سرشناسه : نجفی، هادی، 1342 -
عنوان و نام پدیدآور : الاراء الفقهیه قسم المکاسب المحرمه/ تالیف هادی النجفی.
مشخصات نشر : اصفهان: مهر قائم، 1387.
مشخصات ظاهری : 3 ج.
شابک : 0 20000 ریال: دوره: 978-964-7331-77-7 ؛ ج. 1: 978-964-7331-74-6 ؛ ج. 2: 978-964-7331-75-2 ؛ ج. 3: 978-964-7331-85-2
وضعیت فهرست نویسی : فاپا/ برون سپاری.
یادداشت : عربی.
یادداشت : ج. 2 و 3 ( چاپ اول: 1429ق. = 1387).
یادداشت : کتابنامه.
موضوع : معاملات (فقه)
موضوع : کسب و کار حرام
موضوع : فقه جعفری -- قرن 14
رده بندی کنگره : BP190/1/ن3آ4 1387
رده بندی دیویی : 297/372
شماره کتابشناسی ملی : 1245417
ص: 1
ص: 2
ص: 3
إلی روح والدی العلاّمة قدس سره (1)
الّذی ربّانی و علّمنی فقه أهل البیت علیهم السلام و حبّهم و ولایتهم منذ نعومة أظفاری حشره اللّه تعالی مع أئمة أهل البیت أمیرالمؤمنین و أولاده المعصومین علیهم السلام .
ص: 4
الصوره
تقریظ سماحة المرجع الدینی الکبیر آیة اللّه العظمی الشیخ بشیر حسین النجفی
- دام ظله العالی - من النجف الأشرف.
ص: 5
* تاریخ تألیف الکتاب من نظم فضیلة العلاّمة القدیر الشاعر المُفْلِق السیّد عبد الستار الحسنی البغدادی حفظه اللّه تعالی :
للّه ِ منْ سِفْرٍ حَوَی (مَقَاصِداً)***(حَدَائِقُ)(الرِّیَاضِ) مِنْهَا نَافِحَةْ
وَکَمْ زَهَا ب- (رَوْضَةٍ بَهِیَّةٍ)***أنْظَارُنَا إلی جَنَاهَا طَامِحَةْ
وَ(لُمْعَةٍ) کَالشَّمْسِ فِی إشْرَاقِهَا***فی أُفُقِ الْحَقِّ الْمُبِینِ لائِحَةْ
کَالْبَحْرِ مِنْهُ تُقْتَنَی (جَوَاهِرٌ)***غَادِیَةٌ لَهُ الْوَرَی وَرَائِحَةْ
قَدْ جَاءَ فِی اسْتِدْلالِهِ (مَحَجِّةً***بَیْضَاءَ) ، وَضَّاءٌ سَنَاهَا ، وَاضِحَةْ
بِ- (الْعُرْوَةِ الْوُثْقی ) لَهُ (مُسْتَمْسَکٌ )***وَکَفَّةٌ - عِنْدَ النِّزَاعِ - رَاجحَةْ
(کَشْفُ الْغِطَاءِ) فِیهِ عَنْ غَوَامِضٍ***وَمُبْهَمَاتٍ لَلْفُهُومِ فَادِحَةْ
(آرَاؤُهُ الْفِقْهِیَّةُ) ازْدَانَتْ بِهَا***مَطَالِبٌ لَمْ تَعْدُهُنَّ سَانِحَةْ
(شَرَائِعُ الإسْلامِ) مَدَّتْهَا بِمَا***أرْوَتْ بِهِ صَدَی النُّفُوسِ الصَّالِحَةْ
لَهَا بِ- (تَنْقِیح الْمَنَاطِ) مَنْهَجٌ***یَنْأی عَنِ الإغْفَالِ وَالْمُسَامَحَةْ
بِ- (النَّقْضِ وَالاْءبْرَامِ) مَوْضُوعَاتُهُ***زِنَادُهَا مِنْ وَرْیِ فِکْرٍ قَادِحَةْ
وَمُعْضَلاتٍ فِی البُحُوثِ لَمْ تَزَلْ***مُسْتَغْلَقَاتٍ - فِی الْبَیَانِ - جَامِحَةْ
قَدْ فَتَحَ (الْهَادِیْ) لَنا رِتاجَها(1)***إذْ ملَکَتْ یَمینُهُ مَفَاتِحَهْ
فَابْنُ (أبِی الَْمجْدِ) غَدَتْ آثارُهُ***لَهُ بِإتْقانِ الْفُنونِ مادِحَةْ
وَذَا کِتابٌ مُعْرِبٌ عَنْ فَضْلِهِ***مَقاوِلُ التَّحْقِیقِ فِیهِ صَادِحَةْ
(فِقْهٌ) بِهِ قَدِ ازْدَهی تَأرِیخُهُ :***(مَکَاسِبُ الْهادی أتَتْنا رابِحَةْ)
ق 1427 = 185 + 1242
ص: 6
الحمد للّه الّذی علّم بالقلم ورفع درجات عباده بالعلم والعمل والصلاة والسّلام علی رسول اللّه محمّد المصطفی الّذی أسس قواعد الأحکام وجعل الشریعة طریقاً للأنام وعلی آله الغرّ المیامین أئمة الهدی ومصابیح الدُجی وأعلام الوری .
لقد کان من فضل اللّه تعالی ومنّه علیَّ أن وفّقنی لإلقاء محاضرات فقهیة فی المکاسب فی مدرسة الصدر بمدینة اصبهان علی جماعة من الأفاضل حفظهم اللّه تعالی ووفقهم لخدمة دینه . وقد ساعدنی التوفیق الإلهی بأن أدون هذه المحاضرات فی هذا الکتاب المسمی ب- « الآراء الفقهیة ، قسم المکاسب المحرمة » ، وقد رتبت المسائل علی نفس ترتیب کتاب المکاسب لشیخنا الأعظم الأنصاری قدس سره وأمّا منهج البحث فهو التعرض للمعنی اللغوی ثمّ المعنی الاصطلاحی ثمّ ذکر أقوال علمائنا الأصحاب الأبرار فی المسألة من زمن المشایخ الصدوق والمفید والطوسی إلی زمن صاحب الجواهر وشیخنا الأنصاری قدس سرهم ، ثمّ ذکرت الأدلة الشرعیة من الآیات الکریمة والروایات الشریفة وبیان مدی دلالتها وحجیتها واستفادة القول المختار منها .
وقد بحثت فی بعض المسائل المستحدثة التی لها علاقة بالمکاسب المحرمة کالتلقیح
ص: 7
الصناعی والترقیع وزرع الأعضاء والتشریح والموسیقی والرقص والتصفیق والشطرنج ونحوها .
وکما تناولت بعض المسائل التی لم یتعرض إلیها شیخنا الأنصاری قدس سره فی المکاسب المحرّمة کمسائل الاحتکار والتسعیر والربا وحلق اللحیة والضرائب ونحوها بصورة مفصلة لما لها من العلاقة بالبحث .
وفی الختام أسال اللّه تعالی أن یجعل هذا الجهد خالصاً لوجه الکریم ویورده فی سجل حسناتی فی یوم لاینفع مال ولابنون ، وأساله تعالی بجاه مولانا أمیر المؤمنین علی بن أبی طالب وأولاده المعصومین علیهم السلام أن یوفقنی لإکمال بقیة بحوث المکاسب من البیع والخیارات فی هذه الموسوعة - الآراء الفقهیة - انّه السمیع المجیب .
وأشکر من العلاّمة المحقق سماحة حجة الإسلام والمسلمین السیّد أحمد الحسینی الإشکوری - دامت برکاته - لأجل ملاحظاته وتصحیحاته علی الکتاب قبیل الطبع .
والحمد للّه أوّلاً وآخراً وظاهراً وباطناً وصلی اللّه علی سیدنا محمّد وآله الطیبین الطاهرین المعصومین .
28 رجب المرجّب 1427
هادی النج-فی
ص: 8
ص: 9
ص: 10
بسم الله الرحمن الرحیم
قد یستفاد بعض الأحکام الکلّیّة للمعاملات من الآیات الشریفة نتعرض لثلاث منها تیمّنا وتبرّکاً وابتداءً بکلام اللّه تعالی :
قوله تعالی : «الَّذِینَ یَأْکُلُونَ الرِّبَا لاَ یَقُومُونَ إِلاَّ کَمَا یَقُومُ الَّذِی یَتَخَبَّطُهُ الشَّیْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِکَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ إِنَّمَا الْبَیْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللّهُ الْبَیْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَن جَاءهُ مَوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّهِ فَانتَهَیَ فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَی اللّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُوْلَئِکَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِیهَا خَالِدُونَ»(1) .
سیذکر إن شاء اللّه تعالی فی أوّل البیع تعریفه ولکن هنا أقول : إنّ البیع مبادلة عین بمال ، أو السبب المنشأ به ذلک من القول أو الفعل .
ویتحقق عند إنشاء البیع أو منه أمورٌ :
1 - العقد المرکب من الإیجاب والقبول ، أو التعاطی خارجاً بقصد تحقق المبادلة ، ویقال له : « البیع السببی » .
2 - البیع المسببی : حصول تبادل الاضافتین المتحقق باعتبار الطرفین وإنشائهما ،
ص: 11
ویکون أمراً باقیاً فی عالم الاعتبار ما لم یتعقبه الفسخ من ذی الخیار أو الإقالة .
3 - إضافة الملکیة الحادثة بین المشتری والمبیع والبائع والثمن ، وهذه نتیجة المبادلة المذکورة .
4 - حصول الربح أحیاناً للطرفین .
5 - جواز تصرف کلّ من المتعاملین فیما انتقل إلیه أو فی الربح الحاصل له .
ثم هل المحکوم بالحلیّة فی الآیة الشریفة البیع السببی أو البیع المسببی ، یعنی الأوّل أو الثانی . والأظهر من الآیة الشریفة من کلمتی « أحلّ » و « حرّم » نفس البیع والربا ، یعنی نفس المعاملتین ، أی ما یصدق علیه عنوان البیع فهو حلالٌ وما یصدق علیه عنوان الربا فهو حرام . والظاهر أنّ المراد بالحلیة والحرمة هنا الوضعیان ، یعنی الصحة والفساد . فإذا کان دلالة الآیة الشریفة علی حلیة البیع وضعاً - یعنی البیع - کان صحیحاً .
والآیة الشریفة بنظری القاصر : تدل علی تشریع حرمة الربا وحلیّة البیع فی قبالها ، ولذا کانت مطلقة بالنسبة إلی حلیّة جمیع البیوع ، والشاهد علی ذلک ما ورد فی صحیحة عمر بن یزید بیّاع السابری قال : قلت لأبی عبد اللّه علیه السلام : جعلت فداک ، إنّ الناس یزعمون أنّ الربح علی المُضطَرِّ حرام وهو من الربا ؟ فقال علیه السلام : وهل رأیت أحداً اشتری - غنیاً أو فقیراً - إلاّ من ضرورة ؟ یا عمر ، قد أحلّ اللّه البیع وحرّم الربا ، فاربَح ولا تُربِ . قلت : وما الربا ؟ قال : دراهم بدراهم ، مِثلان بمثل(1) .
أقول : ورواها الشیخ فی التهذیب(2) مع إضافة . والشاهد فی تطبیق الإمام علیه السلام الحکم بالصحة فی هذا البیع واستفادتها من إطلاق قوله عزَّ وجلّ «أَحَلَّ اللّهُ الْبَیْعَ» . فهذه الصحیحة مضافاً إلی ظهور الآیة الشریفة - تدل علی اطلاق حلیّة البیع فی قوله تعالی «أَحَلَّ اللّهُ الْبَیْعَ» .
وبالجملة ، یجوز التمسک بالآیة الشریفة والحکم بالصحة عند الشک فی صحة بعض
ص: 12
البیوع وشروطها وخصوصیاتها شرعاً ، وهذا نتیجة إطلاق الآیة الشریفة .
قوله تعالی : «یَا أَیُّهَا الَّذِینَ آمَنُواْ لاَ تَأْکُلُواْ أَمْوَالَکُمْ بَیْنَکُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَن تَکُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنکُمْ وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَکُمْ إِنَّ اللّهَ کَانَ بِکُمْ رَحِیماً »(1) .
أقول : « الأکل » الوارد فی الآیة الشریفة بقرینة « الأموال » بمعنی وضع الید علی المال والتصرف فیه بالتصرفات التی یقوم بها المُ-لاّک ، وتعلق النهی بالأکل بالباطل یدل علی فسادها فی الشرع المقدس ، یعنی یدل علی الحکم الوضعی - أی الفساد - بأکل مال بالباطل مطلقاً ، أی سواءً کان فاسداً هذا الأکل عند الشارع المقدس نحو : القمار والظلم والبخس والربا والبیع الغرری ونحوها ، أو عند العقلاء کالمعاملات الباطلة عندهم ، لأنّ الخطاب الوارد فی الآیة الشریفة علی نحو القضیة الحقیقیة فیشمل ، جمیع المعاملات الباطلة وأکل المال بالباطل عرفاً عند العقلاء ، فلا یختص بما کان فی ذلک الزمان من المعاملات الباطلة نحو : القمار ، والأمور المذکورة فی الروایات الواردة فی ذیل الآیة الشریفة من قبیل المثال والتطبیق کما یظهر ذلک لمن راجعها .
نعم ، للشارع الحکومة علی العرف توسعةً أو تضییقاً فی الموضوع ، ونتیجتها التخصّص لا التخصیص والخروج الحکمی کما فعله بالنسبة إلی بیع الخمر والمیتة والربا .
ثم إنّ الآیة الشریفة بعد الحکم بفساد أکل المال بالباطل ، استثنی فیها من ذلک «إِلاَّ أَن تَکُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ» ، وهذا المستثنی منقطع ، یعنی لیست التجارة عن تراض من أوّل الأمر داخلةً فی الأکل بالباطل . فالاستثناء یدل علی صحة کل تجارة یقع عن تراضی الطرفین . فالآیة الشریفة تدل علی الحکمین المستقلین : فساد أکل المال بالباطل ، وصحة التجارة عن تراض . فلا یرد علینا بأنّ الأصل فی الکلام المستثنی لا المستثنی منه ، حیث یشکل بأنّها لیست فی مقام البیان ولیس لها إطلاق .
نعم ، فی الاستثناء المنقطع ینظر المتکلم إلی العقدین ، یعنی المستثنی والمستثنی منه ، فهو
ص: 13
من هذه الجهة فی مقام البیان ، فالآیة الشریفة مطلقة بالنسبة إلی صحة تجارة وقعت عن تراض . فعند الشک فی شرائطها وخصوصیتها نتمسک بالآیة الشریفة ونحکم بالصحة . والحمد للّه رب العالمین .
قوله تعالی : «یَا أَیُّهَا الَّذِینَ آمَنُواْ أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَکُم بَهِیمَةُ الأَنْعَامِ إِلاَّ مَا یُتْلَی عَلَیْکُمْ غَیْرَ مُحِلِّی الصَّیْدِ وَأَنتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللّهَ یَحْکُمُ مَا یُرِیدُ »(1) .
أقول : الوفاء بالعقد یعنی القیام بمقتضاه . والعقد : العهد الموثق ، وأصل العقد : الجمع بین الشیئین بحیث یعسر الانفصال بینهما . والمراد بالعقود : کلّ ما عقد اللّه تعالی علی عباده وألزمهم إیّاه من الإیمان به وبملائکته وکتبه ورسله وأوصیائه وتحلیل حلاله وتحریم حرامه والإتیان بفرائضه ورعایة حدوده وأحکامه وأوامره ونواهیه ، وکل ما یعقده المؤمنون علی أنفسهم للّه وفیما بینهم من عقود الأمانات والمعاملات وغیرها .
والآیة الشریفة تدل علی وجوب الوفاء بجمیع العقود ، ومنها : البیوع والتجارات والمعاملات .
وفی صحیحة عبد اللّه بن سنان عن أبی عبد اللّه علیه السلام : قوله : «أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ»قال : بالعهود(2) .
ولا یضر بالسند نقل العیاشی(3) هذه الروایة مع واسطة بعض أصحابنا بین النضر بن سوید وابن سنان ، لأنَّ المذکور فی سند القمی بدون هذه الواسطة والنضر ینقل عن عبد اللّه بن سنان ، فالروایة صحیحة سنداً .
وفی مجمع البیان : « العقود جمع عقد بمعنی معقود ، وهو أوکد العهود ، والفرق بین العقد والعهد أنّ العقد فیه معنی الاستیثاق والشدّ ولا یکون إلاّ بین متعاقدین ، والعهد قد ینفرد به
ص: 14
الواحد ، فکلّ عقد عهد ولا یکون کلّ عهد عقداً . وأصله عقد الشیء بغیره ، وهو وصله به کما یعقد الحبل ، ویقال : أعقد العسل ، فهو معقَّد وعقید»(1) .
أقول : لایتم هذا الفرق بین العهد والعقد الذی ذکره صاحب المجمع ، بعد تفسیر الإمام علیه السلام العقد بالعهد ، فإن الآیة تدل علی وجوب الوفاء حتّی بالعهود ، فالظاهر تساویهما .
والآیة الشریفة بإطلاقها تدل علی وجوب الوفاء بالعقود والعهود الإجتماعیة والإقتصادیة . ومنها : المعاملات والبیوع والتجارات . وتدل علی صحة العقود والعهود والمعاملات بل تدل علی وجوب الوفاء بها .
وبالجملة : مضافاً إلی استفادة صحة العقود والعهود من الآیة الشریفة ، یستفاد منها وجوب الوفاء بها ، یعنی الالتزام واللزوم والوفاء والإیفاء بالعقود والعهود . وهذا الأمر - المستفاد من هذه الآیة - لا یُستفاد من الآیتین المذکورتین سابقاً ، وهذا أمرٌ مهم . أی أنّ الوفاء بالعقود والعهود لازم لایجوز ترکه إلاّ بالدلیل . یعنی الآیة تدل علی لزوم البیع والمعاملات .
سیما بعد ملاحظة لفظة « العقود » الجمع المحلّی باللام ، وبعد ملاحظة خبر زرارة عن أبی جعفر علیه السلام قال : قال علی بن أبی طالب علیه السلام : نزلت المائدة قبل أن یُقْبَضَ النبی صلی الله علیه و آله وسلم بشهرین أو ثلاثة(2) .
وهکذا ورد فی خبر عیسی بن عبد اللّه عن أبیه عن جدّه عن علی علیه السلام قال : « القرآن یَنْسَخ بعضُه بعضاً ، وإنّما کان یُؤخَذ من أمر رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم بآخره ، فکان من آخر ما نزل علیه سورة المائدة ، فنَسَخت ما قبلها ولم یَنْسَخْها شیءٌ ... »(3) .
وفی صحیحة محمد بن مسلم عن أحدهما علیهماالسلام عن أمیر المؤمنین علیه السلام فی حدیث
ص: 15
طویل :« ... إنّما نزلت المائدة قبل أن یُقبض بشهرین»(1) .
فالآیة الشریفة نزلت فی أواخر حیاة رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم وتدل علی لزوم الوفاء بکلِّ عقد وعهد وبیع ومعاملة وتجارة .
وبعد تفسیر الامام علیه السلام العقد بالعهد ، یجوز التمسک بجمیع الآیات الواردة فی شأن الوفاء بالعهد فی صحة المعاملات والبیوع بل وجوبها أی لزومها ، نحو قوله تعالی : «وَأَوْفُواْ بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ کَانَ مَسْؤُولاً »(2) وقوله تعالی : «وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُواْ »(3) وقوله تعالی : «وَالَّذِینَ هُمْ لاِءَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ »(4) وغیرها من الآیات الشریفة . والحمد للّه رب العالمین .
قد تمسک الشیخ الأعظم الأنصاری قدس سره (5) بأربعة من الروایات تیمناً علی سبیل الضابطة الکلیة من حیث الحلّ والحرمة .
ما رواها الشیخ الثقة الجلیل أبو محمّد الحسن بن علی بن الحسین بن شعبة الحرّانی الحلبی من أعلام القرن الرابع ومن معاصری الصدوق علیه الرحمة والراوی عن أبی علی محمّد بن همام الثقة المتوفّی عام 336 ، فی کتابه تحف العقول عن آل الرسول علیهم السلام .
جمع کتابه من الروایات الواردة فی الخطب والمواعظ والأخلاقیات عن النبی صلی الله علیه و آله وسلم ثمّ عن أمیر المؤمنین علیه السلام ثمّ الأئمة علیهم السلام من بعده علی الترتیب وختمه بالإمام الحسن
ص: 16
العسکری علیه السلام ، ثم جعل فی آخر کتابه مناجاة اللّه لموسی وعیسی النبیین علی نبینا وآله وعلیهما السّلام ، ثمّ ذکر مواعظ المسیح فی الإنجیل وجعل فی آخره وصیّة المفضل بن عمر لجماعة الشیعة .
والکتاب محل اعتبار وأکثر روایاته موجودة فی الکتب المعتبرة ، ولکن مع الأسف مؤلّفه الجلیل حذف أسانید الروایات وقال فی مقدمة کتابه ما نصّه : « ...واسقطتُ الأسانید تخفیفاً وإیجازاً وإن کان أکثره لی سماعاً ولأنّ أکثره آدابٌ وحِکَمٌ تشهد لأنفسها ، ولم أجمع ذلک للمنکر المخالف بل ألّفْتُهُ للمسلِّم للأئمة ، العارف بحقّهم ، الراضی بقولهم ، الرَّادّ إلیهم ... »(1) .
فالروایة الواردة فیه أولاً : مرسلة ، وثانیاً : مضمرة هذا کلّه من جهة السند فلا اعتبار بها . ویمکن الذّب عن إضمارها بأن المؤلِّف رواها فی الروایات الواردة عن أبی عبد اللّه علیه السلام .
إن قلت : ضعف سندها منجبر بالشهرة .
قلت : لم تشتهر الروایة من حیث أنّها روایة ولا من حیث الفتوی ، أمّا من حیث الروایة فلعدم ورودها فی الکتب المعتبرة المشهورة بل نقلها عنه صاحب الوسائل مختصراً فی موضعین من کتابه(2) وهکذا نقلها عنه مختصراً فی الحدائق فی المقدمة الثالثة من کتاب التجارة(3) .
نعم ، نقلها عنه بتمامها العلامة المجلسی قدس سره فی بحار الأنوار(4) وهکذا منقولة فی جامع أحادیث الشیعة(5) .
وأنت خبیر بأنّ هذا لایوجب الشهرة الروائیة . وهکذا لم یفت بمضمونها الأصحاب ، لا سیما بعد ورود بعض ما یخالف المذهب فیها کما سیأتی إن شاء اللّه تعالی . فلم تثبت شهرتها
ص: 17
الفتوائیة أیضاً .
هذا کلّه علی کلا المسلکین بانجبار ضعف السند بالشهرة ، فلا یفیدنا فی المقام شیئاً .
وأمّا متنها : فمَن أمعن النظر رأی الاغتشاش والقلق والاضطراب فیها وما لم یشبه کلام الإمام علیه السلام ، مع إنّهم علیهم السلام أفصح الخلق وکلامهم علیهم السلام فوق کلام المخلوقین ودون کلام الخالق .
ومتنها أشبه شیء بکلمات المصنفین من حیث التقسیم والتشقیق . مضافاً إلی اضطرابها فی التعبیر وتکرار جملها وألفاظها وکثرة ضمائرها وتعقیدها ، وکلّ هذا ینفی کونها روایةً .
هذا مع أنّ التقسیم الوارد فی الروایة من جهات معایش العباد والمعاملات إلی أربع جهات لم یرجع إلی محصَّل ولا یفید فی المقام شیئاً ، مثلاً : جعل ولایة ولاة العدل الذین أمر اللّه تعالی بولایتهم وتولیتهم علی الناس - یعنی الرسالة والإمامة وهما من المناصب الإلهیة التی جعلت للعصمة الطاهرة - من معایش العباد ومعاملاتهم مع وضوح خروجها عنها .
وهکذا جعل من صنوف الصناعات : الکتابة والحساب والتجارة والصیاغة والسراجة والبناء والحیاکة والقصارة والخیاطة وصنعة صنوف التصاویر ونحوها ، مع دخول کلّ ذلک إمّا فی الإجارات أو التجارات .
وهکذا خروج کثیر من وسائل المعایش عن المقسَم کالحیازات والنتاجات والاصطیاد وإحیاء الموات وإجراء القنوات والمزارعة والمساقاة والمضاربة والوکالة وأخذ الزکوات والأخماس ونحوها .
وبالجملة ، التقسیم الوارد فی الروایة لم یرجع إلی محصَّلٍ ونتیجة جامعٍ ، فالروایة صارت بهذه العبارات أساسها علی بنیانٍ غیر مرصوصٍ .
مضافاً إلی ورود فقرات فی الروایة لم یفت بها أحدٌ من المسلمین أو المؤمنین أو لم تکن مشهورةً بین أصحابنا :
نحو : حرمة بیع جلود السباع ، مع أنّ المسلمین کلّهم - خاصةً وعامةً - یجوّزون بیعها ، نعم الخلاف بیننا وبینهم فی عدم جواز الصلاة فیها عندنا وجوازها عندهم .
ومنها : حرمة الانتفاع بالمیتة ولو کانت طاهرة ، مع أنّ الأصحاب علی جواز الانتفاع بالمیتة سواءً کانت طاهرة أم نجسة ، یعنی سواءً کانت لها نفس سائلة أم لا .
ص: 18
ومنها : حرمة بیع النجس مطلقاً ؛ مع أنّ الأصحاب علی جواز بیع النجس لأجل منافعه المحلّلة والإنتفاع به .
ومن جمیع ذلک ظهر لک الوهن فی القول بصدور هذه الروایة من الامام علیه السلام .
ولذا لم أتعرض لشرح فقراتها وبیان مافیها من الأحکام ، وغایة ما یمکن أن یقال : حیث دیدنی عدم ردّ الروایات ، أنّها علی فرض ثبوتها لیست دلیلاً مستقلاً ولا یمکن الاعتماد علیها إلاّ من جهة التأیید والتأکید .
ثمّ فلیعلم أنّ الشیخ نقل الروایة عن الوسائل والحدائق لا عن أصل الکتاب ، وبین النقلین فرق بیّن ، ولعلّهما هذّباها أو اختصراها .
ثم قال الشیخ الأعظم : « وحکاه غیر واحد عن رسالة المحکم والمتشابه للسید قدس سره »(1) .
أقول : حکاها عن رسالة المحکم والمتشابه صاحبا الوسائل(2) والحدائق(3) . فاعلم أنّ رسالة المحکم والمتشابه للسید المرتضی قدس سره اختصر فیها تفسیر الشیخ الجلیل أبی عبد اللّه محمد ابن إبراهیم بن جعفر النعمانی الکاتب المعروف بإبن زینب ، والمطبوع جمیعه فی بحار الأنوار(4) ، ولعلّ فی تفسیره أزید وأکثر من ذلک ولکن وصل إلینا اختصار السید فقط باسم « المحکم والمتشابه » ، لأنّ الموجود من التفسیر والرسالة سیّان . ولکن المهم هنا عدم وجود هذه الروایة فی تفسیر النعمانی المطبوع فی البحار ولا فی رسالة المحکم والمتشابه للسید ، وکما عرفت کلاهما واحدٌ .
نعم ، ورد فی تفسیر النعمانی هذه الفقرات ، وهی غیر هذه الروایة : « ... فأمّا ما جاء فی القرآن من ذکر معایش الخلق وأسبابها فقد أعلمنا سبحانه ذلک من خمسة اُوجه : وجه الإشارة (والظاهر کونها تصحیف الإمارة) ، ووجه العمارة ، ووجه الإجارة ، ووجه التجارة ، ووجه الصدقات ... »(5) ثمّ شرحها وأنت تری أنّها غیرها .
ص: 19
ونقل صاحب الوسائل عن رسالة المحکم والمتشابه للسید عن تفسیر النعمانی هذه الروایة الأخیرة فی کتابه(1) .
ما ورد فی الفقه المنسوب إلی الإمام علی بن موسی الرضا علیه آلاف التحیة والثناء . ورد فی أوّل باب التجارات والبیوع والمکاسب منه، ونصه : « إعلم - یرحمک اللّه - أن کلّ ما مأمور به ممّا هو صلاح للعباد وقوام لهم فی أمورهم ، من وجوه الصلاح الذی لا یقیمهم غیره - ممّا یأکلون ویشربون ویلبسون وینکحون ویملکون ویستعملون - فهذا کلّه حلال بیعه وشراؤه وهبته وعاریته ، وکلّ أمر یکون فیه الفساد - ممّا قد نهی عنه ، مثل : المیتة والدم ولحم الخنزیر والربا وجمیع الفواحش ولحوم السباع والخمر وما أشبه ذلک - فحرام ضار للجسم وفاسد للنفس»(2) .
أقول : یقع الکلام حول هذه الروایة فی أمرین :
الظاهر من الحلیة والحرمة فی الروایة أعمّ من التکلیف والوضع یعنی ، إنّهما مطلقان بالنسبة إلی الشرع ولیس فی قبالهما منع من الشارع الأقدس ، ولذا صار أعمَّ من التکلیف والوضع ویشملهما فیستفاد مثلاً من حلیّة البیع صحتها وترتیب آثار الصحة علیه ومن حلیّة الأکل جوازه تکلیفاً . وبهذا البیان یندفع بعض ما استشکل علی الروایة من أن کلامنا فی الحلیّة والحرمة الوضعیة - یعنی الصحة والفساد - والروایة تدل علی الحلیّة والحرمة التکلیفیة .
ولکن یرد الاشکال من جهتین فی الدلالة :
الأوّلی : الروایة تدل علی حرمة استعمال ما نهی عنه ممّا فیه الفساد بجمیع الاستعمالات حتّی الإمساک ، مع أنّه لم یفت به أحدٌ من الأصحاب ، وکیف یمکن مثلاً الإفتاء
ص: 20
بحرمة إمساک الدم والمیتة ولحوم السباع ونحوها ؟
ولکن یمکن أن یذّب عن هذا الاشکال : بأنّ المقصود من حرمة إمساکه لوجه الفساد ، یعنی بقصد أن یستعمل فی المآل فی الفساد ، فیندفع الاشکال کما قاله بعض الأساتذة فی المقام(1) .
ویمکن أن یناقش فی هذا الذَّب : بأنّ صرف قصد الاستعمال فی الفساد لا یوجب حرمة مطلق الإمساک ، لا سیما ما لم یترتب علیه عمل محَّرم بل بقی فی مرحلة القصد والنیّة . وبالجملة الحرام فی الشریعة فعله لا قصده کما هو واضح . فقصد ارتکاب الفساد بنفسه لا ینقلب حکم الإمساک فی هذه الأمور ، فعاد الاشکال من رأسه .
الثانیة : مقتضی قوله « فحرام ضارّ للجسم وفاسد للنفس» . أنّها علی سبیل الضابطة الکلیّة ، یعنی کلّ ما یضرّ بالجسم ویوجب فساد النفس فهو حرام ، وهذه الضابطة غیر تامة کما هو واضح .
مثلاً : کثیر من المحرّمات - نحو بعض الملابس والمناکح وأکثر المشارب والمآکل - لیست ضارة بالجسم ولا توجب فساد النفس .
نعم ، علی مسلک العدلیة کلّ الأحکام لها ملاکات وحِکَم ، ولایکون حکمٌ إلاّ بالملاک الخاصّ به ولکن لیست جمیع هذه الملاکات شخصیّة بل ربّما یکون الملاک إجتماعیّاً أو غیره ، ولکن أین هذا من الاستدلال للمسائل الفقهیة واستنباط الأحکام الکلیّة للمعاملات والتجارات ؟ !
هذا کلّه المناقشة فی دلالة الروایة ، مضافاً إلی أنّ من أمعن النظر فیها یری أنّها مأخوذة من الروایة الأولی علی سبیل الإجمال والاختصار .
أوّل ظهور هذا الکتاب (الفقه الرضوی) کان فی عصر المجلسیین ، حیث جاء به السید الثقة المحدّث القاضی أمیر حسین علیه الرحمة بعد سنین من مجاورته لبیت اللّه الحرام
ص: 21
علی رسم هدیّة ثمینة إلی المجلسی الأوّل من مکة المکرمة وقال له :« لمّا کنت فی مکة المعظمة ، جاءنی جماعة من أهل قم مع کتاب قدیم ، کتب فی زمان أبی الحسن علی بن موسی الرضا علیه السلام وکان فی مواضع منه بخطه صلوات اللّه وسلامه علیه وکان علی ذلک إجازات جماعة کثیرة من الفضلاء بحیث حصل لی العلم العادی بأنّه تألیفه علیه السلام ، فاستنسخت منه وقابلته مع النسخة »(1) . انتهی کلام القاضی أمیر حسین .
فأخذ المجلسی الأوّل هذه الهدیة الثمینة واستنسخها واستفاد منها فی شرحه الفارسی علی الفقیه ، وهکذا اعتمد علیه نجله العلامة ووزع ما فیها فی بحاره ، والعلامة بحر العلوم أیضاً ذهب إلی صحة هذه النسبة فی فوائده(2) .
ومن الذاهبین إلی صحة هذه النسبة : الشیخ المحدث یوسف البحرانی صاحب الحدائق الناضرة وجعله حجة بنفسه ، ومنهم : المحقق المولی محمّد مهدی النراقی الوالد صاحب اللوامع ، ومنهم : الفاضل الکاشانی شارح المفاتیح ، کما نقل کلّ ذلک عنهم الفاضل النراقی الولد فی عوائده(3) .
فهذا القول الأوّل فی المقام ، أعنی قبول صحة انتساب هذا الکتاب إلی الإمام الرضا علیه السلام . ولکن فی المقام أقوال أُخر نتعرض لبعضها ولبعض مَنْ یقول بها :
القول الثانی : عدم صحة هذا الانتساب وجهالة مؤلّفه ، ذهب إلیه صاحب الوسائل وعدّه من الکتب المجهولة(4) وجدنا الأعلی صاحب هدایة المسترشدین(5) ، وعمّنا الأکرم صاحب الفصول(6) ، وجدنا العلامة صاحب الوقایة حیث یقول فی أحد کتبه الفقهیة المسمی
ص: 22
ب- « نُجعَة المرتاد فی شرح نجاة العباد» : « واعلم أنّ هذا الکتاب (یعنی الفقه المنسوب) عندنا من الوهن بمرتبة لا نرضی أن ینسب إلی مَنْ یعرف واضحات النحو وضروریّات الفقه ، لکثرة ما فیه من الأغلاط الشنیعة والمخالفة لضروریّات مذهب الشیعة»(1) .
وهکذا نقل العلامة السید جواد العاملی فی مفتاح الکرامة(2) عن أستاده السید محمد مهدی بحر العلوم الطباطبائی قدس سره نفی ثبوت الکتاب إلی مولانا الرضا علیه السلام . فالسید بحر العلوم المتوفی سنة 1212 أیضاً من القائلین بهذا القول ، ولعلّه عدل عن القول الأوّل فی مجلس بحثه الشریف .
وابن عمنا آیة اللّه الحاج الشیخ مهدی النجفی رحمه الله المتوفی سنة 1393 ق یقول فی کتابه الأرائک بعد نقل کلام صاحب الوسائل فی نفی هذا الانتساب : « أقول : بل یقرب صحة نفیه عنه علیه السلام ، لکثیر من مضامینه مثل التخییر بین غسل الرجلین والمسح علیهما ، والتفصیل بین حلّیة المتعة للحاضر والمضطر المسافر فلا یجوز للأوّل ، ونفیه کون المعوذتین من القرآن ، وغیر ذلک ، بل ربّما یروی عن بعض الأئمة علیهم السلام بوسائط متعددة ، فالظاهر أنّه من تألیفات بعض العلماء »(3) .
القول الثالث : عدّ روایاته من جملة الأخبار القویّة ، قال السید السند فی المفاتیح :« ... وفی الاعتماد علیه بمجرده إشکال لعدم ثبوت کونه من مولانا الرضا علیه السلام بطریق صحیح ، ولکن لا بأس بأن تعدّ روایاته من الروایات القویّة ، التی ینجبر قصورها بنحو الشهرة ، ... ولکن فی بلوغه درجة الحجیة إشکال ، ولکن لاأقل من عدّه قویّاً وعلیه یمکن جعله مرجِّحاً لأحد الخبرین المتعارضین علی الآخر ... »(4) .
القول الرابع : إنّه بعینه رسالة علی بن بابویه إلی ولده الصدوق المعروف ب- « شرائع
ص: 23
الدین » . وهذا المختار الأوّل للمیرزا عبد اللّه الافندی صاحب ریاض العلماء(1) وأستاذه العلامة المیرزا محمد بن الحسن الشیروانی الشهیر بملاّ میرزا کما نقل عنه تلمیذه فی الریاض(2) . وذهب إلیه العلامة والد السید حسین القزوینی « قدهما» کما نقل عنه فی المستدرک(3) .
القول الخامس : ما ذهب إلیه جدنا من طریق الاُمّ السید محمد باقر حجة الاسلام صاحب « مطالع الانوار » من احتمال کونه کتاب جعفر بن بشیر البجلی الثقة المذکور فی فهرست الشیخ(4) ، أو کتاب محمد بن علی بن الحسین بن زید الشهید المذکور فی رجال النجاشی(5) ، أو کتاب وُرَیْزة بن محمّد الغَسّانی المذکور فی رجال النجاشی(6) ، أو کتاب علی بن مهدی بن صدقة بن هشام بن غالب بن محمد بن علی الرّقی الأنصاری المذکور فی رجال النجاشی(7) . ونقل کلّ ذلک صاحب المستدرک(8) من خطه طاب ثراه . المکتوب علی ظهر نسخة من الکتاب .
القول السادس : أن یکون الکتاب ، کتاب المنقبة المنسوب إلی الإمام الحسن العسکری علیه السلام ، فقد ذکر جماعة من الأصحاب أنّ للإمام العسکری علیه السلام تصنیفاً بهذا الإسم مشتملاً علی أکثر الأحکام ومتضمناً لأغلب مسائل الحلال والحرام ، منهم : ابن شهر آشوب فی المناقب(9) والشیخ علی بن یونس البیاضی العاملی فی الصراط المستقیم علی ما نقل عنه فی
ص: 24
خاتمة المستدرک(1) . واحتمل هذا القول العلامة المیرزا محمد هاشم الچهارسوقی الخوانساری فی رسالته الخاصة حول هذا الکتاب(2) .
القول السابع : أنّ الکتاب من مؤلفات بعض أولاد الأئمة علیهم السلام بأمر من الإمام الرضا علیه السلام .
ذهب إلیه الوحید البهبهانی قدس سره ولذا اعتنی به واعتمد علیه غایة الإعتماد .
ونقل ذلک عن الوحید تلمیذه السید حسین القزوینی فی معارج الأحکام(3) .
القول الثامن : أنّه کتاب « التکلیف » لمؤلفه محمد بن علی الشلمغانی المکنی بأبیجعفر ویُعرف بابن أبی العزاقر ، کان متقدماً فی أصحابنا مستقیم الطریقة ، فحمله الحسد لأبی القاسم الحسین بن روح علی ترک المذهب ، وظهرت منه مقالات منکرة ، فتبرأت الشیعة منه وخرجت فیه توقیعات کثیرة من الناحیة المقدسة ، وفی ذی القعدة الحرام عام 322 ضربت عنقه بأمر من الخلیفة الراضی باللّه . ولکن کتاب التکلیف صنّفه أیّام استقامته وکانت الطائفة تعمل به وترویه عنه إلاّ فی موارد عدیدة :
منها : ما روی فی باب الشهادات : أنّه یجوز للرجل أن یشهد لأخیه إذا کان له شاهد واحد من غیر علم . نقل عنه العلامة فی الخلاصة(4) .
ومنها : ما حکی عنه(5) فی تحدید الکر من أنّه : ما لا یتحرک جنباه بطرح حجر فی وسطه .
ومنها : ما نقل عنه(6) من کفایة غَسْل القدمین من المسح حیث قال : « وإن غسلت
ص: 25
قدمیک ونسیت المسح علیهما فإن ذلک یجزیک لأنّک قد أتیت بأکثر ما علیک وقد ذکر اللّه الجمیع فی القرآن المسح والغَسْل ، قوله تعالی «أَرْجُلَکُمْ إِلَی الْکَعْبَینِ»بفتح اللام أراد به الَغسْل وقوله «أَرْجُلِکُمْ» بکسر اللام أراد به المسح وکلاهما جائزان مرضیان الغَسْل والمسح » .
وأوّل : من ذهب إلی هذا القول العلامة السید حسن الصدر الکاظمی (1272 - 1354) فی رسالته الخاصة حول هذا الکتاب المسماة ب- « فصل القضا فی الکتاب المشتهر بفقه الرضا علیه السلام (1) » .
أمّا القول المختار : هو القول الثانی - یعنی ما ذهب إلیه صاحب الوسائل والسید بحر العلوم علی ما حکی عنه تلمیذه صاحب مفتاح الکرامة وجدنا العلامة التقی صاحب الهدایة وعمّنا الأکرم صاحب الفصول وجدنا العلامة أبی المجد وابن عمّنا الجلیل قدس سرهم وقد مرّت منّا أقوالهم - من عدم ثبوت صحة نسبة الکتاب إلی الإمام الرضا علیه السلام مع قریب إلی تسعمأة سنة بین تألیف الکتاب یعنی عصر الرضا علیه السلام وظهور الکتاب ، فأین لنا الطریق المعتبر المعتمد علیه فی هذه القرون المتمادیة ؟ وکیف یمکن أن ندخل الکتاب فی الروایات المعتبرة المرویة بطریق ثقات أصحابنا مع فقدان الطریق والراوی ؟ هذا کلّه أولاً .
