطاهرة الشریفة والرحمیة من حصول الحرج والمشقة الشدیدة عند مشاهدة هلاک النفس عطشا، ولو کانت غیر محترمة، فیشمله دلیل نفی الحرج.

ص:145

هذا فضلاً عمّا ورد من النهی عن قتل الکفار عطشا ومنع الماء عنهم فی اثناة المعرکة والحرب فضلاً عن غیره، فبملاحظة هذه الأمور ربما یقطع لفقیه بلزوم وجوب صرف الماء لرفع عطشهم، والحکم بالانتقال الی التیمم، سواء کان الشخص ذمّیا أو غیره اذا کان محقونا کالمستأمن.

الصورة الرابعة: ما لو کان خوف العطش علی نفسٍ غیر محترمة، کالمهدور دمه مثل المرتد، أو من یجب قتله، فهو یتصوّر بصورتین:

تارة: یحتاج الی السفر وکان بیحی لو لم یأخذ الماء خاف علی نفسه التلف من العطش، فهنا ممّا لا اشکال فی الانتقال، لأنّ المورد حینئذٍ یعدّ من أفراد الخوف علی النفس المحترمة، فیجوز بل یجب علیه التیمم، لو استلزم صرف الماء فی السفر هلاکة من یجب قتله.

وأخری: لم یکن بحاجة الی الماء، ولکن کان صرف الماء موجبا لهلاکة من یجب قتله لأجل ارتداده أو کونه کافرا حربیّا، أو کان مسلما زانیا محصنا قد وجب قتله بالرجم، أو من وجب قتله قصاصا، ففیه قد حکی تصریح «الذکری» علی عدم مزاحمته مع وجوب صرف الماء فی الطهارة المائیة، کما یظهر ذلک من صاحب «الجواهر» أیضا، حیث قال فی مورد التزاحم: «أنّه لا دلیل علیه، بل هو علی خلافه متحقق»، ولذلک أفتی ا السیّد فی «العروة» جزما بعدم المزاحمة فی هذه الأفراد، وهو مختارنا فی التعلیقه علی «العروة» وغیرها.

أقول: لکن المسألة لیست بصافیه، لما تری من المناقشة عن بعض کالمحقق الآملی فی مصباحه، حیث قال: «ویمکن أن یقال بتسویغه التیمم، أیضا لأنّ دلیل وجوب قتله لا یدلّ علی جواز قتله عطشا، بل یمکن أن یقال بوجوب اشباعه من الجوع وابراد کبده من العطش مادام حیّا لم یقتل، خصوصا فی المسلم المحکوم

ص:146

علیه بالقتل إذ لا یکون أقلّ حرمةً من الحیوانٍ المحلّل لحمه الذی یجوز ذبحه، ولکن لا یجوز منعه من الماء حتّی یموت عطشاً. نعم، لو کان الجانی قد قتل نفسا بمنع الماء عنه فمات عطشا، فالقصاص منه یکون بهذا النحو من القتل، فمطلق جواز القتل أو وجوبه لا یدلّ علی جواز القتل بحبس الماء عنه حتّی یموت من العطش، وعلیه فیقوی تسویغ هذا القسم أیضا للتیمّم» انتهی کلامه(1).

ثم قد یؤیّد کلامه فی ما ذکره بالخصوص فیما لو کان من یجب قتله رفیقا له، حیث یدخل حینئذٍ فی کلام صاحب «الجواهر» من استدراکه فی المسألة بعد فتواه بعدم المزاحمة بقوله: «اللّهمّ الاّ أن یقال إنّ للرفقه حقا تبذل النفوس دونها، خصوصا علی أهل المروّات، بل قد یدّعی حصول المشقة علیهم لو کُلفّوا بذلک، فلعلّه لذا اطلق الرفیق» انتهی محل حاجة(2).

قلنا: لعلّ الوجه فی ذهاب الفقهاء فی مورد من یجب قتله الی الطهارة المائیة دون التیمم، هو ملاحظة اهمیّة وجوب حفظ الطهارة الی أن یزاحمه واجب أهمّ، فاثبات مثل ذلک فی حق من یجب قتله بوجوب حفظه، وباعطاء الماء له وصرفه فیه حتی یجوز التیمّم، فی غایة الاشکال، وإنْ استلزم عدم الاعطاء هلاکته وتلفه، ولعلّه لذلک أفتی جماعة کثیرة، بل لم یعرف الخلاف فیه إلاّ عن بعضٍ بوجوب الطهارة المائیة، وعدم تسویغ التیمم، کما هو مختارنا فی التعلیق علی «العروة».

الصورة الخامسة: اذا خاف العطش علی دوّابه المملوکة له، فالمشهور علی ما نسب الیهم وجوب التیمم وحفظ الماء لدابّته.

لکن استشکل فیه صاحب «المدارک» بعد نقل تسویغ الخوف علیها للتیمّم من


1- مصباح الهدی، ج 7، ص 194.
2- الجواهر، ج 5، ص 115.

ص:147

المحقّق فی «المعتبر» لکونه من قبیل الخوف علی المال، قال: «إنّ مطلق ذهاب المال غیر مسوّغ، ولهذا وجب صرف المال الکثیر الذی لا یضرّ فوته فی شراءه، ومنه الدواب لو توقف الشراء علیه، فیمکن القول بوجوب حفظ الدابة أو اتلافها واستعمال الماء، لأنّه واجدٌ له غیر مضطر الیه، فلا یسوغ له التیمم» انتهی کلامه علی ما فی «مصباح الهدی»(1).

أورد علیه الآملی: بدعوی الفرق بین صرف الدابة فی ثمن الماء اذا توقف شراءه علی ذلک، وبین اتلاف الدابة عطشا وصرف الماء للطهارة، لأنّ شراء الماء بأغلی الاثمان واجب بالنص کما تقدم، فلا یقاس علیه اتلاف الماء، خصوصا اتلاف الدابة عطشا، حیث إنّه غیر مستحسن عند العقلاء وأهل المروّات، فیدل علی تسویغ التیمم بخوف تلفها ما تقدّم بما دلّ علی التسویغ فی الخوف علی المال، مضافا الی دلیل نفی الضرر.

قلنا: مؤیدا لما ذکره من انّه فرق بین أن یکون صرف الماء للطهارة متوقفا علی ذبح الحیوان حتّی لا یحتاج الی الماء ولا یوجب تلفها، وبین کون صرف الماء موجبا لهلاکته بالعطش. فإنّه لا اشکال فی الثانی من عدم الجواز، لأنّ الحیوان ممّن تجب نفقته، ومنها السقی بالماء، فیکون حکمه حکم الانسان، إذ ورد فی غیر واحدٍ من الأخبار المعتبرة وأنّ للدابة علی صاحبها حقوقا منها أن یبدأ بعلفها إذا نزل ویعرض علیها الماء اذا مرّ به(2)، فحینئذٍ یجوز بل یجب علیه التیمم وحفظ الماء للدابة.

نعم، علی الفرض الأوّل یتوقف ذلک علی أن لا یکون ذبح الحیوان له ضررا،


1- مصباح الهدی، ج 7، ص 192.
2- وسائل الشیعة: الباب 9 من أبواب اطعام الدواب، الحدیث 1.

ص:148

یعنی کان ممّن یقدر علی ذبح الحیوان لحاجته الی صرف لحمه ومع ذلک یوجب صرف الماء للطهارة، فحینئذٍ یمکن القول بوجوب الطهارة وعدم شمول دلیل نفی الضرر له، فیکون هذا القسم من قبیل توقف استعمال الماء علی شراء الماء بأغلی الاثمان حیث یجب ذلک، اذ لا فرق فی التوقف بین الموردین اذا لم یستلزم الضرر علی صاحبه، حتّی یدخل تحت دلیل نفی الضرر.

ومع هذا التقدیر الذی ذکرناه، لا فرق فی عدم الجواز فی الثانی بین کون الدابة مملوکة له أو لا، لأنّ اطلاق (خوف العطش) الذی ورد فی الدلیل یشمل مثل هذا الحیوان أیضا، فلابدّ له من صرف الماء فیه، والانتقال الی التیمم، وإنْ جاز له الرجوع الی صاحبه بثمن الماء، إنْ کان الأمر کذلک، کما تؤمی الیه کلمات الاصحاب فی باب النفقات.

وبالجملة: ثبت ممّا ذکرنا أنّ الحکم ینتقل الی التیمم عند الخوف علی الدوّاب مطلقا، سواءٌ کانت مملوکة له أو لم تکن، وسواءٌ تضرّر بتلفها أم لا.

نعم، والذی ینبغی البحث فیه هو ما اذا کان الحیوان ممّا یجب أو یجوز قتلة، کالکلب العقور بأنّه المؤذیة وغیرها من السباع الضاریة.

ربما یقال هنا لا اشکال فی عدم مسوغیة الخوف علیه للتیمم، اذ لا احترام لهذه الطبعه من الحیوانات. لهذا الحیوان ولکن ناقش فی جواز ذلک فی «الذکری»، ولعلّه للتأمّل فی جواز قتله بالعطش، وإنْ جاز قتله بأنواع أخری، ولذلک استظهر صاحب «العروة» جواز التیمم فیه لا وجوبه، ولعلّه للاعتراف بعدم جواز القتل بالعطش، ولکن تحریم قتله بهذا النحو لیس من الأهمیة بمثابة تکون مانعة من حکم الطهارة المائیة الواجبة علیه، فتکون نتیجة التزاحم هو الجواز.

هذا اذا لم یکن قتله واجبا بل کان جائزا، کما صرّح به السیّد، والاّ لا اشکال

ص:149

فی عدم تسویغ التیمم، لانّه حینئذٍ لا یکون أهمّ من الانسان الذی یجب قتله، حیث ثبت عدم جواز التیمم فیه، ففی الحیوان الذی یجب قتله یکون الأمر بطریق أولی کما لا یخفی علی التأمّل.

حکم مزاحمة الطهارة المائیة مع الأهم

وحیث قد بلغ البحث الی هنا، لا بأس بتوسعة الکلام والنقض والابرام فیما یشابه المقام، وهو حکم المزاحمة بین وجوب الطهارة المائیة بما هو أهمّ، وهو مثل ما لو زاحمت الطهارة المائیة مع وجوب ازالة النجاسة من البدن والساتر الذی لیس له غیره، فإنّه حینئذٍ یکون أیضا من باب تعارض الواجبین، إلاّ أنّه فیه رجحان لأحدهما وهو الذی لا بدل له وهو کنجاسة البدن فی قبال الطهارة المائیة التی لها بدل وهو التیمم، حیث أنّ الشارع یحکم بترجیح الواجب الذی لا بدل له. ولعلّ وجهه أنّ هذا التعارض یکون من قبل تعارض الواجب المشروط مع الواجب المطلق، لأنّ الواجب الذی له بدل یکون وجوبه مشروطا بعدم وجود مانع عقلاً أو شرعا، أی اذا کان مقدورا عقلاً وشرعا یجب والاّ ینتقل الی بدله، هذا بخلاف الواجب المطلق حیث یکون واجبا بلا شرط فیه، فمع التعارض یقدّم الثانی علی الاوّل.

هذا مضافا الی أنّ العمل بالواجب المطلق وهو تطهیر البدن عن الخبث والتیمم للصلاة یکون عملاً بکلا الواجبین، بخلاف ما لو قدّم الواجب المشروط حیث یقتضی ذلک طرد الواجب المطلق، فالعمل بهما أولی من العمل بواحدٍ منهما.

نعم، هذا إنّما یصحّ فی ازالة النجاسة عن البدن حیث لا بدل له، وأمّا فی الساتر النجس الذی جاء فی کلام صاحب «الجواهر» وغیره إنّما یصحّ لو قلنا بعدم لزوم

ص:150

الصلاة حینئذٍ عریانا کما علیه السیّد فی «العروة». وأمّا بناء علی لزوم الصلاة عریانا اذا لم یضطر الیه، أو کان مأمونا عن الناظر المحترم، فحینئذٍ یصیر الساتر النجس من الواجب الذی له بدل، فلا وجه حینئذٍ للقول بصرف الماء لازاله النجس عن الساتر، ففی مثله یمکن القول بوجوب صرف الماء للطهارة عن الحدث، واتیان الصلاة عریانا، فیصیر وجوب حفظ الماء أهمّ من الآخر. وعلیه فما ذکره صاحب «الجواهر» قدس سره من ذکر الساتر فی ردیف البدن یکون مبنائیّا لا مطلقا.

وکیف کان، اذا فرض التزاحم بین الواجب المشروط والمطلق، کان الثانی معه المقتضی علی القواعد، بل وهکذا بالنظر الی الاجماع علی تقدیم الازالة علی الطهارة، کما فی جاء فی «حاشیة الارشاد» حسب نقل صاحب «الجواهر» حیث قال: «أظنّ أنّها لولد المحقّق الثانی» وکما عن «التذکرة» علی تقدیمها علی الوضوء صریحا وعلی الغُسل ظاهرا. وفی «المعتبر» دعوی نفی الخلاف فی التقدیم بین أهل العلم.

بل قد یشهد لذلک فی مثل الازالة عن البدن فقط _ مضافا الی ما عرفت _ ما جاء فی حدیث أبی عبیدة، قال: «سألت أبا عبداللّه علیه السلام عن المرأة الحائض تری الطهر وهی فی السفر، ولیس معها من الماء ما یکفیها لغُسلها، وقد حضرت الصلاة؟ قال: اذا کان معها بقدر ما تغسل به فرجها فتغسله، ثم تتیمّم وتُصلّی، الحدیث»(1).

حیث استدل به صاحب «الجواهر» باعتبار أنّه یدلّ علی تقدیم ازالة النجاسة فیه علی الوضوء بوجوبه علیها لولاها، هذا.

أقول: التأمل فی الروایة یوصلنا الی أنّ الأمر بالتیمّم إمّا للغُسل فقط حیث قد


1- وسائل الشیعة: الباب 24 من أبواب التیمّم ، الحدیث 3.

ص:151

فرض السائل عدم کفایته للغسل، فکأنّ الامام أجاب بأنّه حینئذٍ یتیمّم للغسل فالخبر سالتٌ عن حکم الوضوء قهرا:

إمّا لأجل القول بکفایة التیمم عن الغسل وعن الوضوء أیضا بناء علی القول بکفایة غُسل الحیض عن الوضوء.

أو لأجل أنّ التیمّم هنا عن الوضوء مفروغا عنه، بعد فرض کون الماء لا یکفی للغُسل، إلاّ أنّه محلّ تأمّل، لکن حیث أنّ الوضوء هنا مع کون ذمّتها مشغولة بالحَدَث الأکبر غیر مفید لخروجها من الحدث وطهارتها، فلا جرم علیها التیمم للوضوء أیضا وهو المطلوب.

اللّهمّ إلاّ أن یفرض عدم کفایة الماء للوضوء أیضا لو لا صرفه للازالة، فحینئذٍ لا یکون الحدیث دلیلاً علی تقدیم الازالة علی الوضوء، لانّه قد فرض فیه عدم کفافه له.

ولکنّه غیر وجیه، لأنّ الماء الذی یکفی للوضوء ولو بمثل التدهین، یکون أقلّ بمراتب عن الماء الذی یصرف فی الازالة، فهذا الاحتمال الذی ذکره المحقّق الآملی بعیدٌ جدّا، أو کان أمرا بالتیمم فی کلا الطهورین.

وکیف کان، فإنّ هذه الروایة تدلّ علی لزوم التیمم، وتقدیم الازالة علی الطهارة المائیة لرفع الحدث فی الأکبر فقط، أو مع الأصغر، وهو المطلوب.

حکم مخالفة الأهم فی صرف الماء

ثمّ یأتی البحث فی أنّه لو خالف هذا الحکم ولم یصرف الماء فی الازالة، بل صرفه فی الواجب المهمّ فاغتسل وتوضّأ وصلّی:

فهل تجزی صلاته مطلقا، أو تجزی مطلقا لا تجزی مطلقا أو یفصّل بین ما

ص:152

یجوز وجود المزیل له الی آخر الوقت فی العادة فلا تجزی، وإلاّ تجزی؟ وجوه وأقوال:

القول الأوّل: هو المحکی عن «النهایة» و«الموجز الحاوی» وتنظّر فیه العلاّمة فی «القواعد» هنا فسادا ولعلّ وجه کلامهم إمّا من جهة عدم اقتضاء الأمر بالشیء النهی عن الضدّ، أو من جهة عدم اقتضاء النهی هنا فسادا لکونه نهیا غیریا بالملازمة، ولو قلنا باقتضاء الأمر بالشیء النهی عن الضد، لکنه لیس نهیا ذاتیا تحریمیا یوجب الفساد.

القول الثانی: لمحکی عن «جامع المقاصد» و«مجمع البرهان»، والسیّد فی «العروة» وکثیر من أهل الحواشی، حیث ذهبوا الی البطلان وعدم الاجزاء، ولعلّه _ کما فی «الجواهر» _ کان لأجل انّه کان الواجب علیه صرف الماء فی ازالة النجاسة، فهو غیر واجدِ الماء، فلا خطاب بالوضوء متوجه الیه ولو ندبا، فهو مکلّف بالتیمم حینئذٍ.

والقول الثالث: هو المحکی عن «التذکرة» و«کشف الالتباس» من التفصیل من الصحة فی صورة عدم وجود المزیل الی آخر الوقت، وعدمها مع وجوده، ولعلّ وجهه ملاحظة کفایة الرجحان الذاتی والمحبوبیة فی المتعلق للحکم بالصحة، وإنْ لم یکن مأمورا به، مع القول بعدم اقتضاء الأمر بالشیء لنهی عن الضدّ أیضا، وهذا هو مختار صاحب «الجواهر» لا القول الثانی کما قیل، وإنْ ذکر أنّه هو الأقوی، الاّ انّه ذکر التفصیل فی ذیل کلامه.

أقول: الأقوی عندنا _ کما فی التعلیقة علی «العروة» و«التحریر» _ هو القول الثانی، وذلک لأنا وإنْ صحّحنا العبادة المأتیّ بها عند مزاحمتها مع واجبٍ أهم بملاک الخطاب والرجحان الذاتی لها فی تلک الحالة، بل وهکذا علی القول

ص:153

بالترتّب، حیث یفرض وجود وتوجّه الخطاب حینئذٍ فیکون عمله مأمورا به، ولکن المقام لیس من مصادیق الموردین، لما ثبت أنّ الدوران هنا دائرٌ بین مالا بدل له، وبین ماله البدل، وقد عرفت أنّ التکلف بالذی له بدل یعدّ تکلیفا طولیا بالنظر الی ما لیس له البدل، لما ثبت أنّ التکلیف بماله بدل مشروط بالشرط الشرعی وهو فرض وجود القدرة، وحیثُ زاحمه الواجب المطلق، فشرط وجوب الواجب المشروط غیر موجود، فیسقط الخطاب المشروط بانتفاء شرطه وسقوط موضوعه، اذ من الواضح دخل القدرة شرعا فی موضوع الخطاب، من جهة دخله فی تحقّق الملاک فی المتعلق، فمع انتفاء الشرط ینتفی الملاک، ومع انتفاءه ینتفی الخطاب، فحینئذٍ لا یکون المتعلّق ذا محبوبیة وراجحةً ذاتا حتی ینویه، ویوجب الصحة والاجزاء.

وبالجملة: ثبت أنّ الطهارة المائیة هنا لیس لها ملاک حتی یقصدها المصلّی ویوجب الاجزاء کما لا یخفی.

من أفراد تزاحم الواجب الأهم مع المهمّ

ثمّ من جملة افراد تزاحم الواجب المشروط الذی له بدل، مع واجبٍ أهمّ لا بدل له، هو ما لو کان عنده ماءان طاهر ونجس، وکان محتاجا الی شربه مع لزوم تحصیل الطهارة للصلاة، فهنا صورتان:

تارة: یفرض حاجته الی شربه لنفسه فی الحال أو فی الاستقبال، أو احتیاجه الی سقی الغیر من الطفل أو الرفیق أو الدابّة وهو جاهلٌ بالنجاسة.

وأخریْ: یحتاج الی جمیع الموارد المذکورة، لکنه عالم بالنجاسة.

هذه وجوه المسألة ولا بأس بذکرها تفصیلاً لما یترتّب علیها من الفائدة.

ص:154

الصورة الأولی: وهی شربه فی الحال، فلا اشکال فی الانتقال الی التیمم، لإهمیّة حرمة شرب النجس الذی لا بدل لها، ولم یکن حکمه مطلقا بالنسبة الی الطهارة المائیة التی لها بدل وواجب مشروط، فتقدیمه علیه واضح کما عرفت فلا نعید.

الصوة الثانیة: وهی ما لو احتاج الی شربه فی المستقبل، فالمحکی عن المحقّق وغیره جواز حفظه للشرب، والاکتفاء بالتیمم، واستجوده فی «المدارک» مبتنیا علی ثبوت حرمة شرب الماء النجس مطلقا.

وقد أورد علیه صاحبی «الحدائق» و«الجواهر» بثبوت الحرمة بالاجماع المنقول والمحصّل، وبدلالة الأخبار التی قریبة الی التواتر، فلا وقع للتأمل فیه بقوله: «إن ثبت الحرمة مطلقا».

أقول: لکن اعترض علیهما المحقّق الآملی فی مصباحه، وقال: «ظاهر عبارة «المدارک» هو التأمل فی کون حرمة شربه بمرتبةٍ من الأهمیّة بحیث توجب المزاحمة مع وجوب الطهارة المائیة، لا التأمل فی أصل الحرمة. وکیف کان، فالمقام من قبیل دوران الأمر بین مخالفة حکمٍ الزامی فی الحال ممّا له البدل، ومخالفة حکمٍ الزامی فی الاستقبال ممّا لا بدل له، والأقوی فی مثله عدم مزاحمة الحکم الاستقبالی مع الحکم الالزامی فی الحال، لأنّ منشأ التزاحم هو استتباع کلّ حکم من المولی لحکم العقل بوجوب صرف العبد قدرته فی امتثاله، المستلزم لصرفه قدرته عن غیره فی مورد المزاحمة، وهذا فی الحکمین المتقاربین بحسب الزمان ظاهر، وأمّا فی المختلفین فی الزمان ففیه تأمّل بل منع، اذ لا موجب للالزام بترک الواجب فی الحال، وحفظ القدرة لامتثال الحکم المتأخّر عنه زمانا، الواقع فی الاستقبال، فالمقتضی لاتیان المتقدم وهو الخطاب المنجّز به موجود، والمانع عنه وهو حکم العقل بلزوم ابقاء قدرته لصرفها فی

ص:155

امتثال المتأخّر مفقود، فیجبُ الاتیان بالمتقدّم، وتفصیل ذلک بأزید ممّا ذکرنا موکولٌ الی مراجعة ما کتبناه فی الأصول فی باب التزاحم» انتهی کلامه(1).

أقول: وفیه ما لا یخفی، لأنّه اذا کان عالما بانّه یحتاج الی شرب هذا الماء فی المستقبل، فلا اشکال فی الانتقال، اذ لا فرق فی أهمیّة وجوب حفظ الماء الظاهر للشرب بین کونه فی الحال أو الاستقبال، کما تری مثله فی الخوف من العطش فی الاستقبال، حیث یُحکم بالانتقال لبقاء حکم وجوب حفظ الماء بالنسبة الی الاستقبال أیضا، کما ورد ذلک فی النص، مع أنّه لو ذلک ما ذکره من التقریر، فإنّه لابدّ من الحکم بعدم الانتقال فی مثل خوف العطش، فحیث کان الانتقال الی البدل ثابتا فی مثل خوف العطش، فیفهم الحکم فی أقرانه أیضا.

وعلیه، فالحقّ یکون مع المحقّق وغیره کالسیّد فی «العروة» حیث حکموا بالانتقال مطلقا. نعم، قد لا یکون عالما بذلک ولا ظانا، بل یحتمل احتمالاً فی الجملة باحتیاجه، فلا یبعد الالتزام بما ذکره لأجل عدم احراز التعارض حینئذٍ حتّی یحکم بالتقدیم فی الأهمّ.

الصورة الثالثة: مالو استلزم استعماله فی الطهارة توقّف سقی الطفل لماء النجس فی الحال أو فی الاستقبال، فهل ینتقل الواجب حنیئذٍ الی التیمم أم لا؟ فیه خلاف: ذهب الی الانتقال العلاّمة البروجردی فی «تعلیقته علی العروة» من دون تفصیلٍ بین الحال والاستبقال، لو لم نقل ظهور اطلاقه الی الحال، خلافا للسیّد فی «العروة» وکثیر من أصحاب التعلیق من الذهاب الی عدم الانتقال، ولعلّه لعدم احراز أهمیّة حرمة سقیه فی مثل المقام، ولو سلّمنا ذلک فی غیر باب التزاحم، خصوصا اذا لم یکن الطفل ممّن علیه مؤونته ولأجل ذلک قال المحقق


1- مصباح الهدی للآملی، ج 7، ص 196.

ص:156

الآملی قدس سره : «وأمّا اشرابه ففیه اشکالٌ، خصوصا اذا کان ولیّه ومن یجب نفقة الطفل علیه».

أقول: الاظهر عندنا ما علیه المشهور من عدم الانتقال، وأمّا اذا کان الدوران بین الطهارة المائیة وشربه النجس بنفسه لا الاشراب، فلا اشکال فی عدم الانتقال، سواءٌ کان فی الحال أو الاستقبال، لأجل عدم قیام الدلیل علی وجوب منع الاطفال عن شرب الماء المتنجس، کما لا یخفی.

الصورة الرابعة: فرض الدوران بین الطهارة المائیة واشراب الرفیق الماء المتنجس، فهو أیضا ممّا لا اشکال فی الانتقال، لأنّ اشراب المتنجس للمکلّف الآخر سواءٌ کان ممّن علیه مؤونته أو لا، وسواءٌ کان فی الحال أو الاستقبال حرامٌ مثل نفس المکلّف.

نعم، اذا کان الدوران بینها وبین شربه بنفسه الماء المتنجس للاضطرار الیه، فلا وجه للانتقال، لعدم الدلیل علی وجوب رفع الاضطرار عن شربه عنه، سواءٌ کان الرفیق عالما بنجاسته أو جاهلاً، خصوصا اذا لم یکن ممّن تجب مؤنته علیه.

أقول: القاعدة فی کلّ مورد کان الواجب علیه الانتقال، أنّه لو خالف وصرف الماء النجس فی الشرب أو الاشراب، فلا اشکال حینئذٍ فی عدم الانتقال ووجوب تحصیل الطهارة المائیة بالماء الطاهر، لارتفاع التزاحم حینئذٍ، وصدق عنوان الواجد علیه، وإنْ فعل حراما، لکن فیما کان المورد ممّا یجب علیه شربه واشرابه وخالف فیه.

الصورة الخامسة: ما لو کان الدوران بینها وبین الدابة باشرابها المتنجّس، فإنّه لا اشکال فی عدم الانتقال، ووجوب صرف الماء فی الغُسل أو الوضوء، وحفظ ماء النجس لسقی الدابة، اذ لا اشکال فی جواز سقی الدابة الماء النجس، ولا دلیل علی حرمته فضلاً عن شربها بنفسه.

ص:157

الطرف الثانی: فیما یجوز التیمّم به.

وهو کُلّ ما یقع علیه اسم الأرض (1)

والحاصل: ثبت ممّا ذکرنا أنّ حکم المسألة من الانتقال وعدمه، یدور مدار اثبات التزاحم بین الواجبین، واحراز اهمیّة واجب المزاحم للواجب الذی له بدلٌ وهو التوضوء والغُسل، لما قد عرفت من أنّ التعارض حینئذٍ یقع بین الواجب المشروط والواجب المطلق، والقاعدة تقتضی الحکم بتقدیم الثانی علی الاوّل، لطولیة تکلیف الأوّل بالنسبة الی الثانی، واللّه العالم.

البحث فیما یجوز التیمم به

(1) اعلم أنّه لا اشکال فی جواز التیمّم بکلّ ما یصحّ اطلاق اسم الأرض علیه کالتراب؛ فإنّه ممّا یصح عند الکلّ، وهو مقطوع به بین الأصحاب، بل بین الفریقین، والذی وقع البحث عنه هو غیر التراب من الافراد کالحجر والحصی والرخام والمدر والرّمل التی یطلق علیها اسم الأرض، فهل یصحّ التیمم بها ویجوز _ کما علیه المصنّف وغیره کما ستعرف _ أم لا یجوز الاّ بالتراب.

أمّا ما لا یقع علیه اسم الأرض، وإنْ خرج منها کالمعادن والنباتات، فإنّه لا اشکال فی عدم جواز التیمم بها، للأصل والسنّة والاجماع المحکی فی «کشف اللّثام»، وفی موضع من «المنتهی»: «قاله علمائنا» وفی آخر بزیادة (أجمع) بعده وفی «مجمع البرهان»: «عدم الجواز بغیر الارض اختیارا لما لانزاع فیه عندنا»، وفی «السرائر»: «أنّ الاجماع منعقد علی أنّ التیمم لا یکون الاّ بالارض، أو ما یطلق علیه اسمها، خلافا للمحکی عن أبی حنیفة فجوّز بالکُحل ونحوه، ومالک فجوّزه بالثلج.

ص:158

نعم، عند بعض فقهائنا جواز التیمم بالثلج عند الاضطرار، وهو کما فی «الجواهر» حکایةً عن «مصباح» السیّد، و«الاصباح» و«المراسم» و«البیان» و«الموجز الحاوی»، وظاهر الکاتب، و«القواعد»، وفی «التحریر» علی رأی، وعلیه فتصبح أقوال هؤلاء مخالفة لما سبق من عدم الجواز المطلق.

اللّهمّ إلاّ أن یریدوا بالتیمم به مسح اعضاء الوضوء بالمجاز، فلا خلاف حینئذٍ، أو انّه لا یضرّ مخالفتهم للاجماع، لکونهم معروفین، أو أن مراد المجمعین بعدم الجواز هو خصوص حال الاختیار، فیبقی الاجماع علی قوّته، وعلیه فتفصیل البحث فیه واختیاره فی محلّه.

أقول: لا بأس هنا بذکر حکم کلّ من الحَجَر وغیره من غیر التراب من الجواز وعدمه فی حال الاختیار، حکم الجواز فی حال الاضطرار وفقد التراب مورد قبول کثیر منهم، وإنْ کان یظهر من بعض فی الجملة عدم الجواز مطلقا. وعلیه فما فی المتن من جواز التیمّم بکلّ ما یُطلق علیه اسم الأرض الشامل للحَجر الصّلد کالرخام، وإنْ لم یکن علیه غبارٌ هو المنسوب الی المشهور تحصیلاً ونقلاً، کما فی «الکفایة» و«الحدائق»، بل عن ظاهر «التذکرة» الاجماع علیه، وإنْ ناقش صاحب «الجواهر» فی دلالة کلامهما علی ذلک. بل فی «کنزالعرفان» و«مجمع البیان» نسبة الجواز بما یشمل الحَجَر الی أصحابنا، کما عن الأردبیلی: «أنّ الحجر ینبغی أن یکون لانزاع فیه»، وعلیه صاحب «الجواهر»، بل هو مختار جماعة کثیرة فی حال الاختیار، والیک اسماء کتبهم: «المبسوط» و«الخلاف» و«المعتبرة» و«التذکرة»، وسائر کتب العلاّمة، والشهید الأوّل، و«الموجز الحاوی» و«جامع المقاصد» و«الروض» و«الروضة» و«المدارک»، وهو المنقول عن ابن الجنید، والحسن بن عیسی، و«مصباح» السیّد و«جُمل» الشیخ

ص:159

و«مصباحه» و«مختصر المصباح» و«المهذّب البارع» و«التنقیح» و«کشف الالتباس» و«ارشاد الجعفریة» وشروحها و«المقاصد العلیّة» و«مجمع البرهان» و«آیات الأحکام» لأردبیلی، ورسالة صاحب المعالم و«الذخیرة» و«المفاتیح» وظاهر «الرسالة الفخریة» أو صریحها، وقوّاه فی «الکفایة» بشرط وجود غبارٍ علیه محافظةً علی العلوق بأن یلصقّ بالید وینقضّ.

ودلیلهم علی ذلک :لیس إلاّ ما وقع فی کلام المصنّف من صحّة اطلاق اسم الأرض علیه، وعدم اختصاص ذلک بخصوص التراب کما ذهب الیه صاحب «الغنیة» بالظاهر أو الصراحة، والمحکّی عن السیّد فی «شرح الرسالة» والکاتب وغیره حیث قالوا بأنّه یجوز بغیر التراب وإنْ کان أرضا، بل ظاهرهم الاطلاق، أی سواءٌ تمکّن من التراب أم لا، فیصدق علیه فاقد الطهورین، وإنْ کان غیره موجودا ومتمکّنا.

ولکن العلامة فی «المختلف»، والشهید الثانی فی «الروض» و«الروضة» ادّعوا الاجماع علی بطلان ذلک، أی عدم الجواز بالحجر مطلقا، ولعلّ هذا تصبح قرینة علی أن مرادهم من عدم الجواز هو حال الاختیار لا مطلقا، فیصیر کلامهم موافقا لما ذهب الیه المفید فی «المقنعة»، وابن حمزة فی «الوسیلة» وصاحب «المراسم» و«السرائر» و«الجامع» من اشتراط فقد التراب فی جواز التیمم بالحجر، بل فی «حاشیة المدارک» للاستاذ الاعظم ما یظهر منه: «دعوی اتفاق الأصحاب علی ذلک إلاّ من شذّ منهم»، بل فی «الجامع» اشتراطه بفقد الغبار أیضا، هذا مجموع الأقوال فی المسألة.

أقول: لابدّ أن یُعلم أن منشأ هذا الاختلاف یرجع الی الاختلاف فی معنی کلمة (الصعید) الواردة فی الآیتین من سورة النساء والمائدة، فقد اختلف فی معناها.

ص:160

1_ فذهب عدّة منهم الی أنّ المراد منه هو التراب خاصة، کما عن «الصحاح» و«الجمل» و«المفصل »و«معجم مقاییس اللغة» و«الدیوان» و«شمس العلوم» وکتاب أبی حاتم، بل ربّما یستظهر من «القاموس» و«الکنز»، وما حکی عن الأصعمی وعن أبی عبیدة لکن بزیادة وصفه بالخالص الذی لا یخالطه سبخٌ ورمل وبنی الاعرابی وعباس والفارس، بل عن المرتضی رحمه الله نقله عن أهل اللغة.

2_ وفی قبال ذلک ما قیل من أنّ معناه هو وجه الأرض، القابل للانطباق علی الحجر وغیره، فیُجزی به التیمم، وهو کما حُکی فی «الجواهر» عن «العین» و«المحیط» و«الأساس» و«المفردات» الراغب، و«السامی» و«الخلاص» و«المُغْرِب» و«المصباح المنیر»، وعن تغلب وابن الأعرابی والخلیل، بل عن «المُغْرِب» و«تهذیب اللّغة» و«معجم المقاییس اللّغة» و«مجمع البیان» عن الزجاج: «أنّه لا یعلم فیه اختلافا بین أهل اللغة».

ثمّ قال: وحکاه فی «المعتبر» عن فضلاء أهل اللّغة. قال: ذکر ذلک الخلیل وتغلب عن ابن الأعرابی.

وفی «المنتهی» وعن «نهایة الأحکام»: عن أهل اللّغة.

وفی «البحار»: «أنّ الصعید یتناول الحجر کما صرّح به ائمة اللغة والتفسیر» انتهی.

وفی «الوسیلة»: «بل قد فسّر کثیرٌ من علماء اللغة الصعید بوجه الارض، وادّعی بعضهم الاجماع علی ذلک، وأنّه لا یختصّ بالتراب، وکذا جماعة من المفسرین والفقهاء» انتهی.

وبه فسّره أکثر أصحابنا فی الکتب الفقهیة نصا وظاهرا، وحکی عن أبی حنیفة وأصحابه. انتهی ما فی الجواهر(1).


1- الجواهر، ج 5، ص 122.

ص:161

ثمّ ذکر لکلّ من التفسیرین مؤیّدات:

مؤیّدات القول الأوّل: وهی عدیدة:

المؤیّد الأوّل: قول الصادق علیه السلام فی حدیث زرارة: «عمّن دخل الأجمة لیس فیها ماءٌ وفیها طین ما یصنع؟ قال: یتیمّم فإنّه الصعید، الحدیث»(1).

وفی روایة أخری: «صعیدٌ طیّب وماء طهور»(2).

المؤیّد الثانی: ما جاء فی صحیحة زرارة: «ثم أهوی بیدیه الی الأرض فوضعهما علی الصعید، الحدیث»(3).

المؤیّد الثالث: ظهور قوله تعالی فی الآیة التاسعة من سورة المائدة(4) فی ارادة المسح ببعض الصعید الذی تعلّق بالیّد، سیّما بعد تفسیره بما فی صحیح زرارة، عن الباقر علیه السلام فی حدیثٍ، قال: «فلما أن وضع الوضوء عمّن لم یجد الماء أثبت بعض الغُسل مسحا لأنّه قال: «بوجوهکم» ثمّ وصل بها (وأیدیکم منه) أی من ذلک التیمم، لأنّه علم أنّ ذلک أجمع لم یجر علی الوجه، لأنّه یعلّق من ذلک الصعید ببعض الکف، ولا یعلّق ببعضها، الحدیث»(5).

أقول: ولا یخفی عدم ظهور شیء من الوجوه الثلاثة المذکورة علی انحصار التیمم بالتراب، لأنّ صدق الصعید علی الطین لا یوجب ولا یستلزم عدم صدقه علی الحجر، لإمکان کونه من باب بیان حَدّ افراده.


1- وسائل الشیعة: الباب 9 من أبواب التیمّم ، الحدیث 5.
2- المصدر السابق، الحدیث 8.
3- وسائل الشیعة: الباب 11 من أبواب التیمّم ، الحدیث 8.
4- سورة المائدة، آیة 9.
5- وسائل الشیعة: الباب 11 من أبواب التیمم، الحدیث 3.

ص:162

لا یقال: أنّ وجه الشّبهة فیه لزوم أن یلصق العلوق بالید فی التیمم، وهو مفقودٌ فی الطین، فبالملازمة یفهم کون المقصود هو التراب الذی ملازم معه العلوق.

لأنا نقول: مع ملاحظة بالجواب یفید أنّ العلوق غیر لازم، وإلاّ لما صحّ فی الطین، فإذا لم یکن ذلک لازما، فلا فرق بین أن یکون ما یتیمّم به یکون طینا کذلک أو حجرا اذا قبلنا صدق الصعید علیه، کما ستعرف إن شاء اللّه.

وبما ذکرنا یظهر الجواب عن صحیحة زرارة فإنّ انحصار وضع الیدین علی الصعید الذی أومأ الیه بیدیه، بالتراب، موقوف علی اثبات کون الصعید هو خصوص التراب، وهو أوّل الکلام، فهو أشبه شیء بالمصادرة علی المطلوب.

وامّا الجواب عن المؤیّد الثالث: فالظاهر أنّ المراد من کلمة (منه) هو نفس التیمّم، کما صرّح به الامام علیه السلام ، أی أراد بذلک بیان ما یجب فیه التیمم من حیث المجموع، وهو الوجه والیدین، لا غیرهما من سائر الاعضاء کظهر القدمین فی الوضوء، أو جمیع البدن فی الغُسل لا المیتمّم به کما قاله الخصم المستدلّ به.

لا یقال: إنّ ذیله من بیان العلوق من الصعید ببعض الکف، ولا یعلّق ببعضها، قرینة علی أنّ المراد من الصعید هو التراب دون غیره.

لأنا نقول: إنّه محمولٌ علی الغالب من لزوم العلوق بالید بضرب الیدین علی الصعید، بمعنی المطلق الشامل للحجر أیضا، فضلاً عن التراب، لاشتمالهما علی الغبار فی مثل الحجر أو الطین الجاف، أو نفس التراب، ولو لا ذلک لما أمکن الوقوف علی مقدار معیّن من العلوق لاختلافه قلّة وکثرةً، بل وجودا وعدما، فقد یکون الطین الجاف فاقدا للعلوق مع أنّه یصحّ التیمم به، والحجر واجدا له فلا یصحّ، وعلیه فالحکم باشتراط وجود العلوق فی کلا الموردین یکون من باب الغالب، لا من جهة الخصوصیة فیه.

ص:163

أقول: ومن ذلک یظهر الجواب عن الأخبار المشتملة علی النفض الذی قد تُمسک بها فی الواج الرابع، وهو مثل حدیث زرارة الذی شرح فعل الامام علیه السلام عن التیمّم، بقوله: «فضرب بیده علی الأرض ثمّ رفعها فنفضها ثمّ مسح بها، الحدیث»(1)، وکذا فی روایته الاخری(2)، بامکان أن یکون موردها ما فیه العلوق سواءٌ کان حجرا فیه الغبار أو طینا جافا أو ترابا، مع أنّه لو سلمنا دلالة مثل ذلک علی لزوم العلوق، وجب تقید التیمم بکون المیتمم به شیئا فیه العلوق سواءٌ کان ترابا أو غیره لا انحصار جواز التیمم بخصوص التراب کما علیه الخصم.

الوجه الخامس: الاستدلال بالأخبار المشتملة علی لفظ (التراب) مثل الحدیث النبوی صلی الله علیه و آله : «جُعلت لی الأرضُ مسجدا وترابها طهورا»(3). سیّم بملاحظة أنّ الحدیث وارد فی مقام بیان الیُسر والتوسعة والامتنان المقتضی والمناسب للتعمیم الی غیر التراب أیضا لو کان التطهّر به صحیحاً، بعد العدول من الأرض الیه، وحیث لم ترد فی الخبر اشارة الی ذلک ،یستفاد منه عدم الجواز فی غیر التراب.

ومثله صحیح جمیل، عن الصادق علیه السلام : «إنّ اللّه عزّوجلّ جعل التراب طهورا کما جعل الماء طهورا»(4).

وحدیث رفاعة(5)، ومثله عبداللّه بن المغیرة: «اذا کانت الأرض مبتّلةً لیس


1- وسائل الشیعة: الباب 2 من أبواب التیمّم ، الحدیث 3.
2- المصدر السابق، الحدیث 6.
3- المستدرک، الطبعة الحجریّة، ج 1، الباب 5 من أبواب التیمم، الحدیث 8.
4- وسائل الشیعة: الباب 23، من أبواب التیمّم الحدیث 1.
5- وسائل الشیعة: الباب 9 من أبواب التیمّم ، الحدیث 4.

ص:164

فیها تراب ولا ماء، فانظر الی أجفّ موضعٍ تجده فتیمّم»(1).

الی غیر ذلک بمن الأخبار المشتملة علی لفظ (التراب).

بل ربّما یظهر من بعضٍ الاستدلال لمدّعاه _ وهو لفظ (التراب) الوارد فی الأخبار _ بانحاء مختلفة:

منها: ما یدلّ علی طهوریة التراب کما فی صحیحة ابن حمران وجمیل المتقدّمة: «إنّ اللّه عزّوجلّ جعل التراب طهورا کما جعل الماء طهورا»(2) بتقریب أنّ ذکر (التراب) فی مقابل (الماء) دلیلٌ علی انحصار الطهور به، ویصیر هذا قرینة علی أنّ مراده من (الصعید) أو (الأرض) المذکورتین فی الأخبار الآخر هو التراب لا غیر.

ومنها: ما یدلّ علی الارفاق بهذه الأمة فی جعل التراب لهم طهورا، کما فی الخبر الذی رواه الشیخ الصدوق فی «الخصال»: «قال اللّه عزّوجلّ: جُعلت لک ولأمّتک الأرض مسجدا وترابها طهورا»(3).

وأیضا: ما روی عن أمیرالمؤمنین علیه السلام عن النبی صلی الله علیه و آله : «أعطیتُ ما لم یُعط نبیّ من الأنبیاء جُعل لی التراب طهورا»(4) بتقریب أنّ ذکر (التراب) مع جعل مطلق الأرض طهورا یعدّ اقترانا لغوا، لا من جهة مفهوم اللقب لکی یرد علیه کما فی «المعتبر» بانّه: «تمسکٌ بدلالة بخطاب المتروکة فی معرض النصّ اجماعا»، بل من جهة کونه فی مقام الامتنان والارفاق، حیث إنّ تخصیص التراب بالذکر مع


1- المصدر السابق، الحدیث 10.
2- وسائل الشیعة: الباب 23 من أبواب التیمّم ، الحدیث 1.
3- وسائل الشیعة: الباب 23 من أبواب التیمّم ، الحدیث 2.
4- المصدر السابق، الحدیث 3.

ص:165

کونه فی مقام الامتنان یناسب مطهریة التراب بالخصوص، اذ لو کان غیر التراب من أجزاء الارض طهورا لکان ذکره أدخل فی الامتنان.

ومنها: خبر رفاعة عن الصادق علیه السلام : «اذا کان الأرض مبتلّةً لیس فیها ترابٌ ولا ماءٌ فانظر أجفّ موضعٍ تجده فتیمّم فیه»(1).

وکذا المحکی عن «دعائم الاسلام» وفیه عنهم علیهم السلام : «إنّه یتیمّم علی الغبار اذا لم یجد ترابا»(2) بتقریب أنّه مع عدم التراب لا ینتهی الأمر الی الغبار، إذا کان غیر التراب ممّا علی وجه الأرض موجودا مثل الحجر ونحوه، فیُستکشف انحصار الطهور بالتراب، وعدم التیمم بما علی وجه الأرض.

انتهی کلام البعض وهو المحقّق الآملی فی مصباحه(3).

أقول: ولا یخفی أنّ جمیع ما ذکره المحقق المذکور یمکن المناقشة فیه:

أوّلاً: إنّ مجرد ذکر (التراب) من جهة المطهریة لا ینافی مطهّریة وجه الأرض، ولعلّ السبب فی اختصاص ذکره الخصوص لأجل الغلبة، حیث یکون الغالب علی وجه الأرض هو التراب ولو کان علی نحو الغبار، مع أنّه لو کان غیر التراب غیر جائزٍ فلابد من الحکم بعدم الجواز حتّی مع فقد التراب، مع أنّه لا اشکال فی جوازه حینئذٍ، فیستکشف کونه من المطهّرات ولو طولاً، هذا اوّلاً.

وثانیا: إنّ ذکر (التراب) بعد الأرض فی هذه الأخبار کان فی عداد جملةٍ من الأخبار التی عرفت، مع أنّ المنقول فی «الوسائل» أربع روایات أخری مرویّة من «الکافی» و«الفقیه» و«الخصال» ولم ترد فیها ذکر (التراب)، ومضمون هذه


1- وسائل الشیعة: الباب 9 من أبواب التیمّم ، الحدیث 4.
2- المستدرک، ج 1، الاب 6 من أبواب التیمم، الحدیث 4.
3- مصباح الهدی، ج 7، ص 235.

ص:166

الأخبار: «جُعلت لی الأرض مسجدا وطهورا».

مع امکان أن یکون ذکر (التراب) من الأرض فی الطهوریة، لأجل کونه أحسن بملاحظة امکان تحقّق النفض فیه، المحبوب فی التیمم، لا لکونه أمرٌ لازم جزما.

وعلیه، فوجود هذا اللفظ فی بعض الأخبار لا ینافی مع کون الأرض مطهّرا، خصوصا إذا ورد فی النصّ کون مطلق الأرض طهورا، فهما معا یجتمعان ولا یتعارضان.

ومنه یظهر أنّ أنتهاء الأمر الی الغبار بعد فقد التراب، کان لأجل تحصیل ما هو الأحسن من وجود النفض فیه.

وثالثا: ما ورد فی حدیث رفاعة وغیره من الأمر بتحصیل موضعٍ جافٍ للتیمم، یکون علی خلاف مدّعی الخصم أدلّ، لامکان أن یکون الموضع الجاف حجرا، لأنّ مراده علیه السلام بیان موضع جافٍ من مطلق الأرض التی کانت مبتلّة، أی سواءٌ کان ترابا مبتلةً أو حجرا کذلک، فهذا الاطلاق یشمل موضع الجاف أیضا، مضافا الی ما قد عرفت من أنّ الالتزام بمضمون الحدیث یلزم منه القول بعدم الجواز حتی مع فقد التراب أیضا، وهو باطل قطعا.

الوجه السادس: الاستدلال بتوقیفیّة عبادة الصلاة وعدم حصول الیقین بالبرائة الاّ بالتراب، مع التمکّن منه.

یجاب عنه: بأنّ الشک هنا کان فی اعتبار خصوصیة التراب، والمرجع هو البراءة.

وفیه: الجواب غیر وافٍ، لأنّ الشک هنا یرجع الی الشک فی الشرطیة، والمرجع فی مثله یکون هو الاشتغال، لأنّ الشغل الیقینی بالصلاة یقتضی البراءة الیقیینة منها، فمع التیمم بغیر التراب نشکّ فی حصول الطهارة، لأنّ شرط الصلاة لیس أفعال التیمّم حتّی یوجب الشک فیها جریان البراءة فیها، بل الشرط هو تحقّق الطهارة، ومع الشک فی بعض الأفعال نشکّ فی حصول الطهارة، لکونه من

ص:167

قبیل الشکّ فی المحصِّل والمحصَّل، والشک فی مثله یوجب الاشتغال، هذا فی صورة التمکن من التراب.

وامّا مع عدمه، فمرجع الشک فی لزوم التیمم بغیر التراب الی الشک فی أصل الشغل، لأنّ المکلّف بعد تعذّر الطهارة الترابیة، یشک فی أنّه هل تجب وتتنجّز علیه الصلاة مع الطهارة بغیر التراب أم لا؟ ومع الشک فیه یکون المرجع البراءة لکونه شکا فی أصل التکلیف لا المکلّف به، بلا فرق فیه بین القول بسقوط الصلاة لفاقد الطهورین أم لا، هذا.

أقول: لکن الجواب الصحیح عنه هو: إنّا لا نشک فی جواز التیمم بغیر التراب، سواءٌ کان مع التمکن منه أم لا، حتی نحتاج للرجوع الی الأصول والالتزام بما ذکر، لأنّ الأدلة الدالة علی الجواز مطلقا _ أی بالاختیار وعدمه _ تفید الصحة، والأدلّة هی: الدلیل علی جواز التیمم بمطلق الأرض وهو _ مضافا الی ما عرفت فی صدر المسألة من کلمات الأصحاب علی الجواز مطلقا _ أنّ (الصعید) هو مطلق وجه الأرض لا خصوص التراب، وهذا اللفظ قد ورد ذکره فی القرآن فی موضعٍ آخر _ سوی آیة التیمم _، وهو:

1_ قوله تعالی «فَتُصْبِحَ صَعِیدا زَلَقا»(1)، أی أرضاً ملسا یزلق فیه رجل الانسان لاستئصال شجرها ونباتها، علی ما فسّرها بذلک غیر واحدٍ.

2_ قوله تعالی «وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَیْهَا صَعِیدا جُرُزا »(2).

وکذا ورد فی السّنة:

منها: قول النّبی صلی الله علیه و آله : «یُحشر الناس یوم القیامة حفاة عُراة علی صعیدٍ


1- سورة الکهف، آیة 40.
2- سورة الکهف، آیة 8.

ص:168

واحد*(1) أی أرض واحدة، وارادة التراب منها کما تری.

ومنها: المروی فی «معانی الأخبار» عن الصادق علیه السلام : «الصعید الموضع المرتفع عن الأرض، والطیّب الموضوع الذی ینحدر عنه الماء»(2).

ومنها: المذکور فی «فقه الرضا»(3) وفسّره به فی «الهدایة»، وقال: إنّ المراد منه _ کما فی «الجواهر» _ إمّا مطلق الارتفاع المتحقّق بالحَجَر ونحوه من الأشیاء التی علی الأرض، أو خصوص المرتفع ارتفاعا یعتقد به کرؤوس الأکم والجبال، بل الأرجح لو لم نقل أقوی کون الأوّل منهما مقصودا لا الثانی، حیث لم یفتِ أحدٌ بلزوم کون الصعید بالمعنی الثانی التیمم، خصوصا مع ملاحظة ذکر وصف الطیّب بعده یُغنینا عن معنی الثانی، فیصیر المراد من هذا اللفظ هو مطلق الارتفاع عن وجه الأرض من الحجر وغیره، خصوصا مع ملاحظة کلام المفید فی «المقنعة» من: «إنّه إنّما سُمّی التراب صعیدا، لأنّه یصعد من الأرض».

فلعلّ الظاهر من ذلک، ومن الخبرین ملاحظة المعنی الوضعی فی الصعید، فیصیر هذا مؤیدا آخر لکلام المشهور.

وأیضا: ممّا یدلّ علی ذلک قیام الاجماع علیه الذی یظهر من کلام العلاّمة فی «المنتهی»، حیث نسب قول: «إنْ لم یکن علیها تراب» الی الأصحاب، المشعر بالاجماع، بل لم ینقل فیه خلافا إلاّ عن بعض الجمهور، مستدلاً علیه بآیة الصعید، وهو شاهدٌ علی عدم اختصاصه بالتراب، فیتمّ حینئذٍ بالاجماع المرکب _ أی عدم القول بالفصل لأنّ کلّ من یجوّز یجوّز مطلقا، ومن لم یجوّز فهو کذلک، أی سواءٌ کان التراب موجودا أم لا.


1- معالم الزلفی، ص 45، باب 22 نقلاً عن الباقر علیه السلام .
2- تفسیر الصافی، سورة النساء، آیة 46.
3- المستدرک، ج 1، الباب 5 من أبواب التیمم، الحدیث 2.

ص:169

بل یمکن التأیید بما فی «المنتهی» من النسبة الی الأصحاب بکراهة التیمم بالرمل الذی لا یصدق علیه التراب، بل فی «المعتبر» و«التذکرة» دعوی الاجماع علی ذلک، ونحوه الکلام فی الأرض السبخة، وبما عن «التذکرة» وغیرها من ظهور الاتفاق علی جواز التیمّم بالأرض الندیة، بل قد یؤیّد ذلک بما یظهر من الأصحاب فی تعلیل عدم جواز التیمم بالمعدن والنبات والرّماد وغیرها بعدم صدق اسم الأرض علیها، لقیام الاجماع علی دوران الحکم مدارها.

وکذا یمکن التأیید بالأخبار الواردة علی جواز التیمم بأرض النُّوره والجِصّ قبل الاحراق، مع عدم کونهما عن التراب، بل فی «کشف اللّثام»: «إنّ أرض النورة لیست غیر الحَجَر علی ما نعرف»، مع أنّه لم ینقل فیها خلاف إلاّ من الشیخ فی «النهایة» حیث اشترط فی جواز التیمم بهما علی فقد التراب.

وأیضا: یمکن التأیید للمدّعی، بما عن الراوندی بسنده عن علیّ علیه السلام ، قال:

«یجوز التیمم بالجِصّ والنورة، ولا یجوز بالرّماد، لأنّه لم یخرج عن الأرض.

فقیل له: التیمّم بالصفا الغالبة علی وجه الأرض؟ قال: نعم»(1).

فإنّه مضافا الی اشتماله علی (الجِصّ والنورة) معلّل بالتعلیل الذی کاد أن یکون صریحا علی المدّعی.

وأیضا: خبر السکونی(2) حیث یکون مثله من دون ذکر (الصفا) فیه.

بل قد یؤیّد بما فی موثق سماعة مرسلاً، قال: «عن رجلٍ مرّت به جنازة وهو علی غیر وضوء، کیف یصنع؟ قال: یضرب بیدیه علی حائط اللبن فلیتیمّم»(3).


1- المستدرک، ج 1، الباب 6 من أبواب التیمم، الحدیث 2.
2- وسائل الشیعة: الباب 8 من أبواب التیمّم ، الحدیث 1.
3- وسائل الشیعة: الباب 21 من أبواب صلاة الجنازة، الحدیث 5.

ص:170

وهو المسمّی بالمَدَر، بل فی «کشف اللّثام»: «أنّه لا نعرف فیه خلافا، وإنْ لم یذکره الأکثر».

وعن «مجمع البرهان»: «إنّه ینبغی أن یکون لانزاع فیه، مع أنّه لا یصدق علیه التراب».

وأیضا: یمکن أن نستشعر التأیید للمدّعی بالأخبار الکثیرة الواردة فی التیمم بالأرض بصورة الاطلاق، الشامل للتراب وغیره، خصوصا مع ملاحظة غَلَبة الرمل والحصی والحجر والسبخ علی أرض المدینة ونحوها.

أقول: بقی هنا ما دلّ علی لزوم التیمم بما (العلوق) الوارد فی الروایة _ أو الآیة الواردة فی سورة النساء، بناءً علی أن یستظهر منها کون (من) للتعیض، حیث قد یستظهر کون المتیمّم به هو التراب _.

والجواب: قد عرفت فی تضاعیف أجوبتنا جواب ذلک، فنذکره تتیمما للمراد، فنقول:

أوّلاً: من الخبر أن المراد من ذکر (العلوق) التنبیه علی أنّه فی مقام کونه لبیان الفرد الأفضل الشائع لا بیان ما هو اللازم فی التیمم، حتّی یدلّ علی خلاف المّدّعی.

وثانیا: انّه غیر مستلزم لکونه ترابا، لامکان أن یکون (العلوق) من سحیق الحجر أو من الرّمل، فإذا جاز فیهما شمل الحَجَر أیضا لعدم القول بالفصل بینهما وبین الحَجَر.

وثالثا: هو مبنیٌ علی اثبات کون (من) للتبعیض، مع أنّه یمکن أن یکون للسببیة أو البدلیة أو الابتدائیة، فلا یثبت منه شرطیة وجود العلوق.

وعلیه، فإذا جاء الاحتمال بطل استدلال.

وأیضا مبنیٌ علی کون المراد من مرجع الضمیر هو المتیمّم به، مع أنّه یحتمل

ص:171

أن یکون المرجع أصل التیمم ومجموعه، کما عرفت منا سابقا.

ورابعا: علی فرض التسلیم لجمیع ما ذکر، لکن مع ذلک نقول إنّ الاستدلال بمثله مبنیٌ علی کون (النفض) و(العلوق) شرطا فی التیمم، مع أنّه لیس کذلک لقیام الاجماع علی عدم وجوب مسح الوجه والیدین بما یعلّق من التراب ولا استحبابه، للاجماع المحکی _ إنْ لم یکن محصّلاً _ علی استحاب نفض الیدین، ومن المعلوم أنّه بعد النفض لا یبقی شیءٌ من التراب حتّی یمسح به.

هذا کلّه مع امکان أن یکون مرجع الضمیر الی بعض أفراد الصعید الذی هو التراب، لغلبته وشیوعه، وهو لا یوجب کون المراد من الصعید مطلقا هو التراب، سیّما علی القول بعدم تخصیص ضمیر العامّ الی خصوص العامّ.

هذا کلّه مع أنّا لو سلّمنا جمیع ذلک فی الآیة، وسلّمنا دلالتها علی خصوص التراب من الصعید بتلک القرائن، مع ذلک نقول لا ینافی ثبوت الجواز فی الحجر ونحوه من الأدلة الخارجیة من الاخبار والاجماع.

حکم التیمّم علی الحَجر

الرجوع الی کلمات القوم یوجب القطع للفقیه إنّهم لم یحصروا الصعید بخصوص التراب، وهو ظاهر کلام «الوسیلة» و«المقنعة» و«السرائر» وغیرها، حیث قیّدوا جواز التیمم بالحجر بفقد التراب، مع أنّه لو لم یکن الحجر مصداقا للصعید لما جاز التیمم به، حتّی مع فقد التراب، بل فی «الجواهر»: «لعلّه لدلیل لم نعثر علیه»، بل فی «کشف اللّثام» احتمال ارادتهم الاحتیاط فی الاجتناب منه، لوقوع الخلاف فی معنی الصعید عند أهل اللغة.

وبالجملة: لم یبق من الفقهاء المصرّحین بعدم الجواز علی الحَجَر مطلقا، الاّ

ص:172

السیّد وابن زُهرة، ومخالفتهما غیر مضرّ بالاجماع، مع أنّ السیّد _ علی ما هو المحکی عنه فی «المصباح» _ وافق المشهور فی المطبوخ من الحجر.

وأمّا احتمال کون مقصود المخالف من الحَجَر هو المطبوخ منه کالخَرَف المصنوع من التراب _ کما عن «الجواهر» بعید غایته.

بل قد یقال: فی الاستدلال جواز التیمم بالحَجَر _ کما عن العلاّمة فی جملةٍ من کتبه _ بأنّه: «تراب اکتسب رطوبة لزجة، وعملت حرارة الشمس فیه حتّی تَحَجّر، فحقیقة التراب فیه باقیة، وإنّما حدثت زیادة وصفٍ، بل لو شک فیه فباستصحاب جواز التیمم به قبل تماسک اجزائه یتم المطلوب فیه وفی الخزف. ودعوی القطع بخروجهما عن اسم الارض بذلک کما تری».

خلاصة الکلام: ظهر من جمیع ما ذکرنا _ تبعا للقوم _ جواز التیمم علی وجه الأرض بما یصدق علیه اسم الأرض، سواءٌ کان ترابا أو حَجَرا أو غیرهما من الرمل وغیره، وما ذکره أهل اللّغة فی معنی الصعید من التراب بخصوصه، أو هو مع غیره لیس من باب بیان کونه حقیقة، بل غایة بیانهم هو بیان موارد الاستعمالات، سواءٌ کان بصورة الحقیقة أو المجاز أو الاشتراک، وتعیین کل واحدٍ منها منوط علی ما هو طریقه تحصیلها من الطرق المتعارفة، فمع الشک یرجع الی ما هو مقتضی الأصل، ولذلک قال صاحب «الجواهر»: «إنّ تعارض کلام أهل اللّغة فی ذلک مبنیٌّ علی استعمال (الصعید) فی التراب وغیره، کما أنّه کذلک فی نفس الأمر، وأصالة عدم الاشتراک والمجاز تقضی بکونه حقیقة فی القدر المشترک، سیّما بعد استعماله فیه بنفسه، مع أنّه لو أغفینا عن ذلک کلّه، لکان المتّجه الأخذ بجمیع کلماتهم، فینبغی الحکم حینئذٍ باشتراک لفظ الصعید بین الخاص والعامّ» انتهی محل الحاجة(1).


1- الجواهر، ج 5، ص 127.

ص:173

وعلیه، فالجواز مطلقا قویّ عندنا، کما علیه المشهور بشهرةٍ عظیمة بین المتقدمین، لا سیّما عند المتأخرین والمعاصرین.

بل قد ظهر ممّا بیناه هو جواز التیمّم علی الحجر حتّی فی حال الاختیار، فضلاً عن الاضطرار، اذ لا وجه للقول التفصیل بینهما بعد ما عرفت من صدق اسم الأرض علیه حقیقةً.

وعلیه، فما یقال فی الاستدلال علی دخوله بأنّ ذلک لأجل الاجماع علی الجواز فی حال الاضطرار، وإنْ لم یکن داخلاً تحت اسم الارض.

فمّما لا یمکن قبول ذلک عنهم، لوضوح أنّه لو لم یکن داخلاً تحت اسم الأرض، لکان حکم الحَجَر مثل حکم ما لا یجوز کالنبات والمعادن حیث لا یجوز حتّی فی حال الاضطرار، مع أنّه باطل قطعا، لما تری من ذهاب الفقهاء الی الجواز فیه دون غیره من النباتات والمعادن.

هذا، مع أنّ قیام وتحقّق الاجماع فیه غیر معلوم، بل معلوم العدم، لانّه عند الخصم القائل بالجواز بعد شمول الصعید له فحیث لا یقبل ذلک وخصّه بالتراب، یظهر أنّه لم یقل بجواز التیمم به فی حال الاضطرار لأجل الاجماع علی أنّه حجر فیجوز، بل قد یشاهد الحکم _ علی المحکّی عن ابن الجنید، کما هو المتّجه بناءا علی اختصاص (الصعید) بالتراب _ بسقوط الصلاة لفواته، لأنّه یصیر حینئذٍ من أفرد فاقد الطهورین، وهذا یفید عدم وجود الاجماع علیه، کما لا یخفی.

وأخیرا: برغم کلّ ما قلناه، لکن الأولی هو العمل بالاحتیاط، من مراعاة الترتیب فی ذلک، بتقدیم التراب أوّلاً، ومع فقده أو العسر فی تحصیله یُرجع الی الحجر، وذلک اجابةً لدعوة القائلین بالاختصاص فی الجملة، وإنْ کان الأقوی هو صحة التیمم بالحَجَر ونحوه ممّا یُسمّی أرضا اختیارا بالنظر الی الظن الاجتهادی، واللّه العالم.

ص:174

حکم التیمّم بالجِصّ والنورة

بقی الفحص عن حکم التیمّم بالجِصّ والنورة قبل الاحراق.

فنقول: اشکال حینئذٍ من أنّهما داخلین فی حکم الحجر المذکور فی السابق، فإن قلنا بالجواز فیه، کذلک یجوز فیهما لصدق اسم الارض علیهما، ومن ذهب الی المنع هناک یقول به فیهما أیضا.

وأمّا بعد الاحراق، فیکون حکمهما حکم الخَزَف والآجر، فقد ذهب الی المنع عدّة من الفقهاء فی جمعیها، ومنهم السیّد فی «العروة» وعدّة من أصحاب التعلیق علیها تبعا للمحقّق فی «المعتبر»،، والعلاّمة فی «المنتهی»، وإنْ توقّف فیه الشهید فی «الدروس»، خلافا للآخرین مثل العلامة فی «التذکرة»، والشهید فی «الذکری» والمحقّق الثانی فی «جامع المقاصد» والآملی فی «المصباح». واختاره صاحب «الجواهر» مستدّلاً علی المنع بما ورد فی روایة الراوندی والسکونی _ المذکورین سابقا _ من التعلیل علی خروج الرماد عن جواز التیمم لکونه خارجا من عنوان الشجر والأرض، بخلاف الخزف والآجر والحَجَر بعد الاحراق حیث لا تخرج بسبب الاحراق عن اسم الأرض، ولذلک یجوز السجود علیها.

مضافا الی امکان التمسک للجواز باستصحاب حکم الجواز الذی کان لهما قبل الاحراق، وحکموا بتقدیم هذا الاستصحاب علی قاعدة الاشتغال المتوقف علی الیقین بالبرائة، وحیث لا یمکن الجزم بصدق اسم الأرض علیها کان الاحتیاط فی الاجتناب منها، مع امکان غیرها کما فی تعلیقتنا علی «العروة»، ولا فرق فی الجواز وعدمه بین المسحوق منها أو غیره، لأنّه اذ سلّمنا خروج أصل الخزف والآجر عن اسم الارض، فلا یوجب المسحوق منهما دخولها فیها، فتوهّم کونها منها لأجل شباهتها بالتراب غیر وجیه.

ص:175

قوله: نعم لا یجوز التیمم بالمعادن (1)

حکم التیمم بالمعادن

(1) عدم الجواز فیها کان للخروج عن اسم الارض قطعا، کالکُحل والزرنیخ والملح وغیرها، وعلیه الاجماع کما حُکی فی «الغنیة» وصریح «المنتهی» وظاهره، بل عن «الخلاف»: «إن لم یکن محصّلاً لحصّة سلب اسم الارض عنها، واطلاقه علیها احیانا حال انطباعها فی الأرض توسّع ومجاز»

أقول: المسألة ممّا لا خلاف ینقل عن أحد فی حکمها الاّ عن ابن عقیل رحمه الله حیث قال: «انّه یجوز التیمم بالأرض وبکلّ ما کان من جنسها کالکُحل والزرنیخ، لانّه یخرج من الأرض»(1).

وفیه: ما المراد من کونه من جنسها؟

1_ إن أرید أنّه کان من أجزاء الأرض، وإن کان بعد الانفصال عنها لم یصدق علیه اسم الارض کالتراب والحَجَر المتخذین من الأرض، حیث لا یصدق علیهما اسم الأرض، إلاّ أنّهما من اجزائها،

فهو حقٌ، ولکن هذا لا یناسب مع مثاله بالکُحل والزرنیخ ونحوهما من المعادن، لانّهما لیست کذلک، لعدم کونهما من أجزاء الارض، بل هی متولّدة منها کالنباتات، ولا یطلق علیها اسم الأرض عرفا إلاّ بنحوٍ من المسامحة حین انطباعها، وأدلّة الباب منصرفه عنها جزما.

2_ وإن أرید التعمیم حتّی یشمل مثل الجمادات المتکوّنة فی الأرض، الخارجة عن مسمّاها.


1- حکاه عنه المحقق فی المعتبر، ج 1، ص 372.

ص:176

ففیه: إنّ العنوان الذی یدور مداره الحکم _ علی ما یظهر من الأدلة السابقة _ إنّما هو ما یطلق علیه اسم الارض، لا خروجها ولو لم یطلق علیها الاسم . والدلیل علیه _ مضافا الی الاجماع الذی عرفت استفاضته علی عدم الجواز فیهما_ امکان استفادته من مفهوم التعلیل الورد فی خبری الراوندی والسکونی حیث ذکرا فی التعلیل علی عدم جواز التیمم علی رماد، أنّه لم یخرج من الأرض بل خرج عن الشجر، حیث یدلّ بالمفهوم علی الجواز إنْ خَرَج من الارض، ولکن لابدّ من تقییده بکونه ممّا یصدق علیه اسم الارض أیضا، والاّ إن أخذ باطلاقه ربّما یکون مؤیّدا لابن أبی عقیل، لأنّ اطلاقه یشمل ما لو کان خارجا منها ولو لم یطلق علیه اسمها، فلازمه هو جواز التیمم بمثل الکُحل والزرنیخ، بل لعلّ دلیله أیضا کان هذین الخبرین، ولأجلهما أفتی بذلک، بل لازم مفهومهما جواز التیمم بالرّماد الذی یخرج عن الأرض، عن طریق الشجر کما سیأتی ان شاء اللّه، ولکن لابد من تقییدهما بما لا یخرج عن اسم الارض، والاّ یجب ردّ مضمون الخبرین اعراض الأصحاب عنها وعدم جابریّتهما لضعف سندهما، فمع التقیّد یتم الاستدلال بمفهوم التلعیل فیهما للمقام.

لا یقال: لعلّ وجه المنع فی المعادن هو صدق المعدنیّة علیه، وإنْ لم یخرج عن اسم الارض.

لانّا نقول: إنّ ظاهر کلام الاصحاب واستدلالاتهم کون مدار الحکم فی الجواز وعدمه علی صدق اسم الأرض علیه حقیقةً، لا کونه معدنا ولو اطلق علیه اسم الأرض، وعلیه فإنّه جائزٌ قطعا لصدق اسم الارض علیه حقیقة کحجر الرّص وبعض أنحاء الطین، لو سلّم أنّهما من مصادیق الأرض.

بالجملة: المعیار فی الجواز هو کونه بما یصدق علیه اسم الارض، فکل ما صدق علیه ذلک جاز التیمم به ولو صدق علیه اسم المعدنیّة کما لا یخفی.

ص:177

قوله: ولا یجوز بالرّماد (1)

حکم التیمم بالرّماد

(1) الظاهر من کلامه هو الأخذ بالاطلاق، أی سواءٌ کان الرماد متولدا من الشجر أو متولدا من الارض، اللّهمّ إلاّ أن یدّعی الانصراف الی الاوّل، ولکن معقد اجماع العلامة فی «المنتهی» هو الاطلاق، کما صرح بذلک صاحب «الجواهر» رحمه الله ، بخلاف ما فی الخبرین المنقولین: الأول منهما من الراوندی المرویّ عن علی علیه السلام ، قال: «یجوز التیمم بالجِصّ والنورة، ولا یجوز بالرماد لانّه لم یخرج عن الارض»(1).

والثانی: خبر السکونی، عن جعفر عن أبیه، عن علی علیه السلام : «انّه سُئل عن التیمم بالجِصّ؟ فقال: نعم. فیقل: النورة؟ فقال: نعم. فقیل: بالرماد؟ فقال: لا إنّه لا یخرج من الارض، إنّما یخرج من الشجر»(2).

حیث یدلان علی المنع بالرماد الخارج من غیر الارض، ولعلّه لذلک أو لدعوی عدم الخروج عن اسم الارض، جوّز التیمم بالرماد الخارج عن الارض فی «الحاوی» کما عن «نهایة الأحکام»، وأوجب الشک حکمه هذا لبعضٍ کالعلاّمة فی «التذکرة» من التعلیق بعدم الجواز علی الخروج، وقرّبه صاحب «الریاض»، وقال صاحب «الجواهر»: و«هو جیّد لکن لا حکم فیه بالخروج وعدمه وهو الممثر، اللّهمّ الاّ أن یکون المراد أنّه یخرج تارةً ولا یخرج أخری، إلاّ أن الأقوی الخروج متی صدق علیه الرماد، کما هو الفرض، فتأمّل جیّدا» انتهی(3).


1- المستدرک، ج 1، الباب 6 من أبواب التیمم، الحدیث 2.
2- وسائل الشیعة: الباب 8 من أبواب التیمّم ، الحدیث 1.
3- الجواهر، ج 5، ص 132.

ص:178

قوله: ولا بالنبات المنسحق کالأشنان والدّقیق (1)

خلافا لصاحبی «مصباح الفقیه» و«مصباح الهدی» حیث مالا الی هذا القول.

أقول: الأقوی عندنا عدم الجواز مطلقا إنْ صدق علیه اسم الرماد عرفا، کما علیه معقد الاجماع، لعدم صدق اسم الأرض حینئذٍ علیه، وقد عرفت أنّ المعیار فی الجواز وعدمه هو هذا. واللّه العام.

(1) وجه خروجهما وما أشبه عن الجواز، هو عدم صدق اسم الأرض ولا التراب علیهما اجماعا محصّلاً ومنقولاً مستفیضا، بل فی الاجماع الذی ذکرناه سابقا علی عدم الجواز کفایة.

وقد یتوهّم دلالة خبر عبید بن زرارة علی الجواز، بدعوی کون المراد من التوضّی هو التیمم، حیث روی عن الصادق علیه السلام بعد أن سأله عن الدقیق یتوضّأ به؟ فقال علیه السلام : «لا بأس بأن یتوضّأ به وینتفع به»(1)

لکنّه مندفع أوّلاً: لو سلّمنا الدعوی، فإنّه لا یمکن المقاومة مع ما عرفت من الأدلة الدالة علی اعتبار صدق اسم الأرض علیه، وهو مفقود.

وثانیا: أنّه یمکن أن یکون المراد من التوضّی هو النظافة والتطهّر من الدرن، فیُحمل علیه، کما عن الشیخ فی «التهذیب»، وقد یؤیّد ذلک بما جاء فی صحیح ابن الحجّاج، قال: «سألتُ الصادق علیه السلام عن الرجل یطلی بالنورة فیجعل الدقیق بالزیت یلته به یتمسّح به بعد النورة لیقطع ریحها؟ قال: لا بأس»(2).

وعلیه فحکم المسألة واضحة وللّه الحمد.


1- وسائل الشیعة: الباب 7 من أبواب التیمّم ، الحدیث 7.
2- وسائل الشیعة: الباب 38 من أبواب آداب الحمام، الحدیث 1.

ص:179

قوله: ویجوز التیمم بأرض النُّورة والجِصّ (1)

(1) فی حال الاختیار المستلزم جوازه فی الاضطرار أیضا، کما علیه المشهور نقلاً وتحصیلاً، بل عن «مجمع البرهان» أنّه: «ینبغی أن یکون لا نزاع فیه» بل فی «الجواهر»: «لم أجد فیه خلافا الاّ عن الشیخ فی «النهایة» حیث اشترط فی جوازه فقد التراب»، وفی «السرائر» المنع عنه للمعدنیّة، مع أنّ صاحب «الجواهر» قال: «إنّی لم أجد فیها بل الموجود فی «السرائر» لا یجوز التیمم بجمیع المعادن، وتعدادها یطول، وقد أجاز قوم من أصحابنا التیمّم بالنورة، والصحیح الأوّل». وهو کما تری لم یذکر أرض الجِصّ، مع احتمال کون مقصوده هو النّورة بعد الاحراق لا أرضها، ولذلک حکی الشهید فی «الذکری» النّورة عنه.

نعم، قد یقال إنّ مقتضی تفسیر (الصعید) بالتراب، نفیهما، خصوصا بعد ملاحظة ما فی «کشف اللّثام» من قوله: «إنّ أرض النورة لیست غیر الحَجَر علی ما تعرف) وقد عرفت الکلام فیه، بل عن «المقنعة» _ مع تفسیره الصعید بالتراب _ تصریحه بالجواز فیهما بدون التقیید بفقد التراب.

والدلیل علی جوازه أولاً: ما عرفت من صدق اسم الأرض علیه قبل الاحراق، والمنع عن صدق المعدنیّة.

وثانیا: لو صدق لا یکون مانعا بذاته بعد قبول صدق اسم الأرض علیها.

نعم، من فسّر الصعید بخصوص التراب، وجعله ملاکا للجواز، لا یتّجه علیه ذلک، بلا فرق حینئذٍ بین حال الاختیار والاضطرار، کما عرفت تفصیله فیما سبق فلا نعید.

أقول: وقد یستدلّ للجواز بالخبرین المتقدمین المنقولین عن الراوندی

ص:180

والسکونی، وإنْ أمکن الخدشة بکون ا لمراد منهما هو نفس النورة والجِصّ لا أرضهما، وکون المراد من النورة والجِصّ أرضهما ممّا یُشکل اقامة الشاهد علیه.

نعم، یثبت الجواز بهما بالأوّلیة لو سلّمنا دلالة الحدیث علی الجواز فی أنفسهما، أی یجوز التیمم بهما بعد الاحراق، فقبله یکون الجواز ثابتا بالأولویّة، وهی ممّا لا یبعد تأییدها بالتعلیل الوارد فیهما، حیث یفید أنّ کل ما یکون ناشئا من الأرض یجوز، فهما کذلک بطریق أولی فیرجع مضمون الرواتین الی أنّ جوازهما فی الأرض لأجل صدق الارض علیهما.

کما أنّ عبارة المصنّف من التصریح بأرض النورة والجِصّ مشعرة بالمنع عنهما بعد الاحراق، وفافا للأکثر فی الجصّ، وجماعة فی الأوّل، لخروجهما بعد الاحراق عن اسم الأرض، ولا أقلّ من الشک فی الجواز.

وامّا استصحاب الجواز لما بعد الاحراق _ بعد تسلیم عن جریانه اجزائه لاحتمال تغییر موضوع المستصحب بالاحراق _ معارض مع أصالة الاشتغال، والمرجع بعد سقوط الی الأوامر الأوّلیة المقتضیة لوجوب تحصیل فراغ الذمّة بالامتثال، وهو لا یکون الاّ باتیان ما یوجب الفراغ قطعا، والخبرین غیر جابرین، خصوصا لو أرید منهما بعد الاحراق لا أرضهما.

هذا، وقد التزم جماعة أخری بجواز التیمّم تمسکا بالاستصحاب المذکور، وباعتبار أنّه حاکمٌ علی أصالة الاشتغال، لتقدّم رتبة الاستصحاب، لأنّه یجری فی الموضوع، ومع احراز جریانه یصیر مقدما علی قاعدة الاشتغال، لانّه یرفع الشک عنه، إلاّ أنّ المهمّ عدم امکان القطع بصدق اسم الأرض علیهما بعد الاحراق، ولأجل ذلک قلنا فی تعلیقتنا علی «العروة» و«التحریر»: إنّ الأحوط فی حال الاختیار عدم التیمم بالجِصّ، بل وهکذا بالنورة، نعم، عند الاضطرار لا یبعد

ص:181

قوله: وبتراب القبر (1)

قوله: وبالتراب المستعمل فی التیمّم (2)

جوازه، لانّه مع عدم القطع بخروجه عنها، لایبعد جواز الاکتفاء بهما، وکونهما أولی من ادراجه فی فاقد الطهورین اذا فرض انحصار المحلّ بهما، کما لا یخفی.

وعلیه، فما فی «الجواهر» من دعوی قیام الاجماع المحکّی علی عدم جواز التیمم بغیرها ولو مضطرا، صحیحة فی صورة الحکم بکونهما غیر الأرض، لا مع الشک کما هو المفروض، واللّه العام.

(1) الظاهر أنّ التیمم به جائزٌ بلا اشکال، اذ لا خصوصیة فیه بالمنع، الاّ من جهة العلم بنجاسته، لکونه من المیّت النجس، إذا لم یتحقق الاستحالة، وکذلک لو کان من الدم أو الصدید المصاحب للدم أو غیر ذلک، بل ولو فرض نبش القبر تکرّرا إذ لا أثر فیه الاّ مع حصول العلم بالنجاسة. ومن ذلک یعلم جواز التیمم بالتراب المستحیل عن اللّحم والعظم من المیّت، سواءٌ کان المیّت طاهرا بالغُسل أو نجسا، أذ لا أثر لنجاسته بعد الاستحالة. اللّهمّ إلاّ أن یناقش فیه من جهة الامتزاج مع نفس العظم المسحوق فی التراب فهو بحثٌ آخر یأتی فی محلّه إن شاءاللّه.

واحتمال عدم صدق الطیّب علی مثل هذا التراب، غیر مسموعٍ، لوضوح أنّه بعد الاستحالة وصدق الصعید، یصدق علیه صفة الطیب أیضا کما لا یخفی.

(2) بلا خلافٍ فیه، بل فی «التذکرة» و«الذکری» و«جامع المقاصد» وغیرها دعوی الاجماع علیه صریحا، وفی «کشف اللّثام» دعواه ظاهرا لأنّه: «مقتضی الحکم الأولی، لو لا ورود الدلیل علی المنع، کما ورد فی المستعمل فی الحدث الأکبر، وللأصل، ولصدق اسم الأرض علیه، ولم یُحک المنع فیه إلاّ عن الشافعی فی أصحّ قولیه، قیاسا علی الماء المستعمل فی رفع الحدث، وهو مع بطلانه فی

ص:182

قوله: ولا یصحّ التیمم بالتراب المغصوب (1)

نفسه أوّلاً، وفی المقیس علیه عند بعضٍ کصاحب «الجواهر»، فهو یعدّ قیاسا مع الفارق، لتحقّق رفع الحدث بالماء بخلاف التیمم من احتمال کونه مبیحا لا رفعا للحدث.

وکیف کان، فجوازه ممّا لا اشکال فیه.

کما لا اشکال فی صدق المستعمل علی الملتصق بأعضاء التیمم اجماعا کما فی «التذکرة»، بل وکذا علی المتساقط من الأعضاء، إذ هو کالمتقاطر من الماء المغسول به، لتحقّق ماهیّة الاستعمال فیهما، خصوصا فی الثانی، لأنّه المنساق الی الذهن قبل الأوّل. فما فی «التذکرة» من احتمال العدم فیه، ضعیفٌ لعدم الوجه فی ذلک الاحتمال مع کونه المتبادر فیه.

نعم، الذی ینبغی أن یناقش فیه من جهة صدق الاستعمال، هو المنفوض والمتساقط من الیدین بعد الضرب قبل المسح، وإنْ صرّح به بعضهم، بل فی «الذکری» و«جامع المقاصد» أنّه فسّر به وبالممسوح به من غیر نقل خلافٍ فیه أو اشکال، هذا، لکهن لأجل ذلک _ أی لأجل دعوی قیام الاجماع منهما فیهما من جهةٍ، ومن عدم صدق الاستعمال قبل المسح به من جهة أخری قد تأتی المناقشة، اللّهم إلاّ أنْ یُجعل الضرب بقصد التیمم من التیمم کما هو غیر بعید.

نعم، والذی لا اشکال فی الخروج، بل نقل علیه الاجماع فی «المبسوط» هو المضروب، لأنّه حینئذٍ یکون کالاناء المغترف منه، واحتمال کونه داخلاً فی التیمم بعیدٌ غایته، کما هو واضح.

(1) لا یخفی أنّ مورد المسألة ذات شقوقٍ ثلاثة:

الاوّل: أن یکون نفس ما یتیمّم من التراب والحَجَر وغیرهما مغصوبا. وهذا ممّا لا اشکال فی بطلانه، بل الاجماع محکیا عن «التذکرة» و«المنتهی» لو لم یکن

ص:183

محصّلاً کما قاله صاحب «الجواهر» قائم علیه. ولا فرق فی بطلانه فی هذه الصورة بین ما علق بالیدین ووجهه شیءٌ أو لا، للنهی المقتضی للفساد عقلاً وشرعا، بلا فرق فی بطلانه بین کون الضرب جزءا للتیمّم أو شرطا، مع القول بلزوم النیة فیه، کما هو الأصل فی کلّ ما یکون مأمورا به.

نعم، لو لم یکن جزءا ولا شرطا، بل کان من باب المقدمة الخارجیة عن التیمم، أو کان شرطا توصلّیا لا تعبّدیا، اتّجه عدم الفساد، لعدم اقتضاء النهی حینئذٍ الفساد عقلاً، فیکون التیمم صحیحا ولو کان الضرب محرّما، لو لم یتعلّق شیءً من التراب علی وجهه ویدیه ولا اشکال فیه.

وأمّا بالنسبة الی العلوق: ففی «الجواهر»: «علی اشکالٍ، اللّهم أن یستفاد الفساد حینئذٍ من ظاهر الادلة».

ولعلّ وجه اشکاله عدم صدق التصرف باستفادة ذلک من العلوق الواقع علی الجبهة والیدین، لکن الظاهر عدم الاشکال فی بطلانه، لکونه تصرفا بالمغصوب عرفا، فما لیس فیه الاشکال هو ما لو لم یکن معها شیء، وکان التیمم حاصلاً بخصوص الضرب، فی صورة اعتباره غیر معدود لا غیر جزءا ولا شرطا، أو کان شرطا توصلیا کما عرفت.

وفیه: الظاهر أنّ الضرب من اجزاء التیمم بحسب مفاد الأدلة، کما قُرّر فی محلّه، وعلیه فهذه الصورة یعدّ باطلاً مطلقا، سواءٌ علق بهما شیءٌ أم لا إنْ کان ذلک مع العلم والعمد غیر المعذور فیه، والاّ فلا فساد لأجل فقد النهی فی الجاهل القاصر أو الناسی اذا لم یکن بنفسه غاصبا، أو مطلقا علی قیل بذلک فی الجهل مطلقا.

وکیف کان، فی المعذور یکون التیمم صحیحا ولذلک صرّح فی «جامع المقاصد» وغیره بجواز التیمم للمحبوس فی المکان المغصوب، لأنّ الاکراه یخرجه عن النهی فتصیر الأکوان مباحة، لامتناع التکلیف بما لا یطاق، لکن

ص:184

استثنی منه موردا بقوله: «الاّ ما یلزم ضررا زائدا علی أصل الکون»، والظاهر أنّه لابدّ أن یرید منه فیما یقدر أن یتمم بغیره، والاّ إنْ انحصر فیه، وقلنا بوجوب الصلاة علیه، وأنّها لا تترک بحال، وکان اللاّزم عللیه التیمم، فلا اشکال فی تیممه فی المکان حینئذٍ، اذ لا نهی متعلّقٌ بفعله مع الاضطرار حتّی یوجب الفساد.

لا یقال: إنّ نفس التیمم یعدّ تصرّفا زائدا علی أصل الکون.

لانّا نقول: الزامه بکونِ خاص موجبٌ للتعسّر أو التعذّر، بل هو ترجیح من غیر مرجّح، وعلیه لو فرض اباحة، أصل الکون لأجل الاکراه، فلا فرق فی اختلاف کیفیّته، ولذلک یجوز له أن یصلّی وینام ویقوم، حتّی لو استلزم اتلاف مال الغیر، وإن علیه تدارکه بدفع الاجرة إنْ حصل بفعله لا بواسطة أصل الاکراه، والاّ یکون الحابس هو الضامن دون المحبوس.

هذا تمام الکلام فی الشق الاوّل.

وأمّا الشق الثانی: وهو ما إذا کان التراب أو غیره مملوکا ومباحا، لکن کان فی مکانٍ غصبی: ففی «المدارک»: «أنّ الأصحّ الصحة، لأنّ الکون لیس من أفعال التیمم، بل هو من ضروریات الجسم».

أمّا صاحب «الجواهر» فقال: «وفیه: إنّ الضرب والمسح حرکة وسکون وهما کونان سیّما الأولی، فلا ریب فی حصول التصرّف فی مال الغیر بذلک، علی أنّ التیمم فعل وعمل ملک الغیر، وهو هوائه، ولذا کان الأقوی الفساد».

أقول: ولقد أجاد فی ما أفاد، لأن أصل الاعتماد فی مثل الضرب والحرکة فی الفضا المغصوب یکون تصرفا فی المغصوب ومتحدا مع التیمم، وهما زائدان علی أصل الکون، ولذلک یشترط أن یکون مکان ما یتیمم به المکلف، والفضاء الذی یقع فیه التیمم مباحا، کما أنّ یقع الأمر فی الوضوء أیضا کذلک بالنسبة الی الفضاء، لو لم نقل بذلک فی الحال الواقع فی الاناء المغصوب، باحتمال کون النهی

ص:185

قوله: ولا بالتراب النجس (1)

قد تعلّق بالاغتراف، وهو فعلٌ خارج عن حقیقة الوضوء، فلا یوجب الفساد، مع أنّه مخدوش أیضا کما قرّر فی محلّه، ولأجل ذلک أمر صاحب «الجواهر» بالتأمّل بعد تقریره.

الشّق الثالث: وهو ما اذا کان مکان الشخص المتیمم غصبیا لا التراب ولامکانه، فهل یوجب ذلک البطلان کما علیه السیّد فی «العروة»، حیث صرّح به بالخصوص أو لا؟

یظهر من المحقّق الآملی حمل کلام صاحب «المدارک» علی هذه الصورة، حیث نقل کلامه السابق هنا، مع أنّ الظاهر من کلامه _ کما عن «الجواهر» _ أنّ مقصوده الشق الثانی.

وکیف کان، إنْ أمکن فرض ذلک بأن یکون مکان الشخص مغصوبا دون التراب ومکانه وفضاءه، بأن یوقع الضرب والمسح خارج الغصب لکن یقف المتیمم فی الغصب، فحینئذٍ القول بالبطلان لا یخلو عن اشکالٍ، لأنّ جلوسه فی الغضب الموجب للتصرف فیه، لا یوجب سرایة النهی الی فعل التیمم المقارن مع الجلوس، ولذلک قال المحقّق الآملی رحمه الله : «والأقوی صحّة التیمم فی هذا الفرض». ونحن وإن لم نقل بمالقته، لکن نقول الأحوط رعایته حذرا عن مخالفة بعض الاعلام، ولانّه طریق النجاة.

(1) هذه المسألة مشتملة علی شقوق، لابدّ من البحث فیها:

الشق الأوّل: فی أصل المسألة، وهو أنّه لا یجوز التیمم بالتراب النجس، فإن یتیمّم به کان باطلاً. والدلیل علیه:

مضافا الی الاجماع، حیث صرّح صاحب «الجواهر» قدس سره بقوله: «بلا خلافٍ

ص:186

أجده فیه»، بل فی «المدارک» وغیرها نسبته الی الأصحاب، المشعر بالاجماع، کما عن «جامع المقاصد» اشتراط الطهارة فیه اجماعا، وکذا فی «کشف اللّثام»، وظاهر «الغنیة» ومحتملها، وعن «التذکرة» و«شرح الجعفریة»، وفی «المنتهی»: «ولا نعرف فیه مخالفا».

الکتاب العزیز، فی قوله تعالی: «صعیدا طیّبا» بأن یکون المراد من الطیّب هو الطاهر لا الحلال، ولا ما الذی ینبت کما قیل، تمسکا بآیة: «وَالْبَلَدُ الطَّیِّبُ یَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ» حیث لا یناسب المقام إلاّ بأحد المعنیین: من الطهارة فی قبال النجاسة، والحلال فی قبال الغصب، لا ما یکن حلالاً فی قبال مطلق الحرام کما فی المال، اذ ربّما یکون الشیء حراما لا لاجل الغصب کالخمر والمایع النجس وأمثال ذلک، فالمناسب مع التیمم هو الطهارة، کما نَسب ذلک صاحب «جامع المقاصد» الی المفسّرین، بل قد یؤیده ما عن فقه الرضا(1) من تفسیر الطیّب بالمکان الذی ینحدر عنه الماء، المناسب مع الطهارة، وکذا فی «معانی الأخبار»(2). هذا هو الدلیل الاوّل.

الدلیل الثانی: الأخبار الواردة منها المستفیضة النبویّة، قال صلی الله علیه و آله : «جُعلت لی الأرض مسجدا وطهورا»(3) بناءا علی أنّ الطهور یکون من صیغة المبالغة بمعنی الطاهر المطهّر کما مضی بحثه فی محلّه، بل ولو کانت طهارتها من جهة أصلها، إذ الأرض بحسب ذاتها طاهرة، بل لعلّه من الأدلّة الدالة علی لزوم أن یکون التراب طیّبا، اذ الأحکام صادرة بالنظر الی حال الاشیاء بطبعها الأوّلی لا بما تعرضها من النجاسة والغصبیة.


1- فقه الرضا، ص 90.
2- معانی الاخبار، ص 283.
3- وسائل الشیعة: الباب 7 من أبواب التیمّم ، الحدیث 2_4.

ص:187

فبناء علی هذا لا یرد علیه بما فی «الجواهر» بأنّه: «قد یناقش بأنّه لا دلالة فیها علی اعتبار الطاهریة» حال المطهّریة لما قد عرفت من أنّ الأحکام محوّلة فی تلک الحالة، فتجویزها فی غیرها یحتاج الی دلیلِ آخر یدلّ علیه.

الدلیل الثالث: اثبات الملازمة بین الطاهریة والمطهّریة حین المطهّریة، حیث قد استدل به علی المحکی عن «جامع المقاصد» حیث یقول: «ولا یعقل کون النجس مطهرا» وقد اعترف به صاحب «الجواهر» وقال: «هو أصلٌ ثابت خصوصا بمعنی عدم سبق النجاسة» ومراده من عدم سبق النجاسة هو طهارته حین الورود علی النجس، وإنْ تنجّس بایراده علیه کالغُسالة والماء القلیل الوارد علی النجس فی الاستنجاء، وحجر الاستنجاء، مضافا الی خروجها بالدلیل، والاّ کان الأصل هو ما عرفت.

وهکذا فی خلال هذه الأدلة ثبت حکم هذا الشق.

الشق الثانی: مالو اشتبه التراب النجس مع غیره فی المحصور، هل یجتنب عنهما کالماء المشتبه أم لا؟

قد یقال بأنّه لا یشرع الاحتیاط بالتکریر بناءً علی الحرمة الذاتیة فیه کالماء، کما صرّح به الشیخ فی «کشف الغطاء»، أو عند من یعتبر الجزم فی النیة فی العبادات.

هذا، ولکن القول بالحرمة الذاتیة هنا لو لم نعتبر الجزم فی النیّة فی العبادات غیر مقبول، لوضوح أنّ الاتیان بهما تحصیلاً للاحتیاط أمر مطلوب شرعا، ولیس بحرامٍ تشریعا اذ الاتیان بالرجاء والاحتیاط لا یکون تشریعا حراما. وقیاس التیمم بالتراب المشتبه بالماء المشتبه:

أولاً: قیاسُ مع الفارق لأجل وجود النص فی الماء بالاراقه دون التیمم بالتراب.

وثانیا: لأنّ الوضوء له البدل وهو التیمم، فلو اشتبه یمکن منعه، والأمر

ص:188

بالرجوع الی البدل، بخلاف التیمم حیث لا بدل له.

وثالثا: إنّ باب الوضوء بالماء المشتبه یوجب القطع بالنجاسة فی البدن فیصعب علیه الصلاة لو لم یکن له ماءٌ آخر، ولو کان فلا حاجة الی ذلک الاحتیاط حینئذٍ، هذا بخلاف التیمم حیث أنّه لا یستلزم له حکما آخر، فله الاحتیاط بالتیمم بهما لأجل حصول الیقین بتحصیل الطهارة، خاصة وإنّه ولم یکن الجزم بالنیة فی العبادة شرطا واجبا کما لا یخفی.

وعلیه، فالأقوی هنا هو الحکم التیمم بالترابین ولا یجری فی حقّه حکم فاقد الطهورین.

الشق الثالث: فی أنّه لا فرق فی عدم جواز التیمم بالتراب النجس، بین قلّته وکثرته إنْ کان واقعا فی محلّ الضرب علیه، کما صرح به فی «المنتهی»، لفساد بعض ما یتعلّق به الضرب، والذی یوجب فساد جمیعه، ولاقتضاء الشرطیة السابقة طهارته قبل وقوع الضرب علیه.

ولا یعقل الاستهلاک هنا إلاّ علی القول بعدم لزوم وشرطیة استیعاب الضرب لما یتیمم به، أو أنّه قلیل لا یقدح بالاستیعاب عرفا، وقال صاحب «الجواهر» معلّقا علی هذا الحکم: «إنّه لا یخلو عن وجه».

أقول: لکن الأقوی عندنا شرطیة طهارة کلّ ما یقع به الضرب الذی یعدّ جزءا من التیمم، اذ لا فرق فی الشرطیة بین القلّة والکثرة کما لا یخفی.

نعم، لا یضرّ نجاسة ما کان خارجا عن محلّ الضرب والمضروب، وإنْ اتصل بالمضروب کأحد جانبی الحَجَر أو طرفیه، لعدم ارتباطه بما یقع به الضرب حتی یقال بشرطیة الطهارة فیه.

الشق الرابع: لا فرق فی شرطیة الطهارة وبطلانه بالنجاسة بین وقوعه عن علمٍ

ص:189

قوله: ولا یجوز بالوحَل مع وجود التراب (1)

قوله: وان فرج التراب بشیء من المعادن فان استهلکه التراب جاز والاّ لم یجز (2)

أو جهل أو عمدٍ أو نسیان، کما لا فرق فی الجهل بین کونه فی التکلیف أو فی الموضوع، أو فیهما معا، وذلک لأنّ شرطیة الطهارة واقعیة لا یتفاوت فیها الأحوال، ولم یقم دلیل علی معذوریّة الجاهل أو الناسی فی هذا المورد، لا بالنسبة الی الموضوع ولا بالحکم، ومقتضی الأصل فی الشرطیة هو هذا، کما هو واضح.

(1) وحیث أنّ هذا البحث سیأتی لاحقا عن المصنّف کما أشار الیه صاحب «الجواهر» فنترکه تبعا له.

(2) أقول: هذه المسألة مشتملة علی صورتین بل أزید:

تارة: یکون المزج بصورة الاستهلاک، وأخری بعدمه.

فأمّا الأولی: وهی بأن یمتزج التراب بالکُحل أو الزرنیخ أو الدقیق أوسحیق الأشنان وغیرها:

فالمشهور بین الأصحاب هو جواز التیمم به، للأصل، ولعلّه البراءة عن وجوب الاحتراز عنه فی التیمم.

لکنه غیر وجیه، لأنّ المورد یعدّ من مصادیق اشتغال الذمة، لأنّه عند التیمم بالممزوج المذکور یشک فی صحة التیمم به، وافراغ ذمته عند الصلاة بهکذا یتیمّم، وقاعدة الاشتغال تقتضی عدم الفراغ.

أللّهمّ إلاّ أن یراد من الأصل أصالة عدم خروج الممزوج عن اسم التراب بالمزج بالأمور المذکورة، فیترتب علیه جواز التیمم به. وتکون النتیجة الحاصلة

ص:190

من جریان هذا الأصل تحقّق الامتثال بالتیمم به.

ودعوی: أنّ ذلک یعدّ من المسامحات العرفیة، حیث یتسامح العرف فی مثل هذا المقدار من الخلیط، ولا یرون فی ذلک ضررا علی ما یعتبر فی التیمم من التراب ووجه الأرض، لکن هذا القبول لا یعنی الصحة شرعا.

مدفوعة أوّلاً: بعدم قیام دلیلٍ صالح لاثبات المنع عن مثل ذلک.

وثانیا: أنّه لو اعتبر الخلوص فی مثله ربّما أوجب ذلک التعسّر أو التعذّر غالبا، خصوصا لو اعتبر العلم بالخلوص، ولذلک لابدّ علی من یشترط الخلوص من حلّ هذا الاشکال، الاّ أن یعتمد فی ذلک علی المسامحات العرفیة فی العلم بذلک، فله وجه.

وفی مقابل المشهور من ذهب الی عدم الجواز، وهو المستفاد من ظاهر «الغنیة»، وصریح المحکی عن «الخلاف» حیث منعا التیمم مع الخلیط، وإنْ استهلک، وإنْ قال صاحب «الجواهر»: «إنّی لم أجد ذلک فی «الخلاف»».

ویمکن توجیه منع صاحب «الغنیة» علی صوة عدم الاستهلاک، خصوصا بقرینة دعوی الاجماع علیه، حیث تدلّ علی العکس أو الاجماع قائمٌ علی الجواز فی المستهلک کما لا یخفی علی المتتبع الدقیق، ولو لا ذلک لا اشکال فی ضعف قولهما، لأنّ مع الاستهلاک یصدق الضرب علی التراب والأرض، وهو یکفی فی صدق الامتثال.

وأمّا الصورة الثانیة: وهی فیما إذا لم یستهلک، فهو أیضا یتصور علی صورتین:

تارة: یکون الخلیط غیر مستهلکٍ ولکن غیر متمایزٍ، غایة الأمر قد یکون الخلیط مزیلاً للتراب وقد لا یکون کذلک، ولکنه أیضا لم یکن مستهلکا.

أقول: فی هاتین الصورین لا یجوز التیمم قطعا، والدلیل علی ذلک _ مضافا

ص:191

الی قیام الاجماع بقسمیه علیه کما فی «الجواهر» _ مقتضی أصالة الاشتغال، لکونه شکا فی تحقق الشرط وهو الطهارة بالتیمم بمثله، والشغل الیقینی یقتضی الفراغ الیقیینی، وهو معه غیر حاصل مع عدم صدق الامتثال بالضرب علی الصعید والأرض، فضلاً عن صحّة سلب اسم التراب عن مثل هذا الخلیط المتمزج بالتراب، وإنْ فرض عدم انطباق اسم الخلیط علیه، لأنّ المعتبر فی التیمم احراز اطلاق اسم التراب علیه، لا عدم انطباق اسم الخلیط حتّی یقال بکفایته، بل وإنْ صدق علیه اسم کلیهما، ولکن أطلق علیه باعتبار أنّه متمزجٌ ومخلوطٌ لا مستقلٌ، فلو اطلق علیه اسم التراب والکُحل معا، کان لاجل وجودهما فیه بالامتزاج لا مستقلاً حتی یصحّ التیمم بترابه، اذ المعتبر فی التیمم هو الثانی لا الاوّل، هذا اوّلاً.

وثانیا: لو سلّمنا صدق اسم التراب علیه مستقلاً، کصدق اسم الکُحل علیه مستقلاً، وقلنا بصدق الضرب علی التراب مع صدقه علی الکُحل أیضا، لکنه غیر کافٍ فی صحّة التیمم، لأنّ المعتبر فیه هو مماسّة تمام باطن الکف للتراب حال الضرب، کما صرّح به الفاضل الهندی فی «کشف اللّثام»، بل هو ظاهر غیره أو صریحه کصاحب «المدارک»، ولا ریب فی عدم صدق ذلک فی محلّ الفروض، وعلیه فما فی «مستند الشیعة» ردّا علی صاحب «المدارک» من: «عدم الدلیل علی اعتبار ذلک، بل یکفی صدق ذلک ولو مع وجود بعض الخلیط» لیس علی ما ینبغی، لأنّ ظهور الأدلّة المشتملة علی ضرب یدیه أو کفّیه علی التراب و الأرض هو لزوم تماس تمام الکف وملاصقته بالتراب والأرض، فوجود المانع عن اللصوق یمنع عن تحقّق العنوان، بل فی مثل غیر المستهلک یصدق ملاصقة کفّه بالتراب مع غیره، وعلیه فما و معتبرٌ فی التیمم لم یکن متحقّقا حینئذٍ، ومع عدمه یبطل التیمم.

ص:192

أخری: مالو کان الخلیط أمرا ممتازا عن التراب، وهو کما لو وجد فی التراب شعرةً أو شعرات حیث لا یصدق علیه الامتزاج، بل یکون وجود کلّ واحدٍ وجودا مستقلاً ومتمایزا عن الآخر، ففی مثل ذلک وإنْ أمکن صدق الضرب علی التراب بضرب الکفّ علی التراب المشتمل علیه، الاّ أن الاشکال ربّما یتحقّق من جهة أخری، وهو شرطیة استیعاب الکف للتراب، حیث ربّما یمنع عن تحقق ذلک فی بعض الخلیط.

نعم، ربّما یکون الخلیط فی غایة القلّة، بحیث کان وجوده فی مثل التراب کالعدم، مثل الشعرة الواحدة فی مجموع التراب، فإنّ العرف فی مثل ذلک ربّما یتسامح ویحکم بعدم الوجود، لأنّ الغالب فی التراب والأرض وجود مثل ذلک فیه ممّا یتسامح عادةً، فربما یمکن أن یقال إنّه حینئذٍ غیر قادحٌ لأنّ اعتبار فقد مثل ذلک _ خصوصا مع ضمّ اعتبار العلم به _ ربّما یوجب التعسّر أو التعذّر خارجا.

وأمّا إنْ لم یکن کذلک، أی کان وجوده ممّا لا یتسامح فیه عادة، فلا اشکال فی کونه ممّا یمنع عن تحقّق شرطیة الاستیعاب المستفاد من أدلة الضرب کما عرفت.

وعلیه، فما فی «کشف اللّثام» وغیره من أنّه بالاعتماد علی التراب عند ضرب کفّه علیه، یتحقّق المماسة بینه وبین التراب برغم وجود المانع المذکور، غیر کافٍ لاثبات فراغ الذمّة عمّا وجب علیه، مع وجود أصالة الاشغتال.

اللّهمّ أن یحصل له الاطمینان بحصول الاستیعاب العرفی بذلک فله وجه، لوضوح أنّ بناء الأحکام لیس علی التدقیقات العقلیة، بل هی مترتبة علی الموضوعات مع المسامحات العرفیة، کما تری الحکم بالطهارة مع بقاء لون الدم علی الثوب، والثابت بالدلیل العقلی استحالة انتقال العرض عن المعروض بدون وجود نفسه کما فی المقام حیث یحکم والعقل بأنّه دمٌ، ولکن العرف یری أنّه لون دم لا نفس الدم.

ص:193

قوله: ویکره بالسَّبخة والرّمل (1)

وعلیه، فالأقوی أنّه یکفی احراز الاستیعاب العرفی للکف علی التراب، وتحصیله فی بعض الأقسام التی لا یکون الخلیط فیه مشهودا غیر بعید، الاّ أن الأحوط مع الامکان تحصیل التراب الخالص.

والحاصل: أنّ الشرط فی التیمّم هو صدق الضرب علی التراب أو الارض أوّلاً وتحقق الاستیعاب للکفّ مع التراب أو الارض ثانیا، ولو بالصدق العرفی للاستیعاب، فوجود بعض الأجزاء الصغیرة الأجنبیّة عن التراب، غیر المحسوسة مثل، من التبن أو الدقیق، اذا لم یکن فاحشا غیر قادحٍ فی الصحة کما لا یخفی، واللّه العالم.

(1) والحکم بکراهة التیمم بهما مشهورٌ ومعروف بین الأصحاب نقلاً وتحصیلاً. بل فی «المعتبر» الاجماع علیه سوی عن ابن الجنید، حیث منع من السبخة فقط، بل عن العلاّمة فی کتابیه نقل الاجماع من غیر نقل الخلاف إلاّ عن بعض الجمهور. کما نسب الجواز مع الکراهة فی الرمل الی نصّ الأصحاب و«جامع المقاصد»، بل ظاهر العلاّمة فی «التذکرة» والسیّد فی «المدارک» أو صریحه کغیره عدم الخلاف عندنا فی جواز التیمم بالرّمل، الظاهر کون مرادهم جوازه اختیارا برغم وجود التراب لا جوازه عند فقده أو الاضطرار کما فی «اشارة السبق» للحلبی، والاستاذ فی «کشف الغطاء».

والدلیل علی الجواز: صدق الأرض والصعید علیها، وإن اکتسبت السبخة تشتتا وتغیّرا بسب الحرارة، ولکنه لا یوجب خروجها عن اسمها، فعلیه یظهر ضعف القول بالجواز فی خصوص الاضطرار، لما قد عرفت من صدق الأرض والصعید علیها، إذ لو لم یصدق علیها ذلک، فلا دلیل علی جوازه فی حال

ص:194

قوله: ویستحب ان یکون من ربا الارض وعوالیها(1)

الاضطرار ما لم یدخل تحت الموضوعات المذکورة.

هذا، ولعلّ منع ابن الجنید عن ذلک _ فضلاً عمّا مرّ _ ما ورد من کلمة السبخة فی:

1_ الخبر الذی رواه الشیخ الکلینی عن محمد بن یحیی، عن محمد بن الحسین: «أنّ بعض أصحابنا کتب الی أبی الحسن الماضی علیه السلام یسأله عن الصلاة علی الزجاج. قال: فلما نفذ کتابی الیه تفکرت وقلت هو ممّا أنبتت الأرض، وما کان لی أن أسأله عنه. قال نکتب إلیّ: لا تصلّ علی الزجاج، وإن حدّتتک نفسک أنّه ممّا أنبتت الأرض، ولکنه من الملح والرمل وهما ممسوخان».

2_ والخبر الذی رواه علی بن عیسی فی «کشف الغُمّة» نقلاً من کتاب «الدلائل» لعبداللّه بن جعفر الحمیری فی دلائل علی بن محمد العسکری علیه السلام قال: «وکتب الیه محمد بن الحسن بن مصعب یسأله مثله، إلاّ أنّه قال: فإنّه من الرمل واللح سبخٌ».

ولعلّ منعه لأجل ورود کلمة (السبخ) فی خبر صاحب «کشف الغُمّة». وعلیه فما فی «الجواهر» ردا علیه بقوله: «وفیه: إنّه لا تعرّض فیه للسبخة ولا کلام فی المنع من الملح» ممّا لا وجه له.

نعم، غایة ذلک هی الکراهة، کما ورد فی القرآن فی قوله تعالی: «وَالَّذِی خَبُثَ لاَ یَخْرُجُ إِلاَّ نَکِدا» اطلاق صفة الخبث علی مثل هذه الأراضی حیث یؤیّد (1) الکراهة فی التیمّم ولا یوجب المنع لعدم خروجها عن صدق الأرض والصعید. نعم، لا یصحّ التیمم بالملح کما لا یصحّ السجود علی الرمل بدلالة هذه الروایة، فمن یری الملازمة بینه وبین التیمّم، فلازمه عدم الجواز، ولکن الاجماع علی خلافه فی التیمّم حتی من الحلبی فی اشارته لتجویزه به حال الضرورة.

ص:195

قوله: ومع فقد التراب یتیمّم بغبار ثوبه أو سرجه أو عرف دابّته(1)

ولعلّ المراد من الممسوخ هو مسخ الزجاج، حیث بصیرورة الملح والرمل زجاجا یصیر ممسوخا فیؤیّد الکراهة أیضا کما لا یخفی.

وما عن الجمهرة _ علی ما فی «الجواهر» _ نقلاً عن أبی عبیدة: (أنّ الصعید هو التراب الذی لا یخالطه سخٌ ولا رمل)، ممّا لا یمکن المساعدة معه بشهادة العرف علیه. نعم یثبت الکراهة فیهما بما عرفت، خصوصا مع ملاحظة التسامح فی الأدلة تکفینا فی الحکم بها.

(1) ربا الارض أی ما ارتفع من الأرض، من الرَبْو کما فی «الصحاح»، وعلی استحبابه الاجماع، کما أنّه یکره من المهابط، وکلاهما بالاجماع المدّعی فی «الخلاف»، وفی «المعتبر» ظاهرا أو صریحا کظاهر «التذکرة» من جهة نسبته إلی علمائنا، وصریح اجماع «جامع المقاصد»:

ویؤیّده مضافا إلی الاعتبار من بُعد العوالی عن النجاسة، وزوالها عنها غالبا بواسطة البول والریاح، ووصول المطر إلیه، اذ هی ابلغ فی وصف الطیب من المهابط.

ما ورد فی تفسیر (الصعید) من انّه الموضع المرتفع، کما فی «فقه الرضا»، قال «الصعید الموضع المرتفع عن الأرض، والطیّب الذی ینحدر عنه الماء»(1).

بل قد یمکن الاستظهار لکراهة المهابط عمّا ورد النهی عن التیمّم من تراب الطریق، فی خبر غیاث بن ابراهیم، عن أبی عبداللّه علیه السلام قال: «نهی


1- المستدرک، ج 1، الباب 5 من أبواب التیمم، الحدیث 2.

ص:196

أمیرالمؤمنین علیه السلام أن یتیمّم الرجل بترابٍ من أثر الطریق»(1).

وفی خبره الآخر، قال: «قال أمیرالمؤمنین علیه السلام لا وضوء من موطأ»(2).

وعن النوفلی: یعنی ما تطأ علیه رجلِک، فإنّ النهی عن مثله لیس الاّ لأجل کثرة احتمال کونه قذرة، خلافا للجمهور حیث لم یفرقوا بین المکانین، ولا یخفی أن الرشد فی خلافهم، بل لا یبعد دعوی التفاوت فی مراتب الاستحباب والکراهة شدةً وضعفا بتفاوت الأمکنة من القُرب التراب والبعد عن احتمال النجاسة ونحوها، کما فی «الجواهر» وهو جیّد جدا.

أقول: لا یخفی، أنّ ظاهر کلام المصنّف کون حکم الغبار معلقا علی فقد التراب فقط دون غیره، مع أنّ الامر فی الواقع لیس کذلک، لمساواة الحَجر مع التراب فی التقدیم علی الغبار، ولم یخالف فیه الاّ النادر من الفقهاء کسلاّر ویحیی بن سعید، حیث قدّماه علی الحجر، خلافا للمشهور.

اللّهمّ الاّ أن یراد المثال بذکر التراب، أی هو وکلّ ما هو معه فی التقدیم، وهو غیر بعید، فیوافق حینئذٍ مع ما قد عبّر فی بعض الکلمات من التعلیق بفقد الصعید، الشامل للتراب والحَجر، هذا کما فی «النافع» و«الذکری» و«المعتبر» و«التذکرة»، بل هو مقصد اجماع الأخیرین، حیث نسبا ذلک الی علمائنا.

وأیضا ورد التصریح بتأخیر الغبار عن الحجر فی «النهایة» و«الوسیلة» و«السرائر» و«التحریر»، ویقرب منه ما فی «جامع المقاصد» و«الروض» و«المدارک».

والدلیل علی جواز التیمم بالغبار وقرینه: بعد فقد التراب، هو النصوص التی نشیر الیها، والاجماع المحکی فی «المعتبر» و«التذکرة» إن لم یکن محصّلاً کما


1- وسائل الشیعة: الباب 6 من أبواب التیمّم ، الحدیث 2.
2- المصدر السابق، الحدیث 1.

ص:197

فی «الجواهر». کما لا خلاف، بل ظاهر «المعتبر» و«البحار» و«کشف اللّثام» و«التذکرة» قیام الاجماع علی وجوب التیمم بالتراب مع عدم فقده، الاّ ممّا یظهر من «جمل» المرتضی حیث ساواه مع التراب فی الجواز، مع أنّه لیس فی الظهور بتلک المکانة، لاحتمال کون مراده هو الغبار الذی اذا نفض کان ترابا کافیا، کما احتمل ذلک سلاّر فی کلامه أیضا علی ما فی «الجواهر»، ولو لا ذلک فإنّه لا ریب فی ضعفه بعد وجود أخبار دالة علیه:

منها: صحیح زرارة، عن أبی جعفر علیه السلام ، قال: «ان کان أصابه الثلج فلینظر لبد سرجه فلیتمم من غباره أو من شی ء معه، الحدیث»(1).

حیث أن الظاهر کون المراد من الثلج هو بیان حکم کیفیّة الطهارة عند عدم وجود الماء والتراب، کما ورد مثله فی صحیح رفاعة عن أبی جعفر علیه السلام ، قال «إذا کانت الأرض مبتلةً لیس فیها تراب ولا ماء فانظر أجفّ موضع تجده فیتمم منه، فان ذلک توسیع من اللّه عزّوجلّ. قال: فان کان فی ثلجٍ فلینظر سرجه فلیتیمّم من غباره أو شیء منه، الحدیث»(2).

وفی خبرٍ آخر لزرارة، قال: «قلت لأبی جعفر علیه السلام : «أرأیت المواقف(3) إن لم یکن علی وضوء، کیف یصنع ولا یقدر علی النزول؟ قال: یتیمم من لبده أو سرجه أو معرفة ابته فإنّ فیها غبارا ویصلّی»(4).

حیث یفهم من سیاق الکلام أنّه بیان حکم من لا یقدر علی التیمم بالتراب


1- وسائل الشیعة: الباب 9 من أبواب التیمّم ، الحدیث 2.
2- المصدر السابق، الحدیث 4.
3- الواقف فی میدان القتال لا یستطیع النزول عن مرکبه.
4- وسائل الشیعة: الباب 9 من أبواب التیمّم ، الحدیث 1.

ص:198

والصعید لاجل عدم القدرة علی النزول حتّی یتیمّم، وکذلک خبر ثالث منه مثله(1).

کما یظهر ذلک من خبر أبی بصیر _ یعنی المرادی _ عن أبی عبداللّه علیه السلام ، قال: «إذا کنت فی حال لا تقدر الاّ علی الطین فتیمّم به، فإنّ اللّه أولی بالعذر، اذا لم یکن معک ثوبٌ جافّ أو لبد تقدر أن تنفضه وتتیمم به»(2).

وهناک خبر آخر مثل خبر رفاعة وهو مقطوعة عبداللّه بن المغیرة(3) بل یحتمل اتحادهما، لانّ عبداللّه بن المغیرة نقل عنه مثل هذه العبارة المنقولة عن رفاعة، ویستبعد أنّ کلّ واحدٍ منهما سأل فی مجلس مستقل حتّی تتعد الروایة، واللّه العالم.

واحتمال کون الغبار أیضا من التراب حتّی ولو استخرج من غیر الأرض لکونه مجاورا لها، فإذا نفذ عاد الی أصله وصار ترابا مطلقاً، فهو جیّد لکنّه خارج عن الفرض اذا کان کذلک، ومشتملاً علی جمیع شرائط التراب، من الاستیعاب وغیره، لانّ المفروض غیر ذلک، والاّ فی الواقع هو نفس التراب ولا یصدق علیه الغبار بعد واجدیّته للشرایط، بل ربّما قدم هذا الغبار المبدّل الی التراب والمشتمل علی الاستیعاب علی التراب القلیل غیر المستوعب، ولأجل ذلک لا یبعد القول حینئذٍ بتقدیم ما هو أکثر وأشدّ مباشرة للید وإنْ صدق علیه الغبار.

لکن قال صاحب «المنتهی» و«المدارک» بعدم صحة تسمیة الغبار صعیدا، قال فی «المنتهی»: «لأنّ الصعید هو التراب الساکن الثابت».

ولکنّه لیس علی ما ینبغی، لشهادة العرف علی خلافه.


1- المصدر السابق، الحدیث 5.
2- المصدر السابق، الحدیث 7.
3- المصدر السابق، الحدیث 10.

ص:199

ومثله فی الضعف مناقشة صاحب «المدارک» فی تقدیم مثل هذا الغبار علی الوحل مع التمکن منه، خصوصا بعد تسلیمه أنّ الأصحاب قاطعون بذلک، وأن ظاهرهم الاجماع، ونسبته فی ««المنتهی»» إلی علمائنا کظاهر غیره أیضا.

وجه الضعف: شهادة العرف والتتبع بذلک، بل لم یحک عن أحدٍ خلافا فی ذلک الاّ عن «المهذّب»، حیث اشترطه بفقد الوحل وضعفه ظاهر، کما لا یخفی.

خصوصا بعد ما ورود فی النص علی التقدیم، وهو فی خبر أبی بصیر، حیث قد عرفت أنّه قد أجاز التیمم بالطین بعد ما: «إذا لم یکن معک ثوبٌ جافّ أو لبد تقدر أن تنفضه وتتیمّم به»(1).

وانجبار ضعف سنده بما عرفت من عدم الخلاف فیه، بل قد یؤیّد ذلک تقدیم التیمم بالغبار علی التیمم بالطین فی خبری زرارة(2) ورفاعیة(3).

وتوهّم کونهما واردین فی خصوص الثلج المانع عن الوصول الی الأرض لا مطلقا.

مدفوع بأنّ الاستدلال بذیل الحدیثین، حیث قال: «وإن کان فی حالٍ لا یجد الاّ الطین فلا بأس أن یتیمّم به» مع انّه لو کان الغبار ممکناً: «بعد الوحل والطین لما صحّ لنفی والاثبات فی حق الطین، فیظهر منه أن الطین یکون بعد فقد الغبار.

مضافا الی مساعدته مع الاعتبار لأقربیته بصدق التراب، بل هو هو مع الدقة، الاّ أنّه حیث لا یکون جامعا للشرایط منها الاستیعاب، لذلک صار متأخرا عن التراب کما لا یخفی.

کما قد یؤید هذا التقدیم ما فی بعض الأخبار من ذکر خصوص الغبار،


1- وسائل الشیعة: الباب 9 من أبواب التیمّم ، الحدیث 7.
2- المصدر السابق، الحدیث 2.
3- المصدر السابق، الحدیث 4.

ص:200

فی صورة عدم الثلج، سواءٌ کان بالاقتصار علیه مثل خبر زرارة، عن الباقر علیه السلام ، قال: «قلت لأبی جعفر علیه السلام : أرأیت المواقف إن لم یکن علی وضوءٍ کیف یصنع ولا یقدر علی النزول؟ قال: یتیمم من لبده أو سرجه أو معرفة دابته، فإنّ فیها غبارا ویصلّی»(1).

کما وقع فی حدیث عبداللّه بن المغیرة ذکر الغبار قبل الطین من دون ذکر الثلج، المتوهّم کونه مانعا عن الوصول الی الأرض، قال: «إنْ کانت الأرض مبتلةً ولیس فیها تراب ولا ماء، فانظر أجفّ موضع تجده فتیمّم من غباره أو شیء مغبّر، وإن کان لا یجد الاّ الطین فلا بأس أن یتیمم»(2).

فان هذا الحدیث برغم أنّه مضمرة، ولکن یمکن تأییده بموافقته مع تلک الأخبار المعتبره هذا فضلاً عن أنّ ابن المغیرة من الاجلاّء، وأجلّ من أن یُحدّث عن نفسه من دون صدوره عن المعصوم علیه السلام .

نعم، والذی ینغبی أن یتوهّم للمعارضة بما سبق، هو خبرٌ آخر لزرارة عن أحدهما علیهماالسلام ، قال: قلت: رجل دخل الأجمة لیس فیها ماء وفیها طین ما یصنع؟ قال: یتیمم فانّه الصعید. «قلت: فإنّه راکبٌ ولا یمکنه النزول من خوفٍ، ولیس هو علی وضوء؟ قال: إن خاف علی نفسه من سَبُعٍ أو غیره، وخاف فوات الوقت، فلیتیمم یضرب بیده علی اللبد أو البرذعة ویتیمم ویصلّی»(3).

حیث یدلّ علی تقدیم الطین علی الغبار، خصوصا مع ملاحظة التعلیل بکونه صعیدا.

وفیه أوّلاً: ضعف سنده من جهة احمد بن هلال العبرتائی، فقد کان غالیا وروایته غیر مقبولة عند الأصحاب کما فی «جامع الرواة».


1- وسائل الشیعة: الباب 9 من أبواب التیمّم ، الحدیث 1.
2- المصدر السابق، الحدیث 10.
3- المصدر السابق، الحدیث 5.

ص:201

وثانیا: امکان الاشکال فی دلالته بکون المراد من الطین هو الجافّ منه، کما یؤمی الی ذلک قوله: «لیس فیها» خصوصا مع ملاحظة أنّ دخول الرجل الی الأجمة یکون غالبا فی حال الجفاف، فحینئذٍ یصحّ التعلیل بکونه صعیدا. ولعلّ منه الخبر المرسل المروی عن عن علیّ بن مطر عن بعض أصحابنا، قال: «سألت الرضا علیه السلام عن الرجل لا یصیب الماء ولا التراب أیتیمم بالطین؟ قال: نعم صعیدٌ طیّب وماء طهور»(1).

ولا یخفی أن التعلیل فیه بلحاظ الحالة السابقة، فیجوز لدی الضرورة.

وکیف کان، لا یمکن رفع الید عن تلک الأخبار بواسطة هذه الروایة المرویّة عن زرارة، خصوصا مع کون أنّ الراوی لحکم تقدیم الغبار علی الطین أیضا هو نفس زرارة.

فروع باب التیمم بالغبار

الفرع الأوّل: الظاهر عدم لزوم مراعاة الترتیب فی الغبار بین کونه من عُرف الدابة والسرج وبین الثوب، بل یجوز تقدیم الثوب علی غیره، کما ورد ذلک فی عبارة المصنّف والمشهور، بل فی «الجواهر»: «لم أجد خلافا فی نفی الترتیب الاّ من ا لشیخ فی «النهایة» فرتب بین عرف الدابة ولبد سرجها وبین الثوب، مع أنّه أیضا محلّ تأمّل». ولعلّ التأمّل لأجل ذکر لزوم أخذ الغبار عن مثل هذه الأمور، فرتب بصورة المثال کما فعل عکسه المصنّف وابن ادریس هنا.

أو أنّ ذکر الترتیب بلحاظ کثرة وجود الغبار فی العُرف أکثر ممّا فی مثل الثوب کما وجّهه العلاّمة فی «المنتهی».


1- وسائل الشیعة: الباب 9 من أبواب التیمّم ، الحدیث 6.

ص:202

والترتیب غیر معتبر کما یشیر إلیه ذکر (المغبّر) أو (شیء مغبّر) فی الروایات مع الاختلاف فی الترتیب، بتقدیم العُرف فی خبری زرارة ورفاعة، وعکسه فی خبر أبی بصیر.

وعلیه فالأقوی ملاحظة ما هو الأکثر فی الغبار ولو من غیر الثلاثة، وذکرها بالخصوص لکونها مظنة ذلک کثیرا، والقول بملاحظة الأکثر _ کما عن جماعةٍ ایجابه وقوّاه صاحب «الجواهر» _ أقرب الی الاحتیاط، کما لا یخفی علی المتأمّل.

الفرع الثانی: الظاهر من عبارة المصنّف وغیره لزوم کون الغبار من التراب ونحوه ممّا یجوز التیمم به، لا غبار الأشنان والدقیق ونحوهما، لما قد عرفت من الاجماعات القائمة والنصوص الدالة علی عدم جواز التیمم بغیر الأرض، ومن الواضح عدم صدق الأرض علی الغبار الخارج عن الأشنان والدقیق، بل وهکذا لا یجوز من الممتزج منه اذا لم یغلب علیه اسم الأرض، نعم، اذا غلب علیه الصدق، واستهلک غیره فیه فلا بأس بالتیمم، کما لا یخفی.

الفرع الثالث: فی أنّه هل یجب ینفض الثوب والسرج واللّبد حتّی یخرج منها الغبار فیتیمم به کما هو المذکور فی «المقنعة» و«النهایة» و«المبسوط» و«المنتهی»، والمحکی عن سلاّر أنّه (ینفض ثوبه وسرجه ورحله فإن خرج منه تراب تیمم به) أو لا یجب ذلک بل یکفی ضرب الیدین علی الموارد المشتملة علی الغبار وإن لم ینفض حتّی یخرج منه ذلک؟

ظاهر کلام المصنّف عدم الوجوب، حیث لم یشر الی النفض، وکذلک فی القواعد، بل حُکی عن الأکثر، وذکر صاحب «الجواهر» وجهه، وهو تیسّر انفصال الغبار عنها غالبا، خصوصا مع ملاحظة حال المسؤل عنها فی الأخبار کما ورد

ص:203

فی خبر زرارة من التصریح بما لا یقدر بذلک، بقوله: «إن خاف علی نفسه من سَبْعٍ أو غیره، وخاف فوت الوقت فلیتیمّم، یضرب یده علی اللّبد أو البرذغة ویتیمم ویصلّی»(1).

ومن المعلوم أن من یعتبر النفض ویری وجوبه لا یرید منه الاّ تحصیل الغبار من ظاهر الثوب والسرج حتّی یقع التیمم بضرب الیدین علی الغبار الذی یعدّ بمنزلة التراب. نعم، لو لم یخرج التراب إلی السطح بل کان موجودا فی خُلل وأراد الاقتصار بالضرب علیه الثوب، فلا یبعد أن یقال _ بحسب تناسب الحکم والموضوع _ إنّ الحکم باعتبار النفض إن کان میسورا ولم یکن المقام مقام ضرورة لا یقدر علیه، أو لم یکن المورد ممّا لا یمکن تحصیله لعدم تیسّر انفصاله، کما هو الغالب، لأنّ الغبار الظاهر علی الثوب هو الموجب لضرب الیدین علیه کضربه علی التراب، فتحصّله بلا کلفة یکون معتبرا. ولعلّ اطلاق کثیر من الأخبار فی عدم ذکره کان لاجل ما ذکرناه من عدم تیسّر تحصیله غالبا لوجود أحد الموانع: من عدم الفرصة لذلک، أو لعدم کون المورد معدّا له کما فی خبر زرارة، أو لعدم تحصیله بما هو المطلوب من النفض ونظائر ذلک. وعلیه فالأقوی هو القول بالوجوب فیما کان میسورا، کما یستفاد ذلک من خبر أبی بصیر، حیث: «قال اذا کنت فی حالٍ لا تقدر الاّ علی الطین فیتیمم به، فإنّ اللّه أولی بالعذر اذا لم یکن معک ثوب جافٍ أو لبدٍ تقدرُ أن تنفضه وتتیمّم به»(2)، حیث جعل القدرة دخیلیة فی حکم وجوب النفض وعدمه لعدمها. وبذلک یقیّد سائر الاطلاقات وتحمل علی صورة العجز وعدم القدرة کما هو الغالب.


1- وسائل الشیعة: الباب 9 من أبواب التیمّم ، الحدیث 5.
2- وسائل الشیعة: الباب 9 من أبواب التیمّم ، الحدیث 7.

ص:204

قوله: ومع فقد ذلک یتیمّم بالوَحَل (1)

ولعلّ منه ما ورد فی صحیح زرارة: «فی المواقف إن لم یکن علی وضوء کیف یصنع ولا یقدر علی النزول؟ قال: یتیمم من لبد سرجه أو عُرف دابته فإنّ فیها غبارا»(1).

وعلیه فإنْ لم یکن میسورا عرفا یکفی الضرب علی الثوب بلا نفضٍ، لأن فیه الغبار کما وقع هذا التعلیل فی خبر زرارة.

(1) یعنی مع فقد الغبار حقیقةً أو حکما یتیمم بالطین المُعبّر عنه فی المتن وغیره بالوَحَل، هذا الحکم ممّا لا خلاف فیه فتویً بل ونصّا، ویدلّ علیه أخبار مستفیضة قد تقدم جملة منها:

منها: صحیحة رفاعة حیث صرّح بالترتیب بقوله: «فإن کان فی ثلج فلینظر لبد سرجه فلیتیمم من غباره أو شی ء مغبّر، وإن کان فی حال لا یجد الاّ الطین فلا بأس أن یتیمم منه»(2).

ومنها: خبر عبداللّه بن المغیرة فی حدیثٍ قال: «فانظر أجفّ موضعٍ تجده فیتیمم من غباره أو شی ء مغبّر، وإن کان فی حالٍ لا یجد الاّ الطین فلا بأس ان یتیمم به»(3).

ومنها: خبر زرارة فی الموثق فی حدیثٍ بعد ذکر وجود الثلج، قال: «فلینظر لبد سرجه فلیتیمم من غباره أو من شی ء معه، وإن کان فی حالٍ لا یجد الاّ الطین فلا بأس أن یتیمم به»(4).


1- وسائل الشیعة: الباب 9 من أبواب التیمّم ، الحدیث 4.
2- المصدر السابق، الحدیث 10.
3- المصدر السابق، الحدیث 2.
4- المصدر السابق، الحدیث 7.

ص:205

ومنها: خبر أبی بصیر فی حدیث، قال: «إذا کنت فی حال لا تقدر الاّ علی الطین فتیمّم به، فإنّ اللّه أولی بالعُذر، إذا لم یکن معک ثوب جاف أو لبد تقدر أن تنفضّه وتتیمّم به»(1).

حیث تدلّ هذه الأخبار أنّ کون مرتبة التیمم بالطین بعد الغبار، وأصرح فی الدلالة علی ذلک خبر أبی بصیر حیث علق الحکم به علی النفی والاثبات، فلا یبقی معه حینئذٍ شکٌ للفقیه.

وممّا ذکرنا، یظهر ضعف ما استشکله صاحب «المدارک» فی تقدیم الغبار علیه وردّه لما قیل من کون لو لم یکن المسألة اجماعیة، مدعیّا أنّه لیس الدلیل علی تقدیم الغبار الاّ خبر أبی بصیر وهو ضعیف عنده، وقد عرفت وجود أخبار کثیرة منها صحیحة وموثقه دالة علیه، فضلاً عن انّه لا عبرة بضعف السند هنا بعد انجباره بشهرة الأصحاب واجماعهم.

کما لا یعتنی بما استشکله صاحب «الحدائق» فیه، لتوهّم معارضة هذه الأخبار مع روایة زرارة عن أحدهما علیهماالسلام ، قال: «قلت: رجلٌ دخل الأجمة لیس فیها ماءٌ وفیها طین ما یصنع؟ قال: یتیمم فانّه الصعید، قلت: فإنّه راکب ولا یمکنه النزول من خوفٍ، ولیس هو علی وضوء؟ قال: إن خاف علی نفسه من سَبْعٍ أو غیره، وخاف فوات الوقت فلیتیمم، یضرب بیده علی اللّبد أو البرذعة ویتیمم ویصلّی»(2).

مع انّه یمکن أن یجاب عنه: بامکان أن یکون المراد من الطین هو الذی فیه الرطوبة لا مثل الوحل الرقیق المختلط بالماء علی نحو تتلطخ الید بالضرب أو الوضع علیه فضلاً عن الضرب، کما یؤید ما ذکرنا جواب الامام علیه السلام بقوله: «فانّه


1- المصدر السابق، الحدیث 7.
2- وسائل الشیعة: الباب 9 من أبواب التیمّم ، الحدیث 5.

ص:206

الصعید» حیث أن اطلاق هذا اللفظ لا یکون الاّ فی مثل ما یُشابه التراب.

وإن أبیت عنه بدعوی أنّه مخالفٌ للظاهر، کان الجواب أنّه نحمل علیه دفعا لمعارضة وجمعا بینه وبین تلک الأخبار باعتبار أنّ الجمع مهما أمکن أولی من الطرح، اذ لا یمکن رفع الید عن مثل تلک الأخبار الکثیرة بواسطته، کما نقید بواسطة هذه الأخبار ما ورد من الاطلاق فی الخبر المرسل علیّ بن مطر، قال: «سألت الرضا علیه السلام عن الرجل لا یصیب الماء ولا التراب یتیمم بالطین؟ قال: نعم صعید طیّب وماء طهور»(1).

لامکان أن یکون المراد من التراب هو الاعمّ من التراب الخالص والغبار.

کما یؤید ذلک عدّة الطین صعیدا طیبا وماءا طهورا، أی کون المراد من الطین هو التراب ذو الماء فی قبال ما لیس کذلک، الداخل فی عنوان التراب، فیحمل اطلاقه علی صورة فقد الغبار الداخل فی حکم التراب.

بل لعلّ المراد من الطین فی سائر الأخبار أیضا هو الوحل المشتمل علی الماء فی الجملة، الموجب لتلطخ الید بوضعها علیه، إذ من المعلوم أن التراب اذا لم یبلغ هذه المرتبة کان مقدما علی الغبار، لأنّه یعدّ من التراب حینئذٍ فی الجملة.

مع امکان أن یکون الامام فی مقام بیان حکمٍ آخر غیر ما نحن فیه، لانّه قد فرض کونه راکبا لا یمکنه النزول لاجل الخوف، فلا یستطیع التطهیر والوضوء لذلک، فیمکن أن تکون هذه المسألة مسألة مستقلّة لا علاقة لها بما نبحث عن حکمه.

وکیف کان، لا یمکن المساعدة مع هذه الروایة لمعارضتها مع تلک الأخبار لکونها مورد اعراض الاصحاب عنها، وعلیه فلا مجال للتشکیک فی الحکم.


1- وسائل الشیعة: الباب 9 من أبواب التیمّم ، الحدیث 6.

ص:207

حکم التیمّم بالطین بدل التراب

یقع الکلام فی أن التیمم بالطین هل یجوز مطلقا أو بعد العجز عن التجفیف ولو لأجل ضیق الوقت، أو کونه مستلزما للعسر والحرج؟ فیه وجهان: ذهب صاحب «الجواهر» وصاحب «مصباح الهدی» والسیّد فی «العروة» تبعا للعلاّمة ومن تأخّر عنه إلی الثانی، بل فی «الریاض» أنّه لیس محل خلافٍ. وفی «المدارک» قطعا وهو من مثله یعدّ کالاجماع،

أقول: وهذا هو الاقوی، لوضوح أن الوظیفة الأولی فی التیمّم هو وجوب استعمال التراب، فإذا قدر علی تجفیف الطین ولو بشکلا ما وانتظار ارجاعه الی الصعید الظاهر فی التراب کان أولی قطعا، إذ لا یصدق علیه حینئذٍ صفة الاضطرار وعدم الامکان، مع أنّه قد وقع فی روایة رفاعة بانّه «الذی کان فی حالٍ لا یجد الاّ الطین» حیث لا یصدق لمن یقدر علی تجفیف الطین، بل أصرح منه ما ورد فی حدیث أبی بصیر بقوله: «إذا کنت فی حالٍ لا تقدر الاّ علی الطین»، فلا یشمل من کان قادرا علی التجفیف بواسطة النار والحرارة وغیرهما فی الجملة وصیرورته ترابا، ولا یصدق إنّه اضطرّ الی الطین ولا یقدر علی التیمم الاّ به کما لا یخفی.

مضافا الی أنّ التیمم بالتراب یعدّ مقدمة للواجب فیجب تحصیله مهما أمکن، والاّ انتقل حکمه الی ما بعده.

وعلی ما ذکرنا یوجب القول بالانصراف الی ذلک فی اطلاقات بعض الأخبار، ولعلّ وضوح ذلک بحسب الارتکاز أو دلالة الأخبار أوجب ترک الاستفصال فی الروایات، خصوصا مع ملاحظة أنّ الغالب فی تلک الموارد عدم الامکان لأجل ضیق الوقت أو لعدم وجود ما یسهّل له ذلک، مثل وقوعه فی الأجمة أو محلّ الخوف وعدم الوقت، وعلیه یشکل فرض تحقّق الاطلاق فی هذه الأخبار کما هو واضح لمن تأمّل.

ص:208

البحث عن کیفیّة التیمّم بالوَحَل

یقع البحث عن کیفیّة التیمم بالوَحَل، وأنّه هل کالتیمم بالأرض من ضرب الیدین علی الوحل، ثمّ ضرب احدی الیدین بالأخری، ثمّ المسح بهما علی الوجه والیدین، کما ذهب الیه عدّة من الفقهاء، أم لا؟

ظاهر کلام المصنّف وصریح «السرائر» وغیرها هو الأول، بل هو الذی یقتضیه اطلاق الأخبار، سیّما مع ترکه لذلک مع کونه فی مقام البیان والحاجة، الموجب لأخذ الاطلاق.

نعم، ینبغی ازالته عن الید کالنفض فی التراب، ثمّ المسح بهما علی ما یمسح.

هذا ولکن قد وقع فی عبارات بعض الفقهاء ما یتوهّم خلاف ذلک، وهو مثل ما فی «المقنعة» للمفید رحمه الله حیث قال: «یضع یدیه ثمّ یرفعها فیمسح إحداهما بالأخری، حتّی لا یبقی فیهما نداوة، ثمّ یمسح بهما وجهه».

فانّ جملة: «لا یبقی فیهما نداوة» لا یتوهّم منها لزوم الصبر حتّی یجفّ المستلزم لفوات الموالاة إن کان الصبر فی الاثناء، وإن أراد خصوص بیان النفض اللازم فی التراب هنا بمسح احداهما بالأخری، حیث یوجب حصول زوال النداوة فی الجملة الغیر المنافی للموالاة، فله وجه، حیث یناسب مع ما هو المشهور، وهو غیر بعید، فیوافق ذلک مع ما فی المتن.

وعلیه یُحمل ما فی کلام الشیخ فی «المبسوط» و«الخلاف» و«النهایة» حیث قال: «یضع یدیه فی الطین ثمّ یفرکه ویتیمم به» بأن یکون المراد من الفرک هو النفض من التراب.

نعم، لا یناسب ذلک مع ما ورد فی کلام ابن حمزة فی «الوسیلة» حیث قال: «قد أطلق الشیوخ رحمهم اللّه ذلک، والذی تحقّق لی أنّه یلزم أن یضرب یدیه علی

ص:209

الوحل قلیلاً ویترکه علیها حتّی یبس ثمّ ینفضه عن الید ویتیمّم به».

فإنّ الصبر بعد الضرب وقبل المسح حتّی یجفّ خلاف لظاهر الأدلة، ومناف للموالاة اللازمة الرعایة فی المسح بین الاعضاء بعد الضرب.

اللّهمّ الاّ أن یراد حصول الیبوسته فی الجملة بعد الضرب، من دون حاجة الی التأمّل المنافی للموالاة حتّی یخالف مع لسان الأخبار وکلمات الأصحاب فله وجه، لکنّه لا یخلو عن کونه خلافا لظاهر العبارة، واللّه العالم.

والمراد من الوحل فی المتن، هو ما یصدق علیه الطین عرفا، المتوسط بین الرقیق والتراب الندیة، أی لا یطلق علی التراب ذی الندی أنّه طین، کما أنّه لیس المراد من الوحل ما یکون رقیقا ذا ماءٍ، وان کان المعتبر تقدیم ملاحظة ما یصدق علیه التراب ولو کان ذی الندی علی الطین الذی یعدّ أعلی مرتبة منه، حیث قد یستفاد هذه المراتب من حدیث رفاعة، کما هو مقتضی القاعدة فی ظهور لفظ (الصعید) ودلالته علیه، وذلک أمر عرفی یجب حمل الأحکام فی الأخبار علی تلک المصادیق.

حکم طهارة فاقد الوحَل

واعلم أنّ ظاهر المصنّف وغیره، بل صریح جماعة انحصار ما یتیمم به بما ذکره من المراتب ولو اضطراا وهو التراب ثم الغبار ثمّ الطین، فمع عدم شیء منها یعدّ المکلّف فاقد الطهورین، فیعمل بوظیفته من غیر فرقٍ فیه بین أن یجد الثلج والماء الجامد الذی لا یستطیع الغَسل به أم لا، بل قیل إنّ علیه فتوی الأکثر.

وحیث بلغ البحث الی هذا المقام، فانّه لا بأس بذکره تفصیلاً ثمّ النظر الی ما هو الأصحّ فی کلّ قسم من الاقسام إنْ کان له شقوق والاّ فهو المختار، والمسألة

ص:210

ذات شقوق ووجوه:

الوجه الأوّل: فرض تمکّن المکلّف وقدرته علی اذابة الثلج والماء الجامد واستعالهما فی الغُسل أو الوضوء، مع عدم تمکنه من حصول ماء آخر، فإنّه حینئذٍ لا اشکال من تعیّن الوضوء والغُسل لصدق وجدان الماء علیه، ولو بالاذابة وتحصیل الطهارة المائیة، لانّه حینئذٍ متمکّنٌ من الاستعمال ولا یصدق علیه العجز حتّی یتبدلّ حکمه الی التیمم، خصوصا اذا لم یکن مع المشقة والحرج، وهو واضح لا کلام فیه.

الوجه الثانی: إذا عجز عن اذابتهما، الاّ انّه یتمکن من مسحمها علی اعضائه علی وجهٍ یجری الماء علی الاعضاء بنفس المسح، ولو من جهة تأثیر حرارة البدن فیه بحیث یوجب ذلک جریان الماء علیها ولو بواسطة حرارة الید، فهل یجب ذلک أم لا؟ فیه وجهان بل قولان:

1_ المحکّی عن «المقنعة» هو عدم الوجوبٌ وأنّه ینتقل حکمه الی التیمم، وإنْ حصل بذلک مسمّی الغُسل، مستدلاً بأنّ المتبادر من اطلاق الآیات والروایات الأمر باستعمال الماء، استعمال ما هو ماءٌ حال الاستعمال لا ما یصیر ماءً بالاستعمال.

بل فی «کشف اللّثام» نسبة ذلک الی صریح «المقنعة» و«النهایة» ومحتمل «المبسوط» و«الوسیلة».

2_ والقول الآخر هو الوجوب، کما علیه ابن ادریس فی «السرائر»، والمحقق فی «المعتبر»، والمحقق الثانی فی «جامع المقاصد»، وصاحب «الجواهر»، وصاحب «مصباح الفقیه» و«مصباح الهدی»، وهو الأقوی عندنا. والدلیل علیه هو منع التبادر المذکور، لأنّ الملاک فی صحة الغُسل والوضوء هو صدق مسّ

ص:211

الماء للاعضاء وجریه علیه وبالمسح علیه، بحیث یقال إنّه قد غَسل وتوضّی ء، حتّی ولو کان الجریان حاصلاً بالمسح علی البدن، والحاصل من حرارة البدن، مضافا الی ما ورد فی بعض الأخبار من وجوب استعماله بالمسح: مثل: خبر معاویة بن شریح، قال «سأل رجلٌ أبا عبداللّه علیه السلام وأنا عنده، فقال: یصیبنا الدمق والثلج ونرید أن نتوضّأ ولا نجد إلاّ ماءا جامدا، فکیف أتوضأ أدلک به جلدی؟

قال: نعم»(1).(2)

ومثل خبر علی بن جعفر، عن أخیه علیه السلام ، قال «سألته عن الرجل الجُنب أو علی غیر وضوء لا یکون معه ماء، وهو یصیب ثلجأً وصعیدا أیّهما أفضل التیمم أم یمسح بالثلج وجه؟ قال: الثلج اذا بلّ رأسه وجسده أفضل، فإن لم یقدر علی أن یغتسل به فلیتمم»(3).

ودلالته علی تقدیم المسح بالثلج اذا کان بحیث یصدق علیه الغَسل عند صدق مسمّی الجری واضحة.

وتوهّم: دلالة لفظ الأفضل علی الاستحباب لا الوجوب.

مندفع: إنّه وإن قد وقع فی کلام السائل والامام علیه السلام معا، الاّ أنّه قد وقع فی کلامه علیه السلام ما یدلّ علی خلافه، وهو قوله: «إن لم یقدر علی أن یغتسل به فلیتیمّم» حیث علق حکم التیمم علی عدم القدرة علی ذلک العمل، الموجب لافهام تقدمه علی التیمم وجوبا، فیندفع بذلک توهّم کون الغسل بذلک أفضل من التیمم، الظاهر فی الافضلیة الاستحبابیة. بل لعلّ الأفضلیة لأجل سقوط وجوب الغُسل بذلک،


1- وسائل الشیعة: الباب 10 من أبواب التیمّم ، الحدیث 2.
2- الدَمَق بالتحریک ریح وثلج وهو معرّب دَمَه کما فی الوافی، وکذا ورد فی مجمع البحرین.
3- وسائل الشیعة: الباب 10 من أبواب التیمم، الحدیث 3.

ص:212

لأجل وجود المشقة والحرج فی الجملة، أو الخوف من حصول المرض بالبرد، ومع ذلک لو لم یکن خارجا من الطاعة کان الافضل اتیانه، والاّ یتبدل الی التیمم.

وحمله علی ما ذکرناه غیر بعیدٍ، خصوصا لو قلنا بأن التبدیل الی التیمم رخصة لا عزیمة.

ومثل: خبر محمّد بن مسلم، قال: «سألت أبا عبداللّه علیه السلام عن الرجل یجنب فی السفر لا یجد الاّ الثلج؟ قال: یغتسل بالثلج أو ماء النهر»(1).

ومن المعلوم أنّ جواب الامام بالغسل بالثلج لا یتحقّق الاّ بکونه بصورة المسح، وذکر ماء النهر معه کان لأجل.

واحتمال کونه جامدا أیضا مثل الثلج، حتّی یکون غسله منه مثل غسله بالثلج، بعیدٌ غایته:

أوّلاً: لا یناسب مع ذکر لفظ الماء فیه.

وثانیا: استبعاده خارجا لندرة وقوعه وإن کان قد یتفق فی منطقة شدیدة البرودة.

وعلیه فالأولی حمله علی ما احتمله صاحب «الوافی» و«الوسائل» من أنّ ذکره لأجل بیان تساوی المسح بالثلج مع الغسل بماء النهر فی کونه غسلاً صحیحا، فیدلّ علی المطلوب.

ولولا هذین الاحتمالین لم یبق وجه لذکر الثلج مع وجود ماء النهر، خصوصا اذا أرید من الثلج هو التیمم لا المسح للغسل والوضوء، لانّ الانتقال الی التیمم لا یکون الاّ بعد فقد الماء لا مطلقا، کما لا یخفی.

واعتمادا علی هذه الأخبار یجب دفع دعوی انصراف المطلقات الآخری الواردة فی استعمال الماء الی الماء قبل الاستعمال، مع ما فی تلک الاطلاقات ما


1- وسائل الشیعة: الباب 10 من أبواب التیمّم ، الحدیث 1.

ص:213

یدلّ علی کفایة مسّ الجلد بالماء: مثل: صحیح زرارة عن أبی جعفر علیه السلام : «فی الوضوء؟ قال: إذا مسّ جلدک الماء فحسبک»(1).

فمع وجود هذه الأخبار الدالة علی کفایة المسّ بالماء فی صحة الوضوء والغسل، فإنّ الصحة فی ما یجری فیه الماء تکون بطریق أولی.

الوجه الثالث: ما اذا فقد ما یتیمم به من التراب وغیره، ولم یجد الاّ الثلج، ویتمکن من امراره علی جسده، لکن لا علی وجهٍ یجری، فهل یجب المسح به هکذا علی اعضاء الوضوء والغُسل وان لم یحصل به مسمّی الغَسْل (بالفتح) أو لا؟ فیه وجهان بل قولان:

1_ قول بالوجوب، وهو کما عن الشیخین وابنی حمزة وسعید و«التذکرة» و«الحدائق» وکاشف اللّثام، بل قد یظهر قبول ذلک عن صاحب «مصباح الفقیه» خصوصا فی حال الضرورة، بل وهکذا عن صاحب «الجواهر» أیضا إن کان علی نحو یصدق به أقلّ ما یجری فی الغسل والوضوء، وقد استدلّ من ذکرنا اسمائهم بأمور: من وجوب الاحتیاط، وقاعدة الاشتغال، واستصحاب التکلیف، وبما دلّ علی عدم سقوط الصلاة بحالٍ، وما دلّ علی الاکتفاء بمثل الدهن، وما ورد فی حدیث هارون ابن حمزة، عن أبی عبداللّه علیه السلام ، قال: «یجزیک من الغسل والاستنجاء ما ملئت یمینک»(2).

وروایة زرارة المتقدمة عن الباقر علیه السلام من أنّه: «إذا مسّ جلدک الماء فحسبک».

ولأنّ الواجب علی المکلّف أمران: امسا س جسده الماء واجرائة علیه، ولا یسقط الاوّل بتعذّر الثانی بمقتضی دلیل المیسور لا یسقط بالمعسور، وما لا یدرک کلّه لا یترک کلّه.


1- وسائل الشیعة: الباب 52 من أبواب الوضوء، الحدیث 3.
2- وسائل الشیعة: الباب 13 من أبواب أحکام الخلوة، الحدیث 2.

ص:214

2_ وقولٌ بعدم الوجوب، وقد نصّ علیه علیه بالصراحة المحقق الآملی فی مصباحه بدعوی عدم الدلیل علی الوجوب، لضعف کلّ ما استدلّوا: امّا الاحتیاط والاشتغال: فمندفعٌ بکون المورد من موارد جریان البراءة لکونه شکّا فی التکلف بلزوم المسح بالثلج عند عدم التمکن من اذابته، مضافا الی استصحاب عدم مشروعیة المسح بالثلج.

ولکنّه لا یخلو عن تأمّل فیما اذا حصل مسمّی الغَسْل بذلک، ولو لم مع عدم جریان الماء، حیث یصدق علیه البلّة والنداوة، فهی مثل ذلک، ولا یکون الدلیل دالاًّ علی عدم المشروعیة حتّی یستصحب.

نعم، إذا کان الفضاء باردا جدا بحیث لا یتبدّل الثلج عن جماده بالمسح، ولا یصدق علیه الماء فضلاً عن جریانه، فالقول بعدم وجوبه للاستصحاب المذکور وجیه، لأنّ: التکلیف المستصحب إن کان هو وجوب أصل الصلاة.

ففیه: أنّه لا یثبت به وجوب المسح بالثلج.

وإن کان وجوب الطهارة المائیة، فالمفروض سقوطها بالعجز.

مضافا الی استصحاب عدم التکلیف فی بعض الصور، مثل ما لو لم یتمکّن من الماء والتراب من أوّل الوقت، فیشکّ بعد دخول الوقت ووجود الثلج المذکور أنّه هل علیه التکلیف بالمسح به أو لا؟ فالاستصحاب یقتضی العدم.

کما أن دلیل (الصلاة لا تسقط بحال) لم یوجب ذلک، لانّ غایته ایجاب الصلاة لفاقد الطهورین بلا طهارة فی الوقت، لو لم نقل بدلالة (لا صلاة الاّ بطهور) علی نفی الوجوب والماهیة حقیقةً لفاقد الطهارة، والاّ لا وجه لاتیان ما لا یصدق علیه الصلاة شرعا فی الوقت، کما علیه بعض الفقهاء.

وأمّا الدلیل الدالّ علی الاکتفاء بمثل الدهن وبلّ الیمین أو مسّ الجلد بالماء:

ص:215

فلضعف دلالتها علی وجوب المسح بالثلج اذا لم یحصل یه مسمّی الجری، کما هو المفروض، لاحتمال ارادة کفایة مثل الدهن فی خصوص ما إذا صدق علیه أقلّ الغَسل، کما دلّت علیه الأخبار المتقدّمة من خبر معاویة بن شریح، وعلیّ بن جعفر علیه السلام ، ومحمّد بن مسلم، خصوصا مع ما یدّعی من غلبة حصول مسمّاه بامرار الثلج علی الجسد لمکان حرارته الغزیّریة.

وفیه ما لا یخفی: فإنّ التعبیر بمسّ الجلد بالماء أو التدهین المذکور فی حدیث اسحاق بن عمّار، عن جعفر، عن أبیه: «أنّ علیّا علیه السلام کان یقول: الغُسل من الجنابة والوضوء یُجزی منه ما أجزی من الدهن الذی یبّل الجسد»(1). لا یدّل علی ضرورة جریان الماء علی البدن، کما لا یکون حال التدهین کذلک، بل المقصود هو حصول الماء بالمسح حتّی یطلق علیه عرفا أن الماء قد بلّ جسده ولو لم یجر. نعم، إن حصل بذلک الجری لأجل الا مساس فنعم المطلوب.

کما إذا لم یتبدل الی الماء أصلاً لأجل البرودة الشدیدة، فلا یکفی قطعا لعدم صدق الغسل بالماء حینئذٍ، کما لا یخفی.

قال صاحب «مصباح الهدی» نقضا علیه: إنّه علی تقدیر تسلیم دلالتها، فاللازم تقدیمه علی التیمم بالتراب ونحوه، مع أن القائلین بالوجوب لا یقولون به إلاّ عند فقد ما یتیمم به من التراب وغیره حتّی الغبار، عدا صاحب «الحدائق» حیث أن المستظهر منه تقدیم إمساس نداوة الثلج وان لم یحصل مسمّی الغَسل به علی التیمم بالتراب.

أقول أوّلاً: إن ما ادّعیناه من کفایة صدق مسمّی الغَسل بالماء بواسطة المسح بالثلج ولو لم یجر الماء بسببه، فلا یمنعنا من الدعوی بتقدیمه علی التیمم


1- وسائل الشیعة: الباب 52 من أبواب الوضوء، الحدیث 5.

ص:216

بالتراب، لانّه حینئذٍ یدخل تحت عموم (من وجد الماء) فیجب علیه الغُسل والوضوء، وان لم یصل الی هذا الحدّ فلا اشکال حینئذٍ فی عدم کفایته، فلابد له حینئذٍ من التیمم إنْ وجد، وإلاّ دخل تحت حکم فاقد الطهورین.

وثانیا: علی فرض تسلیم ما ذکرتم من کون القائلین بالوجوب یحکمون بتقدیم التیمم بالتراب حتی الغبار علیه، قلنا لعلّهم أرادوا بیان وجوب ذلک عند فقد الماء والتراب بحسب المتعارف وجوبه عند الضرورة، أی لا یجوز الاکتفاء بهذا المقدار من الماء مع الاختیار، حیث یتبدّل الحکم الی التیمم، الاّ جاز الاکتفاء به عند الضرورة کما هو مقتضی الاحتیاط فی العمل، اذ هو أولی من ترک ذلک، المسلتزم ربّما من ترک الصلاة فی الوقت وتبدیله الی القضاء.

وعلیه فالأولی هو الحکم بالاتیان کذلک والصلاة معه فی الوقت، وإن کان الأحوط منه هو اتیان الصلاة قضاءً مع الطهارة أیضا، فیوافق رأینا مع رأی صاحب «مصباح الفقیه» فی آخر تحقیقه.

وبالجملة: بناءً علی ما ذکرنا یکفینا فی هذا الحکم الاعماد علی الاستظهار المذکور، فلا نحتاج إلی الاستناد علی قاعدة المیسور والادراک حتّی یُستشکل علیه کما فی «مصباح الهدی» حیث قال إنّ القاعدة المذکورة جاریة فی المرکبات الخارجیة الواجبة بالوجوب النفسی لا الاجزاء العقلیة التحصیلیّة ولا الواجبات الغیریة المقدمیة، لوضوح أنّ وجوب الامساس واجب مقدمی لوجوب الغسل بالماء، فإذا انتفی الغسل لانتفاء الماء، فلا وجه لوجوب مقدمته وهو الامساس، کما لا تجری القاعدة لاثبات وجوب الجنس عند تعذّر فصله، لأن الجنس لیس میسورا من المرکب منه ومن الفصل عرفا بل عقلاً، ضرورة أن الوجود منه مع فصل آخر حصّة مغایرة مع الموجود مع ما تعذر، وهذا بخلاف

ص:217

الجزء الخارجی، فالمرکب هنا هو المسّ بالماء وجریانه علی الجسد، والجزء من هذا المرکب هو المسّ بالماء لا الثلج، حیث لا یصدق علیه الماء عرفا، فهذا المسّ لم یکن جزءا من الواجب قط حتّی لا یسقط بتعذّره.

الوجه الرابع: ما اذا فرضنا فقدان الطهورین حتّی بالوجه المذکور فی الثلج والماء الجامد لأجل شدّة البرودة، إمّا لعدم امکان تبدیل الماء أو لأجل خوف الضرر من ذلک، فهل یجب علیه حینئذٍ التیمم بالثلج والماء الجامد کما هو المحکی عن «مصباح» السیّد و«الاصباح» و«المراسم» وظاهر الکاتب، وحکی اختیاره عن «القواعد» و«البیان» و«الموجز الحاوی» أم لا؟ فیه وجهان بل قولان:

القول الاوّل: هو القول المخالف للمشهور بل الأکثر من عدم الوجوب، کما وافقهم فیه صاحب «الجواهر» و«مصباح الفقیه» و«مصباح الهدی» والسیّد فی «العروة» الاّ أنّه قد احتیاط فیه بکونه موافقا للاحتیاط وهو حسن، لأنّ ما استدلوا به علی الوجوب لیس ممّا یمکن للفقیه أن یعتمد علیه فی الفتوی، وهی أمور: من الاحتیاط، وقاعدة الشغل، واستصحابه، به وأنّ الصلاة لا تسقط بحال، وبروایة صحیحة محمد بن مسلم، قال: «سألت الصادق علیه السلام عن رجل أجنب فی سفره ولم یجد إلاّ الثلج أو ماءً جامدا؟ فقال: هو بمنزلة الضرورة یتیمم، ولا أری أن یعود الی هذه الأرض التی توبق دینه»(1).

حیث أمر علیه السلام بالتیمم بالثلج أو الماء الجامد، بقرینة سؤال السائل حیث فرض عدم وجدان شی ء الاّ هما.

وفیه: قد عرفت الجواب عن جمیع ما ذکر فی ما سبق الاّ الروایة، فانّها أیضا لا صراحة فیما بل لا ظهور فی الانحصار کذلک، لاحتمال کون الحکم هو الانتقال


1- وسائل الشیعة: الباب 9 من أبواب التیمّم، الحدیث 9.

ص:218

الی التیمم بالتراب ونحوه کالغبار الذی یمکن تحصیله غالبا ولو بنفض ثوبه أو عُرف دابة وسرجه، خصوصا استبعاد فقده بالمرّة فی تلک الأعصار.

لا یقال: إنّه لو کان الأمر کذلک من الانتقال الی التیمم بالتراب ونحوه لما کان ذلک سببا فی هلاکه فی الدین حتّی ینهی عن العود الیه، هذا بخلاف فرضنا من عدم وجود شیء من الماء والصعید، لوضوح أنّ التیمم یکون أحد الطهورین وأنّه یکفیک عشر سنین، وأنّه ممّا امتنّ به صلی الله علیه و آله علی هذه الامّة، فبهذه القرینة یوجب الانصراف الی ما احتملناه.

لأنا نقول أوّلاً: بانّه لو کان الحکم فقد فقدان الطهورین هو هذا، فلا وجه لکونه من هلاک الدین، إذ هو أیضا ممّا من اللّه به علی العباد فی موارد الضرورة فیکون حاله حال التیمم بالتراب ونحوه.

وثانیا: إنّه یمکن أن یکون فی مقام بیان حصول نقصان للصلاة مع التیمم بالنسبة الی الصلاة مع الطهارة المائیة، فیکون المراد من الهلاکة هو النقض الذی هو نوع ضرر للمؤمن، ولأجل ذلک جعل التیمم بدلاً اضطراریا والاّ کان اللازم هو الحکم بالتخییر بین الطهارة المائیة والترابیة من أوّل الأمر، کما قد یؤیّد ذلک ما یشابه مثل هذه الروایة من النهی عن الاقامة والتجارة فی المواقع التی لا یمکن فیها المکلّف من القیام بالوظائف الدینیّة، وهو حدیث ابن أبی العلاء، عن أبی عبداللّه علیه السلام : «أنّ رجلاً أتی أبا جعفر علیه السلام فقال: أصلحک اللّه إنّا نتجّر الی هذه الجبال فناتی منها علی أمکنة لا نقدر أنّ نصلّی الاّ علی الثلج؟ فقال: أفلا ترضی أن تکون مثل فلان یرضی بالدون، ثمّ قال: لا تطلب التجارة فی أرضٍ لا تستیطع أن تصلّی الاّ علی الثلج»(1).


1- وسائل الشیعة: الباب 68 من أبواب مایکتسب به ، الحدیث 1.

ص:219

الطرف الثالث: فی کیفیّة التّیمم

قوله: فلا یصحّ التیمم قبل دخول الوقت (1)

وقال الفیض رحمه الله فی «الوافی»: «إنّه ربّما یستنبط من هذه الأخبار وجوب الهجرة عن البلاد التی لا یمکن مع الاقامة فیها القیام بتمام وظائف الطاعات واعطاء العبادات حقها» انتهی کلامه. کیفیّة التیمم

فالمراد من الهلاکة هنا یعدّ اضافیا، أی موجبا للنقصان فی الصلاة من حیث الطهارة.

والحاصل من جمیع ما ذکرنا: عدم وجوب التیمم بالثلج، بل یکون المکلّف حینئذٍ من مصادیق فاقد الطهورین، فلابدّ له من الاتیان بوظائفه وإنْ کان الأحوط هو التیمّم بالثلج والاتیان بالصلاة فی الوقت، وقضاءه فی خارجه مع الطهارة المائیة، وهذا الاحتیاط حسن جدّا.

وبالجملة: ثبت من جمیع ما ذکرنا أنّ مراتب التیمم عندنا أربعة: أوّلها وجه الأرض من التراب، وثانیها الحَجَر، وثالثها الغبار، ورابعها الطین. ولیس الثلج والماء الجامد من المراتب الاّ علی نحو الاحتیاط وهو المطلوب، واللّه العالم.

(1) ولابدّ قبل الدخول فی بیان کیفیّة التیمم، ذکر ما لو أتی به قبل دخول الوقت، نعم یبقی السؤال عن أنّ تعبیره من الکیفیة صحیحٌ أم لا؟

نقول: إنّ أخذ الوقت ظرفا للتیمم ولحاظه کذلک ممنوع إذ لا یعدّ زمان الفعل ومکانه من کیفیّاته، فلا یناسب ذکره هنا، وامّا إذا أخذ قیدا فیه لیکون الزمان أو المکان المعیّن من کیفیّات الفعل المقیّد بکونه کذلک، فیناسب ذکره هنا.

وکیف کان، فقد ذهب المصنّف إلی أنّه لا یصحّ اتیان التیمّم قبل دخول الوقت، وفی «الجواهر»: «دعوی الاجماع علیه محصّلاً ومنقولاً فی ظاهر «المعتبر» أو

ص:220

صریحه، وصریح «التذکرة» و«المنتهی» والقواعد و«التحریر» و«الذکری» و«التنقیح» و«جامع المقاصد» و«الروض» و«المدارک» و«المفاتیح» وغیرها بل لعلّه متواتر».

والظاهر من هذه العبارة کون عدم الجواز أمرا مسلّما عند الفقهاء، أنّه غایته لابدّ من مطالبتهم ببیان مورد التیمم والدلیل علی ذلک، فاذا بلغ البحث هنا فلا بأس بذکر أقسامه، وما یقتضی الدلیل فی مورده، فنقول ومن الاستعانة: والمقدم علی التیمم قبل الوقت:

تارةً یأتی به لأجل الواجب الموقّت، أی لذات الوقت کالواجبات الموقّته من الظهر والعصر وغیرهما.

وأخری: یأتیه لأجل غایة اُخری غیرها، کالکون علی الطهارة، أو للاتیان بالنافلة وتلاوة القرآن، أو یأتی به للتاهّب للفریضة الموقّته.

وعلی جمیع هذه التقادیر:

تارةً: یفرض أنّه یعلم لو لم یأت بالتیمّم قبل الوقت لأمکن اتیانه بعد دخول الوقت.

وأخری: یعلم أنّه لو لا ذلک لم یقدر علی اتیانه بعده أو یظن بذلک.

فهذه فروض المسألة، ولابدّ أن نبحث عن کلّ واحد منها بمفرده.

الصورة الأولی: ما لو أتی به بقصد الفریضة الموقته قبل وقتها، مع العلم من تمکّنه علیه بعده، وهذا هو القدر المتیقن من معقد الاجماع المُدعّی فی المقام من عدم الجواز، غایة الأمر أنّه قد یفرض جواز تحصیل الطهارة المائیة قبل الوقت لقیام الدلیل علی الجواز فیه، وهو الخبر المرسل المروی فی «الذکری»: «ما وقّر الصلاة من أخّر الطهارة لها حتّی یدخل وقتها»(1). بناءً علی أنّ المراد من تحصیل


1- مصباح الهدی، ج 7، ص 341.

ص:221

الطهارة لأجل نفس الصلاة لا للتأهب لها، وبناءً علی أن المراد من الطهارة خصوص المائیة منها لا مطلقا حتّی یشمل التیمم، لأنّ المفروض فی الموردین هو القدر المتیقن من الطهارة لها، فیلزم علی ذلک کون عدم الجواز فی التیمم فی اتیانه قبل الوقت من قبیل تخصیص عموم المنزلة، لوضوح أن مقتضی دلیل التنزیل المستفاد من قوله: «التراب أحد الطهورین» أو «یکفیک عشر سنین» أو قوله: «رَبّ الصعید هو رب الماء» کون التنزیل فی جمیع الخصوصیّات الاّ ما خرج بالدلیل، فیکون المورد منه، وعلیه یصحّ ما یظهر من «المعتبر» و«المنتهی» أو صریحهما أنّ ذلک من خواصّ التیمم، وبه یفترق بین المائیة والترابیة من الجواز وعدمه.

أمّا لو لم نسلّم الجواز فی المائیة، وقلنا إنّه أیضا مثل التیمم فی عدم الجواز، أو انکرنا اقتضاء دلیل التنزیل ذلک العموم، وأنّ غایة قبول التنزیل فی القدر المتیقن منه، وهو اتیانه لما بعد دخول الوقت، فالالتزام فی عدم الجواز فیه لا یوجب التخصیص فی عموم المنزلة، إمّا لانتفاء أصل الموضوع وهو وجود العموم فیه، أو لانتفاء الحکم فی المائیة أیضا ممّا یفید أنّه لا یجوز التقدیم فیها کالتیمم، فلا وجه حینئذٍ لدعوی الافتراق بین المائیة والترابیة.

هذا لو فرضنا کون الاتیان بالطهارة قبل الوقت لأجل قصد خصوص ذات الوقت فی کلا الموردین.

الصورة الثانیة: وهی مالو أتی بالطهارة المائیة قبل دخول الوقت لا بقصد نفس واجب الوقت، بل لأجل غایةٍ أخری، وهو الکون علی الطهارة أو للتاهّب:

فتارةً: یُدعی أنّ عنوان نیة الکون علی الطهارة لا یعدّ عنوانا مستقلاً ومغایرا مع تحصیل الطهارة قبل الوقت لصاحب الوقت أو للتاهّب، للفرق بینهما، بل تلک

ص:222

العناوین الثلاثة کلّها عنوان واحد کما صرّح بذلک صاحب «کشف اللّثام»، فلازم هذه الدعوی أنّ الاجماع المدعّی بعدم جواز التیمم قبل دخول الوقت، لیس موجبا لتخصیص عموم المنزلة، لأنّ الغسل والوضوء عند الخصم لا یکون حکمهما قبل الوقت مع قصد الکون علی الطهارة کحکم تحصیل الوضوء والغسل قبل الوقت لصاحب الوقت أو للتاهّب فی عدم الجواز فی التیمّم التییم، أیضا ولکنه خلاف التحقیق.

وأخری یُدّعی أنّه عنوان مستقل ومغایر عن مع العنواین الآخرین لوضوح الفرق بین العناوین الثلاثة ومغایرتها، فحینئذٍ یمکن دعوی الفرق فی الجواز والعدم بین تلک العناوین، کما یمکن دعوی الفرق بین التیمم وغیره من الغسل والوضوء، لانّ القدر المتیقن من معقد الاجماع علی عدم الجواز کان فی التیمم إذا قصد به الاتیان قبل الوقت لصاحب الوقت، و حینئذٍ لا اشکال أنّه لا یجوز بالاجماع.

وأمّا الاتیان بالتیمم استعدادا لأداء الفرض:

فان قلنا بعدم الجواز فی المائیة بدعوی أنّ المراد ممّا ورد فی المرسل المذکور _ من عدم توقیر الصلاة لمن أخّر الطهارة لما بعد دخول الوقت، الموجب لجواز تقدیم للطهارة المائیة _ إنّما هو اذا قصد نفس الواجب الموقّت الظاهر من کلمة الصلاة فی المرسل لا التاهّب لها، ففی مثل التراب الذی قام علیه الاجماع فی عدم الجواز یکون بطریق أولی، لعدم وجود المقتضی له وهو عموم المنزلة، لأنّ وجود العموم فی المنزل فرع وجود العموم فی المنزّل علیه وهو الطهارة المائیة، والمفروض انتفاءه فیه فی المقام، ففی الفرع یکون منتفیا بطریق أولی وذلک لأجل عدم الاقتضاء لا لوجود المانع وهو الاجماع حتّی یُدّعی أنّه دلیلٌ لبّی لا یقتضی الشمول بل یقتضی فی المورد علی قدر المتیقن، وهو صورة مَن

ص:223

قصد الطهارة قبل الوقت لأجل صاحب الوقت لا للتاهّب.

نعم، إن قلنا فی المائیة بجواز التقدیم اذا کان قصده التاهّب، ولو لأجل دعوی وجود الاطلاق فی المرسل بصدق التوقیر فی الطهارة قبل الوقت للصلاة، فحینئذٍ یأتی الکلام فی التیمم فی أنّه هل یجوز ذلک فیه أو یمنع عنه فیه الاجماع، بعد القطع بمانعیته لصورة قصد نفس الواجب قبل دخول وقته، فیه وجهان:

فقد یظهر من صاحب «مصباح الهدی» عدم الجواز، بدعوی انصراف الخبر المرسل فی الجواز بالتقدیم لخصوص المائیة فلا یشمل الترابیة بقصد التاهّب، کما لا یشمل الترابیة إذا أتی بها قبل الوقت لصاحب الوقت، ولازم ذلک دعوی شمول اطلاق معقد الاجماعات فی المنع لصورتین من التیمّم، وهما: صورة قصد ذات الوقت، وصورة قصد التاهّب.

أقول: قد یمکن دعوی الاطلاق فی المرسل من لفظ (الطهارة) الشامل لکلا قسمین، خصوصا بعد قبول استفادة عموم المنزلة فی جمیع الجهات من الدلیل کما علیه بعض الفقهاء، لا سیّما مع ملاحظة أنّ الاجماع المُدّعی یعدّ دلیلاً لبّیا لا اطلاق له حتّی یشمل صورة التاهّب، بل القدر المتیقن منه هو صورة قصد نفس الواجب قبل دخول وقته فلازمه جواز التیمم قبل الوقت للتاهّب کالغُسل والوضوء وهو غیر بعید.

ومنه یظهر الحکم فی صورة ما لو قصد الکون علی الطهارة، حیث إنّه یجوز الاتیان بهذا القصد فی کلا القسمین من المائیة والترابیة، لما دلّ الدلیل علی أنّ التراب أحد الطهورین، ولازمه جواز الوضوء والغسل والتیمم بهذا القصد والغایة کسائر الغایات من القراءة وغیرها حتّی قبل دخول وقت الواجب، فیبقی علی الطهارة حتّی یدخل الوقت ویصلّی معها، ولازم جواز ذلک امکان القول

ص:224

بالافتراق بین المائیة والترابیة فی الصورتین السابقتین من جواز الاتیان بالغُسل والوضوء قبل الوقت مع قصد نفس الواجب أو قصد التاهّب له، بخلاف التیمم حیث لا یجوز فیهما کما علیه صاحب «مصباح الهدی»، بخلاف ما لو قصد الکون علی الطهارة حیث یجوز ذلک فیه مطلقا، أی فی المائیة والترابیة قبل الوقت أیضا، فیبقی کذلک حتّی یدخل الوقت ویصلّی معها، هذا اذا قلنا بالافتراق بین القصد للتاهّب والقصد للکون علی الطهارة کما هو الأقوی.

بخلاف ما قلنا بالوحدة وانّهما معا عنوان لشیء واحدٍ کما علیه صاحب «کشف اللّثام» فلازمه حینئذٍ عدم الجواز فی التیمم فی الصورتین: صورة قصد الکون علی الطهارة اذا أتی به قبل الوقت، وصورة التاهّب وذلک لأنّه معقد الاجماعات القائمة علی عدم الجواز، وإن کان الاحتیاط یقتضی عدم جواز الاتیان بالتیمم قبل الوقت، حتّی فی صورة ما لو کون قصده الکون علی الطهارة، لعدم استبعاد شمول اطلاق الاجماعات لهذه الصورة أیضا کما نوّه بذلک المحقق الآملی فی مصباحه، ولا یخلو عن وجه، واللّه العالم.

هذا کلّه البحث فیما إذا تمکّن المکلّف من تحصیل الطهارة الترابیة بعد دخول الوقت، وکان عالما بذلک قبله.

حکم العاجز عن التیمم بعد دخول الوقت

وامّا اذا علم بانّه لم یتمکن من التیمم بعد الوقت، فربّما یحتمل جواز تقدیمه علی الوقت، ولو بنیّة صاحب الوقت أو للتاهّب، بل قد یستظهر وجوبه عن بعض الفقهاء کصاحب «کشف الغطاء» فی «شرح المفاتیح» و«حاشیة المدارک» مستدلاً: بکونه مقدمة للواجب، وعلیه فلا مانع من وجوبه قبل الوقت هنا کما أنّ

ص:225

الأمر کذلک فی مقدمات الحجّ ونحوها من مقدمة الواجب المشروط قبل وقته.

ولعموم المنزلة، وشدّة اهتمام الشارع بأمر الصلاة، وعدّ العبد عاصیا بترکه عرفا.

لا یقال: إنّه معارض مع اطلاق الإجماع علی المنع منه قبل الوقت.

لانا نقول: بمنع شموله لمثل الفرض لکونه من الافراد النادرة، وکونه دلیلاً لبّیا، فیقتصر علی موضع الیقین وهو غیر هدة الصورة، هذا.

أقول: ولکنّه لا یخلو عن النقاش.

أوّلاً: کیف یمکن فرض وجوب المقدمة لواجبٍ مشروطٍ قبل تحقق شرط وجوبه، لأنّ وجوب المقدمة فرع وجوب ذیها، ولا یمکن وجوبها قبل وجوب ذیها.

نعم، إذا علم أنّه لو لم یأت بالمقدمة قبل الوقت لزم منه ترک الواجب فی الوقت غالبا بحسب العادة کمقدمات الحج ونحوها، مع العلم بأنّ ترک الواجب منافٍ مع تشریعه وغرضه، فحینئذٍ یستکشف وجوب المقدمة بحکم العقل بخطاب نفسی أصلی، ینتج بنتیجة الخطاب المقدمی.

وثانیا: لیس المورد من هذا القبیل کما سنشیر الیه قریبا.

وأمّا حدیث عموم المنزلة فلأنه:

أولاً: غیر ثابت جریانه فی جمیع الجهات حتّی یثبت به المورد.

وثانیا: علی فرض التسلیم، یجری هذا الاشکال فی أصل المنزّل علیه وهو الغسل والوضوء قبل الوقت، فضلاً عن التیمم.

مضافا الی دلالة مفهوم قوله تعالی: «إِذَا قُمْتُمْ إِلَی الصَّلاةِ فاغْسِلُواْ وُجُوهَکُمْ»(1) وقوله: «وَإِن کُنتُمْ جُنُبا فَاطَّهَّرُواْ»(2) المترتبة علیهما قوله تعالی:


1- سورة المائدة، آیة 6.
2- سورة المائدة، آیة 6.

ص:226

«فَلَمْ تَجِدُواْ مَاء فَتَیَمَّمُواْ صَعِیدا طَیِّبا»(1) المترتبة علیهما بعد فقد الماء علی کون الوجوب فی الثلاثة بعد دخول الوقت لا قبله.

کما یدلّ علیه أیضا مفهوم صحیح زرارة عن أبی جعفر علیه السلام ، قال: «إذا دخل الوقت وجوب الطهور والصلاة ولا صلاة الاّ بطهور»(2) حیث أنّ مقتضی مفهوم الشرط هو عدم الوجوب قبل دخول الوقت، وباطلاقه یشمل حتّی صورة العلم بعدم التمکّن بعده أو الظنّ به من الاختیاری من التیمم کالتراب والحجر، أو الاضطراری منه کالغبار والطین.

وعلیه، فاثبات الوجوب لما قبل الوقت مع العلم بعدم التمکن لما بعده مشکلٌ.

اللّهمّ الاّ أن یستظهر من نفس بعض الأخبار أنّ أهمیّة الصلاة وعظمتها عند الشارع تکون علی حدٍّ لا یرضی الشارع بترکها کذلک، أی اتیانها بلا طهارة، خصوصا مع ملاحظة نفی الماهیّة عنها بلا طهور کما ورد التصریح بذلک فی ذیل روایة زرارة، کما لا یبعد استفادة ذلک من الأخبار الواردة فی «أن الصلاة لا تترک بحالٍ» منضّما الی روایة زرارة حیث لا یبعد أنّ مختار صاحب «کشف الغطاء» کان لأجل ذلک.

ولکن مع جمیع ذلک لا یمکن الجزم فیه بالفتوی، لأنّ المورد لیس علی حدٍّ یوجب قبول ذلک، لعدم الانحصار فی تحصیل الصلاة بالطهارة بخصوص ایجابها قبل الوقت لذات الوقت، لامکان تحصیل غرض الشارع باتیان الطهارات الثلاث لغایةٍ أخری واجبة أو مندوبة کصلاة القضاء الواجبة علیه أو للنافلة، واستمرارها الی حین دخول الوقت والاکتفاء بها للصلاة، بل وهکذا للکون علی الطهارة إن


1- سورة النساء: آیة 43.
2- وسائل الشیعة: الباب 4 من أبواب الوضوء، الحدیث 1.

ص:227

ویصحُّ مع تضییقه (1)

أجزناها فی الغسل والوضوء، بل وهکذا فی التیمم إن قلنا به.

نعم، صحّ ما ادّعاه عند من لا یجوّز الاتیان بالصلاة مع الطهارة الحاصلة لغایةٍ أخری واجبة أو مندوبة، حیث ینجرّ ترک تحصیل الطهارة قبل الوقت إلی ترکه الصلاة لو لم نقل بکفایتها مع فقد الطهورین، والاّ یکفی کذلک وإن وجب علیه القضاء بعد فوت الوقت بما قد ذُکر وجهه تفصیلاً فی محلّه.

وبالجملة: ممّا ذکرنا یظهر وجه القول بالجواز فی تحصیلها قبل الوقت فی الفرض المذکور، إن لم نقبل بالوجوب، اذ العقل حینئذٍ حاکم بذلک فیما یعلم المحذور لما بعد دخول الوقت، والالتزام بذلک غیر بعید، وإن کان الأحوط حتّی لا یتوهّم المخالفة مع الاجماع المنقول القائم علی جواز الاتیان بالطهارة قبل الوقت لغایة أخری غیر غایة ذات الوقت، واللّه العالم.

(1) بعد الوقت علی حکم التیمم قبل الوقت بماله من الوجوه، تصل النوبة الی التیمم بعد دخول الوقت وتضیّقه، فإنّه یصحّ التیمم فیه قطعا بالاجماع بقسیمه من المحصّل والمنقول کما فی «التحریر» و«التنقیح» و«جامع المقاصد» و«الروض» و«المدارک» و«کشف اللّثام» وغیرها، بل الحکم فیه یعدّ من ضروریات الدین، لذلک لا یحتاج الی التمسک بالاجماع بعد ثبوت مشروعیّته فی الوقت، لأنّ انکاره مساوق للخروج عن الدین کما لا یخفی.

نعم، یصحّ دعوی الانکار فی جهة تعیین مصداق ذلک من جهة عنوان ضیق الوقت، حیث انّه لا یرجع مثل هذا الانکار الی انکار أصله، وعلیه فلا بأس حینئذٍ بالبحث عن أنّ مصداقه:

هل هو التأخیر الی أن یبقی رکعة من الصلاة فی الوقت، من جهة أنّ دلیل (من

ص:228

أدرک رکعة) یجعلها بمثل الموسّع فی الوقت، فلا یتبدل الی التیمم.

أو الی أنْ یدرک مقدار الواجب من الصلاة مع التیمم، ووقوع تمام رکعاتها فی الوقت مقتصرا فی الاتیان بالواجبات فقط.

أو مع ادراک الاتیان بمستحباتها المتعارفة، أو مطلق مستحباتها، أو مع الاتیان ببعض المقدمات القریبة وعلی ما عزم علیه من فعلها من الطویل والقصیر والمتوسط بأن یجعل المدار علی الصلاة المتعارفة علی حسب اختلاف الاشخاص بطوءا وسرعةً؟ وجوه واحتمالات: أقواها الأخیر لانصراف الاطلاقات الی ما هو المتعارف عند العرف، کما هو المناط فی سائر المقامات والتحدیدات، وبذلک یظهر بطلان سائر الاحتمالات خصوصا الأوّل منها حیث یکون فی غایته الضعف، لوضوح أنّ دلیل (من أدرک) حکمٌ ثابت لمن عجز الی ذلک الوقت لا لمن یجوز له ذلک التأخیر الی أن لا یدرک من الوقت الاّ رکعة، کما لا یخفی.

البحث عن ملاک الضیق

یدور البحث عن أنّ الملاک فی اعتبار معرفة الضیق هل هو العلم، أو هو مع الظنّ، أو یکفی فیه مجرد خوف الفوت وانْ لم یصل الی درجة الظنّ؟

وجوه:

والأقوی هو الأخیر کما وردت الاشارة الی هذا العنوان فی الروایة الصحیحة التی زرارة عن أحدهما علیهماالسلام ، قال: «إذا لم یجد المسافر الماء فلیطلب مادام فی الوقت فإذا خاف أن یفوته الوقت، فلیتیمم ولیصلّ، الحدیث»(1).

وعلیه العمل والفتوی، اذ یفهم منه التوسعة من الشارع فی مثله، حیث أجاز


1- وسائل الشیعة: الباب 1 من أبواب التیمّم، الحدیث 1.

ص:229

ورخّص التبدیل مع الخوف، حتی ولو لم یبلغ خوفه مرتبة العلم أو الظنّ القویّ، مع ما فی التکلیف بهما من التغریر بفوت الواجب، بل قد یتعذّر أو یتعسّر حصولهما لبعض الأشخاص أو کثیر منهم فی کثیرٍ من الاوقات.

کما یستفاد من الصحیحة من جهة الأمر بالتیمم المقتضی للاجزاء، عدم وجوب الاعادة علیه لو انکشف بعد ذلک فساد ظنّه، حتّی لو وجد الماء وکان فی سعة الوقت، کما صرّح به بعضهم، بل فی «الجواهر»: «لا أجد لأحدٍ فیه خلافا الاّ ما یحکی عن الشیخ فی کتابی الأخبار، وما نقل عن ابن الجنید وابن أبی عقیل من القول بالصحة فی هذا الحال ولزم الاعادة علیه، ولکن الاجماع سابق علیهما ومنعقد بعدهما علی خلافهما».

أقول: لو لا الاجماع ودلالة الأخبار المستفیضة الآتیة علی عدم وجوب الاعادة بعد کشف الخلاف، وکون الدلیل منحصرا فی خصوص صحیحة زرارة، لأمکن المناقشة فیه بأن یقال بأن ظاهر الأمر وان کان یقتضی الاجزاء، إلاّ أنّه مادام لم ینکشف الخلاف، لامکان کون خوف الفوت طریقیّیا الی الحکم بالاتیان ومجزیا عن الامر الواقعی، بواسطة الامتثال فی الأمر الظاهری وأمّا بعد کشف الخلاف یکون الأمر الواقعی منجّزا علیه. اللّهمّ الاّ أن یکون الحکم المتعلق بالاعتقاد وخوف الفوت موضوعا، بمعنی أنّ الشارع جعل فی هذه المورد خوف الفوت موضوعا للحکم بالاتیان، فاذا امتثل الأمر سقط وأمر بعده حتّی یجب علیه الاعادة فی الوقت، واستظهار ذلک لا یکون الاّ من خلال الأخبار الدالّة علی عدم وجوب الاعادة مع کشف الخلاف، ولعلّ وجود هذه الأخبار هو السبب لتحقق ذلک الاجماع المدّعی علی عدم الاعادة.

وعلیه، فلا بأس حینئذٍ بذکر هذه الأخبار التی هی المستفیضة:

منها: خبر زرارة فی الصحیح، قال: «قلت لأبی جعفر علیه السلام : فإن أصاب الماء

ص:230

وقد صلّی بتیممٍ وهو فی وقتٍ؟ قال: تمت صلاته ولا اعادة علیه»(1).

ومنها: روایة أبی بصیر، قال: «سألت أبا عبداللّه علیه السلام عن رجل تیمّم وصلّی ثمّ بلغ الماء قبل أن یخرج الوقت؟ فقال: لیس علیه اعادة الصلاة»(2).

ومنها: روایة معاویة بن میسرة، قال: «سألت أبا عبداللّه علیه السلام عن الرجل فی السفر لا یجد الماء تیمّم فصلّی ثمّ أتی الماء وعلیه شیءٌ من الوقت، أیمضی علی صلاته أم یتوضأ ویعید الصلاة؟ قال: یمضی علی صلاته فانّ رب الماء هو ربّ الصعید»(3).

ومنها: رواه الصدوق باسناده عن معاویة بن میسرة مثله، الاّ أنّه قال: «فیتیمّم ویصلّی ثمّ یأتی الماء».

ومنها: روایة یعقوب بن سالم، عن أبی عبداللّه علیه السلام : «فی رجلٍ تیمّم وصلّی ثمّ أصاب الماء وهو فی وقتٍ؟ قال: قد مضت صلاته ویتطهّر»(4).

ومنها: روایة محمّد بن مسلم، قال: «سألت أبا عبداللّه علیه السلام عن رجل أجنب فتیمّم بالصعید وصلّی ثمّ وجد الماء؟ قال: لا یعید إنّ ربّ الماء ربّ الصعید فقد فعل احد الطهورین»(5).

ومنها: روایة صفوان عن البعض، قال: «سألت أبا عبداللّه علیه السلام عن الرجل یأتی الماء وهو جنب وقد صلّی؟ قال: یغتسل ولا یعید الصلاة»(6).


1- وسائل الشیعة: الباب 14 من أبواب التیمّم، الحدیث 9.
2- وسائل الشیعة: الباب 14 من أبواب التیمّم، الحدیث 11.
3- المصدر السابق، الحدیث 13.
4- المصدر السابق، الحدیث 14.
5- المصدر السابق، لاحدیث 15.
6- وسائل الشیعة: الباب 14 من أبواب التیمّم، الحدیث 16.

ص:231

ولا یخفی أن اطلاقها کما یشمل الوقت کذلک یشمل خارجه.

ومنها: روایة علی بن سالم، عن أبی عبداللّه علیه السلام ، قال: «قلت له: اتیمّم وأصلّی ثمّ أجد الماء وقد بقی علیّ وقت؟ فقال: لا تعد الصلاة، فإنّ ربّ الماء هو ربّ الصعید، الحدیث»(1).

أقول: إنّ بعض هذه الأخبار مشتمل علی التعلیل بانّه فعل أحد الطهورین، أو باتحاد ربّهما، حیث یشمل اطلاق هذه الأخبار لمن فعل التیمم والصلاة بظنّ التضیق وخوفه ثمّ انکشف له الخطا کما هو الغالب فی الخارج، بل قد یتعیّن حملها علی ذلک لو اعتبرنا التضیق فی التیمّم، وعلیه، فالحکم بوجوب الاعادة کما عن العَلَمین وعن الشیخ فی کتابی الأخبار ممّا لا یمکن المساعدة معه.

ولعلّ وجه کلامهم بذلک لأجل مدلول الخبر الذی رواه منصور بن حازم عن أبی عبداللّه علیه السلام : «فی رجل تیمّم فصلّی ثمّ أصاب الماء؟ فقال: أمّا أنا فکنتُ فاعلاً، إنّی کنت أتوضّأ وإعید»(2).

أقول: یمکن حمله علی غیر فرضنا بأن یکون المورد فیما اذا کان فی سعة الوقت لا فی ضیقه، أو یحمل علیه جمعا لو لم نقل بکون مورده هکذا، أو یحمل علی الاستحباب کما هو غیر بعید، بقرینة قوله علیه السلام : «أمّا أنا فکنتُ فاعلاً إنّی کنت أتوضأ وأعید»، مع أنّ الحکم لو کان الزامیا لما صحّ اسناده علیه السلام الی نفسه، فیصیر ذلک قرینة علی ذلک الحمل، أو یحمل علی التقیة کما علیه صاحب «مصباح الهدی» حیث انّه مذهب جماعة من فقهاء العامّة کطاووس وعطا وقاسم بن محمد ومکحول وابن سیرین والزُهری وربیعة حیث ذهبوا إلی وجوب الاعادة


1- المصدر السابق، الحدیث 17.
2- وسائل الشیعة: الباب 14 من أبواب التیمّم، الحدیث 10.

ص:232

قوله: وهل یصحّ التیمّم مع سعته، فیه تردّدٌ والأحوط المنع (1)

فی الوقت دون خارجه الاّ عن طاووس فانّه أوجب القضاء فی خارج الوقت أیضا، لکن صدور مثل هذا الخبر علی ذلک لا یقتضی الحکم بذلک، خصوصا بعد ما عرفت من إعراض الأصحاب عنه، وقیام الاجماع علی خلافه،

وبذلک یُرفع الید عمّا ورد فی خبر یعقوب بن یقطین، قال: «سألت أبا الحسن علیه السلام عن رجل تیمّم فصلّی فأصاب بعد صلاته ماءً أیتوضّأ ویعید الصلاة أم تجوز صلاته؟ قال: إذا وجد الماء قبل أن یمضی الوقت توضأ وأعاد، فإن مضی الوقت فلا إعادة علیه»(1).

من التفصیل بین کشف الخطأ فی الوقت بالاعادة وفی خارجه بالعدم، بحمله علی ما عرفت من المحتملات بکونه فی مورد سعة الوقت دون الضیق، أو الحمل علی الاستحباب دون الوجوب کما هو الأقرب، أو علی التقیة، فلا یمکن العمل والفتوی به إلاّ بصورة الاستصحاب، مع أن قضیة المفهوم فیه هو عدم وجوب الاعادة إن لم یجد الماء فی الوقت، وهو أیضا بعض الدعوی کما سنشیر إلیه لاحقا إن شاء اللّه. و علیه فالأقوی ما علیه المشهور کما فی «العروة» وجُلّ أصحاب التعلق علیها.

(1) لا یخفی أن وجه تردّد المصنّف هو اختلاف لسان النصوص والفتاوی، وعلیه فلا بأس بذکر الأقوال والأخبار حتّی یتضح حقیقة الحال، لنختار ما هو الأقرب والأقوی عندنا، فنقول:

والأقول فی المسألة ثلاثة:

1_ قول بالجواز مطلقا، أی یجوز التیمّم مع سعة الوقت وفقد الماء، حتّی مع


1- المصدر السابق، الحدیث 8.

ص:233

الرجاء بزوال العذر فی آخر الوقت، وهو خیرة «المنتهی» و«التحریر» و«البیان» و«مجمع البرهان» و«المفاتیح» و«الکفایة» و«منظومة» الطباطبائی، ومحتمل «الارشاد»، والمحکّی عن الصدوق، وظاهرالجعفی والبزنطی، وفی «المدارک» و«الریاض»: «أنّه لا یخلو من قوّة»، وعن «حاشیة الارشاد»: «إنّه قوی یتعین»، کما عن «کشف المرموز» (إنّ النظیر یؤیّد)، وعن «المهذّب البارع»: «إنّه قول مشهور»، کما هو مختار صاحب «الجواهر» والسیّد فی «العروة» وکثیرٌ من أصحاب التعلیق.

والدلیل علیه: فقد استدلّوا علیه بأمور:

الأوّل: اطلاق قوله تعالی: «إِن کُنتُم مَّرْضَی أَوْ عَلَی سَفَرٍ أَوْ جَاء أَحَدٌ مِّنکُم مِّن الْغَآئِطِ أَوْ لاَمَسْتُمُ النِّسَاء فَلَمْ تَجِدُواْ مَاء فَتَیَمَّمُواْ صَعِیدا طَیِّبا»(1) الظاهر فی قیام التیمم مقام الوضوء والغُسل عند ارادة الصلاة ولو فی أوّل الوقت، بناءً علی کونه عطفا علی جواب الشرط وهو (فاغسلوا) فانّه جواب ل(إذا قمتم) فاطلاق الآیة فی شمولها للتوسعة ممّا لا یکاد ینکر، إلاّ أن یقوم دلیل من الأخبار علی تقییده، ولأجل ذلک قال السیّد المرتضی رحمه الله بأنّ الاستدلال بها متوقفٌ علی اثبات جواز ارادة الصلاة فی أوّل الوقت.

وفیه: لیس الأمر کما قاله رحمه الله بل لعلّه أراد أن الأخذ بالاطلاق متوقفٌ علی ورود المنع عنه بسبب الأخبار، وأمّا اطلاق الآیة بالشمول للمورد ثابت جدّا ولا نقاش فیه، إن لو لم نقل بأنّ الآیة وردت لبیان أصل التشریع لم تکن لا فی مقام بیان کیفیة قیام التیمم مقام الوضوء والغسل.

الدلیل الثانی: ما ورد فی استحباب الاتیان بالصلاة فی أوّل الوقت، والحثّ


1- سورة المائدة، آیة 6.

ص:234

علی المحافظة علیه، المقتضی لتمکن المکلّف علی الامتثال ولیس ذلک بالنسبة إلی الفاقد الاّ بالتیمّم.

أقول: الانصاف عدم تمامیة هذا الاستدلال، لانّ الدلیل الوارد فیه منصرف عمّا ذکر، لانّه بصدد بیان أصل استحباب ذلک من حیث نفسه وغیر ناظر إلی مورده وأنّه فی أیّ موضع کان حتّی یرغّب الی ذلک حتّی ولو کان فاقدا للماء، لامکان أن یکون ذلک مرتبطا بملاحظة الدلیل الخاص الوارد فی مورده.

نعم، إن ثبت جوازه بالدلیل، فلا یبعد حینئذٍ اثبات استحبابه بذلک، کما لا یبعد استحباب ذلک حتّی لفاقد الطهورین إذا قلنا بوجوب الاتیان فی الوقت، ولو فی حال الفقدان، کما لا یبعد دعوی ذلک أیضا فی اطلاق الآیة حیث أنّها باطلاقها لیس بصدد بیان ذلک الأمر یستحب للمکلّف الصلاة فی أوّل الوقت ولو بتحصیل التیمّم عند فقد الماء.

نعم بعد ورود الدلیل علی الجواز لا یبعد دعوی شمول اطلاق الآیة کما قلنا فی سابقه، واللّه العالم.

الدیل الثالث: عموم المنزلة وأنّه أحد الطهورین، وأنّ ربّ الماء هو ربّ التراب و امثال ذلک من الأخبار التی تولّت التیمم للفاقد منزله الماء.

أقول: الاستدلال بمثل هذه الأخبار منوط علی عدم ورود الدلیل علی أنّ التیمّم فی طول الوضوء والغسل، والاّ یوجب ذلک أن یکون عموم التنزیل متعلقا بظرفٍ معیّنٍ وهو عند فی هذا صدق الاضطرار علیه، وکونه عاجزا عن الوصول إلی الماء عرفا، فإذا لم یکن السبب صادقا علیه لأجل امکان حصول الماء فی آخر الوقت، فاجراء عموم المنزلة واثبات الحکم بالجواز لا یخلو حینئذٍ عن تأمّل، لأن الدلیل لا یکون حینئذٍ بصدد بیان حکمٍ الفاقد مطلقا وأنّ وظیفته التیمم واتیان الصلاة هنا فی أوّل الوقت کما لا یخفی.

ص:235

الدلیل الرابع: الأخبار المستفیضة _ وهی العمدة _ الدالة علی جواز تیمّم الفاقد فی أوّل الوقت مطلقا:

منها: النبوی المشهور المروی فی «الخصال» عن أبی امامة، قال: «قال رسول اللّه صلی الله علیه و آله : «فضلّت بأربع: جُعلت لی الأرض مسجدا وطهورا، وأیّما رجل من أُمتی أراد الصلاة فلم یجد ماءً ووجد الأرض، فقد جُعلت له مسجدا وطهورا» الحدیث(1).

حیث أن ظاهره جواز الاتیان بالتیمم متی أراد الصلاة، إذا لم یجد ماءً، سوائٌ کان فی أوّل الوقت وإن یتوفر له الماء لو صبر إلی آخر الوقت، فلو کان الحکم مختصا بعدم الوجدان إلی آخر الوقت لما صحّ تجویز ذلک باطلاق قوله: «متی أراد الصلاة»، وعلیه فدلالته علی التوسعة واضحة.

ومنها: روایة نبویّة أخری رواها «عوالی اللئالی» عن فخر المحققین، عن النبیّ صلی الله علیه و آله : قال: «جُعلت لی الأرض مسجدا وترابها طهورا، أینما أدرکتنی الصلاة تیمّمت وصلّیت»(2).

فان جملة «أینما أدرکتنی الصلاة» دالة علی التوسعة. وعدم لزوم الانتظار إلی آخر الوقت، وحمل (الادراک) علی آخر الوقت حتّی یُطابق مع دعوی الخصم بعیدٌ غایته.

نعم، لیس مثل هذین الحدیثین ما ورد فی صحیحة زرارة عن أبی جعفر علیه السلام ، قال: «إذا دخل الوقت وجبت الطهور والصلاة ولا صلاة إلاّ بطهور»(3) لانّه بصدد


1- وسائل الشیعة: الباب 7 من أبواب التیمّم، الحدیث 3.
2- المستدرک ج 1، الباب 5 من أبواب التیمم، الحدیث 8.
3- وسائل الشیعة: الباب 4 من أبواب الوضوء، الحدیث 1.

ص:236

بیان أصل وجوب الطهارة بدخول الوقت، دون بیان أن الواجب هو الوضوء ولو بالصبر إلی آخر الوقت لجهة العجز أو یتبدل إلی بدله بواسطة العجز فی أوّل الوقت تحصیلاً للطهارة، وإن کان اشعاره بذلک لا یخلو عن وجه وجیه.

بل وکذلک لا یصحّ استدلال «الجواهر» للمقام بروایة السکونی وسماعة _ وهما متحدثان من _ عن جعفر عن أبیه عن علی علیهم السلام : «انّه سُئل عن رجل یکون فی وسط الزحام یوم الجمعة أو یوم عرفة، لا یستطیع الخروج عن المسجد من کثرة الناس؟ قال: یتیمّم ویصلّی معهم ویعید إذا انصرف»(1).

فإنّ هذین الخبرین وإن کان ظاهرهما جواز التمیم حتی فی سعة الوقت، الاّ أن الحکم بالاعادة بعد الانصراف ربّما یمکن أن یکون لأجل عدم کفایة التیمم فی مثله عن الواجب من الطهارة، فیکون التجویز فی ذلک تحصیلاً لکمال الصلاة مع الجماعة، وإنْ لم یکن عن أصل الواجب. اللّهمّ إلاّ أن یُحمل علی استحباب الاعادة کما عن صاحب «الوسائل» فیصیر ذلک حینئذٍ دلیلاً للتوسعة.

ومنها: خبر داود الرقّی، قال: «قلت لأبی عبداللّه علیه السلام : «أکون فی السفر فتحضر الصلاة ولیس معی ماء، ویقال إنّ الماء قریب منّا فأطلب الماء وأنا فی وقتٍ یمینا وشمالاً؟ قال: لا تطلب الماء ولکن تیمّم فإنّی أخاف علیک التخلف عن أصحابک فتضلّ ویأکلک السِّبع»(2).

قیل إنّ ظهوره فی الجواز فی سعة الوقت باعتبار قول الراوی: «تحضر الصلاة» وقوله: «وأنا فی وقتٍ» وجواب الامام علیه السلام بقوله: «ولا تطلب ولکن تیمّم)غیرقابل الانکار، بل قیل إنّه نصّ فی صحة التیمم عند سعة الوقت.


1- وسائل الشیعة: الباب 15 من أبواب التیمّم، الحدیث 1.
2- وسائل الشیعة: الباب 2 من أبواب التیمّم، الحدیث 1.

ص:237

أقول: أضف إلی ذلک أنّ ظهوره فیه لعلّه لأجل عدم تعرّض الامام لسعة الوقت وصبره ببلوغه بما لا یوجب ذلک، فعدم التفصیل فیه یوجب ظهوره فی التوسعة، ولو لأجل الخوف فی الجملة.

وحمله علی ما یعلم عدم بلوغه بما لا یوجب ذلک، وکونه فی وقتٍ غیر واسع، بعیدٌ غایته ولا یناسب مع اطلاق جواب الامام علیه السلام کما لا یخفی.

ومنها: مثله فی الدلالة خبر أبی عبیدة، قال: «سألت أبا عبداللّه علیه السلام عن المرأة الحائض تری الطهر وهی فی السفر، ولیس معها من الماء ما یکفیها لغسلها وقد حضرت الصلاة؟ قال: إذا کان معها بقدر ما تغسل به فرجها فتغسله ثمّ تتیمّم وتصلّی، الحدیث»(1).

لانّ فیه جملة: «وقد حضرت الصلاة» وهی واردة فی کلام السائل فی أوّل الوقت، وبرغم ذلک أجاز الامام لها بالتیمم والصلاة معه فی أوّل الوقت من دون الحکم بلزوم الانتظار إلی آخر الوقت.

ومنها: خبر محمّد بن حمران، وجمیل به درّاج فی الصحیح، قال: «قلت لأبی عبداللّه علیه السلام : امام قومٍ أصابته جنابة فی السفر، ولیس معه من الماء ما یکفیه للغسل، أیتوضأ بعضهم ویصلّی بهم؟ قال: لا ولکن یتیمم الجُنُب ویصلّی بهم، فإنّ اللّه جعل التراب طهورا» ورواه الصدوق والکلینی(2).

وجه الدلالة: أن الغالب وقوع الجماعة فی أوّل الوقت وسعته، ولا أقل من الاطلاق فی ذلک، وحمله علی تأخیر المأمومین إلی آخر الوقت لدرک فضیلة الجماعة مع خصوص هذا الامام، مع امکان إدراکها امامٍ آخرٍ متطهّر بالطهارة


1- وسائل الشیعة: الباب 21 من أبواب الحیض، الحدیث 1.
2- وسائل الشیعة: الباب 17 من أبواب الجماعة، الحدیث 1.

ص:238

المائیة، بعیدٌ جدّا، خصوصا مع ملاحظة أن المقام کان یقتضی التنبّه الی ذلک لو کان الواجب علیهم التأخیر إلی آخر الوقت لدرک الصلاة مع الجماعة الصحیحة، لاسیّما أنّ السائل استفسر الامام من جواز أن یتوضأ بعضهم غیر الامام ویصلّی بهم، وقد نهاه الامام علیه السلام عنه بقوله: «لا بل یتیمم ویصلّی معهم» ممّا یدلّ علی شدّة الظهور فی التجویز فی سعة الوقت کما لا یخفی، مضافا إلی اشعار التعلیل بقوله: «إنّ اللّه قد جعل...» إلی التوسعة وهو واضح.

ومنها: الأخبار المستفیضة الواردة فی عدم الاعادة لمن صلّی تیمما، ثمّ وجد الماء، حیث إنّ بعضها بالاطلاق یعمّ واجد الماء فی الوقت فضلاً عن خارجه، بل بعضها صریح فی الوجدان فی الوقت، فلا بأس بذکر بعضها:

ومنها: صحیح الحلبی، قال: «سألت أبا عبداللّه علیه السلام عن الرجل إذا أجنب ولم یجد الماء؟ قال: یتیمّم بالصعید، فإذا وجد الماء فلیغتسل ولا یعید الصلاة»(1).

فانّه باطلاقه یشمل کون الوجدان فی الوقت بعد الصلاة، فلو کان التأخیر واجبا لما صحّ تیممّه وصلاته فی ما قبله.

ومنها: التصریح بالاجزاء للصلاة فی خبره الآخر، حیث قال: «سمعت أبا عبداللّه علیه السلام یقول إذا لم یجد الرجل طهورا وکان جنبا فلیتمسح من الأرض ولیصلّ، فاذا وجد ماءً فلیغتسل وقد أجزاه صلاته التی صلّی»(2).

ومنها: التصریح فی بعضها بجواز الاتیان بالصلاة مع التیمم حتّی ولو أصاب الماء فی الوقت ولا اعادة علیه مثل صحیحة زرارة، قال: «قلت لأبی جعفر علیه السلام : فإن أصاب الماء وقد صلّی بتیمم وهو فی وقتٍ؟ قال: تمت صلاته ولا اعاد علیه»(3).


1- وسائل الشیعة: الباب 14 من أبواب التیمّم، الحدیث 1.
2- وسائل الشیعة: الباب 14 من أبواب التیمّم، الحدیث 4.
3- وسائل الشیعة: الباب 14 من أبواب التیمّم، الحدیث 9.

ص:239

ولعلّ صلاتة معه کان لأجل العلم بعد الوجدان، وإن کان الاطلاق یشمل حتّی صورة عدم العلم أیضا، بل لو لا قیام الدلیل علی عدم الجواز مع العلم بالوجدان فی الوقت، لکان اطلاق مثل ذلک کافٍ فی الحکم بالجواز کما لا یخفی.

ومنها: خبر علی بن سالم، عن أبی عبداللّه علیه السلام ، قال: «قلت له: أتیمّم وأصلّی ثم أجد الماء وقد بقی علیّ وقت؟ فقال: لا تعد الصلاة فإنّ ربّ الماء هو ربّ الصعید، الحدیث»(1).

ومنها: الروایات الواردة فی کفایة تیمّمٍ واحٍد لصلاة اللیل والنهار، مثل صحیحة زرارة، قال: «قلت لأبی جعفر علیه السلام : یصلّی الرجل بتیممٍ واحدٍ صلاة اللیل والنهار کلّها؟ فقال: نعم ما لم یحدث أو یصب ماءً الحدیث»(2).

ومثله روایة السکونی(3) فانّهما باطلاقهما تشملان ما لو أتی بصلاة اللیل بعد النهار ولو فی أوّل الوقت، ولم ینتظر إلی آخره.

أقول: ولکن قد یناقش فی مدلولها بأنّها لیست بصدد بیان الاطلاق فیه، بل المقصود بیان اصل کفایة التیمم لصلواتٍ متعددة ولو فی الوقتین، ما لم یُحدث أو یصب الماء، ولا یوجب الخروج عن وقت تحصیل التیمم نقضه.

وحمل الأخبار السابقة الدالة علی التوسعة، والمصرّح بذلک، علی صورة الاتیان بالتیمم مع رجاء زوال العذر، أو علی العلم بعدم الزوال، أو الظنّ بذلک، أو صورة الظن بضیق الوقت، حملٌ لا یناسب مع الاطلاق وبعید جدّا، مع أنّ المقام موضع محتاجٌ للبیان، کما أن حمل شیخ الطائفة لصحیحة زرارة المصرّحة


1- المصدر السابق، الحدیث 17.
2- وسائل الشیعة: الباب 20 من أبواب التیمّم،، الحدیث 1.
3- المصدر السابق، الحدیث 5.

ص:240

بجوازها فی السعة، علی ارادة الصلاة مع التیمم فی الوقت لا اصابة الماء فی الوقت بجعل قوله: «وهو فی وقتٍ» قیدا لقوله: «وقد صلّی بتیمم» لا لقوله: «فإن أصاب الماء» بعیدٌ غایته أوّلاً: ولو سلّمنا ذلک فیه، فإنّه لا یجری ذلک فی روایة علی بن سالم.

والحاصل: أنّه لا یکاد یَشکُّ الفقیه فی ظهور هذه الأخبار فی عدم وجوب الاعادة فی الوقت علی التوسعة، نعم یمکن القول بتقییدها لبعض الفروض بمقتضی الجمع مع أخبار آخر کما سنذکره إن شاء اللّه.

أقول: ذکر فی «الجواهر» مضافا إلی هذه الأخبار المذکورة، وجوها آخر دالة علی التوسعة تأییدا لها، فلا بأس بذکرها والنظر الیها.

منها: «أنّ الحکم بلزوم التأخیر والتکلیف به ربّما یوجب العسر والمشقة فی کثیر من الاوقات لکثیر من الناس، خصوصا النساء والاعوام، وخصوصا المرضی ونحوهم، وسیّما بالنسبة إلی العشائین بناءً علی تعمیم المسألة لجمیع اسباب التیمم، للاجماع فی «الروض» علی عدم الفرق فی ذلک، خصوصا منافاته مع سهولة الملّة وسماحتها، وسیّما أصل مشروعیة التیمم لذلک وارادة الیسر بالعباد، وما فیه من التقریر بترک الصلاة بل العبث فیما لو علم عدم حصول الماء تمام الوقت، بل فیه فوات مصلحة أوّل الوقت من الاستحباب المؤکد، ونافلة العصر بناءً علی مشروعیتها الاّ بعد صلاة الظهر بل والزوال، بناءً علی انّها نافلة للفرض ولا تشرع الاّ بعد حصول الخطاب به، ولا خطاب، إذ هو یؤول إلی الوجوب المشروط علی مذهب الخصم، لتوقّفه علی الطهور الذی لا یحصل ولا یصح الاّ عند الضیق، ومع ذلک کلّه لو کان کذلک لشاع وذاع لتوفر الدّواعی إلی نقله، وغلبة وقوعه، إلی غیر ذلک من المبعّدات الکثیرة التی لا یمکن أن تستقصی

ص:241

وستسمع بعضها فی آخر البحث» انتهی کلامه(1).

والتحقیق: إنّ هذه المؤیّدات وإنْ لم یخلو بعضها عن النقاش، إلاّ انّها مناسبات ذکروها بعد قیام الدلیل وتمامیّته فی الدلالة علی جواز البدار فی أوّل الوقت، وعلیه فالعمدة فی الحکم المذکور هی دلالة الأخبار علیه، وملاحظة ما تعارضها من الأخبار، ولذلک نتعرض الآن أدلّة المانعین، وهی وجوه قد ادّعی دلالتها علی المنع مطلقا، وإنْ کان أکثرها لا تخلو عن المناقشة.

أدلة المانعین عن کفایة التیمم مطلقا

الدلیل الأوّل: هو الأصل العملی الجاری فی المقام مثل استصحاب بقاء التکلیف بالطهارة المائیة حتّی یتحقّق العجز عنها، المتحقق بالضیق.

وفیه: من الواضح أنّ الرجوع إلی الأصل انّما یصحّ بعد عدم وجدان دلیل اجتهادی علی التوسعة، أو الجمع الذی سنذکره من کون مقتضاه هو التفصیل فی الجواز بین وجود رجاء الزوال فلا یجوز، والاّ یجوز.

الدلیل الثانی: ممّا ذکرنا فی جواب الدلیل الأّل یظهر الجواب عن التمسک بقاعدة الاشتغال الجاریة فی الطهارات الثلاث، بناءً علی أنّ الشک فیها من قبیل الشک فی الِمحصّل والمَحّصل الذی مقتضاه هو الاحتیاط وعدم جواز الاتیان بالتیمم فی سعة الوقت، کما لا یخفی.

الدلیل الثالث: التمسک بأن التیمم طهارة اضطراریة متوقفة علی تحقق الاضطرار عن الطهارة المائیة والعجز عنها، وحیث أنّ المراد هو طبیعة الطهارة المائیة الجامعة لجمیع أفرادها فی الزمان من أوّل الوقت إلی آخره، فیکون


1- «الجواهر»، ج 5، ص 162.

ص:242

الاضطرار موقوفا علی الاضطرار فی جمیع أفرادها الطولیة فی الزمان، وهو لا یتحقق الاّ بتأخیر الصلاة إلی آخر الوقت بمقدارٍ لا یتمکن إلاّ من الصلاة مع الطهارة الترابیة.

والجواب عنه: یکون الأمر کذلک إذا لم یقم دلیلٌ علی أنّ المراد من الاضطرار هنا هو الاضطرار فی أوّل الوقت من الواجب، أی بأن یصدق علیه عدم الوجدان حین وجوب الصلاة علیه بدخول الوقت، والاّ لا یحتاج فی التبدیل الاّ صدق هذا العنوان، أی یقال له بانّه قد وجب علیک الصلاة ولم تجد الماء فعلیک التیّمم بعد صدق الاضطرار علیه فی خصوص هذه الفترة من الزمان.

الدلیل الرابع: وهو العمدة، التمسک بالأخبار الآمرة بالاعادة فی الوقت عند وجدان الماء:

منها: صحیحة یعقوب بن یقطین، قال: «سألت أبا الحسن علیه السلام عن رجل تیمّم فصلّی فاصاب بعد صلاته ماءً أیتوضّأ ویعید الصلاة أم تجوز صلاته؟ قال: إذا وجد الماء قبل أن یمضی الوقت توضّأ وأعاد، فإن مضی الوقت فلا إعادة علیه»(1). حیث حکم بوجوب الاعادة بعد وجدان الماء فی الوقت، فیفهم منه عدم کفایة الصلاة مع التیّمم عن ما فی ذمّته هو المطلوب.

ولکن یمکن أن یجاب عنه اوّلاً: إنّ الخبر علی التوسعة والجواز والاجزاء عند عدم الوجدان أدلّ، لأنّه علّق حکم الاعادة علی الوجدان فی الوقت، فیکون معناه أنّه علی فرض عدم الوجدان تکون الصلاة المأتی بها مع التیمم مُجریة، وأین هذا من القول بوجوب التأخیر إلی آخر الوقت؟!

وثانیا: إنّه یمکن أن یُحمل هذا الخبر مع ملاحظة الأخبار السابقة الدالّة علی


1- وسائل الشیعة: الباب 14 من أبواب التیمّم،، الحدیث 8.

ص:243

الجواز علی الاستحباب بالتصرّف فی الهیئة، جمعا بینه وبین تلک الأخبار خصوصا مع وجود القرینة علی هذا الحمل فی الخبر الآتی الذی تمسّکوا به علی المنع، وهو خبر منصور بن حازم، عن أبی عبداللّه علیه السلام : «فی رجل تیمم فصلّی ثمّ أصاب الماء؟ فقال: أمّا أنا فکنت فاعلاً إنّی کنت أتوضّأ وأعید»(1).

فان الحکم فی المسألة لو کان هو وجوب الاعادة علی کلّ مکلّف لوجب أن یصرّح به، لا أن یسنده إلی نفسه، فیفهم من الاسناد أنّ الاعادة فی ظرف الوجدان أرجح وأولی، مضافا إلی ما عرفت _ علی فرض التسلیم فی الدلالة علی وجوب الاعادة _ من أنّه لا یفید المستدلّ الذی استدل به لوجوب التأخیر إلی آخر الوقت، لأنّ غایة دلالته کون الاجزاء بعد الاتیان مراعی بعدم کشف الخلاف، نظیر الطهارة الثابتة بالاستصحاب _ علی القول بعدم الاجزاء فی الاوامر الظاهریة بعد الکشف _ من دون أن یعمّ الدلیل علی الاجزاء واستحباب الاعادة کما فی المقام، حیث قد عرفت دلالة الخبر الثانی علیه، بل یفهم کون الأمر بالاعادة فیما نحن لأجل الارشاد إلی ادراک مصلحة الصلاة مع الطهارة المائیة.

وأیضا مثل خبر منصور فی الدلالة علی الاستصحاب، خبر محمد بن حمران، عن أبی عبداللّه علیه السلام ،: «قال: قلت له: رجلٌ تیمّم ثمّ دخل فی الصلاة وقد کان طلب الماء فلم یقدر علیه، ثمّ یؤتی بالماء حین تدخل فی الصلاة؟ قال: یمضی فی الصلاة، واعلم انّه لیس ینبغی لاحد أن یتیمم الاّ فی آخر الوقت»(2).

لوضوح أن جملة (لیس ینبغی) دالة علی الکراهة فی الاستعمال، أو توبیخٌ لترک الاستحباب بعدم التأخیر، مع أنّه قد حکم بالمضیّ فی الصلاة وهذا ما یجب البحث عنه مستقلاً فی محلّه.


1- وسائل الشیعة: الباب 14 من أبواب التیمّم،، الحدیث 10.
2- وسائل الشیعة: الباب 21 من أبواب التیمّم،، الحدیث 3.

ص:244

ومثله فی الدلالة: خبر «دعائم الاسلام» المحکی فی «البحار» عن الصادق علیه السلام ، عن آبائه، عن علیّ علیه السلام : «لا ینبغی أن یتیمم من لا یجد الماء الاّ فی آخر الوقت»(1) حیث یؤیّد ما ذکرنا من رجحان التأخیر لا الوجوب کما علیه المستدلّ.

وعلیه یُحمل الخبر المروی فی »فقه الرضا» وهو: «لیس للمتیمّم ان یتیّمم الاّ فی آخر الوقت، أو إلی أن یتخوّف خروج وقت الصلاة»(2)، مضافا إلی ما فی سنده حیث لا یستطیع المعارضة مع تلک الأخبار کما لا یخفی.

نعم، العمدة فی ما یمکن أن یفید مدّعی الخصم طائفة من الأخبار الصحیحة وغیرها:

ومنها: صحیحة محمد بن مسلم، عن أبی عبداللّه علیه السلام ، قال: «سمعته یقول إذا لم تجد ماءً أو أردت التیمم فأخّر إلی آخر الوقت، فإنْ فاتک الماء لم تفتک الأرض»(3).

ومنها: خبر ابن أذینة عن زرارة _ فی الصحیح کما هو المختار، أو الحسن _ عن أحدهما علیهماالسلام : «قال: إذا لم یجد المسافر الماء فلیطلب مادام فی الوقت، فإذا خاف أن یفوته الوقت فلیتیمم ولیصلّ فی آخر الوقت، وإذا وجد الماء لا قضاء علیه ولیتوضّأ لما یستقبل»(4).

ومنها: روایة أخری عن ابن بکیر، عن زرارة مثله، الاّ أنّه جاء فیه بدل: «فلیطلب مادام فی الوقت قوله: «فلیمسک مادام فی الوقت» ولذلک جعلها فی «المنتهی» روایة ثانیة کما فهم کذلک المحقق البهبهانی فی حاشیته علی «المدارک» حیث قال: «إنّ هذه الروایة وردت بإسناد آخر فلیمسک بدل


1- المستدرک، ج 1، الباب 17 من أبواب التیمم، الحدیث 2.
2- المصدر السابق، الحدیث 1.
3- فقه الرضا، ص 88؛ وسائل الشیعة: الباب 22 ، الحدیث 1.
4- وسائل الشیعة: الباب 14 من أبواب التیمّم،، الحدیث 3.

ص:245

فلیطلب» وعلیه تکون دلالتها علی مطلب الخصم أوضح.

ومنها: موثقة ابن بکیر، عن أبی عبداللّه علیه السلام ، قال: «قلت له: رجل أمّ قوما وهو جنبٌ وقد تیمّم وهو علی طهور؟ قال: لا بأس، فإذا یتیمم الرجل فلیکن ذلک فی آخر الوقت، فإن فاته الماء فلن تفوته الأرض»(1).

ومنها: موثقته الأخری المرویّة فی «قرب الاسناد» قال: «سألت أبا عبداللّه علیه السلام عن رجل أجنب فلم یجد ماءً یتیمم ویصلّی؟ قال: لا حتّی آخر الوقت، إن فاته الماء لم تفته الأرض»(2).

ومنها: خبر محمد بن حمران، عن أبی عبداللّه علیه السلام ، قال: «واعلم أنّه لیس ینبغی لأحدٍ أن یتیمم الاّ فی آخر الوقت»(3).

وصدره وتمامه فی بابٍ آخر، وهو هکذا: «قال: قلت: رجلٌ تیمّم ثمّ دخل فی الصلاة، وقد کان طلب الماء فلم یقدر علیه، ثمّ یؤتی بالماء حین تدخل فی الصلاة؟ قال: یمضی فی الصلاة واعلم انّه...»(4).

أقول: هذه جملة ما استدلوا بها علی المنع عن البدار والحکم بوجوب الانتظار إلی آخر الوقت، ولکن التأمّل والدقة فیها، خصوصا مع ضم بعضها الی بعض یوجب حصول الظن علی أنّ الحکم بالتأخیر إنّما هو لرجاء زوال العذر، فإن الأمر بالطلب فی صحیحة محمد بن مسلم وزرارة علی أحد النقلین، بل وکذا قوله: «وإنْ فاته الماء لم تفته الأرض» تکون دلالتها علی ما ذکرنا أبلغ.


1- وسائل الشیعة: الباب 22 من أبواب التیمّم،، الحدیث 3.
2- المصدر السابق، الحدیث 4.
3- المصدر السابق، الحدیث 5.
4- وسائل الشیعة: الباب 21 من أبواب التیمّم،، الحدیث 3.

ص:246

قوله: کما قد یؤیّد ذلک صدر حدیث محمّد بن حمران عمّن طلب الماء ولم یقدر ودخل فی صلاته ثمّ وجد الماء، حیث أنه مؤیّد لما قال فی ذیله بقوله: «واعلم أنّه لا ینبغی لأحدٍ أن یتیمّم الاّ فی آخر الوقت» حیث انّه یناسب مع استحباب التأخیر لرجاء الوجدان.

نعم، بقی هنا فی الدلالة علی المنع ما ورد فی خبر زرارة بناء علی أن الکلمة الواردة هی (فلیمسک) بدل (فلیطلب) حیث یکون مؤیّدا للمنع.

ولکن التردید فی کونهما روایة واحدة أو اثنتین کما قیل، ثمّ علی الأوّل فهل أن الکلمة الواردة هی هو (فلیطلب) أو (فلیمسک) یوجب الاضطراب فی الاستدلال کما لا یخفی.

مضافا إلی ما قد یقال _ ونِعم ما قیل _ أنّه لا معنی للأمر بالطلب مع العلم بالعدم، بل قد یقال باستحالة طلب ما یعلم بعدم الوصول الیه عرفا، بل لو کان لفظ الخبر (فلیمسک) بدل (فلیطلب) لکان فیه أیضا تلویح إلی أنّ الامساک کان لمکان رجاء الوصول إلی الماء، اذ من المسبعد جدّا أن یأمر بالتأخیر تعبّدا مع القطع باتیان الصلاة فی آخر الوقت تیمّما.

والحاصل: إنّ مقتضی الجمع بین الطائفتین من الأخبار المطلقة الواردة، کما فی أخبار التوسعة، حیث کانت مطلقه بالنسبة إلی رجاء زوال العذر ولیست صریحة فیها، والأخبار المانعة الظاهرة _ کما عرفت _ فی حصول العذر المرجوّ للزوال، هو تقیید فی الأخبار المجوزة، وتکون النتیجة التوسعة فی صورة عدم رجاء الزوال، ولازم ذلک هو القول بأنّ التفصیل فی المورد وهو وجوب التأخیر مع رجاء الزوال أجود، سواءٌ کان عالما بذلک أو ظانا به أو احتمله بالاحتمال المساوی بل الموهوم فیما إذا کان الاحتمال احتمالاً عقلائیا. نعم یجوز البدار مع العلم بعدم الزوال أو الاطمینان.

ص:247

وعلیه، فاذا استظهرنا ذلک من الأخبار _ کما علیه عدّة من المحققین _ یکون الدلیل علی وجوب التأخیر دلیلاً اجتهادیا علی عدم جواز البدار لذوی الاعذار، إلاّ إذا حصل له العلم أو الاطمینان بعدم الزوال، فلا یجوز الرجوع بتجویز البدار مع العذر إلی استصحاب بقاء العذر إلی آخر الوقت، لانّه دلیل فقاهتی وأصل عملی. ومع وجود الدلیل الاجتهادی الموجب لرفع الشک لا مجال للرجوع إلی الأصل العملی.

هذا، مضافا إلی ما فی الأصل العملی المستدلّ به للأمر الاستقبالی من ااشکال، من جهة وجود الشک فی الاستقبال والیقین فی الحال، حیث یستلزم الحکم ببقاء الیقین إلی حین الاستقبال، وهو ممنوعٌ، للشک فی شمول دلیل الاستصحاب لمثله، لأن مورد جریانه هو الیقین السابق علی الشک الموجود فی الحال لا عکسه، لأنّه قد یدّعی انصراف الأخبار عنه، وتفصیل الکلام فیه موکول إلی محلّه. هذا فضلاً عن أنّه قد ادّعی الانصراف فی الأخبار عن الاستصحاب القهقرائی، فلاحظ موضع مظّانه.

حکم المتیمّم بالنسبة إلی الصلوات اللاحقة

إنّ البحث فی جواز البدار لذوی الأعذار والاتیان بالتیمم فی سعة الوقت وعدمه، ثابتٌ فی غیر مورد التیمّم کما صرّح بذلک جماعة، ویظهر من آخرین، وقد حکی عن الشیخ فی «المبسوط»: «أنّ من کان متیمما لصلاةٍ قد ضاق وقتها، أو لنافلةٍ أو لغایةٍ ثمّ حضر وقت صلاةٍ أخری، أو کان حاضرا جاز له الصلاة» من دون أن یلزمه رعایة التضّیق، تمسکا بظهور الأدلة الدالة علی أنّ لزوم رعایته مختصٌ بغیر المتیمم، ولما ورد من الدلیل علی کفایة تیممٍ واحدٍ لصلوات متعدد،

ص:248

مضافا إلی وجود المقتضی من التطهیر وسببیّة الوقت للوجوب وارتفاع المانع.

ثمّ یتفرّع علیه: أنّه یجوز للمکلّف التیمم فی سعة الوقت لغایةٍ أخری غیر الحاضرة، ثمّ یُصلّی به قبل الضیق، بل لو أراد الاتیان بالصلاة مع یتیمم واجبٍ، جاز له أن ینذر نافلةً ویتیمم لها ثمّ یدخل بها. وهذا هو أحد القولین فی المسألة، وهو مختار صاحب «الجواهر» قدس سره .

والقول الآخر: هو عدم الجواز، وهو عن الشهید فی «البیان»، والسیّد فی «المصباح» بل وجملة من المتأخرین، منهم المحقّق الآملی، بل هو اختیار کلّ من قال بالمضایقة مطلقا.

وجه الاستدلال: أنّ مورد الأخبار والأدلة وإن کان بظاهرها فی غیر المتیمم، إلاّ أنّه قد ذکر فی بعضها العلّة التی تشمل لغیر المورد، أی الحکم فیها صدر معلّلاً بعلة معمّمة شاملة لغیر المورد، وهو ذکر رجاء وجدان الماء وزوال العذر الجاری فی المتیمّم أیضا.

وامّا صدور الأخبار بکفایة تیمم واحدٍ لصلواتٍ متعددة، لا یقتضی ولا یستلزم الحکم بجواز ایقاع الصلاة فی أوّل أوقاتها. نعم إذ أتی بالتیمم عند تحقق تمام شرائطه، فإنّه یکفی مثله لصلوات متعددة بلا خلافٌ.

کما أنّ دعوی انتفاء المانع لشموله للمورد ممنوعة، بدعوی وجود المانع هنا، وهو الرجاء بزوال العذر، وهو یکفی فی الحکم بالتأخیر ولو بالاحتیاط، کما قلناه فی تعلیقتنا، کما أنّ الأمر کذلک عند من ذهب إلی المضایقة مطلقا.

نعم، الأدلة الدالة علی کفایة یتیمم واحد للصلوات المتعددة تدلّ علی کفایة هذا التیمم للصلاة إذا ضاق وقتها، ولا یحتاج مثل هذا المکلّف الی تیممٍ جدید، بل لم یعرف من أصحابنا من حکم بوجوب التجدید فی المسألة، وإنْ حُکی عن

ص:249

«الایضاح» انّه ذکره وجها أو قولاً، ولکنّه ضعیف قطعا، لقیام تلک الادلّة والعمومات فی مقابله. نعم حُکی عن بعض العامّة القول بوجوب التجدید وهو محجوجٌ کما لا یخفی.

الأخبار الدالة علی کفایة تیمّم واحد

الأخبار الدالة علی الکفایة کثیرة:

منها: حدیث زرارة عن الباقر علیه السلام ، قال: «قلت له: یُصلّی الرجل بتیمم واحد صلاة اللیل والنهار کلّها؟ فقال: نعم، ما لم یُحدث أو یصب الماء»(1).

ومنها: خبره الآخر عن الصادق علیه السلام : «فی رجل تیمّم؟ قال علیه السلام : یجزیه ذلک إلی أن یجد الماء»(2).

ومنها: خبر حمّاد بن عثمان، قال: «سألتُ أبا عبداللّه علیه السلام عن الرجل لا یجد الماء یتیمّم لکلّ صلاة؟ فقال: لا هو بمنزلة الماء»(3).

ومنها: خبر السکونی، عن الصادق، عن أبیه، عن آبائه علیهم السلام : «قال: لا بأس بأن تصلّی صلاة اللیل والنهار بتیممٍ واحدٍ ما لم تُحدث أو تصب الماء»(4).

هذا کلّه إنّما کان للفرائض حیث لا تقتضی الأدلة وجوب تأخیر التیمم إلی آخر الوقت الاّ للموقت منها کما عرفت فی الأدلة المذکورة فی ابتداء البحث دون غیر الموقته.


1- وسائل الشیعة: الباب 20 من أبواب التیمّم،، الحدیث 1.
2- المصدر السابق، الحدیث 2.
3- المصدر السابق، الحدیث 3.
4- المصدر السابق، الحدیث 5.

ص:250

حکم جواز أداء القضاء والنوافل بالتیمّم

یدور البحث عن حکم القضاء والنوافل، وأنّه هل یجوز الاتیان بهما مع التیمم فی کلّ وقتٍ ولو علم زوال العذر وبقاء الوقت أو لابدّ فیهما أیضا من رعایة هذین الأمرین فی جواز الاتیان بهما مع التیمم لذوی الاعذار؟ فیه وجهان بل قولان، فلا بأس بأن نبحث عن حکم کلّ واحد من القضاء والنوافل مستقلاً حتّی یتضّح المطلب، فنقول:

وامّا قضاء الفرائض: فی «الجواهر» قال: «فمن أراد قضاء فائتةٍ ولو قلنا بالتوسعة فی القضاء، أو نافلةٍ راتبةٍ مع سعة وقتها أو مبدأة فی الأوقات المکروهة أو غیرها أو نحو ذلک، جاز له التیمم والفعل للقاعدة إن قلنا باقتضاءها ذلک أو عموم المنزلة ونحوه. خلافا للمصنّف فی «المعتبر» فمنع منه للنافلة فی خصوص الوقت المکروه ولا نعرف له وجها، نعم یشترط تحقّق الخطاب الشرعی بما أرید التیمم له من الأفعال المندوبة لا قبله، من غیر فرق فی ذلک بین صلاة الخسوف والجنازة والنافلة وغیرها فتأمل جیّدا» انتهی(1).

أقول: وما ذکره واختاره موافق لفتوی جماعةٍ من الفقهاء منهم السیّد فی «العروة» _ فی المسألة 6 من أحکام التیمم _ وفاقا لکثیرٍ من أصحاب التعلیق، وصاحب «مستند الشیعة»، خلافا للشهید فی «البیان» وکذلک السیّد فی المسألة 34، حیث احتاط فی القضاء بالتأخیر إلی خوف الفوت بالموت، أو مع العلم بعدم زوال العذر، وهذا هو الأوجه عندنا کما علیه العلاّمة البروجردی والآملی صاحب «مصباح الهدی»، ولعلّ أحسن من أقام الدلیل علی الجواز هو صاحب «مستند الشیعة» فینبغی التعرض لکلامه ثمّ مناقشته، قال: فیجاب عنه.


1- «الجواهر»، ج 5، ص 166.

ص:251

«یتیمم للفائت فریضةً کانت أو نافلة فی کلّ وقتٍ تذکّر وأراد فعلها، وأمّا علی القول بالمضایقة فی القضاء فظاهر، وأمّا علی التوسعة فلعمومات جواز فعلها متی ذکرها، واطلاق الآیتین، وأخبار التیمم مع أصالة عدم الوقت لها بوقتٍ، خلافا للبیان فقال لا یتیمم للفائت، لأنّ وقتها العمر فیشملها أخبار التأخیر إلی آخر الوقت. وفیه: إنّ هذا التحدید غیر مستفاد من التوقیت، بل هو من مقتضیات عدم الفوریة، ومثل ذلک لیس وقتا، بل یجوز التیمم فی کلّ وقتٍ لمن علیه فائته ولو لم یرد فعلها، لأنّ وجوبها علیه مستلزم لوجوب مقدمتها التی هی التیمم مع العذر، فلا مناص من القول إمّا بعدم وجوب الفائتة حین العذر أو بوجوب مقدمتها أیضا. والأوّل ظاهر الفساد بالاجماع والعمومات، فتعیّن الثانی. ثمّ ذکر حکم غیر الموقّتة من سائر الصلوات من النوافل والنذر المطلق وذهب الی أنّ حکمها کالقضاء فی جواز البدار بها مع التیمم حتّی النوافل المبتدئة فی أوقات کراهتها. إلی أن قال: وأمّا ماله وقتٌ کالنذر الموقّت، والنوافل الیومیّة والآیات والعیدین، فمقتضی اطلاق أخبار المضایقة فی التیمم عدم صحّتها الاّ فی آخر أوقاتها. ودعوی ظهورها فی الفرائض الیومیّة، غیر مسموعة، ولکن قیل الظاهر عدم الخلاف فی جواز التیمم لکلّ منها فی حال ایقاعها، فإن ثبت الاجماع فهو، والاّ فالوقوف علی الأخبار» انتهی(1).

أقول: لا یخفی أنّ ظاهر استدلاله علی جواز البدار هو العمومات واطلاقات أخبار التیمم بضمیمة أصالة عدم التوقیت، وکفایة أصل وجوب الفائته فی جواز الاتیان بمقدمتها وهو التیمم، بل عدّة واجبا، ولکن الاشکال هو أنّ المستفاد من الأخبار أن جواز البدار مع رجاء الزوال غیر ثابتٍ، خاصة إذا کان وقت الفریضة موسعة إلی آخر العمر حیث لا یصدق علیه عدم الوجدان المجوّز لاتیانه، الاّ فیما


1- مستند الشیعة للنراقی، ج 1، ص 230.

ص:252

لم یکن له فرد مشتمل علی الطهارة المائیة، وهذا العنوان قد ینطبق علی الموقّتات وهو واضح، وقد ینطبق علی الموسّع فیما إذا کان له فرد واحدٌ بالهارة المائیة، ولا یوجب ذلک کون الفائتة من الموقتات لعدم کون الزمان حینئذٍ دخیلاً فی المصلحة بل المصلحة، قائمة علی أصل الفعل فی أی وقت قام بأدائه، ءالاّ أن شرطیة الطهارة بالماء محفوظة إلی أن یضطر الیه، ولو مع العلم والاطمینان ببقاء العذر، لأنّ دلیل البدلیة لا یقتضی عموم ذلک حتّی لمن یرجی الزوال، بل مقتضاه أصل البدلیة عند فقد الأصل. وعلیه فمقتضی مفاد اطلاقات الصلوات الاختیاریة هو لزوم تحصیل شرطها وعدم جواز البدار فی فعل القضاء مع العذر، الاّ عند خوف الفوت بمفاجأة الموت أو مع الیأس من البرء وزوال العذر، بل الدقة فی دلیل القضاء بقوله: «اقض ما فات کما فات» یفید لزوم حفظ کلّ ما یعتبر فیه فی قضائه الاّ ما قام الدلیل علی خلافه، وهو غیر موجود، لأنّ التوقیت لم یکن داخلاً فی ملاک شرطیة حتّی یزول بزوال الشرطیة، کما قد یتوهّم ذلک من کلام صاحب «المستند» فی جواب الشهید فی «البیان».

وعلیه فالأقرب عندنا أنّ حکم القضاء کحکم الاصل فی عدم جواز البدار مع رجاء زوال العذر.

فی الفرائض الفائتة

هذا تمام الکلام فی الفوائض الفائتة.

وأمّا حکم النوافل: وهی علی قسمین الموقّتات وغیرها:

وأمّا الأولی: فحکمها حکم الفرائض الموقتة، فلا یجوز التیمم مع سعة الوقت مع رجاء الزوال، فیجوز مع الیأس الاتیان فی أوّل الوقت کالاتیان بصلاة اللیل فی أوّل الثلث الأخیر من اللیل، أو أوّل النصف الثانی من اللیل مع الیأس عن

ص:253

زوال العذر، والاّ لا یجوز الا فی آخر الوقت، لأنّ الدلیل اثبات ذلک لیس إلاّ العمومات الواردة فی الموقّتات الشاملة باطلاقها للفریضة والنافلة.

ودعوی انصرافها إلی خصوص الفرائض غیر مسموعة، لاشتمالها من خلال التعلیل وبیان الملاک الشامل بعمومه للنوافل الموقّته أیضا، فلا یجوز البدار الاّ مع خوف الفوت أو مع الاطمینان بعدم الزوال.

وأمّا الثانیة: النوافل غیر الموقتة، سواءٌ کانت من ذوی الاسباب أو المبتدئة، فیقع البحث فیها عن أنّه هل یعتبر فیها رجاء الزوال أو لا؟

فمقتضی الاطلاقات الواردة فی التیمم بأنّه (أحد الطهورین) وأنّه (یکفیک عشر سنین) و(أنّ ربّ التراب هو ربّ الماء) وأمثال ذلک عدم اعتباره و جواز البدار حتّی مع رجاء الزوال کما علیه الفتوی بل الاجماع، حیث لم نجد من صرّح بالخلاف، بل ظاهر کلمات الأصحاب کون الجواز من المسلّمات، لأنّهم ذکّروا فی البحث عن الجواز وعدمه فی الموقّتات من النوافل، ففط، ممّا یفید أنّ الجواز فی غیرها من المسلّمات، فإن کان فی المسألة اجماع فهو الحجّة ویکفی فی اثبات الحکم، والاّ یمکن المطالبة بالدلیل مع ملاحظة عمومیة الدلیل الدالّ علی لزوم رعایة شرطیة الطهارة المائیة من الاطلاقات الأوّلیة.

ودعوی أنّ جواز البدار مع عدم رجاء الزوال مختصٌّ بالموقتات ممنوعة، لأنّه یوجب الاشکال فی مثل قضاء الفوائت علی التوسعة، حیث انّها لم تکن من الموقتات وبرغم ذلک حکم فیه بعدم الجواز مع رجاء الزوال.

نعم، یمکن استفادة التسهیل فی النوافل، ولا اقلّ فی غیر الموقتة منها من ملاحظة عموم بدلیة التراب للماء فیما یمکن تحصیل الماء بسهولة مثل التیمم فی صلاة الجنازة، والتیمم بدل الوضوء للنوم، وبدلیته فی موارد الزحام وغیره، حیث

ص:254

یجوز بدلیته عن الوضوء فی النوافل ولو مع العلم بزوال العذر بعد ذلک، وإن کان الاحتیاط بالتأخیر فی غیر خوف الفوت أو الیأس عن زوال المانع یعدّ حسنا جدّا.

وعلیه، فاذا قلنا بالجواز فی غیر الموقتة من النوافل المبتدئة، فحینئذٍ لا فرق فیه بین اتیانها فی الأوقات المکروهة أو غیرها کما علیه للمشهور، خلافا للمحکی عن «المعتبر» و«المنتهی» و«التذکرة» حیث لم یجوّزوه فی المبتدئة الواقعة فی الأوقات المکروهة. وفی «الجواهر» وغیره أنّه لم یعلم للمنع عنه وجه، وفی «مصباح الهدی»: «ولعلّ نظرهم إلی مرجوحیة الصلاة فی أوقاتها المکروهة، فذهبوا إلی عدم شمول أدلة مشروعیة التیمم لها».

هذا، ولکن مرجوحیّتها لا تنافی رجحانها الذی به یتمّ کونها عبادة، فلا مانع عن شمول ادلّة التیمم لها،

أقول: لکن التأمّل فیه ربما یفید أنّ الوجه عندهم هو قیام الاجماع علی جواز البدار فی التیمم فی غیر الموقتة، فیقتصر فیه علی موضع الیقین، وهو فی غیر المبتدئة المأتی بها فی الأوقات المکروهة، نعم، قد یقع اللکام فی أصل قیام مثل هذا الاجماع المقتضی لذلک، مع ما عرفت من أنّ الدلیل علی الحکم هو الاستظهار من النصوص، وعلیه فالأوجه ما علیه المشهور، واللّه العالم.

وبالجملة: ممّا ذکرنا ظهر الخلل فی کلام صاحب «الجواهر» حیث حکم بالجواز حتّی فی قضاء الفرائض والنوافل الموقّتة من ذوات الأسباب وغیرها، حتّی مع العلم بزوال العذر فضلاً عن الرجاء به.

نعم، لابدّ فی جواز البدار فیما یجوز تحقّق الخطاب الشرعی بما أرید التیمم له من الأفعال المندوبة لا قبله، حتّی تلاحظ فیه مشروعیة التیمم بدل الوضوء والغسل، وهو لا یحصل إلاّ بعد تحقّق الخطاب الشرعی.

ص:255

قوله: والواجب فی التیمم النیّة واستدامة حکمها (1)

فرع: هل یجب التأخیر فی التیمم الذی کان سببه غیر فقد الماء، بل کان خوف المرض أو وقوع التلف وأمثال ذلک، فهل یجوز البدار مع العلم بزوال العذر أو لا یجوز حتّی مع رجاء الزوال، فضلاً عن العلم بعدمه؟ فیه وجهان بل قولان:

1_ قولٌ بعدم الجواز کالمسألة السابقة، وهو المنقول عن الشهید فی «روض الجنان»، بل قد حکی الاجماع علی عدم الفرق بین المورد وبین السابق خلافا.

2_ وقول بالجواز وهو لصاحب «الجواهر» حیث أجاز البدار فی سعة الوقت، حتّی علی القول بالتضیّق تمسکا بقضیة القاعدة وعموم البدلیة.

وفیه: سبق القول بأن الملاک والتعلیل الوارد فی أخبار فقدان الماء یشمل سائر الأسباب أیضا حیث أنّه مع رجاء رفع العذر وحصول البُرء فی الوقت واتیان الصلاة مع الطهارة المائیة، یُشکل الاکتفاء بالبدل فی ابتداء الوقت، وعموم البدلیة لا یوجب رفع الید عن الشرطیة المستفادة من اطلاقات الأدلة الأولیة فی الصلاة کما لا یخفی علی المتأمل.

(1) لا اشکال فی أنّ التیمم یعدّ من العبادات، فیحتاج إلی النیة کسائر العبادات اجماعا محصلاً ومنقولاً مستفیضا حدّ الاستفاضة، إنْ لم یکن متواترا عندنا وعند جمیع علماء الاسلام إلاّ من شذّ.

الدلیل علی هذا الحکم هو الکتاب آیة النیّة، والسنّة مع توقف صدق الامتثال والطاعة علیها، وقد عرفت تفصیلها فی باب الوضوء، وأنّ تحقّقها منوط باتصاف العبادة بکونها منویّة منبعثة عن البعث والارادة المتقدمة المتعلقة بالفعل سواءٌ کانت مقارنةً لأوّل جزء منه أو مفصولة عنه ولو قبل ایجاد مقدماته بالارادة

ص:256

التفصیلة الاخطاریة، أو بالارادة الاجمالیة الارتکازیّة التی تُسمّی عند المتأخرین بالداعی، ویکفی فی صحة العبادة وجودها مع استمرارها واستدامتها إلی آخر الفعل، فلا تحتاج صحة العبادة إلی الارادة التفصیلة الاخطاریة کما قد حُقق تفصیلها فی باب الوضوء، فلا حاجة إلی تکرارها هنا.

أقول: البحث هنا یقع فی أمورٍ:

الأمر الأوّل: البحث عن محتوی النیّة هنا، وهل هو رفع الحدث أو قصد الاستباحة أو لا رافع للحدث ولا مبیح؟ وجوه: والبحث عن ذلک یقع فی مقامین:

المقام الأوّل: البحث عن أنّه هل یعتبر فی صحة أنّه التیمّم رافع للحدث أو محصّل للاستباحة أو لا یعتبر شیءٌ منهما؟

والمختار عند المحققین کونه رافعا للحدث، وعند آخرین کونه مبیحا لا رافعا للحدث، وقد ادّعی علیه الاجماع، وبانتقاض التیمم بوجدان الماء مع أنّه لیس بحدثٍ قطعا.

أقول: تحقیق الکلام فیه موقوف علی بیان کیفیة التقابل الموجود بین الطهارة والحدث، وهل هو علی نحو التضاد أو بتقابل الوجود والعدم، وعلی الثانی فهل الأمر الوجودی هو الطهارة أو الحدث، أو انّهما متخالفان یمکن اجتماعهما فی محلّ واحد؟ وجوه، والمحتملات فیه أربعة:

الاحتمال الأوّل: أن یکون التقابل بینها بالتضاد، بأن یکونا أمرین وجودین لا یجتمعان فی محلّ واحد، وأن الطهارة صفة خاصة نفسانیه تحصل للنفس حالة نورانیة عند تحقق اسبابها من الوضوء والغسل، ویعبّر عنه بالنور، کما ورد فی الحدیث بأنّ «الوضوء علی الوضوء نور علی نور»، والحدث صفة نفسانیة تعرض علی النفس من القذارة المعنویة عند تحقق أسبابها وموجبات الغسل

ص:257

والوضوء، فتکون الطهارة والحدث علی هذا الفرض کالسواد والبیاض من الضدین اللذین لها ثالث، فلازم هذا الفرض أنّه لو خُلق انسان مکلّف دفعة واحدة فهو لا متطهرٌ ولا محدث إذا لم یصدر منه بعدُ حدثٌ، فیجب علیه تحصیل الطهارة لما یشترط فیه ذلک، فلازمه کون کلّ واحد منهما موجبا لرفع الآخر، لعدم امکان اجتماع الضدین فی محلّ واحدٍ.

الاحتمال الثانی: أن تکون الطهارة أمرا وجودیا والحدث أمرا عدمیا، ویکون التقابل بینهما علی نحو تقابل العدم والملکة، فیکون الحدث هو عدم الطهارة عمّن من شأنه أن یکون متطهرا، ویترتّب علی هذا أن یکون من خُلق دفعة مکلّفا کونه محدثا بهذا المعنی، أی عدم الطهارة له ما لم یحصل منه سبب الطهارة، فیجب علیه تحصیلها لما یشترط فیه ذلک، وهما أیضا مثل سابقه لا یجتمعان، فوجود الطهارة یوجب رفع الحدث ولا یمکن اجتماعهما فی المکلّف.

الاحتمال الثالث: هو عکس ذلک، فالحدث أمر وجودی وهو قذارة معنویة تحصل باسبابها، والوضوء والغسل رافعان لهذه القذارة، ویترتّب علیه أنّ الانسان المزبور یکون متطهرا حین الخلق ما لم یصدر منه موجبٌ من موجبات الحدث، فلا یجب علیه قبل حصول أسباب الحدث تحصیل الوضوء والغسل لکونه متطهرا حینئذٍ.

الاحتمال الرابع: کون التقابل بینهما علی نحو تقابل المتخالفین کالسواد والحلاوة، فیکون حینئذٍ کلّ منهما أمران وجودیان، فیمکن اجتماعهما فی محلّ واحد، کما هو کذلک فی وضوء المسلوس والمبطون، وکذا الأعمال الواجبة علی المستحاضة الوجبة لتحقق الطهارة لها حقیقةً، مع أنّها محدث.

أقول: أضعف المحتملات هو الأخیر، ولو فرض صحته کان ذلک بالنسبة إلی

ص:258

الحدث المقارن لا السابق، اذ لا وجه لاحتمال بقائه بعد حصول الطهارة بعده، وأوجه الاحتمالات وأحسنها هو الاوّل کما یظهر ذلک من نفس الأخبار بکون الطهارة صفة نورانیة والحدث قذارة معنویة.

ثمّ علی فرض کون الطهارة أمرا وجودیا، سواءٌ کان الحدث مثله أیضا کالاحتمال الأوّل أو أمرا عدمیا کالاحتمال الثانی، قد یقتضی سببها حدوثها علی الاطلاق بحیث لا یخرج عنها إلاّ بحدوث سببٍ من أسباب الحدث، وقد یقتضی لذلک فی حالٍ دون حال، وعلیه فیتصور أن یکون التیمم موجبا للطهارة فی حال عدم التمکّن من استعمال الماء لفقده أو للمرض دون حال التمکّن منه، فلازمه کون التمکن من الماء مزیلاً للطهارة وتلک الحالة، وهذا أمر ممکن ویصدّقه الدلیل، فلا یکون حینئذٍ وجدان الماء ناقضا لها حتی یقال بقیام الاجماع علی عدم کونه من النواقض، کما یظهر دعوی ذلک من کلام صاحب «الجواهر» قدس سره .

أقول: العمدة حینئذٍ الاستدلال علی رافعیة التیمم للحدث وأنّه سبب للطهارة، وهذا المعنی یثبت ممّا ورد من أنّ (التراب أحد الطهورین) ومن قول النبیّ صلی الله علیه و آله «جُعلت لی الأرض مسجدا وطهورا» حیث یدل علی أنّ التیمم طهارة، فما یدلّ من الدلیل علی أنّ وجدان الماء یعدّ رافعا للطهارة، یدلّ علی أنّ بقائها مقید ببقاء صفة العجز، کما أنّ قوله تعالی: «لم تجدوا ماءا فیتیمّموا» یدلّ علی أنّ حدوثها بالتیمم مقیدٌ بها.

فان قلت: ظاهر بعض الأخبار أنّ الحدث بعد التیمم باق، ویظهر ذلک ما جاء فی قول النبیّ صلی الله علیه و آله لابن العاص بعد أن صلّی بأصحابه متیّما: «صلّیت بأصحابک وأنت جُنُب»(1).


1- کنزالعمال، ج 5، ص 143، القم 2943.

ص:259

وفی خبر ابن بکیر، قال: «قلت للصادق علیه السلام : رجلٌ أمّ قوما وهو جُنُبٌ وقد تیمّم وهم علی طهور»(1).

بل الثانی صریحٌ فی عدم کون التیمم طهورا، حیث قد جعل التیمم فی مقابل الطهور الموجود عند المأمومین، مضافا إلی ما ورد من کراهة الایتمام بالمتیمم، اذ لولا بقاء الحدث وعدم ارتفاعه به، لما کان وجه لکراهة الایتمام به، وهو الذی تمسک به القائلون بعدم کونه رافعا للحدث.

قلت: یمکن أن یجاب عنه بامکان أن تکون الطهارة ذات مراتب، ویکون التیمم محصّلاً لمرتبةٍ منها لا مطلقا، بل مع العجز عن الماء. ویؤیّده ما ورد فی استحباب التیمم لمن أراد النوم مع الجنابة، وهو قادر علی الغسل حیث أنّه یوجب تحصیل مرتبة من الطهارة التی تزیل کراهة النوم وشرب الماء والأکل بعده، فهکذا یکون الحال فی المقام، فعلیه یصحّ القول بکراهة الایتمام خلف المتیمم، ویصحّ مقابلته مع من کان متطهرا حقیقة.

أقول: هذا التوجیه وان کان خلاف الظاهر من الخبرین، الاّ أنّه لا محیص عنه بعد ملاحظة ما ورد من طهوریة التراب کالماء.

والمحصّل من الجمیع: کون التیمم رافعا للحدث رفعا مقیّدا ببقاء العجز عن استعمال الماء، فاذا ارتفع یرتفع، هذا کما علیه السیّد المرتضی رحمه الله والشهید فی «القواعد» والشهید الثانی فی «شرح الألفیة» وصاحب «المدارک» والمحقّق الهمدانی، والمحقق الآملی وغیرهم من الاساطین وهو وجیه عندنا، واللّه العالم.

کیفیّة نیّة المتیمّم

المقام الثانی: ویدور البحث فیه عن أنّه هل یجب فی التیمّم نیة رفع الحدث،


1- وسائل الشیعة: الباب 17 من أبواب صلاة الجمعة، الحدیث 3.

ص:260

أو کونه مبیحا لما یشترط فیه الطهارة، أو لا یعتبر شی ء منهما؟ وجوه: المحکی عن جماعة من المحققین والأصحاب اعتبار قصد أحدهما، خصوصا رفع الحدث الذی کان علیه الأکثر، مدّعیا ومستدّلاً بأنّ اللازم هو امتثال الأمر والاطاعة، وهما لا یتحقّقان إلاّ أن یکون المأمور فی مقام الامتثال قصد ما هو «المعتبر» فی المأمور به فی الواقع من الوجوه والأوصاف، حتّی یطابق متعلق الارادة الفاعلیة لما یتعلق به الارادة الآمریة وتحصل الطاعة، وهو لا یکون الاّ مع قصد ما هو «المعتبر» فیه من رفع الحدث عند من یعتبره، أو قصد الاستباحة لمن یعتبر فیه ذلک، ولأجل ذلک فرّع علیه صاحب «الجواهر» بفساده لو نوی بالتیمم رفع الحدث علی نحو ما یفع فی الماء، وکذا یتجّه الفساد ما لم یکن المنویّ الرفع مادام مضطرّا بناءً علی اعتبار الاستباحة فیه، وکذا یقوی الفساد لو نوی الاستباحة لرجوع جمیع ذلک إلی عدم نیة ما هو الواجب علیه فی التیمم، فی التطابق بین الأمر الواقعی وبین المأتی به فی مقام الامتثال، بخلاف ما لو نوی مطلق الاستباحة أو الاستباحة مادام مضطرا، أو رفع الحدث مادام مضطرا، بلا فرق بین جعل الرفع متعلق القصد بدون العلّیة کما لو نوی رفع الحدث بالتیمم مثلاً للمشروط به، وبین جعله علة للتیمّم کأن یقول أتیمّمُ لرفع الحدث.

نعم، حیث کان مختاره عدم اعتبار نیة رفع الحدث أو الاستباحة فی التیمم کالوضوء، فلا یوجب نیة رفع الحدث بصورة المطلق أو الاستباحة کذلک، أو نیة رفع المنع مادام مضطرا، أو رفعه کالطهارة المائیة جهلاً أو نسیانا أو غیر ذلک مبطلاً، لصدق الامتثال، وإنْ لغی بنیّةٍ لأمرٍ خارجٍ عن حقیقة التیمم فی الثانی.

أقول: والأقوی عندنا _ کما علیه المحقق الآملی، والسیّد فی «العروة» وکثیر من أصحاب التعلیق _ عدم اعتبار قصد رفع الحدث ولا الاستباحة فیه، لأنّ

ص:261

«المعتبر» فی الامتثال لا یکون أزید من اعتبار التطابق بین المأمور به والمأتی به، فیما یعتبر فی متعلق الأمر، وهو لیس الاّ الاتیان بأصل العمل مع قصد القربة، من دون دخالة دعویة قصد الرفع أو الاستباحة وغیرهما من الأوصاف فی متعلّق الأمر، کما لا یکون قصد الوجه من الوجوب والندب داخلاً فیه، فإذا أتی المکلّف بالتیمم الذی أُمر به متقربا إلی اللّه تعالی، یترتب علیه رفع الحدث أو الاباحة لما یشترط فیه ذلک، من دون لزوم قصد ذلک فی مقام الاتیان، فإذا لم یکن قصد أحدهما معتبرا، فلا یکون قصد الخلاف بصورة السهو أو الجهل أو غیره _ ما لم یصل إلی حدّ التشریع _ مفسدا، لأنّ الآثار مترتبة قهرا علی ما هو علیه فی الواقع، إذا أراد الامتثال والاتیان بالمأمور به بالأمر الواقعی کما لا یخفی.

الأمر الثانی: أی من جملة ما یقع البحث فیه فی محتوی النیّة، هو أنّه:

هل یلزم اعتبار نیّة البدلیة فی التیمم مطلقا؟

أو لا یعتبر فیه ذلک مطلقا، أو یفصّل تارةً: بین ما لو اتّحد مع ما فی الذمّة فلا یعتبر، أو یتعدّد فیعتبر.

وأخری: یغصّل بین المتعدد أیضا بأنّه إذا لم یکن الاختلاف فی الکیفیة فلا یعتبر، والاّ یعتبر؟

الأقوال فیه ثلاثة بل أربعة:

1_ قولٌ بعدم الاعتبار مطلقا، وهو المحکی عن جماعة من المحققین کصاحبی «المدارک» والذخیرة وصاحب «کشف اللّثام»، بل قد نسب إلی أکثر المتأخرین ومنهم المحقّق الآملی قدس سره فی «مصباح الهدی».

2_ وقولٌ بالاعتبار مطلقا، وهو کما عن اطلاق «الوسیلة» و«الجامع» و«اللّمعة» و«جامع المقاصد»، وظاهر «الروضة» و«الخلاف»، وکثیر من کتب

ص:262

الأصحاب، حیث صرّحوا أو یستفاد من ظاهر کلامهم اعتبار نیة البدلیة فی صحّة التیمم، کما علیه السیّد الاصفهانی رحمه الله حتی فی صورة الاتّحاد.

3_ قولٌ ثالث بالتفصیل بین صورة اتحاد ما فی الذمّة فلا یعتبر، وبین صورة التعدد فیعتبر، وهو کما یظهر من کلام السیّد فی «العروة» وکثیر من أصحاب التعلیق ومنهم العلاّمة البروجردی والسیّد عبدالهادی الشیرازی رحمه الله وغیرهما، تبعا لصاحب «الروض» و«الریاض».

4_ وقول رابع وهو التفصیل بین الاختلاف فی الکیفیة فیعتبر، والاّ فلا، وهو کما عن «الذکری» وظاهر «المعتبر» و«المنتهی»، کما هو المنقول فی «الجواهر» عنهم.

الدلیل علی اعتبار نیة البدلیة إذا اتّحد ما فی الذمّة: هو أنّ عنوان البدلیة غیر مأخوذ فی ماهیة التیمم، ولا یکون من مقوماته وأجزائه، ولیس أمرا قصدیاً کالقیام للتعظیم، بل أمر انتزاعی ینتزع عن عمل الفاعل له مکان الوضوء أو الغسل، وانتزاعه قهری، سواءٌ قصده الفاعل أم لا، فتقییده بلزوم القصد ونیة البدلیة یتوقف علی قیام دلیل هو مفقود، بل لو شک فی اعتباره فمقتضی الأصل عدمه، مضافا إلی اطلاق ظواهر الآیات والروایات. مع أنّه لو کان أمرا لازما فی التیمم لکان الحری أن یرد له ذکر فی حدیثٍ ولو بالاشارة، مع أنّه یصدق الامتثال إذا أتی به بقصد ما فی ذمّته، وعلی حسب وظیفته من دون حاجة إلی قصد البدلیة، هذا فی صورة اتحاد ما فی الذمّة ظاهر.

وأمّا لو تعدد: فلنتعیّنه وجهٌ حتّی یکون ممتثلاً ما تعلّق بذمته، وهو لا یتحقق الاّ بالتعیین ولو بالاجمال، کما لو کان فی ذمّته تیممین أحدهما للحدث الأصغر وهو الوضوء، والآخر للاکبر مثل الحیض والنفاس، فیکفی قصدهما بما أنّه رافعٌ للحدث الأصغر والأکبر، فنفس هذا القصد مشتمل علی البدلیة، فلا یحتاج إلی

ص:263

أزید من ذلک، وان ارید من البدلیة هذا المقدار فله وجه، والاّ ننکره لعدم دلیل لنا إلی أزید من ذلک، ولا فرق فیه بین کون کیفیّة بدل الوضوء متحدة مع بدل الغسل بکفایة ضربة واحدة أم مختلفة، مع أن نفس هذا الاختلاف یکفی لتحصل التمیّز.

وعلیه فالتعیین فی الجملة لازم إمّا بصورة القصد ببعض الخصوصیات من کونه رافع الأصغر والأکبر، أو من طریق الاختلاف فی الکیفیة، أو غیرهما من التقدم والتأخر إن اعتبر فیهما ولو بالاستحباب، وعلیه فلزوم قصد البدلیة بالخصوص، مضافا إلی ما عرفت من الخصوصیات غیر مستفادٌ من الادلّة کما لا یخفی، ولعلّ هذا هو مراد ما وقع فی کلام السیّد من أنّه تجب لتعیّنه ولو بالاجمال.

کما أن الظاهر من کلامه _ من تعیین المبدل منه، فی صورة تعدّد ما فی ذمّته دون اتحاده _ هو تعیین قصد البدلیة، اذ لا ینفک قصد المبدل منه تعیینا عن تعیین قصد البدلیة.

وعلیه، فما استشکله المحقق الآملی علیه بانّه کیف فککّ بین قصد البدلیة وقصد المبدل منه فی التعیین؟

غیر واردٍ، لانّه لم یتعرّض فی المتن الاّ لصورة تعیین المبدل منه حیث یکون معناه لتعیین قصد البدلیة کما یظهر بالتأمّل.

أقول: فعلی ما قدّرناه من کفایة تعیین المصداق فی المتعدد ولو بأی شیء کان، یظهر کفایة قصد ما جعله الشارع له فی ذلک من التعیین، فیلزم حینئذٍ کفایة ذلک حتّی فی مثل التیّمم للجنازة والنوم أو التیمم لخروج الجنب والحائض من المسجدین، خلافا لصاحب «جامع المقاصد» حیث صرّح بعدم قصد البدلیة فی الموردین، لأنّ فی الأوّل مشروعیتها مع وجود الماء فلا بدل له، وفی الثانی بعدم شرعیة الماء لو تمکن منه.

ص:264

لامکان أن یقال بوجود البدلیة اختیاریا، ولذلک یجوز له الوضوء أو الغسل فی الاولین وفی الثانی بلحاظ أصل الجعل، حیث انّه یکون بدلاً ولو لم یقتضی المورد ذلک لعارضٍ، نظیر من بلغ وأراد الصلاة ولم یتمکّن من الماء، فإنّه یجب علیه التیمّم لأنّه بدل عن الماء ذاتا، ولو لم یکن کذلک فی المورد لعارضٍ.

وعلیه، فالأقوی کفایة تعیین ما یجب علیه عند الشرع من نیّة البدلیة، وتعیین المبدل منه، ولو ببعض الخصوصیات المتشخصة للمصداق.

زمان وقوع النیّة

الأمر الثالث: لا اشکال عند الفقهاء علی لزوم وقوع النیّة مقارنة لأوّل جزء من أجزاء التیمّم، وهذا ممّا اتفق علیه الکلّ ولا خلاف فیه، وإنّما النزاع والخلاف واقع فی تحدید أوّل الأجزاء، وأنّه الضرب علی التراب، أو المسح علی الجبهة.

ثمّ علی الثانی: فهل الضرب شرط متقدم علی الأجزاء وتعبدی، أو أن الضرب أمر خارج عن حقیقة التیمم مطلقا _ جزءا وشرطا _ کالاغتراف بالماء للوضوء بعد اتفاقهم علی وجوبه؟ وجوه وأقوال:

والمشهور هو الاوّل کما صرّح به جماعة منهم الفاضل والشهیدان والمحقّق الثانی وغیرهم، معلّلین بأن الضرب هو أوّل أفعال التیمم کما هو ظاهر الفتاوی والنصوص، حیث أنّه سُئل عن التیمم فأجاب علیه السلام : «أنّه ضربة للوجه وضربة للکف» حیث جعل الضرب محمولاً علی التیمم، فیدلّ علی کونه جزءا له هذا فضلاً عن أن الأخبار بذلک مستفیضة لو لم تکن متواترة، بل هو المشهور بین المتأخرین، کالسیّد فی «العروة» وجمیع أصحاب التعلیق، خلافا للنهایة کما عن «الفخریة» و«الجامع» و«المفاتیح» بانّه خارج عن حقیقة التیمم، متقدمٌ علیه، ویجب اتیانه ولم نشاهد من صرّح بکونه شرطا للأجزاء، الاّ أنّه ذکر فی مقام

ص:265

الاستدلال والنقض والابرام احتمالاً، اللّهمّ الاّ أن تکون شرطیته حینئذٍ قطعیا.

استدلّ القائلون بالخروج:

1_ بظاهر الآیة المبارکة فی قوله تعالی: «فَتَیَمَّمُواْ صَعِیدا طَیِّبا فَامْسَحُواْ بِوُجُوهِکُمْ»(1) من جهة تفریع المسح علی الجبهة والوجه علی قوله (فتیمّموا) ممّا یفید کونه أوّل جزء منه، والاّ لو کان الضرب هو الأوّل لکان ینبغی الابتداء والتنبّه علیه.

2_ وبدلالة خبر زرارة، عن أحدهما علیهماالسلام : «من خاف علی نفسه من سَبْعٍ أو غیره، وخاف فوات الوقت، فلیتیمّم یضرب یده علی اللبد أو البرذعة ویتیمّم ویصلّی»(2).

فان جعل کلمة (یتمم ویصلّی) بعد جملة (یضرب) یفید أنه خارج عن التیمم، بل هو یکون من مسح الوجه.

3_ هذا مضافا إلی ما حُکی من قیام الاجماع علی عدم کون التراب المضروب علیه مستعملاً عندهم، خصوصا بعد تعلیل غیر واحدٍ من الأصحاب هناک بأنّ الضرب فی التیمم یکون کالاغتراف من الماء فی الوضوء، فکما أنّ الثانی خارج عن حقیقة الوضوء، فهکذا یکون فی الضرب.

أقول: ولکن شیءٌ من الثلاثة لا یوجب ما ذکروه:

أمّا الآیة: فلوضوح أن المراد من التیمم فی قوله: «فَتَیَمَّمُواْ» هو القصد، فیکون هذا کنایة عن القصد بالصعید وهو الضرب علیه، فدلالتها علی الدخول تکون أوضح من دلالتها علی الخروج، هذا أوّلاً.

وثانیا: لو سلّمنا کون قوله: «فامسحوا» بیان التیمم، فلا مانع من صرف بیان


1- سورة المائدة، آیة 9.
2- وسائل الشیعة: الباب 9 من أبواب التیمّم،، الحدیث 5.

ص:266

الآیة بواسطة الأخبار المبیّنة الی أنّ التیمم من الضرب علی الوجه لا من مسحه.

أمّا الروایة: فلأنّ دلالتها علی خلاف مدعی الخصم أوضح، لأنّه جعل الضرب علی اللّبد بعد قوله: «فلیتمم»، حیث یدل علی کونه بیانا لشروع التیمم به، فیحتمل کون ذکر التیمّم فی ما بعده بیانا لاتمام التیمم، کما یؤید ذلک ذکر الصلاة بعده بقوله: «ویصلّی».

أمّا کلام الأصحاب بعدم کون التراب المضروب علیه مستعملاً، ویکون هو مثل الاغتراف: فهو أولاً: مخدوش، لأنّ الملاک فی کونه مستعملاً لا یتحقق الاّ بشرط المتأخر، أی لا یصدق علیه انّه مستعملٌ فی التیمم الاّ بعد اتمام العمل، وهو لا یوجب أن لا یکون الضرب منه، لانّه یکون کذلک حتّی بعد مسح الوجه قبل الفراغ، مع أنّه لا اشکال فی کونه جزءا من التیمم.

وثانیا: لو سلّمنا کونه غیر مستعمل، کان ذلک من جهة ملاحظته خارجا عن التیمم کالاغتراف فی الوضوء، وهذا لا یوجب رفع الید عن الأخبار المستفیضة الظاهرة أو الصریحة فی کون الضرب جزءا بمجرّد تعلیل الأصحاب بذلک، لأنّ الاعتبار بالدلیل لا بفهم الأصحاب وتعلیلهم خصوصا، بملاحظة ما ذکرنا من الاحتمال غیر المنافی لکونه جزءا کما لا یخفی.

أقول: بعد الوقوف علی قوة کلام المشهور من کون الضرب جزءا، فقد رتّبوا علی ذلک ثمرتین:

الأولی: من جهة محلّ النیّة حیث حکموا بوجوب تقارنها مع الضرب لو کان جزءا، بخلاف صورة مسح الوجه والتقارن الذی یجب فیه.

ولکن أورد علیه: بأنّه لو قیل بکون الضرب شرطا لا جزءا، فإنّه یکون شرطا تعبدیّا کشرطیّة الطهارات الثلاث للصلاة، فیعتبر فی تحقّقه قصد الغایة، بأن یکون اتیانه بداعی المسح، لأنّه المتبادر من الأمر بضربةٍ للوجه وضربة للکفین کما فی

ص:267

والترتیب أن یضع یدیه علی الأرض، ثمّ یمسح الجبهة بهما من قصاص الشعر إلی طرف أنفه، ثمّ یمسح ظاهر الکفّین (1)

خبر الکندی، ولازم ذلک عدم تمامیة التیمم لو نسی النیة إلی حین مسح الوجه، مع أنّه صرّح صاحب «النهایة» و«الفخریّة» علی تجویز تأخیرها إلی حین المسح علی الوجه، فیفهم من کلامهم فرض کونه خارجا عنه خروجا حقیقیا حتّی من عنوان الشرطیة، فلا وجه للاعتراض حینئذٍ. ترتیب أفعال الیتمم

مضافا إلی أنّ اعتبار الشرط فی حکم الجزء فی التعبد یکون علی القول بوجوب المقدمة مع التوصل إلی دیّها، وهو أوّل الکلام.

الثمرة الثانیة: تظهر فی تحقق الحدث بعد الضرب وقبل المسح، حیث علی المشهور یجب اعادته لوقوع الحدث فی اثناء التیمم، بخلاف القول الآخر لعدم الدلیل علی بطلانه.

ولکن قد یجاب: إنّ الظاهر من الآیة والروایة أن بدلیة الضرب للتیمم یتحقّق بعد الحدث ولو لم نقل بکونه جزءا، إذ هو المنسبق الیه منهما، بل لعلّ نفس هذا الانسباق یوجب تقویة کونه جزءا له لا شرطا کما لا یخفی.

وعلیه، فالأقوی عندنا هو ما علیه المشهور، فلابد من التقارن بین النیّة والضرب علی القول بلزوم الاخطار فی النیة واللّه العالم.

(1) إنّ الترتیب الذی یقع البحث فیه علی قسمین:

تارة: الترتیب الواقع بین ضرب الیدین علی الأرض ومسح الجبهة بتقدیم الأوّل علی الثانی، ثم بین مسح الوجه ومسح ظاهر الکفین بمثل ما تقدم.

وأخری: الترتیب بین مسح ظاهر الکفین بتقدیم الیمنی علی الیسری.

القسم الأوّل: منها لا اشکال ولا خلاف فیه، کما صرّح بذلک صاحب «الجواهر»،

ص:268

والدلیل علیه: اجماع الأصحاب المستفاد من نسبة غیر واحدٍ من الأصحاب ذلک إلی الأصحاب، المشعر بالاجماع،

هذا فضلاً عن تصریح بعض کالمفاتیح وارشاد الجعفریة، بل فی «التذکرة» نسبته إلی علماء أهل البیت، وفی «المنتهی» إلی علمائنا أجمع، وإنْ حُکی فی «کشف اللّثام» خلّو بعض کتب الأصحاب عن الترتیب مطلقا _ أی لموردنا _ کالمصباح ومختصره و«الجمل» و«العقود» و«الهدایة» ولکنّه لا یحتسب خلافا فی المسألة.

مضافا إلی دعوی الاجماع، والقول بعدم الفصل بین التیمم والوضوء فی وجوب الترتیب، حتّی أنّه صرّح السیّد المرتضی بذلک، وقال: «کلّ مَن أوجب الترتیب فی الوضوء أوجبه فیه، فمن فرّق بینهما خرق الاجماع» انتهی.

القسم الثانی: وهو الترتیب بین مسح ظاهر الکفین بتقدیم الیمنی علی الیسری، حیث إنّه لم یرد ذکر بخصوصه فی کتبهم، وإنْ ذکروا الأوّل منهما وهو کالمقنع و«جمل العلم والعمل» و«السرائر» و«المراسم»، والمصنّف فی المتن.

لکن قد یقال: بأنّ ظاهر «السرائر» أو صریحه هو الترتیب فی نفس الکفین، وإن کان العطف بینهما بالواو، ولکن ادّعی المحقّق فی «جامع المقاصد» قیام الاجماع علی الترتیب بالنسبة إلی تقدیم الیمنی علی الیسری.

فظهر من جمیع ما ذکرنا امکان جعل الدلیل فی کلا القسمین هو الاجماع، لکنه فی الأوّل أشدّ وأقوی وهو الحجة، اذ لم یصرّح أحد بالخلاف فیهما.

الدلیل الثانی: الآیتان فی سورتی النساء والمائدة من قوله تعالی: «فَامْسَحُواْ بِوُجُوهِکُمْ وَأَیْدِیکُمْ»(1) حیث یفهم منهما لزوم الترتیب بین مسح الوجه ومسح


1- سورة النساء، آیة 43؛ سورة المائدة، آیة 9.

ص:269

الأیدی، وان کان العطف بینهما بالواو، بل وهکذا الترتیب بین ضرب الید ومسح الوجه المستفاد من قوله تعالی: «فَتَیَمَّمُواْ صَعِیدا طَیِّبا» من کون المراد هو القصد إلی الصعید بالضرب علیه للمسح، ثمّ فرّع علیه بالمسح علی الوجه، خصوصا مع انضمام الحدیث المبیّن لذلک فی الوضوء، مع فرض اشتراک التیمم مع الوضوء فی ذلک، لکونه بدله ما لم یأت الدلیل علی خلافه، وهو کما فی خبری زرارة فی قوله: «ابدا بما بدأ اللّه عزّوجلّ به»(1) أو «یبدأ بما بدأ اللّه به ولیعد ما کان»(2).

أقول: لکن استفادة الترتیب بین الیدین من الآیتین من دون الروایة مشکلٌ، اللّهم أن یلحق به من حیث البدلیة ونقول بلزوم تقدیم الیمنی علی الیسری فی الوضوء، فهکذا یکون فی التیمم.

ولکنه مندفع: بانّه فی الوضوء أیضا یکون بثوت الترتیب بواسطة دلالة الأخبار، فربما هو موجود فیما نحن فیه. نعم لو لم یکن کذلک بالخصوص هنا صحّ الالحاق بما عرفت.

الدلیل الثالث: هو الأخبار الواردة هنا:

منها: صحیح الکاهلی المضمر، قال: «سألته عن التیمم؟ قال: فَضَرب بیده علی البساط فَمَسح بهما وجهه ثمّ مَسَح کفّیه احداهما علی ظهر الأخری»(3).

ومثله روایة أبی أیوب الخزّاز عن الصادق علیه السلام (4).


1- وسائل الشیعة: الباب 34_35، من أبواب الوضوء، الحدیث 1.
2- المصدر السابق، الحدیث 2.
3- وسائل الشیعة: الباب 11 من أبواب التیمّم، الحدیث 1.
4- المصدر السابق، الحدیث 2.

ص:270

ومنها :صحیح زرارة، قال: «سألت أبا جعفر علیه السلام عن التیمم؟ فَضَرب بیده علی الأرض ثمّ رفعها فنفضها ثمّ مسح بها جبینه وکفیه مرّة واحدة»(1).

ومنها: خبره الآخر المنقول عن الشیخ عن أبی جعفر علیه السلام : «فی التیمم، قال: تضرب بکفیک الأرض ثمّ تنفضها وتمسح بهما وجهک ویدیک»(2).

ومثله ما رواه الصدوق عن زرارة(3).

ولا یخفی أنّ جمیع هذه الأخبار تتعرّض لبیان الترتیب فی جمیعها عدا الکفین، وإن کان العطف فی جمعیها بالواو، ولکن رعایة الترتیب بما ورد من القول والعمل لازم کما وردت الاشار الیه فی الحدیث السابق بالأمر بالبدأ بما بدوأ، الاّ أنّ لزوم رعایته فی الکفین بتقدیم الیمنی علی الیسری غیر مذکور فی هذه الأخبار.

نعم ما یشتمل علی ذلک أیضا هو خبر زرارة، عن أبی جعفر علیه السلام ، المنقول فی آخر «السرائر» نقلاً من «کتاب نوادر» احمد بن محمد بن أبی نصر، عن عبداللّه بن بکیر، عن زرارة، قال: «أتی عمّار بن یاسر رسول اللّه صلی الله علیه و آله فقال یا رسول اللّه، إنی أجنبتُ اللیلة، فلم یکن معی ماء؟ قال: کیف صنعت؟ قال: طرحت ثیابی وقمتُ علی الصعید فتمعکت فیه، فقال: هکذا یصنع الحمار، إنّما قال اللّه عزّوجلّ «فتیمموا صعیدا طیّبا» فضرب بیدیه علی الأرض، ثمّ ضرب احداهما علی الأخری، ثمّ مسح بجبینه ثمّ مسح کفّیه کل واحدة علی الأخری، فمسح الیسری علی الیمنی والیمنی علی الیسری»(4).


1- المصدر السابق، الحدیث 3.
2- المصدر السابق، الحدیث 7.
3- المصدر السابق، الحدیث 8.
4- وسائل الشیعة: الباب 11 من أبواب التیمّم، الحدیث 9.

ص:271

فانّ هذه الروایة تدلّ علی لزوم الترتیب فی کلا الموردین، وسندها صحیح، کما أنّ دلالتها علی الترتیب أیضا تامّة، فلا یجوز التخطی عنه عند احتمال مدخلیة الترتیب فی صحة العمل، خصوصا بعد معلومیة اعتباره فی غیر الکفین کما لا یخفی.

واحتمال أنّ الترتیب فیه جری مجری العادة والاتفاق، أو کونه مستحبا.

ممّا لایلتفت الیه ما لم یثبت کونه کذلک، لأنّ وقوعه و وروده فی موضع البیان بمنزلة مالو قال یتیمّموا بهذه الکیفیّة، فلا یجوز اهمال شیء من الخصوصیات التی یحتمل دخلها فی المأمور به.

ومنها: خبر «فقه الرضا» قال: «صفة التیمم أن تضرب بیدیک علی الأرض ضربة ثمّ تمسح بهما وجهک موضع السجود من مقام الشعر إلی طرف الأنف، ثمّ تضرب بهما أخری فتمسح بهما إلی حدّ الزند.

وروی: «من أصول الأصابع تمسح بالیسری الیمنی وبالیمنی الیسری علی هذه».

وروی: «إذا أردت التیمم اضرب کفیک علی الأرض ضربة واحدة، ثمّ تضع إحدی یدیک علی الأخری، ثمّ تمسح باطراف أصابعک وجهک من فوق حاجبیک وبقی ما بقی، ثمّ تضع أصابعک الیسری علی أصابعک الیمنی من أصل الأصابع من فوق الکف، ثمّ تمرّها علی مقدمها علی ظهر الکفّ، ثمّ تضع أصابعک الیمنی علی أصابعک الیسری، فتضع بیدک الیمنی ما ضعت بیدک الیسری علی الیمنی مرّة واحدة»(1).

فان هذه الروایة من حیث السند وان کانت ضعیفة، وحجّیتها غیر واضحة مضافا إلی أنّها مرسلة، لکنّه لا ینافی جواز التمسک بها للتأیید، خصوصا بعد کونها معتضدة بالاجماع أو الشهرة العظیمة بین الأصحاب، فضلاً عن قیام أخبارٍ


1- المستدرک، ج 1، الباب 9 من أبواب التیمم، الحدیث 1.

ص:272

تامّة الدلالة والسند، حیث یفید امکان الأخذ ببعض الروایة وطرح ما یخالف فتوی الأصحاب من قوله: «فتمسّح إلی حدّ الزند» الظاهر فی کون الزند آخر محلّ المسح لا أوّله.

بل ومن ذلک یظهر امکان التمسک بخبرٍ آخر مشتمل علی ما هو غیر المعمول به، مثل ما ورد فی صحیح محمد بن مسلم، قال: «سألت أبا عبداللّه علیه السلام عن التیمم فضرب بکفیه الأرض ثمّ مسح بهما وجهه، ثمّ ضرب بشماله الأرض فمسح بها مرفقه إلی أطراف الأصابع واحدة علی ظهرها وواحدة علی بطنها، ثمّ ضرب بیمینه الأرض ثمّ صنع بشماله کما صنع بیمینه، ثمّ قال: هذا التیمم علی ما کان فیه الغُسل فی الوضوء الوجه والیدین إلی المرفقین، وألقی ما کان علیه مسح الرأس والقدمین، فلا یؤمّم بالصعید»(1).

حیث حمل ما فی ذیله أو ما یخالف علی التقیة.

وعلیه، فالمسألة من جهة الدلیل علی لزوم الترتیب تامّة ولا کلام فیها.

أمور متعلقة بالترتیب

الأمر الأوّل: فی انّه إذا عرفت وجوب الترتیب فی التیمم من الأدلة السابقة، یظهر منها انّه لو أخلّ بالترتیب وجب علیه الاعادة _ کما فی «الجواهر» _ علی ما یحصلّ به الترتیب ما لم یخلّ بالموالاة، والاّ یجب استدراکه من أصله بناءا علی وجوب الموالاة فیه، حیث یفهم من کلامه شرطیة الترتیب فی صحة الیتمّم.

والأمر کذلک، لأنّ وجوب رعایة الترتیب لا یعدّ أمرا تعبدیّا فقط بل هو شرطی، ولذلک تری الحکم ببطلان التیمّم لمن أخلّ به جهلاً أو نسیانا، کما صرّح


1- وسائل الشیعة: الباب 12 من أبواب التیمّم، الحدیث 5.

ص:273

بذلک السیّد فی «العروة» فی المسألة الخامسة من شرائط التیمّم، لأنّ ظاهر أدلة الشرطیة کونه شرطا واقعیا للتیمم لا ذُکریا کما هو الأصل فی الشرطیّة، اذالثانیمحتاج إلی دلیلٍ، فلازم واقعیته بطلانه عند فقده ولو نسیانا فضلاً عن الجهل بکلا قسمیه.

الأمر الثانی: ممّا تجب مراعاته فی التیمم هو الموالاة، والکلام فیها یقع فی جهات عدیدة:

الجهة الأولی:

تارةً: فی أصل وجوبها وبیان الدلیل علی وجوبها.

وأخری: فی بیان أصل معنی الموالاة:

وثالثة: البحث عن أنّه علی فرض ثبوت وجوبها، هل الوجوب فیها تعبّدی نفسی أو شرطی بحیث لو اخلّ بها یوجب البطلان لا الاثم فقط؟

1_ فلنقدّم هنا أصل معنی الموالاة، لکونها موضوعا للحکمین الذین یترتبان علیها، فنقول ومن اللّه الاستعانة:

هناک خلاف بین الفقهاء فی معنی المولاة:

القول الأوّل: قیل إنّ المراد منها هو الموالاة «المعتبر»ة فی الوضوء، وهو الجفاف التقدیری، أی لو کان ماءً لکان ذلک الفعل مخلاًّ بها، کما هو الحال فی المبدل منه وهو الوضوء، کما هو مقتضی بدلیته عنه، وهذا المعنی نقله صاحب «الجواهر» عن صاحب «الدروس» قدس سره .

ولکن أورد علیه صاحب «الجواهر»: بانّه _ مضافا إلی أنّه یوجب ذهاب صورة التیمم کالتقدیر الزمانی الذی ذکره فی باب الوضوء _ لا دلیل علیه هنا، وأضف الیه أن التنزیل والبدلیة لا یقتضیان المشارکة فی جمیع هذه الخصوصات، کما تری أنّه ولا یقتضی ذلک فی بدلیته عن الغسل جواز الاخلال بها من باب جواز

ص:274

ذلک فی الغُسل الذی هو مبدل منه، حیث لا وجوب ولا شرطیة للموالاة فیه، مع أن لازم کونه مقتضی البدلیة هو القول بالتفصیل بین کونه بدلاً عن الوضوء فتجب فیه الموالاة، وبین کونه بدلاً عن الغُسل فلا تجب، کما قال صاحب «الجواهر» أنّه احتمله صاحب «نهایة الأحکام»، وجزم به الشهید فی «الدروس».

أقول: لا اشکال فی أنّ هذا القول ضعیف کما سیظهر لک بالادلة من وجوب الموالاة فی کلا الموردین فی التیمم.

القول الثانی: هو القول بأنّ المراد من الموالاة هو عدم التفریق بین اجزاءه وأفعاله بحیث تزول وتمحو صورته وهیئته. وهذا هو مختار صاحب «الجواهر» الذی ربّما یظهر من کلامه أنّه لا یضرّه لو ترکت الموالاة والمتابعة العرفیة، هذا.

ولکن قد أورد علیه: بأن تفریق الأجزاء بما یوجب إمحاء الصورة والاسم غیر مختصّ بالتیمم بل هو مبطلٌ فی جمیع العبادات، وهو شیء آخر غیر الاخلال بالموالاة، لأنّه مبطل قطعا ولا نحتاج فی اثباته إلی الآیة والتیممات البیانیة، فحیث استدلوا لاثباتها بمثل هذه الأمور، فان ذلک دلیل وکاشف عن أنّ مرادهم من الموالاة غیر ما ذکره صاحب «الجواهر».

القول الثالث: وهو أنّ المراد من الموالاة هو المتابعة العرفیة، بحث یعدّ عرفا أنّه متشاغل به غیر مفرّقٍ لاجزائه، وهذا هو المحکی عن «جامع المقاصد» و«الروض»، بل لعلّه هو المراد من کلام السید رحمه الله بقوله: «عدم الفصل المخلّ بهیئته عرفا بحث تمحو صورته» بکون المراد هو المحو عند العرف لا ما ذکره صاحب «الجواهر» کما نَسب الیه ذلک المحقق الآملی فی مصباحه، اذ مرجعیّة العرف فی تشخیص المفاهیم أمر معهود عنه المتشرّعة، لانّ تشخیص هذه العناوین فیما لم یتصدّی الشرع بیانه یکون موکولاً إلی العرف کما تری مثله فی النظائر والأشباه، وهذا القول هو الأقوی عندنا.

ص:275

الجهة الثانیة: فی بیان حکمها فامّا فی البدل عن الوضوء، فالظاهر عدم الخلاف فی اعتبارها فیه.

الدلیل علی اعتبار الموالاة

الدلیل الأوّل: هو أنّ نقلُ الاجماع علیه مستفیضٌ لو لم یکن متواترا، والناقلین له عبارة صاحب «المنتهی» و«التذکرة» و«جامع المقاصد» و«الروض» و«المدارک» و«الحدائق» و«مجمع البرهان»، الاّ الأخیر حیث قال صاحب «الجواهر»: «إنّه قد یظهر منه التوقف فیه» واحتمله غیره، علی أن یراد بها حینئذٍ الوجوب التعبدی، بل لعلّه لاحتمال ذلک فی موالاة الوضوء أیضا، وضعفه ظاهر.

نعم، نقل عن صاحب «نهایة الأحکام» احتمال عدم وجوبها أصلاً، إذا کان بدلاً عن الغسل، بل نقل الجزم به عن «الدروس» فکانّه أرادوا عدم وجوبها فی المبدل منه، فکذلک یکون فی البدل قضیةً للبدلیة.

وفیه: وهو ضعیف، لأنّ _ مضافا إلی کونه مخالفا للاجماع المحصّل والمنقول فی الوجوب _ البدلیة والتنزیل وکون التراب بمنزلة الماء، انّما تکون فی تحصیل ما یشترط فیه الطهارة لا فی جمیع الخصوصیات، حتّی یشمل مثل الترتیب الذی یعدّ من الکیفیّات.

وعلیه الاجماع بکلا قسمیه هو الدلیل الأول علی الوجوب.

الدلیل الثانی: من الأدلة التی تمسک بها هو کونه مقتضی البدلیة عن الوضوء الذی یجب فیه التوالی بین الأجزاء قطعا، فهکذا یکون فی بدله، فیتعدّی منه الی التیمم بدل الغُسل بالاجماع المرکّب، وعدم القول بالفصل بینه وبین التیمم بدل الغسل، فیجب التوالی فیهما.

والجواب عنه: قد عرفت أوّلاً ضعفه فی أصل الاقتضاء، فضلاً عن الالحاق.

ص:276

وثانیا: یمکن قلب الدلیل لمن لا یقول بالتوالی فی البدل عن الغسل، فیضم الیه البدل عن الوضوء، بالاجماع المرکب هذا کما عن صاحب «مصباح الهدی».

أقول: لکنه لیس علی ما ینبغی، لعدم وجود شهرة فضلاً عن الاجماع علی عدم وجوب التوالی فی البدل عن الغُسل حتّی یتعدی منه إلی البدل عن الوضوء بالاجماع المرکب، بخلاف عکسه.

الدلیل الثالث: ظهور کلمة الفاء فی قوله تعالی: «فَتَیَمَّمُواْ صَعِیدا طَیِّبا»علی التوالی، أی ان حرف الفاء للتعقیب کما قال ابن مالک فی ألفیّة: «الفاء للتعقب فی اتصال» والمراد بالتعقیب فی الآیة هو تعقیب التیمم لارادة القیام إلی الصلاة بلا مهلة، ولا یمکن تحصیل ذلک الاّ بالموالاة والتوالی.

وضعّفه صاحب «المدارک»: بأنّ المراد من التیمم فی الآیة هو القصد لا التیمم المصطلح.

وأجاب عنه صاحب «الجواهر»: بالقطع بکون المراد عدم الدخول فی الصلاة بدون الطهارة بل.

نقول: قام الاجماع علی عدم وجوبه عند أرادة القیام إلی الصلاة، بل تجب الطهارة عند الدخول فی تکبیرة الاحرام، فضلاً عن امکان المنع عن افادة الفاء هنا للتعقیب، بل هی للنتیجة والتفریع، أی إذا لم تجد الماء فیتوجه التکلیف إلی تحصیل التیمم، بل الأولی هو التمسک لذلک بالفاء فی قوله تعالی: «فَامْسَحُواْ بِوُجُوهِکُمْ» حیث یحکم بتعقیب مسح الوجه بعد ضرب الید علی الأرض، فاذا وجب التوالی هنا فیلحق التوالی فی سائر الاجزاء بعدم القول بالفصل بینه وبین سائر الافعال.

الدلیل الرابع: علی الزم الموالاة فی التیمم، هو الأخبار البیانیّة حیث أنّهم علیهم السلام

ص:277

أجابوا عند السؤال عن کیفیّة التیمّم بأجزاءه مترتبا متوالیا، الظاهرة فی الوجوب، ولا یخفی أنّ تعلیم الأمر المرکب فی العبادات یوجب الظهور فی ذلک، لو لم نقل به فی جمیع المرکبات الخارجیة. وعلیه، فمقتضی الحکم الاوّلی فی التعبّدیات التوقفیّة هو حفظ صورة التعلیم فی جمیع الجهات کالترتیب، وهکذا فی الموالاة، ما لم یدلّ الدلیل علی خلافه.

المناقشة: فیه بامکان أن یکون البیان للتیمم المجمل دون ملاحظة التوالی المعتبر فیه، بعیدٌ فی التعبّدیات، وإن کان الأمر کذلک فی الأمور الخارجیة المرکبة.

هذا کلّه مضافا إلی أنّ رعایة للتوالی مستلزمٌ للقطع بالبراءة عند الشک فی اعتباره، خصوصا إذا قلنا فی الطهارات کونها _ بصورة المحصِّل والمحصَّل _ شرطا للصلاة، حیث انّه مع الشک فی حصولها لأجل الاخلال بالموالات، تکون القاعدة حینئذٍ هو الاشتغال دون البراءة.

الجهة الثالثة: إذا وجبت الموالاة هل وجوبها تعبّدی أو شرطی؟

لا یعبد القول بالثانی لو أخلّ المتیمّم بالمتابعة العرفیة بعد القطع بعدم وجوب المتابعة الحقیقیّة لتعذّرها أو تعسّرها، کما أنّ الأمر کذلک فی نظائره وأشباهه من التعبّدیات.

کما لا اشکال فی أنّ الاخلال بالموالاة علی نحو یوجب محو الاسم والهیئة للتیمّم موجب للفساد قطعا، مع انّک قد عرفت لزوم رعایتها حتّی مع الشک فی إفساده، لأجل کون الشک حینئذٍ شکٌ فی المحصِّل، والقاعدة فیه هو الاشتغال لا البراءة.

أقول: لا یخفی أن البحث فی وجوب الموالاة وعدمه غیر مرتبط بالموالاة الواجبة بضیق وقت الصلاة، فانّ وجوبها حینئذٍ عارضیٌ لا ذاتیٌ، لأنّها تجب فی الغسل أیضا عند ضیق وقته، مع عدم کونها واجبة فیه بالذات، فالبحث هنا فی

ص:278

وجوبها وعدمه یکون مع قطع النظر عن الوجوب العارضی کما لا یخفی.

اشتراط المباشرة فی التیمّم

الأمر الثالث: یدور البحث فیه عن وجوب المباشرة فی التیمم، بأن یتولّی المکلّف عملیة التیمم بنفسه بحیث یسند الفعل الیه لا إلی غیره مستقلاً ولا مشارکة، واعتبارها شرط ثابت بین الفقهاء کما هو ظاهر عبارة المحقق، بل عن «کشف اللّثام» الاجماع علیه، وفی «المدارک» نفی الریب عنه، وصرّح فی «المنتهی» بنفی الخلاف عندنا المشعر بالاجماع، فلو یمّمه غیره مع القدرة لم یُجز کما فی الوضوء، بل مقتضی القاعدة والأصل فی کل تکلیفٍ متوجهٍ الی المکلّف هو اتیانه بالمباشرة وخروجه عن عهدته بنفسه فی الواجبات التعبدیّة والتوصلیّة، الاّ أن یدلّ دلیل علی تجویز الاستنابة والتسبیب فیه کما هو الحال فی التوصلیات، حیث قام الدلیل فی التوصلیات کون الغرض حصول المطلوب ومتعلّق التکلیف کیف اتفق، حتّی ولو حصل ممّن غیر مکلفٍ به، وکحصول الطهارة للشیء النجس بوقوعه فی الکرّ، حیث نعلم أن المقصود تطهیره به ولو کان ذلک بایقاع الریح فی الکرّ فضلاً عن الانسان أو المکلّف بالأمر، هذا بخلاف باب التعبّدیات کالوضوء والغسل والتیمم، فإن الواجب فیها تحققها من المأمور بنفسه مع القدرة لا بالاستنابة والتسّبب.

والتعبّدی قد یطلق ویراد منه کلّ عمل قربی، وقد یطلق ویراد منه ما یعتبر اتیانه بنفسه، وعدم سقوط المأمور به بفعل غیر المکلّف، والأصل عند الشک فی التعبّدی بالمعنی الثانی هو التعبدیّة حتّی یثبت عدمها.

والمراد من الأصل هنا: تارةً القاعدة والدلیل الاجتهادی، والأصل العملی

ص:279

أخری. والمراد منه فی الدلیل الاجتهادی هو ما عرفت من أنّ ظهور کلّ دلیل هو لزوم اتیان متعلقة بنفسه لا الاعمّ منه ومن غیره. وعلیه فاطلاق الدلیل یقتضی ذلک لأنّ العبارة المقتضیة والحاکیة عن الاعمّ هی أن یقال افعل أنت أو غیرک، وإلاّ فباطلاقه یحمل علی الأوّل، کما أنّ مقتضی الاطلاق هو کون وجوب المباشرة مطلقا، أی غیر مشروط بعدم اتیان الغیر، بل هو مطلوب وواجب سواءٌ أتی به غیره أم لا، الاّ أن یقیّده بانّه واجبٌ علیک لو لم یأت به الغیر. فاذا لم یذکر بل اطلق حُمل علی الأول هذا فی معنی الاصل بحسب الدلیل الاجتهادی.

وأمّا الأصل بمعنی الأصل العملی: فلأن الشک فی اعتبار المباشرة یرجع إلی الشک فی سقوط الواجب بفعل الغیر، بعد القطع بثبوته علی عهدة المکلّف، فالمرجع حینئذٍ یکون إمّا الاستصحاب بالبقاء علی عهدته، وإمّا الاشتغال لکونه شکا فی المحصَّل والمحصِّل، هذا فی حال الاختیار والقدرة.

وأمّا لو عجز ولم یقدر علی اتیانه مستقلاً بنفسه، بل یقدر علی ذلک مع المشارکة أو لا یقدر أصلا الاّ بالاستنابة والتسبیب، فحینئذٍ یجوز علی الأوّل ثمّ الثانی، کما هو الحال کذلک فی المبدل منه أیضا.

والدلیل علیه: _ مضافا إلی الاجماع _ دلالة الأخبار علی الثانی، حیث یظهر منها عدم امکان الأوّل:

منها: خبر محمّد بن مسکین وغیره، عن أبی عبداللّه علیه السلام قال: «قیل له: إنّ فلاناً أصابته جنابة وهو مجدور فغسّلو فمات؟ فقال: قتلوه ألا سألوا ألا ییمّموه؟! إن شفاء العَیّ السؤال»(1).


1- وسائل الشیعة: الباب 5 من أبواب التیمّم، الحدیث 1.

ص:280

ومثله مرسل ابن أبی عمیر(1).

ومنها: بهذا الاسناد عن ابن أبی عمیر، عن الصادق علیه السلام ، قال: «یؤمهم المجدور والکسیر إذا أصبتها الجنابة»(2).

ومرسل الصدوق، قال: «وقال الصادق علیه السلام : المبطون والکسیر یؤمّمان ولا یُغسّلان»(3).

حیث أن ظاهر هذه الأخبار عدم تمکّنه بالمباشرة بالکل، وإلاّ لا یجوز إلا فیما هو عاجز عنه، وهو فی غیر النیة من سائر الواجبات من الأجزاء. وامّا غیرها فتجب أن یتولاّهما العلیل کالوضوء، لما قد عرفت من لزوم المباشرة فی کلّ الأجزاء الاّ فیما عجز عنه. بل قد یظهر من صاحب «المدارک» دعوی قیام الاجماع علی تولیة نفسه للنیّته.

نعم، عن المحقق فی «جامع المقاصد» قال: «لو نویا کان أولی».

وفی «الجواهر»: «قلت: أی أحوط لظهور انتساب الفعل للعاملٍ والاحتیاط حسن علی کل ّ حال، ولکن نیة النائب مع امکان صدوره عن المنوب عنه لا وجه له، إلاّ بتوهّم کون صدور الفعل المنتسب الیه عن نیّة نفسه المحقِق لذلک الفعلٍ والاّ یکون فعله صادرا عن نیّته المنوب عنه له أیضا، بجهة کونه جزءا من عمله واللّه العالم».

وکیف کان، الاحتیاط یقتضی نیّتهما جمعا بین النیابة والاستعانة.

وبالجملة: بعد الوقوف علی وجوب تحصیل المباشرة فیما أمکن من الأفعال،


1- المصدر السابق، الحدیث 3.
2- المصدر السابق، الحدیث 10.
3- وسائل الشیعة: الباب 5 من أبواب التیمّم، الحدیث 12.

ص:281

یظهر لزوم أن یکون التیمم بید العلیل مع الامکان لا بید النائب، فیضرب بیده علی الأرض فیمسح بهما وجهه، کما هو ظاهر «الذکری» و«جامع المقاصد» و«المدارک» أو صریحها، کما هو مقتضی دلیل وجوب المباشرة، مضافا إلی قاعدة (المیسور لا یسقط بالمعسور)، بل الاجماع قائم علیه، اذ لم یُسمع من القائل بضرب ید النائب علی الأرض فقط علی امکان صدوره عن العلیل بیده ولو بمعونة النائب.

نعم، نقل عن الکاتب: أنّه قال: «یضرب الصحیح بیده ثُمّ یضرب بیدی العلیل، ولم نقف علی مأخذه».

أقول: هنا صور ثلاثة:

تارة: یقدر بکلّ واحدٍ من الضرب بالید علی الأرض والمسح بها بالمعاونة.

وأخری: یقدر بالأوّل دون الثانی.

وثالثةً: بالعکس.

أمّا الأولی: فمع القدرة بهما یُقدم علی ضرب النائب بیده والمسح بها کما عرفت، و هو ظاهر کثیر من الفقهاء لو لا الاجماع لقاعدة المیسور، حیث أنّ جواز التولیة کان للاعانة لا النیابة حتّی یتوهّم تکلّفه لجمیع أفعاله، کما أنّ شمول قاعدة المیسور مبنیٌ علی کون الاتیان بهما بید العلیل مع اعانة الغیر میسورا للمتیمم بلا اعانة، والأمر کذلک عرفا، لأنّ الواجب أوّلاً هو المباشرة فی جمیع الخصوصیات، فإذا عجز سقط عنه، وانتقل إلی ما هو المیسور له وهو الاستعانة بالغیر لاتیان العمل بالمباشرة، وهذا حکم مبنیٌ علی دلیل اجتهادی، ومعلومٌ أنّه متقدمٌ علی البراءة التی تمسک بها عند الشک فی وجوب ذلک بید العلیل، لأنّه أصل عملی فقاهتی لا یرجع الیه مع وجود دلیل اجتهادی، وهو قاعدة المیسور،

ص:282

وعلیه فحکم المسألة فی هذه الصورة واضحة والقول بمقاله الکاتب بالضرب بید النائب أوّلاً، وبالعلیل ثانیا لا وجه له الاّ بشبهة کون الأمر دائرا بین المتباینین من ضرب ید النائب له والعلیل، فمقتضی الاحتیاط فیه هو الجمع بینهما، ولکن قد عرفت حکمه آنفا فلا نعید.

الصورة الثانیة: ما لو فرض عدم تمکن الضرب بید العلیل دون المسح القادر علیه. ففی الحالة یقع الضرب بید النائب: فهل یجب أن یقع المسح بسببه حتّی یتحقق المسح ممّن صدر منه الضرب؟

أو أنّه یجب أن یقع بید العلیل لتحصیل المباشرة فیما یمکن، فلا یتحقق حینئذٍ المسح بما ضرب، فیدور الأمر بین الاتیان بالضرب دون المسح، أو الاتیان بالمسح دون الضرب.

أو یقال بوجوب الجمع بین الکیفیتین أی الضرب بید النائب والمسح بها، وبین المسح بید العلیل أیضا تحصیلاً للبراءة الیقینیّة، خصوصا فی مثل المورد الذی کان الشک فیه شکا فی المحصِّل، فبالجمع ترتفع شبهة عدم صدق المسح بضرب الید علی الأرض لو اکتفی بخصوص ید العلیل، کما ترتفع شبهة البراءة عن تلک الکیفیّة بایقاعها بید النائب فقط أو بید العلیل فقط، لما عرفت فی الثانی من عدم مقاومة تعارض الأصل العملی لقاعدة المیسور، وفی الأوّل لأجل ظهور أدلة التولیّة، حیث تقتضی لزوم أن یکون العمل بمباشرة المتوّلی.

ومن کون المسح بید العلیل بالنسبة إلی عمل العامل کالمسح بآلةٍ أجنبیة، حیث لا ضرب لیده حتّی یمسح بها، بل قد یندفع بذلک الجمع شبهة أنّه کیف لم یقولوا بهذا التفصیل فی الطهارة المائیة، لأنّه بالجمع بین الکیفیتین یرتفع التفصیل.

مع أنّه یمکن القول فی وجه التفصیل: أنّ الضرب بالید علی الأرض هنا جزءٌ

ص:283

من التیمم، بخلاف الاغتراف فی الوضوء أو الغسل.

هذا، مضافا إلی امکان استظهار لزوم الجمع بین العملین علی نحو المعاونة من الخبر المرویّ عن فضالة عن عدّةٍ عن أبی عبداللّه علیه السلام فی حدیث قال: «وذکر أنّه کان وجعا شدیدا لوجعٍ، فأصابته جنابة وهو فی مکان بارد وکانت لیلة شدیدة الریح باردة، فدعوتُ الغلمة فقلت لهم: أحملونی فاغسلونی، فقالوا: إنّا نخاف علیک. فقلت لهم: لیس بُدّ، فحملونی ووضعونی علی خشبات ثمّ صبّوا علیّ الماء فغسّلونی»(1).

وبالجملة: کیف کان فإنّه لا اشکال فی أنّ الأحوط هو الجمع بین الکیفیتین لو لم نقل بتعیّنه، لتوقف البراءة علیه، کما عن صاحب «الجواهر».

أقول: ومن ذلک یظهر امکان القول بذلک فی الصورة الثالثة، وهی ما لو یتمکّن من الضرب بید العلیل دون المسح، فایقاع المسح بید النائب لابدّ أن یکون مع الضرب علی الأرض، فتحصیل هذین العنوانین.

وعلیه بالمشارکة والمعاونة یقتضی ما قلناه من الجمع بین الکیفیتین عملاً بقاعدة المیسور وتحصیلاً للبراءة الیقینیة، وإن کان القول بکفایة عمل النائب بصورة الکامل عن العلیل فی الموردین لا یخلو عن وجه فی الجملة، واللّه العالم.

بیان مراتب أفعال التیمم

الأمر الرابع: ویدور البحث فیه عن بیان ما یجب اتیانه مرتبا من الأجزاء، و هی:

الأوّل: جعل الیدین علی الأرض بقصد التیمم:

فهل یجب هذا الجعل بالوضع، علی الأرض، أو بالضرب، أو یکفی تحقق


1- وسائل الشیعة: الباب 17 من أبواب التیمّم،الحدیث 3.

ص:284

وجود التراب علی الید لحصول المسح ولو لم یکن بالوضع، أو بالضرب بل حصل وقوع التراب علی الیدین بهبوب الریح بأن حمل التراب ووضعه علی الیدین؟

فیه وجهان بل قولان:

القول الثانی: هو المحکی عن «نهایة الأحکام» للعلاّمة حیث قال بکفایة الصاق التراب علی الیدین فی حال الاختیار، حتّی یقع المسح بالتراب، بحمل الأخبار الدالة علی الوضع أو الضرب علی الغالب المتعارف فی الخارج، والاّ فیجزی حتّی لو استقبل العواصف بهما ومسح.

خلافا لمعظم الأصحاب حیث یعتبرون الوضع أو الضرب، بل عن «المقاصد العلیّة» نقل الاتفاق علی عدم صحة التیمم لو تعرّض لمهبّ الریح، کما هو مقتضی ظاهر الأخبار بل وصریحها، خصوصا بعد اعتضادها باجماع الأصحاب. کما نقله صاحب «الجواهر»، بل هو فی ظاهر «الذکری» وصریح «جامع المقاصد» و«المدارک».

نعم، لا یکتفی بذلک مع الاختیار، وأمّا مع الاضطرار لا یبعد کفایته، بل فی «الجواهر»: «لعلّه یقدّم علی بعض أفراد الغبار».

قلت: وفی تقدیمه علیه فی بعض أفراده تأمّل، لشبهة عدم کفایته مطلقا حتّی مع الاضطرار، إذا فرض امکان تحصیل التیمم بالغبار، لعدم قیام اجماع منقول علی عدم الکفایة فی الغبار بخلافه هنا، وإن کان نقله فی خصوص حال الاختیار، وعلیه فالأقوی ما علیه المشهور بل الاجماع من القول الأوّل.

الأمر الخامس: بعد ما ثبت من وجوب جعل الیدین علی الأرض:

فهل یکفی کونه بصورة الوضع کما وقع بهذا التعبیر فیکلام المصنّف هنا، و«المبسوط» والجامع و«القواعد»، وصریح «الذکری» و «جامع المقاصد» و«الدروس»؟

ص:285

أو لابدّ من الضرب، أی الوضع مع الاعتماد، کما هو ظاهر «الهدایة» و«المقنع» و«جمل» المرتضی، والشیخ، و«الغنیة» و«الوسیلة» و«اشارة السبق» و«السرائر» و«الجامع»، وصریح «الروضة» و«الروض» و«الریاض» و«کشف اللّثام»، بل فی «الذکری» نسبته إلی معظم عبارات الأصحاب. وفی «کشف اللّثام» إلی المشهور، بل هو معقد بعض الاجماعات؟ فیه وجهان وعلیه القولان کما عرفت:

أقول: الأقوی هو الثانی کما علیه صاحب «الجواهر» و«مصباح الفقیه» و«مصباح الهدی»، والسیّد فی «العروة» وأکثر أصحاب التعلیق بل کلّهم.

أقول: منشأ الاختلاف هو اختلاف لسان الأخبار، حیث وردت بتعبیر (الضرب) فی عدة أخبار تبلغ إلی عشرة، وفی بعضها ورد تعبیر (الوضع) وتبلغ إلی الأربع أو الخمس، فلا محیص من الجمع بین الطائفتین، وهو لا یتحقق الاّ بعد تعیین ملاحظة النست بینهما.

فقد یقال: إنّ النسبة بینهما هو التباین، لأنّ (الوضع) عبارة عن الالصاق بلا دفع، والضرب هو ذلک مع الدفع والاعتماد، فالنسبة بینهما تکون التباین فیتعارضان ویحکم بینهما بالتخییر، هذا.

ولکنّه غیر وجیه، أوّلاً: بأن الظاهر کون النسبة هو العموم والخصوص المطلق لا التباین، لوضوح أنّ (الوضع) صفه مطلقة تشمل الالصاق بلا دفع ومع الدفع، وهو تعبیر یوجد مثله فی اللغة الفارسیة فیقال (نهادن) أو (گذاشتن) وهو عامٌ مثل وضع الثوب فی الصدوق، الشامل لکونه فیه طرحا ودفعا وغیرهما، وکذلک یشمل وضع الید علی الأرض بنحو ما یصدق علیه الضرب، فلا یشترط فی صدق الوضع عدم الضرب والدفع کما لا یخفی.

ص:286

وثانیا: لو تنزّلنا عمّا قلنا من العموم المطلق، فنقول إنّ النسبة بینهما هو العموم من وجه، إذ ربما یصدق الوضع بلا ضربٍ فیه أصلاً وهو الالصاق بلا رفع بسرعة ولا دفع فیه، وقد یصدق الضرب بلا وضع وهو الالصاق والرفع بسرعة، مع أنّ الوضع مع الدفع یسمّی الضرب عرفا دون الوضع، وقد یصدق علیه العنوانین فیما اذا جعل الالصاق مع الدفع والاعتماد دون ایقاع الید بسرعة، فإنّه یصدق علیه الوضع والضرب، فیتعارض والمرجع فیه إلی المرجّحات لا إلی التخییر.

أقول: من الواضح أنّه عند التعارض یقدّم الضرب علی الوضع لوجوه:

أوّلاً: لکون أخباره أقوی ظهورا من أخبار الوضع.

وثانیا: اکثریة أخبار الضرب عن الوضع.

وثالثا: أنّ أخبار الضرب موافق للاحتیاط وموجب للقطع بفراغ الذمة، لأنّه المتیقن من الکیفیة الملقاة من الشارع.

ورابعا: کونها معتضدة بشهرة الأصحاب واجماعهم والعمل علیه، بخلاف أخبار الوضع حیث أنّ أکثرهم قد أعرضوا عن العمل بها حتّی مثل المصنّف، و«الجامع» و«القواعد» الذین عبّروا هنا بالوضع، ولکنّهم ذکروا فی مقام بیان بدلیته عن الوضوء بالضرب بقولهم: «ویجزیه فی الوضوء ضربة واحدة، ولابدّ فیما هو بدل الغسل من ضربتین، وقیل فی الکلّ ضربتان، وقیل ضربة واحدة، والتفصیل أظهر» انتهی.

وهذا أقوی شاهد علی انّهم أرادوا بالوضع هنا هو الضرب، فینحصر المخالف فی التجویز فی الوضع بالشهید فی «الدروس» والمحقق وصاحب «نهایة الأحکام» وضعف کلامهم یظهر بما عرفت.

هذا فی حال الاختیار، خصوصا مع ملاحظة احتمال کون أخبار الوضع

ص:287

حکایة فعل النبیّ صلی الله علیه و آله لا بیان حکمٍ فی المسألة، واللّه العالم.

وأمّا فی حال الاضطرار فسیأتی حکمه إن شاء اللّه تعالی.

وبالجملة: بناءً علی ما ذکرناه لا ینافی ما ورد فی خبر الخزّاز فی قصّة عمّار بعد السؤال عن النبی صلی الله علیه و آله ، قال: «فقلت له: کیف التیمم؟ فوضع یده علی المِسْح (بالکسر) ثمّ رفعها فمسح وجهه ثمّ مسح فوق الکف قلیلاً»(1).

ومثله حدیث داود بن النعمان فی حدیثٍ عن الصادق علیه السلام ،: «فقلنا له: فکیف التیمم؟ فوضع یده علی الأرض ثمّ رفعها فمسح وجهه ویدیه وفوق الکف قلیلاً»(2).

وکذلک حکایة فِعل الباقر علیه السلام فی حدیث زرارة، حیث قال: «فوضع أبوجعفر علیه السلام کفیه علی الأرض ثمّ مسح وجهه وکفّیه ولم یمسح الذراعین بشیءٍ»(3)

ومن ذکر (الوضع) حیث أنّ الظاهر أنّهم أرادوا بالوضع هو الضرب، لأنّ ذکر هذا اللفظ لافهام أصل لزوم کون الوضع علی الأرض، غیر المنافی مع الضرب فی قبال ما قام به عمّار حیث تمعک علی الأرض کما تتمعکّ الدابة، فلا ینافی مع ما ورد بکون الوضع لابدّ أن یکون مع الاعتماد.

کما یؤّید هذا الحمل والتقیید ما نقله زرارة من فعل النبی صلی الله علیه و آله وتعلیمه لعمّار بالضرب، وأیضا عن أبی جعفر علیه السلام الذی نقل عنه الوضع فی الحدیث المنقول عن «مستطرفات السرائر» حیث جاء فیه: «فضرب بیدیه علی الأرض، ثمّ ضرب احداهما علی الأخری، ثمّ مسح بجنبیه ثمّ مسح کفیه الحدیث»(4).


1- وسائل الشیعة: الباب 11 من أبواب التیمّم، الحدیث 2.
2- المصدر السابق، الحدیث 4.
3- المصدر السابق، الحدیث 5.
4- وسائل الشیعة: الباب 11 من أبواب التیمّم، الحدیث 9.

ص:288

فثبت من جمیع ما ذکرنا قوّة قول المشهور من اعتبار کون الوضع بالضرب والاعتماد لا مطلقا. هذا کلّه فی حال الاختیار.

وأمّا فی حال الاضطرار: فیما لو کان المتیمم عاجزا عن الضرب، لکنه متمکن من الوضع، فهل یجب علیه ذلک، أو یسقط التیمم من رأس، أو یسقط خصوص لزوم مباشرة باطن الکفّ للأرض؟ وجوه: قد یتوهّم الثانی باعتبار أنّ المرکب ینتفی بانتفاء أحد اجزائه إذا کان الضرب جزءا للتیمّم الذی یقدم فرض تعذّره.

کما یتوهّم انتفاء المشروط بانتفاء شرطه لو جعلنا الضرب شرطا لا جزءا.

کما قیل إنّ تقدیم الثالث هو مقتضی قاعدة المیسور بعدم سقوطه مع تعذّر المعسور، خصوصا مع فقد الدلیل علی جعل البدل فی المتعذر.

أقول: شیء من الوجهین لا یمکن جعله وجها لتقدیمهما، لأنّ (الوضع) کما عرفت قد ورد مطلقا فی بعض الأخبار مکان الضرب، علی نحو یکون الثانی تقییدا مع التمکن والاختیار، فلا ینافی ذلک جواز الاکتفاء بأصل الوضع دون الاعتماد فی الاضطرار، لأنّه میسورٌ بالنسبة إلی الوضع مع الاعتماد، وعلیه فلا وجه لرفع الید عنه، إذ فی صورة کونه جزءا فوجهه واضح، وأمّا بناءً علی الشرطیة فهو أیضا کذلک إن قلنا بجریان قاعدة المیسور فی الشرائط کجریانها فی الأجزاء، إلاّ فمع ذلک نقول بتقدیم (الوضع) علی الحکم بسقوط التیمم برأسه، أو سقوط خصوص مباشرة باطن الکف، لما قد عرفت ورود (الضرب) فی بعض الأخبار، بل لعلّه المنساق من الآیة إذا فسّرت قوله تعالی (فتیمّموا) أی اقصدوا الصعید، حیث ان المتبادر والمنساق منه إلی الذهن أوّلاً _ لو لا الأخبار المقیدة _ هو الوضع، و علیه فالقول بالسقوط فی کلتا صورتین غیر وجیه کما لا یخفی.

الأمر السادس: انّه لابد أن یکون الوضع أو الضرب بکلتا یدیه مع التمکّن،

ص:289

اجماعا محصّلاً ومنقولاً ونصوصا کما فی «الجواهر»، لما ورد فی جمیع الأخبار فی مقام التعلیم والبیان بجملة: (اضرب بکفیک) أو (بیدیک) أو (بیدک) الظاهر فی الجنس، الشامل لکلیهما، الظاهر فی کون الضرب أو الوضع بهما، فلو فعل ذلک باحدی یدیه فقط لا یُجزیء. وعلیه فیجب أن یکون الضرب مضافا إلی کونه بهما بأن یکون دفعةً ومعا، کما صرّح به فی «جامع المقاصد» وغیره، بل وفی «الحدائق» نسبته إلی ظهور الأخبار والأصحاب، بل قال فی «المدارک»: «الواجب الثالث وضع الیدین معا علی الأرض، وقد أجمع الأصحاب علی وجوبه وشرطیته فی التیمم.»

واحتمل فی «الجواهر» استفادة اعتبار الدفعة من عبارة «المدارک» هذه، وقال: «بل قد یستفاد المعیّة من معقد اجماع «المدارک» وإن احتمل المناقشة فی استفادته، وقال: «یمکن المناقشة فیه باحتمال ارادة عدم الاجتزاء بالواحدة، بأن یکون المقصود من دعوی الاجماع لخصوص کونه بالیدین لا مع کونه معاً ودفعةٍ».

وکیف کان، احتمال الوجوب فیه وفی المعیّة قویّ فی معقد الاجماع، لامکان کونه مستفادا من ظاهر الأخبار من جملة: (اضرب بکفیک) و(بیدیک) أو (فوضعهما علی الصعید) فی مقام بیان الفعل وحکایته، بل لا یبعد دعوی شرطیة کلا الأمرین من کونهما بالیدین لا باحداهما، ودعوی کون الضرب أو الوضع دفعةً لا متعاقبا هو المستفاد من ظاهر تلک الأخبار، وکون ظهور الجملة فی الأظهریة لا الشرطیّة، والاّ فالصدق حاصل بالتعاقب _ کما فی الجواهر _ من الانسباق إلی الذهن مردودة لا یمکن الاعتماد والاطمینان الیها لأنّ الجواب کان بعد السؤال عن الکیفیّة فی العبادات التوقیفیّة التی لابد لنا من أخذها من لسان الشرع والدلیل، والعمل علی کیفیّته ما یرد بها الأمر الشرعی والأخذ بظاهره المتلّقی منه، خصوصا المؤیده بما ورد فی توضیح الفرق بین بدل الوضوء

ص:290

والغُسل بانّه ضربة للوجه والیدین فی الأوّل، وضربتان للوجه والیدین فی الثانی، حیث ینطبق مع کونهما معا لا متعاقبا، فان جمیع ذلک یوجب الاطمینان للفقیه من أنّ المعیّة والدفعة مثل لزوم الضرب بالیدین تعدّان شرطا فی الصحّة فضلاً عن أنّهما واجبتان.

مضافا إلی امکان أن یقال بمقالة صاحب «مصباح الفقیه»، وهی أنّه لو لم نقل بدلالة کل دلیل مستقلاً برأسه علی ذلک، ولکن لا یکاد یُنکر استفادة اعتبار ذلک من ضمیمة بعضها مع بعض، وتأییده بالمجموع من حیث المجموع، حیث ینصرف ذهن الفقیه عن کون ذکر هذه الخصوصیات من جهة العادة والاتفاق، خصوصا مع ملاحظة تکرّر ذلک فی مقام التعلیم وبیان الکیفیّة، لاسیّما مع ملاحظة کون العمل بذلک الظاهر ورعایته ممّا یوافق الاحتیاط، بل ومساعدته مع قاعدة الاشتغال والاحتیاط فی خصوص الطهارات الثلاث، حیث یکون الشک فیها شکا فی المحصِّل والحصَّل المقتضی للاحتیاط، ولأجل ذلک ذهبنا فی تعلیقنا علی «العروة» الی الوجوب والشرطیة وفاقا للسیّد وجُلّ أصحاب التعلیق، واللّه العالم.

الأمر السابع: یدور البحث فیه عن أنّه هل یعتبر فیما یتیمم به من التراب وغیره اتصاله بالأرض وکونها من اجزائها بالفعل، وکونه موضوعا علیها، أم لا یعتبر الاتصال، بل یکفی کونه من الأرض ولو کان التراب منفصلاً عنها بحیث لم یصدق علیه حال الانفصال اسم الأرض؟

الأقوی هو الثانی بلا خلافٍ فیه علی الظاهر، بل علیه السیرة القعطیة من المتشرعة، بل یمکن استفادته من جملةٍ من الأخبار مثل خبر السکونی(1)،


1- وسائل الشیعة: الباب 8 من أبواب التیمّم، الحدیث 1.

ص:291

والخبر المرویّ عن الراوندی(1) الدالّین علی جواز التیمم بالجِصّ والنورة، والمنع من الرماد، معلّلاً بانّه لم یخرج من الأرض، بل قد یستفاد ممّا دلّ علی أن التراب من حیث هو طهورٌ إن لم یکن متصلاً بالأرض کصحیحة جمیل(2)، بل قد یؤید ذلک تجویز التیمم بالغبار الحاصل من نفض الثوب أو بما علی عُرف اللدابة ولبد سرجها ونحوهما.

أقول: وأمّا فی التیمّمات البیانیه ونحوها من ضرب الأرض، فمحمولٌ علی المثال والعادة المتعارفة ابتداءً، فلازمه جواز التیمّم بالتراب فی أی موضعٍ کان، سواءٌ کان علی بدنه أو بدن غیره، بل وفی الأوّل حتّی ولو کان علی وجهه تراب صالح فانّه لو ضرب علیه ومسح کان مجزیا کما صرّح به الشهید فی «الذکری» وتبعه صاحب «الجواهر» و«مصباح الفقیه»، لصدق الامتثال بذلک، وعدم ما یصلح للمعارضة، وزاد فی «المصباح»: «بأنّه حسن بشرط عدم حیلولة التراب حین المسح بین الماسح والممسوح، إذ لا مدخلیة لرفع الید وانفصالها عن التراب بعد الضرب علیه فی صحة التیمم ولو بحکم أصل البراءة».

وعلیه، فما عن «المدارک» ومال الیه فی شرح المفاتیح من عدم الاجتزاء فی هذه الصورة لتوقیفیة العبادة، مع تبادر غیره من الأدلة.

ممّا لا یمکن المساعدة معهما، لأنّه لا فرق فی التبادر والتوقیفیة بین کون التراب فی بدن الغیر أو بدن نفسه أو علی وجهه، من حیث الملاک، مع أنّهما صرّحا أو أظهرا جوازه مع کون التراب علی بدن الغیر أو بدنه سوی وجهه.

نعم، لو فرض وجود التراب علی الوجه ومرّر یده علیه من دون المسح


1- المستدرک ج، الباب 6 من أبواب التیمم، الحدیث 2.
2- وسائل الشیعة: الباب 23 من أبواب التیمّم، الحدیث 1.

ص:292

مقتصرا علیه فی المسح لم یکن ذلک مجریا قطعا، لعدم تحقّق ماهیة التیمّم القائمة بالمسح، وإن احتمل العلاّمة فی «المنتهی» کفایته، ولکنّه ضعیفٌ، لما عرفت من قیام الاجماع وغیره علی اعتبار الضرب أو الوضع ثمّ المسح به.

اشتراط الضرب والمسح بباطن الکف

الأمر الثامن: فی أن الضرب والمسح لابدّ أن یکون بباطن الکف علی ظهر الأخری، ولا یجتزی بظهره وان استوعب مع التمکّن عن البطن، لأنّه المنقول والمعهود والمتبادر، وعلیه السیرة القطعیة، بل هو المقطوع به ممّا ورد فی بیان کیفیّة التیمم من النصوص والفتوی، بل صرّح بذلک السیّد المرتضی والمفید وابن ادریس وغیرهم، کما تری وروده فی النصوص بقوله: «واضرب کفیک علی الأرض» حیث أنّ المراد منه بطن الکف، کما یظهر ذلک فی حدیثٍ آخر بقوله: «ثمّ مسح کفّیه کل واحدة علی ظهر الأخری» فإنّ المسح یقع ببطن الکف المضروب علی ظهر الأخری، والضرب بظهر الکف خارجٌ عن مصداق الامتثال.

ودعوی: أنّه انصرافٌ بدوی منشؤه اُنس الذهن لأجل غلبته فی الوجود.

غیر مسموعة: لوضوح أنّه کان فی مقام البیان وتعیین الوظیفته فی کیفیة التیمم، فلابدّ من الأخذ بما أمره الآمر حتّی یصدق الامتثال، وهذا الحال المتمکّن أمره واضحٌ لا بحث فیه.

نعم، والذی ینبغی أن یبحث فیه صورة عدم التمکن من الباطن، وأنّه بعد العجز هل ینتقل الحکم من الباطن الی حکم الضرب علی الظهر أم لا؟

الذی یظهر من فتاوی الأصحاب وعملهم هو الانتقال، کما صرّح بذلک المحقق فی «جامع المقاصد» والشهید فی «الذکری»، وصاحب ارشاد الجعفریّة

ص:293

و«المقاصد العلیّة»، بل اختاره صاحب «الجواهر» و«مصباح الفقیه» والمحقق الآملی، بل السیّد فی «العروة» مع أصحاب التعلیق، فکانّه هو المعمول به عند الأصحاب، غایة الأمر یقع الکلام فی بیان مستندة

تارة: یقال کما عن المحقق والشهید وغیرهم _ بلزوم التمسک باطلاق الآیة من کون (الضرب) أو (لوضع الیدین) صادقان علی الباطن والظاهر، خصوصا مع عدم ورود نصّ فی الأخبار علی وجوبه بباطن الکف بل وکذا فی الفتاوی، الاّ من جهة التبادر وانصراف الذهن إلی هذه الصورة، بکون الید آلة لذلک، کالأمر بضرب الأرض حیث ینتقل الذهن إلی کونه بالباطن، وهذا التبادر والانسباق إنّما یکون مع الاختیار دون الاضطرار، أو فی حال الضرورة فیجوز بظهر الکف أیضا، لأنّ الکفّ یطلق علی الباطن وعلی الظاهر کما تری هذا الاطلاق فی حدیث ابن أبی المقدام. لکن کون الباطن هو المتبادر أوّلاً منه لایوجب الانحصار فیه، وکون الظهور مقصودا، فلذلک أفتوا بالانتقال إلی الظهر علی فرض تعذر الباطن، هذا.

ولکن قد یناقش فیه: إنّ اطلاق الید الشامل للاظهر یوجب القول بجواز ذلک حتّی فی حال الاختیار، بل لو لا ذکر التبادر والأخذ به یلزم جواز الضرب والمسح بغیر الظهر من أجزاء البدن أیضا، وقرب الظهر إلی الباطن لا یصلح کونه معیّناً کما أشار الیه فی «الجواهر».

وعلیه، فالأحسن التمسک لجواز الظهر بعد معذوریة الباطن بقاعدة المیسور، بأن یقال إنّه فی حال الاختیار کان اللازم وقوع التیمم بباطن الیدین فعند التعذّر عن الباطن علیه التیمم بما هو میسورٌ عرفا للمعسور، وهو التیمم بظهر الید، لأنّه یطلق علیه الکف أیضا، کما ورد فی حدیث ابن أبی المقدام(1)، غایة الأمر کان


1- وسائل الشیعة: الباب 11 من أبواب التیمّم، الحدث 6.

ص:294

الواجب فی حال الاختیار باطن الکف کما استفید ذلک من حدیث الکاهلی، حیث قال: «ثُمّ مسح کفّیه احداهما علی ظهر الأخری»(1) حیث یفهم منه کون المراد من الکف المذکور تلو المسح هو الباطن بقرینة التقابل علی ظهر الأخری.

وأمّا فی حال العُذر والضرورة یتبدل إلی ما یصدق علیه الکف أیضا، وهو الظهر لأنّه المیسور للید فی التیمّم، بل منه یظهر الحکم بالتمسک لقاعدة المیسور فی أقطع الیدین من الزند بأن علیه أن یأتی بالضرب والمسح من المحل المقطوع من الذراعین، لکونهما میسورا له بالنسبة إلی اطلاق الید الوارد فی القرآن فی المسح (بایدیکم) مع مراعاة تقدم البطن علی الظاهر من الذارعین، تمسکا بتلک القاعدة، بل وهکذا فی تقدّم الوضع بعد تعذر الضرب، حیث یصدق علیه انّه میسور الضرب، لما قد عرفت أنّ الضرب عبارة عن الوضع مع زیادة هو الدفع والاعتماد، کما یظهر من ذلک حکم ما لو تعذّر التیمم بباطن احدی الیدین دون الأخری، حیث ینتقل التیمم فی المتعذر منه إلی الظهر تمسکا بهذه القاعدة.

مضافا إلی امکان أن یقال: إنّه لو لا ما ذکرناه، لابدّ من القول إمّا بسقوط المباشرة وحلول التولیة مکانه، أو سقوط أصل الضرب والمسح بالیدین، والاکتفاء بمسح نفس الجبین بالتراب وکذا الیدین، أو سقوط أصل التیمم، وجریان حکم فاقد الطهورین فی حقّه باعتبار أنّ المرکب ینتفی بانتفاء بعض اجزائه، والحال أنّ قاعدة المیسور تکون حاکمة علی جمیع هذه المحتملات.

بل یظهر ممّا ذکرنا أنّه من أراد تحصیل البراءة الیقینیّة فی جمیع الشقوق والمحتملات باجراء الاحتیاط، کان علیه العمل بجمیع ما ذُکر من ضرب ظهر الکف، واجراء التولیة بید الغیر بباطنه، ومسح ظهر الکف والجبین بالتراب،


1- المصدر السابق، الحدیث 1.

ص:295

والاتیان بحکم فاقد الطهورین، حتّی یحصل له القطع بانّه قد عمل بما هو المطلوب فی الواقع، کما وردت الاشارة الیه فی «الجواهر»، ولکن العمل بما قلناه أوّلاً بالضرب أو وضع ظهر الکف والمسح به یوجب البراءة ان شاء اللّه.

أقول: ممّا ذکرنا یظهر حکم ما لو تعذّر الضرب بباطن إحدی الیدین، فقد نوقش فی أنّه هل علیه أن یقتصر بباطن الأخری فقط أو بباطنها مع ظاهر الأولی؟ وجهان: أقواهما الثانی لاستلزام بدلیة ظهر کلّ منهما باطنه هو الاتیان بباطن احداهما وظهر الأخری، تمسکا بقاعدة المیسور فی کلّ واحدة من الیدین، لو عرض التعذّر لاحداهما إذ الحکم یظهر فیه من الأشباه والنظائر، کما لا یخفی.

کما یظهر ممّا ذکرنا حکم ما لو تعذّر الضرب أو الوضع ببعض باطن الکف، حیث نوقش فی أنّه هل یجب علیه الاتیان بذلک البعض، أو یتبدل إلی الظهر الکامل فی المتعذّر؟ الحکم هو تقدّم الأوّل علی الثانی، لأنّه أقرب عند العرف إلی حقیقة التیمم من الضرب والوضع بظاهرهما کاملاً، إذ هو المیسور عند العرف لا الثانی، وإنْ کان طریق الاحتیاط یقتضی الاتیان بالکفین.

الأمر التاسع: هو ما لو کان باطن الکف فی الیدین أو احداهما نجسا غیر متعدٍّ و غیر حاجب و یتعذّر ازالته، فهل یوجب ذلک انتقال الحکم إلی ظاهر الیدین مع خلّوه عن جمیع ذلک، أو إلی حکم مسح الأقطع بسقوط الضرب والوضع عنه مع خلو موضع المسح من الجبین عن ما ذکر له، أو لا ینتقل میه؟ وجهان: الأقوی عندنا هو الثانی، أی علیه أن یقوم بعملیة التیمم بالباطن النجس غیر المسری وغیر الحاجب، بل حتّی مع الحاجب، حتّی ولو کانت النجاسة مستوعبة، لکن مع تعذّر الازالة، ولو بنجاسة أخری کغیر المورد من الحواجب، بلا خلافٍ أجده فیه فی غیر الحاجب بین الأصحاب، بل الاصحّ أن الحکم کذلک مع الحاجب أیضا،

ص:296

لعدم قیام دلیلٍ یدلّ علی شرطیة الطهارة عند الضرورة، وإن قلنا بشرطیتها فی حال الاختیار، کما لا دلیل علی اعتبار المباشرة بنفس البشرة فی حال الضرورة، بل لعلّ الاطلاقات وفحوی الأدلة تقتضیان بخلافه، کما یشهد علی ذلک ما دلّ من الدلیل علی یتیمّم ذی الجروح والقروح ونحوهما، کما ویدلّ علی ذلک ما ورد فی حکم الحواجب من الجبائر والطلاء ونحوهما فی الوضوء الذی هو المبدل، حیث یفهم منها تنزیل الحائل مع تعذّر ازالته منزلة المحال عنه، فکذلک یکون الحکم فی البدل أیضا، کما یؤید ذلک حدیث المرارة حیث أنّه کالصریح فی کفایة المسح علی الحائل عن المحال عنه، والوارد فی الحدیث حکمٌ کلیّ فی جمیع الموارد الاّ ما خرج بالدلیل، کما یؤمی إلی ذلک التمسک بآیة نفی الحرج وحکم الامام علیه السلام فی بعض الأحادیث «بأنّ هذا واشباهه یعرف ویفهم من کتاب اللّه عزّوجلّ» اذ لا خصوصیة للجتچب فی الوضوء فقط حتّی لا تجری فی غیره من التیمم، ولذلک یلاحظ أنّ الحکم عند الأصحاب فی الحائل علی الاعضاء الممسوحة من الجبهة وظاهر الیدین هو المسح علیه، ولا فرق فی الجواز بین کون الحائل فی الماسح أو فی الممسوح، لاشتراک الملاک فیهما، ولذلک قال صاحب «الجواهر» رحمه الله : «والفرق بین الماسح والممسوح فی ذلک تحکّمٌ».

نعم، قد یقال فی الفرض الأوّل _ أی شرطیة طهارة الموضع _ بأنّه لا دلیل لنا علی الشرطیة فی مواضع التیمم مطلقا، حتّی مع الاختیار فی النجاسة غیر المُسریة، فضلاً عن حال الاضطرار، عدا ما عن بعضٍ من دعوی الاجماع علی اشتراط طهارة الماسح والممسوح، کما حکاه صاحب «مفتاح الکرامة»(1) عن الشهید فی حواشیه علی «قواعد الأحکام»، والأمر کما قاله رحمه الله .


1- مفتاح الکرامة، ج 1، ص 549.

ص:297

هذا، فضلاً عن أنّه لا یبعد امکان دعوی الایماء والاشعار فی الآیة بأنّ (صعیدا طیبا) اشارةً إلی مثل ذلک من الطهارة والاباحة، حیث یفهم من باب مناسبة الحکم والموضوع لزوم طهارة الماسح والممسوح، حتّی تحصل الطهارة المعنویة، وتحصیلها ممّا هو بنفسه قذر ونجس فی غیر صورة الضرورة غیر مقبول عند المتشرعة ولسان الادلّة، وأمّا فی حال الاضطرار فانّ شرطیته یحتاج إلی دلیل وهو مفقود.

نعم، الاستدلال علی شرطیة طهارة لمحلّ هنا ببدلیته عن الطهارة المائیّة، فحیث کانت شرطا فیه، فلابد کونه شرطا هنا بمقتضی البدلیة وعموم المنزلة.

غیر وجیه، لما قد عرفت غیر مرّة بأنّ التنزیل بنفسه لا یقتضی الاّ فیما یساعده الدلیل، ولا یدلّ علی أنّ کلّ ما یکون للمبدل من الآثار یکون لبدله أیضا.

مع أنّه قد قیل فی وجه الفرق بین ما نحن فیه وبین المائیة: بأن اشتراط طهارة المحلّ فی الطهارة المائیة إنّما هو لحفظ الماء عن الانفعال، لکن هذا أیضا لا یخلو عن نقاش، لأنّه قد ذکر فی محلّه بأن الأظهر أنّ شرطیة طهارة المحلّ فی الوضوء کان بنفسه من حیث هی وان لم ینفعل الماء، کما فی الماء الکثیر أو الجاری.

کما لا یتم الاستدلال علی شرطیّة طهارة محلّ التیمم بأنّ التراب ینجس بملاقاة النجس، فلا یکون طیّبا، کما عن «الذکری» لأنّه إنّما یتم إذا کانت النجاسة مسریة إلی التراب لا مطلقا کما هو المطلوب.

نعم، ما أجابه صاحب «مصباح الفقیه» بمنع کون (الطیّب) بمعنی الطُهر، غیر مقبولٍ لو أراد نفیه مطلقا حتّی کونه من أحد مصادیقه، نعم دعوی الانحصار فیه مردودة.

وأیضا: لا یتمّ الاستدلال له أیضا بما قد قیل بأنّ المتبادر من الآیة وغیرها ممّا دلّ علی اشتراط الطهارة فی التراب، إنّما هو طهارة ما یتیمّم به عند ارادة التیمّم،

ص:298

فلا یعمّ النجاسة الحاصلة باستعماله فی التیمم، وکان طاهرا قبل الاستعمال، نظیر عدم مانعیة النجاسة الحاصلة للماء بملاقاة النجس عند استعماله لتطهیر الخبث وازالته.

لأنّه من الواضح أنّ الطهارة اللازمة فی التراب، المستفادة من الأدلة، لیس الاّ اعتبار طهارة ما یتیمّم به فی حال الاستعمال وحینه لا قبله فقط، وقیاس المقام بالماء المستعمل فی ازالة الخبث قیاسٌ باطلٌ کما قد حُقّق فی محلّه.

وعلیه فاذا قلنا بشرطیة الطهارة فی المستعمل لازالة الحدث فانّه یفهم حینئذٍ شرطیة طهارته حتّی العلوق «المعتبر» عند مسح الجبهة والیدین، الذی لا یصدق علیه الصعید بعد صیرورته علوقا فضلاً عن شرطیة طهارة الصعید الذی کان فهم ذلک من باب مناسبة الحکم والموضوع. وعلیه فاشتراط خلوّ المواضع من النجاسة المسریة إلی التراب الذی یقع التیمّم به، ممّا لا ینبغی التوقف فیه.

أقول: إنّما الاشکال فی اشتراط خلوّها عن النجاسة غیر المسریة أو المسریة التی لا تتعدّی إلی التراب، کما حصلت فی الید بعد ضربها علی الأرض، أو کانت علی الجبهة أو ظاهر الکفین ولم تشترط العلوق.

بل لا یبعد دعوی کون المغروس فی ذهن المتشرعة، المستفاد من لسان الشرع، هو انصراف الاطلاقات الواردة فی التیمّم عن مثل هذا الفرد، المستلزم لاستعمال النجس باشتمال المواضع علی النجاسة المسریة.

ولأجل ذلک لا محیص عند الضرورة وعدم امکان، منعها عن السرایة ولو بتجفیفها، أو معالجتها ولو بشدّ خرقةٍ ونحوها علیها المستلزم وقوع التیمم بحائل، إذ الظاهر کفایة مثله حینئذٍ عُذریا بقیام الحائل مقام البشرة، وإن کان طریق الاحتیاط فی مثل الفرض بالجمع بین مسح البشرة _ لو لم یترتب علیه محذورٌ شرعی أو عرفی من تلویث المواضع الطاهرة بحیث یشقّ معه تحمّله _ ومسح

ص:299

الحائل واضحا، کما أنّ الأحوط عند تعذّر النجس والاتیان بشیءٍ من مراتب التیمم خالیا عن استعمال النجس، هو الجمع بین التیمّم والاتیان بوظیفة العاجز وهو ظهرالکف أو وظیفة الأقطع وفاقد الطهورین، إذ هو غایة ما یمکن أن یقوم به فی العمل بالوظیفة، لأنّ الصلاة لا تسقط بحالٍ، فلابدّ من اتیانها بأحد من الوجوه برجاء المطلوبیة.

وأیضا: قد یقال فی الحائل من الانتقال إلی الظَهر وجعله عُذرا کما هو ظاهر کلام الشهید فی «الذکری» وصریح «الروضة».

لکنّه ممنوعٌ، لوضوح أنّ الضرب أو الوضع علی الأرض مع الحائل فی حال الضرورة یکون بمنزلة نفس البشرة من لزوم مراعاة ما یجب به الضرب من باطن الکف کما هو الحال فی الکف الطاهرة کذلک عند الضرورة، وفاقا لصریح «جامع المقاصد» و«المدارک» وظاهر «الروض». وعلیه فجعل الحائل عذرا للانتقال فی المقام أو مطلقا حتّی فی الطاهرة ممنوعٌ جدا، خصوصا فی الطاهرة التی ادعی صاحب «الجواهر» الاجماع علی خلافه، خصوصا إذا کانت الحیلولة لقلیل من باطن الکف لاتمامها، ولعلّ الوجه فیه أنّ شمول قاعدة المیسور للحائل مع حفظ الباطن کان أولی من شمولها للظاهر من الکف بالمباشرة، لأنّ موضع الضرب والوضع بقی محفوظا فی الأوّل دون الثانی.

أقول: ینقدح حکم جواز ایجاد الحائل فیما لو تعذّر المباشرة فی الید لأجل وجود جرحٍ وشبهه، بأن یشدّ علیه الخرقة ونحوها ویجعل الضرب أو الوضع علیها، بمثل العمل فی الجبیرة فی الطهارة المائیة.

ولکن مع ذلک کلّه الاحتیاط یقتضی أن یکرّر العمل تارةً بالحائل وأخری بالظهر، بل ویتیمّم الأقطع بمسح ظهر الیدین والجبین بالأرض والتولیة، مع حکم

ص:300

فاقد الطهورین، وهذا الاحتیاط لا ینبغی أن یترک.

قیل: یحتمل وجوب الضرب أو الوضع بالید النجسة المتعدّیة، بل جزم به صاحب «المدارک» وتبعه فی «الکفایة» بل قال فی «الجواهر» لا یخلو عن قوّةٍ خصوصا مع تعذر یتیمّم الأقطع والتولیة علیه، لعدم سقوط الصلاة عنه بحالٍ إلاّ أن الأقوی الأوّل لکن بشرط استیعاب النجاسة للباطن.

وفیه: هذا غیر وجیه عندنا لما قد عرفت أنّ النجاسة المسریة خصوصا المسریة إلی التراب، مع عدم التمکّن من الازالة والتجفیف، موجب لتفویت شرط الطهارة، فبالانتقال إلی الظهر _ الذی قد عرفت صدق المیسور علیه بلحاظ صدق الید وصدق الکف علی ما فی الخبر _ یحصل الشرط، فیکون مقدما علی مسح الأقطع أو التولیة أو سقوط ضرب الیدین أو سقوط أصل التیمم، وإن کان الأحوط الاتیان لجمیع المتمملات حتّی یحصل القطع بالبراءة.

هذا کلّه إذا کانت النجاسة مستوعبة لتمام باطن الید.

وأمّا مع بقاء جزء من الباطن یصلح لوقوع الضرب والمسح علیه، فالأقوی تعیّن ذلک، ولا ینتقل الواجب إلی الظهر ولا إلی مسح الأقطع ولا التولیة، کما أنّه یتعین الضرب والمسح بالتولیة إذا لم یمکن بالظهرین لأجل تعدّی نجاستهما، وعدم الامکان مع الحائل للباطن والظاهر لکثرة النجاسة وسرایتها، فلا یسقط ضرب الیدین والاقتصار بمسح الجبهة بالأرض فقط کالأقطع، وإن کان هذا هو ظاهر کلام صاحب «المدارک» و«الکفایة»، بل مقتضی ظاهر کلامهما صیرورته بحکم فاقد الطهورین مع فرض النجاسة المتعدیة فی جمیع الأعضاء حتی الجبهة بحیث تکون الماسحة والممسوحة والیدین والجبهة کلها مستوعبة بالنجاسة المتعدیة. مع أنّه قد یمکن فرض التولیة فی بعض صوره ولو بوضع

ص:301

الحائل علی محلّ المسح فی الیدین والجبهة.

لکن مع ذلک کلّه، قد عرفت أنّ الأحوط خصوصا فی الأخیر هو الجمع بین الفروض والوجوه، ووجوبه لا یخلو عن قوة حتّی یقطع بالبراءة.

أقول: ومن ذلک یظهر حکم ما لو کانت النجاسة المتعدیة فی الممسوح فقط دون الماسح، بحیث لا یتعدّی إلی التراب، فإنّه یمسح علیه مع التعذّر، سواءٌ کان مستوعبا أو غیر مستوعبٍ، لعدم الدلیل علی شرطیّة الطهارة فیه حال التعذر، وإن کانت شرطیتها معتبرة فی حال الاختیار.

لکن احتمل فی «جامع المقاصد» و«الروض» ادراجه تحت حکم فاقد الطهورین فیما لو کان المانع فی الجبهة.

وهو ضعیفٌ، لأنّه لا فرق فی جوازه مع النجاسة حال التعذر وصحّة التیمم بین المتعدّی وغیره، نعم قد یؤثر فی التفاوت بین الصورتین فی بعض الأحوال بالنسبة إلی الصلاة ونحوها، وبزیادة النجاسة ونحوها، الاّ أنّه أمرٌ آخر خارج عمّا نحن فیه وبصدده، حیث أن الکلام فی صحة التیمم وعدمه، لا فیما یترتّب علیه من سائر الاعمال، إذ ربما یتفاوت الحکم الثابت علیه حینئذٍ کمالا یخفی.

البحث عن الدلیل علی اشتراط طهارة الماسح

یدور البحث عن الدلیل علی شرطیة طهارة الماسح مع عدم التعدی والحجب، بل ومع التعدی لغیر التراب _ کما لو جُرح بعد الضرب _ واشتراط طهارة الممسوح من الجبهة وظاهر الیدین مع الاختیار؟

یقول صاحب «الجواهر» بأنّه لم یعثر علی من صرّح بذلک فی کلام قدماء الأصحاب، بل ولم یعثر علی ما یدلّ علیه بالخصوص من الأخبار، بل لعلّ

ص:302

اطلاقها و اطلاق الفتاوی خصوصا ما دلّ منها علی تیمم ذی الجروح والقروح یقضی بخلافه بعد الأصل.

أقول: الذی یمکن به اثبات شرطیة الطهارة فی حال التیمم فی الماسح والممسوح فی حال الاختیار، هو الاجماع، وقیامه مستفادٌ من ظاهر «الارشاد» وصریح «جامع المقاصد» و«الموجز الحاوی» و«حاشیة الارشاد» وصریح «الذکری» و«الدروس» و«البیان» والصیمری وصاحب «المعالم» وتلمیذه، بل فی «الکفایة»: «أنّه المشهور بین المتأخرین» ومنظومة الطباطبائی، و«شرح المفاتیح» و«الجعفریة» وعن ارشادها، بل لعلّه الظاهر من «الروض» و«الروضة»، بل فی «شرح المفاتیح» نسبته إلی الفقهاء، بل عن الشهید الأوّل فی حاشیته علی «القواعد»: «الاجماع علی اشتراط طهارة اعضاء التیمم»، و علیه فهو الحجّة فی المسألة.

ولکن برغم ذلک یلاحظ من کلمات بعض الفقهاء عدم الاشتراط _ کما فی «المدارک» و«الحدائق» و«مجمع الفائدة والبرهان» والیه یرجع ما عن حواشی السیّد عمید الدین _ حیث جوّزوا التیمم إذا کانت النجاسة غیر متعدیّة وإنْ کانت یداه نجسة، أما ابن فهد فقد حکی عنه انّه اشترط أحد الامرین: الطهارة أو الجفاف بحیث لا یتعدّی، ولأجل ذلک مال الیه صاحب «الجواهر»، وقال: «ولو لا صریح الاجماع السابق المعتضد بظاهره، وبالقطع من المحقق الذی هو بمنزلته وبالأصل فی وجهٍ، وبمقتضی البدلیّة علی الاحتمال السابق، لکان القول بعدم الاشتراط متجّها، حتّی مع المتعدّی لغیر التراب» انتهی محلّ المحاجة.

ولذلک استجود کلام صاحب «کشف اللّثام» حیث قال بعد نقله الاشتراط عن الشهید: «ولا أعرف دلیلاً علیه الاّ وجوب تأخیر التیمم إلی الضیق، فیجب تقدیم

ص:303

الازالة کسائر الاعضاء إنْ کان النجاسة ممّا لا یمضی منها، لکنه حکی الاجماع فی حاشیة الکتاب» انتهی.

أقول: قضیة حکم الصلاة عند ضیق الوقت أو جوازها فی السعة للموقته أو مع عدم رجاء الزوال، أو فیما لا یعتبر فیه الضیق لغیر الصلاة ونحوها، أمور خارجة عمّا نحن بصدده، کما عرفت منا التنبیه علیها فی السابق.

والحاصل: أنّه لا دلیل علی الاشتراط الاّ الاجماع والشهرة الفتوائیة بین الأصحاب، ومناسبة الحکم والموضوع بأنّ طهارته محصّل للطهارة المعنویة المطلوبة کالطهارة المائیة والبدلیة، والمسألة مع جمیع ما ذکرنا واضحة من حیث الفتوی والاحتیاط، واللّه العالم بحقایق الأمور.

البحث عن حکم العلوق

الأمر العاشر: یدور البحث فی هذا الأمر عن انّه هل یعتبر وجود العلوق بما ضرب علیه للمسح علی اعضاء التیمم أم لا؟ فیه قولان:

1_ قول بالاعتبار من القدماء کابن الجنید ومن المتأخرین حیث التزم به عددٌ منهم الکاشانی فی مفاتیحه، والاستاذ الاعظم فی «شرح المفاتیح» والفاضل البحرانی فی حدائقه، والفاضل النراقی، والمحقّق السبزواری. وفی «الحدائق» حاکیا عن الشیخ البهائی ووالده.

أقول: الذی ینبغی أن ینبّه علیه هو الفرق بین المتأخرین وابن الجنید، لأنّهم یقولون بالاعتبار بعد استحباب النفض بخلاف ابن الجنید حیث یقول _ علی المحکی عنه فی «مختلف الشیعة» _ بوجوب المسح بالتراب المرتفع علی الیدین، ولأجل ذلک قال صاحب «الجواهر» بعد نقل هذا الاختلاف: «ولعلّه لا

ص:304

یوافق ظاهر المحکی عن ابن الجنید فیکون خرقا للاجماع المرکب، حیث یکون لزوم بقاء العلوق قبل النقض للمسح مخالفا لکلا الفریقین من القائلین بالاعتبار وبعدمه».

ولکن یمکن أن یجاب عنه: بأنّه لا منافاة بین القولین فی الاعتبار، لأن النفض لا یرفع التراب عن الید بالکلیة، بل یبقی معه أثره، فلذلک لا یمکن دعوی نفی الخلاف لابن الجنید مع القائلین بالاعتبار، واللّه العالم.

2_ وقولٌ بعدم الاعتبار، وهو علی فی «الجواهر» هو «المشهور بین الأصحاب نقلاً مستفیضا وتحصیلاً، بل فی «جامع المقاصد» الاجماع علیه، وفی «آیات الأحکام» للفاضل الجواز للاجماع أیضا علی عدم اعتباره للیدین، بل فی ظاهر «المنتهی» لا یجب استعمال التراب فی الأعضاء الممسوحة ذکره علمائنا، ثمّ حکی الخلاف عن الشافعی ومحمد، وظاهره الاجماع أیضا ککنز العرفان حیث نسب القول بالعلوق إلی الشافعیة فی مقابل الحنفیة وأصحابنا من جواز التیمم بالحَجَر الصلب موافقا لتفسیر الصعید بوجه الأرض انتهی»(1).

أقول: لابدّ أوّلاً أن نتعرّض لدلیل القائلین بالاعتبار، فإن تمّ أُخذ به والاّ یحکم بما علیه المشهور من دعوی عدم الدلیل علی الاعتبار.

استدلّ القائلون بالاعتبار: بوجوهٍ:

الأوّل: وهو العمدة التمسک بصحیحة زرارة وهی التی رواها رواه الصدوق باسناده عن زرارة أنّه قال لأبی جعفر علیه السلام : «ألا تخبرنی من أین علمت وقلت إنّ المسح ببعض الرأس وبعض الرجلین....» وذکر الحدیث إلی أن قال: «قال أبو جعفر علیه السلام : ثمّ فصّل بین الکلام فقال: «وامسحوا برؤوسکم» فعرفنا حین قال


1- «الجواهر»، ج 5، ص 187.

ص:305

برؤوسکم أن المسح ببعض الرأس لمکان الباء» إلی أن قال: ثمّ قال: ««فَلَمْ تَجِدُواْ مَآءً فَتَیَمَّمُواْ صَعِیدًا طَیِّبًا فَامْسَحُواْ بِوُجُوهِکُمْ» فلما أنّ وضع الوضوء عمّن لم یجد الماء أثبت بعض الغسل مسحا لأنّه قال (بوجوهکم) ثمّ وصل بها (وایدیکم منه) أی من ذلک التیمم، لأنّه علم إنّ ذلک أجمع لم یجر علی الوجه، لأنّه یعلق من ذلک الصعید ببعض الکف، ولا یعلّق ببعضها» ثمّ قال: «ما یرید اللّه علیکم من حرج، والحرج الضیق»(1).

وجه الاستدلال وتقریبه: _ کما فی «الحدائق» هو: «أنّ المراد بالتیمم المفسّر به الضمیر (یعنی فی قوله أی من ذلک التیمم) هو المتیمم به، لأنّ حاصل معنی الخبر أنّه سبحانه إنّما أثبت بعض الغسل مسحا ولم یوجب مسح الجمیع، لأنّه لما علم أن ذلک الصعید لا یأتی علی الوجه کلّه من جهة أنّه یعلقّ ببعض الکفّ ولا یعلّق ببعضها الآخر، قال سبحانه: «فامسحوا بوجوهکم وأیدیکم منه» وحینئذٍ فقوله: «لأنّه علم أنّ ذلک أجمع لا یجری علی الوجه» أی علم أنّ ذلک الصعید المضروب علیه وهو المدلول علیه فی الروایة بالتیمم، بمعنی المتیمم به، ولا یخفی ما فیه من الاشعار بالعلوق، بل الدلالة الصریحة، حیث جعل العلوق بالبعض دون البعض علّة للعلم بأنّ ذلک لا یجری بأجمعه علی الوجه، وهذا الوجه الذی ذکرناه مبنیٌّ علی کون (مِنْ) فی الآیة للتبعیض، وأن قوله علیه السلام : «لأنّه علم أن ذلک أجمع... الخ» تعلیل لقوله أثبت بعض الغسل مسحا» انتهی محلّ الحاجة من کلامه(2).

قلنا: الظاهر من الروایة واللّه العالم کون المراد بیان العلّة المتناسبة لمسح بعض


1- وسائل الشیعة: الباب 13 من أبواب التیمّم، الحدیث 1.
2- «الحدائق»، ج 4، ص 333.

ص:306

الوجه وبعض الیدین دون تمامه، بانّه کما لم یعلّق الصعید بالضرب بجمیع الکفّ بل یعلّق بعضها دون بعض لتحقّق المسح بما وقع به الضرب علی الصعید، کذلک جعل المسح ببعض الوجه والیدین کافیا عن مسح الجمیع.