وثانیاً : علم القاضی أمیر حسین والمجلسیین وبحر العلوم - علی أحد قولیه - والشیخ یوسف البحرانی والمولی محمد مهدی النراقی والفاضل الکاشانی قدس سرهم حجة فی حقّهم ولکن لا یفید فی حقّنا شیئاً ، کما هو واضح .
وثالثاً : ما یوجب الریب والوهن فی الکتاب وجود موارد فیه مخالف لمذهب أهل البیت علیهماالسلام :
منها : کفایة الغسل عن المسح ، قال : « وإن غسلت قدمیک ونسیت المسح علیهما فإن ذلک یجزیک لأنک قد أتیت بأکثر ما علیک ... »(2) إلی آخر الکلام الذی مرّ منّا آنفاً من کتاب
ص: 26
التکلیف للشلمغانی .
ومنها : تحدید الکر قال : « والعلامة فی ذلک أن تأخذ الحجر فترمی به (فی وسطه) فإن بلغت أمواجه من الحجر جنبی الغدیر فهو دون الکر وإن لم یبلغ فهو کر»(1) .
وهذا التحدید قریب من مذهب أبی حنیفة .
ومنها : قوله « وانو عند افتتاح الصلاة ذکر اللّه وذکر رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم واجعل واحداً من الأئمة نصب عینیک ... »(2) .
ومنها : قوله « إنّ المعوذتین من الرُّقیة ، لیستا من القرآن ، أدخلوها فی القرآن وقیل : إنّ جبرئیل علیه السلام علّمها رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم ... وأمّا المعوذتان فلا تقرأهما فی الفرائض ولا بأس فی النوافل»(3) .
أقول : استقر الاجماع من العامة والخاصة علی أنّهما من القرآن ویجوز القراءة بهما فی الفرض والنفل ، ونقل عن ابن مسعود فقط أنّهما لیستا من القرآن .
ومنها : قال بعد تقسیم النکاح إلی أربعة أوجه : « منها : نکاح میراث ، وهو بولی وشاهدین و مهر معلوم - ما یقع علیه التراضی من قلیل وکثیر - وأنّه احتیج إلی الشهود ... »(4) .
ومنها : قوله فی باب اللباس وما یکره فیه الصلاة : « ... وکذلک الجلد ، فإن دباغته طهارته »(5) .
ومنها : ما ورد فی باب الشهادة من قوله : « وبلغنی عن العالم علیه السلام أنّه قال : إذا کان لأخیک المؤمن علی رجل حقٌّ فدفعه عنه ولم یکن له من البیّنة إلاّ واحد وکان الشاهد ثقة فسألته عن شهادته فإذا أقامها عندک ، شهدت معه عند الحاکم علی مثال ما شهد ، لئلا یُتْوی
ص: 27
حقّ امرئ مسلم »(1) .
تنبیه : حول نسخ الکتاب
مَن أمعن النظر حول الکتاب وتاریخه یجدله نسخاً فی التاریخ :
1 - النسخة القمیّة : التی جاء بها القمیون إلی مکة المکرمة واستنسخها القاضی أمیر حسین قدس سره وجاء بها إلی المجلسی الأوّل قدس سره واستنسخها واعتمد علیها وروّجها ، وقد مرّ ذکرها .
2 - النسخة الهندیّة : عرّفها السید نعمة اللّه الجزائری قدس سره تلمیذ العلامة المجلسی فی المطلب السادس من مقدمات شرح التهذیب حیث قال :« ... وکم قد رأینا جماعة من العلماء ردّوا علی الفاضلین بعض فتاواهما بعدم الدلیل فرأینا دلائل تلک الفتاوی فی غیر الأصول الأربعة ، خصوصاً کتاب الفقه الرضوی الذی اُتی به من بلاد الهند فی هذه الأعصار إلی اصفهان ، وهو الآن فی خزانة شیخنا المجلسی - أدام اللّه أیامه - فإنّه قد اشتمل علی مدارک کثیرة من الأحکام وقد خلت منها هذه الأصول الأربعة وغیرها»(2) .
أقول : لعلّه أشار إلی هذه النسخة الهندیة العلامة المجلسی حیث یقول : « وجدت فی بعض نسخ الفقه الرضوی صلوات اللّه علیه فصولاً فی بیان أفعال الحج وأحکامه ولم یکن فیما وصل إلینا من النسخة المصحّحة التی أوردنا ذکرها فی صدر الکتاب ، فأوردناه فی باب مفرد لیتمیّز عمّا فرّقناه علی الأبواب»(3) .
3 - النسخة المکیّة : وهی غیر القمیّة التی جاء القمیون بها من قم ، بل هی وجدت فی مکة المکرمة . قال المحقق الخبیر المیرزا عبد اللّه الاصفهانی قدس سره فی ریاض العلماء مانصه : « السید السند الفاضل صدر الدین علی خان المدنی ثم الهندی الحسینی الحسنی ابن الأمیر نظام الدین - ثم ذکر نسبه إلی أحمد بن السکین بن جعفر بن محمّد بن محمّد بن زید الشهید ابن
ص: 28
علی بن الحسین بن علی بن أبی طالب علیهم السلام - إلی أن قال : ثمّ اعلم أنّ احمد السکین ، وقد یقال : أحمد بن السکین هذا الذی قد کان فی عهد مولانا الرضا صلوات اللّه علیه ، وکان مقرّباً عنده فی الغایة ، وقد کتب الرضا علیه السلام لأجله کتاب فقه الرضا علیه السلام ، وهذا الکتاب بخط الرضا علیه السلام موجود فی الطائف بمکة المعظمة ، فی جملة کتب السید علی خان المذکور ، التی بقیت فی بلاد مکّة وهذه النسخة بالخط الکوفی وتاریخها سنة مائتین من الهجرة وعلیها اجازات العلماء وخطوطهم ، وقد ذکر الأمیر غیاث الدین - [وهو من أجداد السید علی خان ] - أیضاً فی بعض إجازاته بخطه هذه النسخة ، ثم أجاز هذا الکتاب لبعض الأفاضل ، وتلک الاجازة بخطه أیضاً موجودة فی جملة کتب السید علی خان عند أولاده بشیراز »(1) .
أقول : إن هذه النسخة المکیّة لو وجدت بالکیفیة المنقولة فی کلام صاحب الریاض لابدّ أن ینظر فیها بالدقة ، ویمکن أن ینقلب الرأی والنظر بعد رؤیتها کما هو واضح ولکن لم تصل إلینا ولم نعرف عنها شیئاً إلاّ ماذکروه ، فدون وجودها وثبوتها ووصولها إلینا خرط القتاد .
وما قاله بعض الأساتذة مد ظله العالی(2) : من أنّ السید بحر العلوم یشهد بأنّها عین فقه الرضا الموجود عندنا . غیر تام ، لأن السید رحمه الله یشهد برؤیة النسخة الموجودة فی مکتبة الخزانة الرضویة علی صاحبها آلاف التحیّة والسلام ، ونقل العبارة الموجودة فی ختام هذه النسخة علی ید کاتبها ، والنسخة الرضویة اتفق الفراغ من تسویدها فی یوم الأحد رابع عشر شهر محرم سنة ألف وخمسین (سنة 1050) فی المشهد الرضوی علی ید العبد الضعیف المحتاج إلی رحمة اللّه الملک المهیمن محمد مؤمن بن حاجی مظفر علی الخطیب الاسفراینی .
وأنت تری أنّها کتبت بعد سنة الألف . فلا یفیدنا شیئاً فی المقام .
نعم ، کتب کاتبها فی آخر النسخة عبارةً من تلقاء نفسه بالفارسیة وعرّبها السید بحر العلوم قدس سره فی فوائده ونقلها عنه علی ماهی علیه وهذه العبارة موجبة للقول بشهادته قدس سره انّ
ص: 29
النسخة المکیّة عین الفقه الرضوی الموجود ، ولذا نقلت هذه العبارة الفارسیة بعینها حتی یمعن القارئ النظر فیها بالدّقة لیظهر له صحة کلامنا .
کتب الناسخ المذکور آنفاً فی آخر النسخة الرضویة بالفارسیة مانصه : « این کتابیست که حضرت إمام الجن والإنس سلطان أبی الحسن علی بن موسی الرضا علیه التحیّه والثناء از جهت محمد بن السکین تصنیف نموده بوده اند واصل بخط مبارک حضرت در مکه است ، وحضرت مغفرت پناه مولانا میرزا محمد محدّث از خط شریف حضر [ ت ] که بکوفی بوده بعربی انتقال نموده اند »(1) .
ثم أنت تری هذا البیان من هذا الکاتب لا یفیدنا فی المقام شیئاً ولا یدل علی رؤیة النسخة المکیّة لا مِنْ قِبَلِه ولا مِنْ قِبَلِ غیره .
ثم إنّ هنا یقع المعارضة بین النقلین بأنّ الکتاب کتب لأجل محمد بن السکین أو أحمد بن السکین .
محمد بن السکین الوارد فی الرجال هو ابن عمار النجفی الجمّال ، ثقة له کتاب ، روی أبوه عن أبی عبد اللّه علیه السلام ، ذکره النجاشی(2) والشیخ فی الفهرست(3) . وروی هو بواسطتین(4) وبواسطة(5) عن أبی عبد اللّه علیه السلام فی الکافی الشریف .
قال فی قاموس الرجال :« هذا ، ووصفه النجاشی بالجمّال ولکن فی نوادر بعد کراهة ورهبانیّة نکاحه عن محمد بن سکین الحناط(6) وفی النجاشی فی ترجمة نوح بن درّاج قال : « قال محمد بن سکین : دعانی نوح بن درّاج إلی هذا الأمر » ویروی عن نوح فی مَثَل السلاح ... فإنّه نقل روایة الحسن بن عتبة بن عبد الرحمن الکندی عنه فی فهرست الشیخ فی ترجمة
ص: 30
معاویة بن عمار »(1) .
وأمّا أحمد بن السکین العلوی المذکور فی کلام المیرزا عبد اللّه الأفندی الأصفهانی بنحو « قد یقال » فهو مهمل فی الرجال . نعم : ورد ذکره وذکر أولاده فی بعض کتب الأنساب نحو عمدة الطالب(2) لابن عنبة و الشجرة المبارکة(3) للفخر الرازی ومعالم أنساب الطالبیین(4) للدکتور عبد الجواد الکلیدار .
وبالجملة ، الفقه الرضوی الموجود بأیدینا لم یثبت صحة انتسابه إلی الإمام الهمام علی بن موسی الرضا علیه آلاف التحیة والثناء کما علیه أصحاب الوسائل والمصابیح والهدایة والفصول والوقایة والأرائک أعلی اللّه مقامهم .
ولکن حیث دیدننا قبول الروایات لاردّها ، لا بدّ لنا من المعاملة مع روایاتها ومتنها ، معاملة المراسیل فَتصلح للتأیید والتأکید فقط . والحمد للّه ربّ العالمین .
ما رواها القاضی النعمان المصری رفعه عن الصادق علیه السلام أنه قال : « الحلال من البیوع کلّ ما هو حلال من المأکول والمشروب وغیر ذلک ممّا هو قوام للناس وصلاح مباح لهم الانتفاع به ، وما کان محرّماً أصله منهیّاً عنه لم یجز بیعه ولا شراؤه»(5) .
أقول : یقع الکلام عن هذه الروایة فی مقامین :
الروایة تدل بفقرة « وما کان محرّماً أصله منهیّاً عنه لم یجز بیعه ولا شراؤه » ، تدل علی حرمة بیع الأشیاء التی تعلق بها التحریم من جهة ما ، مع أنّه لیس بحرام قطعاً لا وضعاً ولا
ص: 31
تکلیفاً . هذا هو الإشکال العمدة فی دلالتها .
ویمکن أن یذبّ عن الاشکال بأنّ المراد من هذه الفقرة : ما کان متمحّضاً فی الفساد ، وأنّ لفظة « ما کان محرّماً » بنحو الإطلاق منصرفة إلی الأشیاء التی کانت متمحضةً فی الفساد .
وأمّا الإشکال فی الروایة من أنّ ظاهرها الحلّیّة والحرمة التکلیفیان والکلام هنا فی الوضعیین ، فقد مرّ الجواب عنها فی الأبحاث الماضیة ، بأنّ الحلیة والحرمة فی الکتاب والسنة ، وهذه الروایات أعمٌ من الوضعیة والتکلیفیة وتشملهما . والمراد بالحلّیّة هنا أطلاق الشیء من ناحیة الشرع والمراد بالحرمة محدودیّته من ناحیة الشرع ، وإطلاق کلّ شیء ومحدودیّته بحسب کلّ شیء یختلف : فتارة ینتج الوضع ، وتارة ینتج التکلیف . وهذا امرٌ مهمٌ لابدّ أن ینظر فیه بالدقة ویترتب علیه فروع کثیرة ، وهذا مبنانا فی الأدلة الفقهیة .
نقل هذه الروایة مرسلة القاضی أبو حنیفة النعمان بن محمد بن منصور المصری الشیعی فی کتابه « دعائم الإسلام» الذی کان کتابه هذا علی نحو القانون الرسمی والدستور من زمن تألیفه إلی نهایة الحکومة الفاطمیة ، والقاضی النعمان توفّی بالقاهرة سنة 363 وصلّی علیه الخلیفة الفاطمی المعزّ لدین اللّه .
والإشکال فی سند الروایة إرسالها ، لعدم ذکر الطریق المعتبر من القاضی إلی الإمام الصادق علیه السلام ، فالروایة تدخل فی المراسیل ، فلا تصلح إلاّ للتأیید ولا للتأکید .
وأمّا جلالة مقام القاضی النعمان وفضله وعلمه ونبله وفقهه ونحو ذلک کلّه لا یفیدنا فی المقام شیئاً . کما أنّ الخلاف فی مذهبه من کونه إمامیاً أو اسماعیلیاً بعد استبصاره من المذهب المالکی أیضاً لا یهمّنا ، لأنّ ابن شهر آشوب المتوفی عام 588 نفی کونه إمامیّاً وقال : « ابن فیاض القاضی النعمان بن محمد ، لیس بإمامی وکتبه حسان»(1) ثم ذکر بعض کتبه ، وتبعه صاحب الروضات قدس سره (2) .
ص: 32
ولکن کثیراً من الأصحاب ذهبوا إلی کون الرجل إمامیاً وکان فی الدولة الفاطمیة فی مقام التقیة ، واستدلوا علی ذلک بوجوه ، قد استقصی الکلام فیها المحدث النوری قدس سره فی خاتمة مستدرک الوسائل(1) ، فراجعها إن شئت .
وقال العلامة الجد ، الفقیه علی التحقیق آیة اللّه أبی المجد الشیخ محمد الرضا النجفی الإصفهانی قدس سره فی کتابه « نُجعَة المرتاد فی شرح نجاة العباد» فی شأن المؤلَّف والمؤلِّف ما نصه : « وکتاب الدعائم من أصح الکتب و أتقنها وأخبارها لا تقصر عن مراسیل الکافی بل تزید علی أخبار الکافی فی إتقان ضبط ألفاظ الروایات ، وکم من روایة معضلة مضطربة المتن فی الکافی زال عنها الإعضال بمراجعة الدعائم وتحقّق بذلک عندنا صحة ما حدس به بعض مشایخنا - دام ظله - من أنّ نسخ الأصول التی کانت عند القاضی کانت أصح من التی کانت عند ثقة الإسلام . وأمّا جلالة قدر مولِّفه وکونه من أعاظم الطائفة فهو أمرٌ لا ریب فیه ، ومن أراد التفصیل فلیرجع إلی ما ذکره شیخنا قدس سره فی مستدرک الوسائل »(2) .
قال المؤلف : ببالی أننی قد سمعتُ مکرراً مِنْ بعض أساتذتنا - مد ظله - فی مجلس بحثه الشریف من رفع الإعضال والإضطراب وربّما حتّی التعارض بین الروایات بمراجعة کتاب الدعائم لما فی روایاته من قرائن أو نکات ترفع جمیع ذلک .
والعمدة فی المقام ورود فروع کثیرة فی کتاب دعائم الإسلام مخالفة لمذهب أهل البیت علیهم السلام ، فلنذکر لک بعضها علی سبیل المثال :
منها : جعله کلّ واحد من المذی والدود والحیات وحب القرع والدم والقیح الخارج من أحد المخرجین ناقضاً للوضوء(3) .
ومنها : قوله فی الوضوء : « ولا ینبغی أن یتعمد البدء بالمیاسر ، وإن جهل ذلک أو نسیه حتی صلّی لم تفسد صلاته »(4) .
ص: 33
ومنها قوله فی مسح الرأس : « ثم أمروا بمسح الرأس مقبلاً ومدبراً ، یبدأ من وسط رأسه فیمرّ یدیه جمیعاً علی ما أقبل من الشعر إلی منقطعه من الجبهة ، ثم یردّ یدیه من وسط الرأس إلی آخر الشعر من القفا ، ویمسح مع ذلک الاُذنین ظاهرهما وباطنهما ویمسح عنقه»(1) .
ومنها : قوله فی الرجلین : « ومن غسل رجلیه تنظّفاً ومبالغة فی الوضوء لابتغاء الفضل وخلّل أصابعه فقد أحسن»(2) .
ومنها : قوله فی مسجد الجبهة : « وکلّ ما یجوز لباسه والصلاة فیه یجوز السجود علیه ، والکفان والقدمان والرکبتان من المساجد ، فإذا لباس ثوب الصوف والصلاة فیه فذلک ممّا یسجد علیه ، وکذلک یجزی السجود بالوجه علیه»(3) .
ومنها : إنکاره مشروعیة المتعة وقوله فیها : « هذا زناً ، وما یفعل هذا إلاّ فاجر»(4) .
أقول : أمثال هذه الفتاوی الموجودة فی کتابه یوجب خروجه عن الصحة والإعتماد علیه . ولکن حیث مخالفة جمیعها للمذهب واضحة ، یمکن حمل صدورها منه علی التقیة التی ابتلی بها . واللّه سبحانه هو العالم .
النبوی المشهور : إنّ اللّه إذا حرّم شیئاً حرّم ثمنه .
أقول : رواها الشیخ مرسلاً فی الخلاف(5) واستدلّ بها لعدم جواز بیع المسوخ وسرجین مالا یؤکل لحمه .
ولم یرد ذکره فی کتب أصحابنا ، نعم ذکرها العلامة المجلسی نقلاً عن خط الشیخ محمد بن علی الجباعی رحمه الله عن ابن عباس عن النبی صلی الله علیه و آله وسلم قال : إذا حرّم اللّه شیئاً حرّم ثمنه(6) .
ص: 34
والمحدث النوری نقله من عوالی اللآلی مرفوعاً عن النبی صلی الله علیه و آله وسلم أنّه قال : لعن اللّه الیهود ، حرّمت علیهم الشحوم فباعوها وأکلوا ثمنها [ أثمانها ] ، وإنّ اللّه تعالی اذا حرّم علی قوم أکل شیءٍ ، حرّم علیهم ثمنه(1) .
فالروایة عامیّة وورد فیها ذکر کلمة الأکل فی أکثر روایاتهم :
منها : ما فی سنن أبی داود بسنده عن ابن عباس قال : رأیت رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم جالساً عند الرکن ، قال : فرفع بصره إلی السماء فضحک فقال : لعن اللّه الیهود - ثلاثاً - إنّ اللّه تعالی حرّم علیهم الشحوم فباعوها وأکلوا أثمانها ، وإنّ اللّه - تعالی - إذا حرّم علی قوم أکل شیءٍ حرّم علیهم ثمنه»(2) .
ورواها أحمد فی مسنده(3) والبیهقی فی سننه(4) بسندهما عن ابن عباس .
نعم ، رواها أحمد فی موضع آخر من المسند(5) بدون کلمة « الأکل» .
وبالجملة حیث لم یثبت فی روایاتهم الروایة بدون کلمة الأکل ، فلا یفید فی المقام شیئاً ، ولا ینتج لنا قاعدة کلّیة فی المعاملات .
وعلی فرض عدم وجود کلمة « الأکل » فی الروایة أیضاً ، لا یمکن الأخذ بعموم الروایة ، وعمومها متروک عند الفریقین ، فإنّ کثیراً من الأشیاء یحرم أکله ولا یحرم بیعه ، کما هو واضح .
هذا کلّه فی دلالة الروایة وقد عرفت من مطاوی کلامنا کیفیة سندها وأنّها مرسلة عامیّة فلا یمکن الإستدلال بها .
فتحصّل إلی هنا عدم إنتاج شیء من الروایات الأربعة التی ذکرها الشیخ فی المقام ، فلابدّ فی کلّ مسألة من ملاحظة دلیلها الخاص أو الرجوع إلی الإطلاقات والعمومات الواردة فی الآیات الشریفة الماضیة من صحة العقود والبیوع والمعاملات . والحمد للّه ربّ العالمین .
ص: 35
قال الشیخ : « ... مع إمکان التمثیل للمستحب بمثل الزراعة والرعی ممّا ندب إلیه الشرع وللواجب بالصناعة الواجبة کفایة خصوصاً إذا تعذّر قیام الغیر به فتأمل»(1) .
أقول : صرّح باستحباب الزراعة العلاّمة فی التذکرة حیث یقول : « لا بأس بالزراعة بل هی مستحبة »(2) ثم ذکر روایتین لاستحبابها ، وراجع فی أخبار فصل الزراعة والغرس إلی الکافی 5 / 260 وبحار الأنوار 100 / 63 ووسائل الشیعة 17 / 41 الباب 10 من مقدمات التجارة ومستدرک الوسائل 13 / 26 .
ومن نظر إلی هذه الروایات یجد الأمر والحثّ علی الزراعة والحرث ، وإن ذهب أحدٌ إلی القول باستحبابه شرعاً - کما لا یبعد لتواتر روایاته إجمالاً - فلا فرق حینئذ بین الاکتساب بهما ونفس العمل ، لأنّ المتبادر والشایع نفس الزراعة والإکتساب بها وخروج هذا الفرد الشایع من تحت هذه الروایات مشکل . وبالجملة ، بنظری القاصر إطلاق الروایات تشمل صورة الاکتساب بل هی الفرد الشایع الغالب ، فلا وجه لخروجها . فیمکن القول باستحباب الزراعة والحرث حتّی علی وجه الاکتساب بهما .
ویمکن التمثیل بالتجارة بدلاً من الرعی فی کلام الشیخ لکثرة الروایات الواردة فیها . وحمل التجارة علی صورة عدم الإکتساب حمل علی الفرد النادر کما لا یخفی .
وأمّا الإتیان بالصناعة الواجبة کفایة مع عدم قیام الغیر بها ، إن قلنا بوجوبه لإختلال النظام بترکها کما هو الصحیح ، ثم ذهبنا إلی خروج صورة الاکتساب بهذه الصنایع من تحت هذا الوجوب ، لعلّ نفس هذا الخروج یوجب ترک الناس القیام بهذه الأمور ، فصار هذا موجباً لإختلال النظام . وبالجملة إن ذهبنا إلی القول بالوجوب الکفائی بهذه الصنایع ، فلا فرق بین صورة الاکتساب بها وبین الإتیان بها مجاناً ، لأنّ الناس لا یأتون بها إلاّ لغرض التکسب بها ، کما هو واضح . وحیث کان هذا دیدن الناس فنفس ترک هذا یوجب اختلال النظام ، والبرهان باطلاقه یشمل صورة الاکتساب أیضاً . وعلی هذا لا وجه للإشکال علی الشیخ قدس سره بهذه الأمثلة الواردة ، وهکذا لا وجه للأمر بالتأمل فی کلامه قدس سره ظاهراً . والحمد للّه ربّ العالمین .
ص: 36
قال الشیخ :« ومعنی حرمة الاکتساب حرمة النقل والانتقال بقصد ترتّب الأثر المحرَّم ، وأمّا حرمة أکل المال فی مقابلها فهو متفرّع علی فساد البیع ، لأنّه مال الغیر وقع فی یده بلا سبب شرعیّ وإن قلنا بعدم التحریم ، لأنّ ظاهر أدلّة تحریم بیع مثل الخمر منصرف إلی ما لو أراد ترتیب الآثار المحرَّمة ، أمّا لو قصد الأثر المحلَّل فلا دلیل علی تحریم المعاملة إلاّ من حیث التشریع »(1) .
هذا أحد الأقوال فی المسألة ، وهو مختار الشیخ ویرد علیه :
أولاً : تقیید دلیل حرمة البیع بالقصد المذکور لا موجب له بعد إطلاق الدلیل . ودعوی الإنصراف هنا جزافیة . والإلتزام بمثل هذه الانصرافات یستدعی تأسیس فقه جدید .
وثانیاً : ولو سلمنا هذا الإنصراف فی التکلیف ، لماذا لا نقول به فی الوضع أیضاً لا سیما بعد التزام الشیخ بجعل الأحکام الوضعیة منتزعاً من الأحکام التکلیفیة لا مستقلاً . یعنی قلنا بفساد المعاملة مع قصد ترتّب الأثر المحرَّم ، ومقتضی ذلک جواز بیع الخمر للتخلیل ونحوه .
وثالثاً : وأمّا التشریع المذکور فی آخر کلام الشیخ أیضاً ففی غیر محلّه ، لأنّ التشریع إنّما یصدق إذا أتی بالمعاملة بقصد أن یکون صحیحاً فی الشرع ومع هذه النسبة إلی الشریعة . ونوع المتعاملین غافلون عن هذه القصود والنِسَب .
ما ذکره المحقق النائینی(2) : من أنّ الحرمة المتعلقة بالمعاملة - یعنی حرمة تبدیل المال أو المنفعة [کما أن تعریف المعاملة یعنی : تبدیل طرف الإضافة بطرف إضافة اُخری الذی ینقسم إلی تبدیل الأعیان بالأموال أو المنافع بها] - لا حرمة إنشاء المعاملة ولا حرمة آثارها کالتصرف فی الثمن والمثمن ولا قصد ترتب الأثر علیها . وبعبارة أخری : نفس المُنْشأ بالعقد
ص: 37
الذی هو أمرٌ إعتباری وفعل إیجادی من المنشی ء هو المحرَّم ، لا آلة الایجاد وهو التلفظ ولا القصد ولا الآثار .
وفیه : ظاهر أدلة التحریم إلی فعل المکلف وجریه بلغ إلی نفس المُنْشَأ وتبدیل طرفی الإضافة وتبدیل المال والمنفعة مشکل جداً .
ما ذهب إلیه المحقق الإیروانی حیث قال : « بل معنی حرمة الاکتساب هو حرمة إنشاء النقل والإنتقال بقصد ترتیب أثر المعاملة ، أعنی التسلیم والتسلّم للمبیع وهو الثمن ، فلو خلّی عن هذا القصد لم یتّصف الإنشاء الساذج بالحرمة »(1) .
وفیه : عدم وجود الدلیل علی هذا التقیید یعنی قصد ترتیب أثر المعاملة فی الأدلة ، اللّهم إلاّ أن یقال : بعدم تحقق المعاملة الجدّیّة لو لم یقصدوا ترتیب آثار المعاملة ، فصار عملهم لغواً وصوریّاً .
بعبارة أُخری : الأدلة الواردة فی المقام مطلق ، فلو کان مراده قدس سره تقیید الأدلة بهذا الأمر خارجاً بنحو القید الخارجی فلا یتمّ کلامه ، وإن کان مراده عدم تحقق المعاملة الجدّیّة مع عدم قصد ترتب الآثار وعدم صدق المعاملة علیه فلا یبعد ما ذکره قدس سره .
ما اختاره المحقق الخمینی(2) قدس سره من أنّ المحرَّم علی فرض ثبوته هو المعاملة العقلائیة ، أی إنشاء السبب جدّاً لغرض التسبیب إلی النقل والإنتقال ، لا النقل والإنتقال ، ولا هو بقصد ترتب الأثر ، ولا تبدیل المال أو المنفعة .
أقول : إن کان مراده من المعاملة العقلائیة نفس المعاملة العرفیة وکان الغرض فی نفس المعاملة بعنوان صدق کون المعاملة الجدیّة من دون أن یکون الغرض جزءً للموضوع فهو ، وإلاّ إذا اعتبر بعنوان القید الخارجی أو جزءً للموضوع دون إثباته خرط القتاد ، لعدم وجود الدلیل علیه وإطلاق الأدلة فی المقام ینفیه .
ص: 38
المراد من حرمة البیع ، حرمة إیجاده بقصد ترتب إمضاء العرف والشرع علیه بحیث لا یکفی مجرد صدوره من البایع خالیاً عن ذلک القصد(1) .
وفیه : قد مرّ منا أنّ الأدلة فی المقام مطلقة ولم یکن فی البین ما یوجب تقییدها ، فلا وجه لهذا التقیید ، ومن هنا لو باع الخمر مثلاً مع علمه بکونه منهیّاً عنه فقد ارتکب محرَّماً وإن کان غافلاً عن قصد ترتب إمضاء الشرع والعرف علیه ، فإنّه لا دلیل علی دخالة قصد إمضائهما فی حرمة بیع الخمر .
ما ذکره المحقق الخوئی بقوله قدس سره :« إنّ ما یکون موضوعاً لحلیّة البیع بعینه یکون موضوعاً لحرمته . بیان ذلک : أنّ البیع لیس عبارة عن الإنشاء الساذج ، سواء کان الإنشاء بمعنی إیجاد المعنی باللفظ - کما هو المعروف بین الأصولیین - أم کان بمعنی إظهار ما فی النفس من الإعتبار کما هو المختار عندنا ، وإلاّ لزم تحقق البیع بلفظ « بعتُ » خالیاً عن القصد ، ولا أنّ البیع عبارة عن مجرد الإعتبار النفسانی من دون أن یکون له مُظْهِرٌ وإلاّ لزم صدق البایع علی من اعتبر ملکیة ماله لشخص آخر فی مقابل الثمن وإن لم یظهرها بمُظْهِر ، کما یلزم حصول ملکیّة ذلک المال للمشتری بذاک الإعتبار الساذج الخالی من المُبْزِر ، بل حقیقة البیع عبارة عن المجموع المرکب من ذلک الإعتبار النفسانی مع إظهاره بمُبْرِز خارجی ، سواء تعلق به الإمضاء من الشرع والعرف أم لم یتعلق ، بل سواء کان فی العالَم شرع وعُرْف أم لم یکن »(2) .
وفیه : الظاهر وجود التنافی بین صدر کلامه وذیله ، لأنه قدس سره نفی فی صدر کلامه کون البیع بمعنی الإنشاء الساذج ، ولکن اختاره فی ذیل کلامه قدس سره علی مختاره فی بحث الإنشاء ، حیث یقول : حقیقة البیع عبارة عن المجموع المرکب من ذلک الإعتبار النفسانی مع إظهاره بمبرز خارجی . وحیث کان مسلکه فی بحث الإنشاء هو الاعتبار مع الإظهار ، صار هذا المعنی علی مسلکه نفس الإنشاء الساذج . وبالجملة اختار فی الذیل ما نفاه فی الصدر ، فتأمل .
ص: 39
نعم ، بناءً علی مسلک المشهور فی باب الإنشاء لم یرد هذا الاشکال .
ولکن ما ذکره قدس سره من أن ما یکون موضوعاً لحلیّة البیع بعینه یکون موضوعاً لحرمته فهو متین صحیح جداً .
والمختار فی المقام أن نقول : إن الحرمة والحلیّة التکلیفیتان تتعلقان بفعل المکلّفین ، والذی یصدر من المکلف فی المعاملات هو الإنشاء لها بالقول أو الفعل ، نعم لا یصدق علیه المعاملة عرفاً إلاّ إذا کان ناشئاً عن قصد جدّی ، وهذا القصد داخل فی صدق المعاملة لا أنّه کان قیداً خارجیّاً کما مرّ منّا .
الحرمة الوضعیة فی العقود عبارة عن فساد المعاملة وبطلانها بحیث لا یترتب علیها أثر من الآثار وأنّ الفاسد والباطل عندنا وعند العامة غیر الحنفیة واحدٌ . یعنی کلّ باطلٍ فاسدٌ وکلّ فاسدٍ باطلٌ . وأمّا الحنفیة فرّقوا بینهما ولا یهمّنا البحث فی قولهم .
ص: 40
ص: 41
ص: 42
قال الشیخ : « وکیف کان فالإکتساب المحرَّم أنواع نذکر کلاًّ منها فی طیّ مسائل : النوع الأوّل : الإکتساب بالأعیان النجسة عدا ما استثنی ، وفیه ثمان مسائل »(1) :
ذهب إلی بطلان بیع أبوال ما لایؤکل لحمه المفید فی المقنعة(2) والشیخ فی النهایة(3) والمبسوط(4) والسلار فی المراسم(5) والمحقق فی الشرایع(6) والعلامة فی القواعد(7) والشهید فی المسالک(8) والنراقی فی المستند(9) وغیرهم فی غیرها .
وهذا هو المشهور بین الأصحاب بل کاد أن یکون إجماعاً .
لکن حیث استدلوا للمقام باُمورٍ لا تکشف إجماعهم علی فرض ثبوته عن قول الإمام علیه السلام فلابدّ من ملاحظة الأدلة ، فنقول :
استدلوا علی بطلان بیع أبوال غیر مأکول اللحم بعدّةٍ من الوجوه :
(منها) حرمته : حرمة شرب أبوال ما لا یؤکل لحمه واضح ولکن کیف یمکن إثبات
ص: 43
حرمة شربه ، بطلان بیعه ؟ !
(ومنها) نجاسته : نجاسة هذه الأبوال أیضاً ظاهرة ولکن لایمکن ثبوت بطلان البیع بواسطة النجاسة إلاّ علی القول ببطلان معاملة کلّ نجس ، ویأتی منّا الکلام فیها مفصلاً إن شاء اللّه تعالی ونذکر بطلان هذه القاعدة ونثبت لک بأن النجاسة لا یمکن أن تکون مانعةً للبیع وصحته .
(ومنها) عدم الإنتفاع به منفعةً محلّلةً مقصودةً : ولو فرض فی هذه الأعصار وجود منفعة محلّلة بالنسبة إلی هذه الأبوال ولو باستعمال المکائن الحدیثة والوسائل الجدیدة ، فصارت ذات منفعة عقلائیة مقصودة ، وخرجت من تحت هذا الدلیل .
وبالجملة ، لو فرض وجود منفعة عقلائیة لهذه الأبوال فیجوز بیعها ، والأدلة القائمة علی عدم صحة بیعها کلّها علیلة . والإجماع المدعی علی فرض ثبوته فهو مدرکی لا یثبت لنا شیئاً .
ثم تعرض الشیخ للفرعین(1) :
هل یجوز بیع أبوال ما یؤکل لحمه ؟ وفرّع المسألة علی جواز شربه وعدمه . ولکن لم ینحصر منفعته للشرب فقط ولذا لم یکن هذا التفریع وجیهاً ، وحیث ذهبنا إلی جواز بیع أبوال ما لایؤکل لحمه إذا کانت فیها منفعة محلّلة عقلائیة ، جواز البیع هنا أقوی وأظهر لعدم نجاسته بل لجواز شربه مطلقاً عندنا ، فمسألة صحة بیع أبوال ما یؤکل لحمه واضحة کما علیه المشهور ، وأمّا جواز شرب هذه الأبوال لا ینحصر فی صورة التداوی بل یجوز شربه مطلقاً ، وتدل علیه عدّة من الروایات :
منها : خبر أبی البختری عن جعفر علیه السلام عن أبیه علیه السلام : أنّ النبی صلی الله علیه و آله وسلم قال : لا بأس ببول ما أکل لحمه(2) .
ص: 44
ومنها : موثقة عمار عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال : کلّ ما أکل لحمه فلا بأس بما یخرج منه(1) .
ومنها : خبر أبی صالح عجلان المدائنی عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال : قدم علی رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم قوم من بنی ضبّة مرضی ، فقال لهم رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم : أقیموا عندی فإذا برئتم بعثتکم فی سرّیة ، فقالوا : أخرجنا من المدینة ، فبعث بهم إلی إبل الصدقة یشربون من أبوالها ویأکلون من ألبانها ، فلمّا برئوا واشتدُّوا قتلوا ثلاثة ممّن کان فی الإبل ، فبلغ رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم الخبر ، فبعث إلیهم علیّاً علیه السلام وهم فی واد تحیّروا لیس یقدرون أن یخرجوا منه - قریباً من أرض الیمن - فأسرهم وجاء بهم إلی رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم ، فنزلت هذه الآیة «إِنَّمَا جَزَاء الَّذِینَ یُحَارِبُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَیَسْعَوْنَ فِی الأَرْضِ فَسَاداً أَن یُقَتَّلُواْ أَوْ یُصَلَّبُواْ أَوْ تُقَطَّعَ أَیْدِیهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلافٍ أَوْ یُنفَوْا مِنَ الأَرْضِ»(2) فاختار رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم القطع ، فقطع أیدیهم وأرجلهم من خلاف(3) .
بتقریب : أنّ رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم أرسل إلیهم إبل الصدقة حتّی أنّهم لیشربوا من أبوالها ، والقوم وإن کانوا مرضی ولکن یمکن أن یکون فیهم عدّة أشخاص لم یکونوا مرضی ویصح إطلاق المرضی علی قوم کان أکثر هم مرضی ، ولم یقید رسول اللّه جواز شرب بول الإبل للمرضی منهم خاصةً ، وهکذا لم یقید جواز الشرب بماداموا مرضی ، ولذا لهم أن یشربوا من أبوال إبل الصدقة حتی بعد برئهم من المرض . والدلالة علی جواز الشرب مطلقاً من الروایة واضحة ولکن سندها ضعیف بأبی صالح عجلان المدائنی لأنّه مجهولٌ .
ومنها : خبر الجعفری قال : سمعت أباالحسن موسی علیه السلام یقول : أبوال الإبل خیر من ألبانها ویجعل اللّه الشفاء فی ألبانها(4) .
لم تقید الروایة جواز الشرب بصورة التداوی والإستشفاء فقط بل هی مطلقة ولکن
ص: 45
سندها ضعیف ببکر بن صالح .
ومنها : خبر سماعة قال : سألت أبا عبد اللّه علیه السلام عن شرب الرجل أبوال الإبل والبقر والغنم ، تنعت له من الوجع هل یجوز له أن یشرب ؟ قال : نعم ، لا بأس به(1) .
بتقریب : أنّ جواب الإمام علیه السلام مطلق وإن کان التداوی فرض فی سؤال سماعة ، اللهم إلاّ أن یقال : بسکوت الروایة فی فرض عدم التداوی ، لا نفیّاً ولا إثباتاً .
ولکن فی سندها ضعف .
ومنها : الخبر المروی فی مکارم الأخلاق قال : وسئل عنه (أی عن أبی عبد اللّه علیه السلام )عن شرب أبوال الاُتُن ؟ قال علیه السلام : لا بأس(2) .
الاُتُن : جمع الأتان ، وهی الحمارة .
ومنها : موثقة عمار بن موسی الساباطی عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال : سئل عن بول البقر یشربه الرجل ؟ قال : إن کان محتاجاً إلیه یتداوی به یشربه ، کذلک أبوال الإبل والغنم(3) .
بتقریب : أنّ الأصل فی الکلام هو التأسیس ، وعلی هذا جعل التداوی عطف تفسیر للإحتیاج غیر وجیه ، فلابدّ هنا من وجود قیدین لجواز الشرب علی وجه مانعة الخلو ، یعنی الإحتیاج یوجب جواز الشرب وهکذا التداوی . والإحتیاج هنا أعم من الإضطرار ، لأنّ الحکم فی الإضطرار واضح . یعنی مثلاً إذا کان الرجل فی الصحاری واحتاج فی الجملة إلی شربه فلا بأس به . فهذه الموثقة تدل علی جواز الشرب فی فرض التداوی وغیره ولا ینحصر فی الإبل فقط ، بل ذکر فیها الغنم والبقر أیضاً ، وهذه الموثقة هی العمدة فی المقام .
وبالجملة ، یجوز شرب أبوال ما یؤکل لحمه مطلقاً ، لا سیما فی صورة التداوی والإستشفاء بلا إشکال فیه والقاعدة الأولیة أیضاً تقتضی جواز شربه لقاعدة الحلّ وعدم ورود النهی عن ذلک .
ص: 46
المشهور ذهبوا إلی جواز بیعه ، والأمر علی ما سلکناه واضح یجوز بیعه ویجوز شربه مطلقاً حتی فی صورة عدم التداوی ، یدل علیه :
خبر الجعفری عن أبی الحسن موسی علیه السلام قال : أبوال الإبل خیر من ألبانها ویجعل اللّه الشفاء فی ألبانها(1) .
وتدل علی جواز شربه فی صورة الإستشفاء عدة من الروایات :
خبر مفضل بن عمر عن أبی عبد اللّه علیه السلام : أنّه شکا إلیه الربو الشدید ، فقال : إشرب له أبوال اللقاح ، فشربتُ ذلک ، فمسح اللّه دائی(2) .
الربو : التهیج وتوارد النفس الذی یعرض للمسرع فی مشیه ، وقد یفسر بإنتفاخ البطن . وأمّا اللقاح : فهی الإبل والناقة الحلوب .
ومنها : موقوفة موسی بن عبد اللّه بن الحسین قال : سمعت أشیاخنا یقولون : ألبان اللّقاح شفاءٌ من کلّ داءٍ وعاهةٍ ولصاحب البطن أبوالها(3) .