بیان الملازمة: انّه کما لا یتحقق التعلّق بجمیع الکفّ بالضرب، فکذلک لا یجب المسح لجمیع الوجه والیدین، وهذا المعنی یظهر عن قوله: «لأنّه علم أنّ ذلک أجمع لم یجر علی الوجه» أی لیس مثل الماء الذی یعمّ بصبّه جمیع الوجه والیدین، لأنّه یشمل جمیع الید إذا اغترف، فکما تکون الید ممتلئةً بالماء أی یحیط بجمیع الید، فهکذا أوجب الغَسْل به لجمیع الوجه والیدین، بخلاف الصعید المضروب به، حیث لا یکون ما تعلّق بالکفّ الاّ البعض، فالمسح للموضعین یکون کذلک. وکون الأمر کذلک أعمٌّ من أن یکون مع الکف الماسح علوقا أم لا، فلا ینافی هذه المناسبة مع کون العلوق الزائل بواسطة النفض المندوب، أو إذا لم ینفض وکان باقیا، لأن الاعتبار بالمسح بما یکون حاله کذلک، لا بما یکون فی کفّه ذلک العلوق والصعید، والاّ کان الأنسب لحفظ العلوق ووقوع المسح به عدم الحکم بوجوب النفض، کما لا یخفی.

أقول: هذا الاحتمال الذی ذکرناه یناسب مع حکم النفض، کما یناسب جعل کلمة منه للتبعیض، کما أشار الیه صاحب «الحدائق»، بأن تکون الآیة تفید فی خلال أداة (من) أنّ ما یتعلّق بالکفّ یکون هو بعض الصعید لاتمامه وکلّه، أو تکون (من) للابتداء بأن یکون المراد أنّ ابتداء المسح یکون من الصعید، أو کان ابتداء التیمم من الضرب علیه، أو تکون کلمة (من) للسببیّة بأن یرجع الضمیر فی (منه) إلی الحدث، أی فتیمّموا بالعمل المذکور من المسحین بسبب حدوث الحدث، نظیر قول القائل: «تیممتُ من الجنابة» أی بسببها، وإنْ کان هذا

ص:307

الاحتمال بعیدا، لأن مع امکان ارجاع الضمیر إلی الأقرب لا وجه لارجاعه إلی الأبعد، مضافا إلی أنّ هذا المعنی یوجب کون السببیّة تأکیدیا، لأن السببیّة قد استفیدت من الفاء فی قوله تعالی: «وَإِن کُنتُمْ جُنُبا فَاطَّهَّرُواْ»فإذا دار الأمر بین التأسیس والتأکید، کان الأوّل أولی.

کما یحتمل أن تکون کلمة (من) فی (منه) للبدلیة بارجاع الضمیر فیه إلی الماء، لتکون نظیر (من) فی قوله تعالی: «أَرَضِیتُم بِالْحَیَاةِ الدُّنْیَا مِنَ الآخِرَةِ» وکذا فی قوله تعالی: «لَن تُغْنِیَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلاَدُهُم مِّنَ اللّهِ شَیْئا» حیث تکون للبدلیّة.

وفیه: هذا الاحتمال أیضا بعیدٌ، مضافا إلی ما عرفت من أن الارجاع إلی الأبعد مع امکان الأقرب غیر مقبول، وقد أنکر جمعٌ من النحاة استعمال کلمة (من) للبدلیة، وذهبوا فی مثل الآیتین إلی تقدیر لفظ البدل، والالتزام بذلک غیر لازمٍ، لانّه إذا دار الأمر بین المذکور بلا مجاز والتقدیر مع المجاز والخلاف، کان الأوّل أولی قطعا.

وعلیه، فالأحسن فی جمیع هذه المتحملات هو الأوّلین، کما أن الأحسن والأنسب بین الأولین هو التبعیض، وقد عرفت عدم منافاته مع ما بیّناه فی العلّة والحکم المعلّل به، وما ذکرناه من الاحتمال لا یوجب دلالة الآیة علی لزوم العلوق، وعلیه، فهذا الاحتمال هو المتعیّن ظاهرا.

وإنْ أبیت وقلت: إنّه لا یتعیّن فیه أجبناکم بتردده فی أحد الاحتمالین أو احد الاحتمالات علی حسب ما قد قیل فیه، فإذا جاء الاحتمال بطل الاستدلال بها لاثبات اعتبار العلوق، مع ما قد عرفت من عدم اقتضاء شیء من المحتملات بلزوم العلوق الذی أراد الخصم اثباته من الآیة بمعونة الروایة.

ص:308

أقول: ما ذکرناه من الاحتمال وإنْ یشابه مع ما ذکره صاحب «الحدائق»، الاّ أنّه أراد من التبعیض حفظ ذلک مع نفس المتیمم به أی الصعید، ووقوع المسح بذلک، وهو العلوق المعلّق علی الکفّ، بخلاف ما بینّاه حیث أردنا اثبات التناسب بین بعض الوجه والیدین فی المسح وبین التعلّق بالکفّ بعضا، نظیر التناسب بین اشتمال تمام الکف بالماء فی الغسل مع لزوم غَسل جمیع الوجه وجمیع ما یجب غسله من الیدین، وهذا لا یستلزم لزوم أن یتحقّق المسح بالعلوق حتما، بل یکفی المسح بما وقع بسبب الضرب لزوم أن یتحقّق ممسوسا بالصعید، ولو لم یکن علی الید الماسح من العلوق أثرا، کما یناسبه مع الحکم باستحباب النفض، وضرب إحدی الیدین بالأخری، کما لا یحتاج ما ذکرنا من ارجاع الضمیر إلی الصعید والمتیمم به، لامکان جریان هذه العلّة حتی لو أرید من الضمیر والاشارة نفس التیمم، لأن التعلیل لم یکن مسوقا لبیان هذه الجهة بل العلّة لبیان أصل وقوع التبعیض بالضرب فی المسح، کالاشتمال فی الاغتراف فی الغَسل، وهذا المعنی حاصل ولو رجع الضمیر إلی نفس التیمم.

وأیضا: ما ذکرناه لا ینافی مع الاحتمال الذی ذکره الشهید فی «الذکری»، حیث جعل ذلک دلیلاً علی عدم اعتبار العلوق، لأنّه فرض کون الصعید المضروب الذی لا یبقی علی ید المتیمم به إلاّ بعضه، یکفی فی المسح به، لصدق وقوع المسح بالید الممسوس بالصعید، مع أنّک قد عرفت عدم لزوم اعتبار عدم العلوق علی الید، بل الأولی أن یفرض الاطلاق من تلک الناحیة، حتّی یمکن الجمع مع کون العلوق علی الید فرضا فی بعض الموارد، خصوصا إذا لم یقم بالنفض من خلال ضرب احدی الیدین بالأخری، کما أنّه لا یلزم أن یجعل کملة (من) ابتدائیة نشوّیة، لما قد عرفت من مساعدته مع التبعیض لو لم نقل بأنّه أولی.

ص:309

أقول: وممّا ذکرنا ظهر ضعف ما احتمله المقدس الأردبیلی حیث قال بناءً علی احتمال التبعیض: «أن تضعوا أیدیکم علی بعض الصعید ثمّ تمسحوا به الوجه والیدین».

لوضوح أن الوضع أو الضرب کان بجمیع الکف علی الصعید، الاّ أنه لا یحمل ولا یُعلّق بالکف إلاّ البعض دون الکلّ، فهو لا یوجب أن یکون الضرب والوضع علی البعض أیضا، فتأمّل حتی لا یشتبه علیک الأمر لشدّة المشابهة بین القولین.

وممّا ذکرنا یظهر أن المراد من جملة (فلیتمسح من الأرض) الواردة فی صحیح الحلبی(1) وخبر ابن سنان(2) هو وقوع الضرب والوضع بتمام الکفّ علی الأرض، الاّ أن التعلق یکون بالبعض لا بالکلّ، فلا تکون هذه الأخبار دلیلاً علی اعتبار لزوم وجود العلوق علی الید فی المسح، کما أراد الخصم اثباته من مدلول هذه الأخبار.

کما یظهر من ذلک جواب الاستدلال بمطهّریة التراب، حیث أرادوا جعله دلیلاً علی اعتبار العلوق، لأنّه یکفی فی اثبات هذا العنوان وقوع الکفّ علی التراب دون الحاجة یحتاج إلی التمرّغ فیه، کما یؤید ذلک ردّ رسول اللّه صلی الله علیه و آله فعل عمّار بالتمرّغ، وإن کان الرّد شاملاً لکلا الأمرین من التمرغ ونفس العمل.

وأیضا: ظهر الجواب عن ما استدلوا به من البدلیة والمنزلة، باعتبار التراب بمنزلة الماء فی لزوم العلوق، لما قد عرفت أنّه یکفی فی البدلیة والمنزلة کون الکفّ الممسوحة، ماسحا، کما یناسب ذلک مع استحباب النفض بل وجوبه علی ما نسبه صاحب «الجواهر» نقلاً عن «المقاصد العلیّة» إلی قیل، ولم یذکر اسم قائله.


1- وسائل الشیعة: الباب 14 من أبواب التیمّم، الحدیث 4.
2- المصدر السابق، الحدیث 7.

ص:310

فثبت من جمیع ما بیّناه أنّه لا دلیل علی اعتبار اثبات العلوق یمکن أن یعتمد علیه.

مضافا إلی وجود ما یمکن أن نتخذه دلیلاً أو تأییدا لعدم الاعتبار:

الاجماع أو لا أقلّ من الشهرة الفتوائیة من القدماء إلی زماننا هذا، فافهم مع ملاحظة تجویزهم التیمم بالحَجَر حیث ربما یکون أملس أو وقع علیه المطر ونظفه من الغبار، و برغم ذلک لم یقل أحدٌ بوجوب جعل التراب علیه حین الضرب، مع أنه لو کان العلوق معتبرا لکان الأنسب ذکر ذلک ولو استحبابا لیتحقّق الضرب علی التراب کما اشار إلی ذلک فی الغبار فی لبد السرج وعُرف الدابّة فی مرتبة ثالثة بعد فقد الحَجَر، ولأجل ذلک قال صاحب «الجواهر»: «اتجّه حینئذٍ دعوی الاتفاق حتّی ممّن فسّر الصعید بالتراب علی عدم اعتبار العلوق للمسح» ولذلک جعل العلاّمة فی «المختلف» قول ابن الجنید مقابلاً للقول باستحباب النفض، لأنّه قید بکون التراب علی مرتفع الیدین، وهو لا یجامع مع استحباب النفض والضرب باحدی الیدین علی الأخری الوارد فی الاحادیث.

وبالجملة: ممّا ذکرنا وبیّنا فی الروایة یظهر الجواب عن الاستدلال بأصالة الاشتغال لتحصیل البراءة الیقینة بالتیمم مع العلوق، اذ لا مجال مع وجود الدلیل الاجتهادی للرجوع إلی الأصول العلمیة، خصوصا مع ملاحظة ترک ذلک فی الأخبار البیانیة للتیمم، خصوصا مع ملاحظة وجود الأخبار الدالة علی استحباب النفض وضرب إحدی الیدین علی الأخری.

ثمّ ان توقفنا فی دلالة الروایة، وتحیرّنا فی المختار، وتردّدنا فی اعتبار العلوق وعدمه، ولم نقل بعدم الاعتبار ممّا استظهرناه فی النفض وأمثاله، فحینئذٍ یمکن القول بلزوم مراعاة الاحتیاط فی باب الطهارات الثلاث، لکون الشک فیها یعدّ شکا فی المحصِّل والمحصَّل، ولذلک یکون حسن الاحتیاط هنا أشدّ من موارد آخر فی الاحتیاط العملی کما لا یخفی.

ص:311

وأمّا الاستدلال بتوقیفیّة العبادات: فإنّه یظهر ممّا ذکرنا الجواب عنه أیضا، وبرغم أنّه قد یستفاد ذلک من الأخبار والفتاوی، لکن ربّما ینعکس الأمر باعتبار أنّ مقتضی هو توقیفیة العبادات أن لا نحکم بالجزم بالاعتبار، مع ما عرفت من دلالة الأخبار علی عدم الاعتبار، الاّ أن یراد اتیانه من باب الاحتیاط، فهو حسن ولا منع فیه، کما عرفت.

کیفیّة المسح المعتبر فی التیمم

الأمر الحادی عشر: ویدور البحث فیه الواجب الثانی فی التیّمم وهو أنّه هل یجب أن یکون المسح بما یتحقّق به الضرب بما باشر الأرض من باطن الکفّین وما ناب منابه لدی الضرورة، وکون المسح للوجه بکلتا الیدین لا بواحدة منهما؟

أو یکفی وقوع المسح بالید ولو بالواحدة؟

أو لابدّ أن یکون فی الواحدة بالیمنی فقط لا مطلقا؟ وجوه وأقوال: فالأوّل هو المشهور بین الأصحاب قولاً وفعلاً، وهو موافق لمعظم الأخبار: والثانی للمحقق الأردبیلی فی «مجمع الفائدة» والمحقق الخوانساری فی «حاشیة «الروضة» و«نهایة الأحکام» و«التذکرة»، بل قال الثانی بعد قوله بکفایة المسح بالواحدة: «إنّه کما یجوز حمل المطلق علی المقید، یجوز القول بکفایة المطلق وحمل المقید علی أنّه أحد أفراد الواجب»(1).

والثالث ما حُکی عن الاسکافی فی ذهب إلی القول الأوّل بالأخبار البیانیة الواردة فی بیان کیفیّة التیمم:

منها: صحیحة زرارة، عن أبی جعفر علیه السلام : «فی التیمم؟ قال تضرب بکفیک


1- فی حاشیة «الروض»ة البهیة، ج 1، ص 150.

ص:312

الأرض ثمّ تنفضها وتمسح بهما وجهک ویدیک»(1)،

حیث أنّ ظاهرها یدلّ علی المعیّة فی الضرب والنفض، والمسح علی الوجه دون الیدین، وهذا لا یتحقّق الاّ بواحدة لکلّ منهما.

ومنها: روایة لیث المرادی، عن أبی عبداللّه علیه السلام ، قال: «فی التیمم تضرب بکفیک علی الأرض مرتین ثمّ تنفضها وتمسح بهما وجهک وذراعیک»(2).

ومنها: الخبر الذی رواه محمّد بن مسلم فی عمل الامام علیه السلام ، قال: «سألت أبا عبداللّه علیه السلام عن التیمم؟ فضرب بکفّیه الأرض ثمّ مسح بهما وجهه، الحدیث»(3).

فکما أن ظاهر الضرب فی عمله تفید المعیّة فی وقوع الکفین علی التراب، کذلک ینبغی، کذلک المسح، وهو الحجّة فی العمل ولا اطلاق فیه کالقول حتّی یقال بامکان الأخذ بالاطلاق لتصحیح کفایة الواحدة، فهنا الحدیث یصیر دلیلاً علی أنّ المراد من المعیّة المستفادة فیما سبق من الروایتین لزرارة لیست الزامیا، وبذلک نتصرّف فی الأخبار المشتملة بصورة الاطلاق من ذکر الید دون الیدین، وهو مثل صحیحة زرارة الحاکیة لفعل أبی جعفر علیه فی مقام التعلیم بقوله: «فضرب بیده إلی الأرض ثمّ رفعها فنفضها ثمّ مسح بها جبینه وکفّیه مرة واحدة»(4).

حیث إنّه عملٌ أیضا فیدلّ علی کفایة ذلک بالواحدة، لکن لابدّ حمل الید علی الیدین، لأنّ مسح الکفّین لا یمکن تحقّقه بید واحدة، لأنّ مسح احداهما یتحقّق بالیمین والآخر بالشمال، فلابدّ من ضرب آخر للید الأخری، ولم یذکر فی


1- وسائل الشیعة: الباب 11 من أبواب التیمّم، الحدیث 7.
2- وسائل الشیعة: الباب 12 من أبواب التیمّم، الحدیث 2.
3- المصدر السابق، الحدیث 5.
4- وسائل الشیعة: الباب 11من أبواب التیمّم، الحدیث 3.

ص:313

الحدیث، فیفهم من ذلک أنّ الضرب کان للیدین معا، وأنّ اطلاق الید هنا أرید به الجنس لا الاطلاق الشامل للواحدة، وعلیه یحمل ما فی خبر الخزاز فی قوله: «فوضع یده علی المشیح وبالکسر أی البلاس، ثمّ رفعها فمسح وجهه ثمّ مسح فوق الکف قلیلاً»(1).

حیث من المعلوم أنّه لا یجوز الاکتفاء بمسح احدی الیدین، بل لابدّ أن یکون بکلیتهما فیتوقف علی أن یکون بالضرب ثانیا، وهو غیر مذکور فی الخبر، فیعلم أنّه کان قد وقع الضرب فی الأوّل بهما، ممّا یدلّ علی أن مراده من (الید) هو الجنس لا الاطلاق الذی أراد الخصم التمسک به، هذا مضافا إلی ورود وضع الیدین فی بعض أخبار قصة عمار أیضا.

بل قد یؤیّد کون المراد من الید هو الجنس، ما فی خبر الکاهلی حیث جاء فیه:

«فضرب بیده علی البساط فمسح بهما وجهه» فإنّ الضمیر فی المسح جییء به للتشبیه فهو قرینة علی أن المقصود من الید فی جمیع هذه الأخبار هو الجنس، فلا ینافی مع الأخبار الدالة علی کون المسح بهما لا بالواحدة.

نعم، الذی لا یکاد یُنکر شیوع استعمال الید فی غیر المقام بصورة الاطلاق علی الید الواحدة کما یشاهد ذلک فی کثیر من الاطلاقات.

أقول: ومن هنا یظهر أنّه لا یجوز التمسک باطلاق الآیة لجواز ذلک بالید الواحدة، لأنّه _ مضافا إلی أنّ التمسک بالاطلاق إنّما یصحّ إذا لم یرد من طریق أهل البیت علیهم السلام نصٌ لبیان الآیة _ إن کان المقصود من التنزیل بیان أصل الحکم الکلی بلزوم أن یقع المسح بالید والوجه، وأما ذکر الخصوصیات فموکول إلی أهل البیت والراسخون فی العلم.


1- وسائل الشیعة: الباب 11 من أبواب التیمّم، الحدیث 2.

ص:314

وإمّا القول من الإجزاء بالیمنی فقط، لکن قال صاحب «مصباح الفقیه»: «إنّه لم یعرف علی خصوصّیتها دلیلٌ».

أقول: لعلّه تمسک بتلک الأخبار فی أصل الاجتزاء بالواحدة، ثمّ علیه کان وقوعه بالیمنی لتناسبه مع الغَسْل فی الوضوء بالیمنی الذی یعدّ هو بدله، ولکن قد عرفت ضعفهما فی أصله.

فی لزوم تعاقب المسح وعدمه

ثمّ إنّه بناء علی وجوب وقوع المسح بالیدین لا بالواحدة، فهل یجب وقوع المسح بهما معا، أو یجوز ویکفی علی التعاقب؟ وجهان: أحوطهما الأوّل، بل لا یخلو عن قوّة لأنّه المنسبق إلی الذهن من النصوص کقوله: «ومسح بهما»، وکذلک الفتاوی، بل هو مقتضی الاحتیاط الذی قد عرفت لزومه فی الشک فی باب الطهارة، لکونه شکا فی المحصِّل، وعلیه فالاکتفاء بنحو التعاقب یعدّ مخالفا للاحتیاط، ولم یسمع ولم یشاهد القول به، بل هو خلاف للاجماع المرکّب کما أشار الیه الفاضل النراقی فی مستنده، لأنّه لو أجرنا اتیان مسح الوجه بالواحدة، فلا وجه للتعاقب حینئذٍ، وإنْ لم نجزه وقلنا بلزوم المسح بهما، فلا یکون التعاقب فی هذا الفرض له قائلٌ، فلازمه وجوب وقوع المسح بهما دفعة واحدة بالاجماع المرکب من القولین، وهو المطلوب.

کیفیّة مسح الوجه

ثمّ بعد ثبوت أنّ مسح الوجه هو الواجب الثانی فی التیمّم، فلا اشکال نصا ولا فتویً فی وجوب استیعاب مسح ما یجب فیه المسح من موضع الوجه، کما سنذکره قریبا إن شاء اللّه.

ص:315

نعم، الذی ینبغی أن یبحث فیه هو أنّه هل یجب استیعاب الممسوح بکلّ من الکفین، أو یکفی استیعابه بهما ولو موزّعا؟

الذی یظهر من بعض العبائر کصاحب «المدارک» وغیرها وإنْ لم تکن عبارته مسوقة لذلک هو الأوّل، ولا اشکال فی کونه أحوط، الاّ أنّ اثباته بالفتوی مشکلٌ لصدق وقوع الامتثال بالثانی، کما صرح به صاحب «الحدائق» و«جامع المقاصد» و«الروض»، ولقول الباقر علیه السلام فی قصة عمّار: «ثمّ مسح جبینه باصابعه»(1).

مناقشة صاحب «الحدائق»: علی ذیل کلام صاحب «المدارک»، حیث قال _ بعد ذکر الروایة المتقدمة من ان الاولی المسح بمجموع الکفین، عملاً بجمیع الأخبار _: «لا أعرف له وجها، فإنّه إنْ أراد استیعاب الماسح حال المسح کما هو ظاهر کلامه، فهو متعذّرٌ لعدم کون سعة الجبهة الاّ قدر ثلاثة أو إصبعین مضمومة، وإنْ أراد المسح بمجموع الکفین، یعنی بجزءٍ من کلّ منهما بحیث یحصل استیعاب الجبهة بها معا، فهو ما نقوله، وهو الذی دلّ علیه الخبر، فلا معنی لهذه الأوّلویة بعد ذکر الخبر الدالّ علی ذلک» انتهی کلامه.

أقول: وهی لیس علی ما ینبغی، لأنّ من یعتبر الاستیعاب بهما ولو من باب الاحتیاط _ کما علیه صاحب «الجواهر» _ مراده إمرار جمیع الکفّین بالمسح علی مجموع الجبهة من الیمین إلی الشمال وبالعکس، فیحصل الاستیعاب بهما، بخلاف ما لو مسح بهما فی الجملة، حیث یکون المسح حینئذٍ بالتوزیع، فالاتیان بصورة الاستیعاب یکون أولی وأحوط، کما لا یخفی.

هذا کلّه تمام الکلام فی الماسح.


1- وسائل الشیعة: الباب 11من أبواب التیمّم، الحدیث 8.

ص:316

قوله: وقیل باستیعاب مسح الوجه (1)

وأمّا حکم الممسوح: سبق وأن ذکرنا کلام المصنّف فی المتن فی بیان وجوب مسح الجبهة من قصاص الشعر حیث دلّ علی أنّ الواجب الثانی فیالتیّمم هو مسح الوجه، و علیه فالمراد من الوجه الوارد فی الآیة فی قوله تعالی: «فَامْسَحُواْ بِوُجُوهِکُمْ» أو الوارد فی بعض الأخبار من: «امسح وجهک» الذی یحتمل فیه أنّ المراد هو جمیع الوجه أو بعضه، ثمّ علی البعض لابدّ من أن یتعین ذلک البعض.

(1) وعلیه، فالبحث حینئذٍ عن أنّ المراد هو خصوص الجبهة، أو هی مع الجبینین، أو هی مع الحاجبین، أو أنّ الواجب هو التخییر بین الاستیعاب للجمیع أو للبعض وهو الجبهة مع الجبین؟ وجوه وأقوال:

1_ قول بالاستیعاب لجمیع الوجه، وهو المنسوب إلی ابن بابویه والد الصدوق رحمه الله ، وأشار الیه المصنّف فی المتن بقوله:

(1) فهذا هو القول الاوّل وأفتی به تعیّنا فی رسالته، والدلیل هو مدلول ظاهر الآیة والأخبار من الأمر بمسح الوجه، کما کان الأمر کذلک فی الاسناد الظاهر لو لا الدلیل الدالّ علی خلافه.

لکن أورد علیه أوّلاً: بکونه مخالفا للاجماع المنقول والمحصّل، وعلیه الاجماع الذی قد سبقه ولحقه، فمخالفته غیر قادحٍ لمعلومیّة نسبه.

وثانیا: انّه غیر مخالف للاجماع، بل المراد هو ذکر ما ورد فی الأخبار علی النحو المطلق من باب تطبیق فتواه علی طبق مضمون الأخبار، کما هو عادة القدماء فی الفتوی، خصوصا هو فی رسالته المعروفة ب«الشرایع» الذی جعل مستنده حکمه فیها الأخبار، فإذا أرید من الوجه فی الأخبار بحسب القرائن

ص:317

الموجودة هو الجبهة والبعض، فیصیر هذا فتواه أیضا. کما یؤید ذلک أنّ ولده الصدوق رحمه الله أفتی بالبعض فی «الفقیه» و«الهدایة» و«المقنع»، بل نسب ذلک فی أمالیه إلی دین الامامیة، وأنّه مضی علیه المشایخ فکیف یمکن ویصحّ هذه النسبة مع أنّ والده رئیس الامامیة، والمشایخ کلّهم مخالفون له فی هذه الفتوی،

فمن جمع هذه القرائن یطمئن الفقیه بأنّ مراده من الوجه هو بعضه لا جمیعه.

وکیف کان لو أبیت عن هذا التوجیه، فلا نبالی بأن نقول إنّه ضعیف غایته، کما یظهر لک إن شاء اللّه.

والقول الثانی: هو قول المحقق فی «المعتبر»، حیث قال: «إنّ الجواب الحق العمل بالخبرین، فیکون مخیّرا بین مسح الوجه أو بعضه، لکن لا یقتصر علی أقلّ من الجبهة»، وقد أومأ الیه ابن أبی عقیل کما فی «الجواهر».

وفیه: وهو أیضا ضعیف إن أراد من التخییر وجوب المسح فی کلّ من الفردین تخییرا، لأنّه لیس من قبیل الأقلّ والأکثر لاختلاف الهیئة، وعدم لزوم سبق مسح تمام الجبهة علی غیرها من الوجه کالجمع بحمل الزائد علی الندب، وإن تسومح فیه، فتأمل، هذا کما فی «الجواهر».

أقول: ولا یخفی ما فی اشکاله، لوضوح أنّه لولا الدلیل المنصوص علی تعیین البعض، وورود الدلیل فی کلّ من الطرفین تماما، منضما مع العلم احتمالاً علی لزوم العمل باحدهما، کان الوجه هو الذی ذکره من التخییر، والاّ لکان مقتضی الجمع هو الاتیان بالأکثر فی الأقل والأکثر الارتباطی لو قلنا بالاشتغال، أو العمل بما یوجب العمل بالأقل فی الأخبار، أو التقیید بالأقل ورفع الید عن الاطلاق.

وکیف کان، فالأحسن فی الجواب هو الاتیان بالأقلّ لتمامیة دلیله دون الآخر، کما سیظهر قریبا إن شاء اللّه.

ص:318

القول الثالث: هو وجوب البعض، وعلیه المشهور، بل قد ادّعی علیه الاجماع بکلا قسمیه، وهو ممّا لا ریب فیه ولا اشکال.

أقول: الذی ینبغی أن یتکلم فیه هو تعیین ذلک البعض، وهل:

1_ المراد منه هو الجبهة مع الجبینین کما علیه المشهور من المتقدمین والمتأخرین والمعاصرین، وإن أطلق بعضهم الجبهة بنحو مطلق، ولکن مقصوده مع انضمام الجبینین لما ورد فی کلام الأصحاب من التصریح بأنّه لم یسمع ولم یشاهد من أحدٍ القول بمسح خصوص الجبینین دون الجبهة.

2_ أو أنّ المراد منه مسح خصوص الجبهة وهو القدر المتیّقن، بل عن مصباح السیّد: «إنّه من ضروریات الدین» وهو ممّا لا خلاف فیه، والخلاف انما هو فی وجوب الزائد علیه، کما هو المحکی عن جماعة کثیرة کما فی «جامع المقاصد» و«المسالک» و«المدارک» و«شرح المفاتیح» من الحکم بوجوب الجبهة والجبینین بالتصریح أو هما مع اضافة الحاجبین کما هو المحکی عن الصدوق والشیخ والشهید فی «الذکری»، فیصیر هذا قولاً ثالثا.

ومنشأ هذا الاختلاف، اختلاف لسان الأخبار فی بیان متعلق المسح، فلا بأس بذکر أهمّها وبیان مدلولها وکیفیة الجمع بینها، فنقول ومن اللّه الاستعانة: الأخبار المشتملة علی لفظ (المسح بالوجه) کثیرة جدا تبلغ مجموعها إلی اثنی عشر، بعضها صحیح السند کما أنّ بعضها مشتملٌ علی ذکر الجبینین بصورة المفرد وهو اثنان أو ثلاث، وبعضها الآخر بلفظ الاثنین أی الجبینین وهو کما فی روایة الباقر علیه السلام المنقول فی «مستطرفات السرائر» بقوله: «ثمّ مسح بجبینه»(1) وکذا فی إحدی نسختی «الفقیه».


1- وسائل الشیعة: الباب 11 من أبواب التیمّم، الحدیث 9.

ص:319

کما أنّ بعضها مشتملٌ علی لفظ (الجبهة) وهو مثل موثق زرارة المروی عن الشیخ فی «التهذیب» نقله عن المفید، عن احمد بن محمد، عن ابن بکیر، الاّ أنّه قال: «ثمّ مسح بهما جبهته»(1) وإن کان من نقل الآخر عن الکافی کنفس الکافی مشتملاً علی لفظ الجنبین بقوله: «ثمّ مسح جبینه».

کما انّه قد ادّعی أن بعض الأخبار مشتملٌ للحاجبین کما أفتی به الصدوق فی «الفقیه» ونفی البأس عنه فی «الذکری»، بل اختاره فی «جامع المقاصد» ناقلاً عن الصدوق أنّ به روایة، مع أنّ صاحب «الجواهر» ادّعی إنّه لم یجد الروایة فی «الفقیه» و«الهدایة» ولا حُکی عن «المقنع» أو «الامالی» أنّه نعم هو موجود فی ذیل الخبر المروی فی «فقه الرضا» بقوله: «وروی أنّه یمسح علی جبینه وحاجبیه»(2).

وعلیه، فلابدّ حینئذٍ من الجمع بین هذه الأخبار، والذی یمکن أن یعتمد علیه هو أن یقال إنّ مقتضی اطلاق الأخبار المشتملة علی الوجه هو مسح الجمیع، اذ هو المنصرف الیه فی هذا التعبیر، وإنْ کان اطلاق لفظ (المسح) علی مسح بعض الوجه أیضا صحیحا، لما یُشاهد عند العرف صحة قول الشخص بأنّی مسحت وجه زید، مع وقوع المسح ببعض وجهه، نظیر قولک: «مسحتُ رأس یتیممٍ» حیث یصحّ الاطلاق بمسح بعض الرأس، الاّ أن الانسباق إلی الذهن بدوا یکون دون الجمیع، الاّ أن یقوم دلیل علی کون المسح علی البعض کما کان الأمر فی المورد هکذا، إذ قد ورد فی صحیح زرارة عن الباقر علیه السلام فی حدیثٍ بعد بیان برؤوسکم: «إنّ المسح ببعض الرأس لمکان الباء... إلی أن قال: «فَلَمْ تَجِدُواْ مَآءً فَتَیَمَّمُواْ صَعِیدًا طَیِّبًا فَامْسَحُواْ بِوُجُوهِکُمْ » فلما أن وضع الوضوء عمّن لم یجد


1- المصدر السابق، الحدیث 3.
2- مستدرک وسائل الشیعة: الباب 9، الحدیث 1.

ص:320

الماء أثبت بعض الغسل مسحا، لانّه قال (بوجوهکم) الحدیث»(1).

ولعلّ المراد بقوله: «أثبت بعض الغسل مسحا» أنّه تعالی أثبت المسح فی بعض ما یجب غسله عن الوجه وهذا لعلّه صریح فی التبعیض، فلابدّ مع وجود هذا النص صرف جمیع الأخبار المشتملة علی مسح الوجه إلی المسح ببعضه، فحینئذٍ یأتی البحث عن أن المراد منه، وحیث أنّ مدار الخلاف فیه کان ببعض ما فوق الحاجبین، اذ لم یشاهد عن أحدٍ أخذ البعض فیما عدا العینین، وذلک البعض لا یخلو عن کونه هو خصوص الجبهة أو هی مع الجبینین أو هی مع الحاجبین، وأمّا خصوص الجبینین بدون الجبهة فلم یشاهد عن أحدٍ، والظاهر أنّ مراد المشهور من الجبهة هو مجموع الجبهة والجبینین، لأنّه لم یرد فی نصٍ ذکر الجبهة الاّ فی روایة واحدة وهی موثقة زرارة علی ما فی أحد نقلی «التهذیب» دون نقله الآخر، حیث أنّه نقله بلفظ (الجبین) أیضا کالکافی، مع أنّه إذا دار الأمر بین «الکافی» و«التهذیب» یقدّم الأوّل لکونه أضبط، خاصة أنه لم ینقل عن «التهذیب» مثل «الکافی» فضلاً عمّا کان فی نقل «التهذیب» عن «الکافی» هو لفظ (الجبین).

أقول: الظاهر أنّ الجبهة کما یطلق علی خصوص ما بین الجبین موضع السجود، کما ورد فی روایة «فقه الرضا» فی صفة التیمم: «تضرب بیدک الأرض ضربةً واحدة تمسح بهما وجهک موضع السجود من مقام الشعر إلی طرف الأنف الأعلی»(2).

حیث ینطبق علی خصوص الجبهة، فلذلک قد یطلق ویراد منه مجموع الجبهة والجبین. وعلیه فالجبین. هو ناحیة الجبهة وما ینتهی الجبهة الیه من طرفها،


1- وسائل الشیعة: الباب 13 من أبواب التیمّم، الحدیث 1.
2- المستدرک، ج 1، الباب 11 من أبواب التیمم، الحدث 1.

ص:321

والجبهة هو موضع السجود الواقع بین الجبینین وهی عن طرف طول الوجه من قصاص الشعر إلی الطرف الأعلی من الأنف، وهو الواقع فی أعلی الأنف من الوجه أعنی العرفین، لا الأعلی باعتبار النّتو، ومن طرف عرض الوجه محدودة بما ینتهی الیه کل من الحاجبین من الداخل والجبین من طرف طول الوجه من قصاص الشعر إلی أن ینتهی إلی الصدغ، والصدغ من الطرف الخارج من الحاجب إلی أن ینتهی إلی الأذن.

فعلی ما ذکرنا لا یبعد کون مراد المشهور من الجبهة هو المعنی الثانی، لأنّه بالانفراد قد یستعمل لفظ الجبهة لهما، بخلاف ما لو اجتمعا، حیث یتفرقا ویطلق کلٌ علی معناه، ولذلک تری أنّه یطلق الجبین فی حال الانفراد علیهما، مثل ما ورد: «إذا مات المؤمن عرق منه الجبین» حیث أرید منه السطح المشتمل علی الجبهة والجبین.

فبذلک یرتفع الخلاف من البین، لامکان الجمع بین القائلین بالجبهة والقائلین بالجبین، ولأجل ذلک ذکر فی «العروة» کلیهما بالخصوص لدفع هذا التوهّم، وحینئذٍ لم یبق لنا علی کفایة خصوص الجبهة بین الجبینین إلاّ روایة «فقه الرضا» الذی عبّر بالوجه موضع السجود، ولکن هذا الخبر ممّا لا یمکن الاعتماد علیه منفردا، فضلاً عمّا عرفت من أنّ عمل الأصحاب علی خلافه، أنّهم عملوا بالجبهة بمعنی الأعمّ لا الأخصّ، کما لا یخفی.

أقول: وهذا هو الأقوی عندنا، مضافا إلی ما فی «الجواهر» بعد ذکر روایة «الفقه الرضوی» قال:«فلعلّ ذلک منه شهادة علی کون «فقه الرضا» من کتب الصدوق رحمه الله . فثبت من جمیع ما ذکرنا أنّ الواجب فی مسح الوجه هو بعضه لا تمامه، ومن البعض ما هو الواجب هو الجبهة بمعنی الأعمّ، الشامل للجبینین لا موضع السجود فقط.

ص:322

فی حکم الحاجب عند المسح

بقی هنا حکم الحاجبین، هل هو داخلٌ فی وجوب المسح ذاتا أو مقدمةً أم لا؟

الذی یظهر من الصدوق فی «الفقیه» وجوبه، قال قدس سره : «وإذا یتیمم الرجل للوضوء ضرب یدیه علی الأرض مرّة واحدة ثم نفضهما ومسح بهما جبینه وحاجبیه».

بل اختاره صاحب «جامع المقاصد» ناقلاً عن الصدوق أنّ به روایة، ونفی عنه البأس فی «الذکری»، بل قد یستظهر عن «المنتهی» انّه من المسلّمات، حیث یقول _ بعد أن فرغ من البحث عن مسح الوجه _: «فروعٌ: ثالثها لا یجب ما تحت شعر الحاجبین بل ظاهره کالماء.»

وعن «شرح المفاتیح» أیضا، حیث یقول _ بعد أن حکی عن «الأمالی»: «مضی علی مسح الجبین وظهر الکفین مشایخنا، وأظنّه قال والحاجبین، لکنّه سقط من نسختی» انتهی.

وأمّا کونه مع روایة ففی «الجواهر»: «إنا لم نجد ذلک منه فی «الفقیه» و«الهدایة» ولا حُکی عن «المقنع» أو «الامالی»، نعم فی ذیل الرضوی روی: أنّه یمسح علی جبینه وحاجبیه(1)

قلنا: قد عرفت عدم مقبولیّة «فقه الرضا» دلیلاً فی حال الانفراد، لو سلّمنا عدم کونه من کتب الصدوق، مضافا إلی مخالفته لفتوی الأصحاب، حیث اقتصروا علی غیر الحاجبین، وعلیه فالحکم بالوجوب ذاتا ممّا لا یمکن المساعدة.

نعم، لا یبعد قبوله من باب الاحتیاط، مضافا إلی عدم انفکاکه غالبا عن مسح الجبهة والجبین، وکونه محصّلاً للقطع والیقین باتیان ما یجب مسحه، فیکون وجوبه حینئذٍ للمقدمة العلمیة کونه من موارد الاحتیاط لو شک فی وجوبه، لکون


1- المستدرک، ج 1، الباب 11 من أبواب التیمم، الحدیث 1.

ص:323

مورده الشک فی المحصِّل، حیث لا مجال للرجوع فیه الی البراءة عند دوران الأمر بین الأقل والأکثر وإن کان من مصادیقه کما لا یخفی، فلذلک قال السیّد فی «العروة» وفاقا لأکثر أصحاب التعلیق ومنّا: «الأحوط مسحهما أیضا» کما حکم بذلک فی «الجواهر» أیضا لکنه استحبابی دون کلامنا، والسیّد حیث إنّه وجوبی، فلیتأمل.

فروع باب التیمم

الفرع الأوّل: یدور البحث فیه عن وجوب مسح الوجه من قصاص الشعر والطرف الاعلی إلی الأنف الأوّل فی أنّ المراد من طرف الأنف الأعلی ما یلی الجبهة فی کلام الأصحاب لا الاسفل، کما صرح بذلک بنو حمزة وادریس وسعید والعلاّمة والشهیدان وغیرهم، بل فی «السرائر»: لمن ظنّ کون الطرف هو الأسفل إلی المتفقهة، والحق کذلک، لعدم اندراج الاسفل إلی ما فی الأخبار من ذکر الجبهة والجبین، بعد تنزیل أخبار الوجه علیه.

نعم، المحکی عن «الأمالی» فی معقد الاجماع المنسوب إلی دین الامامیة: «أن یمسح من قصاص الشعر الرأس إلی طرف الأنف الأعلی، وإلی الأسفل أو إلی آخره» وکذا «الجعفریة»، وعن «حاشیة الارشاد» ولم نقف علی ما یشهد علیه.

بل المحکی عن بعض فی «المنتهی» أنّه المارن، وفی معقد اجماع السیدین وکلام بعضهم اطلاق لفظ الطرف، وأنّه یسجد علیه کالجبهة للارغام، ولکن الذی یظهر من الجامع هنا أنّ الذی یُرغم به فی السجود هو الطرف الاعلی، کما صرّح بذلک المصنّف فی المتن، حیث صرّح بوجوب مسحها من قصاص الشعر إلی الطرف الأنف، ونسبه بعض إلی المشهور، بل عن «شرح المفاتیح» نسبته إلی ظاهر الأصحاب، وعن «المنتهی» نسبته إلی عبارة الشیخ، الاّ أن ذلک یمکن أن

ص:324

یکون لبیان حدّ اللازم فی المسح کونه کذلک، لا لبیان لزوم کون الشروع من قصاص الشعر وختمه إلی الطرف الأعلی من الأنف ممّا یلی الجبهة، الاّ أنّک قد عرفت تصریح بعض بکون المراد من طرف الأنف هو الأعلی لا الأسفل، فلا یبعد کون المتعارف فی المسح هو ذلک فی الجملة، ولکن لا دلیل بالخصوص لاثبات ذلک جزما، وإن کان هو القدر المتیقن مع ملاحظة ما فی المبدل منه وهو الوضوء لغسل الوجه، حیث یکون من الأعلی إلی الأسفل، بل وکذا فی مسح ظهر الیدین حیث یقع من فوق الکف إلی طرف الأصابع، بضمیمة عدم القول بالفرق بین الیدین والوجه، وعند الشک فیه یکون الاتیان به موجبا للقطع بالبراءة.

وعلیه فالأحوط لو لا الأقوی هو لزوم المسح من قصاص الشعر إلی الطرف الأعلی إلی الأنف ممّا یلی الجبهة ممّا یسجد علیه، لا الطرف الأسفل من الأنف کما لا یخفی.

الفرع الثانی: انّه ظهر ممّا ذکر کون الواجب الابتداء فی المسح من الأعلی وبمثل العمل فی الوضوء بل فی «الکفایة» و«الحدائق» أنّه المشهور، بل قد عرفت أنّه قد نسبه صاحب «شرح المفاتیح» إلی ظاهر الأصحاب، بل هو ظاهر المحکی عن «الأمالی» منسوبا إلی دین الامامیة، ولعلّ ذلک أوجب الفتوی بالوجوب، مضافا إلی أنّه متقضی المنزلة والبدلیة المشعرة بالمساواة فی الکیفیّة، سیّما بعد ما ورد بقوله علیه السلام : «التیمم نصف الوضوء»(1)، بل هو المنساق إلی الذهن من التیمّمات البیانیة عن الکیفیة، بل لا یخطر بالبال غیره قبل التنبیه، سیّما مع ملاحظة کیفیة الوضوء، هذا کما فی «الجواهر».

أقول: لکنّه غیر واضح، لانّه ربما یخطر منه أصل المسح یکیف ما اتفق فی


1- وسائل الشیعة: الباب 24 من أبواب التیمّم، الحدیث 1.

ص:325

الاطلاق، لو لا الأنس الذهنی فی مشابهه من الوضوء، کما أنّ دعوی التعارف فیه وفیما قبله لا یخلو عن خفاء.

وکیف کان، ربما یمکن تأییده بأنّه لو وقع فی البیان لذلک السائل ابتداءً بغیر الأعلی لنقله، لظهور سؤاله بارادة الاقتداء بخصوص ما وقع من ذلک الفعل للسائل، وأنّه لم یکتف باطلاق المسح الوارد فی الکتاب والسنة، ولا أنکر علیهم فی السؤال به، فیعلم منه عدم کفایته أو یشک.

مضافا إلی أنّه مقتضی الاحتیاط اللازم مراعاته هنا، سیّما بعد ما عرفت فتوی الأصحاب نصّا أو ظاهرا. هذا کلّه منضما بما ورد فی «فقه الرضا» من قوله: «تمسح بهما وجهک موضع السجود من مقام الشعر إلی طرف الأنف»(1) المؤید بفتوی الأصحاب الموجب لتقویة العمل بالروایة، وکونه منجبرا بها، کما أنّه یوجب انصراف الاحتمال عن کونه لبیان التحدید للممسوح أیضا، ولعلّ لأجل عدم وجود دلیل متیقن مصرّح لبیان ذلک أوجب ذهاب صاحب «مجمع البرهان» إلی القول بعدم الوجوب، کما عساه یظهر من «المدارک» للاطلاق.

أقول: لکن قد عرفت کفایة مجموع ما ذکرنا لاثبات ذلک، وإنْ لم یکن کل واحدٍ من الأمور کافیا لاثباته، خصوصا بعد ما عرفت أنّه موافق للاحتیاط الذی یکون هنا قویا لکونه شکا فی المحصِّل، واللّه العالم.

الفرع الثالث: فی بیان کیفیّة الابتداء بالأعلی.

أقول: حیث إنّه قد ذکر تفصیله فی باب الوضوء، فیکون حکم التیمم فی ذلک مثله، لاتحادهما فی العمل والکیفیّة، کاتحادهما فی حکم المجبّر، بل قد فسّر فی باب الضرب للیدین والمسح علیهما ما یُغنی بالتأمل فیها عمّا یجری فی مسح


1- المستدرک، ج 1، الباب 9 من أبواب التیمم، الحدیث 1.

ص:326

قوله: والذراعین، والأوّل أظهر (1)

الجبهة فی حالتی الاختیار والاضطرار، وکالنجاسة علیهما أو علی الماسح متعدیة کانت أو غیرها لتشارک الموّردین من حیث الحکم، فلا حاجة إلی الاعادة والتکرار، کما اشار الیه صاحب «الجواهر» قدس سره .

(1) لا یخفی أنّ ثالث الواجبات فی التیمم هو مسح الیدین فی الجملة، بل وجوبه من ضروریات المذهب إنْ لم یکن من الدین، ومقدار الواجب منه بحسب الوجوه والأقوال تبلغ إلی ستّة، کما ستظهر لک ان شاء اللّه تعالی.

الوجه الأوّل: قول المشهور، وهو کون المراد منه الکفان من الزندین إلی رؤوس الأصابع، وهو المعروف بین الأصحاب، بل فی ظاهر «الانتصار» أو صریحه کصریح «الغنیة» و«الناصریات» الاجماع علیه، بل المحکی عن «الأمالی» فی مسح الوجه والکفین نسبته إلی الروایة، وکونه من دین الامامیة، وأنّه مضی علیه مشایخنا، کما أفتی به نفسه فی «الفقیه» و«الهدایة» و«المقنع».

ویدل علیه: مضافا إلی الأخبار المشتملة علی التیمّمات البیانیة قولاً وفعلاً، الأخبار المستفیضة لو لم تکن متواترة دالة علیه:

منها: خبر الکاهلی، بقوله: «ثمّ مسح کفیه إحداهما علی ظهر الاُخری»(1).

ومنها: روایتی زرارة احداهما للکلینی، بقوله: «ثم مسح جبینه وکفّیه مرّة واحدة»(2).

وثانیهما: للصدوق، بقوله: «ثمّ مسح جبینه (جبینیه) بأصابعه وکفّیه احداهما


1- وسائل الشیعة: الباب 12 من أبواب التیمّم، الحدیث 1.
2- المصدر السابق، الحدیث 3.

ص:327

بالأخری، ثمّ لم یعد ذلک»(1).

ومنها: روایة عمرو بن أبی المقدام، بقوله: «ثمّ مسح علی جبینه وکفیه مرّة واحدة»(2).

وغیر ذلک من الأخبار الدالة علی ما اختاره المشهور المؤید المنصور.

القول الثانی: لابن بابویه الوالد وولده فی «المجالس» علی ما فی «الحدائق»، وقد استدل له بروایات:

منها: خبر لیث المرادی، بقوله: «ثمّ تنفضهما وتمسح بهما وجهک وذراعیک»(3).

ومنها: روایة موثقه سماعة، بقوله: «فمسح بها وجهه وذراعیه إلی المرفقین»(4).

ومنها: صحیح محمد بن مسلم، بقوله: «فمسح بها مرفقه إلی أطراف الأصابع، الحدیث»(5).

أقول: وفیه ما لا یخفی.

أوّلاً: إن هذه الروایات کما لا یمکن العمل بها لمخالفتها مع الآیة المفسّرة من خلال صحیحة زرارة حیث ذکر تفصیلها، وکان فیها بعد ذکر کون المسح ببعض الوجه: «فلما أن وضع الوضوء عمّن لم یجد الماء، أثبت بعض الغسل مسحا، لأنّه قال: «بوجوهکم» ثمّ وصل بها (وأیدیکم منه) أی من ذلک التیمم، الحدیث»(6).


1- وسائل الشیعة: الباب 11 من أبواب التیمّم، الحدیث 8.
2- المصدر السابق، الحدیث 6.
3- وسائل الشیعة: الباب 12 من أبواب التیمّم، الحدیث 2.
4- وسائل الشیعة: الباب 12 من أبواب التیمّم، الحدیث 3.
5- وسائل الشیعة: الباب 12 من أبواب التیمّم، الحدیث 5.
6- المصدر السابق، الحدیث 6.

ص:328

حیث إنّه قد نصّ بأنّ المسح یکون ببعض الیدین لا بمجموع ما فی الوضوء علی ما فی الکتاب، فلابدّ لنا من عرض الأخبار علی کتاب اللّه والأخذ بها إن کان موافقا، وترکها فی صورة المخالفة، کما فی المقام.

وثانیا: بما فی الروایة من التنصیص علی عدم مسح المرفقین، کما فی خبر زرارة فی الصحیح، بقوله: «ثمّ مسح وجهه وکفّیه ولم یمسح الذراعین بشیء»(1). حیث یؤیّد ما فی الکتاب المفسِّر بخبر زرارة.

وثالثا: لإعراض الأصحاب عن العمل به، الموجب لوهن الحدیث لکونه مخالفا للاجماع، ومخالفة مثله غیر قادحٍ لکونه معلوم النسب، مضافا إلی ما عرفت فی مسح الوجه من عدم وضوح مخالفته للأصحاب، لامکان کونه قائلاً بالاستحباب، کما احتمله بعض کما سیأتی، أو لم یکن مخالفا لعدم مناسبته مع ما نُقل عن ولده من جعل قول المشهور من دین الامامیّة، مع کون والده من رئیسهم، فمن الممکن أن یکون مقصوده بیان الحدیث بأنّه ورد کذلک وجعل فتواه فی «الرسالة» مثل مضمون الحدیث، کما کان کذلک دأب المتقدمین.

وعلیه، فلا محیص بحمل الأخبار الموافقة لفتواه علی التقیة، لأنّ العامة یقولون فی التیمّم بمسح جمیع الذراعین، فحینئذٍ یدخل تحت قوله علیه السلام : «ما خالف العامة فخذوه وما وافقهم فذروه». مع أنّ فی بعض الأخبار اشعارٌ بطرده، مثل ما فی خبر قصة عمّار بقوله: «فمسح وجهه ویدیه فوق الکف قلیلاً»(2) حیث یفهم منه أنّ المسح بأزید منه منفیٌّ،

وبالجملة: فلأجل هذه الاشکالات لا یمکن الذهاب إلی هذا القول، کما لایخفی.


1- وسائل الشیعة: الباب 11من أبواب التیمّم، الحدیث 4.
2- وسائل الشیعة: الباب 11من أبواب التیمّم، الحدیث 5.

ص:329

فبعد ما عرفت من الوجوه بردّ القول بمسح الذراعین لا نحتاج إلی تضعیف الخبر الأول والثانی بالاضمار وغیره، أو احتمال کون (المرفق) فی صحیح محمد بن مسلم هو الزند، حیث أنّه احتمال بعیدٌ لعدم معهودیة استعمال هذا اللفظ لهذا الموضع، أو تضعیفه باشتمال التثلیث فی الضربات، أو کون المراد ممّا ورد فی الخبرین الأوّلین بیان الحکم لا الفعل، کما عن الشیخ، أی کأنّه غسل ذراعیه فی الوضوء کما فی «الجواهر» لاستیعاب تلک المحامل.

أقول: ومنه یظهر عدم صحة القول بالتخییر بین الأمرین من مسح الکفین من الزندین، أو المسح من الذراعین إلی أطراف الأصابع، کما نُقل عن المحقّق فی «المعتبر» علی احتمال، إذا لم یفرض کون المورد من موارد الشک فی الأقل والأکثر بل المتباینین، لأنّ ظاهر کل دلیل ینفی الآخر ویعیّن مدلوله، فمقتضی التعارض بین الدلیلین «المعتبرین هو التخییر وهو القول الثالث، لما قد عرفت عدم تمامیة دلیل الثانی من وجوهٍ عدیدة، وتمامیّة الدلیل الأوّل، مضافا إلی أن القول بالتخییر خرق للاجماع البسیط الذی قد عرفت وجوده نقلاً وتحصیلاً وللمرکب أیضا، إذ القائل بکلّ من الاحتمالین ینفی الثالث وهو التخییر.

وعلیه، فما فی «المعتبر»: «أنّ الحقّ عندی أنّ مسح ظاهر الکفین لازم، ولو مسح الذراعین جاز عملاً بالأخبار کلّها، لأنّه أخذٌ بالمتیقن.» لیس علی ما ینبغی.

مع أن ظاهر کلامه لا یفید التخییر، لأنّه جعله من الأقل والأکثر، حیث هو ظاهر تعلیله بقوله: «لأنّه أخذٌ بالمیتقن» بل یحتمل أنّ مراده أحد الأمرین:

إمّا الاحتیاط فی مقام العمل، وهو غیر مردود لعدم القطع بالواقع بما قاله المشهور، فالاحتیاط لدرک الواقع بقصد الرجاء حسن وأمرٌ مرغوب فیه ولا بأس به.

وأمّا القول بالاستحباب وهو القول الرابع، کما عن «المنتهی» و«المدارک»

ص:330

احتماله، بل عن «کشف الرموز» الحکم به حاکیا له ممّن الحسن بن عیسی،

وهو أیضا مردودٌ لاعراض الأصحاب عنه، وکونه مخالفا للاجماع بکلا قسمیه من البسیط والمرکب.

وبالجملة: فصارت الأقوال حینئذٍ أربعة.

کما أنّه نقل صاحب «السرائر» عن قوم من أصحابنا أنّ المسح علی الکفین من أصول الاصابع إلی اطرافها، ونسبه صاحب «کشف اللّثام» إلی القلیل، فیصیر هذا قولاً خامسا فی المسألة، وقد یشهد له مرسل حمّاد بن عیسی، عن بعض أصحابنا، عن أبی عبداللّه علیه السلام : «انّه سُئل عن التیمم؟ فتلا هذه الآیة: «وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَیْدِیَهُمَا» وقال: «فاغْسِلُواْ وُجُوهَکُمْ وَأَیْدِیَکُمْ إِلَی الْمَرَافِقِ»قال: فامسح علی کفیک من حیث موضع القطع، وقال: «وَمَا کَانَ رَبُّکَ نَسِیّا»(1).

بأن یؤخذ بظاهر الکلام بقوله: «من حیث موضع القطع» وهو لیس الاّ من أصول الاصابع إلی أطرافها.

أقول: لکن هذا القول أیضا مردود، مضافا إلی ما عرفت من مخالفته مع الاجماع بکلا قسمیه، وعدم قدح المخالف فیه مع الجهل بشخصه ونسبه، لانّه مضافا إلی عدم اعتبار ذلک فی الاجماع عندنا، أنّه معروفٌ عند قائله علی الظاهر، وأنّه غیر الامام ولذا لا یعبأ به ولا بمخالفته.

وامکان أن یکون المراد فیه هو: «تعلیمه علیه السلام مسائل الاستدلال علی ما یوافق مذهبهم فی السرقة ویبطل مذهبم فی التیمم، فکانّه قال: لما أطلق الأیدی فی آیة السرقة والتیمم، وقیّدت فی آیة الوضوء، عُلم أن القطع والتیمم لیس من


1- وسائل الشیعة: الباب 13 من أبواب التیمّم، الحدیث 2.

ص:331

المرفقین» کما قاله الحُرّ العاملی فی «وسائل الشیعة»، وهکذا تصیر جملة: «فامسح علی کفیک من حیث موضع القطع» واردة مورد الاستفهام الانکاریّة، خصوصا مع ذکر قوله تعالی: «وَمَا کَانَ رَبُّکَ نَسِیّا» یفهم ذلک، فیکون الخبر حینئذٍ مؤیدا لقول المشهور.

وبالجملة: فعلی ما بیّناه من کون الجملة جاریة مجری الاستفهام الانکاری، لا یتم ما استشکل علیه صاحب «مصباح الفقیه» حیث أنّه بعد ما ذکر هذا، یقول: «معهودیة جریان الحدود علی وفق أداء العامة، ومهجوریة الحق وجهل عامة الناس به فی عصر الأئمّة علیهم السلام ممّا یؤید هذا الحمل، لکن فیه تثبیتٌ لمذهبهم فی حکم القطع وهو لا یخلو عن بُعدٍ»، لانّه إذا کانت الجملة استنکاریة فلا یوجب تثبیت مذهبهم کما لا یخفی.

أقول: هذا الاحتمال والبیان أحسن ممّا احتمله صاحب «مصباح الفقیه» _ تبعا لصاحب «الجواهر» _ بأن تثبیت مذهبهم فی القطع إنّما یتم لو أرید من الاضافة فی باب الألفاظ حیث الاضافة إلی لفظ موضع القطع، مع أنّ مقتضی القواعد العربیة لزوم أن تکون الاضافة إلی الجملة، وهی لزوم أن یقع المسح بالکفّ الذی هو موضع القطع، فأراد علیه السلام إفهام أنّ الید عند الاطلاق یتبادر منها الکف، فإذا أرید الزائد علیها کان الجواب فی مقام نفیه وردّه آیتی السرقة والوضوء، ومن المعلوم أنّ هذا التوجیه بعیدٌ عن ذهن مثل السائل.

وکیف کان، فمع وجود هذه الاحتمالات لا یمکن الاستدلال بمثل هذا المرسل، الذی فضلاً عن ارساله رد علی قول المشهور، مع کونه مخالفا للاجماع کما عرفت، ومثله الخبر المرسل المروی فی «فقه الرضا» والذی یفید لزوم أن یکون المسح فی أصل الأصابع.

ص:332

والجواب عنه: المراد منه نفس الکف، وکما یظهر ممّا ذکرنا عدم تمامیة.

القول السادس: وهو المنقول عن «الفقیه» حیث أفتی فی التیمم بدل الجنابة بالخصوص بمقتضی ما فی الخبرین الصحیحین المرویین عن الصادق علیه السلام فی حکایة قصة عمّار، فقد جاء فی احداهما: «ثمّ مسح فوق الکف قلیلاً»(1).

وفی «المقنع» أفتی بهما فی مطلق التیمم بدل الوضوء أو الجنابة، لاطلاق السؤال عن کیفیة التیمم، حیث أن ظاهرهما کفایة مسح فوق الکف قلیلاً، دون أطراف الأصابع.

أقول: لو لم یُحمل علی أنّ المراد أنّه یمسح ما فوق الکف زائدا علی نفس الکف من باب المقدمة العلمیة، کان مؤیدا لقول المشهور.

أو لم یرد منه استحباب ذلک، والاّ لا ینافی کون الواجب هو الذی علیه المشهور.

أو لم یقل إنّه فعلٌ مجملٌ لا یمکن الاعتماد علیه فی قبال المشهور.

أو لم یرد من لفظ (فوق الکف) ظاهر الکف، لیکون المسح علی ظاهر الکف قلیلاً، فیصیر دلیلاً علی عدم وجوب استیعاب المسح بجمیع ظاهر الکف، لیصیر حینئذٍ مخالفا للاجماع وعمل الأصحاب.

وکیف کان، فمع وجود هذه الاحتمالات لا یمکن الموافقة مع مدلوله المخالف لما ذهب الیه المشهور، کما لا یخفی.

فی ما یتعلّق بمسح الیدین فی التیمم

یعدّ مسح الیدین ثانی الواجبات فی التیمم، ومعرفة کیفیّة ذلک یتوقف علی البحث عن أمور:

الأمر الأوّل: هل یجب استیعاب الممسوح من ظهر الکفین حتی لا یبقی فیه


1- وسائل الشیعة: الباب 11 من أبواب التیمّم، الحدیث 2.

ص:333

مکان إلاّ ومسحه، أو یکفی الاستیعاب العرفی وإنْ بقی مواضع لم یتم مسحها قبل الجیب الموجود بین الابهام والسبابة؟ فیه وجهان، بل قولان: قلنا: لا اشکال ولا خلاف فی وجوب أصل الاستیعاب فی الجملة، بل فی «المنتهی» نسبة ذلک إلی علمائنا المشعر بوجود الاجماع فی المسألة، لتبادره من النصوص والفتاوی، الاّ أن الکلام فی أنّه هل یجب الاستیعاب حتّی لا یبقی شیء من الفُرج ما بین الأصابع أم لا یجب؟

الذی یخطر بالبال من أخبار التیممات البیانیة الثانی وهو کفایة المسح لمرّة واحدة من دون تکرار، کما صرّح بذلک صاحب «مجمع الفائدة» اذ لا تنفکّ المسح بالمرّة غالبا عن عدم وصول المسح الی جمیع انحاء الید، وعلیه فلا یعتبر فیه أزید من صدق امرار الید علی ظاهر الکفین عرفا کالجبهة.

ودعوی: أنّ الصدق العرفی مبنیٌّ علی المسامحة، فعند عدم الاستیعاب الحقیقی لا یصدق المسح.

مدفوعة: بأنّ مسح العضو عبارة عن إمرار الید علی ظاهره، وهو یتحقق بامراره مرّة واحدة، ولا یلاحظ فیه العضو بحیالها موضوعات مستقلة حتی ینافی عدم مباشرة الماسح بشیء منها اطلاق المسح حقیقةً، وعلیه فمسح ما بین الأصابع غیر واجبٍ، إذا لم یصدق التهاون والتقصیر فی الاستیعاب.

نعم، الخلل الواقعة بین الأبهام والسبابة لا یبعد دخولها واندراجها فی وجوب المسح، لإجل احتمال صدق الظاهر علیه عرفا، حتّی عند الشک فی الصدق، ولا یبعد القول بالوجوب لتحصیل الیقین بالفراغ فی مثل الشک فی المحصّل.

وأمّا غیرها من سائر الخلل فلا یجب إذا صدق علیه استیعاب المسح مع عدمها، فما عن صاحب «الجواهر» من التأمل فیه، بل الفتوی بالوجوب عن مثل

ص:334

المحقق الآملی صاحب «مصباح الهدی» لا یخلو عن وهن، حیث لا دلیل لنا یوجب ذلک بعد ما عرفت صدق الاستیعاب بذلک، فلا ینافی الاجماع الدال علی ایجاب الاستیعاب.

فما فی «العروة» من قوله: «بل الظاهر عدم اعتبار التدقیق والتعمیق فیه بل المناط صدق مسح التام عرفا» فی غایة المتانة.

الأمر الثانی: یدور البحث فیه عن أنّه هل یجب استیعاب مسح الماسح بتمامه للممسوح أم لا یجب الاّ صدق الاستیعاب للممسوح؟ فیه وجهان وقولان: الأقوی هو الثانی، وان کان الأحوط هو الأوّل، کما صرح به جماعة، لصدق الامتثال بالثانی، خلافا للمحکی عن «مجمع البرهان» بل ربّما توهّمه بعض العبارات، ولعلّه لدعوی التبادر من المسح بالکف استیعابه، لکنّه ممنوع.

الأمر الثالث: فی أنّه یجب أن یکون المسح بباطن الکف کالضرب ومسح الجبهة.

وهذا لا خلاف یعرف فیه لظهور النصوص فی کون المسح یجب أن یقع بما یضرب به من باطن الکف، نعم لو تعذّر فیتبدّل إلی الظهر أو غیره علی حسب ما فصّلناه فی باب مسح الجبهة، فارجع.

ولو تعذّر بباطن الکف مجدّدا بعد مسح الوجه، ولم یفتقر مسح الیدین إلی ضربة أخری، فالأحوط بل المتعین استیناف الضرب، لظهور الأدلة فی کون المسح بما یضرب به، أمّا لو تجدد بعد الضربة الثانیة قبل المسح احتمل الاکتفاء بضرب الظهر مرّة أخری.

وامّا لو تعذر الظهر احتمل صیرورته کالاقطع والتولیة، وکونه فاقد الطهورین والجمیع للاحتیاط، کما عرفت تفصیله فی المحتملات فی مسح الوجه، ولم نعرف من احتمل هنا جواز الضرب له بغیر الظهر من الذراع، کما احتُمل ذلک فی ماسح الوضوء.

ص:335

کما أنّ حکم الجبائر والحاجب إذا تعذّر ازالته أو تعسّره هنا کحکمها فی باب الوضوء، ولکن الاحتیاط لابد من مراعاته، لعدم وضوح استنباط أدلتها للفقیه حتّی یطمئن به، وعدم وجود دلیل خاص یتمسک به، والاصول والقواعد مثل قاعدة انتفاء المرکب بانتفاء أحد أجزائه، وقاعدة المیسور وغیرها کلها متصادمة متعارضة مع عدم التنقیح و«التحریر» فی شیء منها.

کما أنّ الأمر کذلک بالنسبة إلی حکم النجاسة وما یکتفی به هنا، وما ذکرنا فی باب الضرب بالیدین کون المختار عندنا جواز المسح علیها مطلقا مع تعذر الازالة، سواءٌ کانت حاجبة أو لا ومتعدیة أو لا، ما لم تستلزم نجاسة التراب، بل ومعها فی احتمالٍ، وفی آخر التولیة أو السقوط فی خصوص ذلک العضو، أو یکون فاقد الطهورین أو غیر ذلک، مع ما عرفت من لزوم مراعاة الاحتیاط لاشتراک الموردین واتحادهما فی الأحکام، مع أنّ البحث حول هذه الفروع ممّا یحتاج إلی تطویل واطناب خصوصا بالنسبة إلی النجاسة باعتبار عروضها للماسح فقط مع الاستیعاب وعدمه، والتعدّی وعدمه، والحجب وعدمه، أو للممسوح فقط کذلک، أو للجمیع، وبالنسبة إلی صور التعذر أیضا کذلک، ولکن بعد التأمل فیما ذکرنا تفصیلها فیما سبق فی مطاوی کلماتنا فی الضرب وفی الجبائر وفی ماسح الوضوء وغیرها، یظهر حکم کثیرٍ منها هنا، وطریق الاحتیاط أیضا واضح، واللّه العالم.

کما یظهر من حکم وجوب رعایة الابتداء بالأعلی فی مسح الجبهة، وجوبه هنا من الزند إلی أطراف الأصابع لاتحاد الدلیل فی الموردین، وعدم وجود دلیل خاص لأحدهما دون الآخر، بل لم ینقل الفرق من أحدٍ بین الموردین الاّ من ندر من بعض متأخری المتأخرین، کما لم یُنقل الخلاف فیه عن أحدٌ، وعلیه فلا

ص:336

قوله: ویُجزی ء فی الوضوء ضربةً واحدة لجبهته وظاهر کفّیه، ولابدّ فیما هو بدلٌ من الغسل من ضربتین، وقیل فی الکلّ ضربتان، وقیل ضربة واحدة، والتفصیل أظهر (1)

نطیل بذکره مستقلاً، بل نعطف فی الحکم بما تقدم من وجوب رعایة الابتداء بالأعلی من الزند.

کما یظهر حکم الید الزائدة والأصلیة واللحم المتدلّی من غیر محل الفرض، أو النابت فیه، وکذا الشعر وغیر ذلک، ممّا تقدم فی باب الوضوء من الأحکام، لاتحاد الموردین من حیث الحکم، فلا جدوی فی تکراره.

کما أنّ مع وجود الشعر فی محلّ المفروض لا یجب الاستبطان هنا، حتّی لو کان التیمم بدل الغسل، وحتی لو کان نبات الشعر فیما لا ینبت فیه الشعر غالبا کالجبهة، بل یمکن القول بعدم وجوب الاستبطان فی شعر الأغم أیضا _ وهو من کان قصاص شعره علی بعض الجبهة مثلاً _ للعسر والحرج، بل قد یتعذر فی بعض فروضه. واللّه العالم.

(1) اختلف الفقهاء فی الواجب فی عدد الضربات فی التیمم فی البدل عن الوضوء والغُسل علی أربعة:

القول الأوّل: وهو للمشهور من المتقدمین والمتأخرین، شهرة عظیمة کادت أن تکون اجماعا، بل لعلّ ظاهر «التهذیب» کالمحکی عن «التبیان» و«مجمع البیان» دعواه، کما عن «الأمالی» نسبته إلی دین الامامیة الذی یجب الاقرار به. وفی «الذکری» إلی عمل الأصحاب، بل فی «الجواهر» تصدیق ذلک بقوله: «وهو کذلک بل لم یعرف مفتٍ بغیره منهم فی سائر کتبهم إلی زمن الأردبیلی والکاشانی

ص:337

فی اللذین هما أوّل من فتحا باب المناقشة للأصحاب» وبعد ما نقل عن «کشف الالتباس» و«شرح الجعفریة» نسبته إلی المتأخرین. وهذا القول مختار السیّد ومن أصحاب التعلیق علی «العروة» الفتوی أو بالاحتیاط وجوبا.

والقول الثانی: هو لزوم الضربتین فی کلا الموردین، وهو کما عن المفید وعلی بن بابویه مع وجه، و«المنتقی» و«التبیان» و«الذخیرة» وصاحب «مصباح الهدی» علی الاحتیاط ولا یبعد کونه مندوبا، لانّه قال بالاحتیاط بعد ما قال: «إنّ الوجه هو الاکتفاء بالواحد» وإن کان لا بأس به، الظاهر کونه مختاره.

والقول الثالث: کفایة الواحدة للجمیع وهو المحکّی عن جماعة کالسید المرتضی وابن الجنید وابن أبی عقیل والمفید فی «الغریة» والصدوق فی ظاهر «المقنع»، وغیره فی «المدارک» و«الحدائق» و«الریاض» وفی «مصباح الفقیه» و«مصباح الهدی» و«العروة» وکثیر من أصحاب التعلیق.

القول الرابع: هو المنسوب إلی والد الصدوق من وجوب الضربات الثلاث: واحدة للوجه، والثانیة لمسح الید الیمنی، والثالثة لمسح الید الیسری، وعبارته المحکیّة هکذا: «إذا أردتَ ذلک فاضرب یدیک علی الأرض مرة واحدة وانفضهما وامسح بهما وجهک، ثم اضرب بیسارک الأرض فامسح بها یمینک من المرفق إلی أطراف الأصابع، ثم اضرب بیمینک الأرض وأمسح بها یسارک من المرفق إلی أطراف الأصابع» انتهی حیث یستفاد منه وجوب ثلاث ضربات، کما علیه الأکثر، وقد یقال _ کما عن الآملی _ أنّه أراد الضربتین غایة الأمر فی الضربة الثانیة للیدین أجاز تعاقبهما، ولا یحکم بکونها دفعة واحدة.

وکیف کان، بلحاظ الضربة یحتسب ثلاثة وان کانت للیدین.

فهذه هی الأقوال فی المسألة، والعمدة فیها ذکر الأدلة وکیفیة دلالتها، خاصة

ص:338

وأنّ لسان الأدلة والنصوص مختلفة، فلا بأس بذکرها وبیان الجمع بنیها، فنقول ومن اللّه الاستعانة:

دلیل قول المشهور: من الحکم بلزوم المرّة فی الوضوء، هو التمسّک باطلاق الآیة، حیث یصدق بالواحدة اذ هو أقلّ مصداق یتحقّق به المسح بالضرب المستفاد من الأخبار بکون اللازم کون المسح بما یضرب لا مطلقا.

ولکن قد نوقش فیها: بالمنع من اطلاقها، لأنّها وردت فی مقام أصل التشریع وبیان الحکم، لا بیان الکیفّیة. وعلی فرض تسلیم الاطلاق، فلابدّ من التقیید بالأخبار الواردة الدالة علی لزوم المرتین، کما لا یمکن أن یمنع الأصل عن لزوم المرتین، لأنّ مع وجود الدلیل الاجتهادی لا مجال من الرجوع إلی الأصل العملی. وعلیه فما فی «الجواهر» من جریان الأصل فی وجه لا محصّل له.

فالعمدة ملاحظة الأخبار الواردة فی المقام، وهی بین ما یقتضی المرّد بصورة المطلق أی للوضوء والغُسل، وبین ما یقتضی المرتین مطلقا:

منها: صحیح الکاهلی مضمرا، قال: سألته عن التیمم؟ قال: فضرب بیده علی البساط فمسح بهما وجهه، ثمّ مسح کفیه احداهما علی ظهر الأخری»(1).

حیث یدلّ بنحو الاطلاق کون التیمم یکفیه ضربة واحدة لکلیهما، سواءٌ کان بدلاً عن الوضوء أو الغسل.

ولکن یمکن أن یجاب عنه: بامکان أن یکون الخبر فی مقام بیان أصل کیفیة ما یلزم المسح فیه لا بیان کلّ ما یجب فیه، والاّ لا یناسب مع الضرب علی البساط. وحمله علی صورة الاضطرار ممّا لا شاهد له، مع أنّه علی فرض الاطلاق الشامل لکلا الموردین، یقیّد بالأخبار الدّالّة علی التعدد فی الغسل کما سیأتی.


1- وسائل الشیعة: الباب 11 من أبواب التیمّم، الحدیث 1.

ص:339

ومنها: خبر زرارة الصحیح، عن أبی جعفر علیه السلام قال: «سألته عن التیمم، فضرب بیده علی الأرض ثمّ رفعها ثمّ مسح بها جبینه وکفیه مرّة واحدة»(1).

بناء علی أنّ (مرّة واحدة) قیدا للضرب لا المسح، لانّه الذی یلیق أن یُسئل ویُبحث عنه لا المسح لمشاهدة الاختلاف بین الامامیة والعامة، فباطلاقه یشمل الموردین لو لم نقل انصرافه إلی الوضوء، لکثرة الاحتیاج الیه فیه، مع أنّه أوّل الکلام، وغایته الاطلاق الذی یمکن تقییده بما سیأتی فی باب الغسل.

ومثله فیما ذکرناه خبر أبن أبی المقدام(2).

ومنها: المروی عن «السرائر» _ المحکی عنه فی «مصباح الهدی» _ قال: «وقد روی أنّ الضربة الواحدة للوجه والکفین تجزی فی الوضوء والجنابة، وکلّ حدثٍ، والیه ذهب قومٌ منا. وعن النبی صلی الله علیه و آله انّه قال لعمار: «یکفیک أن تقول هکذا ثمّ ضرب بیده الأرض ضربةً واحدة، ثمّ مسح الشمال علی الیمین وظاهر کفیه ووجهه»(3).

ومنها: المحکی فیه أیضا عن «فقه الرضا»، المروی فی محکی «الریاض» صفة التیمم للوضوء والجنابة وسائر أبواب الغسل واحد وهو: «أن تضرب بیدیک الأرض ضربة واحدة»(4).

ومنها: المروی فی «دعائم الاسلام» عنهم علیهم السلام : «المتیمم تجزیه ضربة واحدة یضرب بیدیه علی الأرض فیمسح بها وجهه ویدیه»(5).


1- وسائل الشیعة: الباب 11 من أبواب التیمّم، الحدیث 3.
2- المصدر السابق، الحدیث 6.
3- مصباح الهدی، ج 7، ص 337.
4- المصدر السابق.
5- «مصباح الهدی»، ج 7، ص 337.

ص:340

هذا کلّه مع وجود الأخبار الواردة فی قصّة عمّار التی لم یقید فیها الضربة بالمرتین، مع کونها فی مقام بیان الکیفیة، وتعلیم السائل خصوصا صحیحة زرارة المرویّة عن الباقر علیه السلام _ علی حسب نقل الصدوق _ حیث ورد فیها: «أفلا صنعت کذا ثمّ أهوی بیدیه إلی الأرض، فوضعهما علی الصعید ثمّ مسح جبینه (جبینیه) بأصابعه وکفیه احداهما بالأخری ثمّ لم یعد ذلک»(1).

بناءا علی أن یکون فعل المضارع من الاعادة، ممّا یعنی عدم اعادة الضرب علی الأرض، فیکون نصّا فی المرة.

أقول: هذه هی جملة من الأخبار الدالّة علی کفایة الضربة الواحدة مطلقا، أی بدلاً عن الوضوء أو عن الغسل، وفی قبال هذه الأخبار المذکورة فی الضرب الواحد، توجد جملة من الأخبار التی تدل علی لزوم ضربتین، وهی أخبار الطائفة الثانیة:

منها: صحیحة ابن أذنیة، عن محمّد بن مسلم، قال: «سألتُ أبا عبداللّه علیه السلام عن التیمم، فضرب بکفیه الأرض، ثمّ مسح بهما وجهه، ثمّ ضرب بشماله الأرض فمسح بها مرفقه إلی أطراف الأصابع واحدة علی ظهرها وواحدة علی بطنها، ثمّ ضرب بیمینه الأرض ثمّ صنع بشماله کما صنع بیمینه، ثمّ قال هذا التیمم علی ما کان فیه الغسل وفی الوضوء الوجه والیدین إلی المرفقین، والتی ما کان علیه من مسح الرأس والقدمین، فلا یؤمّم بالصعید»(2).

حیث إنّه مشتمل علی ضربتین لو جعلنا التکرار فی الیدین بالضربتین ضربةً واحدة، غایة الأمر لم یراع فیه الدفعة، بل أتی بها متعاقبا، بخلاف ما لو جعل ثلاث ضربات، فحینئذٍ تکون الروایة خارجة عن مورد البحث.


1- وسائل الشیعة: الباب 11 من أبواب التیمّم، الحدیث 8.
2- وسائل الشیعة: الباب 12 من أبواب التیمّم، الحدیث 5.

ص:341

ومنها: صحیح الکندی، عن الرضا علیه السلام : «فی التیمم؟ قال ضربة للوجه وضربة للکفین»(1) حیث یکون دالاً علی المرتین مطلقا فی الغُسل والوضوء.

ومنها: حدیث لیث الراوی عن أبی عبداللّه علیه السلام : «فی التیمم، قال تضرب بکفیک علی الأرض مرتین ثم تنفضها وتمسح بهما وجهک وذراعیک»(2).

بناءً علی أنّ المراد من المرتین للوجه والیدین لا لخصوص الیدین.

ومنها: صحیحة زرارة، عن أبی جعفر علیه السلام ، قال: «قلت له: کیف التیمم؟ قال: هو ضرب واحد للوضوء والغُسل من الجنابة تضرب بیدیک مرتین ثمّ تنفضهما نفضةً للوجه ومرّةً للیدین، ومتی أصبت الماء، الحدیث»(3).

بناءً علی أن تکون جملة: (تضرب بیدیک مرتین) بیانا لضرب واحد فی أوّله للوضوء والغُسل، وأمّا لو جعل جملة: «والغسل من الجنابة» المستثنی منه ابتدائیة، فیصر الحدیث بنفسه دلیلاً للتفصیل لا للمرتین.

ومنها: روایة محمد عن أحدهما علیهماالسلام : «قال: سألته عن التیمم؟ فقال: مرتین مرتین للوجه والیدین» بناء علی أن تکرار المرتین تأکید.

ومنها: روایة «فقه الرضا» فی صفة التیمم وفیه: «تضرب بیدک علی الأرض ثمّ تمسح بها وجهک موضع السجود من مقام الشعر إلی طرف الأنف، ثمّ تضرب أخری فتمسح بها الیمنی إلی حدّ الزند».

وروی: «من أصول الأصابع تمسح بالیسری علی الیمنی وبالیمنی علی الیسری»(4).


1- وسائل الشیعة: الباب 12 من أبواب التیمّم، الحدیث 3.
2- المصدر السابق، الحدیث 2.
3- المصدر السابق، الحدیث 4.
4- «مصباح الهدی»، ج 7، ص 335.

ص:342

أقول: بعد الوقوف علی الطائفتین المطلقتین الدالتین علی کفایة ضربة واحدة للوضوء والغسل، ولزوم ضربتین لهما بالاطلاق، فلا محیص من الجمع بینهما لرفع التعارض.

فقد یقال: بامکان جمعهما بجمع عرفی بحمل اطلاق الطائفة الأولی علی النص فی الوضوء بالمرّة، والظاهر فی الغسل بالمرّة، عکس الطائفة الثانیة بحملها علی النص فی الغسل بالمرتین، والظاهر فی الوضوء، فنرفع الید عن ظاهر کلّ طائفة بالنص الأخری فنتیجته التفصیل علی کون التیمم فی الوضوء بضربة واحدة وفی الغسل بضربتین، نظیر الجمع الواقع بین دلیل «ثمن العذرة سحتٌ» وبین دلیل: «لا بأس ببیع العذرة» یحمل الأول علی ما یؤکل لأنّه نص فیه، وظاهر فیما یؤکل،وحمل الثانی علی ما یؤکل لکونه نصا فیه وظاهر فی غیره، من باب الاخذ فی کلّ من الدلیلین بالقدر المتیقن منهما، فمثل هذا الجمع یوافق مع فتوی المشهور.

أقول: لکن قد ناقش فیه صاحب «مصباح الهدی» بقوله: «ولا یخفی ما فیه لاشتراک الطائفتین فی اطلاقهما بالنسبة إلی ما بدل عن الغسل والوضوء، فتکونان من قبیل المتباینین» انتهی.

وفیه: إنّ وجود الاطلاق فیهما لا یوجب کونهما متباینین، لانّه کذلک فی دلیل «ثمن العذرة سحت» مع الدلیل الآخر، فکیف یجمع کذلک؟!

اللّهمّ الاّ أن یمنع نصیّة کلٍّ لموضوعٍ وظهوره فی الآخر، لعدم علمنا بملاکات الاحکام حتی یقال بأنّ الوضوء أخفّ من الغسل فتساعده المرّة دون الغسل کما قیل بأن التفصیل هو أقرب بالاعتبار، لأنّ الوضوء أخفّ استعمالاً للماء من الغسل، فینبغی أن یکون تیممه أخفّ من یتیمم الغسل، وکیف کان هذا وجهه

ص:343

حسن لوساعده دلیل للتفصیل ولم یزاحمه دلیلٌ معتبر آخر.

بقی البحث عمّا یدلّ علی التفصیل بأن ما یشتمل علی المرّة یکون للوضوء، وعلی المرّتین للغسل، وهو مثل ما عرفت فی صحیحة زرارة وذکرنا أنّه یعدّ دلیلاً للتفصیل لو عُدّ کلمة (والغسل) بجملة مستأنفة ابتدائیة، وجملة (تضرب بیدیک مرّتین) خبرا له، فحینئذٍ یصیر دلیلاً للتفصیل، خصوصا علی ما جاء فی «الجواهر» نقلاً عن المحقق فی «المعتبر» حیث نقل الروایة أنّه علیه السلام قال: «هو ضربة واحدة للوضوء وللغسل من الجنابة تضرب بیدیک ثم تنفضهما مرّة للوجه ومرّة للیدین») انتهی(1) وهذا النصّ دلالته علی التفصیل أوضح.

وأیضا مثل ما استدل العلاّمة به فی «المنتهی» وتبعه الشهیدان علی التفصیل بالخبر الذی رواه محمد بن مسلم، عن أبی عبداللّه علیه السلام : «إنّ التیمم من الوضوء مرّة واحدة ومن الجنابة مرّتان»(2)، فانّه صریح فی التفصیل.

لکن یرد علیه: ما ذکره صاحب «الوسائل» وتبعه بعد ذلک صاحب «مصباح الفقیه» و«مصباح الهدی» وغیرهما حیث قال بعد نقل الحدیث: «وهذا وهم عجیب، لأنّ الحدیث المدّعی لا وجود له بل هو حدیث ابن أذنیة عن محمد بن مسلم السابق هنا، لکن الشیخ أشار إلی مضمونه علی أحد الاحتمالین فی اثناء کلامه فی «التهذیب» فحصل الوهم من تأدیة معناه، وظنّ العلاّمة وغیره انّه حدیثٌ آخر صریح، ولیس کذلک، وقد حقّقه صاحب «المنتقی» ومن راجع کلام الشیخ یحقق ذلک» انتهی(3).


1- الجواهر، ج 5، ص 213.
2- وسائل الشیعة: الباب 12 من أبواب التیمّم،الحدیث 8.
3- وسائل الشیعة: ج 2، ص 980 ذیل الحدیث المذکور.

ص:344

أقول: لکن احتمل صاحب «الجواهر» کونها روایة اخری غیر ذینک الخبرین، فلا مقتضی لردّ الخبر العادل.

أجاب عنه صاحب «مصباح الفقیه» بقوله: «وفیه من البُعد ما لا یخفی بعد عدم قابلیة العبارة لإرادة غیرهما، ووضوح انّه لو کان الشیخ مطّلعا علی روایة أخری لا وردها فی المقام» انتهی(1).

وکیف کان، یمکن أن یکون الخبر هو الذی ذکرناه أو روایة أخری غیرها، حیث قد اطلع علیه العلاّمة عن الشیخ دون غیره.

والنتیجة: الوارد فی الأخبار مشتملٌ علی مضمون بیّن لا یدلّ الاّ المرّة مطلقا أو المرتین کذلک، وأمّا التفصیل بالصّراحة فغیر معلوم، بل علی احتمالٍ فی الحدیثین المذکورین، فأحسن الوجوه هو ما ذهب الیه المشهور من المرّة فی الوضوء والمرّتین فی الغسل، واجمال المطلق فی کلّ مورد یؤخذ بالقدر المتیقن فیه، و ترفع الید عن غیره بدلیل آخر مع تأییده بالشهرة والاجماع المُدّعی.

ولا مانع فی هذا الوجه الاّ الأخبار الواردة فی قصة عمّار حیث یصعب حملها علی المرّة مع أنّ موردها فی عمّار للجنابة، وکان ینبغی له صلی الله علیه و آله أن یعلّمه المرتین فی الجنابة لا المرّة، والقول لترک ما کان محتاجا الیه، بیان ما لا یحتاج الیه أمر غیر وجیه.

ولکن یمکن أن یجاب عنه: أن ذکر المرّة لیس لأجل تعلیم أصل التیمم فی خصوص بدل الغسل، بل کان المقصود هو اعلام عدم صحة ما فعله وصنعه عمّار، وأن الواجب أن یقوم فی التیمم بهذه الکیفیّة، وأما ذکر جمیع ما یشترط فیه من أحکام الضرب وما یتعلق بالضرب، وما یلزم فی الضرب من الوحدة والتعدد، فموکول إلی ما یقتضی المورد بیانه، وهذا أمر غیر بعید.


1- مصباح الفقیه، ج 6، ص 313.

ص:345

وحیث لم یکن الحکم بالتفصیل واضحا من حیث الدلیل کوضوح أدلة الوحدة، لذلک ذهبنا إلی الاحتیاط وجوبا برعایته فی الجنابة بضربتین وکفایة المرّة فی الوضوء، ولا ینافی أن تکون الضربة الثانیة فی الوضوء مندوبا عملاً باطلاق الأخبار الدالة علی المرتین مطلقا، الشامل للوضوء، بخلاف ما هو بدلٌ عن الغسل، حیث تکون الضربة الثانیة واجبةً من باب الاحتیاط لا بالفتوی، وإنْ کان الأحوط الاتیان بتیمین حتّی للوضوء، أحدهما بضربة واحدة للوجه والیدین، وآخر بالتعدد مراعاة للموالاة، بل وهکذا الاحتیاط حسنٌ بتمیمین فی البدل عن الغسل أیضا.

کما أنّه اتضح ممّا ذکرنا عدم لزوم حمل الضربتین علی التقیة بملاحظة فتوی العامّة حیث یقولون بالضربتین مطلقا والرشد فی خلافهم کما استجوده المجلسی رحمه الله فی «البحار» وتبعه بعض من تأخّر عنه،

لأنّ الأخبار المشتملة علی التکرار مشتملة لما لا یناسب مذهب العامة، مثل الحکم بالنفض وکون المسح مبدوا بآخر الکفین، مع أنّهم یقولون بالذراعین غالبا، وإنْ نُقل عن ابن حنبل القول بالکفین، لکنّه أولاً معاصرٌ للامام الرضا علیه السلام ، مضافا إلی أنّ کفایة المرّة معروفٌ عند العامّة انّه مذهب الشیعة، بل نسبوا ذلک إلی علی علیه السلام وابن عباس وغیرهما فلا معنی للتقیة حینئذٍ، کما لا یخفی.

وحدة فعل التیمم عند اختلاف اسباب الغُسل

لا فرق فی کیفیة التیمم بین أسباب الغسل من الجنابة والحیض والنفاس وغیرها قولاً واحدا، أی لا خلاف فیه، سواءٌ قلنا بلزوم المرّة فی الضربة أو التکرار، کما أنّ المبدل منه وهو الغسل فیها أیضا کذلک، مضافا إلی ما ورد فی

ص:346

موثقة عمّار عن الصادق علیه السلام : قال: «سألته عن التیمم من الوضوء والجنابة ومن الحیض للنساء سواء؟ فقال: نعم»(1).

وأیضا: ورد فی صحیحة زرارة _ والتی رواها أبی بصیر مضمرا _ قال: «سألته عن تیمم الحائض والجنب سواءٌ إذا لم یجدا ماءا؟ قال: نعم»(2).

نعم، قد یفرّق بین أسباب الغسل فی تیمم بدل الجنابة، حیث أنّ تیمّمه واحد بدل عن الوضوء والغسل کنفس المبدل منه وهو الغسل، حیث یکفی عن الوضوء أیضا بلا اخلاف فیه، وکفایته عنه کان لأجل بدلیته، لأنّ معنی البدلیة لیس الاّ کونه کمبدله فی الآثار، ومن جملها کفایته عن الوضوء، بل هو المستفاد من ظاهر الآیة وصحیح زرارة، بناء علی أنّ عطف (الغُسل من الجنابة) علی ضربٍ واحد، یدلّ علی أنّه نوع واحد، ولا یحتاج إلی تکرار التیمم تارةً للغسل وأخری للوضوء، بل یکفی تیمم واحد لهما کالمبدل منه.

وأمّا النیّة: فهل یجب علیه حینئذٍ أن ینوی کون تیممه مبیحا من الحدث الأصغر أو لا یجب کالغُسل؟ فیه وجهان بل قولان:

أحدهما: هو الوجوب، وهو المحکی عن «جامع المقاصد» عن ظاهر الشیخ.

وثانیهما: عدمه، وهو کما عن صاحب «الجواهر» و«مصباح الفقیه» وغیرهما وهو الأقوی، اذ لا وجه للقول بایجابه الاّ توهّم کون البدل وهو التیمم ضعیفا، لکنه موهون لأنّ مقتضی البدلیة لیس الاّ کونه مثل المبدل منه فی الخصوصیات جمیعا، الاّ أن یرد دلیلٌ علی خلافه، وهو هنا مفقودٌ. کما أنّ القول بلزوم التعیین فی الأحداث المجتمعة من الصغیر فی الاتیان بالتیمم کما هو ظاهر کلام الشیخ


1- وسائل الشیعة: الباب 12 من أبواب التیمّم، الحدیث 6.
2- المصدر السابق، الحدیث 7.

ص:347

ضعیف أیضا، لما عرفت من عدم وجوب التعیین فی المبدل فبدله مثله.

هذا فی التیمم عن الغسل الجنابة.

وأمّا غیره من سائر الأسباب فی الغسل، فکما لا یکفی الغسل عن الوضوء ولابدّ من اتیانه، کذلک الحال فی بدله، کما صرّح بذلک جماعة منهم الفاضل فی جملةٍ من کتبه، والمحقق الثانی فی جامعه، والفاضل الإصبهانی فی کشف لثامه، بل لعلّه ممّا لا خلاف فیه کما یشعر ذلک کلام صاحب «کشف اللّثام»، بل عدم کفایة البدل یکون بالأولویّة لضعفه، واقتضاء القول بذلک تقدیم الفرع علی الأصل.

هذا، مع التمکن من الوضوء، فإنّه لا اشکال فی عدم اغناء الغسل فی غیر الجنابة، ففی بدله أیضا کذلک.

نعم، وقع الکلام فیما لو لم یتمکن من الوضوء بعد التیمم عن الغسل، ففی الحاجة إلی تیمم آخر بدلاً عن الوضوء زائدا عمّا أتی به بدلاً عن الغسل خلافٌ: فعن المفید فی «المقنعة» القول بالتسویة بین التیمم للجنابة والحیض والنفاس تمسکا بالخبر الذی رواه الشیخ فی تهذیبه وهو صحیح أبی بصیر، قال: «سألته عن تیمم الحائض والجنب سواءٌ إذا لم یجد ماءً؟ فقال: نعم»(1).

وفیه: الاستدلال بهذا الخبر لما نحن فیه ضعیف، لوضوح أنّ المراد من السؤال عن الکیفیّة، أی أنّهما مختلفان فی الکیفیّة أم متحدان کما هو الحال فی غسلها کغسل الجنابة فی الکیفیّة الوارد فی الحدیث لا فی الکمیّة، بأن یکفی التیمم لأحدهما عن الآخر.

هذا، ولکن نسب صاحب «المدارک» التسویة إلی ظاهر الأصحاب، قال: «فی «الذکری» وخرج بعض الأصحاب وجوب تیممین علی غیر الجنب بناءً علی


1- وسائل الشیعة: الباب 12 من أبواب التیمّم، الحدیث 7.

ص:348

وجوب الوضوء هنا لک ولا بأس به، والخبران غیر ما نعین منه لجواز التسویة فی الکیفیّة لا الکمیة. ثمّ قال: وما ذکره أحوط، وإنْ کان الأحوط الاکتفاء بتیمم واحد بناءً علی ما اخترناه من اتحاد الکیفیّة، وعدم اعتبار نیة البدلیة، فیکون جاریا مجری أسباب الوضوء أو الغسل المختلفة، ولو قلنا باجزاء الغسل مطلقا عن الوضوء، کما ذهب الیه المرتضی، ثبت التساوی من غیر اشکال» انتهی فی «المدارک».

أقول: لکن الأقوی عندنا عدم الکفایة فی تیمم غیر الجنابة، کما لا یکفی نفس المبدل عن الوضوء، بلا فرق فی عدم الکفایة بین اتحاد کیفیة تیمّمهما وعدم الاتحاد، کما لا فرق فی عدم الکفایة بین شرطیة نیة البدلیة وعدم اشتراطها، لأنّ الاتحاد فی الکیفیة لا یوجب الاغناء والتداخل، بل غایته صلاحیة التداخل والکفایة إذا قام الدلیل علیه، ومع قیام الدلیل علی التداخل لا یتفاوت الحال بین کون التیممین متحدین فی الکیفیة أو مختلفتین، والخبرین المذکورین إنّما هما ورد فی مقام بیان وحدة الکیفیّة دون الکمیّة، خصوصا فی المختلفین کالغسل والوضوء وبدلهما، ولأجل ذلک یتبیّن أنّ ما ورد فی مضمرة زرارة بقوله فی حدیث: «فاذا اجتمعت علیک حقوق (اللّه) أجزأها عنک غسل واحد، الحدیث»(1) یراد منه حقوق من سنخ واحد من حیث الغُسلیّة _ کما یشهد لذلک ذکر غُسل الجنابة والحجامة والعرفة والنحر والحلق والذبح والزیارة قبل ذلک _ لا ما یکون من غُسل ووضوء کما فی المورد، وعلیه فتشبیه المقام بالأسباب المتعددة فی الأحداث من الأصغر والأکبر حیث یکفی غسل واحد أو وضوء فارد عن الجمیع تشبیه فی غیر محلّه، إذ التداخل فیها لیس الاّ لأجل قیام الدلیل علی التداخل کالخبرین الذی ذکرناهما آنفا، لا لأجل اتّحاد الکیفیّة حتّی یقال لذلک فی البدل أیضا.


1- وسائل الشیعة: الباب 43 من أبواب الجنابة، الحدیث 1.

ص:349

قوله: وإن قُطعت کفّاه سقط مسحهما، واقتصر علی الجبهة (1)

هذا مضافا إلی أن التداخل فی الأصل ثابت فی المتحدّین من حیث السنخیة کالأغسال لا فی المختلفین کالغسل والوضوء، الاّ فی الجنابة وذلک لأجل قیام الدلیل علیه، فبدله أیضا علی الظاهر یکون کذلک وإن کان الأحوط فیه أیضا اتیانه رجاءً.

أقول: وما قوینا من عدم التداخل هو مختار «الجواهر» و«المنتهی» و«النهایة» و«التحریر» و«الدروس» و«البیان» و«الموجز» و«کشف الالتباس» و«جامع المقاصد» و«ارشاد الجعفریة» و«العروة» وأصحاب التعلیق علیها کالمحقق الآملی وغیره إذا کان التیمم بدلاً عن الغسل فی غیر الجنابة والوضوء.

کما أنّه لو شککنا فی التداخل وعدمه فی الأصل أو البدل، کان الأصل هو عدمه الاّ ما ثبت فیه التداخل بالدلیل، کما قام بذلک فی غسل الجنابة واللّه العالم.

وأمّا التیمم فی سائر الأغسال التی أجیز فیها التداخل، فإنّ الظاهر جواز التداخل فی بدلها وهو التیمم أیضا، لأنّ مقتضی البدلیة هو العمل بما یعمل به مبدله من الاجتزاء.

واحتمال عدمه لضعف طهارة التیمم کما قاله صاحب «جامع المقاصد»، وتأمل فیه العلاّمة البروجردی، لیس علی ما ینبغی، وإنْ کان العمل بالاحتیاط فی عدم التداخل حسنا جدا.

(1) الأقطع علی قسمین:

قسم: ما هو الأقطع من الیدین من الزندین، بحیث لم یبق من موضع المسح شیئا، کما هو المفروض فی کلام الماتن.

ص:350

وقسم آخر: ما هو الأقطع باحدی الیدین أو ببعضها أو بعض احداهما، بحیث یبقی من موضع المسح شیء.

أمّا الأوّل منهما: فإنّه لا اشکال بل الاجماع قائمٌ علی سقوط المسح عنهما، ویکتفی بمسح الجبهة ولا یسقط التیمم عنه بذلک من رأس، بلا خلاف فیه، بل لعلّه اجماعی إنْ لم یکن ضروریّا، هذا کما فی «الجواهر» تمسکا بقاعدة المیسور والبدلیّة وعدم سقوط الصلاة بحال والاستصحاب، اذ لم تثبت شرطیّة الاجتماع فی هذا الحال، بل الثابت عدمه، بل رتّب علیه صاحب «الجواهر» التالی الباطل، حیث قال: «والاّ أی إنْ کان الاجتماع شرطا لسقطت الطهارة مائیة أو ترابیة مدی العمر بذهاب بعض أجزاء الکف مثلاً، من إصبعٍ أو بعضه بقرح أو جرح والضرورة علی خلافه.»

واستشکل علیه الآملی فی مصباحه بقوله: «وأما الاستدلال بلزوم سقوط الوضوء عنه أیضا فلا وجه له، فان غَسل الوجه یتحقق باجراء الماء علیه ولو بغیر آلة الید کالارتماس، ولکنّه غیر واردٍ، لأنّه حینئذٍ کان وجه السقوط لفقدان الیدین اللذین یجب هذا فی الوضوء، حیث علی الشرطیة بالاجتماع یوجب سقوط المرکّب رأسا بسقوط وانتفاء أحد اجزائه، کما هی القاعدة الأولیّة لو لا دلیل قاعدة المیسور، فإمکان غسل الوجه بالارتماس لا یرتفع الاشکال. نعم، یصحّ هذا الاشکال لو انحصر الشرطیة بالاجتماع فی خصوص التیمم دون الوضوء، فحینئذٍ یطالب بالدلیل فی وجه الفرق بین الموردین مع عدم الدلیل بالخصوص فیه، الاّ قاعدة المرکّب بما هو مرکب، الجاری فی کلّ منهما، کما لا یخفی. کما أنّ اشکاله فی الاستصحاب بأنّ المتیقن السابق لو سُلّم هو وجوب مسح الوجه بالوجوب الضمنی _ علی ما هو التحقیق فی وجوب الجزء _ أو الوجوب التبعی

ص:351

المقدمی بناءً علی القول الآخر، والمشکوک هو وجوبه الاستقلالی بعد سقوط الکل» انتهی.

أقول: هذا الاشکال لا یضرّ بالاستدلال، لأنّ مسح الجبهة واجب لا یجوز ترکه حال القدرة، وعند الشک فی جواز ترکه رأسا یحکم الاستصحاب بعدم الجواز، حتّی لو أوجب هذا الاستصحاب صیرورة الوجوب فیه استقلالیا نظیر الاستصحاب الکلّی فی القسم الثانی، لأنّ المقصود من الاستصحاب لیس اثبات الوجوب الاستقلالی حتّی یقال إنّه أصلٌ مثبت، بل المقصود اثبات عدم جواز ترکه، الذی یفید مضمونه مضمون قاعدة المیسور بلزوم الاتیان بمسح الجبهة، وهو المطلوب.

ولا فرق فی سقوط مسح الیدین بین کون القطع من الذراعین أو من الزندین، بعد فرض فقدان ما یجب فیه المسح، وعلیه یظهر الاشکال فیما قاله الشیخ فی «المبسوط» من أنّه إذا کان مقطوع الیدین من الذراعین سقط عنه فرض التیمم، ویستحب أن یمسح ما بقی، بناءً علی أن یکون مراده سقوط أصل التیمم من رأس لا سقوط ذلک الجزء.

لما قد عرفت خلافه لقاعدة المیسور والاستصحاب والبدلیة.

ولکن الانصاف أنّه لیس بمخالف، لا مکان أن یکون مراده سقوط اختصاص مسح هذا العضو، کما یؤید ذلک قوله: «ویستحبّ مسح ما یبقی» حیث لا یناسب مع القول باستحباب مسح الجبهة حینئذٍ إذ لم یقل به أحد بل یمتنع القول باستحباب مسح الجبهة والصلاة معه، کما قد یؤیّد ما ذکرناه فی توجیه کلامه، تعلیله بأنّ ما أمر اللّه بمسحه قد زال، حیث یناسب مع سقوط مسح الیدین لا أصل التیمم.

نعم، یبقی الکلام فی وجه استحباب الباقی، حیث لا دلیل لنا علی ذلک إذا کان القطع من فوق الزند، الاّ أن یُقارن بنظیره من الوضوء إذا کانت ید المتوضی ء

ص:352

مقطوعة من المرفق، حیث یستحب غَسل ما بقی من عضده، بأن یقال إن الذراع هنا کالعضد هناک.

کما أنّه یحتمل أن یکون مراده مسح نفس مفصل الکف، أی العظم المتصل بمبدأ الکفّ الذی هو منتهی الذراع، ولعلّه الذی یُسمّی بالمُرسُغْ بضم الراء والسین.

فبناء علی هذا المحتمل ربما یوجب القول بوجوب المسح، کما یقال بالوجوب فی غَسل المرفق الأصلی، لدخول مبتدأ الغایة فی المغیی، لکنّه هنا حیث لا یکون من ذلک القبیل، فیستحب لا أن یکون واجبا.

أقول: وبرغم ذلک نطالبه بالدلیل علی استحبابه مع حرمة القیاس وبطلانه.

اللّهم الا أن یکتفی فی ثبوته لمکان التسامح فیه بالاحتیاط لاحتمال وجوبه بالأصل لکونه آخر الکفّ الواجب مسحه، وفی «الجواهر» لفحوی خبر العضد ونحو ذلک، فتأمل.

ولعلّ مقصوده من الخبر المذکور صحیحة علی بن جعفر، عن أخیه علیه السلام قال: «سألته عن رجل قطعت یده من المرفق کیف یتوضأ؟ قال: یغسل ما بقی من عضده»(1).

وفیه: لکنه لا یخلو عن تأمل، کما ذکره رحمه اللّه نفسه وقال: «فتأمل» لأنّ المرفق ومقدارٌ من العضد داخل فی المغسول فیصح الحکم بوجوب غسل ما بقی، بخلافه هنا فلا معنی للأولویة والفحوی هنا، الاّ أن یقصد بهما الاشارة إلی ما ورد فی المسح هنا من کونه فوق الکف قلیلاً، فحینئذٍ یوافق مع الوجوب. ولکنه حیث لم یثبت فی مقدار الوجوب فی المسح الاّ من الکف، فلا یبعد دعوی الاستحباب الموافق للاحتیاط هنا فیصیر أولی لورود النص بالتذکر بذلک.

لکنها غیر مسموعة للنصّ الصریح فی باب الوضوء بوجوب غَسل ما بقی، فلا معنی لدعوی الأولویة، غایته مساواته معه ففتأمّل.


1- وسائل الشیعة: الباب 49 من أبواب الوضوء، الحدیث 2.

ص:353

کیفیّة تیمم الأقطع

ثمّ بعد ما ثبت عدم سقوط التیمم عن الأقطع، یأتی البحث عن کیفیة تیمّمه، فیه أقوال:

القول الأوّل: أن یمعّک بالتراب أو بضرب ذراعیه به ثمّ المسح بهما مقدما علی غیره من اعضائه لقربها إلی محلّ الضرب، سیّما مع بقاء المفصل وقلنا بأنّه منه أصالةً، وهناک خبران یدلان علیه وهما:

1_ خبر لیث المرادی بقوله: «تمسّح بهما وجهک وذراعیک»(1).

2_ وخبر محمد بن مسلم، بقوله: «فمسح بها مرفقه إلی أطراف الأصابع الحدیث»(2).

القول الثانی: القول بالتخییر بین الذراعین وبین غیره من الأعضاء حفظا للمباشرة وتقدیمه علی التولیة.

القول الثالث: أو اجزاء کلّ من التمعیک أو الضرب السابق أو یتعین علیه التولیة، لأنّ الذراعین قد نُهی عنه فی خبر زرارة بقوله: «ولم یمسح الذراعین بشیء»(3)، فیسقط التیمم بالنسبة الیه فتعین تحقّق الضرب متوالیةً واستنابةً لمسح الجبهة.

أقول: قد وردت الاشارة الی هذه الوجوه والأقوال فی «الذکری» و«جامع المقاصد» و«کشف اللّثام»، والمختار عند الأکثر هو مسح الجبهة بالأرض بالتمعیک، والأحوط وجوبا ضمّ ضرب ذراعیه والمسح بها وعلیها، کما فی


1- وسائل الشیعة: الباب 12 من أبواب التیمّم، الحدیث 2.
2- وسائل الشیعة: الباب 12 من أبواب التیمّم، الحدیث 5.
3- وسائل الشیعة: الباب 11 من أبواب التیمّم، الحدیث 5.

ص:354

قوله: نعم لو قطع بعضها مَسَح علی ما بقی (1)

«العروة» وأصحاب التعلیق، بل مسح الجبهة بالأرض مختار «جامع المقاصد» و«کشف اللّثام»، مع احتماله فی «الذکری»، کما احتمل صاحب «جامع المقاصد» إجزاء ضرب الذراعین، کما احتمل صاحب «الذکری» التولیة وکذلک صاحب «کشف اللّثام»، وقد نُسب إلی المصنّف الثالث حیث أطلق المسح إذ یفهم منه الاجزاء بذلک، سواءٌ ضمّ الیه مسح الذراعین أم لا. ولکن ظاهره ینفی التولیة حیث لم یشر الیه.

(1) نعم، هو مختار الشهید فی «الذکری» بل الاحتیاط فی الجمع بجمیع المحتملات بما لا ینبغی ترکه، کما لا یخفی، کما أشار الیه فی «الجواهر».

(1) ینقسم الأقطع باحدی الیدین أو ببعض کلّ من الیدین الی قسمین:

قسم منهما: ما یکون القطع ببعض کفه فی إحداهما، فیجب ضرب ما بقی منها مع تمام الکف فی الأخری التی لم تقطع، فیمسح بهما وجهه ویمسح بباقی المقطوعة ظهر التی لم تقطع، وبغیر المقطوعة تمسح ظاهر المقطوعة ببعضها، وذلک لقاعدة المیسور، مع معلومیة عدم سقوط أصل التیمم، لعدم اشتراط الاجتماع فی التیمم حتی یوجب عدمه سقوط أصل الواجب کما عرفت.

وأمّا القسم الثانی: فهو ما لو کان الأقطع قد قطعت إحدی یدیه من الزندین ولم یبق من احداهما شیء یجب المسح علیه، فحینئذٍ یجری فیه وجوه:

الأوّل: أن یضرب الذراع من الید المقطوعة مع الکف من الید الأخری، ویمسح بهما وجهه، ویمسح علی ظاهر الکف من الصحیحة بباطن الذراع من المقطوعة، ویمسح علی الذراع من المقطوعة بباطن الکف من الصحیحة، مع مراعاة الترتیب فی الیمنی والیسری، وهو مختار العلاّمة البروجردی، وحکم بتقدمه علی التولیة

ص:355

والاستنابة، کما جاء فی حاشیته فی «العروة» ووجهه بدلیة الذراع عن الکف فی مقطوع الکفین معا فهکذا هنا إذ لا فرق فی البدلیة بینهما.

الوجه الثانی: وهو مختار صاحب «العروة» مع الاحتیاط، والذی سنذکره وهو ضرب باطن الید الصحیحة علی الأرض والمسح بها علی الجبهة ومسح ظهرها علی الأرض. ووجه ذلک انکار البدلیة للذراع فی أصل مقطوع الیدین، فضلاً عن الأقطع باحداهما فلابد من الاتیان بما هو مقدور ومیسورٌ وهو لیس الاّ ما عرفت.

الوجه الثالث: الاستنابة للید المقطوعة، فیضرب یده الصحیحة مع ید النائب، ثمّ یمسح بهما جبهته، ثمّ یمسح النائب ظهر یده الموجوده، وهذا هو الذی أضاف إلی الوجه السابق بالاحتیاط الوجوبی فی «العروة» وکان مختارنا أنّه یقع بعد ما لم یکن له ذراع، والاّ هو مقدم، کما علیه العلاّمة البروجردی قدس سره وقلنا بتقدیمه علی الاستنابة فی الأقطع بکلا قسمیه من الیدین أو احداهما، والدلیل علی الاستنابة هو التمسک باطلاق ما دلّ علی وجوب الاستنابة علی العاجز الوارد فی تیمم المجدور والکسیر، حیث یشمل اطلاقه لمقطوع الیدین أو الید الواحدة.

الوجه الرابع: القول بسقوط مسح ظهر الید الصحیحة رأسا، کما حکی صاحب «الجواهر» ذلک عن صاحب «الروضة» وقال إنّه غریب، وهو کذلک إذ لا وجه لسقوط مسح ظهر الید الصحیحة مع امکان مسحها بالأرض، إذ هو مقتضی قاعدة المیسور مع عدم شرطیّة الاجتماع فی التیمّم کما لا یخفی.

ولکن مع ذلک کله قد عرفت أنّ طریق الأحتیاط هو اتیان جمیع المتحملات الثلاثة.

أقول: ومن ذلک یظهر حکم من کان مثل الأقطع، کمن کان مربوط الیدین بحیث لا یقدر علی المباشرة بالمسح حتّی للجبهة حیث یحتمل کونه حینئذٍ مثل حکم فاقد الطهورین الذی ربّما یجری هنا ولا یجری فی مثل الأقطع إنْ فرض عدم القدرة لتحصیل النائب للقیام بما یستلزم تیممه أصلا والاّ وجب ذلک کما لا یخفی.

ص:356

قوله: ویجب استیعاب مواضع المسح فیالتیمم، فلو أبقی منها شیئا لم یصحّ(1)

ویستحب نفض الیدین بعد ضربهما علی الأرض (2)

(1) مرّ سابقا حکم وجوب الاستیعاب للممسوح بالتفصیل، وقلنا إنّه واجب بلا خلاف، بل علیه الاجماع کما عن «المنتهی»، لأنّه المتبادر من النصوص والفتاوی ومعاقد الاجماعات، وبه یظهر حکم ما لو ترک شیئا من مسح مواضع التیمم عمدا أو سهوا ونسیانا، عالما أو جاهلاً، فإنّه یجب علیه الاعادة مراعیا للترتیب والموالاة إنْ أمکن تحصیلهما، وإلاّ یعید التیمم، وأمّا وجوب الاستیعاب بتمام الماسح خصوصا فی الجبهة غیر ثابت، وإن کان الأحوط ذلک کما لا یخفی علی من کان له أدنی تأمل.

(2) استحباب النفض ممّا لا اشکال فیه ولا کلام، لکثرة النصوص واستفاضتها، وفیها الصحیح وغیره الظاهر فی الوجوب، حیث ورد فی بعضها بصورة فعل المضارع بقوله: «تضرب بیدیک الأرض وتنفضهما».

ولکن فی «التذکرة» الاجماع علی عدم الوجوب، کما فی «المنتهی» أنّه یستحب عند علمائنا، المشعر بالاجماع، وفی «المدارک» أنّه مذهب الأصحاب لا نعلم فیه خلافا، وعن «المقاصد العلیة» یجوز النفض اجماعا خلافا للجمهور حیث انّهم یوجبون، کما أنّه قیل بالوجوب والقائل غیر معلوم.

نعم، فی «المختلف»: «اعتبر ابن الجنید وجوب المسح بالتراب المرتفع علی الیدین، وباقی أصحابنا استحبّوا النفض» وظاهره انحصار الخلاف فیه، لکن قال جماعة من متأخری المتأخرین أنّ کلامه لا ینافی النفض، لانّه لا ینفی التراب

ص:357

رأسا، والأمر کذلک حیث نشاهد بعد النفض أنّ بعض أجزاء التراب باقٍ علی الید، وإنْ اعترض علیه صاحب «الجواهر» حیث قال بعده: «وهو کما تری»، وإن ذکرنا فی بحث العلوق عدم اعتباره علی الیدین، خصوصا لمن یجوّز التیمم بمطلق الأرض، الشامل لمثل الحجر الأملس، ولکنه لا ینافی مع استحباب النفض.

أقول: قد یظهر من الشیخ فی نهایته ومبسوطه أنّه یستحب مع النفض مسح إحدی الیدین بالأخری، ولعلّه للاستظهار فی تنظیف الید، لفحوی الأمر بالنفض والنفخ وتحرّزا من تشویه الخلقة بواسطة التراب، أو أنّه یرید النفض بمسح إحداهما بالأخری بالتصفیق لکونه المتبادر لا نفض کلّ منهما مستقلاً، ولو أراد من کلامه استقلال کلّ من النفض والمسح فیشکل ذلک، لعدم وجود مستند له کما عن المحقّق فی «النکت» وصاحب «المدارک» الاعتراف بذلک، بل عن «المنتهی» أنّه لا یستحبّ مسح إحدی الراحتین بالأخری، خلافا لبعض الجمهور، والظاهر أنّه أراد غیر ما نحن بصدده، لأنا نقول باستحباب ضرب إحدی الیدین بالأخری ومسحهما، وهو یرید مسح إحدی الراحتین مع ظاهر الکف، واللّه العالم.

أقول: الذی یخطر ببالی أنّ الشیخ لم یقصد بکلامه استحباب أمرین من النفض والمسح، بل أراد بیان أنّ کلّ منهما یشیر الی ارادة أمر واحدٍ، حیث ورد فی عدّة روایات الأمر بالنفض کما هو الأکثر، وفی بعضها الأمر بالضرب کصحیحة زرارة المرویّة فی «مستطرفات السرائر» عن الباقر علیه السلام : «ثمّ ضرب إحداهما علی الأخری» والظاهر کونهما شیئا واحدا، فیکشف ذلک عن اتحاد المراد من العبارتین.

بل قد یقال امکان استفادة عدم اختصاص هذا المستحب للصورتین. نعم، کلّ ما یفید فائدتهما من الدلک ومسح إحدی الراحتین بالأخری لا الضرب، بدعوی

ص:358

قوله: ولو تیمّم وعلی جسده نجاسة، صحّ تیمّمه، کما لو تطهّر بالماء وعلیه نجاسة، لکن فی التیمم یراعی ضیق الوقت (1)

أنّ المنساق إلی الذهن ارادته لازالة ما علی الیدین ممّا یزول بالنفض.

ولکن الانصاف عدم اطمینان النفس بالفاء هذه الخصوصیة بالحاق غیر المنصوص بالمنصوص لعلّةٍ مستنبطةٍ، وهی قیاسٌ لا نقول به، وعلیه فالأظهر هو الاکتفاء بالمنصوص فقط.

تکملة

لم یذکر المصنّف من مستحبات التیمم غیر النفض وقصد الرّبی والعوالی، ولکن زاد فی «الذکری» السواک للبدلیة والتسمیة لها أیضا، ولعموم الابتداء باسم اللّه أمام کلّ أمر ذی بال، بل عن الظاهریة وجوبها، وتفریج الأصابع عند الضرب مسندا له إلی نصّ الأصحاب، وأن لا یرفع عن العضو حتّی یکمل مسحه لما فیه من المبالغة فی الموالاة، وأن لا یکرّر المسح لما فیه من التشویه، ومن ثمّ لا یستحب تجدیده لصلاة واحدة.

أقول: لا بأس بالالتزام بهذه الأمور من باب التسامح فی أدلة السنن، بعد ذهاب الأصحاب الیه، والاّ یمکن الاشکال فی بعضها ومطالبة الدلیل علیه.

(1) یدور البحث فی المقام عن أنّه هل یشترط فی صحة التیمم طهارة بدن المتیمم أم لا؟

الظاهر عدم اشتراطها حتّی بالنسبة إلی محلّ النجو، للأصل واطلاق الأدلة من غیر معارضٍ، بل والبدلیة حیث لم یفت أحد بشرطیة الطهارة فی الوضوء حتّی

ص:359

لمحلّ الاستنجاء، وإنْ ورد فی خبر سلیمان بن خالد باعادة الوضوء لمن توضّأ قبل تطهیر موضع البول، الاّ أنّهم حملوه علی الاستحباب بالاحتیاط، فکذا لا یشترط هنا وإنْ کان ممکنا لازالتها قبل التیمم.

نعم، من ذهب فی مسألة التیمم الی أنّ الاکتفاء به إنّما یجوز فی ضیق الوقت مطلقا، أو مع الرجاء، فحینئذٍ لابدّ للمصلی أن یقدّم ازالة النجاسة علی التیمم، لا لأجل أنّ ازالتها شرطا فی صحته، بل لأجل تحقق شرط صحة التیمم، وهو ضیق الوقت، إذ المراد به عدم سعة الوقت لغیره والصلاة، فلا فرق حینئذٍ بین نجاسة البدن والثوب وغیرهما ممّا یشترط فی الصلاة، ولذلک أوجب تقدیم الاستنجاء ونحوه علیه فی «المبسوط» و«النهایة» و«المعتبر» وظاهر «المقنعة» و«الکافی» و«المهذّب» و«الاصباح»، بل یمکن الاستشهاد لذلک بخبر أبی عبیدة عن الصادق علیه السلام : «سأله عن المرأة الحائض تری الطهر وهی فی السفر، ولیس معها من الماء یکفیها لغسلها وقد حضرت الصلاة؟ قال: إذا کان معها بقدر ما یغسل به فرجها فتغسله یتیمّم وتصلی الحدیث»(1) حیث أنّه علیه السلام قدّم التطهر علی التیمم، ولعلّه کان ذلک لأجل حصول ضیق الوقت لجواز التیمم.

أقول: یمکن الخدشة فی دلالته بامکان أنّ وجه التقدیم هو أنّ سیاق الکلام عن فقد الماء علی قدر یحصل به الغُسل، فأمره علیه السلام بأن تغسل فرجه ثمّ تتیمّم لا لغایة ما ذکره من الشرطیة، مضافا إلی أنّ لحاظ الضیق لو کان ضروریا، کان المراد منه ما هو العادی عند العرف، ولعلّ مثل ذلک _ بتحصیل سائر الشروط بعد التیمم _ غیر قادح فی تحقّق عنوان صدق الضیق، ولذا لا یحکم بوجوب تأخیر المتیمم عن سائر الشرائط کالاستتار ونحوه، کما لا ینافی علیه الاتیان بالاذان


1- وسائل الشیعة: الباب 21 من أبواب الحیض، الحدیث 1.

ص:360

والاقامة والانتقال إلی بقیّة الواجبات حیث ینطبق مثل هذه الأمور فی ضیق الوقت للتیمم.

قیل: إنّه یظهر من المصنّف هنا أنّه یعتبر ضیق الوقت فی التیمم، مع أنّه قبل ذلک قد تردّد فیه.

ویمکن أن یجاب عنه: بامکان أن یکون بیانه هذا لأجل التذکّر بهذه المسألة

* * *

ص:361

أحکام التیمم

الطرف الرابع فی احکامه: وهی عشرة:

الأوّل: من صلّی بتیمّمه لا یُعید(1)

(1) عند القائل به، لا بأن یکون مختاره حتّی یجعل ذلک دلیلاً علی عدوله عمّا سبق، واللّه العالم.

نعم عند القائل بشرطیّة طهارة موضع الاستنجاء فی الوضوء قبله ربّما یقتضی تقدمه فی التیمم أیضا للبدلته، ولکون حاله أضعف من حال الوضوء، فإذا اعتبر فیه ذلک فیعتبر هنا بطریق أولی.

ولکن فی أصل الاعتبار فی الوضوء، وفی اقتضاء البدلیة لذلک، کلامٌ وتأمل کما لا یخفی علی المتأمّل.

(1) سبق وأن ذکرنا أنّ من أتی بتیمّمٍ صحیح فی الوقت وصلّی به، لا یعید صلاته مطلقا فی الوقت وخارجه حتّی لو وجد الماء، للأصل الجاری عند الشک فی الوجوب، وقاعدة الاجزاء، وکون الاتیان موجبا لصدق الامتثال الموجب للبراءة وعدم صدق الفوت، وکون القضاء بأمرٍ جدیدٍ وهو غیر موجود، مضافا إلی کونه بدلاً یوجب ذلک، الاّ أن یدلّ دلیل علی خلافه، وهو مفقود بل الموجود خلافه وهو قول النبی صلی الله علیه و آله لأبی ذر: «یا أباذر یکفیک الصعید عشر سنین»(1).

کما یدلّ علی الاجزاء قیام الاجماع بکلا قسمیه من المحصّل والمنقول، کما عن «الخلاف» و«المعتبر» و«التحریر» و«التذکرة» و«المنتهی»، بل ومن العامّة


1- وسائل الشیعة: الباب 14 من أبواب التیممع ، الحدیث 12.

ص:362

عدا طاووس وقد انقرض خلافه، بل عن الصدوق فی «الأمالی» نسبته إلی دین الامامیة، ومع وجود جمیع ذلک لا بأس بملاحظة الأخبار المستفیضة بل المتواترة الدالة علی عدم الاعادة، وفیها الصحیح وغیره:

منها: صحیحة عبیداللّه بن علی الحلبی، قال: «سألت أبا عبداللّه علیه السلام عن الرجل إذا أجنب ولم یجد الماء؟ قال: یتیمم بالصعید، فاذا وجد الماء فلیغتسل لا یعید الصلاة»(1).

ومنها: حسنة الحلبی، قال: «سمعت أبا عبداللّه علیه السلام یقول: إذا لم یجد الرجل طهورا وکان جنبا فلیتمسح من الأرض ولیصلّ، فاذا وجد ماءً فلیغتسل وقد أجزأته صلاته التی صلّی»(2).

ومنها: صحیحة عبداللّه بن سنان مثل ما سبق(3).

ومنها: صحیحة العیص، قال: «سألت أبا عبداللّه علیه السلام عن الرجل یأتی الماء وهو جنب، وقد صلّی؟ قال: لیغتسل ولا یعید الصلاة»(4)

ومنها: صحیحة محمد بن مسلم، قال: «سألت أبا عبداللّه علیه السلام عن الرجل أجنب فیتیمم بالصعید ثمّ وجد الماء؟ قال: لا یعید إنّ ربّ الماء ربّ الصعید فقد فعل أحد الطهورین»(5).

فإنّ التعلیل برب الماء وذکر إنّه فعل أحد الطهورین یفید الاجزاء وأنّه قام بما هو وظیفته فلا اعادة حتّی لو وجد الماء فی الوقت، بل قد یقال بأنّه هو المتبادر


1- وسائل الشیعة: الباب 14 من أبواب التیمّم، الحدیث 1.
2- وسائل الشیعة: الباب 14 من أبواب التیمّم،الحدیث 4.
3- وسائل الشیعة: الباب 14 من أبواب التیمّم، الحدیث 7.
4- المصدر السابق، الحدیث 16.
5- المصدر السابق، الحدیث 15.

ص:363

منه، لانّه هو الذی یتوهّم بلزوم الاعادة بوجدان الماء.

ومنها: ما یدلّ علی عدم الاعادة فی الوقت مثل صحیحة زرارة، قال: «قلت لأبی جعفر علیه السلام : فإنْ أصاب الماء وقد صلّی بتیمم وهو فی وقت؟ قال: تمت صلاته ولا اعادة علیه»(1).

ومنها: موثقة علی بن اسباط، عن عمّه، عن أبی عبداللّه علیه السلام : «فی رجل تیمّم وصلّی ثمّ أصاب الماء وهو (فی) وقت؟ قال: قد مضت صلاته ولیتطهّر»(2).

ومنها: صحیحة أبی بصیر، قال: «سألت أبا عبداللّه علیه السلام عن رجل تیمّم وصلّی ثمّ بلغ الماء قبل أن یخرج الوقت؟ فقال: لیس علیه اعادة الصلاة»(3).

ومنها: روایة معاویة بن میسرة، قال: «سألت أبا عبداللّه علیه السلام عن الرجل فی السفر لا یجد الماء تیمّم وصلّی ثمّ أتی الماء وعلیه شیءٌ من الوقت، أیمضی علی صلاته أم یتوضأ ویعید الصلاة؟ قال: یمضی علی صلاته فإنّ ربّ الماء هو ربّ التراب»(4).

ومنها: خبر علی بن سالم، عن أبی عبداللّه علیه السلام ، قال: «قلت له: أتیمّم وأصلّی ثمّ أجد الماء وقد بقی علیّ وقت؟ فقال: لا تعد الصلاة فإن ربّ الماء هو ربّ الصعید»(5).

أقول: هذه الطائفة الثانیة من الأخبار بمفهومها تدلّ علی عدم لزوم الاعادة مع وجدان الماء فی الوقت، وبمفهومها الموافق والفحوی والأولویة القطعیة تدلّ علی عدمها فی خارج الوقت بقی هنا طائفة ثالثة تدلّ علی عدم لزوم القضاء فی


1- المصدر السابق، الحدیث 9.
2- المصدر السابق، الحدیث 14.
3- المصدر السابق، الحدیث 11.
4- وسائل الشیعة: الباب 14 من أبواب التیمّم، الحدیث 13.
5- المصدر السابق، الحدیث 17.

ص:364

خارج الوقت، مضافا إلی کونه هو القدر المتیقن الذی یدلّ علیه جمیع ما یدلّ علی طهوریّة التراب وکونه بدلاً عن الماء:

منها: حسنة زرارة، عن أحدهما علیهماالسلام ، قال: «إذا لم یجد المسافر الماء فلیطلب مادام فی الوقت فإن خاف أن یفوته الوقت فلیتیمم ولیصلّ فی آخر الوقت، فاذا وجد الماء فلا قضاء علیه، ولیتوضّأ لما یستقبل»(1).

ومنها: صحیحة یعقوب بن یقطین، قال: «سألت أبا الحسن علیه السلام عن رجل تیمّم فصلّی فأصاب بعد صلاته ماءً أیتوضأ ویعید الصلاة أم تجوز صلاته؟ قال: إذا وجد الماء قبل أن یمضی الوقت توضّأ وأعاد، فانّ مضی الوقت فلا إعادة علیه»(2).

فهی وإن دلّت علی لزوم الاعادة إذا کان الوجدان فی الوقت، ولکن دلالته علی عدم لزوم الاعادة فی خارج الوقت تامّة.

وأمّا بالنسبة إلی الاعادة فی الوقت: إمّا یحمل الخبر علی التقیة أو علی الندب، والثانی أوفق بالقواعد جمعا بینه بالاعادة وبین ما سبق بعدم الاعادة بالتصرف فی الهیئة بحملها علی الاستحباب.

وتوهّم: التنافی بین هذا الحدیث بالحکم بالاعادة فی الوقت، وبین ما دلّ علی النهی عن الاعادة مثل ما فی صحیحة زرارة وأبی بصیر بقولهما: «ولا اعادة علیه» أو «لیس علیه اعادة الصلاة».

غیر وجیه: لا مکان أن یکون النهی فیهما واردا مقام توهّم الوجوب، فلا ینافی الندب کما لا یخفی.

وأمّا وجه الحمل علی التقیة، _ بعد وضوح أنّ الخبر حاکمٌ بجواز الاتیان مع التیمم فی سعة الوقت، الاّ أنّه مراعی لعدم وجدان الماء فی الوقت والاّ کشف


1- المصدر السابق، الحدیث 3.
2- المصدر السابق، الحدیث 8.

ص:365

الوجدان فیه عن عدم صحته کما هو ظاهر أو محتمل _ فلأنّ الحکم منقول عن عطاء وطاووس والقاسم بن محمد ومکحول وابن سیرین والزهری وربیعة کالقدیمین منا _ أی ابنی الجنید وأبی عقیل _ مع أنّه لا مستند لهما سوی أصالة التکلیف بالمائیة، وأنّه لا یقدر علی المعارضة علی ما عرفت فمختارهما ضعیفٌ سواء قالوا بذلک تعبدا أو من جهة کشف البطلان، کما قد یؤیّد أحد الحملین موثقه منصور بن حازم، عن أبی عبداللّه علیه السلام : «فی رجل تیمم فصلّی ثمّ أصاب الماء؟ فقال: أمّا أنا فکنتُ فاعلاً إنی کنتُ أتوضأ واعید»(1).

فإنّ اسناد الاعادة إلی نفسه الشریف إشارة:

إمّا إلی الندب، أو أنّ الاتیان والأعادة افضل، والاّ لو کان واجبا فلا وجه لاختصاصه إلی نفسه لکونه حکما الزامیا، بخلاف الاستحباب حیث یشیر إلی کون الاتیان أحبّ إلیه علیه السلام ولذلک أسندها إلی نفسه.

أو کون المورد من موارد التقیة.

فثبت من جمیع ما ذکرنا عدم لزوم الاعادة مطلقا سواءٌ وجد الماء فی الوقت أو فی خارجه، کما أطلق المصنّف حکمه فی المقام بعدم الاعادة.

هذا إذا کان التیمم فی سعة الوقت صحیحا مثل القائلین بالمواسعة، فإنّه صحیح مطلقا، أی سواءٌ کان مع رجاء الوجدان أو عدمه.

أو عند القائلین بالجواز مع ظنّ الضیق، أو فی المواسعة مع عدم الرجاء بالوجدان، أو بأن یکون فی السابق تیمّم ودخل فی وقت الصلاة وقلنا بجواز الاتیان معه، أو تیمّم لنافلةٍ وأجزنا اتیان الفریضة معه، ونظائر ذلک ممّا یحکم فیه بصحة التیمّم، فإنّه لو وجد الماء بعده فلا یجب الاعادة کما هو واضح.


1- وسائل الشیعة: الباب 14 من أبواب التیمّم، الحدیث 10.

ص:366

قوله: سواءٌ کان فی سفر أو حضر (1)

قوله: قیل فیمن تعمّد الجنابة وخشی علی نفسه من استعمال الماء، یتیمّم ویُصلّی ثمّ یعید (2)

(1) أی لا فرق فی عدم وجوب الاعادة کون التیمم لأجل فقد الماء فی السفر أو الحضر إذا وقع صحیحا، ولا خلاف فیه الاّ ما حکی عن المرتضی فی «شرح الرسالة» منّا والشافعی من العامة، حیث حکمها بالاعادة علی الحاضر أو التیمم لفقد الماء ثمّ وجده، بل عن «التنقیح» حکایته عن الشیخ وبعض الأصحاب، ولکن قال صاحب «الجواهر» إنّا لم نتحققه، بل فی «الخلاف» التصریح بعدم الاعادة، بل ظاهره أو صریحه الاجماع کما عنه الاجماع علی مساواة السفر والحضر فی ذلک، فیصیر ما ذکرنا حجة علی السیّد المرتضی ومن وافقه، سیّما لو أراد التعمیم حتّی یشمل القضاء لکونه مخالفا للاجماعات السابقة والنصوص السالفة، ولا مستند لقوله الاّ دعوی انصراف الأخبار الدالة علی مضیّ الصلاة وعدم اعادتها إذا وجد الماء وهو فی وقتٍ عن مثل الفرض، لندرة عدم وجدان الماء فی الحضر.

ولکن یمکن ان یجاب عنه: _ مضافا إلی الأطلاقات فی الأخبار بعدم الاعادة فی الوقت وخارجه الشامل للسفر والحضر _ أنّه لو کانت ندرة تحقق فقدان الماء فی الحضر متقضیة لذلک، لاقتضته أیضا بالنسبة إلی الأسفار التی جرت العادة بمصادفة الماء فی طرفها کالحضر، ولیس مقصودة بالحکم بلا شبهة، ولذلک استفدنا حکم سائر أولی الأعذار من مثل هذه الأخبار، لکون الملاک وهو العذر ف المجوّز للتبدیل واحدٍ سواءٌ کان هو السفر أو غیره.

(2) والقائل بالاعادة هو الشیخ فی کتبه من «التهذیب» و«الاستبصار» و«النهایة» و«المبسوط» و«المهذّب» و«الاصباح» وأیضا فی «روض الجنان»

ص:367

تمسکا بالروایة المرسلة المرویّة عن «الکافی» و«التهذیب» و«الاستبصار» عن جعفر بن بشیر، عمّن رواه، عن أبی عبداللّه علیه السلام ، قال: «سألته عن رجل أصابته جنابة فی لیلة باردة یخاف علی نفسه التلف إن اغتسل؟ قال: یتیمم فاذا أمن البرد اغتسل وأعاد الصلاة»(1).

ونقله الصدوق بروایة صحیحة عن أبی عبداللّه علیه السلام سأل مثله کما فی «الوسائل»(2)، حیث صرّح بالاعاة بعد الأمن عن البرد، لا سیّما مع ما ورد من التشدید علی الغُسل وإنْ تألّم من البرد فی روایة محمّد بن مسلم، قال: «سألت أبا عبداللّه علیه السلام عن رجل تصیبه الجنابة فی أرضٍ باردة ولا یجد الماء، وعسی أن یکون الماء جامدا؟ فقال: یغتسل علی ما کان.

حدّثه رجل أنّه فعل ذلک فمرض شهرا من البرد، فقال: اغتسل علی ما کان، الحدیث»(3) حیث یؤید أهمیّة الماء والغسل، وأنّه لابدّ منهما بعد التیمم والصلاة التی لا تسقط بحال، وعدم العموم أو الاطلاق فی المورد یفید جواز الاجتزاء بذلک التیمم والصلاة، وعدم معلومیّة الاجزاء بعد وجدان الماء، فلذلک یحکم بالاعادة، هذا غایة ما یمکن أن یقال فی وجه لزوم الاعادة.

ولکنّه مندفع أوّلاً: بما قد عرفت من قیام الاجماع علی عدم الاعادة، خصوصا إذا کان فی خارج الوقت، لعدم وجود أمر جدید للقضاء إنْ قلنا به فی القضاء، بل حتّی مع عدم القول بذلک، لأنّ الحکم بوجوب الاعادة یوجب الحکم باتیان صلاتین، فتحتاج الثانیة إلی دلیل آخر غیر ما أوجب علیه بالحکم الأول،


1- وسائل الشیعة: الباب 14من أبواب التیمّم، الحدیث 6.
2- المصدر السابق، الحدیث 2.
3- وسائل الشیعة: الباب 17 من أبواب التیمّم، الحدیث 4.

ص:368

والثانی غیر موجود إلاّ ذاک الحدیث الذی سنجیب عنه إن شاء اللّه.

وثانیا: منافاته مع قاعدة الاجزاء المستفادة من الدلیل الدالّ علی کون التراب أحد الطهورین، حیث یدلّ علی التنزیل وکونه بمنزلته، فالآثار المترتبة علیه _ لا سیّما مع ملاحظة التعلیل الوارد فی الحکم بأنّ ربّ الصعید هو ربّ الماء _ یدلّ علی أنّه بعد الاتیان بالتیمم، فکأنّه قد أتی بما هو وظیفته، وسقط التکلیف.

وثالثا: ملاحظة خبر السکونی المروی عن الصادق عن آبائه علیهم السلام أنّ النبی صلی الله علیه و آله قال لأبی ذر وقد جامع علی غیر ماءٍ: «یکفیک الصعید عشر سنین»(1) حیث أن الکفایة لا تکون إلاّ بعدم الاعادة، والاّ لا وجه لقوله صلی الله علیه و آله : «یکفیک» خصوصا مع ملاحظة کون المورد التعمّد فی الجنابة بالجماع، فاذا قلنا بالکفایة فیه ففی غیر العمد یکون بطریق أولی.

ورابعا: انّ مورد الروایة المرسلة والصحیحة هو غیر العمد، وهو المنساق إلی الذهن من قوله: «أصابته» أو قد یکون موردهما للاعمّ، فاذا ثبتت الکفایة فی خصوص العمد ففی غیره من الموردین یکون بطریق أولی.

وخامسا: ملاحظة الأخبار «المعتبر»ة المستفیضة الحاکمة بعدم الاعادة، الشامل بعمومها للجنابة حتّی فی صورة العمد، نعم موردها وان کان فیمن فقد الماء ثم وجده لا ما نحن فیه ممّن یخشی علی نفسه التلف عند استعمال الماء ویتیمم ویصلّی، ولکن یمکن دعوی المساواة بین الموردین باعتبار أنّ القول بالمساواة فی المنع الشرعی والمنع العقلی أمر مقبول، لأنّه قد اشتهر علی الألسن أنّ المنع الشرعی کالمنع العقلی، خصوصا بعد ملاحظة القول بعدم حرمة الجماع حینئذٍ علیه کما ذکرناه سابقا، کما ورد ذکره فی صحیح ابن مسلم، أنّه سأل


1- وسائل الشیعة: الباب 14 من أبواب التیمم، الحدیث 12.

ص:369

الصادق علیه السلام : «عن رجل أجنب فتیمّم بالصعید وصلّی ثمّ وجد الماء؟ فقال: لا یعید إنّ ربّ الماء ربّ الصعید فقد فعل أحد الطهورین»(1) الظاهر فی التعمد، حیث أنّه حکم بعدم الاعادة بنحو التعلیل بما عرفت.

وسادسا: دلالة الأصل عند الشک فیه، خصوصا أنّه مؤید بقیام الاجماع بعدم الاعادة المنقول عن جماعة.

هذا، مضافا إلی ما عرفت من عدم دلالة الحدیثن علی العمد فی الجنابة، فلا یناسب التمسک بهذا الحدیثین لما ورد فی المتن، حیث صرّح بالتّعمد.

اللّهمّ الاّ أن یستدلّ بهذین الحدیثین للمورد بالاولویّة، بأن یقال إذا کان الحکم فی الجنابة غیر العمدیة هو الاعادة، ففی العمد یکون بطریق أولی.

ولکن الاشکال فی الروایة الأولی هو ارسالها، وفی الثانیة وإنْ صحّ سندها علی نقل الصدوق ودلالتها تامة ولکن یمکن أن یؤخذ به ویجمع:

بحملها علی الندب فی الاعادة، حتّی یتحقّق بذلک العمل بکلا الطائفتین بما تدلّ علی عدم الاعادة والاعادة، خصوصا مع کون الحکم بالجملة الفعلیة علی الاعادة غیر دالة کاملةً علی الوجوب، بخلاف الأمر.

أو حملها علی التقیّة، لأنّ العامة حکموا بالاعادة کما نقل ذلک بأنّه مذهب أبی یوسف ومحمد والشافعی وإحدی الروایتین عن احمد، أو غیر ذلک.

کما أنّه لا فرق فی عدم وجوب الاعادة بین کون التعمد بالجنابة قبل الوقت أو بعده، فلا داعی من الحمل علی أنّ المراد من التعمد المذکور فی المتن هو قبل الوقت لا بعده، لأنّه لا یجوز بعده کاراقه الماء بعد دخول الوقت، لوضوح أنّه أوّلاً قیاس ولا نقول به، وثانیا إذا جعل التراب کانّه فلا فرق فیه بین الحَدَث الأصغر أو الأکبر.


1- وسائل الشیعة: الباب 14 من أبواب التیمّم، الحدیث 15.

ص:370

قوله: وفی من منعه زحام الجمعة عن الخروج مثل ذلک (1)

وبالجملة: الأولی القول بعدم وجوب الاعادة، _ وإن یستحب مطلقا _ فی جمیع الفروض التی فرضناها، بلا فرق فی ذلک بین العمد وغیره، فی الوقت وغیره، والأصغر والأکبر، واللّه العالم.

(1) من الموارد التی قیل بوجوب إعادة الصلاة المأتی بها مع التیمم _ والقائل صاحب «الوسیلة» و«الجامع» و«المقنع» و«النهایة» و«المبسوط» و«المهذّب» _ صلاة من منعه زحام الجمعة عن الخروج، حیث یخشی فوت الجمعة لو خرج أو یمنعه الزحام ولو لم یخش الفوت، فإنّه لا اشکال فی أنّه یجوز له التیمّم بلا خلاف فیه کما فی «الجواهر»، حتّی یقول به بعض من أنکر جوازه للضیق، ولعلّ وجهه هو الفرق بینهما، لأنّ المنع هنا لیس للضیّق فقط بل للزحام، فیشمله عمومات جواز التیمم.

وأمّا حکم وجوب الاعادة، فهو لأجل الشک فی اجزائه عن المائیة هنا، ولموثق سماعة عن الصادق، عن أبیه، عن علیّ علیهم السلام : «انّه سأل عن رجل یکون فی وسط الزحام یوم الجمعة أو یوم عرفة فأحدث، أو ذکر انّه علی غیر وضوء ولا یستطیع الخروج عن المسجد من کثرة الزحام؟ قال: یتیمم ویصلّی معهم ویعید إذا هو انصرف»(1) ومثله روایة السکونی(2).

خلافا لجماعة أخری من الفقهاء کالفاضلین والشهیدین والمحقّق الثانی وغیرهم من متأخری المتاخرین حتّی صاحبی «الجواهر» و«مصباح الفقیه»


1- وسائل الشیعة: الباب 15 من أبواب التیمّم، الحدیث 2.
2- وسائل الشیعة: الباب 15 من أبواب التیمّم، الحدیث 1.

ص:371

والهدی وصاحب «العروة» وأصحاب التعلیق، حیث حکموا بعدم وجوب الاعادة، غایته استحبابها مع الاشکال فی الحکم به جزما أیضا، تمسکا بما قد مضی تفصیله سابقا من جریان الأصل وقاعدة الاجزاء والبدلیة، والتعلیل المذکور فی الأخبار باتحاد رب الماء والتراب، وأنّه فعل أحد الطهورین، بل یدلّ علیه اطلاق معقد الاجماع علی أنّه إذا أتی بتیممٍ صحیحٍ فلا وجه للاعادة، لأنّ الامتثال أو السقوط یتحقق باتیان فرد من الطبیعة صحیحا، المطابق للعقل والنقل، فلا یبقی هنا وجه للحکم بالاعادة إلاّ وجود هذین الخبرین حیث أنّ الأوّل منهما موثق والثانی عن الشیخ فی العدّة: «الاجماع مع العمل بما یرویه» فلابدّ من الببحث عن محمل لتوجیههما وهو عبارة عن أحد أمور:

1_ إمّا بما فی «وسائل الشیعة» من احتمال کون مورد الروایة هو کون الخروج متعسّرا لا متعذّرا، فحینئذٍ تجب الاعادة، حیث یرجع نتیجة هذا الکلام إلی عدم صحة التیمم فی هذا الحال.

ولا یخفی انّه خلاف لظاهر الروایة من کون التیمم وقع صحیحا.

2_ أو أنّ وجه الاعادة هو وقوع الصلاة مع العامة، فلا یصحّ الاعتماد والاکتفاء بها، فتجب الاعادة خصوصا مع ملاحظة أن الجماعة فی تلک الأزمنة من الجمعة وغیرها کانت بإمامتهم، کما یؤید ذلک صحیحة زرارة، قال: «قلت لأبی جعفر علیه السلام : إنّ إناسا رووا عن أمیرالمؤمنین علیه السلام أنّه صلّی أربع رکعات بعد الجمعة لم یفصل بینهنّ بتسلیم؟ فقال: یا زرارة إنّ أمیرالمؤمنین صلّی خلف فاسق فلما سَلّم وانصرف قام أمیرالمؤمنین علیه السلام فصلّی أربع رکعات لم یفصل بینهن بتسلیم، فقال له رجل إلی جنبه: یا أبا الحسن علیه السلام صلّیت أربع رکعات لم تفصّل بینهن؟! فقال: أمّا أنّها أربع رکعات مشبّهات، فسکت فواللّه ما عَقَل ما قال له»(1).


1- وسائل الشیعة: الباب 29 من أبواب صلاة الجمعة، الحدیث 4.

ص:372

حیث یدلّ علی عدم الاکتفاء بتلک الصلاة التی صلّی مع امامهم الفاسق من الجمعة ثمّ صلّی الظهر مع کونه فی عصر حضور الامام، والتزمنا بأنّ صلاة الجمعة واجبة عینیه مع حضوره، ومن الواضح أنّه مع صحّة الجمعة ووجوبها عینیا لا وجه للاعادة، فاعادتها تفید أنّ الصلاة معهم لم تکن صحیحة فیجب الاعادة،.

کما قد یؤیّد کون الصلاة وقعت مع العامة ما جاء فی الروایة بقوله: «أو یصلّی معهم» فالقول بالاعادة کان لأجل ذلک.

نعم، لو کان فی زمن الغیبة وقلنا بالوجوب التخییری بین الجمعة والظهر، صحّ الحکم باعادة الظهر إذا فرض الاضطرار لأجل التقیة فی الجمعة، لأنّه مقتضی الحکم التخییری من أنّه إذا خرج أحد فردیة عن الاختیار یتعین الواجب فی الفرد الآخر وهو الظهر هنا.

لا یقال: إنّ الأمر إذا کان کذلک _ بأن تکون الصلاة غیر صحیحة مع بقاء الوقت للاعادة، أو لوجود فرد آخرٍ اختیاری _ فلماذا حکم بالتیمم والصلاة معهم، مع امکان الأمر بالصلاة معهم صورةً بلا تیمم ثمّ الاعادة مع بقاء الوقت.

لانّا نقول: بامکان أن یکون الاتیان بالصلاة بلا طهارة أصلاً فی الظاهر والصورة مبغوضا شرعا، لأجل ما ورد فی الحدیث عن الصدوق باسناده عن مسعدة بن صدقة: «إنّ قائلاً قال لجعفر بن محمّد علیه السلام : إنی أمّر بقوم ناصبیّة وقد أقیمت لهم الصلاة وأنا علی غیر وضوء، فإن لم أدخل معهم فی الصلاة قالوا ما شاءوا أن یقولوا، فاصلّی معهم ثمّ أتوضّأ إذا انصرفت وأصلّی؟ فقال جعفر علیه السلام : سبحان اللّه! أما یخاف من یُصلّی علی غیر وضوء أن تأخذه الأرض خسفا»(1).

حیث یدلّ بظاهره ممنوعیة الاتیان بصورة الصلاة وإنْ کانت باطلة باعتقاد صاحبها فاقدة للطهارة.


1- وسائل الشیعة: الباب 2 من أبواب الوضوء، الحدیث 1.

ص:373

وعلیه، فالوضوء حیث کان هنا معتذرٌ فلابدّ أن ینتقل إلی التیمم.

فاذا حُکم بالاعادة فی زمن حضور الامام الذی یجب فیه الجمعة، لوقوع الصلاة خلف الفاسق، ففی زمن الغیبة الذی یکون وجوبها تخییریا بنیها وبین الظهر التزمنا بأفضلیتها أو قلنا بشرعیتها، کان وجوب الاعاة باتیان الظهر أولی، لأنّه أحد فردی التخییری.

نعم، التعبیر بالاعادة مع عدم کونها جمعة عند الاعادة لا یخلو عن نوع من المسامحة والتجوّز.

هذا مضافا إلی انضمام یوم عرفة الیها، حیث لا تکون الصلاة فیه إلاّ لظهر إلاّ أن یصادف یوم عرفة الجمعة.

وعلیه، فاطلاق الحکم بالاعادة علی النحو المطلق لا یخلو عن حسن حقیقة، کما لا یخفی علی المتأمّل.

3_ أو أنّ وجه الاعادة بالحمل علی الاستحباب، جمعا بین الحکم بصحة التیمم والصلاة معهم ولو تقیةً، وبین الحکم بالاعادة، غایته یکون مندوبا.

وحینئذٍ نواجه اشکال کیفیّة بقاء الحکم بذلک جزما، لانّه:

إن کانت الصلاة معهم صحیحة واقعا فلا وجه للاعادة ولو ندبا، خصوصا مع ملاحظة عدم مشروعیة الجمعة فی عصر الغیبة، ولو سلّمنا حکمه فی عصر الحضور فیما لو انعقدت الجمعة صحیحةً لا مطلقا، لأنّ الفرض وجوب الجمعة تعیینیّا مع عدم تحقق شروطها أوّل الکلام.

وإنْ لم تکن الصلاة حینئذٍ معهم صحیحة، فلا وجه لاستحباب الاعادة، تکون واجبة، لانّه لم یأت بوظیفته من الجمعة فیجب علیه الاعادة ظهرا.

وکیف کان، فالحکم بالاعادة احتیاطا برجاء المطلوبیة لا یخلو عن وجهٍ وجیه، واللّه العالم.

ص:374

قوله: وکذا مَن کان علی جسده نجاسة ولم یکن معه ماء لازالتها، والأظهر عدم الإعادة(1)

(1) ومن الموارد التی قیل بوجوب اعادة الصلاة المأتی بها مع التیمم، هو من کان علی جسده أو علی ثوبه _ کما فی «النهایة» و«المبسوط» _ نجاسة ولم یکن معه ماءٌ للازالة، ولکن المصنّف اختار عدم الاعادة فی جمیع ما تقدّم من الفروض، بقوله: «والأظهر...» حتّی المورد بعد ما تمکّن من الماء.

وجه عدم الاعادة: هو ما عرفت من عمومات أدلة التیمم والأصل وقاعدة الاجزاء والتعلیل المستفاد من الحکم المعلّل به، واطلاق ما دلّ علی عدم الاعادة من الأخبار، ومعقد الاجماع، خصوصا لو قصد الخصم الاعادة حتّی لصورة القضاء، خصوصا مع اعراض الأصحاب عن ما قیل حیث لا یکون مستنده الاّ روایة وهی موثقة عمّار الساباطی، عن أبی عبداللّه علیه السلام : «أنّه سُئل عن رجل لیس علیه الاّ ثوب ولا تحلّ الصلاة فیه، ولیس یجد ماءً یغسله کیف یصنع؟ قال: یتیمّم ویُصلّی فاذا أصاب ماءً غسله وأعاد الصلاة»(1).

حیث حکم بالاعادة بعد وجدان الماء، فإنّ وجوب غسل ثوبه أو جسده مثلاً بعد الوجدان یکون بالاوّلویة، لأنّ الثوب یمکن نزعه ولا خوف فی نزعه، بخلاف الجسد النجس حیث لا یستطیع ازالة النجاسة عنه مع فقد الماء، ولعلّ لذلک ذکر المصنّف الجسد دون الثوب، والاّ کان الأولی علیه ذکر الثوب النجس وفقا للروایة، وإنْ کان لابدّ فی الثوب من فرض عدم تمکنه من النزع لأجل خوف المرض، کما اشار الیه صاحب «الجواهر» قدس سره .

وکیف کان، هذه الروایة لا تستیطع المعارضة مع الأدلة السابقة الدالة علی


1- وسائل الشیعة: الباب 30 من أبواب التیمّم، الحدیث 1.

ص:375

قوله: الثالث¨ یجب علیه طلب الماء، فإن أخلّ بالطلب وصلّی ثمّ وجد الماء فی رحله أو مع أصحابه، تطهّر وأعاد الصلاة (1)

قوله: الثالث من عدم الماء وما یتیمّم به لقیدٍ أو حبس فی موضعٍ نجس: قیل یصلّی ویعید. وقیل یؤخّر الصلاة حتّی یرتفع العذر، فإنّ خرج الوقت قضی. وقیل یسقط الفرض أداءا وقضاءا وهو الأشبه (2)

عدم وجوب الاعادة، لما قد عرفت من اعراض الأصحاب عنها، مع أنّ الروایة ظاهرة فی أنّ الاعادة لأجل نجاسة الثوب لا لفقد الماء المجوّز للتیمم، کما استظهره فی «المنتهی» عن الشیخ بأنّ الاعادة مختصة بصورة تمکّنه من غسل الثوب خاصة، لا لأجل تمکنه من الماء للتطهیر، مضافا إلی عدم اعادته لفقد الماء

(1) الموجب للتیمم، وهو الذی قد عرفت بحثه فیما سبق. وعلیه فاطلاقه یشمل هذه الصورة، ولذلک فإنّ ضمّ عدم امکان غسل ثوبه الیه لا یوجب تغییر حکمه بالنسبة إلی ذلک.

هذا، مضافا إلی أنّ الحکم بالاعادة مع النجاسة معارضٌ مع صریح صحیح محمد بن مسلم فیمن أجنب وتیمّم بالصعید ثمّ وجد الماء، قال: «لا یعید» معلّلاً بأنّ ربّ الماء هو ربّ التراب. حیث أنّ الجنابة مقرونة بالنجاسة غالبا، واحتمال کونه طاهرا وفاقدا للماء للغُسل فقط نادرٌ جدا فلا یصار الیه.

وبالجملة: نبتت مما ذکرنا أنّ الحکم فیمن تیمّم لخصوص الغُسل بعد فقد الماء هو عدم وجوب الاعادة، غایته استحبابها مع ما عرفت فیه من الاشکال فی الجزم به أیضا، وکیف کان فالأحوط هو الاعادة برجاء المطلوبیة. واللّه العال.

(1) وقد تقدم البحث عنه بالتفصیل فیما سبق فلا نعید.

(2) یدور البحث فی هذه المسألة عن حکم فاقد الطهورین الذی ربّما یتفق

ص:376

لشخص قد فقد الماء وما یصحّ أن یتیمّم به، أو کان ذلک علیه متعذرا کالمقیّد الذی لا یقدر علی اتیان شیء منهما، أو حُبس فی مکان نجس وقلنا بعدم جواز التیمم بالنجس حتی مع الاضطرار، فالبحث عن وظیفته حینئذٍ، وفی المسألة أقوال ستّة:

1_ قول بوجوب الأداء بلا طهور ولا یجب علیه القضاء، حُکی هذا القول عن جدّ المرتضی، وإنْ قال فی «الجواهر» إنّه لم یثبت، ولکن نقل صاحب «الحدائق» عن صاحب «التحفة» للسیّد الجزائری تأیید هذا لو لم ینقعد الاجماع علی خلافه، کما یظهر من کلامه لاحقا.

2_ وقول المحکی عن الشیخ فی «المبسوط» من التخییر بین تأخیر الصلاة والاتیان بالقضاء، أو اتیان الصلاة فی الوقت ثمّ الاعادة.

3_ والقول الذی نسبه المحقق فی «الشرایع» إلی القیل، وحکایة هذا النسبة إلی العلاّمة فی «التذکرة»، من أنّه یصلّی فی الوقت من دون طهور، ثمّ یعید فی خارج الوقت مع الطهارة. وفی «الجواهر» وغیره: إنّه لم یعرف قائله.

4_ وقولٌ بسقوط الأداء عنه ویتعیّن علیه القضاء، ونسبه فی «الجواهر» إلی الأشهر بین المتقدمین والمتأخرین، بل إلی المشهور، واختاره بنفسه وکذا فی «العروة» وأکثر أصحاب التعلیق.

5_ وقول بسقوط الصلاة رأسا اداءً وقضاءً، وهو مختار المحقّق فی «الشرایع» و«المعتبر» والعلاّمة فی جملة کتبه، والمحقق الثانی وغیرهم.

6_ وقول بالسقوط أیضا إلاّ أنّ علیه أن یذکر اللّه تعالی فی أوقات الصلاة کالحائض، وهو المحکی عن الصدوق فی رسالته إلی ولده، وأبی العباس فی صلاة موجزه، والصّمیری فی طهارة «کشف الالتباس»، ونفی عنه البأس فی «کشف اللّثام» حیث أنّه یظهر ممّن سبق عن «کشف اللّثام» وجوب ذکر اللّه، ومنه یفهم الندب.

ص:377

هذه هی الأقوال فی المسألة.

دلیل القول المشهور: استدلّ المشهور علی سقوط الأداء ووجوب القضاء بأمورٍ:

أمّا للأوّل: وهو سقوط الأداء _ فبعد کونه ظاهر الأصحاب کما عن «جامع المقاصد» و«الروض»، بل عن «المدارک»: «أنّه ظاهر الأصحاب ولا نعلم فیه مخالفا صریحا» _ أنّه مقتضی قاعدة انتفاء المشروط بانتفاء شرطه، خصوصا بعد ملاحظة ما ورد فی صحیحة زرارة بأنّه: «لا صلاة الاّ بطهور»(1) حیث ینفی الماهیة مع انتفاء الطهارة.

توضیح ذلک: إنّه قد قرّر فی محلّه أن الأصل والقاعدة أوّلاً هو انتفاء المرکّب والمشروط بانتفاء أحد أجزائه أو أحد شرائطه، لأنّ الأصل فی کلّ ما یعتبر فی شیء هو الرکنیّة المستلزم انتفائه انتفاء ما یعتبر فیه، وهذا فی المقام الثبوت مسلّم انّما الکلام یکون فی مقام الاثبات، فنقول:

قد یقال هنا: بأن دلیل شرطیة اطلاق أی دلیل الذی یثبت شرطیة الطهارة الحدثیّة للصلاة له اطلاق یشمل کلا الحالین من الاختیار والاضطرار، حیث یستفاد ذلک من صحیحة زرارة بقوله علیه السلام : «لا صلاة الاّ بطهور» حیث أنّ لسانه لسان الوضع وبیان شرطیة الطهارة، وله ظهور لنفی ماهیّة الصلاة بنفی الطهارة مطلقا، ولو کان للعجز عن تحصیلها، ولیس لسانه لسان الأمر حتّی یقید عقلاً وعرفا بالتمکّن، حیث لا یمکن اطلاقه لصورة العجز عن الاتیان، لاستلزامه التکلیف بالمحال، بل هو تکلیف محالٌ أی لا یمکن أن یصدر عن الحکیم کذلک، ولازمه سقوط الفریضة مع فقد الطهارة لأجل هذه الصحیحة.


1- وسائل الشیعة: الباب 1 من أبواب الوضوء، الحدیث 1.

ص:378

لا یقال: إنّ مقتضی ذلک هو سقوط الصلاة بالعجز عن القبلة أو الفاتحة، لأنّه قد ورد بهذه الفقرة فیهما بقوله: «لا صلاة الاّ بفاتحة الکتاب» مع أنّ الاجماع قائم علی أنّه لا تسقط الفریضة بانتفاء الفاتحة.

لأنا نقول: وإن کان مقتضی الأصل والقاعدة فیهما أیضا کذلک کالطهارة، إلاّ انّه ورد دلیل اجتهادی آخر علی عدم سقوط الصلاة بترکها، فیوجب الانصراف عن نفی الماهیّة إلاّ فی حال العمد، فلا یشمل صورة السهو والنسیان والعجز، کما بیّن فی محلّه.

أقول: هذا کلّه بحسب مقتضی الأصل الأوّلی والقاعدة، ولکن لابد أن یلاحظ هنا وجود بعض ما یدلّ علی خلاف ذلک، وهو لیس الاّ دلیلین: أحدهما قاعدة المیسور، والثانی روایة: «الصلاة لا تسقط بحال» أو «لا تترک».

فامّا الأوّل: فمردودٌ أوّلاً بأنّه منوط بالقول بتعمیم القاعدة للشرائط أیضا وعدم اختصاصها بالاجزاء کما علیه بعض الفقهاء.

وثانیا: إنّه موقوفٌ علی صدق المیسور علی الصلاة الفاقدة للطهارة عرفا عند الشرع والمتشرعة، وهو أوّل الکلام، لما قد عرفت أن تشخیص الموضوع والمصداق منوط بفهم الأصحاب ذلک، وقد ثبت آنفا ذهاب الأصحاب إلی سقوط الأداء بلا طهارة.

وثالثا: إنّ جریان هذه القاعدة هنا _ علی فرض تسلیم شمولها للشرایط والتسلیم لصدقها عرفا _ مشکلٌ لاحتمال نفی أصل الصلاة ماهیةً، فحیث لا صلاة فلا معنی للأخذ بمیسورها، وقد عرفت دلالة دلیل «لا صلاة الاّ بطهور» علی ذلک، فلا یبقی حینئذٍ مجالٌ لجریان القاعدة.

ومن ذلک یظهر عدم جواز التمسک بحدیث: «لا تترک الصلاة بحال» أیضا، لأنّه فرع کونها صلاة، فاذا انتفی کونها صلاة فلا معنی لتوجیه الخطاب الی الفاقد

ص:379

بأنّه (لا تترک بحالٍ) ومقتضی لسان دلیل لا صلاة حکومته علی دلیل (الصلاة لا تترک بحال) لأنّه رافع لموضوعه، بل قد یطلق علی مثل ذلک عنوان الورود لا الحکومة.

أقول: یجب التبیه الی أنّه لو کان الأمر کذلک، لزم منه نفی صلاة المهدوم علیه والغرقی إذا لم یکن لهما طهارة، حیث انّه لا یمکنهما الاتیان بالصلاة حینئذٍ، مع أنّ القائلین بوجوبها علیهما یقولون اعتمادا علی هذا الخبر بل وفتوی الفقهاء بأنّ الصلاة لا تترک بحال، فاخراج مثل ذلک عن قاعدة (لا صلاة الاّ بطهور) یوجب صرف القاعدة عن اطلاقها إلی صورة التمکّن من الاتیان بالطهارة لا مطلقا حتی یشمل مثل ما نحن فیه وصلاة الغرقی والمهدوم علیه، ولأجل ذلک یقولون إنّ لسان دلیل (الصلاة لا تترک بحال) یأبی عن التخصیص فیؤخذ به ویحکم بوجوب الاداء ولو بلا طهارة.

اللّهمّ الاّ أن یقال: إنّ ذلک صحیح لو لم نقل بوجوب القضاء علیه، والاّ لکان عاملاً بهذا الدلیل. نعم هذا یرد علی من قال بالسقوط مطلقا، حیث لا یناسب مع اطلاق هذا الدلیل، فاثبات حکم وجوب الأداء مع دلیل (الصلاة لا تترک بحال) لا یخلو عن تأمّل هذا.

ولکن یمکن أن یناقش علی ذلک أیضا: بانّه کان الأولی فی الموردین _ صلاة الغرقی والمهدوم علیه _ أن لا تکون الصلاة علیهما واجبة فی حال فقدهما الطهارة الاّ قضاءً بعد النجاة، مع أنّه مخالف للاطلاق الفقهاء من ایجاب الصلاة علیهما ولو بالاتیان فی قلبهما فی تلک الحال، ولأجل ذلک کتبنا فی تعلیقتنا علی «العروة» و«تحریر الوسیلة» بالاحتیاط وجوبا باتیانها أداءً ثمّ القضاء، فلا حاجة حینئذٍ للرجوع إلی الأصل العملی، لانّه قد استفدنا الحکم من الدلیل الاجتهادی، ولا یفرق الحال مع التمسک به بین القول بما ذکرنا من وجوب الاتیان اداءً أو قلنا

ص:380

بفتوی المشهور من سقوط الأداء، لأنّهم یتمسّکون بدلیل (لا صلاة الاّ بطهور) وهو دلیل اجتهادی کما لا یخفی.

نعم، لو لم نقل بما قلنا اعتمدناه وأردنا الرجوع إلی الأصل العملی والاستناد الی الدلیل الفقهاهتی، یأتی الکلام هنا فی أنّ الأصل هو البراءة أو الاستصحاب، ومن المعلوم أنّه لو کان المورد من موارد جریان الاستصحاب لتقدّم علی البراءة لکونه من الأصول المحرزة.

وتقریب البراءة هنا هو أن یقال: إنّ مصبّ البراءة:

قد یکون وجوب الشرط المشکوک شرطیته علی الاطلاق،

وقد یکون مصبّها مصبّها اطلاق شرطیته بکونه مرفوعا بالبراءة، ویحکم بعدم شرطیته عند العجز عنه،

أو یجعل مصبّها وجوب المشروط بعد تعذر شرطه.

امّا الأوّل: فلا اشکال فی عدم جریان البراءة فیه للقطع بسقوط الوجوب عند التعذر، ولا عقوبة علیه، فلا شک فیه حتی نرجع إلی أصل البراءة کما هو واضح. مضافا إلی أنّ العقوبة لو کانت، فهی لترک المشروط لا لترک الشرط من حیث هو نفسه.

وأمّا الثانی: وهو اجراء البراءة فی شرطیّة الشرط فی حال التعذر، فهو أیضا مردود، لوضوح أن البراءة المستفادة من حدیث الرفع وغیره وردت للامتنان والتوسعة علی المکلف لا التضیق، وفی المقام لو جرت لزم منه وجوب الصلاة علیه مع فقد الطهارة، وعدم سقوط التکلیف عن فاقد الطهورین، وهو خلف.

وأمّا الثالث: وهو نفی وجوب المشروط مع تعذّر شرطه، فهی تجری بلا مانع من حیث نفسها، لکن بشرط أن لا یکون فی المقام أصلٌ حاکم علیها وهو الاستصحاب، وهو ربّما یکون موجودا بأحد التقدیرین:

1_ امّا بأن یجعل المورد من قبیل الاستصحاب الثالث من القسم الثالث من

ص:381

أقسام الاستصحاب الکلی، وهو ما إذا کان الشک فی تبدیل الفرد الموجود بفردٍ آخر من الکلی المشکّک کالالوان، وهنا یکون کذلک بل أظهر، لأنّ الوجوب المتعلق بالبقیّة بعینه هو الوجوب المتعلق بالکلّ، والاستصحاب فی مثله جارٍ بلا اشکال کما قُرّر فی الأصول، ولازمه وجوب الصلاة اداءً الفاقد الطهورین.

2_ أو یقال من باب التسامح فی المصداق _ علی حسب ما یتسامح فیه _ عند الشک فی بقاء الکر.

ولکن هذا لا یخلو عن نقاش، لامکان الاشکال فیه بتبدّل الموضوع مع فقد شرطه، فلا یمکن الحکم بالبقاء.

وکیف کان، فالعمدة فی الدلیل هو ما عرفت من عدم وصول النوبة إلی الأصل، والاّ کان الحکم هو وجوب الاداء علیه بلا طهارة، ولذلک قلنا بالاحتیاط وأن علیه الأداء ثمّ الاعادة.

أقول: یبقی هنا اشکال وهو أنّه علی فرض الحکم بلزوم الاتیان بلا طهور فی الوقت، یوجب ذلک تحقّق الخبر الذی رواه الصلاة بلا طهور، وربّما تکون مثل هذه الصلاة محرّمة کما یوهم ذلک ما ورد فی الخبر الذی رواه مسعدة بن صدقة أنّ قائلاً قال لجعفر بن محمّد علیهماالسلام : «جعلت فداک إنّی أمّر بقوم ناصبیّة وقد اقیمت لهم الصلاة وأنا علی غیر وضوء، فإن لم أدخل معهم فی الصلاة قالوا ما شاءوا أن یقولوا، أفاصلّی معهم ثُمّ أتوضأ إذا انصرفت وأصلّی؟

فقال جعفر بن محمد علیه السلام : سبحان اللّه! أفما یخاف من یصلّی من غیر وضوء انّ تأخذه الأرض خسفا»(1).

فکیف یمکن الحکم بجواز الصلاة بلا طهور فی المقام! ولعلّه لذلک ذهب المشهور إلی سقوط الأداء.


1- وسائل الشیعة: الباب 2 من أبواب الوضوء، الحدیث 1.

ص:382

ولکن یمکن أن یجاب عنه: بأنّه علی فرض قبوله یمکن أن یکون فیما یمکن للمصلّی تحصیل أحد الطهورین، فلا یشمل منعه لمثل ما نحن فیه الذی کان مضطّرا، کما لا یشمل لمثل المهدوم علیه والغرقی حیث لا محیص لهم الاّ ذلک، لو لم نقل بسقوط الأداء عنهم تمسکا باطلاق دلیل: «لا تترک الصلاة بحال»کما عرفت تفصیله، هذا اوّلاً.

وثانیا: لو سلّمنا دلالته علی الحرمة، فإنْ کانت حرمته أصلیّة ذاتیّة، فلا یجوز الاتیان به بلا طهور ولو احتیاطا، بخلاف ما لو کانت تشریعیّة محضة حیث ترتفع للاحتیاط قطعا، ونحن نقول بذلک فی المقام، وعلیه فتکون المناقشة مندفعة، واثبات الحرمة الذاتیّة یصیر فی غایة الاشکال.

وأیضا: أورد علی القول المشهور من سقوط الأداء اعتمادا علی الاطلاق _ فی شرطیة الطهارة للصلاة مطلقا، أی فی حالتی التمکن وعدمه _ فی دلیل (لا صلاة إلاّ بطهور) أنّه یلزم صیرورة الصلاة واجبا مشروطا، لأن سقوط الصلاة اداءً حینئذٍ لیس الاّ من جهة فقد شرط الوجوب وهو الطهارة، والحال أنّه مخالفٌ للاجماع کما قرّر فی الأصول من أنّ وجوب الصلاة بالنسبة إلی الشرائط _ کالستر والاستقبال والطهارة _ مطلقٌ، ولأجل ذلک قال المحدّث الجزائری فی «رسالة التحفة»: «والأولی إن لم ینعقد الاجماع علی خلافه وجوب الصلاة اداءً من غیر إعادة، لأنّ الطهارة شرط فی صحة الصلاة لا فی وجوبها، فهی کغیرها من الساتر والقبلة وباقی شروط الصحة إنّما تجب مع امکانها، والاّ لکانت الصلاة من قبیل الواجب المقیّد کالحج، والأصولیّین علی خلافه» انتهی کما فی «مصباح الفقیه» حکایته.

واُجیب عنه: _ کما فی «مصباح الفقیه» _ بأنّ القدرة علی الایجاد شرط فی

ص:383

حسن الطلب، وعدم اشتراط التکلیف بمقدماته الوجودیة لیس معناه أنّه یجب ایجاد المأمور به بغیر تلک المقدمات، بل معناه أنّه یجب ایجاده مع مقدماته بشرط القدرة علیه، فمقتضی القاعدة الأولیة سقوط التکلیف بالمرکّب عند تعذّر شیء من اجزائه وشرائطه) انتهی کلامه فی «المصباح»(1).

أقول: إنّ کلام المجیب حسنٌ، الاّ أن یثبت وجوب الاتیان أداءً إمّا بقاعدة المیسور وقد عرفت اشکالها، أو بدلیل (لا تترک الصلاة بحال) وقد عرفت تحقیقه واحتمال شموله للمقام، فلا نعید.

هذا کله الکلام فی الاداء.

وأمّا القضاء:

فهو تارةً: یلاحظ مع من حکم بوجوب الأداء وعدم سقوطه، فالحکم بعدم الوجوب واضحٌ، لعدم صدق الفوت حتّی یجب علیه القضاء بل حتّی إذا أتی بفرد اضطراری، لجریان قاعدة الاجزاء وحصول الامتثال وسقوط الأمر به.

وأخری: علی القول بسقوط الأداء وعدم وجوبه:

فإن کان منشؤه انتفاء ملاکه بعدم القدرة علی الطهارة، فینبغی القول بسقوط القضاء أیضا کالحائض والنفساء والمجنون.

وان کان منشؤه عجز المکلّف عن تحصیل ملاکه لا سقوط أصل الملاک، فاللازم حینئذٍ ثبوت القضاء علیه کالنائم والساهی وکما فی صوم الحائض.

هذا بحسب مقام الثبوت.

وأمّا بحسب مقام الاثبات فالظاهر أنّ شرط الطهارة له دخیلٌ فی تحصیل الملاک فقط لا فی الملاک نفسه، وإلاّ کانت الطهارة شرطا من شرائط الوجوب،


1- مصباح الفقیه، ج 6، ص 334.

ص:384

قوله: الرابع: إذا وجد الماء قبل دخوله فی الصلاة تطهّر(1)

فلا یجب تحصیلها عند انتفائها، وهو مخالفٌ للضرورة والاجماع ومدلول الأخبار، وحینئذٍ یصحّ لاثبات الوجوب فی القضاء التمسک بکلّ ما یدلّ علی وجوبه عند فوت الأداء، ولا یحتاج فی اثباته إلی التمسک بکون القضاء واجبا بنفس الدلیل الدالّ علی وجوب الاداء علی نحو تعدد المطلوب، ضرورة فساده بما قد حُقّق فی مباحث الأصول من الاحتیاج فی اثبات وجوبه إلی أمر جدید، وإن کان بعد ثبوته بالأمر الجدید یکون الأمر بالقضاء کاشفا عن تعدد المطلوب فی الأمر الأوّل، هذا مضافا إلی قیام الأخبار الدالة علی وجوب القضاء إذا صدق علیه الفوت، کما وردت هذه الأخبار فی الساهی والنائم.

وحیث التزمنا احتمال وجوب الأداء من باب الاحتیاط لا جزما، فلأجل ذلک نقول بوجوب الاتیان بالقضاء احتیاطا أیضا تحصیلاً للبراءة الیقینیّة عمّا هو وظیفته فی المورد.

وبالجملة: ظهر من جمیع ما قرّرنا عدم إمکان المساعدة مع ما علیه المشهور من سقوط الأداء ووجوب القضاء علیه فقط، بل المختار هو القول الأوّل

(1) الذی بیّناه، الاّ أنّ الفرق بیننا وبینه بالاحتیاط والفتوی.

کما لا یمکن المساعدة مع ما اختاره المحقّق فی «الشرایع» من السقوط فیهما تمسکا بالأصل والتبعیّته فی القضاء للأداء، اذ قد عرفت انقطاع الأصل بالدلیل الاجتهادی، وعدم ثبوت التبعیّة هنا کما لا یخفی.

کما لا یمکن قبول ما اختاره الصدوق فی رسالته إلی ولده من ایجاب ذکر اللّه تعالی علیه مقدار الصلاة، والاکتفاء به عن الأداء والقضاء، لأنّه لا معنی لذلک بعد

ص:385

ما أوجبنا الأداء والقضاء علیه، مضافا إلی عدم وجود دلیل یدلّ علی استحبابه فضلاً عن وجوبه، فبذلک یتمیّز عن الحائض لقیام الدلیل فیها دون المقام، فالحمدللّه کما هو أهله ومستحقّه.

(1) قلنا لا اشکال فی انتفاض التیمم بوجدان الماء وزوال العذر قبل الدخول فی الصلاة، مع مضیّ مقدارٍ من الوقت یمکن تحصیله والصلاة معه فی الوضوء والغسل، لأنّه القدر المتیقن لشمول الأدلة له، وکونه معقد اطلاقات الاجماعات المحکیة، فلا یجوز الاتیان بالصلاة مع ذلک التیمّم، إلاّ أن یجدّده، وهو ثابت لم یحک فیه الخلاف الاّ من بعض العامّة کالشعبی وأبی سلمة کما فی «التذکرة»، وهذا حکم ثابت لا کلام فیه.

أقول: والذی ینبغی أن یتکلّم فیه، هو ما لو وجد الماء وزال العذر قبل الصلاة، وقبل أن یمضی مقدارا من الوقت یتمکن فیه من الاستعمال ثمّ لم یتمکن إمّا لفقد الماء أو لوجود العذر عن استعماله، فهل یوجب ذلک انتفاض التیمم حتی لابدّ حینئذٍ له من تجدید التیمم للصلاة ونحوها أم لا؟ فیه وجهان بل قولان:

1_ قول بوجوب الاعادة، وهو المحکی عن ظاهر «المنتهی» و«المدارک» والذخیرة والکاشانی فی «المفاتیح» و«الغنائم».

واستدلّوا له: باستصحاب بقاء شغل الذمة بالعباده لو اکتفی بذاک التیمم واتی بالصلاة، وباطلاق بعض الأخبار.

منها: صحیح زرارة، بقوله: «یصلّی بتیممٍ واحدٍ صلاة اللیل والنهار؟ قال: نعم ما لم یحدث أو یصب الماء»(1).


1- وسائل الشیعة: الباب 19 من أبواب التیمّم، الحدیث 1.

ص:386

ومنها: خبر الدعائم: «إذا مرّ بالماء أو وجده انتقض تیمّمه»(1).

فان اطلاق الانتفاض بمجرد وجدان الماء یوجب کون الحکم کذلک، هذا.

وفیه: الانصاف والدقّة یوجبان صرف الذهن عمّا قالوا بأن یکون المراد من (الوجدان) بحسب الغالب مشیرا إلی ما هو المتعارف فی الخارج من التمکن فی الاستعمال لا مطلق الوجدان، کما یؤید ذلک ما ورد فی تفسیر عدم الوجدان فی الآیة المبارکة من کونه عبارة عن عدم التمکن من الاستعمال ولو مع وجود الماء، ولذلک یفتی بالتیمم فی المریض وما لا یقدر علی التیمم من حیث الاستعمال تمسکا بهذه الآیة، من کونه ممّن لم یجد الماء.

مع أنّه لو سلمنا وجود الاطلاق فی الوجدان، فهو یقیّد بالأخبار الدالة علی لزوم وجود التمکّن والقدرة فی الاستعمال فی الانتفاض، مثل خبر أبی أیوب، عن الصادق علیه السلام فی ذیل الحدیث، قال: «قلت: فیصلّی بالتیمم صلاة أخری؟ قال علیه السلام : إذا رأی الماء وکان یقدر علیه انتقض التیمم»(2).

فکما أنّ جواز التیمم لا یحصل الاّ عدم التمکّن فکذلک تکون ناقضیته.

وامّا ما تمسکوا به من استصحاب بقاء شُغل الذمّة بالنسبة إلی الصلاة بعد وجدان الماء.

ففیه أوّلاً: انّه لا موقع لجریان الأصل بعد وجود دلیل اجتهادی کما عرفت.

وثانیا: إنّه محکوم باصالة بقاء الطهارة الحاصلة بالتیمم قبل الوجدان، خصوصا علی ما اخترناه من کون التیمم رافعا للحدث ومحصّلاً لمرتبة من الطهارة، بل ومع الشک فی رجوع الحدث بالوجدان دون القدرة علی استعمال،


1- المستدرک، ج 1، الباب 14 من أبواب التیمم، الحدیث 2.
2- وسائل الشیعة: الباب 19 من أبواب التیمّم، الحدیث 6.

ص:387

وعلیه فالأصل یقتضی عدم الرجوع، وأنّ الاستصحاب باق إلی أن یحصل القطع بزواله، والقدر المتیقن هو الوجدان مع تمکن استعمال، فاذا ثبت أن الوجدان بالنحو المطلق غیر ناقضٍ ثبت أنّه لابدّ أن یکون مع التمکن من الاستعمال والاّ لا ینتقض.

ولا فرق فی أن عدم التمکن:

1_ کان لأجل ضیق الوقت عن تحصیل الطهارة المائیة، حیث یکون الامتناع عن تحصیله شرعیا، وعدّ الممتنع الشرعی کالممتنع العقلی فی عدم ناقضیته، بناءً علی ما اخترناه من وجوب الصلاة علیه، فما فی «المدارک» حیث جعل اطلاقهم وجوب التطهیر هنا مؤیدا للقول بعدم مشروعیة التیمم للضیق، یکون فی غیر محلّه، لوضوح عدم صدق الوجدان الناقض بمثل ذلک الوجدان.

نعم، لو لم نقل بوجوب الصلاة علیه فی تلک الحال، اتّجه القول بعدم مشروعیة التیمم.

2_ أو کان عدم تمکنه لتضرّره به، أو کونه مغصوبا، أو کان متمکنا ولکن قصر زمانه عن الاتیان بتمام الغُسل أو الوضوء ونحو ذلک، حیث لا یصدق مع وجود مثل هذه الأمور أنّه قادر، بلا فرق فی الأخیر بین ما یعلم من أوّل الأمر قصر زمانه عن الاتیان، أو ظهر ذلک له فی الاثناء بأن تخیّل کفایته ثمّ ظهر الخلاف، حیث لا یوجب الحکم الظاهری بالانتفاض فساد التیمم بحسب الواقع، کما أنّ الأمر کذلک فی عکسه أی إذا تخیّل عدم قصر الزمان عنه ثم انکشف الخلاف، فإنّه ینتقض به التیمم.

نعم، مع الشک فی الانتفاض یصحّ التمسک باستصحاب البقاء والتیمم حتّی یقطع بالزوال.

نعم، إذا وجد الماء وتمکّن من الاستعمال عقلاً وشرعا وقصّر فیه حتی تجدّد العذر الشرعی أو العقلی، فلابد له حینئذٍ من تجدید التیّمم، لانّه قدا نتقض مع

ص:388

قوله: وإن وجده بعد فراغه من الصلاة لم تجب الاعادة (1)

حصول الماء والتمکن منه، وعروض العذر له ثانیا لا یوجب کفایة التیمم الأوّل له بل قد یقال بلزوم اعادة الصلاة التی أتی بها مع التیمم الجدید مع الطهارة المائیة بعد زوال العذر فی الوقت أو فی خارجه احتیاطا، هذا بخلاف ما لو تجدّد العجز بلا تقصیر منه، فإنّه فی الواقع لم یکن متمکّنا بل قد تخیل ذلک، وقد عرفت أنّه غیر ناقض له، ومع الشک قد عرفت صحة التمسک باستصحاب بقاء التیمم، وإن کان الاحتیاط فی الاعادة ممّا لا ینبغی ترکه.

(1) وذکرنا حکم هذه المسألة فیما سبق من الاختلاف فیمن صلّی مع التیم فی الوقت بظنّ وجود الماء أو الرجاء به، حیث لا یجوز له البدار، بل مع وجدان الماء فی الوقت لابدّ له من الاعادة، خلافا لمن یجوّز البدار فی هذا الحال حیث لا یجب علیه الاعادة کصاحب «الجواهر» وغیره، ولذلک قال هنا: «الأقوی عدم الاعادة».

وأمّا لو وجد الماء بعد الصلاة، وقلنا بعدم اعادتها _ کصاحب «الجواهر» _ فإنّه لا یوجب عدم الانتفاض بالنسبة إلی الصلوات الآتیة، ولو کان الوجدان قبل دخول وقت تلک الصلوات، بل ولو کان فقد الماء بعد دخول وقتها، حیث إنّه لابدّ من تحصیل التیمم لها ولا یکتفی بالتیمم السابق، وذلک لاطلاق النصوص الدالة علی انتفاض التیمم بذلک من دون تقیید له بوجدانه فی الوقت مع ترک الاستفصال فیها، بل قد یدلّ بعض تلک النصوص علی ذلک بالصراحة:

منها: خبر حسین العامری: «عمّن سأله عن رجل أجنب فلم یقدر علی الماء وحضرت الصلاة فتیمّم بالصعید ثمّ مرّ بالماء ولم یغتسل، وانتظر ماء آخر وراء ذلک، فدخل وقت الصلاة الأخری ولم ینته إلی الماء، وخاف فوت الصلاة؟ قال:

ص:389

یتیمم ویصلّی فإنّ تیمّمه الأوّل انتقض حین مرّ بالماء ولم یغتسل»(1).

ومنها: خبر أبی أیّوب عن أبی عبداللّه المروی فی «تفسیر العیاشی» فی حدیثٍ إلی أن قال: «قلت: فإن أصاب الماء وهو فی آخر الوقت؟ فقال: قد مضت صلاته.

وقال: قلت له: فیصلّی بالتیمم صلاةً أخری؟ قال: إذا رأی الماء وکان یقدر علیه انتقض التیمم»(2).

بل وکذا بالاطلاق فی الخبر الذی رواه زرارة عن الباقر علیه السلام فی حدیث: «ویُصلّی بتیمم واحد صلاة اللیل والنهار؟ قال: نعم ما لم یحدث أو یصیب ماءً.

قلت: فأن أصاب الماء ورجا أن یقدر علی ماءٍ آخر وظنّ أنّه یقدر علیه کلمّا أراد فعسر ذلک علیه؟ قال ینتقض ذلک تیممه، علیه أن یعید التیمم»(3).

فان ظاهره کون الانتفاض برؤیة الماء ووجدانه، سواءٌ کان فی الوقت الذی یرید الصلاة فیه أو قبله، وسواءٌ کان الفقدان بعد الوجدان الثانی قبل وقت الصلاة أو بعد دخوله.

أقول: وبذلک یظهر عدم تمامیة ما فی «کشف اللّثام» من أنّه: «لو وجده بعد الفراغ من الصلاة وخروج وقتها، لم یبطل بالنسبة الیها اجماعا، وصحّت بالنسبة إلی غیرها وجدان قبل الشروع، لکنّه قبل وقتها غیر متمکّن من استعماله، فیجری فیه ما یأتی فیمن وجده فی الصلاة ثمّ فقده» انتهی.

لأنّ ذلک فی الصلاة محلّ بحث، إذا کان الوجدان علی حدّ امکان الاستعمال، لانّه إن التزم ببطلانها بمجرد الوجدان فهو أیضا کذلک یحتاج الی تیمّم آخر للصلاة وان لم یلتزم ببطلانها فلکونه ممنوعا شرعا، والمنع الشرعی عن


1- وسائل الشیعة: الباب 19 من أبواب التیمّم، الحدیث 2.
2- وسائل الشیعة: الباب 19 من أبواب التیمّم، الحدیث 6.
3- المصدر السابق، الحدیث 1.

ص:390

الاستعمال یکون کالمنع العقلی فلا یصدق الوجدان علیه کما عرفت، فیکون هذا مثل ما لو وجد الماء مغصوبا حیث أنّ مثله لا یوجب الانتفاض.

لا یقال: علی القول بعدم جواز التطهیر قبل الوقت حتّی للتأهب أو للکون علی الطهارة وإنْ شرع لغیرها، فلا یکون حینئذٍ متمکنا شرعا، فیتساوی مع ما فی الصلاة من الوجدان.

فانّه یقال: بانّه کان متمکنا ولو لغایةً أخری غیر الصلاة، ولم تحصل فیصیر الوجدان حینئذٍ ناقضا لتمکّنه بخلاف من فی الصلاة.

هذا هو الجواب حقیقةً، ولعلّه هو الذی ذکره فی «الجواهر» بأنّ هذا صحیح أو لم یکن فی النقض نفس التمکن من الطهارة فی نفسها وإن لم تکن للصلاة، لأن مجرد التمکّن غیر کافٍ، الاّ أن یرجع إلی ما قلناه، أی التمکن ولو من جهة أخری مثل کونه لغایةٍ من الغایات غیر الصلاة، کما لا یخفی.

أقول: کما یؤید ذلک کلامه بعده بقوله: «بل لا یبعد عدم الاحتیاج فی النقض بعد مضیّ الزمان المذکور إلی تحقّق الخطاب بالطهارة، بل یکفی عدم المنع لو کانت غایة تشرع لها».

ثم یستنتج: أنّه لو فرض التمکّن من الماء مثلاً فی حال عدم قصده غایة من الغایات للطهارة حتّی الکون علی الطهارة، لمنع السیّد أو الوالد انتقض التیمم، إذ لیس مبناه تحقّق الخطاب بها، فینافی التیمم، مع امکان المنع عن جواز کون الماء ممنوعا بمنع السیّد أو الوالد قبل الوقت فی صورة انحصار الماء فیه قبل الوقت، لأنّه حینئذٍ یکون مثل حکم إراقه الماء قبل الوقت مع علمه بعدم وجدانه فیه، حیث لا یجوز، وکذلک مثل منعهما عن الماء فی الوقت حیث لا یوجب صیرورته فاقد الماء حتّی یتیمم، فهکذا یکون الحکم فی ناقضیته کما لا یخفی فکما لا أثر لنهیهما عن الوضوء بعد الوقت کذلک لا أثر له قبله مع فرض الانحصار. واللّه العالم.

ص:391

قوله: وإن وجده وهو فی الصلاة، قیل یرجع ما لم یرکع، وقیل یمضی فی صلاته ولو تلبّس بتکبیرة الاحرام حَسب، وهو الأظهر (1)

(1) وهذه المسألة ممّا اختلف فیها الفقهاء إلی ستة أقوال أو سبعة، ومنشأ الاختلاف اختلاف لسان الأخبار، وعلیه فلابدّ قبل الورود من ملاحظة الأخبار ونسبة بعضها مع بعض، لکن قبل ذلک یجب ملاحظة مقتضی القاعدة الأولیة لو لا الأخبار، فنقول:

ومقتضی ملاحظة ما دلّ علی کون لتمیم هو البدل الاضطراری للعاجز عن استعمال الماء، وما دلّ علی أن وجدان الماء ناقض له کالحدث، هو انتقاضه مطلقا، أی فی أی مورد کان حتی فی أثناء الصلاة، فریضتةً کانت أو نافلة، إلاّ أن ندّعی الانصراف فیما یدلّ علی النقض عمّا یوجد فی الاثناء، أو یدلّ دلیل علی عدم ناقضیة الوجدان فی الاثناء، لکن لازم الانتقاض هو کونه کالمحدث فی الاثناء یعدّ موجبا لبطلان الصلاة ولو کان قبل التسلیم.

لکن العمدة حینئذٍ دعوی وجود أخبار دالة عدم الانتقاض فی الأثناء فی الجملة، وهی علی قسمین:

قسم: یدلُّ صریحا علی التفصیل بین ما لو وجد قبل الرکوع من الرکعة الأولی فناقض، وبین ما بعده فلا:

ومنها: صحیح زرارة المروی فی «الکافی» و«التهذیب» مع اختلاف فی الطرق، فی حدیثٍ قال: «قلت لأبی جعفر علیه السلام : إن أصاب الماء وقد دخل فی الصلاة؟ قال: فلینصرف فلیتوضّأ ما لم یرکع، وإن کان قد رکع فلیمض فی صلاته، فإنّ التیمم أحد الطهورین»(1).


1- وسائل الشیعة: الباب 21 من أبواب التیمّم الحدیث 1.

ص:392

ومنها: خبر عبداللّه بن عاصم، عن الصادق علیه السلام المروی فی «الکافی» و«التهذیب» و«مستطرفات السرائر» نقلاً عن کتاب محمد بن علی بن محبوب، قال: «سألته عن الرجل لا یجد الماء فیتیمم ویقوم فی الصلاة، فجاء الغلام فقال هو ذا الماء؟ فقال: إن کان لم یرکع فلینصرف ولیتوضأ، وإن کان قد رکع فلیمض فی صلاته»(1).

مضافا إلی أنّ الرجوع قبل الرکوع یوافق أصالة الشغل للعبادة، واطلاق النقض بأصالة الماء کاشتراط صحة التیمم بعدم الوجدان، وأولویته من ناسی الاذان والاقامة، وثبوت شرطیة الطهارة المائیة للاجزاء کالجملة، هذا کما فی «الجواهر».

والقائل جملة من المتقدمین والمتأخرین، مثل فی «الجمل» و کذلک فی المرتضی و«المصباح» وشرح رسالته، و«الاصباح» و«المقنع» و«النهایة» والحسن بن عیسی والجُعفی، ومن المتأخرین منهم الاستاذ الاکبر فی «شرح المفاتیح» والعلاّمة الطباطبائی فی «المنظومة» وکذلک صاحب «الجواهر» والسیّد فی «العروة» وأکثر أصحاب الحاشیة علیها.

أقول: لا یخفی أنّ التمسک بغیر الخبرین من الأمور المذکوره _ من أصالة الشغل، واطلاق النقض یوجب اللحکم بالرجوع مطلقا حتّی ولو کان بعد الرکوع، فذکر هذه الوجوه تتمیمٌ و تکمیلٌ لما دلّ علیه الروایتین.

ودعوی: أولویته عمّن نسی الأذان والاقامة، ممّا لا یمکن قبولتها، حیث أنّ الجواز هنا کان بالدلیل والنص، ومع وجودهما لا نحتاج إلی دعوی الأولویة، إذ نقول به ولو لم نقل بالرجوع فی ناسیهما.

وعلیه، فالعمدة فی الاستدلال هما الخبران حیث أنهما تامتی الدلالة، وإنْ کان


1- المصدر السابق، الحدیث 2.

ص:393

مقتضی التعلیل بکون التیمم أحد الطهورین هو کفایته مطلقا لا بعد الرکوع، فخروج صورة قبل الرکوع إنّما هو من جهة خصوص النّص.

القسم الثانی: وهو القول بالصحة مطلقا حتی ولو وجد الماء قبل الرکوع من الرکعة الأولی، بل ولو تلبس بتکبیرة الاحرام فقط.

هذا ما علیه المشهور، وقَبله المصنّف بقوله: «وهو الأظهر» مستدلاً بالشهرة تحصیلاً ونقلاً فی «جامع المقاصد» و«الروض» و«مجمع الفائدة والبرهان»، بل فی «السرائر» الاجماع علیه فی باب الاستحاضة، حیث یستفاد حکم عدم الرجوع بعد الرکوع من الأصل ببراءة الذمة، واستصحاب لصحة استظهارا من الأدلة اشتراط صحة التیمم بعدم الوجدان، کونه لما قبل أن یشرع فی المقصود، ودلیل المنزلة وکفایته عشر سنین بعد الاقتصار علی المتقین من نقض الاصابة لما قبل الدخول فی العبادة، کما یؤید عموم التعلیل ما ورد فی صحیح زرارة بقوله: «لأنّ التیمم أحد الطهورین» وأیضا من التعلیل الذی ورد فی خبر زرارة ومحمّد بن مسلم کما سیأتی، بقوله: «ولکنّه یمضی فی صلاته ولا ینقضهما لمکان انّه دخلها وهو علی طهر بتیمم» مضافا إلی النهی عن ابطال العمل فی قوله تعالی: «وَلاَ تُبْطِلُوا أَعْمَالَکُمْ».

هذا کله، والعمدة فی الدلیل لهذا القول هو وجود أخبارٍ دالة علی الحکم:

منها: مصحّح محمد بن حمران، عن أبی عبداللّه علیه السلام ، قال: «قلت له رجل تیمم ثمّ دخل فی الصلاة وقد کان طلب الماء فلم یقدر علیه، ثمّ یؤتی بالماء حین تدخل فی الصلاة؟ قال: یمضی فی الصلاة، واعلم أنه لیس ینبغی لأحدٍ أن یتیمم الاّ فی آخر الوقت»(1).


1- وسائل الشیعة: الباب 21 من أبواب التیمّم، الحدیث 3.

ص:394

هذه الروایة وإنْ أوهمت دلالتها علی عدم الرجوع بمجرد الدخول، الاّ أنّ ذیلها قرینة علی کونه فی ضیق الوقت، بأن یفرض أنّه لو رجع لما استطاع أن یتطهّر ویصلّی معه فی الوقت، فلا اطلاق لصدرها حینئذٍ لأنّها مذیّلة بما یصلح للقرینة الصارفة عن الاطلاق، أو الحمل علی هذه الصورة لو سلّمنا اطلاقها بشموله لسعة الوقت، وهذا الحمل أولی بمقتضی الجمع بینه وبین الخبرین السابقین، من حمله علی أنّ الاصابة بعد الدخول فی الرکوع من الرکعة الأولی، وان کان اطلاقها قابل للتقیید بواسطة الخبرین الدالین علی التجویز قبل الرکوع، أو الوجوب علی حسب الاختلاف فی الفتوی.

ومنها: صحیح زرارة ومحمّد بن مسلم، قال: «قلت: فی رجلٍ لم یصب الماء وحضرت الصلاة فتیمّم وصلّی رکعتین، ثمّ أصاب الماء أینقض الرکعتین أو یقطعهما ویتوضّأ ثمّ یصلّی؟ قال: لا ولکنه یمضی فی صلاته فیتمها ولا ینقضها لمکان أنّه دخلها وهو علی طهر بتیمّم»(1).

فإّن مورد السؤال هو الاصابة بعد الرکعتین، فیجمع مع الروایتین السابقتین حیث حکما بعدم الرجوع بعد الرکوع من الرکعة الأولی، ونفی الرکعتین فی الاصابة یکون بطریق أولی، غایة الأمر أنّ التعلیل لسانه یعمّم الحکم، لأنّه إذا عُدّ التیمم طهرا، فلا فرق فیه بین کون الاصابة قبل الرکوع أو بعده، ولکن لسانه وإنْ کان کذلک إلاّ أنه غیر آبٍ عن التخصیص بجعل طهریته فی المورد بعد الرکوع لا قبله جمعا بین الطائفتین من الأخبار، ففی هذا الجمع تکون النتیجة حفظ حکم الهیئة فی الطرفین من الرجوع قبل الرکوع وعدم جواز الرجوع لما بعد الرکوع، وهذا هو الأقوی من الجمع بین الطائفتین بالتصرف فی الهیئة، بأن جعل الرجوع


1- وسائل الشیعة: الباب 21 من أبواب التیمّم، الحدیث 4.

ص:395

بعد الرکوع غیر جائزٍ وقبل الرکوع مستحبا، حیث یکون هذا الحمل لأجل حمل التعارض بینهما علی غیر الاطلاق والتقیید، بأن یصیر من قبیل التباین.

أقول: وبعد امکان الجمع بما ذکرنا بین الطائفتین، لا یبقی مجالٌ للعمل بالخبر المنقول فی «فقه الرضا» بقوله: «فإذا کبّرت فی صلاتک تکبیرة الافتتاح وأتیت بالماء فلا تقطع الصلاة ولا ینقض تیممک وامض فی صلاتک»(1).

وأیضا: المرسل المحکی عن کتاب «الجُمل» للمرتضی، قال: «وروی أنّه إذا کبّر تکبیرة الاحرام مضی فیها»(2).

لأنّ مثل هذه الأخبار لا قدرة لها علی التعارض مع الخبرین الأولین و

نعم، إنّ قلنا بالاستحباب کما علیه بعضهم فیمکن الجمع حینئذٍ بینهما بجواز المضّی، وإن کان الرجوع قبل الرکوع أولی، ولأجل ذلک ذکر هذا الاحتمال صاحب «المعتبر»، ولکن قال: _ «بزعمٍ منه کون المعارض للخبرین السابقین هو خبر محمد بن حمران فقط دون غیره لرفع التعارض بینهما بعد نقله خبر ابن عاصم الدالّ علی جواز الرجوع ما لم یرکع».

الأولی أرجح من وجوهٍ:

أحدها: أنّ محمد بن حمران أشهر فی العدالة والعلم عن عبداللّه بن عاصم والأعدل مقدمٌ.

الثانی: أنّها أخفّ وأیسر والیسر مراد اللّه.

الثالث: أنّه مع العمل بالأولی یمکن تنزیل الثانیة علی الاستحباب بخلافه لو عمل بالثانیة، فإنّه لا یمکن حینئذٍ العمل بالأولی) انتهی ما فی «المعتبر».


1- المستدرک، ج 1، الباب 16 من أبواب التیمم، الحدیث 3.
2- المصدر السابق، الحدیث 3.

ص:396

أقول: ولکن یبدو أنّ لمحقق الذی قال بذلک فکأنّه لم یطّلع علی صحیحة زرارة ومحمد بن مسلم حیث لم یتعرّض لها أصلاً، وقد لا حظ المعارضة بین خبری محمد بن حمران وابن عاصم، مع أنّه بالنظر إلی صحیحة زرارة خصوصا مع کونه راویا للتفصیل أیضا یقوی فی النظر مع وحدة الراوی والمروی عند کون المقصود من الاطلاق هذا هو التفصیل المذکور فی خبره الآخر.

وبناءً علیه یکون الحمل علی الاطلاق والقیید بالجمع بینهما أقوی من القول بالاستحباب الذی ذهب الیه الشیخ فی «الاستبصار»، بل هو ظاهر «المنتهی»، بل عن «التذکرة» و«نهایة الأحکام» أقربیة الاستحباب مطلقا قبل الرکوع وبعده، وزاد فی «المنتهی» احتمال تنزیل الروایة علی ارادة الدخول فیما قارب الصلاة من المقدمات کالاذان والاقامة ونحوهما، وعلی ارادة الصلاة من الرکوع من باب اطلاق الجزء علی الکل، من التوجیهات البعیدة عن ظاهر الروایة وفهم العرف کما لا یخفی.

هذا، مضافا إلی أنّ القول بالتفصیل بمقتضی الجمع بین الدلیلین بالاطلاق والتقیید أولی وأرجح من القول بالاستحباب لأنّ جواز الرجوع مخالف للعامة حیث لم ینقل ذلک منهم، والرشد فی خلافهم، بخلاف القول بعدم جواز الرجوع حیث یوافق فتوی کثیر منهم کالشافعی وداود واحمد فی روایة وأبی ثور وابن المنذر.

کما أنّ حمل روایة محمد بن حمران علی ضیق الوقت، بحیث لم یقدر علی تحصیل الطهارة المائیة والصلاة معها، موجب لخروج الحدیث عن محلّ النزاع، لأنّ فی مثل ذلک لا یجوز الرجوع عند کلّ فقیه، وهو لیس مرتبطا بما نحن بصدده من کون وجه الرجوع هو النقض بالاصابة، فلابدّ حینئذٍ: إمّا من الحمل علی سعة الوقت، أو علی الضیق المسامحی العرفی بحیث یقدر علی تحصیل

ص:397

الطهارة، فحینئذٍ لا یکون مقتضی الجمع الاّ ما ذکرنا.

أقول: بناءً علی ما بیّناه من تقویة التفصیل عن طریق الجمع بین الطائفتین بالخبرین الدالین علیه، لا یبقی مورد حینئذٍ للتمسک _ لعدم جواز الرجوع بعد الوجدان، وبعد التلبس بتکبیرة الاحرام _ بعموم ما دلّ علی حرمة قطع الصلاة، لأنّه مضافا إلی عدم قدرته علی معارضة النصین، فإنّ مستنده لیس الاّ الاجماع، فیقتصر فیه علی موضع الیقین، وهو فی غیر المقام، لأنّه دلیل لبّی.

وکذا استصحاب الصحة، وأصالة البراءة عن کلفة الاعادة، واستصحاب الوظیفة السابقة الثابته بما دلّ علی شرعیة التیمم، المحدودة تخصیصها بما إذا وجد الماء قبل الدخول فی الصلاة، وغیر ذلک، لأنّ جمیعها أصول عملیه لا مجال للرجوع الیها مع وجود دلیل اجتهادی، خصوصا بعد ما عرفت أن جواز الرجوع یکون موافقا للقاعدة فیؤخذ بها فی غیر ما دلّ الدلیل علی کفایته، وهو کونه لما بعد الدخول فی الرکوع من الرکعة الأولی، ولازم ما ذکرنا هو وجوب الرجوع إذا کان الوجدان قبل الرکوع، لا ندبه. کما أنّه یجب الاتمام بعد الدخول إلی الرکوع، ولا یجوز الرجوع.

نعم، مقتضی الاحتیاط والقول استحباب هو اتمام الصلاة بعد التلبّس بالتکبیرة والاعادة رأسا، حذرا عن مخالفة من لا یجوّز الابطال بعد التلبّس، مع أنّه بعد الوجدان لو کان قبل الرکوع کان الوجدان بطلانا للصلاة لا ابطالاً حتّی یتمسّکوا بقوله تعالی: «وَلاَ تُبْطِلُوا أَعْمَالَکُمْ» مع ما فیها من التأویل من أنّ المراد من الابطال المنهیّ هو الارتداد والکفر، لا ابطال العمل بمثل ذلک.

وعلیه، فالمختار هو الذی ذهب الیه المشهور من المتأخرین من التفصیل وإنْ کان القول باستحباب الاتمام والاعادة رأسا موافقا للاحتیاط کما علیه السیّد فی «العروة» وأکثر أصحاب التعلیق.

ص:398

أقول: وفی المسألة أقوالاً اُخر لا یساعد علی شیء منها دلیلٌ یمکن الاعتماد علیه، فلا بأس بذکرها:

منها: ما عن ابن الجنید أنّه قال _ علی ما حکاه العلاّمة فی «مختلف الشیعة»: «إن وجد الماء بعد دخوله فی الصلاة، قطع ما لم یرکع الرکعة الثانیة، فإن رکعها مضی فی صلاته، فإن وجده بعد الرکعة الأولی وخاف من ضیق الوقت أن یخرج إنْ قطع رجوت أن یخبربه أن لا یقطع صلاته، فأمّا قبله فلابدّ من قطعها مع وجود الماء» انتهی(1).

وفیه: ما ادّعاه لا شاهد له ولا دلیل یدلّ علی تمامیة الدعوی، مع فی نفسه لما فی صحیح زرارة وابن مسلم کما عرفت.

نعم، ربّما یشهد بعض ما ادعاه ما ورد فی خبر الصیقل، قال: «قلت لأبی عبداللّه علیه السلام : رجلٌ تیمّم ثمّ قام یصلّی فمرّ به نهر وقد صلّی رکعة؟ قال: فلیغتسل ولیستقبل الصلاة قلت: إنّه قد صلّی صلاته کلّها. قال: لا یعید»(2).

بناء علی أنّ المراد من الاستقبال استیناف الصلاة، لا البناء علی مقدار ما أتی بها من الرکعة، والاّ لا یناسب ما ادعاه.

وأیضا: ما ورد فی روایة زرارة، عن أبی جعفر علیه السلام ، قال: «سألته عن رجل صلّی رکعة علی تیمم ثمّ جاء رجل ومعه قربتان من ماء؟ قال: یقطع الصلاة ویتوضّأ ثمّ یبنی علی واحدة»(3).

حیث یحتمل کون المراد البناء علی أنّها رکعة واحدة فلیأت بباقیها، کما


1- مختلف الشیعة، ج 1، ص 275 _ 276، المسألة 205.
2- وسائل الشیعة: الباب 21 من أبواب التیمّم، الحدیث 6.
3- المصدر السابق، الحدیث 5.

ص:399

یحتمل أن یکون کلا الخبرین حینئذٍ محمولاً علی التقیة، لموافقتهما للمحکی عن الثوری وأبی حنیفة وأحمد فی روایة من القول بالرجوع مطلقا کما فی «الجواهر»، خصوصا ما فی الروایة الثانیة لزرارة الذی قد نقل ذلک التفصیل سابقا، فیصیر هذا النقل قرینة علی قوة احتمال التقیة فبالنتیجة لا شاهد لمدعی ابن الجنید بما ذهب الیه.

ومنها: ما حکاه عن سلاّر من الانصراف قبل دخوله فی القراءة وعدمه بعده، حکاه العلاّمة فی «المختلف»(1).

ولعلّ وجهه: أنّه رأی الدخول فی الصلاة دخوله فی سائر الأجزاء غیر التکبیرة، لأنّه افتتاح للصلاة ممّا له یؤخذ بأحد الأجزاء لم یدخل فی الصلاة فاوّلها هو القرائة وجوابه انّه مخالف للشهور ما عرفت من الأدلة فلا نعید.

ومنها: ما حکاه الشهید فی «الذکری» عن ابن حمزة بأنّه: «إذا وجد الماء بعد الشروع وغلب علی ظنّه عدم ضیق الوقت لو قطع وتطهر، وجب علیه ذلک، وإنْ لم یمکنه ذلک لم یقطعها إذا کبّر، وقیل یقطع ما لم یرکع ومحمول علی الاستحباب» انتهی(2).

ویرد علیه: بما قد عرفت منا سابقا بأنّ مسألة الضیق یخرج المسألة عمّا فنحن بصدده، لأنّه أمر مستقل ولا علاقة له بمسألة وجدان الماء، لأنّا نرید اثبات أنّ الوجدان بنفسه کالحدث مطلقا _ سواءٌ کان سعة الوقت أو فی ضیقه _ یوجب البطلان، إلاّ ما خرج بالدلیل، ولأجل ذلک استغرب الشهید رحمه الله من کلامه.

ومنها: ما فی «الموجز الحاوی» من الفرق بین الصلاة المسقطة للقضاء وغیر


1- مختلف الشیعة، ج 1، ص 275، المسألة 205.
2- الذکری، ج 2، ص 278.

ص:400

المسقطة مثل التیمم للزحام أو فی واجد الماء فی سعة الوقت، من کون الوجدان فی الأولی لا یقطع وفی الثانیة یقطع، واستجوده فی «الذکری» وفی «الدروس» قال إنّه أقرب.

وفیه: إنّ مثل الاعادة والقضاء أمران مستقلان ولا علاقة لهما بما نحن بصدده، لوضوح أنّ الوجدان إذا فرضنا کونه کالحدث، فلا فرق فیه بین کون مورده مسقطا للقضاء أم لا. فإذا أوجبنا علیه الاعادة، تعلّق به حکم القضاء بعد فوته، والاّ فلا، وعلیه فجواز القطع وعدمه یدور مدار مقدار دلالة الدلیل علی الجواز وعدمه، وهو لیس الاّ لما بعد الدخول فی الصلاة قبل الرکوع فی الرکعة الأولی فی أیةٍ صلاة کانت، کما لا یخفی.

فروع مسألة وجدان الماء بعد التیمم

الفرع الأوّل: علی القول بالاتمام وعدم النقض بالوجدان مطلقا علی المسلک المشهور، أو بعد الرکوع علی التفصیل المقبول عندنا، فهل ینتقض التیمم بالنسبة إلی غیر الصلاة من الصلوات لو فرض الفقدان مجدّدا قبل الفراغ من الصلاة، أو بعده قبل أن یتمکّن التحصیل أم لا؟ فیه وجهان بل قولان:

فی «الجواهر»: أقواهما الثانی وفاقا للمصنّف والشهید والمحقّق الثانی وغیرهم، بل لم أعثر فیه علی خلافٍ صحیح الاّ ما نقل عن «المبسوط» و«الموجز».

بالانتفاض کما نقله «کشف الالتباس» حکایة عن فخرالدین وقربّه أوّلاً فی «المختلف» ثمّ توقف فیه، وقوّاه فی «المنتهی» وربّما مال الیه فی «التذکرة».

بل هنا قول ثالث: وهو کفایته لو کان وقت الوجدان فی الاثناء قلیلاً، بحیث لا یقدر علی تحصیل الطهارة لو لا الصلاة، والاّ لا یکفی وینقتض مطلقا، أی سواءٌ

ص:401

کان فی الفریضة أو فی النافلة، أو ینتفض لو کانت الصلاة التی یصلّیها نافلة ولا ینقتض فی الفریضة.

وبالجملة: فالأقوال حینئذٍ أربعة، والقول الثالث هو لصاحب «العروة» والرابع هو المختار وهو الأقوی، ووجهه _ مضافا إلی الأصل واستصحاب الصحة واستبعاد اجتماع الصحة، والفساد فی طهارة واحدة، الذی لا یخفی ما فیه لإمکان الاختلاف بواسطة دلالة الدلیل کما لا یخفی، علی ما فی الاستبعاد من البقاء علی الصحة مع وجود الماء، والانتفاض بعده، لامکان ذلک بمقتضی دلالة الدلیل _ اطلاق ما دلّ علی عدم نقض التیمم الاّ بالحدث، أو اصابة الماء بعد ارادة التمکن من ذلک الذی هو أعم من الشرعی والعقلی کما تقدم، إذ من المعلوم أنّ الممنوع الشرعی بالابطال ثابتٌ فی الفریضة إذا لم نقل ببطلانها قهرا بالوجدان کما هو المفروض فی المسألة، والاّ لا یصل الکلام إلی هذا البحث. هذا بخلاف النافلة حیث یجوز للمتنفّل شرعا الابطال وتحصیل الطهارة إذا کان الوجدان علی نحو یتمکّن من الاستعمال، و علیه فلا وجه للاکتفاء حینئذٍ الاّ التوهّم باقتضاء الدلیل المجوّز لادامة الصلاة بقاء التیمم لغایةٍ أخری غیرها، وهو أوّل الکلام، لأنّ لسان الدلیل لا یدل علی أزید من عدم جواز نقض الصلاة التی بیده، ولا لسان له بالنسبة إلی غیرها، والقول بالاکتفاء فی الفریضة لیس لأجل دلالة الدلیل، بل لأجل کون الممتنع الشرعی کالعقلی موجبا لصدق الفقدان علیه، والحکم بالاکتفاء، والاّ لو لا ذلک لقلنا فیه مثل ما قلنا فی النافلة من عدم الاکتفاء.

کما یظهر من ذلک: عدم الاکتفاء فی الفریضة أیضا إذا قلنا بجواز القطع فیها، کما لو وجد قبل الرکوع، أو علی القول بالجواز مطلقا لجریان ما ذکرناه فی النافلة فیه أیضا.

ص:402

کما یظهر من ذلک: عدم إمکان التخلاص من عدم الاکتفاء بما جاء فی «القواعد» من أنّ من له العدول إلی النافلة ثمّ یقطع أو یتم لأولویته من ادراک الجماعة، مع احتمال أن لا یکون مثله یُسمّی ابطالاً، لأنّه:

إذا قلنا بجواز القطع فلا نحتاج حینئذٍ إلی العدول، بل یجوز له القطع بلا عدول.

وإن قلنا بعدم الجواز کما بعد الرکوع، فلا یجوز له القطع، کما لا یجوز له العدول، لعدم وجود دلیل مجوّز للعدول، لأنّه مخالفٌ للأصل، فلابد لایتانه من دلیل کما ورد فی ادراک الجماعة دون المقام.

وبالجملة: ثبت ممّا ذکرنا عدم تمامیة ما احتمله صاحب «الجواهر» بقوله: «مع احتمال عدم النقض أیضا وإن قلنا به أی بجواز القطع أو العدول، کما هو قضیة ما فی «الذکری» و«جامع المقاصد» تمسکا بما عدا الاخیر من الأدلة السابقة.»

لما قد عرفت أنّ الدلیل قد دلّ علی الاکتفاء بهذا التیمم مع وجدان الماء لغیرها، وهو ما بیده من الصلاة، وقتل هذا الدلیل مفقود، فلا وجه حینئذٍ للحکم بالکفایة، واللّه العالم.

الفرع الثانی: من جمیع ما ذکرنا فی الفرع الأوّل، ظهر حکم الفرع الثانی وهو ما لو کان الوجدان فی اثناء النافلة، حیث لا یجوز الاکتفاء به للصلوات عندنا، بخلاف عند من قال بجواز الاکتفاء به لأجل الدلیل الدالّ علی عدم النقض بالوجدان فی الاثناء مطلقا سواءٌ فی الفریضة والنافلة، و علیه فالبحث فیه مبنائی.

الفرع الثالث: فیما لو کان الوجدان فی اثناء الطواف، فهل یوجب ذلک الانتفاض لما ورد فی حقه انّه بمنزلة الصلاة، فلازمه تنزیله فی جمیع الأحکام أم لا؟ فیه وجهان:

الأقوی فیه عدم الکفایة وحصول الانتفاض بالوجدان، سواءٌ کان فی الواجب

ص:403

قوله: الخامس: یستبیح ما یستبیحه المتطهّر بالماء (1)

منه أو فی المندوب، ودلیل الاکتفاء مخصوص للصلاة واما المقام فلم یرد فی حقّه شیء، والمرجع حینئذٍ إلی القاعدة التی قرّرناها فی أوّل البحث من حصول الانتفاض قهرا بوجود الماء فی تمام الموارد، الاّ ما خرج بالدلیل ولیس الطواف منه، تشبیه الطواف بالصلاة منصرفٌ عن مثل ذلک إلی غیره، ومنه یظهر حکم ما یلحقه الذی نذکره فی الفرع الاحق.

الفرع الرابع: حصول الماء بعد تیمم المیّت وقبل دفنه موجب لنقض التیمم وإنْ صُلّی علیه، لعموم ما دلّ علی وجوب غسله مع عدم ما یصلح لاثبات کفایة هذا التیمم.

واحتمال تنزیل الصلاة علیه أو الشروع فیها منزلة التکبیر فی الصلاة الفریضة أو الرکوع حتی یوجب عدم وجوب غسله کما لا یجب فی الفریضة إلاّ لصلاةٍ أخری.

ضعیفٌ جدا، وإنْ ناقش فیه العلاّمة فی «التحریر» و«القواعد».

لما قد عرفت أنّه مقتضی الرجوع إلی القاعدة فیما لم یرد فیه دلیل علی

(1) الاکتفاء بالخصوص، والتنزیل لا یقتضی الالحاق فی جمیع الآثار، کما قلنا مثله فی الطواف، وعلیه فوجوب الغسل بعد الوجدان هنا ثابتٌ لا کلام فیه عندنا.

نعم، الذی ینبغی الکلام فیه هو أنّه لو وجد بعد الصلاة، فهل تجب اعادتها بعد الغسل أم لا؟ فیه قولان:

قول بعدم الوجوب، کما یظهر من «جامع المقاصد» و«نهایة الأحکام» وغیرهما، لاقتضاء الأمر الاجزاء، بل استوجهه فی «المعتبر» حتّی لو وجد الماء فی اثناء الصلاة وإنْ وجب تغسیله بعد ذلک.

ص:404

أقول: لکن الأقوی هو وجوب الاعادة مطلقا، سواءٌ کان بعد الفراغ فضلاً من الاثناء، کما عن صاحب «الجواهر»، تبعا للموجز و«البیان» و«الدروس»، وعن «کشف الالتباس» المیل الیه لاعتبار وقوع الصلاة بعد الغسل الصحیح، فإذا ظهر فساد التیمم فکما یجب علیه الغسل، فکذلک یجب علیه الصلاة، بل حتّی لو دفن ثمّ خرجت جثته لسیل ونحوه أو أخرجت لاثبات الدعوی فی القتل أو غیر ذلک ممّا یجوز فیه اخراجه وجب غسله والصلاة علیه تحصیلاً للبرائة الیقینیة عمّا وجب علی المکلّفین. وعلیه، فالقول بکفایة التیمم للصلاة دون الغسل، لاقتضاء الأمر الاجزاء، لیس علی ما ینبغی، لأنّه إن کان مفیدا للاجزاء لم یبق مجالٌ للتفصیل بین الغُسل والصلاة کما لا یخفی.

(1) هذه المسألة مشتملة علی أحکام عدیدة فی التیمم ولا بأس بذکرها تفصیلاً، فنقول ومن اللّه الاستعانة:

الحکم الأوّل: یستباح بالتیمم جمیع الغایات المشترطة بالطهارة المائیة لا خصوص الغایات التی اضطر إلی فعلها مثل الصلاة المفروضة التی لا طریق لاتیانها الاّ بالتیمم، بل یجوز مع هذا التیمم اتیان جمیع ما کانت صحّتها مشروطة بالطهارة کصلاة النافلة، أو کانت الطهارة شرطا لکمالها کقرائة القرآن، أو شرطا لجوازها کمسّ کتابة القرآن واللبث فی المسجد، إذا کان المسوغ للتیمم موجودا لتلک الغایات أیضا، فإنّ التیمم فی هذه الموارد قائمٌ مقام الوضوء أو الغُسل، ویعدّ صاحبه متطهرا کتطهره بالماء، فیترتب علیه جمیع ما یترتّب علی الماء.

الحکم الثانی: لا یشترط فی صحة ترتب جمیع الغایات علی التیمم أن یکون اتیانه التیمم لخصوص غایةٍ قد اضطرار الیها، بل یجوز له فیما کان له المسوّغ للتیمم اتیانه، ولو قصد غایة أخری، مثل ما لو قصد غایة وهی صلاة الفریضة أو النافلة فیجوز الاتیان بهذا التیمم کلّ ما یشترط صحته أو کماله أو جوازه

ص:405

بالطهارة، ولو لم یقصدها فی حال التیمم، إذ الطهارة له حاصله وباقیة ماداملم ینتقض بحدثٍ أو بالتمکّن من استعمال الماء.

الحکم الثالث: یجوز له الاتیان بالتیمم لکلّ غایةٍ کانت صحتها أو کمالها أو جوازها مشروطة بالطهارة اذ لم تکن تلک الغایة مستثناةً فی التیمم، بأن لا یکون تیممه بدلاً عن المائیة، کالتیمم بدلاً عن الوضوء التهیؤی، حیث لم یجیزه الفقهاء لقیام الاجماع علی عدم جواز ذلک قبل الوقت مثلاً کما اقتصر علی استثنائه فی «المفاتیح»، ففی مثل ذلک لا یفید تیممّه لترتب الغایات علیه، لعدم مشروعیة أصل تیممه حینئذٍ بناءً علیه، فلا معنی لکفایته کما لا یخفی.

أقول: حکم جواز ترتب سائر الغایات علی التیمم المأتی به لغایةٍ خاصةٍ مثل الصلاة المفروضة، مع بقاء المسوّغ له لسائر الغایات، بحیث لو ابتدأ لذلک الغایة کان التیمم مجوّزا له، ممّا صرّح به جملة من الأصحاب، بل قد صرّح فی «الحدائق» أنّه المشهور بین الأصحاب، وعن «الغنیة» الاجماع علیه، وعن «المعتبر» أنّه: «یجوز التیمم لکلّ من وجب علیه الغُسل إذا عدم الماء، وکذلک کلّ من وجب علیه الوضوء وهو اجماع أهل الاسلام.»

وقد استدلوا لهذه الکلیّة بالآیة والروایة:

أمّا الآیة: حیث یستفاد الجواز من قوله تعالی بعد بیان حکم التیمم: «وَلَکِن یُرِیدُ لِیُطَهَّرَکُمْ »(1) بعد قوله: «مَا یُرِیدُ اللّهُ لِیَجْعَلَ عَلَیْکُم مِّنْ حَرَجٍ».

وأمّا الروایة: فلدلالة عدد من الأخبار:

منها: قول الصادق علیه السلام فی صحیحة حمّاد: «هو بمنزلة الماء»(2).


1- سورة المائدة، آیة 5 _ 6.
2- وسائل الشیعة: الباب 33 من أبواب التیمّم، الحدیث 2.

ص:406

ومنها: صحیح محمد بن حمران وجمیل: «إنّ اللّه جعل التراب طهورا کما جعل الماء طهورا»(1).

ومنها: خبر أبی أیوب المروی فی «تفسیر العیاشی»: «التیمم بالصعید لمن لم یجد الماء کمن توضأ من غیر ماء ألیس اللّه یقول: «فَتَیَمَّمُواْ صَعِیدا طَیِّبا»(2)».(3)

ومنها: خبر السکونی، عن النبی صلی الله علیه و آله ، قال لأبی ذرّ: «یکفیک الصعید عشر سنین»(4).

ومنها: ما رواه العامّة عنه صلی الله علیه و آله : «الصعید الطیّب طهور المسلم (و) إنْ لم یجد الماء عشر سنین»(5).

ومنها: فی خبر آخر عنه صلی الله علیه و آله : «التراب طهور المسلم ولو إلی عشر سنین»(6).

ومنها: الخبر المشتمل علی جملة: «جُعلت لی الأرض مسجدا وطهورا»(7).

ومنها: خبر زرارة فیالصحیح عن أبیجعفر علیه السلام : «فانّ التیمم أحد الهطورین»(8).

ومنها: الخبر المشتمل علی قوله: «إنّ ربّه ربّ الماء»(9).


1- وسائل الشیعة: الباب 23 من أبواب التیمّم، الحدیث 1.
2- سورة النساء، آیة 43.
3- وسائل الشیعة: الباب 19 من أبواب التیمّم، الحدیث 6.
4- وسائل الشیعة: الباب 14 من أبواب التیمّم، الحدیث 12.
5- سنن البیهقی، ج 1، ص 212؛ مسند أحمد، ج 5، ص 155 و 180.
6- مصنّف ابن أبی شیبة.
7- وسائل الشیعة: الباب 7 من أبواب التیمّم، الحدیث 2_4.
8- وسائل الشیعة: الباب 14 و 21 من أبواب التیمّم، الحدیث 15.
9- المصدر السابق، الحدیث 1.

ص:407

ومنها: فی فقه الرضا: «إن التیمم غسل المضطر ووضوئه»(1).

ومنها: ما روی عنه علیه السلام بعد بیان صفة التیمم للوضوء والجنابة وسائر أبواب الغسل، قال: «فهذا هو التیمّم وهو الوضوء التام الکامل فی وقت الضرورة»(2).

إلی غیر ذلک من الشواهد والمؤیّدات التی لا تبقی معها مجال للتشکیک فی أنّ اللّه جعل التراب مقام الماء امتنانا علی العبد، فمتی کان تحصیل الطهارة واجبا لذاته أو لشیء من الغایات أو مستحبا، ولم یجد المکلّف الماء یکون التراب بدلاً عنه.

أقول: بعد ما ثبت أن المسألة من الواضحات لا نحتاج لاثباتها إلی بیان الاجماعات وکون بعض جزئیاته موردا للخلاف غیر قادح لأصل المسألة، وعلیه فإنّ کفایة التیمم بدل الوضوء والغسل فی الجملة من المسلّمات عند الفقهاء.

نعم، قد اختلفت الفتاوی فی بعض الموارد، ولا بأس بذکرها:

المورد الأوّل: فی أنّه هل یجوز التیمم بدلاً من الوضوءات الغیر الرافعة للحدث کوضوء الجُنب والحائض أو من الأغسال المستحبة أم لا؟ فیه خلاف: قول بالجواز تمسکا بتلک الأطلاقات، بل التعلیلات التی قد عرفت أنّ لسانها بیان البدلیة فی کلّ مورد کان فیه الوضوء والغسل ولم یجد الماء، کما هو مختار صاحب «الجواهر» وغیره، اذ کیف یکفیه عشر سنین مع عدم کفایته فی مثل تلک الموارد، مع ما دلّ علی بدلیة التیمم عن غسل الاحرام الذی هو مستحبّ، بضمیمة عدم القول بالفصل بینه وبین غیره من الأغسال المندوبة، مضافا إلی ما عرفت ممّا ورد فی فقه الرضا بقوله: «التیمم غُسل المضطر ووضوئه» وکونه بمنزلة الماء فی التوضّی ء والأغسال، لأولویّة غیر الصلاة فی الاکتفاء بالتیمم بعد


1- فقه الرضا، ص 88.
2- فقه الرضا، ص 88_89.

ص:408

ثبوت کفایته للصلاة، وکونه عاجزا عن الاستعمال المسوّغ له، وهذا هو الأقوی.

قیل: دعوی انصراف هذه الأدلة عما لا یرفع الحدث، خصوصا بملاحظة کون الحکمة فی مشروعیة الوضوءات المذکورة والأغسال المسنونة للتنظیف غالبا، کما یستفاد ذلک من العلّة الواردة فی تشریع غُسل الجمعة من أنّه شُرّع لرفع ریح الآباط ولذلک لا یتصور کون التیمّم بدلاً عن غسل الجمعة مع عدم التنبّة بذلک فی شیء من الأخبار، مع تنبیه الشارع لامکان تقدیمه وتأخیره بحسب الظروف المختلفة حیث ورد فی الأخبار ذکر غسل الاستعجال فی یوم الخمیس أو القضاء بیوم السبت، وعلیه فتجویزه بدلاً عن غسل الجمعة بل وسائر الأغسال المسنونة مشکلٌ.

وهذا هو مختار العلاّمة فی «المنتهی» من التصریح بعدم مشروعیة التیمم لصوم الجنب والحائض والمستحاضة وکما تعرّض لهذه المناقشة فی «النهایة» وکذلک الشهید فی «الذکری» بالنسبة إلی صوم الجُنُب ووط ء الحائض بعد انقطاع دم الحیض وغیر ذلک.

2_ وفی قباله قول بالتفصیل، وهو مختار صاحب «مصباح الفقیه» حیث أجاز ذلک فی البدل عن الوضوء، مستدلاً بأنّ الوضوء فی حدّ ذاته طبیعته واحدة فائدتها الطهور، وهی تختلف بحسب الموارد من حیث قابلیّة المحلّ وعدمها، وأمّا الأغسال المسنونة فیشکل فیها ذلک.

أقول: الأقوی هو القول الأوّل کما هو مختار السیّد فی «العروة» وکثیر من أصحاب التعلیق، بلا فرق فیه بین ما هو بدل عن الوضوء أو الغسل، وما قیل عن عدم بدلیته عن مثل غسل الجمعة والاستبعاد المذکور غیر وجیه، لأنّ ذکر غسل الاستعجال والقضاء دون التیمم کان لأجل أنّ المفروض فی المسألة وجود الماء الذی لا یمکن الاکتفاء ببدله مع عدم الضرورة، فلا ینافی جواز التیمم عنه فقد

ص:409

الماء لجیمع الحالات الثلاثة من الماضی والحال والاستقبال، حیث لم یکن حینئذٍ محروما عن ثواب غسل الجمعة باتیان بدله وهو التیمم، کما لا یخفی.

ومنه یظهر جواز التیمم بدلاً عن الوضوء التجدیدی، مع وجود شرائطه من العجز عن الاستعمال لفقد الماء، أو لوجود العذر له، بل وهکذا فی التیمم بدلاً عن الوضوء التهیّؤی لو لا الاجماع علی عدم الجواز، ومع قیامه علیه الأحوط ترکه، وإن کان مقتضی الاطلاقات هو شموله أیضا کما یشمل التیمّم بدلاً عن الوضوء للکون علی الطهارة لمن أجاز ذلک الوضوء، کما هو غیر بعید وإنْ ناقشنا فیه فی «حاشیة العروة».

المورد الثانی: فی أنّه هل یستباح الوط ء بالتیمم الذی یقع بدلاً من غسل الحیض، بناء علی حرمة الوط ء قبل الغُسل أو کراهته أم لا؟

فیه اشکال:

من جهة ملاحظة انتفاض کلّ تیمّم بمطلق الحدث ولو بالأصغر، فضلاً عن الأکبر، کالوط ء الذی یوجب الجنابة بمسمّی الوط ء، فإنّه ینافی بقاء أثره حتی یستباح به الوط ء ولأجل ذلک مال الشهید الثانی فی «الألفیة» إلی العدم فی صوم الجنب، ولکن فی «الذکری» إلی العدم فی وط ء الحائض.

ومن جهة أنّ أثر التیمم هو رفع حکم حرمة الوط ء أو کراهته بلحاظ حال حیض المرأة، فلازمه بقاء أثره بملاحظة حصول الوط ء مع الطهارة، نظیر التیمم لدخول المسجد لوصول الماء الذی فیه، حیث أنّ أثره جواز الدخول للوصول إلی الماء وتحصیل الغُسل، مثل هذا الأثر یبقی إلی حین حصول الغایة التی لأجلها تیمّم. ولأجل ذلک احتمل العلاّمة فی «المنتهی» جوازه، بل عنه فی «النهایة» الجزم بالجواز، ولعلّ الأمر کذلک.

ص:410

ولما ورد فی خبر عمّار عن الصادق علیه السلام حین سأله: «عن المرأة إذا تیممّت من الحیض هل یحلّ لزوجها، قال نعم»(1).

وأیضا خبر أبی عبیدة قال: «سألت أبا عبداللّه علیه السلام عن المرأة الحائض تری الطهر وهی فی السفر ولیس معها من الماء ما یکفیها لغسلها، وقد حضرت الصلاة؟ قال: إذا کان معها بقدر ما یغتسل به فرجها فتغسله، ثمّ تتیمّم وتصلّی.

قلت: فیأتیها زوجها فی تلک الحال؟ قال: نعم إذا غسلت فرجها وتیممّت فلا بأس»(2).

حیث أجاز الوط ء بالتیمم، بل قد صرّح العلاّمة بأنّ الظاهر من هذا الخبر عدم الحاجة إلی تجدید التیمم بکلّ وط ء، کما عن «النهایة» النص علیه، وإن أوجب الوط ء غسل الجنابة.

أقول: الأقوی عندنا هو الثانی، لاطلاق الأدلة، وبقاء الأثر المترتب منه فی هذه الأمور، فلا یؤثّر الحدث الأکبر من الجنابة فی انتقاضه.

المورد الثالث: فی تیمّم لجنب لدخول المسجدین، واللّبث فی المساجد، ومسّ کتابة القرآن، حیث منع مشروعیته فخر المحققین، وقوّاه صاحب «کشف الغطاء»، بل یظهر عن الفخر منعه التیمّم للطواف لاستلزامه الدخول فی المسجد، کما حُکی عنه التصریح به فی «شرح الارشاد» حیث قال: «یبیح التیمم للصلاة من کلّ حدثٍ والطواف من الأصغر خاصة، ولا یبیح من الأکبر الاّ الصلاة والخروج من المسجدین»، بل قد یفهم من الفخر تعمیم المنع بالنسبة إلی الحیض والاستحاضة ونحوهما، مستدلاً بقوله تعالی: «وَلاَ جُنُبا إِلاَّ عَابِرِی سَبِیلٍ حَتَّیَ


1- وسائل الشیعة: الباب 2 من أبواب الحیض، الحدیث 2.
2- المصدر السابق، الحدیث 1.

ص:411

تَغْتَسِلُواْ »(1)، بناء علی أنّ المراد من النهی فی قوله: «لاَ تَقْرَبُواْ الصَّلاَةَ»«وَلاَ جُنُبا» هو النهی عن دخول الجنب فی المساجد، بأن یکون المراد من الصلاة فی صدر الآیة مواضعها.

وتقریب الاستدلال: أنّه تعالی جعل الاغتسال غایة للتحریم، فلا یستباح بغیره، وألحق به مسّ کتابة القرآن لعدم تفریق الأمّة بینها فاثبات المدّعی قائم علی عدم القول بالفصل فی الجواز وعدمه بین دخول المسجد وبین مسّ القرآن، وکذا الدخول للطواف، لاستلزامه الدخول فی المسجد، هذا.

أورد علیه صاحب «مصباح الهدی» بقوله: «وقال وهذا الاستدلال منه عجیبٌ لمنع ارادة المساجد من الصلاة:

أوّلاً: لعدم قرینة دالّة علیها بعد اشکال ارادة معناها لحقیقی، لکی یکون النهی متعلقا بالصلاة فی حال الجنابة الاّ فی حال السفر المعبّر عنه بقوله تعالی: «عَابِرِی سَبِیلٍ» فیجوز التیمم للصلاة حینئذٍ، واختصاص السفر بذکر جواز التیمم بالسفر لغلبة فقدان الماء فیه، کما وقع التصریح بلفظ السفر فی آخر الآیة.

وثانیا: أنّه یجب الخروج عن ظهور کون خصوص الغسل غایة للتحریم بما دلّ علی بدلیّة التیمم من الأدلة المتقدمة.

وثالثا: أنّه لا دلیل علی إلحاق غیر اللّبث فی المساجد به، إلاّ ان یتمسک بعدم القول بالفصل، وهو ممنوع) انتهی محل الحاجة(2).

قلنا: ما ذکره فی الاشکال الثانی والثالث واردٌ وصحیحٌ، ولکن ایراده الأوّل قد یناقش فیه بأن استفادة المواضع من الآیة کان من قوله: «عَابِرِی سَبِیلٍ» أی لا


1- سورة النساء، آیة 46.
2- مصباح الهدی، ج 7، ص 372.

ص:412

یجوز الدخول فی المسجد للصلاة الاّ أن تغتسلوا، کما ورد هذا التفسیر فی الروایة المرویّة عن أبی جعفر علیه السلام المروی فی «مجمع البیان» فی قوله تعالی «وَلاَ جُنُبا إِلاَّ عَابِرِی سَبِیلٍ»: «أنّ معناه لا تقربوا لمواضع الصلاة من المساجد وأنتم جنب الاّ مجتازین»(1).

ودعوی: أنّ المراد هو النهی عن قرب الصلاة جُنُبا حال السفر وغیر مقبولة، لعدم اختصاص ذلک بالسفر، بل هو کذلک وان لم یکن فی السفر.

کون الغالب فی السفر فقدان الماء لا یوجب جعل الغایة هو الاغتسال، بل لابدّ من أحد الأمرین.

نعم، هذا الاشکال یجری فی دخول المساجد أیضا بأن تکون غایة التحریم أحد الأمرین لا خصوص الغسل.

اللّهمّ الاّ أن یجاب عنه: أنّه کان أوّلاً فی مقام بیان الحکم الأصلی فی الجنب وهو المنع من الدخول الاّ بعد الاغتسال، ثمّ بیان حکم حالة أخری وهی حکم من فقد الماء وجعل التیمم موضع الغسل والوضوء، وأنّه یوجب الدخول فی جمیع ما کان ممنوعا ومنه دخول المساجد. و علیه فتدل الآیة صدرها مع ذیلها علی خلاف مطلوب الخصم، فلا ینافی ما ورد فیها مع ما فی الروایة، بل لا نحتاج حینئذٍ خروج عن الآیة اقول بأنّ غایة التحریم هو الاغتسال، لانّه کان فی مقام بیان الحکم الأوّلی وهو صحیح کما لا یخفی.

وعلیه، فما ذکره فخر المحققین من کون المراد من «عَابِرِی سَبِیلٍ»هو الدخول فی المساجد للصلاة أجود وأمتن ممّا ذکره صاحب «مصباح الهدی» بکونه مخصوصا لحال السفر، فلیتأمّل.

والأقوی عندنا هو مختار صاحب «الجواهر» ومن تبعه من دلالة الآیة


1- وسائل الشیعة: الباب 15 من أبواب الجنابة، الحدیث 20.

ص:413

والروایة علی بدلیّة التیمّم عن الوضوء والغُسل بدخول المساجد _ والمسجدین بالخصوص _ لمن کان عذره مستمرا بحیث لا یقدر علی تحصیل الطهارة المائیة للطواف مادام فی مکّة.

المورد الرابع: من الموارد التی ربما یستشکل فیه کفایة التیمم، هو ما لو تیمّم لضیق الوقت للفریضة الذی قد وقع المسوّغ له فی خصوص هذه الغایة، بخلاف مسّ کتابة القرآن ونحوه، حیث یقدر له مع الطهارة المائیة ولو فی غیر هذا الوقت، فهل یجوز له حینئذٍ مسّ کتابة القرآن مادام قد تیمّم للصلاة؟

قد یقال: نعم، لأنّه مقتضی ما ورد عنهم علیهم السلام : «یبیحُ دلیل للمتیّمم ما یبیحه الماء» یعنی کما لو کان فی الصلاة مع الطهارة المائیة کان یجوز له مسّ کتابة القرآن، فهکذا مع تیمّمه فی حال الصلاة.

نعم، إذا خرج من الصلاة وفرغ عنها، یکون قد حصلت الغایة، فلا یجوز له حینئذٍ مسّ الکتابة لانتهاء مشروعیة التیمم له.

ولکن قد یجاب عنه: بأنّ التیمم المشروع لکلّ غایة لابدّ أن تکون شرائطه موجودة لکی یکون مؤثرا، وهو عجزه عن تحصیل الماء لتلک الغایة ابتداءً، وأمّا لو لم یکن کذلک إمّا لسعة وقت تلک الغایة مثل مسّ الکتابة، أو لامکان تحصیل الوضوء فی حال الصلاة له ولم نقل بمنافاة ذلک، فلازمه عدم صدق العجز عن الاستعمال فی حقّه، وعلیه فلا وجه لکفایته، ولذلک قال صاحب «الجواهر»: «إنّه مقطوع بفساده من ملاحظة کلام الأصحاب، والاّ لجاز ایقاع الفریضة بالتیمم لنافلة الزوال إذا ضاق وقتها ولا ماء، أو علم عدم التمکّن منه فیه مع عدوله عن صلاة النافلة، وکان ذلک الوقت واسعا للفریضة فیصلیها حینئذٍ بذلک التیمم المشروع للنافلة بضیق وقتها مثلاً، وإن علم وجود الماء فی الوقت وهو مقطوع بعدمه»(1).


1- الجواهر، ج 5، ص 249.

ص:414

قوله: السادس: إذا اجتمع میّت ومُحْدِثٌ وجُنُب، ومعهم من الماء ما یکفی أحدهم؛ فإنّ کان ملکا لأحدهم اختصّ به (1)

أقول: أجاد فیما أفاد، فالمسألة عندنا واضحة فی عدم الکفایة وعدم الجواز، واللّه العالم.

(1) إنّ هذه المسألة لها فروض متعددة، ولکلّ واحدٍ منها حکمٌ برأسه، وینبغی التعرض لها:

الفرض الأوّل: هو الذی ذکره المصنّف، من أنّه إذا اجتمع الثلاث من الجنب والمحدث بالحدث الاصغر ولو متعددا والمیّت، ولا یکفی الماء الاّ لأحدهم، وکان الماء ملکا لأحدهم، فلا اشکال فی أنّ الواجب علی المالک تحصیل الطهارة المائیة إن کان غیر المیّت، ووجب صرف الماء لتغیسل المیّت إنْ کان الماء للمیّت، ویحرم علی الغیر تناوله وإنْ وجد وارثه، ولیس لوارثه أن یجود به لخروج ماء الغُسل من أصل الترکة، وانّه یبدأ به الغسل ثمّ ینتهی إلی الوارث إنْ بقی منه شیء. وعلیه، فالمیّت أولی بماء غسله من وارثه دون الجنب والمحدث.

وأمّا لو کان المالک هو الجنب أو المحدث بالأصغر، فالمذکور فی غیر واحدٍ من کتب الأصحاب کالمتن من ایجاب صرفه لنفسه، المستفاد من قوله: «اختصّ به».

وفی «الجواهر»: «یحرم علی کلّ من الأخیرین بذله لغیره مع تحقّق الخطاب باستعماله وضیقه، بل ومع سعته مع عدم الرجاء لغیره، بل ومع الرجاء، ما لم یعلم المکنة فی وجه تقدم، وکذا لا یجب علی کلّ منهما بذله حتّی لتغسیل المیّت، وإنْ لم یتحقّق الخطاب علیهما باستعماله، بناءً علی ما تقدّم سابقا من وجوب مؤن التجهیز فی ماله، وانّها لا یجب بذلها علی أحد مطلقا» انتهی کلامه(1).


1- الجواهر، ج 5، ص 255.

ص:415

ومثله ما تبّناه صاحب «المدارک»، خلافا لصاحب «مصباح الفقیه» و«مصباح الهدی» حیث صرّح الأوّل بقوله: «والأقوی جواز البذل فی المملوک، والتخلیة بین الماء وبین صاحبه فی المباح، نعم مادام واجدا للماء أو متمکنا من استعماله لا یجوز له التیمم».

ثمّ استدل بقوله: «لنا علی الجواز: إمّا مع رجاء إصابة الماء فواضحٌ بعد ما عرفت فی محلّه من عدم وجوب حفظ الماء الاّ علی تقدیر العلم بفوت لطهارة المائیة باتلافه. وأمّا مع العلم بعدم الاصابة فلأنّ غایة ما أمکننا اثباته فیما تقدم، بعد التشبّث بذیل الاجماع ونحوه من الأدلة، اللبیّة إنّما هی حرمة تفویت التکلیف بالطهارة المائیة باراقة الماء ونحوها یعدّ فی العرف فرارا من التکلیف ومسامحة فی أمره، وأمّا حرمة صرف الماء فی مقاصده العقلائیة من مأکله ومشربه، والانفاق علی صدیقه ودابته وغیرها من الأغراض العقلائیة التی من أهمّها احترام موتاهم بتغیسلها فلا، بل لا یبعد الالتزام بجواز التیمم وحفظ الماء رعایةً لاحترام المیّت، فضلاً عن جواز صرفه فیه، ثمّ التیمم بعد صیرورته فاقدا للماء، فإنّ اللّه تعالی منّ علی عباده بأن وسّع علیهم الأمر، فجعل لهم التراب طهورا، کما جعل الماء طهورا، لأن لا یقعوا فی الضیق وکلفة حفظ الماء بتحمّل المشاق ومنافیات الأغراض، فأباح لهم أن یتعمّدوا بالجنابة مع علمهم بعدم اصابة الماء، کما عرفت عدم الخلاف فیه وشهادة النصّ علیه، مع أنّ المتأمل فی الأدلة لا یکاد یری له خصوصیة وإنّما المناط فی جوازه ابتناء أمر التیمم علی التوسعة لا التضیّق» انتهی محلّ الحاجة(1).

وصدّقه الثانی بقوله: «وما ذکره جدیر بالتصدیق، نعم قد احتاط فی جوازه مع


1- مصباح الفقیه، ج 6، ص 360.

ص:416

قوله: وإن کان مِلْکا لهم جمیعا، أو لا مالک له، أو مع مالکٍ یسمح ببذله، فالأفضل تخصیص الجُنب به (1)

حفظه لرعایة احترام المیّت، ولو لم یصرف بعد حتی یجعله فاقدا للماء بالعدم، مع قوله إنّه غیر بعید»(1).

أقول: لکن الانصاف عدم امکان الاطمینان بما ذکراه، لوضوح أنّ حکم المتطهر بالماء والتراب لیس من قبیل الحاضر والمسافر بأن یکون الحکم تابعا للموضوع ولو بالاختیار، کما یظهر من الآیة من تعلّق الحکم بالتراب علی عدم وجدان الماء، إذا انضمّ إلی ما یدلّ علی شرطیة طهارة الماء للصلاة، وقد جعل الشارع التراب بدلاً عن الماء للتوسعة والتسهیل فیما لا یمکن تحصیل الماء، لا مع امکانه واعدامه باختیاره بلا إثمٍ وعصیان تحت أیّ غرضٍ کان، ولأجل ذلک حکم الفقهاء بأنّ الاجناب مع الاختیار مع العلم بعدم الماء یعدّ امرا مخالفا لمقتضی الحکم الأوّل، فأخرجوه بواسطة النص الصریح، واقتصروا فی ما هو مخالف للأصل علی الموضع المنصوص. وعلیه، فالالتزام جزما بجواز البذل مع علمه بعدم تمکّنه من الماء لنفسه، لا یخلو عن تأمّل، فالأحوط لو لا الأقوی عدم الجواز کما علیه صاحب «الجواهر» وکثیرٌ من المتأخرین کصاحب «العروة» کما یستفاد من کلامهم.

(1) 1_ وهو الفرض الثانی: هو ما إذا کان مِلْکا لهم جمیعا علی نحو الاشتراک، ولم یکن حصّة کلّ واحد منهم وافیا لما علیه من الغُسل أو الوضوء، وفی قباله هو ما لو علم أحدهم بالقدرة علی الاکمال بحیث یفی ما علیه أو ظنّ بذلک، فحکمه


1- مصباح الهدی، ج 7، ص 407.

ص:417

حکم من کان مِلْکا له ویفی بما علیه، فیقدّم هو علی غیره.

وأمّا ان لم یعلم أحدهم بالمکنة من ذلک، أو لم یظنّ بذلک:

فإن کان الذی یصرفه فیه هو المیّت، وکان یمکنه بعض أغساله الثلاث، وقلنا بوجوب الاتیان بالبعض إذا عجز عن الکلّ، وأمکن صرفه فی البعض، وجب صرف حصّة المیّت فیما یمکن من أغساله، ولیس لوارثه أن یسمح به لغیر المیّت کالفرض الأوّل.

وأمّا لو لم نقل بوجوب الغسل بالبعض، أو لم یمکن حتّی بهذا المقدار، سقط الغُسل وانتقل فرض المیت إلی التیمم، ولا یجب غسل بعض اعضاء المیّت، کما لا یجب علی الجنب أو المُحدِث بالأصغر التبعیض فی الغسل والوضوء، ولا یجب علی أحدهم بذل الماء لغیره الذی کان ملکه لیکمل به ما یفی بالغسل أو الوضوء، لعدم الدلیل علی وجوب ذلک.

الفرض الثالث: أن یکون الماء مباحا للثلاثة ولا مالک له، فهل یجب علی کلّ من الجنب والمحدث وروثة المیّت المبادرة إلی حیازته أم لا؟ فیه وجهان بل قولان: بناءً علی القول بجواز البذل فی الموجود، ولم نقل بوجوب حفظه وحرمة البذل کما علیه صاحبی «المصباح الفقیه» و«مصباح الهدی» فلا وجه لهما القول بوجوب المبادرة، إلی حیازته بعد کون وجوب الغسل والوضوء عندهم مشروطا بوجوده شرطا شرعیا، والمقدمات الوجودیة فی الواجب المشروط لا تصیر واجبة من قبل وجوب ذیها.

بخلاف من یقول بحرمة البذل کصاحب «الجواهر» و«المدارک»، بل هو المختار علی الأحوط، فإنّه یجب علی کلّ واحد منهم المبادرة إلی حیازته، فإنّ تبادروا وسبق أحدهم علی حیازته فهو یصیر بذلک مالکا له، فیکون حکمه حکم

ص:418

الفرض الأوّل. وإنْ لم یسبق الیه أحدهم بل تساووا فی حیازته، کان الماء مشترکا بینهم، ویکون حکمه حکم الفرض الثانی، کما أنّه یظهر من سابقه من تبادر الجمیع وسبق أحدهم علیها حکم ما اذا لم یتبادر أحدهم بترک ما هو واجب علیه من المبادرة وتبادر الآخر أو الآخرین فالماء یصیر ملکا له أولهما کما سبق.

وإن لم یتبادر أحد منهم وترکوا المبادرة جمیعا، وکان الماء للغیر بالحیازة أو بغیرها، وأباح لواحدٍ منهم:

تارة: یبیح لواحدٍ منهم بیعنه، فیصیر حینئذٍ ملکا له، فیکون حکمه حکم من ملک الماء لنفسه والکلام هو الکلام.

وأخری: أباح لأحدهم لا بعینه، فالظاهر قیام الاجماع علی عدم تعیّن صرفه فی أحد من الثلاثة، بحیث لا یکون للآخرین صرفه فی طهارته، فحینئذٍ یقع الکلام فی أنّ الأفضل تقدیم إی واحدٍ من الثلاث؟

لا اشکال ولا خلاف فی أنّ المحدث بالأصغر یتیمّم ولا یقدّم علی عدلیه، والخلاف إنّما وقع فی الآخرین من تقدیم غُسل الجنب وتیمّم المیت أو عکسه.

والأوّل هو المنسوب إلی المشهور، والثانی نسبه المحقق فی «الشرایع» إلی قیل، وقال فی «المدارک» انّه لم یعرف له قائلاً، ولکن السند لکلّ منهما موجود.

أقول: لا بأس حینئذٍ من بیان ما استدلّ به المشهور، وهو عدد من الأخبار.

منها: ما رواه «الفقیه» بسند صحیح عن عبدالرحمن ابن أبی نجران _ وإنْ علی حسب نقل «التهذیب» یعدّ مرسلاً، لکنه غیر قادح _ «أنّه سأل أبا الحسن موسی بن جعفر علیه السلام عن ثلاثة نفر کانوا فی سفرٍ، أحدهم جنب والثانی میّت والثالث علی غیر وضوء، وحضرت الصلاة ومعهم من الماء قدر ما یکفی أحدهم، من یأخذ الماء، وکیف یصنعون؟ قال یغتسل الجنب، ویدفن المیّت بتیمم، ویتیمم

ص:419

الذی هو علی غیر وضوء، لأنّ غسل الجنابة فریضة، وغُسل المیّت سنّة، والتیمم للآخر جائز»(1).

ومنها: روایة حسن التفلیسی، قال: «سألت أبا الحسن علیه السلام عن میّت وجنب اجتمعا ومعهما ماء یکفی أحدهما، أیّهما یغتسل؟ قال: إذا اجتمعت سنّة وفریضة بُدی ء بالفرض»(2).

والمراد بالسنُّة هنا فی الخبرین ما علم وجوبه من السنّة لا من القرآن، قاله الشیخ وغیره، ویحتمل العمل علی الطریقة المتبعه، وإنْ کانت واجبة بخلاف غُسل الجنب حیث أنّ وجوبه جاء فی القرآن فهو فریضة.

ومنها: روایة الحسین بن النضر الأرمنی، قال: «سألت أبا الحسن الرضا علیه السلام عن القوم یکونون فی السفر، فیموت منهم میّت ومعهم جنب، ومعهم ماء قلیل قدر ما یکفی أحدهما، أیّهما یبدأ به قال: یغتسل الجنب ویدفن المیّت، لأنّ هذا فریضة وهذا سنة»(3).

أقول: وفی قبال هذه الأخبار ما یفید عکس ذلک من تقدیم غُسل المیّت:

منها: الروایة مرسلة عن محمّد بن علی، عن بعض أصحابه، عن أبی عبداللّه علیه السلام ، قال:

«قلت له: المیّت والجنب یتفقان فی مکان لا یکون فیه الماء الاّ بقدر ما یکتفی به أحدهما، أیّهما أولی أن یُجعل الماء له؟ قال: یتیمّم الجنب ویغتسل المیّت بالماء»(4).


1- وسائل الشیعة: الباب 18 من أبواب التیمّم، الحدیث 1.
2- وسائل الشیعة: الباب 18 من أبواب التیمّم، الحدیث 3.
3- وسائل الشیعة: الباب 18 من أبواب التیمم، الحدیث 4.
4- المصدر السابق، الحدیث 5.

ص:420

قوله: وقیل یختصّ به المیّت، وفی ذلک تردّدٌ (1)

ومنها: روایة أبی بصیر، قال: «سألت أبا عبداللّه علیه السلام عن قوم کانوا فی سفر فأصاب بعضهم جنابة، ولیس معهم من الماء الاّ ما یکفی الجنب لغُسله، یتوضؤون هم هو أفضل، أو یعطون الجنب فیغتسل وهم لا یتوضؤون؟ فقال: یتوضؤون هم ویتیمم الجنب»(1).

ممّا ذکرنا ظهر الاختلاف من تقدیم الوضوء علی غُسل الجنب خلاف ما ورد فی الأخبار من تقدیم غسل الجنابة علی الوضوء وغسل المیت، وللاشارة إلی هذا الاختلاف قال المصنّف بعده:

(1) لقائل باختصاصه بالمیّت تمسک بالخبرین الأخیرین، وعلّل ذلک بأنّ غسله خاتمة طهارته، ولأنّ من غایته أیضا نظافة المیّت ورفع نجاسته بما لا یقوم التیمم مقامه، ولأنّ الموت جنابة فیقدّم علی المُحدث.

هذا فی قبال الطائفة الأولی من الأخبار التی قد تمسک بها القائلین بتقدم الجنب، ومعلّلین بعظم حدث الجنابة، ولأن غایة غسله فعل الطاعات کاملة بخلاف غُسل المیّت، فإنّ غایته التنظیف مع أنّه سنة وغُسل الجنابة فریضة فیقدّم علیه لانّه أهمّ، وللأمر به، ولأجل وجود هذه العلل والخبر فی الطرفین تردد المصنّف وتوقّف فیه.

أقول: الظاهر الحکم بتقدیم القول الأوّل، لأنّه مضافا إلی شهرته بین الأصحاب قولاً وشهرته نصا، أنّه یکون أولی من جهة سند الخبر، اذ ورد فیه خبرٌ صحیح وهو یقدّم علی الآخر المرسل، مع أنّه لیس فی روایة أبی بصیر حکم


1- المصدر السابق، الحدیث 2.

ص:421

المیّت بل کان الجنب مع المحدث بالأصغر، فیحتمل کون الحکم بتقدیم الوضوء احتمال: کون الماء ملکا لهم، وقد تقدم أنّه حینئذٍ یقدّم مالک الماء.

أو کون حصّة کلّ منهم تکفی لوضوئه مع کون السؤال فیه، وفی الخبر المرسل عن الأفضلیة لا بنحو الالزام.

وکیف کان، یظهر منهما تقدیم المیّت والمحدث علی الجنب، وهو مخالف لفتوی الأصحاب، بل فی «التنقیح» دعوی الاجماع علی تقدیم سائر انواع الأکبر علی المیّت، حتّی مثل الحائض والمستحاضة. وعلیه فالقول الثالث وهو التوقّف المستند إلی الماتن ضعیفٌ کضعف القول الرابع للشیخ فی «الخلاف» و«المبسوط»، حیث قال بالتخییر إذا دار الأمر بین الحائض والمیّت، معلّلاً بأنّها فروض اجتمعت ولیس بعضها أولی من بعض فیتخیر، إذا لأخبار مختلفة علی وجه لا ترجیح فتحمل علیه، مع أنّک قد عرفت الترجیح فی المسألة بالقول الأوّل.

اللّهم الاّ أن یراد نفی الاولویّة اللزومیّة دون الندبیة، فلا یکون حینئذٍ مخالفا للأصحاب لو أرادوا من التقدیم الأفضلیة لا الحتمیة، وهو غیر بعیدٍ کما قد صرّح بذلک المحقق فی «المعتبر».

وما ذکره الشیخ لیس موضع البحث، فإنّا لا نخالف أنّ لهم الخیرة، لکن البحث فی الأولی عن اولویة لا تبلغ حدّ اللزوم، فانّه صریح کصریح بعض من تأخّر عنه بأنّ محلّ النزاع یتمحور حول الأفضلیة، بل فی «الجواهر»: «قد تشعر ذلک عبارة بعضهم بالاجماع علی عدم الوجوب.»

وعلیه، فاذا لم یکن الأمر فی الأخبار الزامیا بل کان للاولویة، فلا وجه حینئذٍ للخروج عمّا تقتضیه أصول المذهب من تسلّط الناس علی اموالهم وعدم تسلّط الغیر علیه.

ص:422

ولکن اختار صاحب «الجواهر» التفصیل فی ذلک، قائلاً بأنّ هذا المعنی من الأولویة فی تقدیم الجُنُب علی عدلیه إنّما یصحّ فی المشترک والمبذول تمسکا بأصالة البراءة وغیرها عن ذمّته من تعیین ذلک بالتقدیم، بل احتمل عدم شمول الأخبار للصورتین، هذا بخلاف ما لو کان الماء مباحا أصلّیا، أو من مالکٍ من جهة الاطلاق من غیر تعیینٍ، فدار الأمر بین تغیسل المیّت وتیمّم للجنب أو رفع الجنابة مع وجوبها معا علیه، فقد یتأمّل حینئذٍ فی جواز تغسیل المیّت به والتیمم للجنابة، خصوصا إذا کان المجنب قد حازه وملکه، تمسکا بالأخبار «المعتبر»ة السابقة، ولصدق وجدان الماء له.

وایجاب غسل المیّت علیه مع ترجیح الشارع رفع الجنابة لا ینافیه، ولذلک یلاحظ أنّ ظاهر «الموجز» وجوب تقدیم الجنب فیه.

أقول: والأمر کذلک کما هو صریح کلام صاحب «العروة» وأصحاب التعلیق، حتّی إنّا قد حکمنا بالاحتیاط فی صورة کونه مملوکا للمحدث مثلاً، فإنّه حینئذٍ یتعیّن صرفه علی نفسه علی الأحوط، لامکان تخیّل تقدیم رفع الجنابة مع رفع الحدث الأصغر والاکتفاء بالتیمم، ولکنّه مشکلٌ جدّا.

نعم، قد یتأمل فی وجوب التقدیم إذا کان غسل الجنابة غیر واجب له، کما لو کان قبل الوقت، مع وجوب تغسیل المیّت علیه فعلاً، اذ لا وجه له الاّ علی القول بوجوب حفظ الماء علیه قبل الوقت، إذا علم عدم وجدانه بعده، لکن شموله لمثل المقام الذی معارضٌ محلّ تأمل.

کما قد یتأمل فی الحکم بالاستحباب فی تخصیص الجنب بالماء، إذا کان الماء مباحا مع مزاحتمه للمحدث بالأصغر.

وجه التأمّل: هو أن وجوب المبادرة علی کلّ منهما مقدمة للواجب موجود، فلا یمکن فرض استحاب تقدیم غُسل الجنب علی وضوء المحدث، اذ مجرد

ص:423

کون حدثه أکبر والآخر أصغر، مع وحدة حکم الوجوب علیهما، لا یوجب الحکم بالتقدیم فی الجنب استحبابا، کما یظهر ذلک من عبارة المصنّف.

ثمّ باقی البحث فی أنّه إذا استحب تقدیم الجنب علی عدلیه، فهل الاستحباب تکلیفی هنا لکی یلزم منه وجود المخاطب، بحیث لو کان بعض الورثة الشریک فی المال طفلاً أو مجنونا فلا خطاب لهما، وبالنتیجة لا استحباب حینئذٍ، أو أنّ الاستحباب یعدّ حکما وضعیا مالیّا نظیر استحباب الحبوة وزکاة مال الصبی، ولعلّ مدلول؟

فی «الجواهر»: أنّ ظاهر بعض الأصحاب هو الأوّل، ولعلّ مدلول ظاهر الروایات الثانی کما هو المتبادر من تلک الأحکام فی هذه الموارد، حتّی ولو کان المباشر لذلک هو أولیاء الطفل والمجنون.

ولعلّ وجه الاجمال فی الأخبار وعدم ذکر تفصیل حکم المسألة، لأجل قیام التسامح العرفی فی المال المبیح المشترک فی السفر، بحیث أنّه إذا کان الشخص قد حازه وأخذه لم یکن قصده من حیازته الاّ اتیان الماء لجماعته ورفقته، فیکون الماء مشترکا بین الجمیع لا أحدهم بخصوصه، واختصاصه بأحدهم محتاج لی عنایة ومؤونة زاندة، ولذلک لم تقع الاشارة فی الأخبار إلی ذلک، بل ورد الأمر فیها باغتسال الجنب مع غلبة تعداد وارث المیّت، وعدم حضور بعضهم، أو طفولیّته، ولذلک لابدّ لکلّ شخص العمل بما هو واجبه فی کلّ مورد، فاذا کان المال والماء مِلکا له ومبذولاً له جاز له صرفه لنفسه، واذا کان مباحا جاز التصرف فیه لکلّ أحدٍ إذا کان الوجوب لکلّ من الجنب والمحدث وفعلیّا وخاف الفوت، فیجب لمن بادر أن یصرفه لنفسه، والاّ قدّم من هو الواجب علیه دون غیره، ولذلک یقدم غسل المیّت إذا لم یجب علیه أداء الصلاة لخوف فوتها أو ضیق وقتها، ولازم هذا التقریر عدم الاستحباب فی التقدیم فی جمیع الموارد.

ص:424

نعم، یمکن أن نقرر الجمع بین الوظیفین، کما لو دار الأمر بین تغسیل المیّت أو تحصیل الطهارة المائیة للوضوء، بأن یتوضّأ بالماء أوّلا ثمّ یجمعه المستعمل ویصرفه فی غسل المیّت، بل وهکذا فی الجنب والمیّت بشرط عدم نجاسة بدنه الموجب لتنجیس الماء، أو امکان تطهیرها به، والغسل به ثمّ صرفه فی غسل المیّت إنْ أجزنا صرف الماء المستعمل فی الحدث الاکبر لمثل غسل المیّت، والاّ فلا، ولعلّ عدم ذکر مثل ذلک فی الأخبار کان لأجل عدم تیسّره غالبا، إمّا لقلّته الماء أو لعدم امکان جمعه فی موضع تم وصرفه کذلک، والاّ کان الجمع مع الامکان أولی قطعا، لکونه عملاً بالوظیفتین، بل هو خارج عن محل النزاع، لأنّهم فرضوا الماء بمقدار لم یکن کافیا لأحدهم، کما هو صریح عباراتهم.

أقول: وممّا ذکرنا یظهر الاشکال فیما استدلّ به الشهید رحمه الله فی «الذکری» من هذه الأخبار بانّه: «حیث لم یرد فیها الأمر بالجمع، فیکون دلیلاً علی عدم طهوریّة الماء المستعمل، وإلاّ لکان قد ورد الأمر بجمعه»، لما قد عرفت أنّه خارج عن فرض المسألة، أو أن الأغلب عدم القدرة علیه، فاستفادة ذلک منها لا یخلو عن تأمّل.

ثمّ لا یخفی أنّ اختصاص المصنّف حکم المسألة بصورة الجمع بین المیّت والجنب والمحدث، کان لأجل ورود الأخبار بهذه الصورة، والاّ فإنّ الصور المتصورة کثیرة، مثل ما لو دار الأمر بین المیّت وسائر الأحداث مثل الحیض أو الاستحاضة والنفاس، أو دوران الأمر بین المحدثین من الجنب والحائض والمستحاضة والنفساء، أو بین المیّت وبین من یرید ازالة النجاسة عن ثوبه وبدنه، إن لم یتمّ الاجماع المحکی عن «المعتبر» و«المنتهی» و«التذکرة» علی تقدیم الازالة علی رفع الحدث الأصغر.

کما أن حکم کلّ واحد منها إذا لم یکن له دلیلٌ بالخصوص، أمکن فرض صور

ص:425

قوله: السابع: الجنب إذا تیمم بدلاً عن الغسل ثمّ أحدث، أعاد التیمم بدلاً من الغسل، سواءٌ کان حدثه أصغر أو أکبر (1)

أخری فیه مثل عظم الحدیثة وعدمها، ومشروعیة البدل وعدمها، وتعدد الغایات وکثرتها، وکون الوجوب بالفرض أو بالسنّة ونحو ذلک، وإنْ کان فی ثبوت الأولویة فی الرجحان فی بعضها _ بحیث ینصرف الیه اطلاق الوصایا والإیمان والنذر ونحوها، مع کون النسبة بینها التعارض علی نحو العموم من وجه _ مشکلٌ جدا، وقد تعرض جماعة من الأصحاب لجملةٍ منها.

نعم، فی بعضها ادّعی الاجماع علی تقدیمه، مثل دعوی قیام الاجماع المحکی عن «التنقیح» بتقدیم الحدث الأکبر علی الأصغر، فربما یحکم بذلک وإلاّ لولاه لامکن الاشکال فی بعضها بأنّه فرض وغیره سنة، أو فی بعضها أنّه مشتمل علی الملاکین دون الآخر، مثل غسل المیّت الذی هو مضافا إلی کونه للتنظیف والتطهیر عن النجاسة، مشتمل علی کونه کالجنابة لما ورد من خروج النطفة من عند الموت، فیکون المیّت حینئذٍ مثل الجنب مع اضافةٍ فیرجّح علیه لولا الدلیل، وغیر ذلک من الوجوه والمرجّحات المحتملة لتقدیم بعضها علی بعض. ولذلک یظهر من بعض الأصحاب الرجوع فی مثل ذلک إلی القرعة فی بعض الصور، وهو لا یخلو عن وجه، لکونها لکلّ أمرٍ مشکل ومشتبه، خصوصا إذا احتمل فی بعضها تعیّنه واقعا ولکن اشتبه، مضافا إلی کونه أحوط علی کلّ حال، کما لا یخفی علی المتأمّل، واللّه العالم.

(1) ما ذکره المصنّف من: «أنّه لو أحدث بالأصغر بعد التیمم البدل عن الغسل، ثم وجد ماءً بقدر أن یتوضّأ لم یعتدّ به، بل یتیمم بدلاً ممّا وجب علیه من الغسل» هو المشهور بین الأصحاب شهرة عظیمة، کادت تکون اجماعا، بل لم ینقل

ص:426

الخلاف الاّ من السیّد المرتضی فی «شرح الرسالة» من القول بعدم وجوب اعادة المحدث بالأصغر للتیمم، بل یتوضّأ إن وجد الماء له خاصة، والاّ یتیمم بدلاً عن الوضوء لا عن الغسل، لارتفاع الجنابة بالتیمم سابقا لها، وعدم ایجاب هذا الحدث الاّ الوضوء، مع أنّ المحکی عنه فی غیر «شرح الرسالة» هو القول المشهور أیضا، وتبعه علی ذلک کثیر من المتأخرین والمحققین کالکاشانی فی «المفاتیح»، وقوّاه صاحب «الحدائق» وصاحب «مصباح الفقیه» و«مصباح الهدی» وکذلک لسیّد فی «العروة» وکثیرٌ من أصحاب الحاشیة، وإن احتاط بعضهم فرارا عن مخالفة المشهور.

استدلّ للمشهور: بالاجماع المنقول مستفیضا لو لم یکن متواترا منا، بل من علماء الاسلام إلاّ الشاذ علی أنّ التیمم مبیحٌ لا رافع، فحیث حصل النقض بالحدث ارتفعت الاباحة، فیجب اعادته للجنابة السابقة، وإن تمکن من ماءٍ للوضوء، حیث لا أثر له مع وجود الجنابة.

مضافا إلی ما استدلّ به المحقّق فی «المعتبر» علی بقاء الجنابة _ بعد أن ادّعی اجماع العلماء کافة علی أنّه لا یرفع الحدث _ بأنّ: «المتیمم یجب علیه الطهارة عند وجود الماء بحسب الحدث السابق، فلو لم یکن الحدث السابق باقیا لکان وجوب الطهارة لوجود الماء، اذ لا وجه غیره، ووجود الماء لیس حدثا بالاجماع، ولأنّه لو کان حدثا لوجب استواء المتتیممین فی موجبه، ضرورة استوائهم فیه، لکن هذا باطل لأنّ المحدث لا یغتسل والمجنب لا یتوضأ» انتهی(1).

هذا کلّه مع تمسّکهم بمفهوم قول أبی جعفر علیه السلام فی صحیح زرارة: «ومتی


1- «المعتبر»، ج 1، ص 394.

ص:427

أصبت الماء فعلیک الغسل إنْ کنت جنبا، والوضوء إنْ لم تکن جنبا»(1).

حیث شرط الوضوء بعدم الجنابة، فمع وجودها لا تأثیر للوضوء بعد حدث الجنابة کما فی المقام.

وبما ورد فی الأخبار «المعتبر»ة علی أمر الجنب بالتیمم، وإنْ کان عنده من الماء ما یکفیه للوضوء:

منها: خبر الحلبی، قال: «سألتُ أبا عبداللّه علیه السلام عن الرجل یجنب ومعه قدر ما یکفیه من الماء لوضوء الصلاة، أیتوضأ بالماء أو یتیمم؟ قال: لا بل یتیمم الحدیث»(2).

ونحوه غیره، هذا جمیع ما استدلّ به.

هذا، مضافا إلی امکان دعوی معارضة استصحاب الحالة السابقة قبل الحدث لما بعده بعد الشک فی زوالها، مع استصحاب عدم مشروعیة الوضوء له قبل التیمم، وبقاء أحکام الجنابة وآثارها.

أقول: لا یخفی ضعف جمیع ما استدلّ به، لما قد عرفت فی المباحث السابقة فی باب النیة أنّ التیمم بدل الغسل رافعٌ للحدث لا مبیحٌ، لأنّه مقتضی عموم البدلیة، وکون التراب أحد الطهورین، والتعلیلات الواردة فی الأخبار علی أنّه علی طهر لمن کان تیمم، بل مقتضی کفایته عشر سنین وأمثال ذلک، فبعد تأیید هذا الوجه ینحلّ أکثر الاشکالات، ویندفع به الاستدلالات حیث یظهر أن الحدث الأصغر لا یوجب إلاّ زوال ما هو الرافع لنفسه من التوضی، فلابدّ من تحصیله مع وجود الماء والاّ یتیمّم عنه لا عن الغسل، لأنّ تیممّه قد أزال الأثر المتعلق بالغسل، والمفروض عدم انتقاضه بالحدث الأکبر أو بوجدان الماء، فأثر التیمم


1- وسائل الشیعة: الباب 12 من أبواب التیمّم، الحدیث 4.
2- وسائل الشیعة: الباب 24 من أبواب التیمّم، الحدیث 1.

ص:428

منه باق لما بعد الحدث الأصغر لأنّه یصدق علیه أنّه عاجز عن استعمال الماء للغُسل، فهو متطهّرٌ عن الجنابة، فبذلک ینحلّ الاشکال المتقدم فی عبارة «المعتبر» ویجاب عنه بأنّ وجدان الماء هنا لا یستلزم کونه حدثا، لأنّ العجز أخذ قیدا فی طهوریّة التیمم، فلا یحتاج عود الجنابة بعد طرّو القدرة إلی سبب جدید، بل بمجرد القدرة علی الاستعمال ینتقض التیمم، فلا یرد کون وجود الماء حدثا، بل هو غایةٌ لبقاء الجنابة، وعوده إلی الحالة السابقة قبل التیمم.

وأیضا: یُجاب عمّا استفید من صحیح زرارة بشرطیة الوضوء بعدم الجنابة لوجود الشرطیة هنا بعد فرض عجزه عن الغسل، وکون أثر التیمم من الطهارة باقیا له دون الوضوء حیث یکون قد زال أثره بالحدث الأصغر.

وأیضا: أجیب عن روایة الحلبی وغیرها بانّه غیر مرتبط بالمقام، ولا اطلاق لها لکی تشمل ذلک، لأنّ المقصود منه افهام أنّ الجنب لابدّ له من التیمم، ولا تأثیر للضوء، والمفروض فی المورد انّه مع عجزه عن استعمال الماء کان متطهرا، غایة الأمر کان محدثا بالحدث الأصغر، فلابدّ له من الوضوء، وإنْ لم یتمکن تیمّم له.

فبعد ما ثبت بأدلة البدلیة والمنزلة وکفایته عشر سنین، کون المتیمم بدل الغسل متطهرا کالمتطهّر بالماء، فلا یبقی حینئذٍ بعد الحدث الأصغر مجالٌ للاحتمال، لأنّه لم یخرج بذلک عن کونه عاجزا عن استعمال الماء للغُسل وعلیه فیبقی أثر تیمّمه باقیا بالنسبة إلی الغسل، لکن زائلاً بالنسبة إلی الوضوء لحصول غایته وهو الحدث.

أقول: أمّا الاجماع المدعی _ کما عن «مختلف الشیعة» _ حیث قال: «لو أحدث المتیمم من الجنابة حدثاً أصغر، انتقض تیمّمه اجماعا».

فجوابه: یمکن أن یکون وجه الاجماع مبنیّا علی أنّ التیمم یعدّ مبیحا لا رافعا،

ص:429

کما هو مختار صاحب «الجواهر» أیضا، والاّ فمع کونه رافعا للحدثُ یشکل دعوی قیام، الاجماع علی رجوع الحدث الأکبر الیه مرّة أخری لصدور الحدث الأصغر منه. وحیث کان هو المختار فدعوی الاجماع غیر قادحٍ، مع ما فی دعواه مع کثرة المخالف فیه ولو بین المتأخرین کلامٍ، کما لا یخفی.

ولکن مع ذلک کلّه، یعدّ العمل بالاحتیاط بإعادة التیمم بدلاً عن الغسل والوضوء معه إنْ وجد الماء، أو التیمم له مع تمکّنه فی غیر غُسل الجنابة، أو التداخل بنیّة التیمم بما فی الذمّة لکلا الأمرین لو فقد الماء بعد الحدث الأصغر فی التیمم عن غُسل الجنابة حسنا جدا، حذرا عن مخالفة الأجلاّء والمشهور، وإلاّ کان مختار السیّد من تبعه من حث الدلیل متینا، واللّه العالم.

وبالجملة: لا فرق علی القول بالنقض بالحدث الأصغر بین اتحاد الغُسل مع الوضوء فی التیمم بغُسل الجنابة وتیممه، أو تعدده کتیمم غُسل الحیض مع تیمم الوضوء فیه، حیث إنّه لم نقل بانّه إن وجد غایته لکلّ واحدٍ دون الآخر ینتقض ذلک دون غیره، کما لو وجد الماء للوضوء فقط انتقض تیممه دون تیمم الغُسل کما أنّ عکسه کذلک.

وعلیه فکلّ غایة یتنقض التیمم لها بالحدث المنافی لها بالخصوص کالحدث الأصغر بالنسبة الی الوضوء، فاحتمال أنّه لا ینتقض التیمم لصوم الجُنب والحائض بالنوم وغیره من الحدث الأصغر، ولا تیمم الثانیة للوط ء مثلاً بناءً علی وجوبه بدل الغسل عن الوط ء، وهکذا، لعدم منافاة النوم للصوم، ولا حدث الجنابة للوط ء، ممّا لا یکن المساعدة معه بناءً علی قبول کون الحدث الأصغر مزیلاً لأثره، کما لا یخفی.

نعم، لا ینتقض التیمم الذی هو بدل عن الحیض بمجرد التمکّن من الماء

ص:430

قوله: الثامن: إذا تمکّن من استعمال الماء انتقض تیمّمه (1)

للوضوء خاصة، وإن انتقض به التیمم الذی هو بدل عن الوضوء، کما أنّ الأمر کذلک فی صورة العکس إن فرض تحقّقه، لأنّ اصابة الماء بنفسه لا تعدّ من الاحداث حقیقةً، بل هو من الغایات التی یرتفع عندها حکم التیمم ویظهر الحدث الأوّل، کما هو واضح.

(1) انتقاض التیمم الذی کان تحققه نتیجة عجزه عن الاستعمال والتمکّن منه عقلاً وشرعا یعدّ حکما اجماعیّا محصّلاً ومنقولاً نقلاً مستفیضا وان لم یکن متواترا منا، بل ومن العامّة إلاّ عند الشاذ منهم، بل ویدلّ علیه نصوصا ومن النصوص صحیحی زرارة:

الأوّل قال علیه السلام : «لا بأس أن یصلّی الرجل صلاة اللیل والنهار کلّها بتیممٍ واحدٍ ما لم یحدث أو یصب ماءً»(1) ومثله خبر السکونی(2).

والآخر: قال الصادق علیه السلام : «فی رجل تیمم قال یجزؤهُ ذلک إلی أن یجد الماء»(3).

فإنّ ظاهر الخبرین وإن کان یوهم أن نفس إصابة الماء یعدّ ناقضا لا تمکّنه من استعماله، إلاّ أنّه قد عرفت منا فی صدر البحث بأن المراد من الوجدان والاصابة بلحاظ امکان الاستعمال، والاّ مجرّد وجود الماء الممنوع عن استعماله عقلاً أو شرعا لا یوجب صدق الوجدان، والاّ لما صحّ تیمّم من کان ممنوعا منه لأجل الغصب أو العذر الشرعی لصدق الوجدان علیه فرضا، مضافا إلی قیام


1- وسائل الشیعة: الباب 20 من أبواب التیمّم، الحدیث 1.
2- المصدر السابق، الحدیث 5.
3- المصدر السابق، الحدیث 2.

ص:431

قوله: فلو فقده بعد ذلک افتقر إلی تجدید التیمم (1)

الاستصحاب والعمومات الدالة، ولا ترفع الید عنهما الاّ فی القدر المتیقن منه وهو الواجد القادر عن الاستعمال، فعند حصوله ینتقض قطعا کما سیشیر الیه.

(1) یعنی إذا وجده علی نحو التمکّن المذکور ثمّ فقده إمّا أصل الماء أو تمکّنه، بأن مضی زمانا یسع الوقت لتحصیل الطهارة علی الأصحّ ولم یفعل، أو مطلقا عند من لم یعتبر مضیّ الوقت المذکور عند غیر الأصح، فلابدّ حینئذٍ أن یجدّد التیمم من عرض له هذا الوصف لا غیره، مثلاً لو وصف تیمم البدل عن غسل الحیض بهذا الوصف بخلاف یتمم الوضوء أو عکسه کما هو الغالب وقوعا، ینتقض خصوص ذلک التیمم، کما لو حصّل له الماء لخصوص الوضوء دون الغُسل، فینتض حینئذٍ تیمم الوضوء فقط دون الغسل، کما نصّ علیه غیر واحدٍ من الأصحاب، مضافا إلی ما عرفت کونه مقتضی الأصل والعمومات من غیر معارض.

أقول: یتولّد من هذه المسألة فروعا:

الفرع الأوّل: لو تمکن المکلّف من ماء صالح للوضوء أو الغسل لا لهما، ففی انتفاضهما معا بذلک، أو ما یختار المکلّف منهما، أو القرعة، أوجه:

أقواها الأوّل، لصدق الوجدان فی کلّ منها، وعدم الترجیح، ولأولویّته بما تسمعه عن «المنتهی» فی الماء المباح للجماعة، وإن کان الفرق بینهما واضحا هذا.

قلنا: لا یخفی أنّ ما ذکره صاحب «الجواهر» إنّما یصحّ لو لم نقل بتقدیم صرف الماء للحدث الأکبر کالحیض والنفاس، وإلاّ یقدم علی الوضوء ویتیمّم منه، کما أنّ القرعة إنّما تکون فیما یحتمل التعیّن فی الواقع ثم حصول الابهام والاجمال فی تعینه، وإلاّ لو لم یکن کذلک، فلا وجه لتعیّنه بالقرعة لعدم الدلیل علیه.

ص:432

وکیف کان، فالحکم بحصول النقض لهما فیه یکون أوفق بالاحتیاط لا بالفتوی، واللّه العالم.

الفرع الثانی: لو وجب علیه تکرار الغسل لأسباب متعددة کالحیض والمسّ ولم یتمکن فتیمّم، ثمّ وجد الماء لواحدٍ منهما، ولا یقدر علی تکرار الغسل:

فتارة: یلاحظ الحکم مع القول بتداخل الغُسلین وجوازه، وأخری: بعدمه

ففی الأوّل: یصح القول بالنقض لهما، حیث یصدق علیه الوجدان لکلّ واحد منهما، بل هو أولی من السابق، لعدم وجود مرجّح لتقدیم أحدهما علی الآخر، لکون کلّ واحد منهما حدثا من القسم الأکبر، والرخصة فی التداخل یوجب صدق النقض لهما، لأنّ أصل الغسل لواحدٍ یکفی عن کلیهما، فصدق النقض لهما أولی عن غیره لمشروعیة التداخل له، بل یعدّ وجوبه علیه فی مثل هذا الحال عند وجوب المشروط به للمقدمة.

وعلی الثان¨: وهو عدم التداخل، فربّما یمکن القول بعد النقض الاّ لواحدٍ إذ لا یکفی الاّ له، ولکن حیث لا یدری أیّهما نقض، فلابدّ له أن یکرر لتحصیل الیقین بالبرائة عن الشرط، فتکون نتیجته فی العمل هو النقض لهما، وإن لم یکن کذلک فی الحقیقة، اذ لا مرجّح لأحدهما علی الآخر.

الفرع الثالث: لو وجد جماعة ماءً مباحا لا یکفی الا لأحدهم:

ففی «المنتهی» انتقض جمیعا لصدق الوجدان علی کلّ واحد،

أقول: وینبغی تقییده بما إذا حصل التمکّن من استعماله للجمیع، أمّا لو تبادروا إلی حیازته فسبق أحدهم انتقض تیممه خاصة، وإنْ لم یسبق بل تساوی الجمیع لم ینتقض تیمم أحدٍ منهم إلاّ مع بذل الشرکاء نصیبهم لواحد.

نعم، لو کان معهم جنب، وقلنا باختصاصه شرعا بحیث لیس لغیره المزاحمة له، اختص النقض به أیضا.

ص:433

وفی «الجواهر»: «إنّ اطلاقه ذلک لا یخلو عن تأمّل»،

ولعلّ وجه تأمّله مختصٌّ بصورة عدم سبق أحدهم وتساوی الجمیع فیه حیث أنّ القول بانّه لم ینتقض تیمم أحدٍ منهم لا یخلو عن اشکال، لما قد عرفت من صدق الوجدان لکلّ واحد تعلیقا بالسبق والحیازة، ووجود مثل ذلک یکفی فی حصول النقض لواحدٍ منهم، إلاّ أنّه حیث لا یعلم ذلک فیکون حکمه حکم الصورة السابقة وهی أنّ الیقین بالبراءة عن حصول شرط الواجب المشروط لا یحصل الاّ بایجاد التیمم واتیان کلّ واحدٍ منهم.

اللّهمّ الاّ أن یتمسک کلّ واحدٍ منهم بالبرائة عن التکلیف، لاحتال کون تعلّقه بالآخر نظیر ما قیل مثله فی وجوب ردّ السلام إذا سلّم أحدٌ علی جماعةٍ، الاّ أن الالتزام بذلک فی المقام الذی من قبیل الواجب المشروط مشکلٌ لتعارض هذا الأصل مع أصالة عدم تحقّق المشروط مع الشک فی وجود شرطه، لشرطیّة وجوب الاحراز فی الشرط فی سقوط المشروط، خصوصا فی مثل المحصِّل والمحصَّل کالمقام.

الفرع الرابع: فیمن کان متیمّما ثم وجد الماء وهو فی داخل المسجد، وکان جُنبا:

ففی «المنتهی» _ علی المحکی عنه فی «الجواهر» _: «أنّ الأقرب جواز الدخول والأخذ من الماء والاغتسال خارجا، بل لو لم یکن معه ما یغترف به، فالأقرب جواز اغتساله فیه» وتبعه فی «المدارک» علی ذلک فی الأوّل، واستحسنه فی الثانی.

ثمّ استشکل علیه فی «الجواهر» فی اطلاق کلامه، وقال: «لکن قد عرفت فیما مضی حرمة اللّبث فی المساجد جلوسا کان أو غیره، نعم لو أمکن ذلک بالاجتیاز جاز لعدم الحرمة فیه»(1).


1- فی الجواهر، ج 5، ص 265.

ص:434

قوله: ولا ینتقض التیمّم بخروج الوقت (1)

قلنا: ولعلّ وجه اطلاق کلامه، لأجل أن المتیمم عن الجنابة هو متطهر ما لم یجد الماء الذی یمکن استعماله، لا مجرد الوجدان، فحینئذٍ إذا وجد الماء فی المسجد لا یوجب الخروج عن الطهارة الترابیة إلی أن یغتسل، أو یمضی وقت یسع فیه ذلک، فحینئذٍ لابدّ له لتحصیل الطهارة المائیة للواجب المشروط الذی یجب تحصیل شرطه، دخول المسجد وأخذ الماء، فحینئذٍ إن اغتسل فیه فهو علی أیّ حال طاهر إمّا بالترابیة أو بالمائیة، فلا یکون له حینئذٍ فترة یعدّ فیها مجنبا، هذا بخلاف ما لو أخذ الماء لکی یخرج ثم الاغتسال فی خارج المسجد، حیث یحتمل أنّه بعد أخذ الماء وإمکان الاغتسال فی المسجد یکون ذلک سببا لخروجه عن الطهارة، فیکون لبثة فیه أو عبوره فی المسجد مع الجنابة حراما، فلأجل ذلک حکم بما عرفت.

(1) نعم، یصحّ الحکم بالاغتسال خارج المسجد لو قلنا بعدم خروجه عن الطهارة إلاّ بعد الخروج عن المسجد مع الماء، وترکه الاغتسال، لصدق الوجدان مع التمکّن فی حینذاک لا قبله، کما یصحّ ویرد الاشکال لو لم نقل بجواز الدخول فی المسجد مع التیمم مثل ذوی الأعذار الموقّته لا الدائمة، أو التیمم لضیق الوقت فقط، حیث لا یکون تیممه حینئذٍ رافعا للحدث، فحینئذٍ یصحّ ما ذکره صاحب «الجواهر» قدس سره کما لا یخفی.

وبالجملة: نتیجة ما بیّناه هو التفصیل فی المورد، وإن کان الأحوط عدم الاکتفاء بمثل هذه الصلاة مع هذه الطهارة المائیة لو دخل واغتسل فی المسجد، بخلاف ما لو اغتسل فی حال الاجتیاز لو أمکن أو فی خارجه، فالطهارة کافیة،

ص:435

قوله: مالم یُحدث أو لم یجد الماء (1)

قوله: التاسع: من کان بعض اعضائه مریضا لا یقدر علی غسله بالماء ولا مسحه جاز له التیمم ولا یتبعضّ الطهارة (2)

وإن یحتمل تحقّق الاثم فی الثانی علی ما عرفت، هذا.

(2) وهو عندنا اجماعی بقول واحد، لصراحة الأخبار «المعتبر»ة علی عدم حصول النقض إلاّ عند اتیانه بالأمرین، کما هو صریح صحیح زرارة والسکونی من جواز الاتیان بصلاة اللیل والنهار کلّها بتیمم واحدٍ ما لم یحدث أو یُصیب الماء، وأن تیممه یجزیه إلی أن یجد الماء، مضافا إلی ما عرفت کون الحکم معلّلاً بان التراب بمنزلة الماء فیصحّ الاتیان بالصلوات ما شاء، فریضةً کانت أو نافلة، خلافا لبعض الجمهور حیث قال بانتقاضه قیاسا علی المستحاضة بجامع اضطراریة الطهارتین، مع أنّ مقتضی هذا القیاس هو تکرار التیمم لکلّ صلاة ولو لم یخرج الوقت، کما هو الحال کذلک وبه قال الشافعی هنا، ولا ریب فی بطلان ذلک کبطلان نقضه بخروج الوقت أیضا کما عرفت.

نعم، قد یورد علینا بورود هذا الحکم فی بعض الأخبار: خبر أبی همّام، عن الرضا علیه السلام ، قال: «یتیمّم لکلّ صلاة حتّی یوجد الماء»(1).

منها: خبر السکونی، عن الصادق، عن أبیه، عن آبائه علیهم السلام ، قال: «لا یتمتع بالتیمم الاّ صلاة واحدة ونافلتها»(2).

حیث یظهر منها لزوم تکرار التیمم لکلّ صلاةٍ ولو لم یحدث ولم یصب الماء، بل ولو لم یخرج الوقت.


1- وسائل الشیعة: الباب 20 من أبواب التیمّم، الحدیث 4.
2- المصدر السابق، الحدیث 6.

ص:436

قوله: التاسع: مَن کان بعض أعضائه مریضا لا یقدر علی غَسله بالماء ولا مسحه، جاز له التیمم، ولا یتبعضّ الطهارة (1)

لکنّه لابدّ من الخروج عنهما، إمّا بحملها علی صورة نقض التیمم بالوجدان وحصول الفقدان، أو علی التقیة، أو حصول النقض بالحَدَث، وهو أولی من الطرح.

(1) أی أنّ الانتقاض لا یتحقّق بشیءٍ آخر کنزع العمامة أو الخفّ أو غیر ذلک، بل ینتقض التیمم بالاثنین الذین ورد ذکرهما فی المتن، کما عرفت دلالة الأحادیث «المعتبر»ة علیهما، بل قام الاجماع فیه، کما صرّح بذلک المحقّق فی «المعتبر» بقوله: «لا ینقض التیمم إلاّ ما ینقض الطهارة المائیة: وجود الماء مع التمکّن من استعماله وهو مذهب أهل العلم».

ومثله العلاّمة فی «المنتهی» و«التذکرة»، وفی «الذکری»: «یستباح بالتیمم ما لم ینقض بحدثٍ أو وجود الماء عند علمائنا أجمع، سواء خرج الوقت أو لا، وسواءٌ کانت الثانیة فریضة أو نافلة.»

ولا خلاف فیه عند أحد من العلماء الاّ عن أبی سلمة کما أشار الیه العلاّمة فی کتابیه، عمّا نقله الشیخ قدس سره عن أبی سلمة ذلک.

(1) یدور البحث عن أنّه هل یتبعضّ الوضوء والغُسل إذا کان بعض اعضاء المکلف مریضا، أو کان علی نحو لا یقدر غسله ولا مسحه بوضع الجبیرة علیه فی الوضوء والغسل، بأن یتیمّم بدل ذلک الوضوء فقط ویغسل الباقی، أو لا یجوز، بل یتبدّل الحکم إلی التیمم، ولا یتبعضّ الوضوء والغسل؟

الصحیح هو الأخیر کما فی «المبسوط» و«الخلاف» و«القواعد» وغیرها، بل فی «الجواهر»: «لا أعرف فیه خلافا»، لصدق عدم الوجدان بعدم التمکّن من الاستعمال لتمام الطهارة، وتناول أدلة المرض فی الآیة وغیرها، وللاطلاق القول فی عدة أخبار:

منها: اطلاق قول الصادق علیه السلام فی مرسلة ابن أبی عمیر: «یتیمم المجدور

ص:437

والکسیر إذا أصابتهما جنابة»(1).

ومنها: مسند عن ابن مسکین وغیره مثله(2).

منها: خبر ابن مسلم، عن أبی جعفر علیه السلام ، قال: «سألته عن الرجل یکون به القرح والجراحة یجنب؟ قال: لا بأس بأن لا یغتسل یتیمّم»(3)، ومثله خبر الآخر(4).

ومنها: خبری ابن سرحان وابن أبی نصر، عن الصادق و الرضا علیهماالسلام :

«فی الرجل تصیبه الجنابة وبه جروح أو قروح، أو یخاف علی نفسه البرد؟ فقال لا یغتسل تتیمّم»(5).(6)

اذ من المعلوم أنّ القروح والجروح غالبا لا تکون الاّ فی بعض الاعضاء کالمجدور والکسیر، ومع ذلک حکم بالتیمم مطلقا ولم یحکم بکفایة غُسل الباقی، وهی العمدة فی المسألة، والاّ لأمکن النقاش فی الاستدلال بالوجدان، حیث لم یظهر منه ذلک إلاّ بضمّ هذه الأخبار الیه، بکون المراد هو الوجدان فی الامکان لجمیع ما یجب غسله لا مطلقا، کما ورد التصریح بذلک فی الخبر المروی بسندٍ صحیح عن أبی بصیر أنّ علیه السلام قال: «إنّ الوضوء لا یبعّض»(7).

أی لا یُقتصر علی غَسل ماهو الصحیح، وهو حکم لا خلاف فیه بین الأصحاب، بل ظاهر «التذکرة» کاشعار غیره الاجماع علیه، کما یؤیّده الأصل لو شُکّ فی وجوبه لأنّه مقتضی البراءة، مضافا إلی أنّه مقتضی القاعدة الأولیة من


1- وسائل الشیعة: الباب 5 من أبواب التیمّم، الحدیث 2.
2- المصدر السابق، الحدیث 3.
3- المصدر السابق، الحدیث 5.
4- المصدر السابق، الحدیث 9.
5- وسائل الشیعة: الباب 5 من أبواب التیمّم، الحدیث 8.
6- المصدر السابق، الحدیث 7.
7- وسائل الشیعة: الباب 33 من أبواب الوضوء، الحدیث 2.

ص:438

قوله: العاشر: یجوز التیمم مع وجود الماء بنیّة الندب، ولا یجوز له الدخول به فی غیر ذلک من أنواع الصلاة (1)

انتفاء المرکب بانقضاء أحد اجزاءه. فمع وجود هذه الأخبار والأصل والقاعدة لایبقی مجال للعمل بقاعدة المیسور والادراک، مضافا إلی إعراض الأصحاب عنه هنا کما لا یخفی.

وکما أنّه یلا یکفی التیمم عن العضو المریض بعد الغسل المذکور، للأصل والأخبار السابقة، بل وظهور التیمم کتابا وسنة بین الصورتین من الوضوء والغسل تماما أو التیمم کذلک فی قطع الشرکة بینهما،

ولعلّ ما فی «المبسوط» و«الخلاف» من الاحتیاط والحکم بالجمع بغُسل الممکن ثمّ التیمم، معلّلاً له فی «المبسوط» بعدم الضرر علیه فی ذلک مع تأدّیه الصلاة بالاجماع.

لیس لاحتمال مشروعیة التلفیق، أو لوجود قائل منا بمشروعیته أو مشروعیة التبعیض، نعم قد یکون ذلک للاحتمال الثانی خاصة، کما قاله صاحب «الجواهر» قدس سره .

قلنا: یمکن أن یکون وجه الاحتیاط هو عدم احراز الموضوع فی أنّه من

مصادیق لزوم التیمم أو الغسل، فلذا یحکم بالجمع، وهو غیر قادحٍ، کما یؤید ذلک تصریحه بعدم اضراره وکونه موجبا للقطع بالبراءة.

وتفصیل البحث فی هذه المسألة أزید من هذا قد مضی فی باب الوضوء، من وجوب غُسل ما حول الجرح والقرح مع تعذّر مسحه أو مطلقا، وعدم الانتقال الی التیمم، وعلیک بالرجوع الیه والاطلاع علیه.

(1) المراد من التیمم الندبی هو الذی یتیمّم لاستحباب نفسه کالتیمم لصلاة الجنازة، لا البدلی الذی یأتی به بدلاً عن الوضوء والغُسل، والبحث فی هذه

ص:439

المسألة عن أنّه هل یجوز الاتیان معه للمشروط بالطهارة کأنواع الصلاة غیر الجنازة أو لا؟

قد یقال: إنّه لا یجوز کما صرّح بذلک العلاّمة فی «التذکرة» وغیره فی «کشف اللّثام» و«مجمع البرهان» وإن تعذّر الماء، کما أنّه قد یقتضیه ما فی «المعتبر» أیضا، بل علّله فی الثانی بأنّه لیس تیمما یرفع الحدث أو حکمه.

قلت: ولعلّه لثبوت شرعیته مع وجود الماء، أو لعدم شرطیة صلاة الجنازة بالطهارة حتّی یکون بدلاً عنها. هذا کما فی «الجواهر»(1).

ولکن التحقیق أن یقال: تارة یفرض اتیانه مع وجود مسوّغیته من جهة فقد الماء، أو العذر الموجب لتجویز التیمم کالمرض، أو الممنوعیة عن الاستعمال مع وجوده بل حتّی مع خوف فوت الوقت، والصلاة علی الجنازة المسوّغة حینئذٍ للتیمّم لو کان بدلاً عن الماء، ففیها مثل ذلک یجوز الاتیان معه سائر أنواع المشروطة بالطهارة، بل لا أجد فیه خلافه هنا کما اعترف به فی «کشف اللّثام» للبدلیة المقتضیة قیامه مقامه فی سائر الغایات، مستحبها وواجبها، والطهارة للصلاة علی الجنازة وإن لم تکن واجبة فیها.

والدلیل علیه:

1_ جریان الأصل، وهو أصل البراءة عن وجوب تحصیل تیمم آخر غیره عند الشک فی وجوبه.

2_ بعض الأخبار السابقة الدالة علی صدق البدلیة فی هذا الحال،

3_ ظاهر الاجماع المدّعی فی «التذکرة» وصریحه فی «الخلاف» و«الذکری»، وعن «نهایة الأحکام» و«جامع المقاصد» و«الروض» و«المسالک» وغیرها.


1- «الجواهر»، ج 5، ص 269.

ص:440

ولکن هذا التیمم مستحبٌ فی صلاة الجنازة اجماعا صریحا فی «الخلاف» و«الغنیة»، وظاهرا عن «التذکرة»، والأخبار الدالة علی ذلک فی بحث صلاة الجنازة کما سیأتی فی موضعه، فیقوم هذا التیمم مقام الطهارة المائیة مع التعذر.

أمّا دلالة بعض الأخبار بالخصوص علی ذلک:

فمنها: حسن الحلبی أو صحیحه، قال:« سُئل أبوعبداللّه علیه السلام عن الرجل تدرکه الجنازة وهو علی غیر وضوء، فإنْ ذهب یتوضّأ فاتته الصلاة؟ قال: یتیمم ویصلّی»(1).

ومنها: موثق سماعة، قال: «سألته عن رجل مرّت به جنازة وهو علی غیر وضوء، کیف یصنع؟ قال: یضرب بیدیه علی حائط اللبن فلیتیمّم به»(2).

حیث یدلان علی کفایة هذا التیمم لتحصیل الطهارة المشروطة فی أنواع الصلاة، ومنها صلاة الجنازة.

بل یمکن تأیید جواز التیمم لضیق الوقت للفریضة أیضا من قیام الاتفاق الموجود بین الفقهاء هنا مع خوف الفوات، بل ربّما یکون فی الضیق أولی من الجواز فی المقام، هذا کما فی «الجواهر».

قد یناقش: بأنّه یحتمل أن تکون شرعیة هذا لخصوص ذلک لا للبدلیة، نظیر الوضوء للجنب أو الحائض، ولذا نلاحظ شرعیته حتّی مع وجود الماء، أو لاحتمال أنّ مشروعیته هذا التیمم، لأجل عدم شرطیة الطهارة لصلاة الجنازة لکی یصیر هذا بدلاً عن طهارتها.

أجاب عنه صاحب «الجواهر»: بأنّ هذه الدعوی مخالف لما دلّ علیه الدلیل،


1- وسائل الشیعة: الباب 21 من أبواب صلاة الجنازة، الحدیث 6.
2- المصدر السابق، الحدیث 5.

ص:441

لأنّه یقتضی خلاف ذلک من غیر معارضٍ، لأن ثبوت شرعیته مع وجود الماء لا یوجب عدم صدق البدلیة مع عدم وجود الماء، کما هو المقصود، وإنْ سلّمنا عدم صدق البدلیة مع وجود الماء، کما أن عدم شرطیة الطهارة لصلاة الجنازة لا یوجب عدم صدق البدلیة فی کمالها عند فقد الماء، لوضوح أن الصلاة واجبة مع الطهارة المائیة ومع فقدها یتبدّل إلی بدلها، ولعلّ مراد من لا یجوّز الدخول فی غیر صلاة الجنازة معه، هو صورة وجود الماء معه لا مع فقده، لأنّ شرعته ثابتة مع وجود الماء أیضا ندبا لا بدلاً.

وقد یقال: إنّ مرادهم من هذا الکلام هو اثبات جهتین لاستحباب هذا التیمم لصلاة الجنازة، عند فقد الماء.

أحدهما البدلیة، وأخری استحبابه فی نفسه لا للبدلیة، فمن یتیّمم لها بقصد الجهة الأولی صحّ دخوله به فی غیرها من الغایات مع استمرار المسوّغ، بخلاف الثانیة ،فلا یجوز. بل ویلحق بالثانیة من أطلق النیّة ولم یعیّن البدلیة فلم یحصل الشرط وهو نیّة البدلیة حینئذٍ، فلا یجوز.

ولا یخفی أنّ الأقوی هو الأخیر حیث لا یدل الدلیل المذکور علی کفایته حتی مع عدم قصده للبدلیّة، لأنّ الدلیل یدلّ علی أنّه یجوز التیمم فی هذا الحال بالأولویة، کما یجوز مع وجود الماء أیضا، لکن الدلیل ساکتٌ عن موضوع غیر صلاة الجنازة، فیدور الأمر فی الجواز وعدمه مدار قصده وعدمه، فإنْ قصد البدلیة مع فقد الماء، کان ذلک کافیا لکلّ غایة یشترط فیها الطهارة، وإنْ قصد خصوص الندب، فلا فرق فی ذلک بین کون التیمم رافعا للحدث کما هو المختار أو مبیحا للصلاة، کما لا یخفی.

والقسم الثانی: هو اتیانه مع وجود الماء، الذی یسمّی بالتیمم الندبی، فهو لا

ص:442

اشکال فی استحبابه لصلاة الجنازة، أو للنوم فی نفسه، مع امکان استعماله الماء علی المشهور نقلاً وتحصیلاً، بل فی «الذکری» نسبة ذلک إلی الأصحاب، و«التذکرة» إلی علمائنا، وظاهره الاجماع، کما هو کذلک فی منتهاه، بل فی «الخلاف» التصریح بدعوی الاجماع، وهو الحجّة.

مضافا إلی دلالة الأخبار علیه:

منها: الموثقة المتقدمة بناء علی أنّ تجویزه للتیمم کان مطلقا حتّی مع وجود الماء لترک التفصیل فی جوابه.

ومنها: مرسل حریز، عمّن أخبره، عن أبی عبداللّه علیه السلام ، قال: «الطامث تُصلّی علی الجنازة، لأنّه لیس فیها رکوع ولا سجود، والجنب یتیمّم ویصلّی علی الجنازة»(1).

ومنها: روایة الصدوق فإنّه بعد ما نقل أنّه انما هو تکبیرٍ وتسبیحٍ وتحمیدٌ وتهلیل کما تکبر وتسبّح فی بیتک علی غیر وضوء _ قال الصدوق: «تیمم إن أحبّ»(2).

ومنها: ما ورد فی فقه الرضا: «وإن کنتَ جنبا وتقدمت للصلاة علیها فتیّمم أو توضّأ وصلّ علیها»(3).

خلافا لجملة من الأصحاب، کظاهر المرتضی فی «الجمل»، والشیخ فی التهذیب و«المبسوط» و«النهایة»، وعن «الاقتصاد» وأبی علی وسلاّر والقاضی والراوندی والشهید فی «الدروس» و«البیان»، حیث اعتبروا خوف الفوت فی جواز التیمم مع وجود الماء، ومال الیه المحقق فی «المعتبر» وصاحب «المدارک» وطعنا باجماع الشیخ بقولهما: «إنّا لا نعلمه کما علمه، وبأنّ غالبه


1- وسائل الشیعة: الباب 22 من أبواب صلاة الجنازة، الحدیث 2.
2- وسائل الشیعة: الباب 21 من أبواب صلاة الجنازة، الحدیث 3_4.
3- المستدرک، الباب 2 من أبواب صلاة الجنازة، الحدیث 1.

ص:443

الشهرة، وبأنّه لیس نصا علی المطلوب، فإنّه ذکره مع جواز الصلاة بلا طهارة أصلاً، فلعلّه یرید الاجماع لذلک لا لمسألتنا، والأخبار بالضعف والارسال، والاضمار فی خبر سماعة، مع امکان استظهار خوف الفوت منه، بل لعلّ الغالب فی الجنائز عدم امکان الاغتسال وادراک الصلاة علیها، فیبقی حینئذٍ ما دلّ علی اضطراریة التیمم واشتراطة بتعذّر الماء علی حاله.»

أقول: ولا یخفی ما فی استدلالهم من الاشکال، لأنّه إذا کانت الأخبار تامّة فی الدلالة علی التجویز بلا خوف الفوت، کما یظهر من التعلیل الوارد فی خبر الصدوق عن یونس بن یعقوب بأنّه: «لیس فیه رکوع ولا سجود بل هو تکبیرٌ وتسبیحٌ لَتکبیریک فی بیتک» وأنّه لیس بصلاة حقیقة، فلا ینافی کون التیمم موجبا لکمالها، خصوصا بعد ما ثبت من اعتراف الخصم فی عدم اشتراط الطهارة فیها، فحینئذٍ کیف یمکن أخذ التیمم فیه بشرط خوف الفوت.

فاذا ثبتت دلالة الأخبار بذلک، کفانا ذلک فی اثبات الحکم حتّی ولو کانت الأخبار ضعیفة سندا بما قیل، لأنّها تنجبر ولو بالشهرة المقبولة عند الخصم، فضلاً عن قیام الاجماع المنقول المقبول عند صاحب «الجواهر» وغیره، مضافا إلی أنّه یمکن التمسک بدلیل التسامح فی أدلة السنن واثبات جوازه.

وعلیه فالشرطیة اللازمة فی رعایة التیمم هی ثابتة فی التیمم البدلی لا الندبی، وبذلک نخرج عن الأصل والعموم بکون التیمم شرط اضطراریته لا مطلقا، فلا یجری هذا الأصل هنا بواسطة الدلیل والحجّة، فلا یبقی حینئذٍ مورد لدعوی معارضة هذا التسامح مع ذلک الأصل، فلا یمکن التمسک به، لما عرفت خروجه عنه بالدلیل والحجّة، فالظاهر هو الجواز مطلقا وإنٌ کانت غایة خوف الفوت فیه أوفق بالاحتیاط حذرا عن مخالفة من عرفت، واللّه العالم.

أقول: بعد ثبوت عدم شرطیة الطهارة وعدم وجوبها لا شرعا ولا شرطا، فلا

ص:444

یجب اتیانها مع ذلک، بل یجب اتیانها ندبا، إلاّ أن یصبح واجبا بواسطة النذر أو العهد، فیتجّه حینئذٍ الاتیان بقصد الوجوب، وإن کانت نیّة الوجه غیر معتبرة عندنا فی تحقّق الامتثال، کما حُقق بحثه فی محلّه.

هذا کلّه تمام البحث فی التیمم الندبی لمثل صلاة الجنازة.

فاذا عرفت الکلام فیه من جهات کغایته عن البدلی مع فقد الماء، أو عدم کفایته، أو کفایته مع قصده البدلیة منه وعدمه مع عدمه، یمکن بعد ذلک تطبیقه فی التیمم الصادر ممّن یرید النوم إذا کان واجد الماء أو فاقده، وفی الفاقد قصد الندب منه أو البدلی علی ما عرفت من الشقوق والبحث، فلا نعیده.

وأخیرا: ثبت فی محلّه استحباب تحصیل الطهارة المائیة للنوم، فیتربت علیه انّه مع فقدها یقوم التیمم مقامها مع تعذّرها، خصوصا بعد الخبر الذی رواه الصدوق فی «العلل» عن أبی بصیر، عن الصادق، عن آبائه عن أمیرالمؤمنین علیهم السلام أنّه قال: «لا ینام المسلم وهو جنب، ولا ینام الاّ علی طهور، فإن لم یجد الماء فلیتیمّم بالصعید، فإن روح المؤمن تروح إلی اللّه عزّوجلّ فیلقاها ویبارک علیها، فإن کان أجلها قد حضر جعلها فی مکنون رحمته، وإن لم یکن أجلها قد حضر بعث بها مع أمنائه من الملائکة فیردّها فی جسده، الحدیث»(1).

بل فی «الحدائق» _ علی ما حکی عنه صاحب «الجواهر» _: «أنّه لا خلاف فی استحباب التیمم للنوم ولو مع وجود الماء.)، ولعلّه للخبر المرسل المروی عن ابن أبی عمیر، عن الصادق علیه السلام ، قال: «من تطهّر ثمّ آوی إلی فراشه بات وفراشه کمسجده، الحدیث»(2).

بل وروایة الصدوق المقبولة حیث لم یرسلها بل نسبها مباشرة الی الامام


1- وسائل الشیعة: الباب 9 من أبواب الوضوء، الحدیث 4.
2- نفس المصدر، الحدیث 5.

ص:445

وقال: «قال الصادق علیه السلام : من تطهّر ثمّ آوی إلی فراشه بات وفراشه کمسجده، فإن ذکر أنّه لیس علی وضوء فیتیمّم من دثاره کائناً ما کان، لم یزل فی صلاة ما ذکر اللّه»(1).

والظاهر من الخبر المنقول عن الصدوق، أنّ هذا کون التیمم إنّما هو عن الحدث الأصغر فلا یشمل الأکبر، وإنْ کان عنوان الطهارة المذکور فی صدره مذکور بصورة المطلق الشامل للطهارتین، کما أنّ ظاهره علی ما فی «الجواهر» فی ترک الطهارة علی نحو غیر العمد، وهو مستفاد من قوله: «وذُکر أنّه لیس علی وضوءٍ» وفی کفایته مع العمد یحتاج إلی دلیل.

أقول: یمکن أن نصحّح جوازه بصورة العمد أیضا بأنّ موضع الذکر إنْ کان بعد دخوله فی الفراش یصحّ ما ذکره، وأمّا لو تذکر وهو فی طریقه الی الفراش، ثمّ دخل فیه وقصد الطهارة، فإنّه حینئذٍ یعدّ ممّن کان ترکه للوضوء بالعمد بعد التذکر، مع أنّه لو کان فقد الماء شرطا لصحة التیمم، لا معنی لتجویزه بعد التذکیر.

وکیف کان، یدلّ الخبر علی استحباب التیمم للنوم حتّی مع وجود الماء، مضافا إلی جریان قاعدة التسامح فی أدلة السنن، وامکان الخروج عن ذلک الأصل والعموم بواسطة الحدیث المقبول المروی عن الصدوق کذلک المرسلة کما یظهر عن صاحب «الجواهر»» قدس سره .

* * *

هذا نهایة البحث عن الرکن الثالث وقد کتبته فی الأرض المقدسة الرضویة یوم الخمیس الواحد والعشرون من شهر الرجب المرجب سنة تسعة وعشرین وأربعمأة بعد الألف من الهجرة النبویّة علی مهاجرها آلاف التحیّة والثناء وکان «التحریر» بید أقلّ العباد السید محمد علی العلوی الحسینی الأسترآبادی ابن آیة اللّه السیّد السجاد العلوی عفی عنهما وجعل الجنة مثواهما.


1- نفس المصدر، الحدیث 6.

ص:446

الرکن الرابع: فی النجاسات واحکامها

قوله: القول فی النجاسات، وهی عشرة أنواع (1)

(1) یدور البحث فی الرکن الرابع من کتاب الطهارة عن النجاسات.

والنجاسة لغة هی القذارة، وفی عرف الشارع هی قذارة خاصّة، مجهولة الحقیقة والکنه لدینا، وجب الاجتناب عنها فی أفعال وحالات مخصوصة، فکلّ جسمٍ خلا عن هذه القذارة فهو طاهر نظیف شرعا.

ثمّ یأتی البحث فی أنّ النجاسة هل هی صفة متأصلة وحقیقة واقعیة، توجب ایجاب الاجتناب ووجوب الهجر عنها، أو أنّها منتزعة من حکم الشارع بوجوب الاجتناب من تلک الأمور لمصلحةٍ رآها الشارع؟ فیه وجهان بل قولان: ففی «مصباح الفقیه» أشبهها بظواهر الأدلة الأوّل، ولکن الدقّة والتأمّل یفید أنّه لا یمکن الالتزام بأحدهما بالکلیة، بل لابدّ فیه من التفصیل، لأنّ فی مثل البول والغائط ونحوهما لا یبعد القول بالوجه الأوّل، وأمّا فی فی مثل الکافر والمرتد الذی ینجس بالارتداد لا یمکن القول فیه إلاّ بالوجه الثانی، اذ نجاستهما حکمیة لا عینیّة کالکلب والخنزیر.

وکیف کان، فالبحث یدور الآن عن تحدید أعیان النجاسات، وهی عشرة کما ذکره «الجامع» و«النافع» و«القواعد»، و«الذکری» ونحوهما، ولعلّه هو المشهور.

الأوّل والثانی: ما یستحق اطلاق اسم البول والغائط علیه عرفا، ولا یصحّ سلب الاسم عنه حقیقة، إذا کان الخارج مثل الدود والحَبّ الخارج من المحلّ صحیحا

ص:447

غیر مستحیل، فهو خارج عن الموضوع، بل فی «الجواهر» أنّه طاهر لعدم الصدق، ولعلّه الیه یرجع ما فی «المنتهی» من اشتراطها طهارته ببقاء صلابته فی الحَبّ، بحیث لو زرع نبت دون ما لم یکن کذلک، والاّ کان ممنوعا من کلّ حیوانٍ ممّا لا یجوز أکل لحمه سواء کان آدمیا أم من غیره، إذا کان للحیوان نفس سائله.

أقول: البحث عن نجاسة فضلات المعصومین علیهم السلام المنزّهین عن الرجس، یعدّ اساءة الأدب، والاّ کان الحکم باطلاقه وعمومه مجعولاً ولم یثبت التقیید بالنبیّ والأئمّة علیهم السلام .

وما ورد فی کتب العامّة ک«شرح الشفاء» للخفاجی بأنّ أم أیمن شربت بول النبی صلی الله علیه و آله وأقرّها علیه، وإن قیل إنّه صلی الله علیه و آله قال لها: «اذن لا تلجِ النارُ بطنک»(1)، فلذلک قال الشافعی فی قول له بطهارته لذلک، غیر صحیحٍ، لأنّه لم یثبت عندنا هذه القضیّة.

فالذی تقتضیه القواعد الشرعیّة التعبدیة هو التجنّب عنها فی المأکول والمشروب والصلاة ونحوها من الأمور المشروطة بالطهارة بنحو العموم، من دون استثناء لأحدٍ، فلعلّ حکمته الاطراد فی الحکم أو غیره من الحِکَم المقتضیة للاجتناب لا الاستقذار، فلیس علینا البحث حوله والتحقیق عن سببه بعد اطلاق الأمر بازالة الثوب عنه عند ارادة الصلاة والنهی عن شربه.

وکیف کان، فلا شبهة ولا خلاف فی نجاستهما من کلّ حیوانٍ ذی نفس سائله، ممّا لا یؤکل لحمه، بل عن «المعتبر»: «أجمع علماء الاسلام علی نجاسة البول والغائط ممّا لا یؤکل لحمه سواءٌ، کان ذلک من الانسان أو غیره، إذا کان ذا نفس


1- شرح الشفاء للخفاجی، ج 1، ص 242.

ص:448

سائله» انتهی(1).

والمراد من «نفس سائلة» هو الحیوان الذی یکون صاحب خروج الدم من مجمعه فی العروق إذا قطع شیء منها بقوة ودفع، کما فی «المدارک» وغیره، أو سیلانٍ کما فی «الروض»، ولعلّهما بمعنی واحد، أی لا یخرج رشحا کدم السمک ونحوه، وهذا هو المتبادر من توصیف النفس بالسائلة فی مقام التحدید، لا مطلق الجریان کما قد یتوهّم، وإن اختلفت عبائر الأصحاب فی ذلک، ولکنّه لا یوجب الاختلاف فی المقصود، فما فی مناقشة بعض فی تفسیر مرادهم بما عرفت، نظرا إلی أنّ السیلان عرفا مساوق للجریان الذی هو أعمّ من ذلک، لیس فی محلّها، کما لا یخفی.

والاجماع القائم علیه ثابت عند الأصحاب وغیرهم، الاّ من الشاذ من غیرنا فی خصوص ما لا یؤکل لحمه علی طریق النقل بالاستفاضة، إن لم یکن متواترا، بل فی المحصّل منه فی غیر بول الرضیع قبل أکل اللحم، بل حتّی فی بوله أیضا، وإن حُکی فی «الذکری» و«المختلف» و«المدارک» عن الاسکافی طهارته، لکن فی الأخیر قبل الطعام بدل اللحم، وفی سابقه الصبی الذکر من غیر البالغ بدل الرضیع، لعدم قدح خلاف مثل الاسکافی فیه، لمعروفتیه، مع أنّه لم یکن عنده من الکتب حتّی یفتی بما هو المشهور، وذلک لم یستثنه من معقد ما حکاه الاجماع فی «المعتبر» و«التذکرة» و«المنتهی» کمعقد نفی الخلاف فی «الغنیة» عن نجاسة بول وخُرء ما لا یؤکل لحمه.

مضافا إلی المحکی من الاجماعات وغیرها، بل فی «التذکرة»: وعن المرتضی دعوی الاجماع علی نجاسة بول الرضیع بالخصوص، مع ضعف مستنده خصوصا الأصل المنقطع بالأدلة الواردة فی نجاسة البول بالخصوص


1- «المعتبر»، ج 1، ص 410.

ص:449

والعموم، الشامل له، مثل صحیحة الحلبی، قال: «سألت أبا عبداللّه علیه السلام عن بول الصبی؟ قال: تصبّ علیه الماء، فإن کان قد أکل فاغسله بالماء غسلاً والغلام والجاریة فی ذلک شرعٌ سواء»(1).

ومثله صحیحة الحسین ابن أبی العلاء فی حدیثٍ عن الصادق علیه السلام : «سألته عن الصبی یبول علی الثوب؟ قال: تصبّ علیه الماء قلیلاً ثمّ تعصره»(2) و غیرهما من الأخبار.

نعم، هنا روایتان علی خلاف ذلک: إحداهما روایة السکونی، عن جعفر، عن أبیه علیهماالسلام : «أنّ علیّا علیه السلام قال: لبن الجاریة وبولها یغسل منه الثوب قبل أن تطعم، لأنّ لبنها یخرج من مثانة أمّها، ولبن الغلام لا یغسل منه الثوب قبل أن تطعم لأنّ لبن الغلام یخرج من العضدین والمنکبین»(3).

حیث تدلّ علی طهارة بول الغلام قبل أن یطعم دون الجاریة.

لکنّه مندفع: بانّه مشتملٌ علی لا یلتزم به علمائنا الاّ بعض العامة من نجاسة لبن الجاریة، حیث یوجب کون ذلک قرینة علی أنّه محمولٌ علی التقیة لموافقته مع فتواهم، مضافا إلی أنّ الراوی منهم أیضا، خصوصا مع اعراض الأصحاب عنه ممّا یوجب طرده وضعفه، کلّ هذا مضافا إلی امکان کون المراد من عدم غسل الثوب لبول الغلام قبل الطعام هو کفایة صبّ الماء علیه، ولا یحتاج إلی الغسل الذی فیه عصر، کما تری هذا التفصیل فی صحیحة الحلبی، فلا یوجب حینئذٍ دلالة علی طهارته کما هو مراد الخصم.


1- وسائل الشیعة: الباب 3 من أبواب النجاسات، الحدیث 2.
2- وسائل الشیعة: الباب 3 من أبواب النجاسات ، الحدیث 1.
3- المصدر السابق، الحدیث 4.

ص:450

کما قد یؤید ذلک انضمام اللّبن الیه، مع أنّه طاهر عندنا، بلا خلاف، فیحمل علی استحباب الغسل بمعنی الصبّ کما لا یخفی.

وثانیهما: هو المروی فی «البحار» عن القطب الراوندی بسنده إلی موسی بن جعفر علیهماالسلام ، قال: «قال بال الحسن والحسین علیهماالسلام علی ثوب رسول اللّه صلی الله علیه و آله قبل أن یطعما، فلم یغسل بولهما عن ثوبه»(1).

حیث لا یمکن الذهاب الی مضمونها لعدم مقاومته مع الأخبار «المعتبر»ة الموجبة لحملها علی التقیة فی کلتا الروایتین، کما یؤیده نسبته فی «فقه الرضا» إلی الروایة عن علیّ علیه السلام بعد أن ذکر الحکم بخلافه کالفقیه، حیث یکون مثل هذا التعبیر من هذه الکتب أیهاما للقول بها للتقیة.

مضافا إلی معارضة الروایة الثانیة بما هو المرویّ فی «البحار» أیضا نقلاً عن کتاب «الملهوف علی قتلی الطفوف» للسید ابن طاووس بسنده عن أمّ الفضل زوجة العباس: «أنّها جاءت بالحسین علیه السلام إلی رسول اللّه صلی الله علیه و آله فبال علی ثوبه، فقرضته فبکی، فقال: لا یا أمّ الفضل فهذا ثوبی یُغسل، وقد أوجعتِ ابنی»(2).

حیث نصّ رسول اللّه صلی الله علیه و آله علی غسل ثبوه من بول الحسین علیه السلام ، فضلاً عن غیره.

وعلیه، فالمسألة وهی نجاسة البول والغائط فی ما لا یؤکل لحمه من ذی نفس سائلة قطعیّة وعلیه الاجماع بکلا قسمیه بلا اشکال.

هذا هو المقام الأوّل بما وقع البحث فیه من حیث الطهارة والنجاسة، وعرفت ذهاب بعض الفقهاء إلی طهارة بول الرضیع قبل أن یطعم، خلافا للآخرین من القول بالنجاسة، وهو الأقوی عندنا، واللّه العالم.


1- المستدرک، ج 1، الباب 2 من أبواب النجاسات، الحدیث 4.
2- المستدرک، ج 1، الباب 2 من أبواب النجاسات، الحدیث 5.

ص:451

حکم بول وخُرء مالا یؤکل لحمه

المقام الثانی: النجاسة والطهارة فی بول وخُرء ما لا یؤکل لحمه من ذی النفس من الطیر بعد الاتفاق علی نجاستهما فی غیر الطیر ممّا لا یؤکل لحمه من ذی نفس سائلة، فلا بأس أوّلاً من نقل الأقوال، ثمّ بیان ما استدلّ کل قائل علی مذهبه ومختاره، والأقول فیه أربعة بل خمسة:

القول الأوّل: الطهارة مطلقا، وهو مختار الصدوق فی «الفقیه» و«العمّانی»* والجُعفی والشیخ فی «المبسوط»، والعلاّمة فی «المنتهی»، وشارح «الدورس» وکاشف الأسرار، والفخریة وشرحها، وشرح الفقیه للمجلسی وحدیقته، و«المفاتیح» کما فی «کشف اللّثام» و«المدارک» و«الحدائق» و«المستند» للنراقی، ومال الیه صاحب «مصباح الفقیه» وإنْ تردّد فی آخر کلامه وقال الاحتیاط بما لا ینبغی ترکه، کما هو مختار صاحب «العروة» وکثیر من أصحاب التعلیق، وإن قال بعده: «ولکن الأحوط هو الاجتناب منه» فیکون ندبیّا.

والقول الثانی: هو النجاسة مطلقا، وهو خیرة الأکثر نقلاً وتحصیلاً، بل هو المشهور شهرة عظیمة تقرب للاجماع إن قلنا إن لفظ (الغائط) فی کلام المصنّف و(العذرة والروث) فی غیره یشمل لما نحن فیه، کما قطع به العلاّمة الطباطبایی رحمه الله فی مصابیحه بالنسبة إلی خصوص عباراتهم، کما صرّح بذلک الحلی فی «السرائر» بقوله: «قد اتفقّنا علی نجاسة ذرق غیر المأکول عن سائر الطیور وقد رویت روایة شاذة لا یعوّل علیها أنّ ذرق الطائر طاهر، سواءٌ کان مأکول اللحم أو غیر مأکوله، والمعمول عند محقّقی أصحابنا والمحصّلین منهم خلاف هذه الروایة، لأنّه هو الذی یقتضیه أخبارهم المجمع علیها».

ص:452

وصاحب «الغنیة» حیث قال: «والنجاسات هی بول ما لا یؤکل لحمه وخرؤه بلا خلافٍ، وما یؤکل لحمه إذا کان جلاّلاً بدلیل الاجماع.»

بناءً علی شمول الخرؤ لرجیع الطیر وفی «الخلاف»: «کل ما یؤکل لحمه من الطیر والبهائم بوله وذرقه وروثه طاهر لا ینجس به الثوب ولا البدن، إلاّ ذرق الدجاج خاصّة فهو ینجّس، وما لا یؤکل لحمه فبوله وذرقه نجسٌ لا تجوز الصلاة فی قلیله وکثیره» ثمّ بعده نقل حکم ما یکره لحمه، ثمّ قول العامّة، ثمّ قال: «دلیلنا إجماع الفرقة وأخبارهم.»

وفی «الجامعیة شرح الألفیة»: «فالبول والغائط، أجمع الکلُّ علی نجاستهما من کلّ حیوانٍ محرّم أکله، إنساناً کان أو طیرا أو غیرهما من الحیوانات.»

والقول الثالث: هو الطهارة فی الخرؤ إلاّ أنّ البول فیه تردّد، کما فی «المدارک» و«البحار» و«الذخیرة» و«الکفایة» حتّی الخشاف.

والقول الرابع: هو الطهارة فی الخرؤ والبول إلاّ فی بول الخشاف، هذا کما عن الشیخ فی «المبسوط».

القول الخامس: هو لابن البراج فی «المهذّب» من نجاسة بول وذرق ما لا یؤکل لحمه ولکن لا یجب إزالتها قلیلاً أو کثیرا.

وامّا بیان ما استدلّ به القائل بالطهارة أمور:

الأوّل: وهو الأصل، أی لو شک فی وجوب الاجتناب عن بول الطیر وخرؤ ما لا یؤکل لحمه من ذی النفس، فالأصل البراءة إذا لم یقم الدلیل علی خلافه.

والثانی: عموم قاعدة الطهارة، المستفادة من موثق عمّار، عن أبی عبداللّه علیه السلام ، فی حدیث، قال: «کلّ شیء نظیف حتّی تعلم أنّه قذر، فإذا علمت فقد قذر، وما لم

ص:453

تعلم فلیس علیک»(1). حیث یشمل المقام لو لم یقم الدلیل الرافع للشک.

والثالث: مضافا إلی ما عرفت، هو خصوص ما یدلّ علی الطهارة خاصة فی الطیر، وهو صحیحة أبی بصیر _ بواسطة عبداللّه بن المغیرة الذی یعدّ من أصحاب الاجماع _ عن أبی عبداللّه 7، قال: «کلّ شیء یطیر فلا بأس ببوله وخرؤه»(2).

بل هو المعتضد بما فی «البحار»: «وجدتُ بخط الشیخ محمد بن علی الجعفی نقلاً من «جامع البزنطی» عن أبی بصیر، عن الصادق علیه السلام ، قال: «خرؤ کلّ شیء یطیر وبوله لا بأس به»(3).

ولعلّهما واحدٌ حیث أنّ الراوی والمروی فیهما واحدٌ ویؤیّد الخبر من حیث کون الراوی فی سلسلة السند متعددا من أصحاب الاجماع، وهما ابن المغیرة والبزنطی.

بل قد یؤید الطهارة فی خصوص الخشاف وفی غیره بالأولویة: روایة غیاث، عن جعفر، عن أبیه، قال: «لا بأس بدم البراغیث والبقّ وبول الخشاشیف»(4).

وبما عن «نوادر الراوندی» عن موسی بن جعفر، عن آبائه علیهم السلام : «أنّ أمیرالمؤمنین علیه السلام سُئل عن الصلاة فی الثوب الذی فیه أبوال الخشاشیف ودماء البراغیث؟ فقال لا بأس»(5).

ویؤید الطهارة بترک الاستفصال فی صحیح علی بن جعفر، عن أخیه موسی بن جعفر علیه السلام : «أنّه سُئل عن الرجل یری فی ثوبه خرؤ الطیر أو غیره هل یحکّه


1- وسائل الشیعة: الباب 37 من أبواب النجاسات، الحدیث 4.
2- وسائل الشیعة: الباب 10 من أبواب النجاسات، الحدیث 1.
3- المستدرک، ج 1، الباب 6 من أبواب النجاسات، الحدیث 2.
4- وسائل الشیعة: الباب 10 من أبواب النجاسات، الحدیث 5.
5- المستدرک، ج 1، الباب 6 من أبواب النجاسات، الحدیث 1.

ص:454

وهو فی الصلاة؟ قال: لا بأس»(1).

حیث یفید العموم مع قیام الاحتمال.

ولکنّه ضعیف، لأنّ ظاهر الروایة کون السؤال عن حکم الحکّ من حیث هو فعلٌ کثیر فی الصلاة یوجب الاشکال، فأجاب علیه السلام أنّه لا بأس، فاحتمال کون السؤال عن حکم خرؤ الطیر لعلّه کان بما لا یؤکل لبعیدٌ جدّا، مع أنّ الأکثر فی الطیور التی تکون ما فی أیدی الناس هو ممّا یؤکل لحمه مثل العصفور والخطّاف وغیرهما، کما لا یخفی.

مع أنّه له فرض کون السؤال عمّا لا یؤکل لحمه، فمع ذلک قال: «لا بأس» غیر وجیه، لأنّ کون خرؤ ما لا یؤکل لحمه مع المصلّی غیر جائزٍ حتّی ولو کان طاهرا.

فعلی أی حال لابدّ ان یصرف عن اطلاقه إلی ما یؤکل لحمه، أو ما لا یعلم کونه من غیر المأکول، ویکون مجهول الحال. وعلیه فالأولی ترک هذه الروایة، والاکتفاء بما سبق.

هذا هو جمیع ما استدلّ به للقول بالطهارة.

الدلیل علی النجاسة: فی قبال هذه الأدلة توجد عدّة أدلّة دالّة علی نجاسة بول الطیر وخرؤه إذا کان ممّا لا یؤکل لحمه من ذی نفس سائلة:

الأوّل: الاجماعات المنقولة التی نقلناها فیما سبق من صاحب الکتب، المعتضدة بالشهرة المحققة.

الثانی: وجود بعض الأخبار الدالّة علی نجاستهما، لا سیّما البول:

ومنها: حسنة عبداللّه بن سنان أو صحیحه، قال: «قال أبو عبداللّه علیه السلام اغسل


1- وسائل الشیعة: الباب 27 من أبواب قواطع الصلاة، الحدیث 1.

ص:455

ثوبک من ابوال ما لا یؤکل لحمه»(1).

ومنها: خبره الآخر عنه علیه السلام : «قال: اغسل ثوبک من بول کلّ ما لا یؤکل لحممه»(2) حیث إنّه بعمومه یشمل ما لا یؤکل لحمه بالمنطوق، کما أنّه یمکن استفادة ذلک من مفهوم صحیح زرارة أو حسنه أنّهما قالا: «لا تغتسل ثوبک من بول شیء یؤکل لحمه»(3).

حیث یدلّ علی أنّه إذا ما لم یکن ممّا یؤکل لحمه لابدّ من غسل الثوب من بوله مطلقا، أی ولو کان طیرا.

وکذا من مفهوم الوصف الوارد فی مقام بیان الضابط فی موثقه عمّار، عن أبی عبداللّه علیه السلام ، قال: «کلّ ما أکل لحمه فلا بأس بما یخرج منه»(4) فما یؤکل لحمه إذا خرج منه شیء ففیه بأس وإنْ کان طیرا.

ومثله المروی عن «قرب الإسناد» عن أبی البختری، عن جعفر، عن أبیه علیه السلام : «أنّ النبی صلی الله علیه و آله قال: لا بأس ببول ما أکل لحمه»(5).

ومثله خبر عبدالرحمن عنه(6).

بل قد یؤیّد قول المشهور اطلاق الأمر بغسل الثوب والجسد من البول الوارد فی «المعتبر»ة المستفیضة حدّ الاستفاضه لو لم نقل بانصرافها إلی بول الانسان أو غیر الطیر، کالمعتبرة المستفیضة أیضا الواردة فی نجاسة العذرة الآمر فیها


1- وسائل الشیعة: الباب 8 من أبواب النجاسات، الحدیث 2.
2- المصدر السابق، الحدیث 3.
3- وسائل الشیعة: الباب 9 من أبواب النجاسات، الحدیث 4.
4- المصدر السابق، الحدیث 12.
5- المصدر السابق، الحدیث 17.
6- المصدر السابق، الحدیث 8.

ص:456

بالغسل بما أصابها، ونزح مقدار من البئر إذا وقعت فیه شیءٌ منها، من غیر استفصال بین کونه عن غیر الطیر، خصوصا مع ملاحظة استدلال صاحب «المعتبر» بتلک الأدلة مدّعیا أنّ الخرؤ والعذرة مترادفان.

اللّهمّ إلاّ أن یدّعی الانصراف المذکور فی البول عن مثل خرؤ الطیر إلی فضلة الانسان وغیر الطیور.

کما انّه قد یؤید قول المشهور معروفیّة الملازمة بین حلّیة الأکل وطهارة البول عند الرواة، کما یفصح عن ذلک خبر زرارة، عن أحدهما علیهماالسلام :

«فی أبوال الدواب تصیب الثوب فکرهه، فقلت: ألیس لحومها حلالاً؟ فقال: بلی، ولکن لیس ممّا جعله اللّه للاکل»(1).

وإنْ کان قد یوهن بمثل هذه الروایة اشعار الروایات السابقة، أیضا، حیث ظهرمنها اناطة نفی البأس بکون الحیوان معدا للأکل، فیکون المراد بالبأس الثابت بالمفهوم ما یعمّ الکراهة، هذا کما فی «مصباح الفقیه»(2).

هذا کلّه فی البول ممّا لا یؤکل لحمه حیث یحکم بنجاسته.

وأمّا الخرؤ منه: بعد اثبات کونه متحدا مع العذرة، فیمکن اثبات نجاسته مطلقا، أی ولو کان من الطیور بالاجماع المرکب، أی کلّ من حکم بنجاسة البول حکم بنجاسة الخرؤ، ومن حکم بطهارته حکم بطهارة الخرؤ.

وأیضا بالأخبار الدالة علی نجاسة العذرة مطلقا:

منها: مرسلة موسی ابن أکیل، عن بعض أصحابه عن أبی جعفر علیه السلام : «فی شاة شربت بولاً ثمّ ذُبحت؟ فقال: لیغسل ما فی جوفها ثمّ لا بأس به، وکذلک إذا


1- المصدر السابق، المصدر 7.
2- «مصباح الفقیه»، ج 7، ص 14.

ص:457

اعتلفت بالعذرة ما لم تکن جلالة»(1).

حیث یدلّ علی لزوم غسل الجوف المتلوّث بالعذرة مع العلف کتلوّثه بالبول.

ومنها: روایة الحلبی، عن أبی عبداللّه علیه السلام : «فی الرجل یطأ فی العذرة والبول أیعید الوضوء؟ قال: لا ولکن یغسل ما أصابه»(2) ببیان أنّ ترک الاستفصال فی مثل هذه الروایات یفید العموم، فیشمل خرؤ الطیور أیضا.

والخرؤ عند کثیر من اللغویّین مرادفة للعذرة، فیتم الاستدلال، وإن کان عند بعضٍ کصاحب «النهایة» لابن الأثیر اختصاص العذرة بفضلة الانسان فقط.

هذا هو جمیع ما استدلّ به علی نجاسة البول والخرؤ للطیور إذا کانت ذا نفس سائلة ممّا لا یؤکل لحمه.

أقول: الدقة والتأمّل فی أدلّة الطرفین یوصلنا إلی أنّ ملاحظة مقتیضات الاصول و«القواعد» هو امکان الجمع بینهما:

فامّا فی البول: فالاجماع غیر حاصل فی المحصّل منه، لوجود المخالف کثیرا کما عرفت فی صدر المسألة، وذهاب جماعة کثیرة من الفقهاء إلی طهارته، بل وهکذا المنقول منه غیر مقبول لاحتمال کون مستندهم هو ما عرفت من الأخبار المشتملة علی المناقشات.

وأمّا عن الأخبار: فغایتها عموم جملة: «اغسل ثوبک عن بول ما لا یؤکل لحمه» حیث یخصّص بالطیر إن قبلنا وجود البول له کالخفاش، والاّ یکون خروجه بالتخصّص لا بالتخصیص، هذا بالنسبة إلی ما یدلّ بالمنطوق.

وأمّا فیما یکون بالمفهوم ان قبلنا حجیّة ذلک المفهوم مثل مفهوم الشرط، وإلاّ


1- وسائل الشیعة: الباب 24 من أبواب الاطعمة المحرمة، الحدیث 2.
2- وسائل الشیعة: الباب 10 من أبواب نواقض الوضوء، الحدیث 2.

ص:458

لا یکون ذلک المفهوم مقاوما لمعارضته ما عرفت من ما یدلّ علی الطهارة بالمنطوق.

مضافا إلی أنّ ما فی حسنة ابن سنان من الحکم بالغسل فی بول ما لا یؤکل لحمه من انصراف إلی ما فیه بولٌ من غیر الطیر، لعدم معهودیة البول عنه أو ندرته کما فی الخشّاف، فلا تصلح للمعارضته مع ما فی موثقة أو مصحّحة أبی بصیر بقوله: «کلّ شیء یطیر فلا بأس بخرؤه وبوله» حیث باطلاقه یشمل ما یؤکل وما لا یؤکل، ولا ینافی اطلاقه بندرة ما فیه البول، لأنّه فی مقام اعطاء الضابط، فلا ینافیه عدم وجوده بالفعل، فضلا عن ندرته، إذ یکفی فی صحة اطلاقه امکان فرضه وعدم استحالته فی العادة.

والتمسک بالمؤیدات بین استفادة الکلیة فی النجاسة والطهارة بکونه ممّا لا یؤکل أو یؤکل، فی قبال ما یدلّ بالصراحة علی الطهارة، غیر وجیه لامکان التخصیص فی الطیور.

هذا مضافا الی أنّه لو سلّمنا معارضة ما یدلّ علی نجاسة بول ما لا یؤکل بعمومه مع عموم ما یدلّ علی طهارة البول والخرؤ فیما لا یؤکل من الطیور مثل موثقه أبی بصیر، عن الصادق علیه السلام ، قال: «کلّ شیء یطیر فلا بأس بخرئه وبوله»(1) لکن النسبة بینهما بالعموم من وجه فیتعارضان، فلابدّ من ملاحظة الترجیح بینهما، وهو یؤید الطهارة، وذلک لأنّ أخذ الطیر فی موضوع الحکم یدلّ علی اناطة نفی البأس به، فلو قید بالمأکول لزم لغویة أخذ الطیر فی الموضوع، لصیرورة العبرة حینئذٍ بالمأکول، هذا بخلاف ما لو قیّد عموم (اغسل ثوبک) فی روایة ابن سنان بما عدا الطیور، اذ لا یلزم لغویة جعل (ما لا یؤکل) موضوعا للحکم بالنجاسة، لاختصاص النجاسة حینئذٍ بما عدا الطیور.


1- وسائل الشیعة: الباب 10 من أبواب النجاسات، الحدیث 1.

ص:459

مع انّه لو لم نقل بذلک الترجیح، فنلتزم بأنّ الأولی تقدیم الحکم بالطهارة عملاً بخبر أبی بصیر، لکونه نصّا فی نفی البأس، بخلاف ما ورد فی حسنة ابن سنان حیث إنّه ظاهر فی العموم، والقاعدة هی أنّ النص مقدم علی الظاهر کما لا یخفی.

هذا، مع أنّه لو لم نقل بالتقدیم والترجیح، وقلنا بالتعارض والتساقط فی مورد الطیور، یکون المرجع بعد التساقط أو الشک إلی قاعدة الطهارة.

لا یقال: إنّ مقتضی التعلل بکون الحیوان ممّا یؤکل المذکور فی الخبر الذی رواه العلاّمة الحلّی فی «المختلف» نقلاً من کتاب عمّار بن موسی، عن الصادق علیه السلام ، قال: «خرؤ الخطّاف لا بأس به هو ممّا یؤکل لحمه، ولکن کره أکله لأنّه استجار بک، وآوی إلی منزلک، وکلّ طیرٍ یستجیر بک فأجره»(1) یدلّنا إلی أنّ الملاک فی النجاسة والطهارة هو کونه ممّا یؤکل وعدمه فی عدمه. کما یُشعر بذلک روایة زرارة عن أحدهما علیهماالسلام : «فی أبوال الدّواب یُصیب الثوب فکرهه، فقلت: ألیس لحومها حلالاً؟ فقال: بلی، ولکن لیس ممّا جعله اللّه للأکل»(2) اذ فیه إشعار بأنّ الملاک هو ذلک وأنّه معروفا لدی الرواة فی ذلک الزمان.

لأنّا نقول: لا اشکال فی کون الطهارة منوطة بحلیّة أکل لحمه، غایة الأمر أنّ الکلام فی طرف عدمه، حیث یمکن أن تکون نجاسته منوطة بکونه ممّا لا یؤکل وعدم کونه من الطهور لوجود نصّ خاصّ دالّ علی عدم البأس فیها مطلقا، أی سواءٌ کان مأکول اللحم أو غیره، هذا أوّلاً.

وثانیا: هذا التعارض إنّما یصحّ لو لم تکن النتیجة بزیادة کلمة (الواو) قبل قوله علیه السلام : «هو ممّا یؤکل لحمه» کما قیل، وإلاّ ربما تکون الجملة کلاما مستقلاً


1- وسائل الشیعة: الباب 9 من أبواب النجاسات، الحدیث 20.
2- المصدر السابق، الحدیث 7.

ص:460

دالاًّ علی حکم مستقل، وهو اعلام أنّه ممّا یؤکل لحمه، فتکون الروایة حینئذٍ مشتملة علی بیان حکمین: الحکم الأول: طهارة خرؤه بقوله: «لا بأس به» وثانیا بیان أنّه ممّا یؤکل، فلا یکون تعلیلاً علی طهارته کما أراد الخصم، فإذا لا یدلّ علی المطلوب.

مع أنّه لو دار الأمر بین النسختین، ولم یثبت أصل الضبط، فیسقط عن الاعتبار والتعارض کما لا یخفی.

أقول: ظهر من جمیع ما ذکرنا أنّ الحکم بالطهارة من حیث القواعد والأصول هو الأقوی، ولکن حیث أنّ الشهرة علی خلافها، حیث أفتی المشهور بنجاسة بول غیر المأکول من الطیور، فإن ذلک یوجب احتمال إعراض المشهور عن العمل بموثقة أبی بصیر، وموجبا لوهنها، کان العمل بالاحتیاط والاجتناب عنه جیّدا جدّا.

ومنه یظهر حکم الخرؤه منه حیث أنّ الاجماع المرکّب الذی قام علی نجاسة العذرة فیما لا یؤکل غیر ثابت فی مثل خرؤ الطیور غیر المأکول، ومع عدمه فیه _ بخلاف والبول _ قد یوجب تقویة طهارته بواسطة دلالة موثقة أبی بصیر، الاّ أنّ القول بالفصل بین البول والخرؤ غیر ثابت، فاجراء الاحتیاط فیهما أیضا حسن جدّا خصوصا، مع ما عرفت من احتمال وهن خبر أبی بصیر لأجل إعراض الأصحاب عنه.

حکم بول الخفاش وخرؤه

یقع البحث عن طهارتهما ونجاستهما، فنقول: أما البول: فإنّه لأجل تعارض الأخبار فیه، حیث وردت عدة أخبار عن طهارته وعدمه أخبار متضاربة:

ص:461

منها: خبر غیاث عن جعفر عن أبیه، قال: «لا بأس بدم البراغیث والبق وبول الخشاشیف»(1).

ومنها: ما عن «نوادر الراوندی»، عن موسی الکاظم علیه السلام : «أنّ أمیرالمؤمنین علیه السلام سئل عن الصلاة فی الثوب الذی فیه أبوال الخشاشیف ودماء البراغیث؟ فقال: لا بأس»(2). مضافا إلی ما عرفت من روایة أبی بصیر حیث یشمل بعمومه بول الخفاش وخرؤه أیضا.

وفی قبال هذه الأخبار ما ورد فی نجاسة بوله کخبر داود الرّقی، قال: «سألت أباعبداللّه علیه السلام عن بول الخشاشیف یصیب ثوبی فأطلبه فلا أجد؟ فقال: اغسل ثوبک»(3).

فإن ظاهر الأمر بالغسل لو لا التعارض هو الوجوب، ولکن بحسب الصناعة والقواعد المعمولة فی باب التعارض هو الحمل علی الاستحباب، لترجیح النص علی الظهور، لأنّ ما یدل علی نفی البأس نصٌّ فی الجواز، والأمر بالغسل ظاهر فیه، فمقتضی الجمع حمل الظهور بما لا ینافی النص وهو استحباب الغَسل، فلازمه الحکم بالطهارة واستحباب غَسل ما یلاقیه.

أقول: لکن الاشکال حینئذٍ فی أصل الصدور، لأجل إعراض الأصحاب عن العمل بالطهارة الموهن، لما عرفت أنّ الشهرة علی خلافه، بل عن «المختلف» نقل الاجماع علی النجاسة فی الخفاش، وإنْ ناقش فیه صاحب «الجواهر» وقال: «إنّه لیس فی محلّه إلاّ أن یرید به من القائلین بالنجاسة والشیخ، والاّ فلم ینقل هو ولا غیره التفصیل عن أحدٍ عداه».


1- وسائل الشیعة: الباب النجاسات، الحدیث 5.
2- المستدرک، ج 1، الباب 6 من أبواب النجاسات، الحدیث 1.
3- وسائل الشیعة: الباب 10 من أبواب النجاسات، الحدیث 4.

ص:462

قوله: سواءٌ کان جنسه حراما کالأسد، أو عرض له التحریم کالجلاّل (1)

بل المناقشة فی جهة الصدور أیضا، لکونه موافقا للعامة، لأنّهم ذهبوا إلی طهارته، والرّشد فی خلافهم، وفتوی المشهور بالنجاسة یحتمل کونه من باب الکلیة بنجاسة بول ما یؤکل لحمه باطلاقه حتّی یشمل مثل الخفاش، کما یحتمل کون استنادهم الی حدیث الرقی، والأول أولی وأوفق بعبائرهم وفتاویهم، ولذلک الأحوط وجوبا هو الاجتناب عن بوله، ویعدّ الاحتیاط فیه أشدّ من الاحتیاط فی خرؤه، لأنّ الدلیل الوارد فی الخفاش مخصوص ببوله دون رجیعه، ولذلک یحتمل عدم نجاسة خرؤه.

ومن جهة وجود الملازمة بین نجاسة بوله ونجاسة خرؤه.

کلّ ذلک مؤیّدا بفتوی المشهور بالنجاسة، فنحکم بوجوب الاجتناب عنه احتیاطا، کما ذکرنا ذلک فی تعلیقتنا علی «العروة».

(1) بعد ما ثبت نجاسة بول وخرؤ ما لا یؤکل لحمه بحسب العمومات والاجماعات المعتضدة لها لو لا المعارضات، فلا فرق فی نجاستهما بین أن تکون حرمة لحمه بالذات وبالاصالة بأن یکون جنسه حراما کالاسد والسّنور والذئب ونحوها، أو تکون حرمته عرضیّة لازمة لا تنفکّ عنه، بل تدوم فیه وفی نسله إلی الأبدّ کالحیوان الموطوء وشارب لبن الخنزیزة إذا اشتدّ لحمه وعظمه، أو الّتی تکون حرمته عرضّیة لکنها قابلة للزوال کالجلاّل، حیث یحلّ بالاستبراء، هذه ثلاثة أقسام ممّا لا یؤکل لحمه قد قام علی حرمته الاجماع من خلال دعوی نفی «الخلاف» عن صاحب «الجواهر» بقوله: «بلا خلافٍ أجده فیه»، بل عن «الغنیة» دعوی الاجماع علیه بالخصوص فی الجلاّل، کما عن «التذکرة» دعواه فیه وفی الموطوء، بل وفی «المفاتیح» الاجماع علیهما معا صریحا، بل وعلی ما

ص:463

حَرم بالعارض، وفی «المختلف» و«التنقیح» الاجماع علی نجاسة ذرق الدجاج الجلاّل.

هذا إذا لم نقل بنجاسة الجلاّل فی نفسه، وإلاّ کان الحکم بنجاستهما حینئذٍ قطعیّا، کما أنّ نتیجة الحکم بالنجاسة هو الحکم بنجاسة عرقه أیضا، للأمر بالغسل عنه بناءً علی أولویة البول والخرؤ منه فی النجاسة، بل وإن لم نقل بالأولویة وکان مثل العَرَق فی النجاسة.

والدلیل علیه: _ مضافا إلی ما عرفت من الاجماع _ وجود عمومات دالّة باطرادّ الحکم لکلّ ما لا یؤکل لحمه، سواءٌ کان بالذات أو بالعرض، لأنّ هنا بحثٌ عن أنّ الحکم المعلّق _ وهو نجاسة البول والرجیع _:

هل تعلّق بموضوع ما لا یؤکل لحمه علی نحو القضایا الخارجیة، حتّی یختص بخصوص ما لا یؤکل لحمه بالذّات، فلا یشمل ما یکون کذلک بالعرض.

أو أنّه تعلّق بنحو القضایا الحقیقیة والطبیعیة الکلیة، أی کلّ ما یصدق علیه عنوان (حرم أکله) یتعلّق به حکم النجاسة؟

الظاهر أنّ الثانی هو المراد، لأنّ جعل الاحکام؟ علی نحو القانون لا یکون غالبا الاّ بمنهج القضایا الحقیقیة والکلیّة، أی ما یکون محرّم الأکل ولو بالعرض، بخلاف مالو کان الجعل علی نحو القضایا الخارجیة حیث یکون الحکم حینئذٍ متعلقا بما هو محرّم أکله فی الخارج، وهو یختصّ بما کان کذلک بالذات، ولا یشمل بالعرض، فإذا اطردّ الحکم بالشمول لکلا القسمین، فلا فرق فیه بین کونه بالعرض دائما ولا یزول، أو بالعرض مع امکان الزوال ما لم یزل.

نعم، لابدّ أن یعلم أن المراد من (ممّا لا یؤکل لحمه) هو المحرّم عن طریق جعل الشارع بلا واسطة، فلا یشمل ما لو کان حراما بواسطة النذر والعهد والیمین، إذ الدلیل منصرف عنه، لأنّ اللحم بذاته من الشارع حلال، وحرمته إنّما نشأت عن ما وقع بین المکلّف وربّه بواسطة اجراء الصیغة، فحرمة هذا اللّحم یصیر شخصیا

ص:464

لا کلیا یعمّ جمیع المکلفین، بل هو خارج عن حکم النجاسة مطلقا، أی سواءٌ کان جعل التحریم لنفسه دائما أو فی مدّة زمنیّة معیّنة، فهذا القسم من المحرّم خارج عن تلک الأدلة والاجماعات قطعا بخلاف تلک الأقسام الثلاثة.

وبذلک ینقطع حکم الأصل وقاعدة الطهارة والحلیة الموجودة فی اللّحم فیما یعرض له الحرمة، من خلال یتقیّد یقید اطلاق ما دلّ علی طهارة بوله خروه إن کان مثل ما قام الدلیل ما علی طهارتهما کالبعیر والبقر ونحوهما، حیث یشمل اطلاقه لحالتی الجلل وعدمه، والموط ء وعدمه، وإن کانت النسبة بین ذلک الاطلاق وبین عموم ما دلّ علی النجاسة فیما لا یؤکل لحمه هو العموم من وجه، والترجیح إنّما یکون بالثانی.

هذا، مضافا إلی أنّ الاجماعات المؤیدة والمرجّحة للنجاسة تدلّ علی أنّ الدوران حینئذٍ یکون بین التقیید فی الأوّل أو التخصیص فی الثانی، والترجیح یکون للاوّل، لأنّ التقید أهون من التخصیص، اذ الاطلاق حکم عقلائی لبّی، والعموم حکم وضعی لفظی، ودلالة اللفظ علی العموم أقوی من دلالة الاطلاق بحکم العقلاء.

فبذلک یندفع احتمال کون الحلیة المأخوذة فی الطهارة هو الحلیّة الأصلیّة، بحیث لا یقدح زوالها فی بقاء الطهارة، کما یندفع احتمال کون الحرمة الأصلیة دخیلة فی الحکم بالنجاسة فی عدم المأکولیة، فلا عبرة بعروض الحرمة فی الحکم بالنجاسة.

نعم، یلحق بالجلاّل ونحوه المتغذی لبن الخنزیرة حتّی اشتدّ لحمه وعظمه، لما ورد فیه من حرمة لحمه، فیصیر بوله وخروه نجسا لأجل ذلک، وإنْ لم یصدّق علیه الجلاّل، لأنّه قد فسّره غیر واحدٍ من الأصحاب بأنّ الجلاّل هو المتغذی بعذرة الانسان، لا مطلق المتغذی بالنجاسات والمتنجسات، حتّی ولو

ص:465

قوله: وفی رجیع ما لا نفس له وبوله تردّد (1)

بمباشرتها، وإنْ قیل إنّما سُمّی جلاّلاً لأکله الجِلّة وهی البَعرة، إلاّ أنّه قد یدّعی اختصاص الجلاّل عرفا بما یتغذی من غدوة الانسان، کما یؤیّد ذلک الخبر الذی رواه موسی بن أکیل عن بعض أصحابه، عن أبی جعفر علیه السلام : «فی شاة شربت بولاً ثمّ ذبحت؟ قال: فقال: یغسل ما فی جوفها ثمّ لا بأس به، وکذلک إذا اعتلفت بالعذرة ما لم یکن جلاّلة، والجلالة التی یکون ذلک غذاءها»(1) بناء علی انصراف العذره إلی عذرة الانسان، فتکون الاشارة فی الحدیث الیها.

کما یمکن استفادة نجاسة بول الجلاّل ورجیعه ممّا ورد فی الحدیث من منع شرب لبنه، مثل الخبر الذی رواه حفص بن البختری، عن الصادق علیه السلام ، قال: «لا تشرب من ألبان الإبل الجلاّلة، وإنْ أصابک شیءٌ من عَرقها فاغسله»(2).

فإنّ المنع عن شرب لبنه لیس الاّ لأجل حرمة لحمه، فیستفاد منه ثبوت کلّما کان من توابع حرمة لحمه التی منها نجاسة بوله وخرؤه، کما یدلّ علیه ذیله من الأمر بالغَسل عن عرقه فی الروایة المتقدمة، کما لا یخفی.

(1) لا یخفی أنّ ما لا نفس له من الحیوانات، بریّا کان أم بحریّا یکون علی قسمین:

قسم: لا لحم له عرفا کاالذباب والقُمّل والزنبور والنمل وغیرها.

وقسم آخرٌ: ما له لحمٌ معتدّ به أو فی الجملة، وهو کالحیّة والأفعی والوزغة والسمک فی البحر وذوات الهیکل منه ممّا لا فلس له.

القسم الأوّل: الظاهر طهارته بعدّة أمور:

مضافا إلی کون الطهارة هو المرجع لدی الشک فیه بمقتضی قاعدة الطهارة فی


1- وسائل الشیعة: الباب 24 من أبواب الاطعمة الاشربة المحرمة ، الحدیث 2.
2- وسائل الشیعة: الباب 27 من أبواب الاطمعة والاشربة المحرمة، الحدیث 2.

ص:466

المشکوک ومنه المقام، إن لم یثبت شمول دلیل النجاسة له، أنّه خارج عن عموم دلیل (کلّ ما لا یؤکل لحمه فبوله وخرئه نجس) لأنّه:

أوّلاً: انّه لیس له لحمٌ حتی یؤخذ بحکمه من الطهارة والنجاسة فی مأکوله وغیره، فهو خارج موضوعا عن حکم النجاسة، فإذا کان خارجا بحسب الموضوع، فلا یبقی مورد للتمسک بالاجماع المرکّب الذی ادّعی قیامه بین نجاسة البول ونجاسة الخرؤ.

وثانیا: المطلقات الدالة علی النجاسة إنّما کانت فی خصوص البول الروث، الاّ أدلة خاصة واردة فی الموارد الخاصة ولا عموم ولا اطلاق فیها حتّی یتمسک ودون یقال بأنّ اطلاقها یشمل حتی لما لا نفس سائلة له، حتّی یشمل ما نحن فیه، والحاقه بالبول بواسطة الاجماع قد عرفت عدم تمامیة.

وثالثا: لو سلّمنا قیام الاجماع المرکب، لکن نقول إنّه یصحّ فیما یصدق لرجیع مثل الذباب والقُمّل والنمل وغیرها من العناوین الواردة فی الأخبار من الخرؤ والروث والعذرة، وهو أوّل الکلام.

ورابعا: إنّه لو سلّمنا ذلک الصدق، نقول لابدّ من استثنائه من تلک المطلقات بملاحظة وجود السیرة المتشرعة علی عدم الاجتناب عن فضولات هذه الحیوانات، ولعلّ الوجه فیه هو لزوم العسر والجرح فی الحکم بوجوب الاجتناب، ولعلّه لذلک أمکن دعوی قیام الاجماع علی الحکم بالطهارة فی مثل هذه الحیوانات ولو بدعوی انصراف لسان تلک الاطلاقات عن مثلها، وهو واضح، وإن کان مقتضی اطلاق کلام المصنّف فی «الشرایع» و«المعتبر» من التردّد فیه مشمولة لمثل هذه الحیوانات، ولذلک قال صاحب «الجواهر»: «اطلاقه لمثل ما یوجب المشقة فی تحزّره یکون فی غیر محلّه.»

ص:467

القسم الثانی: وهو الذی له لحم کالحیّة والسمک ونحوهما، فربما یمکن دعوی شمول الاطلاقات الواردة فی نجاسة بول وخرؤ ما لا یؤکل لحمه له، حیث یشمل باطلاقه لماله نفس سائله وغیره، وعلیه فلا وجه للتردّد فیه الاّ من جهة کون مقتضی الأصل عند الشک هو الطهارة، ودعویها توجب الانصراف فی تلک الاطلاقات عمّا یکون مثل هذا الحیوانات، بأنّ یُدّعی کون المراد من عنوان طهارة ما یخرج ما یؤکل لحمه ونجاسة غیره، هو ماله نفس سائله لا مطلقا حتّی یشمل مثل الحیّة والسمک، وهذا هو الذی ذهب الیه صاحب «الحدائق» و«المدارک» وشرح «الدروس»، ولأجل ذلک حکم بطهارة دمه ومیتته.