والروایة لم تنسب إلی المعصوم علیه السلام فلذا کانت موقوفةٌ .
وبالجملة ، یجوز شرب بول الإبل حتّی فی حال الإختیار وصورة عدم التداوی ، ویجوز بیعه أیضاً مطلقاً . والحمد للّه .
ص: 47
استدلوا علی بطلان بیعه بالإجماع الذی ادعاه الشیخ فی الخلاف(1) والعلامة فی التذکرة(2) ونهایة الإحکام(3) وصاحب الجواهر(4) . وحیث کان الإجماع مدرکیّاً علی فرض ثبوته فلابدّ من ملاحظة المدرک فی المسألة ، وهو الروایات الواردة فی المقام :
منها : خبر یعقوب بن شعیب عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال : ثمن العذرة من السحت(5) .
ومنها : خبر دعائم الإسلام قال : روینا عن أبی عبد اللّه علیه السلام عن أبیه علیه السلام عن آبائه علیهم السلام أنّ رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم نهی عن بیع الأحرار وعن بیع المیتة والخنزیر والأصنام وعن عسب الفحل وعن ثمن الخمر وعن بیع العذرة وقال : هی میتة(6) .
وهذان الخبران یدلان علی حرمة بیع العذرة وبطلانها ، ولکن کلاهما ضعیف السند .
ومنها : موثقة سماعة قال : سأل رجل أبا عبد اللّه علیه السلام وأنا حاضر فقال : إنّی رجل أبیع العذرة فما تقول ؟ قال : حرامٌ بیعها وثمنها ، وقال : لا بأس ببیع العذرة(7) .
وهذه الموثقة إمّا أنْ تعدّ من الروایات المجوزة بتقریب : أنّ الجواب الأوّل من الإمام صدر تقیّة وبعد رفع التقیة ذکر علیه السلام الحکم الواقعی للمسألة یعنی کلامه الأخیر ، أو إذا کان کلامان للمتکلم الواحد یؤخذ بالأخیر منهما ، لا سیما إذا کانا فی کلام واحد .
وإمّا أن لا یمکن الأخذ بها ، لأنه إذا وقع التعارض فی کلام واحد - کما هنا - سقط من
ص: 48
الحجیة من رأسه ، فلا یصح عَدّ هذه الموثقة من الروایات المانعة .
ومنها : حسنة محمد بن مضارب عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال : لا بأس ببیع العذرة(1) .
وهذه الحسنة تدل علی جواز البیع وصحته ، والروایتان الماضیتان اللتان تدلان علی المنع کانت ضعیفتا السند فلا تقاومان هذه الحسنة ،فلابدّ من الأخذ بهذه الحسنة والحکم بصحة بیع العذرة النجسة . هذا مع الإغماض عن موثقة سماعة التی هی بنظرنا تدل علی الجواز أیضاً .
وعلی هذا یحمل السحت فی روایات المنع علی أنّ هذا العمل أو البیع کان عملاً ردیئاً لا یناسب شأن الشرفاء والشخصیّات . وبهذا تجمع بین الروایات .
ثم إن أبیت إلاّ أن تری التعارض بین الروایات وأنّها تسقط به فتبقیالاطلاقات والعمومات علی حلیّة البیع وجوازه ونفوذه بلا معارض ونحکم بصحة البیع .
الأرواث الطاهرة للحیوانات المأکولة اللحم یجوز بیعها ، لوجود المنفعة المحلَّلة العقلائیة فیها(2) ، فثبت جواز بیعه ولم یرد من الشارع النهی عن ذلک ، فالحکم بالجواز ونفوذ بیعه عندنا علی القاعدة .
وأمّا ما للشیخ والقوم هذا استثناء من عدم جواز بیع العذرة فلابدّ لهم من إقامة الدلیل علی هذا الإستثناء ، فلذا إلتجأوا بالإجماع المدعی من المرتضی(3) ونفی الخلاف الوارد فی خلاف الشیخ(4) ، ولهم أن یدّعوا الإنصراف فی الأدلة المانعة من هذا الفرض . والإنصراف فی محلّه .
ص: 49
قد استدل علی بطلان بیعه بالإجماع فی نهایة الإحکام(1) للعلامة وشرح الإرشاد(2) لولده فخر الدین والتنقیح(3) للفاضل المقداد .
وفیه : الإجماع هنا مدرکیٌ فلابدّ من ملاحظة غیره من الأدلة .
وقد استدل علی بطلان بیع الدم ببعض الآیات الشریفة ، نحو قوله تعالی : «حُرِّمَتْ عَلَیْکُمُ الْمَیْتَةُ وَالْدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِیرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَیْرِ اللّهِ بِهِ»(4) وقوله تعالی : «إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَیْکُمُ الْمَیْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنزِیرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَیْرِ اللّهِ»(5) ونحوهما قوله تعالی فی سورة النحل(6) .
بتقریب : أن الحرمة - کما مرّ منّا - فی الکتاب والسنة أعم من الوضع والتکلیف ، وحیث تعلق بالدم تشمل الحرمة الوضعیة أیضاً ، یعنی بطلان بیعه .
وفیه : أن سیاق الآیات الشریفة لمن یلاحظها ورد فی مسألة الأکل ، ولذا ورد قبل الآیة الثانیة فی سورة البقرة قوله تعالی : «یَا أَیُّهَا الَّذِینَ آمَنُواْ کُلُواْ مِن طَیِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاکُمْ وَاشْکُرُواْ لِلّهِ إِن کُنتُمْ إِیَّاهُ تَعْبُدُونَ»(7) . یعنی أکل هذه الموارد حرام فی الشریعة المقدسة ، ومنها : الدم ، وجمیع المسلمین من الخاصة والعامة یقولون بحرمة أکل الدم ، ولیست للآیات الشریفة اطلاق حتی تشمل بیع الدم . وهکذا الأمر فی قوله تعالی : «قُل لاَّ أَجِدُ فِی مَا أُوْحِیَ
ص: 50
إِلَیَّ مُحَرَّماً عَلَی طَاعِمٍ یَطْعَمُهُ إِلاَّ أَن یَکُونَ مَیْتَةً أَوْ دَماً مَّسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِیرٍ»(1) . وهذه الآیة الشریفة أیضاً ناظرة إلی حرمة أکل الدم ولحم الخنزیر .
ویمکن الإستدلال علی بطلان البیع ببعض الروایات الواردة فی حرمة الدم :
منها : صحیحة إبراهیم بن عبد الحمید عن أبی الحسن علیه السلام قال : حرم من الشاة سبعة أشیاء : الدم والخصیتان والقضیب والمثانة والغدد والطحال والمرارة(2) .
بتقریب : أنّ الحرمة الواردة فی الصحیحة أعم من الوضع والتکلیف ، فتشمل بیع الدم أیضاً وتدل علی بطلانه .
وفیه : حیث نسب الإمام الحرمة إلی الشاة - والمتعارف فی الشاة أکله - صارت الصحیحة ظاهرة فی الأکل ، وحرمة أکل هذه العشرة من الشاة فهی أجنبیة من بطلان بیع الدم والدلالة علی الوضع .
ومنها : مرفوعة أبی یحیی الواسطی قال : مرّ أمیر المؤمنین علیه السلام بالقصّابین فنهاهم عن بیع سبعة أشیاء من الشاة ، نهاهم عن بیع الدم والغدد وآذان الفؤاد والطحال والنخاع والخُصی والقضیب ، فقال له بعض القصابین : یا أمیر المؤمنین ما الطحال والکبد إلاّ سواء ، فقال : کذبت یا لکع إیتنی بتورین من ماء ، أُنبّئک بخلاف ما بینهما ، فاُتی بکبد وطحال وتورین من ماء ، فقال : شقّوا الکبد من وسطه والطحال من وسطه ثم أمر فمرسا فی الماء جمیعاً ، فابیضّت الکبد ولم ینقص منها شیءٌ ولم یبیضّ الطحال ، وخرج ما فیه کلّه وصار دماً کله حتی بقی جلد الطحال وعرقه ، فقال : هذا خلاف ما بینهما ، هذا لحم وهذا دم(3) .
لکع : اللئیم الأحمق ، التور : إناء یشرب فیه ، مرس : أی نقعه فی الماء .
بتقریب : أنّ أمیر المؤمنین علیه السلام نهی عن بیع الدم ، وظهور هذا النهی هو بطلان بیعه .
وفیه : أولاً : الروایة مرفوعة سنداً .
وثانیاً : لا تدل علی أزید من حرمة أکل الدم کما هو مفاد الآیات الشریفة .
ص: 51
غایة مایمکن أن یقال : حرمة بیعه بالنسبة إلی من أراد أکله ، وأمّا حرمة بیع الدم مطلقاً فلا یُستفاد من المرفوعة ، لا سیما مع ورود الدم فی سیاق الموارد الأخری فی الشاة التی یراد منها الأکل . وهذا واضح وظاهر من الروایة .
وبالجملة ، حیث لم یکن هنا دلیل شرعی علی حرمة بیع الدم وبطلانه وکان ذا منافع متعددة محلّلة عقلائیة - نحو تزریقه للمرضی وغیره - فیجوز بیعه ویشمله الإطلاقات الواردة فی حلیة البیوع ونفوذها والوفاء بها ، هذا کلّه فی الدم النجس .
نحو المتخلِّف فی الذبیحة فحکمه علی ما سلکناه واضح لا بأس ببیعه ، وأمّا علی ما سلکه المشهور من بطلان بیع الدم النجس فلابدّ لهم من إقامة الدلیل علی الجواز . ولعلّ دلیلهم إدعاء إنصراف أدلة المنع بالدم النجس وخروج الدم الطاهر من تحتها ، وهذا الإنصراف فی محلّه .
ووجود المنافع المحلّلة العقلائیة فیه ، فیجوز بیعه . ولذا قال الشیخ الأعظم : « ففی جواز بیعه وجهان أقواهما الجواز »(1) .
ص: 52
قد ذکروا للمسألة ثلاثة فروع :
الأوّل : بیع المنی بعد ما خرج ووقع فی خارج الرحم .
الثانی : بیع المنی بعد ما وقع فی الرحم .
الثالث : بیع عسیب الفحل ، وهو ماؤه قبل الإستقرار فی الرحم . ویلحق بذلک إجارة الفحل للضراب .
والروایات واردة فی الفرع الثالث فقط لا الفرعین الاولین ، وعلی هذا لو کان للمنی منافع محلّلة عقلائیة - کما هو کذلک - فیجوز بیعه فی جمیع الفروع الثلاثة علی القاعدة التی مرّت منّا مراراً من الملازمة بین جواز الإنتفاع وجواز البیع ، والإطلاقات الواردة فی حلّیّة البیع وجوازه ونفوذه ولزوم الوفاء به أیضاً تشمله إلاّ أن یثبت دلیل شرعی علی خلافه . والدلیل هنا مفقود بنظرنا القاصر وقد أدعی وجوده بوروده فی روایات :
منها : خبر القاسم بن عبد الرحمن عن الإمام الباقر علیه السلام عن أبیه علیه السلام عن الحسین بن علی علیه السلام فی حدیث : أنّ رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم نهی عن خصال تسعة : عن مهر البغی وعن عسیب الدابة - یعنی کسب الفحل - الحدیث(1) .
ومنها : مرسلة الصدوق قال : نهی رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم عن عسیب الفحل ، وهو أجر الضراب(2) .
ومنها : خبر الجعفریات بإسناده عن أمیر المؤمنین علیه السلام أنّه قال : من السحت : ثمن المیتة وثمن اللقاح ... وعسب الفحل ولا بأس أن یهدی له العلف ، الحدیث(3) .
ص: 53
ومنها : خبر دعائم الإسلام قال : روینا عن أبی عبد اللّه علیه السلام عن آبائه علیهم السلام ، أنّ رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم نهی عن بیع الأحرار وعن بیع المیتة والخنزیر والأصنام وعسب الفحل وعن ثمن الخمر وعن بیع العذرة ، وقال : هی میتة(1) .
وهذه الروایات کما تری وردت فی الفرع الثالث وکلّها ضعاف ، وفی قبالها روایتان تدلان علی الجواز وهما :
1 - خبر حنان بن سدیر قال : دخلنا علی أبی عبد اللّه علیه السلام ومعنا فرقد الحجام - إلی أن قال - فقال له : جعلنی اللّه فداک إنّ لی تیساً أکریه ، فما تقول فی کسبه ؟ قال : کُلْ کسبه فإنّه لک حلال ، والناس یکرهونه . قال حنان : قلت : لأیّ شیء یکرهونه وهو حلال ؟ قال : لتعییر الناس بعضهم بعضاً(2) .
2 - صحیحة معاویة بن عمار عن أبی عبد اللّه علیه السلام فی حدیث ، قال : قلت له : أجر التیوس ؟ قال : إن کانت العرب لتعایربه ، ولا بأس(3) .
التُیُوس : جمع التَیْس وهو الذَکَر من المَعَز والظباء والوُعول .
وهاتان الروایتان تدلان علی الجواز وفیهما الصحیحة ، فلابدّ من الأخذ بهما وحمل الروایات المانعة علی أنّ فی هذا الأمر إذا صار شغلاً لأحد کان موجباً لتعییر الناس وعیبهم له ، ولا یناسب شأن الشرفاء والشخصیات البارزة .
والظاهر أنّ روایتی الجواز بنفسیهما تفسر الروایات المانعة والعلّة فی المنع ، وهی تعییر الناس ، فلابدّ من الأخذ بهما الدالتین علی الجواز . ومن المعلوم أنّ إطلاقهما یشمل صورتی البیع والإجارة .
ثم : إن أبیت إلاّ أن تری التعارض بین الطائفتین من الروایات فسبیلهما التساقط بالتعارض ، فلابدّ من الرجوع إلی إطلاقات حلّیّة البیوع وجوازها ونفوذها ووجوب الوفاء بها .
ص: 54
وبالجملة ، فی جمیع الفروع الثلاثة یجوز بیع المنی إنْ کان له منفعة محلّلة عقلائیة . ثم إنّ هنا فروعاً حدثت فی زماننا هذا لابدّ لنا من التکلّم فیها :
هل یجوز أخذ منی الزوج وتزریقه فی رحم زوجته وأخذ الأُجرة علی هذا العمل ؟
الظاهر جواز هذا العمل ، لأنّ للزوج کما له إراقة مائه فی رحم زوجته کذلک یجوز إدخال مائه بأیّ نحو کان فی رحم زوجته ، ویمکن للغیر التصدی لهذا العمل لو لم یتبع حراماً شرعیّاً آخراً ، وعلی هذا یجوز أخذ الاُجرة علیه . واللّه سبحانه هو العالم .
هل یجوز أخذ منی الزوج وتقویته فی الخارج ثم تزریقه فی رحم زوجته وأخذ الأُجرة علی هذا العمل ؟
الظاهر - واللّه سبحانه هو العالم - إنّ الحکم فی هذا الفرع أیضاً کالفرع الأوّل .
هل یجوز أخذ منی الزوج والزوجة واختلاطهما فی الخارج وتقویتهما ثم غرس النطفة أو الجنین فی رحم الزوجة وأخذ الأُجرة علی هذا العمل ؟
نعم ، لا بأس بأخذ منیهما ثم اختلاطهما وتقویتهما بالمواد الکیمیاویة اللازمة ثم غرس النطفة أو الجنین فی رحم الزوجة . وهکذا لو لم یتبع هذا العمل محرّماً شرعیّاً یجوز للغیر التصدی لذلک وأخذ الاُجرة علیه . واللّه سبحانه هو العالم .
هل یجوز أخذ النطفة والمنی من الزوج والزوجة ثم غرسه فی رحم الزوجة الأُخری الثانیة ؟
نعم ، یجوز أخذ المنی من الزوج وزوجته الأولی ثم اختلاطهما وتقویّتهما بالمواد الکیمیاویة ثم غرسه فی رحم زوجته الثانیة . ویجوز للغیر التصدی لذلک لو لم یتبع محرّماً
ص: 55
شرعیّاً آخراً ویجوز أخذ الأُجرة علی ذلک . واللّه سبحانه هو العالم .
والولد فی جمیع هذه الفروض یلحق بالزوج والزوجة وفی الأخیر یلحق بالزوج بلا إشکال ، وتدلّ علیه صحیحة محمد بن مسلم قال : سمعت أبا جعفر وأبا عبد اللّه علیهماالسلام یقولان : بینا الحسن بن علی علیه السلام فی مجلس أمیر المؤمنین علیه السلام إذ أقبل قوم ... إلی أن قال علیه السلام : ... ویردُّ الولد إلی أبیه صاحب النطفة ، الحدیث(1) .
ویؤیدها : حسنة عمرو بن عثمان عن أبی عبد اللّه علیه السلام عن الحسن علیه السلام أنّه قال فی حدیث : ... ویلحق الولد بصاحب النطفة ، الحدیث(2) .
ومثلها خبر اسحاق بن عمار فراجعه(3) .
ویلحق الولد بالزوجتین علی کلام فیه . یعنی لا یبعد أن یکون فی الفرع الرابع للولد اُمّان بدلالة الصحیحة والحسنة ولإطلاق قوله تعالی «إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلاَّ الَّیء وَلَدْنَهُمْ»(4) .
هل یجوز أخذ منی الزوج واختلاطه مع منی غیره ثم تزریقه فی رحم زوجته أم لا ؟
لا یجوز هذا العمل لا للزوج ولا لغیره ، لأنّ من المحرّمات الشرعیة التی ثبتت عندنا بواسطة روح الشریعة المقدسة ومذاق الشارع إدخال الأجنبی ماءه فی رحم الأجنبیة ، سواء کان ذلک بالإیلاج الذی سمی بالزنا أو بغیر إیلاج . فنفس إدخال ماء الأجنبی فی رحم الأجنبیة من المحرمات الشرعیة سواء تصدی لِهذا العمل الأجنبی نفسه أو الزوج أو غیرهما .
ویدل علیه خبر إسحاق بن عمار قال : قلت لأبی عبد اللّه علیه السلام : الزنی أشرّ أو شرب الخمر وکیف صار فی الخمر ثمانین وفی الزنی مائة ؟ فقال : یا إسحاق الحدّ واحد وزید هذا لتضیعه النطفة ولوضعه إیّاها فی غیر موضعها الذی أمره اللّه عزّ وجلّ به(5) .
ص: 56
وخبر سالم عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال : إنّ أشدّ الناس عذاباً یوم القیامة رجلٌ أقرّ نطفته فی رحم تحرم علیه(1) .
والروایة بإطلاقها تشمل إدخال الأجنبی ماءه فی رحم الأجنبیة ، ورواها الصدوق بسنده عن علی بن سالم فی عقاب الأعمال(2) .
ومرسلة الصدوق رفعه عن النبی صلی الله علیه و آله وسلم : لن یعمل ابن آدم عملاً أعظم عند اللّه عزّوجلّ من رجل قتل نبیّاً أو إماماً أو هدم الکعبة التی جعلها اللّه قبلةً لعباده أو أفرغ ماءه فی امرأة حراماً(3) .
وعلی هذا لا یجوز أخذ منی الزوج واختلاطه مع منی غیره ثم تزریقه فی رحم زوجته . وحیث کان العمل محرّماً شرعیّاً لا یجوز للغیر التصدی لذلک وأخذ الأُجرة علیه . واللّه سبحانه هو العالم .
هل یجوز أخذ منی الزوج والزوجة واختلاطهما مع منی امرأة أُخری أجنبیة فی الخارج ثم تزریقهما أو غرس النطفة أو الجنین فی رحم الزوجة أم لا ؟
الظاهر - واللّه سبحانه هو العالم - جواز هذا العمل وأخذ الأُجرة علیه لو لم یتبع محرّماً شرعیّاً آخراً ، لأنّ المحرم الشرعی إدخال الأجنبی ماءه فی رحم الأجنبیة مطلقاً ، یعنی التصدی لهذا العمل بنفسه أو غیره ، ولکن إدخال ماء المرأة فی رحم غیرها أو اختلاط هذه المیاه فی الخارج وفی المکائن لا بأس به ولم یثبت فی الشریعة حرمته ومع الشک فی حرمة هذا العمل یجری أصل البراءة فی المقام .
نعم ، الأحوط فی هذا الفرض إجراء صیغة النکاح بین الزوج والمرأة الأجنبیة لتصیر أیضاً زوجته ثم الإتیان بهذا العمل لرفع توهم الإشکال فی المسألة .
الفرع السابع :
هل یجوز أخذ منی الزوج والمحافظة علیه فی المکائن الحدیثة ثم تزریقه بعد موته فی
ص: 57
رحم زوجته فی حال حیاته أم لا ؟
الظاهر - واللّه سبحانه هو العالم - أن علقة الزوجیة بین الأحیاء ولا زوجیّة بین المیت والحیّة ، فلا یجوز هذا العمل ، لأنّ بعد الموت صار الزوج أجنبیّاً بالنسبة إلی الزوجة وانفسخ بینهما علقة النکاح وعقده ، ولذا یجوز لها التزویج بعد انقضاء العدّة فلا یجوز بعد موت الزوج إدخال مائه فی رحمها ، وأمّا جواز غُسل أحد الزوجین الآخر بعد الموت ثبت بالدلیل الشرعی والنص الخاص . وبالجملة لا یجوز هذا العمل لانفساخ علقة الزوجیة وعقدة النکاح بعد الموت .
هل یجوز أخذ منی الزوج والزوجة والمحافظة علیه وتزریقه بعد موت الزوجة فی الزوجة الاُخری للزوج أم لا ؟
الظاهر - واللّه سبحانه هو العالم - جواز هذا العمل ، لأنّ المرأة الثانیة أیضاً زوجته وإدخال مائه فی رحمها لا بأس به وهکذا لا بأس بأدخال ماء المرأة الأولی - یعنی الزوجة المتوفاة - فی رحم الثانیة ، لعدم وجدان دلیل علی الحرمة ، وجریان البراءة فی المقام کما مرّ منّا فی بعض الفروع السابقة ، فلا بأس بالعمل فی هذا الفرض بخلاف الفرع السابع ، ویجوز للغیر التصدی لذلک لو لم یتبع محرّماً شرعیّاً آخراً وأخذ الأُجرة لهذا العملیة .
هل یجوز أخذ منی الزوج والزوجة والمحافظة علیهما مدّة ثم اختلاطهما بعد موتهما فی المکائن والآلات الحدیثة واستحصال الولد من الماکنة أم لا ؟
الظاهر - واللّه سبحانه هو العالم - جواز هذا العمل ، لعدم استلزامه حرمة شرعیّة فی المقام . وکذا یجوز أخذ الأُجرة علی ذلک منهما أو من ورثتهما .
هل یجوز أخذ المنی من الأجنبی والأجنبیة واختلاطهما فی المکائن الحدیثة واستحصال الولد من الماکنة أم لا ؟
الظاهر - واللّه سبحانه هو العالم - جواز هذا العمل ، لعدم ثبوت دلیل علی الحرمة فی
ص: 58
المقام وجریان أصل البراءة ، ویجوز أخذ الأُجرة علی هذا العمل .
ثم بمَن یلحق الولد فی هذا الفرض ؟
یمکن أن یقال : الأحوط وجوباً مراعاة الإحتیاط بالنسبة إلی النظر والنکاح والتوارث بین هذا الولد وصاحبی النطفة ، یعنی لو کان الولد ذکراً لا یجوز له النظر بالشهوة إلی امرأة التی أخذت منها النطفة ولا نکاحها والمصالحة فی المیراث ، وهکذا الأمر بالنسبة إلی البنت والرجل الذی أُخذ منه النطفة .
ولکن الأقوی إلحاق الولد بصاحب النطفة أباً وأمّاً ، لدلالة صحیحة محمد بن مسلم(1) وحسنة عمرو بن عثمان(2) الماضیتین .
ثم هذا الولد ، هل هو ولد حلال أو شبهة أو زنا ؟ الأخیر یُنفی لعدم وجوده وهکذا الوسط ، فیبقی الأوّل بلا معارض ، فهو ولد حلال ویجری علیه أحکامه ، فیجوز له تصدی إمامة الجماعة ونحوها .
هل یجوز أخذ المنی من الأجنبی والأجنبیة وتقویتهما بمنی الأجنبی الآخر وأجنبیة اُخری واختلاطهما ثم جعلها فی المکائن الحدیثة واستحصال الولد من الماکنة أم لا ؟
الظاهر - واللّه سبحانه هو العالم - جواز هذا العمل ، لعدم ثبوت دلیل الحرمة فی المقام وجریان أصل البراءة ، ولذا یجوز أخذ الأُجرة علی هذا العمل مع الشرط السابق ، وهذا الولد ولد حلال ، لا یبعد إلحاقه بأصحاب النطفة ، یعنی هنا له أبان واُمّان وإن کان الإحتیاط الذی مرّ فی الفرع السابق حسناً .
ولکن علم الطب الیوم ینفی تأثیر النطفتین من الرجلین فی نطفة المرأة الواحدة ، یعنی أن علم الطب یقول فی هذا الفرض بتأثیر أحدی نطفتین من الرجلین وتأثر أحدی النطفتین من المرأتین . فللولد حینئذ لیس إلاّ أباً واحداً واُماً واحدةً وهما صاحبا النطفة لا غیرهما ، والأمر
ص: 59
حینئذ سهلٌ .
هل یجوز أخذ المنی من الزوج والزوجة أو من الأجنبی والأجنبیة واختلاطهما فی الخارج وجعلها فی المکائن واستحصال الولد من الماکنة لکن لا واحداً بل متعدِّداً ، سواءً فی ذلک العدد القلیل أو الکثیر ، نحو استحصال ألف ولد أو أکثر من ذلک من الآف ولد کلّهم یشبهون بالزوج أو الزوجة أو الأجنبی أو الأجنبیة علی حسب مختارهم . هل یجوز هذه العملیة التی تسمی الیوم بالإستنساخ البشری أم لا ؟
الظاهر - واللّه سبحانه هو العالم - قصور دلیل الحرمة فی المقام وجریان البراءة فی ذلک ، فنفس هذا العمل لا بأس به ولکن لو اختلت هذه العملیّة بالنظام بحیث لا یمکن تشخیص هذه اُلوف بعضهم عن بعض تحرم وبعبارة أُخری : هذه العملیّة إن کانت توجب اختلال التعارف فی المجتمع البشری حرمت من هذه الجهة ، یعنی من جهة اختلالها بالنظام وذهابها بالتعارف اللازم فی المجتمع الإنسانی . والظاهر أنّ هذه العملیّة توجب الإختلال وتذهب بالتعارف فتحرم من هذه الجهة ، واللّه العالم .
تنبیه : ثم إنّ هنا فروعاً کثیرة تظهر حکمها ممّا سردناه علیک فی الفروع السابقة ومع تطبیق القواعد التی مرّ منّا تحتها .
تبصرة : فی جمیع الفروع التی ذهبنا إلی الجواز یجوز للغیر التصدی لذلک لولم یتبع عمله محرّماً شرعیّاً آخراً وأخذ الأُجرة علیه ، وهکذا فی جمیع الفروع المجوّزة ، یجوز بیع المنی والنطفة لذلک ، والولد فی هذه الفروع المجوّزة یلحق بالزوجین إن کان الزواج موجوداً وإلاّ یلحق بصاحبی النطفة وعلیه مراعاة الإحتیاط فی النظر والنکاح والتوارث . وبالجملة الولد فی هذه الفروع المجوّزة هو الولد الحلال . واللّه سبحانه هو العالم والحمد للّه .
ص: 60
المشهور بین الأصحاب بل کاد أن یکون إجماعاً بطلان بیع المیتة ، وادعی الإجماع الشیخ فی رهن الخلاف وقال : « إذا کان الرهن شاةً فماتت زال ملک الراهن عنها وانفسخ الرهن إجماعاً ... دلیلنا : إجماع الفرقة علی أنّ جلد المیتة لا یطهر بالدباغ ، وإذا ثبت ذلک لم یعد الملک إجماعاً ... »(1) .
وقال العلامة فی التذکرة : « یُشترط فی المعقود علیه الطهارة الأصلیة ... ولو باع نجس العین کالخمر والمیتة والخنزیر لم یصح إجماعاً ... »(2) .
وقال فی المنتهی : « ... وقد احتج العلماء کافّة علی تحریم بیع المیتة والخمر والخنزیر بالنص والإجماع»(3) .
وقال السیوری فی ذیل قول المصنف : « الأوّل : الأعیان النجسة » ، قال : « إنّما حرّم بیعها لأنّها محرّمة الإنتفاع ، وکلّ محرّمة الانتفاع لا یصح بیعه . أمّا الصغری فإجماعیة وأمّا الکبری فلقول النبی صلی الله علیه و آله وسلم ... »(4) .
ثم یقع الکلام هنا فی مقامین :
هل یجوز الإنتفاع بالمیتة أم لا ؟
المشهور بین الأصحاب عدم جواز الإنتفاع بالمیتة ، ولکن المهمّ ملاحظة الأدلة :
قد استدلوا علی حرمة الإنتفاع بالمیتة بالآیة الشریفة «حُرِّمَتْ عَلَیْکُمُ الْمَیْتَةُ وَالْدَّمُ
ص: 61
وَلَحْمُ الْخِنْزِیرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَیْرِ اللّهِ بِهِ»(1) .
بتقریب : أن حرمة المیتة فی الآیة الشریفة یقتضی حرمة جمیع أنواع التصرف فیها ومنها الإنتفاع بها .
وفیه : الآیة الشریفة ونظائرها فی سورة البقرة(2) والأنعام(3) والنحل(4) کلّها راجعة إلی الأکل بقرینة السیاق الوارد فی ذلک ، وحرمة أکل المیتة بین المسلمین خاصةً وعامةً إجماعیٌ ، فلا یمکن التعدی إلی سائر الانتفاعات والتصرفات فی المیتة وغیرها .
وأمّا الأخبار الواردة حول الإنتفاع بالمیتة علی الطائفتین :
منها : موثقة سماعة قال : سألته عن جلود السباع أینتفع بها ؟ فقال : إذا رمیت وسمّیت ، فانتفع بجلده ، وأمّا المیتة فلا(5) .
ولا بأس بإضمارها حیث أن مُضْمِرها سماعة بن مهران والموثقة تدل علی عدم جواز الإنتفاع بجلد المیتة .
ومنها : خبر علی بن أبی المغیرة قال : قلت لأبی عبد اللّه علیه السلام : المیتة ینتفع منها بشیءٍ ؟ فقال : لا ، قلت : بلغنا أنّ رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم مرّبشاة میتة ، فقال : ما کان علی أهل هذه الشاة إذا لم ینتفعوا بلحمها ، أن ینتفعوا بإهابها ، فقال : تلک شاة کانت لسودة بنت زمعة زوج النبی صلی الله علیه و آله وسلم وکانت شاة مهزولة لا ینتفع بلحمها فترکوها حتّی ماتت ، فقال رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم : ما کان علی أهلها إذا لم ینتفعوا بلحمها أن ینتفعوا بإهابها ، أی تذکّی(6) .
ولکن وردت هذه القضیة بنحو آخر فی موثقة أبی مریم الأنصاری قال : قلت لأبی
ص: 62
عبد اللّه علیه السلام : السخلة التی مرّ بها رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم وهی میتة ، فقال : ما ضرّ أهلها لو انتفعوا بإهابها ، قال : فقال أبو عبد اللّه علیه السلام : لم تکن میتة یا أبا مریم ، لکنّها کانت مهزولة فذبحها أهلها ، فرموا بها ، فقال رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم : ما کان علی أهلها لو انتفعوا بإهابها(1) .
وهذه الموثقة لا تدل علی عدم جواز الإنتفاع بالمیتة ویمکن إتحاد القضیتین . خلافاً لما احتمله صاحب الوسائل حیث یقول : « لا منافاة بینه وبین السابق ، لاحتمال تعدّد الشاة والقول»(2) . بل هذا الإحتمال بعید واتحاد القضیتین محتمل قویّاً . وعلی القول بالإتحاد خرجت القضیة من نفی الإنتفاع بالمیتة ، لأنه لابدّ من الأخذ بالموثقة لصحة سندها .
ومع ذلک کلّه ، خبر علی بن أبی المغیرة یدل علی حرمة الإنتفاع بالمیتة .
ومنها : خبر فتح بن یزید الجرجانی عن أبی الحسن علیه السلام قال : کتبت إلیه أسأله عن جلود المیتة التی یؤکل لحمها ذکیّاً ؟ فکتب علیه السلام : لا ینتفع من المیتة بإهاب ولا عصب وکلّها کان من السخال الصوف وإن جزَّ والشعر والوبر والانفحة والقرن ، ولا یتعدّی إلی غیرها إن شاء اللّه(3) .
یعنی یجوز الإنتفاع بهذه الأجزاء الأخیرة من المیتة من السخال الصوف إلی آخر الحدیث ، ولکن لا یتعدی منها إلی غیرها . فذیل الحدیث یدل علی جواز الانتفاع بهذه الأجزاء من المیتة التی لا تحلّها الحیاة . ویأتی البحث حول ذلک إن شاء اللّه تعالی .
ومنها : خبر الکاهلی قال : سأل رجل أبا عبد اللّه علیه السلام قرأنا عنده - عن قطع ألیات الغنم ؟ فقال : لا بأس بقطعها إذا کنت تصلح بها مالک ، ثم قال : إنّ فی کتاب علیٍ علیه السلام : أنّ ما قطع منها میّت ، لا ینتفع به(4) .
الروایة تدل علی عدم جواز الإنتفاع بالمیتة مطلقاً ، ولکنّها ضعیفة بالکاهلی لعدم ورود توثیقه . ولعلّ المراد منها عدم جواز الانتفاع بها مثل ما ینتفع بالمذکی ، والشاهد علی
ص: 63
ذلک خبر البزنطی صاحب الرضا علیه السلام قال : سألته عن الرجل یکون له الغتم ، یقطع من إلیاتها وهی أحیاء ، أیصلح أن ینتفع بما قطع ؟ قال : نعم ، یذیبها ویسرج بها ولایأکلها ولایبیعها(1) .
ومنها : خبر الحسن بن علی الوشاء قال : سألت أبا الحسن علیه السلام ، فقلت : جعلت فداک إنّ أهل الجبل تثقل عندهم إلیات الغنم فیقطعونها ، قال : هی حرام ، قلت : فنصطبح بها ؟ قال : أما تعلم أنّه یصیب الید والثوب وهو حرام ؟(2) .
اصطبح به : أسرج به للإضاءة . وإصابة النجِس بالثوب والید لیست من المحرّمات الشرعیة ، وهذا التعلیل الوارد فی الروایة بجواز الانتفاع أدل من الدلالة علی حرمة الإنتفاع کما هو الواضح لأهله .
ومنها : خبر علی بن جعفر عن أخیه موسی بن جعفر علیه السلام قال : سألته عن الماشیة تکون لرجل فیموت بعضها ، أیصلح له بیع جلودها ودباغها ویلبسها ؟ قال : لا ، وإن لبسها فلا یصلّی فیها(3) .
وجملة « إنْ لبسها» الواردة بعد لا ، توجب انکسار اطلاق لفظة " لا " ، یعنی لا الواردة فی الجواب لیست مطلقة بالنسبة إلی جمیع الموارد ، بل إن لبسها فصلی فیها صارت مورد نفی الروایة فتأمل .
ومنها : موثقة سماعة قال : سألته عن أکل الجبن وتقلید السیف وفیه الکیمخت والفراء ؟ فقال : لا بأس ما لم یعلم أنّه میتة(4) .
یعنی فیه بأس إن علم أنّه میتة ، فتدل علی عدم جواز الإنتفاع بالمیتة . ولکن یمکن حملها علی الکراهة بقرینة موثقة اُخری لسماعة قال : سألته عن جلد المیتة المملوح وهو الکیمخت ، فرخّص فیه وقال : إن لم تمسّه فهو أفضل(5) .
ص: 64
وهذه الموثقة صریحة بجواز الإنتفاع بالمیتة وصارت قرینة علی الموثقة سماعة السابقة من أن النهی فیها تحمل علی الکراهة والتنزیه .
هذا کلّها فی الروایات المانعة من الإنتفاع بالمیتة ، وفی قبالها طائفة اُخری تدل علی جواز الإنتفاع بالمیتة .
منها : موثقة سماعة(1) الماضیة آنفاً .
ومنها : خبر البزنطی(2) الذی مرّ منّا .
ومنها : خبر أبی القاسم الصیقل وولده قال : کتبوا إلی الرجل علیه السلام : جعلنا اللّه فداک إنّا قوم نعمل السیوف لیست لنا معیشة ولا تجارة غیرها ونحن مضطرون إلیها ، وإنّما علاجنا جلود المیتة والبغال والحمیر الأهلیة لا یجوز فی أعمالنا غیرها ، فیحلّ لنا عملها وشراؤها وبیعها ومسّها بأیدینا وثیابنا ، ونحن نصلی فی ثیابنا ونحن محتاجون إلی جوابک فی هذه المسألة یا سیدنا لضرورتنا ؟ فکتب : اجعل ثوباً للصلاة .
وکتب إلیه : جعلت فداک وقوائم السیف التی تُسمی السَفَن نتخذها من جلود السمک ، فهل یجوز لی العمل بها ولسنا نأکل لحومها ؟ فکتب علیه السلام : لا بأس(3) .
المراد بالرجل الإمام الهادی علیه السلام (4) أو الإمام العسکری علیه السلام أو الإمام الحجة عجل اللّه تعالی فرجه الشریف . السَفَن : جلد خشن یجعل علی قوائم السیف .
هذه المکاتبة تدل علی جواز الإنتفاع بالمیتة ، والإضطرار المذکور فیها بمعنی الإضطرار الشغلی ، یعنی أنّهم فی عملهم یحتاجون إلیها لا الإضطرار بالحمل الشایع الصناعی ، یعنی لو لم یکن هذا العمل والشغل یوجب الإختلال بالحیاة أو المعیشة .
وعلی هذا الأساس کما هو الظاهر من المکاتبة ، تدل بالصراحة علی جواز الإنتفاع بالمیتة ، بل تدل علی جواز بیع المیتة ، لأنّهم یعملون السیف وقوائمها وسفنها ثم یبیعونها .
ص: 65
ولکن فی سندها ضعف بأبی القاسم الصیقل ووُلده لأنّهم مجاهیل . إلاّ أن یحذفوا من السند بأن یقال : محمد بن عیسی بن عبید رأی صورة مکاتبتهم مع الإمام علیه السلام وجواب الإمام علیه السلام بخطه وهو ینقل الحدیث وخطه علیه السلام ، ومع حذفهم من سند المکاتبة تصیر المکاتبة صحیحة السند . والشاهد علی ذلک کلمة " کتبوا " فی صدر الروایة ، لأنّ أبا القاسم الصیقل وولده إن کانوا موجودین فی سند المکاتبة وهم ینقلون المکاتبة فلابدّ أن یقولوا ، « کتبتُ » أو « کتبنا » لا « کتبوا » ، وهکذا فی ذیل الروایة لا بدّ أن یکون هکذا بدل « کتب إلیه » . وهذا الشاهد یدل علی حذفهم فی السند ، ومع حذفهم تصیر المکاتبة صحیحة السند .
وفیه : أن ظاهر السند وجودهم فیه ، لأنّ الوارد فی السند « محمد بن عیسی بن عبید عن أبی القاسم الصیقل وولده » ، وظاهره ورودهم فیه ، فلابدّ من أخذ هذا الظاهر . ومن له إلمام بالأحادیث والروایات ونقلها وکتابتها والنسخ الواردة فیها ، یعلم بأنّ الاستدلال بکلمة واحدة بدل کلمة اُخری لیس بصحیح ، لکثرة النسخ وتبدیلها . نعم یصح الاستدلال بمضمون الروایات ومفادها ، وهذا أمر مهمّ ظهر لنا بحمد اللّه تعالی بعد الممارسة سنین متمادیة فی روایات أهل البیت علیهم السلام ، وذلک فضل اللّه یؤتیه من یشاء واللّه ذو الفضل العظیم .
وبالجملة ، سند المکاتبة ضعیف لا یمکن تصحیحه بنظرنا القاصر وإن کانت دلالتها علی الإنتفاع بالمیتة وبیعها تام .
ومنها : خبر قاسم الصیقل : کتبت إلی الرضا علیه السلام : إنّی أعمل أغماد السیوف من جلود الحمر المیتة فتصیب ثیابی فأصلّی فیها ؟ فکتب إلیّ : إتخذ ثوباً لصلاتک .
فکتبت إلی أبی جعفر الثانی علیه السلام : کنت کتبت إلی أبیک علیه السلام بکذا وکذا ، فصعب علیَّ ذلک فصرت أعملها من جلود الحمر الوحشیة الذکیّة ، فکتب إلیَّ : کل أعمال البرّ بالصبر - یرحمک اللّه - فإن کان ما تعمل وحشیّاً ذکیّاً فلا بأس(1) .
الروایة تدل علی جواز الإنتفاع بالمیتة ولکن تعویض الثیاب أو تطهیرها صار موجباً لصعوبة العمل علی قاسم الصیقل ولذا بدّل المیتة بالذکیّة وأنه یعمل بها ، ولذا أجابه الإمام
ص: 66
أبوجعفر الثانی جواد الأئمة علیهم السلام : « کلُّ أعمال البرّ بالصبر» .
ولکن سندها ضعیف . واحتمل بعض مشایخنا اتحاد هذه الروایة مع المکاتبة الماضیة ، والإتحاد بنظرنا بعیدٌ ، لا سیّما مع تعدد الأئمة المسؤولین عنهم علیهم السلام . واللّه العالم .