خلافا للآخرین _ کصاحب «الجواهر»، بل بحسب ظاهر اطلاق کلام جماعة من الأصحاب فی کتبهم مثل «المقنعة» و«الخلاف» و«جمل» الشیخ والوسیلة و«الغنیة» و«اشارة السبق» و«الدروس» _ حیث حکموا بنجاسة البول وخرؤ ما لا یؤکل لحمه من دون تقیید بکونهما من ذی نفس سائلة خصوصا مثل صاخب «النافع» حیث قیّد بذلک القید فی المیتة والدم وترکه فی البول والخرء. ولا یزاحمه دعوی الاجماع علی نجاستهما من ذی النفس، بدعوی ظهور ارادة اختصاص النجاسة به، لأنّه وإنْ مسلّم ظهور القید بذلک، لکن یمنع ارادة الاجماع علی الطهارة فی غیر ذی النفس، مع أنّه یمکن القول بکون المراد من القید ذکر معقد ما اتفق علیه لاخراج ما عداه عن القطع والاتفاق، فلا ینافی القول بالنجاسة فیه إذا ساعده اطلاق الدلیل.

مع أنّ دعوی قیام الاجماع علی الطهارة موضع شکٍ، لأنّه مع وجود التردد عن مثل المصنّف وغیره، مضافا إلی عدم قیام السیرة من المتشرعة علی عدم الاجتناب فیها علی النحو الموجود فی الحیوانات السابقة یصعب دعوی قیامه،

ص:468

قوله: وکذلک فی ذرق الدجاج غیر الجلاّل، والأظهر الطهارة (1)

بل حتّی لو تمت، فإنّ دعوی الاجتناب عنه فیها بالسیرة المتشرعیّة بعیدة عن الصواب أیضا وعلیه فمقتضی الاطلاقات المذکورة هو الحکم بوجوب الاجتناب.

اللّهم إلاّ أن یُدّعی الشک فی صدق اسم البول والخرء والعذرة والغائط ونحوها من الألفاظ التی قد تعلّق بها الحکم بالنسبة إلی ما لا نفس له، وبه یفرق بین المقام وبین الصلاة فی الاجتناب عنها فی الصلاة، لکونه من فضلات ما لا یؤکل، بخلاف ما نحن فیه، لأنّ الاحکام تابعة لعناوین موضوعها، ولذلک ذهب صاحب «الجواهر» إلی القول بالاحتیاط فی الاجتناب، بل عندنا أنّ الأقوی ذلک إن لم ینعقد اجماع علی خلافه، ولکن الأوجه عندنا هو القول بالاحتیاط وجوبا فی الاجتناب عنه، کما علیه بعض المحققین، وهو المطلوب.

(1) لا یخفی أنّ ظاهر المصنّف هو التردّد فی الحکم أوّلاً، ثمّ اختار الطهارة، ولعلّ منشأه اختلاف الأصحاب ولسان الأخبار کما سیتّضح إن شاء اللّه.

وأمّا الأقوال: فقد ذهب إلی نجاسة زرقه فی غیر الجلاّل الشیخ فی «الخلاف»، بل ادعی علیه الاجماع بالنجاسة فیه، وأیضا المفید فی «المقنعة» والصدوق فی غیر «الفقیه»، وفی قبالهم سائر الفقهاء قدیما وحدیثا، بل المشهور بین القدماء والمتأخرین هو الطهارة، بل قد رجع الشیخ فی سائر کتبه مثل «الاستبصار» و«المبسوط»، بل وفی کتاب الصید من «الخلاف» عن اختیاره السابق ووافق المشهور مدعیا علیه الاجماع بالطهارة فیه وفی خُرء کلّ ما یؤکل لحمه کما حکم بها صاحب «الغنیة» بالنسبة إلی الکلیة، کما ادّعاه الحلّی فی «السرائر» علی أنّ روث وزرق کل مأکول اللحم من الحیوان ظاهر.

ص:469

ولعلّ وجه هذا الاختلاف وجوده فی الأخبار أیضا، حیث ورد فی خبر فارس، قال: «کتب الیه رجلٌ یسأله عن زرق الدجاج تجوز الصلاة فیه؟ فکتب: لا» والحکم بعدم جواز الصلاة فیه، لیس له وجه الاّ کونه نجسا.

وفی قباله خبر آخر لوهب بن وهب، عن جعفر، عن أبیه، عن علی علیه السلام ، أنّه قال: «لا بأس بخرء الدجاج والحمام یصیب الثوب».

فیتعارضان، وحیث أنّ السند فی کلیهما ضعیف لا یمکن الاعتماد علیهما. غایة الأمر لا یخلو الحکم بین أحد أمرین: إمّا بقبول المعارضة بینهما والتساقط والرجوع إلی دلیل آخر، وهو عموم ما دلّ علی أنّ خرء کلّ مأکول اللحم طاهر، ولازمه الحکم بالطهارة، مع أنّه لو لم یرجع إلی ذلک، فإنّ مقتضی الشک فی النجاسة والطهارة هو الطهارة علی حسب قاعدة الطهارة: «کلّ شیء طاهر حتّی تعلم انّه قذر.»

وإمّا الرجوع إلی المرجّحات، فلا اشکال حینئذٍ من ترجیح خبر وهب بن وهب من جهات عدیدة:

أوّلاً: إن فارس هنا هو ابن حاتم القزوینی، وهو کما عن الشیخ غالٍ ملعون، بل فی «الخلاصة»: إنّه فسد مذهبه وقتله بعض أصحاب أبی محمد العسکری علیه السلام ، وله کتبت کلّها تخلیط. وعن الفضل بن شاذان انّه ذکر أنّ مِن الکذّابین المشهورین الفاجر فارس بن حاتم القزوینی.

وثانیا: إنّه مکاتبه ومضمرة.

وثالثاً: لا ملازمة بین عدم جواز الصلاة فیه والنجاسة، لأنّه ربّ طاهرٍ منع الصلاة فیه، بل هو کثیر، لکنّه غیر تام: لأنّ هذه الملازمة موجودة فی مأکول

ص:470

اللحم، أی إذا لم تجر الصلاة فیه لم یکن ذلک إلاّ لأجل نجاسته، بخلاف غیر مأکول اللحم، فإنّه یصحّ أن یقال بامکان عدم الملازمة، حیث یمکن أن یکون منع الصلاة لأجل کونه غیر مأکول اللحم لا کونه نجسا کما لا یخفی.

ورابعا: موافقته لکثیر من العامّة، خصوصا أبی حنیفة حیث ذهب إلی نجاسة زرق الدجاج، و علیه فتحمل الروایة علی الکراهة أو التقیة، والثانی أولی کما حمله الشیخ علیها، أو یحمل علی صورة الجلاّل أو رفع الایجاب الکلی المستفاد من السائل أو غیر ذلک الموجب لرفع التعارض، خصوصا مع کونه معرضا عنه الأصحاب.

وخامسا: إنّه لا یقاوم المعارضة، لأنّ حدیث وهب نصٌّ فی الجواز والطهارة وهو ظاهرٍ، والأوّل مقدم علی الثانی، فالمسألة واضحة لاخفاء فیها، بحمداللّه.

تنبیهٌ وتکمیلٌ: لو تردّد الانسان فی شیء لا یدری أنّه خرءٌ أو بول أو غیرهما من الاشیاء الطاهرة، فإنّه لابدّ حینئذٍ من الحکم بالطهارة بمقتضی قاعدة الطهارة وهی: «کلّ شیءٍ طاهر حتّی تعلم أنّه قذر».

وأیضا: مثله لو تردّد فی الخرء والبول بین کونهما من مأکول اللحم أو من غیره، أو بین کونه من ذی نفس سائله حتّی تکون نجسا أو من غیره، فإنّه لابدّ حینئذٍ من الحکم بالطهارة، لأنّ مرجع الشک فی جمیع ذلک إلی الشک فی الطهارة، فتدخل تحت القاعدة.

بل وکذلک لو تردّد الحیوان بین کونه مأکول اللحم أو غیره، سواءٌ کان منشأ التردّد لاشتباه فی الأمور الخارجیة _ کما لو تردّدد حیوان بین کونه غَنَما أو خنزیرا لأجل الظلمة الطاریة أو غیرها أو کون منشأه الجهل بالحکم الشرعی، کما فی الحیوان المتولّد من الحیوانین الذی لم یتبع فی الاسم أیّا منهما، لجریان قاعدة: «کلّ شیء نظیف حتّی تعلم انّه قذر.»

ص:471

بل وکذلک لو کان التردد من جهة الجهل بالموضوع _ کما لو تردّد بین کون الحیوان من ذی نفس سائلة من قبیل الحیّة أو من غیرها ممّا لا یؤکل لحمه _ فإنّه یحکم بالطهارة إن لم نقل بوجوب الاجتناب عن خرؤها لا یؤکل لحمه، وإن لم یکن له نفس سائله. نعم هذا یصحّ فی میتته ودمه لأنّ الشک فی مثلهما یرجع إلی الشک فی طهارتهما ونجاستهما، والأصل وعموم القاعدة یقتضیان الطهارة فیهما دون الخرء ورجیعه، لأنّه علی کلّ حال یجب الاجتناب عنه، سواء کان له نفس سائلة أم لا.

نعم، یصحّ اجراء ذلک عند من قال بالطهارة إنْ لم یکن له نفس سائلة، فحینئذٍ یرجع شکه إلی الشک فی الطهارة والنجاسة.

ثمّ الحکم بالطهارة فی تلک الموارد یجوز من دون وجوب الفحص والاختبار، وإنْ تمکن منه، إذا کان الشک ناشئا عن الجهل بالموضوع.

نعم، یجب الفحص والأختبار قبل إجراء الأصل والقاعدة، إذا کان الجهل فی الشبهات الحکمیة، لأنّ الفحص عن الاحکام واجب علی المکلفین، حتّی یتضحّ لهم الحکم بحسب الوسع والقدرة، کما یجب الفحص أیضا فی الموضوع إذا کان الشک فی الحیوان المتولّد من لحیوانین، ولعلّ الشارع نصّ فی حکم بالآثار فیتبع وبعد الفحص والیأس المرجع هو الأصل والقاعدة.

وعلیه، فما فی «الجواهر» من ذکر المحتملات فی الحیوان المجهول الحال الذی لم یدر أنّه من ذی النفس وغیره، من الحکم بطهارة فضلته، أو یتوقف الحکم بالطهارة علی اختباره بالذبح ونحوه لتوقف امتثال الأمر بالاجتناب علیه، أو یفرّق بین الحکم بطهارته وبین عدم تنجیسه للغیر، فلا یحکم بالأول إلاّ بعد الاختبار، بخلاف الثانی للاستصحاب فیه من غیر معارضٍ، یقول رحمه الله أنّها وجوه

ص:472

لم أعثر علی تنقیح لشیء منها فی کلمات الأصحاب.

فی غیر محلّه، لوضوح أنّه لا یکون الخروج عن الشبهة التی بعهدة التکیلف بالاجتناب عن النجس الواقعی واجبا علی المکلفین، وإلاّ لوجب الحکم بذلک فی جمیع الشبهات، لوضوح أنّ ما یجب علی المکلفین لیس الاّ الخروج عن التکالیف المنجزّة علیهم. وعند الشک فیه المرجع هو أصالة الحلیة والطهارة، کما لا یخفی.

* * *

فرغت من تسوید هذه الاوراق یوم الثلاثاء، المصادف یوم الثامن والعشرین من شهر شعبان المعظم من سنة ثمانیة وعشرین واربعمأة بعد الالف من الهجرة النبویّة الشریفة، الموافق یوم العشرین من شهر شهریور سنة ستة وثمانین وثلاثمأة بعد الالف هجریة شمسیة وکان تحریره بید الحاج السید محمدعلی العلوی الحسینی الاسترآبادی المعروف بالگرگانی ابن المرحوم آیة اللّه الحاج السیّد السجّاد العلوی الحسینی نوّراللّه مضجعه الشریف بنور الولایة والرحمة وغفر الله لی ولوالدی بغفرانّه، وارحمنی وایّاهما برحمته الواسعة امین ربّ العالمین والحمدللّه أوّلاً وآخرا.

ص:473

الفهرست

الفهرست

تتمة الأغسال المستحبة للأفعال••• 9

الأغسال المکانیّة المستحبة••• 19

غُسل زیارة المشاهد المشرّفة••• 25

ما یتعلّق بتقدیم الغُسل المکانی••• 29

البحث عن حکم الوقت التلفیقی••• 33

کیفیّة انتقاض هذه الأغسال••• 35

فروع غُسل رؤیته المصلوب••• 43

الرکن الثالث••• 53

الطهارة الترابیة••• 53

أسباب التیمّم••• 59

حکم طلب الماء قبل الوقت••• 74

حکم فی انتقل تکلیفه من الاختیاری الی الاضطراری••• 88

حکم اتلاف الماء قبل دخول الوقت••• 92

حکم التیمم من واجد الماء عند ضیق الوقت••• 95

تفسیر معنی (ضیق الوقت)••• 98

ص:474

حکم الماء المطلق الممزوج مع المضاف••• 106

التیمّم عند عدم الوصول الی الماء••• 107

کیفیّة الوقوف علی تحقق الضرر••• 132

کیفیّة تبدیل حکم الوضوء الی التیمم••• 133

حکم الوضوء عند ضیق الوقت المبیح للتیمم••• 135

حدود الضرر المبیح للتیمم••• 137

حکم مزاحمة الطهارة المائیة مع الأهم••• 149

حکم مخالفة الأهم فی صرف الماء••• 151

من أفراد تزاحم الواجب الأهم مع المهمّ••• 153

البحث فیما یجوز التیمم به••• 157

حکم التیمّم علی الحَجر••• 171

حکم التیمّم بالجِصّ والنورة••• 174

حکم التیمم بالمعادن••• 175

حکم التیمم بالرّماد••• 177

فروع باب التیمم بالغبار••• 201

حکم التیمّم بالطین بدل التراب••• 207

البحث عن کیفیّة التیمّم بالوَحَل••• 208

حکم طهارة فاقد الوحَل••• 209

حکم العاجز عن التیمم بعد دخول الوقت••• 224

البحث عن ملاک الضیق••• 228

أدلة المانعین عن کفایة التیمم مطلقا••• 241

ص:475

حکم المتیمّم بالنسبة إلی الصلوات اللاحقة••• 247

الأخبار الدالة علی کفایة تیمّم واحد••• 249

حکم جواز أداء القضاء والنوافل بالتیمّم••• 250

فی الفرائض الفائتة••• 252

کیفیّة نیّة المتیمّم••• 259

زمان وقوع النیّة••• 264

أمور متعلقة بالترتیب••• 272

الدلیل علی اعتبار الموالاة••• 275

اشتراط المباشرة فی التیمّم••• 278

بیان مراتب أفعال التیمم••• 283

اشتراط الضرب والمسح بباطن الکف••• 292

البحث عن الدلیل علی اشتراط طهارة الماسح••• 301

البحث عن حکم العلوق••• 303

کیفیّة المسح المعتبر فی التیمم••• 311

فی لزوم تعاقب المسح وعدمه••• 314

کیفیّة مسح الوجه••• 314

فی حکم الحاجب عند المسح••• 322

فروع باب التیمم••• 323

فی ما یتعلّق بمسح الیدین فی التیمم••• 332

وحدة فعل التیمم عند اختلاف اسباب الغُسل••• 345

کیفیّة تیمم الأقطع••• 353

ص:476

تکملة••• 358

أحکام التیمم••• 361

فروع مسألة وجدان الماء بعد التیمم••• 400

الرکن الرابع: فی النجاسات واحکامها••• 446

حکم بول وخُرء مالا یؤکل لحمه••• 451

حکم بول الخفاش وخرؤه••• 460

الفهرست••• 473

المجلد 9

اشارة

ص: 1

تألیف

آیة اللّه العظمی الحاج السیّد محمّد علی العلوی الگرگانی

الجزء التاسع

ص:2

ص:3

بسم الله الرحمن الرحیم

ص:4

ص:5

أحکام المنی

قوله قدس سره : الثالث: المنی، وهو نجسٌ من کلّ حیوانٍ حَلّ أکله أو حَرُم (1)

(1) الثالث: المنی، والمقصود من المنی هنا منیّ کلّ حیوانٍ ذی نفس، بقرینة تقابله بما لا نفس له بعد ذلک، ونجاسته بصورة عامّة بحیث تعمّ المأکول وغیره ثابتة بدلیل الاجماع محصلاً ومنقولاً صریحا فی «الخلاف» و«التذکرة» و«کشف اللّثام» و«النهایة» و«کشف الالتباس»، وظاهر «المنتهی» وغیره، وأمّا الأخبار التی بعضها صحیحٌ فإنّه لا یکون اثبات النجاسة للعموم، بل هی تثبت للانسان بواسطة وجود ما یوجب صرف الاطلاق إلی خصوص ما للانسان من اصابة الثوب وغیره، حیث لا یکون إلاّ للانسان لندرة تحقّق ذلک فی منی غیره، فلا بأس هنا باستعراض الأخبار الواردة: المنی و أحکامه

منها: صحیحة زرارة، قال: «قلت: أصاب ثوبی دم رعافٍ أو غیره أو شیءٌ من منی. «إلی أن قلت: فإنّی قد عَلمت: «أنّه قد أصابه، ولم أدر أین هو، فأغسله؟ قال: تغسل من ثوبک الناحیة التیتری أنّه قد أصابها، حتّی تکون علی یقین من طهارتک»(1).

ومنها: روایة العلاء، عن محمد، عن أحدهما علیهماالسلام فی حدیثٍ: فی المنیّ یصیب الثوب، فإن عرفت مکانه فاغسله، وإن خفی علیک فاغسله کلّه»(2).

ومثله فی المضمون روایة ابن أبی یعفور،(3) وسماعة،(4) وکذا روایة ابن مصعب(5).


1- وسائل الشیعة: الباب 7 من أبواب النجاسات، الحدیث 2.
2- المصدر السابق، الحدیث 1.
3- المصدر السابق، الحدیث 7.
4- المصدر السابق، الحدیث 8.
5- المصدر السابق، الحدیث 4.

ص:6

ومنها: روایة علی بن جعفر، عن أخیه موسی بن جعفر علیه السلام ، قال: «وسألته عن الرجل یعرق فی الثوب، ولم یعلم أنّ فیه جنابة، کیف یصنع، هل یصلح أن یصلّی قبل أن یغسل؟ قال: إذا علم أنّه إذا عرق فیه أصاب جسده من تلک الجنابة التی فی الثوب، فلیغسل ما أصاب جسده من ذلک، وإن علم أنّه أصاب جسده ولم یعرف مکانه فلیغسل جسده کلّه»(1).

فهذه الأخبار کما تری مشتملة علی ما یوجب صرف الاطلاق إلی خصوص منی الانسان، ووجود الألف واللاّم فی (المنی) تعریف الماهیة التی یلزمها الحکم أینما وجدت، غایة الأمر فی کلّ ما یصدق علیه إذا لم یکن فی البین تبادرا فی کونه من الانسان، خصوصا مع ملاحظة ما ورد فی تحت اللغة مثل «القاموس» من أنّه ماء الرجل والمرأة، و«الصحاح» من اختصاصه بالرجل دون المرأة، الاّ أنّه لا یبعد ارادتهما التمثیل.

أقول: ولیس فی البین ما یستفاد منه الاطلاق الاّ روایة صحیحة لمحمد بن مسلم رواها عن أبی عبداللّه علیه السلام ، قال: «ذکر المنی وشددّه وجعله أشدّ من البول»(2).

حیث استدلّوا بأنّ اشدیته لأجل نجاسته، بأن یکون المنی أنجس من البول قضاءا لأشدیّته، بل هو یقتضی نجاسته ولو لم یکن البول من صاحب المنی نجسا أیضا، إذ هو مقتضی شدّة حقیقة المنی بالنسبة إلی حقیقة البول، مع انّه یمکن أن یناقش فیه بامکان أن تکون أشدیته بالنسبة إلی ازالته لخفة


1- وسائل الشیعة: الباب 7 من أبواب النجاسات، الحدیث 10.
2- وسائل الشیعة، الباب 16 من أبواب النجاسات، الحدیث 2.

ص:7

البول ولزوجة المنی وثخانته، هذا.

ولکن قلنا: إنْ قبلنا دعوی الانصراف إلی منی الانسان، فهو یوجب کون ذلک لمنی الانسان، وبأنّه أشدّ من بوله لا مطلقا حتّی یشمل منیّ کلّ حیوان حَلّ أکله أو حرم.

أقول: والثابت علی نحاسته هو الاجماع، وأمّا دعوی الانصراف علی حدٍّ یوجب رفع الظهور فمشکلة لامکان اصابة ثوب الانسان ویده فی بعض الموارد مثل زمان القاء فحل الضرّاب علی الأنثی فی الحیوان وإن کان نادرا، ولکن یمکن أن یتحقّق ذلک خارجا، فهو یکفی فی صحة القاء الحکم فیه، وعلیه فالانصاف إمکان التمسک بالأخبار لذلک.

وکیف کان، ففی منی الانسان ممّا لا اشکال فی نجاسته، بل هی لعلّها من ضروریات مذهبنا، وربّما کان هذا المعنی مرادا فی قوله تعالی «مَّاء مَّهِینٍ»(1) بل یحتمل أن یکون المراد من (رجز الشیطان) فی قوله تعالی: «وَیُنَزِّلُ عَلَیْکُم مِّن السَّمَاء مَاء لِّیُطَهِّرَکُم بِهِ وَیُذْهِبَ عَنکُمْ رِجْزَ الشَّیْطَانِ»(2) المنیّ علی ما حُکی عن بعض المفسّرین، أنّ المراد به أثرا الاحتلام، بل فی «الانتصار» أنّ: «الرجز والرجس والنجس بمعنی واحد» انتهی.

وعلی وفق مذهبنا کثیر من الناس والعامّة، الاّ الشافعی حیث حکی منه الطهارة، مستدلاً له بأنّه خِلقة الانسان فکیف یمکن أن یکون نجسا، وأختار ذلک مطلقا، سواءٌ کان من رجلِ أو امرأة، راویا له عن ابن عباس وسعد بن أبی وقاص


1- سورة السجدة، الآیة 7.
2- سورة الانفال، آیة 11.

ص:8

وفی منّی ما لانفس له تردّد، والطهارة أشبه (1)

وعائشة، قیل وبه قال من التابعین سعید بن المسیّب وعطاء، ولا ریب فی ضعف قولهم.

أقول: وردت عندنا بعض الأخبار الذی یدلّ ویوافق کلامهم:

منها: صحیحة زرارة، قال: «سألته عن الرجل یجنب فی ثوبه أیتجفّف فیه من غسله؟ فقال: نعم، لا بأس به إلاّ أن تکون النطفة فیه رطبة، فإن کانت جافّة فلا بأس»(1).

حیث أنّها بظاهرها تدلّ علی طهارته فتکون صادرة عن التقیة، أو علی کون التجفیف لغیر موضع المنی من ماء سائر مواضع البدن کما احتمله الشیخ، إلاّ أن تکون النطفة جافّة واقعة علی البدن ولا توجب السرایة والنجاسة _ خلافا لطبعها _ کباقی النجاسات، کما استثناه حیث یوجب التنجیس، فتکون الروایة حینئذٍ ردّا علی الخصم لا له.

ومنها: روایة أبی أسامة، قال: «سألت أبا عبداللّه علیه السلام عن الثوب یکون فیه الجنابة فتصیبنی السماء حتّی یبتلّ علی؟ قال: لا بأس»(2).

بناءً علی أنّ المراد من الجنابة هو المنی ولم یطهره الماء بلا عصر وذلک للزوجته وسماکته والاّ یمکن حمله علی أن وجود الجنابته فی الثوب علی أثر الجماع بزوجته، وکون مراده من الجنابة هو عرقه فأصابه المطر حتّی ابتلّ، حیث


1- وسائل الشیعة: الباب 27 من أبواب النجاسات، الحدیث 7.
2- المصدر السابق، الحدیث 6.

ص:9

یوجب طهارته، خصوصا عند من لا یجب عصره فی المطر والکرّ، فلا یصیر الحدیث حینئذٍ مخالفا لمذهبنا، وإنْ أبیت عنه فیحمل علی التقیة.

ومنها: روایة أخری لأبی اسامة، قال: «قلت لأبی عبداللّه علیه السلام تصیبنی السماء وعلیّ ثوب فتبّله وأنا جنبٌ، فیصیب بعض ما أصاب جسدی من المنی، فأصلّی فیه؟ قال: نعم»(1).

حیث یمکن حمله علی أنّ موضع الملاقاة غیر مرطوب، أو علی زوال النجاسة بالمطر وهو بعید، أو علی التقیة ونحو ذلک ممّا یوهّم خلاف المذهب فلابدّ من طرحه أو حمله بما لا ینافی ما سبق من الأخبار، لوجود الاجماع واعراض الأصحاب عن القول بعدم النجاسة کما لا یخفی.

کما أنّه بما ذکرنا من الاجماع نخصّص عموم ما ورد فی موثقة عمّار عن الصادق علیه السلام بقوله: «کلما أُکل لحمه فلا بأس بما یخرج منه»(2) وکذلک عموم موثقة ابن بکیر عنه علیه السلام : «وإن کان ممّا یؤکل لحمه فالصلاة فی وبره وبوله وشعره وروثه وألبانه وکلّ شیء منه جائز»(3) بحملهما علی غیر المنی، أو علی ارادة البول والروث کما فهمه الأصحاب، نظیر اخراج الدّم عن العموم فی المسفوح.

(1) ومنشأ تردّده هنا وفی «المعتبر» و«المنتهی» هو ملاحظة اطلاق لفظ (المنیّ) فی الأخبار وکثیر من الفتاوی وکذلک فی معقد اجماع «الانتصار» و«الخلاف» و«الغنیة» و«المسالک الطبریة» و«کشف الحقّ» وغیرها، خصوصا مع التصریح فی «الخلاف» وغیره بالتعمیم لکلّ حیوان کبعض فتاوی الأصحاب.


1- المصدر السابق، الحدیث 3.
2- وسائل الشیعة: الباب 9 من أبواب النجاسة، الحدیث 12.
3- وسائل الشیعة: الباب 2 من أبواب لباس المصلّی ، الحدیث 1.

ص:10

ومن ناحیة أخری: هو الأصل، ومقتضی العمومات وطهارة میتته ودمه.

وجعل المصنّف الطهارة أشبه وفاقا لصریح «المعتبر» و«المنتهی» و«التذکرة» و«الذکری» وغیرها، بل هو ظاهر کلّ من قید نجاسته بذی النفس، بل فی «الریاض» أنّه المشهور، بل کاد أن یکون اجماعا، کما أنّه حکی عن «مجمع البرهان» وقال بعد ذکر نجاسة المنی: «وکان تقییدها أی بذی النفس للاجماع» وصدّقه صاحب «الجواهر» وقال: «ولعلّه کذلک اذ لا اعرف فیه مخالفا صریحا.»

قلنا: فیصحّ هنا دعوی الاجماع علی الطهارة مع عدم وجود اجماع علی نجاسة المنی فی غیر ذی النفس إلا بالاطلاق، مع ما عرفت من الاشکال فی اطلاقه لغیر الانسان، فضلاً عن غیر ذی النفس، مضافا الی الاشکال بمنع صدق اسم المنی لمثل هذا الماء الذی یخرج عنه، خصوصا مع ما عرفت من «القاموس» و«الصحاح» من اختصاصه بالانسان، وإن قلنا انّهما أرادا التمثیل، إلاّ أنّه لیس ذا من امثال ما ذکراه، وعلیه فالطهارة فیه قویّ.

فرع: لا خلاف فی طهارة سائر ما یخرج من الحیوان والانسان من الوذی والودی والقبح، وجمیع الرطوبات غیر المذی، حیث خالف فیه ابن الجنید عدا الثلاثة من المنی والبول والغائط والدّم، بل قد یستفاد من حصر الأصحاب النجاسات فی غیرها الاجماع علیه، مضافا إلی وجود العمومات والأصل بوجوه شتی، والقاعدة، خصوصا ما ورد من الأخبار الدالة علی ذلک:

منها: صحیح ابراهیم بن أبی محمود، قال: «سألت أبا الحسن الرضا علیه السلام عن المرأه ولیها قمیصها أو إزارها یصیبه من بلل الفرج، وهی جنبٌ أتصلّی فیه؟ وقال: إذا اغتسلت صلّت فیهما»(1).

ومنها: روایة عبدالرحمن ابن أبی عبداللّه، عن الصادق علیه السلام ، قال: «سألته عن


1- وسائل الشیعة: الباب 55 من أبواب النجاسات، الحدیث 1.

ص:11

رجل مسّ فرج امرأته؟ قال: لیس علیه شیءٌ، وإن شاء غسل یده، الحدیث»(1).

حیث یستفاد من ترک الاستفصال أنّه حتّی لو أصاب یده رطوبة فرجها فلا شیء علیه، کما یؤمی الیه تعلیق الحکم بالمشیّة فی غَسل یده، لأنّه لو کان نجسا فلابدّ من أن یأمره بالغسل والزامه بذلک، ومع عدمهما فتدلّ علی الطهارة.

کما أنّ الأمر فی المذی أیضا کذلک، إذ فضلاً عن وجود الأصل والقاعدة والعمومات توجد نصوص خاصّة دالة علی الطهارة:

منها: روایة برید بن معاویة، عن أبی عبداللّه علیه السلام ، قال: «سألت أحدهما علیهماالسلام عن المذی، فقال: لا ینقض الوضوء ولا یغسل منه ثوب ولا جسد إنّما هو بمنزلة المخاط والبصاق»(2).

ومنها: خبر زرارة فی الصحیح عن أبی عبداللّه علیه السلام ، قال: «إن سال من ذکرک شیء من مذی أو ودی وأنت فی الصلاة فلا تغسله، ولا تقطع له الصلاة، ولا تنقض له الوضوء، وإن بلغ عقبیک فإنّما ذلک بمنزلة النخامة، وکلّ شیء خرج منک بعد الوضوء فإنّه من الحبائل أو من البواسیر ولیس شیءٌ فلا تغسله من ثوبک الاّ أن تقذره»(3).

ومثله روایة محمّد بن مسلم،(4) وخبر زید الشحام،(5) وغیر ذلک من الأخبار الدالّة بالصراحة علی عدم نجاسته، والأخبار متواترة مضافا إلی قیام الاجماع بقسمیه علی ذلک.


1- وسائل الشیعة: الباب 9 من أبواب نواقض الوضوء، الحدیث 6.
2- وسائل الشیعة: الباب 12 من أبواب نواقض ، الحدیث 1.
3- المصدر السابق، الحدث 2.
4- المصدر السابق، الحدیث 3.
5- المصدر السابق، الحدیث 5.

ص:12

الرابع: المیته ولا ینجس من المیّتات إلاّ ما له نفس سائلة (1)

وعلیه، فما عن ابن الجنید من اعبتار نجاسة خصوص الناقض للوضوء، وهو الخارج عقیب الشهوة، ضعیف جدّا وممنوع، وإن کان مستند کلامه هو خبر الحسین ابن أبی العلاء، عن الصادق علیه السلام : «عن المذی یصیب الثوب؟ قال: إن عرفت مکانه فاغسله، وإن خفی مکانه علیک فاغسل الثوب کلّه»(2).

وأیضا خبره الآخر عنه علیه السلام : «عن المذی یصیب الثوب فیلتزق؟ قال: یغسله ولا یتوضأ»(3).

وهاتان الروایتان مضافا إلی انّهما غیر مفیدتین ادّعاه من نجاسة خصوص الناقض منه، انّهما لا تقامان المعارضة مع ما تقدم، مع أنّهما محمولان علی التقیة أو علی الاستحباب، لما قد ورد عن نفس الراوی أیضا فی خبرٍ آخر قال: «سألت أباعبداللّه علیه السلام عن المذی یصیب الثوب؟ قال: لا بأس به، فلّما رددنا علیه قال ینضحه بالماء»(4).

وعلیه یحمل حکایة محمد بن مسلم عنه، وهو عن أحدهما علیهماالسلام ، قال: «سألته عن المذی یصیب الثوب؟ قال: ینضحه بالماء إن شاء»(5).

کما یؤید الاستحباب قوله: «إن شاء» کما لا یخفی. وعلیه فالمسألة واضحة لا کلام فیها.

(6) الرابع: المیتة، والبحث فی هذه المسألة ینشقّ إلی شقوق لکلّ قسم وشقّ


1- وسائل الشیعة: الباب 17 من أبواب النجاسات، الحدیث 3.
2- وسائل الشیعة: الباب 17 من أبواب النجاسات، الحدیث 3.
3- المصدر السابق، الحدیث 4.
4- المصدر السابق، الحدیث 2.
5- المصدر السابق، الحدیث 1.
6- وسائل الشیعة: الباب 17 من أبواب النجاسات، الحدیث 3.

ص:13

حکمٌ مخصوص: المیّته و أحکامه

القسم الأوّل: میتة ما لیس له نفس سائلة کالجراد والذباب والوزغ ونحوها، فإنّ میتته طاهرة بلا اشکال.

والدلیل علیه: _ مضافا إلی الأصل من استصحاب طهارته وقاعدة الطهارة من قوله: «کلّ شیء طاهر حتّی تعلم انّه قذر» واستصحاب طهارة ملاقیه بعد الملاقات، وغیر ذلک من الأصول الدالة علیه، هی الشهرة بین الأصحاب بل کادت أن تکون اجماعا، بل علیه اجماع فی «الغنیة» و«السرائر» و«المعتبر» و«المنتهی»، وعن صریح «الخلاف» وظاهر «الناصریّات» و«التذکرة» _ دلالة أخبار کثیرة متظافرة علی ذلک، وإن کان فی سند بعضها ضعف أو فی دلالتها قصور، لکنّها منجبرة بالشهرة والاجماع، فبذلک یکفینا فی اثبات المطلب، فلا بأس حینئذٍ بذکر الأخبار:

منها: موثق عمّار، عن الصادق علیه السلام ، قال: «سُئل عن الخنفساء والذباب والجراد والنملة وما أشبه ذلک یموت فی البئر والزیت والسّمن وشبهه؟ قال: کلّ ما لیس له دم فلا بأس»(1).

ومنها: حفص بن غیاث، عن جعفر بن محمد، عن أبیه: قال: «لا یفسد الماء إلاّ ما کانت له نفس سائلة»(2).

ومثله الخبر المرفوع عن ابن یحیی(3).

ومنها: خبر ابن مسکان، قال: «قال أبو عبداللّه علیه السلام : کلّ شیء یسقط فی البئر


1- وسائل الشیعة: الباب 35 من أبواب النجاسات، الحدیث 1.
2- المصدر السابق، الحدیث 2.
3- المصدر السابق، الحدیث 5.

ص:14

لیس له دمٌ مثل العقاب والخنافس وأشباه ذلک فلا بأس»(1).

ومنها: خبر «قرب الإسناد» باسناده عن علی بن جعفر، عن أخیه موسی بن جعفر علیه السلام : «عن العقرب والخنفساء وأشباهما تموت فی الجرّة أو الدّن یتوضأ منه للصلاة؟ قال: لا بأس»(2).

ومنها: خبر أبی بصیر فی الصحیح عن الصادق علیه السلام بعد أن سأله عن الذّباب یقع فی الدهن والسمن والطعام؟ قال لا بأس»(3).

وغیر ذلک من الأخبار الدالة علی ذلک حیث یتیقن الفقیه ویطمئن بطهارة میتة ما لا نفس له.

فما فی «الوسیلة» و«المهذّب» من استثناء الوزغ والعقرب من هذا الحکم بما یشعر نجاستهما عنده بعد الموت، لو لم یرد جهة سمّهما من الاستثناء، کما یؤیّد عدم ارادته ذلک حکمه فیما قبل بمساواة الوزغ للکلب فی وجوب غسل ما باشر برطوبته من الثوب أو البدن فی حال الحیاة، لکن قبل ذلک صرّح بکراهة استعمال ما باشره الوزغ حیّا.

یکون فی غیر محله، ومحجوج بما عرفت.

ومثله کلام الشیخین فی «المقنعة» و«النهایة» بوجوب غسل ما باشره العقرب والوزغ برطوبته من الثیاب، ممّا یُشعر بالنجاسة بعد الموت بطریق أولی، ومثله ما یشعر کلام الصدوق علیه من الحکم بحرمة اللبن إذا مات فیه العظایّة _ وهی الوزغة الصغیرة، وتُسمّی بالفارسیّة: مارمولک _ وکذلک ما عن جماعة بوجوب النزح فی الجملة عن ماء البئر لموت الوزغ والعقرب والحیّة فیها لو أرید النجاسة.


1- المصدر السابق، الحدیث 3.
2- وسائل الشیعة: الباب 35 من أبواب النجاسات، الحدیث 6.
3- وسائل الشیعة: الباب 46 من أبواب الاطعمة المحرمة، الحدیث 1.

ص:15

ولکنّه غیر معلوم لأنّ وجوب النزح ربّما یکون أعمّ من النجاسة، کما یحکم بذلک فی اغتسال الجنب فیها مع أنّه لیس من جهة النجاسة، فلعلّ الحکم بذلک فی الحیوانات المذکورة لأجل احتمال وجود مادة السُّم فیها کما أنّه کذلک فی تحریم اللّبن، بل وفی کلام الشیخین و«الوسیلة»، والا کان مججوجا بما عرفت إذ لا دلیل صالح معتدّ به یدلّ علی النجاسة الاّ مما قد یتوهّم.

من خبر سماعة، قال: «سألت أبا عبداللّه علیه السلام عن جرّة وجد فیها خنفساء قد مات؟ قال: ألقه وتوضّأ منه، وإن کان عقربا فارق الماء وتوضّأ من ماء غیره»(1).

من الحکم بالاراقه فی العقرب، ولکن لعلّه کان لأجل السمّ الموجود فیه، أو محمول علی الندب مع أنّه لا صراحة فیه فی کونه بعد موته، لاحتمال کونه حیّا، فلا وجه للحکم بالنجاسة حینئذٍ مع قصور فی سنده، کما یحمل علی الندب فی الأمر بالاراقه حتّی إذا خرج حیّا فی خبر أبی بصیر، عن أبی جعفر علیه السلام ، قال: «سألته عن الخنفساء تقع فی الماء أیتوضّأ منه؟ قال: نعم لا بأس به، قلت: فالعقرب؟ قال ارقه»(2).

حیث یشمل بترک الاستفصال صورتی الموت والحیاة، فلا ینافی فی الحمل علی الاستحباب مع فتوی المشهور.

کما قد یؤید ذلک ما صرّح بالخروج حیّا روایة هارون بن حمزة الغنوی، عن أبی عبداللّه علیه السلام ، قال: «سألته عن الفارة والعقرب وأشباه ذلک یقع فی الماء، فیخرج حیّا، هل یشرب من ذلک الماء ویتوضّأ به (منه خ ل)؟ قال: یسکب منه ثلاث مرات، وقلیله وکثیره بمنزلة واحدة، ثم یشرب منه (ویتوضّأ منه) غیر الوزغ


1- وسائل الشیعة: الباب 9 من أبواب الاشیاء، الحدیث 6.
2- المصدر السابق، الحدیث 5.

ص:16

فإنّه لا ینتفح بما یقع فیه»(1).

حیث یظهر منه کون الحکم بالاراقه والاسکاب لأجل احتمال وجود السمّ لا النجاسة، وعلیه فالمسألة من جهة الکلیة فی عدم نجاسة میتة ما لا نفس له أمر مسلّم وواضح ولا خفاء فیه من حیث الحکم.

نعم، قد یعرض الخفاء فی الحکم من جهة الخفاء فی تشخیص الموضوع، کما وقع ذلک فی الحیّة من التأمّل فی کونها من أفراد ما لا نفس له أو من غیره، کما صرّح بذلک المحقق فی «المعتبر» والعلاّمة فی «المنتهی» من کونها من ذوات الأنفس السائلة، بل نسب بعضهم کونه معروفا بین الأصحاب ویقتضیه ما فی «المبسوط» أنّ الأفاعی إذا قتلت نجست اجماعا، خلافا لجامع المقاصد و«الروضة»، بل فی «المدارک» أنّ المتأخرین استبعدوا وجود النفس لها.

أقول: لعلّه متفاوت فی مثل الصغیر والکبیر، بأن یکون الثانی منها ذا نفسٍ سائلة دون الصغیر فیقع البحث حینئذٍ عن أنّه:

لو کان کذلک فهل الحکم تابع لموضوعه فی الصغر والکبر، أو یکفی فی الالحاق وجود النفس فی الکبیر لها فیلحق بذوات الانفس؟ وهو غیر بعید، واللّه العالم.

القسم الثانی: المیّتة غیر الآدمی من ذوی النفس السائلة، کمیتة البهائم.

أقول: الدلیل علی النجاسة عدیدة:

الدلیل الأوّل: الاجماع بکلا قسمیه کما فی «الغنیة» و«المعتبر» و«المنتهی» و«الذکری» و«کشف اللّثام» و«الروض» و«نهایة الأحکام» و«التذکرة» و«کشف الالتباس» وغیرها، بل فی «المعتبر» و«المنتهی» علیه اجماع علماء الاسلام، وظاهر الجمیع أنّه لا فرق فیه بین المائی وغیره، کما هو کذلک لاطلاق معاقد


1- المصدر السابق، الحدیث 4.

ص:17

الاجماعات، کما هو مقتضی عموم الأدلة واطلافاتها کما یستظهر لک إن شاء اللّه.

فما من ظاهر «الخلاف» من طهارة میتة الحیوان المائی مطلقا، فإنّه قصد به غیر ذی النفس غالبا، وهو علی حدٍّ من الندرة فی مقابله حتّی یکون کالعدم، کما حمله صاحب «کشف اللّثام» علیه، وألاّ کلامه ضعیف قطعا، لقیام الإجماع علیه کما یظهر من کلام العلاّمة فی «التذکرة» حیث قال: «إنّ میتة ذی النفس من المائی نجسة عندنا» المشعر لفظ (عندنا) بالاجماع عند الامامیة.

کما لا فرق ظاهرا عند الجمیع فی النجاسة بین أجزاء المیتة من الجلد وغیره، بل هو ظاهر العلاّمة فی «المنتهی»، وإن قال فیه: «إنّه حُکی عن الزهری عدم نجاسة جلد المیتة» لأنّه صرّح قبل ذلک بنجاسة الجلد عندنا، ثمّ قال: «وهو قول عامّة العلماء»، کما نقل الاجماع علیه عن «الخلاف» والانتصار والناصریات) و«نهایة الأحکام»، وعلیه فیصحّ حینئذٍ دعوی وجود الاجماع بکلا قسمیه علی نجاسة المیتة من ذوی النفس من الجلد وغیره هو المطلوب، وهذا هو الدلیل الأوّل والحجّة علی ذلک.

الدلیل الثانی: علی نجاسة المیتة المذکورة الشاملة للجلد، هو دعوی قیام التواتر المعنوی الحاصل من لسان الأخبار الکثیرة الواردة فی بیان أمور متعددة، المفهمة کون تلک الأمور لأجل نجاستها:

مثل: ما ورد من الأمر بنزح ماء البئر فی أخبارٍ کثیرة لموت میّت حیوانات مثل الدّابة والفارة والطیر والحمامة والحمار والثور والجمل والسّنور والدجاجة إذا وقعت فی البئر وماتت فیها. ولا ینافی مع نجاسة المیتة الواقعة فیه القول بطهارة ماء البئر، لأنّ ذلک لیس لأجل عدم نجاسة المیتة، بل لأجل عدم انفعالها بالنجاسة لکثرتها واتصالها بالمادة، وإلاّ فلا خلاف فی النجاسة مع تلک المیتات إذا تغیّر مائها، مع أنّها لو لم تکن اعیانا نجسة فلا وجه لنجاستها مع التغیّر، کما لا یخفی.

مع أنّ الأمر بالنزح دالٌ علی نجاسة سببه، وهذا لا ینافی القول باستحباب

ص:18

النزح باعتبار استقراء أکثر موارد ما أمر فیه بالنزخ لسبب النجاسة، وعدم ثبوت شرعیة النزح حتی من القائلین بنجاسة البئر لشیء من المستقذرات الطاهرة کالصدید _ أی القبح وغیره _ ما لم یرد فیه نصٌّ بالنزح له.

نعم، لا ینافی ذلک وجود الأمر بالنزح لاغتسال الجنب فی البئر وموت بعض ما لا نفس له، ممّا علم طهارته، اذ هو بعد تسلیم العمل به لا ینافی حصول الظن بکون الأمر بالنزح لأجل النجاسة من تلک الغلبة.

اللّهم الاّ أن یمنع حجیة مثل هذا الظنّ هذا کما فی «الجواهر»(1)، کما هو کذلک لوضوح أنّ الأمر بالنزح أعمّ من النجاسة، لامکان أن یکون ذلک لمراعاة حفظ الصحة ودفع بعض السمومات الموجودة فی جسم تلک الحیوانات فی حیّها فضلاً عن میتتها:

ومثل: ورد الأمر فی الأخبار «المعتبر»ة المستفیضة بالقاء واراقة ما مات فیه الفارة ونحوها من المرق، والاستبصاح بالزیت والسّمن ونحوهما إذا وقعت الفارة فیها إذا کان السمن مایعا، والاّ فیلقی الفارة ما یلیها دون السمن:

منها: صحیح زرارة، عن أبی جعفر علیه السلام ، قال: «إذا وقعت الفارة فی السمن فماتت فیه، فإن کان جامدا فألقها وما یلیها وکلّ ما بقی، وإن کان ذائباً فلا تأکله واستبصح ب،ه والزیت مثل ذلک»(2).

وغیره من الأخبار فی هذا الباب.

ومنها: خبر السکونی عن أبی عبداللّه علیه السلام : «أنّ أمیرالمؤمنین علیه السلام سئل عن قدر طبخت، فإذا فی القدر فارة؟ فقال: یهراق مزقها ویغسل اللحم ویؤکل»(3).


1- «الجواهر»، ج 5، ص 297.
2- وسائل الشیعة: الباب 43 من أبواب الاطعمة والاشربة المحرمة ، الحدیث 3.
3- وسائل الشیعة: الباب 44 من أبواب الاطعمة والاشربة المحرمة ، الحدیث 1.

ص:19

ما ورد من النهی عن الأکل فی أوانی أهل الذمّة إذا کانوا یأکلون المیتة والدم ولحم الخنزیر.

منها: حدیث اسماعیل بن جابر، قال: «قال لی أبو عبداللّه علیه السلام : لا تأکل ذبائحهم ولا تأکل فی آنیتهم یعنی أهل الکتاب»(1).

ومنها: خبر محمّد بن مسلم، قال: «سألت أبا جعفر علیه السلام عن آنیة أهل الذمّة والمجوس؟ فقال: لا تأکلوا فی آنیتهم ولا من طعامهم الذی یطبخون، ولا فی آنیتهم التی یشربون فیها الخمر»(2).

ومنها: روایة أخری لمحمد بن مسلم عن أحدهما علیهماالسلام ، قال: «سألته عن آنیة أهل الکتاب؟ فقال: لا یأکل فی آنیتهم إذا کانوا یأکلون فیه المیتة والدم ولحم الخنزیر»(3).

حیث یفهم من النهی عن الأکل من ذبائحهم وبما یطبخون، ومن الآنیة المتعلقة بهم إذا کانوا یأکلون فیه المیتة، أن النهی لیس الاّ لأجل نجاسة المیتة ونجاسة ما ذبحوا التی هی تکون بمنزلة المیتة.

ومثل: ما ورد مستفیضا من النهی عن مطلق الانتفاع بالمیتة:

منها: روایة فتح بن یزید الجرجانی، عن أبی الحسن علیه السلام ، قال: «لا ینتفع من المیتة بإهابٍ ولا عصب»(4).

ومنها: روایة سماعة المضمرة، قال: «سألته عن جلود السباع أینتفع بها؟ فقال:


1- وسائل الشیعة: الباب 72 من أبواب النجاسات، الحدیث 3.
2- المصدر السابق، الحدیث 2.
3- وسائل الشیعة، الباب 54 من أبواب الاطعمة والاشربة المحرمة، الحدیث 6.
4- وسائل الشیعة: الباب 34 من أبواب الاطعمة والاشربة المحرمة، الحدیث 2.

ص:20

إذا رمیت وسمّیت فانتفع بجلده، وأمّا المتیة فلا»(1).

بل حتّی فی المقطوع من الحیّ معللاً بذلک کاشفاً النهی عن خصوص الصلاة بجلد المیة، مثل روایة أبی القاسم الصیقل وولده، قال: «کتبوا إلی الرجل علیه السلام : جُعلنا اللّه فداک إنا قوم نعمل أغماد السیوف، ولیس لنا معیشة ولا تجارة غیرها، ونحن مضطرون الیها، وإنّما علاجنا من جلود المیتة من البغال والحمر الأهلیة، لا یجوز فی أعمالنا غیرها، فیحلّ لنا عملها وشرائها وبیعها ومسّها بأیدینا وثیابنا، ونحن نصلّی فی ثیابنا، ونحن محتاجون إلی جوابک فی المسألة یا سیّدی لضرورتنا الیها؟ فکتب علیه السلام : اجعلوا ثوبا للصلاة، الحدیث»(2)

وروایة قاسم الصیقل، قال: کتبتُ إلی الرضا علیه السلام : إنّی أعمل أغماد السیوف من جلود الحمر المیّتة فتصیب ثیابی فاصلّی فیها، فکتب الیّ اتخذ ثوبا لصلاتک.

فکتبتُ الی أبی جعفر الثانی علیه السلام کنتُ کتبتُ إلی أبیک بکذا وکذا، فصعبَ علیّ ذلک، فصرتُ أعملها من جلود الحُمُر الوحشیّة الذکیّة، فکتب الیّ: کلّ أعمال البرّ بالصبر یرحمک اللّه، فإن کان ما تعمل وحشیا ذکیّا فلا بأس»(3)

وغیر ذلک من الأخبار الواردة فی ذلک.

ومثل: ما ورد من «المعتبر»ة المستفیضة فی اجتناب الماء القلیل إذا مات فیها الفارة ونحوها، بل والکثیر مع تغیّر الماء:

ومنها: موثقة عمّار الساباطی، عن الصادق علیه السلام : «فی الفارة التی یجدها فی انائه وقد توضّأ من ذلک الاناء مرارا، وغسل ثیابه واغتسل، وقد کانت الفارة متسخلة؟ فقال: إن کان رآها فی الاناء قبل أن یغتسل أو یتوضّأ أو یغسل ثیابه، ثم


1- المصدر السابق، الحدیث 4.
2- وسائل الشیعة: الباب 38 من أبواب مایکتسب به، الحدیث 4.
3- وسائل الشیعة: الباب 34 من أبواب النجاسات، الحدیث 4.

ص:21

فعل ذلک بعد ما رأها فی الاناء، فعلیه أن یغسل ثیابه ویغسل کلّ ما أصابه ذلک الماء ویعید الوضوء والصلاة»(1).

ومنها: صحیحة حریز عن الصادق علیه السلام أنّه قال: «کلّما غلب الماء علی ریح الجیفة فتوضّأ من الماء واشرب، فإذا تغیّر الماء وتغیّر الطعم فلا تتوضّأ منه ولا تشرب»(2).

وغیر ذلک من الأخبار الموجودة فی هذا الباب، الدالة علی لزوم الاجتناب الذی لا یکون ذلک إلاّ لأجل نجاسة المیتة من الفارة وغیرها.

ومنها: خبر زرارة فی الصحیح عن أبی جعفر علیه السلام : «إذا کان الماء أکثر من روایة لم ینجّسه شیء، تفسّخ فیه أو لم یتفسخ، إلاّ أن یجیی ء له ریح تغلب علی ریح الماء»(3).

ومثل: ما یفصّل الحکم بین صورة الذکی والمیتة من الطاهرة والنجسة فی صحیح حریز، قال: «قال أبو عبداللّه علیه السلام لزرارة (عبدالرحمن بن عبداللّه لرزراة ح) ومحمّد بن مسلم: اللبن واللباء والبیضة والشعر والصوف والقرن والناب والحافر وکل شیء یفصل من الشاة والدابة فهو ذکی، وإن أخذته منه بعد أن یموت فاغسله وصلّ فیه»(4).

فإنّه یدلّ علی المطلوب بالمفهوم والمنطوق.

أقول: الأخبار الدالة علی نجاسة المیتة بواسطة بعض الآثار، أکثر من أن تحصی، فلا نحتاج إلی بیان حال السند والدلالة والمناقشة فیها بالضعف فی السند


1- وسائل الشیعة: الباب 4 من أبواب الماء المطلق، الحدیث 1.
2- وسائل الشیعة: الباب 3 من أبواب الماء المطلق، الحدیث 1.
3- المصدر السابق، الحدیث 9.
4- وسائل الشیعة: الباب 33 من أبواب الاطعمة والاشربة، الحدیث 3.

ص:22

أو بعدم دلالتها علی النجاسة بواسطة النهی عن الأکل، أو الأمر بالغسل لاحتمال کونه لأجل غیر النجاسة بما لا یمکن الالتفات الیه، بعد وجود اتفاق الأصحاب علیه، بل لعلّ هذا الحکم یعدّ من ضروریات المذهب بل الدین.

ومن جمیع ما ذکرنا ظهر ضعف ما صدر عن صاحب «المدارک» من الخدشة فی دلالة الأخبار علی النجاسة، فإنّه _ بعد أن ذکر دلیل النجاسة بما جاء فی «المنتهی» بأنّ تحریم ما لیس بمحرّم ولا فیه ضرر کالسّم یدلّ علی النجاسة، قال: «إن فیه منعا ظاهرا، ومن الأخبار المتضمنة للنهی عن أکل الزیت ونحوه، وقال لا صراحة فیه بالنجاسة والصحیح الذی ذکرناه آخرا وقال إنّ الأمر فیه بالغسل لا یتعین کونه للنجاسة، بل محتمل أن یکون لازالة الاجزاء المتعلّقة من الجلد، المانعة من الصلاة فیه، کما یشعر به قوله: (وصل فیه).

وبالجملة: فالروایات متظافرة بتحریم الصلاة فی جلد المیتة، بل الانتفاع به مطلقا.

أمّا نجاسته فلم أقف فیها علی نصّ یعتدٍ، به مع أنّ ابن بابویه روی فی اوائل «الفقیه» مرسلاً عن الصادق علیه السلام : «أنّه سُئل عن جلود المیتة یجعل فیها اللّبن والسمن والماء ما تری فیه؟ قال: لا بأس بأن یُجعل فیها ما شئت من ماءٍ أو لبن أو سمن وتوضّأ منه واشرب، ولکن لا تصلّ فیه».

وذکر قبل ذلک من غیر فصلٍ یعتد به أنّه لم یقصد فیه قصد المصنّفین فی ایراد جمیع ما رووه، قال: «بل إنّما قصدت إلی ایراد ما أفتی به وأحکم بصحته واعتقد أنّه حجّة بینی وبین ربّی تقدس ذکره وتعالت قدرته».

انتهی کلامه علی ما هو المحکی فی «الجواهر»(1).

أقول: فللتوقف فی حکم هذه المسألة مجالٌ، لما قد عرفت من دلالة نفس الأخبار بالحکم بالاجتناب عن المیتة، وعن ما یلاقیه، وعن الانتفاع بها علی


1- «الجواهر»، ج 5، ص 299_300.

ص:23

النجاسة، بل هو المراد من التعلیل بأنّ «اللّه قد حرّم المیتة من کلّ شیء» کما ورد فی الحدیث عن الجابر عن الباقر علیه السلام ، قال: «أتاه رجل فقال له: وقعت فارة فی خابیة فیها سمن أو زیت، فما تری فی أکله؟ قال: فقال له أبو جعفر علیه السلام : لا تأکله، فقال له الرجل: الفأرة أهون علیّ من أن أترک طعامی من أجلها!

قال: فقال له أبوجعفر علیه السلام : إنّک لم تستخف بالفأرة وإنّما استخففت بدینک إنّ اللّه تعالی حرّم المیتة من کلّ شیء»(1).

إذ المراد من التحریم هنا هو النجاسة، کما فی «الحدائق» لیصحّح التعلیل المذکور، وإلاّ فالحرمة بمجردها بمعناها المتعارف لا توجب عدم أکل الزیت الذی ماتت فیه الفارة.

کما یؤید کون الحرمة بمعنی النجاسة، وجود هذا اللفظ فی روایة حسن بن علی، قال: «سألت أبا الحسن علیه السلام فقلت: جعلت فداک إنّ أهل الجبل تثقل عندهم الیات الغنم فیقطعونها؟ فقال: هی حرام. قلت: جعلت فداک فنصطبخ بها؟ فقال: أما تعلم أنّه یصیب الید الثوب وهو حرام»(2).

حیث لا معنی لحرمة الاصابة الاّ بالنجاسة، والاّ لا معنی لحرمة الاصابة بنفسه فی القطعة المبانة، فیکون هذا هو المراد هنا، فالنجاسة فی المیتة من الضروریات لا یدانیها مثل هذه التشکیکات، ولا یقدح فی الاجماع خلاف الصدوق إنْ کان، ولا ما أرسله مع أنّه قد حَکی الأستاذ الأکبر فی «شرح المفاتیح» عن جدّه أنّه قد رجع عمّا ذکره الصدوق فی أوّل کتابه من المعاهدة بینه وبین اللّه، ولذا ذکر فیه کثیرا ممّا أفتی بخلافه، وقد یشهد له التتبع لکتابه مع احتمال ارادته بما ذکره أوّلاً معنی آخر لیس ذا محل ذکره، کما أنّ مرسله مع عدم حجیته فی نفسه فضلاً عن


1- وسائل الشیعة: الباب 5 من أبواب الماء الصاف ، الحدیث 2.
2- وسائل الشیعة: الباب 30 من الذبائح ، الحدیث 2.

ص:24

صلاحیته لمعارضة غیره، بل فی «الذکری»: أنّه شاذٌ لا یعارض المتواتر، هذا کما فی «الجواهر»(1).

أقول: مع أنّه یحتمل کونه صادرا علی التقیة، وأراد صورة بعد دبغ الجلد، حیث أنّ العامة یقولون بطهارته، أو أراد جلد ما لا نفس له کالصَّب ونحوه. بل قیل إنّه کان عادة أعراب البوادی جعل جلد الضّب عُکّة للسمن، ولعلّ قوله فی المرسل (یجعل) اشعار بذلک باعتبار ظهوره فی الاستمرار والاعتیاد علیه أو أنّه أراد أن یقال له کونه من جلود المیتة، والحال أنّه غیر معلوم بکونه کذلک واقعا وقطعا، بل هو محتملٌ فیصیر حینئذٍ نحو الخبر الذی ورد فی الکیمخت، وهو الخبر الذی رواه علی بن أبی حمزة: «أنّ رجلاً سأل أبا عبداللّه علیه السلام وأنا عنده عن الرجل یتقلّد السیف ویصلّی فیه؟ قال: نعم. فقال الرجل: إنّ فیه الکیمخت؟ قال: وما الکیمخت؟ قال: جلود دوّاب منه ما یکون ذکیا ومنه ما یکون میته. فقال: ما عَلِمتَ أنّه میتة فلا تُصلّ فیه»(2).

فکان صدور نفی البأس فی مثله لأجل أنّه فعل المسلم وتصرّفه المحمول علی الصحة، وغیر ذلک من الاحتمالات الموجبة لاخراجها عن المعارضة مع فتوی المشهور من نجاسة جلد المیتة ولو بعد الدباغة، إذا کان المیتة له نفسٌ سائلة.

وأیضا یحمل علی أحد تلک المحتملات ما صدر عنه فی «المقنع» بأصرح من الفقیه حیث قال فیه: «ولا بأس أن یتوضّأ من الماء إذا کان فی زقٍّ من جلد المیتة».

أو یحتمل حمله فیه بکونه فی جلدٍ غیر متعدٍّ عن نجاسته لأجل الصبغ الواقع علی سطحه الموجب لمنع سرایة نجاسته، کما هو المتعارف فی عصرنا، فیکون ظاهره طاهرا، ولذلک یجوز الاستفادة منه من دون سرایة، إذا لم یکن ایستعمله


1- الجواهر، ج 5، ص 300.
2- وسائل الشیعة: الباب 50 من أبواب النجاسات، الحدیث 4.

ص:25

للصلاة، فعلیه حینئذٍ لا یصیر الصدوق مخالفا لنا کما لا یخفی.

أقول: إنّ حکم المسألة واضحة، خاصّته وأنّ الأصحاب أنکروا علی ابن الجنید ذهابه الی طهارة جلد ما کان طاهرا حال الحیاة من المیتة بالدبغ، مع موافقته فی أصل النجاسة، بل فی «الانتصار» و«الخلاف» و«الغنیة» و«الذکری» و«کشف اللّثام» و«الناصریات» و«نهایة الأحکام» و«کشف الحق» وغیرها دعوی الاجماع علی خلافه، بل فی «شرح المفاتیح» أنّه من ضروریات المذهب کحرمة القیاس، بل فی «الذکری» و«التذکرة»: أنّ الأخبار به متواترة.

هذا بل الأمر کذلک مضافا الی ما مرّ من التعلیل بأنّ اللّه حرّم المیتة من کلّ شیء، حیث یشمل التحریم جلدها، وأیضا دلالة بعض الأخبار بالخصوص علیها.

منها: مکاتبة الجرجانی إلی أبی الحسن علیه السلام ، قال: «کتبتُ الیه أسأله عن جلود المیتة التی یؤکل لحمها ذکیا؟ فکتب: لا ینتفع من المیتة باهاب ولا عصب، الحدیث»(1).

ومنها: صحیح ابن أبی المغیرة، قال: «قلت لأبی عبداللّه علیه السلام : المیتة ینفتع منها شیء؟ فقال: لا. قلت: بلغنا أنّ رسول اللّه صلی الله علیه و آله مرّ بشاة میتةٍ فقال ما کان علی أهل هذا الشاة إذا لم ینفعوا بلحمها أن ینتفعوا بإهابها.

ففال: تلک شاة کانت لسودة بنت زمعة زوج النبی صلی الله علیه و آله ، وکانت شاة مهزولة لا ینتفع بلحمها فترکوها حتّی ماتت، فقال رسول اللّه صلی الله علیه و آله : ما کان علی أهلها إذا لم ینتفعوا بحلمها أن ینتفعوا باهابها أی تذکّی»(2).

ومنها: روایة موثقة أبی مریم، قال: «قلت لأبی عبداللّه علیه السلام : السخلة التی مرّ بها رسول اللّه صلی الله علیه و آله وهی میتة، فقال ما ضرّ أهلها لو انتفعوا باهابها؟ فقال أبو


1- وسائل الشیعة: الباب 33 من أبواب الاطعمة و الاشربة المحرمة، الحدیث 7.
2- وسائل الشیعة: الباب 34 من أبواب الاطعمة الحرمة، الحدیث 1.

ص:26

عبداللّه علیه السلام : لم تکن میتة یا أبا مریم، ولکنّها کانت مهزولة فذبحها أهلها فرموا بها، فقال رسول اللّه صلی الله علیه و آله : ما کان علی أهلها لو انتفعوا باهابها»(1).

ولا منافاة بین هذه وسابقتها فی کون السخلة میتة أو قد ذبحها أهلها لاحتمال تعددّ القضیّة والسخلة، بل فی بعض الأخبار التصریح والاشارة إلی عدم مطهریة الدباغة للجلد، وهو کما فی خبر أبی بصیر، عن الصادق علیه السلام فی حدیثٍ: «أنّ علی بن الحسین علیه السلام کان یبعث إلی العراق فیؤتی ممّا قبلکم بالفرو فیلبسه، فإذا حضرت الصلاة ألقاه وألقی القمیص الذی یلیه، فکان یُسئل عن ذلک، فقال: إنّ أهل العراق یستحلّون لباس الجلود المیتة، ویزعمون أنّ دباغه ذکاته»(2).

ومنها: خبر ابن الحجّاج، عن الصادق علیه السلام فی حکایة ذلک عن أهل العراق، قال: «قلت لأبی عبداللّه علیه السلام : إنّی أدخل سوق المسلمین أعنی هذا الخلق الذین یدّعون الاسلام فأشتری منهم الفراء للتجارة، فأقول لصاحبها ألیس هی ذکیة؟ فیقول: بلی، فهل یصلح لی أن أبیعها علی أنّها ذکیة؟ فقال: لا ولکن لا بأس أن تبیعها وتقول قد شرط لی الذی اشتریتها منه أنّها ذکیة؟ قلت: وما أفسد ذلک؟ قال: استحلال أهل العراق المیتة، وزعموا أنّ دباغ جلد المیتة ذکاته، ثمّ لم یرضوا أن یکذبوا فی ذلک إلاّ علی رسول اللّه صلی الله علیه و آله »(3).

ومنها: ما جاء فی الخبر المرسل عن «دعائم الاسلام»، عن الصادق عن آبائه علیهم السلام عن النبی صلی الله علیه و آله ، قال: «المیتة نجسة وإن دبغت»(4).

إلی غیر ذلک من الأخبار الکثیرة الدالة علی ذلک، المنجبرة ضعف سندها ودلالتها بما عرفت.


1- وسائل الشیعة: الباب 61 من أبواب النجاسات ، الحدیث 5.
2- وسائل الشیعة: الباب 61 من أبواب النجاسات، الحدیث 3.
3- المصدر السابق، الحدیث 4.
4- المستدرک، ج 1، الباب 38 من أبواب النجاسات، الحدیث 6.

ص:27

مضافا إلی دلالة الآیة وهی قوله تعالی: «إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَیْکُمُ الْمَیْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنزِیرِ»(1) الآیة، فإنّ اطلاقها یشمل کلّ شیء من المیتة، بناء علی أنّ المراد من التحریم حرمة أکله لا لأجل نجاستها کما فی الدم ولحم الخنزیر وصدق المیتة بعد الدبغ، بل لأجل الاستصحاب الجاری فیه بعد الدبغ، وعلیه فلا یبقی شک فی نجاستها.

أقول: من جمیع ما ذکرنا یظهر أنّ صدر عن الکاشانی فی مفاتیحه موافقته لابن الجنید فی التطهیر بالدبغ، معلّلاً له بأنّ عدم الانتفاع لا یستلزم النجاسة، لأنّه قد ورد فی جواز الانتفاع بها فی غیر الصلاة أخبار کثیرة، مع أنّ المطلق یحمل علی المقید.

لیس بتمامٍ، لوضوح أنّه لا معنی للطهارة الشرعیة سوی عدم المنع عن الصلاة والاکل والشرب ونحوهما، کما هو کذلک فی الدم ولحم الخنزیر علی نقیضه بالنسبة إلی نفسها وإلی ملاقیها وملاقی ملاقیها من النجاسة الشرعیة من المنع عن تلک الأمور، مع أنّ المنع عن تمام الانتفاعات لیس معناه الاّ النجاسة اجماعا منقولاً إنْ لم یکن محصّلاً، بل ضرورةً، مضافا إلی عدم قائلٍ بالفصل بأن یجوّز بعض الانتفاعات دون بعض، إذ ابن الجنید یجوّز جمیع الانتفاعات بعد الدبغ الاّ الصلاة.

وأمّا دعوی: کثرة الأخبار بجواز الانتفاع، فغیر صحیحٍ، لأنّه لم نعثر علی خبرٍ سوی:

مرسل الصدوق، وهو مع عدم ذکر الدبغ فیه، قد عرفت جوابه.

وخبر الحسین بن زرارة عن الصادق علیه السلام : «عن جلد شاةٍ میتة یدبغ فیصبّ فیه اللبن والماء، فأشرب منه وأتوضأ؟ قال: نعم. وقال: یُدبغ فینتفع به ولا یصلّی فیه»(2).

وهو مضافا إلی ضعف سنده، یحتمل کونه محمولاً علی التقیة لموافقها مع


1- سورة البقرة، آیة 173.
2- وسائل الشیعة: الباب 34 من أبواب الاطعمة المحرمة، الحدیث 6.

ص:28

فتواهم، مع احتمال کون الانتفاع بها لأجل وجود مانع فی سطحه عن السرایة کالصبغ، فحینئذٍ لا یکون جواز الانتفاع مفیدا لطهارتها، لامکان کونه نجسة إلاّ أنّ نجاسته غیر مسریة کما کان الأمر کذلک فی الجلود المجلوبة والمستوردة فی عصرنا من بلاد الکفر. هذا فضلاً عمّا قلنا من أنّه حاجة فی جواز انتفاعها إلی الدباغة، بل یجوز ذلک قبله أیضا، کما لا یخفی لو قلنا بجواز الانتفاع بجلد المیتة، کما یظهر لک بیانه قریبا.

نعم، قد یقع البحث فی أنّ حرمة استعمال المیتة مطلقه، أم أنها لأجل نجاستها، والاّ لو منع عن سرایة النجاسة لجاز استعمالها؟ فیه خلاف: قال صاحب «الجواهر»: «حکی عن جمهور الأصحاب التصریح بحرمة الانتفاع مطلقا، ولکن عن «التذکرة» و«المنتهی» التردد فیه بالنسبة إلی الیابس، ولکن فیهما قال: المنع أقرب، کما عن الشهیدین التصریح به، بل فی «شرح المفاتیح» للاستاذ أنّه لیس محل خلاف، وإنْ وقع نوع تردد فیه، ولیس بمکانه».

ثم قال بعده: «قلت: وهو کذلک، لاطلاق الأدلة، إلاّ أنه لا یترتب علیه فساد العبادة فیما لو اتخذ منه مثلاً حوضا یسع أرید من کرّ مثلاً، فتوضّأ منه، کما صرّح به فی «القواعد» و«کشف اللّثام» اذ المحرّم علیه جعل الماء فیه لا افراغه عنه.

نعم، لو قلنا بوجوب الافراغ علیه واقتضاء، الأمر بالشیء النهی عن الضد، وکان الوضوء ضدّا، اتّجه الحکم بالفساد حینئذٍ، کما قد یتجّه لو استعلمه فی نفس العبادة فیما لو ارتمس فیه مثلاً، بل الأحوط ترک الوضوء فیه أیضا لصدق استعمال جلد المیتة، کما اختاره الاستاذ فی «کشف الغطاء»» انتهی(1).

أقول: لا اشکال فی حرمة بیع المیتة حتّی جلدها، کما لا اشکال فی حرمة الانتفاع بها فیما یشترط فیه الطهارة، لأجل نجاسته حتّی بعد الدبغ.


1- الجواهر، ج 5، ص 305.

ص:29

نعم، یبقی الاشکال فی الصورة الثالثة، وهو الانتفاع بالمیتة وجلدها فیما لا یشترط فیه الطهارة کالتسقیف والاحراق لتسخین الماء، لو قلنا بجواز أصل احراق الحیوان أو لبسها لغیر الصلاة من سائر الاعمال، فهل یجوز أم لا؟ فیه وجهان، بل قولان:

قول: بعدم الجواز مطلقا، عملاً بما ورد فی روایة «تحف العقول» وفیه بعد النهی عن منع ای شیء من وجوه الجنس، قال علیه السلام : «لأنّ ذلک کلّه منهیٌّ عن أکله وشربه ولبسه وملکه وامساکه والتقلب فیه، فجمیع تقلّبه فی ذلک حرام».

وکذلک روایة ابن أبی مغیرة ومکاتبة یزید الجرجانی فی قوله: «فکتب علیه السلام : لا ینتفع من المیتة بإهابٍ ولا عصبٍ وعلیه الفتوی بل نقل الاجماع».

والقول الثانی: احتمال الجواز کما علیه «مصباح الفقیه» وصاحب «العروة» وبعض أهل الحواشی، لما ورد من التجویز فی خبر الصیقل السابق، حیث لم ینفی علیه السلام من عمل أغماد السیوف، بل أمر باتحاذ ثوبٍ آخر للصلاتة، وکذا خبر أبی بصیر من عمل السجّاد علیه السلام من تبدیل الفراء وثوبه الذی یلیه للصلاة، لأجل أنّه مجلوب من العراق، وهم یستحلّون جلود المیتة، وأیضا ظهور کون النهی لأجل الانتفاع فیما یشترط فیه الطهارة لا فی مثل التسمید أو اطعام الکلب أو التسقیف والاحراق والاستصباح به، ولأجل ذلک تردّد فیه صاحب «الجواهر» وکذلک صاحب «الذخیرة»، ولذلک قلنا فی «حاشیتنا علی العروة» بجواز الانتفاع به فی مثل التسمید وغیره، وإن کان الاحتیاط فی ترک الانتفاع بها مطلقا حسنا جدا، حذرا عن مخالفة القوم، عن دعوی الاجماع الصادر عن بعضهم، واللّه العالم.

ص:30

حکم میتة الآدمی

والقسم الثالث: وهو میتة الآدمی الذی یعدّ من افراد ذی النفس السائله، وهی علی أقسام:

قسم منها: نجسة قطعا، وهی غیر المعصوم وغیر الشهید، والذی سبق غُسله قبل اجراء حد القتل علیه، وهو بلا خلاف أجده فیه کما فی «الجواهر»، بل فی «الخلاف» و«الغنیة» و«المنتهی»، و«الذکری» و«الروض» وظاهر «الطبریات» و«التذکرة»، وصریح «نهایة الأحکام» و«کشف الالتباس»، بل فی «المعتبر» قال: «وعلمائنا مطبقون علی نجاسة عینه کغیره من ذوات الأنفس السائلة»، وهو الدلیل والحجّة أوّلاً.

وثانیا: شمول العمومات والاطلاقات الدالّة علی نجاسة کلّ ماله نفس بالمنطوق أو المفهوم لما نحن فیه:

منها: خبر حفص(1) ومرفوعة ابن یحیی فی قوله: «لا یفسد الماء إلاّ ما کانت له نفس سائله»(2).

ومنها: خبر ابن مسکان فی قوله: «کلّ شیء یسقط فی البئر لیس له دم مثل العقارب والخنافس وأشباه ذلک فلا بأس»(3).

فإنّه بالمفهوم یدلّ علی أنّ ماله دم ففیه البأس، بناءً علی أنّ المراد من الافساد البأس هنا بمعنی النجاسة ووجوب الاجتناب عنه.

وثالثا: دلالة أخبار خاصّة علی نجاسة میتة الآدمی قبل الاغتسال:

منها: ما رواه الشیخ فی الصحیح باسناده عن محمد بن الحسن الصفار، قال:


1- وسائل الشیعة: الباب 35 من أبواب النجاسات ، الحدیث 2.
2- المصدر السابق، الحدیث 5.
3- المصدر السابق، الحدیث 3.

ص:31

«کتبت الیه: رجلٌ أصاب یده وبدنه ثوب المیّت الذی یلی جسده قبل أن یغسّل، هل یجب غسل یدیه أو بدنه؟ فوقّع: إذا أصاب بدنک جسد المیّت قبل أن یُغسل وقد یجب علیک الغُسل»(1). حکم میتة الآدمی

بناءً علی قراءة الفتح فی (الغسل) الواقع فی الجواب لا الضمّ، لحصول الموافقة بین الجواب والسؤال، حیث قد سئل عن غَسل یدیه وبدنه، والعدول عن جواب ذلک إلی وجوب الغُسل بالضم غیر مأنوس بسیاق الکلام کما لا یخفی.

ومنها: حسنة الحلبی بل صحیحه عن أبی عبداللّه علیه السلام فی حدیث، قال: «سألته عن الرجل یصیب ثوبه جسد المیّت؟ فقال: یغسل ما أصاب الثوب»(2).

فظاهر الاطلاق ثبوت الحکم عند مطلق الاصابة مع الرطوبة، أو بدونها، إلاّ أن یحمل علی ما هو المتعارف فی السرایة مع الرطوبة لا مع الیبوسة.

ومنها: روایة ابراهیم بن میمون، قال: «سألت أبا عبداللّه علیه السلام عن رجل یقع ثوبه علی جسد المیّت؟ قال: إن کان غُسّل المیّت فلا تغسل ما أصاب ثوبک منه، وإن کان له یُغسّل فاغسل ما أصاب ثوبک منه، یعنی إذا برد المیّت»(3).

ومنها: روایة «الاحتجاج» للطبرسی والشیخ فی «الغیبة» والتی تتحدّث عن التوقیع الخارج عن الناحیة المقدسة فی أجوبة مسائل محمد بن عبداللّه بن جعفر الحمیری، حیث کتب الیه: «روی لنا عن العالم علیه السلام أنّه سُئل عن امام قوم یصلّی بهم بعض صلاتهم، وحدثت علیه حادثة، کیف یعمل من خلفه؟ فقال: یؤخّر ویتقدّم بعضهم ویتم صلاتهم، ویغتسل من مسّه».

التوقیع: لیس علی من مسّه إلاّ غسل الید، وإذا لم تحدث حادثة تقطع الصلاة


1- وسائل الشیعة: الباب 4 من أبواب غسل المسّ، الحدیث 1.
2- وسائل الشیعة: الباب 34 من أبواب النجاسات، الحدیث 2.
3- المصدر السابق، الحدیث 1.

ص:32

تمّم صلاته عن القوم»(1).

ومنها: ما روی عنه قال: «وکتب الیه: وروی عن العالم أنّ من مسّ میّتا بحرارته غَسل یده، ومن مسّه وقد برد فعلیه الغُسل، وهذا المیّت فی هذه الحال لا یکون الاّ بحرارته فالعمل فی ذلک علی ما هو، ولعلّه ینحیه بثیابه ولا یمسّه، فکیف یجب علیه الغسل؟

التوقیع: إذا مسّه علی (فی) هذه الحال، لم یکن علیه الاّ غَسل یده»(2).

ومنها: روایة الفقه الرضوی: «وإنْ مسّ ثوبک میّتا فاغسل ما أصاب، وإنْ مسست میتة فاغسل یدیک»(3).

أقول: بعد الوقوف علی الأخبار فی المسألة، نتعرّض للأقوال فیها وهی خمسة:

1_ قولٌ بانّها نجسة نجاسة عینیّة محضة مطلقا، بحیث ینجس ما یلاقی المیّت، برطوبةٍ کانت أو یبوسه، وتتعدّی نجاسة ذلک الملاقی إلی ما لاقاه برطوبة.

هذا القول هو ظاهر شیخنا الشهید الثانی فی «الروض»، وقوّاه شیخنا المحقّق، وهو حسن علی تقدیر القول بالتعدّی مع الیبوسة.

2_ وقولٌ أنّها نجسة نجاسة عینیة مع الرطوبة خاصّة، والاّ فحکمیّة، بمعنی أنّها مع الیبوسة إنّما ینجس بها ذلک الملاقی خاصة دون مالاقاه ولو برطوبة، وهذا القول للعلاّمة فی «المنتهی».

3_ وقولٌ بعدم تعدّیها مطلقا وإنْ وجب غَسل الملاقی تعبّدا، وهو ظاهر کلام ابن ادریس حیث قال علی ما نُقل عنه فی «المدارک»: «إذا لاقی جسد المیّت إناء وجب غسله، ولو لاقی ذلک الاناء مایعا لم ینجّس المایع، لأنّه لم یلاق جسد


1- وسائل الشیعة: الباب 3 من أبواب غسل المسّ، الحدیث 4.
2- وسائل الشیعة: الباب 3 من أبواب غسل المسّ، الحدیث 5.
3- نقله صاحب «الحدائق»، ج 5، ص 66 عن الفقه الرضوی، ص 18.

ص:33

المیّت، وحمله علی ذلک قیاسٌ، والأصل فی الاشیاء الطهارة إلی أن یقوم دلیل.»

4_ وقولٌ أنّها نجسة نجاسة عینیة محضة مع الرطوبة خاصّة، وأمّا مع الیبوسة فلا أثر لها کغیرها من النجاسات. وهذا هو مختار المحقّق الشیخ علی کمان نقله صاحب «الحدائق»(1).

5_ وقول أنّها لیست بنجسة لاعینیّة ولا حکمیة بالمعنی الشرعی الموجب لغسل الملاقی له برطوبةٍ، بل النجاسة هنا بمعنی الخبث الباطنی نظیر النجاسة فی الکافر، وهو مختار المحدّث الکاشانی فی مفاتیحه، بل یقول بذلک فی کلّ میتةٍ لا فی خصوص میّت الانسان.

هذه هی الأقوال الخمسة، والأقوی عندنا کما علیه المشهور ومنهم صاحب «الجواهر» و«الحدائق» و«مصباح الفقیه» و«العروة» هو القول الرابع، من کأنّها کسائر النجاسات وأنّها تکون نجسة مع الملاقاة بالرطوبة لا مطلقا حتی یشمل الملاقاة مع الجاف. فإنّ اطلاق التوقیعین بالنجاسة مع الملاقاة یقتضی کون الملاقاة ولو مع الیبوسة أیضا منجّسة کما هو ظاهر قوله علیه السلام : «یصیب ثوبه جسد المیّت؟ فقال: یغسل ما أصاب الثوب» أو قوله علیه السلام : «من مسّ میتا بحرارته غَسل یده»، أو قوله علیه السلام : «إذا مسّه فی هذا الحال لم یکن علیه الاّ غسل یده» فإنّ اطلاقها یشمل المسّ والاصابة مع الیبوسة، أیضا الاّ أنّه لابدّ أن یقید بصورة وجود الرطوبة فی أحدهما من الملاقی أو الملاقی (بالکسر والفتح) لانصراف الاطلاق إلی ذلک بحسب ما هو المنصرف الیه ذهن المتشرّعة فی نظائر ذلک فی سائر النجاسات والاستعمالات، لأنّه المتبادر عند عرف المتشرعة، مضافا إلی امکان القول بالتقید بواسطة موثقه عبداللّه بن بکیر، قال: «قلت لأبی عبداللّه علیه السلام : الرجل


1- الحدائق، ج 5، ص 66.

ص:34

یبول ولا یکون عنده الماء، فیمسح ذکره بالحائط؟ قال: کلّ شیء یابس زکی»(1).

فإنّ التقیید فی هذه الاطلاقات وجعل نجاستها مختصة بصورة الرطوبة والسرایة أولی من تخصیص عموم (کلّ شیء یابس زکی) بغیر میّت الانسان، مع أنّ ظاهر لسان (کلّ شیء یابس زکی) بعد ذکر البول یأبی عن التخصیص، وعلیه فتقیید المطلق أقرب وأولی من تخصیص العموم، لأنّ شمول الاطلاق یکون بمقدمات الحکمة، والعموم بالوضع، والتصرف فی الأول أهون من الثانی، مع أنّه مع التعارض والتساقط یکون المرجّح قاعدة الطهارة واستصحابها.

هذا، وأضاف فی «الحدائق» الاستدلال بامکان الاستیناس من جملة: «ما أصاب ثوبک منه فی الموضعین» فی روایة ابراهیم بن میمون بأنّه ظاهر فی أنّ الاصابة للثوب کانت مع الرطوبة أو لقذارة المیّت.

وفیه: إنّه غیر واضح، لأنّ (الاصابة) یکون مثل (المسّ) الوارد فی التوقیع حیث قد استعبد حمله علی ذلک فی روایة التوقیع فی صدقه لمطلق الاصابة ولو مع الیبوسة، وعلیه فتخصیص الاستیناس به دون غیره لیس بوجیهٍ، الاّ أن یستظهر ذلک من (اصابة الثوب من المیّت) هو وصول شیء منه إلی الثوب، المتوقف علی الرطوبة، والاّ کان حقّ التعبیر أن یقال: «إغسل ثوبک الذی أصابه».

کما انّه قد أید ما ادّعاه بصحیحة علی بن جعفر، عن أخیه علیه السلام : «عن الرجل یقع ثوبه علی حمار میّتٍ، هل تصلح الصلاة قبل أن یغسله؟ قال: لیس علیه غسله، ولیصلّ فیه ولا بأس»(2).

والتأیید إنّما یصحّ لو قلنا بأنّ میّت الانسان کسائر الأموات من النجاسات، ولم نقل باختصاص حکم المورد فی الاطلاق کما هو قول بعض هنا دون غیره.


1- وسائل الشیعة: الباب 31 من أبواب احکام الخلوه، الحدیث 5.
2- وسائل الشیعة: الباب 26 من أبواب النجاسات، الحدیث 5.

ص:35

وبالجملة: الأولی والأحسن فی الاستدلال هو ما قلناه من أنّه ینجس اذا صار الملاقی مع الرطوبة فی أحد الطرفین موجبا للتنجس.

أقول: ثمّ هذا یدخل تحت عنوان بحثٍ آخر وهو هل: المتنّجس منجّسٌ مع الرطوبة به والملاقاة أم لا؟ ثمّ علی فرض المنجّسیة هل یکون کذلک مطلقا أو مع الواسطة بواحدٍ دون أزید علی خلافٍ فی ذلک؟ فلا یکون ذلک مخصوصا بالمورد کما هو واضح.

قال المحدّث الکاشانی: _ بعد نقل روایة الحلبی، بقوله: «یغسل ما أصاب الثوب _ إنّه لا دلالة فیه، لامکان أن یکون المراد منه ازالة ما أصاب الثوب ممّا علی المیّت من رطوبة أو قذر تعدیا الیه، اذ لو کان المیّت نجس العین لم یطهر بالغسل».

ثمّ قال: والمستفاد من بعض الأخبار عدم تعدّی نجاسة المیتة مطلقا، ولا بُعد فیه، لأنّ معنی النجاسة لا ینحصر فی وجوب غسل الملاقی کما یأتی بیانه فی حکم نجاسة الکافر، وقد قال هناک بعد ذکره ما دلّ من الأخبار علی عدم النجاسة، وفی هذه الأخبار دلالة علی أنّ معنی نجاستهم خبثهم الباطنی ولا وجوب غسل الملاقی کما مرّت الاشارة الیه(1).

أقول: ولعلّ مثل هذه التوهّمات أوجب التجاء مثل الشافعی إلی القول بعدم نجاسة الآدمی بالموت، ولکن لابدّ أن یعلم أنّ النجاسة والطهارة تعدّان من الأمور التعبدیّة کحصول الطهارة للکافر بالاسلام والعصیر بالنقص، والبئر وجوانبها وآلات النزح بتمامه علی القول بالنجاسة، وطهارة المغسل بالتبع، وأمثال ذلک، فلا مانع هنا أیضا أن یقال بطهارة المیّت بالغسل ولو کان نجسا عینا کالکافر إنْ قلنا بذلک فیه، فجعل النجاسة والطهارة علی غیر ظاهر هما فی میّت الانسان لیس علی ما ینبغی، ومخالفٌ لما علیه الأصحاب والأخبار.


1- الجواهر، ج 5، ص 306.

ص:36

وأمّا جعل مطلق الملاقات منجسا ،فهو وإن کان مقتضی التوقیعین الشریفین فی خصوص میّت الانسان لا مطلق المیتة، لما قد عرفت خلافه فی صحیحة علی بن جعفر، الاّ أنّه لابدّ: إمّا من حمله علی صورة الرطوبة من جهة التبادر فی أذهان المتشرّعة، فلا یبقی حینئذٍ له اطلاق یستدلّ به.

وأمّا أن یرفع الیه عنه بواسطة ضعف سندهما وإعراض المشهور عن العمل بذلک الاطلاق.

هذا، وإن کان القول بالاحتیاط فی الاجتناب عن ملاقی المیتة، بل بالخصوص فی میّت الانسان قبل الغُسل وبعد البَرْد لملاقی جسد المیّت حسنٌ جدا وفاقا لمن أقتی بذلک من الأصحاب، واللّه العالم.

المستثنیات من نجاسة المیّت

یستثنی من نجاسة میّت الانسان عدّةٌ:

الاستثناء الأوّل: المعصومون من أهل البیت علیهم السلام وهم الأئمة علیهم السلام وفاطمة علیهاالسلام لما ورد فی حقّهم آیة التطهیر، وهو قوله تعالی: «إِنَّمَا یُرِیدُ اللَّهُ لِیُذْهِبَ عَنکُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَیْتِ وَیُطَهِّرَکُمْ تَطْهِیرا» الشامل لحیّهم ومیّتهم، مضافا إلی جریان الأصل من قاعدة الطهارة واستصحابها فیمن شک فیه من عروض النجاسة بالموت، فضلاً عمّن نطمئن بطهارته لأنّ أجساد المعصومین علیهم السلام لیس کأجساد سائر افراد البشر، وقد ورد أنّه یجب أن یقال فی حقّهم: «اللّهمّ إنّی اعتقد حرمة هذا المشهد الشریف فی غیبته کما اعتقدها فی حضرته، واعلم أنّ رسولک وخلفائک أحیاءٌ عند ربّهم یرزقون» فمع هذا الوصف لا یبقی شک فی طهارتهم، وعلی فرض الشک فی ذلک علی الطهارة موجودة فالأصل هو الطهارة ما لم یقم الدلیل علی خلافه، مع أنّ الدلیل علی الطهارة موجودة فی حقهم، وهو مثل ما ورد

ص:37

فی حقّ فاطمة البتول علیهاالسلام ، فقد روی الشیخ الطوسی رحمه الله عن جماعة بإسناده عن أبی بصیر، عن أبی عبداللّه علیه السلام قال: «حرّم اللّه عزّوجلّ النساء علی علیّ علیه السلام ما دامت فاطمة علیهاالسلام حیّة. قلت: وکیف؟ قال: لانّها کانت طاهرة لا تحیض»(1). المستثنیات فی نجاسة المیّت

وقد اعتبر صاحب «الجواهر» هذا دلیلاً علی أنها کانت طاهرة عن کل الأرجاس والانجاس فی حیاتها، فکذلک تکون بعد وفاتها، إذ الحیّ أولی بوجود النجاسة فیها بخلاف المیّت، حیث قد أخطأ بعض بزعم صیرورة بموتهع وأنّ الموت منجسٌ. فاذا ثبت حکم الطهارة فی حقّ فاطمة علیهاالسلام لعصمتها، ففی سائر المعصومین علیهم السلام یتم بالقول بعدم الفصل، أو عدم القول بالفصل وبالقطع بالاشتراک فی العلّة.

بل قد یؤید ذلک ما روی أبو اسحاق بن محمد بن ابراهیم الثعلبی صاحب التفسیر فی تفسیر قوله تعالی: «طه» قال: «قال جعفر بن محمد الصادق علیه السلام : طهارة أهل بیت محمدٍ علیهم السلام ثمّ قرأ «إِنَّمَا یُرِیدُ اللَّهُ لِیُذْهِبَ عَنکُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَیْتِ وَیُطَهِّرَکُمْ تَطْهِیرا»(2).

اذ من الواضح أنّ الطهارة بصورة الاطلاق تشمل طهارتهم من جمیع الجهات، ومنها طهارة جسدهم حتّی بعد الموت أیضا، ولا یخفی أنّ دلالة الآیة المذکورة فی هذا الخبر أظهر ممّا رواه محمّد بن العباس بإسناده عن جعفر بن محمّد بن عمارة، قال: حدّثنی أبی عن جعفر بن محمد عن أبیه علیهم السلام قال: «قال علی بن ابی طالب علیه السلام : إنّ اللّه عزّوجلّ فضّلنا أهل البیت [کیف] لا نکون کذلک واللّه عزّوجلّ یقول: «إِنَّمَا یُرِیدُ اللَّهُ لِیُذْهِبَ عَنکُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَیْتِ وَیُطَهِّرَکُمْ تَطْهِیرا»، فقد


1- المستدرک، ج 1، الباب 37 من أبواب الحیض، الحدیث 16.
2- البرهان، ج 3، ص 322 ذیل آیة التطهیر، الحدیث 44.

ص:38

طهرنا اللّه من الفواحش ما ظهر منها وما بطن علی منهاج الحق»(1).

لأنّ (الفواحش) غالبا یطلق علی القبائح من الظاهر والباطن، فشموله لمثل طهارة البدن من النجاسات لا یخلو عن اشکال، واللّه العالم.

أقول: وکیف کان، یظهر من جمیع ما ذکرنا _ فضلاً عن الشهرة العظمیة بل الاجماع _ طهارة المعصومین علیهم السلام بعد الموت والقتل، کما أنّ حقّهم یقتضی ذلک، بل یمکن استفادة هذا الحکم من الخبر الذی رواه حسن بن عبید، قال: «کتبتُ إلی الصادق علیه السلام هل اغتسل أمیرالمؤمنین علیه السلام حین غَسّل رسول اللّه صلی الله علیه و آله عند موته؟ فاجابه: النبیُّ صلی الله علیه و آله طاهر مطهرٌ، ولکن فعل أمیرالمؤمنین علیه السلام وجرت به السنة»(2) بل یمکن استفادة طهارة الأئمة بالأولّویة إذا أثبتنا عدم احتیاج الشهید الی الغسل وطهارته، مع ملاحظة ما ورد عن الأئمة علیهم السلام من أنّه: «ما منّا إلاّ مسمومٌ أو مقتول» ولم نقل باختصاص الشهید بالمقتول فی المعرکة، وإلاّ اختص ذلک بسید الشهداء علیه السلام دون غیره من الأئمة علیهم السلام وفاطمة البتول علیهاالسلام ».

الاستثناء الثانی: الشهید فی المعرکة، للأخبار الدالة علی أنّه یُدفن بثیابه ولا یُغسّل ولا یُکفّن:

منها: صحیح ابان بن تغلب، قال: «سألت أبا عبداللّه علیه السلام عن الذی یُقتل فی سبیل اللّه أیغسّل ویکفّن ویحنّط؟ قال: یدفن کما هو فی ثیابه إلاّ أن یکون به رمق، الحدیث»(3).


1- البرهان، ج 3، ص 313 ذیل آیة التطهیر، الحدیث 15.
2- ج 1، الباب 7، من أبواب غسل مسّ المیّت / بالتقریر الذی سبق ذکره، بل هو أولی فی الدلالة لاطلاق کلمة (الطهارة) لما بعد الموت، فیلحق به صلی الله علیه و آله غیره من المعصومین علیهم السلام بعدم القول بالفصل.
3- وسائل الشیعة، الباب 14 من أبواب غسل المیّت، الحدیث 7.

ص:39

ومنها: صحیح زرارة(1) حیث قد استظهروا من سقوط الغسل عنه بعدم نجاسته بالموت إکراما وتعظیما له من اللّه تعالی شأنه، بل لم یعدّ اللّه عزّوجلّ موته موتا کما فی قوله عزّ من قائل: «وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِینَ قُتِلُواْ فِی سَبِیلِ اللّهِ أَمْوَاتا بَلْ أَحْیَاء عِندَ رَبِّهِمْ یُرْزَقُونَ»(2) ولعلّ وجه دلالتها علی طهارته هو تجویز دفن الشهید بلا غُسلٍ، مع أنّ غیره من المیّت المسلم یحصل طهارته بعد غسله دون قبله، کما یدلّ علیه صحیح ابراهیم بن میمون، قال: «سألت الصادق علیه السلام عن الرجل یقع ثوبه علی جسد المیت؟ قال علیه السلام : إن کان غُسل المیّت فلا تغسل ما أصاب ثوبک منه، وإن کان لم یُغسّل فاغسل ما أصاب ثوبک منه، یعنی إذا برد المیّت»(3).

فالأخبار الواردة فی حقّ الشهید من الأمر بالدفن بلا غُسل یستفاد منها أنّ بدنه طاهر _ خصوصا إذا لم نجیز دفن المیّت مع النجاسة الظاهریة مثل البول والغائط والدم _ فیفهم بالملازمة طهارة بدنه بالشهادة.

نعم، یدفن مع ثیابه المتطلخ بدمه مع کون دمه نجسا.

اللّهمّ إلاّ ان یقال: إنّه برغم طهارة بدنهع فإنّه ینجّس من مسّه لما ورد أنّ النبی صلی الله علیه و آله قال عن شهداء أحد: «زملّوهم بدمائهم وثیابهم»(4) کما نقله الطبرسی مرسلاً فی «مجمع البیان» عن النبی صلی الله علیه و آله ، فیستفاد منه ومن غیره من الروایات الدالة علی ذلک بکثرتها إمّا کون نجاسة دم الشهید معفّوا أو یفهم طهارته له، واللّه العالم.

الاستثناء الثالث: من شُرّع له تقدّم الغسل علی موته کالمرجوم، حیث یغتسل کغسل المیّت قبل اجراء الرجم والحدّ علیه، وکذلک المقتصّ منه، لما ورد فی


1- المصدر السابق، الحدیث 8.
2- سورة آل عمران، آیة 163.
3- وسائل الشیعة: الباب 34 من أبواب النجاسات، الحدیث 1.
4- وسائل الشیعة: الباب 14 من أبواب غسل المیّت ، الحدیث 11.

ص:40

حدیث مسمع کردین عن أبی عبداللّه علیه السلام ، قال: «المرجوم والمرجومة یُغسّلان ویحنّطان ویلبسان الکفن قبل ذلک، ثمّ یرجمان ویُصلّی علیهما، والمقتصّ منه بمنزلة ذلک، فیغسّل ویحنّط ویلبس الکفن ثم یقاد ویصلّی علیه»(1).

حیث یفهم أنّ الاتیان بالغسل قبل الموت یؤثّر فی حقه بجریان أحکام الغسل بعده التی منها عدم النجاسة، ولا استبعاد فی ذلک لترتب أثره لما تقدّم إذا دلّ علیه الدلیل.

اللّهمّ الاّ أن یقال: إنّه نجسٌ إلاّ انّه معفوّ عنه بالنسبة إلی صلاته ودفنه فلا ینافی سرایة النجاسة للید التی تلاقیه، لکن اثبات ذلک لا یخلو عن اشکال.

وامّا ما ادّعاه صاحب «الجواهر» من قصور ما دلّ علی التنجیس من الأخبار واطلاق بعض معاقد الاجماع عن تناول مثل هذه الأفراد.

لیس علی ما ینبغی فی غیر المعصومین علیهم السلام من الطائفتین، لو لا وجود دلیل خارجی دالّ علی الاستثناء، لصدق المیّت علیهما عرفا، ومترتب آثاره علیهما منها حکم النجاسة.

کما أنّ دعوی ظهور النصوص بل الفتاوی فی غیرهما ممّن شُرّع تغسیله بعد موته، أو لم یُشرّع هوانا به إنّما یصحّ بالنسبة إلی الأخبار الواردة فی التنجیس حین الغسل بواسطة التغسیل أو غیره، لا لمطلق أخبار التنجیس الواردة فی غیر هذا الباب.

کما أنّه تصحّ هذه الدعوی علی فرض قبول التلازم بین النجاسة وغسل المسّ، ولم نوجبه لمسّهما کما سیأتی بحثه إن شاء اللّه.

الاستثناء الرابع: قیل ومنهم میّت الانسان قبل البرد، حیث إنّه کما لم تجب بمسّه غُسل المسّ، هکذا لا توجب النجاسة بالملاقاة مع الرطوبة کالشهید والقائل بذلک هو الشهید فی «الذکری» والمحقق الثانی فی «جامع المقاصد» والسیّد فی


1- وسائل الشیعة: الباب 17 من أبواب غسل المیّت ، الحدیث 1.

ص:41

«المدارک»، بل قال صاحب «الحدائق»: «إنا نمنع انفصال الروح فی هذا الحال تماما، إذ هی بعد خروجها من البدن یبقی لها اتصال کاتصال شعاع الشمس بعد غروبها بما أشرقت علیه، وآثار ذلک الاتصال باقیة، فإذا برد انقطع وعلم خروجها بجمیع متعلقاتها وآثارها... الی آخره».

أقول: استدلّوا بالحاقه الثلاثة بأمورٍ:

أوّلاً: بالأصل المقرّر بوجوه من استصحاب عدم الموت، واستصحاب الطهارة الموجود قبل ذلک، واستصحاب طهارة ملاقیه مع الربوطة، وغیر ذلک ممّا یمکن التمسّک به بحسب الموارد.

وثانیا: بعدم القطع بالموت فی هذه الحالة، بخلاف ما یحصل بعد حصول البرد.

وثالثا: بظهور التلازم بین الغَسل بالفتح لأجل النجاسة والغُسل بالضم لأجل المسّ، لاشتراکهما فی العلّة وهی النجاسة، کما یؤمی إلی هذه الملازمة تلازمها فی غیر محلّ البحث وجودا وعدما کماتری سقوطهما معا بمسّ الشهید ونحوه.

بل قد یؤید هذا الایماء ما ورد فی: 1_ مکاتبة الحسن بن عبید، قال: «کتبتُ إلی الصادق علیه السلام هل اغتسلَ أمیرالمؤمنین حین غَسل رسول اللّه صلی الله علیه و آله عند موته؟ فأجابه: النبیّ صلی الله علیه و آله طاهرٌ مطهرٌ، ولکن فعل أمیرالمؤمنین وجرت به السنة»(1).

حیث تدل علی أنّ بدنه صلی الله علیه و آله کما أنّه طاهر ولا یوجب النجاسة بالمسّ، کذلک لا یوجب غسل المسّ أیضا.

2_ ومکاتبة محمد بن الحسن الصفار، قال: «کتبتُ الیه: رجلٌ أصاب یده أو بدنه ثوب المیّت الذی یلی جلده قبل أن یغسّل ،هل یجب علیه غسل یده أو بدنه؟ فوقّع علیه السلام : إذا أصاب یدک جسد المیّت قبل أن یغسّل فقد یجب علیک الغسل»(2).


1- وسائل الشیعة: الباب 1 من أبواب غسل المسّ، الحدیث 7.
2- المصدر السابق، الحدیث 5.

ص:42

بأن یقال: _ کما فی «الجواهر» _ بأنّ الغُسل بالضم بالمسّ لما لم یحسب فی هذا الحال نصا وفتوی کما ستعرف، فلم یجب الغسل بالفتح أیضا، فیظهر التلازم حینئذٍ.

ورابعا: لاطلاق نفی البأس أو عمومه فی خبر اسماعیل بن جابر، قال: «دخلت علی أبی عبداللّه علیه السلام حین مات ابنه اسماعیل الأکبر، فجعل یقبّله وهو میّت. فقلت: جعلت فداک، ألیس لا ینبغی أن یُمسّ المیّت بعد ما یموت، ومن مسّه فعلیه الغسل؟ فقال: أمّا بحرارته فلا بأس، إنّما ذاک إذا برد»(1).

أی لا بأس باطلاقه وعمومه من حیث النجاسة وعدم غُسل المسّ، نظیر الاطلاق فی صحیحة محمد بن مسلم، عن أبی جعفر علیه السلام قال: «مسّ المیّت عند موته وبعد غُسله، والقبلة لیس بها بأس»(2) حیث یشمل نفی البأس کلا الأمرین من الغسل والنجاسة فی الحالتین، فیثبت الملازمة.

أقول: وإن کان بعض تلک الأدلة تاما فی ذلک کالأصل، کما أنّ ظهور بعض الأخبار علی التلازم تام فی الجملة، الاّ أنّه إنّما یصحّ الرجوع الیه إذا لم یرد دلیل علی التفکیک بین النجاسة وغسل المسّ، وهو اطلاق الاجماع بحصول النجاسة بالموت فی مطلق الحیوانات منها الانسان، لوضوح أنّ العرف یحکم بالموت بعد زهاق والروح قبل البرد، ولذلک یجوز تجهیزه للتغسیل والتکفین بل یستحبّ، کما یحکم بنجاسة میتة الحیوان بذلک قبل البرد أیضا، بل یجری علیه أحکام الأموات بالنسبة إلی أمواله ونسائه، مع أنّه لو لم یکن میّتا لا یجوز ذلک. وعلیه فالقول بانّه لم یمت قبل حصول البرد أمر غیر مقبول، ولذلک قال صاحب «الروض»: «لم أجد قولاً بعدم جواز دفنه قبل البرودة، خصوصا صاحب الطاعون، وقد أطلقوا القول باستحباب التعجیل مع ظهور علامات الموت» انتهی.


1- وسائل الشیعة: الباب 1 من أبواب غسل المسّ، الحدیث 2.
2- وسائل الشیعة: الباب 3 من أبواب غسل المسّ، الحدیث 1.

ص:43

بخلاف غسل المسّ حیث لا یجب الاّ بعد تحقّق سببین هما: الموت والبرودة، کما تری تصریح ذلک فی حدیث عاصم بن حمید، قال: «سألته عن المیّت إذا مسّه الانسان أفیه غسل؟ قال: فقال: إذا مسست جسده حین یبرد فاغتسل»(1).

کما صرّح بذلک فی روایة اسماعیل بن جابر، بقوله بعد السؤال عن الغسل إذا مسّه، قال: «أمّا بحرارته فلا بأس إنّما ذاک اذ برد»(2) حیث لا یمکن القول بحصول البرودة، ولم یجب الغُسل (بالضم) علی من مسّه، فلابدّ أن یکون التفاوت فیما بین الحرارة والبرودة هو نجاسته لا الغُسل بمسّه مع نجاسته، فمن ذلک یظهر عدم وجود التلازم بینهما، ولوشک فیه مع ذلک فإنّه نتمسّک بالتوقیعین الواردین فی «الاحتجاج».

أحدهما: ما فی «الاحتجاج»، قال: ممّا خرج عن صاحب الزمان علیه السلام إلی محمد بن عبداللّه بن جعفر الحمیری، حیث کتب الیه: «رُوی لنا عن العالم أنّه سُئل عن امام قومٍ یصلّی بهم بعض صلاتهم وحدثت علیه حادثة، کیف یعمل مَن خلفه؟ فقال: یؤخّر ویتقدم بعضهم ویتم صلاتهم ویغتسل مَن مسّه.

التوقیع: لیس علی من مسّه إلاّ غسل الید، وإذا لم تحدث حادثة تقطع الصلاة تمت صلاته عن القوم»(3).

فقد حکم بغسل الید فقط، ولیس ذاک إلاّ لأجل أنّ بدن المیّت لازال ذا حرارة ولم یبرد بعد لأن موته فی الصلاة کان فجأة.

الثانی: وهو أصرح من ذلک: وعنه قال:

«وکتب الیه: وروی عن العالم أنّ من مسّ میّتا بحرارته غَسل یده، ومن مسّه


1- وسائل الشیعة: الباب 1 من أبواب غسل المسّ، الحدیث 3.
2- المصدر السابق، الحدیث 2.
3- وسائل الشیعة: الباب 3 من أبواب غسل المسّ، الحدیث 4.

ص:44

وقد بَرَد فعلیه الغسل، وهذا المیّت فی هذا الحال لا یکون الاّ بحرارته، فالعمل فی ذلک علی ما هو؟ ولعلّه ینحیّه بثیابه ولا یمسّه، فکیف یجب علیه الغسل؟

التوقیع: إذا مسّه علی (فی) هذه الحال، لم یکن علیه إلا غَسل یده(1).

فکأنّه علیه السلام أراد فی أن یقول جوابه إنّه لا یحتاج فی مثل هذا المیّت أن ینحیّه بثیابه لئلا یجب علیه الغُسل بالضّم، بل یمکنه أن یمسّه ثم یغسَل یده، بلا وجوب الغُسل علیه، لأجل حرارة بدنه.

فمع وجود مثل هذین الخبرین لا یبقی شک فی الافتراق بین المسّ فی حالتی الحرارة بالنجاسة والغسل بالفتح والبرودة بالغسل بالضّم، ومع الشک فی حصول المسّ الموجب للغُسل بالضم إذا کان مع الحرارة، فالأصل عدمه.

أقول: وأمّا الجواب عن المکاتبین:

فعن الاءولی: قد نفی فیها الغُسل عن مسّ النبی صلی الله علیه و آله لأجل فقد النجاسة فیه، کما قد صرح بانّه طاهر مطهّر، فإذا لم یکن جسد النبیّ صلی الله علیه و آله نجسا بموته فلا وجه لایجاب مسّه الغُسل بالضّم، لامکان فرض الملازمة فی جهة ایجاب مسّه الغُسل بسبین من: النجاسة والموت، فمع فقد الأوّل یفقد الثانی حکمة وجوده، إذا لم تکن النجاسة حاصلة بالموت، ولا ینافی ذلک أن لا یوجب المسّ النجاسة ولکن یبقی وجوب الغُسل کما لو مسّه قبل الغسل مع جفاف یده وبدن المیّت قراءة فالروایة غیر منافیه مع ما قرّرنا بالنسبة الی النبیّ صلی الله علیه و آله .

کما یمکن الجواب عن الثانیة: بامکان قراءة الغسل بالفتح إذا کان المقصود هو النجاسة إن اطلق حتّی یشمل حال حرارته، مع أنّ الظاهر بقرینة السؤال أنّه عن حکم النجاسة لا من حیث الغُسل بالضم، لأن السائل سأل بانّه هل یجب علیه غسل یدیه أو بدنه، فتکون الروایة حینئذٍ مؤیدا لما ندعیّه کما لا یخفی.


1- وسائل الشیعة: الباب 3 من أبواب غسل المسّ، الحدیث 5.

ص:45

کما أنّ نفی البأس فی صحیح ابن مسلم یمکن أن یکون بلحاظ المس الموجب للغسل بالضّم، فلا ینافی أن یکون فیه البأس من حیث النجاسة بعد موته، بقرینة ذکر الغسل بعده، وعلی فرض الاطلاق الشامل لکلا قسمیه من النجاسة وغسل المسّ، فانّه یحمل علی الثانی جمعا بینه وبین ما عرفت دلالته علی الافتراق بینهما، کما هو خیرة کثیر من الفقهاء والمذکورة فی مصنفاتهم کالتذکرة و«القواعد» و«الروض» و«کشف اللّثام» و«الریاض» و«المبسوط»، وظاهر اطلاق المصنّف وغیره، کما هو مختار کثیر من المتأخرین وقیام صاحب «العروة» وأصحاب التعلیق علیها، بل قد یظهر من «التذکرة» قیام الاجماع علیه وأمّا بعد تغسیل المیّت، فإنّه لا اشکال فی عدم نجاسته قطعا واجماعا.

لو فقد الماء فاضطر الأولیاء إلی التیمم بدل الغسل، أو إذا فقد الخلیطان فاضطروا إلی الاکتفاء بالماء الخالص فقط، فهل یوجب ذلک زوال النجاسة أم لا؟ فیه وجهان:

من کون ظاهر الأدلة أنّ النجاسة لا تزول عن جسد المیّت إلاّ بتحقق الغُسل الصحیح، بل لو شک فمقتضی الاستصحاب بقاء النجاسة.

ومن کون التیمم قائمٌ مقام الغسل فی رفع الحدث فقط لا الخبث هو أنّ التیمّم لا یرفع نجاسته.

ومن ناحیة أنّ مقتضی کونه قائم مقام الغُسل الصحیح المترتب علیه الأثر، خصوصا مع ملاحظة ما ورد أنّه: «یکفیک عشر سنین» وأمثال ذلک، هو حصول الطهارة بذلک، ولعلّه لذلک قال صاحب «الجواهر»: «الالحاق لا یخلو عن قوّة».

أقول: لکن الأحوط وجوبا تنجس الماسّ فی الأوّل لما نشاهد من مناقشة الفقهاء فی جواز مسّه بعد التیّمم وأنّه یجب حینئذٍ علیه غُسل المسّ، مع أنّه احتمال کون التیمم رافعا له قوی فضلاً عن کونه رافعا للخبث.

ص:46

وکلّ ما ینجس بالموت، فما قطع من جسده فهو نجسٌ حیّا کان أو میّتا (1)

نعم، هذا الاحتیاط فی الثانی لیس علی حدّ قوّة الأوّل، لاحتمال کون ماء القراح بدون الخلیط مطهرا له ورافعا للحدث والخبث، ولکن مع ذلک لا یترک الاحتیاط فیه أیضا، واللّه العالم.

(1) ما ذکره المصنّف قد ادّعی علیه الاجماع، کما هو مذکور فی «الجواهر»، یقول: «بلا خلاف یعرف فیه» کما اعترف به فی «المعالم» واستظهره فی «الحدائق»، بل فی «المدارک»: «أنّه مقطوع به فی کلام الأصحاب» وفی «شرح المفاتیح» للاستاذ الأکبر: «أنّ أجزاء الحیوان التی تحملها الحیاة تنجس بالموت وإنْ قطعت من الحیّ باتفاق الفقهاء»، بل الظاهر کونه اجماعیا وعلیه الشیعة فی الاعصار والامصار ... إلی آخره».

وعن «الذخیرة»: «إنّ المسألة کانها اجماعیة، ولو لا الاجماع لم نقل بها لضعف الأدلة» انتهی. حکم اجزاء جسم المقطوعة

وفی «کشف اللّثام»: «إن الحکم باستواء الأجزاء المنفصلة من الحیّ والمیّت ممّا قطع به الفاضلان ومن بعدهما، ولم أظفر لمن قبلهما بنصّ علی أجزاء الحیّ إلاّ علی إلیات الغنم» انتهی ما فی «الجواهر»(1).

وقد استفاد الجواهری الاجماع من کلام الشیخ فی «الخلاف» من قوله بوجود الاجماع علی وجوب الغسل لمن مسّ قطعة من میّت أو حیّ، وکان فیها عظم، فرتّب صاحب «الجواهر» النجاسة علیه، لدعواه قیام الملازمة من غسل المسّ والنجاسة دون العکس.

وکیف کان، فإنّه لا اشکال فی قیام الاجماع علی نجاسة خصوص الأجزاء


1- الجواهر، ج 5، ص 312.

ص:47

المبانة مطلقا فی الجملة، فلا بأس بذکر کلّ واحدٍ منهما مع الدلیل، حتّی یتضح المقصود فنقول من اللّه الاستعانة:

أمّا الأجراء المبانة من المیتة فلا اشکال فی نجاستها، لأنّ کلّ ما ورد فی نجاسة المیة یشملها، فإنّ المغروس فی اذهان العرف أنّ معروض النجاسة هو جسد المیتة والمیّت واجزائهما، فعروض الموت علی جسد الحیوان یوجب عروض النجاسة علیه وعلی جمیع أجزائه، سواء بقیت الأجزاء علی صفة الاتصال أم لا ولا، تناط نجاسة الأجزاء علی صدق المیّت علی کلّ جزءٍ جزءٍ، بل الملاک صدق کونه من أجزاء المیّت التی کانت لها الحیاة، فإذا قُدّ حیوان بنصفین ومات، یصدق عنوان النجاسة علیهما، وإنْ لم یصدق علی کلّ واحد من النصفین له دخلٌ فاتصال الأجزاء وعدمه لا دخل له فی الصدق وعدمه من النجاسة، وإنْ کان له دخلٌ فی صدق اسم ذلک الحیوان، وهو أمر عرفی مسلّم، فعلی هذا یکفی فی اثبات النجاسة لکلّ جزءٍ من المیتة ما یدلّ علی نجاسة عنوان المیتة والمیّت.

کما یؤیّد ذلک ما نشاهد فی حکم أجزاء الکلب والخنزیر من نجس العین، حیث یحکم علیهما بذلک حتّی مع الانفصال، فکذلک یکون حکم سائر الحیوانات من جهة نجاسة میتتها.

بل یمکن اقامة الدلیل علی نجاسة ذلک من بعض الأخبار:

منها: ما فی صحیح الحلبی حیث علّل طهارة الصوف بأنّه لا روح له، حیث قال: «لا بأس بالصلاة فیما کان من صوف المیتة، إنّ الصوف لیس فیه روح»(1).

حیث أنّ الخبر یدلّ علی أنّ النجاسة فی أجزاء المیتة تختصّ بالأجزاء التی فیها روح حیث یشمل باطلاقه حال الانفصال، کما هو المقصود من الجواب فی نفی البأس فی الصلاة فیه، ولازم مفهومه کون الصلاة مع ما فیه الرّوح من أجزاء


1- وسائل الشیعة: الباب 68 من أبواب النجاسات، الحدیث 1.

ص:48

المیتة المنفصلة فیه بأس، کما لا یخفی. هذا مضافا إلی ما عرفت من شمول الأخبار الواردة فی نجاسة المیتة لاجزائه المنفصلة بها، ومع ذلک کلّه لو شک فی طهارتها بعد الانفصال، فمقتضی الاستصحاب أیضا بقاء نجاستها وعلیه فحکم المسألة فی هذا القسم من الأجزاء المبانة واضح لا یحتاج إلی مزید بیان، ولذلک لا یصغی إلی ما صدر عن صاحب «المدارک» وغیره من المناقشة والتردید فی الحکم بالنجاسة _ لو لا الاجماع _ بدعوی: «عدم صدق إسم ذلک الحیوان المیّت علی أجزائه المنفصلة فإنّ الأخبار المتضمّنة للنهی عن أکل الزیت لا صراحة فیها فی النجاسة، وما ورد من الغسل لا یتعیّن کونه للنجاسة، لاحتمال أن یکون لأجل ازالة الأجزاء المعلّقة من الجلد، المانعة من الصلاة. إلی أن قال: وبالجملة لم أقف فیها علی نصّ معتدّ به فالمسألة قوّیة الاشکال» انتهی ما فی «المدارک».

وأنتَ خبیر بأنّ المسألة نقیةٌ عن المناقشة، ودلالة الأدلة علی النجاسة الأجزاء المبانة عن المیتة واضحة.

وقد یستدلّ لذلک: بما ورد فی سورة الانعام من قوله تعالی: «إِلاَّ أَن یَکُونَ مَیْتَةً أَوْ دَما مَّسْفُوحا أَوْ لَحْمَ خِنزِیرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ»(1)، بناءً علی أن المراد من (الرجس) هو النجس، وارجاع الضمیر فی انّه إلی کلّ من الافراد المذکور قبله، لا خصوص الأخیر وهو الخنزیر، فیلزم حینئذٍ کون المیتة نجسا.

أقول: کلا الأمرین یحتمل فیهما المنع، إنّما وردت لبیان حکم الحلیة والحرمة، کما یؤید ذلک ما ورد فی صدر الآیة، وهو قوله تعالی: «قُل لاَّ أَجِدُ فِی مَا أُوْحِیَ إِلَیَّ مُحَرَّما عَلَی طَاعِمٍ یَطْعَمُهُ إِلاَّ...» فبناءً علیه یمکن أن یکون المراد من (الرجس) هنا ما یتنفّر منه الطبع لا النجس، وإنْ کان قد فسّر بذلک أیضا، فعلیه لا ینافی مع صدر الآیة، لإمکان أن تکون الآیة مشتملة علی بیان حکمین من الحرمة


1- سورة الانعام، آیة 145.

ص:49

والنجاسة، ولکن مع ذلک لابدّ فی الاستدلال للمقام من القول بأنّ مرجع الضمیر إلی کلّ واحدٍ ممّا سبق ومنه المیتة.

هذا، وقد منعه بعض کالمحقّق الآملی فی «مصباح الهدی» وقال: «کون المرجع هو خصوص الخنزیر لا یخلو عن تأمّل».

وکیف کان، فإنّ التسمّک بالآیة لاثبات النجاسة موقوف علی هذین البنائین، کما لا یخفی.

هذا کلّه فی القطعة المبانة من المیّت والذی ثبت أنّه لا اشکال فی نجاستها ولا کلام فیها.

نعم، الذی ینبغی أن یبحث فیه هو نجاسة القطعة المبانة من جسد الحیّ، فاقامة الدلیل علیها لا یخلو عن شُبهةٍ عند بعض.

أقول: مضافا إلی ما عرفت من نقل قیام الاجماع عن صاحب «شرح المفاتیح» بقوله: «إن أجزاء الحیوان التی تحلّها الحیاة تنجس بالموت وإنْ قُطعت من الحیّ باتفاق الفقهاء»، بل الظاهر کونه اجماعیا وعلیه الشیعة فی الأعصار والامصار لوجود الاشتراک فی العلّة بین هذه القعطة مع قطعة المبانة من المیّت، بوجود الموت فی الاجزاء، کما أشار الیه فی «المنتهی»، إذا لا فرق فی الاتصال والانفصال فی عدم الحیاة فی الأجزاء، الموجب لصدق عنوان المیتة علیها، وإن استضعفه صاحب «المدارک» زعما منه أنّ ما یصدق علیه المیّت هو جسد المیّت، وهو لا یصدق علی الأجزاء. نعم قال به فی الأجزاء المبانة من المیّت لأجل الاستصحاب.

مع انّه غیر وجیه، لوضوح أنّه إذا لم یصدق علیها إسم المیّت بعد الانفصال، وکان صدقه لخصوص الجسد، فلا وجه للاستصحاب، لتغیّر موضوع المستصحب حینئذٍ، وإنْ فرض کون الاتصال من الحالات غیر الداخلة فی الصدق، فلِمَ لم نقل

ص:50

بذلک فی المبانة من الحیّ. وعلیه فمن امکان جریان الاستصحاب فیه، یستظهر کون الاتصال وعدمه معدودان من الحالات، ولا یکون مغیّرا لموضوع المستصحب، ولذلک لو لم نقل بشمول دلیل نجاسة المیّت للمبانة من الحیّ، لقلنا بطهارته باستصحاب طهارتة قبل الابانة، ولیس ذلک الاّ لأجل ما عرفت کمن أنّ الاتصال والانفصال غیر مغیّران للموضوع.

اعتراض صاحب «الجواهر» بالنقض: قال من معض ردّه علیه بأنّ لازم قوله هو طهارة من قُطّع قطعا ثمّ مات، بل ومن فعل به کذلک بعد الموت، وهو من المقطوع بفساده خصوصا الثانی غیر وارد، لوضوح أنّه ملتزم بذلک فی الأوّل، لأنّه قد صار التقطیع فی حال حیاته فکانت طاهرة، وبعد حلول الموت کانت منفصلة ولا أثر للموت فیه. کما أنّه یقول بطهارة المبانة من المیّت لو لا الاستصحاب کما صرّح به، فالأولی فی الجواب انکار کون المیّت منطبقا علی الجسد المجموع من حیث المجموع، بل یصدق علیه مطلقا ولو تتقطع أو تبان عنه الأجزاء حیّا لتحقّق الموت فیه، فتصیر میتة، ولذلک یشمله ما یدلّ علی عدم جواز الصلاة مع المیتة باجزائها بالنسة إلی المبانة من الحیّ.

کما أیّد صاحب «الجواهر» نجاسة الأجزاء المبانة من الحیّ بما ورد من الأمر بغسل الشعر المأخوذ من المیتة، اذ هو لیس الاّ لازالة ما استصحبه من الأجزاء، ولعلّه قصد بقوله ما ورد فی روایة حریز، قال: «قال أبو عبداللّه علیه السلام لزرارة «وفی نسخةٍ: عبدالرحمن بن أبی عبداللّه لرزارة) ومحمد بن مسلم: اللّبن واللّباء إلی أن قال: وإن أخذته منه بعد أن یموت فاغسله وصلّ فیه»(1).

أقول: کسب التأیید من هذا الحدیث لما ذکره مشکلٌ، لوضوح أنّ هذا الحدیث یتحدث عن حکم التطهیر لما أخذ من المیتة، وکلامنا فی المبانة من الحیّ، وهو


1- وسائل الشیعة: الباب 33 من أبواب مالایحرم النتفاع به من المیّتة ، الحدیث 3.

ص:51

خارج عمّا فی الروایة.

اللّهمّ إلاّ أن یرید المعنی المطلق الشامل للأجزاء بلحاظ وجود الحیاة فیها أولاً، ثم صیرورته میتة عند حلول الموت، وهو بعیدٌ غایته.

وأیضا: استدلّ لنجاسة الأجزاء المبانة من الحیّ بصحیحة الحلبی، قال: لا بأس بالصلاة فیما کان من صوف المیتة، إنّ الصوف لیس فیه روح»(1) قیل إنّ التعلیل المذکور فی الحدیث یفهم منه أنّ ما فیه الروح ینجس بذهابه.

وفیه: الاستدلال به لا یخلو عن مناقشة، کما صرح بذلک المحقق الهمدانی بقوله بعد نقل الحدیث: «وفیه: إنّ مفهوم التعلیل لیس إلاّ نجاسة الأجزاء التی حَلّ فیها من المیتة لا مطلق ما فیه الروح ولو کان جزءا مبانا من حَیّ».

أقول: لکن الانصاف عدم تمامیة المناقشة، لوضوح أنّ ذلک لو سلّم فی مثل المیتة بکون الملاک فی النجاسة وعدمها وجود الروح فیه وعدمه، ففی مثله فی الجزء المبان من الحیّ یکون بطریق أولی، لوضوح أنّ ما لیس فیه الروح من المیتة اذا کان طاهرا، ففی المبان من الحیّ یکون بطریق أولی، وهذا هو المنصوص، فیفهم منه أنّ کلّ ما یزهق عنه الروح یعدّ میتةً سواءٌ کان من المیتة أو من الحیّ لوحدة الملاک فیهما وبالتالی فدلالة الحدیث علی المطلوب غیر بعید.

وأیضا: یمکن الاستدلال للمطلوب بما ورد فی القطع المبانة المأخوذ بالحبل من الصید من الرِجْل، أو الید المقطوعة من الحیوان:

منها: خبر محمد بن قیس، عن أبی جعفر علیه السلام ، قال: «قال «أمیرالمؤمنین علیه السلام : ما أخذتِ الحبالة من صیدٍ فقطعت شدیدا أو رِجْلاً فذروه فإنّه میتة، وکلوا ما أردکتم حیّا وذکرتم اسم اللّه علیه»(2).


1- وسائل الشیعة: الباب 68 من أبواب النجاسات، الحدیث 1.
2- وسائل الشیعة: الباب 24 من أبواب الصید، الحدیث 1.

ص:52

ومنها: أخبار أخری بنفس مضمون الخبر الأول، مثل الخبر الصحیح الذی رواه عبدالرحمن ابن أبی عبداللّه،(1) وأیضا حدیث زرارة،(2) وحدیث عبداللّه بن سیلمان(3) حیث قد حکم فی جمیعها بأنّ ما أخذت الحبالة وقطعت عن بدن الحیوان میتة، ویترتب علیه حکمه وهو النجاسة.

ولکن قد نوقش فیها: بأنّ الحکم المذکور فی هذه الأخبار کان بملاحظة جواز الأکل وحرمته لا بالنظر إلی الطهارة والنجاسة، کما یؤیّد ذلک ما ورد فی ذیل روایة زرارة من قوله علیه السلام : «وما أدرکت من سائر جسده حیّا فذکّر ثمّ کُل منه»(4).

هذا، ولکن هذه المناقشة متینة، لو لم یثبت حکم المیتة من حیث الطهارة والنجاسة فی محلّه، وأمّا إن ثبتت تلک الکبری وهی: «إنّ کلّ میتة نجس» فی محلّه، فذکر ذلک فی هذه الأخبار یکون من قبیل بیان الصغری والمصداق، فیتم المطلوب.

البحث عن أخبار إلیات الغنم

المناقشات الجاریة فی الأخبار الآنقة بعینها جاریة الأخبار الواردة فی إلیات الغنم إذا قطعت منها حیّا، وهی عدیدة:

منها: روایة أبی بصیر، عن أبی عبداللّه علیه السلام أنّه قال: «فی إلیات الضأن تقطع وهی أحیاء أنّها میتة»(5).

ومنها: روایة الکاهل، قال: «سأل رجل أبا عبداللّه علیه السلام وأنا عنده عن قطع الیات الغنم؟ فقال: لا بأس بقطعها إذا کنت تصلح به مالک، ثمّ قال: إنْ فی کتاب


1- المصدر السابق، الحدیث 3.
2- وسائل الشیعة: الباب 24 من أبواب الصید، الحدیث 4.
3- المصدر السابق، الحدیث 3.
4- المصدر السابق، المصدر 3.
5- وسائل الشیعة: الباب 30 من أبواب الذبائج ، الحدیث 3.

ص:53

علی علیه السلام أنّ ما قطع منها میّتٌ لا ینقع به»(1).

حیث حکم علیه السلام فی الحدیثین أنّ الالیات المقطوعة میتة، فتکون هذه هی الصغری لکبری الکلی، وهی: أنّ کلّ میتة نجس إذا ثبت من دلیلٍ آخر، ولا یبعد دعوی وجود هذه الکبری فی الأخبار الواردة فی وقوع الجیفة فی ماء البئر، والواردة فی وجوب الغسل لما أضاف المیتة باجزائها أو غیر ذلک، خصوصا مثل ما فی مرسلة أیوب بن نوح، عن أبی عبداللّه علیه السلام ، قال: «إذا قطع من الرجل قطعة فهی میتة، فإذا مسّها انسانٌ کلّ ما کان فیه عظم فقد وجب علی من مسّه الغسل، فإن لم یکن فیه عظم فلا غُسل علیه»(2) بدعوی قیام الملازمة من ناحیة وجوب الغسل مع النجاسة فی میّت الانسان دون العکس، کما صرح بذلک صاحب «الجواهر»، فیلزم حینئذٍ کون المقطوع من الحیّ میّتا ونجسا وهو المطلوب.

أقول: ولا ینافی ذلک مع ما جاء فی ذیل الخبر من لأنّ ما لا عظم فیه لا غُسل فیه) ولکنه کان نجسا لعدم ثبوت الملازمة فی هذه الناحیة، کما لا یخفی.

ومنها: روایة الحسن بن علی الوشاء، قال: «سألت أبا الحسن علیه السلام فقلتُ جعلت فداک! إنّ اهل الجبل تثقل عندهم الیأت الغنم فیقطعونها؟ فقال: حرام وهی میتة، فقلت: جُعلت فداک! فنستصبح بها؟ قال: أما علمت أنّه یصیب الید والثوب وهو حرام»(3). أخبار إلیات الغنم

فإنّ الحرمة هنا لیس الاّ بمعنی النجاسة، لأنّ ما یصیب الید والثوب لا تکون نفس الاصابة من المحرمات الشرعیة الاّ من جهة ما یترتب علیه بما یشترط فیه الطهارة کالصلاة وغیرها، فعن طریق ضمّ هذه الأخبار المفیدة للحکم الکبروی


1- وسائل الشیعة: الباب 30 من أبواب الزبائح، الحدیث 1.
2- وسائل الشیعة: الباب 2 من أبواب غسل المسّ، الحدیث 1.
3- وسائل الشیعة: الباب 30 من أبواب الذبائح، الحدیث 2.

ص:54

الکلیّ بنجاسة المیتة مطلقا _ أی حتی ولو کانت مقطوعة عن الحیّ إذا صدق علیها المیتة _ یحکم بنجاستها فی کلّ مورد صدق علیه إسم المیتة.

فبذلک یظهر ضعف ما فی «المدارک» و «المعالم» حیث ادّعیا عدم وجود أخبار دالة علی ذلک، فتمسک الأوّل بالاستصحاب، وهذا یعدّ غفلة عن وجود عدم القول بالفصل بین مضامین الأخبار وغیره فی الحکم بنجاسة أجزاء المیتة. وعلیه فالمسألة عندنا واضحة.

نعم، بقی هنا موردان لابدّ من البحث عن حکمهما:

المورد الأوّل: فی الأجزاء المتصلة التی لا روح فیها کالید المشلولة والرجل المفلوجة حیث إنّه لو کان الملاک فی النجاسة هو عدم الروح فیما تحلّه الحیاة، یلزم أن تکون الید والرجل میتة.

والجواب عنه _ کما عن صاحب «کشف اللّثام» _ أوّلاً: بالمنع عن صدق المیتة علیها حال الاتصال.

وثانیا: لو سلّمنا صدقها علیه حقیقة، ولکن لا یجری علیه حکم المیتة، للسیرة القطعیة علی خلافه، بل ربّما یوجب الحکم بذلک العسر والحرج.

وثالثا: المستفد من الأخبار أنّ الانفصال مع زهاق الروح عنه فی المبان من الحیّ معتبر فی صدق المیتة علیه، فحینئذٍ یمکن أن یکون سبب النجاسة قد حصل ولکن شرطیّة اثره وهو الانفصال لم یحصل، أو کان الاتصال مانعا عن تأثیر السبب فیه، فلذلک لا یحکم بالنجاسة، فلا یوجب هذا عدم الحکم بالنجاسة فی المبان المنفصل عن الحیّ الواجد للسبب والشرط وعدم المانع، کما لا یخفی.

نعم، قد یتردّد فی الحکم بنجاسة العضو فیما إذا لم یقطع تماما بل بقی متصلاً علی نحو ضعیفٍ من خلال الجلد فقط فی الجملة، وکان العضو معدودا من الأجزاء الکبیرة، کما تردد فیه ذلک عن المحقق الخوانساری فی «شرح الدروس» فحینئذٍ

ص:55

إن لم یکن انفصاله وقطعه موجبا للحرج والعسر فلا یبعد الحکم بجواز ذلک أو وجوبه فی بعض الموارد، واللّه العالم.

أقول: بعد معرفة عدم نجاسة العضو الکبیر المتّصل الذی لم یکن حیّا مادام متصلاً، یأتی الکلام فیه أنّه لو انقطع بعد کونه میّتا، هل یوجب ذلک نجاسته، أو یبقی علی طهارته کما کان علیها قبل الانفصال:

قد یقال بالثانی لأنّه حال الاتصال قد حکمنا بخروجه عن حکم المیتة، وحکمنا بطهارته، فلا وجه للحکم بنجاسته حینئذٍ، إذ الانفصال لا یکون ممّا یوجب التنجیس، مع أنّه لو شُک فیه أیضا کان المقتضی التمسّک بالاستصحاب وقاعدة الطهارة.

وفیه: التأمل والدقة یقتضیان خلافه، لامکان دعوی الفرق بین حال الاتصال والانفصال، لما قد عرفت أنّ القاعدة والدلیل فی المیتة وأجزائها هو النجاسة مطلقا، متصلة کانت أو منفصلة، فخرج منها صورة الاتصال إمّا لأجل التبعیة، نظیر حصول الطهارة للمغسّل بتعبیة طهارة المیّت، وطهارة الاناء بتبعیة تبدیل الخمر خلاً، هکذا الأمر هنا، فإنّ التبعیة طهارة بدن الحیّ کان العضو المتصل به طاهرا، وبعد الانفصال یبقی تحت حکم نجاسة المیّت لحصول الشرط ورفع المانع عن تأثیر السبب، أو کان عدم نجاسة حال الاتصال لأجل رفع العسر والحرج، لأنّ وجودهما مانع عن تأثیر السبب، فبالانفصال یزول المانع، فیدخل تحت عموم حکم المیتة وأجزائها، فلا یبقی حینئذٍ للحکم بالطهارة اعتمادا علی الاستصحاب أو قاعدة الطهارة موردٌ. فالأقوی هو نجاسة العضو المنفصل مطلقا، سواءٌ کان زوال حیاته حال الاتصال أو بعد الانفصال.

المورد الثانی: هو حکم الأجزاء الصغار من المیّت والحیّ مثل البثور(1)


1- البثور ما یظهر علی الجسد یقال بالفارسیة (جوش بدن).

ص:56

والثالول(1)، وما یعلو علی الجراحات والدمامیل، وما یقطع عن الأجرب عند الحکّ، أو الجلد الیابس المقطوع عن الشفة أو الرجل، بل ما یخرج عن بدن الانسان عند الدّلک من الأدناس فی الحمام، أو عند تعریق البدن، أو غیر ذلک ممّا أشبه؛ وهل هذه المذکورات محکومة بالنجاسة أو بالطهارة، أو یقال بالتفصیل؟ وجوه:

فامّا المنفصل عن المیتة: فالظاهر نجاسته إذا انفصل عنه بعد ما صدق علیه أنّه جزء للمیتة، ولو لم یکن جزءا معتدا به، لأنّه بعد ما کان جزءا فقد تعلّق به حکم المیتة من النجاسة فلا وجه بتوهّم طهارته بالانفصال، فهذا القسم من الأجزاء الصغار محکوم بالنجاسة مطلقا، سواء کان المقطوع جزءا معتدا به أو لم یکن المنفصلة عن الحیّ:

حکم الأجزاء الصغار یدور البحث عن حکمها وأنّه هل یحکم بنجاستها أم لا؟

الطاهر عن بعضٍ کصاحب «الحدائق» دعوی نفی «الخلاف» فی طهارته، وإن اختلفوا فی بیان مدرکهاً، بل صرّح جماعة من الفقهاء بالطهارة نظیر العلاّمة فی «المنتهی»، وصاحب «مجمع البرهان» و«المدارک» و«المعالم» وشرحی الأستاذ الأکبر للمفاتیح، والخوانساری للدورس، بل هو ظاهر «البحار» أو صریحه کما فی «الموجز»، بل قد صرّحوا بأنّه عُفی عن البثور والثالول فی المحکی عن «نهایة الأحکام» و«کشف الالتباس» و«الذخیرة» و«الکفایة».

الدلیل علی الطهارة وعدم وجوب التحرّز: عدم شمول الأدلّة السابقة لمثل ذلک، لوضوح عدم صدق المیتة علی تلک الأجزاء، لما قد عرفت أنّ هذه الأجزاء ما دامت متصلة بالبدن کان تعدّ حیّةً ظاهرا، فبعد الانفصال أیضا:

فما لم یکن الجزء معتدا به قطعا لا یصدق علیه المیّت عرفا، بل وإن کا معتدا به فهو أیضا عرفا لا یقال له إنّه میتة، مع أنّه کان طاهرا حال الاتصال، فإذا انفصل


1- الثالول: یقال بالفارسیة (بوک).

ص:57

ولم یصدق علیه عنوان المیتة مستقلاً بقی علی طهارته. مع أنّه لو شُک فی نجاستها یتمسک بالاستصحاب ویحکم بالطهارة، مضافا إلی أنّ مقتضی القاعدة الطهارة، مع أنّ الحکم بالنجاسة یوجب العسر والحرج لمن کان یعرف بدنه فی أیّام الصیف ویخروج منه بعض تلک المذکورات بواسطة الحکّ بالظفر والدلک وأمثال ذلک، مع وجود السیرة المتشرعة القطعیة علی عدم التحرّز عن مثل ذلک، حیث یعاملون أهل الشرع معها معاملة الأشیاء الطاهرة، خصوصا مع ملاحظة کونه ممّا تعمّ بها البلوی مع عدم نصّ أحدٍ من الأصحاب علی النجاسة.

وفضلاً عن جمیع ذلک قد یستدلّ لطهارتها بصحیحة علی بن جعفر، عن أخیه موسی بن جعفر علیه السلام ، قال: «سألته عن الرجل یکون به الثالول والجراح هل یصلح له أن یقطع الثالول وهو فی صلاته، أو ینتف بعض لحمه من ذلک الجرح ویطرحه؟ قال: إن لم یتخوّف أن یسیل الدم فلا بأس، وإن تخوّف أن یسیل الدّم فلا یفعل»(1).

وصریح الخبر أنّ الامام علیه السلام رخّص ذلک فی حال الصلاة ولم یمنع عنه، مع أنّه ربما یوجب حملها فی حال الصلاة، وتباشره الید مع العرق الموجود فی البدن، فلو کان نجسا لما جاز فعله فی الصلاة، لأنّه یوجب تنجس بدن المصلّی، فحیث لم یتعرض للمنع الاّ مع سیلان الدم یظهر کونه طاهرا بعد الانفصال.

أورد علیه صاحب «مصباح الفقیه»: بقوله: «ولکن الانصاف قصورها عن مرتبة الدلالة، لشهادة سوقها بإرادة عدم مانعیّة هذا الفعل من حیث هو للصلاة، وتنبیه الامام علیه السلام فی ضمن الجواب علی بعض الجهات لنکتة الغلبة لا یقتضی ارادته الرخصة الفعلیة علی الاطلاق، لکنّها مع ذلک لا تخلو عن تأیید، والأحوط إنْ لم یکن أقوی هو الاجتناب عمّا یصدق علیه اسم اللّحم عند انفصاله مطقا، واللّه


1- وسائل الشیعة: الباب 63 من أبواب النجاسات، الحدیث 1.

ص:58

العالم»(1).

وفیه: مع الدقة والتأمل فی الحدیث یظهر خلاف ذلک، لوضوح أنّ قطع الثالول أو بعض ما یعلوا الجراحة إنْ صدق علیه المیتة وکان نجسا، وکان حمل النجاسة ممنوعا مطلقا فی الصلاة، أی حتّی مع الیبوسة، فکان الحرّی أن ینبّهه الامام علیه السلام ویمنعه عنه، لأنّ المقام کان مقتضیا لذلک، وتأخیر البیان عن وقت الحاجة لایناسب مع مقام الامام علیه السلام ، خصوصا مع ملاحظة ذکر سیلان الدم فی ذلک مع کون موردنا أهمّ ذکرا عن مثل جریان الدم، مع أنّه أیضا لم یکن الاّ لأجل نجاسته، فحیث لم یذکر ذلک یفهم أنّه کان طاهرا، ولا منع عنه.

وعلیه فالحقّ یکون مع صاحب «المعالم» حیث ادّعی دلالته علی المطلوب، ولعلّ هذا الخبر هو المراد ممّا قاله العلاّمة فی «المنتهی»: «فدعوی الطهارة فی جمیع ما یخرج من الحیّ لا یخلو عن وجه وجیه، غایة الأمر لا یبعد القول بنجاسة ما کان فیه الحیاة ثم انقطع عن الجسد کالجلدة من الشفة، إذا لم ینقطع سهلاً، حیث ینجس موضعه إذا کان مع الرطوبة».

هذا کلّه للاجزاء الصغار من الحیّ.

وأمّا الأجزاء الصّغار المبانة من المیّت: فالظاهر أنّها نجسة لصدق المیتة علیها بواسطة صدقه علی الکلّ، کما کان الأمر کذلک فی نجس العین کالکلب والخنزیر، حیث أنّ الأجزاء منهما نجسة، سواءٌ کانت أجزاء کبیرة أو صغیرة، وسواءٌ کان جزءا معتدا به أو غیر معتدّ به، والشاهد فیه هو تشخیص العرف حکمه فی تطبیق العناوین علی تلک الأجزاء مطلقا، کما لا یخفی، ومع الشک فیه فالاستصحاب حاکم بالنجاسة وفیما قبله بالطهارة کما عرفت.


1- مصباح الفقیه، ج 7، ص 74.

ص:59

حکم مسک الفأرة

بعد ما ثبت طهارة ما یقتطع من الحیّ من الأجزاء الصغار دون المیّت، وثبت حکممها من الادلّة من الطهارة والنجاسة، نجد أن عدّة من الفقهاء مثل العلاّمة فی «التذکرة» و«النهایة»، والشهید فی «الذکری»، والسیّد فی «المدارک» صرّحوا باستثناء فأرة المسک من هذا الحکم، أی حکموا بطهارتها مطلقا، سواء انفصلت من الظبی فی حیاته أو بعد مماته، بل یظهر من «التذکرة» و«الذکری» قیام الاجماع علیه وهذا هو أحد الأقوال فی المسألة. حکم مسک الفأرة

والقول الثانی: هو أنّ المسک طاهرٌ وإن قلنا بنجاسة الفأرة المأخوذة من المیتة کالأنفحة، ولم ینجس بنجاسة الظرف، وهو قول صاحب «نهایة الأحکام»، وهذا لا ینافی مع دعوی الاجماع بطهارة المِسک، حیث یشمل اطلاقه لصورة نجاسة الفأرة أیضا.

والقول الثالث: وهو لصاحب «کشف اللّثام» حیث ذهب الی نجاسة الفأرة مطلقا، أی سواء انفصلت من الحیّ أو المیّت، إلاّ إذا کانت مع زکاة الظبی، وامّا المسک ینجس مع الرطوبة عند الانفصال، ووافقه علی ذلک صاحب «الجواهر» فی خصوص الفأرة دون المسک فیصیر ذلک رابع الأقوال، وقال هو لا یخلو عن قوة: «بأنی لم أعرف له موافقا عمّن تقدمه وتأخّر عنه، بل لعلّه مجمعٌ علی خلافه فی المنفصلة من الحیّ، کما عساه یظهر من دعواه فی «المنتهی» فضلاً عمّا سمعته من «التذکرة»، وعن ظاهر «الذکری» من دعواه مطلقا».

والقول الخامس: هو للعلاّمة فی «المنتهی» من التفصیل فی الفأرة: من الطهارة إن کانت منفصلة من الحیّ أو من المذکّی، والنجاسة إن انفصلت من المیّت.

والقول السادس: هو طهارتها لو انفصلت بعد بلوغها إلی الحَدّ الذی ینفصل عن الظبی عادةً، سواءٌ کان الانفصال من الحیّ أو من المیّت، فضلاً عن المذکّی، بخلاف مالو کان الانفصال قبل بلوغه إلی ذلک الحدّ، فإنها نجسٌ وما فیها إذا انفصلت من

ص:60

الحیّ أو المیّت، إلاّ إذا کان من المذکّی وقلنا بطهارتها بتبعها ان ثبت کونها منها.

وهذا قول للعلامة البروجردی والخمینی، وهو الأقوی.

أقول: بعد الوقوف علی الأقوال وتفاصیل الأدلة، یقتضی المقام التحقیق فی ذلک من بیان أقسام مسک الفأرة وتوضیحها حتّی یظهر حکم کلّ واحدٍ منها، فنقول ومن اللّه الاستعانة:

قد تعرّض شیخنا المرتضی فی طهارته الی ذلک ونقل الأقسام عن «التحفة» وقال: «إنّ للمسک أقساما أربعة:

أحدها: المسک الترکی، وهو دم یقذفه الظبی بطریق الحیض أو البواسیر فینجمد علی الأحجار.

الثانی: الهندی ولونه أخضر، دم ذبح الظبی المعجون مع روثه وکبده، ولونه أشقر، وهذان ممّا لا اشکال فی نجاستهما.

الثالث: دمٌ یجتمع فی سُرّة الظبی بعد صیده، یحصل من شقّ موضع الفأرة وتغمیز اطراف السرّة حتّی یجتمع الدم فیجمد، ولونه أسود، وهو طاهرٌ مع تذکیة الظبی نجسٌ لا معها.

الرابع: مسک الفأرة، وهو دم یجتمع فی أطراف سُرّته، ثمّ یعرض للموضع حکّة یسقط بسبها الدم مع جلدة هی وعاء له، وهذا وإن کان مقتض¨ القاعدة نجاسته، لأنّه دم ذی نفس إلاّ أنّ الاجماع دلّ علی خروجه عن هذا العموم، إمّا لخروج موضوعه بدعوی استحالة الدم، أو بدعوی التخصیص فی العموم) انتهی(1).

أقول: وتحقیق المسألة یقتضی أن نبحث فی مقامین: فی نفس فأرة المسک أی الجلدة التی یقع فیه المسک، والثانی فی نفس المسک الذی کان مظروفا من حیث الطهارة والنجاسة.


1- الطهارة للشیخ الانصاری قدس سره ، ص 341.

ص:61

البحث فی الأوّل: لا اشکال فی طهارة الفأرة بل ومسکها إذا کان من المذکّی، لوضوح أنّ التذکیة کما یطهّر لحم الظبی کذلک یطهّر الدم المتخلّف فیه، والفأرة مع مسکها یکون غایته من الدم المحکوم بالنجاسة فی غیر المقام، وامّا المقام فلکونه کالدم المتخلّف فی بدن الحیوان المذبوح طاهرا، فهذا القسم من الفأرة والمسک طاهرٌ بلا اشکال، ولعلّ الموجود فی الخارج من هذا القبیل، فوجود ذلک یکفی فی تحقّق المصداق المتیقن فیه الاجماع علی طهارته.

المقام الثانی: ممّا ذکرنا فی المقام الأوّل یظهر أنّ مسکة طاهرٌ لأنّه لا وجه لنجاسته بعد طهارة ظرفه وهو الفأرة، وتنجسّه من الخارج بغیره أمرٌ خارج عن موضوع البحث، مع أنّه عند الشک فی أنّه هل تنجّس به أم لا یحکم بالطهارة استصحابا وبقاعدة الطهارة، وکونه مأخوذا من ید المسلم، بل ومن سوق المسلمین ولو علم کونه فی ید الکافر قبله، حیث تکون جمیع ذلک من أمارات الطهارة کما لا یخفی، وعلیه، إذا ثبت کونها من المذکّی فالحکم واضح لا بحث فیه، هذا هو أحد الأقسام منها وهو طاهر إذا کان فی سُرّة الظبی، والخروج عنها کان بالتغمیز أو بغیره بخلاف الأوّل والثانی من الاقسام الأربعة فلهما بحث سیأتی الاشارة الیهما.

وقسم آخر من الفأرة: هی المبانة من المیتة، فهل هی نجسة أم لا؟

والوجه فی نجاستها لیس الاّ لأجل ما عرفت سابقا من نجاسة المبانة عنها، لأنّه یصدق علیها أنّها جزء المیتة التی تحلّها الحیاة، وصارت میتة، ولا وجه للقول بطهارتها إلاّ علی للقول بالاستحالة، أی إنّها خرجت عن اسم ما یصدق علیه المیتة، لأجل کونها غیر ما تحلّ، وعلی فرض تنجسّها ظاهرا بواسطة التلاقی بالمیتة، فهی قابلة للتطهیر بظاهره فبعده یصیر طاهرا، فعلی فرض قبول الاستحالة تکون المسألة وحکم طهارة مسکها أیضا واضحة، إذ لا یصدق علیه الدم، والاّ لزم

ص:62

نجاسته فی المذکّی أیضا.

ولکن الاشکال والکلام فی هذه الصورة فی أصل قبول الاستحالة علی نحو یخرجه عن اسم المیتة، الاجماع غیر قائم علی طهارة هذا القسم لأنّه خارج عن القدر المتیقن، کما أنّه مع العلم بذلک لا یمکن الحکم بطهارتها بالاستعانة بالاستصحاب ولا بالقاعدة ولا بالید ولا بسوق المسلمین، لأنّ تمام هذه الاُصول تکون جاریة عند الشک دون صورة العلم بحالها، اللّهم إلاّ أن یکون الانفصال عن المیتة بعد ما بلغ إلی حدٍّ کان ینفصل بطبیعتها لو کان حیّا، فحینئذٍ تکون الفأرة بنفسها طاهرة ولم تتنجّس بالتلاقی،

نعم، یبقی البحث عن طهارة مظروفها أی المِسک الذی کان قبل ذلک له وعاءٌ نجسٌ وهو الفأرة، فقد نقل عن بعضٍ _ وهو صاحب «نهایة الأحکام» _ الحکم بطهارة المسک حینئذٍ، وإن قلنا بنجاسة الفأرة المأخوذة من المیتة کالأنفحة التی لم تکن نجسة بنجاسة الظرف.

أقول: الانصاف عدم امکان المساعدة معه فی ذلک، لأجل فقد الدلیل، لوضوح أنّ الاجماع لا یشمله، لعدم کونه هو القدر المتیقن منه، لامکان أن یکون موردهما غیر ذلک من القسمین الآخرین، کما لا یشمله دلیل الحرج لعدم وجوده مع وجود القسم الآخر من المِسک، کما لا دلیل لنا علی تقیید الاطلاقات الدالة علی انفعال الملاقی بالنجاسة، وتخصیص عمومه، فلازمه هو الانفعال هنا، کمالا اطلاق فی صحیح علیّ بن جعفر المرویّ عن أخیه علیه السلام قال: «سألته عن فأرة المسک تکون مع من یصلّی وهی فی جیبه أو ثیابه؟ قال: لا بأس بذلک»(1) لامکان أن یکون غیر هذا القسم، اذ الغالب من القسمین الآخرین، والمفروض هنا هو العلم بکونه من المیتة، فلا مجال لجریان الأصل والامارة هنا کما لا یخفی.


1- وسائل الشیعة الباب 41 من أبواب لباس المصلّی، الحدیث 1.

ص:63

القسم الثالث من الفأرة: إذا کانت منفصلة عن الحیّ، فهی علی صورتین:

تارة: یفرض انفصالها بعد بلوغها إلی حدٍّ کان ینفصل عن الحیوان بطبیعتها، فهی طاهرة قطعا، لأنّه هو الغالب فی الفأرة المأخوذة وطهارتها وطهارة ما فیها، ولعلّ هذا وما یؤخذ من المذکّی هو القدر المتیقن من الاجماع المُدّعی فی المقام علی طهارتها، لأنّه هو القسم المتعارف بین المسلمین، والاّ لو لا الاجماع کان مقتضی القاعدة النجاسة لأنّه دم ذی نفس، فخروجه عنده إمّا یکون لأجل خروجه موضوعا عن الدم لاستحالته، أو خروجه حکما وتخصیصا عنه بواسطة الأخبار الدالة علی طهارته فی استعماله للبدن والثیاب، کما ورد التصریح بذلک فی روایة عبداللّه بن سنان، عن أبی عبداللّه علیه السلام ، قال: «کانت لرسول اللّه صلی الله علیه و آله المسکة إذا توضأ أخذها بیده وهی رطبة، فکان إذا خرج عرفوا أنّه رسول اللّه برائحته»(1).

وکذلک صحیحة علی بن جعفر: «سألته عن الفأرة المسک تکون مع من یصلّی وهی فی جیبه أو ثبابه فقال: لا بأس بذلک»(2).

فإنّ دلالة الخبر الأوّل علی الطهارة أوضح، لوضوح أنّه لو کان المسک نجسا لما کان یباشره صلی الله علیه و آله مع الرطوبة، بخلاف الخبر الثانی حیث إنّه یصحّ الاستدلال به للطهارة إن قلنا بعدم جواز حمل النجس مع المصلّی، فلازمه طهارته، والاّ لا یمکن الاستدلال به.

هذا، مضافا إلی الأخبار الکثیرة الواردة فی الترغیب لاستعمال المسک، حیث لا یناسب مع نجاسته، خصوصا مع ملاحظة ما ادّعاه البعض أنّ الغالب من المِسک هو المنفصل عن الحیّ.


1- وسائل الشیعة: الباب 58 من أبواب النجاسات ، الحدیث 1.
2- وسائل الشیعة: الباب 41 من أبواب لباس المصلّی ، الحدیث 1.

ص:64

وأخری: إذا کان انفصالها قبل موعده، فطهارتها غیر معلومة، لأنّه لا یصدق ممّا یوجب خروجه عن اسم الدم بالاستحالة، کما لا تکون طهارته حینئذٍ بالتبعیة کالمذکّی لصیرورته دما متخلفا، کما أنّه یصدق علیه أنّه دم ذی نفس ویوجب نجاسته.

هذا إذا کان علم حالها من الأقسام، فإذا کانت الفأرة فی هذه الصورة نجسة کذلک یکون مظروفه نجسا، لعدم شمول الاجماع لهذا القسم حتی یوجب التخصیص فی عموم الانفصال بالملاقاة، فضلاً عن عدم ورود دلیل فی المقام علی الطهارة بالخصوص کما ورد فی الأنفحة حتّی یوجب التخصیص فی ذلک العموم. وعلیه فدعوی طهارته وطهارة ظرفه فی صورة العلم بحالها ضعیفة جدا.

نعم، یصحّ دعوی الطهارة فیما لو شک فیها، وذلک لجریان قاعدة الطهارة، أو الأخذ من ید المسلم، أو من سوق المسلمین، فجمیعها أمارات علی الطهارة حتّی لو علم أنّه کان قبله فی ید الکافر.

أقول: لا یخفی أنّ هذا القسم من المسک الذی نبحث عنه هو الثالث والرابع من الأقسام الأربعة دون الأوّل والثانی لأنّ الفأرة التی لها موعدٌ للانفصال عن جسد الظبی هی التی فی القسمین الأولین دونهما، کما یشهد بذلک ما ذکر فی تفسیرهما من کونه دم حیضٍ، أو هو مع روثه، ولیس هما فی غلافٍ وفأرةٍ بخلاف القسمین الثالث والرابع الذی کان لونهما أسود.

فظهر من جمیع ما ذکرنا حکم المسک وغلافه، ویساعد ما ذکرناه ما ورد فی الصحیحة التی رواها عبداللّه بن جفعر، قال: «کتبتُ الیه _ یعنی أبا محمد علیه السلام _ هل یجوز للرجل أن یصلّی ومعه فأرة مسکٍ؟ قال: لا بأس بذلک إذا کان ذکّیا»(1)


1- وسائل الشیعة: الباب 41، الحدیث 2.

ص:65

وما کان منه لا تحلّه الحیاة کالعظم والشعر، فهو طاهرٌ (1)

لأنّه یمکن أن یکون متعلّق کان هو المسک لا الفأرة، وأرید من الذکّی الطاهر، أو یکون المتعلّق هو ما معه حتّی یشمل الفأرة مع ما فیها من المِسک، وأراد بذلک بیان وجود قسمٍ من النجس ولزوم الاحتراز عنه، وهو المنفصل عن المیتة قبل البلوغ، أو من الحَی کذلک، فبذلک یحمل ما فی صحیحة علی بن جعفر حیث أجاز للمصلّی بصورة المطلق بأن یکون فی جیبه وثیابه، بل لعلّه هو الغالب فی الخارج، واطلاق لفظ (الذکّی) للطاهر فی الأخبار کثیر: حکم اجزاء التی لاتحلّها الحیاة

منها: فی روایة حریز، قال: «قال أبو عبداللّه علیه السلام لزرارة ومحمد بن مسلم: اللّبن واللّباء... إلی أن قال وکلّ شیء ینفصل من الشاة والدابة فهو زکی»(1).

ومنها: روایة الحسین بن زرارة، قال: «کنت عند أبی عبداللّه علیه السلام وأبی یسأله عن المسّ من المیتة واللّبن من المیتة والبیضة من المیتة وأنفحة المیتة؟ فقال: کلّ هذا ذکّی»(2).

واحتمال کون المراد من (الذکّی) هو الطهارة عن النجاسة الخارجیة العارضة، بعیدٌ جدّا، لأنّها لیس ممّا یوجب السؤال عنها لأنّه من الواضح لکلّ مسلمٍ متشرّع متدین لزوم الاجتناب عمّا هو نجسٌ فی الصلاة، وعلیه فلا داعی لذکر ذلک بالخصوص إلاّ لأجل ما یقتضی شأنه النجاسة، وهی الواقعة فی بعض اقسامها من حیث الذات، واللّه العالم.

(1) إنّ طهارة ما لا تحلّه الحیاة مثل العظم والقَرْن والسِّن والمنقار والظُّفر والظُّلف والحافر والصّوف والوبر والشعر والریش، مورد اتفاق الفقهاء علی أنّها لا ینجسّها الموت کما فی «کشف اللّثام»، بل فی «الجواهر» لا أجد خلافا فیه، کما


1- وسائل الشیعة: الباب 33 من أبواب الاطعمة المحرمة، الحدیث 3.
2- وسائل الشیعة: الباب 33 من أبواب الاطعمة المحرمة، الحدیث 4.

ص:66

اعترف به فی «المدارک» و«الذخیرة»، بل فی «الخلاف»:

تارة: الاجماع بالنسبة الصوف من المیتة والشعر والوبر إذا جزّوا العظم.

وأخری: الاجماع _ کما فی «الفقیه» صریحاً علی طهارة العظم والشعر والصوف من المیة، کما عن «الغنیة» فی باب الأطعمة دعواه علی سائر المذکورات إذا کانت من میتة ما تقع الذکاة علیه، لکنه أبدل (الحافر) بالخُفّ، و(المنقار) بالمِخلب کظاهر «المنتهی» فی العظم وشعر الانسان إذا انفصل فی حیاته، وغیر ذلک من کلمات الفقهاء فی نقل الاجماع، ولأجل ذلک لوحظ أنّ بعض الفقهاء کالخونساری شارح «الدروس» جعل الدلیل علی طهارة هذه المذکورات الاجماع فقط.

ولکن المتتبع یری وجود نصوص معتبرة کثیرة مستفیضة فیها الصحیح والحسن علی طهارة المذکورات غیر الظُّلف والمنقار فانهما غیر مذکورین بالاسم وان هما داخلان بالتعلیل، کما سیظهر لک إن شاء اللّه، والنصوص الواردة فی المقام عدیدة:

منها: صحیحة الحلبی، عن أبی عبداللّه علیه السلام ، «قال: لا بأس بالصلاة فیما کان من صوف المیتة، إنّ الصوف لیس فیه روح»(1).

فإنّ التعلیل فیه معمّمٌ بأنّ کلّ ما لیس فیه روح فهو طاهر وذکّی، فیشمل جمیع المذکورات فی الأخبار وغیرها.

ومنها: خبر الحسین بن زرارة، قال: «کنت عند أبی عبداللّه علیه السلام وأبی یسأله عن اللّبن من المیتة والبیضة من المیتة وأنفحة المیتة؟ فقال: کلّ هذا ذکّی.

قال: وزاد فیه علی بن عقبة وعلی بن الحسن بن رباط، قال: والشعر والصوف کلّه ذکّی»(2).


1- وسائل الشیعة: الباب 68 من أبواب النجاسات، الحدیث 1.
2- وسائل الشیعة: الباب 68 من أبواب النجاسات، الحدیث 2.

ص:67

ومنها: خبر صفوان، عن الحسین بن زرارة، عن أبی عبداللّه علیه السلام ، قال: «الشعر والصوف والریش وکلّ ثابتٍ لا یکون میّتا. قال: وسألته عن البیضة تخرج من بطن الدجاجة المیتة؟ فقال: یأکلها»(1).

ومنها: روایة الطبرسی فی «مکارم الأخلاق» عن قتیبة بن محمد، قال:

«قلت لأبی عبداللّه علیه السلام إنّما نلبس هذا الخزّ وسُداه إبریسم. قال: وما بأس بأبریسم إذا کان معه غیره، قد أصیب الحسین علیه السلام وعلیه جُبّة خزٍّ وسُداه ابریسم.

قلت: إنا نلبس هذه الطیالسة البربریة وصوفها میّت؟ قال: لیس فی الصوف روح ألا تری أنّه یجزّ ویباع وهو حیّ»(2).

ومنها: حسنة حریز، قال: «قال أبو عبداللّه علیه السلام لزرارة ومحمد بن مسلم: اللّبن واللّباء والبیضة والشعر والصوف والقرن والناب والحافر وکل شیء ینفصل من الشاة والدابة فهو ذکّی، وإن أخذته معه بعد أن یموت فاغسله وصلّ فیه»(3).

منها: صحیحة زرارة المرویّة عن «الفقیه» وا«لتهذیب» عن أبی عبداللّه علیه السلام ، قال: «سألته عن الأنفحة تخرج من بطن الجَدی المیّت؟ قال: لا بأس به.

قلت: اللّبن یکون فی ضرع الشاة وقد ماتت؟ قال: لا بأس به، قلت: والصّوف والشعر وعظام الفیل والجلد والبیض یخرج من الدجاجة؟ قال: کلّ هذا لا بأس»(4).

هذا علی ما فی «التهذیب» وفی «الفقیه» أسقط لفظ (الجلد) وهو الصواب، وقال فی آخره: (کلّ هذا ذکّی لا بأس به) ولذلک قال صاحب «الوسائل» فی ذیله: أقول: «حکم الجلد فی روایة الشیخ محمول علی التقیة، مع احتمال کون اثباته


1- المصدر السابق، الحدیث 4.
2- المصدر السابق، الحدیث 7.
3- وسائل الشیعة: الباب 33 من أبواب الاطعمة المحرمة، الحدیث 30.
4- وسائل الشیعة: الباب 33 من أبواب الاطعمة المحرمة، الحدیث 10.

ص:68

سهوا من بعض النّساخ» انتهی.

ومنها: روایة یونس، عنهم علیهم السلام ، قالوا: «خمسة أشیاء ذکیّه ممّا فیه منافع الخلق: الانفحة والبیض والصوف والشعر والوبر، ولا بأس بأکل الجبّن کله، الحدیث»(1).

ومنها: مرسل الصدوق فی «الفقیه»، قال: «قال الصادق علیه السلام : عشرة أشیاء من المیتة ذکیة: القرن والحافر والعظم والسن والأنفحة واللبن والشعر والصوف والریش والبیض».

ورواه فی الخصال عن علی بن أحمد بن عبداللّه مسندا، عن محمّد بن أبی عمیر یرفعه إلی أبی عبداللّه علیه السلام مثله مع مخالفةٍ فی الترتیب(2).

ومنها: روایة أبی حمزة الثمالی، عن أبی جعفر علیه السلام فی حدیث: «أنّ قتادة قال له: أخبرنی عن الجبن، فقال: لا بأس به، فقال: إنّه ربّما جُعلت فیه نفحة المیت، فقال: لیس به بأس إنّ الأنفحة لیس لها عروق ولا فیها دم ولا لها عظم، إنّما تخرج من بین فرث ودم، وإنّما الأنفحة بمنزلة دجاجة میتة أخرجت منها بیضة فهل تأکل تلک البیضة؟ قال قتادة: لا ولا آمر بأکلها، قال أبوجعفر علیه السلام : ولِمَ؟ قال: لانّها من المیتة، قال: فإن حضنت تلک البیضة فخرجت منها دجاجة تأکلها؟ قال: نعم، قال: فما حرّم علیک البیضة وأحلّ لک الدجاجة؟ قال: فکذلک الأنفحة مثل البیضة فاشتر الجُبّن من أسواق المسلمین من ایدی المصلین ولا تسأل عنه إلاّ أن یأتیک من یُخبرک عنه»(3).

فإنّ هذه الروایة قد استدلّ بأمر غام لطهارة الأنفحة، وهو أنّ کلّ شیء من


1- المصدر السابق، الحدیث 2.
2- المصدر السابق، الحدیث 9.
3- وسائل الشیعة: الباب 33 من أبواب الاطعمة المحرمة، الحدیث 1.

ص:69

المیت لیس فیه عروق ولا فیها دم ولا لها عظم فهو طاهر، فیشمل هذا العموم غیر الأنفحة أیضا.

أقول: هذه جملة من الأخبار الدالة علی طهارة تلک المذکورات، وأنّها من المیتة لکنّها ذکیة، ومع ذلک کله فقد منع الخوانساری شارح «الدروس» علی ما حُکی عنه دلالة هذه الأخبار علی طهارة الأشیاء المذکورة، واستدلّ لطهارتها بالاجماع وأصالة الطهارة بعد ادّعائه قصور ما دلّ علی نجاسة المیتة عن اثبات نجاسته أجزائها، والاّ لو کان هناک نص کذلک لدخلت شعر الکلب والخنزیر، وإلاّ فزوال الحیاة لیس سببا للنجاسة، وإلاّ لاقتضی نجاسة المذکّی، مع أنّها لم تحلّ فیه الحیاة والاّ فإنّه لا استبعاد فی صیرورة الموت سببا لنجاسة جمیع الأجزاء وإنْ لم تحلّ فیها الحیاة.

أقول: کلامه ضعیفٌ من وجوه:

أولاً: تمامیة دلالة الأخبار الأنفة علی طهارة هذا الأشیاء، وهی المراد من الذکی، مع ما عرفت ارتکاز أسئلة بعض السائلین علی نجاسة المیتة فحکموا بنجاسة هذه الأشیاء، کما تری التصریح بذلک فی روایة أبی حمزة الثمالی عن قتادة، خصوصا مع ملاحظة استدلال الامام علیه السلام لدفع التوهم بأنّ الأنفحة طاهرة لأنّها لیس فیها عروق ولا دم ولا عظم وطهارتها لیس الاّ لأجل ذلک.

وثانیا: بالافتراق بین الشعر فی المقام وبین شعر الکلب والخنزیر، لوضوح أنّ القیاس إنّما یصحّ بین طهارة أجزاء الشاة مع حیاتها مع نجاسة الکلب بأجزائها، لأنّ وحدة الحکم بین الکل والأجزاء إنّما یصح إذا لم یتغیّر موضوع الحکم، لأن موضوع نجاسة المیتة هو صدق زهاق الروح عمّا فیه الروح، وهذا المعنی لا یصدق إلاّ لما فیه الروح، أمّا الذی لا روح فیه فی حال حیاة حیوانه، فکیف یصدق علیه المیتة، وهذا بخلاف شعر الکلب فإنّه حال حیاته کان نجسا لأجل

ص:70

جزئیته له، فلا معنی لصیرورته طاهرا بالموت، إذ لم یکن حکم طهارته منوطا بحیاته حتّی یصیر بعد الموت طاهرا کشعر الشاة، هذا فضلاً عن أنّهما مختلفان من حیث الاستصحاب لو شک فی طهارتهما ونجاستهما حیث یجری الأوّل فی الثانی والثانی فی الأوّل کما لا یخفی.

وثالثا: کیف یقول بعدم الاستبعاد فی صیرورة الموت سببا لنجاسة جمیع الأجزاء مع أن نجاسة کلّ شیء لابدّ له من دلیل یدلّ علیه، لأجل انطباق عنوانٍ من عناوین النجسة علیه، ولیس ذلک بأیدینا وإنْ قال الشارع بذلک کان لأجل سبب فیه، فالموت لیس بنفسه من أسباب التنجیس إلاّ فیما فیه الروح، ولم یکن مذکّی فیما یقبل التذکیة، فکلامه ضعیف من جهات شتّی، واللّه العالم.

أقول: ثمّ بعد ما ثبت دلالة الأخبار علی طهارة الأشیاء المذکورة، فهی تدلّ علیها بالاطلاق، أی سواءٌ أخذت بالجزّ أو النف أو القلع، فیما إذا صدق علی المأخوذ اسم تلک الأشیاء من الصوف والشعر والریش. نعم لابدّ من غسل ما اتصل به لنجاسته بملاقاة رطوبة الجلد فی المیتة، کما أشار الیه فی حسنة حریز بقوله: «وإن أخذته منه بعد موته فاغسله وصلّ فیه» وهو مورد وفاق الفقهاء، ولا یعرف فیه خلاف لأحدٍ إلاّ عن الشیخ فی «النهایة» حیث قال بتخصیص طهارتها بصورة الجزّ، وحکم بنجاستها فی صورة القلع، معلّلاً بأنّ (أصولها المتصلة باللّحم من جملة اجزائها، وإنّما تستکمل استحالتها إلی أحد المذکورات بعد تجاوزها عنه)(1).

أقول: استشکل علیه موضوعا وحکما:

فأمّا الأوّل: کما فی «الجواهر» بقوله: «مع امکان منعه أوّلاً أی المنع من کونه من أجزاء المیتة بالنسبة إلی الاصول المتصلة».

وفیه: هذه الدعوی غیر بعیدة بالنسبة إلی ما لا یصدق علیه الشعر، ویقال لهذا


1- «النهایة» للشیخ، ص 585.

ص:71

الأصل بالفارسیة (پیازک)، وإلاّ یشمله اطلاق لفظ الشعر ونحوه الوارد فی الحدیث، ولذلک أورد علیه:

ثانیا: بعدم قادحیّة کونه جزءا بعد تسلیم صدق الشعر ونحوه حینئذٍ.

هذا ویرد علیه ثالثا: لو سلّمنا لزوم نجاسته، کانت فی خصوص الأصول لا مطلق الشعر.

وفیه: هذا غیر وارد، لأنّه قد فرض بصورة الجزّ فی مقابل القلع بلحاظ نجاسة أصله لا نجاسة کل الشعر، نعم هذا أی تطهیر الکلّ هو مختار المحقّق الخوانساری رحمه الله فی «شرح الدروس» حیث قال: «الأحوط غسل الجمیع فی المأخوذ قلعا لا موضع الاتصال خاصة، بل وکذا المأخوذ جزّا لاطلاق حسنة حریز(1) المتقدمة».

أقول: دعوی اطلاقه فی الحسنة بقوله: «فاغسله بنفسه» غیر بعید، إلاّ أنّه إذا انضمّ مع لسان بعض الأخبار من التصریح بأنّ کلّ نابت من المیّت لیس بمیّت کما فی خبر حسین بن زرارة، حیث قال: «وکلّ نابتٍ لا یکون میّتا»(2) یفهم أنّه لیس بنجسٍ ذاتا، فلابدّ أن یحمل لزوم الغسل إلی رفع النجاسة العارضة الخارجیة، وهو لا یکون الاّ فی موضع الاتصال، فیحمل اطلاق الأمر بالغسل علی هذه الصورة.

الحاصل من جمیع ما ذکرنا: أنّ الأصول لو صدق علیها الشعر ونحوه فلا یکون نجسا ذاتا قطعا، وإن لم یصدق علیها الشعر عرفا، وکان من قبیل أجزاء المیتة کاللّحم والعصب والشحم فهو نجسٌ وخارجٌ عن موضوع الحدیث الذی عدّ الأشیاء المذکورة من الطهارات.

وعلی فرض صدق تلک الأسماء علی الأصول، فإنّه یشملها اطلاق الروایة


1- وسائل الشیعة: الباب 33 من أبواب الاطعمة المحرمة، الحدیث 3.
2- نفس المصدر، الحدیث 4.

ص:72

حکما، وهذا هو الذی اعترض علیه صاحب «الجواهر» بقوله: إنّه اجتهاد فی مقابلة النصّ.

والذی یخطر بالبال أنّ الشیخ أراد الخدشة فی القلع فی خصوص الاصول باخراجها عن عنوان تلک الأشیاء، وادّعاه کونها من أجزاء المیتة التی تحلّها الحیاة فتکون نجسه ذاتا، فلابدّ من جزّها عن الأصول لتکون البقیة طاهرة بالذّات کما لا یخفی. وهذه الدعوی لیست أغرب ممّا ادّعاه صاحب «الجواهر» قدس سره .

وکیف کان الدعوی عندنا هی طهارة تلک الاصول کنفس الأشیاء إن صدق علیها اسمائها عرفا، والاّ فلا، أی لا یتطهر الاّ بالجزّ والنتف، ویجب تطهیر موضع الاتصال لأجل ملاقاته مع النجاسة بالرطوبة، واللّه العالم.

نعم، یقع الکلام فیما لو شک فی هذا الجسم اللطیف الأبیض، هل حلّ فیه الروح حتّی یکون میتة ونجسا ذاتا أم لا لیکون طاهرا ذاتا؟

ففی «مصباح الفقیه» قال: «ولا أقلّ من الشک فی حلول الروح فیه، فمقتضی الأصل طهارته» وهو کلام متین لو شک فی أصل حلوله فی وجوده، وأمّا لو کان وجوده من تبدّله من اللحم وغیره ممّا فیه الحیاة، فالأصل حینئذٍ هو بقاء الروح فیه لاستصحاب الحیاة السابقة، فاثبات الطهارة بالذات بالأصل أو بقاعدة الطهارة فی هذا الجزء من المیّت التی لا یعلم کیفیة حاله مع کون الأصل التذکیة، مشکلٌ جدا.

فروع أجزاء المیتة

الفرع الأوّل: قد عرفت شمول النصوص لعدّة أشیاء ممّا لا تحلّه الحیاة من الحکم بالطهارة، ولعلّ عددها یبلغ إلی عشرة بل أزید کما یظهر لک إن شاء اللّه تعالی، فلا بأس بذکر بعضها تفصیلاً، وملاحظة حاله من حیث الطهارة والنجاسة

ص:73

ذاتا أو عرضا:

فالأوّل: منها هو العظم، حیث قد ورد التصریح بحکمه فی الخبر الذی رواه الصدوق مرسلاً فی «الفقیه» و«الخصال» عن محمدبن أبی عمیر رفعه إلی الصادق علیه السلام قال: «عشره أشیاء من المیتة ذکّیة: القرن والحافر والعظم والسنّ، الحدیث»(1). فروع أجزاء المیتة

حیث انّه صریح فی طهارة هذه الأشیاء ذاتا وأنّها ذکّیه.

أقول: لکن قد ناقش بعض الفقهاء وحکم فیها بالاحتیاط، واستدلّ لذلک بالآیة واردة فی سورة یس وهی قوله تعالی: «مَنْ یُحْیِی الْعِظَامَ وَهِیَ رَمِیمٌ قُلْ یُحْیِیهَا الَّذِی أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ»(2) بل یمکن الاستیناس له بما جاء فی روایة أبی حمزة الثمالی فی مقام التعلیل بطهارة الأنفحة کما سیأتی بحثها بأنّها لیس لها عروق ولا فیها دم ولا لها عظم(3)، حیث عدّ العظم فیما یوجب حول الحیاة فی الشیء، لأنّه جعل نفیه متلوّاً لما لا تحلّ فیه الحیاة.

أقول: ولکن کلّ ذلک لا یوجب الحکم بالنجاسة:

أمّا الآیة: فإنّه یمکن أن یکون احیاء العظام کنایةً عن احیاء الشخص، لأنّ العظم هو الاساس فی بدن الانسان، فبعد صیرورته رمیما استبعد الکفار عودته فردّ علیهم اللّه تعالی بقوله: «قُلْ یُحْیِیهَا الَّذِی أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ».

وأمّا عن الحدیث: فلأنّه فی مقام بیان أنّ ما یوجب حلول الحیاة فی الحیوان الأمور الثلاثة المذکورة، وأمّا کون نفسه فیما تحلّه الحیاة فغیر معلوم، بل المعلوم عدمه بما عرفت وروده فی روایة الصدق بما لا تحلّ، کما ورد فی خبر الحسین بن


1- وسائل الشیعة: الباب 33 من أبواب الاطعمة المحرمة، الحدیث 9.
2- سورة یس، آیة 79_78.
3- وسائل الشیعة: الباب 33 من أبواب الاطعمة المحرمة، الحدیث 1.

ص:74

زرارة فی عداد الأشیاء الطاهرة بقوله: العظم والشعر والصوف والریش کلّ ذلک نابت لا یکون میّتا»(1)، وفی روایة زرارة فی حدیثٍ: «قلت: والصوف والشعر وعظام الفیل والجلد والبیض یخرج من الدجاجة؟ فقال: کلّ هذا لا بأس به»(2) فإنّ عظام الفیل یعدّ ممّا لا یؤکل لحمه، وبرغم ذلک جعلها ذکّیا ففی عظام المأکول یکون بطریق أولی، کما نفی البأس عن مسّ عظام الفیل فی روایة حسین بن زرارة فی قوله: «وقال: عظام الفیل تجعل شطرنجا؟ قال لا بأس بمسّها»(3) فلو کان میّتا لابدّ من تطهیر الید إذا کان مع الرطوبة کالعرق وغیره کما لا یخفی، فمع وجود ما ذکرناه لا یبقی مجالٌ لفتوی النجاسة کیف یمکن الذهاب إلی أو الاحتیاط بوجوب الاجتناب عنه، ولأجل ذلک ادّعی الاجماع علی طهارته ولا اشکال فیه.

الثانی من المذکورات الذی حکم بطهارته: البیض، وهو علی ضربین:

تارة: من المأکول، وأخری من غیره.

فأمّا الأوّل منهما: فقد ادّعی علی طهارته الاجماع کما فی «کشف اللّثام»، ونفی الخلاف کما فی «المدارک» وغیرها، بل فی «المنتهی» مقیّدا ذلک بالدجاج بخلاف الأولین حیث کان بصورة الاطلاق، ولذلک قال صاحب «الجواهر»: «قلت: وینبغی القطع بذلک إذا کان من مأکول اللحم» مضافا إلی أصالة الطهارة عند الشک، وأیضا دلالة الأخبار من العمومات وغیرها السالمة عن معارضة ما دلّ علی نجاسة المیتة، لعدم شموله قطعا، لعدم کونه ممّا تحلّه الحیاة، وکونه مذکّی لأنّه ممّا فیه منافع للناس کما ورد فی الحدیث الذی نشیر الیه.


1- وسائل الشیعة: الباب 33 من أبواب الاطعمة المحرمة، الحدیث 12.
2- المصدر السابق، الحدیث 10.
3- المصدر السابق، الحدیث 12.

ص:75

أقول: فضلاً عن کلّ ذلک وردت نصوص کثیرة فیها الصحاح وغیرها دالة علی طهارته:

منها: صحیحة الحلبی، عن الصادق علیه السلام حیث حکم فیها بطهارة صوف المیتة وعدم البأس فی الصلاة فیه، وعلّل ذلک بأنّه (لیس فیه روح)(1)، حیث یشمل لمثل البیض.

ومنها: روایة الحسین بن زرارة عنه علیه السلام ، قال «وسألته عن البیضة تخرج من بطن الدجاجة المیتة؟ قال، تأکلها»(2).

ومنها: خبر أبی حمزة الثمالی عن الباقر علیه السلام فی حدیث، قال: «وإنّما الأنفحة بمنزلة دجاجة میته أخرجت منها بیضة، فهل تأکل تلک البیضة؟ قال قتادة: لا ولا آمر بأکلها؟ قال أبو جعفر علیه السلام : ولِمَ؟ قال: لأنّها من المیتة. قال: فإن حضنت تلک البیضة فخرجت منها دجاجة أتأکلها؟ قال: نعم. قال: فما حرم علیک البیضة وحلّ لک الدجاجة؟! ثمّ قال فکذلک الأنفحة مثل البیضة، الحدیث»(3).

وهذا التعلیل عام یشمل المأکول وغیره، لو لا المنع عن أکل أصل البیضة فی غیر المأکول، وإن کان مورد الحدیث بیضة الدجاجة، وطهارتها، لکن الخبر والتعلیل المذکور فیه یشمل لکلّ بیضةٍ من المأکول وکذلک غیره، هذا اذا لم نتمسک بالاجماع المرکب وعدم القول بالفصل کما أشار الیه صاحب «الجواهر»، مضافا إلی وجود نصوص دالّة علی طهارة البیض بصورة المطلق:

منها: حسنة حریز، قال: «قال أبو عبداللّه علیه السلام لزرارة ومحمد بن مسلم: اللّبن


1- وسائل الشیعة: الباب 68 من أبواب النجاسة، الحدیث 1.
2- وسائل الشیعة: الباب 33 من أبواب الاطعمة المحرمة، الحدیث 12.
3- المصدر السابق، الحدیث 1.

ص:76

واللّباء والبیضة... إلی أن قال فهو ذکّی»(1).

ومنها: خبر یونس عنهم علیهم السلام : «خمسة أشیاء ذکیّة ممّا فیه منافع الخلق: الأنفحة والبیض، الحدیث»(2).

ومنها: خبر محمد بن زرارة، قال: «کنت عند أبی عبداللّه علیه السلام وأبی سأله عن السن من المیتة واللبن من المیتة والبیض من المیتة وانفحة المیتة؟ فقال: کلّ هذا ذکّی»(3).

ومنها: مرسل الصدوق فی «الفقیه» ومسنده فی «الخصال» إلی ابن أبی عیمر رفعه إلی أبی عبداللّه علیه السلام ، قال: «عشرة أشیاء من المیتة ذکیّة: القرن إلی أن قال والبیض»(4).

فتخصیص الطهارة بخصوص المأکول _ کما یظهر من العلاّمة فی «المنتهی» و«النهایة» _ لا یکون له وجها ودلیلاً کما فی «الجواهر».

قلنا: یمکن أن یکون وجهه هو دعوی انصراف اطلاق الأخبار إلی المأکول، لأنّه هو المتعارف فی البیض أوّلاً. أو دعوی التقیید فی تلک المطلقات بما ورد فی خصوص بیض الدجاجة ثانیا.

أقول: ولکن یمکن أن یجاب عنهما:

أولاً: بأنّه غیر وجیه لوحدة السیاق مع أمور أخر مذکورة فی الروایة من القرن والحافر والسّن وغیرهما بأنّها ذکیة، ولو من غیر المأکول، مع أنّها لیست من المأکولات حتّی یوجب ألاّ ینصرف الاطلاق إلی خصوص المأکول.


1- وسائل الشیعة: الباب 33 من أبواب الاطعمة المحرمة، الحدیث 3.
2- المصدر السابق، الحدیث 2.
3- المصدر السابق، الحدیث 4.
4- المصدر السابق، الحدیث، 9.

ص:77

وثانیا: صحّ التقید لو کان الدلیل منحصرا فی الاطلاق والتقیید، لکن الأمر لیس کذلک لوجود التعلیل فی المأکول بما یجری فی غیر مورده، وهو کونه ممّا لا تحلّ فیه الحیاة، فکلّ ما یکون کذلک هو ذکی، أی طاهرٌ سواءٌ کان مأکولاً أو غیره، لأنّه یعدّ شیئا مستقلاً عن المیتة، کما هو کذلک عند العرف.

هذا کلّه مضافا إلی أن الأصل یقتضی طهارته.

نعم الذی ینبغی أن یعلم هو أنّ الطهارة المدّعاة هی الطهارة الذاتیّة فی قبالها النجاسة الذاتیّة بالموت، لا الطهارة مطلقا حتی بالعَرَض بواسطة الملاقاة مع المیتة بالرطوبة، فإنّه ینجس ولابدّ من تطهیره لقاعدة التنجیس الموجودة فی کلّ الأشیاء. بل یمکن استفادة ذلک بالفحوی ممّا ورد فی حسنة حریز وغیره من الحکم بالغسل فی الشعر والصوف إن أخذا من المیتة، مع أنّ ملاقاة البیض مع الرطوبة هنا أشدّ احتمالاً من الشعر والصوف، فاطلاقات الأخبار فی ذلک لا یوجب الحکم بالطهارة عرضا، بل المنصرف الیه کان بالنظر إلی الطهارة الذاتیة.

وعلیه، فما صدر عن العلاّمة وبعض من تأخّر عنه کصاحب «المعالم» من القول بالطهارة مطلقا ذاتا وعرضا، ممّا لا یمکن المساعدة معه، بل احتمل صاحب «الحدائق» رجوع الضمیر فی روایة حریز: «إنْ أخذته بعد موته فاغسله» الی جمیع ما سبق ذکره ممّا یمکن أن یُغسل، فیشمل الحدیث البیض بالمنطوق أیضا بخلاف اللبن واللّباء، حیث إنّهما غیر قابلان لذلک.

وعلیه فکلامه متین، لکن مع الغضّ عمّا ورد فی ذیله بقوله: «وصلّ فیه» إذ هی قرینة علی أنّ المراد ممّا یجب غسله هو ممّا یمکن أن یصلّی فیه، هذا.

ولکن الانصاف أنّه لا یوجب تخصیص الغَسل بخصوص ما یمکن أن یُصلّی فیه، کما أنّ عدم قابلیة بعض ما سبق لذکره لتطهیر لا یوجب تخصیص شمول ما یمکن من البیض وغیره.

ص:78

وکیف کان، فالدلیل علی وجوب الغسل موجود، ولا نحتاج لاثباته من التمسّک بخصوص هذا الحدیث کما لا یخفی وما ذکرناه ممّا لا بحث فیه ولا خلاف.

الفرع الثانی: والذی ینبغی أن یتکلّم عنه هو أنّه بعد ما ثبت طهارة البیض ذاتا، فهل هو طاهر إذا کان له القشر الأعلی الصلب دون غیره إذا خرج بدونه الذی یُسمّی فی عرفنا بالنمرش کما فی «الجواهر»، أو أنّه طاهرا مطلقا کما أطلقت الأخبار ذلک وفیها الصحاح واختلفوا فی التعبیر بالغلیظ أو الأعلی أو الصلب لکن مراد الجمیع واحد؟

نعم قد ورد فی حدیثٍ واحدٍ ضعیف سنده قید الغلیظ، وهو الخبر المرویّ عن غیاث بن ابراهیم عن أبی عبداللّه علیه السلام : «فی بیضةٍ خرجت من است دجاجة میتة؟ قال: إن کان اکتسبت البیضة الجلد الغلیظ فلا بأس بها»(1).

بل قد یقال بالضعف فی دلالته لأعمّیة ثبوت البأس من النجاسة، مع أنّ ما من شأنه السؤال عنه هنا لیس الاّ من جهة طهارته ذاتا من حیث الأکل، فأجاب عنه أنّه یجوز فی هذه الصورة، ولأجل ذلک تمسّک الفقهاء بها وأفتوا بذلک حتّی بلغ إلی حدّ الشهرة بل الاجماع لعدم وجود المخالف فی ذلک، إلاّ عن قلیل کصاحب «المدارک» و«المعالم» من الحکم بالطهارة حتّی مع القشر الرقیق، خصوصا إذا أرادا من الاطلاق الطهارة حتّی مع عدم القشر، فلا یمکن القبول منهما، لأنّه یمکن دعوی الانصراف فی تلک الاطلاقات فی خصوص ما کان له القشر الغلیظ، لأنّه المتعارف لا مطلقا، بل قد یُشکّ فی شمول اسم البیض إذا لم یکن له قشرٌ أصلاً.

أقول: الانصاف أنّه لو لا الاجماع والشهرة علی ذلک لأمکن المناقشة فی الحکم بالنجاسة حال اکتسائه بالقشر الرقیق، لأنّ نجاسته حینئذٍ عرضّیة قابلة للطهارة لا ذاتیة، لعدم شمول أدلّة المیتة له حینئذٍ، إذ القشر الرقیق أیضا مانع عن


1- وسائل الشیعة: الباب 33 من أبواب الاطعمة المحرمة، الحدیث 6.

ص:79

سرایة النجاسة من المیتة الیه.

اللّهم إلاّ أن یقال: حیث إنّ الشارع قد حکم بالطهارة فی الجلد الغلیظ، یستفاد منه أنّ الشارع اعلم من غیره بصلاحیته للمانعیة وعدمها، خصوصا فی بطن الدجاجة، فالأقوی عندنا هو ما علیه المشهور المنصور.

الفرع الثالث: عن الثالث من المذکورات المحکومة بالطهارة: هو الأنفحة، وهی بکسر الهمزة وفتح الفاء وتخفیف الحاء وتشدیدها،

ولم یعرف «الخلاف» من أحدٍ فی طهارتها کما اعترف به بعضهم، بل فی «المنتهی» إنّه قول علمائنا، وفی «المدارک» إنّه مقطوع، به فی کلام الأصحاب، وفی «کشف اللّثام» کما عن «الغنیة» دعوی الاجماع صریحا وهو الدلیل أوّلاً اذ لم یتحقق ذلک الاّ بواسطة النصوص الکثیرة «المعتبر»ة المتسفیضة علی ذلک، الشاملة لها بالتعلیل والعموم، مضافا إلی ذکرها بالخصوص، کما هو مقتضی الأصل عند الشک فی طهارتها من القاعدة وغیرها. وعلیه فلا بأس بذکر الأخبار المشتملة بالخصوص ولو اجمالاً:

منها: خبر محمد بن زرارة، عن الصادق علیه السلام : «سأله أبی عن الأنفحة فی بطن العناق والجدی وهو میّت؟ فقال: لا بأس به»(1).

ومنها: خبره الآخر عنه علیه السلام أیضا بعد أن سأله عن أنفحة المیتة وغیرها، فقال: «کلّ هذا ذکّی»(2).

ومنها: خبر زرارة عن الصادق علیه السلام ، قال: «سألته عن الأنفحة تخرج من الجدی المیّت؟ قال: لا بأس به»(3).


1- وسائل الشیعة: الباب 33 من أبواب الاطعمة المحرمة، الحدیث 12.
2- المصدر السابق، الحدیث 4.
3- المصدر السابق، الحدیث 10.

ص:80

ومنها: خبر یونس عنهم علیهم السلام : «قالوا خمسة أشیاء ذکیة بما فیه منافع الخلق: الأنفحة الحدیث»(1).

ومنها: مرسل الصدوق فی «الفقیه» ومسنده فی «الخصال» إلی ابن أبیعمیر رفعه إلی أبی عبداللّه علیه السلام ، قال: «عشرة أشیاء من المیتة ذکیّة وعدّ منها الأنفحة»(2).

هذا خصوصا مع وجود التعلیل لطهارتها فی خبر أبی حمزة الثمالی عن أبی جعفر علیه السلام فی حدیثٍ فقال: «إنّه ربّما جعلت فیه أنفحه المیّت؟ فقال: لیس به بأس إنّ الأنفحة لیس فیها عروق ولا فیها دم ولا لها عظم، إنّما تخرج من فرث ودم، وإنّما الأنفحة بمنزلة دجاجة میتة أخرجت منها بیضة، الحدیث»(3).

فمع وجود هذه الأخبار الدالّة علی طهارتها، لا یبقی للفقیه فیها شک ولا شبهة، ولا ینبغی البحث فیها.

نعم، والذی ینبغی أن یتکلّم فیه هو عن تفسیرها وأنّ الأنفحة هی اسمٌ للظرف أو للمظروف، فلا بأس بذکر ما صدر عن اللّغویین فی هذا الخصوص وهو علی ضربین:

1_ جماعة علی کونها اسم للمظروف، وهو کما عن «القاموس» و«التهذیب» و«المُغرِب» لأنّهم فسّروا بأنّها (شیءٌ صغیر یستخرج من بطن الجَدی الرضیع، فیعصر فی صوفه مبتّلةً فیغلظ کالجبن) ولعلّ الیه یرجع ما فی «القواعد» و«النهایة» و«کشف الالتباس» من أنّها لبن مستحیلٌ فی جوف السخلة، بل فی «کشف اللّثام» ذلک هو المعروف، بل هو الأقوی عند الآملی صاحب «مصباح الهدی»، کما یؤیّده ما جاء فی خبر الثمالی واختاره الخوانساری فی شرح «الدروس» معلّلاً له: «بأنّه یظهر من الروایات أنّ الأنفحة شیءٌ یُصنع به الجُبنّ وهو


1- المصدر السابق، الحدیث 2.
2- المصدر السابق، الحدیث 9.
3- وسائل الشیعة: الباب 33 من أبواب الاطعمة المحرمة، الحدیث 1.

ص:81

کذلک، وهو الذی یقال له فی الفارسیة «مایه پنیر» لأنّ الظاهر أنّ الجبنّ إنّما یعمل من الشیء الذی فی جوف السخلة مثل اللّبن لامن کرشها الذی هو للحیوان بمنزلة المعدة للانسان.»

2_ وجماعة أخری عدّوها إسما للظرف والوعاء، غایة الأمر یطلق اسم الأنفحة علیه قبل أن یأکل، أی فی حال رضاع الجَدْی، وفهو اسم لما بعد الرعی الکرش بالعلف، فیصیر حینئذٍ کالمعدة للانسان، کما یؤیّد ذلک ما فی «مجمع البحرین» حیث قال: «الأنفحة هی کرش الحمل والجَدْی ما لم یأکل، فإذا أکل فهو کرش حکاه الجوهری عن أبی زید.»

بل قد یظهر من صاحب «الجواهر» و«مصباح الفقیة» أنّها اسمٌ للمتحدّ منهما، أی یطلق الأنفحة علی الکرش قبل الرعی والکرش بعد الأکل والرعی، فالأنفحة اسمٌ للظرف المظروف معا.

وکیف کان، فلا اشکال فی طهارة المظروف سواءٌ قلنا بطهارة ظرفه معه أم لا، فما فی «الذکری»: «والأنفحة طاهرة من المیّتة والمذبوحة وإنْ اکلت السخلة» لیس علی ما ینبغی، الاّ أن یرید قبل الأکل الذی یعتدّ به، لوضوح أنّها بعد بلوغه إلی الأکل لا یکون إلاّ کرشا وهو غیر ذکی، لأنّه یصیر ممّا تحلّه الحیاة.

وعلیه، فطهارة المظروف مورد وفاق الطرفین، کما صرّح به صاحب «المدارک»، وإن أورد علیه صاحب «الجواهر» بقوله: «أینَ موضع وفاق مع تقابل التفسیرین؟!» فأجاب عنه صاحب «مصباح الفقیه» بما قلنا.

هذا، فضلاً عن انّه لا یکون مورد وفاق بالقدر المتیقن، بل قد یقال إنّه علی کلّ حالٍ طاهرٌ من لأنّها اسمٌ للمظروف، فهو طاهر دون ظرفه، أو أنّها اسمٌ للظرف أی المجموع لا بما هو ظرف، فیکون قسیما للمظروف لا القدر المتیقن، وعلی کلّ حال لا ثمرة فی تطویل هذا البحث بعد وضوح المراد.

ص:82

نعم، المراد من طهارتها طهارتها ذاتا لا بالعرض من جهة ملاقاتها مع النجاسة بالرطوبة، فیجب غسلها وفاقا لصاحب «الجواهر» والشهید فی المحکی عن بعض فوائده، وربّما یفیده ما قال العلاّمة فی «المنتهی» فی البیض خلافا لصاحب «المدارک» من تأخّر عنه لاطلاق الأدلة، وعدم تعرّض الأکثر لذلک، والحال أنّهم نصّوا علی ذلک فی الصوف المقلوع.

ولکن یجاب عنه: بأنّ المقصود من الطهارة فی الاطلاقات هو الطهارة الذاتیة الّتی یعبّر عنها بالذکیة، کما ورد التصریح بها فی الأخبار، الطهارة بالعرض حیث إنّه داخل تحت عموم قاعدة «لزوم غَسل کلّ ما ینجس بالملاقات مع الرطوبة بالمیتة» ومنه المقام، مضافا إلی ما عرفت ممّا احتمله صاحب «الحدائق» من حسنة حریز من الحکم بالغسل أن یرجع إلی جمیع ما یمکن فیه ذلک، الشامل للأنفحة بقوله: «کلّ ما ینفصل من الشاة والدابة فهو ذکی» وإن لم یذکر اسم الأنفحة بالخصوص، ولعلّ المراد من دعوی الاجماع والأخبار علی استثناء الأنفحة فی الطهارة فی «مجمع البرهان» الطهارة الذاتیة، کما یشعر ذلک استدلاله علی طهارة اللّبن، لا العرضیة والاّ فاثباته مشکل جدّا.

لا یقال: إنّها مایع فی جوف السخلة فکیف یمکن غسلها.

لأنا نقول: یصح علی کونها إسما للمظروف لا للظرف أولاً، وثانیا امکان أن یکون فی أوّله مایعا ثم یصیر بالاستحالة أو غیرها غلیظا علی نحو یمکن تطهیره، ولذلک یطلق علیه بالفارسیة اسم (مایه پنیر) حیث یفهم أنّه له غلظة خاصة قابلة للغسل.

نعم، لو کان کاللّبن رقیقا فلا معنی حینئذٍ للحکم بوجوب غسله کما لا یخفی. وعلیه فلابدّ من استثنائها عن قاعدة التنجیس، مع أنّه یحتمل کونها ذات جلدین بالغلظة والرّقة، فتکون الأنفحة إسما للظرف الرقیق والمظروف وطاهرٌ ولا یحتاج إلی الغسل لکونها داخلة تحت الجلد الغلیظ فلا یحتاج حینئذٍ إلی استثناء قاعدة

ص:83

التنجیس بالملاقاة، لأن ما یتنجّس هو الجلد الغلیظ نظیر البیض، حیث یکون ذا جلدین، کما یظهر ذلک بعد الطبخ قبل الکسر فی حال رقته، واللّه العالم.

الفرع الرابع: عن الرابع من المذکورات: هو اللّبن، وقد وقع «الخلاف» فی طهارته خلافا شدیدا بین الاعلام، فکثیرٌ منهم من المتقدمین والمتأخرین ذهبوا إلی طهارته، کالشیخ والکلینی وابنی زُهرة وحمزة، وصاحب «کشف الرموز» و«کشف اللّثام» و«الدروس» و«المنظومة» و«المقنع»، والمفید، وصاحب «الجواهر» و«مصباح الفقیه» و«مصباح الهدی» و«الحدائق» والانصاری وصاحب «العروة»، وکثیر من أصحاب التعلیق. بل فی «کشف اللّثام» أنّه المحکی عن الأکثر وعن الأشهر کما عن «الکفایة» وأکثر المتقدمین وجمع من المتأخرین عن «المسالک» والصدوق والشیخ، وکثیر من الأصحاب عن «الذخیرة»، وفی «البیان» أنّه قول مشهور، بل عن «الدروس» إنّ القائل بخبر المنع نادر.

ودلیلهم: _ مضافا إلی الأصل، والعمومات السالمة عن معارضة ما دلّ علی نجاسة المیتة الاّ بقاعدة نجاسة الملاقی مع الرطوبة، التی یجب الخروج عنها باجماع «الخلاف» علی طهارة ما فی ضرع الشاة المیتة من اللبن، واجماع «الغنیة» علی جواز الانتفاع بلبن میتة ما یقع الذکاة علیه _ هو الأخبار الکثیرة «المعتبر»ة المستفیضة الصریحة علی أنّ اللبن من المیتة ذکی:

منها: صحیح زرارة، قلت:«اللّبن یکون فی ضرع الشاة وقد ماتت؟ قال: لا بأس به»(1).

ومنها: حسنة حریز قال الصادق علیه السلام لزرارة ومحمد بن مسلم بعد سؤالهما عن اللّبن واللّباء: «کلّ هذا ذکی».

ومنها: الاستدلال مرسل الصدوق ومسنده(2).


1- وسائل الشیعة: الباب 33 من أبواب الاطعمة المحرمة، الحدیث 10.
2- المصدر السابق، الحدیث 9.

ص:84

ومنها: بفحوی ما دلّ علی طهارة الأنفحة بناءا تفسیرها بالمظروف، وسیّما التعلیل الوارد فی خبر أبی حمزة الثمالی(1)، والتعلیل الوارد فی صحیحة الحلبی بأنّ «کلّ ما لیس فیه روح فهو ذکی».

وفی قبال هذه الطائفة جماعة أخری قالوا بالنجاسة وهم ابن ادریس والعلاّمة فی کتبه، والمحقّق الثانی، وسلاّر وصاحب «شرح المفاتیح» والمصنّف، والفضال المقداد، والعلاّمة البروجردی قائلٌ بالاحتیاط وجوبا، وبعض أصحاب التعلیق علی «العروة»، بل فی «المنتهی» و«جامع المقاصد»: «أنّه المشهور، بل وفی «السرائر»: «إنّه نجسٌ بغیر خلاف عند المحصّلین من أصحابنا، لأنّه مایع فی میتة ملامس لها؛ وما أورده شیخنا فی نهایته روایة شاذة مخالفة لأصول المذهب، لا یعضدها کتاب ولا سنة مقطوع بها ولا اجماع».

أقول: وعمدة الدلیل لهذا القول هو عموم قاعدة تنجّس الملاقی مع النجس بالرطوبة، والاّ فإنّ غیرها من الاجماع المدّعی فهو هنا ممّا لا یمکن الاعتماد علیه فی الطرفین لکثرة الاختلاف والخلاف کما لا یمکن لهؤلاء الاعتماد فی حکمهم بالنجاسة علی خبر وهب بن وهب، عن جعفر، عن أبیه علیهماالسلام : «أنّ علیّا علیه السلام سُئل عن شاة ماتت فحلب منها لبن؟ فقال: ذلک الحرام محضا»(2) لضفعه سندا ودلالةً: أمّا الأوّل: للطعن فی وهب بانّه عامی کذّاب، بل هو من أکذب البریّة کما فی کتاب «اختیار معرفة الرجال»(3)، بل عن ابن الغضائری زیادة: «إنّ له عن جعفر بن محمد علیهماالسلام أحادیث کلّها لا یوافق بها»، وفی «الجواهر» بعده قال: «قلت: وهذا منها»، سیّما مع موافقته لمذهب العامة وهو الشافعی، أقول: بل نحن


1- المصدر السابق، الحدیث 1.
2- وسائل الشیعة: الباب 33 من أبواب الاطعمة المحرمة، الحدیث 11.
3- اختیار معرفة الرجال، ص 309 و 558.

ص:85

نزید الاشکال علی دلالته بأنّ الخبر ربّما لا یکون معارضا مع القول بالطهارة، باحتمال أن یکون اللبن حین الحلب یوجب تلاقیه مع المتیة فینجس، بخلاف اللّبن فی الضرع قبل الحلب، فإنّه طاهر کما یؤمی الیه ما فی خبر زرارة بأنّ ما فی ضرع الشاة التی ماتت لا بأس به، فبذلک نرفع التعارض بینهما.

واحتمال کون الحرمة هنا أعمّ من النجاسة، بعیدٌ لأنّ المرتکز فی السؤال هو شربه من حیث الطهارة والنجاسة دون غیرها.

وأیضا: لا یصحّ التمسک لحکم هؤلاء بمکاتبة الفتح بن یزید الجرجانی، عن أبی اسحاق، عن الحسن علیه السلام ، قال: «کتبت الیه أسأله عن جلود المیتة التی یوکل لحمها ذکیا؟ فکتب: لا ینتفع من المیتة بإهابٍ ولا عصبٍ، وکلّ ما کان من السخال الصوف إن جزّ والشعر والوبر والأنفحة والقرن ولا یتعدّی إلی غیرها إن شاء اللّه»(1).

لضعف سنده، لمجهولیة فتح بن یزید الجرجانی کما فی «جامع الرواة» أوّلاً، والاضطراب فی متنه تانیا، کما عن «الوافی» بانّه وجد هذا الحدیث فی نسخ الکافی والتهذیب والاستبصار وکأنّه سقط منه شیء، وفی «الجواهر»: قال: «قلت: ولعلّه لخذف الخبر».

قلنا: أراد أن حکمة (ذکیّ) قد سقطت منه، کما لا یبعد السقط عن مثل المکاتبات.

أمّا الاستدلال بذیله بقوله: «ولا یتعدّی إلی غیرها» فإنّه مضافا إلی النقض بمثل العظم والریش والسن الطاهرة قطعا مع أنّها غیر مذکورة فیه، یمکن أن یراد من غیرها هو ممّا تحلّ فیه الحیاة لا ما لا تحلّ کما هو المراد هنا.

وثالثا: علی فرض القبول یمکن تخصیصه بمثل اللّبن وغیره.


1- وسائل الشیعة: الباب 33 من أبواب الاطعمة المحرمة، الحدیث 7.

ص:86

وبالجملة: رفع الید عن مثل تلک الأخبار الصحیحة الکثیرة المعتضدة بالشهرة بمثل هذین الخبرین مع ما عرفت فیهما من الضعف، لا یخلو وهن.

وأخیرا: بقی البحث عن القاعدة المعروفة المعتضدة بالشهرة الالة علی نجاسة ما یلاقی النجس مع الرطوبة، فتخصیص القاعدة هنا _ کتخصیصها فی ماء الاستنجاء حیث یکون طاهرا برغم قلته وملاقاته مع النجس _ غیر بعید، لأنّ القاعدة لیست من القواعد التی لا یمکن تخصیصها عقلاً، بل قاعدة حکمیة تعبدیّة، فیجوز تخصیصها بواسطة الأخبار الصحیحة المعتبرة.

بل نحن نزید علی ما قالوا من الوجوه فی تأیید الطهارة: بأنّ وجه طهارة اللّبن فی ضرع الشاة المیتة، هی أنّ خروجها عن القاعدة یکون بالتخصیص لا التخصیص، بأن یحتمل کون اللّبن محصورا فی جلدٍ مخصوص رقیق غیر ما هو الظاهر المشتمل علی الحیاة، ولعلّه إلی ذلک یشیر قید (اللّبن فی ضرع الشاة) حتی یصحّ أخذ الجلد الظاهری منه المشتمل علی الدم فیخلّصه عن جلده الرقیق المشتمل علی اللبن الذی لا دم فیه ولا عظم، نظیر جلد الأنفحة، فنجاسة ظاهر هذا الجلد الرقیق بالملاقاة مع المتیة قابلة للتطهیر کما فی الأنفحة. والجلد الرقیق فی الباطن المتصل مع اللبن طاهر ذاتا وعرضا فیجوز شرب اللّبن حینئذٍ، إذ لم یتنجس مع الملاقاة، ولأجل ذلک قلنا بنجاسة اللبن المحلوب من المیتة لأنّه بالحلب یلاقی النجس فینجس.

وبهذا البیان نجمع بین القولین ویرتفع النزاع من البین، هذا بناءً علی قبول کون اللّبن فی الضرع ذا جلدین، والاّ إن ثبت خلافه ولاقی نجسا لو لم نفت بالتنجس، فلا أقلّ من الاحتیاط، وإن کان احتمال الطهارة فیه لا یخلو عن وجاهة.

ص:87

الاّ أن یکون عینه نجسة کالکلب والخنزیر، والکافر علی الأظهر (1)

أقول: ثمّ إن قلنا بطهارته فلابدّ من الاقتصار علی خصوص اللّبن من المأکول اللحم لأنّه القدر المتیقن من الأدلة والاجماع والشهرة، وکونه المتبادر فی ذهن السائلین الذین یسألون عن حکم شربه، فما لا یکون مأکولاً لا داعی عن السؤال عنه فی خصوص نجاسته عن الاحتراز عنه للصلاة ونحوهما کلبن المرأة المیتة ونحوها، وإن ورد ذکر اللبن فی خبر ابن زرارة بصورة الاطلاق، ولکن إذا اعتبرنا المأکول فی البیضة _ کما علیه المصنّف وتردد صاحب «المعالم» فی الأنفحة _ ففی مثل اللبن یکون الحکم مختصا بالمأکول بطریق أولی، فاحتمال الاطلاق فی ذلک _ کما احتمله صاحب «الجواهر» وان عدل عنه بعده _ ممّا لا یمکن المساعدة معه، فالأقوی عندنا هو الاختصاص بخصوص المأکول، والاحتیاط وجوبا الاجتناب عنه علی فرض کون الخروج بالفرض الثانی لا الأوّل، والاّ لا اشکال فی طهارته، واللّه العالم.

(1) إنّ استثناء ما لا تحلّه الحیاة من المیتة فی النجاسة حکم عامٌ یشمل جمیع أفراد الحیوان من المأکول وغیر المأکول، أی شیء ممّا لا تحلّه الحیاة یکون مندرجا تحت هذا الحکم، الاّ إذا کان من نجس العین کالثلاثة المذکورة، فإنّها نجسة بجمیع أجزائها ممّا تحلّ فیه الحیاة وما لا تحلّ، متصلة کانت بالجسم أو منفصلة، حیّا کان أو میّتا. وهذا الحکم مشهورٌ شهرة کادت أن تکون اجماعا، بل هی کذلک إذ لا خلاف عندنا عن أحدٍ الاّ المرتضی فی «الناصریات» وصاحب «المدارک»، فالأوّل فی شعر الکلب والخنزیر بل فی مطلق ما لا تحلّه الحیاة، والثانی فی خصوص ما لا تحلّه الحیاة من الکافر فقط، ومخالفتهما لا یقدح بأصل الاجماع منقولاً فضلاً عن المحصّل.

ص:88

قال المرتضی فی «الناصریات» _: «علی ما حکاه صاحب «الحدائق» _ فإنّه بعد أن نقل کلام جدّه الناصر الکبیر فی الکتاب المذکور (إنّ شعر المیتة طاهر) قال السیّد: «وکذا شعر الکلب والخنزیر» ثم قال ما صورته: «هذا صحیح، وهو مذهب أصحابنا، وهو مذهب أبی حنیفة وأصحابه، وقال الشافعی إنّ ذلک کلّه نجس. دلیلنا علی صحّة ما ذهبنا الیه بعد الاجماع المتکرر، قوله تعالی: «وَمِنْ أَصْوَافِهَا» إلی أن قال: «وأیضا فإنّ الشعر والصوف والقرن لا حیاة فیه، لم یحلّه الموت، ولیس لهم أن یتعلّقوا بقوله تعالی «حُرِّمَتْ عَلَیْکُمُ الْمَیْتَةُ»، فإنّ اسم المیتة یتناول الجملة بسائر أجزئها، وذلک أنّ المیتة اسم لما یحلّه الموت، والشعر لا یحلّه الموت، کما لا تحلّه الحیاة ویخرج عن الظاهر. ولیس لأحدٍ أن یقول إنّ الشعر والصوف من جملة الخنزیر والکلب، وهما نجسان وذلک أنّه لا یکون من جملة الحیّ إلاّ ما تحلّه الحیاة، وما لا تحلّه الحیاة لیس من جملته، وإنْ کان متّصلاً به» انتهی مخلصّا علی ما فی «الحدائق»(1).

أقول: ولا یخفی ما فی کلامه من الاشکال:

أوّلاً: فی دعواه الاجماع، مع أنّ أحدا من الأصحاب والفقهاء لم یقل بذلک غیره وغیر صاحب «المدارک»، لا عمّن تقدّم منه ولا من تأخّر إلی زماننا هذا، وکون المراد من الاجماع هو الاجماع علی القاعدة من عدم نجاسة ما لا تحلّه الحیاة بالموت، کما بیّنه صاحب «مصباح الهدی»، بعیدٌ عن سیاق کلامه، حیث جعل المشار الیه فی هذا شعر الکلب والخنزیر لا الشعر باطلاقه حتّی یحمل علی القاعدة.

وثانیا: ضعف استدلاله من توهّم کون وجه نجاسة شعرهما بعد الموت من جهة کونه من أجزاء المیتة، حتّی یجاب ویقال بعد الموت إنّه لیس ممّا تحلّه الحیاة


1- الحدائق، ج 5، ص 208.

ص:89

حتی یطلق علیه المیتة، کما لا یکون من أجزاء الحیّ أیضا حتّی توجب الموت نجاسته بذلک، لأن أجزاء الحیّ لا تکون الاّ ما تحلّه الحیاة، مع أنّه مخالفٌ للعرف واللغة والشرع أوّلاً، لما نشاهد من صحّة اطلاق الجزء علی شعر الهرّة والفأرة فی النهی عنه فی الصلاة، فیقال: یجب الاجتناب عن أجزاء ما لا یؤکل لحمه، ولذلک عدّ الشارع فقد الشعر للأمة فیما لابدّ منه من العیوب فی باب البیع، کما صرّح بذلک فی الروایة التی رواها محمد بن مسلم، عن أبی جعفر، عن أبیه عن آبائه علیهم السلام عن النبی صلی الله علیه و آله أنّه قال: «کلّ ما کان فی أصل الخِلقه فزاد أو نقص فهو عیب»، وجعلوه دلیلاً علی العیب فی الأمة التی لیس علی عانتها أو رکبها شعر، وکذلک عدّ الشارع من جملة الجنایات الموجبة للدیة قطع شعر الانسان عدوانا، وغیر ذلک من الموارد المذکورة فی أبواب الفقه، حیث یظهر للفقیه کونه جزءا للحیوان الحیّ والیمّت.

وثانیا: معارض بما یأتی ممّا یدلّ علی خلاف ذلک من الروایات، وکون النجاسة لاطلاق الاسم علی المجموع والجملة.

وثانیا: قد استدلّ لمدعاه المذکور بالأخبار الدالّة علی عدم نجاسة شعر الخنزیر، الشامل للکلب أیضا بعدم القول بالفصل:

منها: صحیح زرارة، عن الصادق علیه السلام ، قال: «سألته عن الحبل یکون من شعر الخنزیر یستسقی به الماء من البئر، هل یتوضّأ من ذلک الماء؟ قال: لا بأس»(1).

ومنها: الخبر الموثق المرویّ عن الحسین بن زرارة، عنه علیه السلام ، قال: «قلت فشعر الخنزیر یُعمل حبلاً یستسقی به من البئر التی یشرب منها ویتوضّأ منها؟ قال: لا بأس به»(2).


1- وسائل الشیعة: الباب 14 من أبواب الماء المطلق، الحدیث 2.
2- المصدر السابق، الحدیث 3.

ص:90

وعلیه کان الأولی للمرتضی أن یتمسک لمدّعاه بهذین الخبرین، کما أشار الیه فی «الحدائق» لانّهما موهمان لطهارة شعر الخنزیر، ثمّ یلحق به الکلب بناءً علی عدم القائل بالفرق بینهما.

وجه الدلالة: هو اطلاق نفی البأس عن استعمال الحبل فی الاستقاء مع بُعد الانفکاک عن الملاقاة بالرطوبة سواءٌ الید أو الماء، فإنّه لذلک یکون مشعرا بطهارة شعر الخنزیر.

والجواب عنهما: بأنّ السؤال عن حکم شعر الخنزیر لیس إلاّ لأجل کون الارتکاز هو النجاسة، ولذلک أراد الراوی السؤال عن حکم الماء الواقع فیه الحبل من البئر الذی یُشرب ویتوضّأ منه، وإن کان الاستسقاء لأجل أمر غیر الوضوء والشرب مثل سقی الأرض والراوی، فأرادا السؤال عن حکم ماء البئر، هل ینجس بملاقاته مع شعر الخنزیر أم لا؟ فأجاب علیه السلام بنفی البأس، فیصیر ذلک دلیلاً للقائلین بعدم تنجّس ماء البئر لعدم کونه ماءً قلیلاً لإتّصاله بالمادّة. وعلیه یکون الخبران دلیلین علی النجاسة، فلا ینافی ذلک مع القول بنجاسة الید والثیاب والماء الموجود فی الدلو لو فرض ملاقاتها مع الماء والشعر غیر الجافین، وإلاّ لم یکن معارضا، فلعلّ حکم ذلک کان معلوما لهم، وشکّهم کان من جهة ماء البئر، فالتمسک بهما لذلک لا یخلو عن وهن.

هذا، فضلاً عن أنّهما معارضان مع الأخبار التی تدلّ علی خلاف ذلک:

منها: حدیث سلیمان الاسکاف، قال: «سألت أبا عبداللّه علیه السلام عن شعر الخنزیرُ یخرز به؟(1) قال: لا بأس به، ولکن یغسل یده إذا أراد أن یصلّی»(2).


1- أی یخاط به.
2- وسائل الشیعة: الباب 65 من أبواب الاطعمة المحرمة، الحدیث 3.

ص:91

ومنها: صحیحة الاسکاف، قال: «قلت لأبی عبداللّه علیه السلام : جُعلت فداک إنّا نعمل بشعر الخنزیر فربّما نسی الرجل فصلّی وفی یده شیءٌ منه؟ قال: لا ینبغی له أن یصلّی وفی یده شیءٌ منه. وقال: خذوه فاغسلوه، الحدیث»(1).

ومنها: روایة زرارة، عن الباقر علیه السلام ، قال: «قلت له: إنّ رجلاً من موالیک یعمل الحمائل بشعر الخنزیر؟ قال: إذا فرغ فلیغسل یده»(2).

بل وهکذا فی مسّ الکلب یجب أیضا غسل الید کشعر الخنزیر باعتبار أنّ المسّ غالبا یقع علی الشعر لا البدن، وقد وردت به روایة وهی روایة برد الاسکاف أیضا، قال: «سألت أبا عبداللّه علیه السلام عن شعر الخنزیر یعمل به؟ قال: خذ منه فاغله بالماء، إلی أن قال: فإن جمد فلا تعمل به، وإنْ لم یجمد لیس علیه دسمٌ فاعمل به، اغسل یدک إذا مسسة عند کلّ صلاةً. قلت: ووضوء؟ قال: لا اغسل یدک کما تمسّ الکلب»(3).

فإن هذه الأخبار تدلّ علی نجاسة شعرهما، فبتلک الأخبار نقید الاطلاقات الدالة علی طهارة الید والثیاب بالشعر إنْ قلنا بتحقق الاطلاق فیها، وإلاّ قد عرفت أنّ دلالتها مرتبطة بماء البئر، ولا اطلاق لها لیشمل الید والثیاب وأمثال ذلک، فمع وجود هذه الأخبار لا تصل النوبة إلی الأصل حتّی یؤخذ به.

هذا کلّه مضافا إلی أنّ اسم کلّ حیوانٍ بأنّه طاهر أو نجس یطلق علی الجملة والمجموع لا علی خصوص جزءٍ دون جزء آخر، فبذلک یظهر الجواب عن کلام صاحب «المدارک» حیث مال إلی طهارة شعر الکافر، لکن قد عرفت أنّه إذا کان بنفسه نجسا فإنّ جمیع أجزائه تکون نجسه بالضرورة.


1- المصدر السابق، الحدیث 2.
2- وسائل الشیعة: الباب 58 من أبواب مایکتسب، الحدیث 1.
3- المصدر السابق، الحدیث 4.

ص:92

ویجب الغُسل علی من مس میّتا من الناس قبل تطهیره وبعد بَرده(1)

(1) اختلف الأصحاب فی وجوب الغُسل (بالضم) علی من مسّ المیّت قبل التطهیر وبعد البرد:

ذهب إلی الوجوب کثیرٌ من الفقهاء، بل قد حکی الشیخ فی جنائز «الخلاف» وغیره الاجماع علیه، ولا یعتدّ بغیره فهو المشهور المنصور لو لا الاجماع.

وفی قباله ذهب السیّد المرتضی فی «الرسالة» و«المصباح» وظاهر «الجمل» الی استحبابه بل قد یظهر من بعض الفقهاء وجود موافق هنا له علی ذلک.

نعم، ربّما یظهر التوقف والتردد من «الوسیلة» و«المراسم»، لکنه ضعیف إذ استقرّ المذهب الآن علی خلافهم.

الدلیل علی الوجوب: وجود أخبار کثیرة مستفیضة متظافرة، بل متواترة، فیها الصحاح الدالة علی الوجوب، حتّی قد عمل بتلک الأخبار من لم یقل بحجیّة أخبار الآحاد:

منها: صحیحة محمد بن مسلم، عن أحدهما علیهماالسلام ، قال: «قلت الرجل یغمّض عین المیّت علیه غسل؟ قال: إذا مسّه بحرارته فلا، ولکن إذا امسّه بعد ما یبرد فلیغتسل. قلت: فالذی یغسله یغتسل؟ قال: نعم، الحدیث»(1).

ومنها: حسنة حریز أو صحیحه عن أبی عبداللّه علیه السلام ، قال: «من غسّل میّتا فلیغتسل، وإن مسّه مادام حارّا فلا غسل علیه، وإذا برد ثمّ مسّه فلیغتسل. قلت: فمن أدخله القبر؟ قال: لا غُسل علیه إنّما یمسّ الثیاب»(2).

ومنها: خبر عبدللّه بن سنان، عن أبی عبداللّه علیه السلام ، قال: «لیغتسل الذی غَسّل


1- وسائل الشیعة: الباب 1 من أبواب غسل المسّ ، الحدیث 1.
2- المصدر السابق، الحدیث 14.

ص:93

المیّت، وإن قبّل المیّت انسانٌ بعد موته وهو حارّ فلیس علیه غسل، ولکن إذا مسّه وقبّله وقد برد فعلیه الغُسل، ولا بأس أن یمسّه بعد الغُسل ویقبّله»(1).

ومنها: خبر اسماعیل بن جابر، قال: «دخلت علی أبی عبداللّه علیه السلام حین مات إبنه اسماعیل الأکبر، فجعل یقبّله وهو میّت. فقلت: جُعلت فداک ألیس لا ینبغی أن یُمسّ المیّت بعد ما یموت، ومن مسّه فعلیه الغُسل؟ فقال: أمّا بحرارته فلا بأس، إنّما ذاک إذا برد»(2). غُسل مسّ المیّت

ومنها: خبر عاصم بن حمید، قال: «سألته عن المیّت إذا مسّه الانسان أفیه غُسل؟ قال: فقال: إذا مسست جسده حین یبرد فاغتسل»(3).

ومنها: خبر معاویة بن عمّار، قال: قلت لأبی عبداللّه علیه السلام : الذی یُغسل المیّت أعلیه غسل؟ قال: نعم. قلت: فإذا مسّة وهو سخن؟ قال: لا غسل علیه، فإذا برد فعلیه الغُسل، الحدیث»(4).

ومنها: خبر علی بن جعفر فی کتابه عن أخیه موسی علیه السلام ، قال: «سألته عن رجل مسّ میّتا علیه الغسل؟ قال: قال: إن کان المیّت لم یبرد فلا غسل علیه، وإن کان قد برد فعلیه الغسل إذا مسّه(5).

وغیر ذلک من الأخبار التی تبلغ حدّ التواتر ویمکن استفادة حکم المشهور منها.

نعم، وفی قبال هذه الأحادیث هناک أخبار یستفاد منه خلافه وأنّه لیس بواجبٍ:

منها: ما ورد فی الصحیح عن محمد بن مسلم عن أحدهما علیهماالسلام ، قال: «الغسل


1- وسائل الشیعة، الباب 1 من أبواب غسل المسّ، الحدیث 15.
2- المصدر السابق، الحدیث 2.
3- المصدر السابق، الحدیث 3.
4- المصدر السابق، الحدیث 4.
5- المصدر السابق، الحدیث 18.

ص:94

فی سبعة عشر موطنا: إلی أن قال: وغسل الجنابة فریضة»(1).

ومنها: خبر زید بن علی، عن آبائه، عن علیّ علیه السلام ، قال: «الغُسل من سبعة: من الجنابة وهو واجب»(2).

ومنها: خبر سعد بن أبی خلف، قال: «سمعت أبا عبداللّه علیه السلام یقول: الغُسل فی أربعة عشر موطنا واحدٌ فریضة والباقی سُنة»(3).

ولکن یجاب عنها: إنّه لابدّ من أن یراد من الندب غیر ما هو المتعارف منه والمصطلح علیه، والاّ لزم استحباب ما علم وجوبه بالاجماع والنصّ، مثل غُسل الحیض والنفاس وغیرهما، ولذلک قال أن الشیخ قدس سره : «المراد أنّه لیس بفرضٍ مذکور بظاهر القرآن، وإن جاز ان تثبت بالنسة أغسال آخر مفترضة» وعلیه، فلا ینافی ذلک أن یکون غُسل المسّ فریضة بالسّنة المفروضة لا بظاهر القرآن، أو أرید من الندب الاستحباب، لکن المقصود استحبابه بذاته لا بالعرض، أی حتّی للصلاة المفروضة، ونحو ذلک.

أقول: ومنه یظهر الجواب عن أخبار أخری تفید الاستحباب لا الوجوب:

منها: الخبر الصحیح الذی رواه الحلبی عن الصادق علیه السلام ، قال: «إغتسل یوم الأضحی والفطر والجمعة، وإذا غسّلت میّتا الحدیث»(4).

ومنها: خبر محمد بن مسلم عن الرضا علیه السلام فی حدیثٍ: «ویوم عرفة، وإذا غسّلت میّتا أو کفّنته أو مسسته بعد ما یبرد، ویوم الجمعة، وغسل الجنابة فریضة، الحدیث»(5).


1- وسائل الشیعة: الباب من أبواب الجنابة، الحدیث 12.
2- المصدر السابق، الحدیث 13.
3- المصدر السابق، الحدیث 11.
4- وسائل الشیعة: الباب 1 من أبواب الأغسال المسنونة، الحدیث 9.
5- المصدر السابق، الحدیث 11.

ص:95

ومنها: الخبر الذی رواه الصدوق عن الباقر علیه السلام فی حدیثٍ: «ویوم عرفة، وإذا غسّلت میّتا وکفّنته أو مسسته بعد ما یبرد، ویوم الجمعة الحدیث»(1).

وغیر ذلک من الأخبار المشتملة علی عدّة أغسال مندوبة، وجعل عدّ الامام غُسل المسّ فی عدادها، فلابدّ من حملها علی ما یناسب الجمع، مع ما عرفت من دلالته علی الوجوب، أو یراد منه القدر المشترک بین الوجوب والندب من الرجحان، أو کونه لبیان مطلق المحبوبیّة کلُّ علی حسب حکمه.

وأیضا: ممّا یدلّ علی الندب مکاتبة الحمیری، وهو محمد بن عبداللّه بن جعفر الحمیری، حیث قد خرج الیه کتابٌ عن صاحب الزمان علیه السلام بعد ما کتب الیه: «روی لنا عن العالم علیه السلام أنّه سُئل عن امام قوم یصلّی بهم بعض صلاتهم، وحدثت علیه حادثة، کیف یعمل مَن خلفه؟ فقال: یؤخّر ویتقدم بعضهم ویتمّ صلاتهم، ویغتسل من مسّه. التوقیع: لیس علی من مسّه إلاّ غسل الید، وإذا لم تحدث حادثة تقطع الصلاة تمّم صلاته عن القوم»(2).

ولکن یجاب عنه: بامکان أن یکون المراد هو المسّ قبل البرد، کما یشهد بذلک وقوع الموت فی الحال، حیث یکون المیّت علی حرارته لم یبرد بعدُ، فلا یجب علیه علی من مسّه، بخلاف النجاسة حیث تتحقق بمجرد الموت، فتتنجّس أصابع الذی یمسّه مع الرطوبة مع العلم، وإلاّ یستحب أن یغتسل لدفع احتمال وجود الآفة فی المیّت و نضحه بالمسّ، کما ورد فی روایة «العلل» لابن سنان، عن الرضا علیه السلام ، قال: «وعلة اغتسال من غسّل المیّت أو مسّه الطهارة لما أصابه من نضح المیّت، لأنّ المیت إذا خرج منه الروح بقی أکثر آفته، فلذلک یتطهّر منه ویطهر»(3).


1- المصدر السابق، الحدیث 4.
2- وسائل الشیعة، الباب 3 من أبواب غسل المسّ، الحدیث 4.
3- وسائل الشیعة: الباب 1 من أبواب غسل المسّ، الحدیث 12.

ص:96

وأیضا: ممّا یدلّ علی الندب مکاتبتی الصیقل والحسن بن عبید، قال:

«کتبتُ إلی الصادق علیه السلام هل اغتسل أمیرالمؤمنین علیه السلام حین غَسّل رسول اللّه صلی الله علیه و آله عند موته؟ فأجابه: النبیّ صلی الله علیه و آله طاهرٌ مطهّر، ولکن فعل أمیرالمؤمنین وجَرت به السُّنة»(1).

بناءً علی أن المراد هو اتیان أمیرالمؤمنین غسل المسّ لکونه مندوبا وسُنّة هذا.

ولکن یمکن أن یجاب عنه أوّلاً: بامکان أن یکون المراد استحباب غسل المسّ لخصوص المعصومین من مسّ الطاهرین، أو لکلّ من کان طاهرا کالشهداء.

وثانیا: أراد من السنة الغسل الواجب بالسنة، لا ما یفرض من الکتاب.

وثالثا: یحتمل أن یکون مرجع الضمیر فی (به) هو غُسل المیّت لرسول اللّه صلی الله علیه و آله تأکیدا لما قاله ابتداءً بانّه طاهر مطهّر، أی لا یحتاج إلی الغُسل أیضا لکنّه أتی به لتحقّق السنة بین الناس، فحینئذٍ یخرج الحدیث عن مورد البحث، کما لا یخفی.

وأیضا: ممّا یدلّ علی الندب ما ورد فی «فقه الرضا» قال: «والغُسل ثلاثة وعشرون: من الجنابة والاحرام وغُسل المیّت وغسل الجمعة،... ثمّ قال: الفرض من تلک: غُسل الجنابة، والواجب غسل المیّت وغسل الاحرام والباقی سُنّة»(2).

ولکن یجاب أوّلاً: إنّ سند الروایة ضعیف، فلا یمکن جعلها دلیلاً فی قبال تلک الأخبار الصحیحة المتقنة، خصوصا لمخالفته مع عمل الأصحاب وشهرتهم، فهی بنفسها مستقطة للروایة عن الحجیة فی مثل الصحاح، فضلاً عن مثلها.

وثانیا: اشتمالها بما یکون مخالفا لفتوی الأصحاب من جعل غسل الاحرام واجبا.

وثالثا: اختصاص الوجوب بالجنابة، مع أنّه لا اشکال فی وجوب غُسل الحیض والنفاس وغیرهما من الأغسال.


1- المستدرک، ج 1، الباب 1 من أبواب الاغسال المسنونة، الحدیث 1.
2- المستدرک، ج 1، الباب 1 من أبواب الاغسال المسنونة، الحدیث، 1.

ص:97

وبالجملة: مثل هذه الأخبار لا تقدر علی المعارضة مع ما عرفت من النصوص المستفیضة المعتبرة الدالة علی الوجوب، فضلاً عمّا استدلوا للندب وردّ الوجوب من قولهم بأنّ غُسل المسّ لو کان واجبا لابدّ أن یکون إمّا لنفسه أو لغیره، والأوّل باطلٌ عند الخصم، والثانی لا دلالة فی شیء من النصوص علیه، بل فی المکاتبة السابقة ما یشعر بعدمه، لوضوح عدم تمامیته، لأنا نختار الشق الثانی ونمنع.

أوّلاً: عدم دلالة النصوص علی اشتراط شیء معه.

وثانیا: علی فرض قبول خلوّ الأخبار عن ذلک، نمنع عدم امکان ثبوته من دلیل آخر وهو الاجماع المحصّل، فضلاً عن وجود الاجماع المنقول فی الوجوب.

وأمّا المکاتبة: فقد عرفت جوابها من أنّ المسّ کان فی حال الحرارة، ویمکن حمل الأمر بالغَسْل علی الندب والاستحباب لاحتمال وصول نضح المیت الیه بالمسّ، مع أنّه لا صراحة فی المکاتبة علی جواز الصلاة للماسّ قبل الغسل مع وجوبه، أو علی استحباب الغُسل بالضمّ مع الحرارة أیضا.

ولکن قال صاحب «الجواهر»: «إنّی لم أقف علی مصرّح به من أحدٍ من الأصحاب)، ولعلنا لو وقفنا علی کلام المرتضی قدس سره لأمکن حمل قوله بعدم الوجوب علی مثل هذا الحال، أی المسّ مع الحرارة للاجماع بقسمیه علیه.

بل فی «المنتهی»: «أنّه مذهب علماء الامصار، بل قد عرفت دلالة النصوص الصحیحة الصریحة علی عدم وجوب الغُسل لمن مسّ قبل البرد.

بل ظاهر روایة ابن مسلم وصریحه بقوله: «وإذا مسّه بحرارة فلا»(1) من لزوم کون المسّ المستوجب للغُسل بعد برودته، کون البرودة الحاصلة لجمیع الجسد لا فی بعضه، لأن اطلاق البرودة علی المیّت بالحقیقة لا یکون إلاّ بعد سریانها لتمام البدن.


1- وسائل الشیعة: الباب 1 من أبواب غسل المسّ، الحدیث 1.

ص:98

کما أنّ مسّه المستوجب للغسل یکون قبل التطهیر والتغسیل، وأمّا بعده فلا یوجبه کما علیه الاجماع بقسمیة، بل فی «المنتهی» أنّه مذهب علماء الامصار، بل وکذلک دلالة النصوص:

منها: صحیح ابن مسلم عن الباقر علیه السلام ، قال: «مسّ المیّت عند موته وبعد غسله والقُبلة لیس بها بأس»(1).

ومنها: روایة عبداللّه ابن سنان، عن الصادق علیه السلام ، قال: لا بأس بأن یمسّه بعد الغُسل ویقبّله»(2).

وعلیه، فعدم وجوب الغُسل فی هذه الحالة ثابت لا خلاف فیه.

نعم، الذی ینبغی أن یلاحظ یُبحث عنه هو أنّه هل یتسحبّ الغُسل إذا مسّه بعد الغُسل أم لا؟

لم یصرّح أحد من الأصحاب بالندب إلاّ الشیخ فی استبصاره وتهذیبه، حیث حمل موثقه عمّار الساباطی عن الصادق علیه السلام ، قال: «یغتسل الذی غَسّل المیّت وکلّ من مسّ میّتا فعلیه الغُسل، وإن کان المیت قد غُسّل»(3) علی الاستحباب.

أقول: یحتمل الحمل علی مسّ من غُسل بالسدر وحده أو به وبالکافور ولم یُغسّل بالماء القراح، أو علی أنّ المیّت غسل بدنه من النجاسات والأوساخ ولم یُغسّل غُسل المیّت بعدُ، أو علی أن غسل المسّ الواقع قبل غُسل المیّت واجبٌ وإن کان المیّت غُسل، أو علی ذلک من المحامل.

هذا، فضلاً عن أنّه بأس من حمله علی الاستحباب بمقتضی الجمع بین الطائفتین، والأخذ بالتسامح فی أدله السنن، وهذا الحمل لعلّه أولی من طرح


1- وسائل الشیعة: الباب 3 من أبواب المسّ، الحدیث 1.
2- المصدر السابق، الحدیث 2.
3- المصدر السابق، الحدیث 3.

ص:99

الروایة، خاصّة بعد اشتهار تفرّد عمّار فی الروایات بنقل الغرائب کما علیه صاحبی «الحدائق» و«الجواهر».

فروع باب غُسل المسّ

الفرع الأوّل: هل یلحق المیّت المیمّم بالمُغسّل فی عدم وجوب الغُسل فی مسّه، أم لا؟ فیه وجهان بل قولان: فروع باب غُسل المسّ

قول بعدم الالحاق کما هو صریح «القواعد» و«المنتهی» و«المدارک»، وظاهر «جامع المقاصد» و«کشف اللّثام» أو صریحهما، وفی «الجواهر»: بل لا أجد فیه خلافا بما عدا شیخنا فی «کشف الغطاء».

واستدلّوا لذلک: بما فی الاخبار من تعلیق حکم الغُسل بما إذا مسّه قبل الغُسل، الدالّ علی أنّ هذا الحکم مخصوص له کما، قد صرّح بعدم الوجوب لو مسّه بعده، حیث یفهم کون مدار الحکم اثباتا ونفیا علی الغُسل وعدمه.

هذا، مضافا إلی بقاء نجاسته بعد التیمّم، حیث یؤیّد کونه مثل ما لم یُغسّل من ایجاب الغسل مع المسّ، ولذا یجب غُسل المیّت لو أمکن غسله بعد التیمّم وقبل الدفن هذا.

أقول: الانصاف عدم تمامیّة شیء من ذلک، لوضوح أنّ العمومات الواردة فی بدلیّة التیمم عن الوضوء والغُسل یکفی لاثبات ذلک، مثل دلیل تنزیل التراب منزلة الماء، وکونه أحد الطهورین، وأنّه یکفیک عشر سنین، حیث یوجب الاطمینان للناظر المتأمل أنّ هذه البدلیة والجعل کان لتسهیل الأمر علی العباد، ولیس ناقضیة المسّ أشدّ من نواقض الوضوء فی الحدث الأصغر ومن الأکبر، فإذا کفی التیمم بدلاً عن غُسل الجنابة والحیض والنفاس، ففی مثل مسّ المیّت المیّمم یکون بطریق أولی.

ص:100

وما ذکروه فی الاستدلال علی بقاء النجاسة بعد التیمم، ودوران الحکم مداره ممنوع، لامکان التفکیک بینهما فی ذلک، لو ثبت بقاء النجاسة بعد التیمم، لوضوح الفرق بین الحدث والخبث فی ذلک، لأنّ الخبث لا یزول إلاّ بالماء فی جمیع الموارد حتّی لمن فقد الماء، ولا یطهّره شیءٌ إلاّ فی مورد الاستنجاء بالأحجار، وهذا بخلاف الحدث فان الرافع له قد یکون ماءً إذا وجد أو ترابا وما أشبه إن لم یوجد الماء، فلا مانع أن یکون المقام من تلک الموارد، بأن یکون التراب رافعا للحدث دون الخبث لو ثبت بقاء الثانی بدلیلٍ، فدعوی دوران الأمر فیهما نفیا واثباتا لیس علی ما ینبغی.

ولأجل ذلک التزم المتأخرین کصاحب «مصباح الفقیه» والسیّد فی «العروة» علی حسب ظاهر عموم کلامه فی التیّمم من قبول بدلیته، بل قد یمیل الیه صاحب «الجواهر» قدس سره وإنْ کان ظاهر آخر کلامه احتمال رجوعه.

وعلیه، فالأقوی عندنا کفایته فی البدلیّة، فلا یوجب المسّ غُسلاً علی الماسّ، وإن نعتبر الاحتیاط باتیان الغسل حسنا وفقا لرأی الأعلام.

الفرع الثانی: وهو التیمّم بدلاً عن بعض الأغسال المفقودة خصوصا السدر أو الکافور.

أقول: ویظهر حکم هذا الفرع من سابقته، بل یظهر منه بالاولویة فی «الکفایة» فیما لو کان فاقد الخلیطین، أی قد غُسّل المیّت بالماء القراح ثلاثا بدلاً عن السدر الکافور، فلا یجب الغسل بمسّه لسقوط اشتراطهما فی هذا الحال، فیقوم الباقی مقامه للواجد، خلافا عن المحقّق فی «جامع المقاصد» فقد أوجب الغُسل بالمسّ للأصل، ولعلّه مراده من الأصل هو الاستحباب، لأنّه قبل ذلک کان کذلک فبعد هذا الغسل یشک فیه فیسصتحب بقائه، ولانصراف الغسل المعلّق علیه نفی الوجوب عن غیره.

ص:101

والجواب: کلا دلیله نظر وتأمّل، لوضوح أنّه یصدق علیه الغُسل بعد احراز سقوط الشرطیة للخلیط بفقدها أو بفقد أحدهما، فمع صدق الغسل، وشمول الدلیل لا یبقی مورد للشک حتّی نرجع إلی الاستصحاب، هذا لو لم نقل بتغیّر الموضوع بعد الغسل، ولکن مع ذلک کله الأحوط والأولی اتیان الغسل بعد مسّه استحبابا کما لا یخفی.

الفرع الثالث: فی أنّه لو کل غسل رأس المیّت مثلاً قبل اکمال غُسل جمیع البدن، فهل یوجب مسّ الرأس الغُسل أم لا؟ فیه وجهان بل قولان: قول بعدم الوجوب، وهو کما عن «القواعد» و«الریاض»، مستدلین بحصول طهارته وکمال الغسل بالنسبة الیه.

وقول بالوجوب وهو الأقوی، وهو المنقول عن «جامع المقاصد» و«الذکری» و«المدارک» و«الذخیرة» للعمومات وصدق المسّ قبل الغُسل کما عن صاحب «الجواهر» و«مصباح الفقیه»، لعدم صدق الغُسل إلاّ بعد اتمام العمل واکماله، إذ جزء الغُسل لیس غُسلاً، کما لا تحصل الطهارة عن النجاسة والخبث إلاّ بعد الفراغ من تمام أعمال الغسل، فبالمسّ قبله یجب الغُسل والغَسْل إن کان مع الرطوبة المسریة، فالمراد بنفی البأس عن مسّه فی بعض الأخبار المتقدّمة هو وقوع المسّ بعد تمام الغُسل، مضافا إلی جریان الاستصحاب فی کلا الموضوعین، لأنّ المسّ قبله کان موجبا للنجاسة والغُسل، فبعد غُسل هذا البعض قبل الاکمال یشک فی زواله فیستصحب تنجزا فی الغُسل وتعلیقا فی الغَسْل، بأن کان مع الرطوبة فی القضیة المتیقنة والمشکوکة. وهکذا جریان قاعدة الشغل لو أتی بعمل مشروط بالطهارة عن الحدث، حیث یقتضی الفراغ الیقینی وهو لا یحصل إلاّ بعد الاکمال.

الفرع الرابع: وهو أنّ الطهارة عن الخبث والنجاسة لکلّ عضو من اعضاء المیّت لا تحصل إلاّ بعد إکمال غسل جمیع البدن، خلافا لصاحب «الحدائق» حیث قال

ص:102

بحصول الطهارة لکلّ عضو بعد إکمال غَسل ذلک العضو بالخصوص وقبل اکمال الجمیع بمقتضی القواعد الفقهیة من حصول الطهارة عن الخبث بمجرد انفصال ماء الغُسالة، وقد قال بذلک حتی فی ما لو التزم ذلک الافتراق بین الحکمین بحصول الحدث بمسّ العضو دون الخبث حیث لا ملازمة بین الحکمین.

أقول: ولکنّه غیر وجیه، لأنّ ما هو المقرّر فی الفقه من حصول الطهارة بانفصال ماء الغُسالة، إنّما هو فی المتنجسات التی یطهرها الغَسل بالفتح، لا مثل المیّت الذی یکون نجاسته عیّنیة بحکم الشارع، حیث جعل مطهّره خصوص الغُسل بالضّم نظیر مطهّریة الاسلام للکافر. فما دام لم یصدق ولم یتحقق الغُسل بتمام خصوصیاته لا مجال ولا یصحّ الیحکم بطهارته، وإلاّ لو کان جری الماء علیه فی الظاهر موجبا لطهارة ظاهره کباقی المتنجسات، لزم منه الحکم بحصول الطهارة لما جری علیه الماء دون باطنه، والحال انّه لیس کذلک، فیثبت أنّ الحکم بالطهارة من الشارع بالغُسل کان امرا تعبدیّا مخصوصا به لا یقاس به غیره، وهو لا یتحقّق إلاّ بعد الفراغ من غُسل جمیع الأجزاء.

تکملةٌ مشتملة علی فروع:

الفرع الأوّل: هل یجب الغسل بمسّ الشهید أم لا؟ فیه وجهان بل قولان:

1_ قولٌ بالوجوب کما مال الیه واحتمله صاحب «کشف اللّثام» وتردّد فی السقوط صاحب «مصباح الفقیه» وقال بوجوبه لو لم یکن أقوی، فلا ریب فی أنّه أحوط، مستدلاً لذلک بالاطلاقات الواردة فی الأخبار من ایجاب الغُسل لمن مسّ المیّت الشامل للشهید، ودعوی شهادة سیاق الأخبار بارادة غیره ممّن یجب غسله، غیر مسموعة.

2_ وقول بعدم الوجوب، کما قد یظهر من المصنّف رحمه الله حیث قیّده بما قبل

ص:103

تطهیره، الظاهر فی کون المسّ لمن یحتاج إلی التطهیر بالغُسل، والشهید لیس من هذا الصنف. بل وهکذا فی عبارات الأصحاب وفاقا لصریح جماعةٍ، منهم الفاضلان فی «المنتهی» و«القواعد»، وفی «المعتبر» بل لا أجد فیه خلافا، کما قد صرّح بذلک المتأخّرین مثل صاحب «العروة» وجمیع أصحاب التعلیق علیها تبعا لصاحب «الجواهر».

والدلیل علیه: مضافا إلی الأصل لو لا النّص، لأنّه أنّه یشک بالمسّ هل یوجب الغُسل علیه، فالأصل هو البراءة بعد الفراغ لما هو مقطوع بانّه لا یجب تغسیل الشهید، مع أنّه لو لا ذلک لزم أن یکون الشهید أسوء حالاً من غیره من الأموات لأنّه بعد الغُسل لا یوجب مسّه غُسلاً بخلاف الشهید حیث یوجبه إلی أن یدفن، وهو مخالفٌ لشأن الشهید، فالمناسبة بین الحکم والموضوع یؤید ذلک.

بل ظهور أدلّة سقوط الغسل عنه یفید أنّه مستغنٌ عنه وکونه أرفع من أن یستقذر بالموت، هذا فضلاً عن دلالة سیاق الأخبار علیه، خصوصا مکاتبه الصفار فی قوله إذا أصاب یدک جسد المیّت قبل أن یُغسّل فقد یجب علیک الغُسل. فقوله: «قبل أن یُغسّل» تفید أنّ المسّ الموجب للغُسل إذا کان واقعا لما یجب فیه الغسل دون ما لا یجب، کما یظهر ذلک ممّا ورد فی حقّه بعدم وجوب الغسل فیه، بمثل ما ورد عن النبی صلی الله علیه و آله فی حقّ شهداء اُحد، حیث قال: «زملّوهم بدمائهم فإنّه لیس کلیم یکلم(1) فی سبیل اللّه تعالی إلاّ یأتی یوم القیامة بدمائه لونه لون الدم وریحه ریح المسک»(2).

فدمائه بمنزلة الغُسل بل أنبل، مع ظهور کون وجوب الغُسل فی المسّ لمکان نجاسة المیّت کما وردت الاشارة الیه فی روایة «العلل» عن الفضل، عن


1- الکلم بالفتح الجرح والکلیم الجریح.
2- فی «مصباح الهدی»، ج 6، ص 32.

ص:104

الرضا علیه السلام من بقاء نضح المیت بعد الموت، وهو غیر موجود فی الشهید، فلا یبقی وجه لوجوب الغَسْل لملاقیه وغُسل ماسّه کما لا یخفی.

هذا، مضافا إلی خلوّ الأخبار الحاکیة لغزوات النبیّ صلی الله علیه و آله والوصیّ الحسین صلوات اللّه علیه عن التعرض لغُسل المسّ عند مباشرة الدفن، مع استلزامه المسّ غالبا، خصوصا فی الشهداء الذین یمکن أن یکون أجسادهم متقطعة بالسلاح، فلابد من جمعها المستلزم للمسّ قطعا.

فدعوی: احتمال عدم السقوط أو المیل الیه کما حُکی عن «کشف اللّثام»، أو التردید فیه کما حُکی عن «مصباح الفقیه» للاطلاق الموجود فی الأدلة الدالة علی ثبوته، والمناقشة فی رفع الید عن الاطلاق بشهادة سیاق بعض الأخبار.

غیر مسموعة، لما عرفت من تعدد الأدلة الدالة علی السقوط، واعتماد الأصحاب علیه یوجب الاطمینان للفقیه کذلک، کما لا یخفی.

الفرع الثانی: هل یوجب مسّ بدن النبی صلی الله علیه و آله والولیّ علیه السلام قبل الغُسل غُسلاً أم لا؟ فیه وجهان:

1_ وجه بعدم الوجوب لأنّ بدنهما طاهر حتّی بعد الموت وقبل الغسل، فهو الفارق بینه وبین غیره، لما ورد فی الروایة بطهارة جسد النبی صلی الله علیه و آله آیة التطهیر _ وهو خبر الحسن بن عبید، قال: «کتبت إلی الصادق علیه السلام هل اغتسل أمیرالمؤمنین علیه السلام حین غَسّل رسول اللّه صلی الله علیه و آله عن موته؟ فأجابه: النبیّ طاهر مطهر ولکن فعل امیرالمؤمنین علیه السلام وجرت به السُّنة» ومثله مکاتبة القاسم الصیقل.

هذا مضافا إلی أنّ الأصل أیضا یساعد مع عدم وجوب الغُسل، کما صرّح بعضهم بذلک، فهو أحد القولین فی المسألة.

2_ وقول آخر هو الوجوب کما علیه صاحب «الجواهر» وغیره، لأجل

ص:105

المناقشة فی تناول العمومات وبما فی المکاتبین من فعل أمیرالمؤمنین، وتنبیهه علیه السلام بأنّ ذلک جرت به السنة وذکر قبله بأنّه طاهر مطهر لا یمنعان الوجوب لامکان أن لا تکون الحکمة فی الغُسل مجرد نجاسة البدن بل له لعلّ له حکمة أخری غیر ذلک مطلقا، أو فی خصوص مسّ بدن النبی صلی الله علیه و آله ، کما أن تغسیل بدنه صلی الله علیه و آله لنجاسته لیس لما قد عرفت من تصریح الامام بانّه طاهر مطهر، وعلیه، فلا مانع من ایجاب غُسل المسّ لعدم انحصار الحکمة فی النجاسة، إذ قد یقصد إرادة عمومیة الحکم ونحو ذلک کما یؤمی الیه جملة: «وجرت به السنة».

الفرع الثالث: هل یجب الغُسل من مسّ بدن المیّت الذی قتل حَدا أو قصاصا بعد ما غُسّل قبل إجراء الحکم علیه أم لا؟ فیه قولان:

1_ قول بالوجوب ولو محتملاً وتردیدا کما عن «الحدائق» تبعا للعلامة فی «المنتهی» و«الذخیرة»، بل عن «السرائر» الجزم بالوجوب بناءً علی مختاره من نجاسته بالموت.

2_ وقول آخر بالعدم، کما علیه الفاضل فی «القواعد» وغیره، وعلیه صاحبی «الجواهر» و«مصباح الفقیه» و«العروة»، وأکثر أصحاب التعلیق لو لا الکل، معلّلین بأنّ الغسل الذی یأتیه قبل الحدّ کان بمنزلة غسله بعد الموت، فکما لا یجب غسله بعد الحدّ والموت لأجله فهکذا لا یجب بمسّ بدنه، فلا مانع شرعا من الحکم بتقدیم المسبّب الشرعی علی سببه، فیجری علیه حکم غسل المیّت، بل قد یُدّعی تناول نفس دلیل سقوط الغسل عند سقوط أثر المسّ بعد التغسیل له من غیر حاجةٍ لدعوی المساواة والتنزیل کما لا یخفی، وإن کان أصل التفکیک بین الحکمین غیر ممنوع ثبوتا، إلاّ أنّه لیس لنا دلیل علی اثباته بعد تخصیص عمومات وجوب الغسل للمیّت بدلیل ایجاب الغسل علیه قبل إجراء الحدّ بدلاً عن غسله بعد الموت فیتّبع سقوط اثره وهو غسل المسّ أیضا، والأخیر هو الأقوی.

ص:106

الفرع الرابع: هل یوجب مسّ بدن المیّت الذی قد غسّله الکافر _ لأجل فقد المماثل إلاّ به وکان الآمر به هو المسلم _ غُسلاً لماسّه أم لا؟ فیه وجهان بل قولان:

1_ قولٌ بالوجوب کما هو صریح «القواعد» وظاهر «جامع المقاصد» و«کشف اللّثام» أو صریحهما، ومال الیه صاحب «الجواهر» حیث قال: «نعم، یتجّه عدم السقوط بمسّ من غسّله الکافر بأمر المسلم» وذکر فی وجهه بأنّه بناء علی ما تقدم منه فی محلّه أنّه لیس من غَسّل المیّت فی شیء وإنّما هو شیء أوجبه الشارع لتعذر الأوّل، وإلاّ فلو قلنا بکونه غسل المیّت إلاّ أنّه سقط بعض شرائطه للعذر أتّجه القول بالسقوط حینئذٍ.

2_ وقول بعدم الوجوب، وهذا علیه صاحب «مصباح الفقیه» حیث قال: «وکذا بمسّ المیّت الذی غسّله الکافر عند فقد المماثل والمَحْرم» فی بیان وجه عروض النجاسة العرضیة علی بدن المیّت لأجل نجاسة الکافر بامکان أن یقال:بل یظهر ذلک من صاحب «مصباح الهدی» أیضا فقد قال: «بالعفو عن هذه النجاسة العرضیة الحاصلة من مباشرة الکافر، وعدم مانعیتها عن صحة الغسل مع الالتزام یتنجس الماء وبدن المیّت بملاقاة ید الکافر، ولکن عفی عن هذه النجاسة العرضیة لمکان الضرورة، وعلی هذا ترتفع النجاسة الذاتیة الحاصلة لبدن المیّت بالموت، وتبقی النجاسة العرضیة معفوا عنها»، وهذا الوجه لیس بعید.

ثمّ ذکر امکان الالتزام بعدم انفعال الماء المستعمل وبدن المیّت تخصیص ما یدلّ علی تنجس الملاقی مع النجس فی خصوص المورد، أو الالتزام بعدم تنجس بدن المیّت بملاقاته مع الماء النجس وبدن الکافر من باب تخصیص دلیل التنجیس بما عدا بدن المیّت.

إلی أن قال بعد البحث الطویل: «أنّه إن وجد المماثل المسلم قبل دفنه یجب اعادة غسله، لأنّه یترتب علیه صحة غسل الکافر وترتیب آثاره علیه من طهارة

ص:107

بدن المیّت وعدم وجوب غسل المسّ لمن مسّ بدنه مع مجئی المسلم قبل دفنه، وبطلانه مع مجیئه قبله، فتکون صحة الغسل من الکافر مشروطا بعدم تعقّبه بمجی ء المسلم بعده إلی أن یدفن المیّت علی نحو الشرط المتأخر... إلی آخره»(1).

أقول: التأمل والدقة یقتضیان تارة الالتزام فیما خالف الأصل والقواعد الاقتصار علی موضع الیقین والرجوع فی المشکوک إلی الأصل الأولی، فلازمه هنا هو الالتزام بما ورد فی النصّ، وهو لیس الاّ أصل الغُسل بالکیفیّة الخاصة فی حق المیّت المسلم بتغسیله الکافر بأمر المسلم، ویصدق علی فعله الغُسل ویسقط عن الآخرین إلی أن یدفن، فعلیه یکون الحق مع القول الأوّل القائل بوجوب غسل المسّ حینئذٍ عملاً بالقواعد الأوّلیة، اذ لا ضرورة فیه حتی یجری فیه ذلک، بل الأمر یکون کذلک حتّی علی القول بحصول الطهارة الذاتیّة للمیّت، بناءً علی أنّه لا یجوز دفن المیّت مع النجاسة العرضیة فضلاً عن الذاتیة، حیث یصدق الضرورة بالنسبة الیه، فیحکم بحصول الطهارة، أو أن تکون النجاسة فیه معفوّا کما أن الأمر کذلک بالنسبة إلی النجاسة العرضیة بمباشرة الکافر وهو غیر بعید، کما حکم الشارع بدفن بدن الشهید مع دمه، مع کون دمه نجسا ذاتا.

ولکن هذا لا یوجب رفع الید عما لا ضرورة فیه، وکان مقتضی العمومات فیه ایجاب الغسل للماسّ، إلاّ إذا کان المسّ حاصلاً بعد الغُسل الصحیح المتعارف فی غیر الضرورة، وهو هنا مفقود، وأمّا إذا قلنا بأنّ مقتضی تلک الأدلة لیس إلاّ بیان أنّ مسّ جسد المیّت الذی کان نجسا وقبل أن یُغسّل من قِبل من کان یجب ذلک فی حقه موجبا للغسل، بلا فرق فیه بین حال الضرورة وغیرها، فکما أنّه لا یجب علیه الغُسل بعد هذا الغسل ما لم یجد المماثل وکان محکوما بالصحة، فکذلک تکون آثاره من طهارة بدنه أو کون نجاسته معفّوا، وکون المسّ غیر موجبٍ للغسل


1- «مصباح الهدی»، ج 5، ص 475 _ 473.

ص:108

جاریة فیما لو کان غسله بأمر المسلم وهو المباشر للنیة، وکان الکافر آلة فی العمل. وعلیه فلا یبعد دعوی عدم وجوب غسل المسّ علی الماسّ، وإن کان الأحوط وجوبا الاتیان بالغسل قضیة للوفاق مع کثیر من المحققین، واللّه العالم.

الفرع الخامس: لا فرق فی وجوب غُسل المسّ بین کون الممسوس مسلما أو کافرا کما علیه المشهور والمعروف بین الأصحاب، کما صرّح به جماعة منهم الفاضل والشهید والمحقق الثانی وجمیع المتأخرین، لاطلاق النصوص والفتاوی، بل لعلّه أولی بالنظر إلی نجاسته الذاتیة، مع أنّه فی الانسان یوجب ذلک إذا مسّه بعد البرد.

خلافا لبعضٍ کالعلاّمة فی «المنتهی» و«التحریر» حیث احتمل العدم، مستدلاً علی ذلک بمفهوم تقیید غُسل المسّ بما قبل التطهیر نصا وفتوی، بشرط أن یکون المیّت ممّا یقبل الطتهیر، ولأنّه لا یزید علی مسّ البهیمة والکلب.

أقول: لکنّه ضعیف أوّلاً: بأنّ القید واردٌ مورد الغالب، فلا عبرة بمثل هذا التقیید، مع أنّه لم یرد دلیلٌ علی اعتبار کونه ممّا یجب فیه الغسل ویصحّ.

وثانیا: بعض الأخبار یدلّ علی الوجوب بمطلق وقوع المسّ بلا ذکر هذا القید، وهو مثل حدیث عاصم بن حمید، قال: «سألته عن المیّت إذا مسّه الانسان أفیه غسل؟ قال: فقال: إذا مست جسده حین یبرد فاغتسل»(1).

وثالثا: تشبیهه بمسّ البهیمة والکلب یندرج من باب الاستحسان والقیاس کما لا یخفی.

الفرع السادس: لا فرق فی وجوب الغسل فی المسّ بمسّ أی جزء من أجزاء بدن الممسوس، بلا فرق بین کون الجزء ممّا تحلّ فیه الحیاة أو لم تحلّ، من الماسّ أو الممسوس أو کلیما إذا صدق علیه المسّ، وقد استدلّ علی هذا الحکم باطلاق


1- وسائل الشیعة: الباب 1 من أبواب غسل المسّ، الحدیث 3.

ص:109

النصوص والفتاوی فی عنوان المسّ وعلیه المشهور.

خلافا لبعض حیث فصّلوا بین ما تحلّ فیه الحیاة وبین مالا تحلّ، مثل صاحب «روض الجنان» صرّح بعدم الوجوب فی الثانی إذا کان فی أحدهما، وتردد فی «الذکری» فی وجوبه فی السن والظفر بدعوی:

العدم للمساواة بین الاتصال والانفصال فی عدم الوجوب بالمسّ، لعدم نجاستهما بالموت، فلا یجب الغسل بمسّهما.

أو الوجوب، لأنّها من جملة ما یجب الغسل بمسّها.

بل صرّح فی «الروض» بعدم الوجوب إذا انتفی الحیاة فی أحدهما من الماس أو الممسوس، ثمّ قال: «وفی العظم إشکال، وهو فی السّن أقوی، ویمکن جریان الاشکال فی الظفر أیضا لمساواته للعظم». وقد تردد المحقّق فی «جامع المقاصد» فی المسّ بالظفر والسن والعظم.

أقول: الأقوی أن یقال بالوجوب إذا صدق المسّ، کما هو کذلک بالنسبة إلی الشعر الملاحق ببدن المیّت کالشعور الساترة للبشرة، فإنّه ربما یصدق علی مسها مسّ المیّت. نعم ربّما لا یکون فی بعض الأفرد مسّا، کما إذا کان الشعر مترسّلاً من اللّحیة الی أطرافها أو من الرأس فی الماسّ أو الممسوس، فحینئذٍ یرجع الشک إلی أصل البراءة عن الوجوب واستصحاب الطهارة ونحوهما، بل وهکذا لو شک لأجل الشک فی عدم انصراف الاطلاق الیه، کما إذا لاقی طرف ظفره مثلاً جسد المیّت أو عکسه، ففی ذلک إن قلنا بعدم الوجوب فإنّ ذلک لیس لأجل کونه ممّا لا تحلّه الحیاة، بل لعدم الاعتداد عرفا بمثل هذا الالتقاء، أو کون مفهوم المسّ لدیهم أخصّ من مطلق الاصابة، فیوجب الشک، والمرجع إلی الدلیل.

لکن الظاهر صدق المسّ عرفا فی الثانی، فیجب الغسل. نعم إن فرض حصول الشک شک فی الانصراف بعد تحقّق صدق الاسم، ففی رفع الید عن أصالة الاطلاق

ص:110

والرجوع إلی الأصول العملیة اشکال، بل الأحوط لولا الأقوی هو الوجوب.

ربّما یتوهّم: امکان الاستدلال علی عدم الوجوب بمسّ ما لا تحلّه الحیاة من الممسوس، بالمحکی عن «العیون» و«العلل» عن الفضل بن شاذان، عن الرضا علیه السلام ، قال: «إنّما لم یجب الغسل علی من مسّ شیئا من الأموات غیر الانسان کالطیور والبهائم والسباع وغیر ذلک، لأنّ هذه الأشیاء کلّها ملبسة ریشا وصوفا وشعرا ووبرا، وهذا کلّه ذکی لا یموت، وإنّما یماسّ منه الشیء الذی هو زکی من الحیّ والمیّت»(1).

أجیب عنه فی «مصباح الهدی»: «إنّ التعلیل فی هذا الخبر محمولٌ علی حکمة التشریع لا علّة الحکم، فلا یدلّ علی اختصاص وجوب غسل المسّ بمسّ ما لا تحلّه الحیاة من الانسان، کیف وإلاّ یلزم وجوبه بمسّ ما تحلّه الحیاة من غیر الانسان أیضا، بل الظاهر منه أنّ غلبة اشتمال جسد غیر الانسان علی ما لا تحلّه الحیاة ممّا ذکر فی الخبر من الریش وغیره، وغلبة خلوّ جسد الانسان من ذلک، صار منشأً لوجوب غسل المسّ فی الانسان، ولو کان الممسوس ممّا لا تحلّه الحیاة، وعدم وجوبه فی مسّ غیره ولو کان الممسوس منه ممّا تحلّه الحیاة، فعلی هذا، فلا دلالة فیه علی اختصاص وجوب غسل المسّ بمسّ ما تحلّه الحیاة، ومع الاباء إلاّ عن ظهوره فی ذلک یجب حمله علی ما ذکرنا، وإلاّ لزم طرحه للزوم القول بوجوب الغُسل علی من مسّ جسد غیر الانسان بما فیه الحیاة، مع أنّه لا قائل به» انتهی کلامه(2).

قلنا: لعلّ ما ذکره الامام علیه السلام کان فی الجملة علّة للحکم لأجل مشاهدة الافتراق بین الانسان وغیره، حیث لا یعرض العرق وبعض الآفات الجلدیة من


1- وسائل الشیعة: الباب 6 من أبواب غسل المسّ، الحدیث 5.
2- «مصباح الهدی»، ج 5، ص 294.

ص:111

الدمل غیره علی الحیوانات بخلاف الانسان، کما یؤید ذلک ما ورد فی خبر محمد بن سنان وفضل بن شاذان فی علّة وجوب غسل المیّت فی الانسان بأنّه إذا خرج منه بقی منه أکثر، بل هی علّد للأمر بالغُسل حیث یصیب النضح جسد الانسان بعد موته، ولذلک لابدّ من تطهیره منه ویطهر، دون الحیوان، فلعلّه لذلک أوجب الغُسل لمس المیّت فی الانسان دون الحیوان، فبناء علیه لا یصحّ النقض فیه بأنّه یلزم أن یکون المسّ بما فیه الحیاة فی الحیوان موجبا للغُسل، لأن العلّة کانت لأصل الموجب وعدمه، وهو وجود الریش والصوف والوبر المقتضی لنفی تحقّق المسّ مطلقا، سواءٌ فیما تحلّه الحیاة أو لا تحلّه، کما أنّ فقدان هذه الأمور فی الانسان موجب لایجابه مطلقا، سواءٌ کان المسّ علی ما تحلّ أو ما لا تحلّ.

بل قد یتوهّم: الاستدلال لعدم وجوب الغسل لمس ما لا تحلّ، من جهة وجود الملازمة بین وجوب غُسل المسّ وبین نجاسة الممسوس، کما أومأ الیه الشهید فی «الذکری» فی تردّده فی عدم الوجوب لعدم نجاستها بالموت، فإذا لم یکن الشعر ونحوه ممّا لا تحلّ نجسا بالموت، فلا وجه للحکم بوجوب الغسل بمسّه.

وهو أیضا غیر تام: لأنّ الغُسل أمر تعبدّی یثبت فی کلّ مورد یصدق فیه مس المیّت، بلا فرق فی ذلک بین کون الممسوس طاهرا أو نجسا، ولذلک قد عرفت وجوب الغُسل لمن مسّ بدن الامام علیه السلام والنبی صلی الله علیه و آله مع کونهما طاهرین مطهرین، ولکن یجب الغسل لما جرت به السنة، کما تری عکس ذلک بما قد یکون بدن المیّت نجسا بالموت، لکن لا یجب مسّه غُسلاً مثل مسّ المیّت قبل برده وبعد الموت، فبذلک یظهر أنّه لا ملازمة بین النجاسة ووجوب الغُسل حتّی یقال بأنّ ما تحلّ یتنجّس بالموت فلا یوجب مسّه غُسلاً، بل کلّ ما یصدق علیه المسّ یجب فیه الغسل، بلا فرق بین ما تحلّ وما لا تحلّ، وهو المطلوب المنصور.

ص:112

وکذا إنْ مسّ قطعةً منه فیها عظمٌ (1)

(1) العبارة مشتملة علی حکم الغُسل (بالضم) لخصوص القطعة المبانة من المیّت بسیاق العطف علی السابق، ولکن فی «الجواهر» أضاف: «القطعة المبانة من الحیّ قبل التطهیر إذا کان فی کلّ منهما العظم».

أقول: والحکم بوجوب الغُسل مشهورٌ بین الأصحاب شهرة عظیمة قدیما وحدیثا، بل فی «الجواهر»: «لا أجد فیه خلافا إلاّ من المصنّف فی المعتبر والسیّد فی «المدارک» والاسکافی حیث قیّده الأخیر فی المبان من حیّ بما بینه وبین سنة، فیجب وإلاّ بعدها فلا».

وکیف کان، فالدلیل علی وجوب الغسل بمسّ القطعة المبانة مطلقا من المیّت والحیّ أمور:

الأوّل: الشهرة المحقّقة المعتضدة بصریح الاجماع من الشیخ فی «الخلاف» الذی ادّعاه أیضا غیر واحدٍ من الأصحاب، فالاشکال بکونه منقولاً بالخبر الواحد ولیس بحجّة، لیس علی ما ینبغی، خصوصا مع ملاحظة ما جاء فی «الذکری»: «إنّ الأصحاب منحصرون فی موجب الغسل المیّت علی الاطلاق وهم الأکثر، وفی نافیه کذلک علی الاطلاق، وهو المرتضی، فالقول بوجوبه فی موضعٍ دون موضع لم یُعهد» حیث یؤید أنّ المنقول بالاجماع معتضد بالشهرة، وهو یکفی فی تأیید الاجماع وحجیّته فدعوی قلّة العمل کما عن «المعتبر» غیر مسموعة.

الثانی: ما رواه المشایخ الثلاثة عن أیوب بن نوح، عن بعض أصحابه، عن أبی عبداللّه علیه السلام ، قال: «إذا قُطع من الرجل قطعة فهی میتة، فإذا مسّه انسان فکلّ ما فیه عظم فقد وجب علی من یمسّه الغُسل، فإن لم یکن فیه عظمٌ فلا غسل علیه»(1).


1- وسائل الشیعة: الباب 2 من أبواب غسل المسّ، الحدیث 1.

ص:113

حیث یستفاد منه وجوب الغُسل بمسّ القطعة المبانة من الحیّ إذا کان فیها عظم، ففی القطعة المبانه من المیّت یکون بالفحوی وبطریق أولی، وتنقیح المناط بشهادة العرف.

مع امکان أن یقال: یصدق المیتة علیها حقیقة ممّا یوجب اندراجها فیما یتعلّق به الحکم من النجاسة والغسل.

مضافا الی امکان الحاق المبانه من المیّت بالحیّ بالاجماع المرکب، أی عدم القائل بالفصل إذ کلّ من حکم بوجوبه فی القعطة المبانه من الحیّ، یقول به فی المبانه من المیت أیضا، ومن لم یقل به فی الأولی لم یقل به فی الثانیة.

بل قد یستفاد من ایجاب الغُسل علی من مسّ القطعة المبانة من الحیّ أنّه یصدق مسّ المیّت بمسّ الجزء منه، فتوهّم أنّ الغُسل أمر تعبدی لا یمکن اجراء حکمه إلاّ من خلال التعبد، وهو لا یکون إلاّ إذا کان یصدق به مسّ جسد المیّت، وهو غیر صادق علی المبانة منه.

غیر وجیهٍ، لوضوح أنّ الغُسل فی المسّ لا یکون الاّ لمسّ میّت الانسان، فإن لم یصدق ذلک إلاّ بمسّ الجسد الکامل فی المیّت، فلا وجه لما فی الروایة من الحکم بوجوبه بمسّ المبانة من الحیّ، فضلاً عن المیّت.

ودعوی: جریان الحکم فیه بلا وجود الموضوع فیه کما تری.

أقول: وممّا ذکرنا یظهر وجه ما ورد فی «الفقه الرضوی»، قال: «وان مست شیئا من جسد أکیل السبع فعلیک الغسل إن کان فیما مستَ الباب عظم، وما لم یکن فیه عظم فلا غسل علیک»(1).

اذ هو أیضا لا یحکم بالغُسل الاّ لصدق المسّ علیه، المتعلّق به حکم وجوب الغُسل.

هذا، مضافا إلی امکان استفادة کون مسّ العضو کمسّ الجسد ما ورد فی تنزیل


1- المستدرک، ج 1، الباب 2 من أبواب غسل المس، الحدیث 1.

ص:114

الصدر بمنزلة المیّت، مع أنّه کیف یمکن عدم صدق مسّ الجسد الذی إذا فرض قطع رأسه والیدین والرجلین مع بقاء القطعة العظیمة من المیّت.

وأیضا: یمکن اجراء الاستصحاب ولو تعلیقا بأن یقال: مسّ العضو إن کان متصلاً بالبدن المیّت کان موجبا للغسل قطعا، فبعد الانفصال یکون کذلک، هذا بناء علی تسلیم کون الموضوع فی القضیة المتیقنة والمشکوکة واحدا کما هو کذلک، والاّ یشکل اجرائه.

أیضا: یمکن استفادة حکم وجوب غُسل المسّ من الملازمة الثانیة بین وجوب غسل المیّت فی ذلک العضو وبین وجوب غسل المسّ فیه.

وبالجلمة: فمن جمیع ما ذکرنا ظهر عدم تمامیة ما استدلّ به المحقق فی «المعتبر» فإنّه بعد ما استدلّ بمرسلة ابن أیّوب، قال: «والذی أراه التوقف فی ذلک، فإنّ الروایة مقطوعة، والعمل بها قلیل، ودعوی الشیخ فی «الخلاف» الاجماع لم یثبت، فإذن الأصل عدم الوجوب، وإنْ قلنا بالاستحباب کان تفصیّا من إطراح قول الشیخ والروایة»(1).

لما قد عرفت من انجبار الارسال بالشهرة، وکذا تأیید الاجماع بها، مع أنّه قد حُکی التصریح بالوجوب من الصدوق وابن ادریس فی المقطوع من المیّت، کما عن ابن الجنید و«الاصباح» فی المبان من الحیّ، إلاّ أنّ الاسکافی قیّده بما مرّ علیک، وسیظهر ضعف هذا التقید، ولعلّ اطلاق الباقین کان لأجل اعتمادهم علی ظهور وجوبه باطلاق مسّ المیّت الشامل للمبان أیضا، فبعد ثبوت الوجوب فی المبان من المیّت یلحق به المبان من الحیّ أیضا للروایة المرسلة الواردة فی خصوصه، مضافا إلی ضمیمة عدم القول بالفصل.

والنتیجة: أنّ الأقوی عندنا هو الوجوب مطلقا، سواءٌ کان فی المیّت أو الحیّ.


1- المعتبر، ج 1، ص 532.

ص:115

الفرع الأوّل: علی القول بالوجوب، وکون المبان من الحیّ نجسا، فهل یعتبر فی وجوب الغُسل (بالضم) والغَسْل (بالفتح) لأجل النجاسة حصول البرودة فی العضو المبان، أم لا؟ فیه وجهان:

1_ وجه بعد عدم اعتباره قطعا فی نجاسته، کما لا اعتبار به فی نجاسة أصل جسد المیّت، إذ لا اشکال فی أنّ حکمه مأخوذ من أصله، فإذا لم یعتبر فیه ففی فرعه یکون بطریق أولی. نعم قد یشک فی الأوّل لاعتباره فی أصل المیّت.

ولکن الأوجه عدم اعتباره، لأنّ أصل اعتباره فی المیّت مخالفٌ للقاعدة قد ثبت بالدلیل، وهو مفقود هنا، فیقتصر فیما هو خلاف الأصل علی موضع النصّ، ولعلّ لذلک قال صاحب «الجواهر»: «ولکن قد یقوی فی النظر العدم» واللّه العالم.

الفرع الثان¨: لا یخفی أنّ ما فی المتن من وجوب غسل المسّ، ثابتٌ فیما إذا مسّ ما فیه عظم، فلازم ذلک عدم وجوبه لو مسّ العظم المجرد أو اللحم المجرد، سواءٌ کان من المیّت أو الحیّ، وفی «الجواهر»: «ولعلّه الأقوی لکن فی غیر عظم یفرض صدق مسّ المیّت بمسّه»، ولعلّه أراد ما إذا کان العظم متصلاً باللحم اتصالاً خفیفا بحیث یوجب ذلک العنوان.

والدلیل: مضافا إلی ظهور الفتاوی من المشهور علی عدم الوجوب کما عن «التذکرة» و«نهایة الأحکام» و«التحریر» و«حاشیة المیسی» وصاحب «الجواهر» و«مصباح الفقیه» و«العروة» وأکثر أصحاب التعلیق لو لا الکلّ،

وعلیه فلا بأس أن نستقلّ بالبحث فی کلّ من اللحم المجرّد والعظم المجرد والسّن والظُفر لامکان التفکیک فی بیان أدلّتها.

1_ حکم مسّ اللحم المجرّد عن العظم المبان من الحیّ: الدلیل علی عدم وجوب غُسل مسّ للحم المجرّد عن العظم ان کان مبانا من الحیّ: هو ما فی جاء فی المرسلة حیث صرح بالوجوب إذا کان فی الجزء المبان عظم، أو عدم الوجوب

ص:116

إذا لم یکن فیه عظم، فیلحق به المیّت أیضا بعدم القول بالفصل، إذ القائلون بین الوجوب مطلقا وعدمه مطلقا.

کما أنّ الدلیل علی عدم الوجوب فی القطعة المبانة من المیّت إذا لم تکن فیها عظمٌ هو خبر «الفقه الرضوی» حیث قد أوجب الغسل فی مسّ أکیل السبع إذا کان فیه عظم دون ما لا عظم فیه.

فإذا کان الأمر فی المیّت هکذا، لحق به المبان من الحیّ بواسطة عدم القول بالفصل.

لا یقال: إنّ المبان قبل الابانة کان مسّه موجبا للغُسل فی المیّت، فیسصحب ذلک لما بعد الابانة.

لأنا نقول: أوّلاً: إنّ الاستصحاب یعدّ من الأصول ولا مجال للرجوع الیه مع وجود النصّ المعتضد بالشهرة والمؤید بعمل الأصحاب.

وثانیا: علی أنّ جریانه مبنیٌّ علی عدم الالتزام بتبدّل الموضوع بواسطة الانفصال، لامکان أن یقال إنّ مسّ ذلک عرفا لا یصدق علیه أنّه مسّ المیّت، لمدخلیّة الاتصال عرفا فی ذلک الصدق کما ادّعی.

وثالثا: لو تردّدنا وشککنا فی أنّ الانفصال هل یوجب عدم الصدق أم لا، فالشک فیه یوجب الشک فی حصول الحدث بهذا المسّ، وحینئذٍ یمکن استصحاب الطهارة الحاصلة قبل المسّ للماسّ، لأنّه شک فی حصول المانع عمّا یشترط فیه الطهارة، هذا إن قلنا بأن وجوب الغُسل للمسّ کان لأجل الحدث، وإلاّ إن احتملنا أنّ وجوب الغُسل أمرٌ تعبدی ولا علاقة له بالحدث، فحینئذٍ المرجع عند الشک فی حصول مسّ المیّت وعدمه هو أصل البراءة، لأنّه شک فی أصل التکلیف، حیث لا یدری هل وجب علیه الغُسل لأجل تحقّق مسّ المیّت بذلک أم لا؟ فالأصل حینئذٍ هو البراءة عن التکلیف.

ص:117

ومقتضی جمیع ذلک هو عدم وجوب غُسل المسّ فی مسّ القطعة المبانة من المیّت.

فإذا کان هذا حال القطعة المبانة من المیّت التی لا عظم فیها، ففی القطعة المبانة من الحَیّ فیما لا عظم فیها یکون بطریق أولی، لوجود استصحاب الطهارة فی أصل القطعة قبل الابانة، إذا لم نقل بتبدلّ الموضوع بالانفصال، غایته وقوع المعارضة بین استصحاب الطهارة وبین سائر الأدلة الدالة علی الوجوب إنْ وجدت، والحال انّها هنا مفقودة، لو لم نقل بوجودها موافقا لمفاد الاستصحاب، کما عرفت من دلالة المرسلة علی ذلک.

هذا تمام الکلام بالنسبة إلی اللّحم المجرد عن العظم المبان من الحیّ أو المیّت فی عدم الغسل بمسّها.

2_ حکم مسّ العظم المجرّد: والمراد منه العظم المجرد بالمعنی الأعم حتّی یشمل مثل السّن والظفر، هل یوجب مسّه الغسل أم لا؟ فیه أقوال أربعة: قول بالوجوب مطلقا فی جمیع افراده وفی کلا فردیة من الحَیّ والمیّت، واستدلّوا علی ذلک: باستصحاب وجوبه فی المبان من المیّت لکونه عضوا وجزءً منه ومسّه یعدّ مس للمیّت فهکذا بعد الابانة، ویتعدّی منه إلی المبان من الحیّ بعدم القول بالفصل، کما عرفت، وهذا هو المحکی عن الشهیدین فی کتبهما.

وفیه أولاً: قد عرفت الاشکال فی الاستصحاب، لإحتمال خدخلیة الاتصال فی صدق المسّ للمیّت، فبعد الابانة والانفصال لا یصدق، فلا یجری فیه الاستصحاب لتبدّل موضوعه.

وثانیا: لو سلّمنا جریان الاستصحاب، وحکمنا بالوجوب فی عظم المیّت، لم یمکن الحاق الحیّ به استنادا الی عدم القول بالفصل، لأن الالحاق کذلک یجری فی الأحکام الثابتة بالأدلة النقلیة کالنصوص، لا ما یثبت بالأصل، لأنّه حکم ظاهری یقتصر فیه بما یجری فیه الأصل لا مطلقا حتّی یشمل الالحاق.

ص:118

وثالثا: لو سلّمنا جواز الالحاق فی مثل هذه الأحکام أیضا، نقول إنّ ذلک یوجب تحقق التعارض بینه وبین استصحابٍ آخر فی قباله، وهو أنّه قبل الابانة کان طاهرا لأنّه کان جزءا من الحیّ، فبعد الابانة یشک فی بقاء طهارته، فالاستصحاب یحکم ببقائها، فإذا کان طاهرا یلحق به المبان من المیّت استنادا الی القول بعدم الفصل، وتکون النتیجة هی وقوع المعارضة بینهما والتساقط، والرجع حینئذٍ إلی أصل البراءة عن التکلیف لکونه شکا فی أصل التکلیف، وهو المطلوب.

هذا مضافا إلی دلالة مفهوم المرسلة فی عدم الوجوب إذا لم یکن مع العظم شیءٌ، ومفهوم الخبر المنقول عن «الفقه الرضوی» کذلک فی عظم المیّت إذا عملنا بمنطوق الخبرین، فیحمل علیهما مفهوما أیضا. وهذا هو الأوجه عندنا.

فاذا قلنا بعدم الوجوب فی العظم المجرد من المیّت والحیّ، ففی مثل السّن والظفر یکون بطریق أولی،

وعلیه، لازم ما بیّنا هو وضوح القول الثانی من عدم وجوب الغُسل مطلقا بناءً علی دلالة الخبرین علیه، مع ما عرفت من الاستصحاب فی بعض الصور.

والقول الثالث: هو التفصیل بین مسّ العظم المبان من المیّت الذی مضی علی موته سنة فلا یجب، وبین غیره یجب، تمسکا بخبر اسماعیل الجُعفی، عن أبی عبداللّه علیه السلام ، قال: «سألته عن مسّ عظم المیت؟ قال: إذا جاز سنةً فلیس به بأس».

حیث یدلّ علی البأس قبل السنة من وجوب غُسل المسّ، هذا کما عن «المقنعة» و«المقنع».

ولکن أجیب عنه أوّلاً: بضعف السند، خصوصا مع اعراض الأصحاب عن العمل به، حیث لم یفتِ به أحد إلاّ الاسکافی ومن عرفت، بل فی «الجواهر» استقرار المذهب علی خلافه.

وثانیا: ما فیه من ضعف الدلالة، لاحتمال کون نفی البأس فیه من جهة عدم

ص:119

وجوب تطهیر ملاقیه عند تجرّده عن اللحم، وکون التجاوز بالسنة سببٌ نوعی لتجرّده عن اللحم، فیکون بنفسه طاهرا لکونه ممّا لا تحّله الحیاة، وإذا جاء الاحتمال بطل الاستدلال، فلا یمکن الذهاب الیه مع أنّ أبا علیّ قد أفتی بتجاوز السنة فی العظم المبان من الحیّ لا المیّت.

والقول الرابع: هو التفصیل فی العظم المجرد بین السّن والظفر ونحوهما من حیّ أو میّت بعدم الوجوب، وبین غیرهما من الوجوب.

والدلیل: هو تحقّق السیرة القطعیة علی عدم الغُسل بمسّ الظفر والسن، خصوصا فی المبان من الحیّ، بل وهکذا فی المبان عن المیّت إذا قلنا بعدم وجوبه فی العظم المجرد، ولکن الاحتیاط فیه حسن، خصوصا إذا قلنا بالاحتیاط بالغُسل فی العظم المجرد، وفقا للقائلین بالوجوب، مثل المحکی عن «الدروس» و«الذکری» و«فوائد الشرایع» و«المسالک»، خصوصا إذا کان مع السنّ شیءٌ من اللّحم أیضا، وإن صرّح فی «کشف الغطاء» بعدم وجوب الغُسل بمسّه ولو کان مع اللحم. نعم، إذا کان اللحم جزئیا فلا یعتنی به ولا یجب فیه الغسل.

صور مسّ اجزاء المیتة المشکوکة

لو حکمنا بوجوب غُسل المسّ بمسّ العظم المجرّد _ کما عن بعضٍ _ أو العظم الذی معه شیءٌ من اللّحم حیث یجب الغُسل عند الکل، فحینئذٍ یأتی البحث عن أنّه لو رأی ذلک فی فلاةٍ وأرضٍ ولا یدری هل هو ممّا یوجب مسّه الغُسل مع علمه بکونه من الانسان لأجل عدم تغسیله أم لا؟ ففیه صورٌ عدیدة لابدّ من البحث عن کلا واحد منها مستقلاً لأجل الاختلاف فی دلیله:

الصورة الأولی: یکون فی أرضٍ قامت الأمارة علی تغسیله، کما لو وُجِد فی مقابر المسلمین المختصّة بهم، ففی ذلک لا یوجب مسّه الغُسل کما صرح بذلک

ص:120

الشهید و غیره فی «الدروس» و«الموجز» و«الحدائق» وعلیه صاحب «الجواهر» و«مصباح الفقیه» و«العروة»، وتبعهم أکثر أصحاب التعلیق بل کلّهم، مستدلین لذلک _ بعد الفراغ عن جریان استصحاب النجاسة ووجوب الغُسل بمسّه فی برهةٍ من الزمان وهو حصول موته وبرودته قبل تغسیله، فمع الشک فی الخروج عن ذلک یتمسّک بهذا الأصل، ونحکم بوجوب غُسل المسّ، بل والنجاسة إنْ کان المسّ برطوبة، فلا یُرفع الید عن هذا الأصل الاّ مع وجود دلیل أو أصلٍ حاکم علیه بأمورٍ کما أشار الیه فی «الجواهر».

الأمر الأوّل: حکم الظاهر إذا وجد فی مقابر المسلمین، لأنّ ظاهر حال المسلمین هو العمل بالوظیفة من التغسیل، ویعدّ هذا الظاهر أمارة بمنزلة ید المسلم وإخباره حجّة علی کون العظم ممّا قد غُسّل، فلا یوجب مسّه الغسل، فتکون حجة شرعیّة حاکمة علی استصحاب النجاسة وعدم تغسیل المیّت، ووجوب غُسل المسّ بمسّه.

قال صاحب «مصباح الفقیه» فی ذیل هذا الدلیل: «إن مستند الحکم لیس مجرّد حمل فعله علی الصحیح من حیث کونه أصلاً تعبّدیا حتّی تتطرّق فیه المناقشة بعدم اقتضائه إلاّ الحکم بصحّة الفعل الذی أحرز عنوانه من حیث هو، ولا تثبت شرائطه التی تتوقف صحة الفعل علیها بعناوینها الخاصّة، بحیث یترتّب علیها آثارها المخصوصة بها، کما لو رأینا شخصا یصلّی فإنّا نحکم بصحّة صلاته من حیث هی، ونرتّب علی فعله أثر الصلاة الصحیحة من جواز الاقتداء به ونحوه، لکن لا یثبت بذلک کون الجهة التی یُصلّی الیها قبلة، وکون ثیابه من غیر الحریر، أو کونه من مأکول اللّحم، أو کونه متطهرا، أو غیر ذلک من الشرائط التی تتوقف علیها صحة الصلاة، بحیث یکون فعله من حیث هو کالبیّنة طریقا شرعیّا لاحراز تلک الشرائط بعناوینها الخاصة، کما تقرّر ذلک فی محلّه، فلا یحرّز الغُسل الذی هو من

ص:121

شرائط صحّة الدفن بحمل الدفن علی الصحیح، حتّی یرفع الید بسببه عن استصحاب النجاسة ووجوب الغسل بمسّه» انتهی محل الحاجة(1).

أقول: ولا یخفی ما فی کلامه من الاشکال:

أوّلاً: من الواضح أنّ حمل فعل المسلم علی الصحة لیس من قبیل الأصول العملیة التی لا تثبت بها الأصول المثبته وآثارها الاّ ما هو أثر نفسها، بل الظاهر أنّه یکون من قبیل الأمارة، ولذا یحکم بحکومته علی الأصول فحینئذٍ کما یثبت بهذا الظهور أثره المترتّب علیه من حیث هو هو، کذلک یثبت به جمیع ما تکون صحّة ذلک العمل مشروطا به، أی یثبت بواسطة صلاة المسلم إلی جهةٍ کون الجهة هی القبلة، وکون ثیاب المصلّی ممّا عدم کونه غصبا وحریرا وأمثال ذلک، لأنّ ذلک کلّه هو مقتضی حمل فعل المسلم علی الصحة، وهو کون صلاته صحیحة، وإلاّ لا یبقی للظاهر أثرٌ یعتنی به.

وثانیا: إنّه لیس من الأصول التعبدیّة المحضة حتّی لا یثبت به الآثار والشرائط، بل یکون کالبنیّة التی تثبت الآثار، ولأجل ذلک نحکم بالقبلة فی بلاد المسلمین بملاحظة قبورهم وتوجّههم إلی جهةٍ لکونها أصلاً عقلائیاً علی ذلک، ویکون طریقا شرعیّا لاثبات الآثار، ولا ینافی ما ذکرنا کونه من قبیل الید أمارة وحجّة علی صحّة العمل کاخباره کما لا یخفی.

الأمر الثانی: قیام السیرة، أی أنّ سیرة المسملین قائمة وجاریة علی التغسیل والتکفین، وعلی عدم الالتزام بغُسل المیّت الذی وجد فی قابرهم، ولا بغُسل المسّ علی من مسّه، ولیس ذلک الاّ لأجل کون وجود المیّت فی مقابرهم دلیلاً وأمارة عندهم علی تغسیله، وهی حجّة کما لا یخفی.

الأمر الثالث: قاعدة الیقین، وقال الآملی فی «مصباح الهدی»: «إنّها ضعیفة بناءً


1- مصباح الفقیه، ج 7، ص 127.

ص:122

علی أن یکون المراد بها استصحاب طهارة الماسّ، إذ استصحابها محکومة بأصالة عدم اغتسال المیّت، لکون الشک فی بقاء طهارة الماسّ ناشئا عن الشک فی غسل المیّت، فلا یمکن أن تکون معاضدة للسیرة ومقوّمة لها، هذا مع ما فی تعاضد الأمارة بالأصل من الضعف» انتهی(1).

أقول: کون المراد من قاعدة الیقین هو الاستصحاب غیر مأنوس فی استعمالات الفقهاء، بل المراد منها:

تارة: الشک الساری المتعقّب بالیقین السابق فی الیقین.

وأخری: یطلق علی قاعدة الطهارة المستفادة من قوله: «کلّ شیءٍ طاهرٌ حتّی تعلم أنّه نجس».

ولا یبعد کون الثانی هنا مرادا، لأجل وجود الملازمة، فیثبت به آثاره ومنها عدم وجوب تغسیله، ولا وجوب الغُسل بمسّه، فمثل هذه القاعدة تکون حاکمة علی أصل عدم تغسیله.

الصورة الثانیة: إذا وجد جسد المیّت فی أرضٍ مشترکة بین المسلمین والکفار، أو ما فیه تناوب الفریقین فی زمانین، وکذلک ما إذا وجد فی دار مشترکة کذلک: ففی «الدروس» و«الموجز» صرّحا بسقوط الغُسل بمسّه، وقال صاحب «الجواهر» فی وجهه إنّه بقاعة الیقین، ثمّ قال: «لکنه لا یخلو عن اشکالٍ کما فی «الحدائق» لانقطاعها باستصحاب عدم الغُسل فی المموس الوارد علیها کانقطاعها فی الطهارة من الخبث بمستصحب النجاسة».

وقال الآملی فی «المصباح» تبعا لما سبق فی معنی القاعدة: «ولا یخفی ما فیه من تحکیم أصالة عدم غُسل المیّت علیها الجاریة فی هذه الصورة من غیر حاکم علیها لعدم أمارةٍ تشهد بجریان ید مسلمٍ علیه، حتّی تکون حاکمة علی استصحاب


1- مصباح الهدی، ج 5، ص 303.

ص:123

عدم غُسله، فالمرجع حینئذٍ هو ذاک الأصل الحاکم علی استصحاب بقاء طهارة الماسّ».

ثمّ استدرک، وقال: «إلاّ أن یقال إنّ المقام من قبیل الملاقی لبعض أطراف الشبهة المحصورة، بل غیر المحصورة عنها إذا کانت ما فی القبرة کثیرة لا تحصی».

ثمّ استشکل، وقال: «لکنه یندفع بأنّ الأصل النافی إنّما یجری فی ملاقی بعض أطراف الشبهة إذا کان الأصل الجاری فی الملاقی (بالفتح) نافیا للتکلیف، ومعارضا مع الأصل الجاری فی بقیة أطراف الشبهة. وفی المقام لیس کذلک، لأنّ الأصل فی الممسوس هو عدم الغُسل الموجب للتکلیف، وهو حاکمٌ علی استصحاب بقاء طهارة الماسّ، فالأقوی فی هذه الصورة هو وجوب الغُسل علی الماسّ» انتهی(1).

أقول: لقد أجاد فیما أفاد من وجوب الغُسل بمسّ العظم المردّد بین کونه من المسلم أو الکافر، بلا فرق بین کون المراد من قاعدة الیقین هو أصالة الطهارة أو استصحاب طهارة الماس، لحاکمیة أصالة عدم غُسل الممسوس علی هذه القاعدة. لأنّ منشأ الشک فی ایجاب المس للغُسل والغَسْل مع الرطوبة، لیس إلاّ کونه مسببا عن الشک فی تحقّق الغُسل علی الممسوس، فمع استصحاب عدمه یرفع الشک عن مسبّبه.

وما فی «الجواهر»: من حکمه بعدم (صحة جریان أصالة عدم الغُسل هنا بعد القطع بانقطاعها فی الجملة، القاضی بطرّو صفة الاشتباه والابهام علی هذه الأفراد المختلطة کسائر شُبه الموضوع التی لا یقطع مباشرة أحد أفرادها المحصورة کالانائین استصحاب طهارة الغیر من الثوب، فضلاً عن غیر المحصور، فیتّجه


1- مصباح الهدی، ج 5، ص 307.

ص:124

حکمهما بعدم الغُسل فی الفرض المذکور) انتهی(1).

لیس تاما لوضوح أنّ العظم فی ابتداء موت صاحبه کان نجسا ومیتةً، ثمّ عرض له احتمال الغُسل إن کان من مسلمٍ، أو العدم لو کان من الکافر، فحیث لا یعلم بالاجمال إلاّ کونه من أحدهما، فالنجاسة والمیّتة عارضتان علیه قطعا، وزوالهما بالغُسل مشکوک فیستصحب، ولا علم حینئذٍ لنا ولو اجمالاً بزوال العارض إلاّ علی احتمالٍ، وهو کونه من مسلمٍ، والمفروض هنا عدم وجود علم بالزوال، ولا ظهور وأمارة حاکمة علی ذلک الأصل، فالأظهر حینئذٍ وجوب الغُسل للماسّ، ویکون الأصل هنا نظیر استصحاب الکلی القسم الثانی من استصحاب بقاء الحیوان فی الدار، إذا علم بموت البقّة بعد أیّام لو کان هی فیها، والبقاء لو کان فعلاً، ویترتب علیه أثر الکلی لا خصوص الفیل، فهکذا یکون هنا فیترتّب أثر ذلک الأصل، وهو عدم تحقق غُسله، وأثر ذلک شرعا هو وجوب الغُسل والغَسْل فی المسّ مع الرطوبة، ولا یرتبط هذا بکونه من الشبهة فی أطراف الشبهة المحصورة أو غیرها، کما لا یخفی.

الصورة الثالثة: إذا وجد العظم فی المقابر المختصّة بالکفار، واحتمل کونه من المسلم فحینئذٍ لا ینبغی الاشکال فی وجوب غُسل المسّ بمسّه ولو علم أنّه غُسّل، لأنّ الظاهر هذا حاکم علی أصالة عدم وجوب غُسل المسّ، وغُسله غیر صحیح لو فرض أنّه قد غُسّل لکونه کافرا. ولا یلتفت هنا إلی احتمال کونه من مسلمٍ لتقدیم ذلک الظهور علیه. والدار أیضا ملحقة بالمقبرة فی جمیع تلک الأحکام، فیجب الغُسل مع المسّ کما لا یخفی.

الصورة الرابعة: بأن یوجد فی مقبرة مجهولة لا یُعلم کونها من المسلمین أو الکفار، فحکمه حکم ما وجد فی المقابر المختصّة بالکفّار، لما قد عرفت من


1- الجواهر، ج 5، ص 344.

ص:125

جریان أصالة عدم غُسل العظم، وعدم وجود ظهور وأمارة حاکمة فی قبال ذلک الأصل.

الصورة الخامسة: فیما إذا وجد عظم مطروحٌ فی فلاةٍ أو طریقٍ لا یعلم أنّه مغُسّل أو أنّه أکیل سبع أم لا؟

أطلق فی «الموجز» و«الدروس» وجوب غُسله، ونفی عنه البأس فی «کشف الالتباس» وکأنّه اعتمادا علی أصالة عدم غُسله.

ولکن قال فی «الجواهر»: «لکنّه لا یخلو من نظر إذا کان فی فلاة المسلمین وأرضهم، للحکم باسلامه حینئذٍ کما لو کان حیّا وقاعدة الیقین».

ثمّ أورد علیه: «بانّه لا یوجب الحکم بأنّه قد وقع علیه التغسیل المسقط لوجوب غسل المسّ، لعدم اقترانه بشاهد حالٍ کالدفن ونحوه، إذ قد یکون لمن لم یعثر علیه مسلمٌ بأن کان أکیل سبع مثلاً، ومجرد غلبة غیره لا یصلح کونه قاطعا للأصل. نعم لو اقترن ذلک بظاهر فعل مسلمٍ مترتبٍ علی التغسیل اتجّه السقوط» انتهی کلامه.

أقول: لقد أجاد فیما أفاد بأنّه إن کان فی مورد فیه أمارة وظهور دالّ علی ایقاع الغُسل علیه فهو حاکم علی أصالة عدم التغسیل ویقدّم، وإلاّ یحکم بوجوب الغُسل علی من مسّه، واللّه العالم.

فاذا ثبت ذلک فی العظم والقطعة المبانة المطروحة، یظهر حکم المیتة أیضا لاشتراک الجمیع فی ملاک ثبوت الغُسل بالمسّ وسقوطه.

حکم السقط

یدور البحث عن أنّه هل یوجب مسّ السقط غُسل المیّت أم لا؟

أقول: إن کان المسّ بعد ولوج الروح وهو بعد تمامیة أربعة أشهر، فحکمه حکم المیّت من وجوب غُسل المسّ، لتناول الأدلة لمثله، لأنّ الموت هنا لیس إلاّ لأجل حیاة سابقه.

ص:126

وأمّا إن کان المسّ قبل ولوج الروح، أی قبل أربعة أشهر:

فعن المفید والعلاّمة و«العروة» وأصحاب التعلیق الاّ بعضهم هو عدم الوجوب.

واستدلّ له فی «المنتهی»: «بأنّه لا یُسمّی میّتٌ إذ الموت إنّما یکون من حیاةٍ سابقة، وهو إنّما یتّجه بأربعة أشهر. نعم، یجب غسل الید» انتهی.

بل قد یؤیّد کون الموت هنا بعد تحقّق الحیاة ما ورد فی خبر فضل بن شاذان المحکی فی «العلل» وفیه: «إنّما أمر من یُغسّل المیّت بالغُسل لعلّة الطهارة بما أصابه من نضح المیت، لأنّ المیّت إذا خرج منه الروح بقی أکثر آفته»(1).

وفی «الجواهر» بعد نقل هذا القول مع الدلیل، قال: «قلت: هو جیّد، لکن قد یشکل بأن المتّجه حینئذٍ الحکم بطهارته، وإنْ نفی «الخلاف» عن نجاسته النراقی فی لوامعه، لعدم تناول اسم المیتة له، فلا یجب غسل الید منه.

اللّهمّ الاّ أن یقال: إنّ نجاسته حینئذٍ لا لصدق المیتة، بل لأنّه قطعة أبینت من حیّ».

ثمّ استشکل علیه بقوله: وفیه: مع بُعده فی نفسه، وعدّ انصراف دلیل القطعة إلی مثله، وکونه علی هذا التقدیر من أجزاء الحَیّ التی لا تحلّها الحیاة إلاّ علی اعتبار المنشئیّة أنّه لا وجه لاطلاق القول بعدم وجوب الغُسل بمسّه بناءً علی ذلک، بل المتّجه حینئذٍ التفصیل بین المشتمل علی العطّم منه وعدمه، کالقطعة المبانة من حَیّ، والقول بعدم اشتماله علی عظم أصلاً قبل ولوج الروح حتّی الرأس غیر ثابت. بل لعلّ الثابت بما دلّ علی تمام خلقته قبل ولوج الروح خلافه، واللّه أعلم) انتهی کلامه.

وقال صاحب «مصباح الفقیه» بعد نقل کلام صاحب «الجواهر»: «أقول و هو فی محلّه»(2).


1- وسائل الشیعة: الباب 1 من أبواب غسل المسّ، الحدیث 11.
2- مصباح الفقیه، ج 7، ص 125.

ص:127

وغَسْل الید علی من مسّ ما لا عظم فیه، أو مسّ میّتا له نفسٌ سائلة من غیر الناس (1)

أقول: وفیه ما لا یخفی، فإنّ القطعة المبانة من الحیّ الذی یوجب مسّها غُسلاً إذا کان فیها عظما، إنّما یثبت فیما إذا کانت القطعة مشتملة علی الروح والحیاة لا مطلقا، والمفروض هنا أنّ القطعة وإن کانت مبانة من الحیّ، ولکن لم تلج فیها الروح حتّی یقال بوجوب الغُسل بمسّها بعد الابانة، فلا وجه التفصیل الذی ذکر.

هذا، ولکن یمکن أن یبیّن الوجه فی نجاسته _ مضافا إلی الاجماع الذی ادّعاه فی «اللوامع» _ أنّ الولد قبل ولوج الروح الکامل أی قبل أربعة أشهر، له روحٌ برزخی نباتی حیوانی فی الجملة، الذی یوجب رشده، فبعد الابانة عن الرّحم یخرج منه ذلک الروح والرشد والحیاة فی الجملة، وهو یکفی فی تحقّق النجاسة دون غُسل المسّ الذی لا یجب إلاّ بعد وجوب تغسیله، وهو لیس إلاّ بعد ولوج الروح الانسانی وخروجه عنه، هذا لو لم نقل إنّ النطفة والعلقة والمضغة کلّها نجسة ولا تخرج عنها إلاّ بالاستحالة، بصیرورتها انسانا ومولودا، وهو لا یکون إلاّ بعد ولوج الروح الانسانی فیه وإن کان بشکل الانسان وصورته قبل الولوج، ولأجل ذلک أخطأ الشافعی وحکم بنجاسة الانسان لأجل غلبة منشئه، ولم یلتفت إلی جهة الاستحالة.

وکیف کان، إن تمّ الاجماع علی النجاسة أمکن أن یکون لذلک من دون أن یجب فیه غُسل المسّ، وإلاّ فلا، واللّه العالم.

(1) یظهر من العبارة بقرینة التقابل أنّ مسّ هذین الشیئین لا یوجب الغُسل (بالضّم) بل علیه الغَسْل (بالفتح) فقط، فهنا دعویان:

الأولی: عدم وجوب الغُسل بمسّ القطعة المبانة من الانسان، إذا لم یکن فیها عظم.

ص:128

الثانیة: مسّ میتةٍ له نفس سائله من غیر الانسان.

أقول: لا خلاف فی حکم الدعویین، کما اعترف به صاحب «الجواهر» فی الأوّل، ونسب ذلک فی «المنتهی» إلی ظاهر الأصحاب، بل فی «مجمع البرهان» دعوی الاجماع علیه، کما فی «کشف اللّثام»، بل وفی الثانی أیضا نقل ذلک عن «المنتهی» و«کشف اللّثام» وهو الحجّة، مضافا إلی الأصل المقتضی البراءة عن هذا التکلیف لو شک فیه مع فقد الدلیل، فضلاً عن وجود الدلیل علیه، وهی عدة أخبار:

منها: ما جاء فی ذیل مرسلة أیّوب بن نوح وهو قوله: «وإن لم یکن فیه عظمٌ فلا غسل علیه»(1).

ومنها: صحیحة ابن مسلم، عن أحدهما علیهماالسلام : «فی رجل مسّ میتة أعلیه الغُسل؟ قال: لا إنّما ذلک من الانسان»(2) و مثله صحیح الحلبی(3).

ومنها: وروایة معاویة بن عمّار، قال: «قلت لأبی عبداللّه علیه السلام : الذی یغسّل المیّت ... إلی أن قال: قلت: والبهائم والطیر إذا مسّها علیه غسل؟ فقال: لا لیس هذا کالانسان»(4).

وبذلک یخرج عن شمول بعض ما قدّمناه فی ذات العظم من الأدلة المجرّدة منه.

هذا کلّه بالنسبة إلی عدم وجوب الغُسل (بالضم) فی کلا الشیئین.

وأمّا الثانیة: وهو وجوب الغَسل (بالفتح) بالمسّ مع الرطوبة، وهو أیضا ممّا لاخلاف فیه فی غیر ما عرفت طهارته من البثور والثالول ونحوهما ممّا لا تحلّ فیه الحیاة، بل فی «کشف اللّثام» لعلّه اجماعی، لما تقدم ممّا دلّ علی نجاسة المیتة


1- وسائل الشیعة: الباب 2 من أبواب غسل المسّ، الحدیث 1.
2- وسائل الشیعة: الباب 6 من أبواب غسل المسّ، الحدیث 1.
3- المصدر السابق، الحدیث 2.
4- وسائل الشیعة: الباب 1 من أبواب غسل المسّ، الحدیث 4.

ص:129

من الآدمی وغیره، ونجاسة القطعة المبانة منها، المقتضی لنجاسة الملاقی مع الرطوبة، بل فی «الجواهر»: «لعلّه فی الجملة من ضروری الدین، فضلاً عن کونه اجماعیا بین المسلمین».

أقول: بل قد یمکن دعوی تواتر الأخبار به معنیً ممّا قد تقدّم ذکرها فلا نعید.

ولم نشاهد الانکار فیه من أحدٍ عن المحدّث الکاشانی رحمه الله حیث ادّعی عدم نجاسة المیتة مطلقا من الآدمی وغیره بالمعنی المتعارف، المقتضی نجاسة الملاقی، بل المراد من النجاسة هو الخبث الباطنی. نعم، قد حکی المحقّق فی «جامع المقاصد» هنا عن المرتضی رحمه الله القول بأنّ نجاسة بدن الانسان المیّت حکمیّة کنجاسة بدن الجُنُب.

وفی «الجواهر» قال: «هو بعینه ما اختاره الکاشانی فی مطلق المیتة، إلاّ إنّی لم أعرف أحدا حکاه عن غیره، وظنّی أنّه توهّمه من قوله بعدم وجوب غُسل المسّ، وهو کما تری لا یقتضیه» انتهی.

فحصول النجاسة للملاقی مع الرطوبة بالمیتة مطلقا أمرٌ مسلّم وواضح لا کلام فیه.

والتحقیق: الذی ینبغی أن یتکلّم فیه عن أنّه هل یتنجّس الملاقی للآدمی وغیره مع الیبوسة أم لا؟ فیه خلاف، ذهب إلی الثانی صاحب «الجواهر» وفاقا لصریح «الذکری» و«جامع المقاصد» و«کشف اللّثام» وموضع من «الموجز» وغیرها، کما عن صریح «المبسوط» وظاهر «الفقیه» و«المقنع»، بل فی «شرح المفاتیح» نسبته إلی الشهرة بین الأصحاب، وهو کذلک، بل لعلّه الظاهر من عامّتهم عدا من صرّح بخلافه، لعدّهم إیّاها فی سلک ما حکمه ذلک من غیرها من النجاسات، من غیر تنصیصٍ علی الفرق، بل هو مشعرٌ بوضوح الحکم وظهوره لدیهم، کما لا یخفی، خصوصا معاقد الاجماعات السابقة، سیّما ما فی «المعتبر» من أنّ علمائنا متّفقون علی نجاسته نجاسة عینیة کغیره من ذوات الأنفس

ص:130

السائلة، للأصل فی الملاقی، بل والملاقی (بالفتح) فی نحو میتة نجس العین، بل وطاهره علی بعض الوجوه، خصوصا مع ملاحظة عموم موثقة ابن بکیر: «یابس ذکّی»(1) المعتضدة بالاستقراء فی کثیر من النجاسات فی عموم التعدّی فی الیابس منها مثل العذرة والخنزیر والکلب والدّم والمنیّ والبول، بل فی بعضها ما یدلّ علی أنّ مناط عدم التعدّی فیها الیبوسة لاخصوص یبوستها، فتصیر حینئذٍ دلیلاً یستفاد منها القاعدة کسائر القواعد المستفادة من الادلّة، مضافا إلی وجود حدیثٍ صحیح معتبر یدلّ علیه وهو فی صحیح علی بن جعفر سأل أخاه علیه السلام : «عن الرجل یقع ثوبه علی حمار میّت، هل تصلح له الصلاة فیه قبل أن یغسله؟ قال: لیس علیه غسله ولیصلّ فیه ولا بأس»(2).

وصحیحة الآخر: «سأله أیضا عن الرجل وقع ثوبه علی کلب میّتٍ؟ قال: ینضحه بالماء ویصلّی فیه ولا بأس»(3).

اذ لا یقصد علیه السلام بالنضح التطهیر قطعا، کما هو کذلک فی غیر المورد أیضا، وإلاّ لوجب الغسل دونه کما لا یخفی.

هذا وقد خالف ذلک جماعة من الفقهاء مثل العلاّمة فی «التذکرة»، والشهیدین فی «الروض» و«البیان» و«فوائد الشرائع»، بل فی الأخیر نسبته إلی المعروف من المذهب ذهابهم إلی الأوّل فی الآدمی فقط، بل فی «کشف الالتباس» أنّه المشهور، بل هو أحد قولی «القواعد» و«الموجز» إن أرید من المیتة خصوص الانسان، والقول الآخر منه هو مطلق المیتة حتّی غیر الآدمی. بل الیه یرجع ما فی «المنتهی» حیث صرّح فیه بحکمیّة النجاسة حینئذٍ علی اشکالٍ فی الملاقی لمیتة غیر الآدمی، بمعنی أنّه لو باشره بیده التی لاقی المیتة ولو مع الرطوبة، لا یوجب


1- وسائل الشیعة: من أبواب احکام الخلوة، الحدیث 5.
2- وسائل الشیعة: الباب 26 من أبواب النجاسات، الحدیث 5.
3- المصدر السابق، الحدیث 7.

ص:131

نجاسة الملاقی، بل الواجب فی الغَسْل هو الید، لا ما یلاقی الید بخلاف النجاسة المعینة حیث توجب ملاقاة الید لشیءٍ وجوب تطهیر ذلک الشیء إذا کان مع الرطوبة، کما یجب تطهیر نفس الید، بل قد تجاوز فی «المنتهی» وتنظّر فی وجوب غسل الید لو مسّ الصوف أو الشعر المتّصل بالمیتة من صدق الاسم، ومن کون الممسوس لو جزّ لکان طاهرا فلا یؤثّر نجاسة الماسّ مع الاتصال.

أقول: لکن الانصاف ضعف هذا القول، لعدم وجود دلیل لهم إلاّ اطلاق بعض الأخبار:

منها: مکاتبة صفار وفیها: «إذا أصاب یدک جسد المیّت قبل أن یُغسّل فقد یجب علیک الغُسل»(1) حیث یحکم بوجوب الغذسل بصورة المطلق، أی سواء کان مع الرطوبة اولاً.

ولکن یمکن أن یجاب عنه: بامکان أن یُقرأ بالضم أی یجب علیک الغُسل بالضم فلا یرتبط بما نحن بصدده.

ومنها: الخبر الذی رواه الحسن الحلبی عن الصادق علیه السلام : «عن الرجل یصیب ثوبه جسد المیّت؟ فقال: یَغسل ما أصاب الثوب»(2).

ومنها: التوقیع الوارد فیه: «لیس علی من مسّه إلاّ غَسل الید»(3).

ومنها: التوقیع الآخر المذکور فیه: «إذا مسّه فی هذه الحالة لم یکن علیه إلاّ غسل الید»(4).

وحملهما علی صورة وجود الرطوبة، أو دعوی ظهورهما فیه، ممّا لا یقبله الذوق بالنسبة إلی المیّت الذی عارضه الموت فی حال الصلاة، وإن سلّمنا ذلک فی حسنة الحلبی.


1- وسائل الشیعة: الباب 1 من أبواب غسل المسّ، الحدیث 5.
2- وسائل الشیعة: الباب 34 من أبواب النجاسات، الحدیث 2.
3- وسائل الشیعة: الباب 3 من أبواب غسل المسّ، الحدیث 4.
4- المصدر السابق، الحدیث 5.

ص:132

اللّهمّ إلاّ أن نرفع الید عن الاطلاق بواسطة وجود التقیید بالأخبار السابقة بقوله: «کلّ یابسٍ ذکی» مضافا إلی ضعف سند التوقیع، بحیث لا یقاوم ولا یعارض مع ما یدلّ علی عدم تنجس الملاقی بالمیتة ونجس العین مع الیبوسة کما عرفت.

هذا، ولو أبیت علی الأخذ بالتوقیع باطلاقه، فإنّه یوجب القول بالتنجّس فی خصوص میتة الانسان لا مطلقا.

اللّهم إلا أن یتمسک فی الحاقه الیه بالقول بعدم الفصل بین میتة الآدمی وغیره، لکن مرّ أنّ العلاّمة قال بالتفصیل فی «التذکرة» بل وغیره، فالاحتیاط فی الغسل مع میتة الانسان حتّی مع الیبوسة لا یخلو وجه، بحمل الأمر علی صورة الاستحباب، خصوصا مع ملاحظة ما ورد فی مرسلة یونس بن عبدالرحمن، عن رجل، عن الصادق علیه السلام ، قال: «سألته هل یحلّ أن یمسّ الثعلب والأرنب أو شیئا من السباع حیّا أو میّتا؟ قال: لا یضرّه، ولکن یغسل یده»(1).

حیث یؤید الحمل علی الندب، ومثل هذه الأخبار لا قدرة لها للمعارضة مع ما عرفت، مع أنّها مع المعارضة تکون نسبتها نسبة العموم من وجه فیکون المرجع فی مورد التصادق والاجتماع فی مسّ المیّت مع الیبوسة إلی المرجّحات، وعلیه فلا اشکال أنّ المرجّح هنا هو عدم الوجوب المعتضد بالأصل والأخبار المعتبرة والفتاوی الکثیرة کما لا یخفی.

بل قد تمسک صاحب «الجواهر» لتأیید مختاره إلی ترک تعرّضهم إلی غسل الید ونحوها فی کثیر من الأخبار المسئول فیها عن أصابة المیّت فی حال الحرارة والبرودة إلی عدمه، خصوصا ما اشتمل منها علی تقبیل الصادق علیه السلام ولده اسماعیل، وردّه علیه السلام من سأله عن ذلک بقلوه: «لا بأس به فی حال الحرارة»(2). بل ربّما یصل التأمل فیها إلی مرتبة القطع بمعونة قاعدة قبح تأخیر البیان والابهام


1- وسائل الشیعة: الباب 6 من أبواب غسل المسّ، الحدیث 4.
2- وسائل الشیعة: الباب 1 من أبواب غسل المیّت، الحدیث 2.

ص:133

والاجمال عن وقت الحاجة، حیث کان اللازم علیهم علیه السلام التنبّه بلزوم غسل الید أو الوجه فی تقبیله کما لا یخفی.

ثمّ علی فرض التسلیم، وقبول الاطلاقات الواردة فی وجوب الغِسل حتّی مع الیبوسة، فلا فرق فیه بین القول بالنجاسة العینیة أو الحکمیّة فی لزوم الغسل بالملاقاة الید بل وکلّ ما لا قته الید مع الرطوبة، ولو کانت النجاسة حُکمیّة، فالتفصیل فی هذه المرحلة بین الحکمیّة والعینیّة المنقول عن العلاّمة فی «المنتهی» لیس له مستند، کما لا یخفی.

نعم، یمکن أن یوّجه کلامه الشریف فی ذلک بما لا یمکن الجزم والاعتماد الیه، بأن یقال إنّ النجاسة الحکمیة حیث لا تکون نجاسة عینیّة خارجیة بل هی اعتباریة شرعیة، ولذلک لا یساوی العرف والعقلاء بین بدن المیّت من الانسان والکلب والعذرة فی التنفرّ عنه، ولکن بما أنّ الشارع حکم بوجوب تطهیره والاجتناب عنه، فلذلک یقتصر نجاسته فی خصوص البدن الذی وقع و ورد فی الروایة، فلا یشمل الحکم بالتطهیر الخارج عنه من الملاقی، بخلاف النجاسة العینیة حیث تکون نفس الشیء نجسا ذات قذارة، ولها نجاسة مسریة لکل ما لاقاها من البول والعذرة، فلا ینحصر نجاستها بخصوص عینها، ولکن الاعتماد بمثل هذه المطالب التی تکون أشبه شیء بالاستحسانات والاعتبارات مشکلٌ جدا.

تنبیه: حیث ذکرنا انقسام النجاسات الی الحکمیة والعینیّة، فلا بأس بذکرهما بحسب اختلاف کلمات الأصحاب فی بیانها وأقسامها کما أشار الیه صاحب «الجواهر» تبعا لجماعةٍ کفخر المحقّقین وصاحب «جامع المقاصد»، فنقول:

تارة: یطلق علی النجاسة أنّها حکمیة، ویراد منها ما لا جرم له کالبول ونحوه وفی قبالها العینیّة التی لها جرم کالعذرة.

وأخری: یطلق عنوان الحکمیّة ویراد منها المحلّل الذی قامت به طاهرا لا

ص:134

الخامس: الدماء

ولا ینجس منها الاّ ما کان من حیوان له عِرق. (1)

ینجس الملاقی له، ویحتاج زوالها إلی النیّة، والعینیة فی قبالها أی کان المحلّ الذی قامت به نجسا، ولا یحتاج زوالها الی النیّة، بل یطهر بالماء أو بزوال عینها فقط، کما فی الحیوانات.

وثالثة: قد یطلق ویراد منها ما یقبل التطهیر من النجاسات کبدن المیّت، وفی قبالها ما لا یکون کذلک، أی تطهیرها لا یتحقّق الاّ بافناء موضوعها بالماء، أو بما امر الشارع ازالتها به.

رابعة: قد یطلق ویراد بها ما حکم الشارع بتطهیرها من غیر أن یلحقها حکم غیرها من النجاسات العینیة، وفی قبالها العینیّة حیث یلحقها حکم النجاسة بالتنجیس بالملاقات والسرایة وغیرها.

هذه أربعة أقسام یمکن استفادتها من کلمات الأصحاب.

أقول: الأقوی عندنا فی المقام هو إنّ میّت الانسان نجسٌ بنجاسة حکمیّة، بمعنی قبولها للتطهیر واحتیاجها فی ذلک الی النیّة، کما أن له نجاسة عینیّة بمعنی امکان تعدّی النجاسة منها إلی ما لا یلاقیها برطوبة، وکذا ما لاقی ما یلاقیها کذلک. فظهر ممّا ذکرنا عدم التفاوت فی نجاسة الملاقی بین الحکمیّة العینیّد إذا کانت مع الرطوبة، وإن اختار بعضهم النجاسة المسریة مع الیبوسة، فضلاً عن الرطوبة، ولکن قد عرفت ضعفها، واللّه العالم بالصواب.

(1) الدم علی قسمین: قسمٍ منه: نجسٌ وهو اجماعی بین الشیعة بل بین المسلمین، بل من ضروریات هذا الدین.

وقسم منه: غیر نجس، وهو أیضا اجماعی.

ص:135

وهما حکمان لا خلاف فیهما ولا اشکال ولا کلام، لکن البحث والکلام فی تعیین کلّ منهما، فرضا قولان: الدم حکمه وأقسامه

القول الأوّل: ظاهر کلام المصنّف ککثیر من عبارات الأصحاب نجاسة مطلق الخارج من الحیوان وإن لم یکن من العِرق نفسه بل کان خارجا من لحمٍ أو جلد ونحوهما، بل هو قضیة معقد النسبة الی علمائنا فی «المعتبر» عدا ابن الجنید الی نجاسة الدم کلّه قلیله وکثیره إلاّ دم ما لا نفس له سائلة، کما نلاحظ دعوی نفی الخلاف فی «التذکرة» عن نجاسته من ذی النفوس السائلة، وإن کان مأکولاً، وهکذا یفهم من «الذکری» و«الروض» بعد التدبّر فی کلامهما من الاجماع علی نجاسته، إذا کان من ذی النفس السائلة، هذا هو أحد القولین فی المسألة.

القول الثانی: هو الذی یوهم أنه خلاف القول الأوّل وهو المستفاد من جملة من الکلمات حیث خصّوا النجاسة منه فی الدّم المسفوح، ومن الواضح أنّه أخصّ ممّا سبق، إذ المتبادر والمنساق منه هو ما تدفق من العِرق نفسه، بل فی «الحدائق» إنّ ذلک معناه لغة، فلا یدخل فیه حینئذٍ ما کان فی اللّحم ونحوه، وفی «المنتهی»: «أنّ المراد به ما له عرقٌ یخرج منه بقوّة ودفع لا رشحا کالسمک... إلی آخر کلامه»، وکذا فی «الغنیة» قال: «وکذا الدم المسفوح من غیر هذه الثلاثة أی دماء النساء... الی أن قال فی الاستدلال لطهارة دم السمک: انّه لیس بمسفوح وذلک یقتضی طهارته»، بل فی «المنتهی»: «قال علمائنا: الدّم المسفوح من کلّ حیوان ذی نفس سائلة، إذا کان خارجا بدفعٍ من عرق نجس وهو مذهب علماء الاسلام»، ثمّ استدلّ لطهارة دم ما لا نفس له بأنّه: «لیس بمسفوح فلا یکون نجسا» وألحق به الدم المتخلّف فی اللحم المذکّی إذا لم یقذفه الحیوان، لانّه لیس بمسفوحٍ. ثمّ استدلّ فی خصوص دم السمک کالمصنّف فی «المعتبر» بانّه لو کان نجسا لتوقف اباحة أکله علی سفحه کالحیوان البرّی، وهکذا ورد فی کثیر من العبارات مثل

ص:136

کتاب «السرائر» و«جامع المقاصد» و«کشف اللثام» و«المختلف»، بل وفی الاخیر التعلیل لطهارة دم المتخلّف فی الذبیحة بانتفاء المقتضی للتنجیس وهو السفح، وهذا التعلیل یوجب الایهام بطهارة غیر المسفوح کدم الشوکة ونحوها من ذی النفس مطلقا، کما فی «الحدائق»، مع أنّ الظاهر من الاصحاب اتفاقهم علی نجاسته، کما اعترف بها صاحب «البحار» وقال: «وهو ضعیفٌ لاتفاق الأصحاب علی نجاسة دم ذی النفس إذا لم یکن مسفوحا ایضا کما هو الأقوی» أی نجاسة مطلق دم ذی النفس السائلة سواءٌ کان مسفوحا أو غیر مسفوحٍ.

ولعلّ التقیید بالمسفوح لاخراج الدّم المتخلّف فی الذّبیحة، حیث إنّه طاهرٌ کدم السمک، أو اشارة الی أنّ کلّ دم خارج من ذی النفس یعدّ من الدم المسفوح ولو کان رقیقا کالشوکة وغیرها وحکمه النجاسة إلاّ ما خرج بالدلیل، کدم المتخلّف فی الذبیحة. وکیف کان الأحسن والأولی أن یقال إنّ الدم من کلّ ذی نفس سائلة نجس مطلقا إلاّ ما خرج بالدلیل کالمتخلّف، هذا هو الذی علیه صاحب «الجواهر»، بل قد ادعی الاجماع علیه عن المحقّق فی «المعتبر» المعتضد بنفی الخلاف فی «التذکرة»، الظاهر کونه بین المسلمین، بل وکذا الدعوی فی «الذکری» و«الروض»، بل هو ظاهر «البحار» و«الحدائق» المؤیّد بأکثر الفتاوی، خصوصا بعد ملاحظة عدم ورود شیء فی طهارة دم ذی النفس، الاّ فی المتخلّف، ولا سیّما بعد ملاحظة أخبار کثیرة مستفیضة أو متواترة علی نجاسة مطلق دم الرّعاف وما یسیل من الأنف، خصوصا فیما اذا لم نقل بکونه من المسفوح فی جمیع أفراده، وهکذا مثل الدّم الخارج من الشوکة أو من حَکّ الجسد ونظائر ذلک إذا لم نقل بکونه من المسفوح.

أقول: فضلاً عن کلّ ذلک ورد فی بعض الأخبار من الأمر المطلق بالاجتناب عن الدم مع عدم صدق المسفوح علیه:

ص:137

منها: خبر علی بن جعفر المروی فی «الفقیه» عن أخیه علیهماالسلام : «عن الرجل یحرک بعض أسنانه وهو فی الصلاة بل ینزعه؟ فقال: إن کان لا یدمیه فلینزعه وإن کان یُدمی فلینصرف»(1) حیث أنّ اطلاق الادماء یشمل ما لو خرج من الدم شیئا قلیلاً ممّا لا یصدق علیه المسفوح.

اللّهمّ إلاّ أن یقال: کون المراد منه أنّ من شأنه المسفوحیّة ولو لم یکن کذلک بالفعل.

و منها: مفهوم ما ورد فی خبر محمد بن مسلم عن أحدهما علیهماالسلام : «فی الرجل یمسّ أنفه فیری دما کیف یضع، أینصرف؟ فقال: إن کان یابسا فیرم به فلا بأس»(2) حیث یدلّ علی أنّه لو مسّ أنفه مع رطوبة الدم ففیه بأس، الذی لا یصدق علی بعضه السفح کما عرفت.

و منها: خبر المثنی بن عبدالسلام، عن الصادق علیه السلام : «إنّی حککتُ جلدی فخرج منه دم؟ فقال: اذا اجتمع قدر الحمصّة فاغسله وإلاّ فلا»(3) حیث أنّ المراد من الحکم بلزوم الغسل إذا کان بهذا المقدار ولو لم یکن مسفوحا، فیمکن أن یکون وجهه فی التقدیر بذلک بلحاظ حال الصلاة من کونه مسفوحا بأقلّ من درهم لا من حیث النجاسة والطهارة.

بل ربما قیل باستفادة النجاسة لمطلق الدم حتّی ولو لم یکن من ذی النفس من موثقتی عمّار بن موسی عن أبی عبداللّه علیه السلام فی حدیث: «وعن ماء شرب منه بازٌ أو صقرٌ أو عقاب؟ فقال: کلّ شیء من الطیر یتوضّأ ممّا یشرب منه إلاّ أن تری فی منقاره دماً».(4)


1- وسائل الشیعة: الباب 27 من أبواب قواطع الصلاة، الحدیث 1.
2- وسائل الشیعة: الباب 24 من أبواب النجاسات، الحدیث 2.
3- وسائل الشیعة: الباب 20 من أبواب النجاسات، الحدیث 5.
4- وسائل الشیعة: الباب 4 من أبواب الاسماء، الحدیث 2.

ص:138

وفی الآخر منه أیضا: «فقال کلّ شیء من الطیر یتوضّأ ما یشرب منه إلاّ أن تری فی منقاره دما فلا تتوضّأ منه ولا تشرب».(1)

بتقریب أن یقال: إنّ اطلاق الدم یشمل کلّ ما یصدق علیه الدّم، فیدلّ علی عموم الحکم الاّ ما خرج بالدلیل، ولأجل ذلک ذهب المحقّق البهبهانی فی «شرح المفاتیح» والعلاّمة الطباطبائی فی منظومته، والشیخ الأکبر فی طهارته الی أنّ الأصل فی الدم النجاسة، سواءٌ کان الدم من ذی النفس أو من غیره. ولکن خالفهم صاحب «الجواهر» و«مصباح الفقیه» و«مصباح الهدی» فی ذلک وقالوا بالأخیر و أنّ: «الانصاف عدم استفادة العموم من هذا الخبر لعدم ما یدلّ علی العموم فیه بالوضع، وعدم تمامیّة مقدمات الحکمة حتّی یستفاد منها العموم بالاطلاق، حیث إنّه منساق لبیان حکم نجاسة الماء لأجل ملاقاته لما فی منقار الطیر من الدّم النجس بعد الفراغ عن نجاسته، ولیس فی مقام بیان نجاسة الدم حتّی یقال بدلالته علی عموم نجاسته، وإن کان بالالتزام یدلّ علی نجاسته لکن فی الجملة» انتهی.(2)

جواب صاحب «الجواهر»: قال فی معرض ردّ کلامه بعد ذکر هذه الاخبار: «لکن إنّی لم أعثر فی شیء من سائر هذه الأخبار علی ما کان الغرض الأصلی من السؤال عن نجاسة الدم لمکان تردد السائل فی بعض الأفراد، حتّی یکون ترک الاستفصال یفید العموم بالنسبة الی ذلک، بل ظاهر أکثرها علم السائل بنجاسته، بل لعلّه المنساق من اطلاق لفظ الدم، إلاّ أنّه لم یعلم حکم الصلاة به مع الجهل به أو النسیان أو القلة أو الکثرة مع المشقّة التحرّر عنه أو نحو ذلک».(3)


1- المصدر السابق، الحدیث 4.
2- مصباح الهدی، ج 1، ص 357.
3- الجواهر، ج 5، ص 358.

ص:139

أقول: لکن الدقّة والتأمّل فی الروایة یفید خلاف ما قرّروه، لأنّ الروایة لم تکن فیها سؤال السائل عن حکم الماء الذی أصابه الدم هل هو طاهر أم لا حتّی یقال إنّه منساق لذلک، بل الامام علیه السلام بنفسه بادر الی بیان حکم ملاقاة منقار الطیر بالماء مع النجاسة بالدم، فالاطلاق المأخوذ من لفظ الدم یعدّ من مقدمات الحکمة حقّاً، إذ لو لم یکن الدم بتمام أقسامه نجسا، أو لم یکن المشکوک منه محکوما بالنجاسة، بل لو کان الأمر عکس ذلک _ أی بأن کان الأصل فی المشکوک هو الطهارة کما هو الأصل فی الاشیاء _ لکان الحرّی أن یفصّل الامام علیه السلام بانّه محکوم بالنجاسة إذا علم ولو فی الجملة کونه من قسم النجس، مع أنّه لم یفصّل وحکم بالنجاسة بالملازمة بأمره بترک الشرب والتوضّی من ذلک الماء، حیث یفهم ویفید عمومیة الحکم بالنجاسة فی الدم مطلقا.

اللّهمّ الاّ أن یقال: إنّ العلم بکونه من قسم النجس فی منقار الطیر هو الغالب حیث لا یکون إلاّ من دماء الحیوان الذی له نفس سائلة، فیکون الحکم فیه واردا مورد الغالب، فلا یمکن استفادة العموم منه إلاّ فی خصوص دم ذی النفس لا مطلقا، فحینئذٍ یکون له وجه، ولکن لا یمکن الاطمینان بمثل هذا الاحتمال لامکان أن یکون علی منقاره دم السمک خصوصا اذا کان قریباً من البحر.

أقول: و یعدّ هذین الخبرین من أحسن الأخبار الدالة فی الباب.

و منها: خبر ابن مسلم عن أحدهما علیهماالسلام ، قال: «سألته عن الرجل یری فی ثوب أخیه دما وهو یصلّی؟ قال: لا یؤذنه حتّی ینصرف»(1) فإنّ اطلاق لفظ الدم الذی یراه فی ثوب أخیه المحکوم بالنجاسة ولم یؤذن اعلامه، یفید المطلوب.

ولکن یرد علیه: بأن السؤال الصادر عن السائل کانّه صدر وهو یعلم بانّه نجس وأراد من سؤاله بأنّه هل یجب أو یجوز له اعلام أخیه بذلک مع کونه فی الصلاة،


1- وسائل الشیعة: الباب 40 من أبواب النجاسات، الحدیث 1.

ص:140

فاجاب علیه السلام بالنهی عنه حتّی ینصرف، فلا اطلاق له حتّی یوخذ به.

و منها: النبویّ المروی فی کتاب «بدائع الصنائع»(1) عن عمّار بن یاسر إنّه: «کان یغسل ثوبه من النجاسة، فمرّ علیه رسول اللّه صلی الله علیه و آله فقال له: ما تضع یا عمّار؟ فاخبره بذلک، فقال صلی الله علیه و آله ما نخامتک ودموع عینیک والماء الذی فی رکوتک إلاّ سواءٌ إنّما یغسل الثوب من خمسٍ: بولٍ وغائط وقییءٍ ومنیّ ودم».

ورواه فی «المستدرک»(2) دون لفظ القی والدّم.

و هذه الروایة تدلّ علی أنّ الذی یجب غسله هو البول والدم والمنی، فکما أنّ المنی نجس کذلک الدم باطلاقه إلا ما خرج بالدلیل کالمتخلّف فی الذبیحة وما لا نفس له.

ولکن یمکن أن یجاب أو قیل فیه: بأنّه ضعیف من حیث السند، حیث قال صاحب «الجواهر» بأنّه مروی فی کتب فروع أصحابنا، وإن لم أجده من طرقنا، بل ظنی أنّه عامی، بل ظاهر «المنتهی» أو صریحة ذلک، مضافا الی أنّه لم یعلم استناد الأصحاب الیه حتّی یکون جابرا لضعفه، مع أنّه قد عرفت الاضطراب فی متنه حیث إنّه ساقط فی نقل «المستدرک» مع اشتماله علی القیء الذی هو طاهرٌ عند الاصحاب. وعلیه فالاعتماد بمثله وجعله ملاکا للاصل مشکل. نعم، یصحّ جعله تأییدا لما سبق إن قبلنا کونه مدرکا للأصل کما لا یخفی.

هذا مع أنّه یمکن الدعوی بأنّه منصرف الی دم الانسان کانصراف البول والمنی الیه، هذا کما فی «مصباح الهدی».

وفیه: لکنّه مندفع بأنّه انصراف بدوی لا اعتبار به، لوضوح أنّ الدم النجس یکون لمطلق الحیوان إذا کان له نفس، فلا وجه لاختصاصه بالانسان.

ومنها: خبر «دعائم الاسلام» عن الصادقین علیهماالسلام ، قال: «فی الدّم یصیب


1- بدائع الصنائع، ج 1، ص 60.
2- المستدرک، الباب 12 من أبواب النجاسات، الحدیث 1.

ص:141

الثوب یُغسّل کما یُغسّل النجاسات».(1)

بتقریب أن یقال: إن ذکر الدم معرّفا بلام الجنس المسبوق لتعریف الماهیة دالٌ علی ارادة کون هذه الطبیعة نجسة.

أجیب عنه: الانصاف عدم دلالة هذا الخبر أیضا علی العموم، لأنّ المنساق منه هو بیان اتحاد الدم النجس مع بقیة النجاسات فی کیفیة تطهیر المتنجس به، من غیر تعرّض فیه لنجاسة کلّ دم.

وفیه: إن کیفیّته التطهیر لیس بأمرٍ خفیّ حتّی یقصد بیانه، بل الأظهر کون التشبیه لا بلاغ أنّ الدم نجسٌ کسائر النجاسات ولابد من التغسیل فی تطهیره، وعلیه فالجواب لأجل سدّ مسدّ الاعلام بنجاسته، فلابدّ له من التغسیل، فدلالته علی نجاسة مطلق الدم جیّد، لولا دعوی ضعف السند، وعدم الاکتفاء بمثل خبر «الدعائم» إلاّ تأییدا لما سبق، وهو غیر بعید.

أقول: بقی هنا آیتان یمکن أن یستدلّ بهما:

الأولی: قوله تعالی: «قُل لاَّ أَجِدُ فِی مَا أُوْحِیَ إِلَیَّ مُحَرَّما عَلَی طَاعِمٍ یَطْعَمُهُ إِلاَّ أَن یَکُونَ مَیْتَةً أَوْ دَما مَّسْفُوحا أَوْ لَحْمَ خِنزِیرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقا»(2) فإنّ الاستدلال بها موقوفٌ علی أمرین:

أحدهما: رجوع الضمیر فی قوله: «فإنّه رجسٌ» الی کلّ واحدٍ من المذکورین لا الی الأخیر فقط.

وثانیهما: کون المراد من (الرجس) هو النجس لا الخبیث.

وفی کلا الأمرین بحثٌ لامکان کون مرجع الضمیر هو الخنزیر، فعلیه یفید نجاسته فقط دون غیره. لکن قد یقال علی هذا الفرض أیضا یمکن الاستدلال من


1- المستدرک، ج 1، الباب 15 من أبواب النجاسات، الحدیث 2.
2- سورة الانعام، آیة 145.

ص:142

باب تنقیح المناط، وهو اشتراک المیتة والدم مع لحم الخنزیر فی الحکم، مع تعلیل حکم الخنزیر بالرجسیّة یعطی مشارکة الأولین معه فی علّة الحکم، وإلاّ لکان ینبغی عدم اختصاص الأخیر بذکر علّته، وهذا کأنّه ظاهر) هذا کما فی «مصباح الهدی»(1).

أقول: مضافا الی أنّ وحدة السیاق یقتضی کونه فی الجمیع واحدا، فإذا فرضنا أنّ علة وجوب الاجتناب عمّا سبق ولحق لأجل نجاستهما، فهکذا یکون فی الدم أیضا. نعم إن کان وجه الاستثناء هو حرمة الأکل، فیمکن کونه کذلک فی الجمیع لا لأجل نجاستهما، لأنّ حرمة الأکل هو أعمّ من النجاسة، لما تری من حرمة أکل بعض اعضاء الحیوان مع عدم کونه نجسا، کما هو أولی بنجاسته صدر الآیة فی بیان حرمة أکل الطعام.

وأمّا الأمر الثانی: وهو کون (الرجس) بمعنی النجس کما فی «مجمع البیان»، مع أنّه أوّل الکلام، لامکان أن یکون المراد هو الخبیث کما یشهد به اطلاقه علی المیسر والأنصاب فی قوله تعالی: «إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَیْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّیْطَانِ» فتدلّ الآیة حینئذٍ علی خباثة هذه الثلاثة التی تساعد مع نجاستها أیضا، لأنّ وجوب الاجتناب عن النجس أیضا یکون لأجل الخباثة والتنفّر عنها عرفا، هذا.

مع أنّه لو سلّمنا کون المراد من (الرجس) هو النجاسة، فتدلّ علی نجاسة خصوص الدم المسفوح لا مطلقا، إلاّ أن یتم فی غیره بعدم القول بالفصل فی غیر ما خرج بالدلیل، فله حینئذٍ وجه، وعلیه فدلالة هذه الآیة علی النجاسة لو سلّمنا التوجیه المذکور أحسن وأولی من الآیة الثانیة، وهی قوله تعالی: «إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَیْکُمُ الْمَیْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنزِیرِ»(2)، لأنّها نزلت فی جهة بیان حکم الأکل، وأنّ


1- مصباح الهدی، ج 1، ص 356.
2- سورة المائدة، آیة 3.

ص:143

الأمور المذکورة فی الآیة وهی أحد عشر یحرم أکلها، وقد عرفت اعمیّتها عن النجاسة، وإن کان فی المورد فی جمیع الأفراد داخلة تحت عنوان المیتة وهی نجسة، الاّ أنّه داخلٌ بالملازمة لا بالمطابقة. نعم إن أرید الاستدلال للمطلب بالأعمّ عن الدلالة بالمطابقة بحیث یشمل بالملازمة، فله حینئذٍ وجهٌ. وکیف کان فدلالة الآیتین علی النجاسة فی الجملة لا تخلو عن وجه، فعلی الآیة الثانیة یلزم کون مطلق الدم من المسفوح وغیره إلاّ ما خرج بالدلیل نجسا وهو المطلوب.

أقول: بناءً علی ما قرّرناه فی الآیة والروایة، لا یبعد القول بصحة کلام الشیخ الأکبر فی طهارته ومن قبله لمن ذکر من أنّ الأصل فی الدّم هو النجاسة مطلقا، بحیث یجوز الرجوع الی ذلک الأصل فی کلّ مشتبه الحکم، بعد احراز کونه دما عرفا، سواءٌ کان من ذی نفسٍ سائلة أو غیرها، إلاّ أن یخرج لنا عموما یدلّ علی خروج قسمٍ من أقسام الدمّ عنه، مثل الدّم المتخلّف فی النفس السائلة، أو دم غیر ذی نفسٍ کالسمک، إذا لم یکن له نفسٌ سائلة، بخلاف التمساح ونحوه، وعلیه یصحّ الحکم بنجاسة الدم الموجود فی البیضة لصدق الدم علیه، وإن لم یکن جزءً متصلاً بالحیوان، مضافا إلی الأصل الذی عرفت کونه نجسا، ولا عبرة بمن شکّک بعدم کونه دما بل هو شبیه به، کما لا یخفی.

نعم، لا یجوز الرجوع إلی هذا العموم فی مشتبه الموضوع، یعنی لو شکّ فی مصداقٍ أنّه دم أم لا _ کالمخلوق دفعةً فی الآیة النازلة علی قوم موسی علی نبیّنا وآله وعلیه السّلام، والدّم الذی خرج من الشجر أو الورق أو شوهد تحت الحجر یوم مقتل علیّ بن أبیطالب أو الحسین علیهماالسلام ، وما نزل من السماء فی یومهما _ فإنّ صدق الدّم علی هذه الدماء عرفا مشکلٌ، بل مع عدم صدق الدم علیها تکون نجاستها أیضاً غیر ثابتة، کما اعترف به حتّی من یقول بکون الأصل فی الدّم هو الطهارة کصاحب «الجواهر» ومن تبعه، ووجهه واضح، وهو أنّه لایجوز التمسک

ص:144

بالعامّ فی الشبهات المصداقیّة له، مضافا إلی امکان دعوی انصراف اطلاقات الدّم عن مثل هذه الدماء لأنّ المنصرف الیه هو دم الحیوان سواءٌ کان له نفس سائلة أو غیرها فلا یشمل المخلوق دفعةً تحت الأحجار عند شهادة سیّد الشهداء علیه السلام ، ومن ذلک یظهر عدم تمامیّة ما جاء فی «الجواهر» حیث قال فی مشتبه الموضوع: «بامکان دعوی ظهور بعض الأخبار فی الحکم بالنجاسة مع اشتباه الموضوع، لترک الاستفصال وغیره، ولذا کان ظاهر الاستاذ فی «شرح المفاتیح» التزام أصالة النجاسة فی مشتبه الحکم أو الموضوع» انتهی.(1)

لما قد عرفت أنّ هذا یصح فی مشتبه الحکم دون مشتبه الموضوع، لأنّه لا علاقة فی الثانی بالأصل، لأنّه طاهرٌ علی کلّ حال، أی ولو قلنا بکون الأصل فی الدّم النجاسة، لأنّه داخل تحت أصالة الطهارة فی المشکوکات، بقوله: «کلّ شیء طاهر حتّی تعلم أنّه قذر» وهو خارج عنه.

أقول: ولعلّ لهذا الوجه حکم فی «المنتهی» و«الذکری» و«الدروس» و«الموجز» وشرحه، و«المدارک» و«الحدائق» بالطهارة فی مشتبه الموضوع، بل عن «النهایة»: «أنّه لا خلاف فیه بین الأصحاب للأصل فی الملاقی والملاقی بالفتح، کما فی سائر ما کان من هذا القبیل» انتهی.

ونزید علیه: لکونه خارجا عن عموم نجاسة الدم لأجل الشکّ، ودخوله تحت قاعدة الطهارة کما عرفت.

وبالجملة: بعد ما ظهر وجه الاستدلال لنجاسة مطلق الدّم من الآیة والروایة، یکون ذکر بعض الأخبار أو نقل الاجماع عن «المعتبر» تأییدا للأصل وهو النجاسة:

منها: المفهوم المأخوذ من الروایة التی رواها السکونی عن جعفر، عن أبیه علیهماالسلام : «إنّ علیّا علیه السلام کا لا یری بأسا بدم ما لم یذکّ، یکون فی الثوب فیصلّی


1- الجواهر، ج 5، ص 359.

ص:145

فیه الرجل یعنی دم السمک»(1) حیث یکون مفهومه ثبوت البأس فیما لم یذکّ، فیکون عاما شاملاً لجمیع الدماء الاّ ما خرج بالدلیل.

ومنها: دلالة مکاتبة محمّد بن ریّان، قال: «کتبتُ الی الرّجل علیه السلام : هل یجری دم البقّ مجری دم البراغیث، وهل یجوز لأحدٍ أن یقیس بدم البقّ علی البراغیث فیصلّی فیه، وأن یقیس علی نحو هذا فیعمل به؟ فوقع علیه السلام : یجوز الصلاة والطهر منه أفضل»(2) حیث یدلّ علی معروفیّة النجاسة فی سائر الدماء فی تلک الأوقات وأمثال ذلک.

البحث عن حکم دم العلقة

یظهر من جمیع ما ذکرنا نجاسة أقسام الدّم وطهارة بعضه بالدلیل، بقی هنا البحث عن حکم دم العلقة:

القول الاول: الطهارة کما عن «الذکری» وغیره بناءً علی منع اندراجها فی دم ذی النفس ومجرّد تکوّنها فیه لا یقتضیه.

القول الثانی: هو الحکم بنجاسة هذا الدم کما فی «الجواهر» بقوله: «نعم، قد یقوی فی النظر النجاسة للاجماع فی «الخلاف» علیها، معتضدا بالمحکی من فتوی جماعةٍ من الأصحاب منهم القاضی والحلّی والمصنّف وابن سعید والعلاّمة والآبی وغیرهم، بل لم أعرف من جزم بالطهارة إلاّ المحدّث فی «الحدائق». نعم، تأمل فیها فی «الذکری» و«کشف اللّثام»» انتهی.(3)


1- وسائل الشیعة: الباب 23 من أبواب النجاسات، الحدیث 2.
2- المصدر السابق، الحدیث 3.
3- الجواهر، ج 5، ص 362.

ص:146

لا ما یکون رشحا کدم السّمک وشبهه (1)

بل نزید علیه بموافقة النجاسة مع الأصل الذی ذکرنا، وهو أنّه یصدق علیه الدّم عرفا، ولا نسلّم کونه مستحیلاً عنه، غایة الأمر أنّه دم کان منقبضا لأجل الحرارة الباطنیة مقدمة للتکوّن حتّی تصیر مضغة، فإذا شکّ فی صدقه وبقائه یصحّ استصحابه، هذا لو لم نقل کونه من قبیل التمسک بالعامّ فی الشبهة المصداقیّة فی الاستصحاب، والاّ یشکل التمسک به لاحتمال تبدّل الموضوع. وعلیه فالأقوی عندنا هو النجاسة کما علیه السیّد فی «العروة» سواءٌ کان من انسانٍ أو من غیره، بل حکم العلاّمة بها فی البیض أیضاً، واللّه العالم.

(1) المراد من ما یکون رشحاً هو الذی فی قبال الدم المسفوح المذکور قبله وکان نجسا، فیصیر حکم المنفیّ هنا هو طهارة دم الرشح، وهو الدم الذی لا یکون خارجاً عن عرق من الحیوان، والدلیل علیه:

أوّلاً: الاجماع محصّلاً ومنقولاً، مستفیضا لو لم یمکن متواترا، کما فی «الجواهر»، کما تری نقل الاجماع عن السیّد والشیخ وابن زُهرة وابن ادریس والمصنّف والعلاّمة والشهیدین وغیرهم، ولا نقل خلاف فیه إلاّ عن «المبسوط» و«الجمل» و«المراسیم» و«الوسیلة» من الحکم بالنجاسة، غایة الأمر لا تجب إزالة قلیلها وکثیرها بدعوی کونها معفوا عنها.

وثانیا: وجود النصوص المستفاد منها ذلک منطوقا أو مفهوما:

منها: حدیث السکونی، عن أبی عبداللّه علیه السلام ، قال: «إنّ علیا علیه السلام کان لا یری بأسا بدم ما لم یذکّ یکون فی الثوب فیصلّی فیه الرجل یعنی دم السمک».(1)

أقول: ظاهره کون التفسیر للامام الصادق علیه السلام کما فی «مصباح الفقیه»، فعلیه


1- وسائل الشیعة: الباب 23 من أبواب النجاسات، الحدیث 2.

ص:147

یوجب التقیید فی عموم ما لم یذکّ، وینحصر فی السمک، فلابدّ لالحاق غیره بالسمک من اجماعٍ أو نصّ آخر، والمراد من الاجماع هو المرکّب منه، أی بعدم القول بالفصل بین السمک وغیره فی الطهارة والنجاسة.

وهذا بخلاف ما لو کان التفسیر عن الراوی، فلازمه الاعتبار بعموم ما لم یذکّ، الشامل لکلّ ما لم یذکّ من السمک وغیره، اذ المراد من (لم یذکّ) مالا تدخله التذکیة فیشمل کلّ ما لا نفس سائلة له.

ولکن یرد علیه: بأنّ جواز الصلاة فیه أعمٌّ من الطهارة، لامکان أن یکون نجسا معفوا عنه فی الصلاة، نظیر دم الجروح والقروح، فیساعد حینئذٍ کلام من تقدّمت أسامیهم، ولعلّهم بملاحظة هذا الحدیث أفتوا بذلک، وکیف کان فإنّ دلالة الحدیث علی المدّعی یکون بالمنطوق.

ومنها: روایة ابن أبی یعفور فی الصحیح، قال: «قلت لأبی عبداللّه علیه السلام : ما تقول فی دم البراغیث؟ قال: لیس به بأس. قلت: انّه یکثر ویتفاحش؟ قال: وانّ کثر».(1)

بناءً علی أن یکون المراد بعدم البأس هو الطهارة لا کونه نجسا معفوا والاّ یسقط عن الاستدلال.

ومنها: صحیحة الحلبی، قال: «سألت أبا عبداللّه علیه السلام عن دم البراغیث یکون فی الثوب، هل یمنعه ذلک من الصلاة؟ قال: لا».(2)

بأن یکون السؤال من جهة المانعیة بکونه نجسا، فیکون المراد من النفی هو طهارته، والاّ لو کان السؤال من جهة أن نجاسته مانعة بعد الفراغ عن کونه نجسا قطعا، لکان المراد من النفی انّه غیر مانعٍ یعنی معفوّ عنه فی الصلاة.

ولکن الأول أظهر، لأنّه المتبادر الی الذهن من کون أصل النجاسة مانعٌ، ومع


1- وسائل الشیعة: الباب 23 من أبواب النجاسات، الحدیث 1.
2- وسائل الشیعة: الباب 23 من أبواب النجاسات ، الحدیث 4.

ص:148

النفی یرجع الی کونه طاهرا، ولذلک نلاحظ استدلال الفقهاء بمثل الأخبار للطهارة.

ومنها: روایة غیاث عن جعفر عن أبیه علیهماالسلام قال: «لا بأس بدم البراغیث والبقّ وبول الخشاشیف».(1)

ویشهد هذه الروایة کون المراد بنفی البأس هو الطهارة تردیف بول الخشاشیف مع دم البراغیث والبقّ، حیث لم یفت أحدٌ بنجاسته وکونه معفوا، فتصیر هذا قرینة علی أنّ المراد هو الطهارة بمقتضی وحدة السیاق.

أقول: مضافا الی التأیید المستفاد من مکاتبة محمد ابن الرّیان قال: «کتبت الی الرجل هل یجری دم البقّ مجری دم البراغیث، وهل یجوز لأحدٍ أن یقیس بدم البقّ علی البراغیث فیصلّی فیه، وأن یقیس علی نحو هذا فیعمل به؟ فوقع علیه السلام : تجوز الصلاة والطهر منه أفضل».(2)

فإنّ قوله: «والطهر منه أفضل» یکون مراده هو النقاء عنه وتنظیفه، لا تطهیره عن نجاسته، فیمکن أن یکون المراد من تجویز الصلاة فیه لأجل طهارته لا العفو، وان کان احتماله غیر بعید.

اللّهمّ إلاّ أن یحمل علی المعنی الأوّل لأجل الاجماع، أو حذرا عن لزوم العُسر والحرج فی وجوب الاجتناب عنه لنجاسته، لوضوح أنّ العفو إن کان لنفس الدم لا ما یباشره من عرق البدن، فالاجتناب عنه وعن ما یلزمه یوجب العسر الحرج، ولأجل ذلک قامت السیرة واستقرت علی عدم الاجتناب عنه، ولذلک قام الاجماع علیه.

نعم، قد استدل لطهارته بمفهوم الآیة الدالة علی حرمة الدم المسفوح، حیث أن مفهومه طهارة دم غیر المسفوح مثل السمک ونحوه.


1- وسائل الشیعة: الباب 10 من أبواب النجاسات، الحدیث 5.
2- وسائل الشیعة: الباب 23 من أبواب النجاسات، الحدیث 3.

ص:149

لکنّه مخدوش: بأن الآیة لو سلّمنا دلالتها علی النجاسة، کان لدم المسفوح فی قبال الدم المتخلف فی الذبیحة من الحیوان الذی له نفس سائله، لا مطلقا حتّی یشمل کلّ الدماء فی مطلق الحیوان وعلیه، فالاستدلال بمثل هذه الآیة لا یخلو عن ضعف.

استدلال المحقّق رحمه الله : استدلّ المحقق فی «المعتبر» علی طهارته، بانّه: «لو کان نجسا لتوقف اباحة أکله علی سفحه کالحیوان البرّی» انتهی.(1) فهو یدلّ علی حلیّته أیضا ولو بالتبع، فضلاً عن طهارته، فیتم القول فیما عدا مورد النصوص بعدم القول بالفصل.

وفیه ما لا یخفی، أنّه یصحّ لو أمکن فیه السفح، ولیس الأمر کذلک، فلعلّ عدم لزوم السفح فی حلیّة أکله کان لأجل عدم امکانه لا لأجل طهارته.

نعم، یصحّ الاستدلال لطهارته بما فی «المنتهی» بأنّ: «دمه لیس بأعظم من میتته، ومیتته طاهرة» انتهی.

وقد نوقش فیه: أنّه قیاسٌ فی الأحکام وهو غیر صحیح.

أقول: ولکن یمکن أن یستدلّ لذلک بما لا یلزم القیاس، وهو أن یقال بأنّ المیتة من أجزائها الدم، فلو لم یکن الموت سببا لاشتد أو نجاسته لا یکون موجبا لطهارته، فطهارة میتة تدلّ علی طهارة دمه کلحمه وعظمه وسائر اجزائه.

اللّهمّ الاّ أن یجاب عنه: بأنّ الدم ما دام الحیاة کان طاهرا فی لحمه وجسده، فإذا صارت میتة فطهارته ونجاسته منوطة بالدلیل الدالّ علی طهارة میتة، فإذا قام الدلیل علی طهارة میتة، لزم ذلک طهارة دمه أیضا بالتبع، وهو لا یوجب الحکم بطهارته إذا خرجت حیّا عن بدنه إن تمّ الدلیل علی نجاسته، بل لا یعارضه لامکان الجمع بین الحکمین مع وجود الدلیل علی الطرفین من طهارة میتته


1- المعتبر، ج 1، ص 422.

ص:150

ونجاسة دمه إذا خرج عنه حیّا، کما لا یخفی.

وبالجملة: الأقوی عندنا فی الاستدلال علی طهارة السمک وغیره هو الاجماع، وفی غیر السمک دلیل نفی العسر والحرج المقتضی لطهارته، وبذلک یظهر حکم الاجماع المرکّب من عدم القول بالفصل إذا ثبت طهارة أحدهما من ذی لحمٍ وغیره طهارة الآخر به.

حکم الدّم المتخلّف فی الذبیحة

بعد الوقوف علی الأدلة الآنفة، یصل الدور الی الکلام فی طهارة دم المتخلّف فی الذبیحة والمنحورة، وهو علی قسمین:

تارةً: یکون فی مأکول اللّحم، وأخری فی غیره.

أمّا القسم الأول: فقد ادّعی علیه نفی الخلاف کما فی «الجواهر»، کما اعترف به جماعة منهم المجلسی فی «البحار» وتلمیذه فی «کشف اللّثام» و«المختلف» و«کنزالعرفان» و«الحدائق». نعم، قد اختلفوا فی التعبیر، إذ فی «المختلف» قال: «المتخلّف فی عروق الحیوان» وفی «کنزالعرفان» و«الحدائق» قالا: «المتخلّف فی تضاعیف اللّحم» بل الأولی أنه أرید منهما التعمیم حتّی یشمل البطن وغیرها عدا الجزء المحرّم کالطحال لوجود الاختلاف فی طهارته، فدّم جمیع الأجزاء فیه طاهر.

والدلیل علی طهارته: _ مضافا الی ما عرفت من الاجماع _ هو مفهوم قوله تعالی: «أَوْ دَما مَسْفُوحا» لأنّ اباحة أکله مساوق لطهارته، ولزوم العسر والحرج فی نجاسته المستلزم لوجوب الاجتناب عنه، والسیرة المستمرة فی الأعصار والأمصار علی أکل اللّحم مع عدم انفکاکه عن الدم، کفحوی ما دلّ علی اباحة أکل الذبیحة المشتملة علی الدم، کما یؤیّد ذلک صیرورة الماء أحمر مع عصره فیه، فإذا أبیح أکل اللحم ابیح معه الدم المتخلّف فیه.

ص:151

نعم، ناقش صاحب «شارح الدروس» فی هذا الاستدلال: «بعدم الملازمة فی جواز أکل الذبیحة لطهارة الدم فیها، بامکان أن یقال إنّه إذا خرج منه دم یحکم بنجاسته، وإذا لم یخرج ولم یظهر فهو طاهر وإن کان فی اللّحم، ولا یصدق معه حینئذٍ إذا أکل فی ضمن لحمه أکل الدم، بل هو أکل السمک حینئذٍ، بخلاف ما إذا خرج ولا نحکم لأنّ الأحکام تدور مدار الأسماء، ویختلف الاسم قبل الخروج وبعده» انتهی.(1)

وفیه: إنّه ممنوعٌ لأنّ الدلیل إذا ورد علی حلّیة أکل الذبیحة المشتملة علی الدم، لزم منه الحکم بطهارته، فإذا صار ظاهرا فلا وجه للحکم بنجاسته بالخروج إلاّ بقیام الدلیل بالخصوص مثل ما ورد فی الدّم المسفوح الذی ورد فیه ذلک، فیحکم بنجاسته بعد خروجه عن الحیّ الذی کان دمه طاهرا، فإذا لم یکن مسفوحا کان مفهومه طهارة غیره، والاّ لزم لغویة قید السفح، فلا وجه لالحاقه بدم النجس وعلیه، فمجرد الخروج من اللّحم لا یوجب تبدّله من النجاسة بلا دلیل کما لا یخفی، وعلیه فما ذکره من التفصیل فإنّه مضافا الی مخالفته مع اجماع الأصحاب وفتاویهم، لا یساعد علیه الدلیل کما عرفت.

أقول: ومنه یظهر عدم تمامیة التفصیل المنقول عن صاحب «مصباح الفقیه» من حلیّة أکل الدّم المتصل المستهلک فی اللّحم دون المنفصل منه المستقلّ بالاسم الذی یصدق علی أکله أکل الدم، بقوله: «لأنّ الحرام عند استهلاکه فی غیره کالتراب المتمزج بالحنطة المستهلک فیها لا أثر له، بخلاف النجس فانّه لا یستهلک ولا یتبع غیره فی الحلیّة مع وجود عینه أصلاً، وإن کان فی غایة القلّة، بل هو یهلک ملاقیه ویتبعه فی الحکم إذا کان برطوبة مسریّة، ومع اضمحلال عینه وانعدام موضوعه عرفا یقوم ملاقیه مقامه فی الأثر، لوضوح أنّه إذا صار الشیء فی حال


1- مشارق الشموس، ص 305.

ص:152

کونه فی اللّحم أو الکبد طاهرا وحلالاً فلا وجه للحکم بالحرمة والنجاسة مع الانفصال، الاّ مع ورود دلیل بالخصوص علی حرمته ونجاسته، ولذلک تری الحکم بطهارة الدم الخارج عن الکبد واللّحم إذا عُصر أو إذا وقعا علی النار، ویخرج منهما الدم والرطوبة، ویقع علی الظرف بعد التثویة، فإنّ أکل مثل هذا الدم حلالٌ قطعا وطاهر مع صدق الدم علیه عرفا فی أوّل الطبخ، فالتفصیل المذکور غیر جارٍ هنا ولو سلّمناه فی غیر المقام».

نعم، قد یناقش فی مفهوم قوله تعالی: «أَوْ دَما مَسْفُوحا» بأن دلالتها علی حلیّة الدم المتخلّف: إمّا أن یکون بواسطة الحصر أو الوصف، وکلاهما لا یخلو عن اشکال.

أمّا الأوّل: فلانّه حصر اضافی لمستفاد من النفی والاثبات من قوله تعالی: «لاَ أَجِدُ... إِلاَّ أَنْ یَکُونَ» لأنّه کان بالنسبة الی الأطعمة المعهودة التی حرّمها بعض العرب علی أنفسهم افتراءً علی اللّه تعالی المستفاد من الآیة الواردة فی سورة الانعام: «وَقَالُواْ مَا فِی بُطُونِ هَذِهِ الأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِّذُکُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَی أَزْوَاجِنَا»(1) و الاّ لزم تخصیص الأکثر المستهجن، فإنّ المحرّمات من الحیوانات البریّة والبحریّة وغیرها فوق حدّ الأحصاء، فلا یجوز رفع الید عن ظاهر الآیة المحکمة المتقدمة الدالّة علی الحرمة للدم بواسطة مفهوم الحصر الذی متشابه علینا أمره.

وأمّا مفهوم الوصف: فهو مع ضعف دلالته فی حدّ ذاته علی المفهوم، لم یقصد به فی مقام الاحتراز عن مطلق غیر المسفوح، کما قد یتوهّم، لأنّ أغلب أفراده محرّم بل کثیر منها نجس، فلا یبعد أن یکون المراد به بیان قصر المحرّم من الذبیحة علی دمها المسفوح فی مقابل الدّم المتخلف، وکفی بکونه نکتةً للتقیید عدم حرمة


1- سورة الانعام، آیة 145.

ص:153

المتخلّف، سواءٌ کان بنفسه موضوعا للحلیة أو بواسطة تبعیته اللّحم واستهلاکه فیه، فلا یفهم من ذلک حلیّته من حیث هو حتّی یتقید به اطلاق آیة التحریم.

نعم، یفهم منه بالالتزام طهارته وإن انفصل واستقلّ لما أشرنا الیه من أن النجس لا یکون تابعا أصلاً حتّی یفصل بین حالتی الاستقلال والتبعیة...) انتهی ما فی «مصباح الفقیه»(1).

أقول: ولا یخفی ما فیه فی کلا الموردین:

أمّا فی الأوّل: فلأنّ الآیة المشتملة علی هذا الحصر واردة فی مورد تحلیل الأکل، ولو سلّمنا کونها ردا علی ما حرّموه فدلالتها علی حلیّة غیر المسفوح ثابتة بمفهوم الحصر وهو حجة، فبذلک نقید اطلاق قوله تعالی: «حُرِّمَتْ عَلَیْکُمُ الْمَیْتَةُ وَالْدَّمُ»فتکون الحرمة فی دم المسفوح فی الحیوان بقرینة المیتة الواقعة قبله ولحم الخنزیر بعده، فلا ینافی ذلک کون غیر دم المسفوح من الحیوان کدم الرعاف أو الحک أو الشوک حراما أکله، لأنّه اذا جعل مورده فی خصوص ما یذبح، الذی یفهم من کلمة (المسفوح) فلا یستلزم حینئذٍ تخصیص الأکثر، کما یستلزم ذلک أیضا طهارة غیر المسفوح المسمّی بدم المتخلّف الذی اعترف نفسه الشریف به.

أقول: ومثل ذلک یجری فی مفهوم الوصف المؤیّد بمفهوم الحصر، فدلالة الآیة علی حلیة أکل دم المتخلّف وطهارته غیر بعید، واطلاقه یشمل حتّی ما لو انفصل واستقلّ أیضا، کما عرفت وجوده فی دم الکبد واللّحم حین الشّواء، فانّ أکل الدم الخارج منهما حلال وطاهر، مع أنّه یصدق علیه الدم عرفا، وعلیه لم یبق للفقیه شک حتّی یقال بأن المورد من مصادیق استصحاب الخاص وهو النجاسة دون أصالة العموم، فالمسألة عندنا واضحة.


1- مصباح الفقیه، ج 7، ص 145 _ 144.

ص:154

حکم الدم المتخلّف فی الاجزاء المحرّمة

الکلام فی أن دم المتخلّف فی المأکول إذا کان طاهرا، فهل یکون کذلک فیما یحرم أکله کالطحال أم لا؟ فیه خلاف.

صرّح فی «جامع المقاصد» و«الروض» بنجاسة دمه، لعموم أدلّتها من ذی النفس، ولحرمة أکله، وفی «الجواهر» بعد نقل ذلک قال: «وفیه تأمّل، لوجوب الخروج عن عموم أدلّة ذی النفس من النجاسة، لما عسی یظهر بالتأمّل فی کلمات الأصحاب من الاتفاق علی طهارة ما عدا المسفوح من دم الذبیحة، وعلی أنّه لو غَسل المذبح أو أنّه قطع من أسفل بعد الذبح، لم یبق فیها شیءٌ نجس أصلاً، وقول بعض الأصحاب: المتخلّف فی اللّحم) یرید المقال أو ما یشمل الطحال، وإلاّ فلا ریب فی طهارة دم الکبد ونحوه، وحرمة الأکل لا تستلزم النجاسة قطعا...».(1)

أقول: ولقد أجاد فیما أفاد، حیث لم یقیّد طهارة دم المتخلّف بکونه حلالاً أکله حتّی یجعل ذلک ملاکا لنجاسته اذا لم یحلّ أکله، بل الملاک فی طهارته هو صدق دم المتخلّف فی الذبیحة، وهو یصدق علیه أیضا، فیشمله معاقد الاجماعات، واللّه العالم.

والنتیجة: بعد الوقوف علی خروج دم المتخلّف عن حرمة الأکل والنجاسة فی دم ذی النفس، فإنّه لابدّ فیه من الاقتصار فیه علی المتیقن منه، وهو المتخلّف بعد خروج تمام المعتاد بما یقذفه المذبوح، لا مع عدمه کالمذبوح مثلاً فی أرض منحدرة ورأسه الی الأعلی فلم یقذف، أو الجاذب بأنفه من الدم المسفوح زیادة علی المعتاد، فإنّ هذا المتخلّف خاصة نجسٌ لعموم الأدلّة السابقة، من غیر فرق بین تخلّفه فی البطن أو غیرها لا غیره من الکائن فی اللّحم ونحوه ممّا لم یکن من شأنه أن یقذف.


1- الجواهر، ج 5، ص 393.

ص:155

نعم، هو یتنجس باختلاطه معه، کما یتنجّس بمباشرة آلة المسفوح أو ید الذابح قبل غسلهما مثلاً، هذا کما فی «الجواهر» وهو وجیهٌ.

البحث عن المراد من اسم الذبیحة

المراد من الذبیحة فی کلمات الأصحاب هو الحیوان المذکی بالتذکیة الشرعیة، سواء کان بالذبح أو بالنحر أو غیرهما مثل ضرب السکین علی البقر الواقع فی البئر لا یمکن اخراجه إلاّ بقتله کذلک، أو ما یذبح بالصید اذا صدق علیه التذکیة شرعا. بل فی «الجواهر»: «لا یبعد الالحاق فیما کانت تذکیته بالتبع مثل الجنین الداخل فی الرّحم فی الحیوان، حیث تکون ذکاته بذکاة أمّه، فیعفی حینئذٍ عن جمیع ما فیه من الدم» لکن علی اشکال کما فی «الجواهر»، مع أن الظاهر کونه طاهرا والاّ یشکل حلیّة أکل لحمه، لأنّه ربما لا یمکن اخراج دمه بعد الولادة فیسقط عن الانتفاع لو قلنا بنجاسته، وهو مخالفٌ لظاهر الأدلّة والمقطوع به عند الأصحاب.

أقول: ومنشأ الاشکال عند من یحکم بنجاسة _ کالمحقّق الآملی رحمه الله _ شیئان:

أحدهما: أن المحکوم علیه بالطهارة هو الدم المتخلّف فی الذبیحة بعد خروج المقدار المتعارف منه، فمن حیث أنّ الدم الموجود فی الجنین لیس من المتخلّف فی الذبیحة، لا یشمله معقد الاجماع، ومع الشک فیه یجب الوقوف علی المتیقن، فیرجع فی المشکوک الی عموم مرسل نجاسة دم ماله نفس سائله لو کان المورد من قبیل التمسّک بعموم العامّ عند الشکّ فی مصداق المخصّص، لکون المخصص لبّیا وهو الاجماع.

وثانیهما: أنّ معقد الاجماع هو الدم المتخلّف فی الذبیحة، ونسلّم صدق المتخلّف علی الدم الموجود فی الجنین، لکن یشکّ فی المراد من الذبیحة بانّه هل هو خصوص معناها اللّغوی، أعنی ما یرد علیه الذبح، أو مطلق المحکوم علیه

ص:156

بالتذکیة الشرعیّة، ولو بذکاة أمّه، فالقدر المسلّم فی هذا الشکّ أیضا هو الأوّل، ویرجع فی المشکوک الی أصالة النجاسة، هذا کما فی «مصباح الهدی»(1).

وفیه: کلا الأمرین لا یخلو عن وهنٍ:

أما الأول: فلوضوح أن ملاک المتخلّف هو ما من شأنه کذلک، لا ما لا یکون تذکیة الاّ بتذکیة أمّه، فبالملازمة یکون دم المسفوح فیه أیضا بما هو مسفوح من أمّه لا ما یبقی فی الولد، إذ لا یصدق علیه الاّ المتخلّف بواسطة أمّه من جهة دلیل التنزیل.

وأمّا الثانی: فهو أیضا موهون، لأنّ المراد من المتخلّف إن کان منحصرا بالذبح، فلابدّ الاشکال فی المنحور حیث لا ذبح فیه، مع أنّه داخل فیه قطعا، ولیس وجه دخوله الاّ صدق التذکیة علی مثله.

وعلیه فالأقوی عندنا هو طهارته وحلیة أکله، وإن کان الاجتناب عن أکله لو کان منفصلاً مستقلاً أوفق بالاحتیاط.

أقول: بعد الوقوف علی ما بیّناه من لزوم صدق التذکیة شرعا فی حلیّة أکله وطهارته، یظهر أنّه لو فُقد بعض ما یعتبر فی التذکیة من البسملة أو القبلة أو الاسلام أو البلوغ، دخلت المذبوحة فی المیتة وینجس دمها لعموم الأدلّة، إذ لیس المدار مطلق خروج الدم المسفوح، بل الخروج علی الوجه الشرعی مطهّر ومحلّل کما لا یخفی.

حکم الدم المتخلّف فی المذکی غیر المأکول

الکلام فی الدّم المتخلّف فی المذکی من غیر المأکول کالثعلب والهرّة والسباع، فهل هو نجسٌ أم طاهر؟ فیه قولان:

1. قول بالنجاسة وهو المنقول عن «البحار» و«الذخیرة» و«الکفایة» و«شرح الخوانساری» و«الحدائق» و«المفاتیح» وأنّ دم مثل هذا الحیوان نجسٌ سواءٌ کان


1- مصباح الهدی، ج 1، ص 368.

ص:157

مسفوحا أو متخلفا، تمسّکا باطلاق الأصحاب من نجاسة دم ذی النفس، مع تنزیل ما استثنوه من دم الذبیحة علی المعتاد منها وهو المأکول، بل مطاوی کلماتهم کالصریحة بذلک، فیدخل دمه تحت عموم نجاسة الدم بلا معارض.

2. وقول بالطهارة کما علیه صاحب «کشف اللّثام»، والعلاّمة الطباطبائی فی «منظومته» حیث قال:

والدّم فی المأکول بعد قذف ما یقذف طهرٌ قد أحلّ فی الدماء

والأقربُ التطهیر فیما یحرم من المذکی وعلیه المعظم

کما علیه صاحب «الجواهر»، حیث یقول بعد نقل ما سبق: «قلت: إن تمّ اجماعا کان هو الحجّة، والاّ کان للنظر فیه مجال» مستدلاً بظهور مساواة التذکیة فیه لها فی المأکول بالنسبة الی سائر أحکامها عدا حرمة الأکل، ولفحوی ما دلّ علی طهارته بالتذکیّة، بل لعلّ ذلک شاملٌ لجمیع أجزائه التی منها الدّم عدا ما خرج، وللعسر والجرح فی التحرّز عنه إذا أرید أخذ جلده، أو الانتفاع بلحمه فی غیر الأکل، بل لا یمکن استخلاص اللّحم منه القاضی بعدم الفائدة للحکم بطهارته.

بل قد یزید علی الاستدلال بقوله: «أَوْ دَما مَسْفُوحا» الدالّ علی طهارة غیر المسفوح من المذکی، سواء کان مأکولاً أو غیر مأکول، ولأجل ذلک قلنا وحکمنا بطهارة دم الطحال مع عدم کونه مأکولاً، وإن کان من أجزاء حیوان المأکول، فلو کان الملاک فی الطهارة والنجاسة فی دم غیر المسفوح کونه مأکولاً، لزم منه نجاسة دم الطحال أیضا، اللّهمّ الاّ أن یجعل الشرط فی الطهارة والحلیة أمران: کونه دم المتخلّف من المذکی، وکونه من مأکول اللحم، فلازمه حینئذٍ نجاسة دم المتخلف فی غیر المأکول، وهو لا یناسب مع اطلاق الآیة ومع اطلاق کلمات الأصحاب، حیث قالوا بطهارة دم المتخلّف فی المذبوح، من دون ذکر کونه ممّا یؤکل کما ورد ذلک فی «القواعد» و«الموجز» و«البیان» وغیرها، مع انّه لو أرید

ص:158

السادس والسابع: الکلب والخنزیر، وهما نجسان عینا ولعابا(1)

بالذبیحة فی کلامهم خصوص المأکول لکونه المعهود، أوجب ارادة خصوص ما تعارف أکله لامثل الخیل والحمیر، هذا.

ولکن یمکن أن یقال فی ردّ اطلاق الآیة: بأنّ مناسبة الحکم للموضوع من تحریم الأکل فی المیتة ولحم الخنزیر، وفی سیاقه ذکر دم المسفوح، یفهمنا بعد التأمّل فیها أنّ ذکر هذه الأمور کان من حیث المانعیة عن حلیة الأکل، ولأجل ذلک یحکم بحلیة المذکی حیث لم یکن میتة، وکان داخلاً تحت قوله تعالی: «إِلاَّ مَا ذَکَّیْتُمْ»من حیث حلیة الأکل، فیعلم من ذلک بأنّ التذکیة الموجبة لحلیة الأکل والطهارة للدم لا یکون الاّ فی المأکول لا فی غیره، وعلیه فالتمسّک باطلاق الآیة أو بکلمات الأصحاب فی الذبیحة حتّی یشمل دم غیر المأکول ویحکم بالطهارة لا یخلو عن اشکال، ولذلک ذهب کثیر من المتأخّرین کصاحب «العروة» وأصحاب التعلیق وفاقا لنا الی الاحتیاط الوجوبی بالاجتناب، ولیس ذلک الاّ لعدم الاطمئنان بمثل هذا الاطلاق للحکم فیه بالطهارة، واللّه العالم.

(1) لا اشکال ولا خلاف فی البریّان منهما، ولا یقبلان التطهیر الاّ بالخروج عن مسمّاهما بواسطة الاستحالة، کما هو الأصل فی کلّ موضوع یکون حکم نجاسته مدار اسمه.

والدلیل علیه: مضافا الی قیام الاجماع المحصّل والمنقول کما عن «الخلاف» علی الخنزیر، وفی غیره علی الکلب، وکما فی المنقول بنجاسة کلیهما فی «الذکری» و«المدارک» فی عینهما ولعابهما کما فی «المنتهی» و«التذکرة» و«کشف اللّثام» و«المعتبر» بل وهو من ضرورة المذهب.

أنّه فی الخنزیر ورد فی نجاسته صریح القرآن فی قوله تعالی فی موضعین،

ص:159

وهما: «إِلاَّ أَن یَکُونَ مَیْتَةً أَوْ دَما مَّسْفُوحا أَوْ لَحْمَ خِنزِیرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ»(1) و: «حُرِّمَتْ عَلَیْکُمُ الْمَیْتَةُ وَالْدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِیرِ»(2) و الضمیر الوارد إمّا راجع الی کلّ واحدٍ فیشمل لحم الخنزیر، أو راجع الی خصوص لحم الحنزیر أو الخنزیر نفسه علی کلّ حال، وعلی أیّ حال، فإنّ الآیة تدلّ علی النجاسة ان کانت کلمة (رجس) بمعنی النجس، بل فی «الجواهر» إنّه هنا بمعنی النجاسة، والتأمّل فیه ضعیف، ویؤیّده ما سیأتی فی الروایة من ظهوره فی النجس، ویلحق به الکلب باجماع المرکب من عدم القول بالفصل بینهما. حکم الکب و الخنزیر

هذا، مضافا الی دلالة نصوص کثیرة معتبرة فیها الصحیح علی هذا الحکم:

منها: صحیح محمد بن مسلم، قال: «سألت أبا عبداللّه علیه السلام عن الکلب یصیبُ شیئا من جسد الرجل؟ قال: یغسل المکان الذی أصابه»(3).

ومنها: عنه أیضا، عن أبی عبداللّه علیه السلام ، قال: «سألته عن الکلب یشرب من الاناء؟ قال: اغسل الاناء»(4).

ومنها: صحیح الفضل أبی العباس، قال: «قال أبو عبداللّه علیه السلام : إذا أصاب ثوبک من الکلب رطوبةً فاغسله، وإن مسّه جافا فاصبب علیه الماء»(5).

ومنها: عنه أیضا فی حدیثٍ «أنّه سأل أبا عبداللّه علیه السلام عن الکلب، فقال: رجس نجس لا تتوضأ بفضله، واصبب ذلک الماء واغسله بالتراب أوّل مرّة ثمّ بالماء»(6).


1- سورة الانعام، آیة 14.
2- سورة المائدة: آیة 3.
3- وسائل الشیعة: الباب 12 من أبواب النجاسات، الحدیث 4.
4- المصدر السابق، الحدیث 3.
5- وسائل الشیعة: الباب 12 من أبواب النجاسات، الحدیث 1.
6- المصدر السابق، الحدیث 2.

ص:160

ومنها: مرسل حریز، عن أبی عبداللّه علیه السلام ، قال: «إذا ولغ الکلب فی الاناء فصبّه»(1).

ومنها: روایة معاویة بن شریح، عن أبی عبداللّه علیه السلام فی حدیثٍ: «أنّه سُئل عن سؤر الکلب یشرب منه أو یتوضأ؟ قال: لا، قلت: ألیس هو سبعٌ؟ قال: لا، واللّه إنّه نجسٌ، لا واللّه انّه نجس»(2).

فانّ حلفه علیه السلام باللّه فی ذلک، یؤذن بأنّه فی مقابل الانکار فیه، بدعوی کونه طاهرا لانّه من السباع، فیصیر هذا الخبر قرینةً علی امکان حمل بعض ما یدلّ علی الطهارة علی التقیة علی أحدٍ من المحامل.

ومنها: روایة أبی بصیر، عن أبی عبداللّه علیه السلام فی حدیثٍ، قال: «لا یشرب سؤر الکلب إلاّ أن یکون حوضاً کبیرا یستقی منه»(3).

الی غیر ذلک من الروایات الواردة فی الکلب الدالّة علی نجاسته.

وأمّا الخنزیر: فقد وردت فیالنصوص ما یدلّ علی نجاسته، وهو أیضا کثیر وفیها الصحیح:

منها: صحیح علی بن جعفر، عن أخیه موسی علیه السلام ، قال: «سألته عن الرجل یصیب ثوبه خنزیر فلم یغسله، فذکر وهو فی صلاته، کیف یصنع به؟ قال: إن کان دخل فی صلاته فلیمض، وإن لم یکن دخل فی صلاته فلینضح ما أصاب من ثوبه، إلاّ أن یکون فیه أثر فیغسله. قال: وسألته عن خنزیر شرب من اناءٍ کیف یصنع به؟ قال: یغسل سبع مرّات»(4).

فإنّه یدلّ علی المطلوب بصدره وذیله، بعد حمل جملة: «أصاب ثوبه خنزیر»


1- المصدر السابق، الحدیث 5.
2- المصدر السابق، الحدیث 6.
3- وسائل الشیعة: الباب 12 من أبواب النجاسات، الدیث 7.
4- وسائل الشیعة: الباب 13 من أبواب النجاسات، الحدیث 1.

ص:161

علی صورة الجفاف حیث لا یضرّ مع عدم التذکر إلاّ بعد الدخول فی الصلاة، کما لایضرّ إذا علم قبل الصلاة فإنّه أیضا لا یجب غسله بل ینضح ویرشّ علیه الماء.

نعم، هذا إذا لم یؤثر فی الثوب، وأمّا لو أثر بأن کانت الملاقاة مع الرطوبة، فلابدّ من غسله هذا بالنسبة الی الصدر، کما یدلّ علیه ذیله من الحکم بالغسل لشرب الخنزیر عن الماء، بل قد یستفاد من هذا الحدیث عدم وجوب الغسل للاصابة بالنداوة المؤثرة کما لا یخفی، کما أنّ الأمر کذلک فی سائر النجاسات أیضا.

ومنها: روایة سلیمان الاسکاف، قال: «سألت أبا عبداللّه علیه السلام عن شعر الخنزیر یخرز به(1)؟ قال: لا بأس به، ولکن یغسل یده إذا أراد أن یصلّی»(2).

فإنّ الأمر بغسل الید للصلاة لیس الاّ لنجاسته وممّاسته مع الید بالرطوبة والعرق الموجب لتنجسّه.

ومنها: خبر خیران الخادم، قال: «کتبتُ الی الرجل أساله عن الثوب یصیبه الخمر ولحم الخنزیر، أیصلّی فیه أم لا، فإنّ أصحابنا قد اختلفوا فیه، فقال بعضهم، صلّ فیه فإنّ اللّه حرّم شربها، وقال بعضهم: لا تصلّ فیه؟ فکتب علیه السلام : لا تصلّ فیه فإنّه رجس»(3).

فإنّ الرجس هنا بمعنی النجس فهو یصیر دلیلاً علی أنّ المراد من الرجس المستعمل فی لحم الخنزیر والمیتة والدم فی الآیة هو النجس دون الخبیث وان کان استعماله فی الخبیث صحیحا أیضا فی غیر موضعنا.

أقول: نعم، قد یشاهد فی بعض الأخبار خلاف ذلک من تجویز الوضوء عن ما ولغ فیه الکلب:

منها: خبر ابن مسکان فی الصحیح عن أبی عبداللّه علیه السلام ، قال: «سألته عن


1- یخرز به أی أن یخاط به.
2- وسائل الشیعة: الباب 13 من أبواب النجاسات، الحدیث 3.
3- المصدر السابق، الحدیث 2.

ص:162

الوضوء بماءٍ ولغ الکلب فیه والسّنور أو شَرب منه جمل أو دابّة أو غیر ذلک أیتوضأ منه أو یغتسل؟ قال: نعم، إلاّ أن تجد غیره فتنزّه عنه»(1).

حیث أنّ الذی یخطر بالبال بدوا جواز ذلک حتّی عن اناءٍ ولغ الکلب فیه، ولو کان قلیلاً، ولکن لا یبعد حمله علی الماء الکثیر مثل ماء الأودیة کما قد یؤیّد ذلک شرب الجمل والدّابة عنه، بل یؤمی الیه فی الجملة امکان الاغتسال به حیث لا یکون غالبا الاّ بماء کثیر، کما قد أشیر الیه فی روایة أبی بصیر فی سؤر الکلب حیث منع عن شربه، (إلاّ أن یکون حوضاً کبیرا یستقی منه) وعلیه فما حمله الشیخ علی ما عرفت أمر وجیه، وموجب لرفع التنافی بینه وبین ما سبق أو یحمل علی التقیة.

ومنها: خبر زرارة، عن أبی عبداللّه علیه السلام ، قال: «سألته عن الحبل یکون من شعر الخنزیر یستقی به الماء من البئر، هل یتوضأ من ذلک الماء؟ قال: لا بأس»(2) حیث یحتمل کونه لأجل عدم العلم بملاقاة الشعر بالماء الموجود فی الدلو دون حمله علی کون السؤال عن ماء البئر الذی لاقی الشعر، أو یکون دلیلاً لمقالة السیّد المرتضی من طهارة ما لا تحلّه الحیاة، بخلاف ما وقع فی خبر زرارة قال: «سألت أبا عبداللّه علیه السلام عن جلد الخنزیر یجعل دلوا یستقی به؟ قال: لا بأس»(3) حیث حمله صاحب «الحدائق» علی کون السؤال عن ماء البئر فأجاب علیه السلام بلا بأس لا ماء الدلو، وهذ الحمل بعید عن مساق الخبر، لظهور السؤال عن حکم الدلو الذی یُستقی به، فحمله علی الاستسقاء للبساتین ونحوها أولی من الحمل الذی ذکره صاحب «الحدائق».


1- وسائل الشیعة: الباب 2 من أبواب الاسآر، الحدیث 6.
2- وسائل الشیعة: الباب 14 من أبواب الماء المطلق، الحدیث 2.
3- المصدر السابق، الحدیث 16.

ص:163

نعم، یصحّ هذا الحمل فی خبر قیل إن زرارة رواه عن الصادق علیه السلام ، قال: «قلت له جلد الخنزیر یُجعل دلوا یستقی به من البئر، یشرب منها؟ فقال: لا بأس»(1) إن کان واردا کذلک، أو یحمل علی التقیة لو أراد من عدم البأس هو ماء الدلو، ولو مع ملاقته مع الشعر.

أقول: وکیف کان، فقد ظهر من جمیع هذه الأخبار نجاسة الکلب والخنزیر بلا اشکال، حتّی لعابهما کما أشار الی ذلک الأخبار السابقة مثل صحیحة الفضل، بقوله: «إذا أصاب ثوبک من الکلب رطوبة فاغسل وإن مسّه جافا فصبّ علیه الماء»(2).

فرع: لا فرق فی نجاسة اجزائهما بین ما تحلّه الحیاة وما لا تحلّ، لما قد عرفت من الحکم بوجوب غسل الید فی خبر سلیمان الاسکاف(3) بملاقاته مع شعر الخنزیر من جهة خزره وخیاطته به، وحکم بوجوب غسله إذا أراد أن یصلّی. خلافا للمحکی عن السیّد المرتضی حیث یقول بطهارة شعرهما بل وسائر ما لا تحلّه الحیاة منهما، ناسبا ذلک إلی مذهب الأصحاب، مستدلاً علیه بالاجماع.

وفیه: إنّه قول نادر ولم یذهب الی هذا القول أحد الاّ جدّه الناصر علی ما حکی عنه، فیکون دعواه الاجماع مردودا، إذ لم یسبقه أحد الی ذلک، أو کان مراده منه هو القاعدة کما هو الدأب فی غالب ما إدّعاه من الاجماع، أو لاحتمال أنّه تخیّل أنّ ما لا تحلّه الحیاة لیس من الاجزاء، والاجماع قائم علی طهارة ما لیس من اجزائهما، مع انّه ضعیف جدّا لصدق الجزئیّة والاسمیّة علی مثل الشعر وغیره ممّا لا تحلّه الحیاة فیکون نجسا بنجاسة أصل الکلب والخنزیر، واللّه العالم.


1- هذا الخبر بهذا السند غیر موجود فی کتب الأحادیث، بل الموجود فی خبره هو شعر الخنزیر لا جلده.
2- وسائل الشیعة: الباب 12 من أبواب النجاسات، الحدیث 1.
3- المصدر السابق، الحدیث 2.

ص:164

حکم الکلب و الخنزیر البحری

اعلم أنّ النجاسة التی تحدّثنا عنها آنفاً متعلقة بالبرّیین منهما لا البحرییّن، لانصراف الأدلّة لدی الاطلاق عن الثانی، بل ربّما یدعی أنّ اطلاق اسمهما علی البحرییّن منهما کان علی سبیل المجاز أو الاشتراک اللّفظی، نظراً الی کون البحری منهما طبیعته مغایرة للماهیة المعهودة المسمّاة باسم الکلب أو الخنزیر مشابهة لها فی الصورة کالإنسان البحری، وعلیه فلا شبهة فی الانصراف عنهما.

ولو سلّم شمول الاطلاق لهما _ مع أنّ أصالة الطهارة باطلاقها وعمومها شاملة لهما عند الشکّ فی نجاستهما _ فإنّه یمکن استفادة طهارة الکلب المائی من تعلیل صحیحة ابن الحجّاج المرویّة فی «الکافی»، قال: «سَئل أبا عبداللّه علیه السلام رجل وأنا عنده عن جلود الخزّ، فقال: لیس بها بأس، فقال الرجل: جُعلت فداک إنّها فی بلادی وإنّما هی کلابٌ تخرج من الماء، فقال أبو عبداللّه علیه السلام : إذا خرجت من الماء تعیش خارجة من الماء؟ فقال الرجل: لا، فقال: لا بأس»(1).

والمستفاد من ظاهره أنّ الامام أراد بیان أنّ الکلب الّذی لا یجوز استعمال جلده لأجل نجاسته، هو الذی یعیش خارج الماء أی البرّی منه، وقد استفاد الشیخ الأعظم رحمه الله فی «طهارته» من هذا التعلیل التعمیم للخنزیر أیضاً، فکأنّه أراد رحمه الله بأنّ بیان الامام یفهمنا قاعدة کلّیة وهی إن کان نجسا هو الذی کان حاله هکذا بلا فرق بین الکلب والخنزیر، فالتعلیل حینئذٍ یشمل کلّیهما.

لکن ناقشه المحقق الآملی وقال: «وما أفاد وإنْ لا یخلو عن التأمل، حیث یمکن أن یقال باختصاص التعلیل بخصوص کلب الماء فلا یتعدّی منه إلی غیره».

أقول: الانصاف أن کلام الشیخ لا یکون خالیا عن الوجاهة قضیة للمشهور علی الألسنة بأنّ العلّة مخصّصة ومعمّمة، ولکن مع ذلک یمکن الحاق الخنزیر به


1- وسائل الشیعة: الباب 10 من أبواب لباس المصلّی، الحدیث 1.

ص:165

ولو نزا کلبٌ علی حیوانٍ فأولده، روعی فیالحاقه بأحکامه اطلاق الاسم (1)

بالاجماع المرکّب من عدم القول بالفصل، کما لا یخفی.

فما عن الحلّی من القول بالنجاسة واستقربه العلاّمة فی المحکّی عن «المنتهی»، وتردّد الشهید فی «البیان» استدلالاً بصدق اسمهما علیهما، وشمول الاطلاق فی نجاستها لهما ممنوعان ومردودان کما عرفت، واللّه العالم.

(1) لا یخفی أنّ الجمع بین حیوانین نجسین کالکلب والخنزیر أو أحدهما مع طاهرٍ قد یتولّد منهما ما یُسمّی بأحدهما یوجب اللحوق به من حیث النجاسة والولوغ وغیرهما من الأحکام، لأنّ الأحکام تابعة للموضوعات، والموضوع ههنا ما یسمّی بذلک الاسم. وأمّا لو لم یتولّد منهما أو من أحدهما إلاّ ما صدق علیه اسم حیوانٍ طاهر، کما لو جمع الکلب مع الغنم فخرج منهما الغنم، أو خرج من النجسین الهرّة، فلازم ما ذکرنا من کون الحکم تابعا للاسم هو الحکم بطهارة المتولّد، لشمول ادلّته من الطهارة والنجاسة بواسطة العمومات المثبتة لذلک، وهذا هو المشهور بین المتقدّمین والمتأخّرین کما هو صریح «کشف اللّثام» و«کشف الغطاء» وظاهر «المدارک»، وهو مختار صاحب «الجواهر» و«مصباح الفقیه» و«العروة» وأکثر أصحاب التعلیق.

خلافا لجماعةٍ منهم الشهیدان والمحقّق الثانی، فحکموا بنجاسة المتولّد بین النجسین مطلقا، سواءٌ کان بصورة أحدهما أو لم یکن بل کانت بصورة غیرهما، معلّلین بکونه جزءا منهما، فهو حقیقة منهما وإن اختلفت صورته.

أقول: ولا یخفی ما فیه لمنافاته مع الأصول والأدلّة بعد فرض المباینة، وإن لم یصدق علیه اسم حیوان طاهر، لعدم الدلیل علی نجاسته، فمقتضی الأصل هو

ص:166

طهارته، وکونه جزءا منهما لا یسوّغ اجراء استصحاب نجاسته بعد الاستحالة وانقلاب الموضوع.

ودعوی: بقاء الموضوع عرفا لکونه محکوما بالنجاسة ما دام کونه جنینا فی بطن اُمّه قبل ولوج الروح فیه تبعا للاُمّ، وولوج الروح فیه لا یوجب ارتفاع الموضوع عرفا.

غیر مسموعة: لأنّه لو سلّمنا التعبیّة بالاُمّ فی صدق الجزئیّة لهما، إنّما یکون ذلک قبل ولوج الروح فیه نظیر سایر احشاء الاُمّ، وأمّا بعد ولوج الروح واستقلال الاسم فلا، إذ العرف لا یقضی بکونه جزءا من الاُمّ، لخروجه عن اتصاف الجزئیّة الموجب للحکم بنجاسته. مع أنّ أصل تبعیّة الجنین للاُمّ فی نجاستها غیر ثابتة ومسلّمة. وکونه جزءا منها ممنوعٌ إذ هو شیءٌ أجنبی عن الاُمّ، مخلوق فی جوفها کدودة مخلوقة من العذرة لا تکون ملحقه بالعذره واقعه فی المعدّة، حیث لا تعدّ جزءا من الانسان، بل هی مخلوق مستقل حکمه تابع لاسمه، فهکذا یکون فی المقام، برغم انّ العرف یحکم بنجاسة الجنین فی الکلب ولیس ذلک إلاّ لأجل التعبیّة للاُمّ، بل یفهم النجاسة من حکم الشارع بنجاسة جثة الحیوان الذی یصدق علیه الاسم قبل ولوج الروح أو بعده أو بعد موته، ولذلک لولا هذا الاطلاق بالاسم وعروض الشک فی حکم الجنین المتولّد من الکلب، لکان مقتضی الأصل الطهارة بعد الاستحالة إلی أن یتحقّق الجثة ویلج فیها الروح وتلحق بالکلب النجس، ولکن العرف یأبی عنه ویقولون بأنّه کلب مثلاً إذا لم تخرج جثّته عمّا هو ملحق به. وعلیه فالمسألة غیر دائرة مدار التبعیّة کما توهّم، بل تدور مدار الاسم ویتّبعه حکمه.

وممّا ذکرنا ظهر حکم کلّ متولّدٍ منهما أو من أحدهما من حیث الطهارة والنجاسة إلی ما یصدق علیه الاسم، ولو کان خارجا عن جنین النجسین. نعم، لو

ص:167

وما عداهما من الحیوان فلیس بنجسٍ، وفی الثعلب والأرنب والفأرة والوزغة تردّدٌ والأظهر الطهارة (1)

لم تکن صورته موجودة فی الخارج حکم فیه بالطهارة لأجل عموم دلیل (کلّ شیء طاهر حتّی تعلم انّه قذر)، ومجرّد کون منشؤه نجسا لا یوجب الحکم بنجاسته وإن کان الاحتیاط بالاجتناب عنه فی هذه الصورة أقوی من الاحتیاط فی صورة کونه مشابها للطاهر فی الخارج، لقوّة احتمال الذی ذکره بعض الفقهاء هنا، وعدم وجود معارض له کما وجد فی الصورة السابقة لأجل الاطلاقات کما لا یخفی، ولهذا حکم صاحب «العروة» بالاحتیاط فی الاجتناب عن مثله، ووافقه علیه بعض أصحاب التعلیق، وعلیک بالتأمّل والدقّة. حکم بعض الحیوانان

(1) إنّ التردّد فی حکم الأربعة المذکورات منشؤه اختلاف فتوی الفقهاء، الناشئة عن اختلاف الأخبار، فلا بأس بذکر الأقوال ثمّ الأخبار:

فأمّا الأوّل: فعن السیّد والشیخ فی «المبسوط» والحلّی وعامة المتأخّرین القول بطهارتها.

خلافا لبعضٍ آخر مثل الشیخ فی «النهایة» حیث قال: «وإذا أصاب ثوب الانسان کلبٌ أو خنزیر أو ثعلب أو أرنب أو فأرة أو وزغة وجب غَسل الموضع الذی مع الرطوبة»، ولکنّه فی باب المیاه من الکتاب المذکور نفی البأس عمّا وقعت فیه الفارة من الماء الذی فی الآنیة، إذا خرجت منه، وکذا إذا شربت، وجعل ترک استعماله علی کلّ حال أفضل؛ فهذا یوجب کون الشیخ قائلاً بالطهارة. ولعلّه رجع عمّا قال به أوّلاً، أو أنّه رجع فی خصوص الفارة مثلاً دون غیرها.

وحکم الشیخ المفید فی الفارة والوزغة برشّ الموضع الذی مسّاه من الثوب إن لم یؤثّرا فیه، وإن رطباه وأثّرا فیه غُسل بالماء.

ص:168

وعن أبی الصلاح الفتوی بنجاسة الثعلب والأرنب، وحکی هذا عن السیّد أبی المکارم ابن زُهرة، بل نقل الاجماع علی نجاستهما کما عن القاضی من ایجاب غَسل ما أصابهما والوزغة. وکذلک عن «المراسم» قال: «إنّ الفارة والوزغة کالکلب والخنزیر» نظیر ما جاء فی «المقنعة»، بل فی موضع من «التهذیب» القول بنجاسة کلّ ما یؤکل لحمه.

وبالجملة: ظهر ممّا ذکرنا اختلاف أقوال الفقهاء فی هذه المسألة.

وأمّا الأخبار: فهی کذلک مختلفة إذ فیها ما یستفاد منها الطهارة:

منها: صحیحة فضل ابن العبّاس، قال: «سألت أبا عبداللّه علیه السلام ، عن فضل الهرّة والشاة والبقرة والإبل والحمار والخیل والبغال والوحش والسّباع، فلم أترک شیئا الاّ سألته عنه؟ فقال: لا بأس، حتّی انتهیت إلی الکلب، فقال: رجسٌ نجس» الحدیث(1).

ومنها: صحیحة علیّ بن جعفر، عن أخیه موسی علیه السلام ، قال: «وسألته عن العظایّة والحیّة والوزغ تقع فی الماء فلا تموت فیه، أیتوضّأ للصلاة؟ فقال: لا بأس به.

وسألته عن فأرةٍ وقعت فی حُبّ دهنٍ فأخرجت قبل أن تموت، أیبیعه من مسلم؟ قال: نعم ویدّهن منه».(2)

ولا یخفی أنّ هذه الأمور لو کانت نجسة لزم نجاسة ما یلاقیها، فلا یجوز حینئذٍ بیعه، فحیث قال لا بأس بالماء المماس به، وکذلک التدهین، یفهم طهارتها.

ومنها: ما جاء فی الصحیح عن سعید الأعرج، قال: «سألت أبا عبداللّه علیه السلام عن الفأرة تقع فی السّمن والزیت ثمّ تُخرج حیّا؟ فقال: لا بأس بأکله»(3).

ومنها: صحیح اسحاق بن عمّار، عن أبی عبداللّه علیه السلام : «إنّ أبا جعفر علیه السلام کان


1- وسائل الشیعة: الباب 33 من أبواب النجاسات، الحدیث 1.
2- وسائل الشیعة: الباب 45 من أبواب الاطعمة والمحرمة، الحدیث 1.

ص:169

یقول: لا بأس بسؤر الفأرة إذا شربت من الاناء أن یُشرب منه أو یتوضأ»(1).

ومنها: المروی عن «قُرب الإسناد» عن أبی البختری، عن جعفر بن محمد عن أبیه، عن علی علیهم السلام ، قال: «لا بأس بسؤر الفأرة أن یشرب منه ویتوضأ»(2).

ومنها: روایة هارون بن حمزة الغنوی، عن أبی عبداللّه علیه السلام ، قال: «سألت عن الفأرة والعقرب وأشباه ذلک یقع فی الماء فیخرج حیّا، هل یشرب من ذلک الماء ویتوضأ؟ قال: یسکب منه ثلاث مرّات، وقلیله وکثیره بمنزلة واحدة، ثمّ یشرب ویتوضأ غیرالوزغ فإنّه لا ینتفع بما یقع فیه»(3).

حیث یستفاد منه طهارة غیر الوزغ، فهذه هی الأخبار الدالّة علی الطهارة، وأکثرها صحاح وسندها معتبر ودلالتها علیها تامّة.

أقول: _ مضافا إلی کل هذا إنّ الحکم بالاجتناب عن مثل الفأرة موجب للعسر والحرج لکثرة وجودها فی البیوتات القدیمة، لا سیّما مع ما عرفت سابقا ممّا دلّ علی طهارة میتة غیر ذی النفس ومنه الوزغ من الاجماع وغیره وممّا هو مذکور فی باب الأسئار ووقوع بعضها فی ماء البئر _ هناک أخبار تدلّ علی النجاسة:

منها: صحیحة علی بن جعفر، عن أخیه موسی علیه السلام ، قال: «سألته عن الفأرة والکلب إذا أکلا من الخبز أو شمّاه أیؤکل؟ قال: یُترک ما شماه ویؤکل ما بقی»(4) فإنّه یحمل علی استحباب ذلک إذ لم یفت أحد بحرمة أکل ما شمّاه ووجوب الاجتناب عنه.

ومنها: صحیحة الآخر، قال: «سألته عن الفأرة الرطبة قد وقعت فی الماء تمشی


1- وسائل الشیعة: الباب 9 من أبواب الاسئار، الحدیث 2.
2- المصدر السابق، الحدیث 8.
3- المصدر السابق، الحدیث 4.
4- وسائل الشیعة: الباب 33 من أبواب النجاسات، الحدیث 2.

ص:170

علی الثیاب أیصلّی فیها؟ قال: إغسل ما رأیت من أثرها، ومالم تره فانضحه بالماء»(1) فإنّ ظاهر الأمر بالغسل فی الوجوب، إلاّ أن یحمل علی الاجتناب لأجل رفع المعارضة، فیکون التصرف حینئذٍ فی الهیئة، مع أنّه حکم فی خصوص الصلاة لا مطلقا، فیمکن اختصاص الحکم بخصوصها أو کونه حکما تعبدیّا فیها، فلا یدلّ علی عمومیّة النجاسة.

ومنها: روایة «قرب الاسناد» باسناده عن علی بن جعفر، عن أخیه موسی علیه السلام ، قال: «سألته عن الفأرة والکلب إذا أکلا من الخبز وشبهه، أیحلّ أکله؟ قال: یطرح منه ما أکل ویؤکل ما لباقی»(2) حیث یمکن حمله علی کراهة أکل ما لا مرة بالأکل بواسطة الجمع بین الأخبار فی غیر الکلب، لانّه نجس قطعا بالأخبار السابقة.

ومنها: مرسلة یونس، عن بعض أصحابه، عن أبی عبداللّه علیه السلام ، قال: «سألته هل یجوز أن یمسّ الثعلب والأرنب أ وشیئا من السباع حیّا أو میّتا؟ قال: لا یضرّه ولکن یغسل یده».(3)

ومنها: خبر عمّار الساباطی، عن أبی عبداللّه علیه السلام فی حدیث، قال: «سُئل عن الکلب والفأرة إذا أکلا من الخبز وشبهه؟ قال: یطرح منه ویؤکل الباقی. وعن العظایة تقع فی اللبن؟ قال: یحرم اللّبن، وقال: إنّ فیها السّم»(4) والکلام فیه کالکلام فی حدیث «قُرب الإسناد».

ومنها: صحیحة معاویة بن عمّار، قال: «سألت أبا عبداللّه علیه السلام عن الفأرة


1- المصدر السابق، الحدیث 1.
2- وسائل الشیعة: الباب 45 من أبواب الاطعمة المحرمة، الحدیث 2.
3- وسائل الشیعة: الباب 45 من أبواب الاطعمة المحرمة، الحدیث 3.
4- وسائل الشیعة: الباب 45 من أبواب الاطعمة المحرمة، الحدیث 5.

ص:171

والوزغة تقع فی البئر؟ قال: ینزح منها ثلاث دلاء»(1) والحکم استبحابی فی أصله کما لا یخفی.

ومنها: ما جاء فی «الفقه الرضوی»، قال: «إن وقع فی الماء وزغ أهریق ذلک الماء، وإن وقع فیه فأرة أو حیّة أهریق الماء، وإن دخل فیه حیّة وخرجت منه صُبّ من ذلک ثلاث أکفّ واستعمل الباقی، وقلیله وکثیره بمنزلة واحدة»(2).

حیث یستفاد من سیاق الحدیث خصوصا من ذیله من أنّ القلیل والکثیر منه بمنزلة واحدة، أنّ ذلک لأجل احتمال وجود السّم فیه أو غیره.

والحاصل من جمیع ما ذکرنا: هو تقدیم القول بالطهارة کما ورد فی المتن بقوله: «والأظهر الطهارة» لکثرة الأخبار المعتبرة التی فیها الصحاح علی نفی البأس فی استعمال ما لاقی هذه المذکورات من ما لا یؤکل، هذا فضلاً عن قیام الشهرة علیه، بل المجمع علیه فی هذه الأعصار، بل فی «الجواهر» دعوی استقرار المذهب علی طهارة المذکورات، خصوصا مع ملاحظة الاختلاف فی فتوی فقیه واحد فی الفتوی فی الموضعین من کتابه کالسیّد المرتضی فی موضع من کتابه بنجاسة الأرنب وفی موضع آخر بطهارة مطلق الحشرات والسّباع إلاّ الکلب والخنزیر، وکذلک الصدوق فی «الفقیه» و«المقنع» بالاختلاف فی الموضعین، والشیخ فی «المبسوط» و«النهایة» مما یوجب ذلک حمل ما یدلّ علی النجاسة علی التقیة أو حمل الأمر فیها علی لاستحباب والنهی علی الکراهة، أو التعبّد بالنجاسة فی خصوص المورد، أو غیر ذلک من المحامل.

وبالجملة: الأقوی عندنا هو الطهارة، وإن کان الاحتیاط بالاجتناب حسنّ جدّا.


1- وسائل الشیعة: الباب 45 من أبواب الاطعمة المحرمة، الحدیث 6.
2- وسائل الشیعة: الباب 45 من أبواب الاطعمة المحرمة، الحدیث 7.

ص:172

الثامن: المسکرات، وفی تنجیسها خلاف، والأظهر النجاسة(1)

(1) ویقع البحث فی المقام عن أُمور:

الأمر الأوّل: فی نقل الأقوال:

1. قولٌ بین الأصحاب بالطهارة وهو المنقول عن الصدوق فی «الفقیه» ووالده فی «الرسالة»، والجعفی والعمّانی وظاهر المقدّس الأردبیلی أو صریحه، وتلمیذه صاحب «المدارک»، وفی «الذخیرة» و«المشارق».

2. نقل التردّد عن بعضهم کما هو منقول عن المصنّف فی «المعتبر».

3. وقول بالنجاسة وهو المشهور قدیما وحدیثا، بل عن جملة من الأصحاب دعوی الاجماع علیه، بل عن غیر واحدٍ منهم دعوی اجماع المسلمین فی خصوص الخمر بالنجاسة، بل عن الشیخ البهائی فی «الحبل المتین» أنّه: «أطبق علماء الخاصّة والعامّة علی نجاسة الخمر إلاّ شرذمة منها ومنهم، لم یعتد الفریقان بمخالفتهم»، بل علیه قاطبة المتأخّرین منهم صاحب «الجواهر» و«العروة» و«مصباح الفقیه» وأصحاب التعلیق علی «العروة» تبعا للمصنّف هنا، بل فی «الجواهر» إنّه: «قد انقرض الخلاف واستقرّ المذهب علی النجاسة فیه وفی کلّ مایعٍ مسکر».

الأمر الثانی: فی بیان منشأ هذا الاختلاف: وهو اختلاف الأخبار الواردة فی بیان الحکم، ففی عدّة منها ما تدلّ علی طهارة بعد ما کان مقتضی الأصل کذلک عند الشک فیها:

منها: صحیحة حسین ابن أبی سارة، قال: «سألت أبا عبداللّه علیه السلام إنّ أصاب ثوبی شیءٌ من الخمر أصلّی فیه قبل أن اغسله؟ قال: لا بأس إنّ الثوب لا یُسکر»(1).


1- وسائل الشیعة: الباب 38 من أبواب النجاسات، الحدیث 10.

ص:173

ومنها: روایة موثقة ابن بکیر، قال: «سأل رجال أبا عبداللّه علیه السلام وأنا عنده عن المسکر والنبیذ یصیب الثوب؟ قال: لا بأس»(1). المسکرات و حکمها

ومنها: صحیحة علی بن رئاب المرویة فی «قرب الاسناد»، قال: «سألت أبا عبداللّه علیه السلام عن الخمر والنبیذ المسکر یصیب ثوبی أغسله أو أصلّی فیه؟ قال: صلّ فیه إلاّ عن تقذره فتغسل منه موضع الأثر، إنّ اللّه تبارک وتعالی إنّما حرّم شربها»(2).

ومنها: روایة الحسین بن موسی الحنّاط، قال: «سألت أبا عبداللّه علیه السلام عن الرجل یشرب الخمر ثم یمجّه.(3) من فیه فیصیب ثوبی؟ قال: لا بأس»(4).

ومنها: روایة أبی بکر الحضرمی، قال: «قلت لأبی عبداللّه علیه السلام أصاب ثوبی نبیذ أصلّی فیه؟ قال، نعم. قلت: قطرة من نبیذ قطرت فی حبّ أشرب منه؟ قال: نعم إنّ أصل النبیذ حلال وأصل الخمر حرام»(5) بناءً علی أن یکون المراد من النبیذ المسکر، وإلاّ کان لخلاف المطلوب أدلّ، والثانی غیر بعید واو بالحمل علیه جمعا بینه وبین ما یخالفه.

ومنها: روایة الحسین بن أبی سارة، قال: «سألت أبا عبداللّه علیه السلام أنا نخالط الیهود والنصاری والمجوس وندخل علیهم وهم یأکلون ویشربون، فیمرّ ساقیهم فیصبّ علی ثیابی الخمر؟ فقال: لا بأس به إلاّ أن تشتهی أن تغسله لأثره»(6).

ومنها: روایة حفص الأعور، قال: «قلت لأبی عبداللّه علیه السلام الدّن یکون فیه


1- وسائل الشیعة: الباب 38 من أبواب النجاسات، الحدیث 11.
2- المصدر السابق، الحدیث 14.
3- مجّ الرجل الشراب من فیه إذا رمی به، الصحاح: ج 1، ص 340 مادة: مجج.
4- وسائل الشیعة: الباب 39 من أبواب النجاسات، الحدیث 2.
5- وسائل الشیعة: الباب 38 من أبواب النجاسات، الحدیث 9.
6- المصدر السابق، الحدیث 12.

ص:174

الخمر ثم یجففّ یجعل فیه الخلّ؟ قال: نعم»(1).

ومنها: مرسلة الصدوق، قال: «سئل أبو جعفر وأبو عبداللّه علیهماالسلام فقیل لهما: إنّا نشتری ثیاباً یصیبها الخمر ووَدَکَ(2) الخنزیر عند حاکتها أفنصلّی فیها قبل أن نغسلها؟ فقالا: نعم لا بأس، إنّ اللّه إنّما حرّم أکله وشربه ولم یحرّم لبسه ولَمْسه والصلاة فیه»(3).

ورواه فی «علل الشرائع» بطریق صحیح عن بکیر، عن أبی جعفر علیه السلام (4)، وأیضاً عن أبی الصباح وأبی سعید والحسن النبّال، عن أبی عبداللّه علیه السلام (5).

ومنها: صحیحة علی بن جعفر، عن أخیه موسی علیه السلام : «أنّه سئل عن الرجل یمرّ فی ماء المطر وقد صبّ فیه خمر فأصاب ثوبه، هل یصلّی فیه قبل أن یغسل ثوبه؟ قال: لا یغسل ثوبه ولا رِجْله ویصلّی فیه ولا بأس»(6).

ودلالته علی المطلوب موقوفة علی أن لا یکون ماء المطر فی حال هطوله صمیّة، ولم یکن الماء مع قطع نزول المطر أزید من الکرّ، وإلاّ لما أمکن الاستدلال به لأجل عاصمیّة الماء حینئذٍ عن النجاسة، کما لا یخفی، ولا یوجب التنجیس لما یلاقیه.

ومنها: روایة علی الواسطی، قال: «دخلتْ الجویریة _ وکانت تحت موسی بن عیسی _ علی أبی عبداللّه علیه السلام وکانت صالحة، فقالت: إنّی أتطیّب لزوجی فتجعل فی المشطة التی أتمشط بها الخمر وأجعله فی رأسی؟ قال: لا بأس»(7).


1- وسائل الشیعة: الباب 51 من أبواب النجاسات، الحدیث 2.
2- الودک بالتحریک الدسم ومنه ودک الخنزیر ونحوه یعنی شحمه، «مجمع البحرین»: وَدَکَ.
3- وسائل الشیعة: الباب 38 من أبواب النجاسات، الحدیث 13.
4- المصدر السابق، الحدیث 14.
5- المصدر السابق، الحدیث 15.
6- وسائل الشیعة: الباب 6 من أبواب الماء المطلق، الحدیث 2.
7- وسائل الشیعة: الباب 37 من أبواب الاشربة المحرمة، الحدیث 2.

ص:175

ومنها: عن «فقه الرضا»: «ولا بأس أن تصلّی فی ثوب أصابه خمر، لأن اللّه حرّم شربها ولم یحرّم الصلاة فی ثوب أصابته»(1).

أقول: هذه جملة من الأخبار الدالّة علی طهارة الخمر بالصّراحة أو الظهور أو بالتلویح، وفی قبالها ما استدلّ به المشهور من الکتاب والسنّة علی نجاستها، المعتضدة بالاجماعات المنقولة والشهرة المحققة، فلا بأس بذکرهما.

دلیل القائلین بنجاسة الخمر

أمّا من الکتاب: فقوله تعالی: «إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَیْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّیْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ»(2)، هذا بناء علی کون (الرجس) بمعنی النجس کما ورد بذلک ونقله بعض أهل اللّغة کالفیّومی فی «مصباح المنیر» الذی نقله عن النقّاش، وکون (الرجس) راجعا الی خصوص الخمر دون سائر المذکورات فی الآیة، والاّ لا معنی للنجاسة فی غیر الخمر من الأمور المذکورة. بخلاف ما لو کان المراد منه الخبیث أو الاثم، فحینئذٍ یصحّ رجوعه الی الجمیع ویناسب المعنی معها کما لا یخفی.

اللّهمّ إلاّ أن یستفاد النجاسة من کلمة (الرجس) المذکورة فی الآیة بواسطة الأخبار الواردة فیه، فله وجهٍ کما تری ذلک فی خبر خیران الخادم حیث یفهم منه النجاسة، فلذلک نرجع إلی ذکر الأخبار الدالّة علی النجاسة:

منها: مرسلة یونس، عن أبی عبداللّه علیه السلام ، قال: «إذا أصاب ثوبک خمر أو نبیذ مسکر فاغسله إن عرفت موضعه، وإن لم تعرف موضعه فاغسله کلّه، وإن صلّیت فیه فاعد صلاتک»(3).


1- الحدائق الناضرة، ج 5، ص 105 وکذا فی «فقه الرضا»، ص 281.
2- سورة المائدة، آیة 9.
3- وسائل الشیعة: الباب 38 من أبواب النجاسات، الحدیث 3.

ص:176

ومن تقیید النبیذ بالمسکر یفهم وجود نبیذٍ لیس بمسکر لیس له هذا الحکم، فیمکن أن یکون هذا الحدیث دلیلاً علی امکان واصابة النبیذ الثوب دون أن یکون نجسا، فیحمل علیه الأخبار المشتملة علی طهارته.

منها: روایة زکریا بن آدم، قال: «سألت أبا الحسن علیه السلام عن قطرة خمرٍ أو نبیذ مسکرٍ قطرت فی قدرٍ فیه لحمٌ کثیر ومرق کثیر؟ قال: یهراق المرق أو یُطعمه أهل الذمّة أو الکلب، واللّحم اغسله وکله. قلت: فانّه قطر فیه الدم؟ قال: تأکله النار إن شاء اللّه. قلت: فخمرٌ أو نبیذ قطر فی عجینٍ أو دم؟ قال: فقال: فَسَد. قلت: أبیعه من الیهود والنصاری وأبیّن لهم؟ قال: نعم فانّهم یستحلّون شربه. قلت: والفقاع هو بتلک المنزلة إذا قطر فی شیء من ذلک؟ فقال: أکره أن آکله إذا قطر فی شیء من طعامی»(1).

أقول: یمکن أن یکون الحکم بالاحراق أو بالفساد لأجل نجاسة الخمر والنبیذ المسکر، فیدلّ علی المطلوب. أو أنّ المقصود من الاحراق هو حرمة أکله، ولذلک أجاز أکل اللحم بعد الغَسل المساعد مع النجاسة، کما یساعد مع الحرمة، لأنّه بعد الغسل تزول الخمر عنه ویطهّره بخلاف العجین حیث لا یمکن تطهیره واخلاءه عن الخمر لامتزاجه فی العجین کالدم الواقع فیه، ولذلک قال: فیه إنّه فسد.

کما یؤیّد احتمال الحرمة دون النجاسة التعلیل بقوله علیه السلام : «فانّهم یستحلّون شربه» حیث یفید أن المانع هو حرمة شربه لا نجاسته. وکذلک یکون حکم الفقاع أیضا بناء علی أنّ المراد من الکراهة غیر معناها المصطلح فی الفقه، بل الحرمة، کما قد یستعمل لذلک فی الأخبار، وهو واضح لمن کان له أنس مع الأخبار.

ومنها: موثقة عمّار بن موسی الساباطی، عن أبی عبداللّه علیه السلام ، قال: «سألته عن الدّن یکون فیه الخمر، هل یصلح أن یکون فیه خَلّ أو ماء أو کامخ(2) أو زیتون؟


1- وسائل الشیعة: الباب 38 من أبواب النجاسات، الحدیث 8.
2- الکامخ الذی یؤتدم به، معرّب، «الصحاح» مادة کمخ.

ص:177

قال: إذا غُسل فلا بأس. وعن الابریق وغیره یکون فیه خمر أیصلح أن یکون فیه ماء؟ قال: إذا غُسل فلا بأس. وقال: فی قدحٍ أو اناء یشرب فیه الخمر؟ قال: تغسله ثلاث مرّات. وسئل أیجزیه أن یصب فیه الماء؟ قال: لا یجزیه حتّی یدلکه بیده ویغسله ثلاث مّرات»(1).

ومنها: خبر أبی جمیل البصری، عن یونس بن عبدالرحمن، عن هشام بن الحکم: «أنّه سأل أبا عبداللّه علیه السلام عن الفّقاع، فقال: لا تشربه فإنّه خمر مجهول، فإذا أصاب ثوبک فاغسله»(2).

فانّه یدل علی نجاسة الفّقاع والخمر کلیها، حیث قد أمر بغسل الثوب عند الاصابة.

ومنها: موثقة عمّار، عن أبی عبداللّه علیه السلام : «فی الاناء یشرب فیه النبیذ؟ فقال: تغسله ثلاث مرّات»(3).

ومنها: موثقته الأخری أیضا عن أبی عبداللّه علیه السلام ، قال: «لا تصلّ فی ثوب أصابه خمر أو مسکر وأغسله إن عرفت موضعه، فإن لم تعرف موضعه فاغسل الثوب کلّه، فإن صلّیت فیه فأعد صلاتک»(4).

ومنها: صحیحة الحلبی، قال: «سألت أبا عبداللّه علیه السلام عن دواءٍ یُعجن بالخمر؟ فقال: لا واللّه ما أحب أن انظر إلیه، فکیف أتداوی به، إنّه بمنزلة شحم الخنزیر أو لحم الخنزیر»(5). وفی بعض الروایات: «إنّه بمنزلة المیتة».

ومنها: صحیحة محمّد بن مسلم، قال: «سألت أبا جعفر علیه السلام عن آنیة أهل الذمّة


1- وسائل الشیعة: الباب 51 من أبواب النجاسات، الحدیث 1.
2- وسائل الشیعة: الباب 27 من أبواب الاشربة المحرمة، الحدیث 8.
3- وسائل الشیعة: الباب 30 من أبواب الاشربة المحرمة، الحدیث 2.
4- لم نعثر علیه الاّ ما سبق منا فی خبر یونس بمضمون یقرب منه.
5- وسائل الشیعة: الباب 20 من أبواب الاشربة المحرمة، الحدیث 4.

ص:178

والمجوس؟ فقال: لا تأکلوا فی آنیتهم ولا من طعامهم الذی یطبخون، ولا فی آنیتهم التی یشربون فیها الخمر»(1).

ومنها: روایة عمر بن حنظلة، قال: «قلت لأبی عبداللّه علیه السلام : ما تری فی قدح من مسکرٍ یصبّ علیه الماء حتّی تذهب عادیته ویذهب سکره؟ فقال: لا واللّه ولا قطرة تقطر منه فی حُبّ الاّ أهریق ذلک الحُبّ»(2).

ومنها: روایة هارون بن حمزة الغنوی، عن أبی عبداللّه علیه السلام : «فی رجل اشتکی عینه فنعت له کحلٌ یعجن بالخمر؟ فقال: هو خبیثٌ بمنزلة المیتة، فإن کان مضطرا فلیکتحل به»(3).

أقول: ومن جملة الأخبار الدالّة علی ذلک، الأخبار الواردة فی نزح البئر عند صبّ الخمر فیه، وإلی غیر ذلک من الأخبار الدالّة علی نجاسة الخمر، أو هو مع النبیذ، أو الواردة فی خصوص النبیذ، حیث یمکن استفادة عموم المدّعی بواسطة الاجماع المرکّب، أی عدم القول بالفصل بینهما فی النجاسة والطهارة، هذا لو لم نقل بأنّ الخمر إسمٌ للأعمّ منه ومن کلّ ما یوجب السکر، کما استظهره صاحب «الحدائق» ذلک عن جملة من اللغویین، والاّ لا یحتاج فی دعوی العموم إلی الاجماع المذکور.

بل فی کتاب «الغریبین» للهروی فی تفسیر الآیة: «الخمر ما خامر العقل أی خالطه، وخمر العقل فستره، وهو المسکر من الشراب»، و أیضاً فی «القاموس»: «الخمر ما أسکر من عصیر العنب أو عامٍ کالخمرة، وقد یذکّر، والعموم أصحّ، لأنّها حرمت، وما بالمدینة خمر عنب، وما کان مشروبهم إلاّ البسر والتمر»، ومثل ذلک


1- وسائل الشیعة: الباب 72 من أبواب النجاسات، الحدیث 2.
2- وسائل الشیعة: الباب 18 من أبواب الاشربة المحرمة، الحدیث 1.
3- وسائل الشیعة: الباب 21 من أبواب الاشربة المحرمة، الحدیث 5.

ص:179

منقول عن «مصباح المنیر» و«مجمع البحرین» وابن الأعرابی.

بل قد یؤیّد معنی العموم فی الخمر لکلّ مسکر من الشراب، ما ورد فی بعض الأخبار:

منها: صحیح ابن الحجّاج، عن أبی عبداللّه علیه السلام ، قال: «قال رسول اللّه صلی الله علیه و آله : الخمر من خمسة: العصیر من الکرم، والنقیع من الزبیب، والبتع من العسل، والمِزْر من الشعیر، والنبیذ من التمر»(1).

ونحوه خبر علی بن اسحاق الهاشمی عن أبی عبداللّه علیه السلام (2).

ومنها: روایة الحضرمی، عمّن أخبره، عن علی بن الحسین علیه السلام : «الخمر من خمسة أشیاء: من التمر والزبیب والحنظة والشعیر والعسل»(3).

ومنها: خبر عطاء بن یسار، عن أبی جعفر علیه السلام ، قال: «قال رسول اللّه صلی الله علیه و آله : کلّ مسکر حرام وکلّ مسکر خمر»(4).

ومنها: ما جاء فی «تفسیر العیاشی» عن عامربن السمط، عن علی بن الحسین علیه السلام ، قال: «الخمر من ستة أشیاء: التمر والزبیب والحنطة والشعیر والعسل والذرّة»(5).

ومنها: ما جاء فی «تفسیر علیّ بن ابراهیم» عن أبی الجارود، عن أبی جعفر علیه السلام : «فی قوله تعالی «إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَیْسِرُ» أمّا الخمر فکلّ مسکر من الشراب إذا خمر فهو خمر، وما أسکر کثیرة فقلیله حرام، وذلک أنّ أبا بکر شرب قبل أن تحرم الخمر فسکر... إلی أن قال: فأنزل تحریمها بعد ذلک، الحدیث بطوله»(6).


1- وسائل الشیعة: الباب 1 من أبواب الاشربة المحرمة، الحدیث 1.
2- المصدر السابق، الحدیث 3.
3- المصدر السابق، الحدیث 2.
4- وسائل الشیعة: الباب 15 من أبواب الاشربة المحرمة، الحدیث 5.
5- وسائل الشیعة: الباب 1 من أبواب الاشربة المحرمة، الحدیث 6.
6- المصدر السابق، الحدیث 5.

ص:180

ومنها: ما فی «مجمع البیان» عن ابن عباس: «فی تفسیر قوله تعالی «إِنَّمَا الْخَمْرُ»قال یرید بالخمر جمیع الأشربة التی تُسکر، وقد قال رسول اللّه صلی الله علیه و آله : «الخمر من تسع من البُتع وهو العسل إلی آخره»(1).

فإنّ هذه الأخبار تؤیّد کون الخمر اسما للشراب المسکر، وظاهرها کونه علی سبیل الحقیقة، فیفهم نجاسة سائر المسکرات أیضا من جمیع ما دلّ علی نجاسة الخمر، فلا نحتاج فی اثبات النجاسة لغیر الخمر الاستناد الی الاجماع وعدم القول بالفصل، بل إذا ثبت النجاسة للخمر ثبت لغیرها باشتراک فی الاسم، فالعمدة هو ملاحظة الاختلاف الموجود فی الأخبار الکثیرة الدالّة طائفة منها علی الطهارة وأخری علی النجاسة، فکیف یمکن التوفیق بالجمع بینها، مع أن کلّ واحد منهما فیه الصحاح والأخبار المعتبرة، فلا سبیل فی الجمع إمّا بطرح طائفةٍ منهما وبحملها بأحد المحامل الموجب لرفع التعارض بینهما، فتقول ومن اللّه الاستعانة: الأقوی عندنا هو النجاسة، والدلیل علیها: مضافا إلی الاجماعات المنقولة المعتضدة بالشهرة، والمؤیّد بالکتاب بکون (الرجس) هو النجس هنا، ولو بواسطة خبر خیران کما هو المتبادر إلی الذهن أوّلاً، وإن استعمل هذا اللفظ فی الخبیث والأثم أیضا حتّی یناسب مع ما هو عدله، وتأییدها بالأخبار الکثیرة البالغة حدّ التواتر بالتصریح بالنجاسة، وهی أکثر عددا من الأخبار الدالّة علی الطهارة، بحیث لا یمکن رفع الید عنها ولا یقبل الحمل علی الاستحباب کما نشیر إلیه فی موضعه.

هو إنّ بعض أخبار الطهارة مشتملٌ بما یمکن حمله علی ما لا یعارض مع أخبار النجاسة:

مثل: صحیحة ابن رئاب حیث أجاز الصلاة فی ثوبٍ أصابه الخمر والنبیذ المسکر، لکن قد استثنی منه ما فیه القذارة، حیث أمر بتغسیل موضع الأثر، فلو


1- مجمع البیان، ج 3_4، ص 370.

ص:181

کانت الاصابة منها طاهرا فلا یبقی للاستثناء وجه، حیث لا قذارة فی البین، فیظهر منه أن الاصابة تکون علی قسمین: قسمٌ لا أثر لها وإن یحتمل ذلک ولم یجد فی موضع الاصابة شیئا، فیکون مشکوکا، فالأصل فیه الطهارة، بخلاف ما لو شاهد الأثر فانّه یستقذر فلابدّ من غسله لکونه نجسا، فتصیر الروایة حینئذٍ دلیلاً علی النجاسة لا الطهارة.

ومثل: روایة حسین بن موسی الحنّاط: «فی رجل یشرب الخمر ثمّ یمجّه من فیه، فیصیب الثوب؟ فقال لا بأس».

فإنّ السئوال من أنّ ما یخرج من فم من یشرب الخمر هل هو محکوم بالنجاسة أم لا؟ قال لا لانّ مجرد کونه شارب الخمر لا یوجب الحکم بنجاسته فمه مطلقا، فیکون هذا الخبر مثل خبر عبدالحمید بن أبی الدیلم، قال: «قلت لأبی عبداللّه علیه السلام : رجل یشرب الخمر فیبصق فأصاب ثوبی من بصاقه؟ قال لیس بشیء»(1) حیث یحکم بالطهارة، وهو لا یستلزم کون الخمر الذی یشربه الشارب طاهرا حتّی یعارض مع تلک الأخبار.

ومثل: خبر أبی بکر الحضرمی، وقد عرفت توضیحه فی ذیله أنّه إنّما یدلّ علی الطهارة لو کان المراد من (النبیذ) المسکر، مع أنّ اطلاقه یشمل غیر المسکر فیکون دلیلاً حینئذٍ علی کون المسکر منه نجسا، ولا أقلّ بعد الاباء عن کون ذلک مرادا، فیحمل علیه فی مورد الجمع ورفع التعارض کما هو مقتضی القواعد والأصول.

ومثل: خبر ابن اسارة فإنّه مشتملٌ علی تعلیلٍ یفهم أنّ الاصابة لم تکن ذی أثر، حیث قال علیه السلام : «لا بأس إنّ الثوب لا یُسکر»، أو اراد من التعلیل افهام أنّ الحکم صادرٌ لأجل التقیّة، خصوصا مع احتمال اتحاد هذه الروایة مع روایة أخری منه، وفی الثانیة أشار إلی صورة وجود الأثر بالاصابة، وقال: «إن تشتهی أن تغسله


1- وسائل الشیعة: الباب 29 من أبواب النجاسات، الحدیث 1.

ص:182

لأثره» حیث یفهم منه حالة التقیة، إذ لا معنی للاشتهاء هنا، لأنّه إن کان طاهرا فلا یجب غَسله وإن کان نجسا فلابدّ من التطهیر. اللّهمّ أن یراد بیان حکم الاحتیاط، لأنّ مقتضی الأصل عند الشک وإن کان الطهارة، إلاّ أن الاحتیاط کان فی غسله لاحتمال الأثر علیه فیکون الاشتهاء لذلک.

کما أنّ خبر حفص الأعور حیث سئل عن الدّن الذی یُجعل فیه الخمر، فإنّه یمکن أن یکون المراد من التجفیف بعد الغسل لا مطلقا، فیکون السئوال حینئذٍ من جهة شأنه بجعل التمر فیه وأنّه هل یجوز استفادته لوضع الخلّ فیه أیضا؟ فقال نعم، وإن أبیت عمّا قلنا _ کما هو خلاف الظاهر _ فیحمل علیه جمعا وتوفیقا.

کما أن مثل خبر الصدوق فانّه _ مضافا إلی ارساله _ مشتملٌ لما یکون خلافا لفتوی الأصحاب، حیث أجاز الصلاة مع ثوبٍ أصابه دسم الخنزیر وشحمه، مع أنّه نجسٌ قطعا، فلا جرم من حمله علی الاصابة غیر المؤثرة، أو حمله علی التقیة، ولذلک لا قدرة له علی أن یقوم بالمعارضة مع تلک الأخبار الکثیرة.

وکذلک صحیحة علی بن جعفر علیه السلام لامکان أن یکون المراد من (ماء المطر) هو حال نزوله، أو حال کون مائه أکثر من الکر فی الراکد، أو یحمل علی ذلک فرارا عن التعارض.

وکذلک خبر علی الواسطی، لأنّ جعل الخمر النجس فی المشطة للرأس من دون أن یأتی بالصلاة لیس بحرام، فلا منافاة بین نجاسته کذلک وبین جواز جعله علی رأسها، کما لا یخفی.

وأمّا روایة «الفقه الرضوی» فحالها واضحة من حیث الضعف.

وعلیه فلا یبقی فی الأخبار الدالّة علی الطهارة إلاّ موثقة ابن بکیر، حیث سئل رجلٌ عنه علیه السلام : «عن ثوب أصابه المسکر والنبیذ؟ قال: لا بأس» فلعلّه أراد من عدم البأس لغیر حال الصلاة، فلا ینافی مع ما أمر بغسله لحال الصلاة، ولا أقل من

ص:183

الحمل علی هذه الصورة، فلا یبقی من أخبار الطهارة ما تستطیع المعارضة مع الأخبار الدالّة علی النجاسة، وعلیه فالمسألة من جهة الحکم بالنجاسة واضحة.

وإن ابیّتم عن القول بذلک والاصرار علی بقاء المعارضة بین الطائفتین، نقول إنّ غایته التعارض والرجوع إلی دلیلٍ آخر یرجّح أحدهما، وهو ما ورد من الأخبار المبیّنة المرجحّة لاحداهما، وهو مثل خبر خیران الخادم المروی فی «الکافی» و«التهذیب» «والاستبصار» بطرق معتبرة لیس فیها من یتوقف فی شأنه إلاّ سهل بن زیاد الآدمی، قال: «کتبتُ إلی الرجل علیه السلام أسأله عن الثوب یصیب الخمر ولحم الخنزیر أیصلّی فیه أم لا، فإنّ أصحابنا قد اختلفوا، فقال بعضهم صلّ فیه، فإنّ اللّه إنّما حرّم شربها، وقال بعضهم لا تصلّ فیه؟ فکتب علیه السلام : لا تصلّ فیه فإنّه رجس»(1).

فانّ هذا الخبر مع صراحته فی النجاسة، وکون الرجس هنا للنجاسة لا الخباثة والاثم _ إذ لا یناسب مع الصلاة بترکها إلاّ بالأولی وغیرها _ رافعة للتعارض بترجیح جانب النجاسة علی الطهارة، فتصیر الروایة حینئذٍ من قبیل الأخبار العلاجیة المرجّحة لأحد المتعارضین بالأخذ بما وافق الکتاب أو ما خالف العامة، فلا تعدّ فی عرض المتعارضین.

ویؤیّده فی وجود الاختلاف فی عصر الائمّة علیهم السلام بین الأصحاب، بل ویرجّح طرف النجاسة علی الطهارة خبرٌ صحیح مرویٌ عن علی بن مهزیار، قال: «قرأت فی کتاب عبداللّه بن محمّد إلی أبی الحسن علیه السلام : «جُعلت فداک، روی زرارة عن أبی جعفر وأبی عبداللّه علیهماالسلام فی الخمر تصیب ثوب الرجل إنّهما قالا لا بأس أن یصلّی فیه، إنّما حرّم شربها، وروی غیر زرارة عن أبی عبداللّه علیه السلام انّه قال: إذا أصاب ثوبک خمر أو نبیذ یعنی المسکر فاغسله إن عرفت موضعه، وإن لم تعرف موضعه فاغسله کلّه، فإن صلّیت فیه فأعد صلاتک، فاعلمن ما آخذ به؟ فوقّع


1- وسائل الشیعة: الباب 38 من أبواب النجاسات، الحدیث 4.

ص:184

بخطه علیه السلام وقرأته: خذ بقول أبی عبداللّه علیه السلام »(1).

إذ الظاهر من الحدیث کون المراد من قول أبی عبداللّه علیه السلام هو المنفرد عن أبیه، والاّ فکلا القولین کان قوله والأخذ بهما جمیعا ممتنع، والتخییر غیر مقصود، بل مخالف للاجماع، فإنّه مع اشتماله علی الاعراض عن أخبار الطهارة، دالّة علی النجاسة بأکمل دلالة وأبلغها، مع علوّ سندها وتعدد طرقها، بل الروایة مرویّة عن الامام اللاّحق، وهی حاکمة علی الأخبار المرویة عمّن قبله، فإنّها فی وضوح الدلالة واتقانها یکون علی حدّ حتّی اکتفی المحقق الشیخ حسن فی «المنتقی» علی ما نقل عنه فی الحکم بالنجاسة من الأدلّة بذلک الخبر فقط، بل وفیها تصدیق لما رواه الشیخان فی الصحیح عن یونس بن عبدالرحمن _ الذی هو ممّن أجمعت العصابة علی تصحیح ما یصحّ عنه وأقرّوا له بالفقه والعلم _ عن بعض من رواه، عن أبی عبداللّه علیه السلام ، قال: «إذا أصابک ثوبک خمر أو نبیذ مسکر فاغسله إن عرفت موضعه، وإن لم تعرف موضعه فاغسله کلّه، فإن صلّیت فیه فأعد صلاتک»(2).

إذا الظاهر أن الروایة المأمور بأخذها هی هذه لمطابقة متنها له واتحاد المروی عنه فیهما.

والعجب کلّ العجب کیف وقع التشکیک فی هذا الحکم عند المتأخرین مع کونه من المجمع علیه بین الأساطین، بل بین علماء المسلمین، بل کاد أن یکون ضروری المذهب أو الدین کما صرّح بذلک صاحب «الجواهر»(3)، وقیل إنّ أوّل من جرّأهم علیه المصنّف فی «المعتبر»، والحال أنّک قد عرفت عدم وجود المعارض لها إلاّ تلک الأخبار القلیلة فی قبال کثرة أخبار النجاسة، مع انّک عرفت


1- وسائل الشیعة: الباب 38 من أبواب النجاسات، الحدیث 2.
2- المصدر السابق، الحدیث 3.
3- الجواهرع ج 6، ص 9.

ص:185

أن أکثرها قابلة للتأویل والحمل علی التقیة من بعض المخالفین، سیّما من ربیعة الرأی إذ هو علی ما قیل من فقهاء المدینة وشیوخ مالک، وکان فی عصر الصادق علیه السلام ، فلا غرو أن یُتقی منه، خصوصا مع ملائمته لطباع السلاطین وذی الشوکة من امراء بنی أمّیة وبنی العبّاس، المولعین بشربها، المتهالکین علیه، حتّی انّهم ربّما حاولوا دفع التحریم عنه کما یشیر الیه حدیث المهدی العبّاسی مع الکاظم علیه السلام فقد جاء فی الخبر الذی رواه علی بن یقطین، قال: «سأل المهدی أبا الحسن علیه السلام عن الخمر هل هی محرّمة فی کتاب اللّه، فإن الناس یعرفون النهی عنها ولا یعرفون التحریم لها؟ فقال له أبو الحسن علیه السلام : بل هی محرّمة فی کتاب اللّه یا أمیرالمؤمنین. فقال له: فی أی موضع محرّمة فی کتاب اللّه جلّ اسمه یا أبا الحسن علیه السلام ؟ فقال: قول اللّه عزّوجلّ «إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّی الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالاْءِثْمَ وَالْبَغْیَ بِغَیْرِ الْحَقِّ» فأمّا ما ظهر یعنی الزنا المعلن، إلی أن قال: وأمّا الأثم فإنّها الخمر بعینها، وقد قال اللّه عزّوجلّ فی موضعٍ آخر «یَسْأَلُونَکَ عَنْ الْخَمْرِ وَالْمَیْسِرِ قُلْ فِیهِمَا إِثْمٌ کَبِیرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ» فأمّا الأثم فی کتاب اللّه فهی الخمر والمیسر وإثمهما کبیر کما قال اللّه عزّوجلّ. فقال المهدی: یا علیّ بن یقطین فهذه فتوی هاشمیة! قال: قلت له: صدقت واللّه یا أمیرالمؤمنین، الحمدللّه الذی لم یخرج هذا العلم منکم أهل البیت! قال: فواللّه ما صبر المهدی أن قال لی: صدقت یا رافضی»(1).

بل الظاهر من الحکم بالنجاسة یوجب التقدیر علیهم والتنجیس لهم بشربها ومزاولتها بما لا یوجب ذلک لو کان حراما فقط.

بل ربّما نقل عن بعضهم أنّه کان یؤمّ الناس وهو سکران، فضلاً عن تلوثه وثیابه بها، کما ورد فی التاریخ فی حقّ بعض بنی الأمیّة، خصوصا بالقیاس إلی


1- وسائل الشیعة: الباب 9 من أبواب الاشربة المحرمة، الحدیث 13.

ص:186

السلاطین الذین لا یتحاشون عن المحرمات.

لا یقال: إنّ بعض علماء العامّة یقولون بالنجاسة، فکیف ذلک عندهم.

لأنّا نقول: لانّه لیس فیم تقیة، بل کانوا یتظاهرون بخلاف ما هم علیه، ویجاهرون بالردّ والکفاح، ولا یوافقونهم فی ذلک، بل کان ذو الشوکة منهم یتحمّله ولا یبالی به لعلمه بأنّ ذلک لا یحدث فتقاً فی سلطانه، ولا یهدم رکنا فی بنیانه، إذ لم یکن فیهم من یرشّح نفسه للامامة والخلافة الکبری والریاسة العظمی. إنّما کانت التقیة علی أئمّة الحقّ علیهم السلام المحسودین للخلق، وهم الذین لا یداینهم فی الفضل أحدٌ، والذین ورد علیهم من حسد ائمّة الجور ما قد ورد(1). انتهی ما فی «الجواهر».

أقول: هذا فضلاً عن أنّ بعض علماء العامّة یعتقدون بأن رؤساء حکوماتهم ودولهم یعدّون من مصادیق أولی الأمر، وکان لهم حجّة فیما یفعلون، لانّ رأیهم حجّة ویقولون إنّهم مجتهدون فإذا رأوا مصلحة فی فعل شیء ولو کان حراما فلهم ذلک، حتّی تفوّه بعضهم بذلک فی الجریمة التی قام بها یزید بن معاویة فی حقّ الحسین علیه السلام من القتل والأسر والسبی فضلاً عن مثل شرب الخمر وغیره.

ولأجل ذلک نقول: فما توهّمه بعض الفضلاء لاستبعاد الحکم بالنجاسة، من أنّ تقیة السلاطین لو اقتضت الحکم بالطهارة لکان أولی الناس بها فقهاء العامّة لشدّة مخالطتهم إیّاهم، وعکوفهم لدیهم، مع أنّ معظهم علی النجاسة، فی غیر محلّه کما عرفت.

والحاصل: من جمیع ما بیّناه، بعد ملاحظة الأقوال والأخبار، هو قوّة قول المشهور بل هو المنصور وهو نجاسة الخمر، وکلّ ما یکون مسکرا من الأشربة باسمائها المختلفة الواردة فی الروایات، بشمول الادلّة لها حقیقة أو بدعوی أنّ الخمر اسمٌ للعموم ولو بعموم المجاز والحاق البقیة بها ولو بالاجماع المرکّب من


1- الجواهر، ج 6، ص 10.

ص:187

عدم القول بالفصل، کما لا یخفی.

حکم بعض أقسام المسکر

أقول: بعد الوقوف علی حکم الخمر والنبیذ، بقی بیان حکم ثلاث أقسام من انواع المسکر:

أحدها: ما کان جامدا بالاصالة کالبنج والحشیش، فهل هو نجس کما یتوهّم من اطلاق المصنّف هنا، کما فی «القواعد» و«الارشاد» و«الدروس» و«المبسوط» تمسکا بأنّه مسکر بالاصالة، خصوصا مع معروفیّة اطلاق الخمر فی ذلک الزمان علی المسکر، فیشمله دلیل نجاسة الخمر لمثله أیضا، هذا خلافا لکلام کثیر من الأصحاب بالصراحة أو الظهور فی طهارته، بل فی «المدارک» القطع بالطهارة، وفی موضع من «شرح الدروس» عدم ظهور خلاف بین الأصحاب، کما فی «الحدائق» دعوی اتفاقهم علی الطهارة کنسبة «الذخیرة» تخصیص النجاسة بالأصالة إلی الأصحاب، بل عن «الدلائل» دعوی الاجماع صریحا علی طهارة الجامد.

والدلیل علی الطهارة: _ مضافا إلی الأصل لو فقد الدلیل علی نجاسته، وعموم الأدلّة الدالّة علی الطهارة السالمین عن المعارض، إلاّ ما یتوهّم شموله لمثل الجامد عمّا ورد فی نجاسة الخمر، مع انّه مضافا إلی انسباقه إلی المایع بالأصالة فی الذهن ولو من سیاقها من لفظ الاصابة، بقوله: «ثوبٌ أصابه خمرٌ أو مسکر لا تصلّ فیه» الوارد فی خبر عمّار الموصی الیه بعدم تقیید الاصابة بالرطوبة، المشعر بأنّ لفظ (الأصابة) موصل إلی کونه مع الرطوبة _ إنّه قد ورد فی بعض الأخبار ما یدلّ علی اختصاص الحکم بالمایع من تعبیر القطرة أو الشرب، وهو مثل حدیث زکریا بن آدم: «عن قطرة خمرٍ أو نبیذٍ مسکر قطرت فی قدرٍ فیه لحم کثیر ومرقٌ کثیر، الحدیث» کما ورد فی ذیله فی حقّ الیهود والنصاری من «أنّهم یستحلّون

ص:188

شربه»(1) فشمول ذلک للجامد بعیدٌ غایته، بل مقطوع العدم، وبذلک نرفع الید عن اطلاق بعض الأخبار وعمومه مثل حدیث عطاء: «کلّ مسکرٍ خمرٌ»(2) أو قوله: ما عاقبته عاقبة الخمر فهو خمر»(3) وأمثال ذلک، بالحمل علی الحرمة، هذا مضافا إلی ضعف سند بعض الأخبار، الدالّة من خلال کلیته وانصرافه إلی الحرمة، مع عدم وجود جابر لعمومه، بل عکسه وهو إعراض الأصحاب عن العمل بالعموم، کلّ ذلک یوجب وهن القول بعدم الطهارة، ولأجل ذلک سری عدم الخلاف بین المتأخرین واتفاقهم علی الطهارة کما عن السیّد فی «العروة» واتفاق أصحاب التعلیق علیها، واللّه العالم.

ثانیها: ما لو ماع من الجامد بالأصالة بواسطة الماء، فهل یوجب النجاسة بعد ما کان شربه حراما لاسکاره إن کان المیعان أوجب السکر أم لا؟ فیه وجهان:

1. وجهٌ بالنجاسة لاحتمال شمول النصوص والفتوی لذلک، وأولویته من شراب یُخلق فی مثل هذا الزمان، وبهما ینقطع استصحاب الطهارة التی کان قبل میعانه بالماء.

2. ووجه بالطهارة، أوّلاً لانصراف اطلاق الأدلّة إلی میعانه بالأصالة، مع ما قد عرفت صراحة بعض الأخبار فیه المستفاد من کلمة (القطرة) و(الشراب) الموجب لتقیید اطلاق الأخبار.

وثانیا: استصحاب الطهارة فی الجامد منه إذا شک فی طهارته، هذا بعد القطع بعدم کونه من مصادیق الخمر حقیقة لعروض المیعان علیه.

ولو سلّمنا ظهور کلمات اللّغویین فی ارادتها، ولکن لابدّ من صرفها إلی غیرها،


1- وسائل الشیعة: الباب 38 من أبواب النجاسات، الحدیث 8.
2- وسائل الشیعة: الباب 15 من أبواب الاشربة المحرمة، الحدیث 5.
3- وسائل الشیعة: الباب 19 من أبواب الاشربة المحرمة، الحدیث 1.

ص:189

وإن أرید الالحاق الحکمی فهو ثابتٌ فی الحرمة لا النجاسة، کما هو المعروف فی عصر الصادقین علیهماالسلام لا النجاسة التی کانت من أوصافها الخفیّة، حتّی قد عرفت انکار بعض الفقهاء له وللمایع بالأصالة، فضلاً عن المایع بالعَرَض، وعلیه فالطهارة فیها ممّا لا خلاف فیه.

نعم، لو کان لمیعانها دخل فی مسکریتها، فقد قال صاحب «مصباح الفقیه» باندراجه فی القسم الأوّل الذی حکمنا بنجاسته.

ولا یخفی ما فیه، لأنّه قد عرض علیه بواسطة الماء، فشمول الدلیل علیه لا یخلو عن خفاءٍ، فمع الشک المرجع إلی قاعدة الطهارة، واللّه العالم.

ثالثها: ما لو جمد المایع بالاصالة الذی کان نجسا.

ففی «الذکری» و«التذکرة» و«المنتهی» البقاء علی النجاسة، وفی «الجواهر» وهو کذلک خلافا لما یظهر من بعض العبارات التقید بالمایع ونحوه للأصل، ولعلّ المراد منه هو الاستصحاب، لأنّ الجمود لیس من قبیل الاستحالة التی یوجب الانقلاب فی الموضوع، بل هو تغییر فی الوصف، فلا توجب تبدل الموضوع بحیث لا یجری فیه الاستصحاب.

هذا، مضافا إلی عدم ظهور الأدلّة فی اشتراط استدامة نجاسته بمیعانه إلاّ فی الابتداء فقط، بل یستمرّ حتّی لما بعد الجمود، ومن ناحیة عدم معروفیة الجمود من المطهرات، بل النجاسة باقیة حتّی مع ذهاب اسکاره مع الجمود أو بدونه، إذا کان لنفسه بل حتّی مع امتزاجه بمایعٍ آخر، لأنّ الدلیل الدالّ علی عروض النجاسة علی الاسم باقٍ حتّی یأتی الدلیل علی خلافه بما یوجب تطهیره بزوال عینه.

قال صاحب «الجواهر»: بین ما زال اسکاره بالجمود وبین غیره من جهة تعلیق الحکم منا نصّا وفتوی علی المسکر المنتفی صدقه حقیقةً علیه حینئذٍ دون الأوّل،

ص:190

بل یقتضی المفهوم خلافه لو کان المفهوم حجّة، فبعد زوال الوصف بعد التلبّس یکون کمن لم یتلبس أوّلاً، واحتمال کون الحکم بالنجاسة للاستصحاب لا للوصف یدفعه، مع أنّه لا وجه له بعد فرض ما قلناه من المفهوم أنّه لا یجری بعد تفسیر الموضوع.

وفیه: استدلاله ممّا لا یمکن المساعدة علیه، لأنّ ظاهر الأدلّة کون الاسکار علیه للاحداث فقط لا له وللبقاء معا حتّی یزول الحکم بزوال الوصف، بل یکون حکم النجاسة هنا مثل حکم النجاسة العارضة علی الماء المتغیّر بأحد أوصاف النجاسة، حیث إنّه بعد زوال الوصف بنفسه لا یوجب زوال النجاسة عن الماء، لأنّ الوصف واسطة لعروض النجاسة علی هذا الجسم، والماء وزواله لا یکون الاّ بورود مطهّر شرعی علیه کالانقلاب بصیرورة الخمر خلاًّ، أو بورود ماء کرّ علی الماء المتغیّر ونحوه، وإلاّ لو زال بنفسه أو بمایعٍ غیر مطهّرٍ لما أوجب ذلک زوال النجاسة عنه، ویجری فیه الاستصحاب بواسطة أن یکون التغییر بالوصف لا بالموضوع.

أقول: وممّا ذکرنا من الوجهین فی الطهارة والنجاسة ظهر وجه قول العلاّمة: فی «المنتهی» من الطهارة وتقویة صاحب «الجواهر» له فیما انحصر دلیل نجاسته فی المطلق علی الوصف المذکور.

وقوله بالنجاسة وتقویة صاحب «الجواهر» له إذا کان الحکم معلّقا علی الاسم من الخمر والنبیذ کما علیه «کاشف الغطاء».

نعم، قد استدرک فی آخره بقوله: «اللّهمّ إلاّ أن یدّعی انصرافه أیضا للمعهود المتعارف وهو الواجد فیبقی الأصل حینئذٍ لا معارض له، فتأمّل جیّدا».

ولکن قد عرفت قوّة النجاسة کما علیه الفتوی عند المتأخرین، وعرفت وجهه فلا نعید، واللّه العالم.

ص:191

تتمیم

وأنّ المدار فی حصول الاسکار هو حصوله فی المزاج المعتدل لا فی سریع الانفعال ولا بطیئه، کما هو الحال کذلک فی نظائره، مع احتمال کفایة تحقّق الوصف مطلقا ولو فی سریع الانفعال، لتحقّق ماهیّة الاسکار، وهو أوفق بالاحتیاط. کما أنّ حصول النجاسة والحرمة فی القلیل یثبت إذا کان کثیرة موجبا

للاسکار، لأنّ الملاک هو الصدق فی الصنف دون الشخص، فلازمه کون السکر الحاصل والمتکوّن فی بعض حبّات العنب والممزوج بغیره کالتریاق الفاروق کالکثیر فی النجاسة والحرمة.

نعم، یقع الکلام فی المسکر الذی یتحقّق فی بلادٍ دون أخری، أو أقلیم دون آخر، فهل یوجب النجاسة مطلقا، أو یدور مدار تحقّق الوصف؟ فیه وجهان: ینشأن من تحقّق الصدق، ومن دوران الحکم مدار الوصف، ولا یبعد قوّة الثانی بحسب العرف، لأنّ الحکم عرفا یدور مدار تحقّق الموضوع، والمفروض عدمه فی بلدٍ ولو من جهة شرایط المناخ من الحرارة والبرودة فیه، فلا وجه للحکم بالنجاسة مع عدم اسکاره، وإن کان الاحتیاط فی الاجتناب عنه مطلوبا جدا.

ثمّ الفرق بین السکر والاغماء مرجعه الی العرف، أی هو الشاخص والمیزان فی تحدیدهما فیه، وإن قیل فیه بأنّ السکر حالة تبعث علی نقص العقل بالاستقلال بخلاف الاغماء فانّه یکون بالتبع لضعف القلب والبدن أوّلاً، أو أنّه حالة تبعث علی قوّة النفس وضعف العقل والاغماء، علی ضعفهما.

بل قد یظهر من مجموع ما قیل إنّ السکر یشبه الجنون، والاغماء یشبه النوم، وعلیه فالایکال إلی العرف أولی وأحسن، وإن کان الظاهر مساعدته علی ما قیل فی الأخیر کما لا یخفی.

ص:192

وفی حکمها العصیر إذا غلی واشتدّ (1)

(1) إنّ تشبیه العصیر بسائر المسکرات: تارةً یکون فی خصوص الحرمة، وأخری هی مع النجاسة. حکم عصیر العنبی

أقول: لا اشکال ولا خلاف فی کونه مثل الخمر فی الحرمة إذا غلی واشتدّ ولم یذهب ثلثاه، بل فی تحقّق الحرمة بمجرد الغلیان وإن لم یشتدّ، کما هو الظاهر عن کلمات الأصحاب، بل عن المصنّف فی «المعتبر» وعن غیره دعوی الاجماع علیه؛ قال فی محکّی «المعتبر»: «وفی نجاسة العصیر بغلیانه قبل اشتداه تردّد، وأمّا التحریم فعلیه اجماع فقهائنا، ثمّ منهم من أتبع التحریم بالنجاسة، والوجه الحکم بالتحریم مع الغلیان حتّی یذهب الثلثان، ووقوف النجاسة علی الاشتداد» انتهی ما فی «المعتبر».

وأمّا النجاسة: ففی کثیر من العبارات ورد الاطلاق من حیث الحرمة والنجاسة، نظیر کلام المصنّف هنا، وأیضاً فی «الوسیلة» و«القواعد» و«التحریر» و«المختلف» و«المنتهی» و«الارشاد» و«الألفیة»، وظاهر «الروض» والمحکّی من عبارة والد الصدوق، بل فی «المسالک» و«المدارک» و«المفاتیح» وغیرها أنّه المشهور بین المتأخّرین، کما حکاه فی «الروض» و«الریاض» و«منظومة» الطباطبائی و«المفاتیح»، بل عن العلاّمة فی «المختلف» بأنّ المخالف فی الحرمة والنجاسة فیه هو المخالف فی الخبر، وهو کلامه فی الخمر وکلّ مسکرٍ والفقّاع، والعصیر إذا غَلی قبل ذهاب ثلثه بالنّار أو من نفسه نجسٌ، ذهب إلیه أکثر علمائنا کالمفید والشیخ أبی جعفر، والمرتضی، وأبی الصّلاح، وسلاّر، وابن ادریس، بل عن الشهید الثانی فی «شرح الرسالة» أنّ تحقیق القولین فی المسألة مشکوک فیه، بمعنی أنّه لا قائل إلاّ بالنجاسة.

ص:193

نعم، حکی العلاّمة فی «المختلف» الخلاف فی الخمر والعصیر عن ابن أبی عقیل، بل وأیضاً ذهب إلی الطهارة المصنّف فی ظاهر «النافع» والشهید الأوّل فی «الذکری» و«البیان»، وکذلک «الجامع» حیث لم یعدّ العصیر فی عداد النجاسات، وتبعه علیه جماعه ممّن تأخر عنه، منهم الشهید الثانی وولداه وشیخهما والفاضل الهندی وصاحب «الریاض»، بل عن «الذکری» شذوذ القول بالنجاسة بین القدماء وکون المعروف عندهم خلافها، ولأجل ذلک قسّم الفاضل النراقی العلماء فی ذلک علی ثلاث طبقات: «الأولی: القدماء، فالمصرّح منهم بالنجاسه إمّا قلیل أو معدوم، نعم قال الحلّی: «ألا تری أنّ عصیر العنب قبل أن یشتدّ حلال طاهر، فإذا حدثت الشدّة حرمت العین ونجست»، لکنّه ذکر فی مبحث النجاسات الخمر وألحق الفقاع بها لکنه لم یذکر العصیر أصلاً.

ولعلّ مراده من الشدّة لیس مطلق الغلظة والثخانة، بل المراد القوّة الحاصلة للمسکر فیکون المراد منه الخمر، ولذا لم یذکر الغلیان ولا قبل ذهاب الثلثین، ورتّب زوال الشدّة علی الانقلاب خلاًّ) انتهی ما فی «المستند».

الطبقة الثانیة: المتأخّرون هی النجاسة، ثمّ المشهور بین الطبقة الثالثة یعنی طبقة متأخری المتأخرین الطهارة، ومراده منهم من الشهید ومن بعده.

أقول: الحقّ هو ما ذکر من أنّ الشهرة بین متأخری المتأخرین إلی زماننا هو القول بالطهارة صریحاً، أو القول بالاحتیاط وجوبا فی الاجتناب، حیث یفهمنا عدم وضوح مدرک النجاسة عندهم حیث لم یفتوا بها.

ولعلّ وجه استفاده الطهارة من کلمات القدماء، هو ما عرفت فی کلمات بعضهم من عدم ذکر العصیر فی عداد النجاسات، ولا تعرضّهم لبیان ما یطهّره عند ذکر المطهّرات، مع أنّ له مطهرا مخصوصا، وإن أوهم بعض کلماتهم من ذکر العصیر بعد غلیانه بحکم الخمر کونه مثلها فی النجاسة والحرمة، مع أنّه لا طهور فی ذلک لامکان کون المراد من التشبیه فی خصوص حرمته لا مع النجاسة.

ص:194

أدلة نجاسة العصیر العنبی

وکیف کان، فلابدّ من الرجوع إلی ملاحظة الأدلّة الواردة فی الطهارة والنجاسة، وملاحظة ما هو الأقوی منهما حجّة ودلالة، فیؤخذ به ویحکم علیه بعد عدم امکان الاعتماد علی دعوی الاجماع علی النجاسة الذی صرّح به صاحب «کنزالعرفان»، حیث قال علی ما حکی عنه: «العصیر من العنب قبل غلیانه طاهر حلال، وبعد غلیانه واشتداده نجسٌ حرامٌ، وذلک اجماع من فقهائنا، أمّا بعد غلیانه وقبل اشتداده فحرامٌ اجماعا منّا، وأمّا النجاسة فعند بعضنا أنّه نجسٌ وعند آخرین انّه طاهرٌ» انتهی(1).

لمّا قد عرفت من وجود الاختلاف قدیما وحدیثا فی نجاسته بعد الجزم بحرمته عند الکلّ بعد الغلیان، سواءٌ اشتدّ أم لا. هذا مع قوّة احتمال کون مرادهم من الاشتداد لدی الجمهور هو الشدّة المطربه، وحمل العبارات علی ذلک أولی من قبول الدعوی بصورة المطلق، اللّهمّ الاّ أن تقوم فی کلامهم قرینة دالة علی الاطلاق حتّی یشمل لمطلق الاشتداد.

وحیث أنّ الطهارة مطابقة للأصل والقاعدة، لأن (کلّ شیء طاهر حتّی تعلم انّه قذر)، وکلّ شیء محکوم بالنظافة إلاّ ما قام الدلیل علی قذارته، فلابدّ حینئذٍ من الفحص عمّا یقتضی نجاسته، ولیس فی البین إلاّ أمور سننذکرها بعد ما عرفت من سقوط الدلیل الأوّل وهو الاجماع علی النجاسة.

الدلیل الثانی: دعوی صدق اسم الخمر علی العصیر حقیقةً، فیعمّه حکمها لاطلاق أدلّته.

أمّا صدق الأسم: فلظهور کلمات جماعة من الخاصّة والعامّة فی ذلک، بل عن «المهذّب البارع» أنّ اسم الخمر حقیقة فی عصیر العنب اجماعا.


1- کنزالعرفان، ج 1، ص 53.

ص:195

وما فی «الفقیه» حکایة رسالة والده بقوله: «اعلم یا بُنیّ إنّ أصل الخمر من الکَرْم إذا أصابته النّار أوغلی من غیر أن تمسّه، فیصیر أعلاه اسفله فهو خمرٌ، فلا یحلّ شُربه حتّی یذهب ثلثاه) بل قد یؤیّده بعض الأخبار مثل خبر معاویة بن عمّار: «فی العصیر الذی ذهب نصفه أنّه خمرٌ لا تشربه»(1).

وفیه: منع صدق الاسم علیه، ولذلک تلاحظ أنّ العرف لا یعترف بأنّه خمر حقیقة، بل یری صحّة سلب الاسم عنه حقیقة لغةً وعرفا، لأن الخمر اسم للطبیعة المعهودة المتخذة من العصیر، والمعروفة عند أهلها، فلا یدخل العصیر تحته إلاّ إذا کان مع الفساد والاختمار، إذ لیس العصیر من الشراب المسکر ما لم یطرء علیه التغیّر والنشیش، ولذلک جعلوه قسیما للمسکر المایع، بل ولم یسمع من أهل من جرّبه عدّه من المسکر مع انّه لو کان کذلک لبان عند من هو أهله، ولذلک لا یتوجّهون إلیه إلاّ عند فقد الخمر بدلاً عنها، فمجرّد احتمال کون العصیر فی الواقع خمرا لا یوجب ترتّب آثار الخمر علیه ما لم یظهر کونه منها، فاثبات حکم الخمر علیه بمجرّد اطلاق ذلک اللفظ علیه فی بعض الکلمات، مع عدم کونه حقیقة منها لاستلزام ترتّب حکم النجاسة علیه وکونه خمرا حقیقةً، مع أنّ والد لصدوق رحمه الله فی رسالته لولده کان ممّن لا یری النجاسة فی أصل الخمرة فضلاً عن العصیر.

وأمّا ما حُکی عن «المهذب البارع» من دعوی الاجماع علی صدق اسم الخمر علیه حقیقة، لعلّه أراد القسیم الّذی یتّخذ من العنب الذی یکون خمرا حقیقة کالنبیذ لا لمطلق العصائر بأن یکون خمرا ولو قبل غلیانه، فإنّه معلوم الفساد، بل حتّی بعد غلیانه فی بعض مصادیقه کما سیظهر لک إن شاء اللّه.

الدلیل الثالث: الأخبار التی تمسّکوا بها لذلک، ولعلّ أوجهها موثقة معاویة بن عمّار المرویة فی «التهذیب» و«الکافی» عن أبی عبداللّه علیه السلام ، قال: «سألته عن


1- وسائل الشیعة: الباب 7 من أبواب الاشربة المحرمة، الحدیث 4.

ص:196

الرجل من أهل المعرفة (بالحق) یأتینی بالبُختج ویقول قد طُبخ علی الثلث، وأنا أعلم إنّه یشربه علی النصف، أنا أشربه بقوله وهو یشربه علی النصف فقال: لا تشربه. قلت: فرجلٌ من غیر أهل المعرفة ممّن لا نعرفه یشربه علی الثلث ولا یستحلّه علی النصف، یخبرنا أنّ عنده بُختجا قد ذهب ثلثاه وبقی ثلثه یشرب منه؟ قال: نعم»(1).

وجه الاستدلال: حمله علیه بالحقیقة المقتضی لترتّب حکمه علیه قبل ذهاب ثلثیه لکونه مسکرا، لما عرفت من لزوم وجود وصف الاسکار فی مفهوم الخمر عرفا ولغة، فمادام لم یعلم انتفائه یترتّب علیه حکمه ابقاءا لظاهر الروایة.

ولکن یکن انّ یجاب عنه أوّلاً: بما قاله صاحب «مصباح الفقیه» بامکان أن یکون البُختج هو قسم من العصیر الذی تحقّق منه السکر، ویکون هو الفرد المتعارف منه فی ترتّب الاسکار علیه، وهو الذی نشاهد فی طبخ العصیر وإعماله دبسا وغیره ابقائه مدّة یتغیر فی هذه المدّة ویقذف بالزبد، فلعلّ کونه کذلک منشأً لحدوث وصف الاسکار فیه، فلا یلزم من الحکم بخمریته أن یکون مطلق العصیر کذلک حتّی فیما لو طبخ بعد صیرورته عصیراً مباشرةً بخلاف المتعارف، فضلاً عن أن یغلی حبات العنب حین طبخها فی القدر من غیر أن تعصر، کما یؤید ما ذکرنا ما حُکی عن «النهایة» لابن الأثیر أنّ هذه الکلمة فارسی معرّب وأصله بالفارسیة «میپُخته» أی الخمر المطبوخة، فلا یطلق هذا الاسم علی الدبس، فإنّ للعصیر المطبوخ أنحاء منها الدبس ومنها ما نسمّیه فی بعض البلاد ب (الدُّب) ولعلّه یسمّی بالبُختج. وکیفیة طبخه أن یبقی العصیر أیّاما عدیدة إلی أن یتغیّر تغیّرا فاحشا إلی أن یبلغ حدّه المعروف عند أهله، ثمّ یطبخونه فیصیر هو فی حدّ ذاته حلوا حامضا کالسکنجبین من غیر أن یوضع فیه الخلّ، فعلّه هو الخمر حقیقة، وتکون حموضته


1- وسائل الشیعة: الباب 7 من أبواب الاشربة المحرمة، الحدیث 4.

ص:197

من جهة انقلابه بالطبیعة الخمریة.

وثانیا: مع غمض النظر عمّا ذکرنا، غایته دلالة الروایة علی نجاسة هذا القسم من العصیر لا مطلق العصیر المطبوخ بمجرد الغلیان، کما هو المدّعی، فلازم ذلک هو أنّ البُختج إذا طبخ الی النصف ولم یذهب ثلثاه صار نجسا، ولا ملازمة بین نجاسة هذا القسم مع نجاسة سائر أفراد العصیر.

ولا یصحّ هنا دعوی عدم القول بالفصل، لما عرفت کون المفروض فی الروایة خمرا حقیقةً فلا یسری الحکم إلی ما لا یکون کذلک، فلا وجه لرفع الید عن سائر الافراد عمّا هو مقتضی الاصول والقواعد وهو لیس الاّ الطهارة.

نعم، لو قلنا بأن الحمل فی الروایة بقوله: «إنّه خمرٌ» مجازیٌ لا حقیقیٌ، وأرید به التشبیه التامّ بالخمر، أمکن الاستدلال بهذه الروایة لاثبات المدّعی بمقتضی اطلاقه بعموم وجه الشبه، ولا أقلّ من ظهوره فی ارادة الأحکام الظاهریة التی منها النجاسة، فیتمّ القول فی غیر مورد الروایة بعدم القول بالفصل، هذا کلّه لو اعتمدنا فی نقل الخمر علی ما ورد فی «تهذیب» الشیخ من وجود کلمة (الخمر) فیه بناءً علی أنّه عند دوران الأمر بین احتمال الزیادة أو النقیصة یکون الثانی هو المتّفق عادة، فلازمه حینئذٍ تقدیم ضبط الشیخ بوجود کلمة (الخمر) علی ما فی «الکافی» من اسقاطها والاکتفاء فیه ب «لا تشربه»، ولکن یعارض حینئذٍ بأنّه عند دوران الأمر بین تقدیم ضبط الشیخ علی ضبط الکلینی الثانی یقدّم لأضبطیة الکلینی فی ذلک فیقدّم فیصیر نقله حاکما علی تقدیم أصالة عدم الزیادة علی عقد النقیصة الجاریة، لأنّ الأضطبیة أمر یجری فی کلا الطرفین من الزیادة والنقیصة، فربّما یوجب ذلک سلب الاعتماد علی ما فی «التهذیب»، فیقتضی أن نراجع ونلاحظ کیفیّة حمله هل کان بصورة الحقیقة أو المجاز، مع أنّه یکفی فی التشبیه کونه مثل الخمر فی الحرمة التی هی الأثر الفاحش دون النجاسة التی تعدّ من أوصافها

ص:198

الخفیّة، حیث قد عرفت الانکار من بعض الفقهاء منّا ومن العامّة، مع أن مقتضی ظاهر بیان حکم الشرب فی الروایة بالجواز والحرمة یؤیّد کون الحمل والتشبیه فی خصوص الحرمة لا مطلق الأوصاف حتّی یشمل النجاسة، کما لا یخفی.

أقول: لا أقل من أنّ وجود هذه المحتملات یوجب سلب الاطمینان والاعتماد علی وجه یرفع الید بواسطة هذه الروایة عمّا هو مقتضی الأصول والقواعد من الطهارة، لو لا موافقته مع الاحتیاط قضیةً لما ذهب الیه بعض الأعلام من النجاسة، فلذلک قلنا فی تعلیقتنا بأن الأقوی هو الطهارة، وإن کان الأحوط الاجتناب کما عن السیّد فی «العروة». وقد ثبت أنّ العمدة فی الدلالة هی الأخبار التی مرّت وغیرها، لکنها لیست فی الدلالة بقوّة هذه الروایة.

وممّا استدلّ به للنجاسة: مرسل محمّد بن الهیثم، عن رجلٍ، عن أبی عبداللّه علیه السلام ، قال: «سألته عن العصیر یطبخ بالنار حتّی یغلی من ساعته أ یشربه صاحبه؟ قال، إذا تغیّر عن حاله وغلا فلا خیر فیه حتّی یذهب ثلثاه ویبقی ثلثه»(1).

ومنها: روایة أبی بصیر، قال: «سمعت أبا عبداللّه علیه السلام وسئل عن الطّلا؟ فقال: إن طبخ حتّی یذهب منه اثنان ویبقی واحد فهو حلال، وما کان دون ذلک فلیس فیه خیر»(2).

بتقریب أن یقال: إنّه لو کان طاهرا لکان فیه خیرٌ ولو فرض حرمته.

ولا یخفی ما فیه: لأن کلمة (الخیر) وقعت فی مقابل الحلال فی روایة أبی بصیر، وهو قرینة علی أنّ المقصود من عدم الخیر هو الحرمة لا النجاسة، لأنّ ما یترقب من العصیر لیس الاّ الشرب لا سقی الأشجار وبلّ الطین، کما یؤیّد ذلک جعل الشرب فی قبال عدم الخیر فی مرسل ابن هیثم. وعلیه فالاستدلال بمثل هذه


1- وسائل الشیعة: الباب 2 من أبواب الاشربة المحرمة، الحدیث 7.
2- المصدر السابق، الحدیث 6.

ص:199

الأخبار لا یخلو عن ضعف، نظیر ضعف الاستدلال للنجاسة بالأخبار المبیّنة فیها سهم الابلیس:

منها: خبر وهب بن منّبه فی حدیث طویل، قال: «لما خرج نوح من السفینة غرس غضبانا کانت معه من النخل والأعناب وسائر الثمار، فأطعمت من ساعتها وکان معه حبلة العنب وکان آخر شیء أخرج حبلة العنب، فلم یجدها نوح، وکان ابلیس قد أخذها فخّبأها فنهض نوح لیدخل السفینة... إلی أن قال: فقال له الملک: إنّ لک فیها شریکا فی عصرها فأحسن مشارکته، قال: نعم، له السُبع ولی ستة أسباع. قال له الملک: أحسن فانّک محسنٌ إلی أن بلغ، وقال لی الثلث وله الثلثان فرض، فما کان فوق الثلث من طبخها فلابلیس وهو حظه، وما کان من الثلث فما دونه فهو لنوح علیه السلام هو حظّة، وذلک الحلال الطیّب لیشرب منه»(1).

تقریب الاستدلال: إنّ توصیف الحلال بالطیّب اشعار بکون حظّ ابلیس هو الحرام الخبیث، والخباثة المغایر للحرمة لیست الاّ النجاسة.

ونحوه فی الدلالة علی المدّعی ما ورد فی بعض الروایات: «فمن هنّا طاب الطّلاء علی الثلث»:

أقول: وفیها ما لا یخفی، إذ لا یمکن رفع الید عمّا سبق بواسطة هذه الاشعارات والاستحسانات المستخرجة من الأخبار، مع قیام الشواهد فی نفس الأخبار علی کون الأوصاف بلحاظ أصل شربه من الحرمة والحلیّة لا النجاسة والطهارة. اللّهمّ إلاّ أن یرجع إلی کونه حینئذٍ خمرا یترتّب علیه أحکامه من الحرمة والنجاسة، وقد عرفت حاله والجواب عنه، فلا نعید.

کما لا یمکن الاعتماد فی اثبات النجاسة ببعض الأخبار المنقوله من الخاصّة والعامّة من الأشعار والاستیناس بالنجاسة:


1- وسائل الشیعة: الباب 2 من أبواب الاشربة المحرمة، الحدیث 11.

ص:200

منها: ما رواه الخاصّة وهی روایة علی بن أبی حمرة، عن إبراهیم، عن أبی عبداللّه علیه السلام ، قال: «إنّ اللّه لما أهبط آدم أمره بالحرث... إلی أن قال: ثمّ إنّ ابلیس ذهب بعد وفاة آدم فبال فی أصل الکرمة والنخلة فجری الماء فی عودهما ببول عدوّاللّه، فمن ثمّ یختمر العنب والکرم، فحرّم اللّه علی ذرّیة آدم کلّ مسکر، لأنّ الماء جری ببول عدوّ اللّه فی النخلة والعنب وصار کلّ مختمر خمرا، لأنّ الماء اختمر فی النخلة والکرمة من رائحة بول عدوّ اللّه»(1)، باعتبار اسکاره ولو بالکثیر، فهو خمر و نجسٌ.

ومثله خبر عمر بن یزید(2)فی الدلالة.

ومنها: الخبر الذی رواه العامّة هو الذی ذکره العلاّمة الأمینی فی کتابه «الغدیر» نقلاً عن العامّة فی بدو أمر الطلاء وهو المطبوخ من عصیر العنب: «أنّ عمر حین قدم إلی الشام شکی الیه أهلها وباء الأرض، وقالوا لا یصلحنا إلاّ هذا الشراب، فقال: أشربوا العسل. فقالوا: ما یصلحنا العسل. فقال رجلٌ من أهل الأرض: هل لک أن نجعل لک من هذا الشراب شیئا لا یسکر؟ فقال: نعم، فطبخوه حتّی ذهب منه الثلثان فأتوا به عمر فأدخل فیه اصبعه ثمّ رفع یده فتبعها مطلقا، فقال: هذا الطّلاء مثل طلاء الابل، فأمرهم أن یشربوه، ثمّ کتب إلی الناس أن اطبخوا شرابکم حتّی یذهب منه نصیب الشیطان... إلی آخره»(3).

وأمثال ذلک، لکن کلّ هذا لا یوجب الالحاق من حیث النجاسة، بل یکفی فی التشبیه بالخمر من جهة حرمة شربه کما هو المشار فی هذه الأخبار وغیرها.

وبالجملة: الانصاف أنّه لم نجد دلیلاً متقناً سندا ودلالة علی نجاسة العصیر


1- وسائل الشیعة: الباب 2 من أبواب الاشربة المحرمة، الحدیث 3.
2- الغدیر للأمینی، ج 6، ص 260 من طبعة طهران عن الموطّأ للمالک، ج 2، ص 180.
3- وسائل الشیعة: الباب 7 من أبواب الاشربة المحرمة، الحدیث 10.

ص:201

العنبی إذا غلی، مضافاً إلی حرمة شربه المقبول عند الکلّ، إلاّ ما إذا انقلب خمراً نتیجة بقائه مدّة حتّی یصیر خمرا، فله النجاسة کالحرمة، فیکون حینئذٍ مصداقا للخمر حقیقة أو حکما، وقد سبق أنّه لعلّ النجتج کان خمرا مطبوخا کما أشار الیه ابن الأثیر فی «النهایة»، فحینئذٍ لا مانع من الحکم بنجاسة کحرمته.

نعم، قد یظهر من ابن حمزة فی «الوسیلة» اختصاص حکم النجاسة بما إذا غلی بنفسه لا بالنّار بصدق الخمر علیه لاختماره فیما إذا نشّ أو غلی بنفسه، ولعلّه أراد ما ذکرنا من القسم الحرام والجنس من العصیر الذی یعرضه السکر بالبقاء مدّة بنفسه، وحینئذٍ تطهیره لا یکون الاّ أنّ یصیر خلاًّ لا بذهاب الثلثین کما هو المفروض عندنا فی سائر الأقسام من العصیر العنبی، من أن حلّیته موقوفه علی ذهاب ثلثیة، ولا دلیل لهذه المدّعی إلاّ المرسل المحکی فی «مجمع البحرین»، وجاء فیه: «إن نشّ العصیر من غیر أن یمسّه النار فدعه حتّی یصیر خلاًّ»، ولأجل ذلک قال إنّ تطهیره یتحقّق بتخللیه، فیظهر منه حینئذٍ أنّه لو لم یکن کذلک فهو طاهرٌ، فیکون حینئذٍ هو ممّن یقول بالطهارة.

هذا غایة ما یمکن أن یقال فی طهارته ونجاسته، فالأقوی عندنا هو الطهارة، وإن کان الأحوط الاجتناب عنه، واللّه العالم بحقائق الأمور.

البحث عن سبب حرمة العصیر

أقول: بعد ما ثبت أنّ الأقوی فی العصیر العنبی الطهارة، یأتی الکلام والبحث علی تقدیر القول بالنجاسة، وأنّ حصول نجاسته هل یکون بالنشیش أم لا؟ وفی المراد منه احتمالات:

الأول: هو الصوت الذی یحصل له بواسطة بقائه مع الماء مدّةً قبل الغلیان، بل قد فَسّر صاحب «مجمع البحرین» النشیش بالغلیان، حیث قال: «ورد فی الحدیث:

ص:202

«النبیذ إذا نشّ فلا یشرب» أی إذا غلی، إلی أن قال: والنشیش هو صوت الماء وغیره إذا غلی». فبناء علی هذا التفسیر یکون النشیش والغلیان واحدا بخلاف الفرض الأوّل.

والاحتمال الثانی: أن یجعل حدّ النجاسة حصول الغلیان دون النشیش.

ولازم الافتراق بینهما هو احتمال الافتراق بین الحرمة والنجاسة بکون النشیش حدّا للأولی والغلیان للثانیة، إذ الغلیان عبارة عن قلب الأعلی الی الأسفل وبالعکس، حیث لا اشکال فی صیرورته حراما.

ولکن قد عرفت تصریح ابن حمزة بعدم النجاسة إذا غلی بالنّار، وتخصیصه النجاسة بما إذا غلی العصیر بنفسه.

ولکن یتوجّه الیه: أنّ کلامه هذا لا یوافق مع الأدلّة، الاّ أن یرید من الغلیان الطهارة وجعل نجاسته مخصوصا بالنشیش، لصیرورته حینئذٍ خمرا فلا مطهر له الاّا التخلیل لا ذهاب ثلثیة.

والاحتمال الثالث: هو أنّ الحرمة حاصلة بالنشیش أو الغلیان، ولکن نجاسته منوط بالاشتداد وهذا هو الذی ورد فی عبارة المتن من أنّه (إذا اغلی واشتدّ) حیث أنّ الظاهر بمقتضی واو العطف کون النجاسة مترتبه علی الاشتداد، لأنّه مورد نقل الاجماع فی «مجمع البحرین»، بل هذا هو القدر المتیقن فی روایة عمّار بکونه خمرا لا تشربه، إذ البُختج هو العطر المطبوخ الذی لا یحصل الاّ بعد الاشتداد، وهو الخارج عن أصالة الطهارة لکونه القدر المتیقن، إذا المراد من الاشتداد _ علی ما صرّح به بعض _ اشتداد نفس العصیر أی ثخونته وقوامه. نعم عن ظاهر الشهید فی «الذکری» والمحقق الثانی اعتبار مسمّی الثخونة الحاصلة بمجرّد الغلیان ولو لم یحسّ بها.

وعن فخرالدین فی «حاشیة الارشاد»: «أنّ المراد بالاشتداد عند الجمهور

ص:203

الشدّة المطربة، وعندنا أن یصیر أسفله أعلاه بالغیان».

وکیف کان، فإنّه لیس فی الادلّة بصورة الصراحة ما یفید اعتبار ذلک فی النجاسة، لو لا اعتبار وجود الملازمة بین الحرمة والنجاسة، حیث یلزم کون النجاسة قرینا مع الحرمة فی ابتداء الغلیان دون الاشتداد، وعلیه، لا دلیل بالخصوص لانحصار تحقّق النجاسة فی الاشتداد فقط إلاّ ما عرفت من دعوی قیام الاجماع فی «مجمع البحرین» وکونه القدر المتیقن من موثقة عمّار، مع ما عرفت الاشکال فی الروایة بکون المقصود من البختج هو الخمر المطبوخ لا العصیر العنبی الذی یطبخ ویغلظ.

وکیف کان، لو لم نقبل هذا الاحتمال لا یبقی دلیلٌ علی أنّ النجاسة تتحقّق بالاشتداد إلاّ ما عرفت، والاّ ظاهر الادلّة أنّ النجاسة والحرمة تحصلان من نفس الغلیان وهو قلب الاعلی الی الأسفل وعکسه، کما لا یخفی.

أقول: وکون المراد من الغلیان هو النشیش خلاف لظاهر هذا اللفظ فی عبارات الأصحاب، بل فی الأخبار:

منها: خبر حماد بن عثمان، عن الصادق علیه السلام : «عن الغلیان فقال: القلب»(1).

کما هو غیر منساق إلی الذهن، لأن ما نشّ لا یقال له إنّه غلی، وعلیه فکون المراد عنه ذلک بعید جدّا، فلعلّ سبب ذکر کلا الوصفین فی المتن هو ارادة التعمیم للفردین من النشیش إذا اشتدّ وقذف بالزبد ومن الغلیان، لا أن یجتمعا فی عصیر واحد فحینئذٍ لابدّ أن نحمل حرف الواو علی (أو)، فیصیر ما ورد فی المتن نظیر ماورد فی خبر ذریح: «إذا نشّ العصیر أو غلی حَرُم»(2).

ولکن الانصاف بحسب ظاهر الکلام الوارد فی المتن کون الوصفین لهما


1- وسائل الشیعة: الباب 3 من أبواب الاشربة المحرمة، الحدیث 3.
2- وسائل الشیعة: الباب 3 من أبواب الاشربة المحرمة، الحدیث 4.

ص:204

الدخل فی ترتّب الحکم علیه، لا علی کلّ واحد منهما مستقلاً، فیرجع الکلام حینئذٍ إلی ما عرفت من مطالبة الدلیل علی اثباته، فلا نعید.

فروع باب العصیر العنبی

الفرع الأوّل: فی أنّ الحکم فی العصیر هو الحرمة فقط أو هی مع النجاسة، وهل الحکم المذکور مترتّب علی الغلیان مطلقا سواءٌ کان بالنّار أو بنفسه أو مختصّ بالأوّل فقط؟

قال صاحب «الجواهر»: ظاهر المصنّف وغیره عدم الفرق بین الصورتین، ولکن قد عرفت الافتراق عن صاحب «الوسیلة» حیث قصّر النجاسة علی الغلیان بنفسه والحرمة بالنّار، ولعلّ مقصوده بیان کون الغلیان بنفسه هو خمرا لحصول الاختمار فیه دون ما یکون بسبب النّار، مع أنّه مخدوش بما فی الأخبار من ترتّب الحکم علی الغلیان، بلا فرق فیه بین کونه بنفسه أو بالنّار، لأنّ الغلیان عبارة عن القلب کما جاء تحدید ذلک فی خبر حمّاد بن عثمان، فإذا حصلت هذه الحالة حرم کما ینجس علی القول بالملازمة، والاّ یحرم فقط علی القول بالطهارة. اللّهمّ الاّ أن یخدش فی أصل صدق القلب والغلیان بنفسه، فینحصر تحقّق الحرمة بالنّار، کما یظهر ذلک عن صاحب «الجواهر».

أقول: الانصاف أنّ ملاک صحة اطلاق هذه الأوصاف هو العرف، وهم یطلقون صفة (الغلیان) بما إذا حصل بنفسه، حیث یقال له النشیش. وکیف کان، فلا فرق فی حصول ذلک بنفسه أو بالنّار، مضافا إلی امکان صحّة اطلاق الغلیان علیه ما جاء فی صریح صحیحة حمّاد بن عثمان، وحدیث ذریح، قال: «سمعت أبا عبداللّه علیه السلام یقول إذا نشّ أو غلا یحرم»(1)، فیشمل حکم الحرمة للفردین دون النجاسة، إلاّ أن


1- وسائل الشیعة: الباب 3 من أبواب الاشربة المحرمة، الحدیث 1.

ص:205

ینقلب بواسطة النشّ خمرا فلا یطهّره حینئذٍ إلاّ التخلیل لا ذهاب الثلثین، وعلیه فلا فرق فی الغلیان بین کونه حاصلاً بنفسه أو بالشمس أو بالنّار أو بالهواء.

الفرع الثانی: لا خلاف فی أنّ الحرمة تحصل بالغلیان، حیث قام الاجماع علیه عن المصنّف فی «المعتبر» بدعوی اجماع الفقهاء علیه، هذا فضلاً عن دلالة نصوص کثیرة تبلغ حدّ التواتر:

منها: خبر حمّاد بن عثمان، عن الصادق علیه السلام : «لا یحرم العصیر حتّی یغلی»(1).(2)

ومنها: خبر ذریح بقوله: «إذا نشّ أو غلا حرم»(3).

ومنها: حدیث ابن أبی عمیر، عن محمّد بن عاصم عنه علیه السلام ، قال: «لا بأس بشرب العصیر ستة أیّام قال ابن أبی عمیر معناه ما لم یغل»(4) فمفهومه أنّه إذا غلی یحرم، سواء کان بنفسه أو بالنار.

ومنها: خبر محمّد بن الهیثم، عنه علیه السلام ، قال: «سألته عن العصیر یطبخ بالنّار حتّی یغلی من ساعته أ یشربه صاحبه؟ فقال: إذا تغیّر عن حاله وغلا فلا خیر فیه حتّی یذهب ثلثاه ویبقی ثلثه»(5).

وغیر ذلک من الأخبار الدالّة علی ذلک.

الفرع الثالث: هل الغلیان الموجب لاثبات الحکم من الحرمة أو هی مع النجاسة، مختص بالعصیر من العنب، أو لا فرق بینه وبین غلیان ما فی داخل العنب من الماء، وقد صرّح بعدم الفرق السیّد فی «العروة»، وعلیه بعض أصحاب التعلیق.


1- وسائل الشیعة: الباب 3 من أبواب الاشربة المحرمة، الحدیث 2 و 5 .
2- وسائل الشیعة: الباب 3 من أبواب الاشربة المحرمة، الحدیث 2 و 5 .
3- وسائل الشیعة: الباب 3 من أبواب الاشربة المحرمة، الحدیث 3.
4- المصدر السابق، الحدیث 4.
5- وسائل الشیعة: الباب 3 من أبواب الاشربة المحرمة، الحدیث 7.

ص:206

ولکن یظهر من المقدّس الأردبیلی قدس سره فی «شرح الارشاد» دعوی اختصاصه بالأوّل، بدعوی ظهور النصوص فی اشتراط کونه معصورا، فلو غلی ماء العنب فی حبّه لم یصدق علیه أنّه عصیر غلی.

ولکن أورد علیه: بأن التعبیر بالعصیر من باب الغالب والقید غالبی لا احتزاری، وإلاّ یلزم القول بعدم الحکم بالحرمة إذا استخرج ماء العنب بنفسه أو بالغلیان لا بالعصر.

أقول: لکن الانصاف أنّه أراد بأن اطلاق العرف ماء العنب لا یکون إلاّ إذا کان خارجا عن العنب بأیّ وجه کان، لا خصوص العصر، فما فی العنب هو عنبٌ کما أنّ ما فی البطیخ بطیخ لا یطلق علیه ماء البطیخ إلاّ إذا خرج.

وکیف کان، شمول النصوص لمثل غلیان الماء الموجود داخل العنب فی الجملة خفاء، إلاّ أن یقال بالالحاق من باب تنقیح المناط، لوضوح أن الحکم لا یکون الاّ لنفس الماء إذا غلا، بلا فرق بین کونه داخل العنب أو خارجه، وهو غیر بعید، مضافا إلی عدم القول بالفصل الاّ عن بعض کما عرفت. وعلیه فالأقوی عدم الفرق بین المعصور وغیره فی الحرمة إذا غلی.

وبالجملة: وما ورد فی کلام «مصباح الهدی» للآملی رحمه الله من تطبیق عنوان القلب والغلیان بالفرق بین الماء الواقع فی العنب السالم، وبین ما فی العنب الذی لم یبق فیه من ثقله شیء بل صار ما فیه منحصرا بالماء، أو کان الغالب علیه الماء المعبّر عنه بالفارسیة ب «انگور آب افتاده» بصدق الغلیان فی الثانی دون الأوّل، لیس علی ما ینبغی، لأن الملاک فی اثبات الموضوع فی دلیل الحکم بواسطة الغلیان، لیس الاّ صدق ماء العنب، وهو صادق فی کلّ هذه الأقسام. حکم عصیر الزبیب

وکیف کان، إن أحرزنا صدق موضوع الحکم فیه حُکم بحرمته مع غلیانه أو نجاسته إن اخترناه، والاّ المرجع إلی قاعدة الطهارة والأصل، الحاکمان بطهارته عند الشک، کما هو واضح.

ص:207

هذا کلّه تمام الکلام فی العصیر العنبی.

الفرع الثالث: فی حکم العصیر الزبیبی والتمری.

فقد قدّم صاحب «الجواهر» الثانی علی الأوّل، خلافا لصاحب «مصباح الفقیه» کما هو الأولی للاستتباع فی حکم العصیر الزبیبی للعنبی، ولذلک نقدّم بحثه علی التمری، وإن کان بعض الأدلّة مشترکة فیهما کما ستطّلع علیه إن شاء اللّه، فنقول: ظاهر المصنّف وغیره عدم النجاسة فی غیر عصیر العنب من التمر والزبیب والحِصْرِم وغیرها، بل صرّح به فی «جامع المقاصد» و«الروض» وغیرهما مثل حواشی «القواعد» و«المقاصد العلیّة» من دعوی قیام الاجماع علی ذلک فی غیر الزبیب، بل فی «الحدائق» الظاهر أنّه لا خلاف فی طهارة عصیر الزبیب أیضا، کما جاء فی «الذخیرة»: «إنّی لا أعلم بنجاسة قائلاً».

أقول: ولکن الأمر لیس کذلک، لما یظهر ویفهم من «جامع المقاصد» و«الروض» تحقق الخلاف فی الزبیبی، بل فی «کشف اللّثام» إنّه لعلّ من العنبی الزبیبی، بل فی «منظومة» الطباطبائی حکایة القول بنجاسة الزبیبی والتمری صریحا، ولعلّه استفاده من اطلاق بعض من القائلین بالنجاسة فی العصیر بصورة الاطلاق کابن حمرة والعلاّمة وغیرهما، بناء علی کون العصیر هو للأعمّ الشامل للثلاث.

وکیف کان، فالمسألة قابلة للبحث من حیث الطهارة و النجاسة فی کلّ من الزبیب والتمر، ولا یخفی أنّه إن قلنا بطهارة العصیر العنبی کما هو مختارنا لا یبقی وجه للحکم بنجاسه الزبیبی، لأنّه لا یکون أسوء حالاً من العنب، فلابدّ البحث فیه أن یکون بعد الفراغ عن نجاسة العصیر العنبی، ولذلک یقتضی أولاً البحث عن الدلیل علی نجاسة الزبیبی، فنقول:

الدلیل علی نجاسة العصیر الزبیبی

قد یستدلّ لذلک بالاستصحاب بأن یقال إذا کان عنبا کان الغلیان موجبا

ص:208

لنجاسته، فالآن نشک فیه لأجل صیرورته زبیبا لاحتمال دخالة صفة العنبیّة فی ثبوت النجاسة مع الغلیان، أو لأجل احتمال مانعیّة الزبیبیة عن اجراء الحکم فیه مع غلیانه فیستصحب ویحکم بنجاسته، هذا.

ولکن یناقش فیه بأمور أوّلاً: إنّ هذا الاستصحاب یعدّ استصحاباً تعلیقا فی الحکم، بدعوی أنّ المعتبر فی الاستصحاب هو کون المستصحب موجودا قبل زمان الشک، والحکم التعلیقی لا یکون موجودا قبله، لعدم تحقّق المعلّق علیه، بل هو تعلیق فی الموضوع، لأنّه یکون کذلک إذا کان هذا عنبا ینجس مع الغلیان، فکان کذلک مع الزبیبیّة، والثابت أنّ مثل هذا الاستصحاب التعلیقی لیس بحجّة.

ولکن قد یجاب عنه: بأنّ مرجع استصحاب الحکم التعلیقی إلی استصحاب أمرٍ محقّق وهو سببیّة للنجاسة کما قاله صاحب «مصباح الفقیه».

ولکن یرد علیه أوّلاً: إنّما یصحّ هذا الاستصحاب إن قبلنا کون السببیّة والملازمة من المجعولات الشرعیّه، فحینئذٍ یقال بأنّ الغلیان کان قبل الزبیبیّة سببا للنجاسة فالآن کما کان، وهو أوّل الکلام کما قُرّر فی الأصول، لأنّ المجعول الشرعی هو الحکم بالنجاسة أو الحرمة للعصیر علی تقدیر غلیانه، فمن هذا الجعل ینتزع السببیّة، نظیر جعل الملکیّة عند البیع فمن ذلک ینتزع السببیّة للعقد بالنسبة إلی الملکیّة، وعلیه فلا یرجع الاستصحاب التعلیقی إلی استصحاب أمر محقق.

وثانیا: السببیّة فی الغلیان إنّما أُخذ فی العصیر العنبی لأنّه قد ورد ذکرها فی الدلیل، والمفروض أنّه خرج عن هذا الوصف، ولا ندری ثبوت الحکم بعد مع تغییر اسمه والموضوع لتغیّر حکمه، وعلیه، فاثبات الحکم الثابت للعنبیّة مع الغلیان فی الزبیب الخارج عنه مشکلٌ، إذ لا عنب هنا حتّی نحکم بنجاسة مغلیّه، فإذاً اثبات النجاسة فی العصیر الزبیبی فی غایة الاشکال.

اللّهمّ إلاّ أن یُدّعی أنّ الزبیب لیس الاّ العنب، ولیس خارجا عنه بل هو هو إلاّ

ص:209

مع الجفاف، فیترتّب علیه حکمه، وهو أوّل الکلام، لما یأتی من الأخبار الدالّة علی الافتراق، حیث أن العصیر عبارة عن الماء الموجود فی العنب وفی الزبیب لا ماء فیه، بل هو ماءٌ أضیف الیه من الخارج، فربّما یوجب ذلک تغیّر الحکم کما لا یخفی، کما أن الانصاف یحکم بأن العرف یری فرقا بین العنب والزبیب کما یراه بین الحِصرم والعنب، وعلیه ودعوی الاتحاد بین الثلاثة ممّا لا یقبله الذوق السلیم.

نعم، قد یدّعی معارضه الاستصحاب التعلیقی المقتضی للنجاسة، مع استصحاب الطهارة الثابتة للزبیب قبل الغلیان، ویرجح الاستصحاب الثانی علی الأوّل بالشهرة.

وفیه: هذا ممّا لا یمکن المساعدة معه، لوضوح أنّ الاستصحاب الأوّل یعدّ حاکما علی الثانی، لأنّ منشأ الشک فی الطهارة لا یکون إلاّ لأجل احتمال النجاسة بالغلیان، فإذا قلنا بصحّة جریان استصحابه، فلا یبقی بعده شک فی النجاسة حتّی نرجع إلی استصحاب الطهارة الفعلیة الثابتة للزبیب، فإذا انهدم أصل الاستصحاب لأجل الحکومة، فلا شیء یتعارض حتّی نرجع إلی المرجّحات ونقول بانّ الشهرة مرجّحة للطهارة باستصحابها، کما لا یخفی.

وبالجملة: الأولی فی الاشکال هو المناقشة فی أصل الاستصحاب التعلیقی لاثبات النجاسة، فإذا شُکّ فی طهارته المرجع هو قاعدة الطهارة وأصلها کما هو الأقوی عندنا.

هذا بالنسبة الی حکم الزبیب من جهة الطهارة والنجاسة إلاّ صورة ما یوجب الاسکار ولو بکثیره، فحینئذٍ هو نجس، لکن اثبات ذلک دونه خرط القتاد.

حکم العصیر الزبیبی عند الغلیان

الکلام فی الزبیب من حیث الحرمة والحلّیة إذا عرض علیه الغلیان، فالمشهور _ کما عن جماعة _ هو الحکم بحلّیته، بل عن «الریاض» أنّه کادت أن تکون

ص:210

اجماعا، وعن غیر واحدٍ من المتأخرین وفاقا لبعض فضلاء المتقدّمین هو الحرمة. والدلیل علی الحرمة ربّما یکون الاستصحاب التعلیقی الذی قد عرفت تفصیله فی ما سبق لنجاسته، وعرفت الاشکال فیه، وأنّه هنا غیر جارٍ، فلا یمکن اثبات حرمته بذلک، کما لا یثبت به نجاسته فلا نعید.

نعم، قد استدلّ للحرمة بالأخبار:

منها: روایة زید النرسی، عن الصادق علیه السلام : «فی الزبیب یدقّ ویلقی فی القدر ویصبّ علیه الماء؟ فقال: حرام حتّی یذهب ثلثاه. قلت: الزبیب کما هو یلقی فی القدر؟ قال: هو کذلک سواء، إذا أدت الحلاوة إلی الماء فقد فسد کلّ ما غلی بنفسه أو بالنار فقد حرّم حتّی یذهب ثلثاه»(1) علی ما نقله فی غیر واحد من کتب الفقهاء مثل «الحدائق» و«طهارة» الشیخ الأکبر وغیرها.

ومنها: الخبر الصحیح الذی رواه علی بن جعفر عن أخیه موسی علیه السلام ، قال: «سألته عن الزبیب یصلح أن یطبخ حتّی یخرج طعمه ثمّ یؤخذ ذلک فیطبخ حتّی یذهب ثلثاه ویبقی الثلث، ثمّ یرفع ویشرب منه السنّة؟ فقال: لا بأس»(2).

ومنها: خبر عمّار الساباطی، قال: «وصف لی أبو عبداللّه علیه السلام المطبوخ کیف یطبخ حتّی یصیر حلالاً. فقال: تأخذ ربعا من زبیب وتنقیه، ثمّ تصبّ علیه اثنی عشر رطلاً من ماء، ثمّ تنقعه لیلة، فإذا کان أیّام الصیف وخشیت أن ینشّ جعلته فی تنورٍ سخن (مسجورٍ فی الکافی) قلیلاً حتّی لا ینشّ، ثمّ تنزع الماء منه کلّه إذا أصبحت، ثمّ تصبّ علیه من الماء بقدر ما یغمره ثمّ تغلیه حتّی تذهب حلاوته، ثمّ تنزع ماءه الآخر فتصبّه علی الماء الأوّل ثمّ تکیله کلّه فتنظرکم الماء، ثمّ تکیل ثُلثه فتطرحه فی الاناء الذی ترید أن تغلیه وتقدّره وتجعل قدره قصبةً أو عودا فتحّدها


1- المستدرک، ج 3، الباب 2 من أبواب الأشربة المحرمة، الحدیث 1.
2- وسائل الشیعة: الباب 8 ، الحدیث 2.

ص:211

علی قدر منتهی الماء، ثمّ تغلی الثلث الآخر حتّی یذهب الماء الباقی ثمّ تغلیه بالنار، فلا تزال تغلیه حتّی یذهب الثلثان ویبقی الثلث، ثمّ تأخذ لکلّ ربع رطلاً من عسل فتغلیه حتّی تذهب رغوة العسل وتذهب غشاوة العسل فی المطبوخ ثمّ تضربه بعودٍ ضربا شدیدا حتّی یختلط، وإن شئت ان تطیّبه بشیءٍ من زعفران أو شیءٍ من زنجبیل فافعل ثمّ اشربه، فإن احببت أن یطول مکثه عندک فَروّقْه(1)»(2).

ومنها: مثله فی الجملة روایته الأخری الواردة فی بیان کیفیّة تحلیل الزبیب المطبوخ، حیث قال: «سُئل عن الزبیب کیف یحلّ طبخه حتّی یشرب حلالاً؟ قال: تأخذ ربعا من زبیب فتنقیه ثمّ تطرح علیه اثنی عشر رطلاً من ماء ثمّ تنقعه لیلة، فاذا کان من غدٍ نزعت سلافته(3) ثمّ تصبّ علیه من الماء بقدر ما یغمره ثمّ تغلیه بالنار غلیةً، ثمّ تنزع ماءه فتصبّه علی الأوّل ثمّ تطرحه فی إناء واحد ثمّ توقد تحته النار حتّی یذهب ثلثاه، ویبقی ثلثه وتحته النار، ثمّ تأخذ رطل عسل فتغلیه بالنار غلیة وتنزع رغوته ثمّ تطرحه علی المطبوخ، ثمّ اضربه حتّی یختلط به، واطرح فیه إن شئت زعفرانا وطیّبه إن شئت بزنجبیل قلیل. قال: فإن أردت أن تقسّمه أثلاثا لتطبخه فکِلْه بشیءٍ واحد حتّی تعلم کم هو، ثمّ اطرح علیه الأوّل فی الاناء الذی تغلیه فیه، ثمّ تضع فیه مقدارا، وحدّه بحیث یبلغ الماء، ثمّ اطرح الثلث الآخر وحّده، ثم حدّه حیث یبلغ الماء، ثمّ تطرح الثلث الأخیر، ثم تحدّه حیث یبلغ الماء، ثم توقد تحته بنار لیّنة حتّی یذهب ثلثاه ویبقی ثلثه»(4).

ومنها: روایة اسماعیل بن الفضل الهاشمی، قال: شکوت إلی أبی عبداللّه علیه السلام


1- روّقه: الترویق التصفیة، القاموس المحیط، ج 3، ص 339 روق.
2- وسائل الشیعة: الباب 5 من أبواب الاشربة المحرمة، الحدیث 2.
3- سلافة کلّ شی عصرته، أی الصافی الخارج من الشیء المنفصل عن وردیه.
4- وسائل الشیعة: الباب 5 من أبواب الاشربة المحرمة، الحدیث 3.

ص:212

قراقر تصیبنی فی معدتی، وقلّة استمرائی الطعام، فقال لی: لم لا تتخذ نبیذا نشربه نحن، وهو یمرئ الطعام ویذهب بالقراقر والریاح من البطن. قال: فقلت له: صفه لی جعلت فداک. قال: تأخذ صاعا من زبیب فتنقیه من حبّه وما فیه ثمّ تغسله بالماء غسلاً جیّدا ثمّ تنقعه فی مثله من الماء أو ما یغمره، ثمّ تترکه فی الشتاء ثلاثه أیّام بلیالیها، وفی الصیف یوما ولیلة، فإذا أتی علیه ذلک القدر صفیّته وأخذت صفوته وجعلته فی اناء، وأخذت مقداره بعود ثمّ طبخته طبخا رقیقا حتّی یذهب ثلثاه ویبقی ثلثه، ثمّ تجعل علیه نصف رطل عسل، وتأخذ مقدار العسل ثمّ تطبخه حتّی تذهب الزیادة، ثمّ تأخذ زنجبیلاً وخولنجان ودارحینی وزعفران وقرنفلاً ومصطکی وتدّقه وتجعله فی خرقةٍ رقیقة وتطرحه فیه وتغلیه معه غلیة ثمّ تنزله، فإذا برد صفیّته وأخذت منه علی غدائک وعشائک. قال: ففعلت فذهب عنی ما کنت أجده، وهو شرابٌ طیب لا یتغیّر إذا بقی إن شاء اللّه»(1).

هذا کلّه الأخبار التی استدلّ بها علی حرمة خصوص العصیر الزبیبی إذا غلی بنفسه أو بالنّار، وکما تری صراحة لفظ الزبیب فیها.

أقول: فضلاً عن ذلک هنا بعض ما یدلّ علی کون الغلیان بنفسه موجبٌ لحرمة العصیر مطلقا، الشامل باطلاقه لعصیر الزبیب أیضا:

منها: خبر ذریح: «إذا نشّ العصیر أو غلا حرم»(2).

ومنها: خبر حمّاد بن عثمان: «لا یحرم العصیر حتّی یغلی»(3).

ومنها: مرسلة اسحاق بن عمّار، قال: «شکوت إلی أبی عبداللّه علیه السلام بعض الوجع، وقلت له: إنّ الطبیب وصف لی شرابا آخذ الزبیب وأصبّ علیه الماء


1- وسائل الشیعة: الباب 5 من أبواب الاشربة المحرمة، الحدیث 4.
2- وسائل الشیعة: الباب 3 من أبواب الاشربة المحرمة، الحدیث 4.
3- المصدر السابق، الحدیث 1.

ص:213

للواحد اثنین، ثمّ أصبّ علیه الغسل ثمّ اطبخه حتّی یذهب ثلثاه ویبقی الثلث؟ قال: ألیس حلوا؟ قلت: بلی قال أشربه ولم أخبره کم الغسل»(1) حیث ورد ذکر التثلیث فی صیرورته حلالاً فی الزبیب.

ومنها: خبر سعید بن یسار، عن أبی عبداللّه علیه السلام : «إنّ ابلیس نازع نوحا فی الکَرْم فأتاه جبرئیل فقال له إنّ له حقّا فأعطاه الثلث، فلم یرض ابلیس ثُمّ أعطاه النصف فلم یرضِ فطرح علیه جبرئیل نارا فاحرقت الثلثین وبقی الثلث، فقال ما أحرقتِ النار فهو نصیبه، وما بقی فهو لک یا نوح حلال»(2).

هذا کلّه ما به استدلّ به علی حرمة عصیر الزبیب، ولذلک نسب العلامة الطباطبائی فی «مصابیحة» الحرمة إلی شهرة الأصحاب أو بین القدماء کشهرة الحلیة بین المتأخرین، وإن تنظّر صاحب «الجواهر» فی نسبة هذه الشهرة إلی الأصحاب، وقال: «لا یخلو ذلک عن تأمّل».

أقول: قد أجیب عن جمیع ما استدلّ به علی الحرمة فی «الجواهر» و«مصباح الفقیه» و«مصباح الهدی» ما خلاصته:

قال الأوّل: (إنّ حدیث زید النرسی وزید الزرّاد مع أنّه لیس فی الکتب الأربعة، بل عن الشیخ فی «الفهرست»: أنّ لهما أصلین لم یروهما محمّد بن علی بن الحسین بن بابویه، وقال فی فهرسته: «لم یروهما محمّد بن الحسن بن الولید، وکان یقول هما موضوعان، وکذلک خالد بن عبداللّه بن سدیر، وکان یقول وضع هذه محمّد بن موسی الهمدانی» انتهی.

وهو إن أمکن معارضته بروایة ابن أبی عمیر لهما، مع أنّ فی النجاشی قال: «للنرسی کتاب یرویه جماعة ربّما عن ابن الغضائری، إنّه غلط أبو جعفر فی هذا


1- وسائل الشیعة: الباب 5 ، الحدیث 5.
2- وسائل الشیعة: الباب 2 من أبواب الاشربة المحرمة، الحدیث 5.

ص:214

القول، فإنّی رأیت کتبهما مسموعة من محمّد بن أبی عمیر»، لکن فی «الخلاصة» إنّه «وإن کان ما عن الصدوق لیس طعنا فی الرجلین، إلاّ إنی لما لم أجد لأصحابنا تعدیلاً لهما ولا طعنا فیهما، وتوقفت عن قبول روایتهما» انتهی.

کلّ ذا مع عدم تحقّق الشهرة الجابرة لشیء من ذلک، بل لعلّ الموهنة محقّقة، إلاّ أنّ الاحتیاط لا ینبغی ترکه بحال) انتهی ما فی «الجواهر»(1).

قال الهمدانی فی «مصباح الفقیه»: بعد نقل الروایة المشتملة علی الشرطیة بقوله: «حرام حتّی یذهب ثلثاه إذا ادّت الحلاوة إلی الماء فقد فسد کلما غلی بنفسه أو بالنار فقد حرم حتّی یذهب ثلثاه»: «یفهم من الشرطیة المذکورة انتفاء الفساد ما لم تتأدّ الحلاوة إلی الماء وإن غلی الماء وانقلب فیه الزبیب... إلی أن قال: «وقوله کلّ ما غلی إلی آخره کانّه مسوق لبیان وجه الفساد، فکأنّه قال لا فرق بین أن یدقّ الزبیب ویلقی فی القدر، أو یلقی کما هو فی القدر ویصبّ علیه الماء بعد تأدیة الحلاوة الیه، فی کون غلیان الماء المتغیّر به بنفسه أو بالنار موجبا لحرمته إلی أن یذهب ثلثاه، وکیف کان فالروایة صریحة فی کون غلیان نقیع الزیبب موجبا لحرمته، لکنها غیر نقیّة السند یشکل الاعتماد علیها مع مخالفتها للمشهور» انتهی ما فی «مصباح الفقیه»(2).

وقال صاحب «مصباح الهدی»(3): بعد نقل الاختلاف فی «أصل زید النرسی» و«زید الزرّاد» و«کتاب خالد بن عبداللّه» بما عرفت بعضه بما سبق، قال: «والانصاف أنّه مع هذا الاختلاف لا یصلح العمل بخبره، لا من جهة وهن فیه باعراض الأصحاب عنه حتّی یمنع عنه بعدم اطلاعهم علیه، حیث لم یکن عندهم


1- الجواهر، ج 6، ص 35.
2- مصباح الفقیه، ج 7، ص 211.
3- مصباح الهدی للآملی، ج 1، ص 428.

ص:215

منه عین ولا اثر، أو انّه لا یصلح لجعفری أن یعدل عمّا ثبت من جعفر بن محمّد علیه السلام بمجرّد انصراف جماعةٍ من أهل مذهبه عنه، لأجل عدم ظفرهم بما روی عنه کما فی «افاضة القدیر» لشیخ الشریعة، بل لاحتیاج العمل به إلی جابرٍ مفقود فی المقام، مع أنّ نفی العین منه والاثر ممنوع، کیف وقد حکم ابن الولید والصدوق علی موضوعیّة أصله، وصرّح النجاشی بأنّ له کتابا یرویه عنه الجماعة، وتوقّف العلاّمة عن العمل بما یرویه، وروایة ابن أبی عمیر عنه یدلّ علی حجیّة ما یرویه عنه لا علی حجیّة کلّ ما یرویه النرسی ولو لم یرو عنه ابن أبی عمیر».

وبعبارة أوضح: الاجماع علی تصحیح ما یصحّ عن ابن أبی عمیر هو حجیّة کلّ ما یرویه ولو عمّن لم یعلم وثاقته، لا توثیق کلّ من روی عنه، واعتبار قول من هو متوسط بینه وبین المعصوم، ولو فی غیر ما رواه ابن أبی عمیر عنه وبالجهة، فالحقّ عدم صحة الاستناد إلی هذا الخبر سندا.

وأمّا من حیث الدلالة: فالانصاف ظهوره صدرا وذیلاً فی التحریم، بناءً علی المنقول فی کتب الفقهاء، کما لا یخفی علی الناظر فیه.

وأمّا علی المنقول من أصله: _ وقد نقله فی الصفحة السابقة علی هذا الکلام _ هکذا: «سئل أبو عبداللّه علیه السلام عن الزبیب یدقّ ویلقی فی القدر ثمّ یصبّ علیه الماء ویوقد تحته؟ فقال علیه السلام : لا تأکله حتّی یذهب الثلثان ویبقی الثلث، فإنّ النار قد أصابته. قلت: فالزبیب کما هو یُلقی فی القدر ویصبّ علیه الماء ثمّ یطبخ ویصفّی عنه الماء؟ فقال: کذلک هو سواءٌ إذا أدّت الحلاوة إلی الماء فصار حلوا بمنزلة العصیر ثمّ نش من غیر أن یصیبه النار، وقد حرم، وکذلک إذا أصابه النّار فأغلاه فقد فسد».

ثم قال: فقد یقال بأنّ صدره وإن کان ظاهرا فی التحریم، إلاّ أن تفکیک الواقع فی ذیله فی بیان حکم قسمی الغلیان حیث عبّر عمّا کان بنفسه بأنّه حرام، وعمّا

ص:216

کان بالنّار بانّه قد فسد، ثمّ حمل التحریم علی الحرمة الفعلیة والفساد علی صیرورته معرّضا لتسارع الاسکار علیه.

ثمّ قال قدس سره : بل الفساد یطلق کثیرا علی مطلق المنقصه ولو کانت یسیرة، کما یرشد إلیه تتّبع موارد استعماله.

ثمّ ذکر موردا من موارد استعماله... إلی أن قال: الظاهر أرادة الفاعل من القول هو صاحب «افاضة القدیر» للشریعة الذی ذکر اسمه قبل ذلک، فهذا ربّما یوجب ظهور الخبر فی عدم التحریم المطبوخ.

ثم قال الآملی: ولا یخفی ما فی الکلّ، بل الظاهر ظهور حکمه «فقد فسد فی نفسها» فی التحریم، وأن التفکیک بحسب التفنن فی العبارة لو لم نقل بأظهریة الفساد فی التحریم عن کلمة الحرام نفسها، إذ الفاسد بقول مطلق هو ما لا یمتنع منه بشیء، والشرعی منه هو الحرام الأکید، ولا ینافی اطلاقه فیما ذکرناه، فمع استعماله فی مطلق النقیصة إذا کان مع القرینة، حتی یحمل المجرّد عنها علیه، ثمّ یدّعی ظهوره فیه، ثمّ جعله قرینة علی صرف ظهور الصدر فی الحرمة.

والانصاف تمامیّة دلالته علی هذا النقل أیضا، إلاّ أن الشأن فی المنقول مع مخالفته لما فی کتب المحققین من الفقهاء، وفعل هذا موهن آخر یرد علی الخبر.

وبالجملة: فلا یصلح الاستناد الیه فی اثبات هذا الحکم المخالف مع المشهور.

وأمّا ما ورد من منازعة ابلیس مع آدم ونوح، فهو بمعزلٍ عن الدلالة علی حرمة العصیر الزبیبی بعد غلیانه، کما لا یخفی.

فالمتحصّل: أنّه لم یرد دلیل یمکن الاستناد الیه فی اثبات حرمته، لکن الأحوط الاجتناب عنه لقوّة دلالة خبر زید النرسی علی حرمته، مع ذهاب جماعة من الأصحاب إلی القول بها» انتهی کلام الآملی فی «مصباح الهدی»(1).


1- مصباح الهدی، ج 1، ص 428 _ 429.

ص:217

قلنا: ولقد أجاد فیما افاد من قوّة دلالة حدیث زید النرسی علی الحرمة، وضعف سنده لیس علی حدٍ لا یمکن الاعتماد علیه، لما یلاحظ من قیام الشهرة فی المتقدمین من الفقهاء کما أشار إلیه العلاّمة الطباطبائی، وإن کانت شهرة المتأخرین علی الحلیة، ولکن اعتبار الأولی أقوی من الثانیة، فلا أقلّ من الضعف فی الشهرة من جهة عدّ صیرورته المخالف موهنا بها، خصوصا مع تأیید الحرمة بواسطة أخبار آخر مثل الموثقتین حیث یفهم من ما فی ارتکاز السائلین من السؤال عن صیرورته حلالاً، کون الحرمة بالغلیان کان ثابتاً ومعروفا عندهم، خصوصا مع ملاحظة کون التثلیث فی العصیر بعد الغلیان سببا للتحلیل، حیث یکون ذلک تأییدا آخر للمسألة، لاسیّما مع اشعار منازعة ابلیس فی الکَرْم وجعل الثلثین له علی أنّ شرب هذا المقدار یعدّ حراما، وکون ذلک أیضا موجبا لسلامة الزبیب عن الفساد أو عن المسکریة، لا ینافی مع کونه بذلک حلالاً، ولذلک نری تردّد صاحب «مصباح الفقیه» و«مصباح الهدی» وقد احتاطا بالأمر بالاجتناب عنه، غایة الأمر قد عَبّروا عن ذلک بمثل ما عبّر عنه صاحب «الجواهر» و«المصباح» بما لا ینبغی ترکه، وصاحب «مصباح الهدی» بالوجوب احتیاطا، وهو أولی عندنا، وعلیه یکون حکمنا الذی کتبناه فی التعلیقة علی «العروة» و«التحریر» وفاقا لجماعة من الأصحاب هو الفتوی بالاحتیاط.

وأمّا ما فی غیر واحدٍ من الأخبار من اطلاق النهی من شرب النبیذ، فیمکن أن یکون المراد هو ما عرفت أن قلنا بحرمته بالغلیان، ولو لم یستلزم السکر، فتحلیله حینئذٍ یکون بالتثلیث، أو أنّ المراد من النبیذ هو المسکر منه الذی کان متعارفا شربه فی تلک الأزمنة، ومن هذه الأخبار خبر سماعة، قال: «سألته عن التمر والزبیب یخلطان للنبیذ؟ فقال: لا، وقال: کلّ مسکر حرام، وقال قال رسول اللّه صلی الله علیه و آله :

ص:218

کلّ ما أسکر کثیره فقلیله حرام، وقال: لا یصلح فی النبیذ الخمیرة وهی العُکرة(1)»(2).

کما یؤید کون النبیذ علی قسمین من المسکر وغیره، ما جاء فی خبر عبدالرحمن بن الحجّاج، قال: «استأذنت لبعض أصحابنا علی أبی عبداللّه علیه السلام ، فسأله عن النبیذ، فقال: حلال، فقال: اصلحک اللّه إنّما سألتک عن النبیذ الذی یُجعل فیه العُکر فیغلی حتّی یسکر؟ فقال أبو عبداللّه علیه السلام : قال رسول اللّه صلی الله علیه و آله : کلّ ما أسکر حرام، فقال الرجل: إنّ من عندنا بالعراق یقولون إنّ رسول اللّه صلی الله علیه و آله عنی بذلک القدح الذی یُسکر؟ فقال أبو عبداللّه 7: إنّ ما أسکر کثیره فقلیه حرام، الحدیث»(3).

والاسکار یتحقق:

تارة: بوضع العُکر فی النبیذ کما وردت الاشارة إلیه فی خبر ابن الحجّاج، فیصیر مسکرا، فهو حرام بقلیله إذا کان کثیره مسکرا فضلاً عن قلیله.

وأخری: بالغلیان بالنّار إذا فرض عروض السکر علیه ولو بکثیره، فحینئذٍ تحلیله لا یکون الاّ: بالتخلیل أو ذهاب الثلثین إن قلنا أنّه یرفع السکر أیضا ویکون مطهرا له، لکنه مشکل لأنّ التثلیث محلّل لا مطهّرٌ.

وثالثةً: بالنشیش کما فی بعض الأخبار من عدّ النشیش أیضا محرّما، فیمکن أن یکون تحققا للاسکار فیحرم، أو لا یکون مسکرا بل تحرّم فبالغلیان وذهاب الثلثین یحلّله.

وکیف کان، فالمسکر الحاصل من النبیذ من أی قسم کان فهو حرام.

حکم الزبیب المطبوخ داخل الطعام

بقی أن نبحث عن قضیّة مبتلی بها الناس حکم الزبیب المطبوخ فی الطعام الذی


1- وهی دردیّ النبیذ المسکر، یطرح فی ما یراد تخمیره لیسرع أو یشتدّ اسکاره.
2- وسائل الشیعة: الباب 17 من أبواب الاشربة المحرمة، الحدیث 5.
3- المصدر السابق، الحدیث 7.

ص:219

لا یؤثّر طبخه فی صیرورة وهی ماءه حلوا، وکذلک عن الزبیب المحموس فی الدهن أو الموضوع علی الطعام الذی یطبخ ببخاره أو المخلوط بغیر المایع.

قال الهمدانی فی «مصباح الفقیه»: «لا ینبغی الاستشکال فی حلّیته فی شیءٍ من هذه الصور، بل وکذا لو اختلط ماء الزبیب بغیره علی وجه استهلک فیه ولم یصدق معه غلیان ماء الزبیب، بل وکذلک الحکم فی ماء العنب الممزوج بغیره المستهلک فیه» انتهی(1).

قلنا: ما ذکره جیّد ما لم یصل الی حدّ یصیر الزبیب بواسطة البخار أو الطبخ متورّما ومنفسخا، وإلاّ یشکل حلّیته لأنّه حینئذٍ یصدق بأنّه وصل الی حدّ الحرمة لغلیانه لو کان منفصلاً عنه، لأنّ الغلیان وإن کان تحقّقه بالقلب کما فی الروایة، إلاّ أنّه لا فرق فی ذلک بین حصوله بالقلب منفصلاً فعلاً أو بالانفساخ تقدیرا، وعلیه فالأحوط حینئذٍ الاجتناب عنه إذا بلغ هذا الحدّ، وإلی ذلک یحمل ما فی بعض الروایات مثل خبر الحلّی فی آخر «السرائر» نقلاً من کتاب «مسائل الرجال» عن أبی الحسن علی بن محمّد علیه السلام : «أنّ محمّد بن علی بن عیسی کتب: عندنا طبیخٌ یجعل فیه الحصرم، وربّما یجعل فیه العصیر من العنب، وإنّما هو لم یطبخ به، وقد روی عنهم فی العصیر أنّه إذا جعل علی النّار لم یُشرب حتّی یذهب ثلثاه ویبقی ثلثه، وإنّ الذی یجعل فی القدر من العصیر بتلک المنزلة، وقد اجتنبوا أکله إلی أن نستأذن مولانا فی ذلک، فکتب علیه السلام : لا بأس بذلک»(2).

هذا فیما لو صار العصیر فیه مستهلکاً، أو لم یبلغ الزبیب إلی هذا الحدّ، وأمّا فیما لو صار الماء حلوا فیحرم جمیع ما معه من المرق والزبیب، وإلاّ یحرم خصوص الزبیب دون غیره، واللّه العالم.


1- مصباح الفقیه، ج 7، ص 215.
2- السرائر، ج 3، ص 584.

ص:220

حکم العصیر المصنوع من التمر

بعد الوقوف علی حکم العصیر المتّخذ من الزبیب، یصل الدور الی حکم العصیر التمری، فقد أطنب الکلام فیه صاحب «الجواهر» من حیث النجاسة والحرمة، والأقوی کون العصیر التمری طاهرا بعد ما عرفت طهارة العصیر العنبی، إذا لم یستلزم الاسکار، والاّ کان نجسا وتطهیره لا یکون الاّ بالتخلیل لا بذهاب الثلثین، فکلّ ما شک فی طهارته یکون المرجع إلی العمومات الدالّة علی طهاره کلّ شیء حتّی یعلم نجاسه بعینه، وعدم ما یدلّ علی النجاسة جزما الاّ من قال بوجود الملازمة بین الحرمة والنجاسة، فإذا ثبتت الحرمة بالأدلّة، لزم من ذلک نجاسته، ولکنه غیر مقبول لامکان القول بالتفکیک، لکون الحرمة أعمّ من النجاسة إذ ربّما یکون أکله حراما ولا یکون نجسا، ولذلک نری أن الشهید الثانی ادّعی فی «المقاصد العلیّة» قیام الاجماع علی طهارته، وکذلک ادّعاه صاحب «الحدائق»، وعلیه فاثبات النجاسة فی عصیره فی غایة الاشکال فلا یحتاج إلی البحث بأزید من ذلک.

بقی هنا حکمه من حیث الحلّیة والحرمة: المعروف بین الأصحاب هو حلیته، وفی «الحدائق» أنّه کاد أن تکون اجماعا، وعن «الریاض» نقل الاجماع علیها صریحا، وعن جماعة عدم الخلاف فیها. حکم عصیر التمر

أقول: لکن الأمر لیس کذلک، لما نلاحظ من دعوی الخلاف فی حکمه عن العلاّمة الطباطبائی وبعض متأخری المتأخرین من الحکم بحرمته بالفتوی أو بالاحتیاط الوجوبی، مستدلّین بما یدلّ علی أن کلّ عصیر إذا غلی أو نشّ حرم، کما ورد ذلک فی خبری حمّاد بن عثمان. لکن قد اجیب عنه کما عرفت سابقا بأن العصیر لا یطلق الاّ علی العصیر العنبی الذی کان له ماءٌ یعصر ویطبخ ویصیر عصیرا، فلا یطلق علی مثل الزبیب والتمر ونحوهما ممّا لا ماء لها الاّ أن یدخل

ص:221

فیها ماء من خارج ویطبخ ویصیر عصیرا.

وإن أبیت عن ذلک وادّعیت الاطلاق فی لفظ (العصیر) فلابدّ من صرفه إلی العصیر العنبی، لأنّه المتبادر الی الذهن لا مطلقا. وعلیه فاثبات الحرمة بمثل هذا فی غایة الاشکال والصعوبة.

کما أنّه قد یستدلّ لحرمته: دعوی حصول الاسکار ولو فی کثیره بالنسبة الی بعض الأمکنة والأزمنة.

وفیه: _ کما فی «الجواهر» _ المنع عن ذلک لعدم الشاهد لها من عقل أو شرع أو عرف. بل لعلّ الأخیرین شاهدا عدلٍ علی خلافها، إذ الوجدان والعیان علی عدم تحقّق الاسکار بأکثر ما یستطیع شربه الانسان، وترک الشارع بیانه فی وقت الحاجة والسؤال مع شدّة خفاءه إن فرض اسکاره، شاهد علی عدمه. مع أنّه عند الشبهة فی کونه کذلک لا یجب الفحص عند عند احتماله، لکون الشبهة موضوعیة لا یجب الفحص فی مثلها. مع أنّه لو کان الأمر کذلک لاتّفق فی بعض الأحیان، مع أنّه لم ینقل حصول السکر منه عن أحدٍ، حتّی بین الحذّاق إلاّ مع التعمّد فی ذلک بوضع سائر الأجسام فیه، أو بثلوّثه بما فی أفائد أو بطول مکثه قبل ذهاب ثلثیة، وجمیع هذا خارج عن محلّ الکلام، کما یشیر الی بعض ذلک فی الأخبار الدالّة علی ذلک.

کما انّه قد یستدلّ لذلک: بموثقتی عمّار الساباطی:

الأولی: أحدهما ما رواه عن أبی عبداللّه علیه السلام فی حدیثٍ: «أنّه سئل عن النضوح المعتّق کیف یصنع به حتّی یحلّ؟ قال: خذ ماء التمر فاغسله حتّی یذهب ثلثا ماء التمر»(1).

والثانیة: قال: «سألته عن النضوح؟ قال: یطبخ التمر حتّی یذهب ثلثاه ویبقی


1- وسائل الشیعة: الباب 32 من أبواب الاشربة المحرمة، الحدیث 2.

ص:222

ثلثه ثمّ یتمشطن»(1).

والنضوح کما فی اللّغة ضربٌ من الطیب، وعن «مجمع البحرین» فی مادته: «أنّه طیب مایعٌ ینقعون التمر والسکر والقرنفل والتفاح والزعفران وأشباه ذلک فی قارورة فیها قدرٌ مخصوص من الماء، یشدّ رأسها ویصبرون أیّامأ حتّی ینشّ ویختمر. إلی أن قال: وفی أحادیث أصحابنا أنّهم نهوا نسائهم عن التطیّب به، بل أمر علیه السلام باهراقه فی البالوعة» انتهی.

ولعلّه أراد بذلک ما ورد عن هیثمة، قال: «دخلتُ علی أبی عبداللّه علیه السلام وعنده نسائه، قال: فشمّ رائحة النضوح، فقال: ما هذا؟ قالوا: نضوح یجعل فیه الضیاح(2)، قال: فأمر به فأهریق فی البالوعة»(3).

حیث یستفاد من هذه الروایة کون التمر الواقع فی النضوح حراما حتّی یذهب ثلثاه ویبقی ثلثه، وهما أدلّ روایة قد استدلّ بهما علی الحرمة.

ولکن قد أجیب عنهما أوّلاً: بامکان أن یکون ذلک للنضوح المستعمل للطیب لا للأکل، وما اعتبر من لزوم ذهاب الثلثین إنّما یکون للأکل، فیعلم حینئذٍ أنّه أراد التخلّص بذلک عن الخمریة المورّثة نجاسة فی الشعر وغیره من محال الطیب، وهو الذی سأل الراوی عن حلّه. اللّهمّ أن یکون القائل باعتبار الثلثین اعتبر ذلک بالنسبة إلی الحرمة والنجاسة، مع أنّک قد عرفت طهارته إلاّ إذا کان مسکرا لا تکون طهارته إلاّ بذهاب الثلثین.

وثانیا: بامکان أن یکون النضوح عبارة التمر الذی یغلی مع انضمامه بما یوجب


1- وسائل الشیعة: الباب 37 من أبواب الاشربة المحرمة، الحدیث 1.
2- الضیاح لغة اللبن الخاثر أی الغلیظ فی مقابل الرقیق، أو أنّه عسل أو عطر کما عن القاموس، أو أنّه الخمر الممزوج بالماء کما عن بعض أهل اللّغة.
3- وسائل الشیعة: الباب 32 من أبواب الاشربة المحرمة، الحدیث 1.

ص:223

اختماره، وهو موجبٌ لذلک، فلا یشمل ما یکون بالتمر فقط، کما یشهد لذلک ذکر الضیاح الوارد فی الحدیث، وقد عرفت أنّه شیءٌ خارج یدخله، فهو غیر مرتبط بما أرید من اثبات الحرمة لعصیر التمر دون امتزاجه مع شیء آخر، غایة الأمر احتمال کلا الأمرین فی النضوح من کونه للتطیّب بلا أکل، أو کان المراد ما یستعمل فی الأکل من العصیر. ومع هذا الاحتمال یبطل الاستدلال خصوصا مع ملاحظة أنّ الأصحاب قد أعرضوا عن العمل بهما.

أقول: الانصاف أنّ اطلاق النضوح فی الموثقتین، والحکم فی حلیّته بذهاب ثلثیه یوجب کون الحکم بالنسبة إلی حلیته للأکل لا للتطیّب الذی قد ورد فی بعض کلمات اللّغویین، لکن بما أنّ هذه الروایة قد أعرض عنها الأصحاب من حیث الحلّیة والحرمة، فلذلک التزمنا بالاحتیاط الوجوبی فی الاجتناب عنه حتّی یذهب ثلثه، وإن کان قوّة الاحتیاط هنا لا یبلغ بما فی الزبیب، لما ورد فی المقام ما یدلّ علی الحلیة ما لم یُسکر، _ فیدور حکمه مدار الاسکار بخلاف العصیر التمری حیث یمکن تطهیره وتحلیله بالتخلیل لا بذهاب ثلثه _ وهو الخبر الذی رواه فی «الکافی» بسنده عن محمّد بن جعفر، عن أبیه علیه السلام ، قال: «قدم علی رسول اللّه صلی الله علیه و آله قوم من الیمن فسألوه عن معالم دینهم، فأجابهم، فخرج القوم بأجمعهم فلمّا ساروا مرحلة قال بعضهم لبعض: نسینا أن نسأل رسول اللّه صلی الله علیه و آله عمّا هو أهمّ الینا، فنزل القوم وبعثوا وفدا لهم، فأتی الوفد رسول اللّه صلی الله علیه و آله فقالوا یا رسول اللّه صلی الله علیه و آله : إنّ القوم قد بعثونا الیک یسألونک عن النبیذ؟ فقال رسول اللّه صلی الله علیه و آله : وما النبیذ صفوه لی؟ فقالوا: یؤخذ التمر فینبذ فی إناءٍ ثمّ یصبّ علیه الماء حتّی یمتلّی ثمّ یوقد تحته حتّی ینطبخ، فإذا انطبخ أخرجوه فألقوه فی إناءٍ آخر ثمّ صبّوا علیه اناء ثمّ یمرس ثمّ صفّوه بثوبٍ ثمّ ألقی فی اناء ثمّ صبّ علیه من عُکر ما کان قبله ثمّ هدر وغَلی ثمّ سکن علی عُکره. فقال رسول اللّه صلی الله علیه و آله : یا هذا قد أکثرت، أفیسکر؟ قال: نعم، فقال: کلّ مسکر حرام. قال: فخرج الوفد حتّی انتهوا إلی

ص:224

أصحابهم فأخبروهم بما قال رسول اللّه صلی الله علیه و آله ، فقال القوم: ارجعوا بنا إلی رسول اللّه صلی الله علیه و آله حتّی نسأله عنه شفاها، ولا یکون بیننا وبینه سفیر، فرجع القوم جمیعا فقالوا یا رسول اللّه: إنّ أرضنا أرض دویّة، ونحن قوم نعمل الزرع ولا نقوی علی العمل إلاّ بالنبیذ. فقال: صفوه لی فوصفوه کما وصفه أصحابهم، فقال رسول اللّه صلی الله علیه و آله : أفیسکر؟ قالوا: نعم، قال: کلّ مسکر حرام، وحقّ علی اللّه أن یسقی کلّ شارب مسکرٍ من طینة خبالٍ، أتدرون ما طینة خبالٍ؟ قالوا: لا، قال: صدید أهل النار»(1).

أقول: وحصول السُّکر ربما یکون بواسطة طول مکث التمر والزبیب، أو باضافة بعض المواد التی توجب فیهما الغلیان والنشیش وخروج الزبد، بل هو النبیذ المسکر المتخذ منه أو من الزبیب أو منهما، بل لعلّ الثانی یندرج فی الفقاع بناءً علی اتخاذه عن غیر الشعیر الذی کان معروفا فی ذلک الزمان.

فبذلک یظهر أنّ النبیذ علی قسمین من الحلال والحرام کما یستفاد ذلک من الأخبار الواردة فی الباب، فلا بأس. یذکرها حتّی یتّضح ما هو الحرام عن غیره:

منها: خبر أیّوب بن راشد، قال: «سمعت أبا البلاد یسأل أبا عبداللّه علیه السلام عن النبیذ: «فقال: لا بأس به، فقال: إنّه یوضع فیه العُکر؟ فقال علیه السلام : بئس الشراب، ولکن انبذوه غدوةً واشربوه بالعشیّ. قال: فقلت: جعلت فداک، هذا یفسد بطوننا، قال: فقال أبو عبداللّه علیه السلام : أفسد لبطنک أن تشرب ما لا یحلّ لک»(2).

ومنها: حدیث الکلبی النسّابة: «أنّه سأل أبا عبداللّه علیه السلام عن النبیذ؟ فقال: حلال، فقال: إنّا ننبذه فنطرح فیه العُکر وما سوی ذلک؟ فقال: شه شه، تلک الخمرة المنتنّه! قلت: جعلت فداک فأی نبیذٍ تعنی؟ فقال: إنّ أهل المدینة شکوا إلی رسول اللّه صلی الله علیه و آله تغیّر الماء وفساد طبائعهم، فأمرهم أن ینبذوا، فکان الرجل یأمر خادمه


1- وسائل الشیعة: الباب 24 من أبواب الاشربة المحرمة، الحدیث 6.
2- وسائل الشیعة: الباب 30 من أبواب الاشربة المباحة، الحدیث 1.

ص:225

أن ینبذ له فیعمد إلی کفٍ من تمر فیقذف به فی الشِّن(1) فمنه شربه، ومنه طهوره. فقلت: وکم کان عدد التمر الذی فی الکف؟ قال: ما حمل الکف، فقلت: واحدة أو اثنتین؟ فقال: ربما کانت واحدة وربما کانت اثنتین. فقلت: وکم کان یسع الشن ماءً؟ فقال: ما بین الأربعین إلی الثمانین إلی مافوق ذلک، فقلت: بأی الأرطال؟ فقال: أرطال مکیال العراق»(2).

ومنها: خبر صفوان الجمّال، قال: «کنت مبتلی بالنبیذ معجبا به، فقلت لأبی عبداللّه علیه السلام : أصف لک النبیذ؟ فقال: بل أنا أصفه لک، قال رسول اللّه صلی الله علیه و آله : کلّ مسکرٍ حرام، وما أسکر کثیره فقلیله حرام، فقلت له: هذا نبیذ السقایّة بفناء الکعبة؟! فقال: لیس هکذا کانت السقایة، إنّما السقایة زمزم، أفتدری أوّل من غیّرها؟ قلت: لا، قال: العبّاس بن عبدالمطلّب کانت له حبلة، أفتدری ما الحبلة؟ قلت: لا، قال: الکَرْم، فکان ینقع الزبیب غدوة ویشربونه بالعشیّ، وینقعه بالعشیّ ویشربونه غدوة، یرید به أن یکسر غلظ الماء علی الناس، وإنّ هؤلاء قد تعدّوا، فلا تقرّبه ولا تشربه»(3).

ومنها: وخبر حنان بن سدیر، قال: «سمعت رجلاً یقول لأبی عبداللّه علیه السلام : ما تقول فی النبیذ، فإنّ أبا مریم یشربه ویزعم أنّک أمرته بشربه؟ فقال: صدق أبو مریم، سألنی عن النبیذ فأخبرته أنّه حلال، ولم یسألنی عن المسکر. ثم قال: إنّ المسکر ما اتقیّت فیه أحداً سلطاناً ولا غیره، قال رسول اللّه صلی الله علیه و آله : کلّ مسکرٍ حرام، وما أسکر کثیره فقلیله حرام، فقال له الرجل: هذا النبیذ الذی أذنت لأبی مریم فی شربه أی شیءٍ هو؟ فقال: أمّا أبی فکان یأمر الخادم فیجیء بقدح فتجعل فیه زبیبا


1- الشِّن: القربة الخَلِق. الصحاح، ج 5، ص 2146.
2- وسائل الشیعة: الباب 2 من أبواب الماء المضاف، الحدیث 2.
3- وسائل الشیعة: الباب 17 من أبواب الاشربة المحرمة، الحدیث 3.

ص:226

ویغسله غسلاً نقیا وتجعله فی اناء، ثمّ تصب علیه ثلاثة مثله أو أربعة ماء، ثمّ تجعله باللیل ویشربه بالنّهار، وتجعله بالغداة ویشربه بالعشیّ، وکان یأمر الخادم بغسل الإناء فی کلّ ثلاثٍ [أیّام] لئلا یغتلم، فإن کنتم تریدون النبیذ فهذا النبیذ»(1).

إلی غیر ذلک من الأخبار الکثیرة الظاهرة فی حرمة النبیذ الذی یقع فیه التمر أو الزبیب بمجرّد غلیانه بنفسه أو نشیشه وخروج زبده ویصیر مسکرا فیحرم بل ینجس علی القول بالنجاسة، وتحلیله حینئذٍ لا یکون بذهاب ثلثه، بل لابدّ من تخلیله إن أمکن، وإلاّ یفسد کما أشار الیه بعض الأخبار، فهذا هو قسم من النبیذ الذی یعدّ حراما. وهناک وقسم آخر من النبیذ وهو حلالٌ، وهو الذی لا یدخله شیءٌ من الخارج ویجعل فی الماء تمرا أو زبیبا کما فی الأخبار لیوم أو لیلة لا أزید بالمقدار الذی أشار الیه فی خبر الکلبی، وهو حلال.

فظهر ممّا ذکرنا أنّه لا وجه للاستدلال بها علی ما نحن فیه من عصیر التمر المغلیّ بالنّار ونحوها، فإنّه یحرم بالغلیان ویحلّ بذهاب ثلثیة علی الأحوط وجوبا، واللّه العالم.

ثمّ لا فرق فی حکم عصیر الذی حکم فیه بنجاسته أو حرمته بین مزجه بغیره وعدمه، لصدق العنوان والاستصحاب، مضافا إلی شمول اطلاق الأخبار وکلمات الأصحاب له، خصوصا لو مزج بعد الغلیان قبل ذهاب ثلثیه، من غیر فرق بین کونه عصیرا للتمر أو الزبیب أو العنب، بل لعلّ فی خبر النضوح وذیل الموثقتین ایماءا أو ظهورا فیه.

نعم، إذا قلنا بطهارة عصیر الزبیب والتمر، وکان حرمتهما مع الغلیان، أنّه لو وقع


1- وسائل الشیعة: الباب 22 من أبواب الاشربة المحرمة، الحدیث 5.

ص:227

فی المرق علی نحوٍ استهلک فیه ولم یتغیّر طعمه، فلا یبعد أن لا یکون حراما کما عن الأردبیلی المیل الیه، وقوّاه صاحب «الجواهر»، وأمّا لو غیّر طعمه حیث یدلّ علی کثرته وعدم صدق الاستهلاک، أوجب ذلک حرمته شربه وأکله، کما أنّه لو قلنا بنجاسته بالغلیان لصیرورته خمرا مثلاً، فإنّه یوجب تنجیس المرق ولو کان بقدر قطرة.

ولعلّ ما جاء من الحکم فی «مستطرفات السرائر» نقلاً من کتاب «مسائل الرجال» عن أبی الحسن علیّ بن محمّد علیه السلام ، وفی «الوسائل» عن محمّد بن علی بن عیسی هو الصحیح، بخلاف «الجواهر» حیث قال: «إنّ محمّد بن عیسی کتب الیه: عندنا طبیخ یجعل فیه الحصرم، وربّما یجعل فیه العصیر من العنب، وإنّما هو لحم یطبخ به، وقد روی عنهم فی العصیر بتلک المنزلة، وقد اجتنبوا أکله إلی أن نستأذن مولانا فی ذلک، فکتب: لا بأس بذلک»(1).

فإنّ الحکم بنفی البأس لعلّه أراد المستهلک أو مطلقا، فإن کان المراد بنفی البأس بلحاظ القاء العصیر فی الطبیخ کما هو الظاهر الذی یخطر بالبال _ خلافا لصاحب «الحدائق» حیث فسرّ قوله «لا بأس به» إلی أنّ العصیر أیضا بعد ذهاب ثلثه ممّا لا بأس به لا قبله، وفی «الجواهر» بعد نقل کلامه قال: «وهو لا یخلو عن نظر» کما هو کذلک، لوضوح أنّه بعد ذهاب ثلثه ثلثیه یصیر حکمه معلوما للسائل ولا یحتاج إلی السؤال، فالذی أوجب سؤاله کونه مثل العنب فی لزوم لم الاجتناب عنه قبل ذهاب ثلثیه، فأجاب الامام فی العصیر أنّه لا بأس قبل ذهاب ثلثیه، بل حتّی لو لم یستهلک وقد تغیّر طعمه، نعم فی العنب لابدّ أن یکون مشتملاً علی الاستهلاک الحاصل بعدم تغیّر طعمه، کما لا یخفی، هذا فی الامتزاج


1- وسائل الشیعة: الباب 4 من أبواب الاشربة المحرمة، الحدیث 1.

ص:228

بعد العصیریة.

وأمّا لو القی العنب أو الزبیب أو التمر فی الماء المغلّی فیه غیرها: فإن کان قبل تحقّق الاضافة فی الماء، فهو طاهرٌ وحلال لا غبار فیه، حیث لا یدخل تحت الاطلاقات.

وإن کان بعد الاضافة، ففی العنب حرامٌ لدخوله: تحت ما دلّ علی لزوم ذهاب ثلثیه فی حلیّته، بخلاف الزبیب والتمر حیث قد یشکل فی دخوله، لأنّ ما یدلّ علی الحرمة إنّما کان إذا خرج سلاّفتهما بالماء المطلق وغَلی.

ومن ناحیة قیام الأخبار المطلقة التی یشمله. الأحوط اجتنابه فی غیر التمر، وأمّا فیه فإنّه لا فرق فیما ذکرنا بین البقاء فی الماء أو فی باقی المایعات حتّی الدهن، بل عن «الجواهر» أنّه أقوی اشکالاً منه خصوصا فی مثل الدهن، بل قد ورد فی الحدیث عن عبدالأعلی، قال: «أکلت مع أبی عبداللّه علیه السلام فأتی بدجاجةٍ محشّوة خبیصا(1) ففکّکناها وأکلناها»(2).حکم عصیر بعض الفواکه

هذا تمام الکلام فی المعتصر من ثمرتی الکَرْم والنخل.

وأمّا غیرها من الثمار والبقول حتّی الحصرم، فإنّه طاهر وحلال ولو نشّت وغَلَت، وکذا الربوبات والأطعمة المتّخذة من غیرها، بل قد ادّعی الطباطبائی صاحب «المصابیح» اجماع العلماء علی ذلک، لأنّه مطابق للأصل والعمومات من الطهارة والحلیّة من الکتاب والسّنة، لعدم وجود شیء فیها من السُکر حتّی فی غلی الکثیر منها، إلاّ أن یجعل فیها شیءٌ بالعلاج فیوجب السکر ویتغیّر فیصیر


1- الخبیض حلواء یعمل من السمن والتمر، کما فی القاموس.
2- وسائل الشیعة: الباب 35 من أبواب الاشربة المباحثة ، الحدیث 3.

ص:229

حراما ونجسا، کما یشمل الموردین خبران:

الخبر الاول: حدیث جعفر بن أحمد المکفوف، قال: «کتبت الیه _ یعنی أبا الحسن الأوّل علیه السلام _ أسأله عن السکنجبین والجلاّب وربّ التوت وربّ التفاح وربّ السّفرجل وربّ الرمان؟ فکتب: حلال»(1).

ومثله خبره الآخر، حیث جاء فی ذیله: «إذا کان الذی یبیعها غیر عارفٍ وهی تباع فی أسواقها؟ فکتب: جائزٌ لا بأس بها»(2).

ومثله خبر حسن بن محمّد المدائنی(3).

الخبر الثانی: وهو الوارد فی بیان حکم الجهة الأخری وهی حرمته مع التغیّر، وهو خبر خلیلان بن هاشم، قال: «کتبت إلی أبی الحسن علیه السلام جُعلت عندنا شرابٌ یسمّی المبیتة، نعمد إلی السفرجل فنقشره ونلقیه فی النار ثمّ نعمد إلی العصیر فنطبخه علی الثلث، ثمّ نقذف ذلک السفرجل ونأخذ مائه، ونعمد إلی هذا المثلّث وهذ السفرجل فنلقی فیه المسک والأفاوی والزعفران والعسل فنطبخه حتّی یذهب ثلثاه ویبقی ثلثه، أیحلّ شربه؟ فکتب: لا بأس به ما لم یتغیّر»(4).

وأمّا عصیر الحصرم: فهو حلالٌ حیث لا سکر فیه، ویشمله الأصل والعمومات، وإن حکی التوقف فیه عن بعض المحدثین من البحرانییّن مستدلاً بصدق العصیر، ودخوله تحت ما دلّ علی نزاع ابلیس مع آدم، لکنّه ضعیف


1- وسائل الشیعة: الباب 29 من أبواب الاشربة المحرمة، الحدیث 1.
2- المصدر السابق، الحدیث 1.
3- المصدر السابق، الحدیث 2.
4- المصدر السابق، الحدیث 3.

ص:230

التاسع الفُقّاع (1)

کضعف التوقف فی العصیر المطبوخ من ثمرة النخل إذا لم یکن بُسرا أو تمرا، تمسکا بمثل روایة نزاع ابلیس مع آدم ونوح علیهماالسلام ، حیث یشمل لأصل الشجر فی الکَرْم والنخل، واللّه العالم. الفقّاع و حکمه

(1) الکلام فی الفقّاع یقع فی أمور:

الأمر الأوّل: فی نجاسته وحرمته، والظاهر قیام الاجماع بکلا قسمیه صریحا علیه، کما عن الأکابر فقد نقله صاحب «الخلاف» و«الانتصار» و«المنتهی» و«التنقیح» و«جامع المقاصد» و«الغنیة» و«المهذّب البارع» و«کشف الالتباس» و«ارشاد الجعفریة»، وظاهرا عن «التذکرة» و«المبسوط» وغیرهما، ومنشؤه وجود أخبار مستفیضة بل متواترة علی نجاسته وأنّه خمر مجهول، فلا بأس بذکرها:

منها: خبر الوشّاء، قال: «کتبت الیه _ یعنی الرضا علیه السلام _ أسأله عن الفقّاع، قال: فکتب حرام وهو خمرٌ» الحدیث(1).

ومنها: ما رواه ابن فضّال، قال: «کتبتٌ إلی أبی الحسن علیه السلام أسأله عن الفقّاع؟ فقال: هو الخمر وفیه حدّ شارب الخمر»(2).

ومنها: خبر عمّاربن موسی، قال: «سألت أبا عبداللّه علیه السلام عن الفقّاع؟ فقال: هو خمر»(3).

ومنها: خبر حسین القلانسی، قال: «کتبت إلی أبی الحسن الماضی(4) أسأله


1- وسائل الشیعة: الباب 27 من أبواب الاشربة المحرمة، الحدیث 1.
2- المصدر السابق، الحدیث 2.
3- المصدر السابق، الحدیث 4.
4- المصدر السابق، الحدیث 6.

ص:231

عن الفقاع؟ فقال: لا تقربه فإنه من الخمر»(1).

ومنها: خبر محمّد بن سنان، قال: «سألت أبا الحسن علیه السلام عن الفقّاع؟ فقال: لا تقربه فانّه خمر»(2) وخبره الآخر: «هی الخمر بعینها»(3).

ومنها: خبر أبی جمیلة البصری، عن یونس، عن هشام بن الحکم: «أنّه سأل أباعبداللّه علیه السلام عن الفقّاع؟ فقال:لا تشربه فانّه خمر مجهول، وإذا أصاب ثوبک فاغسله»(4).

ومنها: خبر الحسن بن جهم وابن فضّال جمیعا، قالا: «سألنا أبا الحسن علیه السلام عن الفقّاع؟ فقال: هو خمرٌ مجهول وفیه حدّ شارب الخمر»(5).

ومنها: خبر آخر للوشّاء، قال: «وقال أبوالحسن الأخیر علیه السلام حدّه حدّ شارب الخمر، وقال: هی خمرة استصغرها الناس».

وفی صدره، قال: «کتبتُ الیه _ یعنی الرضا علیه السلام _ أسأله عن الفقّاع؟ فکتب: حرام، ومن شربه کان بمنزلة شارب الخمر.

قال: وقال أبوالحسن علیه السلام : لو أن الدار داری لقتلت بایعه ولجلدت شاربه»(6).

مضافا إلی أخبار آخر واردة فی أنّ یزید هو الشارب للفقّاع، وکان هو أوّل من اتخذ له الفقّاع فی الاسلام فی الشام، والأمر بالتورّع عنه لیشعتهم معلّلین ذلک بانّه شراب اعدائهم(7) إلی غیر ذلک من الأخبار الدالّة علیه بحدّ التواتر.


1- المصدر السابق، الحدیث 6.
2- وسائل الشیعة: الباب 27 من أبواب الاشربة المحرمة، الحدیث 6.
3- المصدر السابق، الحدیث 7.
4- وسائل الشیعة: الباب 27 من أبواب الاشربة المحرمة، الحدیث 8.
5- المصدر السابق، الحدیث 11.
6- المصدر السابق، الحدیث 14.
7- وسائل الشیعة: الباب 38 من أبواب النجاسات ، الحدیث 5 و تمامه فی التهذیب ج 1، ص 282 و 828 و ج 9، ص 125 _ 126 و 544.

ص:232

کلّ ذلک مضافا إلی دلالة حدیث أبی جمیل البصری علی النجاسة، فانّه قال: «کنت مع یونس ببغداد وأنا أمشی فی السوق، ففتح صاحب الفقّاع فقاعه فقفز(1) فأصاب ثوب یونس، فرأیته قد اغتمّ لذلک حتّی زالت الشمس، فقلت له: یا أبا محمّد ألا تصلّی؟ فقال: لیس أرید أن اصلّی حتّی أرجع الی البیت فأغسل هذا الخمر من ثوبی. فقلت: هذا رأی رأیته أو شیءٌ ترویه؟ فقال: أخبرنی هشام بن الحکم أنّه سأل الصادق علیه السلام عن الفقّاع، فقال: لا تشربه فإنّه خمر مجهول، فإذا أصاب ثوبک فاغسله»(2).

فانّ قوله: «خمر مجهول» یدلّ علی ترتّب آثار الخمر علیه من الظاهریة والخفیّة، فتشبیه الفقّاع بالخمر إمّا حقیقی أی بأن یکون خمرا حقیقة، أو أرید الحمل علیها بالحمل المجازی بالتشبیه التام، أو تنزیل هذا فی موضوع الخمر، ولا اشکال فی هذا الحدیث إلاّ من حیث السند، فإنّه أیضا منجبرٌ بفتاوی الأصحاب وشهرتهم لو لم نقل بالاجماع، فعلی القول بنجاسة الخمر یترتّب علیه جمیع أحکام الخمر.

الأمر الثانی: فی بیان تشخیص موضوعه، وأنّه هل هو المتخذ من الشعیر فقط أو یعمّه فیشمل ما یؤخذ من القمح والزبیب والذرّة ونحوها؟ وجهان: الظاهر من کلمات أهل اللغّة وبعض الأصحاب کونه إسما لشرابٍ یتخذ من ماء الشعیر فقط، هذا کما فی «مجمع البحرین»، قال: «الفقاع کرُمّان شیءٌ یشرب یتّخذ من ماء الشعیر فقط، ولیس بمسکر، ولکن ورد النهی عنه. قیل: سُمّی فقّاعاً لما یرتفع فی رأسه الزبد» انتهی(3).


1- أی وثب کما فی الصحاح ج 3، ص 891 قفز.
2- وسائل الشیعة: الباب 27 من أبواب الاشربة المحرمة، الحدیث 14.
3- مجمع البحرین، ج 4، ص 376 فقع.

ص:233

وعن «المدنیّات»: «أنّه شرابٌ معمول من الشعیر»، وعن السیّد المرتضی قدس سره نقلاً عن أبی هاشم الواسطی: «أنّ الفقاع نبیذ الشعیر، فاذا نشّ فهو خمر»، وهذه الخصوصیة تحصل بعد أن یصبّ علیه الماء ویترک أیّاما یغلّی وینشّ ویعلوه الزبد، أو یطبخ قلیلاً ثمّ یترک حتّی یصیر کذلک، هذا.

أقول: وفی قبال ذلک ما عن جملة من الأصحاب یظهر منهم التعمیم، مثل ما عن السّید فی «الانتصار» و«الرازیّات» أنّه کان یعمل منه ومن القمح(1) وربّما یستشعر من هذه أنّه إسمٌ لقسمٍ معهود من الشراب، وأنّ اتخاذه من الشعیر أو الحنطة لحصولهما بهما من غیر أن یکون لهما دخاله خاصة فی التسمیة، کما یفهم ذلک من کلام الشهید أنّه کان قدیما یتّخذ من الشعیر غالبا، ویوضع حتّی یحصل له نشیش، وکأنّه الآن یتخذ من الزبیب. وعن الشهید الثانی فی «الروض» أنّه قال: «الأصل فی الفقاع أن یتخذ من ماء الشعیر کما ذکره فی «الانتصار»، لکن لمّا ورد النهی معلقا علی التسمیة ثبت له ذلک، سواءٌ عمل منه أم من غیره إذا حصل فیه خاصّته وهو النشیش» وکذا فی «الروضة».

فیظهر من هذه الکلمات کونه مبینا وموضوعا للقدر المشترک بینه وبین ما یشارکه فی وصف النشیش، الذی عبّر عنه بالخاصة، ممّا اطلق علیه الاسم، بمعنی أنّه اسمٌ لکلّ ما یطلق علیه اسم الفقاع فی العرف، مشروطا بکونه متّصفا بصفة النشیش، وإلاّ فاطلاقه مبنیٌّ علی المسامحة والتجوّز، فحینئذٍ لدی الاشتباه فی فردٍ نشکّ فی اطلاق الاسم علیه، لابدّ أن یحکم علیه أنّه مصداق حقیقی له لأصالة الحقیقة.

واثبات الاعمیّة فی اسمه عرفا لا یخلو عن اشکال، وإن اقتضت أصالة عدم الاشتراک والنقل کونه کذلک، إلاّ انّه مع ملاحظة تفسیر من فسّره بخصوص ماء


1- حکاه عنه صاحب کشف اللّثام، ج 1، ص 398 وانظر الانتصار، ص 198.

ص:234

الشعیر، ومعارضته مع من یقول بالأعمّ _ وإن کان یساعده العرف _ یُشکل اثبات کون اطلاقه علی مصادیقه بواسطه معناه الوصفی، وإلاّ لما احتیج فی تشخیص مسمّاه إلی العرف، بل یثبت بلحاظ معناه الاسمی.

وعلیه فالانصاف أنّ المتعارف فی القدیم لم یکن الفقّاع الاّ مختصا بماء الشعیر والتمخذ منه، لا للأعم منه وممّا یشارکه فی الخواص من جنس المشروبات، وأصالة عدم النقل لا تصلح دلیلاً لطرح قول من صرّح بکونه اسما للمعنی الخاصّ، فبعد ذلک لا یوجب حمل الأخبار الناهیّة الاّ علی ما هو المتعارف فی القدیم، وهو المتخّذ من ماء الشعیر، لانصراف الاطلاق فی الأخبار علی افراده الشایعة المتعارفة، کما هو مقتضی اطلاق کلمات الأصحاب.

هذا إذا لم یترتّب علی المتّخذ من غیر ماء الشعیر الاسکار، وإلاّ یشمله دلیل نجاسة الخمر وحرمته ولو کان متخذا من غیره، لما قد عرفت من عموم دلیل نجاسة کلّ مسکر، کما تقدم فی مبحث الخمر.

نعم، مع عدم اسکاره یختصّ الحکم بخصوص المتّخذ من ماء الشعیر إن اطلق علیه اسم الفقّاع فی زمان صدور النصوص.

أقول: والأقوی عندنا کفایة صدق اسم الفقاع علیه، خصوصا إذا کان مسکرا فی المشکوک منه، أی الشک فی کونه متخذا من الشعیر أو عن غیره، لدخوله فی اطلاق الاطلاقات، وبذلک یرفع الید عن قاعدة الطهارة واستصحابها.

نعم، لو شک فی مورد أنّه مأخوذٌ من ماء الشعیر أو من غیره، ولم نحرز کون إسم الفقاع منطبقا علیه، ولم یکن المنتوج منهما موجبا للاسکار، فلا یبعد الحکم بطهارته عملاً بالقاعدة واستصحابها، خصوصا مع ملاحظة وجود قسمٌ حلالٌ وطاهر منه، کما یظهر ذلک من بعض الأخبار، وهو ما لم یظهر فیه النشیش، ولم یرتفع فیه الزبد، أو یتحقّق فیه الغلیان، فلعلّه هو المراد مما ورد صحیح ابن أبی

ص:235

عمیر عن مرازم، قال: «کان یُعمل لأبی الحسن علیه السلام الفقّاع فی منزله، قال ابن أبی عمیر: ولم یُعمل فقاع یغلی»(1).

الأمر الثالث: فی أنّ الفقاع المحرّم هل هو مختصٌّ بما فیه نشیش لبقائه مدّةً توجب ذلک، ووجود الزبد فیه، أو بواسطة الغلیان، أو أنّه الأعمّ بحیث یشمل ما لم یکن کذلک؟

قد یقال: إنّ ظاهر اطلاق کلمات الأصحاب وأغلب النصوص حرمة الفقاع ونجاسته مطلقا، سواءٌ حصل له النشیش والغلیان أم لا، لأنّ المدار علی تحقّق اسمه علیه، لکن قد حکی عن ابن الجنید، بل یظهر عن غیر واحدٍ منهم کالشهدین وأبی هاشم فی عبائرهم المتقدمة، وکذا عن غیرهم اعتبار النشیش والغلیان فی تحقّق مفهومه، فلا یکون الفقاع فقاعا حقیقةً إلاّ إذا نشّ وارتفع علی رأسه الزبد، واطلاقه علی غیره _ أی قبل ذلک _ کان تجرّدا ومسامحة، والیه یحمل ویراد ما فی صحیح ابن أبی عمیر.

نعم، قد یستلزم تکرّر العمل فی اناء واحد وصیرورته حراما، ویطلق علیه الفقّاع الحرام، ولو لأجل امکان کونه مشتملاً علی السکر خفیّا، کما یظهر ذلک ممّا ورد فی خبر عثمان بن عیسی، قال: «کتب عبداللّه بن محمّد الرازی إلی أبی جعفر الثانی علیه السلام : إن رأیت أن تفسّر لی الفقاع فانّه قد اشتبه علینا أمکروهٌ هو بعد غلیانه أم قبله؟ فکتب علیه السلام : لا تقرب الفقّاع، إلاّ ما لم یضرّ آنیته أو کان جدیدا، فأعاد الکتاب الیه کتبت أسأل عن الفقاع ما لم یغل؟ فاتانی: أن أشربه ما کان فی اناء جدید أو غیر ضارّ، ولم أعرف حدّ الضراوة والجدید، وسأل أن یفسّر ذلک له وهل یجوز شرب ما یعمل فی الغضارة والزجاج والخشب ونحوه من الأوانی؟ فکتب علیه السلام : یفعل الفقّاع فی الزجاج وفی الفخار الجدید إلی قدر ثلاث عملات ثمّ


1- وسائل الشیعة: الباب 39 من أبواب الاشربة المحرمة، الحدیث 1.

ص:236

لا یعد منه بعد ثلاث عملات الاّ فی اناء جدید، واخشب مثل ذلک»(1).

ولذلک نلاحظ فی کلام ابن الجنید أنّه ذکر فی قسم الحرام منه أنّه الفقّاع الذی نشّ بنفسه أو کان من جهة ضراوة انائه لکثرة العمل فیه، فلازم ذلک هو الحرمة ولو لم یعلم اسکاره إذا صدق علیه اسم الفقاع.

کما یؤید ذلک: ما جاء فی صحیح علی بن یقطین، عن أبی الحسن الماضی علیه السلام ، قال: «سألته عن شرب الفقاع الذی یعمل فی السوق ویباع، ولا أدری کیف عمل ولا متی عُمل، أیحلّ أن أشربه؟ قال: لا أحبّه»(2).

فإنّ ظاهر قوله: «ولا متی عمل» یراد منه ما یبقی حتّی یحصل له النشیش، فیکون المراد من (لا أحبّه) هو الحرمة لا الکراهة. ولذلک قال السید المرتضی _ فی کلام الذی نقله صاحب «الجواهر» عنه _ : «لکن ما یوجد فی أسواق أهل السّنة یحکم بنجاسته إذا لم یعلم أصله، عملاً باطلاق التسمیة» انتهی.

أقول: فظهر من جمیع ذلک أنّ مدار الحرمة والنجاسة فی الفقّاع لا یدور مدار الاسکار فقط کما یظهر من بعض، بل یحرم وینجس إذا اطلق علیه الاسم.

الأمر الرابع: فی أنّ ظاهر الأصحاب _ حیث جعلوا الفقّاع قسما للخمر وغیرها من المسکرات _ کونه غیرها، ولم یعتبروا فیه الاسکار، بل قد سمعت من «مجمع البحرین» کما عن غیره أنّه شرابٌ غیر مسکر، ولکن ورد النهی منه، لکن یفهم من الأخبار أنّ حرمته حرمة خمریّة، فیستشعر منها أنّه من الأشربة المسکرة، کما یؤیده ما حُکی عن زید بن أسلم أنّه قال: «الغبیراء التی نهی رسول اللّه صلی الله علیه و آله عنها هی الاسکرکة خمر الحبشیة»(3) انتهی، وقد فسّر الاسکرکة بالفقاع، فلا یبعد أن


1- وسائل الشیعة: الباب 39 من أبواب الاشربة المحرمة، الحدیث 2.
2- المصدر السابق، الحدیث 3.
3- الموطّأ، ج 2، ص 845 ذیل ح 10، وحکاه السید المرتضی فی الانتصار، ص 199.

ص:237

العاشر: الکافر (1)

یکون له مرتبة خفیّة من الاسکار، ولذلک اطلق علیه فی الأخبار بالخمر المجهول، لما فیه من الاسکار الخفی، حیث لم یعرف مسکریته. الکافر و حکمه و أقسامه

أقول: ولیکن فی ذُکرٍ منک أنّ الفقاع الحرام شیء وماء الشعیر الذی یستعمله الأطباء شیءٌ آخر، ولیس منه، کما استظهره صاحب «مصباح الفقیه» وغیر واحد من الفقهاء، فلا کما لا یخفی.

(1) إنّ نجاسته ثابتة فی الجملة بین العامّة والخاصّة، ولذلک ادّعی الشیخ فی «التهذیب» علیه اجماع المسلمین لا المؤمنین خاصّة، غایة الأمر أنّ العامّة یؤولون نجاسته بالحکمیة لا العینیّة بخلاف الخاصّة، کما ادّعی الاجماع علی النجاسة صاحب «الانتصار» و«الغنیة» و«السرائر» و«المنتهی» وظاهر «التذکرة» تمسکا بصراحة الآیة، وهی قوله تعالی فی سورة التوبة: «إِنَّمَا الْمُشْرِکُونَ نَجَسٌ فَلاَ یَقْرَبُواْ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ»(1)، بلا فرق عندنا فی النجاسة بین الیهود والنصاری من أهل الکتاب وغیرهم _ کما هو صریح معقد اجماع المرتضی، وظاهر غیره بل صریحه _ ولا بین المشرک کعابد الوثن وغیره، ولا بین الأصلی والمرتّد، ولا خلاف فیه الاّ عن المفید فی «العزیّة» والشیخ فی موضعٍ من «النهایة».

فألأوّل منهما یقول: بالکراهة فی خصوص الیهود والنصاری، وحمله صاحب «الجواهر» علی کون مراده هو الحرمة، ویؤیده اختیار الحرمة فی سائر کتبه، وعدم معروفیّة حکایة خلافه فی نقل الاجماع من تلامذته مع أنّه المؤسس للمذهب.

وعن الثانی منهما قال: «ویکره أن یدعو الانسان أحدا من الکفار إلی طعام فیأکل معه، فإنْ دعاه فلیأمر بغسل یدیه ثمّ یأکل معه إن شاء»، حیث یفهم من


1- سورة التوبة، آیة 28.

ص:238

کلامه الطهارة فی مطلق الکفار، وفی الأوّل فی خصوص الیهود والنصاری، وإن حمل الثانی صاحب «الجواهر» کما عن «نکت» المصنّف علی المؤاکله بالیابس أو الضرورة، وغسل الید لزوال الاستقذار النفسانی الذی یعرض من ملاقاة النجاسة. أو علی ما ذکره ابن ادریس فی «السرائر» من أنّه أورد الروایة الشاذة ایرادا لا اعتقادا، وأیّده صاحب «الجواهر» بصحة هذه المحامل، مضافا إلی نفی الخلاف بیننا فی نجاسة غیر الیهود النصاری من المصنّف فی «المعتبر» وغیره، وتصریح الشیخ قبل ذلک فی «النهایة»، بل قیل فی غیر موضعٍ منها بنجاسة الکفّار علی اختلاف مللهم، وکذا عن «مختصر» ابن الجنید، حیث قال: «لو تجنّب من أکل ما صنعه أهل الکتاب من ذبائحهم وفی آنیتهم، وکذلک ما وضع فی أوانی مستحلّ المیتة ومؤاکلتهم ما لم تتیقن طهارة أوانیهم وأیدیهم کان أحوط» بناءً علی أنّ المراد من الأحتیاط غیر الوجوب، وإلاّ لکان موافقا للمشهور، مضافا الی أن قوله شاذ نادر، بل وفی «الجواهر» أنّه مرفوض، لأنّه کان عن یعمل بالقیاس، مثله فی الضعف ما حُکی عن ابن عقیل من عدم نجاسة سؤر الیهود والنصاری، و ردّ علیه فی «الجواهر» بأنّه لعلّه لعدم نجاسة القلیل عنده بالملاقاة، إذ السؤر عند الفقهاء علی ما قیل الماء القلیل الذی لاقاه فم حیوانٍ أو جسمه. بل قد یشعر تخصیصه عدم النجاسة بالسؤر بموافقته فیها فی غیره.

ثمّ قال فی «الجواهر» بعده: «فلا خلاف حینئذٍ یعتدّ به بیننا فی الحکم المزبور، بل لعلّه من ضروریات مذهبنا، بل قال الوحید البهبهانی وقد أجاد فیما قال إنّ ذلک من شعار الشیعة، یعرفه علماء العامّة منهم، بل وعوامهم یقرون إنّ هذا مذهب الشیعة، بل ونسائهم وصبیانهم یعرفون ذلک، وجمیع الشیعة یعرفون أنّ هذا مذهبهم فی الأعصار والأمصار».

وبالجملة: لا اشکال ولا خلاف فی قیام الاجماع القاطع علی نجاسة اللکافر

ص:239

فی الجملة.

أقول: لکن الذی ینبغی أن یفحص عنه فی المقام هما أمران وموضوعان:

الأول: فی تشخیص موضوع والمصداق الکافر الذی یعدّ نجسا قطعا.

والثانی: بعد التحقّق من المصداق لابدّ أن نبحث عن الدلیل الدالّ علی النجاسة من الآیة والروایة والاجماع.

أمّا الأول: فقد یقال بأنّ القدر المتیقین فی النجاسة من الکفار هم المشرکون منهم، وهم عبّاد الأوثان والثنویون، بل القدر المتیقن منهما هو الأوّل، حیث إنّهم جعلوا للّه الشریک فی العبادة، ومن کان کذلک یعدّ مصداقا حقیقیا لعنوان المشرک، فلو سلّمنا قیام الاجماع أو الدلیل علی نجاسة غیرهم من الکفار ممّن أنکر أصل الخالق والصانع، ففی مثل المشرک فی العبادة یکون بطریق أولی، لدخوله تحت عنوان المشرک حقیقة ومصداقا، هذا بخلاف ما لو أرید ادخال غیرهم من الکفار فی عنوان المشرک حیث لابدّ من التمسک بالاجماع أو ببعض القرائن والشواهد کما لا یکون ذلک ببعید کما یظهر.

وأمّا الثانی: ففی الدلیل علی نجاستهم، فإنّه فضلاً عن قیام الاجماع من المحصّل والمنقول علی ذلک، یدلّ علیه قوله تعالی «إِنَّمَا الْمُشْرِکُونَ نَجَسٌ فَلاَ یَقْرَبُواْ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ»بناءً علی أنّه صادق لعبدة الأوثان، بل وکذا عبّاد الشمس والقمر والحیوانات والنباتات، إمّا لأنّهم یجعلون غیر اللّه شریکا له فی العبادة، فیکون داخلاً تحت مصداقه حقیقة، أو داخل تحته بتنقیح المناط بأن یقال إنّ ملاک الشرک هو ادخال غیر اللّه مع اللّه فی العبادة، ولا فرق فیه بین الأصنام وغیرها، بل یمکن الحاق منکری الالوهیّة بهم بطریق الأولویة بأن یقال إذا کان الشرک فی العبادة موجبا للنجاسة، ففی منکر أصل وجود الصانع یکون بطریق أولی.

ولکن قد أجیب عنه: بمنع الأولویّة، لأنّ النجاسة حکم شرعی تعبدی یمکن أن

ص:240

یکون مختصّا بمورد الشرک فی العبادة، وإن کان انکار أصل وجود الصانع أشدّ وأسوء، مع امکان انکار أصل الأشدیة أیضا، لأنّه اذا سُلّم أصل وجود الصانع، فجعل الغیر شریکا له فی العبادة والصنع ربما یکون أشدّ من انکار اصل الوجود، وکیف کان اثبات النجاسة مع عدم شمول اللفظ له مشکلٌ.

نعم، یمکن اثبات النجاسة لمنکر أصل الصانع والعبادة بواسطة الاجماع علی عدم الفرق بین المشرک فی العبادة مع منکر الصانع والعبادة، وهو حسنٌ، لکنّه حینئذٍ رجوع إلی الاجماع مع ضمیمة الآیة فی أصل النجاسة للمشرک.

هذا کلّه تمام الکلام فی بیان موضوع الشرک ومصداقه.

البحث عن کلمة «نَجَس» فی الآیة

بقی الکلام فی تحدید مضی کلمة (نَجسْ) بالفتح المذکورة فی الآیة: ففی «طهارة» الشیخ الأکبر قدس سره ، قال: «إنّ النَجسْ إمّا مصدر فیکون الحمل حمل مصدر فی المبالغه، نظیر ما یقال زیدٌ عدلٌ، أو صفة نظیر نجِس بالکسر، فیکون أفراده، مع کونه وصفا علی تأویل أنّهم نوع أو صنف التنجس، والتأمّل فی ثبوت الحقیقة الشرعیة فی النجس فی غیر محلّه، إمّا لما ذکرناه من أنّ النجاسة الشرعیة هی القذارة الموجودة فی الأشیاء فی نظر الشارع، وإمّا لدعوی ثبوت الحقیقة الشرعیة، وإمّا لوجود القرینة علی ارادة المعنی الشرعی، وهی حرمة قربهم من المسجد الحرام إذ لا یجب تجنّب المساجد عن غیر النجس الشرعی اجماعا» انتهی.

ناقش فی کلامه المحقق الآملی أوّلاً: بالمنع عن ثبوت الحیقة الشرعیة فی ذلک، بمنع کونه هو المراد من النجس فی الآیة، مع أنّه غیر سدیدٍ، لوضوح شیوع النجس بالمعنی المصطلح فی لسان الشرع، ولو بلفظ القذر فی قبالة الطهارة والنظافة، کما ورد فی الروایة: «کلّ شیء نظیف حتّی تعلم أنّه قذر»، أو «کلّ شیء طاهر حتّی

ص:241

تعلم أنّه بعینه نجس»، فانکار أصل ثبوت الحقیقة الشرعیة ولو بطریق کثرة الاستعمال فیه ممّا لا یقبله الذوق السلیم، کما یوصلک صحته بمراجعة الأخبار من استعمال هذه الکلمة فی المعنی المصطلح فی الأخبار، وفهم الأصحاب ذلک منها کما لا یخفی.

کما أن المناقشة فی کون النجاسة أمرا واقعیّا فی القذارة یکشفها الشارع، لیس علی ما ینبغی، لأن کون النجاسة أمرا وحکما مجعولاً وضعیّا شرعا کالطهارة لا ینافی مع ذکر، لامکان کونه مجعولاً ومع ذلک کاشفا لأجل افهام العباد بوجود قذارة فی الأعیان النجسة حیث لا یمکنهم الوصول إلی المصالح والمفاسد الواقعیة، الاّ بقالب جعل الأحکام، لأنّا نعتقد بأنّ الأوامر والنواهی تابعة للمصالح والمفاسد الواقعیة، فلا یبعد کون الآیة فی صدد بیان القذارة فی وجود المشرکین، ولو من جهة بُعد المعنوی إن عمّمنا النجاسة حتّی یشمل مثل ذلک.

کما أنّ دعوی وجود القرینة فی ذلک من الحکم بالاجتناب عن المسجد الحرام بضمیمة أنّ وجوب الاجتناب عن المساجد بالاجماع لا یکون الاّ لأجل النجاسة، قریبة جدا، کما هو المتبادر إلی الذهن من الآیة.

والنقض بمثل وجوب الاجتناب عن المسجد فی مثل الجنب والحائض مع عدم کونهما نجسا، نقضٌ غیر صحیح، لأنّا ندّعی بأن اطلاق لفظ (النجس) علیهم، وتفریع عدم قربهم إلی المسجد الحرام، یفهمنا کونه لأجل نجاستهم، وهذا الأمر مفقود فی المنقوض به، لأنّا نعلم فی الجنب والحائض بأن النهی عن تقربهما الی المسجد لیس لأجل النجاسة، بل لأمر آخر معلوم عنداللّه من الحالة النفسانیة التی لا یحبّها الشارع فیهما ذلک، کما لا یحبّ لهم الاتیان بالصلاة، فاحتمال کون النهی عن الاقتراب لأجل خباثتهم کالجنب والحائض لا یناسب مع لفظ النجس المستعمل فی الآیة.

اللّهمّ إلاّ أن یتصرّف فی لفظ النجس بأن یراد منه الخباثة، فیمکن حینئذٍ ذلک،

ص:242

ولکن لا داعی لنا فی ذلک بعد ما عرفت حُسن ما ذکره الشیخ فی الاستدلال بالآیة للنجاسة بالمعنی الشرعی کما لا یخفی، کما أنّ صاحب «الجواهر» اختاره وأکد علی ذلک بقوله: «خصوصا بعد ملاحظة أنّ المعنی اللّغوی منها أی القذارة لا یناسب مع المترفین منهم، واحتمال کون المراد من النجاسة الخبث الباطنی کما اختاره بعض الناس وهذا تعبیرٌ عمّن هو بعید عن فهم الآیة والحدیث _ ضروری الفساد، مع أنّها لیست من المعانی المعهودة المعروفة للنجاسة» انتهی کلامه رفع مقامه.

فدعوی دلالة الآیة علی نجاسة المشرکین غیر بعیدة، فضلاً عن أنّها مؤیّدة بالاجماع بکلا قسمیه.

هذا بالنسبة إلی غیر الکتابی من عبدة الأوثان وغیرهم المنطبق علیه عنوان المشرک حقیقة أمر واضح.

بعد الوقوف علی الحکم بالنسبة الی المشرکین، یصل الدور الی البحث عن حکم الکتابی من الیهود والنصاری الذین یعدّون من أهل الکتاب قطعا، فهل هم من مصادیق المشرکین حتّی یحکم بنجاستهم اعتماداً علی هذه الآیة أم لا؟

قد یقال: _ کما فی «الجواهر» _ بامکان الحاقهم بالمشرکین، بواسطة عدم القول بالفصل بین المشرک وغیره منهم. وهو محکیٌّ عن «الغنیة» و«الریاض» إن لم نقل بتعارف ارادة مطلق الکافر من المشرک، کما نقل ذلک عن بعضٍ _ وهو النووی کما قاله فی «التحریر» علی ما حکاه الشیخ الأنصاری فی کتاب «الطهارة»(1) نقلاً عن شارح «الروضة» _ فیشمل کلّ کافر من عابد ضمٍ یهودی ونصرانی وزندیقٍ ومجوسی وغیرهم من المنحرفین فی زماننا إذا صدق علیهم عنوان الارتداد، فلازمه ثبوت النجاسة لکلّ ما یصدق علیه صفة الکفر، هذا.


1- الطهارة، ص 348.

ص:243

وإنْ أبیت عنه قلنا: إنّه یمکن ادخال الیهود والنصاری من أهل الکتاب فیهم، بواسطة شرکهم المستفاد من الآیة الواردة فی حقّهم فی قوله تعالی: «وَقَالَتِ الْیَهُودُ عُزَیْرٌ ابْنُ اللّهِ وَقَالَتْ النَّصَارَی الْمَسِیحُ ابْنُ اللّهِ... عَمّا یُشْرِکُون»(1) حیث أنّهم قد أشرکوا المخلوق مع اللّه، ولذلک تفید ذیّل سبحانه وتعالی قوله بتنزهه عمّا یشرکون، کما یشعر بذلک قوله تعالی لعیسی علی نبیّنا وآله وعلیه السّلام: «أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِی وَأُمِّیَ إِلَهَیْنِ»(2)، ولقولهم أیضا: «إنَّه ثَالثُ ثَلاثَة»(3) المشعر بکونه عند الیهود ثانی اثنین، ولیس هذا الاّ الشرک، فشمول آیة النجاسة لهم غیر بعید، کما علیه صاحب «الجواهر».

و لکن ردّ علیه فی «مصباح الفقیه»، بقوله: «وأمّا نسبة الاشراک إلی أهل الکتاب ببعض الاعتبارات کما فی الکتاب العزیز، فلا تصحّح ارادتهم من اطلاق المشرک الذی لا یتبادر منه الاّ ارادة الثنوی والوثنی ونحوهم، لا مطلق من صحّ توصیفه بالاشراک ببعض الاعتبارات، وإلاّ فصدق المشرک علی المرائی أوضح من صدقه علی الیهود بواسطة قولهم: «عُزَیْرٌ ابْنُ اللّهِ» وقد اطلق علیه المشرک فی جملةٍ من الأخبار، مع أنّه لا یعمّه الاطلاق قطعا هذا. مع أنّ المتبادر من الآیة بشهادة سیاقها ارادة مشرکی أهل مکّة التی أنزلت البرائة من اللّه ورسوله منهم، ومنعوا من قرب المسجد الحرام، فلا یجوز التعدّی عنهم إلاّ بتنقیح المناط، أو عدم القول بالفصل، ولا یتمّ منهما بالنسبة إلی أهل الکتاب» انتهی محل الحاجة(4).

ولا یخفی ما فی کلامه أوّلاً: بأن ملاحظة مادّة الشرک بحسب اللّغة والعرف


1- سورة التوبة، آیة 30.
2- سورة المائدة، آیة 116.
3- سورة المائدة، آیة 77.
4- مصباح الفقی، ج 7، ص 239.

ص:244

یفید أنّه لا یکون ولا یطلق الاّ لمن شارک فی العبادة غیره معه، أو فی الالوهیة، بأن یجعل غیر اللّه إلهاً، سواءٌ کان له کتاب أم لا، فهذا المعنی صادق علی الیهود والنصاری، بل قد یظهر من الآیة ما هو أعمّ منه، بأن یشارکه فی الولد وأمثال ذلک، الموجب خروجه عن التوحید، ولذلک قال تعالی: «سُبْحَانَهُ وَتَعَالَی عَمَّا یُشْرِکُونَ» سواءٌ کان ذلک فی العبادة أو فی غیرها. والمناقشة والنقض بمثل المرائی ونحوه غیر سدید، لأنّه شرکٌ خفی، والمراد من الشرک هنا هو الجلّی منه الموجب للنجاسة لا مطلقا، وإن کان بلحاظ المعنی من حیث اللّغة صادقا علیه، لکنّه غیر مقصود هنا، کما یظهر ذلک من لسان الأخبار المفسّره لذلک.

وثانیا: ما قال فی آخر کلامه بأنّ المراد من الآیة هو مشرکی أهل مکّة لا مطلق المشرکین، ممّا لا یمکن المساعدة معه، لوضوح أنّ المورد لا یکون مخصّصا، لأن العبرة فی مثل ذلک بعموم الوارد لا بخصوص المورد.

وعلیه، فالأوجه عندنا أنّ هذه الآیة دالّة علی نجاسة أهل الکتاب مثل غیرهم من المشرکین.

ولو أبیت عن دلالتها بعموم لفظ المشرک علیهم، فإنّه نتوصّل الی نجاسة أهل الکتاب بعدم القول بالفصل فی النجاسة عند المتقدمین وکذلک المتأخّرین فی الجملة، القائلین بنجاسة المشرکین وإلحقاهم بهم.

البحث عن حکم المجوس

یدور البحث فی المقام عن حکم المجوس¨، وهل یعدّون من أهل الکتاب لیلحقوا بهم فی الحکم أم لا؟

قلنا: لا اشکال فی نجاستهم عند من ذهب إلی نجاسة أهل الکتاب، لأنّ حالهم لا یخلو من أحد الأمرین: إمّا أن یکونوا من أهل الشرک کما قیل، لانّهم یعبدون النار ویعتقدون أنّها هو الرب فی العبادة، فواضحٌ کما یظهر ذلک من أن معابدهم

ص:245

تسمّی (آتشکده) وهی موجودة فی بلادهم حتّی الآن، وقولهم بألوهیّة النور والظلمة والیزدان والأهرمن، وجعلوا الأوّل مبدءا للخیرات والثانی للشرور، فلیس هذا الاّ الشرک.

وإمّا أن یکونوا من أهل الکتاب کما عن بعضٍ وأنّ لهم نبیّ یُسمّی زرتشت، ونزل علیه الکتاب، فیشملهم حکم أهل الکتاب.

ولأجل ذلک نری تصریح المحقق الآملی رحمه الله فی «مصباح الهدی» بقوله: «الظاهر عدم الاشکال فی نجاستهم»، ونعم ما قال.

بل ومنه یظهر حکم المنتحلین الاسلام من المرتدّین، حیث إنّهم أیضا ملحقون بالکفار من حیث النجاسة، کما ورد تصریح السّید فی «العروة» بذلک بالحاقهم بالکفار فی النجاسة، وقال: «الثامن: الکافر بأقسامه حتّی المرتد بقسمیه _ ویعنی بهم الفطری والملّی حیث یتحقّق خروجهم عن الاسلام بالاقرار علی ذلک بنفسه أو بکلّ فعلٍ دالّ علی الاستهزاء بالدین، والاستهانة ورفع الید عنه کالقاء المصحف والعیاذ باللّه فی القاذورات، وتمزیقه، واستهدافه وتلویث الکعبة، أو إحدی الضرائح المقدّسة من الأئمة علیهم السلام بالقاذورات، وأمثال ذلک) کما وردت الاشارة الیها فی «مصباح الهدی»(1)».

هذا کلّه بحسب دلالة الآیة علی ذلک، دون ملاحظة الأخبار والروایات الواردة علی خلاف المستفاد منها، وعلیه لابدّ حینئذٍ من أن نصرف عنان الکلام إلی ملاحظة أخبار الباب، فنقول: وممّا استدلّ به للنجاسة فی حقّهم أخبار کثیرة مستفیضة لو لم نقل متواترة:

منها: صحیحة محمّد بن مسلم، قال: «سألت أبا جعفر علیه السلام عن آنیة أهل الذمّة والمجوس؟ فقال: لا تأکلوا فی آنیتهم ولا من طعامهم الذی یطبخون، ولا فی


1- مصباح الهدی، ج 1، ص 389.

ص:246

آنیتهم التی یشربون فیها الخمر»(1).

ومنها: صحیحة أخری، عنه علیه السلام : «فی رجل صافح رجلاً مجوسیّا؟ فقال: یغسل یده ولا یتوضأ»(2).

فدلالتهما علی النجاسة تکون من جهة النهی عن الأکل من آنیتهم وطعامهم، وعن المصافحة معهم بصورة المطلق، فلو لم یکن ذلک لأجل نجاستهم فلا وجه للنهی عنه الاّ بصورة التعبّد عنه، وهو بعید غایته.

نعم، قد نوقش فی الأوّل منهما بامکان أن یکون النهی لأجل احتمال نجاسته العرضیة فی طعامهم وآنیتهم، کما یشهد ویؤیّد ذلک ورود النهی عن الشرب من الآنیة التی یشرب فیها الخمر، لأنّه إن کان المراد منه هو نجاستهم بذاته، فلا وجه للنهی عن ذلک بالخصوص، بل لابدّ من الاجتناب عن کلّ آنیةٍ، هذا کما فی «مصباح الفقیه»(3)، فحیث اختصّ الحکم به یفهم عدم وجود النهی عن إناء القوم الذی یشربون منها الماء.

لکنّه لا یخلو عن وهن، لأن ذکر خصوص الاناء کان بعد ذکر النهی عن کلّ اناء، وهو رحمه الله لم ینقل صدر الروایة، فلعلّ ذکره کان لأجل الاهتمام بنجاسة الخمر أیضا، مضافا إلی نجاستهم الذاتیّة. کما أنّه احتمل کون النهی عن طعامهم الذی یطبخون لأجل عدم اجتنابهم عن أکل المیتة ولحم الخنزیر، فلا یستفاد حرمة الأکل منه إذا علمنا عدم وجود المیتة ولحم الخنزیر، لأجل العلم باحترازهم عنهما.

وأیضاً: لو کان هذا هو العلّة للمنع لکان الأنسب المنع من أکل کلّ ما باشروه برطوبة مسریة، لا خصوص طعامهم الذی بطبخونه.


1- وسائل الشیعة: الباب 14 من أبواب النجاسات ، الحدیث 1.
2- المصدر السابق، الحدیث 3.
3- مصباح الفقیه، ج 7، ص 242.

ص:247

ولکنّه أیضا لا یخلو عن وهن، لأنّه لو کان الأمر هکذا، لکان الأنسب تقییده بما إذا علم عدم احترازهم عنه، کما وردت الاشارة الیه فی بعض الأخبار وعلیه فالنهی بصورة الاطلاق لا یکون الاّ لما عرفت.

ومنها: موثقة سعید الأعرج، قال: «سألت أبا عبداللّه علیه السلام عن سؤر الیهودی والنصرانی أیؤکل أو یشرب؟ قال: لا»(1).

فإنّ النهی ظاهر فی الحرمة ویحمل علیها ما لم یدلّ الدلیل علی خلافه.

وعلیه، فالحرمة لا تکون إلاّ لأحد الاحتمالین: إمّا أن تکون أمرا تعبدیّا محضا حتّی یجتمع مع طهارة سؤره، وهو خلاف الظاهر، کما اعترف به من ذهب إلی طهارتهم، فضلاً عن غیرهم.

وإمّا لأجل القذارة الشرعیة، وعلی الثانی أیضا قد یقال بأنّ النهی لأجل احتمال نجاسة أفواهم لعدم اجتنابهم عن النجس مثل لحم المیتة ولحم الخنزیر وشرب الخمر، وهو أمر ممکن لکنّه لیس مقطوعاً به، لأنّه إذا فرض طهارتهم بالذّات، فمع احتمال نجاستهم بالعرض دخل المورد تحت قاعدة الطهارة بقوله علیه السلام : «کلّ شیء طاهر حتّی تعلم انّه قذر» لأنّهم یغسلون أفواههم بالماء الجاری أو الکرّ أو کلّ ما یعتصم مثل الأنانیب فی عصرنا فیتطهر قطعا، وبعده یکون الشکّ فیهم شکا فی التنجّس، والأصل الطهارة، وحیث أنّ الامام علیه السلام نهی عنهم بنحو المطلق، یفهم کون النهی لأجل قذارتهم الذاتیّة، وهو المطلوب، وبهذا یندفع احتمال کون النهی نهیا تنزیّهیا کما فی سؤر الفأرة ونحوها.

أقول: بعد الوقوف علی کیفیّة الاستدلال للمطلوب بالموثقة، یمکن تطبیقه فی صحیحة محمّد بن مسلم حیث ورد فیها الأمر بغسل الید فقط دون الوضوء فی الید التی صافحت المجوسی، لأنّه إذا لم تکن یده نجسة بالذّات تکون نجسة بالعرض،


1- وسائل الشیعة: الباب 54 من أبواب الاشربة المحرمة، الحدیث 1.

ص:248

فیحکم بطهارتها بمقتضی القاعدة، وحیث حکم الامام علیه السلام بغسل الید بصورة المطلق، ونهی عن الوضوء کذلک، فإنّه یستفاد من ذلک أنّه لیس الاّ للنجاسة الذاتیّة، وهو المطلوب.

واحتمال کون الأمر بالغسل استحبابیّا والنهی تنزیهیا، قد عرفت أنّه مخالفٌ للظاهر ولا یصار الیه إلاّ بعد قیام الدلیل علی خلافه، حتّی یصیر ذلک قرینة لحمله علی الاستحباب.

نعم، یبقی هنا شیءٌ وهو أنّ اطلاق الأمر بالغسل، الظاهر فی الوجوب لتحصیل الطهارة لما شرط فیه ذلک، لا یجتمع مع ما ورد فی الخبر المرویّ عن ابن بکیر بأن «کلّ یابس زکی»(1)، فلابدّ فیه من ارتکاب أحد الأمرین: إمّا القول باستحباب الأمر بالغسل والکراهة فی النهی عن التوضی.

وإمّا القول بالتخصیص، وأنّ النجاسة مختصّة بما إذا کانت الید ذا رطوبة مسریة.

فیرجح الثانی ولو بلحاظ فهم الأصحاب وتأییده بأخبار السؤر والطبخ وغیر ذلک، بل لعلّ الاطلاق فیه کان لأجل الغلبة النوعیّة فی وجود العرق والنداوة فی الأیدی، کما نحسّ بذلک عند المصافحة، خصوصا فی بعض الأفراد حیث أنّ هذه الرطوبة توجب التنجیس.

وکیف کان، فإنّ دلالة الحدیث علی المطلوب فی الجملة واضحة.

أقول: ومما ذکرنا یظهر الجواب عمّن استدلّ بالخبر المروی عن أبی بصیر، عن أبی جعفر علیه السلام : «فی مصافحة المسلم للیهودی والنصرانی؟ قال: من وراء الثیاب، فإنْ صافحک بیده فاغسل یدک»(2).

فإنّ الأمر بالغسل وجوبا لا یکون الاّ لنجاسة أیدی الیهودی والنصرانی من


1- وسائل الشیعة: الباب 31 من أبواب أحکام الخلوة، الحدیث 5.
2- وسائل الشیعة: الباب 14 من أبواب النجاسات، الحدیث 5.

ص:249

أهل الکتاب.

لا یقال: بأن تجویز المصافحة من وراء الثیاب یؤیّد کون الأمر بالغسل استحبابیا، لأنّه إذا کانت أیدیهم نجسة، فلا فرق فی أنّ المصافحة مع الرطوبة المسریة موجبا للتنجس بین کونه مع الثوب أو غیره من لزوم تطهیر الملاقی، وحیث لم یأمر بالغسل إلاّ عند اللّمس مع الید دون الثیاب یفهم کون الأمر استحبابیا، وهذا یستلزم أن تکون أیدیهم طاهرة بالذّات، إلاّ أنّه یستحب التطهیر لأجل أنهم متّهمون بعدم الاجتناب عن النجاسة العرضیة، هذا کما فی «مصباح الفقیه»(1) ملخّصاً.

فانه یقال: الهدف من السؤال السائل هو معرفة حکمه فیما لو باشرت یدیه مع ید الیهود والنصاری، وأنّ ذلک هل توجب النجاسة أم لا؟ فإن کان الجواب أنه لا یجوز له المباشرة الاّ من وراء الثوب، یفهم حکم النجاسة من لزوم الاجتناب عنه فیما یشترط فیه الطهارة، وأنّه یتنجّس کلّ ما یباشرها مع الرطوبة ولو کان ثوبا أو غیره، ونحو ذلک من الآثار المترتبة علیه، فلا حاجة حینئذٍ من ذکر جمیع آثاره، ثمّ بعد تحقّق الدلیل علی نجاسة أیدی الیهود والنصاری، یمکن الاستدلال به لنجاسة ید المجوسی قطعا، لأنّه لا یخلو عن أحد الوصفین: إمّا أنّه داخل فی أهل الکتاب، فیشمله هذا الحدیث بواسطة تنقیح المناط، إذ لا خصوصیة فی الیهودی والنصرانی إلاّ ذلک.

وإمّا داخل فی المشرکین من غیر أهل الکتاب، فنجاسته تکون بواسطة الآیة، وقد عرفت توضیحها.

هذا، مضافا إلی وجود أخبار ناهیة عن المصافحة والمؤاکلة مع المجوسی:

منها: خبری محمد بن مسلم وعلی بن جعفر فی الصحیح، عن أخیه أبی الحسن


1- مصباح الفقیه، ج 7، ص 244.

ص:250

موسی علیه السلام ، قال: «سألته عن مؤاکله المجوسی فی قصیعة واحدة وأرقد معه علی فراش واحد، واصافحه؟ قال: لا»(1).

ومنها: خبره الآخر، قال: «سألته عن فراش الیهودی والنصرانی ینام علیه؟ قال: لا بأس ولا یصلّی فی ثیابهما. وقال: لا یأکل المسلم مع المجوسی فی قصعة واحدة ولا یقعده علی فراشه ولا مسجده ولا یصافحه»(2).

ومنها: روایة هارون بن خارجة، قال: «قلت لأبی عبداللّه علیه السلام : إنّی أخالط المجوسی فآکل من طعامهم؟ فقال: لا»(3).

فانّ جمیع هذه الأخبار الدالّة علی النهی عن المصافحة والمؤاکلة، کان لأجل نجاستهم ذاتا لا عرضا، والأمر فی ذلک متفق مع ما سواءٌ فی الیهودی أو النصرانی أو المجوسی إذا کانت المعاشرة بالمصافحة أو المؤاکلة علی نحو یوجب التنجیس لأجل الرطوبة المسریة من خلال العرق أو الماء أو غیرهما، فحینئذٍ یمکن حمل ما یوجب خلاف ذلک إمّا علی صورة غیر الرطوبة، وإمّا علی التقیة، وهو مثل ما فی الخبر المرویّ عن خالد القلانسی، قال: «قلت لأبی عبداللّه علیه السلام ألقی الذمّی فیصافحنی؟ قال: امسحها بالتراب أو بالحائط. قلت: فالناصب؟ قال: أغسلها»(4) فإنّ الحکم بالمسح بالتراب أو الحائط یمکن أن یکون للاحتیاط التجفیف الید بواسطة ذلک من باب الاحتیاط حتّی لا یوجب تنجیس سائر الاشیاء قبل أن یغسل یدیه، ثمّ أضاف الیه السائل الناصبی، فأمر علیه السلام بالغسل، ولعلّه یرجع إلی کلیهما، فکأنّه أراد بیان أنّ الحکم فی کلا الموردین متحد من المسح بالتراب


1- وسائل الشیعة: الباب 14 من أبواب النجاسات ، الحدیث 6.
2- المصدر السابق، الحدیث 10.
3- المصدر السابق، الحدیث 7.
4- المصدر السابق، الحدیث 4.

ص:251

احتیاطا والغسل بعده، أو أنّ الأمر فی کلا الموردین مستحبی مع فرض عدم الرطوبة المسریة، وعلیه فانه محمولٌ علی ما ذکر من باب الجمع، لو لم نحمله علی التّقیة.

وکذا یُحمل ما یخالف ما عرفت ممّا یستفاد منه غیر ذلک، مثل ما جاء فی المرسلة المرویّة عن الوشاء، عمّن ذکره، عن أبی عبداللّه علیه السلام : «أنّه کره سؤر ولد الزنا وسؤر الیهودی والنصرانی والمشرک، وکلّ من خالف الاسلام، وکان أشدّ ذلک سؤر الناصب»(1)، بأن یقال المراد من الکراهة هو الحرمة المستفادة من معناها اللّغوی وهو الانزجار، کما قد یستعمل ذلک ویراد منها الحرمة، نظیر استفادة الوجوب من لفظ الأولی فی بعض الموارد، مثل قوله تعالی «وَأُوْلُوا الاْءَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَی بِبَعْضٍ»، فیصیر المعنی فی المقام أنّه حرّم سؤر هذه الطوائف.

نعم، یبقی الاشکال فی خصوص سؤر ولد الزنا، حیث لا یکون حراما، فلابدّ حینئذٍ أن یقال إنّ الکراهة فی الجمیع بمعنی واحد، إلاّ أنّه نرفع الید عنه فی خصوص ولد الزنا لقیام دلیل خارجی، فیوجب حینئذٍ: إمّا استعمال لفظ (الکراهة) فی المعنی المجازی الذی یمکن جمعه مع الکراهة الاصطلاحیة والحرمة بواسطة اختلاف المتعلق.

وإمّا أن لا نرفع الید عن معناها، بل یخرج عنها موضوعا لقیام دلیل أقوی علی خلافه فیترک الباقی فی مقتضاه من الحرمة لأجل النجاسة.

واحتمال کون الکراهة فی الجمیع بمعناها الاصطلاحی لا یناسب مع وجود المشرک الذی قد نصّ القرآن علی نجاسته فیکون سؤره نجسا قطعا، فلا یناسب مع الکراهة.

لا یقال: إنّه یدور الأمر حینئذٍ بارتکاب أحد التقدیرین فی خصوص أحدهما


1- وسائل الشیعة: الباب 3 من أبواب الاسئار، الحدیث 2.

ص:252

من سؤر ولد الزنا أو سؤر المشرک، فیتعارضان ویتساقطان عن الاعتبار.

لأنّا نقول: _ مضافا إلی قوّة حکم المشرک لأنّه منصوص فی القرآن المتعضد بفهم الأصحاب والمفسّرین ودلالة الأخبار _ إنّ الحکم بالطهارة فی سؤر جمیع ما ورد ذکره فی الحدیث حکم قد أعرض عنه الأصحاب، فیقدم التقدیر الأوّل علی الثانی، وهو المطلوب.

هذا کلّه ما یدلّ علی النجاسة علی حسب ظاهر متن الروایة، ولکن هنا بعض الأخبار التی قد استدلّ بها الفریقین:

منها: صحیح علی بن جعفر، عن أخیه علیه السلام : «عن الیهودی والنصرانی یدخل یده فی الماء أیتوضأ منه للصلاة؟ قال: لا الاّ إذا اضطر الیه»(1).

حیث القائلون بالطهارة بها بأن الاضطرار والضرورة لا یفیدان جواز التوضّی بالماء النجس، فلابدّ أن یکون الماء طاهرا بالذات، إلاّ أن الاجتناب عنه مطلوب لکن لا وجوباً بل لأجل محبوبیة عدم الاختلاط معهم، بملاحظة أنّهم متهمون بعدم الاجتناب عن النجس، هذا إن لم نقل أنّ المراد من الاضطرار هو التّقیة کما قال به الشیخ قدس سره .

أقول: لکن الانصاف دلالته علی النجاسة أدلّ، حیث أنّ الترخیص فی الوضوء عمّا باشروه بأیدیهم فی حالة الاضطرار مختصٌ بصورة التّقیة، إذ لا یصحّ حمله علی عدم وجود ماء غیره من المیاه، لأنّه حینئذٍ یجب التیمم علی تقدیر المنع عن الوضوء بذلک الماء مع وجود التمکن من غیره، خصوصا مع ملاحظة ما جاء فی صدر الحدیث من قوله: «قال: سألته عن النصرانی یغتسل مع المسلم فی الحمّام؟ فقال: إذا علم أنّه نصرانی اغتسل بغیر ماء الحمّام إلاّ أن یغتسل وحده علی


1- وسائل الشیعة: الباب 14 من أبواب النجاسات، الحدیث 9.

ص:253

الحوض فیغسله ثمّ یغتسل»(1)، حیث یدلّ علی نجاسة النصرانی، لنهیه علیه السلام عن الغسل معه، وأمره بالغسل بغیر ماء الحمام، وأجاز ذلک إذا کان وحده بأن یغتسل أوّلاً للتطهیر ثمّ یغتسل، فلو کان النصرانی طاهرا لم تکن حاجة إلی مثل ذلک. وعلیه فدلالة الحدیث علی النجاسة _ کما اختاره شیخ الطائفة، وصاحب «مصباح الهدی» _ أولی وأحسن ممّا ذهب الیه غیرهما مثل الهمدانی صاحب «مصباح الفقیه» بحمل الاضطرار علی غیر التقیة.

هذا جمیع ما یمکن أن یستدلّ به علی نجاسة أهل الکتاب والمشرکین أو الفرق المختلفة إسم الاسلام من النواصب أو المرتدین.

أدلة القائلین بطهارة أهل الکتاب

والآن نصرف عنان الکلام إلی ما استدلّ به علی طهارة أهل الکتاب ومن عرفت من الطوائف، فقد استدلّ لها بالآیة والروایة والأصل.

أمّا الآیة: فهی قوله تعالی: «وَطَعَامُ الَّذِینَ أُوتُواْ الْکِتَابَ حِلٌّ لَّکُمْ وَطَعَامُکُمْ حِلُّ لَّهُمْ»(2)، بناء علی أنّ المراد من (الطعام) مطلق علی ما یطبخ، وتحلیل الطعام المطبوخ بأیدیهم الذی یباشروه بأیدیهم غالبا دلیلٌ علی طهارتهم.

ولکن یرد علیه: بأنّ المراد من الطعام لیس هو المطبوخ، کما هو المتعارف فی عصرنا، بل المراد هو البرّ والعدس والحبوب کما تری استعمال لفظ الطعام فی الکفارات، ویقال إنّ کفارة افطار الصوم للمرضعة والحامل هو مدٌّ من الطعام، ویراد به البرّ، وعلیه فحلّیة مثل الحبوب والبقول التی لا رطوبة فیها لا یستلزم الحکم بطهارة أهل الکتاب الذی یباشرونها کما لا یخفی.


1- المصدر السابق.
2- سورة المائدة، آیة 7.

ص:254

وان شئت تصدیق هذا المدّعی فانظر کلام أهل اللّغة مثل «مصباح المنیر» حیث قال: «إذا اطلق أهل الحجاز الطعام عَنوا به البُرّ خاصة) وفی «المُغرب»: «أنّ العطام اسمٌ لما یؤکل، وقد غلب علی البُرّ»، بل عن ابن الأثیر عن الخلیل: «أنّ الغالب فی کلام العرب أنّه البرّ خاصة» إلی غیر ذلک مّا حکی عنهم ممّا یقتضی اختصاصه بالبرّ.

بل قد یؤید ویشهد لذلک ما جاء فی خبر أبی سعید _ الذی نقله صاحب «الجواهر» _ قال: «کنّا نُخرج الصدقة الفطرة مع رسول اللّه صلی الله علیه و آله صاعا من طعام أو صاعا من شعیر»(1).

وأیضاً ورد من طرقنا أخبار فی الکفارات مثل خبر أبی بصیر، قال: علیه برٌّ من طعام»(2).

هذا، فضلاً عن تسالم الفقهاء علی أنّ الطعام فی الکفارات هو البرّ، وعلیه فالآیة أجنبیّة عن المورد، فلا تتعارض مع الأدلة الدالة علی النجاسة، کما أنّ الأصل هنا غیر مفید، لأنّ مورده الشک، فمع قبول الأخبار الدالّة علی النجاسة لا یبقی لنا شک حینئذٍ حتّی نرجع الیه ونحکم بالطهارة.

نعم، لو سلّمنا دلالة أخبار الطهارة وقلنا بمعارضتها مع أخبار النجاسة وتساقطهما، فانّ الرجوع الیه یستلزم الحکم بالطهارة لأجل أصالة العدم بحکم (رفع ما لا یعلمون) و(کلّ شیء مطلق حتّی یرد فیه نهی)، فعلیه یکون العمدة فی البحث هو ملاحظة الأخبار التی قد ادّعی دلالتها علی الطهارة، بعضها صحاح ورواتها ثقات وهی متعددة:

منها: صححیة اسماعیل بن جابر، قال: «قلت لأبی عبداللّه علیه السلام : ما تقول فی طعام أهل الکتاب؟ فقال: لا تأکله ثمّ سکت هُنیئته ثمّ قال: لا تأکله ثمّ سکت


1- تیسیر الوصول، ج 2، ص 130 وفیه کنّا نخرج کفارات الاحرام، الحدیث 1.
2- وسائل الشیعة: الباب 12 من أبواب بقیة کفارات الاحرام ، الحدیث 1.

ص:255

هنیئته، ثمّ قال: لا تأکله ولا تترکه تقول إنّه حرام، ولکن تترکه تتنزّه عنه، إنّ فی آنیتهم الخمر ولحم الخنزیر»(1).

وجه الدلالة: تصریح الامام بعدم التحریم، وأنّ النهی کان تنزیهیّا لأجل عدم اجتنابهم عن الخمر ولحم الخنزیر، فلو کان النهی لأجل نجاستهم ذاتا لما کان نهیه تنزیهیّا. هذا غایة ما یمکن أن یستدلّ به لذلک، بل هو شاهد جمع بین الأخبار المتقدّمة الدالّة علی المنع، والأخبار الآتیة المصرّحة بالجواز بحمل الطائفة الأولی علی النهی التزیهی لتصریح هذا الخبر علی عدم الحرمة، هذا.

أقول: ولکن الدقة والتأمّل فیه یفید خلاف ذلک، لأن سکوت الامام عن الجواب هنئیتهً مرّات ثمّ القول یفید أنّه لم یکن أمرا وموسّعاً یمکنه التصریح به والاّ لم یحتج إلی السکوت، بل أجابه مباشرةً بالجواز، فلعلّه أراد علیه السلام بسکوته بیان الحکم بنحو التقیة بالنهی عن ذلک، لکن بشکل یفهمه أن مراده من التنزّه هو الحرمة لأجل نجاستهم، کما أنّ فی ذکر التعلیل ایماءٌ واشعار علی کون النهی تحریمیا، إلاّ أنّ ظاهره غیر مرادٍ حفاظاً علی دماء المؤمنین من الاعداء، خلافا لما نقله صاحب «المعالم» عن والده شیخنا الشهید رحمه الله حیث قال: «إنّ ذکر التعلیل فی النهی فی هذه الروایة بمباشرتهم النجاسات، یدلّ علی عدم نجاسة ذواتهم، إذ لو کانت نجسة لم یحسن التعلیل بالنجاسة العرضیة التی قد تتفق وقد لا تتفق».

والجواب: الأمر کما ذکره لو لم یکن واردا مورد التّقیة، وصرف الأفکار عن المسألة، وإلاّ لما کان التعلیل مفیدا لذلک، والدلیل علی المدّعی هو السکوت بمرحلتین أو أزید عند الجواب عن سؤال السائل وعلیه، فدعوی دلالة الحدیث علی الطهارة غیر واضحة، أو غایته أنّه یحمل علی ذلک جمعا بینه وبین ما دلّ علی النجاسة.


1- وسائل الشیعة: الباب 54 من أبواب الاطعمة المحرمة، الحدیث 4.

ص:256

ومنها: صحیحة العیص بن القاسم: «أنّه سأل أبا عبداللّه علیه السلام عن مؤاکلة الیهودی والنصرانی؟ فقال: لا بأس إذا کان من طعامک، وسألته عن مؤاکلة المجوسی؟ فقال: إذا توضّأ فلا بأس»(1).

وجه الاستدلال: هو التصریح بنفی البأس إذا توضّأ، مع أنّه لو کان المجوسی نجسا ذاتا لا یزید الوضوء فی حقّه الاّ نجاسة زائدة، فیظهر منه طهارته، ومثله یقال فی الیهودی والنصرانی إمّا بتنقیح المناط أو بعدم القول بالفصل.

ولکن یمکن ان یجاب عنه: بانّه لا یدلّ علی الطهارة، لأن المراد من المؤاکلة التی أباحها علیه السلام عبارة عمّا لا یلزم المباشرة معهم فی الأکل، بل مباشرتهم فی المائدة والسفرة والتی یعبّر عنها بالفارسیة «همسفره شدن»، وهی أعمّ من مباشرتهم أو مباشرة ما باشروه بالرطوبة، ولعلّ إلی ذلک أشیر ممّا وقع فی أوّله من نفی البأس إذا کان من طعام نفس الشخص الذی یقطع من طهارته، فیجعل للیهودی والنصرانی سهما مستقلاً منحازا فی مائدة واحدة، بخلاف ما لو کان الطعام للکتابی حیث لا یجوز، إذ لو لم یکن المراد هو ما قلنا، فلا وجه لاسناد الطعام إلی الشخص، وبالتالی فدلالته علی مدّعاهم غیر واضحة، مع أنّه یمکن حمله علی هذا ما لو فرض الاجمال فیه، مضافاً إلی أنّه إذا جاء الاحتمال بطل الاستدلال، والحکم بالتوضیء صادرٌ للنظافة لا الطهارة.

ومنها: روایة الکاهلی، قال: «سألت أبا عبداللّه علیه السلام عن قوم مسلمین یأکلون فحضرهم رجل مجوسی أیدعونه إلی الطعام؟ فقال: أمّا أنّا فلا أواکل المجوسی وأکره أن أحرّم علیکم شیئا تضعونه فی بلادکم»(2).

وجه الاستدلال: هو التجویز بذلک فی بلادهم، مع ملازمة المباشرة فی المؤاکلة الطهارة.


1- وسائل الشیعة: الباب 53 من أبواب الاطعمة المحرمة، الحدیث 4.
2- وسائل الشیعة: الباب 53 من أبواب الاطعمة المحرمة، الحدیث 2.

ص:257

والجواب عنه: یظهر ما قلنا فی الحدیث السابق، بأنّ المؤاکلة أمر أعمّ من ما یلزم المباشرة، بل لا یبعد أنّ ما ذکره الامام من الکراهة کان ایماءا الی عدم التحریم فی أصل الجلوس معهم علی مائدة واحدة، ولکنّه أمر غیر مطلوب، لأنّه ربّما یوجب التودّد الیهم الممقوت شرعا، ولکن کره الامام أن یکلفهم بالمنع والتحریم، لأنّه کان متعارفاً بینهم، والمنع جزما موجب للعسر والحرج لهم، فأجاز لهم ارفاقا بهم وتوسعة علیهم.

أو کان وجه الترخیص من باب التقیّة، لأن المنع عنه جزما مع کونه متداولاً عندهم ربّما یؤدّی الی العُسر والحرج فی معیشتهم، مع ملاحظة تجویز العامّة لذلک وقولهم بطهارتهم. وعلیه فالاستدلال بهذا الخبر مع وجود هذه الاحتمالات غیر سدید، ولا یقاوم المعارضة مع الأخبار الکثیرة المتقدمة الدالّة علی النجاسة.

ومنها: روایة زکریا بن إبراهیم، قال: «دخلت علی أبی عبداللّه علیه السلام فقلت: إنّی رجل من أهل الکتاب، وإنّی أسلمت وبقی أهلی کلّهم علی النصرانیة، وأنا معهم فی بیت واحدٍ لم أفارقهم، فآکل من طعامهم؟ فقال: یأکلون لحم الخنزیر؟ قلت: لا، ولکنّهم یشربون الخمر، فقال لی: کل معهم واشرب»(1).

وجه الاستدلال: واضح حیث أجاز المؤاکلة والمشاربة مع أهله، مع کونهم من النصاری.

ولکن اجیب عنه: بما قد عرفت بأن تجویز المؤاکلة أعمّ من المباشرة بطعامهم مع الرطوبة، خصوصا مع ملاحظة التفصیل الوارد فی الروایة بین صورة أکل لحم الخنزیر بالمنع دون شرب الخمر، حیث یمکن أن یکون لبیان أنّه إذا لم یجتنبوا عن أکل لحم الخنزیر، فاحتمال وجود لحم الخنزیر فی طعامهم غیر خفیّ، فلذلک منع عنه، بخلاف مالو اجتنبوا عنه ولو لم یجتنبوا عن شرب الخمر، لأنّه شیء


1- وسائل الشیعة: الباب 54 من أبواب الاطعمة المحرمة، الحدیث 5.

ص:258

مستقل لا علاقة لها بشخص آخر، فتجویز المؤاکلة معهم لا یستلزم الحکم بطهارتهم وقد احتمل بعض فی أنّ التجویز المذکور فی هذا الخبر بالنسبة الی شرب الخمر، أنّه دلیلٌ علی طهارة الخمر، کما علیه عدّة من الفقهاء، وکیف کان فدلالة هذا الخبر علی طهارة أهل الکتاب لا یخلو من خفاء.

ومنها: صحیحة ابراهیم بن أبی محمود، قال: «قلت للرضا علیه السلام : الجاریة النصرانیة تخدمک وأنت تعلم أنّها نصرانیة لا تتوضّأ ولا تغتسل من جنابة؟ قال: لا بأس تغسل یدیها»(1).

وجه الاستدلال: أنّه یدلّ علی المطلوب فعلاً وتقریرا، کما فی «مصباح الفقیه».

ومنها: مثل السابقة صحیحة الأخری، قال: «قلت للرضا علیه السلام : الخیاط أو القصّار یکون یهودیا أو نصرانیا وأنت تعلم أنّه یبول ولا یتوضّأ ما تقول فی عمله؟ قال: لا بأس»(2).

أقول: ولکن لا یخفی أنّ جواز الاستخدام والاستیجار للیهودی والنصرانی للخیاطة والقصارة والخدمة أعمّ من جواز مباشرتهم ومباشرة ما باشروه مع الرطوبة، وحکمه بغسل الیدین کان للنظافة لا لتحصیل الطهارة حتّی یتوهّم أن ذلک یزید فی النجاسة لو کانوا نجسا ذاتا. وعلیه فالاستدلال بمثل هذا الخبر فی قبال تلک الأخبار ضعیفٌ غایته، هذا لو لم نقل _ کما فی «الوسائل الشیعة» _ بحملهما علی التقیة، خصوصا إذا کان مورد السؤال فی عصر المأمون حیث کان علیه السلام تحت مراقبة عیون الأعداء فی مرو ولا یستطیع مخالفة السلطان. وعلیه فالاستدلال بمثله موهون کمالا یخفی.

ومنها: موثقة عمّار، عن أبی عبداللّه علیه السلام ، قال: «سألته عن الرجل هل یتوضأ من کوزٍ أو اناءٍ غیره إذا شرب منه علی أنّه یهودی؟ قال: نعم، قلت: فمن ذلک الماء


1- وسائل الشیعة: الباب 14 من أبواب النجاسات ، الحدیث 11.
2- التهذیب، ج 6، ص 385، ح 1142 وعنه فی الوافی، ج 6، ص 209، ح 4128 _ 4125.

ص:259

الذی یشرب منه؟ قال: نعم»(1).

أقول: ووجه الاستدلال واضحٌ لاخفاء فیه.

ولکن یمکن أن یجاب عنه: بأنّه من الممکن أن یکون المورد ممّا یحتمل أن یکن الشارب یهودیا کما یؤمی الیه جملة (علی انّه یهودی) فلا یدلّ حینئذٍ علی جواز ذلک حتّی مع العلم بشرب الیهودی منه، فیکون الحدیث ممّا یدلّ علی حمل عمل الناس علی الطهارة، وکونه مسلما إذا کان البلد من أهل الاسلام، مع أنّه علی فرض احتمال کلا الأمرین یبطل الاستدلال به بل یمکن حمله علیه بمقتضی الجمع بینه وبین معارضه، کما لا یخفی.

ومنها: روایة أبی جمیلة، عن أبی عبداللّه علیه السلام : «أنّه سأله عن ثوب المجوسی ألبسه وأصلّی فیه؟ قال: نعم، قلت: یشربون الخمر، قال: نعم نحن نشتری الثیاب السابریّة فنلبسها ولا نغسلها»(2).

أقول: ومثلها فی الدلالة روایة «الاحتجاج» عن محمّد بن عبداللّه بن جعفر الحمیری، أنّه کتب إلی صاحب الزمان علیه السلام : «عندنا حاکة مجوس یأکلون المیتة ولا یغتسلون من الجنابة وینسجون لنا ثیابا، فهل تجوز الصلاة فیها من قبل أن تغسل؟ فکتب الیه فی الجواب: لا بأس بالصلاة فیها»(3).

وأیضاً: روایة أبی علی البزاز عن أبیه، قال: «سألت جعفر بن محمّد علیه السلام عن الثوب یعمله أهل الکتاب أصلّی فیه قبل أن یغسل؟ قال: لا بأس وأن یُغسل أحبّ الیّ»(4).

وأیضاً: روایة معاویة بن عمّار، قال: «سألت أبا عبداللّه علیه السلام عن الثیاب


1- وسائل الشیعة: الباب 3 من أبواب الأسئار، الحدیث 3.
2- وسائل الشیعة: الباب 73 من أبواب النجاسات ، الحدیث 7.
3- وسائل الشیعة: الباب 73 من أبواب النجاسات، الحدیث 9.
4- المصدر السابق، الحدیث 5.

ص:260

السابریّة یعملها المجوس وهم أخباث، وهم یشربون الخمر ونساؤهم علی تلک الحال، ألبسها ولا أغسلها وأصلّی فیها؟ قال: نعم، قال معاویة: فقطعت له قمیصا وخطته وفتلت له أزرارا ورداء من السابری ثمّ بعثت بها الیه فی یوم الجمعة حین ارتفع النّهار، فکانّه عرف ما أرید فخرج بها إلی الجمعة»(1).

أقول: وجه الاستدلال فی هذه الأخبار الأربعة واحد، وهو أنّ الثیاب المعمولة عند المجوس یجوز الصلاة فیها من دون غسل، مع أنّه لو کان المجوسی نجسا ذاتا کان الحری أن یحکم بالغَسْل قبل الصلاة فیها، وحیث رخّص بلا غسل یفهم طهارتهم، وقال صاحب «مصباح الفقیه» إن حمل الخبر علی ارادة الثیاب التی لم یعلم ملاقاتهم لها برطوبة مسریة أسوءُ من طرحها فیتمّ المطلوب، هذا.

وفیه: الانصاف عدم تمامیّة هذا الاستدلال، لوضوح أنّ الحکم بطهارة الثیاب فی هذه الموارد یکون حکما موافقا ومطابقا للأصل، لأنّه من الواضح أن الحکم عند الشک فی الطهارة والنجاسة هو الطهارة، وإن کان التنزه عنه فی المورد محبوبا ومستحبا، کما أشار إلیه فی روایة أبی علی البزاز بقوله: «وأن یُغسل أحبّ الیّ»، ولیس فی حملها علی ذلک حزازة وسوءا، فضلاً عن أن یکون أسوء حالاً من الطرح کما عن «مصباح الفقیه»، ولذلک ذهب المحقق الآملی إلی ما أشرنا إلیه ونعم ما ذهب، وعلیه فمثل هذه الأخبار لا تقاوم الأخبار المتقدّمة الدالة علی النجاسة.

أقول: ومثلها فی الضعف وعدم المقاومة، التمسّک فی اثبات طهارة أهل الکتاب بالأخبار الدالّة علی تجویز التزویج مع أهل الکتاب(2) واتخاذهم


1- وسائل الشیعة: الباب 73 من النجاسات ، الحدیث 1.
2- وسائل الشیعة: الباب 2 من أبواب مایحرم بالکفر و النحوه.

ص:261

ظهرا(1) وجواز إعارة الثوب للکتابی ولبسه بعد استرداده من غیر أن یغسله(2). لما قد عرفت أنّ هذه الاحکام ذلک مطابقة لأصل الطهارة فی المشکوک ما لم یحصل العلم بنجاسته، بل یمکن تحصیل ذلک من الأخبار الدالّة علی الحکم بالطهارة ما لم یحصل العلم بالخلاف، مثل ما جاء فی صحیحة عبداللّه بن سنان، قال: «سأل أبی أبا عبداللّه علیه السلام وأنا حاضر إنّی أعیر الذمّی ثوبا وأنا أعلم أنّه یشرب الخمر ویأکل لحم الخنزیر، ثمّ یردّه علیّ فأغلسه قبل أن أصلّی فیه؟ فقال أبو عبداللّه علیه السلام : صلّ فیه ولا تغسله من أجل ذلک، فإنّک أعرتة أیّاه وهو طاهر، ولم تستیقن أنّه نجسّه فلا بأس»(3).

نعم، بقی هنا التمسّک بالأخبار الدالّة علی تجویز تغسیل الکتابی للمیّت المسلم عند فقد المماثل والمَحرم مثل روایة عمّار بن موسی، عن أبی عبداللّه علیه السلام ، فی حدیث، قال: «قلت: فإن مات رجلٌ مسلمٌ ولیس معه رجلٌ مسلمٌ ولا إمرأةٌ مسلمة من ذوی قرابته، ومعه رجال نصاری، ونساء مسلمات لیس بینه وبینهنّ قرابة؟ قال: یغتسل النصاری ثم یغسلونه فقد اضطرّ، وعن المرأة المسلمة تموت ولیس معها امرأة مسلمة ولا رجلٌ مسلم من ذوی قرابتها، ومعها نصرانیة ورجال مسلمون (ولیس بینها وبینهم قرابة)؟ قال: تغتسل النصرانیة ثمّ تغسّلها»(4).

ومثله خبر زید بن علی(5).

حیث أنّه لو کان أهل الکتاب نجسا ذاتا، فکیف یمکن تغسیلهم للمیت المسلم


1- وسائل الشیعة: الباب 76 من أحکام الأولاد.
2- وسائل الشیعة: الباب 74 من أبواب النجاسات، الحدیث 1.
3- المصدر السابق.
4- وسائل الشیعة: الباب 19 من أبواب غسل المیّت ، الحدیث 1.
5- المصدر السابق، الحدیث 2.

ص:262

مع مباشرتهم للماء الموجب للتنجّس، فحیث أنّه قد رخّص فی ذلک عند فقد المماثل المحرم، یفهم أنّهم محکومون بالطهارة الذاتیة حینئذٍ، ولذلک یجوز لهم مباشرة الغُسل بعد أن یغتسلوا وذلک لتحصیل الطهارة عن النجاسات العرضیة الموجودة فی أیدیهم وبدنهم، وهو المطلوب کما قاله صاحب «الحدائق».

قلنا: الاستدلال بمثل هذه الأخبار للمطلوب لا یخلو عن اشکال فی الجملة، لأن هنا مجموع أحکام لا یمکن الجمع بین جمیعها بل هو مستحیل، لوضوح أنّه مع فرض نجاسة أهل الکتاب وسرایتها مع الرطوبة، ولزوم طهارة ماء الغُسل وبدن المیّت وتحصیل الطهارة له، فإنّه ممّا لا یمکن الجمع بینها إلاّ بأحد التقادیر: إمّا برفع الید عن تغسیل الکتابی للمیّت المسلم وابداله بالتیّمم، وهذا ما ضعّفه صاحب «الحدائق».

وإمّا برفع الید عن الحکم بتنجّس ملاقی النجس مع الرطوبة المسریة.

وإمّا برفع الید عن اعتبار طهارة ماء الغُسل وطهارة بدن المیّت فی صحة غُسله لدی الضرورة.

وبالجملة: فمع وجود کلّ واحد من هذه الاحتمالات والتقادیر فی جواز تغسیل الکتابی للمسلم، کیف یمکن عدّ هذا الخبر وأضرابه دلیلاً علی طهارة أهل الکتاب، ألیس ذلک هو التمسّک بأمر أعمّ لاثبات أمر أخص، إذ لا ملازمة بین جواز تغسیل الکتابی له مع اثبات طهارته إلاّ بلازم اعمّ، فیلزم کون الدلیل مثبتا للاعمّ لا للمطلوب، کما لا یخفی.

أقول: بل قد یؤیّد امکان رفع الید عن اعتبار بعض هذه الامور ورود لفظ (الضرورة) فی قوله: «ثمّ یغسّلونه فقد اضطرّ»، هذا لو سلّمنا عدم امکان التغسیل مع الطهارة بواسطتهم إلاّ بذلک، مع أنّه غیر واضح لامکان تحصیل التغسیل من دون لزوم ذلک، بأن یغتسل بماء کثیر أو بالقلیل ولکن بدون مماسة بدنه بالماء، أو

ص:263

بوضع شیء علی یده یمنع من سرایة الماء والرطوبة الیه، أو یصبّ الماء علیه دون أن یمسّه، ففی کلّ هذه الفروض یتحقق الغسل مع استکمال الشروط المطلوبة کما لا یخفی، وعلیه فجعل هذه الأخبار دلیلاً علی طهارتهم لا یخلو عن وهن واشکال.

ولعلّ لأجل ذلک ذهب المشهور إلی نجاسة أهل الکتاب، مع حکمهم بجواز أن یغسّلوا المسلمین فی حال الضرورة، وهذا هو یؤیّد ما ذکرناه من عدم ملاحظة المنافاة بین الدلیلین والحکمین، وهو المطلوب.

البحث عن مباشرة المؤمنین مع أهل الکتاب

بقی هنا ما استدلّ لتأیید طهارتهم من الاستدلال بمخالطة الأئمّة علیهم السلام وخواصّهم مع عامّة الناس من الخاصّة والعامّة الذین لا یتحرزون عن المزاورة ومباشرة أهل الکتاب مع قضاء العادة باستحالة بقاء ما فی أیدیهم من المأکول والمشروب والملبوس وما یتعلّق بهم من أثاث بیتهم علی طهارته، علی تقدیر نجاسة الیهود والنصاری هذا.

ولکن یرد علیه أوّلاً بالنقض: بجریان العادة بالتجارة مع بلاد الکفر واستیراد البضائع غیر المایعة منه، حیث لم یقل ولم یفت أحدٌ بوجوب تطهیرها، لاحتمال وجود الرطوبة فی بعض الأحیان والأوان فی أیدیهم ولو بواسطة العرق أو بنزول المطر أو غیر ذلک ممّا تشهد العادة بوجود مثل هذه الأمور واصابتها الامتعة، ولیس ذلک الاّ لأجل جریان أصالة الطهارة الحاکمة علی الاحتمالات المذکورة ما لم یتحقّق العلم علی خلافه، وهی قاعدة جامعة لجمیع هذه الموارد تسهیلاً لأمر معاش العباد.

بل یرد علیه نقضا ثانیا: بما هو متعارف فی بلاد المسلمین وعند عامّة الناس، حیث لا یتحرّزون عن النجاسات، وأغلبهم لا یعلمون المسائل المتعلقة بالطهارة

ص:264

والنجاسة، خصوصا أهل القری والاریاف والبوادی، حیث لا یرجعون إلی أهل العلم والدین للسؤال عن أحکامهم، ومع ذلک فقد حکم الفقهاء بجواز الرجوع الیهم والشراء منهم حتّی مثل المایعات، ولیس ذا الاّ لأصل الطهارة القاضیة بالطهارة ما لم یشاهد النجاسة ویطلع علیها، وهکذا نقول فی حقّ الیهود والنصاری فی مجتمعاتنا الاسلامیّة والتعامل معهم، فإنّه جائز بما قد ما لم یقطع فی الجملة علی نجاسته، فلا یوجب ذلک الحکم بالنجاسة، مع أنّه منوط بما قد یأتی البحث عنه فی مسألة کون المتنجس منجّسا أم لا، حیث ذهب بعض إلی عدم منجسیة المتنجّسات، فیلزم علیه جواز الأخذ منهم حتّی مع العلم بنجاسة أیدیهم وتحقّق النجاسة المباشرة ونحوه.

فتحصل من جمع ما ذکرناه: _ تبعا لصاحب «الجواهر» وغیره من المشهور _ أنّ نجاسة أهل الکتاب من الیهود والنصاری والمجوس ثابتة، کثبوت نجاسة المشرکین، واللّه هو العالم بالصواب.

مع إنّا لو سلّمنا دلالة بعض الأخبار علی الطهارة _ کما أنّه لا یخلو عن اشعار فی بعضها _ قلنا إنّه ممّا لا یمکن العمل علیها، لاعراض الأصحاب عنها، إذ لو لم نقل بقیام الاجماع علی النجاسة، فلا أقلّ من قیام الشهرة العظیمة، خصوصا عند المتقدّمین بل المتأخّرین علی ذلک، وهما یوجبان الوهن کما لا یخفی علی المتأمّل المتتبّع.

فی حکم أجزاء بدن الکتابی

بعد ما ثبت من خلال الأبحاث الآنفة نجاسة الکفار وأهل الکتاب، فإنّه لا فرق فی نجاستهم بین أجزائهم ورطوباتهم، ولا فی اجزائهم بین ما تحلّه الحیاة منها وما لا تحله الحیاة، بل لم یعرف فیه خلافٌ من أحد إلاّ ما عن «المعالم» من

ص:265

الاشکال فی تعمیم الحکم وشموله لما لا تحلّه الحیاة بدعوی قصور النصوص عن اثبات الحکم لمثل الشعر، لأنّ مورد الأخبار فی الحکم بالنجاسة هو السؤر والمؤاکله والمصافحة ونحو ذلک، بل لا یبعد أن یکون صاحب «المعالم» متفقاً مع السّید المرتضی هنا لأنّه ذهب إلی ذلک فی ما لا تحلّه الحیاة فی الکلب والخنزیر، ولازم هذا الاستدلال شموله للمقام، إلاّ انّه لم یصرّح بالخلاف فی المقام، ولعلّه لاستفادته النجاسة لاجزائه جمیعا هنا من الأخبار.

وکیف کان، فإنّه لا اشکال فی نجاسة جمیع الأجزاء حتّی ما لا تحلّه الحیاة، والدلیل علی ذلک مضافا إلی الاجماع ومعاقدهم، انطباق الحکم علی الموضوع بما یصدق علیه الاسم کالکلب والخنزیر، لأنّه إذا أسند العنوان والحکم من الطهارة والنجاسة الی الوجود یتعلّق عرفا بتمام اجزاء ذلک الوجود، إلاّ أن یخرجه الدلیل بالخصوص کما فی طهارة المسلم ونجاسة الکلب والخنزیر، ولا یقاس ذلک بمثل شعر المیّت للفرق بینهما حیث یتعلّق الحکم هناک بما یعرضه الموت، وهو لا یکون الاّ فیما تحلّه الحیاة، هذا بخلاف المقام حیث حکم بالاجتناب عنهم لانّهم رجس ونجس وهذا العنوان یتعلّق بوجود الکفار الشامل لجمیع اجزائه کما لا یخفی، فالمسألة واضحة لاحفاء فیها، واللّه العالم.

حکم الولد المتولّد من الکافرین

یدور البحث فی الولد المتولّد من الکافرین، أی إذا انعقدت نطفته فی حال کفرهما، وبقی علیه الی حین البلوغ، فهل یلحق بأبویه من حیث النجاسة أم لا، وعلی فرض الالحاق فما الدلیل علی ذلک؟ الشهرة العظیمة علی النجاسة، کما هو ظاهر «الموجز» وصریح «التذکرة» و«الذکری» و«کشف الالتباس» و«شرح المفاتیح» و«منظومة» الطباطبائی و«المبسوط» و«الایضاح» و«نهایة الأحکام»،

ص:266

بل فی «الجواهر»: «لا أجد فیه خلافا»، بل فی شرح الاستاذ نسبته للأصحاب مشعرا بدعوی الاجماع علیه حتّی لو بلغ مجنونا، وقد أمضاه صاحب «الجواهر» بقوله: «وهو الحجّة إن تمّ فی قطع الأصول والعمومات»، ولعلّه کذلک کما یوءمی الیه تسالمهم علی نحوه من أحکام التبعیّة فیه وفی ولد المسلم کالأسر والاسترقاق ونحوهما کذکر الحکم به هنا ممّن تعرّض له علی جهة الجزم والقطع من غیر تردّد واشکال کباقی المسائل المسلّمة، عدا العلاّمة فی «النهایة» فقال: «الأقرب التبعیّة» ما یشعر بعدم قطعیة الحکم عنده، ولعلّه لذا وسوس فیه بعض متأخّری المتأخّرین» انتهی محلّ الحاجة(1).

قلنا: مضافا إلی قیام الشهرة أو الاجماع، یمکن أن یستدلّ أو نستشعر ذلک من بعض الأخبار:

منها: صحیحة عبداللّه بن سنان، قال: «سألت أبا عبداللّه علیه السلام عن أولاد المشرکین یموتون قبل أن یبلغوا الحنث(2)؟ قال: کفّار واللّه أعلم بما کانوا عاملین یدخلون مداخل آبائهم»، فانّ الجواب بأنّه کفّار لا یکون إلاّ من باب التبعیة، وذکر التعلیل یمکن أن یکون بلحاظ حال الغالب والمتعارف بأن یکون الاولاد یدخلون مداخل آبائهم، فالتبعیّة أمر متعارف یترتّب علیه أحکامها ما لم یدلّ الدلیل علی خلافه.

ولیس مثل ذلک فی الدلالة خبر وهب بن وهب، عن جعفر بن محمّد عن أبیه علیهم السلام ، قال: «قال علی علیه السلام : أولاد المشرکین مع آبائهم فی النار، وأولاد


1- الجواهر، ج 6، ص 44.
2- الحنث غلام لم یبلغ الحنث، أی لم یجر علیه القلم، کما فی «مجمع البحرین» مادّة حنث.

ص:267

المسلمین مع آبائهم فی الجنّة»(1).

الاّ أن یقال إن کونهم مع آبائهم فی النّار لا یکون الاّ لأجل کونهم کفّارا، فلا وجه فیه الاّ للتبعیة، وعلیه یظهر حکم خبرٍ آخر مثله وهو المرسل المنقول فی «الکافی» فی حدیثٍ: «فأمّا أطفال الموءمنین فانّهم ملحقون بآبائهم، وأولاد المشرکین یلحقون بآبائهم، وهو قول اللّه عزّوجلّ: «وَالَّذِینَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّیَّتُهُمْ بِإِیمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّیَّتَهُمْ»(2).(3)

أقول: ولکن قد نوقش فی الاستدلال بهذه الأخبار لاثبات النجاسة بما فی «مصباح الهدی» للآملی قدس سره ما هو نصّه فإنّه بعد ذکره الأدلّة قال: «والکلّ مخدوش، أمّا الاستدلال بالأخبار فعلدم دلالة الأخیرین منها علی النجاسة، حیث لا دلالة فی الحاق أولاد المشرکین بهم فی الآخرة علی تبعیتهم لآبائهم فی النجاسة فی دار الدنیا بعد فرض نفی الکفر عنهم، بواسطة انتفاء التکلیف ورفع القلم عنهم، مع ما فیهما من مخالفة الحکم بآبائهم، مع ما ثبت بالعقل والنقل من قبح عقابهم بجرم آبائهم. وأمّا الخبر الأوّل: أعنّی صحیحة ابن سنان، فهو وإن لم یخل عن اشعارٍ إلی الحکم بنجاستهم، حیث أطلق فیه لفظ الکفار، لکن بعد معلومیة أنّهم لیسوا بکفار حقیقةً بواسطة رفع القلم عنهم، لا دلالة فی الخبر علی عموم تنزیلهم منزلة الکفّار حتّی فی الحکم بنجاستهم فی الدنیا، بل الخبر مسوقٌ لبیان منقلبهم فی الآخرة. مضافا إلی ما فی الخبر أیضا من مخالفته مع ما دلّ علیه العقل والنقل من قیام الدلیل النقلی علی سقوط التکلیف فی الآخرة، وأنّها دارُ جزاءٍ لا دار العمل، فلا یصحّ دخولهم مداخل آبائهم بواسطة مخالفتهم للتکلیف المتوجّه الیهم


1- الفقیه، ج 3، ص 317، ح 543 وعنه فی البحار، ج 5، ص 295، ح 22.
2- سورة الطور، آیة 21.
3- الکافی، ج 3، ذیل حدیث 2، وعنه فی البحار، ج 5، ص 292، ح 9.

ص:268

فی الآخرة، وقبح عقابهم عقلاً ونقلاً بشرک آبائهم لو أدخلوا مداخل آبائهم بشرک آبائهم، ولأجل ذلک حملت تلک الأخبار علی التقیّة، قال المجلسی قدس سره فی شرحه علی «الکافی»: وفی بعض الأخبار أنّ معنی قول رسول اللّه صلی الله علیه و آله : «اللّه أعلم بما کانوا عاملین به إن کفّوا عنهم ولا تقولوا فیهم شیئا وردّوا أعلمهم إلی اللّه تعالی» قال هذا أحسن الأمور فی هذا الباب، ویکفینا القول بأن اللّه تعالی لا یظلم ولا یجور علیهم ولا یدخلهم النّار بغیر حجّة» انتهی محلّ الحاجة(1).

أقول: ولا یخفی ما فیه من الاشکال، لانّه:

أوّلاً: عَجْزنا عن فهم علّة ما ورد فی الخبر لا یوجب رفع الید عن ظاهر الحکم الذی یدلّ أو یشعر علیه، وهو کونهم کفّارا، ویترتّب علیهم أحکامهم ومنها النجاسة وغیرها، بل یجب أحالة اسباب ذلک وعلمها إلی اللّه والرسول صلی الله علیه و آله کما أشار إلیه فی آخر کلامه.

وثانیا: امکان الجواب عمّا أوردوا علیه بأن یقال لا منافاة بین هذه الأخبار مع ما جاء فی غیرها من الروایات بکون الآخرة دار جزاء لا دار عمل، إذ لا یحکم بهم فیها بالأعمال بل الوارد فی الأخبار الصحیحة غیرها _ إن قبلناها کما سنذکرها إن شاء اللّه _ أنّه لیس أمر بعمل بل هو امتحان بملاحظة حالهم باتمام الحجّة علیهم فی ادخالهم الی النّار أو الجنّة، لیسدّ علیهم سبیل الاحتجاج علی اللّه إذا عمل بعلمه عزّ وجلّ بادخالهم النّار، بأنّه لماذا أدخلنا اللّه النّار لعلّنا کنّا مطیعین لأمره کما وردت الاشارة الی ذلک فی دعاء الندبة: «ولا یقول أحدٌ لولا أرسلت الینا رسولاً منذرا، وأقمت لنا علماً هادیا فنتّبع آیاتک من قبل أن نذلّ ونخزی»، حیث یکون هذا المقطع من الدعاء مأخوذاً من قوله تعالی: «قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ».


1- مصباح الهدی، ج 1، ص 393_392.

ص:269

مع امکان أن یقال: بانّه لو کان الأمر کما تقولون، لزم منه ورود الاعتراض علی معاقبة اللّه سبحانه وتعالی لأطفال الکفار والمشرکین اللذین ورود الاشکال علی لا تکلیف لهم، ویعذّبون بجرم کفره آبائهم، فکلّ ما تجیبون عنهم هناک نجیب به فی حقّ أولادهم هنا، وعلیه فالأولی هو العمل والحکم بما هو مستفادٌ من ظاهر الخبر من الحکم بالنجاسة وترتیب آثار الکفر علیهم، وایکال الحکمة أو محلّه ذلک الیه تعالی.

وثالثا: إنّ عقوبتهم بالنّار لیس ظلماً علیهم من ناحیة اللّه تبارک وتعالی بل هو منزّه عنه، وتعالی اللّه عن ذلک عُلوّا کبیرا، بل ما یحلّ بهم مستندٌ إلی نتیجة فعل آبائهم وأمّهاتهم، وهم المسبّبون لابتلائهم بذلک مثل سببیّة الأبوین للنقص والعیب البدنی فی أولادهم، لأجل عدم رعایتهم بما لابدّ لهما من ملاحظته حال انعقاد نطفته، فالعقوبة المتوجهة إلی الأولاد إنّما هی من ناحیة الأبوین لا من ناحیة اللّه عزّ وجلّ، فیمکن أن یکون دخولهم النّار مع آبائهم عملاً بمقتضی کفرهم، ولکن لا تصیبهم عقوبة فیها لأجل رحمة اللّه لهم دون آبائهم، بل یخرجون بفضل اللّه ورحمته، وقد مثّل الامام علیه السلام فی مثل هذه القضیّة بما حلّ بأخوین أحدهما آمن بموسی والآخر کفر به، فدخل الاول النیل لیلتحق بموسی والآخر دخلیه مع جنود فرعون، قعوقبا سویة بالفرق إلاّ أن الأول نجّاه اللّه سبحانه وبقی الثانی یعاقب فی الآخر، وهکذا فی المقام.

وکیف کان، فاللّه عالم بما یفعل ولیس البحث عمّا هو خارج عن ارادتنا، بل البحث عن القواعد المنطبقة علی الکفار وأولادهم وقد ثبت أنّ الفرع کالأصل فی تلقی العقوبة لکن احدهما استحقاقاً والآخر تبعاً وسهو.

ثمّ أضاف بعده صاحب «المصباح» بقوله: «هذا کلّه مضافا إلی معارضة هذه الأخبار مع ما ورد من تأجیج النار فی القیامة، وأمر الاطفال بدخولهم فیها،

ص:270

فالممتثل منهم یدخل الجنّة، والمتخلّف منهم یکون فی النار، فعن «الخصال» عن الباقر علیه السلام ، قال: «إذا کان یوم القیامة احتجّ اللّه عزّ وجلّ علی خمسة: علی الطفل، والذی مات بین النبیین، والذی أدرک النبیّ وهو لا یعقل، والأصم والأبکم، فیبعث اللّه الیهم رسولاً فیؤجّج لهم نارا فیقول لهم: ربّکم یأمرکم أن تثبوا فیها، فمن وثب فیها کانت علیه بردا وسلاما، ومن عصی سیق إلی النّار»(1) فإنّه یدلّ علی أن أولاد الکفار لا یدخلون مداخل آبائهم، فلا یمکن الحکم علیهم بالکفر علی نحو الاطلاق» انتهی کلامه(2).

وفیه: إنّه لا معارضة مع ما سبق، بل قد یؤیّد ما ذکرناه من وجود بعض الخصوصیات فی أخبار التأجیج، مثل الخبر الصحیح أو الحسن المنقول فی «الکافی» عن هشام، عن الصادق علیه السلام ، قال: «ثلاثة یحتجّ علیهم: الأبکم والطفل ومن مات فی الفترة، فترفع لهم نار فیقال لهم ادخلوها، فمن دخلها کانت علیه بردا وسلاما، ومن أبی قال اللّه تعالی هذا قد أمرتکم فعصیتمونی»(3).

وأوضح من ذلک فی المحاجّة ما جاء فی مرفوعة سهل عن غیر واحدٍ رفعوه: «أنّه سئل عن الاطفال؟ فقال: إذا کان یوم القیامة جمعهم اللّه تعالی واجّج لهم نارا وأمرهم أن یطرحوا أنفسهم فیها، فمن کان فی علم اللّه تعالی أنّه سعیدٌ فی نفسه، کانت علیه بردا وسلاما، ومن کان فی علمه سبحانه أنّه شقی امتنع فیأمر اللّه تعالی بهم إلی النار فیقولون یا ربّنا تأمر بنا إلی النّار ولم تجر علینا القلم، فیقول الجبار: قد أمرتکم مشافهةً فلم تطیعونی، فکیف لو أرسلت رسلی بالغیب الیکم»(4).


1- الخصال، ص 283.
2- مصباح الهدی للإملی، ج 1، ص 393.
3- الکافی الفروع، ج 1، ص 249، الطبع الحدیث.
4- المصدر السابق، ص 248.

ص:271

حیث لا منافاة ولا معارضة بین الطائفتین، لأنّه یصدق علیهم أنّهم ادخلوا النّار ولکن تبدلت النّار لهم برداً وسلاماً فی نهایة المطاف، مثل ما قلنا بامکان الخروج عن النّار للاطفال دون الآباء، وکان ما جاء فی الخبر المرفوع مؤیّدا لما قلنا سابقا بکون الأمر بالدخول فی النّار لأجل اتمام الحجّة، کما لا یخفی، فلا حاجة لحمل الخبر علی التقیة کما عن الآملی قدس سره .

الدلیل علی أحکام أولاد الکفّار

بعد وضوح المناقشة الآنفة نعود إلی أصل المطلب وهو الدلیل علی نجاسة أولاد الکفار، فإنّه _ مضافا إلی الشهرة والاجماع _ قد دلّت بعض الأخبار علی تبعیّة الأولاد للآباء. فی الأحکام فی مثل الدفن ومنع التوارث والصلاة علیه، ومنع التزویج، وجواز الاسترقاق، والنجاسة، وأمّا مسألة العقوبة بالنار کآبائهم فهو أمرٌ آخر بحاجة الی توجیه آخر غیر مرتبط بالمقام، لکنّها مورد اختلاف: ذهب أهل العدل بعدم التعذیب لأنّه لغیر المکلّف قبیحٌ لانّه عقاب بلا تکلیف وبیان وهو قبیحٌ.

وذهبت الحشویّة إلی التعذیب کآبائهم، بل ویلزم ذلک علی الأشاعرة علی أصولهم من تجویزه، وإن لم یصرّحوا به.

والمختار عند المتکلمین منا هو أنّ أطفال الکفار لا یدخلون النّار، بل هم إمّا یدخلون الجنّة أو یسکنون الأعراف، وذهب أکثر المحدّثین منّا إلی ما دلّت علیه الأخبار من تکلیفهم فی القیامة بدخول النّار المؤجّجة لهم، هذا علی حسب أقوال الخاصة فی ذلک.

وأمّا العامّة: فقد حُکی الخلاف عنهم: فعن «شرح صحیح مسلم» ما لفظه علی المحکی فی «مصباح الهدی» للآملی: «اختلف العلماء فی من مات من أولاد المشرکین، فمنهم من یقول: هم تبعٌ لآبائهم فی النّار، ومنهم من یتوقف فیهم، والثالث _ وهو الصحیح الذی ذهب الیه المحقّقون _ أنّهم من أهل الجنّة، وعن

ص:272

البغوی فی «شرح السُّنة» أنّ اطفال المشرکین لا یحکم لهم بجنّةٍ ولا نار، بل أمرهم موکولٌ إلی علم اللّه فیهم، کما أفتی به رسول اللّه صلی الله علیه و آله ، ورووا عن سلمان أنّه قال: أولاد المشرکین خَدم أهل الجنّة».

نعم، نقل صاحب «الحدائق» فی الجمع بین أخبار الالحاق والتأجیج بأحد الوجهین: من حمل الثانی علی أنّ التأجیج _ الذین یدخلون النار ویطیعون وینجون _ کان للمؤمنین، والممتنعون للکفار فیدخلون النار ولا ینجون.

وأمّا بحمل الثانی علی غیر أطفال المؤمنین والکفار، بل هم أولاد المسلمین من جهة تقسیم الأولاد علی ثلاثة أقسام: قسمٌ للجنّة هم أولاد المؤمنین وقسم للنّار هم أولاد المشرکین، ولا تنصب لهذین الطائفتین دیوان، بل هم یساقون إلی الجنّة أو إلی النّار ملحقا بآبائهم، وثالثة وهم أولاد المسلمین، وهم الذین یقفون للحساب، وتنشر لهم الدواوین، وتنصب لهم الموازین، فهولاء الذین تأجّج لأولادهم النّار.

واختاره صاحب «الحدائق» وأیّده بتصریح أخبار الالحاق فی المؤمنین والکافرین والاجمال فی أخبار التأجیج بالاطفال بقول مطلق، فیحمل علی هذا الفرد الذی ذکرناه. وممّا یؤکّده قول صاحب «الکافی» بعد نقل خبر التأجیج المتضمّن للأطفال بقول مطلق، قال: «وفی حدیثٍ آخر «أمّا اطفال المؤمنین وأولاد المشرکین» فإنّ ذلک ایماء إلی أن خبر التأجیج إنّما هو لغیر أطفال المؤمنین والمشرکین، وهم اطفال المسلمین اللذین هم أصحاب الحساب».

وأما جمع صاحب «الوافی» بین الأخبار بحمل أخبار اللّحوق علی البرزخ وأخبار التأجیج علی یوم القیامة، فالظاهر بُعده، إلی آخر کلامه) انتهی محلّ الحاجة(1).

وفی «مصباح الهدی» بعد نقل الأقوال والأخبار، وذکر أنّ أطفال المشرکین هم


1- الحدائق، ج 5، ص 200_199.

ص:273

خَدم أهل الجنّة کما روی عن بعض أصحابنا فی تفسیر قوله تعالی: «یَطُوفُ عَلَیْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ» عن أمیرالمؤمنین علیه السلام أنّه قال: «الولدان أولاد أهل الدنیا لم یکن لهم حسنات یثابون علیها ولا سیّئات فیعاقبون علیها فانزلوا هذه المنزلة»، وعن النبی صلی الله علیه و آله : «أنّه سُئل عن أطفال المشرکین؟ فقال صلی الله علیه و آله : خدم أهل الجنّة علی صورة الولدان، خُلقوا لخدمة أهل الجنّة، قال».

فالأصوب حینئذٍ التوقف وایکال علمه إلی اللّه تعالی ورسوله وأولیائه.

ثمّ قال: فقد تحصّل من جمیع ذلک عدم امکان الحکم بنجاستهم من ناحیة ما ذُکر من الأخبار المتقدّمة بما لا مزید علیه) انتهی کلامه رفع مقامه(1).

أقول: لکن قد عرفت امکان استفادة حکم التبعیّة من الأخبار کسائر الأحکام، ومسألة الالحاق والتأجیج یعدّ أمرا آخر غیر مرتبط بما نحن بصدده، مع أنّک قد عرفت امکان تصحیحه بما لا ینافی مع حکم العقل بأن لا یعذّبهم بعد الدخول فی النّار ویجعل خَدَم أهل الجنة من أولاد المشرکین فقط أو مطلقا علی حسب الاطلاق فی روایة أمیرالمؤمنین علیه السلام لو لم یقیّد اطلاقه بروایة رسول اللّه صلی الله علیه و آله ، واللّه العالم.

وأیضاً: استدلّ علی النجاسة بتنقیح المناط عند أهل الشرع حیث أنّهم یتعدّون من النجاسة الذاتیة للأبوین إلی المتولّد منهما، وهذا أمرٌ مرکوز فی أذهانهم بل جعله الشیخ الأعظم الأنصاری قدس سره هو عمدة ما یستفاد منه الحکم بنجاستهم.

ولکنّه قد نوقش فیه بما فی «مصباح الهدی» من المنع عنه بقوله: «لم یثبت ارتکاز الاذهان فی تعدّی الحکم إلی الأولاد من آبائهم بعد فرض عدم اشتراک الأولاد مع آبائهم فی علّة الحکم، ولو سُلّم فلعله ناشٍ عن استفادة التبعیة بما استدلّ علیها، ولو سلّم تحققه مع قطع النظر عن دلالة ما یدلّ علیها، فلا دلیل علی


1- مصباح الهدی، ج 1، ص 395.

ص:274

صحّة الاقتضاء به وجواز الحکم علی طبقة» انتهی.

أقول: إنّه غیر وارد إذ المرتکز فی الأذهان تبعیّة الأولاد لآبائهم من حیث الطهارة والنجاسة، ولعلّه لهذا ولغیره یحکم بنجاسة المتولّد من الکلب والخنزیر، وإن سلّمنا التفاوت بین أولاد الکفّار وجرو الکلب فی انطباق الاسم علی الثانی فی أنّه کلب، بخلاف الأوّل علی مذاق الخصم، وعلیه فالتبعیّة مضافا الی دلالة الأخبار علیها تعدّ أمرا ارتکازیا عرفیا کما علیه الشیخ الأکبر قدس سره ، وعلیه فتقبیح المناط یعدّ مستنداً جیّدا.

بقی هنا حکم الاستصحاب الذی قد تمسّک به بعضٌ لاثبات نجاسة الأولاد بتقریر ما قیل فی ولد الکلب والخنزیر، بأن یقال: إنّه لا اشکال فی نجاسته إذا کان علقه أو مضغةً، لکونهما جزءٌ من بدن نجس العین، فبعد صیرورته انسانا یشک فی بقائها فیستصحب.

ولکن استشکل علیه: بأنّه هنا غیر جارٍ لتبدّل الموضوع قطعا، إذ العرف لا یراه الاّ انساناً لا علقة أو مضغة، مع أنّه لایقین علی نجاسة المضغة والعلقة حث لا یعدّهما العرف جزءا من بدنه، بل هو شیء کان الرحم وعائها.

اللّهمّ إلاّ أن یحکم بنجاستها بلحاظ أصل النطفة، حیث أنّها من المنی وهو نجس.

هذا، ولکن خروجه عنه وصیرورته علقةً، یوجب خروجه عن النجاسة بالاستحالة، ولا أقلّ من الشک فیوجب الشّک فی النجاسة لکونه شکا فی المقتضی، فلا یمکن استصحابه لعدم احراز الموضوع السابق حینئذٍ حتّی یستصحب، وعلیه فاجراء مثل هذا الاستصحاب لا یخلو عن شبهة، واللّه العالم.

وأیضاً: التمسّک بقوله تعالی _ نقلاً عن نوح النبی علیه السلام _ «وَلاَ یَلِدُوا إِلاَّ فَاجِرا کَفَّارا» حیث قد استدلّ به بعض الحشویّة علی نجاستهم، کما تمسّک بعض علی خلافهم بروایة النبوی9: «کلّ مولودٍ یولد علی الفطرة فإنّ أبواه

ص:275

یهوّدانه وینصّرانه»(1).

موهونٌ، لوضوح أنّ المراد من الآیة مع التقدیر وأنّ المراد أنّهم یصیرون کذلک بعد کبرهم وبلوغهم لا باعتبار طفولیّتهم، کما أنّ المراد من الروایة بیان حقیقة الفطرة الصادقة النقیّة الصحیحة، وأن الاعوجاج والکذب والخیانة إنّما یکتسبها الولد عن أبویه وعن غیرهما، فالآیة غیر ناظرة إلی جهة الطهارة والنجاسة کما لا یخفی، کما لا اشارة فی الروایة إلی حریّة ولد العبد حتّی نجعل الروایة معارضةً لأخبار الاسترقاق.

فروع أحکام الکفّار

الفرع الأوّل: لو تولّد ولد من الکافرین بنکاحٍ غیر صحیحٍ بحسب دینه أو مذهبنا وکان مولودا من الزنا عنده أو عندنا، فهل یحکم بنجاسته أم لا؟

أقول: إن کان الدلیل لنجاسته هو الاجماع فقط، فربما لا یجری فی مثله لأنّه دلیل لبّی یقتصر فیه علی مورد الیقین وهو المتولّد من النکاح الصحیح عندهم أو عندنا، فالمرجع حینئذٍ إلی سائر الأصول والعمومات.

وأمّا إن کان الدلیل هو الأخبار وتنقیح المناط، فإنّه یلحق بأبویه، وهو الأوجه لصدق التبعیّة فی حقّه، بل أولی عند العرف، ویجری علیه حکمه لأنّه ولده حقیقةً حتّی یأتی الدلیل علی خلافه، فعلیه یحکم بنجاسته، کما لا یبعد الحکم بجواز استرقاقه ما لم یدلّ الدلیل علی خلافه من عدم جوازه إلاّ فیما یقطع کونه کذلک، فلازمه عدم جوازه.

الفرع الثانی: لا یحکم بنجاسة المتولّد ممّن یکون أحد أبویه مسلما لتبعیته لأشرفهما حینئذٍ، بل یلحق به، وذلک بمقتضی الأخبار والاجماع علیه، ومن


1- أصول الکافی، ج 2، ص 13.

ص:276

الأخبار ما ورد عن رسول اللّه صلی الله علیه و آله : «الاسلام یعلو ولا یُعلی علیه»(1).

الفرع الثالث: ثبت أنّ التبعیة تکون لمن انعقدت نطفته فی حال کفر والدیه، وبقیا علی کفرهما الی حین بلوغ الولد، وأمّا لو فرض أنّه حال الانعقاد کان کذلک ولکن أسلم أحد ابویه أو کلیهما بعده، فیلحق الولد بمن أسلم منهما ولو أحدهما، سواءٌ کان اسلامهما قبل ولادته أو بعدها قبل بلوغه، کما صرّح به غیر واحدٍ من الأصحاب لما عرفت بأنّ: «الاسلام یعلوا ولا یعلی علیه».

الفرع الرابع: فی أنّ التبعیّة الثابتة لولد الکافر هل هو ثابتٌ له اذا استقلّ الولد وانفرد ولحق بدار الاسلام وخالط المسلمین، أو یخرج عن تبعیته العرفیة لهما بمجرد بواسطة استقلاله ودخوله ولحوقه بالمسلمین، خصوصا مع تدیّنه فی الظاهر بدین الاسلام فیه وجهان: من جهة أنّ الولد لم یبلغ حدّ البلوغ یکون عرفا تابعا، ویترتّب علیه أثر التبعیته، فمجرّد سکناه عند المسلمین واستقلاله وانفراده لایوجب الخروج عن التبعیة.

ومن ناحیة أنّ العرف لا یعدّه تابعا لوالدیه، خصوصا إذا کان الدلیل علی التبعیة هو الاجماع والسیرة اللابیّین، حیث یقتصر فیهما علی القدر المتیقن وهو غیر هذه الصورة.

وقد مال الی الثانی صاحب «مصباح الفقیه» مستدلاً بما عرفت من خروجه عن القدر المتیقن، خصوصا إذا قلنا بشرعیة عبادة الصبی، فقال: «لا ینبغی الاستشکال فی طهارته، اللّهمّ أن ینعقد الاجماع علی بقاء أثر التبعیة ما لم یبلغ وإن خرج من حدّها عرفا، وهو بعیدٌ خصوصا مع عدم تعرّض الأصحاب لحکم هذا الفرع» انتهی کلامه(2).

أقول: الانصاف ترجیح الأوّل، لأنّ التبعیة بعد ثبوتها لا تزول إلاّ بالدلیل، وهو


1- مصباح الفقیه، ج 7، ص 262.
2- وسائل الشیعة: الباب 15 من أبواب میراث الأبوین والأولاد، الحدیث 7.

ص:277

مفقود إلاّ بعد البلوغ والاقرار أو تحقّق الاسلام لأحد أبویه، حیث یخرج عن الکفر إلی الاسلام بسبب التبعیة أیضا، وعلیه فمجرّد استقلاله وانفراده فی حیاته وعیشه أو کونه ساکناً بین المسلمین لا یوجب صدق الخروج عنها، خصوصا علی مسلکنا من أنّ الدلیل علی التبیعة غیر الاجماع والسیرة، وعلیه فنجاسته تکون باقیة علی الأقوی، واللّه العالم.

الفرع الخامس: إنّ ولد الکافر کافر ما لم یسلم أحد أبویه، وإلاّ فالولد تابع للمسلم فیشمله دلیل التبعیّته، مثل خبر حفص بن غیاث فی قوله علیه السلام : «اسلامه اسلامٌ لنفسه ولولده الصغار وهم أحرار»(1).

بل وفحوی ما دلّ علی تبعیّة الولد لأشرف أبویه فی الحرّیة والرقیّة. فبملاحظة أنّ ملاک الحرّیة أشرف یستظهر تبعیته للمسلم أیضا، کما ورد التصریح بها فی الحدیث الذی نقله الصدوق عن الصادق علیه السلام : «الاسلام یعلو ولا یُعلی علیه»(2) إذ الکافر فی معرض الرقیة، هذا إذا کان الولد مولوداً شرعیاً من غیر السفاح فحکمه ظاهر، کما انّه مثله ما لو کان مولوداً عن الزنا مع الکافر فهو ملحق بالمسلم أیضاً عن فیشمله دلیل التبعیة، لما قد عرفت بأنّه لا یخرج عن کونه ولده حقیقة وعرفا، لأن تکوّنه ونشأته منه وکان مَحْرما، ونفی الولدیة شرعا لا یوجب خروجه عن الولدیة، کما لا یخرجه ذلک، عن النجاسة والتبعیة لأنّ دلیل نفی الولد شرعا ناظرٌ إلی منّة الشارع علی الولد لترتب الآثار علی عدم نفیه کالتوریث دون غیره من الأمور کالنجاسة. وعلیه فدلیل النفی لایشمل الزنا الصادر من ناحیة الکافر.

وأمّا لو کان الزنا من طرف المسلم، ففی الحکم بطهارته اشکالٌ لسلبه عن


1- وسائل الشیعة: الباب 43 من أبواب جهاد العدو وما یناسبه ، الحدیث 1.
2- وسائل الشیعة: الباب 15 من أبواب میراث الأبوین و الأولاد، الحدیث 2.

ص:278

المسلم المتولّد عن الزنا فیلحق بالکافر، ولذلک جزم بکفره صاحب «کشف الغطاء»، ولکن السّید فی «العروة» مال الی الحکم بتبعیته للمسلم الزانی، قال: «علی وجهٍ مطابق لأصل الطهارة».

قلنا: إن کان الدلیل علی التبعیة هو الاجماع والسیرة _ کما علیه صاحب «الجواهر» والآملی _ فهما جاریان فی غیر هذه الصورة، لأن المتیقن منه هو الکفر من الطرفین، ومع اسلام أحد الطرفین یشمله الدلیل، وعلیه فلا اجماع علی النجاسة ولو کان الطرف المسلم زانیا، وحینئذٍ المرجع إلی الأصل الجاری فی الانسان عند الشک فیه وهو الطهارة.

وأمّا لو کان الدلیل علی التبعیة الأخبار _ کما علیه صاحب «الحدائق» وهو مختارنا _ فاطلاق الدلیل یشمل المورد أیضا، إلاّ أنّه یمکن مع ذلک أن یقال: حیث إنّ دلیل نفی الولد شرعا فی الزنا ناظرٌ إلی خصوص الارث لا مطلقا حتّی یشمل مثل جواز النظر والنفقة ونحو ذلک، لأنّ هذه الأمور تترتب علی من یعدّ ولداً حقیقة وعرفا، فعلیه لا یبعد أن یقال إنّ دلیل التبعیة الی الأشرف مثل الاسلام یعدّ حاکما علی تبعیته للکافر، لأءنّ التعلیل بأنّ: «الاسلام یعلو ولایعلی علیه» منطبق علیه ویلحقه بالمسلم هنا، مضافا إلی کونه مطابق للأصل وموافق للدلیل أیضا کما لا یخفی.

الفرع السادس: فی حکم ولد الکافر اذا سباه المسلم منفردا لا مع والدیه أو مع أحدهما، فهل یوجب السبی طهارته أم لا؟ فیه خلاف: المستظهر من کلمات الأصحاب هو الأوّل کالشیخ تبعا لکاشف الغطاء، ونسبه الیهم فی «شرح المفاتیح»، بل عن «اللّوامع» نقلاً عن بعض الأصحاب دعوی نفی الخلاف فیه.

وعن جماعة منهم صاحب «الحدائق» بقائه علی النجاسة، ومال الیه الشهید الثانی فی «المسالک» وصاحب «المعالم» فی بحث الجهاد، وتردّد فیه الشهید

ص:279

الأوّل فی «الذکری»، وکذلک صاحب «مصباح الفقیه» حیث قال: «لو لا التبعیة وإن کان مقتضی الأصل فیه النجاسة، لکن اثبات الاجماع بالنسبة إلی الفرع المسکوت عنه بمثل هذه الاستظهارات لا یخلو عن اشکال»، وهکذا قال صاحب «مصباح الهدی» وإن کان ظهور کلامه دالاً علی میله ببقاء النجاسة.

وقد استدلوا لاثبات النجاسة بأمور:

الأول: استصحاب نجاسته الثابتة قبل السبی.

وثانیا: بأن ازالة النجاسة بعد ثبوتها تحتاج إلی مزیل هو مفقود، إذ لم یثبت دلیل یدلّ علیه، ولذلک لم یُعدّ السبی من المطهرات.

وثالثا: وبالسیرة القطعیة علی معاملتهم معاملة المسلمین من حیث الطهارة، المستدلّ بذلک هو الشیخ الأکبر تبعا لصاحب «کشف الغطاء».

ورابعا: بالحرج الشدید فی لزوم الاجتناب عنه لمخالطته مع سابیه وصیرورته من أهل بیته.

ولکن ناقش الآملی رحمه الله فی کلّها، وقال: «والکلّ مخدوش».

أمّا الاستصحاب: فلتلک فی بقائه إذا استند فیها إلی الاجماع، إذ لم یعلم من المجمعین کون المحکوم بالنجاسة عندهم هو نفس ولد الکافر بما هو ولده، أو هو بما هو تابع لأبویه، ومع الشک فی ذلک یکون الموضوع مشکوک البقاء، اللّهمّ الاّ أن یکون لمعقد اجماعهم اطلاق حتّی یثبت حکم الموضوع بعد ارتفاع دلیل حکمه وهو الاجماع بالاستصحاب، والقطع بارتفاعه إذا استند فی نجاسته إلی التبعیّة الارتکازیة.

وفیه: مالا یخفی لأنّ التبعیّة هنا لو ثبتت کان لأجل الولادة دون غیرها، لأن العرف یحکم بذلک فی کلّ مورد إلاّ أن یثبت التبعیته بالدلیل لغیر ذلک، فالاشکال فیه لا یکون من جهة الشک فی أصل الموضوع حتّی لا یجری فیه الاستصحاب،

ص:280

بل ربّما یتوهّم أن یکون الاشکال فی الاستصحاب من جهة احتمال وجود الشک فی المقتضی، کما أشار الیه صاحب «مصباح الفقیه»، لأنّا لا نعلم هل التبعیة تبقی مع السبی، أی هل تقتضی التبعیّة بعده الحاقه بأبویه، أو هو باق ما لم یحصل السّبی؟.

أقول: ولکن الانصاف أنّ السبی لو ثبت یکون حکمه حکم الشک فی المزیل والرافع للتبعیّة، لا من قبیل الشک فی المقتضی، وعلیه فالاستصحاب هنا یجری لو ثبت أصل النجاسة فی التبعیة، نعم یجری الاشکال فیه من ناحیة أخری، وهو أنّه لو کانت التبعیة الموجبة للنجاسة ثابتة بالاجماع لا بدلیلٍ آخر، فلازمه عدم ثبوت النجاسة فیما لا اجماع فیه، وهو ولد الکافر بعد السبی، فالانتفاء یکون قطعیا بواسطة انتفاء دلیله، فلا یبقی مورد للشک فیه حتّی یتمسّک بالاستصحاب فی البقاء.

ثمّ أورد علی الدلیل الثانی: بأنّ عدم ثبوت مزیلیّة السبی إنّما هو لنجاسته، لأنّ الحاجة إلی المزیل إنّما هو فی رفع النجاسة عن محلّها مع بقاء المحلّ علی ما هو علیه، لا فی ارتفاعها بارتفاع المحلّ کما فی المقام.

والجواب عنه: یظهر من الجواب الذی ذکرناه فی التبعیة، بأنّها ثابتة عرفا بالولادة، ولا تزیل إلاّ بقیام الدلیل علی خلافه، حتّی لو کان الدلیل لبّیا مثل الاجماع أو السیرة أو غیرها فضلاً عمّا لو کان لفظیا.

فثبت من جمیع ما ذکرنا: أنّ النجاسة الحاصلة بالتبعیة ثابتة لولد الکافر المسبّی، فلابدّ لاثبات خروجه عنها من دلیل وهو هنا لیس إلاّ السیرة القطعیة الجاریة بین الأصحاب علی التعامل معه معاملة المسلمین، حیث یستظهر منه أنّ سبیه منفرداً موجب لجریان حکم الطهارة فی حقّ الولد، وخروجه عن تبعیة والدیه، وهو لا یخلو عن وجه وقوّة، لأنّ السیرة بین المتشرعین والمتدینین لا یمکن تحققها من دون وجود أصل شرعی عندهم، إذ لا یمکن قبول ذلک من

ص:281

أصحابنا الامامیّة مع بنائهم علی الاحتیاط واعتقادهم علی التعبّد بما ورد عن المعصوم، أن یتعبّدوا بما لا أصل شرعی له أصلاً، فمن ذلک ننتقل الی أنّه لا یبعد أن یکون وجه حکمهم وقوفهم علی الصادر قولاً أو فعلاً أو تقریرا عن المعصوم علیه السلام ، لکنه لم یصل الینا لأسباب عدیدة منها ظلم الظالمین والطواغیت، وعلیه فنحن نتّبع فی هذا الحکم الشیخ الأکبر تبعا لکاشف الغطاء، واللّه العالم هذا کلّه إذا سُبی منفردا.

وأمّا إذا سبی مع أبویه، فالمحکی عن جماعةٍ کالشیخ والشهید والقاضی هو الحکم بنجاسته، بل عن «شرح الروضة» دعوی نفی الخلاف فیه، واستدلّ له: 1. باستصحاب التبعیّة الی أن یثبت الرافع وهو مفقود هنا، بل السیرة والاجماع قاتمین علی بقاء نجاسته، کما أنّ الملکیة لا تکون رافعة، کما إذا زوج المسلم عبده الکافر مع أمّته الکافرة، حیث أنّ المتولد منهما یتبعهما فی النجاسة مع انّه مملوک لمالکه.

2. وبعموم حدیث فضل بن عثمان الأعور، عن الصادق علیه السلام : «ما من مولود یولد الاّ علی الفطرة فأبواه اللّذان یهوّدانه وینصّرانه ویمحّبسّانه، الحدیث»(1).

حیث حکم علیه الخبر بالیهودیّة وأخواتها بتبع والدیه، فتکون الصفة باقیة له ما لم یعرض علیه عارض یوجب زوالها.

ولکن قد نوقش فیه: کما عن الآملی رحمه الله فی «المصباح» بأنّه لا یخلو عن منع، حیث لا دلالة فیه علی التبعیة، ومع احراز التبعیة لا حاجة الی التمسّک بالنبوی، مع أنّ المروی فی بعض الکتب: «حتّی یکون أبواة یهوّدانه» الظاهر فی بقائه علی فطرته إلی أن یضلّه أبواه، فلا علاقة له بترتّب حکم النجاسة علیه بمقتضی التبعیة، هذا.

ولکن یمکن أن یقال فی وجه المناقشة ببیان واضح: إنّ الروایة لیست فی


1- وسائل الشیعة: الباب 48 من أبواب جهاد العدو ما یناسبه ، الحدیث 3.

ص:282

صدد بیان حکم التهوّد حتّی یترتّب علیه حکم النجاسة، والشاهد علیه أنّه لو لم تکن التبعیة ثابتة من دلیل آخر، لا تکون الروایة دلیلاً علی التبعیة والنجاسة، بل الروایة تکون فی صدد اثبات حکم الفطرة واثباته إلی أن یخرج عنها، سواءٌ ترتبت علیه النجاسة أم لا، وإذا ثبتت التبعیة بواسطة التهوّد، فهی تکون ثابتة بأمر خارجٍ عن مدلول الروایة کما لا یخفی.

وعلیه، فإذا کانت نجاسته باقیة مع السبی مع أبویه، فلا یحکم علیه باسلامه بالسبی مع أبویه، إلاّ أن یسلم أحد أبویه.

ومنه یظهر حکم ما لو سبی مع أحد أبویه فالاستصحاب باق، ویحکم بنجاسته، وحکی عن بعض تبعیته للسابی، مستدلاً بمفهوم النبوی المتقدّم، فإنّ مدلوله هو الحکم بکفره بتبعیّته لأبویه، فیدلّ علی نفی الکفر عنه إذا کان تابعا لأحدهما.

ولا یخفی ما فیه من الضعف، لما عرفت فی أصل الحدیث وهذا فرعه، مع أنّه لو سلّمنا دلالته علی النجاسة، یمکن أن یناقش فیه بضعف دلالته علی لزوم الجمع والمعیّة فی الأبوین للتعبیة، لأنّه اشارة إلی کون السبب للالحاق هو الوالدین سواءٌکانا معا کذلک أو أحدهما، فاثبات الطهارة وفقد التبعیة فی النجاسة عن مفهوم هذاالحدیث مشکلٌ جدّا، فاستصحاب بقاء النجاسة حاکم هنا کما علیه جماعة من الأصحاب.

الفرع السابع: فی حکم لقیط دار الکفر، فهل یحکم بنجاسته بمجرّد سبیه، لکونه فی دار الکفر أم لا؟ فیه خلاف:

1. نقل عن الشیخ أنّه فصّل فی المسألة حیث قال بالطهارة إذا وجد فی دار الاسلام أو دار کفرٍ استوطنها المسلم ولو کان أسیرا فحکم باسلامه مستدلاً بالخبر المروی: «أنّ الاسلام یعلو ولا یعلی علیه»، ولکن لو وجد فی دار کفر دخلها المسلم لا بعنوان الاستیطان بل للتجارة مثلاً، فذکر فیه وجهین: الاسلام لغلبة

ص:283

جانبه، وعدمه لأنّ الدار دار الکفر.

2. خلافا لسائر الأصحاب حیث فصّلوا بنوع آخر وهو أنّه یحکم بالاسلام والطهارة إنّ احتمل تولّده من المسلم، سواءٌ استوطن أم لا، وإلاّ حکم علیه بالنجاسة والکفر، لأنّ عند الشک فی النجاسة والطهارة الأصل هو الطهارة، واحتمال کونه من المسلم یوجب الشک واجراء حکم الأصل وهو الطهارة، وعلیه فالتفصیل الذی ذکره الشیخ لا أثر له، لما قد عرفت أنّ الملاک هو امکان تولّده من المسلم، سواءٌ للاستیطان أو لغیره.

اللّهمّ إلاّ أن یراد أنّ الغالب فی المسلم الذی یأتی للتجارة هو عدم تحقّق التوالد فیه، فیرجع ذلک بالحقیقة إلی عدم تحقّق الاحتمال الموجب للشک حتّی یحکم بالطهارة، فحینئذٍ لا یصیر الشیخ مخالفا للأصحاب.

وکیف کان، فالظاهر أنّ الحکم هو الطهارة مع وجود الاحتمال کما عرفت.

وأمّا أحکام الاسلام: ففی طهارة الشیخ الأکبر رحمه الله : «إنّ ما کان الاسلام شرطاً فیه فلا یحکم به»، ولعلّه أراد بأن الشرط لابدّ من احرازه، والأصل عدمه، بخلاف ما لو کان مانعا حیث أنّ الأصل عدمه فیثبت الحکم.

أقول: هذا کلام جیّد لو لم یکن الغالب فیها المسلمین کما فی «مصباح الفقیه»، ولکن هذا لا یعدّ نقضا للشیخ، لأنّ مرجع کلامه الی عدم شک فی الغلبة، ورأی الشیخ هو مع الشک فی الاسلام، فلابدّ من ملاحظة حال الاسلام شرطا لا مانعا، وبذلک یثبت أن فکلامه فی غایة المتانة، واللّه العالم.

أقول: ذکر صاحب «الجواهر» هنا فرعا آخر مرتبطا بولد الکافر، وهو أنّه لو جُنّ بعد بلوغه عاقلاً فی فسحة النظر، ففی طهارته وجهان: أقواهما طهارته، ولکن یظهر من کلامه أنّه لو جنّ قبل البلوغ أو بعده قبل فسحة النظر، لا یخرج

ص:284

ضابطة من خرج عن الاسلام أو من انتحله، جَحْدُ ما یُعلم من الدین ضرورةً کالخوارج والغُلاة (1)

عن النجاسة، لبقاء التبعیّة، لما قد عرفت أنّ التبعیة إذا ثبتت تبقی حتّی تتقطع بمزیل، وهو لیس الاّ بالاقرار بعد البلوغ عاقلاً، أو بالسبی إن قلنا به فی المسلم أو الالحاق بمسلمٍ فی لقیط دار الاسلام أو دار الکفر، مع وجود احتمال کونه منه أو نحو ذلک، فمع فقد أحد هذه الأمور یحکم ببقاء التبعیة فیلحق بالکافر.

وبقی هنا حکم فردٍ وهو المشکوک حاله، وهو ما ذکره صاحب «الجواهر» ألحقه بالمسلم وحکم بطهارته تمسکا بالأصل _ وهو اصالة الطهارة فی الانسان المشکوک، بل أدلّة الطهارة بعمومها _ حیث لا یعارضها التبعیّة لانقطاعها بالبلوغ عاقلاً مع فسحة النظر، فلا یجری هنا استصحاب التبعیّة للقطع بالانقطاع، بل لعلّ هنا مجری استصحاب الطهارة بناءً علی حصولها مع فسحة النظر کما هو الأقوی عند صاحب «الجواهر»، بناءً علی انّه لا یصدق علیه الکافر بنفسه لو لا التبعیة، وقد عرفت فقدها بالبلوغ المذکور. وعلیه فما ذکره صاحب «الجواهر» تامٌ مطابقٌ للقواعد والاصول.

البحث عن تحدید عنوان الکافر

(1) یقع البحث هنا عن تحدید الکافر وتعریفه، فما ورد فی المتن هو الذی مذکور فی «الارشاد» و«الدورس» و«الذکری» و«البیان» و«الروض» و«الروضة»، بل لا أجد فیه خلافا علی ما فی «الجواهر»، وتحقق المسألة یحتاج الی توضیحٍ حتّی ینکشف ما هو الموجب للکفر عمّا لا یوجب، فنقول ومن اللّه الاستعانة: الکفر تارة یلاحظ من حیث اللّغة، وأخری من حیث المصطلح علیه فی الشرع والمتشرعة.

ص:285

فأمّا الأوّل: فالکفر عبارة عن الجَحد والانکار ضد الایمان علی ما فی «مصباح الفقیه»، وعلیه لا یطلق علی الشاک فی اللّه تعالی، أو فی وحدانیته، أو فی رسالة الرسول صلی الله علیه و آله ما لم یجحد شیئا منها کافرا لغةً هذا بخلاف ما هو المصطلح علیه فی عرف الشارع والمتشرعة، فإنّه یصدق علی الشاک فی مثل هذه الأمور کافرا کما یظهر ذلک لمن تدبّر فی النصوص والفتاوی.

نعم، قد یظهر من بعض النصوص اناطة الکفر بالجحود:

1. روایة محمد بن مسلم، قال: «کنت عند أبی عبداللّه علیه السلام جالسا عن یساره وزرارة عن یمینه، فدخل علیه أبو بصیر، فقال یا أبا عبداللّه علیه السلام ما تقول فی من شک فی اللّه تعالی؟ قال کافر یا أبا محمد. قال: فشکّ فی رسول اللّه صلی الله علیه و آله ؟ قال: کافر، ثمّ التفت الی زرارة فقال: إنّما یکفی اذا جَحَد(1).

2. وفی روایة أخری(2): «لو أنّ العباد إذا جهلوا وقفوا ولم یجحدوا لم یکفروا»(3).

أقول: لا یبعد أن یکون المراد منهم هم الناس المعروفین بالاسلام والمقرّین بالشهادتین إذا عرض لهم الشکوک والشبهات الناشتة عن جهالتهم، فإنّهم لا یخرجون عن زمرة المسلمین بمجرد الشک ما لم یجحدوا ذلک الشیء، حتی لو رتّبوا آثار الشک فی مقام العمل بأن ترکوا اقامة الصلاة والصوم وغیرهما، لا بأن یکون المراد عن من لم یتدیّن بدین الاسلام، ولم یلتزم بشیء من شرائعه، معتذرا بجهله حال الشک، فهو ممّن لا یصدق علیه الکافر.

بل لا ینبغی الارتیاب فی أنّ الملاحدة وغیرهم من صنوف الکفار لا یخرجون


1- وسائل الشیعة: الباب 40 من أبواب حدّ المرتد، الحدیث 56.
2- الکافی، ج 2، ص 399 کتاب الایمان والکفر باب الشک، الحدیث 3.
3- کافی، ج 2، ص 388، کتاب الایمان والکفر، باب الکفر، الحدیث 19؛ وسائل الشیعة: الباب 2 ، الحدیث 8.

ص:286

من الکفر إلاّ بالاقرار بالشهادتین والتدیّن بشریعة الاسلام علی سبیل الاجمال.

نعم، یقع البحث حینئذٍ فی أنّه: هل یکفی الاقرار والتدیّن الصوری فی ترتیب آثار الاسلام علیه، من جواز المخالطة والمناکحة والتوارث، أم یعتبر الاقرار والحقیقی ومطابقته للاعتقاد، بحیث لو علم نفاقه وعدم اعتقاده حُکم بکفره، ولم یترتّب علیه آثار الاسلام، بخلاف مالو لم یعلم حیث یُحکم باسلامه ظاهرا؟ وجهان: الأقوی هو الأوّل کما یشهد لذلک ملاحظة معاشرة النبی صلی الله علیه و آله فی صدر الاسلام مع المنافقین المظهرین للاسلام مع عمله صلی الله علیه و آله بنفاقهم، مضافا الی وجود جملة من الأخبار الدالّة علی أنّ مجرد اظهار الشهادتین والاقرار بهما یکفی فی الاسلام الذی یحقن به الدماء وتجری علیه المواریث من غیر اناطته بکونه ناشئا عن اعتقاده والقلبی. نعم یعتبر ذلک فی الایمان الذی یفوز به الفائزون، وهو أخصّ من الاسلام، حتّی قد ورد فی بعض الأخبار من تشبیه الاسلام بمسجد الحرام والایمان بالکعبة، حیث کلّ من دخل الثانی دخل فی الأوّل قطعا دون عکسه، کما أشار إلی ذلک کلام اللّه عزّوجلّ فی القرآن حیث قال: «قَالَتِ الاْءَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَکِن قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا یَدْخُلِ الاْءِیمَانُ فِی قُلُوبِکُمْ»(1)، هذا مضافا إلی الأخبار الکثیرة الدالّة علی اسلام المخالفین المنکرین للولایة، بل جملة منها مصرّحة بذلک، بل قد یؤیّد ذلک قیام السیرة المستمرة من زمان حدوث الخلاف إلی یومنا هذا علی المعاملة معهم معاملة المسلمین، بل المتأمل فی الأخبار المسومة لبیان الآثار العملیة المتفرعة علی الاسلام مثل حَلّ ذبیحة المسلم، وطهارة ما فی أیدی المسلمین وأسواقهم من الجلود وغیرها، لا یُبقی شک فی أنّ المراد من المسلم ما یعمّ مثل المخالفین والمنکرین للولایة. وما یری فی الأخبار المستفیضة بل المتواترة ممّا یدلّ علی کفر جاحد الولایة، حتّی لو وجب ذهاب


1- سورة الحجرات، آیة 140.

ص:287

بعض الفقهاء کملا محمّد صالح المازندرانی صاحب «شرح أصول الکافی» وصاحب «الحدائق» ومیل صاحب «الجواهر» إلی کفرهم، فإنّه محمول علی ما لا ینافی اسلامهم الظاهری المترتّب علیه الآثار العملیة، فلابدّ من الالتزام فی الجمع بین الطائفتین هو الالتزام بکفرهم حقیقةً واسلامهم حکما وظاهرا، وبه یتم المدّعی، لأنّا لم نرد اثبات اسلامهم إلاّ لترتب الآثار العملیة لهم، والاّ لم یکن لاسلامهم فی الآخرة لغیر قاصریهم لهم نصیب.

أو یقال بتقریب آخر: بأن یلزم لهم مرتبة من الکفر لا یترتب علیه آثارها العملیّة، فإنّ للکفر أیضا مراتب أدناها انکار حکمٍ من أحکام الشرعیة اثباتا أو نفیا، فیصحّ لمن أنکر حکما من أحکام الدین نسبة الخروج من الدین، والکفر بشریعة سیّد المرسلین، لأنّ الشریعة اسمٌ للمجموع من حیث المجموع، وهو واضح، وما ذکرناه هنا من التفصیل فی بیان المسألة مطابق لما أورده المحقّق الهمدانی فی «مصباح الفقیه»(1) فراجع تفصیله هناک.

وبالجملة: من ملاحظة من یصدق علیه الکافر من المنکرین، فإنّه لا اشکال ولا خلاف فی نجاسة منکر الألوهیّة، لقیام الاجماع فیه وکونهم أسوء حالاً من المشرکین، کما لا اشکال فی نجاسة منکری التوحید لکونهم هم المتیقن من معاقد الاجماعات، کما لا اشکال فی نجاسة منکری الرسالة وهم أکثرهم من الیهود والنصاری والمجوس الذین ورد النص فیهم بنجاستهم، کما عرفت منا سابقا تفصیل المسألة.

حکم منکر ضروری الدین

بقی هنا حکم من أنکر ضروریا من ضروریات الدین أو المذهب، وهو ینقسم


1- مصباح الفقیه، ج 7، ص 268 الی 265.

ص:288

علی أقسام، فلابدّ من ملاحظة کلّ واحدٍ منها مع حکمه، فنقول: قد ینکر الأمور المذکورة مع الالتفات بذلک، وقد ینکرها وهو غیر ملتفت.

وفی کلا التقدیرین: قد یکون ما أنکره ضروریّا من الدین، وقد لا یکون الاّ ضروریا فی المذهب.

ثمّ علی کلّ التقادیر: قد یعلم ملازمة انکاره لانکار الرسالة، وقد لا یعلم بهذه الملازمة.

أقول: الذی لا اشکال ولا خلاف بل علیه اجماع العلماء بالنجاسة هو المنکر لضروری من ضروریّات الدین مع الالتفات فی أصل ذلک وبالملازمة، لأنّه القدر المتیقن بین المجمعین وبین الفریقین ممّن یعتقد لزوم الملازمة ومن لا یعتقد، بل قد یقال کما عن الآملی فی «مصباحه» بانّه کذلک إذا أنکر الضروری من ضروریّات المذهب باعتبار أنّ الدین هو المذهب، فیترتّب علیه حینئذٍ نجاسة من أنکر إمامة من أحد الأئمّة علیهم السلام إذا کان المنکر امامیا، أو أنکر وجود الحجّة الغائب المنتظر ارواحناه فداه وعجّل اللّه فرجه الشریف بعد قبوله الامامة وصار یُسمّی امامیّا، ویمکن انّ یستدلّ لذلک:

1. بروایة محمّد بن مسلم، عن أبی جعفر علیه السلام ، فی حدیث قال: «ومن جحد نبیّیا مرسلاً بنبوته کذّبه فدمه مباح، قال: فقلت: أرأیت من جَحَد الامام منکم ما حاله؟ فقال: من جَحَد إماما من اللّه وبریء منه ومن دینه فهو کافر مرتد عن الاسلام، لأنّ الامام من اللّه ودینه من دین اللّه ومن بری ء من دین اللّه فهو کافر، ودمه مباح فی تلک الحال، إلاّ أن یرجع ویتوب الی اللّه ممّا قال، الحدیث»(1).

2. وروایة الراوندی فی «الخرائج والجرائح» عن أحمد بن محمّد بن مطهّر، قال: «کتب بعض أصحابنا الی أبی محمد علیه السلام یسأله عمّن وقف علی أبی الحسن


1- وسائل الشیعة: الباب 1 من ابواب حدّ المرتد، الحدیث 1.

ص:289

موسی علیه السلام ؟ فکتب: لا تترحّم علی عمّک وتبرّأ منه، أنا الی اللّه منه بریء، فلا تتولّهم ولا تعد مرضاهم، ولا تشهد جنائزهم، ولا تصلّ علی أحدٍ منهم ماتَ أبدا من جحد إماما من اللّه، أو زاد اماما لیست امامته من اللّه، کان کمن قال: «إنّ اللّه ثالث ثلاثه» إنّ الجاحد أمر آخرنا جاحدٌ أمر أوّلنا، الحدیث»(1). حکم منکر ضروری الدین و غیره

3. وروایة أبی سلمة، عن الصادق علیه السلام فی حدیثٍ، قال: «من عرفنا کان مؤمنا، ومن أنکرنا کان کافرا، ومن لم یعرفنا ولم ینکرنا کان ضالاًّ»(2).

حیث یظهر من هذه الأحادیث أنّ الکفر یتحقّق باظهار الانکار باللّسان بخلاف ما لم یظهر انکاره عند عدم معرفته، فإنّه ضالّ لا کافر، ولأنّ الانکار یصدق بعد الاقرار لا مطلقا کما علیه صاحب «الجواهر» فی کتاب الحدود، والمحقّق الآملی هنا، بل فی «الجواهر»: «إنّا قد ابتلینا فی عصرنا هذا بمنکری وجود الحُجّة المنتظر والمدّعین لظهوره وموته أعاذنا اللّه من شرورهم وشرورنا»(3).

بل لا یبعد القول بذلک فی حقّ من أنکر الضروری، مع الالتفات بکونه ضروریا، ولکن لم یتوجّه بکونه ملازما لانکار الرسالة، لأنّ من أنکر الضروری کان ملازمه انکار الرسالة قهرا و لو لم یلتفت إلی ملازمته، ولأجل ذلک قال بعض الفقهاء کالسّید فی «العروة» بأنّ من أنکر الضروری من الدین بحیث یرجع الی انکار الرسالة، فهو کافرٌ، ولم یقیّد الرجوع الیه بکونه عن علم، ولیس ذلک إلاّ من جهة کون الملازمة محقّقة فی الواقع ولم یکن منوطا بعلمه علیه، فانکار الضروری من ضروریّات الدین مع الالتفات بکونه ضروریا موجب للنجاسة مطلقا کما عرفت، سواءٌ کان من الدین أو المذهب، والفرق بینهما واضح إذ الدین عبارة عن


1- وسائل الشیعة: الباب 40 من أبواب حدّ المرتدّ، الحدیث 40.
2- المصدر السابق، الحدیث 43.
3- مصباح الهدی، ج 1، ص 390.

ص:290

الوضع الالهی الذی یتناول الفروع والأصول، وجامعه هو ما جاء به النبی صلی الله علیه و آله ، ولکن المذهب عبارة عن الطریقة الخاصة التی جاء بها أربابها کمذهب الجعفری المنتسب الی جعفر بن محمّد الصادق علیهماالسلام ، سواءٌ کان فی الأصول أو فی الفروع.

هذا کلّه حکم المنکر للضروری مع الالتفات بکونه ضروریا.

وأمّا المنکر له مع عدم الالتفات: ففی نجاسته وجهان بل قولان، مبینان علی: أنّ انکار الضروری بنفسه سبب مستقل للکفر، هذا کما نسبه صاحب «مفتاح الکرامة» إلی ظاهر الأصحاب.

أو أنّه موجبٌ للکفر إذا رجع إلی تکذب النبی صلی الله علیه و آله ، ولیس هو بنفسه سببا مستقلاً له، کما هو مختار جماعة کثیرة من المحقّقین کالأردبیلی، وصاحب «الذخیرة» و«کاشف اللّثام»، والمحقّق الخوانساری آقا جمال، والمحقّق القمی وأصرّ علیه غایة الاصرار، ودلیلهم هو عدم ثبوت دلیل من الأخبار والاجماع علی استقلاله فی ایجاب الکفر، بل المحقّق هو الخلاف.

وفی المسألة قولٌ ثالث: هو للمحقق الآملی رحمه الله وهو التفصیل بین من أنکر الأصول فهو سبب للکفر مطلقا، سواءٌ کان انکاره عن عنادٍ أو شبهة، أو کان المنکر ممّن یقبل الانکار فی حقّه أو لا، بأن کان نشؤه فی بلاد الاسلام، ثم وجّه ذلک بقوله: «وذلک لأنّ الضروری من الأصول الذی یثبت وجوب التدیّن به بالضرورة کالمعاد الجسمانی وبعض خصوصیاته الثابتة بالضرورة، یکون مثل التدیّن بأصل الألوهیّة والرسالة، فالتفکیک فی الاعتقاده باقرار بعضها وانکار بعضها الآخر لیس إقرارا بالاسلام، کما أنّ الأمر کذلک فی منکر الألوهیة وکذا منکری مودّة أهل المودّة من ذوی القربی، فهذا القسم من الضروری یکون للاعتقاد به دخلٌ فی أصل تحقّق الاسلام، فما لم یتحقق لا یتحقق الاسلام، ولو کان عدم تحققه عن شبهةٍ وقصور».

ص:291

ویفصّل فی الثانی _ أی فی الضروری من الفروع _ بین: من کان انکاره راجعا الی تکذیب النبی صلی الله علیه و آله فیحکم بکفره لکونه منکرا للرسالة.

وبین من لم یکن کذلک، ویقال فیه بأنّ إنکاره إمّا مع عدم ثبوت التدیّن به بما جاء به النبی صلی الله علیه و آله إجمالاً، أو مع ثبوته منه فیحکم بکفر الأوّل أیضا قطعا، لعدم تدینه بالدین.

ویقال فی الثانی بأنّه: إمّا یکون ممّن لا یقبل فی حقّه الشبهة ظاهرا لنشوءه فی بلادالاسلام، الظاهر منه استماع مثل هذه الأحکام التی، لا تخفی علی العجزة والصبیان.

أو یکون ممّن یسمع منه.

فیحکم بکفر الأوّل ظاهرا أخذا بالظهور دون الثانی.

حکم من أنکر ثوابت الدین غیر الضروری

وبما ذکرنا یظهر کفر من أنکر شیئا ممّا قطع بثبوته من الدین، ولو لم یکن ضروریا، بل لم یقم علیه الاجماع أیضا، لکون منکره قاطعا من الدین، فیرجع انکاره الی انکار الدین، کما یشهد به جملة من الأخبار: ففی «الکافی» عن برید العجلی فی الصحیح عن الباقر علیه السلام فی جواب السؤال عن أدنی ما یکون به العبد مشرکا، قال: «من قال للنواة أنّها حصاة وللحصاة أنّها نواة ثمّ دان به»(1)، یعنی اعتقده بقلبه والتزم به وجعله دینا، والوجه فی أنّه یُسمّی مشرکا أنّه یرجع الالتزام به إلی متابعة الهوی، فصاحبه وإن عبداللّه فقد هواه) انتهی کلامه رفع مقامه(2).

أقول: ونحن نضیف الیها روایة أخری مؤیّده لها، وهی روایة ابراهیم بن أبی محمود، عن الرضا علیه السلام فی حدیث طویل، قال: «أخبرنی أبی عن آبائه عن رسول


1- الکافی، ج 2، الأصول، کتاب الایمان والکفر، باب الشرک، الحدیث 1.
2- مصباح الهدی، ج 1، ص 391.

ص:292

اللّه صلی الله علیه و آله ، قال: من أصغی الی ناطق، الی أن قال: فإنّ أوفی ما یخرج به الرجل من الایمان أن یقول للحصاة هذه نواة ثمّ یدین بذلک ویبرأ من خالفه، یابن أبی محمود احفظ ما حدّثتک به فقد جمعت لک خیر الدنیا والآخرة»(1).

هذه جملة ما ذکره المحقّق الآملی فی «مصباحه».

والتحقیق: ما ذکره ممّا یلزم منه الکفر یکون جمیع الأقسام الآنفة عدا قسم واحد وهو الذی أنکر ما لم یکن مقطوعا من الدین بزعمه، ولم یکن ضروریا من الأصول مطلقا، بل کان من الفروع إذا کان ممّن یتصوّر فی حقّه الشبهة، فلازم هذا الاطلاق هو صدق الکفر لمن أنکر الضروری، سواءٌ استلزم تکذیب النبی والرسالة أو لم یستلزم، فانکار المجمع علیه مع العلم بکونه من الدین ولو عنده، ولو لم یکن فی الواقع کذلک موجبٌ للکفر بحسب دلالة بعض الأخبار کما أشار الیه فی آخر کلامه، بل مقتضی بعض الأخبار من ذکر الجَحد والانکار فی صورة الشک فی اللّه والرسول تحقّق الکفر کما أشار الیه خبر محمد بن مسلم، فلعلّ اطلاق بعض الفقهاء فی تکفیر من أنکر الضروری أراد جحد الضروری المستلزم للتکذیب، لأنّ الشیء إذا کان ضروریا فی الدین، فإنّ انکاره یرجع الی انکار الدین، وانکار الدین عبارة عن تکذیب الرسالة، ولذلک قلنا فی التعلیقه تعلیقتنا أنّ انکار الضروری مطلقا موجبٌ للکفر، سواءٌ کان فی الأصول أو الفروع، إلاّ لمن یحتمل فی حقّه قصورا وشبهة فی الفروع لا فی الأصول والاعتقادات، هذا إذا أنکر باللّسان عنادا أو اعتقادا أو استهزاءا.

وأمّا إذا لم یظهر المنکر انکاره باللسان بل اعتقد فی نفسه خلاف الضرورة أو الدین، لم یحکم علیه بالکفر ظاهراً، وان کان فی الحقیقة کافرا ویُحشر مع الکفار، لانّا محکومون بالظاهر لا بالواقع والحقیقة کما کان الحال فی صدر الاسلام


1- وسائل الشیعة: الباب 10 من أبواب صفات القاضی، الحدیث 13.

ص:293

بالنسبة الی بعض المنافقین، حیث لم ینکروا بلسانهم، بل بقلوبهم حیث لم یکونوا معتقدین بالرسالة والولایة، ومع ذلک کان المسلمین یعاملون معهم معامله المسلم، کما هو واضح لمن راجع تاریخ صدر الاسلام وتأمّل فیه.

حکم الخوارج والغلاة

البحث عن حکم الخوارج والغلاة

فبناءً علی ذلک لا کلام فی نجاسة ما ورد ذکره فی المتن من الخوارج والغُلاة کما فی «الجواهر» نقلاً عن «جامع المقاصد» و«الدلائل»، بل عن الأخیر و«الروض» نقل الاجماع علیه، وقبله صاحب «الجواهر» حیث قال: «وهو کذلک»، إذ من الواضح أنّ الخوارج أنکروا جملةً من الضروریّات کاستحلالهم قتل أمیرالمؤمنین ومن معهم من المسلمین، وحکمهم بتکفیرهم بمجرّد التحکیم، فهم من الکافرین قطعا، ویعدّون أنجاساً، والدلیل علیه _ مضافا إلی الاجماع وعمل أمیرالمؤمنین علیه السلام من تجویز قتلهم، وأخذ أموالهم _ دلالة بعض الأخبار:

منها: المرسل المروی عن البنی صلی الله علیه و آله فی وصفهم: «إنّهم یمرقون من الدین کما یمرق السهم من الرامی»(1).

ومنها: خبر الفضل المذکور فی «الجواهر»، قال: «دخل علی أبی جعفر علیه السلام رجلٌ محصور عظیم البطن فجلس معه علی سریرة، فحیّاه ورحّب به، فلمّا قام قال: هذا من الخوارج کما هو قال، قلت: مشرک؟ فقال: مشرک واللّه مشرک»(2).

ومنها: ما ورد فی مقطع من الزیارة الجامعة قوله علیه السلام : «ومن حاربکم


1- سفینة البحار، ج 1، ص 383.
2- الجواهر، ج 6، ص 50 بل ورد حدث الأوّل فی صحیح البخاری، ج 9، ص 22 و صیحح مسلم، ج 2، ص 742، ح 144 والثانی فی الوسائل ورد فی باب حدّ المرتد، ح 55 نحوه.

ص:294

مشرک»(1). والخوارج حاربوا علیّاً.

وأمّا الغلاة: وهم الذین تجاوزا الحدّ فی الأئمّة علیهم السلام حتّی ادّعوا فیهم الربوبیّة، کما تری ذلک فی طائفة اعتقدوا ربوبیّة أمیرالمؤمنین علیه السلام أو سائر الأئمّة کالامام الهادی علیه السلام کما فی التاریخ، ولا شکّ فی کفر هؤلاء، لأنه من الواضح أنّه لو اعتقد مسلمٌ أنّ مخلوقاً خارجیاً ارضیّاً بعوارضه المشخصّة هو الربّ القدیم الواجب وجوده، الممتنع زواله، وأنکر وجود صانع غیره، فهو کافر باللّه تعالی، وأمّا لو اعترف معه بوجود صانعٍ مثله واجب الوجود فهو مشرکٌ، وإن زعم واعتقد حلول اللّه جلّت عظمته فیه واتحادّه معه، وتصوّره بهذه الصورة کما قد یتصور الملائکة والجنّ بصورة البشر، فهو أیضا کافر، لأنّه منکر لما قد ثبت بالضرورة من الشرع أنّ اللّه تبارک تعالی منزّه عن جمیع صفات البشر من الأکل والشرب والنوم، وهو أجلّ وأعظم من أن یتشبّه بمخلوقه.

وعلیه، فمثل هذه الطبقه التی ذکرناها لا اشکال ولا کلام فی نجاستهم، وصدق الکفر علیهم مشرکا کان أم لا.

نعم، للغُلاة معنی آخر وهو أنّه قد یطلق علی من قال بألوهیّة أحد من الناس، بل لعلّ اطلاق الغلاة غالبٌ علی من اعتقد روبیّة أمیرالمؤمنین.

وکیف کان، ظاهر المصنف بل صریحه کغیره من الأصحاب أنّ وجه کفرهم هو انکارهم الضروری، برغم أنّهم قد لا ینفون أصل والالوهیّة والصانعیّة، بل یطلقون هذه الاسماء لغیر الربّ الذی نعلم بالضرورة بطلانه، وأنّه لیس من الدین بالبراهین والأدلّة العقلیة القائمة علی تنزیه الربّ عن ذلک، هذا.

ولکن المنقول عن صاحب «کشف الغطاء» أنّ کفرهم ثابت بالذات لا بالعَرض


1- عیون أخبارالرضا، ج 2، ص 272.

ص:295

ونتیجة انکارهم بعض الضروریّات کأتباع مسیلمة الکذّاب، إذ هم لخصوص الصائع والنبی صلی الله علیه و آله من النفاة، وإن أثبتوا فی الجملة الربوبیّة والنبوّة للغیر.

أقول: کلامه جیّد غایته، وعلی کلّ حال لا اشکال فی نجاستهم وکفرهم، بل یدلّ علیه الاجماع کما عن صاحب «الدلائل» و«الروض» وصدّقهم صاحب «الجواهر» بقوله وهو کذلک، هذا فضلاً عمّا نقله الکشّی فی ترجمة فارس بن حاتم الغالی، عن أبی الحسن علیه السلام أنّه قال: «توقّوا مساورته» أی معاشرته، نقله المامقانی فی «تنقیح المقال» فی ترجمة فارس بن حاتم عن الکشّی، وفیه (مشاورته بدل مساورته) فانّ الأمر بالاتّقاء عن المعاشرة لیس الاّ لأجل کفرهم.

نعم، قد یطلق الغالی علی معنی ثالث _ وهو المنقول عن علی بن ابراهیم القمّی فی تفسیره، والحاکی هو الشیخ الأعظم الأنصاری فی طهارته(1) _ وهو التجاوز عن الحدّ فی مقامات الأنبیاء والأئمّة علیهم السلام . وقد أکثر القمیّون من الطعن فی الرجال برمیهم بالغلوّ بمجرّد الاحتمال، حتّی أنّه حکی الصدوق عن شیخه ابن الولید أنّه قال: «أوّل مراتب الغلوّ نفی السهو عن النبی صلی الله علیه و آله ».

أقول: هذه الطائفة لا یعدّون کفاراً قطعا، إذ لا وجه لتکفیر من یعتقد امتلاک النبی صلی الله علیه و آله والأئمّة علیهم السلام بعض مظاهر أوصاف الباری جلّت عظمته علی سبیل الاطلاق، وأنّ الأئمّة بحیث لا یشغلهم شأن عن شأن کما ورد فی الدعاء والتوقیع المنقول عن الناحیة المقدّسة بواسطة الشیخ الکبیر أبی جعفر محمد بن عثمان بن سعید رضی الله عنه فی حقّ ولاة الأمر من الأوصاف، بقوله: «المأمونون علی سِرّک، المستبشرون بأمرک، الواصفون لقدرتک، المعلنون لعظمتک»، الی أن قال: «لا فرق بینک وبینها إلاّ أنّهم عبادک وخلقک... الی آخره» الی غیر ذلک ممّا یقوله بعض من یدّعی المعرفة بمثل هذه الأمور، إذ من الواضح أنّ الالتزام بمثل هذه الأوصاف فی حقّ الأئمة علیهم السلام لایوجب الکفر، بل هو صدق محضٌ وکلامٌ حقٍ، غایة الأمر الردّ


1- کتاب الطهارة، ص 358.

ص:296

علی ذلک هو دعوی کونه کذبا نظیر من یدّعی ثبوت ذلک لزید المعلوم بالضرورة فقده لهذه الاوصاف فیصیر کذبا لا کفرا، مع أنّ حقیقة هذه الدعاوی فی حقّهم ممّا یساعدها القواعد العقلیة والبراهین الواضحة الشرعیة، لأنّهم تسالمت أشرف الموجودات، بل لعلّ هذه الدعاوی ممّا تسالمت علیها الشیعة، خصوصا بالنسبة الی النبی صلی الله علیه و آله ، وهی تعدّ الآن وبلوغ الی معرفة کنه هذه النفوس الطاهرة، التی نرجوا ببرکة التمسک بها من ضروریّات المذهب کما لا یخفی، فمثل هذا الغلوّ لیس بغلوٍ أصلاً، بل هو حقیقة السعادة الأبدیة فی الدنیا والآخرة، وعلیه فإنّ نسبته الغلوّ الیهم عارٍ عن الحقیقة، هذا کلّه فی حکم الغلاة.

بعد الوقوف علی حکم الغلاة من حیث النجاسة، یلحق بهم بطریق أولی فی النجاسة عبدة الأوثان والکواکب والدّهریة ونحوهم ممّن زعم أنّ مثل هذه الجمادات هو الصانع، فإنّه لا شک فی کفرهم ونجاستهم، کما لا شک فی شرکهم لو أثبتوا مع اللّه صانعا آخر، کما أنّهم کافرون لو أثبتوه مع عبادتهم الأوثان بأن لها صانعا، لانّهم یعدّون کفره بانکار بعض الضروریّات، والظاهر أنّ هذه الطوائف ممّا تسالم علیها الأصحاب فی نجاستهم ولا کلام فیه.

حکم المُجسّمه والمجبرة

نعم، الذی ینبغی أن یتکلّم فیه من فرق المسلمین، بل قد وقع فیهم الخلاف بین الأصحاب فی نجاستهم طوائف منهم لابدّ من ذکرها تفصیلاً حتّی یتضح حکم کلّ واحد منها برأسه، فنقول من اللّه الاستعانة:

ومنها: المجسّمة: وهم ینقسمون الی قسمین مع اسمین:

قسم: یُسمّی بالمجسّمة بالحقیقة، وهم القائلون بأن اللّه جسمٌ کسائر الأجسام، ویکون فی جهة من الجهات کالعالی مثلاً، وهؤلاء صنفان: تارة: ملتزمون بلوازم

ص:297

اعتقادهم من حدوثه تعالی وحاجته، فهم کفار قطعا، لانکارهم الضروری، بل ینکرون وجود الواجب القدیم، وعلیه فلا اشکال فی کفرهم.

وأخری: لم یلتزموا بلوازم مذهبهم بل یقتصرون علی قولهم إنّه تعالی قدیم، ففی الحکم بکفرهم تأمّل، الاّ أن یرجع اعتقادهم فی القول بکونه جسما الی انکار الضروری فیکفرون من هذه الجهة، ولکن نسب الی «الذکری» و«المبسوط» القول بعدم النجاسة مطلقا، ولکن یبعد أن یکون مقصودهم طهارة من یقول بانّه جسمٌ کسائر الأجسام من جمیع ا لخصوصیات.

وقسم آخر: ما یسمّی بالمجمسّة بالتسمیة، أی القائلین بأنّه جسم لا کسائر الأجسام، وهذا هو الذی اشتهر نسبته الی هشام بن الحکم، وهو من أجلاّء أصحابنا ومتکلّمیهم، وعن المرتضی فی «الشافی»: «فأمّا ما رُمی به هشام بن الحکم من القول بالتجسیم، فالظاهر من الحکایة عنه القول بجسمٍ لا کالاجسام، ولا خلاف فی أنّ هذا القول لیس بتشبیهٍ ولا ناقضٍ لأصل، ولا معترض علی فرع، وأنّه غلط فی عبارة یرجع فی اثباتها ونفیها الی اللّغة، وأکثر أصحابنا یقولون إنّه أورد ذلک علی سبیل المعارضة للمعتزلة، فقال لهم: إذا قلتم إنّ القدیم تعالی شأنه شیءٌ لا کالاشیاء فقولوا إنّه جسمٌ لا کالأجسام» انتهی.

وهذا وهذه الجماعة ذهب بعض الأصحاب الی طهارتها منهم الشهید الأول فی «البیان» حیث قیّد نجاسة المجسّمة بالحقیقیّة، وأیضاً الشهید الثانی فی «المسالک» وقوّاه صاحب «الجواهر»، بل وفی «مصباح الفقیه» ناقش لمن استدلّ لکفرهم بانکارهم الضروری، بأنّ من لوازم الجسمیة الحدوث، وهذا ما لم یلتزم به القائل بهذا، والمدار فی التکفیر علی التزامه به لا علی الملازمة الواقعیة، بل قد أنکر کون اثبات وصف الجسمیة للّه تعالی فی حدّ ذاته مخالفا للضرورة، استشهادا بمساعدة بعض ظواهر الکتاب والسّنة علیه، مثل قوله تعالی: «الرَّحْمَنُ عَلَی الْعَرْشِ

ص:298

اسْتَوَی»(1)، وقوله تعالی: «فَکَانَ قَابَ قَوْسَیْنِ أَوْ أَدْنَی»(2)، وغیرهما ممّا یظهر منه امکان التقریب الیه تعالی، وتعلّق الرؤیة به ممّا لا یخفی.

بل فی «مصباح الفقیه»: «وقد یستدلّ لکفرهم بما رُوی عن الرضا علیه السلام : «من قال بالتشبیه والجبر فهو کافر»(3)، بناءً علی أنّ المجسّمة من المُشبّهة، لأنهم علی ما عن «قواعد العقائد» وشرحه(4): الذین یقولون إنّ اللّه تعالی فی جهة الفوق، ویمکن أن یُری کما تُری الأجسام. وعلیه فالتجسیم غیر خارج من التشبیه، ولا یبعد أن یکون المراد بالتشبیه مطلق تنظیره بالأجسام فی تحدیده بمکانٍ أو زمانٍ، فیکون مساوقا للتجسیم، فعلی هذا یکون أظهر فی المدّعی».

ثمّ أورد علیه بقوله: «لکن یتوجّه الیه عدم صلاحیّة مثل هذه الروایة الضعیفة التی لم یستند الیها الأصحاب فی فتواهم لتقیید الأخبار الکثیرة الواردة فی تحدید الاسلام والایمان الخالیة عن اعتبار نفی التجسیم. ربّما یوجّه الروایة بحملها علی ما إذا القائل عالما بالملازمة بین الجسمیّة والحدوث وفیه بُعد. والأولی حملها علی بعض مراتب الکفر الذی لا ینافی الاسلام الظاهری، بل مع الایمان الناقص، کیف وکثیرٌ من العوام بل أکثرهم لا یمکنهم تنزیه الرّب عن العلائق الجسمانیّة، حیث لا یتعقّلون بواسطة قصورهم کونه مؤثرا فی العالم ولا یکون جسما، الا تری إنّک إذا أردت أن تعرف الاطفال فی مبادی بلوغهم أو قبلها أن اللّه تعالی منزّه عن تلک العلائق لهما، سلبت عنه تعالی شیئا منها یتصوّرون ضدّها، فإذا قلت إنّه تعالی لیس له لسانٌ، یتخیلون أنّه یتکلّم بالاشارة، وإذا قلت إنّه لیس له بصرٌ یتصوّرون


1- سورة طه، آیة 20.
2- سورة النجم، آیة 9.
3- وسائل الشیعة: الباب10 من أبواب حدّ المرتد، الحدیث 5؛ عیون أخبارالرضا، ج1، ص143، ح45.
4- لخواجه نصیرالدین الطوسی رحمه الله .

ص:299

فی أذهانهم شخصا أعمی وهکذا، فإذا قلت إنه یسمع بلا سمع ویبصرُ بلا بصر ویتکلّم بلا لسان یرونه متناقضا. فالأقوی أنّ شیئا من مثل هذه العقائد ما لم یکن منافیا للشهادتین، وتصدیق النبی صلی الله علیه و آله اجمالاً، فی جمیع ما أتی به، لا یوجبُ الکفر، خصوصا اذا کان منشؤه القصور» انتهی کلامه فی «مصباح الفقیه»(1).

أقول: لا یخفی ما فی کلامه، لوضوح أن الکلام إنّما عن من یتدیّن تدیّن بالجسمیة بالتسمیة لا بالحقیقة، بأن یقول إنّه جسم لا کالاجسام، وهو معتقدٌ بذلک، فهو:

تارة: یعلم أنّه یلازم ما یوجب خلاف الضرورة من لزوم الجهة والحیرة والحاجة وغیرها من الأمور، فلا اشکال أنّه تشبیه بما یکون کذلک، فإنّه یوجب الکفر.

وأخری: لم یعلم ذلک ولم یلتفت الی لوازم معتقده لکونه جاهلاً کما فی أکثر العوام، فمرجع ذلک إلی أنّه لم یلتزم بما یوجب له القطع بکونه خلافا للضرورة، فالالتزام بعدم النجاسة ممکنٌ مع الاقرار بالشهادتین والتدیّن بما جاء به النبی اجمالاً، حتی ربّما یصرّح بأنی مؤمنٌ بما جاء به الرسول صلی الله علیه و آله ، ویزعم عدم المنافاة بین الالتزام بکون الربّ علی الفوق وبین أنّه حاضر فی کلّ مکان، ولیس له تحیّز وجهة، فمثل هذا لا یطلق علیه المشبّهة ولا یصحّ اطلاق الکافر علیه، فهو یعدّ من المجسمة الاسمیّة لا بالحقیقة، فیجری فی حقّه ما قاله صاحب «الجواهر» قدس سره بأنّه: «طاهر للأصل والعمومات واستصحاب طهارة الملاقی، وما دلّ علی طهارة المسلمین المتحقّق اسلامهم بابراز الشهادتین السالمة عن معارضة ما یقتضی الکفر المنجس... الی آخره».

وبالجملة: بناءً علی ما ذکرنا یصحّ العمل بالروایة بأن یکون مورده هو ما عرفت، فیطابق مع فتوی مذهب الأصحاب من القول بنجاستهم الاّ قلیلاً منهم،


1- مصباح الفقیه، ج 7، ص 294 _ 295.