ومنها : خبر علی بن أبی حمزة : إنّ رجلاً سأل أبا عبد اللّه علیه السلام - وأنا عنده - عن الرجل یتقلّد السیف ویصلّی فیه ؟ قال : نعم ، فقال الرجل : إنّ فیه الکیمخت ، قال : وما الکیمخت ؟ قال : جلود دوابّ منه ما یکون ذکیّاً ومنه ما یکون میتة ، فقال : ما علمت أنّه میتة فلا تصلّ فیه(1) .
أجاب الإمام علیه السلام بعدم جواز الصلاة فی ما علم أنّه میتة وأجاز ضمناً الإنتفاع بها لعدم تعرضه به وهو فی مقام البیان ، فالروایة تدل علی جواز الإنتفاع بالمیتة ولکن فی سندها ضعف .
ومنها : خبر أبی بصیر قال : سألت أبا عبد اللّه علیه السلام عن الصلاة فی الفراء ؟ فقال : کان علی بن الحسین علیه السلام رجلاً صرداً ، لا یدفئه فراء الحجاز ، لأنّ دباغها بالقرظ ، فکان یبعث إلی العراق فیؤتی ممّا قبلکم بالفرو فیلبسه ، فإذا حضرت الصلاة ألقاه وألقی القمیص الذی یلیه ، فکان یُسأل عن ذلک ؟ فقال : إنّ أهل العراق یستحلّون لباس جلود المیتة ویزعمون أنَّ دباغه ذکاته(2) .
دلالة الروایة علی الإنتفاع بالمیتة واضحة ولکن فی سندها ضعف .
ومنها : خبر زرارة قال : سألت أبا عبد اللّه علیه السلام عن جلد الخنزیر یجعل دلواً یستقی به الماء ؟ قال : لا بأس(3) .
بتقریب : عدم قبول التذکیة للخنزیر ، فإنّه میتة لا محالة وأجاز الإمام علیه السلام الإنتفاع بجلده . ولکن فی السند أبا زیاد النهدی وهو مجهول ، فالسند ضعیف به .
وبالجملة ، هذه الطائفة من الروایات تدل علی جواز الإنتفاع بالمیتة والطائفة الأولی
ص: 67
صریحة فی عدم الجواز ، ویمکن الجمع بینهما بحمل الطائفة المانعة علی الإنتفاعات التی یُنتفع بها فی المذکّی کما یظهر ذلک أیضاً من بعضها نحو موثقة سماعة وخبر البزنطی ونحوهما . وعلی هذا الروایات تدل علی جواز الإنتفاع بالمیتة .
ولو أبیت إلاّ أن تری التعارض بین الطائفتین من الروایات ، بعد التساقط لعدم وجود الترجیح بینهما ، فالمرجع هو قاعدة الحلّ فی الإنتفاع بالمیتة .
وبعد جواز الإنتفاع بالمیتة ، علی القاعدة المذکورة ، من الملازمة بین جواز الإنتفاع وجواز البیع هل یحکم بجواز بیع المیتة هنا أم لا ؟
نعم ، علی القاعدة الأوّلیة لابدّ من الحکم بالجواز فی بیع المیتة ، ولکن هذا إذا لم یرد من الشارع المقدس النهی عن بیعها ، وفی المقام ورد النهی من بیع المیتة فی عدة من الروایات :
منها : معتبرة السکونی عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال : السحت ثمن المیتة ، وثمن الکلب وثمن الخمر ومهر البغی ، ولارشوة فی الحکم وأجر الکاهن(1) .
وقد مرّ منّا أنّ لفظ « السحت » ظاهر فی الحرمة ، والحرمة فی المعاملات ظاهرة فی الحرمة الوضعیة ، یعنی بطلان المعاملة . وسند الروایة أیضاً معتبر ، فلا بأس بأخذها والإفتاء علی طبقها .
ومنها : مرسلة الصدوق قال : قال علیه السلام : أجر الزانیة سحت ، وثمن الکلب الذی لیس بکلب الصید سحت ، وثمن الخمر سحت وأجر الکاهن ، سحت وثمن المیتة سحت ، فأمّا الرشا فی الحکم فهو الکفر باللّه العظیم(2) .
ومنها : خبر وصیة رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم لأمیر المؤمنین علیه السلام أنّه قال صلی الله علیه و آله وسلم : یا علی من السحت ثمن المیتة وثمن الکلب وثمن الخمر ومهر الزانیة والرشوة فی الحکم وأجر الکاهن(3) .
ومنها : خبر البزنطی صاحب الرضا علیه السلام قال : سألته عن الرجل تکون له الغنم یقطع من ألیاتها وهی أحیاء أیصلح له أن ینتفع بما قطع ؟ قال : نعم یذیبها ویسرج بها ولا یأکلها
ص: 68
ولا یبیعها(1) .
ومنها : خبر علی بن جعفر عن أخیه موسی بن جعفر علیه السلام قال : سألته عن الماشیة تکون للرجل فیموت بعضها یصلح له بیع جلودها ودباغها ولبسها ؟ قال : لا ولو لبسها فلا یصلِّ فیها(2) .
ومنها : خبر الجعفریات بإسناده عن جعفر بن محمّد علیه السلام عن آبائه علیهم السلام عن أمیر المؤمنین علیه السلام قال : من السحت ثمن المیتة ، الحدیث(3) .
ومنها : خبر الدعائم قال : روینا عن أبی عبد اللّه علیه السلام عن أبیه علیه السلام عن آبائه علیهم السلام : أنّ رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم نهی عن بیع الأحرار ، وعن بیع المیتة والخنزیر والأصنام ، وعن عسب الفحل ، وعن ثمن الخمر ، وعن بیع العذرة وقال : هی میتة(4) .
هذه الروایات مع إفتاء المشهور علی طبقها بل کاد أن یکون إجماعاً ، منعنا من الحکم بجواز بیع المیتة علی القاعدة الملازمة بین جواز الإنتفاع بالمیتة وجواز بیعها ، وعلی طبق هذه الروایات نذهب إلی عدم صحة بیع المیتة وبطلانه . کما علیه المشهور بل الإجماع .
یجوز الإنتفاع ببعض أجزاء المیتة نحو الصوف والشعر والریش والبیضة والناب والقرن والأنفحة وغیرها من الأجزاء الّتی لا تحلّها الحیاة ، تدل علی ذلک عدّة من الروایات :
منها : معتبرة أبان بن عثمان عن أبی عبد اللّه علیه السلام فی حدیث : واُطلق فی المیتة عشرة أشیاء : الصوف والشعر والریش والبیضة والناب والقرن والظلف والأنفحة والإهاب واللبن وذلک إذا کان قائماً فی الضرع(5) .
ص: 69
ومنها : خبر محمد بن جمهور عمّن ذکره عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال : حرم من الذبیحة عشرة أشیاء وأحلّ من المیتة اثنتا عشرة شیئاً ، فأمّا الذی یحرم من الذبیحة فالدم والفرث والغدد والطحال والقضیب والانثیان والرحم والظلف والقرن والشعر ، وأمّا الذی یحلّ من المیتة : فالشعر والصوف والوبر والناب والقرن والضرس والظلف والبیض والأنفحة والظفر والمخلب والریش(1) .
ومنها : صحیحة حریز قال : قال أبو عبد اللّه علیه السلام لزرارة ومحمد بن مسلم : اللبن واللباء والبیضة والشعر والصوف والقرن والناب والحافر وکلّ شیء یفصل من الشاة والدابّة فهو ذکیٌّ ، فإن أخذته منه بعد أن یموت فاغسله وصلّ فیه(2) .
ومنها : حسنة الحسین بن زرارة قال : کنت عند أبی عبد اللّه علیه السلام وأبی یسأله عن السنّ [اللبن] من المیتة والبیضة من المیتة وإنفحة المیتة ، فقال : کلّ هذا ذکیٌّ ، الحدیث(3) .
ومنها : معتبرة غیاث بن إبراهیم عن أبی عبد اللّه علیه السلام : فی بیضة خرجت من أست دجاجة میتة ، قال : إن کانت اکتست البیضة الجلد الغلیظ فلا بأس بها(4) .
ومنها : مرسلة الصدوق قال : قال الصادق علیه السلام : عشرة أشیاء من المیتة ذکیّة : القرن والحافر والعظم والسنّ والإنفحة واللبن والشعر والصوف والریش والبیض(5) .
ومنها : صحیحة زرارة عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال : سألته عن الإنفحة تخرج من الجدی المیت ؟ قال : لا بأس به ، قلت : اللبن یکون فی ضرع الشاة وقد ماتت ؟ قال : لا بأس به ، قلت : والصوف والشعر وعظام الفیل والجلد والبیض یخرج من الدجاجة ؟ فقال : کل هذا لا بأس به(6) .
ص: 70
ومنها : حسنة أخری للحسین بن زرارة عن أبی عبد اللّه علیه السلام فی حدیث قال : سأله أبی عن الإنفحة تکون فی بطن العناق أو الجدی وهو میت ؟ قال : لا بأس به .
قال : وسأله أبی - وأنا حاضر - عن الرجل یسقط سنّه فیأخذ سنّ إنسان میّت فیجعله مکانه ؟ فقال : لا بأس .
وقال : عظام الفیل تجعل شطرنجاً ؟ قال : لا بأس بمسّها .
وقال أبو عبد اللّه علیه السلام : العظم والشعر والصوف والریش کل ذلک نابت لا یکون میتاً .
قال : وسألته عن البیضة تخرج من بطن الدجاجة المیتة ؟ قال : لا بأس بأکلها(1) .
ومنها : غیر ذلک من الروایات الواردة فی المقام .
تدل هذه الروایات علی جواز الإنتفاع بهذه الأشیاء من المیتة وأکثرها ممّا لا تحلّه الحیاة ، ولذا یمکن تطهیرها أیضاً بعد انفصالها من المیتة . وحیث یجوز الإنتفاع بها ، یجوز بیع هذه الأجزاء ولا تشملها الروایات المانعة من بیع المیتة لأنّها جزءٌ للمیتة المبانة منها ویجوز الإنتفاع بها فیجوز بیعها . وأمّا الصلاة فیها فلا تجوز کما هو الظاهر من المذهب ، والروایات المجوّزة للصلاة فی هذه الأجزاء المبانة من المیتة تحمل علی التقیة . والحمد للّه وهو العالم .
فی الارشاد(1) وغیرهم فی غیرها .
ثم هل یجوز بیعه أم لا ؟ وعلی القول بالجواز هل یُعتبر بیعه ممّن یستحلّ المیتة فقط أم لا ؟ فلابدّ من ملاحظة الأدلة فی المقام ، تنقسم إلی ثلاث طوائف :
منها : صحیحة الحلبی قال : سمعت أبا عبد اللّه علیه السلام یقول : إذا اختلط الذکی والمیتة باعه ممّن یستحلّ المیتة ویأکل ثمنه(2) .
ومنها : صحیحة أخری للحلبی عن أبی عبد اللّه علیه السلام أنّه سُئل عن رجل کان له غنم وبقر وکان یدرک الذکی منها فیعزله ، ویعزل المیتة ثم إنّ المیتة والذکی أختلط کیف یصنع به ؟ قال : یبیعه ممّن یستحل المیتة ویأکل ثمنه فإنّه لا بأس(3) .
وهاتان الصحیحتان کالنص فی جواز بیع المختلط ممّن یستحل المیتة .
ومنها : صحیحة حفص بن البختری عن أبی عبد اللّه علیه السلام فی العجین من الماء النجس کیف یصنع به ؟ قال : یباع ممّن یستحلّ المیتة(4) .
هذه الصحیحة تدل علی جواز بیع العجین النجس المتعیّن ممّن یستحلّ المیتة ، وحیث یجوز بیع هذا النجس المتعیّن کذلک یجوز بیع المختلط بطریق أولی .
ومنها : خبر علی بن جعفر عن أخیه موسی بن جعفر علیه السلام قال : سألته عن حُبّ دهن ماتت فیه فأرة ؟ قال : لا تدهن به ولا تبعه من مسلم(5) .
بتقریب : صارحب الدهن بعضه أو کلّه نجساً بموت فأرة فیه ، ونهی الإمام علیه السلام عن بیعه من المسلم لأجل نجاسته ، یعنی یجوز بیعه من الکافر ، فکما یجوز بیع هذا الدهن النجس من الکافر کذلک یجوز بیع المختلط من الکافر وممّن یستحلّ المیتة .
ص: 72
وبالجملة ، مفهوم خبر علی بن جعفر یدل علی جواز بیع المختلط ممّن یستحلّ المیتة . ولکن فی سنده ضعف .
ومنها : خبر زکریا بن آدم قال : سألت أبا الحسن علیه السلام عن قطرة خمر أو نبیذ مسکر قطرت فی قدر فیه لحم کثیر ومرق کثیر ؟ قال : یهراق المرق ، أو یطعمه أهل الذمة أو الکلب واللحم إغسله وکله .
قلت : فإنّه قطر فیه الدم ، قال : الدم تأکله النار إن شاء اللّه .
قلت : فخمر أو نبیذ قطر فی عجین أو دم ؟ قال : فقال : فسد .
قلت : أبیعه من الیهود والنصاری واُبیّن لهم ؟ قال : نعم ، فإنّهم یستحلون شربه .
قلت : والفقاع هو بتلک المنزلة إذا قطر فی شیءٍ من ذلک ؟ قال : فقال : أکره أن آکله إذا قطر فی شیء من طعامی(1) .
بتقریب : أنّ الإمام علیه السلام جوّز إطعام أهل الذمة بالمرق النجس والإطعام لا یکون مجانیّاً قطعاً ، فیمکن بیع هذا المرق النجس لهم . وهکذا أجاز بیع العجین المتنجس بالخمر أو النبیذ أو الدم لهم ، وعلّله علیه السلام بأنّهم یستحلون شرب الخمر .
فالروایة بهاتین الفقرتین تدلان علی جواز بیع المتنجس المتعیّن من أهل الذمة ، وحیث یجوز بیع المتنجس المتعین لهم کذلک یجوز بیع المختلط بطریق أولی .
فالروایة تدل علی جواز بیع المختلط من أهل الذمة . ولکن سندها ضعیف بالحسن بن المبارک حیث لم یرد توثیقه .
منها : خبر الجعفریات بإسناده عن جعفر بن محمد علیه السلام عن أبیه علیه السلام عن علی علیه السلام أنّه سئل عن شاة مسلوخة واُخری مذبوحة ، عُمّیَ علی الراعی أو علی صاحبها ، فلا یدری الذکیّة من المیتة ؟ قال : یرمی بها جمیعاً إلی الکلاب(2) .
ص: 73
بتقریب : أن الروایة تدل علی لزوم رمی المختلط إلی الکلاب وعلی هذا لا یجوز بیعه حتی ممّن یستحل المیتة .
وفیه : رمی المختلط إلی الکلاب لا یلزم عدم جواز بیعه ممّن یستحلّ ، لأنّ الإمام علیه السلام جعلهما فی عرض واحد فی خبر زکریا بن آدم المتقدم ، حیث قال علیه السلام : « یهراق المرق أو یطعمه أهل الذمة أو الکلب» . هذا أولاً .
وثانیاً : سند الروایة ضعیف کما لا یخفی علی أهله .
تدل علی عرضهما علی النار فإن انقبض فهو ذکیٌّ حلالٌ وإن انبسط فهو میتة حرام :
منها : خبر شعیب عن أبی عبد اللّه علیه السلام فی رجل دخل قریة ، فأصاب بها لحماً لم یدر أذکیٌّ هو أم میّت ؟ فقال : یطرحه علی النار ، فکلُّ ما انقبض فهو ذکیّ ، وکلّ ما انبسط فهو میّت(1) .
ومنها : مرسلة الصدوق قال : قال الصادق علیه السلام : لا تأکل الجرِّی - إلی أن قال - إذا وجدت لحماً ولم تعلم أذکیّ هو أم میتة ؟ فألق قطعة منه علی النار ، فإن انقبض فهو ذکیٌّ وإن استرخی علی النار فهو میتة(2) .
بتقریب : أن الروایتین وردتا فی اللحم المشتبه ، ولکن الملاک فی المشتبه والمختلط واحد وهو عدم العلم بأنّه میتة أو ذکیّ .
وأفتی الصدوق بمفادهما فی المقنع(3) والشهید فی الدروس حیث قال : « ... ویمکن اعتبار المختلط بذلک (یعنی بالمشتبه وطرحه علی النار) إلاّ أنّ الأصحاب والأخبار أهملت ذلک»(4) .
وفیه : أن الروایتین وردتا فی المشتبه ولم یفت الأصحاب علی طبقهما ، بل المشهور
ص: 74
ذهبوا إلی ترک اللحم المشتبه ، وبعد إعراض المشهور عنهما کیف یمکن التعدی منهما إلی المختلط .
هذا ، مع ضعف سند الأولی باسماعیل بن عمر وشعیب وکلاهما مجهولان والثانیة مرسلة . وبالجملة لم یعمل الأصحاب بمفادهما فی موردهما - یعنی اللحم المشتبه - فکیف یمکن الأخذ بهما فی غیر موردهما یعنی المختلط ؟ !
فبقی فی المقام الطائفة الثانیة والطائفة الأولی ، وحیث لا تنافی بینهما کما مرّت الإشارة إلی ذلک منّا ، فالروایات تدلّ علی جواز بیع المختلط ممّن یستحیل المیتة ، فلابدّ من الأخذ بها .
ولکن حیث لم یرد النهی من بیع المختلط ، بل النهی فقط ورد من بیع المیتة ، والمختلط لیست بالمیتة ، یعنی الروایات الناهیة عن بیع المیتة لا تشمل بیع المختلط ، فیجوز بیع المختلط مطلقاً ، سواء کان المشتری مسلماً أو کان ذمیّاً .
وما ورد من الروایات فی جواز بیعه ممّن یستحلّ - یعنی الذمی - مثبت فی المقام ، ولا نفی فیه ، فجواز بیعه من المسلم صححه جواز الإنتفاع بالمختلط ، فیجوز بیعه ولم یرد النهی عن ذلک فی الشریعة المقدسة .
وبالجملة ، یجوز بیع المختلط مطلقاً ، لعدم ورود النهی عن ذلک وجواز الإنتفاع بها منفعة محلّلة عقلائیة .
لابدّ لنا من البحث هنا فی مقامین :
تدل علیه عدّة من الروایات :
منها : موثقة عمار الساباطی عن أبی عبد اللّه علیه السلام : سئل عن الخنفساء والذباب والجراد والنملة وما أشبه ذلک یموت فی البئر والزیت والسمن وشبهه ؟ قال : کلّ ما لیس له دم فلا بأس(1) .
ص: 75
ومنها : موثقة حفص بن غیاث عن جعفر بن محمد علیه السلام عن أبیه علیه السلام قال : لا یفسد الماء إلاّ ما کانت له نفس سائلة(1) .
بتقریب : یعنی ما لیس له نفس سائلة لا یفسد الماء بموته فیه ، فصارت میتة طاهرة . ومثلها مرفوعة محمد بن یحیی(2) .
ومنها : موثقة سماعة قال : سألت أبا عبد اللّه علیه السلام عن جرّة وجد فیها خنفساء قد ماتت ؟ قال : ألقها وتوضّأ منه ، وإن کان عقرباً فأرق الماء وتؤضّأ من ماء غیره الحدیث(3) .
ومنها : خبر ابن مسکان قال : قال أبو عبد اللّه علیه السلام : کلّ شیءٍ یسقط فی البئر لیس له دم - مثل العقارب والخنافس وأشباه ذلک - فلا بأس(4) .
والروایة الأخیرة ضعیفة السند بمحمد بن سنان الراوی عن ابن مسکان .
وهذه الروایات ونظائرها دالة علی طهارة المیتة من غیر ذی النفس السائلة . هذا کلّه فی المقام الأوّل .
حیث کانت هذه المیتة طاهرة ولها منافع محلّلة عقلائیة ولم یرد فی الشریعة النهی عن بیعه فیجوز بیعه مطلقاً .
إن قلت : النهی الوارد عن بیع المیتة یشمل هذه المیتة بإطلاقه ، لأنّها میتة أیضاً . کما ادعاه المحقق الشیرازی الثانی قدس سره فی حاشیته علی المکاسب(5) .
قلت : النهی الوارد فی المیتة وروایاتها منصرف عن المیتة من غیر ذی النفس السائلة کانصراف ما لا یؤکل لحمه عن الإنسان ، وهذا ظاهر لاغبار علیه .
وبالجملة ، یجوز بیع المیتة الطاهرة لعدم ورود النهی عن ذلک ولها منافع محلّلة عقلائیة . والحمد للّه رب العالمین .
ص: 76
هل یجوز قطع أعضاء المیت المسلم لأجل زرعها فی المسلم الحیّ وترقیعها ؟ وعلی فرض جوازه هل یجوز بیع هذه الأعضاء ؟ وهل فی قطع هذه الأعضاء دیة ؟ والدیة علی مَنْ ؟ علی القاطع أو المسلم الحی المریض ؟ وفی من تصرف هذه الدیة ؟
ثم هل الوصیة بذلک (یعنی بقطع العضو) نافذة من قبل المیت أم لا ؟ وهل تعتبر رضی أولیاء المیت فی هذا القطع ؟
الظاهر - واللّه سبحانه هو العالم - أنه یجوز قطع أعضاء المیت المسلم لأجل زرعها فی المسلم الحیّ مع توفر شرطین :
الأوّل : إن کان حفظ حیاة المسلم مشروطاً بهذا القطع والترقیع .
الثانی : عدم إمکان تحصیل هذا العضو من المیت الکافر أو من أهل الذمة أو غیر المسلم .
فمع هذین الشرطین یجوز قطع عضو المیت المسلم وزرعه فی المسلم الحیّ . فممّا ذکرنا من هذا الإشتراط ظهر أنّ الحکم بالجواز هنا لیس لأجل انصراف أدلة حرمة المثلة من هذا القطع ، بل لأجل تقدّم حفظ حیاة المسلم علی حرمة هذا القطع بقاعدة التزاحم کما قُرّر فی محلّه . ویؤیده مرسلة زرارة عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال : سأله أبی وأنا حاضر عن الرجل یسقط سنّه ، فأخذ سنّ إنسان میت فیجعله مکانه ؟ قال لا بأس(1) .
وفی فرض الجواز ، الأحوط عدم جواز بیعه ، لأنّ من المحتمل شمول أدلة حرمة بیع المیتة لذلک . ویؤیده صحیح أیوب بن نوح عن بعض أصحابنا عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال : إذا قطع من الرجل قطعة فهی میتة ، فإذا مسّه إنسان فکلّ ما کان فیه عظم فقد وجب علی من
ص: 77
یمسّه الغسل ، فإن لم یکن فیه عظم فلا غسل علیه(1) .
نعم ، ثبت علی القاطع دیة العضو ، لعموم أدلة الدیات وشمولها لهذا الفرض . وتدل علیه صحیحة عبد اللّه بن سنان عن أبی عبد اللّه علیه السلام فی رجل قطع رأس المیت ؟ قال : علیه الدیة ، لأنّ حرمته میّتاً کحرمته وهی حیٌّ(2) .
ونحوها خبر عبد اللّه بن مسکان(3) وخبر محمد بن سنان عمّن أخبره عن أبی عبداللّه علیه السلام (4) .
وتدل علیه أیضاً صحیحة جمیل عن غیر واحد عن أبی عبد اللّه علیه السلام أنّه قال : قطع رأس المیت أشدُّ من قطع رأس الحیّ(5) .
وراجع فی ذلک الباب 25 من أبواب دیات الأعضاء من وسائل الشیعة 29 / 328 .
ویمکن أن یشترط القاطع أن یدفع دیة المسلم الحیّ ، وحینئذ بعد أدائه الدیة تسقط عنه .
وهذه الدیة تصرف فی وجوه البرّ للمیت ، ولم یکن مالاً له حتّی یُقسّم بین الورثة . وتدل علیه صحیحة حسین بن خالد قال : سئل أبو عبد اللّه علیه السلام عن رجل قطع رأس رجل میت ؟ فقال : إنّ اللّه عزّ وجلّ حرّم منه میتاً کما حرّم منه حیّاً ، فمن فعل بمیت فِعلاً یکون فی مثله اجتیاح نفس الحی فعلیه الدیة .
فسألت عن ذلک أبا الحسن علیه السلام فقال : صدق أبو عبد اللّه علیه السلام ، هکذا قال رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم .
قلت : فمن قطع رأس میّت أو شق بطنه أو فعل به ما یکون فیه اجتیاح نفس الحی فعلیه دیة النفس کاملة ؟ فقال : لا ، ولکن دیته دیة الجنین فی بطن أمّه قبل أن تنشأ فیه الروح ،
ص: 78
وذلک مائة دینار ، وهی لورثته ، ودیة هذا هی له لاللورثة .
قلت : فما الفرق بینهما ؟ قال : إنّ الجنین أمرٌ مستقبل مرجوٌّ نفعه وهذا قد مضی وذهبت منفعته ، فلمّا مثّل به بعد موته صارت دیته بتلک المثلة له لا لغیره ، یحجُّ بها عنه ویفعل بها أبواب الخیر والبرّ من صدقة أو غیرها .
قلت : فإن أراد رجل أن یحفر له فیغسّله فی الحفرة فسدر الرجل ممّا یحفر فدیر به فمالت مسحاته فی یده فأصاب بطنه فشقّه فما علیه ؟ فقال : إذا کان هکذا فهو خطأ وکفّارته عتق رقبة أو صیام شهرین متتابعین أو صدقة علی ستین مسکیناً ، مدٌّ لکلّ مسکین بمدّ النبی صلی الله علیه و آله وسلم (1) .
أقول : ورواها أیضاً البرقی بسنده الصحیح عن الحسین بن خالد(2) .
ثم : الوصیة بقطع العضو من جسده لم تکن نافذة مع فقد الشرطین المذکورین ، ومع وجودهما لا أثر لفقد الوصیة .
والأحوط الإستئذان من إولیاء المیت لأجل القطع .
ثم بعد القطع والزرع یصیر هذا العضو جزءً للحی ، فیطهر ویجوز الصلاة معه بلا ریب وإشکال ، سواءً فی ذلک بین الأعضاء والأجزاء الداخلیة والخارجیة .
وممّا ذکرنا ظهر حکم تشریح ، یعنی تقطیع جسد إنسان لأجل تعلّم الطب هل یجوز أم لا ؟
یجوز تشریح جسد المسلم مع حفظ الشرطین المذکورین سابقاً ، ومع عدمهما فلا یجوز . وورد فی الروایات جواز شق بطن المرأة المیتة وخروج ولدها الحیّ وجواز تقطیع ولد المیت فی بطن أمّه الحیّة . ولیست هذه الموارد إلاّ لحفظ حیاة الحیّ . فإذا کان یجوز الشق والتشریح
ص: 79
لأجل حفظ حیاة مسلم واحد ، یجوز ذلک إذا کان حفظ حیاة المسلمین یستلزم ذلک ولو کان فی المستقبل .
من الروایات المومی إلیها :
منها : موثقة علی بن یقطین قال : سألت العبد الصالح علیه السلام عن المرأة تموت وولدها فی بطنها ؟ قال : یشقّ بطنها ویخرج ولدها(1) .
ومنها : صحیحة أخری لعلی بن یقطین قال : سألت أبا الحسن موسی علیه السلام عن المرأة تموت وولدها فی بطنها یتحرّک ؟ قال : یشقّ عن الولد(2) .
ومنها : خبر وهب بن وهب عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال : قال أمیر المؤمنین علیه السلام : إذا ماتت المرأة وفی بطنها ولد یتحرّک فیتخوّف ، علیه فشقّ بطنها واُخرج الولد .
وقال : فی المرأة یموت ولدها فی بطنها فیتخوّف علیها ، قال : لا بأس أن یدخل الرجل یده فیقطّعه ویخرجه إذا لم ترفق به النساء(3) .
وبالجملة ، إذا کان حفظ حیاة المسلمین ولو فی المستقبل منوطاً بالتشریح ولم یکن فی البین جسد الکافر ثم الذمی للتشریح ، یجوز تشریح جسد المسلم .
لا یقال : أدلة حرمة المثلة والتشریح مطلقة تشمل المسلم والذمی والکافر ، فلماذا قدّمتم الکافر ثم الذمی ثم المسلم ؟ بل بعضها تختص بالکوافر وإن کانت تشمل المسلم بطریق الأولویة کما یفهم من جملة الروایات :
منها : صحیحة أبی حمزة الثمالی عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال : کان رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم إذا أراد أن یبعث سرّیة دعاهم فأجلسهم بین یدیه ثم یقول : سیروا بسم اللّه وباللّه وفی سبیل اللّه وعلی ملة رسول اللّه ، لا تغّلوا ولا تمثّلوا ولا تغدروا ولا تقتلوا شیخاً فانیّاً ولا صبیّاً ولا إمرأة ولا تقطعوا شجراً إلاّ أن تضطروا إلیها ، وأیّما رجل من أدنی المسلمین أو أفضلهم نظر إلی أحد من المشرکین فهو جار حتی یسمع کلام اللّه ، فإن تبعکم فأخوکم فی الدین وإن أبی فأبلغوا
ص: 80
مأمنه واستعینوا باللّه(1) .
ومنها : معتبرة مسعدة بن صدقة عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال : إنّ النبی صلی الله علیه و آله وسلم کان إذا بعث أمیراً له علی سریة أمره بتقوی اللّه عزّوجلّ فی خاصة نفسه ثم فی أصحابه عامّة ثم یقول : أغز بسم اللّه وفی سبیل اللّه ، قاتلوا من کفر باللّه ، لاتغدروا ولاتغلوا ولاتمثّلوا ولاتقتلوا ولیداً ولا متبتّلاً فی شاهق ولاتحرقوا النخل ، الحدیث(2) .
ومنها : خبر عبد الرحمن بن جندب عن أبیه عن أمیر المؤمنین علیه السلام : کان یأمر فی کل موطن لقینا فیه عدوّنا فیقول : لا تقاتلوا القوم حتّی یبدأوکم ، فإنّکم بحمد اللّه علی حجة وترککم أیاهم حتی یبدأوکم حجة اُخری لکم ، فإذا هزمتموهم فلا تقتلوا مُدبراً ، ولا تجیزوا علی جریح ولا تکشفوا عورة ولا تمثّلوا بقتیل(3) .
ومنها : خبر مالک بن أعین عن أمیر المؤمنین علیه السلام أنّه قال فی حدیث : ولا تمثّلوا بقتیل ، الحدیث(4) .
ومنها : مرسلة الرضی عن أمیر المؤمنین علیه السلام فی وصیته للحسن والحسین علیهماالسلام لما ضربه ابن ملجم لعنه اللّه : ... أنظروا إذا أنا متُّ من ضربته هذه فاضربوه ضربةً بضربة ، ولا تمثِّلوا بالرجل ، فإنّی سمعت رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم یقول : إیّاکم والمثلة ولو بالکلب العقور(5) .
لأنا نقول : نعم هذه الروایات - وإن لا ینکر شمول بعضها للکوافر فقط - ولکن نعلم من الخارج حرمة المسلم بالنسبة إلیه ، وحیث نضطر فی العمل من التشریح وهو فی الحقیقة قسمٌ من المثلة فلا یجوز التشریح والمثلة بالنسبة إلی جثّة المسلم ما دمنا نجد جسد الکافر . وهکذا الأمر بالنسبة إلی الذمی ، لأنّ المسلم أعظم حرمةً منه ، فلا یجوز تشریح المسلم وجسد الذمی موجود لذلک فثبت الترتیب والإشتراط ، بحیث لا یجوز تشریح جسد المسلم وجسد
ص: 81
الکافر ثم الذمی موجودان ، ویکفینا هذا فی المقام . وأمّا مع عدمهما فتصل النوبة إلی جسد المسلم، ویجوز ذلک مع وجود الشرط الثانی ، وهو تحفظ حیاة المسلمین علی ذلک ولو کان فی المستقبل .
وتدل علی أنّ حرمة المؤمن حیّاً ومیّتاً سواءٌ عدةّ من الروایات :
منها : صحیحة صفوان عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال : أبی اللّه أن یظنَّ بالمؤمن إلاّ خیراً ، وکسرک عظامه حیّاً ومیّتاً سواء(1) .
ومنها : خبر العلاء بن سیّابة عن أبی عبد اللّه علیه السلام فی حدیث قال : قال رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم : حرمة المسلم میّتاً کحرمته وهو حیّ سواء(2) .
ومنها : خبر محمد بن مسلم عن أبی جعفر علیه السلام - فی حدیث وفاة الحسن علیه السلام ودفنه - قال : إنّ اللّه حرَّم من المؤمنین أمواتاً ما حرّم منهم أحیاءً(3) .
والحاصل : یجوز تشریح جسد المسلم مع توفر الشرطین الماضیین ویتعلق بقطع أعضائه وکسر عظامه ونحوها الدیة ، ودیته تصرف فی وجوه البرِّ للمیت ولا تقسّم بین ورثته کما مرّ فی البحث السابق .
وهکذا لا یجوز بیع جسد المیت للتشریح ، ولا تنفذ الوصیة بذلک والأحوط ، الإستئذان من أولیائه لأجل التشریح کما مرّ فی البحث السابق آنفاً . والحمد للّه العالم بأحکامه .
ص: 82
استدلوا علی بطلان بیعه بالإجماع ، وادعاه الشیخ فی الخلاف(1) والمبسوط(2) والعلامة فی التذکرة(3) والمنتهی(4) ، وذهب إلیه مشهور الخاصة والعامة .
والعمدة فی المقام ملاحظة الروایات ، ومع وجودها یصیر الإجماع علی فرض وجوده مدرکیّاً . والروایات الواردة حول الخنزیر علی طوائف :
منها : خبر الجعفریات بإسناده عن جعفر بن محمّد علیه السلام عن آبائه علیهم السلام عن علی علیه السلام قال : من السحت : ثمن المیتة و ... إلی أن قال : وثمن الخنزیر ، الحدیث(5) .
ومنها : ما ورد فی دعائم الاسلام قال : روینا عن أبی عبد اللّه علیه السلام عن أبیه علیه السلام عن آبائه علیهم السلام أنّ رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم نهی عن بیع الأحرار وعن بیع المیتة والخنزیر والأصنام ، الحدیث(6) .
وهکذا ورد حرمة بیعها فی خبر تحف العقول(7) والفقه الرضوی(8) أیضاً .
ومنها : خبر معاویة بن سعید عن الرضا علیه السلام قال : سألته عن نصرانی أسلم وعنده
ص: 83
خمر وخنازیر وعلیه دین هل یبیع خمره وخنازیره ویقضی دینه ؟ قال : لا(1) .
ومنها : مضمرة یونس فی مجوسی باع خمراً أو خنازیر إلی أجل مسمی ثمّ أسلم قبل أن یحلّ المال ، قال : دراهمه(2) .
وقال : أسلم رجل وله خمر وخنازیر ثمّ مات وهی ملکه وعلیه دین ، قال : یبیع دُیّانه أو ولی له غیر مسلم خمره وخنازیره ویقضی دینه ، ولیس له أن یبیعه وهو حیٌّ ولا یمسکه .
وظاهر هذه الطائفة من الروایات بطلان بیع الخنزیر ، ولکن کلّها ضعاف والأخیرة مضمرة لم تنسب إلی المعصوم علیه السلام إلاّ أن ذیلها تدل علی بطلان البیع .
ومنها : صحیحة محمد بن مسلم عن أبی جعفر علیه السلام فی رجل کان له علی رجل دراهم فباع خمراً وخنازیر وهو ینظر فقضاه ، فقال : لا بأس به ، أمّا للمقتضی فحلال وأمّا للبائع فحرام(3) .
والحرمة بالنسبة إلی البائع تدلّ بوضوح علی بطلان البیع . وروی نحوها فی دعائم الإسلام(4) .
منها : صحیحة زرارة عن أبی عبد اللّه علیه السلام فی الرجل یکون لی علیه دراهم فیبیع بها خمراً وخنزیراً ثم یقضی منها ، قال : لا بأس ، أو قال : خذها(5) .
والروایة تدل علی صحة البیع ، لأن المدیون یقضی دینه من عین الدراهم التی أخذها ثمناً للخمر والخنزیر ، فلو کان بیعه باطلاً ، لم یجز أخذ الثمن الشخصی منه للدائن . الروایة مطلقة بالنسبة إلی الذمی والمسلم . ولکن الذی یُشکل الأمر فی الروایة وجود الخمر فیها الذی
ص: 84
لا یمکن الذهاب إلی صحة بیعه ، فلذا لابدّ من حمل هذه الصحیحة إمّا علی الذّمی أو الإعراض عنها . والأوّل أشبه .
ومنها : حسنة محمد بن یحیی الخثعمی قال : سألت أبا عبد اللّه علیه السلام عن الرجل یکون لنا علیه الدین فیبیع الخمر والخنازیر فیقضینا ، فقال : لا بأس به لیس علیک من ذلک شیءٌ(1) .
ومنها : خبر أبی بصیر قال : سألت أبا عبد اللّه علیه السلام عن الرجل یکون له علی الرجل مال فیبیع بین یدیه خمراً وخنازیر یأخذ ثمنه ، قال : لا بأس(2) .
والأمر فی الأخیرتین أیضاً علی نحو الأولی .
ومنها : موثقة منصور قال : قلت لأبی عبد اللّه علیه السلام : لی علی رجل ذمّی دراهم فیبیع الخمر والخنزیر وأنا حاضر ، فیحلّ لی أخذها ؟ فقال : إنّما لک علیه دراهم فقضاک دراهمک(3) .
والروایة سنداً موثقة بابن فضال ، والمنصور الراوی فیها هو ابن حازم بقرینة نقل یونس بن یعقوب عنه واشتهاره فی عصره وبین المسمّین بهذا الإسم . والروایة تدل علی صحة البیع بالنسبة إلی الذمّی .
ومنها : خبر علی بن جعفر بل صحیحته عن أخیه موسی بن جعفر علیه السلام قال : سألته عن رجلین نصرانیین باع أحدهما خمراً أو خنزیراً إلی أجل فأسلما قبل أن یقبضا الثمن هل یحلّ لهما ثمنه بعد الإسلام ؟ قال : إنّما له الثمن فلا بأس أن یأخذه(4) .
منها : خبر زرارة قال : سألت أبا عبد اللّه علیه السلام عن جلد الخنزیر یجعل دلواً یُستقی به الماء ؟ قال : لا بأس(5) .
ص: 85
والروایة ضعیفة السند بأبی زیاد النهدی لأنّه مجهولٌ ، وأمّا دلالتها علی جواز الإنتفاع بجلد الخنزیر واضحة .
ومنها : صحیحة زرارة عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال : سألته عن الحبل یکون من شعر الخنزیر یُستقی به الماء من البئر ، هل یتوضّأ من ذلک الماء ؟ قال : لا بأس(1) .
وقد حملها صاحب الوسائل علی التوضی بماء البئر لا ماء الدلو ، وقال : « وإن اُرید به ماء الدلو فإن الحبل لا یلاقیه بعد الإنفصال عن البئر ویحتمل کون الدلو کراً»(2) .
أقول : لا یخفی ما فی احتماله الأوّل والأخیر ، فإن السائل یسأل عن ماء دلوه لا ماء البئر ، وهکذا احتمال کون الدلو کراً بمسافة من البُعد . وبالجملة الصحیحة تدل علی جواز الإنتفاع بشعره .
ومنها : حسنة الحسین بن زرارة عن أبی عبد اللّه علیه السلام فی حدیث : قلت له : شعر الخنزیر یُعمل حبلاً ویُستقی به من البئر التی یُشرب منها أو یُتوضّأ منها ؟ فقال : لا بأس به(3) .
ومنها : خبر زرارة عن أبی جعفر علیه السلام قال : قلت له : إنّ رجلاً من موالیک یعمل الحمائل بشعر الخنزیر ؟ قال : إذا فرغ فلیغسل یده(4) .
ومنها : خبر بُرْد الإسکاف قال : سألت أبا عبد اللّه علیه السلام عن شعر الخنزیر یُعمل به ؟ قال : خذ فاغسله بالماء حتّی یذهب ثلث الماء ویبقی ثلثاه ثم اجعله فی فخارة جدیدة لیلة باردة ، فإن جمد فلا تعمل به وإن لم یجمد فلیس له دسم فاعمل به ، واغسل یدک إذا مسسته عند کلّ صلاة . قلت : ووضوء ؟ قال : لا إغسل یدک کما تمسّ الکلب(5) .
ومنها : الخبر الثانی لبُرْد الإسکاف قال : قلت لأبی عبد اللّه علیه السلام : إنّی رجل خراز ولا
ص: 86
یستقیم عملنا إلاّ بشعر الخنزیر نخرز به ؟ قال : خذ منه وبرة فاجعلها فی فخارة ، ثمّ أوقد تحتها حتّی یذهب دسمها ثم اعمل به(1) .
ومنها : الخبر الثالث لبُرْد قال : قلت لأبی عبد اللّه علیه السلام : جعلت فداک إنّا نعمل بشعر الخنزیر ، فربّما نسی الرجل فصلّی وفی یده شیءٌ ؟ قال : لا ینبغی أن یصلّی وفی یده منه شیءٌ ، فقال : خذوه فاغسلوه فما کان له دسم فلا تعملوا به وما لم یکن له دسم فاعملوا به واغسلوا أیدیکم منه(2) .