ص:300

حدیث ذهبوا إلی طهارة المجسّمة مطلقا، کما نقل ذلک عن «المبسوط» و«الذکری» وهو أیضا غیر معلوم، لما تری خلافه فی بعض الموارد من کتابه، فالمشبّهة یصدق علی المعتقدین بذلک لا لمطلق القائل بالتجسیم.

وما مثّل رحمه الله بالآیات من ظهورها فی کون الربّ علی الفوق، أو ما یوجب التقرّب الیه.

لیس علی ما ینبغی، لوضوح أنّ حرف (علی) یدل علی الفوق بالمعنیین المزبورین فی الأجسام، وأمّا فیما لا یُری یکون بمعنی الاستیلاء والاشراف، کما یستعمل ذلک فی العرف والعقلاء، فالمعنی الثانی هو المعنی للآیة بلا کونه مجازا، لأنّه استعمل فی معناه القابل للانطباق علی کلا الأمرین، ونظیره فی الآیات کثیرة، مثل قوله تعالی: «وَجَاء رَبُّکَ وَالْمَلَکُ صَفّا صَفّا»، أی أمر ربّک، واللّفظ مستعمل فی معناه الحقیقی القابل لتعلّقه بکلّ ما یمکن اجراء ذلک فیه، وکذلک نظائره.

هذا تمام الکلام فی المجسّمة بکلا قسمیه.

نعم، اجراء هذا الاحتمال فی حقّ القائلین بالمجسمة بالحقیقة مشکلٌ جدّا، لأن نفس کونه _ والعیاذ باللّه _ مثل الأجسام یلازم قهرا مع الحدوث والافتقار، کما هو کذلک فی الأجسام، فالالتزام بذلک مع تفکیکه عن لوازمه غیر صحیح، فلازمه الکفر حتّی ولو أقرّ بالشهادتین ظاهرا، إلاّ أن یکون جاهلاً قاصرا فی نهایة الجهل والسفاهة، فاحتمال الطهارة فی حقّهم غیر بعید.

وکیف کان، فاحتمال کون مقصود القائلین بالکفر فی هذا القسم أو عدله أیضا کفرهم فی الآخرة لا فی الدنیا، بعیدٌ عن الصحة، وخلاف لظاهر کلامهم، فاللّه العالم.

ومنها: المُجبرة: وفیه أقوال:

1. النجاسة وهو المحکی عن الشیخ فی «المبسوط»، وقوّاه صاحب «کشف اللّثام»، بل هو الظاهر من صاحب «کشف الغطاء»، حیث عدّ من انکار الضروری القول بالجبر والتفویض.

ص:301

2. الطهارة، وهو المحکی عن مثل العلاّمة فی «المنتهی»، والشهید فی «الذکری»، وصاحب «جامع المقاصد» و«اللّمعة»، بل ظاهر المحقق فی «المعتبر» هو الطهارة، کما علیه صاحب «الجواهر» و«مصباح الفقیه»، بل ذکر صاحب «الجواهر»: «بأنّی لم أجد موافقا صریحا للشیخ علی ذلک».

3. وقول بالتفصیل وعلیه صاحب «مصباح الفقیه» و«مصباح الهدی»، بل «العروة» وأکثر أصحاب التعلیق: والنجاسة إن قال بالجبر مع الالتزام والعلم بلوازمه، وإلاّ فطاهرٌ.

استدلّ القائل بالنجاسة: بالآیة والروایة:

فأمّا الأولی: قوله تعالی: «سَیَقُولُ الَّذِینَ أَشْرَکُواْ لَوْ شَاء اللّهُ مَا أَشْرَکْنَا وَلاَ آبَاؤُنَا وَلاَ حَرَّمْنَا مِن شَیْءٍ کَذَلِکَ کَذَّبَ الَّذِینَ مِن قَبْلِهِم حَتَّی ذَاقُواْ بَأْسَنَا »(1)، فالآیة تتحدّث عمّن مذهبه اسناد کلّ فعلٍ من الشرک والمعصیة إلی اللّه سبحانه وتعالی، والعیاذ باللّه.

ومن الروایة: بالخبر المرویّ عن الرضا علیه السلام ، قال: «من قال بالتشبیه والجبر فهو کافر مشرک»(2).

وأیضاً: خبر حریز بن عبداللّه، عن أبی عبداللّه علیه السلام ، قال: «الناس فی القدر علی ثلاثة أوجه: رجل زعم أنّ اللّه أجبر الناس علی المعاصی فهذا قد ظلم اللّه فی حکمه فهو کافر، ورجل یزعم أنّ الأمر مفوّض الیهم فهذا قد وهن اللّه فی سلطانه فهو کافر، الحدیث»(3).

ولاستتباعه ابطال النبوّات والتکالیف رأسا، وابطال کثیر ممّا علم من الدین ضرورة، مثل اعتقادهم بأنّ الانسان مجبور علی المعاصی واعمال الشر، فلازم


1- سورة الانعام، آیة 149.
2- وسائل الشیعة: الباب 10 من أبواب حدّ المرتد، الحدیث 5.
3- المصدر السابق، الحدیث 10.

ص:302

ذلک عدم فائدة التبلیغ والانذار والبشارة، والوعد والوعید، حیث لا یکون مختارا حتّی یترک، فیلزم من ذلک اسناد الأمور القبیحة إلی اللّه تعالی، فیکون عذاب اللّه لهم حینئذٍ ظلما، وهو أجلّ وأکرم من ذلک کما ورد فی جواب موسی بن جعفر علیهماالسلام لأبی حنیفة فی روایة نقلها المحدّث القمی فی کتابه «الأنوار البهیّة» عن «ثاقب المناقب» قال: «اشتهر عند الخاص والعامّ من حدیث أبی حنیفة حین دخل دار الصادق علیه السلام فرأی موسی علیه السلام فی دهیلز داره وهو صبیّ، فقال فی نفسه إنّ هؤلاء یزعمون أنّهم یعطون صبیّه وأنا اسبرُ(1) ذلک فقال له: یا غلام، إلی قال: قلت: یابن رسول اللّه ممّن المعصیّة، فنظر الیّ وقال: أمّا أن تکون من اللّه أو من العبد أو منهما معا؟ فإن کانت من اللّه فهو أکرم أن یؤاخذه بما لم یجنه، وإن کانت منهما فهو أعدل من أن یأخذ العبد بما هو شریکٌ فیه، فلم یبق إلاّ أن یکون من العبد، فإن عفی فبفضله، وإن عاقب فبعدله. قال أبو حنیفة: فاغرورقت عینای وقرأت «ذُرِّیَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللّه ُ سَمِیعٌ عَلِیمٌ»»(2).

وعلیه، فکفرهم حینئذٍ أوضح عن غیرهم، الاّ أن یکونوا من الحمق بحیث لا یتفطنون لذلک، فهم لیسوا من ممّن یعتدّ برأیهم.

هذا نهایة ما استدلّ به لنجاستهم وکفرهم.

قال صاحب «الجواهر»: «قد یناقش فی ضروریّة بطلان نفس ما ذهبوا الیه، لموافقته لکثیرٍ من ظواهر الکتاب والسّنة، بل قیل قد ورد فی بعض الأخبار والأدعیة أنّه خالق الخیر والشّر، وبتعارض أدلة العقل فی ثبوت الاختیار للعبد وعدمه، مع صعوبة إدراک ما ورد عن العترة علیهم السلام من الأمر بین أمرین، بل قیل إنّ ما ذکر فی بیانه یرجع إلی الجبر أو التفویض».


1- أی امتحن.
2- أنوار الهیّه للمحدث القمی، ص 88.

ص:303

خلاصة کلامه: هو التشکیک فی ضروریّة بطلان کلامهم، مع أنّه لا یخفی أن بطلان کلامهم فی ذلک من الأمور الثابتة عند الامامیة، ولا نقاش فیه، ولعلّه لم یقصد رحمه الله ذلک، بل قصد نفی الضّروریة أی لم یکن بطلان کلامهم علی حدّ الضرورة بدلالة واضحة حتّی یوجب التکلّم والاعتقاد به الارتداد المستلزم لنجاستهم، وهو غیر بعید.

ثمّ قال فی ثانیاً: کما أنّه قد یناقش فی تکفرهم لاستلزام مذهبهم انکار الضروری، وإن لم یکن هو کذلک من تنزیهه تعالی عن القبیح والنقض وغیره، ممّا قد عرفت من أنّ المدار علی الانکار صریحا لا لازما، لم یعترف به ذلک المدّعی لأمورٍ تخیّل صحتها، إلاّ أن یعلم منه معرفته بطلانها، وأنّه یذکرها عنادا وإلاّ فهو معترف بتلک اللوازم باطنا) انتهی محل الحاجة من کلامه(1).

أقول: الظاهر انّه أراد من الفقرة الثانیة أن ما یستلزم من انکار الضروری الارتداد هو فیما إذا دلّ علی ذلک بالصراحة لا بالملازمة، أی بما یلتزم الانکار، اللّهمّ الاّ أن یکون المعتقد یفهم الملازمة وعارفا بما هو مقتضاه، ومع ذلک اعتقد به عنادا بحیث یصدق علیه التبیّن، فحینئذٍ یحکم علیه بالارتداد ویترتّب علیه آثاره، وأمّا من لم یکن عارفاً بالملازمة، فلا مجال للحکم علیه بالردّة، خصوصا مع ملاحظة صعوبة فهم بعض الأخبار الواردة فی افعال الانسان ذلک کما أشار الیه صاحب «الجواهر»، لا سیّما مع ملاحظة أنّ المخالفین المعاصرین لأئمة المعصومین علیهم السلام أکثرهم کانوا من المُجبرة، ولم یجتنبوا عن سؤرهم والمعاشرة معهم. ولعلّ السِّر فی بقائهم مساندة الخلفاء والسلاطین لمذهبهم بخلاف المعتزلة حیث انقرضت نتیجة محاربة الخلفاء لهم. هذا فضلاً عن أنّ الطهارة تکون موافقة مع الأصل والعمومات، فینزّل ما فی بعض الأخبار من بیان کفرهم إلی بیان أنّ مآل


1- الجواهر، ج 6، ص 55.

ص:304

أمرهم کان کذلک، أو أرید کفرهم فی الآخرة لو کانوا مقصّرین، فلازم ذلک هو الحکم بطهارتهم الاّ من عرفت ممّن اعتقد وتیقّن وفهم بطلان کلامه وعلم مقتضاه من انکار الضرورة، ومع ذلک التزم به، فلا یبعد حینئذٍ کون هذا الشخص مرادا من ممّا التزم به العلامة فی «المنتهی» و«الذکری»، وکذلک غیره فی «جامع المقاصد» و«اللّمعة» من نجاستهم، فیکون فی مقابل القول بالطهارة کما قال به فی «التذکرة» و«النهایة» و«القواعد» ظاهرا أو صریحا، بل هو ظاهر المصنّف فی «المعتبر»، بل هنا أیضا، بل فی «الجواهر»: «لم أجد موافقا صریحا للشیخ علی ذلک»، نعم، قوّاه صاحب «کشف اللثام» و«کشف الغطاء».

وکیف کان فالأقوی عندنا هو الحکم بطهارتهم، إلاّ ما عرفت فی حقّ بعضهم.

البحث عن حکم المفوّضة

أمّا المفوّضة: فاذا عرفت الحال فی المُجبرة من الطهارة، ففی المفوّضة تکون بالأولویة لکونهم أهون فی القباحة من المُجبرة، کما یفهم ذلک من کلام صاحب «مصباح الفقیه»، حیث قال: «وأظهر من ذلک القول بطهارة المفوّضة، بل عن «شرح المفاتیح» أنّ ظاهر الفقهاء طهارتهم یعنی اسلامهم، فما عن کاشف الغطاء من عدّه من انکار الضروری القول بالجبر والتفویض علی اطلاقه ضعیفٌ فی الغایة، کما علیه أکثر الفقهاء».

وعلیه فحکم المسألة صارت واضحة لاغبار علیه.

سائر الفرق: بعد الاحاطة بما ذکرناه وبیّناه فی الضابط لتحقّق الکفر من بروز الانکار لضروری الدین، والالتزام بما یلازمه من اعتقاد والتفات، نکون فی غنی عن اطالة الکلام فی أحوال سائر الفرق من أهل الخلاف من المسلمین، غیر ما نصّ علی کفرهم منها فإنّه محکوم بالنجاسة کما سیأتی الاشارة لبعضها.

ص:305

حکم سابّ النبیّ والمعصوم

نعم، الذی ینبغی أن یبحث عنه من حیث النجاسة والطهارة هو حکم سابّ النبی صلی الله علیه و آله أو الامام علیه السلام أو الزهراء علیهاالسلام ، أو الهاتک لحرمة الاسلام بقولٍ أو فعلٍ.

وممّن نصّ علی نجاستهم صاحب «کشف الغطاء»، أمّا فی الهتک فقد وافقه صاحب «الجواهر» تبعا للقواعد، مدّعیا بانّه یصیر مرتداً عند هتکه حرمة الاسلام بالقول أو الفعل، فیشمله حکم الارتداد من النجاسة.

هذا، لکن فی غیره فقد یشکّ فی نجاسته إذا فرض عدم دخوله فی الناصب، خصوصا فی سبّ غیر النبی صلی الله علیه و آله ، قال صاحب «الجواهر»: «لعدم وجود دلیل صالح لقطع الأصول والعمومات، وما دلّ علی طهارة المسلمین».

نعم، ربّما یقال باستحقاقه القتل بسبب السّب، کما نصّ علیه المصنّف وغیره فی الحدود.سابّ النبیّ والمعصوم

لکنّه یندفع بأنّه أعم من تحقّق الکفر المستلزم للنجاسة، لامکان أن یکون ذلک حدّا من الحدود، کما کان کذلک لمرتکب الکبائر ثلاثا أو أزید، بل قد یظهر من «القواعد» وصاحب «الشرائع» هناک أنّ قتله کان لذلک لا للارتداد، حیث قد ذکراه ملحقا بحدّ القذف، ولم یذکرا ذلک من أسباب الارتداد.

وکیف کان، فقد یظهر من صاحب «الجواهر» اختیار اندراجه فی الهاتک لحرمة الاسلام، حیث قال: «کما هو الظاهر، بل ینبغی القطع به عند التأمّل».

وفیه: الانصاف یقتضی الحاقه بالناصب الذی قطع الأصحاب بنجاسته، لأجل عداوته مع الأئمّة علیهم السلام والنبی صلی الله علیه و آله بالنسبة الی السّاب له، مع أنّه ینطبق علیه عنوان الهاتک لحرمة الاسلام.

ویؤیّد ما أدعیناه ما عن «الانتصار» من أنّ سبّ النبی صلی الله علیه و آله وعیبه والوقیعة فیه ردّة من المسلم بلا شک، وحینئذٍ یکون کالسابق أو یدخل فی عنوان الناصب، بناءً علی تحقّق مسمّی العداوة عرفا بذلک.

ص:306

أقول: ولعلّ وجه ترددهم فی الالحاق بالناصب، هو ملاحظة أنّ کثیراً من النواصب یعاند مع الأئمة علیهم السلام والشیعة دون النبی صلی الله علیه و آله ، لأنّهم فی الظاهر ینتحلون إسم الاسلام ویقبلون بنبوّة الرسول صلی الله علیه و آله ، ویکون نصبهم متوجّها الی غیره من الأئمّة المعصومین والمتمسکین بهم.

ولکن هذا لا یوجب عدم الالحاق، إذا صار سابا وکان یقع فیهم، خصوصا إذا قلنا بنجاسة الناصب للشیعة، فالناصب السابّ للأئمّة والنبیّ یکون نجسا بالأولویّة. وبذلک یظهر وجه الحاق السابّ لبقیّة المعصومین من الأنبیاء السابقین والملائکة المقرّبین علیهم السلام ، وأولی منه الضرب والاهانة والقتل ونحو ذلک من مظاهر العداوة عرفا. واللّه العالم.

حکم أهل الخلاف

حکم أهل الخلاف من حیث النجاسة والطهارة

اختلف الفقهاء فی طهارة معتقد خلاف الحقّ من فرق المسلمین، کجاحد النصّ علی أمیرالمؤمنین علیه السلام :

1. ذهب المشهور من الأصحاب سیّما المتأخرین نقلاً وتحصیلاً علیها، بل یمکن تحصیل الاجماع علیها کما عن استاذ صاحب «الجواهر»، قال: «إنّه معلوم بل لعلّه ضروری المذهب للسیرة القاطعة من سائر الفرقة المحقّة فی سائر الأعصار والأمصار».

2. وفی قبال هذا القول قولٌ بنجاستهم وکفرهم، وهو کما فی «الحدائق» نسبته إلی المشهور من أصحابنا المتقدّمین، ثمّ نقل قول الشیخ ابن نوبخت قدس سره وهو من متقدّمی أصحابنا فی کتابه «فصّ الیاقوت» حیث قال: «دافعوا النصّ کفرةٌ عند جمهور أصحابنا، ومن أصحابنا من یفسّقهم...».

وقال العلاّمة فی شرحه: «أمّا دافعوا النصّ علی أمیرالمؤمنین علیه السلام بالامامة،

ص:307

فقد ذهب أکثر أصحابنا إلی تکفیرهم، لأنّ النص معلومٌ بالتواتر من دین محمّد صلی الله علیه و آله ، فیکون ضررویا أی معلوما من دینه ضرورةً، فجاحده یکون کافرا کمن یجحد وجوب الصلاة وصوم شهر رمضان».

وأختار ذلک فی «المنتهی» فقال فی کتاب الزکاة إنّ من شروط المستحقّ هو الایمان وعلّل ذلک بقوله: «لأنّ الامامة من أرکان الدین وأصوله، وقد عُلم ثبوتها من النبیّ صلی الله علیه و آله ضرورة، والجاحد لها لا یکون مصدّقا للرسول فی جمیع ما جاء به، فیکون کافرا» انتهی.

وقال المفید فی «المقنعة»: «ولا یجوز لأحدٍ من أهل الایمان أن یغسل مخالفا للحقّ فی الولایة، ولا یصلّی علیه».

ونحوه قال ابن البرّاج، وقال الشیخ فی «التهذیب» بعد نقل عبارة «المقنعة»: «الوجه فیه أنّ المخالف لأهل الحقّ کافر، فیجب أن یکون حکمة حکم الکفار إلاّ ما خرج بالدلیل».

وقال ابن ادریس فی «السرائر» بعد أن اختار مذهب المفید فی عدم جواز الصلاة علی المخالف ما لفظه: «وهو أظهر، ویعضده القرآن وهو قوله تعالی: «وَلاَ تُصَلِّ عَلَی أَحَدٍ مِّنْهُم مَّاتَ أَبَدا» یعنی الکفار والمخالف لأهل الحقّ کافرٌ بلا خلاف بیننا، ومذهب المرتضی فی ذلک مشهور فی کتب الأصحاب، إلاّ أنّه لا یحضرنی الآن شیءٌ من کلامه فی الباب».

وقال الفاضل المولی محمّد صالح المازندرانی فی «شرح أصول الکافی»: «ومن أنکرها _ یعنی الولایة _ فهو کافر، حیث أنکر أعظم ما جاء به الرسول وأصلاً من أصوله».

وقال الشریف القاضی نور اللّه فی کتاب «احقاق الحقّ»: «من المعلوم أنّ الشهادتین بمجرّدهما غیر کافیتین إلاّ مع الالتزام بجمیع ما جاء به النبی صلی الله علیه و آله من أحوال المعاد والامامة، کما یدلّ علیه ما اشتهر من قوله صلی الله علیه و آله : «مَن مات ولم یعرف

ص:308

إمام زمانه مات میتة جاهلیة»، ولا شکّ أن المنکر لشیء من ذلک لیس بمؤمن ولا مسلم، لأنّ الغلاة والخوارج وإن کانوا من فرق المسلمین، نظرا إلی الاقرار بالشهادتین، إلاّ أنّهما من الکافرین نظرا إلی جحودهما ما علم من الدین، ولیکن منه بل من أعظم أصوله امامة أمیرالمؤمنین علیه السلام ».

وممّن صرّح بهذه المقالة أیضا الفاضل المولی المحقّق أبوالحسن الشریف ابن الشیخ محمد طاهر المجاور بالنجف الأشرف حیّا ومیّتا فی شرحه علی «الکفایة» حیث قال فی جملة کلامٍ فی المقام فی الاعتراض علی صاحب الکتاب، حیث إنّه من المبالغین فی القول باسلام المخالفین: «ولیت شعری أیّ فرق بین من کفر باللّه تعالی ورسوله، ومن کفر بالأئمّة علیهم السلام مع أنّ کلّ ذلک من أصول الدین. إلی أن قال: ولعلّ لشبهة عندهم زعمهم کون المخالف مسلما حقیقة، وهو توهّم فاسد، مخالف للأخبار المتواترة. والحقّ ما قاله علم الهدی من کونهم کفارا مخلّدین فی النار، ثمّ نقل بعض الأخبار فی ذلک وقال: والأخبار فی ذلک أکثر من أن تحصی، ولیس هنا موضع ذکرها، وقد تعدّت عن حدّ التواتر، وعندی أنّ کفر هؤلاء من أوضح الواضحات فی مذهب أهل البیت علیهم السلام » انتهی کلام صاحب «الحدائق»(1).

ثمّ أختار رحمه الله هذا القول بعد نقل ذلک عن الشهید الثانی فی باب الاسئار، ومن السّید نعمت اللّه الجزائری بنقل الأخبار، قال: «وهو الحقّ المدلول علیه بأخبار العترة الأطهار، کما سیأتیک إن شاء اللّه ساطعة الأنوار».

أقول: نقلنا کلامه بطوله لکونه أحسن ممّن جمع الأقوال فی الطائفتین. وعلیه، فلا بأس حینئذٍ بنقل ما یمکن أن یستدلّ به للمطلب حتّی یتّضح لنا الحقّ فی اختیار علی أنّ الطهارة أو النجاسة، ولعلّ أهم دلیل علی المدّعی الأخبار الدالّة الی من أقرّ بالشهادتین فقد طهر وصار مسلّما، ویترتّب علیه الآثار من الطهارة،


1- الحدائق، ج 5، ص 177 _ 175.

ص:309

وجواز المناکحة والمیراث وجواز المعاملة، وهی کثیرة لعلّها تصل الی حدّ الاستفاضة، بل أزید:

منها: خبر سفیان بن السمط، قال: «سأل رجل أبا عبداللّه علیه السلام عن الاسلام والایمان ما الفرق بینهما؟ فلم یجبه، ثمّ سأله فلم یجبه، ثمّ التقیا فی الطریق وقد أزف(1) من الرجل الرحیل، فقال له أبوعبداللّه علیه السلام : کأنّه قد أزف منک الرحیل؟ فقال: نعم، فقال: فألقنی فی البیت، فلقیه فسأله عن الاسلام والایمان ما الفرق بینهما؟ فقال: الاسلام هو الظاهر الذی علیه الناس من شهادة أن لا اله الاّ اللّه وحده لا شریک له، وأنّ محمّدا عبده ورسوله، وإقام الصلاة وإیتاء الزکاة وحجّ البیت وصیام شهر رمضان، فهذه الاسلام، وقال: الایمان معرفة هذا الأمر، مع هذا فإنّ أقرّ بهما ولم یعرف هذا الأمر کان مسلما وکان ضالاًّ»(2).

فانّ ذیله یدلّ علی أنّ من أقرّ بالأمور المذکورة ولکن لم یعرف الأمر أی الولایة کما هو المراد غالبا من استخدام هذا اللفظ فی النصوص لافهام الولایة، کما أن لفظ الناس والجماعة بقرینة التقابل مع أهل الولایة یراد به غیر أهل الولایة، کما لا یخفی لمن هو عارف باسلوب کلام أهل البیت کان مسلما، ویترتّب علیه آثاره ومنها الطهارة، ولکنّه ضالّ.

ومنها: خبر سماعة، قال: «قلت لأبی عبداللّه علیه السلام أخبرنی عن الاسلام والایمان أهما مختلفان؟ فقال: إنّ الایمان یشارک الاسلام، والاسلام لا یشارک الایمان. فقلت: فصفهما لی؟ فقال: الاسلام شهادة أن لا اله الاّ اللّه والتصدیق برسول اللّه، به حقنت الدماء، وعلیه جرت المناکح والمواریث، وعلی ظاهره جماعة الناس، والایمان الهدی وما یثبت فی القلوب من صفة الاسلام، وما ظهر


1- أزف أی قرب أی دنی.
2- الکافی الأصول، ج 2، ص 24 من طبعة طهران.

ص:310

من العمل به، والایمان أرفع من الاسلام بدرجة، إنّ الایمان یشارک الاسلام فی الظاهر، والاسلام لا یشارک الایمان فی الباطن، وإن اجتمعا فی القول والصفة»(1).

ومنها: خبر حمران بن أعین أو صحیحته، عن الباقر علیه السلام ، قال: «سمعته یقول: الایمان ما استقرّ فی القلب، وأفضی به إلی اللّه عزّوجلّ، وصدّقه العمل بالطاعة للّه والتسلیم لأمره ما ظهر من قولٍ أو فعل، وهو الذی علیه جماعة الناس من الفِرق کلّها، وبه حُقنت الدماء، وعلیه جرت المواریث، وجاز النکاح، واجتمعوا علی الصلاة والزکاة والصوم والحجّ، فخرجوا بذلک من الکفر، وأضیفوا إلی الایمان، والاسلام لا یشرک الایمان والایمان یشرک الاسلام، وهما فی القول والفعل یجتمعان، کما صارت الکعبة فی المسجد والمسجد لیس فی الکعبة، وکذلک الایمان یشرک الاسلام والاسلام لا یشرک، الایمان. إلی أن قال: قلت: فهل للمؤمن فضل علی شیء من الفضائل والأحکام والحدود وغیر ذلک؟ فقال: لا هما یجریان فی ذلک مجری واحد، ولکن للمؤمن فضلٌ علی المسلم فی أعمالهما وما یتقربان به إلی اللّه عزّوجلّ، إلی أن قال: قلت: أرأیت من دخل فی الاسلام ألیس هو داخلاً فی الایمان؟ فقال: لا ولکنّه قد أضیف إلی الایمان وخرج من الکفر، الحدیث»(2).

ومن هذا الحدیث یظهر أن الذی یُخرج من الکفر هو الاسلام الذی أضیف الیه الایمان ولا یجعله بدخوله فی الاسلام مؤمنا حقیقة، أی ربّما یطلق علی المسلم وصف الایمان ویقال إنّه مؤمن، ولکن یقصد منه أنّه مسلم وهو المطهّر، والشاهد علی قوله تعالی: «قَالَتِ الاْءَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَکِن قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا


1- أصول الکافی، ج 2، ص 25، من طبعة طهران.
2- أصول الکافی، ج 2، ص 26.

ص:311

یَدْخُلِ الاْءِیمَانُ فِی قُلُوبِکُمْ»(1).

کما یؤیّد ذلک ما ورد فی روایة عبدالرحیم القصیر، قال: «کتبتُ مع عبدالملک ابن أعین إلی أبی عبداللّه علیه السلام : «أسأله عن الایمان ما هو؟ فکتب الیّ إلی أن قال: فإذا أتی العبد کبیرةً من کبائر المعاصی أو صغیرةً من صغائر المعاصی التی نهی اللّه عزّوجلّ عنها، کان خارجا من الایمان، ساقطا عنه اسم الایمان، وثابتا علیه اسم الاسلام، فإن تاب واستغفر عاد الی دار الایمان، ولا یخرجه إلی الکفر إلاّ الحجود، والاستحلال أن یقول للحلال هذا حرام، وللحرام هذا حلال ودان بذلک، فعندها یکون خارجاً من الاسلام والایمان داخلاً فی الکفر، وکان بمنزلة من دخل الحرم ثمّ دخل الکعبة وأحدث فی الکعبة حدثا، فأخرج عن الکعبة وعن الحرم فضربت عنقه وصار إلی النار»(2).

ومثله فی الخروج عن الایمان والدخول فی الاسلام، أو من الاسلام و الدخول فی الکفر والتمثیل باحداث الحَدَث فی الکعبة استهانةً بها الموجب للکفر والعقوبة مضمرة سماعة بن مهران(3)، فإنّ مجموع هذه الأخبار یدلّ علی أن الطهارة مختصة لأهل الایمان المقرّین بالشهادتین والتصدیق الباطنی بهما، کما قد یستفاد ذلک من قوله تعالی: «قَالَتِ الاْءَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَکِن قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا یَدْخُلِ الاْءِیمَانُ فِی قُلُوبِکُمْ»(4) حیث یفهم الفرق بین الاسلام والایمان من جهة عدم دخوله فی القلب، بل اقراره بهما مجرد لقلقة اللسان دون الرسوخ فی القلب علیه من الطهارة وجواز المناکحة والمواریث وحقن الدم، حتّی ولو کان ضالاًّ کما


1- سورة، آیة 14.
2- أصول الکافی، ج 2، ص 27.
3- اصول الکافی، ج 2، ص 28.
4- سورة الحجرات، آیة 14.

ص:312

عبّر عنه بذلک الامام الصادق علیه السلام فی خبر سفیان، کما قد یکون منافقاً کما أشار الیه القرآن فی سورة المنافقین فی قوله تعالی: «إِذَا جَاءکَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّکَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ یَعْلَمُ إِنَّکَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ یَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِینَ لَکَاذِبُونَ»(1) فإنّ المنافقین الذین شهد اللّه بکذبهم لا یکون الاّ من جهة عدم تطابق اعتقاد قلوبهم مع ما یصدر من أفواههم، کما قال اللّه عزّوجلّ فی آیة أخری: «یَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِم مَّا لَیْسَ فِی قُلُوبِهِمْ»(2) أی کانوا یقرّون بالسنتهم بأنّه رسول اللّه، ولکن لا یعقدون بذلک فی قلوبهم، ومع ذلک کان رسول اللّه صلی الله علیه و آله یعامل معهم معاملة المسلمین من حیث المخالطة والمساورة، ولایجتنبون عنهم لأجل کذبهم فی الشهادة، ولیس هذا الاّ لأجل أنّ مجرد الاقرار باللّسان بالشهادین کافٍ فی الحکم بالطهارة، ویترتّب علیه الآثار، والأخبار الدالّة علی ذلک علی حدّ التواتر، کما أشار الیه شارح «المفاتیح» علی ما فی «الجواهر» نقلاً عنه.

وبالجملة: یمکن دعوی قیام السیرة عن الرسول صلی الله علیه و آله والأئمّة علیهم السلام خصوصا عن مثل أمیرالمؤمنین علیه السلام حیث کان مواجها مع کثیر من المنکرین بولایته، ولم یسمع منه ولا من غیره من خلّص شیعته الاجتناب عن معاشرتهم لأجل نجاستهم، بل ربّما یحصل القطع للمتتبع فی التاریخ اختلاطه والمجالسة والمعاشرة معهم من دون نقل ما یشیر إلی نجاستهم والاحتراز عنهم، واحتمال التقیة فی حقّه بعید عن الصواب، لارتکابهم خلاف التقیة فی أشدّ من ذلک، فلیس ذلک إلاّ لأجل ما عرفت من کفایة الاقرار بالشهادتین فی الطهارة وجواز المعاشرة، بل ربّما یؤیّد ذلک ملاحظة حال رسول اللّه صلی الله علیه و آله مع بعض المنافقین والمنافقات من أصحابه وزوجاته مع علمه بحالهم وحالهنّ، وعنادهم مع الولیّ علیه السلام ، بل قد ورد فی بعض الأخبار بأنّ النبی صلی الله علیه و آله کان یغتسل مع فلانة فی إناء واحد، فلو لم یکن لنا فی ذلک شیء إلاّ


1- سورة المنافقون، آیة 1.
2- سورة آل عمران، آیة 167.

ص:313

مثل هذه الأدلة لکفانا لاثبات المطلب، والرّد علی بعض الأصحاب مثل السّید المرتضی رحمه الله ومن تبعه من بعض المتأخّرین الذین قد عرفت اسماء بعضهم ممّن یعتقدون نجاسة معتقد خلاف الحقّ من منکری الولایة.

نعم، لا بأس لنا بحمل بعض الأخبار المشتملة والدالّة علی کفرهم علی کونهم کذلک فی الباطن، أو کفرهم حال الموت لو کانوا باقین علی ذلک، مع تقصیرهم وعنادهم علی ذلک، لا من کان علی قصور فیه کما یظهر عن بعض الأخبار الواردة فی حقّهم عن صاحب الأمر علیه السلام ، مثل الخبر الذی رواه محمّد بن أحمد الأنصاری، قال: «وجّه قوم من المفوّضة والمقصّرة کامل بن إبراهیم المدنی الی أبی محمّد علیه السلام ، فقلت فی نفسی: أسأله لا یدخل الجنّة إلاّ من عرف معرفتی وقال بمقالتی، إلی أن قال فی جوابه صاحب الأمر علیه السلام : إذن واللّه یقلّ داخلها، واللّه إنّه لیدخلها قومٌ یقال لهم الحقّیة، قلت: یا سیّدی ومن هم؟ قال: قومٌ من حبّهم لعلیّ یحلفون بحقّه ولا یدرون ما حقّه وفضله، الحدیث»(1).

والحاصل من جمیع ما ذکرناه: أنّ الاسلام قد یطلق ویراد به:

تارة: الایمان، أی الذی کان مقرّا باللسان وعاملاً بالارکان ومعتقدا بالجنان، وهو الفرد الکامل من المسلم المؤمن.

وأخری: یطلق علی المصدّق بغیر الولایة کجماعة الناس والعامّة.

وثالثة: یطلق ویراد به من أظهر الشهادتین بلسانه فقط، وإن لم یکن عاملاً بالأرکان، فضلاً عن الاعتقاد بالجنان، وهو مثل کثیر من الفاسقین التارکین للواجبات والفاعلین بالمحرمات.

فبذلک یُعرف صحة اطلاق الکفر فی قبال هذه الثلاثة ما فی «الجواهر» ویقابله الکفر فی الثلاثة کما لا یخفی.


1- بحارالانوار: ج 52، ص 50، الحدیث 16، 35 نقلاً عن «الغیبة» للطوسی.

ص:314

ومن خلال ما ذکرنا یفتح باب التوجیه لأخبار کثیرة واردة فی تکفیر منکری ولایة علی علیه السلام ، لأنّه العَلَم الذی نصبه اللّه بینه وبین عباده:

منها: فضیل بن یسار، عن أبی جعفر علیه السلام ، قال: «انّ اللّه عزّوجلّ نصب علیّا علما بینه وبین خلقه، فمن عرفه کان مؤمنا، ومن أنکره کان کافرا، ومن جهله کان ضالاًّ، ومن نصب معه شیئا کان مشرکا ومن جاء بولایته دخل الجنّة»(1).

ومنها: خبر أبی حمرة، قال: «سمعت أبا جعفر علیه السلام یقول: إنّ علیّا علیه السلام باب فتحه اللّه عزّوجلّ، فمن دخله کان مؤمنا، ومن خرج منه کان کافرا»الحدیث(2).

حیث یراد من الایمان والکفر ما ینطبق علی الاسلام، حیث یصدق علیه الایمان المرادف للاسلام، والکفر المرادف لانکار الولایة، لا أصل الاسلام، وعلیه یحمل ما روی: «من ماتَ ولم یعرف إمام زمانه مات میتة جاهلیة»(3) فإنّه قد أرید به الکفر فی مقابل الایمان القابل للانطباق علی الاسلام، ونجاستهم غیر معلومة لانّ العمدة فی دلیلها عموم معاقد الاجماعات السابقة، ومن المعلوم ارادة غیرهم منها، بل وفی «الجواهر»: «کیف لا، والمشهور هنا شهرةً کادت أن تکون اجماعا بل هی کذلک کما عرفت علی الطهارة».

مع امکان أن یکون المراد من الکفر فی بعض الأخبار هو معناه اللّغوی العام من معانی الکفر، أی کفران نعمة الولایة وهو اخفاءها، حیث لم یعرفوا قدرها، بل ربّما یکون بهذا المعنی المزبور أخبث باطنا من الکفار، بل أشدّ عقابا کما جاء فی قوله تعالی: ب«إِنَّ الْمُنَافِقِینَ فِی الدَّرْکِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ ».

ولعلّ إلی ذلک یشیر ما ورد فی حقّ أهل الشام ومکّة والمدینة مثل خبر


1- وسائل الشیعة: الباب 10 من أبواب حدّ المرتد، الحدیث 48.
2- المصدر السابق، الحدیث 48.
3- الغدیر للامینی، ج 10، ص 360، نقلاً عن شرح المقاصد للتفتازانی، ج 2، ص 275.

ص:315

سلیمان بن خالد، عن أبی عبداللّه علیه السلام ، قال: «إنّ أهل الشام شرٌّ من أهل الروم، وأهل المدینة شرٌّ من أهل مکّة، وأهل مکّة یکفرون باللّه جهرة»(1).

وروایة أبی بصیر، عن أحدهما علیهماالسلام : «إنّ أهل مکّة لیکفرون باللّه جهرةً، وأنّ أهل المدینة أخبث من أهل مکّة أخبث منهم سبین ضعفاً»(2).

ولعلّ کفرهم من جهة انکارهم الولایة ورفع الید عنها، بل بعضهم بلغ مرتبةً یمکن الحکم علیهم بالنجاسة لنصبهم والعداوة لهم ولشیعتهم.

وکیف کان، کونهم کافرین عند الموت أو فی الآخرة لا ینافی کونهم مسلمین فی الظاهر، ومحکوما لهم بالطهارة، ویلحق بالکفار فی الآخرة ویدخلون النّار، کما یدلّ علیه بعض الأخبار.

أقول: وبما ذکرنا من التوجیه ظهر ضعف ما ذهب الیه المرتضی رحمه الله ومن تبعه من حکمهم بنجاسة غیر المؤمن أی من أنکر الولایة، مستدلاً بقوله تعالی: «إِنَّ الدِّینَ عِندَ اللّهِ الإِسْلاَمُ»(3) وقوله تعالی: «وَمَن یَبْتَغِ غَیْرَ الإِسْلاَمِ دِینا فَلَن یُقْبَلَ مِنْهُ»(4)، لانّ غیر المؤمن هو غیر مسلم فهو کافر، وبقوله تعالی: «کَذَلِکَ یَجْعَلُ اللّهُ الرِّجْسَ عَلَی الَّذِینَ لاَ یُؤْمِنُونَ»(5) بأن یکون المراد من (الرجس) النجاسة، فغیر المؤمن نجسٌ وهو المطلوب، لما قد عرفت من صدق الاسلام فی حقّهم، وکونهم مسلمین ظاهرا، وعلی ذلک قد یطلق علیه إسم المؤمن المرادف لمعنی المسلم، أی من أقرّ بالشهادتین وإن لم یعتقد ذلک بقبله، کما أنّ الرجس قد یراد منه الخباثة والعذاب، کما یطلق هذا اللّفظ علی مثل المیسر والأزلام ونحوهما ممّا


1- أصول الکافی، ج 2، ص 409، الحدیث 3.
2- المصدر السابق، ص 410، الحدیث 4.
3- سورة آل عمران، آیة 17.
4- سورة آل عمران، آیة 79.
5- سورة الانعام، آیة 125.

ص:316

لا یناسب مع النجاسة، کما لا یخفی.

وعلیه، فالأقوی عندنا هو ما ذهب إلیه المشهور من المتأخّرین من الحکم بطهارة أهل الخلاف.

وأمّا ما یظهر من کلام الشیخ والمفید فی «المقنعة» والعلاّمة فی «المنتهی» وابن ادریس فی «السرائر»، وصاحب «الحدائق» من کفر منکری الولایة، وإن وجّه کلامهم صاحب «الجواهر» بما لا یمکن الجزم بصحة توجیهه، لظهور کلام بعضهم فی الحکم بالنجاسة والکفر لأنّهم أنکروا النصّ بالولایة الذی یعدّ ذلک انکارا لضروری من الدین، والمنکر لذلک یعدّ کافرا ونجسا، کما اعترف نفسه الشریف بمخالفة التوجیه لظاهر کلامهم، فلا یهّمنا ذلک بعد ما ثبت ما هو المستفاد من الأخبار.

حکم الناصبی

البحث عن حکم الناصب

نعم، بقی هنا دعوی دخول المخالف تحت عنوان الناصب، المجمع علیه عندهم علی النجاسة، کما نقل ذلک صاحب «الأنوار النعمانیة» للجزائری، أو لا کلام فی نجاستهم کما فی «جامع المقاصد»، أو غیر خلافٍ فیها کما فی «الدلائل» و«شرح المفاتیح» للاستاذ الأکبر لصاحب الجواهر، المتّخذ ذلک من الأخبار المستفیضة:

منها: خبر ابن أبی یعفور، عن أبی عبداللّه علیه السلام ، قال: «لا تغتسل من البئر التی تجتمع فیها غُسالة الحمام، فإنّ فیها غسالة ولد الزنا وهو لا یطهر إلی سبعة آباء، وفیها غُسالة الناصب وهو شرّهما، إنّ اللّه لم یخلق خلقا شرّا من الکلب وأنّ الناصب أهون علی اللّه من الکلب»(1).

ومنها: خبره الآخر عنه علیه السلام فی حدیثٍ، قال: «وایّاک أن تغتسل من غُسالة


1- وسائل الشیعة: الباب 11 من أبواب الماء المضاف، الحدیث 4.

ص:317

الحمام ففیها تجتمع غُسالة الیهودی والنصرانی والمجوسی والناصب لنا أهل البیت، فهو شرّهم، فإنّ اللّه تبارک وتعالی لم یخلق خلقا أنجس من الکلب وإنّ الناصب لنا أهل البیت لأنجس منه»(1).

ومنها: خبر القلانسی فی جواب سؤاله عن لقاء الذمّی فیصافحه، فقال: «أمسحها بالتراب، قلت: والناصب؟ قال: أغسلها»(2).

والتحقیق: إنّ النَصْب یتحقّق بأحد أمور ثلاثة: أمّا بتقدیم الجبت والطاغوت أو البغض والعداوة لأهل البیت، أو لشیعتهم صلوات اللّه علیهم.

أمّا الأوّل: فقد روی فی «مستطرفات السرائر» نقلاً عن کتاب «مسائل الرجال» لمولانا أبی الحسن علی بن محمّد الهادی علیهم السلام فی جملة مسائل محمّد بن علی بن عیسی، قال: «کتبتُ الیه أسأله عن الناصب هل أحتاج فی امتحانه الی أکثر من تقدیمه الجبت والطاغوت، واعتقاده بامامتهما؟ فرجع الجواب: مَن کان علی هذا فهو ناصب إلی آخره»(3). حیث یدلّ علی صدق الناصب علی کلّ من قدّمهما، کما اختاره بعض الأصحاب واستدلّ علیه: «بانّه لا عداوة أعظم ممّن قدم المنحّط عن مراتب الکمال، وفضّل المنخرط فی سلک الأغبیاء الجهّال، علی من تسنّم أوج الجلال حتّی شُک انّه اللّه المتعال» انتهی.

ونحوه فی شرحه علی «الرسالة الألفیّة» هذا کما عن «الحدائق»(4) وقد اتّفق معهم صاحب «الحدائق» ورتب علیهم حکم النجاسة معلّلاً بأنّ المقدّم لهما ناصبیٌ واجماع الامامیة علی نجاسة الناصبی کالخوارج الذین حاربوا علیّاً علیه السلام .


1- وسائل الشیعة: الباب 11 من أبواب الماء المضاف، الحدیث 5.
2- وسائل الشیعة: الباب 14 من أبواب النجاسات ، الحدیث 4.
3- الوافی، ج 2، ص 56؛ وسائل الشیعة: الباب 2، الحدیث 14.
4- الحدائق، ج 5، ص 176.

ص:318

أقول: هذا حکم الفقهاء کالمحقّق فی «المعتبر» ومن بعده من المتأخّرین، وذهبوا الی طهارة المخالفین الذین هم قدر المتیقن من هذا العنوان، تمسّکا بالسیرة الثابتة من النبی صلی الله علیه و آله والصحابة والأئمّة علیهم السلام فی المعاشرة والمساورة معهم، من دون أن ینقل عنهم الاجتناب، فشمول أخبار الناصبی لمثلهم غیر مقبول عندنا، وإن ذکر بعضهم منهم فی الاطلاق والاسم کما نقل عن الشیخ المحدّث الصالح عبداللّه بن صالح البحرانی رحمه الله حیث أطلق علیهم عنوان الناصبی، إلاّ أنّه وافق المشهور بین المتأخّرین من الحکم باسلامهم وطهارتهم.

وکیف کان، هذا هو أحد الافراد من معانی النصب ولم یحکم فیه بالکفر.

المعنی الثانی: الذی أطلق علیه النصب هو الذی أظهر بغضه لأهل البیت علیهم السلام ، وهو الذی قد قبله المحدّث الصالح المزبور، بل هو مقبول لدی کثیر من الفقهاء کما عن العلاّمة فی «النهایة» و«التذکرة» و«حاشیة الشرائع» حیث صرّحوا بأنّ الناصبی هو الذی یتظاهر بعداوة أهل البیت علیهم السلام ، بل عن الجزائری نسبته الی أکثر الأصحاب، بل قد یؤیّده ما فی کتب اللّغة منها «القاموس» من أنّ النواصب وأهل النصب (هم المتدینون ببغض علی علیه السلام ، لأنّهم نصبوا له أی عادوه) انتهی، ویؤیّده ما فی «المعتبر» و«المنتهی» أنّهم الخوارج الذین یقدحون فی علی علیه السلام ، بل لعلّه ظاهر اقتصار الکتاب و«النافع»، بل هو ظاهر الصدوق و«الفقیه» فی نکاحه، بل هو الظاهر عن صاحب «الجواهر» و«مصباح الفقیه» وکثیر من المتأخّرین.

خلافا ل«صاحب الحدائق» حیث نسب الی شیخنا الشهید الثانی، وقال: «إنّه تفطّن من الاطلاع علی غرائب الأخبار، فذهب الی أنّ الناصبی هو الذی نصب العداوة لشیعة أهل البیت لا لهم، وتظاهر فی القدح فیهم کما هو حال أکثر المخالفین لنا فی هذه الأعصار، فی کلّ الأمصار إلی آخر کلامه» وجعل وجه النسبة کلام الشهید الثانی فی «الروض» فی بحث السؤر، حیث قال بعد ذکر

ص:319

المصنّف نجاسة سؤر الکافر والناصب ما لفظه علی ما فی «الحدائق»: «والمراد به مَن نَصَب العداوة لأهل الیت علیهم السلام أو لأحدهم، وأظهر البغضاء لهم صریحا أو لزوما لکراهة ذکرهم ونشر فضائلهم، والاعراض عن مناقبهم من حیث أنّها مناقبهم والعداوة لمحبیهم بسبب محبّتهم، وروی الصدوق ابن بابویه عن عبداللّه بن سنان، عن الصادق علیه السلام ، قال: «لیس الناصب مَن نَصَب لنا أهل البیت، لأنّک لا تجد أحدا یقول أنا أبغض محمّدا وآل محمّد، ولکن الناصب من نَصَب لکم وهو یعلم أنّکم تتولّونا وانّکم شیعتنا»(1) إلی آخر کلامه»(2) ومثله روایة معلّی بن خنیس عنه علیه السلام (3).

قلنا: قد عرفت أنّه هو المعنی الثالث للناصب، وحمل الناصب علی مثل ذلک حملٌ علی غیر الظاهر من اطلاق هذا اللّفظ، لوضوح أنّ ما یوجب الخروج عن الاسلام والدخول إلی الکفر هو العداوة لأهل البیت علیهم السلام والقدح فیهم، کما أنّه بذلک حکموا بکفر الخوارج، حیث قدحوا صراحة فی حقّ علیّ علیه السلام کما عرفت من کلام الفقهاء، فکیف یمکن القول بأنّ الناصب للشیعة وما حبّی أهل البیت کافر ونجس، دون من یظهر العداوة لأهل البیت، بل لابدّ أن یقال بالتوسعة بأن لا یکون الناصب لهم فقط ناصبیا بل وهکذا ناصبی شیعتهم ومحبّیهم إن کانت العداوة للشیعة لأجل محبّتهم لهم، بحیث ترجع العداوة الیهم علیهم السلام ، کما أشار إلی ذلک الشهید الثانی فی آخر کلامه بقوله: «والعداوة لمحبیهم بسبب محبّتهم» بل قد یظهر من کلام الشهید عکس ما ادّعاه، بل الروایة غیر منافیة لما ذکرنا لأنّ الظاهر من لسانها بیان التوسعة، وذکر ما کان عندهم من البُغض لأهل البیت واخفائهم عن جماعة الناس فی الظاهر، وابراز غضبهم وسخطهم بالسّب لشیعتهم ومحبّیهم،


1- وسائل الشیعة: الباب 2 من أبواب مایجب فیه الخمس، الحدیث 3.
2- الحدائق، ج 5، ص 177.
3- وسائل الشیعة: الباب 68 من أبواب القصاص فی النفس، الحدیث 2.

ص:320

ولذلک قال علیه السلام : «لا تجد أحدا یقول أنا أبغض محمّدا وآل محمّد صلی الله علیه و آله » حیث یفید أنّ الامام علیه السلام کان یقصد تحدید الناصبی وأنّه الذی ینصب العداء لآل لرسول صلی الله علیه و آله لکنه لا یستطیع إظهار ذلک فیبرزه فی حقّ شیعتهم ومحبّیهم لأجل تلک المحبّة، والاّ فمن الواضح أنّهم لو کانوا فی الحقیقة محبین لأهل البیت والرسول لمّا عادو مجیبهم، لأنّ مبغض المحبّ مبغض، کما أنّ محبّ المحبّ محبّ.

وکیف کان، هذه الروایة غیر منافیه لما اختاره المشهور من معنی النصب وهو المعنی الثانی، وإن کان قد یشمل ذلک للمعنی الثالث، إذا کان وجه العداوة راجعا إلی عداوة أهل البیت، فحینئذٍ یدخل تحت عنوان الناصبی الذی قام الاجماع علی نجاسته، مضافا الی الخبرین المرویین عن ابن أبی یعفور وخبر القلانسی من الحکم بالغَسل بمصافحة الناصبی.

أقول: کلّ هذا مضافا إلی امکان استفادة النجاسة من طائفة أخری من الأخبار غیر ما سبق:

منها: مرسل الوشّاء، عن من ذکره، عن الصادق علیه السلام : «أنّه کره سؤر ولد الزنا وسؤر الیهودی والنصرانی والمشرک وکلّ من خالف الاسلام، وکان أشدّ ذلک عنده سؤر الناصب»(1).

حیث یراد من الکراهة هو الاجتناب اللازم، کما یفهم ذلک من وحدة السیاق مع سؤر الیهودی والنصرانی والمشرک، حیث أنهم انجاس، فیکون الأمر کذلک فی سؤر الناصب أیضا، حتّی لا یلزم استعمال اللفظ فی أکثر من معنی من الحقیقة والمجاز، أو من المشترک.

ومنها: مرسلة أخری لعلیّ بن الحکم، عن رجل، عن الصادق علیه السلام ، وفیها: «لا تغتسل من ماء غسالة الحمام، فإنّه یغتسل فیه من الزنا ویغتسل فیه ولد الزنا


1- وسائل الشیعة: الباب 3 من أبواب الاسئار، الحدیث 2.

ص:321

والناصب لنا أهل البیت وهو شرّهم»(1).

إن أرید من النهی التحریمی لا التنزیهی، وإلاّ لا یخرج عن الاستدلال.

ومنها: خبر حمزة بن أحمد(2) عن أبی الحسن الأوّل، وخبر محمّد بن علی بن جعفر علی عن أبی الحسن الرضا علیه السلام (3).

هذه مجموعة الأخبار الدالّة علی نجاسة الناصبی، فإنّه وإن قد یرد من الاشکال علی دلالة بعضها لاشتمالها لما لا یکون حکمه کذلک کما سیأتی، لکنّها مؤیّدة بالاجماع المدّعی من الأصحاب.

المناقشة فی نجاسة الناصبی

قد یخطر بالبال من الاشکال وهو عدم وضوح الاجتناب عن من کان عدوّا لأهل البیت علیهم السلام من علیّ وفاطمة والحسن والحسین علیهم السلام ، مع کثرة ما عانوه من أذی الأرجاس وعداوتهم باحراق باب البیت والضرب والهتک لهم والوقیعة الشنیعة الصادرة منهم فی حقّهم من بنی أمّیة وبنی مروان وبنی العبّاس؟!

ولعلّ ذلک کان لمصلحة اقتضت فی تلک الأیّام بعدم ابرازهم لنجاستهم، أو لعلّه کان لأجل أن حکمهم علیهم بالنجاسة ربّما یوجب شدّة العمل فی العداوة، ومستلزم لنفور الناس عنهم، ممّا یعطی الفرصة للاعداء بالتوغل فی الاعتداء علیهم وافناء أهل البیت علیهم السلام ، وإن أخبروا علیهم السلام الحکم الشرعی بنحو الاجمال والاشارة، مثل ما صدر عنهم من أنّه: «ارتدّ الناس بعد رسول اللّه إلاّ ثلاثة أو خمس» وأمثال ذلک، ولکن الصادقین علیهماالسلام ذکرا نجاسة الناصبی بصورة أوضح


1- وسائل الشیعة: الباب 11 من أبواب الماء المضاف، الحدیث 3.
2- المصدر السابق، الحدیث 1.
3- المصدر السابق، الحدیث 2.

ص:322

وأبین لأجل تحقّق بعض المخلصین وأهل الحقیقة والدین، ولعلّ مثل هذه الأمور کان الداعی لما صدر عن شیخنا المرتضی قدس سره فی طهارته(1) من: «أنّ أغلب الأحکام الشرعیة انتشرت فی عصر الصادقین علیهماالسلام ، فلا مانع من أن یکون کفر النواصب منها، فأصحاب الأئمّة علیهم السلام الذین کانوا یخالطون النواصب فی دولة بنی أمّیة لعنهم اللّه لم یکونوا یعلمون هذا الحکم، لأجل عدم تذکّرهم علیهم السلام لهم لبعض المصالح التی ما کان لنا أن نتکلّم فی حقّهم، لأنّهم یعلمون ما لا نعلم، بل أمرونا بالسکوت فیما سکتوا من الأحکام فی برهة من الزمان. وأمّا الأئمة علیهم السلام بأنفسهم فلم یُعلم معاشرتهم للنواصب والخوارج فی غیر مقام التقیة، واللّه العالم».

بل ربّما کان بعض الناس یظهر النصب والتبرّی خوفاً من السلطة وتزلّفاً الیهم، ولم یکونوا من الناصبین.

وعلیه فالأقوی کما ورد التصریح بذلک فی روایة ابن أبی یعفور المؤیّدة بالشهرة بل الاجماع، أنّ المراد من الناصبی هو العدوّ لأهل البیت علیهم السلام ولو بعداوة شیعتهم، فلیتأمّل.

حکم سائر فرق الشیعة

البحث عن طهارة سائر فرق الشیعة

بقی هنا البحث عن حکم سائر الفرق من الشیعة کالزیدیة والواقفیة والاسماعیلیة وغیرهم، فهل محکومون بالنجاسة کالناصبی، أو حکمهم کالمخالفین من الطهارة وجواز المناکحة والمواریث إلاّ إذا ثبت نصبهم وعداوتهم لأهل البیت:؟ فیه قولان:

1. قول بالنجاسة وکونهم من النصاب، وهو ما صرّح به صاحب «الحدائق»، بل نسب إلی شیخنا البهائی قدس سره فی «مشرق الشمسین» أنّ متقدّمی أصحابنا کانوا یسمّون تلک الفرق بالکلاب الممطورة، أی الکلاب التی أصابها المطر مبالغةً فی


1- کتاب الطهارة للشیخ، ص 385.

ص:323

نجاستهم والبُعد عنهم.

والوجه فی ذلک وجود أخبار عدیدة قد استدلّ بها فی «الحدائق»، قال: «وهو مثل ما رواه الثقة الجلیل أبو عمرو الکشّی فی کتاب «الرجال» باسناده عن ابن أبی عمیر، عمّن حدّثه، قال: «سألت محمّد بن علی الرضا علیه السلام عن هذه الآیة «وُجُوهٌ یَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ عَامِلَةٌ نَّاصِبَةٌ»(1)؟ قال: وردت فی النصّاب والزیدیة، والواقفیة من النصاب».

وما رواه فیه بسنده إلی عمر بن یزید، قال: «دخلت علی أبی عبداللّه علیه السلام فحدّثنی ملّیا فی فضائل الشیعة، ثمّ قال: إنّ من الشیعة بعدنا من هم شرّ من النصّاب، فقلت: جعلت فداک ألیس ینتحلون مودّتکم ویتبرأون من عدوّکم؟ قال: نعم، قلت: جعلت فداک بیّن لنا لنعرفهم فلعلّنا منهم؟ قال: کلا یا عمر ما أنت منهم، إنّما هم قوم یفتنون بزیدٍ ویفتنون بموسی».

وما رواه فیه أیضا، قال: «إنّ الزیدیّة والواقفیّة والنّصاب بمنزلة واحدة».

وروی القطب الراوندی فی کتاب «الخرائج والجرائح» عن أحمد بن محمّد بن مطهّر، قال: «کتب بعض أصحابنا إلی أبی محمّد علیه السلام من أهل الجبل عن من وقف علی أبی الحسن علیه السلام أتولاّهم أم أتبرأ منهم؟ فکتب: لا تترحّم علی عمّک، لا رحم اللّه عمّک وتبرّأ منه إنّا إلی اللّه بُرآء منهم، فلا تتولّهم ولا تعد مرضاهم، ولا تشهد جنائزهم، ولا تصلّ علی أحدٍ منهم مات أبدا، سواءٌ من جحد إماما من اللّه تعالی أو زار إماما لیست امامته من اللّه، أو قال ثالث ثلاثة، إنّ الجاحد أمر آخرنا جاحدٌ أمر أوّلنا، والزائد فینا کالناقص الجاحد أمرنا».

وکان هذا السائل لم یعلم أنّ عمّه کان منهم فأعلمه بذلک، وهی کما تری ظاهرة فی المراد، عاریة عن وصمة الایراد) انتهی محلّ الحاجة من کلامه(2).


1- سورة الغاشیة، آیة 2 _ 3.
2- الحدائق، ج 5، ص 189 _ 190.

ص:324

أقول: بل نضیف الی هذه الأخبار خبر آخر نقله صاحب «مصباح الفقیه» عن عبداللّه بن المغیرة، فی «الروضة»، قال: «قلت لأبی الحسن علیه السلام : إنّی ابتلیت برجلین أحدهما ناصب والآخر زیدی، ولابدّ من معاشرتهما فمن أعاشر؟ فقال علیه السلام : هما سیّان، من کذب بآیةٍ من کتاب اللّه تعالی فقد نبذ الاسلام وراء ظهره، وهو المکذّب لجمیع القرآن والانبیاء والمرسلین، ثمّ قال: هذا نَصَبَ لک وهذا الزیدی نَصَب لنا»(1).(2)

2. قول بالطهارة، وهو لصاحب «الجواهر» حیث ذهب إلی أنّ حکمهم مثل حکم المخالفین من الطهارة، بل قال إنّ الطهارة فیهم أولی من المخالفین قطعا، ثمّ بعد نقل الأخبار یقول: «إلاّ أنّه لا یخفی قصورها فی جنب ما سمعته من الأدلّة السابقة التی یمکن جریانها بل وغیرها هنا، واللّه اعلم».حکم ولد الزّنا

أقول: لعلّ مقصوده من الأولویّة هو أنّ المخالفین هم الذین قدّموا الجبت والطاغوت، وأنکروا الولایة لجمیع الأئمّة علیهم السلام حتّی عن علی علیه السلام غیر جهة الخلافة، بل ضعّفوه ونزلّوه عن مقامه حتّی روی عن علیّ علیه السلام الشکایة عنهم والتأفیف لذلک حتی قال _ کما روی الاردبیلی قدس سره فی کتابه «حدیقة الشیعة» _ بانّه قال علیه السلام : «الدهر أنزلنی ثمّ أنزلنی حتّی یقال معاویة وعلی» وکلامه هذا حاک عن شدّة تأثره بالاهانة والتنزیل ومع ذلک یحکم بطهارتهم لأجل ما عرفت من العمومات والقواعد، فکیف الحال فی الطوائف التی دانت وآمنت بعدد کثیر من الأئمّة علیهم السلام ، وإن کانوا فی أصل الانحراف متساوین معهم، کما أشار الیه الامام علیه السلام بأنّ الجاحد لآخرنا کالجاحد لأوّلنا، ولکن ذلک لا ینافی کونهم طاهرین مثل المخالفین، واطلاق النصب فی حقهم یکون بمعناه العامّ الشامل لمن


1- مصباح الفقیه، ج 7، ص 288.
2- وسائل الشیعة: الباب 37 من أبواب الأمر بالمعروف والنهی عن المنکر، الحدیث 2.

ص:325

قَدّم الجبت والطاغوت، أو تقدیم من لم یقدّمه اللّه وتأخیر من قدّمه اللّه من الأئمّة علیهم السلام ، لا النصب بالمعنی الأخص حتّی یوجب الحکم بنجاستهم.

وعلیه، یمکن الجمع بین الأخبار بأن یکون النصب عنوانا کلّیا یصدق علی أفراد یکون بعضه طاهرا دون بعض، وکونهم شرّا من الیهود أو من بعض الناصبین لا یوجب الحکم بکونهم نجسا، إذ لم یطلق فی هذه الأخبار الحکم بنجاستهم کما هو المراد من البحث. وعلیه فالأقوی عندنا هو ما أختاره صاحب «الجواهر» رحمه الله من الطهارة وجواز المناکحة والتوریث، لکن بشرط أن لا یصیر ناصبیّا بمعناه الأخص أی معادیاً لأهل البیت علیهم السلام ولو لبعضهم أو لشیعتهم لأجلهم، والاّ یلحق بهم فی الحکم.

ثمّ أعلم انّ المستضعف من کلّ فرقة ملحقٌ من جهة الحکم بتلک الفرقة، فلا یکون له عنوان یدخل فیه، خلافا لصاحب «الحدائق» تبعا لبعض من فرق بین المستضعف من المخالفین من الحکم بطهارته وبین غیره، ولکن نعتقد أنّ الفرق یکون فی عالم الآخرة وبعد الموت، حیث ربّما لا یعذّب المستضعف کما أشار إلی ذلک فی قوله تعالی: «إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِینَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاء وَالْوِلْدَانِ لاَ یَسْتَطِیعُونَ حِیلَةً وَلاَ یَهْتَدُونَ سَبِیلاً»(1) دون غیرهم بخلاف حالهم فی الدنیا کما قال به صاحب «الجواهر» واللّه العالم.

البحث عن حکم ولد الزّنا

والبحث فیه یقع فی جهات:

تارة: فی کفر ولد الزنا وعدم کفره.

وأخری: فی نجاسة ولد الزنا وطهارته.


1- سورة النساء، آیة 95.

ص:326

وثالثة: فی دخوله الجنّة وعدمه.

وجمیع هذه المباحث یکون فی ولد الزنا المتولّد من المسلِمَین وأمّا لو کان أحدهما مسلما وقلنا إنّه ملحقٌ بالمسلم من جهة الحکم فی الطهارة والنجاسة وفی الکفر وعدمه فهو، فیبقی حکم ما لو تولّد من الکافرین فسیأتی بحثه، فلابدّ قبل الورود والخوض من ذکر الأدلّة من الأخبار وملاحظة الأقوال، قال صاحب «الجواهر» ما نصّه.

«ولیس من الکافر ولد الزنا قطعا، کما هو المشهور بین الأصحاب، بل لعلّه اجماعی لندرة المخالف ومعروفیّة نسبه کما ستعرف، بل هو لازم ما فی «الخلاف» من الاجماع علی تغسیله والصلاة علیه، خصوصا بعد ملاحظة ذیل کلامه، بل حکی عنه دعوی الاجماع علی الطهارة وهو الحجّة بعد اعتضاده بالسیرة القاطعة، سیّما فی زماننا هذا، فإنّ أکثر أولاد جواری من یقربنا من الرساتیق من الزنا، مع عدم تجنّب العلماء عنهم فضلاً عن العوام، واجراء جمیع أحکام المسلیمن والمؤمنین علیهم بعد بلوغهم ووصفهم ذلک. بل لا یخفی علی من تتّبع السیرة والتواریخ کثرة أولاد الزنا فی بدء الاسلام، ولم یعهد تجنّب سؤرهم أو غیره من النبی صلی الله علیه و آله والأئمّة علیهم السلام وأصحابهم، بل المعهود خلافه، بل قیل قد ورد إنّه قد صار بعض أولاد الزنا مقبولاً عند الأئمّة علیهم السلام ومنهم من وفّق للشهادة. واعتضاده قبل البلوغ بأصالة الطهارة وعموماتها فیه وفی الملاقی أیضا وبهما مع عموم أدلة الاسلام والایمان والمسلمین والمؤمنین بعد البلوغ» انتهی محلّ الحاجة(1).

قلنا: لقد أجاد فیما أفاد، خصوصا بعد ملاحظة الحدیث النبوی صلی الله علیه و آله وغیره من «إنّ کلّ مولود یولد علی الفطرة» الشامل بعمومه لمثل ولد الزنا من المسلم، کما لا


1- الجواهر، ج 6، ص 68.

ص:327

یخفی، بل وهکذا عموم ما یدلّ علی أنّ من أقرّ بالشهادتین فهو مسلم یحقن به دمه ویجوز نکاحه ومیراثه، بل ورد فی قوله تعالی: «وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ أَلْقَی إِلَیْکُمُ السَّلاَمَ لَسْتَ مُؤْمِنا»(1) الشامل بعمومه لمثله.

نعم، خالف فی ذلک وحکم بالکفر صریحا صاحب «السرائر»، وقال: «قد ثبت کفره بالأدلّة بلا خلافٍ بیننا» کأنّه عنده کان من المسلّمات، وهکذا عن السّید المرتضی، وظاهرا کما عن الصدوق من قوله: «ولا یجوز الوضوء بسؤر الیهودی والنصرانی وولد الزنا والمشرک» إن قلنا بالملازمة بین النجاسة والکفر، وهو غیر معلوم، لامکان القول بالنجاسة دون الکفر، کما یظهر ذلک من صاحب «الحدائق»، ولعلّ منه ظاهر الکلینی حیث روی ما یدلّ علی ذلک لا القول بالکفر جزما.

أقول: هذه هی الأقوال فی المسألة، وبعد الفراغ عن ذلک لا بأس بذکر الأخبار الواردة فی ولد الزنا بأسرها، ثمّ التعرّض بما یمکن الاستفادة منها من الأمور الثلاثة المذکورة فی صدر المسألة، فقد استدلّ لنجاسة ولد الزنا بأخبار:

منها: خبر حمزة بن أحمد، عن أبی الحسن الأوّل علیه السلام ، قال: «سألته أو سأله غیری عن الحمّام إلی أن قال: ولا تغتسل من البئر التی تجتمع فیها ماء الحمام، فإنّه یسیل فیها ما یغتسل به الجنب وولد الزنا والناصب لنا أهل البیت، وهو شرّهم»(2).

وجه الاستدلال: النهی عن الاغتسال بماء المجتمع فی البئر عن اغسال الثلاثة، فیدلّ أمره بالاجتناب علی نجاستهم والاّ لا وجه للحکم بالاجتناب.

مع أنّه یمکن أن یعترض علیه: بامکان أن یکون النهی بلحاظ حصول العلم بوجود النجاسة فی مثل ذلک المیاه لأجل نجاسة بدنهم بالمنیّ کما هو الغالب فی الجُنُب، خصوصا وجود النجاسة فی بدن الناصب إن قلنا به، لا سیّما مع ملاحظة


1- سورة النساء، آیة 94.
2- وسائل الشیعة: الباب 11 من أبواب الماء المضاف، الحدیث 1.

ص:328

قلّة الماء فی الزمن السابق بما لا یکون کرّا ولا وصلاً بالمادّة، فلعلّ ترتّب النهی علیه لأجل ملاحظة مجموع هذه الثلاثة لا کلّ واحدٍ منها. وعلیه فالاستدلال بمثل هذا الحدیث لاثبات النجاسة فی غایة الاشکال.

ومنها: مثله فی الاستدلال والجواب خبر علی بن الحکم، عن رجلٍ، عن أبی الحسن علیه السلام فی حدیث، أنّه قال: «لا تغتسل من غُسالة الحمام، فإنّه یغتسل فیه من الزنا ویغتسل فیه ولد الزنا والناصب لنا أهل البیت وهو شرّهم»(1).

ومنها: روایة ابن أبی یعفور، عن أبی عبداللّه علیه السلام ، قال: «لا تغتسل من البئر التی یجتمع فیها غسالة الحمّام، فإنّ فیها غسالة ولد الزنا وهو لا یطهر إلی سبعة آباء، وفیها غسالة الناصب وهو شرّهما، الحدیث»(2).

ولا یخفی أنّ الحکم بالاجتناب بقوله: «وهو لا یطهر إلی سبعة آباء» یفید أنّ المقصود من النهی هو التنزیه من الماء لأجل خباثته ونفرة الطبع عنه، فکأنّه أراد التأکید علی الاجتناب ببیان أنّ ولد الزنا لا یطهر من جهة الخبث إلی سبعة آباء، وإلاّ لا معنی للحکم بالنجاسة من جهة نجاسة آباءه، وعلیه فاثبات النجاسة بمثل هذه التعابیر مشکل جدّا.

ومنها: الروایة المرسلة عن الوشّاء، عمّن ذکره، عن أبی عبداللّه علیه السلام : «أنّه کره سؤر ولد الزنا وسؤر الیهودی والنصرانی والمشرک، وکلّ من خالف الاسلام، وکان أشدّ ذلک عنده سؤر الناصب»(3).

بناءً علی أنّ المراد من الکراهة هو الحرمة بقرینة وحدة السیاق مع مایلیه من سؤر الیهودی والنصرانی والمشرک والناصب، حیث أنّ حکم الحرمة فیها ثابت


1- وسائل الشیعة: الباب 11 من أبواب الماء المضاف، الحدیث 3و
2- المصدر السابق، الحدیث 4.
3- وسائل الشیعة: الباب 3 من أبواب الأسئار، الحدیث 2.

ص:329

فلابدّ أن یکون فیه أیضا کذلک، والاّ یستلزم من جعل الکراهة فی ولد الزنا المصطلحة منها وفی غیره الحرمة، استعمال اللفظ فی الحقیقة والمجاز أو المشترک بین المعنیین، وکلاهما غیر مطلوب، ثمّ یتم المطلوب اذا ضمّ إلیه بعد قول الحرمة أنّه لا تکون النجاسة فیه الاّ لأجل صیرورته نجسا بمباشرته مع أحد هذه الأفراد هذا.

ولکن یمکن أن یورد علیه: أولاً: أنّ هذا یصحّ لو سلّمنا وجود الملازمة بین الحرمة هنا مع نجاسته، وإلاّ لولاه لأمکن دعوی خلافه، لأنّه ربّما یکون الشیء شربه حراما مع کونه طاهرا کلبن الهرة، وعلیه فلیست هذه الکلیّة ثابتة ومحفوظة فی جمیع الموارد.

وثانیا: یمکن الجواب عنه مع ثبوت الکراهة فی حقّ سؤر ولد الزنا بمعناه الاصطلاحی، وفی غیره بالحرمة من دون أن یلزم ما ذکره من المحذور، بأن یقال من أنّ: «بما قاله العلاّمة فی «المنتهی»» قول الراوی کره لیس اشارة الی النهی، بل الکراهة التی فی مقابل الاراة، وقد تطلق علی ما هو أعمّ من المحرّم والمکروه. سلّمنا لکن الکراهة قد تطلق علی النهی المطلق، فیحمل علیه» انتهی علی المحکی فی «الحدائق». وعلیه هذا التوجیه لا یلزم منه أحد المحذورین المذکورین، فاثبات النجاسة بمثل هذه الروایة لا یخلو وهن.

وأهون من ذلک فی الدلالة استفادة النجاسة عن مساواة دیته مع دیة الیهودی، أو علی ما أتفق علیه الوارد فی حیث عبداللّه بن سنان، عن الصادق علیه السلام ، قال: «سألته عن دیة ولد الزنا؟ قال: یعطی الذی أتفق علیه ما انفق علیه»(1).

وروایة عبدالرحمن عن بعض موالیه، قال: «قال لی أبوالحسن علیه السلام : دیة ولد


1- وسائل الشیعة: الباب 15 من أبواب دیات النفس، الحدیث 4.

ص:330

الزنا دیة الیهودی ثمانمأة درهم»(1).

ومثله روایة جعفر بن بشیر، عن بعض رجاله، قال: «سألت أبا عبداللّه علیه السلام عن دیة ولد الزنا؟ قال: ثمانمأة درهم مثل دیة الیهودی والنصرانی والذمّی»(2).

وغیر ذلک ممّا یشمله، لوضوح أنّ ذلک یدلّ علی قلّة شأنه بالمقایسة الی سائر المسلمین، وهو لا یوجب کون حکمه حکم الکافر، والاّ لزم القول بعدم جواز تغسیله والصلاة علیه، کما لا یجوز فی حقّ الکفار، فهو أدلّ دلیل علی أنّه لو فرضنا تسلیم ذلک فی حقّ ولد الزنا، ولم نقل فیه بما قاله بعض الفقهاء من کون دیته کدیة المسلم، لا یوجب ذلک الحاقه بحکم الکافر من حیث عدم الطهارة وغیره کما لا یخفی.

وبالجملة: ثبت من جمیع ما ذکرنا أنّه لا یثبت کون ولد الزنا کافرا حتّی یحکم بنجاسته من جهة کفره، کما لم یثبت ممّا ذکر من الأخبار الجهة الثانیة وهی نجاسته، لما قد عرفت أنّ المدّعی والاجماع والسیرة علی طهارته، وعدم وجود ما یقاوم الأدلة المذکورة فی الحکم بالنجاسة من الأخبار لا بالصراحة ولا بالظهور، مضافا الی وجود أصالة الطهارة فیه وفی ملاقیه.

الأمر الثالث: بعد وضوح هذین الأمرین، یبقی البحث عن أنّه هل یدخل الجنّة أم لا؟

أقول: برغم أنّ هذا البحث غیر دخیل فی نجاسته، أی لو سلّمنا کونه من أهل النار لأجل عدم ایمانه وتدیّنه، إمّا لأجل عدم قدرته علی ذلک، أو لعدم وقوعه وإن أمکن فی الواقع بالاختیار، لامکان أن یکون کفره وعدم ایمانه بلحاظ برزخه وآخرته لا فی الدنیا، وکیف کان لا بأس بذکر الأخبار الّتی تدلّ علی دخوله الجنّة:

منها: خبر «العلل» بسنده عن سعد بن عمر الجلاّب، قال: «قال أبو عبداللّه علیه السلام :


1- المصدر السابق، الحدیث 1.
2- المصدر السابق، الحدیث 2.

ص:331

إنّ اللّه عزّوجلّ خلق الجنّة طاهرة مطهّرة، فلا یدخلها إلاّ من طابت ولادته. وقال أبو عبداللّه علیه السلام : طوبی لمن کان أمّه عفیفة»(1).

ومنها: خبر آخر فی الکتاب المذکور رواه الصدوق بسنده الی محمد بن سلیمان الدیلمی، عن أبیه، رفع الحدیث الی الصادق علیه السلام ، قال: «یقول ولد الزنا یا ربّ فما ذنبی؟ فما کان لی فی أمرٍ صنع؟ قال: فینادیه منادٍ فیقول: أنت شرّ الثلاثة: أذنب والدک فتبّت علیهما، وأنت رجس ولن یدخل الجنّة الاّ طاهر»(2).

بل قد استدلّ صاحب «الحدائق» بهذا الحدیث بعدم کونه کافرا بأنّه یحتجّ علی اللّه بکونه ابن الزنا ویجیبه سبحانه وتعالی ویذکر له سبب دون أن یتعرّض لکفره، طرده مع انّه لو کان کافراً لکان الجواب به أولی، ثمّ یرد علیه أنّه إذا لم یکن کافرا فأی دلیل یدلّ علی نجاسته بعد ما عرفت الجواب عن تلک الأخبار؟!

ومنها: ما رواه فی «الکافی» وغیره بسنده عن أبی خدیجة، عن الصادق علیه السلام ، قال: «لو کان أحد من ولد الزنا نجی لنجی سائح بنی اسرائیل، فقیل له: وما سائح بنی اسرائیل؟ قال: کان عابدا فقیل له إنّ ولد الزنا لا یطیب أبدا، ولا یقبل اللّه تعالی منه عملاً. قال: فخرج یسیح فی الجبال ویقول ما ذنبی»(3).

ومنها: وروی البرقی فی «المحاسن» بسنده عن سدیر الصیرفی، قال: «قال أبو جعفر علیه السلام : من طهرت ولادته دخل الجنّة»(4).

ومنها: ما روی فیه عن عبداللّه بن سنان، عن الصادق علیه السلام ، قال: «خلق اللّه تعالی الجنّة طاهرة مطهّرة لا یدخلها الاّ من طابت ولادته»(5).


1- کتاب علل الشرایع للصدوق، ص 188.
2- کتاب علل الشرایع للصدوق، ص 188.
3- المحاسن للبرقی، ص 108.
4- المحاسن، ص 139.
5- المصدر السابق.

ص:332

ومنها: ما روی فی «الکافی» باسناده عن سُلیم بن قیس، عن أمیرالمؤمنین علیه السلام ، قال: «قال رسول اللّه صلی الله علیه و آله : إنّ اللّه حرّم الجنّة علی کلّ فحّاش بذیّ قلیل الحیاء، لا یبالی ما قال ولا ما قیل له، فإنّک ان فتّشته لم تجده الاّ لغیّة أو شرک شیطان، فقیل یا رسول اللّه: وفی الناس شرک شیطان؟ فقال رسول اللّه صلی الله علیه و آله : أما تقرأ قول اللّه عزّوجلّ «وَشَارِکْهُمْ فِی الاْءَمْوَالِ وَالاْءَولاَدِ» الحدیث»(1).

ومنها: ما فی «المحاسن» أیضا بسنده عن أیّوب بن الحرّ، عن أبی بکر، قال: «کنّا عنده ومعنا عبداللّه بن عجلان معنا رجلٌ یعرف ما نعرف ویقال إنّه ولد زنا، فقال ما تقول: فقلت: إنّ ذلک یقال، فقال: إن کان ذلک کذلک بنی له بیتٌ فی النار من صدر یرد عنه وهج جهنّم ویوءتی برزقه»(2).

وفی «الحدائق» بعد نقل الخبر، قال: «قال بعض مشایخنا بعد هذا الخبر، قوله: (من صدر) أی یُبنی له ذلک فی صدر جهنّم وأعلاه، والظاهر أنّه تصحیف الصَبَر بالتحریک وهو الجَمَد» انتهی.

أقول: قد یظهر من بعض الأخبار أنّ ولد الزنا کسائر الناس من حیث العمل:

منها: خبر ابن أبی یعفور، قال: «قال أبو عبداللّه علیه السلام : ولد الزنا یستعمل، إنّ عمل خیرا جزی به، وإن عمل شرّا جُزی به»(3) وهو لا ینافی کونه شرّا من سائر الناس کما یستفاد ذلک من الحدیث المنقول فی «المحاسن» للبرقی عن أبی بصیر. وهو لیس المرادی _ عن الصادق علیه السلام ، قال: «إنّ نوحا حمل فی السفینة الکلب والخنزیر ولم یحمل فیها ولد الزنا، وأنّ الناصب شرّ من ولد الزنا»(4) حیث یفهم منه أنّ الشرّ هو الموجب لعدم حمله فی السفینة، وأراد افهام أنّ الناصب أشدّ شرا


1- أصول الکافی، ج 2، ص 323، المطبوع بطهران.
2- المحاسن، ص 149.
3- الوافی، ج 12، ص 218.
4- المحاسن، ص 185.

ص:333

منه، کما یؤیّد ذلک أیضا ما رواه الصدوق فی الموثق عن زرارة، قال: «سمعت أبا جعفر علیه السلام یقول: «لا خیر فی ولد الزنا ولا فی بشره ولا فی شعره ولا فی لحمه ولا فی دمه ولا شیء منه یعنی ولد الزنا»(1).

کما روی فی «سفینة البحار» روایة عن النبیّ صلی الله علیه و آله ، قال: «ولد الزنا شرّ الثلاثة عنی به الأوسط».

کما روی عن أبی بصیر مثله، ثم قال: «أقول: هذه الروایة مرویّة عن النبی صلی الله علیه و آله بطریق الشیعة والسّنة» انتهی ما فی «سفینة البحار»(2).

وفی السفینة أیضا: أنّه روی بعضهم عن النبی صلی الله علیه و آله أنّه قال: «یا علیّ لا یُحبّک الاّ مؤمن تقی ولا یبغضک الاّ ولد زنیة أو حیضة»(3).

والتحقیق: بعد الوقوف علی هذه الأخبار الدالة علی عدم دخول ولد الزنا فی الجنّة، أو کونه شرّ الناس، وأمثال ذلک، کیف یُجمع بین هذه الأخبار وبین الأخبار الدالة علی أنّ الجنّة لمن آمن وتدیّن بالدین، وأقرّ بالشهادة، وعمل بما أوجب اللّه علیه، وترک ما حرّم اللّه علیه؟

قال صاحب «البحار» رحمه الله : «أقول: یمکن الجمع بین الأخبار علی وجه یوافق قانون العدل، بأن یقال لا یدخل ولد الزنا الجنّة، لکن لا یعاقب فی النار إلاّ بعد أن یظهر منه ما یستحّقه، ومع فعل الطّاعة وعدم ارتکاب ما یحبطه یُثاب فی النار علی ذلک، ولا یلزم علی اللّه تعالی أن یثیب الخلق فی الجنّة یثیب، ویدلّ علیه خبر عبداللّه بن عجلان، ولا ینافیه خبر عبداللّه بن أبی یعفور إذ لیس فیه تصریح بأنّ جزائه یکون فی الجنّة، وأمّا العمومات الدالة علی أنّ من یؤمن باللّه ویعمل صالحا


1- عقاب الأعمال للصدوق، ص 38.
2- سفینة البحار، ج 1، ص 560.
3- سفینة البحار: ج 1، ص 651.

ص:334

یُدخله اللّه الجنة فیمکن أن تکون مخصّصة بتلک الأخبار) انتهی ما فی «البحار» علی المحکی فی «الحدائق»(1).

أقول: ولعلّ ما ذکره المجلسی رحمه الله یوافق مع ما قاله شیخنا البهائی رحمه الله فی «شرح الأربعین» من قوله: «حمل أخبار تحریم الجنّة علی تحریم الجنّة علیهم زمانا طویلاً، أو تحریم جنّةٍ خاصة معدّة لغیر هذا الصنف» کما فی «الحدائق»(2)، الاّ أنّه علی ذلک لا نحتاج الی تخصیص العمومات المذکورة، لأنّ الجنّة لمثل هذا الصنف من أولاد الزنا والحیض عبارة عن محلّ خاص فی ناحیة من جهنّم ویحفظه الجدار عن هجوم النار الیه، ویؤتی رزقه، ولعلّ هذا هو مراد صاحب «الجواهر» حیث قال: «کما أنّ عدم دخول الجنّة لو قلنا به لا دلالة فیه علی المطلوب، إذ لعلّ اللّه أعدّ له ثوابا آخر».

کما أنّ الأقرب عندنا هو عدم تضییع حقّه فی الأعمال من حیث تأثیرها فی تخفیف العذاب أو اعطاء الثواب من عنداللّه عزّوجلّ، ولو فی محلّ آخر یناسب شأنه، ولیس الأمر بأنّه لا یقدر علی الایمان والاسلام، ومجبور علی الکفر، لوضوح أنّه إن کانت القضیة هکذا لما توجّه الیه خطاب الأمر بالمعروف والنهی عن المنکر، ولما کان مفیداً فی حقّه، ولم یکن حینئذٍ للثواب والعقاب وجها، لانّهما إنّما یکون للانسان المختار کما یشیر الیه قوله تعالی: «إِنَّا هَدَیْنَاهُ السَّبِیلَ إِمَّا شَاکِرا وَإِمَّا کَفُورا »(3)، وقوله تعالی: «فَمَن شَاء فَلْیُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْیَکْفُرْ»(4)، ونظائر ذلک فی القرآن کثیرة.


1- الحدائق، ج 5، ص 197.
2- المصدر، ص 192.
3- سورة الانسان، آیة 3.
4- سورة الکهف، آیة 29.

ص:335

وأمّا أخبار الدیّة الدالة علی أنّ حکمه حکم الیهودی، مع أنّه علی ما فی «الجواهر» لم ینقل العمل بها من أحدٍ ممّن لم یقل بکفره، أنّه لا یوجب علی فرض التسلیم کونه کافرا، حتّی یوجب الحکم علیه بالنجاسة والالتزام بأنّه قسمٌ ثالث لا مسلمٌ ولا کافر، مع نجاسته لمّا فی «الحدائق»، الذوق الفقهی السلیم کما لا یخفی، واللّه العالم بحقیقة الحال.

تکملة:

لا یخفی أنّ البحث فی ولد الزنا من حیث الطهارة والنجاسة إنّما یجری فیما إذا کان علی تقدیر عدم کونه من الزنا محکومٌ بالاسلام، بأن کان علی تقدیر کونه صغیرا أبواه أو أحدهما مسلما، وأمّا المتولد من الکافرین فهو خارج عن موضع بحثنا، فلا یبعد أن یکون محکوماً بالتبعیة لهما إلاّ أن یقر بالشهادتین، ویخرج من حدّ التبعیة لهما عرفا کما فی غیره، لامکان أن یقال إنّ مناط التبعیة هو الولادة العرفیة لا الشرعیة، بل عن صاحب «المعالم» أنّه استظهر عن کلام جماعةٍ من الأصحاب نفی الخلاف فی أنّ ولد الزنا من الکافرین یتبعهما فی النجاسة الذاتیّة، لأنّهم ذکروا الحکم جازمین به غیر متعرّضین لبیان دلیله، ولعلّه کان لأجل وضوح المسألة، وعدم الابهام فیها، کما هو الحقّ عندنا فی غیر المورد أیضا.

ص:336

وفی عرق الجُنُب من الحرام، وعرق الإبل الجَلاّلة والمسوخ خلاف، والأظهر الطهارة (1)

(1) هذا النصّ متضمن لأمور: حکم عرق الجُنُب

الأوّل: عرق الجنب من الحرام، وقد وقع فیه الخلاف بین الفقهاء قدیما وحدیثا من النجاسة والطهارة، مع عدم جواز الصلاة معه، وقد أفتی جماعة کالشیخ الانصاری رحمه الله وصاحب «العروة» تبعا لجماعة أخری، وقد نسب القول بالنجاسة الیهم مثل الصدوقین من الأب والابن فی «الرسالة» و«الفقیه»، والاسکافی والشیخین فی «المقنعة» و«الخلاف» و«النهایة»، والقاضی، وابن زُهرة.

أقول: الظاهر أنّه المشهور بین القدماء وعلیه جماعة من متأخّری المتأخّرین، مثل استاد الکلّ فی «شرح المفاتیح» وصهره فی و«الریاض»، وتلمیذه کاشف الغطاء، بل عن «الخلاف» دعوی الاجماع علیه والأخبار، ونسبه فی «الغنیة» و«المراسم» الی أصحابنا، وجعله فی «الأمالی» من دین الامامیّة الذی یعدّ ذلک أقوی من الاجماع، وعلیه صاحب «العروة» وعند جماعة أخری الحکم بالاحتیاط وجوبا لمشاهدة کثرة القول بالطهارة من العلاّمة فی «المختلف» والمحقّق فی «الشرائع»، والشیهد فی «الذکری»، وصاحب «الکفایة»، بل قد نسبوا القول بالطهارة الی المشهور من دون تقیید المتأخّرین، بل لم ینقل فتاوی عدّة من القدماء فی ذلک کالمرتضی وغیره، وجماعة أخری قد تردّدوا فی الفتوی کظاهر ابن حمزة، حیث نسب النجاسة الی أحد القولین، وکالحلبی فی «اشارة السبق» حیث قال: فیه خلاف، بل لعلّه ظاهر ابن زُهرة حیث نسبه الی الحاق الأصحاب، وصریح «المراسم» بالطهارة، و«المقنعة» للمفید حیث أنّ ظاهر ذیلهما ذکر الاحتیاط فی الطهارة کالتهذیب، قد حُکی عنه فی «السرائر» وغیرها رجوعه عن

ص:337

ذلک فی رسالته الی ولده، بل هکذا ظاهر المحکی عن «المبسوط» بالتردّد، بل هو صریح «الذکری» وظاهر «السرائر»، ولأجل ذلک ذهب جماعة من الفقهاء الی الاحتیاط بالنجاسة کالعلاّمة البروجردی وبعض من عاصرناه وجماعة أخری الی الطهارة والاحتیاط بالاجتناب عن الصلاة معه، وهو کصاحب «الجواهر» و«مصباح الفقیه» و«مصباح الهدی»، وإن کان ظاهر بعض العبارات أنّ الاحتیاط والاجتناب للصلاة وفی کلّ ما یشترط فیه هو الاستحباب لا الوجوب، لأنّهم عبّروا بأنّ الاحتیاط لا ینبغی ترکه، وإنّ أضاف الیه صاحب «الجواهر» بعده بقوله: «بل لعلّه لا یخلو من وجه للاجماعین والأخبار المتقدّمة».

هذا کلّه الأقوال فی المسألة.

أقول: والذی یخطر بالبال ویقوی عندنا هو الاحتیاط فی الاجتناب عنه مطلقا للصلاة وغیرها، کما علیه العلاّمة البروجردی، فلا بأس حینئذٍ بذکر الأخبار الواردة فیه وملاحظة دلالتها ومن اللّه الاستعانة:

منها: ما ورد فی «فقه الرضا» حیث یدلّ علی النجاسة، لأنّه قال: «إن عرفت فی ثوبک وأنت جنب وکانت الجنابة من حلالٍ فتجوز الصلاة فیه، وإن کانت حراما فلا تجوز الصلاة فیه حتّی یغسل»(1).

فإنّ ذکر الغایة بالغَسْل یفید أنّ علّة عدم الجواز هو النجاسة، إذ من الواضح أنّه لو کان من باب کونه من قبیل ما لا یؤکل لحمه مثل ماء فم الهرّة ونحوه لکفی فی جواز الصلاة فیه جفافه، ولا یحتاج الی الغَسل، وعلیه فهذا النصّ أحسن ما یدلّ علی النجاسة.

ومنها: ممّا استدلّ به للنجاسة مرسل علی بن الحکم، عن رجل، عن أبی الحسن علیه السلام ، فی حدیثٍ أنّه قال: «لا تغتسل من غُسالة ماء الحمام، فإنّه یغتسل


1- فقه الرضا، ص 4.

ص:338

فیه من الزنا ویغتسل فیه ولد الزنا والناصب لنا أهل البیت، وهو شرّهما»(1).

فإنّه وإن اشتمل علی ما لا تکون غسالته نجسا وهو ولد الزنا، ولکنّه لا یوجب رفع الید عن الفردین الآخرین وهما: غُسالة الزنا حیث إنّه جنابة من الحرام، والناصب الذی قد عرفت نجاسته.

ومنها: ولعلّه مثله فی الاستدلال فی الجملة الخبر الذی رواه محمد بن علی بن جعفر، عن أبی الحسن الرضا علیه السلام ، فی حدیث قال: «فقلت لأبی الحسن علیه السلام : إنّ أهل المدینة یقولون إنّ فیه شفاء من العین، فقال: کذبوا یغتسل فیه الجنب عن الحرام، والزانی والناصب الذی هو شرّهما، وکلّ من خلق اللّه، ثمّ یکون فیه شفاء من العین؟!»(2).

فانّه وإن ساق إلی ردّها ما هو شائع فی المدینة من أنّ غُسالة الحمام شفاءٌ للعین، الاّ أنّ الامام نبّه السائل إلی أنّ هذه الغسالة ممّن هو نجسٌ مثل الناصب والزانی والجنب عن الحرام غیر الزانی، فلا یبعد کونه فی صدد بیان نجاسة هذه الغسالات.

وکذلک یستدلّ علی ذلک بما یفهم منه النجاسة لو کانت الملازمة ثابته بین عدم جواز الصلاة فیه وبین النجاسة وجوازها فیه مع الطهارة، بناءً علی عدم القول بالفصل، أی بین کون الصلاة فیه حراما مع عدم کونه نجسا، إذ لم یسمع ولم یُنقل الفصل بین الحرمة وبین النجاسة، إذ لیس أحد ممّن قال بالطهارة منع من الصلاة فی الثوب المتعرّق بعرق الجنب عن الحرام، وعلیه فالقول بحرمة الصلاة خاصة دون النجاسة إحداث لقول ثالث، کما نقل هذا الاستدلال عن صاحب «الریاض» وغیره.

والخبر المستدلّ لهذا الحکم هو الحدیث المنقول عن الشهید فی «الذکری»،


1- وسائل الشیعة: الباب 11 من أبواب الماء المضاف ، الحدیث 2.
2- المصدر السابق، الحدیث 3.

ص:339

قال: روی محمد بن همّام باسناده إلی ادریس بن یزداد الکفر ثوثی أنّه کان یقول بالوقف فدخلُ سرّ من رأی فی عهد أبی الحسن علیه السلام فأراد أن یسأله عن الثوب الذی یعرق فیه الجُنب، أ یصلّی فیه؟ فبینما هو قائم فی طاق باب لانتظاره، إذ حرّکه أبوالحسن علیه السلام بمقرعة(1)، فقال مبتدئا: إن کان من حلالٍ فصلّ فیه، وإن کان من حرامٍ فلا تصلّ فیه»(2).

وأیضاً: بما نقله صاحب «البحار» نقلاً من کتاب «المناقب» لابن شهر آشوب عن کتاب «المعتمد فی الأصول»، قال: «قال علی بن مهزیار: وردتُ العسکر وأناشاک فی الامامة، فرأیت السلطان قد خرج الی الصید فی یوم من الربیع، إلاّ أنّه صائف والناس علیهم ثیاب الصیف، وعلی أبی الحسن علیه السلام لبابید وعلی فرسه تِجْفاف لبود(3)، وقد عقد ذنب فرسه والناس یتعجبون منه، ویقولون ألا ترون إلی هذا المدنیّ وما قد فعل بنفسه! فقلت فی نفسی لو کان إماما ما فعل هذا، فلمّا خرج الناس إلی الصحراء لم یلبثوا إذا ارتفعت سجابة عظیمة هطلت(4)، فلم یبق أحد الاّ ابتلّ حتی غرق بالمطر، وعاد علیه السلام هو سالمٌ من جمیعه. فقلت فی نفسی: یوشک أن یکون هو الامام، ثمّ قلت: أرید أنّ أسأله عن الجنب إذا عرق فی الثوب، وقلت فی نفسی إن کشف وجهه فهو الامام، فلمّا قرب منّی کشف وجهه، ثمّ قال: إن کان عرق الجنب فی الثوب وجنابته من حرام لا تجوز الصلاة فیه، وإن کانت جنابته


1- المقرعة بالکسر والسکون ما یقرع به الدابة، مجمع البحرین.
2- وسائل الشیعة: الباب 27 من أبواب النجاسات، الحدیث 12.
3- لبابید جمع لبّادة، وتِجفاف بالکسر آلة للحرب یُلبسه الفرس والانسان لیقیه فی الحرب، القاموس.
4- الهَطْل المطر المتفرق العظیم القطر، وهو مطر دائم مع سکون وضعف، لسان العرب، هطل.

ص:340

من حلال فلا بأس به، فلم یبق فی نفسی بعد ذلک شبهةٌ»(1).

قال المحدّث المجلسی رحمه الله فی «البحار»: «وجدتُ فی کتابٍ عتیق من مؤلفات قدماء أصحابنا رواه عن أبی الفتح غازی بن محمد الطریفی «فی الحدائق الطرائفی» عن علی بن عبداللّه المیمونی، عن محمد بن علی بن معمّر، عن علی بن مهزیار بن موسی الأهوازی، عنه علیه السلام مثله، وقال: «إن کان من حلالٍ والصلاة فی الثوب حلال، وإن کان من حرام فالصلاة فی الثوب حرام»(2).

بل بما فی موضع من «المبسوط» من نسبته الی روایة بعض أصحابنا، وعن آخر منه أیضا: «أنّه إن عرق فیه وکانت الجنابة من حرام روی أصحابنا أنّه لا یجوز الصلاة، فإنّ کانت من حلال لم یکن به بأس» علی المحکی فی «الجواهر»(3).

وجه الاستدلال فی الجمیع: أنّ سیاق الجمیع واحد کما ظهر ذلک آنفاً، بل نحن نضیف علی الاستدلال للنجاسة علی أحد الاحتمالین روایة الحلبی فی الصحیح، قال: «قلت لأبی عبداللّه علیه السلام : رجل أجنب فی ثوبه ولیس معه ثوب آخر؟ قال: یصلّی فیه وإذا وجد الماء غسله»(4).

حیث احتمل الشیخ کون الجنابة من حرام فیغسله احتیاطا، وعلیه یکون عرقه نجسا، وهکذا یفید للاستدلال، أو أنّ المراد من الجنابة فی الثوب هو المنی ونحوه، کما احتمله صاحب «الوسائل»، فیکون الغُسل لنجاسة المنی، وقال الشیخ فی «الاستبصار»: «إنّ الثانی هو أشبه».

ومنها: روایة صحیحة أخری لعاصم بن حمید، عن أبی بصیر، قال: «سألت أبا


1- بحارالأنوار، ج 80، ص 117، ح 5؛ المناقب، ج 4، ص 413 _ 414.
2- بحارالأنوار، ج 80، ص 118، ح 6.
3- الجواهر، ج 6، ص 73.
4- وسائل الشیعة: الباب 27 من أبواب النجاسات، الحدیث 11.

ص:341

عبداللّه علیه السلام عن الثوب یجنب فیه الرجل ویعرق فیه؟ قال: أمّا أنا فلا أحب أن أنام فیه، وإذا کان الشتاء فلا بأس ما لم یعرق فیه»(1).

قال الشیخ فی «التهذیب»: «الوجه فی هذا الخبر ضربٌ من الکراهة، وهو صریحٌ فیه ویمکن أن یکون محمولاً علی أنّه إذا کانت الجنابة من حرام».

أقول: ولا یخفی أنّ الوجه الأوّل فیه هو أحسن، بل هو مسلّم، لأنّه لا یبعد کون النوم وأمثاله فی الثوب المتعرّق بعرق الجنابة من حلال مکروها حتّی یرشه بالماء، کما یُومی الیه ویؤیّده ما فی خبر علی بن أبی حمزة، قال: «سُئل أبو عبداللّه علیه السلام وأنا حاضر عن رجل أجنب فی ثوبه فیعرق فیه؟ فقال: ما أری به بأسا. قال: إنّه یعرق حتّی لو شاء أن یعصره عصره؟ قال: فقطّب(2) أبو عبداللّه علیه السلام فی وجه الرجل فقال: إنّ أبیتم من ماءٍ فانضحه به»(3).

وأمّا احتمال کون العرق من جنابة الحرام، فهو لا یناسب مع کلام الامام علیه السلام حیث قال: «أمّا أنا فلا أحبّ أن أنام فیه»، ولأجل ذلک تعجب وحقّ أن یتعجّب صاحب «المعالم» عن الشیخ، حیث قال: «والعجب عن الشیخ رحمه الله کیف احتمل فی هذا الحدیث ارادة الجنابة من الحرام، مع قول الامام علیه السلام فیه: «أمّا أنا فلا أحبّ أن أنام فیه»» انتهی.

وبالجملة: هذه جملة من الأخبار الواردة فی ذلک، المشعرة بالنجاسة، بل لا یبعد دلالة بعضها علی ذلک، فمع ملاحظة وقیام الشهرة عند القدماء بل الاجماع، وأقوی منه قولهم إنّه من دین الامامیة، فان جمیع ذلک یوجب انجبار ضعف سند بعض الأخبار، مثل سند الخبر المروی من الکتاب العتیق لعلی بن عبداللّه


1- وسائل الشیعة: الباب 27 من أبواب النجاسات، الحدیث 10.
2- قطّب وجهه تقطیبا أی عَبَس، الصحاح، قطب.
3- وسائل الشیعة: الباب 27 من أبواب النجاسات، الحدیث 4.

ص:342

المیمونی، فإنّه فاسد المذهب والاعتقاد والروایة کما عن النجاشی، وغالیا ضعیفا کما عن ابن الغضائری، فضلاً عن خلّو الکتب العتمدة عنها، وعدم ورود خبر یعضدها من النبی صلی الله علیه و آله والأئمّة الماضین علیهم السلام مع کثرة الرواة واللّواط والزنا واقامة الحدود علیهم فی تلک الأوقات، هذا علی المنقول فی «الجواهر»(1).

بل یدفع ذلک للاستبعاد الصادر عن المحقق الهمدانی رحمه الله بأنّه «کیف اختفی مثل هذا الحکم إلی زمان الامام الهادی علیه السلام ، وخلوّ الأخبار عن التعرّض له من أقوی الشواهد علی عدم نجاسته»(2).

لامکان کون ما صدر عن الصادق علیه السلام کما فی خبر الحلبی علی احتمال کون المراد من الجنابة هو عرق الجنب عن الحرام، بقرینة الغَسْل المفهم لنجاسته، لضعف احتمال کون المراد من الجنابة هو المنی، مع أنّه لو کان هذا الاشکال واردا، لزم ذلک فی کثیر من الأحکام الصادرة عن بعض الأئمّة علیهم السلام المتأخّرة کأبی الحسن الرضا علیه السلام وبعده ولم ینقل قبلهم، مع أنّه ربّما کان بعضها کثیر الابتلاء للناس، مضافا الی امکان أن یقال بوجود أخبار فی نجاسة عرق الجنب عن الحرام عن الصادقین علیهماالسلام ، وقد وصل الی المتقدّمین ولم یصل الینا لوجود بعض الموانع والمعوّقات المانعة عن وصولها الینا مثل والآفات الاحراق والاتلاف واعدام الکتب الموجودة فی البیوت والمکتبات، خصوصا مع ملاحظة أنّ التفصیل بین عدم جواز الصلاة فیه وحرمتها وبین النجاسة أمر غیر مقبول، لأنّ الوجه فی عدم الجواز لا یمکن أن یکون من جهة کونه عرق غیر المأکول نظیر فضلات غیر المأکول کوَبَر کما لا یؤکل لحمه، حیث أنّه طاهر، ولکن لا یجوز الصلاة فیه، لأنّه


1- الجواهر، ج 6، ص 74.
2- مصباح الفقیه، ج 7، ص 309.

ص:343

إن کان هذا هو الملاک فهو مشترک مع عرق الجنب عن الحلال أیضا، فکیف یجوز فیه الصلاة کما علیه الفتوی؟ بل هناک بعض الأخبار الدالة علی الظهارة:

منها: خبر حمزة حمران، عن أبی عبداللّه علیه السلام ، قال: «لا یجنب الثوب الرجل ولا یجنب الرجل الثوب»(1).

ومنها: روایة عمرو بن خالد، عن زید بن علی، عن أبیه، عن جدّه، عن علی علیهم السلام ، قال: «سألت رسول اللّه صلی الله علیه و آله عن الجنب والحائض یعرقان فی الثوب، حتّی یلصق علیهما؟ فقال: إن الحیض والجنابة حیث جعلهما اللّه عزّوجلّ لیس فی العرق فلا یغسلان ثوبهما»(2).

فقد تمسّک بعض المتأخّرین بهذین الخبرین بملاحظة اطلاقهما وترک الاستفصال بین الجنب من الحرام وغیره واعتبراهما دلیلاً علی طهارة عرق الجنب من الحرام.

نعم، یظهر من بعض الأخبار کراهة وجود العرق الجنب عن الحلال فی الثوب، وهو کما عرفت فی خبر علی بن أبی حمزة، قال: «سُئل أبو عبداللّه علیه السلام وأنا حاضر عن رجل أجنب فی ثوبه فعرق فیه؟ فقال: ما أری به بأسا، قال: إنّه یعرق حتّی لو شاء أن یعصره عصره؟ قال: فقطّب أبو عبداللّه علیه السلام فی وجه الرجل، وقال: إن أبیتم فشیئٌ من ماءٍ فانضحه»(3).

حیث یفهم منه استنکار الناس عن عرق الجنب، وتنفّرهم منه، ولذلک یلاحظ استصعاب الرجل عن قبوله، حتّی الی حدّ قطّب له الامام علیه السلام بأن عبس فی وجهه مستنکراً علیه عمله والحاحه، کما قد یؤیّد الکراهة فی عرق الجنب عن الحلال ما


1- وسائل الشیعة: الباب 27 ، الحدیث 5.
2- المصدر السابق، الحدیث 9.
3- المصدر السابق، الحدیث 4.

ص:344

جاء فی خبر أبی بصیر عن الصادق علیه السلام : «عن الثوب یجنب فیه الرجل ویعرق فیه؟ قال: أمّا أنا فلا احبّ أن أنام فیه، وإذا کان الشتاء فلا بأس ما لم یعرق فیه»(1) حیث قد عرفت کونه فی عرق الجنب من الحلال لا الحرام، ولعلّ وجه الکراهة هو کونه عرق الجنب، ومع ذلک لم یأمرهم بعدم الصلاة فیه، لأنّ الغالب والمتعارف فی الجنابة هو کونه من الحلال، فإذن تکون الأخبار الواردة فی التفصیل بین کونه عن حرام فلا یجوز، أو من حلال فیجوز، مخصّصةً ومقیّدةً لهذه الاطلاقات، ومقدّمة علی الأصول والعمومات الدالة علی الطهارة فی المشکوکات، ومع ذلک کلّه حیث لم یکن لنا دلیلٌ صریح علی عدم الطهارة، بل من جهة الاشعار والاستنیاس وعدم القول بالفصل التزمنا بلزوم الاحتیاط وجوبا بالاجتناب فی الصلاة وغیرها، کما علیه العلاّمة البروجردی فی التعلیقه علی «العروة»، والاصطهباناتی وغیرهما.

هذا کلّه إذا کان الجنب عن حرام، بلا فرق فیه بین کون الجنابة من الرجل أو المرأة، ولا بین القُبُل والدبر إذا کان حراما، ولا بین الحی والمیّت إن کانت زوجته، ولا بین الزنا أو اللواط أو وطی البهائم أو الاستمناء بالید أو بما یوجب نزوله متعمّدا، ولا بین الانزال حین الدخول أو بلا دخول، أو بعد الانزال دون العرق الموجود قبل الانزال، إذا بقی الی حال الانزال، إذا لم یخلط مع العرق حین الانزال الموجب لتنجیسه، بلا فرق بین کون الحرمة ذاتیة کالامثلة المذکورة، أو عرضیّة کوطی الحائض فی حال حیضها، ووطی الصائم أو الصائمة، سواءٌ أکانت الحرمة من جهة الفاعل أو من جهة القابل، فی قبال بعض الفقهاء من القول بالطهارة فی الحرمة العرضیّة کوطی الحائض فی حال الحیض، أو فی حال الصوم، باعتبار أنّ الحرمة الموجبة للنجاسة ثابتة فی الحرمة فی نفس الفعل لا فی الفاعل والقابل کما علیه صاحب «الجواهر»، خلافا لصاحب «کشف اللّثام» والشیخ وصاحب


1- المصدر السابق، الحدیث 10.

ص:345

«العروة» کما هو الأقوی عندنا، أی یجری فیها الاحتیاط الذی ذکرناه فی الاجتناب، وکان الحکم فی جمیع تلک الافراد والحالات _ مثل الحرمة لأجل صوم نذری أو عهدی أو غیر ذلک _ هی النجاسة لکن بالاحتیاط الوجوبی.

نعم، قد یظهر من ابن الجنید الاحتیاط فی عرق الجنب المحتلم، مع أنّه ضعیف، حیث لم یکن له وجها، ولم نعرف له مأخذا، وقد أجاد صاحب «المعالم» بعد نقل قوله فی ردّه علیه بقوله: «لا نعرف له وجها ولا موافقا».

وعلیه فالعرق عن غیر الجنب من الحرام طاهرٌ، سواءٌ کان عرق الجنب من حلال أو عرق الحائض أو النفساء کما علیه الاجماع والنصوص. هذا کلّه اذا صدر عن اختیار.

حکم عرق الجنب فی المکره والمضطر

نعم، قد یشکل فی الطهارة أو نجاسة العرق الحاصل من وطی الصبی الأجنبیّة، أو المکرَه والمضطّر.

وجه الاشکال: أنّه لو کان الملاک هو الحرمة التکلیفیة، فإنّه لا تکلیف لهولاء فلا حرمة، فیکون طاهرا، وإن کان المراد من الحرمة الحرمة الذاتیة لذات العمل من حیث نفسه، ولو لا ذلک من دون نظرٍ الی حال الفاعل والقابل فیکون نجسا.

والأظهر هو الأوّل، لأنّ القدر المتیقن من الادلة والاجماع هو غیر هذه الصور، وإن کان الاحتیاط فیها خصوصا فی مثل المکره والمضطّر حسنا جدّا.

البحث عن ملاک حرمة العرق

ثمّ لا یخفی أنّ المناط فی التحریم هو المحرّم الواقعی مع عدم تحقق الحلّیة الظاهریة، ولازم ذلک أنّه لو وطی زوجته باعتقاد أنّها أجنبیّة، فالعرق الحاصل من

ص:346

هذا الوطی لا یکون نجسا، لأنّه فی الواقع لیس بمحرّم لأنّه تخیّل حرمة ما هو حلال واقعاً، فتظهر ثمرته بعد کشف الخلاف، حیث لا یجب علیه اجتنابه عمّا لاقیه، وکذلک ینتفی حکم النجاسة لو تحقّقت الحلیّة ظاهرا کواطی الشبهة، حیث إنّه محکوم بالطهارة ولو انکشف له الخلاف، لأنّه وإن کان فی الواقع حراما، إلاّ أنّه کان حلالاً له لأجل عدم علمه بذلک، فإذن المسألة واضحة لا غبار فی حکمها.

هذا تمام الکلام فی عرق الجنب من الحرام. حکم عرق الابل الجلاّلة

فی حکم عرق الابل الجلاّلة

الأمر الثانی: عرق الإبل الجلاّلة، فهل هو نجس أم لا؟ فیه خلاف.

القول الأول: النجاسة وذهب الیها شیخنا المفید فی «المقنعة»، والشیخ فی «النهایة»، وهو خیرة «المنتهی» و«کشف اللثام» و«الحدائق» و«اللّوامع»، وظاهر «المدارک» واستاده الأردبیلی وتلمیذه صاحب «الذخیرة» و«المبسوط» والقاضی، بل نسب ذلک الی ظاهر الکلینی، بل حکاه فی «اللّوامع» عن الصدوقین، بل فی «الریاض» أنّه الأشهر بین القدماء، وفی «الغنیة» و«المراسم» نسبته إلی أصحابنا، بل هو مختار شیخنا الأنصاری، وصاحب «العروة»، وأکثر أصحاب التعلیق علیها، وصاحب «مصباح الفقیه» و«مصباح الهدی» وهو الأقوی.

القول الثانی: الطهارة وذهب الیها جماعة من الفقهاء کصریح «المراسم»، حیث قال: «وهو عندی ندب»، و«النافع» و«کشف الرموز» و«المختلف» و«الذکری» و«البیان» و«الدروس» و«الموجز»، وعن «نهایة الأحکام» و«التحریر» و«المهذّب» و«النتقیح» و«المصنّف» فی «الشرایع» وغیرهم من المتأخّرین، بل هو ظاهر «السرائر» لنسبته الی الشهرة من غیر تقیید کالمخلتف و«الذکری» و«البحار»، بل فی «المدارک» نسبته الی الدیلمی وسائر المتأخّرین، بل فی

ص:347

«الذخیرة» الی جمهور الأصحاب، بل فی «کشف الالتباس» أنّ القول بالنجاسة للشیخ وهو متروک، وهو مختار صاحب «الجواهر» حیث یقول: وهو الأقوی.

دلیلنا علی النجاسة: _ مضافا الی ما عرفت من کثرة القائلین بالنجاسة، خصوصا من القدماء بما قد عرفت اسمائهم فلیس هو للشیخ فقط، حتّی یقال إنّه متروک، وإن کانت الشهرة عند المتأخرین الی الطهارة، لانّه مع التعارض بین الشهرتین تکون الأولی مقدمة لقرب زمانهم الی زمن الأئمّة علیهم السلام وأقوالهم _ إنّه وقد وصل الینا من کلامهم علیهم السلام باسنادٍ معتبر صحیح وغیره ما یدلّ علی النجاسة:

منها: صحیحة هشام بن سالم، عن أبی عبداللّه علیه السلام ، قال: «لا تأکل اللحوم الجلاّلة، وإن أصابک من عرقها شیءٌ فاغسله»(1).

فانّه بعمومه یشمل الابل الجلاّلة، والأمر بالغسل ظاهرٌ فی الوجوب المستلزم للحکم بالنجاسة.

ومنها: صحیح ابن أبی عمیر، عن حفص البختری، عن أبی عبداللّه علیه السلام ، قال: «لا تشرب من البان الابل الجلاّلة، وإن أصابک شیءٌ من عرقها فاغسله»(2).

فانّه مختصٌ بالابل، فبذلک یمکن تخصیص عموم الأوّل ودلالته بخصوص الابل.

ومنها: مرسل «الفقیه»، قال: «ونهی علیه السلام عن رکوب الجلاّلة، وشُرب ألبانها، وقال: إن أصابک شیءٌ من عرقها فاغسله»(3).

وهو أیضا مثل خبر هشام عام یشمل سائر الحیوانات الجلاّلة، حیث لا قائل بنجاسة عرقها فی غیر الابل، إلاّ صاحب «نزهة النواظر» الذی قد حکی عنه صاحب «مصباح الفقیه» أنّه شاذٌّ لا یُعبأ به فی مقابلة الأصحاب، ولأجل ذلک


1- وسائل الشیعة: الباب 15 من أبواب النجاسات، الحدیث 1.
2- المصدر السابق، الحدیث 2.
3- وسائل الشیعة: الباب 27 من أبواب الأطعمة والأشربة المحرمة، الحدیث 6.

ص:348

احتاط صاحب «العروة» فی عرق غیر الابل من الحیوانات الجلاّلة، ولعلّ الوجه فی عدم فتواهم بالنجاسة هو فهم الأصحاب واختصاصهم النجاسة بخصوص الابل، لأنّه القدر المتیقن من الشهرة فی ذلک، فکیتفی به فیما خالف الأصل والعمومات المقتضیة للطهارة.

بقی الفحص عن التعارض بین: العمل بالعموم والقول به فی جمیع الحیوانات الجلاّلة مع حمل الأمر فی (أغسله) علی الندب الذی هو مجاز شایع کالحقیقة.

وبین اختصاص الحکم بخصوص الابل الجلاّلة حتّی یقال یوجب الغَسْل فیه عملاً بظاهر الأمر فی الحقیقة، وتخصیصا للعموم لو سلّمنا دلالته علی العموم بملاحظة الجمع المحلّی بالألف واللاّم وهو قوله: «لا تأکل اللّحوم» أو القول بکون الألف واللام للعهد الذهنی، أی الذی کان فی الذهن هو عرق الابل الجلاّل لا مطلق الحیوانات.

ویشهد لذلک بل یؤیّده: ما فی خبر حفص البختری من التصریح بالابل، فعلیه حینئذٍ لا عموم لنا حتّی نحتاج الی التخصیص، ولو کان المورد هو الجمع المُحلّی بالألف واللاّم المقتضی للعموم لو لا العهد.

ومن هنا یظهر عدم صحة ما فی «مصباح الفقیه»، حیث نفی العموم لأجل الخطأ فی ضبط الصیغة غیر المحلّی بالألف واللام، حیث قال: «خصوصا بناءً علی ما هو التحقیق من عدم ظهور المفرد المعرّف فی العموم إلاّ بقاعدة الحکمة، المتوقف جریانها علی احراز شیوع ارادة قسمٍ منه حین الاطلاق، وعدم معهودیته لدیهم بأصالة العدم».

إذ لم نقف علی مراده من الفرد المعرّف، إذ لیس فی الحدیث إلاّ الجمع المعرّف، وهی کلمة (اللّحوم) المضبوطة فی «الوسائل»، ودلالته علی العموم ثابتة عند أهل العربیة، إلاّ أن یراد به العهدی، فإنّه یختصّ بالابل المتّصف بوصف الجلالة.

ص:349

وکیف کان، اخراج عرق سائر الحیوانات الجلاّلة من العموم، وابقاء خصوص عرق الابل الذی هو واحد منها، ربّما یوجب الاستهجان فی ذکر العموم، ولأجل ذلک لابد: إمّا من القول بالنجاسة لعموم الحیوانات الجلاّلة.

أو کون الألف واللام للعهد الذهنی فی الاختصاص بخصوص الابل.

أو القول بالاستحباب فی الاجتناب لجمیع الحیوانات، وکون عرقها طاهرا.

وقد اختار جماعة من المتأخّرین الأخیر والمتقدّمین الأوسط، فلابدّ حینئذٍ قبول کون الألف واللام للعهد الذهنی، معتضدا بفتوی الفقهاء المتقدّمین، وتخصیص الحکم بالابل وفی غیره الحکم بالطهارة اقتصارا فیما خالف الأصل والعمومات فی المتیقن، وهو عرق الابل الجلاّلة، إذ رفع الید عن الحکم الصریح فی الروایتین الصحیحتین الدالتین علی النجاسة لا أقل فی الابل الجلاّلة مشکلٌ جدّا، وإن استلزم المجاز فی الألف واللام فی کونه لخصوص العهد الذهنی، مع اطلاقه اللفظی.

وعلیه فالأقوی عندنا هو النجاسة فی عرق الابل الجلاّلة دون غیره، واللّه العالم.

نعم، اتعب صاحب «الجواهر» نفسه الشریف لاثبات الطهارة بذکر مؤیّدات من طهارته قبل خروجه إلی مسمّی العرق، فیستصحب، ومن العمومات خصوصا ما دلّ منها علی طهارة سؤرها، وأنّه تابع لطهارة الحیوان، إذ هی طاهرة العین فی حال المجلل اتفاقا، فیکون عرقها طاهرا: إمّا لاقتضاء ما دلّ علی طهارتها من الاجماع وغیره، لملازمته غالبا للحیوان جافّا أو رطبا، بل هو من جهة توابع الحیوان المحکوم طهارته.

وامّا لاقتضاء ما دلّ علی طهارة سؤره لما ثبت من ملازمته للحیوان غالبا.

إلی أن قال: نستبعد الفرق بینها حینئذٍ وبین ما حرم أکله أصالة من الحیوانات، وبین باقی جلال الحیوان، لعدم خلاف فی طهارته من غیر الابل، إلاّ ما حکی عن

ص:350

«النزهة»، بل وبین باقی فضلاته نفسه ممّا لا یدخل تحت اسم نجس کالبول.

وبفحوی ما دلّ علی حل أکله بعد استبرائه المدة، من غیر أمر بتطهّر جسده لو کان قد عرق.

ودعوی حصول الطهارة له تبعا، ممنوعة، إذ أقصی ما یستفاد عود الحل فی تلک المدّة لا طهارة بدنه من النجاسة العارضیة، ولیس هذا من زوال العین المطهّر للحیوان لأنّ المفروض کونه جافّا.

وبفحوی عدم حرمة استعمالها للرکوب وحمل الأثقال ونحوها، ممّا هو مستلزم للعرق غالبا مع المباشرة، من غیر أمر بالاجتناب أو التحفظ عن العرق، إلی غیر ذلک من المؤیّدات الکثیرة، انتهی ملخص کلامه(1).

أقول: شکر اللّه مساعیه الجمیلة، وجزاه اللّه عن الاسلام وأهله أفضل الجزاء، إلاّ أن هذه المؤیّدات وإن کان بعضها مقبولاً دون بعض، إلاّ أنّها لا تستطیع المقاومة مع ما ورد فی الصحیحین الصریحتین علی نجاسته بواسطة الحکم بالغَسْل الملازم للنجاسة، ولأجل ذلک ذهب کثیر من المحققین من المتأخّرین کالشیخ الأنصاری ومن تبعه الی النجاسة، وهو الأقوی عندنا.

البحث عن حکم المسوخ

الأمر الثالث من الأمور المذکورة فی المتن: حکم المسوخ.

أقول: المشهور المنصور نقلاً وتحصیلاً هو الطهارة، عدا الکلب والخنزیر منها عینا وسؤرا ولعابا، شهرة کادت تکون اجماعا، بل لعلّه الظاهر من المحکی عن «الناصریات» حیث قال: «عندنا أنّ سؤر جمیع البهائم من ذوات الأربع والطیور طاهر سوی الکلب والخنزیر»، بل هو صریح «الغنیة» أیضا، بل لعلّه ضروری فی


1- الجواهر، ج 6، ص 75.

ص:351

بعضها کالزنبور ونحوه ممّا علم من طریقة المسلمین وسیرتهم طهارته، بل ربّما یستلزم العسر والحرج فی القول بنجاسته، وکالضروری فی آخر ممّا لا نفس له سائلة منها، لما تقدم من الاجماعات وغیرها علی طهارة میتته المستلزمة طهارته حیّا بالأولویّة. حکم المسوخ

ویدلّ علیها: _ مضافا إلی العمومات الدالة علی طهارة کلّ شیء لا یُعلم طهارته، کما هو مقتضی الأصل الأولی _ کلّ ما دلّ علی طهارة سؤرها:

منها: صحیح البقباق وهو الفضل أبی العباس، قال: «سألت أبا عبداللّه علیه السلام عن فضل الهرّة الشاة والبقرة والابل والحمار والخیل والبغال والوحش والسباع، فلم أترک شیئا إلاّ سألته عنه؟ فقال: لا بأس به، حتّی انتهیت إلی الکب، فقال: رجسٌ نجس، الحدیث»(1).

ومنها: روایة معاویة بن شریح، قال: «سأل عذاقر أبا عبداللّه علیه السلام وأنا عنده عن سؤر السنّور والشاة والبقرة والبعیر والحمار والفرس والبغل والسباع یشرب منه أو یتوضّأ منه؟ قال: نعم، أشرب منه وأتوضّأ منه، قال: قلت له: الکلب؟ قال: لا، قلت: ألیس هو سبع؟ قال: لا واللّه إنّه نجس»(2).

فهما صریحان فی الدلالة علی طهارة السؤر والفضلة منها.

کما إنّه یدلّ علی طهارة العاج وعظام الفیل ما ورد فیها:

1. مصحّحة ابن أبی عمیر، عن الحسین بن الحسن بن عاصم، عن أبیه، قال: «دخلت علی أبی ابراهیم علیه السلام وفی یده مشطٌ عاجٌ یتمشّط به، فقلت له: جعلت فداک إن عندنا بالعراق من یزعم أنّه لا یحلّ التمشّط بالعاج؟ فقال: ولِمَ؟ فقد کان


1- وسائل الشیعة: الباب 1 من أبواب الأسئار، الحدیث 4.
2- المصدر السابق، الحدیث 6.

ص:352

لأبی منها مشط أو مشطان، ثمّ قال: تمشّطوا بالعاج فإنّ العاج یذهب الوباء»(1).

2. خبر القاسم بن الولید، قال: «سألت أبا عبداللّه علیه السلام عن عظام الفیل مداهنها وأمشاطها؟ قال: لا بأس به»(2).

وغیر ذلک من الأخبار الدالة علی الطهارة.

خلافا للشیخ فی «الخلاف» وسلاّر وابن حمزة فی «المراسم» و«الوسیلة»، علی ما حکاه العلاّمة ونسبه الیهما، ونقل صاحب «المعالم» عن ابن الجنید أنّه استثناها ممّا حکم بطهارة سؤر المسوخ، مع حکمه بطهارة سؤر السباع، وقرنها فی الاستثناء بالکلب والخنزیر، وکذا عن «الاصباح»، ولکنّه ضعف لا نعرف له مأخذا یعتدّ به، کالمحکی عن الشیخ فی أطعمة «الخلاف» من نجاسة المسوخ کلّها، بل وکذا ظاهر بیع «الخلاف»، حیث علّل عدم جواز بیع القرد بالاجماع علی أنّه مسخٌ نجسٌ، وأنّه لا یجوز بیع ما کان کذلک، کالمحکی عن بیع «المبسوط» حیث قال: «لا یجوز بیع الأعیان النجسة کالکلب والخنزیر وجمیع المسوخ» بناءً علی کون العطف بالمشبه به لا المشبه، مع أنّه یمکن ویحتمل عکسه فلا یدلّ علی النجاسة کما فی «الجواهر»، بل قال: «یحتمل قراءة ما فی «الخلاف» والنجاسة بالحاء المهملة أو بالجیم علی ارادة معناهما من الخباثة ونحوها، لا المعنی المتعارف کما قد یؤیّد ذلک حکمه فی «الخلاف» بجواز التمشّط بالعاج واستعمال المداهن منه مدّعیا علیه الاجماع».

أقول: بل قد یؤیّد ما ذکرنا من الطهارة، ما حُکی عنه فی «الاقتصاد» حیث قال: «إنّ غیر الطیر علی ضربین: نجسُ العین ونجس الحکم، فنجس العین هو الکلب والخنزیر، فإنّه نجس العین نجس السؤر نجس اللّعاب، وما عداه ضربین:


1- وسائل الشیعة: الباب 72 من أبواب الحمام، الحدیث 1.
2- وسائل الشیعة: الباب 72 من أبواب آداب الحمام، الحدیث 3.

ص:353

مأکول وغیر مأکول، فما لیس بمأکول کالسّباع وغیرها من المسوخات مباح السؤر، وهو نجس الحکم» انتهی.

وفیما ذکرنا من التأییدات التی ذکرها صاحب «الجواهر» یخرج الشیخ عن الخلاف فیتّحد مع سائر الفقهاء، کما أنّ عدم جواز البیع علی فرض التسلیم یعدّ أعمّ من النجاسة، إذ ربما یمکن أن یکون عدم جوازه حتّی مع طهارته.

وبالجملة: فلم یظهر للحکم بالنجاسة دلیلٌ یحکم به، ولعلّ الحکم بالنجاسة فی زماننا صار متروکا، وکذلک اختار المصنّف الطهارة تبعا لسائر الفقهاء، واللّه العالم.

البحث عن حقیقة المسوخ

المراد من المسوخ هو الحیوان الذی هو الآن علی صورة المسوخ الاصلیّة، وإلاّ فان الممسوخ الأصلی لا یبقی حیّاً أکثر من ثلاثة أیّام، کما أشار القرآن إلی ذلک: «تَمَتَّعُواْ فِی دَارِکُمْ ثَلاَثَةَ أَیَّامٍ ذَلِکَ وَعْدٌ غَیْرُ مَکْذُوبٍ»(1).

وعدد هذه الحیوانات علی اختلاف النقل والأقوال یبلغ إلی نیّف وثلاثین علی ما هو المستفاد من الأخبار المتفاوتة التی قد جمع نوعها صاحب «الحدائق»، ومن أراد الاطلاع علیها فلیراجع الیها، واسماءها علی ما فی «الجواهر»: الضبّ، والفارة، والقرد، والخنازیر، والفیل، والذئب، والأرنب، والوطواط، والجریث، والعقرب، والدبّ، الوزغ، والزنبور، والطاووس، والخفاش، والزمیر، والمارماهی، والوبر، والورس، _ أو الورک»، بل الصحیح الورل _ والأعمص، والعنکبوت، والقنفذ، وسهیل وزهرة _ وهما دابتان من الدّواب علی ما فی «کشف الغطاء» _ الکلب، والحیّة، والغطاءة، والبعوض، والقمّلة، والعفیقا، والخنسفاء _ علی ما فی «الفقیه» _ النعامة، والثعلب، والیربوغ وغیرها.


1- سورة هود، آیة 65.

ص:354

وعدا ذلک فلیس بنجسٍ (1)

وکیف کان، من أراد الاطلاع علیها فلیراجع فی باب الصید من کتاب الحج، وکتاب الأطعمة فقد جاء فیهما بیان سبب المسخ وسائر أحکامها، ولیس المقام مورد ذکرها. حکم بعض المشکوک نجاسته

(1) لا بأس هنا بذکر أمورٍ قد وقع الخلاف بین الاعلام فی نجاستها:

منها: لبن الصّبیة، حیث حکی نجاسته عن ابنی الجنید وحمزة وظاهر الصدوقین فی «الرسالة» و«الفقیه» و«المقنع» مستدلین بروایة السکونی، عن جعفر، عن أبیه: «أنّ علیّا علیه السلام قال: لبن الجاریة وبولها یغسل منه الثوب قبل أن تطعم، لأنّ لبنها یخرج من مثانة أمّها، ولبن الغلام لا یغسل منه الثوب ولا بوله قبل أن یطعم، لأنّ لبن الغلام یخرج من العضدین والمنکبین»(1).

بل وفی «فقه الرضا» بعد نقل التساوی بین البولین قال ما لفظه: «قال علیه السلام : وإن کان البول للغلام الرضیع فتصبّ علیه الماء صبّا، وإن کان قد أکل الطعام فاغسله، والغلام والجاریة سواء، وقد روی عن أمیرالمؤمنین صلوات الله علیه أنّه قال: لبن الجاریة تغسل منه الثوب قبل أن تطعم وبولها لأنّ الجاریة یخرج من مثانة أمّها، ولبن الغلام لا یغسل منه الثوب ولا من بوله قبل أن یطعم، لأنّ لبن الغلام یخرج من المنکبین والعضدین»(2).

بل نقل الحمیری فی «الجعفریات»، قال: أخبرنا محمد، حدّثنی موسی، حدّثنا أبی عن أبیه عن جدّه جعفر بن محمّد، عن أبیه: «أنّ علیّا علیه السلام قال: لبن الجاریة وبولها یغسل منه الثوب قبل أن تطعم إلی آخره»(3) مثل ما فی «فقه الرضا».


1- وسائل الشیعة: الباب 3 من أبواب النجاسات ، الحدیث 4.
2- المستدرک القدیم، ج 1، الباب 2 من أبواب النجاسات، الحدیث 1.
3- المصدر السابق، الحدیث 3.

ص:355

أقول: لکن المشهور بین الأصحاب هو القول بالطهارة، حیث أعرضوا عن مضمون هذه الأخبار، ولعلّ الوجه فیه _ مضافا إلی ضعف سنده بالسکونی الذی کان عامّیا ولم ینجبر بعمل الأصحاب، بل الاعراض عنه ثابت وموهن آخر له، ولأجل ذلک لا یقاوم ما دلّ علی الطهارة من عموم: «کلّ شیء طاهر حتّی یعلم انّه قذر» _ أنّ الأصل الأولی فی الأشیاء هو طهارة الأشیاء، ومنها لبن الصبیة، بل حمل بعض الأصحاب الحکم المذکور علی التقیة لکون راویه عامّیا، وبعضهم علی الاستحباب، وبعضهم علی اجتماعه مع البول للعطف بالواو وعود ضمیره إلی مجموع الأمرین باعتبار جعلهما شیئا واحدا.

نعم، هذا إنّما یصحّ مع ما فی روایة السکونی حیث قد جمع بینهما معا بالواو، بخلاف ما فی جاء فی «فقه الرضا» و«الجعفریات» حیث ذکر لزوم الغسل عن لبن الجاریة مستقلاً عن البول، فلا وجه للحمل علی الاجتماع. وعلیه فالأقوی عندنا هو الطهارة وحمل الروایات الدالّة علی لزوم الغسل علی الاستحباب، لما ورد من أنّ فضلات غیر مأکول الشامل للانسان طاهرة، نظیر ماء فمه ودمع عینه وعرقه ولبنه، کما علیه العمل والسیرة والاجماع المدّعی والعمومات الدالة علی الطهارة.

نعم، لو کان اللبن من النجس فهو نجسٌ کسائر فضلاته، مثل ما لو کان اللبن للکافرة، کما أنّ ماء فمها ودمعة عینها أیضا نجس تبعا لنجاسة بدنها، فاللّبن تابع فی الطهارة والنجاسة لصاحبه، ولکن قال صاحب «کشف اللثام» فی اللّبن النجس: «سواءٌ النجسة ذاتا أو عرضا بالجَلَل أو الوط ء أو الموت»، ولعلّه أراد بناءً علی القول بنجاسة لبن الحیوان أو الموطوء، والاّ لم نشاهد قولاً یقول بالنجاسة فی الجلل والوط ء، ولعلّه أشتبه ذلک مع الحرمة، کما هو الظاهر.

ومنها: الدود والصراصر ونحوها، المتولّده من المیتة أو العذرة، هل هو طاهر کما علیه الفقهاء بل الاجماع علیه، لعدم وجود مخالفٍ فیه إلاّ عن المحقّق فی

ص:356

«المعتبر»، حیث تردّد فی طهارته نظرا الی استصحاب نجاسته السابقة، مع أنّه لا یجری فی المورد، لوضوح أنّه فاقد لشرطه وهو بقاء الموضوع، لأنّه قد تبدّل عن العذرة والمیتة، نظیر تبدّل الانسان عن المنی وکذا فی سائر الحیوانات.

والدلیل علی طهارته: مضافا إلی ما عرفت من الأصل والعمومات، دلالة ما دلّ علی أنّ میتة ما لا نفس له طاهرٌ، فحیّه طاهر بطریق أولی، وهو أیضا ممّا لا نفس سائلة له.

وأمّا التمسک لذلک بحدیث علی بن جعفر علیه السلام : «سأل أخاه عن الدود یقع من الکنیف علی الثوب أ یصلّی فیه؟ قال: لا بأس إلاّ أن تری فیه أثرا فتغسله»(1).

لا یخلو عن وهن، لأنّ السؤال فیها عن حکم ما یقع الدود لأجل کونه فی الکنیف، وأنّ ذلک موجب یوجب لنجاسة الثوب، فأجاب أنّه لو لم یری أثرا منه فی الثوب فهو طاهر سواءٌ کان الدود بنفسه نجسا أو طاهرا، لأنّ النجس إذا کان جافّا لا یوجب التنجس، إلاّ لا أن یکون الثوب رطوبة مسریة، فیکون حینئذٍ خارجاً عن مساق السؤال.

والأخذ باطلاق الجواب حتّی یشمل هذه الصورة من الثوب أیضا، فبا لملازمة یثبت طهارة الدود، لا یخلو عن تعسّف.

ومنها: الحدید حیث قد شاع فی الألسن علی المحکی من «مصباح الفقیه» نسبة القول بنجاسة الحدید إلی الأخباریین، قال: «ولعلّه من المشهورات التی لا أصل لها، کما یشهد لذلک دعوی صاحب «الحدائق» الاجماع علی الطهارة، ویظهر من صاحب «الوسائل» أیضا کذلک، مع أنّهما أعرف بمذاهب الأخباریین، ولعلّ منشأ النسبة ما حکاه فی «الحدائق» عن بعض المتورعین أنّه کان یجتنب


1- وسائل الشیعة: الباب 80 من أبواب النجاسات، الحدیث 1.

ص:357

أکل البطیخ ونحوه إذا قطع بالحدید» انتهی(1).

قلنا: ولعلّ وجه النسبة هو تعبّدهم العمل بظاهر الأخبار الواردة فیه کما هو مقتضی نسبتهم الی الأخبار فلا بأس بذکرها حتّی یتّضح المراد والمقصود من النجاسة المستعملة فیها، وهی:

1. موثق عمّار، عن أبی عبداللّه علیه السلام : «فی الرجل إذا قصّ أظفاره بالحدید أو جزّ شعره أو حلق قفاه، فإنّ علیه أن یمسحه بالماء قبل أن یصلّی. سُئل فإن صلّی ولم یمسح من ذلک بالماء؟ قال: یعید الصلاة، لأنّ الحدید نجس. وقال: لأنّ الحدید لباس أهل النار، والذهب لباس أهل الجنّة»(2).

2. وموثقة الآخر عنه علیه السلام ، قال: «الرجل یقرض من شعره بأسنانه أیمسحه بالماء قبل أن یصلّی؟ قال: لا بأس إنّما ذلک فی الحدید»(3).

3. وروایة موسی بن أکیل النمیری، عن أبی عبداللّه علیه السلام : «فی الحدید أنّه حُلیة أهل النار، الی أن قال: وجعل اللّه الحدید فی الدنیا زینة الجنّ والشیاطن، فیحرم علی الرجل المسلم أن یلبسه فی الصلاة، إلاّ أن یکون قبال عدوّ فلا بأس به. قال: قلت: والرجل یکون فی السفر معه السکین فی خُفّه لا یستغتنی عنه، أو فی سراویله مشدودا، ومفتاحٌ یخشی إن وضعه ضاع، أو یکون فی وسطه المِنطقة من حدیدٍ؟ قال: لا بأس بالسکین والمنطقة للمسافر فی وقت ضرورة، وکذلک المفتاح إذا خاف الضیعة والنسیان، ولا بأس بالسیف، وکلّ آلة السلاح فی الحرب، وفی غیر ذلک لا تجوز الصلاة فی شیء من الحدید، فإنّه نجس مسوخ»(4).


1- مصباح الفقیه، ج 7، ص 322.
2- وسائل الشیعة: الباب 14 من أبواب نواقض الوضوء، الحدیث 5.
3- وسائل الشیعة: الباب 14 من أبواب نواقض الوضوء، الحدیث 4.
4- وسائل الشیعة: الباب 32 من أبواب لباس المصلّی ، الحدیث 6.

ص:358

4. ومرسل «الفقیه»، قال: «قال النبی صلی الله علیه و آله : ما طهّر اللّه یدا فیها خاتم حدید»(1).

5. وروایة أبی بصیر، عن أبی عبداللّه علیه السلام ، قال: «قال أمیرالمؤمنین علیه السلام : لا تخّتموا بغیر الفضة، فإنّ رسول اللّه صلی الله علیه و آله قال: ما طهرت کفّ فیها خاتمٌ من حدید»(2).

وغیر ذلک من الأخبار الدالّة علی النجاسة ولو بالملازمة من لزوم مسح الماء لمحلّ قصّ الأظفار، ومحل حلق الرأس، أو عدم جواز الصلاة فیه إذا کان لأجل نجاسته صریح خبر موسی.

6. وخبر المدائنی، عمّن حدّثه، عن أبی عبداللّه علیه السلام ، قال: «لا یصلّی الرجل وفی تکتّه مفتاح حدید»(3).

7. وروایة السکونی، عنه قال: «قال رسول اللّه صلی الله علیه و آله : لا یصلّی الرجل وفی یده خاتم حدید»(4).

وإن أمکن فیهما الحمل علی الکراهة لا لأجل نجاسته، وکیف کان، فهذه الأخبار بالصراحة أو بالاشعار تدلّ علی ذلک.

أقول: ولکن لابدّ أن یعلم أنّه لا یمکن ابقاء هذه الروایات علی ظاهرها من نجاسة الحدید، ووجوب مسح محلّه بالماء وحرمة الصلاة معه لأمور:

أوّلاً: مخالفتها للسیرة القطعیة من زمان النبی صلی الله علیه و آله إلی یومنا هذا من عدم الاجتناب عمّا یلاقیه، خصوصا مع ظهور روایتی عمّار فی عدم الفرق فی النجاسة بین ما لاقاه مع رطوبة مسریة أو بدونها، لا سیّما مع ملاحظة سیرة النّاس علی حلق الرأس والتقصیر بالحدید حتّی فی عصر النبی صلی الله علیه و آله وقت من دون ورود ما


1- المصدر السابق، الحدیث 9.
2- المصدر السابق، الحدیث 4.
3- المصدر السابق، الحدیث 2.
4- المصدر السابق، الحدیث 1.

ص:359

یدلّ علی لزوم الغسل وتطهیر الرأس فی عصر رسول اللّه صلی الله علیه و آله وبعده، مع أنّه لو کان واجبا لزم علیهم البیان، وعلیه فالأخبار المذکورة ممّا لا یمکن الالتزام بظاهر مفادها.

وثانیا: مخالفتها لاجماع الأصحاب، کما صرّح به صاحب «الحدائق».

وثالثا: معارضتها مع أخبار کثیرة صحیحة وغیرها دالّة علی الطهارة:

ومنها: صحیحة سعید بن عبداللّه الأعرج، قال: «قلت لأبی عبداللّه علیه السلام : آخذ من اظفاری ومن شاربی وأحلق رأسی أفاغتسل؟ قال: لا لیس علیک غسل. قلت: فأتوضّأ؟ قال: لا لیس علیک وضوء. قلت: فأمسح علی أظفاری الماء؟ قال: هو طهور لیس علیک مسح»(1).

ومنها: روایة الحسن بن الجهم، قال: «أرانی أبوالحسن علیه السلام میلاً من حدید ومکحلة من عظام، فقال: هذا کان لأبی الحسن علیه السلام فاکتحل به فاکتحلتُ»(2).

ومن الظاهر أنّ میل الاکتحال لا یخلو من ملاقاة الرطوبة غالبا، ومع ذلک لم یحکم بالاجتناب.

ومنها: روایة اسماعیل بن جابر: «أنّه سأل الصادق علیه السلام عن الرجل یأخذ من أظفاره وشاربه أ یمسحه بالماء؟ فقال: لا هو طهور»(3).

ومنها: روایة زرارة فی الصحیح عن «الفقیه» الواردة فی تقلیم الأظفار وجزّ الشارب من دون أن ینبّه علی لزوم الغَسل والتطهیر لمحلّه وهو الخبر المرویّ عن الباقر علیه السلام أنّه قال له: «الرجل یقلّم أظفاره ویجزّ شاربه ویأخذ من شعر لحیة ورأسه، هل ینقض ذلک وضوئه؟ فقال: یا زرارة کلّ هذا سُنّة، الی أن قال: وإنّ ذلک


1- وسائل الشیعة: الباب 14 من أبواب نواقض الوضوء، الحدیث 3.
2- وسائل الشیعة: الباب 83، الحدیث 4.
3- وسائل الشیعة: الباب 14 من أبواب نواقض الوضوء، الحدیث 6.

ص:360

لیزیده تطهیراً»(1).

ومنها: روایة وهب بن وهب، عن جعفر بن محمد علیه السلام : «أنّ علیّا قال: السیف بمنزلة الرداء تصلّی فیه ما لم تردّها»(2).

إلی غیر ذلک من الأخبار الدالة علی طهارة الحدید بالاشعار أو بالملازمة، وعلیه فلا محیص من توجیه الأخبار الدالّة علی النجاسة بأحد أمور:

1. إمّا بالتصرف فی مادّة النجاسة، بأن یکون بالحاء المهملة، فیکون المراد منها هو الخباثة والقذارة کما یظهر منه ذلک فی الجملة ما حکاه صاحب «الحدائق»، قال: «ورأیتُ فی بعض الحواشی المنسوبة الی الأمین الاسترآبادی رحمه الله ما صورته: قوله علیه السلام : «ونجس ممسوخ»، أقول: أهل الکیمیاء زعموا أنّ المعدنیات المنطبعة کلّها فی الأصل قابلة للذهب، فأصاب بعضها الجذام فصار حدیدا وبعضها البرص فصار نحاسا وبعضها البَهَق(3) فصار فضّة، وذکروا أنّ حقیقة الکیمیاء إنّما هی ازالة ما أصابها من المرض، وأنّه کما لا یمکن معالجة جُذام الانسان، کذلک لا یمکن معالجة جذام المعدنیات بالاکسیر، وقوله علیه السلام : (نجسٌ لمسوخ) اشارة إلی ذلک، أو إلی أنّه قذرة، وحمل (النجس) علی نجس العین توهّم صرف یکذّبه حلق رأس النبی صلی الله علیه و آله فی المروة وقطعه علیه السلام البطیخ بالحدید، ولبسه الدّرع یوما ولیلة فی حرب أُحُد وهو یصلّی فیه، وعدم اجتنابهم علیهم السلام من السیف وأشباه ذلک من الأمور التی یعمّ بها البلوی، وفی «الکافی» حدیثٌ صریح فی صحّة الکیمیاء، وفیه نوع اشارة الی ما ذکرناه» انتهی کلام الأمین، وانتهی محل الحاجة من «الحدائق»(4).


1- وسائل الشیعة: الباب 83 ، الحدیث 1.
2- المصدر السابق، الحدیث 3.
3- البَهَق بیاض فی الجسد لا من برص، المنجد.
4- الحدائق، ج 5، ص 235.

ص:361

2. أو تحمل الأخبار المذکورة علی الاستحباب فی الغسل جمعا بین الطائفتین، وفراراً عن طرد هذه الأخبار، کما یؤیّد هذا الحمل وکذلک الحمل علی التقیة ما ورد فی الصحیح، عن محمد الحلبی، قال: «سألت أبا عبداللّه علیه السلام عن الرجل یکون علی طهر فیأخذ من أظفاره أو شعره أیعید الوضوء؟ فقال: لا، ولکن یمسح رأسه وأظفاره بالماء. قلت: فإنّهم یزعمون أنّ فیه الوَضُوء؟ فقال: إنْ خاصموکم فلا تخاصموهم وقولوا هکذا السُّنة(1).

فعلی فرض قبول استحباب المسح بالماء فی محلّ القصّ، یوجب القول باستحباب اعادة الصلاة أیضا لو أتی دون المسح بالماء، ولا ینافی ذلک مع النهی الوارد فی خبر علی بن جعفر: «أنّه سأل أخاه موسی بن جعفر علیه السلام عن رجل أخذ من شعره ولم یمسحه بالماء، ثمّ یقوم فیصلّی؟ قال: ینصرف فیمسحه بالماء ولا یعید صلاته تلک»(2) لامکان أن یکون النهی واردا مورد توهّم الوجوب.

وبالجملة: ثبت ممّا ذکرنا أن حکم طهارة الحدید واضح لاخفاء فیه.

ومنها: القبح والصدید: فانّهما إن کانا مجرّدین عن الدم فهما طاهران والاّ نجس للأصل والعمومات والسیرة وغیرها، وإن تردّد الفاضلان فی الصدید، ولعلّ وجه تردّدهما هو التردّد والجهل بحقیقته عرفا، إذ بحسب الظاهر أنّه عبارة عن الماء الأحمر الرقیق الخارج من الجرح، وحاله مشتبه عرفا بین کونه دم رقیق أو شیء ممزوج به أو طبیعة ثالثة، ولذلک قال فی «مجمع البحرین»: «الصدید قیحٌ ودمٌ، وقیل هو القیح کأنّه الماء فی رقبة والدم فی شکله»(3) انتهی.


1- وسائل الشیعة: الباب 14 من أبواب نواقض الوضوء، الحدیث 1.
2- مجمع البحرین، ج 3، ص 84 مادّة صدد.
3- مصدر السابق.

ص:362

وبالجملة: ثبت أن حکم المسألة من الطهارة والنجاسة واضح، والاختلاف والنزاع إنّما هو فی تشخیص موضوعه وأن الحمرة فیه إن کانت دماً کان نجساً والاّ طاهر، ومع الجهل یحکم بطهارته للأصل کغیره من الشبهات الموضوعیة، فلعلّ الشیخ الذی أختار طهارته کان إمّا لأجل أنّه تحقّق من الموضوع وأنّه غیر الدم، أو جعله من المشتبهات فحکم بطهارته للأصل، والاّ یستبعد أن یحکم بطهارته مطلقا، حتّی إذا کان دما.

ومنها: القی، صرّح جملة من الأصحاب منهم المحقّق فی «المعتبر» وصاحب «الجواهر» و«الحدائق» و«مصباح الفقیه» وکثیر من الأصحاب بطهارته، بل فی «المعتبر»: «القی والقلس والنخامة وکلّ ما یخرج من المعدة إلی الفم أو ینزل من الرأس طاهر عدا الدم»، وقال الشیخ فی «المبسوط»: «القی طاهرٌ وقال بعض أصحابنا نجس، قال: والصدید والقیح حکمها حکم القی».

أقول: الأقوی هو الطهارة فإنّه مضافا إلی الأصل والعمومات والسیرة یدل علیها الأخبار:

منها: موثقه عمّار الساباطی: «سأل أبا عبداللّه علیه السلام عن القی یُصیب الثوب فلا یغسل؟ قال: لا بأس به»(1).

ومنها: خبره الأخر، قال: «سألت أبا عبداللّه علیه السلام عن الرجل یتقیئُ فی ثوبه أیجوز أن یصلّی فیه ولا یغسله؟ قال: لا بأس به»(2).

نعم، رواه الشیخ عن عثمان بن عیسی، عن أبی هلال، قال: «سألت أبا


1- وسائل الشیعة: الباب 48 من أبواب النجاسات، الحدیث 2.
2- المصدر السابق، الحدیث 1.

ص:363

ویکره بول البغال والحمیر والدّواب (1)

عبداللّه علیه السلام أینقض الرّعاف والقی ونتف الإبط الوضوء؟ فقال: وما تصنع بهذا هذا قول المغیرة بن سعید، لعن اللّه المغیرة، یجزیک من الرعاف والقی أن تغسله ولا تعید الوضوء»(1). حکم بول بعض الحیوانات

ولعلّه دلیل القائلین بالنجاسة، کما هو الظاهر منه من ضمّ الرعاف الی القی فی حکم الغَسْل، غایة الأمر یمکن بواسطة التصرف فی الخبرین السابقین من الحکم بطهارة القی حمل الغسل فی القی علی رفع الاستقذار وازالته عن البدن والثوب، لانّه مظنّة لحصول النفرة، ولا یزیل بصبّ الماء ورشّه، بل لابدّ من غسله، فیصیر الغسل بالنسبة الی دم الرعاف هو التطهیر، وبالنسبة الی القی بمعنی النظافة والتنظیف بقرینة منفصلة وهی الخبران السابقان، مضافا إلی اعراض الأصحاب عنه، حیث لم یفت أحدٌ من الأصحاب بالنجاسة إلاّ الشاذّ کما عرفت.

(1) المشهور بین المتقدّمین والمتأخرین هو الطهارة والکراهة، بل قد ادّعی فی «الغنیة» الاجماع علیها، کما هو کذلک فی باب آبار «السرائر»، وباب تطهیر الثیاب منها ذلک أیضا بالنسبة الی الطهارة، قال فی باب الآبار: «أجمع الصحابة، وتواتر الأخبار علی أن مأکول اللحم من سائر الحیوان ذرقه وبوله وروثه طاهر، فلا یلتفت الی خلاف ذلک من روایة شاذة، أو قول مصنّفٍ غیر معروف، أو فتوی غیر محصّل».

بل حکی فیه أیضا عن «المبسوط» ما یظهر منه الاجماع علی ذلک، بل فی «المعتبر»: «وأمّا رجیع ما یؤکل وبوله فطاهر باتفاق علمائنا»، لکنّه ذکر الخلاف بعد ذلک فی أبوال الدوّاب الثلاثة، ولعلّ الوجه فی الخلاف فی الثلاثة هو الخلاف


1- وسائل الشیعة: الباب 7 من أبواب نواقض الوضوء، الحدیث 8.

ص:364

فی کونها مأکول اللّحم، کما أشار إلی ذلک العلاّمة فی «المنتهی»، وقال: «إنّ الخلاف فیها مبنیٌّ علی أنّها هل هی مأکولة اللّحم أو لا؟».

وکیف کان، فالطهارة فی أبوال الدّواب من الثوابت الفقهاء، وعلیه صاحب «الجواهر» و«مصباح الفقیه» و«مصباح الهدی» والشیخ وغیرهم من المتأخرین، ولم ینقل القول بالنجاسة الاّ عن ابن الجنید والشیخ فی «النهایة»، وإن رجع عنها فی سائر کتبه، ووافقهما بعض المتأخرین من المقدّس الأردبیلی وصاحب «الذخیرة» وصاحب «المعالم» علی ما نُسب الیهما وصاحب «الحدائق»، وعلیه فلا بأس هنا بذکر الأخبار الدالة علی النجاسة، ثمّ الجواب عنها، والنظر إلی معارضها، فنقول ومن اللّه الاستعانة:

منها: صحیح عبدالرحمن بن أبی عبداللّه، قال: «سألت أبا عبداللّه علیه السلام : عن رجل یمسّه بعض أبوال البهائم أیغسله أم لا؟ قال: یغسل بول الحمار والفرس والبغل، فأمّا الشاة وکلّ مأکول لحمه فلا بأس ببوله»(1).

ومنها: عن أبان عثمان مثله، إلاّ أنّه قال: «وینضح بول البعیر والشاة، فکلّ ما یؤکل لحمه فلا بأس ببوله»(2).

ومنها: صحیح الحلبی، قال: «سألت أبا عبداللّه علیه السلام عن أبوال الخیل والبغال؟ فقال: أغسل ما أصابک منه»(3).

ومنها: صحیح محمد بن مسلم، قال: «سألت أبا عبداللّه علیه السلام عن ألبان الابل، الی أن قال: وسألته عن أبوال الدواب والبغال والحمیر؟ فقال: إغسله، فإنْ لم تعلم مکانه فاغسل الثوب کلّه، فإنْ شککت فانضحه»(4).


1- وسائل الشیعة: الباب 9 من أبواب النجاسات ، الحدیث 9.
2- المصدر السابق، الحدیث 10.
3- المصدر السابق، الحدیث 11.
4- المصدر السابق، الحدیث 6.

ص:365

فانّه یدلّ علی النجاسة بأقوی ممّا سبق، من حیث الأمر بغَسل کلّ الثوب إن لم یعلم مکانه.

ومنها: صحیح الحلبی،عن الصادق علیه السلام ، قال:«لابأس بروث الحمیر واغسل أبوالها»(1).

ومنها: روایة عبدالأعلی بن أعین، قال: «سألت أبا عبداللّه علیه السلام عن أبوال الحمیر والبغال؟ قال: أغسل ثوبک، قال: قلت: فأرواثها؟ قال: هو أکبر من ذلک»(2).

ومنها: روایة أبی مریم، قال: «قلت لأبی عبداللّه علیه السلام : ما تقول فی أبوال الدّواب وأرواثها؟ قال: أما أبوالها فاغسل ما أصاب ثوبک، وأمّا أرواثها فهی أکبر من ذلک»(3).

ومنها: موثقة سماعة، قال: «سألته عن أبوال السّنور والکلب والحمار والفرس؟ قال: کأبوال الانسان»(4).

فإنّ هذه الأخبار السبعة بظاهرها من الأمر بالغَسْل عند اصابة البول الثوب، مع ظهور الأمر فی الوجوب، یوجب الحکم بالنجاسة لأجل دعوی قیام الملازمة بین وجوب الغسل مع النجاسة، خصوصا مع ملاحظة ذیل موثقة سماعة من تشبیه ذلک ببول الانسان المتّفق علیه بالنجاسة، وإلاّ لو لا ذلک نجد تصریحاً فی شیء من الأخبار بکونه نجسا، ولو کان عندنا شیء لکان غسله واجبا بدون النجاسة لأمکن دعوی ذلک هنا، ولکنّه غیر موجود، فیثبت مدّعاهم بالنجاسة، لولا التأویل


1- وسائل الشیعة: الباب 9 من أبواب النجاسات، الحدیث 1.
2- المصدر السابق، الحدیث 13.
3- المصدر السابق، الحدیث 8.
4- وسائل الشیعة: الباب 8 من أبواب النجاسات، الحدیث 7.

ص:366

بمقتضی الجمع بین هذه الأخبار وبین غیرها ممّا سیأتی منها، بل دلالة بعضها علی عکس المطلوب، فلا بأس بذکرها:

منها: صحیحة علی بن جعفر، عن أخیه موسی بن جعفر علیه السلام ، قال: «سألته عن الدابّة تبول فتصیب بولها المسجد أو حائطه، أیصلّی فیه قبل أن یغسل؟ قال: إذا جفّ فلا بأس»(1).

حیث تمسّکوا بهذا الخبر من جهة مفهومها للنجاسة، لانّه یدلّ علی وجوب الغَسل قبل الجفاف.

ومنها: روایته الأخری فی کتابه عن أخیه علیه السلام ، قال: «سألته عن الثوب یقع فی مربط الدابّة علی بولها وروثها کیف یصنع؟ قال: إنّ علق به شیءٌ فلیغسله، وإن کان جافّا فلا بأس»(2).

نعم، فی روایته الثالثة لیس فیها عنوان الجفاف، وهو قوله: «سألته عن الثوب یوضع فی مربط الدابّة علی أبوالها وأرواثها؟ قال: إنّ علق به شیءٌ فلیغسله، وإن أصابه شیء من الروث أو الصفرة التی تکون معه فلا تغسله من صفرته»(3).

فإنّ دلالة هذین الأخیرین علی وجوب الغسل بالمفهوم فیما قبل الأخیر والمنطوق فی الأخیر واضحة.

وأمّا الخبر الأوّل من الثلاثة: فیشکل الاستدلال به علی النجاسة، لأنّه:

أولاً: ورد فیه إن کان بول الدواب نجسا وأصاب المسجد أو حائطه فیصیر المسجد نجسا ولابدّ من غسله قبل الصلاة، سواءٌ بقی جافّا أو کان رطبا، فإنّه بالجفاف لا یصیر طاهرا، هذا بخلاف ما لو لم یکن الغسل الاّ للتنظیف، فإنّ الذوق


1- وسائل الشیعة: الباب 9 من أبواب النجاسات، الحدیث 18.
2- وسائل الشیعة: الباب 9 من أبواب النجاسات، الحدیث 21.
3- المصدر السابق، الحدیث 19.

ص:367

الفقهی یتّفق أن یکون التطهیر مع الرطوبة أولی بخلاف صورة الجفاف حیث لا نفرة فیه کالرطب، فإنّه قرینة علی عدم کونه نجسا، مضافا الی شمول الاطلاق والعموم فی الدابّة حتّی لمثل الشاة والبقرة والابل، وهذا ما لا یقبله الخصم بأن یکون بولها کذلک، إلاّ أن یخرج منها بواسطة سائر الأخبار الدالة علی عدم البأس فی بولها هذا اوّلاً.

وثانیا: وجود أخبار دالّة علی الطهارة، ومصرّحة بأنّ المراد من الأمر بالغسل غیر الوجوب، مما یعنی دلالتها علی الاستحباب:

منها: روایة أبی الأغرّ النخّاس، قال: «قلت لأبی عبداللّه علیه السلام : انّی اعالج الدواب، فربّما خرجتُ باللّیل وقد بالت وراثت، فیضرب أحدها برجله أو یده فینضح علی ثیابی، فأصبح فأری أثره فیه؟ فقال: لیس علیک شیء(1).

ورواه الصدوق باسناده عن أبی الأغرّ النحّاس مثله الاّ أنّه قال: «فینضح علی ثوبی؟ فقال: لا بأس به».

ومنها: روایة معلّی بن خُنیس، وعبداللّه بن أبی یعفور، قالا: «کنّا فی جنازة وقدّامنا حمار فبال فجائت الریح ببوله حتّی صکّت وجوهنا وثیابنا، ودخلنا علی أبی عبداللّه علیه السلام فأخبرناه؟ فقال: لیس علیکم بأس»(2).

فإنّه وارد فی خصوص الحمار الذی کان فیه الأمر بالغسل منصوصا بالوجوب الظاهری، مع أنّه نفی البأس هنا بالخصوص، فلابدّ من الجمع بینهما، کما أن اطلاق (الدّواب) فی خبر أبی الأغرّ یشمل کلّ الدواب حتّی الفرس والبغل والحمار ونفی البأس عن أبوالها.

وثالثا: یمکن الاستدلال علی أنّ المراد من (الطهارة) المأمور بها فی الأخبار


1- وسائل الشیعة: الباب 9 ، الحدیث 2.
2- وسائل الشیعة: الباب 2 من أبواب لباس المصلّی، الحدیث 1.

ص:368

حملها علی الاستحباب للأخبار العامة الواردة فی باب الصلاة التی کادت نصّا فی دوران حرمة الصلاة _ التی هی أخصّ من النجاسة مدار حرمة الأکل، وأن ما لیس بمحرم الأکل تجوز الصلاة فی بوله روثه وکلّ شیء منه _ الشامل باطلاقه ما کان مجعولاً للأکل کالشاة والبقر، أم لم یکن کالحمار والفرس:

منها: روایة ابن بکیر، قال: «سأل زرارة أبا عبداللّه علیه السلام عن الصلاة فی الثعالب والفنک والسنجاب وغیره من الوبر، فأخرج کتابا زعم انّه إملاء رسول اللّه صلی الله علیه و آله : إنّ الصلاة فی وبر کلّ شیء حرام أکله، فالصلاة فی وبره وشعره وجلده وبوله وروثه وکلّ شیء منه فاسد، لا تقبل تلک الصلاة حتّی یصلّی فی غیره ممّا أحلّ اللّه أکله، ثم قال: یا زاررة هذا عن رسول اللّه صلی الله علیه و آله ، فاحفظ ذلک یا زرارة، فإن کان ممّا یؤکل لحمه فالصلاة فی وبره وبوله وشعره وروثه وألبانه، وکلّ شیء منه جائز إذا علمت أنّه ذکّی وقد ذکّاه الذبح، وإن کان غیر ذلک ممّا قد نهیت عن أکله، وحرم علیک أکله، فالصلاة فی کلّ شیء منه فاسد ذکاه الذّبح أو لم یذکّه»(1).

فانّ مفاد هذه الروایة یدلّ علی کل ما تجوز الصلاة فیه، وهو ما کان لحمه حلالاً، سواءٌ کان معدّا للأکل کالشاة والبقرة والابل أو غیر معدّ لذلک مثل لحم الحمار والفرس، مع أنّه لو کان بولها نجسةً لما صحّ مع مفاد هذه الروایة، بأنّ (کلّ ما یؤکل لحمه تکون الصلاة فیه صحیحة مع بوله وروثه) وهو نصّ علی الصحّة، فکیف یمکن الحکم بتقدیم تلک الأخبار علی هذه الروایة، مع أنّها ظاهرة فی لزوم الغسل المفید للنجاسة، والنصّ مقدم علی الظاهر، وعلیه فلابدّ من الحکم باستحباب الغَسْل لا وجوبه، لأنّ الأمر حینئذٍ یدور بین حمل أخبار النجاسة علی الکراهة واستحباب الاجتناب عنه بالغَسْل، وبین ارتکاب التخصیص فی موثقة ابن بکیر بالنسبته الی بول الدّواب، مع أنّ الروایة وردت لبیان الضابطة فی حقّ


1- وسائل الشیعة: الباب 2 من أبواب لباس المصلّی، الحدیث 2.

ص:369

المأکول وغیره فی الصلاة، ولا ریب أنّ الأوّل هو أهون وأقوی لوجوه:

أوّلاً: اعتضاده بشهرة الأصحاب قدیما وحدیثا علی الطهارة، بل دعوی الاجماع، وشذوذ قول المخالف لشبهة حصلت لهم تمسکا بظاهر أخبار النجاسة بلا تأویل، مضافا الی امکان ورود بعضها للتقیة، لأنّ النجاسة هو مذهب الشافعی وأبی حنیفة وأبی یوسف کما فی «الجواهر».

وثانیا: وجود بعض المناسبات بین الحکم والموضوع فی أخبار النجاسة، نشیر الیها:

أوّلاً: بما قد عرفت من نفی البأس عن اصابة بول الدّواب بجدار المسجد أو به إذا جفّ، مع أنّه إن کان نجسا فلا یوجب الجفاف طهارته، فلابدّ أن یکون بلحاظ التنظیف، ممّا یدلّ علی أنّ الأمر بالغسل لأنّه یعدّ أمرا محبوبا، خصوصا إذا کان رطبا.

ثانیا: ما ورود فی حدیث عن أحدهما علیهماالسلام : «فی أبوال الدّواب تصیب الثوب فکرهه، فقلت: ألیس لحومها حلالاً؟ قال: بلی، ولکن لیس ممّا جعله اللّه للأکل»(1) فإنّ هذا الحدیث یمکن أن یصیر بمدلولة اللفظی شاهدا للجمع بین الطائفتین فی بول الدواب، بأن یکون وجوده علی الثوب مکروها دون أن یکون نجسا، فیعدّ غسله حسنا ومحبوبا، فیساعد مع ما ورد فی حدیث زرارة: «إنّهما قالا: لا تغسل ثوبک من بول شیءٍ یؤکل لحمه»(2) بأن یحمل علی بول ما هو معدّ للأکل من الدواب حیث لا کراهة فی بوله، بخلاف ما کان معدّا للرکوب والزینة حیث أنّ المحبوب فیه هو الغَسْل لکراهة بقائه، فیوافق هذا مع ما فی خبر عبدالرحمن من التفصیل بین الموردین، بقوله عن الصادق علیه السلام : «عن رجل یمسّه بعض أبوال البهائم أیغسله أم لا؟ قال: یغسل بول الفرس والحمار والبغل، فأمّا الشاة وکلّ ما یؤکل لحمه فلا بأس ببوله»(3).


1- وسائل الشیعة: الباب 9 من أبواب النجاسات، الحدیث 7.
2- المصدر السابق، الحدیث 4.
3- المصدر السابق، الحدیث 9.

ص:370

وثالثا: یؤیّد ما ذکرنا ما جاء فی الخبر الذی رواه العیّاشی فی تفسیره، عن زرارة، عن أحدهما علیهماالسلام : «أنّه سأله عن أبوال الخیل والبغال والحمیر؟ قال: فکرهها، فقال: ألیس لحمها حلالاً؟ فقال: ألیس قد بیّن اللّه تعالی لکم «وَالاْءَنْعَامَ خَلَقَهَا لَکُمْ فِیهَا دِفْ ءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْکُلُونَ» وقال: «وَالْخَیْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِیرَ لِتَرْکَبُوهَا وَزِینَةً» فجعل للأکل الانعام التی نصّ اللّه تعالی فی الکتاب، وجعل للرکوب الخیل والبغال والحمیر لیس لحومها بحرام، ولکن الناس عافوها»(1) حیث أنّ المراد من الکراهة هو حُسن الاجتناب عنه وغسله، فیکون معنی الکراهة تنفّر الطبع أو الکراهة الاصطلاحیة، لا النجاسة التی ذهب الیها صاحب «الحدائق» واستشهد بهذه الروایة لمختاره من الحکم بنجاسة بول الدوّاب.

ورابعا: لو کان بول الدّواب نجسا، فلابدّ أن تکون النجاسة من جهة أنّها غیر مأکول اللحم ولو من جهة عدم کونها معدّة للأکل، فلابدّ حینئذٍ أن یکون روثه أیضا کذلک للملازمة القائمة بینهما فی الأخبار، کما عرفت فی موثقة ابن بکیر من التحلیل إذا کان ممّا یؤکل لحمه، والتحریم من جهة النجاسة إذا لم یؤکل لحمه، فلو أرید من ما یؤکل لحمه ما هو المعدّ للأکل، والمحرّم منه ما لا یکون معدّاً لذلک، لزم کون روث البغال والحمیر والخیل ممّا لا یجوز الصلاة فیه، لأنّها ممّا لا یؤکل، أی یحرم أکل لحمه بواسطة أنّها لم تکن معدّة للأکل، بل هی معدّة للرکوب والزینة، مع أنّه قد ورد فی صحیحة علی بن جعفر عن أخیه علیه السلام ، قال: «سألته عن الثوب یوضع فی مربط الدابة علی أبوالها وأرواثها؟ قال: إنّ علق به شیءٌ فلیغسله، وإن أصابه شیءٌ من الروث أو الصّفرة التی تکون معه فلا تغسله من صفرة»(2) حیث حکم علیه السلام بعدم لزوم الغسل فی ما إذا أصابه الروث، حیث یفید أنّ المراد من


1- الحدائق، ج 5، ص 27.
2- وسائل الشیعة: الباب 9 من أبواب النجاسات، الحدیث 19.

ص:371

الکراهة هو ما ذکرناه کما لا یخفی، وبذلک یمکن حمل ما جاء فی خبر عبدالأعلی وأبی مریم بالنسبة إلی الروث بکونه (أکبر) علی نسخةٍ أو (أکثر) علی أخری علی أنّ الحکم بالغسل فیه أکبر من جهة العسر فی التحرّز عنه، کما یحتمل کون المراد من الأکبر هو شدّة النجاسة من البول، لکنه علی هذا الحمل یعدّ مخالفا للاجماع، حیث لم یثبت الحکم بالنجاسة فی الروث من أحد، ولذلک نری الحکم بجواز الاستنجاء بالروث مع الکراهة، کما یظهر ذلک من الخبر الذی رواه الصدوق، قال: «انّ وفد الجانّ جاءوا الی رسول اللّه صلی الله علیه و آله فقالوا: یا رسول اللّه متّعنا، فأعطاهم الرّوث والعظم، فلذلک لا ینبغی أن یُستنجی بهما»(1)، فلو کان الروث نجسا لما کان الاستنجاء به جائزا، وجمله علی روث ما هو المعدّ للأکل بعیدٌ. وعلیه فما ذکره المصنّف من الکراهة فی بول الدّواب المذکور أسمائها فی المتن قوی، وإن کان الاحتیاط بالغَسل فیه حسنا، بل لا ینبغی ترکه، واللّه العالم.


1- وسائل الشیعة: الباب 35 من أبواب أحکام الخلوة، الحدیث 4.

ص:372

القول الثانی أحکام النجاسات

فی أحکام النجاسات

قال: تجب إزالة النجاسات عن الثیاب والبدن للصلاة وللطواف(1)

(1) إنّ ازالة النجاسة عن ثیاب المصلّی کلّها إلاّ ما استثنی _ کما سنبنّه علیه _ وعن بدنه واجبة تکلیفا ووضعا إذا کانت الصلاة واجبة، وهو الذی عبّر عنه صاحب «الجواهر» بقوله: شرعا وشرطا أو وضعا فقط دون تکلیفا، المعبّر عنه شرطا لا شرعا إذا کانت مندوبة، کما لا فرق فی الوجوب المذکور بین کون النجاسة عینیّة أو حکمیّة، کما لا فرق فی ذلک بین کون المزیل مزیلاً شرعیا کالماء ونحوه من الغَسل ونحوه، أو عقلیا کالقرض والحرق ونحوهما، کما لا فرق فی الثیاب التی تجب ازالتها عنها کونها ممّا هو معتادٌ لبسها أو لا کالتسترّ باللّحاف ونحوه ممّا یلف الانسان بدنه منه، عدا ما استثنی من القلنسوة ونحوها، کما لا فرق فی البدن الذی یجب ازالتها عنه کونه ظفرا أو شعرا أو غیرها من سائر الأعضاء.

والدلیل علی شرطیة هذه الأمور: فی صحة الصلاة، هو الاجماع محصّله ومنقوله، کما ذکر فی «السرائر» و«الخلاف» و«المعتبر» وغیرها، إذ لم یشاهد خلافا من أحد فی ذلک إلاّ من الاسکافی وهو ابن الجُنید حیث نقل العلاّمة کلامه فی «المختلف» بأنّه قال: «کلّ نجاسة وقعت علی ثوب، وکانت عینها مجتمعة أو متفرقة دون سعة الدرهم الذی یکون سعته کعقد الابهام الأعلی، لم ینجس الثوب بذلک، إلاّ أن یکون النجاسة دم حیض أو منیّا فإنّ قلیلهما وکثیرهما واحد» انتهی.

وردّه العلاّمة بعد ما استدلّ له فی «المختلف» بالقیاس الی الدم بانّ نجاسة المذکورات أغلظ من نجاسة الدم، فقیاس حکمها علی المنی أولی» انتهی.

أقول: ولا یخفی ما فی الاستدلال، حیث لا قیاس فی مذهبنا، مضافا الی أنّه لو

ص:373

کان مراده ذلک لابدّ أن یقال بالعفو فیها کما ورد فی الدّم لا الحکم بعدم النجاسة کما هو صریح کلامه، بقوله: «لم ینجس الثوب بذلک» مع أنّ الحکم بالأنجسیة غیر معلوم، مضافا الی بطلان قیاسه بالمنی أیضا، إذ مع بطلان القیاس فی مذهبنا لا فرق بین قیاسها بالدّم أو بالمنی کما لا یخفی، وعلیه فکلام الاسکافی ضعیف کضعف ما نقله ابن ادریس عن بعض الأصحاب من أنّه: «لا بأس بما ترشش علی الثوب أو البدن عند الاستنجاء مثل رؤوس الأبر من النجاسات»، ومثله المنقول عن السّید المرتضی فی «أجوبة المیافارقیات»: «من العفو عن البول إذا ترشّش عند الاستنجاء کرؤوس الأبر» لو أراد من العفو فی نفس البول لا الماء الواقع فی الاستنجاء علی البول، حیث إنّه خارج عن البحث هنا.

وکیف کان، مخالفةً مثل الاسکافی وغیره ممّا یُعرف نسبهم لا یضرّ بالاجماع المتحقّق هنا بوجوب الازالة عن النجاسات فی الصلاة، لاطلاق الأدلة من غیر معارضٍ، بل وخصوص معاقد الاجماعات الواردة فی الباب، بل ودلالة أخبار خاصّة بالحکم باعادة الصلاة أو غسله إذا لم یزل النجاسة عن الثوب الذی صلّی فیه أو عن بدنه:

منها: صحیح عبدالرحمن بن الحجّاج، قال: «سألت أبا ابراهیم علیه السلام عن رجل یبول باللّیل فیحسب أن البول أصابه فلا یستیقن، فهل یجزیه أن یصبّ علی ذکره إذا بال ولا یتنشّف؟ قال: یغسل ما استبان أنّه أصابه، وینضح ما یشکّ فیه من جسده أو ثیابه ویتنشّف قبل أن یتوضأ»(1).

ومنها: خبر الحسن بن زید، قال: «سُئل أبو عبداللّه علیه السلام عن الرجل یبول فیصیب فخذه قدر نکتة من بوله فیصلّی ثمّ یذکر بعد أنّه لم یغسله؟ قال: یغسله ویعید صلاته»(2).


1- وسائل الشیعة: الباب 11 من أبواب أحکام الخلوة، الحدیث 1.
2- وسائل الشیعة: الباب 42 من أبواب النجاسات، الحدیث 6.

ص:374

ومنها: خبر ابن مسکان، قال: «بعثت بمسألةٍ الی أبی عبداللّه علیه السلام مع ابراهیم بن میمون، قلت: «سَله عن الرجل یبول فیصیب فخذه قدر نکتةٍ من بوله فیصلّی ویذکر بعد ذلک أنّه لم یغسلها؟ قال: یغسلها ویعید صلاته»(1).

وغیر ذلک من الأخبار الوارة فی لزوم اعادة الصلاة فیما لو نسی النجس حتّی صلّی، بل وفی ما ورد فی العفو من الدم إلاّ دم الحیض وأنّ قلیله ککثیره فی عدم العفو وهو مثل خبر أبی بصیر، عن أبی عبداللّه علیه السلام أو أبی جعفر علیه السلام ، قال: «لا تعاد الصلاة من دم لا تبصره غیر دم الحیض فإنّ قلیله وکثیره فی الثوب إن رآه أو لم یره سواء»(2).

وکذا الأخبار الواردة فی باب 20 من أبواب النجاسات من «الوسائل» من الحکم باعادة الصلاة فی الدم إذا کان أزید من الدرهم دون الأقلّ منه، بل وما ورد فی المنیّ بأنّ قلیله ککثیره فی المنع، مضافا الی أنّ مقتضی الاطلاقات ذلک، بل ودلالة خبر سماعة، قال: «سألته عن المنیّ یصیب الثوب؟ قال: اغسل الثوب کلّه إذا خفی علیک مکانه، قلیلاً کان أو کثیراً»(3) ولا خلاف فیه حتّی عن الاسکافی کما صرّح بذلک.

فروع ثوب المصلّی

الفرع الأوّل: بعد معلومیة أنّ الطهارة عن النجس تعدّ شرطا للصلاة واجبةً کانت أو مندوبةً، فکما هی شرطٌ للمجموع فکذلک شرط لأجزائها کسائر الشرائط، لأنّ شرط المرکب شرط لأجزائها، لظهور انتفاء امتثال الشرط بانتفاء حصوله لبعض


1- المصدر السابق، الحدیث 4.
2- وسائل الشیعة: الباب 21 من أبواب النجاسات، الحدیث 1.
3- وسائل الشیعة: الباب 19 من أبواب النجاسات، الحدیث 1.

ص:375

الأجزاء، بل ولا فرق فی الأجزاء کونها متّصلة للمرکب أو منفصلة عنها کالتشهّد المنسیّ أو السجدة المنسیّة، لبقاء حکم الجزئیة لهما حتّی فی الانفصال، فلابدّ من ملاحظة الشرط فیها کالمرکب، بل وهکذا فی کلّ ما یصدق علیه أنه جیء به لتدارک النقصان الواقع فی الصلاة کالرکعات الاحتیاطیة المشروعة لذلک، حیث یعتبر فیها جمیع ما یعتبر فی المتدارک، بل لا یبعد القول بذلک فی مثل سجدتی السهو، کما نصّ علی ذلک صاحب «کشف الغطاء»، ولعلّه لأجل أنّ ما یجبر به الصلاة من الأجزاء المتدارکة لاحتمال الزیادة أو النقیصة، فیحتمل أنّها قابلة للتدارک إذا کانت تمتلک الشرائط لا مطلقا، وهذا بخلاف الأجزاء المنسیة فإنّ حکمها واضحة، ولذلک نری أنّ صاحب «الجواهر» امتنع عن البحث فی المقام وأحاله الی محلّه، ولعلّ اشکاله کان لأجل احتمال کون الأجزاء المذکورة خارجا عن الصلاة وشیءٌ مستقل عنها، فلو کان مثل هذا شرطا فیها، فلابدّ من قیام دلیل یدلّ علیه سوی ما ورد فی شرطیة ما یعتبر فی الصلاة، ولأجل ذلک لا یبعد القول بالاحتیاط فیه تحصیلاً للقطع بالفراغ عمّا یجب علیه، وهو أصل وجوب سجود السهو علیه لو لم نقل بوجود أصل البراءة عن شرطیة الشروط، وهو مقدّم علی الحکم بوجوب الفراغ عنه، فلیتأمّل.

نعم، لا عبرة بما خرج عن الصلاة تقدّما کالأذان والاقامة والقیام للتکبیر، بل والنّیة بناءً علی أنّها واجبة قبل التکبیر، أو تأخّرا کالتعقیبات ونحوها، بل أضاف فی «الجواهر» السلام الثالث فی وجهٍ مع الخروج بسابقه إن قلنا بوجوبه، ولکنّه لا یخلو عن اشکال، لامکان أن یکون حکمه مثل حکم الاجزاء فی کونه واجبا بالاتیان مع الحالة الموجودة فی الصلاة من الشرائط، وإن کان ترکه غیر موجب لبطلانها، بل غایته ترک الواجب المترتّب علیه الائم لو أدّاه بغیر طهارة، أو ترکه متعمدا کما لا یخفی.

ص:376

الفرع الثانی: فی أنّ المراد من الثیاب التی یشترط طهارتها فی الصلاة، هو کلّ ما یصدق علیه اللّباس عرفا، لا مثل الفراش ولا الوطاء والا الظلال بل ولا الغطاء، وإن کان الأخیر لا یخلو عن اشکال فیما إذا کان المصلّی تحته، بأن یأتی الصلاة بالایماء ونحوه وکان الغطاء ساترا له، بل وإن لم یکن ساترا إن صدق علیه أنّه قد صلّی فیه واستعمله بنحو اللّباس، مثل أن یصلّی تحت اللّحاف وإن کان ساتره هو اللّباس المتصل ببدنه، ولکن کان علی نحو یصدق کونه لباسا له، نظیر ما یلفّ المُحرم به نفسه فی حال الحرام، بأن یراد به الظرفیة المتّسعة، وإن لم یصدق علیه الثوب.

الفرع الثالث: بعد معرفة المراد من الثیاب التی یشترط طهارتها فی الصلاة، لابدّ أن نقیّده بما إذا لم یکن زائدا عن القامة، خارجا عن الحدّ المتعارف والمعتاد، بحیث لا یصدق علیه الملبوس والمحمول، وإلاّ فإنّ نجاسته لا تکون مانعةً، حیث لا دلیل لنا علی اعتبار طهارة الزائد، إذ لیس فی لسان الأدلة إلاّ اعتبار طهارة الملبوس أو المحمول، وهما منصرفان عن مثل الزائد، کما وافق ذلک المحکی عن صریح جماعة، وقد استحسنه صاحب «المعالم»، وکما یستفاد من ظاهر «الخلاف» بل صریحه، بل قد یظهر عن العلاّمة فی «التذکرة» الاجماع علیه، حیث قال فیها: «لو کان علی رأسه عمامة وطرفها علی نجاسته صحّت صلاته عندنا خلافا للشافعی».

أقول: لابدّ أن یراد أنّ طرف العمامة قد باشرت النجاسة لکن دون حصول تنجّس له، والاّ یصدق علیه المحمول المتنجس، لو لم نقل بصدق الملبوس فی بعضها، فحینئذٍ یصحّ ما ادّعاه من عدم اقتضاء الدلیل الدّال علی المنع علی اندراجه فی أحد العنوانین، فیصیر هذا مثل من صلّی فی ثوب کان مماسّا لشیءٍ نجس دون حصول سرایة النجاسة الیه، وهو مثل ما عن «المنتهی» من الحکم بصحة صلاة من شدّ وسطه بطرف حبل، وکان الطرف الآخر مشدودا بنجاسةٍ،

ص:377

حیث انّه محکوم بصحة الصلاة من غیر خلافٍ بین علمائنا.

نعم، قد یظهر من صاحب «کشف الغطاء»: «دوران بطلان الصلاة علی تنجیس الثیاب، الحاصل بملاقاة النجاسات الرطبة فی المصیب أو المصاب أو فیهما، دون النجاسة المتصلة باللّباس مع الجفاف، فتصحّ الصلاة فیها حینئذٍ إذا لم تکن من غیر مأکول اللّحم، بل وإن کانت منه إذا کانت موضوعة علی الانفصال عنه علی اشکال...».

وقد أجاد فیما أفاد فی غیر الصورة الأخیرة، من جهة احتمال صدق محمول المتنجس فیبطل، وإلاّ فلا، وتفصیل الکلام فیه موکول الی محلّه.

هذا تمام الکلام فی الصلاة.

وکذا یکون الحکم فی الطواف أیضا، واجبا کان أو مندوبا، کما یأتی بحثه تفصیلاً فی کتاب الحج، والظاهر أنّه لا خلاف فی شرطیّة الطهارة فیه أیضا ولعلّها مستفادة من النبویّة المشهورة الواردة فی کتب أهل السّنة عن ابن عباس، قال: «قال رسول اللّه صلی الله علیه و آله : الطواف بالبیت صلاة، ولکن اللّه أحلّ فیه النطق، فمن نطق فلا ینطق الاّ بخیر»(1) الدالة علی مساواته مع الصلاة فی سائر الأحکام، سیّما المعروفة منها کالطهارة من الحدث والخبث ونحوهما.

هذا، مضافا إلی امکان استفادة ذلک من خبر یونس بن یعقوب، قال: «سألت أبا عبداللّه علیه السلام عن رجل یری فی ثوبه الدّم وهو فی الطواف؟ قال: ینظر الموضع الذی رأی فیه الدم فیعرّفه ثمّ یخرج فیغسله، ثمّ یعود فیتم طوافه»(2).

لا یقال: إنّه قد ینتقض فی الاطلاق والتشبیه أو فی العموم من جهة عدم اشتراط الطهارة عن الحدث فی الطواف المسنون.


1- مستدرک الحاکم، ج 1، ص 459؛ سنن البیهقی، ج5، ص 87.
2- وسائل الشیعة: الباب 52 من أبواب الطواف، الحدیث 2.

ص:378

ولدخول المساجد (1)

لأنّا نقول: بامکان أن یکون اخراجه کان بالدلیل من التقیید أو التخصیص، ومثله لا یوجب النقض فیما لا معارض له من الدلیل، فیعمل بالاطلاق والعموم کما لا یخفی.

(1) إنّ من جملة ما تجب ازالة النجاسة له هو دخول المساجد، والدلیل علی ذلک هو الاجماع والکتاب والسنة.

وأمّا الأوّل: فقد ادّعاه العلاّمة فی «القواعد»، وأیضاً ذکر فی «الارشاد» و«المنتهی»، بل ظاهر الأخیر أو صریحه: «أنّه مذهب أکثر أهل العلم»، بل فی «الخلاف» و کتاب الجنائر من «السرائر»: «لا خلاف فی أنّه یجب أن یحنّب المساجد من النجاسات» مع زیادة (بین الأمّة کافة) فی الأخیر، کما انّه فی «المفاتیح» أیضا نفی الخلاف عن لزوم ازالة النجاسة عن المساجد، وفی «الذخیرة» عن الشهید، الظاهر أنّه اجماعی. بل قد حکی ذلک عن النراقی فی «اللّوامع» عن العاملی، والظاهر أنّ المراد منه هو الشهید، وعلیه فدعوی الاجماع علی وجوب الازالة عن المساجد، بل ولدخول المساجد فی الجملة ممّا لا اشکال فیه، ومثل هذا الاجماع هو الحجّة، ویکفی فی رفع الید عن الأصل المقتضی للبراءة عن الوجوب لو شک فیه.

وأمّا الاستدلال بالکتاب:

1. الاستدلال بقوله تعالی «إِنَّمَا الْمُشْرِکُونَ نَجَسٌ فَلاَ یَقْرَبُواْ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ»(1)، بناء علی أنّ معنی (النَجَس) بالفتح هو النجِس بالکسر، حیث یدلّ علی أن وجه عدم قربهم للمسجد لیس الاّ لأجل نجاستهم، هذا.


1- سورة التوبه: آیة 28.

ص:379

ولکن قد أورد علیه أوّلاً: بمنع کون المراد من (النَجَس) هو المعنی المعروف والمصطلح، بل لعلّ المراد منه القذارة کما هو معناه اللّغوی، حیث لم یثبت کون النجاسة فی المعنی المصطلح علیه حقیقة شرعیته.

وثانیا: لو سلّمنا ذلک کان الحکم کذلک فی حقّ خصوص المشرکین لشدّة نجاستهم لا لمطلق الکفار والنجاسات کما هو المقصود.

وثالثا: لو سلّم اشتراک غیرهم معهم بل وکذا سائر النجاسات، ولکن یحتمل قصر الحکم علی المسجد الحرام، فلا یعمّ غیره من المساجد، کما یشاهد الاختلاف بینه وبین سائر المساجد فی دخول الجُنُب والحائض، حیث یحرم علیهما الدخول فیه مطلقاً حتّی مروراً، بخلاف سائر المساجد عدا مسجد النبی صلی الله علیه و آله ، کما یمکن أن نؤیّد ذلک بأن منعهم عن الدخول فیه لعلّ فیه جانب سیاسی ارید بمنعهم اذلالهم وحصرهم ومنع حریّتهم، کما منعوا لاحقاً عن الدخول الی أرض الحجاز وجزیرة العرب.

هذا ما أوردوا به علی الاستدلال بهذه الآیة لحرمة دخول النجاسة فی المساجد.

ولکن نجیب عن الأوّل: بالمنع عن عدم معروفیة المعنی المعهود، لوضوح أنّ النجاسة لو لم تکن حقیقة الشرعیة فی المصطلح منها، لا أقل تکون حقیقة متشرعیّة بالانصراف، أو لکثرة الاستعمال عند المتشرعة، حتّی فی صدر الاسلام، بل قد یدّعی أنّه لو کانت معنی النجاسة هی القدارة _ کما قاله الاستاذ الأعظم السّید الجلیل آیة اللّه العظمی البروجردی(1) قدس سره ، من أنّ ما ورد فی النصوص لافهام النجاسة فی صدر الاسلام کان بلفظ القذارة _ وسلّمنا کون النجاسة هنا بمعنی القذارة، لکنه راجع إلی ما هو المصطلح علیه دون القذارة بمعنی الخباثة أو


1- کان یقول بذلک فی جلسة درسه من باب الطهارة وسمعته منه عند ما کنا نتشرف بالحضور فیها.

ص:380

الوساخة، مع أنّه لو کان کذلک فإنّه ربّما یقال إن المشرکین والکفّار قد یکونون أنظف من بعض المسلمین فی الظاهر، فمن ذلک یفهم أن لیس المراد من (النجس) الاّ ما یقابله وهو الطهارة عن الخبث لا النظافة، هذا أوّلاً.

وثانیا: لو کان ما ذکرتم من کونه حقیقة فی القذارة مقبولاً وسلّمنا ذلک، لزم القول بوجوب حمله علی المعنی المجازی المقصود، لأجل قیام القرینة علی ذلک، وهی تفریع النهی بالتقرب الی المسجد الحرام، لأنّ من المعلوم أنّه لا یجب تجنیب المساجد عن غیر النجس الشرعی إجماعا، وعلیه یفید التفریع أنّ المنع کانت لأجل النجاسة.

وعن الثانی: بامکان الحاق النجاسات من غیرهم بهم بعدم القول بالفصل، یعنی إذا ظهر أنّ النهی عن قربهم الی المسجد کان لأجل نجاستهم، فیلحق غیرهم بهم بعدم القول بالفصل، إذ لم یسمع من أحد أنّه أفتی بحرمة دخولهم فی المساجد للنجاسة وأجاز فی حقّ غیرهم من النجاسات من الأعیان أو الأفراد.

وعن الثالث: کذلک، أی کلّ من ذهب الی حرمة دخولهم فی المسجد الحرام لأجل النجاسة، قال بذلک فی غیره من المساجد، لاشتراک العلّة فیهما، ولذلک قال صاحب «الجواهر» إنّ اجماع المرکب هنا محقق محکّیا إن لم یکن محصّلاً فی عدم الفرق بین الموردین.

مناقشة: اعترض بعض _ علی ما هو المنقول عن «مصباح الفقیه» _ بانّه وإن کانت الآیة المشتملة علی النجس، المحمول علی النجس الشرعی لا القذارة العرفیة، إلاّ أنّه مع ذلک قاصرة عن اثبات عموم المدّعی من حرمة دخول النجس فی المسجد، لقوّة احتمال ووردها مورد الغالب، من لزوم تجویز الدخول لهم _ کما کانوا علیه قبل نزول الآیة الشریفة _ سرایة النجاسة إلی المسجد، فلا یبعد أن یکون النهی عن دخولهم بهذه الملاحظة، فلا یستفاد منها الاّ حرمة ادخال النجاسة

ص:381

المتعدّیة، لا مطلق النجاسات کما هو مطلوب.

والجواب: ما ادّعاه وإن کان بحسب الغالب کذلک، خصوصا مع ملاحظة حرارة الهواء وکثرة التعرّق فی تلک النواحی من أرض الحجاز، إلاّ أنّه لا یوجب صرف ظاهر اطلاق الآیة إلی خصوص المذکور، لاسیّما مع تفریع الواقع فیه، حیث یفید أنّ المنع کان لأجل نجاستهم ذاتا، لا تنجیسهم للمسجد بواسطة السرایة، ولذا لا یظن بأحد أن یقول فی مورد الآیة بالتخصیص، وعلیه فالأولی لو سلّمنا دلالة الآیة علی ذلک، القول به مطلقا لا مع حصول السرایة. نعم، دلالة الآیة علی المنع من ادخال المتنجّس إذ لم یکن مسریا لا یخلو عن نظر، لانصراف النجس باطلاقه إلی عین النجاسة لا المتنجس بالنجاسة.

2. وکذا استدلّ لحرمة دخول النجاسة فی المساجد بقوله تعالی: «وَطَهِّرْ بَیْتِیَ لِلطَّائِفِینَ وَالْقَائِمِینَ وَالرُّکَّعِ السُّجُودِ»(1)، فإنّ الخطاب متوجّه إلی إبراهیم علیه السلام فقد جاء فی صدر الآیة: «وَإِذْ بَوَّأْنَا لاِءِبْرَاهِیمَ مَکَانَ الْبَیْتِ أَن لاَّ تُشْرِکْ بِی شَیْئا وَطَهِّرْ بَیْتِیَ...»فالمراد من (البیت) هو بیت اللّه، فاحتمال أنّ المراد من کلمة (بیتی) هو مطلق المساجد بعیدٌ عن مورد الآیة، نعم الحاقها به بواسطة الغاء الخصوصیة عنه وتنقیح المناط أمر آخر، وإن کان غیر بعید لأجل مناسبة الحکم للموضوع.

وجه الاستدلال: بناءً علی أن المراد من الآیة أمره بتطهیر المسجد من النجاسة، أو الأمر ظاهر فی الوجوب، فیصیر معناه أنّه یجب ازالة النجاسة عن المسجد، والفرق بین البیت وسائر المساجد منفیّ لعدم القول بالفصل، هذا.

وقد نوقش أوّلاً: بانّه خطاب موجّه للنبی صلی الله علیه و آله ، ولعلّ المراد به هو الطهر عن دنس الکفر والشرک وعبده الأوثان لا النجاسة، هذا کما فی «مصباح الهدی» للآملی.


1- سورة الحجّ، آیة 26.

ص:382

ولکن یمکن أن یجاب عنه: بأنّ الخطاب متوجّه لابراهیم علیه السلام الواقع فی صدر الآیة لا إلی نبیّنا صلی الله علیه و آله حتّی یحتمل کونه لاخراج الأوثان التی کسرها الولیّ علیه السلام بأمر النبیّ صلی الله علیه و آله یوم فتح مکة.

مع أنّه لو کان المراد من التطهیر هو هذا، فلا یبعد حینئذٍ صیرورة الآیة نظیر قولهتعالی «إِنَّمَا الْمُشْرِکُونَ نَجَسٌ»، فیرجع الاستدلال إلی ما قبل المذکور فی تلک الآیة.

وثانیا: بأن التطهیر المذکور فیها کان للطائفین وهو مغایر مع وجوبه لنفسه.

وهو أیضا مندفع: بأن الاسناد إلی طائفةٍ لایوجب رفع الید عن ظاهر مطلوبیته المطلقة، کما هو متعارف عند العرف، حیث یحکم المولی ویأمر خدمه بنظافة البیت للضیوف، الموجب بأن یکون داعیا لقیام العبید بذلک، لکن هذا لا یوجب اختصاص الوجوب لذلک فقط، بحیث یرفع الید عن ظهوره المطلق فی کون أصل النظافة والتطهیر واجبا ومطلوبا.

وثالثا: بانّه علی فرض وجوبه لنفسه، إنّما هو فی مورد الاحتیاج الی تطهیره وهو فی صورة الثلّوث بالنجاسة، فلا یکون دلیلاً علی حرمة ادخال الغیر المسریة من النجاسات فیها.

أقول: وفیه ما لا یخفی، فأن الظاهر من هذه الأوامر هو الکنایة عن لزوم حفظ الطهارة فی هذه الأماکن المتبرّکة المقدّسة، ولیس فی مقام بیان أنّ الأمر بذلک إنّما هو بعد تنجّسه بالسرایة.

نعم، یستفاد منه هذه الصورة أیضا بألاولویة، لأنّه إذا قیل بوجوب حفظ ذلک لأولئک الأفراد، یفهم منه وجوب تطهیره بعد ثلوّثه، لا أن یکون المراد منه خصوص ذلک حتّی یناقش فی دلالتها.

وعلیه، فاستفادة حرمة دخول النجاسة فی المسجد والبیت من الآیة یکون مثل استفادة حرمة تنجیسه، فذکر هذه الطوائف إنّما هو لأجل التمهید وبیان حکمة

ص:383

لزوم ذلک وأنّه أمرٌ صادرٌ رعایة لحال الداخلین فیه لأجل الطاعة والعبادة، وعلیه فالتمسّک بها لذلک کما قیل لیس ببعید.

نعم، شمولها لدخول المتنجس مشکل جدّا، لأنّه لا یصحّ توجیه الأمر الیه ب (طهّر) التی لا تتعلق إلاّ بما یصدق علیه ذلک أی التطهیر، بخلاف المتنجّس حیث یصحّ الأمر به بالاخراج ونظیره، واللّه العالم.

الأخبار الدالّة علی حرمة تنجیس المساجد

الأخبار الدالّة علی حرمة تنجیس المساجد

وأمّا من السّنة: فقد استدلّ بما رواه جماعة من الأصحاب کالعلاّمة فی «التذکرة» عن النبی صلی الله علیه و آله ، أنّه قال: «جنّبوا مساجدکم النجاسة»(1) المؤیّد بالشهرة عندهم عملاً وروایة کما فی «الجواهر».

نوقش فیه أوّلاً: باحتمال أنّ المراد من المساجد هو مسجد الجبهة، المؤیّد باضافتها إلی المخاطبین، هذا کما فی «مصباح الفقیه»، أو ارادة مکان المصلّی نظیر قوله علیه السلام : «جُعلت لی الأرض مسجدا وطهورا»، مضافا إلی أرسال سنده.

والجواب: أمّا عن أرساله فهو غیر مضیّ لأنّ الخبر منجبرٌ بالشهرة فی الروایة والعمل، وأمّا ما قیل فیه فهو مخالفٌ لما یخطر بالبال من استعمال الجمع فی الروایة، فإنّ المتبادر إلی الذهن هی المساجد المعهودة لا الجبهة، لأنّ الغالب فیها هو الأتیان بالافراد وهو مسج الجبهة، کما أنّ اسناد المساجد إلی المخاطبین من ممّن یطوف بها أو یبنی أمر متعارفٌ بین الناس، وعلیه فاحتمال اجمال الروایة لأجل هذه الایرادات حتّی یسقط عن الاستدلال غیر مقبول.

أقول: ومنه یظهر الجواب عن احتمال کون المراد من المساجد هو مکان


1- وسائل الشیعة: الباب24 من أبواب أحکام المساجد، الحدیث2؛ التذکرة، ج2، ص42 مسألة 99.

ص:384

المصلّی، لأنّ لفظ الجمع حیث یطلق فی مثله بصیغة الافراد کما فی خبر: «جعلت إلی الأرض مسجدا وطهورا». یستبعد استعماله فی المسجد.

وثانیا: المتبادر من الأمر بالاجتناب عن المساجد بملاحظة المناسبات المغروسة فی الأذهان، إنّما هو ارادة حفظها عن أن یتلّوث بالنجاسة، فلا یدلّ علی حرمة ادخال النجاسة الغیر المتعدیة.

وفیه: إنّه خلاف لظاهر الأمر بالاجتناب مسندا الی نفس النجاسة، حیث أنّه یؤیّد کون المبغوض دخول النجاسة فیها، کما نشاهد نظیره فی استعمال هذا اللّفظ فی الأماکن التی یمنع ادخال بعض الاشیاء فیها کالنار، فیما إذا کان النفط أو ما یشاکله من الموادّ القابلة للاشتعال سریعاً موجودا فیه، فلازمه الاجتناب عن النجاسة بکلا فردیة من المتعدّیة وغیرها، نعم شموله لمثل المتنجس لابدّ من زیادة عنایة لظهور لفظ النجاسة فی الأعیان دون المتنجسات التی قد ذهب بعض الی طهارتها إذا کانت مع الواسطة.

وثالثا: المراد من النجاسة إمّا المصدر یعنی جنّبوا مساجدکم عن أن یتنجّس، وإمّا الاسم وعلیه فهو ظاهر فی النجاسات العینیة، وعلی أی تقدیر فلا یدلّ علی تحریم ادخال المتنجس الاّ بالاجماع المرکّب إن تحقّق، هذا کما فی «مصباح الفقیه»(1).

وفیه: قد عرفت الاشکال فی الصورة المفروضة فی الأولی، بأن أنس أذهان العرف لکلمة الاجتناب عکس ما ادّعاه، وأمّا ما ذکره فی الصورة الثانیة فلا یخلو عن حسن ووجاهة کما عرفت، فالاستدلال بهذا الحدیث مع اقترانها بالشهرة فی الروایة والعمل لا یخلو عن قوّة کما لا یخفی، ولعلّه منه ما جاء فی حدیث الثمالی عن الباقر علیه السلام : «إنّ اللّه أوحی إلی نبیّه أنْ طهّر مسجدک... الی آخره»(2)، بناءً علی


1- مصباح الفقیه، ج 8، ص 48.
2- وسائل الشیعة: الباب 15 من أبواب الجنابة، الحدیث 1.

ص:385

عدم المراد منه الجبهة.

ومنها: ما رواه الشیخ باسناده عن عبداللّه بن میمون القداح، عن جعفر بن محمد، عن أبیه علیهماالسلام ، قال: «قال النبی صلی الله علیه و آله : تعاهدوا عند أبواب مساجدکم، ونهی أن ینقل الرجل وهو قائم»(1).

ومنها: مثله حدیث الطبرسی فی «مکارم الاخلاق» عن النبی صلی الله علیه و آله : «فی قوله تعالی: «خُذُواْ زِینَتَکُمْ عِندَ کُلِّ مَسْجِدٍ»، قال: تعاهدوا نعالکم عند أبواب المسجد»(2).

حیث یستفاد منه زیادة الاحتیاط فی التحفّظ عن تنجیس المسجد، الکاشف عن عدم جوازه، خصوصا تناسبه مع تعظیمه.

ولکن قد نوقش فیه: «بأنّ فی دلالته علی وجوب التعاهد نظر، ولو سلّم وجوبه، فلا یدلّ علی حرمة ادخال النجاسة فیه، ولا علی وجوب ازالتها لو صار متلوثا بها»، هذا کما فی «مصباح الهدی»(3).

ولکن یمکن أن یجاب عنه: بأن ظاهر کلمة (التعاهد) هو مراعاة عدم دخول النجاسة فی المسجد لا عدم التلوّث بعد الدخول، لأنّه لابدّ أن یأمر بالمواظبة علی کونه یابسا غیر مسریة، فدلالة الروایة علی النهی عن الدخول أولی من غیره.

وأمّا عدم دلالته علی الوجوب فهو جیّد، لأنّه لا یعلم وجود النجاسة، بل یحتمل، فلا وجه للایجاب، بل کان الأمر بذلک للاحتیاط، فلا ینافی ذلک استفادة الحرمة عند العلم بوجودها. وکیف کان. فإنّ دلالة مثل هذه الأحادیث علی المطلوب أمر غیر بعید.


1- وسائل الشیعة: الباب 24 من أبواب أحکام المساجد، الحدیث 1.
2- المصدر السابق، الحدیث 3.
3- مصباح الهدی، ج 2، ص 18.

ص:386

ومنها: مرسلة علاء بن الفضیل، عمّن رواه، عن أبی جعفر علیه السلام ، قال: «إذا دخلت المسجد وأنت ترید أن تجلس، فلا تدخله إلاّ طاهرا، وإذا دخلته فاستقبل القبلة ثم أدعُ اللّه ورسله وسَمّ حین تدخله، واحمِدَ اللّه وصلّ علی النبی، الحدیث»(1).

حیث استدل بها صاحب «مصباح الهدی» للمطلوب، لکنّه موقوف علی أنّ یکون المراد من الطهارة هو تطهیره عن خصوص الخبث أو هو مع الحدث، وأمّا لو کان المراد هو الطهارة عن الحدث، کما هو المحتمل، لأجل ما یرادفه من الأمور التی تکون مع الطهارة عن الحدث آنس، فلا مرتبط ببحثنا، کما لا یخفی.

ومنها: ما استدلّ به من ما ورد من تجنیب المساجد عن الصبیان والمجانین:

1. مرسل علی بن أسباط، عن بعض رجاله، قال: «قال أبو عبداللّه علیه السلام جنّبوا مساجدکم البیع والشراء والمجانین والصبیان، الحدیث»(2).

2. خبر عبدالحمید، عن أبی إبراهیم علیه السلام ، قال: «قال رسول اللّه صلی الله علیه و آله جنّبوا مساجدکم صبیانکم ومجانیکم وشرائکم وبیعکم، الحدیث»(3).

وروایة الصدوق مثلهما(4).

هذا بناءً علی أنّ الوجه فی الأمر بالاجتناب عنهم من جهة أنّ النجاسة موجودة معهم نوعاً، مع أنّه یمکن أن یکون الوجه عدم تجنّبهم عمّا لا یلیق بالمسجد من الافعال والحرکات الصادرة منهم، ممّا لا یناسب المساجد واجتماع المؤمنین، کما هو المناسب مع ما یراد فیهما من البیع والشراء ورفع الأصوات الواردة فی الحدیث، فحینئذٍ لا یکون هذا الخبر مرتبطا بما نحن بصدده.


1- وسائل الشیعة: الباب 39 من أبواب أحکام المساجد، الحدیث 2.
2- وسائل الشیعة: الباب 39 من أبواب أحکام المساجد، الحدیث 1.
3- المصدر السابق، الحدیث 2.
4- المصدر السابق، الحدیث 4.

ص:387

ولکن مع ذلک لا یبعد أن یکون وجود النجاسة معهم أیضا من جملة ما هو السبب للنهی عن جواز الدخول، فبذلک یناسب مع الاستدلال، إلاّ أنه لیس علی حدٍّ یفهم منه الحرمة کما هو المقصود فی الاثبات، بل غایته اثبات الکراهة.

ومنها: ما ورد من الأمر بجعل المطاهر علی أبواب المساجد، الوارد فی الخبر الذی رواه عبدالحمید عن أبی إبراهیم علیه السلام ، قال: «قال رسول اللّه علیه السلام : فی حدیثٍ واجعلوا مطاهرکم علی أبواب مساجدکم»(1).

بناءً علی أنّ المراد من المطاهر ما یجعل من المیاه لتحصیل التطهیر عن الخبث، فأمر الشارع بلزوم جعلها فی خارج المسجد حتی لا یدخل المتنجّس فی المسجد.

أقول: لا یمکن الاستدلال به جزما، لاحتمال کون ذلک لأجل تعظیم المسجد، بأن لا یدخله أحد الاّ مع الطهارة عن الحدث، أو هو مع الخبث، وعلیه فاثبات الحرمة منه ضعیفٌ جدا.

ومنها: ما ورد فی منع الحائض والجُنُب عن المکث فی المسجد:

1. روایة رزارة ومحمد بن مسلم، عن أبی جعفر علیه السلام ، قالا: «قلنا له: الحائض والجنب یدخلان المسجد أم لا؟ قال: الحائض والجنب لا یدخلان المسجد الاّمجتازین ان اللّه تبارک وتعالی یقول: «وَلاَ جُنُبا إِلاَّ عَابِرِی سَبِیلٍ حَتَّی تَغْتَسِلُوا» الحدیث»(2).

2. خبر أبی حمزة، قال: «قال أبو جعفر علیه السلام : إذا کان الرجل نائما فی المسجد أو فی مسجدالحرام أو مسجد الرسول صلی الله علیه و آله فاحتلم فأصابته جنابة، فلیتیمم ولا یمرّ فی المسجد متیمّما حتّی یخرج منه ثم یغتسل، وکذلک الحائض إذا أصابها


1- وسائل الشیعة: الباب 25 من أبواب أحکام المساجد، الحدیث 3.
2- وسائل الشیعة: الباب 15 من أبواب الخباثة ، الحدیث 10.

ص:388

الحیض تفعل ذلک، ولا بأس أن یمرّا فی سائر المساجد ولا یجلسان فیها»(1).

بأن یکون وجه النهی عن الجلوس والمکث فیها الخوف من تلویث المسجد بنجاستهما، ولکن مع ذلک یحتمل أن یکون المنع لأجل الحدث الموجود فیهما، کما یشهد لذلک المنع عن المرور فی المسجدین، مع أنّه غیر مسلتزم لتنجیس المسجد، فلیس المنع الاّ لأجل الحدث لا للخبث، مضافا إلی أنّه لو کان المقصود من المنع هو خوف التلویث، لاختصّ الحکم بالمتعدیة لا مطلق عین النجاسة.

وکیف کان، فإنّ الذی یوجب اطمینان الفقیه بحرمة دخول النجاسة فی المساجد _ مضافا الی ما عرفت ما فی الکتاب والسّنة وکفایتهما لاثباته _ هو قیام الاجماع الذی المؤیّد بتلک الادلّة، الموجب للجزم بذلک، والمستلزم لرفع الید عمّا استدلّ به للجواز، وعلیه فلا بأس حینئذٍ بذکره والنظر الیه، فنقول: ذهب جماعةٌ من المتأخرین کبعض متأخری المتأخرین، ومنهم صاحب «مصباح الفقیه» الی الجواز مطلقا، تمسکا بالأصل لدی الشک فیه، إن لم یتمّ الدلیل علی المنع، وبالروایات الواردة فی جواز مرور الحائض والجُنُب مجتازین فی المساجد، مع أنّه لو کان ممنوعا لکان اللاّزم المنع عن المرور أیضا، لا المکث فقط.

ثم قال: «دعوی احتمال ورودها لبیان الجواز فی مقام توهّم المنع من حیث حدیثی الحیض والجنابة بعد غلبة مصاحبتهما، خصوصا الحائض للنجاسة غیر مسموعة».

مع مامرّ من أنّ احتمال المنع بملاحظة الحدث الأکبر کان أقوی عن المنع حتّی عن المرور فی المسجدین، مع أنّه لا یحتمل فیهما کون المنع لأجل الخبث، حیث لا یفهم العرف بقرینة وحدة السیاق إلاّ کون المنع فی کلا الموردین إنّما هو لأجل الحدث لا الخبث، وعلیه فالتجویز والمنع یکون للأوّل لا الثانی، وإن کان فی


1- المصدر السابق، الحدیث 3.

ص:389

دلالته علی جواز دخول عین النجاسة من خلال الجنب والحائض ولو مرورا ممّا لا یکاد ینکر، وعلیه فلابدّ من التخصیص فی ادلة المنع، کما یقال بذلک فی ما یدلّ علی جواز دخول المستحاضة فی المسجد، وهو ما ذکر فی موثقة عبداالرحمن بن أبی عبداللّه، قال: «سألت أبا عبداللّه علیه السلام عن المستحاضة أیطأها زوجها وهل تطوف بالبیت؟ قال: تقعد قرؤها الذی کان تحیض فیه، الی أن قال: فإن ظهر علی الکرسف فلتغسل ثم تضع کرسفا آخر، ثمّ تصلّی، فإن کان دما سائلاً فلتأخّر الصلاة الی الصلاة، ثمّ تصلّی صلاتین بغُسلٍ واحدٍ، وکلّ شیء استهلّت به الصلاة، فلیأتها زوجها ولتطف بالبیت»(1).

فإنّ الظاهر من هذا الخبر دلالته علی جواز الدخول حتّی لمطلق الطواف ولو کان مندوبا، فلا یختصّ بالطواف الواجب حتی یتوهّم کونه للضرورة، کما تدلّ علی جواز ذلک للمستحاضة الکبری التی تکون عادة دمها سائلاً، فضلاً عن غیرها، حیث إنّه علی القول بمنع إدخال الأعیان النجسة فی المسجد، لابدّ من القول بالتخصیص فی مثل ذلک کما یقال بمثله فی عدم ممنوعیّة دخول أصحاب القروح والجروح ومن به الدم القلیل فی المسجد، لأجل اداء صلاة الجمعة أو الجماعة أو لأجل أغراض آخری من المرافعة ومذاکرة العلم، بل السیرة قائمة عن السلف والخلف علی ذلک، ولم یسمع عن أحد من القول بالمنع عن الدخول لأجل ذلک، وعلیه فلا محیص من القول بالتخصیص لا الجواز المطلق کما قال به صاحب «مصباح الفقیه»، وإن أعرض عنه بعده ومال إلی المنع فیما لا ضرورة عرفیة فیه، فیتفرع علیه أنّه لا یجوز دخول الکلب والخنزیر فی المسجد مطلقا، سواءٌ أوجبا التنجیس کما فی الأیّام المطیرة أو لا، لما قد عرفت من المنع فی الأعیان النجسة إلاّ ما استثنی من دم الاستحاضة فی المستحاضة حتّی فی


1- وسائل الشیعة: الباب 1 من أبواب الاستحاضة، الحدیث 8.

ص:390

الکبری، وفی ذوی الجراحات الدّمویة والقروح السائلة، والمسلوس، والمبطون بعد وضع الخریطة للحضور فی الجماعات والجمعات المنعقدة فی المساجد.

نعم، شمول الدلالة علی المنع للمتنجّس وما عفی عنه فی الصلاة مشکلٌ، لاستقرار السیرة المستمرة من صدر الاسلام الی زماننا هذا علی عدم الاجتناب. منه بل ولعلّ القول بوحدة الحکم بین الصلاة والمسجد فی الأمور الممنوعة غالبا _ أی کلّ ما یجوز الصلاة معه من النجاسة، یجوز ادخالها فی المسجد، إذا لم یستلزم الهتک نظیر دم الجروح والقروح، وما عُفی عنه فی الصلاة، وکلّ ما لا یجوز الصلاة معها مثل دماء الحیض والنفاس، ودم نجس العین الثلاثة فی غیر المستحاضة، فلا یجوز الدخول فی المسجد _ غیر بعید.

نعم، قد یفارق بینهما وهو فی مثل المحمول المتنجس بنجاسة غیر المعفوّ عنها، حیث لا یجوز معه الصلاة لکن لا مانع من إدخاله المسجد، لعدم شمول الأدلة لمثله، کما علیه الاجماع وفتوی الفقهاء، وإن أفتی بالمنع عنه بعض کصاحب «الجواهر» رحمه الله .

حرمة ادخال النجاسة المسریة الی المسجد

کما لا ریب فی حرمة ادخال النجاسة المسریة والمتعدّیة فی المسجد، لأنّه القدر المتیقن من معاقد الاجماعات ودلالة الأدلّة، ولم ینقل الخلاف فیه من أحدٍ، عدا ما یستشعر من صاحب «المدارک» المیل إلی الجواز، حیث یقول بعد نقله ذهاب جمعٍ من المتأخرین إلی عدم تحریم ادخال النجاسة الغیر المتعدیة إلی المسجد أو فرشه: «ولا بأس به اقتصارا فیما خالف الأصل علی موضع الوفاق إن تمّ»، فإنّ قوله: «إن تمّ» اشعارٌ لعدم تمامیّة الوفاق عنده فی المتعدیّة.

أقول: ولا یخفی ما فیه، لما قد مرّ من قیام الاجماع، وکونه القدر المتیقن فی الاجماعات الحکمیة، ولا ینبغی التشکیک فیها.

ص:391

قال صاحب «الحدائق»: بالجواز متمسکا لذلک بأصالة الجواز، وباطلاق موثقة عمّار، عن أبی عبداللّه علیه السلام ، قال: «سألته عن الدمامیل تکون بالرِجْل فتنفخ وهو فی الصلاة؟ قال: یمسحه ویمسح یده بالحائط والأرض، ولا یقطع الصلاة»(1).

فکأنّه أراد من قوله: «یمسح یده بالحائط والأرض» شمول اطلاقه لحائط المسجد وأرضه، لأنّ الغالب أنّ اقامة الصلاة کانت فی المساجد.

وفیه: إنّه مندفع لأنّ الأصل منقطع مع وجود الدلیل الاجتهادی علی المنع، کما یندفع بالحدیث، هذا فضلاً عن أنّه لیس فی صدد بیان هذا الحکم، لأنّه مسوق إلی بیان حکم آخر، وعلیه فأخذ الاطلاق منه لتجویز تنجیس المسجد، خارج عن مذاق العرف والعقلاء، کما لا یجوز التمسک به لجواز تنجیس جدار الغیر والحائط المتعلق بالغیر کما هو واضح، مضافا الی أنّ انفجار الدمامیل لا یلازم وجود الدم، بل قد ادّعی الغالب العدم وفیه ما لا یخفی.

بل ممّا استدلّ به أو أخذ للتأیید، ما جاء فی خبر علی بن جعفر، عن أخیه موسی بن جعفر علیه السلام ، قال: «سألته عن الدّابة بتول فیصیب بولها المسجد أو حائطه، أ یصلّی فیه قبل أن یغسل؟ قال: إذا جفّ فلا بأس»(2).

وجه الاستدلال أو التأیید: یکون فی موردین:

أحدهما: ملاحظة السؤال والجواب، فإنّه برغم أنّ نجاسة بول الدوّاب کان عند السائل مفروغاً عنه، أنّه لو کان نجسا لکان الواجب علیه أوّلاً ازالة النجاسة ثمّ الصلاة، ولذلک لجأ إلی السؤال عنه دفعا لما توهّم مزاحمته للصلاة، فأجابه علیه السلام أنّه لو جفّ فلا بأس.

وثانیهما: یستفاد من تعلیقه الحکم بالجفاف البأس فیما لو لم یجفّ.

أقول: ولکن فی کلا الموردین اشکال:


1- وسائل الشیعة: الباب 22 من أبواب النجاسات، الحدیث 8.
2- وسائل الشیعة: الباب 9 من أبواب النجاسات، الحدیث 18.

ص:392

أمّا فی الأوّل: فلأنّ الکلام لم یکن فی التنجیس وأنّه یجوز أم لا حتّی یجعل الحدیث دلیلاً علی عدم الجواز، فإنّ جواز الدخول وعدمه أعمّ من جواز التنجیس وعدمه کما لا یخفی، لأنّه ربّما یمکن أن یقال بعدم جواز التنجیس وابقاء النجس الذی وقع فیه، مع جواز ادخال النجاسة فی المسجد کما هو مورد البحث.

وأمّا فی الثانی: بامکان أن یکون التعلیق لأجل ترجیح تقدیم الازالة، أی مع الجفاف یجوز تأخیره عن الصلاة بخلاف ما لو لم یکن جافاً، فإنّ الرجحان یکون فی تأخیر الصلاة عن الازالة.

فعلی کلّ حال، لا یکون الحدیث ممّا یمکن الاستدلال به علی عدم الجواز کما لا یخفی.

أقول: بل ربّما قیّدوا جواز إدخال النجاسة فی المسجد، بما إذا لم یوجب ذلک هتک الحرمة وإلاّ یحرم کجمع العذرة الیابسة وجعلها فی المسجد.

ولکن لا یخفی أن هذا التقید أجنبیٌ عن المقام، لوضوح أنّ هتک الحرمة بنفسه عنوان موجب للحرمة بالخصوص، سواءٌ کان الهتک بالنجاسات أو بغیرها، فإنّه إذا صدق العنوان المذکور علیه کجمع القذرات الطاهرة فی المسجد التی یصدق علیه الهتک فی انظار العرف، کان محرّماً.

وأیضاً: لا یناسب لاثبات الجواز، الاستدلال بعدد من الأخبار الدالة علی جواز اتخاذ الکنیف مسجدا بعد طمّ التراب علیه، مثل ما فی خبر مسعدة بن صدقة، عن جعفر بن محمد علیهماالسلام ، أنّه سئل: «أیصلح مکان حشّ أن یتخذ مسجدا؟ فقال: إذا ألقی علیه من التراب ما یواری ذلک ویقطع ریحه فلا بأس، وذلک لأن التراب یطهّره وبه مضت السنّة»(1).

ونظائره من الأخبار کثیرة واردة فی هذا الباب.


1- وسائل الشیعة: الباب 11 من أبواب أحکام المساجد، الحدیث 5.

ص:393

لأنّ هذا إنّما یصحّ فیما اذا کانت المسجدیّة عارضة علی المکان، أی کان المکان قبله نجسا ثمّ اتخذ مسجدا، فلا ینطبق علیه عنوان ادخال النجاسة فی المسجد، هذا مضافا الی أن البحث فی المقام یدور حول حرمة ادخال النجاسة فی ظاهر المسجد، وهذه الأخبار علی تجویزه فی البطان، مع أن التراب یعدّ من أحد المطهّرات، فلا مانع من أن یجعل الشارع مثل هذا الطمّ للتراب مطهّرا له، کما صرّح بذلک فی الخبر خصوصا مع ملاحظة ذیله حیث قال: «وبه مضت السّنة» حیث یشعر أنّه حکم استثنائی فی المسجد، فلا یمکن جعله دلیلاً علی تجویز ادخال النجاسة فی المسجد فی غیره، ولذلک اختار صاحب «الجواهر» جوازه فی خصوص مورد الأخبار وما یشبهه ممّا یتعذّر ازالة النجاسة عنه أو یتعسّر، فلا یکون دلیلاً لجواز کلّ ما یتیّسر، کما لا یخفی.

وأیضاً: یستثنی من ذلک لو سلّم ورود دلیل علی جواز اجراء الحدّ والقتل والقصاص فی المسجد بعد وضع النطع حفظا عن التلویث، وقبول دلالة هذا الأمر علی الجواز، حیث إنّه یکون حینئذٍ مخصصا لأدلة المنع، لوجود مصالح فی اجراء ذلک فی المسجد مع حفظ المسجد عن التلوّث والهتک.

هذا، لکن الجواز لیس موضع وفاق بین الأصحاب، فقد حکی عن «کشف اللّثام» المنع، وفی «الخلاف» التصریح بعدم جواز القصاص، وأنّه لا فائدة فی فرش النطع، وعلیه فالتمسّک بأمثال هذا لاثبات الجواز ممّا لا یسمن ولا یغنی عن جوع، کما أنّ التمسّک بمثل ما ورد فی: «أنّ الفاصل بین المسجد والمنزل زقاقاً یبال فیه، وربّما یطأ علیه؟ فقال: لابأس إن الأرض یطهّر بعضها بعضا» کما فی روایتی الحلبی لاثبات ذلک موهون، لانّ محط النظر فیها غیر ذلک کما لا یخفی.

حرمة تنجیس أثاث المسجد

أقول: بعد الوقوف علی تمامیة الأدلة لاثبات حرمة إدخال النجاسة فی

ص:394

المسجد وحرمة تنجیسه، وأنّه لا فرق فی الحرمة بین الملوّثة وعدمها، یثبت لنا أنّه لا فرق فی الحرمة بین أرض المسجد وفراشه وفضائه، کما لو کانت النجاسة العینیة علی بدن الداخل أو ثوبه _ فی غیر ما استثنی دون المتنجّس _ فیما إذا صدق وقوعها علی فرش المسجد أنّه تنجیس للمسجد لا مطلقا فیما إذا لم یصدق ذلک، فیما إذا لم تسری النجاسة منه الی المسجد، کما إذا کان الثوب نجسا ولکنها غیر مسریّة الی المسجد، ولم یصدق علیه الهتک بدخوله فیه، وإن احتمل بعض الحرمة لمثله أیضا بواسطة تبعیّتها للمسجد لاضافتها الیه، وتحقّق تحقیره بتحقیرها کتعظیمه ما دامت فیه، ولامکان صدق تلویث المسجد بتلویثها، بل قیل بامکان دعوی شمول قوله صلی الله علیه و آله : «جنّبوا مساجدکم النجاسة» لمثله أیضا، وعلیه فالاحتیاط بترک الورود فی مثله یعدّ وجیهاً جدّا.

حکم تنجیس حائط المسجد

أقول: ظهر أنّ حائط المسجد من المسجد، فیحرم تنجیسه أمّا القسم الداخلی منه فحکمه معلوم لصدق المسجد علیه قطعا، إنّما الکلام یقع فی القسم الخارجی ففی بعض الأخبار قد یستفاد من اطلاق کلمة (الحائط) کما ورد فی خبر علی بن جعفر علیه السلام : «عن الدابة تبول فیصیب بولها المسجد أو حائطه، أیصلّی فیه قبل أن یغسل؟ قال: لا بأس إذا جفّ»(1) بل ظهوره فی الحائط الخارجی للمسجد، فانّ المتعارف أصابة بول الدابة به عادةً، یوجب الظنّ بالتعمیم فی الحکم.

ودعوی الانصراف کما عن «مصباح الفقیه» فی مثله، لا یخلو عن تأمّلٍ، وعلیه فالاحتیاط فیه حسنٌ، وإن کان تحصیله مشکلٌ لکثرة ما یمرّ بالحائط الخارجی من الحیوانات، أو إصابته بنجاسات عارضة، ولعلّه لذلک ادّعی الانصراف، لأنّه لو


1- وسائل الشیعة: الباب 9 من أبواب النجاسات، الحدیث 18.

ص:395

کان واجبا لزم علی الفقهاء التنبیه الیه لکثرة الابتلاء به خاصة فی القری والأریاف کما لا یخفی.

فروع تتعلّق بطهارة المسجد

الفرع الأوّل: بعد ما ثبت وجوب ازالة النجاسة عن المساجد، فهل وجوبها فوری أم لا؟

الظاهر هو الأوّل کما علیه الاجماع کما حکاه بعضهم صریحا مثل صاحب «المدارک»، حیث قال: «قطع به وبالکفایة الأصحاب، وفیه توقف».

والدلیل علیه: مضافا إلی الاجماع، أنّه مقتضی وجوب التعظیم، وهو ینافی مع التراخی، إذ کلّ ما یدلّ علی حرمة التنجیس ووجوب الازالة، هو یدلّ علی حرمة الابقاء، إذ المقصود من وجوب الازالة لیس وجودها ولو بعد حینٍ من الأحیان وفی زمن من الأزمنة، بل المقصود والمطلوب هو خلّوه عنها مطلقا وفی جمیع الأوقات، إذ هو معنی وجوب الاحترام والتعظیم، ولعلّه هو المعنی المستفاد من الحدیث النبوی: «جنّبوا المساجد النجاسة»، بل وهکذا تستفاد الفوریّة من حدیث علی بن جعفر علیه السلام (1)، بناءً علی دلالته بالمفهوم علی بول الدابة إذا لم یکن جافّا، بل لعلّ من جهة فوریّة وجوب الازالة بحث الفقهاء عن أنّه لو ترک المصلّی الازالة مع سعة الوقت وصلّی، فهل صلاته فاسدة أو لا؟، وقد وقع البحث عنه فی الأصول، ولو لا فوریة وجوبها لما کان لطرح هذا الفرع وجه.

الفرع الثانی: هل وجوب الازالة کفائی للجمیع أو عینی لبعض وکفائی لآخرین؟

الظاهر هو الأوّل، بل علیه الاجماع کما عرفت من کلام صاحب «المدارک» بل وکذا «الذخیرة» من أنّ وجوبها بالکفایة وأنّه الأقوی لأنّ الخطاب الوارد بقوله:


1- وسائل الشیعة: الباب 9 من أبواب النجاسات، الحدیث 18.

ص:396

«جنّبوا» عامٌ یشمل جمیع المکلّفین، ولا اختصاص ببعض دون بعض، وإن کان التکلیف یسقط باتیان واحد منهم.

واحتمال کون الوجوب فی حقّ المدخل عینیّا، وفی حقّ غیره کفائیا نظیر نفقة الولد الفقیر، حیث أنّه واجب عینی للوالد وکفائی لغیره، فیکون المقام کذلک بأن یکون وجوب الازالة للمُدخل عینیّا وللآخرین کفائیّا کما یظهر ذلک عن الشهید فی «الذکری»، حیث قال: «وجوبه علی من أدخله».

فلا یرد علیه: أنّه ربما یکون من أدخله غیر مکلّفٍ، أو من مکلّفٍ یخیّل بازالته تقصیرا أو قصورا، فلازم قوله سقوط التکلیف عن الآخرین، لأنّ وجوبه العینی حکمٌ واحد وقد سقط بمثل عدم التکلف أو العصیان، مع أنّه لا تأمّل لأحدٍ بل ولا خلاف فی وجوب ازالته علی سائر المکلّفین.

لانّه یمکن أن یَدّعی الشهید: عدم المنافاة بین وجوبه عینا لمن أدخل وکفائیا للآخرین، نظیر نفقة الولد الفقیر، لکن الاشکال لیس فی الثبوت إذ لا مانع ثبوتا من ادّعاء وجود الوجوبین، إلاّ أن الاشکال هنا فی دلیل الاثبات، إذ بذلک یفارق المقام مع مسألة الولد، حیث أنّ دلیل حکم وجوب نفقة الولد علی الوالد کان من أجل وجوب نفقة القرابة، بخلاف سائر الافراد، حیث أنّ وجوبه لحفظ النفس المحترمة عن التلف، وهو کفائی، هذا بخلاف المقام حیث لیس لنا دلیل علی وجوب الازالة إلاّ دلیل واحد، وهو قوله صلی الله علیه و آله : «جنّبوا المساجد...» الشامل لجمیع الافراد، ومنهم من أدخله علی سبیل الکفایة.

نعم، من ذهب إلی أنّ الأمر بالشیء یقتضی النهی عن ضدّه وکذا عکسه، علیه أن یلتزم هنا أنّه إذا کان التنجیس والادخال لشخصٍ حراما، لزم کون الازالة علیه واجبا عینا من هذا الباب، لو قلنا بالوجوب الشرعی فی مثل ذلک.

وهو أیضا محلّ تأمّل، وعلیه فالاحسن هو ما علیه الاجماع من الوجوب

ص:397

الکفائی للجمیع. نعم، القول بالتأکید فی حقّ من أدخله أمرٌ حسنٌ مناسب للاعتبار، کما لا یخفی.

الفرع الثالث: الحق الشهید والمحقق الثانی وغیرهم _ کما علیه جمیع المتأخرین _ بالمساجد الضرائح المقدّسة والمصحف المعظّم، فتجب ازالة النجاسة عنها کما یحرم تلویثها أو مطلق المباشرة إذا صدق علیه الاهانة، ولو لم یتنجّس، بل یجری هذا الحکم فی کلّ ما یجب تکریمه وتعظیمه فی الشریعة وحرمة اهانته وتحقیره کالتربة الحسینیّة والسّبحة، وما أخذ من طین القبر للاستشفاء والتبرک به وکتابة الکفن به ونحوها.

وبالجملة: یحرم تنجیس کلّ ما یکون تعظیمه واجبا وتحقیره حراما فی جمیع ما یتعلّق بقبور الأئمّة علیهم السلام من الاثاث کالصندوق أو الثیاب الموضوعة علی الصندوق، وکل ما یصدق علیه تبعیته ذلک الضریح وأنّ تعظیمه له تعظیم لذلک القبر، واهانته إهانة له فضلاً عن نفسها، وکذلک یکون الحکم فی المصحف من ورقها وغلافها إذا کانتا متصلین به، کما لاخفاء فی تحقق الاهانة وهتک الحرمة بتلویثه بالنجاسة بل بمطلق المباشرة إذا صدق علیه الهتک دون ما لو لم یصدق ولم یقصد الهتک، کما لو کان ید شخص نجسا یابسا وأراد أن یأخذ المصحف من دون أن یلوثة وبدون قصد الاهانة، بل یأخذه لاخراجه عن الاهانة، فإنّه لیس بحرامٍ، ولعلّ القول باختلاف هذه الأمور فی الناس والمقاصد والنیّات لا یخلو عن حسن.

ومنه یظهر حکم وجوب ازالة النجاسة عن المصحف وخطه وورقه وجلده وغلافه مع الهتک، بداهة لزوم صیانته عنه لدی المسلمین عامة، وقد ورد فی الخبر فی حقّ القرآن أنّه یقول الجبار عزّوجلّ: «بعزتی وجلالی، وارتفاع مکانی، لأکرمنّ الیوم من أکرمک، ولأهیننّ من أهانک».

کما لا اشکال فی حرمة من خطّه أوضع ورقه من العضو المتنجس إذا استلزم

ص:398

الهتک والاهانة، وإن کان متطهّرا من الحدث، ولم یکن قاصدا للتهک، وأمّا مع الهتک فالحکم أظهر، بل ربّما یؤدّی الی الارتداد إذا انتهی الاستخفاف به إلی اهانة الدین، وأمّا مع عدم الهتک وعدم قصده الاستخفاف والاهانة ففی تحریم تنجیس ما عدا خطّه، ووجوب الازالة عنه بحثٌ: فعن «مصباح الهدی» اشکالٌ لعدم الدلیل علیها، مع أنّه یکفی فی اثبات وجوبه صدق التعظیم العرفی الواجب علینا، وعلیه فما ادّعاه الآملی من عدم الدلیل علی وجوب الاحترام والتعظیم لا یخلو عن مسامحة، لما عرفت من دلالة الحدیث المزبور علی ذلک، إذ من الواضح صدق التعظیم عرفا بازالة النجاسة عنه کما قال الشیخ فی طهارته بأنّه: «لا اشکال فی وجوب الازالة عن الخط لفحوی حرمة مسّ المحدث له»، وإن استشکل علیه صاحب «مصباح الفقیه» بأنّه تامّ لو سلّمنا وجوب حفظ المصحف عن أن یمسّه غیر المتطهّر، وإن لم یکن مکلّفا لصغرٍ وجنونٍ ونحوهما، بأن وجب منع غیر المتطهّر عن أن یمسّ الخط، وإلاّ فلا یتمّ الاستدلال بالنسبة إلی حرمة التنجیس لا وجوب الازالة.

وفیه: الانصاف عدم تمامیّة الاشکال، لأنّ حرمة غیر المتطهّر من المکلّفین ممّا لا اشکال فیه، فأراد الشیخ تعمیم الفحوی بالنسبة الیه، وأنّه إذا کان مسّ المحدث الفاقد للطهارة عن الحدث حراما، فالمتنجّس بالنجاسة إذا مسّه لا یجوز بطریق أولی، لأجل وجوب تعظیمه، فلا یبعد القول بوجوب الازالة بالنسبة الی الخط وغیره فی المصحف.

نعم، اثبات حرمة التنجیس لکلّ ما یؤخذ من کربلاء وباقی المشاهد المشرّفة من الآجر والخزف والأباریق والمشارب ونحوها ممّا لم یکن متخّذا للتعظیم فلا، لأنّه لم یتحقق عنوان الاهانة والتحقیر بمباشرة النجاسة لشیءٍ من ذلک.

ودعوی أنّ الواجب هو التعظیم والازالة شرعا، ولو لم یصدق علیه الاهانة والتحقیر عرفا.

ص:399

وعن الأوانی لاستعمالها (1) حکم الأوانی

غیر مسموعة، إذ لا دلیل لنا علی وجوب الاجتناب عن مثل هذه الأمور، بل السیرة والطریقة علی خلافه.

نعم، یصحّ دعوی ذلک فیما یؤخذ من باب التبرک والتعظیم، وإن لم یکن فیه نصّ بخصوصه کقطع الأقمشة التی یتبرک بها الناس فی مشاهد الائمة علیهم السلام ، فإنّه لا یصحّ تنجیسه وإن مقدمیّة یصل إلی حدّ التبعیة عرفا، حیث یحّسنه الاعتبار وعقل العقلاء أیضا کما لا یخفی.

(1) أی تجب ازالة النجاسة عنها لأجل مقدمیّة استعمالها فیما یشترط فیه الطهارة من المأکول والمشروب وماء الغَسل والوضوء ونحوها بألادلة المقرّرة فی مجالها، من الاجماع المحکی، والأخبار مع فرض التنجّس بها، بناءً علی أنّ النجاسة عینیّة أو قلنا بنجاسة المتنجّس وکونه منجّسا کما هو المشهور، بل اعتبروا هذه الأخبار دلیلاً علی أنّ المتنجّس منجسٌّ، فیکون الأمر بالازالة مقدّمة لاستعمالها، فلا یکون وجوب الازالة وجوباً نفسیا تعبّدیا.

نعم، یشکل الأمر عند من لا یقول بمنجسیّة المتنجس، حیث لا وجه عنده لاثبات وجوب الازالة إذا لم یصیر منجّسا للماء، ولذلک لجأ صاحب «مصباح الفقیه» فی انکاره دلالة الأخبار التی علیها المشهور إلی أن: «هذه الأخبار لا تأمّل فی دلالتها علی وجوب غَسل الاوانی فی الجملة، مقدّمة لاستعمالها فی مثل هذه الموارد، وإن کان قد یتأمّل بناءً علی القول بعدم السرایة فی اطلاق الوجوب أو عمومه بالنسبة إلی بعض تلک الموارد» انتهی(1).


1- مصباح الفقیه، ج 8، ص 59.

ص:400

أقول: ولکن لا یخفی أنّه یلزم علی کلامه صیرورة وجوب الازالة وجوبا تعبّدیا لا لترک النجاسة عمّا یشترط فیه الطهارة، مع أنّه مخالفٌ لظاهر النصوص کما هو واضح.

طهارة محلّ السجدة

ویلحق بما تجب ازالة النجاسة عنه، محلّ السجود وإن لم تکن النجاسة الموجودة فی المحلّ متعدیّة، لاشتراط الطهارة فیه بغیر خلافٍ، بل نسبه بعضهم إلی الأصحاب المشعر بدعوی الاجماع علیه کما عن المقدّس الأردبیلی فی «مجمع البرهان»، ولعلّ دلیله الاجماع والنص، وفی «الذکری» وعن «الذخیرة» نسبته للنصّ أیضا، ولکن قال صاحب «الحدائق»: «إنّی لم أقف علی هذا النص، ولا نقله ناقلٌ فیما أعلم، بل ربّما ظهر من النصوص خلافه».

لکن قال صاحب «الجواهر»: «لعلّ المراد منه هو موثقة عمّار عن الصادق علیه السلام فی حدیث، قال: «سُئل عن الموضع القذر یکون فی البیت أو غیره فلا تصیبه الشمس، ولکنّه قد یبس الموضع القذر؟ قال: لا یصلّی علیه، وأعلم موضعه حتّی تغسله، الحدیث»(1)».

أقول: لعلّ المراد من عدم الصلاة علیه: إمّا عموم المساجد السبعة ومنها محلّ السجود، أو خصوصه فهو القدر المتیقن منها، أو المراد جمیع ما یقع المصلّی علیه أی مکانه، وعلی أیّ حال هو داخل فیه، ولعلّه لأجل هذا الحدیث ذهب السّید المرتضی _ علی ما حکی عنه _ إلی وجوب ازالة النجاسة عن سائر مکان المصلّی، وأبی الصلاح عن المساجد السبعة خاصة، وتمام البحث فیه موکول إلی محلّه.

هذا، وینبغی التنبیه الی أنّه لا دلیل علی أنّ ازالة النجاسة واجبة لنفسه، عدا


1- وسائل الشیعة: الباب 29 من أبواب النجاسات، الحدیث 4.

ص:401

وعُفی فی الثوب والبدن عمّا یشقّ التحرّز منه مِن دمِ القروح والجروح التی لا ترقأ وإن کثر (1)

ازالتها عن المسجد، إلاّ أن فی النصوص اطلاق الأمر بغسل الثوب، وقد وردت هذه الأخبار فی الباب السابع من ابواب النجاسات فی «الوسائل»، ولکن المقطوع به عند الأصحاب عدم ارادة وجوب الازالة بنفسه، بل فی «کشف اللثام» أنّه لعلّه اجماع والاطلاق موکولٌ إلی الازالة مقدّمة لشیءٍ آخر، بل فی «الجواهر»: «إنّی لم أقف علی ما یدلّ صریحا علی استحباب الازالة لنفسه، وإن أفتی به بعض مشایخنا». ولعلّه استفاده من الاعتبار أو من النظر فی مجموع ما ورد من الأخبار، أو أنّه نزّل تلک الأوامر المطلقة علیه، أو من نحو قوله تعالی: «إِنَّ اللّه َ یُحِبُّ التَّوَّابِینَ وَیُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِینَ» والأمر سهل).

أقول: لقد أجاد فیما أفاد، حیث أنّ الطهارة أمر مطلوب لدی العرف والعقلاء، وهذه المطلوبیة کافیة فی استحبابه کما لا یخفی علی المتتّبع فی الآیات والروایات.

(1) إنّ هذا العفو ثابتٌ بالنسبة للصلاة والطواف بل والمساجد _ بناءً علی منع دخول النجاسة الیه مطلقا _ لکن بشرط عدم التعدّی، وهذا العفو بالنسبة للدّم الذی یسیل ویشقّ أو یتعسّر التحرّز منه، من دم الجروح والقروح ممّا لا خلاف فیه، بل علیه الاجماع نقلاً وتحصیلاً، لنفی الجرح وارادة اللّه الیُسر علی العباد، وأنّه«لاَ یُکَلِّفُ اللّه ُ نَفْسا إِلاَّ وُسْعَهَا» وللنصوص المستفیضة والأخبار الکثیرة، وهی طائفتان: حکم دم القروح و الجروح

1. طائفة تجوّز فی الجروح والقروح مطلقاً:

منها: صحیح أبی بصیر، قال: دخلت علی أبی جعفر علیه السلام وهو یصلّی، فقال لی قائدی: إنّ فی ثوبی دما، فلما انصرف قلت له: إنّ قائدی أخبرنی أن بثوبک دما؟

ص:402

فقال لی: إنّ بی دمامیل ولست أغسل ثوبی حتّی تبرأ»(1).

وواضحٌ من ظاهر هذا الخبر أنّه لیس فیه قید السیلان أو قید انّه لا یمکن أن یضع علیه ما یمنع عن ذلک وغیرهما من الجمل الموصلة لوجود المشقة فی تطهیره.

ومنها: خبر عمّار، عن أبی عبداللّه علیه السلام ، قال: «سألته عن الدمّل یکون بالرجل فینفجر وهو فی الصلاة؟ قال: یمسحه ویمسح یده بالحائط أو بالأرض ولا یقطع الصلاة»(2) فهذا الخبر أیضا مطلق لو لم ندع وجود قرینه فیهما بما یشمل المشقة، وهو لفظ (الدمامیل) بصورة الجمع علی ذلک غالبا ونوعا.

2. وطائفة أخری تدلّ علی العفو فیهما فیما إذا کان مشتملاً علی المشقة أو السیلان وعدم الانقطاع والاسکان:

منها: صحیح محمد بن مسلم، عن أحدهما علیهماالسلام : «سألته عن الرجل یخرج به القروح، فلا تزال ترمی کیف یصلّی؟ فقال: یصلّی وإن کانت الدماء تسیل»(3).

ومثله بتفاوت یسیر خبر ابن عجلان المروی فی «مستطرفات السرائر» من «کتاب البزنطی» علی ما فی «الجواهر»(4)، حیث فرض السائل صورة عدم اسکان الدم، حیث قال: «فلا تزال تدمی؟ فأجاب عنه علیه السلام بالعفو مع ذکر (أن) الوصیلة، أی العفو ثابتٌ حتّی مع السیلان، فاستفاد منه صاحب «مصباح الفقیه» ثبوت العفو مع عدمه بطریق أولی.

مع أنّه یمکن أن یقال: بأن ذکر ذلک کان لأجل الجواب عمّا فرضه السائل، لا بصدد بیان حال الترقّی حتّی یستفاد منه الأولویّة.


1- وسائل الشیعة: الباب 22من أبواب النجاسات، الحدیث 1.
2- وسائل الشیعة: الباب 22 من أبواب النجاسات، الحدیث 8.
3- المصدر السابق، الحدیث 4.
4- الجواهر، ج 5، ص 101.

ص:403

ومنها: صحیح أو حسن لیث المرادی، قال: «قلت لأبی عبداللّه علیه السلام الرجل تکون به الدمامیل والقروح فجلده وثیابه مملوّة دما وقیحا، وثیابه بمنزلة جلده؟ فقال: یصلّی فی ثیابه ولا یغسلها، ولا شیء علیه»(1).

بناءً علی أنّ المراد من (مملّوة) بیان حال سیلانه وعدم انقطاعه، لا حکایة عمّا کان کذلک ثم سکن وانقطع، إذ الغالب السؤال عن الحال الفعلی لا حکایة ما مضّی وبقاء آثاره علی ثیابه وجلده.

ومنها: صحیح عبدالرحمان بن أبی عبداللّه، قال: «قلت لأبی عبداللّه علیه السلام : الجرح یکون فی مکانٍ لا یقدر علی ربطه، فیسیل منها الدّم والقیح فیصب ثوبی؟ فقال: دعه فلا یضرّک أن لا تغسله»(2).

ومنها: مرسل ابن أبی عمیر، عن بعض أصحابنا، عن سماعة بن مهران، عن أبی عبداللّه علیه السلام ، قال: «إذا کان بالرجل جرحٌ سائلٌ فأصاب ثوبه من دمه، فلا یغسله حتّی یبرا وینقطع الدّم»(3).

هذه مجموع ما ورد من النصوص فی المورد، وقد تبیّن اشتمال القید بأحد الأمرین فی الطائفة الثانیة، ومقتضی القاعدة المقرّرة فی الأصول هو ملاحظة حال الاطلاق والتقیید، فتصیر النتیجة أنّ الملاک فی العفو هو وجود المشقّة فی الازالة لأجل عدم وجود ما یمکنه أن یربط الجرح ویقطع الدم أو سیلانه کما یشیر الیه ما جاء فی خبر محمد بن مسلم بقوله: «القروح التی لاتزال تدمی»، بل یمکن المنع عن وجود الاطلاق فی الطائفة الأولی أیضاً، لأنّ حدیث أبی بصیر مضافا إلی أنه صادر فی واقعة خاصة من مشاهدة الدم فی ثوب أبی جعفر، ولم یعلم کیفیة


1- وسائل الشیعة: الباب 22 ، الحدیث 5.
2- المصدر السابق، الحدیث 6.
3- وسائل الشیعة: الباب 22 من أبواب النجاسات، الحدیث 3.

ص:404

الواقعة بانّها کانت مشتملة علی المشقة النوعیة أم لا، وأنّه یسیل الدم أو لا، حیث لا اطلاق فیه یمکن الأخذ به، لکن وجود کلمة (الدمامیل) الظاهرة فی عسر ازالته نوعا ما لم تبرء، کما کان الأمر فی حدیث عمّار أیضا کذلک، هذا فیما لو کان ضبط الخبر بصیغة الجمع، علی ما نقله صاحب «الجواهر» وصاحب «مصباح الهدی»، بخلاف ما هو الموجود فی «الوسائل» و«مصباح الفقیه»، حیث ورد فیه اللفظ مفرداً (الدمل)، لکن انفجار الدم وسیلانه فی حال الصلاة نوعا ممّا لا یمکن ربطه بما یوجب انقطاعه، والشاهد علی ذلک ما ورد فی روایة الجعفی، قال: «رأیت أبا جعفر علیه السلام یُصلّی والدم یسیل من ساقه»(1) حیث أنّه یتحدّث عن قضیة فی واقعة، وعلیه فلا یمکن أخذ الاطلاق منه لو لم نقل کونه غالبا ممّا لا یمکن منعه من خروج الدم، ونوعا موجبٌ للمشقة النوعیة، فلازم ذلک صحّة ما اختاره المصنّف من تقییده بأحد الأمرین من المشقة أو السیلان، بل عن فقیه عصر صاحب «الجواهر» وهو الشیخ جعفر کاشف الغطاء فی «شرح القواعد»: «أنّ التقیید مذکورٌ فی أکثر الکتب، لکن عبائرهم متفاوتة، إلاّ أن مرجع الجمیع الی اعتبار مشقة الازالة کما هو ظاهر الأکثر)، خلافا لصاحبی «الجواهر» و«مصباح الفقیه» من الحکم باستمرار العفو مطلقا وفاقا للثانیّین و«مجمع البرها» و«المدارک» و«الذخیرة» و«الحدائق» و«منظومة» الطباطبائی و«لوامع» النراقی، وظاهرا الصدوق، وإن کانت عبائرهم متفاوتة فی تأدیة ذلک، ومن أراد الاطلاع علیه فلیراجع الی «الجواهر».

وکیف کان، احتمال کون المعفوّ مطلق والجروح والقروح وإن لم یتضمّن شیئا من القیدین لا یخلو عن تأمّل، بل قد یقال بأنّ الظاهر ارجاع أحد القیدین الی


1- وسائل الشیعة: الباب 22 من أبواب النجاسات، الحدیث 3.

ص:405

الآخر، بأن یکون وجود السیلان راجعا الی مشقة ازالته، فیصیر المدار فی العفو هو المشقة فی الازالة.

أقول: بعد وضوح حدود الحکم یقع البحث عن أنّه إذا کان المدار فی العفو علی المشقة، هل المعتبر منه:

المشقة النوعیّة وإنْ لم تکن مشقة فی شخص المقام، کما إذا کان له ثیاب متعددة یمکنه التبدیل عند کلّ صلاة.

أو الملاک وجود المشقة الشخصیّة والحرج الشخصی، ولو لم تکن فی المورد مشقة نوعیّة.

لا اشکال ولا خلاف فی وجود العفو عند وجود المشقتین، کما أنّ الظاهر أنّه لا اشکال فی العفو فی ما إذا وجد فیه حرجا شخصیا ومشقّة شخصیة، لأجل وجود أدلّة نفی العسر والحرج فی جمیع الموارد ومنها المقام. وعلیه فینحصر البحث عن أنّ الملاک لثبوت العفو هو مجرد المشقة النوعیّة فقط من دون وجود مشقة شخصیّة أم لا؟

الظاهر کفایتها بحسب ما یستظهر من النصوص، وإن کان الاحتیاط فی مثل هذه الموارد حسنّ جدّا کما لا یخفی.

نعم، یظهر من بعض النصوص استحباب التبدیل أو الغسل إذا لم یکن ذلک له مشقة فی کلّ یوم مرّة، وهو مثل ما جاء فی موثقة فی سماعة: «سألته عن الرجل به القروح والجروح، فلا یستطیع أن یربطه ولا یغسل دمه؟ قال: یصلّی ولا یغسل ثوبه کلّ یوم الاّ مرّة، فإنّه لا یستطیع أن یغسل ثوبه کلّ ساعة»(1).

وأیضاً: ما رواه ابن ادریس فی «مستطرفات السرائر» نقلاً عن «نوادر البزنطی»، قال: «إنّ صاحب القرحة التی لا یستطیع صاحبها ربطها ولا حبس


1- وسائل الشیعة: الباب 22 من أبواب النجاسات، الحدیث 2.

ص:406

دمها، یصلّی ولا یغسل ثوبه فی الیوم أکثر من مرّة»(1).

فهذین الخبرین یدلاّن علی أنّ ملاک العفو هو وجود المشقّة خاصة، حیث یدلّ مفهوم التعلیل والوصف فیهما علی ذلک.

وفیه: إنّهما خبران مضمران، بل فی «کشف اللّثام» إسناد الثانی إلی قول البزنطی فی نوادره، مما یوجب قصورهما للمعارضة مع ما سبق بوجوه، هذا فضلاً عن معلومیة حال مفهوم الوصف، فیحتمل فی التعلیل کون المراد اتحاد الغُسل المنزّل علی الندب کما عن جماعة، لا الوجوب کما عن صاحب «الحدائق» فقد مال الیه ولا یخفی أنّه حکم شاذّ بخلاف الندب الذی هو ممّا لا خلاف فیه، ولعلّ وجهه ما جاء فی خبر أبی بصیر أنه علیه السلام قال: «فلستُ أغسل ثوبی حتّی یبرأ» وکذلک فی روایة لیث المرادی حیث قال: «یصلّی فی ثیابه ولا شیء علیه ولا یغسلها» وان کان فرض الاطلاق فی الحدیث الأوّل لیشمل ما لا حرج فی غسله بملاحظة قوله: «حتّی یبرأ» أولی وأحسن من الثانی، لأنّ المفروض فیه کون الدم مملوّة فی الثوب، فأخذ الاطلاق حتّی للقلیل الذی لا حرج فی غسله مشکلٌ، وعلی کلّ حال ثبت مما ذکرنا أنّ الغسل مندوب لا واجب، واللّه العالم.

فروع باب دم القروح والجروح

الفرع الأوّل: هل یجب تعصیب الجرح أو تخفیف سیلان دمه أو تبدیل أو الأبدال الثوب مع عدم المشقّة أم لا؟

الظاهر من اطلاق الادلّة هو العدم کما علیه صاحب «الجواهر»، لوضوح أن سیاق الادلّة الواردة فی العفو کان لأجل التسهیل للعباد، فالزام المصلّی بالأمور المذکورة من الربط والأبدال کالمستحاضة والمسلوس والمبطون مخالفٌ لمساق


1- ذیل حدیث 4 فی ذلک الباب فی هامش الوسائل؛ البحار، ج 18، ص 20.

ص:407

النصوص فی خصوص هذا الدم من الدماء، بل من بین النجاسات، ولأجل ذلک قال الشیخ: «الاجماع علی عدم وجوب عصب الجرح وتقلیل الدم، بل یصلّی کیف کان وإن سأل وتفاحش إلی أن یبرأ، وأنّه بخلاف المستحاضة والسلس ونحوهما عمّن یجب علیهم الاحتیاط فی منع النجاسة وتقلیلها» وعلیه فاحتمال بعض الفقهاء فی ایجاب الثلاثة المذکورات لیس علی ما ینبغی.

الفرع الثانی: فی أن العفو هل یختصّ بمحلّ الجرح والقرح، ولا یشمل ما یجعل علیه من الثیاب أو ما یقرب منه من أطرافه أم لا؟

الظاهر هو الثانی، لأنّه مقتضی تصریح بعض النصوص مثل ما جاء فی خبر سماعة ولیث المرادی: «وثیابه بمنزلة جلده»، فأجابه علیه السلام : «لا یغسل حتّی یبرأ»، کما أنّ حکم أطراف الجرح مثل نفسه فی العفو، بل تختلف تلک الأطراف فی السعة والضیق بحسب اختلاف الجرح من حیث الصغر والکبر، ومن حیث اختلاف المحلّ فیما یصدق علیه انّه من محلّ الضرورة. إلاّ إذا تجاوز الدم فی الأطراف عن الحدّ المتعارف فلا یعمّها العفو، کما لو تجاوز الدم عن الرأس ووصل الی القدم، وهو الظاهر عن بعض کالعلاّمة فی «المنتهی» واستحنه صاحب «المعالم» واحتمله فی «المدارک»، بل هو مختار صاحب «الجواهر» و«مصباح الهدی»، خلافا لبعض آخر من الحکم بشمول العفو کصاحب «الذخیرة» حیث قال: «لاطلاق الأدلّة ولخصوص موثقة عمّار السابقة، حیث قال: «یمسحه ویمسح یده بالحائط أو بالأرض»، فإنّ مسح الید علی الدّم خارجٌ عن محل الضرورة، فمع ذلک قال لا یقطع الصلاة».

وحملها علی ما إذا کان الانفجار موجباً لسیلان القیح دون الدم بعیدٌ، لانّ کثیر ما یکون مع الدم، مضافا إلی أنّه قیدٌ مخالف مع الاطلاق، فالأخذ بالاطلاق یوجب الجواز والعفو حتّی مع الدم.

ص:408

کما أنّ حمله علی صورة الضرورة بذلک، لأجل منعه وازالته حتّی لا یتحقّق التجاوز إلی غیر ما هو الضرورة، قیل إنّه بعیدٌ أیضا، مع انّه لیس فی البعد کسابقة، لأنّ الانفجار یوءمی إلی کون ذلک ممّا یحتاج الی منعه بالید وغیره، فیصدق علیه الضرورة، ویکون معفوّا، ولکنّه لا یوجب جواز ذلک حتّی مع عدم الحاجة إلی مثل ذلک.

وکیف کان، فإنّ احتمال کون هذا العمل للضرورة بقرینة لفظ (الانفجار) یوجب التفصیل فی العفو وعدمه: بین ما یحتاج الیه عرفا فیجوز، وبین غیره لا یجوز، ولعلّ مراد العلاّمة وصاحب «معالم» و«المدارک» من حکمهم بعدم الجواز هو صورة عدم الحاجة.

وممّا ذکرنا یظهر عدم تمامیة التفصیل الذی ذکره صاحب «الحدائق» بین ما إذا کان التعدّی بنفسه فیجوز ویُعفی، وبین ما تعدّاه المکلّف بوضع یده أو طرف ثوبه فلا.

لما ثبت أنّه إذا کان التعدّی ولو باختیار لاحتیاجه الی ذلک یجوز ویعفی عنه، کما لا یعفی لو کان التجاوز بنفسه إلی ما لا ضرورة له بحسب المتعارف، خصوصا مع انصراف اطلاقات النصوص إلی صورة ما ذکرناه کما لا یخفی.

الفرع الثالث: هل العفو مختصّ بخصوص الدّم أم یشمل کلّ ما لا ینفکّ عنه غالبا من العرق ونحوه، أم یکون بالأعم منه بحیث یشمل ما لا یکون نادر الانفکاک کما لو أصابه بماء فی اطرافه فیجوز معه الاتیان بالصلاة؟ وجوه واحتمالات: الذی یظهر من العلاّمة فی «المنتهی» هو الاقتصار علی الأوّل، مستدلاً بأنّه القدر المتیقن فی العفو، وفی قباله الشهید فی «الذکری» وفی «المدارک» أن الأظهر هو الأخیر، بل فی «الذخیرة» امکان استفادة ذلک _ أی الاطلاق _ من الروایات، ولمّا فی الاجتناب عنها من المشقّة والحرج المنافی لجهة العفو عن هذا الدّم، ولعدم زیادة حکم الفرع علی الأصل، أی القیح الدم، إذ لا

ص:409

ریب فی أنّ معنی نجاسة المتنجّس بملاقاة النجس، هو سریان حکم النجس المباشر إلیه، والفرض أنّه مفعوّ عنه، فکذلک یکون حکم فرعه وهو العرق والدواء والمرهم الموضوع علیه.

لکن اختار صاحب «الجواهر» الوسط، حیث قال: «لا یبعد القول بالعفو عمّا تنجس به من الأمور التی یندر انفکاکها غالبا کالعرق ونحوه، وإن کانت نجسةً کالدّم، لخلوّ الأدلّة عن التحرّز عنها، بل فی القیح المتنجّس قد ورد فی صحیحة عبدالرحمن وصحیحة لیث المرادی من العفو عنه».

أقول: الأولی والأحسن هو الأخیر، لمّا قد عرفت من أنّ سوق هذه النصوص الی الرخصة والتسهیل علی العباد، فی قبال الأدلة الأولیة الدّالة علی المنع، وعلیه فاختصاص الحکم بخصوص الدّم أو الی خصوص مالا ینفکّ عنه غالبا لا یناسب مع وضع النصوص، فالقول بالاطلاق لا یخلو عن حسن، وإن کان الاحتیاط والذی اختاره صاحب «الجواهر» طریق النجاة وأحسن، واللّه العالم.

نعم، لو باشر هذا الدم نجاسة أخری ولو کان دما، بل ولو کان دم قروح وجروح ولکن من شخصٍ آخر، بل ولو کان متنجّسا بذلک، اتّجه القول بعدم العفو لدخول مثل ذلک فی الأدلة الدالة علی لزوم الاجتناب من غیر معارضٍ حتّی فی المتنجّس، إذ أدلّة العفو مخصوص لمن کان نجاسة الدم من نفسه، لا ما قد لحقه من غیره، إذ لا اطلاق لأدلّة العفو حتّی یشمل للمتنجس بالغیر، حتّی یحکم بالعفو، والظاهر أنّ المسألة اتفاقیة إذ لم یسمع الانکار من أحد، کما لا یخفی.

الفرع الرابع: لا اشکال فی أنّ المرجع فی صدق الجروح والقروح لیس الاّ العرف، فبعد تحقّقه وصدقه لا فرق ظاهرا فی ثبوت حکم العفو بین کونه فی ظاهر البدن أو باطنه، اللّهمّ إلاّ أن یشکک فی صدق الجرح والقرح فی الباطن

ص:410

وعمّا دون الدرهم البَغلی سعةً من الدّم المفسوح، الذی لیس أحد الدماء الثلاثة (1)

عرفا، فإنّ مقتض¨ الشک فی صدقه موضوعا أو من باب عدم الحاقه بالظاهر، یوجب الأخذ بالعمومات الدالة علی عدم العفو، لأنّه شک فی حکم المخصّص، والمرجع حینئذٍ إلی عموم العام.

ولعلّه لأحدٍ من الأمرین ذهب صاحب «کشف الغطاء» إلی عدم العفو فی دم البواسیر والرّعاف والاستحاضة، حیث قال: «وما کان فی خروجه من البواطن کدم البواسیر والرعاف والاستحاضة ونحوها یغسل مع الانقطاع وأمن الضرر، وإن بقی الجرح ویحافظ علی الحفیظة مع الاستدامة کما فی المسلوس والمبطون مع عدم التعذر والتعسر» انتهی.

کما علیه العلاّمة البروجردی رحمه الله فی دم البواسیر، حیث قال إنّ العفو عنه اشکال، سواءٌ کان فی الظاهر أو الباطن، خلافا لصاحب «الجواهر» حیث قال: «والظاهر خلاف ما ذهب الیه الاستاذ بعد ثبوت مسمّی الجرح والقرح».

أقول: لا یبعد صدق الجرح أو القرح علیه عرفا، وإن کان الاحتیاط یقتضی حُسن الاجتناب فی دم البواسیر، واللّه العالم.

(1) إنّ الدم المعفوّ عنه فی الصلاة والطواف والمساجد _ إن قلنا بالمنع عن دخول النجاسة فیها _ هو الدم المفسوح، لکن بشرط أن یکون أقلّ من الدرهم البلغی أو الوافی _ ولعلّهما متحدان سعةً لا وزنا _ وغیر الدّماء الثلاثة من الحیض والنفاس والاستحاضة إذا کان فی الثوب، وعلیه الاجماع محصّلاً ومنقولاً کما فی «الانتصار» و«الخلاف» و«الغنیة» و«المعتبر» و«المختلف» و«المنتهی» وغیرها، بل وکذا فی البدن أیضا، کما أطلق فی مثل کلام المصنّف، بل وفی الثلاثة الأخیرة،

ص:411

وإن اقتصر بعضهم علی الثوب فقط، وهو کما فی «الغنیة» و«الفقیه»، و«جُمل» المرتضی و«المقنعة» و«المراسم» و«الهدایة»و«المبسوط»، بل قد نسب إلی مذهب الامامیّة کما فی «کشف الحق»، بل قال صاحب «الجواهر»: «إنّ التدبّر والتأمّل فی کلمات الأصحاب وأدلّتهم یعطی عدم الفرق عندهم هنا بین الثوب والبدن کما اعترف به فی «المنتهی» وعن «الدلائل» ناسبین له إلی ذکر الاصحاب وتصریحهم، مشعرین بدعوی الاجماع علیه بل فی «الحدائق» أنّ ظاهر الأصحاب الاتفاق».

کما أنّ عدم الفرق یناسب مع الاعتبار لانّ الملاک فی العفو وعدمه هو اجتناب المصلّی عنه وعدمه، فإذا لم یجتنب عنه حال الصلاة فلا فرق حینئذٍ بین کونه ببدنه أو ثوبه، ولکن مع جمیع ذلک لابدّ من متابعة الدلیل فی الاثبات وعدمه، فحیث عرفت قیام الاتفاق علی عدم التفریق بین البدن والثوب، فنحن نتبع ذلک، برغم أنّ المذکور فی أکثر الأخبار هو الثوب، ولعلّه لأجل کونه غالبا فی معرض اصابة الدم عن الغیر دون البدن، وإن کان البدن داخلاً فیه، ولأجل ذلک یعدّ ذکر الثوب من باب المثال قاعدة عامة یشمل کلیهما، مضافا إلی ما ورد فی خبر المثنّی بن عبدالسلام، عن الصادق علیه السلام ، قال: «قلت له: إنّی حککتُ جلدی فخرج منه دمٌ؟ فقال: إن اجتمع قدر حمّصة فاغسله وإلاّ فلا»(1).

فإنّه یدلّ علی المطلوب فی أنّ المعفوّ هو الدم الواقع علی البدن دون الثوب.

لکن یرد علیه من جهتین:

الأولی: من حیث المقدار، لأنّه خصّه بمقدار الحمصّة، وهی أقلّ من الدرهم، ولأجل ذلک ربّما حملوه:

تارةً: علی أنّ المراد منه وزناً یساوی سعة الدرهم کما عن «المدارک»، لکن قد


1- وسائل الشیعة: الباب 20 من أبواب أحکام النجاسات، الحدیث 5.

ص:412

أورد علیه صاحب «الحدائق» بأنّ الدم بهذا القدر وزنا یمکن أن یلطّخ تمام الثوب.

وأخری: احتمال أن الضبط الخمصّة بالخاء المعجمة، من أخمص الراحة، أی قدر سعة ما انخفض من راحة الکف، کما عن بعض الأجلّة تقدیر الدّرهم به سعةً، لکن قال إنّه یتوقّف علی القرینة لهذه النسخة وهی مفقودة.

لولا أحد الحملین لصار الحدیث من الشواذ المتروکة، حتّی ولو حمل الأمر فیه علی الندب، کما نقل صاحب «الوسائل» ذلک عن الشیخ، لأنّه لم نعثر علی مصرّح باختصاص العفو فیه، وان کان الحمل علی الندب أیضا دالاً علی المطلوب، وهو سعة الدرهم، خصوصا مع ضمیمة عدم القول بالفصل فی العفو وعدمه بین قدر الحمصّة وقدر الدرهم.

مع أن ذکر هذا المقدار لا یضرّ بالمطلوب، لأنّ المقصود منه ثبوت العفو فی البدن کالثوب، حتی إن لم نتفق مع الحدیث فی مقداره لمخالفته مع النصوص والفتاوی، لکن ذلک لا یوجب طرحه رأسا، بل یؤخذ به فیما لا یخالف، وهو کفایته فی العفو فی البدن کالثوب، والتفکیک فی الأحکام الظاهریة لیس بعزیز، فثبت بواسطته ما هو المقصود وبذلک ینجبر ارساله أیضا.

وبالجملة: ثبت من خلال ما ذکرناه من الأخذ بالحدیث، فإنّه لا نحتاج الی تجشم عناء تلک المحامل والاحتمال لصحیحة فی الاستدلال، کما لا یخفی.

الجهة الثانیة: أنّه دم قد خرج عن بدنه نتیجة الحکّ، فربّما یحتمل صدق الجرح علیه عرفا، فیخرج بذلک عن مورد البحث وهو کون الدّم من المفسوح ولم یکن داخلاً تحت الدم السابق، وحیث أنّ الفقهاء تمسکوا به لتعمیم الحکم إلی البدن یظهر أنّهم لم یلحقوا هذا الدم بدم الجروح والقروح، فیتمّ المطلوب. وبذلک یظهر صحة التمسّک بالحدیث لاثبات التعمیم، والحاق البدن بالثوب، فلا یعتنی حینئذٍ بما یظهر من صاحب «الریاض» تبعا لصاحب «الحدائق»، بل و«کشف اللّثام» من

ص:413

الغمز علیه والمناقشة فیه کما عن صاحب «الجواهر».

أقول: لکن الانصاف أنّ الدقة فیه یقتضی تردد الفقیه ولو لأجل الجهة الثانیة، فإنّه وإن سلّمنا الجهة الأولی بما عرفت _ من امکان التفکیک فی الحجّة بین موارد الحدیث _ لکن هناک ما یؤکّد الوثوق بصدوره مع وجود کلمة (الحمصّة) وأنّ المراد منها قدر الدرهم وروده فی «فقه الرضا» بقوله: «وإن کان الدّم قدر حمصّةٍ فلا بأس بأن لا تغسله، الحدیث».

کما یظهر من نقل الفتاوی الصادرة فی العفو بالأقل من الدّرهم فی الثوب، عدم صحة التردّد أو المیل الی العدم منهم العمّانی علی ما هو المحکی عنه، إذ قال: «إذا أصاب ثوبه دمٌ فلم یره حتّی صلّی فیه، ثمّ رأه بعد الصلاة، وکان الدّم علی قدر الدینار غَسل ثوبه ولم یعد الصلاة، وإن کان أکثر من ذلک أعاد الصلاة، ولو رأه قبل صلاته، أو علم أنّ فی ثوبه دما ولم یغسله حتّی صلّی غسل ثوبه، قلیلاً کان الدم أو کثیرا، وقد روی أن لا اعادة علیه، إلاّ أن یکون أکثر من مقدار الدینار» انتهی(1).

أقول: ولقد أجاد صاحب «مصباح الفقیه» فیما أفاد حیث قال بعد نقل الحدیث: «وفی الاستظهار ما لا یخفی، فإنّ قوله: «غَسل ثوبه، قلیلاً کان الدّم أو کثیرا» لبیان عدم الفرق بین الدم القلیل والکثیر من حیث النجاسة، کما ربّما یوهمه بعض الأخبار، فقوله: «وقد روی... إلی آخره» علی الظاهر مسوقٌ لاعطاء حکم من رأی دما فی ثوبه قبل الصلاة من حیث الاعادة وعدمها، فإنّ هذا النحو من التعبیر إذا وقع فی کلمات أرباب الحدیث، یظهر منه کون المروی مختارا له، بخلاف ما لو وقع فی عبارة المصنّف وغیره من أرباب الفتاوی ممّن لیس من عادته اعطاء الحکم بنقل الروایة، فإنّه یشعر بضعف الروایة لدیه وتردده فی المسألة) انتهی


1- فقه الرضا، ص 95.

ص:414

کلامه(1).

فبناء علی هذا التوجیه ربّما یکون العمّانی أیضا موافقا لنا فی العفو بهذا المقدار، بأن یکون المقدّر بالدینار هو المقدار فی الدرهم، فلا یکون رأیه مخالفاً مع الفقهاء حتّی یردّ علیه بما قاله صاحب «الجواهر» فی حقّه بأنّ کلامه مخالفٌ للاجماع بقسمیه کما لا یخفی.

وبالجملة: فالمسألة من حیث العفو فی الأقل من الدرهم فی الثوب والبدن ممّا لا اشکال فیها، وذلک لقیام الاجماع والأخبار المستفیضة ومنها الصحیح الصریح:

1. خبر ابن أبی یعفور، فی حدیث، قال: «قلت لأبی عبداللّه علیه السلام : الرجل یکون فی ثوبه نقط الدم لا یعلم به، ثمّ یعلم فینسی أن یغسله فیصلّی، ثمّ یذکر بعد ما صلّی، أیعید صلاته؟ قال: یغسله ولا یعید صلاته، إلاّ أن یکون مقدار الدّرهم مجتمعا فیغسله ولیعید الصلاة»(2).

2. وخبر الجعفی، عن أبی جعفر علیه السلام ، قال: «فی الدّم یکون فی الثوب؟ إن کان أقُل من قدر الدرهم فلا یعید الصلاة، وإن کان أکثر من قدر الدرهم، وکان رأه فلم یغسل حتّی صلّی فلیعد صلاته، وإن لم یکن رأه حتّی صلّی فلا یعید الصلاة»(3).

3. ومرسل جمیل بن دراج، عن بعض أصحابنا، عن أبی جعفر وأبی عبداللّه علیهماالسلام ، أنّهما قالا: «لا بأس أن یصلّی الرجل فی الثوب وفیه الدم متفرقا شبه النضح، وإن کان قد رأه صاحبه قبل ذلک فلا بأس به، ما لم یکن مجتمعا قدر الدرهم»(4).


1- مصباح الفقیه، ج 8، ص 69.
2- وسائل الشیعة: الباب 20 من أبواب النجاسات، الحدیث 1.
3- المصدر السابق، الحدیث 2.
4- وسائل الشیعة: الباب 20 من أبواب النجاسات، الحدیث 4.

ص:415

وما زاد عن ذلک تجب ازالته ان کان مجتمعا (1)

4. وصحیح محمد بن مسلم، قال: «قلت له: الدّم یکون فی الثوب علیّ وأنا فی الصلاة؟ قال: إن رأیته وعلیک ثوب غیره فاطرحه وصلّ فی غیره، وإن لم یکن علیک ثوب غیره فامض فی صلاتک ولا اعادة علیک، ما لم یزد علی مقدار الدرهم، وما کان أقلّ من ذلک فلیس بشیء، رأیته قبل أو لم تره، وإذا کنت قد رأیته وهو أکثر من مقدار الدرهم فضیّعت غسله وصلّیت فیه صلاة کثیرة فأعد ما صلّیت فیه»(1).

فهذه هی الأخبار الدالة علی المدّعی بالصراحة، ومعها لا خلاف فی ثبوت الحکم.

(1) حکم العفو وعدمه یتعلّق بصور ثلاثة:

الصورة الأولی: المقدار المعفوّ من الدم قطعا وبلا اشکال ولا خلاف، وهو ما یکون أقلّ من الدرهم، وقد مرّ قیام الاجماع بقسمیة علیه، وکذا الأخبار المستفیضة.

الصورة الثانیة: ما لو کان أزید من الدرهم، فهو غیر مقصودٍ قطعا ممّا علیه الاجماع ودلالة الأخبار.

وأمّا الصورة الثالثة: فیما لو کان بقدر الدرهم لا أقل ولا أزید، فیأتی البحث عن أنّه هو معفو عنه أم لا؟

فیه خلاف کبیر:

1. ذهب إلی الثانی جماعة کثیرة مثل المصنّف هنا، وفی «المعتبر»، بل هو ظاهر «الفقیه» و«الهدایة» و«المقنعة»، وأول «الانتصار» و«الخلاف» و«الجامع» و«الوسیلة» و«الغنیة» و«اشارة السبق» من الاقتصار فی العفو بخصوص صورة الأقل، وتصریح جماعة بذلک، بل عن «المسالک» و«کشف الالتباس» نسبة عدم


1- المصدر السابق، الحدیث 6.

ص:416

العفو إلی الشهرة، وفی «اللّوامع» إلی الأکثر، بل فی ظاهر «السرائر» أو صریحه، وعن «الخلاف» الاجماع علیه، کما عن «کشف الحقّ» نسبته إلی الامامیة، ومن المتأخّرین صاحبی «مصباح الفقیه» و«الهدی» وصاحب «العروة» وأکثر أصحاب التعلق علها بل کلّهم.

2. خلافا لجماعة أخری، فقد ذهبوا إلی الأوّل، ومنهم سلاّر والمحکی عن السّید فی «الانتصار»، بل هو الظاهر من کلام صاحب «الجواهر»، ولأجل ذلک توقف فیه بعض الفقهاء، وهو المحکّی عن «النافع» والعلاّمة فی «التذکرة».

أقول: الأقوی عندنا هو ما علیه المشهور من عدم العفو، فلابدّ حینئذٍ من التعرض لأدلّة المسألة حتّی یتضح المراد.

دلیل القول المشهور: الاستدلال بمجموعة من الأخبار:

منها: خبر ابن أبی یعفور، عن الصادق علیه السلام ، قال: «قلت له: الرجل یکون فی ثوبه نقط الدم لا یعلم به، ثمّ یعلم فینسی أن یغسله فیصلّی، ثمّ یذکر ما صلّی، أیعید صلاته؟ قال: یغسله ولا یعید صلاته، إلاّ أن یکون مقدار الدرهم مجتمعا فیغسله ویعید الصلاة»(1).

فهذا الخبر الصحیح صریح فی لزوم الاعادة إذا کان بقدر الدرهم مجتمعا.

منها: مرسل ابن درّاج، عن بعض أصحابنا، عن أبی جعفر وأبی عبداللّه علیهماالسلام فی حدیثٍ: «لا بأس أن یصلّی الرجل فی الثوب وفیه الدم متفرّقا شبه النضح... إلی قوله: فلا بأس ما لم یکن مجتمعا قدر الدرهم»(2).

ومنها: روایة علی بن جعفر فی کتابه عن أخیه، قال: «سألته عن الدُّمل... إلی


1- وسائل الشیعة: الباب 20 من أبواب النجاسات، الحدیث 1.
2- المصدر السابق، الحدیث 4.

ص:417

أن قال: وإن أصاب ثوبک قدر دینار من الدم فاغسله، ولا تصلّ فیه حتّی تغسله»(1).

وفی «الوسائل» فی ذیله، قال: «أقول: سعة الدینار بقدر سعة الدرهم».

ومنها: روایة «فقه الرضا» أیضا، قال: «إن أصابک دم فلا بأس بالصلاة فیه ما لم یکن مقدار درهم وافٍ، الحدیث»(2).

هذا مضافا إلی مفهوم صدر روایة الجُعفی حیث نقل عن أبی جعفر علیه السلام أنّه قال: «فی الدّم یکون فی الثوب إن کان أقلّ من قدر الدرهم فلا یعید الصلاة، الحدیث».

فإنّ مفهومه هو الاعادة إذا کان بقدر الدرهم هذه هی الادلّة التی استدلّ بها علی عدم العفو فیه مع الشهرة الکثیرة المعتضدة لذلک.

أدلّة القائلین بعفو الدّم

وفی قبال قول المانعین هناک بعض الأخبار الدالّة بالمنطوق أو المفهوم علی العفو المؤیّدة بالأصل، لانّه إذا شک فی کونه مانعا للصلاة أم لا، فالأصل هو العدم، فلا بأس بذکر الأخبار المستدلّ بها للعفو منها مضمرة محمّد بن مسلم وقد رواها «الکافی» مضمرة، أمّا الصدوق فقد رواها فی «الفقیه» مسنداً إلی أبی جعفر علیه السلام و الیک نصّ الحدیث بحسب نقل «الکافی» و«الفقیه»: «قال: قلت له: الدّم یکون فی الثوب علیّ وأنا فی الصلاة؟ إلی أن قال: وإن لم یکن علیک ثوب غیره فامض فی صلاتک، ولا اعادة علیک، ما لم یزد علی مقدار الدرهم، وما کان أقلّ من ذلک فلیس بشیء، رأیته قبل أو لم تره، الحدیث»(3).

حیث إنّ حرف الواو لیس قبل جملة «ما لم یزد علی مقدار الدرهم»، وجملة


1- المصدر السابق، الحدیث 8.
2- فقه الرضا، ص 95.
3- وسائل الشیعة: الباب 20 من أبواب النجاسات، الحدیث 6.

ص:418

«ما کان أقلّ من ذلک» موجودة فیه فتکون الروایة حینئذٍ دالة علی العفو بمقدار الدرهم التی یفهم من جملة «ما لم یزد علی مقدار الدرهم»، خلافا لجملة بعدها: «وما کان أقلّ من ذلک فلیس بشیء».

ثم قال: «وإذا کنت قد رأیته وهو أکثر من مقدار الدرهم فضیّعت غَسله وصلّیت فیه صلاة کثیرة، فأعد ما صلّیت فیه».

فهذا المقطع دالٌّ علی الاعادة بالمنطوق وهی المستفادة من جملة: «ما لم یزد علی مقدار الدرهم»، فهذه الروایة علی هذا التقدیر مؤیّدة لما ادّعی من عدم العفو بمقدار الدرهم بحسب المنطوق فی بعضٍ والمفهوم فی آخر.

وأمّا علی نقل «التهذیب» فقد ذکر الواو قبل: «ما لم یزد علی مقدار الدرهم»، إذ قال: «وما لم یزد علی مقدار الدرهم من ذلک فلیس بشیء»، وحذف جملة: «وما کان أقلّ» عن الحدیث.

وأمّا علی نقل «الاستبصار» فقد جاء بدون حرف الواو قبل: «ما لم یزد» مع حذف جملة: «وما کان أقلّ» حیث أنّ جملة: «ما کان أقلّ» موجودة فی نسخة «الکافی» والصدوق بناء علی أنّ متعلّق لفظ (ذلک) هو الدرهم، فیصیر حینئذٍ قوله: «ما لم یزد علی مقدار الدرهم» مفیدا أنّه عند زیادة البلوغ علی الدرهم فهو معفو، وهذا مفهوم یعارض مع منطوق قوله: «وما کان أقلّ من ذلک _ أی الدرهم _ فلیس بشیء»، فیلزم حینئذٍ تعارض المنطوق والمفهوم فی مقدار الدرهم، حیث أنّ مقتضی جملة: «ما لم یزد» هو عدم الاعادة وحصول العفو، ومقتضی جملة: «وما کان أقلّ من ذلک» عدم العفو فی الدرهم، اللّهمّ إلاّ أن یراد من جملة: «ما لم یزد» دخول نفس الدرهم فی الاعادة، نظیر قوله: «فَإِنْ کُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَیْنِ»أی اثنتین فما فوق. وأمّا علی نقل «التهذیب» و«الاستبصار» حیث حذفا جملة: «وما کان أقلّ من ذلک» یدل الخبر علی أنّ المعفوّ مقدار الدرهم وعدمه دون الزائد فلا تعارض.

ص:419

وحیث أن القاعدة عند اختلاف النسخة بین «الکافی» والصدوق، وبین الشیخ فی الکتابین، کون العلمین أضبط من الشیخ، فیلزم هنا الحکم بتقدیم نسختهما علیه، فلازمه وقوع التعارض علی تقدیر بین المنطوق والمفهوم، أی مفهوم (ما لم یزد) ومنطوق (ما کان أقلّ من ذلک) فی العفو وعدمه، فتصیر نتیجة هذا الحدیث هو التعارض، نظیر التعارض الموجود کذلک فی روایة الجعفی، بین: قوله: «فی الدّم یکون فی الثوب إنْ کان أقلّ من قدر الدرهم فلا یعید الصلاة» فمفهومه لزوم الاعادة وعدم العفو إن کان بمقدار الدرهم.

وبین قوله: «وإن کان أکثر من قدر الدرهم وکان رأه ولم یغسله حتّی صلّی فلیعد صلاته» حیث یکون مفهومه عدم الاعادة وحصول العفو بمقدار الدرهم.

فالاحتمالات فی الروایتین تکون أربعة:

الأوّل: الأخذ بظاهر القضیّة الشرطیة، بأن یکون التعلیق علی الحقیقی، أی الانتفاء عند بالانتفاء، فلازمه التناقض بین الصدر والذیل، وسقوط الحدیثین عن الاعتبار، وصیرورتهما حینئذٍ مجملین، لأنّا نقطع بعدم صحة أحدهما، وحیث لا مرجّح _ لو لم نأخذ بالأخبار السابقة الدالة علی الترجیح _ لأحد الاحتمالین، فیلزم السقوط والرجوع إلی العمومات الأوّلیة الدالة علی عدم العفو فی مطلق النجاسات ومنها الدم، وهی التی توجب عدم جواز الرجوع إلی الأصل الذی أشار الیه صاحب «الجواهر»، لوضوح أنّه مع وجود الدلیل الاجتهادی کالعمومات والاطلاقات لا تصلّ النوبة للرجوع الی الأصول التی تعدّ دلیلاً فقاهیتاً کما لا یخفی، فلازم هذا الاحتمال هو عدم العفو فی الدرهم کما هو المختار.

وأمّا الاحتمال الثانی: فهو أن یقال إنّ القضیة الشرطیّة فی کلا الموردین من الصدر والذیل وردت علی غیر الحقیقة فی الشرطیة وغیر التعلیق، أی الانتفاء عند الانتفاء، بل المقصود بیان مجرّد العقد الاثباتی، نظیر الشرط المحقّق للموضوع،

ص:420

بأن یکون الخبر بمنزلة مالو قیل: الدّم الذی هو أقل من الدرهم معفوّ عنه، والدم الذی یکون أزید منه غیر معفوّ عنه، فلازمه سکوتهما عن حکم الدرهم، فیدخل حینئذٍ الدرهم تحت الأخبارالدالة علی عدم العفو، أو الرجوع إلی العمومات والاطلاقات الأولیّة، فهی أیضا دالة علی أنّه غیر معفو عنه.

وأمّا الاحتمال الثالث: فهو جعل الشرطیّة فی الصدر محقّقه للموضوع بالعقد الاثباتی لا الحقیقة، فکأنّه أراد بیان أنّ ألأقل من الدرهم معفوّ بخلاف الشرطیة فی الذیل، فإنّها مذکورة علی نحو الحقیقة، والتعلیق الحقیقی من عدم العفو فی الأزید هو العفو فی غیره، فیشمل العفو لصورة الدرهم أیضا، فیکون الصدر وهو الأقل من باب بیان أحد مصداقیة.

الاحتمال الأربع: هو عکس ذلک، بأن تکون القضیة الشرطیة فی الصدر تعلیقیاً حقیقیّة دون الذیل، ولازم ذلک حینئذٍ عدم العفو فی الدرهم وما زاد، وفیکون ذکر الذیل لبیان أحد مصداقیة فی عدم العفو.

أقول: هذا الاحتمال أولی وأحسن من بین الأربع، لأنّه مؤیّد بالأخبار الکثیرة ومعتضد بالشهرة والاجماع وهو المطلوب. مضافا إلی أنّه لو لم نقل بتقدّم هذا الاحتمال، فینتجة وقوع هذه الاحتمالات الأربع فیهما، وعدم القول بالترجیح فی أحدها، هو سقوط الروایتین بسبب الاجمال، بعد التکافؤ. وعلیه فالمرجع یکون بعد ذلک إلی الأخبار الکثیرة الدّالة علی عدم العفو، أو إلی العمومات والاطلاقات الدّالة علی عدم العفو فی النجاسات ومنها الدم.

وبالجملة: ثبت من جمیع ذلک أنّ قول المشهور فی عدم العفو فی قدر الدرهم هو الأقوی کما ذهب الیه صاحب «الجواهر» تبعا لسلاّر وغیره، واللّه العالم.

وأیضاً: ظهر ممّا ذکرنا عدم تمامیة الجمع بین الأخبار المتعارضة، بحمل ما دلّ علی الغَسْل والاعادة فی مقدار الدرهم علی استحباب ذلک، من باب التصرف فی

ص:421

الهیئة، حیث أنّ لازمه حینئذٍ حصول العفو فی الدرهم، لما قد عرفت من تمامیّة الدلیل الدالّ علی عدم العفو وعدم مقاومة ما یتوهّم تعارضه، کما لا یخفی.

وتوهّم: عدم امکان معرفة مقدار الدّرهم أو ندرته کما ذکره صاحب «الجواهر» تأییدا لمختاره، لا یوجب رفع الید عن الدلیل، لأنّ مرجع تعیین أمثال هذه المقادیر هو العرف، ففی کلّ مورد حصل الشک فیها یکون یرجع القواعد والأصول العملیة کما فی نظائره.

البحث عن أمور یتعلّق بالدم

أقول: هاهنا أمور فقهیّة یقتضی المقام البحث حولها:

الأمر الأوّل: فی بیان المراد من عنوان (الدراهم) الوارد فی النصوص، هل هو الدرهم الوافی أو البغلی، وأو هما معا معنی واحد أو متفاوت، وعن أنّ هذه العناوین فی أیّ عصر وزمان قد تحققت، هل کانت قبل الاسلام، أو حدثت بعده؟ فلابدّ.

أقول: یقتضی عند تبیین هذه الأمور من ملاحظة کلمات الأصحاب وأهل الفن فی ذلک، ولذلک قال صاحب «الجواهر» وغیره: إنّه لا اشکال فی أنّ (الدرهم) الوارد فی النصوص یحمل علی الوافی منه، کما علیه صاحب «الفقیه» و«الهدایة» و«المقنعة» و«الانتصار» و«الخلاف» و«الغنیة»، بل فی «کشف اللّثام» نسبته إلی الأکثر، ویشهد له التتبع، بل هو بعض اجماع الثلاثة الأخیرة، ونصّ «فقه الرضا» حیث جاء فیه: «إن أصابک دمٌ فلا بأس بالصلاة فیه ما لم یکن مقدار درهم وافٍ، الحدیث»(1).

لکن من جهة أخری یحتمل أن المراد منه الدرهم البَغْلی، کما یؤمی إلی ذلک جمع بعض الأصحاب هما معا، بل نسبته إلی مذهب الامامیّة فی «کشف الحق»، وإنْ کان تعبیر أکثرهم هو الوافی، وقد صرّح بذلک فی «المعتبر»، بل فی أکثر کتب


1- فقه الرضا، ص 95.

ص:422

المتأخرین کونه هو البغلی. نعم، قد یظهر ویتوهّم من کلام الحلّی فی «السرائر» خلاف ذلک، وهو خطأ قطعا بل فی «الجواهر» إنّ التأمّل فیها یدفعه.

الأمر الثانی: فی البحث عن وجه تسمیة الدرهم بالبغلی أو الوافی، وبیان حدودهما من حیث الوزن: قال الشهید رحمه الله فی «الذکری» فی باب العفو عمّا نقص عن تسعة: «الدرهم الوافی وهو البغلی باسکان العَیْن، منسوبٌ إلی رأس البغل ضربه للثانی فی ولایته بسکّة کسرویة، وزنته ثمانیة دوانیق، والبغلیة تسمّی قبل الاسلام من ثمانیة الکسرویّة، فحدث لها هذا الاسم فی الاسلام والوزن بحاله، وجرت فی المعاملة مع الطبریّة وهی أربعة دوانیق، فلما کان زمن عبدالملک جمع بینهما، واتّخذ درهماً منهما واستفرّ أمر الاسلام علی ستة دوانیق. وهذه التسمیة ذکرها ابن درید» انتهی ما فی «الذکری».

ولازم هذا النص أن اسم البغلی مستحدث فی زمن الثانی ولم یکن متداولاً فی عصر النبی صلی الله علیه و آله .

أقول: لکن هذا مخالف لما نقله الطریحی فی «مجمع البحرین» من أن الدرهم البغلی کان موجوداً قبل الاسلام ووزنه ثمانیة دوانیق لکن خففه عمّر فصار ستة دوانیق، ولعلّ تسمیته بالوافی واعتباره عبارة عن درهم وثلث درهم بملاحظة تطابق وتوافق وزنه مع دانقین الذی یعدّ ثلث الدوانق الست والدوانق الثمانیة التی کانت متداولة قبل الاسلام، فیتّحد معنی الوافی مع البغلی السابق لا مع ما حدث فی عصر الثانی.

وعلیه یظهر امکان دعوی تحصیل الاجماع فضلاً عن منقوله المعتضد بما جاء فی «فقه الرضا» علی وحدة البغلی والوافی الوارد فی النصوص، بل وهکذا مع کلمة (الدنیا) الذی ورد فی خبر علی بن جعفر علیه السلام ، بقوله: «إذا أصاب ثوبک قدر دنیا من الدم فاغسله ولا تصلّ فیه» وعلّق علیه صاحب «الوسائل» فی ذیله بأنّ

ص:423

سعة الدنیا سعة الدرهم. وهکذا صارت التسمیات الثلاث فی الواقع واحدة، وهو المطلوب.

أقول: ومن ذلک یظهر عدم تمامیة ما فی «المدارک» من دعوی «أنّ مصطلح البَغْلی قد تُرک زمن عبدالملک وهُجر، وهو زمان قبل زمن الصادق علیه السلام ، وفی الأخبار غیر مقیّد بذلک، فیطلق حینئذٍ الدرهم للبغلی وغیره، فحمل الدرهم الوارد فی عصر الصادقین علیهماالسلام علی ما هو المتروک وهو البغلی مشکلٌ جدّا».

لما قد عرفت أن سبب تسمیة الدرهم بالوافی هو ملاحظته مع الدرهم البَغْلی السابق، الذی کان علی زنة ثمانیة دوانیق، فصار الدرهم بقسمیه واحدا.

رأی ابن ادریس: وهو فی قبال القول السابق حیث ذهب الی أنّ المراد من الوافی دون قدر الدرهم البغلی قال فی «السرائر»: «فهذا الدم نجس، إلاّ أنّ الشارع عفی عن ثوب وبدن أصابه منه دون سعة الدرهم الوافی، وهو المضروب من درهم وثلث، وبعضهم یقولون دون قدر الدرهم البغلی، وهو منسوبٌ إلی مدینة قدیمة یقال بغل قریبة من بابل، بینها وبینها قریب من فرسخ متصلة ببلدة الجامعین، یجد فیها الحَفَرة والغسّالون(1) دراهم واسعة، شاهدتُ درهما من تلک الدراهم، وهذا الدرهم أوسع من الدینار المضروب بمدینة السلام المعتاد، تقرب سعته من سعة أخمص الراحة. وقال بعض من عاصرته ممّن له علمٌ بأخبار الناس والأنساب: إنّ المدینة والدراهم منسوبة إلی ابن البغل، رجلٌ من کبار أهل الکوفة اتخذ هذا الموضع قدیما وضرب هذا الدرهم الواسع، فنسب الیه الدرهم البغلی، وهذا غیر صحیح، لأنّ الدراهم البغلیة کانت فی زمن الرسول صلی الله علیه و آله قبل الکوفة» انتهی کلام ابن ادریس علی المحکی فی «الحدائق»(2).


1- فی کتاب طهارة الشیخ الغسالون والنبّاشون.
2- الحدائق، ج 5، ص 328.

ص:424

فانّه یظهر من قوله وجود الاختلاف فی المراد من البغلی، ولکن قد عرفت قوّة احتمال الوحدة بین الدرهمین فلا نعید.

الأمر الثالث: فی سعة الدرهم البغلی.

وقع الاختلاف فی سعته، ذهب ابن الجنید الی أنّ سعته کعقد الإبهام الأعلی، أو قدر عقده الوسطی، وفی کلام ابن ادریس ما یقرب سعته من أخمص الراحة، أی أخمص الکف والمراد منه منخفضه أی إذا وضعنا الکف علی الأرض، فإنّه ینخفض باطنه عن الأرض ولا یتصل بها، فهذا الباطن یقال له أخمص الراحة، ونقل صاحب «الوافی» عن «المعتبر» أنّه نقل عن ابن أبی عقیل انّه ما کان بسعة الدینار، ثمّ قال المحقق فی «المعتبر» بعد نقل ذلک: «والکلّ متقاربٌ، والتفسیر الأوّل أشهر» أی أن یکون الوافی وزنه درهم وثلث أشهر، ونعم ما قال، خصوصا بعد ما عرفت قول صاحب «الوسائل» بأنّ سعة الدینار هو سعة الدرهم، إذا کان المراد منه الدرهم الوافی الوارد فی النص ک «فقه الرضا»، وعلیه، فاحتمال اختلاف الافراد فی التقدیرات فی الواقع بعیدٌ، إلاّ ما عرفت الاختلاف فی زمن الثانی علی جعله ستة دوانیق، فإنّه اختلاف حادّث.

أقول: ثبت ممّا ذکرنا آنفاً أنّ الوافی مساوٍ للبغلی قبل الاسلام، وهو فی الجملة أمرٌ یتفق علیه الفقهاء کما صرّح بذلک الصدوق فی «الفقیه»، والمفید فی «المقنعة»، وابن ادریس والمحقّق، والشهید فی «الذکری»، والعلامة فی جملة کتبه، والشهید الثانی فی «الروض»، بل قد عرفت ورود النصّ به فی «فقه الرضا»، وعلیه یحمل کلّ ما ورد فی النص من کلمة الدرهم فی مقابل الدرهم الآخر، وهو الدرهم الطبری الذی کان وزنه أربعة دوانیق، والدرهم الحادث فی زمن الثانی وهو ما کان وزنه ستة دوانیق، لأنّهم نقله أحکام اللّه وأحکام جدّهم وحفظة شریعته وعلیه یکون تحدیدهم هو المتّبع.

ص:425

الأمر الرابع: وقع خلاف فی کیفیة تلفّظ لفظ الدرهم، وهل تلفظه باسکان العین وفتح الباء کما هو الأشهر، أو بفتح الغین والباء وتشدید اللاّم کما هو فی کلام جماعةٍ بمثل ما وقع الاختلاف فی سعته بین کونه قدر أخمص الراحة أو عقد الابهام الأعلی، أو قدر عقد الوسطی، أو قدر سعة الدینار وهو المنقول عن الحسن بن أبی عقیل.

وکیف کان، فإن قلنا بمقالة الشهید الثانی والمحقّق فی «المعتبر» من التقارب، وأنّه لا تناقض بین هذه التقدیرات، لجواز اختلاف أفراد الدراهم من الضارب الواحد کما هو الواقع، وإخبار کلّ واحدٍ عن الفرد من الدرهم الذی رأه کما نقل الحلّی ماشاهده من الدراهم، ولم یبعد أن یکون ذلک من جهة اختلاف الکلّ فی سالف الزمان، کما نشاهد ذلک فی الفلوس القدیمة، فلازم ذلک الجزم بالعفو إذا کانت سعة الدّم بقدر الدرهم الوافی الذی هو الدرهم البغلی، ویتمّ المطلوب.

وأمّا إن لم نقل بذلک، وقلنا بوجود الاختلاف فی التقدیرات فی السعة والضیق، ولم نقل بکفایة ما قیل فی حقّ الدرهم، فالنتیجة هو حصول الشک فی مقدار المعفوّ، وحینئذٍ لا اشکال فی تحقّق العفو فی الأقل من الدرهم الذی کان متیقنا تخصیصه عن العمومات الدالة علی مانعیّة النجاسات عن الصلاة، ویبقی الکلام فی المقدار المشکوک من السعة، وأنّه هل یجوز التمسّک بالعمومات المانعة والحکم بعدم العفو کما علیه المحقق الهمدانی والآملی، بل کثیرٌ من أصحاب التعلیق، لأنّه بالاقتصار علی ذلک یحصل القطع بالبرائة، لأنّه القدر المتیقن من ما خالف الأصل والعمومات المستفاد من ادلّة وجوب ازالة النجاسة أو الدم، وبه قال صاحب «الریاض» تبعا لمن تقدم.

خلافا لصاحب «الجواهر» حیث قال إنّ المورد یعدّ من موارد الرجوع إلی الأصول العملیة لا الی العمومات أو المخصّص، لأنّ الرجوع إلی کلّ واحد منهما

ص:426

رجوع إلی العام فی الشبهة المصداقیة له، لأنّ الدرهم له فردان: فرد یعلم کونه معفوّاً فیه وهو ما کان أقلّ من الدرهم، وفردٌ آخر مشکوک وهو ما کان علی قدر درهم، لا یعلم قدر سعته، فلا یجوز التمسّک فیه بعموم العام ولا بعموم المخصّص، بل المرجع فیه الی الأصول العملیة، والشک هنا من قبیل الشک فی مانعیّة المانع فالأصل العدم، وهکذا فی موارد الشک فی الطهارة وعدمها من جریان استصحاب بقاء الثوب علی صحة الصلاة به، لأنّه کسائر أفراد الشبهات الموضوعیّة التی لا یجب ازالتها کما لو وجد علی ساتره رطوبة لا یعلم کونها من مأکول اللحم أو لا إلی آخر ما قاله رحمه الله .

أقول: الأقوی هو الوجه الأوّل، لأنّ الاجمال والتردّد لیس بین الفردین المتباینین حتی یقال بمقالته، بل الشک هنا ناشٍ من اجمال المخصص وتردّده بین الأقل والأکثر، فإنّ الشک بالنسبة الی ما زاد عن المتیقن یعدّ شکّا فی أصل التخصیص لا فی مصداق المخصص، والمرجع فیه عموم العام، لأنّا لا نسلّم کون العام فی هذه الصورة موصوفا بوصف نقیض الخاص حتّی یصیر الرجوع الیه من قبیل الرجوع الی العام فی الشبهة المصداقیة له، فألاوجه والأقوی هو الاجتناب عن الأفراد المشکوکة فی قدر الدم کما لا یخفی.

هذا کلّه البحث فی الدم غیر دماء الثلاثة ودم نجس العین فی البحث عن العفو فیه إذا کان أقل من قدر الدرهم الوافی.

حکم الدماء الثلاثة

حکم الدماء الثلاثة فی ثوب المصلّی

یدور البحث عن أنّه لو أصابت الدماء الثلاثة ثوب المصلّی أو بدنه هل یعفی إذا کان أقل من الدرهم أم لم لا؟

وقع الاختلاف بین الفقهاء فی حکم اصابة الدماء الثلاثة، فلابدّ أن نبحث عن کلّ واحد منها مستقلاً:

ص:427

الأوّل: هو دم الحیض، ولا اشکال ولا خلاف فی عدم کونه معفوّا عنه فی الصلاة، قلیله وکثیرة کما عن «السرائر»، بل الاجماع علیه کما نقل، بل هو محصّل کما فی «الجواهر» بقوله: «ولعلّه کذلک کما یشهد له التّتبع»، وهذا هو الحجّة لأنّ بقیة الأدلة التی استدلّ بها لا تخلو عن المناقشة کما سنشیر الیها إن شاء اللّه.

منها: التمسک بما ورد عن النبی صلی الله علیه و آله المرویّ فی کتب فروع الأصحاب دون أصولهم عن أسماء بنت أبی بکر، قالت: «سئل عن رسول اللّه صلی الله علیه و آله عن دم الحیض یکون فی الثوب؟ قال لها: حتتیه(1) ثمّ أقرضیة(2) ثمّ اغسلیه بالماء»(3) وفی ضبط آخر بطریق آخر، قال: «أقرصیه واغسلیه وصلّی فیه»(4).

ومنها: ما ورد فی خبر سورة بن کلیب، فی الحائض، قال: «سألت أبا عبداللّه علیه السلام عن المرأة الحائض أتغسل ثیابها التی لبستها فی طمثها؟ قال: تغسل ما أصاب ثیابها من الدم، الحدیث»(5).

ومنها: ما رواه الکلینی باسناده عن أبی (الحسین بن) سعید المکاری، عن أبی بصیر، عن أبی عبداللّه أو أبی جعفر علیهماالسلام ، قال: «لا تعاد الصلاة من دم لا تبصره غیر دم الحیض، فإنّ قلیله وکثیره فی الثوب إن رأه أو لم یره سواء»(6).

ورواه الشیخ باسناده عن محمد بن علی بن محبوب، عن محمد بن عیسی نحوه، إلاّ أنّه قال: «من دم لم تبصره».


1- حیتّه أی احکامه بالخیاطة.
2- واقرصیة هو عبارة عن دلک الخرطیة بالماء للتطهیر.
3- هذا کما فی سنن أبی داود، ج 1، ص 99.
4- فی سنن ابن ماجه، ج 1، ص 217.
5- وسائل الشیعة: الباب 28 من أبواب النجاسات، الحدیث 1.
6- وسائل الشیعة: الباب 21 من أبواب النجاسات، الحدیث 1.

ص:428

ومنها: خبر «فقه الرضا» قال: «وإن کان الدم حمّصة فلا بأس بأن لا تغسله، إلاّ أن یکون دم الحیض، فاغسل ثوبک منه ومن البول والمنی، قلّ أم کثر، وأعد منه صلاتک، علمت به أو لم تعلم»(1).

هذا مضافا الی العمومات الواردة فی لزوم التطهیر عن نجاسة الدم، الشاملة لدم الحیض حیث أوجبت الاجتناب إذا لم تشمل أدلة العفو عن أقلّ من الدرهم لدم الحیض، مضافا أیضا لقاعدة الشغل التی تقتضی البراءة الیقینة، وهی لا تحصل الاّ بالاجتناب عن دم الحیض، هذا کلّه مع قصور شمول أدلة العفو له لندرته، خصوصا مع اختصاص الخطاب فیها بالذکور. واحتمال اصابة ثیابهم من دم الحائض نادرٌ بالضرورة، وهو دلیل آخر فیه.

هذا مع أنّه لو سلّمنا شمول أدلة العفو لمثله، فیقع التعارض بین هذه ألادلة وأدلة وجوب الاجتناب قلیلاً وکثیرا، بناءا علی شمول القلیل للأقل من الدرهم، فتکون النسبة بینهما العموم من وجه، فالتعارض یقع فی الأقل من الدّرهم من دم الحیض من العفو وعدمه، فحینئذٍ یقدّم أدلّة وجوب الاجتناب لأجل الاجماع والشهرة بین الأصحاب، فیتمّ المطلوب.

هذا غایة ما استدلّ لعدم استثناء دم الحیض عن الأدلّة العامة الدالة علی وجوب الاجتناب عن الدم فی الصلاة.

أقول: قد نوقش فی هذه ألادلة کما عن المحقق الهمدانی، حیث قال: «وفیه: إنّ الأخبار الواردة فی دم الحیض لیست الاّ کغیرها من الأخبار الخاصّة الواردة فی بعض أنواع الدم کدم الرّعاف ونحوه، والأخبار الدّالة علی العفو عمّا دون الدرهم حاکمة علی مثل هذه الأخبار، لا یلاحظ بینها النسبة کما لا یخفی علی المتأمّل».

ونظیر ذلک فی الضعف: الاستدلال بعموم ما دلّ مع الاجتناب عن الدم أو مطلق


1- فقه الرضا، ص 95.

ص:429

النجس، بعد دعوی قصور الأخبار الدالة علی العفو عن شمول دم الحیض وأخویه، نظرا إلی أنّ المفروض فی موضوع تلک الأخبار هو الرجل الذی رأی بثوبه الدم، وفرض اصابة الدّماء الثلاثة إلی ثوب الرجل من الفروض النادرة التی ینصرف عنها اطلاقات الادلة.

وقاعدة مشارکة النساء مع الرجال فی الأحکام الشرعیّة، غیر مجدیّة فی المقام، فإنّها لا تقتضی إلاّ تعمیم الحکم المستفاد من الدلیل المتوجّه الی الرجال _ بالنسبة إلی النساء _ لا فرض کون النساء مخاطبته بهذا الکلام حتّی یکون فرضه کذلک مانعا من الانصراف عن مثل دم الحیض.

وقد یقال فی توجیه دعوی الانصراف: إنّ نجاسة دم الحیض _ علی ما هو المفروض فی الأذهن _ أغلظ من سائر الدماء، فینصرف عنه اطلاق أدلة العفو عن الدم.

توضیح الضعف: أمّا دعوی الانصراف من حیث ندرة الفرض، فیتوجّه علیها _ بعد الغض عن أنّ ذکر الرجل فی أسئلة السائلین وأجوبتهم فی مثل هذه الأخبار المسوقة لبیان الأحکام الشرعیة الکلّیة، إنّما هو من باب المثال، جریا مجری العادة فی مقام التعبیر، والمقصود به مطلق المکلّف _ أنّ فرض إصابة دم الحیض ونحوه الی ثوب الرجل، لیس بأبعد من فرض اصابة دم جملةٍ من الوحوش والطیور ودم العلقة ونحو ذلک، مع أنّه لم یتوهّم أحدٌ انصراف الأخبار عن مثل هذه الدماء، فلو فرض انصراف الأخبار عن دم الحیض، فلیس منشؤه ندرة الابتلاء بلا شبهة، بل لخصوصیةٍ أخری وإن لم یعلم بها تفصیلاً.

وأمّا ما قیل من أغلظیّة نجاسة دم الحیض: ففیه _ بعد تسلیم أنّ الأغلظیة توجب الانصراف _ أنّه لو لا عدم العفو عنه فی الصلاة، من أین علم أغلظیته من سائر الدماء من حیث النجاسة، وکون حدوثه موجبا للغُسل لا یقضی بأغلظیته من حیث النجاسة، ولعمری أنّ مثل هذه الدعاوی إنّما تنشأ بعد مسلمیّة المدّعی،

ص:430

وارادة توجیهه، وإلاّ فلو فرض کون العفو عن دم الحیض أیضا معروفا لدی الأصحاب، لم یکن یصغی أحدٌ إلی مثل هذه الدعاوی.

فظهر لک أنّ عهده مستند الحکم هو الاجماع وروایة أبی بصیر المتقدمة المعتضدة بالفقه الرضوی وفتاوی الأصحاب) انتهی رفع مقامه(1).

أقول: لقد أجاد فیما أفاد، کما وافقه فی هذه المناقشات المحقق الآملی رحمه الله فی «مصباح الهدی»، فجعلا الدلیل فی المسألة هو الاجماع وروایة أبی بصیر، وروایة «فقه الرضا» التی اشتملاً علی عنوان الحکم بلزوم الاعادة للصلاة فیه فی القلیل والکثیر فی الأولی ولزوم الغسل فیهما فی الثانیة، مع أنّ فی الحقیقة یرجع الدلیل الی خصوص الاجماع وفتاوی الأصحاب الجابرتان لضعف الحدیث، لأنّ مع ملاحظة حکومة أدلّة العفو علی سائر الأدلة، ومنها روایة أبی بصیر و«فقه الرضا» یقتضی امکان الجمع بینهما، بکون حکم وجوب الاعادة والغُسل للقلیل الأکثر عمّا دون الدرهم، لا لما هو أقلّ من الدرهم.

نعم، مع القول باطلاق کلّ من الدلیل الوارد فی العفو ودلیل القلیل الوارد فی الروایتین حتّی للأقل من الدرهم، یتحقّق التعارض والمرجع حینئذٍ إلی المرجّح، وهو لیس إلاّ ما دلّ علی عدم العفو مطلقا کما اشاروا الیه، فالمسألة واضحة لا تحتاج الی مزید بیان.

هذا کلّه حکم دم الحیض.

وأمّا دم النفاس والاستحاضة: فقد ادّعی «صاحب الجواهر» بلا خلاف عندنا فی الحاقهما بدم الحیض، کما نقل عن الشیخ فی «الخلاف» وابن زهرة فی «الغنیة»، والحلّی فی «السرائر» الاجماع، بل عن بعضٍ نسبته الی الأصحاب، ونسبه فی «الخلاف» الی أحمد، کما نسبه الیه «التذکرة»، المشعر بکونه متفقا علیه


1- مصباح الفقیه، ج 8، ص 86.

ص:431

عندهم، فهذا هو الحجّة، وإن استشکل فی «الحدائق» بأنّ المحقق فی «المعتبر النافع» نسب القول بالالحاق الی الشیخ، المشعر بعدم کون المسألة من المسلّمات، مع أنّ المنسوب الی الشیخ هو نقل الاجماع لا أصل المسألة.

وکیف کان، فقد وجّه المحقق وجها للالحاق، وهو کونه فی النجاسة أغلظ، لأنّه یوجب الغُسل، واختصاصه بهذه المزّیة یدلّ علی قوّة نجاسته علی باقی الدّماء فغلّظ حکمه فی الازالة.

ثمّ استشکل علیه الهمدانی: «بأنّه مجرّد اعتبار لا یصلح دلیلاً لاثبات حکم شرعی، اللّهمّ الاّ أن یکون المقصود أن اختصاصة بهذه المزیّة أوجب انصراف أخبار العفو عنه، ولکنک عرفت انّه لا یخلو عن نظر بل منعٍ) انتهی ما فی «مصباح الفقیه»(1).

بل ناقش صاحب «الحدائق» علی من تمسّک بما دلّ علی أنّ (دم النفاس حیضٌ احتبس) والی غلظ النجاسة فیه وفی الاستحاضة باعتبار حدیثتهما، بأنّه لا یخرج عن القیاس، وبناء الأحکام الشرعیّة علی مثل هذه التعلیلات العلیلة مجازفة محضة.

أقول: وفیه ما لا یخفی من امکان الاشکال والاعتراض علی کلا الأمرین بأنّ اغلظیّة دم الحیض ممّا یظهر من نفس بعض الأخبار، بأنّ الحیض مع کونه موجبا للحدث کالمنی، لکنّه أعظم منه وأغلظ، حیث أنّ المنی لا یکون داخلاً فیما یعفی عنه، فلا یبعد أن یکون دم الحیض أعظم منه بحسب ما ورد فی حدیث سعید بن یسار، قال: «قلت لأبی عبداللّه علیه السلام : المرأة تری الدم وهی جنب أتغسل عن الجنابة، أو غسل الجنابة والحیض واحد؟ فقال: قد أتاها ما هو أعظم من ذلک»(2). لأنّ اعظمیة حدثه لا تکون الاّ لأعظمیة سببه وهو الدم، فیکون هو أغلظ من سائر


1- مصباح الفقیه، ج 8، ص 88.
2- وسائل الشیعة: الباب 22 من أبواب الحیض، الحدیث 2.

ص:432

الدماء، فالحکم الشرعی اتّخذ من مضمون الحدیث لا من التعلیلات الحدسیّة والقیاس حتّی یقال إنّها مجازفة.

کما یمکن أن یقال فی جواب الاشکال الثانی: وهو کون دم النفاس حیضا مجرّد اعتبارٍ لا یصلح لاثبات الأحکام الشرعیّة علیه: بأنّه لیس الأمر کذلک، لما قد ورد ذلک فی الحدیث والمرویّ عن هیثم بن واقد، عن مقرن، عن أبی عبداللّه علیه السلام ، قال: «سأل سلمان رحمه الله علیّا علیه السلام عن رزق الولد فی بطن أمّه؟ فقال: إنّ اللّه تبارک وتعالی حبس علیه الحیضة فجعلها رزقه فی بطن أمّه»(1) فلا یبعد بناء علی نص هذا الحدیث، کون دم النفاس دم الحیض نفسه، فیترتّب علیه حکمه وهو عدم العفو عنه فی الصلاة الوارد فی حدیث أبی بصیر و«فقه الرضا» المعتضدتان بالاجماع والشهرة، بل یمکن منه استظهار حکم الاستحاضة أیضا بأنّه أیضا دم حیض الاّ انّه ینقسیر حکمه فی حال خفّته وتغیّر لونه وحاله من الحرارة الی البرودة، فیکون حکم حدثه من جهة الصلاة والصوم، بخلاف حکم ما لو تعلّق بنفس الدم من عدم کونه معفوا عنه، فلعلّه لذلک صحّ دعوی الاجماع وعدم الخلاف فی الحاقهما بدم الحیض کما فی «الجواهر».

هذا، لکن نلاحظ الخلاف فی دم النفاس والاستحاضة من صاحب «الحدائق» والآملی، حیث ذهبا الی أنّهما کسائر الدماء معفوا عنهما، أو التفصیل بینهما بالحاق دم النفاس إلی الحیض دون دم الاستحاضة، کما عن «مصباح الفقیه».

ولکن الانصاف أنّ قول المجمعین أو المشهور أقوی کما لا یخفی.

أقول: ثمّ علی فرض عدم تمامیة ما ذکرناه، وفرض قیام الشک فی کونه ممّا استثنی أم لا؟ یأتی البحث عن أنّه هل یلحق بسائر الدماء أو بدم الحیض أم لا؟

الأوجه حینئذٍ عدم الحاقهما بسائر الدماء، لأنّ للمرجع عند الشک فی


1- وسائل الشیعة: الباب 23، الحدیث 4.

ص:433

المخصص هو عموم العام علی ما هو المختار عندنا من عدم تلوّن العام بلون نقیض وصف الخاص، خلافا لصاحب «الجواهر» حیث أنّه قد خالفنا فی هذا المبنی، ولکن قال هنا فی ردّ کلام صاحب «الحدائق» من الالحاق بأنّ کلامه ضعیف جدّا، إذ لا أقل من الشک فی الشمول لما سمعت، فیبقی مادلّ علی الازالة لا معارض له، وهذا مخالف لمبناه من الرجوع الی العموم هو مختارنا.

اللّهمّ إلاّ أن یقال هنا: بأنّ مقتضی أصالة الاطلاق فی المخصّص الموجب شموله لهما مقدمٌ وحاکمٌ علی أصالة العموم فی العام، فنتمسّک بالمخصّص ونلحقه بسائر الدماء لا بعموم العام حتّی لا یلحق.

هذا کما علیه المحقّق الهمدانی والآملی، وکلامهما لا یخلو من وجاهة، واللّه العالم.

أقول: ولکن قد عرفت من خلال الاجماع القائم وما قرّرناه من الوجوه أنّه یزول الشک عنه ونحکم بعدم الالحاق بسائر الدماء، بل هما ملحقان بدم الحیض وهو المطلوب.

هذا کلّه فی الدماء الثلاثة من حیث عدم العفو فیها لصلاة.

حکم دم نجس العین

حکم دم نجس العین إذا أصاب الثوب

أقول: بقی هنا البحث عن حکم اصابة حکم ثلاثة دماء آخری.

الأوّل منها: دم نجس العین کالکلب والحنزیر والکافر والمیتة، هل هی ملحقة بدم الحیض فلا یکون معفوا أم لا؟ فیه قولان:

1. عدم العفو عنها کما علیه القطب الراوندی والشیخ فی الأوّلین کما عن المحقّق فی «المعتبر» نسبته الی البعض حیث قال: «وألحق بعض فقهاء قمّ دم الکلب والخنزیر» ولکنه لم یشیر الی الدلیل، ولعلّه نظر إلی ملاقاته لجسدهما ونجاسة جسدهما غیر معفوّ عنها، بل مطلق نجس العین حتّی یشمل الأخیرین من

ص:434

الکافر والمیتة، کما عن الفاضل فی «قواعده» وارشاده ومختلفه ومنتهاه، وعن الشهید فی «الدروس» و«البیان» و«المعالم» و«الریاض»، وظاهر «الروض» و«التنقیح» و«جامع المقاصد»، کما علیه السّید فی «العروة»، وکثیر من أصحاب التعلیق لو لا الکلّ وهو الأقوی.

2. العفو والیه ذهب جماعة أخری من الفقهاء، مثل الحلّی فی «السرائر» حیث قال بالعفو حتّی فی الکلب والخنزیر، فهو بعد نقل کلام الراوندی، قال: «وهذا خطأ وزلل عظیم فاحش، لأنّ هذا هَدْمٌ وخَرْقٌ لاجماع أصحابنا» انتهی کلامه.

وفی «الجواهر»: «بل لعلّه الأقوی فی النظر».

نعم، قد فصّل «مصباح الفقیه» بین الکلب والخنزیر بالحاقهما بدم الحیض،¨لا لأجل نجاستهما بنجس العین، بل لکونهما من أجزاء ما لا یؤکل لحمه، کما سیأتی إن شاء اللّه دون الکافر والمیتة، حیث أنّهما معفوّان کسائر الدماء إذا کان أقلّ من درهم.

أقول: علّة الاختلاف ترجع الی الخلاف فی أنّ الأحکام الصادرة من الشارع حول الطهارة والنجاسة، وجهة العفو وعدمه، هل صدرت بالنظر إلی ملاحظة الحیثیّات أم أنها احکام صادرة بصورة المطلق مرتبطة باضمحلال حیثیّة الحکم مثلاً إذا قیل إنّ الدم إذا کان أقلّ من الدرهم معفوّ، فهل أرید حکمه من حیث الدمیّة حتّی ینافی مع تعلّق حکم آخر علی الدم إذا کان له حیثیّته أخری مثل ما لو کان مع البول أو المنی، أو أنّ الحکم للدم بصورة المطلق من دون ملاحظة الحیثیّات معه؟ فربّما یظهر أثره فیما نحن فیه، لأنّه إن قلنا بمقالة الأولی یمکن أن یکون حکم الدم من جهة أنّه دم معفوّ عنه، إلاّ أنّه من حیث قد تنجّس وتأثر بتماسه مع نجس عین آخر یخرج عن الحکم الدم المخّتص به، فلازمه عدم کونه معفوا حینئذٍ، بخلاف ما لو قلنا بمقالة الثانی حیث أنّ حکم الدم یکون مطلقا بلحاظ

ص:435

جمیع أفراده الخارجیة، فیکون حکمه معفوا، بلا فرق بین کونه دم نجس العین أو غیره، وبین کونه دم ما لا یؤکل أو غیره، نعم إذا اختلط مع غیر جنس الدم مثل البول والمنی فیکون حکم عدم العفو فیه لأجل وجود البول والمنی فیه لا الدم المتأثر منهما.

وحیث أنّ الأقوی عندنا أنّ الأحکام المتعلّقة بالموضوعات تکون بلحاظ حیثیّتها المتعلقة، فلا ینافی کون ذلک الموضوع داخلاً فی حکمٍ آخر من حیثیة أخری، وخارجا عنها من جهة أخری، فلذلک قلنا بأن الدم بما أنّه دمٌ معفو عنه إذا کان أقل من الدرهم، لو لا انضمامه مع شیء آخر مثل تماسّه بنجس العین الذی لا یعفی عنه فی الصلاة، أو لو لا کونه ممّا لا یؤکل لحمه حیث لا یجوز معه الصلاة، فاستثناء مثل ذلک لا یکون استثناءً من حقیقة الدم، بل هو استثناءٌ لعروض عارض خارجی علیه، یکون له حکم بالخصوص، مما یوجب خروج الدم عن الحکم المخصّص وداخلاً تحت عموم ما لا عفوفیه مثل مطلق النجاسات.

ولا فرق فی ما هو المختار بین کون الأحکام قد تعلّقت بالموضوعات علی نحو القضیة الحقیقة ذوات الأفراد، أو بصورة القضیّة الطبیعیة کما قرّره المحقق الآملی رحمه الله ، خلافا للمحقق الهمدانی حیث ذهب إلی الأوّل ولذلک اختار قول صاحب «السرائر» من صدق العفو فی دم نجس العین من الکافر والمیتة دون الکلب والخنزیر، لا لأجل ذلک، بل لأجل کونهما ممّا لا یؤکل لحمهما کما سیأتی.

وبالجملة: ظهر ممّا ذکرنا أنّ الحقّ مع المشهور من عدم شمول العفو دم نجس العین سواءٌ کان کلبا أو خنزیرا أو کافرا أو میتةً، والمرجع فی حکمها الی عمومات حکم الدم ومطلق النجاسات.

حکم اصابة الثوب دم حیوان لا یؤکل لحمه

الثانی من الدماء: الذی وقع الخلاف فیه، هو دم ما لا یؤکل لحمه غیر الانسان.

ص:436

فإنّ ظاهر النصوص والفتاوی، وصریح کلمات جماعة من الأصحاب هو عدم الفرق فی الدم المعفوّ عنه بین کونه من الحیوان المأکول لحمه، أو ممّا لا یؤکل، خلافا للمحکی عن «کاشف الغطاء» وصاحب «العروة» وأکثر أصحاب التعلیق تبعا للمحقق الهمدانی والآملی.

دلیل القائلین بالعفو: استدلّوا باطلاق أدلة العفو الشامل لدم ما لا یؤکل إذا کان أقلّ من الدرهم، وبذلک یوجب تحقّق العفو الموجب لاضمحلال حیثیّة کونه ممّا لا یجوز فی أجزائه الصلاة ممّا لا یؤکل، فیؤخذ باطلاق الحکم ویعمّم لمثله ولو کان هذا الاطلاق حاصلاً من ترک الاستفصال، وإن کانت النسبة بین أدلة نجاسة فضلة ما لا یؤکل وعدم جواز الصلاة، وبین أدلة العفو عن دمه هی العموم من وجه، ولکن یقدم دلیل العفو والنصّ، لأجل فتاوی الأصحاب.

لکن قال صاحب «الجواهر» إنّه لو لا اضمحلال الحیثیّة بأدلة العفو لزم کون الحکم عبثا أو کالعبث، بخلاف ما لو کان ذلک من جهة الاطلاق الشامل لملزوم تلک الحیثیّة وغیره، ثمّ أیّد دلیل العفو بأنّ الأصحاب لم یستثنوا من الدم المعفوّ إلاّ الدماء الثلاثة کالمصنّف، أو هی مع دم نجس العین، ولذلک اختار صاحب «الجواهر» حکم العفو فی دم ما لا یوکل لحمه.

أقول: ما استدلّ به ممّا لا یخلو عن نقاش، لما قد عرفت أنّ حکم العفو عن الدم فی الأقل أمر حیثی لا ینافی مع حکم أمرٍ عارضی علی الدم یوجب خروجه عن العفو، وهو کونه فضلة ما لا یؤکل لحمه، وذلک لما ورد فی موثقة ابن بکیر الذی أجمع الأصحاب علی تصحیح ما یصحّ عنه، قال: «سأل زرارة أبا عبداللّه علیه السلام عن الصلاة فی الثعالب والفنک والسنجاب وغیره من الوبر؟ فأخرج کتابا زعم أنّه املاء رسول اللّه صلی الله علیه و آله : إنّ الصلاة فی وبر کلّ شیءٍ حرام أکله فالصلاة فی وبره وشعره وجلده وبوله وروثه وکلّ شیء منه فاسد، لا تقبل تلک الصلاة حتّی یصلّی فی

ص:437

غیره ممّا أحلّ اللّه أکله، ثمّ قال: یا زرارة، هذا عن رسول اللّه صلی الله علیه و آله فاحفظ ذلک یا زرارة فإن کان ممّا یؤکل لحمه فالصلاة فی وبره وبوله وشعره وروثه وألبانه وکلّ شیء منه جائز، إذا علمت أنّه ذکّی وقد ذکّاه الذبح، وإن کان غیر ذلک ممّا قد نهیت عن أکله، وحرم علیک أکله، فالصلاة فی کلّ شیء منه فاسد ذکّاه الذبح أو لم یذکّه»(1).

فإنّ قوله: «وکلّ شیء منه» یشمل حتّی مثل الدم، سواءٌ کان أقلّ من الدرهم أو أکثر، إذ هو أیضا من فضلات ما لا یؤکل لحمه، ولا ینافی حکم عدم جواز الصلاة مع دلیل العفو فی الأقلّ من الدرهم، لیکون بذلک خارجاً عن حکم الدم، فیکون حکمه حکم الدّم الذی قد عرضه نجس آخر ممّا یعفی عنه، فعدم العفو فیه لا ینافی مع حکم العفو فی الأقل منه کما لا یخفی.

مضافا الی امکان تأیید عدم العفو فی مثل هذا الدم، استبعاد فهم العرف من عدم العفو فی فضلات ما لا یؤکل الطاهرة مثل الوبر والشعر، والعفو فی الدم النجس ممّا لا یؤکل، هذا.

ولکن العمدة ما فی الاستدلال هو شمول قوله: «کلّ شیء منه» لمثل هذا الدم منه أیضا.

مناقشة: اخراج مثل الدم عن (کلّ شیء) بدعوی عدم ظهوره فی العموم، بناءً علی أن سیاق الروایة هو الأشیاء التی تکون المنع من الصلاة فیها ناشئا من حرمة الأکل، بحیث لو کان محلّل الأکل لکانت الصلاة فیها جائزة، فمثل الدم والمنی خارجان ممّا أرید بهذا العام، هذا کما عن المحقق الهمدانی.

والجواب: ما ورد فیها ممّا لا یمکن قبوله:

أوّلاً: انّه مخالف لعموم الاستغراقی الموجود فی (کلّ شیء) حیث یشمل تمام


1- وسائل الشیعة: الباب 2 من أبواب لباس المصلّی، الحدیث1.

ص:438

اجزائه من النجسة والطاهر.

وثانیا: علی فرض رفع الید عمّا ذکرنا، فإنّ ما ذکره صحیح لو لم یکن ممّا ذکر قبله وبعده من الأجزاء النجسة، لکن المذکور فیهما مثل البول والروث یعدّان من الاجزاء النجسة فی ما لا یؤکل، فبذلک یظهر أنّه یصلح أن تکون قرینة علی أنّ المراد من (کلّ شیء) جمیع الأجزاء من النجسة والطاهرة کما لا یخفی.

وأمّا ما قیل: من أنّ النسبة بینهما بالعموم من وجه، والحکم بتقدیم جانب العفو لأجل قیام المرجّح وهو اطلاق فتاوی الأصحاب واطلاق عموم العفو الشامل للمورد باعتبار ترک الاستفصال، المانع عن التعارض والتساقط الموجب للرجوع إلی الأصول العملیّة لو لا الأدلة العامّة الدالة علی لزوم الاجتناب عن مطلق الدم والنجاسات الموجودة فی المقام.

فالجواب: أنّ دلالة (کلّ شیء) علی الاستغراق الموجب لدخول الدم فیما یفسد الصلاة بوجوده، سواءٌ کان أقلّ من الدرهم أو أزید، دلالة لغویّة وضعیّة، بخلاف اطلاق فتاوی الأصحاب، بل واطلاق دلیل العفو الشامل حتّی لدم ما لا یؤکل، فان شمولهما یکون بمقتضی مقدّمات الحکمة وحکم العقلاء، ولا اشکال عند التعارض بین عموم الوضع والاطلاق المقامی من تقدیم الأوّل علی الثانی، فتکون النتیجة هنا هو عدم العفو فی دم ما لا یؤکل کلّ لحمه مطلقا، سواءٌ کان أقلّ من الدرهم أو أزید، کما هو الأقوی عندنا، واللّه العالم.

احکام بعض الدماء

حکم اصابة الثوب دم غیر اللابس

الدم الثالث: دم غیر المأکول من الانسان، فلو أصاب ثوب المصلّی دم انسان آخر، فهل هو ملحق بدم الحیض من عدم العفو عنه أصلاً، أو ملحق بدم لابس الثوب نفسه فیکون معفوّاً عنه فی الأقلّ من الدرهم؟ فیه خلاف: ذهب إلی الأوّل

ص:439

الأمین الاسترآبادی، ووافقه صاحب «الحدائق» وقال: «ولم أر من نبّه علی هذا الکلام الاّ الأمین الاسترآبادی».

وقد استدلّ بما رواه الکلینی فی «الکافی» عن علی بن إبراهیم، عن أحمد بن أبی عبداللّه، عن أبیه، رفعه عن أبی عبداللّه علیه السلام ، قال: «قال: دمک أنظف من دم غیرک، إذا کان فی ثوبک شبه النضح من دمک فلا بأس، وإن کان دم غیرک قلیلاً أو کثیرا فاغسله»(1).

وروایة «فقه الرضا» الذی جاء فیها: «وأروی أنّ دمک لیس مثل دم غیرک»(2).

فإنّه یستفاد منه أن (دم الغیر) مثل دم الحیض إذا عمّمنا القلیل حتّی یشمل الأقلّ من الدرهم حتّی یغایر حکمه مع حکم دم نفسه، وإلاّ لو خصّص بذلک لصار دم الغیر کدم نفسه.

أقول: هذا إنّما یصحّ الاستدلال به لو أرید من دم الغیر دم الانسان غیر نفسه، لا مثل غیر الانسان من المأکول وغیره، والاّ یصیر حکما عامّا فیمکن تخصیصه بالأخبار السابقة الواردة فی حکم دم غیر المأکول من الحیوان، فیکون الحکم فی دم الغیر بحسب الأخبار متفاوتا بین کون الأقل من الدرهم فمعفّوا إن کان من مأکول اللحم، وعدم العفو مطلقا إن کان من غیر المأکول غیر الانسان، وفی الانسان یکون حکم دمه حکم دم نفسه، وإن کان دم نفسه أنظف عند العرف من دم غیره من أفراد البشر، حیث أنّ الانسان لا یتنفّر من دمه کما یتنفّر من دم غیره من أفراد البشر، وعلیه فلا علاقة لهذا الخبر بما نبحث عن حکمه، بل فی مقام الاشارة الی حالة عرفیة.

وأمّا اذا کان المراد من (غیرک) دم الجروح والقروح منه، حیث قد عرفت الکلام فی دم الجروح والقروح، وأنّه فی نفسه معفوٌ من جسمه لا من غیره، إلاّ أن


1- وسائل الشیعة: الباب 21 من أبواب النجاسات، الحدیث 2.
2- بحارالأنوار، ج 18، ص 21.

ص:440

یکون أقلّ من الدرهم فهو معفو منه أیضا.

أو حمل علی أن المراد منه ما کان علی قدر الدرهم أو أزید من دم الانسان غیر نفسه.

هذا، لو لم نقل بأن الخبر مطروح بواسطة اعراض الأصحاب عنه، وضعفه بالارسال والرفع، حیث لا یقاوم التعارض مع ما یدلّ علی العفو إذا کان أقلّ من الدرهم ولو من دم نفسه، کما لا یخفی.

هذا تمام الکلام فی الدم بأقسامه من المعفو وغیره، وأمّا غیر الدم من سائر النجاسات أو المتنجس بسبب سائر النجاسات غیر الدّم، فلا یلحق بالدم فی العفو فی الأقل من الدرهم، بل یجب ازالة قلیلها وکثیرها، استناداً الی دلالة الادلة العامّة الدالة علی ذلک، السالمة عن المعارض، والمسألة فیها واضحة ولا حاجة للبحث عنها.

فروع تتعلق بأحکام الدماء

أقول: تعرّض صاحب «الجواهر» لعدة فروع، یقتضی المقام ذکرها:

الفرع الأوّل: فی انّه بعد ما عرفت العفو عمّا دون الدرهم من الدم، هل یجری الحکم المذکور فی المایع المتنجس به أم لا؟ وحیث أنّ ذلک مشتملٌ علی صور متعدّدة لابدّ أن نتعرض لکلّ واحد منها مستقلاً، فنقول ومن اللّه الاستعانة:

الصورة الأولی: ما إذا وصلت الرطوبة الی الدم الأقل من الدرهم من دون انفصال، ولم یتجاوز عنه إلی الاطراف، ولم یکن المجموع مع الرطوبة أزید من الدرهم، بل کان أقلّ منه ولم یتجاوز المحلّ، فالظاهر بقاء العفو فیه کما عن السّید فی «العروة»، وأکثر أصحاب التعلیق، ولعلّه المراد عمّا ذکره صاحب «الجواهر» بقوله: «قد یقوی الحاقه به کما عن «النهایة» احتماله، بل عن «المعالم» اختیاره مستدلاً بالأولویة المستفادة من عدم زیادة الفرع علی الأصل، ولأنّ معنی نجاسة

ص:441

المتنجس بالملاقاة انتقال أحکام النجس الیه لا غیرها، ولمناسبة التخفیف المقتضی لمشروعیة الأصل، وللشک فی تناول الازالة لمثله مع عدم مانعیّة ما شکّ فی مانعیته» انتهی کلامه.

أقول: ظاهر اطلاق کلامه یقتضی کون العفو فی هذا الصورة مطلقا، بلا فرق بین کون الرطوبة مستهلکة فی الدم أو غیرها. وقیل بأنّ العفو فی الأولی واضح، لأنّ الفعو فی الثانیة لا یخلو عن اشکال، لأنّ الرطوبة الغیر المستهلکة نجسة بملاقاتها مع الدم، فالصلاة معها صلاة فی الرطوبة المتنجسة، وإن لم یتجنس بها الثوب.

اللّهمّ إلاّ أن یقال بعدم البأس بالتصاق النجاسة بالثوب أو البدن إن لم تکن موجبة لتأثرهما بها، لأنّ ما ثبت بالدلیل هو شرطیة الازالة عن الثوب والبدن لا مطلقا، ولو مع عدم تنجّس الثوب أو البدن بها، ولا فرق فی العفو فی هذه بین کون المتنجس بالدم قبل اصابة الثوب مثلاً أو بعده.

ولعلّ وجه العفو فی الأولی، لأجل عدم تحقّق شیءٍ زائد عن التنجس بواسطة الدم المعفوّ، لأنّ الرطوبة الواقعة قد زالت بالجفاف والاستهلاک، فلم یبق منها شیءٌ تجب ازالته، اللّهمّ إلاّ أن یجعل حکم العفو متعلقا بنفس الدم مجرّدا من شیء آخر، فإذا وقعت الرطوبة علیه ولو مستهلکا فلیس هذا الدم موردا للعفو، فیشمله أدلة وجوب الازالة، لکن اثبات ذلک من الأدلة لا یخلو عن تکلّف، فهذه الصورة هو القدر المتیقن من العفو إن أرید الالتزام به، وإن ظاهر اطلاق کلام بعض من الفقهاء مثل «المنتهی» و«البیان» و«الحدائق» هو المنع عن هذه الصورة، حیث تمسّکوا بأدلة وجوب الازالة بمقتضی الأصل، ولعلّ المراد منه اصالة الاشتغال، حیث لا نقطع بحصول البراءة عند عدم لزوم ثبوت ما فی الأصل فی الفرع، والاستناد الی المشقة المستندة إلی کثرة الوقوع المنتفیة فیما نحن فیه، ولذلک لم یفصّلوا فی حکم المسألة بین صورة الاستهلاک وعدمه.

ص:442

نعم اجراء ما ذکروه فی المنع فی صورة عدم الاستهلاک یعدّ أوضح کما عرفت وجهه آنفا.

ولکن الذی یظهر من فتوی أکثر الفقهاء ومنهم السّید قبول العفو فیه بصورة الاطلاق، لعدم وضوح شمول أدلّة وجوب الازالة لمثله، مع کون الأصل فی الشک فی المانعیة هو عدمها، وعلیه فالقول بالعفو فی صورة عدم الاستهلاک لا یخلو عن وجه، وإن کان الاحتیاط فی الاجتناب عنه لا ینبغی ترکه.

الصورة الثانیة: هی الصورة الأولی بعینها، لکن مع تعدّی الرطوبة عن الدم الی اطراف محلّه، وتلوث الاطراف، بشرط أن لا یصیر المجموع من الدم والرطوبة بقدر الدرهم.

قد یقال بأن الخلاف المذکور فی الصورة الأولی جارٍ وثابت فی هذه الصورة أیضاً، فعن «الذکری» و«الروض» و«المعالم» و«المدارک» الحاقها بالدم فی العفو عنها، وعن «المنتهی» و«البیان» و«الذخیرة» عدم العفو عنها.

فکأنّهم استدلّوا للعفو فیها بعدم زیادة حکم الفرع علی الأصل، فإذا حکم بالعفو عنه مع أنّ نجاسته ذاتیة، فالعفو عمّا تنجّس به یکون أولی، هذا مضافا إلی الشک فی تناول الادلّة لمثله مع مناسبة العفو عنه مع التخفیف الذی علیه بناء الشریعة.

أقول: جمیع ما ذکر ممّا لا یقبله الذوق، لوضوح أنّ ذکر عدم زیادة حکم الفروع علی الأصل لیس إلاّ مجرّد استحسانٍ لا ینبغی لنا بناء الأحکام الشرعیة علیه، کما أنّ الشک فی تناول ألادلّة لمثله أیضا ممنوع، بعد قیام الادلة بعمومها أو باطلاقها علی وجوب الازالة، إلاّ فیما ثبت العفو فیه، والمفروض عدم ثبوت العفو فی المتنجس بها.

وأمّا مناسبة التخفیف لبناء الأحکام، فإنّما ینفع لبیان مقام الثبوت من الجاعل الشارع لا فی مقام الاثبات والحکم، نظیر ملاحظة الحرج النوعی، فإنّه أیضا

ص:443

یکون من حقّ الجاعل فی مقام الثبوت لا فی مقام الاثبات ورفع الأحکام.

الصورة الثالثة: ما إذا وصلت الرطوبة إلی الدم وتعدّت عنه من دون انفصال، وصار المجموع بقدر الدرهم أو أزید، فالأقوی عدم العفو فیها، لأنّ هذه الرطوبة: أمّا غیر معفوّ عنها وإن کانت دون الدرهم، وإمّا انّها بحکم الدم فی عدم العفو عنها فیما إذا کان بقدر الدرهم أو أزید، إذ المدار فی العفو وعدمه لیس خصوص الدم، بل هو مع الرطوبة، فإن کانت أقلّ من الدرهم فهو معفو وإلاّ فغیر معفو.

أقول: الظاهر عدم الخلاف فی عدم العفو فی هذه الصورة، إلاّ ما یستفاد من اطلاق کلام الشهید فی «الذکری» حیث قال: «وإن أصابه مائع طاهر فالعفو قوی، لأنّ المتنجس بشیءٍ لا یزید علیه» انتهی.

والاشکال فیه واضح، إذ المتنجس بالدم یصیر حکمه حکم الدم، فلابدّ أن یعتبر فیه ما یعتبر فی الدم فی المقدار من حیث العفو وعدمه، مضافا إلی وجود أصالة الاشتغال، فضلاً عن قیام ألادلة بوجوب الاجتناب عن النجس المشتمل للمتنجس أیضا کما لا یخفی.

الصورة الرابعة: ما إذا وصلت الرطوبة بالدم ولکن انفصلت وأصابت موضعا آخر من الثوب أو البدن، فإنّه ممّا لا اشکال فی عدم العفو مطلقا، أی سواءٌ کان مقدارها مع الدم أقلّ من الدرهم أم لا ولو قلنا بالعفو عن المتفرقات إذا کان مجموعها علی تقدیر الاجتماع أقلّ من الدرهم، وذلک لاستقلال الرطوبة المتنجس عن حکم نفس الدم، وهو مبطلٌ وغیر معفوّ وإن کان الدم لو کان منفردا ومجرّدا لکان معفوا لکونه أقلّ من الدرهم، واللّه العالم.

الفرع الثانی: بعد ما ثبت أنّ الدم إذا کان أقلّ من الدرهم، أو من دم الجروح والقروح معفوّ إذا کان فی ثوب المصلّی وبدنه، بل وکذا فی المتنجس بشرائطه التی

ص:444

مر ذکرها، یقع البحث عن أنّه هل یجری العفو فی المحمول النجس والمتنجس من الدم مع المصلّی أم لا؟ فیه احتمالان بل قد یبنی فیه العفو وعدمه علی تارة علی صورة کون بل قولان: قول بممنوعیة حمل النجاسة للمصلّی وأخری بأنّه غیر ممنوع.

فعلی الأوّل: یحتمل المنع باعتبار أن الدلیل الدال علی العفو ثابت لخصوص ثوب المصلّی وبدنه، لا ما کان خارجا عنهما من المحمول المتنجس، وحینئذٍ المرجع عموم ما دلّ علی لزوم الاجتناب عن کلّ نجس أو متنجس ولو محمولاً، وهذا هو الوجه لعدم العفو، لکن من جهة أخری ثبت أنّ الدم إذا کان أقل من الدرهم فقد عفی عنه فی المصلّی ثوبا وبدنا مع التصاقه بالمصلّی، فشمول دلیل العفو لصورة المحمول إمّا یکون مساویا له أو بالاولویة، ولأجل ذلک قوّی صاحب «الجواهر» هذا الأخیر، بخلاف العلاّمة فی «المنتهی» و«النهایة» من الاشکال فیه، الظاهر فی التوقف.

أقول: الذی یظهر لنا هو المنع، لأجل ما عرفت أنّه علی المنع فی المحمول المتنجس، فإنّ تجویزه یحتاج الی دلیل خاص، فشمول أدلة العفو للمورد لا یخلو عن تأمّل.

اللّهمّ إلاّ أن یقال: إنّ ظهور المنع عنه ولزوم الاجتناب عنه کان لأجل الصلاة، فإذا ارتفع المنع بالنسبة الی المقدار المذکور، فلا فرق فی عدم مانعیته بین کونه ملتصقا بالمصلّی أو منفصلاً عنه وواقعا علیه وحاملاً له، وکیف کان، فالاحتیاط بالاجتناب لا ینبغی ترکه.

هذا کلّه مبنیّا علی صورة القول بالمنع فی المحمول المتنجس.

وامّا علی القول بالجواز، فجوازه ممّا لا ریب فیه ولو کان أزید ممّا قد عفی عنه بأن کان کثیرا.

ص:445

ومنه یظهر حکم ما اذا کان الدم فی المحمول دم جروح وقروح من الاشکال وعدمه، لاشتراکهما فی المنع وعدمه، والعفو وعدمه، لکن بشرط أن یکون الدم لذی القروح و الجروح لا لغیره.

الفرع الثالث: فی أنّه اذا أصاب الدم الأقل من الدرهم جانبا من الثوب وتفشی إلی جانب آخر، فهل یعدّان دماً واحداً فیعفی عنه، أو دمین إذا کانا معا أزید من الدرهم أو بلغ إلی الدرهم؟

قد یقال بالأوّل مطلقا، لانّ الحاصل من افتراقهما یعدّ عند العرف دماً واحداً، سواءٌ کان فی الثوب الصفیق أو غیره، هذا کما علیه السیّد والمحقق الثانی، بل عن «المنتهی» أیضا وإن فرضه فی الصفیق، خلافا للذکری و«البیان» من أنّه اثنان فی الصیفیق، فیصیر القول فیه اثنان.

والأوجه کما علیه صاحب «الجواهر» مراعاة نظر العرف، وإن کان الأقرب صدق الوحدة علیه، خصوصا إذا کان الثوب صفیقا.

نعم، إن لم یکن انتشاره بالتفشّی، بل قد أصاب جانبیه بالدم اتّجه التعدد حینئذٍ، وان کان الثوب صفیقا، کما صرّح به العلاّمة فی «المنتهی»، وإن کان غیر العالم بالحال یحکم باتحادهما.

ثمّ علی فرض التعدد، یتّضح حکم التقدیر من لزوم ملاحظة المجموع من الطرفین فی البلوغ وعدمه، وأمّا علی صورة الوحدة، فهل یعتبر فی التقدیر ملاحظة أوسع الجهتین أم لا؟ ففی «الجواهر» قال: «فی الأوّل علی تأمّل» مع أنّ الظاهر کون الأمر کذلک فی التقدیر، لأنّ الاعتبار فی صدق السعة وعدمها، فاذا کانت فی جهةٍ وبلغت النصاب فلا یُعفی، وإلاّ لکان معفوا کما لا یخفی.

ص:446

وإن کان متفرّقا، قیل: هو عفو، وقیل: تجب ازالته، وقیل: لا تجب إلاّ أن یتفاحش، والأوّل أظهر (1)

(1) ثبت من خلال ما ذکرنا حکم الدم إذا کان مجتمعا فی محلّ واحد من الثوب أو بدن المصلّی، من العفو فی الأقلّ من الدرهم، وعدم العفو فیما لو بلغ الدرهم أو أزید، فالآن نشرع فیما إذا کان متفرّقا، فهو:

تارة: یکون علی نحو لو کان مجتمعا لکان أقلّ من الدرهم، والظاهر أنّه لا خلاف ولا اشکال فی العفو، کما أشار الیه صاحب «الجواهر»، لمساواته مع المجتمع فیه، لو لم نقل کونه أولی، مضافا الی اطلاق ألادلّة الشامل لصورة التفرّق، کما یدلّ علیه خبر النقط الذی سنشیر الیه، وعلیه فما یوهمه ظاهر عبارة «الروض» من وجود الاختلاف فیه لیس علی ما ینبغی.

أخری: وهو الذی وقع الخلاف فیه، وهو ما لو کان المتفرّق علی نحوٍ لو اجتمع لصار وبلغ الی حدّ الدرهم أو أزید، فهل:

1. حکمه العفو لعدم بلوغ کلّ واحد من النقط الی النصاب، وإن بلغه مع الاجتماع کما علیه الشیخ فی «المبسوط» والحلّی فی «السرائر» و«النافع» و«المدارک» و«الحدائق» و«الذخیرة» و«التلخیص» و«الکفایة» والأردبیلی وابن سعید، والمحقّق فی «الشرائع»، بل فی «الذکری» أنّه المشهور، وإن قال صاحب «الجواهر» بأنّی لم اتحقّقه، وعلیه المحقق الهمدانی أیضا، فهذا هو القول الأوّل.

2. وقیل تجب ازالته ولا عفو فیه، کما عن «المراسم» و«الوسیلة» و«المنتهی» و«المختلف» و«القواعد» و«کشف» الاستاد، و«البیان» و«الذکری» و«التنقیح» و«جامع المقاصد» و«الروض» و«الروضة» و«اللّوامع» و«التحریر» و«نهایة الأحکام» و«التذکرة» و«حاشیة الشرایع» و«کشف الالتباس» ناسبا له إلی الشهرة

ص:447

فی الأخیر، أمّا فی «الروض» وغیره الی أکثر المتأخرین، کما هو کذلک کما عن صاحب «الجواهر» و«العروة» وأکثر أصحاب التعلیق، لو لم یکن الکلّ، فهذا هو القول الثانی.

3. وقیل لا تجب الاّ مع التفاحش، وهو کما اختاره الشیخ فی ظاهر «النهایة» أو صریحها کالمصنّف فی «المعتبر» فهذا هو القول الثالث.

دلیل القول الأوّل: استدلّ القائلون بالعفو:

1. بمرسل جمیل، فی قوله: «لا بأس بأن یصلّی الرجل فی الثوب فیه الدم متفرقا شبه النضح، وإن کان قد رأه صاحبه قبل ذلک فلا بأس، ما لم یکن مجتمعا قدر الدرهم»(1) حیث أنّه باطلاقه یشمل کلّ دم أصاب الثوب، سواءٌ بلغ قدر الدرهم أو أزید أو أنقص منه إذا لم یکن مجتمعا، والاّ ففیه بأس إذا کان قدر الدرهم وأزید، وهو المطلوب.

2. وبصحیح ابن أبی یعفور، قال: «قلت لأبی عبداللّه علیه السلام : الرجل یکون فی ثوبه نقط الدم لا یعلم به، ثمّ یعلم فینسی أن یغسله فیصلّی، ثمّ یذکر بعد ما صلّی، أیعید صلاته؟ قال: یغسله ولا یعید صلاته إلاّ أن یکون مقدار الدرهم مجتمعا فیغسله ویعید الصلاة»(2).

بناءً علی أنّ کلمة (مجتمعا) خبر بعد خبر، فالأوّل منهما مقدار الدرهم، والثانی مجتمعا، وکلاهما خبران لیکون، فحینئذٍ یفید أنّ عدم العفو ثابت حین الاجتماع لا مع التفرق کما هو المراد هنا، فیکون الکلام فی هذه الصورة نظیر ما لو قیل: «الرّمان حلوٌ حامضٌ» هذا.

ولکن أجیب عن الاستدلال بالروایة الأولی: بامکان کون (المجتمع) حالاً


1- وسائل الشیعة: الباب 20 من أبواب النجاسات، الحدیث 4.
2- وسائل الشیعة: الباب 20 من أبواب النجاسات، الحدیث 1.

ص:448

للاسم المقدّر الذی یعود إلی النقط فی الدم، فیکون المعنی هکذا: إلاّ أن یکون هذا الدم مقدار درهم فی حال اجتماعه، یعنی إذا فرض انضمام بعضه الی بعض فإنْ بلغ قدر درهم أو أزید فلا عفو، وإلاّ فمعفوّ عنه، وهکذا القول فی لفظ (مجتمعا) فی صحیح ابن أبی یعفور.

ربّما یناقش فیه: إنّه یلزم اختصاص دلالته لخصوص المتفرّق المقدّر فیه الاجتماع دون المجتمع فعلاً، مع أنّه مخالفٌ للظاهر.

فأجیب أوّلاً: بامکان الالتزام بذلک من جهة وجود التناسب بین السؤال والجواب، لأنّ الراوی سئل عن نقط الدم، فأجابه بخصوصه، کذلک یمکن استفادة حکم المجتمع من سائر الاطلاقات.

وثانیا: یمکن المنع عن توهّم اختصاصه لأجل أنّه یمکن فهم صورة الاجتماع أیضا بمفهوم الموافقة، یعنی إذا کان التفرّق مع بلوغ الدم حدّ النصاب موجبا لعدم العفو، ففی الاجتماع یکون العفو بطریق أولی، فهو یکفی لصیرورته دلیلاً لکلتا الصورتین.

وثالثا: لو کان المراد من الجواب بیان حکم العفو فی صورة الاجتماع لصار الجواب أجنبیّاً عن السؤال، لأنّه أراد من السؤال معرفة حکم الدم التفرق من العفو وعدمه، فجوابه علیه السلام المذکور یصیر أجنبیّاً مورد السؤال، هذا بخلاف ما لو قیل بمقالتنا فإنّ الجواب یناسب مع السؤال فی بیان طرفی الحکم من العفو وعدمه، من المنطوق والمفهوم، وهو یناسبه مع الحالیة لا مع الخبریة، لأنّه یوجب وقوعه بعد الخبر علی نحو انقطاع المستثنی، لما عرفت من عدم موافقة الجواب للسؤال.

فمع سقوط دلالة الخبرین یلحقان بالأخبار المطلقة الدالة علی عدم العفو، فیما إذا بلغ قدر درهم أو أزید، سواءٌ کان متفرّقا أو مجتمعا، ومن هذه المطلقات:

1. خبر الجعفی، قال: «إن کان أقلّ من قدر الدرهم فلا یعید الصلاة، وان کان

ص:449

أکثر من قدر الدرهم، وکان رأه فلم یغسل حتّی صلّی، فلیعد صلاته»(1).

2. وخبر محمّد بن مسلم فی حدیثٍ: «ولا اعادة علیک ما لم یزد علی مقدار الدرهم، وما کان أقلّ من ذلک فلیس بشیء وإذا کنت قدر رأیته وهو أکثر من مقدار الدرهم فنسیت غسله وصلّیت فیه صلاة کثیرة، فأعد ما صلّیت فیه»(2) وغیر ذلک ممّا یدلّ علیه.

مضافا إلی دلیل أصالة وجوب ازالة النجاسة بالنحو المطلق، الشامل لغیر صورة الأقلّ من الدرهم، هذا فضلاً عن جریان قاعدة الاشتغال، فهی تحکم بذلک کما لا یخفی، وعلیه فلا وجه حینئذٍ لاحتمال العفو فیه مطلقا، إلاّ بناءً علی دلالة الخبرین علی ما ادّعوه وجعلهما مقیدا للاطلاقات علی الاحتمال الذی ذکروه فی کلمة (مجتمعا)، ولذلک قلنا فی حاشیتنا علی «العروة» و«التحریر» مطابقا لنظر السّید أنّه یلزم الاحتیاط فی الاجتناب عنه.

أمّا القول الثالث: فقد تبیّن ممّا ذکرنا عدم تمامیّة القول الثالث وهو تقیّد العفو فی المتفرّق بما إذا لم یتفاحش، لادّعائهم أنّه یستبعد العفو فیما اذا کان الدم متفرقاً علی نحو کان مستغرقاً لتمام الثوب، إذا فرض نقصان کلّ نقطة من الدم عن مقدار الدرهم، والالتزام بالبطلان إذا کان قدر درهم مجتمعا، فلذلک اضطرّوا اضافة قید ما لم یتفاحش.

وفیه: أنّه ممّا لا دلیل علیه، کما اعترف به غیر واحد، عدا المرسل المحکی فی «البحار» عن «دعائم الاسلام» عن الباقر والصادق علیهماالسلام أنّهما قالا: «فی الدّم یصیب الثوب یُغسل کما تغسل النجاسات، ورخّصا فی النضح الیسیر منه ومن سائر النجاسات مثل دم البراغیث وأشباهه، قال: فإذا تفاحش غسل»(3)، لمّا


1- وسائل الشیعة: الباب 20 من أبواب النجاسات، الحدیث 2.
2- المصدر السابق، الحدیث 6.
3- المستدرک، ج 1، الباب 15 من أبواب النجاسات، الحدیث 2.

ص:450

ویجوز الصلاة فی ما لا تتمّ الصلاة فیه منفردا، وإن کان فیه نجاسة لم یعف عنها فی غیره (1)

عرفت من تمامیة دلالة الاطلاقات، وعدم ما یدلّ علی التقید به جزما، إذ غایته أنّ احتمال کلا الأمرین فی کلمة (مجتمعا) یوجب الاجمال فی الدلیل، فمع التساقط أو عدم الاعتبار المرجع الی العمومات الدالة علی المنع فی تمام النجاسات، مضافا الی ضعف الخبر وعدم وجود الاعتبار فیه. الصلاة فیما لاتتم الصلاة فیه

هذا مضافا الی الاجمال فی لفظ التفاحش أیضا، حیث لا یُعرف مراده. قال صاحب «المعتبر» أنّه: «اختلف فیه قول الفقهاء یعنی من العامّة فبعضٌ قدّره بالشبر، وبعضٌ بما یفحش فی القلب، وقدّره أبو حنیفة بربع الثوب، والوجه فی المرجع فیه إلی العادة» فمع وجود هذا الاختلاف کیف یمکن قبول هذا القول.

ثمّ بعد ما عرفت کون الملاک فی العفو وعدمه هو الأقل من الدرهم أو غیره، فإنّه لا فرق فیما ذکرنا بین کون الدم متفرّقا أو مجتمعا، کما لا فرق فیه کون الدم فی الثوب الواحد أو فی الثیاب المتعددّة، أو فی الثوب والبدن، لأنّ الملاک بحسب لسان الأخبار هو ملاحظة الدم بالنسبة الی المصلّی بذلک المقدار، لا ملاحظة کلّ واحدٍ من الثوب أو البدن مستقلاً، فإذا صار مجموع الدماء المنتشرة فی الاماکن المتعددة من محالّ متعدّد قدر الدرهم أو أزید فلا عفو فیه، وإن کان مقدار کلّ واحدٍ منه أقلّ من الدرهم، مع أنّه یمکن أن یکون المراد من (الثوب) الجنس الشامل للأثواب أیضا، هذا کما علیه صاحب «الروض» و«الجواهر» و«مصباح الهدی» و«الحدائق» خلافا لصاحب «مصباح الفقیه»، واللّه العالم.

(1) جواز اتیان الصلاة فیما لا تتمّ الصلاة فیه منفردا، لعدم تحقّق الستر به أمرٌ اجماعی کما فی «الجواهر»، و (بلا خلاف أجده فیه) کما اعترف به غیر واحدٍ، بل علیه الاجماع تحصیلاً ونقلاً فی «الانتصار» و«الخلاف»، وفی «السرائر»

ص:451

صریحا، وفی «التذکرة» وغیرها ظاهرا، وهو الحجّة، مضافا إلی وجود النصوص المستفیضة المنجبر ضعف بعضها بواسطة الاجماع، وتأیید بعض النصوص المعتبرة والموثقة.

فالآن نصرف عنان الکلام إلی ذکر الأخبار، فنقول:

منها: حدیث زرارة عن أحدهما علیهماالسلام ، قال: «کلّ ما کان لا تجوز فیه الصلاة وحده فلا بأس بأن یکون علیه الشیء مثل القلنسوة والتکة والجورب»(1).

ومنها: مرسل حمّاد بن عثمان، عمّن رواه عن أبی عبداللّه علیه السلام : «فی الرجل یصلّی فی الخفّ الذی قد أصابه القذر؟ فقال: إذا کان ممّالا تتم فیه الصلاة فلا بأس»(2).

ومنها: روایة أخری لزرارة، قال: «قلت لأبی عبداللّه علیه السلام : إنّ قلنسوتی وقعت فی بول فأخذتها فوضعتها علی رأسی ثمّ صلّیت؟ فقال: لا بأس»(3).

ومنها: مرسل ابراهیم بن أبی البلاد، عمّن حدّثهم، عن أبی عبداللّه علیه السلام ، قال: «لا بأس بالصلاة فی الشیء الذی لا تجوز الصلاة فیه وحده، یصیب القذر مثل القلنسوة والتکة والجورب»(4).

ومنها: مرسل عبداللّه بن سنان، عمّن أخبره، عن أبی عبداللّه علیه السلام أنّه قال: «کلّ ما کان مع الانسان أو معه ممّا لا تجوز الصلاة فیه وحده، فلا بأس أن یصلّی فیه، وإنْ کان فیه قذر، مثل القلنسوة والتکّة والکمرة والنعل والخفین وما أشبه ذلک»(5).

ومنها: روایة «فقه الرضا»: «إن أصاب قلنسوتک أو عمامتک أو التکّة أو


1- وسائل الشیعة: الباب 31 من أبواب النجاسات، الحدیث 1.
2- المصدر السابق، الحدیث 2.
3- المصدر السابق، الحدیث 3.
4- المصدر السابق، الحدیث 4.
5- المصدر السابق، الحدیث 5.

ص:452

الجورب أو الخفّ منیٌّ أو بول أو دم أو غائط فلا بأس بالصلاة فیه، وذلک أنّ الصلاة لا تتمّ فی شیء من هذه»(1).

حیث یظهر من قوله «کلّ ما کان علی الانسان أو معه»، أو قوله: «مثل القلنسوة»، وقوله: «ما أشبه ذلک» عموم العفو والجواز لکلّ ما یصدق علیه ما لا تتمّ الصلاة فیه وحده، وعلیه فلا اختصاص للعفو بخصوص القلنسوة والتکّة والجورب والخفّ والنعل، کما نقل توهّمه من الراوندی وأبی الصلاح وسلاّر، لو لم یریدوا من ذکر تلک الأمور التمثیل، وإلاّ کانوا موافقین مع القوم، لوضوح أنّ القول بالاختصاص مع وجود هذه الجملات فی الأخبار المذکورة، یبطل الدعوی المذکورة.

کما یدفع توهّم عدم شمول الأخبار لمثل الخاتم والدملج والخلخال بتوهّم أنّه لا یصدق الصلاة فیه، الوارد فی النصوص المتوهّم اختصاصها بالملابس، لأنّه من الواضح أنّ المراد من الظرف المستعمل فی هذه الأحادیث هی الظرفیة الاتساعیة الشامل لها، خصوصا مع وجود حکمه معه فی الشمول لمثل الدملج والخاتم، ولذلک ادعی نقل الاجماع عن الحلّی علی العفو عن مثل الدملج والخلخال.

نعم، یبقی الکلام فی أنّه هل تجوز الصلاة فی العمامة أم لا؟

التزم الصدوق بالجواز فیها فی ادعی «الفقیه»، وقد ورد الجواز فیها فی روایة «فقه الرضا» أیضا، ولکن الأکثر علی الحاقها بما لا تتمّ الصلاة، بل الکلّ عدا الصدوق فی «الفقیه»، لعدم الاعتماد علی ما ورد فی «فقه الرضا» فقط مع عدم وجود ما ینجبر ضعفه من الشهرة أو الاجماع، بل یکون علی خلافه اعراض الأصحاب عنه، هذا مضافاً الی صدق الثوب علیها، إلاّ أن تحمل علی نوعٍ من العمامة لا یمکن اتیان الصلاة فیها، فحینئذٍ یکون النزاع لفظیا، أو کانت مخیطة


1- فقه الرضا، ص 95.

ص:453

علی نحو لا یمکن فلّها، فحینئذٍ تکون کالقلنسوة، وإلاّ لو لا ذلک فإنّ العمامة قابلة للستر قبل قطعها.

والمناقشة بأنّ امکانها کذلک للستر لا یضرّ بالمقصود، والاّ لأمکن ذلک أیضا فی القلنسوة.

غیر وجیه، لتفاوت الامکانین، لأنّ العمامة یمکن فیها ذلک بلا علاجٍ بخلاف القلنسوة حیث أنّها یمکن استعماله لذلک لکن بصعوبة بالغة، بحیث یخرجها عن الفرض خصوصا مع ملاحظة عدم ذکرها فی الأخبار بین الأمثلة، مع ظهورها وکثرة الاحتیاج الیها، وأولویتها بالتنبیه علیها، بل فی الأخبار الصراحة فی کونها لیست منه.

وکیف کان، فرق بین العمامة والقلنسوة، فإذا لم تجز الصلاة فیها، فلا فرق فی عدم الجواز بین کونها ملفوفة أو غیر ملفوفة، إلاّ أن نجعل العمامة علی نحو الوصلة والعصابة بما لا تتمّ الصلاة فیها، فحینئذٍ یخرج عمّا یصدق علیه العمامة عرفا، ولذلک تجوز الصلاة فیها حینئذٍ.

وممّا ذکرنا یظهر ضعف کلام صاحب «المدارک» من احتمال العفو فیها، بدعوی اختصاص دلیل المنع بالثوب والعمامة علی الکیفیة المخصوصة التی لیست من الثوب، لأنّ تکیّفها بکیفیّة خاصه لا یُخرجها عن الثوبیة، إذ هی ثوب قد لفّت بهذه الصورة. نعم لو خیطت بنحو لا یمکن خروجها عن هذه الصورة، فیحتمل الجواز فیها، لکن الأحوط أیضا الاجتناب عنها، خصوصا مع وجود ألادلة العامّة علی المنع، کما لا یخفی.

أقول: ثمّ بعد ما ثبت حکم العفو فی نجاسة ما لا تتمّ الصلاة فیه، یقع الکلام فی أنّه لا فرق فیه بین النجاسة القلیلة والکثیرة، ولابین کون الدم من الدّماء الثلاثة أو غیرها، لاطلاق النصوص فی العفو فی النجس، وکذا فتاوی الأصحاب، فلا یأتی

ص:454

هنا بحیث أغلظیة دم الحیض ونظائره کما نقله بعض عن بعض، بل قد یقال بالاطلاق حتّی بالنسبة الی دم نجس العین مثل الکلب والخنزیر والکافر والمیتة، لظاهر الاطلاق، بالنسبة الیها بل بالنسبة الی کلّ نجاسة ولو من غیر المأکول.

لکن الالتزام بهذا الاطلاق لا یخلو عن اشکال، لأنّ ظاهر النصوص کون الجواز والعفو بلحاظ النجاسة وحیثیتها، والتجویز من تلک الحیثیة لا یلازم التجویز والعفو من جهة غیر المأکول، لوضوح أنّ الأحکام متعلقة بموضوعاتها من جهة الحیثیات، کما هو الحال فی الآیة الواردة لتحلیل الصید الذی اصطاده الکلب المُعلّم فی قوله تعالی: «فَکُلُوا مِمَّا أَمْسَکْنَ عَلَیْکُمْ»، حیث تدلّ علی حلّیة أکله، وهی لا تنافی لزوم تطهیر موضع عظة الکلب بأسنانه، فلا یقال إنّ الآیة أجازت أکل صید الکلب دون أن یأمر بتطهیره، لانّه یجاب بأنّ الأمر بالأکل کان من حیث حلیّة اللحم ولدفع توهّم حرمة صید الکلب، لا من جهة طهارته ونجاسته، فهکذا یقال هنا بأن الأخبار الواردة فی جواز الصلاة فیما لا تتمّ إنّما وردت لجوازه لنجاسته، أمّا إذا کان المنع عن الصلاة لأجل أنّه من فضلات ما لا یؤکل لحمه، فیجب فیه العمل بما ورد فی دلیله مثل موثقة ابن بکیر عن زرارة، عنه علیه السلام قال: «إنّ الصلاة فی وبر کلّ شیء حرام أکله، فالصلاة فی وبره وشعره وجلده وبوله وروثه وکلّ شیء منه فاسد، لا تقبل تلک الصلاة حتّی یصلّی فی غیره ممّا أحلّ اللّه أکله»(1)، الدالة علی عدم الجواز والعفو إذا کان الدم من حیوان نجس کالکلب، أو غیر مأکول کالهرة فی التکة والقلنسوة وأمثالهما.

ومنه یظهر عدم الجواز إذا أصاب ما لا تتمّ الصلاة بفضلاته غیر التجسه کالشعر أو ماء فمه أو اللّبن وأمثالها، لأنّ جمیعها تعدّ من أجزاء ما لا یؤکل، وإن ذهب الی الجواز صاحب «الجواهر» ولعلّه اعتماداً علی الاطلاق الوارد فی مثل خبر زرارة


1- وسائل الشیعة: الباب 2 من أبواب لباس المصلّی، الحدیث 1.

ص:455

من قوله علیه السلام : «إنّ قلنسوتی وقعت فی بول فأخذتها فوضعتها علی رأسی... الحدیث» حیث یشمل ما لو کان البول للکلب أو الهرة وأمثالها من غیر الانسان، ولکن مع ذلک لابدّ من تقییدها بغیر بول ما لا یؤکل فی غیر الانسان إن کان له اطلاق، ولم نقل بانصرافه الی بول الانسان، لندرة وقوعه فی بول مثل هذه الحیوانات.

وکیف کان، فدعوی الانصراف ممّا لا یقبله الذوق السلیم، والتقیّد یتحقّق مستنداًالی حدیث ابن بکیر، فضلاً عمّا عرفت من عدم الاطلاق لأجل کون الحکم والعفو حیثیّا.

وبالجملة: ثبت من جمیع ما ذکرنا، عدم معفویّة ما لو اتّخذ ما یصدق علیه الملبوس من النجس، کلجد المیت أو شعر الکلب أو الخنزیر، لظهور ما دلّ علی العفو عمّا لا تتمّ من حیث التلویث بالنجاسة، فلا یدلّ علی العفو فی عین النجاسة، بل وهکذا لا تدلّ علی العفو عمّا یکون ممّا لا یؤکل أیضا کالجورب المتّخذ من شعر غیر المأکول، مع امکان دعوی انصراف أدلة العفو عن مثل ذلک لو قیل باطلاقه لندرة وجود ذلک، وعلیه فالأخبار تکون منصرفة عن هذه الأمور، وانصرافها یوجب سقوط اطلاقها.

هذا مضافا الی أنّه قد یشکل فی بعض ما لا تتمّ من جهة أنّه لا یصدق علیه الملبوس حقیقة، وهو مثل السیف والسکین، إلاّ أن یراد من الملبوس ما یشمل مثل هذه الأمور بشهادة ذکر الخفّ والنعل والتکة والکمرة، وهی علی ما قیل کیسٌ لحفظ البول والمنی ممّن یخاف علی نفسه من تقاطرهما.

وعلی کلّ حال، لابدّ أن لا یکون من نجس العین ولا ممّا لا یؤکل، لما تری من المنع عن الصلاة فی الخفّ إذا کان من المیتة، وهکذا فی غلاف السیف إذا کان من المیتة. وممّا یدلّ علی ذلک:

1. الخبر المرویّ عن الحلبی، قال: «سألتُ أبا عبداللّه علیه السلام عن الخفاف التی

ص:456

تُباع فی السوق؟ فقال: اشتر وصلّ فیها حتّی تعلم أنّه میتة بعینه»(1) حیث یدلّ علی أنّ مع العلم بکون الخفّ من المیتة لا یجوز الصلاة فیه.

2. وخبر علی بن ابی حمزة: «إنّ رجلاً سأل أبا عبداللّه علیه السلام وأنا عنده عن الرجل یتقلّد السیف ویصلّی فیه؟ قال: نعم، فقال الرجل: إنّ فیه الکیمخت؟ قال: وما لکیمخت؟ قال: جلودُ دوابٍ منه وما یکون ذکّیا ومنه ما یکون میتة، فقال: ما علمت أنّه میتة فلا تصلّ فیه»(2) حیث یدلّ یالمنطوق علی المنع.

3. خبر الصدوق باسناده عن سماعة بن مهران: «أنّه سأل أبا عبداللّه علیه السلام عن تقلید السیف فی الصلاة وفیه الفرا والکیمخت؟ فقال: لا بأس ما لم تعلم أنّه میتة»(3) حیث یدلّ علی المنع بالمفهوم یعنی إذا علم انّه میتة ففیه بأس.

4. مکاتبة عبداللّه بن جعفر إلی أبی محمد علیه السلام : «یجوز للرجل أن یصلّی ومعه فأرة المسک؟ فکتب علیه السلام : لا بأس به إذا کان ذکّیاً»(4).

حیث یدلّ بمفهومه علی عدم الجواز فیما لا یکون ذکّیا وکان میتة.

5. صحیح ابن أبی عمیر، عن غیر واحدٍ، عن أبی عبداللّه علیه السلام : «فی المیته؟ قال: لا تصلّ فی شیء منه ولا شسعٍ»(5) فإنّ الشسع ممّا لا تتمّ فیه الصلاة، وقد نهی عنه فی حال الصلاة.

فهذه الأخبار ممّا تدلّ علی المنع منطوقا أو مفهوما لو کان الشیء ممّا لا تتمّ فیه الصلاة.


1- وسائل الشیعة: الباب 50 من أبواب النجاسات، الحدیث 2.
2- وسائل الشیعة: الباب 50 من أبواب النجاسات، الحدیث 4.
3- المصدر السابق، الحدیث 12.
4- وسائل الشیعة: الباب 41 من أبواب لباس المصلّی، الحدیث 2.
5- وسائل الشیعة: الباب 14 من أبواب لباس المصلّی، الحدیث 6.

ص:457

أقول: قد یتوهّم تعارض هذه الأخبار مع ما دلّت علی جواز الصلاة فیما لا تتمّ الصلاة فیه وحده، إذا کان نجسا بالاطلاق فی تلک الأمثلة، الشاملة لصورة ما کان من المیتة، وممّا لا یؤکل.

لکن یمکن أن یجاب عنه: بأنّ الأخبار المجوّزة واردة فیما إذا أصاب النجس وصار متنجسا، مثل ما لو وقعت القلنسوة فی البول، أو أصاب الخفّ والتکة والکمرة والنعل وما أشبه القذارة أی النجاسة العرضیة، فلا مانع عن الصلاة فیها، کما مرّ امکان تقیید اطلاقها من جهة کونها من أجزاء ما لا یؤکل لحمه کما ورد ذلک فی موثقة ابن بکیر من النهی عن کلّ ما لا یؤکل لحمه، الشامل باطلاقه ما تتمّ فیه الصلاة أو لا، وقد مرّ القول بأنّ الجواز فی تلک الأخبار إنّما بالنسبة إلی النجاسة ومن حیثها لا مطلقا حتّی یشمل ما لو لم یکن ممّا یؤکل، وعلیه فلا منافاة حینئذٍ بین هاتین الطائفتین، فالصلاة فیما لا تتمّ من حیث النجاسة العرضیة صحیحة، ومن حیث کونها ممّا لا یؤکل لحمه فاسدة، وهما قابلان للجمع.

وأیضاً توهم: معارضة الأخبار الدالة علی المنع عن الصلاة فیما لا تتمّ إذا کان میتة وغیر مذکّی، مع ما ورد فی جواز الصلاة فی الخفّ والنعل حتّی إذا کانا من المیتة، وهو مثل:

1. صحیح الحلبی، عن الصادق علیه السلام : «کلّما لا تجوز الصلاة فیه فلا بأس بالصلاة فیه مثل التکة الأبریسم والقلنسوة والخف والزنّار(1) یکون فی السراویل ویصلّی فیه»(2) حیث یدلّ علی جواز الصلاة فی الخفّ لو کان مأخوذا من المیتة.

2. وموثقة اسماعیل بن الفضل، قال: «سألت أبا عبداللّه علیه السلام عن لباس الجلود


1- الزنّار ما یلبسه الذّمی یشدّه علی وسطه، لسان العرب، ج 4، ص 330 «زنر».
2- وسائل الشیعة: الباب 14 من أبواب لباس المصلّی، الحدیث 2.

ص:458

والخفاف والنعال والصلاة فیها، إذا لم تکن من أرض المصلّین؟ فقال علیه السلام : النعل والخفاف فلا بأس بهما»(1).

إذا المراد من أرض المصلّین هو أرض المسلمین، وممّا یعنی أنّ ما کانت مصنوعة فی أرض غیر المسلمین محکومة بالمیتة بأصالة عدم التذکیّة، وبرغم ذلک قال لا بأس بهما، فکیف الجواب والجمع بین هاتین الطائفتین؟

فأمّا الجواب عن خبر الحلبی: فیمکن أن یقال بتقیّد اطلاق الخفّ الشامل لما کان من المیتة أو ممّا لا یؤکل، أو ما کان متنجسا، بالتجویز فی غیر المیتة وممّا لا یؤکل دون المتنجّس، لما قد عرفت تجویزه فی الأخبار السابقة، وهکذا یقال فی الخفاف والنعال فی الخبر الثانی، بأن یحتمل کون السؤال من حیث النجاسة الذاتیّة أو العرضیة بملاقاة النجاسة غالبا، لأجل أنّ عملها فی بلاد الکفر، فیقید ممّا دلّ علی عدم الجواز إذا کان من المیتة، أو ما لا یؤکل، فیحتمل أن یکون الجواز فی هذا الخبر من جهة النجاسة العرضیة فیما لا تتمّ، فیوافق تجویزه فیه مع ما فی الأخبار المجوّزة للصلاة مع ما لا تتمّ لو کان نجسا بالنجاسة العرضیة، فیرتفع التعارض بینهما.

وهذا الجمع والحمل أحسن من حمل أخبار المنع عن الصلاة فیما لا تتمّ إذا کان میتة علی الکراهة، لأجل هذین الخبرین الدالین علی الجواز، لبُعد بعض تلک النصوص للحمل علی الکراهة، وإن لم یکن بعضها آبٍ عنه.

والنتیجة: المنع عن الصلاة فی ما لا تتم اذا کان مصنوعاً من المیتة وما هو نجسٌ بالذات وممّا لا یؤکل.

وأیضاً قد یتوهّم: التنافی بین الأخبار المجوّزة الدّالة علی أنّ ما لا تتمّ فیه الصلاة وحده تجوز الصلاة فیه، ولو لم یصدق علیه اللّبس، بل یصدق کونه


1- وسائل الشیعة: الباب 38 من أبواب لباس المصلّی، الحدیث 3.

ص:459

محمولاً متنجسا مثل ما ورد فی مرسلة عبداللّه بن سنان بقوله: «کلّ ما کان علی الانسان أو معه ممّا لا یجوز الصلاة فیه وحده، فلا بأس أن یصلّی فیه وإن کان فیه قذر مثل القلنسوة، الحدیث»(1) فإنّ قوله: «أو معه» یشمل ما لو کان محمولاً، فیدلّ علی جواز الصلاة، فهذا الجواز یتعارض مع ما ورد من المنع عن حمل المتنجس فی الصلاة.

ولکن یمکن أن یجاب عنه: القول بالمنع فی المحمول المتنجس وإن کان ظاهره المنع مطلقا، أی سواءٌ کان المحمول ثوبا أو غیره، إلاّ أنّه یمکن جمعه مع هذا الخبر بأن یُجعل المنع لخصوص مثل الثوب المتنجّس ممّا یصدق علیه اللّبس، ولکن لم یلبسه بل حمله معه حال الصلاة، فإنّه مبطلٌ للصلاة، بخلاف ما لو کان المحمول المتنجس ممّا لا تتمّ الصلاة کالتکة والسکین وأمثال ذلک، فإنّ حملهما لا یبطلان الصلاة حتّی ولو کان متنجسا، لعدم صدق اللّبس علیه، فیکون معفوا.

وأمّا إن لم نقل بالمنع فی حمل المتنجس فی الصلاة، فجواز الصلاة فی مثل الخفّ والتکة یکون بطریق أولی، لأنّه لو لم یصدق علیه الملبوس الجائز فلا اشکال فی صدق المحمول علیه قطعا، فیجوز من هذا الباب کما هو الأقوی عند صاحب «الجواهر» وفاقاً ل«المعتبر» و«المدارک» و«المعالم» و«الذخیرة» و«الحدائق» و«اللّوامع» و«منظومة» الطباطبائی و«کشف» الاستاذ للأصل السالم عن معارضة دلیل معتبر.

وعلیه، فعلی القول بجواز حمل المتنجس، فلا نحتاج حینئذٍ إلی ذکر قید (کون الشیء فی حال اللّبس جائزاً) فضلاً عن ذکر قید (کونه فی محالّه) کما توهّمه بعض، بل یجوز ذلک مطلقا.

أقول: لکن الأقرب هو عدم التنافی بین القول بجوازه فی حال الصلاة فیما لا


1- وسائل الشیعة: الباب 31 من أبواب النجاسات، الحدیث 5.

ص:460

تتمّ، إذا کان فی موضعه ومحلّه، وعدم الجواز إذا کان محمولاً، جمعا بین الدلیلین فی خصوص ما لا تتمّ فیه الصلاة وحده، فلازم ذلک هو جواز الصلاة فی الکمرة والتکة والسوار والدملج إذا کان فی محالّها، وعدم الجواز لو کان محمولاً فی غیر محلّه، بأن یحملهما فی جیبه حال کونها متنجّسة فی حال الصلاة، فانّ الحمل مبطلٌ لها، هذا إن قلنا بعدم جواز حمل المتنجس فی الصلاة کما لا یخفی.

وحیث أنّ البحث قد بلغ إلی المحمول المتنجس، وهو یعدّ من أهمّ المسائل التی کثیرا ما یبتلی به الانسان، وله فروع کثیرة، من ما یتمّ فیه الصلاة، وما لا یتمّ، ومن کون المحمول نجسا أو متنجسا وغیر ذلک، فلا بأس بأن نتعرّض لها بتفصیلٍ کما ذکرها صاحب «الجواهر» فی ذیل هذه المباحث، فنقول:

فروع مسألة المحمول المتنجّس فی الصلاة

الفرع الأوّل: فی المحمول المتنجّس الذی لا یتمّ به الصلاة کالوصلة، إذا جعلت فی الجیب وکذا السکین والدرهم إذا کانتا متنجستین فهل یجوز الصلاة معها أو لا؟ فیه قولان: حکم المحمول المتنجّس

1. قول بالعفو، کما عن عدّة من الفقهاء کالشهید فی «الذکری» و«الدروس» و«جامع المقاصد» و«المسالک» و«المدارک»، وصاحب «الجواهر» و«العروة» و«مصباح الهدی»، وکثیر من أصحاب التعلیق، وهو الأقوی عندنا.

والدلیل علیه: مضافا إلی ما عرفت من الکثرة من الفقهاء القائلین بالعفو، امکان اثباته بالدلیل کما عرفت تفصیله فی المباحث السابقة، فنشیر الیها علی نحو الاجمال لیتبیّن حکم المسألة.

الدلیل الأوّل: عدم وجود ما یدلّ علی المنع فی المحمول المتنجس مطلقا، ولو کان ممّا تتمّ الصلاة به فضلاً عمّا لا تتمّ، لأنّ ما یدلّ علی المنع مختص باللباس، فلا

ص:461

یشمل المحمول، والشک فیه شک فی المانعیة والمرجع الی أصالة عدمها.

الدلیل الثانی: وجود الدلیل الدّال علی العفو عمّا لا تتمّ، فإنّها باطلاقها یشمل ما لو کان فی محالّها _ کالقلنسوة علی الرأس، والخاتم علی الید، والخلخال فی الرِجْل _ أو لم یکن کما إذا کانت القلنسود فی الید، أو الخاتم والخلخال فی جیبه، بل مقتضی العفو عمّا لا تتمّ إذا کان ملبوسا یقتضی العفو عن غیر الملبوس منه بطریق أولی.

الدلیل الثالث: مضافا الی ما عرفت دلالة مرسل ابن سنان بالخصوص علی العفو بقوله علیه السلام : «کلّ ما کان علی الانسان أو معه ممّا لا یجوز الصلاة فیه وحده فلا بأس أن یصلّی فیه الحدیث»(1) علی ذلک من جهة فهم التغایر بین الجملتین، من عطف جملة (أو معه) علی سابقها، حیث یدلّ علی أنّ الأولی للملبوس والثانیة للمحمول.

الدلیل الرابع: دلالة صحیح علی بن جعفر عن أخیه الوارد فی الثالول بناءً علی کونه من اجزاء المیتة التی نتف من البدن، وهی میتة نجسة، حیث قال: «سألته عن الرجل یکن به الثالول والجراح، هل یصلح أن یقطع وهو فی صلاته، أو ینتف بعض لحمه من ذلک الجرح ویطرحه؟ قال: إن لم یخف أن یسیل الدم فلا بأس، وإن یخف أن یسیل الدم فلا یفعله»(2) فیدلّ علی جواز حمل النجس، ففی المتنجّس بطریق أولی.

2. قول بعدم العفو، والیه ذهب صاحب «السرائر» و«النهایة» و«المنتهی» و«البیان»، بل نسب ذلک إلی الأکثر، تمسکا:

بقاعدة الاشتغال، وقد عرفت هنا أنّه شکٌّ فی المانعیّة، والمرجع هو البراءة.


1- وسائل الشیعة: الباب 31 من أبواب النجاسات، الحدیث 5.
2- وسائل الشیعة: الباب 3 من أبواب النجاسات، الحدیث 1.

ص:462

وبعموم ما دلّ علیه خبر خیران الخادم المتقدّم ذکره، الشامل بعمومه للملبوس والمحمول، وجاء فیه: «کتبتُ الی الرجل أسأله عن الثوب یصیبه الخمر ولحم الخنزیر أیصلّی فیه أم لا؟ إلی أن قال: لا تصلّ فیه، فإنّه رجس»(1) مع أنّه مندفع بظهوره فی الملبوس فقط، المستفاد من کلمة (لا تصلّ فیه) لا المحمول أو الحمل علیه، مع فرض قبول الاطلاق بناءً علی القول باتساعیّة الظرفیة جمعا بینه وبین الأخبار السابقة الدّالة علی العفو فی المحمول.

ومثله فی الجواب ما یستفاد من الخبر الذی رواه موسی ابن أکیل عن الصادق علیه السلام : «لا تجوز الصلاة فی شیء من الحدید، فإنّه نجس ممسوخ»(2)، وخبر أبی بصیر: «لا تصلّ فی شیء من الحدید»(3) فلا أقلّ حینئذٍ من صدق التلبس علیه فی الجملة کالخاتم إذا کان بیده، والخلخال إذا کان برجله، وبذلک لا یشمل ما لو کان مصاحبا له کالسکین الذی فی جیبه، والوصلة التی قبضها بیده ونحوهما، فإنّ الصلاة معها ممّا لا یصدق علیها الصلاة فیها غایته قبول المنع فیما یصدق علیه اللّبس فی الجملة لا مطلقا، حتّی إذا کان فی الجیب.

هذا مضافا الی أنّ روایة موسی وأبی بصیر الواردتین فی الحدید لم یعمل بها فی مورد الحدید فضلاً عن غیر مورده، مع امکان أن یکون المنع فی الحدید لخصوصیة فیه فی المانعیّة لا مطلقا، کما یؤمی الیه التعلیل بأنّه (نجسٌ ممسوخ) فلا یمکن التعدّی منه إلی کلّ نجس نظرا الی عموم التعلیل، مع أنّه علی تقدیر قبول ذلک فی النجس المحمول، فلابدّ من اسراء الحکم من النجس الی المتنجّس من التشبث بشیءٍ آخر مثل دعوی عدم القول بالفصل بینه وبین المتنجس، وهی أیضا ممنوعة.


1- وسائل الشیعة: الباب 32 من أبواب لباس المصلّی، الحدیث 6.
2- المصدر السابق، الحدیث 7.
3- المصدر السابق، الحدیث 9.

ص:463

مع انّه لو تمّ فی المتنجّس لا یتمّ الدلیل فیما لا تجوز الصلاة فیه، لخروجه عن عموم المنع فی المتنجس بواسطة ما یدلّ علی جواز الصلاة فیما لا تتمّ الصلاة به، الدالّ باطلاقه علی جوازها فی الملبوس والمحمول. وعلیه فاثبات المنع فی المحمول المتنجس بواسطة هذین الخبرین فیما لا تتمّ به الصلاة فی غایة الاشکال، مع ما سبق من المناقشات فیه، فالأقوی هو العفو فیه کما لا یخفی، وإن کان الاحتیاط فیه حسنا.

نعم، بقی هنا وجود بعض أخبار آخر یتوهّم منه عدم العفو فیه، وهو مثل:

1. خبر وهب بن وهب، قال: «السیف بمنزلة الرداء تصلّ فیه ما لم ترفیه دماً»(1).

2. وخبر موثقة ابن بکیر المشتملة علی النهی عن الصلاة فی بول ما لا یؤکل، وروثه وألبانه، وکلّ شیء منه(2)، الشامل باطلاقه للمحمول أیضا.

3. وخبر محمد بن الحسین الناهی عن الصلاة فی مندیل الغیر حیث قال علیه السلام : «لا تصلّ فی مندیل غیرک وصلّ فی مندیلک»(3) فلا ینافیه کون النهی تنزیهیّاً، لأنّه یستفاد منه مانعیّة ما کان مع المصلّی لو کان نجسا حقیقیا.

4. وخبر علی بن جعفر، عن أخیه علیه السلام ، قال: «سألته عن الرجل یمرّ بالمکان فیه العذرة فتهبّ الریح فتسفی علیه من العذرة فیصیب ثوبه ورأسه، أیصلّی فیه قبل أن یغسله؟ قال: نعم، ینفضه ویصلّی لا بأس»(4)، فإنّ الأمر بالنفض ظاهر فی الوجوب، فیستفاد منه مانعیّة النجس ولو کان محمولاً، وبضمیمة عدم القول بالفصل بینه وبین المتنجّس یثبت عموم المنع عن المحمول بالنسبة الی النجس والمتنجّس معا.


1- وسائل الشیعة، الباب 83 من أبواب النجاسات، الحدیث 3.
2- وسائل الشیعة: الباب 2 من أبواب لباس المصلّی، الحدیث 1.
3- وسائل الشیعة: الباب 49 من أبواب لباس المصلّی، الحدیث 2.
4- وسائل الشیعة: الباب 26 من أبواب النجاسات، الحدیث 12.

ص:464

5. وصحیح عبداللّه بن جعفر، قال: «کتبت الیه (یعنی أبا محمد) هل یجوز للرجل أن یصلّی ومعه فأرة مسک؟ قال: لا بأس بذلک إذا کان ذکیاً(1)، فإنّه بمفهومه یدلّ علی ثبوت البأس إذا کانت میتة، فیدلّ علی المنع من حمل المیتة، وبعدم القول بالفصل یتعدّی من المیتة الی بقیة النجاسات والمتنجسات جمیعا.

6. وصحیح علی بن جعفر: «عن الرجل یصلّی ومعه دبّة من جلد الحمار أو بغل؟ قال: لا یصلح أن یصلّی وهی معه، إلاّ أن یتخوّف علیها ذهابها، فلا بأس أن یصلّی وهی معه»(2) فانّ نفی الصلاح عن الصلاة فیها لیس إلاّ من جهة کونها من المیتة، فیدلّ علی المنع عن الصلاة معها، فشموله للمتنجّس ممّا عرفت من ضمیمة عدم القول بالفصل بینه وبین النجس، وعدم القول بالفصل بین المیتة وسائر النجاسات فیتمّ المطلوب.

بل فی کتاب «طهارة» الشیخ الأکبر ورد توصیف الحمار بالمیّت هکذا: «ومعه دبّة من جلد حمارٍ میّت»، وعلیه فدلالته أظهر.

وهکذا بما ورد من جواز الصلاة فی خرقة الحنّاء إذا کانت طاهرة، الدّال بمفهومه علی عدم الجواز إذا کانت نجسة.

هذا کلّ ما یمکن أن یستدلّ لعدم العفو فی المحمول المتنجس.

والتحقیق: لا یخلو الکلّ عن المناقشة: فأمّا خبر وهب بن وهب: فبضعف سنده، فضلاً عن أنّه مختصٌّ بالدم، ولو تعدّی عنه الی کلّ نجس بواسطة دعوی القطع بعدم خصوصیة فی الدم، لا یمکن التعدّی عنه الی المتنجّس بواسطة عدم القول بالفصل، لعدم صحة هذه الدعوی.

وأمّا من موثقة ابن بکیر: فإنّ مورد ما لا یؤکل، ولا ملازمة فی المنع عن حمل


1- وسائل الشیعة: الباب 41 من أبواب لباس المصلّی، الحدیث 2.
2- وسائل الشیعة: الباب 60 من أبواب لباس المصلّی، الحدیث 2.

ص:465

ما لا یؤکل مع المنع عن حمل النجس والمتنجس، فلا ترتبط بحمل المتنجس.

وأمّا النهی عن المندیل المتعلّق بالغیر: فالجواب عمّا ورد فی الحدید من النهی عن الصلاة فیه، حیث لم یعمل أحدٌ به فی مورده فضلاً عمّا ذکرنا من المحمول المتنجس.

وأمّا خبر الأمر بالنفض: فإنّه لا ظهور فیه فی الوجوب، بل لعلّه جری مجری العادّة من أنّه عند معرفة الانسان بوقوع النجس والعذرة علی ثوبه وبدنه ینفضهما للتنزّه عنها، ثمّ علی فرض التسلیم بکون ظهور الأمر فی الوجوب، ففی التعدّی منه الی کلّ متنجّس ممنوعٌ.

وأمّا خبری علی بن جعفر: فإنّهما واردان مورد المیتة بناءً علی القول بنجاسة فأرة المسک لکونها من المیتة، وتسلیم حمل الدابة علی المصنوعة من جلد المیتة، فلعلّ فی المیتة حکمة لا یوجب التعدّی الی کلّ نجس، بل هو ممنوع، مع أنّه علی فرض تسلیم التعدّی عنها الیه، نمنع التعدّی عن کلّ نجس الی المتنجّس.

وامّا حدیث خرقة الحنّاء: فإنّه لا یدلّ علی حکم المقام، لاحتمال کون المنع المستفاد من مفهومه من جهة رطوبتها المسریّة إلی البدن غالبا، أو کونها ممّا تتمّ بهما الصلاة، ولو سلّم اطلاقه لما لا یتمّ، فهو أیضا مقیّدة بالأخبار الدالة علی جواز الصلاة فیما لا تتمّ، الشاملة باطلاقها للملبوس والمحمول معا.

وبالجملة: ظهر من جمیع ما ذکرنا، عدم وجود ما یمکن الاعتماد الیه فی المنع عن المحمول المتنجس، فظهر أنّ الأظهر هو العفو عنه فی الصلاة، بلا فرق بین کون ما لا تتمّ فی محلّه أو فی غیره، کما لا فرق بین کون المحمول المتنجس ملبوسا قد حُمل، بأن جعل الثوب المتنجّس فی جیبه حال الصلاة فصار محمولاً، أو غیر ملبوسٍ کالسکین المتنجّس أو الدرهم والدینار المتنجس، لما قد عرفت من عموم النصوص الشامل لجمیع هذه الصور.

ص:466

الفرع الثانی: صرّح جملة من العامّة علی جواز حمل الحیوان الطاهر، مأکولا کان أو غیر مأکول، انسانا کان أو غیر انسان، مستدلین:

أوّلاً: بأنّ النبی صلی الله علیه و آله حمل أمامة بنت أبی عاص(1)، ورکب الحسن والحسین علیهماالسلام علی ظهره صلوات الله علیه وهو ساجد(2).

وثانیا: بأنّ النجاسة فی المحمول فی معدته کالحامل.

ووافقهم علی ذلک المحقّق فی «المعتبر»، والعلاّمة فی «القواعد» و«الذکری»، وفی «کشف اللّثام»، بل فی الأخیر دعوی نفی الخلاف عنه، لعدم صدق حمل النجس علیه عرفا، خصوصا لو قلنا بعدم نجاسته فی الباطن قبل ظهوره کما هو کذلک، وإلاّ کان نفس المصلّی حاملاً للنجاسة والقذارات من نفسه، والالتزام بعدم النجاسة فی البواطن أولی من الالتزام بنجاستها، وکانت معفوا لعدم امکان سلبها عن نفسه، هذا مع امکان الاستدلال بصحیح علی بن جعفر، عن أخیه أبی الحسن علیه السلام : «سألته عن رجل صلّی وفی کُمّه طیر؟ قال: إن خاف الذهاب علیه فلا بأس»(3) من ترک الاستفصال، من حیث کونه مأکول اللّحم أو غیره حیث یکون فضلته حینئذٍ نجسا إن قلنا بنجاسة فضلة الطیر إذا کان من غیر المأکول.

وکیف کان، فإنّ حمل الصبی فی حال الصلاة یجوز إمّا لعدم کون ما فی بطنه نجسا، أو إن کان نجسا فهو محمول، فیصحّ إن أجزنا حمله حال الصلاة، مع ما عرفت من الاشکال عرفا فی صدق حمل النجاسة فی مثل ذلک.

نعم، الذی ینبغی التأمّل فیه هو تلوث قسماطه ببوله وغائطه، فحینئذٍ یصح البحث فی أنّ محمول النجاسة للمصلّی مبطل أم لا؟


1- کنزالعمال، ج 4، ص 233، الرقم 4924.
2- المستدرک، ج 1، الباب 29 من قواطع الصلاة، الحدیث 1 و 2.
3- وسائل الشیعة: الباب 60 من أبواب لباس المصلّی، الحدیث 1.

ص:467

ومنه یظهر جواز حمل الحیوان الطاهر غیر المأکول حال حیاته نظیر حمل الصبی.

الفرع الثالث: ذهب الحلّی فی «السرائر» والعلاّمة فی «القواعد»، والشیخ فی «المبسوط»، وکذلک «الاصباح» و«الجامع» الی فساد الصلاة مع حمل القارورة المشتملة علی النجاسة، المشدود رأسها بشمع أو رصاص ونحوهما، ووافقهم صاحب «الجواهر» وصاحب «مصباح الهدی»، إلاّ أن الشیخ قال فی «الخلاف»: «إنّه لیس لأصحابنا نص، والذی یقتضیه المذهب عدم النقض)، لکن قال بعد ذلک: «ولو قلنا إنّه یبطل الصلاة لدلیل الاحتیاط کان قویا، ولأنّ علی المسألة اجماعا» [ومراده اجماع العامّة کما یظهر لمن لاحظ عباراته] فإنّ خلاف ابن أبی هریرة لا یعتدّ به» انتهی.

خلافا لبعض من جوّز ذلک کصاحب «الحدائق» والشهید فی «الذکری» و«کشف اللّثام»، والمحقق فی «المعتبر» وصاحب «المعالم»، بل عن الشهید فی «الذکری» بعد ذکر کلام المحقّق حیث یقول: «والوجه عندی الجواز، إلاّ أنّه لابد من سدّ رأس القارورة، قال: لا حاجة الی سدّ رأس القارورة إذا أمن تعدّی النجاسة منها» مستدلاً بأن المحمول الذی لا تتمّ فیه الصلاة وحده، یجوز استصحابه فی الصلاة لمرسل ابن سنان وغیره.

هذا، ولکن الاحتیاط هنا بالاجتناب عنها لا یخلو عن وجه، لامکان کون الأخبار الدالة علی الجواز واردة فی المتنجّس لانفس النجس، لمّا عرفت من وجود أخبار تدلّ علی عدم جواز حمل المصلّی للنجس، إذا لم یکن ملبوسا مثل فأرة المسک إذا لم یکن ذکّیا، وأو حمل معه دبّة من جلد حمار میتة ونظائرهما.

الفرع الرابع: بعد ما ثبت من جواز حمل المصلّی لحیوان طاهر غیر المأکول إذا کان حیّا یقع البحث عن أنّه هل یجوز حمله مع کونه مذکّی أم لا؟

فعن «الذکری» و«جامع المقاصد» عدم جواز حمله، لأنّ حمل جلد غیر

ص:468

المأکول ولحمه ممنوعان فی الصلاة، وتنظّر فیه صاحب «الجواهر» بمنع شمول أدلة عدم الجواز فی غیر المأکول للمحمول، مضافا الی أنّهم استدلّوا لعدم الجواز بصیرورة الظاهر والباطن المشتمل علی النجاسة سواء بعد الموت.

أقول: لکن قد نوقش فی کلا الدلیلین:

أمّا الأوّل: قد عرفت ما ذکره صاحب «الجواهر» من عدم شمول أدلة المنع للمحمول، هذا أولاً.

وثانیا: عن «مصباح الهدی» علی فرض الشمول، لکن شموله للحیوان المذبوح قبل انسلاخه عن جلده ممنوع أیضا، إذ لا یصدق حمل جلد الغیر المأکول أو لحمه علی حمل المذبوح قبل انسلاخه، کما إذا أخذ الهرّة المذبوحة بیده بعد تطهیرها من الدم، إذ لا یصدق علیه حمل جلد ما لا یؤکل وانّما هو حمل نفس ما لا یؤکل.

ولا یخفی ما فی الجواب الثانی: لوضوح أنّ ما دلّ علی المنع من مصاحبة ما لا یؤکل للمصلّی یشمل جمیع ذلک، کما فی موثقه ابن بکیر، حیث قال علیه السلام : «کلّ شیء ممّا لا یؤکل» الشامل لأصل الحیوان المذبوح قطعا، وعلیه فما ذهب الیه الشهید والمحقّق لا یخلو عن وجه واللّه العالم.

الفرع الخامس: فی انّه إذا أدخل دم النجس تحت جلده فنبت علیه اللّحم، أو شرب الخمر أو أکل المیتة، فهل یصدق علیه المحمول الذی تجب ازالته مع التمکن لمن یقول بعدم جواز حمل النجس حال الصلاة أم لا؟ فیه وجهان بل قولان:

1. قولٌ بوجوب الازالة کما عن «التذکرة»، وظاهر «المنتهی»، واحتمله «الدروس»، بل عن ظاهر «البیان» جریان ذلک حتّی فی دم الانسان نفسه.

2. وقول بالعدم وهو الأقوی، کما علیه صاحب «الجواهر» و«مصباح الهدی»، لعدم اندراجه فی المحمول، ولا فیما تجب ازالته، لالحاقه بالباطن وصیرورته من التوابع عرفا، وظهور أدلة الازالة فی غیره منصرف عنه، ومع الشک فی مانعیته

ص:469

المرجع إلی أصالة العدم والبراءة.

نعم، قد یقال فی مثل شرب الخمر وأکل المیتة وجوب القیء مع الاشکال، لکن لا لأجل الصلاة والحمل، بل لحرمة ابقائه فی البطن کحرمة ادخاله فیه، کما فی «المنتهی» وغیره، هذا مضافاً إلی ما ورد فی خبر عبدالحمید بن سعید، قال: «بعث أبوالحسن علیه السلام غلاما یشتری له بیضاً فأخذ الغلام بیضة أو بیضتین فقامربهما، فلمّا أتی به أکله، فقال له مولاً له: إنّ فیه من القمار؟ قال: فدعا بطشتٍ فتقیّا فقائه»(1).

وفیه: إنّه ممنوع إذ لا تکون الاستدامة حراما، حیث لا یصدق علیها استعمال الحرام لکی یشمله دلیل الحرمة فی مثل الخمر أو دلیل حرمة التصرف فی مال الغیر فی مورد القمار.

نعم، یبقی مورد السؤال عن فعل الامام علیه السلام من تقیّوءه بعد العلم به، فربّما یدلّ علی وجوبه.

لکن أجیب عنه: لعلّه فَعَل ذلک للحذر من أن یصیر الحرام جزءا من بدنه، فرارا لما یترتّب علیه من الآثار الوضعیة التکوینیة، لا لمکان الفرار عن التصرف بالابقاء حتّی یکون الابقاء محرما بالحرمة التکلیفیة.

وأن استشکل فیه الشیخ الأکبر قدس سره فی باب المکاسب المحرمة: بأنّ ما کان تأثیره کذلک یُشکل أکل المعصوم له جهلاً، بناءً علی عدم اقدامه علی المحرّمات الواقعیة الغیر المتبدّلة بالعلم لا جهلاً ولا غفلة، لأنّ ما دلّ علی عدم الغفلة فی ترک الواجب وفعل الحرام، دلّ علی عدم جواز الجهل علیه فی ذلک.

ثمّ قال قدس سره : «اللّهمّ الاّ أن یقال بأنّ مجرّدالتصرف من المحرّمات العلمیة والتأثیر الواقعی الغیر المتبدّل بالجهل، إنّما هو فی بقائه وصیرورته بدلاً عمّا یتحلّل من بدنه، والفرض اطّلاعه علیه فی أوائل وقت تصرّف المعدة، ولم یستمرّ


1- وسائل الشیعة: الباب 35 من أبواب مایکتب به، الحدیث 2.

ص:470

جهله. هذا، کلّه لتطبیق فعلهم علی القواعد، وإلاّ فلهم فی حرکاتهم من أفعالهم وأقوالهم شؤون لا یعلمها غیرهم» انتهی.

أقول: ولقد أجاد فیما أفاد، بل قد یشکل فی أصل تصرفهم علیهم السلام إلی مرحلة الأکل مع الجهل به فی مثل حقّهم علیهم السلام ، لأنّه تصرف فی مال الغیر والقمار بحرامٍ، وهم علیهم السلام أجلّ شأنا عن مثل ذلک أیضا کما لا یخفی.

فان قلنا: بوجوب القیئ ولم یفعل وصلّی مع سعة الوقت وامکان القیء، صار حکمه من جهة الصحة والفساد کسائر ما یجب اجتنابه عنه قبل الصلاة حتّی تصحّ، لأنّ المفروض حینئذٍ وجود الخمر فی البطن الواجب الاجتناب الذی کان وجوده فی البدن واللّباس من حیث المانعیّة، فلا یرتبط من هذه الجهة بالبحث عن الضد حتّی یقال إنّه مأمورٌ بالقیء، فترکها، وعلیه الاتیان بضدّه وهو الصلاة، فإنّه موقوفٌ علی قبول أنّ الأمر بالشیء یقتضی النهی عن ضدّه، لتبطل والاّ فلا، کما عن صاحب «الجواهر».

الفرع السادس: بعد ما ثبت العفو فی بعض ما تقدّم، والاختلاف فیه، یبقی البحث عن موردٍ آخر، وهو ما لو جُبّر عظم الانسان بعظم الکلب والخنزیر، فهل تجب ازالته للصلاة، خصوصا إذا کساه اللّحمُ اللّحم أم لا؟

برغم أنّه لم یعرف خلاف بین الأصحاب فی وجوب ازالته مع الامکان کما عن «المبسوط» حیث نفی الخلاف عنه صریحا، بل فی «الذکری» و«الدروس» الاجماع علیه کذلک، کظاهر غیره، بل قد یظهر من بعضهم الاتفاق علیه بین المسلمین، إلاّ من أبی حنیفة حیث لم یوجبه مع اکتساء اللّحم، بل عن بعض الشافعیة القول بوجوبه وإن خشی التلف فضلاً عن المشقة، وإن کان واضح البطلان، هذا کما فی «الجواهر».

ومن المعلوم أنّ وجوب الازالة لیس الاّ للصلاة لا لنفسه، کما هو صریح بعض، وظاهر آخرین، ولذا لو مات فلا تجب ازالته، کما صرّح بذلک الشهید فی

ص:471

«الذکری» وصاحب «کشف اللّثام».

وقد استدلّ للبطلان معه:

تارة: بصدق حمل النجاسة بناءً علی عدم العفو عن محمول النجس، وکونه ممّا لا یؤکل.

وأخری: بعدم العفو عن مثله، وإن صار من البواطن بأن کساه اللّحم واختفی، اقتصارا علی المتیقن من العفو عن نجاسة البواطن بما کانت من نفسها لا بما أدخل فیها من الخارج.

أقول: لکن الانصاف والدقة یقتضیان خلاف ذلک، لأنّه:

تارة: نفرض کون العظم النجس واقعا فی ظاهر الرجل، وهو قادرٌ علی ازالته بلا مشقّة وتکلّف، نظیر العصا أو الخشب النجس إذا وضعتا فی جنبه لحفظ عظم الرِجْل وشَدّه، ففی ذلک یصحّ القول بوجوب ازالته، لکونه من مصادیق مصاحبة النجس مع المصلّی ببدنه، ویصدق المحمول علیه فیدخل ویندرج تحت حکمه، ولکن مثل هذا المصاحب لا یقال له التجبّر کما ورد هذا التعبیر فی عبارت الأصحاب.

وأخری: کان العظم بجوار عظم الرِجْل وداخل جلده، بأن صار بذلک فی داخل البدن، خصوصا إذا کساه اللّحم واختفنی، ففی مثله یصدق عرفا أنّه جزء البدن فیکون حکمه حکم سائر الاجزاء، فلا وجه للحکم بوجوب ازالته: إمّا لأجل کونه ممّا یشق ذلک کما هو الغالب، فیدخل تحت قاعدة الاضطرار والضرورة العرفیة.

أو لأجل صدق الباطن وتوابعه، فیتّحد حکمه مع حکم سائر الاجزاء، ففی مثله یصحّ أن یطلق علیه صفة التجبیر والجبر، فتحصیل الاجماع علی مثله بوجوب الازالة فی غایة الاشکال، بخلاف الصورة السابقة حیث لا یبعد کون الحکم هو وجوب الازالة إن لم یندرج تحت حکم محمول النجس، کما هو کذلک عرفا، واللّه العالم.

ص:472

هذا کلّه فی عظم نجس العین.

وأمّا لو کان العظم لغیر نجس العین، مثل عظم حیوان حیّ طاهر العین، فأخذ عظمه میتةً بناءً علی نجاسة العظم ولو من المیتة، لأنّه ممّا لا تحلّ فیه الحیاة کالشعر، وفرض طهارته من النجاسة العرضیة أیضا، فلا اشکال فی جواز جبر العظم الکسیر به وعدم وجوب ازالته، إذ لا وجه للحکم بوجوب الازالة.

نعم، الذی یمکن أن یشکل فیه هو فیما إذا کان الجبر بعظم میّت الآدمی غیر الکافر، فإنّه أیضا وإن کان لا ینجس بالموت، إلاّ أنّه یجب ازالته مع الامکان، لمکان وجوب دفنه، لأنّ اجزاء بدن المیّت یجب الحاقه ببدنه بالدفن.

واحتمال عدم وجوب الدفن _ کما احتمله صاحب «الجواهر» _ لأصالة البراءة عن دفن مثله، ممّا لا وجه ظاهر له، إلاّ أن یتمسّک بما جاء فی خبر حسین بن زرارة فی حدیثٍ عن أبی عبداللّه علیه السلام ، قال: «سأله أبی وأنا حاضر عن الرجل یسقط سنّه فیأخذ من انسان میّت فیجعله مکانه؟ قال: لا بأس»(1) بناءً علی مساواة سنّ المیّت لغیره من أجزائه فی وجوب الدفن، وإن لم نقل بذلک بالنسبة الی الحیّ، ولذا جاز للانسان أن یردّ سنّه الی مکانه بعد أن قلعه ولا یجب دفنه، وإن حُکی عن «التذکرة» الاشکال فیه، أی فی ارجاع السنّ الی مکانه فی الحیّ أیضا، ومثله وضع سنّ حیّ آخر مکان سنّ نفسه، ولأجل ذلک قال فی «المدارک»، بالجواز فی عظم المیّت الآدمی، ولکن الالتزام بالجواز والحکم به فی سنّ المیّت یعدّ أشکل من سنّ الحیّ، حیث لم یلتزموا بوجوب دفنه معه دون الأوّل، إلاّ أن نفتی به اعتماداً علی الحدیث الذی تقدّم بناءً علی اعتباره، کما هو


1- وسائل الشیعة: الباب 33 من أبواب الانتفاع به من المیتة، الحدیث 12.

ص:473

وتعصر الثیاب من النجاسات کلّها (1)

کذلک بحسب ما نقله الشیخ باسناده عن الحسین بن سعید عن صفوان بن یحیی عن الحسین بن زرارة، فیفهم منه أنّه لا یجب دفنه إذا أرید ان یستفاد منه فی موردٍ، والاّ فبحسب الحکم الأولی یجب دفن اجزاء المیّت، وهو منها، واللّه العالم.

(1) المعروف بین الأصحاب بغیر خلافٍ وجوب عصر الثوب والفرش ممّا یرسب فیه الماء، فلو غسل ثوبه بالماء القلیل ولم یعصره حتّی جفّ بالهواء أو بالشمس لم یطهر، کما صرّح به جملة من الأصحاب. بعض احکام النجاسات

أقول: العمدة فی المسألة اقامة الدلیل علی وجوبه، فلا اشکال ظاهرا فی أنّه بحسب فتوی المشهور واجبٌ قطعا لو لم نقل بقیام الاجماع علیه، کما یظهر دعوی الاجماع من صاحب «الحدائق»، وإن اقتصر بعضهم فی خصوص البول، بل فی شرح «المفاتیح» لاستاد صاحب «الجواهر»: «أنّه کذلک بین المتقدّمین والمتأخرین»، بل عن المحقق فی «المعتبر» نسبته الی علمائنا، وفی «جامع المقاصد» وغیره انّه ممّا لا ریب فیه، بل أفتوا بذلک حتّی من لا یعمل بآحاد الأخبار، بل من لا من یعمل الاّ بالقطعیات کابن ادریس، بل فیهم من لا یفتی الاّ بمضامین الأخبار کالصدوق فی «الفقیه» و«الهدایة»، بل حکی عن والده أیضا ذلک، الذی قیل إنّهم إذا أعوزتهم النصوص رجعو الی فتاواه.

وعلیه، فالانصاف أنّ وجوب العصر ممّا لا ریب فیه ولا شبهة تعتریه من فتاوی الأصحاب وشهرتهم نقلاً وتحصیلاً.

الدلیل علی وجوب العصر: الذی ینبغی أن یبحث عنه هو أنّ وجوب العصر هل منشؤه قیام الأخبار الدالة علیه، أو غیرها من الأمور الّتی ذکروها فی وجوبه، وهی:

1. قیل فی وجهه، بأن حقیقة الغَسل لا یتحقق إلاّ بالعصر، إذ بدونه یکون صبّا لا

ص:474

غسلا، کما احتجّ به المحقق فی «المعتبر»، بل فی «البحار» نسبته الی فهم الأکثر.

2. بأنّه لا نتیقّن بخروج النجاسة الاّ بالعصر باعتبار أنّ الغُسالة نجسة فیجب اخراجها، إذ لا تحصل الطهارة مع بقائها، فلابدّ من العصر لحصول الطهارة، وقد استدلّ به العلاّمة فی «التذکرة» و«النهایة» وفی «المنتهی» جمع بین الوجهین، کما استدلّ بالأخیر الشهید فی «الذکری»، وتبعه جمعٌ من المتأخرین.

هذا بالنسبة الی العلّل المذکورة فی کتب الأصحاب.

أقول: وأمّا بملاحظة الأخبار فلعلّه ممّا یمکن استفادة وجوب العصر منها:

تارة: بالایماء الیه، مثلاً یمکن ملاحظة ذلک بالایماء بسبب تقابل الغَسل مع الصبّ فی حسنة الحلبی، قال: «سألت أبا عبداللّه علیه السلام عن بول الصبی؟ قال: فصبّ علیه الماء فإن کان قد أکل فاغسله بالماء غسلاً»(1)، هذا بناءً علی عدم صلاحیة وجود مایزٍ بین الغسل والصبّ فلابدّ من ذلک.

بل یمکن أن یضاف الیه: أنّه إن لم نقل بدخول العصر فی حقیقة الغَسل کما هو کذلک لغةً، کما نشاهد صدق حقیقة الغسل فی غسل الثیاب فی ماء الکرّ بلا عصر، فإنّه لا أقلّ أنّه یعدّ، من لوازمه العرفیة التی یفهم ارادته من الأمر بالغَسل عرفا، لکونه المتعارف والمعهود، کما نشاهد ذلک فی أمر الشارع بازالة الاوساخ الموجودة علی الثوب، فإنّه بأمره بالغسل یتبادر الی الذهن غسله مع العصر، لتوقف انفصال الوسخ عنه وأثر القذارة علی العصر، بل قد یُدّعی توقف ازالة النجاسة باعتبار رسوبها فی الثوب علی العصر لینفصل مع الماء عنه، خصوصا إذا قلنا بنجاسة الغُسالة إن لم تنفصل، إذ حینئذٍ لا نقطع بالطهارة إلاّ مع العصر، لعدم ثبوت العفو مع بقاء المتخلّف الاّ بعد العصر، ممّا یعنی أنه باق علی نجاسته قبل العصر. نعم لا یعتبر أعلی أفراد العصر قطعا، کما لا یکتفی بأدناه المخرج شیئاً


1- وسائل الشیعة: الباب 3 من أبواب النجاسات، الحدیث 2.

ص:475

قلیلاً، بل لابدّ أن یکون العصر علی الحدّ المتعارف.

وأخری: بالصراحة کما نشاهد ذلک فی روایة «فقه الرضا» الذی جاء فیه: «وإن أصابک بولٌ فی ثوبک فاغسله من ماء جارٍ مرّة ومن ماءٍ راکد مرّتین ثمّ أعصره، وإن کان بول الغلام الرضیع فتصبّ علیه الماء صبا، وإن کان قد أکل الطعام فاغسله...»(1).

بل فی «الحدائق» جعل ذلک مدرکا لفتوی المشهور، وجعل مدرکه لتقیید الأخبار المطلقة الدالة علی وجوب الغسل بالعصر هو هذا الخبر، فقال: «ظهر أنّ العلّة فی الفتوی بذلک کان هو النصّ، لا التعلیلات التی ذکروها».

وأیضاً: ممّا یدلّ علی وجوب العصر بالصراحة ما جاء فی «البحار» عن «دعائم الاسلام»، عن علی علیه السلام ، قال: «فی المنی یصیب الثوب یَغسل مکانه، فإن لم یعرف مکانه وعلم یقینا أنّه أصاب الثوب غَسله کلّه ثلاث مرّات، یفرک فی کلّ مرّة ویغسل ویعصر...»(2).

واشتماله بما لا یُفتی به لا یوجب رفع الید عمّا هو المقصود، کما أنّ ضعف سنده ینجبر بفتوی المشهور فیؤخذ به.

وأیضاً: بالصراحة ما جاء فی حسنة الحسین بن أبی العلاء، المرویّة فی «الکافی» و«التهذیب»، قال: «سألت أبا عبداللّه علیه السلام عن البول یصیب الجسد؟ قال: صبّ الماء علیه مرّتین، فإنّما هو ماء. وسألته عن الثوب یصیبه البول؟ قال: اغسله مرّتین. وسألته عن الصبی یبول علی الثوب؟ قال: تصبّ علیه الماء قلیلاً ثم تعصره»(3) بناءً علی حمل الصبی فیه علی الأکل، للقطع بعدم وجوب العصر فی غیره، إلاّ أن تقییده بالتعلیل وعدم ذکر التعدّد فیه یؤمی الی أنّ المراد من الصبی هو


1- فقه الرضا، ص 6.
2- المستدرک، ج 1، الباب 3 من أبواب النجاسات، الحدیث 2.
3- وسائل الشیعة: الباب1 صدر فی أبواب النجاسات، الحدیث4، وذیله فی باب3 من أبواب النجاسات، الحدیث 1.

ص:476

الرضیع، ولأجل ذلک حمل بعض الفقهاء أمره علی الندب، لعدم وجوب العصر فی الرضیع.

بل قد یشعر للمطلوب بلزوم العصر فی الثوب فی قبال غَسل الجسد، تعلیله ب «إنّما هو ماء» بخلاف الثوب حیث أنّه یحتاج الی العصر، لأنّه رسب فی الثوب، فلا یکفی الغَسل بلا عصر، کما یؤمی الی ذلک ما جاء فی «مستطرفات السرائر» من «جامع البزنطی»، قال: «سألته عن البول یصیب الجسد؟ قال: صبّ علیه الماء مرّتین، فإنّما هو ماء. وسألته عن الثوب یصیبه البول؟ قال: اغسله مرّتین»(1).

وبالجملة: الذی یظهر من نفس الأخبار هو الفرق بینهما فی الجملة، أی وجود العصر فی الغَسل دون الصبّ، لکن بأن یکون العصر داخلاً فی مفهوم الغسل لغةً وعرفاً بحیث لو غَسل ولم یعصر لم یتحقّق الغَسل حقیقة بل یتحقّق ذلک من خلال العصر فلا.

کما یؤیّد ذلک ما نلاحظ من صحة اطلاق الغَسل مکان الصبّ وبالعکس، وعلیه فدعوی کونه داخلاً فی مفهومه مطلقا للمقابلة کما یظهر عن بعضٍ لیس علی ما ینبغی، ولذلک یشاهد اعتراف جماعة من متأخری المتأخرین بما ذکرنا.

أقول: مضافا الی أنّه یمکن تأیید ما ذکرناه من صحة اطلاق الغَسل بلا عصر فی الغَسل بالماء الکثیر، کما یصحّ اطلاق الصبّ بانفصال الماء عنه، کما ورد ذلک فی کلام الشیخ فی «الخلاف» فی غَسل أبوال غیر الصبی من أنّ حدّه أن یصبّ علیه الماء حتّی ینزل عنه.

واحتمال الفرق فی مسمّی الغَسل بین الکثیر لورود النجس فیه، وبین القلیل بورود الماء علیه.

غیر وجیه، إذ ممّا لا تأثیر فی صدق العنوان، لوضوح أنّ العصر فی الماء القلیل


1- وسائل الشیعة: الباب 1 من أبواب النجاسات ، الحدیث 7.

ص:477

لازمٌ سواءٌ أجزنا وروده علیه أو لم نجز، کما لا یخفی.

مضافا الی امکان تأیید ما ذکرناه: بأنّ المستفاد عرفا من أوامر التطهیر والغَسل لیس إلاّ ارادة ازالة عین النجاسة وأثرها، وهی کما تحصل بالعصر مع الماء، کذلک تحصل بغیره، مثل المباشرة أوّلاً بالازالة وتهیئتها للزوال ثمّ إکثار الماء علیها حتّی تنفصل عنه بلا حاجةٍ الی عصره، کما صرّح بذلک الشهید فی «الذکری» و«البیان» بقوله: «إنّ انفصال الماء قد یکفی فی الازالة من غیر افتقارٍ الی عصر»، مع أنّه قد تکون النجاسة حکمیّة لا عینیة حتّی تحتاج الی العصر، وبرغم ذلک یصدق علیه الغسل بلا عصرٍ، نظیر النجاسة الموجودة فی الثوب المتنجّس بالبول بعد الغَسلة الأولی، حیث إنّه نجس بالنجاسة الحکمیة، لاحتیاج تطهیر البول الی تعدّد الغَسل، فنجاسته بعد الغَسلة الأولی والمزیلة لعین النجاسة تکون نجاسة حُکمیة.

أقول: بقی هنا البحث عن العلّة الأخیرة لوجوب العصر، وهیّ: أن الغسالة نجسة فتجب ازالتها، وهی لا تتحقّق إلاّ بالعصر، فوجوب العصر یعدّ وجوبا مقدّمیا للازالة، هذا کما استدلّ به الشهید فی «الذکری».

فأجاب عنها صاحب «الجواهر» أوّلاً: بأنّه مبنیٌّ علی القول بنجاسة ماء الغسالة، بل ونجاسة الماء المتّصل بالمغسول منها، وقد عرفت أنّ الأقوی طهارة المنفصل منها، فضلاً عن المتّصل، بل ربّما ظهر منهم هناک أنّ المتصل لیس من موضع محلّ البحث فی الغسالة، یدفعها امکان القول بالعفو عن المتخلّف قبل العصر، لاطلاق ما دلّ علی الاکتفاء بالغَسل فی طهارة المغسول، المستلزم طهارته کالمتخلّف بعد العصر الممکن خروجه ولو بعصرٍ أقوی فی الثوب وعلی آلة العصر.

وفیه: الانصاف عدم تمامیة الجواب لمن یقول بنجاسة ماء الغسالة، نعم یتمّ ذلک للقائل بطهارته، إذا لم نقبل کون العصر داخلاً فی مفهوم الغسل، إذ المفروض حینئذٍ تحقّق الغَسل الدالّ علی طهارته، فلا یبقی حینئذٍ وجه لوجوب العصر إلاّ

ص:478

حکما تعبدیّا مستفادا من النصوص إن سلم، هذا بخلاف من یقول بنجاسته، فإنّه یحکم بوجوب العصر بعد الغَسل لتحصیل الطهارة، مستدلاً بأنّ الاطلاقات الدالة علی کفایة الغسل مقیّدة بالنصوص المعتضدة بالشهرة وطهارة المتخلّف، وهذا إنّما یصحّ فیما إذا لم نقل بأنّ الطهارة بالغَسل لم تحصل إلاّ بعد العصر، الموجب لحصول الطهارة فی المتخلّف بعد العصر المتعارف مقداره عند العرف، وإن کان فرضه بالأشدّ والأقوی ممکنا إلاّ انّه لا دلیل لنا علی لزومه فی حصول طهارته.

کما أنّ الأمر کذلک لو قلنا بوجوب العصر تعبدا، لکن لا لتحصیل ازالة نجاسة ماء الغُسالة بالعصر، لأنّ المفروض علی هذا القول هو وجوب العصر لأجل تحصیل الطهارة بالغَسل حکما، وإن لم یکن کذلک حقیقة.

وعلیه، بناءً علی ما ذکرناه فإنّ ما استدلّ به صاحب «الجواهر» فی الردّ علی روایة «فقه الرضا» بعدم حجّیته لیس بجید، لما عرفت انجبار ضعفه بالشهرة والاجماع، وتمامیّة دلالته، کما هو الحال بالنسبة الی خبر «دعائم الاسلام»، وعلیه فلا حاجة حینئذٍ من حمله علی صورة ما کان ازالته متوقفة علی العصر عینا، لامکان کون العصر واجبا حتّی للنجاسة الحکمیّة من دون وجود عین النجس فیه.

هذا، مضافا الی امکان الاستعانة للحکم باستصحاب بقاء النجاسة، لو عرض الشک بعد الغَسل، ولم تتمّ الأدلة علی تعیین أحد الطرفین قبل العصر.

نعم، الذی ینبغی أن ینبّه علیه هو أنّه بناءً علی نجاسة ماء الغُسالة، وکون العصر واجبا لأجل اخراجها من الثوب والفرش ونحوهما بالعصر، فإنّه لا فرق فیه بین کون الاخراج حاصلاً بالعصر أو کلّ ما یقوم مقامه ممّا یؤدّی الی الاخراج التغمیز أو الدلک أو اللّی والکبس ونحوها، لما ثبت أنّ وجوب العصر حینئذٍ لیس حکماً تعبدیاً یجب مثل الاقتصار علیه، بل مقدّمی لحصول الازالة، فإذا تحقّقت مع

ص:479

الغَسل وما یقوم مقام العصر تحصل الطهارة بلا اشکال.

***

هذا آخر ما یتعلّق بباب النجاسات من کتاب الطهارة؛ وکان الفراغ منه یوم الجمعة سادس جمادی الآخرة سنة 1430ه وصلّی اللّه علی محمّد وعلی آله الطیّبین الطاهرین المعصومین.

ص:480

الفهرست

الفهرست

حکم میتة الآدمی••• 30

المستثنیات من نجاسة المیّت••• 36

البحث عن أخبار إلیات الغنم••• 52

حکم مسک الفأرة••• 59

فروع أجزاء المیتة••• 72

فروع باب غُسل المسّ••• 99

تکملةٌ مشتملة علی فروع:••• 102

صور مسّ اجزاء المیتة المشکوکة••• 119

حکم السقط••• 125

البحث عن حکم دم العلقة••• 145

حکم الدّم المتخلّف فی الذبیحة••• 150

حکم الدم المتخلّف فی الاجزاء المحرّمة••• 154

البحث عن المراد من اسم الذبیحة••• 155

حکم الدم المتخلّف فی المذکی غیر المأکول••• 156

حکم الکلب و الخنزیر البحری••• 164

دلیل القائلین بنجاسة الخمر••• 175

ص:481

حکم بعض أقسام المسکر••• 187

تتمیم••• 191

أدلة نجاسة العصیر العنبی••• 194

البحث عن سبب حرمة العصیر••• 201

فروع باب العصیر العنبی••• 204

الدلیل علی نجاسة العصیر الزبیبی••• 208

حکم العصیر الزبیبی عند الغلیان••• 210

حکم الزبیب المطبوخ داخل الطعام••• 219

حکم العصیر المصنوع من التمر••• 220

البحث عن کلمة «نَجَس» فی الآیة••• 240

البحث عن حکم المجوس••• 244

أدلة القائلین بطهارة أهل الکتاب••• 253

البحث عن مباشرة المؤمنین مع أهل الکتاب••• 263

فی حکم أجزاء بدن الکتابی••• 264

حکم الولد المتولّد من الکافرین••• 265

الدلیل علی أحکام أولاد الکفّار••• 271

فروع أحکام الکفّار••• 275

البحث عن تحدید عنوان الکافر••• 284

حکم منکر ضروری الدین••• 287

حکم من أنکر ثوابت الدین غیر الضروری••• 291

البحث عن حکم الخوارج والغلاة••• 293

حکم المُجسّمه والمجبرة••• 296

ص:482

البحث عن حکم المفوّضة••• 304

حکم سابّ النبیّ والمعصوم••• 305

حکم أهل الخلاف من حیث النجاسة والطهارة••• 306

البحث عن حکم الناصب••• 316

المناقشة فی نجاسة الناصبی••• 321

البحث عن طهارة سائر فرق الشیعة••• 322

البحث عن حکم ولد الزّنا••• 326

تکملة:••• 335

حکم عرق الجنب فی المکره والمضطر••• 345

البحث عن ملاک حرمة العرق••• 345

فی حکم عرق الابل الجلاّلة••• 346

البحث عن حکم المسوخ••• 350

البحث عن حقیقة المسوخ••• 353

القول الثانی••• 372

فی أحکام النجاسات••• 372

فروع ثوب المصلّی••• 374

الأخبار الدالّة علی حرمة تنجیس المساجد••• 383

حرمة ادخال النجاسة المسریة الی المسجد••• 390

حرمة تنجیس أثاث المسجد••• 393

حکم تنجیس حائط المسجد••• 394

فروع تتعلّق بطهارة المسجد••• 395

طهارة محلّ السجدة••• 400

ص:483

فروع باب دم القروح والجروح••• 406

أدلّة القائلین بعفو الدّم••• 417

البحث عن أمور یتعلّق بالدم••• 421

حکم الدماء الثلاثة فی ثوب المصلّی••• 426

حکم دم نجس العین إذا أصاب الثوب••• 433

حکم اصابة الثوب دم حیوان لا یؤکل لحمه••• 436

حکم اصابة الثوب دم غیر اللابس••• 438

فروع تتعلق بأحکام الدماء••• 440

فروع مسألة المحمول المتنجّس فی الصلاة••• 460

المجلد 10

اشارة

ص: 1

تألیف

آیة اللّه العظمی الحاج السیّد محمّد علی العلوی الگرگانی

الجزء العاشر

ص:2

ص:3

بسم الله الرحمن الرحیم

ص:4

ص:5

البحث عن موارد وجوب تعدّد الغَسل

البحث عن موارد وجوب تعدّد الغَسل

ثمّ بعد ما ثبت وجوب العصر بعد الغَسل، یأتی الکلام فیما یجب تعدد الغَسل فیه کبول غیر الرضیع، فهل یجب العصر بعد کلّ غسلة، أو یکفی عصر واحد بعد الغسلتین، أو یکفی عصر واحد بعد الغَسلة الأولی فقط دون الثانیة؟ وجوه وأقوال:

1. فعلی القول بکون العصر داخلاً فی مفهوم الغسل، فلا اشکال فی لزوم تعدده، لأنّه ما لم یتعدّد لم یتعدّد الغَسل، والمفروض وجوب تعدده کما هو الأمر کذلک علی القول بوجوبه تعبدا، إن سلّمنا دلالة الدلیل علی ذلک أیضا، والاّ یمکن أن یکون مفاد الدلیل فی صورة التعدد جعل العصر بعد الغَسلتین، کما هو کذلک مضمون خبر «فقه الرضا» حیث حکم بوجوب العصر فی تطهیر الثوب من نجاسة البول بعد الغسلتین، وعمل بمضمونه صاحب «الحدائق»، لأجل أنّ مضمون خبر «فقه الرضا» موافق مع ما حکم به الصدوقان.

2. وقول بکفایة عصر واحد بعد الغسلة الأولی، کما نقل ذلک عن الشهید.

ولکن المشهور کما علیه صاحب «الجواهر»، هو لزوم التعدّد بتعدد الغسل، وإن خالف ذلک مع ما جاء فی خبر «فقه الرضا» لما قد عرفت منا مرارا بأنّه حجّة فیما إذا لم یخالف مع المشهور، وإلاّ یؤخذ بما هو المشهور، فیحمل ما جاء فیه علی ما کان العصر بعد الغسلتین، لا عند من لم یقل بالعصر بعد الغسلة الأولی.

ولعلّ وجه قول المشهور بلزوم تعدّد العصر بعد کلّ غسلة، هو ملاحظة کون

ص:6

العصر مقدّمة لاخراج ماء الغُسالة علی فرض نجاستها، وعلیه فلا فرق فی ذلک بین کونه فی الغَسلة الأولی أو الثانیة، ولذلک نقول إنّ ما علیه المشهور هو الأقوی.

هذا کلّه إذا کان الغَسل فی الثیاب وأشباهها بالماء القلیل، وقلنا بنجاسة الغُسالة، والاّ فلا حاجة الی العصر إلاّ علی القول بکونه داخلاً فی مفهوم الغَسل وکونه أمرا تعبدیا کما عن بعضٍ، فحینئذٍ لا فرق بلزوم العصر علی التقدیرین.

حکم العصر بعد الغَسل بالکثیر

حکم العصر بعد الغَسل بالکثیر

یقع البحث عمّا لو کان الغسل بالکثیر، فهل یعتبر العصر فی غسل النجاسة به أم لا؟

ظاهر اطلاق المصنّف حیث قال: «ویعصر الثوب من النجاسات کلّها» عدم الفرق، ولعلّ وجهه أحد الأمرین: إمّا لأنّ العصر مأخوذ فی مفهوم الغسل، فلازمه ذلک، حیث لم یتحقّق الغسل ما لم یعصر.

وإمّا بأن العصر أمر تعبدی لابدّ منه فی کلّ غسل، سواءٌ وجد فی القلیل أو الکثیر.

أقول: کلا الأمرین ممنوعان، لأنّ العصر اذا کان مقدّمة لاخراج النجاسة الموجودة فی الغسالة، اذا کان فإنّه لا وجه لایجاب العصر فیما لا یبقی له نجاسة بعد دخوله فی الماء الکثیر کالجاری والکرّ، کما جزم به العلاّمة فی «التذکرة» و«النهایة» وصاحب «المدارک» و«الحدائق» و«مصباح الهدی» وأکثر المتأخرین من صاحب «الجواهر» تبعا للمحقّق فی «المعتبر»، ولعلّ اطلاقه الحکم فی المقام لأجل أنّ ما هو مورد النزاع هو التعلیل، فینصرف الاطلاق الیه، وقد تسالم الأصحاب علی الحکم، فضلاً عن دلالة خبر «فقه الرضا» علیه، فقد جاء فیه: «إن

ص:7

غسل فی ماء جارٍ کفت المرّة من غیر عصر، وإن غسل فی ماء راکد فمرّتان بعدهما عصر واحد» بناءً علی أنّ المراد من الماء الراکد الأقل من الکرّ، کما هو الظاهر من تقابله بالماء الجاری، وعلیه، فلا وقع حینئذٍ لتوهّم استصحاب بقاء النجاسة لو لا العصر، لأجل احتمال کونه مأخوذا فی مفهومه أو أمرا تعبّدیا، کما لا وقع لاحتمال اطلاق الراکد الشامل للکرّ المذکور فی «فقه الرضا». فإذن ثبت مما ذکرنا أنّ احتمال وجوب العصر فی الکثیر ساقط عن الاعتبار. واللّه العالم.

کفایة الجفاف بدل العصر بعد الغَسل

بعد ما ثبت خلال المباحث الآنفة لزوم العصر أو ما یقوم مقامه من الأمور إذا کان غسل الثوب بالماء القلیل، وبقی البحث عن أنّه هل یکفی فی ازالة النجاسة عن ماء الغسالة بعد الغسل الجفاف بدل العصر أم لا؟ وجهان بل قولان:

1. قال العلاّمة فی «التذکرة»: «لو جفّ الثوب من غیر عصرٍ ففی الطهارة اشکال، ینشأ من زوال النجاسة بالجفاف والعدم، لأنا نظنّ انفصال اجزاء النجاسة فی صحبة الماء بالعصر لا بالجفاف»، کما قال الشهید فی «البیان»: «لو أخلّ بالعصر فی موضعه، فالأقرب عدم الطهارة، لأنّا نتخیّل خروج أجزاء النجاسة به»، وفی «الذکری» قال: «الأولی الشرطیة فی العصر، لظنّ انفصال النجاسة مع الماء بخلاف الجاف المجرّد» فانّ هذه العبارات تفید عدم کفایة الجفاف کما علیه صاحب «الجواهر» و«الحدائق».

2. ولکن یظهر من صاحب «المعالم» القول بالکفایة، فإنّه بعد نقل کلامهم، قال: «أنت إذا أحطت خُبرا بما قلنا فی المسألة، یتّضح لک الحال فی هذا الفرع، لأنّ

ص:8

العصر إن أخذ قیدا فی ماهیّة الغسل، أو توقف علیه خروج النجاسة، لم یغن عنه الجفاف وان اعتبر لاخراج الغسالة، فلا ریب فی کون الجفاف مخرجا لها، وما ذکراه من الظنّ والتخیّل لیس بشیءٍ، کیف وهذا الظنّ فی أکثر الصور لا یأتی، والتخیّل فی الأحکام الشرعیّة لا یجدی)، فإنّه صریح فی کفایة الجفاف».

یرد علیه: أنّه إذا فرض کون وجوب العصر مقدّمة لازالة النجاسة عن الثوب، لأجل نجاسة الغسالة، والمفروض أنّ النصّ دلّ علی أنّ العصر هو المزیل لذلک، الموجب لطهارة الرطوبة المتخلّفة، فما الدلیل علی کفایة الجفاف فی حصول الطهارة. هذا مع تسلیم کونه اخراجا، وإلاّ عند العرف لا یطلق علی ذلک اخراج الغسالة حتّی یقال إنّه من مصادیق العصر، مضافا الی وجوب استصحاب النجاسة إذا شکّ فی تحقّق الاخراج به، وعلیه فالأقوی کما علیه المشهور هو عدم الکفایة، کما علیه الشهیدان والمحقق وصاحب «العروة»، وأکثر أصحاب التعلیق، واللّه العالم.

أقول: لا یخفی أنّ تقدیمنا البحث عن لزوم العصر أو ما یقوم مقامه فیما یرسب فیه الماء والنجس کالثوب والفرش، کان لأجل ما ذکره المصنّف فی «الشرائع» عن هذا الفرض، والآن حان الوقت للتعرّض لحکم بقیّة أقسام المتنجّس ممّا لا یرسب فیه أو یرسب، ولکن لا یمکن العصر فیه، أو لا یمکن تطهیره، وغیر ذلک من الصور المتصوّرة فیه مع اطلاق الأخبار الدالة علی الغَسل بالماء، فنقول ومن اللّه الاستعانة:

فروع کیفیّة طهارة المتنجّسات عدا الأقمشة / الفرع الاول

فروع کیفیّة طهارة المتنجّسات عدا الأقمشة

الفرع الأوّل: إذا کان المتنجس ممّا لا یُعصر عادة، وکان ممّا لا یرسب فیه الماء

ص:9

کما لو کان الجسم من الأجسام الصّلیة کالجسد والاناء وغیرهما، فهل یعتبر فی تطهیرهما _ مضافا الی صبّ الماء _ الدلک عوض العصر، کما کان الثانی واجباً فی ما یرسب فیه کالثوب أم لا؟ فیه وجهان بل قولان:

1. قول بالوجوب، عن العلاّمة فی «التحریر» و«النهایة» وعن ابن حمزة، لکن فی الأخیر فی غیر مسّ الحیوان النجس، واستدلّوا لذلک:

أولاً: للاستظهار وتحصل الظهور فی حصول الطهارة.

وثانیا: لموثق عمّار بن موسی، عن أبی عبداللّه علیه السلام ، قال: «سألته عن الدنّ یکون فیه الخمر، هل یصلح أن یکون فیه خلّ أو ماء کافح أو زیتون؟ قال: إذا غُسل فلا بأس. وعن الابریق وغیره یکون فیه خمر أیصلح أن یکون فیه ماء؟ قال: إذا غسل فلا بأس. وقال: فی قدحٍ أو اناءٍ یشرب فیه الخمر؟ قال: تغسله ثلاث مرّات. وسُئل أیجزیه أن یصبّ فیه الماء؟ قال: لا یجزیه حتّی یدلکه بیده ویغسله ثلاث مرّات»(1).

فإنّه یدلّ بلزوم الدلک وعدم کفایة الصبّ فقط، إلاّ أنّه أجاب قبله بکفایة الغسل من دون اشارة الی لزوم الدلک، فلو کان الدلک معتبرا فی الغسل فعدم ذکره فی الجواب السابق یوجب تأخیر البیان عن وقت الحاجة، فحیث لم یذکر یفهم عدم اعتباره فی غَسله، ممّا یعنی أنّه یصدق مسمّی الغسل بدون الدلک بعد معلومیة عدم مأخوذیة الدلک فی مفهوم الغسل لغةً وعرفاً کما لا یخفی، هذا کما اشار الیه العلاّمة فی «المنتهی».


1- وسائل الشیعة: الباب 51 من أبواب النجاسات، الحدیث 1.

ص:10

لکن قد یمکن أن یجاب عنه: بأنّ اطلاق الغسل فی جوابه السابق من دون اشارة الی الدلک، لعلّه کان لدفع توهّم أنّ ما فیه الخمر لا یجوز أن یستفاد منه للشرب ونحوه، لشدّة تنفّر الطبع والشرع عن الخمر، فأجاب علیه السلام بأنّه لا مانع من استعماله إذا غُسل، کما أن حکمه بلزوم الغسل ثلاث مرّات کان بعد ذکره مطلق الغسل أوّلاً، وهکذا یکون ذکر لزوم الدلک فی غسل الخمر أیضا، فلا یلزم ولا یرد فیه الاشکال بأنّ ذکر الدلک بعد الاطلاق یستلزم تأخیر البیان عن وقت الحاجة.

نعم، یصحّ حمله علی صورة ما اذا کانت ازالة النجاسة متوقفة علی الدلک، کما لا یبعد ذلک إذا ترسبت دسومة الخمر والنجاسة، لبقاءهما مدّة طویلة فی الدن والاناء، أو حمله علی صورة تحصیل الاطمینان بزوال النجاسة بواسطة الدلک، بعد معلومیة عدم کون الدلک مأخوذا فی مفهوم الغسل، خصوصا بالنسبة الی مثل هذه النجاسات التی تنفذ عادة وتبقی فی المحلّ، مع شدّة الاهتمام من الشارع بالاحتیاط فی مثل هذه الأمور، خصوصا مع ملاحظة وجود اطلاقات الغسل والتطهیر الدالة علی کفایة الغَسل دون اشتراط الدلک ولزومه، بل المنقول عن نفس هذا الراوی فی روایة أخری کفایة الغسل فقط دون الحاجة الی الدلک، وهو ما رواه الشیخ باسناده عن عمّار بن موسی الساباطی، عن أبی عبداللّه علیه السلام ، قال: «سُئل عن الکوز والاناء یکون قذرا کیف یُغسل، وکم مرّة یغسل؟ قال: یغسل ثلاث مرّات، یصبّ فیه الماء فیحرّک فیه، ثمّ یفرغ منه ثمّ یصبّ فیه ماء آخر فیحرّک فیه، ثمّ یفرغ ذلک الماء، ثمّ یصبّ فیه ماء آخر فیحرّک فیه، ثمّ یفرغ منه وقد طهر، الحدیث»(1).


1- وسائل الشیعة: الباب 53 ، من أبواب النجاسات، الحدیث 1.

ص:11

قد یتوهّم: أنّ نفس التحریک لثلاث مراحل یعدّ عوض الدلک.

أقول: حمله علی ما یتوقّف فیه ذلک غیر بعید، کما نشاهد ذلک فی مثل تطهیر بعض القذارات کالغایط حیث لا یزول عن المحلّ الاّ بالدلک وصبّ الماء علیه بالشدّة وما أشبه ذلک، وعلیه لا یکون الحدیث مخالفا لفتوی المشهور من کفایة الغسل فی التطهیر إذا حصل ازالة النجاسة بواسطته، کما قد یؤیّد ذلک الأخبار الواردة الآمرة بالصبّ علی الجسد من البول ومحلّ الاستنجاء منه، خصوصا مع ملاحظة التعلیل الوارد فی کلام الامام لتطهیر البول بأنّه ماءٌ، حیث یرید بیان أنّه یکفی فی تطهیره وصول الماء الیه دون الحاجة الی الدلک کما لا یخفی، ولأجل ذلک صرّح کثیر من الفقهاء بل کلّهم عدا من عرفت علی کفایة الغسل والصبّ فقط، بل قد یقال إنّه ممّا لا نعرف فیه خلافا، لامکان تنزیل کلام المخالف علی صورة توقّف الازالة علی الدلک، وهذا لا مضایقة فیه.

نعم، یمکن القول باستحباب الدلک للاستظهار کما فی «الجواهر» تبعا لما جاء فی «المعتبر» و«المنتهی» و«مجمع البرهان» و«المدارک» و«المدنیات» و«التذکرة».

ثمّ علی فرض طهارة ماء الغُسالة، فالمسألة واضحة فی طهارة الماء والرطوبة الباقیة علی المحلّ وعلی آله الدلک.

وأمّا بناء علی نجاسة الغسالة، ووقوع الدلک مقارنا للغسل، قد یشکل الحکم بطهارة ما علی آله الدلک من ماء الغسالة.

و أجاب عنه صاحب «الجواهر» بقوله: «وربّما یدفعه _ بعد امکان معلومیة تبعیة

ص:12

الطهارة فی مثل الفرض _ ظهور أنّ المراد باعتبار الدلک هو مباشرة المتنجس لتهیئة اخراج نجاسته باراقة الماء علیه، فلابدّ حینئذٍ من سبعة علی غسلة التطهیر، فلا بأس بالتزام نجاسة ما علی الآلة حینئذٍ، لکن یحتمل الاکتفاء به لو وقع بعد الصبّ علی البدن لازالة أجزاء النجاسة، لو کانت بانفصال ما بقی من الماء، کما هو قضیة بدلیّته عن العصر، وکذا الاکتفاء به مع المقارنة فتأمّل جیّدا» انتهی کلامه(1).

أقول: مضافا إلی صحة ما قاله من أنّه مبنیٌّ علی کون ماء الغسلة نجس حتّی بالغسله الثانیة غیر المزیلة للنجاسة، حیث إنّه یوجب کون آله الدلک نجسة بواسطة نجاسة ماء الغسالة فحینئذٍ لا یبقی مجال للحکم بطهارة آله الدلک إلاّ علی القول بطهارتها بالتبعیة، نظیر الطهارة فی الماء والرطوبة المتخلّفة، وإلاّ لا یرد علیه الاشکال لحصول طهارتها بالغسلة الغیر المزیلة لها کما لا یخفی للمتأمّل.

الفرع الثانی: ما إذا کان المتنجّس ممّا لا یعصر عند تطهیره وقد رسبت النجاسة فی باطنه بحیث لا یمکن وصول الماء الیه باقیا علی اطلاقه مع بقاء المتنجس علی حاله أو العلم به کذلک، لرطوبةٍ أو دسومة فیه أو لغیرهما، أو هو مثل المایعات من الدّهن وغیره، فهل یطهر بالقلیل والکثیر، أم لا یطهر إلاّ بالکثیر، أو لا یطهر بهما؟ بعد معلومیة امکان حصول الطهارة لسطحه الظاهری الجامد وامکان تطهیره بالغسل بالماء مطلقا _ أی القلیل والکثیر _ لأنّه یصیر بعد الانجماد کالذهب وغیره، حیث أنّ تطهیر ظاهره لا یوجب طهارة باطنه.فروع کیفیّة طهارة المتنجّسات عدا الأقمشة / الفرع الثانی


1- الجواهر، ج 6، ص 146.

ص:13

وبعبارة أخری: الکلام فیما لو أرید تطهیر باطنه بعد تنجّسه؟

أقول: فی حکم هذه المسألة اختلاف: قیل إنّه لا یمکن تطهیره مطلقا حتّی بالکثیر فضلاً عن القلیل، ذهب الیه صاحب «المدارک» و«المعالم» و«الحدائق» وصاحب «الجواهر» وعدّة کثیر من المتأخرین.

وقیل: یمکن تطهیره بالکثیر کالکرّ وهو مختار السّید فی «العروة» تبعا للعلاّمة فی «التذکرة» و«المنتهی» و«النهایة» والشهید فی «الذکری» فی الجملة، لأنّ کلامه یوهم توقّفه فی الدهن، فلا بأس بذکر کلامهم فی التطهیر والنظر الیه: قال العلاّمة فی «التذکرة»: «إنّما یطهر بالغسل ما یمکن نزع الماء المغسول به عنه دون ما لا یمکن کالمایعات والکاغذ والطین، وإن أمکن ایصال الماء الی اجزائها بالضرب، ما لم تُطرح فی کرٍّ فما زاد، أو فی جارٍ بحیث یسری الی جمیع اجزائها قبل اخراجها منه، فلو طرح الدهن فی ماء کثیر وحرّکه حتّی تخلّل جمیع الماء أجزاء الدهن بأسرها طهر».

وفی «المنتهی» قال: «الدّهن النجس لا یطهر بالغسل، نعم لو صبّ فی کرّ ماءٍ ومازجت أجزاء الماء اجزائه، واستظهر علی ذلک بالتصویل بحیث یعلم وصول الماء الی جمیع أجزائه طهر».

ولکن قد استشکل علیه صاحب «المدارک» بعد نقل کلام الفاضل، وقال: «لا ریب فی الطهارة بعد العلم بوصول الماء الی کلّ جزءٍ من أجزاء المایع، إلاّ أنّ ذلک لا یکاد یتحقّق فی الدهن، لشدّة اتصال أجزائه، ولا فی غیره من المایعات إلاّ مع خروجه من تلک الحقیقة، وصیرورته ماء مطلقا»، واستجوده صاحب «الحدائق».

ص:14

بل عن صاحب «المعالم» بیان وجه الفرق بین سائر المایعات وبین الدُّهن، حیث أنّ الأوّل یخرج عن صلاحیتها للانتفاع بامتزاج الماء فی جمیع أجزائها غالبا، بخلاف الدهن، فإنّ مخالطة الماء له غیر مستقرّة إذ یسرع انفصاله منه فتبقی الصلاحیة للانتفاع بحالها وهو ظاهرٌ.

وأضاف جماعة الی کلامه ومنهم صاحب «الجواهر» بقوله: «إنّه حتی لو قیل بامکان ایصال الماء الی جمیع أجزاء الدهن، ولکن العلم بایصاله غیر ممکن، فلذلک لابدّ أن یجتنب عنه، ولا یحکم بطهارته ولو کان فی الکرّ والجاری، بل ولو سلّم حصول العلم بالوصول، ولکن نمنع عن حصول الطهر به، لعدم الدلیل علی حصول الطهارة به، واطلاق مطهریّة الماء إنّما یصحّ التمسّک به بعد احراز قابلیة المحلّ وهو هنا مشکوک».

أقول: وقد ناقش فی جمیع ذلک صاحب «مصباح الهدی»، وقال: «أمّا استحالته بالاختلاط بالماء لأجل دسومته وشدّة اتصال أجزائه فممنوع، لأنّه لیس إلاّ کدسومته التی کانت علی البدن أو اللّحم التی لا تمنع عن نفوذ الماء فیه أو وصوله الی البدن، ولذا تطهر بالقلیل فضلاً عن الکثیر، ولا سیّما إذا جعل فی الکرّ الحارّ کما فرضه بعضٌ کصاحب «العروة»، وخصوصا مع ابقائه فیه مدّة طویلة حسب ما فرضه العلاّمة حیث یستظهر العلم بوصوله بالتطویل».

وفیه: الانصاف عدم تمامیة کلامه، وقیاسه مع دسومة البدن واللّحم قیاسٌ مع الفارق، لوضوح أنّ حصول الطهارة فی المقیس علیه کان لأجل أنّه یزیل عنه الدسومة المتنجّسة بواسطة الماء، فلا اشکال فی حصول الطهارة بذلک، بخلاف

ص:15

الدهن المتنجس حیث لا تذهب دسومته بواسطة الماء إلاّ بافناء أصل الدهن، وهو مخالف للفرض، فإذا فرضنا عدم قبول التطهیر وزوال النجاسة إلاّ بزوال نفسه، فحینئذٍ لا فرق فی ذلک بین کون الماء الکرّ حارّا، کما لا فرق فی عدم قبول التطهیر بین بقائه فی الکرّ مدّة طویلة أم لا، لانّک قد عرفت أنّه ما دام باقیا علی الدهنیّة، تکون نجاسته باقیة ولا تزول إلاّ بزوال نفس الدهن، وهذا هو عمدة الاشکال التی تقتضی عدم قابلیة المحلّ للتطهیر مع بقائه بحاله، مضافا الی أنّه لا أقلّ یوجب الشک فی حصول التطهیر، لأنّا لا نعلم أنّه یکون کدسومة اللّحم حتّی یتطهر أم لا فلا، فمقتضی استصحاب النجاسة هو الاجتناب، ولعلّه لذلک قال صاحب «الجواهر» تبعا للآخرین بأنّه: «لو سُلّم أمر امکان التطهیر، ولکن لا یمکن تحصیل العلم بذلک»، وعلیه فالأحوط لو لم یکن أقوی هو وجوب الاجتناب عنه.

الفرع الثالث: إذا تنجس ما لا ینفصل عنه الغُسالة بنفسها، لا بالعصر أو الدّق أو التغمیز ونحو ذلک _ مثل الصابون والفواکه والخبز والسمسم والحنطة والعجین والشعیر، ونحو ذلک من الحبوبات وما جری مجراها _ ففی تطهیرها خلافٌ یحتاج وضوح حکمها الی بیان صورها:فروع کیفیّة طهارة المتنجّسات عدا الأقمشة / الفرع الثالث

الصورة الأولی: مالو تنجّس ظاهرها من دون وصول النجاسة الی باطنها، فمع عدم نفوذ ماء الغسالة الی باطنه، فلا ینبغی الاشکال فی طهره بغسله علی حدّ سائر الأجسام الصلبة الغیر القابلة للعصر، بلا فرق فی حصول الطهارة بین أن یکون تطهیره بالقلیل أو بالکثیر، وقد ادّعی صاحب «الجواهر» الاتفاق علی حصول الطهارة بالکثیر، وعن «اللّوامع» و«الذخیرة» نفی الخلاف عنه.

ص:16

والدلیل علیه: عموم مطهّریة الماء، وخصوص ما ورد فی مطهّریة الکرّ والجاری وماء المطر، وهو واضح لا یحتاج الی مزید بیان.

ربّما یقال: بعدم طهره بالقلیل لعدم امکان عصره بناءً علی وجوب العصر فی تطهیر المتنجّسات تعبّدا، بل قیل بالمنع بناءً علیه حتّی مع الکثیر، کما حُکی عن جماعة من المتأخرین، لأجل لزوم العصر وانفصال الغسالة لنجاستها.

لکنّه ضعیف: لعدم اعتبار ذلک فی القلیل، فضلاً عن الکثیر، مع ما ثبت من نفی الخلاف فی حصول الطهارة فی الثانی، لما قد عرفت من المنع من کون وجوب العصر تعبّدیا، وعلی فرض تسلیم کونه کذلک کان فیما یمکن عصره لا مطلقا، فإنّ انفصال کلّ شیء یکون بحسبه، وهو فی المقام متحقّق علی طبق ما یتحقّق فی الجوامد مثل الظروف والبدن، هذا کلّه علی فرض کون الغسالة نجسة، وإلاّ کانت المسألة أوضح، لأنّها إن کانت طاهرة مطلقا _ أی من الغسلة المزیلة أو غیرها _ فطهارتها لا یحتاج الی بیان، کما هو کذلک لو فصّلنا بین النجاسة فی المزیلة دون غیرها، فهو أیضا کذلک لو تعدّدت الغُسالة کما لا یخفی، بل وهکذا علی النجاسة مطلقا، لما مرّ من العمومات والمطلقات الدالّة علی مطهّریة الماء، خصوصا فی الکرّ ونحوه.

هذا ما لو لم تنفذ النجاسة _ لا من أصل النجس ولا من الغُسالة المتنجسة _ الی الباطن.

الصورة الثانیة: وهو ما لو نفذت النجاسة الی باطنها، فیقع البحث عن أنّه هل یمکن تطهیره مطلقا، أی سواءٌ کان بالکثیر أو بالقلیل، أو عدمه کذلک، أو التفصیل بامکانه مع الکثیر دون القلیل؟ وجوه وأقوال: المحکی عن «المنتهی» و«النهایة»

ص:17

و«مجمع الفائدة» و«المدارک» هو الأوّل، کما علیه صاحب «الجواهر»، مستدلاً:

أوّلاً: بأنّ الحکم بعدم الطهارة مستلزمٌ للحرج والضرر.

وقد أجیب عنه أوّلاً: بأنّ الأدلة الواردة فی الضرر والحرج، النوعیّة منهما غیر وافیة لاثبات الأحکام فی مقام الاثبات، لأنّ الأحکام فیها تکون فی مرحلة ملاک الجعل والثبوت، وهو یعدّ من شأن الجاعل والمقنن، ولا یصحّ الاستدلال بهما للحرج والضرر الشخصیین.

أقول: کلامه وإن لا یخلو عن نقاش، لوضوح أنّ من یدّعی ذلک یقصد أنّ الحکم بذلک _ أی بعدم قابلیة التطهیر _ یستلزم نوعا الحرج والضرر لا فی شخص واحد حتّی یقال بمقالته.

وثانیا: إن أراد الشخصی منهما، فلا یوجب الحکم بذلک کلّیا، بل یکون الحکم منوطا بکلّ مورد یوجب ذلک، والالتزام به غیر ضائر بالمراد، کما لا یخفی، مع أنّ أصل الدّعوی لا یخلو عن وهن اذا کانت الأدلة وافیة به.

وثانیا: بأنّ ما یتخلّف فی هذه الأشیاء من الماء ربّما یکون أقلّ من المتخلّف فی الحشایا بعد الدّق والتغمیز، مع أنّه محکوم بالطهارة.

وفیه: إنّ ضعف هذا الدلیل واضح، لوضوح عدم دخالة قلّة الماء المتخلّف وکثرته فی الحکم، لأنّ مناط الحکم بالطهارة وعدمها هو دلالة الدلیل وعدمها، فإنْ دلّت أخذ به وحکم بطهارة الماء المختلّف ولو کان کثیرا، وإلاّ فلا وان کان قلیلاً، مضافا الی أن فیه شائبة القیاس، مع کونه مع الفارق للفرق بین الحشایا والمقام، حیث أنّ الحشایا لا تبقی الغسالة الاّ قلیلاً، بخلاف هنا حیث لا یخرج من

ص:18

باطن المغسول شیئا من الغسالة.

وثالثا: اطلاق أوامر الغسل الشامل للقلیل والکثیر، وعموم ما ورد من مطهریة الماء، وما ورد فی مطهریة الکرّ والجاری وماء المطر، وخصوص ما ورد من الأمر بغَسل اللّحم المطبوخ:

1. روایة السکونی، عن الصادق علیه السلام ، عن أمیرالمؤمنین علیه السلام : «سُئل عن قدر طبخت فإذا فی القدر فأرة؟ قال: تهراق المرق ویغسل اللّحم ویؤکل»(1).

2. روایة زکریا بن آدم، قال: «سألت أباالحسن علیه السلام عن قطرة خمر أو نبیذ مسکرٍ قطرت فی قدرٍ فیها لحم کثیر وعرق؟ قال: یُهراق المرق أو یُطعمه أهل الذمّة أو الکلاب، واللّحم اغسله وکله»(2).

بناءً علی اطلاقها الشامل حتّی لصورة الغلیان، الموجب لرسوخ النجاسة فی باطن اللّحم ولم یکن منحصرا لصورة برده الذی یمنع عن رسوب النجاسة فیه، إذا لم یبق فی الماء مدّة مدیدة، وإلاّ یصیر حالة کصورة الغلیان، خصوصا فی الروایة الأولی الظاهرة فی الغلیان، حیث یستفاد ذلک من جملة (طبخت) کما لا یخفی، وبناءً علی اطلاق الغسل فیهما للغسل بالقلیل أو الکثیر، فیتمّ المطلوب.

ولکن یمکن أن یجاب عنه أوّلاً: بأنّ الاطلاق والعموم ربّما یقید أو یخصّص ما دلّ علی وجوب انفصال ماء الغسالة عن المحلّ فی التطهیر بالقلیل المفروض تعذّره فی المقام.


1- وسائل الشیعة: الباب 44 ، من أبواب الاطعمة المحرمة، الحدیث 1.
2- وسائل الشیعة: الباب 36 ، من أبواب الاطعمة المحرمة، الحدیث 1.

ص:19

وثانیا: علی فرض التسلیم فی الماء الکثیر، ولکنّه لا یجدی فی مطهریة الماء القلیل، مع أنّه کان مورد الدعوی.

أقول: نعم، یبقی هنا دلالة الروایتین علی المطلوب، وقد أجیب عنهما:

أوّلاً: بالمنع عن العمل بهما، لضعف سندهما، ومخالفة مضمونهما مع القواعد، ولا جابر لهما من حیث العمل.

وثانیا: بالمنع عن دلالتها للمطلوب بعد تسلیم ظهورهما فی الغلیان، خصوصا فی الأولی، ولکن نمنع اطلاقهما بالنسبة الی الغَسل حتّی یشمل القلیل، بل الظاهر من الجواب أنّ الامام علیه السلام فی مقام بیان الفرق بین المرق وبین اللّحم، بعدم قابلیة الأوّل للغسل دون الثانی، ولیس فی مقام کیفیة غَسل اللّحم حتّی یؤخذ باطلاقه وعدم تعرّضه التفصیل بین القلیل والکثیر.

أقول: ولا یخفی ما فیه، لوضوح أنّ المهم فی الاستدلال هو الجواب الدالّ علی جواز الاستفادة من اللحم المطبوخ کذلک، لأنّ السائل زعم أنّه نجس لا یمکن أن یستفاد، فاجاب علیه السلام أنّ ما لا یمکن أن یستفاد منه هو المرق، لأنّ تطهیره مساوق لا فنائه لا مثل اللّحم، فإنّه قابل للتطهیر، ولا یبعد أن یؤخذ باطلاقه حتّی بالنسبة الی القلیل، لأنّ الظاهر کون اللّحم المطبوخ ممّا یمکن فیه ذلک حتّی مع العصر، حیث یخرج منه الماء المسمّی بالغُسالة، فیمکن طهارته، ولذلک قال: «ویؤکل» فلو کان اللّحم ممّا لا یقبل التطهیر، صار جوابه7 أنّه یؤکل غیر مناسب مع مقام الامام علیه السلام .

وتوهّم: أنّ لبعض قطعاته خشونة ربّما یمنع عن قبول التطهیر، ممّا لا یمکن

ص:20

المساعدة معه، لأنّ بالعصر یخرج عنه ممّا یتعارف الخروج الموجب لطهارة ما یتخلّف فیه.

وبالجملة: ظهر ممّا ذکرنا خروج اللّحم المطبوخ عن موضوع المسألة.

أمّا الروایة الثانیة: فهی أیضاً کذلک، وحملها علی صورة وقوع القطرة بعد البرد، حملٌ علی الفرد النادر بالنسبة الی ما یقتضی السؤال عنه، فالأولی فی الجواب هو ما عرفت من امکان کون المورد خارجا عن البحث تخصصّا.

ورابعا: استدلّوا علی ذلک بالمرسلة التی رواها الصدوق فی لزوم غسل لقمة الخبز الذی وجد فی بیت الخلاء وعلیها القذارة، قال: «دخل أبو جعفر علیه السلام الخلاء فوجد لقمة خبز فی القذر، فأخذها وغسلها ودفعها الی مملوکٍ معه فقال تکون معک لآکلها إذا خرجت، فلمّا خرج قال للملوک: أین اللقمة؟ فقال: أکلتها یابن رسول اللّه! فقال: إنّها ما استقرّت فی جوف أحدٍ إلاّ وجبت له الجنّة، فأذهب فأنت حُرّ، فإنی أکره أن أستخدم رجلاً من أهل الجنّة»(1).

ولکن قد اعترض علیه أوّلاً: إنّه قضیة شخصیة لا یعلم حال الخبز بنفوذ النجاسة الی باطنها أم لا، لا مکان یبوسة القذارة أو عدم تأثیرها إلاّ فی ظاهر الخبز، حیث یمکن تطهیره بلا اشکال.

وثانیا: إنّ الخبز ممّا یمکن عصره فیقبل التطهیر، فلا یقاس بمثل الصابون ونحوه.

هذا کلّه فی أدلة القائلین بحصول الطهارة مطلقا وهو القول الأوّل.


1- وسائل الشیعة: الباب 39، من أبواب أحکام الخلوة، الحدیث 1.

ص:21

القول الثانی: وهو المنسوب الی العلاّمة، وهو عدم قبول التطهیر مطلقا، أی بالقلیل والکثیر، والیه مال الشیخ الأعظم فی «کتاب الطهارة» علی ما نَسب الیه صاحب «مصباح الهدی».

أمّا وجه عدم حصول الطهارة بالکثیر فیه فلوجوهٍ:

الوجه الأوّل: بأنّ ما ینفذ فی باطنه أجزاء لطیفة مائیة یشک فی صدق اسم الماء علیها.

الوجه الثانی: منع صدق مداخلة الماء فی باطنه علی وجه الغلبة والاستیلاء، ولو سلّم صدق اسم الماء علیه.

الوجه الثالث: أنّ الماء النافذ فی أعماق الجسم لا یتصل بالکثیر مطلقا، لحیلولة أجزائه بین الماء النافذ ومادته المتصلة به.

الوجه الرابع: أنّه علی تقدیر الاتصال لا یکون اتصاله علی وجهٍ یصدق معه اتحاده معه عرفا.

الوجه الخامس: أنّه علی تقدیر صدق الاتحاد العرفی یکون الاتصال ضعیفاً بحیث یلحق عرفا بالانقطاع.

وأمّا وجهه فی القلیل: _ فإنّه مضافا الی أنّه لو لم یحصل التطهیر بالکثیر ففی القلیل یکون بطریق أولی _ أنّه:

أوّلاً: یتعذّر فیه العصر، فعند جماعةٍ یعتبر فی التطهیر، فلم یحصل فیه الشرط حتّی یقبل التطهیر.

وثانیا: أنّ انفصال الغسالة شرط فی الطهارة عند الکلّ، والمفروض عدمه فیه لرسوب الماء فی الأعماق، وعدم انفصاله عن الباطن.

ص:22

وثالثا: ذلک مقتضی قاعدة نجاسة الغسالة وانفصال الماء القلیل بالملاقات.

ورابعا: تعذّر تحقّق مفهوم الغسل بالنسبة الی الأجزاء الباطنیة، لاشتراطه بغلبة الماء وجریانه.

وخامسا: عدم الدلیل علی طهارة مثل هذه الأشیاء بالماء القلیل.

وسادسا: أنّه لو شک فی قبول تطهیره به، فلازم استصحاب بقاء النجاسة هو ذلک کما لا یخفی.

هذا کلّه أدلة القول الثانی.

القول الثالث: وهو المنسوب الی أکثر المتأخرین، وهو التفصیل بین الغَسل بالماء الکثیر بالطهارة، وبین القلیل بعدمها، بل عن «المعالم» أنّه المعروف بین الأصحاب.

أمّا وجه عدم حصول الطهارة للباطن بالقلیل: هو ما عرفت من الوجوه، وهو الدلیل الثانی والثالث، لاسیّما الدلیل السادس، مع فرض عدم حصول العلم بالطهارة إذا فرض حصول العلم بالنجاسة فی الباطن، حیث أنّ الاستصحاب یحکم ببقاء النجاسة.

وأمّا حصول الطهارة للباطن مع الکثیر: من الکرّ والجاری وماء المطر، فلعموم مطهریة الماء، وعموم مطهریة هذه الثلاثة لکونها من المیاه المعتصمة، وعدم وجود مانع عن قبول الطهارة فیها لعدم شرطیة العصر، وانفصال الغسالة فی الغسل بکلّ واحد منها.

أقول: ما ذکر فی وجه القول الأوّل فی عدم قبوله للتطهیر بالکثیر، ممّا لا یمکن المساعدة معه، لأنّ المستفاد من أدلة هذه الثلاثة هو کفایة الاتصال ومجرّد

ص:23

الملاقات، وأنّ الملاک فی حصول الطهارة هو مجرّد وصول الماء المطلق الی باطن المتنجس، مع حفظ اطلاقه، ولا ملازمة بین وصول الماء الی الباطن وبین اطلاق اسم الماء علیه، فضلاً عن اتّصافه بکونه جزءا من الکرّ ومتحدا معه.

ویدلّ علیه: الأخبار الوارة فی حصول المطر علی الطین والسطح الذی یبال فیه، بحصول الطهارة فی الطین والسطح برسوب ماء المطر فیهما، بخلاف رسوبه فی مثل العجین والصابون ونحوهما، بل وکذا ممّا ورد فی تطهیر الأوانی بالغسل فی مثل القدح والاناء والدن والکوز وما أشبه بهذا ممّا یرسب فیه الرطوبة، ویطهر بالماء الکثیر إذا غُسل به، وحمله علی ما لا یرسب فیه حملٌ علی النادر، لا أقل فی تلک الأزمنة السابقة التی لم تکن الظروف فیها إلاّ مثل الخزف والکوز ممّا یرسب وینفذ فی باطنها الماء المتنجس والطاهر.

قد یقال: بامکان القول بطهارة الباطن فی الأشیاء المذکورة بالتبعیة إذا طهر ظاهرها حتّی بالماء القلیل، ولو مع عدم وصول الماء الیه، هذا.

وفیه: إنّه غیر وجیه، لأنّ الطهارة التبعیّة خلاف لظاهر القواعد، فلا یقال بها إلاّ اذا ورد دلیل ونصّ فیه، وهو فی المقام مفقود، هذا بخلاف ما قررناه فی الماء الکثیر حیث تساعده العمومات الواردة فی المیاه الثلاثة، بل قد یؤیّد ما ذکرنا من رسوب الماء فیها، ملاحظة ظهور ما یترشح من ظاهر الکوز إذا صبّ فیه الماء أو الدهن أو غیر ذلک، وترشحت منه النداوة بحیث یظهر علی سطحه ما بداخل المظروف من الماء أو الدهن المصبوب فیه، حتی اشتهر المثل الفارسی: «از کوزه تراود که در اوست» أی یترشح من الکوز ممّا بداخله، وأنّ الظاهر لسان حال الباطن.

ص:24

هذا، مضافا الی قیام الاجماع علی عدم انفصال المتصل بالکرّ والجاری مطلقا، حتّی ولو کان الاتصال به ضعیفا، مع امکان جریان استصحاب بقاء طهارة الماء النافذ وبقاء المائیّة فیه، فیترتّب علیه مطهریة المحل الحاکم علی استصحاب نجاسة المحلّ الذی قد تحقّق قبل ذلک.

وبالجملة: ظهر من جمیع ما ذکرناه قوّة قول المشهور من التفصیل، بحصول الطهارة مع الکثیر دون القلیل.

هذا کلّه تمام الکلام فی المقام الأوّل، وهو تطهیر الباطن فی الجوامد المذکورة إذا رسبت النجاسة فی باطنها، وأرید تطهیرها.

الکلام فی المقام الثانی: وهو البحث عن حکم تطهیر ظاهر الأشیاء المذکورة فیما إذا نفذت النجاسة الی باطنها، مع فرض عدم انفصال الغسالة عنه _ لو قیل بعدم حصول الطهارة للباطن مطلقا کما علیه بعض، أو إذا غسل بالقلیل کما علیه المشهور _ ففی طهرها وعدمه وجهان:

1. من ملاحظة حصول انفصال الغُسالة حینئذٍ ولو من جهة نفوذها فی الباطن فیطهر.

2. ومن عدم تحقّق الانفصال المطلق فلا.

أقول: الأقوی هو الأوّل، لأنّ ما یلزم من الانفصال المطهّر فقد حصل، فلا دلیل لنا علی لزوم أزید من ذلک حتّی یصدق علیه الانفصال المطلق. نعم، هذا یصحّ فیما إذا لم تسری النجاسة من الباطن الی الظاهر مجدداً بعد نفوذ النجاسة فی الباطن، والاّ ینجس بذلک کما لا یخفی.

المقام الثالث: ما إذا نفذت النجاسة فی الباطن ولم ینفذ الماء المطّهر فیه لمانعٍ

ص:25

من اللّزوجة أو الرطوبة المانعة من نفوذ الماء فیه، فهل یطهر الباطن بتبع طهارة الظاهر بالغَسل بالقلیل أو الکثیر، وإن لم یصله الماء أم لا؟ فیه وجهان بل قولان:

1. عن «الذخیرة» و«کشف الغطاء» المیل الی الأوّل من باب التبعیة، واستنادا الی اطلاق ما ورد من الأمر بغَسل اللّحم المتنجس، من غیر استفصال بین نفوذ الماء الی اعماقه مع ظهوره فی نفوذ المتنجّس فی اعماقه کما فی روایتی السکونی وزکریّا المتقدّمتین.

وفیه: الانصاف عدم تمامیة الدلیل لاثبات المدّعی، لما قد عرفت من أنّ اللّحم خارج عن الموضوع تخصصا، لوضوح امکان اخراج غسالته بالعصر، ونفوذ الماء المطهر الی اعماقه، فیوجب تطهیره، فلا یکون طهارته لأجل التبعیة، هذا مضافا الی أنّه لو سلّمنا ما ادّعی کان سندهما ضعیفا، ولا جابر لهما من حیث عمل الأصحاب لو لم نقل بضعفهما من جهة اعراض الأصحاب عن حصول الطهارة التبعیّة فی مثل المورد، لانّه مخالف للقاعدة، وعلیه فاثباتها یطلب الدلیل.

وأیضاً: استند المدعیان لاثبات دعواهما باطلاق ما ورد فی الخبر المروی فی «قرب الاسناد» عن علی بن جعفر، عن أخیه علیه السلام : «عن أکسیة المرعزی(1) والخِفاف تنقع فی البول یُصلّی علیها؟ قال: إذا غُسلت بالماء فلا بأس»(2).

وجه الاستدلال: اطلاق غسله بالماء وعدم التعرّض لایصال الماء الی باطنه مع


1- المرعز: بالمیم الأوّل والراء المهملة والعین بعد الراء والزاء المعجمة بعدها، الزغب الذی تحت شعر العنز اللّین من الصوف. المنجد.
2- وسائل الشیعة: الباب 71 من أبواب النجاسات، الحدیث 2.

ص:26

کون السؤال فی نقوعه فی البول یدلّ علی کفایة غُسل ظاهره فی طهر باطنه.

ولکن أجیب عنه: بأنّ الروایة غیر مرتبطة بالمقام رأسا، وإنّما هو فی مقام بیان جواز الصلاة فی الثوب المنقّع فی البول بعد غَسله بالماء، من غیر نظر الی کیفیّة حصول التطهیر بالماء.

وفیه: المفروض فی السؤال کون الثوب والخفاف قد نقّعا فی البول فلو لم یکن الصلاة جائزا إلاّ مع طهارة الثوب مع باطنه، فجوابه علیه السلام بصورة الاطلاق بالجواز یوجب تأخیر البیان عن وقت الحاجة، وعلیه فالأولی فی الجواب أن یقال: إنّا لا نُسلّم کون الکیسة والخفاف ممّا لا یمکن وصول الماء الی باطنهما، لانّهما ممّا یمکن ویقبل العصر، فیطهر مع الغَسل ونفوذ الماء الی باطنهما، فیکون مورد الحدیث خارجا عن مورد البحث تخصّصا.

اشتراط ورود الماء القلیل علی المتنجس

اشتراط ورود الماء القلیل علی المتنجس

قال صاحب «الجواهر» عند بحثه عن مسألة أخری وهی فی أنّ التطهیر بالماء القلیل هل یعتبر فی تطهیر المتنجس به ورود الماء علیه أم لا؟ بل التطهیر یتم بالقلیل مطلقا، أی سواءٌ کان واردا أو مورودا؟ فیه وجهان بل قول:

1. قول بالاعتبار وهو المستفاد من «ناصریات» السّید، و«السرائر» الحلّی، بل أدّعی فیها الاجماع، وهو مختار العلاّمة فی کتبه جمیعا، والشهید فی «الدروس» و«البیان»، ولکن مع التقید فی الأول بامکان الورود، وفی الثانی باستثناء الاناء عن هذا الشرط، وهو مختار المحقق فی «جامع المقاصد» وفی «المعالم»، والشیخ فی «الخلاف» والمصنّف فی «المعتبر»، والعلاّمة الطباطبائی فی «منظومته».

ص:27

نعم، أعرض عن نسبة ذلک الی الشیخ والمحقّق صاحب «الحدائق»، وقال إنّ هذه النسبة نشأت عمّا حکما فی کتابیهما بنجاسة الماء القلیل إذا وقع فیه اناء الولوغ قبل تطهیره، وبعدم احتساب ذلک من غسلاته، ویحتمل أن یکون وجه حکمهما بالنجاسة هو غسله قبل التعفیر، لکن لا لأجل اعتبار الورود المفقود فیه.

وأجابه صاحب «الجواهر» بانّه مندفع بملاحظة اطلاق کلامهما، حیث لم یبیّنا التقیید بأنّه نجس، لأجل فقد التعفیر حتّی یخرج منه صورة کون غسله بعده.

وکیف کان، فإنّ القول بالاعتبار هو المشهور، بل فی «الجواهر» إنّه لم أعرف من جزم بخلافه مطلقا، بل هو مختار أکثر المتأخرین لو لا الکلّ.

2. وقولٌ آخر وهو عدم الاعتبار، کما صرّح بذلک الاستاد فی «شرح المفاتیح» تبعا ل «شرح الارشاد» من حکایة الشهرة علیه، بل ربّما یظهر المیل الیه من «کشف اللّثام»، وأوّل من ناقش فیه الشهید فی «الذکری»، مع أنّه یستظهر منه أوّلاً اعتباره، لأنّه قال: «الظاهر اشتراط ورود الماء علی النجاسة لقوّته بالعمل إذ الوارد عامل، وللنهی عن ادخال الید فی الاناء قبل الغسل، فلو عکس نَجَس الماء ولم یطهره، وهذا ممکن فی غیر الأوانی وشبهها ممّا لا یمکن فیه الورود، الاّ أن یکتفی بأوّل وروده، مع أنّ عدم اعتباره مطلقا متوجّه لأنّ امتزاج الماء بالنجاسة حاصلٌ علی کلّ تقدیر، والورود لا یُخرجه عن کونه ملاقیا للنجاسة، وفی خبر ابن محبوب، عن أبی الحسن علیه السلام : «فی الجِصّ یوقد علیه بالعذرة وعظام الموتی؟ قال: إنّ الماء والنار قد طهّراه»(1)» انتهی.


1- وسائل الشیعة، الباب 81 من ابواب النجاسات، الحدیث 1.

ص:28

وقال فی «کشف اللّثام» _ بعد نقل کلام الشهید لاعتماده علی خبر ابن محبوب _ : «وأوضح منه صحیح ابن مسلم: «سأل الصادق علیه السلام عن الثوب یصیبه البول؟ فقال: أغسله فی المرکن مرّتین»» انتهی.

وکأنّ المرکن هو الاجانة التی تُغسل فیها الثیاب، والغسل فیها لا یتحقّق إلاّ مع ورود ثوب النجس فیه، لا ورد الماء علی النجس، ولأجل ذلک تردد فیه صاحب «المدارک» وقال: «والمسألة محل تردد، وإن کان اعتبار الورود أولی وأحوط کما عن الخراسانی فی «الذخیرة» استحسانه وتقریبه فی «الکفایة» وعن «الدلائل» تحقیقه.

وکیف کان، فلابدّ من ملاحظة ما هو الوجه فی وقوع هذا الاختلاف بین الاعلام؟

أقول: لعلّ وجهه قد نشأ ممّا صار من المسلّمات لدی الفقهاء من القاعدتین، وهما: انفصال ماء القلیل بملاقاته مع النجاسة، ومن أنّ کلّ نجس منجّس، ولا یمکن التطهیر بالمنجّس، هذا من ناحیة.

ومن ناحیة أخری وردت الأخبار علی حصول الطهارة بالغسل بماء القلیل، والغسل به لا یمکن أن یتحقّق إلاّ بأحد الوجهین فی غیر الصبّ: من ورود الماء علی النجس أو بالعکس، فلو لوحظ حال اطلاق أدلة الغسل بالقلیل یقتضی جوازه بکلا قسمیه، وهذا هو الذی کان مدرکا للقائلین بالجواز حتّی فی صورة کون الماء مورودا.

وحیث أنّ حصول التطهیر بالقلیل مع ملاحظة قاعدة انفصال القلیل بالملاقاة مخالفٌ للقاعدة الأولیّة، فلا محیص من رفع الید عن هذه فی أحد شقیه، وهو کون الماء واردا، وذلک لقیام الاجماع علی حصول الطهارة بالقلیل، مضافا الی کونه

ص:29

مساعدا مع ما هو المتعارف الشایع فی الخارج من أنّ التطیهر بالقلیل یتحقّق بورود الماء علی النجس لا عکسه، هذا فضلاً عن أنّه مؤیّد بالأخبار المستفیضة الواردة الآمرة بصبّ الماء علی البول للتطهیر، حیث یناسب مع کون الماء واردا فیه، وحملها علی مطلق الملاقاة وذکر الصبّ یعدّ من باب الغلبة، ویحتاج الی قرینة هی مفقودة، بل القرینة دلّت علی کون الماء واردا بحسب مقتضی نفس التطهیر، فبذلک یقید اطلاقات أوامر الغسل لو فرض عدم انصرافها الی ما هو المتعارف، وهو صورة ورود الماء.

هذا، مضافا الی ظهور بعض الأدلة فی النهی عن ورود المتنجس فی الماء کالید ونحوها، حیث یعیّن أنّ التطهیر بالقلیل منحصر بصورة ورود الماء علی المتنجس، کما أنّه معتضد باستصحاب بقاء النجاسة لو شکّ فی بقاء نجاسته فی صورة ورود النجس فیه، کما هو اللازم عند من یقول بطهارة الغُسالة مطلقا، أو خصوص ما هو المطهر دون المزیل، حیث لا محیص من الالتزام بحصول الطهارة بورود الماء علی المتنجس، لانّه لا یمکنه قبول طهارة ماء الغسالة مع انفصال الماء القلیل بالملاقاة، إلاّ بخروج هذا القسم من عموم الانفصال، لعدم الدلیل علی النجاسة، بل الدلیل علی العدم کما ثبت ذلک من قیام الاجماع علیه ولزوم الحرج لو لا ذلک، خصوصا مع ملاحظة قلّة الماء فی صدر الاسلام، وکون التطهیر بالماء القلیل أزید، فلا یکون الاّ بصورة ورود الماء علی النجس، وإلاّ لا یمکن تحصیل الطهارة للنجاسة إلاّ أن نلتزم بطهارة الاناء مثلاً حال وضع ید النجس فیه، وأنّه لا ینجس إلاّ بعد انفصالها، وهو مخالف للأدلّة کما هو واضح. أو یقال بنجاسة الغسالة مطلقا

ص:30

حال الاتصال وبعده، إلاّ انّه لا مانع من حصول الطهارة بها وإن نجست بنفس الغُسل، وانّما الممنوع من حصول الطهارة هی النجاسة السابقة علی الغَسل کما صرّح بذلک صاحب «الحدائق»، بل لعلّه لذلک ألجاء الشهید فی «الذکری» وغیره الی عدم الفرق بین الورودین، لنجاسة الغسالة حینئذٍ علی کلّ حال، وصدق مسمّی الغسل الوارد فی ألادلة، ولذلک یلاحظ أنّ من اختار حصول الطهارة بکلا الورودین تمسک لتأیید کلامه بخبر ابن محبوب، قال: «سألت أباالحسن علیه السلام عن الجِصّ یوقد علیه بالعذرة وعظام الموتی ثُمّ یجصّص به المسجد، أیسجد علیه؟ فکتب الیّ بخطّه: إنّ الماء والنار قد طهراه»(1)، بأن یکون الغالب فی الجِصّ وروده علی الماء لا عکسه، ومع ذلک حکم بحصول الطهارة بواسطة الماء.

بل وأیضاً تمسّکوا بصحیحة محمد بن مسلم، قال: «سألت الصادق علیه السلام عن الثوب یصیبه البول؟ فقال: اغسله فی المرکن مرّتین»(2) بأن یکون المراد هو ورود الثوب النجس علی الماء الموجود فی المرکن، الموجب لکون الماء موردا لا واردا.

وفیه: قد أجیب عنه بما قد عرفت بأنّ الالتزام بطهارة الاناء مع ورود النجس فیه وإنْ لا ینجس إلاّ بعد الانفصال یعدّ مخالفاً لظاهر الأدلّة، کما أنّه کذلک الالتزام بأنّ النجاسة السابقة علی ورود النجس مانعٌ لحصول الطهارة لا النجاسة إلاّ النجاسة الحاصلة بالغسل، وحصول الطهارة بعد الانفصال، وحیث أنّ الحکم


1- وسائل الشیعة: الباب 81 من أبواب النجاسات، الحدیث 1.
2- وسائل الشیعة: الباب 2 من أبواب النجاسات، الحدیث 1.

ص:31

بحصول الطهارة بالماء القلیل الذی ینجس بالملاقات مخالفٌ للقاعدة، فلابدّ من الاقتصار فی خلافها علی موضع الاجماع والضرورة، وهو لیس إلاّ صورة کون الماء واردا علی النجس لا عکسه.

وأمّا الخبران: فدلالتهما علی عکس المطلوب غیر معلوم، لأنّ ما فی خبر ابن محبوب من نجاسة الجصّ بواسطة ایقاد العذرة والعظام، وإن کان ربّما یوجب انفصال أجزاءٍ مائیة أو دهنیّة حال الایقاد ووصولها الی الجصّ، إلاّ أنّه لیس لازماً عادیا لذلک، فلا یحصل العلم بذلک، خصوصا بالنسبة الی ما هو مورد ابتلاء المکلّف، مع کون مقتضی الأصل فی الجصّ هو الطهارة عند الشک فیه. مضافا الی امکان کون النار موجبا للاستحالة، بصیرورته رمادا ودخانا فیخرج بواسطتهما عن النجاسة.

وکیف کان، لا یمکن العلم بنجاسة الجصّ وحصول التطهیر بوروده فی الماء، مضافا الی امکان تحقّق عکسه من ورود الماء علیه الموافق لما علیه المشهور، فإذا جاء الاحتمال بطل الاستدلال، کما لا یخفی.

وأمّا صحیحة محمد بن مسلم فإنّها أیضاً یأتی الاحتمال المذکور فیها، إذ کما یحتمل أن یکون الثوب النجس واردا علی الماء الموجود فی المرکن، کذلک یحتمل عکسه، وإن کان المتعارف وجود الماء فی المرکن أوّلاً، کما یساعده اطلاق الأمر بجواز کلا قسمیه، ولأجل ذلک تکلّف صاحب «الجواهر» فی توجیه هذه الصحیحة بما لا ینافی اشتراط الورود، بجعل حرف (فی) بمعنی الباء، بل قال: «لعلّه متعینٌ عندهم إذ لا یستقیم ظاهره علی القول بنجاسة الغسالة، إذ لابدّ من

ص:32

اراقة ماء الغَسلة الأولی وعصر الثوب، بناءً علی اعتباره بعد کلّ غسلة، فینجس حینئذٍ الثوب بغسله ثانیا فیه بنجاسة الماء الجدید وانائه».

أو حمل الروایة علی ارادة التنظیف قبل التطهیر، لکنه مخالفٌ لظاهر الروایة کما لا یخفی.

وعلیه، فالالتزام بالاطلاق بواسطة هاتین الروایتین، ورفع الید عن الاشتراط مشکلٌ جدّا، وبالخصوص مع ملاحظة إعراض المشهور عنهما، مع احتمال کونهما منصرفا الی ما هو المتعارف فی أیدی الناس من الغَسل بورود الماء علی المغسول لا عکسه، بل یمکن دعوی قیام السیرة المستمرة المأخوذة یدا عن ید علی کیفیة غَسل النجاسات، خصوصا کونه مؤیدة مع أخبار الصبّ المستلزم للدفع، الموجب لحصول الطهارة، بخلاف عکسه الواردة فی نجاسة الجسد والثوب والفراش ذی الحشو وغیرهما من بول الصبی وغیره، حیث یتمّ المطلوب بضمیمة عدم القول بالفصل بین بول الصبی وغیره من سائر النجاسات، فتصیر هذه الأخبار مقیدة لاطلاقات الغسل، فتخصّص بصورة کون الماء واردا علی النجس لا فی عکسه. وعلیه فالأقوی عندنا هو ما علیه المشهور.

نعم، بقی هنا حکم تطهیر الأوانی المدّعی ظهوره فی عدم امکان ورود الماء علیها، حتّی احتج إلی استثنائها من اشتراط الورود، وهو کما یشاهد فی روایة عمّار الساباطی، عن أبی عبداللّه علیه السلام ، قال: «سئل عن الکوز والاناء یکون قذرا کیف یغسل، وکم مرّة یغسل؟ قال: یغسل ثلاث مرّات، یصبّ فیه الماء فیحرّک فیه ثمّ یفرغ منه ثمّ یصبّ فیه ماء آخر فیحرّک فیه، ثمّ یفرغ ذلک الماء ثمّ یصب فیه ماء

ص:33

آخر فیحرّک فیه ثمّ یفرغ منه وقد طهر، الحدیث»(1).

حیث حکم علیه السلام بحصول الطهارة مع عدم امکان ورود الماء علی کلّ نجس من جوانب الکوز والاناء، فلابدّ من استثنائه عن الحکم السابق، أو یجعل ذلک الحدیث قرینة علی عدم الاشتراط مطلقا، سواءٌ فی مثل الاناء أو غیره، کما تمسّکوا بها القائلین به ولا یمکن رفع الید عن هذا القول إلاّ بما یردّه من الجواب فیه.

وقد أجیب:

تارةً: بما فی «جامع المقاصد» للمحقّق الثانی: «من أنّ الحقّ أنّه لا یرد بالورود أکثر من وروده ابتداءً، وإلاّ لم یتحقق الورود فی شیء ممّا یحتاج فصل الغسالة عنه إلی معونة شیءٍ آخر»، ولعلّه إلی ذلک أشار الشهید فی «الذکری» بقوله: «إلاّ أن یکتفی بأوّل وروده، فحینئذٍ کان الأولی أیضا مشتملاً علی الورود فی الابتداء».

وأخری: بما عن «المعالم»، حیث قال _ علی المحکی فی «الجواهر» _ : «بأن من أمعن النظر فی دلیل انفعال القلیل بالملاقات ما رأی أنّه مختصٌ بما إذا وردت النجاسة علی الماء، فیجب حینئذٍ أن یکون المعتبر هنا هو عدم ورود النجاسة علی الماء، لا ورود الماء علی النجاسة، والفرق واضح، فلم نحتج حینئذٍ الی استثناء نحو الأوانی ولا لتکلّف حمل الورود علی ما یقع أوّلاً» انتهی.

ثمّ قال صاحب «الجواهر» بعده: «قلت: وکأنّ مراده عدم صدق ورود المتنجس علی الماء فی اثناء غسل الأوانی ونحوها، وإن کان لا یصدق أیضا ورود الماء


1- وسائل الشیعة: الباب 53 من أبواب النجاسات، الحدیث 1.

ص:34

إلاّ من بول الرضیع، فإنّه یکفی صبّ الماء علیه (1)

علیه أیضا، لکن الثابت من الأدلة نجاسة الأوّل خاصّة دون غیرها، فتبقی حینئذٍ علی العفو عنها فی حال التطهیر لحالة الورود، ولهذه الدقیقة صدّرنا عنوان المسألة بما عرفت، فتأمّل» انتهی(1).

قلنا: مرجع هذا الکلام إلی أنّ صورة ما لا یمکن خارج عن القاعدة بواسطة الدلیل، لأنّه من الواضح أنّ قاعدة انفصال القلیل بالملاقاة لا تفرق _ لو لا الدلیل _ بین الورودین من جهة صدق التلاقی مورودا، اللّهمّ إلاّ أن یستفاد هذا القید من هذا الخبر وأشباهه، لما لا یمکن فیه ورود الماء، فإذن صار المرجع هو ما عرفت، واللّه العالم.

(1) ثبت ممّا ذکرنا فی المبحث السابق وجوب العصر فی غَسل الثیاب، لکن الأصحاب استثنوا عنه تبعا للمشهور المتنجس منها ببول الصبی، کما أشار الیه فی المتن، بل فی «الجواهر»: «لا أجد فیه مخالفا» کما اعترف به فی «المدارک» و«المعالم» و«الذخیرة» و«الحدائق» و«المفاتیح»، بل فی الأوّل نسبته إلی مذهب الأصحاب، وفی الثانی إلی اتفاق کلمة الأصحاب الذین وصل کلامهم الینا، بل فی «الخلاف» وعن «الناصریات» الاجماع علیه وهو الحجّة، بل قد یشعر أیضا نسبة الخلاف فی «المعتبر» و«المنتهی» الی أبی حنیفة وغیره من أهل الخلاف


1- الجواهر، ج 6، ص 160.

ص:35

بالاجماع علیه بیّننا، مضافا إلی ما عرفت من قیام الاجماع، فقد وردت أخبار مستفیضة دالة علی ذلک: غسل الثوب عن بول الصبی

منها: حسن الحلبی أو صحیحه، قال: «سألت أبا عبداللّه علیه السلام عن بول الصبی؟ قال: تصبّ علیه الماء، فإن کان قد أکل فاغسله بالماء غسلاً، والغلام والجاریة فی ذلک شرع سواء»(1).

والظاهر رجوع الجملة الأخیرة من الحکم بالتسویة الی صورة ما لو کان الصبی قد أکل لا مطلقا، أو أرید من التسویة فی أصل النجاسة، أی فیما لو کان بول کلیهما نجسا، سواءٌ کان قد أکل أم لا فی الصبی والصبیة، ولکن الاحتمال الأوّل أولی، لما قد عرفت من عدم التسویة بین حکم بولیهما لما قبل الأکل فی کیفیة غسله وتطهیره.

ومنها: خبر «فقه الرضا»، قال: «وإن کان بول الغلام الرضیع فصبّ علیه الماء صبّا، وإن کان قد أکل فاغسله، والغلام والجاریة سواء»(2).

ومنها: المروی عن «کشف الغمّة» وغیره کالرضوی(3)، بل عن العامّة روایته أیضا معتمدین علیه بحسب الظاهر، عن زینب بنت حجش، قالت: «کان النبی صلی الله علیه و آله نائما فجاء الحسین علیه السلام فجعلتُ أعلّله لئلا یوقظه، ثمّ غفلتُ عنه فدخل... الی أن قالت: فاستیقظ النبیّ صلی الله علیه و آله وهو یبول علی صدره، فقال صلی الله علیه و آله : دعی ابنی حتّی یفرغ


1- وسائل الشیعة: الباب 3 من أبواب النجاسات، الحدیث 1.
2- فقه الرضا، ص 95؛ المستدرک، الباب 2 من النجاسات، الحدیث 1.
3- المستدرک، ج 1، الباب 4 من أبواب النجاسات، الحدیث 3.

ص:36

من بوله، وقال: لا تزرموا بول ابنی، ثمّ دعا بماء فصبّ علیه، ثمّ قال: یجزیء الصبّ علی بول الغلام، ویغسل بول الجاریة، الحدیث»(1).

ومنها: الخبر المروی عن «معانی الأخبار» مسندا: «أنّ رسول اللّه صلی الله علیه و آله أتی بالحسن بن علی علیهماالسلام فوضع فی حجره فبال، فأخذه فقال: لا تزرموا ابنی، ثمّ دعا بماء فصبّ علیه»(2).

قال الأصمعی: الإزرام القطع، یقال للرجل إذا قطع بوله قد أزرمت بولک.

ومنها: ما یمکن جعله مؤیداً للمدّعی ما رواه السکونی المروی فی «الفقیه» و«التهذیب» و«المقنع» و«العلل» عن جعفر، عن أبیه علیهماالسلام : «أنّ علیا علیه السلام قال: لبن الجاریة وبولها یُغسل منه الثوب قبل أن تطعم، لأنّ لبنها یخرج من مثانة أمّها، ولبن الغلام لا یغسل منه الثوب ولا من بوله قبل أن یطعم، لأنّ لبن الغلام یخرج من العضدین والمنکبین»(3).

فإنّ ظاهر الحدیث وإن دلّ علی طهارة بول الغلام، إلاّ أنّه لابدّ أن یأوّل الی أنّ المراد من عدم الغسل هو کفایة الصبّ فیه، بخلاف بول الجاریة حیث أنّه لابدّ فیه من الغسل، حتّی قبل الأکل، کما یحمل حکم الغسل فی لبن الجاریة علی الاستحباب، لأنّ لبنها طاهرٌ فلا تحتاج الی الغسل، أو یحمل الروایة علی التقیة لموافقته لفتوی بعض العامّة، کما یؤیّده کون الراوی للخبر عامّیا.


1- کنزالعمّال، ج 5، ص 128، الرقم 2644.
2- وسائل الشیعة: الباب 8 من أبواب النجاسات، الحدیث 4.
3- وسائل الشیعة: الباب 3 من أبواب النجاسات، الحدیث 4.

ص:37

ومنها: الخبر المروی عن لبانة بنت الحارث، قالت: «کان الحسن بن علی علیهماالسلام فی حِجر رسول اللّه صلی الله علیه و آله فبال علیه، فقلت: اعطنی ازارک لا غسله، فقال: إنّما یغسل من بول الانثی وینضح من بول الذکر»(1).

بأن یکون المراد من نفی الغسل فی بول الصبی، المستفاد من أداة الحصر هو نفیه الغسل المتعارف، أی یکفی الصبّ فیه، ولا یحتاج إلی الغسل، لا نفیه لأجل کونه طاهرا، للاجماع علی نجاسة البول کلّه، وشذوذ قول من خالف.

هذه هی الأخبار الدالة علی کفایة الصبّ فی بول الرضیع بالصراحة والمنطوق أو بالمفهوم، وهذه الأخبار تقید أو تخصّص الاطلاقات والعمومات الدالة علی لزوم الغسل الزائد علی الصبّ فی البول، وعلیه الفتوی.

وما قیل: _ کما فی «المدارک» _ بعدم عموم واطلاق فی الأخبار لیتناول ما نحن فیه، فیبقی أن نرجع الی الأصل الغیر المعارض وهو أصل البراءة.

ممّا لا یمکن المساعدة معه، لوجود کلّ منهما خصوصا الأوّل منهما، لدلالة المفرد المعرّف للطبیعة الشاملة لجمیع الافراد.

أقول: یبقی هنا بعض الأخبار الذی قد یستفاد منه لزوم الغسل، وهو مثل مضمرة سماعة، قال: «سألته عن بول الصبی یصیب الثوب؟ فقال: اغسله. قلت: فإن لم أجد مکانه؟ قال: اغسل الثوب کلّه»(2).

ولکن یمکن أن یجاب عنه أوّلاً: یمکن أن یکون فی صدد دفع توهّم کون بول


1- تیسر الوصول، ج 3، ص 57 عن لبابة.
2- وسائل الشیعة: الباب 3 من أبواب النجاسات، الحدیث 3.

ص:38

الصبی طاهرا، فأراد أفهام أنّه نجس، کما یؤیّد ذلک ذیله حینما قال لعلّی لا أجد مکانه، حیث یُؤمی الی ما بیّناه. واطلاق الغسل لمطلق التطهیر الحاصل من الصبّ موالغسل غیر عزیز.

وثانیا: امکان حمله علی الصبی الذی أکل، جمعا بینه وبین تلک الأخبار، لو لم نقل بحمل الغسل علی الصبّ، وإلاّ یحفظ عنوان الصبی فی الرضیع.

وثالثا: لو تنزّلنا عن ذلک، وسلّمنا کون الغسل مستعملاً فی معناه، ولم نحمل الصبی علی المتغذی، نقول بجواز الحمل علی الاستحباب، للجمع بینه وبین تلک الأخبار بالتصرف فی الهیئة.

هذا کلّه، فضلاً عن أنّه مضمر لا یقدر علی المعارضة مع تلک الأخبار، خصوصا مع کونه موهونا بإعراض الأصحاب عن العمل به، أو الحمل علی التقیة لموافقته لفتوی أبی حنیفة وغیره، مع امکان أن یکون الغَسل أحد فردی التخییر بینه وبین الصبّ جمعا بین الروایات. واللّه العالم.

تنبیهات باب غَسل ثوب الصَّبی

تنبیهات باب غَسل ثوب الصَّبی

التنبیه الأوّل: بعد ما ثبت کفایة الصبّ فی تطهیر بول الرضیع، یقع البحث فی أنّه هل یحتاج الی العصر مع الصبّ، أم یکفی ولو مع عدم العصر؟

الظاهر من الأخبار المطلقة کفایة مطلق الصبّ، أی یطهره بلا حاجة إلی العصر، فلا تقیّد بما جاء فی خبر الحسین بن أبی العلاء، قال: «سألت أبا عبداللّه علیه السلام عن

ص:39

الصّبی یبول علی الثوب؟ قال: تصبّ علیه الماء قلیلاً ثمّ لقصره»(1) لوجوه:

أوّلاً: إنّه معرض عنه الأصحاب، حیث لم یفت أحدٌ بلزوم العصر فی بول الرضیع، حتّی عند من یقول بالغسل فیه مرّتین کصاحب «کشف الغطاء».

وثانیا: احتمال کون العصر للتخفیف لا للتطهیر کما عن «الجواهر»، وإن کان هذا لا یخلو عن نظر، حیث لا داعی لذلک إذا فرضنا تطهیره بالصبّ بلا تخفیف.

وثالثا: احتمال کون العصر لاخراج عین النجاسة من الثوب، فإنّ ذلک واجبٌ عند من یقول بنجاسة هذا البول کما فی «المدارک»، وإن اعترض علیه صاحب «الجواهر» بقوله: «وإن کان لا یخلو من تأمّل، لامکان منع وجوب الاخراج، بل یکفی الاستهلاک بالصبّ لاطلاق المنصوص والفتاوی».

ورابعا: لقصوره سنده کما فی «مصباح الفقیه».

أقول: هذا القول غیر وجیه، لأنّ الرواة الواقعین فی السلسة معتبرون، وعلیه فلابدّ من الحمل علی الاستحباب جمعا بینه وبین المطلقات، لأنّ التقیید به علی فرض وجوب العصر فی التطهیر یستلزم التنبیه علیه عند ذکر الصبّ للتطهیر، وإلاّ یلزم تأخیر البیان عن وقت الحاجة، وهو قبیح، فلعلّ لمثل هذه الأمور لم یفت علی طبق الروایة أحدٌ، وعلیه فالأقوی کفایة الصبّ مطلقا.

تنبیهات باب غَسل ثوب الصبی

مساواة الصبی مع الصبیّة فی الغَسل

التنبیه الثانی: لا اشکال فی کفایة الصبّ فی الرضیع الذکر، إنّما الکلام فی أنّه


1- وسائل الشیعة: الباب 3 من أبواب النجاسات، الحدیث .

ص:40

هل یکفی فی الرضیعة أم لا؟

الذی علیه المشهور هو الثانی، خلافا للصدوقین، ولعلّ فتواهما بالمساواة کان لأجل ما جاء فی حسن الحلبی وروایة «فقه الرضا» حیث کان فیهما بأنّ «الغلام والجاریة فی ذلک شرع سواء».

وقد یتوهّم أنّ المراد تساویهما فی التطهیر بالصبّ، مع أن الظاهر أنّ قول المشهور هو الأقوی، بل فی «الجواهر»: «ولعلّه لاخلاف فیه»، وعلیه فیحمل التساوی فی الروایتین إمّا علی النجاسة أو أنّ المراد الرجوع الی صورة کونه بعد الأکل، خصوصا إن قلنا بجریان مثل هذا الترکیب مجری القید المتعقّب بجمل متعددة بالحمل علی القدر المتیقن وهی الأخیرة، ولا أقلّ من الحمل علیه لأجل رفع التعارض، هذا مضافا إلی کونه مؤیّدة بخبر السکونی وزینب بنت جحش ولبانة بنت الحارث بانحصار الغسل للأنثی والنفی عن الذکور، فیبقی بول الصبیة مندرجا تحت اطلاق أدلة البول، واستصحاب بقاء النجاسة عند الشک فی حصول الطهارة بالصبّ، کما لا یخفی.

وعلیه، فما فی «الحدائق» من المیل الی المساواة متعجبا من إعراض الأصحاب عن ذلک فی غیر محلّه، بل قد یظهر ممّا ذکر الحاق الخشی المشکل والممسوح الی الانثی، للشک فی ذکوریتهما، والمرجع حینئذٍ إلی استصحاب بقاء النجاسة الی أن یغسل.

فی الفرق بین الصبّ والرّش

التنبیه الثالث: فی أنّ الظاهر الفرق بین الصبّ والرشّ من جهة اشتمال الأوّل

ص:41

للغلبة والقاهریّة دفعةً دون الرشّ، فعلیه لابدّ أن یقال إنّه فی الصبّ یلزم أن یکون الماء مستوعبا لمحلّ البول وما یرسب فیه، فلا یکفی مجرّد الاصابة کالرشّ من غیر استیعاب، بل فی «المدارک» إنّه ممّا قطع به الأصحاب، بل لعلّه أیضا معقد اجماع «الخلاف»، ولا ینافیه ما نقله العلاّمة فی «التذکرة» من حکایة قول لنا بالاکتفاء بالرشّ، لانّه قال بعده: «فیجب فیه التعمیم، فلا یکفی اصابة الرشّ بعض مورد النجاسة»، ولعلّه أراد من الرشّ ما یساعد ویناسب مع الصبّ، والاّ یشکل الاکتفاء بالرش المنافی للصبّ، لوضوح أنّ فی الرشّ بحسب المفهوم یکفی شموله لظاهر المحلّ وعمومه، وإن لم یرسب فیه، مع أنّه مخالفٌ لظاهر ألادلة، ضرورة عدم زوال النجاسة من دون مباشرة المطهّر، خصوصا مع ملاحظة وجود استصحاب النجاسة المقتضی بقائها الی أن یتحقّق الصبّ، الموافق مع النصّ والفتوی، وعلیه فالرشّ غیر کاف الاّ أن نرجع الی ما هو الموافق للصبّ المستوعب فی مقابل الغسل الذی لا یحتاج فیه العلاج والاحتیال بالدلک والغمز والتقلّب اللازم فی الغسل.

بل قد یظهر من کلام صاحب «الجواهر» أنّه یعتبر فی الصبّ جریان الماء، حتّی یصدق علیه مسمّی الغسل المعتبر فی مفهوم الغَسل فی الوضوء والغُسل ونحوهما، تحصیلاً لعنوان الغَسل المذکور فی أدلة غسل النجاسات، غایة الأمر یعدّ الغَسل فی بول الصبی بالصبّ المشتمل علی الجریان کما ورد ذلک فی موثقة سماعة وغیرها ممّا ورد فی ثوب المربیّة دون الغسل فی سائر النجاسات من لزوم العلاج والدلک ونحوهما فیها.

ص:42

أقول: وممّا یؤیّد ما ذکرنا ملاحظة استعمال کلمة (الصبّ) فی غَسل الجسد من البول، معلّلین ذلک بأنّ البول ماء، مع أنّه لا اشکال فی لزوم صدق الغسل بمعناه الحقیقی فی تطهیر البول.

وعلیه، فما فی «جامع المقاصد» وتبعه علیه غیره من عدم اعتبار الجریان علی محلّ البول لیس علی ما ینبغی، وعلیه فالاکتفاء بالرّش بحسب معناه الحقیقی مشکلٌ.

نعم، إن اعتمدنا فی ذلک علی الخبرین العامین الدالین علی کفایة النضح اتّجه الاکتفاء بمطلق الرشّ، وإن لم یستوعب، إلاّ أن الاعتماد علی مثل هذه الأحادیث فی غایة الاشکال، إلاّ أن نعتمد علی ما ذکرنا من التوجیه. وعلیه فالأقوی عندنا اعتبار الصبّ واشتراط غلبته وقاهریته علی الموضع النجس، والرسوبات المترسّبة من النجاسة فی البواطن فی التطهیر.

اشتراط انفصال غسالة الصّب وعدمه

التنبیه الرابع: یقع البحث عن أنّه هل یعتبر فی الصبّ انفصال الغسالة _ بعد ما ثبت لزوم الجریان والاستیعاب فیه _ أم لا؟ فیه وجهان بل قولان:

1. الأقوی هو عدم الاعتبار کما فی «جامع المقاصد» وغیره، بل فی «المدارک»: «إنّه ممّا قطع به الأصحاب»، کما أنّه لعلّه بعض معقد اجماع «الخلاف» أیضا، وعلّته اطلاق أدلة الصبّ الشامل لصورتی الانفصال وعدمه، بل هو مقتضی مقابلته مع الغَسل إن جُعل الانفصال فی حدّ الغَسل کما عن «الخلاف» و«نهایة الأحکام» من اتفاقهما علی عدم الاعتبار کما لا یجب العصر، مع أنّه لو قلنا

ص:43

بوجوب العصر فی تطهیره لزم عرفا بالعصر انفصال الغُسالة نوعا، ولکن مع ذلک نقول کما لا یجب العصر فی الصبّ، کذلک لا یجب الانفصال، وإن قیل بأنّه ربّما عدم وجوب العصر أعمّ من عدم لزوم الانفصال، إذ قد یراد بغیر العصر من سائر ما یتحقّق منه الانفصال.

2. وفی قبال ذلک قولٌ باعتبار الانفصال، بناءً علی اعتباره فی تطهیر النجس، کما یعتبر فی تطهیر سائر النجاسات، لا لتوقّف مسمّی الغسل علیه، بل لأجل فهم اعتباره فی غسل النجاسات من جهة احتمال ارادة انفصال النجاسة، أو حکم النجاسة بانفصال الماء، بل لعلّ المراد من (غَسل النجاسات) ازالة النجاسة بهذه الکیفیة، نظیر ازالة الأوساخ، بل فی «الریاض» تعلیل وجوب الانفصال بنجاسة الغسالة.

وفیه: ثبت ممّا مضی أنّ ظهور ألادلة من النصوص والفتاوی هو خفّة هذه النجاسة والتساهل فی أمرها، الذی یظهر ذلک فی عدم وجوب العصر والانفصال کما لا یجب فیه الغَسل، وبه یمتاز عن بول البالغ، بناءً علی عدم اعتبار وجوب العصر فی بول البالغ أیضا إمّا لطهارة الغُسالة أو غیرها، أو یقال بأنّ وجه الامتیاز عنه بعدم اعتبار العلاج والاحتیال فیه لاخراج نفس العین مع وجودها، بل یکفی فی طهرها امتزاجها بالماء بخلافه فی البالغ، والأمر کذلک بحسب اطلاق ألادلة، وإن تأمّل فی الأخیر صاحب «الجواهر» نوع تأمّلٍ.

هذا، وقد استثنی صاحب «المدارک» و«الذخیرة» من عدم وجوب الانفصال، صورة ما إذا توقف ازالة عین النجاسة علی العصر والانفصال، وإن احتملا عدم وجوبه فیه أیضا، للاطلاق الموجود فی النص، ولذلک اعترض علی صاحب

ص:44

«شرح المتفاتیح» بأنّ الاطلاق لا یثمر مع العلم بالنجاسة، ووجود عین النجس وبقائه فی الثوب وعدم استهلاکه بمجرّد الملاقاة للماء، فإنّ نجس العین بمجرّد أصابة الماء کیف یصیر منقلبا، ومع عدم الانقلاب کیف یصیر طاهرا؟!

أقول: لا یخفی أنّ الاعتراض بمثل هذه الأمور لا یوجب رفع الید عن الاطلاق الموجود فی النص، الموجب للظهور فی کون نجاسة مثل هذا البول یعدّ أخفّ من غیره، حیث یکفی فی تطهیره استیعاب الماء لمحلّ البول وغلبته علیه واستهلاکه کذلک، وإن لم ینفصل عنه، وإلاّ لا یفارق عن سائر الأبوال، وعلیه فلا فرق حینئذٍ فی الاکتفاء بالصبّ علی المتنجس بین ما یعصر ما لا یعصر، وبین ما ترسّب فیه الغسالة وما لا ترسب، سواءٌ کان ما وقع علیه أرضا أو غیرها، بل قد یستظهر من اطلاق تلک ألادلة حینئذٍ طهارة غسالته واستثنائها عن غیرها، لو سلّمنا نجاسته، وتکون حکم الغسالة هنا کحکم الغسالة المختلفة فی غیره، لأنّ هذه الأمور یعدّ من قبیل الالتزام بلوازم الشیء عرفا، فإذا حکمنا بکفایة الصبّ مطلقا، ترتّب علیه مثل تلک الأمور، وإن خالفنا فی ذلک صاحب «کشف الغطاء» والتزمنا بنجاسة المنفصل من غسالته ولو بعصر، وإن لم نقل بشرطیة العصر فیه بناءً علی نجاسة الغُسالة، تمسّکا باطلاق أدلة نجاسة الغسالة، الشامل لما نحن فیه أیضا، کما خالفناه فی الحکم بالغسل مرّتین، تمسکا باطلاق الأبوال.

ولکن ظهر ممّا ذکرنا أنّ العمدة فی الحکم بطهارتها هی الاطلاقات الدالة علی ذلک، وإن ذکر تأییدا لذلک من المناسبات: من فحوی عدم اشتراط الانفصال، وظهور خفّة حکم هذه النجاسة، واستبعاد اختلاف حکم الماء الواحد بالنسبة الی

ص:45

طهارته ونجاسته، بمعنی إن خرج کان نجسا وإلاّ کان طاهرا، وغیر ذلک ممّا لا یمکن جعل کلّ واحدٍ منها دلیلاً مستقلاً فی المسألة لو لا الاطلاقات، لأنّ الالتزام بما ذکر مع الدلیل غیر مانعٍ کما لا یخفی.

بل لا یبعد اجراء حکم بول الصّبی علی ما تنجس به من المایعات وغیرها کالماء ونحوه، فیجزی الصبّ علی المتنجس بعد اخراج العین أو استهلاکها، بناءً علی الاکتفاء بذلک، معلّلاً بعدم زیادة حکم الفرع علی الأصل، وظهور انتقال حکم النجاسة الی المتنجس لا أزید، کما فی «الجواهر».

ولکن یمکن أن یقال: بعدم اجراء حکم بوله فی هذه الصورة، لأنّ الحکم یعدّ مخالفاً للقاعدة، فیقتضی الاقتصار فیه علی القدر المتیقن، وهو الذی ورود فی لسان الدلیل، وهو لیس إلاّ فی خصوص المتنجس ببول نفسه، فلا یشمل ما تنجّس به، فیندرج تحت ما یدلّ علی وجوب الغَسل عند التطهیر، وما ذکر من عدم زیادة الفرع علی الأصل أمرٌ اعتباری لم یقم علیه دلیل، وانتقال حکم النجاسة الی المتنجس لا أزید غیر ثابتٍ، خصوصا مع ملاحظة جریان استصحاب بقاء النجاسة لو شک فی طهارته مع الصبّ دون الغسل.

وعلیه، فالأحوط لو لم یکن أقوی هو وجوب الغسل کما علیه المحقق الآملی فی مصباحه، وإن کان مقتضی خفّة حکم النجاسة هنا هو ما ذکره صاحب «الجواهر» رحمه الله .

ثم استدرک صاحب «الجواهر» عمّا سبق بقوله: «نعم، أو أصابة نجاسة أخری غیر بول الصبی، أو ختلط نجاسة غیره، لم یجر علیه الحکم المذکور».

ثم استشکل فیما لو اختلط معه ما لا یخرج المتنجّس به عن صدق نجاسته

ص:46

ببول الصبی کالقلیل جدا من بول البالغ مثلاً، وخصوصا لو کان المباشر ببول الصبی نجسا، لمنع تأثیر النجس فی النجس حکما مع عدم بقاء اسم المؤثّر.

أقول: وفیه ما لا یخفی، لأنّ صدق نجاسته ببول الصبی لا یمنع عن صدق نجاسته بغیره إذا اختلف حکم کلّ واحد منها، ولو کان قلیلاً جدّا، کما لا یضرّه نجاسة المباشر لبول الصبی حکما عن ترتّب حکم کلّ واحدٍ ما هو لنفسه، وما ذکره من منع تأثیر النجس فی النجس حکما إنّما یتمّ ویصحّ إذا کانا متحدی الحکم، لا فیما إذا اختلفا کما فی المقام، حیث یکتفی بالصبّ فی بول الصبی وبالغَسل فی غیره.

حکم بول الصّبی المتغذّی باللّبن النجس

التنبیه الخامس: ثبت فیما مضی أنّ حکم بول الصبیالمتغذّی بلبن المسلمة، هو کفایة الصّب فی تطهیر المتنجس به، فهل یلحق به المتغذّی بلبن الکافرة أو الکلبة أو الخنزیرة أم لا؟ فیه وجهان:

1. من ناحیة ملاحظة اطلاق النص بما یصدق أنّه بول الصبی والرضیع، یوجب الالحاق، لکن من جهة أنّ بوله من حیث نفسه یعدّ بولاً له لا ما لاقی نجسٍ آخر، وفیعدّ بوله بول ولد الکافر ویعدّ نجسا إن فرض ولادته من الکافرة، وأما لو لم یکن الصبی متولدا إلاّ من بین المسلِمین، أو من المسلم الذی یحلق به للحوقه بأشرف المعمودین، ولکن تغذیه کان من الکافرة، فإنّه أیضا خارجٌ عن حکم بول الصبی، لأجل انصراف الاطلاق إمّا لندرة وجوده کما فی تغذیته بلبن الکلبة

ص:47

والخنزیرة، وإمّا لندرته بلحاظ کون مساق لسان الأخبار المسلمین بحسب المتعارف، لا ما کان خارجا عنهم کالکفّار، ومع ملاحظة فحوی التعلیل الوارد فی روایة السکونی فی نجاسة بول الجاریة، بأنّ لبنها یخرج من المثانة، فلبنها وبولها نجسٌ لابدّ فیه من الغَسل، ففی المقام الذی کان لبنه نجسا، فنجاسة بوله یکون بطریق أولی فلابدّ من الغسل.

أقول: قد نوقش فی فحوی الخبر المذکور والتعلیل الوارد فیه والدالّ علی أنّ لبن الجاریة من مثانة أمّها، حیث أعرض عنه الأصحاب، فکیف یجوز الأخذ به من حیث فحواه.

ولکن قد اجیب عنه: بأنّ أصل الحکم فی عدم کفایة الصبّ فی بول الجاریة کان معمولاً به بین الأصحاب، وإن لم یکن التعلیل الموجود فیه تاماً، لکنه یکفی فی صحة الأخذ به، وکیف کان لو شککنا فی شمول الاطلاق لبول مثل هذا الصبی، لأجل نجاسة لبنه، فالمرجع حینئذٍ الی استصحاب النجاسة ببقائها بعد الصّب حتّی یغسل، وإن کان جریان هذا الحکم بلزوم الغسل فی بوله لو کان تغذیّة من اللّبن النجس بالعَرَض دائما لا یخلو عن تأمّل، لأجل اطلاق دلیل النصّ، فیکون الحکم بلزوم الغَسل فی بوله بالنسبة الی صورة سابقه مطابقا للاحتیاط، وإن کان جریان هذا الاحتیاط فی مابعده یکون أضعف، لقوّة الاطلاق فی الثانی وعدم انصرافه عنه.

ومّا ذکرناه فی نجاسة اللّبن لأجل کونه للکافرة أو الکلبة أو الخنزیرة، یظهر أولویة الحکم بلزوم الغسل فی بول الرضیع المتولّد من الکافرین، لأنّ فیه مضافا الی نجاسة لبنه بلحاظ أمّه، تعرض النجاسة علی بوله بواسطة تماسّه ببدنه النجس،

ص:48

باعتبار أنّه محکوم بالکفر والنجاسة کوالدیه، فیخرج بذلک عن حکم بول الرضیع الذی یکفیه الصبّ، کما یظهر حکم الأولویّة بلزوم الغَسل فیها أیضاً لو کان الولد متولّدا من الکافرین، إلاّ أنّه ارتضع من لبن المسلمة، ولم نحکم بإلحاقه بالمسلم کاللّقیط فی دار الاسلام، فإنّه حینئذٍ وإن کان اللّبن الذی شربه طاهرا وبوله من اللّبن الطاهر، إلاّ أنّ مباشرة بوله ببدنه النجس یوجب خروجه عن موضوع الدلیل، ولا أقلّ من الشک فیه، والمرجع الی استصحاب النجاسة وبقائها بعد الصبّ الی أن یتحقّق الغَسل المطلوب.

نعم، علی القول بعدم تبعیّة الولد لأبویه فی الکفر، وأنّه یعامل معه معاملة المسلم بدلیل الفطرة کما قیل، وکان لبنه من المسلمة، فلا اشکال حینئذٍ فی کفایة الصّب فی التطهیر، لکونه مصداقا للدلیل المذکور، کما لا یخفی.

التنبیه السادس: ظهر ممّا مرّ سابقاً فی أنّ حدیث الحلبی و«فقه الرضا» یدلاّن علی أنّ الرضیع إن «کان قد أکل فاغسله بالماء غَسلاً»، ممّا یعنی أن حکم الصبّ مختصٌ لعنوان الرضیع، وأنّه ثابت مادام یصدق علیه عنوان الرضیع، إذ العنوان الوارد قد أخذ من جهة تقابله مع صورة أکله، وعلیه یصیر ملاک الحکم فی کفایة الصبّ وعدمه هو صدق کونه آکلاً للطعام فیغسل، وإلاّ یجب الصّب، سواءٌ کان صدق الأکل قبل الحولین أو بعده، فیصیر مدار الحکم ومحوره ذلک لا الحولین للاطلاق الموجود فی النص، هذا مضافا الی امکان استصحاب بقاء حکمه بعد الحولین أیضا، کما علیه المشهور فی الجملة، خلافا للمحکی عن الحلی فی «السرائر» وفی «جامع المقاصد»، والشهید الثانی فی «الروض» و«المسالک»

ص:49

حیث قیّدوه بالحولین، ووجهه _ علی المحکی فی «الجواهر» _ موافقته للاحتیاط، وتحدید الشارع مدّة الرضاع بذلک، وندرة بقاء الرضاع أزید من الحولین عرفا، الموجب لانصراف الاطلاق عنه، بل منع تسمیة المرتضع بعد الحولین رضیعا، بل قد یستدلّ بقوله صلی الله علیه و آله : «لارضاع بعد فطام»(1) الوارد فی صحیحة منصور بن حازم عن أبی عبداللّه علیه السلام عن جدّه، بناءً علی أن یکون المراد منه سنّ الفطام کما ورد فی الحدیث(2)، والمنفی حینئذٍ حکم الرضاع بعد الحولین، وعموم نفیه یشمل المقام.

هذا غایة ما یستدلّ لذلک کما ورد فی «مصباح الهدی»(3).

أقول: ولکنّه مندفع، لأنّه إن قصد منه أنّ الاحتیاط لما بعد الحولین یقتضی ذلک، فهو أمر جیّد، لکنّه لا یوجب الفتوی علی طبقه بعد قیام دلیل اجتهادی دالّ علی أنّ مدار الحکم صدق الآکلیة لا صدق الرضیع، حتّی یلاحظ فیما یصدق الرضیع حتّی یتبع حکمه، بل الملاک أن یکون آکلاً لا رضیعاً وشارباً لللّبن، وکون الرضاع شرعا محدودا بالحولین غیر دخیل فی تقیّد الموضوع، بعد ما لم یلاحظ ویؤخذ فی الدلیل عنوان الرضیع، مع أن صدق الرضاع عرفا علی الزائد علی الحولین بشهرٍ أو شهرین غیر عزیز ولا یوجب انصراف الاطلاق لندرته، مع أنّه لا یضرّ انصراف الاطلاق الی الحولین الناشی عن ندرته بعدهما، من التمسّک بالاطلاق، لأنّه ناش من قلّة وجود بعض الافراد، والانصراف المضرّ هو ما کان


1- وسائل الشیعة: الباب 5 من أبواب ما یحرم بالرضاع، الحدیث 1.
2- المصدر السابق، الحدیث 5.
3- مصباح الهدی، ج 2، ص 241.

ص:50

من جهة اختلاف صدق المفهوم الناشئ من التشکیک فی صدقه علی أفراده، وقد عرفت أنّه لم یؤخذ فی موضوع الدلیل عنوان الرضیع حتّی یلاحظ حدود مصداقه، بل المأخوذ هو (الصبی الغیر الآکل)، کما أنّه لو صدق علیه الأکل قبل الحولین یخرج بوله عن حکمه.

أقول: ومنه یظهر الجواب عمّن تمسّک بحدیث: «لا رضاع بعد فطام» علی أنّ المراد هو سنّ الفطام لا نفسه، فممنوع، لأنّ شمول عموم النفی لأحکام الرضاع بعد سنّ الفطام لا یوجب نفی حکم الصبّ عنه بعده، لما قد عرفت بأنّ الصبّ حکم الصبی غیر الآکل لا الرضیع، وعلیه فالأقوی عدم الفرق فی حکم الصبّ بین وقوع أکله فی الحولین أو بعدهما، وإن کان الاحتیاط لما بعدهما حسنٌ جدّا کما لا یخفی.

کما لا فرق فی حکم الصبّ بین کون الصبی الرضیع تغذّی من لبن انسان أو غیره من الحیوان کالبقر والمعز، لأنّ الملاک عرفا صدق کونه رضیعا من حیث اللّبن.

وعلیه فما فی «مصباح الفقه» من دعوی انصراف الاطلاق عن الرضیع بلبن المعز عن هذا الحکم لیس علی ما ینبغی، کما لا یخفی للمتأمّل.

کما أنّ عنوان الرضیع الذی حکم فی بوله بالصبّ یشمل الغلام المتغذّی باللّبن الذی یأکل دون أن یتعوّد علیه عن شهوة، علی ما صرّح به غیر واحدٍ من الأصحاب، ووجه التقید بذلک إنّما هو لاخراج الآکل ندرةً فی أثناء اللّبن بحسب الاتفاق، وهذا واضح وإلاّ لزم انعدام هذا الموضوع الذی مصبّ الحکم لقلّة ولید لا یأکل شیئا أصلاً، إذ مقتضی الجمود علی اطلاق قوله: «وإن کان قد أکل فاغسله بالماء غَسلاً» کما فی روایة الحلبی هو ما عرفت، فلابدّ أن یکون الانصراف الی

ص:51

وإذا علم موضع النجاسة غَسل (1)

الأکل المتعارف، وهو الأکل المستند الی الشهوة لا القلیل الملحق بالعدم، ولذلک نری أنّ الأصحاب ذکروا هذا القید فی کلماتهم لاخراج صورة الندرة کما لا یخفی.

طرق اثبات النجاسة

طرق اثبات النجاسة

(1) إذا علم المکلّف موضع النجس فی الثوب أو البدن أو نحوهما، فلا اشکال فی وجوب الغَسل لما تجب الازالة له لتحصیل شرط الطهارة ولا کلام فیه.

نعم، الذی وقع الخلاف فیه، هو ما لو ظنّ نجاسة موضعٍ، فظاهر «النهایة» بل صریح الحلبی هو وجوب الغسل، مستدّلاً لذلک بأمور:

أوّلاً: ابتناء أکثر أحکام الشرع علی الظنون.

وثانیا: امتناع ترجیح المرجوح.

وثالثا: الاحتیاط فی بعض الصور.

ورابعا: دلالة نصوصٍ بعضها صحیحة علی ذلک:

منها: صحیح عبداللّه بن سنان، قال: «سأل أبی أبا عبداللّه علیه السلام عن الرّجل یصیر ثوبه لمن یعلم أنّه یأکل الجِرّی ویشرب الخمر، فیردّه أیصلّی فیه قبل أن یغسله؟ قال: لا یصلّی فیه حتّی یغسله»(1).


1- وسائل الشیعة: الباب 74 من أبواب النجاسات، الحدیث 2.

ص:52

ومثله: ما رواه الکلینی عن علی بن محمد، عن سهل بن زیاد، عن خیران الخادم، قال: «سألت أبا عبداللّه علیه السلام ...».

ومنها: ما رواه فی «مستطرفات السرائر» من «کتاب البزنطی»، قال: «سألته عن رجل اشتری ثوبا من السوق للبس لا یدری لمن کان، هل یصلح له الصلاة فیه؟ قال: إن کان اشتراه من مسلمٍ فلیصلّ فیه، وإن اشتراه من نصرانی فلا یلبسه ولا یصلّی فیه حتّی یغسله»(1).

ومثله خبر الشیخ باسناده عن محمد بن أحمد بن یحیی، عن العمرکی، عن علی بن جعفر، عن أخیه موسی علیه السلام بتفاوتٍ فی بعض الکلمات غیر ضائرة بما هو المقصود.

ومنها: خبر أبی بصیر، عن أبی عبداللّه علیه السلام ، فی حدیث: «إنّ علی بن الحسین علیهماالسلام کان یبعث الی العراق فیؤتی ممّا قبلکم بالفرو فیلبسه، فإذا حضرت الصلاة ألقاه وألقی القمیص الذی یلیه، فکان یُسئل عن ذلک؟ فقال: إنّ أهل العراق یستحلّون لباس الجلود المیتة، ویزعمون أن دبغه ذکاته»(2).

ومنها: روایة عبدالرحمن بن الحجاج، قال: «قلت لأبی عبداللّه علیه السلام : إنّی أدخل سوق المسلمین _ أعنی هذا الخلق الذین یدّعون الاسلام _ فأشتری منهم الفراء للتجارة فأقول لصاحبها ألیس هی ذکیّة؟ فیقول: بلی، فهل یصلح لی أن أبیعها علی أنّها ذکیّة؟ فقال: لا، ولکن لا بأس أن تبیعها وتقول قد شرط لی الذی اشتریتها أنّها ذکیّة. قلت: وما أفسد ذلک؟ قال: استحلال أهل العراق للمیتة،


1- وسائل الشیعة: الباب 50 من أبواب النجاسات، الحدیث 1.
2- وسائل الشیعة: الباب 61 من أبواب النجاسات، الحدیث 3.

ص:53

وزعموا أنّ دباغ جلد المیتة ذکاته، ثمّ لم یرضوا أن یکذبوا فی ذلک إلاّ علی رسول اللّه صلی الله علیه و آله »(1).

وکذا الأخبار الواردة فی وجوب الاجتناب عن غُسالة ماء الحمام، معللاً بأنّه: «یرد فیه النصرانی والیهودی والمجوسی والناصبی الذی هو شرّ من الثلاثة»(2).

هذا جملة ما یمکن الاستدلال للحکم فی المقام أو استدلوا به.

أقول: الانصاف بعد التأمّل یفید عدم تمامیة هذه الأدّلة لاثبات ما ادّعوه، فلا بأس بالتعرّض الی جوابها:

فأمّا عن الأوّل: فلأنّ الظاهر من کلامه هو الاستدلال بدلیل الانسداد، لکون الکلام فی الظنّ المطلق الذی لم یکن مستندا الی سبب شرعی، بحیث کان المدار فیه علی وصف الظنّ المطلق أو الظنّ الشخصی، ومن المعلوم عدم حجیّة الظنّ الشخصی أو المطلق فی الأحکام، فضلاً عن الموضوعات، لعدم تمامیة دلیل الانسداد کما قد حُقّق فی محلّه، لوضوح أنّ أدلّته لو تمّت لا تقتضی إلاّ جواز العمل بالظنّ فی الأحکام الشرعیّة الکلیّة التی انسدّ فیها باب العلم لا فی موضوعاتها، فقیاس الموضوعات علی الأحکام فی غیر محلّه.

وأمّا عن الثانی: وهو امتناع ترجیح المرجوح، فهو صحیحٌ لو لم یکن مؤیّدا بحجّة شرعیة من أصلٍ أو استصحابٍ ونحوهما، وإلاّ خرج عن کونه مرجوحا من حیث الدلیل، وإن کان مرجوحا بحسب حال النفس.


1- المصدر السابق، الحدیث 4.
2- وسائل الشیعة: الباب 11 من أبواب الماء المضاف.

ص:54

وعن الثالث: وهو الاحتیاط، فلا اشکال فی حسنه، إلاّ أنّه لیس علی حدٍّ یوجب الحکم بوجوب مراعاته، بل هو محکوم فی المقام بما یدلّ علی جواز العمل بالطهارة ولو مع الظنّ بالنجاسة، کما یتضح لک ذلک.

وأمّا الجواب عن الأخبار: وهو الرابع من الادلة:

أوّلاً: نمنع کون ظهور هذه الأخبار فی المنع عن الاستعمال عند الظنّ بالنجاسة، لوضوح عدم التلازم بین أکل لحم الخنزیر وشُرب الخمر، وبین حصول وصف الظنّ بالنجاسة فی ثوب الآکل والشارب. وکذا لا ملازمة بین اشتراء الثوب من النصرانی والیهودی، وبین حصول الظنّ بالنجاسة، بل التفکیک بینهما واضحٌ، وعلیه فشیءٌ من هذه الروایات لا یدلّ علی اعتبار الظنّ بالنجاسة من حیث وصف الظنّ.

وثانیا: لو سلّمنا دلالتها علی ما ادّعی، فهی غیر معمول بها، لکون العمل بما یعارضها من الأخبار الدّالة علی عدم الاعتبار بالظنّ بالنجاسة الی أن یحصل العلم والیقین بها، فبذلک تسقط هذه الأخبار عن الحجّیة باعراض الأصحاب عنها علی حسب ما هو المختار فی محلّه، من أنّ الاعراض موهنٌ للحجّیة ومسقطٌ عنها.

وأمّا خبر أبی بصیر: فقد ورد فیه عمل الامام بالقاء الفراء وما یلیه من القمیص حال الصلاة حیث یفید أنّه کان لأجل الظنّ بالنجاسة.

وفیه أولاً: أنّه علی فرض تسلیم دلالة الروایة بما ادّعاه، کان نزعه علیه السلام حال الصلاة احتیاطا من الامام فی مقام العمل لا فی مقام الفتوی، کیف ولو کان ممّا لا یجوز الصلاة فیه، لما جاز لبسه فی غیر حال الصلاة أیضا، ضرورة حرمة استعمال

ص:55

المیتة مطلقا ولو فی غیر حال الصلاة.

نعم، قد یؤمی القول بالتفصیل عن «الذکری» من المشکوک فیها إذا أخذه عمّن لا یعلم کونه مستحلاًّ، بین لبسه فی حال الصلاة بالمنع وبین غیره بالجواز، تمسکاً بهذا الخبر، کما نُسب الیه.

لکنه فی غایة الضعف، للاجماع علی عدم الفرق کما ادّعاه الآملی فی «مصباح الهدی».

وعلیه فیکون الخبر بصدره دلیلاً علی الجواز، وکان عمل الامام بالنزع عملاً بالاحتیاط فی حال الصلاة، فلا یخالف مع الفتوی.

وأیضاً: ما قیل من احتمال أن یکون إلقاء الفرو حال الصلاة لأجل احتمال کونه میتة، لا لاحتمال الظنّ بنجاسته، فلا یدلّ علی اعتبار الظنّ فی النجاسة کا هو المدّعی.

ممنوعٌ، لیس علی ما ینبغی، لوضوح أنّه لو کان الأمر کذلک، فلا وجه لالقاء القمیص الذی کان تحته، وعلیه فعله علیه السلام لیس الاّ لأجل احتمال ملاقاته مع الفرو النجس، مضافا الی أن التحقیق فی باب مانعیّة المیتة لیس إلاّ من باب نجاستها، ولذا تختصّ مانعیتها بالمیتة النجسة دون ما لا نفس لها، کما لا یخفی.

وثانیا: علی فرض تسلیم کون الخبر ممّا یدلّ علی اعتبار الظنّ بالنجاسة فی ترتّب أثره، من وجوب الاجتناب عنه، لکن ثبت ممّا مضی انّه یسقط عن الاعتبار باعراض الأصحاب عن العمل به، لوجود أخبار کثیرة مستفیضة بل متواترة علی جواز الاتیان مع الظنّ بالنجاسة الی أن یحصل العلم والیقین، مضافا الی أنّ هذه الأخبار مخالفة لقاعدة الیقین کما أشار الیه صاحب «الجواهر»، مضافا الی أن

ص:56

الأصل عند الشک فی حجیّة الظنّ هو عدمها، فیکون المرجع حینئذٍ الی الأخبار الحاکمة بالطهارة الی حصول العلم بالنجاسة، وعلیه فلا بأس هنا بذکر الأخبار التی أشیر الیها فنقول من اللّه الاستعانة:

الأخبار الدالّة علی طهارة الثوب المشتبه

الأخبار الدالّة علی طهارة الثوب المشتبه

منها: حسنة الحلبی أو صحیحه، عن أبی عبداللّه علیه السلام ، قال: «إذا احلتم الرجل فأصاب ثوبه منی فلیغسل الذی أصابه، فإن ظن أنّه أصابه منیّ ولم یستیقن ولم یر مکانه، فلینضحه بالماء، وإن استیقن أنّه قد أصابه منیّ ولم یر مکانه فلیغسل ثوبه کلّه فانّه أحسن»(1).

ومنها: صحیحة عبداللّه بن سنان، قال: «سأل أبی أبا عبداللّه علیه السلام وأنا حاضر: إنی أعیر الذمّی ثوبی وأنا أعلم أنّه یشرب الخمر ویأکل لحم الخنزیر، فیردّه علیّ، فأغسله قبل أن أصلّی فیه؟ فقال أبو عبداللّه علیه السلام : صلّ فیه ولا تغسله من أجل ذلک، فإنّک أعرته ایّاه وهو طاهر ولم تستیقن أنّه نجسّه، فلا بأس أن تصلّی فیه حتّی تستیقن أنّه نجسّه»(2).

ومنها: مضمرة زرارة فی الصحیح، بل عن «العلل» اسناده إلی أبی جعفر علیه السلام ، قال: «قلت: أصاب ثوبی دمُ رعافٍ أو غیره... الی أن قال: قلت: فإن ظننت أنّه قد أصابه ولم أتیقن ذلک، فنظرتُ فلم أر شیئا ثمّ صلیت فیه فرأیت فیه قال: تغسله


1- وسائل الشیعة: الباب 16 من أبواب النجاسات، الحدیث 4.
2- وسائل الشیعة: الباب 74 من أبواب النجاسات، الحدیث 1.

ص:57

ولا تعید الصلاة. قلت: ولِمَ ذاک؟ قال: لأنّک کنت علی یقین من طهارتک ثمّ شککت، فلیس ینبغی أن تنقض الیقین بالشک أبداً»(1).

ومنها: موثقة عمّار بن موسی الساباطی أنّه سأل أبا عبداللّه علیه السلام : «عن رجل یجد فی إنائه فأرة وقد توضّأ من ذلک الاناء مرارا أو اغتسل منه، أو غسل ثیابه وقد کانت الفأرة متسخلة؟ فقال: إن کان رآها فی الاناء قبل أن یغتسل أو یتوضّأ أو یغسل ثیابه ثمّ یفعل ذلک بعد ما رآها فی الاناء، فعلیه أن یغسل ثیابه، ویغسل کلّ ما أصابه ذلک الماء، ویعید الوضوء والصلاة، وإن کان إنّما رآها بعد ما فرغ من ذلک وفعله فلا یمسّ من ذلک الماء شیئا، ولیس علیه شیء، لأنّه لا یعلم متی سقطت فیه. ثمّ قال: لعلّه أن یکون إنّما سقطت فیه تلک الساعة التی رآها»(2).

ومنها: صحیح معاویة بن عمّار، قال: «سألت أبا عبداللّه علیه السلام عن الثیاب السابریة یعملها المجوس وهم أخباث وهم یشربون الخمر، ونسائهم علی تلک الحال، ألبسها ولا أغسلها وأصلّی فیه؟ قال: نعم. قال معاویة: فقطعت له قمیصا وخططته وفتّلت له ازارا ورداءا من السابری ثمّ بعثت بها الیه فی یوم جمعةٍ حین ارتفع النهار، فکأنّه عرف ما أرید فخرج بها الی الجمعة»(3).

حیث یدلّ علی المطلوب بقول الامام علیه السلام : «نعم» وفعله علیه السلام حیث قد خرج بها الی الجمعة.


1- وسائل الشیعة: الباب 37 من أبواب النجاسات، الحدیث 1.
2- وسائل الشیعة: الباب 4 من أبواب الماء المطلق، الحدیث 1.
3- وسائل الشیعة: الباب 73 من أبواب النجاسات، الحدیث 1.

ص:58

ومنها: خبر أبی جمیلة، عن أبی عبداللّه علیه السلام : «أنّه سأله عن ثوب المجوسی ألبسه وأصلّی فیه؟ قال: نعم. قلت: یشربون الخمر؟ قال: نعم نحن نشتری الثیاب السابریة فنلبسها ولا نغسلها»(1).

وغیر ذلک من الأخبار الدالة علی الطهارة عند الظنّ بالنجاسة الی أن یصل الی الیقین بها، ولا یخفی أن هذه الأخبار من حیث العدد بالغٌ الی حدّ التواتر، فلا یمکن حینئذٍ المساعدة مع ما صرّح به الحلبی أو ما جاء فی ظاهر «النهایة» من وجوب الغسل عند الظنّ بالنجاسة، ولأجل ذلک نری قیام الشهرة بل الاجماع علی عدم وجوب الغسل مع الظنّ بها، خصوصا مع ملاحظة ما ورد فی خبر حمّاد عن الصادق علیه السلام : «الماء کلّه طاهر حتّی تعلم أنّه نجس قذر»(2)، وموثقة عمّار: «کلّ شیء نظیف حتّی تعلم انّه قذر»(3) حیث یدلاّن علی النظافة والطهارة الی حین العلم بالقذارة، وأیضاً خبر حفص بن غیاث، عن جعفر، عن أبیه، عن علی علیهم السلام ، قال: «ما أبالی أبولٌ أصابنی أم ماء إذا لم أعلم»(4).

فمع وجود هذه الکلّیة فی الأخبار لا یبقی للانسان شک فی الحکم بالطهارة، کما لا یخفی.

أقول: برغم وجود هذه الأخبار، لکن لا بأس بالاحتیاط بالتطهیر خروجا عن


1- المصدر السابق، الحدیث 7.
2- وسائل الشیعة: الباب 1 من أبواب الماء المطلق، الحدیث 5.
3- وسائل الشیعة: الباب 37 من أبواب النجاسات، الحدیث 4.
4- المصدر السابق، الحدیث 5.

ص:59

شبهة الخلاف مع ما عرفت، بل لا یبعد القول باستحبابه لما یدلّ علی محبوبیة لسان بعض الأخبار مثل الروایة التی رواها أبی علیّ البزّاز، عن أبیه، قال: «سألت جعفر بن محمد علیهماالسلام عن الثوب یعمله أهل الکتاب أصلّی فیه قبل أن یغسل؟ قال: لا بأس وإن یُغسل أحبّ الیّ»(1).

بل یمکن استظهار ذلک ورجحان تحصیلها فی الجملة، ممّا ورد من الحکم بالاستحباب فی خبر علی بن یقطین، عن أبی الحسن علیه السلام : «فی الرجل یتوضّأ بفضل الحائض؟ قال: إذا کانت مأمؤنة فلا بأس»(2) حیث یفید النهی عنه إذا لم تکن کذلک، أی إذا کانت متهمة بعدم المبالات، کما قد یطلق ذلک بصورة أنّه أن کانت تغسل یدیها کما ورد فی حدیث رفاعة، عن أبی عبداللّه علیه السلام ، قال: «إنّ سؤر الحائض لا بأس به أن تتوضّأ منه إذا کانت تغسل یدیها»(3)، فإنّ غسل الیدین کنایة عن کونها تراعی النظافة والطهارة، فبالمفهوم یفهم البأس لمن لم تکن کذلک، فحسن هذا الاستظهار للطهارة مسلّم لا کلام فیه، فاحتمال عدم مشروعیة هذا الاستظهار، لأجل ظهور ألادلة فی التوسعة فی أمر الطهارة موهونٌ جدّا، بل فی «الجواهر»: «ینبغی القطع بفساده إن أرید منه الحرمة إن لم یقصد به المستظهر قربةً، بل أراد إراقة الماء علی یده مثلاً لزوال نجاستها إن کان واقعا فیها نجاسة، للأصل السالم عن المعارض، والسیرة القاطعة وغیرهما»، ونحن نزید علیه أنّه


1- وسائل الشیعة: الباب 73 من أبواب النجاسات، الحدیث 5.
2- وسائل الشیعة: الباب 8 من أبواب الاسئار، الحدیث 5.
3- المصدر السابق، الحدیث 9.

ص:60

یجوز الاستظهار حتّی فی صورة قصد القربة بنحو الاستحباب والمحبوبیة الشرعیة، لو لم یستلزم ولم ینجّر الی الوسواس، وإلاّ یصیر مرجوحا، بل ربّما یوجب التحریم لو کان مقدمة له أو هو منشأه.

هذا کلّه فی الظن بالنجاسة بصورة المطلق عند ما لم یکن منشأه السبب الشرعی.

حکم الظنّ بالنجاسة المتحقّق من السبب الشرعی

حکم الظنّ بالنجاسة المتحقّق من السبب الشرعی

وهو علی أقسام:

القسم الأوّل: الظنّ الحاصل بخبر العدل الواحد علی النجاسة، فهل علی اعتباره دلیلٌ بالعموم حتّی یشمل مثله أم لا؟

قیل بالأوّل، واستدلّ له بأمورٍ:

منها: آیة الأذن، وهی قوله تعالی فی سورة البراءة: «وَمِنْهُمُ الَّذِینَ یُؤْذُونَ النَّبِیَّ وَیِقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَیْرٍ لَّکُمْ یُؤْمِنُ بِاللّهِ وَیُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِینَ»(1).

تقریب الاستدلال: إنّ اللّه سبحانه وتعالی أمر نبیّه بتصدیقه للمؤمنین، الکاشف عن اعتبار قولهم لدیه، إذ لو لم یکن معتبرا لم یکن مدحٌ فی تصدیقه لهم، ومع اعتباره یکون التصدیق حسنا، وإذا کان حسنا کان واجبا، فکأنّ الملازمة ثابتة بین حُسن التصدیق ووجوبه، فتدلّ الآیة علی وجوب التصدیق علیه، فبالاطلاق فی الآیة یثبت التصدیق فی الموضوعات أیضا فی حق النبی صلی الله علیه و آله ، فإذا ثبت


1- سورة البراءة، الآیة 61.

ص:61

التصدیق له صلی الله علیه و آله للمؤمنین فی الموضوعات، ثبت حقّنا أیضا بالاجماع علی مشارکتنا معه فی جمیع الاحکام عدا الأحکام المختصصة به صلی الله علیه و آله ، فیثبت به اعتبار خبر المؤمن، والقدر المتیقن منه هو العادل، فتصیر الآیة دلیلاً علی اعتبار خبر العادل ولو کان واحدا.

وفیه: بعد التأمّل والدقّة فی الآیة، والرجوع الی هذا المبحث فی الأصول وملاحظته، یظهر خلاف ذلک، لأنّ شأن نزول هذه الآیة وموردها _ علی حسب ما نقله القمّی فی تفسیره فی ذیل هذه الآیة _ فی أنّه قد نمّ منافقٌ وهو عبداللّه بن نفیل أو الجلاس بن سوید أو نبلّ بن الحرث علی الاختلاف فی اسمه علی النبی صلی الله علیه و آله ، فأخبره اللّه بذلک، فأحضره صلی الله علیه و آله وسأله، فحلف إنّه لم یکن شیءٌ ممّا ینّم علیه، فقبل النبی ذلک منه، فطعن هذا الرجل بعد ذلک فیه صلی الله علیه و آله وقال إنّه أُذُن، فردّ علیه اللّه سبحانه بواسطة نبیّه «قُلْ أُذُنُ خَیْرٍ لَکُمْ»، ولا یخفی أن تصدیق النبی له لم یکن لاعتقاده بصدقه، بل اراد أن یحفظ عرض المنافق وسمعته الاجتماعیة، کما یؤمی الی ذلک قوله تعالی: «خَیْرٍ لَکُمْ» حیث أنّه مربوط بذلک المنافق، ثمّ ما جاء بعده حکم مستقلٌ ولا علاقة له بما سبق، بل الآیة من خلال الاعراض تشیر الی أنّ تصدیقه کان للّه وللمؤمنین لا المنافقین، وعلیه فالآیة غیر دالة علی ما استدلّوا من ناحیة الاُذُن. هذا مضافا الی أنّ هناک ردود عدیدة واردة علی دلالتها ومن جهات شتی، ذکرنا تفصیلها فی الأصول فی باب حجیة الظنّ، فمن أراد الاطلاع علیه فلیراجع الی کتابنا «لآلی الأصول».

ومنها: آیة النبأ من جهة مفهومها، حیث أنّ وجوب التبیّن فی منطوق الآیة

ص:62

رتّب علی کون الخبر فاسقا، ومفهومها أنّ المخبر إذا کان عادلاً فیقبل قوله ولا یحتاج الی التبّین، وقد قرّرنا البحث عنها مفصّلاً فی الأصول وقلنا إنّ مفهومها لا یمکن أن یکون دلیلاً علی حجیّة خبر العادل من جهات متعددة، لیس المقام مجالٌ لذکرها تفصیلاً، ومن أراد الاطلاع علیها فلیراجع کتابنا الأصولی. لکن، الأولی هنا ذکر ما یمکن استفادة ذلک من الأخبار الواردة فی الموضوعات الخاصة الدّالة علی حجیّة خبر العدل الواحد، فلا بأس بذکرها تفصیلاً:

ومنها: خبر هشام بن سالم، عن أبی عبداللّه علیه السلام : «فی رجل وکّل آخر... إلی أن قال: والوکالة ثابتة حتّی یبلغه العزل عن الوکالة بثقة یبلغه أو یشافه ریشا فی؟؟ بالعزل عن الوکالة»(1).

حیث إنّه صریح فی ثبوت العزل بخبر الثقة، فضلاً عن العادل الذی یعدّ أعلی من الثقة، مع أنّ الأصحاب شرطوا العلم فی حصوله، فالخبر یدلّ علی أن خبر الثقة بمنزلة العلم، ویترتّب علیه الأثر.

ومنها: خبر ابن أبی عمیر، عن حفص البختری، عن أبی عبداللّه علیه السلام : «فی الرجل یشتری الأمّة من رجلٍ فیقول إنّی لم أطأها؟ فقال: إن وثق به فلا بأس أن یأتیها، الحدیث»(2).

ومنها: مثله خبر مرسل «المقنعة»، قال: «روی أنّه لا بأس أن یطأ الجاریة من غیر استبراء لها إذا کان بایعها قد أخبره باستبراءها، وکان صادقا فی ظاهره


1- وسائل الشیعة: الباب 2 من أبواب الوکالة، الحدیث 1.
2- وسائل الشیعة: الباب 6 من أبواب نکاح البعید والاماء، الحدیث 1.

ص:63

مأموناً»(1) حیث یدلّ علی کفایة إخبار العادل والمأمون فی عدم لزوم الاستبراء وجواز وطیها.

ومنها: خبر عبداللّه بن سنان، عن أبی عبداللّه علیه السلام ، قال: «اغتسل أبی من الجنابة فقیل له: قد أبقیت لمعةً فی ظهرک لم یُصبها الماء؟ فقال له: ما کان علیک لو سکّت! ثمّ مسح تلک اللّمعة بیده»(2).

فإنّ الامام علیه قبل کلام الرجل فی الموضوع، فیدلّ بالفحوی علی جواز احراز الموضوعات به أیضا، لأنّه قد رتّب الأثر علی کلامه ومسح تلک اللمعة لتکمیل غُسل الجنابة.

ومنها: ما ورد فی دخول الوقت المشروط بالعلم بأذان العدل العارف بالوقت، وهو مثل خبر الهاشمی، عن أبیه، عن جدّه، عن علی علیه السلام ، قال: «المؤذّن مؤتمنٌ، والامام ضامن»(3).

ومنها: روایة محمد بن خالد القسری، قال: «قلت لأبی عبداللّه علیه السلام : أخاف أن نصلّی یوم الجمعة قبل أن تزول الشمس؟ فقال: إنّما ذلک علی المؤذّنین»(4).

ومنها: خبر الذی ینهی عن إعلام المصلّی بوجود دمٍ فی ثوبه حتّی ینصرف، وهو مثل خبر محمد بن مسلم، عن أحدهما علیهماالسلام ، قال: «سألته عن الرجل یری


1- المصدر السابق، الحدیث 6.
2- وسائل الشیعة: الباب 47 من أبواب النجاسات، الحدیث 2.
3- وسائل الشیعة: الباب 3 من أبواب الاذان والاقامة، الحدیث 2.
4- وسائل الشیعة: الباب 3 من أبواب الأذان والاقامة، الحدیث 3.

ص:64

فی ثوب أخیه دما وهو یصلّی؟ قال: لا یؤذنه حتّی ینصرف»(1).

حیث یستفاد منه تنزیل خبر العدل منزلة الیقین، والاکتفاء به علی وجه الضابط والقاعدة فی کلّ موضوع لم یثبت کونه من الشهادة المعتبرة فیها التعدد، فاذا ثبتت النجاسة بالعدل الواحد، یثبت به التنجّس أیضا، لثبوت الملازمة بینهما فی ثبوته بالعدل الواحد إذا فرضنا أنّه لیس من الشهادة حتّی یعتبر فیه التعدد.

ولا یتوهّم: أنّ النسبة بین ما دلّ علی اعتبار العلم فی النجاسة، وبین ما دلّ علی حجیّة قبول خبر الواحد هو من وجهٍ، ولا مرجّح لأحدهما علی الآخر، فیتوقّف والمرجع الی أصل الطهارة.

لمّا قد عرفت من دلالة هذه الأخبار علی أصل ثبوت النجاسة، الحاکمة علی ما یدلّ علی لزوم العلم فی ثبوت النجاسة، فبهذه الحکومة یثبت التنجّس به لاتحاد مدرکهما.

ومنها: خبر اسحاق بن عمّار، عن أبی عبداللّه علیه السلام ، قال: «سألته عن رجل کانت له عندی دنانیر وکان مریضا فقال لی إن حدث بی حدثٌ فاعط فلانا عشرین دینارا، وإعط أخی بقیّة الدنانیر، فمات ولم أشهد موته، فأتانی رجلٌ مسلم صادق فقال إنّه أمرنی أن أقول لک: أنظر الدنانیر التی أمرتک أن تدفعها الی أخی فتصدّق منها بعشرة دنانیر قسّمها فی المسلمین ولم تعلم أخوه انّ عندی شیئا؟ فقال: أری لک أن تصدّق منها بعشرة دنانیر»(2).

أقول: هذه هی الأخبار الکثیرة الواردة فی أبواب متفرّقة من الفقه، یستفاد منها


1- وسائل الشیعة: الباب 47 من أبواب النجاسات، الحدیث 1.
2- وسائل الشیعة: الباب 97 من أبواب کتاب الوصایا، الحدیث 1.

ص:65

ثبوت النجاسة أو غیرها من خبر العدل الواحد، ولو لم یحصل من کلامه العلم بما أخبر به من النجاسة وغیرها، ولأجل ذلک ذهب الیه العلاّمة فی «التذکرة» بل احتمله فی «النهایة»، ومال الیه صاحب «الحدائق»، بل اختاره صاحب «مصباح الفقیه» وأضاف الی تلک الأخبار بعد ما قال: «وهذا _ أی القول بالثبوت _ هو الأقوی) ثمّ قال: (بل الأظهر عدم اشتراط العدالة المصطلحة، وکفایة کون الخبر ثقة مأمونا محترزا عن الکذب، لاستقرار سیرة العقلاء علی الاعتماد علی أخبار الثقات فی الحسّیات التی لا یتطرّق فیها احتمال الخطأ احتمالاً یعتدّ به لدیهم، ممّا یتعلّق بمعاشهم ومعادهم، ولیست حجّیة خبر الثقة لدی العقلاء إلاّ کحجیّة ظواهر الألفاظ، ومن هنا استقرت السیرة المتشرعة علی أخذ معالم دینهم من الثقات، ولم یثبت من الشارع ردعهم عن ذلک، بل ثبت تقریرهم علی ذلک، کما تقرّر ذلک فی الأصول عند البحث عن حجیّة خبر الواحد» انتهی محلّ الحاجة(1).

وبالجملة: هذا غایة ما یمکن أن یستدلّ لهذا القول فی حجّیة خبر العدل الواحد، واثبات النجاسة من کلامه، وهو أحد القولین فی المسألة.

والقول الآخر: عدم الثبوت، وهو المشهور کما صرّح بذلک صاحب «المعالم»، وعلیه المحقّق فی «المعتبر» وفی موضع من «التذکرة»، وظاهر «القواعد» أو صریحها، و«جامع المقاصد»، وعن «المبسوط» و«الخلاف» و«الموجز» وشرحه، و«الایضاح» لصاحب «مصباح الهدی»، بل وأکثر أصحاب التعلیق تبعا للسّید فی


1- مصباح الفقیه، ج 8، الحدیث 169.

ص:66

«العروة» من الاشکال فی قبوله، بلا فرق بین ما ذکر ما تنجّس به الشیء أم لا، کما صرّح به بعضهم، وهو ظاهر آخر، لاطلاقه کاطلاقهم ذلک، وبلا فرق أیضا بین ما کان قبل الاستعمال أو بعده، للأصل وهو الطهارة ما لم یحصل العلم بالنجاسة، لقوله علیه السلام : «کلّ شیء طاهر حتّی تعلم أنّه نجس»، وقاعدة الیقین حیث لا یرفع الید إلاّ بالعلم علی خلافه، واعتبار العلم فی الأخبار السابقة التی ذکرناه بالتفصیل، ومفهوم ما تسمعه من خبری البیّنة، وهما:

1. خبر مسعدة بن صدقة، عن أبی عبداللّه علیه السلام ، قال: «سمعته یقول: کلّ شیء هو لک حلال حتّی تعلم أنّه حرامٌ بعینه فتدعه مِن قبل نفسک، وذلک مثل الثوب یکون علیک قد اشتریته وهو سرقة، والمملوک عندک لعلّه حُرٌّ قد باع نفسه، الی أن قال: والاشیاء کلّها علی هذا حتّی یستبین لک غیر ذلک أو تقوم به البیّنة»(1).

فإنّ مفهوم جملة: «أو تقوم به البیّنة» عدم حجّیة ما دلّ علیه غیر البیّنة ومنه خبر العدل.

2. وکذلک المفهوم المستفاد من خبر عبداللّه بن سلیمان، عن أبی عبداللّه علیه السلام : «فی الجُبّن؟ قال: کلّ شیء لک حلال حتّی یجئیک شاهدان یشهدان أنّ فیه میتة»(2).

حیث یدلّ علی عدم قبول ما یجیء به العدل الواحد الذی لا یصدق علیه البیّنة ولا الشاهدین.

أقول: بقی هنا الجواب عمّا استدلّوا به للثبوت، فنقول ومن اللّه الاستعانة: فبعضها لا یضرّ بمطلبنا مثل إخبار البایع باستبراء الامّة وعدم وطیها، حیث إنّه


1- وسائل الشیعة: الباب 4 من أبواب ما یکتسب به، الحدیث 4.
2- وسائل الشیعة: الباب 61 من أبواب الأطعمة المباحة، الحدیث 2.

ص:67

حجّة مکان الید، لا لأجل کونه مخبرا واحدا عدلاً فقط فیجوز للمشتری ترتّب الأثر علیه، وکذا فی خبر اللّمعة، وما دلّ علی النهی عن إعلام المصلّی بدم ثوبه، لامکان حصول الیقین بعد الفحص إذا أخبره المخبر، مضافا الی أن حجّیته فی الأحکام لا یستلزم اعتباره فی موضوعاتها، لعدم التنافی فی التفکیک بینهما إذا دلّ الدلیل علیه کما فی المقام، حیث قام الدلیل علی الأوّل دون الثانی، ولأجل ذلک یلاحظ أنّ المشهور قائلون بالاعتبار فی الأوّل أی الأحکام دون الثانی وهو الموضوعات.

نعم، یمکن الاستثناء فی الموضوعات التی ورد الدلیل علی ثبوتها بخبر العدل الواحد، کما فی اثبات عزل الوکیل به، وما دلّ علی اثبات الوصیّة بخبره، وما دلّ الدلیل علی جواز الاکتفاء بأذان العارف من المؤذنین وأمثال ذلک إن قام الدلیل علی اعتباره بالخصوص، وإلاّ استفادة العموم من هذه الموارد فی اشباهها فی غایة الاشکال.

أمّا الجواب عمّا ذکره «مصباح الفقیه»: من قیام بناء العقلاء علی العمل بخبر الثقة فی الموضوعات، ولو لم یکن عدلاً، وأنّه یکفی فی صحة التمسّک عدم احراز الرّدع عن الشارع، مع کونه بمرآه ومنظره.

أقول: فی کلا الأمرین اشکال:

أمّا الأوّل: فلانّ بنائهم وإن کان محرزا باستقرار السیرة فی الاعتماد علی أخبار الثقة فی الحسّیات التی لا یتطرق فیها احتمال الخطا فی المعاش والمعاد، لکنّه لیس مع شکّهم فی صدق المخبر وکذبه وتحقق المخبر عنه وعدمه، بل بإخبار

ص:68

المخبر یحصل لهم العلم العادی الاطمینانی بتحقّق خبره، فیعملون علی وفقه من جهة حصول العلم لهم بخبره، وإن کان یزول علمهم هذا بتشکیک مشکک، فهم حین العمل علی وفق خبر المخبر لم یکونوا شاکّین وعند حصول الشک لهم لا یکونوا عاملین.

وأمّا عن الثانی: وهو الامضاء ولو بعدم الردع عنهم، لما قد عرفت من خبر مسعدة بن صدقة من حصر القبول فی الموضوعات الی الاستبانة والیقین أو اقامة البیّنة علیه، وهو یکفی فی الرّد علیه.

وعلیه، فالأقوی عدم اعتبار قوله بترتیب الآثار علیه، إلاّ فیما حصل للشخص بإخباره الوثوق والاطمینان بصدقه، ولعلّ الحال کذلک فی غالب الموارد، کذلک إلاّ أن یقوم دلیل بالخصوص علی اعتباره ولو لم یحصل له الوثوق والاطمینان، نظیر ما عرفت فی الإخبار الواردة فی الوصیّة وعزل الوکیل وغیرهما، واللّه العالم.

هذا تمام الکلام فی ثبوت النجاسة بالظنّ الحاصل من السبب وهو خبر العدل الواحد.

القسم الثانی: من الأقسام التی یحصل بها الظنّ بالسبب الشرعی هو البیّنة، أی إخبار العدلین بشیءٍ من النجاسة وغیرها، بل حتّی فی الموضوعات، فیقع البحث عن أنّه هل تثبت النجاسة بها أم لا؟ فیه وجهان بل قولان:

1. قول الثبوت، وهو المشهور، بل فی «الجواهر»: «ینبغی القطع بقبول البیّنة فی ذلک، کما صرّح به فی بعض الکتب السابقة، وحکی عن آخر، بل لا أجد فیه خلافا».

2. وقول آخر بعدمه، وهو المحکی عن القاضی ابن البراج وعن ظاهر عبارة الکاتب والشیخ، بل قد یظهر موافقة بعض المتأخّرین کما عن «مستند الشیعة»

ص:69

نقله، واستدلّ الثانی بأن الطهارة معلومة بالأصل، ولا یسقطها إلاّ العلم الذی هو طریق للاثبات، وشهادة الشاهدین لا یفسد إلاّ الظنّ، فلا یترک لأجله المعلوم، هذا کما فی «المعالم».

ولکن یرد علیه: بأنّ الطهارة المعلومة بالأصل التی جعلها معارضة للظنّ الحاصل من البیّنة، لیس إلاّ عبارة عن استصحابها، ومن المعلوم بأنّه إن ثبتت حجیّته البیّنة وکونها بمنزلة العلم، فإنّه لا یعارضها الاستصحاب وإن لم تفد الظنّ، وإلاّ فلا تقابل بشیءٍ من الأصول والأدلّة، لا انّها لا یفسد الاّ الظنّ، بل لأجل أنّها لیست بحجّة. هذا مضافا الی أنّ الطهارة بالأصل طهارة ظاهریة ثابتة للشیء المشکوک طهارته واقعا، وعلی تقدیر اعتبار البیّنة بالإخبار فی اثبات النجاسة تکون نجاستها ثابته واقعیة، وبعد اثبات هذه النجاسة بالبیّنة لا یبقی شک فی الطهارة الواقعیة حتّی یعمل بدلیل الأصل بالطهارة الظاهریة، وعلیه فدلیل اعتبار البیّنة یهدم موضوع الطهارة الظاهریة ولو حکما، الموجب لارتفاع حکمه وهو الطهارة الظاهریة بواسطة زوال موضوعه، ومعنی ذلک حکومة دلیل اعتبار البیّنة علی أصالة الطهارة، کما لا یخفی.

أقول: ومنه یظهر الجواب عن کلّ ما یترتّب علی الشک من قاعدة الطهارة المستفادة من خبر حمّاد حیث قال علیه السلام : «کلّ شیء نظیف حتّی تعلم انه قذر»(1)، وقوله علیه السلام : «الماء کلّه طاهر حتّی تعلم انه قذر»(2)، ومثل قول علی علیه السلام فی


1- وسائل الشیعة: الباب 1 من أبواب الماء المطلق، الحدیث 5.
2- وسائل الشیعة: الباب 37 من أبواب النجاسات، الحدیث 4.

ص:70

روایة حفص بن غیاث: «ما أبالی أبولٌ أصابنی أو ماء إذا لم أعلم»(1) إذ شیء منها لا یقدر علی المعارضة مع دلیل اعتبار البیّنة المثبت للنجاسة، لأنّ موضوع کلّ ما عرفت کان فی ظرف الشک، والبیّنة بعد اعتبارها یصیر مضمونها بمنزلة العلم، فیهدم موضوع الشک ویقدّم علیه.

البحث عن اعتبار البیّنة فی الموضوعات

البحث عن اعتبار البیّنة فی الموضوعات

العمدة فی المقام اثبات اعتبار البیّنة بالأدلّة، وقد استدلّ علی ذلک، أی اثبات النجاسة بها: تارة بالعمومات وأخری بما یدلّ علی ذلک بالخصوص.

فمن الأوّل: مثل ما جاء فی روایة مسعدة بن صدقة المتقدّمة، فی قوله علیه السلام : «کلّ شیء هو لک حلال حتّی تعلم أنّه حرام بعینه فتدعه مِن قبل نفسک، وذلک مثل الثوب یکون علیک قد اشتریته وهو سرقة، والمملوک لعلّه حرّ قد باع نفسه أو خُدع أو قهر وبیع، والمرآة تحتک لعلّها أختک ورضیعتک، ثمّ قال: والأشیاء کلّها علی هذا حتّی یستبین لک غیر ذلک أو تقوم به البیّنة»(2) فإنّ لفظ (الأشیاء) جمعٌ معرف بالألف واللام، مع التصریح بالتأکید بأداة (کلّ) حیث یفید العموم، ویترتّب علیه الحلیّة الواقعة فی صدر الحدیث. والمراد من الاستبانه هو العلم الوجدانّی بعد الحلیّة، أو قیام البیّنة علی ذلک، حیث نزّلها الشارع بمنزلة العلم فی اثبات خلاف الحلیّة إذا قامت علی ذلک، وهذا حکم جارٍ فی کلّ الأشیاء المذکورة من الشبهات


1- المصدر السابق، الحدیث 5.
2- وسائل الشیعة: الباب 4 من أبواب ما یکتسب به، الحدیث 4.

ص:71

الموضوعیة، فیستفاد من هذا الحدیث عموم حجیّة البیّنة فی کلّ شبهةٍ موضوعیة کالأمثلة المذکورة وغیرها، والمشهود به فی هذا الخبر هو نفس الموضوع، مثل السرقة أو بیع الحرّ نفسه أو المرأة التی تحت الرجل کونها أخته أو رضیعته، لا الحرمة حتّی یعترض علیه کما فی «المستمسک» للحکیم رحمه الله علی أنّه یدلّ علی حجیة البیّنة للحکم وهی الحرمة لا الموضوعات، فلا یثبت به حجیّة البیّنة فی الشبهة الموضوعیة.

وتوهّم: أنّ الخبر واردٌ فی مورد خاص من الشبهة الموضوعیة لا بنحو العموم.

مندفع أوّلاً: بأنّه إذا ثبت فی المورد بما أنّها من الشبهة الموضوعیة، فیتعدی الی غیرها من الشبهات الموضوعیة لوحدة الملاک، خصوصا مع ملاحظة ما فی نظر الشارع من التوسعة للمکلّفین فی باب الحلیّة والحرمة والطهارة والنجاسة، بالاکتفاء علی عدم العلم بما یقابلها.

وثانیا: یستفاد العموم من قوله علیه السلام : «والأشیاء کلّها علی هذا» فتدلّ الروایة علی أنّ کلّ شیء علی هذا الحال الذی یقتضیه الأصل فیه من التکلیف، سواءٌ کان الزامیّا أو غیره أو جوبیا أو غیره، وسواءٌ کان التکلیف نفسیا أو غیریّا، فإنّ البیّنة حجّة فی جمیع ذلک.

وکذا یستدلّ لذلک بنحو العموم ما جاء فی صحیح حریز، قال: «کانت لاسماعیل بن أبی عبداللّه علیه السلام دنانیر، وأراد رجل من قریش أن یخرج الی الیمن، فقال اسماعیل: یا أبة إنّ فلانا یرید الخروج الی الیمن وعندی کذا وکذا دینار، افتری أن أدفعها الیه یبتاع لی بها بضاعة من الیمن؟ فقال أبو عبداللّه علیه السلام : یا بنی

ص:72

أما بلغک أنّه یشرب الخمر؟ فقال: هکذا یقول الناس. فقال یا بنی: لا تفعل، فعصی اسماعیل أباه ودفع الیه دنانیره فاستهلکها ولم یأته بشیء منها، فخرج اسماعیل وقضی أنّ أبا عبداللّه علیه السلام حَجّ وحجّ اسماعیل تلک السّنة، فجعل یطوف بالبیت ویقول: اللّهمّ أجرنی واخلف علیّ، فلحقه أبو عبداللّه علیه السلام فعمزه بیده من خلفه، وقال له: یا بُنی فلا واللّه مالک علی اللّه هذا، ولا لک أن یأجرک ولا یخلف علیک، قد بلغک أنّه یشرب الخمر فائتمنته! فقال اسماعیل: یا أبة إنّی لم أره یشرب الخمر، إنّما سمعت الناس یقولون، فقال: یا بنیّ إنّ اللّه عزّوجلّ یقول فی کتابه: «یُؤْمِنُ بِاللّه ِ وَیُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِینَ» یقول یصدّق اللّه ویصدّق للمؤمنین، فإذا شهد عندک المؤمنون فصدّقهم، ولا تأتمن شارب الخمر، إنّ اللّه تعالی عزّوجلّ یقول فی کتابه: «وَلاَ تُؤْتُواْ السُّفَهَاء أَمْوَالَکُمُ» فأی سفیه أسفه من شارب الخمر، إنّ شارب الخمر لا یزوَّج إذا خطب، ولا یشفع إذا شفع، ولا یؤتمن علی أمانة، فمن ائتمنه علی أمانة فاستهلکها لم یکن للّذی ائتمنه علی اللّه أن یأجره ولا یخلف علیه»(1).

فدلالة الحدیث علی المقصود موقوفٌ علی أن یکون المراد شهادة المؤمنین بصورة الجمع علی شیء، والجمع هنا لا یمکن أن یراد جمیعهم لکونه متعذرا، ولا یکون مورد الخبر کذلک، کما لا یمکن أن یراد جنس المؤمن، الصادق علی الواحد واکثر، حیث لا یناسب مع الجمع المعرّف باللاّم، کما لا یمکن أن یکون المراد من الجمع حدّ الاستفاضة لخروج المورد عنه احتمالاً، فلا یبقی حینئذٍ تحته


1- وسائل الشیعة: الباب 6 من أبواب أحکام الودیعة، الحدیث 1.

ص:73

إلاّ احتمال کون الشهاة عن متعددٍ، وهو یدور بین کونه بأقلّ الجمع أو أزید، ولکن بحسب دلالة سائر الأخبار الواردة فی البیّنة یحمل علی التعدد بالاثنین، إمّا لأنّ أقلّ الجمع هو الاثنان کما قیل فی النحو، أو یحمل هنا بالخصوص لأجل ما عرفت من اعتبار التعدد فی الشهادة، فیتمّ المطلوب، فبذلک یندفع توهّم أنّها لا تدلّ علی اعتبار التعدد کما عن «المستمسک»، کما یندفع توهّم أنّها لا تدلّ علی اعتبار العدالة، مضافا إلی أنّ عنوان المؤمن _ کما هو المتبادر _ یطلق علی أهل العدل، إذ یمکن استفادة اعتبار العدالة من دلیل آخر، فحینئذٍ تصیر الروایة مطلقة، فیقیّد قبول الشهادة بصورة کون الشاهد عادلاً.

لا یقال: إنّ مورده خصوص شرب الخمر فلا یوجب اختصاصه.

لأنّ العبرة بعموم الوارد لا بخصوص المورد، إذ قوله: «إذا شهد عندک المؤمنون فصدّقهم» بمنزلة قاعدة کلّیة یستفاد منها أنه حکم واردٌ لجمیع موارد الشهادة لا خصوص شرب الخمر.

وعلیه، فدلالة الحدیث علی اعتبار البیّنة فی الجملة لا یخلو عن وجهٍ.

القسم الثالث: ممّا استدلّ به لحجیّتة البیّنة بالعموم، هو قوله تعالی فی سورة التوبة «یُؤْمِنُ بِاللّه ِ وَیُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِینَ»(1) مع ضمّ حدیث حریز فی تفسیرها بالتصدیق الیها، حیث قال الصادق علیه السلام : «یصدّق اللّه ویصدّق المؤمنین»(2) فمدح اللّه نبیّه فی ذلک وحیث کان مورد الآیة للمنافق النّمام فلابدّ، أن یراد من التصدیق


1- سورة التوبة، آیة 61.
2- وسائل الشیعة: الباب 6 من أبواب أحکام الودیعة، الحدیث 1.

ص:74

الأعم من الصوری والواقعی حتّی یشمل المورد، فکلّ مورد یمکن فیه التصدیق الواقعی والاّ صوری کما فی المورد، ولا یوجب ذلک استعمال اللفظ فی أکثر من معنی، لأنّه فی الحقیقة لم یستعمل الاّ فی معنی واحد وهو التصدیق.

هذا خلاصة ما ذکره الآملی صاحب «مصباح الهدی».

أقول: بناءً علی ما قررّنا من امکان کون (الاُذُن خیر لکم) هو التصدیق الظاهری بالقبول ظاهرا، حیث یطلق علیه الاُذُن، ثمّ کان الکلام الذی جاء بعده بمنزلة الاضراب عنه، مثل أن یقال: بل یؤمن باللّه ویؤمن للمؤمنین، فیصیر المراد من التصدیق حینئذٍ هو التصدیق الواقعی، ویترتّب الآثار علیه، فیندفع بذلک شبهة استعمال اللفظ فی أکثر من معنی ،ویعدّ الاستدلال بها أتقن کما لا یخفی.

غایة الأمر، أنّ دلالته فی قبول قول المؤمنین بنحو الاستغراق یوجب قبول قول العدل الواحد، ففی المتعدد یکون بالفحوی.

کما أنّ اعتبار العدالة فی المخبر یمکن أن یستفاد من کلمة (الایمان) کما مرّ تقریره من دون الحاجة الی دلیل آخر فی الشهادة، کما کان کذلک فی تعدده حیث ینضم الیه ما فی بعض الأخبار من لزوم کون البیّنة بالعدلین فیتمّ المطلوب.

القسم الرابع: مفهوم آیة النساء الدّال علی حجیّة الخبر العادل مطلقا، سواء فی الأحکام أو فی الموضوعات، وسواءٌ کان المخبر واحدا أو متعددا، فالبیّنة المشتملة علی خبرین العدلین حجّة قطعا سواء کانت فی الموضوعات أو فی الأحکام.

القسم الخامس: ما یدلّ علی اعتبار البیّنة فی باب الخصومات، حتّی أنّ اعتبارها فیها یکون علی حدّ یقابل مع قول ذی الید ویقدّم علیه، فإذا لم یکن لها

ص:75

معارض تکون حجّیتها ثابتة بطریق أولی کما لا یخفی.

القسم السادس: بناء العقلاء علی اعتبارها مطلقا، وهو أمرٌ مرکوز فی أذهانهم بحیث لا یقبل الانکار.

خلاصة الکلام: هذا المقدار من الأدلّة کاف لاثبات الحجیّة، وإن کان بعضها ممّا لا یخلو عن نظر، ولکن فی الجملة ممّا تثبت بها الحجّیة للبیّنة بنحو العموم.

وأمّا بالنسبة الی القسم الثانی: الذی یعتبر البیّنة فی خصوص النجاسة، وهو مثل خبر عبداللّه بن سلیمان، المروی عن «التهذیب» و«الکافی» عن الصادق علیه السلام : «فی الجُبّن؟ قال: کلّ شیء لک حلال حتّی یجیئک شاهدان یشهدان أنّ فیه میتة»(1)، فدلالته علی ثبوت النجاسة بالخصوص مع شهادة الشاهدین واضحة، إلاّ أن اشکاله ضعف سنده، حیث یندفع بالانجبار بالشهرة المتحقّقة فی ذلک، حتّی قال صاحب «الجواهر» بعدم وجدان الخلاف فیه إلاّ عن القاضی والکاتب والشیخ، فیترتّب علیه حینئذٍ من استحقاق المشتری للدّهن المتنجّس الثابت نجاسته بالبیّنة، حقّ الردّ أو الفسخ والمطالبة بالأرش، واحتمال عدم التلازم بین استحقاق الردّ وبین ثبوت النجاسة، وجریان أحکامها، ممّا لا یمکن الالتفات الیه عرفا.

نعم، قد یقال هنا: بعدم الاکتفاء بالشاهد الواحد، لمعارضة حقّ الغیر واستحقاق الردّ ونحوه من الدعاوی التی لا ثثبت به، وإن قلنا بالاکتفاء به.


1- وسائل الشیعة: الباب 61 من أبواب الأطعمة المباحة، الحدیث 2.

ص:76

وفیه: منعه واضح لا یحتاج الی بیان کما قال صاحب «الجواهر» ونعم ما قال.

هذا تمام الکلام فی حجّیة البیّنة مطلقا، سواءٌ فی الموضوعات والأحکام، والحمدللّه علی ما أنعم.

حدود قبول البیّنة

حدود قبول البیّنة

ثمّ لیعلم بعد ما اتّضح حجیة البیّنة بألادلة، أنّه لا فرق فی قبولها وحجّیتها بین أن یذکر السبب فی التنجس أم لم یذکر، خلافا للعلاّمة فی «التذکرة» وابن ادریس من القبول مقیداً بذکر السبب، معلّلین باحتمال استنادها الی سببٍ لا ینجس عند الشهود وغیرهم عنده.

ولکن یرد علیه: بأن هذا التعلیل لو صحّ لما اختصّ بمورد التنجس فقط، بل یجری هذا الاحتمال فی أغلب البیّنات لو لم نقل فی جمیعها، مع أنّ المتعارف فی جمیع الموارد هو الأخذ بها بصورة الاطلاق، وما ذاک الاّ بتنزّل اطلاقها علی الواقع حتّی یظهر الخلاف، ولعلّ وجهه: إمّا لأنّ عدالة الشاهد یمنع من الاطلاق، مع کون المورد بحسب السبب مختلفا فیه.

أو لکونه أمرا تعبدیّا فی مورده، فلذلک لا یتوجّه الی ذکر السبب، وإن استحسن صاحب «المعالم» هذا الشرط.

کما لا فرق فی حجّیتها بین أن تکون شهادتها قبل الاستعمال أو بعده، فی قبال جماعةٍ قیّدوها فی العدل الواحد بما إذا کانت شهادتها قبل الاستعمال، إذ لو کان بعده لم تقبل، بالنظر الی نجاسة المستعمل له، فإنّ ذلک فی الحقیقة إخبار بنجاسة الغیر، فلا یکفی فیه الواحد وان کان عدلاً، ووجه عدم جریانه هنا هو تعدد المخبر

ص:77

العادل، فلیس بواحدٍ حتّی یقال إن إخبار الواحد لا یکفی فی حقّ الغیر، مضافا الی تمامیّة أدلّة الحجّیة هنا بصورة الاطلاق، کما کان الأمر کذلک من حیث ذکر السبب.

وحیث أنّ أدلة حجیة البیّنة ینزّلها بمنزلة النجاسة الواقعیة، ویترتّب علی مفادهاأنّه نجس واقعا حتّی یظهر الخلاف بالعلم الوجدانی أو کالوجدانی علی خلافه، یظهر عدم تمامیّة ما قاله صاحب «الحدائق» مدعیّاً أنّه تحقیق لم یسبقه الیه غیره إلاّ السّید نعمة اللّه الجزائری فی «رسالة التحفة» وهو علی المحکی فی «الجواهر»: «أنّ مدار الطهارة والنجاسة والحلّ والحرمة علی علم المکلّف بأسبابها وعدمه حقیقة أو شرعا لا الواقع، فلا معنی للمتنجّس مثلاً سوی ذلک لا ملاقاة أعیان النجاسة واقعا، وإن لم یعلم المکلّف، فلیس هناک نجس واقعا ونجس ظاهرا، بل إنّما هو أمر واحد وهو ما علم المکلّف بملاقاته للنجاسة، أو جعله الشارع کالعالم».

ثمّ أجاب عنه: _ وجوابه جیّد _ بقوله: «وفیه: _ مع مخالفته للنصوص والفتاوی، بل المجمع علیه بین الأصحاب، إن لم یکن ضروریا _ عدم مدخلیّة العلم فی تحقّق معنی النجاسة، لاطلاق ألادلة فی خصوص النجاسة بملاقاة أسبابها وأنّ الشیء قد یکون نجسا واقعا طاهرا ظاهرا وبالعکس، ولذا قد ترتّب علیه بعض أحکام کلّ منهما من الاعادة وغیرها بعد انکشاف الواقع وظهوره، أنّه لا مدخلیة لذلک فی شیءٍ من أحکام المسألة، حتّی لو قلنا بثبوت النجاسة بالظنّ، إذ یمکن انطباقه علی التحقیق المذکور، بدعوی کونه أیضا من الأسباب التعبدّیة کالشهادة وإخبار ذی الید ونحوهما» انتهی کلامه(1).


1- الجواهر، ج 6، ص 174.

ص:78

البحث عن تعارض البینتین علی النجاسة

ثمّ بعد الفراغ عن ثبوب الحجّیة للبیّنة فی الاثبات والنفی، یأتی البحث عمّا لو تعارض الخبران أو البینتان فی شیء واحد بالاثبات أو بالنفی، من الطهارة والنجاسة، مثل ما لو قامت البینّة علی طهارة شیءٍ والأخری علی نجاسته من الثوب أو الاناء أو غیرهما، أو أحداهما علی الطهارة والأخری علی عدمها، وکذا فی النجاسة، فهل: الترجیح هنا للطهارة لاعتضادها بأصالة الطهارة أو للنجاسة للتعارض بین الناقل والمقرّر، وتقدیم الأولی علی الثانی، لأنّ النجاسة نقلٌ عن الطهارة الی النجاسة، بخلاف الطهارة.البحث عن تعارض البینتین علی النجاسة

أو بالتعارض والتساقط، لتساوی اطلاق قبول کلّ واحد منهما للشمول فی مورد التعارض، فیتساقطان والمرجع الی أصالة الطهارة وقاعدتها.

أو یکون حکمه حکم المشتبه، فیساوی مع ما یعلم وجود إحداهما فیصیر کالعلم الأجمالی بوجود النجاسة هنا، فلابدّ من الاجتناب عنهما.

وجوه وأقوال.

هذا کلّه لو فرض کون مستند البینتین هو العلم الوجدانی بالحکم من الطهارة أو النجاسة أو الأصل، فیکونان متساویین من جهة المستند، وإلاّ لو کان مستندهما مختلفین إحداهما بالعلم الوجدانی والأخری بالأصل، قدّم حینئذٍ مستد العلم علی مستند الأصل، سواءٌ کان مستند العلم المحکوم بالتقدم هو الطهارة أو النجاسة.

أقول: الأوجه والأقوی هو التساقط والحکم بالطهارة، لوضوح أنّ الدلیل الاجتهادی لا یعتضد بالأصل، لأنّ الأصل حینئذٍ فی ظرف الشک والدلیل هنا

ص:79

بمنزلة العلم، فلا أثر لاعتضاده، وعلیه فوجه الأوّل مردود، کما أن الثانی کذلک لعدم الدلیل علی تقدیم الناقل علی المقرّر، مع أنّ بینة الطهارة ربّما تکون مقرّرة، لامکان أن تکون ناقلة، کما اذا قامت علی طهارة ما کانت متنجسّة، کما أن الأخیر بأن یکون مثل المعلوم بالاجمال بوجوب الاجتناب عنهما أیضاً غیر صحیح، لأنّ المفروض عدم تمامیة البینتین للحکم بالنجاسة ولا الطهارة، فالحکم بالنجاسة قطعا یکون بلا حجّة، غایته مشکوکا بالنجاسة والطهارة، فتشمله قاعدة الطهارة بقوله: «کلّ شیء طاهر حتّی تعلم انّه قذر».

إذا عرفت الحکم فی البینتین اللّتین مستندهما العلم الوجدانی، تعرف حکم البینتین اللّتین مستندهما الأصل، فیجری فیه ما جری فیما تقدّم، والمختار فیه کالمختار فیما سبق بلا فرق بینهما.

بعد الوقوف علی المختار فی المسألة ینبغی الاشارة الی أنّه مختار صاحب «الجواهر» والسّید فی «العروة»، بل وأکثر أصحاب التعلیق لو لم نقل کلّهم، قال صاحب «الجواهر»: «وأمّا احتمال الترجیح لأحد الخبرین بألاوثقیة ونحوها من مرجّحات الروایة، فلم أعرف أحدا احتمله، ولعلّه لعدم الدلیل علی اعتبارها هنا، أو لفرض التساوی».

أقول: الأوجه هو الاحتمال الثانی، لأنّ المفروض لزوم أن یکون الخبرین أو البینتین مساویان من جمیع الجهات حتّی یصدق التعارض والتساقط، والاّ لا یصل الکلام الی ذلک، بل یحکم بما هو المشتمل علی الترجیح، وهو مخالف للفرض المذکور فی صدر المسألة، فإذا ثبت التساوی فالکلام هو الذی عرفت، واللّه العالم.

ص:80

هذا کلّه إذا قامت البینتان علی شیءٍ واحد من الطهارة أو النجاسة أو عدمها.

تعارض البینتین فی شیئین: کالانائین ونحوهما قال صاحب «الجواهر»: «المتجه جریان الأقوال الأربعة السابقة، إلاّ انّی لم أعرف من جزم بالنجاسة هنا، وإن کان وجهه الأخذ باثبات کلّ منهما نجاسة کلّ منهما دون النفی».

ولکن یظهر من صاحب «جامع المقاصد» وجود قائل بذلک، إلاّ أنّه ضعّفه باتفاقهما علی طهارة واحدٍ، کما أنّه یضعف القول بطهارتهما المحکی عن «الخلاف» و«المبسوط» و«المختلف» لستاقطهما بالمعارضة فی کلّ من الانائین، والمرجع حینئذٍ الی الأصل السابق، أو الی ترجیح بینة الطهارة بالأصل بأنّه إنّما تعارضا فی تعیین النجس لا فی حصول النجاسة المتفق علیها عندهما، هذا.

ثمّ اعترض علیه صاحب «الجواهر» وقال: «وفیه: إنّ العلم إنّما یحصل لو لم یختلفا بالمشهود به، وإلاّ فبعد الاختلاف کان کلّ واحد من الانائین کالاناء المتحد الذی تعارض فیه البیّنتان، وقد عرفت أنّ الأقوی فیه الطهارة، فالقول بها هنا قویّ کما فی «کشف اللّثام»».

قلنا: هذا أحد الاحتمالین فی المسألة، وقد یحتمل هنا الحکم بالاجتناب عنهما حتّی یکون مثل المشتبه فی اطراف العلم الاجمالی، کما علیه العلاّمة فی «القواعد» و«التذکرة»، وأیضاً فی «جامع المقاصد» و«السرائر» و«المعتبر» و«التحریر»، بل فی «الجواهر» أنّه لا یخلو عن وجه، وذکر فی وجهه: «لأنّ أصل الطهارة ارتفعت بالشهادة علی النجاسة، مع تعارض البینّتین فی مفادیهما، فإنّ کلاً منهما یفید نجاسة إناءٍ وطهارة الآخر، وهو یعطی الاشتباه، ولأنّهما جمیعا یثبتان

ص:81

نجاسة ما فیهما فیجب اجتنابهما، وذلک حکم المشتبه، ولا یدفع أحداهما قبول الأخری لتقدّم الاثبات علی النفی، إذ فیه أنّه انّما یتقدّم علیه إذا ترجّح بأنّها قد تشاهد ما لم تشاهده الأخری، بخلاف النفی هنا، فإنّه لا یضعف عن الاثبات، علی أنّ شهادة کلّ منهما مرکبة من الاثبات والنفی، فلا معنی لتصدیقهما فی جزءٍ وتکذیبهما فی آخر» انتهی(1).

أقول: ولا یخفی أنّ هذا الوجه المستلزم للاجتناب عن کلیهما کالمعلوم بالاجمال أقوی من سابقة، من جهة أنّ مفاد کلّ منهما نجاسة ما یعیّنه، فلابدّ من الأخذ بذلک وإن استلزم ذلک مخالفة الأخری، وعلیه فالحکم بالاجتناب عن کلیهما أولی من الحکم بطهارتهما بواسطة قاعدة الطهارة، لأنّه یستلزم الحکم بجواز المخالفة القطعیة، لأنّه یعلم بحسب شهادة کلّ منهما نجاسة واحدٍ منهما، ونتیجة التعارض والتساقط عدم ترتیب الحکم بخصوص واحد منهما بالتعیین، مثلاً إذا کانت إحداهما بالتعیین هو البول والآخر هو الدم، ولاقی أحدهما المعیّن شیءٌ، فلا یترتّب علیه أثره، لأجل سقوط البیّنة بلحاظ اثبات خصوص البولیة أو الدمیّة، وإن ثبت أصل النجاسة بالبینّتین، لأنّ التساقط إنّما یتحقق فیما یتصادمان فیه لا مطلقا، فلا یبعد الحکم بلزوم الاجتناب عنهما، والرجوع الی البدل فیما له البدل کالتیمم للصلاة، واحتمل صدق واجد الماء علیه، بل هو کذلک معلوم بحسب الواقع دون الظاهر، لأنّه یحتمل فی کلّ منهما النجاسة.

نعم، إن اضطر الی ارتکاب أحدهما _ کما لو اضطرّ الی شرب أحدهما للنجات


1- الجواهر، ج 6، ص 175 _ 176.

ص:82

من الموت _ فلا یجری الحکم بترکهما، بل الحکم هو جواز شرب أحدهما اعتماداً علی قاعدة الطهارة بعد التساقط دون کلیهما للعلم حینئذٍ بشرب ما هو النجس فی البین بالبیّنة فی الجملة بینهما.

وعلیه، فالوجه الثانی أقرب الی الاحتیاط من الأوّل.

أقول: وممّا ذکرنا یظهر وجه ما ذکره صاحب «الجواهر» بقوله: «هذا مع عدم امکان الجمع، أمّا مع امکانه فلا ریب فی العمل به، إذ لا معنی لاسقاط ما هو حجّة شرعیة من دون معارض، فما من الشیخ من القول بالطهارة حتّی مع امکان الجمع فی غیر محلّه، إلاّ أن یکون مبناه علی عدم قبول البیّنة فی ثبوت النجاسة، فیخرج حینئذٍ عمّا نحن فیه، إذ البحث هنا علی تقدیر القبول» انتهی(1).

توضیح ذلک: لعلّه ذهب الی ذلک بملاحظة أنّ مقتضی التعارض هو سقوطها عن الحجّیة من دون نظر الی حال المکلّف من امکان جمعه أو عدمه، فبعد سقوطهما یکون المرجع قاعدة الطهارة فیهما، وإن کان الأوجه هو ما ذکره صاحب «الجواهر» لأنّه مع امکان الجمع یخرج عن التعارض حقیقةً، فلا وجه للحکم بالطهارة حینئذٍ، کما لا یخفی.

هذا تمام الکلام فی حجّیة البیّنة واثبات النجاسة بشهادتها.

فی حجیّة قول ذی الید

فی حجیّة قول ذی الید

والثالث من الأقسام الذی یحصل بسببه الظنّ الشرعی بالنجاسة والطهارة:


1- الجواهر، ج 6، ص 176.

ص:83

هو قول صاحب الید المالک، بل وغیره کما سنشیر الیه إن شاء اللّه تعالی، بلا فرق بین کونه عادلاً أو فاسقا، کما هو المشهور بین المتأخرین، وقد صرّح بذلک من العلاّمة فی «المنتهی» و«القواعد» وفی «الموجز» و«کشف الالتباس»، وظاهر «کشف اللّثام»، وصاحب «الذخیرة»، بل فی «الحدائق»: «أنّ ظاهر الأصحاب الاتفاق علیه، بل عن الاستاذ أنّه لا ینبغی الشک فی قبول خبره بذلک وبالتطهیر کالاباحة والحظر ونحوهما من الأحکام المشترط فیها العلم)، و علیه صاحب «الجواهر»، و«مصباح الفقیه»، و«مصباح الهدی»، وصاحب «العروة» وأکثر أصحاب التعلیق بل کلّهم.

الدلیل علی ذلک: عدّة أمور:

الأمر الأوّل: أصالة الصحة والصدق فی کلام المسلم، خصوصا فیما کان فی یده، ولا سیّما فیما لا یعلم إلاّ من قِبَله، وفیما لا معارض له فیه.

الثانی: السیرة المستمرة القاطعة علی ترتیب الأثر علی قول صاحب الید فی الأحکام.

الثالث: لاستقراء موارد قبول أخبار ذی الید فیما هو أعظم من النجاسة والطهارة، وهو الحلیة والحرمة، حیث یشترط فیهما من العلم، ففی غیرهما یکون بطریق أولی.

الرابع: فحوی قبول قوله فی التطهیر، مع أنّه ربّما کان مسبوقا باستصحاب النجاسة، ففی ما لیس کذلک یقبل بطریق أولی، بل وأیضاً یقبل قوله وفعله فی التنجیس بالنسبة الی بدنه، فإنّ الظاهر معروفیة تسلیم القبول فیه، کما أوما الیه فی

ص:84

الاستدلال صاحب «کشف اللّثام»، واحتمال کونه من جهة أنّه فرد من افراد إخبار ذی الید بما فی یده من الاناء ونحوه، فیجری فیه ما جری فی إخبار صاحب الید، لا یخلو عن ضعف ووهن.

الخامس: ورود أخبار عدیدة فی موارده متعددة ومختلفة بالحکم بالقبول مع أنّه لیس إلاّ من هذا الباب:

منها: خبر اسماعیل بن عیسی، قال: «سألت أبا الحسن علیه السلام عن جلود الفراء یشتریها الرّجل فی سوقٍ من أسواق الجبل، أیسأل عن ذکاته إذا کان البایع مسلما غیر عارفٍ؟ قال: علیکم أنتم أن تسألوا عنه إذا رأیتم المشرکون یبیعون ذلک، وإذا رأیتم یصلّون فیه فلا تسألوا عنه»(1).

والمراد من المسئول عنه إمّا هو المشرک کما احتمله الخوانساری وغیره، أو المسلم کما علیه صاحب «الحدائق»، وعلی کلا التقدیرین فإنّه یفید المطلوب، لأنّه: علی الأوّل: المقصود من السؤال عن الشرک بأنّه من ذبائح المسلمین أو عدمه، لیس إلاّ لأجل قبول قوله، وإلاّ فمع فرض عدم قبول قوله لا فائدة فی السؤال عنه، فمع فرض قبول قوله مع کونه مشرکا لیس إلاّ لأجل کونه صاحب الید، وکلامه مقبول، فإذا کان الحکم فی المشرک کذلک، ففی قبول قول المسلم یکون بطریق أولی، والظاهر أنّه الأوجه، وهو هذا هو المراد من الخبر کما علیه المحقق الخوانساری، حیث أخذه تأییدا لقول المشهور.


1- وسائل الشیعة: الباب 50 من أبواب النجاسات، الحدیث 7.

ص:85

وعلی الثانی: المراد کذلک علی هذا الاحتمال، بأن یکون المسئول هو المسلم کما علیه صاحب «الحدائق»، تمسکا بصدر الحدیث، من فرض السائل کون البایع مسلما غیر عارفٍ، فدلالته علی قبول قوله یکون بالمنطوق لا بالاولویة.

أورد علی الاحتمال الأوّل: بأنّ قبول قول المشرک فی کونه مذکّی بتذکیة المسلم ممنوعٌ، لأجل أنّه کیف یمکن القطع بکلامه مع کون الأصل فی اللّحوم عند الشک هو عدم التذکیة، وإن جاز قبول کلامه فیما إذا أخبر بأنّه غیر مذکّی، لأجل أنّ کلامه موافقٌ لأصالة عدم التذکیة، لا لأجل کونه إخبار ذی الید ومقبولٌ، مع انّ هذا الاشکال لا یجری لو کان المسئول هو المسلم. اللّهمّ أن یُجعل هذا دلیلاً علی توسعة قبول إخبار ذی الید حتّی ولو کان صاحب الید مشرکا، فضلاً عن کونه فاسقا.

اعترض علیه صاحب «الجواهر»: بأنّه لو فرضنا کون المسئول عنه مسلما أیضا فإنّ المناقشة الواردة هی فی الاستدلال به لحجیّة إخبار ذی الید، لإمکان أن یکون قبول قوله هنا لأنّ ظاهر ید المسلم یقطع حکم أصل عدم التذکیة الجاری لدی الشک فی الجلود، فلا یمکن قیاسه مع إخبار ذی الید هنا بنجاسة ما فی یده، المنافی مع أصالة الطهارة وعموماتها.

وفیه: الانصاف عدم تمامیّة هذا الاشکال، لوضوح أنّه إذا کان ظاهر ید المسلم مقدّما علی أصالة عدم التذکیة التی قررّها الشارع فی ظرف الشک، فتقدیم إخباره بنجاسة الشیء علی أصالة الطهارة یکون بطریق أولی، لوضوح أنّ الإخبار عنه مشتملٌ لظاهر الید مع اضافةٍ وهی أنّه لیس ظاهر العمل ودلیل الید لسانٌ إلاّ باعتبار کونه لمسلمٍ یراعی وظیفته الشرعیة ویترتّب علیه الأثر، ففی الإخبار

ص:86

بالخلاف یکون أولی بالقبول، لأنّ فی الحقیقة یرجع الأمر إلی قبول ما هو الواقع فی البین.

نعم، قد یرد علی هذا الحدیث: بأنّه إذا کان البایع مسلما، یکفی إخباره فی ترتیب أثر الصحّة علی بیعه، فلا یحتاج الی السؤال عنه، کما لا یحتاج الی السؤال لو رأی أنّه یصلّی فیه، لأنّ نفس فعل المسلم وبیعه کافیان لجریان الحکم بالصحة.

اللّهمّ إلاّ أن یکون وجه السؤال غلبة بیع المشرکین الموجب لضعف احتمال کونه من ذبائح المسلمین.

وبالجملة: وجود هذه الاشکالات أوجب ذهاب بعض الفقهاء مثل المحقّق الخوانساری فی شرح «الدروس» و«الذخیرة» الی القول بأنّی لم أقف له علی دلیل، کما عن «نهایة الأحکام» الاشکال فیه، بل فی «المنتهی» و«التذکرة» أیضاً، بل فی «الأخیر» قال: «الأقرب القبول» المشعر بعدم قطعیة الحکم عنده، بل قیّد فی الأخیر أیضا القبول بما إذا أخبر عن نجاسة الاناء مثلاً قبل الطهارة لا بعدها، فإنّه حینئذٍ لا یقبل، ولعلّ وجه ذلک ملاحظة أنّه قد خرج من یده بالاستعمال، فلا یقبل إخباره بنجاسته، وإن کان إخباره عنه بذلک حال کونه بیده إخبار بنجاسة الغیر فلا یلتفت الیه، کما لا یلتفت الی قول البایع باستحقاق المبیع للغیر.

أقول: لکن الدقة والتأمّل فی متون الأخبار بعضها مع بعض یوجب اطمینان الفقیه بقبول إخبار ذی الید، کما سنشیر الیه إن شاء اللّه.

ومنها: أی ومن جملة تلک الأخبار صحیحة البزنطی المرسلة، قال: «سألته عن الرجل یأتی السوق فیشتری جُبّة فراءٍ لا یدری أذکیة هی أم غیر ذکیة، أیصلّی

ص:87

فیها؟ فقال: نعم، لیس علیکم المسألة، إنّ أبا جعفر علیه السلام کان یقول: إنّ الخوارج ضیّقوا علی أنفسهم لجهالتهم إنّ الدین أوسع من ذلک»(1).

ومنها: مثله روایة أخری مرویّة عنه لکنها مسندة، عن الرضا علیه السلام ، قال: «سألته عن الخفاف یأتی السوق فیشتری الخُفّ لا یدری أذکی هو أم لا ما تقول فی الصلاة فیه، وهو لا یدری أیصلّی فیه؟ قال: نعم، أنا أشتری الخُفّ من السوق، ویصنع لی وأصلّی فیه، ولیس علیکم المسألة»(2).

وجه دلالة الحدیثین علی المطلوب: النهی عن السؤال یدل علی جواز الاشتراء، حیث إنّه لیس ذلک إلاّ لأجل أنّه لو سئل عنه وأجاب کان مقبولاً، فربّما أوجب التضییق علی الانسان، کما یؤیّد ذلک ذیل الحدیث الأول من قوله: «إنّ الخوارج ضیّقوا علی أنفسهم لجهالتهم» حیث أنّ ذلک کان لأجل کثرة سؤالهم عن حال الأشیاء، وهذا النهی نظیر النهی الوارد فی القرآن فی قوله تعالی «لاَ تَسْأَلُواْ عَنْ أَشْیَاء إِن تُبْدَ لَکُمْ تَسُؤْکُمْ»(3)، وإلاّ لو لا القبول عند جوابهم فلا وجه ظاهرا للنهی عن السؤال.

ومنها: روایة معاویة بن عمّار، قال: «سألت أبا عبداللّه علیه السلام عن الرجل من أهل المعرفة بالحقّ یأتینی بالبختج ویقول قد طبخ علی الثلث، وأنا أعرف أنّه یشربه علی النصف، أفاشربه بقوله وهو یشربه علی النصف؟ فقال: لا تشربه. قلت: فرجلٌ


1- وسائل الشیعة: الباب 50 من أبواب النجاسات، الحدیث 3.
2- المصدر السابق، الحدیث 6.
3- سورة المائدة، آیة 101.

ص:88

من غیر أهل المعرفة ممّن لا نعرفه یشربه علی الثلث، ولا یستحلّه علی النصف، یخبرنا أنّ عنده بختجا علی الثلث قد ذهب ثلثاه، وبقی ثلثه، یشرب منه؟ قال: نعم»(1).

حیث إنّ هذه الروایة بصدرها وذیلها تفید أنّ قول ذی الید مقبولٌ إذا لم یکن متّهما، وما ورد من عدم قبول کلامه فی الصدر لیس إلاّ لأجل کونه شاربا علی النصف فیکون متّهما، بخلاف ذیل الخبر حیث یقبل خبره مع عدم کونه من أهل المعرفة، ولیس ذلک إلاّ لأجل عدم اتّهامه، فیصیر الخبر من أخبار ما نحن بصدده.

خلاصة الکلام: ظهر من جمیع هذه الأخبار عدم تمامیّة ما ذهب الیه صاحب «شرح المفاتیح» والخوانساری شارح «الدروس» من تقویة عدم اعتبار قول ذی الید بالنجاسة، لعموم قوله علیه السلام : «کلّ شیء طاهر حتّی تعلم انّه قذر» الدالّ بعمومه علی الطهارة فی ما شک فی نجاسته الی أن یعلم نجاسته، سواءٌ أخبر ذو الید بنجاسته أم لا، ووجهه أنّ العلم الذی وقع غایةً للحکم هو أعمّ من العلم الوجدانی أو ما یقوم مقامه من الامارات مثل البیّنة وإخبار ذی الید، فتکون الأمارات حاکمة علی الأصل العملی، ومنها أصالة الطهارة عند الشک مع قیام الأمارة حیث یرفع الشک من أصله فیقدم علیه.

حدود دلالة قاعدة إخبار ذی الید

حدود دلالة قاعدة إخبار ذی الید

بعد الفراغ عن حکم تقدیم خبر ذی الید، یأتی البحث عن انّه هل هو معتبر ما


1- وسائل الشیعة: الباب 7 من أبواب الاشربة المحرمة، الحدیث 4.

ص:89

دام الشیء فی یده ولم یستعمله، أو أنّه معتبر مطلقا حتّی بعد خروجه عن یده؟

1. قد یقال بالأوّل، تمسّکا بصحیحة عیص بن القاسم، قال: «سألت أبا عبداللّه علیه السلام عن رجلٍ صلّی فی ثوب رجل أیّاما، ثمّ إنّ صاحب الثوب أخبره أنّه لا یصلّی فیه؟ قال: لا یعید شیئا من صلاته»(1) حیث یحتمل کون وجه عدم الاعادة لأجل إخباره عمّا هو خارجٌ عن یده حال استعماله، وإن کان إخباره عن زمان کان فی یده.

لا یقال: لعلّ وجه عدم الاعادة کان لأجل مانع آخر مثل الغصب أو أنه من أجزاء ما لا یؤکل لحمه لا من جهة النجاسة.

لانّا نقول: کثیرا ما نستعمل الشیء ویحتمل أن یکون نجساً، لکن یشمله اطلاق دلیل الطهارة، حیث لم یستفصل الامام علیه السلام ، فترکه الاستفصال یشمل النجاسة أیضا.

أقول: الذی یمکن أن یناقش فی الاستدلال بهذا الحدیث بالنسبة الی ما نحن فیه، هو امکان أن یکون وجه عدم الاعادة جهله بالنجاسة حین الصلاة، بناءً علی معذوریة الجاهل حتّی فی الوقت، لأنّ شرطیة الطهارة عن الخبث أو مانعیّة النجاسة ذُکری لا واقعی، وحیث لا یعلم ذلک حال الصلاة، فلا اعادة علیه، لکن لا لأجل عدم اعتبار ذی الید بعد خروجه عن یده أو بعد استعماله، لوضوح أنّه بعد ثبوت اعتبار إخبار ذی الید لا فرق فی حجیّته کونه بعد الاستعمال أو قبله، وکونه فی یده أو فی یده غیره حال إخباره کالبیّنة، مع أنّه لو کان لأجل خروجه عن یده غیر معتبر، لزم القول بعدم اعتباره حتّی لو کان قبل الاستعمال وبعد شرائه منه


1- وسائل الشیعة: الباب 40 من أبواب النجاسات، الحدیث 5.

ص:90

ونحوه ممّا یکون سببا لخروجه عن یده، مع أنّ الأمر لیس کذلک، فیعلم أنّ وجه عدم الاعادة فی الحدیث إنّما هو لأجل ما عرفت من جهله بالنجاسة، فیخرج الحدیث عن محلّ الاستدلال.

اللّهمّ الاّ أن یقال: بعدم ثبوت کون الید السابقة علی المال بعد الاستعمال قائمة مقام العلم الذی أخذ غایة للطهارة فی خبر «کلّ شیء طاهر حتّی تعلم أنّه قذر»، فیکون حکم الأصل بالطهارة وعمومه مقدما علی ما أخبره ذی الید بنجاسته، فلذلک حکم بعدم الاعادة، خصوصا مع ملاحظة أنّ الحکم بالنجاسة حکم مخالف للأصل، فیقتصر فیه علی محل الیقین، وهو کونه فی یده حال الإخبار لا بعد خروجه عنها کما علیه صاحب «الجواهر»، حیث قال: «فالأقوی حینئذٍ القبول حال بقاء العین فی یده، لا إذا خرجت من یده، اقتصارا فیما خالف الأصل علی محلّ الیقین».

أقول: التأمّل فی الدلیل یرشد الی الأعم من ذلک، کما لا یبعد شمول کونه فی یده صورة استیلائه علیه، ولو کان عاریةً، فی ید الغیر حیث إنّه ربّما یصدق کونه فی یده، ولعلّه لذلک ورد النهی عن إعلام الغیر للنجاسة إذا أعار ثوبه الیه، حیث یظهر من النهی عنه أنّه لو أعلمه لکان إخباره بالنجاسة مقبولاً للمستعیر فیوجب اعادة صلاته، وهذا الأمر واردٌ فی حدیث عبداللّه بن بکیر، قال: «سألت أبا عبداللّه علیه السلام عن رجل أعار رجلاً ثوبا فصلّی فیه وهو لا یصلّی فیه؟ قال: لا یعلمه. قال: قلت: فإن أعلمه؟ قال: یعید»(1).


1- وسائل الشیعة: الباب 47 من أبواب النجاسات 7، الحدیث 3.

ص:91

فانّ الحکم بالاعادة بعد اعلامه یکون کالصریح فی اعتبار قوله، حتّی لما هو فی ید غیره بالعاریة، فیخرج الغیر بإخباره عن الجهل النجاسة، فلو لا القبول لما کان للحکم باعادة الصلاة بعد إخباره وجه کما لا یخفی، فمن ذلک یظهر اعمیّة کونه فی یده عن مثل العاریة، کما لا یخفی.

البحث عن المراد من ذی الید

البحث عن المراد من ذی الید

بعد ما ثبت حکم تقدیم صاحب الید علی من یوافقه الأصول، یقع البحث فی المراد من ذی الید، وهل المقصود: المالک کما وقع هذا التعبیر فی بعض کلمات الأصحاب.

أو ما یصدق علیه ذی الید ولو لم یکن مالکا، کما وقع هذا التعبیر فی کلام بعضٍ آخر.

أم المراد ما ورد فی کلام ثالثٍ جمع بینهما بالعطف، وقال: «یقبل خبر المالک وذی الید»؟

والظاهر کما علیه صاحب «الجواهر»(1) رحمه الله کون المراد منه قبول خبر کلّ مستولٍ علی عینٍ شرعا، لملکٍ أو وکالة أو إجارة أو أمانة أو ولایة أو عاریة ونحوها، بل قد یخطر بالبال تعمیم ذلک حتّی للاستیلاء الغیر المشروع، مثل قبول قول الغاصب الذی هو کالمتملّک عرفا، لمکان سلطته وتصرّفه علی ما فی یده، نحو ثیاب الظلمة وعمّالهم وأوانیهم ودورهم وفرشهم ونحوها، وإن کان أصل


1- الجواهر، ج 6، ص 179.

ص:92

الاستیلاء بنحو الغصب منهم أو من آبائهم لأصل العین أو لأثمانها.

وجه ذلک: ضرورة عدم مدخلیة الملک أو التسلط الشرعی فی قبول قوله فی التنجیس، لأنّ المدار فی ذلک کونه تحت استیلائه، خصوصا إذا قلنا بأنّ منشؤه أصالة صدق المسلم وصحّة قوله، کما یؤیّد ما ذکرنا قیام السیرة المستمرة والطریقة المسلّمة بین الناس لا فی خصوص المسلمین بل عند جمیع العقلاء فی قبول قول من هو بیده فی التطهیر والتنجیس، وغیرهما من الاباحة والحرمة، مع أنّه لا مدرک له الاّ أنّهم أصحاب الید علی هذه الأمور، بلا فرق فی قبول قول ذی الید بین کونهم من قبیل أمّهات الأولاد ومربیّاتهم أو غیرهنّ من الخدمة، سواءٌ کنّ من الأحرار أو من العبید أو الاماء والجواری.

أقول: برغم أنّ کان کلام الأصحاب فی ذکر هذه الأمور غیر منقح، بل قد عبّر عنه صاحب «الجواهر» بالغفلة، حیث قال: «والعجب من الأصحاب کیف أغفلوا تحریر ذلک مع کثرة أفراده وتشتتها، وعدم وضوح مدرکٍ لشیء منها، وشدّة الابتلاء بجملة منها، خصوصا فی مثل ذوی الأیدی الشرکاء بالأشیاء المائعة من الدهن والدّبس ونحوهما، إذا أخبر أحدهم شرکائه بنجاستها، کما أنّهم أغفلوا تحریر الحکم أی القبول ولم یتعبوا أقلامهم فی بیان مدرکه، ولعلّه لوضوح الأمر لدیهم وإن خفی علینا»(1).

قلنا: لعلّ الوجه ملاحظة الاستغناء عن ذکره، لما قد عرفت من قیام السیرة


1- الجواهر، ج 6، ص 179 _ 180.

ص:93

والطریقة العقلائیة حتّی لغیر المتدیّنین من قبول قول من بیده شیء وأخبر عن حاله من الأحکام وغیرها، ولعلّه الی مثل ذلک یشیر ما هو المعروف بل قد ادّعی علیه الاجماع من أنّ (من مَلک شیئا ملک الاقرار به) حیث أنّ الظاهر هذه القاعدة أنّ من کان مستولیا علی شیء، ومتصرّفا فیه فإنّ قوله نافذ بالنسبة الیه، کما أشاره الیه صاحب «مصباح الفقیه»(1).

بل ممّا ذکرنا یظهر امکان القول بعدم اختصاص القبول بخصوص قول ذی الید المسلم، عادلاً کان أم فاسقا، بل السیرة وغیرها جاریة فی کلّ ذی یدٍ ولو کان کافرا فضلاً عمّا إذا کان فاسقا. نعم لابدّ أن لا یکون الشخص متّهما فی قوله وفعله، وإلاّ لا یقبل قوله، کما یشهد لذلک خبر معاویة بن عمّار السابق فی البختج من عدم قبول قول من یشربه علی النصف، ولیس هذا إلاّ لأجل کونه متّهما حتی ولو کان الشخص من أهل المعرفة، وقبول قول من لم یتّهم بذلک ولو لم یکن من أهل المعرفة(2).

عموم دلالة إخبار ذی الید

عموم دلالة إخبار ذی الید

بعد ما ثبت أنّ سبب قبول قول ذی لیس إلاّ لکونه مستولیا علی الشیء ومطّلعا علی حاله، ولا داعی له لإخبار خلاف ما هو مخالفٌ للواقع، فیکون الأصل عند العقلاء هو القبول الی أن یظهر خلافه، وبناءً علی هذا فلا فرق فیه بین کون ما أخبر به هو التنجس أو التطهیر أو غیرهما، حیث یثبتان بخبر ذی الید، فلا نحتاج


1- مصباح الفقیه، ج 8، ص 172.
2- وسائل الشیعة: الباب 7 من أبواب الأشربة المحرمة، الحدیث 4.

ص:94

لاثبات التطهیر الی البیّنة وخبر العدل الواحد، کما لا نحتاج الیها فی التنجیس بعد ما أخبر ذی الید عن التطهیر. وعلیه فما فی «کشف اللّثام» من الفرق بین التنجیس والتطهیر، بقبول خبر العدل فی التطهیر دون التنجیس، ممّا لا یمکن المساعدة علیه لوحدة الملاک فی کلیهما فی الحجّیة، من قبول خبر ذی الید فیهما، وإن اختلفت کلمات الأصحاب فیهما، لأجل أنّ الادلة ربّما وردت فی التطهیر الذی هو موافقٌ لأصالة الطهارة دون التنجیس.

هذا، فضلاً عن أنّه لو لا قبول قول ذی الید فی التطهیر بما فی یده من النجاسة العارضة، للزم منه زیادة العسر والحرج، خصوصا مع ملاحظة تظافر الأخبار بطهارة ما یوجد فی أسواق المسلمین من الجلود واللّحوم ونحوهما، بل هی ظاهرة فی الاکتفاء فی ذلک بظاهر أفعالهم المنزّلة علی أصالة الصحة حتّی یعلم الخلاف، فضلاً عن أن تکون مقترنة بأقوالهم. بل فی «الجواهر»: «إنّ الحکم بالطهارة هنا أولی من الحکم بطهارة بدن المسلم وثیابه بغیبته، وإن لم یقل أو یفعل ما یستلزم الإخبار بذلک»، وهو جیّدٌ کما ثبت بالبرهان.

المناقشة مع حکم بعض الأخباریین

وبما ذکرنا وبیّنا من الحکم بقبول قول ذی الید فی التطهیر، نقف علی ضعف ما حکی عن الأمین الاسترآبادی والسّید نعمة الجزائری رحمه الله حکایتهما عن جملة من علماء عصرهم أنّهم کانوا إذا أرادوا اعطاء ثیابهم للقصارین لتطهیرها، یهبونها أیّاهم أو یبیعونها ثمّ یستردونها منهم بنحو ذلک، تخلّصا من شبهة استصحاب النجاسة، لتوقف انقطاعه علی العلم أو ما یقوم مقامه من البیّنة أو خبر العدل علی

ص:95

وإنْ جهل غَسل کلّ موضعٍ یحصلُ فیه الاشتباه (1)

اشکالٍ فیه، أو إزالة المالک نفسه مع عدم ثبوت قیام خبر مطلق الوکیل وإن لم یکن عدلاً مقامه، لعدم ثبوت کونه من ذوی الید المقبولة إخباراتهم، إذ المعلوم منها المالک، هذا کما هو المحکی فی «الجواهر»(1).

والجواب: ثبت مما ذکرنا أن هذا التصرف مخالف للسیرة والطریقة العقلائیة والعملیة المتّبعة فی جمیع الأعصار وتمام الأمصار فی تطهیر البستهم بید الجواری والقصّارین، وقبول قولهنّ وفعلهنّ وأقوالهم فی التطهیر، بل لعلّ ذلک من الضررویات التی هی بمعزل عن التشکیکات، ومن شاء القطع بذلک والاطمینان فعلیه الرجوع الی الأخبار الواردة حول عمل القصارین والجزارین والحجّامین فی ابلاغهم بالتطهیر والتذکیة وغیرهما، مضافا الی عموم أدلة الوکالة وتصدیق الوکیل فیما وکلّ فیه وأخبر، حیث لا یکون ذلک إلاّ لأجل دخولها فی حکم ذی الید وقبول قوله، فحکم هذه المسألة واضحٌ لا یحتاج الی مزید بیان وإطالة کلام أزید ممّا عرفت وسمعت، واللّه هو الهادی الی سبیل الرشاد. غسل مواضع مشتبه النجاسة

وأخیراً: ظهر من جمیع ما ذکرنا قبول قول ذی الید فی موضع النجاسة للتطهیر، الذی ورد فی متن کلام المصنّف بقوله: «إذا علم ذلک یتطهّر ویغسل». والحمدللّه.

(1) سبق حکم ما لو عَلم موضع النجاسة فی المسألة السابقة، والبحث هنا عمّا إذا لم یعلم موضع النجاسة، مع علمه أنّه أصاب الشیء النجاسة، بحیث صار مشتبها،


1- الجواهر، ج 6، ص 181.

ص:96

فلابدّ من غَسل کلّ ما یحتمل إذا کان من اطراف الشبهة المحصورة وموردا للابتلاء، فیغسلها حتّی یحصل له الیقین بالطهارة، لما ورد ذلک فی الأخبار المستفیضة المعتبرة:

منها: صحیحة زرارة «مضمرة بحسب روایة الشیخ والکلینی، ومسندة صحیحة بحسب روایة «الفقیه» و«العلل»» عن أبی جعفر علیه السلام ، فی حدیث طویل، قال: «قلت: فإنّی قد علمت أنّه قد أصابه ولم أدر أین هو فأغسله؟ قال: تغسل من ثوبک الناحیة التی تری أنّه قد أصابها، حتّی تکون علی یقین من طهارتک، الحدیث»(1).

والأخبار المضمرة المرویّة عن مثل زرارة، المعلوم من حاله أنّه لا یأخذ أحکامه عن غیر الامام علیه السلام ، خصوصا فی مثل هذا الخبر المشتمل علی سؤالات متعددة، المقترن بقرائن کثیرة بکونه من الامام علیه السلام ، غیر قادحٍ، لا سیّما مع کونه مسندا علی نقل الصدوق رحمه الله ، کما أن تعلیق الحکم علی الرؤیة المتوهّم کونه أعم من العلم فی التحرّی غیر ضائر، لمّا فی ذیل الخبر من التعلیل بقوله: «حتّی تکون علی یقین من طهارتک» فإنّ المراد من الرؤیة هو العلم لا الأعمّ.

ومنها: صحیحة محمد بن مسلم، عن أحدهما علیهماالسلام ، فی حدیثٍ: «فی المنی یصیب الثوب، فإن عرفت مکانه فاغسله، وإن خفی علیک فاغسله کلّه»(2).

ومثله فی المتن صحیح ابن أبی یعفور(3) عن الصادق علیه السلام .

ومنها: مضمرة سماعة، قال: «سألته عن بول الصبی یصیب الثوب؟ فقال:


1- وسائل الشیعة: الباب 7 من أبواب النجاسات، الحدیث 2.
2- وسائل الشیعة: الباب 7 من أبواب النجاسات، الحدیث 1.
3- المصدر السابق، الحدیث 7.

ص:97

اغسله. قلت: فإنْ لم أجد مکانه؟ قال: اغسل الثوب کلّه»(1).

ومنها: روایة مضمرة أخری لسماعة، قال: «سألته عن المنی یصیب الثوب؟ قال: اغسل الثوب کلّه إذا خفی علیک مکانه قلیلاً کان أو کثیراً»(2).

ومنها: خبر عنبسة بن مصعب، قال: «سألت أبا عبداللّه علیه السلام عن المنی یصیب الثوب، فلا یدری أین مکانه؟ قال: یغسله کلّه، وإن علم مکانه فلیغسله»(3).

أقول: مع وجود هذه الأخبار الدالة بصراحتها علی وجوب غَسل جمیع الثوب، لا یضرّ وجود التعلیل الموهّم للاستحباب وعدم اللزوم لحدیث الحلبی فی الصحیح عن أبی عبداللّه علیه السلام ، فی حدیث، قال: «إذا استیقن أنّه قد أصابه یعنی المنی _ ولم یر مکانه، فلیغسل الثوب کلّه فإنّه أحسن»(4)، لامکان أن یکون وجهه عدم کون جمیع اجزاء الثوب غالبا من أطراف الشبهة، أو کون الاحتمال فی بعض الاطراف غیر معتنی به لدی العقلاء، فالأمر بغسل الثوب کلّه غالبا لیس الاّ لکونه أشدّ تأثیرا فی قلع ما یجده الانسان فی نفسه من الریبة والوسوسة، أو غیره من الأمور الغیر اللاّزمة المراعاة، حتّی لا ینافی مع ما سبق من الأخبار ادالة علی ایجاب غَسل کلّ الثوب، مضافا الی أنّه لو سلّمنا شمول عمومه لمورد تلک الأخبار، فنرفع الید عنه بواسطة إعراض الأصحاب عنه، للاجماع المحکی


1- المصدر السابق، الحدیث /3
2- المصدر السابق، الحدیث 8.
3- المصدر السابق، الحدیث 4.
4- المصدر السابق، الحدیث 5.

ص:98

ویغسل الثوب والبدن من البول مرّتین (1)

صریحا فی «المنتهی» و«التذکرة» و«الریاض» وظاهرا فی «المعتبر» إن لم یکن محصّلاً علی الوجوب المعتضد بنفی الخلاف عنه فی «المعالم» و«الذخیرة».

هذا، مضافا الی امکان تأییده باستصحاب بقاء المنع فی الاستدلال الی أن یحصل الیقین بالزوال، المتوقف علی غَسل الجمیع، وان کان هذا لا یخلو عن نقاش بأن یقال: الیقین بالنجاسة یرتفع مع غَسل جزءٍ ممّا وقع فیه الاشتباه، إذا کان الغَسل علی قدر النجاسة فی المقدار، وإن لم یحصل القطع بغسل ذلک المحلّ بعینه.

وفیه: إنّ الشغل الیقینی یقتضی الیقین بالبراءة، ولا یحصل الاّ بغسل الجمیع، لا عدم الیقین بالشغل حتّی یکفی غَسل جزءٍ منه، کما لا یبعد استفادة ذلک من تعلیل صحیحة زرارة بقوله: «حتّی تکون علی یقین من طهارتک».

وقد تقدّم لهذا البحث وبحث الملاقی لأحد اطراف الشبهة فی مبحث الانائین المشتبهین ما له مزید نفع فی المقام، وقلنا هناک أنّ الأقوی فیه بقائه علی استصحاب الطهارة، وعدم الحاق الملاقی بأحد الطرفین من المشبهتین بالمشتبه فی وجوب الاجتناب، کما هو ظاهر ألادلة، وعلیه فالبحث عنه وذکر الخلاف فیه عن بعضٍ _ کالاستاذ الأکبر فی شرحه علی «المفاتیح» _ موکولٌ الی محلّه.

(1) إنّ لزوم الغَسل لمرّتین فی نجاسة الثوب والبدن بالبول کما وقع فی هذه العبارة وموافق للمشهور:

تارةً: مقیّدٌ بقید المتأخرین.

ص:99

وأخری: بصورة المطلق، کما فی «المدارک» و«الحدائق»، بل فی «المعتبر» نسبته الی علمائنا، مشعرا بدعوی الاجماع علیه، بل لعلّه لازم ایجابهما فی «الفقیه» و«الهدایة» فی محلّ البول، کما أنّه لازم ما فی «السرائر» من ایجاب العصر مرّتین، وفی قبال هذا القول قولٌ بکفایة المرّة کما نسب ذلک فی «الذکری» الی الشیخ فی «المبسوط» بعدم لزوم مراعاة العدد فی غیر الولوغ، وقد جزم به الشهید فی «البیان»، وقال: «ولا یجب التعدد إلاّ فی إناء الولوغ»، ونقل فی «المعالم» عن العلاّمة أنّه اکتفی فیه بالمرّة صریحا إذا کان جافّا، ویظهر من فحوی کلامه فی جملةٍ من کتبه الاکتفاء بها مطلقا، حیث قال: «إنّ الواجب هو الغسل المزیل للعین، ومن المبیّن أنّ زوال العین معتبر علی کلّ حال، وأنّ مسمّی الغسل یصدق بالمرّة» انتهی. کیفیة غَسل الثوب و البدن من البول

فظهر من جمیع ذلک أنّ فی المسألة قولان:

القول الأوّل: هو المشهور الأقوی، لما دلّت علیه الأدلة فی المقام بلا فرق بین الثوب والبدن.

والدلیل علیه: _ مضافا الی أنّ المرّتین موافق للأصل، وهو استصحاب بقاء النجس الی أن یحصل القطع بالطهارة _ وجود أخبار مستفیضة علیه:

منها: الخبر الصحیح ما الذی رواه الشیخ عن أبن أبی یعفور، قال: «سألت أبا عبداللّه علیه السلام عن البول یصیب الثوب؟ قال: اغسله مرّتین»(1).


1- وسائل الشیعة: الباب 1 من أبواب النجاسات، الحدیث 2.

ص:100

ومنها: خبر محمّد بن مسلم فی الصحیح، قال: «سألت أبا عبداللّه علیه السلام عن الثوب یصیبه البول؟ قال: اغسله فی المرکن مرّتین، فإن غسلته فی ماء جارٍ فمرّة واحدة»(1).

قال الجوهری: المرکن الأجانة التی یغسل فیها الثیاب.

ومنها: خبر العلاء، عن محمد، عن أحدهما علیهماالسلام ، قال: «سألته عن البول یصیب الثوب؟ قال: اغسله مرّتین»(2).

ومنها: خبر الحسین بن أبی العلاء، قال: «سألت أبا عبداللّه علیه السلام عن البول یصیب الجسد؟ قال: صبّ علیه الماء مرّتین، فإنّما هو ماء.

وسألته عن الثوب یصیب البول؟ قال: اغسله مرّتین، الحدیث»(3).

ومنها: خبر البزنطی فی الصحیح مرسلاً، قال: «سألته عن البول یصیب الجسد؟ قال: صبّ علیه الماء مرّتین، فإنّما هو ماء.

وسألته عن الثوب یصیب البول؟ قال: اغسله مرّتین»(4).

ومنها: خبر أبی اسحاق النحوی، عن أبی عبداللّه علیه السلام : «عن البول یصیب الجسد؟ قال: صبّ علیه الماء مرّتین»(5).


1- المصدر السابق، الحدیث 1.
2- وسائل الشیعة: الباب 2 من أبواب النجاسات، الحدیث 1.
3- وسائل الشیعة: الباب 1 من أبواب النجاسات، الحدیث 4.
4- المصدر السابق، الحدیث 7.
5- المصدر السابق، الحدیث 3.

ص:101

ومنها: خبر «فقه الرضا»: «وإن أصابک بولٌ فی ثوبک فاغسله من ماء جارٍ مرّة ومن ماء راکد مرّتین ثمّ اعصره»(1).

أقول: هذه جملة من الأخبار الدالة علی ما ادّعاه الأصحاب، من وجوب الغسل مرّتین فی الثوب والبدن إذا أصابهما البول، وبهذه الأخبار نقیّد الأخبار الواردة فی تطهیر المتنجّس بالبول بلزوم الغسل بصورة المطلق، فنقول المراد من الغسل غسله المرّتین، یعنی لا یتطهر المتنجس به إلاّ بالمرّتین، کما نقیّد اطلاق هذه الأخبار فی البول، سواءٌ کان للصبی أو غیره بواسطة الأخبار الواردة فی بول الصبی، بکفایة الصبّ علیه مرّة واحدة، فتصیر النتیجة صحّة ما ادّعاه المشهور.

القول الثانی: هو کفایة المرّة الواحدة، ودلیلهم علی کفایة المرّة حتّی فی بول الکبیر کما عن الشهید فی «البیان»، والمنسوب الی الشیخ فی «المبسوط»، وهم أیضا علی اختلافٍ فیه:

1. فقوم منهم یعتقدون کفایة المرّة فی البدن فقط دون الثوب، هذا کما عن صاحب «المعالم»، وأیّد کلامه بأنّ العلاّمة فی «المنتهی» و«التحریر» اقتصر فی عبارته علی الثوب فحکم فیه بوجوب المرّتین، واستضعفا روایتی الحسین بن أبی العلاء وأبی اسحاق النحوی الواردین فی أصابة الجسد بالبول من الغسل لمرّتین من حیث السند، ولأجل ذلک حکما بالمرّة فی البدن.

وفیه أوّلاً: ذکر خصوص الثوب لا یوجب نفی ما عداه، إذ لعلّه للتمثیل لا للاحتراز.


1- المستدرک، ج 1، الباب 1 من أبواب النجاسات، الحدیث 1.

ص:102

وثانیا: الروایة الصحیحة لأبی نصر البزنطی وإن کان مرسلاً، لکن سندهما صحیح، وارسال مثله الذی یعدّ من أصحاب الاجماع غیر قادح، وهو مشتمل للحکم بلزوم المرّتین فی البدن أیضا.

وثالثا: إنّا لا نُسلّم ضعف سند روایة أبی العلاء، بل هی حسنة أو صحیحة، کما اطلق صاحب «الحدائق» صحّة روایة أبی اسحاق النحوی، مع أنّه لو سلّمنا ضعف سند کلیهما فهما منجبرین بشهرة الأصحاب واجماعهم، فلا یبقی حینئذٍ شبهة للقبول.

2. وقوم منهم یقولون بالمرّة مطلقا، أی فی الثوب والبدن، سواءٌ کان جافّا أم رطباً، وهو کما عن الشهید فی «البیان»، والشیخ فی «المبسوط»، بل عن العلاّمة فی «المنتهی» کفایة المرّة إذا کان جافّا.

الدلیل للأوّل: لیس الاّ اطلاقات أخبار الغسل فی البول المنصرف الی المرّة بحسب حال الاطلاق، وقد عرفت الجواب عنه فی صدر البحث بلزوم التقید بما دلّ علی لزوم المرّتین، المعتضدة بفتوی الأصحاب وشهرتهم.

وأمّا الدلیل للقول الثالث: علی ما فی «المنتهی» حیث ذکر له وجهان:

الأوّل: أنّ المطلوب من الغسل إنّما هو ازالة العین، والجافّ لیس له عین، فیکتفی فیه بالمرّة.

الثانی: أنّ الماء غیر مطهر عقلاً، لأنّه اذا استعمل فی المحلّ جاورته النجاسة فینجس وهکذا دائما، وإنّما علمنا طهارته بالشرع بتسمیته طهورٌ بالنصّ، فإذا وجد استعمال الطهور مرّة عمل عمله من الطهارة.

انتهی علی ما فی «الحدائق» نقلاً عنه.

ص:103

أقول: ولا یخفی ما فیه:

أوّلاً: إذا فرض أنّ أصل الطهارة ثابتٌ بالنصّ فلم لم یقل بذلک فی عدد الغسل أیضا، مع ما عرفت وجود الأحادیث المتعددة فی ذلک.

وثانیا: إذا کان الأمر بالرجوع الی النصّ وهو مطلق بالنسبة الی الرطب والیابس، علیه العمل به.

وعلیه فما ذکره المشهور هو الأقوی، ومنه یظهر عدم تمامیّة ما قاله الشهید فی «البیان» والشیخ فی «المبسوط» علی ما نُسب الیه.

نعم، قد یظهر من الشهید فی «الذکری» ذکر خبرٍ مشتمل لهذا التفصیل، بکون الغسلة الأولی للازالة والثانیة للانقاء، کما نقله المحقّق فی «المعتبر» ذلک فی ذیل خبر حسین بن أبی العلاء، مع أنّه لم نقف فی کتب الأصول والأخبار علی هذه الروایة مع هذا الذیل، کما أشار الیه صاحب «المعالم» و«الذخیرة» و«الحدائق»، بل قال صاحب «المعالم»: «إنّی أحسبها من کلام «المعتبر»، فتوهّمها بعضهم أنّها من الخبر، وقد یؤیّده عدمها فی الخبر الذی نقله العلاّمة فی «المنتهی» مع شدّة حاجته الیها» انتهی.

وبالجملة: ثبت عدم وجود هذا الذیل فی الکتب المعدّة لضبط الأحادیث تمامها، وعلی فرض التسلم بوجوده، لا یمکن رفع الید عن المطلقات المعتضدة بفتوی الأصحاب بواسطة هذا الذیل، مع أنّه لو سلّم لا یختصّ بالبول بل لابدّ من القول به تمام النجاسة، باعتبار أنّ الذیل بمنزلة بیان التعلیل، وهو معمّم لجمیع النجاسات، مع أنّ المرّة فی غیر البول یکفی للازالة والانقاء معاً کما لا یخفی.

وعلیه، فالأقوی هو ما علیه الأصحاب فی خصوص المتنجّس فی البول

ص:104

مطلقا، سواءٌ کان رطبا أو یابسا، من لزوم التعدد فی غسله، بلا فرق بین کون ما أصابه ثوبا أو بدنا.

أقول: بقی هنا شیئان یحتمل المعارضة مع ما اخترناه من لزوم التعدّد فی الغسل:

أحدهما: اصابة البول لمحلّ النجوی الذی یسمّی الماء المغسول به بماء الاستنجاء، فهل یجب التعدد فی تغسیله، أم یکفی المرّة؟

الظاهر کما مضی بحثه فی محلّه کفایة المرّة فیه، کما علیه الفتوی والشهرة، بل قد أدّعی فیه الاجماع لدلالة الأخبار المعتبرة علی کفایتها، مع أنّ اطلاق الأخبار الواردة فی المقام، والدّالة علی تعدد غسل ما أصاب الجسد، یشمل محلّ الاستنجاء أیضا، فیوجب التعارض، فلابدّ فی مقام الجمع بینهما من ارتکاب أحد التقیدین، لأنّ أخبار اصابة الجسد الدالة علی لزوم التعدد مطلقة من حیث محل المغسول، وکونه مخرج البول أو غیره، ومقیّدة بلحاظ الغسل المرّتین، کما أنّ الأخبار الواردة فی غَسل محلّ النجو مطلق من حیث الغسل من جهة التعدد، ومقیّد من جهة المغسول بخصوص محل البول، فلابدّ من رفع الید عن أحد الاطلاقین: إمّا بتقیید أخبار التعدد باختصاصه لغیر محل البول، فیلزم کون الحکم فی المقام هو لزوم التعدد مطلقا إلاّ فی ماء الاستنجاء، حیث یکفی فیه المرّة.

وإمّا تقیید أخبار غسل الاستنجاء بلزوم کون غسله المرّتین کسائر الجسد إذا اصابه البول.

فیه احتمالان:

الاحتمال الأول: وهو أولی من جهات شتّی:

أوّلاً: من وجود الشهرة فی کلا الطرفین من حیث الفتوی بلزوم المرّتین فی غیر

ص:105

موضع النجو، ولزوم المرّة فی الاستنجاء وکفایته، حیث لازم ذلک افتراق المسألتین من حیث الحکم، لأجل افتراقهما من حیث الأخبار، کما هو مختار صاحب «الحدائق» و«الجواهر» و«مصباح الفقیه».

وثانیا: امکان دعوی الانصراف من أوّل الأمر فی الأخبار المشتملة علی المرّتین عمّا یخرج من مخرج البول، لأنّ الاصابة المستعملة فی قوله: «یصیب الجسد» هو إصابة شیء خارج عن البدن بالبدن، لا ما یخرج من البدن مباشرةً، فعلی هذا الوجه یکون معناه عدم وجود المعارضة بین الطائفتین حتّی نحتاج الی التقیید بأحد الوجهین.

وثالثا: لو سلّمنا کون مصبّ المسألتین من باب واحد، وسلّمنا الاطلاق فی کلیهما کما علیه صاحب «المعالم»، فإنّه لا مجال عندنا الاّ بتقدیم أحدهما وترجیح أحد الطرفین.

أقول: ما علیه المشهور من لزوم المرتین فی غیر محلّ النجو أقوی دلالة وعددا وسندا، مضافا الی الاکتفاء فی ما خالف الأصل وهو بقاء النجاسة علی موضع الیقین، وهو فی خصوص الاستنجاء دون غیره.

وبما قلناه نرفع الید عمّا روی الکلینی فی «الکافی» مرسلاً بقوله: «وروی أنّه یجزی أن یغسل بمثله من الماء إذا کان علی رأس الحشفة وغیره»(1)، حیث یدلّ علی کفایة المرّة حتّی فی غیر موضع الحشفة أیضا إذا کا المراد من (بمثله) أی


1- وسائل الشیعة: الباب 26 من أبواب أحکام الخلوة، الحدیث 2.

ص:106

بمثل مقدارالبول علی رأس الحشفة، لا بمقدار أصل البول، والاّ یزید ویکثر عمّا نعتبره فی الغسل، کما ذکر الشیخ هذا الاحتمال فی حدیث نشیط عن بعض أصحابنا عن الصادق علیه السلام ، قال: «یجزی من البول أن یغسله بمثله»(1)، لما عرفت من کثرة الأخبار وصحة دلالتها واعتضادها بفتوی الأصحاب وغیر ذلک.

کما لا فرق فیه بین بول الانسان وسائر الأبوال ممّا لا یؤکل إذا کان نجسا منها، للأصل، واطلاق النصوص والفتاوی، ودعوی عدم الاطلاق أو الانصراف عنها غیر مسموعة.

الاحتمال الثانی: معارضتها مع ما دلّ علی کفایة المرّة فی بول الصبی، الذی لم یأکل الطعام، حیث قد مضی بحثه بکفایة الصبّ مرّة ولا یعتبر فیه التعدد، فلابدّ فیه من القول بالتخصیص وتقیید العمومات والاطلاقات الدالة علی أنّه فی البول یغسل مرّتین.

ولعلّ وجهه: _ مضافا الی أنّ ظاهر الأصحاب جمیعا علی کفایة المرّة فیه، کما ورد التصریح بذلک فی الأخبار _ أنّ نسبتها مع تلک الاطلاقات نسبة المطلق والمقیّد فیقال بالتقیید والتخصیص، مع أنّه یمکن أن یقال بالخروج عن حکم تلک الأخبار تخصّصا لا تخصیصا لأجل تقابل الصّب مع الغسل، الظاهر فی کون استعمال الصبّ ظاهرا فی المرّة، ولذلک عبّر فی لسان الفقهاء تبعا للأخبار بلفظ (الصبّ) فی بول الصبی و(الغَسل) فی بول غیر الصبی، بل ظاهر «المعتبر» و«شرح


1- المصدر السابق، الحدیث 7.

ص:107

المفاتیح» و«اللّوامع» تساوی الاجتراء بالمرّة للحکم بالصبّ.

ولعلّ وجه استعمال لفظ (الصبّ) فی بول الصبی کان لخفّة نجاسته، کما یؤمی الیه عدم اعتبار الانفصال فیه، بل قد یوجب ذلک دعوی الفحوی فیه، ویصیر هذا دلیلاً آخر وثانیا.

نتیجة البحث: ثبت ممّا ذکرنا أنّه لا فائدة حینئذٍ فی لزوم التعدد، خصوصا لو سلّمنا التعلیل الذی ادّعی وجوده فی ذیل خبر ابن أبی العلاء بکون الغسل الأوّل للازالة والثانی للانقاء، بل یمکن دعوی وجود الدلیل الثالث علی ذلک، وهو فعل النبی صلی الله علیه و آله بالصبّ، الظاهر فی المرّة، بل یمکن استظهار ذلک من خبر ابن أبی العلاء، قال: «سألت أبا عبداللّه علیه السلام عن البول یصیب الجسد؟ قال: صبّ علیه الماء مرّتین، فإنّما هو ماء، وسألته عن الثوب یصبه البول؟ قال: اغسله مرّتین، وسألته عن الصبی یبول علی الثوب؟ قال: تصبّ علیه الماء قلیلاً ثمّ تعصره»(1)، حیث یظهر من السؤال عن بول الصبی مستقلاً عدم انصراف الذهن باطلاقه فی صدر الحدیث ببول الصبی، والاّ لم یبق للسؤال ثانیا وجهٌ، هذا مضافا الی ذکر المرّتین فی الصبّ فی الصبّ الأوّل دون الثانی فی بول الصبی أقوی شاهد علی عدم شمول الاطلاق فی الصدر لمثله.

فمن مجموع هذه التوجیهات یستفاد أنّ خروج بول الصبی عن الأبوال من حیث الحکم کان بالتخصّص لا بالتخصیص والتقید، أی لم یکن معارضا لما سبق


1- صدره فی وسائل الشیعة: ج 1، الباب 1 من أبواب النجاسات، الحدیث 4، وذیله فیه أیضا الباب 3 منها، الحدیث 1.

ص:108

حتّی نحتاج الی الجمع بینهما، ولعلّه لذلک نری قیام اجماع الأصحاب تقریبا علی کفایة الصبّ بالمرّة فی بول الصبی غیر المتغذی، ولم نشاهد فیه مخالفا إلاّ عن «کشف الغطاء» حیث قال باعتبار التعدد فی بول الصبی، تمسّکا باطلاق الأدلة، الاّ أن یدّعی اختصاصه من سائر الأبوال بکفایة الصبّ فی بول الصبی دون غیره، حیث یعتبر فیه الغسل مرّتین، وهو ضعیف غایته، کما لا یخفی.

فروع تطهیر الثوب بالماء القلیل

فروع تطهیر الثوب بالماء القلیل

الفرع الأوّل: ثبت ممّا مضی أنّه لابدّ فی تطهیر الثوب والبدن بالماء القلیل من الغسل مرّتین، والبحث هنا عن أنّه هل یعتبر أن تکون الغسلتان بصورة الانفصال کلّ واحد منهما من الآخر بنحو الانفراد لدی العرف، أو یکفی ذلک ولو کان بصورة الاتصال بقدر الغسلتین؟ فیه وجهان بل قولان:

1. فعن الشهید فی «الذکری» وجماعة بکفایة الثانی فی التطهیر، إذ لا خصوصیة فی الانفصال، بل ربّما کان التأثیر فی الاتصال أشدّ من الانفصال، إذا کان الماء فی الاتصال بمقدار ما فی الانفصال، هذا کما «جامع المقاصد» فی باب الاستنجاء.

2. خلافا لآخرین منهم صاحب «الجواهر» و«مصباح الفقیه»، حیث قالا إنّه ضعیف، لوضوح أنّه لو کان المراد من المرّتین کفایة مسمّاهما، ففی کفایة الحسی منه تکون بالأولویة والفحوی، إلاّ أنّ الاشکال فی أصل القضیة، إذ المتبادر من النصوص والفتاوی من کلمة (المرّتین) لیس الاّ ما یصدق علیه الغسلة منفردةً،

ص:109

وهو لا یکون الاّ بالانفصال الفعلی دون التقدیری، ولیس هذا ممّا یدرکه العقل لیلاحظه فیه فیقول بحُسنه، کما عن بعض أنّه حسنٌ لو امتدّ زمان الصّب بقدر انقضاء زمان الغسلتین والفصل بینهما، نظرا إلی أنّ وصل الماء لو لم یمکن أقوی فی التأثیر، فلیس بأقلّ من القطع والفصل، فإنّ سماع هذه الدعاوی فی الأحکام التعبدیّة التوقیفیة مشکل جدّا، خصوصا مع ما نری من أن للتکیریر تأثیرا فی النفس فی رفع القذارة المتوهّمة، لا یحصل مثله مع اتحاد الغسلة، وإن استمرّت بقدر زمان الغسلتین وما بینهما من الفصل.

بل قد یقال: إنّه بناءً علی اعتبار التعدّد فی الجاری والکثیر، فإنّ تعاقب الحرکة واحرار الید مع الماء علی الموضع یعدّ بمنزلة التکریر، لکنّه علی اطلاقه محلّ تأمّل، نعم لو کانت ممتازا بعضها عن بعض، بحیث تکرّر بواسطتها صدق الغسل لدی العرف، أو استعمل فی الماء بعض المعالجات من الغرک والدلک ونحوهما بحیث أثّر فی صدق التکریر، اتّجه الاکتفاء به وإلاّ فلا، ولا یکفی فی الصدق مجرّد مغایرة الماء الذی یلاقیه فی الزمان الثانی للماء الذی أصابة أوّلاً کما لا یخفی.

وبالجملة: ظهر ممّا ذکرنا أنّ الاقتصار حینئذٍ علی مضمون النصوص الواردة فی التطهیر بالانفصال، طریق الیقین بالبراءة من شغل الذمّة عن النجاسة واستصحابها.

الفرع الثانی: ویدور البحث فیه عن أنّ وجوب الغسلتین: هل مختص بالثوب والبدن المتنجّس بالبول کما ورد التعبیر عنه فی عبارة المصنّف وغیره فی التطهیر بالماء القلیل.

أو أنّ الحکم هکذا فی غیرهما أیضا؟

ص:110

ادّعی صاحب «الجواهر» القطع من الاجماع وغیره بعدم الفرق بینهما، وأنّ ذکر هذین فی کلام المصنّف وغیره تبعا للنصوص کان من باب التمثیل، کما صرّح بذلک فی «الروضة» و«الحدائق»، حیث علّقا الحکم علی المنفعل بالبول.

وعلیه، فاحتمال کفایة المرّة فی غیرهما والتعدد فیهما، کما عن «المعالم» و«الذخیرة»، بل أختاره النراقی فی «اللّوامع»، لاطلاق أوامر التطهیر والغَسل، بل لخصوص اطلاق ما ورد فی تطهیر الفراش ذی الحشو ونحوه، من عدم ذکر لزوم التعدد فیه.

ممّا لا یمکن المساعدة معهم، کما یظهر ذلک لمن تأمّل فی الأخبار وکلمات الأصحاب من التعدی عن الثوب والبدن الی غیرهما، کما یظهر التعدّی عنهم فی أصل ثبوت النجاسة فی الثوب خاصة الی غیره من الأجسام، ولا أقلّ أنّه من الشک بعد المرّة نرجع الی استصحاب النجاسة، فیکون هو المحکّم، فالقول بالتعمیم کما علیه المشهور یکون أوجه وأقوی.

اشتراط الازالة بالتطهیر وعدمه

اشتراط الازالة بالتطهیر وعدمه

الفرع الثالث: بعد ما ثبت لزوم المرّتین فی المتنجّس بالبول بالماء القلیل، فهل یعتبر کونهما معا للتطهیر، أم یکفی ولو حصلت الازالة بإحدی الغسلتین، أو یکفی ولو حصلت الازالة بهما؟

أقول: أقواها أوسطها کما علیه المحقق فی «المعتبر»، والشهید فی «الذکری»، والمحقق الثانی فی «جامع المقاصد» وفی «شرح الموجز» التصریح به، لاطلاق

ص:111

الأدلّة. ولا ینافی أن یکون الأمر بالغسلتین والمرّتین فی الغسل أمرا تعبدیا حکمیا فی البول یجزی بأی وجه حصلت الازالة، أی ولو تحققت بالغسلة الأولی، أو لم تتحقق الاّ بهما إذ لا طریق للعقل فی تشخیص هذه الأمور.

نعم، لو ثبت ما جاء فی ذیل خبر ابن أبی العلاء من أنّ الأولی للازالة والثانیة للانقاء لکان الوجه هو القول بکون الغَسلة بالمرّة بعد الازالة، ولکن قد عرفت عدم وجوده فی کتب الأصول والأخبار، فمن ذلک یظهر عدم تمامیّة ما یقال أو قیل بل قد یوهّمه کثیر من العبارات فی غیر البول من أنّه لا معنی لاحتساب ما یزیل النجاسة من المرّتین، للزوم الازالة ولو تضاعفت العدد فی الغَسل عن المرّتین، لما ثبت أنّ النجاسة البولیة لیس بشیء تبقی بعد المرّة، کما أشار الیه فی الخبر بأنّه ماءٌ، أی یکفی فی ازالته بلوغ الماء الیه، فالازلة متحققة غالبا بل دائما بالمرّة، فالثانیة لیست إلاّ أمرا تعبدیّا حکمیا لا تناله ید العقل، فلابدّ أن یکون الامتثال علی حسب ما یدلّ علیه الدلیل الشرعی، وهو لیس الاّ المرّتین.

نعم، لابدّ أن نلاحظ فی التطهیر شرائطه فی الغَسلتین معا، من الورود والانفصال ونحوهما، وإن لم نشترط کون الازالة بهما، لامکان حصول الازالة بماء ورد علیه مثلاً ثمّ تعقّب بعد ذلک غسلتا التطهیر، فلا یتوهّم أنّه بعد حصول ازالة العین بماء غیر ماء التطهیر لا نحتاج الی الغسلتین، أو هما معتبران سواءٌ حصلت الازالة بالغسلة الأولی أو حصلت بماء غیر التطهیر، ثمّ أردنا تطهیره من النجاسة البولیة، فهو أیضا یحتاج الی شرائط التطهیر من الورود والانفصال وغیرهما، کما یحتاج الی الغسلتین لتحقق امتثال الأمر بهما فی مقام التطهیر، سواءٌ

ص:112

قارنهما الازالة أو قارن احدهما.

الفرع الرابع: فی أنّه هل یکتفی بالمرّة فی المتنجّس بنجاسة غیر البول کما هو ظاهر عبارة المتن وغیره ممّن اقتصر علی ذکر العدد فی البول، خصوصا مع اطلاقه الغَسل فی غیره بالاجتزاء بالمرّة، کما هو صریح «المعتبر» و«القواعد» و«الموجز» و«البیان» و«الروضة» و«المدارک» و«الذخیرة» و«الحدائق» و«الریاض» وغیرها.

أم یعتبر المرّة بعد حصول الازالة حتّی تصیر مع المزیل مرّتان، ولازمه أنّه لو لم تحصل الازالة لم تکف المرّتین أیضا، وإن صدق علیه الغسل مرّتان؟ فیه وجهان بل قولان:

القول الاول: هو الأکثر کما عرفت اسمائهم، بل قد وجّه صاحب «الجواهر» اشتراط جماعة بالاکتفاء بالمرّة بعد الإزالة، بأنّهم ظاهرا أرادوا عدم الاکتفاء بالمرّة المقارنة للازالة، لکن نقطع بأنّهم لم یقصدوا ذلک، بل مقصودهم تحقّق الغَسل بالمرّة، وعدم اعتبار الأزید من الازالة من الغَسل، إذ من الواضح أنّه علی تقدیر اعتبار العدد لا یتفاوت فیه وجود العین وعدمه، لأنّه من الواضح کان المراد منه ذلک لکان الحرّی أن یجعل مدار الطهارة هو ازالة العین، سواءٌ حصل بالمرّة أو أزید، لا تعیین خصوص المرّتین فی البول، فیفهم منه أنّ نفس العدد معتبرٌ لا بلحاظ الازالة. نعم، لابدّ فی التطهیر من تحقّق سائر الشروط من الورود والانفصال من غیر فرق بین کونه فی الغَسلة الأولی والثانیة، ولعلّ الی ما ذکرنا یرجع کلام العلاّمة فی «المنتهی» و«التحریر» حیث قال بعد ذکر العدد فی البول:

ص:113

«إنّ ما کان له ثخنٌ وقوام من النجاسات کالمنی أولی بالتعذّر» أی کان ذلک للازالة لا للتطهیر حتّی یتوقف علیه تعبّدا، ولذا اکتفی بالمرّة حال عدم وجود العین من سائر النجاسات، وهو أمر خارج عن البحث، إذ هو إنّما یکون بعد ازالة العین ولو حصلت بماءٍ مضاف ونحوه.

نعم، لا یجری هذا التوجیه لبعض آخر مثل صاحب «اللّمعة» و«جامع المقاصد» حیث صرّحا بلزوم التعدد فی سائر النجاسات، ولعلّهم استدلّوا لذلک بالاستصحاب، ودعوی مساواتها للبول، أو أولی منها فی بعضها، بل لما فی صحیح محمد بن مسلم، عن الصادق علیه السلام ، قال: «ذکر المنی وشدّده، وجعله أشدّ من البول، ثمّ قال: إن رأیت المنی قبل أو بعد ما تدخل الصلاة، فعلیک إعادة الصلاة، الحدیث»(1).

ولتعلیل غسلتی البول بکون أولهما للازالة والثانیة للانقاء، الجاری هذا فی غیر البول أیضا، الواردة فی ذیل حدیث ابن أبی العلاء علی المنقول عن المحقّق فی «المعتبر». بل لمّا فی التعلیل الوارد فی خبر حسین ابن أبی العلاء الوارد فی البول، حیث قال علیه السلام فی جواب سؤال السائل لما أصابه البول: «أنّه صبّ علیه مرّتین، فإنّما هو ماء»(2) حیث یفهم منه أنّه إذا کان البول الذی هو ماءٌ یحتاج فی تطهیره الی التعدّد ففی غیره یکون بطریق أولی.

هذا مجموع ما استدلّوا به أو یمکن کونه للاستدلال.


1- وسائل الشیعة: الباب 16 من أبواب النجاسات، الحدیث 2.
2- وسائل الشیعة: الباب 16 من أبواب النجاسات، الحدیث 4.

ص:114

أقول: لکن یمکن أن یناقش فی جمیع الوجوه:

فأمّا الاستصحاب: فإنّه دلیل حیث لا دلیل اجتهادی من الادلة أمامه، إذ مع وجود الثانی لا یبقی مورد للرجوع الی الدلیل الفقهاهتی، وهو واضح، وهو ادلة اطلاق الغَسل فی جملةٍ من النجاسات، بل الشدید منها کالحیض ونحوه، ممّا لا یعفی عنها فی الصلاة، فضلاً عن مطلق الدم الذی قد عُفی عنه مطلقا فی بعض، أو فی أقلّ من الدرهم فی بعض آخر، فینضمّ الیه فی غیره من عدم القول بالتفصیل فی التطهیر بالغَسل بلا ذکر التعدد فیه، وعجز العقل عن ادراک المناطات والملاکات علی نحو القطع والیقین، حتّی یُدّعی المساواة بینها وبین البول، فضلاً عن دعوی الأولویة فی ذلک.

وأمّا صحیح محمد بن مسلم: فبالمنع عن ظهوره فی المطلوب، لامکان أن یکون أشدیّة المنی عن البول: من جهة وجوب ازالته فی قبال ما یقوله العامّة کالشافعی من طهارة المنی، وانّه آکد من البول لا کیفیة الغسل.

أو المراد أشدّیته للازالة من جهة احتیاجه الی الدلک والفرک فی تغسیله، لا من جهة تطهیره.

وأمّا روایة ابن أبی العلاء: من التعلیل بأنّه ماء، فلعلّه یراد منه بیان کفایة الصّب فی تطهیره دون الحاجة الی الدلک، بخلاف المنی والدّم وغیرهما حیث لا حاجة فیهما الی التعدد کما هو مقصود المستدل.

وأمّا الجواب عن التعلیل المذکور فی ذیل الروایة: فقد عرفت منّا سابقا بانّه غیر موجود فی جوامعنا الأخباریة، بل احتمل أنّه من کلام المحقق فی «المعتبر»،

ص:115

مضافا الی أنّ لاحتمال کون التعلیل لمثل البول فی التطهیر من التعدد لما یبقی لذکر خصوص البول فی الأخبار وجه وجیه.

وعلیه فالأقوی عندنا کما علیه صاحب «الجواهر» والمشهور، هو عدم اعتبار التعدد فی غیر البول من النجاسات فی سائر المتنجسات عدا الولوغ وخصوص الأوانی علی ما سیأتی حکمها إن شاء اللّه تعالی.

ثمّ قال صاحب «الجواهر» رحمه الله بعد ذلک: «من غیر فرق فی عدم اعتبار التعدد بین ما ثبت نجاسته من أوامر الغسل ونحوها التی یتمسّک باطلاقها فی الاجتزاء بالمرّة، وبین ما ثبت نجاسته بالاجماع ونحوه» وإن تردّد فیه _ أی فی الأخیر ظاهرا _ بعض متأخّری المتأخرین للاستصحاب السّالم عن معارضه اطلاق الأمر بالغسل ونحوه کما هو المفروض، إذ قد عرفت أنّه مع تسلیم وجود الفرض المذکور، وأنّه لا تکفی عمومات مطهریّة الماء، إنّما یتمّ بالاجماع المرکّب ظاهرا المدّعی فی «الذخیرة» الذی یشهد له التتبع، بل یمکن تحصیله علی عدم الفرق بین النجاسات بذلک وبه ینقطع الاستصحاب حینئذٍ.

ثمّ انکر ومنع وجود الاستصحاب هنا، بل قال إنّ المرجع هو أصالة البراءة، بدعوی عدم حجیّة مثل هذا الاستصحاب ممّا کان الحکم معلّقا علی غایةٍ غیر معلومة للمکلّف، فکأنّه أراد أن یقول بأنّ هذا الاستصحاب یکون من قبیل الشک فی المقتضی، لأنّه لا یعلم من أوّل الأمر أنّ غایة هذه النجاسة تکون بالغسلة مرّة أو بالمرّتین، فلا یکون مثله حجّة، والمرجع حینئذٍ الی أصل البراءة عن وجوب غسله زائداً عن المرّة، للشک فی أصل الشغل بها، کمن تنجّست یده مثلاً بنجاسةٍ لا

ص:116

یعلم أنّها بول فیجب فیه مرّتان، أو غیره فیجب مرّة، فإنّه لایجب علیه أزید من مرّة واحدة، وکالشک فی کون الصادر منه موجبا للقضاء والکفّارة أو للقضاء وحده.

الی أن قال: «وأمّا بناء علی عدم استصحاب حکم الاجماع، لارتفاعه بعد تحققها»، أی بأنّ الاجماع یرتفع بعد النجاسة حیث أنّه سببٌ لحدوث النجاسة لا لبقائها، ثمّ تنظر فی کلیهما، وقال: «وإن کانا لا یخلوان من نظر: أمّا الأوّل فلأنّ صفة الطهارة وما یحصل به الطهارة أمر شرعی، لا یمکن حصوله الاّ بتوقیف من الشارع، واصالة البراءة لا تشتغل باثباته قطعا، فلا یمکن الحکم بحصول وصف الطهارة شرعا لمتنجسٍ قد اشتبه موضوع ما تنجّس به أو حکمه بمجرّد غَسلةٍ واحدة، لاصالة براءة الذمّة عن الزائد».

أقول: ولا یخفی علیک أنّ فی کلامه مواقع للنظر:

أوّلاً: فی کون هذا الاستصحاب من قبیل الشک فی المقتضی، مع أنّه لیس کذلک، لأنّ الشک فی أنّ الشارع جعل مزیلها غسلة واحدة أو أزید، فهو شک فی الرافع لا المقتضی، اللّهمّ الاّ أن یراد بأنّ الشک فی المزیل مسبّبٌ عن الشک فیما یقتضی الوحدة أو التعدد، لکنّه یندفع بأنّ ما یقتضی النجاسة لیس الاّ بیان أصل حدوث النجاسة بالملاقاة، وأمّا کونه مقتضیا فی ازالته بتعدد الغسلة فإنّه لابدّ من قیام دلیل آخر یدلّ علیه، وهو علی الفرض مفقود لو لم نقل بوجود خلافه کما قیل، فاثبات کونه من قبیل الشک فی المقتضی لیس علی ما ینبغی.

وثانیا: إنّه لو سلّمنا عدم حجیّة الاستصحاب هنا، فمع الشک فی طهارته بعد غَسلةٍ واحدة یدخل تحت قاعدة الطهارة، وهی قوله علیه السلام : «کلّ شیء طاهر حتّی

ص:117

تعلم انّه نجس»، لأنّ الشک هنا بعدم جریان الاستصحاب یکون شکا ابتدائیا، فلا یحتاج الی أصل البراءة، وان کان الرجوع الیه تأییدا لیس بممنوع.

وثالثا: یرد علی ما استشکل علیه بأنّ صفة الطهارة وما یحصل به أمرٌ شرعی لا یمکن حصوله إلاّ بتوقیف عن الشارع، لوضوح أنّ أصل البراءة أیضا یعدّ دلیلاً شرعیا، وهو یحکم بعدم وجوب الغسلة ثانیةً، فالطهارة حینئذٍ أمر قهری یترتب علیه لأنّ ما لا یقتضی الازالة بالماء فمحکوم بالطهارة، لدوران الأمر بین أحدهما من النجاسة والطهارة، ولا یتوهّم حینئذٍ أنّه أصلٌ مثبت، لأنّ اللاّزم علینا هو عدم لزوم الغَسلة ثانیة، وهو یکفی فی حصول الطهارة، لعدم وجود الواسطة أو خفائها.

ورابعاً: ممّا ذکرنا ظهر اشکالٌ رابع علی ما ذکره فی منعه جریان قاعدة الطهارة من قوله: «کلّ شیء طاهر» لما بعد الغسلة الأولی، بدعوی عدم شمولها له، لأجل أنّ النجاسة هنا ثابتة فی الجملة: فإن أراد من قوله: «نمنع وجود عموم یدلّ علی طهارته بمجرد عدم العلم ببقاء وصف النجاسة له»، أنّه لیس لنا دلیلٌ کذلک، فهو مخدوش بما عرفت من وجود قاعدة الطهارة.

وإن أراد منع شمولها للمورد، فإنّه دعوی بلا برهان، لأنّ مجرّد العلم الاجمالی أوّلاً بلزوم الغسلة المردّدة بین الأقل والأکثر لا یوجب خروجه عن کونه من الشبهة البدویة، بعد تحقّق الغسلة الأولی، اللّهمّ إلاّ أن یَدّعی دخوله تحت الغایة فی قوله: حتّی تعلم»، لکن قلنا بعمومیته حتّی للمعلوم بالاجمال کما یشمل العلم التفصیلی فله وجه، فلیزم حینئذٍ أن لا یکون المتنجس بعد الغسلة الواحدة نجسا ولا طاهراً: أمّا الأولی: لعدم دلیلٍ علیه، بل ولا مجال لجریان الاستصحاب فیه حتّی نحکم بالنجاسة.

ص:118

کما أنه لیس بمحکوم بالطهارة لعدم دخوله تحت قاعدتها علی الفرض، ولا عموم یقتضی ذلک، فلا ینجس به الطاهر، ولا یکتفی به فی امتثال ما علم اشتراطه بالطهارة، للشک فی تحقّق شرطه وهو الطهارة دون ما کانت النجاسة مانعة منه، لأنّ الأصل فی المانع والشرط عدمهما، ففی الأوّل یقتضی الصحة دون الثانی.

هذا کلّه إن قبلنا عدم جریان استصحاب النجاسة فیه، وإلاّ لا تصل النوبة الی ذلک، کما لا تصل لو قبلنا وجود دلیل دالّ علی الطهارة فی مثله أیضا.

وأیضاً: یرد علی کلامه من الاشکال فی الاستصحاب إذا ثبتت النجاسة بالاجماع، معلّلاً بارتفاعه بعد تحقّقها، مع أنّه من المعلوم أنّ المستصحب لیس إلاّ نفس الحکم لا المقیّد بوجود الاجماع حتّی یرتفع بعد تحقّق الغسلة الأولی، بل الاستصحاب فی الحکم جارٍ بلا فرق بین کون دلیله هو النصّ أو الاجماع أو غیر ذلک.

الفرع الخامس: فی بیان تطهیر ما یلاقی المتنجس، أنّه هل یکفی غسله لمرّة واحدة، أم لابدّ من مرّتین؟

لا ریب فی کفایة المرّة، بناء علی الاجتزاء بها فی أصله، لعدم زیادة الفرع علی الأصل، مضافا الی وجود اطلاقات التطهیر والغَسل. نعم، الذی یمکن البحث عنه هو فیما اذا کان الأصل ممّا یعتبر فیه التعدد کالبول ولاقی المتنجّس به لا نفسه، وإلاّ یکون هو الأصل، فهل یعتبر فی الملاقی التعدد کما یعتبر فی الأصل؟ فیه وجهان:

1. قد یقال بکفایة المرّة، للاطلاقات، وعدم صدق اسم الأصل علیه.

2. وقد یقال بالتعدد للاستصحاب، لأنّه لا اشکال فی وجوب المرّة بعد ما یشکّ فی حصول الطهارة، فاستصحابها یحکم بالبقاء، خصوصا فیما إذا اشترط حصول

ص:119

الطهارة فی شیء، حیث یکون الشک فیها شکا فی تحصیل الشرط المساوق لعدمه، مع ظهور انتقال حکم الأصل الی ما تنجّس به، لوضوح أنّه قبل الملاقاة کان طاهرا قطعا، فبعده لم یتنجس إلاّ بما فیه التعدد، فلا وجه للحکم بالتنزل إلاّ مع قیام دلیل ووجه، وهو لیس إلاّ أن یقال إنّه لا یصدق علیه البول، بل هو متجسٌ بما هو متنجّس بالبول، فخروجه بذلک عن دلیل: «ما أصاب البول أغسله مرّتین» خفی لدی العرف.

وبالجملة: الأوجه عندنا هو الثانی، لأنّه أوفق بالاحتیاط، وإن کان الأوّل لا یخلو عن وجاهة کما علیه الأکثر.

ومنه یظهر حکم ما لو لاقی غُسالة البول، وقلنا بنجاسته، فإنّه أیضا مثل ما سبق کما لا یخفی.

الفرع السادس: بعد ما ثبت لزوم الغسل مرّتین فی غَسل البول بالماء القلیل، یقع البحث عن أنّه هل یجب ذلک فی الماء الکثیر والجاری أم لا؟

ظاهر المتن وغیره ممّن أطلق اعتبار التعدد هو ذلک، ولکن فی «الجواهر» قال: «لم أعرف أحدا صرّح بذلک هنا، بل ظاهر الأصحاب الاتفاق علی الاجتزاء بالمرّة فی الأخیر» ولذا نفی الریب عنه فی «الذکری».

أقول: الحقّ کفایة المرّة الواحدة فی الأخیر وهو الجاری، لما تری من التصریح بذلک فی القلیل منطوقا ومفهوما، کما تری ذلک فی لسان الأخبار من اختصاص حکم المرّتین بالمرکن وهو الاجانة وهو الأقل من الکرّ، فهی اسمٌ للظروف الصغیرة التی لم تبلغ نوعا الی حدّ الکر، کما جاء فی الروایة صحیحة

ص:120

المرویّة عن محمد بن مسلم، عن الصادق علیه السلام فی حدیث: «اغسله فی المرکن مرّتین، فإن غسلته فی ماء جارٍ فمرّة واحدة»(1)، فإنّ هذا الحدیث بمفهومه مشتملٌ لحکم کفایة المرّة إذا غسل فی الکثیر، وبالمنطوق فی الجاری.

ومثله بالدلالة المنطوقیة للجاری حدیث «فقه الرضا»، قال: «إن أصابک بول فی ثوبک فاغسله من ماء جارٍ مرّة، ومن ماء راکد مرّتین، ثمّ اعصره»(2).

بل یمکن استفادة قلّة الماء من لفظ (الصبّ) الوارد فی صحیح حسین ابن أبی العلاء، بقوله: «صبّ علیه الماء مرّتین»(3)، ومن خبر أبی اسحاق النحوی مثله(4)، خصوصا مع ملاحظة الأزمنة السابقة من قلّة الماء، وإذا کثیرا ما کانوا یستفادون من المراکن وأمثالها.

نعم، قد یشاهد من صاحب «الحدائق» نوع تردّد فی الاجتزاء بذلک فی البدن، لاختصاص الصحیحة بالثوب، مع أنّه لا وجه لذلک، لأنّ من الواضح أنّه لا خصوصیة للثوب فی حصول التطهیر لو لم نقل بألاولویة فی حصوله للبدن، کما صرّح بذلک صاحب «الجواهر»، هذا مضافا الی ضعف احتمال تفاوت اطلاق المرّتین لمثله، خصوصا للبدن، فیدخل تحت اطلاق الأمر بالغَسْل الظاهر فی کفایة المرّة من غیر وجود معارض.


1- وسائل الشیعة: الباب 2 من أبواب النجاسات، الحدیث 1.
2- المستدرک، ج 1، الباب 1 من أبواب النجاسات، الحدیث 1.
3- وسائل الشیعة: الباب 1 من أبواب النجاسات، الحدیث 4.
4- المصدر السابق، الحدیث 3.

ص:121

مضافا الی امکان التأیید بالاجماع المرکب، وعدم القول بالفصل، إلاّ عن ابن سعید فی «الجامع» فی نسخة منه من القول بالفرق بین الثوب والبدن فی الکفایة بالمرّة فی الجاری فی الأوّل دون الثانی، کما فی «الجواهر» الذی قال بعده: «وظنّی أنّها غلط، لأنّ المنقول عنه هو التفصیل بین الجاری والراکد فی اعتبار المرّة والمرّتین، من غیر فرق بین الثوب والبدن».

وکیف کان، إن کان النقل عنه صحیحا فهو ضعیف، ولا یضرّ کلامه بالاجماع المرکب کما لا یخفی.

الفرع السابع: قد عرفت لزوم الغسلتین فیما تنجّس بالبول مثلاً، والبحث حینئذٍ عن أنّه هل یکفی التقدیر فی الغسلتین، أم لابدّ من تحقّقها بالفعل، وانفصال کلّ منهما عن الآخر، بحیث ینفرد کلّ منهما بالفردیّة لدی العرف أم لا؟

والظاهر هو الثانی، لأنّه المتبادر من النصوص والفتاوی، ومن ذلک یظهر ضعف ما هو المحکی عن «الذکری» من کفایة صبّ الماء علیه بقدر الغَسلتین، الذی ربّما استحسنه صاحب «الدلائل» علی ما حکاه عنه صاحب «مفتاح الکرامة» فیما لو امتدّ زمان الصبّ بقدر انقضاء زمان الغسلتین والفصل بینهما، نظرا الی أنّ وصل الماء لو لم یکن أقوی فی التأثیر، فلیس بأقلّ من القطع والفصل، لوضوح أنّ سماع هذه الأقاویل فی الأحکام الشرعیة التوقیفیّة التعبدّیة غیر وجیه، مع امکان دعوی أنّ للتکریر والانفصال تأثیرا فی النفس فی رفع القذارة المتوهّمة، لا یحصل مثله مع اتحاد الغسلة، وإن استمرت بقدر انقضاء زمان الغسلین وما بینهما من الفصل.

قد یقال: _ بناءً علی اعتبار التعدد فی الجاری والکثیر _ إنّ تعاقب جریانات

ص:122

الجاری والتحریک فی الماء الکثیر بمنزلة التکریر.

مع انّه أیضا لا یخلو عن اشکال، لأنّه بناء علی اعتبار التعدد، لا یصدق ذلک علی مثل تعدّد الجری ما لم یخرج من الماء.

وفی «مصباح الفقیه» بعد التأمّل فی صدقه قال: «نعم، لو کانت الجریات والتحریکات ممتازا بعضها عن بعض، بحیث تکرّر بواسطتها صدق الغسل لدی العرف، أو استعمل فی الماء بعض المعالجات من الفرک والدّلک ونحوهما بحیث أثرّ فی صدق التکریر، اتّجه الاکتفاء به وإلاّ فلا. ولا یکفی فی الصدق مجرّد مغایرة الماء الذی یلاقیه فی الزمان الثانی للماء الذی أصابه أوّلاً، کما هو واضح» انتهی کلامه(1).

أقول: کلامه لا یخلو عن نقاش، لوضوح عدم صدق الغسلتین بمثل هذه المعالجات، وکفایة مثل الفرک والدلک فی الماء فیه لا یوجب صدق التعدّد، بل إن قلنا بکفایته کان لدلالة دلیل آخر لا لصدق تعدّد الغسلة. نعم، کفایة مثل ذلک ربّما یوجب تأیید عدم اعتبار التعدد فی الجاری، فهو حینئذٍ خروج عن أصل البحث، کما أنّ الأمر کذلک.

الفرع الثامن: ثبت ممّا مضی أنّ مقتضی الأخبار فی المتنجّس بالبول _ فی غیر بول الصبی _ لزوم الغسل مرّتین فی القلیل، وکفایة المرّة فی الجاری، بقی هنا البحث عن حکم صورة الماء الراکد الکثیر البالغ حدّ الکرّ، فهل یعتبر فیه التعدد أم لا؟


1- مصباح الفقیه، ج 8، ص 184.

ص:123

المشهور هو کفایة المرّة، وعدم اعتبار التعدد، ولکن قد خالف فی ذلک بعض الفقهاء کالمحقق الآملی فی «مصباح الهدی»، بل وکذا المحقّق الهمدانی فی «مصباح الفقیه»، وإن عدل عنه بعد ذلک وألحق الکرّ بالجاری فی کفایة المرّة، فلا بأس حینئذٍ بذکر أدلة المشهور علی عدم الاعتبار، فقد استدلّوا فی ذلک بأمور:

الأوّل: بصحیحة محمد بن مسلم، فهی خصّت لزوم المرّتین الغسل فی المرکن، بقوله: «فإنْ غسلته فی المرکن فمرّتین» فیکون مقتضاه بأنّ کلّ ما یکون مقابلاً لماء القلیل یکفی فیه المرّة فمنه الکثیر الکرّ، فذکر الماء الجاری فی ذیله یکون من بیان أحد مصادیق المفهوم، إذ منه الکرّ وماء المطر، ولعلّ وجه ذکر الجاری بالخصوص لغلبة وجوده، أو عدم ابتلاء المخاطبین بالکثیر الکرّ، لا سیّما فی تلک الاعصار من قلّة الماء فی المدن، لا لأجل بیان اختصاص المرّتین به، حتّی یقابل مع مفهوم الصدر ویحکی فی غیر الجاری بلزوم المرّتین الشامل للکرّ.

والجواب: حیث أجاب عنه صاحب «مصباح الهدی»، تبعا لصاحب «مصباح الفقیه» بأنّ الجملة الأخیرة وهو الجاری کان لاستدراک بیان حکم الجاری، لا التصریح بمفهوم الجملة الأولی، وإن کان الاستدراک بالجاری لنکتةٍ ذکروها، لکنه لا یوجب کونه لبیان أحد مصادیق المفهوم، فالروایة حینئذٍ متعرّضة لبیان حکم ماء القلیل بالمرّة والجاری بالمرّتین، وساکنة عن بیان حکم غیرهما، فلابدّ فیه من الرجوع الی دلیل یدلّ بالاطلاق بلزوم المرّتین بما أصاب البول، ومنه الکثیر الکرّ، وهو المطلوب.

الدلیل الثانی: ملاحظة المناسبة بین الکرّ والجاری یوجب استشعار کفایة

ص:124

المرّة فی الکرّ بعد ثبوتها فی الجاری، بلا ظهور الخبر فیها، واستشهد للمُدّعی أیضا بعبارة خبر «فقه الرضا» حیث ذکر الجاری مقدّما علی المرکن، فیوجب کون المقصود من المرکن هو القلیل، لا الأعم منه ومن الکثیر، لا سیّما مع ذکر العصر فی آخره حیث یوجب تقویة هذا الاحتمال.

وأجاب عنه المحقق الآملی: وقال _ بعد الاذعان بعدم دلالة الخبر لحکم الکثیر: _ «إن المناسبة المذکورة الموجبة للاستشعار المذکور، لا توجب الحکم بالحاق الکرّ بالجاری فی الحکم المذکور، مع اطلاق غیر واحدٍ من تلک النصوص علی اعتبار التعدّد فی غَسل البول، من غیر تقیید بالقلیل، کخبر ابن أبی العلاء، وصحیح بن مسلم عن أحدهما، وصحیح ابن أبی یعفور، فکیف یمکن رفع الید عن اطلاق الأخبار بمجرّد الاستشعار المذکور».

أقول: ولا یخفی ما فی جواب الوجهین من الاشکال:

أمّا الأوّل: فلأنّ لفظ (المرکن) إن اشتمل علی القسمین من مقدار الماء من القلیل والکثیر الکرّ، فحینئذٍ لا اشکال فی دلالة الحدیث بالمنطوق علی لزوم الغسل المرّتین فیهما، فیرتفع النزاع ولا نحتاج الی ذکر تلک التکلّفات، ولکن هذه الدعوی غیر مقبولة، لظهور هذا اللفظ فی خصوص القلیل، کما عرفت تصریح الجوهری بأنّ المراد من (المرکن) هو الأجانة التی تنظّف فیها الثیاب، بل فی «الجواهر»: «لعلّ التجوّز بمثله عن الکثیر الراکد یعدّ مستهجنا»، وعلی فرض تسلیم اختصاص ذلک بالقلیل، یصیر مضی ومدلول الحدیث حینئذٍ هکذا: «لو غسّل فی الماء القلیل مرّتین» فذکر القلّة لابدّ أن یکون له جهة فی الحکم وهو

ص:125

الغسل المرّتین، فلابدّ أن یکون ذکره فی قبال غیره من المیاه بحیث لو لم یکن الجاری مذکورا فی ذیله، کان المفهوم العرفی منه اختصاص ذلک بخصوص هذا القسم، بخلاف غیره، فذکر الجاری وکفایة المرّة فیه لا یوجب خروج الکثیر عن المرّة الذی قد استفید من الصدر، مع أنّ السائل قد أخذ جواب سؤاله من کفایة المرّة فی غیر القلیل، ولم یبق متحیّرا لیرجع فیه الی الاطلاقات الدالة علی التعدد فی غیر القلیل، المستلزم لخروج ذکر القلّة عن الفائدة، فإنّ هذا ممّا لا یقبله الذوق العرفی، خصوصا مع ملاحظة اطلاقات الأوّلیة الدّالة علی کفایة المرّة لمطلق النجس، فخرج عنه بالنسبة الی البول بالأخبار المقیّدة فی خصوص البول بالتعدّد التی قیّد اطلاقها بخصوص القلیل أیضا کما لا یخفی، فمع ملاحظة هذا التوجیه والبیان لا یکون الاستشعار المذکور مع الجاری بعیدا عن الذهن، لمناسبة الکرّ مع الجاری فی کثیر من الأحکام دون القلیل، کما ذکره صاحب «الجواهر» رحمه الله .

أقول: ولعلّ من خلال ملاحظة ما ذکرناه تظهر المناسبة فیما ورد فی الأخبار بأنّ ماء الحمّام بمنزلة الجاری، أو انّه کماء النهر یطهّر بعضه بعضا، فإنّ الشارع بهذا التشبیه أراد بیان کون الکثیر کالجاری لا القلیل، فیترتّب علیه أحکام الجاری.

وعلیه فما أجابه صاحب «مصباح الهدی» من أنّ التشبیه إنّما هو بلحاظ أنّ له مادّة کالجاری، غیر منافٍ لما ذکرناه فی کونه مثله فی اشتماله الأحکام أیضا، واللّه العالم.

الدلیل الثالث: ما هو المذکور فی «الجواهر» من الاستدلال بالمرسل المرویّ عن الباقر علیه السلام فی کتاب «مختلف الشیعة» أو «المنتهی» علی نقل آخر، نقله عن ابن أبی عقیل، قال: «ذکر بعض علماء الشیعة أنّه کان بالمدینة رجلٌ یدخل علی

ص:126

أبی جعفر علیه السلام وکان طریقه ماءٌ فیه العذرة والجیف، وکان یأمر الغلام یحمل کوزا من ماء یغسل به رجله إذا خاضه، فأبصر یوما أبوجعفر علیه السلام فقال: إنّ هذا لا یصیب شیئا الاّ طهّره، فلا تعد منه غسلاً».

وفی بعض الروایات مضافا الی قوله: «مشیرا الی غدیر الماء إنّ هذا...»(1).

وجه الاستدلال: إنّ اطلاق الاصابة وعدم تقییدها بالمرّتین، یستلزم جواز الاکتفاء بالمرّة، وحیث أن کلمة الشیء من ألفاظ العموم الشامل للمتنجّس بالبول وغیره، فیدلّ علی کفایة الغسل بالمرّة للمتنجّس بالبول فی ماء الکثیر الکرّ، وضعف الحدیث بسبب ارساله مجبورٌ بعمل الأصحاب وشهرتهم بالفتوی.

لا یقال: علی فرض قبول الروایة تکون النسبة بینها وبین ما دلّ علی اعتبار المرّتین فی البول العموم من وجه، الموجب للتوقف فی مورد الاجتماع، والرجوع الی الأصول العملیة، وهو استصحاب النجاسة لما بعد المرّة، فلابدّ من المرّتین حتّی تثبت البراءة.

لأنّا نقول: وإن کانت النسبة کما تقول، ولکن نحکم بتقدیم المرسل فی مورد الاجتماع لکونه أقوی، لأنّ دلالته علی کفایة المرّة بالعموم، بخلاف ما دلّ علی اعتبار التعدد، إذ فی بعضها ما یصلح أن یکون القرینة بکونه فی القلیل مثل وجود کلمة (الصبّ) أو (العصر)، وفی بعضها وإن کان بالاطلاق مثل صحیحة ابن أبی یعفور، ولکن الاطلاق لا یمکن أن یعارض مع العموم، لأنّ الثانی بالوضع دون


1- المستدرک، ج 1، الباب 9 من أبواب الماء المطلق، الحدیث 8.

ص:127

الأوّل، وهو مقدّم علیه، خصوصا مع ملاحظة تطرّق الوهن الی خبر ابن أبی یعفور بالنسبة الی الجاری، حیث قد علم من دلیلٍ آخر عدم اعتبار التعدّد فیه قطعا.

أقول: هذا الدلیل قد اعتبره صاحب «مصباح الفقیه» ولم یردّه، لکن اعترض علیه صاحب «مصباح الهدی» بدعوی أنّه لا اطلاق له بهذه الحیثیّة، لأنّه بصدد بیان مطهریّة ما فی الغدیر من الماء، وأنّه لا ینفعل بالملاقاة، لافی مقام فی بیان کفایة مطلق الاصابة، کما لا یمکن التمسّک بهذه الروایة لعدم اعتبار العصر ونحوه فی ذلک الماء، ممّا یشک فی اعتباره.

وفیه: الانصاف والدقة فی نصّ الخبر وهو قوله: «ما من شیء یصیبه إلاّ طهّره» یفید أنّه فی مقام بیان تطهیر المتنجس به لا فی مقام بیان عدم انفعال نفسه بالملاقاة، فبالاطلاق یتم الاستدلال کما عرفت.

ومنه یظهر الجواب عمّا اعترض علی الاستدلال بروایة «کلّ شیء یراه المطر فقد طهر» بحسب اطلاقه بما قد تقدّم، بأنّ الظاهر من الروایة کونه بصدد بیان تحقّق طهارة المتنجّس لا لعدم انفعاله به، وهذا الحدیث یعدّ رابع الأدلة المستدلّ بها فی المقام.

وبالجملة: ثبت ممّا ذکرنا أنّ مختار المشهور عندنا بکفایة المرّة فی الکرّ کالجاری قویٌّ لا غبار علیه.

وأمّا ما ذکره صاحب «الجواهر»: من التأیید لمختاره بأمور:

منها: امکان دعوی القطع بمساواته للجاری بعد ما عرفت من عدم اعتبار الجریان، بل ومع اعتبار إذا فرض اختلاف سطوح الراکد بتحریکٍ ونحوه، بل لعلّ

ص:128

الکثیر من الراکد إذا فرض جریانه فی ساقیةٍ ونحوها داخلٌ فی اطلاق الجاری، إذ تخصیصه بالنابع عرفٌ للفقهاء أو بعضهم علی الظاهر، فیشمل الصحیح حینئذٍ هذا القسم منه، ویتمّ فی الباقی بعدم القول بالفصل.

ومنها: أنّه یمکن القطع بمساواة بعض أفراد الجاری للراکد علی العرف الشرعی أیضا کالنابع غیر السائل من العیون ونحوها، خصوصا فی المنقطع فعلیّة نبعها بسبب ما خرج منها من الماء، وإن کانت مستعدّة له، بل یمکن ارادة غیر المنفعل من الجاری فی الصحیح بقرینة مقابلته بالمرکن(1).

فممّا لا یمکن الاعتماد علیها: لأنّ هذه الدعاوی خصوصا بعضها ممّا لا یساعد علیها العرف الشرعی فی صدق الجاری علیه، لیدخل فی متن الروایة، وعلیه فالماء من حیث الحکم علی قسمین: إذا کان فی المرکن مرّتین، وإذا کان جاریاً الشامل للکرّ مرّة واحدة.

وأیضاً: لا یمکن الاعتماد علی ما ذکره فی ذیل ذلک بقوله: «وممّا یمکن أن یؤیّد به أیضا من الاعتبار من حیث أنّ الماء الکثیر إذا استولی علی عین النجاسة وإنْ کانت مغلّظة استیلاءً شاعت أجزائها فیه واستهلکت، سقط حکمها شرعا، فالمتنجّس إذا استولی الماء علی آثار النجاسة أولی بالسقوط، وبصیرورة وجودها کعدمها، وإلا لکان الأثر أقوی من العین، یشرف الفقیه علی القطع بالاجتزاء بالمرّة المزیلة للعین»، لأنّ هذه الأمور یکون الی الاستحسان أقرب منه


1- الجواهر، ج 6، ص 196 _ 197.

ص:129

الی الفقه، والواجب علینا فی الفقه متابعة أثر لسان الدلیل فإنْ ساعدنا فیه اتّبع والاّ فلا، نعم ذکر هذه الأمور بعد مساعدة الدلیل علی اثباته أمر مطلوب، ولعلّه هو أیضا أراد ذلک من ذکر هذه التأییدات، فللّه درّه وعلیه أجره.

شرط زوال العین فی التطهیر

شرط زوال العین فی التطهیر

أقول: بعد ما ثبت کیفیّة حصول الطهارة بالماء الجاری والکرّ والکثیر، وکذا بالقلیل فی البول مرّتین فی الأخیر دون ما سبقه، لابدّ أن ننّبه أخیراً علی أنّه یشترط فی حصول الطهارة فی غسل النجاسات والمتنجّسات بتلک المیاه، زوال أعیانها بحیث لم یبق منها أجزاء فی المحل ولو کانت دقاقا. نعم، لا عبرة بعد ذلک ببقاء اللّون والریح ونحوهما من الأعراض التی لا تستتبع أعیانا من مؤثراتها عرفا بل ولا عقلاً لوضوح أنّ العرض یقتضی محلاً من مؤثره یقوم به، بل یکفی فی عدم تحقّق قیامه بنفسه قیامه بالثوب ونحوه ممّا باشر المؤثّر، وقد خالف بعضهم فی الآثار وفی المراد من الأثر: قیل: تجب ازالة اللّون والرائحة، واستدلّ لوجوب الازالة بأنّه عرض لا یقوم بنفسه، فلابدّ له من محلّ جوهری یتقوّم به فی وجوده، وهذا دلیل علی وجود العین وعدم زوالها، نحو دلالة وجود کلّ أثر لمؤثرة، فیجب ازالته لبطلان قیام العرض بلا موضوع، أو قیامه علی غیر موضوع لنفسه، لاستحالة انتقال العرض عن موضوعه الی موضوع آخر، وهذا القول هو المحکی عن العلاّمة فی «المنتهی» والفاضل فی «التنقیح»، لکن عن «النهایة» وجوب ازالة الرائحة دون اللّون، وعن «القواعد» وجوب ازالتهما معا مع عدم العسر فیها،

ص:130

والدلیل لوجوب الازالة هو ما عرفت من استحالة انتقال العرض عن المعروض.

أقول: الأقوی عدم وجوب ازالة الأثر بأی وجه فسّر، فإنّه مضافا الی ما حکی من قیام الاجماع علیه عن المحقّق فی «المعتبر»، فقد استدلّوا للوجوب بأدلّة یمکن ردّها:

أوّلاً: بالمنع عمّا ذکروا، لامکان حدوث الوصف فی عینٍ بالمجاورة، کما قیل فی اللّون الحادث فی الید مثلاً بواسطة مجاورتها مع الحنّاء، وکذلک حصول الرائحة فی بعض الأعیان بالمجاورة من دون بقاء العین.

وثانیا: لو سلّمنا ما ذکرتم من دلالة بقاء الأثر علی بقاء العین بواسطة تلک الاستحالة التی هی أمر عقلی، لکن من المعلوم أنّ المدار فی الأحکام الشرعیة فی الطهارة والنجاسة إنّما یکون علی فهم العرف لا الدقة العقلیة، ومع حکمهم بارتفاع العین باستعمال الماء فی غسلها یحصل التطهیر.

وثالثا: استفادة عدم وجوب الازالة من النصوص المتعددة الواردة فی مواضع مختلفة:

منها: خبر علی بن أبی حمزة، عن العبد الصالح علیه السلام ، قال: «سألته أمّ ولدٍ لأبیه... الی أن قال: قالت: أصاب ثوبی دمُ الحیض فغسلته فلم یذهب أثره؟ فقال: أصبغیه بمشق حتّی یختلط ویذهب»(1)، والمَشْق بفتح المیم هو الطین الاحمرة کما فی «المنجد».


1- وسائل الشیعة: الباب 25 من أبواب النجاسات، الحدیث 1.

ص:131

ومنها: خبر عیسی بن أبی منصور، قال: «قلت لأبی عبداللّه علیه السلام : إمرأة أصاب ثوبها من دم الحیض فغسلته فیبقی أثر الدم فی ثوبها؟ قال: قل لها تصبغه بمشق حتّی یختلط»(1).

ومنها: مرفوع محمد بن أحمد بن یحیی الأشعری، رفعه فی حدیث، قال: «سألته امرأة أنّ بثوبی دم الحیض وغسلته ولم یذهب؟ فقال: اصبغیه بمشق»(2).

ومنها: صحیح حسن بن المغیرة، عن أبی الحسن علیه السلام ، قال: «قلت له: إنّ للاستنجاء حدّ؟ قال: لا حتّی ینقی ماثمّة. قلت: فإنّه ینقی ماثمّة ویبقی الریح؟ قال: الریح لا ینظر الیها»(3).

تقریب الاستدلال: فی اللّون الباقی علی الثوب من دم الحیض، فإنّه لو کان بقاء اللّون کاشفا عن وجود العین المانع من تحقّق الازالة المعتبرة فی التطهیر، لم یکن صبغه بمشق مجدیا، فالأمر بالاصباغ لیس إلاّ لأجل رفع النفرة الحاصلة من بقاء اللّون الغیر المنافی لطهارة الثوب، إذ لا شبهة فی أن الرائحة المجرّدة وبعض مراتب اللّون، خصوصا فی اللّون المخالف للون النجس الذی ربّما یکتسبه المتنجّس من الشیء لأجل خصوصیّة کالصفرة الحاصلة فی الجسم الملاقی للمیتة، بل وکذا فی بعض مراتب الخشونة الحاصلة فی الثوب من المنی بعد ازالة عینه، التی تعدّ لدی العرف أثرا محضا لا تجب ازالته، ولذلک قال الامام علیه السلام فی


1- المصدر السابق، الحدیث 3.
2- المصدر السابق، الحدیث 4.
3- المصدر الساق، الحدیث 2.

ص:132

حدیث ابن المغیرة: «إن الریح لا ینظر الیها» کما نری مثله فی الروایة المرسلة للصدوق، قال: «سئل الرضا علیه السلام عن الرجل یطأ فی الحمام وفی رجله الشقاق فیطأ البول والنورة فیدخل الشقاق أثرٌ أسود ممّا وطی ء من القذر وقد غسله، کیف یصنع به وبرجله التی وطی ء بهما، أیجزیه الغسل أم یخلّل أظفاره بأظفاره، ویستنجی فیجد الریح من أظفاره، ولا یری شیئا؟ فقال: لا شیء علیه من الریح والشقاق بعد غسله»(1).

أقول: إنّ هذه الأجوبة یوجب حصول الاطمینان للفقیه بلزوم عدم الاعتناء بالآثار إذا زالت العین عرفا، ولعلّ من ذهب الی لزوم ازالة الأثر من اللّون کان فی صورة الامکان کما عن العلاّمة فی «المنتهی»، بل وربّما اعتبروا الإصباغ بالمشق قرینة علی لزوم الازالة مع الامکان، فإن تعذّر احتال بالصبغ به، فالنزاع فی الصغری بدعوی أنّ ازالة العین لا تتحقق عرفا مع بقاء اللّون القابل للازالة، لکنّه ممنوع ظاهرا.

نعم، یمکن قبول نجاسة ما لو أمکن استخرج تلک الأجزاء ببعض المعالجات، بحیث یصدق علیه الاسم، لحقها حکمها، مثلاً لو غلا الثوب المتلّون بلون الدّم بعد ازالة عین الدّم منه الی أن ظهر فی الماء لون الدم، تنجّس الماء وتنجّس به الثوب علی الأظهر، حیث بصدق علیه أنّه ماء متغیّر بلون الدم، لأنّ الأحکام تابعة لعناوین الموضوعات.


1- وسائل الشیعة: الباب 25 من أبواب النجاسات، الحدیث 6.

ص:133

کما لا منافاة بین هذا القول مع القول بطهارة الماء المستهلک فیه الدم لانتفاء موضوعه، بمثل ما نحکم برجوع النجاسة لو نقص الماء عن الکریّة من خلال التبخیر للاجزاء المائیّة، بحیث وصار قلیلاً حتّی ظهر فیه وصف الدم.

ومن هذا القبیل نحکم بطهارة البخار المتصاعدة عن النجس إذا لم یصدق علیه اسم ذلک، بخلاف ما لو صدق علیه ذلک لدی الاجتماع، فیحکم بطهارة البخار المتصاعد عن العذرة وهکذا البول، ما لم یصدق علیه اسم البول بالتقطیر، وإلاّ یحکم بالنجاسة، ولأجل دخوله تحت موضوع الحکم وشمول النصّ بعمومه له یوجب أن لا یکون فی مثله مجالاً لجریان استصحاب الطهارة الموجودة حال البخاریة، لوضوح عدم جریان الأصول فی موطأ اقدام النصوص کما لا یخفی.

نعم، یصحّ الحکم بالنجاسة لو کان المتغیّر باللّون أو الریح، هو الماء الذی یغسل به النجس المباشر للمغسول المتخلّف بعضه فیه، لوضوح وجهه باعتبار أنّ أجزاء النجس موجودة فی الماء المغسول به کما لا یخفی، هذا فضلاً عن أنّ المدار فی معرفة ذلک هو العرف لا عسر الازالة وعدمه کما عن بعض، واللّه العالم.

ص:134

حکم ملاقی نجس العین

و إذا لاقی الکلب أو الخنزیر أو الکافر ثوب الانسان رطباً، غَسل موضع الملاقاة واجباً، و إن کان یابساً رشّه بالماء استحباباً.(1) حکم ملاقی نجس العین

(1) بعد الفراغ عن حکم ملاقاة الثوب مع البول أو سائر النجاسات غیر المذکورة فی المتن، شرعنا تبعاً للمصنف بالبحث عن حکم ما لو لاقی الثلاثة کما ورد فی المتن.

فإن کان مع الرطوبه، وجب غَسل موضع الملاقاة لکلّ ما یشترط فیه الطهارة کسائر النجاسات، لانفعال حکم النجاسة الثابته فی هذه الثلاثه بالأدلة السابقة، فضلاً عن الاجماع محصّلاً و منقولاً، و کذلک النصوص المستفیضةً، بل ضرورة المذهب أو الدین. کما أنّ الاجماع بقسمیه و النصوص و الاستصحاب قائمة و ثابتة و جاریة و دالّة علی أنّ زوال النجاسة هنا لا یتحقّق الّا بالغَسل، و لا یتحقّق بالرّش و النَضح و نحوهما ممّا لا یصدق علیه الغَسل، من غیر فرقٍ فیه بین أفراد الکلب، و لا نُقل خلافٌ عن أحدٍ فی ذلک إلّا عن الصدوق فی «الفقیه» من القول بکفایة الرشّ فی کلب الصید، حتّی مع الرطوبة، حیث قال: «و إن کان کلبُ صیدٍ و کان

ص:135

جافاً، فلیس علیه شیءٌ، و إن کان رطباً فعلیه أن یرشّه بالماء» هذا علی ما هو المحکی عنه فی «الحدائق» (1) و نقلاً عن «الفقیه».

أقول: لکنه ضعیفٌ جداً، إذ لا موافق له من الأصحاب، و لا دلیل علیه، بل الأدلة من اطلاق الخبر و غیرها علی خلافه. کما أنّ مثله فی الضعف ما فی «الجامع»: «من أنّه رُوی أنّ کلب الصید لا یُرّش من ملاقاته رطباً»، ضرورة أنّ ذلک من الشواذّ ممّا لا ینبغی أن یُلتفت الیه. کما أنّ المشهور بین الأصحاب، بل لاخلاف یُعتدّ به فی رجحان الرّش فی الجملة فی الثلاثه فی جمیع أفرادها، سوی ما ذکره صاحب «الفقیه» فی کلب الصید، و علیه فأصل رجحان الرش مسلّمٌ، الّا أنّ الاختلاف بین الأصحاب وقع فی کونه ندباً أو واجباً. لکن الأکثر _ بل لا خلاف یعتدّ به، علی ما فی «الجواهر» _ علی الاستحباب.

نعم، صریح «الوسیلة» و ظاهر «الجامع»، و عن «المراسم» الوجوب فی الثلاثة، کصریح «النهایة» و ظاهر «المقنعة» فی الأولین، و «الفقیه» فی الأول غیر کلب الصید منه، بل عن الثالث زیادة الفأرة و الوزغة کزیادتهما مع الثعلب و الأرنب فی «الوسیلة» و «الجامع»، مع أنّ ظاهر «المعتبر» بل صریحه الاجماع علی استحبابه فی محلّ البحث، کما هو کذلک، لما یشاهد من نقل الاجماع فی «المختلف» و «کشف اللّثام» و «الذخیرة» و «الدلائل».

بل یمکن دعویٰ قیام الاجماع علی عدم تعدّی النجاسة مع الیبوسة، اعتماداً علی موثقة عبدالله بن بکیر، قال: «قلت لأبی عبدالله علیه السلام : الرجل یبول و لا یکون عنده الماء فیمسَحُ ذکره بالحائط؟ قال: کلّ شیءٍ یابسٍ زکیّ». (2)


1- الحدائق، ج 5/390.
2- وسائل الشیعة: الباب 31 من أبواب أحکام الخلوة، الحدیث 5.

ص:136

مضافاً الی جریان الاستصحاب الدّال علی الطهارة و غیره، و علیه فلا وجه لاحتمال حصول التنجس مع الیبوسة، حتّی یجب تطهیره بالرّشُ و النضح.

اللّهم الّا أن یقال: بوجوب الرش تعبّداً شرعاً، کما علیه صاحب «الحدائق»، و کما هو ظاهر کلام الشیخ فی «النهایة»، و المفید و سلّار و لکن قال صاحب «الجواهر»: «إنّ ملاحظه کلماتهم و ذکرهم فی مقام التطهیر، و أحکام النجاسة، یفید أنّهم أرادوا تحصیل الطهارة به لا التعبد».

بل قد یُستغرب التعبّد فی مثله بحیث لا مدخلیة له فی سائر ما یشترط بالطهارة و احتمله فی «المعالم»، بل قد أصرّ علیه صاحب «الحدائق» مستنداً بظاهر الأوامر الواردة فی النصوص، و علیه فلا باس قبل الخوض فی بیان وجه الأمر بالرّش، من ذکر النصوص المشتملة علیه فی الثلاثة: فأمّا فی الأولین.

1. مرسل حریز عن أبی عبدالله علیه السلام ، قال: «اذا مسّ ثوبک کلبٌ فإن کان جافاً فانضحه، و إن ْ کان رطباً فاغسله». (1)

2. خبر علی، عن أبی عبدالله علیه السلام ، قال: «سألته عن الکلب یصیبُ الثوب؟ قال: انضحه و إن ْ کا رطباً فاغسله». (2)

3. صحیحة أبی العباس، قال: «قال أبو عبدالله علیه السلام : اذا أصاب ثوبک من الکلب رطوبة فاغسله، و إن مسّه جافاً فاحبب علیه الماء». (3)

بناءً علی أنّ الصبّ و الرش و النضح هنا بمعنی واحد.

4. و عن «الخصال» عن علیّ علیه السلام فی حدیث الأربعمائة، قال: «تنزّهوا


1- وسائل الشیعة: الباب 26 من أبواب النجاسات، الحدیث 3 _ 4.
2- وسائل الشیعة: الباب 26 من أبواب النجاسات، الحدیث 3 _ 4.
3- وسائل الشیعة: الباب 26 من أبواب النجاسات، الحدیث 2.

ص:137

عن قرب الکلاب، فمن أصاب الکلب و هو رطبٌ فلیغسله، و إن کان جافاً فلینضح ثوبه بالماء». (1)

5. خبر علیّ بن جعفر عن أخیه موسی بن جعفر علیه السلام ، قال: «سألته عن الرجل وقع ثوبه علی کلبٍ میّتٍ؟ قال: ینضحه بالماء و یُصلّی فیه، الحدیث» (2) بناءً علی اعتبار الرش لکونه کلباً لا میّتا. هذا کله فی الکلب.

و أما فی الخنزیر: فیدلّ علیه عدّة أخبار:

منها: مضمرة علی بن محمد علیه السلام ، قال: «سألته عن خنزیرٍ أصاب ثوباً و هو جافٌ، هل تصلح الصلاة فیه قبل أن یغسله؟ قال: نعم ینضحه بالماء ثُمّ یصلّی فیه، الحدیث». (3)

بل عن «قرب الإسناد» روایته مسنداً الی موسی بن جعفر علیه السلام .

و منها: صحیح علی بن جعفر، عن أخیه موسی بن جعفر علیه السلام ، قال: «سألته عن الرجل یصیب ثوبه خنزیرٌ فلم یغسله، فذکر و هو فی صلاته، کیف یصنع به؟ قال: إن کان دخل فی صلاته فلیمض، و إن لم یکن دخل فی صلاته فلینضح ما أصاب ثوبه الّا أن یکون فیه أثرٌ فیغسله». (4)

قیل: إنّ صدر الروایة حیث حکم بالمضیّ اذا دخل فی صلاته و ذکر، دلیلٌ علی أن الحکم بالنضح تعبدیٌ لا لاجل النجاسة، إذ من الواضح أنّه


1- وسائل الشیعة: الباب 12 من أبواب النجاسات، الحدیث 11.
2- وسائل الشیعة: الباب 26 من أبواب النجاسات، الحدیث 7.
3- وسائل الشیعة: الباب 26 من أبواب النجاسات، الحدیث 6.
4- وسائل الشیعة: الباب 13 من أبواب النجاسات، الحدیث 1.

ص:138

لو کان لأجلها کان الحرّی أن یحکم ببطلان الصلاة أو بخلع الثیاب إن أمکن لا بالمضیّ.

نعم، تقابله بالغَسل إذا کان فیه أثرٌ، یفید کونه للنجاسة لا التعبّد.

أجاب عنه صاحب «الحدائق»: «بأنّ الاصابة فی الصدر مطلق، و لم یعلم کونه برطوبةٍ أو عدمها، و قد دخل فی الصلاة و الحال کذلک، فأمر علیه السلام بالمضیّ فی الصلاة استصحاباً لأصالة الطهارة، لأنّ الاصابة بیبوسة غیر موجبةٍ للتنجیس و الرطوبة غیر معلومة، فیتمّ البناء علی أصالة الطهارة، و یتمّ الأمر بالمضیّ فیها، و إن ْ کان ذلک قبل دخوله فی الصلاة، فلینضحه إلّا أن یکون فیه أثر فیغسله، و ظاهر الخبر الدلالة علی عدم وجوب الفحص بعد دخوله فی الصلاة، و أنه یکفی البناء علی أصالة الطهارة عند الشک، کما یدلّ علیه صحیح زرارة الطویل الوارد فی المنیّ، و قد تقدّم» انتهی ما فی الحدائق. (1)

قلنا: إنّ ما قاله لیس جواباً للاشکال، بل وجهة کلامه لبیان وجه حکم المضی، و هو مقبولٌ للخصم، و فی الحقیقه إنّ ذکر الغَسل فی مقابله دلیل و قرینةٌ علی أنّ الحکم فی الطرفین هو التنجّس و عدمه لا التعبّد، إذ لا مدخلیة للتعبّد فی الحکم فی الدخول و عدمه.

و أمّا الاستثناء بایجاب الغَسل عند تحقّق وجود الأثر علی الثوب، بأن یراد منه ترتیب أثره من الغَسل فیما قبل الدخول، فواضحٌ و أمّا بعد الدخول فی الصلاة من الحکم بتغسیله فی الاثناء أو خلعه إن امکن، و إلّا کما هو


1- الحدائق، ج 5/391.

ص:139

الغالب حیث یصعب تحصیل آداب الغَسل اثناء الصلاة فیجب علیه قطعها و یستأنف الصلاة من رأس مع الطهارة، فیصیر حکمه کحکم ناس النجاسة الذاکر لها فی الاثناء، و علیه فیبقی الخبر علی ظاهره و لا نحتاج الی صرفه عن ظاهره بارادة الجاهل بوجود الأثر إن علم بالملاقاة، بدعوی أنّ العلم بالملاقاة هو أعمّ من الجهل بوجوده، فلا یمنعه من التمسک بأصالة الطهارة حتّی دخل ثم علم بها.

أمّا الکافر: فقد وردت روایة فی حکم الملاقی معه و هی صحیح الحلبی، قال: «سألت أبا عبدالله علیه السلام عن الصلاة فی ثوب المجوس؟ فقال: یرّش بالماء». (1)

فإنّ سیاق مثل هذه الاخبار یشهد بأن الأمر بالنضح مع الجفاف کالأمر بالغَسل مع الرطوبة، إنّما هو لازالة الأثر الحاصل بالملاقاة، حیث علم أن الأثر الحاصل بالملاقاة مع الجفاف لم یبلغ مرتبةً یجب التنزّه عنه فی الاشیاء المشروطة بالطهور، و علیه فیستفاد.

من ذلک أنّ الأمر بازالته بالنضّح، لیس الّا للاستحباب، و لذا لم یفهم المشهور من النصوص الوارد فیه الأمر بالنضح إلّا ذلک.

و إن شئت قلت: إن إعراض المشهور عن هذا الظاهر، و حملهم علی الندب، یکشف عن وقوفهم علی قرینة داخلیة أو خارجیة أرشدتهم الی ذلک.

أقول: قد ورد فی صحیحة أبی العباس الأمر بصبّ الماء علی الثوب، خلافاً لسائر الأخبار المشتملة علی النضح و الرشّ.


1- وسائل الشیعة: الباب 73 من أبواب النجاسات، الحدیث 3.

ص:140

و یرد علیه أولاً: أنّ ما ورد فی فتوی المشهور هو الرشّ کما فی صحیحة الحلبی للمجوس، دون النضح و الصبّ.

و ثانیاً: إن الصبّ الوارد فی خبر أبی العباس یراد منه أوسع من النضح و الرشّ، لاشتماله علی لزوم استیعاب الماء لجمیع المحلّ، فربما یقع التنافی بین تلک الأخبار، فکیف أفتی المشهور بخصوص الرش؟!، و لذلک ذهب بعض هنا الی لزوم استیعاب الماء لیصدق علیه عنوان الصبّ.

و لکن یمکن أن یجاب عن الأوّل: بأنّ الظاهر کون النضح و الرّش مترادفین، بل الصبّ أیضاً، کما تری التصریح بذلک فی «الصحاح» و «القاموس» قالا: «إنّ النَضح هو الرّش» کما تری استعمال الصّب أو النضح فی بول الصبی، مع أنّ بعض الأصحاب عبّر فیه بالرشّ، بل فی «حواشی القواعد» من تفسیر الرّش: «بأن یستوعب جمیع أجزاء المحلّ بالماء و لا یخرج بخلاف الغَسل حیث ما یکون الماء قد خرج»، فلعلّ ذکر الصبّ لدفع توهم لزوم الغَسل، لا لجعله مقابلاً للنضح و الرّش حتّی یقع التنافی بینها کما توهم، فبناءً علی تفسیر «حواشی القواعد» یصبح الرش مثل الصبّ، و هذا دلیل علی وحدتهما.

و عن الثانی: علی فرض قبول التفاوت بین الصبّ و بین عدیله، فنقول بامکان أن یکون الصبّ المطلق و الأوسع بالنسبة الی الآخرین، و یعدّ أبلغ فی الماء منهما، و تکون النسبة بینهما حینئذٍ هو العموم بالمطلق و المقیّد، و لا یلزم ذلک الذهاب الی التقیید حتماً، کما نذهب الی ذلک فی سائر الموادر، لأنّه فرق بین وروده فی المستحبّاب و بین وروده الواجبات، إذ

ص:141

فی الأول لا تنافی بین ابقاء المطلق علی اطلاقه و بین المقیّد بقیده، لامکان ارجاع الأول الی المحبوبیة و فی الثانیة علی التأکید فیه، بأن یُحمل الأمران فی المطلق و المقید علی مراتب الفضیلة، کما یقال کذلک فی (اعتق رقبة) و (اعتق رقبة مؤمنة) هذا اذا کان الحکم ندبیاً، بخلاف ما لو کان التکلیف الزامیاً، حیث أنه اذا تعیّن الاتیان بالمقیّد فی مقام الخروج عن عهدة التکلیف الوجوبی، فلا معنی من القول بالاجتزاء بأیّ فردٍ من أفراد المطلق، کما یقضیه أصالة الاطلاق.

ثم أورد علی خبر الحلبی ثالثاً: بأنه لا یدلّ علی استحباب ذلک فی مطلق الکافر، إذ لیس فیه الّا هذا الخبر، و هو مختصٌ بالمجوسی، مع أنّ المشهور یقولون باستحباب الرش فی مطلق الکافر.

أجیب عنه: بالغاء الخصوصیة عن المجوسی، حیث لا وجه فیه الّا لأجل کفره، لعدم خصوصیة فیه، خصوصاً مع ملاحظة الاجماع السابق بلا خلافٍ فی رجحان الرش فی الأنواع الثلاثة، و کون الحکم ممّا یتسامح فیه.

تنبیه: المراد من الیابس فی المتن و غیره، هو ما یشمل مثل النَدی الذی لا تنتقل منه رطوبة بملاقاته، لعدم حصول وصف التنجس به، کما صرح به

العلّامة الطباطبائی فی منظومته، للأصل، و صدق الجفاف علیه، و مفهوم جملة: «إن ْ أصاب ثوبک من الکلب رطوبة» فی صحیحة البقباق، بأنّه إذا لم تصب الرطوبة فلا، کما یظهر ذلک من التأمل فی سائر الأخبار المشتملة علی کلمة (الرطب) یحکم بالغسل، من حیث انتقاله الی ملاقیه بخلاف الیابس فلا وجه لاحتمال حصول النجاسة فی فرض الاصابة بالندی تمسکاً

ص:142

و فی البدن یُغسل رطباً، و قیل: یُمسح یابساً، و لم یثبت(1)

باطلاق بعض الأدلة المترتبه ذلک علی الملاقاة، بعد الاقتصار علیه فی الخروج عن المتیقن، و بمفهوم تعلیق النضح و نحوه، المحمول علی الاستحباب، المستفاد منه عدم التنجیس علی الیابس الممنوع صدقه علی المفروض، و هما کما تری، کما فی «الجواهر».

هذا تمام الکلام فی ما إذا لاقی الثلاثه الثوب بالثلاثة مع الرطوبة و الیبوسة.

(1) و الکلام فی البدن بالنسبة الی الملاقاة مع الرطب فی الموارد الثلاثه، أو نفس البدن من وجوب الغَسل، هو الکلام فی الثوب، و أدلته

ما عرفت.

و أمّا الملاقاة یابساً: ففیها قولان أو ثلاثه أقوال فی بعض الأفراد

کما سنذکره:

1. قولٌ بوجوب المسح بالتراب، کما هو ظاهرٌ بل صریحُ جماعةٍ کما فی «الوسیلة» للثانی، و «النهایة» و «المقنعة» للأوّل، بل فی «الوسیلة» و «النهایة» زیادة: «الثعلب و الأرنب و الفارة و الوَزَغة»، کما فی «المقنعة» زیادة: «الفارة و الوَزَغة»، بل عن «المبسوط» استحباب ذلک من کلّ نجاسةٍ یابسةٍ.

2. قولٌ بالاستحباب و قد تنزّل عبارت الأصحاب علی الاستحباب، و

ص:143

لا بأس به للتسامح فی أدلة السنن بواسطة فتوی هولاء، لأنهم لا یفتون بما لم یعثروا علیه. حکم ملاقاة البدن مع النجس

3. و القول الثالث هو أن لا یکون واجباً و ندباً لعدم وجود دلیلٍ یثبت ذلک الّا فی الکافر، و هو کما ورد فی خبر القلانسی، قال: «قلت لأبی عبدالله علیه السلام ألقی الذمی فَیصافحنی؟ قال: إمسحها بالتراب و بالحائط. قلت: فالناصب؟ قال: اغسلها». (1)

هذا بعد إلغاء خصوصیة الذمّی کالغاء خصوصیة المصافحة، بل لابأس بالتعدّی منه الی أخویه من الکلب و الخنزیر إن ْ لم نقل الی سائر النجاسات و ظاهر هذا الحدیث الاکتفاء بالغَسل فی الناصب دون المسح، و لکن جاء فی خبر أبی بصیر عن أحدهما علیه السلام : «فی مصافحه المسلم الیهودی و النصرانی؟ قال: من وراء الثوب، فإن صافحک بیده فاغسل یدک». (2)

و فی «الجواهر»: «إنّ الغسل فی هذا الخبر لا ینافی استحباب المسح المذکور فی خبر القلانسی، مع أنّه أیضاً یکون مثل الناصب فی کفایة الغسل بصورة الاطلاق مع الرطوبة و الیبوسة، لأن الغَسل یکفی عن المسح، سواءٌ کان مع الرطب أم لا، الّا أن یکون أمراً تعبّدیاً فالأمر سهل».

أقول: إنّ صاحب «الجواهر» أشار الی الأنسب علی المصنّف أن یذکر استحباب نَضح الثوب و البدن، و هو من الأمور التی سنذکرها و نعم ما قال، لأن المقام هو موضعها من جهة مناسبة الحکم مع الموضوعات هنا، و هی عبارة عن استحباب نضح الثوب و البدن المظنون أو المشکوک


1- وسائل الشیعة: الباب 14 من أبواب النجاسات، الحدیث 4 _ 5.
2- وسائل الشیعة: الباب 14 من أبواب النجاسات، الحدیث 4 _ 5.

ص:144

اصابتهما بالبول أو المنّی (أو الدم لخصوص الثوب) لأجل النصوص الواردة فی ذلک، بل قد یتعدّی منها الی کلّ نجاسةٍ کذلک بالنسبة الی الثوب و البدن.

لا یقال: إنّ ذلک لا یلائم مع ضوابط الاحتیاط، إذ لابدّ فیه من القیام بمستلزمات النجاسة المتحققة من الغَسل و العصر و نحوهما، حتّی یحصل له الیقین بطهارته من النجاسة لو کانت فی الواقع قد أصابته.

لأنا نقول: بامکان رفعها عن طریق النضح إذا کانت موهومة، حتّی یکون للنجاسة حکمین: الغَسل فی صورة العِلم و النضح للوهم، أو القول باستحباب النضح تعبّداً لازالة النجاسة مع فرضها، حتّی یکون من الاحتیاط، أو القول بکون المراد و المطلوب من الرّش و النضح الدفع و زوال النفرة الحاصلة من ذلک الوهم الذی قد یترتب علی مراعاته الوسواس المأمور بالتجنّب عنه.

کما أنه کان ینبغی للمصنّف أن یذکر استحباب النضح أیضاً بالنسبة للثوب من الفأرة الرطبة التی لم یری أثرها علیه، و الّا فیستحبّ غَسله لانضحه.

و أیضاً کان المفروض أن یشیر الی أنه یستحبّ ذلک من المذی و من أبوال الدّواب و البغال و الحمیر مع الشک فی الاصابة، و الّا فیستحب غسله،

و من بول البعیر و الشاة، و من العرق مع الجنابة، و ممّا یجده ذو الجرح من الصفرة فی مقعده بعد الاستنجاء، و غیر ذلک من الأمور المذکورة فی النصوص، و بعض کلمات الأصحاب، المعلوم عدم وجوبها و إن ْ کانت وارده بلفظ الأمر کما هو واضحٌ لا یحتاج الی مزید بیان.

ص:145

و اذا اخلّ المصلّی بازالة النجاسات عن ثوبه او بدنه اعاد فی الوقت و خارجه(1) حکم الاخلال بازالة النجاسة

(1) إنّ الاخلال بالازالة للمصلّی یتصوّر علی وجوه:

تارة: إذا کان عالماً بالنجاسة فی الثوب أو البدن، أو کل مایشترط طهارته فی الصلاة و ما فی حکمها، فإنّه لا اشکال فی بطلان الصلاة، و لزوم اعادتها فی الوقت و خارجه، مضافاً الی قیام الاجماع بکلا قسمیة علی اشتراط صحة الصلاة بذلک، کما دلّت نصوص مستفیضة بل متواتره علی ذلک، فلا باس بالإشارة الی بعضها:

منها: صحیحة محمّد بن مسلم، عن الصادق علیه السلام ، قال فی حدیثٍ: «إن رأیت المنیّ قبل أو بعد ما تدخل فی الصّلاة فی ثوبک فعلیک اعادة الصلاة، و إن أنت نظرت ثوبک فلم تصبه ثُمّ صلّیت فیه، ثمّ رأیته بعدُ فلا اعادة علیک، و کذلک البول». (1)

و هذا الخبر دلالته علی لزوم الاعادة مع حصول العلم بالنجاسة واضحة، سواءٌ کان قبل الصلاة أو فیها.

و منها: خبر حسن عبدالله بن سنان، قال سألت أبا عبدالله علیه السلام عن رجل أصاب ثوبه جنابة أو دم؟ قال: إن ْ کان علم أنّه أصاب ثوبه جنابة قبل أن یُصلّی ثُمّ صلّی فیه فلم یغسله، فعلیه أن یعید ما صلّی. و إن کان یری أنّه


1- وسائل الشیعة: الباب 41 من أبواب النجاسات، الحدیث 2.