وهذه الطائفة من الروایات تدل علی جواز الإنتفاع بشعر وجلد الخنزیر ولا فرق بین شعره وجلده وسائر أجزائه ، کما لم یرد فی الروایات صورة انحصار جواز الإنتفاع بالاضطرار ، کما أفتی به بعض الأصحاب وحملها علی صورة الاضطرار ، وهو حمل للروایات بلا وجه تقیید بلا قید . وعلی هذا کما یجوز الإنتفاع بأجزاء الخنزیر یجوز بیعه علی القاعدة الکلّیّة الّتی مرّت منّا من أنّ کلّ شیء یجوز الإنتفاع به یجوز بیعه وصح شراؤه ، فبیع أجزاء الخنزیر صحیح لدلالة هذه الطائفة الأخیرة من الأخبار .
إن قلت : الروایات الواردة فی العمل بشعر الخنزیر لا یُثبت جواز بیعه ، لأنّ موضوعها العمل به والعمل یمکن أن یکون بالإیجار أو مجاناً أو نحو ذلک ، ونعنی أن العمل لا یستلزم البیع فی جمیع الموارد ، فلا تدل علی المطلوب .
قلت : نعم ، العمل أعم من البیع فلا یثبته و لکن حیث ثبت جواز العمل بالأجزاء ثبت جواز الإنتفاع بها ، وحیث ثبت جواز الإنتفاع ثبت جواز البیع .
وما ورد فی الروایات من حدیث غسلها وجعلها فی الفخارة وذهاب دسمها کلّها إرشادات إلی کیفیة ذهاب دسومة شعر الخنزیر أو جلده لتقلیل التنجس بها أو سهولة التطهیر بعد التنجس بها ، ولا تدلّ علی المولویة کما هو واضح .
وبالجملة ، حیث ثبت جواز الانتفاع بأجزاء الخنزیر من شعره وجلده وغیرهما
ص: 87
وثبت جواز بیع هذه الأجزاء ، فهل یمکن الذهاب إلی القول بجواز بیع کلّه - أعنی الخنزیر بأجمعه - أم لا ؟ یدل علی جواز بیعه عدم الفرق بین الأجزاء والکل ، وتدل علی بطلان بیعه بعض روایات الطائفة الأولی مع إفتاء المشهور علی طبقها ، فکیف صار الحکم فی الخنزیر ؟
القاعدة الأولیة تقتضی جواز بیعه مع فرض وجود المنافع المحلّلة فیه وجواز الإنتفاع به حیّاً أو میتةً ، وفی هذا الفرض القاعدة تقتضی جواز بیعه ، إلاّ أنه ثبت دلیل شرعی علی بطلان بیعه تعبداً فنأخذ به کما ورد ذلک فی المیتة . فهل ورد هنا أیضاً دلیل تعبدی علی بطلان بیع الخنزیر أم لا ؟
أمّا خبر الجعفریات فضعیف سنداً ، ویمکن المناقشة فی دلالته بأنّه فی صدد عدّ أنواع السحت ولا إطلاق له حتّی یشمل صورة بیع الخنزیر لأجل منافعه المحلّلة المفروضة . وهکذا الأمر فی خبر الدعائم سنداً ودلالةً .
وقد مرّ منّا ضعف خبر تحف العقول وعدم صحة انتساب الفقه الرضوی إلی الإمام علی بن موسی الرضا علیه السلام فهذان الخبران أیضاً لا یفید ان فی المقام شیئاً .
وأمّا خبر معاویة بن سعید فضعیف به ، ولکن دلالته علی بطلان بیع المسلم للخنزیر واضح .
وأمّا صحیحة محمد بن مسلم فهی العمدة فی المقام ، وهی تدل علی بطلان البیع ، حیث أن الإمام علیه السلام قال فیها : « وأمّا للبائع فحرام» ، وهذا صریح فی بطلان المعاملة .
وبنظرنا القاصر هذه الصحیحة المبارکة یمکن أن تکون شاهد الجمع بین الطائفتین من الروایات - أعنی الطائفة الأولی الدالة علی بطلان المعاملة والطائفة الثانیة الدالة علی صحة المعاملة إجمالاً بحیث یجوز أخذ الثمن للفرد الآخر - یعنی الدائن مثلاً تفضّلاً من اللّه تعالی وتسهیلاً لأُمور المتدینین ، ووزانها وزان ما ورد فی تحلیل الخمس بالنسبة إلی الید الثانیة ، بأنه لو کان مالاً صار متعلَّقاً للخمس فی ید مالکه ثم انتقل إلی الثانی ، حلّله الشارع المقدس للثانی بروایات التحلیل ولکن ذمة الأوّل مشغولة به . هکذا الأمر فی هذا البیع ، بتقریب : أنّ البیع هنا کان باطلاً ولکن الشارع أجاز للدائن أو الثانی أخذ هذا الثمن الشخصی تسهیلاً لأمرهم وتفضّلاً منه علیهم ، وهذا مفاد قوله علیه السلام فی صحیحة زرارة : « لا بأس به للمقتضی فحلال
ص: 88
وأمّا للبائع فحرام » .
نعم ، بعض الروایات تدل علی صحة البیع بالنسبة إلی الذمیّ :
منها : مضمرة یونس الماضیة ، حیث قال الإمام علیه السلام فیها : « یبیع دُیّانه أو ولی له غیر مسلم خمره وخنازیره ویقضی ، دینه ولیس له أن یبیعه وهو حیّ ولا یمسکه» .
بتقریب : أنّ الإمام أجاز قضاء دینه من ثمن الخمر والخنزیر ، ولکن لو کان بائعه ولیاً له غیر مسلم وقدر متیقن هذا الولی أنّه من أهل الذمة ، فأجاز الإمام علیه السلام هذا البیع ، فبیع الخمر والخنزیر من جانب الذمیّ صار صحیحاً . وتدل علی الصحة أیضاً صدر هذه المضمرة ، ولکن لو کان هذا الرجل الّذی أسلم حدیثاً کان حیّاً لا یجوز البیع بتوسطه والبیع منه باطل ، وهذا مفاد قوله علیه السلام : « ولیس له أن یبیعه وهو حیٌّ» . وأمّا قوله علیه السلام : « ولا یمسکه » فأمّا یحمل علی کراهة إمساک المسلم الخمر والخنزیر أو عدم جواز إمساکهما للبیع ونحو ذلک .
والعمدة فی المقام تصحیح سند هذه المضمرة ، ولا بأس به ، لأنّ إسماعیل بن مرار من الحسان ولذا لا یضرّ وجوده فی السند ، وهو الراوی عن یونس بن عبد الرحمن ، فالمراد بیونس فی السند هو ابن عبد الرحمن ، وهو مع جلالته وفقاهته وکونه من أصحاب الإجماع وأمر الإمام الرضا علیه السلام بأخذ معالم الدین منه لا ینقل عن غیر الإمام شیئاً ، فالإضمار فی الروایة لا یضرّ حیث کان مُضِمره یونس بن عبد الرحمن .
وبالجملة ، بعض الروایات تدلّ علی صحة بیع الذمیّ الخمر والخنزیر فنأخذ بها ، وأمّا المسلم فبیعه لهما باطل ، بدلالة بعض الروایات ، ومنها : صحیحة محمد بن مسلم ومضمرة یونس بن عبد الرحمن الماضیتین .
وأمّا أخذ ثمن هذه المعاملة من الذمیّ أو من المسلم للمسلم الآخر فأجازه الإمام علیه السلام تسهیلاً لأمور المسلمین وسماحة للشریعة المقدسة وقد استفدنا هذا الأمر من صحیحة محمد ابن مسلم .
وأمّا جواز بیع أجزاء الخنزیر الذی مرّ منّا فلعدم ورود النهی عن ذلک ، وترتب المنفعة المحلّلة فیها ، فیجوز بیعه لمنافعه المحلّلة ، نحو حرمة بیع المیتة وجواز بیع بعض أجزائه لمنافعه المحلّلة التی مرّت منّا البحث فیها . وهذا تمام الکلام فی حکم بیع الخنزیر البرّی والحمد للّه ربّ العالمین .
ص: 89
المشهور بین الأصحاب بطلان بیع الکلب ، واستثنی منه بیع کلاب الصید سلوقیاً کان أو غیره ، وبعضهم استثنی کلب الحائط الماشیة والزرع نحو الإسکافی علی ما نقل عنه العلامة فی المختلف(1) وابن إدریس الحلّی فی السرائر(2) وابن حمزة فی الوسیلة(3) والعلامة فی القواعد(4) والتحریر(5) والفاضل المقداد فی التنقیح(6) وابن فهد الحلی فی المهذب البارع(7) والشهید فی الدروس(8) والمحقق الثانی فی جامع المقاصد(9) والمولی أحمد النراقی فی المستند(10) ، وغیرهم فی غیرها .
ثم هل یلحق بهذا الإستثناء کلّ الکلاب المعلَّمة أو کلّ الکلاب الذین لهم منافع محلَّلة ، کبیع کلاب الدار والتجسس وشرطة الأمن ونحوها أم لا ؟
فلابدَّ من ملاحظة الأدلة الواردة فی المقام ، وهی روایات :
منها : خبر الحسن بن علی الوشاء عن الرضا علیه السلام فی حدیث قال : وثمن الکلب
ص: 90
سحت(1) .
ومنها : خبر جراح المدائنی قال : قال أبو عبد اللّه علیه السلام : من أکل السحت ثمن الخمر ونهی عن ثمن الکلب(2) .
ومنها : صحیحة إبراهیم بن أبی بلاد قال : قلت لأبی الحسن الأوّل علیه السلام : جعلت فداک إنّ رجلاً من موالیک عنده جوار مغنّیات قیمتهنّ أربعة عشر ألف دینار ، وقد جعل لک ثلثها ، فقال : لا حاجة لی فیها ، إنّ ثمن الکلب والمغنیّة سحت(3) .
ومنها : خبر آخر للحسن بن علی الوشاء قال : سئل أبو الحسن الرضا علیه السلام عن شراء المغنیّة ؟ قال : قد تکون للرجل الجاریة تلهیه ، وما ثمنها إلاّ ثمن کلب وثمن الکلب سحت والسحت فی النار(4) .
ومنها : معتبرة السکونی عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال : السحت ثمن المیتة وثمن الکلب وثمن الخمر ومهر البغی والرشوة فی الحکم وأجر الکاهن(5) .
ومنها : خبر وصیة النبی صلی الله علیه و آله وسلم لأمیر المؤمنین علیه السلام أنّه قال : یا علی من السحت ثمن المیتة وثمن الکلب وثمن الخمر ومهر الزانیة والرشوة فی الحکم وأجر الکاهن(6) .
ومنها : خبر القاسم بن عبد الرحمن عن محمّد بن علی علیه السلام عن أبیه علیه السلام عن الحسین بن علی علیه السلام فی حدیث : إنّ رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم نهی عن خصال تسعة ، عن مهر البغی وعن عسیب الدابة - یعنی کسب الفحل - وعن خاتم الذهب وعن ثمن الکلب وعن میاثر الأرجوان(7) .
ص: 91
ومنها : خبر الجعفریات بإسناده عن جعفر بن محمّد علیه السلام عن آبائه علیهم السلام عن علیّ علیه السلام قال : من السحت ثمن المیتة - إلی أن قال - : وثمن الکلب ، الحدیث(1) .
ومنها : خبر ابن فضال عن الصادق علیه السلام عن آبائه علیهم السلام عن النبی صلی الله علیه و آله وسلم قال : شر الکسب : ثمن الکلب ومهر البغی وکسب الحجام(2) .
ومنها : خبر عبد اللّه بن طلحة عن أبی عبد اللّه علیه السلام أنّه قال : من أکل السحت سبعة : الرشوة فی الحکم ومهر البغی وأجر الکاهن وثمن الکلب والذین یبنون البنیان علی القبور والذین یصوّرون التماثیل وجعیلة الأعرابی(3) .
ومنها : خبر دعائم الإسلام رفعه إلی رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم أنّه نهی عن ثمن الکلب العقور(4) .
ومنها : معتبرة السکونی عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال : قال أمیر المؤمنین علیه السلام : بعثنی رسول اللّه إلی المدینة فقال : لا تدع صورة إلاّ محوتها ولا قبراً إلاّ سوّیته ولا کلباً إلاّ قتلته(5) .
وأمره صلی الله علیه و آله وسلم بقتل الکلاب تدل علی عدم مالیتها ، فإذاً لا یجوز بیعها .
منها : خبر أبی عبد اللّه العامری قال : سألت أبا عبد اللّه علیه السلام عن ثمن الکلب الذی لا یصید ؟ فقال : سحت ، وأمّا الصیود فلا بأس(6) .
ومنها : صحیحة محمد بن مسلم وعبد الرحمن بن أبی عبد اللّه عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال : ثمن الکلب الذی لا یصید سحت ، قال : ولا بأس بثمن الهرّ(7) .
ص: 92
مفهوم هذه الصحیحة یدل علی جواز بیع کلب الصید .
ومنها : خبر أبی بصیر قال : سألت أبا عبد اللّه علیه السلام عن ثمن کلب الصید ؟ قال : لا بأس ، بثمنه ، والآخر لا یحلّ ثمنه(1) .
والآخر : یعنی الکلب الذی لیس بکلب الصید لا یحلّ ثمنه فلا یجوز بیعه .
ومنها : خبر آخر لأبی بصیر عن أبی عبد اللّه علیه السلام فی حدیث : أنّ رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم قال : ثمن الخمر ومهر البغی وثمن الکلب الذی لایصطاد من السحت(2) .
مفهوم هذه الروایة یدل علی أن ثمن الکلب الذی یصید لیس بالسحت فیجوز بیعه .
ومنها : خبر قاسم بن الولید العامری قال : سألت أبا عبد اللّه علیه السلام عن ثمن الکلب الذی لا یصید ، فقال : سحت ، وأمّا الصیود فلا بأس(3) .
ومنها : مرسلة الشیخ لأنّه قال فی المبسوط یجوز بیع کلب الصید . وروی : أنّ کلب الماشیة والحائط مثل ذلک(4) .
هذه المرسلة تدل علی جواز بیع کلب الماشیة والحائط ، وهما غیر کلب الصید .
ومنها : خبر دعائم الإسلام رفعه إلی أمیر المؤمنین علیه السلام أنّه قال : لا بأس بثمن کلب الصید(5) .
ومنها : صحیحة محمد بن قیس عن أبی جعفر علیه السلام قال : قال أمیر المؤمنین علیه السلام : لا خیر فی الکلاب إلاّ کلب صید أو کلب ماشیة(6) .
فی هذه الصحیحة اُلحق کلب الماشیة بکلب الصید ، فلما یجوز بیع کلب الصید فیجوز بیعه . ولعل المراد بالخیر وجود المنفعة أو المالیة فیها .
ص: 93
ومنها : معتبرة السکونی عن أبی عبد اللّه علیه السلام أنّ النبی صلی الله علیه و آله وسلم : رخص لأهل القاصیة فی کلب یتّخذونه(1) .
جواز إتخاذ الکلب وإن کان ظاهره التکلیف ولکن إذا جاز أخذه وله منفعة فیجوز بیعه . ومن الواضح أنّه غیر کلب الصید .
ومنها : معتبرة أخری للسکونی عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال : الکلاب الکردیة إذا عُلَّمت فهی بمنزلة السلوقیّة(2) .
وهذه المعتبرة تدل علی أنّ المدار فی جواز البیع کون الکلب معلَّماً ، فإذا کان معلَّماً یجوز بیعه وإلاّ فلا ، وإذا عُلِّمت الکلاب الکردیة فیجوز بیعها کالکلاب السلوقیّة .
فالمدار فی التعلیم ، وتعلیم الکلب لا ینحصر فی الصید بل ربّما یعلّمونه للمحافظة أو للشرطة أو للأمن أو لوجدان الأشخاص المفقودین أو الأشیاء المفقودة أو الأشیاء المستورة والمخفیّة نحو مواد التخدیر ، أو للتهاجم إلی المجرمین وأخذهم وغیرها من المنافع . فکلّ هذه الکلاب المعلَّمة بالتعلیل الوارد فی هذه المعتبرة یجوز بیعها وتخرج من تحت الطائفة الأولی من الروایات .
والعجب من المحدث البحرانی حیث یقول : « وهذه الأخبار کلّها - کما تری - متفقة علی ما ذکرناه من أنّ ما عدا کلب الصید فإنّه لا یجوز بیعه ولا شراؤه ، ولم أقف علی خبر یتضمن استثناء غیره ، سوی ما فی عبارة المبسوط من قوله « وروی أنّ کلب الماشیة والحائط مثل ذلک » ، وفی الإعتماد علی مثل هذه الروایة فی تخصیص هذه الأخبار إشکال »(3) .
أقول : مع وجود معتبرة السکونی کیف یقول قدس سره : « لم أقف علی خبر یتضمن استثناء غیره سوی ما فی عبارة المبسوط» . والروایة معتبرة سنداً وتامةٌ دلالةً .
ویؤید ما ذکرناه : مرسلة الشیخ أبی الفتوح الرازی فی تفسیره رفعه إلی أبی رافع عن
ص: 94
النبی صلی الله علیه و آله وسلم فی حدیث : أنّه رخّص فی اقتناء کلب الصید وکلّ کلب فیه منفعة ، مثل کلب الماشیة وکلب الحائط والزرع ، رخصهم فی اقتنائه ... ، الحدیث(1) .
هذه المرسلة تدل علی جواز اقتناء کلّ کلب فیه منفعة ومثّل بکلب الماشیة والحائط والزرع ، فتشمل غیرها من الکلاب المعلَّمة . وکما یجوز اقتنائها یجوز بیعها ، کما عطفها فی المرسلة بکلب الصید والإجماع علی جواز بیعه .
ویؤیده أیضاً : مرسلة ابن أبی جمهور الإحسائی رفعه عن النبی صلی الله علیه و آله وسلم فی حدیث فقال : « لا أدع کلباً بالمدینة إلاّ قتلته» ، فهربت الکلاب حتّی بلغت العوالی ، فقیل : یا رسول اللّه کیف الصید بها وقد أمرت بقتلها ؟ فسکت رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم ، فجاء الوحی بإقتناء الکلاب التی ینتفع بها ، فاستثنی رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم کلاب الصید وکلاب الماشیة وکلاب الحرث وأذن فی اتخاذها(2) .
والأمر فی هذه المرسلة کسابقتها .
وتدل علی ما ذکرنا من صحة بیع الکلاب المعلَّمة ما ورد فی الروایات من تعین مقدار دیة بعض الکلاب أو تقویمها ، وهذه الدیة - بأیّ مقدار کانت أو تقویمها بدلاً منها - تدل بوضوح علی مالیتها ، وحیث کانت مالاً یجوز بیعها بلا إشکال .
من الروایات الواردة فی هذا المقام :
صحیحة الولید بن صبیح عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال : دیة الکلب السلوقی أربعون درهماً ، أمر رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم بذلک أن یدیه لبنی خزیمة(3) .
ومنها : صحیحة اُخری للولید بن صبیح عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال : دیة کلب الصید السلوقی أربعون درهماً(4) .
ویمکن اتحاد الصحیحتین .
ص: 95
ومنها : حسنة عبد الأعلی بن أعین عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال : فی کتاب علی علیه السلام : دیة کلب الصید أربعون درهماً(1) .
ومنها : خبر أبی بصیر عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال : دیة الکلب السلوقی أربعون درهماً جعل ذلک له رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم ، ودیة کلب الغنم کبشٌ ، ودیة کلب الزرع جریب من بُرّ ودیة کلب الأهل قفیز من تراب لأهله(2) .
الجریب والقفیز : یعنی مکیال .
ومنها : خبر ابن فضال عن بعض أصحابه عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال : دیة کلب الصید أربعون درهماً ، ودیة کلب الماشیة عشرون درهماً ، ودیة کلب الذی لیس للصید ولا للماشیة زنبیل من تراب علی القاتل أن یعطی وعلی صاحبه أن یقبل(3) .
ومنها : معتبرة السکونی عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال : قال أمیر المؤمنین علیه السلام فی من قتل کلب الصید ، قال : یقوّمه ، وکذلک البازی ، وکذلک کلب الغنم ، وکذلک کلب الحائط(4) .
وهذه الروایات فی دیّة الکلب تدل علی لزوم إعطاء القاتل أعلی القیم من الدیّة المقدرة یعنی أربعون درهماً أو قیمة الکلاب إلی صاحبها ، وهذه الدیّة والغرامة تدل علی مالیة الکلاب عند الشارع وحیث کانت مالاً ولها منافع محلّلة فیجوز بیعها مطلقاً یعنی بلا فرق بین کلب الصید والحائط والماشیة والزرع والشرطة والأمن والسلوقی والبازی وغیرها .
لا یقال : جعل الشارع لقتل الکلاب الدیة ، تدل علی عدم مالیتها خلافاً لما ذکرناه لأنّ الشارع جعل الدیات لأشیاء لا قیمة لها قال الشهید الثانی قدس سره :
« فإنّ ثبوت الدیات لها ربّما دل علی عدم جواز بیعها ، التفاتاً إلی أنّ ذلک فی مقابلة القیمة ، فإنّک تجد کلّ ماله دیّة لا قیمة له کما فی الحر وماله قیمة لا دیة له ، کما فی الحیوان المملوک غیر
ص: 96
الآدمی»(1) .
واستجوده فی الحدائق(2)
لإنّا نقول : یردّ علیه أولاً : بالحلّ : بأنّ الوارد فی الروایات دیة الکلب لا ینحصر الدیة بأربعین درهماً ، بل ورد فی معتبرة السکونی تقویم الکلب وضمان القاتل بالقیمة ، ونفس هذا التعبیر دلیل علی مالیة هذه الکلاب . وبنظرنا القاصر ذمة القاتل مشغول بأعلی الأمرین من أربعین درهماً أو قیمة الکلب .
وثانیاً : بالنقض : ربّما یوجد فی الأشیاء التی جعل الشارع لها الدیة ، أشیاء ذات مالیّة والقیمة ، نحو : البکارة ودیة المملوک .
ص: 97
النصوص الکثیرة والإجماع من الأصحاب تدل علی بطلان بیع الخمر وکل مسکر مایع والفقاع ، فلابدّ من البحث فی کل واحد منهم :
الإجماع من المسلمین علی حرمة بیع الخمر وضعاً وتکلیفاً ، وتدل علیه أیضاً النصوص :
منها : صحیحة محمد بن مسلم عن أبی عبد اللّه علیه السلام فی رجل ترک غلاماً له فی کرم له یبیعه عنباً أو عصیراً ، فانطلق الغلام فعصر خمراً ثم باعه ، قال : لا یصلح ثمنه . ثم قال : إنّ رجلاً من ثقیف أهدی إلی رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم راویتین من خمر ، فأمر بهما رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم فأهریقتا ، وقال : إنّ الذی حرّم شربها حرّم ثمنها .
ثم قال أبو عبد اللّه علیه السلام : إنّ أفضل خصال هذه التی باعها الغلام أن یتصدق بثمنها(1) .
ومنها : خبر أبی بصیر عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال : سألته عن ثمن الخمر ؟ قال : أهدی إلی رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم راویة خمر بعد ما حرمت الخمر ، فأُمر بها أن تباع ، فلما مرّ بها الذی یبیعها ناداه رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم من خلفه : یا صاحب الراویة إنّ الذی حرّم شربها فقد حرّم ثمنها ، فأمر بها فصبّت فی الصعید ، فقال : ثمن الخمر ومهر البغی وثمن الکلب الذی لا یصطاد من السحت(2) .
ومنها : موثقة زید بن علی عن آبائه علیهم السلام قال : لعن رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم الخمر وعاصرها ومعتصرها وبائعها ومشتریها وساقیها وآکل ثمنها وشاربها وحاملها والمحمولة إلیه(3) .
ص: 98
وهذه الموثقة مضافاً إلی دلالتها علی فساد بیع الخمر ، تدل أیضاً علی أنّ بیعها حرام تکلیفاً لورود اللعن علی بائعها ومشتریها وآکل ثمنها .
ومنها : خبر جابر عن أبی جعفر علیه السلام قال : لعن رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم فی الخمر عشرة : غارسها وحارسها وعاصرها وشاربها وساقیها وحاملها والمحمولة إلیه وبائعها ومشتریها وآکل ثمنها(1) .
ونظیرها وردت فی حدیث المناهی(2) .
وتدلّ علیه الروایات الواردة فی أنّ ثمن الخمر سحت أو من السحت :
منها : صحیحة عمار بن مروان قال : سألت أبا جعفر علیه السلام عن الغلول ؟ فقال : کلّ شیء غلّ من الإمام فهو سحت ، وأکل مال الیتیم وشبهه سحت والسحت أنواع کثیرة ، منها : اُجور الفواجر وثمن الخمر والنبیذ والمسکر والربا بعد البینة ، فأمّا الرشا فی الحکم فإنّ ذلک الکفر باللّه العظیم جلّ اسمه وبرسوله صلی الله علیه و آله وسلم (3) .
ومنها : معتبرة السکونی عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال : السحت ثمن المیتة وثمن الکلب وثمن الخمر ومهر البغی والرشوة فی الحکم وأجر الکاهن(4) .
ومنها : موثقة سماعة قال : قال : السحت أنواع کثیرة : منها کسب الحجّام وأجر الزانیة وثمن الخمر(5) .
ومنها : غیر ذلک من الروایات(6) .
ولمّا کان الأمر فی الخمر واضحاً أدرجنا الکلام فیه .
ص: 99
تدل علی حرمة شربه تکلیفاً وبطلان بیعه نصوص متعددة :
منها : صحیحة الفضیل بن یسار قال : ابتدأنی أبو عبد اللّه علیه السلام یوماً من غیر أن أسأله فقال : قال رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم : کلّ مسکر حرام ، قال : قلت : أصلحک اللّه کلّه حرام ؟ قال : نعم ، الجرعة منه حرام(1) .
بتقریب : الحرام فی « کلِّ مسکر حرام» ، مطلق یشمل حرمة شرب المسکر وحرمة بیعه وضعاً وتکلیفاً .
ومنها : صحیحة اُخری للفضیل عن أبی عبد اللّه علیه السلام - فی حدیث - قال : حرّم اللّه الخمر بیعها وحرّم رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم المسکر من کلّ شراب ، فأجاز اللّه له ذلک - إلی أن قال - : فکثیر المسکر من الأشربة نهاهم عنه نهی حرام ، ولم یرخّص فیه لأحد(2) .
ومنها : حسنة کلیب الصیداوی قال : سمعت أبا عبد اللّه علیه السلام یقول : خطب رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم فقال فی خطبته : کلّ مسکر حرام(3) .
ومنها : موثقة سماعة عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال : قال رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم : من شرب مسکراً لم یقبل منه صلاته أربعین لیلة(4) .
هذه الموثقة تدل حرمة شرب المسکر فقط .
ومنها : معتبرة أو صحیحة الفضیل بن یسار عن أبی جعفر علیه السلام قال : إنّ اللّه عزّ وجل عند کلّ لیلة من شهر رمضان عتقاء یعتقهم من النار ، إلاّ من أفطر علی مسکر ومن شرب مسکراً لم تحتسب له صلاته أربعین یوماً ومن مات فیها مات میتة جاهلیة(5) .
ص: 100
وهذه کسابقتها فی الدلالة .
ومنها : موثقة أبی بصیر عن أبی الحسن علیه السلام قال : إنّه احتضر أبی قال : یا بنیَّ إنّه لا ینال شفاعتنا من استخفّ بالصلاة ، ولا یرد علینا الحوض من أدمن هذه الأشربة ، قلت : یا أبة وایُّ الأشربة ؟ فقال : کل مسکر(1) .
هذه الموثقة أیضاً تدل علی حرمة الشرب فقط .
ومنها : صحیحة اُخری للفضیل بن یسار قال : سمعت أبا جعفر علیه السلام یقول : من شرب الخمر فسکر منها لم تقبل صلاته أربعین یوماً ، فإن ترک الصلاة فی هذه الأیام ضوعف علیه العذاب لترک الصلاة(2) .
بتقریب : أنّ المعیار السکر بلا فرق فی ذلک بین الخمر والمسکر .
ومنها : صحیحة اسحاق بن عمار عن أبی عبد اللّه علیه السلام - فی حدیث - قال : فحرّم اللّه الخمر وحرّم رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم کل مسکر ، فأجاز اللّه ذلک کلّه له(3) .
ومنها : حسنة أبی بصیر عن أبی عبد اللّه علیه السلام - فی حدیث - قال : حرّم اللّه الخمر بعینها وحرّم رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم المسکر من کلّ شراب ، فأجاز اللّه له ذلک(4) .
ومنها : صحیحة الحسن بن علی الوشاء عن أبی الحسن الرضا علیه السلام قال : کل مسکر حرام وکلّ مُخَمِّرٍ حرام(5) .
ومنها : خبر عبد اللّه بن سنان عن الصادق علیه السلام قال : إنّ اللّه عزّ وجل حرّم علی شیعتنا الشراب من کل مسکرٍ وعوّضهم عن ذلک المتعة(6) .
هذه الروایات وإن کان ظاهرها حرمة شرب کلّ مسکرٍ ولکن عطف کلّ مسکرٍ
ص: 101
بالخمر یدل علی اشتراک کل مسکر مع الخمر فی الأحکام ، فکما أنّ شرب الخمر حرام فکذلک شرب کلِّ مسکرٍ حرام وهکذا ، کما أنّ بیع الخمر حرام کذلک بیع کلّ مسکر حرام أیضاً . هذا أولاً .
مضافاً إلی الإطلاق الوارد فی بعض هذه الروایات نحو : « کلّ مسکر حرامٌ »فی حسنة کلیب الصیداوی ، و« فحرَّم اللّه الخمر وحرّم رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم کلّ مسکر» فی صحیحة اسحاق بن عمار ، و« حرّم اللّه الخمر بعینها وحرّم رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم المسکر من کلّ شراب » فی حسنة أبی بصیر . والحرمة فی جمیع هذه الروایات مطلقة بالنسبة إلی الحرمة الوضعیة والتکلیفیة وتشملهما ، فتدلّ هذه الروایات بهذا البیان مضافاً إلی حرمة شرب کلّ مسکر تکلیفاً ، علی حرمة بیع کلّ مسکر یعنی بطلانه . وهذا کلّه ثانیاً .
وثالثاً : فی روایاتنا أطلق « الخمر » علی معنی یعمّ المسکر أو یشمل علی کلّ مسکر ، فحینئذ یترتّب علی کلّ مسکر جمیع أحکام الخمر حتّی حرمة بیعه تکلیفاً ، وتدل علیه عدة من الروایات :
منها : صحیحة علی بن یقطین عن أبی الحسن الماضی علیه السلام قال : إنّ اللّه عزّ وجل لم یحرِّم الخمر لاسمها ، ولکن حرّمها لعاقبتها ، فما کان عاقبته عاقبة الخمر فهو خمر(1) .
ومنها : خبر آخر لعلی بن یقطین عن أبی إبراهیم علیه السلام قال : إنّ اللّه عزّ وجل لم یحرّم الخمر لاسمها ولکن حرّمها لعاقبتها ، فما فعل فعلَ الخمر فهو خمر(2) .
بتقریب : إنّ عاقبة الخمر وفعلها الإسکار ، وهذه العاقبة والفعلة موجودة فی کلِّ مسکر ، فکلِّ مسکر خمر .
ومنها : خبر محمد بن عبد اللّه عن بعض أصحابنا قال : قلت لأبی عبد اللّه علیه السلام : لِمَ حرَّم اللّه الخمر ؟ فقال : حرّمها لفعلها وفسادها(3) .
ومنها : خبر أبی الجارود قال : سألت أبا جعفر علیه السلام عن النبیذ أخمر هو ؟ فقال علیه السلام : ما
ص: 102
زاد علی الترک جودة فهو خمر(1) .
یعنی إنّ مازاد شربه علی ترکه نشاطاً وفرحاً فی الطبع فهو خمر .
ومنها : خبر محمّد بن إسماعیل بن إبراهیم بن موسی بن جعفر المروی فی دلائل الإمامة عن عمَّی أبیه الحسین وعلی ابنی موسی عن أبیهما علیه السلام عن جعفر بن محمد علیه السلام عن آبائه علیهم السلام عن فاطمة علیهاالسلام قالت : قال رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم : یا حبیبة أبیها ، کلّ مسکر حرام وکلّ مسکر خمر(2) .
أقول : روی الکلینی بسنده عن عطاء بن یسار عن أبی جعفر علیه السلام عن رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم مثلها(3) .
ومنها : مرسلة الشیخ أبی الفتوح الرازی فی تفسیره عن رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم قال : کلّ شراب عاقبته کعاقبة الخمر فهو حرام(4) .
وهذه الروایات - وفیها ما هو معتبر - تدل علی أنّ کلّ مسکر یطلق علیه الخمر یترتب علیه أحکام الخمر ، وعلی هذا نذهب إلی حرمة شرب کلّ مسکر تکلیفاً وإلی حرمة بیعه وضعاً وتکلیفاً نحو الخمر ، یعنی أنّ بیعه کان حراماً تکلیفاً أیضاً نحو بیع الخمر .
تنبیه : هل یلحق بالمسکرات المایعة ، الجامدة منها نحو : الحشیش والأفیون والتریاق وغیرها من مواد التخدیر فی حرمة استعمالها وحرمة بیعها وضعاً وتکلیفاً أم لا ؟
یدلّ علی الإلحاق اطلاق بعض الروایات الواردة ، نحو حسنة کلیب الصیداوی عن أبی عبد اللّه علیه السلام فقد ورد فیها « کلّ مسکر حرام» ، وصحیحة إسحاق بن عمار عن أبی عبد اللّه علیه السلام ورد فیها : « حرّم رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم کلّ مسکر» ، وصحیحة علی بن یقطین « عن أبی الحسن الماضی علیه السلام قال : إنّ اللّه عز وجل لم یحرّم الخمر لاسمها ولکن حرّمها لعاقبتها ، فما کان عاقبته عاقبة الخمر فهو خمر» ، والإطلاقات الواردة فی غیرها من الروایات الماضیة .
وفیه : یمکن تقیید هذه الإطلاقات الواردة علی فرض وجود الإطلاق فیها ،
ص: 103
بالروایات الواردة فیها لفظة « الشراب » أو « الأشربة » المایعة ، کما لا یبعد . وعدم صدق الخمر عرفاً علی هذه المواد . والظاهر انصراف حتّی مثل صحیحة علی بن یقطین عن هذه المواد .
وبالجملة ، إلحاق المسکرات الجامدة بالمایعة منها فی جمیع الموارد التی ذکرناها بجهة الصناعة الفقهیة والأدلة التفصیلیة فی غایة الإشکال .
نعم ، یمکن الحکم بحرمة استعمال المسکرات الجامدة من جهة إضرارها علی النفس ، وما یوجب من الإختلال فی المجتمع والنظام ، ومن هذه الجهة أیضاً یمکن الحکم ببطلان بیعها . وأمّا حرمة بیعها تکلیفاً وثبوت نجاستها ولزوم حدّ شرب الخمر علی من استعملها فلا یمکن الذهاب إلیها کما لا یخفی علی من له إلمام بالفقاهة . والحمد للّه علی ما انعم .
ص: 104
حرمة شرب الفقاع إجماعیٌ عندنا ، فلا یجوز بیعه ، ومَنْ شربه فعلیه الحدّ .
تدل علی حرمة شربه وبطلان بیعه وحدّه الروایات المتکثرة :
منها : موثقة ابن فضال قال : کتبت إلی أبی الحسن علیه السلام أسأله عن الفقاع ، فکتب ینهانی عنه(1) .
ومنها : صحیحة الوشاء قال : کتبت إلیه - یعنی الرضا علیه السلام - أسأله عن الفقاع ، قال : فکتب حرام وهو خمر ، ومن شربه کان بمنزلة شارب الخمر .
قال : وقال أبو الحسن الأخیر علیه السلام : لو أنّ الدار داری لقتلت بایعه ولجلدت شاربه .
وقال أبو الحسن الأخیر علیه السلام : حدّه حدّ شارب الخمر .
وقال علیه السلام : هی خُمیرة استصغرها الناس(2) .
ومنها : صحیحة سلیمان بن جعفر قال : قلت لأبی الحسن الرضا علیه السلام : ما تقول فی شرب الفقاع ؟ فقال : خمر مجهول یا سلیمان فلا تشربه ، أما إنّه یا سلیمان لو کان الحکم لی والدار لی لجلدت شاربه ولقتلت بایعه(3) .
ومنها : صحیحة محمد بن إسماعیل قال : سألت أبا الحسن علیه السلام عن شرب الفقاع ، فکرهه کراهةً شدیدةً(4) .
ومنها : موثقة عمار بن موسی قال : سألت أبا عبد اللّه علیه السلام عن الفقاع ، فقال لی :
ص: 105
هو خمر(1) .
ومنها : موثقة ابن فضال قال : کتبت إلی أبی الحسن علیه السلام أسأله عن الفقاع ، قال : فکتب یقول : هو الخمر ، وفیه حدّ شارب الخمر(2) .
ومنها : خبر عمار بن موسی قال : سألت أبا عبد اللّه علیه السلام عن الفقاع ، فقال : هو خمر(3) .
ومنها : خبر محمد بن سنان قال : سألت أبا الحسن الرضا علیه السلام عن الفقاع فقال : هو الخمر بعینها(4) .
ومنها : خبر زاذان عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال : قال : لو أنّ لی سلطاناً علی أسواق المسلمین لرفعت عنهم هذه الخمرة - یعنی الفقاع -(5) .
ومنها : خبر الحسن بن الجهم وابن فضال قالا : سألنا أبا الحسن علیه السلام عن الفقاع ، فقال : حرام ، وهو خمر مجهول ، وفیه حدّ شارب الخمر(6) .
والروایات تدلّ بوضوح علی حرمة شربه وبطلان بیعه وحرمة بیعه تکلیفاً وترتب الحدّ علی مَنْ شربه ، وحیث أنّ الأمر فیه واضح أدرجنا الکلام فیه .
الروایات تدل علی جواز تخلیل الخمر :
منها : صحیحة زرارة عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال : سألته عن الخمر العتیقة تجعل خلاًّ ؟ قال : لا بأس(7) .
ص: 106
ومنها : موثقة عبید بن زرارة قال : سألت أبا عبد اللّه علیه السلام عن الرجل یأخذ الخمر فیجعلها خلاًّ ، قال : لا بأس(1) .
ومنها : موثقة أبی بصیر قال : سألت أبا عبد اللّه علیه السلام عن الخمر تجعل خلاًّ ، قال : لا بأس إذا لم یجعل فیها ما یغلبها(2) .
ومنها : موثقة اُخری لعبید بن زرارة عن أبی عبد اللّه علیه السلام أنّه قال : فی الرجل إذا باع عصیراً فحبسه السلطان حتّی صار خمراً ، فجعله صاحبه خلاًّ ، فقال : إذا تحوّل عن اسم الخمر فلا بأس به(3) .
ومنها : صحیحة محمد بن مسلم وأبی بصیر عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال : سئل عن الخمر یجعل فیها الخلّ ؟ فقال : لا ، إلاّ ما جاء من قبل نفسه(4) .
یعنی صار الخمر بنفسه خلاًّ ، لا بإضافة الخلّ فی الخمر وإراقته فیه .
ومنها : خبر علی بن جعفر عن أخیه موسی بن جعفر علیه السلام قال : سألته عن الخمر یکون أوّله خمراً ثم یصیر خلاًّ ؟ قال : إذا ذهب سکره فلا بأس ، أیؤکل ؟ قال : نعم(5) .
یمکن تصحیح سند هذه الروایة بأنّ لصاحب الوسائل سنداً صحیحاً إلی کتاب علی بن جعفر ، فصارت الروایة صحیحة السند .
وهذه الروایات کما تری کلّها وردت فی جعل الخمر خلاًّ ولم ترد فیها جواز بیع الخمر للتخلیل ، بل تدل علی جواز التخلیل وجواز أکل الخلّ الحاصل منه .
وقد استدلوا علی جواز بیع الخمر للتخلیل بهذه الروایة وهی :
صحیحة جمیل قال : قلت لأبی عبد اللّه علیه السلام : یکون لی علی الرجل دراهم ، فیعطینی بها خمراً ، فقال : خذها ثم أفسدها .
ص: 107
قال علیٌّ : واجعلها خلاًّ(1) .
المراد بعلیّ الوارد فی آخر الصحیحة ، علی بن حدید المذکور فی السند ، یعنی هذا توضیح منه أو تتمة الروایة بنقله لا علی أمیر المؤمنین علیه السلام کما هو واضح .
بتقریب : أجاز الإمام علیه السلام أخذ الخمر فی قبال الدراهم ثم جعلها خلاًّ ، ونفس هذا الأخذ معاملة قهریة ، فکما یجوز ذلک یجوز بیعها للتخلیل .
وأجاب الشیخ الأعظم قدس سره عن هذا الاستدلال بوجهین : الأوّل : « المراد به إمّا أخذ الخمر مجاناً ثم تخلیلها»(2) .
الثانی : « أخذها وتخلیلها لصاحبها ثم أخذ الخلّ وفاءً عن الدراهم»(3) .
وأورد فی مصباح الفقاهة علی الأوّل : « بأنّ أخذها مجاناً ثم تخلیلها لنفسه لا یوجب سقوط الدَّین عن ذمة الغریم .
وعلی الثانی : بأن تخلیلها لصاحبها لا یصحّح أخذ الخلّ وفاءً ما لم یأذن المالک فی ذلک ، والمالک إنّما أذن فی أخذ الخمر وفاءً لا فی أخذ الخلّ »(4) .
ودافع بعض الأساتذه - مدّ ظله - عن الشیخ وقال : « یمکن أن یدافع عن الوجه الأوّل : بأنّ قبول ما یعطیه المدیون بعنوان دینه ملازم لإبراء ذمّته منه .
وعن الثانی : بأنّ إذنه تعلّق بهذه العین الخارجیة بذاتها وفاءً ، وهو مطلق شامل لجمیع حالاتها وتطوّراتها ، ولیس مقیّداً بحالة خمریتها فقط ، فتأمّل »(5) .
وبالجملة ، یجوز نفس عمل تخلیل الخمر کما تدلّ علیه هذه الروایات ، وأمّا رفع الید عن الأدلة الواردة فی حرمة بیع الخمر وضعاً وتکلیفاً فی مورد التخلیل فمشکل جداً ، وغایة ما یمکن أن یقال فی صحیحة جمیل الأخذ بها فی موردها الخاص وعدم التعدی منه إلی البیع
ص: 108
للتخلیل .
فلا یجوز بیع الخمر للتخلیل . واللّه سبحانه هو العالم .
ورد فی عدة من الروایات عدم جواز التداوی بالخمر :
منها : صحیحة عمر بن اُذینة قال : کتبت إلی أبی عبد اللّه علیه السلام أسأله عن الرجل یبعث له دواء من ریح البواسیر فیشربه بقدر اُسکرّجة من نبیذ صلب لیس یرید به اللّذّة وإنّما یرید به الدواء ؟ فقال : لا ولا جرعة . ثم قال : إنّ اللّه عز وجل لم یجعل فی شیءٍ ممّا حرّم شفاءً ولا دواءً(1) .
ومنها : موثقة الحلبی قال : سألت أبا عبد اللّه علیه السلام عن دواء عجن بالخمر ، فقال : لا واللّه ما اُحبّ أنظر إلیه فکیف أتداوی به ، إنّه بمنزلة الخنزیر أو لحم الخنزیر وإنّ أناساً لیتداوون به(2) .
ومنها : موثقة أو صحیحة علی بن جعفر عن أخیه أبی الحسن علیه السلام قال : سألته عن الکحل یعجن بالنبیذ أیصلح ذلک ؟ فقال : لا(3) .
لم ترد هذه الروایة فی صورة الإستشفاء والتداوی .
ومنها : صحیحة معاویة بن عمار قال : سأل رجل أبا عبد اللّه علیه السلام عن دواء عجن بالخمر نکتحل منها ؟ فقال أبو عبد اللّه علیه السلام : ما جعل اللّه عزّ وجلّ فیما حرّم شفاءً(4) .
ومنها : خبر الحلبی قال : سئل أبو عبد اللّه علیه السلام عن دواء یعجن بخمر ، فقال : ما اُحبّ أن أنظر إلیه ولا أشمّه فکیف أتداوی به(5) .
ص:109
ومنها : خبر إسماعیل بن محمّد قال : قال جعفر بن محمّد علیه السلام : نهی رسول اللّه عن الدواء الخبیث أن یتداوی به(6) .
قد حملت هذه الروایة علی الدواء الذی صنع من الخمر والمسکر .
ومنها : موثقة ابن أبی یعفور قال : کان إذا أصابته هذه الأوجاع [ الأرواح [فإذا اشتدّت به شرب الحسو من النبیذ فتسکن عنه ، فدخل علی أبی عبد اللّه علیه السلام إلی أن قال - : فأخبره بوجعه وشربه النبیذ ، فقال له : یا ابن أبی یعفور لا تشربه ، فإنّه حرام ، إنّما هذا الشیطان موکّل بک ، فلو قد یئس منک ذهب ، فلما رجع إلی الکوفة هاج به وجع أشدّ ممّا کان ، فأقبل أهله علیه ، فقال : لا واللّه لا أذوق منه قطرة أبداً ، فآیسوا منه ، وکان یهمّ علی شیءٍ ولا یحلف ، فلما سمعوا أیسوا منه ، واشتدَّ به الوجع أیاماً ، ثم أذهب اللّه عنه ، فما عاد إلیه حتّی مات(1) .
ومنها : معتبرة الفضل بن شاذان عن الرضا علیه السلام فی کتابه إلی المأمون : ... والمضطرُّ لا یشرب الخمر ، لأنّها تقتله ، الحدیث(2) .
ومنها : خبر أبی بصیر عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال : المضطرُّ لا یشرب الخمر ، فإنّها لا تزیده إلاّ شرّاً ، ولأنَّه إن شربها قتلته ، فلا یشرب منه قطرة(3) .
ومنها : خبر قاید بن طلحة أنّه سأل أبا عبد اللّه علیه السلام عن النبیذ یجعل فی الدواء ، فقال : لا [ لیس ] ینبغی لأحد أن یستشفی بالحرام(4) .
ومنها : معتبرة حمران عن أبی عبد اللّه علیه السلام أنّه قال فی حدیث طویل فی أخبار آخر الزمان : ... ورأیت أموال ذوی القربی تقسّم فی الزُّور ویتقامر بها الخمور ، ورأیت الخمر
ص:110
یتداوی بها ویوصف للمریض ویستشفی بها ، الحدیث(1) .
بعد التأمل فی هذه الروایات ظهر لی أنّ الأئمة علیهم السلام کانوا بصدد نفی الإستشفاء والتداوی بالخمر وغیرها من المحرّمات ، ولذا أجابوا فی بعض الروایات فی جواب الاستشفاء بالخمر بنحو عام نحو صحیحة عمر بن أذینة حیث قال الإمام علیه السلام فیها : « إنّ اللّه عز وجل لم یجعل فی شیءٍ ممّا حرّم شفاءً ولا دواءً » ، وصحیحة معاویة بن عمار عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال : « ما جعل اللّه عزّ وجلّ فیما حرّم شفاءً» وخبر قاید بن طلحة عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال :
« لا ینبغی لأحد أن یستشفی بالحرام» .
إنّهم علیهم السلام نفوا الإستشفاء والتداوی بالمحرّمات بنحو عام لئلا یلعبَ الناس بالمحرّمات بقصد الإستشفاء والتداوی أو بداعیهما أو بدعواهما ، وعلی هذا لا فرق بین الخمر وغیرها من المسکرات والمحرّمات ، إذا کان المرض موجباً للضرر أو مهلکاً وانحصر الدواء فی الخمر أو غیرها من المسکرات أو المحرّمات ، فتجر أدلة الإضطرار وتنفی الحرمة التکلیفیة مادام الاضطرار باقیاً .
فإذا جاز شربه ، جاز بیعه أیضاً لهذا الأمر ، وإن کان الأحوط حینئذ ترک صورة البیع والإتیان بالمعاوضة بطرق اُخری .
نعم ، یجوز بیع هذه الکحول ، وهی محکومة بالطهارة للأصل ، ویجوز بیعها لوجود المنافع المحلّلة العقلائیة فیها ، لإنصراف اسم الخمر عن هذه الکحول . ووجود بعض مراتب الإسکار فیها أو إمکان إعدادها للإسکار کما قیل ، لا یصدق علیها فعلاً اسم المسکر ، فلذا لا یصدق علیها خمر ولا مسکر ولا تشملها أدلة بطلان بیعها .
فبقی جواز بیعها علی القاعدة الأوّلیة وتشملها إطلاقات حلیة البیع وجوازه ونفوذه ولزوم الوفاء به . والحمد للّه وهو العالم .
ص:111
فصّل الشیخ الأعظم قدس سره بین الأعیان المتنجسة وذهب إلی عدم جواز بیعها إذا لم تکن قابلة للتطهیر وتوقّف منافعها المحلّلة المعتدّ بها علی الطهارة . ومع فقد هذین الشرطین أو أحدهما ذهب إلی جواز بیعها(1) .
فلابدّ لنا من البحث فی المقام من أنّ النجاسة علی الشیء هل هی بنفسها مانعة من البیع والمعاوضة أم لا ؟
قد تمسکوا فی إثبات أنّ النجاسة العارضة مانعة من البیع بعدّة وجوه :
منها : وجود الإجماع علی بطلان بیع المتنجس الذی لا یمکن تطهیره ، ادعاه ابن زهرة فی الغنیة(2) والعلامة فی المنتهی(3) وظاهر ثانی الشهیدین فی المسالک(4) وصریح النراقی فی المستند(5) .
وفیه : أوّلاً : لم یتعرض قدماء الأصحاب لهذا الإجماع نحو الصدوق والمفید والمرتضی والطوسی قدس سرهم وغیرهم من أساطین الفقه ، وعدم تعرضهم لهذا الإجماع أقوی شاهد علی عدم وجوده .
وثانیاً : یمکن أن یکون هذا الإجماع مدرکیّاً ، ومدرکهم سائر الأدلة الواردة فی المقام الذی نبحث فیه ، ومع وجود هذا الاحتمال لم یستکشف هذا الإجماع مِنْ قول المعصوم علیه السلام فلابدّ من ملاحظة غیره من الأدلة .
ص:112
وثالثاً : علی فرض تحقق هذا الإجماع ، الظاهر أنّه منعقد علی صورة عدم وجود منفعة محلّلة عقلائیة للمتنجس ، بحیث ألغی الشارع المالیة منه وإن عُدّ عند غیر الملتزمین بالشریعة مالاً .
وأمّا علی فرض وجود المنفعة المحلّلة فیجوز بیعه والإجماع لا ینفیه .
ومنها : أصل الفساد الجاری فی موارد الشک فی صحة المعاملة ، یعنی إذا شککنا فی صحة بیع المتنجس الأصل فی ذلک فساده ، ویمکن التعبیر عنه باستصحاب عدم ترتب الأثر .
وفیه : إذا کان شیءٌ مالاً عند العرف ثم نشک فی صحة المعاملة علیه ، یشملها الإطلاقات الواردة فی حلیّة البیوع ولزومها وتجارة عن تراض وجوازها . فبعد ورود هذه الإطلاقات یعنی - الأدلة اللفظیة فی المقام لاتصل - النوبة إلی الأصل والاستصحاب .
ومنها : قوله تعالی : «یَا أَیُّهَا الَّذِینَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَیْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّیْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّکُمْ تُفْلِحُونَ»(5) .
بتقریب : لزوم الإجتناب فی الآیة الشریفة متفرع علی الرجس ، یعنی العلّة التامة للإجتناب هی الرجس ، والرجس هو النجس ، وإطلاق الإجتناب یقتضی جمیع التقلبات فیه ، ومنها البیع والمعاوضة .
وفیه : المراد بالرجس فی الآیة الشریفة غیر النجس المصطلح ، لأنّ الوارد فیها المیسر والأنصاب والأزلام ، ولم یذهب أحد إلی نجاسة هذه الأشیاء ، فلا یمکن أن یکون الرجس فی الآیة بمعنی النجس ، لأنّه یوجب خروج الموارد المذکورة منها وهو مستهجن . والظاهر أنّ المراد بالرجس فی الآیة ما یقابل لفظة [ پلیدی ] فی الفارسیة ، وهذا غیر النجاسة المصطلحة .
ومنها : قوله تعالی : «وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ»(1) :
بتقریب : الرجز بمعنی الرجس والنجاسة ، وإطلاق الهجرة منه یقتضی ترک جمیع التقلبات فیه ، ومنها البیع والشراء والمعاوضة .
وفیه : تفسیر الرجز والرجس بالنجاسة ، غیر تام . روی صاحب مجمع البیان(2) عن
ص:113
المفسرین تفسیر الرجز بالأصنام والأوثان والعذاب والمعاصی والفعل القبیح والخُلْق الذمیم وحبّ الدنیا ، وأین هذا من تفسیره بالنجاسة المصطلحة . فهذا الإستدلال أیضاً علیلٌ .
ومنها : قوله تعالی : «وَیُحَرِّمُ عَلَیْهِمُ الْخَبَائِثَ»(1) .
بتقریب : أنّ النجس من أظهر مصادیق الخبائث ، وأن إطلاق تحریمها یشمل تحریم جمیع التقلبات فیها ، ومنها البیع والمعاوضة .
وفیه : أوّلاً : أن الخبیث لیس مرادفاً للنجس ، بل الظاهر أنّ المراد به ما یکون بذاته ردّیاً وقبیحاً ، وتترتب علیه المضارّ والمفاسد . وهذا أعمٌّ من النجاسة المصطلحة .
وثانیاً : أن الظاهر من تحریم الخبائث ، حیث نُسبت الحرمة إلی الأعیان ، تحریم الإنتفاعات والآثار المناسبة لها ، نحو الأکل والشرب واللبس ونحوها ، لا تحریم البیع والمعاوضة . یعنی الحرمة مع إضافتها إلی الخبائث - وهی من الأعیان - ظاهرها الحرمة التکلیفیة لا الوضعیة بحیث تشمل بطلان المعاملة .
ومنها : روایة تحف العقول عن الصادق علیه السلام أنّه قال : « أمّا الوجوه الحرام من البیع
والشراءِ فکلّ أمر یکون فیه الفساد ... إلی أن قال علیه السلام : أو البیع للمیتة أو الدم أو لحم الخنزیر أو لحوم السباع من صنوف سباع الوحوش أو الطیر أو جلودها أو الخمر أو شیء من وجوه النجس ، فهذا کلّه حرام ومحرّم ، لأنّ ذلک کلّه منهی عن أکله وشربه ولبسه وملکه وإمساکه والتقلب فیه بوجه من الوجوه لما فیه من الفساد ، فجمیع تقلّبه فی ذلک حرام »(2) .
وفیه : قد مرّ منّا فی أوّل الکتاب ضعف سند هذه الروایة وإرسالها واضطرابها وعدم صلاحیتها للدلیلیة ، فراجع ما حررناه هناک .
ومنها : النبوی المشهور « إنّ اللّه إذا حرّم شیئاً حرّم ثمنه» .
بتقریب : أنّ اللّه تعالی حرّم المتنجس ، فحرّم ثمنه أیضاً ، وتحریم الثمن عبارة اُخری عن تحریم المعاملة وبطلانها .
وفیه : قد مرّ منّا فی أوّل الکتاب أنّ هذه الروایة عامیة لم ترد فی مصادرنا مسندةً ، وقد
ص:114
وردت فی أکثر نقولهم مع کلمة « الأکل » ، فصارت الروایة بهذا المعنی : إنّ اللّه إذا حرم أکل شیءٍ حرم ثمنه أیضاً . فتدلّ علی بطلان بیع المأکولات المتنجسة للأکل . ونحن نذهب إلی بطلان هذا ، ولکن أین هذا من بطلان المعاملة علی جمیع المتنجسات ؟ !
وبالجملة ، الروایة ضعیفة سنداً ودلالة .
ومنها : إلغاء الخصوصیة من الروایات الواردة فی بطلان المعاملة فی الأعیان النجسة الماضیة ، نحو : البول والغائط والمیتة والدم والمنی والکلب والخنزیر وغیرها ، بأنّ الوجه المشترک فی هذه الأعیان والعلة الغائیة فی بطلان المعاملة علیها النجاسة ، فبیع جمیع أفراد النجس باطلٌ .
وفیه : أوّلاً : هذا الاستدلال أشبه شیء بالقیاس بل هو القیاس بعینه ، وهو مردود فی مذهبنا مذهب أهل البیت علیهم السلام .
وثانیاً : المنع الوارد فی الروایات بالنسبة إلی الأعیان النجسة المذکورة ، بلحاظ المنافع التی کانوا یشترونها لأجلها فی تلک الأعصار من الأکل والشرب وغیرهما ، ولا تدلّ علی أنّ النجاسة مانعة مستقلة بذاتها .
ومنها : الروایات الواردة فی الأمر بإهراق الماء النجس المستلزم للنهی عن جمیع أضداده الخاصة التی منها : بیعه وإمساکه وسائر التصرفات ، هکذا ذکره النراقی فی المستند(2) .
ومن الروایات الآمرة بإهراق الماء النجس موثقه سماعة قال : سألت أبا عبد اللّه علیه السلام عن رجل معه إناءان فیها ماء ، وقع فی أحدهما قذر لا یدری أیّهما هو ، ولیس یقدر علی ماء غیره ؟ قال : یهریقهما جمیعاً ویتیمّم(1) .
ونظیرها موثقة اُخری لسماعة(2) وموثقة أبی بصیر(3) وصحیحته(4) وصحیحة
ص:البزنطی(5) وغیرها من الروایات .
وفیه : أولاً : عدم قبول هذا المبنی ، یعنی أن الأمر بالشیء یقتضی النهی عن ضده الخاص .
وثانیاً : الظاهر أنّ الأمر بالإهراق فی هذه الروایات لم یکن تعبدیاً ، بل هو إشارة إلی عدم جواز التطهیر والتوضی به . ولذا لم یذهب أحد من الأصحاب إلی وجوب إهراقه بحیث لو سقی أحد بهذا الماء دابته أو زرعه أو شجره کان عاصیاً . فحینئذ لوفرض وجود منفعة محلّلة لهذه المیاه المتنجسة
ص:115
، یجوز استعمالها فیها ویجوز بیعها لتلک . فإذا کان الأمر فی الماء الوارد فی الروایات هکذا ففی غیرها بطریق أولی . فهذا الاستدلال أیضاً عقیم .
ومنها : وهی العاشرة : الأمر الوارد فی الروایات من إهراق المرقة المتنجسة بموت الفارة فیها ، أو قطرت قطرة خمر أو نبیذ أو دم فیها ، نحو : خبر زکریا بن آدم قال : سألت أبا الحسن علیه السلام عن قطرة خمر أو نبیذ مسکر قطرت فی قدر فیه لحم کثیر ومرق کثیر ؟ قال : یهراق المرق ، الحدیث(1) .
ونحوه : خبر جابر عن أبی جعفر علیه السلام (2) ومعتبرة السکونی(3) .
وفیه : أوّلاً : قد مرّ منّا الإشکال فی أنّ الأمر بالشیء هل یقتضی النهی عن ضده الخاص .
وثانیاً : الأمر بالإهراق فی المرق کنایة عن نجاسته وعدم جواز أکله أو شربه ، ولکن
إذا کانت له منفعة عقلائیة محلّلة فیجوز استعمالها فی تلک ، فحینئذ یجوز بیعه .
کما وردت فی الروایات من بیع العجین بالماء النجس ممّن یستحل المیتة ، نحو صحیحة حفص بن البختری عن أبی عبد اللّه علیه السلام فی العجین من الماء النجس کیف یصنع به ؟ قال : یباع ممّن یستحلّ المیتة(4) .
ص:116
فنفس هذا الأمر الوارد فی الروایة بجواز بیع العجین ممّن یستحلّ المیتة ناقض للاستدلال .
وبالجملة ، جمیع هذه الأدلة العشر فی المقام بالنسبة إلی إثبات بطلان بیع المتنجسات غیر تامة . فحینئذ تجری الإطلاقات الواردة فی حلّیة البیوع وتجارة عن تراض ویحکم بصحة بیع المتنجسات .
ثم علی القول المختار من صحة بیع المتنجسات وعدم کون النجاسة مانعة من صحة البیع هل یجب إعلام المشتری بالنجاسة أم لا ؟
الظاهر لزوم التفصیل فی ذلک بین ما یُستعمل عا دة فی الأکل والشرب ولزوم الإعلام فیه ، وما یُستعمل عادة للصلاة ونحوها وعدم لزوم الإعلام فی الثانی .
لأنّ عدم إعلام المشتری بالنجاسة لما یُستعمل فی الأکل والشرب یوجب تسبیب أکل أو شرب النجس وهو حرام . ولکن طهارة الثوب فی الصلاة شرط علمی لا شرط واقعی والصلاة مع الثوب النجس مع الجهل بالنجاسة صحیح .
ویشهد لما ذکرناه فی الأکل موثقة أبی بصیر قال : سألت أبا عبد اللّه علیه السلام عن الفارة تقع فی السمن أو الزیت فتموت فیه ؟ فقال : إن کان جامداً فتطرحها وما حولها ویؤکل ما بقی وإن کان ذائباً فأسرج به وأعلمهم إذا بعته(1) .
ونظیرها خبر معاویة بن وهب(2) وخبر إسماعیل بن عبد الخالق(3) .
ویشهد لما ذکرناه فی الثوب موثقة ابن بکیر قال : سألت أبا عبد اللّه علیه السلام عن رجل
أعار رجلاً ثوباً فصلّی فیه وهو لا یصلّی فیه ، قال : لا یُعلمه ، قال : قلت : فإن أعلمه ؟ قال : یعید(4) .
ص:117
الأمر بالإعادة فی ذیل الروایة إمّا محمول علی الإستحباب أو الإعلام فی أثناء الصلاة ، کما تدلّ علی عدم لزوم الإعادة صحیحة العیص بن القاسم قال : سألت أبا عبد اللّه علیه السلام عن رجل صلّی فی ثوب رجل أیاماً ، ثم إنّ صاحب الثوب أخبره أنّه لا یصلّی فیه ؟ قال : لا یعید شیئاً من صلاته(1) .
ص:118
المسوخ علی قسمین :
1 - بریّة : نحو القِرد والدُّب والکلب والخنزیر والذئب والفأرة والضب والأرنب والطاوس والوطواط [ و الخطاف أو الخفاش ] والعنقا والثعلب والیربوع والقنفذ والطافی [الذی هو قسم من الحیات ، وقیل : إنّها السمک المیت فی الماء فحینئذ یدخل فی القسم الثانی [ والفیل .
2 - بحریّة : نحو الجری والدعموص والضفادع والسلاحف والنمار والتمساح والسرطان ، وهو عقرب الماء له ثمانیة أرجل وعیناه فی کتفه وصدره یمشی علی جانب واحد . ذکر کلّ ذلک صاحب الجواهر قدس سره (1) .
وعدّ فی بعض الروایات المسوخ ، ومنها : خبر علی بن مغیرة عن أبی عبد اللّه علیه السلام عن أبیه علیه السلام عن جده علیه السلام قال : المسوخ من بنی آدم ثلاثة عشر صنفاً : منهم القردة والخنازیر والخفاش والضب والفیل والدُّب والدعموص والجرّیث [ الجری ] والعقرب وسهیل والقنفذ والزهرة والعنکبوت ، الحدیث(2) .
ومنها : خبر معتب عن الصادق علیه السلام عن آبائه علیهم السلام عن علی بن أبی طالب علیه السلام قال : سألت رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم عن المسوخ ؟ فقال : هم ثلاثة عشر : الفیل والدُّب والخنزیر والقرد والجریث [ الجری ] والضبّ والوطواط والدعموص والعقرب والعنکبوت والأرنب وسهیل والزهرة ، الحدیث(3) .
راجع للتوسع وسائل الشیعة 24/104 الباب 2 من أبواب أطعمة المحرمة ومستدرک
ص:119
الوسائل 16/166 وجامع احادیث الشیعة 28/157 وبحار الانوار 62/220 طبعة بیروت وکتابنا موسوعة أحادیث أهل البیت علیهم السلام 10/244 .
ثم اعلم أن الإجماع منّا ومن العامة منعقد علی حرمة أکل لحم المسوخ ، وتدلّ علیه
جملة من النصوص :
منها : حسنة الحسین بن خالد قال : قلت لأبی الحسن علیه السلام : أیحلّ أکل لحم الفیل ؟ فقال : لا ، فقلت : لِمَ ؟ قال : لأنّه مثلة ، وقد حرّم اللّه لحوم الأمساخ ولحم ما مثل به فی صورها(1) .
ومنها : صحیحة الحلبی عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال : سألته عن أکل الضبّ ؟ فقال : إنّ الضبَّ والفارة والقردة والخنازیر مسوخ(2) .
ومنها : موثقة سماعة بن مهران عن أبی عبد اللّه علیه السلام فی حدیث قال : وحرّم اللّه ورسوله المسوخ جمیعاً(3) .
وأمّا طهارة المسوخ محلّ وفاق بین أصحابنا والإجماع منّا منعقد علی انحصار النجس من الحیوان فی الکلب والخنزیر البرّیین فقط ، وتدل علی طهارة المسوخ عدّة من الروایات :
منها : صحیحة الفضل أبی العباس قال : سألت أبا عبد اللّه علیه السلام عن فضل الهِرّة والشاة والبقرة والإبل والحمار والخیل والبغال والوحش والسباع ، فلم أترک شیئاً إلاّ سألته عنه ؟ فقال : لا بأس به ، حتّی انتهیت إلی الکلب ؟ فقال : رجس نجس لا تتوضأ بفضله وأصبب ذلک الماء واغسله بالتراب أوّل مرّة ثم بالماء(4) .
ومنها : خبر معاویة بن شریح قال : سأل عذافر أبا عبد اللّه علیه السلام وأنا عنده عن سؤر السنور والشاة والبقرة والبصیر والحمار والفرس والبغل والسباع ، یشرب منه أو یتوضّأ منه ؟
ص:120
فقال : نعم ، أشرب منه وتوضأ . قال : قلت له : الکلب ؟ قال : لا ، قلت : ألیس هو سبع ؟ قال : لا واللّه إنّه نجس ، لا واللّه إنّه نجس(1) .
وأمّا بیع المسوخ : فقد استدلوا علی بطلان بیعها بعدة من الوجوه :
منها : الإجماع منعقد علی عدم جواز بیعها ، إدعاه الشیخ فی الخلاف(6) والمبسوط(7) .
وفیه : أوّلاً : تحصیل الإجماع بل وجوده ممنوع ، نعم المشهور بین قدماء الأصحاب حرمة بیع المسوخ .
وثانیاً : یمکن أن یکون هذا الإجماع مدرکیّاً ، فلابدّ من ملاحظة غیره من الأدلة .
ومنها : المسوخ کلّها نجس ، وکلّ نجس لا یجوز بیعه ، فالمسوخ لا یجوز بیعها .
وفیه : أولاً : قد مرّ منّا طهارة المسوخ آنفاً ، وهذا منع الصغری .
ثانیاً : قد مرّ منّا أنّ النجاسة لیست مانعة مستقلة من البیع ، إذا کان للمبیع منفعة محلّلة عقلائیة ، وهذا منع الکبری .
ومنها : الإجماع من المسلمین علی حرمة أکل لحم المسوخ کما مرّ ، وورد فی النبوی المشهور : « إنّ اللّه إذا حرّم شیئاً حرّم ثمنه» ، فإذا حرّم اللّه أکل المسوخ حرّم ثمنها أیضاً ، فتدل علی بطلان معاملتها .
وفیه : أولاً : قد مرّ منّا فی أوّل الکتاب أنّ النبوی لم یرد فی مصادرنا الروائیة مسنداً ، فالروایة لیست إلاّ مرسلة عامیة ، فلا تصلح للدلیلیة .
وثانیاً : عدم وجود الملازمة بین حرمة أکلها وحرمة بیعها ، لا سیما إذا کان لها منافع محلّلة عقلائیة غیر الأکل .
هذا ، وقد وردت فی عدة من الروایات جواز الإنتفاع ببعض أجزاء المسوخ نحو : عظام الفیل والتمشط بها وجواز بیعها ، وهکذا وردت الانتفاع بجلود السباع مطلقاً وبعضها
ص:121
من المسوخ :
منها : خبر عبد الحمید بن سعید قال : سألت أبا إبراهیم علیه السلام عن عظام الفیل یحلّ بیعه أو شراؤه الذی یجعل منه الأمشاط ؟ فقال : لا بأس ، قد کان لأبی منه مشط أو أمشاط(1) .
ومنها : خبر موسی عن یزید قال : رأیت أبا الحسن علیه السلام یتمشّط بمشط عاج واشتریته له(2) .
ومثله : خبر موسی بن بکر(3) .
وهذه الروایات - مضافاً إلی دلالتها علی جواز الإنتفاع - تدل علی جواز البیع أیضاً .
ومنها : خبر الحسن بن عاصم قال : دخلت علی أبی إبراهیم علیه السلام وفی یده مشط عاج یتمشّط به ، فقلت له : جعلت فداک ، إنّ عندنا بالعراق من یزعم أنّه لا یحلّ التمشّط بالعاج ، فقال : ولم ؟ فقد کان لأبی منها مشط أو مشطان ، ثم قال : تمشّطوا بالعاج ، فإن العاج یذهب بالوباء(4) .
ومنها : روایة القاسم بن الولید قال : سألت أبا عبد اللّه علیه السلام عن عظام الفیل مداهنها وأمشاطها ؟ قال : لا بأس به(5) .
ومنها : روایة عبد اللّه بن سلیمان قال : سألت أبا جعفر علیه السلام عن العاج ؟ فقال : لا بأس به وإنّ لی منه لمشطاً(6) .
وقد وردت عدة من الروایات المعتبرة فی جواز الإنتفاع بجلود السباع وهی تشمل باطلاقها المسوخ من السباع ، فتدلّ علی جواز الإنتفاع بجلود المسوخ بإطلاقها :
ص:122
منها : صحیحة علی بن یقطین قال : سألت أبا الحسن علیه السلام عن لباس الفراء والسمور والفنک والثعالب وجمیع الجلود ؟ قال : لا بأس بذلک(1) .
ومنها : موثقة سماعة قال : سألته عن لحوم السباع وجلودها ؟ فقال : أمّا لحوم السباع فمن الطیر والدواب فإنّا نکرهه ، وأما الجلود فارکبوا علیها ولا تلبسوا منها شیئاً تصلّون فیه(2) .
لا یضر إضمار الروایة ، لأنّ مضمِرَه سماعة ، وأمّا الکراهة الواردة فی الروایة بالنسبة إلی اللحوم هی الحرمة لا الکراهة المصطلحة .
ومنها : موثقة اُخری لسماعة قال : سئل أبو عبد اللّه علیه السلام عن جلود السباع ؟ فقال : إرکبوها ولا تلبسوا شیئاً منها تصلّون فیه(3) .
ونظیرها موثقة ثالثة لسماعة فراجعها(4) .
ومنها : معتبرة علی بن جعفر عن أخیه علیه السلام قال : سألته عن رکوب جلود السباع ؟ فقال : لا بأس ما لم یُسجد علیها(5) .
ومنها : صحیحة علی بن جعفر عن أخیه علیه السلام قال : سألته عن جلود السباع وبیعها ورکوبها أیصلح ذلک ؟ قال : لا بأس ما لم یسجد علیها(6) .
من مجموع هذه الروایات ظهر جواز الإنتفاع بالمسوخ ، فإذا جاز الإنتفاع بها جاز بیعها علی القاعدة الکلیّة التی مرّت من الملازمة بین جواز الانتفاع وجواز البیع ، وعلی هذا لا بأس ببیع المسوخ کما علیه أکثر المتأخرین ، نحو : ثانی الشهیدین فی المسالک(7) وصاحب الریاض(8) وصاحب
ص:123
الجواهر(1)والفاضل النراقی فی مستند الشیعة(2) . مضافاً إلی دلالة الروایة الأخیرة علی جواز بیع جلود السباع ، وهی بإطلاقها تشمل المسوخ .
تتمة : قد ورد النهی عن بیع القردة فی روایة ، وهی من المسوخ ، فهل یمکن التعدی منها إلی غیرها من المسوخ أم لا ؟
أمّا الروایة فهی : خبر مسمع عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال : إنّ رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم نهی عن القرد أن یُشتری وأن یُباع .
والروایة ضعیفة سنداً ، محمولة علی صورة عدم الإنتفاع المعتدّ بالقرد أو المحرّم ، کالإطافة به للعلب کما هو الغالب فی تلک الأعصار ، أو محمولة علی الکراهة جمعاً بینها وبین الأدلة السابقة .
ثم فلیعلم أنّ للقردة منفعة عظیمة فی أعصارنا ، لأجل الفحوص الطبیّة وکشف الأمراض والأدویة المفید لها ، ولذا یجوز بیعها لأجل هذه المنافع . وحیث لا یمکن الأخذ بالروایة فی موردها فکیف یمکن التعدی منها إلی غیرها . من المسوخ ؟ !
فیجوز بیع المسوخ من القردة وغیرها واللّه سبحانه هو العالم والحمد للّه رب العالمین .
ص:124
بناءً علی أنّ النجاسة مانعة استقلالاً من جواز البیع نبحث عن هذه المسائل الأربع بعنوان المستثنیات من الأعیان النجسة أو المتنجسة ، وأمّا بناءً علی مختارنا من عدم کون النجاسة مانعة استقلالاً من جواز البیع ، فجواز بیع هذه الأربع علی القاعدة الأولیّة ولیس من المستثنیات ، فنقول .
أمّا المملوک الکافر فینقسم إلی ثلاثة أقسام :
یعنی الأمة أو العبد الکافران اللّذان لم یدخلا فی الإسلام ، وهذا القسم یجوز بیعه بلا خلاف ، وتدل علیه إطلاقات جواز بیع العبید :
منها : معتبرة عبد الرحمن بن أبی عبد اللّه قال : سألت أبا عبد اللّه علیه السلام عن رقیق أهل الذمة أشتری منهم شیئاً ؟ فقال : اشتر إذا أقرّوا لهم بالرق(1) .
ومنها : معتبرة إسماعیل بن الفضل قال : سألت أبا عبد اللّه علیه السلام عن شراء مملوک أهل الذمة ؟ قال : إذا أقرّوا لهم بذلک فاشتر وانکح(2) .
ومنها : صحیحة رفاعة النخاس قال : قلت لأبی الحسن علیه السلام : إنّ الروم یغزون علی الصقالبة والروم ، فیسرقون أولادهم من الجواری والغلمان ، فیعمدون إلی الغلمان فیخصونهم ثمّ یبعثون بهم إلی بغداد إلی التجّار ، فما تری فی شرائهم ونحن نعلم أنّهم قد سرقوا ، وإنّما أغاروا علیهم من غیر حرب کانت بینهم ؟ فقال : لا بأس بشرائهم ، إنّما أخرجوهم من الشرک إلی دار الإسلام(3) .
ص: 125
ومنها : صحیحة إبراهیم بن عبد الحمید عن أبی الحسن علیه السلام فی شراء الرومیات ، فقال : اشترهنّ وبعهنّ(1) .
هذه الروایات بإطلاقها تدل علی جواز بیع المملوک الکافر الأصلی .
یعنی العبد کان کافراً أوّلاً ثم دخل فی الإسلام ثم رجع إلی کفره ، فصار إرتداده إرتداداً ملیاً وحکمه : إن کان رجلاً یُستتاب ثلاثة أیام أو بمقدار یمکن معه الرجوع إلی الإسلام فإن تاب فهو وإلاّ قتل ، ولا تزول منه أملاکه مادام حیّاً ، ولکن ینفسخ العقد بینه وبین زوجته ویراعی انقضاء عدّتها ، فإن تاب فیها رجع إلیها .
وإن کان إمراة لم تقتل بل تحبس ویضیق علیها حتّی تتوب أو تخلد فی السجن .
ثم إذا کان العبد مرتداً ملّیاً فهل یجوز بیعه أم لا ؟ المشهور بین الأصحاب بل ادعی علیه الإجماع الجواز ، لأنّ العبد المرتد الملّی مال وله منافع محلّلة فیجوز بیعه ویشمله الإطلاقات الواردة فی الروایات الماضیة وغیرها من جواز بیع العبید والإماء .
یعنی العبد ولد علی الإسلام - بأن کان أبواه أو أحدهما مسلماً ثم دخل فی الکفر - وحکمه : إن کان رجلاً لا تقبل توبته ظاهراً وإن کانت تقبل بینه وبین اللّه تعالی ، فیحکم الحاکم الشرعی بقتله و تبین منه زوجته وتعتدّ منه عدّة الوفاة وتقسّم أمواله بین ورثته .
وإن کان إمرأة لم تقتل بل تحبس ویضیّق علیها حتّی تتوب أو تخلد فی السجن .
قد استشکل جواز بیع العبد الکافر المرتد الفطری بعض الأصحاب ، لأنّه فی معرض التلف لوجوب قتله .
وفیه : وجوب قتله بعد ثبوت الإرتداد عند الحاکم الشرعی وصدور الحکم منه علی قتله ، ویلزم أیضاً بسط ید الحاکم الشرعی حتی یجری حکمه ، وربّما یمکن عدم وجود الحاکم أو عدم بسط یده أو عدم ثبوت الإرتداد عنده أو فرار المرتد من الحکم والحاکم .
ص:126
وبالجملة ، یمکن بقاء المرتد الفطری عادةً وخارجاً فیجوز بیعه .
مضافاً إلی فرض إجراء الحکم علیه ، یمکن عتقه قبل إجراء الحکم کفارةً أو نذراً أو عهداً ونحوها ، فله المنفعة المحلّلة حتّی فی هذه الصورة فیجوز بیعه .
نعم ، فی هذا الفرض الأخیر صارت قیمته أقل ممّا کان سابقاً ، وقلّة القیمة لا تضرّ بصحة البیع .
ففی جمیع هذه الأقسام الثلاثة ، یجوز بیع العبد أو الأمة الکافرین .
فی زماننا هذا إذا باعوا امرأة أو رجلاً فی البلاد الاسلامیة أو بلاد الکفر هل یجوز شراؤهم وهل یحکم علیهم بأنّهم رقٌّ وعبیدٌ وأماء یعنی هل یحکم علیهم أحکام العبید والإماء أم لا ؟
الظاهر - واللّه سبحانه هو العالم - عدم ترتب أحکام العبید والإماء علیهم ، فلا یجوز النظر إذا کانت امرأة أو وطیها مثلاً ، لأنّ الوارد فی الروایات الماضیة أنّ ملاک الرقیة والعبودیة المصطلحة ، الإقرار من الناس وفی السوق وفی المجتمع بأنّهم رقیقٌ وعبیدٌ نحو : معتبرة عبد الرحمن بن أبی عبد اللّه عن أبی عبد اللّه علیه السلام أنّه قال : اشتر إذا أقرّوا لهم بالرق(1) .
ومعتبرة إسماعیل بن الفضل عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال : إذا أقرّوا لهم بذلک فاشتر وانکح(2) .
وخبر زکریا بن آدم عن الرضا علیه السلام قال : إذا أقرّوا لهم بالعبودیة فلا بأس بشرائهم ، الحدیث(3) .
والظاهر من هذه الروایات أنّ ملاک الرقیة الإقرار بها فی شأنهم فی السوق أو فی
ص:127
المجتمع الإنسانی أو عند الناس ، وهذا الإقرار فی شأن هؤلاء الأفراد فی زماننا هذا مفقود ، لأنه لا یتفوه أحدٌ بأنّهم رقیق أو عبید أو أماء ونحو ذلک ، فلا یحکم علیهم بأحکام العبید والإماء ، فإذا لم یحکم بأنّهم مملوکون فلا یجوز بیعهم وشراؤهم ، لأنه لا یجوز بیع الأحرار .
وبالجملة ، لا یجوز بیع وشراء هؤلاء رجالاً ونساءً ، کفاراً کانوا أو مسلمین ، ولا یترتب علیهم أحکام العبید والإماء الممالیک فی الشریعة المقدسة . واللّه سبحانه هو العالم .
قد مرّمنّا مفصلاً جواز بیع الکلاب المعلّمة ، سواءً کانت للصید أو الحائط أو الزرع أو الحرس أو الماشیة أو للشرطة أو للأمن أو غیرها . والمدار فی جواز بیع الکلب عندنا کونه معلّماً بحیث صار ذا منفعة محللّة عقلائیة . هذا بناءً علی المختار .
وأمّا بناءً علی أنّ النجاسة مانعة مستقلة للبیع ، فبیع الکلب یکون من المستثنیات ، وقد مرّ منّا أنّ النجاسة لیست مانعة مستقلة من جواز البیع . فراجع ما حررناه هناک .
هذه المسألة مبنیة علی أمرین :
1 - نجاسة العصیر العنبی اذا غلی ولم یذهب ثلثاه .
2 - عدم جواز بیع النجاسات وهی مانعة مستقلة من جواز البیع .
ویمکن المناقشة فی کلا الأمرین :
أمّا الأوّل : قد یقال : بطهارة العصیر العنبی إذا غلی ولم یذهب ثلثاه ، لعدم وجود دلیل علی نجاسته وأنّ الأصل فی الأشیاء هو الطهارة ، وما ورد من تشبیهه بالخمر فلیس من جهة النجاسة بل من جهة حرمة شربه ، فإذا ذهبنا إلی طهارته یخرج هذا الفرض من تحت المستثنیات .
وأمّا الثانی : فقد مرّ منّا مفصلاً بأن النجاسة لم تکن مانعة مستقلة من جواز البیع ، فلا نعید الکلام فیه .
قد یقال : بوجود روایات مانعة من صحة بیع العصیر العنبی أو غیره إذا غلی ، فیحکم
ص:128
ببطلان بیعه لهذه الروایات وإن کان مقتضی القاعدة الأوّلیة صحة البیع ولکن مع ورود هذه الروایات یحکم ببطلانه :
منها : خبر محمد بن الهیثم عن رجل عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال : سألته عن العصیر یطبخ بالنار حتّی یغلی من ساعته ، أیشربه صاحبه ؟ فقال : اذا تغیّر عن حاله وغلی فلا خیر فیه ، حتّی یذهب ثلثاه ویبقی ثلثه(1) .
بتقریب : جواز بیعه وأخذ الثمن فی قباله من جملة الخیر المنفی فی الروایة ، فلا یجوز بیعه .
وفیه : أولاً : الروایة مرسلة فلا یمکن الاعتماد علیها .
وثانیاً : ظاهر سؤال السائل فی جواز الشرب وعدمه ولا إطلاق فیه حتّی یشمل البیع ، فالبیع أجنبی عن هذه المرسلة .