ص:146

أصابه شیءٌ فنظره فلم یر شیئاً أجزأه أن ینضَحه بالماء». (1)

و منها: صحیحة اسماعیل الجعفی، عن أبی جعفر علیه السلام ، قال: «فی الدم یکون فی الثوب إن ْ کان أقلّ من قدر الدرهم فلا یعید الصلاة، و إن کان أکثر من قدر الدرهم و کان رآه فلم یغسل حتّی صلّی فلیعد صلاته، و إن لم یکن رآه حتّی صلّی فلا یعید الصلاة». (2)

هذا کلّه فی صورة العلم بالنجاسة و حکمها.

و أخری: ما لو صلّی فی النجس عمداً مع الجهل بحکمه من التکلیفی أو الوضعی، أو هما معاً، فحکم المشهور هو البطلان و وجوب الاعادة فی الوقت و القضاء فی خارجه، لاطلاق الأدلة المتقدمة من الاجماع و النصوص الشاملة للعالم بالحکم و الجاهل به قصوراً أو تقصیراً، و لعلّ وجهه هو ظهور أنّ المشروط ینعدم بانعدام شرطه، فالصلاة باطلة حینئذٍ لفقد شرطها، فیجب اعادتها ثانیاً فی الوقت لعدم حصول الامتثال بالتکلیف، و عدم فراغ ذمته، و فی خارج الوقت یصدق فوت الفریضة علیه، فیشمله دلیل «مَن فاتته فریضة فی الوقت فلیقضها کما فاتته».

بل ربما یقال: إنّ شمول أدلة الشرطیة المقتضیة للبطلان لمثل المورد الذی قد وقع عن جهلٍ بالحکم و لو لنسیانه یعدّ أولی، لأن وقوع الصلاة عن العالم بالحکم و الشرطیة الموجبة للبطلان، مع فرض کون المصلّی متدیّناً بالشریعة أمرٌ بعید، بل هو حمل علی ما هو بیانٌ للبدیهیّات، و صدور مثله خارج عن شئون الشرع.


1- وسائل الشیعة: الباب 40 من أبواب النجاسات، الحدیث 3.
2- وسائل الشیعة: الباب 40 من أبواب النجاسات، الحدیث 4.

ص:147

نعم، خالفنا فی ذلک المقدس الأردبیلی، و تبعه جماعة من الفقهاء و منهم صاحب «المدارک» تلمیذه، و حاصل کلامه علی المحکیّ فی «مصباح الهدی» (1) هو الاشکال فی جواز تکلیف الجاهل و مؤاخذته علی ما جهله، فیندرج تحت تکلیف الغافل و التکلیف بما لا یطاق، فالصلاة مع الطهارة لیست مطلوبة منه شرعاً، مضافاً الی أنّ الماتیّ به مع النجاسة مأمور بأداءه شرعاً بشهادة استحقاق العقاب علی ترک ما بیده و اعتقاده بالصلاة اختیاراً لأن استحقاق العقاب لا یکون إلّا عند مخالفة الأمر، و إذا لم یکن المأتی به مع النجاسة مأموراً به، لا یُعقل أن یستحقّ فی ترکه العقاب، و إذا کان مأموراً به یکون الاتیان به مجزیاً، لأن اتیان المأمور به علی وجهه یقتضی الاجزاء، لأن التطبیق قهری و الإجزاء عقلی. مضافاً الی دعوی اختصاص شرطیة الطهارة للعالم، لأنّ شرط کلّ تکلیفٍ هو العلم به.

هذا کلّه مع اضافة ما انفرد به صاحب «المدارک» من دعوی اختصاص الاعادة _ الواردة فی النصوص _ بالفعل فی الوقت، و لا دلیل فی المقام علی وجوب القضاء، لأنه یکون بأمرٍ جدید، و هو غیر ثابت.

هذا کلّه ما استدلّوا به علی عدم وجوب الاعادة و القضاء کما أشار الیه صاحب «الجواهر» و غیره أیضاً.

أقول: کلّها مخدوشة لا یمکن الاعتماد علیها لاثبات ذلک:

فأمّا الأوّل: لوضوح أنّ القبیح فی تکلیف الجاهل إنّما یتحقّق اذا کان وجود التکلیف مشروطاً بوجود الجهل، بحیث کان التکلیف مرتفعاً


1- مصباح الهدی، ج 2/65.

ص:148

بارتفاع الجهل، لا تکلیفه بصورة المطلق، لأنه من الواضح أنّ الغرض من التکلیف لیس إلّا انبعاث المکلف عنه بعد علمه به، و صیرورته موجباً لاحداث الدّاعی فی المکلف بالامتثال للفعل أو الترک، و الّا لولا ذلک بحیث کان التکلیف مختصاً بالعالمین به، للزم منه عدم صحة تکلیف الکفّار بالفروع، إذ أکثرهم غیر عالمٍ بالأحکام، بل کثیر منهم کذلک، و هو مردودٌ قطعاً.

هذا فضلاً عن أنّه لا فرق فی جواز تکلیف الجاهل بین الملتفت و الغافل المحض، نعم بینهما فرقٌ من جهة استحقاق العقاب فی الأول دون الثانی، ولکن لا ملازمة بین عدم استحقاق العقاب و بین نفی وجوب الاعادة و القضاء فی خارجه، حیث أنّ الغافل لو التفت الی الوجوب الواقعی، وجب علیه الامتثال باعادته فی الوقت و قضائه فی خارجه.

و أمّا عن الثانی: فبمنع کون المأتی به مع النجاسة هو المأمور به، و کذا نمنع استحقاق العقاب علی ترک ما لا طهارة له، بل العقوبة مترتبة علی ترک الواقع مع الالتفات الی وجوبه، مضافاً الی أنّ الإجزاء فی المأتی به الناقص عن المأمور به التام من دون قیام دلیلٍ علیه أوّل الکلام.

و أمّا عن الثالث: فبأنّ اختصاص شرطیة الطهارة بالعالِمین دون الجاهلین، و إن کان بمکانٍ من الامکان و لیس بمستحیلٍ، إلّا أنّ ظهور أدلة الشرطیة هو الاشتراک بین الطائفتین، و هو یحکم کونها شرطاً حتی مع الجهل، الّا أن یقوم دلیلٌ علی خلافه کما فی الجهر و الاخفات و القصر

ص:149

فإن لم یعلم ثُمّ علم بعد الصلاة، لم یجب علیه الاعادة(1)

فی السفر، و حیث هنا لم یقم علیه دلیلٌ فیحکم بوجوب الاعادة.

و أمّا عن الرابع: من دعوی اختصاص الاعادة _ التی وردت فی النصوص _ فی الوقت دون خارجه، لما ثبت أنّ اصطلاح (الاعادة فی الوقت) فی مقابل (القضاء فی خارجه) اصطلاحٌ أبدعه الفقهاء و لیس عنواناً شرعیاً مذکوراً فی الاخبار، لأن ما ورد فی النصوص لیس الّا أنّ فعل الشیء ثانیاً یطلق علیه الاعادة، سواءٌ کان فی الوقت أو فی خارجه، و أمّا کون القضاء بأمرٍ جدید، فهو مضافاً الی أنّه مورد بحث بینهم و لیس مورد اتفاق جمیعهم، و علی فرض التسلیم نقول إذا أثبتنا بقاء الأمر علیه و عدم تحقّق الامتثال بما أتی به، فمقتضی ذلک الأمر هو لزوم اعادته فی الوقت، فمع فوته یثبتُ علیه القضاء بدلیل «مَن فاتته فریضةٌ فلیقضها کما فاتته» و بذلک ثیبت المطلوب. و علیه فالأقوی هو وجوب الاعادة فی الوقت و القضاء فی خارجه، علی مَن صلّی عامداً فی النجس مع الجهل بالحکم التکلیفی _ أعنی عدم جواز الصلاة فی النجس _ أو الوضعی أعنی نجاسة الشیء الفلانی، و کون وجودها مانعاً أو عدمها شرطاً، أو الجهل بکلا الحکمین معاً.

(1) الثانی من الوجوه، هو ما لو لم یعلم بالنجاسة، أی کان الجهل بالموضوع و هو نجاسة ثوبه أو بدنه حال الصلاة و قبلها، ثم علم بعد

ص:150

الصلاة بسبق النجاسة علی الصلاة، فهل تجب علیه الاعادة فی الوقت و القضاء فی خارجه أم لا؟ فیه أقوال:

1. قول: بالعدم مطلقاً فی الوقت و خارجه، و هو الأشهر أو المشهور علی اختلاف النقل.

2. و قولٌ: بوجوب الاعادة مطلقاً فی الوقت و خارجه، و هذا هو المتوهّم من کلام العلامة فی «المنتهی» و غیره من وجود خلافٍ فیه کظاهر «الخلاف» بل صریحه، بل احتمله صاحب «کشف اللّثام» من عبارة «المقنعة» فی بعض الأحوال. ولکن فی «الجواهر» و غیره أنه لم یوجد قائله و لم یثبت، کما لم نتحقّق ذلک لاحتمال وجوب الاعادة وجهاً، فضلاً عن القول به، مضافاً الی حکایة نقل الاجماع علی عدم الوجوب فی صورة خارج الوقت، لو لم نقل کونه محصلاً، کما عن غیر واحدٍ من الأصحاب التصریح به کصاحب «المدارک» و «الذخیرة» و «الغنیة» و «المفاتیح» و «اللّوامع» و «المهذّب»، بل حُکی عن «السرائر» و «التنقیح» و «کشف الرموز» نفی الخلاف عنه.

3. و قول: بالتفصیل بین الاعادة فی الوقت دون خارجه، و هو منسوبٌ الی جماعة من القدماء و المتأخرین، کما هو خیرة «النهایة» فی باب المیاه، و «الغنیة» و «النافع» و «القواعد»، لظاهر «جامع المقاصد» و «الروض» و «المسالک» و «المبسوط» و «المهذّب» و «نهایة الأحکام» و «المختلف»، بل فی ظاهر «الغنیه» الاجماع علیه.

4. و قول: بالتفصیل بین من شک و لم یتفحّص، و بین غیره فتجب

ص:151

علیه الاعادة و لو فی خارج الوقت فی الاوّل، و عدم وجوبها فی الثانی و لو فی الوقت.

5. و قول: بالتفصیل بین کون النجاسة من غیر المأکول اللّحم کفضلته و دمه فتجب الاعادة، و بین غیره فلا. هذه هی الأقوال فی المسالة.

أقول: یقتضی المقام أن نتعرّض لدلیل کلّ قولٍ حتّی یتّضح الحقّ فی المقام فنقول و من الله الاستعانة: استدلّ المشهور علی عدم وجوب الاعادة بالأخبار المستفیضة، الدالة علیها بالصراحة فی الدلالة و الصحة فی بعضها بالسّند، و هی العمدة فی المسألة.

قد یقال: إنّ أدلة شرطیة ازالة النجاسة عن الصلاة أو ما نعیتها لها قاصرة عن شمول صورة الجهل بالموضوع، نظراً الی أنّ کلّ الادلة أو جلَّها وردت بصورة الأمر بالغَسل أو النهی عن الصلاة مع النجس، و من المعلوم أنّ التکلیف لا یتنجّز بالفعل أو الترک علی الجاهل بالموضوع، فالشرطیّة أو المانعیة المنتزعتان عنها تختصّان بمن تنجزّ فی حقّه التکلیف، و هو العالم بالموضوع، نظیر شرطیة إباحة المکان المنتزعة من النهی عن الغصب.

و الجواب: هذا التوهم ضعیف هنا، و إن کان الأمر کذلک فی مثل شرطیّته اباحة المکان للمصلّی، لأجل الفرق الواضع بین ذکر الشرطیة بصورة الأمر النفسی و بین ذکرها بصورة الأمر الغیری، حیث إنّ ذکر الشرطیة بصورة الأمر النفسی کما فی الغصب لا یمکن أن یتوجّه الّا لمن تنجّز فی حقّه التکلیف، و هو لیس الّا العالم بالموضوع، و هذا بخلاف ما لو لم یکن بصورة الأمر المولوی النفسی، بل کان بصورة الأمر الخبری، أو

ص:152

کان ذکر الشرط و الاشتراط بصورة الجملة الخبریّة مثلاً، بأن یقول: «الطهارة من الحَدث و الخَبث شرطٌ فی الصلاة» أو علی نحو الأمر الغیری و هو مثل: «اغسل ثوبک للصلاة» أو مثل قوله تعالی: «إِذا قُمْتُمْ إِلَی الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَکُمْ وَ أَیْدِیَکُمْ إِلَی الْمَرافِقِ» لوضوح أنّ الأوامر الغیریة المتعلقه بالأجزاء و الشرائط و النواهی المتعلقة بالموانع مسوقه لبیان الشرطیة و الجزئیة و المانعیة، و مسبّبة عن اعتبار تلک الشرائط و الاجزاء فی الطبیعة، و علیه فقیاس تلک الأوامر بالأوامر النفسیة قیاسٌ مع الفارق.

أما الأخبار: و هی عبارة عن مجموعة من الروایات المستفیضة أو المتواترة الواردة فی عدم لزوم اعادة الصلاة فی الوقت و خارجه، إذا کان المصلّی جاهلاً قبل الصلاة و حالها بالنجاسة، و اصابتها بالثوب و البدن:

منها: صحیح عبدالرحمن بن أبی عبدالله، قال: «سألت أبا عبدالله علیه السلام عن الرجل یصلّی و فی ثوبه عذرة من انسانٍ أو سنّور أو کلب أیعید صلاته؟ فقال: إن ْ کان لم یعلم فلا یعید» (1) فإنّه باطلاقه یشمل کلا الموردین، أی علم بذلک فی الوقت أو فی خارجه، فإن قلنا بعدم وجوب الاعادة فی الوقت، فان عدمها فی خارجه یکون بالأولویة القطعیة، لأن القضاء فرع للفوت، فإذا لم یصدق الفوت فلا وجه لوجوب القضاء.

و منها: خبر أبی بصیر، عن أبی عبدالله علیه السلام ، قال: «و سألته عن رجلٍ یصلّی و فی ثوبه جنابة أو دم حتّی فرع من صلاته ثُمّ علم؟ قال: مضت صلاته و لا شیء علیه». (2)


1- وسائل الشیعة: الباب 40 من أبواب النجاسات، الحدیث 5.
2- وسائل الشیعة: الباب 40 من أبواب النجاسات، الحدیث 2.

ص:153

و منها: خبر ابن سنان، قال: «سألت أبا عبدالله علیه السلام عن رجل أصاب ثوبه جنابة أو دم؟ قال: إن کان قد علم أنه أصاب ثوبه جنابة أو دم قبل أن یصلّی ثُمّ صلّی فیه و لم یغسله، فعلیه أن یعید ما صلّی، و إن کان لم یعلم فلیس علیه اعادة». (1)

و منها: صحیح الجُعفی، عن أبی جعفر علیه السلام ، قال: «فی الدّم یکون فی الثوب إن کان أقلّ من قدر الدرهم، فلا یعید الصلاة، و إن کان أکثر من قدر الدرهم، و کان رآه فلم یغسله حتّی صلّی فلیعد صلاته، و إن لم یکن رآه حتّی صلّی فلا یعید صلاته». (2)

و منها: صحیح محمّد بن مسلم، عن أبی عبدالله علیه السلام ، قال: «إن رأیت المنی قبل أو بعد ما تدخل فی الصلاة فعلیک اعادة الصلاة، و إن أنت نظرت فی ثوبک فلم تُصبه، ثمّ صلیت فیه ثم رأیته بعد فلا اعادة علیک، و کذلک البول». (3)

و منها: صحیح زرارة، عن أبی جعفر علیه السلام ، قال: «قلت له: أصاب ثوبی دم رعاف...

قلت: و إن ْ لم أکن رأیتُ موضعه، و علمت أنّه أصابه فطلبته، فلم أقدر علیه فلما صلّیت وجدته؟ قال: تغسله و تعید الصلاة.

قلت: فإن ظننت أنه قد أصابه و لم أتیقن ذلک فنظرت فلم أرفیه شیئاً ثم


1- ).. وسائل الشیعة: الباب 40 من أبواب النجاسات، الحدیث 3.
2- وسائل الشیعة: الباب 20 من أبواب النجاسات، الحدیث 2.
3- وسائل الشیعة: الباب 41 من أبواب النجاسات، الحدیث 2.

ص:154

صلّیت فرأیت فیه؟ قال: تغسله و لا تعید الصلاة.

قلت: لِمَ ذلک؟ قال: لأنّک کنت علی یقین من طهارتک ثم شککت، فلیس ینبغی لک أن تنقض الیقین بالشک أبداً، الحدیث». (1)

و منها: خبر أبی بصیر، عن أبی عبدالله علیه السلام ، قال: «إن أصاب ثوب الرجل الدم فصلّی فیه و هو لا یعلم، فلا اعادة علیه». (2)

و منها: صحیح علی بن جعفر، فی «قرب الاسناد» عن أخیه موسی بن جعفر علیه السلام ، قال: «سألته عن الرجل احتجم فأصاب ثوبه دم فلم یعلم به حتّی إذا کان من الغد کیف یصنع؟ قال: إن کان رآه فلم یغسله فلیقض جمیع مافاته علی قدر ما یصلّی، و لا ینقص منه شیء. و إن ْ کان رآه و قد صلّی فلیعتدّ بتلک الصلاة ثم لیغسله». (3)

و منها: صحیح عیص بن القاسم، قال: «سألت أبا عبدالله علیه السلام عن رجل صلّی فی ثوب أیّاماً ثم إنّ صاحب الثوب أخبره أنه لا یصلّی فیه. قال: لا یعید شیئاً من صلاته» (4) حیث لا یکون سبب عدم الاعادة الّا عدم علمه بنجاسته، فیکون هذا أیضاً دلیلاً علی المطلوب، و مثله أیضاً صحیح محمد بن مسلم عن أحدهما علیه السلام ، قال: «سألته عن الرجل یری فی ثوب أخیه دماً و هو یصلّی؟ قال: لا یؤذنه حتی ینصرف». (5)

أقول: هذه هی مجموع الأخبار الدالة علی عدم وجوب الاعادة لمن


1- وسائل الشیعة: الباب 41 من أبواب النجاسات، الحدیث 1.
2- وسائل الشیعة: الباب 40 الحدیث من أبواب النجاسات، 7 _ 10 _ 1.
3- وسائل الشیعة: الباب 40 الحدیث من أبواب النجاسات، 7 _ 10 _ 1.
4- وسائل الشیعة: الباب 40 الحدیث من أبواب النجاسات، 7 _ 10 _ 1.
5- وسائل الشیعة: الباب 40 من أبواب النجاسات، الحدیث 6 .

ص:155

کان جاهلاً بالموضوع حال الصلاة، الدالة علی أنّ الطهارة شرط ذکریٌ عِلمی لا واقعی فی الطهارة الخبثیّة.

أمّا القول الثالث: و هو التفصیل بین صورة العلم بالنجاسة فی الوقت بالاعادة و عدمها فی خارج الوقت، کما هو خیرة من عرفت قائله من الفقهاء، و اعتمادهم فی ذلک علی الاجماع کما فی ظاهر «الغنیة»، و علی أصالة الاشتعال، و انتفاء المشروط بانتفاء شرطه، و للجمع بین الأخبار السابقه و بین صحیح وهب بن عبد ربّه، عن الصادق علیه السلام : «فی الجنابة تصیب الثوب و لا یعلم بها صاحبه فیصلّی فیه ثم یعلم بعدُ؟ قال: یعیدُ اذا لم یکن علم» (1) بحمله علی کون علمه فی الوقت لأنه أولی بالاعادة من خارج الوقت، و حمل الأخبار الثانیة علی خارج الوقت، فإنه یکون جمعاً عرفیاً بحمل کلّ واحدٍ علی القدر المتیقن لکونه نصّاً فیه و ظاهراً فی غیره، و حمل الظاهر علی النص و رفع الید عن الظاهر بالنص، إذ من المعلوم أنه لو حکم بوجوب الاعادة کان فی الوقت نصّاً و فی خارجه ظاهراً، کما أنّ الحکم بالعدم فی خارج الوقت یعدّ نصاً و فی الوقت ظاهراً و هو جمعٌ عرفی کما أشار الیه الشیخ فی «المکاسب» فی باب (ثمن العذرة سحتٌ تسعت و لا بأس ببیع العذرة) بالمأکول و غیره، و علیه فالاشکال بأنّه لیس بجمع عرفی کما عن المحقّق الآملی لیس علی ما ینبغی.

نعم، یرد فیه غیر ذلک من اشکالات عدیدة کما سنشیر الیه إن شاء الله.

و مثله فی المعارضة خبر أبی بصیر، عن أبی عبدالله علیه السلام ، قال: «سألته


1- وسائل الشیعة: الباب 40 من أبواب النجاسات، الحدیث 8

ص:156

عن رجل صلّی و فی ثوبه بولٌ أو جنابة؟ فقال: علم به أو لم یعلم فعلیه اعادة الصلاة اذا علم» (1) حیث یدلّ بوجوب الاعادة بعد العلم بالنجاسة، سواءٌ کان فی الوقت أو فی خارجه، فیحمل علی الأوّل لکونه القدر المتیقن فیه بالتقریر الذی عرفته فی سابقه:

أقول: یرد علی الاستدلال بهذه الأخبار بأمورٍ:

أوّلاً: إنّ حمل الأخبار النافیة علی الاعادة فی خارج الوقت ممّا لا یمکن فی بعض تلک الاخبار، و هو مثل خبر أبی بصیر فقد عبّر فیه بقوله: «حتّی فرغ من صلاته ثُمّ علم» حیث أنّ ظاهره کون العلم بالنجاسة حاصلاً بعد الفراغ من الصلاة بلا مهلة، فکیف یصحّ حمله علی ما اذا کان العلم بعد الخروج؟! و احتمال کون الفراغ فی آخر الوقت حتّی یکون علمه بعد الوقت، بعیدٌ غایته لندرته، فلا یحمل الاطلاق علی مثله.

و کذا صحیحة ابن مسلم، حیث قال: «لا یؤذنه حتّی ینصرف» حیث یدلّ علی أنّ وقوع الانصراف فی الوقت و العلم بعده لا یوجبان الاعادة، و احتمال کون الانصراف بعد خروج الوقت، ممّا لا یقبله الذوق السلیم.

بل و فی مثل صحیحة زرارة حیث علّل وجه عدم الاعادة بالاستصحاب، فیلزم فی قباله ثبوت الاعادة فیما لا یجری فیه الاستصحاب و لو لم یخرج الوقت، إذ لو کان لخروج الوقت مدخلیةٌ فی عدم وجوب الاعادة لم یبق للتعلیل بالاستصحاب مجالٌ. و هذا الاشکال غیر مختص بخصوص هذا الخبر بل یجری فی خبر أبی بصیر مع تلک الأخبار أیضاً.


1- وسائل الشیعة: الباب 40 من أبواب النجاسات، الحدیث 9.

ص:157

و ثانیاً: إنّ هذین الخبرین لا یقاومان الأخبار المتقدمة لکثرتها و أظهریتها فی الدلالة، و کونهما مورد إعراض الأصحاب الموجب لوهنهما.

و ثالثا: ما فی الخبرین من التشویش، أمّا صحیحة وهب فلأن المذکورة الشرطیة بقوله: «یعید اذا لم یکن علم» منطوق بأن تکون الاعادة مع عدم العلم، فلا یمکن أن یقصد بمفهومه _ و هو عدم الاعادة _ مع العلم، لأنّ وجوب الاعادة مع العلم أولی و أنسب، فکان ینبغی أن یُعبّر فی الجملة بإن الوصلیّة بأن یقال: «یعیدُ و إن لم یکن علم»، و لذلک احتمل صاحب «المدارک» وقوع الخطأ فی خبط الخبر و أن تکون العبارة: «لا یُعِد اذا لم یکن علم» فتوهّم الراوی و أسقط حرف النهی.

و أمّا فی خبر أبی بصیر فیحتمل أن یکون قوله علیه السلام : «علم به أو لم یعلم» لتشقیق الموضوع فی الحکم، بأن یکون قوله: «فعلیه الاعادة اذا علم» بیان أحد الشقین بالمنطوق، و اکتفی فی بیان حکم الشق الآخر بالمفهوم، لأن المفهوم عبارة عن عدم الاعادة علیه إذا لم یعلم، لقوله: «فعلیه الاعادة إذا علم».

و رابعاً: امکان الجمع بین الخبرین مع تلک الأخبار من جهة الهیئة، بحمل الأمر هنا علی الاستحباب فی الاعادة فی الوقت و خارجه، و إن کان الأوّل آکد من الثانی، مضافاً الی امکان القول بسقوط الخبرین عن الحجّیة بواسطة إعراض المشهور عنهما.

و علیه فالعمل علی طبق الأخبار النافیه متعیّنٌ و إن کان رعایة الاحتیاط فیما اذا التفت الی النجاسة فی الوقت بالاعادة حسناً، کما لا یخفی.

و أمّا القول الثالث: و هو التفصیل بین من شک و اجتهد قبل الصلاة

ص:158

فی البحث عن طهارة ثوبه، و بین غیره، فلا یعید فی الأول دون الثانی. و هذا هو الذی احتمله الشهید فی «الذکری»، بل ربما مال الیه فی «الدروس»، کما أنّه قوّاه صاحب «الحدائق»، بل ادّعی ظهور عبارة «المقنعة» فی ذلک. و هو ظاهر اقرار الشیخ و استدلاله لها فی «التهذیب» قال فیها بعد أن ذکر وجوب الاعادة علی من ظنّ أنه علی طهارةٍ ثم انکشف فساد ظنّه ما نصّه: «و کذلک مَن صَلّی فی الثوب و ظَنّ أنه طاهر ثُم عرف بعد ذلک أنه کان نجساً ففرط فی صلاته من غیر تأمّلٍ له اعادة الصلاة»:

أقول: و استدلوا لهذا القول بعدّة أخبارٍ بعضها صحیح:

منها: صحیح محمد بن مسلم، عن أبی عبدالله علیه السلام أنّه ذکر المنیّ و شدده و جعله أشدّ من البول، ثُم قال: إن رأیتَ المنیّ قبل أو بعده ما تدخل فی الصلاة، فعلیک اعادة الصلاة، و إن أنت نظرت فی ثوبک فلم تصبه ثُمّ صلّیت فیه ثُم رأیته بعدُ، فلا إعادة علیک، و کذلک البول» (1) حیث یدل علی اشتراط نفی الاعادة علی النظر و الاجتهاد و عدم الوجدان، فلو صلّی و لم یجتهد بعد حصول الشک فعلیه الاعادة، فدلالته علی المقصود یکون بالمفهوم.

و منها: خبر میمون الصیقل، عن أبی عبدالله علیه السلام ، قال: «قلت له: رجلٌ أصابته جنابة باللّیل فاغتسل فلما أصبح نظر فإذا فی ثوبه جنابة؟ فقال: الحمد لله الذی لم یَدَعْ شیئاً الّا و له حدٌّ: إن کان حین قام نظر فلم یَر شیئاً فلا اعادة علیه، و إن کان حین قام لم ینظر فعلیه الاعادة». (2)


1- وسائل الشیعة: الباب 41 من أبواب النجاسات، الحدیث 2.
2- وسائل الشیعة: الباب 41 من أبواب النجاسات، الحدیث 3.

ص:159

و منها: مرسل «الفقیه» و قد روی فی المنی: «أنّه إن کان الرجل حیثُ قام نظر و طلب فلم یجد شیئاً، فلا شیء علیه، فإن کان لم ینظر و لم یطلب، فعلیه أن یغسله و یعید صلاته». (1)

و منها: خبر میسّر، قال: «قلتُ لأبی عبدالله علیه السلام : آمر الجاریة فتغسل ثوبی من المنی فلا تبالغ فی غسله فأصلّی فیه فإذا هو یابس؟ قال: أعد صلاتک أمّا إنّک لو کنتَ غسلت أنت لم یکن علیک شیء». (2)

هذا ما یمکن أن یقید به اطلاق الأخبار النافیه للاعادة.

و لکن قد أجیب عنه اوّلا: بأنّ هذا التفصیل خرقٌ للاجماع کما استظهره صاحب کتاب «اللوامع» لعدم فرق الأصحاب فی عدم الاعادة للجاهل بالنجاسة بین من نظر و لم یجد و بین غیره، کما عرفت ذلک فی دلالة الأدلة السابقة.

و ثانیاً: إنّ ما فی مرسل «الفقیه» لیس إلّا نفس مضمون ما فی خبر صیقل و اشارة جمله: «ما روی الیه» فإذا أجیب عن خبر الصیقل بالردّ و الضعف، فإنّه یشمل ذلک لمرسلة «الفقیه» أیضاً، فیقال إنّ دلالة خبر صیقل علی التفصیل ممّا لا یقبل الانکار، إلّا أنه ضعیف سنداً، لأنّ میمون الصیقل لم یوثقه الرجالیون، و لم یقولوا فی حقّه عدلاً و لا فسقاً، فیکون الخبر سنداً ضعیف، و بذلک یخرج عن الاستدلال هو و خبر مرسل «الفقیه» لاحتمال اتحادهما کما لا یخفی الّا أنه قد منقولٌ بالمعنی.


1- وسائل الشیعة: الباب 41 من أبواب النجاسات، الحدیث 4.
2- وسائل الشیعة: الباب 18 من أبواب النجاسات، الحدیث 1.

ص:160

أقول: بقی هنا خبران آخران و هما صحیح ابن مسلم و خبر میسّر:

فأمّا الأوّل: فقد تمسکوا بمفهوم جملة «و إن أنتَ نظرت فی ثوبک فلم تُصبه ثُم صلّیت فیه ثُم رأیته بعدُ فلا اعادة علیک»: أنّه إن لم یکن کذلک فعلیه الاعادة.

فیجاب عنه: بعدم کون القید (و هو الفحص و النظر) قیداً احترازیاً حتی یستلزم المفهوم، بل هو قیدٌ القید وارد مورد الغالب، کقید فی حُجُورکم للربائب حیث لا مدخلیة للمحرمیّة فی کون الربیبه فی الحجر، و هکذا الأمر فی المقام، فالنظر و الفحص و لم یجد شیئاً لأجل وجود الغلبة فی ذلک، فلا مفهوم له حینئذٍ حتی یعارض مع ما سبق، مضافاً الی قصور الحدیث عن شمول جمیع ما یوجب الکشف، مثل ما لو قام معه شاهدٌ یورث الظن أو الشک بحصول النجاسة أم لم یقم، کما أنه قاصر لشموله لسائر النجاسات غیر المنی و البول فی ذلک، إلّا أن یلحق بهما بواسطة عدم وجود القول بالفصل بینهما و بین غیرهما من النجاسات، فیصر الحدیث فاقداً القدرة علی المقاومة و المعارضة، خصوصاً مع ملاحظة إعراض المشهور عن العمل بمضمونه، ممّا یوجب وهنه.

الخبر الثانی: و هو خبر میسّر حیث علّق حکم الاعادة علی عدم مبالغة الجاریة للتغسیل دون ما اذا کان هو مباشراً للغسل حیث لا یجب علیه الاعادة، بلا تفصیل بین کون الکشف فی الوقت أو فی خارجه،

یمکن أن یُجاب عنه أوّلاً: بأنّ الحکم بالاعادة مع فرض السائل مسامحة الجاریة فی الغسل أمر واضح، و یوجب الخروج عن المفروض، و لا سیما

ص:161

مع مقابلة الحکم بالاعادة مع الحکم بعدمها لو وقع الغَسل صحیحاً بفعل السائل نفسه، حیث قال: «أمّا إنّک لو کنتَ غَسَلت أنتَ...».

و ثانیا: إنّ مورد هذا الخبر خارجٌ عن مورد البحث، لأنّ مورده فیمن له استصحاب النجاسة لثوبه، فربما کان مقتضی هذا الأصل هو ترتیب أثر النجاسة علیه من الاعادة، مثل ما لو علم أو قامت الامارة علیها، فلیس العمل بما فی الخبر حینئذٍ مستلزماً المعارضة لما نحن فیه، من کون الجهل بالنجاسة غیر مسبوقٍ بأحد تلک الامور. نعم، قبول هذا الخبر مستلزمٌ لرفع الید عن قاعدة حمل فعل المسلم علی الصحة، أو الالتزام بکون أصالة الصحة فی هذا المورد کسائر الموارد تکون مراعی بعدم استکشاف الخلاف، خصوصاً فی مورد کان السائل معترفاً بمسامحة الجاریة فی الغَسل بقوله: «لا تُبالغ فی غَسله» و علیه، فالخبر أجنبیٌ عن ما نحن بصدده من عدم لزوم الاعادة فی الجهل غیر المسبوق بمثل هذه الامور.

و ثالثا: إنّ فی الأخبار النافیه ما تأبی عن الحمل لغیر مورد ترک الفحص کصحیحة زرارة الطویله التی جاء فیها: «قلت: فهل علیّ إن شککتُ فی أنّه أصابه شیءٌ أن أنظر فیه؟ قال: لا، ولکنک إنّما ترید أن تذهب الشک الذی وقع فی نفسک». (1)

فهی صریحة فی أنّ الفحص لیس الّا لاجل ذهاب الشک الذی یقع فی النفس، و تکون ثمرته منحصرة فیه، فلو کانت الثمرة غیره من عدم الاعادة عند الانکشاف، کان الأنسب و الأولی ذکر هذه الفائدة لئلا یقع فی کلفة


1- وسائل الشیعة: الباب 37 من أبواب النجاسات، الحدیث 1.

ص:162

الاعادة، فمع ظهور الصحیحة فی انحصار الفائدة فیه، یوجب التعارض بین الصحیحة و بین هذا الخبر، و یتعیّن حینئذٍ الأخذ بالصحیحة لمعاضدتها مع المشهور و مخالفة الخبر مع الشهرة، هذا علی مسلک القوم من بقاء الخبر علی حاله من الحجیّة. و أمّا علی حسب المختار _ کما علیه بعض المحقّقین، کالمحقق الآملی و صاحب «الجواهر» و غیرهما من سقوط الخبر عن الحجیّة لأجل إعراض الأصحاب عنه _ فحینئذٍ لا یمکن التعارض بینه و بین الأخبار الناهیة.

و رابعاً: امکان الجمع بینه و بین تلک الأخبار، بحمل ذلک علی استحباب الاعادة، خصوصاً إذا کان مع قیام الشاهد، ففرّط فی البحث و النظر، بل الأحوط لو لم یکن أقوی هو الحکم بالاعادة لخروج مساق تلک الاخبار النافیه عن مثله.

لا یقال: کیف یجمع وجوب الاعادة علیه بعد الانکشاف، مع قیام الاجماع و الدلیل علی عدم وجوب الفحص عند الدخول فی الصلاة فی الشبهات الموضوعیة؟

لانا نقول: إنّه لا منافاة بین جواز الاعتماد علی الأصل من الاستصحاب و غیره عند الدخول، مع وجوب الاعادة عند انکشاف الخلاف

کما لا یخفی.

و أمّا القول الرابع: و هو التفصیل بین کون النجاسة ممّا لا یُؤکل فیعید بعد کشف الخلاف، بخلاف ما لو کان من غیره.

و استدلّوا لذلک: بأنّ العفو المستفاد من الأخبار الحاکمة بعدم وجوب

ص:163

الاعادة بعد انکشاف الخلاف، کان بملاحظه مانعیة النجاسة من حیث هی نجاسة دون غیرها من الموانع، فلا ینافی تلک الأخبار بعدم الاعادة من تلک الحثیثیّة مع الحکم بالاعادة اذا کانت النجاسة ممّا لا یؤکل لحمه کفضلته و لحمه و دمه، و لذلک حکموا بالتفصیل.

و لکنه مندفعٌ: بأنّ الأخبار السابقه النافیة للاعادة مطلقة، بل ربما صریحة فی الدلالة علی عدم الاعادة، حتّی لمثل تلک النجاسات، و هو کما تری فی صحیحة عبدالرحمن المتقدمة الذی سَئل فیه: «عن الرّجل یُصلّی و فی ثوبه عذرة من انسانٍ أو سنّور أو کلبٍ أیعید صلاته؟ فقال علیه السلام : إن ْ لم یعلم فلا یعید» (1) فانّه نصٌ فی عدم الاعادة مع کون النجاسة المجهولة من حیوان لا یؤکل لحمه، بل من الکلب الذی هو نجس العین.

و الحاصل من جمیع ما ذکرنا: هو الحکم بعدم الاعادة فی الجاهل بالنجاسة مطلقاً، فی الوقت و فی خارجه، سواءٌ کان مع الفحص أو مع عدمه، و سواءٌ کان النجس ممّا لا یؤکل أو من غیره، إذا کان غیر ملتفتٍ الی النجاسة أصلاً، أو التفت الیها بعد الفراغ من الصلاة.فروع مدخلیة الوقت فی الاعادة وعدمها

فروع مدخلیة الوقت فی الاعادة و عدمها

ثم علی القول بالتفصیل بین صورة البحث و النظر بعدم الاعادة و عدمه بالاعادة، هل یختّص الحکم بالاعادة لخصوص الوقت، بأن یکون حکم


1- وسائل الشیعة: الباب 40 من أبواب النجاسات، الحدیث 5.

ص:164

الاعادة هنا اذا انکشف الخلاف فی الوقت فقط دون فی خارجه _ کما هو ظاهر کلام الشهید الأوّل _ أو لا بل الحکم یکون کذلک و لو انکشف فی خارج الوقت، کما هو محتملٌ أو ظاهر عبارة المفید کما مال الیه صاحب «الجواهر»، و قال هو أحوط، بل یشهد له خبر میمون الصّیقل، حیث قال بالاطلاق فی قوله: «و إن کان حین قام فإن ْ لم ینظر فعلیه الاعادة» (1) فیشمل ما لو کان الانکشاف بعد خروج الوقت.

أقول: هاهنا فروعٌ و شقوق من الجهل بالنجاسة لبعض خصوصیّتها، قد وقع فیها من البحث و النقض و الابرام بین الفقهاء فی لزوم الاعادة و عدمها عند کشف الخلاف، فلا بأس بذکرها بصورة الاجمال، کما أشار الیه صاحب «الجواهر» نقلاً عن صاحب «کشف اللّثام» من الحکم بفساد الصلاة و لزوم الاعادة فی جمیع الصور التی نشیر الیها، و إن ْ قال صاحب «الجواهر» بعد نقله عنه ذلک: «لا یخلو بعضه من نظر و تأمّل».

الفرع الاوّل: ما لو جهل بموضوع العفو لزعمه القلة، بتوهّم أنّ قلیله معفوّ فتبین الخلاف، و ظهر أنّه لیس ممّا یُعفی عنه لکثرته.

و الظاهر أنّه لا یلحق بما سبق، لأنّه کان عالماً بأصل النجاسة، و الجهل قد تعلق بخصوصیةٍ خاصة، فشمول تلک الأدلة لمثله لا یخلو عن اشکال، خصوصاً مع کون أصل الحکم بعدم الاعادة مخالف لقاعدة شرطیة الطهارة، فیجب الاقتصار علی القدر المتیقن، بلا فرق بین کون الانکشاف فی الوقت أو فی خارجه، خصوصاً اذا کان القضاء واجباً بالأمر الاوّل.


1- وسائل الشیعة: الباب 41 من أبواب النجاسة، الحدیث 3.

ص:165

الفرع الثانی: فیما اذا زعم أنّه ممّا یُعفی عن قلیله أو عن أصله أو عن محلّه، ثم تبین خلافه، فالظاهر فیما اذا کان عالماً بنجاسته، و کان الجهل مربوطاً ببعض حالاته هو عدم الالحاق کما عرفت وجهه، و أمّا اذا کان الجهل بالخصوصیات موجباً للجهل بأصل النجاسة، کأن لم یعلم أنه خرج و أصاب ممّا کان دمه طاهراً کدم الباطن و القلب، أو نجساً لأنه خرج عن فرج المرأة ثُمّ تبیّن أنّه کان من الثانی، فالظاهر أنّه ملحقٌ بما سبق، لأنّ جهله بذلک للجهل بالنجاسة.

اللّهم إلّا أن یوجب الاشکال فی کون الشک فی النجاسة مخرجاً عن حالة الجهل، الموجب لعدم الاعادة، لکنه مخالفٌ لما فی صحیحة زراره، حیث جاء فیها: «فإن ظننت أنّه أصاب ثوبی دم رعاف أو غیره و لم اتیقن ذلک، فنظرت فلم أرشیئا ثُم صلیت فرأیت؟ قال: تغسله و لا تعید» (1) حیث أنّه شامل لمورد الشک بالنجاسة و حکم بعدم الاعادة، فهکذا یکون

الحکم فی المقام.

الفرع الثالث: و ممّا ذکرنا فی الفرع الثانی یظهر حکم ما لو زعم العفو فی أصله کدم البقّ و البرغوث فصلی، و ظهر خلافه، بأنّه لا یجب علیه الاعادة، لأن الجهل هنا یرجع الی أصل النجاسة.

هذا بخلاف ما لو کان الجهل فی أهله کالمربیّة بأن زعم أنّه داخلٌ تحت حکم المربّیة فی العفو، ثم تبین خلافه، فإنه یجب علیه الاعادة لعدم صدق الجهل بالنجاسة فی حقّه، بل کان جهله من جهة مصداق العفو بعد علمه بنجاسته.


1- وسائل الشیعة: الباب 37 من أبواب النجاسة، الحدیث 1.

ص:166

الفرع الرابع: بل و منه یظهر حکم ما لو زعم اضطراره فی العفو، ثُم تبیّن الخلاف من وجوب الاعادة، لما عرفت أنّه کان عالماً بالنجاسة و جاهلاً فی خصوصیة عفوه.

الفرع الخامس: هکذا مثله فی عدم الالحاق ما لو زعم أنه بول الطفل الذی یطهر بصبّ الماء علیه، ثُمّ تبیّن له الخلاف و أنّه بول الکبیر، و لا یطهّره الصبّ.

الفرع السادس: و أیضاً الحکم کذلک فیما لو زعم أنّه من غیر المحصور فظهر خلافه، فإنّه أیضاً غیر ملحق به، بل و هکذا غیر ملحقٍ به فیما لو زعم أنّ النجاسة لیست بولاً فغسلها مرّة واحدة فظهر خلافه، و أنّه بول یحتاج الی تعدد الغسل، لما عرفت من أنّ الملاک فی وجوب الاعادة هو صدق العلم بالنجاسة، و الجهل راجعٌ الی بعض خصوصیاته.

الفرع السابع: ما لو زعم أنّه من المشتبه الخارج بعد أحد الاستبرائین، الموجب لکونه طاهراً، ثُم تبیّن الخلاف، حیث أنّه من مصداق الجهل بالنجاسة، و داخلٌ تحت حکم الأخبار النافیة للاعادة، کما لا یخفی، فطهر مما بیّناه صحة کلام صاحب «الجواهر» من جریان الاشکال فی بعض أقسامه دون جمیعه کما توهّمه صاحب «کشف الغطاء» رحمة الله .

الفرع الثامن: فی أنه هل یلحق بالجاهل ناسی النجاسة حتّی لا تجب علیه الاعادة مطلقاً، سواءٌ تذکر فی الوقت أو فی خارجه؟ فیه أقوال: قول بعدم الالحاق و هو أحد الأقوال فی المسألة، کما هو ظاهر المتن، وفاقاً

ص:167

للمشهور بین الاصحاب قدیماً و حدیثاً، نقلاً و تحصلاً، بل فی «السرائر» دعوی نفی الخلاف فی الموضعین، بل فی «الغنیة» و عن «شرح الجمل للقاضی» الاجماع.

و قول بأنّه یلحق مطلقا فلا إعادة علیه، سواءٌ تذکر فی الوقت أو فی خارجه.

و قول بالتفصیل بین کون التذکر فی الوقت فیعید، دون خارجه فلا یعید.

استدلّ القائلون بعدم الالحاق: مضافاً الی أصالة انتفاء المشروط بانتفاء شرطه، بأخبارٍ کثیرة دالة علی ذلک:

منها: صحیح ابن أبی یعفور، «قلت: لأبی عبدالله علیه السلام : الرّجل یکون فی ثوبه نقط الدّم لا یعلم به ثُم یعلم فینسی أن یغسله، فیصلّی ثُم یذکر بعد ما صَلّی، أیعید صلاته؟ قال: یغسله و لا یعید صلاته، إلّا أن یکون مقدار الدرهم مجتمعاً فیغسله و یعید الصلاة». (1)

و منها: مضمرة زرارة فی الصحیح، بل فی «العلل» إسناده الی أبی جعفرٍ علیه السلام ، قال: «قلت له: أصاب ثوبی دم رعاف أو غیره، أو شیءٌ من منی فعلّمت أثره الی أن أصیب له الماء، و حضرت الصلاة و نسیتُ أنّ بثوبی شیئاً و صلّیت، ثُم إنّی تذکرت بعد ذلک؟ قال: تعید الصلاة و تغسله الحدیث». (2)

و منها: موثق سماعة، قال: «سألت أبا عبدالله علیه السلام عن الرجل یری فی ثوبه الدم فینسی أن یغسله حتّی یصلّی؟ قال: یعید صلاته کی یهتمّ بالشیء اذا کان فی ثوبه عقوبةً لنسیانه، الحدیث». (3)


1- وسائل الشیعة: الباب 20 من أبواب النجاسات ، الحدیث 1.
2- وسائل الشیعة: الباب 42 من أبواب النجاسات ، الحدیث 2.
3- وسائل الشیعة: الباب 42 من أبواب النجاسات ، الحدیث 5 _ .

ص:168

و منها: خبر أبی بصیر عن أبی عبدالله علیه السلام ، قال: «إن أصاب ثوب الرجل الدم فصلّی فیه و هو لا یعلم، فلا اعادة علیه، و إن ْ هو علم قبل أن یصلّی فنسی و صلّی فیه فعلیه الاعادة». (1)

و منها: خبر ابن زیاد، قال «سُئل أبو عبدالله علیه السلام عن الرجل یبولُ فیصیبُ فخذه قدر نکتةٍ من بوله فیصلّی ثم یذکر بعد أنّه لم یغسله؟ قال: یغسله و یعید صلاته». (2)

و منها: خبر میمون: «قلت: سألته عن الرجل یبول فیصیب....»، الحدیث مثل ما سبق لابن زیاد». (3)

و منها: خبر مرسل ابن بکیر عن بعض أصحابنا، عن أبی عبدالله علیه السلام : «فی الرجل یبول و ینسی أن یغسل ذکره حتّی یتوضّأ و یصلّی؟ قال: یغسل ذکره و یعید الصلاة، و لا یعید الوضوء». (4)

و منها: خبر صحیح ابن أبی نصر، قال: «قلت لأبی عبدالله علیه السلام : أبول و أتوضّأ و أنسی استنجائی ثم أذکر بعد ما صلیت؟ قال: اغسل ذکرک و اعد صلاتک». (5)

و منها: خبر زرارة، قال: «توضّأت یوماً و لم أغسل ذکری ثُم صلیت، فسألتُ أبا عبدالله علیه السلام فقال: اغسل ذکرک و أعد صلاتک». (6)


1- وسائل الشیعة: الباب 42 من أبواب النجاسات ، الحدیث 6 _ 4.
2- وسائل الشیعة: الباب 42 من أبواب النجاسات ، الحدیث 6 _ 4.
3- وسائل الشیعة: الباب 40 من أبواب النجاسات ، الحدیث 7.
4- وسائل الشیعة: الباب 18 من أبواب نواقض الوضوء، الحدیث 2 _ 3.
5- وسائل الشیعة: الباب 18 من أبواب نواقض الوضوء، الحدیث 2 _ 3.
6- وسائل الشیعة: الباب 18 من أبواب نواقض الوضوء ، الحدیث 7.

ص:169

و منها: خبر سماعة، قال: «قال أبو عبدالله علیه السلام : إذا دخلت الغائط فقضیت الحاجة فلم تهرق الماء ثُم توضّأت و نسیت أن تستنجی فذکرت بعد ما صلیت، فعلیک الاعادة، و إن ْ کنتَ أهرقت الماء فنسیتَ أن تغسل ذکرک حتّی صلیت فعلیک اعادة الوضوء و الصلاة، و غَسل ذکرک، لأنّ البول مثل البراز». (1)

هذه هی الأخبار الدالة علی وجوب الاعادة و القضاء لمن نسی تطهیر النجس حتّی صلی ثُمّ تذکر، سواءٌ کان فی الوقت أو فی خارجه، لاطلاق لسان هذه الأخبار.

هذا هو أحد الأقوال فی المسالة.

دلیل القول الثانی: و هو للشیخ فی بعض أقواله، و هو عدم الاعادة مطلقاً، أی سواء تذکر فی الوقت أو فی خارجه، و استحسنه المحقّق فی «المعتبر»، بل جزم به صاحب «المدارک» و تمسّکوا فی ذلک:

1. بأصالة الاجزاء، مع أنّه إنّما یصحّ لو لم یکن فی البین دلیلٌ قطعی نصّ بوجوب الاعادة، و الّا لما تصل النوبة الی الأصل، کما لا یخفی، مع أنّه لو سلّمنا شمول لسان الأصل لمثله، فیجب الخروج عنه بواسطة تلک الأدلة.

2. و تمسکاً بحدیث رفع الخطا و النسیان عن الامّة، مع أنّه مع وجود تلک الأدلة یُخصّص فی مثل المقام، أو یحمل علی أنّ المراد هو رفع المؤاخذة و الاثم لا الشرطیّة کما هو المقصود.

هذا، ولکن العمدة فی الدلیل لمختارهم هو الأخبار الموجودة فی


1- وسائل الشیعة: الباب 10 من أبواب أحکام الخلوة، الحدیث 5.

ص:170

الباب، الدّالة علی عدم الاعادة مطلقاً، و هی:

منها: صحیح العلاء، عن أبی العلاء، عن أبی عبدالله علیه السلام ، قال: «سألته عن الرجل یصیب ثوبه الشیء ینجسّه فینسی أن یغسله فیصلّی فیه، ثم یذکر أنّه لم یکن غسله أیعید الصلاة؟ قال: لا یعید قد مضت الصلاة و کتبت له». (1)

هذا مضافاً الی امکان حمله علی النجاسة المعفوّ فیها مثل الدّم الذی أقلّ من الدرهم من غیر الدماء الثلاثه و نجس العین، بأن یقیّد اطلاقه بواسطه تلک الأخبار، فإن هذا التقید لا یخلو من بُعدٍ لأجل کونه تقییداً بما هو أقلّ من سائر النجاسات حتّی الدم فی غیر ذلک، الّا أن الحمل علی ذلک للجمع بین الطائفین أولی من الطرح، أو حمل أوامر تلک الأدلة فی الغسل علی الاستحباب من جهة هذا الحدیث.

و منها: خبر هشام بن سالم، عن أبی عبدالله علیه السلام : «فی الرجل یتوضّأ و ینسی أن یغسل ذکره، و قد بال؟ فقال: یغسل ذکره و لا یعید الصلاة». (2)

و منها: خبر عمّار بن موسی، قال: «سمعت أبا عبدالله علیه السلام یقول: لو أنّ رجلاً نسی أن بستنجی من الغایط حتّی یصلی لم یعد الصلاة». (3)

و قد حمله الشیخ علی من نسی الاستنجاء بالماء مع کونه قد استنجی بالأحجار، لکنه بعیدٌ و إن کان أحسن من الطرح.

و منها: خبر علی بن جعفر، عن أخیه موسی بن جعفر علیه السلام ، قال: «سألته عن رجل ذکر و هو فی صلاته أنّه لم یستنج من الخلا؟ قال: ینصرف و


1- وسائل الشیعة: الباب 42 من أبواب النجاسات، الحدیث 4.
2- وسائل الشیعة: من أبواب أحکام الخلوة، الحدیث 2 _ 3.
3- وسائل الشیعة: من أبواب أحکام الخلوة، الحدیث 2 _ 3.

ص:171

یستنجی من الخلا و یعید الصلاة، و إن ذکر و قد فَرغ من صلاته فقد أجزأه ذلک و لا اعادة علیه». (1)

و فیه ما ذکر ما فی سابقه عن الشیخ و قد عرفتُ بعده.

أقول: لا یخفی أنّه لو لا اعراض الأصحاب و المشهور عن العمل بهذه الأخبار، لکان دلالة هذه و سندها معتبرة قابلة للأخذ بها، و حمل الأخبار الدالة علی وجوب الاعادة مطلقاً علی استحبابها، أو لا أقلّ علی التفصیل الذی سیأتی من الاعادة فی الوقت و عدمه فی خارج الوقت، بحمل کلٍّ علی القدر المتقین منه، بحمل الظاهر علی النص و رفع الید عنه بالنصّ، خصوصاً مع موافقتها مع عدّة أخبار آخر مفصّلة بهذا التفصیل کما هو القول الثالث فی المسألة.

القول الثالث: و هو وجوب الاعادة فی الوقت دون خارجه، و هو قول الشیخ فی «الاستبصار» خاصة، و تبعه الفاضل فی بعض کتبه، و هذا الاختیار لأجل الخبر المشتمل علی التفصیل المذکور الذی جعلوه شاهد جمعٍ بین الطائفتین المتقدمتین، و هو خبر علی بن مهزیار، قال: «کتب الیه سلیمان بن رشید یخبره أنّه بال فی ظلمة اللیل و أنّه أصاب کفّه برد نقطة من البول لم یشک أنّه أصابه، و لم یره و أنّه مسحه بخرقةٍ ثُمّ نسی أن یغسله، و تمسّح بدهن فمسح به کفّیه و وجهه و رأسه ثُمّ توضاً وضوء الصلاة فصلّی؟ فاجابه بجوابٍ قرأته بخطه: أما ما توهّمت ممّا أصاب یدک فلیس بشیءٍ إلّا ما تحقق، فإن حققت ذلک کنت حقیقاً أن تعید الصّلوات


1- وسائل الشیعة: من أبواب أحکام الخلوة، الحدیث 4.

ص:172

اللّواتی کنت صلّیت بذلک الوضوء بعینه ما کان منهنّ فی وقتها، و ما فات وقتها فلا اعادة علیک لها، مِن قبل أنّ الرجل إذا کان ثوبه نجساً لم یعد الصلاة إلّا ما کان فی وقتٍ، و إذا کان جُنُباً أو صلّی علی غیر وضوء فعلیه اعادة الصلوات المکتوبات اللّواتی فاتته، لأنّ الثوب خلاف الجسد، فاعمل علی ذلک إن شاء الله». (1)

أقول: و فیه ما لا یخفی من الاضمار و کونه مکاتبة مشاهدة و لیست بمسموعة، و قلّة العامل به إذ لم یحک العمل به الّا عن الشیخ فی «الاستبصار» الذی لم یعدّه للفتوی، بل وردت فتواه فی سائر کتبه موافقة للمشهور، و تبعه علیها الفاضل، و لذلک فمن العجیب ما فی «الحدائق» من حکایة شهرته بین المتأخرین.

مضافاً الی الاجمال الموجود فی متنه شدیداً، بل الاشکال کما اعترف به غیر واحدٍ، بل فی «الوافی» أنه یشبه أن یکون قد وقع فیه غلطٌ من النسّاخ، هذا کله مع المنع عن ظهور أخبار الاعادة فی الوقت لحدوث هذا الاصطلاح فی لسان أهل الاصول المانع لحمل الاخبار علی هذا المعنی، هذا کلّه مع ما یشاهد من لزوم القضاء لجمیع مافاته من الطهارة، فی صحیح علی بن جعفر عن اخیه علیه السلام المروی عن «قرب الإسناد» و «کتاب المسائل» له، قال: «سألته عن الرجل احتجم فأصاب ثوبه دمٌ فلم یعلم به حتّی إذا کان من الغد، کیف یصنع؟ قال: إن کان رآه فلم یغسله فلیقض جمیع ما فاته علی قدر ما کان یصلّی، و لا ینقص منه شیء، و إن ْ کان رآه


1- وسائل الشیعة: الباب 42 من أبواب النجاسات، الحدیث 1.

ص:173

و قد صلّی فلیعد تلک الصلاة ثم لیغسله» (1) الشامل باطلاقه صورة النسیان، إن ْ لم نقل هی الظاهر منه کغیر الصریح فی النسیان، الظاهر فی القضاء، کموثّق سماعة المتقدم المعلّل للاعادة بالعقوبة، (2) بل کالصریح فی حسن ابن مسلم أو صحیحه، و إن کان ظاهراً فی النسیان و لو باطلاقه، قال فیه: «و اذا کنت قد رأیته (أی الدم) و هو أکثر من مقدار الدرهم فضیّعت غسله و صلّیت فیه صلاة کثیرة فاعد ما صلّیت فیه» (3) حیث یدلّ علی ارادة الزائد علی الفریضة، بل الخمس المفروض.

فثبت من جمیع ما ذکرنا أنّ الحق مع المشهور، من عدم الحاق الناسی بالجاهل فی عدم الاعادة، بل علیه الاعادة فی الوقت و القضاء فی خارجه، و الله العالم.

نعم، لو نسی عین المتنجس مع علمه بالنجاسة، کما لو لاقی یده النجاسة ثم نسی ذلک مع علمه نجاسة ما لاقاه، فصلّی من دون غَسل یده، فإنّه یصدق علیه أنه جاهلُ نجاسة یده و هو الموضوع، فإنّه یلحق بالجهل بالموضوع حینئذٍ فلا یوجب ذلک علیه الاعادة کما عن «کشف الغطاء»، حیث حکم بأنّه وجه قوی، فالمسألة واضحة.

هذا کلّه فیما لو تذکر النجاسة بعد الصلاة بعد ما کان عالماً بها و نسی فعلیه الاعادة و القضاء فی خارجه. بقی البحث عن حکم ما تذکرها فی الاثناء.


1- وسائل الشیعة: الباب 40 من أبواب النجاسات ، الحدیث 10.
2- وسائل الشیعة: الباب 42 من أبواب النجاسات ، الحدیث 5.
3- وسائل الشیعة: الباب 20 من أبواب النجاسات ، الحدیث 6.

ص:174

حکم من تذکر النجاسة فی اثناء الصلاة

الظاهر أنّ حکمه أیضاً مثل سابقه من وجوب الاعادة فی الوقت و فساد صلاته، کما ورد التصریح بذلک فی «کشف اللّثام» و «الریاض» و الاستاذ الاکبر، و صاحب «الجواهر» مستدلاً لذلک باصالة الاشتغال، و انتفاء المشروط بانتفاء شرطه، و ظهور الادلّه الدالة علی اعادة الذاکر بعد الفراغ، و بأنّ النسیان لا یکون عذراً لارتفاع الشرط المزبور، إذ لا فرق فی شرطیة شیء بین کون القید و الشرط للکل أو للبعض، ضرورة تساویهما فی الأثر من البطلان مع فقده و احتمال الفرق، و امکان تصویره لا یرفع ذلک الظهور المذکور، و لذلک یشاهد أن صاحب «کشف اللّثام» بنی حکم المسأله هنا علی ما تقدم من الأقوال الثلاثه فی المسألة، و قد عرفت مختارنا و هو الاعادة مطلقاً، فکذلک هنا أیضاً. حکم من تذکر النجاسة فی اثناء الصلاة

هذا مضافاً الی امکان استفادة ما ذکرنا من التعلیل الوارد فی خبر سماعة بالعقوبة للنسیان، الشامل للفرض المذکور، بل و ما ورد فی الخبر الذی جاء فیه: «سألته عن الرجل یری بثوبه الدم فینسی أن یغسله حتّی یصلّی» (1)، فقد حکم علیه السلام بالاعادة، حیث یشمل صورة کونه فی اثناء الصلاة، لظهور (حتّی) قبل فعل المضارع علی کون النسیان مستمراً الی أن دخل فی الصلاة، لا الی أنّه قد فرغ منها حتی لا یشمل لما نحن.

و أهمّ ما استدلّ به علی الاعادة: الأخبار الدالّة علی ذلک، فلا بأس بذکرها و النظر الیها فی المسألة.


1- وسائل الشیعة: الباب 42 من أبواب النجاسات ، الحدیث 5.

ص:175

منها: الخبر المروی فی «السرائر» عن کتاب المشیخة، عن ابن محبوب، عن عبدالله بن سنان، عن الصادق علیه السلام فی حدیثٍ قال: «و إن کنتَ رأیته قبل أن تصلّی فلم تغسله ثُم رأیته بعد و أنتَ فی صلاتک، فانصرف فاغسله و أعِد صلاتک». (1)

و کذا یستفاد من التعلیل الوارد فی مضمرة زرارة، و الخبر المسند الی أبی جعفر علیه السلام فی «العلل» قال فیه: «قلت: إن رأیته فی ثوبی و أنا فی الصلاة؟ قال: تنقض الصلاة و تعید إذا شککت فی موضع منه ثم رایته، و إن لم تشک ثم رأیته رطباً قطعت الصلاة و غسلته، ثم بنیت علی الصلاة لأنّک لا تدری لعلّه شیء أوقع علیک، فلیس ینبغی أن تنقض الیقین بالشک» (2) حیث یفهم منه أنه لو علم بالنجاسة قبل أن یُصلّی، لابدّ من اعادة الصلاة الشامل باطلاقه لصورة النسیان أیضاً.

و منها: روایة علی بن جعفر، عن أخیه موسی علیهما السلام ، قال: «سألته عن رجل ذکر و هو فی صلاته أنه لم یستنج من الخلاء؟ قال: ینصرف و یستنجی من الخلا و یعید الصلاة، الحدیث». (3)

و غیر ذلک من الأخبار الدالة منطوقاً أو مفهوماً بالتعلیل علی بطلان الصلاة، و لزوم الاعادة السالمة عن المعارضة مع غیرها، الظاهر کونها فی الجاهل لا الناسی.

نعم، قد یتوهّم خلاف ما ذکرنا عن صحیح علی بن جعفر، عن أخیه علیه السلام : «عن الرجل یصیب ثوبه خنزیر فلم یغسله، فذکر و هو فی


1- وسائل الشیعة: الباب 44 من أبواب النجاسات ، الحدیث 3 _ 1.
2- وسائل الشیعة: الباب 44 من أبواب النجاسات ، الحدیث 3 _ 1.
3- وسائل الشیعة: الباب 10 من أبواب أحکام الخلوة، الحدیث 4.

ص:176

صلاته، کیف یصنع به؟ قال: إن دخل فی صلاته فلیمض، فإن لم یکن دخل فی صلاته فلینضح ما أصاب من ثوبه، إلّا أن یکون فیه أثرٌ فیغسله، الحدیث» (1) حیث أنّه حکم بالمضی فی الصلاة الشامل باطلاقه ما اذا کان جسد الخنزیر رطباً و نجساً.

لکنه مندفعٌ: بأنه یحتمل کونه مع احتمال الیبوسة أو العلم بها، و لذا قال: «فلینضح ما أصاب».

و لا یدفعه قوله علیه السلام : «الّا أن یکون أثرٌ فیغسله» لاحتمال ارادة وجوب غسله حین دخل فی الصلاة أولاً، و إلّا لم یقل أحدٌ بجواز المضی فی الصلاة بعد العلم بالنجاسة من غیر غَسلٍ أو ابدال أو نحوهما.

و علیه، ثبت مما ذکرنا أن حکم المسالة و هو وجوب استیناف الصلاة فی الفرض واضح.

أقول: ثم علی القول بوجوب الاستیناف، لو نسی النجاسة و ذکر فی اثناء الصلاة، فإنّه لا فرق فیه بین کون الوقت سعة أو ضیقاً، من جهة اطلاق تلک الادلة الشامل للصورتین، فیکون حکمه هو وجوب الاعادة فی الوقت و القضاء فی خارجه کالذاکر بعد الصلاة.

نعم، علی القول بعدم وجوب اعادة الناسی مطلقاً، أی سواءٌ کان ذاکراً فی الاثناء أو بعد الصلاة، ربما یمکن أن نفرق بین الصورتین، بأن یکون علی فرض سعة الوقت حکمه طرح الثوب أو تطهیره و نحوهما بعد الذکر إن أمکن فی الصلاة بلا فعلٍ منافٍ لها، و إلّا استأنف، و علی ضیقه بالقائه و


1- وسائل الشیعة: الباب 13 من أبواب النجاسات ، الحدیث 1.

ص:177

و لو رأی النجاسة و هو فی الصلاة، فإن أمکنه إلقاء الثوب و ستر العورة بغیره وجب و أتمّ و إن تعذّر الّا بما یبطلها استأنف(1)رؤیة النجاسة فی الصلاة

اتمام الصلاة عاریاً کفاقد الساتر الطاهر ابتداءاً، لمساواة حکم البعض للکل، و إن لم یتمکن من الصلاة عاریاً لأجل وجود ناظرٍ، محترم، و لا یقدر علی تحصیل ستر العورة، أو لکونه فی الصحراء و یخاف علی نفسه البرد و الموت، فلیمضِ فی صلاته.

کما أنّه علی القول بوجوب الاعادة علی الناسی فی الوقت دون خارجه کان المتّجه علیه حینئذٍ أیضاً الاستیناف مع السعة، أمّا مع الضیق فیحتمل أن حکمه حکم الذاکر بعد خروج الوقت، لأنه لا یقدر علی تحصیل الطهارة فی الوقت علی الفرض حتّی یصدق علیه الفوت و وجوب القضاء، کما لا یجب علیه اعادة الصلاة أداءاً لعدم امکانه الّا باتمام ذلک الفعل المحکوم بفساد بعضه بالذکر فی الوقت. اللّهم إلّا أن یستثنی هذه الصورة من إفساد الذکر فی الوقت، أو یخصّ عدم وجوب القضاء بخصوص الذاکر بعد الوقت. لکن فی «کشف اللّثام» أنّه یطرح الثوب إن امکن بلا فعل المنافی، و الّا فاشکالٌ.

أقول: الأوجه فی هذا الفرض هو الاتمام مع تلک الحالة، و الاعادة قضاءً، قضیة لحصول القطع بالفراغ عن الذمة، و الله العالم.

(1) إنّ رؤیة النجاسة فی الاثناء تتصور علی وجوه عدیدة:

ص:178

تارة: یراها مع علمه بسبق النجاسة علی الصلاة.

و أخری: یعلم بعروضها فی الاثناء قبل زمان الرؤیة.

و ثالثةً: یعلم بعروضها عند زمان الرؤیة، بأن کان ملتفتاً حین عروضها.

و رابعة: هی هذه الصورة مع الشک فیه و احتمل حدوثها حین حصول العلم.

و خامسة: احتمل حدوثها قبل حصول العلم فی اثناء الصلاة.

و سادسة: احتمل حدوثها قبل حصول العلم لا فی اثناء الصلاة

بل قبلها.

ففی جمیع هذه الصور حکم المصنّف بصحة الصلاة إن ْ أمکنه القاء الثوب و ستر العورة بغیره، و وجب علیه و أتم، و إن ْ تعذّر إلّا بما یبطلها من الکلام و غیره استانف. بل فی «الجواهر»: «بلا خلافٍ أجده فی شیء من ذلک بین أجلّاء القائلین بمعذوریة الجاهل مطلقاً الی ما بعد الفراغ»، بل فی «المبسوط» و «النهایة» التصریح بنحو ذلک هنا، مع قوله فیهما باعادة الجاهل فی الوقت. و إن استوجه المصنّف و الشهید و غیرها الاستیناف مطلقا بناءً علیه، و إن ناقش بعضهم بعدم التلازم بین المقامین إن ارادوا من عدم التلازم لأجل ورود دلیلٍ شرعی علی عدم التلازم و التفرقه فهو متجه، و الّا بدونه فممنوع، لأنه من الواضع أن الجهل إن کان عذراً ففی الموردین من الکلّ و البعض کان عذراً، لاسقاط الشرط الذی هو بالنسبة للجمیع و البعض علی حدّ سواء، و إلّا فلا فی کلّ منهما لتساویهما فی دلیل الشرطیة، فیشترکان فی النفی و الاثبات.

فعلی المختار من القول بالعذریة فی الجهل، یکون العمل فی الاثناء

ص:179

صحیحاً أیضاً، فیمکن للمصلّی تلفیق ما مضی لما یأتی، بامکان الازالة أو الابدال أو التطهیر من غیر فعلٍ منافٍ للصلاة، و الّا استأنف، و لأجل ذلک نفی الشهید رحمة الله فی «الذکری» عنه الاشکال، و نسبه الی الوضوح فی «مجمع البرهان».

بل التلفیق بین ما مضی من الجهل بالنجاسة و بین الابدال و نحوه فی الادامة، هو مقتضی الجمع بین اطلاق ما دلّ علی الاتمام من الأخبار مثل ما ورد فی موثق داود بن سرحان، عن أبی عبدالله علیه السلام : «فی الرجل یصلّی فأبصر فی ثوبه دماً؟ قال: یتمّ» (1) الشامل حتّی ما لو کان أزید من الدرهم، اذ لا داعی من الحمل علی أقلّه إذا فرضنا صحة صلاته بالجهل، و إن حمله الشیخ علیه.

هذا، و لکن اطلاقه أیضاً من جهة کون الدم الذی یراه کان عن جهلٍ أو نسیانٍ یوجب کون أحد الحملین هو المحتمل لتصحیح الصلاة: إمّا حمله علی الجهل و حفظ اطلاق مقدار الدرهم، أو حمله علی الأقلّ من الدرهم و حفظ اطلاق حال المصلّی من الجهل و النسیان کما لا یخفی، فلیس لأحد الحملین رجحاناً علی الآخر، إذ لولاه لزم القول بطرح الخبر، حیث لا یمکن الالتزام بصحّة الصلاة مع رؤیة الدم فی الأثناء مطلقاً.

و مثل ما ذکرناه فی خبر داود یجری بین: خبر عبدالله بن سنان، عن

أبی عبدالله علیه السلام ، قال: «إن رأیت فی ثوبک دماً و أنت تصلّی و لم تکن رأیته قبل أن تصلّی فلم تغسله، ثُمّ رأیته بعد و أنتَ فی صلاتک فانصرف،


1- وسائل الشیعة: الباب 44 من أبواب النجاسات ، الحدیث 1.

ص:180

فاغسله و أعد صلاتک». (1)

و بین اطلاق ما دلّ علی الاستیناف من خبر أبی بصیر، عن أبی عبدالله علیه السلام : «فی رجلٍ صلّی فی ثوب فیه جنابة رکعتین، ثُمّ علم به؟ قال: علیه أن یبتدئ الصلاة» (2) بناءً علی أن تکون الصلاة غیر رکعتین من الصلاة الثلاثیة أو الرباعیة، و الّا یمکن أن یکون علمه بعد اتمام الصلاة، لکنه ینافی مع ما ورد فی ذیله من حکمه بعدم الاعادة، فلابدّ لذلک من حمله علی الفرض الاول، فیتمّ الاستدلال، فنحکم فی المورد بأنّه یستأنف لأجل عدم کونه عن جهلٍ، بل یُحمل علی صورة النسیان أو علی ما لا یقدر علی شیءٍ ممّا ذکرناه من التبدیل و التطهیر و الازالة، بل قد صدر منه الفعل المنافی فلابدّ من الاستیناف.

و مثله صحیح ابن مسلم، عن الصادق علیه السلام فی حدیثٍ، ثم قال: «إن رأیت المنی قبل أو بعد ما دخل فی الصلاة، فعلیک اعادة الصلاة، الحدیث». (3)

و أیضاً صحیح زرارة فی حدیثٍ، قال: «إن رأیته فی ثوبی و أنا فی الصلاة؟ قال: تنقض الصلاة و تعید إذا شککت فی موضعٍ منه ثم رأیته، الحدیث». (4)

أقول: الانصاف حمل هذه الطائفة الثانیة علی ما لا یقدر الّا بالفعل المنافی لا یخلو عن بُعدٍ، لوضوح امکان التبدیل کثیراً فی الموارد، إلّا أن یکون مثل السراویل، فلا یقدر علی نزعه لأنّ بذلک تنکشف العورة فی


1- وسائل الشیعة: الباب 44 من أبواب النجاسات ، الحدیث 2 _ 4.
2- وسائل الشیعة: الباب 44 من أبواب النجاسات ، الحدیث 2 _ 4.
3- وسائل الشیعة: الباب 41 من أبواب النجاسات ، الحدیث 2.
4- وسائل الشیعة: الباب 44 من أبواب النجاسات ، الحدیث 10.

ص:181

حال الصلاة، مع أنّه لا یخلو عن تأمّل.

بل یمکن جعل الشاهد علی التفصیل المزبور فی المتن _ و علیه الأصحاب، من القاء الثوب و الستر بغیره عند الامکان، و الّا مع التعذّر فالتبدیل و غیره إلّا بما یبطل فیستأنف _ الخبر الحسن المروی عن محمد بن مسلم، قال: «قلت له: الدّم یکون فی الثوب علیّ و أنا فی الصلاة؟ قال: إن رأیته و علیک ثوب غیره فاطرحه و صلّ فی غیره، و إن لم یکن علیک ثوب غیره فامض فی صلاتک و لا اعادة علیک ما لم یزد علی مقدار الدرهم، و ما کان أقلّ من ذلک فلیس بشیءٍ، رأیته قبل أو لم تره» هذا علی نقل الکلینی.

ولکن علی نقل الشیخ أضاف واواً قبل ما لم یزد مع حذف (و ما کان أقلّ من ذلک)، فتصیر العبارة علی نقل الشیخ هکذا: «و إن لم یکن علیک ثوبٌ غیره فامض فی صلاتک و لا اعادة علیک، و ما لم یزد علی مقدار الدرهم فلیس بشیء رأیته قبل أو لم تره، الحدیث». (1)

فإنّ هذا الحدیث بحسب نقل الکلینی یفید ما علیه الأصحاب، لأنّ الحکم بالمضیّ فی الصلاة هو فیما إذا کان الدم أقلّ من الدرهم، فیکون مفهومه عدم المضیّ اذا کان أکثر و أزید، فیوافق فتوی الأصحاب، هذا بخلاف نقل الشیخ للخبر حکم بالمضیّ فی الصلاة مع النجاسة، إذا لم یکن معه ثوب غیره، مع أنّ الاصحاب لم یجوّزوا المضیّ مع النجاسة فی الصلاة، حتی لو صلّی عاریاً، أو بأن یبطل الصلاة بالکلام فی سعة الوقت و الاعادة مع الطهارة فینا فی الحدیث مع اتفاقهم، و إن کان ما فی صدره بقوله: «إن


1- وسائل الشیعة: الباب 20 من أبواب النجاسات ، الحدیث 6.

ص:182

رأیته و علیک ثوب غیره فاطرحه و صلّ» قابلٌ للاستدلال به علی المطلوب، و لا منافاة معه، و علیه فلا وجه لما صدر من بعض متأخّری الأصحاب من سقوط الحدیث، بدعویٰ وجود الاضطراب فی متنه، لأنه أوّلاً صدره قابلٌ للتمسک للمقصود، و ثانیاً علی نقل الکلینی الذی هو أضبط لا یوجب التنافی، لأنه قد فرض کون الدم أقلّ من الدرهم، و لا اشکال فیه کما لا یخفی.

و مع التأمّل فیما ذکرنا حول روایة محمد بن مسلم، یظهر لک عدم تمامیّة ما ذهب الیه صاحب «المدارک» حیث إنّه بعد نقل بعض الأخبار الدالّة علی وجوب الاستیناف، نقل خبراً آخر و هو صحیح علی بن جعفر، عن أخیه علیه السلام : «عن الرجل یصیب ثوبه خنزیر فلم یغسله، فذکر و هو فی صلاته، کیف یصنع به؟ قال: إن دخل فی صلاته فلیمض، الحدیث» بحمل ما یتضمّن الأمر بالاستیناف علی الاستحباب، و إن ْ جاز المضیّ فی الصلاة مع طرح الثوب النجس، إذا کان علیه ثوبٌ غیره، و إلّا مضی مطلقاً، ثم قال رحمة الله : «و لا بأس بالمصیر الی ذلک، و إن کان الاستیناف مطلقاً أولی».

و وجه عدم التمامیة هو أنّه مع مخالفته لاجماع الاصحاب یصیر ظاهراً علی عدم جواز الاتمام بالثوب النجس مع التمکن من غیره بقطع الصلاة.

و القول بأنّ ما فی صحیح علی بن جعفر غیر مربوط بما نحن فیه، إذ محلّه الناسی، مع امکان أن تکون الاصابه مع الیبوسة، فلا غَسل علیه حینئذٍ حتی یترتّب علیه هذا الحکم.

یعدّ تصرّفاً فی النصوص من غیر شاهد للجمع و التصرف فیها.

أقول: و یظهر ممّا ذکرنا تبعاً لصاحب «الجواهر» عدم تمامیة ما ذهب

ص:183

الیه صاحب «الریاض»، بل للمفاتیح المیل الیه من القول بالاستیناف مطلقاً، و إن تمکن من الطرح و نحوه، تمسکاً باطلاق الأخبار الآمرة بالاستیناف، مع أنّه منزّل _ بمعونة فتوی الأصحاب و غیرها _ علی صورة التعذّر عن الازالة و التطهیر و نحوهما من دون فعلٍ منافٍ، بل قیل إنّه الغالب الموجب لانصراف الاطلاق الیه.

لکن هذا خرقٌ للاجماع، إذ لم نعرف أحداً قال بمعذوریة الجاهل الی ما بعد الفراغ، و أوجب الاستیناف بعده، و الله العالم.

حکم الفرع الثانی: و ممّا سَبق یظهر صحّة جریان هذا التفصیل فی فرعٍ آخر، و هو ما لو عرض النجاسة فی الاثناء، أو لم یعلم سبق النجاسة، فالحکم ما عرفت من التفصیل من طرح الثوب و الستر بغیره إن ْ أمکن، و بأنّ یتبدّل أو یتطهّر أو غیر ذلک ممّا لا یوجب بطلان الصلاة، و إن تعذر جمیع ذلک علیه أن یستأنف، بل فی «الجواهر» لم أجد فیه هنا خلافاً، بل الظاهر أنّه اجماعی کما اعترف به بعضهم.

نعم، فی «المدارک» و «الذخیرة» عن «المعتبر» الجزم بالاستیناف مطلقاً، بناءً علی عدم معذوریة الجاهل. هذا مع أنّه لا صراحة فی کلام «المعتبر» فی ذلک علی ما حکاه صاحب «الجواهر»، و أنه قد عرفت أنّ حکمه کحکم السابق من التفصیل، ولکن مع ذلک علی فرض صحة النسبة و النقل، یمکن أن یکون لوجود وجه الفرق بین ما نحن فیه و بین سابقه، بواسطه العلم بحدوث النجاسة هنا، لعدم القطع بوقوع شیءٍ من أفعال الصلاة حال النجاسة، حینما عرض له النجاسة، أو باصالة تأخّر حدوث

ص:184

النجاسة فی الثانی، الموجب لعدم القطع بوقوع شیءٍ مع النجاسة، و هذا یوجب صحة التفصیل هنا بخلاف الصورة السابقة حیث وقع بعض الأفعال مع النجاسة جهلاً، فربّما ذلک یوجب الحکم بالاعادة هناک.

اللّهم إلّا أن یفرض هنا بسبق النجاسة علی حال العلم بها، و إن ْ کان فی أثناء الصلاة، کما لو رأی النجاسة فی الرکعة الثالثة، و علم بأنّ ابتداء عروضها له کان فی الرکعة الأولی، فحینئذٍ یصحّ ما صدر عن صاحب «المعتبر»، الّا أنّ المحکی عن الشیخ هنا موافقه الأصحاب فی التفصیل کالمسألة السابعة.

أقول: و کیف کان، فالمتّجه هنا بما علیه من الحجّة بناءً علی المختار من معذوریّة الجاهل، و تحصیل الاجماع علیه، خصوصاً اذا علم عروض النجاسة من دون حصوله بوقوع شیءٍ من الأجزاء معها، إذ من الواضح أنّ عروض النجاسة لیس کالحدث الذی یعدّ من المبطلات القهریّة، خصوصاً مع ملاحظة ما فی الخبر الحسن المروی عن محمد بن مسلم من الأمر بطرح الثوب، و کذلک ما فی صحیح زرارة من التعلیل بأنّه (لعلّه شیءٌ أوقع علیک) الظاهر بأنّ مثل ذلک لا یوجب البطلان، و إلّا لکان ذکر هذا التعلیل غیر مفیدٍ، بل و ما فی الصحاح المستفیضة الواردة فی دم الرعاف:

منها: صحیح معاویة بن وهب: الذی سأل الصادق علیه السلام : «عن الرعاف أینقض الوضوء؟ فقال: لو أنّ رجلاً رعف فی صلاته و کان عنده ماءٌ أو من یشیر الیه بماءٍ فتناوله فمال برأسه فغسله، فلیبن علی صلاته و لا یقطعها». (1)


1- وسائل الشیعة: الباب 2 من قواطع الصلاة، الحدیث 11.

ص:185

و منها: صحیح ابن مسلم: «سأل الباقر علیه السلام عن الرجل یأخذه الرعاف أو القُئ فی الصلاة، کیف یصنع؟ فقال: ینفتل فیغسل أنفه و یعود فی صلاته، فإن تکلّم بطلت صلاته و لیس علیه وضوء». (1)

حیث یدلّ علی أنّ البناء یکون فی صورةٍ لم یستلزم البطلان بما یوجبه.

و منها: صحیح اسماعیل بن عبد الخالق، قال: «سألته عن الرجل یکون فی جماعةٍ من القوم یصلّی بهم المکتوبة، فیعرض له رعافٌ کیف یصنع؟ قال: یخرج فإن وجد ماءً قبل أن یتکلم فلیغسل الرعاف ثُم لیعد و لیبن علی صلاته». (2)

و الظاهر أن الخروج یجب أن یکون بحیث لا یستلزم البطلان کالاستدبار و نحوه، و إن کان الخبر الأخیر مطلقاً فی ذلک، و لکن حیث أنّ الأصحاب لم یذهبوا الی جواز البناء مع الغسل لو استلزم ما یوجبُ البطلان، فلابدّ إمّا من تقییده بهذا القید، أو حمله علیه، ترجیحاً لما دلّ علی بطلان الصلاة بما یستلزمه من الاستدبار أو الفعل الکثیر أو فوت الموالاة العرفیة و نحوها.

کما لا یضرّ اطلاق بعض هذه الأخبار من جواز البناء، من دون ذکر طرح النجس أو ازالته، لما قد عرفت من قیام الاجماع من لزوم ذلک، کما لا یخفی.

و لأجل ما ذکرنا من جواز البناء مع الرعاف، نری تصریح العلّامة: فی «المنتهی» بأنّه: «لا یقطع الصلاة رعافٌ، و لو جاء الرعاف أزاله و أتمّ الصلاة ما لم یفعل المنافی عند علمائنا).


1- وسائل الشیعة: الباب 2 من أبواب قواطع الصلاة، الحدیث 4 _ 12.
2- . وسائل الشیعة: الباب 2 من أبواب قواطع الصلاة، الحدیث 4 _ 12.

ص:186

و فی «التذکرة» أیضاً قال: «لا یقطع الصلاة رعافٌ، و لو عرض أزاله و أتمّ الصلاة ما لم یحتج الی فعل کثیرٍ أو استدبارٍ، لأنّ ذلک لیس بناقضٍ للطهارة، و هو اجماعی فینا» الی غیر ذلک من العبائر ممّا هو نصٌّ فی المطلوب.

و بالجملة: تصیر النتیجة بناءً علی معذوریّة الجاهل، صحّة الصلاة لو عرفت النجاسة فی الاثناء، کما تصحّ الصلاة أیضاً علی البناء المذکور ما لو علم بوقوع النجاسة علیه فی الاثناء ثُمّ زالت بمزیلٍ معتبر کوقوع المطر و تطهیره به، کما علیه صاحب «الجواهر» قدس سره. لکن فی «المعتبر» و غیره استقبال الصلاة بناءً علی قول الشیخ بعدم معذوریة الجاهل فی الوقت، و قد عرفت الاشکال فیه بما لا مزید علیه فلا نعید.

کما لا اشکال فی صحة الصلاة و حصول البراءة ما لو رأی النجاسة بعد الفراغ من الصلاة و احتمل حدوثها بعدها، و صحتها ممّا لا یُعرف فیه خلافٌ بین أهل العلم کما فی «المنتهی»، بل علیه اجماعٌ کما فی «المعتبر» لأصالة الصحّة و التأخّر و البراءة، بل لعلّه من مصادیق الشک بعد الفراغ المعلوم عدم الالتفات الیه، هذا کما فی «الجواهر» و لقد أجاد فیما افاد.

الفرع الثالث: و هو لو علم بالنجاسة فی الاثناء لکن مع ضیق الوقت عن الازالة و الاستیناف، و هو علی قسمین: تارة یعلم السَّبق فی ذلک، و أخری لا یعلم.

و کیف کان، المتجه بناءً علی معذوریّة الجاهل فیما وقع من أبعاض الصلاة هو الاتمام، و عدم الالتفات الی النجاسة، کما صرّح به صاحب «الجواهر»، و الشهید فی «الذکری» و «البیان» و المحقّق فی «جامع المقاصد»

ص:187

و غیرها، بل لا أجد فیه خلافاً یعتدّ به، و هذا الحکم هو مقتضی الجمع بین دلیل سقوط الشرطیة عند الضیق، و بین دلیل عدم سقوط الصلاة فی الوقت، لما ورد بأنّ وجوبها ثابتٌ و لا یسقط بحال بواسطة دلیل الشرطیة، کما هو کذلک فی سائر الشرائط و الواجبات، بل لا یعرف فیه خلافٌ، بل لعلّه من الاجماعیات بل الضروریات، و قد ذکرنا غیر مرّة أنّ حکم البعض کحکم الکلّ فی جمیع الأحکام من الشرائط و الموانع و السقوط.

نعم، لو فرض وقوع النجاسة المتعذرة الزوال بالساتر، فهل یتعیّن علیه الاتمام به أو عاریاً؟ وجهان بل قولان، فیأتی إن شاء الله حکمه لاحقاً، و هو أمر خارج عمّا نحن فیه کما لا یخفی.

هذا، و لکن فی «المدارک» _ بعد أن حکی عن «البیان» القطع بالاستمرار، و المیل الیه عن الشهید فی «الذکری» موجهاً ذلک باستلزام الاستیناف القضاء و هو منفیٌ _ قال: «و یُشکل بانتفاء ما یدلّ علی بطلان اللازم مع اطلاق الأمر بالاستیناف المتناول لهذه الصورة، و الحقّ بناء هذه المسألة علی أنّ ضیق الوقت عن إزالة النجاسة هل یقتضی انتفاء شرطیتها أم لا؟ بمعنی أنّ المکلف إذا کان علی ثوبه أو بدنه نجاسة، و هو قادرٌ علی الازالة، لکن إذا اشتغل بها خرج الوقت، فهل یسقط وجوب الازالة و یتعیّن فعل الصلاة بالنجاسة، أو یتعین علیه الازالة و القضاء؟

و هی مسألة مشکلة من حیث اطلاق النصوص المتضمّنه لاعادة الصلاة مع النجاسة، المتناول لهذه الصورة، و من أنّ وجوب الصلوات الخمس فی الأوقات المعینة قطعیٌ، و اشتراطها بازالة النجاسة علی هذا الوجه غیر

ص:188

معلوم، فلا یُترک لأجله المعلوم؛ و قد سبق نظیر المسألة فی التیمم لضیق الوقت عن المائیة) انتهی ما فی «المدارک» علی المحکی منه فی «الجواهر». (1)

أقول: و لکنه موهونٌ، لوضوح أنه لم نعرف أحداً قال أو احتمل بتقدیم مراعاة ازالة النجاسة أو الساتر أو القبلة أو نحوها علی وجوب أداء الصلاة فی الوقت المعلوم کتاباً و سنة، بل ضرورةً، بل الاجماع علی خلافه کما اعترف به فی «الحدائق»، بل الضرورة فی غیرها. و لا یقاس المورد علی فاقد الطهورین أو من ضاق علیه الوقت من المائیة، علی أنّک قد عرفت التحقیق فی الثانی.

و أمّا ما ذکره لتوجیه «الذکری» بالاطلاق، فقد أجاب عنه صاحب «الجواهر» بأنّه غیر منصرفٍ الی مثله من الأفراد النادرة قطعاً.

نعم، یصحّ هذا التوجیه لمن قال بعدم معذوریّة الجاهل فی الوقت أو مطلقاً، حیث لا یستلزم القضاء أو عدم البأس به، لأنّه حینئذٍ یصیر کالناسیّ الذاکر فی الاثناء الذی قد تقدّم البحث عنه من البطلان، فیجب علیه القضاء إن قلنا به والّا فلا.

و بالجملة: فالأقوی و الأوجه عندنا ما علیه المشهور من معذوریّة الجاهل مطلقاً فی المورد، و الحکم بالاستمرار و عدم الاستیناف کما لا یخفی.

الفرع الأخیر: بقی هنا فرع آخر یظهر حکمه فی الجملة عمّا سبق علی المبانی، و هو حکم المحمول فی الصلاة بناءً علی اشتراط طهارته کالساتر مع الجهل، حیث یکون قطعا مثله علی المختار من المعذوریّة فی الجاهل، بل یکون أولی فیه من الساتر، لأنّه أمرٌ خارجٌ بالنظر الی الصلاة دون


1- الجواهر، 6/230.

ص:189

و المربّیة للصّبی اذا لم یکن لها إلّا ثوبٌ واحدٌ، غسلته فی کلّ یومٍ مرّة(1) حکم ثوب مربیة الصبی

الساتر. نعم یُشکل فی مساواته للساتر فی عدم العذر علی غیر المختار حینئذٍ، لاختصاص المنصوص بالساتر دون المحمول.

نعم، قد یندفع بأنّ ظاهر النصوص و إن ْ کان هو الاختصاص، الّا أن وجه عدم المعذوریة لیس إلّا مقتضی أصالة انتفاء المشروط بانتفاء شرطه، فلا فرق فیه بین الساتر و المحمول لاشتراک العلّة فیهما.

أقول: إذا تبیّن حکم الجاهل فی المعذوریّة علی المبنیین، یظهر منه الحکم فی الناسی من حیث عدم المعذوریة فی الساتر و غیره، و لذلک استغنی الأصحاب عن التعرّض له بذکر حکم الساتر، إلحاقاً به فی جمیع ما تقدّم من صور الجهل و النسیان، و إن کان بعضها لا یخلو من نظر.

(1) المستفاد من ظاهر کلام المصنّف أنّ المربیة للصبیّ إذا لم یکن لها إلّا ثوبٌ واحدٌ و تنجّس ببوله، کفی فی طهارته أن تقدم المربیّة بغسل الثوب فی کلّ یومٍ مرّةً واحدة و جواز الصلاة فیه بعد ذلک و إن تنجّس بعد الغسل و وقعت الصلاة فی المتنجس، و هذا الحکم هو المشهور بین الأصحاب نقلاً و تحصیلاً، بل لا أعرف فیه خلافاً، کما اعترف به فی «الحدائق»، و عن «الدلائل»: «لا خلاف إلّا ممّن لا یعتدّ بخلافه فی حصول الاجماع» و هم کصاحبی «المعالم» و «المدارک» و «الذخیرة» بعد اعتراف الأخیرین بأنّه مذهب الشیخ و عامّة المتاخرین، تبعاً لتوقف الأردبیلی فیه، و

ص:190

جعل وجهه ضعف مستنده الذی هو خبر أبی حفصٍ عن أبی عبدالله علیه السلام ، قال: «سُئل عن امرأة لیس لها إلّا قمیصٌ واحد، و لها مولود فیبول علیها، کیف یصنع؟ قال: تغسل القمیص فی الیوم مرّة». (1)

من جهة اشتراک أبی حفصٍ بین الثقه و غیره، و تضعیف العلّامة لمحمد ابن یحیی المعاذی فی رجال سنده.

و من جهة أنّ حکم هذه المرأة کحکم من علی ثوبه دم القروح و الجروح و السَلَس فی عسر الازالة و مشقتها لتکریر البول، فکما یجب اتباع الروایة ملاحظة حال العسر و الحرج هناک، و کون الحکم مدارهما، هکذا یکون فی ما نحن فیه، کما أنّ الأمر کذلک فی سائر التکالیف من غیر خصوصیّة لما نحن فیه، و یمنع کونهما المستند فی حکم المذکورات، و إن ذکرا تاییداً لدلیله الصالح لاثباته بخلافه هنا.

و لکن یمکن أن یردّ علی الأوّل: بأنّه و إن سلّمنا ضعف السند، و لم یمکن دفعه ولو علی الظنون الاجتهادیة، لکنه غیر قادحٍ للمطلوب، لأنّه منجبرٌ بأدنی مراتب الاشتهار فضلاً عن تحقّق الشهرة هنا کالشمس فی رابعة النهار، مضافاً الی وجود خبر الخصیّ المؤیّد لذلک، و هو خبر عبدالرحیم، قال: «کتبتُ الی أبی الحسن علیه السلام فی الخصّی یبول فیلقی من ذلک شدّة، و یری البلل بعد البلل؟ قال: یتوضّأ و ینتضح فی النهار مرّة واحدة» (2) حیث یکون مشتملاً لمثل ذلک من دون أن یکون ملاکه هو


1- وسائل الشیعة: الباب 4 من أبواب النجاسة، الحدیث
2- وسائل الشیعة: الباب 13 من أبواب نواقض الوضوء، الحدیث 8.

ص:191

العُسر و الحرج بصورة العلّة، حتّی یدور الحکم مداره، و إن قد یُشکل علیه بأنّه لا یتم علی تقدیر کون المراد هو الحَرج النوعی، حیث إنه لا ینوط الحکم بملاک مشقّة الشخص و حرجه، کما لا یخفی.

فروع نجاسة ثوب المرضعة

هاهنا فروعٌ لا بأس بذکرها:

الفرع الأوّل: إنّ ما ورد فی النص و کلمات الأصحاب هو ثوب المربّیة، فهل یتعدّی الحکم الی المربّی أم لا؟ وجهان: ذهب الی الثانی صاحب «الجواهر»، و «مصباح الفقیه»، و المحقّق الآملی، و السیّد فی «العروة» وفاقاً لصریح جماعةٍ، و ظاهر آخرین بل لعلّه ظاهر الأکثر، خلافاً للفاضل فی «قواعده» و تذکرته، و الشهید الأوّل فی بیانه و ذکراه، و الشهید الثانی فی مسالکه، و علّلوه بدعوی القطع باشتراکهما فی علّة الحکم، و هی المشتبه من غیر مدخلیة للأنوثة.

أقول: ما علیه الأکثر هو الأقوی، إذ لا نعلم کون المشقّة هی العلّة للحکم، حیث لم یصرّح فی متنٍ، و إلّا لو علم أنّه الملاک لا یبقی فیه اشکال، فحیث لا نعلم فلابد فی الحکم المخالف للقاعدة من الاقتصار علی موضع النصّ و الیقین، و هو خصوص المربیّة لا المربّی.

الفرع الثانی: فی أنّه هل یلحق البدن بالثوب فی هذا الحکم أم لا؟

عن بعض المتأخّرین و لعلّه السید حسن أحد مشایخ شیخنا الشهید الثانی هو الالحاق، و جعل وجهه غلبة وصول البول من الثوب الی البدن. و

ص:192

ترک الأمر فی الروایة بالغَسل، الکاشف عن عدم وجوبه، لکون المورد مقام البیان و عُسر التحرّز عنه، و عدم الأمر بالتحفّظ عن الثوب المتنجّس به، و لا بغسل البدن منه خصوصاً فی أیام الصیف الغالب فیه العرق، و أنّه کالثوب الواحد فی کونه واحداً فیسری الیه حکمه، بل فی مطلق الأیّام، ضرورة احتیاجها لمزاولته برطوبة فی الاستنجاء و الاغتسال و نحوهما، فإنّ جمیع هذه الأمور یوجب الحکم بالعفوّ فی نجاسة بدنها کالثوب.

أقول: لکن الأقوی هو عدم الالحاق:

أوّلاً: لعدم العلم بمساواته مع الثوب لو لم نقل بالقطع بعدم المساواة، جموداً لظاهر النصّ و الفتوی.

و ثانیاً: نمنع غلبة الوصول من الثوب الی البدن أوّلاً، و وجود الفرق بینه و بین البدن بتعسّر التطهیر فی الثوب دون البدن لو تسلّم غلبة الوصول ثانیاً کما لا یخفی.

و ثالثاً: نمنع دلالة ترک الأمر بغسل البدن علی عدم وجوبه، و الّا لاقتضی نفی وجوبه رأساً. و لیس المورد مورد بیان حکم تطهیر البدن، لکون السؤال کان عن الثوب دونه.

و رابعاً: عدم الأمر بالتحفّظ عن الثوب الکذائی مع کونه فی غلبة ملاقاته مع النجس خصوصاً فی أیّام الصیف الغالب فیه العرق، خارجٌ عمّا نحن بصدده، لکون الکلام فی حکم البدن اذا تنجّس بالبول لا فیه إذا تنجّس بملاقاته مع الثوب المتنجّس به، لا مکان القول بالتفکیک بینها بالعفو فی الأخیر دون الاوّل، کما فی نظائره من دم القروح و الجروح

ص:193

بواسطه عدم زیادة الفرع علی الأصل، مع اشکالٍ فیه، لأنّ الکلام عن حیث الثوب النجس من دون تعرّضٍ لحکم سرایته، مع امکان دعوی الفرق بینهما باطلاق العفو هناک، و تقیده بالغَسل فی کلّ یومٍ مرة هنا، فیتجّه حینئذٍ القول بغسل البدن فی کلّ یومٍ مرّة تبعاً لأصله المتنجّس.

اللّهم إلّا أن یستفاد من عدم الأمر به عدمه.

هذا، مع أنّه لو کان ما قلتم من غلبة الوصول الی البدن ملحوظاً، لزم منه الحکم بالعفو مطلقاً عن البول فی البدن، لا الحکم بالمساواة مع الثوب فی الغَسل کلّ یومٍ مرة.

اللّهم إلّا أن یُدّعی استفادة ذلک من ذکره فی الثوب، و أنّ ترک تعرضه فی الخبر للعلم بعدم زیادة حکمه عن أصله و هو الثوب.

لکنه ممنوع جدّاً، کمنع دلالة عدم التعرّض للبدن علی العفو عنه، إذ لعلّه ایکالٌ الی اطلاق الأدلة و عموماتها.

و النتیجة هی عدم الحاق البدن بالثوب فی العفو عنه للصلاة إذا تنجّس.

الفرع الثالث: و یدور البحث فیه عن أنه هل یلحق بالبول الغائط و الدم و غیرهما أم لا؟

یظهر عن بعض و لو تلویحاً کالمتن و غیره إنّه لم یختصّ الحکم بالبول، بل فی «کشف اللثام»: «لم یخصّوا الحکم به» بضمیر الجمع الظاهر فی الأکثر إن لم یکن الجمیع، بل فی «جامع المقاصد» التصریح بأنّه ربما کنی بالبول عن النجاسة الأخری، کما هو قاعدة لسان العرب فی ارتکاب الکنایه فیما یُستهجن التصریح به، ممّا یشعر باحتمال الالحاق، بل عن ظاهر

ص:194

الشهید القول به، بل عن «التذکرة» و «نهایة الأحکام» استشکاله أوّلاً من اختصاص النصّ بالبول، و من الاشتراک فی المشقة، ثم استقرب الثانی.

أقول: لکن الأوجه کما علیه الأکثر، هو عدم الالحاق، و ذلک ممّا قد عرفت من لزوم الاقتصار فی المخالف للقاعدة علی موضع الیقین و النصّ. و دعوی الاشتراک فی العلّة غیر مسموعة، لعدم القطع بکون العلّة هی المشقة و المساواة مع البول، کما نمنع دعوی الکنایة هنا، لأنها مجاز لا یصار الیه إلّا بالقرینة، و هی مفقودة، کما لا یخفی.

الفرع الرابع: عن أنّه هل یلحق بذاک الثوب الواحد، ذات أثوابٍ متعددة، مع عدم الحاجة الی لبسها مجتمعةً أم لا؟

فیه خلافٌ، و الظاهر من جماعةٍ بل صریح عدّة أخری عدم الالحاق، وقوفاً علی ظاهر النصّ، و الاقتصار فیما خالف القاعدة علی موضع النصّ، و لانتفاء المشقّه حینئذٍ لو جعلناها علّة، و إلّا کان الحکم کذلک، سواءٌ کانت المشقه محققه أم لا، بل قد یظهر من المتن و غیره عدم الفرق فی ذلک بین احتیاجها بلبس جمیعها و عدمه، فلازمه عدم اجراء الحکم مع التعدد مطلقاً، و لکن قال صاحب «الجواهر» بعده: «لکنه لا یخلو من تأمّلٍ و بحثٍ لصیرورة التعمّد له کالاتّحاد فی الفرض المذکور».

و لا یخفی ما فیه إذا قلنا بالاقتصار فیما خالف الأصل و القاعدة علی موضع الیقین، حیث لا نرجع الی الملاک و العلّة، کما کأنّ الأمر کذلک فیما سبق من الاقسام.

أقول: یظهر ممّا ذکرنا جواز اجراء الحکم المذکور لذات الثوب

ص:195

الواحد، القادرة علی شراء غیره أو استیجاره أو إعارته، لما عرفت من قیام النصّ المطلق علیه حیث لم یقیّد بانتفاء أحد هذه الامور، کما علیه صاحب «الجواهر» و «العروة» و أکثر اصحاب التعلیق لو لا الکلّ، خلافاً لجماعةٍ أخری کصاحب «الروض» و «کشف اللّثام»، بل عن «المعالم» حکایة القول به عن جماعةٍ من المتأخّرین، معلّلین ذلک بانتفاء المشقّه کما هو کذلک فی الواقع.

لکن ثبت ممّا ذکرنا خلّو الروایة عن التعلیل بهذه العلّه حتّی یکون الحکم دائراً مداره، و إن کان الاحتیاط مساعداً لذلک، کما لا یخفی.

الفرع الخامس: عن أنّه هل هذا الحکم مختصٌّ للمربیة لولد واحدٍ، أو یشمل ما لو کان متعدداً؟ فیه وجهان بل قولان: قولٌ بالالحاق کما علیه الشهیدین فی «الدروس» و «الذکری» و «المسالک»، خلافاً للحدائق و «الذخیرة» و «الروض»، بل ظاهر «الریاض» أو صریحه القول بعدم الالحاق لقوّة النجاسة و کثرتها و ظهور النص فی الواحد، هذا.

أقول: و لکن یمکن القول بالالحاق، لاحتمال شمول نفس الروایة باطلاق لفظ (المولود)، حیث یصدق علی ذات الولدین، مع فرض تنجّس ثوبها ببول واحدٍ منهما، اذ وجود الآخر لا یمنع من الصدق، بل و إن ْ تنجّس ببولهما، لفهم الأولویّة أو المثالیّة من مثل هذا الترکیب، أو الصدق علیه عرفاً.

و احتمال کون ذکر التنوین فی (المولود) الوارد فی الخبر تنوینُ الوحدة حتّی یستفاد منه شرط الوحدة بعیدٌ، لاحتمال کون التنوین للتمکن

ص:196

لا لذلک. و علیه فالالحاق قوّی جداً و إن کان الاحتیاط یقضی بعدم الالحاق.

الفرع السادس: هل الحکم مختصٌّ بالصبیّ، أو یجری حتّی فی الصبّیه؟ فیه قولان: قول بالشمول کما صرّح به الشهیدان فی «الذکری» و «المسالک»، بل فی «الذخیرة» و «المعالم» نسبته الی أکثر المتاخّرین، و به جزم صاحب «المدارک» و کذلک صاحب «الجواهر» و «مصباح الفقیه» بدعوی شمول لفظ (المولود) للذکر و الأنثی.

و قولٌ لجماعةٍ أخری من الفقهاء کالمحقّق هنا و فی «المعتبر» و «النافع»، و العلّامة فی «المنتهی» و «الارشاد»، و الشهید فی «البیان»، و العلّامة فی «النهایة» بالاختصاص و عدم التعمیم. قال العلّامة بعد ذکره الروایة: «إنّ الحکم مخصوص بالذکر إقتصاراً فی الرّخصة علی المنصوص، و للفرق فإنّ بول الصّبی کالماء و بول الصبیّة أصفر ثخین و طبعها أحرّ، فبولها ألصق» انتهی.

أقول: و لا یخفی أنّ ما ذکره من الأمور متین لو أردنا الحاق الصبیة بالصبی، و لکن لیس الأمر کذلک، بل المقصود هنا شمول اطلاق لفظ (المولود) للذکر و الأنثی، إذ هو اسمُ جنسٍ یشمل کلاهما، بل حتّی الخنثی، فیکون الحکم هو التعمیم. نعم إن قلنا بعدم الشمول من جهة ملاحظة لفظ (مولود) الذی هو مذکر مفرد، و إن أردنا عند الشمول إلحاق الصبیّة بالصّبی، یأتی ما عرفت من الاختلاف، فعلیه لا یبعد القول بعدم الالحاق من جهة لزوم الاقتصار فیما خالف الأصل و القاعدة علی موضع الیقین و هو الذکر دون الانثی، بل الخنثی لأنها ملحقٌ بها فی ذلک إذا لم

ص:197

یثبت ذکوریتها. و علیه فالأقوی هو التعمیم و إن ْ کان الأحوط هو الاختصاص بالصّبی.

الفرع السابع: ظاهر النص و الفتوی هنا تعیّن الغَسل، و إن کان الولد صبیّاً لم یتغذ بالطعام الّذی یُکتفی فیه فی تطهیر بوله فی غیر ثوب المربّیة بالصبّ، کما صرّح بذلک العلامة و تبعه بعض من تأخّر عنه، بل فی «الحدائق» صرّح بقیام الاتفاق علیه، و جعل وجه الفرق بین الموردین هو الاکتفاء بالمرّة مع الغَسل التی لا یشک کونها غسلاً معها، بخلاف غیرها المحتاج الی تکرر الازالة کلّ ما أراد الدخول فی الصلاة، و لذلک یکفی فیه الصّب، بخلاف المقام حیث ربما یتکرّر النجاسة و یزید فی الیوم، فلذلک حکم بالغسل دون الصبّ.

و لکن الأولی هو أن یقال: إنّ النسبة بین الدلیل الدّال علی الاکتفاء بالصّب الذی یشمل بول الصّبی للمربیة و غیرها، و بین دلیل لزوم الغَسل فی کلٍّ یوم مرّة، الذی یشمل الصّبی غیر المتغذّی بالطعام و المتغذّی منه، کما یشمل ما لو کان المولود صبیّاً أو أنثی علی المختار من شمول النصّ لهما، هی العموم من وجه، و حینئذٍ: إن قلنا بأنّ الصبّ أیضاً قسمٌ من الغَسل، و لیس بخارجٍ عنه، فحینئذٍ یرتفع التعارض حیث بجوز الاکتفاء بالصبّ فی کلّ یومٍ مرّة، إذ یصدق علیه الغَسل أیضاً، فیدخل تحت حکم الدلیل، أو یقال إنّ الصبّ المقابل للغَسل یغایر مع الغسل دون غیره، حیث یطلق فی غیره کلّ منهما مکان الآخر، فعلیه ینتفی التعارض و التّنافی بین دلیل المقام مع دلیل الصبّ.

ص:198

و أمّا إن قلنا بالافتراق بین الغَسل و الصبّ، و أنّ المطلوب هنا هو الغسل بلا فرق بین کون الصّبی هو المتغذّی من الطعام أو غیره، کما هو فرق علی المختار بین الصّبی و غیره، فلازم التعارض هنا هو تحصیل الأرجحیّة لأحدهما فی مورد الاجتماع، کما إذا کان الصبی غیر متغذٍ و کونه مع المربّیة حیث أنّ مقتضی دلیل الصبّ کفایته، و مقتضی دلیل المقام هو الغَسل، و الظاهر أرجحیة الثانی علی الاوّل، حیث أنّه علی تقدیم الغَسل یحصل الفراغ قطعاً و لو کان فی الواقع مورد الصبّ، هذا بخلاف ما لو اقتصر علی خصوص الصّب حیث إنه لا یکفی عن الغسل لو کان ذلک وظیفة. و هذا یتمّ لو کان أصل التکلیف ثابتاً، و إلّا لو کان مشکوکاً فربما یکون مقتضی البراءة عدم وجوب الغَسل.

هذا، ولکن التأمّل یحکم بخلافه، لدوران الأمر حینئذٍ بین أحد التکلیفین للعلم بوجوب أحدهما، فالشک لیس فی أصل التکلیف بل یکون شکاً فی المکلف به، فالأصل حینئذٍ هو الاشتغال، و هو یقتضی القطع بالفراغ و هو غیر حاصل بالصبّ فقط دون الغسل، فیقدم الغَسل کما لا یخفی.

الّا أنّ صاحب «الجواهر» تبعاً لصاحب «کشف اللّثام» اختار کفایة الصبّ فی کلّ یومٍ مرّة، من باب جعل الصبّ من مصادیق الغَسل، فلا تنافی بین الاطلاقین حتی یحکم بترجیح أحدهما علی الاخر.

أقول: الأقوی عندنا هو ما سبق، لکونه أوفق بالاحتیاط، و أحسن من تطبیق الأدلة علیه، و الله العالم.

الفرع الثامن: و یدور البحث فیه عن المراد من (الیوم) الوارد فی روایة

ص:199

أبی حفص لمربّیة الصّبی من الغسل فی الیوم مرّة، و الیک نصّ الخبر، قال: «تغسل القمیص فی الیوم مرّة» فما المراد من (الیوم):

1. هل هو الشامل لللیل أیضاً کما یطلق الیوم کذلک فی بعض المحاورات فی الدیون و المطالبات؟

2. أم لما فی «المنتهی» من أنّ اسمه یطلق علی النهار و اللیل، إمّا بملاحظة التبعیة و تغلب المفهومین هنا بقرینة تسالم الأصحاب ظاهراً علی الاجتزاء بالمرّة فی الیوم، و لعلّ منشأ هذا التسالم ظهور النص فی عدم وجوب الغَسل علیها فی شیء من الاوقات إلّا کلّ یومٍ مرّة، بلا حاجة الی دعوی العموم، و الشمول لللیل حقیقهً أو مجازاً، المستلزم لجواز ایقاع الغَسل لیلاً و الاکتفاء به کما یجوز فی عکسه مع أنّ ظاهر النص و الفتوی هو تعیین وقوع الغَسل فی الیوم و إن ْ کان لا یخلو عن بحث.

3. أو أنّ المراد من (الیوم) هو خصوص الواقع بین الطلوع و الغروب، بحیث لو وقع الغَسل فی غیر هذا الحدّ لم یتحقّق الامتثال، بعد التسالم علی أنّ الواجب علیها منه لیس إلّا واحداً فی أربعة و عشرین ساعة.

فیه وجهان، بل قولان، و یظهر عن بعض اختیار القول الأول بدعوی عدم خصوصیّةٍ فی غَسل الیوم فیه، لأنّ الحکم لیس تعبّدیاً محضاً، بل المقصود هو حصول الغَسل و التطهیر فی هذه المدّة، بلا فرقٍ فیه بین وقوع الغَسل فی الیوم و یکتفی به لللیل أو عکسه، و أنّ ذکر الیوم یکون من باب التغلیب و المناسبة من وقوع الغسل فی الیوم غالباً دون اللیل.

و علیه، فیصیر _ بناء علی هذا الاحتمال _ ذکر قید (الیوم) من قبیل قید

ص:200

(فی حجورکم) للربائب الوارد مورد الغالب لا من باب الاحتراز.

أقول: و هذا الوجه لا یخلو عن الوجاهة، لأن الالتزام بکون وقوع الغَسل فی الیوم له خصوصیة خاصة غیر موجودة فیما اذا وقع فی اللیل أمرٌ مشکلٌ جدّاً، و إن کان مقتضی القاعدة التی قد عرفت سابقاً من لزوم الاقتصار فیما خالف الأصل علی موضع النصّ الموافق مع الاحتیاط هو الثانی کما علیه صاحب «مصباح الفقیه» و المحقّق الآملی، لکن الأخیر علّق علیه بأنّ الذی قد یبعّده هو مقتضاه من عدم کفایة الغَسل الواقع قبل المغرب لأجل تنجّس ثوبها ببوله لصلاة العشاء إذا تنجّس ثوبها بعد صلاة المغرب، فیجب علیها غَسل ثوبها لصلاة العشاء، لأجل وقوع الغسل فی اللیل. هذا کما فی «مصباح الهدی».

و لکن یمکن أن یُجاب عنه أوّلاً: إنّه إنّما یتم هذا إذا کان زمان ایقاع الغَسل لصلاة المغرب بعد دخول اللیل لا قبله فی الیوم، و الّا دخل تحت مفاد الروایة.

و ثانیاً: بامکان أن یقال إنّه أذا أتی بالغَسل فی الیوم، لزم منه أن تکون النجاسة العارضة فی اللیل بین المغرب و العشاء معفواً، و لا یحتاج الی اعادة الغَسل لصلاة العشاء کما لا یخفی علی المتأمّل، کما أشار الیه نفسه بعده بقول: «و یمکن أن یقال...».

الفرع التاسع: مقتضی اطلاق الروایة هو أنّ المربیّة مخیّرة فی اتیان الغَسل فی أیّ ساعةٍ من ساعات الیوم، سواءٌ کان الغَسل وقع فی وقت الصلاة أم لا، کما صرّح بذلک غیر واحدٍ من الأصحاب، و لکن قال

ص:201

المحقّق فی «جامع المقاصد»: «الظاهر اعتبار کون الغَسل فی وقت الصلاة، لأن الأمر بالغَسل یقتضی الوجوب، و لا وجوب فی غیر وقت الصلاة، و لو جعلته آخر النهار کان أولی لتصلّی فیه أربع صلوات»، و تبعه فی ذلک صاحب «اللّوامع». بل فی «التذکرة» احتمال وجوب تأخیره مع تأخیر الظهرین لتمکنها حینئذٍ من جمع أربع صلوات فی طهارةٍ، فهو أولی من تقدیمه للصبح خاصة.

أقول: و لکن یرد علیه بامور:

أوّلاً: نمنع ظهور هذه الأوامر للوجوب التکلیفی، بل الظاهر سوق مثل هذه الاوامر لافادة الحکم الوضعی، و هو شرطیة الطهارة فی الثوب للصلاة و لو بالنسبة کما هو الأصل فی الاوامر.

و ثانیاً: أنّه لو سُلّم دلالته علی الوجوب، فلا دلالة له علی اختصاص الغَسل المقدمیّ بما یقع بعد الوقت، و لا یسلب الصلاحیة عمّا یقع قبله، لعدم الملازمة باختصاص الحکم التکلیفی بوقت الخطاب للحکم الوضعی بذلک الوقت، و إن استیفدا معاً من عبارة واحدة و خطابٍ واحد.

و ثالثاً: نمنع اختصاص الوجوب المقدمی بما بعد الوقت.

و توهّم: أنّ الوجوب إذا کان قبل الوقت فی الوجوب المقدّمی یستلزم وجوب ذی المقدمة قبله، و الّا یلزم تحقّق المعلول قبل تحقّق علّته.

مدفوعٌ: بامکان أن یکون وجوب المقدمة قبل الوقت بوجوب نفسی أصلی بالملاک المقدّمی، فیکون الخطاب الأصلی منتجاً للوجوب المقدمی کما فی الغُسل قبل الفجر لصوم نفس الیوم.

ص:202

و إن ْ جَعلت تلک الغَسلة فی آخر النهار أمام صلاة الظهر کان حسناً(1)

أقول: ما احتمله العلّامة فی «التذکرة» من وجوب تأخیر الغَسل مع تأخیر الظهرین لتتمکن من الجمع بین الظهرین و العشائین مع طهارة ثوبها، أو مع تخفیف نجاسته و وجوبه اشکالٌ، ینشاءُ من الاطلاق، و من أولویة طهارة الأربع علی طهارة واحدة هذا.

ممنوعٌ و لا یخفی ما فیه، لأنّه مع فرض الاعتراف باطلاق النصّ، لا تصلح هذه الاولویة الاعتباریة لأن تکون منشأ ً لتقیید الحکم. نعم یصحّ أن یقع وجهاً للرجحان لهذا الوجه، لو لم یزاحمه وجهٌ آخر، و الّا یشکل تقدیمه و ترجیحه، و هو مثل ما إذا کانت النجاسة قبل صلاة الصبح، فإنّ تأخیر الغَسل الی العصر اعتماداً علی الأولویة المذکورة، موجبٌ لایقاع صلاة الصبح فی الثوب النجس، و هو مخالفٌ للاحتیاط، خصوصاً مع احتمال بقاء الثوب علی طهارته الی العصر لو غَسل قبل صلاة الصبح، و الی ما قلنا أشار المصنّف فی عبارته الآتیه.

(1) لما قد عرفت أنّ الغَسل هنا لیس إلّا لأجل تحصیل ما هو مقدمة لصحة الصلاة الآتیه المشروطة بها بوجود الغَسل و تحققه، و إن ْ لم یکن متحققاً بلا فصلٍ، لعدم قصد الطهارة من هذه المقدمة، کما یوحی الیه تصریح جماعةٍ منهم العلّامة علی عدم وجوب ایقاع الصلاة بعده بلا فصلٍ، و إن یبس الثوب و تمکنت من لبسه. بل فی «الجواهر»: «لا أعرف فیه

ص:203

خلافاً سوی ما فی «المدارک» حیث أوجب وقوعها بعده مع التمکن من لبسه، و التوقف لصاحب «الحدائق» و النظر لصاحب «الذخیرة»، مع أنه موهون لظهور الدلیل باطلاقه علی خلافه، فللمربیّة التأخیر زماناً تعلم فی العادة عدم بقائه علی الطهارة فیها».

و الحاصل: المستفاد من النص هو التوسعة فی ایقاعه فی تمام (الیوم) من غیر فرقٍ بین وقوعه قبل الصلاة أو بعدها، لأن الشرطیة لیست إلّا وجوده لا کونه قبل الصلاة دون بعدها. بل الظاهر من هذا الشرط، کونه شرطاً للفرائض الخمس من الیوم المذکور فی النص علی ارادة طلب الغَسل مرّة لکلّ خمسٍ، فلا فرق حینئذٍ بین غسله بدایة النهار و ایقاع الخمس به أو قبل وقت الظهرین و ایقاعها مع العشائین و الصبح الآتی به أو بعده و ایقاع العشائین به مع الصبح و الظهرین الآتیه، و برغم أنّ مقتضی هذا البیان هو عدم الفرق بین وقوع الغَسل فی النهار أو اللیل، لکن ثبت مما ذکرنا سابقاً احتمال تعین وقوعه فی النهار لأجل الاقتصار فیما خالف القاعدة علی موضع النص. بل مقتضی ما بینّاه من کون الغُسل مقدمة للفرائض الخمسة هو انتهاء الرخصة باتیان الخمسة به، کما لو قام بالغَسل قبل الظهرین فأتی به الظهرین و العشائین و الصبح، و باتیانه لهذه الصلوات ینتهی ترخیصه و لیس له الاتیان بالظهرین من الیوم اللاحق قبل الغَسل، لأنه یکون بلا مقدمة و شرط، و قد دلّ الدلیل علی لزوم تحققه فی کلّ یوم مرّة واحدة، أی لابدّ من اتیانه فی کلّ یوم مرّة واحدة، و الصلاة بعده الی أن یدور الزمان الی مثل ذلک الوقت، فلابدّ من وقوع الصلاة بعد

ص:204

الغَسل فی کلّ یومٍ و لو مع الفصل، و یکون تأثیره ممتداً الی الیوم الآتی فیما قبل الصلاة، و إن لم یقع الغَسل وقت الصلاة کما عرفت.

کما أنه لا بأس من الالتزام بأنّ مقتضی کون الغَسل لخمس فرائض أو للیوم کما عرفت، أنه لو أخلّ بالغَسل حتی صارت الفریضة قضاءً، یأتی فی ذلک الیوم بسائر الفرائض المقضیّة، و لا یکون اتیان القضاء مشروطاً بأن یأتی به فی آخر الفرائض، و إن صرّح به فی «المدارک» و «الذخیرة»، معلّلین لذلک بأنّه محلّ اداء الفائتة لجواز تاخیر الغَسل الی ذلک الوقت، لما عرفت أنّ ذلک خلاف لما هو ظاهر النص من الاطلاق بوجب ایقاعه فی کلّ یومٍ مرّة، من غیر مدخلیة لها فیما تقدّمها من الصلوات، و إن توقفت صحة آخر الصلوات علیها.

و لعلّ المراد من آخر الفرائض بلحاظ الیوم، هو صلاة العصر، إذا فرض کون الغَسل فی وقت الصلاة، فلازم ذلک کون القضاء لخصوص العشائین، و لکن أصل الدعوی مشکلٌ.

کما أنّه یمکن أن یقال: بوجوب قضاء سائر صلوات ذلک الیوم، و إن لم نقل بالوجهین السابقین علی معنی شرطیة هذا الغسل و لو تاخّر عن الصلاة، فینکشف حینئذٍ عدم صحة الصلاة السابقه، فضلاً عن اللاحقة بترک ذلک الغَسل، نظیر ما یقال لبعض أغسال المستحاضة الذی یعدّ شرطاً لصحة صوم السابق مثلاً کما لا یخفی.

الفرع العاشر: و یدور البحث فیه عن أنّه هل المراد من المربّیة هی خصوص الأمّ أو الأعمّ حتّی تشمل من کانت متبرعة أو مستاجرة، و حُرّة و

ص:205

أمة؟ فیه وجهان: من جهة صدق وصف المربّیة لکلّ امرأةٍ کانت ذات مولود یوجب التعمیم، کما صرّح به جمعٌ کثیرٌ من الاصحاب، منهم صاحب «الجواهر» و إن ادّعی فی أوّله کون المراد من المربّیة هی الامّ، ولکن لعلّه استیفاد ذلک من اللام فی جملة (لها مولودٌ) الظاهر فی کونه ولدها.

و لکن أجیب عنه: بأنه تبادرٌ بدوی، و المقصود لیس إلّا جهة کونها مربّیة، اذ لا دخالة للأمومة فیه.

و لکن قال فی «مصباح الهدی»: «إنّ القطع بعدم الفرق غیر ظاهر، و لعلّ الاقتصار علی الأم و القول بعدم العفو فی غیرها فیما اذا لم تؤدّی الازالة الی الحَرج الشخصی أحوط»، و هو متینٌ.

کما لا یبعد اجراء الحکم للمتعدد من المربّیة بعد فرض صدق الوصف علی المتعدد، کما یصدق علی الواحدة، حیث أنّ خصوصیة الوحدة فی الحکم غیر دخیلة، إذ الظاهر کون الملاک هو دوران الحکم مدار وجود الوصف فی الموضوع و عدمه، کما قد تلغی خصوصیة الأنوثة فی تعلق الحکم به، فلازمه حینئذٍ أنه متی ما کانت المربیّة متصفة و مشتملة علی الوصف المذکور فی الحدیث جاز لها أن تقوم بغَسل ثوبها فی کلّ یومٍ مرة واحدة، و من ثم یجوز لها الصلاة فی ثوبه، کما هو ظاهر الفتاوی، و إن کان التعبّد بظاهر الروایة من الأمومة و الأنوثة أوفق بالاحتیاط، لما عرفت من الاقتصار فیما خالف القاعدة علی موضع النص.

الفرع الحادی عشر: هل یتسرّی العفو المزبور عن الصلوات الیومیة الی غیرها من صلاة القضاء أو الاجارة أو صلوات الآیات و نحوها أم لا؟

ص:206

قال صاحب «الجواهر»: «لا یبعد ذلک لاطلاق النص و الفتوی، کما عن «نهایة الاحکام» قبوله، و کونه أقرب بعد الاشکال فیه، و إن نصّ علی خصوص القضاء. و الظاهر عدم ارادته الاختصاص به، لأنه إن أجیز التعدّی عن مورده و هو الصلوات الیومیة، فلا فرق فیه بین کونه فی خصوص قضائها أو سائر الفرائض بل النوافل، لأنّ الحدیث قد سبق لبیان أصل الشرطیة لجمیع ما کانت الطهارة شرطاً له، و هی فی حقّ المربیة لیست الّا هکذا، فبعد تحصیل الشرط یجوز لها ایتان کلّ ما شرط فیه ذلک، الّا أن یستظهر من الروایة خصوصیة الشرطیة الکذائیة لخصوص الفرائض الیومیة، و اثبات ذلک لا یخلو عن تأمّل، و إن کان لازمه علی القول به هو لزوم التطهیر لمثل صلاة الآیات إن أوجبت علیها کما لا یخفی.

الفرع الثانی عشر: عن أنّه هل یلحق بالمربّیة غیرها ممّن یکون مثلها فی اشتمال التطهیر متکرراً الحرج و المشقّة، مثل الخصی المتواتر بوله، أو المسلوس و المبطون و نحوهم، بأن نجعل الدلیل الوارد فی المربّیة موجباً للتسرّی الی ذلک أم لا، بل یحتاج التعدی الیها الی دلیلٍ خاص غیر

دلیل الحرج؟

قد یقال: بالتسرّی فی خصوص الخصیّ المتواتر بوله لأجل ورود نصٍّ فیه بخصوصه، و هو مثل مکاتبه عبدالرحیم القصیر، قال: «کتبتُ الی أبی الحسن الأول علیه السلام أسأله عن خِصیّ یبول فیلقی من ذلک شدّة، و یری البلل بعد البلل؟ فقال: یتوضّأ و ینضح ثوبه فی النهار مرّة واحدة». (1)


1- وسائل الشیعة: الباب 13 من أبواب نواقض الوضوء ، الحدیث 8.

ص:207

قال الشهید رحمة الله فی «الذکری» و «الدروس»: «و عُفی عن خصی تواتر بوله بعد غَسل ثوبه مرّةً فی النهار، و إن ضعفت الروایة عن الکاظم علیه السلام للحرج».

بل قال فی «المنتهی» بعد اعترافه بضعف الخبر: «لکن العمل بمضونه أولی لما فیه من الرخصة عند المشتبه»، بل قد یظهر من «المعتبر» المیل الی ذلک أیضاً، و إن اعترف بضعف الراوی المذکور، بل صرّح بعدم العمل بروایته، لکنه قال بعد ذلک: «و ربما صیر الیها _ أی الروایة السابقه _

دفعاً للحرج». حکم ثوب الملحق بثوب المربیة

بل عن «الفقیه» روایة الخبر المذکور آنفاً ممّا یعنی قبوله لها خاصة و أنّه ذکر فی أوّل «الفقیه» أنه لا یروی فیه الّا ما یعمل به، بل قد یظهر من العلامة فی «التذکرة» العمل بها فی الجملة، فإنه و إن صرح بضعفها و أوجب تکریر الغسل، لکنه قال: «فإن تعسّر عمل بمضمون الروایة دفعاً للمشقة، و لعلّه لذلک نسب العفو عن ثوب الخصی بعد الغَسل مرّة فی «الذخیرة» الی جماعة.

و لأجل ذلک قال صاحب «الحدائق»: «الأظهر طرحه و الرجوع الی الأصول و قواعد النجاسات، من جهة اجمال المراد به» ثُمّ بیّن فی الخبر توجیهاً بما لا یخلو عن وهنٍ، کما اشار الیه صاحب «الجواهر» فراجعه.

أقول: لا بأس هنا بذکر وجه الاشکال فی تثبت الحکم لثوب الخصیّ، بعد کون الأصل عدم الالحاق، و هو أنه إذا لم یکن الخبر موثوق الصدور لضعف الراوی، کما إذا لم یکن ضعفه منجبراً بعمل الأصحاب و شهرتهم، فلا یمکن اثبات ذلک الحکم بخصوصه من ذلک الخبر، إلّا أن ندّعی أنّ

ص:208

المورد یعدّ من مصداق الحَرَج فیعنیه الخبر باعتبار أنه مشتملٌ للجرح و المشتقه، کما صرّح بعض بذلک، و علیه فیکون العمل بالخبر لا لخصوصیة فیه و فی نصّه حتی یقال إنه ضعیف لا یمکن العمل به، بل لحرجیّة المورد.

لکنه مردود، لأنّه إن کان المورد من مصادیق الحرج، فلابدّ من الالتزام بما یخرجه عنه من تکریر الغَسل، کما هو مقتضی قاعدة الحرج إذا کان شخصیاً، لا اثبات ما ثبت فی المربّیة من الغَسل فی کلّ یومٍ مرّة، لأنه حکمٌ خاص لابد من اثباته بدلیلٍ خاص ورد فیه.

لا یقال: بأنه یثبت بواسطة هذا الخبر الذی ورد فی حقّ الخِصی المزبور، بأنّ رفع حرجه یکون بالعمل بما ورد فی حقّ المربیة.

لأنا نقول: اثبات خصوص هذا الطریق فی الخروج عن الحَرَج به مع امکان وجود طرق آخر لذلک یحتاج الی دلیلٍ معتبر مقبول، لا مثل هذا الخبر الضعیف الذی قد عرفت ضعفه سنداً و دلالة.

نعم، لو لم یکن للخصیّ طریقاً آخر للتخلّص عن الحرج، و انحصر الطریق فیه الی ذلک، کان له العمل به، لکن لا لأجل کونه عملاً بالنصّ، بل لأجل أنه مقتضی دلیل الحرج، بحیث لکان العمل کذلک إن لم یکن فی المورد هذا الخبر أیضاً.

نعم، لا یبعد القول بأنّ هذا الحرج یصیر راجحاً لذلک إذا دار الحکم بین سقوط التطهیر من الأصل، أو اتیانه فی کلّ یومٍ مرّة واحدة کما فی الخبر، و الله العالم.

هذا کلّه لو سلّمنا تمامیة دلالة الخبر علی ما ادّعوه، و إلّا یمکن الاشکال فی أصل دلالته لأجل الاجمال فیها، لأنّ فیها احتمالات موجبة لسقوطها عن

ص:209

الحجیة و الاستدلال، لما اشتهر بینهم أنّه: «إذا جاء الاحتمال بطل الاستدلال» فلا بأس بذکر الاحتمالات التی ذکرها المحقّق الآملی فی مصباحه رفع الله درجاته فی أعلی علیین، حیث أجاد فیما أفاد، و إن بعضها لا یخلو عن وهن، فنحن نکتفی بذکر کلامه، قال: «فإنّ فیها احتمالات:

الأوّل: أن یکون المراد من النضح فیها رشح الماء علی الثوب، و جعله رطباً لیصیر منشأً لاحتمال استناد البلل الیه، و لا یتیقّن کونه بولاً و یکون من قبیل الحیل الشرعیة.

الثانی: أن لا یکون البلل الخارجة ممّا علم کونها بولاً، بل ظن ببولیّتها أو شک فیها أو کانت موهومة، و یراد من النضح معناه العرفی و هو

الرشح و الصبّ.

الثالث: أن تکون تلک البلل ممّا علم ببولیتها، و یکون المراد بالوضوء و النضح هو الغسل، فمعنی قوله علیه السلام : «یتوضا و ینضح ثوبه فی النهار مرّة واحدة» أنه یغسل البول الذی أصابه و یغسل ثوبه منه مرّة واحدة فی نهاره.

الرابع: أن تکون البلل ممّا علم بولیتها، و المراد بالنضح هو معناه العرفی أعنی الرشح.

لکن الروایة علی الأخیر مخالفة للقواعد الشرعیة المقررة فی باب النجاسات، و علی الاحتمال الثالث تصیر حکم المذکور فیها حکم المربیة، لکن هذا الاحتمال ضعیفٌ جدّاً، و علی الاحتمالین الأولین أجنبیّة عن حکم المربیة» انتهی محل الحاجة من کلامه. (1)


1- مصباح الهدی، ج 2/164 _ 165.

ص:210

و إن کان مع المصلی ثوبان وأحدُهُما نجس لا یعلمه بعینه، صلّی الصلاة الواحدة فی کلّ واحد منهما منفرداً(1)

و بالجملة: ثبت من جمیع ذلک أنّ الحق هو أن حکم من یتواتر

بوله حکم سائر المضطرّین اذا انتهی تکرر الغَسل الی الضرر و الاضطرار،

و هو المطلوب:

(1) لا یخفی أنّ فرض المسألة فیما اذا تعذّر التطهیر لأحدهما، و کذلک عن غیرهما و لم تتعدّ نجاسته الی البدن، حیث یأتی البحث عن أنّه هل یجب الاتیان بالصّلاة فی کلّ منهما مع سعة الوقت، أو یأتیها عریاناً؟

اختار المصنّف الأوّل، بل فی «الجواهر» أنّه الأشهر، بل هو المشهور نقلاً و تحصیلاً، بل لا نعرف فیه خلافاً الّا من ابنی ادریس و سعید، و إن حکاه الشیخ فی «الخلاف» عن قومٍ من أصحابنا، فأوجبوا الصلاة عاریاً. بل قد تشعر بعض العبارات بالاجماع أو استقراره علی عدمه، ثُم اختاره صاحب «الجواهر» بقوله: «و لعلّه کذلک».

و الدلیل علی ذلک أوّلاً: الاستصحاب لبقاء التکلیف باتیانها بثوبٍ طاهرٍ، مع اطلاق ادلّته، بل ادلة الصلاة جامعة للشرایط، حیث لا یتمّ حصول الامتثال الّا باتیانها کذلک.

و ثانیاً: دلالة النصّ الصحیح علیه و هو الخبر الذی رواه الصدوق فی «الفقیه» باسناده عن صفوان بن یحیی أنه: «کتب الی أبی الحسن علیه السلام یسأله عن الرجل معه ثوبان فأصاب أحدهما بول و لم یدر أیّهما هو، و حضرت الصلاة، و خاف فوتها، و لیس عنده ماء، کیف یصنع؟ قال: یصلّی فیهما جمیعاً». (1)


1- وسائل الشیعة: الباب 64 من أبواب النجاسات، الحدیث 1.

ص:211

قال الصدوق: «یعنی مع الانفراد» فالدلیل تام فی دلالته و سنده و علیه الفتوی، هذا.

مع أنه لیس للخصم دلیلٌ یعتمد علیه و یرفع الید عمّا ذکرنا، سویٰ ما استدلّ به الحلّی فی «السرائر» و من تبعه بأمورٍ أربعة:

الاوّل: أنّه لابدّ عند الشروع فی الصلاة من العلم بطهارة الثوب، و هو هنا غیر حاصلٍ حال الصلاة، و إن حصل له العلم بذلک بعد الصلاتین، لأنه یعلم بعدهما بوقوع الصلاة مع طهارة الثوب، إلّا أنه لیس بمفیدٍ و ما هو المفید هو العلم بطهارة الثوب مقارناً مع الصلاة، و هو غیر حاصل.

و لکنه مردود: لأنّ شرط الصلاة هو طهارة الثوب واقعاً و هی حاصلة، للعلم بطهارة أحد الثوبین الذین صلّی بهما، و إن ْ لم یعلم به تعینیاً، و لیس ذلک من الشروط.

الدلیل الثانی: إنّه لابدّ فی کلّ عبادةٍ من الجزم بفعلها، و الصلاة مشروطة بطهارة الثوب، و حیث لا یعلم بها المکلّف حین الصلاة، فلا یحصل له الجزم بالنیّة.

و هو أیضاً مردود: لأنّ الجزم بالنیّة إن اعتبرناها کان فیما اذا تمکن منه و هو هنا غیر متمکن علی نحو التفصیل، و إنّ أمکن ذلک بالاجمال بأن یقصد الامتثال باتیان المأمور به مع ما یعتبر فیه إمّا فی ضمن الصلاة الأولی أو فی ضمن الثانیه.

الدلیل الثالث: إنّه لا یتمکن من قصد الوجوب الذی هو الوجه فی الواجب، حیث إنّه لا یعلم الواجب منهما تفصیلاً.

ص:212

و هو أیضاً مردود أوّلاً: بأنّه لا دلیل لنا علی اعتبار قصد الوجه فی العبادة فیما اذا یتمکن منه، فضلاً عمّا لا یتمکن منه.

و ثانیاً: إنّ الاتیان مع قصد الوجوب فی کلّ واحدةٍ منها ممّا لا بأس به لاتصافها بالوجوب معاً، إمّا بالوجوب النفسی إن صادف مع الواقع، أو المقدمی الغیری لتحصیل المقدمة العلمیة إن لم یصادف، و ذلک یکفی فی جواز قصد الوجوب.

الدلیل الرابع: التمسک بروایة مرسلة «المبسوط» و فیه: «أنّه روی أن یترکهما و یُصلّی عاریاً».

و فیه: و هذا أیضاً مخدوش لأنه خبر واحد مرسل، و ابن ادریس ممّن لا یعمل بالخبر الواحد الصحیح، فضلاً عن المرسل، خصوصاً فیما اذا عارضه الخبر الصحیح المعتضد بفتوی الأصحاب.

هذا مع اعترافه بالاعتراض علی نفسه بکون قول المشهور أحوط، لحصول الیقین بالفراغ بوقوع الصلاة فی ثوبٍ طاهر، إلّا أنه استشکل و أجاب بما قد عرفت من الوجوه المستدلّ بها و عرفت عدم تمامیته.

نعم، قرّر الدلیل _ و هو لزوم قصد الوجه _ بتقریرٍ آخر نقله صاحب «الجواهر» و هو بأن یبدل الوجه فیه بالقربة، بأن یقال إنه لا یتمکن من نیة القربة فی شیءٍ من صلاتیه لعدم علمه بالمأمور به بها منهما.

و الجواب عنه أولاً: کالجواب عن قصد الوجه من لزوم قصد القربة فیها إمّا لأجل نفسه أو لمقدمیته.

و ثانیاً: إنّ هذا الاشکال مشترک الورود مع مختار الخصم، إذ مع اتیان

ص:213

الصلاة عاریاً لا یُعلم أنّها الصلاة المأمور بها، لاحتمال أن یکون مکلفاً بما ذکرنا، لأجل وجود نصٍّ صحیح علی ذلک، بل یکون اتیان الصلاة عاریاً حینئذٍ غیر مفرّغ للذمة قطعاً، کما لا یخفی.

قد یقال: بأنّه إذا فرض لزوم قصد الامتثال باتیان الصلاة فی کلا الثوبین، فإنّه یوجب ترک امتثال النهی عن الصلاة فی الثوب النجس، إذ الشارع قد نهی عنها، و الحال أنّه إذا أتی کذلک یقطع بأنه فعل حراماً، و یتحقّق به المخالفة القطعیة هذا.

و یمکن أن یجاب عنه أوّلاً: بأنّ الحرمة العارضة إن کانت تشریعیة فلا یترتب فی المقام، لوضوح سقوط الحرمة التشریعیة فی مقام الاحتیاط دون الذاتیه، لعدم تصوّر منشأ الحرمة الذی هو التشریع معه، و إلّا لا نسدّ باب الاحتیاط فی کثیرٍ من المقامات، مع أنّه لو کان الاتیان کذلک احتیاطاً حراماً للزم الاشکال علی نفس الخصم، حیث أفتی فی الصلاة الی القبلة المجهولة بتکریر الصلاة الی أربعة جهات، مع أنّه أیضاً لا یمکن الجزم بکون الواقع هو المکلّف به أصالةً، و لعلّ الاتیان بصلاةٍ لم تکن فی الواقع ماموراً بها بما أنّها مأمور من احتمالاً یعدّ حراماً. و علیه فلیس الجواب إلّا بما عرفت أنّ الاتیان بالعمل للاحتیاط کما لا یعدّ تشریعاً محرّماً، هکذا یکون فی المقام.

و ثانیا: لو سلّمنا کون الاتیان بالصلاة مع الثوب النجس حراماً ذاتاً، لکنه حرام فیما اذا علم بأنّ الثوب الذی یُصلّی فیه محرّمٌ بخصوصه، لا ما یعلم به بعد الفراغ عن الصلاتین، کما یعلم بحصول الامتثال باتیان ما هو

ص:214

الواجب علیه فی البین، هذا اوّلاً.

و ثانیاً: لو سلّمنا حرمة صورة الاحتمال کالعلم، فحینئذٍ یدور أمره بین المحذورین: من ترک الاتیان بهما الموجب للعلم بترک الواجب و المخالفة القطعیة، أو الاتیان بهما الموجب لارتکاب الحرام مع تحقّق الامتثال، و علیه فلا اشکال حینئذٍ فی أنّ وجوب الامتثال لمثل الصلاة التی لا تسقط بحالٍ أولی بالرعایة من ترکها لأجل ارتکاب الحرام المحتمل، إذ العقل لا یحرز استقلاله بالحکم بالترک هاهنا، مع ملاحظة اهمّیة الصلاة عند الشرع.

لا یقال: إنّ هذا الکلام إنّما یتم اذا لم یمکن له أداء الصلاة عریاناً، الموجب لحصول الواجب بدون ارتکاب أمرٍ حرام معه.

لأنّا نقول: یدور الأمر حینئذٍ بین رفع الید عن الستر الشرعی الذی

هو شرط للصلاة، و بین الاتیان مع الثوب النجس الموجب لرفع الید عن المانع فی الصلاة، و الظاهر أنّ حفظ الشرط أولی و أهمّ من دفع المانع، و هو المطلوب.

لا یقال: إن سلّمنا جواز الاتیان بالصلاة مع الثوبین للاحتیاط، و أجزناه فَلِم لم یأت بالصلاة عریاناً معهما حتّی یحصل القطع بفراغ الذمّه علی کلّ التقادیر؟

لأنا نقول: إن القطع بالفراغ یحصل مع اتیانها فی الثوبین، لأنّه حینئذٍ یقطع بتحقق الامتثال بالصلاة مع الثوب الطاهر، فلم یبق علی ذمته تکلیف حتی یجب علیه اتیان صلاة ثالثة عریاناً، لاشتراکها مع الصلاتین فی جمیع ما ذکر من الاشکال کما لا یخفی. و لعلّه لذلک لم یتعرّض الخصم بلزوم

ص:215

و فی الثیاب الکثیرة کذلک(1)

الاحتیاط باتیانها ثلاثة؛ فثبت أنّ الأقوی ما علیه المشهور المنصور بالنصّ الصحیح، و الله العالم. حکم الثیاب الکثیرة المشتبهة

(1) بعد ما ثبت أنّ الحکم المختار فیما اذا اشتبه ثوبٌ واحدٌ بین الثوبین هو الاتیان بالصلاة فی واحدٍ منهما، کذلک یکون الحکم فیما إذا تعدد المشتبه بین الثیاب، أو کان المشتبه واحداً بین ثیاب متعددة اذ لا فرق فی أصل الحکم بین تعدد المشتبه أو وحدته، کما لا فرق فی الذی یشتبه فیه أن یکون واحداً أو متعدداً، فمختارنا هو تکرار الصلاة الی أن یحصل له القطع بفراغ ذمته، و هو لا یحصل إلّا باتیان الصلاة زائدةً عن المشتبه و لو بواحدة حتّی یقطع بتحقق الصلاة فی الثوب الطاهر، و هذا لا خلاف فیه، و یقوم به الی أن یبلغ العدد المشتبه فیه الی غیر المحصور، و حینئذٍ هل یجب فیه أیضاً التکرار أم لا؟ فقد یظهر عن بعض اجراء هذا الحکم فی غیر المحصور اذا لم یشقّ التکرار فیه بقدرٍ لانتفاء المشتبه حینئذٍ التی هی المدار فی ارتفاع حکم المقدمة، و هو کما عن صاحب «کشف اللثام» اختیاره.

أقول: لکنه مخدوشٌ، لظهور الأدلة فی طهارة أفراد المشتبه إذا کانت فی اطراف الشبهة غیر المحصورة، لأنّ أغلب ما فی أیدی الناس یعدّ من هذا القبیل، ففی مثل ذلک لا اشکال فی کفایة صلاةٍ واحدة فی أحد الاطراف، و لعلّه خارج عن مراد المصنّف فی قوله فی المقام، بل أراد

ص:216

إلّا أن یتضیّق الوقت فیُصلّی عریاناً(1)

صورة المحصورة، و إلّا لابدّ من تقیید کلامه بما إذا لم یکن من أطراف الشبهة غیر المحصورة، و أمّا فیما فمخیّر فی اتیان الصلاة فی واحد منها و یکتفی به، و لعلّه هذا هو مراد الشهید فی «الذکری» من القول بالتحرّی وجه للحرج کما عن «التذکرة» مثله بأن یکون المراد من التحری هو التخییر کما یشهد له بعض الأمارات.

بل القول بتکرر الصلاة بقدر المکنة فیها أیضاً ضعیف، إذ لا دلیل علیه، و لأنّ المشتقه المعتبرة هی المطلقة الناشئه من الکثرة فی تکلیف المقدمة ترکاً أو فعلاً، لا المشقّه الناشئة و لو من غیرها مثل ما لو ضاق الوقت عن اتیانها أو غیر ذلک، حیث أنها ربما یترتب علیها حکمٌ آخر کما سیأتی.

(1) یعنی إذا کان الوقت ضیّقاً لا یقدر علی تکریر الصلاة، أو یخاف من التخلّف عن الرفقة فی سفره، أو غیر ذلک من الأعذار المبیحة للمخطورات، فلابدّ له من الاتیان بصلاةٍ واحدةٍ بین الثوبین المُشتبهین، و هذا ثابتٌ، لکن السؤال عن أنّه هل یجوز له الاکتفاء باتیانها کذلک مع الثوب المحتمل نجاسته، أو لابدّ له أن یأتی الصلاة عریاناً حتّی یقطع بفقد النجاسة عن صلاته؟ فیه وجهان بل قولان: قولٌ بالأوّل، و هو الذی ذهب الیه جماعة کثیرة کالعلامة و الشهدین و المحقّق الثانی و الفاضل النهدی، و المقدس الأردبیلی، و صاحب «المدارک» و الخراسانی فی ذخیرته، و البحرانی فی حدائقه، و کالسیّد فی «العروة» و أکثر أصحاب التعلیق.

ص:217

و عدّة علی القول الثانی، منهم المحقّق فی «الشرایع» و العلّامة فی «القواعد»، و صاحب «مصباح الفقیه»، و صاحب «الجواهر» و العلّامة البروجردی.

الدلیل علی القول الأوّل: مبنیٌ علی أنّه لو کانت الصلاة فی الثوب النجس المنحصر فیه واجباً و جائزاً مع العلم التفصیلی بنجاسته، ففی صورة العلم الاجمالی یکون الجواز بطریق أولی، لأنه مع العلم التفصیلی تکون الصلاة فیه مستلزماً للمخالفه القطعیّة لمانعیة النجاسة، و إن استلزم الموافقه القطعیة لشرطیة التستر، ففی صورة العلم الاجمالی بتحقّق احتمال مانعیّة النجاسة بتحقّق المانعیة الاحتمالیة یکون مع القطع بالموافقه القطعیة من جهة شرطیة التستر أولی بالرعایة و یقدّم.

نعم، علی القول بانحصار الثوب بالنجس و مع العلم التفصیلی بعدم جواز الصلاة فیه، و لزوم الصلاة عریاناً، یشکل الحکم بالجواز فی صورة العلم الاجمالی بنجاسة أحدهما.

و لکن استدلّوا للجواز فی هذه الصورة بأمورٍ.

الأمر الاوّل: باستصحاب وجوبها فیه الثابت قبل ضیق الوقت.

الثانی: الصلاة فی أحد ثوبی المشتبه أولی من الصلاة عاریاً، لاحتمال مصادفة الصلاة مع الثوب الطاهر.

الثالث: أرجحیّة و أسهلیّة فقدان وصف الساتر و هو النجاسة من فقدان أصل الساتر، لأن بفقد الساتر یفوت معه کثیرٌ من الواجبات دون فقد وصفه.

الرابع: اغتفار النجاسة عند تعذّر ازالتها.

و اعتماداً علی هذه الأدلة الأربعة اختار هذه الجماعة هذا القول.

ص:218

أقول: و لکن قد اجیب عن الکلّ: فأمّا عن الاستصحاب: فلأنّ الوجوب الثابت قبل ضیق الوقت کان وجوباً مقدمیاً لتحصیل العلم بالفراغ باتیان الصلاة مع الثوب الطاهر منهما، و هذا الوجوب قد سقط هنا قطعاً بسقوط ذیه، لأنه یعلم أنه لا قدرة له الاتیان بالفرد الآخر لأجل ضیق الوقت أو غیره ممّا یعذر فیه علی الفرض، فیدور أمره فی المقام بین أن یأتی بالصلاة عاریاً حتّی یقطع بالتحرّز عن مانعیّة النجاسة، أو یأتی فی أحدهما حتّی یقطع بحفظ شرطیة التستر دون مانعیة النجاسة، بناءً علی سقوط المانعیة فی مثل المقام، فلا یبقی هنا وجهٌ للاستصحاب.

و أمّا عن الثانی: و هو أولویة المخالفة الاحتمالیة فی المانعیة عن المخالفة القطعیة لشرطیة الستر، فهی علی اطلاقها ممنوعة، لأنه منوط باحراز أهمیّة حفظ شرطیة الستر علی مانعیة النجاسة المحتملة، إذ ربما یکون احتمال المانعیة أهمّ من حفظ شرطیة التستر قطعاً أو محتملاً، فعلی الأوّل یحکم بتقدّم القول الثانی، و علی الثانی _ أی صورة احتمال الأهمیة فی کلٍّ منها _ یوجب الحکم بالتخییر بین الصلاة عاریاً أو مع أحد الثوبین لا تعیّن خصوص الثانی.

و أمّا الجواب عن الاسهلیة: إنّ فقد الوصف الساتر و هو الطهارة و إن

هو أخفّ من فقد أصل الستر، إلّا أنّه منوط بملاحظة حال حکم انحصار الثوب بالنجس: فإن قلنا بالجواز فیه لزم منه تقدیم ملاحظه حال المانعیة لأنّه أولی من أصل الستر. و إن ْ قلنا بالمنع فی الانحصار، و حکمنا بتقدیم الصلاة عاریاً، لزم منه أن یکون مراعاة الستر فی العلم الاجمالی أیضاً أولی.

ص:219

هذا، مضافاً الی أن الاسهلیة و الأرجحیة تعدّان من الأمور الاعتباریة التی لم یقم علی اعتبارها شیءٌ من الأدلة الشرعیة، فلا تصلحان لاثبات حکم ینطبق علی القواعد الشرعیة.

مضافاً الی أنّه علی فرض تسلیم هذا الاحتمال، فإنّه یوجب الحکم بالتخییر: بین الصلاة عاریاً أو الصلاة مع أحدهما، کما یقولون بهذا التخییر فیما اذا انحصر الثوب بالثوب النجس.

و بین الصلاة عاریاً إذ لم یُعرف القول بتعیّن الصلاة فی النجس إلّا عن بعض متأخّری المتأخرین، الذی قال صاحب «الجواهر» فی حقّه: «یمکن دعوی عدم قدح خلافه فی الاجماع».

و احتمال التفاوت بین هذا المقام و بین الذی انحصر ثوبه بالنجس بکون النجاسة فی الثانی تعینیاً دون الأوّل.

یدفعه عدم ثبوت اعتباره شرعاً، أی بأن یکون الیقین بالنجاسة دخیلاً فی الحکم، بل لعلّ الثابت خلافه من حیث الحاق المشتبه بالنجس فی أکثر الاحکام.

بل یمکن دعوی الفرق بین ما نحن فیه بالتخییر دون هناک، لأنّه مع الیقین بالنجاسة لا یمکن القول بجواز الصلاة فیه، فلابدّ أن یصلّی عاریاً جزماً هناک، بخلاف المقام حیث لا یعلم نجاسة الساتر، و لا یحکم شرعاً فی المشتبه بالنجاسة حتی یقتضی الفساد، و علیه فلا باس هنا من القول بالتخییر إن لم نقل بتعیّن الصلاة عاریاً، لاحتمال أهمیته رعایة مانعیة النجاسة، و لذلک لا یبعد القول باتیان الصلاة عاریاً أوّلاً ثُم مع بقاء الوقت یأتی بالصلاة فی أحد الثوبین، و بذلک یکون قد جمع بینهما و تحصیل الاحتیاط فیه من القطع بالفراغ إن امکن.

ص:220

نعم، علی القول بعدم مانعیة النجاسة مع التعذّر _ کما علیه صاحب «المدارک» و «الذخیرة» _ ففی صورة العلم الاجمالی یتعیّن الاتیان بالصلاة مع أحد الثوبین دون الآخر و دون التخییر، کما لا یخفی.

أقول: ثم لا یخفی أنّه یجب علی مکرّر الصلاة بالثوبین فی الصلوات المترتبه کالظهرین و العشائین من تحصیل القطع بالترتیب اللّازم فیهما، لوضوح أنّ الثوبین هنا یعدّان بمنزلة ثوبٍ واحد، فلو صلّی الظهر بأحدهما و صلّی العصر بالآخر، ثُمّ صلّی الظهر بالآخر و صلّی العصر بالأول لم

یحکم له بالصحة فی غیر الظهر، لاحتمال وقوع الظهر فی الثانی الطاهر، و علیه أداء العصر، و علیه فتحصیل الترتیب فی الفرض المزبور لا یکون الّا بأنّ یأتی العصر بما صلّاها فیه أوّلاً.

و دعوی أنّ المفسد هو العلم بعدم الترتیب لا الاحتمال، واضحة الفساد، لأنّ اللازم هو العلم بحصول الترتیب.

بل ربما یشکل الحکم بصحّة ما لو صلّی الفرضین بکلّ منها معاً، حیث حکم صاحب «البیان» و «المدارک» و «النهایة» صحتهما معاً، لحصول الترتیب علی کلّ حال، لأنّ الطاهر إن کان الأول فقد وقعا به مترتبین، و إن کان الثانی فکذلک، لأنّه لا یمکن تصوّر قصد القربة بالعصر، مع تنبّهه و عدم غفلته قبل العلم بإحراز شرط صحتها الذی وقوعها بعد الظهر الصحیح، لأنّ فی کلٍّ من الظهرین الذین یأتیانه یحتمل أن یکون الآخر هو الصحیح، ففی اتیان العصر بعد کلّ ظهرٍ لا یقطع بأنّه واقعٌ بعد ظهرٍ صحیحٍ. و علیه فالأحوط و الأقوی حینئذٍ هو وجوب تکریر الظهر أوّلاً ثُم فعل العصر کذلک، فتأمّل.

ص:221

و یجب أن یلقی الثوب النجس و یصلّی عریاناً إذا لم یکن معه هناک غیره(1). حکم الصلاة عریاناً مع عدم الثوب

(1) یدور البحث عن أنّه إذا لم یکن للمکلف إلّا ثوباً واحداً و هو نجس، و لم یمکنه تحصیل ثوبٍ آخر طاهر، فهل یجب علیه الصلاة فیه، أو یصلّی عریاناً أو مخیّرٌ بینهما، و إن کان الأفضل هو الاتیان؟ فیه وجوه و أقوال:

قول: إنّه یُصلّی عریاناً، هذا کما علیه المصنّف، بل هو موافقٌ لکثیرٍ من الفقهاء فی کتبهم کالخلاف و «السرائر» و «الارشاد» و «المبسوط» و «النهایة» و «الکامل» و «التحریر»، بل فی «المدارک» و عن «الدروس» و «الروض» و «المسالک» نسبته الی الأکثر، بل فی «الذکری» و «الروضة» و «الذخیرة» و «الحدائق»، و عن غیرها أنّه المشهور، بل فی «الریاض» نسبته الی الشهرة العظمیة، بل فی «الخلاف» الاجماع علیه و هو الحجّة، بل مال الیه صاحب «الجواهر» و العلّامة البروجردی.

و الدلیل علیه: _ مضافاً الی ذلک، و استفادة المنع عن الصّلاة فی الثوب النجس من الأخبار الواردة فی الباب 42 من أبواب النجاسات من «الوسائل» _ وجود أخبار خاصة دالّة علی الحکم بلزوم اداء الصلاة عریاناً:

منها: صحیح الحلبی، عن أبی عبدالله علیه السلام : «فی رجل أصابته جنابة و هو بالفلاة و لیس علیه إلّا ثوب واحد، و أصاب ثوبه منی؟ قال: یتیمّم و یطرح ثوبه و یجلس مجتمعاً فیصلّی و یؤمی إیماءاً». (1)


1- وسائل الشیعة: الباب 46 من أبواب النجاسات ، الحدیث 4.

ص:222

و منها: مضمرة سماعة المنقول عن الکلینی، قال: «سألته عن رجل یکون فی فلاةٍ من الأرض، و لیس علیه إلّا ثوبٌ واحد و أجنب فیه، و لیس عنده ماء کیف یصنع؟ قال: یتیمم و یصلّی عریاناً قاعداً یؤمی ایماءاً». (1)

و منها: خبره الآخر المنقول عن الشیخ فی «الاستبصار»، قال: «سألته عن رجل یکون فی فلاةٍ من الأرض فأجنب و لیس علیه إلّا ثوب فاجنب فیه، و لیس یجد الماء؟ قال: یتیمم و یصلّی عریانا قائماً یؤمی ایماءاً». (2)

و منها: خبری سماعة فهما و إن کانا مضمرین، الّا أنهما منجبرین بالشهرة أو الاجماع المُدّعی فی المقام، و قد حُمل الشهرة أو الاجماع علی تحقّق الاجزاء باتیان الصلاة عاریاً علی الوجوب، کما جاء فی «المنتهی» و «المعتبر» بأنّ الاتیان عاریاً یجزی قولاً واحداً، بل قد یدّعی الاجماع علی الاجزاء عن غیر «المنتهی» و «المعتبر» أیضاً.

و فیه: هذا لا یمکن المساعدة علیه، لتصریح بعضٍ کالمصنّف علی الوجوب بقوله: «یجبُ أن یلقی الثوب...»، مضافاً الی أنّ القائل بالصلاة فی الثوب النجس ربما لا یرید الصلاة عاریّاً بل یحکم بالجمع بینهما أو التخییر کما ستأتی الاشارة الیه.

و قولٌ آخر: بالتخییر من بالصلاة فی الثوب النجس و مع غیره، کما هو مختار الفاضلین فی «المعتبر» و «المنتهی» و «المختلف» تبعاً عن المحکی عن ابن الجُنید، بل هو مختار صاحب «المدارک» مع القول بأفضلیة الصلاة فی الثوب النجس، کما أفتی بالتعیین فی خصوص المقام صاحب «کشف


1- وسائل الشیعة: الباب 46 من أبواب النجاسات ، الحدیث 1 _ 3.
2- وسائل الشیعة: الباب 46 من أبواب النجاسات ، الحدیث 1 _ 3.

ص:223

اللّثام» و «المعالم» و صاحب «العروة» مع جعل الجمع أحوط، مستدلین لذلک بوجودٍ أخبارٍ کثیرة بالغة الی حدّ الاستفاضه، مع صحّة سند بعضها، و علیه فلا باس بذکرها:

و منها: صحیح الحلبی، قال: «سألت أبا عبدالله علیه السلام عن رجل أجنب فی ثوبه و لیس معه ثوب غیره؟ قال: یصلّی فیه، فإذا وجد الماء غسله». (1)

و منها: خبره الآخر عن الصادق علیه السلام ، قال: «سألته عن الرجل یکون له الثوب الواحد فیه بولٌ لا یقدر علی غسله؟ قال: یصلی فیه». (2)

و منها: صحیح عبد الرحمن بن أبی عبدالله: «أنّه سأل أبا عبدالله علیه السلام عن الرجل یجنب فی ثوبه لیس معه غیره، و لا یقدر علی غسله؟ قال: یصلّی فیه». (3)

و منها: خبره الاخر مثله. (4)

و منها: صحیح علی بن جعفر، عن أخیه موسی علیه السلام ، قال: «سألته عن رجل عریان و حضرت الصلاة فأصاب ثوباً نصفه دم أو کلّه دم، یصلّی فیه أو یصلّی عریاناً؟ قال: إن وجد ماءاً غسله، و إن لم یجد ماءاً صلّی فیه و لم یصلّ عریاناً» (5)

أقول: تدلّ هذه الأخبار علی تعیّن الصلاة فی الثوب النجس، خصوصاً مع ملاحظة النهی عن الصلاة عریاناً فی روایة علیّ بن جعفر، المؤیدة


1- وسائل الشیعة: الباب 45 من أبواب النجاسات ، الحدیث 1.
2- وسائل الشیعة: الباب 45 من أبواب النجاسات ، الحدیث 3 _ 4 _ 6.
3- وسائل الشیعة: الباب 45 من أبواب النجاسات ، الحدیث 3 _ 4 _ 6.
4- وسائل الشیعة: الباب 45 من أبواب النجاسات ، الحدیث 3 _ 4 _ 6.
5- وسائل الشیعة: الباب 45 من أبواب النجاسات ، الحدیث 5.

ص:224

بدوران الامر بین ترک القید و هو الستر الذی هو شرط، و بین ترک قید القید و هو وصف الطهارة عن الستر الذی یُسمّی وصفه بالمانعیة، و معلومٌ أنّ رفع الید عن الثانیة أهون من رفع الید عن الستر الذی هو شرط، فالمتعیّن هو اداء الصلاة فی الساتر المتنجّس، لکی یکون المتروک هو قید الساتر عن طهارته، لا ترک أصل الساتر و الصلاة عریاناً، خصوصاً مع ملاحظة کون الصلاة عاریاً مشتملة علی ترک القیام و الرکوع و السجود، بناءً علی وجوب الصلاة _ حینما یکون المصلّی عاریاً _ قاعداً و الایماء للرکوع و السجود، فیدور الأمر حینئذٍ بین ترک قیدٍ من قیود الشرط، أعنی طهارة الساتر التی لیست رکناً، و بین ترک الرکوع و السجود و القیام فی حالة تکبیرة الاحرام و القراءة، و القیام المتّصل بالرکوع، ممّا یعدّ من الأجزاء الرکنیة إذا لم یأمن من المطّلع.

و لاجل ذلک قال صاحب «المدارک» متابعاً فی ذلک لما فی «الروضة»: «مع ظهور رجحان هذه الأخبار القاضی بعدم التکافؤ مع الطائفة الأولی، حتّی یجمع بالتخییر و نحوه.

و عن «مجمع الفائدة»: «لولا الاجماع لوجب القول بتعیین الصلاة فی النجس)، بل و فی «کشف اللّثام» أنّه الأقوی، کما عن «المعالم» مثله، فکأنّه لم یثبت الاجماع لدیهما. بل قد یظهر من «الفقیه» ذلک حیث نقل هذه الأخبار غیر معقّبٍ علیها بما ینافیها من قولٍ أو روایةٍ.

هذا غایة ما یمکن أن یقال فی وجه هذا القول من التعیین أو التخییر من جهة الجمع بین الطائفتین، لاعتبار کلّ منهما من حیث السند و الدلالة، بل

ص:225

و من حیث التأیید بفتاوی الفقهاء بل الشهرة فی کلٍّ منهما لو لم نقبل الاجماع لکثرة الاختلاف، و عدم امکان طرد شیءٍ من الطائفتین، و التردّد بین رفع الید عن أحد الأمرین اللّذین مع وجود دلالة الأخبار علی تأیید کلّ منهما أوجب ذهاب عدّة من الأصحاب الی القول بالجمع بینهما مع الامکان، بأن یأتی بالصّلاة فی الثوب النجس أولاً ثُم الصّلاة عاریاً، و بین القول بالتخییر فی العمل، و إن ْ کان الاحتیاط بالجمع حسناً.

أقول: یظهر من الشیخ ذهابه الی الصلاة عریاناً، بحمل الأخبار الدالة علی الصلاة فی الثوب النجس علی حال الضرورة بعدم امکان نزعه، لأجل برودة الهواء أو نحوه، و حمل الصلاة علی صلاة الجنائز.

و فیه: لا یخفی بُعد الثانی، لوضوح أنّ صلاة الجنائز لیست صلاةً حتّی تُحمل الأخبار علیها، بخلاف الأوّل فهو لیس ببعیدٍ، و لعلّه کذلک غالباً من جهة الهواء، أو لأجل بعض أمورٍ لا یتناسب مع شأنه، حیث توجب عراه فی الصلاة وهناً و هتکاً و حرجاً له.

کما أنّ حمل خبر علی بن جعفر علیه السلام المتضمّن للنهی عن الصلاة عریاناً علی الدّم الممنوع کدم السمک أیضاً بعیدٌ جدّاً، بخلاف ما لو حملناه علی حال الضرورة، حیث یمکن أن یکون نهیه لأجل افهام أنّ النهی الوارد هنا لأجل دفع توهّم الحظر، یعنی إذا کان المورد مورد الضرورة، جاز الصلاة مع الثوب و لا حاجة الی الاتیان بالصلاة عریاناً، بل یمکن أن یکون النهی حقیقیاً لأجل ما عرفت من أنّ الصلاة عاریاً تکون فاقدة لکثیر من الافعال و الأرکان، حیث لا وجه له مع جواز الصلاة مع الثوب النجس عند الاضطرار.

ص:226

بل قد یؤید ذلک خبر آخر للحلبی أیضاً، قال: «سألتُ أبا عبدالله علیه السلام عن الرجل یجنب فی الثوب أو یصیبه بول و لیس معه غیره؟ قال: یصلّی فیه اذا اضطرّ الیه» (1)، فهذا الخبر یمکن أن یکون شاهد جمیع بین الطائفین، فیکون الحکم عند عدم الضرورة و الاضطرار هو الاتیان بالصلاة عاریاً، کما هو المرجّح خاصة مع ذهاب المتقدمین و الأعلام الیه و یکتفی به، و إن ْ کان الاحتیاط بالجمع حسناً. و أمّا فی صورة الاضطرار علیه الاتیان بها فی الثوب النجس، و لا یجوز له الاتیان بالصلاة عاریاً الّا من باب الاحتیاط بعد الاتیان مع الثوب النجس.

لا یقال: إنّ حدیث الحلبی المشتمل علی حکم الاضطرار، یقصد الاضطرار من جهة فقد ثوبٍ آخر معه، لا الاضطرار لأجل الهواء و البرودة و غیرهما.

لأنا نقول: لا داعی لنا بحمل الاضطرار علی خصوص فقد الثوب مع وجود امکان ما یحمل علیه، و لو لأجل الجمع، و إن کان ظهوره فیما ذکره حتّی یکون الجواب مساعداً مع ما فی السئوال فی قول السائل: «و لیس معه ثوب»، لا یخلو عن وجه قویّ.

و لکن علی کلّ حال، لو لم نقل لقیام شاهد جمعٍ بین الطائفتین، لکن أصل الجمع بما ذکرنا أمر مطلوب تحصیلاً للجمع بینهما، و حفظ العمل علیهما حتّی یحکم بأنّ الجمع مهما أمکن أولی من الطرح کما لا یخفی. و علیه فلازم ما ذکرنا هو ما اخترناه فی تعلیقتنا فی «العروة» من الجزم باتیان الصلاة عاریاً و أنّه الأقوی، و إن کان الاحتیاط باتیان الآخر لا ینبغی ترکه.


1- وسائل الشیعة: الباب 45 من أبواب النجاسات ، الحدیث 7.

ص:227

فإن لم یمکنه صلّی فیه و أعاد. و قیل: لا یعیدُ، و هو الأشبه(1)

أقول: و ممّا ذکرنا ظهر عدم حسن القول بالتخییر هنا من جهة القول بحمل الأمر، _ الظاهر فی کلّ من الطرفین علی التعیین _ علی التخییر، لأجل التعارض بینهما، لأنک قد عرفت:

أوّلاً: عدم بُعد حمل أخبار الطائفه الثانیه علی الضرورة و حفظ أخبار الصلاة عریاناً علی ظاهره.

و ثانیاً: علی أنّ الجمع بالتخییر جمعٌ تبرعی لا شاهد علیه من الأخبار، بخلاف ما ذکرنا.

هذا إن أرید من التخییر التخییر فی الافتاء و فی الحکم الشرعی، و أمّا إن أرید من التخییر التخییر الأصولی، بأن یأخذ بأحد الدلیلین و الطائفتین من باب التسلیم، و هو منوط بعدم ثبوت مرجّحٍ لأحدهما و هو هنا ثابتٌ، لوجود المرجّح الخارجی و هو الشهرة من القدماء و غیرهم، بل و وعوی الاجماع علیه، کما عرفت دعواه من تصریح صاحب «مجمع الفائدة» الموجب لتقدیم هذه الطائفة علی الأخری. هذا مضافاً الی ما عرفت من امکان الجمع برفع التعارض من البین بحمل الطائفه الثانیة علی الضرورة.

و بالجملة: ثبت أنّ حکم هذه المسألة هو لزوم تقدیم الصلاة عاریاً إن امکن، و الاتیان بعدها مع الثوب النجس احتیاطاً، و الله العالم.

(1) حکم المسالة السابقة من جواز الصلاة فی الثوب النجس و عدمه،

ص:228

کان فیما اذا أمکن له نزعه، و أمّا اذا لم یمکنه إمّا لمشقة بردٍ أو نحوه ممّا لا تتحمل عادةً، صلّی فیه قولاً واحداً، لعدم سقوط الصلاة بحالٍ، و دلالة صحیح الحلبی فی قوله: «یُصلّی فیه اذا اضطرّ الیه» (1) بناءً علی ما ذکرنا من تعمیم الاضطرار حتّی یشمل لما نحن فیه، و لم نقل باختصاصه بعدم وجود ثوبٍ آخر معه کما احتمله بعض، و الّا خرج الخبر عن الاستدلال للمقام، بل قد عرفت امکان حمل الأخبار السابقه فی الصلاة فی الثوب النجس

علی ذلک، مضافاً الی دلیل نفی الحرج، و هذا ممّا لا خلاف منه.

أقول: الذی لابد أن ینظر فیه، هو أنّه هل یجب علیه الاعادة بعد رفع الاضطرار فی الوقت، أو القضاء فی خارجه، أو لا یجب؟ فیه قولان:

قولٌ: بالاعادة وجوباً إذا تمکن من غسله، هذا کما نقل عن الشیخ فی جملة کتبه، و ابن الجنید، بل فی «المدارک» و «الریاض» نسبته الی جمعٍ معه أیضاً، ولکن قال صاحب «الجواهر»: «إنّا لم نتحقّقه، بل لم نعرف أحداً غیرهما نسبه الی غیر الشیخ عدا ابن الجنید».

و الدلیل لفتواه بذلک: هو الأخذ باستصحاب بقاءا التکلیف الأوّل، و لموثق عمّار الساباطی: «أنّه سئل الصادق علیه السلام عن رجلٍ لیس علیه إلّا ثوبٌ و لا تحلّ له الصلاة فیه، و لیس یجد ما یغسله، کیف یصنع؟ قال: یتیمّم و یصلّی، فإذا أصاب ماءاً غسله و أعاد الصلاة».

القول الثانی: هو قول جماعةٍ أخری غیرهم من الحکم بعدم وجوب


1- وسائل الشیعة: الباب 45 من أبواب النجاسات ، الحدیث 8 _ 1.

ص:229

الشمس إذ أجففت البول و غیره من النجاسات علی الأرض و البواری و الحُصُر، طهر موضعه(1). حکم مطهریة الشمس

الاعاده، و هذا هو المشهور المعروف، لقاعده الإجزاء، لأنه قد عمل بما وظیفته و امتثل، فلا وجه للحکم بالاعادة، و أیضاً لظاهر الصحاح السابقه المتقدمة الواردة فی مقام الحاجة و البیان، و لکن برغم ذلک بعض هذه الأخبار تتضمّن الأمر بغَسل الثوب من دون تعرّضٍ لحکم اعادة الصلاة بعد زوال العُذر و الضرورة، مثل روایة الحلبی حیث قال: «یصلّی فیه، فإذا وجد الماء غَسله» (1) مع کون المقام مقام بیان هذا الحکم، و حیث إنّ الموثقه قد أعرض عنها المشهور صار موهوناً، فلا بأس بحمل الأمر فیه علی استحباب الاعادة، کما صرّح به جماعة.

مع أنّه لو لا وهنه لأجل الاعراض، لکان قادراً علی تقیید تلک الاطلاقات لکونه موثقاً و حجّة، الّا أنه مع الاعراض یخرج عن المقاومة، و لکن مع ذلک لا بأس بالقول باستحباب الاحتیاط بالاعادة فی الوقت و القضاء فی خارجه.

هذا آخر البحث عن مطهریّة الماء، و الحمد لله أولاً و آخرا، و یقع البحث عن مطهریّة الشمس.

(1) ان مسألة مطهریّة الشمس تشتمل علی فروع متعددة:

أولاً: حکم الشمس من حیث مطهریتها، بأن یکون وجه التطهیر بالجفاف لا مطلقاً.


1- وسائل الشیعة: الباب 45 من أبواب النجاسات ، الحدیث 1.

ص:230

و ثانیاً: بأن یکون ما طلعت علیه الشمس بولاً أو ما یشابهه من الماء النجس و نحوه ممّا لا بقاء له من حیث الجرمیّة کما ستعرف بحثه إن شاء الله.

و ثالثاً: فی اعتبار کون الازالة تکون عن الأرض خاصّة، أو عنها و عمّا یکون مثلها من البواری و الحُصُر ممّا لا ینقل.

و رابعاً: حصول الطهارة له بمثل ما یطهر الجسم بغسله بالماء، بحیث یجوز التیمم به و السجود علیه، و لا یتنجّس مالاقاه برطوبةٍ و أمثال ذلک.

أقول: الأمور الأربعة المذکورة فی تجفیف الشمس و تطهیرها ممّا یوافق علیه الأکثر نقلاً فی «المختلف» بل تحصیلاً کما فی «الجواهر»، بل هو المشهور کما فی «المفاتیح» و «الذخیرة» و «الحدائق» و «المهذّب» و «الکفایة» و «البحار» و «المعالم» و غیرها، بل عن الاستاذ الأکبر أنّها شهرة کادت تبلغ الاجماع، بل فی «اللّوامع» أنه مذهب غیر الراوندی، و صاحب «الوسیلة» و المحقّق فی أوّل کلامه، بل هو معقد اجماع مذهب الامامیة فی «کشف الحقّ» و الاجماع فی «السرائر» و موضعین من «الخلاف».

هذا، فضلاً عن الاجماع و الشهرة و هما حجّة، قامت أخبار عدیدة دالّة علی هذا الحکم، بعضها صحّاح:

منها: صحیح زرارة المنقول عن «الفقیه» باسناده الصحیح عنه، قال: «سألت أبا جعفر علیه السلام عن البول یکون علی السطح أو فی المکان الذی یُصلّی فیه؟ فقال: إذا جفّفته الشمس فصلّ علیه، فهو طاهر». (1)

و منها: خبر أبی بکر الحضرمی، عن أبی جعفر علیه السلام المنقول عن


1- وسائل الشیعة: الباب 29 من أبواب النجاسات ، الحدیث 1.

ص:231

«الکافی»، قال: «یا أبابکر ما أشرقت علیه الشمس فقد طهر». (1)

بل فی «الوسائل»: بهذا الاسناد: «کلّ ما أشرقت علیه الشمس فهو طاهر» (2) المؤیّده بما فی «فقه الرضا»: «ما وقعت الشمس علیه من الأماکن التی أصابها شیءٌ من النجاسات مثل البول و غیره طهّرتها، و أمّا الثیاب فلا تطهر الّا بالغَسل». (3)

و منها: مرسل عمرو بن عثمان، عن رجل، عن أبی الحسن علیه السلام : «حقٌّ علی الله أن لا یعصی فی دار إلّا أضحاها الشمس حتّی تطهّرها». (4)

و هذه هی الأخبار الدالة علی طهارة ما جففته الشمس من الأرض و غیرها ممّا لا ینقل.

أقول: قد أورد علی دلالة هذه الأخبار بایرادات لا بأس بذکرها و ردّها.

الایراد الاوّل: الطهارة هنا لم یقصد منها مضاها الشرعی، لعدم معلومیّة کونها مراداً من اللفظ.

أجیب عنه أولاً: _ کما فی «الجواهر» _ بامکان دعوی ثبوت الحقیقة الشرعیة فیها فی عصر النبی صلی الله علیه و آله فضلاً عن عصر الصادقین علیهما السلام .

ثانیاً: لو سلّمنا عدم ثبوتها کذلک، و لکن لا ریب فی ارادته هنا إمّا لکونه مجازاً راجحاً فی نفسه، فیصار الیه لدی الاطلاق، أو یرجع الیه لأجل الشهرة و الاجماع القائمین علی ارادته هنا. و علیه فتوهّم کون المراد غیر


1- وسائل الشیعة: الباب 29 من أبواب النجاسات ، الحدیث 5 _ 6.
2- وسائل الشیعة: الباب 29 من أبواب النجاسات ، الحدیث 5 _ 6.
3- المستدرک، ج 1، الباب 29 من أبواب الوضوء، الحدیث 4.
4- وسائل الشیعة: الباب 41 من أبواب جهاد النفس وما یناسبه، الحدیث 2.

ص:232

الطهارة مردود کمردویة احتمال کون المراد من الطهارة العفو عن نجاستها، نحو قوله علیه السلام : «کلّ یابسٍ ذکیّ» (1) إذ ذلک مجازٌ لا یصار الیه إلّا بالقرینة، و هی هنا مفقودة بل هی قائمة علی خلافه.

و لا یخفی أنّ صحیحة زرارة نصّ فی السطح الذی هو من جملة الأبنیة، بل مطلق المکان الذی قد ورد فی الحدیث، الشامل للأرض و البناء. نعم، موردها خصوص البول، فلا یشمل ظاهرها غیره إلّا بالغاء الخصوصیة منه حتّی یشمل سائر النجاسات المشابهة للبول. نعم، یصحّ التمسک بهذا الخبر لطهارة الحُصُر و البواری أیضاً بدعوی أنّ المکان الذی یُصلّی فیه مطلق یشمل المکان المفروش و الخالی عن الفراش اطلاقاً حقیقیاً.

و دعوی: انصرافه الی الأرض المجرّدة عن الفراش غیر مسموعة، فلازمه جواز الحکم بالطهارة للفراش المتنجّس بالبول إذا کان ثوباً أو شیئاً متخذاً من الصوف أو الفطن أو اکتانٍ أو اشباهها، إلّا أنّ الاجماع و غیره قائمٌ علی أنّ مثل هذه الأمور من المنقول لا یطهّرها إلّا الماء، فبذلک یقیّد اطلاق الروایة بما إذا کان المکان الذی یُصلّی فیه مجرداً و خالیاً عن الفراش و نحوه، کما یؤیّد ذلک ما ورد فی ذیل الخبر المنقول فی «فقه الرضا» من التصریح بأنّ الثیاب لا تطهّر الّا بالغسل بالماء.

نعم، لا یبعد شمول اطلاق المکان الذی یصلّی فیه للأرض المفروشه بالحُصُر و البواری و نحوها، ممّا لم یعلم عدم حصول طهارتها بالشمس، و هکذا جملة من الأماکن التی أصابها شیءٌ من النجاسات مثل البول و غیره،


1- وسائل الشیعة: الباب 31 من أبواب الخلوة، الحدیث 5.

ص:233

الواقعه بعد جملة: «ما وقعت الشمس علیه طهّرتها» فی «فقه الرضا» الموجب لشمول الحکم لجمیع النجاسات المشابهة للبول، و کذا شموله للحُصُر و البواری خصوصاً، مؤیدةً بفتوی الفقهاء من التصریح بالبواری و الحصر ککلام الماتن و نحوه، لا سیّما إذا قیّد اطلاق ما ورد من الاطلاقات بطهارة مثل البواری و الحُصُر إذا یبست:

منها: صحیح علیّ بن جعفر، عن أخیه موسی بن جعفر علیه السلام فی حدیثٍ، قال: «سألته عن البواری یصیبها البول، هل تصلح الصلاة علیها إذا جفّت من غیر أن تُغسل؟ قال: نعم». (1)

و منها: صحیحه الآخر عنه علیه السلام : «سألته عن البواری یبلّ قصبها بماءٍ قذرأ یصلّی علیه؟ قال: إذا یبست فلا بأس». (2)

هذا بما إذا کان الجفاف بالشمس لا مطلقاً.

و منها: خبر ابن أبی عمیر (او عمّار)، قال: «قلت لأبی عبدالله علیه السلام : عن الباریة یبلّ قصبها بما قذر، هل تجوز الصلاة علیها؟ فقال: إذا جفّت فلا بأس بالصلاة علیها». (3)

نعم، صحیح زرارة و حدید بن حکم الأزدی جمیعاً قالا: «قلنا لأبی عبدالله علیه السلام : السطح یصیبه البول أو یُبال علیه، یصلّی فی ذلک المکان؟ فقال: إن کان تصیبه الشمس و الریح و کان جافاً فلا بأس به، إلّا أن یکون یتخذ مبالاً» (4) فانه مشتملٌ للشمس إلّا أنّه قد اعترض فیه بضمیمة الریح مع


1- وسائل الشیعة: الباب 29 من أبواب النجاسات ، الحدیث 3.
2- وسائل الشیعة: الباب 30 من أبواب النجاسات ، الحدیث 2 _ 5.
3- وسائل الشیعة: الباب 30 من أبواب النجاسات ، الحدیث 2 _ 5.
4- وسائل الشیعة: الباب 29 من أبواب النجاسات ، الحدیث 2.

ص:234

الشمس، حیث یمکن أن یکون ما هو السبب الأصلی فی الاستناد هو الشمس، و لا یضرّ فی صدق الاستناد الیها ضمیمة الریح الیها.

و علیه، تصیر هذه الأخبار مع ضمّ بعضها مع بعض مفیدة لما أفتی به الفقهاء الوارد فی المتن من البول و غیره من الماء القذر و نحوه.

کما أنّ ضمّ بعض هذه الأخبار مع الآخر یوجب حمل المشتمل علی نفی البأس _ کما فی خبر علی بن جعفر، و خبر ابن أبی عُمیر أو عمّار، و خبر زرارة و حدید _ علی الطهارة بواسطة صراحة ما ورد فی صحیح زرارة و أبی بکر الحضرمی و «فقه الرضا» من جواز الصلاة فیه و طهارة الموضع، فیردّ به وجه القول الآخر فی المسالة من کون تجفیف الارض و نحوها بها موجباً للعفو عن النجاسة لا طهارته، و لازمه حینئذٍ سرایة النجاسة مع ما لاقاه من بالرطوبة، لا سیّما إذا کانت معتضدة، بفتوی الفقهاء و اجماعهم و عمل الاصحاب بها.

أقول: و بذلک یظهر حکم ما فی موثقة عمّار الساباطی، عن أبی عبدالله علیه السلام فی حدیثٍ، قال: «سُئل عن الموضع القذر یکون فی البیت أو غیره، فلا تصیبه الشمس، و لکنه قد یبس الموضع القذر؟ قال: لا یُصلّی علیه، و أعلِم موضعه حتّی تغسله.

و عن الشمس هل تطهّر الارض؟ قال: إذا کان الموضع قذراً من البول أو غیر ذلک فأصابته الشمس ثُمّ یبس الموضع فالصلاة علی الموضع جائزة، و إن ْ أصابته الشمس و لم یبس الموضع القذر و کان رطباً، فلا یجوز الصلاة حتّی یبس. و إن کانت رجلک رطبةً و جبهتک رطبة أو غیر ذلک

ص:235

منک ما یصیب ذلک الموضع القذر، فلا تصلّ علی ذلک الموضع حتّی یبس، و إن کان غیر الشمس أصابه حتّی یبس فإنّه لا یجوز ذلک». (1)

بأن یکون المراد من قوله علیه السلام : «فالصلاة علی الموضع جائزة» هو الطهارة لا العفو، و کذلک فی نفی الجواز عمّا بعده، لما قد عرفت کون السؤال و الجواب فی سائر الأخبار من حیث الطهارة و النجاسة لا من حیث العفو من النجاسة و عدمه، هذا فضلاً عن وجود القرینة فی نفس الحدیث، و هی أنّ موضوع السؤال عن الطهارة و النجاسة دون العفو حیث أنّ سؤاله: «عن الشمس هل تطهّر الأرض» المفهم کون ذهن السائل مشغولاً من هذه الجهة لا من حیث العفو و عدمه، خصوصاً مع ضمّ الجملة التی قبلها الدالة علی عدم حصول الطهارة بقوله: «و أعلِمْ موضِعه حتّی تغسله» الدالة علی أن المهم هو حصول الطهارة دون غیرها.

کما قد یؤید ذلک ما ورد فی الخبر من رطوبة الرِجل و الجبهة إذا أصاب الموضع القذر، و أنّه هل یوجب عدم جواز الصلاة لأجل صیرورته نجساً فی قبال الطهارة أم لا؟ کما یؤیّد ذلک أیضاً جملة: «و إن کان غیر الشمس أصابه حتّی یبس فلا یجوز ذلک» لأجل عدم تحقق الطّهارة بذلک.

أقول: هذا بناءً علی أن الوارد فی نسخة «التهذیب» (غیر الشمس) لا بالغین المعجمة مع النون، و أمّا علی بعض نسخ «التهذیب» الوارد فیها بلفظ (عین الشمس) مکان (الغیر) فلابدّ أن یقال بأنّ مع اصابة الرِجْل أو الجبهة الرطبة معه، فلا یجوز الصلاة فی ذلک المکان، و إن أصابته الشمس، إذ لا


1- وسائل الشیعة: الباب 29 من أبواب النجاسات ، الحدیث 4.

ص:236

عفو حینئذٍ. هذا فضلاً عن أنّه غیر مناسب مع العبارة من حیث قواعد الأدب العربی، لأنّ عین الشمس کلمة مؤنثة فلابد أن یکون الفعل الراجع الیها مؤنثة أیضاً بأن یقول أصابته لا أصابه، فهذه قرینة أخری لاثبات صحّة أن الصحیح هو قوله: «غیر الشمس).

هذا فضلاً عن أنّ هذا الضبط أحسن فی ایصال المطلب من الأخری، کما صرّح بذلک صاحب «الذخیرة» بأنّه المظنون صحته، و «کشف اللّثام» بأنّه أوضح، بل فی «کشف اللّثام» أنّ الأظهر کون الأولی (أی عین الشمس) سهو من النساخ خلافاً لما فی «حبل المتین» للبهائی و «الوافی» للکاشانی حیث قالا بأنّ الصحیح الموجود فی النسخ الموثوق بها هو (عین الشمس) بالعین المهملة مع النون، مع أنّ الموجود فیما بحضرتنا من نسخة «الوسائل» کالمحکی من «الاستبصار» و بعض کتب فروع الأصحاب هو الغین المعجمة مع الراء.

أقول: بقی هنا اشکالٌ آخر یرد علی الموثقة و جمیع الأخبار السابقه، و هو أنّه قد لا یکون المراد من جواز الصلاة علیه هو السجود حتّی یفهم منه الطهارة لأجل شرطیة الطهارة له، أو إذا قلنا بشموله للسجود أیضاً قلنا بعدم معلومیة لزوم الطهارة فی محلّ السجود.

قد یُجاب عنه: بأنّ الحکم بجواز الصلاة علی الموضع علی النحو المطلق مع ترک الاستفصال عن کونه بالمباشرة و عدمه، و کونه مع تمام الصلاة أو عدمه، یوجب کون الحکم کذلک حتّی مع السجود علی ذلک الموضع الذی جففته الشمس، المستلزم کونه طاهراً، و شرطیة الطهارة

ص:237

لموضع السجدة ممّا قد قبله الاصحاب، هذا مضافاً الی ما عرفت من دلالة الأخبار السابقه علی الطهارة، و قد عرفت کونه بالنصّ و الصراحة، فیما لو لم نتمسک بذلک الإشعار و الاطلاق، مع أنّ قوله: «یصلّی علیه أو لا یصلی علیه) الواردة فی موثقه عمار لیست إلّا لاجل السجدة لا غیرها، لأنه من الواضح أنّ اتیان الصلاة فی محلّ النجس الغیر المسری فی غیر موضع السجدة ممّا لا بأس به، فلا یحتاج الی السئوال عن حکمه، هذا بخلاف السجدة حیث إنه لابدّ فیه من الطهارة، و علیه فلا جرمٍ یکون الجواز و عدمه هو الحکم المذکور و المراد فی هذه الأخبار، فیکون هذا وجهاً آخر للاستدلال علی طهارة ما جفّفته الشمس.

هذا مع أنّه لو قلنا بسقوط الموثّقة عن الاستدلال للطهارة فإنّه نقول: تکفینا دلالة الأخبار السابقه علیها، المعتضدة بفتوی الأصحاب، بل و سهولة الشریعة و سماحتها و الأدلة الدالة علی نفی العُسر و الحرج اللازمین علی تقدیر عدم الطهارة بالاشراق، بل و بالسیرة الجاریّة عند الناس کافة کما فی «الریاض» و فی جمیع الأزمنة علی عدم ازالة النجاسة عن مثل الأرض بالماء، و علی الاکتفاء بالطهارة بالشمس، بل و بما قیل من عموم ما دلّ علی طهوریة الأرض، و من أنّ الشمس من شأنها الاسخان الملطّف للأجزاء الرطبة و المصعد لها، مع إحالة الأرض للأجزاء الباقیه الیسیرة، فتطهر حینئذٍ، خصوصاً لو قلنا إنّ الطهارة هی النظافة و النزاهة الحاصلتان بمجرد زوال القذارة عن المحلّ، الی غیر ذلک من التوجیهات التی تجعلنا فی غنی و کفایة عن غیرها کما فی «الجواهر».

ص:238

أقول: لقد أجاأ فیما أفاد، و إن کان بعضها لا یخلو عن اشکالٍ و وهن بعد التأمّل فی کلّ واحدٍ واحدٍ منها، کما لا یخفی علی المتأمل الدقیق.

القول الثانی: عدم مطهریّة الشمس بعد ما ثبت قوة مختار الأصحاب بحصول الطهارة بالشمس، یظهر ضعف ما نقل عن الراوندی و «وسیلة» الطوسی و «معتبر» المصنّف من القول بعدم الطهارة، و إن عفی عنه بالنسبة الی السجود دون المباشرة بالرطوبة و نحوها، و إن تبعهم بعض متأخّری المتأخّرین، بل قد یظهر من «الجواهر»: «عدم ثبوت ذلک عن «المعتبر»، و إن استجوده بعد أن نقل عدم الطهارة و جواز الصلاة عنهما، لکن فی کلامه ما یقضی بالتردّد بل المیل الی الطهارة، بل هو فی مسألة تطهیر الأرض بالذَنوب [و ماء المطر] کالصریح فی المختار، بل و کذا ما حُکی عن «الوسیلة» صریحة أو کالصریحة فی خلاف ما حُکی عنه من موافقة الراوندی کما اعترف به فی «الذخیرة» و غیرها.

نعم، کلام الراوندی ظاهرٌ أو صریحٌ فی عدم تأثیر الشمس لافی طهارة و لا عفوٍ، فصار ذلک من متفردات الراوندی إذ لم یعرف فیه موافقاً صریحاً من کبراء الأصحاب حتّی ابن الجُنید، إذ المحکی عنه أنّه احتیاط فی تجنّب الأرض المجفّفة بالشمس، إلّا أن یکون ما یلاقیها من الأعضاء یابساً و هو فی خلافه أظهر منه فی وفاقه).

أقول: و لا یخفی أنّ متمسک ما ذهب الیه الراوندی و من تبعه هو الأصل المقتضی بقاء نجاسته، و هو غیر صالحٍ لمعارضة ما سمعت من الأدلة الاجتهادیة، مع أنّه لا ثمرة فی جریانه إلّا فی نجاسة ملاقیه بالملاقاة،

ص:239

مع أنّه حسنٌ لو لم یکن معارضاً بأصالة بقاء طهارة الملاقی، و لا وجه لترجیح الاول علی الثانی.

و فیه: لا یخفی ما فی الجواب، لوضوح عدم انحصار الثمره فی ذلک فقط، بل یترتب علیه آثار کثیرة من عدم جواز السجود علیه، و التیمم به، و نجاسة الملاقی إذا کان مع الرطوبة، کما أنّه لو لا الجواب الأوّل من عدم المقاومة، لکان الأصل الجاری فی المتنجس سببیاً مقدماً علی أصالة طهارة الملاقی، لأنّ الشک فی طهارته مسببٌ عن الشک فی تنجیسه، فمع جریان الاستصحاب ببقاء النجاسة، یُحکم بسرایته للملاقی، و لا تصل النوبة الی التعارض و التساقط و الرجوع الی أصالة الطهارة فی الاشیاء الثابتة بین العلماء، و المستفادة من طائفة من الأخبار:

منها: ما روی عن عمّار فی حدیثٍ، قال: «کلّ شیءٍ نظیف حتّی تعلم أنه قذر، فإذا علمت فقد قَذر، و ما لم تعلم فلیس علیک» (1) و غیر ذلک.

و منها: موثقه عمّار التی قد عرفت دلالتها علی خلاف الطهارة و جوابها.

و منها: صحیح محمّد بن اسماعیل بن بزیع، قال: «سألته عن الأرض و السطح یصیبه البول و ما أشبهه، هل تطهر الشّمس من غیر ماءٍ؟ قال: کیف یطهر من غیر ماء» (2) حیث ینفی التطهیر بالشمس من دون ماء.

و لکن أجیب عنه أوّلاً: کما عن الشیخ بأن المراد من الماء هو الرطوبة، أی کیف یطهر إذا کان رطباً ما لم تجففه الشمس.


1- وسائل الشیعة: الباب 37 من أبواب النجاسات ، الحدیث 4.
2- وسائل الشیعة: الباب 29 من أبواب النجاسات ، الحدیث 7.

ص:240

و ثانیاً: بأن یکون المراد من (لو أشرقت علیه الشمس) حال کونه جافاً، فلا یطهر إلا إذا رش علیه الماء مع عدم الرطوبة وقت الاشراق.

و ثالثاً: بامکان حمله علی التقیة لأنّه قول جماعةٍ من العامة.

و رابعاً: طرح هذه الأخبار لأجل تلک الأخبار الدالة علی حصول الطهارة و عمل الاصحاب بها، و الاعراض عن هذه الروایة الموجب لوهنها و لو مع صحة سندها.

أقول: بعد ما ثبت کون الشمس من المطهّرات، فإنّه ممّا لا اشکال فی أنّها مطهرة للبول، لوقوع التصریح به فی الأخبار، بل و هکذا ما یشابهه ممّا لا یبقی له جرم مثل الماء المتنجّس، کما صرّح به فی المتن و غیره من ذکر النجاسات معه، بل الظاهر أنّه المشهور کما فی «الحدائق»، بل فی «الجواهر»: «لا أعرف فیه خلافاً من غیر «المنتهی»، و إن ْ حُکی عن «المبسوط» التصریح بعدم طهارة الخمر» و إن کان حملها علی البول قیاسٌ، و لعلّه مع تصریحه بالتعمیم قبله کان مقصوده خروجها عن مثل البول لأجل بقاء جرمها، فلا یکون حینئذٍ مخالفاً للمشهور، کما أنّه قد حُکی عن «المقنعة» و «النهایة» و «المراسم» و «الاصباح» ذلک و لعلّ اقتصارهم علی البول کان علی نحو المثال، کما أنّ الأمر فیما ورد فی الروایة من البقاء أیضاً کذلک. فروع مسألة مطهریّة الشمس

فروع مسألة مطهریّة الشمس

الفرع الأوّل: إنّ تجفیف الشمس شیئاً مع بقاء جِرمه کالدّم لا یوجب

ص:241

الطهارة، کما صرّح به فی «الذکری» و «الرّوض» و «المدارک» و غیرها، بل فی «الحدائق» لا خلاف علی الظاهر، بل فی «المدارک» و «اللّوامع» الاجماع علی اعتبار زوال الجِرم فی الطهارة، و الیه یرجع ما عن ابن الجنید من التصریح بعدم طهارة المجزرة و الکنیف حیث فیهما الجرم، کما هو مقتضی الأصل و ظهور الادلة فی غیره، کما یستفاد ذلک من لسان حدیث الحضرمی: «ممّا أشرقت علیه الشمس» حیث أنّ الجِرم مانعٌ و حاجبٌ عن الاشراق قطعاً بل ضرورة، و الأمر کذلک، فلا تثمر یبوسة ما تحته بحرارة الشمس، کما لا تثمر مع غیره من الحواجب ذوات الظل کالسحاب، بل و کذا الاحتراق للقرص، لعدم صدق الاشراق معهما، کما عن الاستاذ فی «کشف الغطاء» من التصریح بذلک.

الفرع الثانی: لابدّ أن یکون ما أشرقت علیه الشمس شیئاً واحداً، فلا تحصل الطهارة إذا کانا شیئین متنجسین منفصلین أحدهما عن الآخر کحصیرین أو حجرین إذا جمعا، فالتطهیر فی مثله لا یکون إلّا للعالی الذی أشرقت علیه الشمس دون الأسفل، و إن ْ حصل للأسفل الجفاف. نعم، توهّم اختصاص الطهارة للظاهر فقط، حتّی فی الشیء الواحد کالأرض، فتکون الطهارة لظاهرها دون ما جفّ من الباطن، کما یتوهّم ذلک عن عبارة «المنتهی»، ضعیفٌ لوضوح الفرق بینه و بین ما سبق، فالطهارة تکون حاصلة لها بطرفیها من الظاهر و الباطن.

الفرع الثالث: اذا التزمنا بحصول الطهارة فی طرفی المتنجّس إذا کان شیئاً واحداً، فإنّه لابدّ أن تقیّد بما اذا تحقّق الجفاف لکلا طرفیه، بخلاف ما

ص:242

و کذا کلّ ما لا یمکن نقله کالنباتات و الأبنیة(1)

إذا اختصّ الجفاف بالظاهر فقط، فإنه یطهّره دون غیره، کما صرّح بذلک المحقّق فی «جامع المقاصد» و «الروض» و «الروضة» و غیرها، کما أنّ الأمر کذلک، أی لا تحصل الطهارة للباطن إذا جفّ بواسطة اشراق الشمس علی الظاهر الطاهر، و إن کان شیئاً واحداً، لعدم صدق الاشراق علی نفس المتنجس، کما عساه یلوح ذلک من کلام «الذخیرة»، بل هو المتبادر المنساق من الأدلة، خصوصاً خبر الحضرمی، حیث أطلق بلفظ (کلّ) الشامل لعموم الحکم بطهارة الشمس للأرض و غیرها.

(1) حکم طهارة المتنجس فی غیر المنقول کالنباتات و الأبنیة و نحوها ممّا لا خلاف فیه، الّا عن «المهذّب» حیث صرّح علی عدم طهارة غیر البواری و الحُصُر بالشمس، مع أنه ضعیف غایته، لعموم خبر الحضرمی بقوله: «کلّ ما أشرقت علیه الشمس فقد طهر»، فإنّه یشمل المنقول و غیر المنقول، غایة الأمر خرج المنقول فی غیر الحُصُر و البواری بواسطة الاجماع، فیبقی الباقی تحته، بل و هکذا صحیح زراره من التصریح علی طهارة السطح و المکان الذی یُصلّی فیه، و کذا صحیحه الآخر فی السطح، و هکذا موثّق عمّار فی الأرض. و علیه فدعوی الاجماع بکلا قسمیة علیه لا تخلو عن قوة کما هو مختار صاحب «الجواهر» و «العروة» و أکثر أصحاب التعلیق.

نعم، یبقی هنا طهارة البواری و الحُصُر مع کونهما من المنقول، و

ص:243

العجب من «المهذب» القول بطهارة الحُصر الحاقاً لها بالبواری، مع أنّ الأخبار خالیة عن عنوان الحُصُر، و تَرک الأرض التی قد دلّت الأخبار علی طهارتها، مع أنّ الحرّی کان عکس ذلک، بأن یذکر الأرض و البواری

دون الحُصُر کما هو مختار «النزهة»، و إن کان لا خلاف یعرف أیضاً فی طهارة الحُصُر إلّا عن «النزهة»، بل طهارتها مقصد اجماع «الخلاف» و نفی خلاف «التنقیح».

و لعلّ وجهها هو أنّ المراد من البواری الواردة فی صحیحی علی بن جعفر علیه السلام ما یشمل الحُصُر، کما یشهد له ما فی «کشف اللّثام» بقوله: «إنّی لم أعرف فی اللغة فرقاً بین الحُصُر و الباریة، و فی «الصحاح» و «الدیوان» و «المُغرِب» أنّ الحصیر هو الباریة» انتهی، برغم أنّ المتعارف فی عصرنا التفاوت بینهما، حیث أنّ الباریة بساط معمول من القصب، و أمّا الحصیر فمصنوع من غیره من النباتات، مع أنه یمکن أن یکون وجه الحاقها بها إن لم یکن بشمولها لها هو الغاء الخصوصیة عن البواری بمعونة فهم الأصحاب.

أقول: و لکن مع ذلک کلّه یمکن الاشکال فیه:

أوّلاً: بأن الأخبار المشتملة علیها دالة علی طهارة البواری عند جفافها دون الشمس، إذ لم یذکر لفظها فی خبری علی بن جعفر علیه السلام ، فلابدّ

من تقییده بذلک، لأنّه من الواضح عدم حصول الطهارة بنفس الیّبوسة

دون الشمس.

و ثانیاً: القطع بکونها منها مشکلٌ؛ اللّهم إلّا ان نسلّم فیهما ذلک اعتماداً علی الاجماع، و اثباته لا یخلو عن تأمّل، و لذلک قلنا فی تعلیقتنا علی

ص:244

«العروة»: «و الاحتیاط فیهما لا ینبغی ترکه».

و من ذلک یظهر عدم تمامیة ما عن «المنتهی» و «الجامع» و «المبسوط» من الحاق کلّ ما عمل من نبات الأرض غیر القطن و الکتان بهما فی ذلک، لعدم دلیل معتبر علی التعدیة المذکورة، الموجبة لقطع الأصل.

و أمّا خبر الحضرمی: فبرغم أنه لا جابر له فیما نحن فیه، لضعف سنده بنفسه، أنّه یحتمل کون المراد من قوله: «کلّ ما أشرقت علیه الشمس» هو ممّا لا ینقل عادة من الأشیاء کالابنیه و نحوها، فلا یشمل لعموم ما یعمل من النباتات، و لذلک نصّ المحقق فی «جامع المقاصد» و صاحب «الموجز» و غیرهما علی عدم طهارة غیر الحصیر و الباریة من المنقولات، بل هو ظاهر باقی الأصحاب.

نعم، ظاهر الأصحاب هو العمل بخبر الحضرمی فی غیر الأرض ممّا لا ینقل اعتماداً علی قوله: «کلّ ما أشرقت علیه الشمس فقد طهر»، بل فی «القواعد» و «الارشاد» و «التذکرة»، و أیضاً فی «الذخیرة» و «البحار» و «الکفایة» أنّه المشهور بین المتأخّرین کما فی «الدلائل» حیث نصّوا علی طهارة النبات و الأبنیة کالمختلف، بل کما فی «النهایة» و «التلخیص»، لکن مع ابدال النبات بالأشجار. و عن «التبصرة» الأبنیة و عن «التحریر» النباتات و شبهها، و فی «المنتهی» و کتب الشهید ما لا یُنقل، بل عن «الدلائل» نسبته الی المتأخّرین. و فی «الموجز» ما اتّصل بالأرض و لو ثمرةً و الأبنیة و مشابهها و لو خصّاً (1) و وتداً، و کذا السفینة و الدّولاب و سهم الدالیة و الدیاسة.


1- الخصّ: البیت من القصب و الشجر کما فی «المنجد».

ص:245

و عن «المهذب البارع»: «ما جاور الأرض إذا اتّصل بها کالطین الموضوع علیها تطینیاً أو علی السطح و کذا الجِصّ المُثبّت بازاء الحائط حکمه حکم البناء، و کذا المطیّن به و کذا القیر علی الحوض و الحائط».

بل عن «المهذّب»: «إنّه یلحق بالأبنیّة مشابهها و ما اتّصل بها ممّا لا

ینقل عادةً کالأخصاص و الأخشاب المستدخلة فی البناء و الأجنحة و الرواش، و الأبواب المغلقه و أغلاقها، و الرفوف المستمرة، و الأوتاد المستدخلة فی البناء».

الی غیر ذلک من کلمات الأصحاب، حیث یظهر منها العمل بخبر الحضرمی بعد احتمال کون مدرکهم غیر هذا الخبر، مع تأییده بخبر «فقه الرضا»، مضافاً الی ما عرفت کونه مقتضی سهولة الشریعة و سماحتها، و عدم ظهور الفرق بین الأرض و بین هذه الأمور، مضافاً الی السیرة المستمرة عند اکثر الأفراد إن لم یکن جمعیها و غیر ذلک.

أقول: بل لعلّ منه الأوانی المثبتة و العظیمة کما نصّ علیه فی «کشف اللّثام»، لعدم دلیل علی لزوم کون الشیء ثابتاً من أوّل الامر، و فیه تأمّل.

بل و هکذا یدخل تحت العموم الفواکه مادامت علی أشجارها، کما عن ابن فهد و «جامع المقاصد»، و فی «الروض» النصّ علیها، بل فی «الروضة» و إن ْ حان قطافها. خلافاً لما عن ظاهر نهایة الفاضل أو صریحها فلا تطهر، بل قد یظهر من «الذخیرة»، و عن «المعالم» المیل الیه إذا هان القطع، و فی «الجواهر» و إن ْ کان الاحتیاط ذلک.

و فیه: برغم أنّ حُسن الاحتیاط فیما ذکر ممّا لا بحث فیه، إلّا أنّ الملاک

ص:246

فی حصول الطهارة هو صدق کونه ثابتاً و غیر منقولٍ بالفعل، فلا فرق فی طهارة ثمرة الفواکة بالشمس بین أن تکون قد حان قطافها أو لم تحن وقته، فمجرد حصول أوان قطافها مادامت باقیة علی الشجر و لم تنفصل، لا یوجب خروجها عن وصف غیر المنقول، فطهارتها تحصل بتجفیف الشمس.

أقول: لا یخفی الفرق بین قول الفاضل و «المعالم» من عدم حصول تطهیر ثمرة الفواکه إذا حان قطافها، مع ما حُکی عن فخر الاسلام من دعوی عموم الحکم لما لا یُنقل، و إن عرض له النقل کالنباتات المنفصلة عن الخشب، و الآلات المتخذة من النباتات، و لعلّ کلامه هذا مبنیٌ علی «کفایة» کونه حال المتنجّس غیر منقولٍ و لو صار بعده منقولاً حال جفافه باشراق الشمس علیه، هذا بخلاف ما لو اعتبرنا وصف (عدم النقل) دخیلاً فی حال الجفاف أو حال التنجّس و الجفاف کلیهما، کما هو الأقوی عند صاحب «الجواهر»، مع أنّه لا یبعد کفایة وجود هذا الوصف عند اشراق الشمس و حصول الطهارة بسببه، و لو کان حال التنجّس منقولاً.

اللّهم إلّا أن یقال: بأنّ هذا الحکم حیثُ کان مخالفاً لقاعدة التطهیر، فلابدّ فیه من الاقتصار علی موضع الیقین، و القدر المتیقن منه لیس إلّا فیما کان الوصف موجوداً فی کلا الحالین، أی حال التنجّس و حصول الجفاف بالاشراق، هذا مضافاً الی أنّه موافق لاستصحاب بقاء النجاسة بملاحظة الحال السابق فیما اذا کان حال التنجّس غیر متّصفٍ بوصفٍ غیر المنقول، حیث لا یحصل له الطهارة إلّا بالماء، و لأجل ذلک نقول: لو لم نقل بمقالة صاحب «الجواهر» فلا أقلّ من أنّ القول بالاحتیاط فیه قویّ، أی

ص:247

الاجتناب لا الاحتیاط الذی ذکره صاحب «الجواهر» رحمة الله ، لأنه أراد منه استصحاب حکم مطهریّة الشمس حال کونه متصلاً و متّصفاً بغیر المنقول الی زمان حال انفصاله.

مع أنّه لا یخلو عن کلامٍ، لاحتمال تغییر موضوع الحکم فی القضیة المتیقنه و المشکوکة، مع أنّ اتّحادهما شرطٌ فی صحة الاستصحاب، و لذلک عدّ صاحب «الحدائق» بعد نقل هذا القول _ هذا القول قولاً غریباً.

و أیضاً: لا یخلو عن بُعدٍ ما هو المنقول عن «منتهی» العلّامة من عموم الحکم للأرض خاصّة و إن ْ نُقلت کالحَجَر و نحوه، لصدق إسم الأرض علیه، و لفحوی طهارة توابع الأرض من الحصیّ و غیره، و لعلّه لذلک نصّ فی «المنتهی» علی طهارة حَجر الاستنجاء.

لأنه من الواضح أنّ المتبادر من (الأرض) غیر ذلک، إذ العرف لا یطلق علی الحَجر بعد انفصاله عنها أنه أرض، نعم لو وضع علی سطح الارض و نحوه یطلق علیه عنوان الارض و یشمله عموم الحکم، کما لا یبعد ذلک لو ألصق الی سطح الحائط بأن یصیر ثابتاً فیدخل فیه بهذا العنوان لا بما أنه أرض، کما لا یخفی. فروع کیفیّة مطهریّة الشمس

فروع کیفیّة مطهریّة الشمس

الفرع الأوّل: إنّ اشراق الشمس یوجب طهارة ما أصابته إذا کان الجفاف مستنداً الیها مستقلّاً، و أمّا اذا لم یکن کذلک بأن کان الجفاف:

تارة: مستنداً الی غیرها مستقلاً من دون شراکة الشمس فیه، مثل ما لو

ص:248

کان الجفاف مستنداً الی الریح فقط، أو الی حرارة غیر الشمس، أو الی حرارتها من دون اشراقٍ، فلا اشکال فی عدم طهارته، لعدم صدق عنوان (ما أشرقت علیه الشمس).

و اخری: ما هو مستندٌ الیهما أی الی الشمس و غیره کالریح، ففی ایجاب ذلک الطهارة و عدمها خلاف: ففی «مصباح الفقه»: «یکفی فی مطهریة الشمس استناد الجفاف الیها عرفاً، فلا یقدح مدخلیة الریح أو حرارة الهواء فیه علی وجهٍ لا ینافی الصدق، و فی صحیحة زرارة المتقدمة (1) شهادة علیه، بل ظاهرها کفایة حصول الجفاف بالشمس و بالریح علی وجهٍ یستند التأثیر الیهما علی سبیل المشارکة، و هو غیر بعیدٍ، فإنّ مشارکة الریح غیر مانعةٍ عرفاً من استناد الأثر الی الشمس، إلّا أن تکون الریح شدیدة فی الغایة، بحث لا یطلق علیه عرفاً أنّه جفّ بالشمس، و لعلّها منصرفة عن مثل الفرض، و الله العالم) انتهی کلامه. (2)

نقول: و لقد أجاد فیما أفاد، و إن اعترض علیه صاحب «مصباح الهدی» و قال بعد نقل کلامه: «و ما أفاده بعیدٌ، فإنّ الظاهر من استناد الأثر الی الشمس کونها مؤثّرة فیه عرفاً، بحیث یری الأثر أثرها بنظرهم، لا ما إذا استند الیها و الی غیرها. نعم، إذا کان الریح یسیراً علی وجهٍ یستند التجفیف الی الشمس بنظر العرف، و إن کان للریح مدخلیة أیضاً، لا یضرّ بحصول الطهر، و ذلک لعدم خلّو الهواء عن الریح غالباً، بحیث لو اعتبر


1- وسائل الشیعة: الباب 29 من أبواب النجاسات ، الحدیث 2.
2- مصباح الفقیه، ج 8/273.

ص:249

الخلّو عن الیسیر منه لا ینتهی الأمر الی حصول الطهر بالشمس، و هو موجب للغویة جعله مطهراً. و لعلّه الی هذا یحمل صحیح زرارة و حدید بن حکم الأزدی...). (1)

و فیه: و کلامه رحمة الله لا یعود الی محصّل، لوضوح أنّ ما فی الروایة من ذکر الریح مع الشمس لیس إلّا لافهام أنّه دخیلٌ فی التجفیف بحسب الغالب، فلا یبعد أن یکون ذکره لدفع توهّم لزوم کون الشمس مجرّداً عن الریح دخیلاً فی الطهر، و أراد افهام عدم اضرار المشارکة إذا لم یبلغ الی حدٍّ یوجب کون الجفاف مستنداً الی الریح مثلاً. و علیه فما ذکره المحقق الهمدانی فی غایة المتانة.

نعم، ما ورد فی موضعٍ من «الخلاف» من الحکم بالطهارة بهبوب الریح کالشمس ضعیفٌ، إن أراد غیر ما ذکرناه من الاستناد، و إلّا کان وجیهاً کما عرفت. نعم لو کان مبدء التجفیف الی شیءٍ و غایته الی آخر، فالمدار علی الغایة کما صرّح به صاحب «کشف الغطاء»، لکن مع فرض بقاء رطوبة یصدق معها الجفاف.

الفرع الثانی: لا اشکال فی حصول الطهارة إذا کان الاشراق بلا واسطة، و أمّا إذا کان معها مثل ما لو کان الاشراق بالمرآت، فهل یکفی ذلک فیه أم لا؟ فیه وجهان: من جهة أنه أیضاً اشراق لدی العرف، حیث یطلق ذلک سواءٌ کان بلا واسطة أو معها.


1- مصباح الهدی، ج 2/294.

ص:250

و تطهّر النارُ ما أحالته(1)

و من ناحیة أنّ ظاهر الأدلة مثل خبر أبی بکر الحضرمی: «کلّ ما أشرقت علیه الشمس فقد طَهُر» هو کون الاشراق بلا واسطة، و منصرفٌ عن مثل هذا الفرض. مطهریة النار

و لو سلّمنا شمول عنوان الاشراق لمثل المورد، فلعلّ الأخیر هو الأوجه و الأقوی، خصوصاً مع ما عرفت من کون الحکم بالطهارة بها خلاف للقاعدة و الأصل، فیقتصر فیه علی موضع الیقین، و هو ما إذا لم یکن مع الواسطة کما لا یخفی.

الفرع الثالث: فی أنّ المدار فی حصول الطهارة هل هو الجفاف التام بالاشراق، أم یکفی الجفاف الذی لا یبقی معه رطوبة فی الملاقی؟ وجهان:

من جهة أنّه قد عبّر فی الأخبار بالجفاف _ مثل خبری زرارة و صحیح علی بن جعفر علیه السلام _ فهو المتبع.

و من ناحیة أنّ الیبوسة هو الأقوی و الأشدّ کما عبّر به فی بعض الأخبار، بل هو الموافق لمقتضی الاستصحاب، لأنه یحکم بالنجاسة الی أن یقطع بالطهارة، و هی لا تحصل إلّا بالثانی.

و لکن الأوجه هو الاوّل، و إن کان الثانی هو الأحوط.

و أیضاً: یقع البحث فی أنّ المعتبر فی عدم الجفاف قبل اشراق الشمس هو أنّه یکفی و لو لم تکن فیه رطوبة تعلقت بالملاقی، أو لابدّ فیه من رطوبة کذائیه حتّی یصدق علیه عدم الجفاف؟ وجهان: و الثانی هو الأوجه کما أنه موافق لمقتضی الاستصحاب بل و الاحتیاط، کما لا یخفی.

(1) إنّ تطهیر النار ما أحالته رماداً أو دخاناً من الأعیان النجسة ذاتاً، هو

ص:251

المشهور بین الاصحاب نقلاً و تحصیلاً، شهرةً کادت تکون اجماعاً، بل هی کذلک فی «جامع المقاصد» و ظاهر «التذکرة»، و عن «السرائر» وجود الاجماع فی الرماد و الدخان. و فی «الخلاف» و «اللّوامع» و ظاهر «المبسوط» دعواه فی الرماد فقط، و عن ظاهر «المبسوط» و «التذکرة» فی الدخان فقط، بل فی «المنتهی» و «کشف اللّثام» و ظاهر «الذکری» إنّ الناس مجمعون علی عدم الترقی عن رماد الأعیان النجسة، بل عن «التذکرة» کصریح «المعتبر» و «الذکری» فی الدخان.

و کیف کان، یظهر من کلمات الفقهاء مع ضمّ بعضها الی بعض قیام الاجماع علی طهارة الرماد و الدخان، و هو الحجّة، مضافاً الی الأصل العقلی، من جهة أنّ العقل حاکمٌ علی أنّ حکم الاشیاء بحسب ذاتها من جهة الاستحالة و تغیر صورتها الفرعیة هو الطهارة، لأنّ النجاسة من الامور العارضه علیها، فلابدّ من اثباتها. کما أنّ حکم الشرع أیضاً کذلک، کما قال علیه السلام : «کلّ شیءٍ طاهر حتّی تعلم أنه قذر بعینه» و لیس لهذین الأصلین من العقلی و الشرعی معارضٌ غیر الاستصحاب، بأن یقال کان الشیء نجساً قبل الاستحالة فالآن کما کان، لکنه مندفعٌ بعدم جریانه هنا، لأنّ من شرائط جریانه وحدة القضیة المتیقنة و المشکوکة بحسب الموضوع، و هنا لیس الأمر کذلک لتغیّر اسم الموضوع و حقیقته المعلّق علیه حکم النجاسة کصیرورة الکلب مِلْحاً و نظائره.

هذا، مع ما علیه الأصحاب من الاستدلال لتطهیر الاستحالة برواتین:

الأولی: صحیحة حسن بن محبوب، المروی عن الشیخ فی «التهذیب»،

ص:252

قال: «سألت أبا الحسن علیه السلام عن الجِصّ یوقد علیه بالعذرة و عظام الموتی، ثُمّ یُجصّص به المسجد، أیسجد علیه؟ فکتب الیّ بخطّه: إنّ الماء و النار قد طهّراه». (1)

بأن یکون المراد من السئوال عن حکم رماد العذرة المختلط مع الجِصّ و کان نجساً لأنه بالایقاد ربما یوجب تنجیس الجِص عن طریق انتقال أجزاء عین النجاسة، خصوصاً بعد صبّ الماء علیه للبناء به، و أن یکون المراد من قوله علیه السلام : «طهّراه» بالنسبة الی النار، بمعنی الحقیقی من الطهارة لأجل حصول الاستحالة بالنار. و أمّا ضمّ الماء معه فلم یکن له مدخلیة فی الطهارة حقیقةً، لأنّ الطهارة قد حصلت له قبل حبّ الماء علیه، فلا یمکن حصول الطهارة له ثانیاً حقیقةً، فلابدّ أن یراد بالطهارة فی الماء طهارة مجازیة، بأن یکون المقصود بأنّ الماء ینفذ الی تمام أجزاء العذرة، فلذلک أسند الطهارة الیه. فعلی هذا التقدیر تکون کلمة (الطهارة) فی قوله: «طهّراه» مستعملة استعمالاً حقیقیاً بالنسبة الی النار، و مجازاً بالنسبة الی الماء، و لا بأس به إذا کانت القرنیة موجودة کما فی المقام، أو یراد من الطهارة بصورة عموم المجاز، أی مستعملة فی المعنی الجامع فی الطهارة الحقیقیّة للنار و المجازیة فی الماء.

بل فی «المدارک» و «الذخیرة» و غیرها إمکان ارادة المجازی خاصة، _ الذی لا ینافی استفادة الحقیقی _ ممّا علم جوازه من تجصیص المسجد به و السجود علیه من الجواب ضمناً لا من لفظ (الطهارة).

و احتمال الاشتراک بهما فی حصول الطهارة، حتّی یوجب الفتوی علیه


1- وسائل الشیعة: الباب 81 من أبواب النجاسات ، الحدیث 1.

ص:253

بأن لا یحصل فی مثله إلّا إذا کانا معاً، ممّا لم یتفوّه به أحدٌ من الفقهاء،

کما لا یخفی.

کما أن احتمال کون المراد من (الطهارة) الماء الحقیقی، بأن یراد منه ماء المطر لا الماء القلیل بناءً علی القول بحصول الطهارة بالقلیل إذا لم یخرج غسالته، ممّا لا یمکن المساعدة معه، لأنه:

أوّلاً: قد عرفت بُعد حصول الطهارة بالنّار تحصیلها ثانیاً بالماء، لأنّه تحصیل للحاصل و هو محال، بلا فرق فیه بین أن یراد بالماء القلیل أو المطر.

و ثانیاً: إنّ احتمال کون الماء هو المطر بتصوّر أن لا یکون للمسجد سقفاً، مضافاً الی بُعد ذلک بنفسه، أنّه لا یمکن القول بحصول الطهارة الحقیقیة لاجزاء الاعیان النجسة فی داخل الجصّ فی مثل المسجد.

نعم، لو أرید تطهیر الجِصّ من نجاسته بماء المطر بایقاد العذرة و عظام الموتی علیه بسبب ما فیهما من الدسومة و نحوها، و نفس تلک الاجزاء النجسة بإحالة النار لها رماداً، کان ذلک ممکناً، إذ علیه لا مانع من ارادة الطهارة الحقیقیة من کلّ منهما، هذا کما فی «الجواهر».

أقول: و هو لا یخلو عن اشکال، مع التأمّل فیه، لوضوح أن الایقاد إذا کان هو المطهّر للأجزاء الدسمة حقیقةً، فلا وجه بعده لتطهیر المطر له، مع ما عرفت من عدم امکان تطهیره للأجزاء الداخلة فی الجِصّ فی حائط المسجد، کما لا یمکن تطهیره إن لم یطهّره الایقاد. و علیه فاستعمال الحقیقه فی الطهارة فی کلیهما لا یخلو عن تکلّف بل تعسّفٍ کما لا یخفی.

أقول: و ممّا ذکرنا یظهر أنّه لا فرق فی جهة مطهریة الماء بین کونه

ص:254

مطراً أو قلیلاً إن التزمنا فی تلک المسألة بأنّه برغم کونه یعدّ غسالته و غیر خارجة عن الشیء کان مطهراً، کما علیه بعض الفقهاء، بل جعل هذا الحدیث دلیلاً علی ذلک.

کما أنّه یمکن أن یستفاد من هذا الحدیث کون النار مقدمة لحصول الطهارة بالماء بسبب تجفیفها له تجفیفاً یؤدی الی نفوذ الماء فیه، فبالتالی لا یکون الحدیث دالاً علی المطلوب لعدم صدق الطهارة علی الماء، و لا مستنداً له کما هو واضح.

المناقشة فی مطهریّة النار و الماء معاً

ناقش المحقّق فی «المعتبر» و العلّامة فی «المنتهی» فی دلالة الحدیث علی مطهّریة النار و الماء بأمور ثلاثه:

الأمر الاوّل: بعدم مدخلیه الماء الذی یمازجه و یحیل به فی التطهیر اجماعاً، و لعلّ هذا یرجع الی قیام الاجماع القطعی علی أنّ الماء إذا لم یکن مع النار و کان وصفه بما عرفت، لا یکون مطهّراً، ممّا یعنی عدم مطهریة القلیل، و عدم قبول هذا المبنی من أصله، أو لا أقلّ فی المقام من جهة کونه کذلک من الممازجة و الاستحالة.

و ثانیاً: بعدم نجاسة الجِصّ بالدخان و نحوه حتّی یحتاج الی التطهیر.

و ثالثاً: بانه لم یصیّره النار رماداً حتّی یطهر بها بعد فرض نجاسته.

و أجاب عنه صاحب «الجواهر» بقوله: «و لکنّه کما تری، مبنیٌ علی ارجاع الضمیر الی الجِصّ نفسه، لا باعتبار ما خالصه من الأجزاء، کما هو

ص:255

مبنی الاستدلال منا علی ما عرفت البحث فیه مفصلاً، بل قد عرفت أنّا فی غنیة عن هذا الخبر ممّا سمعت من الأصل و الاجماع و غیرهما».

و فیه: کأنّه رحمة الله قد قبل ما أوردا علی الخبر إن ْ رجع الضمیر الی الجِصّ، و علیه فلابدّ فی الاستدلال به من اثبات کون مرجع الضمیر هو أجزاء العذرة و عظام الموتی لا الجصّ، مع أنه غیر معلومٍ، و لذلک نجد أنّ المحقّق الآملی قد أنکر دلالة هذا الحدیث للمطلوب فی «المصباح»، لأجل الاجمال فی دلالته، حیث قال: «لکن الانصاف عدم دلالة شیء منهما علی المُدّعی: أمّا صحیحة ابن محبوب: فلما فی دلالتها من الاجمال، و عدم تبیّن المراد.

تفصیل ذلک: أنّه لا شبهة فی أنّ الضمیر المفرد المتصل فی قوله: «قد طهّراه» راجعة الی الجِصّ، و لکن مع ذلک فیه احتمالان:

أحدهما: أن یکون الضمیر راجعة الیه من حیث نفسه، لا باعتبار ما خالطه من أجزاء ما یوقد علیه، و یکون السئوال عن الجِصّ المتنجّس، و الجواب طهّره بایراد الماء علیه، فتصیر الصحیحة دلیلاً علی طهارته بالماء القلیل بایصاله الیه و لو لم ینفصل عنه أصلاً، و یکون ذکر النار حینئذٍ لمکان کونها مقدمة لحصول الطهارة بالماء بسبب تجفیفها له تجفیفاً ینفذ فیه الماء، و علی هذا فلا تدلّ علی مطهّریة الاستحالة فی شیء.

و ثانیهما: أن یکون الضمیر راجعة الیه باعتبار ما خالطه من أجزاء ما یوقد علیه و اختلاطها معه، فیکون سؤالاً عن رماد العذرة الذی اختلط مع الجِصّ الذی لو أبقی علی النجاسة لنجسّ الجِص عند وصول الماء الیه حین استعماله فی البناء، و یکون الجواب عن طهره بالنار، فتصیر دلیلاً علی

ص:256

مطهریة الاستحالة، و یکون ذکر الماء حینئذٍ لمکان کونه موجباً لرفع القذارة الحاصلة من توهّم نجاسة الجِص، فیکون اسناد الطهارة الی النار حقیقیّاً و الی الماء مجازیاً علی نحو عموم المجاز. و لا یخفی أنّه لا مرجّح لأحد الاحتمالین علی الآخر، فیصیر الخبر مجملاً لا یصح الاستدلال به، لا فی المقام و لا فی باب تطهیر ما لا ینفصل عنه الغُسالة بالماء القلیل) انتهی کلامه رفع مقامه. (1)

قلنا: لا یخفی أنّ الاحتمال الثانی هو أرجح، لأنّه إذا رجع الضمیر الی الجِصّ باعتبار نفسه، یبقی السؤال عن إنّه کیف قد تنجّس الجِصّ حتّی یسأل عمّا یطهّره، لأنّ أجزاء العذره بنفسها إذا لم تکن مع الرطوبة و لا الدسومة لا توجب التنجیس، إلا أن یکون وجه السئوال بلّحاظ الماء الذی یخلط فیه، فإنّه إن تنجّس کان لاجل نجاسة أجزاء العذرة، فحینئذٍ یرجع الأمر الی أنّ الأجزاء بعد الایقاد هل تبقی علی نجاستها أم لا؟ فیکون الجواب حینئذٍ صحیحاً و مناسباً مع الجواب و هو أنّ النار و الماء قد طهراً. فبذلک یصیر الأولی هو ما فهمه الأصحاب من أنّ وجه السئوال و الجواب کان بلحاظ أجزاء العذرة و عظام الموتی، و أنهما قد طهرتا بواسطة النار، فتکون الروایة حینئذٍ دلیلاً علی مطهریة الاستحالة، و هکذا یصحّ جعل الحدیث من الأدلة فی المقام.

و علیه، فما ورد فی باب الأطعمة من هذا الکتاب من التردّد فی الدخان، أو هو و الرماد ضعیفٌ جداً، و إن اعترف صاحب «الجواهر» بأنّ الموجود


1- مصباح الهدی، ج 2/300 _ 301.

ص:257

فیه هنا قوله: «و دخان الأعیان النجسة طاهرٌ عندنا، و کذا کلّ ما أحالته النار فصیّرته رماداً أو دخاناً أو فحماً علی تردّدٍ».

و الظاهر کون التردد راجع الی الأخیر، لاسیّما مع ذکره الاجماع أوّلاً علی طهارة الدخان بقوله: «کما هی عندنا» أو یحتمل أن یراد من الدخان البخار فلا خلاف حینئذٍ فی مسألتنا.

بل، و هکذا لا یحصل خلاف فیما ذهب الیه الشیخ فی «المبسوط» من التصریح بنجاسة خصوص دخان الدهن النجس، معلّلاً ذلک بأنّه: «لابدّ من تصاعد بعض أجزاءه قبل احالة النار لها بواسطة السخونة».

لوضوح خروج هذا الفرض عن محلّ البحث، لأنه یجری فیما أحالته النار دون غیره.

و منه یظهر وجه الحکم الصادر عن الفاضل فی «النهایة» بعد ذهابه الی طهارة الدخان مطلقاً للاستحالة کالرماد، قال: «و لو استصحب شیئاً من أجزاء النجاسة باعتبار الحرارة المقتضیة للصعود، فهو نجسٌ» حیث إنّه غیر مخالفٍ لما نحن بصدده، و إن ْ کان أصل هذه المسالة (و هی نجاسة دخان الدهن النجس) مورداً للنقض و الابرام، من جهة البحث أنّ الاستصباح بالدهن النجس هل یوجب تصاعد نفس الأجزاء من الدهن، أو أن المتصاعد بخارٌ و حکم البخار کحکم الدخان و الرماد ممّا أحالته النار، و ربما یمنع مانعٌ عن الأوّل، و لذلک یحکم بطهارته کما یظهر ذلک عن صاحب «الجواهر»، بل قد یدّعی وجود السیرة نقلاً بل تحصیلاً التی أقوی

ص:258

من الاجماع فی بعض الأحوال علی عدم توقّی الناس عن دخان الأعیان النجسة، خصوصاً بعد اعتضادها بالاجماع و نحوه، فیستفاد منه العفو عن مثل هذه الأجزاء الیسیرة المتصاعدة مع الحرارة.

حکم الأجزاء المتصاعدة عند الاسخان

و ممّا ذکرنا آنفاً یظهر ضعف ما قال به العلّامة فی «المنتهی» من نجاسة أجزاء الدخان لأجل مصاحبتها مع أجزاء العین النجسة، لما قد عرفت من أنها تستحیل بواسطة النار، فتخرج عن صورتها النوعیته الی شیءٍ آخر.

کما یظهر ضعف کلامه أیضاً علی فرض تسلیم ما قاله من النجاسة، بأنّ النداوة الحاصلة من الأبخرة نجسة، الّا أن یعلم أنّه قد حصلت من الهواء، مثل القطرات الحاصلة فی الجهة الأعلی من الطرف الذی کان أسفله جمدٌ نجس لأجل البرودة فانّه طاهر، لأنّ المتّجه عکس ذلک، أی یجب الحکم بالطهارة لقاعدتها، إلّا أن یعلم أنّ القطرات کانت من أجزاء العین النجسة، فیحکم حینئذٍ بالنجاسة.

و علیه، فالأوجه عندنا کما علیه الاصحاب هو الطهارة، إلّا أن یصدق علیه أنّه بول فیتجنب.

هذا تمام الکلام فی عین النجس إذا تبدّل الی الرماد أو الدخان

أو البخار. حکم الجسم المستحیل رماداً بالنّار

حکم الجسم المستحیل رماداً بالنّار

بقی أن نبحث عن حکم المتنجّس إذا صار بالنار رماداً کالخشب

ص:259

المتنجّس، فهل یصیر طاهراً بالاستحالة أم لا؟ فیه وجهان بل قولان:

تارة یقال: نعم، یطهر بالأولویّة من عین النجاسة، بل و لأولویة النار و أبلغیتها من الماء للازالة، بل یشمله اطلاق معقد صریح اجماع «جامع المقاصد»، و ظاهر «التذکرة»، بل فی «مفتاح الکرامة» نقلاً عن الاستاذ (یعنی کاشف الغطاء) أنّه یظهر من اطلاق الفقها الاجماع علیه، و إن کان قد اقتصر بعضهم عن ذکر النجاسة فقط، بل هو المحکی عن الأکثر، و لکن بعد ملاحظه کلماتهم فی مثل طهارة الطین المستحیل خزفاً و آجراً، من جهة اشکالهم لحصول الاستحالة فیهما، یوجب اشراف الفقیه علی القطع بعدم الفرق فی حصول الطهارة بین النجس و المتنجس، بل ربما یلاحظ اطلاق کلامهم فی طهارة الکلب و نحوه بالملحیة الشامل حتی لصورة ما لو تنجّس الماء به ثُمّ صار هو معه ملحاً مؤیداً لما قلناه.

و أخری یقال: بالعدم لأجل أنّ الحکم بالطهارة عند الاستحالة، إنّما هو لانتفاء الموضوع المعلّق علیه الحکم شرعاً و هو وصف النجاسة کالکلبیّة و نحوها، و لیس ذلک إلّا فی النجس ذاتاً دون المتنجّس، لظهور عدم تعلیق الحکم بالنجاسة منوطاً بکونه خشباً و نحوه، بل کان هذا الجسم متنجساً و بعده أیضاً باقٍ علیها، لأنّه یصدق بعد الاستحاله أنّه جسم لاقی نجساً و الآن کان کذلک، بل لو شک فیه کان مقتضی الاستصحاب هو النجاسة، و لأجل ذلک ذهب بعض الی عدم الطهارة فی المتنجس.

أقول: لا ریب أنّ الأوّل هو الأقوی و الأوجه، لأنه إذا قلنا بأنّ الشارع

ص:260

جعل الاستحالة من المطهّرات التعبدیة _ فإنّه کما یشمله الاجماع و غیره ممّا تقدم، حتّی مثل خبر الجِصّ علی بعض الوجوه، بأن یکون الجِصّ عند ملاقاته مع النجاسة نجساً فبالاستحاله یطهر کما بیّناه سابقاً _ فلا وجه حینئذٍ للرجوع الی الاستصحاب، لما قد عرفت من لزوم الوحدة فی الموضوع فی القضیتین فی الاستصحاب، و هو هنا مفقودٌ کما لا یخفی، مضافاً الی أنّه لوشک فی شمول أدلة الاستصحاب لمثله، یکفی ذلک فی عدم جریانه، فأدلة عموم الطهارة عند الشک فی طهارته یکفی للحکم بالطهارة هنا عند فرض عدم جریان الاستصحاب فیه، و هذا ممّا لا ینبغی البحث فیه.

و لکن الذی وقع فیه الخلاف و النقض و الابرام، بل کان السبب فی أن تصیر المسألة ذات أقوال هو المتنجس من الخشب أو الأرض إذا صار الأوّل فحماً و الثانی خزفاً أو آجراً أو جِصّاً أو نورة: فهل تصیر هذه الأمور طاهرة بواسطة النار و الحرارة من جهة صدق الاستحالة فیطهر.

أو و إن لم یصدق علیه الاستحالة حینها إلّا أنها طاهرة بالنار مستقلّة.

أو لیس الأمر کذلک، بل النجاسة ثابتة لها؟

أقول: لا بأس هنا بالبحث عن حکم الفحم مستقلاً عن الآخرین، فنقول و من الله الاستعانة: المحکی عن جماعةٍ طهارته، و نُسب هذا الی أکثر المتأخّرین، بل و عن «المفاتیح» عدم الخلاف فیه، خلافاً لصریح الشیهد فی «المسالک»، و ظاهر «شرح الصغیر» للسید فی «الریاض»، بل و کذا عن بعض المتأخّرین کصاحب «الوسیله» و «التحریر» من القول بعدم الطهارة، بل هو مختار صاحب «الجواهر» أوّلاً، و کذا صاحب «مصباح الفقیه» و

ص:261

«مصباح الهدی»، و غایته التوقف، فلابدّ حینئذٍ من ذکر أدلة القائلین بالطهارة: دلیل القائلین بالطهارة:

أوّلاً: بأنه یصدق علیه الاستحالة عرفاً بصیرورة الخشب فحماً، بل ربما یؤیّد ذلک ملاحظه تبدّل الاسم، حیث لا یقال لمثله إنّه خشبٌ، بل ربما قیل إنّه یحتمل اختلاف حقیقهما بحسب العقل، لاختلاف آثارهما الکاشف عن اختلاف حقیقهما المؤثّرة فیها.

أقول: و هذا هو أحسن دلیل تمسک به القائلون بالطهارة، و لکن مع ذلک دعوی القطع بالاستحالة غیر معلوم، و غایته الشک فی تحققها، فلا یمکن التمسک بعموم دلیل الاستحالة لاثبات طهارته، لأنّه حینئذٍ یصیر من قبیل التمسک بالعام فی الشبهة المصداقیة له، فالحکم بطهارته لأجل الاستحاله غیر معلوم، و مجرد تبدّل الاسم لا یوجب الصدق، لأنّه أعمّ من الاستحالة، أو ربما یکون الاسم متغیراً و مع ذلک لا یصدق علیه الاستحالة، و الشک فی الاستحالة یوجب الشک فی الطهارة، فمع ملاحظة النجاسة المعلومة السابقة و المشکوکة فی اللاحق، وجب الرجوع الی الاستصحاب فیحکم بالنجاسة، و هو الاقوی و الأوجه.

و ثانیاً: بالأخبار الدالة علی مطهریة النار:

منها: خبر الجِصّ الذی یوقد علیه بالعذرة و عظام الموتی، حیث کتب علیه السلام : «إنّ الماء و النار قد طهّراه» حیث یدلّ علی أنّ النار بنفسها تعدّ من المطهرات، سواءٌ تحقّقت الاستحالة أم لا.

و منها: خبر ابن أبی عمیر الذی فیه الجواب عن السؤال عن الخبز

ص:262

المعجون بالماء المتنجّس، قال: «لا بأس أکلت النار ما فیه». (1)

و منها: خبر الزبیری الذی فیه إنّه قال: «إذا أصابته النار فلا بأس بأکله». (2)

حیث دلّت هذه الروایات علی أنّ نفس النار من المطهرات المستقلّة بلا نظر الی تحقّق الاستحاله، هذا.

و فیه: لکن الانصاف عدم تمامیة شیء منها: أمّا الروایة الأولی: لو لم نسلّم اجمال الدلیل علی ما ذهب الیه المحقّق الآملی کما عرفت، فإنّ الاستدلال بها صحیح لو رجع الضمیر الی الجِصّ المتنجس بالعذرة و عظام الموتی، مع أنّه غیر معلوم، بل قد عرفت أنّ الظاهر رجوعه الی الأجزاء المتصاعدة بالرماد و الدخان، الذی قد عرفت صدق الاستحالة فیه، و الحال أنّ المقصود هو التمسک بهذه مع صرف النظر عن الاستحالة.

و أمّا عن الروایتین: فانهما مضافاً الی ضعف سندهما، لا یمکن التمسک بهما، لعدم انجبارهما بعمل الأصحاب حتّی یوجب الوثوق بهما، مع أنّ مضمونهما مخالفٌ لعمل الأصحاب، فیکون معرضاً عنها، و هو موجب للوهن لهما کما لا یخفی. بل یمکن تحصیل الاجماع علی عدم الاکتفاء فی تطهیر النار بالتجفیف و الیبوسة، فیکون حکم طهارة الفحم غیرُ ثابتٍ، و لأجل ذلک أفتی کثیر من الفقهاء علی نجاسته، أو لأ أقلّ من التردّد فیها و التوقف کما هو ظاهر «الروض» و صریح «الکفایة» و «البحار»، و مال الیه الآملی و صاحب «الجواهر»، و الله العالم.


1- وسائل الشیعة: الباب 14 من أبواب الماء المطلق، الحدیث 18.
2- وسائل الشیعة: ، الباب 14 من أبواب الماء المطلق ، الحدیث 17.

ص:263

و ثالثاً: ما استدلّ للطهارة فی «الریاض» علیه و علی غیر الفحم ممّا یُشک فی استحالته، باستصحاب طهارة الملاقی، و کذا بقاعدة الطهارة المستفادة من قوله علیه السلام : «کلّ شیءٍ طاهر».

و فیه: إن اجراء هذا الاستصحاب متوقف علی عدم جریان استصحاب النجاسة، لأنّه إن جری لا یبقی موردٌ للشک حتّی نرجع الی استصحاب طهارة الملاقی لاثبات طهارة الملاقی، مع أنّه لو سلّمنا جریان استصحاب طهارته، لکنه لا یستلزم طهارة الملاقی بالفتح، بل غایته اثبات طهارة الملاقی بالکسر، و لا منافاة بین القول بطهارة الملاقی بالکسر دون الملاقی بالفتح، هذا.

کما أنّه یظهر ممّا ذکرنا عدم صحّة الرجوع الی قاعدة الطهارة، لأنه فرع وجود الشک له، مع أنّه معدوم من جهة جریان استصحاب النجاسة، الموجب لصیرورة الحکم بالنجاسة.

کما أنّه یظهر من ذلک ثبوت النجاسة فی التراب و الطین الذی صار بالحرارة و النار خزفاً أو آجراً أو جِصاً أو نورة، لأنّ ما استدل به فی طهارته لیس ما هو المستدلّ به فی الفحم من الاجماع و الاستحاله، أو کون النار بنفسها مطهرةً أو بواسطة الشک فی الطهارة، بل المرجع حینئذٍ الی استصحابها أو قاعدتها أو بواسطة الاستصحاب الجاری فی الملاقی بالکسر، الذی تمسک به صاحب «الریاض»، و قد عرفت الجواب

عن جمیعه إلا الاجماع الذی هو غیر ثابت لما نری من کثرة الاختلاف فیه، خصوصاً مع ملاحظة أنّ مدّعیه هو الشیخ رحمة الله المعلوم من حاله

ص:264

من کون دعواه لأجل ردّ العامة، و لم یقصد من دعاویه الاجماع،

الاجماع الاصطلاحی.

هذا کلّه مع امکان دعوی الأولویة فی هذه الأمور بالنجاسة، لاحتمال وجود دعویٰ الاستحالة فی الفحم عند العرف دون غیره، و علیه فالأقوی عندنا هو النجاسة. حکم العین النجسة

حکم تبدّل العجین المتنجّس خبزاً

و من جمیع ما ذکرنا یظهر عدم طهر العجین المتنجّس ذاتاً و لا عرضاً بصیرورته خبزاً کما هو المشهور بین الأصحاب نقلاً و تحصیلاً علی ذلک، بل الاجماع قائم علیه کما اعترف به بعضهم، إذ لا خلاف فیه إلّا عن الشیخ فی نهایته، حیث لم یر بأساً بأکل الخبز المعجون بماء نجس، معلّلاً ذلک بأنّ النار قد طهره، و عن استبصاره و ظاهر «الفقیه» و «المقنع» ذلک، تمسّکاً بالأخبار الواردة فی العجین:

منها: مرسلة ابن أبی عمیر، عن بعض أصحابه، عمّن رواه عن الصادق علیه السلام : «فی عجین عُجن و خُبز ثُم عُلم أنّ الماء کانت فیه میتة؟ قال: لا بأس أکلت النار ما فیه». (1)

و منها: خبر الزبیری، قال: «سألت أبا عبدالله علیه السلام عن البئر یقع فیها الفارة و غیرها من الدّواب فتموت، فیعجن من مائها أیؤکل ذلک الخبز؟ قال علیه السلام : إذا أصابته النار فلا بأس بأکله». (2)


1- وسائل الشیعة: الباب 14 من أبواب الماء المطلق ، الحدیث 18.
2- وسائل الشیعة: الباب 14 من أبواب الماء المطلق ، الحدیث 17.

ص:265

أقول: لا یمکن العمل بهما لأجل إعراض المشهور عنهما، فضلاً عن ضعف سند الأخیر لجهالة الزبیری، مع ما فیهما من الاشکال فی الدلالة لعدم ظهور کون المیته من ذی النفس و لا الماء قلیلاً، کما لا ظهور فی قوله: «ما أکلته النار» فی کونها مطهراً، إذ لعلّه أراد ازالة بیان زوال نظارتها بواسطتها، کما لا ظهور فی تحقّق النجاسة فی ماء البئر بوقوع الفأرة أو غیرها من سائر الدوّاب فیها ما لم یتغیر الماء. و علیه فلا یمکن مع وجود مثل هذه الاحتمالات الاستدلال بهما للطهارة کما لا یخفی.

مع أنّه لو لم نقل بظهورهما فیما ذکرنا من المحتملات کما هو کذلک، نقول بجواز حملهما علی ما ذکر، من جهة الجمع بین هذه الأخبار، فضلاً عمّا سنذکره من النصوص الدّالة علی عدم جواز الأکل فیما ذکر، لما اشتهر بأنّ الجمع معهما أمکن اولی من الطرح، و علیه فلا بأس حینئذٍ بذکر النصوص المعارضة لهذه الأخبار:

منها: صحیح ابن أبی عمیر، عن بعض أصحابه (بل قال ما أحسبه إلّا حفص ابن البُختری) عن الصادق علیه السلام : «فی العجین یُعجن من الماء النجس، کیف یصنع؟ قال: یباع ممّن یستحلّ أکل المیته». (1)

و منها: صحیحه الآخر عن بعض أصحابه، لکن قال: «یدفن و لا یباع». (2)

حیث یدلّان علی خلاف الحکم السابق من الحکم بالبیع لمن یستحلّ أکل المیته أو بالدفن، فلو کان أکل ذلک حلالاً لم یأمر بما سمعت، هذا.


1- وسائل الشیعة: الباب 11 من أبواب الأسئار، الحدیث 1.
2- وسائل الشیعة: الباب 11 من أبواب الأسئار ، الحدیث 2.

ص:266

أقول: لکن قد نوقش فی الحدثین بضعف سندهما من جهة الارسال، لکنه مندفع:

أوّلاً: أنه غیر ضائرٍ لانجباره بالشهرة العظیمة علی المنع، بل فی شرح «کشف الغطاء» أنّه وفاق الکل.

و ثانیاً: إنّ ارساله من جهة ابن أبی عُمیر مراسیله عند الأصحاب کمسانیده، لاجل ما قیل فی حقه من أنّه (ممّن أجمعت العصابة علی تصحیح ما یصحّ عنه)، و أنّه (لا یروی إلّا عن ثقه).

و ثالثاً: أنّ المظنون عنده _ کما ذکره _ أنّه حفص بن البُختری الذی کان ثقةً، بل جاء فی «شرح المفاتیح»: أنّه لو کان التعدیل من الظنون الاجتهادیة، لکان هذا الحدیث صحیحاً، و أنّ المدار فی التصحیح علی الظنون غالباً.

کما قد نوقش فی دلالتهما أیضاً: بأنهما لا یدلّان علی ما نحن فیه، لأعمیّة البیع و الدفن و الفساد من الطهارة فی الخبز.

لکنه مندفع أوّلاً: بأنّ ظهور هذه الألفاظ فی المنع عن مثل الأکل و العلاج بهذه الأمور أمرٌ واضح لاخفاء فیه عرفاً، خصوصاً إن قلنا بارادة بیعه مخبوزاً علیهم لا عجیناً، کما هو المتعارف.

و ثانیاً: إنّ ذکر ترک العلاج بالأکل و الرجوع الی الأمر بالدفن و البیع ممّن یجیزه معلّلاً بأنّه ممّن یستحلّه کالصریح فی المطلوب، و إلّا لکان ذکر التعلیل لغواً إذا فرض جواز بیعه للمسلم، کما لا یخفی، و قد ورد ذلک فی خبر زکریا ابن آدم، قال: «قلت لأبی الحسن علیه السلام : «فخمرٌ أو نبیذٌ

ص:267

قطر فی عجینٍ أو دم؟ قال: فقال: فسد. قلت: أبیعه من الیهود و النصاری و أبیّن لهم؟ قال: نعم، فإنّهم یستحلّون شربه» (1) فإنّ هذا التعلیل یرشدنا الی ما ذکرنا. و لعلّه لذلک نلاحظ أنّ الشیخ _ مع ما ذکره فی «النهایة» من الجواز _ قد منع عنه فی «المبسوط» و «التهذیب»، بل حتی فی باب الأطعمة من «النهایة» حیث یستفاد منه أنّ حکمه فیها بالجواز کان للروایة لا الفتوی، لأنّه قال فی باب الأطعمة: «إذا نجس الماء بحصول شیءٍ من النجاسات فیه ثُمّ عُجن به و خُبز منه، لم یجز أکل ذلک الخبز، و قد رویت رخصة فی جواز أکله، و ذکر أنّ النار قد طهرته، و الأحوط ما قدمنا».

و فی «الجواهر» بعد نقل کلامه قال: «و إن ْ کان فی قوله: «أحوط» اشعارٌ باختیار الجواز).

و فیه: إنّ ظاهره اختیار عدم الجواز بالاحتیاط الوجوبی، لأن ما تقدّم کان الفتوی بعدم الجواز، فتنزّل عنه بالاحتیاط فی عبارته هنا، الظاهر کونه محلّ الاشارة لا السابق المذکور أوّلاً بالجواز، و الله العالم.

أقول: و کیف کان، المتبع هو الدلیل الدّال علی النجاسة، کما هو مقتضی الاستصحاب، فیما إذا لم یبق من أجزاء الرطوبة شیئاً، فضلاً عمّا بقی فیه کما هو الغالب. و ما فی «معالم الهدی» من عدم جریان الاستصحاب فیه، لکنه لو قیل بطهارته دون ما بقی فیه، لزم منه إحداث قولٍ ثالثٍ، ممّا لا یمکن الاصغاء الیه، لما قد عرفت من جریان الاستصحاب فیه، و الحکم بنجاسة مطلقاً کما لا یخفی.


1- وسائل الشیعة: الباب من أبواب النجاسات، الحدیث 8.

ص:268

فرع: بقی هنا حکم ما لو قلنا بنجاسة الخبز و عدم جواز أکله، فهل یمکن تطهیره بالماء و لو کان کثیراً، أو لا یمکن؟

قد یقال: بالثانی کما اعترف به الشهید فی «الذکری»، بل عن ظاهر منتهی الفاضل اختیاره، و لکن الأقوی عندنا هو طهارته وفاقاً للعلامة فی «التذکرة» و صاحب «الجواهر»، إذا دقّ و وضع فی ماءٍ کثیر بحیث ینفذ الماء الی جمیع أجزائه، أو جفّف و وضع فی الماء الکثیر مدّةً حتی نفذ کذلک، وفاقاً لشارح «المفاتیح».

یبقی السؤال عن الروایتین و السبب فی سوکتهما عن هذا العلاج، و لعلّه کان للمشقّة أو لعدم معهودیته فی التطهیر، أو لأجل سقوطه عن حیّز الانتفاع غالباً بذلک: حکم بیع النجس ممّن یستحلّ أکله

حکم بیع النجس ممّن یستحلّ أکله

بعد الوقوف علی الأحکام السابقة، یصل الدور الی البحث عن جواز بیع هذا النجس ممّن یستحلّ أکله، إذ فیه قولان:

1. قول بعدم الجواز، کما عن العلامة فی «المنتهی» مستدلاً لذلک بأمورٍ:

الأمر الأوّل: بعدم قابلیته للتطهیر فلا یجوز بیعه، لعدم جواز بیع ما لا یقبل التطهیر.

لکنه ممنوع أوّلاً: قد عرفت قابلیته له إمّا بدقّه و وضعه فی الماء الکثیر، أو جعله یابساً ثُم وضعه فیه حتّی ینفذ الماء الی جوفه، بل قد یقال بامکان تطهیره بالماء القلیل کما و ذکر فی محلّه و إن لم نسلّمه.

ص:269

و ثانیاً: لو سلّمنا ذلک و لکنه لا یوجب المنع عنه، لامکان صرفه فیما لا یشترط فیه الطهارة کاطعام الدواب، بناءً علی ما هو التحقیق من جواز الانتفاع من النجس و المتنجس بما لا یشترط فیه الطهارة إلّا ما قام الدلیل علی المنع عنه.

و ثالثاً: بعدم ورود دلیلٍ علی اشترط صحّة البیع بطهارة المبیع، مع وجود اطلاق أدلة البیع الدّال علی عدم الاشتراط، هذا مضافا الی أنّه لو شک فی ذلک لرجعنا الی استصحاب حال المبیع الثابت قبل النجاسة.

الأمر الثانی: إنّ الکفار مکلّفون بالفروع کما هم مکلفون بالأصول، فیحرم علیهم الأکل کما یحرم بیعه علیهم لکونه إعانة علی الاثم فی أکلهم، هذا مضافاً الی أنّه لا یجوز بیعه للمسلم فکذلک یکون الکفار.

أمّا عدم الجواز فی الأوّل: لوجود الأخبار الدالة علی المنع.

و أمّا الثانی: فلاشتراکتهم مع المسلمین فی جمیع الأحکام إلّا ما خرج بالدلیل.

أقول: و لکنه مندفع بأمورٍ:

أوّلاً: نمنع کون البیع منهم اعانة لهم علی الاثم الذی هو الأکل المحرّم، لاحتمال عدم أکلهم ایّاه بل صرفه فی غیر جهة الأکل.

و ثانیاً: لو سلّمنا کونه منتهیاً الی الأکل، ولکن نمنع کونه مصداقاً للاعانة إذا بیع منهم حتّی تکون حراماً، لأنّ المحرّمة منها هی ما کانت مقدمة التی بها نعین علی الحرام، و هی العلّة التامة لصدور الحرام منه، أو ما کان هو الجزء الأخیر من العلّة بحیث لایحتاج الفاعل بعد تحقّق تلک المقدمة الی شیءٍ آخر غیر ارادة صدور الحرام منه، التی لا حالة منتظرة

ص:270

لها إلّا تلک المقدمة، أو ما لم تتوسط ارادة الفاعل بینها و بین الفعل و لو لم تکن هی العلّة التامة و لا الجزء الأخیر منها، و من المعلوم أنّ إرادة الأکل دخیلة فی صدور الأکل منه بعد البیع، و أنّ بیعه لیس العلّة التامة للأکل و لا الجزء الأخیر منه، فلیس البیع منهم مصداقاً للاعانة المحرّمة، و علیه فیکون حال البیع هنا کحال بیع العنب ممّن یعلم أنه یعمله خمراً.

و ثالثاً: نمنع عدم جواز بیعه للمسلم بعد فرض کونه مالاً قابلا للتطهیر، و له منافع معتدّة محلّلة یمکن صرفه فیها بما لا یشترط فیه الطهارة.

مع أنّه لو سلّمنا ممنوعیة ذلک للمسلم بواسطه الأخبار، لکنّه ثابتٌ فیما إذا بیع منهم مع عدم اعلامهم بنحاسته، و أمّا مع الاعلام بذلک فممّا لا اشکال فی جواز بیعه لهم، کما ادّعی الاجماع علیه فی «الحدائق».

هذا، مع أنّه لو سلّمنا عدم جواز بیعه للمسلمین مطلقاً أی حتی مع الاعلام، و لکنه لا یعمّ غیرهم بدلیل الاشتراک معهم فی جمیع الأحکام إلّا ما خرج بالدلیل، لکون المورد ممّا ثبت خروجه بالدلیل، و هو الخبر المرسل الأوّل و خبر زکریّا بن آدم المتقدمین.

لا یقال: إنّهما متعارضان مع المرسل الآخر الذی أمر بالدفن.

لأنّا نقول: إنّه لابدّ من حمله علی ما إذا لم یرد بیعه أو تطهیره أو الانتفاع به فی غیر ما یشترط فیه الطهارة، و ذلک لأنّا نقطع بجواز الأخیرین بناءً علی قابلیته للتطهیر و صحّة الانتفاع به فی اطعام الدوّاب و غیره، و علیه فلا یتعین الدفن حینئذٍ.

هذا مضافاً الی ما ورد من الاخبار الأخر الدّالة علی جواز بیع المتنجّس

ص:271

کما ورد فی بیع الدهن المتنجس و لو من مسلمٍ کصحیح الحلبی أو حسنته عن الصادق علیه السلام : «أنّه سُئل عن رجلٍ کانت له غنم و بقر و کان یُدرک الذکی فیها فیعزله و یعزل المیته، ثُمّ إنّ الذکی و المیته قد اختلطا کیف یصنع؟ قال: یبعه ممّن یستحلّ المیته». (1) الاستحالة و حکمها

أقول: و منه یظهر عدم تمامیة ما استدلّوا بأن المستحلّ إذا کان ذمّیاً معصوم المال، فلا یجوز أخذ ماله ببیعٍ فاسدٍ، و لأجل ذلک احتمل فی محکی «المنتهی» جواز بیعه من غیر أهل الذّمه، مصرّحاً بارادة الاستنقاذ منه لا البیع الحقیقی.

لما قد عرفت جواز بیعه من المسلم فضلاً عن الذمّی و غیره، بواسطة الأخبار الواردة فی جواز ذلک کما لا یخفی.و علیه، فالأقوی هو ما اختاره صاحب «الجواهر» و غیره من جواز البیع للمسلم و غیره کما علیه المشهور.

هذا کلّه مع أنّ دعوی شرکه الکافر للمسلم فی ممنوعیة البیع ممنوعه، بعد مجیء الدلیل علی جواز بیعه لمن یستحلّ، و لعلّ وجه الأمر بالدفن فی خبر أبی البختری کان لعدم رغبة المسلم فیه غالباً، لصعوبة تطهیره، و قلّة الانتفاع به، فیکون الأمر فیه حینئذٍ للارشاد، و لذلک یلاحظ عدم ذکره فی صحیحه الآخر بل ذکر بیعه لمن یستحلّ، و الله العالم.

تنبیهٌ: ذکرنا خلال البحث أنّ الاستحالة تعدّ من المطهّرات، هی عند الفقهاء _ کما فی حواشی الشهید علی «القواعد» _ عبارة عن تغییر الاجزاء و انقلابها من حالٍ الی حال، کما عدّها سائر الأصحاب و غیر واحدٍ منهم من


1- وسائل الشیعة: الباب 36 من أبواب الأطعمة المحرمة، الحدیث 2.

ص:272

المطهرات، ففی الحقیقة لیست النار بنفسها منها إلّا بلحاظ کونها من أفرادها، أی تعدّ من اسباب تحقّق الاستحاله کما تتحقّق من غیرها، لا أن ْ تکون بخصوصها من المطهرات حتّی یوجب إفرادها بالذکر کما قد یُوهم ذلک عبارة المصنف و بعض آخر بقولهم: «و تطهّر النار ما أحالته» و إن ْ کان المراد لمن هو من أهل الدقّة واضح.

کما یظهر للمدقق أنّ الاستحالة عنوان و مفهوم معلومٌ و ظاهر عند العرف، و لا یحتاج الی تعریف دقیق فلسفی حکمی، فیقال بأنّها مبنیّة علی انقلاب الطبایع حقیقه، و إن کان ربما یکون فی بعضها کذلک، إلّا أنّ تمام أدلتها لا توصل الی هذا المعنی، بل المدار فی تشخیص تحقق الاستحالة و عدمها هو العرف، و هو یکفی فی جعله موضوعاً للحکم، و إن لم یصدق و لم ینطبق علیه حقیقه الاستحالة، کما أنّ الامر کذلک فی سائر موضوعات الأحکام.

و علی ذلک، یظهر عدم الفرق فی تحقّق الاستحالة بین أفراد المحیل و المستحیل، من کونها ناراً أو غیرها، کما هو کذلک عند التحقیق عندنا.

و الدلیل علیه:

1. الأصل، من جهة أنّه هو الطهارة فی کلّ شیء یُشک فیه من هذه الناحیة، إذا لم یعارضه أصل آخر معتبر، کما أنّ الأمر کذلک فی المقام، کما یظهر ذلک ممّا سیأتی فی یضاعیف کلامنا.

2. اطلاق أدلّة المحّال الیه المقتضی للحکم بالطهارة مع تحقّق الاستحالة.

مضافاً الی کونه مؤیداً بالاستقراء من الحکم بطهارته بواسطة و قیام الاجماع

ص:273

بقسمیه علیه، بل و هکذا وجود السیرة المستمرة علیه، بل الضرورة فی بعض.

3. النصوص الکثیرة الواردة فی ذلک فی موارد مختلفه و أمور متنوّعة مثل رماد الأعیان النجسة و دخانها، بل و بخارها، و الخمر المنقلب بنفسه خلّاً، و کذا العصیر فی الجملة، و کالنطفة و العلقة المتکونین حیواناً، بل و العذرة و نحوها دوداً، و إن کان فی بعضٍ من الأمور المذکورة کلاماً کما سیذکر فی محلّه.

و کذا الدم المستحیل قیحاً أو جزءاً لما لانفس سائله له، و الماء النجس الذی صار بولاً لحیوانٍ مأکول اللحم، أو عرقاً أو لعاباً أو جزءاً من الخضروات و الحبوب و الاشجار و الثمار.

و الغذاء النجس إذا صار لبناً أوروثاً لمأکول اللّحم، أو جزءاً له أو لطاهر العین، و غیر ذلک من الأمثلة.

أقول: بل لا یتم الحکم الی ذلک فقط، بل یکون الحکم کذلک من خلال الاستقراء فی سائر الأحکام الشرعیة غیر الطهارة المعلّقه علی الموضوعات، فاستحالت أو استحیل الیها من عبادة کانت فی تلک الأحکام أو معاملة، و هذه هی المستفادة من القاعدة المعروفة علی ألسنة الفقهاء فی سائر أبواب الفقه من قولهم بأنّ انتفاء الحکم لا یکون الّا بانتفاء موضوعه، و ما نحن فیه أیضاً لیس خارجاً عن هذه القاعدة کما لا یخفی.

و من هنا یظهر أنّ الاستحالة هی الاعمّ من التغیّر فی الحقیقه أو فی الصورة، التی یذهب بذهابها مُسمّی الاسم، و إن ْ منعه بعض العلماء بدعوی تخلّفه فی کثیرٍ من الموارد، و کونه مقتضیاً لبطلان الاستصحاب المعلوم

ص:274

عدم اشتراط حجیته ببقاء اسم المستصحب، لإطلاق ادلّته.

لکنه مندفع: بمعلومیّة تعلّق الأحکام بمسمیات الأسماء دون حقائقها، لأنّه معنی اللفظ دون الحقایق. و علیه فالأصل یوجب انتفاء الحکم بانتفاء اسم الموضوع.

اللّهم إلّا أن یعلم فی بعض الموارد تعلّق الحکم علی حقیقة ذلک الشیء، مثل الأعیان النجسة و أضرابها ممّا عُلم دوران الحکم فیه مدار الحقیقة و الطبیعة دون الاسم. هذا فضلاً عن أنّ قبول بطلان الاستصحاب فی ما إذا تغیّر الاسم لیس من المنکرات، لأن بقاء الموضوع بالاسم یکون بملاک فهم العرف فی الاستصحاب، فإذا تغیّر ذلک بحسب فهمهم، أوجب ذلک التغیّر فی اسم المستصحب، فلا یجری الاستصحاب، و لعلّ ما شاع علی لسانهم من عدم جریان الاستصحاب مع تغیّر الموضوع شاهدٌ له، و تنزیله علی صورة تغییر الحقیقه و استحالتها ممنوع.

و بالجملة: ثبت ممّا قرّرناه طهارة الأعیان النجسة بالاستحالة، مثل أن یصیر الخنزیر و الکلب ملحاً، و العذرة تراباً إذا صدقت الاستحالة علی مثل هذه التغییرات، بل قد یظهر من «المُعتبر» من عدم ذکر الخلاف فیه إلّا عن أبی حنیفة خاصّة، وجود الاتفاق بیننا فی الطهارة. کما ظهر ممّا ذکرنا ضعف ما یظهر من «المعتبر» و «المنتهی» و «التحریر» و «نهایة الأحکام» بل و «القواعد» بذهابهم الی خلاف ما قلناه، و إن کان ظاهر کلام بعضهم فی موضع آخر رجوعهم عمّا سبق کالشیخ فی «المبسوط» من النص علی عدم طهارة تراب العذرة مع أنّ ما حُکی عنه فی موضعٍ آخر أنّه لا بأس بالتیمم

ص:275

بتراب القبر منبوشاً أو غیره، و إن أمکن تنزیل کلامه علی صیرورة العذرة کالتراب فی تفرقة الأجزاء، لا حصول الاستحالة، فیرتفع التنافی بین الکلامین، بل هو المتعیّن لعدم خلاف فی الطهارة مع الاستحالة حتّی من الفاضلین، حیث قد صرّحاً فی «المعتبر» و «المنتهی» بطهارة التراب المستحیل من الأعیان النجسّة، و إن ذکر التردّد فی «المعتبر» أوّلاً.

أقول: بعد ما ثبت أنّ المدار فی الحکم بالطهارة هی الاستحالة: فإذا تحقّقت یحکم بالطهارة، و علیه فلا یبقی حینئذٍ لما فی حواشی الشهید علی «القواعد» وجهٌ، و عن دعوی کون الاستحالة عند الأصولییّن عبارة عن تغییر الصورة النوعیة و هی بعد لم تتغیر (أی فی المفروض من الملح و التراب) فلا یطهر، لوضوح أنّ مبنی کلامه هو ملاحظه الصورة الجسمیة، مع أنّه غیر ملحوظٍ عند الأصولییّن، مع ملاحظة اعتبار وجه الطهارة و هو صدق الاستحالة، و هو حاصل فیحکم بالطهارة.

و أیضاً: یظهر ممّا ذکرنا عدم تمامیة ما عن فخر المحققین فیه من تخریجه تارة علی کون النجاسة ذاتیه، و أخری علی أنّ الباقی مستغنٍ عن المؤثر، فلازمه بقاء النجاسة علی الملح و التراب.

لوضوح أنّ کون النجاسة ذاتیه لیس معناه إلّا حکم الشارع بذلک فی هذا العین، من غیر اعتبار عروض شیءٍ آخر علیه، و هو یزول بتحقّق الاستحالة التی حکم الشارع بمطهّریتها للنجس حتی فی العین.

کما أنّ ما ذکره فی الدلیل الثانی من أنّ الباقی مستغنٍ عن المؤثّر هنا، غیر وجیهٍ، لأنّه من الواضح أنّ مثل هذا إنّما یکون فی العلل و الأسباب

ص:276

التکوینیة لا فی مثل العلل الشرعیة التی هی معرّفات، و تکون أمرها بید الشارع.

هذا، مع أنّه إنّما یتّجه ذلک فیما إذا أحرز البقاء و وقع الاشکال فی مؤثره، لا مع الاشکال فی أصل البقاء کما فی ما نحن فیه.

مع أنّه لو سُلّم ذلک لزم منه کون الحکم بالطهارة متوقفاً علی القول باحتیاج الباقی فی بقائه الی مؤثر، و هو غیر معلوم.

و أیضاً: بعد التأمل و الدقه فیما ذکرنا یظهر عدم تمامیّة ما تفوّه به صاحب «جامع المقاصد» هنا و، فقد قال: «لأنّ احتیاجه فی الابقاء لا یقتضی زواله باختلاف الزمان، و لا بتغیّر محلّه، و إلّا لکان الحکم الشرعی الثابت بدلیلٍ فی کلّ آنٍ یتجدّد زائلاً، أو بکلّ تغیّر یعرض لمحله و هو معلوم الفساد. و قد تقرر فی الأصول أنّ استصحاب الحال حجّة.

فان قیل: لمّا کان المقتضی للنجاسة هو تعلیق الشارع ایّاها علی الاسم و الصورة، وجب أن یعتبر بقائهما فی بقائه.

قلنا: لیس المقتضی للنجاسة هنا ذلک، بل المقتضی لها نصّ الشارع علی نجاسة جسم العین، و لا یعتبر لبقاء الحکم إلّا بقاء ذلک الجسم، و لا دخل لاحتیاج الباقی و استغنائه فی بقاء الحکم و زواله مع بقاء ذلک الجسم، فإنّ ذلک محلّ الاستصحاب) انتهی کلامه رفع مقامه.

و الجواب: قد عرفت أنّ حکم الشارع بمطهریة الاستحاله، یوجب طهارة ما وقع فیه ذلک، و الرجوع فی اثبات البقاء للحکم الأوّلی بالاستصحاب أمر عجیبٌ، لأنّه من الواضح عدم تناول ما هو العمدة فی دلیل الاستصحاب من أخبار عدم نقض الیقین و السیرة لمثل ذلک، بل قد

ص:277

یعدّ اجزائه فی بعض تغییرات الموضوع و استحالته من المنکرات المساویة لانکار الضروریّات.

هذا کلّه فیما اذا أمکن فیه بقاء الحکم و اجرائه فیه.

و أمّا ما لا یمکن و لا یُعقل ذلک، نشاهد فی الأمثلة التی ذکرها صاحب شرح «المفاتیح» کقوله من صیرورة الماء المطلق المأمور بالوضوء منه مثلاً هواءً أو بخاراً أو نحوهما، لوضوح أنّ مثل الهواء و البخار غیر قابلان للتوضی بهما، فهما خارجان عن محلّ البحث موضوعاً، لأجل عدم قابلیة انتقال الحکم الیه، بخلاف مثل ملحیّة الکلب و نحوه، إذ الخصم أیضاً معترف و موافقٌ لعدم جریان الاستصحاب مع تغیّر موضوع الحکم و استحالته، لا أقلّ فی بعضٍ، إلّا أنّه یدّعی بأن موضوع حکم النجاسة لیس الکلب بعنوانه حتّی یوجب تغیّره عموم جریان الاستصحاب فیه، بل الموضوع هو هذا الجسم الذی لم یتغیّر و إن تغیّرت فیه عنوان الکلبیة _ و إن کان أصل الدعوی ممنوعه لشهادة العرف علی خلافه _ و إلّا فالموضوع الواحد للحکم لا ریب فی اختلافه من حیثیتین، و الشاهد علی ذلک أنّ الماء المطلق المأمور بالوضوء منه إذا صار مضافاً یعدم ذلک الحکم منه، و لا معنی للاستصحاب فیه بعد معدومیة الموضوع القابل و هو المائیة المطلقه، فلا یطهر مع فرض نجاسته بذلک، لأنّ موضوع حکم النجاسة فیه کونه جسماً رطباً لاقیٰ نجاسة و هو باقٍ فی حال اضافته.

نعم، لا یتمّ هذا البیان فی خصوص هذا المقال بناءً علی القول بمطهریة الاستحالة للأعیان النجسة و المتنجّسة، حیث إنّه تقتضی طهارتها حتّی مع

ص:278

الاضافة، إمّا مطلقاً فیما إذا کانت الاستحالة مانعه لجریان الاستصحاب فیه، و إمّا للقطع بذلک أو الظن به أو الشک فیه، لأنّ الشک فی شمول أدلته له یکون کالقطع بالعدم، کما إذا صار المضاف حیواناً و نحوه، و مطلقاً أی سواءٌ کان صیرورته بالاضافة بنفسه، أو بامتزاج شیءٍ منه به، أو یقال بالطهارة اذا کانت صیرورته کذلک بنفسه لامع الامتزاج، و إلّا لم یطهر و إن استحال ذلک الماء، لکن ما امتزج به من الماء المضاف المتنجّس بملاقاته لا استحالة بالنسبة الیه، فیبقی علی النجاسة، فینجس الماء المستحیل الیه، و لاجل ذلک نلاحظ أنّ بعضهم قیّد ما نحن فیه من طهارة التراب المستحیل من العذرة مثلاً بما إذا کانت یابسة لا رطبة، لتنجّس التراب برطوبتها، و لا استحالة بالنسبة الیه، و إن کان ذکر هذا القید غیر لازم، لأنّ بحثنا عمّا یستحیل فقط و هو التراب لا غیره، غایة الأمر یکون هذا من موارد امتزاج الطاهر مع النجس، و هو خارج عن البحث من هذه الحیثیة، و یعدّ نظیر الاستغناء عن تقیید الطهارة فی الکلب المستحیل الی الملح بما لم یصادف وقوع الکلب فی المملحة ملحاً رطباً الموجب لنجاسته، و کذا تقیید الطهارة فیه بما إذا کان الماء الواقع فیه الکلب المستحیل ملحاً قدر کرٍّ لا قلیلاً، و إلّا نجس الجمیع.

أقول: و إن ْ کان أصل المطلب غیر صحیح عندنا، لذهابنا الی القول بالطهارة فی المستحیل و لو کان من المتنجس فضلاً عن النجس، حیث یکون فی الفرض المزبور الکلب و الماء کلاهما طاهرین.

هذا کلّه إذا لم نقل بالطهارة التبعیّة، بل التزمنا بأنّ وجه الطهارة فی

ص:279

کلیهما هو الاستحالة، لأنّه من الواضح أنّه لو حصلت الاستحالة لنفس الأرض و الماء الواقع فیهما الکلب و العذرة و صارا ملحاً، فلا اشکال فی شمول دلیل مطهریة الاستحالة لمحلّ الکلب و العذرة کشموله لاصلهما، فلا نحتاج لاثبات طهارة محلّهما الی دلیلٍ آخر.

و إن فرض عدم تحقّق الاستحالة للمحلّ، فإنّه برغم ذلک یمکن القول بالطهارة أیضاً من باب التبعیّة، کما یقال بذلک فی أوانی الخمر و العصیر، لکن استدلّ فی «الجواهر» لذلک بالفحوی بمعنی أنّه إذا التزمنا بالطهارة فی الانائین المذکورین ففی المقام یکون بطریق الأولویة، مع أنّ الاولویة غیر معلومة، بل یکون الأمر عکس ذلک، یعنی إنّ ورد الدلیل فیما نحن علی الطهارة التبعیّة یوجب تحقّق الطهارة فی انائهما بطریق أولی لکثرة الابتلاء به دون المقام، بل یمکن أن تکون هذه الکثرة هی الوجه فی الالحاق لأنه لو حکم بالنجاسة فربما ینجّر الی نقض الغرض، لوضوح أنّ العذرة التی تصیر تراباً بحسب النوع تکون رطبة عادة، کما هو الحال کذلک فی الکلب، و لو لأجل وقوع المطر علیه و تنجیس الأرض به نوعاً بطول المدّة، فلابدّ من القول بنجاسة ملحه و ترابها، و لا أقلّ فی السطح الملاصق بالأرض، مع أنّه لم یذکر هذا التفصیل فی کتب الأصحاب، بل اطلقوا الطهارة فی الملح و تراب الارض.

اللّهم إلّا أن یقال: إنّه لا یعلم بتحقق ذلک، فأصالة الطهارة و قاعدتها تحکمان بالطهارة، أو یقال بأنّه و إن ْ أمکن تحقق النجاسة بالمطر و امثال ذلک، إلّا أنه یحتمل تحقّق الطهارة بالمطر النازل علیه بعد صیرورته ملحاً،

ص:280

أو یقال بتحقیق الطهارة بالتبعیة، و إن فرض نجاسة الأرض بهما کما عرفت، و هو غیر بعیدٍ، لما یشعر به اطلاق کلمات الأصحاب بطهارة الکلب التی صارت ملحاً.

و لعلّ لأجل ذلک قال بعضهم بصورة الاطلاق بجواز التیمم بتراب القبر المستحیل لغلبة سیلان دم المیّت علیه، أو صیرورة نفس الدم تراباً بالاستحالة، حیث إنّه طاهر من ناحیة الاستحالة، فکذلک الأرض الملاصق للتبعیة، فحینئذٍ لا نحتاح الی تنزیله بغیر مورد السیلان کما عن «الجواهر».

و بالجملة: ظهر ممّا ذکرنا أنّ من جملة المطهّرات و لو بالتعبّد هو التبعیة کما فی أوانی الخمر و العصیر و محلّ غُسل المیّت و نحوها، و الله العالم.البحث عن مطهریّة الانقلاب

البحث عن مطهریّة الانقلاب

و من جملة المطهّرات: الانقلاب عُدّ الانقلاب کصیرورة الخمر خلّاً من جملة المطهرات، و قد وقع الخلاف بین الاعلام فی أنّ الانقلاب هل هو من الاستحالة، أو هو شیءٌ مستقلٌ فی مقابلها؟

و السبب أنّه یظهر من کلمات بعض الاصحاب أنه قسمٌ مستقلٌ فی المطهریّة، و ذلک لقیام الدلیل علی مطهّریته مع قطع النظر عن دلیل مطهریة الاستحالة، بل قد تأمّل بعضهم فی کونه من الاستحالة، للتردید و الشک فی تحقق تغیّر فی الماهیة و انقلاب فی الطبیعة علی وجهٍ یعتبر فی الاستحالة، و إن اعترض علیه المحقّق الآملی فی «مصباحه» بقوله: «لکن هذا الأخیر سخیف جدّاً، إذ لا شک عند العرف فی تغایر حقیقة الخلّ و الخمر، کما أنّهما

ص:281

متغایران عقلاً، فالتأمّل فی کونه من صغریات الاستحالة ممّا لا وجه له أصلاً».

نعم، قد یعترض علی ذلک: بأنّه إذا کان من أفراد الاستحالة، فلِم ذُکر لمطهریته دلیلٌ مستقلٌ، فإنّ هذا یشعر کونه مغایراً عنها.

لکن قد أجیب عنه: _ کما فی «مصباح الهدی» بقوله _ : «لکنه ربما یُشکل فی طهره بالانقلاب بدلیل مطهریة الاستحالة من جهة تنجس إناء الخمر بها قبل صیرورتها خلّاً، فإذا صارت خلاً یتنجس بملاقاته للاناء المتنجّس بالخمر، بناءً علی تنجّس المتنجس، و لو لم تکن عین النجاسة فیه موجودة، کما هو الحق. و دلیل مطهریة الاستحالة _ أعنی کون الحکم دائراً فی البقاء مدار بقاء موضوعه _ لا یدلّ علی طهر المستحیل الیه من نجاسته العارضة علیه بسبب الملاقاة مع المتنجس، و لذا قیّد غیر واحدٍ منهم طهر الکلب المستحیل الی الملح، بما إذا کان ماء المملحة طاهراً، لأنّه إذا کان هو أو الارض التی تقع فیها الکلب نجساً أو کان الماء قلیلاً لا یجری استحالته فی طهارته.

و بعبارة أخری: دلیل مطهریة الاستحالة یدلّ علی الطهر بها عن النجاسة الثابته للمستحیل ذاتاً أو عرضاً، لا للنجاسة المکتسبة للمستحیل علیه بسبب ملاقاته للنجس من الماء أو الارض و نحوهما) انتهی محلّ الحاجة.

قلنا: قد عرفت منا وفاقاً لصاحب «الجواهر» أنّ ما ذکروه من القید إنّما یتم لو لم نقل بطهارة المتنجس بالاستحالة، و إلّا لا حاجة فی الحکم بطهارة الماء الملاقی مع تبدّل الماء المتنجس بالکلب المستحیل ملحاً الی شیءٍ آخر غیر نفس الاستحالة، فانها کما تُطهّر عین النجاسة و هی الکلب

ص:282

و، کذلک تطهّر الماء المتنجس معه إذا صار ملحاً. نعم لو لم نقل ذلک فی المتنجس أو لم یصر الماء ملحاً بل کان باقیاً علی مائیته بعد صیرورة الکلب ملحاً، فحینئذٍ یصحّ ما ذکر. مع أنّ القسم الثانی منه خارج عن دائرة البحث.

و کیف کان، دعوی القطع بکون الانقلاب من أفراد الاستحالة لا یخلو عن تأمّل، و إن کان لا یخلو عن وجهٍ کما یظهر من صاحب «الجواهر» کونه منها، بقوله: «إذ الذی تقتضیه القواعد طهارة الخمر و العصیر المستحیل بنفسه خلّاً...».

و علی کل حال، فإنّه لا اشکال فی قیام الدلیل المستقلّ علی مطهریّة الانقلاب بصیرورة الخمر خلّا، حیث تصیر بعد النجاسة طاهراً، بل و هکذا أوانی الخمر بالتبعیة، و الّا لزم منه اللغویة مع نجاسة الاناء، لأنه مستلزمٌ لتنجّس الخلّ دائماً کما هو واضح و ممّا لا بحث فیه إذا کان الانقلاب بنفسه لا بعلاجٍ کما یستقلّ بذلک أخباره.

البحث عن مطهریّة الانقلاب المتحقق بالعلاج

اختلف الأصحاب فی حکم ما لو کان تحقق الانقلاب لا بنفسه بل بعلاجٍ، و هو علی أنحاء: تارة یکون بغیر الاجسام، و أخری معها:

ثم علی فرض الاجسام:

تارة: بالاجسام المستهلکه فیه قبل التخلیل.

و أخری: المنقلبة قبله خلاً أو معه بناءً علی طهارة المتنجس بالاستحالة الشاملة لذلک.

ص:283

و ثالثةً: ما کان بأجسامٍ بقیت بعد خلّیته.

فحینئذٍ یأتی السؤال بعد القول بحصول الطهارة حتی بعلاجٍ، أنّه هل هو مختصّ بصورة ما إذا لم یکن مع الاجسام، أو یقال بها حتّی مع الاجسام؟ ثم علی ذلک هل یکون مطلقاً، سواءٌ کانت بما بقیت أو لا، أو یختصّ بالأخیر فقط؟ وجوه و أقوال:

1. قول بعدم الطهارة مع العلاج مطلقاً کما عن الأردبیلی و الخراسانی، بل عن «المجمع» و «الکفایة» نقل هذا القول، بل فی «اللّوامع» نسبته الی القیل، بل لعلّه لازم ما فی «السرائر» و «النافع» و «التحریر»، و باب الأطعمة من هذا الکتاب من عدم طهارة و حلیّة ما سقط من اناء الخمر فی خلّ، و إن تخلّل، هذا بناءً علی ما فهمه الآبی و أبی العباس من هذا الکلام، و ذلک لاتحاد مستند الجمیع من نجاسة ما یعالج به و عدم مطهرٍ له.

2. دون ما فهمه منها صاحب «کشف اللّثام» من أنّ مرادهم من هذه العبارة عدم العلم بتخلّل الخمر المختلطة مع الخلّ، ردّاً علی الشیخ فی نهایته القائل بحلیّة ذلک و طهارته إذا انقلب ما بقی فی الاناء خلاً، فیکون انقلابه علامة علی انقلاب ذلک المختلط، الذی هو القول الثانی فی المسالة، و قد التزم به الشیخ رحمة الله .

3. و القول الثالث فی المسألة هو الفرق بین ما یُعالج به من الأعیان الباقیه بعد التخلیل، و بین الخمر الواقع فی خلٍّ من الطهارة و الحلیة فی الأول دون الثانی زمان انقلب ذلک الخمر خلاً.

4. بل قد یظهر من کلام صاحب «الجواهر» هنا قولاً رابعاً، و هو الفرق:

ص:284

بین کون الاجسام التی یُعالج بها عینها باقیة بعد خلّیته فینجس لنجاسته، بواسطة نجاسة تلک الاجسام، الموجب لاستصحاب النجاسة الذی لم یعارضه استحالة أو نحوها فیها، بل لا یجدی استحالتها خلاً بعد ذلک، لسبق نجاسة الخلّ المستحیلة من الخمر بها.

و بین غیر الباقیة فیطهر.

بل قال: «إنّ ظاهر جملة من الأخبار، هو اختصاص الطهارة بخصوص القول الأوّل، أی أن یکون الانقلاب بنفسه لا بعلاج، و هو مثل:

1. خبر العیون عن الرضا، باسناده عن آبائه، عن علی علیهم السلام عن رسول الله صلی الله علیه و آله فی حدیثٍ طویل، قال: «کلوا الخَمر ما فسد، و لا تأکلوا ما أفسدتموه أنتم» (1).

2. و خبر أبی بصیر، قال: «سألتُ أبا عبدالله علیه السلام عن الخمر یُجعل خلّاً؟ قال: لا بأس إذا لم یجعل فیها ما یغلبها». (2)

3. و خبره الآخر عن أبی عبدالله علیه السلام ، قال: «سُئل عن الخمر یُجعل فیها الخَلّ؟ فقال: لا إلّا ما جاء من قِبَل نفسه». (3)

أقول: العمل بمثل هذه الأخبار فی المسألة مشکل، لأجل ضعف سند بعضها أوّلاً، و إعراض الأصحاب عنها ثانیاً، لأن اتفاق الأصحاب ظاهراً إن لم یکن واقعاً ثابتٌ نقلاً و تحصیلاً علی عدم الفرق بین انقلابه بنفسه أو بعلاجٍ لا یبقی عینه، بل حتی مع بقاء عینه کما هو مقتضی اطلاق الفتاوی،


1- وسائل الشیعة: الباب 10 من أبواب الأطعمة المباحة، الحدیث 24.
2- وسائل الشیعة: الباب 31 من أبواب الأشربة المحرّمة، الحدیث 4 _ 7_.
3- وسائل الشیعة: الباب 31 من أبواب الأشربة المحرّمة، الحدیث 4 _ 7_.

ص:285

بل ظاهر «کشف اللّثام» و المحکی عن عبارة المرتضی فی «السرائر» الاجماع علیه، کظاهر کلام الطباطبائی بل صریحه فی منظومته.

و الخمر و العصیر إن تخلّلا

فباتفاقٍ طَهرا و حلّلا

بنفسه أو بعلاجٍ انقلب

إن بقی الغالب فیه أو ذهب

و کثرة النصوص مع صحّة سند بعضها علی الجواز ثالثاً:

منها: صحیح زرارة عن أبی عبدالله علیه السلام ، قال: «سألته عن الخمر العتیقة تجعل خلّاً؟ قال: لا بأس». (1)

و منها: خبر ولده عبید بن زرارة عنه علیه السلام : «عن الرجل یأخذ الخمر فیجعلها خلّاً؟ قال: لا بأس». (2)

و منها: خبره الآخر الموثّق: «عنه علیه السلام أنّه قال: «فی الرجل إذا باع عصیراً فحبسه السلطان حتّی صار خمراً فجعله صاحبه خلاً؟ فقال: إذا تحوّل عن اسم الخمر فلا بأس به». (3)

فان الاستدلال بهذه الثلاثه لا یکون الّا من جهة ترک الاستفصال، مع أنّه یمکن المناقشة فیها بأنّها لم تکن فی صدد بیان الاطلاق من هذه الحثیثیه، بل المقصود هو بیان حلّیة ما تصیر الخمر خلّاً، المنصرف عند الاطلاق الی صورة کونه بنفسه کما هو المتعارف لا بعلاج. نعم، لو کان الانقلاب بالعلاج أمراً متعارفاً غالبیّاً حتّی یستأنس الذهن به و یتبادر الیه، کان ترک الاستفصال حینئذٍ موجباً لجواز الاستدلال، و لکن اثباته لا یخلو عن تأمّل.


1- وسائل الشیعة: الباب 31 من أبواب الأشربة المحرّمة ، الحدیث 3.
2- وسائل الشیعة: الباب 31 من أبواب الأشربة المحرّمة ، الحدیث 3.
3- وسائل الشیعة: الباب 31 من أبواب الأشربة المحرّمة ، الحدیث 5.

ص:286

نعم، هذا الاشکال لا یجری فیما یدلّ علیه الخبر الصحیح المروی عن جمیل، عن محمد بن أبی عمیر، و علی بن حدید جمیعاً عنه، قال: «قلت لأبی عبدالله علیه السلام : یکون لی علی الرجل الدّراهم فیعیطنی بها خمراً؟ فقال: خذها ثُمّ أفسدها». (1)

قال علی بن حدید: و اجعلها خلّاً.

فإنه یدلّ علی ما ذکروه لو أرید من الافساد جعله خلّاً بعلاجٍ، مع أنّه یمکن أن یکون المراد من الافساد نفس انقلاب الخمر خلاً بنفسه، بأن تحفظ عینها مدّةً مدیدة لتنقلب الی الخلّ بنفسها، لا جعلها کذلک بعلاجٍ، فحینئذٍ یخرج الحدیث عن موضع الاستدلال.

نعم، و الذی لا یجری فیه الاشکال فی الدلالة علی المقصود، هو صحیح عبد العزیز بن المهتدی، قال: «کتبتُ الی الرضا علیه السلام : جُعلت فداک! العصیر یصیر خمراً فیُصبّ علیه الخلّ و شیءٌ یغیّره حتّی یصیر خلّاً؟ قال: لا بأس به». (2)

بناءً علی عدم الفرق بین الخمر من العصیر و غیره کما هو کذلک.

و أیضاً: خبر «السرائر» نقلا عن «جامع البزنطی» عن أبی بصیر، عن أبی عبدالله علیه السلام : «أنّه سُئل عن الخمر تُعالج بالملح و غیره لتحوّل خلاً؟ قال: لا بأس بمعالجتها. قلت: فإنّی عالجتها و طینّت رأسها ثُم کشفت عنها فنظرت الیها قبل الوقت فوجدتها خمراً أیحلّ لی إمساکها؟ قال: لا بأس بذلک إنّما


1- وسائل الشیعة: الباب 31 من أبواب الأشربة المحرّمة ، الحدیث 5.
2- وسائل الشیعة: الباب 31 من أبواب الأشربة المحرّمة ، الحدیث 8.

ص:287

ارادتک أن یتحوّل الخمر خَلّاً و لیس ارادتک الفساد». (1)

و أیضاً: خبر أبی بصیر، قال: «سألت أبا عبدالله علیه السلام عن الخمر یُضع فیها الشیء حتی تحمض؟ قال: إذا کان الذی صنع فیها هو الغالب علی ما صنع فیها فلا بأس به». (2)

فانه یصحّ التمسک به لو حُمل علی صورة الانقلاب باعمال علاج فیه لا الامتزاج و الاستهلاک الذی احتمله الشیخ، حیث قال: «إنّه شاذٌ متروک، لأنّ الخمر نجس ینجّس ما حصل فیها» (3) انتهی.

و أمّا خبر «قرب الاسناد» عن علی بن جعفر، عن أخیه علیه السلام ، قال: «سألته عن الخمر یکون أوّله خمراً ثم یصیر خلّاً؟ قال: إذا ذهب سُکره فلا بأس».

فحاله کحال خبر زرارة و ابنه، و قد عرفت الاشکال.

هذا مجموعٍ ما تمسّکوا للاطلاق، فکان العمل علی ما علیه المشهور من الجواز مطلقاً، حتّی و لو کان حصول الانقلاب بعلاجٍ، سواءٌ کانت العین فیها باقیه أولا کما علیه الأکثر.

و علیه، فلازم ذلک هو حمل الأخبار الدّالة علی ترک العلاج علی کراهة ذلک، أو فرض کون ترک العلاج مستحباً، کما حمل الشیخ خبری أبی بصیر علی ذلک جمعاً بینهما و بین هذه الأخبار الکثیرة، و لا بأس به بعد البناء علی المسامحة فی السنن، بل و مقتضی تلک الأخبار _ و لو بعضها _ عدم الفرق بین الباقی من العین بما عولج بها بعد صیرورتها خلّاً، أو استهلک فیها قبل التخلّل، خصوصاً إذا لوحظ أنّه کثیراً ما یتخلّف من


1- وسائل الشیعة: الباب 31 من أبواب الأشربة المحرّمة ، الحدیث 10 _ 11.
2- وسائل الشیعة: الباب 31 من أبواب الأشربة المحرّمة ، الحدیث 10 _ 11.
3- التهذیب، ج 9/119 ذیل حدیث 511.

ص:288

الملح و نحوه _ کما خبر البزنطی _ بعض الأجزاء الأرضیة بعد الانقلاب، فتطهر بالتبع.

فإذاً، ما عن بعضٍ کصاحب «مجمع الفائدة و البرهان» من اختصاص الطهارة بما اذا لم تبق العین، لأنّ نجاسة العین الباقیه مانعة من الطهارة، و لا دلیل علی طهارتها بالتبع.

ممّا لا ینبغی القبول منه، بل حتّی لو فرض کون المعالجة بما توجب بقاء عینه، فهو خلاف المتعارف الذی ینصرف عنه الاطلاق، فإنّه لا ینبغی الاشکال فیه أیضاً، لأنّ خروجه عن المتعارف لا یُخرجه عن الآلیة کی لا یُفهم طهارته بالتبع ممّا دلّ علی حلیّة الخَلّ المستحیل من الخبر.

بل لا ینبغی التشکیک فی طهارة جسمٍ خارجی طاهر من حجارةٍ و نحوها لو وقع فی الخمر و بقی فیها الی أن تخلّل، أو ألقی فیها بعض الأجسام الطاهرة الطیبة الریح لیطیب ریحها، لأن الأدلة الدالة علی حلیّة الخَلّ و طهارتها بعد ذهاب سکرها، لا تقصر عن شمول مثل هذه الاشیاء و الحکم بطارتها، و هذا واضحٌ لمن یتأمّل فی جمیع الأخبار، و یُخلی ذهنه عن شوب بعض الشبهات حتّی لا یتردد فی قبول ذلک.

هذا کلّه إذا کان ما یعالج و یقع فی الخمر من الجوامد. حکم المایعات المضافة الی الخمر بعد الانقلاب

حکم المایعات المضافة الی الخمر بعد الانقلاب

إذا کان المضاف الی الخمر من المایعات التی تستهلک إذا وقعت فی ما یقع فیه، فهل یحکم بالطهارة بالتبع لأجل الاستحالة التی تحصل فی

ص:289

الخمر، أو لا؟ فیه صور و خلاف نتعرّض لها قریباً لکن ذهب صاحب «مصباح الفقیه» الی الفرق بین الجوامد و المایعات بما لا یخلو عن تأمّل، لأنّه استدلّ لذلک: «بأنّ العرف لا یساعد علیه فی المایعات، حیث یرونها بمجرد الاتصال بالنجس لصیرورتها نجسةً کعین النجسة مستقلةً بالأثر، بخلاف الجامدات الملاقیة للنجس التی لا تتخطی النجاسة عن سطحها الملاصق للجسم، فلا یرون لها ما لم ینفصل أثراً خاصاً، بل یرون نجاستها تابعةً لنجاسة النجس الملاصق لها، و لا یتعقّلون بقائها بعد انقلاب ذلک النجس و صیرورته طاهراً.

و الحاصل: إنّ مساعدة العرف علی التبعیة فی المائعات محلّ نظرٍ، فمقتضی الأصل بقاء نجاستها و مانعیتها من طهارة المستحیل» انتهی. (1)

أقول: و فیه إنّ ما ذکره من وجه الفرق بینهما لیس بواضحٍ، مع کون المایعات غالبی الوجود، کما أنّ عدم تخطّی النجاسة عن ظاهر سطح الجوامد الی بواطنها لا یکون سبباً و منشاءً للفرق، فلابدّ أن نلاحظ وجه التفاوت و الفرق بین الموردین، و لذلک لا بأس حینئذٍ بذکر الصور و الوجوه المتصوّرة بالقاء المایعات _ کالخلّ و غیرها _ فی الخمر أو عکسه کما لو وقعت مثلاً قطرة خمرٍ أو قطرات منها فی خلّ کثیر کحُبّ منه.

الصورة الأولیٰ: أن تقع فیه و أن تستهلک فیه بلا استحالة و لا انقلاب و لا مضیّ زمانٍ یستحیل مثلها فی ذلک الزمان، و لا وجود أمارةٍ دالّة علی استحالتها فیه.


1- ).مصباح الفقیه، ج 8/295.

ص:290

و الحکم هو عدم حصول الطهر للخمر المستهلک، و تنجس الخلّ الملاقی لها، و قد إدّعیٰ قیام الاجماع فی صریح «الجواهر» و لم یذکر فیه الخلاف عن أحدٍ إلّا عن أبی حنیفة، و وجهه واضح، إذ لم یثبت و لم یقم دلیلٌ علی طهارة الخمر بالاستهلاک، و إلّا یلزم أن یکون الحکم فی سائر النجاسات کالبول و الدّم ایضاً کذلک، بأن تطهر نتیجة الاستهلاک فی مایعٍ کالخلّ، و هو باطلٌ بالاجماع.

هذا، و من ناحیة أخریٰ ما ورد من تنجس المایع بالملاقاة حیث أنّ الخَلّ إذا لاقی النجس تنجّس به، مضافاً الی أنّه لو شککنا فی تأثیر الخمر فی تنجسه بواسطة الاستهلاک، یکون المرجع حینئذٍ هو استصحاب حکمها الذی منه انفعال ملاقیها، و قد عرفت أنّه لو لا ذلک لسری الحکم الی سائر النجاسات، و لزم منه حینئذٍ تأسیس فقهٍ جدید، بل هو مخالفٌ لضرورة المذهب بل الدین.

نعم، قد ادّعی هنا تناول لفظ الجعل و التحویل و القلب الوادرة فی النصوص لمثل المورد، بدعوی مساواة الاستهلاک مع الاستحالة فی تغییر الاسم، و أنّه کما لا یصدق علی الخمر المستحیل الی الخَلّ اسم الخمر، کذلک لا یصدق علی الخمر المستهلک اسم الخمر، فهما مشترکان فی تغیّر الاسم، هذا.

أقول: و لکن فیه ما لا یخفی، ضرورة أنّ لفظة الجعل و أخواتها إنّما تصدق فیما إذا صار شیءٌ شیئاً آخر، فیقال إنّه جعله أو حوّله أو قلبه، و هذه العناوین و الألفاظ لا تنطبق علی حالة الاستهلاک کما هو واضح.

ص:291

و دعوی المساواة بین الاستهلاک و الاستحالة و تغیّر الاسم و الاستدل به قیاسٌ باطلٌ فی مذهبنا، و لعلّه هو المنشأ لذهاب أبی حنیفة الی

طهارتها بالاستهلاک.

الصورة الثانیة: أن ینقلب ما بقی من الخمر الواقعه فی الخلّ الی الخَلّ.

المشهور هو عدم الطهر للخمر الواقع فیه، و نجاسة الخَلّ بها، و لکن المحکی عن الشیخ فی «النهایة» و «التهذیب» و العلّامة فی محکی «المختلف» هو الطهارة و الحلیّة لما فی الخَلّ، لأجل انقلاب الباقی من الخمر فی خارج الخلّ، لدلالة ذلک الانقلاب علی حصول الانقلاب لما فی الخَلّ و استعداده لذلک، لوحدة مزاجهما، مع أنّ استعداد المُلقی فی الخَلّ ربما یکون أتمّ و أکمل للانقلاب، لأجل مجاورته معه الموجبة لسرعة تحوّلها الیه، لکن لم یحصل العلم بامتزاجه به، فإذا انقلب الأصل المأخوذ منه علمنا حصول انقلاب الملقی فی الخَلّ أیضاً.

بل قد یظهر من الحلّی فی «السرائر» ورود روایة علی ما ذهب الیه الشیخ رحمة الله ، لکنه ردّها بدعوی أنّها شاذة و مخالفة مع أصول المذهب و الأدلة و مضادّة مع الاجماع.

أقول: و لعلّه أراد من الروایة ما هو المحکی عن «فقه الرضا» بقوله: «فإن صبّ فی الخَلّ خمر لم یحلّ أکله حتّی یذهب علیه أیّام و بصیر خَلّاً ثم أکل بعد ذلک»، و لأجل ذلک قال: «إنّها شاذة موافقه لمذهب أبی حنیفة، فإن صحّ ورودها تُحمل علی التقیة» انتهی ما فی «السرائر».

هذا، و لکن الأقوی ما علیه المشهور من عدم الطهارة و الحلیّة، لأنّه:

ص:292

1. إن أراد الشیخ بذلک التعبّد بهذه الروایة فی الحکم بالطهارة، فضعفه واضحٌ لأنّه:

أولاً: إنّ «فقه الرضا» مشکوک فی کونه للامام، لامکان أن یکون الکلام لمصنّف الکتاب.

و ثانیاً: انه لم یثبت کون هذه الروایة هو مستند الشیخ.

و ثالثاً: لو سلّمنا الأمرین المذکورین، فحجیّتها موقوفة علی عدم اعراض الأصحاب عنها، و الّا یشکل الاعتماد علیها.

و رابعاً: قد عرفت موافقتها لمذهب العامة الموجبة لحملها علی التقیة.

2. و إن أراد الشیخ من تحقّق الانقلاب فی الخارج علامةً علی حصول العلم بالانقلاب فی الداخل، ففی «الجواهر» إنّ فیه منعٌ لأنّه لا یحصل بذلک العلم و القطع، و الظن و إن حصل لکنه لا یکفی فی ذلک، مع أنّه مبنیٌ علی القول بطهارة المستهلک کذلک مع انقلابه الی الخلّیّة، و فیه منعٌ لأنه بالملاقاة یصیر الخَلّ نجساً و لو حصل العلم بانقلابه، کما لا یخفی.

الصورة الثالثه: هی ما لو علم حصول الانقلاب فی الخمر الواقع فی الخَلّ إمّا بواسطة انقلاب أصلها المأخوذ منها، أو لسببٍ آخر غیره، فهل تحصل الطهارة لما فی الخلّ أم لا؟ فیه خلاف: المحکی عن العلّامة فی «المختلف» هو طهره به، و عن «کشف اللّثام» دعوی ظهور اتفاقهم علیه، حیث إنّهم علّقوا بحثهم علی تحصیل معلومیة الانقلاب بانقلاب ما بقی من الخمر و عدمه، و ربما استدلّوا لذلک باطلاق بعض الأخبار المطلقه التارکة للاستفصال بین کون المعالج أکثر من المعالج به أو مساویاً منه أو أقلّ، مع

ص:293

الحکم بطهارة الخمر المنقلبة بعلاجٍ بأیّ کیفیة وقع العلاج، خصوصاً مثل صحیح ابن المهتدی حیث جعل الملاک هو حصول الاستحالة فی هذا الحکم، و بمساواته مع باقی الأجسام التی یُعالج بها الخمر الباقی أعیانها، لأنّ الوارد فی الحدیث هکذا: «عن العصیر یصیر خمراً فیُصبّ علیه الخَلّ و شیءٌ یغیّره حتّی یصیر خَلّاً؟ قال علیه السلام : لا بأس به». (1)

فإنّ قوله: «یصبّ الخَلّ علیه» ظاهر فی کون الخلّ المصبوب فیه کثیر، بل عموم قوله: «شیءٌ یغیّره حتّی یصیر خلّاً» یدلّ علی المطلوب.

مضافاً الی تحقّق الانقلاب الذی هو الملاک فی الحکم بالطهر، و الی مساواة الخَلّ الملقی فیه الخمر فی کونه معالجاً باقیاً بعد الانقلاب، مع سائر الاجسام التی تُعالج بها الخمر إذا بقیت بأعیانها بعد الانقلاب.

هذا غایة ما یستدلّ لهذا القول.

أقول: الأقوی فی حکم هذه الصورة أیضاً هو عدم طهر الخمر الواقع فی الخَلّ و بقاء نجاسته المکتسبة بملاقاته مع الخمر قبل الانقلاب: أمّا عدم طهر الخمر المنقلب الی الخَلّ، فلأنّها لو سُلّم حصول العلم بانقلابها الی الخَلّ، و لم نشک فی صغری الانقلاب، یکون مستهلکاً فی الخَلّ المتنجس، فتکون نجساً بصیرورتها خَلّاً متنجساً بواسطة استهلاکها فیه، و الأخبار الدّالة علی مطهریة الاستحالة بالتخلیل لا تشمل مثل هذه الاستحالة التی قد یتنجّس قبل حصول الاستحالة و الانقلاب بواسطة الاستهلاک، حتّی یحکم علیه بطهره، إذ لا یصدق علیه اسم الخمر حتّی یصدق علیه


1- ).وسائل الشیعة: الباب 31 من أبواب الأشربة المحرّمة ، الحدیث 8.

ص:294

التحوّل أو الانقلاب أو الاستحالة.

و الاکتفاء بالانقلاب التقدیری الفرضی، بمعنی أنّه لو لم یستهلک یصدق علیه الانقلاب، ممّا لا دلیل علیه، بل ظاهر الأدلة خلاف ذلک، أی الأدلة تفید أنّ الموجب للطهارة هو الانقلاب الفعلی دون التقدیری.

هذا کلّه علی فرض قبول تحقّق الانقلاب، مع امکان المنع عن العلم به بعد الاستهلاک، و غلبة صفات الخَلّ علی صفاتها، و اندکاک صفاتها فی صفات الخَلّ حسب اقتضاء الاستهلاک، و لذلک نلاحظ أنّ الشیخ رحمة الله جعل انقلاب الأصل المأخوذ منه الباقی فی الخارج أمارةً و علامةً علی ذلک، و قد عرفت المنع عن حصول العلم بواسطته (1)، غایة ما یمکن المساعدة معه هو حصول الظن به منه، لکن الاعتبار بمثل هذا الظن فی المسألة و الحکم بمقتضاه لا یخلو عن تأمّل، إذ لا دلیل علی اعتباره، هذا کلّه من ناحیةٍ.

و من ناحیة أخریٰ ورد فی المقام خبران مرویان عن أبی بصیر عن الصادق علیه السلام :

الأول: قال: «سألتُ أبا عبدالله علیه السلام عن الخمر یصنع فیهما الشیء حتّی تحمض؟ قال: إن کان الذی صنع فیها هو الغالب علی ما صنع فیه فلا بأس». (2)

الثانی: قال: «سألته عن الخمر یُجعل خلّاً؟ قال: لا بأس إذا لم یجعل فیها ما یغلبها». (3)


1- ).إذ لعلّ الاستهلاک و الحموضة العارضة من الخَلّ تمنعان عن ذلک.
2- وسائل الشیعة: الباب 31 من أبواب الأشربة المحرّمة ، الحدیث 9 _ 10.
3- وسائل الشیعة: الباب 31 من أبواب الأشربة المحرّمة ، الحدیث 9 _ 10.

ص:295

و هما یدلّان علی اعتبار غلبة الخمر المعالج علی ما یُعالج به، بناءً علی أن تکون کلمة (یغلبها) بالغین المعجمة کما هو ضبطه فی «الوافی» حسب النسخة الموجودة منه عند المحقق الآملی، لا أن تکون بالقاف، و قد قال صاحب «الجواهر» نقلاً عن المجلسی قدس سره فی «البحار» بأنّ فی أکثر نسخ «التهذیب» بالقاف، و فی «الکافی» بالغین، و هو أظهر و أضبط فعلیه الفتوی.

و الحاصل: الحکم فی المقام هو النجاسة فی الخمر المذکورة، و لو بعد العلم بانقلابها الی الخَلّ و تنجس الملاقی بها، بل قد نسب الی المشهور أیضاً اشتراط طهارة الخمر بالتخلیل أن تکون غالبة علی ما عولجت به من الخَلّ.

کما أنّ الأقوی عدم طهارة الخمر لو تنجست بنجاسةٍ خارجیة، و إن لم تبق عینها، بناءً علی تضاعف النجاسة، إقتصاراً فیما خالف الأصل علی المتقین، لوضوح أنّ الانقلاب کان مطهراً للنجاسة الخمریة بذاتها لا بما یعارضها من الخارج، فلو أحیل الخمر بمتنجسٍ لم یطهر.

قد یقال: بأنّه یمکن أن نفرض فی الصورة الثالثة بأنّه قد لا توجب ملاقاة قطرةٍ من الخمر نجاسةً فی الخلّ، و هو فیما إذا فرض العلم بانقلاب الخمر خلّاً بمجرد وقوع القطرة فیها قبل الاستهلاک بحسب الزمان، بأن انقلبت فی آن الوقوع ثم استهلکت فی الآن الثانی فتطهر بالانقلاب، و یصیر الطاهر مستهلکاً فی الخلّ.

و لعلّ هذا هو مراد السیّد فی «العروة» من الاستثناء فی المسألة الرابعة ذیل حکمه بعدم طهارة القطرة من الخمر الواقعه فی الخَلّ، بقوله: «إلّا إذا

ص:296

علم انقلابها خلاً بمجرد الوقوع فیه....»، و لعلّ هذا یطابق مع ما نقله صاحب «الجواهر» عن «کشف الغطاء» حیث استثنی و استدرک فی ذیل المسألة و قال: «و لکن فی کشف الاستاذ أنّه إن استحال الی المحال أوّلاً ثُمّ رجع هو و المحال الی ما استحال منه طَهُر، و إن أحال و لم یستحل بقی علی نجاسته»، ثُمّ وجّهه صاحب «الجواهر» بقوله: «و هو لا یخلو من وجه» هذا.

و لکن قد نوقش فیه: _ کما عن المحقّق الآملی فی «مصباح الهدی» _ بأنّه: «إن قلنا باشتراط غلبة العلاج علیها، فلا تطهر بهذا الانقلاب، و إن ْ لم نقل باشتراطها فهی و إن تطهر بالانقلاب، لکنها تنجس بقاهریّة الخَلّ المتنجّس علیها و استهلاکها فیه، و لا دلیل علی تبعیه الخلّ فی طهره لها، لما عرفت من ظهور النصوص فی طُهر الخمر بالانقلاب فیما إذا بقی بعده، لا ما إذا هلک عرفاً و لم یبق منه شیءٌ یصدق علیه اسم الخمر أو المنقلب عنه، مع ما فی طهر الخلّ الکثیر کالحُبّ منه بتبعیّته لانقلاب قطرةٍ من الخمر التی وقعت فیه فاضمحلّت فی أجزائة، مِن البُعد و الغرابة ممّا لا یخفی، لعدم صدق التبعیّته عرفاً حینئذٍ، بل الأمر فی التبعیّة بالعکس، بمعنی صدقها علی القطره المضمّحلة فی الخلّ لا علی الخلّ المضمحلة فیه القطرة، و لعلّ هذا ظاهرٌ لا ینبغی الارتیاب فیه» انتهی محلّ الحاجة. (1)

قلنا: ما ذکره من الاشکال واردٌ إن جعلنا الانقلاب و الاستهلاک فی زمان واحدٍ أو فی زمانین، مع تقدّم الاستهلاک علی الانقلاب، فإنّه حینئذٍ یکون التنجّس مقدماً فلا یمکن القول بحصول الطهر مع الانقلاب، و أمّا لو


1- ).مصباح الهدی، ج 2/324 _ 325.

ص:297

فرض عکس ذلک بأن کان الانقلاب مقدماً علی الاستهلاک، أو قلنا بأنّ وقوع الانقلاب فی آن الملاقات مع قطع النظر عن تحقّق الاستهلاک بعده رتبةً لا مانع منه، حتّی یکون الحکم هنا مثل حکم ماء الغُسالة بناءً علی نجاستها، حیث أنّها تُطهّر المحلّ بأوّل ملاقاتها للمحلّ لکنها تتنجّس، فکأنّها تفعل فی المحلّ فعلها و هو الطهارة و تنفعل بالمحل و تکتسب

منه النجاسة.

بیان ذلک: لا یخفی أنّ ما ذکر من الرتبتین، أو فرض تقدم الانقلاب علی الاستهلاک أمرٌ دقیق عقلی لا یُتّبع فی الأحکام الشرعیة، إلّا إذا قام دلیلٌ تعبدی علیه، کما قیل بذلک فی ماء الغسالة، لأنّ العرف لا یفهم فی مثل المورد أن یکون فی البین تقدّمٌ للانقلاب علی الاستهلاک أو عکسه، لو لم نقل بأولویة قبول الثانی لدیهم المستلزم لنجاسة الخلّ بملاقاته مع الخمر النجس، و علیه فالحکم بالاستثناء فی هذا الفرض و قبول الطهارة فیه لا یخلو عن خفاءٍ، خصوصاً مع ملاحظة کون الحکم مخالفاً للأصل، الموجب للاقتصار علی موضع الیقین، فلیتأمّل. حکم انقلاب بعض النجس دون الباقی

حکم انقلاب بعض النجس دون الباقی

بقی هنا البحث عن فرعٍ و هو أنّه لو تخلّل بعض الخمر المجتمع دون جمیعه، لم یطهر الباقی المتصل به قطعاً، و هذا ممّا لا کلام فیه، لکن الذی ینبغی أن یلاحظ أنّه إذا کان بعضه خمراً و نجساً، هل ینجس الباقی مطلقا أو لا ینجس إلّا إذا کان الخمر فی العالی دون السافل و إلّا لا ینجس، أو

ص:298

إذا کان فی المسامت دون غیره؟ فیه وجهان:

أقواهما _ کما فی «الجواهر» _ هو الأوّل، لعدم اندراج المسألة فیما دلّ علی عدم سرایة النجاسة من السافل الی العالی، فیبقی الحکم داخلاً تحت القاعدة من السرایة فی المایعات مطلقاً إذا لم یکن لها دفعٌ، و لازمه هو الأخذ باطلاق نجاسة ملاقی النجاسة، کما لا یخفی.

هذا تمام الکلام فی الخمر إذا صارت خلّاً، حیث ثبت أنّ الانقلاب المذکور یعدّ من جملة المطهّرات. فی انقلاب العصیر العنبی

فی انقلاب العصیر العنبی

الثابت أن من جملة المطهرات انقلاب العصیر العنبی، و علیه فلابدّ من البحث عند فی المقام، فنقول: إنّ العصیر سواءٌ کان عنبیّاً أو تمرّیاً قد یصیر خمراً و قد لا یصیر: فعلی الأوّل: أی إذا صار بالغلیان أو غیره خَمراً، فلا اشکال أنّه نجس: إمّا أن یکون من أفرادها حقیقةً، فلا اشکال فی نجاستها إذا قلنا بنجاسة الخمر لسکرها.

أو یکون من أفراد الخمر لا حقیقةً بل حکماً لاشتراک وجه العلّة فیه و هو السکریة، فإذا نجس بذلک فلا یحصل لها الطهارة الّا بصیرورته خَلّاً، فلا یؤثر ذهاب ثلثیه فی طهره للاجماع بقسمیه علیه، کما فی «الجواهر».

و أمّا إذا لم ینقلب خمراً و قلنا بنجاسته بالغلیان أو غیره، فلا یطهر حینئذٍ إلّا بذهاب ثلثیه، ضرورة تبعیّة زوال نجاسته لزوال حرمته الثابت بالذهاب المذکور اجماعاً و سنةً مستفیضةً حدّ الاستفاضة إن لم تکن متواترة، کما

ص:299

مضی بحثه فی مبحث النجاسات.

و کیف کان، فمتی طهر العصیر بانقلابه خَلاً أو بذهاب ثلثیه، یتبعه إنائه و الآلات المصاحبة له و المزاول و نحوهما فی الطهارة، دون المنفصلة غیر المرتبطة به. و یستفاد طهارة هذه الأمور من فحوی الأدلة الوادرة فی العصیر من الطهارة، بل فی «اللّوامع» الاجماع علیه، مضافاً الی أنّه لو لا ذلک لزم منه الحرج و المشقّة، کما أنّ الأمر کذلک فی طهارة أوانی الخمر المنقلبة خَلّاً و آلات النزح و النازح، و جوانب البئر و أطرافها إن قلنا بنجاسة ماء البئر، لاتحاد الجمیع فی الملاک أو قیاس الأولویة.

بل نقل صاحب «الجواهر» عن کشف استاذه: أنّه یطهر بذلک أیضاً ظاهر ما دخل فیه و باطنه ابتداءً أو بعد الغلیان و الاشتداد، من ترابٍ و أخشابٍ و فواکه و غیرها، و وجه تمام ذلک: اطلاق ما دلّ علی الحلیة، و ترک الاستفصال الملزمة للطهارة له و للآلات، و الّا تصیر منجّسة لها.

و لفحوی طهر الأجسام المطروحة فی الخمر، و حکم المقام أیضاً کذلک لعدم معقولیة الفرق بین الموردین.

نعم، یعتبر فی الطهارة بالتبعیة صدق الحضور حال تحقّق طهارة العصیر، فلا یشمل ما کان غائباً عنه فی وقت تطهیره إلّا بما لا ینافیها، و علیه فلا تطهر الآلات غیر المستعملة، بل و لا الآلات المستعملة و المتروکة حین تحقّق الانقلاب.

بل فی طهارة شیخنا المرتضی بعد ما صرّح بطهارة الاناء، و إن کانت أجزاء العصیر عالقةً بأطرافه الفوقانیة، قال: «و تطهر أیضاً الآلات التی

ص:300

یزاولها و إن کان العصیر الغیر المثلث عالقاً بها، و کذا ثیاب العامل إذا لاقت شیئاً من العصیر قبل التثلیث، کلّ ذلک لفهمه من الاطلاقات، و ترک الامام علیه السلام لاستدراکها عند الحکم بطهارة نفس العصیر، مع عموم البلوی، و عدم تعرّض السائلین للسئوال الکاشف عن فهم ذلک من الاطلاقات. و من ذلک یعلم أنّ الضابط فی التبعیّة الأمور التی تلاقی العصیر غالباً عند التثلیث» انتهی کلامه. (1)

أقول: ما ذکروه من الاستکشاف من الاطلاق و ترک الاستفصال أمرٌ جیّد إن قلنا بالنجاسة بعد الغلیان، کما علیه عدّة من الفقهاء، و أمّا إن لم نقل بذلک، و جعلنا تلک الأخبار علامة و أمارةً علی طهارة العصیر، و أنّه لا ینجس ما یلاقیه حتّی یجب غسله، فلا تکون طهارة الآلات حینئذٍ تبعیّة کما علیه صاحب «مصباح الفقیه».

و لکن علی کلّ حال و تقدیر تکون الآلات طاهرة فیما تیقّن کونها کذلک، و أمّا لو شُک فی تبعیّتها لأجل بعض العوارض، فلا یحکم بالطهارة علی القول بنجاسة العصیر بالغلیان، فضلاً عمّا لو ظن بالعدم فی التبعیة، للاقتصار فیما خالف الأصل علی موضع الیقین.

فروع مسألة انقلاب العصیر العنبی

الفرع الأوّل: فی أنّ مطهریة الذهاب و محللیّته خلاف للأصل، فلابدّ من الاقتصار علی القدر المتیقن فی مطهریة ذهاب الثلثین و محلّلیته، و هو


1- ).کتاب الطهارة للشیخ/ 387.

ص:301

صورة کون وقوع الغلیان مع فرض نجاسته بالنار لا بالشمس و الهواء و طول البقاء، و لا بالمرکب منها جمیعاً أو من الاوّلین معها، و إن خالفنا فی ذلک بعض الفقهاء کصاحب «الجواهر» من الحاق الشمس بالنار، و السیّد فی «العروة» باضافة الهواء الیها.

الفرع الثانی: المهم فی التحلیل هو الذهاب، و لا حاجة فیه من البحث عن کیفیّته الذهاب، و أنّه هل کان من جمیع الجوانب، أو من جانب دون جانبٍ آخر، لأن الملاک هو صدق ذهاب الثلثین. نعم لو علم تحقّقه من جانبٍ دون آخر لابدّ أن ینتظر ذهابهما منه.

الفرع الثالث: المعتبر هو صدق ذهاب الثلثین عرفاً، و هو قد یتشخّص بالوزن تارةً و بالکیل أخری، و بالمساحة ثالثةً، و قد یدّعی کون المتعارف فی تشخیص ذلک هو الأخیر، و الظاهر کفایته، لأنّه الغالب کما قد یختبر ذلک بالمسطرة و نحو ذلک لتعسّر الوزن و الکیل غالباً، و لکن التقدیر بالوزن یکون أخصّ مطلقاً من غیره، فلا شبهة فی کفایته، و فرض التخلّف فیه مجرّد فرض لا تحقق له بحسب العادة.

مع أنه یمکن استفادة کفایته من لسان بعض الأخبار:

منها: خبر عقبة بن خالد، عن أبی عبدالله علیه السلام : «فی رجل أخذ عشرة أرطال من عصیر العنب فصبّ علیه عشرین رطلاً ماء ثُم طبخهما حتّی ذهب منه عشرون رطلاً و بقی عشرة أرطال، أیصلح شرب تلک العشرة أم لا؟ فقال: ما طبخ علی الثلث فهو حلال». (1)


1- ).وسائل الشیعة: الباب 8 من أبواب الأشربة المحرّمة ، الحدیث 1.

ص:302

و منها: خبر ابن أبی یعفور، عن أبی عبدالله علیه السلام ، قال: «إذا زاد الطلاء (1) علی الثلث أوقیةً (2) فهو حرام». (3)

فإنّ التقدیر بالأوقیة فی الزائد شهادةٌ علی أنّ العبرة فی المزید علیه هو الوزن کما لا یخفی، و ذکر الکیل لیس إلّا کونه أحد الطرق الدّالة علی الضبط، إلّا أنه أضبط من المساحة المبنیّة علی المسامحة و التقریب، فبهذه الحثیثیة یکون الکیل أحوط. و لأجل ذلک ذکر الثلاثه لبیان التقدیر، و إن کان بعضها أضبط و أحوط من الآخر.

و بالجملة: ظهر ممّا ذکرنا أنّ حلیّة العصیر و طهارته لا یکون إلّا بذهاب الثلثین أو الخلیّة إن کان خمراً، للأصل و اطلاق النصوص و الفتاوی، و علیه فما ورد فی «اللّوامع» من طهارته و حلیّته بصیرورته دبساً و إن لم یذهب ثلثاه، حاکیاً له من «الجامع» مستنداً باصالة الطهارة و الحلیة و اطلاق دلیل طهارة الدبس و حلّه، لیس علی ما ینبغی لوجوب الخروج عمّا ذکروا بما عرفت من دلالة الدلیل علی خلافه.

و أضعف منه: التمسک لطهارته و حلیّته بدلیل الاستحالة، لوضوح أنّه لیس منها عرفاً قطعاً. البحث عن مطهریّة الانتقال

البحث عن مطهریّة الانتقال

ذهب بعض الفقهاء الی أن من أفراد المطهرات الانتقال، و هو کما فی


1- ).ما طبخ من عصیر العنب حتی ذهب ثلثاه، «الصحاح» 6/2414 طلا.
2- ).الاَوقیه زنة سبعة مثاقیل وزنة اربعین درهماً، «لسان العرب» 15/404 وقی.
3- ).وسائل الشیعة: الباب 2 من أبواب الأشربة المحرّمة ، الحدیث 9.

ص:303

«الجواهر»: «انتقال شیءٍ حُکم بنجاسته باعتبار اضافته الی محلّ خاصّ الی محلٍ آخر حکم الشارع بطهارته باضافته الیه».

و عرّفه الهمدانی فی «مصباح الفقیه» بأنّه: «حلول النجس فی محلٍّ آخر حکم الشارع بطهارته عند اضافته الی ذلک المحلّ».

أقول: التعریف الأوّل أحسن، لأنّ الانتقال وصف الموضوع فیتبع حکمه لا وصف الحکم أوّلاً و بالذات.

و کیف کان، فقد مثّل له بمثل انتقال دم ذی النفس المحکوم بالنجاسة الی غیر ذی النفس من القمّل و البقّ و نحوهما المحکوم بطهارته، و أنّه یکون من جملة ما یحصل به الطهارة، و هذا ممّا لا اشکال فیه فی الجملة، إلّا أنّ الکلام فی أنّه هل یعدّ بنفسه من المطهرات مستقلاً فی قبال الاستحالة و الانقلاب، أوأنه لیس منها بل کان وجه طهارته من باب تبدّل الموضوع عرفاً، فیتبدّل حکمه بالتبع لا من جملة المطهرات التی تبقی موضوعه مع تبدّل حکمه فی بعض الموارد؟ فیه خلاف: من الذی یظهر من بعض الأصحاب هو الأوّل، کما صرّح بذلک صاحب «الجواهر» حیث قال: «و الانتقال الذی عَدّه غیر واحدٍ من الأصحاب من المطهرات» مع أنّه بنفسه قد صرّح فی أوّله بأنّه لیس منها، و إن کان قریباً الیها بل متحداً معها فی تقریر الدلیل.

أقول: یقتضی المقام من تقریر صور المسألة و ملاحظة کیفیّتها، فنقول إنّ الانتقال یتصور بصور عدیدة:

الصورة الأولیٰ: أن یکون الانتقال موجباً لانقلاب الموضوع و

ص:304

استحالته عرفاً بل عقلاً الی المنتقل الیه، کانتقال دم الانسان الی بدن حیوانٍ لا نفس له کالبقّ و القمّل و البراغیث و یصیر جزءاً من بدنه من لحمه و عظمه و دمه علی طریق التغدیة، کتغدیة الانسان حیث یصیر جزءاً من بدنه، و کانتقال ماء النجس أو البول الی النبات و الاشجار عن طریق عروقه و أصوله، و صیرورته جزءاً منهما، لا مجرد رسوبه فیهما و وروده فی باطنهما عن طریق الخُلل و الفُرج، فهذا القسم من الانتقال مطهرٌ قطعاً، لکنه لا یخفی أنه لیس شیئاً وراء الاستحالة التی قد عرفت حالها، فإنّ الأمثلة المذکورة من مصادیقها، فیکون حکمه حکمها، و علیه فعدّ هذه الأمور من الانتقال بنحو الاستقلال لا یخلو عن مسامحة.

الصورة الثانیة: أن یکون الانتقال علی صورة لم یتحقّق فیه الاستحالة، مثل دم الانسان الذی یمصّه العلق و یبقی فی جوفه مخزوناً لکن ینقطع اضافته عن الانسان، و یضاف الی العلق و یقال إنّه دم العلق.

أقول: و لا یخفی أنّه لا یخلو من احتمالات، لأنه:

1. إمّا أن یکون لکلّ واحدٍ من دلیلی دم الانسان و دم العلق عمومٌ یشمل هذا المورد، بأن ْ یدلّ نجاسة دم الانسان بعمومه علی نجاسة هذا الدم الذی صار فی جوف العلق و انقطع عن الاضافة الی الانسان، و یدلّ عموم دلیل طهارة دم العلق علی طهارة ما فی جوفه من دم الانسان و اضیف الی العلق و لو مع عدم صیرورته جزءاً من بدنه.

2. أو لا یکون لکلّ منهما عمومٌ یشمل المورد.

3. أو یکون لواحدٍ منهما عموم یشمله دون الآخر.

و لازم الوجه الأوّل هو تعارضهما، و حیث تکون النسبة بینها عموماً من

ص:305

وجه، فمع أظهریة أحدهما یؤخذ به، و الّا یحکم بالتساقط و الرجوع الی الأصول العملیة، کما هو لازم الاحتمال الثانی حیث لا عموم لشیءٍ منهما، فإذا فقد النصّ لابدّ من الرجوع الی الأصول العملیة، کما أنّ مقتضی الاحتمال الثالث و الرابع هو الرجوع الی العموم الموجود فی البین من النجاسة فی دلیل دم الانسان، أو الطهارة فی دلیل دم العلق.

هذا کلّه بحسب مقام الثبوت و التصوّر.

و أمّا فی مقام الاثبات و التحقیق: فهو عدم امکان اثبات عمومٍ لدلیل دم الانسان حتّی یشمل مثل هذا الدم الذی انقطعت اضافته عنه و وقع فی جوف العَلَق، لأنّ ما یدلّ علی نجاسة دمه منصرفٌ عن مثل هذا الدم الی الدم الذی لم ینقطع عن اضافته الیه عرفاً، کما أنّ دلیل طهارة دم العلق منصرفٌ عمّا لم یصر جزءاً من بدنه الی ما صار کذلک، فحکم هذا الدم فی بطن العَلَق یکون کحکم المأکول الذی دخل فی معدة الانسان و قبل أن یعدّ جزءاً من بدنه، أی قبل هضمه، و حینئذٍ إذا فقدنا العمومین، فلا محیص من الرجوع الی الأصول العملیة، و الجاری منها فی المقام هو استصحاب النجاسة الثابتة له قبل حلوله فی جوف العلق.

لا یقال: کیف یجری فیه مع أنّه تابعٌ لموضوعه، فإذا تبدّل الموضوع تبدّل حکمه أیضاً، لأنّ المفروض انقطاع اضافته من الانسان، فلابدّ من انقطاع حکمه و هو النجاسة.

لأنا نقول: الحاکم فی بقاء الموضوع فی القضیتین من المتیقنّة و المشکوکة و عدمه هو العرف، و لا اشکال أنّ هذا المشکوک عندهم هو

ص:306

بعینه ذاک الذی حکم بنجاسته، و التغییر إنّما هو فی اضافته لا فی ذاته.

نعم، لو أنکرنا کون الحاکم فی اتحاد الموضوع و عدمه هو العرف بل التزمنا بأنّ الحاکم هو العقل و هو حاکمٌ باتحاده، أو التزمنا بأنّ الحاکم هو العرف، لکن بما یستظهره من لسان الدلیل لابما یفهمه بحسب ارتکازه، فالمرجع حینئذٍ قاعدة الطهارة، فحکم بطهارة هذا المشکوک بمقتضی هذه القاعدة.

هذا کلّه علی حسب ما حقّقه المحقّق الآملی رحمة الله فی مصباحه.

أقول: ینبغی أن أضیف الیه أن العرف برغم أنّه یحکم ببقاء الموضوع و أنّه مع کونه فی جوف العلق هو دم انسان، دون الرجوع الی دلیل الاستصحاب، لکن نقول بأنّ لسان الدلیل علی أنّ (دم الانسان نجسٌ) یوجب الحکم بنجاسته، لأنّ الأحکام تابعة للموضوعات فی کلّ

دلیل یری العرف بأنّه ذلک الموضوع فیتبعه حکمه، فلا حاجة حینئذٍ الی الأخذ بالاستصحاب.

اللّهم إلّا أن یقال: باحتمال دخالة الاضافة فی صدق الموضوع المفروض هنا قطعه عن الانسان، فمع عروض هذا الشک، یکون المرجع الی الاستصحاب و یقال بأنّ هذا الدم قبل انقطاعه عن الاضافه کان نجساً قطعاً و الآن نشک، فیحکم ببقائه علی ما کان، و هو المطلوب.

هذا مضافاً الی أنّه لو حکمنا بنجاسته فی الحال کان هو القدر المتیقن إمّا لأجل أنّه هو بعینه فیشمله الدلیل، أو لا فیشمله الاستصحاب لأجل الشک، کما لا یخفی.

الصورة الثالثة: ان تبقی اضافته الی الانسان مع حدوث اضافة أخریٰ منه الی العلق.

ص:307

و الحق هو الحکم بنجاسته لا من جهة دلیل الاستصحاب، بل لاجل شمول عموم دلیل الدم له، مع عدم شمول عموم دلیل دم العلق، فهذه الصورة مشترکه مع الصورة الثانیة فی النجاسة، و لعلّ السبب فی ذلک أظهریة عموم دلیل دم الانسان مع اضافته علی الاضافة اللّاحقه للعلق، إن ْ فرض عمومٌ لدلیل دم العلق علی طهارته للمورد، و إلّا فالحکم مستندٌ الی عموم الدلیل بلا وجود معارضٍ، و مقتضاه النجاسة.

الصورة الرابعة: و هی أن تبقی الاضافه للانسان من دون حدوث اضافة أخریٰ الی العلق إلّا بنحو اضافة المظروف الی الظرف، نظیر ما لو اجتمع الدّم فی القارورة، فإنّه لا اشکال فی صدق دم الانسان علیه و حکمه النجاسة، کما هو واضحٌ لدخوله تحت عموم دلیله بلا خفاء فیه.

هذا تمام الکلام فی الصور الأربع بمقتضی الدلیل فی کلّ صورةٍ من الصور، و قد عرفت من جمیع ما ذکرنا أنّ نفس الانتقال ما لم یحکم العرف بأنه من دم غیر ذی النفس، لا یوجب الحکم بالطهارة، فمع صیرورته من دمه و جزء بدنه، یدخل تحت قاعدة الاستحالة، و علیه فعدّ الانتقال من جملة المطهرات لا یخلو عن تسامح، و الله العالم.

أقول: و ممّا ذکرنا یظهر العلّة و وجه اهمال المضنّف ذکر الانتقال من جملة المطهرات، لأنّه لیس منها حقیقه، کما أنّه لم یذکر من جملتها الاستحالة عدا ما احالته النار، و لعلّ وجه ذکرها بالخصوص استشعار مطهریّة النار بنفسها کالشمس، أو استظهارها من بعض الأخبار، و إن قصرت عند بعضٍ _ کالمحقق الهمدانی رحمة الله _ عن اثبات ذلک.

ص:308

مطهریّة التشرّف الی الاسلام

من جملة المطهّرات التی أهمل ذکرها المصنّف هو التشرّف الی الاسلام، و قد عدّه بعض الأصحاب منها، بخلاف صاحب «الجواهر» حیث صرّح أنه لیس منها و إن کان قریباً الیها، بل متحداً معها فی تقریر الدلیل حیث أنّه غیر واحدٍ من الأصحاب عدوّه منها، بل لا أجد فیه _ أی فی مطهریته _ خلافٌ، بل حُکی الاجماع علیه فی «المنتهی» و «الذکری» و غیرهما، بل هو من الضروریّات، فلابدّ أن یعلم بأنّ الاسلام یطهّر عن نجاسة الکفر بجمع اقسامه إلّا الارتداد الفطّری للرجل خاصّة دون المرأة بل و الخنثی المشکل و الممسوح.

أقول: هنا دعویان: الأولی: کون الاسلام مطهّراً للکافر بجمیع أقسامه.

و الدلیل علیه: _ مضافاً الی الاجماع المحکی عن العلّامة و الشهید الأوّل، بل قد یقال بأنّه من الضروریات، و لم یعرف فیه خلاف _ وجود نصوص دالّة علی ذلک:

منها: صحیح علی بن جعفر، عن أخیه أبی الحسن علیه السلام ، قال: «سألته من مسلمٍ تنصّر؟ قال: یُقتل و لا یُستتاب. قلت: فنصرانیٌّ أسلم ثُمّ ارتدّ؟ قال: یستتاب فإن رجع و إلّا قتل».

و رواه الشیخ باسناده عن احمد بن محمّد (1) حیث یدلّ علی أنّ الکافر إذا أسلم یصیر طاهراً حتّی إذا ارتد ثُمّ رجع بعد الاستتابة، فإنه یطهر بذلک، فیشمل اطلاقه جمیع أقسام الکفر إلّا ما خرج بالدلیل.


1- ).وسائل الشیعة: الباب 1 من أبواب حدّ المرتد، الحدیث 5.

ص:309

و منها: مرسل ابن محبوب، عن غیر واحدٍ من أصحابنا، عن أبی جعفر و أبی عبدالله علیهما السلام : «فی المرتدّ یُستتاب، فإن تاب و إلّا قتل» الحدیث (1).

حیث إنّه أیضاً باطلاقه یشمل جمیع المرتدین حتّی الفطری إلّا أن یخرج بدلیل. مطهریّة التشرّف الی الاسلام

بل قد یقیّد بواسطة هذین الخبرین اطلاق بعض النصوص الدالة علی عدم قبول توبة المرتد مطلقاً، مثل صحیحة محمد بن مسلم، قال: «سألت أبا جعفر علیه السلام عن المرتد، فقال: مَن رَغِب من الاسلام و کفر بما أنزل علی محمدٍ صلی الله علیه و آله فلا توبة له، و قد وجب قتله، و بانت منه امرأته، و یقسّم ما ترک علی ولده». (2)

بناءً علی شمول اطلاقه للمرتد بکلا قسمیه من الفطری و الملّی.

ولکن یمکن منع اطلاقه و القول بأنّه مختص بالفطری، بدعوی أنّ الموصول فی قوله: «مَن رَغِب عن الاسلام... الی آخر» کنایة عن المسلم، فیصیر حینئذٍ مثل صحیحة علی بن جعفر مختصاً بالفطری، فلایشمل الملیّ حتّی یحتاج الی تقییده بذیل صحیحة علیّ بن جعفر علیه السلام فی عدم وجوب قتله قبل الاستتابة.

نعم، لابدّ من تقیید اطلاق ما فی مرسل ابن محبوب من قبول توبة المرتد مطلقاً حتّی و لو کان فطریاً، بما جاء فی صدر صحیحة علی بن جعفر علیه السلام ، بأن یکون حکم قبول التوبه مختصاً بالملیّ و مَن یمکن قبول


1- ).وسائل الشیعة: الباب 3 من أبواب حدّ المرتد ، الحدیث 2.
2- ).وسائل الشیعة: الباب 1 من أبواب حدّ المرتد ، الحدیث 2.

ص:310

توبته من الفطری کالمرأة و من بحکمها.

و بالجملة: نتیجة الجمع بین هذه النصوص إفادة ما هو المطلوب من قبول توبة المرتد مطلقاً _ إلّا الفطری _ إذا کان رجلاً، و علیه فطهارة المرتد الملیّ مستفادة من هذه الأخبار بلا اشکال. حکم المرتدّ الفطری

البحث عن حکم المرتدّ الفطری

أمّا المرتدّ الفطری فالبحث فیه یقع فی أمور:

الأمر الاوّل: فی المراد من المرتدّ الفطری، و هو هنا لیس مورد بحثه فی «الجواهر»، فإذا بلغ البحث الیه فی مقامه نذکر ما هو حقّه.

الأمر الثانی: فی قبول توبة الفطری.

و قد وقع الخلاف فی قبول اسلامه و عدمه علی أقوال:

1. قول بعدم القبول مطلقاً، و هو المنسوب الی ظاهر المشهور، بل عن صاحب «الجواهر» نسبة نقل الاجماع علی ذلک من صاحب «کشف اللّثام» فی مبحث المواریث، کالمحکی فی باب الحدود منه أیضاً عن «الخلاف»، المؤید بالشهرة المحکیّة، بل معروفیة ذلک فی کلمات الأصحاب حتّی أرسلوه ارسال المسلّمات.

2. و قولٌ بالقبول مطلقاً، أی ظاهراً و باطناً، و هو المنقول عن أبی علیّ کما نقله صاحب «الجواهر».

3. و قول بالتفصیل بین قبوله باطناً لا ظاهراً، و هو مختار الشهید الثانی فی «المسالک»، و صاحب «الحدائق».

ص:311

4. و قول بالتفصیل بین من أنکر الشهادتین أو احداها فلا تُقبل توبته، و بین من أنکر شیئاً من الضروریّات فتقبل، هذا ممّا یظهر من کلام صاحب «الجواهر» اختیاره.

5. کما یظهر من صاحب «الجواهر» اختیاره أیضاً تفصیلاً آخر و هو القول الخامس فی المسأله بأن تُقبل توبته لما یتعلّق بعمل بنفسه، بخلاف ما یتعلّق بالغیر، بأن لا یؤتمّ به، و لا یستنیب و نحوهما، فیعامل بالنسبة الی نفسه معاملة المسلم، فیبنی علی طهارة بدنه و صحّة وضوئه و غُسله، فیصلّی و یصوم، و بالنسبة الی الغیر یعدّ کافراً و نجس العین، إذ لا یظنّ بأحدٍ من القائلین بعدم القبول الالتزام بجواز ترکه للصلاة و الصوم و غیرهما من الأشیاء المشروطة بالطهارة التی تعذّرت فی حقّه بناءً علی کفره و نجاسته.

أقول: الأقوی عندنا کما علیه المتأخّرین کالمحقّق الهندی و الآملی و السید فی «العروة» هو قبول توبته و اسلامه ظاهراً و باطناً، بلا شائبة ارتیاب فیه.

و الدلیل الذی یمکن إقامته:

الأوّل: صدق المؤمن و المسلم علیه بعد ما آمن بالله و برسوله، و صدّق رسوله فی جمیع ما أنزله الله تعالی علیه، و اعترف و أقرّ و تدیّن به لغةً و عرفاً و شرعاً.

فاما الأوّلان فواضحٌ، و أمّا الاخیر و هو الشرع فلأنّه من الواضح أنّ ما حَدّده بعض الأخبار لتحقّق الایمان، لیس إلّا ما ذکرنا من الاقرار و الاعتراف بما عرفت، کما ورد ذکره و تفصیله فی باب کفر منکری الضروری من تحدید الایمان فی جملةٍ من الأخبار المعتبرة.

ص:312

هذا، مضافاً الی أنّ نفس التوبة بما هی توبةٌ، فلا ینبغی التأمّل فی قبولها، لأنّه مضافاً الی أنّ قبولها یعدّ أمراً عقلیّاً و یحکم به العقل کما یحکم بوجوبها أیضاً، و لیس مما یثبت قبولها أو عدمه بالدلیل السمعی _ و إن یعدّ هذا البحث خارجاً عن حدود بحث الفقه لکن نشیر الیه اجمالاً _ و السرّ فی ذلک: أنّ العصیان هو موجب لظلمة القلب، و خروجه عن استعداد لقاء رحمته تعالی، و التقرّب الیه، و التوبة توجب ازالة تلک الظلمة، و غسل القلب عمّا أحاط به من قبل المعاصی و الآثام من الدرن، و بعد التوبة لا یبقی علیه شیء من الدرن، و علیه فالأمر حینئذٍ یدور بین وجود التوبة و عدمها، لا أنّها بعد الوجود یدور أمرها بین القبول و الرد، فایجاب التوبة علیه من ناحیة الشرع مع ردّها و عدم قبولها عنه یعدّ أمراً لغواً و لا یصدر عن الحکیم، فإنّه سبحانه منزّه عن ذلک. بل تعالیٰ الله عن ذلک علوّاً کبیراً، و هذا واضح لاخفاء فیه.

کما لاخفاء فی ما یترتب علیه فی النشأة الآخرة من الخلاص عن العقاب، و البلوغ الی الثواب، لوضوح أنّه بعد ارتفاع درن المعصیة لا یبقی للعقاب منشأ أصلاً، مضافاً الی إفضاء أمره الی الربّ الرحیم الرؤف الذی هو أرحم الراحمین.

أقول: نعم، یبقی هنا ما قد یتوهّم مما ورد فی لسان بعض الأخبار فی حقّ المرتد الفطری من أنّه یُقتل و لا یُستاب، هو عدم قبول توبته و اسلامه:

منها: صحیحة محمّد بن مسلم، قال: «سألت أبا جعفر علیه السلام عن المرتد؟ فقال: مَن رغب عن الاسلام و کفر بما أنزل علی محمّد صلی الله علیه و آله بعد اسلامه،

ص:313

فلا توبة له، و قد وجب قتله، و بانت منه إمرأته، و یقسّم ما ترک علی ولده». (1)

و منها: روایة عمّار، قال: «سمعت أبا عبدالله علیه السلام یقول: کلّ مسلمٍ بین مسلمین ارتدّ عن الاسلام، و جَحَد محمداً نبوته و کذّبه، فإنّ دمه مباح لمن سمع ذلک منه، و امرأته بائنة منه یوم ارتدّ، و یقسّم ماله علی ورثته، و تعتد إمرأته عدّة المتوفی عنها زوجها، و علی الامام أن یقتله و لا یستتیبه». (2)

و منها: خبر الحسین بن سعید، قال: «قرأتُ بخط رجل الی أبی الحسن علیه السلام : رجلٌ ولد علی الاسلام ثم کفر و أشرک و خرج من الاسلام، هل یستتاب أو یقتل و لا یُستاب؟ فکتب: یُقتل». (3)

و لکن یُجاب عنه: بأنّ المراد بهذه الروایات علی الظاهر عدم قبول توبته بالنسبة الی الآثار الشرعیة الدنیویة المسبّبة عن کفره، لا عدم قبولها فی الواقع بینه و بین الله تعالی بالنسبة الی ما یتعلّق بأمر الآخرة.

مع أنّ عدم قبول توبته معناه أنّ ندامته علی کفره الصادر منه، غیر موجبة لمحوه و صیرورته کالعدم، و هو لا یقتضی عدم قبول اسلامه الذی یصدر منه بعد ذلک. نعم اسلامه اللاحق لا یوجبُ الجبّ عما سبق، کما هو الأمر کذلک فی غیر هذا المرتد، کما أنّ توبته و اظهار ندامته لا یکفیان فی صیرورته مسلماً، بل لابدّ فی تحقّق اسلامه اللاحق من اظهار الشهادتین بعد التوبة إن لم ینفّذ فی حقّه ما هو الواجب من القتل، لعدم مبسوطیّة الید، أو لوجود مانعٍ عن اجرائه.


1- ).وسائل الشیعة: الباب 1 من أبواب حدّ المرتد ، الحدیث 2.
2- ).وسائل الشیعة: الباب 1 من أبواب حدّ المرتد ، الحدیث 3.
3- ).وسائل الشیعة: الباب 1 من أبواب حدّ المرتد ، الحدیث 6.

ص:314

الأمر الثانی: هو قبول توبته ممّا یترتب علیه من الآثار الشرعیة، من صحّة صلاته و صومه و حجّه ممّا یشترط فی صحتها الاسلام، و الطهارة، لأنّ المفروض أنه مکلف بالتکالیف، فإتیانه علی وجهه موجبٌ للاجزاء، لوضوح أنه محبوب لله سبحانه و مطلوبه، مضافاً الی تسالم الجمیع علی أنّ تکالیف الکفار بالفروع مثل تکلیفهم بالاصول، کما أنّه موجب للاجزاء لأجل تطابق المأتی به مع المأمور به.

اللّهم أن یقال: إنّه باطلٌ بسبب فقدان شرطه، و هو عدم قبول اسلامه، فیکون نجساً، و الطهارة شرط فی صحة هذه الامور.

لکنه مندفع: بأنّه إذا کان الأمر کذلک، لزم منه رفع التکلیف عنه و سقوطه بواسطة امتناع متعلقه علی الفرض، حیث لا یقدر علی تحصیل شرطه حینئذٍ و هو الاسلام، و الحال أنّه لیس کذلک.

لا یقال: إنّه یصحّ علیه التکلیف و لو کان المتعلق ممتنعاً، لأن امتناعه بالاختیار فیدخل تحت ما اشتهر علی الألسن من أنّ (الامتناع بالاختیار لا ینافی الاختیار)، لأنّ المفروض هنا ایجاد المکلف بنفسه سببُ الامتناع.

لأنا نقول: قد أجمع أهل العدل علی تخطئة مذهب أبی هاشم القائل بصحّة توجّه التکلیف الی الممتنع إذا کان امتناعه بالاختیار. نعم، الذی یمکن أن یُسلّم من هذه القاعدة هو أن یکون الامتناع بالاختیار مصحّحاً لاستحقاق العقوبة علی مخالفته حیث إنّه جعل نفسه ممتنعاً بالاختیار، لصدق المخالفة علیه باختیاره، و إن یصیر بعده ممتنعاً.

لا یقال: یمکن أن یکون التکلیف حینئذٍ _ أی بعد الامتناع _ المتوجّه

ص:315

الیه صوریاً، تسجیلیّاً لا یُراد به إلّا اثبات العقاب علیه.

لأنا نقول: _ مضافاً الی أنا نقطع بارادة الله لتلک المتعلقات من کلّ أحدٍ حتّی عن مثل المرتدّ الفطری _ إنّ التکلیف بالممتنع قبیحٌ عقلاً، فلا یصحّ و لا یصدر عن الحکیم، حتّی یصیر مصححاً لاستحقاق العقوبة حتّی یکون الغرض تسجیلها علیه.

نعم، یصحّ هذا التکلیف أن یتعلّق بالأمر الاختیاری، مع علم المولی بعدم امتثاله حتّی یترتّب علیه العقاب، حتّی یکون غرض المولیٰ حینئذٍ تسجیل العقاب علیه، لکنه تکلیف صوری امتحانی لا حقیقی، و لذلک لو ندم العبد و عزم علی الامتثال، مع فرض خطاء المولی فی علمه بعدم امتثاله _ طبعاً فی غیر الله عزّ و جلّ _ عدّ المکلف ممتثلاً، کیف و لو لم یکن تکلیفاً حقیقیاً هنا لا یصیر منشأ لاستحقاق العقاب علی مخالفته، إذ التکلیف الصوری لیس تکلیفاً رأساً، فالحکم بصحّة ما یشترط فی صحته الاسلام بعد توبته ممّا لا ینبغی التردید فیه، برغم أنّ المنسوب الی المشهور هو العدم، و لکن التحقیق خلافه لما عرفت من صدق المؤمن علیه بعد التوبة.

نعم، الذی لا ینبغی الارتیاب فی ترتّبه علیه هو الآثار الأربعة المتقدمة: من وجوب القتل، و بینونة زوجته من حین ارتداده، و انتقال ترکته الی ورثته، و لزوم عدّة الوفاة علی زوجته حتّی بعد توبته، فلا توثر توبته فی رفع هذه الآثار، لأن المعروف بین الأصحاب من المتقدمین و المتأخّرین عدم سقوط شیء منها بالتوبة، خلافاً لابن الجنید فی قبول توبته حتّی بالنسبة الی هذه الآثار، لکنه محجوجٌ و مردود بالنصوص السابقة المصرّحة بخلاف مسلکه، و علیه

ص:316

فلا شک فی ضعفه و وهنه.

بل یمکن الاستدلال لقبول توبته و صحّة عباداته:

1. ما ورد فی روایة زرارة عن أبی جعفر علیه السلام : «فیمن کان مؤمناً فجحّ و عمل فی ایمانه ثُمّ أصابته فی ایمانه فتنة فکفر ثُم تاب و آمن؟ قال علیه السلام : یُحسب له کلّ عملٍ صالح (عمله) فی ایمانه و لا یبطل منه شیء». (1)

حیث إن المفروض فی السؤال هو الأعمّ من المرتدّ الفطری، و الجواب أیضاً تقریر له فی قبول توبته و صحّة عمله.

2. هذا مضافاً الی الأدلة الدّالة علی محبوبیة الاسلام و التوبة من کلّ أحدٍ حتّی المرتد الفطری، الآبیة من التخصیص، المعتضدة ببعض المؤیّدات العقلیة و النقلیة التی قد عرفت بعضها ممّا سبق، بل محبوبیّة ذلک من الأمور الواضحة فإنّ من أکبر مقاصد أمیرالمؤمنین و الحسنین علیهم السلام فی حروبهم و غیرها استتابة المرتدین من الخوارج و النواصب و الغُلاة الذین اخرجوا بأفعالهم عن الاسلام، و انّهم علیهم السلام کانوا یقبلون توبة من رجع الی حضن الاسلام منهم، و کانوا یعاملون معه معاملة المسلم، و توهّم کون ذلک لبعض المصالح و المماشاة معهم ممّا لا یقبله الذوق السلیم بل فی غایة الضعف.

و بذلک یمکن تقیید ما دلّ علی عدم قبول توبة المرتدّ بالنسبة الی تلک الاعمال عدا الأربعة التی قد عرفت عدم سقوطها بالتوبة، و علی هذا القول لا فرق فی قبول توبته بین کونه مرتداً فطریاً لأجل انکاره الشهادتین أو


1- ).وسائل الشیعة: الباب 6 من أبواب حدّ المرتد ، الحدیث 4.

ص:317

احداهما، أو لأجل انکاره احدی الضروریات، کما لا فرق فی قبول توبته بین کونه لنفسه من الأعمال أو لغیره من ترتیب الآثار علی عمله، من جواز الاقتداء به، و جواز استنابته، لأنه یصیر بعد التوبة کسائر المسلمین فی ترتیب جمیع الآثار الاسلامیة علیه کما لا یخفی. تنبیهات توبة المرتد

تنبیهات توبة المرتد

التنبیه الأوّل: بعد ما ثبت أنّ المختار قبول توبته باطناً و ظاهراً، کما علیه الشهیدین و العلّامة الطباطبائی، و المحکی عن «التحریر» و «الموجز»، فإنّه یترتب علیه جمیع الآثار عدا الأربعة المذکورة و هی طهارته و التوارث و التزویج و تجهیزه و دفنه فی قبور المسلمین، لأنّه حینئذٍ یعدّ مسلماً و مؤمناً کسائر المسلمین، إذ وجوب قتله لا یوجب خروجه عن جماعتهم بمثل المسلم الجانی القاتل. نعم، لا یعید الیه أمواله التی خرجت بالارتداد إلّا بسببٍ جدیدٍ، کما لا ترجع الیه زوجته إلّا بعقدٍ جدید.

و دعوی: کون اطلاق هو البینونه و یقتضی الحرمة الأبدیة، کما حُکی عن صاحب «الجواهر».

غیر مسموعة، لأنّ کونها مقتضیة لذلک من حیث الاطلاق الزمانی ممنوعٌ، إذ لیس فی الادلّة ما یدلّ علی ذلک، إذ لیس فیها ما یفهم منه کون البینونه فی کلّ زمانٍ أو فی جمیع الأزمان، بل الظاهر کون البینونة لامرأته کخروج ماله عن ملکه یختصّ بحال ارتداده، فکما أنّ خروج ماله عن ملکه لا ینافی مع تملّکه لما یکتسبه بسبب جدیدٍ، کذلک یکون حال

ص:318

زوجته التی لا تناقی مع تزویجها بعقدٍ جدید، بل هو جائزٌ و لو کانت فی العدّة، کما قال الشهید الثانی قدس سره فی «الروضة» بأنّ له وجهاً، و لعلّ وجهه أنّ لزوم اعتداد المطلقة بالاضافة الی الغیر من الازواج لا بالاضافة الی نفسه، فلا بأس من اجراء عقدٍ جدید فی العدّة لنفسه بعد توبته، کما یملک ما اکتسبه بعد توبته، لو قلنا بعدم تملّکه له قبلها، لأنّه حینئذٍ یصیر مسلماً و داخلاً تحت العمومات الشاملة للمسلمین.

نعم، الذی یمکن أن یجری فیه البحث هو تملّکه فی حال ارتداده، حیث یجری فیه احتمالات:

منها: صحّة ما یکتسبه فی حال کفره و بقائه علی ملکه و عدم انتقاله الی وارثه، و لعلّ هذا هو الموافق للتحقیق، لأنّ ظاهر الأدلة کون نفس احداث الارتداد یوجب ذلک لا بقائه، بمعنی أنّ الارتداد بنفسه یعدّ مانعاً عن تحقّق الملکیّة له مادام کونه مرتداً.

و منها: تملّکه لما یملکه لکن مع انتقاله الی وارثه، مثل انتقال ماله الیهم عند الارتداد.

و علی هذا الفرض: هل الملاک فیه الوارث حین التملّک، أو حین الارتداد؟ وجهان: أقواهما الأوّل.

و منها: عدم تملّکه لما یکتسبه أصلاً، و هذا هو الأضعف بین الوجوه، اذ لا دلیل لنا علی عدم تملّکه بالاحتطاب أو قبول الهدایا و نحوهما، مع وجود عمومات دالة علی صحة التملّک بهذه الأسباب کما لا یخفی.

نعم، بقی هنا عن أنّه علی القول بعدم قبول توبته، هل ینافی ذلک مع الاسلام أم لا؟

ص:319

ربما یقال: بالتنافی لأجل أنّ عدم قبول توبته موجبٌ لخلوده فی النّار، و هو منافٍ مع الاسلام.

لکنه موهون، لأنّ عدم القبول لا یستلزم الخلود، بل ربما عدم الدخول فیها فضلاً عن الخلود، بل علی تقدیر وقوع الاسلام غایته یکون ممّن یرجون أمر الله تعالیٰ فی حقّهم، فإمّا أن یُعذّب أو یعفو عنه.

و علی تقدیر قبول دخول النار، یمکن له الخروج بعده و دخول الجنّة علی حسب ما ورد فی الأخبار أنّ: «من کان آخر کلمته لا إله الّا الله وجبت له الجنة» و لو عوقب علی ذنبٍ لم یتب، أو تاب و لم تُقبل توبته.

هذا، و لو سُلّم الخلود و کونه لازماً له، فمع ذلک لا ینافی فرض صدق الاسلام علیه، لأنّه حینئذٍ یعدّ مثل المسلم القاتل متعمّداً للمسلم المؤمن، کما فی قوله تعالیٰ: «وَ مَنْ یَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ خالِداً فِیها» مع أنّه مسلمٌ قطعاً و لم یخرج بقتله عن الاسلام و إن یکون مخلّداً فی النار فهکذا الأمر یکون فی المقام.

لکن قد عرفت عدم المنافاة بین عدم القبول و بین الاسلام، لأنّ معنی عدم القبول لیس إلّا أن ندامته مع کفره لا توجبان محوه و صیرورته کالعدم، نظیر قوله علیه السلام : «التائب من الذنب کمن لا ذنب له» و هو لا یوجبُ عدم قبول اسلامه بعد ارتداده.

نعم، اسلامه اللاحق لا یوجب الجبّ عمّا سبق من ارتداده، فیستحق العقوبة علی ارتداده مع اسلامه، فیخلّد فی النار لو صار بالارتداد مستحقاً للخلود بناءً علی استحقاقه ذلک من کفر مطلقاً، و لو مات علی الاسلام، لا

ص:320

لخصوص من مات علی الکفر.

و لکن أصل المبنی مخدوشٌ، لما ثبت من مدلول الحدیث بوجوب الجنّة لمن ماتَ و آخر کلامه کلمة التوحید، کما هو المساعد مع العقل و الاعتبار، خصوصاً بملاحظة الرأفة و الرحمة الواسعة لله عزّ و جلّ بالنسبة الی العباد، مع أنّ الله یفعل ما یشاء، و یحکم ما یرید، إذ ربما یعفو عن عباده أزید من ذلک، کما قال عزّ و جلّ: «قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَ بِرَحْمَتِهِ فَبِذلِکَ فَلْیَفْرَحُوا» و هو کذلک قطعاً، و کما قال تعالیٰ إنّه یغفر الذنوب جمیعاً إلّا الشرک، فلیتأمّل.

ثم علی تقدیر قبول توبته، فهل یحتاج فی اسلامه الی تجدید الشهادتین، أو یکفی نفس توبته فی صیرورته مسلماً؟

اختار الشیخ الأعظم فی طهارته الثانی، لأنه لا یطلق علی النادم أنّه کافر، بل کان کافراً، خلافاً لصاحب «مصباح الفقیه» من اختیاره الأوّل.

و قیل بالتفصیل بلزوم تجدید الشهادتین لمن أنکرهما أو احداهما، بخلاف من أنکر ضروریّاً من الضروریات، حیث یکفی فیه الندامة و التوبة، هذا کما عن المحقّق الآملی.

أقول: و الأوجه هو کلام الشیخ، و إن ْ کان الأحوط هو التفصیل، و أحوط منه هو الاوّل کما لا یخفی.

التنبیه الثانی: البحث فیه عن أنّه اذا قلنا بتطهیر الاسلام للکافر، فهل یوجب ذلک طهارة فضلاته بالتبع من عرفة أو بصاقة أو نخامته أو قیحه سوداً أو صفراء، أو لباسه و ثیابه، أم لا، أو لابدّ من التفصیل من القول

ص:321

بالطهارة بالتبع فی فضلاته المتصلة کالشّعر و الظفر و العرق و البصاق و النخامة و القیح و نظائرها بما یضاف الی الشخص المسلم، فإذا قلنا بطهارة بدن المسلم یشمل جمیع ذلک قطعاً، بخلاف ما لو کانت منفصلة کالبسته و ثیابه، سواءٌ کانت خارجة عن بدنه أو کانت ملتصقة ببدنه، إذ لا دلیل منها لاثبات التبعیّة اقتصاراً فیما خالف الأصل علی القدر المیقین؟

أقول: هذا الأخیر ممّا لا وجه له، فلا اشکال فی طهارة ما یعدّ من بدنه مطلقاً، سواءٌ کان ممّا تحلّه الحیاة کالجلد و اللّحم و نحوهما، أو ممّا لا تحلّه الحیاة کالشعر و الظفر و السنّ، و هذا ممّا لا خلاف فیه، کما ادّعی الاجماع علیه فی «المنتهی» و «الذکری»، و عن «المستند» دعوی الضرورة، کما اعترف به فی «الجواهر» فی الجملة.