ومنها : خبر أبی کهمس قال : سأل رجل أبا عبد اللّه علیه السلام عن العصیر ، فقال : لی کرم وأنا أعصره کلّ سنة واجعله فی الدنان وأبیعه قبل أن یغلی ، قال علیه السلام : لا بأس به ، وإن غلی فلا یحلّ بیعه .
ثم قال : هو ذا نحن نبیع تمرنا ممّن نعلم أنّه یصنعه خمراً(2) .
بتقریب : أن جملة « وإن غلی فلا یحلّ بیعه» نص فی بطلان بیع العصیر العنبی إذا غلی ، فلا یجوز بیعه بعد الغلیان .
وفیه : أولاً : الروایة ضعیفة السند بأبی کهمس ، وهو کنیة للهیثم بن عبد اللّه أو الهیثم بن عبید ، ولم یثبت وثاقتهما ویمکن اتحادهما .
وثانیاً : ظاهر جملة « وإن غلی فلا یحلّ بیعه » ، الغلیان من قبل نفس العصیر یعنی النشیش لا الغلیان بالنار ، ولا أقلّ من احتماله ، فإذا جاء الإحتمال بطل الإستدال .
وثالثاً : من جواب الإمام علیه السلام فی ذیل الروایة من بیع تمره ممّن یعلم أنّه یصنعه خمراً
ص:129
یظهر أنّ سؤال السائل عن جواز بیع عصیره ممّن یعلم أنّه یصنعه خمراً أو عدمه ، وأجازه الإمام علیه السلام بقوله فی ذیل الروایة : « هو ذا نحن نبیع تمرنا ممّن نعلم أنّه یصنعه خمراً » ، فلا إطلاق فی الروایة حتّی تشمل عدم جواز بیع العصیر العنبی بعد الغلیان .
ورابعاً : علی فرض وجود الإطلاق وشمولها لعدم جواز بیع العصیر بعد الغلیان ، تدلّ علی عدم جواز بیعه إذا باعه للشرب فی هذه الحالة ، ولکن إذا باعه لِمَنْ أراد أن یذهب ثلثاه ثم یشربه فلا بأس به .
ومنها : خبر أبی بصیر قال : سألت أبا عبد اللّه علیه السلام عن ثمن العصیر قبل أن یغلی لمن یبتاعه لیطبخه أو یجعله خمراً ؟ قال : إذا بعته قبل أن یکون خمراً وهو حلال فلا بأس(1) .
بتقریب : أن مفهوم هذه الروایة تدلّ علی عدم جواز بیع العصیر بعد حرمته بالغلیان ، لأنّ منطوقها جواز بیعه قبل أن یکون خمراً وهو حلال . فالروایة بمفهومها تدلّ علی بطلان بیع العصیر العنبی بعد الغلیان .
وفیه : أولاً : الروایة ضعیفة الإسناد بعلی بن أبی حمزة البطائنی الراوی عن یحیی بن القاسم أو أبی القاسم الأسدی المکفوف الثقة .
وثانیاً : سؤال السائل عن بیع العصیر قبل غلیانه لمن یجعله دبساً بالغلیان أو یجعله
خمراً ، ولعلّ العمدة فی السؤال هو الثانی ، یعنی بیع العصیر لمن یجعله خمراً وأجازه الإمام علیه السلام . وصار مفاد الروایة نحو مفاد خبر أبی کهمس الماضیة . فلا تدلّ علی حرمة بیع العصیر بعد الغلیان .
وثالثاً : الروایة بصدد بیان حکم المنطوق لا المفهوم ، فلا اطلاق لها والمتیقن منها فرض بیع العصیر العنبی لمن یجعله خمراً .
ومنها : خبر أبی بصیر قال : سمعت أبا عبد اللّه علیه السلام وسئل عن الطلا ، فقال : إن طبخ حتّی یذهب منه إثنان ویبقی واحد فهو حلال ، وما کان دون ذلک فلیس فیه خیر(2) .
ص:130
بتقریب : ما مرّ فی خبر محمد بن الهیثم من جواز بیعه وأخذ الثمن فی قباله وأنه من جملة الخیر المنفی فی الروایة ، فلا یجوز بیعه بعد الغلیان وقبل ذهاب ثلثیه .
وفیه : أولاً : الروایة ضعیفة السند بعلی بن أبی حمزة البطائنی .
وثانیاً : ظاهر السؤال عن جواز شربه لا بیعه ، ولا أقل من أنّ هذا محتمل ، و إذا جاء الإحتمال بطل الإستدال .
وثالثاً : لا إطلاق فی الروایة حتّی تشمل حرمة البیع بعد الغلیان .
وبالجملة ، هذه الروایات الأربع لا تدل علی بطلان بیع العصیر العنبی بعد غلیانه وقبل ذهاب ثلثیه ، فالبیع باق علی حلّیته ، فیجوز بیعه حینئذ کما علیه المشهور من أصحابنا رضوان اللّه تعالی علیهم أجمعین .
وبما ذکرنا ظهر ما فی بیان المحقق النائینی قدس سره حیث یقول : « والإنصاف ظهور الروایات الخاصة فی حرمة البیع ، فلو ثبت إعراض الأصحاب عنها فهو ، وإلاّ فالجواز مشکل ، وإعلامه بغلیانه لا یؤثر فی الجواز بعد ظهور الأخبار ، لا سیما الأوّلین فی حرمة بیعه فتأمل جیّداً »(1) .
مراده قدس سره بالأولیّن خبر أبی کهمس وخبر أبی بصیر الأوّل الماضیین ، ولعلّ أمره بالتأمل فی آخر کلامه إشارة إلی ما ذکرناه فی المتن .
إذا غصب العصیر العنبی ثم أغلاه ، هل یضمن ثلثیه أم لا ؟
الظاهر أن ضمان الغاصب منوط بالقیمة السوقیة للدبس مثلاً ، یعنی إذا کانت القیمة السوقیة للدبس أکثر أو مساویة مع العصیر فلا ضمان للغاصب ، لعدم تنزل مالیّة الشیء فی یده ، ولکن إذا کانت قیمته أقل کان الغاصب ضامناً بمقدار تقلیل القیمة .
ثم هل یجوز للغاصب أنّ یدعی أجرة مثل تبدیل العصیر بالدبس وأخذ الأجرة من المالک ؟
ص:131
الظاهر أنّه حیث عمل ذلک من غیر أمر المالک وإذنه فلا یجوز له أخذ الأجرة فی قباله وکان عمله هدراً .
وهذا الفرع سیال یأتی فی موارد متعددة ، مثلاً لو سرق شخص سیارةً واحتاجت إلی التعمیر وأعطی السارق أجرة تعمیرها ثمّ ردها إلی صاحبها ، فهل للسارق أن یأخذ من صاحب السیارة ما صرفه علی التعمیر أم لا ؟
الظاهر أنّه لا یجوز للسارق هذا الإدعاء والأخذ ولیس علی المالک إعطاء هذه المصارف ، لأنّه تصرف فی ماله بغیر إذنه ورضاه . نعم لوزاد السارق فی السیارة بالأعیان المستقلة یجوز له أخذها من السیارة ، لأنّ السارق مالک لهذه الأعیان المستقلة وله أن یسترد ما ملکه .
اُدعی الإجماع علی جواز بیع الدهن المتنجس ، ادعاه الشیخ فی الخلاف(1) وابن زهرة فی الغنیة(2) وابن إدریس فی السرائر(3) وصاحبا الجواهر(4) والمستند(5) .
ومن ذهب إلی أن النجاسة مانعة مستقلة من جواز البیع عنون هذا الفرض بنحو الاستثناء ، وأمّا علی المختار من عدم مانعیة النجاسة للبیع فیطرح ویعنون علی القاعدة الأوّلیة الکلیّة من صحة بیعه .
وکیف ما کان تدل علی جواز بیعه عدّة من الروایات المعتبرة :
منها : صحیحة معاویة بن وهب عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال : قلت : جرذ مات فی زیت أو سمن أو عسل ، فقال : أمّا السمن والعسل فیؤخذ الجرذ وما حوله ، والزیت یستصبح به(6) .
ص:132
یمکن المناقشة فی دلالة هذه الصحیحة علی جواز البیع ، وغایة ما یُستفاد منها جواز الإنتفاع من الزیت المتنجس ، إلاّ أن یقال : بجواز بیع کلّ ما یجوز الإنتفاع به کما هو المختار .
نعم ، فی نقل الشیخ للروایة توجد هذه الزیادة : وقال علیه السلام فی بیع ذلک الزیت : یبیعه ویبیّنه لِمَنْ اشتراه لیستصبح به(1) .
ومع وجود هذه الزیادة وإثباتها تدل الصحیحة علی جواز بیعه من دون احتیاج إلی القاعدة الملازمة بین جواز الإنتفاع وجواز البیع .
والظاهر أنه لابدّ من الأخذ بهذه الزیادة ، لأنّ الأصل عدم الزیادة وأنّها مِنْ متن الروایة ولیست بزیادة وإضافة من الراوی .
ومنها : صحیحة زرارة عن أبی جعفر علیه السلام قال : إذا وقعت الفأرة فی السمن فماتت فیه فإن کان جامداً فألقها ومایلیها ، وإن کان ذائباً فلا تأکله واستصبح به ، والزیت مثل ذلک(2) .
المناقشة فی هذه الصحیحة کالصحیحة الماضیة .
ومنها : صحیحة أبی بصیر قال : سألت أبا عبد اللّه علیه السلام عن الفأرة تقع فی السمن أو فی الزیت فتموت فیه ، فقال : إذا کان جامداً فتطرحها وما حولها ویؤکل ما بقی ، وإن کان ذائباً فأسرج به وأعلمهم إذا بعته(3) .
ومنها : موثقة معاویة بن وهب وغیره عن أبی عبد اللّه علیه السلام فی جرذ مات فی زیت ، ما تقول فی بیع ذلک ؟ فقال : بعه وبیّنه لمن اشتراه لیستصبح به(4) .
ومنها : صحیحة الحلبی قال : سألت أبا عبد اللّه علیه السلام عن الفأرة والدابة تقع فی الطعام والشراب فتموت فیه ، فقال : إن کان سمناً أو عسلاً أو زیتاً فإنّه ربّما یکون بعض هذا ، فإن کان
الشتاء فانزع ما حوله وکله ، وإن کان الصیف فارفعه حتّی تسرّج به ، وإن کان ثرداً فاطرح
ص:133
الذی کان علیه ، ولا تترک طعامک من أجل دابة ماتت علیه(1) .
والمناقشة فی دلالة هذه الصحیحة علی جواز البیع کالمناقشة فی الصحیحتین الأوّلیین الماضیتین .
ومنها : صحیحة سعید الأعرج عن أبی عبد اللّه علیه السلام - فی حدیث - أنّه سأله عن الفأرة تموت فی السمن والعسل ، فقال : قال علی علیه السلام : خذ ما حولها وکل بقیّته ، وعن الفأرة تموت فی الزیت ، فقال : لا تأکله ، ولکن أسرج به(2) .
وهذه الصحیحة أیضاً لا تدل علی جواز البیع إلاّ علی القاعدة الملازمة بین الإنتفاع والبیع . ومنها : موثقة سماعة قال : سألته عن السمن تقع فیه المیتة ؟ فقال : إن کان جامداً فألق ما حوله وکل الباقی ، فقلت : الزیت ؟ فقال : أسرج به(3) .
وهذه الموثقة أیضاً کالروایة الماضیة .
ومنها : خبر إسماعیل بن عبدالخالق عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال : سأله سعید الأعرج السمان وأنا حاضر عن الزیت والسمن والعسل تقع فیه الفأرة فتموت کیف یصنع به ؟ قال : أمّا الزیت فلا تبعه إلاّ لمن تبیّن له فیبتاع للسراج ، وأمّا الأکل فلا ، وأمّا السمن فإن کان ذائباً فهو کذلک ، وإن کان جامداً والفأرة علی أعلاه فیؤخذ ما تحتها وما حولها ثم لا بأس به ، والعسل کذلک إن کان جامداً(4) .
وبالجملة ، هذه الروایات تدل علی جواز بیع الدهن المتنجس إمّا بصراحتها وإمّا مع ضم القاعدة الملازمة بین جواز الانتفاع وجواز البیع ، وإلی هنا ثبت جواز بیعه .
وأمّا ما ورد فی بعض الروایات من النهی عن بیع الدهن المتنجس فلابدّ من ملاحظتها : منها : خبر ابن إدریس نقلاً من جامع البزنطی صاحب الرضا علیه السلام قال : سألته عن الرجل تکون له الغنم یقطع من إلیاتها وهی أحیاء أیصلح له أن ینتفع بما قطع ؟ قال : نعم یذیبها
ص:134
ویسرج بها ولا یأکلها ولا یبیعها(5) .
بتقریب : أن المذاب من إلیات الغنم صارت کالزیت أو السمن أو الدهن ، وورد فی الروایة جواز الإنتفاع بها فی الإسراج ولکن ورد فی ذیلها النهی عن بیعها ، وجملة « لا یبیعها » تدلّ بطلان البیع .
وفیه : أولاً : الروایة ضعیفة الإسناد بل مرسلة ، لأنّ ابن إدریس لم یذکر سنده إلی جامع البزنطی .
وثانیاً : النهی الوارد فی الروایة بمعنی عدم بیعها للأکل ، وأمّا إذا جاز الإستصباح بها فلم لا یجوز بیعها لهذه المنفعة ؟ لا سیما مع ورود الروایات المجوِّزة .
ومنها : خبر علی بن جعفر المروی فی قرب الإسناد عن أخیه موسی بن جعفر علیه السلام قال : سألته عن حُبّ دهن ماتت فیه فأرة ؟ قال : لا تدهن به ولا تبعه من مسلم(1) .
بتقریب : أن جملة « لا تبعه من مسلم » تدلّ علی عدم جواز بیعه من المسلم سواءً کان للإستصباح أو غیره .
وفیه : أولاً : الروایة ضعیفة الإسناد .
وثانیاً : النهی الوارد عن بیعه من المسلم یمکن حمله علی البیع للأکل أو البیع من دون الإعلام بالنجاسة ونحوها .
ومنها : خبر الجعفریات بإسناده عن الصادق علیه السلام عن أبیه علیه السلام : أنّ علیّاً علیه السلام قال : فی الخنفساء والعقرب والصرد إذا مات فی الإدام ، فلا بأس بأکله ، قال : وإن کان شیئاً مات فی الإدام وفیه الدم فی العسل أو فی الزیت أو فی السمن وکان جامداً ، جُنّبت ما فوقه وما تحته ثم یُؤکل بقیّته ، وإن کان ذائباً فلا یؤکل ، یُستسرج به ولا یباع(2) .
بتقریب : أن جملة « لا یباع» فی آخر الروایة تدلّ علی بطلان بیع الدهن المتنجس .
وفیه : أولاً : الروایة ضعیفة الإسناد .
ص:135
وثانیاً : الظاهر من « لا یباع» یعنی لا یباع للأکل بقرینة « فلا یؤکل» الواردة قبلها .
وثالثاً : ورد الحکم بالجواز فی روایة فی نفس الکتاب والصفحة وهی : خبر الجعفریات بنفس الإسناد عن علی علیه السلام سئل عن الزیت یقع فیه شیءٌ له دم فیموت ، قال :
الزیت - خاصةً - یبیعه لمن یعمله صابوناً(1) .
والحکم بجواز البیع لمن یعمل صابوناً ، یدلّ علی جواز بیعه لمن یمکن أن ینتفع به منفعة محلّلة .
وبالجملة ، هذه الروایات مع ضعف سندها ودلالتها وإعراض المشهور قدیماً وحدیثاً عنها لا تتعارض مع الروایات الماضیة الحاکمة بالجواز ، فهذه الروایات تطرح وتؤخذ بالروایات المجوِّزة .
إن قلت : لا یمکن طرح هذه الروایات و لابدّ من الأخذ بها ، فصارت متعارضة مع الروایات المجوِّزة .
قلت : علی فرض تحقق المعارضة تقدّم الطائفة المجوِّزة ، لأنّها موافقة لإطلاق الکتاب من جواز البیع وصحته ولزوم الوفاء بالعقود والبیوع والعهود ، مع ذهاب المشهور إلیها وحکمهم بالجواز والأمر الوارد بأخذ المشهور کما ورد فی مقبولة عمر بن حنظلة : « المجمع علیه عند أصحابک فیؤخذ به من حکمنا ویترک الشاذ الذی لیس بمشهور عند أصحابک فإنّ المجمع علیه لا ریب فیه ... »(2) .
هل صحة بیع الدهن المتنجس مشروط باشتراط الإستصباح بها فی المعاملة أم لا یعتبر هذا الإشتراط ؟
ص:136
ذهب إلی اعتبار الإشتراط ابن ادریس الحلی فی سرائره(1) ودلیله ظاهر بعض الروایات الواردة فی المقام .
منها : صحیحة معاویة بن وهب وموثقته وصحیحة زرارة وصحیحة أبیبصیر وصحیحة الحلبی وصحیحة سعید الأعرج وموثقة سماعة وخبر إسماعیل بن عبد الخالق الماضیات .
یعنی ورد فی الروایات المرویة فی جواز بیع الدهن المتنجس ذکر الإستصباح أو الإسراج ، وظاهرها إعتبار إشتراطها .
وفیه : ورود الإسراج أو الإستصباح فی الروایات المجوِّزة لبیع الدهن المتنجس لم یثبت اشتراطها فی صحة البیع ، بل هی دالة علی وجود منفعة محلّلة فیها ، فیجوز البیع لذلک . أو لزوم إعلام نجاستها من بائعها لئلا یأکلها المشتری ، فلا تدلّ علی هذا الإشتراط کما ذهب إلیه کثیر من الأصحاب قدس سرهم .
هل یجب إعلام المشتری بنجاسة الدهن أم لا ؟ وهل یجب مطلقاً أم لا ؟ وهل هذا الوجوب نفسیٌّ أو شرطیٌّ ؟ بمعنی اعتبار إشتراطه فی صحة البیع ، وجوه :
والمهم ملاحظة الروایات الواردة فی المقام التی ورد فیها ذکر الإعلام :
منها : موثقة معاویة بن وهب وغیره عن أبی عبد اللّه علیه السلام فقال علیه السلام : بعه وبیّنه لمن اشتراه لیستصبح به(2) .
ومنها : صحیحة أبی بصیر عن أبی عبد اللّه علیه السلام أنّه قال فی حدیث : ... وإن کان ذائباً فأسرج به وأعلمهم إذا بعته(3) .
ومنها : خبر إسماعیل بن عبد الخالق عن أبی عبد اللّه علیه السلام : ... قال علیه السلام : أما الزیت فلا
ص:137
تبعه إلاّ لمن تبیّن له فیبتاع للسراج ، الحدیث(1) .
وظاهر هذه الروایات وجوب الإعلام علی البائع للمشتری بنحو الوجوب النفسی لئلا یقع المشتری فی الحرام بأکلها أو نحوها .
وقد مرّ منّا التفصیل فی الإعلام بین ما یُستعمل عادةً فی الأکل والشرب بلزوم الإعلام فیها ، وبین ما یُستعمل عادةً فی الصلاة ونحوها من الأثواب والأفراش بعدم لزوم الإعلام فیها ، فراجع ما حررناه هناک .
ثم تعرض الشیخ الأعظم قدس سره لقاعدة حرمة تغریر الجاهل ونحن نقتفی أثره ، فقال قدس سره :
« ویشیر إلی هذه القاعدة کثیر من الأخبار المتفرقة الدالة علی حرمة تغریر الجاهل بالحکم أو الموضوع فی المحرّمات »(2) .
أقول : یُستفاد من مذاق الشارع حرمة إلقاء الغیر فی الحرام الواقعی مضافاً إلی دلالة الروایات فی الأبواب المختلفة علی ذلک :
منها : ما دل علی حرمة الإفتاء بغیر علم ، فإنّها ربّما توجب التغریر والتسبیب وإلقاء المسلم فی الحرام الواقعی ، نحو صحیحة أبی عبیدة الحذاء قال : قال أبو جعفر علیه السلام : من أفتی الناس بغیر علم ولا هدی من اللّه لعنته ملائکة الرحمة وملائکة العذاب ولحقه وزر من عمل بفتیاه(3) .
ومنها : ما دل علی ثبوت أوزار المأمومین علی الإمام فی صلاة الجماعة فی تقصیر نشأ من الإمام ، نحو : خبر عبایه . قال کتب أمیر المؤمنین علیه السلام الی محمد بن أبی بکر : ... أنظر یا محمد صلاتک کیف تصلّیها ، فإنّما أنت إمامٌ ینبغی لک أن تتّمها [ وأن تحفظها بالأرکان ولا تخفّفها] وأن تصلّیها لوقتها فإنّه لیس من إمام یصلّی بقوم فیکون فی صلاتهم نقص إلاّ کان
ص:138
إثم ذلک علیه ولا ینقص ذلک من صلاتهم شیئاً ، الحدیث(1) .
وابن شعبة الحرّانی نقل هذه الروایة هکذا : « ... ثم انظر صلاتک کیف هی ، فإنّک إمامٌ ، لیس من إمام یصلّی بقوم فیکون فی صلاتهم إلاّ کان علیه أوزارهم ولا ینتقص من صلاتهم شیء ، ولا یتمّها إلاّ کان له مثل أجورهم ولا ینتقص من أجورهم شیءٌ »(2) .
ومنها : ما دل علی ضمان الإمام صلاة المأمومین إذا صلی بهم جنباً أوعلی غیر طهر ، نحو صحیحة معاویة بن وهب قال : قلت لأبی عبد اللّه علیه السلام : أیضمن الإمام صلاة الفریضة ، فإنّ هولاء یزعمون أنّه یضمن ؟ فقال : لا یضمن أیّ شیء یُضمن ، إلاّ أن یصلی بهم جنباً أو علی غیر طهر(3) .
أقول : معنی الضمان هنا ، لزوم إعادة الصلاة علی الإمام دون المأمومین ، وتدلّ علیه
صحیحة محمد بن مسلم عن أبی جعفر علیه السلام قال : سألته عن الرجل یؤمّ القوم وهو علی غیر طهر فلا یعلم حتّی تنقضی صلاتهم ؟ قال : یعید ، ولا یعید من صلّی خلفه وإن أعلمهم أنّه علی غیر طهر(4) .
ونظیرها صحیحة اُخری لمحمد بن مسلم(5) وصحیحة زرارة(6) وموثقة عبد اللّه بن أبی یعفور(7) المرویات فی نفس الباب .
نعم ورد فی روایاتنا ضمان الإمام بالنسبة إلی القراءة فقط ، نحو :
موثقة سماعة عن أبی عبد اللّه علیه السلام : أنّه سأله رجل عن القراءة خلف الإمام ؟ فقال : لا ،
ص:139
إنّ الإمام ضامن للقراءة ، ولیس یضمن الإمام صلاة الذین خلفه ، إنّما یضمن القراءة(1) .
أقول : معنی ضمان الإمام للقراءة أنه لا یجوز للمأموم أن یقرأ خلف الإمام .
والإنصاف أنّ دلالة هذا القسم الأخیر من الروایات علی قاعدة حرمة تغریر الجاهل محل تأمل بل منع .
ومنها : الروایات الواردة فی کراهیة إطعام الأطعمة والأشربة المحرمة للبهیمة نحو
موثقة غیاث عن أبی عبد اللّه علیه السلام : أنّ أمیر المؤمنین علیه السلام کره أن تُسقی الدواب الخمر(2) .
وخبر أبی بصیر عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال : سألته عن البهیمة البقرة وغیرها تسقی أو تطعم مالا یحلّ للمسلم أکله أو شربه ، أیکره ذلک ؟ قال : نعم یکره ذلک(3) .
وغایة ما یُستفاد من هذه الروایات الکراهة المغلّظة بالنسبة إلی سقی أو إطعام الإنسان المکلّف لا الحرمة التی استشعرها الشیخ الأعظم قدس سره (4) .
ومنها : ما دلّ علی حرمة سقی الخمر للصبی أو المملوک أو الکافر وأنّ علی الساقی وزر من شربها ، نحو خبر أبی ربیع الشامی عن أبی عبد اللّه علیه السلام عن رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم فی حدیث :
أقسم ربّی لا یشرب عبد لی خمراً فی الدنیا إلاّ سقیته مثل ما یشرب منها من الحمیم معذَّباً أو مغفوراً له ، ولا یسقیها عبد لی صبیّاً أو مملوکاً إلاّ سقیته مثل ما سقاه من الحمیم یوم القیامة معذّباً بعدُ أو مغفوراً له(5) .
ومعتبرة عجلان أبی صالح قال : سمعت أبا عبد اللّه علیه السلام یقول : یقول اللّه عز وجل : من شرب مسکراً أو سقاه صبیّاً لا یعقل ، سقیته من ماء الحمیم مغفوراً له أو معذَّباً ، من ترک المسکر ابتغاء مرضاتی أدخلته الجنة وسقیته من الرحیق المختوم وفعلت به من الکرامة ما
ص:140
فعلت بأولیائی(1) .
وعن عقاب الأعمال بسنده إلی رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم فی حدیث قال : ومن شرب الخمر سقاه اللّه من سمّ الأفاعی ومن سمّ العقارب - إلی أن قال - : ومن سقاها یهودیّاً أو نصرانیاً أو صابئاً أو من کان من الناس فعلیه کوزر من شربها(2) .
ویظهر من هذه الروایات عدم رضی الشارع المقدس بشرب الخمر حتّی بالنسبة إلی الصبی أو الکفار نحو الیهود والنصاری ، ومن سقاهم من المسلمین علیه کوزر من شربها .
ومنها : ما دل علی إهراق المایعات المتنجسة نحو موثقة سماعة قال : سألت أبا عبد اللّه علیه السلام عن رجل معه إناء ان فیهما ماء ، وقع فی أحدهما قذر لا یدری أیّهما هو ، ولیس یقدر علی ماء غیره ؟ قال : یهریقهما جمیعاً ویتیمّم(3) .
وموثقة عمار الساباطی عن أبی عبد اللّه علیه السلام فی حدیث - قال : سئل عن رجل معه إناءان فیهما ماء ، وقع فی أحدهما قذر لا یدری أیّهما هو [ وحضرت الصلاة [ولیس یقدر علی ماءٍ غیرهما ؟ قال : یهریقهما جمیعاً ویتیمّم(4) .
بتقریب : أن الأمر بالإهراق یدلّ علی عدم جواز إعطاء هذا الماء المشتبه للمسلم حتّی یشربه أو یوضیء منه .
ومنها : ما دل علی حرمة بیع المختلط إلاّ ممّن یستحلّ بالمیتة ، نحو :
صحیحة الحلبی قال : سمعت أبا عبد اللّه علیه السلام یقول : إذا اختلط الذکی والمیتة باعه ممّن یستحلّ المیتة وأکل ثمنه(5) .
وصحیحة أخری له عن أبی عبد اللّه علیه السلام أنّه سئل عن رجل کان له غنم وبقرو کان یدرک الذکی منها فیعزله ویعزل المیتة ، ثم إنّ المیتة والذکی اختلط کیف یصنع به ؟ قال : یبیعه
ص:141
ممّن یستحلّ المیتة ویأکل ثمنه فإنّه لا بأس(1) .
وقد مرّ منّا البحث حول بیع المختلط وجوازه ، فراجع ما حررناه هناک .
ومنها : ما ورد فی العجین بالماء المتنجس ، نحو :
صحیحة حفص بن البختری عن أبی عبد اللّه علیه السلام فی العجین من الماء النجس کیف یصنع به ؟ قال : یباع ممّن یستحلّ المیتة(2) .
وفی روایة ابن أبی عمیر عن بعض أصحابه عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال : یدفن ولا یباع(3) .
ومنها : ما ورد فی إهراق المرق المتنجس ، نحو :
خبر زکریا بن آدم قال : سألت أبا الحسن علیه السلام عن قطرة خمر أو نبیذ مسکر قطرت فی قدر فیه لحم کثیر ومرق کثیر ، قال : یهراق المرق أو یطعمه أهل الذمة أو الکلب ، واللحم اغسله وکله . إلی أن قال : قلت : فخمر أو نبیذ قطر فی عجین أو دم ؟ قال : فقال : فسد ، قلت : أبیعه من الیهود والنصاری واُبیّن لهم ؟ قال : نعم ، فإنّهم یستحلّون شربه ، الحدیث(4) .
وبالجملة ، یُستفاد من هذه الأخبار الکثیرة فی مواضع مختلفة حرمة تغریر الجاهل بالحکم أو بالموضوع فی المحرمات فی موارد ، وأنّ العالم بحرمة شیءٍ کما یحرم علیه أکله وشربه مباشرةً کذلک یحرم علیه تسبیبه لأکل المسلم وشربه وإن کان الغیر جاهلاً .
ثمّ بعد تمامیة أصل هذه القاعدة - أعنی حرمة تغریر الجاهل - تعرض الشیخ
الأعظم(5) قدس سره إلی تقسیم لا یرجع إلی محصَّل ، مضافاً إلی تخلیطه قدس سره بین المصطلحات العلمیة ،
ص:142
ولذا أغمضنا عن تقسیمه ونتعرض لتقسیم صحیح آخر ، وهو :
تغریر الجاهل بأقسامه من التسبیب والإغراء وإیجاد الداعی والسکوت فی قبال الفاعل المباشر وجهله ، ینقسم إلی قسمین رئیسیین :
الف : جهل الجاهل تارة یکون بالنسبة إلی الحکم الکلّی الإلهی ، ولا ریب فی وجوب إعلام الجاهل بها ، لوجوب تبلیغ الأحکام الشرعیة علی الناس جیلاً بعد جیل إلی یوم القیامة ، کما تدلّ علیه آیة النفر والروایات الواردة فی لزوم تعلیم الأحکام الشرعیة وتعلّمه وبذل العلم .
ب : وتارة جهل الجاهل یکون بالنسبة إلی الموضوعات الخارجیة لا الحکم الکلّی الإلهی ، یعنی یکون جهله بالنسبة إلی الأحکام الجزئیة المترتبة علی الموضوعات الشخصیّة ، وهذا ینقسم إلی ثلاثة أقسام :
القسم الأوّل : تارة هذا الموضوع بحیث لا یرضی الشارع بترکه وإهماله ولزم فیه الإحتیاط - یعنی یکون الموضوع من الأمور المهمّة عنده نحو الدماء والفروج والأموال - وتغریر الجاهل وعدم إعلام الموضوع فی هذا المورد من المحرّمات الشرعیة ، لأنّ الشارع لا یرضی بترک هذه الموارد ، أو الإتیان بها خطاءً .
القسم الثانی : تارة یکون الموضوع من غیر الموارد المهمّة عند الشارع ، وهذا بحسب الحکم یختلف ، فمثلاً تارة نعلم من الشارع بعدم جواز ذلک ، نحو : تقدیم طعام النجس أو الحرام أو الخمر أو الفقاع إلی من لا یعلم ، فهذا حرام أیضاً ، لأنّ الفهم العرفی من خطابات هذه المحرمات عدم الفرق بین الإتیان بها مباشرة أو بتسبیب الغیر جهلاً کان أو إکراهاً .
القسم الثالث : تارة یکون الموضوع من غیر الموارد المهمّة ونعلم من الشارع جواز ذلک وعدم لزوم الإعلام ، نحو : الطهارة والنجاسة فی الأثواب والألبسة ، لأننا نعلم من الخارج أنّ الطهارة والنجاسة بالنسبة إلی الصلوات شرطٌ علمیٌّ لا شرطٌ واقعیٌّ ، فلا بأس بعدم لزوم الإعلام فی هذه الموارد الأخیرة وإبقاء الجاهل علی جهله .
فهذه أربعة أقسام نذهب إلی حرمة تغریر الجاهل فی ثلاثة منها ویبقی واحد منها - وهو القسم الأخیر - علی عدم لزوم الإعلام فیه .
ص: 143
المشهور بین قدماء أصحابنا عدم جواز الإستصباح بالدهن المتنجس تحت الظلال ، ولکن الروایات الواردة فی المقام ساکتة عن هذا التقیید . نعم قال الشیخ فی مبسوطه : « رووا أصحابنا أنّه یُستصبح به تحت السماء دون السقف »(1) .
مع أنّ الشیخ بنفسه ترک هذا الخبر فی کتابیه « التهذیب والإستبصار » المعدّان لنقل الروایات ، والظاهر أن مراد الشیخ من الروایة هنا لیست الروایة المصطلحة بل مراده قدس سره المستند إلی الروایة ، یعنی فتوی الأصحاب . وقد عرفت أنّ المشهور من القدماء ذهبوا إلی عدم جواز الإستصباح به تحت الظلال ، واستدلوا علیه بعدّة من الوجوه :
منها : الإجماع المدعی فی بعض الکلمات .
وفیه : أولاً : وجود الإجماع هنا ممنوع مع ذهاب بعض الأصحاب إلی خلافه .
وثانیاً : الإجماع هنا علی فرض وجوده لم یکن تعبدیّاً ، بل هو مدرکی لاحتمال إستناده إلی الوجوه الآتیة فی المسألة .
ومنها : الشهرة الفتوائیة .
وفیه : هذه وإن کانت محقّقة ولکنّها لیست بحجة هنا ، لاحتمال کون مستند المشهور أحد الوجوه المذکورة .
ومنها : مرسلة الشیخ المرویة فی المبسوط المذکورة آنفاً .
وفیه : أولاً : منعنا کونها روایة .
وثانیاً : علی فرض کونها روایة هی مرسلة ومضمرة ، فلیست بحجة .
وثالثاً : الراوی لهذه المرسلة - أعنی الشیخ - لم یأخذ بها وذهب إلی کراهة الإستصباح به تحت الظلال ، فراجع أطعمة المبسوط(2) حتّی تعرف ما قلنا .
وبالجملة ، لا یمکن الأخذ بهذه المرسلة .
ص:144
ومنها : الإستصباح به یوجب تنجیس السقف لتصاعد بعض الأجزاء الدهنیة قبل إحالة النار أیّاها إلی أن تلاقی السقف فهو حرام .
وفیه : أولاً : لا دلیل علی حرمة تنجیس السقف . نعم لا یجوز تنجیسه فی المساجد
والمشاهد وأمّا فی غیرها فلا دلیل علی حرمة تنجیسه .
وثانیاً : دخان النجس لیس بنجس للإستحالة کرماده .
وثالثاً : مجرد احتمال صعود الأجزاء الدهنیة إلی السقف قبل الإستحالة ، حیث کان مجرد إحتمال محض ، لا یمنع عن الإستصباح به تحت الظلال ، لکونه مشکوکاً من أصله .
رابعاً : ربّما لا یؤثر الدخان فی السقف إمّا لإرتفاعه أو لخروجه من الأطراف أو لقلة زمان الإسراج أو لعدم وجود الدخان فیه . وبالجملة هذا الدلیل أخص من المدعی .
والحاصل : حیث أن مستند المشهور لم یتم ، والروایات خالیة عن هذا التقیید بل تدلّ علی جواز الإستصباح به مطلقاً - سواء کان تحت الظلال أو تحت السماء - لابدّ من القول بجواز الإستصباح به تحت الظلال .
وممّا ذکرنا أیضاً ظهر حکم الدخان النجس من أنّه طاهر ، ولا یوجب تنجیس شیءٍ . واللّه سبحانه هو العالم .
القاعدة الأوّلیة تقتضی جواز الإنتفاع بالدهن المتنجس فی الإستصباح وغیره ، وعدّة من الروایات الواردة فی المقام أیضاً یؤیدها :
منها : خبر قرب الاسناد بإسناده عن علی بن جعفر عن أخیه موسی بن جعفر علیه السلام قال : وسألته عن فأرة أو کلب شربا من زیت أو سمن ، قال : إن کان جرّة أو نحوها فلا تأکله ولکن ینتفع به لسراج أو نحوه ، الحدیث(1) .
ویمکن تصحیح السند بأنّ علی بن جعفر رواها فی کتابه(2) کما قاله الشیخ الحر فی
ص:145
الوسائل(1) ، وله سند معتبر إلی کتاب علی بن جعفر .
ودلالتها واضحة فإنّ الإمام علیه السلام أمر بالإنتفاع به لسراج أو نحوه ، وإطلاق « نحوه » یشمل جمیع الإنتفاعات ، والأمر بالنسبة إلی الفأرة علی التنزه والاستحباب ، بقرینة غیرها من الروایات فی عدم تنجس الجرّة بالفأرة إذا شربت منها وخرجت حیّةً ، کما مرّ بعضها .
ومنها : خبر الجعفریات بإسناده عن الصادق علیه السلام عن أبیه علیه السلام عن علی علیه السلام أنّه سئل
عن الزیت یقع فیه شیء له دم فیموت ، قال : الزیت - خاصةً - یبیعه لمن یعمله صابوناً(2) .
ومنها : خبر النوادر بإسناده عن الصادق علیه السلام عن أبیه علیه السلام أنّ علیاً علیه السلام سئل عن الزیت یقع فیه شیء له دم فیموت ، فقال : یبیعه لمن یعمله صابوناً(3) .
ومنها : خبر الدعائم رفعه عن أبی جعفر علیه السلام أنّه سئل عن فأرة وقعت فی سمن ، قال : إن کان جامداً ألقاها وما حولها وأکل الباقی ، وإن کان مائعاً فسد کله یُستصبح به .
وسئل أمیر المؤمنین علیه السلام عن الدواب تقع فی السمن والعسل واللبن والزیت فتموت فیه ، قال : إن کان ذائباً أریق اللبن واستسرج بالزیت والسمن - إلی أن قال - وقال علیه السلام : فی الزیت : یعمله صابوناً إن شاء(4) .
وهذه الروایات وإن کان أکثرها ضعافاً إلاّ أن الأصل أیضاً یقتضی جواز الإنتفاع به فی کلّ مورد یمکن الإنتفاع به ، وأمّا المذکور فی الروایات المتعددة بالإسراج أو الإستصباح - بأن ینتفعوا بالدهن أو الزیت المتنجس فیه - فلیس إلاّ بعنوان المثال أو انحصار الانتفاع به فی تلک الأعصار فیه فقط أو أنّه الفرد الغالب والظاهر للانتفاع . فلا تقید الروایات الواردة فی جواز بیعه فی هذا الإستعمال والإنتفاع .
وبالجملة ، یجوز الإنتفاع بالدهن المتنجس فی غیر الإستصباح لما مرّ .
ص:146
قد مرّ الکلام فیما سبق من الکتاب جواز بیع المتنجسات ، فإذا جاز بیعها جاز الإنتفاع بها بطریق أولی . وهکذا ظهر الأمر بالنسبة إلی الأعیان النجسة من جواز بیعها إلاّ ما خرج بالدلیل المعتبر وورد النهی من بیعه ، نحو : المیتة والخنزیر والکلب غیر المعلّم ونحوها علی ما سبق ، فکما یجوز بیع بعض الأعیان النجسة فکذلک یجوز الإنتفاع بها .
وأمّا الأعیان النجسة اللآتی لا یجوز بیعها نحو : المیتة والخنزیر والکلب غیر المعلّم ، فیجوز الإنتفاع بها ، لعدم ثبوت ردع معتبر شرعی عن الإنتفاع بها ، وجریان البراءة الشرعیة والعقلیة فی المقام .
وبالجملة ، یجوز الإنتفاع بالأعیان النجسة مطلقاً سواءً جاز بیعها أم لم یجز ، وکذلک
یجوز الإنتفاع بالمتنجسات .
إذا حاز شخص شیئاً مباحاً أو سبق إلی مکان مشترک کالمساجد والمشاهد والمدارس ، أو سقط ملکه عن المالیة کحیوان له مات أو عنب له صار خمراً أو الماء علی الشط أو الأراضی المملوکة إذا جعلها الجائر بین الناس شرّعاً سواءً کالطرق والشوارع المغصوبة ونحوها ، ثبت للحائز أو السابق أو المالک حقٌ بالنسبة إلی الشیء المباح أو المکان المشترک أو المال أو الملک ویُسمی هذابحقِّ الإختصاص ، یجوز له أخذ المال وانتقال حقّه إلی الباذل ، أو أخذ المال ورفع یده عن المشترکات أو ملکه .
ومن الواضح أنّ بین المال والملک عموم من وجه ، نحو : حبة من الحنطة ملک لمالکها ولا تعدّ مالاً ، ومثلها الماء علی الشط إذ لایبذل بإزائه المال .
وأشجار الغابات ونحوها أموال ولیست ملکاً لشخص معین من الناس .
ودار زید أو أرض له کانت ملکاً له ومالاً .
ثم لا یبعد أن یُدعی بأنّ أقوی دلیل علی وجود حقّ الإختصاص وثبوته السیرة القطعیة الشرعیة والعقلیة علی ذلک ، والمتشرعة فی جمیع الأعصار والأمصار وجیل بعد جیل ذهبوا إلی اعتباره ویأخذون المال فی قباله ویعطون المال بإزائه .
ص:147
ونفس هذه السیرة القطعیة المتصلة من زماننا هذا إلی زمن المعصومین علیهم السلام التی تستلزم تقریرهم علیهم السلام توجب ثبوت هذا الحقّ واعتباره عند الشارع المقدس وجواز معاوضة هذا الحقّ فی قبال المال .
وهذا سرّ تلقی أصحابنا قدس سرهم هذا الحقّ بالقبول .
ولعله إلی هذا الإستدلال أشار صاحب مهذب الأحکام حیث یقول مستدلاً علی ثبوت حق الإختصاص : « لظهور الإجماع علیه ولاعتبار العرف والعقلاء هذا الحقّ ولم یردع عنه الشارع »(1) .