و استدلّ لالحاقها:

1. بصدق هذه الأمور بالمسلم، کما تصدق علی بدنه، و إن نوقش بأنّ الاضافة إنّما تنفع فی الطهارة إذا نشأت الاضافة من تکوّن تلک الأمور فی بدن المسلم، فمجرد اضافتها الیه غیر کافیة فی الحکم بطهرها.

2. و الی ما ورد بأنّ الاسلام یجبُّ عمّا سبق، و إن أورد علیه بأن الجُبّ یختصّ بالآثار التی کانت مستندة الی السبب السابق علی الاسلام، و بقاء فضلاته مستندٌ الی استعداد تلک الفضلات للبقاء علی النجاسة الی أن یثبت الرافع، و حدیث الجبّ لا یکون رافعاً إذ لا یدلّ علی الرافعیة بسبب الاسلام بشیءٍ من الدلالات.

3. قیام السیرة المستمره القطعیة علی عدم أمر الکافر بعد اسلامه علی

ص:322

تطهیرة بدنه من فضلاته، و عدم معهودیة الأمر به، مع عدم خلوّ بدن الانسان عن شیء منها غالباً، و برغم أنّه ممّا تکثر به البلوی، و مع ذلک لم یرد له ذکرٌ فیستفاد منه طهارتها، کما لا یخفی، و إلّا کان علیهم علیه السلام البیان حتّی لا یستلزم تأخیر البیان عن وقت الحاجة.

هذا کله یصحّ إذا کانت نجاسة بدنه نجاسة کفریة، و أمّا لو کان بدنه متنجساً بنجاسة خارجیة، و زالت عنه عینها، فهل یوجب الاسلام طهارة بدنه المتنجس بالنجاسة أم لا؟

قد یقال: بالطهارة فیه حتّی فی ثیابه التی لاقاها حال الکفر مع الرطوبة، و لکن قد یمکن المنع عنه، لورود ما یدلّ علی الأمر بالغَسل و تطهیر الثیاب، ففی «تفسیر علی بن ابراهیم» فی حکایة اسلام أسید بن خضیر من الأنصار عند مصعب بن عُمیر رسول رسول الله صلی الله علیه و آله ، قال اسید بعد استماعه شیئاً من القران من مصعب: «کیف تصنعون إذا دخلتم فی هذا الامر؟ قال: نغتسل و نلبس ثوبین طاهرین و نشهد الشهادتین، و نصلّی رکعتین، فرمی بنفسه مع ثیابه فی البئر، و أتی بثوبین طاهرین و اغتسل و شهد الشهادتین».

فدعوی القطع بمعهودیّة عدم الأمر بتطهیر بدنه و ثیابه، مع ما فی التفسیر المذکور لا یخلو عن شیء، و لذا عبّر بطهارة فضلاته فی «الجواهر» بقوله: «قد یقال بالتبعیة بالنسبة الی فضلاته... الی آخر» فإنّ فی اسناده الی القیل لا سیّما بعبارة قد یقال اشعارٌ بترضیّه» و هو فی محلّه، هذا کلما فی «مصباح الهدی». (1)

أقول: و الأمر کذلک بالنسبة الی النجاسة الخارجیة و الثیاب، و هذه


1- ).مصباح الهدی، ج 2/351.

ص:323

الروایة مؤیّدة إن کان الغسل و تحصیل الثیاب الطاهرة و أداء الشهادتین بعد اختیاره الاسلام قبل هذه الامور، و کان اداء الشهادتین تجدیداً لما سبق، و الّا لا ینفع الغُسل و أخذ الثیاب لمن کان کافراً و نجساً، حیث إنه موجب للتنجیس، و لعلّ ما قلناه یمکن استفادته من جملة: «إذا دخلتم فی هذا الامر» کما لا یخفی للمتأمّل.

التنبیه الثالث: و یلحق بالتبع فی الطهارة بالاسلام ولده، سواءٌ کان أباً أو امّاً الحاقاً للولد بأشرف الأبوین، بل و الی أحد الجدین القریبین کما نقله و حکاه صاحب «الجواهر» عن کشف استاذه، کما أنّ فی کتاب استاذه أیضاً التصریح بالطهارة تبعاً للسابی المسلم، لکن قیّده بعدم وجود أحد الأبوین أو الأجداد، لأنّ الالحاق بهما مقدّمٌ علی السّابی، و البحث فی أطراف هذا الحکم له مقام آخر.

أقول: قد تقدّم البحث فی کثیرٍ من الأشیاء التی ذکرها الشیخ الکبیر فی کتابه فی عداد المطهّرات حتّی أنهاها الی عشرین، و قد مضی البحث عن بعضها.

و منها: زوال عین النجاسة علی جسم الحیوان الذی قد مضی بحثه فی باب الأسئار و یقولون بأنّ زوال العین فی الحیوان یکون من المطهرات، هذا إن قبلنا بتنجّس بدن الحیوان مع ملاقاته بالنجاسة، و إلّا ربما یحتمل عدم تنجّس الحیوان بملاقاة عین النجس حتّی تکون الازالة مطهّرة له، و تحقیق البحث فی محلّه. مطهریّة الغیبة

فی مطهریّة الغیبة

و من جملة المطهرات: الغیبة فی بدن الانسان بل و ثیابه و غیرهما،

ص:324

کما عن بعضٍ، و البحث فیها یقع فی أمور:

الأمر الأوّل: ذهب بعضهم الی أنّ الغیبة من المطهرات کما یظهر ممّا جاء فی کتاب «کشف الغطاء» للاستاذ، و ذهب آخرون الی أنّها لیست من المطهرات قطعاً، و لکنها توجب الحکم بطهارة الانسان و ما یتعلّق به من الثیاب و نحوها کما عن «مصباح الفقیه» و «مصباح الهدی» و صاحب «العروة»، فاطلاق المطهریة علی الغیبة حینئذٍ یکون بالمسامحة.

الأمر الثانی: فی أنّ غیبة المسلم التی تعدّ مطهرة للبدن و ما یتعلّق بالانسان إنّما تکون إذا اجتمع شروط خمسة.

الأوّل: بأن یکون عالماً بملاقاة مع النجس.

الثانی: علمه بکون ذلک الشیء نجساً أو متنجساً اجتهاداً او تقلیداً.

الثالث: استعماله لذلک الشیء فیما یشترط فیه الطهارة، حتّی یکون ذلک أمارة نوعیّة علی طهارته من باب حمل فعل المسلم علی الصحة.

الرابع: علمه باشتراط الطهارة فی الاستعمال المفروض.

الخامس: أن یکون تطهیره لهذا الشیء محتملاً.

فمع وجود هذه الخمسة یکون الحکم هو الطهارة، لوضوح أنّ تمام ذلک إنّما یکون بعد ما نعلم بأنّ الانسان لیس کالحیوان فی حصول الطهارة بمجرد زوال العین، بل لابدّ فی تطهیره من مطهرٍ، فحینئذٍ لا اشکال و لا کلام فی الحکم بالطهارة مع تحقّق الشروط الخمسة المذکورة، إنّما الکلام فی أنّ معاملة الطهارة معه، هل هی مختصٌّ بخصوص هذه الصورة، بحیث لو فقد واحد من الخمسة أو أزید فلا یُحکم بها، أم لیس الأمر

ص:325

کذلک؟ فیقع البحث عنه فی جهات.

الأولی: فی أنّه هل یکفی فی الحکم بالطهارة مجرد الاحتمال فی الطهارة، أو یعتبر حصول مطلق الظنّ لا مجرد الاحتمال، أو یعتبر الظن الخاص من شهادة حالٍ أو مقالٍ لذلک؟ وجوه و أقوال: لا اشکال فی القول الأخیر کما اختاره الشیخ الأکبر فی کتاب طهارته، لکونه القدر المتیقن من مورد الاجماع المحکی علی طهارته، و ادعاء اتفاق الأصحاب علیها، کما یشاهد ذلک عن الشهید الثانی قدس سره فی محکی «تمهید القواعد»، و ظهور حال المسلم من التنزّه عن النجاسة، بل قیام السیرة القطعیة العملیة علی ترتیب آثار الطهارة بحیث قد یعدّ السؤال عن تطهیره من المستنکرات، مضافاً الی وجود دلیل الحرج إذا لم نحکم بالطهارة، لوضوح استلزام التجنّب عمّا یحتمل النجاسة العُسَر و الحرج لصاحبه، مضافاً الی دلالة فحوی ما دلّ علی حجیّة إخبار ذی الید علی ذلک، حیث أنّ مجموع هذه الأمور _ لو لم یکن کلّ واحدٍ واحدٍ منها _ یکفی لاثبات المطلوب، و هذا ممّا لا اشکال فیه.

أقول: الذی ینبغی البحث عنه هو فی اعتبار کلّ واحدٍ من الشروط الخمسة فی الحکم بالطهارة، فإن فی الشرط الأول و الثانی حیث أنّ مفادهما _ هو علمه بالنجاسة ممّا یتعلق به _ قد وقع فیه الخلاف: فعن الشهید الأول فی «الذکری» و الثانی فی شرح «الألفیّة» اعتباره، و المحکی عن العلامة الطباطبائی و فقیه عصره فی «کشف الغطاء»، و صریح المحکی عن «اللّوامع» عدم اعتباره، بل قال إنّه یکفی مجرد احتمال مصادفة الطهارة، و

ص:326

أیّده صاحب «الجواهر» بقوله: «إنه لا یخلو عن قوّة، إلّا أن المعروف بین من تعرّض لذلک اعتباره» الی أن قال: «و الاحتیاط لا ینبغی ترکه).

و الأوجه عندنا هو ما اختاره صاحب «الجواهر»، و صاحب «المستمسک» من الحکم بالطهارة من دون اعتبار کونه عالماً بالنجاسة، بل یصحّ الحکم بها حتی مع کونه عالماً بعدم کونه عالماً بالنجاسة، أو کان الشخص من أهل التسامح فی مراعاتها، کلّ ذلک لأجل قیام السیرة العملیّة و الاجماع بین المسلمین من ترتیب آثار الطهارة علیه، أو لأجل و تحقّق العسر و الحرج لمن أراد التجنّب، کما نشاهد ذلک فی من یدخل مکة و المدینة و مشاهدة کثرة المخالفین، حیث نری تسامحهم فی مراعاة الطهارة و النجاسة، و مع ذلک نرتب علی معاملاتهم و ثیابهم بالطهارة، لا سیّما مع ملاحظة عدم وجود الماء العاصم فی عصر الأئمة علیهم السلام، و قد کانوا یعاشرون عامّة الناس فی الظاهر، بل حکموا بالطهارة و صحّة المعاملة الصادرة من عامة المسلمین باعتبار سوق المسلمین و اجتماعهم، و لکن مع ذلک کلّه الاحتیاط حَسنٌ.

أقول: و من ذلک یظهر عموم اعتبار بقیّة الشروط، لأنّ مرجع الجمیع الی العلم بأنّه لا یستعمل ما هو نجسٌ، و هو مؤثرٌ بمجرد الاحتمال، فلا یلزم أن نلاحظ أنه یستعمل فیما یشترط فیه الطهارة أم لا، لما عرفت من أنّ السیرة العملیة تعدّ أوسع من جمیع ذلک، فدلیل ظهور الحال یقتضی الحکم بالطهارة فیما یحتاج فیه تحصیل الظاهر فی طهارته، سواءٌ حصل للناظر ملاحظة استعمال ذلک فیما یشترط فیه الطهارة أم لم یحصل.

ص:327

و أیضاً: یظهر ممّا ذکرنا عدم لزوم حصول الظن الخاص، بل یکفی حصول وصف الظن بالطهارة الحاصل من حمل فعلم المسلم علی الصحة، المستلزم طهارة ما یتعلّق به فی المقام، فما عن الشیخ الأعظم من اعتبار حصول الظن الخاصّ فیه لأنّه القدر المتیقن فی المقام ممّا لا یمکن المماشاة معه، و إن ْ کان أوفق بالاحتیاط.

الأمر الثالث: یعتبر الاسلام فی الحکم بالطهارة فیما یتعلّق به بعد غیبته، و ذلک لاختصاص أدلتها الّتی أقواها أصالة الصحة فی فعله، فلا تشمل غیر المسلم، کما أنّ السیرة أیضاً قائمة علی اختصاصهم بالمسلم و لا تجری فی غیره کما هو واضح.

الأمر الرابع: هل یعتبر الایمان بالمعنی الأخصّ فیه، حتّی لا یُحکم بطهارة غیر المؤمن عند غیبته إذا لم یعتقد بنجاسته مع احتمال طهارته؟ فیه وجهان بل قولان: و الأوجه عندنا هو الثانی، لما عرفت من السیرة العملیة علی ذلک، مضافاً الی أنه إذا لم نعتبر الشروط، خصوصاً الشرط الأول و الثانی، یظهر منه حکم عدم اعتبار الایمان کما لا یخفی.

الأمر الخامس: فی أنّه هل یشترط فی تحقّق الحکم فی المقام وجود التکلیف، فلا یحکم بالطهارة إذا کان لغیر مکلف أم لا؟ وجهان: من عدم جریان أصالة الصحة فی فعله، و عدم امکان الشهادة علی ما یصدر منه علی طهارته لعدم تعلّق التکلیف به.

و من قیام السیرة علی عدم الاجتناب عمّا یتعلّق بغیر المکلف، و لو کانت السیرة من جهة لزوم العسر و الحرج فی الاجتناب فی اختلاط غیر المکلفین معهم.

ص:328

و علیه، فالأوجه هو الأخیر.

نعم، لا یبعد القول باعتبار کونه ممیّزاً، و إن کان مقتضی قولنا بکفایة احتمال مصادفه التطهیر، هو عدم اعتبار لزوم التمییز، و لعلّه لاندراجه فی توابع ولایة المسلم بحیث یُعدّ الولد من توابعه و متعلقاته، فاستعماله دلیلٌ علی کفایة ذلک فی الحکم بالطهارة لأجل أصالة الصحة فی عمل ولیّه، فلا فرق فیه بین ما یترتّب علی طهارة ولیّه بعد غیبة المولّی علیه، و بین کونه عنده و یترتب الطهارة علیه، لأنّک قد عرفت قولنا بکفایة احتمال مصادفة التطهیر فی الحکم بذلک، و لو لم یحصل له العلم بالنجاسة.

الأمر السادس: أنّه لا یختصّ هذا الحکم بخصوص بدن الانسان، بل الغیبة موجبة للحکم بالطهارة فی ثیابه و فراشه و أوانیه لوحدة الملاک مع ما فی البدن. لکن تأمّل بعضٌ فیه کصاحب «مجمع البرهان» و «المدارک» و ظاهر «المفاتیح»، لکنه لیس علی ما ینبغی.

و لا فرق فی الحکم بذلک بین کونه متلبساً بما یشترط فیه الطهارة أم لا، کما هو ظاهر عدد کثیر من الفقهاء مثل الشهیدین و أبی العباس فی «المهذّب»، و الصیمری، و الفاضل النراقی، و العلّامة الطباطبائی، و «کشف الغطاء»، بل قد یظهر من «تمهید» الشهید الثانی الاجماع علیه، بل حکی العلامة الطباطبائی فی منظومته قیام السیرة فیه، حیث قال:

و احکم علی الانسان بالطهارة

مع غیبةٍ تحتمل الطهارة

و هکذا ثیابه و ما معه

لسیرةٍ ماضیةٍ متّبعة

و هو کذلک إذ الأصل المذکور جارٍ فی جمیع ما یتعلّق بالمسلم من

ص:329

دون اختصاص بشیء دون شیء.

الأمر السابع: فی أنّه هل یختصّ الحکم بخصوص الغیبة کما علیه صاحب «الجواهر» و العلّامة البروجردی و غیرهما، أم یعمّ الظلمة و العَمی أو حبس البصر؟ فیه وجهان بل قولان:

وجه القول الأوّل: هو أنّ الحکم بالطهارة حکمٌ مخالف للأصل، فیکتفی فیه بالقدر المتیقن، و احراز السیرة فی مثل ذلک مشکلٌ جداً و إن إدّعی الظهور فی السیرة إذا تبیّن لما یشترط فیه الطهارة، بلا فرق بین کونه بعد الغیبة أم بعد ما یحتمل ما بحکمها، کما فی «المستمسک»، إلّا أنّ اثبات ذلک فی غایة الاشکال، فالأحوط هو عدم الالحاق کما لا یخفی.

الأمر الثامن: لا یعتبر فی الحکم بالطهارة غیبة نفس الشخص عن ثیابه و أوانیه و نحوها، ما لم تکن الثیاب من توابع شخصٍ آخر مسلمٍ الموجب للحکم بطهارتها لأجله، کما لا یخفی. مطهریّة باطن الانسان

مطهریّة ما فی باطن الانسان

عدّ أصحابنا رحمهم الله باطن الانسان من جملة المطهّرات، و هذا حکم ثابت لا اشکال و لا کلام فی ذلک، کباطن الفم و الأنف و الأذن و العین و غیرها کظواهر الحیوان بعد زوال العین فی الثانی، إمّا بأن لا یتنجّس بالنجس و المتنجس، أو أنّها تطهر بزوال النجاسة عنها، و لازم طهارة الباطن أنّه إذا أکل الانسان طعاماً نجساً یکون فمه بعد بلعه طاهراً لا یحتاج الی التطهیر.

و الدلیل علی الطهارة: قیام الاجماع و الاتفاق بین الأصحاب علی

ص:330

ذلک، کما صرّح به صاحب «الجواهر»، حیث قال: «إنّ زوال عین النجاسة لیس مطهراً فی الحیوان، بل لا یتنجّس من الأصل»، بل هو فی النجسّیة کالبواطن المتفق بین الأصحاب علی طهارتها بمجرد زوال عین النجاسة، بل قیل إنّه یمکن أن یکون من ضروریات الدین.

هذا فضلاً عن النصوص المصرّحة بذلک الوادرة فی فم الانسان و

الأنف و الاستنجاء:

منها: صحیح صفوان، عن اسحاق بن عمار، عن عبدالحمید بن أبی الدیلم، قال: «قلت لأبی عبدالله علیه السلام : رجلٌ یشرب الخمر فیبصق فأصاب ثوبی من بصاقه؟ قال: لیس بشیء». (1)

و منها: روایة الحسن بن موسی الحنّاط، قال: «سألت أبا عبدالله علیه السلام عن الرجل یشرب الخمر، ثم یمجّه من فیه فیصیب ثوبی؟ فقال: لا بأس». (2)

کما صرّح بذلک فی «الوسائل» بقوله: «أقول: هذا محمولٌ علی ما یوافق الحدیث الأوّل»، و إلّا یحتمل أن یراد ممّا یصیب هو نفس الشراب إذا مجّه فی فمه، فحینئذٍ لابدّ من طرحه، لأنّ عین النجاسة إذا أصاب شیئاً یُنجّس إذا عُلم أنّه عینها.

و منها: روایة ابراهیم بن أبی محمود، قال: «سمعتُ الرضا علیه السلام یقول: یستنجی و یغسل ما ظَهَر منه علی الشرج، و لا یدخل فیه الانملة». (3)


1- ).وسائل الشیعة: الباب 39 من أبواب النجاسات، الحدیث 1.
2- ).وسائل الشیعة: الباب 39 من أبواب النجاسات ، الحدیث 2.
3- ).وسائل الشیعة: الباب 24 من أبواب النجاسات ، الحدیث 1 .

ص:331

و منها: روایة عمّار عن أبی عبدالله علیه السلام فی حدیثٍ، قال: «إنّما علیه أن یغسل ما ظهر منها یعنی المقعدة، و لیس علیه أن یغسل باطنها». (1)

فإن الظاهر من هذین الخبرین عدم نجاسة ما فی الباطن من العذرة لحاملها فی الصلاة الّتی یشترط فیها الطهارة من الخبث، فیفهم منهما أنّ العذرة ما لم تخرج لا تکون نجساً حتّی یتنجّس البدن فیحتاج الی التطهیر.

و منها: روایة عمّار الساباطی، قال: «سُئل أبا عبدالله علیه السلام عن رجل یسیل من أنفه الدّم، هل علیه أن یغسل باطنه یعنی جوف الأنف؟ قال: إنّما علیه أن یغسل ما ظهر منه». (2)

و غیر ذلک ممّا یستفاد منه أنّه لم یتنجس الباطن بالنجاسات حتّی یتطهّر بالزوال، و إن کان ربما توهمه بعض العبارات من کون الزوال مطهراً لها، بل هو الظاهر من موثق عمّار من عدم حصول الحکم الّا فی الظاهر لا الباطن، کما هو مقتضی الأصل و العمومات، إذ لیس فی أدلة النجاسات عمومٌ یشمل نجاسة البواطن بها.

بل قال شارح «المفاتیح»: «إنه لم یتحقّق اجماع علی متنجس البواطن لو لم نقل بالاجماع علی العدم، مضافاً الی الأصول و العمومات».

أقول: نعم ما قاله صاحب «الجواهر» هنا، فإنّه بعد نقل کلام استاذه المذکور یقول: «قلت: و هی و الحیوان مشترکان فی سبب ذلک، ضرورة أنّه إن کان عین النجاسة موجوداً، فالمنجّس حینئذٍ للملاقی هو، لا ما کان علیه من البواطن و بدن الحیوان و إلّا کان طاهراً، فلم یظهر أثرٌ للحکم


1- وسائل الشیعة: الباب 24 من أبواب النجاسات ، الحدیث 5 و 6.
2- وسائل الشیعة: الباب 24 من أبواب النجاسات ، الحدیث 5 و 6.

ص:332

حینئذٍ بتنجیسهما بالملاقاة، فابقائهما علی الطهارة، و عدم تأثیر عین النجاسة فیهما أولی من الحکم بنجاستهما و طهارتهما بالزوال، و قد تقدّم فی الأسئار تمام الکلام» انتهی کلامه رفع مقامه. (1)

أقول: لا یخفی أنّ کلّ واحدٍ من النجس و ملاقیه بالنسبة الی الباطن و الخارج یتصور بأربعة صور:

تارة: کلاهما من الباطن.

و أخری: کلاهما من الخارج.

و ثالثة: مختلفان بأن یکون النجس من الباطن و ملاقیه من الخارج.

و رابعة: عکس ذلک.

فلا باس ببیان أحکامها، فنقول:

الصورة الأولی: بأن یکون کلاهما من الباطن، سواءٌ کانت الملاقاة فی محلّ النجس کملاقاة المثانه للبول و العروق للدم، أو کانت الملاقاة فی غیر محلّه، کما إذا وصلت النجاسة من الجوف الی غیر المحلّ فیه کباطن الفم الملاقی للدم الواصل الیه من البطن، و داخل الاحلیل الواصل الیه البول من المثانه.

و الحکم فیها عدم تنجّس الملاقی لها، لانصراف الأدلة من النصّ و الاجماع عنها، بل قد یدّعی قیام الاجماع علی أنّه لا أثر لها مادامت فی الباطن، و لا فرق فی ذلک بین ما لم یکن الباطن ممّا یحس به کالبطن و الأمعاء، أو کان ممّا یحسّ به کباطن الفم و العین، فرطوبة الفم و العین اذا


1- الجواهر، ج 6/301.

ص:333

لاقت مع النجاسة الموجودة فیهما من الباطن لا تتنجّس.

الصورة الثانیه: أن تکون النجاسة من الباطن و الملاقی لها من الظاهر، فإن کان الباطن بما لا یحسّ به، فالحکم أیضاً الطهارة کالأولی، کماء الحقنة الملاقی مع النجاسة فی الباطن، و کالابرة الملاقیة مع الدّم الخارج من أصول الانسان.

لکن الحکم فیه لا یخلو عن شوب الاشکال، من جهة امکان دعوی انصراف أدلة متنجّس ملاقی النجس عمّا یلاقیه فی الباطن، و إن کان الملاقی من الخارج، فیحکم بالطهارة.

و من امکان منع هذه الدعوی لمکان الاحساس بالباطن، فیکون حکمه حکم الظاهر فلا طهارة، کما هو الأحوط.

الصورة الثالثة: أن تکون النجاسة من الخارج، و الملاقی لها فی الباطن کبصاق شارب الخمر أو آکل النجاسة، و الحکم فیها أیضاً الطهارة، لما عرفت من دعوی قیام الاجماع بل الضرورة من الدین علی طهارته، کما ورد فی النصّ أیضاً بعد زوال عین النجاسة، غایة الأمر أنه هل لا تتنجّس أصلاً أو تتنجّس لکن تطهر بزوال عین النجاسة؟ فیه وجهان الأقویٰ هو الأوّل.

الصورة الرابعة: أن یکون کلّ من النجس و الملاقی وارداً علی الباطن من الخارج کبقایا الطعام المتخلّف فی الفم الملاقی مع الخمر فی الفم، و کالطعام الملاقی مع الخمر فی البطن و نحوهما.

و الظاهر انفعاله بالملاقاة کما لو تلاقیا فی الخارج، لاطلاق الأدلة فی تنجّس ملاقی النجس، و عدم انصرافها عمّا کانت الملاقاة فی الباطن، أو فی مکانٍ دون مکان.

ص:334

و الترابُ و باطن الخُفّ، و أسفل القدم و النعل(1).

هذا، و لکن هذه الدّعوی لا یخلو عن تأمل إذا لم یکن فیما یلاقیه من النجس أثرٌ. مطهریّة التراب

فی مطهریّة التراب

(1) و من جملة المطهرات التراب، أی الأرض کما وقع التعبیر بها فی «النافع»، فإنّ المطهّر هی الأرض التی وقع التعبیر بها فی أکثر الفتاوی، و معقد الاجماع المحکی عن غیر واحدٍ، و لعلّ التعبیر بالتراب کما فی المتن و عبارة «المقنعة» و «التحریر» وفقا لما ورد فی البنویّین العامیّین، المعبّر فیهما بالتراب.

ففی أحدهما: عن النبیّ صلی الله علیه و آله : «إذا وطئ أحدکم الأذی بخفیه فطهورهما التراب». (1)

و فی الآخر عنه صلی الله علیه و آله : «إذا وطئ أحدکم بنعلیه الأذی، فإنّ التراب

له طهوره». (2)

أو محمولٌ علی ارادة ما یشمل الأرض قطعاً، و کان وجه ذکره لکثرة ذلک فیما بین سایر قطع الأرض، فلا یراد الحصر به قطعاً، فمطهریّة الأرض فی الجملة اجماعی محصّلاً و نقلاً، کما فی النصوص کذلک، حیث تصل کثرتها الیّ حد الاستفاضة، و هذا فضلاً عن استمرار العمل به بلا خلافٍ فیه، إلّا ما عسیٰ توهمه عبارة «الخلاف» فی بادی النظر من المخالفة، حیث


1- ).سنن أبی داود، ج 1/316؛ کنز العمال، ج 5/55، الرقم 1878 _ 1879.
2- ).سنن أبی داود، ج 1/315؛ المستدرک للحاکم، ج 1/166؛ کنز العمال کما فی قبله.

ص:335

قال: «إذا أصاب أسفل الخفّ نجاسة فدلکه فی الأرض حتّی زالت تجوز الصلاة فیه عندنا».

ثم قال: «دلیلنا: إنا بیّنا فیما تقدّم أنّ ما لا تتمّ الصلاة فیه بانفراده جازت الصلاة فیه، و إن کانت فیه نجاسة، و الخف لا تتم الصلاة فیه بانفراد، و علیه اجماع الفرقه» انتهی. (1)

حیث قد یوهم کلامه أنّه یقول ببقاء النجاسة و العفو عنها فی الصلاة، و حیث إنه مخالف لظاهر أغلب النصوص و صریح الفتاوی، لم یرض جملة من المتأخّرین الذین تعرّضوا لنقل قوله و نسبته الیه، فأوّلوا کلامه الی ما لا ینافی المشهور، حتّی أنّ المحقّق البهبهانی فی حاشیة «المدارک» تأمّل فی ظهور کلامه فیما ذکر، و قال: «بل الظاهر أنّ استدلاله فیه غفلة منه». (2)

أقول: الانصاف بعد التأمّل فی کلامه أنّه أراد الاستدلال فی جواز الصلاة فیه من جهة کونه ممّا لا تجوز الصلاة فیه منفرداً، حتّی لو کان نجساً، فضلاً عمّا لا یکون کذلک، بأن تکون کلمة (و إن کانت فیه نجاسة) وصلیّة لبیان المرتبه الأعلی علی الفرض، لا کونه کذلک حتّی یخالف المشهور، و الله العالم.

و کیف کان، فالمسألة ظاهراً ممّا لا خلاف فیه کما أشار الیه

صاحب «الجواهر». (3)


1- ).الخلاف، ج 1/217 _ 218.
2- ).الحاشیة علی مدارک الاحکام، ج 2/278.
3- ).الجواهر، ج 6/303.

ص:336

البحث عن حیثیّات مطهریّة الأرض

و البحث عن مطهریة الأرض یقع فی أمور. حیثیّات مطهریّة الأرض

الأمر الأوّل: فی أن مطهریتها منحصرة بخصوص المذکور فی المتن کما عن «الاشارة» و «التلخیص» من الاقتصار علی النعل و القدم، و بعضٌ ذکر الخفّ بدل النعل، و عن ثالثٍ ذکر الخفّ و القدم و النعل کالمتن، و رابعٌ ذکر الخفّ و النعل، أو یطهّر کلّ ما ینتعل به کما عن «جامع المقاصد» من دعوی الاجماع علی المذکورات مع اضافة کلّ ما یتنعل به عادةً کالقبقاب و نحوه: (1)

و الأقوی هو الأخیر، لأنّ الظاهر کون ذکر مثل ما فی المتن للتمثیل لاجل غلبتها، لا لخصوصیةٍ فیها فقط، و إن کان مقتضی الاحتیاط هو الاکتفاء بخصوص ما ورد فی النصوص دون غیره، و الوارد فی النصوص خصوص الخفّ و النعل کما فی النبوییّن، و روایة حفص بن أبی عیسی لخصوص الخفّ، و فی القدم کصحیحة الأحول و معلّی بن خُنیس و صحیح الحلبی و زرارة کما لا یخفی، بل مع ملاحظة التعلیل بأنّ «الأرض تُطهّر بعضها بعضاً» یؤید ما اخترناه کما علیه صاحب «الجواهر» و «الاسکافی» و «الریاض» و صاحب «المنظومة».

الأمر الثانی: فی ذکر الأخبار الواردة من العامّة و الخاصّة:

الأولی: النبوییّن العامّین، فلا نکرر.


1- جامع المقاصد، ج 1/179.

ص:337

و الثانیة: و هی عدد من الأخبار:

منها: صحیحة الأحول، عن أبی عبدالله علیه السلام ، قال: «فی الرجل یطأ علی الموضع الذی لیس بنظیفٍ، ثُم یطأ بعده مکاناً نظیفاً؟ قال: لا بأس إذا کان خمسة عشر ذراعاً أو نحو ذلک». (1)

و منها: خبر معلّی بن خُنیس، قال: «سألت أبا عبدالله علیه السلام عن الخنزیر یخرج من الماء فیمّر علی الطریق فیسیل منه الماء أمّر علیه حافیاً؟ فقال: ألیس ورائه شیء جاف؟ قلت: بلی، قال: فلا بأس إنّ الأرض یطهّر بعضها بعضاً». (2)

و منها: خبر محمد الحلبی، قال: «نزلنا فی مکان بیننا و بین المسجد زقاق قذر، فدخلتُ علی أبی عبدالله علیه السلام ، فقال: أین نزلتم؟ فقلت: نزلنا فی دار فلان، فقال: إنّ بینکم و بین المسجد زقاقاً قذراً أو قلنا له إنّ بیننا و بین المسجد زقاقاً قذراً، فقال: لا بأس إنّ الأرض تطهر بعضها بعضاً. قلت: و السرقین الرّطب أطأ علیه فقال لا یضرّک مثله». (3)

و منها: خبر حفص بن أبی عیسی، قال: «قلت لأبی عبدالله علیه السلام : ان وطئت علی عذرة بُحفّی و مسحته حتّی لم أرفیه شیئاً، ما تقول فی الصلاة فیه؟ فقال: لا بأس». (4)

و منها: خبر زرارة بن أعین، قال: «قلت لأبی جعفر علیه السلام : رجلٌ وطأ

علی عذرةٍ فساخت رجله فیها، أینقض ذلک وضوئه، و هل یجب علیه


1- وسائل الشیعة: الباب 32 من أبواب النجاسات ، الحدیث 1.
2- وسائل الشیعة: الباب 32 من أبواب النجاسات ، الحدیث 4 _ 5 _ 6.
3- وسائل الشیعة: الباب 32 من أبواب النجاسات ، الحدیث 4 _ 5 _ 6.
4- وسائل الشیعة: الباب 32 من أبواب النجاسات ، الحدیث 4 _ 5 _ 6.

ص:338

غسلها؟ فقال: لا یغسلها إلّا أن یقذرها، و لکنه یمسحها حتّی یذهب

أثرها و یصلّی». (1)

و منها: و خبر محمد بن ادریس فی آخر «السرائر» نقلاً من «نوادر احمد بن محمد بن أبی نصر»، عن المفضّل بن عمر، عن محمّد الحلبی، عن أبی عبدالله علیه السلام ، قال: قلت له: إنّ طریقی الی المسجد فی زقاقٍ یُبال فیه، فربما مررت فیه و لیس علیّ حذاء فیلصق برجلی من نداوته؟

فقال: ألیس تمشی بعد ذلک فی أرضٍ یابسة؟ قلت: بلی، قال: فلا بأس، إنّ الأرض تطهر بعضها بعضاً.

قلت: فأطأ علی الروث الرطب؟ قال: لا بأس أنا و الله ربما وطئتُ علیه ثُم أصلّی و لا أغسله». (2)

و منها: و روایة أخری لزرارة، عن أبی جعفر علیه السلام ، قال: «جرت السنة فی الغائط بثلاثة أحجار أن یمسح العجان و لا یغسله، و یجوز أن یمسح رجلیه و لا یغسلهما». (3)

و غیر ذلک من ما یمکن استفادة ذلک.

الأمر الثالث: فی بیان کیفیّته الاستدلال من هذه الاخبار.

قد یقال: إنّه یشکل فی الاستدلال بها، لأجل احتمال کون المقصود من (الأرض تطهرها) هو جواز الصلاة مع الخف و لو کان نجساً، لأنّه ممّا لا تتم فیه الصلاة، فلا یفهم منها کون الأرض مطهّرةً له، مع أنّ فی بعض


1- وسائل الشیعة: الباب 32 من أبواب النجاسات ، الحدیث 8
2- وسائل الشیعة: الباب 32 من أبواب النجاسات ، الحدیث 8
3- وسائل الشیعة: الباب 32 من أبواب النجاسات ، الحدیث 10.

ص:339

الأخبار من الضعف کالبنویّین العامین، هذا.

و لکن یمکن أن یجاب عنه أوّلاً: إنّ نفس التعلیل بقوله: «إنّ الأرض تطهّر....» یدلّ علی أنّ المقصود من ذکر الأرض فی الخِفّ و النعل لأجل بیان طهارتهما لا الصلاة معهما، و أنّ النجاسة فیهما معفوّة.

و ثانیاً: یمکن استفادة ما ذکرنا من اطلاق نفی البأس سؤالاً و جواباً فی نفیه من حیث زوال النجاسة بذلک المسح، کما صرّح بذلک فی حدیث حفص بقوله: «و مسحته حتّی لم أر فیه شیئاً ممّا تقول فی الصلاة فیه».

و ثالثاً: یندفع ضعفها بالانجبار بعمل الاصحاب و فتاواهم، مع ورود التصریح به فی خبر صحیح أیضاً کصحیح صفوان بن یحیی و صحیح الحلبی.

فرع: إنّ حصول الطهارة بالمشی و المسح علی الأرض، هل یکون مطلقاً و لو کان أثر النجاسة باقیاً علی الخفّ و النعل، أو مع ذهاب أثر النجاسة عنها؟ فیه وجهان: الأقوی هو الأخیر، و إن کان لسان بعضها بصورة الاطلاق، لکن لابدّ أن یقید بما ورد فی صحیحة زرارة، حیث قال علیه السلام بعد السؤال عن وجوب غَسل القدم الواطیء علی العذرة: «لا یغسلها إلّا أن یقذرها، و لکنه یمسحها حتّی یذهب أثرها و یصلّی»، فإنّ جعل ذهاب أثرها غایةً لمسحها، ظاهر فی اعتباره فی طهره، کما أنّه هو موافق مع الاعتبار لو لا التعبّد به.

الأمر الرابع: البحث عن المراد من (البعض) فی قوله: «إنّ الأرض تطهر بعضها بعضاً»:

1. قد یراد: بأنّ المراد من البعض الآخر، النجس الملاقی للنعل و نحوه علی

ص:340

معنی ازالة أثره عمّا لاقاه بالبعض النجس، کما یقال الماء مطهّر للبول و الدّم.

2. و قد یراد من البعض: ما لاصق بعضاً نجساً آخر منها ممّا کان علیها من القدم و نحوه، کما عن صاحب «المعالم».

3. أو یراد منه: تطهیر بعض الأرض بعض المتنجسات کالنعل، بأن یقصد من البعض بعض المتنجسات لا کلّها، حیث لا یکون حینئذٍ للمطهّر بالفتح عمومٌ و لا اطلاق یتناول غیر مورد نفسه.

وجوه و احتمالات: و أحسن الوجوه هو الاوّل و الثانی، باعتبار أنّه نوع کنایة عمّا یلصق بالنعل و الخفّ من تراب النجس و أشباهه، حیث قد أطلق الکلّ و هو الارض علی البعض من باب تسمیة البعض باسم الکلّ، و هو ما یلاصق القدم و الخفّ من التراب و نحوه.

و أضعف الوجوه هو الاحتمال الاخیر، حیث ادّعی القطع بفساده، بل فی «الجواهر» بعد ذکر القطع بفساده قال: «لبُعد هذا المجاز بل استقباحه حتّی لو أرید الاضمار منه»، و علیه فیتعیّن الأوّل.

4. نعم، هنا احتمالاً رابعاً نَفی عنه البعد صاحب «الفقیه»، و هو أن یکون المراد من بعض الثانی بعض الأرض حقیقهً، بمعنی أنّ بعض الارض یطهّر بعضها الآخر باذهاب النجاسة عنه أو تأثیره فی استحالته أو استهلاکه الموجب لارتفاع الموضوع، فیکون الاستدلال بهذه الجملة لطهارة الرجل و النعل مبنیّاً علی تنزیلهما منزلة الأرض بعلاقه المجاورة و المناسبة، المقتضیة للمشارکة فی الحکم.

هذا لکنه نوعُ مجازٍ لا یُصار الیه مع امکان الحقیقه بلا تنزیل.

ص:341

5. الاحتمال الخامس هو أن یراد من البعض الأول البعض الطاهر من الأرض، و البعض الثانی شیئاً مبهماً، فیصیر المعنی: أنّها تطهر بعض الاشیاء النجسة و منها المورد.

أقول: و الذی یناسب _ مع کون الجملة بصورة التعلیل _ لمورد السؤال هو کونه لحصول الطهارة للخفّ و النعل الذی قد أخذ السائل جوابه من هذه الجملة، فینطبق ذلک مع الاحتمالین الأولین کما لا یخفی.

الأمر الخامس: هل الأرض مطهرة للنجاسة الحاصلة للقدم و النعل مطلقاً، و لو لم تکن النجاسة حاصلة بالمشی علی الأرض النجسة بأن حصلت من الخارج، کما أدمی باطن قدمه بسبب اصابته السکین لا بسبب الأرض النجسة.

أو یختصّ طهرها بما یحصل من المشی علی الأرض النجسة، سواءٌ کانت النجاسة من الأرض أم من غیرها بواسطة الأرض، کما اذا لاقت قدمه و تداً مطروحاً علی الأرض فأدمی باطنه، فإنّ النجاسة حاصلة من المشی علی الأرض لکنها لیست من الأرض.

أو یختصّ طهرها بخصوص ما یحصل من المشی من النجاسة التی فی الأرض المتنجسة بالبول، أو من مشی الخنزیر علیها؟

وجوهٌ و احتمالات: یظهر من صاحب «المعالم» اختیار الاخیر، حیث اختار من المحتملات السابقه کون المشی علی الأرض هو المطهّرة للقدم و النعل التی اکتسبت النجاسة من الارض المتنجسة، بل قد یؤید ذلک:

أوّلاً: إنّه القدر المتیمن من المحتملات بحسب ارتکاز العرف.

ص:342

و ثانیاً: وجود ما یمکن استفادة ذلک من النصوص، مثل حدیث معلّی بن خُنیس من ذکر الخنزیر الذی یخرج من الماء فیمرّ علی الطریق... الی آخره، حیث إنّه صریح فی أن النجاسة أصابة رجله و نعله بواسطة المشی علی الأرض المتنجّسة، و لذلک سأله الامام علیه السلام «ألیس ورائه شیءٌ جاف؟ قلت: بلی». و أیضاً یظهر ذلک ممّا ورد خبری الحلبی من مرور السائل علی القذرة و العذرة فی الزقاق، الموجب لنجاسة الخف و القدم. و أیضاً، هو أنّه لا یمکن حدیث حفص، بقوله: «وطأتُ عذرةً بخِفیّ».

فمقتضی الجمود علی ظاهر اللفظ فی النصوص الوارد أن نتجاوز عن ذلک بواسطه التمسک بعموم التعلیل فی قوله: «إنّ الأرض یطهّر بعضها بعضاً» بان یراد من التطهیر هو الاعم من کونه متنجسه بالارض بواسطة المشی علیها أو بغیرها، خصوصاً مع ملاحظة أن العرف لا یلاحظ هذه الخصوصیة فی الموارد، فلازمه حینئذٍ هو حصول الطهارة بالأرض مطلقاً، و إن ْ کان الاحتیاط فی الاقتصار بصورة المتیقن لا ینبغی ترکه.

الأمر السادس: أنّه لا فرق فی حصول الطهارة بین کون الزوال بالمشی علی الأرض، أو بالمسح علیها، لما تری من ذکر المسح فی صحیح الأحول بقوله: «إنی وطأتُ عذرةً بخفیّ و مسحته» و روایه زرارة بقوله: «و یجوز أن یمسح رجلیه و لا یغسلهما» إن أرید بالمسح هو مسح الرجل النجسة بالأرض لا مسح الرجل فی الوضوء حتّی یخرج عن مورد البحث، کما احتمله صاحب «مصباح الفقیه»، و لعلّ الاحتمال الأوّل أقرب لوحدة السیاق مع ما قبله من مسح العجان بثلاثه أحجار فی الغائط.

ص:343

نعم، لا یکفی مجرد النجاسة، أولاً لما قد عرفت من ذکر المشی و المسح فی النصوص کحسنة الحلبی و صحیحة الأحول و زرارة، و بذلک نقیّد اطلاق التعلیل الوادر فی النصوص، لعدم وروده فی مقام بیان کیفیة التطهیر، و ثانیاً قابلیته للتقید لو سُلّم اطلاقه.

و من ذلک یظهر عدم کفایة مسح التراب علی القدم و النعل المتنجسین فی تطهیرهما، بل لابدّ من مسحهما بالأرض، و إن کان یظهر من کلام صاحب «الجواهر» کفایته، حیث قال: «و لا فرق بین کیفیات المسح من جعل الحَجَر مثلاً آلةً للمسح و غیره، و حکی ذلک أیضاً عن کاشف الغطاء) و لکنه لا یخلو عن تأمّل لأنّ الظاهر من النصوص هو مسح الرجل أو النعل بالارض لا مسح الارض بهما.

الأمر السابع: بعد ما قلنا بحصول الطهارة بالمشی یقع البحث عن أنّه هل یعتبر:

1. التقدیر فیه بخمسة عَشَر ذراعاً کما ورد فی صحیح الأحول بقوله: «لا بأس إذا کان خمسة عشر ذراعاً» کما حکی عن ابن الجنید اشتراطه بذلک، بقوله: «إذا وطأ الانسان رجلیه أو ما هو وقاء لهما نجاسةً رطبةً، أو کان رجلاه رطبة و النجاسة یابسة أو رطبة فوطأ بعدها نحواً من خمس عشر أرضاً طاهرة یابسة، طهر ما ماسّ النجاسة من رجله و الوقاء لها، و غسلهما أحوط... الی آخره».

2. أو لا یعتبر لاطلاق غیره من النصوص المتعدّدة و الفتاوی، و یقوّی الاطلاق ذکر کلمة (نحواً) فی کلام ابن الجنید المؤیّد بأن یکون المراد

ص:344

من التقدیر بهذا المقدار، و أنّه طریق الی حصول ما یزول به أثر النجاسة عادة لا بالموضوعیة، و لأجّل ذلک لم یلتزم الفقهاء فی المورد الی التعبد بهذا المقدار، حیث لا خصوصیة فیه کما لا یخفی، و إن کان العمل بذلک أوفق بالاحتیاط، و الاحتیاط حَسنٌ علی کلّ حال.

الأمر الثامن: لا فرق فی حصول الطهارة بالمشی بأن یکون مع الخفّ أو بالنعل، حیث تحصل طهارة أسفله به بالاجماع الذی قد ادّعاه صاحب «جامع المقاصد»، و بما فی «المنتهی» من أنّه من المتیقن، مع ملاحظة اطلاقات الأخبار و ذکر خصوص النعل فی النبوی و إن ْ کان عامیاً، معتضداً بعدم خلافٍ فیه، اذ اقتصار المصنف فی «النافع» علی الخفّ و القدم لا صراحة و لا ظهور فی الانحصار، و لذلک نلاحظ أنّ المصنف قد أضاف فی «الشرائع» اسفل القدم مع النعل، خصوماً مع ملاحظة الفتاوی و إطباق الناس قدیماً و حدیثاً علی صلاة الحفاة و المتنعلین، و دخولهم المساجد من غیر غَسل الاقدام و النعال، مع غلبة الظن علی النجاسات، بل و مع القطع بها، خصوصاً مع ما هو المتعارف عند الاعراب من جعل الزقاق محلاً للتخلیة، لا أقلّ اطفالهم، کما یؤمی الی ذلک ما فی روایة الحلبی من وجود العذرة فی طریق المسجد فی الزقاق المؤدّی الیه، فلو کلّفوا بلزوم الغَسل فی جمیع ذلک ربما أوجب ذلک الحرج.

و علیه، فالأقوی جواز ذلک فی کلّ ما یتنقّل به، و لو کان کالقبقاب، کما مضی نقله عن المحقّق فی «جامع المقاصد» و ادّعی علیه الاجماع.

نعم فی الحاق رکبتی الأقطع و یدیه إذا کان مشیه علیهما أیضاً وجهان:

ص:345

من مساواتهما مع القَدَم و النعل، و من الانصراف الی ما هو المتعارف، لأن أصل الحکم مخالفٌ للأصل، فیقتصر فیه علی موضع النصّ، و إن کان ملاحظة حال التعلیل ربما یقتضی الالحاق، کما اختاره بعض، کما یظهر ذلک من کلام صاحب «الجواهر» بقوله: «قد یقال: باستفادة طهارة خشبة الأقطع منه، بعد الغضّ عن دعوی مساواتها للنعل أو القدم، بل و کعب عصاة الأعمی و عکاز الرمح و نحو ذلک، إلّا أنّ الاحوط خلافه».

أقول: الأحوط عدم الالحاق، لأن الغاء الخصوصیة الذی یساعد علیه العرف فیه مشکل غایة الاشکال، بل و هکذا الحاق مثل نعل الدّابة، و ما یُوقی به کالجورب، أو ما یوقی بکف الانسان لمن لا یقدر المشی علی رجلیه فقط و أمثال ذلک، و إن کان الالحاق لا یخلو عن وجه.

الأمر التاسع: هل یختصّ حکم الطهارة بباطن الخفّ و النعل و القدم و لا یشمل ظاهرها، أو یعمّ للظاهر و الباطن؟ فیه وجهان بل قولان: إذ بملاحظة الأصل فإنّ الحکم مخالف للاصل، فلابد من الاقتصار علی موضع النص، و هو مسوق الی ما هو المتعارف، و هو لیس إلّا باطنها، خصوصاً مع مطلوبیة التوقف و الاحتیاط فی مثل هذه الامور. و علیه فیکون الصحیح هو الاوّل کما علیه صاحب «الجواهر» و السید فی «العروة» _ و إن یقوّی الجواز إلّا أنه احتاط بعده _ و المحقّق الآملی حیث قد تأمّل فیه.

لکن من جهة ملاحظة حال التعلیل من «إنّ الأرض یطهّر بعضها بعضاً» بل قد یدّعی ظهور صحیح زرارة بقوله: «عن رجلٍ ساخت رجله فی ذلک» فإنّ ظهور السوخ فیه یعنی انغماس حواشی القدم و النعل فی النجاسة، و

ص:346

إن یحتمل أن المراد منه نحو اعوجاج فی رجله، و ذکر القدم و النعل کان للمثال، و لأجل ذلک حکم صاحب «کشف الغطاء» بالطهارة فی الظاهر أیضاً مثل الباطن، و کلامه لا یخلو عن وجه، و إن ْ کان الاحتیاط حسن علی کلّ حال.

الأمر العاشر: لابدّ فی تطهیر النجاسات من باطن القدم و النعل و الخفّ، من صدق الأرض سواءٌ کان من جنس التراب أو الحَجَر أو الرّمل و الحصی، و قد مرّ بیان وجه ذکر التراب فی بعض النصوص، و أنّه لیس لأجل خصوصیةٍ فیه بل لأجل الغلبة فیه، أو لمناسبته مع الأرض، و إلّا فإنّ المعتبر فی المطهریة هو صدق الأرض، و علیه فالمشی علی الجبال التی تکون ارضها من الحجارة و الصخرة مطهرة أیضاً لصدقها علیها.

نعم، قد یشکک فی مثل المفروشة بالآجر أو الجِصّ أو النورة المطبوخین، من جهة الشک فی صدق الأرض بعد الطبخ، کما یُشکل علیه التیمم أیضاً، و استصحاب بقائه علی الأرضیة فاسد، لکون الشبهة مفهومیة و فی مثله لا یجری الاستصحاب، هذا کما فی «مصباح الهدی».

أقول: الانصاف أنّ العرف لا یحکم بخروج مثل هذه الأمور بالطبخ عن عنوان الأرض، فالمفروشة بالآجر کالمفروشة بالحَجَر یصدق علیه الأرض، و یصحّ الحکم بحصول الطهارة بها.

نعم، الذی لا یجری هذا القول فیه هو المفروش بالقیر أو لوح الخشب، کما لا یطهر المفروش بالحصر و البواری و الزرع و النبات، إلّا أن یکون النبات قلیلاً لا یمنع عن صدق المشی علی الأرض، فحینئذٍ یکون مطهرة.

ص:347

الأمر الحادی عشر: هل یعتبر فی مطهریّة الأرض طهارتها أم لا؟ فیه وجهان بل قولان:

1. قول بعدم الاعتبار، کما مال الیه فی «الروضة» و «الریاض»، بل نَسب صاحب «الروضة» هذا القول الی اطلاق الفتاوی، بل تمسکاً باطلاق الأخبار و النصوص.

2. و قول بالاعتبار و الیه ذهب جماعة مثل الاسکافی و أول الشهیدین و المحقّق الثانی، و علیه عامّة المتأخّرین من المحقّقین کصاحب «الجواهر» و السیّد فی «العروة»، و أکثر أصحاب التعلیق لو لا کلّهم، و هو الأقوی لمناسبة المغروسة فی ذهن المتشرعة بأنّ المتنجس لا یطهر، و أنّ الطهارة السابقة فی المطهّر شرط، کما هو _ أی سبق الطهارة _ شرط ثابت فی ماء الغُسالة و حَجَر الاستنجاء و إن یصیر نجساً بعد الاستعمال، بل قد یستفاد من کلام المحقق البهبهانی فی «شرح المفاتیح» الاعتراف بکونه ممّا اتفق علیه الأصحاب، کما یؤیّده الاستقراء و التتبع فی موارد التطهیر بالماء، بل یمکن استفادة ذلک من صحیح الأحول: «فی الرجل یطأ فی الموضع لیس بنظیفٍ ثُمّ یطأ بعده مکاناً نظیفا؟ قال علیه السلام : لا بأس اذا کان خمسة

عشر ذراعاً».

بناءً علی أن یکون الضمیر المستتر فی أداة (کان) راجعاً الی المکان النظیف المفروض فی السؤال، فلازم هذا التوجیه انحصار حصول الطهارة للأرض النظیف الطاهرة، فیقیّد بواسطة هذا الحدیث اطلاق سائر النصوص، بل قد یؤمی الی ذلک کلمة (جافٍ) فی حدیث المعلّی

ص:348

بأن تکون کنایة عن طهارتها عن الماء الذی یکون فی الخنزیر الخارج

عن الماء.

نعم، قد یُدّعی امکان الاستدلال لذلک بالخبر النبویّ المرویّ بعدة طرق فیها الصحیح و غیره و هو: «جُعلت لی الأرض مسجداً و طهوراً» بناءً علی أن یکون (الطهور) هو الأعم من الحدث و الخَبَث، فیدلّ علی شرطیة طهارة الأرض لرفع الخبث، لأنّ (طهور) یعدّ من الصیغ المبالغة، و المراد منه الطاهر المطهر بالمطهریة الأعم من رفع الحدث و الخبث.

أقول: لکن الاستدلال بالنبویّ لاثبات الشرطیة فی المطهریة مشکلٌ جداً، و لو سلّمنا اطلاقه للأعم من الحَدث حتّی یشمل الخبث، مع امکان منع ذلک بقرینة وحدة السیاق مع المسجد، حیث تکون قرینة علی أنّ المراد من (الطهور) هو عن الحَدَث، مضافاً الی أنّه لا یکون مسوقاً لذلک، بل المقصود بیان أنّ أصل خلقة الأرض کانت کذلک من باب اللّطف و الرحمة علی العباد، من دون نظرٍ الی کونها مطهرة.

و أمّا المناقشة فی صحیح الأحول بأنّ (النظیف) فی مقابل (القذر) لا بمعنی الطهارة، ممّا لا یساعده الارتکاز، خصوصاً مع ملاحظة مورد الحدیث فی کونه فی مقابل جملة: «و لیس بنظیفٍ» التی هی کنایة عن النجاسة، فالنظیف یصیر معناه أنه کان طاهراً، و لذلک فالاستدلال به و بما عرفت من الاستقراء و المفروغیة فی ذهن المتشرعة، کافیان لاثبات شرطیة الطهارة للمطهریّة.

الأمر الثانی عشر: هل یعتبر فی الأرض المطهرة أن تکون یابسة أم لا؟

ص:349

وجهان بل قولان: المحکی عن الاسکافی و الشهید الثانی و المحقّق الثانی فی «المسالک» و «الجامع» اعتباره، خلافاً ل_ «نهایة» الفاضل و «روضة» الشهید الثانی و «ذخیرة» الخراسانی، و صاحب «الریاض».

استدلّ للأول: مضافاً الی الأصل فی بقاء النجاسة الّا ما یطمئن بزوالها، و هو لا یکون الّا بالیابسة، امکان استفادة ذلک بما جاء فی خبر الحلبی بقوله: «ألیس تمشی بعد ذلک فی أرضٍ یابسة؟ قلت: بلی... الی آخر».

و فی خبر المُعلّی بقوله: «ألیس ورائه شیءٌ جافٌ؟ قلت: بلی... الی آخره».

و الجفاف و الیبوسة إما متقاربان أو تکون الثانیه أخصّ من الأوّل.

و نحن نزید علیه فی الاستدلال و لو إشعاراً لو لا الظهور، بأنّ لفظ (التراب) الواقع فی النبوی یتبادر منه فی الذهن ما هو الیابس منه، مضافاً الی تعارف المسح و الازالة فی الجفاف، کما یستعمل فی الاستنجاء و غیره، فبذلک یقیّد اطلاقات سائر النصوص لو لم نقل بانصرافها الی صورة الجفاف.

و ما أورد علیه تارة: بعدم ذکر الجفاف و الیبوسة فیهما علی وجهٍ یفید التقیید، لعدم کونه بصیغة احدی المفاهیم المعتبرة.

و أخری: بأنّه یحتمل أن یکون الجفاف المعبّر فی روایة المُعلّی فی مقابل الرطوبة الواصلة الی القطعة الرطبة عند مرور الخنزیر علیها.

و ثالثةً: من قصور سند الخبرین مع عدم الجابر عن اطلاق أکثر النصوص و الفتاوی: ممّا لا یمکن المساعدة معه، لما قد أجیب:

عن الأوّل: بأنّ دعواه ناشئة عن الغفلة عن جهات الدلالة، فإن الخبرین أظهر فی التعلیق من القضیة الشرطیة.

ص:350

و عن الثانی: أنّه احتمالٌ لا یوجب رفع الید عن ظهور اللفظ.

أقول: هذین الجوابین صدرا عن المحقق الهمدانی و عن «مصباح الهُدی» بعد نقل ذلک عنه، قال: «و لکن الانصاف عدم قوّة دلالة اللفظ المشتمل علی القیدین علی التقیید، لقوّة احتمال ارادة الخلوّ عن الرطوبة النجسة المقابلة لهما، لا الجفاف بقول مطلق و لو عن الرطوبة الطاهرة، إلّا أن الاحتیاط فی اشتراط جفافها لا ینبغی ترکه». (1)

قلنا: إنّ ما ذکره لیس إلّا مجرد احتمال لا یطمئن به، بخلاف ظهور نفس اللفظ من لزوم تحقّق الجفاف بلا قید معه. نعم إن ْ قلنا بتباین معنی الجفاف عن الیبوسة، أوجب ذلک التشکیک بینهما، إلّا أنّه إذا حصلت الیبوسة فالجفاف حاصلٌ قطعاً. و لعلّ تحصیل کثرة الفتوی لخصوص الیبوسة یکون أصعب، لأنّ الأکثر یکتفی فی ذلک بصورة الجفاف حتّی و لو کان مشتملاً علی النداوة فی الجملة دون الرطوبة المسریة، فیکون الجفاف هو ما یصدق علیه هذا العنوان عرفاً، لا الجفاف المقابل للرطوبة المتعدیة، کما علیه الشیخ الأکبر فی حاشیة «النجاة» و العلّامة البروجردی و غیرهما، خلافاً لصاحب «الجواهر» و جملةٍ من المتأخّرین المحققین، منهم صاحب «العروة» حیث اختاروا الثانی.

و لا ریب أنّ الأوّل هو الأحوط، لو لم یکن أقوی.

و الاشکال فی ضعف سند الخبرین غیر مسموع، لصحّة خبر الحلبی، و کذا خبر المُعلّی لکونه منقولاً عن ابن أبی عُمیر و جمیل بن درّاج عنه، و هو


1- مصباح الهدی، ج 2/277.

ص:351

ممّن أجمعت العصابة علی تصحیح ما یصحّ عنه کما لا یخفی. و علیه فالقول باعتبار الجفاف یکون أظهر و أحوط.

بل، یمکن تنزیل کلام من لم یعتبر الجفاف علی ارادة الاکتفاء بالأرض الرطبة رطوبةً غیر متعدیة لا المتعدّیة، کما قد یؤیّد ذلک قول الفاضل من أنّ الأقرب عدم الطهارة لو وطأ وحلاً، بل و کذا فی «الروضة» و إن ْ کان فی الثانی لا یخلو عن بُعدٍ، فیرجع النزاع الی امکان الجمع بین القولین بعدم اعتبار الیبوسة بالمعنیٰ ألاخصّ، فلا ینافی حینئذٍ اعتبار الجفاف بان لا تکون مع الرطوبة المسریة، و لکن المختار هو ما عرفت.

الأمر الثالث عشر: لا اشکال فی لزوم تطهیر القدم و الخفّ علی نحو یوجب ازالة عین النجاسة، کما یعتبر ذلک فی التطهیر بالماء، کما لا اشکال أنّه لا یعتبر فی حصول الطهارة ذهاب الأثر من عین النجاسة، بمعنی الرائحة و اللّون، لوضوح أنّه لم یعتبر فی الماء الذی یکون اذهابه أهون من الأرض، فضلاً عمّا نحن فیه.

نعم، الذی وقع الخلاف فیه هو الأثر، بمعنی الأجزاء الصغار الباقیة بعد المشی و المسح، فهل یعتبر زواله أم لا؟ فیه وجهان بل قولان:

1. قول بالاعتبار کما صرّح به فی «جامع المقاصد» و «منظومه» الطباطبائی و المحقّق الآملی و الهمدانی.

2. و قول بالعدم، کما هو مختار صاحب «الجواهر» تبعاً لاستاذه صاحب «کشف الغطاء».

وجه الاعتبار: _ مضافاً الی الأصل عند الشک، و هو استصحاب بقاء

ص:352

النجاسة مع بقاء الأجزاء الصغار، و معروفیة توقّف تطهیر النجاسات علی ازالة أثرها _ شمول عمومات وجوب ازالة النجاسة للأجزاء الدقیقة منها أیضاً، و خصوص دلالة صحیحة زرارة المتقدمة التی جاء فیها: «قال علیه السلام : لا یغسلها إلّا أن یقذرها و لکنه یمسحها حتّی یذهب أثرها و یصلّی». (1)

و کذا صحیحة حفص بن بکر: «وطأتُ عذرة بخُفی و مسحته حتّی لم أر فیه شیئاً، ما تقول فی الصلاة فیه؟ فقال: لا بأس». (2)

فإنّ نفی الرؤیة فیه عن شیءٍ من العذرة، یکشف عن عدم بقاء أثرها، و هی الأجزاء الصغار.

هذا غایة ما یمکن أن یُستدلّ للاعتبار.

و القول الآخر: هو عدم الاعتبار، حیث تمسّک القائلون به بأمورٍ:

أوّلاً: اطلاق باقی النصوص.

و ثانیاً: مناسبة سهولة الشریعة و سماحتها، بل و لحکمة مشروعیة هذا الحکم من التخفیف و نحوه.

و ثالثاً: بأنّ فی التکلیف بوجوب الازالة من العُسر و الحرج ما لا یخفی، بل یمکن دعوی تعذّره عادةً، بل یمکن دعوی ظهور سائر النصوص فی ذلک، بل یمکن تنزیل خبر الخصم علی ذلک أیضاً بأن یراد من الأثر الأجزاء التی لا یعتاد بقائها، و لا یصدق عرفاً ذهاب تمام العین مع وجودها لا الأثر بالمعنی السابق.

و رابعاً: امکان استفادة ذلک من مساواة التطهیر هنا مع التطهیر فی


1- وسائل الشیعة: الباب 32 من أبواب النجاسات ، الحدیث 7 _ 6.
2- وسائل الشیعة: الباب 32 من أبواب النجاسات ، الحدیث 7 _ 6.

ص:353

الاستنجاء بالأحجار، الذی رواه هذا الروای فی موردنا، و هو خبر زرارة، بقوله نقلاً عن أبی جعفر علیه السلام ، قال: «جرت السُّنة فی الغائط بثلاثة أحجار أن یمسح العِجان و لا یغسله، و یجوز أن یمسح رجلیه و لایغسلهما». (1)

فکما لا یعتبر زوال الأثر فی الاستجاء فکذلک هنا، بل یمکن أن یحصل للفقیه الماهر _ بملاحظة ما تقدّم هناک _ الظن إن ْ لم یکن القطع بمساواتهما فی ذلک، و أنّه به تفرّق بینه و بین التطهیر بالماء، بل بدونهما یمکن القطع إذا لوحظت السیرة، و تعذّر ازالة تلک الأجزاء أو تعسّرها، خصوصاً ما یکون فی الشقوق منها، کتعذّر العلم بذلک أو تعسّره بالحکم المذکور، سیّما مع ملاحظة عدم شیءٍ من هذه المدّاقة فی النصوص، بل ظاهر الاکتفاء بها بالخَمَسة عشر الوارد فی صحیح حفص و نحوه یُؤدی خلاف ما ذکروا، لوضوح أنّ الأثر لا یذهب بهذا المقدار من المشی و المسح، هذا.

أقول: لکن الانصاف أن یقال: إنّه و إن لم یکن کلّ واحدٍ من الأدلة المذکورة مستقلاً و برأسه دلیلاً مفیداً لذلک و تماماً إلّا أنّه بالمجموع مع ضمّ بعضها الی بعض یفید، خصوصاً بیان ما به الافتراق بین الماء و غیره بذلک، و خصوصاً ملاحظة مفاد صحیحة حفص بالاکتفاء بخمسة عشر من دون ذکر أنّه یذهب بذلک الأثر حتّی الصغار من الأجزاء، مع أنّ تحقّقه فی غایة الاشکال. و کون التشابه بین موردنا مع ما فی الاستنجاء فی حکم التطهیر بالمسح، و لو لم نُسلّم کون الروایة فیه لأجل احتمال کون حکم الذیل لبیان الوضوء بالمسح، و کون ذکر الجواز لأجل التقیة، خصوصاً مع


1- وسائل الشیعة: الباب 32 من أبواب النجاسات ، الحدیث 10.

ص:354

ملاحظة تعذّر ذلک أو تعثّره، مع وجود الشقاق فی الأقدام فی الحفاة فی عصر الأئمة علیهم السلام بین الاعراب، و عدم معهودیة لبسهم الخف إلّا بعضهم، بل وهکذا فی الخفّ من جهة وجود الخُلل و الفُرج و الشقوق فیه، فالحکم بعدم الاعتبار فی الأجزاء الصغار التی لا تتمیّز قویٌّ جداً، بخلاف ما لو کانت ممیزة، لأنّه یکون داخلاً حینئذٍ تحت عمومات وجوب الازالة عن عین النجاسة، و لا یطلق علیه أثرها، فلابدّ من ازالتها، و الله العالم.

هذا کله إنّما کان البحث فیما إذا کانت عین النجاسة موجودة فیما

یرید تطهیره.

و أمّا اذا لم یکن الأمر کذلک، بل کانت نجاسته نجاسة حُکمیة خاصّة، فهل یکفی فیه مجرد وقوع المماسة لحصول الطهارة أم لابدّ من المشی أو المسح؟ فیه خلاف: قد یقال: بالکفایة کما عن الطباطبائی فی منظومته، و صاحب «کشف الغطاء»، بل الیه یرجع ما فی «المعتبر» و «المنتهی» و «الذکری» و «الذخیرة» و غیرهما من التصریح بعدم اشتراط جرمیّة النجاسة و جفافها فی الطهارة، بل ظاهر نسبة الخلاف فی أکثرها الی بعض الجمهور خاصّة عدمه بیننا، بل الاجماع علیه عندنا، و لعلّه لاطلاق الأدلة و أولویتها من الغیبة و فحوی الاکتفاء به فی الاستنجاء، بل هی هی و زیادة.

هذا ما قاله صاحب «الجواهر».

و أجاب عنه بقوله: «هذا و لکن قد یناقش فیه: إن ْ لم یکن جمعهما علیه بمنع الأولویة و ظهور الأدلة فی الغیبة التی تزال بالمسح و الدّلک و المشی و نحوها، و تتبعها الحکمیة لا إذا کانت هی لا غیر، و الأمر سهل».

ص:355

أقول: لکن لا یخفی أنّ العبارات المنقوله عن المحقّق و العلامة و الشهید لا تدلّ علی کفایة المماسة، لوضوح أنّ عدم اشتراط الجرمیّة للنجاسة لا ینافی اعتبار تحقّق المسح و المشی فی حصول الطهارة، و علیه فلا دلیل لنا الکفایة المماسّة إلّا التمسک باطلاق التعلیل «إنّ الأرض یُطهّر بعضها بعضاً» مع أنه غیر وجیهٍ، لأنّ هذا الاطلاق لیس وارداً لبیان کیفیّة التطهیر، بل هو فی صدد بیان أنّ الأرض تعدّ من المطهرات علی حسب ما ورد فی الدلیل لبیان کیفیته، مع أنّه لو سلّمنا اطلاقه حتّی لبیان الکیفیة، لکن یمکن تقییده بما فی خبری حفص و زرارة من التصریح بلزوم المسح، خصوصاً فی الأخیر الذی وقع ذلک فی کلام الامام دون الراوی، و علیه فالقول باکتفاء مجرد المماسة دون المسح و المشی لا یخلو عن تأمّلٍ کما لا یخفی.

الأمر الرابع عشر: هل یعتبر فی المطهر أن یکون أرضاً، و أن تکون الازالة بالمشی و المسح علیها، أو یکفی فی حصول الطهارة زوال عین النجاسة عن الخُفّ و القدم بکل قالعٍ و مزیل و لو بأخذ الحَجَر و مسحه به، أو أخذ التراب و مسحه بالقدم و الخف؟ فیه وجهان بل قولان: قولُ بالثانی منقول عن ابن الجنید حیث قال بکفایة المسح بکلّ جسمٍ قالع، بل عن «نهایة» الفاضل احتماله مع الاشکال فیه، بل فی «الذخیرة» أنّ القول به لا یخلو عن قوّةٍ، للاطلاق الموجود فی النصوص.

مع أنّ مقتضی الأصل، و ظاهر النبویّین، بل نفس ظهور التعلیل من ذکر الأرض المفهم أنّ صدق هذا العنوان لازم فی المطهریة، و هو لا یصدق

ص:356

و ماء الغیث لا ینجسُ فی حال وقوعه، و لا حال جریانه من میزابٍ و شبهه، إلّا أن تغیّره النجاسة(1).

للحَجَر المنفصل القالع، أو التراب الذی یمسح به باطن القدم، و إن کان فی الازالة ربما یکون أبلغ. و علیه فالاطلاق الموجود فی النصوص یُحمل و ینصرف الی ما هو الغالب و المتعارف من آلیّة الأرض لنحو هذه الأمور، خصوصاً بعد انجباره بتطابق الفتاوی ظاهراً، بل لا خلاف فیه إلّا ممّن عرفت.

و القیاس هنا بما فی الاستنجاء حیث یکفی فی التطهیر فیه بذلک، لا یوجبُ القول به هنا، و إن کان یتوهّم ذلک ذکر الموردین فی صحیح زرارة، لإمکان کون التساوی فی أصل التطهیر لا فی جمیع الخصوصیات، مضافاً الی ما عرفت من احتمال کون الذیل من جهة حکم الوضوء لا التطهیر، و الله العالم. حکم ماء المطر

فی ماء المطر

(1) إنّ المصنّف حیث أهمل حکم ماء المطر عند البحث عن أحکام المیاه، مع أنّ له حکماً خاصاً باعتبار أنّ قطراته النازلة من السماء مع کونها میاه قلیلة منفصلة بعضها عن بعض، و متقوّمة بعضها مع بعض، یکون معتصمة بوضعها العنوانی کالماء الجاری المعتصم بمادّته بلا خلافٍ فیه فی الجملة، کما تشهد له النصوص الآتیه، و قد نبّه علیه فی المقام لأدنی مناسبة.

أقول: کون ماء المطر من المطهّرات فی الجملة مسلّمٌ کتاباً و سنةً و اجماعاً، بل ضرورةً، أی عدم انفعاله فی الجملة ممّا علیه الاجماع و لا خلاف فیه، و لکن الخلاف وقع فی تفاصیله، و قد أنهاه بعضهم الی ثمانیة

ص:357

أقوال، إلّا أنّ المسلّم و المحقّق فی المسألة هو ثلاثة أقوال:

1. قول علیه المشهور و وافقه صاحب «الجواهر» و «العروة» و المحقّق الهمدانی و الآملی، و کثیرٌ من أصحاب التعلیق علی «العروة» هو عاصمیّة ماء المطر حال النزول و تقاطره بقوّة، بحیث یصدق علیه اسم الغیث و المطر، سواءٌ کان فی الکثرة علی حدٍّ یجری بعد نزوله أم لا، و سواءٌ کان جریانه بالقوّة أی بمعنی أنّه لو لا المانع عن جریانه مثل رخاوة الأرض أو اختلاف سطحها علوّاً و دنوّاً لجری، أو کان جاریاً بالفعل، و سواءٌ کان المجتمع منه بقدر کرٍّ أو لم یکن بل کان قلیلاً.

2. و القول الثانی هو اعتبار کونه فی الکثرة علی حدٍّ یجری و لو بالقوة، کما علیه صاحب «الحدائق» و الأردبیلی من اعتبار ذلک حقیقةً أو حکماً، بل هو قریب جداً بالنسبة الی کلام الشیخ و ابن زُهرة.

3. و القول الثالث هو أن یکفی صدق مسمّی الجریان بالفعل، و لو بمجرّد الانتقال من مکانٍ الی مکانٍ آخر کالغَسْل فی أعضاء الوضوء و الغُسل، وهو کما علیه صاحب «کشف اللّثام» و نفی عنه البُعد فی «المدارک» و «الکفایة» مع انضمام شرطیة الجریان من المیزاب خاصّة فهو قولٌ رابع، أو من المیزاب و نحوه و هو القول الخامس، أو مسمّی الجریان و إن ْ لم یکن من میزابٍ و نحوه، أو من ارادة الحکمی من الجریان، أی یعتبر بلوغ المطر حَدّاً یجری من المیزاب و نحوه، و إن لم یجر منهما و هو القول السادس، أو حدّ الجریان مطلق و إن ْ لم یجر أصلاً بناءً علی جعل المیزاب مثالاً للکثرة و هو القول السابع، أو کان المطر کالجاری البالغ کرّاً

ص:358

کما حُکی عن العلّامة فی «المنتهی» فیصیر هذا قولاً ثامناً.

أقول: و کیف کان، فلنرجع الی أصل الاستدلال للقول المشهور، و هو أمور:

الدلیل الأوّل: الطهارة.

الدلیل الثانی: العمومات و ظاهر الکتاب معتمداً علی الفتوی المعظم، بل عدم ثبوت المخالف الناصّ کما عرفت، بل فی «حاشیة المدارک» للمحقّق البهبهانی: «قیل لاخلاف فی عدم انفعاله حال تقاطره».

الدلیل الثالث: أنه قد یشهد له استبعار القول بنجاسة المیاه الکثیرة المجتمعة من الأمطار الغزیرة فی الأرض المستویة، بل هو معلوم البطلان، و إن کان هو ممّا یلزم منه للقول باعتبار الجریان فعلاً.

کما أنّ لازم ظاهر کلام الشیخ من اعتبار المیزاب، نجاسة الفرض المذکور و إن ْ جری فی الأرض المنحدرة، بل و إن ْ صارت کالأنهار العظیمة، و بطلانه واضح.

الدلیل الرابع: کونه موافقاً لسهولة الشریعة و سماحتها، بل عُسر الاحتراز عن ماء المطر و طینه المباشر للنجس.

الدلیل الخامس: قیام السیرة المستمرة المستقیمة علی ذلک، کما اعترف بها غیر واحد من الأساطین.

الدلیل السادس: وجود النصوص المستفیضة لو لا المتواترة علی ذلک:

منها: مرسل الکاهلی عن رجلٍ، عن أبی عبدالله علیه السلام فی حدیثٍ، قال: «قلت: یسیل علیّ من ماء المطر أری فیه التغیّر و أری فیه آثار القذر، فتقطر القطرات علیّ و ینضح علیّ منه، و البیتُ یتوضّأ علی سطحه، فیکفّ علی

ص:359

ثیابنا؟ قال: ما بذا باسٌ لا تغسله، کلّ شیء یراه ماء المطر فقد طهر». (1)

فإن الحکم بنفی البأس ممّا یکفّ (2)، مع وجود القذر فیه، یدلّ علی الطهارة، هذا بالنسبة الی صدر الحدیث سؤالاً و جواباً.

و أحسن منه للاستدلال ذیله المسوق مساق الکبری الکلیة للجواب بنفی الباس، بأنّ ما یراه المطر فقد طهر، و هو أقوی دلیل علی عموم ذلک لکلّ ما یسمّی عرفاً بالمطر و إن ْ لم یکن جاریاً.

لا یقال: إنّ قوله: «کلّ شیء یراه المطر فقد طَهُر» غیر ظاهر فی الاعتصام، لأنّ المطهریّة أعم منه کما فی ماء الغُسالة بناءً علی نجاستها، حیث أنّها مع نجاستها یُطهّر بها المحلّ.

لأنا نقول: _ مع أنّه غیر مناسب مع فرض الوکوف و السؤال عن حُکمه لأجل ملاقاته مع النجس، بأنّه هل یتنجّس الثیاب به أم لا، فأجاب ذلک، الظاهر کونه علیه السلام فی مقام بیان عاصمیّة المطر الذی قد أصاب، و إلّا کان نجساً یوجب تنجّس الثوب و فیه بأس _ .

إنّه لو سلّمنا عدم عاصمیة نفس ماء المطر بهذه الملاقات، لکنه لو أوجب النجاسة لما یلاقیه، لکان موجباً لنقض الغرض، کما هو الحال کذلک فی ماء الغُسالة، و علیه فلابدّ مع ذلک الالتزام بعدم تنجّس الثوب بذلک، مع قبول عدم عاصمیّة أصل ماء المطر.


1- وسائل الشیعة: الباب 6 من أبواب الماء المطلق، الحدیث 5.
2- و کوف الماء من السقف أو غیره علی الثیاب، هو تقاطر القطرات، و المعبّر عنه بالفارسیة: چکه.

ص:360

لکنه واضح البطلان، خصوصاً مع قوله: «فقد طهر» الظاهر فی کون المقصود فی السؤال لیس إلّا تخیّل التنجس، فأجاب عنه بالعدم.

لا یقال: إنّه مشتمل علی ما لم یقل به أحدٌ، لدلالته علی نفی البأس عما رأی فیه التغیّر و آثار القذر، و التغیّر ظاهرٌ فی کونه بأوصاف النجاسة.

لأنّا نقول أوّلاً: بالمنع عن ظهوره فی کون الوکوف عمّا هو المتغیّر من وصف النجس، لاحتمال کون المراد من القذر هو الوسخ الذی لا نجاسة له. مع احتمال أن یکون ما وصل الثیاب من غیر الناحیة التی فیها التغیّر و آثار القذر، لو سلّمنا کون القذر بمعنی النجس، کما هو الظاهر من ظاهر اللفظ، هذا.

و ثانیاً: لو سلّمنا عدم امکان الاستدلال بصدر الحدیث لأجل ذلک، لکنه لا یضرّ بما هو مقصودنا، و هو الاستدلال بذیل الحدیث بقوله: «کلّ شیء یراه المطر فقد طهر» الذی هو بمنزلة الکبری الکلیة، و التفکیک فی التعبّد بالصدور لا یضرّ بالاستدلال، کما لا یضرّنا ارسال الحدیث بعد کونه منجبراً بعمل الاصحاب، و حصول الوثوق بالصدر بذلک.

أقول: الانصاف أنّه أحسن و أتم دلیل لما ادّعی هنا فی مطهریة المطر، کما لا یخفی.

و منها: صحیح هشام بن سالم أنّه سال أبا عبدالله علیه السلام : «عن السطح یُبال علیه فتصیبه السماء، فیکفّ فیصیب الثوب؟ فقال: لا بأس به ما أصابه من الماء أکثر منه». (1)


1- وسائل الشیعة: الباب 6 من أبواب الماء المطلق، الحدیث 1.

ص:361

تقریب الاستدلال: جاء فی ذیله من قوله: «ما أصابه من الماء أکثر منه» حیث إنّه بمنزلة التعلیل فی دلالته علی العموم و الاطلاق، بأنّه متی کان ماء المطر أکثر من القذر فهو طاهر عند وکوفه، سواءٌ کان الکثیر علی حدٍّ یجری بالفعل أو بالقوة أو لم یجر، و صدق علیه الکثرة، و إن کان فی مورد الخبر هو الوکوف من السقف الذی لا یتحقّق الوکوف المنجّس من طرفٍ الی طرف آخر منه إلّا مع جریانه غالباً، و لکن العبرة بعموم التعلیل و اطلاقه لا بخصوص المورد، لا مکان الغاء الخصوصیة عنه لیکون الحدیث ممّا یدلّ علی عدم انفعال ماء المطر إذا کان علیّ حدٍ أکثر من القذر مطلقاً و هو المطلوب، مع أنّ الأکثریة هنا کان بمعنی القهر و الغلبة دون المقداریة، إذ البول الجاف لا مقدار له، علی أنّ اکثریة الماء من البول لا تقتضی تحقق الجریان فیه، إذ ربما لم یجر و هو أکثر منه، و محتملٌ لرجوع ضمیر (أصابه) الی الثوب، أی إن القطرات الواصلة للثوب أکثر من البول الذی أصابه.

و منها: خبر أبی بصیر، قال: «سألت أبا عبدالله علیه السلام عن الکنیف یکون خارجاً، فتمطر السماء فتقطر علیّ القطرة؟ قال: لیس به بأس». (1)

وجه الاستدلال: واضحٌ لأنّ المراد من الخارج فی الکنیف هو ما إذا کان مکشوفاً غیر مسقفٍ، فبرغم ملاقاة المطر معه و التقاطر منه، قال علیه السلام لا بأس، و هذا یدلّ علی عدم انفعال ماء المطر بالملاقاة مع النجس، و صدق المطر یکون أعمّ من الجریان و عدمه، و کونه علی حدّ الکثرة و غیره.


1- وسائل الشیعة: الباب 6 من أبواب الماء المطلق، الحدیث 8.

ص:362

أقول: لعلّ هذا الحدیث فی الدلالة علی مذهب المشهور أظهر من بعض الروایات، لاطلاقه فی کونه علی حَدّ الجریان أم لا، و کذلک غیره.

لا یقال: إنّه غیر واضح الدلالة، لأنّ التقاطر کما یمکن أن یکون بعد الوقوع علی الکنیف ثُم اصابة بالثوب، کذلک یحتمل أن یکون من السماء، فلا یمکن الاستدلال به حینئذٍ.

لأنا نقول: بأنّ التقاطر من السماء لیس ممّا یتخیّل فیه النجاسة حتّی یحتاج الی السؤال و یجاب عنه، بل الذی للسؤال فیه وجه هو ملاقاته مع الکنیف، و وکوفه عنه الی الثوب، فجوابه فیه بأنّه لا بأس یکون دلیلاً للمطلوب، کما لا یخفی.

و منها: صحیح علی بن جعفر، عن أخیه موسی بن جعفر علیه السلام ، فی حدیثٍ: «و سأله عن الرجل یمرّ فی ماء المطر و قد صبّ فیه خمر فأصاب ثوبه، هل یصلّی فیه قبل أن یغسله؟ فقال: لا یغسل ثوبه و لا رجله و یصلّی فیه و لا بأس». (1)

أقول: الاستدلال به لا یخلو تأمّل، لأنّ ظهور جملة: «یمرّ فی ماء المطر» فی کون الماء مجتمعاً فی موضعٍ غیر خفی، خصوصاً مع ملاحظة ظرفیته لوقوع الخمر فیه، و برغم ذلک قد نفی علیه السلام ، فنفی البأس عنه یمکن أن یکون من جهة نزول المطر علیه و لو کان قلیلاً، حتّی یجوز الاستدلال به للمقصود، کما أنّه یمکن أن یکون لکثرة الماء أو بلوغه الی حدّ الکثیر و لو مع انقطاع المطر عنه، أوجب الحکم بالطهارة، فلا یکون مورداً


1- وسائل الشیعة: الباب 6 من أبواب الماء المطلق ، الحدیث 2.

ص:363

للاستدلال، و لا معیّن لأحدهما، و إن کان الأقرب هو الاوّل، فیصیر هذا الخبر دلیلاً علی عدم الانفعال لأجل نزوله و تقاطره من السماء.

أقول: بل یمکن الاستدلال علی دعویٰ المشهور باطلاق بعض الأخبار الوادرة فی طین المطر:

منها: مرسل «الفقیه»، قال: «سُئل _ یعنی الصادق علیه السلام _ عن طین المطر یصیبُ الثّوب فیه البول و العذرة و الدّم؟ فقال: طین المطر لا ینجّس». (1)

بناءً علی أن یکون المراد هو اصابة الماء الموجود فی الطین، و لم یکن من عین النجاسة، لوضوح أنّه إذا کان ما أصاب نفس الدم أو العذرة علی الثوب، فإنّه ینجس.

و وجه وضوحه یُفهم من الجواب بأنّ نفس الطین لا ینجّسه من جهة وجود الدم و العذرة سابقاً لکنه قد استهلک فعلاً بواسطه المطر.

هذا لو سُلّم اطلاقه حتّی یشمل صورة کون الوکوف و المترشّح من عین النجاسة، فیقیّد بواسطة الأدلة الدالة علی مسلمیّة نجاسة عین النجاسة إذا کانت مع الترشح، فیحمل علی الصورة التی ذکرناها حتّی لا ینافی مع تلک الأدلة، جمعاً بین هذا الحدیث و بین تلک الادلة.

و منها: مرسل محمد بن اسماعیل عن بعض أصحابنا، عن أبی الحسن علیه السلام : «فی طین المطر أنّه لا بأس به أن یصیب الثوب ثلاثة أیام، إلّا أن یعلم أنّه قد نجّسه شیء بعد المطر، فإن أصابه بعد ثلاثه أیام فاغسله، و إن کان الطریق نظیفاً لم تغسله». (2)


1-
2- 1) و ( ) . وسائل الشیعة: الباب 75 من أبواب النجاسات، الحدیث 1 و 2.

ص:364

حیث یدلّ علی المطلوب باطلاقه بأنّ طین المطر طاهر و لو کان فیه النجاسة، بقرنیة حال المقام من حیث السؤال عن أنّه لا یکون إلّا من جهة نجاسته، و لذلک حکموا باستحباب غسله بعد ثلاثه ایّام لشدّة احتمال حصول النجاسة للطین بعد قطع المطر، فیصیر الغَسل بعدها محبوباً. نعم، عنوان الطین لا یشمل صورة التقاطر من المطر إذا کان قلیلاً کما لا یخفی.

دلیل القول الثانی و الثالث فی ماء المطر: و هو اعتبار الجریان فی مطهریّة المطر بالأعم من الفعلیة و القوة، و هو القول المنتسب الی المحقّق الاردبیلی قدس سره، أو اعتبار خصوص الفعلیة فی الجریان، و استدلّوا لهما بأحادیث ثلاثة منسوبة الی علیّ بن جعفر علیه السلام :

1. صیححه عن أخیه موسی بن جعفر علیه السلام ، قال: «سألته عن البیت یُبال علی ظهره و یُغتسل من الجنابة، ثُم یصیبه المطر أیؤخذ من مائه فیتوضّأ به للصلاة؟ فقال: للصلاة فقال إذا جری فلا بأس به». (1)

2. خبره الآخر المروی عن کتابه: «سأل أخاه أیضاً عن المطر یجری فی المکان فیه العذرة، فیصیب الثوب أیصلّی فیه قبل أن یغسل؟ قال: إذا جری به المطر فلا بأس». (2)

3. خبره الآخر أیضاً المروی عن کتابه، و الحمیری: «سأل أخاه علیه السلام عن الکنیف یکون فوق البیت، فیصیبه المطر، فیکفّ فیصیب الثوب أیصلّی فیه قبل أن یغسل؟ قال: إذا جری من ماء المطر فلا بأس». (3)


1- وسائل الشیعة: الباب 6 من أبواب الماء المطلق، الحدیث 2 _ 9.
2- وسائل الشیعة: الباب 6 من أبواب الماء المطلق، الحدیث 2 _ 9.
3- وسائل الشیعة: الباب 6 من أبواب الماء المطلق، الحدیث 3.

ص:365

أقول: الاستدلال فی الجمیع بما ورد فی هذه الأخبار من تقید حکم المطهریة و نفی البأس بصورة جریان ماء المطر، فیدلّ علی انتفاء الحکم مع انتفاء الجریان، فبذلک یقید اطلاق سائر الأخبار الوادرة فیه.

و الجواب عن هذه الثلاثة: یکون بأمورٍ متعددة، و إن أمکن المناقشة فی بعضها مثل الطعن فی سند الأولی و الأخیرة بعدم ثبوت تواتر کتابه، لکن لا أثر لذلک بعد تمسّک الأصحاب بأخبار علیّ بن جعفر علیه السلام و عملهم بها فی موارد عدیدة من الفقه، خصوصاً مع صحّة سند الأخیرة کما لا یخفی.

و أیضاً: لا مجال للمناقشة فی ثبوت البأس بأنّه أعمٌّ من المنع، إذ لعلّ وجهه توقف النظافة، بل لو سُلّم ارادة المنع فهو أعمّ من النجاسة، إذ لعلّه لکونه بعد الانقطاع غُسالة غیر رافعه للحدث، بل ظاهر الصحیح المذکور إناطة بعض الأحکام بالجریان، و هو لا ینافی ثبوت غیره.

هذا و تجب الاشارة الی أن السؤال فی هذه الموارد عن کیفیّته النجاسة و الطهارة، کما یؤیّد ما فی الأسئلة عن البیت یُبال فیه. أو یغتسل للجنابة، التی تکون غالباً ملوّثة بنجاسة المنی، فحمل نفی البأس و ما یقابله بالنظافة و عدمه دون النجاسة و الطهارة، لیس علی ما ینبغی، نظیر ضعف احتمال کون وجود البأس من حیث الغُسالة بعدم کونها رافعة للحدث، لا من حیث الخبثیّة و خارج عن سیاق الحدیث.

و أیضاً: مما ذکرنا یظهر ضعف الاشکال الذی نُقل عن بعضٍ بلفظ (قیل) المشعر بالتمریض کما اعترف به نفس المورد، و هو أنّه لا یراد منه الشرط هنا قطعاً، ضرورة أنّه إذا لم یکن طاهراً لم یطهّره الجریان: و قد

ص:366

أجاب عنه بأنّ الخصم لا یلتزم نجاسته لو باشر نجاسةً قبل أن یجری حتّی یرد علیه عدم معقولیة الطهارة بالجریان، بل حکی الاجماع علی عدم ذلک، بل لعلّه یقول إذا جری انکشف أنّه من الماء الذی لا یقبل النجاسات بالملاقاة، نظیر عدم انفعال القطرات الیسیرة ابتداءاً حیث تنکشف عدم قابلیتها للنجاسة إذا تواتر بعدها المطر و حبّ علیه بقوّة، لا أنّها تتنجّس ابتداء ثم تطهر.

أقول: فضلاً عن الردود المذکورة آنفاً علی الاشکالات، هنا مناقشات نجیب عنها، و هی:

الأولیٰ: إنّ جملة «إذا جری من ماء المطر فلا بأس» و إن ْ هی شرطیة، و لکن شرطیتها تکون بصورة المحققه للموضوع، أی الشرط فیها مسوقٌ لبیان الموضوع، مثل قول القائل: «إن رُزقت ولداً فاختنه» حیث لا مفهوم له، و مثل قوله تعالی «وَ لا تُکْرِهُوا فَتَیاتِکُمْ عَلَی الْبِغاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً» حیث لا مفهوم لهذه الآیة، إذ لا یقال بأنهنّ إن لم یردن التحصّن فیجور للآباء حثهنّ علی البغاء، علی أنهنّ إن أردن ذلک فلا کراهة لهنّ حتّی یصدق المفهوم، و هکذا الحال فی المقام حیث أراد بیان کون الطهارة حاصلة مع الجریان، لکونه عاصماً، فیکون الحکم محققاً لموضوعه فلا مفهوم للخبر حینئذٍ، خصوصاً فی مثل الشرط فی الصحیحة الأولی من احتمال کون ذکر شرط الجریان لامکان أخذ الماء من المطر للوضوء، حیث لا یمکن بدونه، و إن کان هذا خارجٌ عن ما هو اللازم فی الجواب.

و الجواب الثانی: امکان أن یکون ذکر الشرط لأجل بیان أنّ حکم

ص:367

مطهریّة الوکوف و الترشح ثابتٌ فی حال جریان المطر لا مع انقطاعه، حیث إنّه بعد القطع لا یحکم بالطهارة، خصوصاً فیها إذ لا یزول حکم نجاسةٍ کثیرة و متکررة مثل البول و غیره بمجرد وصول المطر الیها، و علیه فنتیجة ذلک أنّ ترشحاته محکومة بالطهارة، إذا کان المطر نازلاً علی نحوٍ سال و جری منه الماء علی النجس.

أقول: ظهر من جمیع ذلک أنّ هذه الأخبار الثلاثه لا قدرة لها علی المقاومة و المعارضة مع ما استدلّوا به لقول المشهور، لأجل وجود الاحتمالات المذکورة، و قد اشتهر أنّه إذا جاء الاحتمال بطل الاستدلال.

مع أنّه لو سلّمنا معارضتها مع ما سبق، أمکن دفعها بوجود مرجّح فی مقابلها و هو کثرة عدد الروایات الدّالة علی کون حکم ماء المطر حکم ماء الجاری طاهراً و مطهراً، خصوصاً مع ملاحظة التعلیل فی خبر الکاهلی بأنّ: «کلّ شیءٍ یراه المطر فقد طهر» حیث انه علّة تامة تعمّ جمیع الصور التی ذکرناها.

نعم، نوقش فی شمولها لصورة القطرة و القطرات، بأنّه لا یصدق علیه ماء المطر حتّی یکون مطهراً، کما عن صاحب «الجواهر»، و لعلّه استخرج (الماء) بملاحظته مناسبة الحکم و الموضوع، و إلّا لیس فی التعلیل لفظ الماء، و لعلّ وجهه هو التشکیک فی صدق المطر علی القطرة و القطرتین، و هو غیر بعیدٍ.

و بالجملة: ظهر من جمیع ما ذکرنا أنّ ماء المطر حکمه یکون کالجاری، و أنّه سواءٌ جری حقیقةً أو حکماً أو لم یجر، فالماء النجس اذا

ص:368

وقع علیه المطر یطهر لاتصاله بالجاری، و هذا ممّا لا کلام فیه.

و الذی وقع البحث فیه هو أنّه هل یکفی فی طهارته مجرد وقوع قطرةٍ أو قطراتٍ علیه، و لو لم یمتزج، أو لابدّ فی طهارته من حصول الامتزاج؟ فیه وجهان بل قولان: فمن ذهب الی عدم اعتبار الامتزاج فی غیر المطر، ففی المطر أیضاً لا یقول، لأنّه یصیر بمنزلة الجاری و هو أولی بعدم الاعتبار.

و أمّا من ذهب الی اعتباره فی غیره، فهل یعتبر ذلک هنا أیضاً أو لا؟ الظاهر عدم الاعتبار، لأنّه المستفاد من التعلیل الوادر فی خبر الکاهلی بقوله: «کلّ شیءٍ یراه المطر فقد طهر»، حیث أنّ اطلاقه یدلّ علی تحقّق ذلک.

بل ربما استدلّ بقوله تعالیٰ فی سورة الأنفال: «وَ یُنَزِّلُ عَلَیْکُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً لِیُطَهِّرَکُمْ بِهِ وَ یُذْهِبَ عَنْکُمْ رِجْزَ الشَّیْطانِ» (1) و بالآیة الواردة فی سورة الفرقان: «وَ أَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً طَهُوراً» (2) بناءً علی أنّ دلالتها عامة تعمّ کیفیة التطهیر، و إلّا یشکل استفادة ذلک من الآیتین.

و کیف کان، إذا قلنا بأنّه بمنزله الجاری، و حکمنا بحصول الطهارة بمجرد رؤیة الماء مع النجس _ بحسب المستفاد من الحدیث _ فلا یبقی وجه لاحتمال عدم صدق الرؤیة إلّا بعد استیعابه لتمام الماء المتعذر ذلک بالنسبة الی التقاطر.

و علیه، فالأقوی عدم الاعتبار، و إن کان الأحوط اعتباره إن ْ امکن، هذا کلّه إذا کان المطر علی نحوٍ یصدق علیه أنّه قد رأی المطر عرفاً.


1- سورة الانفال، الآیة 11.
2- سورة الفرقان، الآیة 48.

ص:369

و أمّا اذا کانت الرؤیة بالقطر والقطرتین علی الماء النجس، فهل یکفی فی تطهیر الماء به أم لا؟

حَکی الشهید الثانی قدس سره فی «الروض» عن بعض معاصریه من السّادة الفضلاء (و قال صاحب «الحدائق» فی حاشیته علیه أنّه السید حسن بن السید جعفر المعاصر للشهید الثانی، علی المحکی فی «مصباح الهدی» للآملی) (1) الاکتفاء فی تطهیر الماء النجس بوقوع قطرةٍ واحدة علیه.

ثم قال الشهید قدس سره: «و هو لیس ببعید، و إن ْ کان العمل علی خلافه) انتهی.

قال صاحب «الجواهر» تعقیباً علی کلامه: «قلت: و هو کذلک بل قد یمنع کونه علی خلافه أو یسلّم و یمنع حجیّة مثله» انتهی.

و کلامه رحمة الله یدلّ علی قبوله لمقالة السیّد المذکور.

قلنا: لا یبعد کفایة القطرة و القطرتین فی التطهیر إذا صدق علیهما المطر عرفاً، و هو کما إذا کان المطر الجاری أکثر من القطره و القطرات، لکن انفصل منه القطرة فی حال صدق المطر، و وقع فی الماء المتنجس، لأنّه یصدق علیه عنوان «کلّ شیء یراه المطر فقد طهر»، و لأجل ذلک إن قبلنا أمکن الحکم بالطهارة، هذا التوجیه و إلّا یشکل حصول الطهارة بالقطرة الواحدة بلا تقاطر قویّ للمطر بعدها.

و قد أورد علیه صاحب «المعالم»: _ بما حاصله علی ما فی «مصباح الهدی» و قد أجاد فی تقریره و جوابه _ قال: «إن مقتضی طهارة الماء بمجرد الاتصال علی القول به، هو کون الجزء الملاقی للکثیر یطهر


1- مصباح الهدی، ج 1/131.

ص:370

بملاقاته له، و بعد الحکم بطهارته یتّصل بالجزء الثانی، و الجزء الثانی أیضاً متصلٌ بالکثیر و ملاقٍ له، فیطهر الجزء الثانی، و بعد الحکم بطهارته یتصل بالجزء الثالث و هو أیضاً ملاقٍ للکثیر فیطهر الجزء الثالث، و هکذا. و هذا الوجه لا یجری فی القطرة الملاقیه للماء المتنجّس، إذ اقصی ما یقال فی القطرة الواقعه أنّها تطهّر ما یلاقیها، و لا ریب فی أنّ الجزء الثانی بعده لا یکون ملاقیاً للکثیر العاصم لتحقّق الانقطاع، لأنّ المفروض أنّه لیس إلّا قطرة واحدة اتصلت بالجزء الأول، فهی بعد الاتصال به فی حکم القلیل، فلیس للجزء الأوّل الذی طهر بها مقوّ حینئذٍ لیستعین به علی تطهیر مایلیه، بل هو علی القطرة المتصلة به الملاقیة له حین الانقطاع ماءٌ قلیل، فیعود الی الانفعال بملاقاته للنجس الذی هو الجزء الثانی» انتهی.

ثم قال فی جوابه صاحب «المصباح»: «إن صحّة ما ذکره کما تری مبنیّة علی کون ملاقاة الجزء الأول للکثیر فی آنٍ و الجزء الثانی فی آنٍ بعد الآن الاوّل، و الجزء الثالث فی آنٍ بعد الجزء الثانی، و هکذا إذ علی هذا یصحّ أن یقال: إنّ الجزء الثانی فی الآن الثانی ملاقٍ للکثیر فیطهر به فی الآن الثانی کطهر الجزء الأول به فی الآن الاوّل بخلاف المقام، إذ لیس فی الآن الثانی قطرة ثانیة ملاقیة للجزء الثانی.

و لکن ذلک ممنوعٌ، بل الأجزاء المتلاصقة کلّها تطهر فی آنٍ واحد، و هو الآن الأوّل الذی طهر فیه الجزء الأول بملاقاته للقطرة، و مع فرض کون القطرة فی حکم الجاری فی حصول الطهر به، یحصل طهر جمیع الأجزاء بملاقاتها للجزء الأوّل بحسب الزمان، و إن کان بین طهرها ترتّب و تقدّم و تأخّر بالطبع أو بالعلّیة، فما ذکره لا یرد علی هذا القائل و إن ْ حکم ببطلان قوله».

ص:371

حکم صور تقاطر ماء المطر مع الواسطة

ثبت ممّا مضی أنّ کون حکم المطر حال تقاطره من السماء کحکم الجاری، ممّا لا اشکال فیه، هذا فیما إذا تقاطر منه و صبّ علی النجس مباشرة دون أن یلاقی فی طریقه شیئاً أو جسماً من الاجسام. حکم صور تقاطر ماء المطر مع الواسطة

إنّما الکلام و الاشکال یکون فیما إذا لاقی جسماً، فهل هو أیضاً یکون من الجاری أو یکون کالمتصل بالجاری، أو خارج حینئذٍ عن العاصمیّة، بل یدخل تحت ماء القلیل إن ْ کان أقلّ من الکرّ و إلّا له حکم الکرّ.

أقول: لا اشکال فی صدق الانقطاع و الخروج عن تحت ماء المطر فیما إذا وقع فی مکان یصدق علیه اسم الانقطاع عن المطر عرفاً، کوقوعه فی خابیةٍ و تُرک فی بیتٍ مثلاً، و أما إذا لم یکن کذلک، بل کان متعرّضاً و متهیّأً لوقوع التقاطر علیه، ففی «الجواهر» أنّ الظاهر جریان حکم الجاری علیه بنفسه، کملاقاته حال النزول بورقٍ من الشجر، فإنّه بنفسه کالجاری، و طهارته کان لأجله لا لاتصاله بالجاری أی القطرات الواقعه، و إلّا فهو فی حکم المنقطع کما صرّح بالثانی العلامة الطباطبائی فی مصابیحه، بل ظاهره ارسال ذلک من المسلّمات، فإنّه بعد أن ذکر حکم ماء المطر بعد الانقطاع من النجاسة لو کان قلیلاً، و عدمها لو کان کرّاً، و استدلّ علیه بالاجماع و الأخبار، قال: «و المراد بانقطاع المطر انقطاع تقاطره من السماء لا مطلقاً فلو انقطع کذلک ثُمّ تقاطر فی سقفٍ أو جدارٍ فبحکم الواقف، و کذا لو جری من جبلٍ أو أرضٍ منحدرةٍ بعد سکون المطر، و یحصل الانقطاع فی القطرات النازلة بملاقاتها لجسمٍ و لو قبل الاستقرار علی الارض، فلو لاقت

ص:372

فی الجوّ شیئاً ثُمّ سقطت علی نجسٍ نجست بالملاقاة ما لم تتقوّ باتصالها بالنازل بعدها» انتهی.

أقول: لا یخفی صراحة کلامه علی مخالفة ما قرّرناه بکون هذه الحالة متصلة بما کان و أنّه کحکم الجاری، فتکون هذه إحدی الحالات المتصوّرة للمطر، الموجب لاختلاف حکمه، فربما یزید علی الحالة التی أشرنا الیها _ بکونها هی مختار العلامة الطباطبائی _ صو و حالات ستة أخری، فلا بأس بذکرها کما أشار الیها المحقّق الآملی فی مصباحه.

الحالة الثانیة: هی حال اجتماعه بعد النزول مع التقاطر من السماء، و وقوع القطرات علیه، و هذا هو مختارنا و مختار جملةٍ من المحققین، و منهم صاحب «العروة»، إذ ماء المطر أعم من النازل من السماء و المجتمع منه بعد النزول، بشرط بقاء التقاطر علیه فعلاً، کما لا یخفی.

الحالة الثالثة: حال اجتماعه أیضاً بعد نزوله مع نزول قطرةٍ أو قطراتٍ علیه بما لا یصدق المطر علی ما یقع فیه، مع صدقه علی ما ینزل من السماء بما یقع فیه و فیما سواه.

الحالة الرابعة: حال اجتماعه أیضاً بعد نزوله، و إن ْ انقطع عنه التقاطر لحظةً مع تقاطر السماء علی ما سواه، و کونه معرّضا و متهیأً لوقوع التقاطر علیه، بحیث لا یصدق علیه اسم الانقطاع عرفاً.

ذهب صاحب «الجواهر» قدس سره الی أنّه أیضاً کالجاری، و استدلّ له باطلاق ما ورد من الأخبار فی حصول الطهر بماء المطر، کصحیح ابن سالم و مرسل الکاهلی المتقدمین، و لکن التمسک بهذین منوط علی صدق

ص:373

المطر علیه، و صدقه بعد الانقطاع مشکلًٌ.

الحالة الخامسة: حال اجتماعه بعد نزوله و انقطاع التقاطر عن السماء بالمرّة، فلا ینزل علیه و لا علی غیره، و لو کان هذا المجتمع معرضاً و متهیّأً لوقوع التقاطر علیه، لکنه لیس بتقاطرٍ حتّی ترد علیه.

الحالة السادسة: حال اجتماعه أیضاً بعد نزوله و بقاء التقاطر من السماء، لکن مع خروج المجتمع عن کونه معرّضاً و متهیأً لوقوع التقاطر علیه، کما إذا وضع فی ظرف من خابیة و نحوها، و ترک تحت سقفٍ من بیتٍ و نحوه بحیث لاتصل الیه القطرات النازلة.

الحالة السابعة: حال اجتماعه بعد نزوله عند انقطاع التقاطر عن السماء بالمرّة، و خروج ذاک المجتمع عن کونه معرّضاً لوقوع التقاطر علیه معاً. قال رحمة الله : «الحکم فی الحالات الثلاث الأخیرة کحکم الماء المحقون، و لا یشمله حکم الجاری، و لم ینقل فی ذلک خلافٌ عن أحدٍ». (1)

أقول: بعد ما أثبتنا مختارنا من عدم خروج التقاطر المتصادف فی الجوّ مع شیء من الاجسام عن حکم الجاری، یظهر صحّة حکم ما یستفاد من خبری المیزابین أیضاً من الطهارة و هما:

1. خبر محمّد بن مروان، عن أبی عبدالله علیه السلام ، قال: «لو أنّ میزابین سالا أحدهما میزاب بولٍ و الآخر میزاب ماءٍ، فاختلطا ثُمّ أصابک ما کان به بأس». (2)

2. خبر هشام بن الحکم، عن أبی عبدالله علیه السلام : «فی میزابین سالا أحدهما


1- مصباح الهدی، ج 1/133 _ 134.
2- وسائل الشیعة: الباب 5 من أبواب الماء المطلق ، الحدیث 6.

ص:374

و الماء الذی یُغسل به النجاسة نجسٌ، سواءٌ کان فی الغَسلة الأولی أو الثانیة، و سواءٌ کان متلوّناً بالنجاسة أو لم یکن، و سواءٌ بقی علی المغسول عین النجاسة أو نقی، و کذا القول فی الاناء

علی الأظهر(1)

بول و الآخر ماء المطر، فاختلط فأصاب ثوب رجلٍ لم یضرّه ذلک». (1)

فإنّ هذا الخبر یصیر مبیّناً لحدیث محمد بن مروان، لأنّ حمل میزاب الماء فیه علی الجاری من غیر المطر، و إن کان ممکناً لکنه بعیدٌ فی الجملة. و علیه فلا یضرّ الخبر بالمختار لصدق الجاری علیه مع اختلاطه مع البول أیضاً، فیکون هذین الخبرین مؤیدین للمختار کما لا یخفی للمتأمّل.

و بالجملة: إذا ثبت کون حکم ماء المطر کحکم الجاری دون القلیل، یظهر حکم کیفیّة تطهیره، و أنّه یکون مثل تطهیر ماء الجاری من عدم

حاجته الی العصر أو التعدد أو نحوهما، لأن هذه شروط لطهارة الماء القلیل دون الغیث و الجاری، إذ لا نجاسة فی غسالته، و إن کان قلیلاً بخلاف الماء القلیل کما سیاتی، و الله العالم. حکم ماء الغُسالة

حکم ماء الغُسالة

(1) المشهور بل الأشهر بین المتأخّرین أنّ غُسالة ماء القلیل نجسٌ فی تمام الصور المذکورة فی المتن، بل و کذا غُسالة الاناء عند المصنّف لا عند الشیخ، لأنه حکم بطهارة الغسلتین فی اناء الولوغ، و فی الغَسلة الثانیة فی غیره علی ما حُکی عنه. و لکن مختارنا فی مبحث الغُسالة الذی قد مضی فی محلّه


1- وسائل الشیعة: الباب 6 من أبواب الماء المطلق ، الحدیث 4.

ص:375

و قیل فی الذنوب اذا القی علی نجاسة علی الارض یطهر الارض مع بقاءه علی طهارته(1)

بصورة بسیطه هو النجاسة، بلا فرقٍ بین الغَسلة المزیلة لعین النجاسة و غیرها، و بلا فرق بین کون الغَسلة المطهرة واحدة أو غیر واحدة، و بلا فرقٍ فی کون الغسلة للأناء أو غیرها، بعد التسالم بین الأصحاب من انفعال ماء القلیل بمجرد ملاقاته مع النجس، و التسالم بینهم بحصول الطهارة للماء المتخلّف فی المحلّ بعد حصول طهارته، و قد مضی تفصیل الدلیل علی مختارنا فی محلّه فلا نعید.

و الأقوال فی حکم هذه المسألة کثیرة، بل انهاها «الجواهر» الی العشرة، و العمدة فیها قول القائلین بالطهارة مطلقاً أو النجاسة کذلک، و القول بالنجاسة فی الأولی دون الثانیة إن احتیج الی التعدّد کما هو مختار صاحب

«الجواهر»، حیث قال: «و لا عندنا لما تقدّم سابقاً أنّ الأظهر طهارة ما له مدخلیّة فی نفس تطهیر المتنجّس من ماء الغُسالة من غیر فرقٍ بین الاناء و غیره، و الغَسلة الأخیرة و غیرها بناءً علی مدخلیتهما معاً فی الطهارة، و الّا اختصّ بالأخیرة کما قوّاه العلّامة الطباطبائی فیما حَضَرنی من نسخه منظومته، فقال:

و طُهر ما یَعْقِبه طُهر المحلّ

عندی قوّیٌ و علی المنع العَمَل

(1) و هذا هو أحد الأقوال فی المسالة الذی ذهب الیه الشیخ فی «الخلاف»، و صاحب «السرائر» و «اللّوامع»، بل هو کصریح «مجمع البرهان» و ظاهر «الذکری»، بل و «المدارک» من خصوص تطهیر الأرض

ص:376

النجسه بالبول بجمل ذلک فی الذّنوب و نحوه علی الماء القلیل الذی قد ورد فی روایةٍ سنذکرها.

و الذنوب: بفتح الذال کما فی «مجمع البحرین» هو الدلو العظیم، و لا یقال له الذنوب إلّا إذا کان فیه الماء بالملائی أو دون الملائی کما فی «القاموس».

و تمسکوا فی حکم المسألة بروایة مرسلة عامّیة نقلها أبو هریرة عن النبی صلی الله علیه و آله کما أشار الیه ابن ادریس، و الروایة التی نقلها العینی صاحب «عمدة القاری فی شرح البخاری» هی هکذا (1): و روی أبو هریرة، قال: «دخل أعرابی المسجد فقال: اللّهم ارحمنی و محمّداً و لا ترحم معنا أحداً! فقال له رسول الله صلی الله علیه و آله : أعجَزتَ واسعاً، قال: فما لبث أن بال فی ناحیة المسجد، و کأنّهم عجّلوا الیه فنهاهم النبیّ صلی الله علیه و آله ، ثُم أمر بذنوبٍ من ماءٍ فأهریق علیه، ثم قال: اعلموا و یَسّروا و لا تُعسّروا».

و یرد علیه أولاً: بأنّ ناقلها أبو هریرة، و هو الذی أقرّ أبا حنیفة بکذبه و رَدّ روایاته، بل عن بعضهم أنّهم لا یقبلون روایاته فی معالم الحلال و الحرام، و إنّما یقبلونها فی مثل أخبار الجنة و النار.

ثانیاً: إنّه مع ضعف سندها لا تنهض حجّةً لاثبات حکمٍ مخالفٍ للقواعد، لکونها إخباراً عن قضیّة فی واقعه مجملة الوجه، فلعلّ المکان الذی أمر النبی صلی الله علیه و آله بصبّ الماء علیه ممّا ینحدر عنه غُسالته الی خارج المسجد، کما یؤمی الی ذلک جملة: «فی ناحیة المسجد» التی تکون غالباً واقعة فی جهة مشرفة علی الزقاق، کما هو المتعارف فی زماننا، أو لعلّها


1- عمدة القاری فی شرح البخاری للعینی، ج 1/884.

ص:377

کانت مشرفة علی البالوعة و نحوها، أو کان رملاً یطهر ظاهره باجراء الماء علیه، و لم یکن الواجب إلّا طهارة ظاهر المسجد، و الّا یشکل ذلک إذ کان الأمر بالصَّبّ لتوفیر القلّة و استهلاک العین، لأنّ تجفّفها الشمس، و لعلّ منه بالاشعار ما فی صحیح ابن سنان (1)، و خبر أبی بصیر (2) بعد السؤال عن الصّادق علیه السلام عن الصلاة فی البیع و الکنائس و بیوت المجوس، قال علیه السلام : «رشّ و صلّ» بناءً علی الظاهر منه من کون ذلک للتطهیر لا تعبداً، و لا لأجل ازالة النضرة أو دفع الوسواس بفعل ما ینبغی أن یترکه و غیر ذلک من المحتملات.

و کیف کان، لا یمکن رفع الید عن مقتضی القواعد المقرّرة الثابته بین الأصحاب بمثل هذه الروایة ذات الاحتمالات العدیدة، مع ثبوت الانجبار بعمل الأصحاب، لما ثبت من قیام الشهرة علی القول بنجاسة الغُسالة کما هو مختارنا، کما اعترف به صاحب «الجواهر» فی آخر کلامه، إذ قال: «الانصاف أنّ المعروف بین القائلین بنجاسة الغُسالة و عدم قابلیته الأرض للطهارة بالقلیل عدم الفرق...»، و الله العالم.

* * *


1- وسائل الشیعة: الباب 13 من أبواب مکان المصلی، الحدیث 2.
2- وسائل الشیعة: الباب 14 من أبواب مکان المصلی ، الحدیث 3.

ص:378

القول فی الأوانی

و لا یجوزُ الأکل و الشّرب من آنیةٍ من ذهب أو فضّة(1).

(1) قد جرت العادة بین الفقهاء علی التعرّض لما یتعلّق بالأوانی من حیث الحرمة و الکراهة ذیل هذا المبحث استطراداً، و نحن نقتضی تبعاً للمصنّف أثرهم، فنقول و من الله الاستعانة: حرمة الأکل و الشرب من آنیة الذّهب و الفضه اجماعی منّا، بل و عن کلّ من یُحفظ عنه العلم، عدا داود فحرّم الشرب خاصة (1) دون الأکل، و الاجماع تحصیلاً و منقولاً مستفیضٌ لو لم یکن متواتراً کالنصوص به من الطرفین، من العامة و الخاصة:

فأمّا عن العامّة:

1. الروایة النبویّة صلی الله علیه و آله : «لا تشربوا فی آنیة الذهب و الفضة و لا تأکلوا فی صحافها (2) فإنّها لهم فی الدّنیا و لکم فی الآخرة». (3)

2. الروایة المرتضویة عن طریقهم: «الذی یَشرب فی آنیة الذهب و الفضه إنّما یجرّ جر (4) فی بطنه نار جهنم». (5)


1- حلیة العلماء، ج 1/121؛ المجموع، ج 1/249.
2- الصحاف: القصاع، و مفردها الصحفة کالقصعة الکبیرة، منبسطة تشبع الخمسة. راجع: «مجمع البحرین».
3- کنز العمال، ج 8/16، الرقم 362.
4- الجرجوة صوت وقوع الماء فی الجوف أو الحلق «الغریبین» للهروی، ج 1/332 مادة: جرر.
5- المستدرک، ج 1، الباب 40 من أبواب النجاسات، الحدیث لکن رواه عن النبی صلی الله علیه و آله.

ص:379

و عن جماعةٍ من التصریح باتفاق المسلمین علی حرمة الأکل و الشرب فیها، لکن حکی صاحب «الوسائل» عن الأصحاب أنّهم نقلوا القول بعدم الحرمة عن جمعٍ من العامّة، و لذا احتَمل جَری بعض الأخبار الآتیه التی وقع فیها التعبیر بالکراهة مجری التقیة. حکم أوانی الذهب والفضة

و أما لأخبار الواردة عن طریق الخاصة: فهی مستفیضة بل متواترة مع تعابیر مختلفة دالّة علی الحرمة:

منها: صحیح الحلبی، عن الصادق علیه السلام ، قال: «لا تأکل فی آنیةٍ من فضة و لا فی آنیة مفضضّة». (1)

و منها: روایة داود بن سرحان، عن أبی عبدالله علیه السلام ، قال: «لا تأکل فی آنیة الذهب و الفضة». (2)

و منها: روایة محمد بن مسلم، عن أبی جعفر علیه السلام : «أنّه نهی عن آنیة الذهب و الفضة». (3)

و منها: الروایة الصحیحة لما قیل إنّ الصدوق رحمة الله رواها عن أبان عنه الظاهر منه أنه ابن عثمان و طریقه الیه صحیح _ للصدوق، و هی عنه علیه السلام : «لا تأکل فی آنیة ذهبٍ و لا فضة». (4)

و منها: روایة موسی بن بکر، عن أبی الحسن موسی علیه السلام ، قال: «آنیة الذهب و الفضة متاع الذین لا یوقنون». (5)


1- وسائل الشیعة: الباب 66 من أبواب النجاسات، الحدیث 1.
2- وسائل الشیعة: الباب 65 من أبواب النجاسات ، الحدیث 2 _ 3 _ 7.
3- وسائل الشیعة: الباب 65 من أبواب النجاسات ، الحدیث 2 _ 3 _ 7.
4- وسائل الشیعة: الباب 65 من أبواب النجاسات ، الحدیث 2 _ 3 _ 7.
5- وسائل الشیعة: الباب 65 من أبواب النجاسات ، الحدیث 4

ص:380

و مثله ما رواه الصدوق مرسلاً عن النبیّ صلی الله علیه و آله أنه قال: «آنیة الذهب... الی آخره». (1)

و منها: فی حدیثه الآخر عن الحسین بن زید، عن جعفر بن محمّد، عن آبائه علیهم السلام فی حدیث المناهی، قال: «نهی رسول الله صلی الله علیه و آله عن الشرب فی آنیة الذهب و الفضة». (2)

و منها: روایة عبدالله بن جعفر، فی «قُرب الاسناد» عن هارون بن مسلم، عن مسعدة بن صدقه، عن جعفر بن محمّد، عن أبیه علیهم السلام: «أنّ رسول الله صلی الله علیه و آله نهاهم عن سبعٍ منها الشُّرب فی آنیة الذهب و الفضة». (3)

أقول: هذا لأخبار بأسرها مشتملة علی النهی إمّا بصیغة (لا تأکل) أو بلفظ النهی مثل: «نهی رسول الله» و نحوه، أو إفهام کونه منهیّاً عنه بجملة (أنّها متاع الذین لا یوقنون). و فی بعض الأخبار ورد بلفظ الکراهة، أو لا ینبغی، و هو مثل الخبر الذی رواه محمد بن اسماعیل بن بزیع فی الصحیح، قال: سألتُ أبا الحسن الرضا علیه السلام عن آنیة الذهب و الفضة فکرهمهما، فقلت: قد روی بعض أصحابنا أنّه کان لأبی الحسن علیه السلام مرآة ملّبسة فضّة؟ فقال: لا و الله إنّما کانت لها حلقة من فضّة و هی عندی. ثم قال: إنّ العباس حین عذر (4) عَمِل له قضیبٌ ملّبس من فضّة من نحو ما یعمل للصبیان تکون


1- وسائل الشیعة: الباب 65 من أبواب النجاسات ، الحدیث 8 _ 9.
2- وسائل الشیعة: الباب 65 من أبواب النجاسات ، الحدیث 8 _ 9.
3- وسائل الشیعة: الباب 65 من أبواب النجاسات ، الحدیث 11.
4- فی الحدائق، ج 5/505 العذر بالعین المهملة ثم الذال المعجمة بمعنی الاختتان، «مجمع البحرین» مادة عذر.

ص:381

فضّته نحواً من عشرة دراهم، فأمر به أبوالحسن علیه السلام فکسِر». (1)

و أیضاً: خبر برید عن أبی عبدالله علیه السلام : «أنه کره الشرب فی الفضة و فی القدح المفضّض، و کذلک أن یُدهن فی مدهن مفضّض و المشطة کذلک». (2)

و أیضاً: روایة سماعة بن مهران، عن أبی عبدالله علیه السلام ، قال: «لا ینبغی الشرب فی آنیة الذهب و الفضة». (3)

و أیضاً: روایة یونس بن یعقوب، عن أخیه، قال: «کنتُ مع أبی عبدالله علیه السلام فی الحِجْر فاستسقی ماءً فأتی بقدحٍ من صِفْر، فقال رجلٌ إنّ عبّاد بن کثیر یکره الشُّرب فی الصِفر، فقال: لا بأس و قال علیه السلام للرّجل ألا سألته أذهبٌ هو أم فضه». (4)

هذه هی الأخبار الواردة فی هذه المسألة، فطائفة منها مشتملة علی النهی بصیغته، أو بلفظٍ نصّ فی الحرمة فی الأکل و الشرب، و أمّا بالنسبة سائر الاستعمالات فبعضها تدلّ بالاطلاق مثل ما فی روایة موسی بن بکر و مرسل الصدوق بأنهما (متاع الذین لا یوقنون) حیث باطلاقه یشمل جمیع الاستعمالات، فلا اشکال فی دلالته علی المرجوحیّة القابلة للانطباق علی الحرمة و الکراهة، إلّا أنّ الأول هو أقرب، کما یستفاد ذلک من حدیث برید حیث قال بعد ذکر کراهة الشرب فی الفضّة و القدح المفضّض: «کذلک أن یدهن فی مدهن مفضّض و المشطته کذلک»، فدلالته علی


1- وسائل الشیعة: الباب 65 من أبواب النجاسات ، الحدیث 1.
2- وسائل الشیعة: الباب 66 من أبواب النجاسات ، الحدیث 2.
3- وسائل الشیعة: الباب 65 من أبواب النجاسات ، الحدیث 5.
4- وسائل الشیعة: الباب 65 من أبواب النجاسات ، الحدیث 6.

ص:382

الحرمة موقوفة علی کون الکراهة فی العرف السابق من عصر الائمة علیهم السلام مستعملة فی الکراهة الاصطلاحیة، و هو غیر معلوم، و لاجل ذلک قال صاحب «المجمع»: «لو لا الاجماع لکان القول بالکراهة حسناً».

و لکن نحن نقول: إنّ الظهور فی الکراهة لم یکن علی نحو یوجب صرف الأخبار الدالة علی حرمة الشرب فی الآنیة عنهما من الحرمة الی الکراهة المصطلحة، کما أنّه لیس فی الظهور فی الکراهة المصطلحة علی نحوٍ لا یمکن صرفها الی الحرمة، و علیه فاستعمال لفظ کره یکره فی الدلالة علی احداهما منوط بوجود قرینة مرشدة الی ذلک، و هی فی المقام تفید أنّ الحرمة أولی من الکراهة لکثرة الأخبار المصرّحة فی الحرمة خصوصاً فی الشّرب.

نعم، الذی کان ظهورها فی الکراهة الاصطلاحیة أولی و هو جملة (لا ینبغی) الوادرة فی روایة سماعة بن مهران فی خصوص الشرب، و لکنه غیر قادر علی المقاومة و المعارضة مع الأخبار الکثیره الدّالة علی الحرمة، خصوصاً فی الشرب المذکور فی بعض الأخبار بالخصوص، فإذا صار جملة (الکراهة) المذکورة فی الأخبار بمعنی الحرمة فی مثل الأکل و الشرب، فهکذا یکون فی سائر الاستعمالات مثل الدهن و المشطة و القضیب و غیرها لأجل وحدة السیاق، خصوصاً مع ملاحظة قیام الشهرة بین الأصحاب بالحرمة، بل فی «الجواهر»: «لا أجد فیه خلافاً»، کما نفی الخلاف فی «الحدائق» أیضاً، بل معقد نفی الخلاف فی «کشف الرموز» هو فی الاستعمال، بل قال فی «التحریر» بعد ذکر الحرمة فی الاستعمال

غیر الأکل و الشرب: (عندنا) المشعر بوجود الاجماع علیه، کما فی

ص:383

و لا یجوز استعمالها فی غیر ذلک(1)

«المنتهی»: «عند علمائنا و الشافعی و مالک» بل معقد اجماع «اللّوامع» الاستعمال، بل فی «التذکرة»: «یحرم استعمال المتّخذ من الذهب و الفضة فی أکلٍ و شربٍ و غیرها عند علمائنا أجمع، و به قال أبوحنیفة و مالک و أحمد و عامّة العلماء و الشافعی فی الجدید» و لذلک یلاحظ أنّ المصنف یجزم بعدم الجواز فی سائر الاستعمال، و صرّح بذلک فی الجملة القادمة.

(1) نعم ما ورد فی کلمات بعضهم کالصدوق و المفید و سلّار و الشیخ من الاقتصار علی الأکل و الشرب دون غیرهما فممنوعٌ إن أرادوا الحصر فیهما، لأنّه بعیدٌ لامکان أن یکون وجه ذکرهما هو کثرة الابتلاء بهما فی ذلک الوقت فی الاستعمالات العرفیّة.

نعم، قد یمکن التفصیل بین الأکل و الشرب فی الحرمة، حیث إنّه مورد اتفاق الفریقین، و بین غیر الأکل و الشرب کالخبر المروی عن الخنجر فیما یصدق علیه اسم الآنیة من المکحل و الغالیة، فربما یکون حراماً لشمول أدلة الآنیة لمثله، کالخبر المروی عن محمّد بن مسلم، و بین ما إذا لم یکن کذلک مثل قِراب السیف و الخنجر و السکین، فاثبات الحرمة لمثلها لا یخلو عن تأمّل، غایة الأمر هو الکراهة.

و علیه یمکن حمل خبر علی بن جعفر فی الصحیح عن أخیه موسی بن جعفر علیهما السلام ، قال: «سألته عن المرآة هل یصلح إمساکها إذا کان لها حلقة فضّة؟ قال: نعم، إنّما یکره استعمال ما یشرب به» علی صورة الاقتناء بأن

ص:384

یکون ذلک جائزاً لکن مکروهاً لاجل اطلاق بعض الأخبار مثل ما جاء فی خبر ابن بزیع من کون قضیب ملبّس من فضّة قد أتی للعباس لختانه، فکسره أبو الحسن علیه السلام ، خصوصاً مع ملاحظة کلام الرضا علیه السلام من نفیه أن تکون مرآة أبی الحسن علیه السلام ملّبساً بالفضّة فضة و نظائر ذلک، حیث یفهمنا مرجوحیّة الاقتناء أیضاً فضلا عن الاستعمال. حکم ما فی الآنیة

البحث عن حکم ما فی الآنیة

بعد ما ثبت حرمة الأکل و الشرب فی آنیة الذهب و الفضة، یقع الکلام عن أنها هل توجب حرمة نفس المأکول و المشروب أم لا؟ فیه وجهان بل قولان أو ثلاثة:

1. قول و هو المحکی عن الشیخ البهائی قدس سره و وافقه صاحب «الجواهر» و نسبه الی الأکثر، کما علیه صاحب «العروة».

2. و قولٌ لبعض أصحاب التعلیق علی «العروة» و هو الثانی من التمسک بأصاله الحِلّ السالم عن المعارض، باعتبار أنّه لا دلیل علی حرمة نفس المأکول و المشروب، و الیه ذهب الشیخ المفید، بل هو اللائح عن کلام أبی الصلاح، و ربما یظنّ الایماء الیه فیما اشتهر من قول النبی صلی الله علیه و آله أو الولی علیه السلام من أنّ من شرب فی آنیة الفضة جُرجر فی النار یوم القیامه، و إن أوّله صاحب «الجواهر» تبعاً للشهید فی «الذکری» بأنّه محمول علی أنه سببُ فی دخول النار لامتناع ارادة الحقیقه، مع أنّ ظاهر الجملة کون نفس المأکول حراماً، نظیر قوله تعالی الوارد فی أکل مال الیتیم: «إِنَّما یَأْکُلُونَ فِی بُطُونِهِمْ ناراً» لا کونه سبباً لأکل النار، و صحّة تحقّق ذلک معقولة مع

ص:385

الالتزام بتجسّم الاعمال کما قرّر فی محله.

و القول الثالث: احتمالاً لو لم یکن هو القول الثانی ما ذهب الیه العلّامة الطباطبائی من حرمة نفس المأخوذ بحکم الحاکم الجائر حیث ورد فیه أنّه سحتٌ، هذا.

و القول الثالث: لو لا سابقه و إلّا کان رابعاً، هو ما ذهب الیه المحقق الآملی رحمة الله حیث قال: «و الانصاف أنّ موضوع المسألة غیر محرز، و التحقیق أن یقال بحرمة ما فی الآنیة مادام أنّه فیها، و عارضٌ علیه هذا العنوان الثانوی، أعنی کونه فی آنیة الذهب أو الفضة، فمادام کونه فیهما یکون الأکل محرّماً و تکون حرمته بهذا العنوان ذاتیة له، أی عارضة له بلا واسطة فی العروض، و إنّه بما هو هو لا یکون محرماً و إن عرض علیه بما هو هو تکون حرمته عرضیة، أی ممّا له واسطة فی العروض، بمعنی أنّه بعروض عنوان کونه فی الآنیة یصیر ممّا یحرم أکله أو شربه، و لا منافاة بین حلیّة شیء بعنوانه الأولی و عروض الحرمة علیه بعنوانٍ طارٍ علیه، و جمیع ما یحرم بالعناوین الثانویة لیس إلّا من هذا القبیل، و بذلک یندفع ما فی «الجواهر» من أنّ ذلک _ أی تعنونه بعنوان کونه فی الآنیة _ لا یقتضی الذاتیه التی یُراد بها کون الأکل منهیاً عنه لنفسه کالمیتة و لحم

الخنزیر» انتهی. (1)

قلنا: الحق هو ما ذهب الیه الشیخ البهائی رحمة الله ، و وافقه صاحب «الجواهر» و «العروة»، و أکثر أصحاب التعلیق إن لم یکن کلّهم، بأنّ ما


1- مصباح الهدی، ج 2/473.

ص:386

یکون فی الآنیة هو بنفسه عنوان ثانوی بلحاظ عروض هذا العارض، برغم أنّ حکمه بالحرمة من ناحیة الشرع متصفٌ بهذا العنوان، إلّا أنه لا یجعله کحرمة لحم المیتة و لحم الخنزیر حیث تکون حرمتهما ذاتیة بلا عروض عارضٍ، فمجرد کون موضوع الحکم واردٌ فی لسان الشرع لا یجعله ذاتیاً، و إلّا لکان حکم المغصوب المحرّم أیضاً ذاتیاً لا عرضیاً، مع أنه لیس کذلک، لوجود الفرق بین الموردین، فحکم الأول من جهة أنّ العرضی حکمه مادامی، أی مادام العنوان عارض یکون الحکم ثابتاً، بخلاف الذاتی حیث أنه دائمی، و من المعلوم أنّ حکم حرمة الأکل و الشرب فی الآنیة من القسم الأوّل لا الثانی، برغم أنّ أصل الجعل فی کلیهما منسوبٌ الی الشارع، لکنه لا یوجب صیرورته ذاتیاً.

و علیه، فما أورد علیه المحقّق الآملی لا یمکن أن یکون رداً علی صاحب «الجواهر»، بل لعلّ مراده کمراده واحداً. فروع باب الأکل و الشرب من الآنیتین

فروع باب الأکل و الشرب من الآنیتین

الفرع الأول: لو أفطر بواسطة الأکل من آنیة الذهب و الفضة فی صوم شهر رمضان، هل یجب علیه کفارة واحدة لأجل أصل الصوم، أم علیه کفارة الجمع لوجهین: من کفارة الصوم و کفارة أکل الحرام مثل ما هو ثابتٌ فیما لو أکل لحم المیتة فی صوم شهر رمضان حیث أنّه تجب علیه کفارة الجمع؟

أقول: ما ذکرنا یعدّ احدی الثمرات المترتبة علی القولین: من لزوم کفارة واحدة أو متعددة علی القول الآخر، و هنا ثمرات أخریٰ لا بأس

ص:387

بذکرها فلفقهائنا تحقیقات فی هذا المجال:

منها: أنّهم ذکروا نقضاً علی من اختار الحرمة الذاتیه، بأنّه یلزم من ذلک بقاء الماکول و المشروب علی حرمته، حتّی و لو نقل من الآنیة الی آنیةٍ أخری من غیر النقدین، و هو لیس إلّا لاجل کون حرمته ذاتیة، مع أنه واضح الفساد.

قال صاحب «الجواهر» ما خلاصة: هذا النقض غیر وارد حتی و إن قبلنا هذا القول، لوضوح أنّه لم یقصد من قال بحرمته الذاتیة إلّا بما وجّهه المحقق الآملی إن قبلنا کلامه، و اعتبرناه تفسیراً جدیداً فی الذاتیة. نعم، یصحّ هذا النقض لو أرادوا من الحرمة الذاتیة کحرمة لحم الخنزیر، و هذا هو الأقرب بمرادهم، لأنّهم ارادوا النقض بحسب مصطلحهم لا بما قال به الآملی رحمة الله من التوجیه.

هذا کلّه إن جعلنا الأکل و الشرب عبارة عن البلع و المضغ و الازدراد، و أمّا إن جعلنا ملاک الحرمة فیهما هو خصوص الأخذ و التناول حتّی فی مثل الأکل و الشرب تنزیلاً للنهی عنهما علی ارادة الاستعمال، ضرورة عدم الفرق بینهما و بین غیرهما من انواع الاستعمال، فلا وجه حینئذٍ لتصور الحرمة فی نفس المأکول و المشروب، بل هذا هو ظاهر الاصحاب، هذا کما فی «الجواهر».

أقول: الانصاف أن یقال إنّ وجه الحرمة علی ذلک یکون بواسطة أحد العنوانین: تارة: بما أنّه استعمال لآنیة الذهب و الفضة الذی یصدق علیه الأخذ و التناول.

و آخری: بما أنّه أکلٌ و شربٌ من الآنیة.

ص:388

و الفارق بینهما یظهر فی موردین أو أزید، و هو: لو قلنا بأنّ الاستعمال بنفسه حرامٌ و لو لم یصدق علیه الأکل و الشرب، یلزم منه أن یکون نفس الأخذ من ما فی الاناء حراماً، و لو لم ینطبق علیه عنوان الأکل و الشرب، کما لو أخذ للمضمضة و الاستنشاق، هذا بخلاف ما لو قلنا بأنّ المحرّم هو الأکل و الشرب منهما، أو الاستعمال، فیلزم منه أنه لو أخذ بقصد الأکل و الشرب لکنه لم یأکل و لم یشرب لسبب من الأسباب، لم یرتکب حراماً، نظیر ما لو أخذ للمضمضة و غیرها، هذا أحد وجهی الفرق بین الوجهین.

و الفرق الآخر: أنّه یظهر فیما لو أخذ بقصد الأکل و الشرب، لکن قد یتفق له الأکل و قد لا یتفق: فعلی الأوّل: یکون قد ارتکب الحرام قطعاً، لاجل انطباق کلّ واحدٍ من العنوانین علیه من الاستعمال و الأکل أو الشرب، هذا بخلاف الثانی فإنّه یکون مرتکباً للحرام علی القول بالحرمة فی مطلق الاستعمال إن صدق علیه ذلک، کما لو مضغ أو استنشق، و إلّا فلا.

و أمّا بالنسبة الی نفس المأکول أو المشروب فلا یکون حراماً بنفسه، و لو قلنا بحرمة مطلق الاستعمال، کما لا یخفی.

و منها: أی من الثمرات بین القولین هو وجوب القیء علیه بناءً علی القول بالحرمة الذاتیه، بخلاف الآخر کما أشار الیه صاحب «الجواهر» حیث رتّب علی مختاره من عدم حرمة المأکول و المشروب: أنّه لا یجب علیه قیئه و إن تمکن منه، کما صرّح بذلک صاحب «کشف الغطاء» أیضاً.

و لا اخراجه من فیه، بل و لا القاءه من یده بعد التوبة و الندم علی اشکالٍ:

و منها: وجوب الاستفراغ و القیء لو کان المأکول أو المشروب

ص:389

حراماً، بخلاف الآخر لأنّ الأخذ من الآنیة حرامٌ لکنه لا یوجب وجوب الاستفراغ لعدم حرمة نفس المأکول کما هو الحال فی المیتة و لحم الخنزیر، و الذی صرّح به صاحب «الجواهر» هنا هو الثانی و حکم بأنّه لا یجب استفراغه.

أقول: و الحق هنا هو عدم الوجوب، لأن الاحکام تابعة لموضوعاتها، فما لم یثبت الموضوع و لم ینقّح لم یثبت حکمه، و هنا بعد استقرار الطعام أو الماء فی البطن لا یصدق علیه أنّه فی آنیة الذهب و الفضة حتّی یکون حراماً، بل کان قبل ذلک مستقراً، لکنه خرج منهما و استقرار فی البطن و حینئذٍ یکون قد خرج عن موضوعه الأوّل، و داخلٌ تحت موضوعٍ آخر و هو الاستقرار فی البطن، فلا معنی حینئذٍ لوجوب الاستفراغ.

لا یقال: إنّه لو کان الأمر کما ذکر، لزم أن لا یکون الاستفراغ واجباً فیما أخذ عن طریق القمار و أکل، مع أنّ المرویّ من الامام علیه السلام خلاف ذلک، فقد جاء فی الخبر المروی عن الکاظم علیه السلام الذی رواه عبدالحمید بن سعید، قال: «بعث أبوالحسن علیه السلام غلاماً یشتری له بیضاً فأخذ الغلام بیضةً أو بیضتین فقامر بها، فلما أتی به أکله. فقال له مولی له: إنّ فیه من القمار، قال: فدعا بطشتٍ فتقیّاً فقاءه». (1)

فانه یقال: إن الملاک فی حرمة التناول هو ملاحظة مفسدة صیرورته جزءاً للبدن، الموجب لترتب الآثار النفسانیة السیئة، فإذا أمکن حینئذٍ من اخراجه حتی لا یصیر جزءاً للبدن کان ذلک واجباً، فکما یحرم ادخاله


1- وسائل الشیعة: الباب 35 من أبواب ما یحتسب به ، الحدیث 2.

ص:390

کذلک یحرم ابقائه، و هذا ممّا یساعده الاعتبار.

لکن نقول أولاً: الأقوی هو عدم الوجوب، لأنّ الخبر لا یدلّ علی أنّ حکم المأکول مثل حکم المأخوذ بالقمار، بل المذکور فیه هو مقامرة الغلام بالبیص الذی اشتراه بأمره علیه السلام فأخبره المولی بأنّ فیه من القمار، و هو لا یفید أنّ المقبوض هو الذی أخذ بالقمار.

و ثانیاً: علی فرض قبول ذلک، فلا دلالة فی فعله علیه السلام علی الوجوب، و لعلّ قیئه مع عدم حرمة تناوله علیه کان لمنافاة ابقائه مع قول مولاه بأنّ فیه من القمار بملاحظة مقام امامته لا من جهة حرمة أکله و لا وجوب قیئه علی تقدیر حرمة أکله، اذ کثیراً ما لا ینبغی صدور بعض ماینافی المروّة عن الأعاظم، فضلاً عن الامام علیه السلام ، بمعنی أنّ نفس قول المولی بأنّ فیه من القمار أوجب الاستفراغ علیه، لا لأجل حرمة المأکول، بل لأجل دفع التوهم بأن لا یقال إنّه علیه السلام لم یرتّب الأثر علی کلامه، مع أنّه سمع بحرمته. و علیه فاستفادة وجوب الاخراج و الاستفراغ مع عدم معلومیة الداعی مشکلٌ جداً، خصوصاً مع ملاحظة اشتمال الحدیث بما یفید جهل الامام حین الأکل بذلک الذی ینافی مع علم الامام کما لا یخفی، فلعلّ ذلک یوجب کون ما ذکر أقرب المحامل له حتّی لا یوجب ما ینافی علم الامام إذا قلنا بحرمة أکله، بأن یکون اجتناب الامام فی المقام مثل الاجتناب عمّا فیه من القمار، فیصیر عمله علیه السلام دلیلاً علی محبوبیة الاجتناب عمّا هو کذلک.

هذا تمام الکلام فیما إذا أکل و شرب ممّا فی آنیة الذهب و الفضه.

و منها: ما لو ندم و ناب بعد الأخذ من الآنیة، و کان فی یده أو بعد

ص:391

وضعه فی فمه قبل بلعه و شربه، ففی وجوب القائه عن یده أو عن ما فی فیه وجهان: المحکی عن کاشف الغطاء هو الوجوب، لأنّ شخص هذا الفعل وقع محرماً، و لا ینقلب عمّا هو علیه بالتوبة، فیجب القائه، و لعلّ

هذا هو الأوجه.

اللّهم إلا أن یضع و یرجع و ذلک بجعله فی آنیة آخری غیر آنیة النقدین ثم یأکل منه، لأنّ التوبة توثر فی حکم العمل، و المفروض أنّ هذا الأخذ و الرفع و الوضع فی الفم أو الید کان مصداقاً لما أخذ من الآنیة المحرّمة، و یصدق علیه الاستعمال الذی فرض کونه حراماً بنفسه لو لا الأکل، فلا یزول هذا إلّا بهدم ذلک بوضع الطعام فی آنیة آخری و الأخذ منها.

نعم، إن قلنا بأنّ الحرام هو الاستعمال المتعقب بالأکل لا مطلقاً، لأنّ حرمته کان لأجل الاکل و الشرب، فإذا تاب و ندم و لم یأکل، فلا حرام، لعدم مقدمیته کان صحیحاً. لکنه خارج عن الفرض، لأنّ المفروض اثبات جواز أکله و عدم وجوب الالقاء، و علیه فاثبات الجواز مشکل إلّا بما قرّرناه من تغییر الاستعمال و ارجاعه الی آنیة آخری و الأخذ منها لیصیر الأکل حینئذٍ جائزاً لتبدیل موضوع الحکم، فلیتأمّل.

أقول: و من ذلک ظهر أنّ العدول عن التوبة و الندامة و عدم رجوعه لا أثر لما هو الحرام، لأنّ الملاک فی الحرمة و عدمها علی ما ذکرنا هو هدم الفعل و عدمه کما لا یخفی.

و منها: تظهر الثمرة فی ما لو أکل أو شرب من الآنیة للافطار فی صوم شهر رمضان، حیث إنّه: لو کان المأکول و المشروب بنفسه حراماً، وجب علیه کفّارة الجمع، لأنه أفطر بشیءٍ حرام.

ص:392

بخلاف ما لو کان المأکول و المشروب لیس حراماً بنفسه بل کان مثل الأکل من الآنیة المغصوبة، حیث أصل المظروف حلال و مباحٌ، لکن الأکل منها محرّم، حیث لا توجب کفارة الجمع.

أقول: الظاهر أنّ المقام من هذا القسم کما لا یخفی.

هذا تمام الکلام فی آنیة الذهب و الفضة بالنسبته الی الأکل و الشرب، و بیان احکامهما فیما یحرم أو لا یحرم. حکم الوضوء و الغُسل من الآنیتین

حکم الوضوء و الغُسل من الآنیتین

الفرع الثانی: و البحث عن حکم التوضی و الاغتسال من الآنیة المذکورة، فی أنّه هل یوجب البطلان أم لا؟

و الذی یظهر من صاحب «الجواهر» نسبة صحتهما الی ظاهر الأصحاب فی صورة التمکن من ماءٍ آخر، حیث قال فی ضمن بیان عدم حرمة نفس المأکول و المشروب: «کما یؤمی الیه حکمهم بصحة الطهارة من الآنیة مع التمکن من ماءٍ غیره کالاناء المغصوب من غیر خلافٍ یعرف فیه بینهم، بل ظاهر معتبر المصنّف حیث نسب الخلاف فیه لبعض الحنابلة، الاجماع علیه، معلّلین ذلک بأنّ المحرّم الانتزاع، و هو أمر خارج عن الطهارة کما لو جعلت مصبّ الماء الطهارة».

أقول: توضیح هذه المسالة موقوف علی بیان صورها و حکم کلّ صورة منها:

الصورة الأولی: ما إذا انحصر الماء للوضوء و الغُسل باحدی الآنیتین، و

ص:393

أمکن تفریغه فی آنیة أخری، فلا اشکال حینئذٍ فی وجوب التفریغ، لأنّ التفریغ حینئذٍ من مقدمات الوضوء و الغُسل، و حیث أنّ وجوبهما مطلق بالنسبة الی وجود الماء، فیجب تحصیله عند امکانه بأیّ نوع ممکن و منه التفریغ فی المقام لهما.

بل لامکان أن یقال: إنّ نفس التفریغ واجب و لو لم یکن مقدمة لاحدی الطهارتین، إذا کان قرار الماء فیها بفعله، و ذلک لأنّ ابقاء ما فیه علی حاله بنفسه یعدّ استعمالاً یجب التخلّص منه بالتفریغ، کما علیه المحقّق الآملی فی مصباحه.

الصورة الثانیة: ما لو تعذّر التفریغ مع انحصار الماء فی إحدی الانیتین، فلا وجوب حینئذٍ لتحصیل الطهارة المائیة، بل وجب التیمم حینئذٍ لصیرورة المکلف حینئذٍ من مصادیق فاقد الماء، لعدم وجدانه لغیر هذا الماء تکویناً، و منعه عن استعمال هذا الماء تشریعاً، فیکون استعماله حراماً، و المنع الشرعی یکون کالمنع العقلی.

الصورة الثالثه: ما لو أتی بالوضوء أو الغُسل فی صورة الانحصار، مع عدم امکان التفریغ، و هو أیضاً علی اقسام ثلاثه:

تارة: یکون بالاغتراف من الآنیة شیئاً فشیئاً، فالمحکیّ عن المشهور هو صحة الطهارة، خلافاً لمتأخّری المتأخّرین من القول بالبطلان، معلّلاً بأن الاغتراف من الآنیة نوع استعمال متحدٍ مع الطهارة عرفاً، و إن کان خارجاً عن المحرّم بالدقه العقلیة، خلافاً للمشهور حیث یقولون بأنّ الاغتراف لیس من أفعال الطهارة، بل هو من مقدماته، و لذلک لم یرد النهی لها

ص:394

بالخصوص، بخلاف الأکل و الشرب حیث إنّهما یکون الاغتراف لهما داخلاً فی لسان الدلیل، حیث قیل الأکل من الآنیة و الشرب منها حرامٌ، و الأکل و الشرب لا یتحقّق إلّا بعد المضغ و البلع، فیکون ذلک حراماً من اوّل التناول الی أن یتحقق مصداق العنوانین، غایة الأمر کان حرمة التناول من الاناء لمکان کونه استعمالاً له، و داخلاً تحت النهی و حرمة الوضع فی الفم و مضغه و بلعه لکونهما أکلاً، و حیث أنّ الاستعمال حرام و لو لم یکن أکلاً أو شرباً، و الأکل و الشرب محرّمان و لو لم یکونا استعمالا، فیکون الجمیع من أول التناول الی آخر البلغ محرماً. هذا بخلاف الوضوء، حیث کون الاغتراف استعمالاً و حراماً کسابقه فی الأکل مسلّمٌ، و الّا کون الوضوء و الغُسل منهیّاً عنهما فلا، فلذلک لا منافاة بین کون الاغتراف موجباً لتحقّق الحرام لأجل الاستعمال، و بین عدم کون الوضوء باطلاً و حراماً، لأنه خارج عنه، و لم یرد دلیل علیه حتّی یقتضی الحرمة، و إنّما المحرّم هو الاستعمال، و هو یتحقّق بالأخذ و الاغتراف و هو لیس من افعال الوضوء، نعم لوصبّ الماء من الاناء علی اعضاء الوضوء فهو استعمالٌ و حرام.

أقول: و لکن ذهب بعض المحققین مثل الآملی رحمة الله الی البطلان: إمّا من باب کون الاغتراف المحرّم مقدمة للواجب، و حیث أنّه منحصر فیه فیسقط أمر الوضوء، فیجب علیه التیمم.

أو من باب المزاحم بین الحرام فی الاغتراف و الواجب، لکونه مقدمة له، فعند التزاحم یقدّم ما لیس له بدلٌ و هو الحرام أی الاغتراف علی ماله بدلٌ و هو الوضوء، إذ بدله هو التیمم.

ص:395

و علیه فالأمر هنا یکون ساقطا إمّا لسقوط ملاکه، و إمّا لتعذّر امتثاله مع بقاء ملاکه.

و لکن یمکن أن یجاب عنه: بأنّ حرمة الاغتراف حکمٌ تکلیفی نفسی لکونه استعمالاً، و أمّا وجوبه للوضوء تکلیفٌ غیری، فالاغتراف مجمع للحکمین باعتبارین: بما أنّه استعمال فهو حرام و یعاقب علیه، و بما أنّه مقدمة للواجب یثاب إن قلنا بالثواب للمقدمات، و علیه فلا منافاة بینهما إن قلنا بجواز اجتماع الأمر و النهی، و عدم اتحاد متعلق الأمر و النهی، بل حتّی علی صورة الاتحاد لیس إلّا جمعاً بین النفسی و الغیری، فإن قلنا بالجواز فی النفسیین ففی الاختلاف یکون الجواز بطریق أولی.

و علیه، فالأولی عندنا هو الصحة و ان کان الاحتیاط لا ینبغی ترکه.

الصورة الرابعة: ما لو کان بصورة الصبّ علی المحلّ لا بنحو الارتماس فی الاناء، فالظاهر عدم الارتیاب فی البطلان حینئذٍ لاتحاد الاستعمال المحرّم مع ما هو فعلٌ من الافعال فی الطهارة، و هو أمر قربی، فیوجب البطلان. و علیه فما عن صاحب «کشف اللثام» من التصریح بصحة الوضوء فی صورة الارتماس ضعیفٌ للغایة، و الله العالم. البحث عن معنی الآنیة و الوعاء

البحث عن معنی الآنیة و الوعاء

الفرع الثالث: فی بیان مفهوم الآنیة و الوعاء و الظرف، هل هما متغایران و متفاوتان أم لا؟ و البحث حول معنی هذه الالفاظ یحتاج الی بیان أمور:

الأمر الأوّل: لا اشکال فی تغایر مفهوم الآنیه مع مفهوم الظرف و الوعاء

ص:396

عرفاً، لما نشاهد من صدق احدهما فی موردٍ دون آخر، کما هو الحال فی ألفاظٍ مثل الخرج و الکیس و القربة و الجوالق و المفرش و الصندوق، و غیر ذلک ما هو معدّ لذلک و یطلق علیه الوعاء و الظرف، و لا یُطلق علیه الآنیة. و بعد الوقوف علی هذه الحقیقة، یبقی السؤال عن النسبة بین المعنیین المتغایرین هل هما متباینان أو أنّ النسبة هو الأعم و الأخصّ المطلق، بأن تکون الآنیة أخصّ من الآخر؟ وجهان: المعروف و المشهور هو الثانی، خلافاً للمحقّق الهمدانی حیث مال الی الأوّل، و قال فی توجیه مختاره: «إذ الغالب أنّه یُطلق علی الوعاء بالاضافه الی ما یُوضع فیه، فیقال مثلاً: وعاء السّمن، و أوعیة الماء و غیر ذلک، کما یقال: موضع السَّمن و مقرّه و مکانه، و لا یُسمّی باسم الوعاء، إذا لوحظ الظرف فی حدّ ذاته شیئاً مستقلاً کما یُسمّی باسم الاناء».

أقول: ما ذکره و إن هو مقرون بالصحّة فی الجملة، إلّا أنّه لا یوجب صدق نسبة التباین علیه، لما ورد فی کلامه من ذکر (الغالب) دلیلاً علی صحّة اطلاقه علیه و لو نادراً، فینطبق و یطابق مع ما علیه المشهور، و علیه فأخذ الاضافة فی المفهوم لیس علی ما ینبغی، فالأولی و الأحسن ما علیه المشهور من أنّ الوعاء هو الأعمّ من الآنیة.

هذا بالنسبة الی ملاحظة حال العرف.

الأمر الثانی: ملاحظة کلّ منهما بالنظر الی تفسیر أهل اللّغة، هل هما متساویان أو متغایران؟

قد یقال: بأنّ تغایرهما بأحد الوجهین المذکورین عند العرف مع

ص:397

ضمیمة اصالة عدم النقل، یکشف کونهما کذلک عند أهل اللّغة أیضاً، إلّا أنّه یظهر من کلام صاحب «مصباح المنیر» و غیره ترادفهما، إذ قال عن الاوّل: «الأناء و الآنیة کالوعاء و الأوعیة لفظاً و معنیً» و جاء فی «مفردات الراغب»: «الآنیة ما یوضع فیه الشیء»، و عن «مرآت الأنوار» و «مبادی اللّغه»: «الآنیة هو الظرف»، و فی «المجمع»: «الاناء الوعاء جمع آنیة و جمع الجمع أوان»، و عن جملةٍ من اللغویین ایکال معناها الی الشهرة و قالوا بأنّه معروف أو مشهور.

أقول: الظاهر أنّ المشهور و المعروف هو تفسیرها بالوعاء، و کیف کان لم نشاهد من اللّغوی تفسیرها بالمعنی الأخصّ و هو الاناء، نعم لم نشاهد أیضاً اتفاقهم علی ترادفهما معنیً، و علیه فلا وجه حینئذٍ لحمل من صرّح بأنّه وعاء علی کونه تفسیراً بالأعم، فیکون المورد من ما اختلف فیه العرف و اللّغة فی المفهوم، فیکون المتّبع حینئذٍ هو المعنی المتبادر عند العرف، لکون الألفاظ بمالها من المدالیل محوّلة علی العرف بحسب موضوعات الأحکام لا بمالها من المعانی اللّغویة و لو کانت مهجورة عندهم.

أقول: بعد الوقوف علی المضمون و المختار فی هذین الامرین، فما یصاغ من أحد النقدین _ الذهب و الفضّة _ یتصوّر علی أنحاء عدیدة:

الاوّل: ما یصدق علیه الاناء لغةً و عرفاً، و هو کما فی الظروف المتعارفة، فلا اشکال فی حکمهما من الحرمة و البطلان، و لو کان فی المورد بحثٌ فهو عن تشخیص موضوعهما، کما فی مثل کوز القلیان حیث وقع الخلاف فیه من أنّه مصداق الاناء و لیکون حراماً کما عن بعضٍ مثل

ص:398

السیّد فی «العروة» أو لا کما عن صاحب «کشف الغطاء»، حیث أخرجه من موضوع الاناء، فلا یکون حراماً؟

الثانی: ما لا یصدق علیه الاناء لغةً و عرفاً، و هذا الصنف ممّا لا اشکال فی عدم حرمته، کمیل المکحلة، و حلقه الخاتم، و علبة الساعة التی هی وعاءٌ فی داخلها الآت الساعة.

الثالث: ما یصدق علیه الظرف و الاناء لغةً لا عرفاً، مع العلم بسلب اسم الاناء عنه عرفاً، فلا اشکال فی خروج هذا الصنف عن حکمه، لما ثبت أنّ الملاک فی موارد اختلاف اللّغة و العرف هو حکم العرف، و لعلّ رأس الغلیان _ و ما یسمّی بالفارسیة بادگیر _ من هذا القبیل، لا مجموع ما یسمی الغلیان. و هکذا ما یوضع علی رأس الشطب ممّا یشبه بالنعلبکی.

الرابع: عکس ذلک، و هو ما یصدق علیه الاناء عرفاً دون اللغة، بل یسلب عنه الاسم بالنظر الی اللغة، فلا اشکال فی دخوله تحت حکمه، إلّا أنه غیر موجود فی الخارج، خصوصاً اذا قلنا أنّ النسبة بین العرف و اللغة هو الاعمّ و الأخصّ و کان الثانی للعرف، لوضوح أنّ صدق الأخصّ لا ینفک عن صدق الأعم. نعم، یصحّ ذلک علی القول بالتباین بینهما.

الخامس: بأن یصدق علیه عنوان الاناء لغةً، و لکن یشک فی صدقه علیه عرفاً: إمّا من جهة الشک فی ترادفهما فی المعنیٰ. مع القطع بعدم نقلها عن معناها، لکن الشک فی أصل معناها.

و إمّا من جهة الشک فی نقلها عن معناها اللّغوی، مع القطع بترادفهما لغة.

و إمّا من جهة الشک فی ترادفهما لغةً، و بقائها علی معناها اللّغوی علی تقدیر الترادف.

ص:399

و کیف کان، المورد فی البحث هو ما یصدق علیه الظرف و الوعاء، و یشک فی صدق الاناء علیه عرفاً، حیث وقع الخلاف فیه: ذهب صاحب «الجواهر» بحسب ظاهر کلامه الی تطبیق حکم الاناء علیه عرفاً، و استدل لذلک بأمرین:

أحدهما: بأنّ ما یقدّم فیه العرف علی اللّغة إنّما یکون فیما اذا تعارضا، بأن یصدق علیه الظرف و الوعاء لغةً و لا یصدق علیه الاناء عرفاً، و أمّا مع الشک فی صدق الاناء علیه عرفاً، فللشّک فی معناه العرفی و عدم تنقیحه عندنا لقلّة الاستعمال أو لسببٍ آخر، فلا مانع عن أخذ معناه اللّغوی.

و فیه: و لا یخفی ما فیه، لوضوح أنّه مع الشک فی صدق الاناء و الانطباق علیه و لو من جهة الشک فی مفهوم الآنیة لاجمال مفهومهما، یکون داخلاً فی مسألة الشک فی حرمة الشیء لاجمال النصّ، و الحکم فیه حینئذٍ هو البراءة، إذ لا فرق فی الحکم بالبراءة بین العلم بسلب الاسم عنه أو الشک فی صدق الآنیة علیه، غایة الأمر الفرق بین الصورتین هو کون الحکم بالحلیة واقعیاً فی الأوّل لو کان فی الواقع کذلک، و فی الثانی ظاهریّاً لکونه مقتضی حکم الأصل.

و ثانیهما: استدلّ له بأنّه إذا لم یعلم المعنی العرفی للآنیة، و احتمل أن یکون معناه مثل المعنی اللّغوی، أو أنه نُقل عنه الی معنی آخر، و علم بکونها فی اللّغة بمعنی الوعاء، و شک فی نقلها منه الی معنی آخر فی زمان صدور تلک الأخبار، فتحمل علی معناها اللّغوی، اعتماداً علی أصالة عدم نقلها عن معناها اللّغوی الی زمان صدور الأخبار.

ص:400

و فیه: و لا یخفی أنّ ما ذکره من دلالة أصالة عدم النقل عن معناه اللّغوی الی زمان صدور الاخبار، و إن یثبت الحکم علیه، لکن بشرط العلم بترادف المعنی اللغوی مع المعنی العرفی، و إلّا فإنّ الشک فی ذلک یوجب الشک فی تحقّق حکمه، و الشک فیه مساوق لأصل البراءة و الحلّیة، فاثبات الحرمة فی مثل المشکوک لا یخلو عن تأمّلٍ.

نعم، الذی یقع البحث فیه هو فی تشخیص مصادیقه و صغریاته، و إن ْ کان الاحتیاط فیما یقرب فی الذهن صدق الآنیة و الاستعمال علیه، کالمکحلة و ظرف الغالیة و الدّواة و العنبر و المعجون و التریاک ممّا لا یترک، کما علیه عدة من المحقّقین.

نعم، اعتبر صاحب «کشف الغطاء» لصدق موضوع الآنیة و تحقّقه قیوداً أربعة ممّا لا تخلو عن اشکال، و هی:

الأوّل: أن یکون ظرفاً.

و الثانی: أن یکون مظروفه معرّضاً للرفع و الوضع لا مثل فصّ الخاتم بالنسبة الی حلقته.

الثالث: أن تکون موضوعاً علی صورة متاع البیت و بذلک أخرج مثل القلیان و رأسه و الصندوق و السفط و القوطی و أمثال ذلک.

الرابع: أن یکون له أسفل یمسک ما یوضع فیه، و حواشی کذلک، فاخرج به مثل القنادیل و المشبّکات و المخرمات و الطّبق.

أقول: من الواضح أنّ مثل الصندوق و السَّفط و القلیان و علبة التریاق و نظائرها تعدّ من قبیل استعمال أمتعة البیت، إذ لیس متاع البیت مختصّاً بما یُستعمل فی خصوص الأکل و الشرب أو الطبخ أو الغسل.

ص:401

و کذا یرد علیه بما أضاف من لزوم أن تکون للظرف حواشی ممّا یمسک بها ما یوضع فیه، لظهور صدق الآنیة علی مجموع ما یستعمل فی الطعام و الأکل و الشرب مثل السفرة و الطّبق و المَجمع، کما یحرم مثل الکفکیر و المصفاة و العینیّة الکبیرة التی بمنزلة السّفرة، کما اعترف بذلک صاحب «الجواهر» تبعاً للعلامة الطباطبائی فی منظومة، بل بشهادة العرف و اللّغة.

نعم، لا تصدق الآنیة عرفاً علی مثل فصّ الخاتم و عکوز الرمح و نحوهما من المصلق الملازم لصوقاً یصیر الجمیع بسببه کأنّه شیءٌ واحد، و لا یصدق علیه الظرف و المظروف عرفاً. حکم بعض مصادیق الآنیة

حکم بعض مصادیق الآنیة

بعد الوقوف علی الحکم العام فی المسالة نصرف عنان الکلام الی بیان حکم بعض المصادیق الموجودة بأیدینا، فهل یجری حکم الحرمة علیه أم لا؟

منها: ما یصنع بیتاً للتعویذة إذا کان من الفضّة، فهل یحرم أم لا؟

و الظاهر أنّه لا اشکال فی جوازه و حلیته، و لم نشاهد عن أحدٍ خلافه، و وجهه: إمّا لأجل انّه لا یصدق علیه الآنیة عرفاً حتّی یدخل فی حکمه بموضوعه، لو لا الدلیل علی خلافه، کما هو الأظهر.

أو لأجل خروجه عن حکم المسألة تخصیصاً لأجل قیام الدلیل علیه، و هو:

1. مثل روایة منصور بن حازم فی الصحیح، عن أبی عبدالله علیه السلام ، قال: «سألته عن التعویذ یُعلّق علی الحائض؟ فقال: نعم، إذا کان فی جلدٍ أو فضّة او قصبة حدیدٍ». (1)


1- وسائل الشیعة: الباب 67 من أبواب النجاسات ، الحدیث 2.

ص:402

2. روایة حرز الجواد علیه السلام و هی عبارة عمّا نقله السید ابن طاوس فی کتابه «أمان الأخطار» عن کتاب «منیة الداعی و غُنیة الواعی» للشیخ السعید علی بن محمد بن علی بن الحسین بن عبدالصّمد التمیمی نقلاً عن الصدوق عن أبیه، عن علیّ بن ابراهیم بن هاشم، عن جدّه، قال: «حدّثنی أبونصر الهمدانی، قال: حدّثتنی حکیمة بنت محمّد بن علی بن موسی جعفر، عمّة أبی محمد الحسن بن علی علیهما السلام ، قال: «لمّا مات محمد بن علی الرضا علیهما السلام أتیتُ زوجته أمّ عیسی بنت المأمون فعزّیتها.... الی أن قالت: و ذکرتُ حکایة طویلة و فی آخرها عن یاسر أنّه قال: فلما أصبح أبوجعفر علیه السلام بعث الیّ فدعانی، فلما سرتُ الیه و جلستُ بین یدیه دعا برقِ ظبیّ من أرض تهامة، ثُمّ کتب بخطّه هذا العقد، ثم قال: یا یاسر احمل هذا الی أمیرالمؤمنین فقل له حتّی یُصاغ له قصبة من فضّة منقوش علیها ما أذکره بعد، فإذا أراد شَدّه علی عضده فلیشدّه علی عضده الأیمن، الخبر». (1)

أقول: وجود هاتین الروایتین الدالتین علی الجواز فی الفضّة یقتضی استثناءها عن الحکم، لو لم نُسلّم خروجها تخصّصاً، و إلّا لا نحتاج الی بیان ذلک، کما لا نحتاج بناء علی خروجها موضوعاً الی بیان جواز التعدّی عنها الی غیرها و عدمه.

نعم، علی القول بصدق الآنیة علی مثل علبة التعویذ، یقع البحث فی أنّه هل یجوز التعدّی عن الفضّة الی الذهب أم لا؟

فیه خلاف، إذ قد یظهر من صاحب «الجواهر» تبعاً للعلامة الطباطبائی


1- المستدرک، ج 1، الباب 41 من أبواب النجاسات و الاوانی، الحدیث 4.

ص:403

عدم الجواز، خلافاً للسیّد فی «العروة» و أکثر أصحاب التعلیق من القول بالجواز من دون ذکر وجه الجواز: وأنّه لأجل دعوی خروجه موضوعاً عنها کما هو الأظهر.

أو لأجل دعوی اتّحاد الحکم بین الذهب و الفضّة جوازاً و منعاً، و أنّه إذا ثبت الجواز فی الفضّة ففی الذهب یکون کذلک.

مضافاً الی أنّه عند الشک فی صدق الآنیة یکون تقتضی الأصل الاباحة و البراءة، فیکون الجواز أولی.

کما أنّ الأمر کذلک فی التعدی عن علبة التعویذ الی ما یکون مثلها من الرقیة من جهة الغاء الخصوصیة عن خصوص هذا القید، و لکن مع ذلک کلّه الاحتیاط ممّا لا ینبغی ترکه، و الله اعلم. حکم حُلّی النساء

حکم حُلّی النساء

الظاهر أنّه لا یعدّ من الآنیة ما هو حُلّی المرأة المجوّف، مثل الخلخال و نحوه، لصحّة سلب الاسم عنه، فلا یشمله الدلیل حتی یقال إنّه لا فرق مع صدق الاسم فی الحرمة بین الرجال و النساء لاطلاق الأدلة، بل علیه الاجماع کما فی «الذکری» و «جامع المقاصد» و غیرهما.

کما لا یصدق ذلک فی القنادیل لشهادة العرف علیه، خلافاً للعلامة فی ظاهر المنظومة، حیث عدّها من أفراد الآنیة، لکن استثناها للسیرة المستمرة فی جعلها شعاراً للمشاهد و المساجد من فضة و عسجدٍ بناءً علی مساواة التزیّین و نحوه مع الاستعمال فی الحرمة، أو أنّه منه أیضاً موضوعاً و لیس بخارج منه.

ص:404

و فیه: ظهر ممّا ذکرنا آنفاً أنّها خارجة موضوعاً لا حکماً، و الّا لیس

لنا دلیل بالخصوص علی الاستثناء، و کون السیرة کذلک لا یوجب الاستثناء لأنّها حادثة، و استغناء تعظیم الشعائر عمّا حرمة الله لامکان تحصیلها فی المحلّلات.

و لأجل ذلک یمکن أن یقال بحرمة ما یصدق علیه الآنیة إذا کانت مصنوعة من أحد النقدین کالمبخرة و نحوها، و لو کان فی المسجد أو المشاهد المشرّفة، هذا بخلاف ما لو قلنا بخروجه عنها موضوعاً، فیجوز کما نصّ علیه الفاضلان و غیرهما، بل فی «الجواهر»: «لا أجد فیه خلافاً»، بل فی «اللّوامع» الظاهر وفاقهم علیه للأصل و العمومات، و خصوص ما ورد من الطریقین فی حَلَق درع النبیّ صلی الله علیه و آله ذات الفصول و کانت من فضة، و کذا قبضة سیف رسول الله صلی الله علیه و آله :

منها: خبر یحیی بن أبی العلا، قال: «سمعت أبا عبدالله علیه السلام یقول: درع رسول الله صلی الله علیه و آله ذات الفضول لها حلقتان من وَرِق فی مقدّمها و حلقتان من ورق فی مؤخّرها، و قال: لبسها علیٌّ یوم الجمل». (1)

و منها: خبر صفوان بن یحیی، قال: «سألت أبا الحسن علیه السلام عن ذی الفقار سیف رسول الله صلی الله علیه و آله ؟ فقال: نزل به جبرئیل من السماء، و کانت حلقته فضّة». (2)

و مثله روایة أحمد بن عبدالله عن أبی الحسن علیه السلام . (3)


1- وسائل الشیعة: الباب 67 من أبواب النجاسات ، الحدیث 4.
2- وسائل الشیعة: الباب 67 من أبواب النجاسات ، الحدیث 3 _ 8 .
3- وسائل الشیعة: الباب 67 من أبواب النجاسات ، الحدیث 3 _ 8 .

ص:405

و منها: خبر محمد بن قیس، عن أبی جعفر علیه السلام ، قال: «إنّ اسم النبی صلی الله علیه و آله فی صُحف ابراهیم الماحی.... الی أن قال: و کانت له عمامة تُسمّی السحاب، و کان له درعٌ یُسمّی ذات الفضول، لها ثلاث حلقات فضّة، حلقة بین یدیها و حلقتان خلفها، الحدیث». (1)

و مثله حدیث السکونی، عن الصادق علیه السلام (2).

و منها: ما ورد فی حلقه فضّة المرأة، و هو الخبر الذی رواه علیّ بن جعفر عن أخیه علیه السلام ، قال: سألته عن المرأة هل یصلح امساکها إذا کان لها حلقه فضه؟ قال: نعم، إنما یکره استعمال ما یشرب به». (3)

و مثله خبره الآخر مع اختلاف یسیر لا یوثر فی المقصود. (4)

و منها: خبر حاتم بن اسماعیل، عن أبی عبدالله علیه السلام : «إنّ حلیة سیف رسول الله صلی الله علیه و آله کانت فضّة کلّها قائمة». (5)

و منها: روایة محمّد بن الورّاق، قال: «عرضت علی أبی عبدالله علیه السلام کتاباً فیه قران مختم معشر بالذهب، و کتب فی آخره سورة بالذهب، فأریته إیّاه فلم یعب فیه شیئاً إلّا کتابة القران بالذّهب، فإنّه قال: لا یُعجبنی أن یُکتب القران إلّا بالسواد کما کتب أوّل مرّة». (6)


1- وسائل الشیعة: الباب 67 من أبواب النجاسات ، الحدیث7.
2- وسائل الشیعة: الباب 64 من أبواب احکام الملابس، الحدیث 2.
3- وسائل الشیعة: الباب 67 من أبواب النجاسات ، الحدیث 5 _ 6.
4- وسائل الشیعة: الباب 67 من أبواب النجاسات ، الحدیث 5 _ 6.
5- وسائل الشیعة: الباب 64 من أبواب النجاسات ، الحدیث 4.
6- وسائل الشیعة: الباب 32 من أبواب النجاسات ، الحدیث 2.

ص:406

و منها: روایة مسمع، عن أبی عبدالله علیه السلام ، قال: «کانت بُرِة ناقة رسول الله صلی الله علیه و آله من فضّة». (1)

و البُرة بالضم و خفّة الراء، الحلقة التی توضع فی أنف البعیر، و هی الخزّامة (مجمع البحرین).

أقول: هذه الأخبار المشتملة علی الأمور المذکورة فیها لیست من الآنیه عرفاً حتّی یشملها الدلیل الدّال علی الحرمة.

نعم، فی بعض الأخبار ما یستشعر منها المنع فیما کان کذلک:

منها: ما فی خبر فضیل بن یسار، قال: «سألت أبا عبدالله علیه السلام عن السریر فیه الذهب أیصلح إمساکه فی البیت؟ فقال: إن کان ذهباً فلا، و إن کان ماء الذهب فلا بأس». (2)

و منها: ما جاء فی صحیح علی بن جعفر عن أخیه علیه السلام ، قال: «سألته عن السّرج و اللّجام فیه الفضة أیرکب به؟ قال: إن کان مموّهاً لا یقدر علی نزعه فلا بأس، و إلّا فلا یرکب به». (3)

و منها: ما جاء فی الخبر الصحیح المروی عن ابن بزیع، قال: «سألت أبا الحسن الرضا علیه السلام عن آنیة الذهب و الفضّة فکرهما، فقلت: قد روی بعضُ أصحابنا أنّه کان لأبی الحسن علیه السلام مرآة ملبّسة فضّة؟ فقال: لا و الحمدلله إنّما کانت لها حلقة من فضّه و هی عندی. ثم قال: إنّ العبّاس حین عذر عَمل له قضیبٌ ملبّسٌ من فضّة من نحو ما یعمله للصبیان تکون


1- وسائل الشیعة: الباب 21 من أبواب أحکام الدّواب من کتاب الحج، الحدیث 2.
2- وسائل الشیعة: الباب 67 من أبواب النجاسات ، الحدیث 1 _ 6.
3- وسائل الشیعة: الباب 67 من أبواب النجاسات ، الحدیث 1 _ 6.

ص:407

فضّة نحواً من عشرة دراهم، فأمر به أبوالحسن علیه السلام فکسر». (1)

فإنّه من انکاره و الأمر بکسره یُفهم المنع.

و منها: خبر عمرو بن أبی المقدام، قال: «رأیت أبا عبدالله علیه السلام قد أُتی بقدحٍ من ماء فیه ضبّته من فضة فرأیته ینزعها بأسنانه». (2)

و منها: خبر بُرید عن أبی عبدالله علیه السلام : «أنّه کره الشّرب فی الفضة و فی القدح المفضّض و کذلک أن یدهن فی مدهن مفضضٍ و المشطة کذلک». (3)

أقول: الذی یخطر بالبال من مضمون هذه الأخبار المتفاوتة بمقتضی الجمع بینها، هو الکراهة و شدّتها إن ْ کانت الفضّة أو الذهب مستعملةً لمثل الشرب و التدهین و نحوهما الشامل لمثل المشط، بل لمثل السریر الذی یُستعمل للجلوس و نحوه عادةً، حیث إنّه یستفاد من التعلیل الوادر فی بعض الأخبار بأنّ التنریّین فی مثل هذه الأمور أبیح للمؤمن فی الآخرة لا الدنیا، و لذلک ورد فی بعض الأخبار أنّ من یستعمل هذه الأدوات لا یعدّ من الموقتین بالآخرة، لأنّ الله تبارک و تعالی جعل هذه الادوات لآخرتنا، فاستعمالها فی مثل الآنیة المصنوعة من النقدین فی الأکل و الشرب حرام، و فی غیرهما ممّا لا یصدق علیه الآنیة مکروه، بل فی بعضها أشدّ کراهة لقربه الی (مثل الأکل أو الشرب. و أمّا استعماله فی غیر هذه المذکورات مثل حلیة السیف و قبضته أو بُرة الناقه أو الحلق المعلّقة علی المرأة أو قبضة السیف و نظائرها جائزٌ و لا کراهة فیها، و الله العالم.


1- وسائل الشیعة: الباب 65 من أبواب النجاسات ، الحدیث 1 _ 2.
2- وسائل الشیعة: الباب 65 من أبواب النجاسات ، الحدیث 1 _ 2.
3- وسائل الشیعة: الباب 66 من أبواب النجاسات ، الحدیث 6.

ص:408

و کیف کان، فالظاهر من الفقهاء بل صراحه کلام صاحب «الجواهر» اتفاقهم علی عدم تحریم ما کان فی غیر الآنیه من الأمور المذکورة، إلّا ما حُکی عن العلّامة من حرمة المموّه من الذهب إذا انفصل منه شیءٌ مع العرض مع النار، بل حکاه فی «اللّوامع» عنه فی الفضّة أیضاً، موافقاً له فیها، بل قال: «و هذا التفصیل آتٍ فی المفضّض و المذهّب لترادفهما له».

نعم، جمع صاحب «الحدائق» بمثل ما قلنا فی الجملة، و إن استضعفه صاحب «الجواهر»، و لکن لا یخلو کلامه عن وجاهة.

نعم، الذی یمکن أن یقال فی حقّ کلام صاحب «الحدائق» و «المدارک» من تحریم زخرفة الحیطان و السقوف بهما، حاکین ذلک عن الحلّی و خلافه عن «الخلاف» لا یخلو عن تأمّل، لعدم دلیل صریح قاطع علیه، بل غایته استشعار الکراهة الشدیدة عن مضامین التعلیلات و مدالیل الأخبار الدّالة علی أنّ التنریّین بهما مضمون للمؤمن فی الآخره دون الدنیا، الشامل بعمومها للحیطان و سقوف البیوت المتعلقة بالاشخاص و الأفراد لا مثل المشاهد المشرفه و الأماکن المقدسة، لعدم اختصاصها بشخصٍ حتّی یُحتسب زینة له، و یحکم بالکراهة. و لعلّه لذلک و قامت السیرة المستمرة علی ذلک عند الفقهاء و العلماء، و لم یسمع منهم النهی و المنع عن ذلک، بل لو لم نقل تأییدهم لذلک لأجل کونه ربما من شعائر الدین و إرغام انف المعاندین.

و بذلک یُجاب عن توهّم کونه من قبیل تضیّیع المال، و کونه إسرافاً، لوضوح أنّ مثل هذا التلذّذ فی المساکن، خصوصاً فی الأماکن العامة یعدّ

ص:409

و یکره استعمال المُفضّض(1)

من أعظم الاغراض التی خُلق المال لأجلها. و علیه فاثبات الحرمة یکون فی غایة الاشکال، خصوصاً علی ما عرفت من و جریان أصل البراءة و الاباحة فی المشکوک المقتضی للحلّیته، و الله العالم.

(1) کلام المصنّف مطلقٌ من جهة کون ما یُستعمل هو الاناء لیکون المراد من الکراهة هو ارادة الأکل و الشرب، لا مطلق استعمال المفضّض حتّی یشمل مثل المدّهن و المشطة و المرآة و غیرها، و لاجل ذلک أضاف صاحب «مصباح الفقیه» بعد ذکر الاناء، بقوله: «بل مطلق استعماله علی المشهور»، و کلامه جیّد، کما یساعده کلام المصنف.

و أمّا الدلیل علیه:

1. الشهرة العظیمة من الأصحاب، بل فی «الجواهر»: «لا أجد فیه خلافاً إلّا ما یُحکی عن «الخلاف» حیث سوّی بینه و بین أوانی الذهب و الفضة فی الکراهة، التی صرّح غیر واحدٍ من الأصحاب بارادته الحرمة منها هناک».

أقول: کلامه لا یخلو عن محتملات: أمّا ارادة الحرمة هنا کما هو کذلک فی المعطوف علیه.

أو ارادة معنی الکراهة المصطلحة فی الموردین، فهو فی غایة الاستبعاد کاستبعاد الاحتمال الأول فی الجملة.

أو ارادة معنی الجامع الشامل للحرمة فی المعطوف علیه و الکراهة هنا، نظیر استعمال الأمر فی الجامع فی: «اغتسل للجمعة و الجنابة» للواجب و

ص:410

الندب، و أی کما یستعمل فی طلب الغُسل و رجحانه، و کذلک هنا یستعمل فی طلب الترک و رجحانه، مع المنع من الفعل فی الحرام و عدم المنع فی الکراهة، فیصیر الاستعمال فی عموم المعنی المجازی.

أو ارادة الاشتراک المعنوی.

أو ارادة الاستعمال فی معنی الحقیقیه و المجاز بمعونة القرینة.

و علی کل تقدیر، لو أرید من الکراهة هنا الحرمة، فإنّه لا اشکال فی ضعضه، مضافاً الی کونه مخالفاً للأصل لدی الشک فی حرمته.

2. وجود أخبار مستفیضة دالة علی الکراهة:

منها: صحیحة عبدالله بن سنان، عن أبی عبدالله علیه السلام ، قال: «لا بأس أن یشرب الرجل فی القدح المفضّض، و اعزل فمک عن موضع الفضة». (1)

و منها: خبر معاویة بن وهب، قال: «سُئل أبا عبدالله علیه السلام عن الشرب فی القدح فیه خبّة من فضة؟ قال: لا بأس إلّا أن تکره الفضّة فتنزعها». (2)

لأنّ ذا الضُّبة یعدّ من المفضض کما صرّح به فی «کشف اللّثام» کباقی أنواع الملّبس، بل و منه المنبت، بل و فی «کشف الغطاء» أنّ منه المموّه، و لا یخلو من نظرٍ فی بعض أنواعه.

و منها: خبر برید عن أبی عبدالله علیه السلام : أنّه کره الشرب فی الفضّة و فی القدح المفضّض و کذلک أن یدهن فی مدّهن مفضّض و المشطة کذلک». (3)

و رواه الصدوق عن ثعلبة مثله، و زاد: «فإن ْ لم یجد بُدّاً من الشرب فی


1- وسائل الشیعة: الباب 66 من أبواب النجاسات ، الحدیث 5 _ 4.
2- وسائل الشیعة: الباب 66 من أبواب النجاسات ، الحدیث 5 _ 4.
3- وسائل الشیعة: الباب 66 من أبواب النجاسات ، الحدیث 2 .

ص:411

القدح المُفضّض عَدَل بفمه عن موضع الفضة». (1)

بأن یراد من الکراهة هو المصطلح منها، و لا بأس بها، إلّا أنه یعارض مع ما یدلّ علی حرمة الشرب من آنیة الفضّة، فیخصّیص بواسطة تلک الأخبار، أو یجعل و یراد من الکراهة مطلق رجحان الترک حتّی یراد من الشرب فی الفضة المنع من الفعل فیحرم، و فی غیرها مع الاذن فی الفعل فیصیر مکروهاً، و هذا لا ینافی مع ما نقله الصدوق (فإن لم یجد من الشراب فی القدح المفضّض... الی آخر» و عدّه فراراً عن عمل المکروه أیضاً، لما قد عرفت من صراحة الأخبار الصحیحة علی الکراهة المصطلحة فی القدح المُفضّض.

بل یمکن تطبیق ذلک فی صحیح الحلبی عن الصادق علیه السلام حیث قال: «لا تأکل فی آنیةٍ من فضة و لا فی آنیةٍ مفضّضة» (2) بأن یراد من النهی عنوانا جامعاً حتّی یصدق و ینطبق فی کلّ مورد ما یناسبه و لو بمعونة قرنیة خارجیه من جهة الجمع بین الأخبار، و لم نقل بلزوم الوحدة فی متعلق لا فی المعطوف و المعطوف علیه فی الحرمة و الکراهة، و الوجوب و الندب إذا تکرّر مقتضایاتها. هذا مضافاً الی امکان القول باستینافها بواسطة اختلاف متعلقها من الحرمة و الکراهة بواسطة القرنیة المعینة، و الله العالم.

و منها: صحیحة علی بن جعفر، عن أخیه موسی بن جعفر علیهما السلام ، قال: «سألته عن المرآة هل یصلح إمساکها إذا کان لها حلقة فضّة؟ قال: نعم، إنّما یکره استعمال ما یشرب به. قال: و سألته عن السّرج و اللّجام فیه الفضّه


1- وسائل الشیعة: الباب 66 من أبواب النجاسات ، الحدیث 3 .
2- وسائل الشیعة: الباب 66 من أبواب النجاسات ، الحدیث 1.

ص:412

أیرکب به؟ قال: إن کان مموّها لا یقدر علی نزعه فلا بأس، و إلّا فلا یرکب به». (1)

و رواه الحمیری فی «قُرب الإسناد» عن عبدالله بن الحسن، عن جدّه علیّ بن جعفر، عن أخیه مثله، إلّا أنه قال: «و سألته عن المرآة هل

یصلح العمل بها إذا کان لها حلقة فضّة؟ قال: نعم، إنّما کره ما یشرب

فیه استعماله». (2)

فإن کلمة (یصلح) فی السؤال و جوابه بنعم یدلّان علی الجواز، و هو یصیر شاهداً علی کون حکم السّرج و اللّجام أیضاً کذلک، فیکون النهی عن الرکوب نهیاً تنزیهیاً، لأنّه من الواضح أنّه لو کان المموّه من الفضة فی السّرج و اللّجام حراماً، لم یکن یوجب عدم قدرة نزعه حلّیته، لامکان ترکه رأساً. فبمناسبة الحکم و الموضوع یفهم کونه بلحاظ حکم المکروه.

هذا، مع امکان أن یقال بمقاله المحقّق الهمدانی قدس سره حیث قال: «و الظاهر أنّ الأوانی و الآلات التی لها حلقة فضّة غیر مندرجة فی موضوع المفضّض، و أنّ اطلاقه منصرفٌ عنها، و علی تقدیر الاندراج و عدم الانصراف فهی خارجة من الحکم، کما تدلّ علیه صحیحتا ابن بزیع و علیّ بن جعفر الدّالتان علی نفی البأس عن المرآة التی لها حلقة فضّة، و أنّه کان لموسی بن جعفر علیهما السلام مرآة کذلک، و ما روی من أنّه کان للنبیّ صلی الله علیه و آله قصعة فیها حلقه من فضّة و لدرعه حَلقٌ من فضّة. و یحتمل قویاً اختصاص الکراهة بما إذا کانت الأوانی و الآلات ملبّسة بها، أو مشتملة علی مقدار


1- وسائل الشیعة: الباب 67 من أبواب النجاسات ، الحدیث 5 _ 6.
2- وسائل الشیعة: الباب 67 من أبواب النجاسات ، الحدیث 5 _ 6.

ص:413

معتدٍّ به منها، کما حُکی عن «المعتبر» التصریح بنفی البأس عن الیسیر من الفضّة کالحلقه للسیف و القصعة أو کالضبة و السلسلة التی تتشعب بها الاناء» (1) انتهی.

و منها: و روایة ابن بزیع، قال: «سألتُ أبا الحسن الرضا علیه السلام عن آنیة الذهب و الفضّة فکرهما، فقلت: قد روی بعض أصحابنا أنّه کان لأبی الحسن علیه السلام مرآة ملبّسة فضة؟ فقال: لا و الحمدلله، إنّما کانت لها حلقة من فضّة، و هی عندی، الحدیث». (2)

فإنّه یدلّ علی جواز امساک المرآة المذکورة و استعمالها، و لذلک نقول: و لقد أجاأ فیما أفاد.

اشکال: بقی هنا أن یعترض علی ما قلنا بأنّه لو کان الأمر کذلک، فَلِم نزع الصادق علیه السلام ضبّة الفضة من الاناء بأسنانه، و أمر أبی الحسن علیه السلام بکسر القضیب الملبّس فضةً، و أیضاً نفی الرضا علیه السلام عن أن یکون لأبی الحسن علیه السلام مرآة ملبسة فضّة، حامداً لله بعد ما سُئل عن ذلک؟

قلنا أوّلا: إنّه لا دلالة علی الحرمة فی أمثال ذلک حتّی یحتاج الی دعوی ترجیح الأدلة السابقه و صرفها بها للکراهة، و إن کانت هی کذلک.

و ثانیاً: أنّه حکایة فعل فی بعضها لم یُعرف وجه ذلک.

و ثالثا: و لعلّ وجه فعلهم علیهم السلام کان لأجل افهام أن الحُسن فی نزعه و الاجتناب عنه، و لو لأجل الاحتراز عمّا هو مکروه، خصوصاً مع ما عرفت


1- مصباح الفقیه، ج 8/366.
2- وسائل الشیعة: الباب 65 من أبواب النجاسات ، الحدیث 1.

ص:414

و قیل یجبُ اجتناب موضع الفضّة(1)

فی بعض الأخبار من أنّ التزیّن بمثل هذه الزینة مختصٌّ بالآخرة، و جمیع هذا حیث یوصلنا الی حُسن الترک.

أقول: هذا الجواب حسن، لکن لا یناسب مع ما فی بعض الأخبار من أنّ قصعة النبی صلی الله علیه و آله و درعه کان مشتملاً علی حلقٍ من فضّة، أو امساک الأمام المرآة الکذائیه عنده، لأنهم علیهم السلام شأنهم أجلّ و أعلی من أن یفعلوا ما هو المکروه، فلا جرم یقال فی مثله بما عرفت من خروج مثل هذه الأمور عن المفضّض موضوعاً، فلا کراهة فیه، و لا یخلو عن وجهٍ.

و بالجملة: ثبت ممّا ذکرنا عموم الکراهة لاستعمال المفضّض من القدح و غیره فیما لم یخرج عن موضوعه.

(1) و لا یخفی أنّ ذکر المصنف هذا بلفظ قیل مشعرٌ بمیله الی خلافه، و مخبر بتمریضه، کما یؤیّد ذلک تصریحه فی «المعتبر» باستحبابه، و تبعه الطباطبائی فی منظومته، و استحسنه فی «المدارک» و «الذخیرة»، و فی قبالهم کثیرٌ من الأصحاب حیث حکموا بالوجوب، بل فی «الجواهر»: «لا خلاف أجده فیه بین القدماء و المتأخّرین» و هو الأقوی لصراحة صحیح عبدالله بن سنان فی الأمر بالعزل عنه بقوله: «لا بأس أن یشرب الرجل فی القدح المفضّض، و اعزل فمک عن موضع الفضة». (1)

و کذا خبر برید بحسب نقل الصدوق عن ثعلبة بزیادة قوله: «فإن ْ لم


1- وسائل الشیعة: الباب 66 من أبواب النجاسات ، الحدیث 5

ص:415

یجد بُدّاً من الشرب فی القَدَح المفضّض عَدَل بفمه عن موضع الفضة» (1)، معتضداً بما عرفت و سالماً عمّا یصلح للمعارضیة، إلّا ما یوهم کون الأصل مقتضیاً للجواز، فهو مندفع بأنّه المرجع لو لا دلیل اجتهادی.

و ترک الاستفصال فی صحیح معاویة بن وهب فی قوله عند السؤال عن الشرب فی القدح فیه ضبّةٌ من فضة؟ قال: «لا بأس الّا أن تکره الفضة فتنزعها» (2) إذ من الواضح أنّه دالٌ علی الاجتناب من رأسه، لا فی خصوص موضع، أم لانه یحکم بالنزع. البحث عن حکم الاناء المذّهب

و علیه، فالحکم بوجوب الاجتناب کما علیه المشهور قویّ جدّاً.

البحث عن حکم الاناء المذّهب

بعد وضوح الحکم فی الاناء المفضّض، یقع السؤال عن أنّه هل یلحق بالاناء المفضّض الاناء المذّهب فی جمیع ما تقدّم من الاحکام، مع خلوّ النصوص و أکثر و الفتاوی عن ذکره، کما اعترف به العلّامة فی «المنتهی»؟

فیه خلاف بین المتأخّرین، فإنّ أکثرهم قائلون بالالحاق، مستدلین بأنّ الأصل یکفی فی الحکم بجواز الاتخاذ، حیث لم یرد فیه نهیٌ بالخصوص، کما یؤید بکونه مکروهاً دلیل التسامح فی الأدلة، و حسن الاحتیاط، خصوصاً مع احتمال الاستغناء عن ذکره بالخصوص مع ذکر قرینه المفضّض لأنهما توأمان غالباً فی الأخبار الناهیة عن استعمال الآنیة فی الذهب و الفضة، بل هو المنساق الی الذهن عند ذکره، بل لعلّه أولی


1- وسائل الشیعة: الباب 66 من أبواب النجاسات ، الحدیث 3 _ 4.
2- وسائل الشیعة: الباب 66 من أبواب النجاسات ، الحدیث 3 _ 4.

ص:416

بالحکم من الفضة لشدّة التنزّین بالذهب و الرغبة الیه، المستفاد منعهما من الأخبار الدّالة علی أنهما من فعل اللذین لا یوقنون بالآخرة.

أقول: هذه الأدلة جیّدة جداً إلّا أنّه قد خالف فیها المحقق الهمدانی رحمة الله بالتشکیک فیها حیث قال: «و لا یخفی علیک أنّ الجزم بذلک فی غیر محلّه، إذ لم یعلم أنّ مناط المنع لدی الشارع مجرد علوّ درجة النقدین فی أعین الناس حتّی تتّجه دعوی أنّ الذهب لا یتنزّل عن درجة الفضة، و لذا لا نقول بحرمة الأوانی المتّخذة من الجواهرات التی هی أعلی درجة منهما، فلعلّ المفسدة المقتضیة للمنع من الفضة لدی الشارع أقوی منها فی الذهب، فقیاس المذهّب علی المفضّض لاشتراک آنیة الذهب و الفضة فی الحکم، قیاسٌ مستنبط العلّة لا نعوّل علیه فی الشرعیات، و لا علی الأولویة الظنیة التی هی أیضاً من مصادیق القیاس المنهیّ عنه، فالتسویة بینهما و إن ْ کانت أحوط و أقرب الی الاعتبار، لکنّ الاقتصار علی مورد النصّ و الفتوی فی الاحکام التعبدیة أشبه بالقواعد. و لیس المقام مقام المسامحة فی دلیل الکراهة، بعد وضوح المستند، خصوصاً مع الالتزام بوجوب عزل الفم الذی لا یتسامح فی دلیله کما لا یخفی» انتهی کلامه. (1)

أقول: لا یخفی ما فی کلامه، لما قد عرفت أنّ وجه الالحاق لیس کون الذهب أعلی درجةً من قرینه حتّی یُجاب بما ذکره، بل مناط الالحاق شدّة رغبة الناس الی الذهب للتنزین به، الذی قد نهی الشارع عنه، و خصّه بالمؤمنین فی الآخرة، کما عرفت لسان الأخبار الدالة علیه، و علیه فلا یعدّ


1- مصباح الفقیه، ج 8/371.

ص:417

هذا من القیاس المحرّم، بل هو حکمٌ من باب الأولویة العقلائیة و العقلیة، و هو حکم مقبولٌ لدی الفقهاء فی کثیر من موارد الفقه، فلیتأمّل.

و بالجملة: بعد ما ثبت صحّة الحاق آنیة الذهب بالمفضّض، یظهر حکم وجوب عزل موضع الذهب بخلاف أصل استعماله، فإنّه مکروه کالمفضّض، لکن خالف فی ذلک الشهید الأول فی «الذکری»، حیث احتمل المنع لأصل الاستعمال فی ذی الضبة الذهبیّة، و استدل بقوله صلی الله علیه و آله : «هذان محرّمان علی ذکور أمتی». (1)

أقول: و لعلّ ما فی خبر السریر الوارد فی حدیث فضل بن یسار، عن الصادق علیه السلام : «عن السریر فیه الذهب أیصلح امساکه فی البیت؟ قال: إن کان ذهباً فلا، و إن کان ماء الذهب فلا بأس». (2)

و حدیث محمد بن الوراق، قال: «عرضت علی أبی عبدالله علیه السلام کتاباً فیه قراناً مختم معشر بالذهب، و کتب فی آخره سورة بالذهب فأریته ایّاه، فلم یعب فیه شیئاً إلا کتابة القران بالذهب، فإنه قال: لا یُعجبنی أن یکتب القران إلّا بالسّواد کما کتب أوّل مرّة». (3)

نوعُ ایماءٍ و اشعار الی المنع.

و لکن یرد علیه: أنّ المراد ممّا ورد فی ما روی عن النبیّ صلی الله علیه و آله هو التلبس بهما، أی من الذهب و الحریر لا مطلق استعمالها، و أنّه مختصّ بالرجال لا مطلق، و علیه فالحکم بالحرمة مطلقاً لا یخلو عن تأمّل.


1- المستدرک، ج 1، الباب 24 من أبواب لباس المصلی، الحدیث 1.
2- وسائل الشیعة: الباب 67 من أبواب النجاسات ، الحدیث 1.
3- وسائل الشیعة: الباب 32 من أبواب ما یکتسب به ، الحدیث 2.

ص:418

بحث حول أقسام الآنیة المفضّضة

قال المحدّث المجلسی رحمة الله فی «البحار»: «إنّ المفضّض أقسام:

الأوّل: الظرف التی تکون بعضها فضّه و بعضها نحاساً أو غیره، متمیّزاً کلٌّ منهما عن الآخر، کما تستعمل ظروفٌ أصلها من الخزف أو ما یشبهه و فمها من الفضة. بحث حول أقسام الآنیة المفضّضة

الثانی: ما کان جمیعه مموّهاً بالفضة، و هو قسمان:

أحدهما: ما طُلی بماء الفضة، و إذا عرض علی النار لا ینفصل عنه شیءٌ.

و ثانیهما: ما لُبّس بالسبائک و شبهها بحیث إذا عرض علی النار انفصلت الفضة من غیرها.

الثالث: ما علّق علیه حلقه أو قطعه من سلسلة من الفضّة.

الرابع: أن یخلط الفضه بغیرها و یصنع منهما الآنیة.

الخامس: ما نقش بالفضة.

ثم قال: و ظاهر أخبار المفضّض شمولها للأول و الثالث، و أمّا الثانی.

و الظاهر فی القسم الأول منه الجواز و فی الثانی المنع، لصدق الآنیة علی اللباس، بل یمکن ادّعاء صدق آنیة الفضة علی الجمیع عرفاً، و للأخبار السابقة، و إن وردت فی غیر الأوانی. و یحتمل القول بالجواز فیه لأصل الاباحة و عدم صراحة الأخبار فی المنع.

و أمّا الرابع فلا یبعد اعتبار صدق الاسم، فإنّ صدق آنیة الفضّة علیه منع، و الّا فلا، فکأنّه لا اعتبار للغلبة مع عدم صدق الاسم.

و أمّا الخامس فلا یبعد القول بالتفصیل فیه کالثانی بأن یقال: إن حصل

ص:419

و فی جواز اتخاذها لغیر الاستعمال تردّد، و الأظهر المنع(1)

منهما بالعرض علی النار شیءٌ، کان فی حکم المفضّض و إلّا فلا» انتهی. (1)

أقول: قد عرفت منا سابقاً وفاقاً لصاحب «مصباح الفقیه» عدم اندراج ما فیه حلقة من فضّة أو قطعة من سلسلة کحلقة السیف أو الممتزج مع استهلاک أحد الخلیطین بالآخر من المفضّض، و الله العالم.

(1) یدور البحث عن جواز اقتناء أوانی الذهب و الفضه لأجل الادّخار و نحوه و عدمه؟

فیه تردد، لأنّه من جهة ملاحظة الأصل عند الشک فی حرمته الحکم هو البراءة، لو لم نستظهر من الأدلة الحرمة، لأنّ ظهور الادلة و النصوص أنّ متعلق الحرمة هو الاستعمال و لو بصورة المطلق، و أمّا کون اتخاذهما و لو لغیر الاستعمال حراماً أیضاً فهو غیر واضح.

و من جهة ملاحظة مفاد الأدلة بعضها مع بعض ربما یدلّ علی الحرمة، و إن لم یکن کذلک فی کلّ واحدٍ بعینه مستقلاً:

منها: ملاحظة التعلیل الوارد فی النبوی بأنّها: «لهم فی الدنیا و لکم فی الآخرة». (2)

و منها: ما فی روایة موسی بن جعفر علیه السلام ، قال: «آنیة الذهب و الفضّة متاع الذین لا یوقنون». (3)


1- بحار الأنوار، ج 66/547 _ 548.
2- کنز العمال، ج 8/16، الرقم 362.
3- وسائل الشیعة: الباب 65 من أبواب النجاسات ، الحدیث 4.

ص:420

و منها: النهی المطلق من دون ذکر متعلقه فی صحیحة محمد بن مسلم، عن أبی جعفر علیه السلام بقوله: «نهی عن آنیة الذهب و الفضّه» (1) حیث یُشعر عن کراهة وجودهما، لأنّه أقرب المجازات بعد تعذّر الحقیقیة، لأنّه من الواضح أنّ الاتخاذ و الاقتناء یعدّان أعماً من الاستعمال. هذا مضافاً الی أنّ النهی فی الحقیقة یرجع الی النفی و الکراهة عن الوجود و تحقّق الطبیعة فی الخارج، بل لعلّ الفحص فی النصوص یوصلنا الی أنّ مراد الشارع من النهی هو نفی وجود ذلک فی الخارج، و لا یتوجه مثل هذا النهی إلّا للشیء المستعدّ للاستعمال فی الخارج. بل فی «المنتهی»: «أنّ تحریم الاستعمال مطلقاً یستلزم تحریم أخذهما علی هیئة الاستعمال کالطنبور» أی کما أنّ الطنبور وجوده مبغوضٌ سواءٌ استعمل فی المقصود أم لا، هکذا الحال فی المقام.

هذا مضافاً الی أنّه یناسب مع کون عدمه مطلوباً و وجوده خلاف ذلک، خصوصاً مع ملاحظة ما قیل من مناسبة کون الحکمة فی التحریم هو ترتّب مثل الخیلاء و التکبّر و کسر قلوب الفقراء و الاسراف الی غیر ذلک، و إن کان اثبات الحکم فی مثل هذه الاستحسانات مشکلٌ جدّاً.

و علیه، فالأوجه و الأقوی عندنا لاثبات الحرمة _ ما عرفت من الأخبار المعتضدة بفتوی المشهور فی ذلک نقلاً و تحصیلاً، بل لا أجد فیه خلافاً إلّا من «مختلف» الفاضل، و استحسنه بعض متأخّری المتأخّرین، بل قد یظهر کما فی «الجواهر» أنّ نفس العلّامة فی «المنتهی» کالمصنّف فی «المعتبر» یری أنّه لا خلاف فی المسألة عندنا، و أن المخالف مخصوص بالشافعی أو


1- وسائل الشیعة: الباب 65 من أبواب النجاسات ، الحدیث 3.

ص:421

أحد قولیه، و به یکفی فی رفع الید عن الأصل و ابطال دعوی عدم ظهور الأدلة فی غیر الاستعمال.

نعم، قد یظهر من «قواعد» الفاضل و من غیرها من کتب الأصحاب، أنّ من جملة حکم ما نحن فیه هو اتخاذها للتزیین و نحوه، و لکن قال صاحب «الجواهر»: «و لکن قد یمنع اندراج ذلک فی نحو الاستعمال الذی قد عرفت معلومیة منعه، إذ هو أعمّ من استعمالها فی الظرف بها، کما

یشهد لذلک استثناء بعضهم، أو شبهه اتخاذها للمشاهد و المساجد من حرمة الاستعمال».

أقول: و لکن لا یخلو کلامه عن خفاء، لأنّه إذا قلنا إنّه یستظهر من الأخبار الکراهة فی أصل وجود الأوانی، فلا معنی حینئذٍ الی القول بأن التنزیّین بهما خارج عن حرمة الاستعمال، و لعلّ استثناء الاصحاب کان للتنزیین فیها فی أصل الذهب و الفضة لا بالأوانی، و هو أمر آخر غیر ما نحن بصدده کما لا یخفی. الآثار المترتبة علی حرمة الأوانی المفضّضه

الآثار المترتبة علی حرمة الأوانی المفضّضه

بقی هنا حکم ما لو التزمنا بحرمة الأوانی استعمالا و اقتناءً و غیرها، أنّه هل یجب کسرها و اعدامها کحرمة باقی الآلات المحرّمة هیئةً المملوکة أم لا؟

الظاهر أنّه کذلک لصاحبها، لحرمة اقتنائهما، و أمّا وجوب کسرهما لغیر صاحبها فلا یخلو:

1. إمّا یعلم أنّ اقتنائهما محرّم علی صاحبهما، کما إذا علم ذلک اجتهاداً

ص:422

أو تقلیداً لصاحبهما، و کانت الأوانی من المعلومة حرمتها، و إذا لم یکن کسرهما موجباً لتلف مادتهما، وجب نهی صاحبهما عن استعمالهما و اقتنائهما من باب وجوب النهی عن المنکر، بشرط وجود شرائطه، بل قیل و لو توقّف علی کسرها یجوز له الکسر، فیما إذا علم بعدم أداء کسرها الی تلف مادّتها.

لکنه غیر مقبول عندنا لغیر الحاکم، إذ من الواضح أنّ الواجب المکلف لیس إلّا النهی عن المنکر، و هو لا یتم إلّا من خلال التذکر دون العمل.

نعم، یصحّ ذلک للحاکم من جهة ولایته فی مثل هذه الأمور.

و أیضاً الحکم کذلک فیما لم یعلم أنّ کسرها یوجب تلف مادتها. نعم، إذا أجزنا کسرهما لیس علیه ضمانُ الارش لسقوط مالیة هیئتهما شرعاً، نعم لو تلفت المادة ضمن قیمتها، و لا منافاة بین وجوب الکسر و ضمان القیمة فی تلف المادة کالأکل فی المخمصة، حیث یجوز ذلک لکنه ضامنٌ.

2. و أمّا لو علم أنّ کسرها یوجب تلف المادة، ففی وجوب کسرها عند من یوجب ذلک هنا اشکالٌ من جهة استلزامه الضرر، هذا إذا علم بحرمة اقتنائهما لصاحبهما، و إلّا مع الشک فیه أو العلم بالجواز، أو مع احتمال الخلاف بین المجتهدین، أو احتمال کون الموضوع مشکوکاً فی کونه ممّا یحرم، فلا یجوز کسرهما قطعاً، لوضوح أنّ حکم جواز الکسر یعارض مع دلیل حرمة التصرف فی مال الغیر بلا رضاه، ففی هذه الموارد یکون دلیل حرمة التصرف مقدماً علی حکم جواز الکسر أو وجوبه، کما لا یخفی.

و من ذلک یمکن استظهار أحکام صورٍ کثیرة یتّضح کلّها ممّا ذکرنا، فعلیک بالتأمّل و الدّقة.

ص:423

و لا یحرم استعمال غیر الذهب و الفضّة من أنواع المعادن و الجواهر، و لو تضاعف أثمانها(1).

أوانی المشرکین طاهرة ما لم یُعلم نجاستها(2)

(1) بلا خلاف أجده کما فی «الجواهر»، بل فی «کشف اللّثام» الاتفاق علیه، للأصل المعتضد بالسیرة، و لا یعارضها القیاس المعلوم بطلانه عندنا، مع امکان ابداء الفرق بعدم ادراک عموم الناس بنفاسة الجواهر، و بأنّها لقلّتها لا یمکن اتّخاذ الآنیه منها إلّا نادراً، فلا یفضی اباحتها الی اتخاذها و استعمالها بخلاف الأوانی من النقدین، هذا کما فی «الجواهر».

أقول: ما ورد ذکره منهما مناسبات بعد وضوح عدم وجود دلیلٍ علی عدم الجواز، لأنا تابعون فی الحکم فی کلّ موضوع للدلیل الوارد من الشارع، و لا نتمسّک فی ذلک بالاستحسانات المذکوره، فما عن أحد قولی

الشافعی من تحریم المتخذ من الجواهر الثمینه کالیاقوت و نحوه لأولیّتها بکسر القلوب و الخُیلاء و السَّرف، ممّا لا یمکن المساعدة معه، إذ هی ممّا لا أصل له فی الاسلام. حکم أوانی المشرکین

حکم أوانی المشرکین

(2) حکم طهارة أوانی المشرکین، من أهل الکتاب کانوا أولا، بل و غیر الأوانی مثل الثیاب و نحوها ممّا فی أیدیهم _ عدا اللّحم و الجلد _ ممّا قام علیها الاجماع، و لذلک قال صاحب «الجواهر» قدس سره: «بلا خلافٍ أجده فیه إلّا ما توهّمه فی «الحدائق» من «خلاف» الشیخ، حیث حکی عنه عدم

ص:424

جواز استعمالها»، مع ما فی حکایة کلامه من الاشکال، حیث لا یکون مرتبطاً بالمقام و لذلک قال: «ادّعی الاجماع فی المقام صاحب «کشف اللّثام»)، الأمر کذلک.

هذا، مضافاً الی أنّه مقتضی الأصل من الطهارة، و العمومات بقوله: «کلّ شیءٍ طاهر حتّی تعلم أنه قذر».

أقول: المهم فی المقام ورود أخبار معتبرة فی ذلک:

منها: ما ورد فی طهارة الثوب المعار للذّمی کما فی صحیح عبدالله بن سنان، قال: «سأل أبی أبا عبدالله علیه السلام و أنا حاضرا: إنّی أعیر الذّمی ثوبی و أنا أعلم أنّه یشرب الخمر و یأکل لحم الخنزیر، فیردّه علیّ فاغسله قبل أن أصلّی فیه؟ فقال أبو عبدالله علیه السلام : صلّ فیه و لا تغسله من أجل ذلک، فإنّک أعرته ایّاه و هو طاهر، و لم تستیقن أنّه نجسّه، فلا بأس أن تصلّی فیه حتّی تستیقن أنّه نجسّه». (1)

و منها: روایة معاویة بن عمار، قال: «سألتُ أبا عبدالله علیه السلام عن الثیاب السابریة یعملها المجوس و هم أخباث، و هم یشربون الخمر و نسائهم علی تلک الحال، ألبسها و لا أغسلها و أصلّی فیها؟ قال: نعم، الحدیث». (2)

و منها: خبر أبی جمیلة، عن أبی عبدالله علیه السلام : «أنّه سأله عن ثوب المجوسی ألبسه و أصلّی فیه؟ قال: نعم. قلت: یشربون الخمر؟ قال: نعم، نحن نشتری الثیاب السابریه فنلبسها و لا نغسلها». (3)


1- وسائل الشیعة: الباب 74 من أبواب النجاسات ، الحدیث 2.
2- وسائل الشیعة: الباب 73 من أبواب النجاسات ، الحدیث 1 _ 7.
3- وسائل الشیعة: الباب 73 من أبواب النجاسات ، الحدیث 1 _ 7.

ص:425

أقول: خبر الخراسانی، قال: «قلت للرضا علیه السلام : الخیّاط و القصّار یکون یهودیاً أو نصرانیاً و أنت تعلم أنه یبول و لا یتوضّأ، ما تقول فی علمه؟

قال: لا بأس». (1)

أقول: هذا الحدیث و إن ْ کان مشتملاً بغیر ما نحن فیه، لکنه یشمله من ما أجاب بعدم البأس فی عملهم، مع العلم بأنّهم لا یتطهّرون و لا یجتنبون عن النجاسة البولیة.

و کیف کان، فالمسألة واضحه من حیث الحکم بالطهارة، و لا خلاف فیه من ناحیة هذه الأدلة، فبذلک نرفع الید عمّا یدلّ علی النهی عن استعمال أوانیهم و ثیابهم، و الأکل منها، أو تنزیلها علی ما یوجب العلم بمباشرتهم لها و تنجیسها، فحینئذٍ یجب الاجتناب عنها، و لذا قال المصنف: طاهرة ما لم یعلم نجاستها.

و أمّا لو علم بالنجاسة بالمباشرة أو بغیرها، حکم بها و إن ْ احتمل حصول الطهارة بعده و لو بالظن، لو لم یکن معتبراً شرعاً، لأنّ الأصل و هو الاستصحاب یحکم بالنجاسة، فلا یزول بذلک. و لو کان لغیبةٍ حکم لغیرهم معها بالطهارة، کما أنّه لم نحکم بالنجاسة بالظن إذا لم یکن ناشئاً عن أمارةٍ شرعیة کالبیّنة و خبر العدل، بل قد یقال حتی و لو أخبر العدل بل البیّنة کما عن «الریاض».

و لکن فی کلا الموردین بحثٌ قد مضی فی محلّه أنّه ضعیفٌ کوضوح ضعف القول بالاکتفاء بمطلق الظنّ، فلاحظ و تأمّل.


1- الوافی، أبواب الطهارة عن الخبث، باب التطهیر من مسّ الحیوانات.

ص:426

(1) عدم جواز استعمال شیءٍ من الجلود من ذوی الأنفس السائلة مورد قبول الفقهاء، و علیه الفتوی، حتّی قیل إنّ الحکم هکذا حتّی لو جُعل وقوداً للحمام أو بوّاً (1)، أو طعام کلبٍ، أو وصلة لقتل بعض الحیوانات المؤذیة و نحو ذلک، هذا بلحاظ کون حکم الحرمة بلحاظ صدق الاستعمال علیه بنحو الاطلاق، فلازمه ما ذکر.

و أمّا لو لم نقل بذلک، بل قیل بما یناسب استعماله فی شؤون المعیشة لا کلّ ما کان کذلک و لو لطعام الکلب أو ما یجعل للخدعة و أمثال ذلک، فحینئذٍ یضیق دائرته، و لیس ذلک ببعید من باب ملاحظة مناسبة الحکم و الموضوع.

بل قد یقال بالمنع عن الحرمة فی الجمیع، کما عن «کشف الغطاء»، لأنّها تکون من قبیل الانتفاع لا الاستعمال حتّی یحرم، لکن قال صاحب «الجواهر»: «فیه منعٌ و بعد التسلیم یحرم مع قصده کالاستعمال».

لکن ما ذکره صاحب «کشف الغطاء» لا یخلو عن تأمّل.

أقول: لابدّ أن یعلم أنّ استعمال الجلود یحرم إذا لم تکن ذکیة بتذکیّة شرعیه، و إلّا یکون استعمالها حلالاً، لأنّه من الواضح أنّ الجلود من ذی النفس السائلة إذا لم تذکی تصیر میّته، لما فیها من الحیاة فی حال حیاة الحیوان، بلا فرق فی حرمة الاستعمال مع عدم التذکیة بین کون عدمها لأجل عدم قابلیتها للتذکیة کجلد الکلب و الخنزیر، أو کان قابلاً لها و لم تقع، لما قد تقدّم فی مبحث النجاسات حرمة استعمال المیته فی الرطب و الیابس، و نجاستها فی الصلاة و غیرها، من غیر فرق بین المدبوغ و غیره، و


1- البوّ عبارة عن جلد ولد الناقة یُحشی فیه تبناً أو غیره فیقرب من أمّه فتخدع و تعطف علیه فتدرّ لبنها.

ص:427

إن ذهب الی طهارتها بالدبغ بعض الفقهاء، کما هو المحکی عن الصدوق و ابن الجنید، و مال الیه صاحب «المدارک»، کما أشار الیه صاحب «الجواهر» بقوله: «و إن مال الیه بعض متأخّری المتأخّرین».

و لکن قد مضی بحثه فی محلّه بأنّه ضعیفٌ عندنا، لأنّ الدباغة لا توجب الطهارة، بل غایتها جواز استعمالها.

أقول: ثم یتفرّع علی لزوم التذکیة الشرعیة فی جواز الاستعمال و توقفة علیه انّه لابدّ فی تحصیل جواز الاستعمال من ثبوت التذکیة، و لو ببعض الأمارات الشرعیة کالبیّنة أو خبر العدل و لو واحداً إن قلنا بالکفایة، أو حصول العلّم بالرؤیة و الشیاع و أمثال ذلک ممّا اعتبرها الشارع حجّةً فی مثل هذه الموارد.

فإذا قلنا بشرطیته ثبوت التذکیة للحلیة و جواز الاستعمال، یتفرع علیه: أنّه مع الجهل بالتذکیة یکون نجساً و میتةً، فلا یجوز و لا یحلّ، بل و هکذا لو شک فی التذکیة، فضلاً عن العلم بالعدم، أو الظن به، فإنّه لا یجوز فی جمیع هذه الصور، لأنّ الشک فی الشرط یوجب الشک فی المشروط، و الشک فیه مساوٍ بعدم حصول الجزم بالامتثال و الفراغ، سواءٌ فی العبادات أو فی غیرها، کما فی ما نحن فیه من جواز الاستعمال.

هذا، مضافاً الی أنّ مقتضی الأصل عند الشک فی تحقّق الشرط هو عدم تحققه، و المراد من الاصل هو الاستصحاب، و حجیّته ثابتة عند الجمیع.

لا یقال: إنّ هذا الأصل معارض مع أصالة عدم تحقّق الموت حتف الأنف المعتضد و المرجّح بأصالة الطهارة.

ص:428

لأنا نقول: إنّ تحقّق الموت بعد خروج الروح عن الحیوان مسلّم لا شک فیه، و الحکم بما یترتّب علیه أمر محقّق لا یحتاج الی مؤنة زائدة، فلا ینفی الموت بأصالة العدم، هذا بخلاف ما هو حال قرینه من المذکی حیث إنّه یحتاج فی اثباته الی سببٍ زائد من تذکیةٍ أو قتلٍ و نحوهما، فحینئذٍ یصحّ أن یقال إنّه مع الشک فی تحقّقه یکون الأصل هو عدمه.

و أمّا جریان أصالة الطهارة هنا، فهو غیر نافع لأنّها من الآثار المترتبة علیه، و یکون فی مرحلة الحکم، و الأصل الجاری فی الموضوع و هو عدم التذکیة یکون مقدّماً علی أصالة الطهارة، لأنّ الأصل الجاری فی السبب یزیل الشک عن المسبب، فلا یبقی مع جریان أصالة عدم التذکیة فیها شک فی نجاستها و کونها میته حتّی نرجع الی أصالة الطهارة فیها، بل نحکم بالنجاسة و أنّه میتةٌ قطعاً.

هذا، مضافاً الی أنّ هذا الأصل فی بعض الموارد له معارض، و هو أصالة بقاء الشغل فی الذمة، إذا کان العمل مثل العبادة و نحوها، إذ الشک فی تحقق الشرط یرجع الی الشک فی تحقّق الفراغ، و استصحاب بقاء الشغل یقتضی تحصیل الیقین بالبراءة، و هو لا یحصل إلا مع العلم بالتذکیة أو العلمی بها، هذا کما فی «الجواهر».

أقول: و لکنه لیس علی ما ینبغی، لأنّه لو لا ضعف أصالة الطهارة بواسطة ما عرفت من کونها مسبّباً، و فرضنا جواز جریانها فی المورد مثلاً، لکان ذلک مستلزماً لرفع الشک عن الفراغ قطعاً، لأنّ الشک هنا من قبیل الشک فی المسبب و السبب، لوضوح أنّ الشک فی الفراغ لیس إلّا لأجل الشک فی تحقّق التذکیة و الطهارة، و عدمه فإذا فرضنا شمول دلیل أصالة

ص:429

الطهارة و الحلیة للمورد، و حُکم بطهارة الجلود، فإنّه یوجب القطع بالفراغ بواسطة قیام الحجة علیه، فیزول الشک من أصله، فلا یبقی له شیءٌ حتّی یعارض مع أصالة الطهارة.

و علیه، فالعمدة فی الاشکال هو الذی قرّر قبل ذلک، فلیتأمّل.

أمّا القول بمعارضة أصالة عدم التذکیة مع أصل عدم تحقّق الموت حنف الأنف، فقد عرفت الجواب الأوّل منه.

و نجیب عنه ثانیاً: إنّ مقتضی أصالة العدم فی کلّ واحدٍ من العِدلین یکون متفاوتاً، لوضوح أنّ مقتضی أصالة عدم التذکیة هو ترتّب حکم النجاسة و المیتة بلا واسطة، لأنّه بواسطة أصالة العدم فی التذکیة نحکم بأنّه میتة و خارج عن مصداق قوله تعالیٰ: «إِلاَّ ما ذَکَّیْتُمْ»، هذا بخلاف الأصل الجاری فی عدم الموت حتف الأنف، حیث إنه لا یوجب الحکم بتحقّق التذکیة للجلد إلّا بالأصل المثبت و مع الواسطة، و هو ضمیمة الأصل مع العلم الاجمالی بوجود أحدهما، فإذا نفی أحدهما بالأصل و هو عدم الموت، علمنا بتحقّق الآخر و هو التذکیة، و هذا حکم ثابتٌ علیه بالواسطة، و هو المسمّی بالأصل المثبت، و لیس بحجّة کما لا یخفی.

هذا کلّه بالنظر الی القواعد و أصول المذهب الجاری فی المقام.

أقول: فضلاً عن جمیع ما ذکرنا، وردت أخبار مستفیضة کثیرة فی المورد کما ستأتی الاشارة الیها.

هذا کلّه بناءً علی ترتیب الآثار و الأحکام علی أصالة عدم التذکیة حیث قد عرفت من أنّ مقتضاه هو الحرمة و النجاسة.

ص:430

کما أنّ المتّجه أیضاً هو الحرمة و النجاسة لو اعتمدنا علی قاعدة المقتضی و المانع، لأنّ مقتضی جعل الشارع التذکیة شرطاً للحلیّة و الطهارة و تسمیته الذبح الخاص تذکیةً، کون موت ذی النفس بنفسه مقتضیاً لحرمته و نجاسته، و التذکیة مانعة منهما، فمتی أحرز المقتضی بالموت، و شُک فی تحقّق المانع و هو التذکیة، فالأصل عدم تحققها، و ثبوت المقتضی، ممّا یوجب الحکم بالحرمة و النجاسة، کما لا یخفی.

أمّا الأخبار: فإنّ مقتضی لسان الأخبار هو لزوم إحراز شرطیة التذکیة بالعلم أو ببعض الأمارات الشرعیة کید المسلم و سوق المسلمین و أمثال ذلک، و هی:

1. صحیح زرارة، عن أبی عبدالله علیه السلام فی حدیثٍ، قال: «إن کان ممّا یؤکل لحمه فالصلاة فی وبره و بوله و شعره و روثه و ألبانه و کلّ شیء منه جائزٌ إذا علمت أنّه ذکی». (1)

حیث أنه علّق جواز الصلاة فی أجزاء ما یؤکل لحمه بل کلّ انتفاع به علی العلم بکونه ذکی.

2. صحیح الحلبی، عن أبی عبدالله علیه السلام ، قال: «تکره الصلاة فی الفراء إلّا ما صنع فی أرض الحجاز، أو ما علمت منه ذکاة». (2)

فإنه قد استثنی ما عُلم تذکیته فی أیّ أرضٍ کان، و لو أخذ من ید المشرکین، أو ما کان من صنع بلد المسلمین، و لو أخذةً من ید المشرکین،


1- وسائل الشیعة: الباب 9 من أبواب النجاسات ، الحدیث 7.
2- وسائل الشیعة: الباب 61 من أبواب لباس المصلی، الحدیث 5.

ص:431

لأجل قیام أمارة علی التذکیة و هو کونه فی سوق المسلمین.

3. کما قد یؤید ذلک روایة اسماعیل بن عیسی، قال: «سألت أبا الحسن علیه السلام عن جلود الفراء یشتریها الرجل فی سوق من أسواق الجبل، أیسأل عن ذکاته إذا کان البایع مسلماً غیر عارف و فی «الجواهر»: «إذا کان مسلماً عارفاً»؟ قال: علیکم أنتم أن تسألوا عنه إذا رأیتم المشرکین یبیعون ذلک، و إذا رأیتم یصلّون فیه فلا تسألوا عنه. (1)

فان ایجاب السؤال قد علّق علی الأخذ من المشرکین، من دون تفصیل بین کون الأخذ منهم فی بلد الاسلام و سوق المسلمین أو غیره، فلابدّ من تقیید اطلاقه بما قد عرفت من تجویز ذلک للآخذ منهم إذا کان فی بلد المسلمین و سوقهم، کما فی روایة الحلبی، بل و فی غیر هذه الروایة مثل ما ورد فی صحیح البزنطی عن الرضا علیه السلام ، قال: «سألته عن الخفاف یأتی السوق فیشتری الخفّ لا یُدری أذکی هو أم لا، ما تقول فی الصلاة فیه، و هو لا یدری أیصلّی فیه؟ قال: نعم أنا أشتری الخفّ من السوق و یصنع لی، و أصلّی فیه، و لیس علکیم المسأله». (2)

حیث تدل علی أنّ نفس کون السوق من أسواق المسلمین یکفی بترتیب آثار الطهارة و الحلّیة علی الجلود، و لا حاجة الی السؤال و العلم بذلک، و اطلاق ذلک یشمل حتّی لو أخذه من ید الکافر و المشرک، فضلاً عن أخذه من ید المسلم الذی یعلم سبق ید الکافر علیه، کما لا فرق فی


1- وسائل الشیعة: الباب 50 من أبواب النجاسات ، الحدیث 7.
2- وسائل الشیعة: الباب 50 من أبواب النجاسات ، الحدیث 6.

ص:432

حلیّته و طهارته بین کون المسلم الذی یؤخذ منه مخالفٌ ممّن یستحلّ ذبائح أهل الکتاب أو لا یری حلیّة الجلد بالدباغ أم لا، کلّ ذلک لأجل ورود أخبار متواترة علیه، فضلاً عن قیام السیرة المستمرة المستقیمة، بل و حکایة الاجماع و اطلاق الأخبار إن لم نقل ظاهرها، کما هو المحتمل. مضافاً الی أنّه مقتضی سهولة الشریعة و سماحتها و عدم العسر و الحرج فیها و المساواة، بل لعلّ لهذا السبب حکی الاجماع من حلّ ذبائح العامة مع عدم رعایة ما یلزم عندنا فی الذبح من الشروط و غیر ذلک.

أقول: ممّا ذکرنا یظهر عدم قوة ما توقف فیه الفاضل من طهارة الموجود فی ید المستحلّ للمیته بالدبغ، بل ظاهر «الذکری» الحکم بالنجاسة، لما قد عرفت أنّه مخالفٌ لما یستفاد من الأخبار. اللّهم إلّا أن یراد باستثناء ما تکون الأمارة دالّة علی کونه ممّا هو کذلک، فهو حینئذٍ أمر آخر غیر ما نحن بصدده، کما لا یخفی.

و أیضاً: ممّا ذکرنا ظهر حکم الطهارة لما یؤخذ من ید غیر المعلوم اسلامه اذا کان السوق سوق المسلمین، و البلاد بلادهم، و کانت الغلبة للمسلمین، کما یدلّ علیه حدیث مصحّحة اسحاق بن عمّار، عن العبد الصالح علیه السلام أنّه قال: «لا بأس بالصلاة فی الفراء الیمانی و فیما صنع فی أرض الاسلام. قلت: فإن کان فیها غیر أهل الاسلام؟ قال: إذا کان الغالب علیها المسلمین فلا بأس» (1) حیث یؤیّد کون الأصل هو الحکم بالطهارة حتی یتّضح خلافه، و أنّ الامارات المذکورة من الغلبة و السوق توجب


1- وسائل الشیعة: الباب 50 ، الحدیث 5.

ص:433

الحکم بوجود الحلیّة و الطهارة و ترتّب آثار الاسلام.

کما أنّ الأمر کذلک فی جریان أحکام الاسلام علی مثله ممّن وجد فی أرض المسلمین من وجوب ردّ السلام و وجوب تغسیله و تکفینه و دفنه حتی یعلم أنّه من غیرهم.

بل قد یقال بطهارة المطروح فی بلاد المسلمین و أرضهم، و إن لم یکن علیه یدٌ، لکن إذا کان علیه آثار الاستعمال بأیّ نحو کان، و الحال أنّ هذا الحکم غیر جارٍ فی حقّ جلد المیته، و العلّة فی الحکم بالطهارة هو تقدیم حکم الظاهر علی الأصل فی تلک الموارد، کما هو مستفاد أیضاً من خبر اسحاق بن عمّار و علیه الفتوی، کما عن صاحب «المدارک» و «کشف الغطاء» و «اللّوامع» للنراقی، بل فی الأخیر نسبته الی ظاهر «المعتبر» و معظم الطبقه الثالثه. کما قد یؤیده خبر السکونی، عن الصادق علیه السلام : «أنّ أمیرالمؤمنین علیه السلام سُئل عن سُفرةٍ وجدت فی الطریق مطروحة، کثیرٌ لحمها و خبزها و جُبُنّها و بیضها و فیها سکینٌ، فقال أمیرالمؤمنین علیه السلام : یقوّم ما فیها ثم یؤکل لأنّه یفسد و لیس له بقاء، فإذا جاء طالبها غرموا له الثمن. قیل له: یا أمیرالمؤمنین لا یُدری سفرة مُسلمٍ أو سفرة مجوسی؟ فقال: هُم فی سعةٍ حتّی یعلموا». (1)

و الظاهر کون ذلک لظهوره فی کونه فی بلاد الاسلام، بقرنیة کون السائل و المسئول عنه فی بلد المسلمین. بل یمکن أن یکون الحکم کذلک مطلقاً کما یؤمی الیه قوله علیه السلام : «هم فی سعةٍ حتّی یعلموا».


1- وسائل الشیعة: الباب 50 من أبواب النجاسات، الحدیث 11.

ص:434

بل قد یرشد الیه فی الجملة ما فی صحیح حفص بن البُختری الکلبی، قال: «قلتُ لأبی عبدالله علیه السلام : رجلٌ ساق الهَدْی فعطب فی موضعٍ لا یقدر علی من یتصدّق به علیه، و لا من یُعلمه أنّه هدیٌ؟ قال: ینحرهُ و یکتب کتاباً یضعه علیه لیعلم من مرّ به أنّه صدقة» (1)، حیث یستفاد من هذا الخبر امکان الاعتماد علی القرائن غیر الید، و أنّه یحکم بما له من الآثار من الحلیة و الطهارة.

هذا کلّه إذا کان فی المطروح أثر الاستعمال.

و أمّا ما کان مطروحاً من اللّحم و الجلد و لا أثر من الاستعمال علیه، أو کان فی ید کافرٍ لم یُعلم سبق ید مسلمٍ علیه، أو فی أرضهم و سوقهم و بلادهم، فهو میتةٌ لا یجوز استعماله، لما عرفت من حکومة أصالة عدم التذکیة، و ظاهر بعض المعتبرة السابقه، و لعلّه مشیرٌ الی روایة اسحاق بن عمّار حیث قیّد بما إذا کان فی أرض الاسلام، و کان الغالب فیه هو المسلمین، فلازم مفهومه هو البأس فیه لو لم یکن فیه شیئاً ممّا ذکر.

و من ذلک یظهر ضعف کلام من قال بطهارة الجلد المطروح حتّی یُعلم أنّه میتة، کما حُکی ذلک عن صاحب «المدارک» تمسکاً بدلالة صحیح الحلبی، قال: «سألت أبا عبدالله علیه السلام عن الخفاف التی تُباع فی السوق؟ فقال: اشتر و صلّ فیها حتّی تعلم أنّه میته بعینه». (2)

و رواه الکلینی عن احمد بن اسماعیل، عن الفضل بن شاذان، عن


1- وسائل الشیعة: الباب 31 من أبواب الذبح، الحدیث 6.
2- وسائل الشیعة: الباب 50 من أبواب النجاسات، الحدیث 2.

ص:435

صفوان بن یحیی، عن ابن مسکان نحوه.

بل و غیره أیضاً مثل خبر علی بن حمزة: «أنّ رجلاً سأل أبا عبدالله علیه السلام و أنا عنده عن الرجل یتقلّد السیف و یصلّی فیه؟ قال: نعم. قال الرجل: إنّ فیه الکیمُخت، قال: و ما الکیمخت؟ قال: جلود دواب منه ما یکون ذکیّا و منه ما یکون میتة. فقال: ما علمت أنّه میتة فلا تصلّ فیه». (1)

و تمسکاً بقاعدة الطهارة بعد تعارض الأدلة و التساقط و الرجوع الیها إذ هو حینئذٍ کالدم المشتبه.

وجه الضعف أوّلاً: بامکان أن یکون المراد من الخبرین و ما شابهما ما کان له أثرٌ من الاستعمال أو القرائن الدّالة علی کونه فی بلاد الاسلام و أرضهم و سوقهم، إذا کان الغالب فی ذلک البلد هم المسلمون، الموجب لکونه من أفراد المذکی، و هو کذلک الی أن یعلم الخلاف و کونه میتة بعینه.

و ثانیاً: لو سلّمنا اطلاقهما حتّی یشمل ما لو لم یکن فیه أثر الاستعمال و العلامات المذکوره، لکن لابدّ من تقییدها بما قد عرفت فی روایة اسحاق بن عمّار و حملها علیه جمعاً بین المطلق و المقید، حیث کان القید بمنزلة التعلیل عن سبب کونه حلالاً، فأجاب لأنّه کان فی أرض الاسلام، أو کان الغالب فیه هم المسلمون کما علیه الفتوی.

کما أنّ التمسک بقاعدة الطهارة هنا غیر مفیدٍ، لأنّه مسبّبٌ بالنظر الی أصالة عدم التذکیة، لما عرفت أنّ الشک فی الطهارة مسببٌ عن الشک فی کونه مذکی أم لا، فإذا حکم الأصل بعدم التذکیة ترتّب علیه أثرها و هو


1- وسائل الشیعة: الباب 50 من أبواب النجاسات ، الحدیث 4.

ص:436

النجاسة، فلا یبقی حینئذٍ له شک حتّی یرجع الی قاعدة الطهارة کما لا یخفی، و هذا هو الفارق بین المقام و بین الدّم المشتبه.

نعم، قد یقال هنا إنّ مقتضی تسلیم کون المقام من باب تعارض الأدلة من الأصول و غیرها، عدم الحکم بالطهارة مثلاً، لعدم ثبوت شرطها، لا لثبوت العدم باستصحابٍ و نحوه، و هو کافٍ قطعاً، نعم لا ینجس ما یلاقیه.

اللّهم إلا أن یدعی أنّ قاعدة الطهارة تکفی فی تحققها عدم العلم بالنجاسة مع عدم الحصر إن قلنا به أیضاً، بل أکثر موارد قاعدة الطهارة من هذا القبیل، إلّا أن یفرّق باشتراطها هنا بالتذکیة بخلافها فی غیره، فإنّ النجاسة بالحقیقه هی المشروطة لا الطهارة، فتأمّل جیداً فانه لعلّک مع ملاحظة ما ذکرنا تستفید الجمع بین الفتاوی کالنصوص، فتخرج المسألة عن الخلاف حینئذٍ و الله أعلم، و یأتی إن شاء الله مزید تحقیقٍ فی باب الصلاة.

انتهی ما فی «الجواهر».

أقول: التأمّل فی المسألة یوصلنا الی عدم تمامیّة ما قیل، لوضوح أنّه لو لا الاشکال الذی عرفته هنا فی قاعدة الطهارة، کان مقتضی دلیل: «کلّ شیء طاهر من تعلم أنّه قذرٌ بعینه» هو الحکم بطهارة المشکوک، فإذا حکمنا بطهارته فإنّه مع استعماله فیما یشترط فیه الطهارة، کان مقتضی ذلک هو احراز الشرط بالحجّة، نظیر من استصحب الطهارة السابقه المتیقنة لصلاته، فإنّه واجدٌ للشرط و محرزٌ له، فلا یبقی له حینئذٍ شک فی حصول شرطه. نعم قد عرفت الاشکال هنا فی أصل تحقّق القاعدة، لأنّ موردها لا یکون إلّا فی المشکوک، فإذا زال الشک عنها بواسطة جریان أصالة عدم

ص:437

قوله قدس سره: و یستحبّ اجتناب جلد ما لا یؤکل لحمه حتّی یدبغ بعد ذکاته(1)

التذکیة، فلا شک باقٍ حینئذٍ حتّی ترجع الیه القاعدة، کما لا یخفی.

و بالجملة: ثبت ممّا ذکرنا أنّ حکم هذا الفرع هو النجاسة و عدم الحلیّة إذا لم یکن للمطروح أثر الاستعمال، و قرائن دالّة علی کونه مذکی و إلّا یکون محکوماً بالطهارة، و لعلّ ما ذکرنا هو مقبولٌ عند أکثر الفقهاء، کما یستفاد ذلک من الرجوع الی کتبهم و فتاویهم، بل هو مقتضی الجمع بین النصوص، و الله العالم. حکم جلد مالا یؤکل لحمه

حکم دباغة الجلد

(1) ما یظهر من کلام المصنف هنا هو أنّ الدباغه من موجبات جواز الاستعمال بلا کراهة، بعد ما کان المذکی ممّا لا یؤکل لحمه من ذی النفس السائلة کالسّباع، لأنها ممّا تذکی، للاجماع المحکی عن الفاضلین و الشهید و دلالة بعض الأخبار علی ذلک لا علی الطهارة، و فی المقابل منع بعض الفقهاء عن الاستعمال و حرمته الی أن تدبغ، و هو کما نقل و حکی عن الشیخ فی «المبسوط» و «الخلاف»، و السیّد المرتضی کما فی «المصباح»، مع أنّ الظاهر من الأدلة أن ما یقبل التذکیة یجوز استعمال جلده و لو قبل الدباغة، و إن کانت الدباغة مرجّحاً فی ترکه قبلها، و لعلّ وجه کلام الشیخ و من تبعه بالمنع قبل الدباغة، هو الرجوع الی أصالة الاحتیاط فی الشبهة التحریمیّة الذی دل العقل و النقل الی رجحانه.

ص:438

أقول: وجه الخروج عن أصالة عدم التذکیة و الحکم بأنّه مذکی، و یجوز استعماله وجود أخبار دالّة علیه، و إن کان الاستحباب هو الاجتناب قبل الدباغه من جهة احتمال وجود اصالة الاحتیاط و الخروج عن مخالفة الشیخ و من تبعه: و النصوص الدّالة علی الجواز إذا کان الحیوان مُذکی عدیدة:

منها: مرسلة سماعة، قال: «سألته عن جلود السباع ینتفع بها؟ قال: إذا رمیت و سمّیت فانتفع بجلده، و أمّا المیته فلا». (1)

و منها: موثقه الآخر مرسلاً أیضاً، قال: «سألته عن لحوم السّباع و جلودها؟ فقال: أمّا لحوم السباع فمن الطیر و الدوّاب فانا نکرهه، و أمّا الجلود فارکبوا علیها و لا تلبسوا منها شیئاً تصلّون فیه». (2)

و مثله الخبرین الرابع و السادس من هذا الباب، فبواسطة هذه الأخبار و اجماع الفاضلین نرفع الید عن أصالة عدم التذکیة بناء علی کونها أمراً شرعیاً، کما یؤید ذلک ما نشاهد اختلاف افرادها من ذکاة السمک والجراد و غیرهما، بل ما کان تذکیته الذبح الذی قد اعتبره الشارع فیه عن التسمیة و الاستقبال و نحوهما، و بذلک یخرج عن ارادة المعنی اللغوی الذی یوجب کون المتعلق خارجاً عن التذکیة نتیجة انتفاء بعض تلک الأمور، و یندرج تحت عنوان المیته لا المذکی النجس.

بل قد یقال بعدم الاحتیاج الی أزید ممّا ثبت اعتباره فی المأکول من ذی النفس، و أنّه یکفی متی ثبت کون الحیوان ممّا یقبل التذکیة حتّی


1- وسائل الشیعة: الباب 49 من أبواب النجاسات ، الحدیث 2.
2- وسائل الشیعة: الباب 5 من أبواب لباس المصلی، الحدیث 3.

ص:439

یدلّ دلیل علی الزیادة.

بل و کذا إن قلنا إنّ التذکیة من المعانی اللغویّة لکنها من الاسباب الشرعیة التی یرتب علیها الشارع أحکاماً عدیدة، فمع الشک فی بعض أفرادها من حیث السببیّة، یکون المرجع یرجع الی الأصل و هو العدم، اللّهم إلّا أن یمنع الشک، و یدّعی ترتّب الأحکام علی مُسمّی التذکیة، فیکون الأصل عکس ذلک.

بل قد یؤید ذلک ما عن «القاموس» و «الصحاح» من أنّ معنی التذکیة هو الذبح، لکن الشرع و العرف یأ بیان ذلک، اذ الذبح عندهما أعمّ من التذکیة کما هو دأب أهل اللغه من التفسیر بالأعم، اللّهم إلا أن یریدوا الذّبح الشرعی المخصوص، لکنه بعیدٌ جداً.

أقول: و من ذلک یظهر و هن رأیین آخرین فی معنی التذکیة:

أحدهما: احتمال کون التذکیة عبارة عن الموت بغیر حتف الأنف، حتّی أنّه لو قدّ الحیوان نصفین علی عکس القبلة و مع عدم التسمیة کان مذکی، إلّا أن یقوم اجماع و نحوه علی عدمه.

و ثانیهما: احتمال أنّ الموت مانع، و مع الموت بغیر حتف الأنف یُشک فی دخوله تحت اسمه لیتبعه الحکم، لما عرفت أنّ ما ذهب الیه الفقهاء و یدلّ علیه الدلیل غیر ما قالوا، و لذا وصفهما صاحب «الجواهر» بأنّهما

من الخرافات!

بل قال: لعلّ الاحتمال السابق من أنّ التذکیة لیست شرعیة لا یحتاج فی معناها و لا محلّها الی الشرع، بل المحتاج الیه نفس الحکم المترتّب علی

ص:440

ذلک، فإذا قال مثلاً المذکی طاهرٌ لم یحتج بعد الی شیء آخر.

أیضاً فاسد جداً، لأنّ أصل مقابلة الموت بالتذکیة من الشرع، و الّا فالموت یقابله الحیاة لا التذکیة. هذا مضافاً الی امکان المنع عن وجود دلیل لکل مذکی بحیث یجری علیه الاحکام و إن بعد، و ما تری من قوله تعالی «إِلاَّ ما ذَکَّیْتُمْ» یراد به بالنسبة الی ما یؤکل لحمه قطعاً، کما یدلّ علیه ملاحظة المستثنی منه.

و بالجملة: ظهر من جمیع ما ذکره صاحب «الجواهر» و أجاد فیما أفاد، أنّ الأقوی هو التمسک بأصالة عدم التذکیة فی کلّ حیوانٍ شُک فی قابلیته و عدمه، و علیه فالمسوخ و الحشرات باقیة علی مقتضاها حینئذٍ لعدم الدلیل، فالقول بها فیها کالقول بعدمها فی السباع لا یُصغی الیها، کما یأتی مزید تحقیق فی ذلک فی محلّه فی باب الصید و الذباحة إن شاء الله تعالی.

مناقشة کلام البحرانی: ظهر ممّا ذکرناه و قبلناه عدم تمامیّة ما فی «الحدائق» حیث قال: «الظاهر أنّه لا خلاف بین الأصحاب فیما أعلم أنّ ما عدا الکلب و الخنزیر و الانسان من الحیوانات الطاهرة، تقع علیها الذکاة، لما قد عرفت خلافه فیما بینّاه، و الله العالم».

أقول: بقی البحث عمّا ورد فی المتن و «القواعد» و غیرهما من القول باستحباب الاجتناب قبل الدبغ، کما فی «المعتبر» و «المختلف» من القول بالکراهة قبل الدبغ، فهل هنا دلیلٌ علی ذلک یمکن أن یستدل به؟

ففی «الجواهر»: إنّی لم أقف علی ما یقتضی شیئاً منها عدا الخبر الذی ستسمعه و التفصّی ,ن شبهة القول بوجوب الاجتناب قبل الدبغ، المحکی عن الشیخ و المرتضی بل الشیخین، بل فی «کشف اللّثام» عن الأکثر، بل

ص:441

فی «الذکری» من المشهور، بل هو مختاره فی «البیان»، سواءٌ کان ذلک منهم لتوقف الطهارة علیه، کما یستفاد من «المنتهی» و «جامع المقاصد» أو التعبّد المحض، کما یفهم من غیرهما، و إن کان علی أی التقدیرین فی غایة الضعف، إذ هو مع أنّه منافٍ للأصل و اطلاق أدلة الطهارة السابقه، لم نعثر علی ما یدلّ علیه أیضاً، سوی ما فی «کشف اللّثام» من أنّه روی فی بعض الکتب عن الرضا علیه السلام : «دباغة الجلد طهارته»، و هو مع قصوره عن اثبات المطلوب من وجوه، لأنّه لم یتعیّن ما المراد من الجلد کونه من مأکول اللّحم أو غیره، و ممّا یقبل الذکیة أو غیره، و من أنّه قاصر من حیث السند، لکونه مرسلاً و لم یبیّن الکتب التی نقل عنها ذلک، یحتمل کون المراد من الطهارة فیه بالدّبغ هو ازالة القذارات المعلّقة و نحوها بالدبغ لا الطهارة المصطلحة، هذا مع أنّه لا ینطبق علی القول بتعبّدیة الذبح.

و من ذلک یظهر عدم تمامیّة ما فی «الخلاف» بقوله: «إنّ جواز التصرف فی هذه الأشیاء یحتاج الی دلالة شرعیة، و إنّما أجزنا ما أجزنا بدلالة اجماع الفرقه علی ذلک».

لما قد عرفت من دلالة الدلیل علیه، و أیضاً لا یتم ما قاله بعد ذلک من (أنّه لا خلاف فی جواز استعمالها بعد دباغها، و لا دلیل قبل الدبغ) کما هو واضح.

أقول: لا ریب فی أنّ الدباغة تجوز و تتحقّق بالأشیاء الطاهرة، مثل: الشَّبّ (1) و القَرَظ (2) و العَفَص (3) و قشور الرّمان و غیرها ممّا یندرج فی ذلک،


1- الشَبّ: مصدرٌ ملح معدنی قابض لونه أبیض راجع: «المنجد» مادته.
2- القَرَظ: ورق السَلَم یدبغ به، الواحدة قرظة راجع: «المنجد» مادته.
3- العفص: مص شجرة من شجر البلّوط، نُتُوء یکون علی شجرة البُلّوط، واحدته عفصة، راجع: «المنجد» مادته.

ص:442

فیصدق به الامتثال بالاستحباب أو الکراهة أو بوجوب أو الحرمة علی اختلاف تعبیر القوم فی ذلک، و أمّا الدبغ بالأشیاء النجسة فلا یجوز، کما صرّح به فی «المختلف» و «المعتبر» و «المنتهی» و «الذکری»، بل فی الأوّل من نقل الاجماع علیه، و هو إن تمّ فهو الحجة، و إلّا کان للنظر فیه مجالٌ کالنظر فی عدم جواز مطلق الاستعمال و الانتفاع بالنجس، کما لا یخفی.

و لکن مع ذلک لو خالف و دبغ بالنجس، فالظاهر جواز استعماله عندنا بعد الغَسل، أی لیس الوجوب ثابتٌ بنحو الحکم الوضعی و بنحو الشرطیة، هذا مضافاً للأصل الجاری عند الشک فی الجواز و عدمه، فمقتضی البراءة الشرعیة من رفع ما لا یُعلم و البراءة العقلیة من قبح العقاب بلا بیان، هو الجواز بعد الغَسل، إلّا أن یرد دلیلٌ علی المنع و هو مفقود، کما أنّ مقتضی عموم العمومات أیضاً هو الجواز.

نعم، ورد هنا روایة تدلّ علی المنع، و هو خبر أبی یزید القسمی عن أبی الحسن الرضا علیه السلام : «أنّه سأله عن جلود الدارش (1) التی یتخذ منها الخفاف؟ قال: فقال: لا تصلّ فیها فإنّها تُدبغ بخُرء الکلاب». (2)

لکنه قاصرٌ عمّا نرید أولاً: لکون مضمونه أخصّ من المدّعی، لأنّه نهی عن الصلاة فیه لا الاستعمال مطلقاً.

و ثانیاً: إنّه محمول علی الکراهة، أو ارادة حال قبل الغَسل و نحو ذلک.

و ثالثا: بضعف السند، حیث لم یوثّق الرجال أبا یزید القسمی الذی نقله السیّاری عنه، راجع «جامع الرّواة» فی باب الکنی بالأب.


1- الدارش: جلدٌ معروف قاله الجوهری، کأنّه فارسی معرّب دشش راجع: «مجمع البحرین» مادته.
2- وسائل الشیعة: الباب 71 من أبواب النجاسات ، الحدیث 1.

ص:443

و یستعمل من اوانی الخمر ما کان مقیّراً او مدهونا بعد غسله(1)

نعم، علی القول بوجوب الدبغ، فهل یکتفی به لو دبغ مع النجس أم لا؟ فیه وجهان: من جهة صدق الدبغ علیه و العمل به، و إن لم یکن مع الطهارة غایته وجوب غَسله لما یشترط فیه الطهارة.

و من جهة احتمال کون الدبغ المجوّز هو مع الطهارة، و أمّا مع النجس فیشک فی تحقّقه، فالأصل عدمه.

هذا، و لکن الاطلاق فی أصل الدلیل لو لا حدیث أبی یزید یقتضی عدم شرطیة الطهارة فیما یُدبغ به، و قد احتمل بأنّ المحرّم لا یکون سبباً لحکم شرعی، لکنه غیر وجیه.

کما لا یتم القول بأنّ الطهارة شرط فی المطهّر لا فی التعبّد، فعلی فرض کونه تعبّدیاً لا وجه للقول بعدم الکفایة، و من ناحیة وجود روایة ابی یزید یدل علیه، فیعتبر کون الدبغ مع شیءٍ طاهر.

و کیف کان، طریق الاحتیاط هنا واضحٌ، خصوصاً مع ملاحظة الروایة و لو کان مرسلاً، و الله العالم. حکم استعمال بعض الأواین

حکم استعمال بعض الأواین

(1) قلنا لا اشکال فی جواز استعمال أوانی الخمر بعد الغَسل، إذا کان صلباً ممّا لا یرسب فیه الخمر، کما لو کان من نحاسٍ أو رصاصٍ أو زجاج و نحوها، أو کان الاناء مقیّراً بالقیر أو مدهونا بالزجاج المُسمّی فی العرف بالکاشی الذی سمّاه صاحب «الجواهر» بدهن خضر. نعم، یکره استعمالها اذا کان رخواً لا یمنع نفوذ الخمر فیه، کما أشار الیه.

ص:444

و یکره ما کان خشباً أو قرعاً أو خزفاً غیر مدهون(1)

(1) اما الجواز فی الأوّل لأجل ادّعاء الاجماع کما فی «المعتبر» و «المنتهی»، منضّماً الی العمومات، فیتم لنا الحجّة، بل لعلّه مستغنٍ عن مثل نقل الاجماع لضروریّته و بداهته.

نعم، الذی ینبغی أن یطالب بالدلیل علیه هو الثانی، مع أنّ القول بالکراهة موافق للمشهور نقلاً عن «کشف اللثام» إن ْ لم یکن تحصیلاً.

فیمکن أن یقال فی وجه الجواز: إنّ المقتضی من الغَسل المترتّب علیه الطهارة موجودٌ لازالته العین کغیره من النجاسات، و کذا ارتفاع المانع الذی لیس هو الّا نفوذ الاجزاء الخمریة فی الباطن لیتنجّس بها أیضاً موجود.

لکنه مندفع أوّلاً: بأنّه لیس بأسرع من الماء نفوذاً.

لا یقال: إنّ أسرعیة الماء ثابتة قبل حیلولة الاجزاء الخمریه، و أمّا بعدها فهی مانعة له عن النفوذ.

لأنّا نقول: مضافاً الی صحّة أصل الدعوی، أنّه حینئذٍ خروج عن محلّ النزاع.

ثانیاً: إنّ الأجزاء الخمریة غالباً تستهلک متی دخلت فی المسام، خصوصاً إذا جفّ الاناء و الأجزاء و حینئذٍ لیست مانعة عن حصول الطهارة الظاهرة الذی یراد استعماله.

نعم، یتنجّس ما فیه حینئذٍ لو خرجت تلک الأجزاء الی الخارج، و هو لم یلاحظ فیما ذکر.

هذه کلّه ممّا یستدلّ به، منضماً الی اطلاق ما دلّ علی حصول الطهارة

ص:445

بالغَسل و ترک الاستفصال فی:

1. موثق الذی رواه عمّار بن موسی، عن أبی عبدالله علیه السلام ، قال: «سألته عن الِدّن (1) یکون فیه الخمر، هل یصلح أن یکون فیه خلّ أو ماء أو کافح (2) أو زیتون؟ قال: إذا غُسل فلا بأس.

و عن الابریق و غیره یکون فیه خمرٌ أیصلح أن یکون فیه ماء؟ قال: إذا غُسل فلا بأس.

و قال: فی قدح أو اناءٍ یُشرب فیه الخمر؟ قال: تغسله ثلاث مرّات.

و سُئل: یجزیه أن یصبّ فیه الماء؟ قال: لا یُجزیه حتّی یدلکه بیده و یغسله ثلاث مرات». (3)

2. و موثقه الآخر و زاد فیه: «أنّه سأله عن الاناء یُشرب فیه النبیذ؟ فقال: تغسله سبع مرّات، و کذلک الکلب». (4)

3. و خبر حفص الأعور، قال: «قلت لأبی عبدالله علیه السلام : إنّی آخذ الرکوة فیقال إنّه إذا جُعل فیها الخمر و غُسلت ثُمّ جعلت فیها البُختج (5) کان أطیب له فنأخذ الرکوة فنجعل فیها الخمر فنخضخضه (6) ثم نصّبه فنجعل فیها البُختج؟ قال: لا بأس». (7)

4. و خبره الآخر، قال: «قلت لأبی عبدالله علیه السلام : الدِّن یکون فیه الخمر ثُمّ


1- الدّن: هو الحباب الذی یجعل فیه الماء و غیره کما فی «مجمع البحرین».
2- الکافح: أدام یؤتدم به، «المنجد».
3- وسائل الشیعة: الباب 30 من أبواب الاشربة المحرمة، الحدیث 1 _ 2.
4- وسائل الشیعة: الباب 30 من أبواب الاشربة المحرمة، الحدیث 1 _ 2.
5- الخضخض: هو تحرّک الماء فی الاناء کما فی «المنجد».
6- البُختج بالفارسیة یقال له شیرة.
7- وسائل الشیعة: الباب 30 من أبواب الاشربة المحرمة ، الحدیث 3 .

ص:446

یجفّف یجعل فیه الخَلّ؟ قال: نعم». (1)

هذا بناءً علی أنّ المراد هو غسله بعد التجفیف بثلاث مرّات وجوباً و بالسبع استحبابا، علی ما فی «الوسائل»، و إلّا لولا ذلک لکانت الروایة ممّا تدلّ علی طهارة الخمر أو حصول طهارته بالتجفیف فقط.

هذه هی الأخبار الدّالة بالخصوص علی جواز استعمال الاناء الذی کان فیه خمراً بعد تغسیله لأجل حبّ الخلّ و الماء فیه.

أقول: و لکن حکی عن نهایة الشیخ و ابنی الجنید و البرّاج، المنع عن استعماله، لما فی الخمر من الحدّة و النفوذ، و لدلالة بعض الأخبار علی ذلک:

منها: صحیح محمّد بن مسلم، عن أحدهما فی حدیثٍ: «و سألته عن الظروف؟ فقال: نهی رسول الله صلی الله علیه و آله عن الدّباء (2) و المزفّت (3) و زدتم انتم الحنتم یعنی الغضار (4) و المزفّت یعنی الزفت الذی یکون فی الزِّقِ (5) و یصبّ فی الخوابی، لیکون أجود للخمر.

قال: سألته عن الجرار الخضر و المرصاص؟ فقال: لا بأس بها». (6)

و منها: و خبر أبی الربیع الشامی، عن أبی عبدالله علیه السلام ، قال: «نهی رسول الله صلی الله علیه و آله عن کلّ مسکرٍ، فکلّ مسکرٍ حرام. قلت: فالظروف التی یصنع فیها


1- وسائل الشیعة: الباب 30 من أبواب الاشربة المحرمة ، الحدیث 4.
2- الدّباء: القَرع یؤخذ من قشر الیقطین کصورة الاناء.
3- المزفّت: الدّن المطلی بالقیر و الزفت.
4- الحنتم: نوع من الجرّة.
5- الزِقِ: ظرف یحمل فیه الخمر، و قد یقال بالفارسیة خیگ المنجد.
6- وسائل الشیعة: الباب 30 من أبواب الاشربة المحرمة ، الحدیث 10.

ص:447

منه؟ قال: نهی رسول الله صلی الله علیه و آله عن الدّباء و المزفّت و الحنتم و النقیر. قلت: و ما ذلک؟ قال: الدباء القرع، و المزفّت الدّنان، و الحنتم جِرارٌ خُضر، و النقیر خشب کان أهل الجاهلیة ینقرونها حتّی یصیر لها أجواف فینبذون فیها». (1)

و منها: خبر جرّاح المدائنی، عن أبی عبدالله علیه السلام : «أنه منع ممّا یسکر من الشراب کلّه و منع النقیر و نبیذ الدّبا. قال: و قال رسول الله صلی الله علیه و آله : ما أسکر کثیره فقلیله حرام». (2)

حیث یستفاد من هذه الأخبار المنع عن الاستعمال.

و لکن التحقیق أن یقال: إنّه لا یمکن رفع الید عن الأخبار المجوّزة بواسطة هذه الاخبار، بعد منع کون الخمر هو أشدّ من الماء فی النفوذ، لما قد عرفت من أن الاستدلال بأنّ الماء أشدّ لا تصلح لاثبات الکراهة، فضلاً عن الحرمة فی الاستعمال بعد الغَسل، لأنّ بعض الأخبار مضافاً الی أنّه من حیث السند ضعیفٌ هناک مناقشة فی متنه و قاصرٌ عن تقیید سائر الأخبار، هذا فضلاً عن أنّها ظاهرة فی ارادة النهی عن الانباذ فیها مخافة الاختمار، باعتبار ما فیها من الدهن أو بقایا النبیذ السابق المتغیر، لا المنع عن

مطلق الاستعمال.

کما یشهد لذلک النهی عن المزفّت أی المطلی بالزفت، و هو القیر، و عن الحنتم و هی کما قیل الجرار الخضر المدهونه بما عرفت أنّه لا اشکال فی قابلیته للتطهیر و جواز استعماله، فجمع هذه الأمور شواهد علی أنّه اراد


1- وسائل الشیعة: الباب 52 من أبواب النجاسات، الحدیث 2.
2- وسائل الشیعة: الباب 25 من أبواب الاشربة المحرمة ، الحدیث 2.

ص:448

و یُغسل الاناء من ولوغ الکلب ثلاثاً(1)

بیان المنع عن خصوصیة الانتباذ خوفاً من الاختمار و لو للاناء الذی لا یمنع من قبول التطهیر، بل قد تؤثر الرائحة و نحوها، و لکن مع ذلک کلّه لا بأس بالقول بالکراهة تخلّصاً عن شبهة الخلاف، بل و الاحتمال فی الأخبار، و استظهاراً فی الاحتیاط و نحو ذلک ممّا یکتفی به فیها للتسامح، و الله العالم.

(1) و لا یخفی أنّ الأقوال فی غَسل الاناء بعد ولوغ الکلب ثلاثه:

1. قول بالثلاث و هو المشهور، بل ادّعی علیه الاجماع ممّا عدا الاسکافی کما فی «المنتهی» و «الانتصار» و «الخلاف» و «الغنیه» و «الذکری»، بل فی «الجواهر» و هو الحجّة بعد امکان دعوی الأصل فی نفی الزائد هنا. اراد بذلک ردّ القول الثانی.

2. قول ابن الجنید من وجوب السبع مستدلاً بما سنذکره إن شاء الله.

3. القول الثالث و هو لصاحب «المدارک» رحمة الله تبعاً لاستاذه المقدس الأردبیلی رحمة الله من کفایة الغَسل مرّة.

و امّا دلیل المشهور: المُدّعی علیه الاجماع و الأصل هو صحیح أبو العباس الفضل البقباق، عن الصادق علیه السلام ، قال: «سألته عن الکلب؟ فقال: رجس نجسٌ لا تتوضأ بفضله و احبب ذلک الماء و اغسله بالتراب أوّل مرة، ثُمّ بالماء». (1)


1- وسائل الشیعة: الباب 70 من أبواب النجاسات، الحدیث 1.

ص:449

فإنّه و إن کان مشتملاً بالغَسل بالماء مرّة، لکنه علی حسب نقل المحقّق فی «المعتبر» و العلّامة فی «المنتهی» حیث زادا بعد قوله: «ثُمّ بالماء» کلمة (مرّتین)، و لذلک أفتوا بذلک کما جاء فی المتن، بل هو المحکی عن غیر واحدٍ من الکتب کالخلاف و «التذکرة» و «النهایة» و «جامع المقاصد» و «شرح الارشاد» للفخر، و «الرّوض» و «غوالی اللئالی»، بل هو المؤیّد بما جاء فی «فقه الرضا» _ کما عن رسالة الصدوق و «المقنع» و «الفقیه» _ الوارد فیه: «إن ولغ الکلب فی الماء أو شرب منه أهریق الماء و غُسل الاناء ثلاث مرّات مرّة بالتراب و مرّتین بالماء ثُم یجفّف». (1) حکم ولوغ الکلب

بل و کذلک یؤیّد بما رواه عن العامة عن النبی صلی الله علیه و آله : «إن ولغ الکلب فی اناء أحدکم فلیغسله ثلاث مرأت». (2)

و لعلّ وجه عدم ذکر المرتین فی «الوسائل» أو الناقلین بعده، هو ما ذکره صاحب «الجواهر» من أنّه: «لعلهم عثروا علیه فیما عندهم من الأصول، و خصوصاً بالنسبة للمحقق اذ هو غالباً یروی عن أصولٍ لیس عندنا منها إلّا اسمائها، بل یؤیده ایضاً وجود ذلک فی لسان قدماء الاصحاب... الی آخر کلامه».

أقول: بناءً علی ذلک لا یبقی هنا اشکال فی ترجیح هذا القول علی القولین الآخرین، إذ لیس لهما مدرک قویّ.


1- المستدرک، ج 1، الباب 43 من أبواب النجاسات، الحدیث 1.
2- حاشیة ابن مالک علی صحیح مسلم المطبوعة بهامش الصحیح، ج 1/163؛ سنن البیهقی، ج 1/240.

ص:450

و أمّا قول ابن الجنید فإنّه لیس لکلامه دلیلٌ الّا:

1. خبر العامی المروی عن النبی صلی الله علیه و آله ، و هو الحدیث السابق، إلّا أنه زاد بعد جملة (ثلاث مرأت) جملة: «أو خمساً أو سبعاً» المؤید کلامه بالأصل، و هو استصحاب بقاء نجاسته الی أن یغسله سبع مرّات کما لا یخفی.

2. موثق عمّار عن الصادق علیه السلام «فی الاناء الذی یشرب فیه النبیذ؟ قال: تغسله سبع مرات، و کذلک الکلب». (1)

أقول: و یرد علیه بأمور:

الأوّل: إنه لا یناسب مع قوله لأنّه حکم بالسبع جزماً لا تخییراً بینه و بین الخمس و الثلاث کما فی الخبر.

و ثانیاً: إنّه لم یثبت هذا الأمر من طرقناه و الخبر المذکور ضعیف و لم یکن له جابراً من الشهرة او الاجماع.

و ثالثاً: لابدّ من الحمل علی الاستحباب لأنّه لا معنی للقول بالوجوب بین الأقل و الأکثر.

و رابعاً: إنه مطرود باعراض الأصحاب عنه.

و من ذلک یظهر انقطاع الأصل بواسطة الأخبار السابقة المعتضدة بعمل الاصحاب کما لا یخفی، و بذلک نرفع الید عن موثقة عمّار فی حقّ الکلب. و إلّا فإنّ وجه القول الثانی من وجوب الغَسل مرّة لیس إلّا دعوی أنّ الروایة الصحیحة (2) لم تکن مشتمله الّا علی مرّة واحدة، و لذلک قال


1- وسائل الشیعة: الباب 30 من أبواب الاشربة المحرّمة، الحدیث 2.
2- هو صحیح البقباق المذکور سابقاً.

ص:451

صاحب «المدارک»: «لو لا الاجماع علی الثلاث لأمکن القول بالمرّة»، هذا مضافاً الی أنّه لو شک بعد الغسل الأول، أنّه هل یجب بعده غیره فالأصل هو عدم الوجوب.

أقول: و لکن قد عرفت جوابه ممّا سبق من التأیید بأمورٍ آخری.

لا یقال: إنّه اذا دار الأمر بین زیادة و نقیصة، کان الأصل الجاری فی عدم النقیصة أضعف من عدم الزیادة، لکثرة وقوع الخطأ فی النقیصة دون الزیادة، و هو یؤیّد المرّة أیضاً و بذلک نقیّد الاطلاقات.

لأنا نقول: إنّه ظهر أنّ الدلیل الوارد هو مع الزیادة بالمرتین دون المرّة، فمقتضی استصحاب بقاء النجاسة هو الزیادة أیضاً کما أنّ الزیادة لأشدّ حاجةً الی المؤنة بالنسبة الی النقیصة، فلا یمکن أن یتوهّم فی حق المحقّق و العلامة من کون الروایة خصوص المرّة، و لکنهما أضافا مرتین من عند انفسهم! و لذلک قال صاحب «الجواهر»: «بل لم یفتِ أحدٌ بالاکتفاء بالمرّة، بل لعلّ ذلک مخالفٌ لشعار الشیعة، و لما یظهر من الأخبار من شدّة نجاسته الکلب، بل هی أشدّ من البول الذی وجب فیه التعدد».

و علیه، فالالتزام بما علیه المشهور هو الاصحّ، و هو الاکتفاء بالثلاث، و حمل أخبار الزائد عنها من الخمس و السبع علی الاستحباب، و بذلک یحتمل التوفیق بالجمع بین الأخبار. فروع تتعلق بحکم الولوغ

فروع تتعلق بحکم الولوغ

الفرع الاوّل: ظاهر المتن کغیره قصر الحکم علی الولوغ الذی هو

ص:452

عبارة عن الشُّرب بل هو المشهور بین الاصحاب نقلاً و تحصیلاً، شهرة کادت تبلغ الاجماع، و تفسیر الولوغ بالشرب هو المذکور فی «مصباح المنیر»، و «الصحاح» لکن زاد فیه: «بطرف لسانه»، بل و کذا فی «القاموس» و إن ْ فسره ب_ (ادخال لسانه فی الاناء و تحریکه) و لم یتعدّ الحکم عنه الی غیره من مباشرة باقی اعضائه من یده و رجله غیر اللّطع، و هو مسّ اللسان و مسحه لجدار الظرف، حیث إنّه إمّا مساوٍ للولوغ، أو أنّه أولی منه لو لم یصدق علیه أنّه هو.

نعم، فی «مجمع البرهان» نفی عنه حتی المباشرة بلسانه، بما لا یسمّی ولوغاً حتی اللّطع، تمسکاً: بالأصل فی وجهٍ، و لعلّ المراد منه هو أصالة البراءة عن وجوب الغسل بأزید من مرّة.

و باطلاق الأمر بالغَسل فی نجاسة الکلب، المفهوم من النصوص بعد الغاء الخصوصیة فیما تضمنته النصوص السالمین _ أی من الأصل و الاطلاق _ عن المعارض فی غیر الولوغ، هذا.

أقول: لکن اعترض علیه صاحب «الجواهر» فی استدلاله بالأصل بأنّه یقتضی عکس ذلک. و لعلّه أراد بأنّه لا اشکال فی حصول النجاسة بذلک، فیشک فی رفعها بالمرّة، فاستصحاب بقائها یحکم بالنجاسة الی أن نقطع بالزوال، و هو یقتضی فی الولوغ تکرّر الغسل.

و لکنه لا یخلو عن نقاش: لأنّ الشک فی البقاء بعد الغَسل لمرّة واحدة لیس إلّا من جهة شمول دلیل الولوغ، فإن قلنا بعدم صدقه أو شُک فی صدقه، فلا یترتّب علیه حکمه قطعیاً، اذ مادام لم یثبت موضوع الحکم لا

ص:453

یترتب علیه الحکم جزماً، فبعد الشک یکون المرجع الی أصل البراءة، و هو لیس إلّا کفایة المرّة کما فی سائر النجاسات.

اللّهم إلّا أن یتمسک بالدلیل الذی یثبت حکم الولوغ فیه أیضاً، کما أشار الیه بعد ذلک بقوله: «و ما بعده بأعمیّته صحیح البقباق الذی هو مستند الحکم من الولوغ، لأنّه قد أخذ فیه عنوان الفضل، و هو أعمّ من الولوغ، خصوصاً إن أخذنا فیه طرف اللّسان أو ادخاله و تحریکه فیه، لوضوح أنّ الفضل یصدق علی بقیّته الملطوع و المأکول و نحوهما دون الولوغ.

اللّهم إلّا أن یقال: بأنّ الأمر و إن کان کذلک من أعمیّة الفضل عنه، لکن المراد منه هنا _ باعتبار ظهوره فی بقیّة الماء المشروب بطریق الولوغ کما هو أغلب أحوال شرب الکلب إن لم یکن جمعیه _ هو الولوغ.

هذا، و لکن ذهب صاحب «الجواهر» الی القول بالتعمیم من الولوغ الی الوقوع فضلاً عن اللّطع، معللاً ذلک بالمنع عن ظهور صحیح بقباق فی شرطیة تحقّق الولوغ فی لزوم تطهیره لثلاث مرّات، بل المراد هو مطلق السؤر الذی هو بمعنی المباشرة عندنا من الفضل، بل أیّده بالأصل _ أصالة بقاء النجاسة _ و روایة «فقه الرضا» من ذکر الولوغ مع الشرب، و غلبة اتحاد الحکم فی اجزاء الحیوان، بل قال: «یمکن أن یدّعی أولویة غیر الفم منه فی هذا الحکم، باعتبار أنّ فمه أنظف منها، و کذا کانت نکهته کما قیل أطیب من غیره من الحیوانات لکثرة لهثه» و لذلک ساوی بینهما المفید و النراقی کما عن الصدوقین، بل قد یظهر من سیّد «الریاض» المیل الیه بین الولوغ فی ذلک و بین مباشرة باقی اعضاء الکلب، و صرّح بأنّه لا یخلو من وجهٍ.

ص:454

ثم أضاف: «بأنّ التأمّل الجید فی صحیح بقباق و ظهور سیاقه یوصلنا الی کون سیاقه فی ارادة بیان نجاسة الکلب، من غیر مدخلیة لشیءٍ آخر فیه، و لا أقلّ من الشک، و الأصل بقاء النجاسة» انتهی کلامه. (1)

أقول: ما ذکره مخالفٌ لما ذهب الیه المشهور من اختصاص الحکم بالولوغ و ما بحکمه من اللّطع، لأنّه المنصوص فی العامیین المخبرین بعمل المشهور و الأصحاب، و إن کان مفاد الصحیح هو الأعم بلفظ الفضل، إلّا أنّ مباشرته الماء غالباً یکون بالولوغ، فتسریة الحکم منه الی مطلق الوقوع لمطلق الاعضاء لا یخلو عن تأمّل، و إن کان الاحتیاط یقتضی ما ذکروه، لأجل الاعتماد علی ما قال به قدماء الاصحاب کالصدوقین و المفید و غیرهم، بل لعلّ الجمود بالخبر الصحیح و الأخذ بظاهر اللفظ، یستلزم ما قاله صاحب «الجواهر»، إلّا أنه لا یمکن الجزم به، بل غایته الاحتیاط و لا ینبغی ترکه.

الفرع الثانی: أنّه ظهر کون اللّطع مثل الولوغ، بل هو هو بعبارة أخری، لأنّ الحیوان إذا لم یجد فی الاناء ماءً أو شیئاً فیبقی علی الجدار أثر لزوجة فمه و لابدّ من تطهیره، و علیه فاخراج مثل اللّطع عن حکم الولوغ مشکلٌ جداً.

و إن کان قد نقل عن الأردبیلی قدس سره المنع عن التعدّی الی مباشرة لسانه أیضاً بما لا یُسمّی ولوغاً حتی اللّطع، لکنه لا یخلو عن اشکال، لوضوح أنّه لا یفقد شیئاً ممّا یتضمّنة الولوغ من الأمور المناسبة للتنجیس أو التعفیر، و لذلک تلاحظ قبول الحاقه به ممّن لا یقبل ذلک فی باقی الأعضاء، کما لا یخفی.


1- الجواهر، ج 6/357.

ص:455

الفرع الثالث: عن أنّه هل یلحق بالولوغ لو ألقی لعابه فی الاناء من دون ولوغ أم لا؟ فیه خلاف: نقل عن «النهایة» للفاضل الحاقه، کما علیه بعض الفقهاء المتأخّرین کالعلامة البروجردی من الاحتیاط الوجوبی، و لا یبعد قبول الحاقه لشدّة المناسبة مع الولوغ و اللّطع، و إن کان المنقول عن المشهور خلافه لأجل فقد الدلیل، و لکن لا یبعد أن یکون وجه الالحاق هو قطع مدخلیة اللّعاب فی الولوغ و اللّطع من غیر اعتبار فی السبب، نعم لا یلحق به باقی الأعضاء کما علیه المشهور إلّا بما عرفت من وجه الالحاق فلا نعید.

کما لا یلحق بالولوغ باقی فضلاته کعرقه و سائر رطوباته، کما علیه المشهور، خلافاً للفاضل فی نهایته مدعیاً الأولویّة، لأنّ فمه یعدّ أنظف من باقی اعضائه و فضلاته، فإذا کان الحکم فیه ذلک، ففی غیره یکون بطریق أولی.

أقول: لکن الأولویّة ممنوعة مع ما عرفت من فقد الدلیل، نعم الحکم بالاحتیاط هنا واضحٌ لأجل ما عرفت فی باقی الأعضاء.

و أیضاً: ینبغی القطع بعدم الفرق فی حکم الولوغ بین الماء و غیره من سائر المایعات، لصدق الولوغ فیها کالماء، و لا خصوصیّته فی الماء کما لا یخفی. کما یظهر حکم مقطوع اللّسان إذا شرب کرعاً، لجریان حکم الولوغ فیه حیث إنّه یحرّک الماء فی فمه عند تنفسه، فیکون حینئذٍ کالولوغ أو هو من مصادیقه، فیجری فیه حکمه.

هذا، مضافاً الی امکان استفادة ذلک فی المباشرة بالفم أو الشرب کرعاً ممّا ورد فی الصحیح من ذکر لفظ (الفضل)، حیث یشمل المباشرة بجمیع

ص:456

هذه الافراد، و یدخله فیما یلزم فی تطهیره ما یلزم فی الولوغ.

الفرع الرابع: فی أنّه هل یلحق بالولوغ ما یتنجّس بماء الولوغ من الأوانی أم لا؟ فیه خلاف:

1. قول بالالحاق کما هو المحکی عن «نهایة» الفاضل و المحقّق الثانی، و علیه صاحب «الجواهر» بقوله: «نعم، یقوی فی النظر الحاق ما تنجّس بماء الولوغ من الأوانی». مستدلاً بظهور صحیح البقباق الذی هو مستند الحکم هنا فی لزوم التعفیر فی نجاسة الاناء بفضلة الکلب، الصادق علی اراقه ذلک الماء مثلاً من الأناء الاول فی الاناء الثانی بأنّه فضلة کلب، هذا.

2. و قولٌ آخر هو عدم اللّحوق کما علیه المحقق فی «المعتبر» و «الذکری» و «المدارک»، بل و ظاهر «الخلاف» اقتصاراً فی الحکم علی موضع النص، خصوصاً فیما یکون حکمه مخالفاً للأصل، لأنّ التعفیر لا یکون إلّا فی موارد مخصوصة دون سائر النجاسات، فیکتفی علی مورد النص.

أقول: و نزید فی تأیید هذا الکلام، و ردّاً علی کلام صاحب «الجواهر» بأنّ کلمة (الفضل) الوارد فی الصحیح لم یرد معناها الحقیقی الواسع، بل هی مقیدة بالاجماع و دلالة دلیل آخر من الرضوی و الروایة العامیّة المعتضدة بالشهرة علی خصوص الولوغ، فلابدّ فی تسریة الحکم من الاناء الواقع فیه الولوغ الی غیره من صدق الفضل بالولوغ لا مطلقاً، و العرف لا یساعد مع الاناء الثانی و بعده أنّه فضلٌ حاصل فیه من الولوغ، کما یظهر ذلک إذا لوحظ مع الاناءات المتعاقبه المتعددة، و علیه فالقول الثانی هو الأوجه، و إن کان طریق الاحتیاط موافقاً مع الأوّل.

ص:457

الفرع الخامس: لو أصاب ذلک الماء الجسد و الثوب و نحوهما ممّا لا یصدق علیه عنوان الاناء، هل یلحق بالاناء بلزوم التعفیر أم لا؟

الظاهر عدم الالحاق، و الدّلیل علیه عند صاحب «الجواهر» لیس إلّا لأجل عدم تحقّق وقوع الولوغ فی الاناء، مع أنّ ظاهر النص و الفتوی دوران الحکم مدار الاناء، هذا بخلاف ما نحن علیه من الدلیل حیث یضاف الی الدلیل الذی ذُکر و هو عدم صدق الولوغ باصابة الماء الی الجسد و الثوب، و إن صدق علیه الفضل بصورة المطلق.

أقول: کما یظهر ممّا ذکرنا آنفاً حکم مسألة أخری، و هو ما لو ولغ الحیوان الماء من کفّ الانسان أو من علی ثوبه و نحوه فإنّه لا تعفیر و إن یلزم کونه فی اناءٍ أیضاً، إذ لا یصدق علیه الاناء، لکن جاء فی «الجواهر»: «إنّه لا یخلو من نظر و تأمّل من حیث ظهور الصحیح السابق فی کون الاناء فیه مثالاً لغیره، لا أنّه یراد منه التخصیص و التعیین قطعاً، و إلّا لم یؤدّ بهذا النوع من العبارة».

و لکن یرد علیه: أنّه لو أرید منه مطلق الفضل من الماء، و لم یرد صدق خصوص ولوغ الاناء، أوجب ذلک لزوم التعفیر فی کلّ ما یصیبه الماء المزبور، و لو لم یکن مورده إناءً، بل حتّی و لو لم یصدق لما اصابه ولوغاً، و الالتزام بمثل هذا العموم مشکلٌ جدّاً، بل ربما یکون مخالفاً للشهرة لو لم نقل الاجماع، و إن کان ذلک مقتضی الاحتیاط، و لذلک استقرب العلّامة فی «النهایة» الحاق هذا الماء بالولوغ، و علّله بوجود الرطوبة اللّعابیة، و لکن ردّه جملة من تأخّر عنه حتّی مثل المحقّق، و هو

ص:458

الأوجه فی عدم لزوم تعدّد الغَسل فضلاً عن التعفیر، و الله العالم.

الفرع السادس: علی القول بنجاسة ماء الغُسالة، هل هو کماء الولوغ من لزوم التعدد فی الغسل و التعفیر أم لا؟ فیه خلاف:

1. قول بلزومهما کما عن المحقّق الثانی، حیث أوجب التعفیر من ملاقاة ماء الغُسالة مع فرض صحة وقوعها قبل التعفیر، تمسکاً بانتقال حکم نجاسته الی ملاقیها، مؤیداً ذلک بالاستصحاب و نحوه، فإذا أوجب التعفیر، فلا یبعد عنده القول بلزوم التعدد فی الغسل لعموم تعلیله کما لا یخفی.

2. خلافاً لجماعة أخریٰ و منهم صاحب «الجواهر» لصدق النجاسة بالفضل للأوّل دون الثانی، و لذلک لم یجب فیه التعفیر و إن قلنا بوقوع الغَسل قبله فاتفق الاصابة حینئذٍ من ذلک الغَسل المتقدم، فتکون هذه النجاسة فی ماء الغسالة حینئذٍ کسائر النجاسات حتّی لو قلنا بأنّ ماء الغسالة حکمه حکم المُحلّ قبلها، لأنّه یمکن تخصیصه بما إذا لم یکن لخصوص النجاسة مدخلیة.

و أمّا لو کان ماء الغسالة من حیث الحکم کالولوغ، فإنّه واضحٌ فی عدم صدقه بالنسبة الی ماء الغُسالة، فلا یجری فیه حکمه، کما أشار الیه الشهید فی «الروضة» عند البحث عن الغُسالة.

هذا لو قلنا بتأخیر التعفیر عن الغَسل کما لو وقع فی الوسط أو فی الاخیر، و إلّا لو قلنا بتقدیم التعفیر علی الغَسل، فلا اشکال فی عدم تصوّر تقدیم الغُسالة حتّی یجب التعفیر فیه کالمحلّ، بل غایته فی الالحاق هو لزوم العدد فی الغَسل.

ص:459

و کیف کان، الأوجه عندنا هو الأخیر لعدم صدق الولوغ بمثل ماء الغسالة، بلا فرق بین صوره و أقسامه، فلا یلزم فیه التعفیر و لا العدد، لأنّه حینئذٍ متنجس، و یکفی فیه حکم سائر النجاسات، و لا مجال للرجوع الی الاستصحاب، لأنّ الشک هنا یرجع الی الشک فی أصل صدق حکم الموضوع فیه، و الأحکام تابعة لاثبات موضوعاتها، فالشک فی أصل موضوعه یوجب الشک فی أصل الثبوت، فکیف یستصحب حکمه؟!، و هو واضحٌ للمتأمّل.

هذا، مضافاً الی امکان أن یقال: إنّ أصل النجاسة ثابت و غیره من التعفیر و العدد مشکوک، فالأصل یقتضی عدمه و هو المطلوب.

الفرع السابع: فی أنّه هل یتفاوت فی حکم الولوغ بین کونه للکلب الواحد لمرّة واحدة أو لمرّات عدیدة، و بین کونه للکلب الواحد أو المتعدد أم لا؟

الظاهر عدم الفرق فی الحکم فی الموردین بلا خلاف و لا اشکال، و ذکر فی وجهه أمران:

أحدهما: ما تفوّه به الشیخ فی «الخلاف» و جعل وجهه أنّ الفقهاء جمیعاً لم یفرقوا بین الواحد و المتعدد إلّا من شذّ من العامة فأوجب لکلّ واحدٍ العدد بکماله. ثم قال: «إنّ النصّ خال من التعرّض للفرق بین الواحد و الأکثر، و الکلب جنسٌ یقع علی القلیل و الکثیر».

و أراد من النصّ صحیح الفضل البقباق، قال: «سألتُ أبا عبدالله علیه السلام عن فضل الهرّة و الشّاة و البقرة و الابل و الحمار و الخیل و البغال و الوحش و

ص:460

السّباع، فلم أترک شیئاً الّا سألته عنه؟ فقال: لا بأس به حتّی انتهیت الی الکلب، فقال: رجسٌ نجسٌ لا یتوضّأ بفضله، الحدیث». (1)

و الی ذلک أشار صاحب «الجواهر» بقوله: «لظهور الجنسیة التی لا یتفاوت فیها القلیل و الکثیر کباقی النجاسات بالنسبة الی بعضها مع بعض».

و ثانیهما: ما وقع فی کلام الأصحاب بعد ذکر وجه الأول حیث زادوا علیه: تکرّر الولوغ من الواحد أیضاً، و احتجّ علیه الفاضلان فی «المعتبر» و «المنتهی» بأنّ النجاسة واحدة فقلیلها ککثیرها، لأنّها لا تتضمن زیادة عن حکم الأولی.

أقول: و کلاهما جیّد، فالحکم فیه واضحٌ لا یحتاج الی مزید بیان.

الفرع الثامن: لا خلاف و لا اشکال مثل السابق علیه أنّه یجب الاستیناف لو فرض وقوع الولوغ فی الاثناء، لعدم تصویر التداخل فیما مضی، و لا فائدة بل لا وجه للاتمام ثم الاعادة، لوضوح أنّه بالتکرار یجب تعلق الحکم به، فإذا أتی بما هو للثانی أوجب تکمیل الاوّل بالعدد أیضاً، بخلاف ما لو أتی بما هو اکمال للعدد فی الاوّل، حیث إنّه لا یحسب للثانی إلّا بعض العدد، فیبقی نجساً کما لا یخفی.

کما أنّ الأمر کان کذلک فی النجاسات الأخر إذا عرضت له فی الاثناء.

الفرع التاسع: ذکر جملة من المتأخّرین و متأخریهم ما صرّح به الصدوقان و المفید من الحکم بالتجفیف، و لعلّهم استندوا فی ذلک بما ورد فی «فقه الرضا» من قوله علیه السلام : «و إن وقع فیه کلبٌ أو شرب منه أهریق


1- وسائل الشیعة: الباب 1 من أبواب الاشار، الحدیث 4.

ص:461

الماء، و غُسل الاناء ثلاث مرّات؛ مرّة بالتراب، و مرتین بالماء، ثُم یجفف». (1)

و قد نقل الصدوق عن أبیه عین هذه العبارة فی «الرسالة» أیضاً.

اعترض علیه: بأنّه منفی بالأصل و لا نصّ فیه إلّا مثل نصّ «فقه الرضا» حیث اعتمد علیه و مع عدم عمل الاصحاب به الّا ما عرفت من المتقدمین، خصوصاً مع عدم وجود ذلک فی صحیح البقباق، و الالتزام بتقیید اطلاقه بواسطة هذا الحدیث مشکلٌ جداً، و إن کان العمل بالاحتیاط فیه حسن، و الله العالم.

الفرع العاشر: هل یلحق بالکلب ولوغ الخنزیر من لزوم التعفیر أو لا یلحق؟ فیه خلاف:

1. حیث یظهر من الشیخ فی «الخلاف» الالحاق، و تمسّک لذلک بوجهین:

الأوّل: أنّ الخنزیر یُسمّی کلباً فی اللغة، فتتناوله الأخبار الوادرة فی ولوغ الکلب.

و الثانی: أنّ الاناء یُغسل ثلاث مرأت من سائر النجاسات و الخنزیر

من جملتها.

انتهی کلامه رحمة الله علی المحکیّ فی «الحدائق». (2)

2. و قول هو عدمه کما عن الشیخ فی غیر «الخلاف» من «المبسوط» و «المصباح» و «مختصره» و «المهذّب»، کما علیه صاحب «الحدائق» و «الجواهر» و «مصباح الفقیه»، اذ لا یثبت کلا الدلیلین لمثل هذا الحکم،


1- فقه الرضا، ص 5.
2- الحدائق، ج 5/492.

ص:462

أولاهنّ بالتراب علی الأصحّ(1)

لوضوح أنّ العرف لا یسمیه کلباً أوّلاً، و لو سُلّم ففی العرف لا ینصرف الاطلاق الیه. هذا فضلاً عن ضعف الاستدلال له بأنّ سائر النجاسات یغسل منها الاناء ثلاث مرات، و الخنزیر نجسٌ بلا خلاف فیه، إذ البحث فی مساواته للولوغ فی الحکم بالتراب و نحوه لا العدد، و إلّا فقد یقوی فی النظر وجوب سبع مرات فی ولوغ الخنزیر ضعف عدد الکلب و زیادة علی ولوغه، کما علیه فتوی کثیر من الفقهاء علی وجوب الغسل سبع مرات، کما عن «المختلف» و «الارشاد» و «القواعد» و «الذکری» و «جامع المقاصد» و غیرها من کتب متأخّری المتأخّرین، مستدلین علی ذلک بصحیح علیّ بن جعفر، عن أخیه موسی علیهما السلام ، قال: «سألته عن خنزیرٍ شرب من اناءٍ کیف یصنع به؟ قال: یغسل سبع مرات». (1)

حیث یدل علی وجوب الغسل، و علیه فلا وجه للقول بالاستحباب کما حمله المحقق فی «المعتبر»، مع عدم وجود معارض لها، و لعلّ وجه حمله هو عدم وجود قائل بالوجوب فی المتقدمین قبل المحقّق رحمة الله ، و لکنه غیر ضارّ بما هو المختار من الوجوب، لظهور الأمر علی الوجوب کما لا یخفی.

و کیف کان، ثبت أنّ رأی المصنف هو وجوب غَسل الاناء من ولوغ الکلب ثلاثاً.

(1) إنّ وجوب کون الغسلة الأولی بالتراب من بین الثلاث، هو المشهور بین الفقهاء نقلاً و تحصیلاً کما فی «الجواهر».


1- وسائل الشیعة: الباب 13 من أبواب النجاسات ، الحدیث 1.

ص:463

و الدلیل علیه: الأصل، و لعلّه أراد من الأصل استصحاب بقاء النجاسة لما وقع التعفیر فی غیر الأولی، لأنه ورد فی الحدیث فی الأولی ثم الروایة الصحیحة المرویّة عن أبی العباس الفضل، عن أبی عبدالله علیه السلام فی حدیثٍ: «و اغسله بالتراب أوّل مرّة ثم بالماء». (1)

و اجماع الغنیة، و إن کان الوارد فی خبر «فقه الرضا » بصورة الاطلاق من قوله: «إن ولغ الکلب فی الماء أو شرب منه اهریق الماء و غُسل الاناء ثلاث مرّات مرّة فی التراب و مرتین بالماء، ثم یجفف». (2)

لکنه غیر ضائرٍ أوّلاً: لامکان القول فیه بالأخذ بصورة الترتیب المذکور فی العبارة، فیصیر حینئذٍ کالصحیحة، أو یحمل علیه بواسطة روایة البقباق.

ثانیاً: عدم مقاومته للمعارضة لما فی حجیّته من الاشکال لو وقع منفرداً.

ثالثاً: کما لا یضرّ اطلاق معقد اجماع «الانتصار» و «الخلاف» لا مکان حمله علی الترتیب المذکور.

و علیه، فیصیر هذا القول هو المختار، و أوجه و أقوی، ممّا ذهب الیه المفید فی «المقنعة» من اعتبار کون الوسطی کذلک، إذ لم یثبت علی دعواه مستند کما اعترف به غیر واحدٍ سوی ما فی «الوسیلة» من نسبته الی الروایة، لکنها کما تری مرسلة بأضعف وجهی الارسال علی ما فی «الجواهر». و لعلّه اراد أنه ارسال فی الارسال، حیث اسند فتوی المفید الی الروایة مرسلاً، کما أنّ المنقول عن «الوسیلة» أیضاً کان بالارسال، مضافاً


1- وسائل الشیعة: الباب 1، الحدیث 4.
2- المستدرک، ج 1، الباب 43 من أبواب النجاسات، الحدیث 1.

ص:464

الی أنّه قاصرٌ عن المعارض بوجوه: أوّلاً بالارسال، و ثانیاً باعراض الاصحاب عنه، و ثالثاً باعتضاد القول الأوّل بالشهرة و الاجماع، و رابعاً مخالفته مع استصحاب النجاسة کما عرفت. فروع تتعلق بحکم الغَسل من الولوغ

فروع تتعلق بحکم الغَسل من الولوغ

الفرع الاوّل: بعد ما ثبت کون الغسلة الأولی بالتراب واجبة، فهل یجب مزج التراب بالماء أم لا؟ فیه أقوال:

1. وجوبه کما هو مختار ابن ادریس و الراوندی، و قوّاه العلّامة فی «المنتهی» تحصیلاً لحقیقه الغَسل، حیث لا یتحقّق الّا مع المایع أو الذی یعدّ أقرب المجازات الیه، و إن حصل التجوّز بالتراب، بل هو مختار صاحب «کشف اللّثام»، بل قد نسب ذلک الی صاحب «الریاض» علی احتمالٍ فی قبال احتمال ایجاب الجمع بین الصورتین کما سیأتی فی القول الرابع، هذا.

أقول: لکن استضعفه المحقق الشیخ علی، و قال إنّه خیال ضعیف، فإنّ الغسل حقیقةً هو اجراء الماء فالمجاز لازم علی تقدیر ذلک، مع أنّ الأمر ورد بلزوم غسله بالتراب، و الممزوج لیس تراباً.

و أجاب عن الاشکال: _ الشهید فی «الذکری» تبعاً للعلامة فی «المختلف» _ بأنّه لا ریب فی انتفاء الحقیقه علی کلا التقدیرین، و الخبر مطلق فلا ترجیح، و هو یرجع فی الحقیقه الی الأول إذ من الواضح أنّ حقیقه الغَسل لا تحقّق بالممتزج لأنّه یکون بالمایع الجاری علی الشیء، و إن أرید من الغسل و لو بصورة المجاز، فهو یمکن التزامه فی التراب وحده

ص:465

من دون تصرّف فی حقیقة الغسل، فیدور الأمر حینئذٍ بارتکاب أحد المجازین: إمّا فی خصوص الغَسل و حفظ التراب فی حقیقته، أو بالعکس، فلا مرجّح لأحدهما علی الآخر، و الخبر مطلق فیدلّ بظاهره علی الاکتفاء بأقلّ ما یتحقّق معه الاسم، فیحتاج اثبات الزائد علیه الی دلیلٍ، هذا.

و لکن یمکن أن یقال: إنّ الحکم بلزوم الممزوج یوجب ارتکاب المجازین:

أحدهما: فی الغَسل حیث لا تکون حقیقةً إلّا فی المایع لا فی مثل الممزوج، إلّا أن یراد منه مثل ما یراد فی السّدر فی الماء للمیّت، و الحال أنّه غیر مرادٍ هنا.

و ثانیهما: فی التراب، حیث لا یصدق حقیقهً إذا امتزج بالماء.

هذا بخلاف ما ذهب الیه المشهور من حفظ التراب فی حقیقةً لأصالة الحقیقة، أو ارتکاب المجاز فی خصوص الغَسل، فلا یلزم حینئذٍ إلّا مجازاً واحداً، و هو أولی من ارتکاب المجازین، فیصیر هذا قولاً ثانیاً فی المسالة کما صار الیه المشهور، و منهم صاحب «جامع المقاصد»، و ظاهر «الخلاف»، بل مال الیه صاحب «مصباح الفقیه».

3. و القول الثالث هو القول بالتخیّیر، و هو ما عرفته من کلام الشهید فی «الذکری» من اطلاق الخبر، و جواز العمل بکلّ من التقدیرین، و مثله فی «البیان» و «الدروس»، بل هو ظاهر الشهید الثانی، لکنه اعتبر المزج بما لا یخرج به عن اسم التراب، و قوّاه فی «الذخیرة» مستدلاً بحصول الغرض بهما، و هو ازالة ما لصق بالاناء من اللّعاب، فیحصل الامتثال.

4. و القول الرابع هو الجمع بین الصورتین باتیانهما معاً، و هو الذی مال الیه

ص:466

الاستاذ فی «شرح المفاتیح»، بل و السید صاحب «الریاض» علی احتمالٍ آخر.

أقول: و یمکن توجیهه بأنّه أحوط، لتوقف یقین الطهارة من تلک النجاسة الیقینیّة علیه، و هو طریق النجاة، و إن کان الأقوی هو القول الثانی للمشهور، ترجیحاً لحفظ لفظ (التراب) علی حقیقته، لامکان أن یکون وجه استعمال لفظ (الغَسل) علیه هو کونه من باب الغلبة و التغلیب، حیث إنه ذکر بعده: «بالماء مرّتین» فتکون هذه قرنیة علی المجاز، و مرجّح لهذا الاحتمال علی الآخر، فیردّ به قول الشهید الأوّل فی ذلک، کما لا یخفی علی المتأمّل الدقیق.

و بالجملة: علی ما بیّناه ظهر أنّه لا حاجة الی ما ذکره صاحب «الحدائق» فی تثبیت أحد الوجهین من الاستعانة بقواعد النحو، بجعل الباء فی (بالتراب) للاستعانة أو للمصاحبة: فعلی الأول یؤیّد قول المشهور، لأنه یصیر بمنزلة قولهم: «کتبتُ بالقلم» فلا یبقی للظرف موضوعیة و تعلّق خاص یعیّن التجوّز فی لفظ (الغَسل) بارادة الدلک منه بنوعٍ من العلاقة.

و علی الثانی یکون مثل قولهم: «دخلتُ علیه بثیاب السفر». فالظرف علی هذا التقریر حالٌ من الغَسل المدلول علیه بالأمر، و هو حینئذٍ مستقر لکون متعلقه أمراً عاماً واجب الحذف، و هو الکون و الاستقرار، فعلیه لا حاجة الی التجوّز فی الغَسل، بل یبقی علی حقیقته، إلّا أنّه یحتاج الکلام الی تقدیرٍ متعلق الجار، و یصیر حاصل الکلام: «و اغسله حال کون الغَسل کائناً بمصاحبة التراب»، لما عرفت أنّ وجه استعمال لفظ (الغسل) و کونه مجازاً إنّما هو من باب التغلیب و کون التراب علی باقیاً، علی حقیقته فیثبت

ص:467

بذلک قول المشهور، و الله العالم.

الفرع الثانی: قد عرفت أنّ مختارنا عدم اعتبار المزج فی التراب، و علی القول به فهل یعتبر کون الماء مطلقاً، أو یجوز و یُجزی و لو کان مضافاً؟ فیه خلاف:

1. قولٌ بالاعتبار کما علیه العلّامة فی «التذکرة»، حیث قال: «إن قلنا بمزج التراب بالماء فهل یجزی لو صار مضافاً؟، اشکالٌ».

2. و قول بعدمه، کما یظهر من صاحب «الجواهر»، حیث قال: «إنّ هذا الاشکال فی غیر محلّه، و مخالف لظاهر کلمات الأصحاب، إذ لم أعرف أحداً اعتبر بقاء الماء علی اطلاقه من القائلین بالمزج، بل صریح بعضهم کما عرفت اشتراط عدم خروج التراب عن اسمه بالمزج».

3. و قول بالتفصیل، و هو کما عن «النهایة»، بأنّ ذلک مبنیّ علی کون وجوب التعفیر أمراً تعبّدیاً، فلابدّ من رعایة ظاهر النقل من اطلاق کلمة الماء، و علی کونه استظهاراً فی القلع فیجزی غیر الماء المطلق.

أقول: و الأوجه هو الثانی منها، لوضوح أنّه یکفی فیه صدق الغَسل و التطهیر و لو بالماء المضاف، کما لا یخفی.

الفرع الثالث: وهو أنّه هل یعتبر أن یکون المزج بالماء، أو یکفی و لو کان بغیر الماء من سائر المضافات مثل ماء الورد و الخلّ، و کلّ ما یصدق معه الغَسل من المایعات؟

أقول: لا دلیل علی الاعتبار إلّا دعوی کون الماء هو المتبادر بالحقیقه، أو المنصرف الیه لدی الاطلاق، فاثبات الاعتبار بمثل ذلک مع فرض کون

ص:468

الغَسل بسائر المایعات أیضاً یعدّغسلاً حقیقةً لا یخلو عن اشکال، إلّا أن الاحتیاط یحکم بالاعتبار، و الّا مع عدم ذکر المتعلّق فی الغَسل کان احتمال مطلق المایعات وجیهاً، و الله العالم.

الفرع الرابع: فی أنّه هل یجب الاقتصار علی التراب أم یمکن أن یقوم مقامه ما یکون مثله کالأشنان و نحوه؟

نقل العلامة فی «المختلف» عن ابن الجنید أنّه یجزی فی الغسلة الأولی التراب و ما یقوم مقامه، فإنّه یدلّ علی عدم تحتّم التراب عنده، خلافاً لجمهور الأصحاب الذین علی خلافه وقوفاً فیه علی النصّ و الفتوی، و إن حکی عنه المصنّف ذلک حال عدم التمکن من التراب، کما سیأتی التعرّض له فی الفرع القادم.

الفرع الخامس: بناءً علی اعتبار التراب، فهل یکون ذلک مطلقاً، أی سواءٌ تمکن منه أم لم یتمکن، أم أنّ الاعتبار لخصوص صورة التمکن، و الّا یجوز مع غیره أیضاً؟ فیه خلاف: قول بالأوّل و هو عن «جامع المقاصد» و «کشف اللّثام» و «المدارک» و «الذخیرة» و غیرها، للأصل أی استصحاب بقاء نجاسته بعد الغَسل به، و مساواته مع حال التمکن فی علّة المنع، و عدم امکان تنقیح المناط بعد طهوریة التراب دون غیره، علی أنّه لو جاز فی

حال الاضطرار، لزم جوازه فی حال الاختیار، لعدم وجود دلیل یخصّ بصورة الاضطرار.

و قول بالثانی، و هو عن العلّامة فی «القواعد» و الشهید فی «الذکری» و «البیان» و «المبسوط» من الإجزاء، لحصول الغرض من ارادة قلع النجاسة و

ص:469

الأجزاء اللّعابیة، بل ربما کان بعضه أقویٰ فی الازالة من التراب.

أقول: الأوجه هو الاوّل لامکان أن یکون فی التراب خصوصیّة للازالة ممّا لیس فی غیره، فاثبات کون ذکر التراب لأجل القلع و نحوه مشکلٌ جدّاً.

و یتفرّع علیه: أنّه اذا لم یتمکن من التراب، فإنّ النجاسة تضلّ باقیه حتّی یتمکن من التراب کما هو الأمر کذلک إذا فرض عدم التمکن من ما یقوم مقامه لو أجزناه مع عدم التراب، و هو موافق لظاهر أو صریح أکثر من قدّمناه أو جمیعهم لعین ما مرّ من الدلیل، کما أنّ الأمر کذلک فی الماء أیضاً، لأنّه مع الماء بمنزلة واحدة فی الدلیل، و هو صحیح البقباق، و لا یضرّنا انه یوجب التعطیل مع ملاحظة أنّه یعدّ أمراً نادراً، بأن لا یتمکن من التراب أو لا یتمکن من تحصیل الماء العاصم فیما یحتاج الیه بلا تعفیر، أو معه کندرة مشقّة الاستغناء عن خصوص الاناء، مع أنّه حرج شخصی لا نوعی، هذا هو مختار صاحب «الجواهر» و کثیر من الفقهاء.

خلافاً لقواعد العلّامة و «مبسوط» الشیخ، بل و قوّاه العلامة فی «المنتهی» و قرّبه فی «التحریر»، بل نسب صاحب «المدارک» ذلک الی جمعٍ من الأصحاب بأنّه اذا لم یتمکن من التراب یجتزی بالماء خاصّة، بل قد یظهر من الشیخ التخییر عند عدم التراب بین الاقتصار علی الماء و استعمال ما یشبه بالتراب، بل هو المنقول من العلّامة فی «التذکرة» و «النهایة» کما یعزی الی الشیخ بإجزاء الماء وحده عند عدم التراب و شبهه کما ذهب الیه العلّامه فی جملةٍ من کتبه، و کذا الشهید.

و الأوجه عندنا و عند صاحب «الجواهر» و «الحدائق» هو القول الأوّل.

ص:470

الفرع السادس: إنّه لو التزمنا بالقول الثانی و أنّه لا یسقط التطهیر بواسطة انتفاء التراب و شبهه، بل لابدّ من التطهیر بالماء، فهل:

1. یکتفی بالماء مرّتین بأن یقال إنّ التراب قد سقط لأجل التعذّر، فلابدّ من العمل بما بعده من الغَسل بالماء مرّتین لفقد الدلیل الدّال علی البدل کما هو مختار العلّامة فی «التحریر» و «المنتهی» علی ما نُقل عنه؟

أو لابدّ من الاتیان بالثلاث واحدة منهنّ بدل التراب تحصیلاً للیقین بالطهارة و تحقیقاً للتثلیث و اقامة للماءً مقام التراب لکونه أقوی فی الازالة، و لعدم سقوط المیسور بالمعسور بناءً علی اعتبار المزج؟ الذی قال عنه صاحب «الجواهر» بأنّه لا ریب فی قوّته.

أقول: الأمر کذلک علی القول باعتبار المزج اعتماداً علی دلالة قاعدة المیسور، حیث إنّه إذا تعذّر أحد جزئی المطلوب و هو التراب، فإنّ ذلک لا یوجب سقوط وجوب الجزء الآخر و هو الماء، فلا مجال حینئذٍ للقول بأنّ الامر بالمرکب إذا انتفی أحد جزئیة، یوجب انتفاء المشروط بانتفاء شرطه و هو المرکب، لأنّه مربوط بما اذا کان مرتبطاً معاً فی الدلیل دون ما یکون غیر ذلک، و علیه فالأحوط لو لم یکن أقوی هو وجوب الثلاث، کما لا یخفی.

الفرع السابع: وقع الخلاف بین الأصحاب فیما لو تعذّر التعفیر لأجل خوف الفساد باستعمال التراب، فهل الواجب حینئذٍ:

1. مثل التراب من لزوم الغَسل بالماء مرّتین أو ثلاث مرأت علی القولین فی البدلیة، و هو منقول عن «المنتهی» و «التذکرة» و «التحریر» إلّا أنّه فی

ص:471

«التذکرة» صرّح بالاجتزاء بالماء و لم یتعرّض للعدد، بخلافه فی «المنتهی» إذ رجّح المرّتین.

2. أم أنّ الاناء باقٍ علی النجاسة؟

أقول: الأخیر قول الأکثر، و به صرّح الشهید الثانی فی «الروضة»، و نقله فی «المعالم» عن بعض مشایخ عصره، بل هو مختار صاحب «الحدائق» و «الجواهر» و «مصباح الفقیه» و أکثر أصحاب التعلیق علی «العروة»، تبعاً لصاحبها، و هو الأقوی عندنا، لأنّه یکون حینئذٍ مثل حکم فاقد الماء فقط، أو فاقده و التراب معاً، حیث إنّه یبقی علی النجاسة، لما قد عرفت بأنّ الدلیل قائمٌ علی اختصاص تطهیره بهما، و مع فقدهما لیس لنا دلیلٌ یدلّ علی البدلیة، فیبقی علی أصالة النجاسة.

نعم، قد یظهر من بعضٍ کصاحب «الجواهر» و «مصباح الفقیه» الشک فی شمول أدلّة التطهیر لبعض الاناء الذی لا یمکن تطهیره بالتراب: إمّا لأجل ضیق فمه بحیث لو أرید تعفیره لانتهی الی کسره، إلّا أن یقال بکفایة القاء التراب فیه و تحریکها علی وجهٍ یستوعبها، أو بالقاء التراب الممتزج مع الماء حتّی یصیر کالطین و ادخاله فیه و تحریکه بشدّة حتّی یستوعب و نلتزم بکفایته فی التطهیر، و لم نقل بلزوم الدلک، فیجب ذلک ثم لیغسّله بالماءحیث إنّه لم یقم دلیلٌ علی لزوم الدلک، إلّا أن یستظهر ذلک من کلمة (التعفیر) و هو أوّل الکلام، لامکان شموله لمثل ما قلنا فی القسمین فی ادخال التراب فیه.

أو کان عدم امکانه لأجل نفاسة الاناء، حیث یفسد مع ملاقاته للتراب،

ص:472

بأن یُدّعی أنّ ظهور النصّ و الفتوی فی الاناء الذی یمکن تعفیره، فلا یشمل ما لا یمکن کذلک بالذّات لا بالعارض، فیندرج مثل هذا القسم من الاناء تحت حکم الأوانی المتنجسة بغیر الولوغ، کما اعترف بذلک الاستاذ فی کشفه، و احتمله غیره.

أقول: الالتزام بذلک جزماً لا یخلو عن تأمّل، و إن کان أصل الدعوی لا یخلو عن وجاهة، و طریق الاحتیاط فیه واضح، و هو الاجتناب عنه، و هو الأوجه.

و من ذلک یظهر حکم القربة و المطهرة المتعذّر تعفیرها بالتراب علی وجه الدلک، لو قلنا باعتباره فی الغَسل بالتراب، إن قلنا بشمول عموم حکم الولوغ لغیر الأوانی من کونه منصرفاً عنه الدلیل لو قلنا به، و إلّا یبقی علی النجاسة، أو یتطهّر بالتراب و لو بغیر دلک، بأن یلقی فیه التراب و یحرّکه بشدّه ثم یغسل بالماء.

و لکن الأحوط بقائه علی النجاسة کسائر الأوانی المتنجسه بالولوغ.

نعم، شمول أدلة الأوانی لمثل الحوض لولوغ فیه الکلب بأن یجب فیه التعفیر مشکلٌ، لعدم صدق الاناء عرفاً علی مثله، و إلّا دخل تحت حکم الأوانی المتنجسة بالولوغ فی توقف طهارتها علی التعفیر.

الفرع الثامن: فی أنّه هل یشترط فی التعفیر طهارة التراب أم لا؟

فیه خلافٌ:

1. احتمل عدمها العلّامة فی «النهایه» أی بکفایة النجس و إجزائه، و وجّه ذلک بأنّ الغرض من التراب الاستعانة علی القلع بشیء آخر و شبهه بازالة بالنجس، بل قد مال الیه صاحب «الریاض»، هذا بلا فرق بین أن

ص:473

یکون التراب له دخلٌ فی نفس التطهیر کالماء، أو لم یکن، بل کان من قبیل الشرائط الخارجیة لتاثیر الماء فی الطهارة، نظیر شرطیة الاستعلاء فی التطهیر بالماء القلیل، مع أنّه لم یثبت قاعدة اشتراط طهارة المطهر، و إن ثبت فاطلاق النص و فتوی القدماء من جهة شرطیة الطهارة حیث لم یُذکر فیها ذلک یقیّد اطلاق شرطیة طهارة المطهر فی المقام، فیصّح التعفیر حتّی مع التراب النجس و یجزیه، بل هو ظاهر کلام صاحبی «المعالم» و «المدارک»، هذا أحد القولین فی المسالة.

2. و القول الآخر هو الاشتراط، کما علیه الأکثر مثل العلّامة فی «المنتهی» و الشهید فی «البیان» و المحقّق فی «جامع المقاصد»، و «الروض» و «الحدائق» و «شرح المفاتیح» و کشف الاستاذ: للأصل عند الشک فی حصول الطهاره مع نجاسة التراب، فالاستصحاب یحکم بالبقاء. و لتبادر الطهارة من الاطلاق المذکور فی النصّ، نظیر تبادر الطهارة فی الماء حیث لا عموم و لا اطلاق للنصّ فی مثل الطهارة، لأنّ الاطلاق هنا مسوقٌ لأمرٍ آخر و لیس بصدد بیان کفایة مطلق التراب من حیث الطهارة و النجاسة، و معلومٌ أنّ من شرائط أخذ الاطلاق کون المتکلم فی صدد بیان ذلک، نظیر عدم دلالة (فَکُلُوا مِمَّا أَمْسَکْنَ) من الکلب المُعلّم علی طهارة موضع فمه و عضّه، بل الآیة فی مقام بیان أصل الحلیّة، خصوصاً مع ملاحظة الأمر بالغَسل به المنصرف الی الطاهر، و إن ْ لم یرد من الغَسل حقیقته، بل قد یمکن دعوی مدخلیة طهارته فی التطهیر إذا صار فی ردیف الماء فی الغسل، لا سیّما مع ملاحظة استعمال لفظ (الطهور) فی الاناء فی الروایة

ص:474

النبویّة بقوله صلی الله علیه و آله : «طهور إناء أحدکم». (1)

کما أنه نمنع عموم ثبوت شرطیّة الطهارة فی المطهّر أو تقیّد اطلاقها بالمقام، لما تری شرطیة الطهارة فی نظائرها مثل حجر الاستنجاء و طهارة الأرض التی توجب طهارة الخُفّ و نحوه، مع امکان الاستدلال لشرطیّة الطهارة بالحدیث المشهور المروی عن أبی أمامة عن النبی صلی الله علیه و آله : «جُعلت لی الأرض مسجداً و طهوراً» (2) بناءً علی أن المراد من (الطهور» هو الأعمّ من الحَدَث، فیشمل الخَبث لا خصوص الحَدَث کما اختاره صاحب «الجواهر».

و علیه، فالأقوی عندنا کما علیه الأکثر، هو اختصاص الطهارة بالتراب دون غیره.

الفرع التاسع: فی أنّه هل یسقط التعفیر فی الغَسل بالماء الکثیر و الجاری و المطر أم لا؟ فیه خلاف:

1. قول بعدم السقوط، کما علیه المحقق فی «المعتبر» و العلامة فی «المنتهی» و «الذکری» و «جامع المقاصد» و «الروض» و «المسالک»، و صاحب «الجواهر» و «الحدائق» و «مصباح الفقیه» و «مصباح الهدایة»، بل فی الحدائق إنّه المشهور.

2. و القول الآخر هو الحکم بالسقوط و هو ظاهر «المختلف» أو محتمله، و محتمل «الخلاف»، و صریح کشف الاستاذ و صریح نهایه الفاضل، اقتصاراً فیما خالف الأصل، و الاجتزاء بمطلق الغَسل المستفاد من


1- کنز العمال، ج 5/89، الرقم 1884.
2- وسائل الشیعة: الباب 7 من أبواب التیمم، الحدیث 3.

ص:475

اطلاق الأدلة، و أصالة البراءة فی وجهٍ علی المتقین المتعارف فی ذلک الزمان، علی ما هو المحکی فی «الجواهر».

أقول: لکن الحقّ هو القول الأوّل، لاطلاق النصّ الشامل حتّی للاناء الملاقی مع ماء الکثیر بجمیع أقسامه، و لا یعارضه عموم مرسلة الکاهلی فی قوله: «کلّ شیءٍ یراه المطر فقد طهر» (1)، و عموم ما ورد قول أبی جعفر مرسلاً المحکی عن «المختلف» مشیراً الی غدیر ماءٍ: «إنّ هذا لا یصیب شیئاً إلّا طهّره» (2)، فإن النسبة بین المقام و بین هذین الخبرین و إن کانت هو العموم من وجه، إلّا أن موردهما إنّما یکون فیما کان شأنه التطهیر بالماء لا مطلقاً حتّی ما یحتاج فی تطهیره الی التعفیر کما فی المورد.

بل یمکن أن یقال: إنّ لسان النصّ الوارد فی التعفیر لسان الحکومة علی تلک العمومات، و مقدّم علیها، فلا یلاحظ بینهما النسبة المذکورة حتّی یوجب التعارض فی مورد الاجتماع.

و علیه، من ذلک یظهر أنّه لا مورد هنا للتمسک بأصالة البراءة بعد قیام دلیلٍ یدلّ علیه باطلاقه، کما لا وجه للتمسک بالقدر المتیقن و المتعارف فی ذلک الزمان من التطهیر بالماء القلیل، لأجل الاطلاق المذکور الشامل لمطلق المیاه، من دون تفصیل بین القلیل و الکثیر، کما أشار الیه الأعلام. و علیه فعدم سقوط التعفیر هو الأقوی.

أقول: و من ذلک یظهر أنّ ما ذکره «المختلف» فی وجه سقوط التعفیر،


1- وسائل الشیعة: الباب 6 من أبواب الماء المطلق ، الحدیث 5.
2- المستدرک، الباب 9 من أبواب الماء المطلق، الحدیث 8.

ص:476

من أنّه حال وقوع الاناء فی الکرّ لا یمکن القول بنجاسته حینئذٍ لزوال عین النجاسة اذ التقدیر ذلک، و الحکم زال بملاقاة الاناء للکرّ.

ممّا لا یمکن المساعدة معه، لأنّه بالمصادرة أشبه، لأنّ الدعوی إنّه لا یزول النجاسة بملاقاة عین النجاسة بالماء الکثیر إلّا بعد التعفیر دون قبله کما لا یخفی.

الفرع العاشر: فی أنّه هل یسقط العدد من المرّتین أو الثلاث _ علی حسب اختلاف القولین فی الغَسل بالماء الراکد من الکثیر _ أم لا؟ فیه خلاف:

1. قولٌ بعدم السقوط، و هو الظاهر من الشیخ فی «الخلاف» و «المبسوط» و المصنّف فی «المعتبر»، کما علیه صاحب «الجواهر» و المحقّق الآملی و صاحب «الحدائق»، مستدلاً له بأنّه لازم القول بعدم سقوط التعدّد فی غسل الثوب بالماء الکثیر من البول، مضافاً الی الأصل و هو استصحاب بقاء النجاسة الی أن یتعدّد، و اطلاق دلیل التعدّد علی روایة «المعتبر» له، و معاقد الاجماعات و غیرها السالمة عن المعارضة.

2. و قول بالسقوط کما علیه الفاضل فی «المنتهی» و «القواعد» و الشهیدین و المحقّق الثانی و غیرهم، فتجزی المرّة فیه، و فی کلّ الأوانی بناءً علی اعتبار التعدد فیها للأصل، و لعله أراد منه البرائة عن الزائد علی المرّة، مضافاً الی ظهور أدلة التعدد فی الغسل بالقلیل، کما یشهد لذلک ملاحظة زمان صدور هذه الروایة التی کان فی عصرٍ لم یکن الماء فیه کثیراً من الکرّ و غیره، فینصرف اطلاق الدلیل فی التثلیث الی خصوص الماء القلیل دون الکثیر باقسامه.

أقول: أدلّة هذه المجموعة لم تخلو عن وجاهة، و لکن مع ذلک مع ملاحظة اطلاق الدلیل فی کلا الموردین من التعفیر و العدد، یوجب التردّد

ص:477

و من الخمر و الجُرَزْ ثلاثاً بالماء، و السّبع أفضل(1)

للفقیه و لذلک حکمنا بالاحتیاط الوجوبی فی الاتیان بالتعدد، و عدم ترکه، کما علیه بعض الفقهاء، بل قد یؤید هنا برفع الید عمّا یدلّ علیه صحیح البقباق و الرضوی بالاطلاق علی مثل الکثیر بأقسامه، و تقیّده بعموم الخبرین، و همّا: «إنّ کلّ شیء یراه المطر فقد طهر»، و الخبر المشیر الی ماء الغدیر بقوله: «إنّ هذا لا یصیب شیئاً إلّا طهره»، أو تخصیص هذین العمومین باطلاق صحیح البقباق و الرضوی. و علیه فلا اشکال فی تقدیم الأخذ بالعموم و التقیید فی الاطلاق، لأنّه یکون بالوضع و الثانی بمقدمات الحکمة، فمع وجود بیان و عموم لا یبقی لجری المقدمات فیه موردٌ، فلازم ذلک هو القول بکفایة المرّة، خصوصاً فی مثل الجاری و المطر، حیث قال المحقق فی «المعتبر» بعدم سقوط العدد فی الماء الکثیر دون الجاری، فکأنّه أراد التفصیل بأنّ للماء الجاری جریٌ متعدد فیصدق عرفاً علیه حصول العدد، بخلاف الماء الکثیر فی الکرّ.

کما یؤیّد ما ذکره مشاهدة سقوط العدد فی الثوب المتنجّس بالبول إذا لاقی مع الماء الجاری دون غیره من الکرّ. حکم تطهیر أوانی الخمر و غیرها

و هذا و إن ْ لم یکن خالیاً عن المناقشة، إلّا أنّه مع ما عرفت یمکن تأیید ذلک من ملاحظة تقدیم العموم علی الاطلاق. لکن لا یخلو الاحتیاط عن حُسن، لأجل احتمال حکومة دلیل العدد علی مثل هذین الخبرین، و الله العالم.

(1) ای یجب غَسل الاناء من نجاسة الخمر و موت الجُرَزْ بالماء ثلاث مرّات.

ص:478

و الجُرَزْ کما ضبطه فی «الجواهر»: «بضمّ الجیم و فتح الرّاء کعُمر و رُطب، و هو الذکر من الفأر کما فی «المصباح المنیر» عن ابن الأنباری و الأزهری. و فی «کشف اللثام» عن «العین» و «المحیط» بل و «النهایة» الأثیریة وصف الذکر فیها بالکبیر، بل لعلّه یرجع الیه ما ورد فی «الصحاح» و «المغرب» و «المعرب» من أنّه ضربٌ من الفأر. نعم عن ابن سیده: «إنّه ضربٌ منها أعظم من الیربوع أکدر، فی ذنبه سوار»، الجاحظ: «إنّ الفرق بین الجُرَز و الفأر کفرق ما بین الجاموس و البقر و النجاتی و العراب» و فی «المصباح» عن بعضهم: «إنّه الضخم من الفیران یکون فی الفلوات، و لا یألف البیوت». و قد یظهر منه خلاف ذلک و أنّه نوع آخر من الفأر فیه الذکر و الأنثی، لکنه لا صراحة فیه، بل یمکن أن یرجع الی ذلک عند التأمّل، و لعله الموافق لعرفنا الآن».

انتهی کلامه شکر الله مساعیه الجمیله، فقد أتعب نفسه الشریف فی تحقّیق ذلک، و قد أتی بتفصیل حسن جیّد فی ضبطه و تفسیره.

أقول: بعد الوقوف علی الموضوع، یصل الدور الی بیان حکم الخمر و الجُرَزْ من جهة تطهیر ما بهما یتنجّس، حیث قد وقع الخلاف بین الأعلام فی کیفیة تطهیر أوانیهما الی أقوال المتعددة، فلا بأس بذکرها، فنقول یقع البحث هنا علی موردین:

المورد الأول: فی الأوانی التی لاقت مع الخمر أو وقعت فیها: فهل یحصل طهارتها بالغسل مرّة واحدة کسائر النجاسات، أم لابدّ فیها الغَسل ثلاث مرآت، أو السبع، أو یکفی الأوّل، و یُحمل الثانی و الثالث علی

ص:479

أفضل الأفراد، أو یکفی الثانی دون الاوّل وجوباً، و یحمل الثالث علی الندب و الأفضل؟ وجوه و أقوال:

القول الأول: القول بکفایة المرّة، و هو مختار المحقق فی «المعتبر»، و العلّامة فی أکثر کتبه، و الشهید الثانی فی «الروض»، و جماعة من المتأخّرین، غایة الفرق بین قول الشهید و قول الفاضلین أنّ الأوّل یقول بالمرّة بصورة الاطلاق فی الاجتزاء، بخلاف قولهما حیث قیداه بکونه بعد ازالة العین، و اختار هذا القول صاحب «المدارک» و صاحب «المعالم» و استدلّوا لاثبات مدّعاهم: بأصل البراءة عن وجوب الزائد عن المرّة. و باطلاقات الأدلة الدالة علی التطهیر فی سائر النجاسات.

و بموثقه عمّار بن موسی، عن أبی عبدالله علیه السلام ، قال: «سألته عن الدّن (1) یکون فیه الخَمر، هل یصلح أن یکون فیه خَلّ أو ماء أو کافح (2) أو زیتون؟ قال: إذا غُسل فلا بأس.

و عن الابریق و غیره یکون فیه خمر أیصلح أن یکون فیه ماء؟ قال: إذا غُسل فلا بأس، الحدیث». (3)

و لحصول الغرّص بالمرّة الواحدة.

و لفحوی الأجتزاء بالمرّة فیما هو أغلظ نجاسةً مثل دم الکلب و الکافر و دم الحیض.

هذا کلّه دلیل القائل بکفایة المرّة.


1- أی الخمرة.
2- کافح، بفتح المیم و قد یکسر هو الذی یؤتدم به معرّب کامه، و کامه نان خورشی.
3- وسائل الشیعة: الباب 30 من أبواب الاشربة المحرمة، الحدیث 1.

ص:480

أقول: و لکن لا یخفی ما فی الکلّ: أمّا الأصل: فلوضوح أنّ المورد یعدّ من موارد استصحاب بقاء النجاسة بعد غَسل المرّة، إلّا أن یثبت بدلیل متقن علی کفایة المرّة فی خصوص الخمر، أو هی مع الجُرز، و مع جریان الاستصحاب لا یبقی موردٌ لاجراء أصالة البراءة.

و أمّا عن الاطلاقات: فبأنّها یفسد بواسطة ما سیأتی من الأخبار باختصاص الثلاث أو السبع فی تطهیر الأوانی المتنجسة بالخمر، مع أنّ قوله: «إذا غُسل فلا بأس» لا اطلاق فیها، لامکان أن یکون مشیراً الی ما هو المعتبر فیه، و لا یکون فی صدد بیان کفایة المرّة أو أزید فی ذلک، بل یُطلب ذلک من دلیل آخر، و هو لیس إلّا ما سیأتی من الأخبار الدالة علی ذلک.

و أمّا الجواب عن کونه محصلاً للغرض: فإنّا نمنع ذلک بعد ما عرفت من أنّ وجوب الغَسل یعدّ أمراً تعبّدیاً.

کما یظهر من ذلک جواب الفحوی أیضاً: لأنّه إذا عرفت کون الوجوب تعبّدیاً، لا معنی للمقایسة بین المورد و بین غیره ممّا هو أغلظ، لأنا تابعون فی ذلک علی حدّ دلالة الدلیل، و لا نعتقد بالقیاس و الاستحسان کما لا یخفی، و علیه فالحکم بالمرّة مشکلٌ جداً.

القول الثانی: القول بلزوم التثلیث إمّا مع القول فی غیره من النجاسات، فیندرج فیها الخمر أیضاً، أو فی خصوص الخمر دون غیرها: فأمّا الأول منها: لموثقه عمّار الساباطی، عن أبی عبدالله علیه السلام ، قال: «سُئل عن الکوز و الاناء یکون قذراً کیف یُغسل، و کم مرّة یُغسل؟ قال: یُغسل ثلاث مرّات، یصبّ فیه الماء فیحرّک فیه ثم یفرغ منه، ثُم یصبّ فیه ماء آخر فیحرّک فیه

ص:481

ثم یفرغ ذلک الماء، ثم یُصبّ فیه ماء آخر فیحرک فیه ثم یفرغ منه، و قد طهر، الحدیث». (1)

فانّ اطلاقه یشمل جمیع النجاسات، إلّا أن نرفع الید فی غیره من النجاسات بواسطة قیام الدلیل علی کفایة المرّة، فیحمل الثلاث فی النجاسات غیر الخمر علی الندب، مع أنّه مشکل فی الماء القلیل، حیث إنّه لا یبعد لزوم التثلیث فی الماء القلیل، و التحقیق عن ذلک أزید ممّا ذکرنا موکول الی محلّه.

و أمّا الثانی: و هو قیام الدلیل علی لزوم التثلیث فی خصوص الخمر، و هو لدلالة موثقه عمار بن موسی، عن أبی عبدالله علیه السلام ، قال: «سألته عن الدَن... الی أن قال، و قال: «فی قدحٍ أو اناء یشرب فیه الخمر؟ قال: تغسله ثلاث مرأت.

و سُئل أیجزیه أن یصبّ فیه الماء؟ قال: لا یجزیه حتّی یدلکه بیده و یغسله ثلاث مرّات». (2)

فإنّ دلالة الحدیث علی وجوب التثلیث تامّة، لو لا ملاحظة الأدلة الدالة علی وجوب السّبع کما سیأتی إن شاء الله.

و هذا هو مختار المحقق فی «الشرایع» و فی «النافع»، و العلّامة فی «القواعد»، و صاحب «کشف الرموز»، بل و الشیخ فی «الخلاف» لایجابه غَسله ثلاثاً فی کلّ نجاسةٍ، حاکیاً فیه الاجماع علی حصول الطهارة بها.

القول الثالث: و هو لزوم السبع فی تطهیرها، و نُسب ذلک الی المشهور.


1- وسائل الشیعة: الباب 53 من أبواب النجاسات، الحدیث 1.
2- وسائل الشیعة: الباب 51 أبواب النجاسات ، الحدیث 1.

ص:482

الدلیل علیه: _ مضافاً الی أنّه القدر المتیقن فی حصول الطهارة، و الشک فی الناقص عنها _ موثقه عمّار، عن الصادق علیه السلام : «فی الاناء الذی یُشرب فیه النبیذ؟ قال: تغسله سبع مرّات، و کذلک الکلب». (1)

بل فی «اللوامع» وجود روایة موثّقه أخری له أیضاً بالسّبع فی الخمر و لکن قال صاحب «الجواهر»: «إنّی لم أجدها».

أقول: و لا یخفی أنّ دلالة هذه الموثقه علی لزوم السبع بالمنطوق، و دلالة الروایة الموثقه الدالة علی التثلیث بعدم لزوم السبع بالمفهوم، لأنّه یدلّ علی عدم لزوم الزائد عن الثلاث، فیقدّم المنطوق علی المفهوم بحسب القاعدة، لأنّ دلالة المنطوق علی المطلوب أظهر کما لا یخفی، و قد وافق هذا القول عدد کثیر من الفقهاء، مثل ما حکی عن ظاهر «المقنع»، بل مال الیه فی «الریاض»، بل هو خیرة «الذکری» و «جامع المقاصد» و تعلیق «النافع» فیه و فی کلّ مسکرٍ، کطهارة «النهایة» و «الوسیلة» و فی «النافع» و «الدروس» و «المصباح» و «المراسم» و «البیان» و «الألفیّة» و ظاهر «الاصباح» و مختصره، و «ظاهر المقنعة» و «المبسوط» الاقتصار علی السبع فی کلّ مسکرٍ، و فی «جُمل» الشیخ من اقتصاره فی الخمر، لکن فی الجمل کالسرائر، و لأجل ذلک نسب هذا الی المشهور، و مال الیه صاحب «الجواهر». و بالشهرة و عمل الأصحاب ینجبر ضعف سند الحدیث، لو کان ضعیفاً.

ثم الروایة الدالة علی لزوم السّبع مقتصرٌ فیها علی النبیذ دون الخمر، و


1- وسائل الشیعة: الباب 51 أبواب النجاسات ، الحدیث 1.

ص:483

هو أخصّ من الخمر لأنّ اسم الخمر مختص بما یؤخذ من عصیر، العنب و لکن الاصحاب فهموا من النبیذ ما یشمل الخمر، فیرتفع الاشکال.

هذا هو غایة ما استدلّ به للقول الثالث.

أقول: و لکن التحقیق الحرّی للتصدیق هو الحکم بلزوم التثلیث وجوباً، و السّبع استحباباً بمقتضی الجمع بین الأخبار، لأنّ الراوی فی کلّ من الوجوه الثلاثه هو عمّار بن موسی، غایة الأمر الروایة الأولی للوجه الأوّل مطلق و لم یذکر فیه العدد، و قابلٌ للجمع مع أحد الوجهین الآخرین، فیدور الأمر فی الجمع ملاحظة الجزئین المشتملین علی الثلاث و السبع، بین أن یطرح أحدهما و یؤخذ بالآخر أو بالجمیع بینهما بالتّصرف فی الهیئة، فمع ملاحظة القاعدة المشهوره بین الفقهاء من أنّ الجمع مهما أمکن أولی من الطرح، فإنّ مقتضاها هنا هو الحکم باللزوم و الوجوب فی الثلاث، و الاستحباب فی السَّبع. کما یؤیده عطف الکلب فیه المجمع علی استحباب السبع فیه، کما علیه جماعة من الفقهاء کالسیّد فی «العروة» و أکثر أصحاب التعلیق علیها، و المحقق الآملی و غیرهم، و هذا هو المختار عندنا، هذا کله فی المورد الأوّل.

و أمّا الکلام فی المورد الثانی: و هو ملاقاة الاناء مع الجُرذ المیّت، فهل یکفی فی تطهیره الغسل مرّةً أو بالثلاث أو بالسبع؟ فیه خلاف: لکن الأکثر علی الوجوب فی التثلیث و السبع بالندب، إذ المرّة لم یذهب الیها إلّا بعض الجماعة بالصّراحة، بخلاف السبع حیث أنّ الروایة فیه تکون بلا معارض، فقد روی عمّار بن موسی الساباطی، عن أبی عبدالله علیه السلام فی

ص:484

حدیثٍ: «اغسل الاناء الذی تصیب فیه الجُرذ میّتاً سبع مرّات» (1) فإنّ هذه الروایة تدلّ علی لزوم السبع لو لاقی الاناء جرذاً میّتاً، مع أنّ فی کلام بعضهم من وجوب السبع بموت الجرذ فی الاناء، الظاهر فی الاختصاص بالنجاسة الحاصلة بموت الجرذ فیه، خلاف ما ورد فی متن الروایة.

و کیف کان، حیث أنّ ما فی الروایة أمر صریح فی وجوب الغسل سبعاً، و عدم وجود معارض فی خصوص الجرذ، فلابدّ من العمل بها، و لا یصغی الی الوجوه التی ذکروها لحمل السبع علی الاستحباب و الثلاث علی الوجوب من جهة ملاحظة کفایة الثلاث لما أشدّ نجاسةً منها مثل دم الکلب و الخنزیر و الناصب و الحیض و أبوال الثلاثه و خُرئهم، خصوصاً مع ملاحظة تعدّی بعض الفقهاء کصاحب «جامع المقاصد» عن الجُرذ الی مطلق الفأرة، بل لعدم تحقّق شهرة بسیطة علی ذلک، بل قد یدّعی تحققها خصوصاً بین المتأخّرین و متأخّریهم علی خلاف ذلک، بل قد یدّعی حکایة الاجماع عن الشیخ علی الاکتفاء بالثلاث فی الاناء کسائر النجاسات، و لاجل هذه الامور ذهب جماعة منهم المصنف علی أنّ الواجب هو الثلاث، و الأفضل السبع. کما تری کلام المصنف هنا.

أقول: لکن قد عرفت مختارنا و هو وجوب السبع و عدم الاکتفاء بالثلاث، کما علیه صاحب «العروة» و أکثر أصحاب التعلیق، و الله العالم.

هذا کلّه حکم التطهیر فی مثل الخمر و الجُرذ إذا لاقیا الاناء، و أمّا حکم التطهیر فی سائر النجاسات من البول و غیره فقد تعرّض له لمصنف رحمة الله فی الجملة القادمة.


1- وسائل الشیعة: الباب 53 أبواب النجاسات ، الحدیث 1.

ص:485

و من غیر ذلک مرّة واحدة، و الثلاث أحوط(1)

(1) وقع الخلاف بین الأعلام فی العدد الذی به یطهر سائر النجاسات من المرّة الواحدة بشرط ازالة العین معها، أو المرّة بعد ازالة العین قبلها، أو المرّتین فی کلّ نجاسةٍ؟ وجوه و أقوال: نسب الأوّل الی المصنّف هنا باطلاق کلامه بکفایة المرّة من دون اشارة قبلها بازالة العین، و کذلک العلامة فی «القواعد».

و الثانی الی المحقق فی «المعتبر» و مختلف العلّامة، کما هو مختار صاحب «الجواهر»، حیث قال بعد نقل القولین: «إنّ الأوّل لا یخلو عن قوة... و تبعهما صاحب «المدارک» و العلّامة الطباطبائی فی منظومته، و الاستاذ فی کشفه، بل هو خیرة الحلّی و عن سلّار، بل فی «السرائر» أنّه الصحیح من الأقوال و المذهب، و الذی علیه الاتفاق و الاجماع.

و نحن نزید علیه: و لعلّه مختار المحقق هنا أیضاً، و العلامة فی «القواعد»، لأنّ المراد من التطهیر بها هو غیر الغسله المزیلة، فیکون الاطلاق هنا منصرفاً الی غیر المزیلة، فیحصل الاتفاق من القولین، و هو المختار فی غیر البول لورود النصّ فیه بالخصوص علی التعدد، و إلّا فهو ملحقٌ بسائر النجاسات.

و الثالث هو المنسوب الی الشهید فی «اللّمعة» و «الألفیة»، و هو المرّتان فی کلّ نجاسة، و الدلیل علی الأوّل لا یکون إلّا لاجماع المدّعی عن «السرائر»، و لو لاه لکانت الشهرة متحققه، فبعد حصول الشهرة لو لا الاجماع، ینضّم الیه الاطلاقات الوادرة فی الأمر بالغسل فی النجس، مثل

ص:486

قوله: «اغسل ثوبک من أبوال ما لا یؤکل لحمه» و أمثال ذلک، حیث إنّ أقلّ ما یمتثل هو حصول الغَسل، وهو لا یکون إلّا بالمرّة، مضافاً الی المرسل المنقول عن «المبسوط» بقوله: «إنّه روی یَغسل _ ای الاناء _ من سائر النجاسات مرّة واحدة»، کما یرشد الی ذلک ما فی «المدارک» حیث أرسل عن عمّار، عن الصادق علیه السلام روایة الاکتفاء بالمرّة. (1) و الاشکال بأنّها مرسلة واضحه القصور عن اثبات ذلک کما عن «الجواهر».

أقول: إنّه منجبرٌ بالشهرة، مضافاً الی التأیید بأصل البراءة عن وجوب الزائد عن المرّة لو لا القول بالاستصحاب هنا، بأن یقال إنّ استصحاب بقاء النجاسة بعد المرّة یکون فرع اثبات احتمال بقاء التکلیف بالتطهیر بعد المرّة فی نوع الجنس، و أصل البراءة قبله یثبت عدمه، و یحکم بعدم وجود تکلیف بالزائد عن المرّة، فرتبة البراءة مقدمة علی الاستصحاب علی هذا البیان.

خلاصة الکلام: بعد تمامیّة ما ذکرنا فی الاستدلال، یظهر عدم وجود دلیلٍ علی اثبات المرّتین فی غیر البول من سائر النجاسات، لولا حمله علی أنّ المراد من المرّتین هی مرّة للازالة و أخری للنقاء، کما ورد ذلک فی روایة تتحدث عن تعلیل وجه الغسلتین بعد الغاء الخصوصیة عن الجسد و الثوب، و إلّا یرجع کلّ الأقوال الی قولٍ واحد، و هو لزوم الغسلة المزیلة لعین النجاسة أوّلاً ثم الأخری للتطهیر بالمرّة، و هو غیر بعیدٍ بأن یکون الأمر کذلک، إلّا ما ثبت فیه التعدد بغیر ما ذکرنا، و هو کما فی البول إن ْ لم


1- الجواهر، ج 6/373.

ص:487

نقل بمثله فیه أیضاً، لأنّ ازالة العین فی مثل البول لا یکون الّا بنفس الغسل لأنّه أیضاً ماءٌ کما اشار الیه فی بعض الروایات، فیرجع التعدد فیه أیضاً الی ما قلنا بکون المرّة الأولی للازالة و النقاء، و الثانیة للتطهیر، فیکون الأمر فی الجمیع واحداً، إلّا أنّه خلاف لما یظهر من الأخبار فی البول من لزوم المرّتین فیه للتطهیر.

أقول: ظهر ممّا بینّاه ضعف کلام الشهید من وجوب المرّتین مطلقاً، أی فی النجس و المتنجّس، لعدم وجود دلیل علی مدّعاه بعد ما عرفت أنّ مقتضی أصل البراءة نفی الزائد عن المرّة، إلّا دعوی اجراء حکم البول فی غیره من جهة الغاء الخصوصیة، و دعوی مساواته مع غیر البول، کما یلقی الخصوصیة عن الجسد و الثوب بالنظر الی ما فی بعض الأخبار من تعلیل الغَسلتین بأنّ إحدها للازالة و الأخری للنقاء، بل فی «الجواهر» بعد تضعیفه، قال: «بل یمکن دعوی الاجماع المرکب علی خلافه، بل لا یحتاج فساده الی إطنابٍ بعد الاحاطه بما تقدّم سابقاً من الخطاب».

أمّا القول الرابع: فممّا ذکرنا یظهر عدم تمامیّة التفصیل الذی حُکی عن ابن حمزة، حیث أوجب المرّة فی مباشرة الحیوانات النجسة بغیر الولوغ و هی الکلب و الخنزیر و الکافر و الثعلب و الأرنب و الفارة و الوزغة، و الثلاث فی غیرها و غیر الخمر، و موت الفأرة و ولوغ الکلب، لعدم وجود دلیلٍ معتبر یحکم بذلک، کما لا یخفی علی المتّتبع الماهر، فصار هذا رابع الأقوال.

فأیضاً یظهر ممّا ذکرنا عدم تمامیّة القول الخامس المنقول عن الشیخ فی

ص:488

«الخلاف» من ایجاب الثلاث فی باقی النجاسات فیما عدا الولوغ، بل و هو مختار ابن الجنید فی مختصره علی ما نُقل عنه، بل و اختاره الشهید فی «الذکری» و «الدروس»، و المحقق الشیخ علی، و استدلّوا علیه: بما احتجّ به الشیخ بأنّه طریقة الاحتیاط، فإنّه مع الغسل ثلاثاً یحصل العلم بالطهارة.

و بموثقه عمّار الساباطی، عن الصادق علیه السلام ، قال: «سُئل عن الکوز أو الاناء یکون قذراً کیف یُغسل، و کم مرّة یُغسل؟ قال: یُغسل ثلاث مرّات یُصبّ فیه الماء فیحرّک فیه ثم یفرغ منه ذلک الماء ثُمّ یصبّ فیه ماء آخر فیحرّک فیه ثُم یفرغ منه ذلک الماء ثُم یصبّ فیه ماء آخر فیحرّک فیه ثُمّ یفرغ منه و قد طهر، الحدیث». (1)

أقول: لکن یرد علی هذه الأدلّة: أمّا الاحتیاط: فهو حسنٌ جداً، لکنه لیس بدلیل شرعی یثبت ایجاب الثلاث.

و أمّا الروایة: فإنّه خبر واحد فی ذلک، و سنده غیر قوی خصوصاً مع عدم جابرٍ له من الشهرة، لأنّ الأکثر أفتوا بکفایة المرّة، و حملوا الروایة علی الاستحباب، کما یشهد لذلک کلام المحقّق فی «الشرائع» بأنّه: «مرّة واحدة و الثلاث أحوط» و هو مختارنا أیضاً و مختار کثیرٍ من الفقهاء کما فی «العروة» و أصحاب التعلیق أکثرهم لو لا کلّهم، و الله العالم بحقائق الامور.

بعد ما ثبت من خلال متن الروایة أنّ تطهیر الکوز أو الاناء بالماء القلیل إذ المتنجّس یجب أو یستحب التثلیث بصبّ الماء فیه، و تحریکه ثُم افراغه منه، فإنّه یترتب علیه فروعٌ.


1- وسائل الشیعة: الباب 53 أبواب النجاسات ، الحدیث 1.

ص:489

الفرع الأوّل: ظاهر الموثق ایجاب الافراغ حین التطهّر، و به صرّح العلامة فی «المنتهی»، بل فیه إنّه لم یحتسب غَسلة عرفاً حتّی یفرغ منه، راداً بذلک علی ما حکاه عن بعض الجمهور من الفرق بین ما یسع قُلّتین و غیره، ففی الأول لو طرح فیه و خضخض احتبت غَسلة ثانیة بخلاف الثانی.

إلّا أنّ دعوی العلامة بعدم صدق الغَسل عرفاً إلّا بالافراغ لا یخلو عن نظر، لأنّه یصدق عرفاً بدونه أیضاً لو لا الخبر. و علیه فالأولی اتیان الدلیل لاثباته بوجود الروایة، بل یزید فی اشکاله لو أرید اثبات تطهیر غیر مقر الماء من الطرف الأعلی منه، فیدّعی توقف طهارته علی الافراغ، لوضوح أنّه بعد تحرّک الماء و ملاقاته مع موضع النجس یصدق علیه عرفاً الغَسل و یطهر، و یعدّ الافراغ حینئذٍ لتحصیل ما أمر به من التعدد بتکرار الصبّ فیه و تحریکه فیه، و جریان الامر بالافراغ أمر طبیعی جری مجری الغالب.

بل یمکن القول تحصیل تطهیر محلّ مقرّ الماء لو أرید به قبل الافراغ، بأن یمیل الاناء الی الیمین و الیسار لیستقرّ الماء فی غیر محلّه المعتاد بناءً علی عدم نجاسة المغسول بماء الغُسالة إن قلنا بنجاستها قبل انفصالها منه، و لذا لا ینجس ما یمرّ علیه من الماء حال الافراغ، و إلّا یمکن التطهیر من دون التثلیث.

و علی هذا، ربما یمکن القول بحصول التثلیث لجمیع الاناء من غیر فصلٍ بالافراغ، ثُمّ یفرغ من الجمیع دفعةً، إلّا أنّ فی ذلک اشکال، لأنّ التطهیر بهذه الصورة إذا کان امراً شرعیّاً تعبّدیاً، فلابدّ من الاقتصار علی مقدار ما هو المرویّ، و هو لیس إلّا بالافراغ وجوباً لمن قال بالوجوب، و استحباباً لمن قال بالندب.

ص:490

و علیه، فبناءً علی ما ذکرنا یکون الحکم بالافراغ أرقی من الاحتیاط الذی قال به صاحب «الجواهر» بقوله: «إلّا أنّ الأحوط هو الأوّل».

الفرع الثانی: قال الشهید الثانی فی «الروضة»: «لا فرق فی الافراغ بین میل الاناء لاهراقه مثلاً، و بین افراغه بآلةٍ لا تعود الیه ثانیاً إلّا طاهرة، سواءٌ فی ذلک المثبت و غیره، و ما یشقّ قلعه و غیره» انتهی.

أقول: لا یخفی أنّ کلامه جیّد إذا کان المقصود من الافراغ هو اخراج الماء عنه و صَبّ ماءٍ آخر فیه، بلا فرق فیه بین کون الاخراج بواسطة الاهراق بالمیل أو بوسیلة آخری من الآلة، أو بایجاد محلّ خروجٍ فی نفسٍ مقرّ الماء بثقبٍ فیه و نحوه.

و کذا کلامه جیّد بناءً علی کون ماء الغسالة مطلقاً _ أی الأولی کانت أو الثانیة _ کالمحلّ قبلها دون القول بکونها مطلقاً کالمحلّ بعدها، بل و کذا دون القول بکون الغسالة الأخیرة منها کذلک، کما لابدّ من ذلک فی المثبت أو ما یشقّ قلعه إذا أرید تطهیره.

الفرع الثالث: کما یتحقّق التطهیر بالافراغ بصبّ الماء فیه و تحریکه و اهراقه، کذلک یحصل التطهیر بأن یملأ الاناء من الماء ثم یفرغه ثلاث مرّات، کما قاله صاحب «العروة» و أصحاب التعلیق، و لکن قال صاحب «الجواهر»: «إنّه یظهر من ظاهر الموثق السابق عدم الاکتفاء فی التطهیر بملء الاناء ثم افراغه، و إن حکاه فی «الحدائق» عن تصریح جماعةٍ من الاصحاب، فتأمّل فإنّه لا یخلو عن اشکال».

أقول: یمکن أن یقال فی وجه کفایة صورة ملء الاناء و استفادته من

ص:491

الموثق _ کما هو خیرة «الذخیرة» و صاحب «الحدائق» _ هو ما ذکره صاحب «مصباح الهدی» رحمة الله بأنّ المتفاهم من التحریک المذکور فیها بحسب نظر العرف، هو ایصال الماء الی الجزء المتنجّس من الاناء، و وصوله الیه الحاصل بملء الاناء من الماء و افراغه منه، و لعلّ ذکر الطریقه فی الخبر لا لموضوعیته فیه بالخصوص، بل لکونه أصرف لاجل قلّة استعمال الماء من ملء الاناء و افراغه مع عزّة الماء فی بلد السائل، المستحسن فیه رعایة الاقتصار، مع أنّ تلک الطریقه لا تتیسر فی الأوانی الکبیرة المثبتّة فی الأرض کما لا یخفی، فالأوجه کما فی «العروة» کفایة صورة ملء الاناء و افراغه ثلاثاً، بل قد یؤیّد ذلک أنّ القول ببقاء الاناء الکبیرة المثبتة علی النجاسة و عدم امکان تطهیرها بعیدٌ فی الغایة، و إن لم یکن ممتنعاً.

و التمسک بقاعدة العسر و الحرج فی تطهیر الأوانی الکبیرة المثبّتة أو الشاقه قلعها بغیر ما ذکرناه ضعیفٌ فی الغایة، لوضوح أنّ القاعدتین قاصرتان عن اثبات حکم شرعی، لأنهما إنّما وردت لرفع الحکم الثابت لموضوعه بدلیلٍ دالٍ علی اثباته بواسطة طریان العسر و الحرج، کما لا یخفی.

الفرع الرابع: فی أنّ الافراغ کما یحصل بواسطة الاهراق بالمیل، کذلک قد یحصل بواسطة الآلة، فهل یشترط فی هذه الصورة طهارة الآلة إذا أراد التخلیة بها فی المرحلة الأولی، و کذا فی الثانیة أم لا؟

قد یقال: بعدم الاشتراط لاطلاق الموثّق، و بعدم تنجّس المغسول بماء غسالته، و إلّا لکان مقتضاه النجاسة لو فرض التقاطر من تلک الآلة، و من

ص:492

هنا قال سلطان العلماء فی حاشیته: «الظاهر ارادته العود فی المرّة الثانیة من الغسلتین، لئلا یختلطة المتنجس بالغسالة الأولی بالثانیة»، هذا کما فی «الجواهر». (1)

و لکن یرد علیه أوّلاً: بأنّ اطلاق الموثقه غیر قابل للأخذ، لأنّه لم یکن مسوقاً لبیان هذا الحکم، بل الذی ساق علیه الاطلاق کان لجهة بیان التطهیر بالافراغ، و من شرایط الاخذ به کون المتکلم فی صدد بیان ذلک، کما قیل بذلک فی ردّ من تمسک باطلاق (فَکُلُوا مِمَّا أَمْسَکْنَ) لطهارة محلّ فم الکلب و عضّه بأنّه لیس إلّا بصدد بیان حکم الحلیّة لا الطهارة.

و ثانیاً: علی ما فی «الجواهر» بالمنع عن عدم تنجّس المغسول بماء غسالته مطلقاً، بل ینبغی القطع بالنجاسة مع الانفصال عنه قضاءً للقواعد، و من ذلک مسألة التقاطر إذ هی لیس من المعلوم حکمها باجماعٍ و نحوه حتّی یصلح الاستشهاد بها.

و علی فرض قبول ذلک، فلا فرق حینئذٍ فی عود الآلة بین کونه للغسلتین أو الغَسلة الواحدة، کما حکاه فی الحاشیة المذکورة عن ظاهر بعض الأصحاب.

أقول: و من ذلک یظهر حکم ما لو لم یتجدّد التطهیر للآلة، و فرض مباشرة الآلة حال العود بخصوص الماء دون الاناء من تحقّق النجاسة إن قلنا بنجاسة الغُسالة بعد الانفصال، حیث إنّه یوجب حصول النجاسة للماء و الاناء.

بل قد یقال: بامکان القول بنجاسته حتّی مع عدم القول بطهارة الغُسالة قبل الانفصال، لأنّ ما ثبت العفو و حکم بالطهارة کان لنجاسة خصوص ماء الغُسالة نفسها قبل أن تنفصل دون ما لو أصابتها نجاسة خارجیة، و إن


1- الجواهر، ج 6/374.

ص:493

کانت النجاسة حاصلة بمباشرة هذه الغُسالة، فضلاً عمّا إذا کانت نجاسة خارجیة غیر مربوطة بالغسالة.

بل قد یقال: بامکان منع حصول الطهارة بالآلةً، لأجل هذا الاشکال من تنجیس الماء بواسطة حصول النجاسة للآلة بواسطه ملاقاته معها، و لم یثبت العفو لمثل هذه النجاسة للآلة و الغساله، و لذلک حکی صاحب «الحدائق» عن بعضهم تقیید جواز التفریغ بالآلة بکون الاناء مثبتاً یشقّ قلعه، بعد أن حکی عن جمعٍ من الاصحاب الاطلاق، و لعلّ وجهه ما عرفت، و لکن لابد أن یثبت العفو عنه بالنسبة للمثبت للعسر و الحرج، و لزوم التعطیل و نحوهما، و إن قال فی «الحدائق» إنّه لا وجه له معلّلاً ذلک بأنّه لا فرق فی التفریغ بین الآلة و غیرها مع الشرط المذکور، و إن أجاب عنه صاحب «الجواهر» بأن التفاوت کان لأجل ما عرفت من حصول التنجس بالآلة دون غیرها، ثم قال: «و استدرک بقوله: نعم، کان المتجه فی الردّ علیه منع ثبوت العفو حینئذٍ فیما یشقّ قلعه لمنع العُسر، بل و التعطیل أوجدواه علی أنّهما لا یثبتان شرعیة فی التطهیر».

و لکن الذی یمکن أن یقال: اصل التطهیر فی الاناء بالماء القلیل بالکیفیّة المخصوصه من التفریغ بعد التحریک، الموجب لتنجّس الماء، یکون خلاف القاعدة و الاصل، فلو قبل ذلک فلا یبعد بسبب اطلاق لفظ الاناء الشامل للمثبتات، مع ملاحظه عدم امکان التخلیة فیها إلّا بالآلة، فبالملازمة یفهم تحقّق التطهیر بها بشرط أن لا تکون نجساً فی حال العود ثانیاً کما کان کذلک فی المرحلة الأولی، أی بأن یکون طاهراً فی حال

ص:494

التخلیّة، لأنّ النجاسة المعفّوة مختصّة بحال المباشر مع هذا الماء، الموجب لتنجّسه، و طهارته بطهارة الانفصال بعد المرحلة الثالثة، و إن ْ کان طریق الاحتیاط هو الاجتناب عن مثل هذه الأوانی الکبیرة بعد تنجّسها، و الله العالم.

الفرع الخامس: و یدور البحث فیه عن أنّه هل یجب و یشترط فی التطهیر کون الافراغ بعد التحریک قبل استقرار الماء، أو یجوز الافراغ و لو فی زمان متأخّر عن التحریک و نحوه ممّا یصدق به الغَسل؟

قیل: إنّ ظاهر الموثق عدم الاشتراط بعد کون الغسل عرفاً صادقاً علیه.

و قیل: إنّه یشترط لأنّ الموثق واردٌ علی ما هو المتعارف بین الناس من کون التفریغ بعد التحریک من دون التراخی، و حیث کان أصل الحکم مخالفاً للقاعدة و الأصل، فالأولی الاقتصار علی القدر المتیقن منه و هو اتیانه بما هو المتعارف بین الناس، و هذا هو الأوجه و الأحوط، کما أنّ الأحوط و الأولی الفوریّة فی التحریک و الخضخضة بعد الوضع، لأنّه القدر المتیقن منه، لکن لابدّ أن نلاحظ أنّ المراد من الفوریة هو هی الصورة المتعارفة منها کما لا یخفی.

الفرع السادس: هل یلحق بالأوانی فی جمیع أحکام التطهیر الحیاض و نحوها مما یشابها فی الصورة و الانتفاع و لا یصدق علیه اسمها أو لا؟ وجهان: الذی ذهب الیه صاحب «الجواهر» هو الأوّل، و لکن ظاهر الأصحاب هو الثانی و هو الأظهر بعد فرض عدم صدق الاناء علی مثل هذه الأمور، لما قد عرفت من لزوم الاقتصار فیما خالف القاعدة و الأصل علی موضع الیقین.

* * *

ص:495

هذا آخر مباحث کتاب الطهارة شرحاً و تعلیقاً علی کتاب «شرائع الاسلام» للمحقّق الحلّی رحمة الله ، و کان شروع البحث بدایة السنة الدراسیة فی الحوزة العلمیة بقم _ صانها الله عن الحدثان _ سنة 1363 هجریّة شمسیة الموافقة لسنة 1406 قمریّه، و استمر أیام الاسبوع دون انقطاع و کنت ألقی الدروس علی الطلاب الی أن بلغنا مبحث الدماء الثلاثة فوقعت الحرب الظالمة و العدوان الأثیم من النظام البعثی علی الجمهوریة الاسلامیة، فتعطّلت الدروس لفترةٍ، و انشغلنا بالقاء دروس أخریٰ الی أن حانت الفرصة فعدنا الی البحث عنها ثانیة و أکملناها بعد سنوات عدیدة و لله الحمد.

و اننی أشکر الله سبحانه و تعالی إذ الیه دون سواه یعود الفضل فی أن وفقت للدرس و التدریس و تربیة الطلّاب و کتابة الدروس، و أملی منه سبحانه أن یدیم علیّ فضله و نعمه و یوفّقنی لاکمال الدورة الفقهیّة، لکی تبقی مناراً یستفید منه الطلاب الأعزّاء، و ذخراً لی فی یوم البقاء و الخلود، و أهدی ثوابها الی روح والدی السید سجّاد بن قاسم الحسینی العلوی الأسترابادی، سیّد المجتهدین، و قدوة المروّجین لأحکام الدین، الذی کان حلیف المحراب فی المسجد الجامع بمدینة جرجان خلال نصف قرن، علّم الناس أحکامهم و أرشدهم الی الصلاح و الفلاح، و الحبّ و الولاء لمحمدٍ و آله صلوات الله و سلامه علیهم أجمعین، حشره الله تعالی و ایّای معهم فی مستقرّ من رحمته، إنّه سمیع مُجیب، و آخر دعوانا أن الحمدلله رب العالمین. غُرّة ذی الحجّة الحرام سنة ألف و اربعماءة و اثنین و ثلاثین هجریّة قمریّة.

* * *

ص:496

الفهرست

البحث عن موارد وجوب تعدّد الغَسل 5

حکم العصر بعد الغَسل بالکثیر 6

کفایة الجفاف بدل العصر بعد الغَسل 7

فروع کیفیّة طهارة المتنجّسات عدا الأقمشة 8

اشتراط ورود الماء القلیل علی المتنجس 26

تنبیهات باب غَسل ثوب الصَّبی 38

مساواة الصبی مع الصبیّة فی الغَسل 39

فی الفرق بین الصبّ والرّش 40

اشتراط انفصال غسالة الصّب وعدمه 42

حکم بول الصّبی المتغذّی باللّبن النجس 46

طرق مثبتان النجاسة 51

الأخبار الدالّة علی طهارة الثوب المشتبه 56

حکم الظنّ بالنجاسة المتحقّق من السبب الشرعی 60

البحث عن اعتبار البیّنة فی الموضوعات 70

حدود قبول البیّنة 76

البحث عن تعارض البینتین علی النجاسة 78

فی حجیّة قول ذی الید 82

حدود دلالة قاعدة إخبار ذی الید 88

البحث عن المراد من ذی الید 91

ص:497

عموم دلالة إخبار ذی الید 93

المناقشة مع حکم بعض الأخباریین 94

فروع تطهیر الثوب بالماء القلیل 108

اشتراط الازالة بالتطهیر وعدمه 110

شرط زوال العین فی التطهیر 129

حکم ملاقی نجس العین134

فروع مدخلیة الوقت فی الاعادة و عدمها163

حکم من تذکر النجاسة فی اثناء الصلاة174

فروع نجاسة ثوب المرضعة191

فروع مسألة مطهریّة الشمس240

فروع کیفیّة مطهریّة الشمس:247

المناقشة فی مطهریّة النار و الماء معاً254

حکم الأجزاء المتصاعدة عند الاسخان258

حکم الجسم المستحیل رماداً بالنّار258

حکم تبدّل العجین المتنجّس خبزاً264

حکم بیع النجس ممّن یستحلّ أکله268

البحث عن مطهریّة الانقلاب280

البحث عن مطهریّة الانقلاب المتحقق بالعلاج282

و الخمر و العصیر إن تخلّلا285

فباتفاقٍ طَهرا و حلّلا285

بنفسه أو بعلاجٍ انقلب285

إن بقی الغالب فیه أو ذهب285

حکم المایعات المضافة الی الخمر بعد الانقلاب288

ص:498

حکم انقلاب بعض النجس دون الباقی297

فی انقلاب العصیر العنبی298

فروع مسألة انقلاب العصیر العنبی300

البحث عن مطهریّة الانتقال302

مطهریّة التشرّف الی الاسلام308

البحث عن حکم المرتدّ الفطری310

تنبیهات توبة المرتد317

فی مطهریّة الغیبة323

و احکم علی الانسان بالطهارة328

مع غیبةٍ تحتمل الطهارة328

و هکذا ثیابه و ما معه328

لسیرةٍ ماضیةٍ متّبعة328

مطهریّة ما فی باطن الانسان329

فی مطهریّة التراب334

البحث عن حیثیّات مطهریّة الأرض336

فی ماء المطر356

حکم صور تقاطر ماء المطر مع الواسطة371

حکم ماء الغُسالة374

و طُهر ما یَعْقِبه طُهر المحلّ375

عندی قوّیٌ و علی المنع العَمَل375

القول فی الأوانی378

البحث عن حکم ما فی الآنیة384

فروع باب الأکل و الشرب من الآنیتین386

ص:499

حکم الوضوء و الغُسل من الآنیتین392

البحث عن معنی الآنیة و الوعاء395

حکم بعض مصادیق الآنیة401

حکم حُلّی النساء403

البحث عن حکم الاناء المذّهب415

بحث حول أقسام الآنیة المفضّضة418

الآثار المترتبة علی حرمة الأوانی المفضّضه421

حکم أوانی المشرکین423

حکم دباغة الجلد437

حکم استعمال بعض الأواین443

فروع تتعلق بحکم الولوغ451

فروع تتعلق بحکم الغَسل من الولوغ464

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.