واعترف بهذه السیرة بعض المعاصرین قدس سره فی تعلیقته علی المکاسب فقال : « ... وکیف کان بعد السیرة وحدیث السبق لا حاجة فی إثبات المطلب إلی إتعاب النفس والتکلّف فی
إثباته (أی إثبات حقّ الإختصاص) بأمر آخر ... »(2) .
إن قلت : ثبوت السیرة فعلاً محرز ولکن إتصالها من زماننا هذا إلی زمن المعصومین علیهم السلام دون إثباته خرط القتاد .
قلت : إتصال السیرة یحرز إلی زمن المعصومین علیهم السلام لمن تأمل فی الروایات الواردة فی هذا المبحث ، نحو ما دلّ علی ثبوت الملکیة بالحیازة وجعل الید ، وما دلّ علی السبق إلی مکان من المسجد والمشهد والسوق بأنّه أحق من غیره ، فإذا کان هو أحق من غیره فیجوز له أن یأخذ المال فی قبال هذا الحقّ وانتقال حقّه إلی غیره .
وبالجملة ، هذه الروایات أقوی شاهد علی اتصال هذه السیرة إلی زمن المعصومین علیهم السلام .
بل ربّما یمکن أن یقال : بإثبات حق الإختصاص بنفس هذه الروایات من دون ضم السیرة کما یأتی منّا البحث حول ذلک إن شاء اللّه تعالی ، فانتظر .
لا یقال : أخذ المال فی قبال هذا الحقّ بالنسبة إلی مثل الخمر والمیتة والکلب فی غیر
ص:148
موارد استثنائه والخنزیر لا یجوز ، لاحتمال دخوله تحت الإکتساب المحظور ، فیشمله ما استدل به المشهور علی عدم الجواز .
لأنّا نقول : معقد فتاواهم والمنساق من أدلتهم اللفظیة إنّما هو إذا جعل نفس العین مورد النقل والإنتقال لا الحقّ القائم به .
ثم مضافاً إلی ما ذکرنا یمکن أن یُستدل علی ثبوت حقّ الإختصاص بعدّة من الوجوه :
منها : أنّ حقّ الإختصاص سلطنة ضعیفة ثابتة للملاّک فی ملکهم ، بحیث لوزالت المالیة أو الملکیة یبقی هذا الحقّ ثابتاً ، فإذا مات حیوانه زالت مالیته ویبقی ملکه علی الحیوان ، وببقاء الملک یبقی هذا الحقّ أیضاً . وهکذا الأمر بالنسبة إلی العصیر العنبی إذا صار خمراً ، یبقی حقّ إختصاص مالکه له حتّی إذا قلنا بإلغاء مالکیة الخمر من الشارع ، ولذا یجوز له التصرف فیها بصیرورتها خلاًّ أو المعاوضة علی هذا الحقّ لیجعلها المشتری خلاًّ .
والدلیل علی ذلک حرمة التصرفات والتقلبات فی ملک الغیر إلاّ برضاء مالکه ولو لم یکن هنا مالٌ ، فمثلاً هل یمکن أن یقال بجواز التصرف فی حبات قلیلة من الحنطة لاتعتبر مالاً
ولکنّها تعتبر ملکاً للغیر ؟
ومن البدیهی عدم جواز هذا التصرف ، عند الکلِّ ونفس عدم جواز هذا التصرف یمکن أن یُستدل به علی ثبوت حقّ الإختصاص وجواز المعاوضة علیه حتی إذا ذهبت الملکیة .
فظهر ممّا ذکرنا ضعف ما فی مصباح الفقاهة رداً علی هذا الوجه بعدم الدلیل علیه فی مقام الإثبات(1) .
ومنها : أنّ حقّ الإختصاص مرتبة ضعیفة من الملکیة الإعتباریة ، فإذا زالت هذه الملکیة بحدّها الأقوی بقیت بعض مراتبها الضعیفة ، لأنّها مقولة بالتشکیک ، فوزانها وزان الکیفیات والألوان .
وفیه : أنه أورد علیه فی مصباح الفقاهة : « بأنّ الملکیة الحقیقیة من أیّة مقولة کانت -
ص:149
جِدَة أو إضافة - لیست قابلة للشدّة والضعف حتّی تعتبر بحدِّها الضعیف تارة وبحدها القوی تارة اُخری ، بل هی أمر بسیط ، فإذا زالت زالت بأصلها .
ولو سلمنا کون الملکیة الحقیقیة ذات مراتب لم یجر ذلک فی الإعتباریة ، فإنّ إعتبار کلّ مرتبة مغایر لإعتبار المرتبة الاُخری ، وإذا زال إعتبار المرتبة القویة لم یبق بعده إعتبار آخر للمرتبة الضعیفة ، وعلیه فلا یبقی هناک شیء آخر لکی یُسمی بالحقِّ »(1) .
أقول : نعم ، کلامنا فی الملکیة الإعتباریة لا الحقیقیة ، وإعتبار کل مرتبة مغایر مع إعتبار المرتبة الاُخری کما ذکره قدس سره . وأمّا ما یقوله من أنه « إذا زال إعتبار المرتبة القویة لم یبق بعده اعتبار آخر للمرتبة الضعیفة » فمحل تأمل بل منع ، لأنّ هذا تابع لإعتبار المعتَبِر ، فإذا اعتبره علی بقاء المرتبة الضعیفة مع زوال المرتبة القویّة یبقی ، والإعتبار سهل المؤنة وتابع لجعل معتبِره ویکفی فی تصحیحه عدم لغویته ، فیمکن بأن یجعل المعتَبِر هنا إعتباران علی نحو الطولیة ، بأن یجعل أوّلاً إعتبار الحقّ ثمّ ثانیاً اعتبار الملک ، وقد یجمع الإعتباران الحقّ والملک فی الأموال ، وقد یفرّق بینهما بزوال الملک وبقاء الحقِّ .
وبالجملة ، هذا کلّه تابع لجعل المعتَبِر ، ولا إشکال فیه من جهة الثبوت . نعم من جهة الإثبات نحتاج إلی دلیل ، وبنظرنا القاصر لا یبعد أن یکتفی فی مرحلة الإثبات بدلیلیة السیرة
القطعیة المتصلة من زماننا هذا إلی زمن المعصومین علیهم السلام للمتشرعة علی ثبوت حقّ الإختصاص ، وجواز المعاوضة علیه .
ومنها : لا یجوز لأحد أن یتصرف فی ملک أو مال غیره إلاّ بطیب نفسه . وهذا الأمر من الثابتات فی الشریعة المقدسة ، وقد دلّت علیه سیرة العقلاء والمتشرعة ، وتدلّ علیه أیضاً عدّة من الروایات المعتبرة ، نشیر إلی بعضها ، فإذا زالت الملکیة وشککنا فی زوال ذلک الحکم کان مقتضی الإستصحاب الحکم ببقائه .
فمن الروایات : موثقة أبی بصیر عن أبی جعفر علیه السلام قال : قال رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم : سباب المؤمن فسوق ، وقتاله کفر ، وأکل لحمه معصیة ، وحرمة ماله کحرمة دمه(2)
ص:150
وموثقة سماعة عن أبی عبد اللّه علیه السلام فی حدیث : أنّ رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم قال : من کانت عنده أمانة فلیؤدّها إلی من ائتمنه علیها ، فإنّه لا یحلّ دم امری ء مسلم ولا ماله إلاّ بطیبة نفسه(1) .
ومرفوعة ابن شعبة الحرّانی عن رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم أنّه قال فی خطبة الوداع : أیها الناس إنّما المؤمنون إخوة ، ولا یحلّ لمؤمن مال أخیه إلاّ عن طیب نفسٍ منه(2) .
ومرفوعة أبی منصور الطبرسی عن توقیع صدر من صاحب الزمان - عجل اللّه تعالی فرجه الشریف - الوارد إلی محمد بن عثمان العمری قال : وأمّا ما سألت عنه من أمر الضیاع التی لناحیتنا هل یجوز القیام بعمارتها وأداء الخراج منها وصرف ما یفضل من دخلها إلی الناحیة احتساباً للأجرو تقرّباً إلیکم ، فلا یحلّ لأحد أن یتصرف فی مال غیره بغیر إذنه ، فکیف یحلّ ذلک فی مالنا ؟ من فعل شیئاً من ذلک بغیر أمرنا فقد استحلّ منّا ما حرم علیه ، ومن أکل من أموالنا شیئاً فإنّما یأکل فی بطنه ناراً وسیصلی سعیراً(3) .
ومرسلة ابن أبی جمهور الأحسائی عن رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم قال : المسلم أخو المسلم ، لا یحلّ ماله إلاّ عن طیب نفسه(4) .
ومرفوعة النوری عن أمیر المؤمنین علیه السلام أنّه قال فی حدیث : ولا یجوز أخذ مال المسلم بغیر طیب نفس منه(5) .
بتقریب : أنّ هذه الروایات وإنْ دلت بظاهرها علی عدم جواز التصرف فی مال الغیر إلاّ عن طیب مالکه ، ولکن بعد التأمل فیها یظهر أنّ المدار حرمة التصرف فی ملک الغیر ، ومال الغیر بما أنّه ملک للغیر لا یجوز التصرف فیه ، والملاک فی هذه الحرمة أنّها ظلم للغیر وتعدٍ
ص:151
علیه . ولعلّ مال الغیر المذکور فی الروایات عنوان یشیر إلی ملک الغیر .
وإن أبیت وجمدت علی ظاهر لفظ الروایات من أنّ الحرام التصرف فی مال الغیر لا ملکه ، نقول بعدم الفرق فی ذلک ، بأنّ العرف لا یری فرقاً بین التصرف فی مال الغیر والتصرف فی ملک الغیر إلاّ بطیب نفسه ، والمال ذُکر فی الروایات لأنّه أظهر من الملک . ثم إذا زالت الملکیة وشککنا فی بقاء هذا نستصحب .
ومع هذا التقریب لا یرد علی الإستدلال ما ذکره المحقق الخوئی قدس سره « بعدم جریان الإستصحاب فی الأحکام ، لمعارضته دائماً بأصالة عدم الجعل ، وأنّ موضوع حکم حرمة التصرف هو مال الغیر ، فإذا سقط الشیء عن المالیة سقطت عنه حرمة التصرف حتّی إذا کان باقیاً علی صفة المملوکیة ، إذ لا دلیل علی حرمة التصرف فی ملک الغیر فکیف إذا زالت عنه الملکیة أیضاً »(1) .
وفیه : أولاً : أنّ المدار حرمة التصرف فی ملک الغیر والتصرف فی مال الغیر أیضاً حرام ، لأنّه یستلزم التصرف فی ملک الغیر وهو ظلم وتعدٍّ علیه . أو لا أقل من أنّ العرف لا یری فرقاً بین التصرف فی ملک الغیر وماله ، وموضوع حکم الحرمة التصرف فی ملک الغیر ، وبتبعه ثبوت حرمة التصرف فی ماله أو عدم الفرق بین الحرمتین ، یعنی کما لا یجوز التصرف فی ملک الغیر فکذلک فی ماله فی مرتبة واحدة من دون تقدم أحدهما علی الآخر ، فالدلیل علی حرمة التصرف فی ملک الغیر موجود .
وثانیاً : من البعید جداً أن یلتزم هو قدس سره بما قاله وأفتی به ، کیف یمکن القول بعدم حرمة التصرف فی ملک الغیر ولو لم یکن مالاً ؟ ولا یمکن الإفتاء بذلک من متفقهٍ فکیف بفقیه الاُمة
ومرجعها . وأظن أنَّ هذا الکلام صدر منه قدس سره علی سبیل الجدل والمحاورة ولا یلتزم هو بذلک ولا یسمع منه أن یفتی به . والعلم عند اللّه تعالی .
وثالثاً : یمکن أن یناقش فی مبنی المحقق الخوئی قدس سره بعدم جریان الإستصحاب فی الأحکام والجواب عن المعارضة المدعاة . والتفصیل یطلب من علم الاُصول .
ص:152
ومنها : ما یدلّ علی ثبوت حقِّ الإختصاص ، وهو المرسلة المعروفة : « من حازملک » .
وفیه : أولاً : إنّ هذه المرسلة - وإن اشتهرت فی ألسنة الفقهاء وکتبهم الإستدلالیة - ولکن لم توجد فی کتب الحدیث . والظاهر أنّها قاعدة فقهیة مصطادة من الروایات الواردة فی أبواب التحجیر وإحیاء الموات والصید .
وثانیاً : علی فرض وجودها فی کتب الحدیث أنّها ضعیفة الاسناد وغیر منجبر ضعفها بالشهرة ، إذ لم یحرز استناد المشهور إلیها ، ویمکن أن یکون ذکرها للتأیید فقط .
ولکن الإنصاف أنّ دلالتها علی حقِّ الإختصاص ثابتةٌ ، لأنّها تدلّ علی ملکیة المحاز للمحیز ولو لم یکن مالاً ، والحیازة لیست إلاّ جعل ید المحیز علی المحاز واستیلاء الشخص علی الشیء وصیرورته فی یده ، فإذا تحقق هذا الإستیلاء ثبتت الملکیة ، فکیف لا یقدر بقاء هذا الإستیلاء والید بإثبات حقِّ الإختصاص الذی هو أضعف من الملکیة بمراتب ؟
بالجملة ، الإستیلاء علی الشیء وجعل الید علیه ابتداءً کما یثبت الملکیة فکذلک یثبت بقاء هذا الإستیلاء والید بعد زوال المالیة والملکیة ، حقّ الإختصاص وثبوته الذی هو أضعف من الملکیة بمراتب .
ومضافاً إلی ذلک ورود عدة من الروایات دالة علی ثبوت الملکیة بجعل الید علی الشیء والإستیلاء علیه ، نحو :
موثقة یونس بن یعقوب عن أبی عبد اللّه علیه السلام فی إمرأة تموت قبل الرجل أو الرجل قبل المرأة ، قال : ما کان من متاع النساء فهو للمرأة وما کان من متاع الرجال والنساء فهو بینهما ، ومن استولی علی شیء منه فهو له(1) .
ومعتبرة السکونی عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال : قال أمیر المؤمنین علیه السلام : إنّ الطیر إذا ملک جناحیه فهو صید ، وهو حلال لمن أخذه(2) .
ومعتبرة اُخری للسکونی عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال : إنّ أمیر المؤمنین علیه السلام قال فی رجل
ص:153
أبصر طائراً فتبعه حتّی سقط علی شجرة فجاء رجل آخر فأخذه ، فقال أمیر المؤمنین علیه السلام : للعین ما رأت وللید ما أخذت(1) .
وصحیحة عبداللّه بن سنان عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال : من أصاب مالاً أو بعیراً فی فلاة من الأرض قد کلّت وقامت وسیّبها صاحبها ممّا لم یتبعه فأخذها غیره فأقام علیها وأنفق نفقة حتّی أحیاها من الکلال ومن الموت ، فهی له ولا سبیل له علیها ، وإنّما هی مثل الشیء المباح(2) .
ولکن یمکن أن یقال : بأنّ مفاد الصحیحة الأخیرة ثبوت التملک بالأخذ والإحیاء معاً .
وخبر السکونی عن أبی عبد اللّه علیه السلام : إنّ أمیر المؤمنین علیه السلام قضی فی رجل ترک دابّته من جهد ، فقال : إن ترکها فی کلأ وماء وأمن فهی له یأخذها حیث أصابها ، وإن ترکها فی خوف وعلی غیرماء ولا کلأ فهی لمن أصابها(3) .
وبالجملة ، هذه الروایات تدلّ علی ثبوت الملکیة بجعل الید علی الشیء أو الحیوان . وحیث یمکن أن یثبت جعل الید ملکیة الشیء فکذلک بقاء هذه الید التی هی أقوی من حدوثها یمکن أن تثبت حقّ الإختصاص الذی هو أضعف من الملکیة بمراتب بطریق الاُولویة .
ومنها : حدیث السبق وتدلّ علیه عدّة من الروایات ، نحو :
خبر محمد بن إسماعیل عن بعض أصحابه عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال : قلت : نکون بمکة أو بالمدینة أو الحیرة أو المواضع التی یرجی فیها الفضل ، فربّما خرج الرجل یتوضّأ فیجیء آخر مکانه ، قال : من سبق إلی موضع فهو أحقّ به یومه ولیلته(4) .
وخبر طلحة بن زید عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال : قال أمیر المؤمنین علیه السلام : سوق المسلمین کمسجدهم ، فمن سبق إلی مکان فهو أحقّ به إلی اللیل ، وکان لا یأخذ علی بیوت السوق
ص:154
کراءً(5) .
وخبر عوالی اللآلی رفعه عن النبی صلی الله علیه و آله وسلم : من سبق إلی ما لا یسبقه إلیه مسلم فهو أحقّ به(1) .
بتقریب : أنّ حدیث السبق أفتی بمضمونه الأصحاب فی المشترکات ، والشهرة العملیة أیضاً ممّا یجبر بها ضعف السند ، وبهذا یجبر ضعف سند هذه الروایات .
وأمّا دلالتها : حیث أنّ الإستیلاء علی الشیء وجعل الید علیه موجب حدوث الحقّ ، فبقاء الإستیلاء والید علی الشیء بطریق أولی یوجب ذلک ، وهذا یعنی ثبوت حقّ الإختصاص .
وبما ذکرنا من التقریب یظهر ما فی کلام المحقق الخوئی قدس سره حیث یقول : « اما حدیث السبق ففیه أولاً : أنّه ضعیف السند وغیر منجبر بشیء صغریً وکبریً .
وثانیاً : إنّ ما نحن فیه خارج عن حدود هذا الحدیث ، فإنّ مورده الموارد المشترکة بین المسلمین ، بأن یکون لکلِّ واحد منهم حقّ الإنتفاع بها ، کالأوقاف العامة من المساجد والمشاهد والمدارس والرباطات وغیرها ، فإذا سبق إلیها أحد من الموقوف علیهم وأشغلها بالجهة التی انعقد علیها الوقف حرمت علی غیره مزاحمته وممانعته من ذلک . ولو عممناه إلی موارد الحیازة فإنّما یدلّ علی ثبوت الحقِّ الجدید للمحیز فی المحاز ، ولا یدل علی بقاء العلقة بین المالک وملکه بعد زوال الملکیة »(2) .
ومنها : دعوی الإجماع علی ثبوت حقِّ الإختصاص .
وفیه : أولاً : لم یثبت وجود الإجماع المنقول فکیف بالمحصَّل .
وثانیاً : علی فرض وجود الإجماع فهو مدرکیٌّ ، فلابدّ من ملاحظة مدرکه ، وهو أحد الوجوه الماضیة أو جمیعها .
وثالثاً : الإجماع عندنا لیس بحجة مستقلة ، بل حجة إذا کان کاشفاً عن قول المعصوم علیه السلام ، الإجماع المدعی هنا لیس بهذا الحدَّ ولم یستکشف عنه قول المعصوم علیه السلام .
ص:155
وبالجملة ، ظهر من جمیع ما ذکرنا ثبوت حقّ الإختصاص للمالک علی المال والملک ولوزالت المالیة والملکیة ، ویجوز له المصالحة علی هذا الحقِّ بلا عوض أو مع العوض .
ولذا قال العلامة الجد الشیخ الأکبر الشیخ جعفر کاشف الغطاء قدس سره فی شرحه علی القواعد : « ... وعدم المِلْک لا ینافی ثبوت الإختصاص فیما له منفعة محلّلة ، ودفع الشیء لإنفکاکه(1) یُشَکُّ فی دخوله تحت الإکتساب المحظور ، فیبقی علی أصل الجواز »(2) .
وقال صاحب الجواهر : « نعم قد یقال : بأنّ له حقّ الإختصاص لمن سبق إلیه لتحقق الظلم عرفاً بالمزاحمة له ، بل لعلّ دفع العوض لرفع ید الإختصاص عنه لا بأس به ، ضرورة عدم صدق التکسب به لعدم دفع العوض عنه ... »(3) .
وبما ذکره صاحب الجواهر یظهر المناقشة فی کلام شیخنا الأستاذ - مد ظله - حیث یقول :« اللهم إلاّ أن یقال : مقتضی سقوط الشیء عن المالیة شرعاً کونه کسائر ما لا تکون له مالیة فی اعتبار العقلاء ، وأن أخذ المال ولو بعنوان المصالحة علیه أو الإعراض عنه أکل لذلک المال بالباطل ... »(4) .
وقال - مد ظله - فی ختام التعلیقة أیضاً : « أکل المال ولو بعنوان المصالحة علیها أو الإعراض عنها من أکله بالباطل کما فی سائر ما لا یکون مالاً فی اعتبار العقلاء ، کما لا یخفی »(5) .
أقول : الوجه فی ظهور المناقشة عدم صدق التکسب بأخذ المال فی قبال حقّ الإختصاص ، فلا یکون أکلاً للمال بالباطل ، فافهم . ولا أقل من الشک فی صدق عنوان التکسب ، فیجری إصالة البراءة فی المقام .
ص:156
ومنه أیضاً ظهر ما فی کلام الفقیه الإصفهانی قدس سره بعد الإفتاء بثبوت حقِّ الإختصاص ومعاوضة هذا الحقّ بالعوض حیث یقول : « ... لکنّه لا یخلو من إشکال ، بل لا یبعد دخوله فی الإکتساب المحظور . نعم لو بذل الغیر مالاً لیرفع یده ویعرض عنها فیحوزها الباذل سلم من الإشکال ... »(6) .
أقول : قد منعنا دخول المعاوضة علی حقِّ الإختصاص بالمال فی الاکتساب المحرّم ، و علی فرض دخوله لا یخرجه ما ذکره قدس سره فی آخر کلامه ، فلا یسلم من الإشکال . والحمد للّه علی کلّ حال .
ص:157
ص:158
ص:159
ص:160
ما اشتمل علی هیئة خاصة لا یقصد منه بهذه الهیئة إلاّ الحرام کالأصنام والصلبان وآلات القمار وآلات اللهو ونحو ذلک :
کالصلیب والصنم والوثن ، وقد استدل علی حرمة بیعها بعدّة من الوجوه :
قد ادعی الإجماع فی کلام جماعة من الأصحاب ، منهم : العلاّمة الحلی فی المنتهی(1) ادعی عدم خلاف علمائنا علی تحریم عمل الأصنام والصلبان وغیرهما من هیاکل العبادة المبتدعة ، وادعی الإجماع المحقق الأردبیلی فی مجمع الفائدة والبرهان(2) والسید علی الطباطبائی فی الریاض(3) والنراقی فی مستند الشیعة(4) وصاحب الجواهر فی کتابه(5) .
وفیه : تحصیل الإجماع - وإن کان ممکناً فی کلمات الأصحاب - ولکنّه غیر مفید ، لاحتمال کونه مدرکیّاً وأنّ مستندهم إحدی الوجوه الآتیة فی المسألة .
حیث ورد فیها : « فکلّ أمر یکون فیه الفساد ممّا هو منهی عنه من جهة ... »(6) إلی أن
ص:161
قال : « وذلک إنّما حرّم اللّه الصناعة التی حرام هی کلّها التی یجیءُ منها الفساد محضاً نظیر
البرابط والمزامیر والشطرنج وکلّ ملهوٍّ به والصلبان والأصنام »(1) .
وفیه : قد منعنا عن کون هذه روایة أصلاً ، وعلی فرض أن تکون روایة فهی مرفوعة مرسلة ، فلا تفید فی الفقه شیئاً .
قوله تعالی : «لاَ تَأْکُلُواْ أَمْوَالَکُمْ بَیْنَکُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَن تَکُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنکُمْ »(2) .
بتقریب : أنّ أکل المال بأزائها أکل له بالباطل ، والمراد بالباطل فی الآیة الشریفة الباطل الشرعی والعرفی معاً ، فلا یجوز بیعها .
وفیه : نعم الظاهر أنّ المراد بالباطل فی الآیة الشریفة ما یعمّ الباطل شرعاً وعرفاً ، ولکن الآیة لیست بصدد بیان شرائط العوضین حتّی یتمسّک بإطلاقها فی المقام .
قوله تعالی فی سورة المائدة : «إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَیْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّیْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ»(3) .
وقوله تعالی فی سورة الحج : «فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الاْءَوْثَانِ»(4) .
وقوله تعالی فی سورة المدثر : «وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ»(5) .
قال الشیخ فی ذیل الآیة الأخیرة : « قال ابن عباس ومجاهد وقتادة والزهری : معناه فاهجر الأصنام »(6) .
ص:162
بتقریب : أن الاجتناب المطلق وکذا الهجر المطلق یقتضی الإجتناب عن البیع وحرمته .
وفیه : أن الاجتناب والهجر من الأصنام والأوثان یعنی ترک عبادتها وعدم القول
بقداستها ، ولیس فی الآیات إطلاقٌ حتّی یشمل بطلان بیعها .
الاستدلال بالنبوی المشهور : « إنّ اللّه إذا حرّم علی قوم شیئاً حرّم علیهم ثمنه » .
بتقریب : أنه حیث حرّمت فی الشریعة عبادة الأصنام والأوثان والصلبان فکذلک حرّمت عملها وإحداثها لأجل العبادة ، وکذلک حرّمت فیها بیعها وشراؤها وأخذ الثمن فی قبالها .
وفیه : أنّه قد ذکرنا فی أوّل الکتاب عدم ورود هذه الروایة من طرقنا إلاّ علی نحو الإرسال والرفع ، ووجود کلمة « الأکل » فی موارد نقلها ، فلا تفید فی الفقه ولا فی المقام شیئاً .
الوجه السادس : ما رواه فی دعائم الاسلام
قال : « روینا عن أبی عبد اللّه علیه السلام عن أبیه علیه السلام عن آبائه علیهم السلام أنّ رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم نهی عن بیع الأحرار وعن بیع المیتة والدم والخنزیر والأصنام ، وعن عسب الفحل وعن ثمن الخمر وعن بیع العذرة وقال : هی میتة »(1) .
بتقریب : أن النهی عن بیع الأصنام ظاهرٌ فی بطلانها .
وفیه : أن دلالة الروایة علی بطلان بیعها تام ولکن سندها ضعیف بل مرسل بل مرفوع ، وقد مرّ منّا الکلام حول کتاب دعائم الاسلام فی أوّل ، الکتاب فراجع ما حررناه هناک .
الروایات الدالة علی النهی عن بیع الخشب ممّن یتخذه صلیباً أو صنماً ، وحیث کان بیع الخشب الحلال فی نفسه صار حراماً من هذه الجهة ، فبیعهما اُولی بالحرمة .
ص:163
من الروایات : صحیحة عمر بن اُذینة قال : کتبت إلی أبی عبد اللّه علیه السلام أسأله عن رجل له خشب فباعه ممّن یتخذه برابط ؟ فقال : لا بأس به . وعن رجل له خشب فباعه ممّن یتخذه صلباناً ؟ قال : لا(1) .
ومنها : خبر عمرو بن حریث قال : سألت أبا عبد اللّه علیه السلام عن التوت أبیعه یصنع للصلیب والصنم ؟ قال : لا(3) .
قال المحقق الخوئی قدس سره : « وهذا هو الوجه الوجیه ، ویؤیده قیام السیرة القطعیة المتصلة إلی زمان المعصوم علیه السلام علی حرمة بیع هیاکل العبادة ، ویؤیده أیضاً وجوب إتلافها حسماً لمادّة الفساد ، کما أتلف النبی صلی الله علیه و آله وسلم وعلی علیه السلام أصنام مکة ، فإنّه لو جاز بیعها لما جاز إتلافها »(2) .
وبالجملة ، هذا الوجه تام لا یمکن المناقشة فیه ولا ینبغی الإشکال فی حرمة بیع هیاکل العبادة من الأصنام والأُوثان ونظیرها الصلبان بعد هذا الدلیل التام والدلیل الآتی :
العقل مستقل بقبح عبادة الأُوثان والأصنام وأنّه مبغوض عند الشارع الأقدس ، فکیف یجعل الشارع وجوب الوفاء بعقد یترتب علیه هذا المبغوض عنده ، والعقل کما هو مستقل بقبح عبادة الأُوثان فکذلک مستقل بعدم جعل وجوب الوفاء علی عقد یترتب علیه عبادة الأُوثان ، ولعلّ هذا سرّ عدم ورود حرمة بیعها مستقلاً فی الروایات ، لأنّ العقل یستقل بحرمة بیعها فلا نحتاج إلی ورود روایة .
ولعله أشار إلی هذا البیان المحقق الخمینی قدس سره حیث یقول : « لا ینبغی الاشکال فی حرمة بیعها وبطلانه فی الصور التی یترتب علیها الحرام ، لإستقلال العقل بقبح ما یترتب علیه عبادة الأُوثان ومبغوضیته ، بل قبح تنفیذ البیع وإیجاب الوفاء بالعقد المترتب علیه عبادة غیر اللّه تعالی »(3) .
ص:164
وأمّا استفادة حکم حرمة بیعها ممّا ورد من الروایات الواردة فی تحریم الخمر ولعن بایعها ومشتریها وعاصرها وساقیها وتحریم ثمنها وجعله سحتاً ، أو استفادتها من الروایة المستفیضة عن رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم وأبی جعفر علیه السلام وأبی عبد اللّه علیه السلام أنّهم علیهم السلام قالوا : مدمن الخمر کعابد وثن .
فأشبه شیءٍ بالقیاس ، وهو سرایة حکم موضوع إلی موضوع آخر وإناطته إلیه ، یعنی استفادة حرمة بیع هیاکل العبادة من الروایات الواردة فی باب الخمر وتحریمها وتشدید الشارع بالنسبة إلیها بإدعاء أنّ الفساد مشترک بینهما ، بل بالنسبة إلی هیاکل العبادة کان الأمر أشدّ والفساد أکثر . وهذه الدعوی أشبه شیءٍ بالقیاس کما ذکرت .
ثم بعد الفراغ عن الاستدلال علی حرمة بیع هیاکل العبادة ینبغی التعرض لفروع :
إذا کانت لمادّة هیاکل العبادة قیمة - بأنّها صُنعت من الذهب أو الفضة أو الجواهر الغالیة ونحوها - فهل یجوز بیعها بالنظر إلی مادّتها التی هی ذات قیمة مع ترتب الفساد علی هیئتها أم لا ؟ وهل یجری فی هذا الفرض حکم بیع ما یملک وما لا یملک فی معاملة واحدة بأنّ یقسّط الثمن بإزائهما نحو بیع الشاة والخنزیر معاً فالبیع بالنسبة إلی الشاة صحیح وبالنسبة إلی الخنزیر باطل ویقسط الثمن بینهما ، أم لا یجری ؟
الظاهر صحة بیع ما یملک وما لا یملک إذا کان لکلِّ واحد منهما وجود مستقل عن غیره نحو الشاة والخنزیر ، وأمّا ما نحن فیه فالهیئة والمادة - وإن کانا شیئین مختلفین متعددین بالدقة العقلیة الفلسفیة - ولکنّهما بنظر العرف لیس إلاّ شیئاً واحداً وهو الصنم أو الوثن أو الصلیب ، ولذا لا یقسّط الثمن بأزاء المادّة والهیئة ولیس نظیر بیع ما یملک وما لا یملک .
وبالجملة ، إذا ترتب علی بیعها فساد عبادتها فلا یجوز بیعها ولو کانت لمّادتها قیمة . واللّه سبحانه هو العالم .
إذا لم یترتب علی بیعها فساد عبادتها لانقراض عَبَدَتها وکانت لمادّتها قیمة فهل یجوز بیعها أم لا ؟
ص:165
الظاهر أن علّة حرمة بیعها لیست إلاّ من جهة حرمة الفساد المترتب علیها ، وإذا لم یکن فساد فی البین وکانت لمادّتها قیمة فیجوز حینئذ بیعها .
نعم ، الأحوط حینئذ تغییر هیئتها ثم بیعها .
إذا لم یترتب علی بیعها فساد عبادتها لانقراض عَبَدَتها ولم تکن لمادّتها قیمة - بأن صنعت من الخشب أو الحجر ونحوهما فهل - یجوز بیعها للتزیین أو لحفظها فی المتاحف ونحوها أم لا ؟
الظاهر یجوز بیعها حینئذ ، لعدم ترتب الفساد علیها . واللّه سبحانه هو العالم .
هل یجب کسرها مطلقاً ؟ أو یجب فی فرض وجود عبدتها فقط ؟ وهل علی کاسرها
ومتلفها ضمانٌ بالنسبة إلی قیمتها أم لا ؟
الظاهر أنّه یجب کسرها فی فرض وجود عَبَدَتها وترتب الفساد علیها ، وفی هذا الفرض حیث ألغی الشارع مالیتها فلیس علی کاسرها ومتلفها ضمان .
ولکن فی غیر هذا الفرض لم یجب کسرها ، وحیث کانت مالاً ذا قیمة ولم یلغ الشارع مالیتها وأتلفها الغیر فهو له ضامن بقاعدة الإتلاف . واللّه سبحانه هو العالم .
قال الشیخ الأعظم : « نعم ، لو فرض هیئة خاصة مشترکة بین هیکل العبادة وآلة اُخری لعمل محلّل - بحیث لا تعدّ منفعة نادرة - فالأقوی جواز البیع بقصد تلک المنفعة المحللة کما اعترف به فی المسالک(1) »(2) .
الظاهر صحة ما ذکره الشیخ قدس سره ، لأنه بعد عدم کون المنفعة المحلّلة نادرة فیجوز البیع بقصد تلک المنفعة المحلّلة ولو کانت الهیئة مشترکة بین العمل المحرّم والمحلل ، وأمّا إذا قصد
ص:166
العمل الحرام والمنفعة المحرمة فلا یجوز بیعها .
والمراد بالقصد هنا لیس النیّة حین المعاملة ، بل المراد به العمل الخارجی المترتب علی الشیء ، یعنی أنّ البایع استفاد من الشیء عملاً فی الجهة المحللة لا المحرمة . ثمّ هذا القصد والنیّة أیضاً باعث له علی بیعه .
ومما ذکرناه ظهر ما فی کلام المحقق الإیروانی قدس سره واستصوبه بعض أساتذتنا(1) - مدظله - حیث یقول : « بل الأقوی جواز البیع مطلقاً لعموم أدلة صحة المعاملات ، مؤیدةً بعموم قوله علیه السلام : « وکلّ شیءٍ یکون لهم فیه الصلاح من جهة من الجهات» ، ولا دلیل علی اعتبار قصد المنفعة المحلّلة ... »(2) .
قد ورد الإجماع علی حرمة بیعها فی کلام بعض نحو أصحاب الریاض(3) والمستند(6)
والجواهر(4) ، وقد نفی الشیخ الأعظم(5) الخلاف فی المسألة .
مضافاً إلی ذلک تدلّ علیه الوجوه الماضیة فی المسألة السابقة وبعض الروایات الواردة فی المقام :
منها : خبر أبی الجارود المروی فی تفسیر القمی عن أبی جعفر علیه السلام فی قوله تعالی : «إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَیْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّیْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّکُمْ تُفْلِحُونَ»(6) قال : أمّا الخمر فکلّ مسکر من الشراب - الی أن قال - : وأمّا المیسر : فالنرد و الشطرنج وکلّ قمار میسر ، وأما الأنصاب : فالأوثان التی کانت تعبدها المشرکون ، وأما
ص:167
الأزلام : فالأقداح التی کانت تستقسم بها المشرکون من العرب فی الجاهلیة ، کلّ هذا بیعه وشراؤه والإنتفاع بشیءٍ من هذا حرام من اللّه محرّم ، وهو رجس من عمل الشیطان ، وقرن اللّه الخمر والمیسر مع الأوثان(1) .
دلالة الروایة علی بطلان بیع آلات القمار واضحة ، ولکن فی سندها ضعف وإرسال .
ومنها : خبر جامع البزنطی المروی فی السرائر ، عن أبی بصیر عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال : بیع الشطرنج حرام وأکل ثمنه سحت واتخاذها کفر واللعب بها شرک ، والسلام علی اللاهی بها معصیة وکبیرة موبقة ، والخائض فیها یده کالخائض یده فی لحم الخنزیر ، لا صلاة له حتّی یغسل یده کما یغسلها من مسّ لحم الخنزیر ، والناظر إلیها کالناظر فی فرج اُمّه ، واللاهی بها والناظر إلیها فی حال ما یلهی بها والسلام علی اللاهی بها فی حالته تلک فی الإثم سواء ، ومن جلس علی اللعب بها فقد تبوأ مقعده من النار ، وکان عیشه ذلک حسرةً علیه فی القیامة ، وإیّاک ومجالسة اللاهی والمغرور بلعبها ، فإنّها من المجالس التی باء أهلها بسخط من اللّه یتوقعونه فی کلِّ ساعة فیعمک معهم(2) .
الروایة تدل علی بطلان بیع الشطرنج فقط ویمکن الاستدلال بها فی غیرها من آلات القمار بعدم الفرق ، ولکن فی سندها إرسال ، لأنّ الواسطة بین ابن ادریس الحلی والبزنطی صاحب الجامع غیر مذکور فی السرائر وغیر معلوم لنا .
ومنها : خبر مناهی النبی صلی الله علیه و آله وسلم إنّه صلی الله علیه و آله وسلم نهی عن اللعب بالنرد والشطرنج والکوبة والعرطبة - وهی الطنبور والعود - ونهی عن بیع النرد(3) .
الروایة تدلّ علی بطلان بیع النرد ، وهو أحد آلات القمار ، ویمکن التعدی إلی غیرها بعدم الفرق ، ولکن فی سندها ضعف .
ومنها : خبر الجعفریات بإسناده عن علی علیه السلام قال : من السحت : ثمن المیتة وثمن اللقاح ومهر البغی وکسب الحجام وأجر الکاهن وأجر القفیز وأجر الفرطون والمیزان إلاّ
ص:168
قفیزاً یکیله صاحبه أو میزاناً یزن به صاحبه ، وثمن الشطرنج وثمن النرد ، الحدیث(1) .
والروایة تدلّ علی بطلان بیع الشطرنج والنرد ، ویمکن التعدی بعدم الفرق بینهما وبین غیرهما من آلات القمار ، ولکن فی سندها ضعف .
وتدلّ علی عدم الفرق بینهما وبین غیرهما من آلات القمار صحیحة معمر بن خلاد عن أبی الحسن علیه السلام قال : النرد والشطرنج والأربعة عشر بمنزلة واحدة وکلّ ما قومر علیه فهو میسر(2) .
وکیف ما کان حیث لا یترتب علی بیع آلات القمار إلاّ الحرام - وهو القمار - فلا إشکال فی بطلان بیعها ، کما علیه المشهور بل الإجماع .
ثم فلیعلم أنّ هنا مسائل ثلاث : 1 - صنع آلات القمار 2 - بیعها 3 - اللعب بها مطلقاً ، وکلّ ذلک حرام محرَّم ولا یجوز أخذ شیء فی قبالها .
قد حکی الإجماع علی بطلان بیع آلات اللهو مطلقاً فی عدّة من الکتب الفقهیة نحو : مجمع الفائدة والبرهان(3) وریاض المسائل(5) ومستند الشیعة(6) وجواهر الکلام(7) ، وتدلّ علی بطلان بیعها - بعد الإجماع والوجوه الماضیة فی هیاکل العبادة المبتدعة - بعض الروایات الواردة فی المقام :
منها : خبر الشیخ أبی الفتوح الرازی فی تفسیره مرسلاً عن أبی أمامة عن رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم أنّه قال : إنّ اللّه تعالی بعثنی هدیً ورحمةً للعالمین وأمرنی أن أمحو المزامیر والمعازف والأوتار والأوثان وأمور الجاهلیة - إلی أن قال - : إنّ آلات المزامیر شراؤها وبیعها وثمنها
ص:169
والتجارة بها حرام ، الحدیث(1) .
دلالة الروایة علی بطلان بیع آلات اللهو واضحة ولکن فی سندها إرسال .
ومنها : خبر الجعفریات بإسناده إلی علی علیه السلام أنّه رفع إلیه رجل کسر بربطاً فأبطله(2) .
بتقریب : إن إبطال الدعوی من قِبَلِ أمیر المؤمنین علیه السلام یدل علی إلغاء مالیة البربط ، فإذا لم یکن مالاً فلا یجوز إعطاء المال بإزائه ، فلا یجوز بیعه . ومع إلحاق عدم الفرق بین البربط وغیرها من آلات اللهو یجری الحکم ببطلان بیع آلات اللهو مطلقاً ، ولکن فی سند الروایة ضعف .
ومنها : خبر دعائم الاسلام رفعه إلی أمیر المؤمنین علیه السلام أنّه رفع إلیه رجل کسر بربطاً فأبطله ولم یوجب علی الرجل شیئاً(3) .
الکلام فی هذه الروایة کسابقتها .
ومنها : خبر آخر للدعائم رفعه عن أبی عبد اللّه علیه السلام عن آبائه علیهم السلام عن أمیر المؤمنین علیه السلام : من تعدی علی شیءٍ ممّا لا یحلّ کسبه فأتلفه فلا شیء علیه فیه ، ورفع إلیه رجل کسر بربطاً فأبطله(4) .
الدلالة واضحة وفی السند إرسالٌ .
ومنها : خبر ثالث للدعائم رفعه عن أبی جعفر علیه السلام أنّه قال : من کسر بربطاً أو لعبة من اللعب أو بعض الملاهی أو خرق زق مسکرٍ أو خمر فقد أحسن ولا غرم علیه(5) .
تدلّ الروایة علی عدم مالیة هذه الأشیاء فلا یجوز إعطاء المال بإزائها فبیعها باطل ، ولکن فی السند إرسالٌ .
ص:170
ومنها : خبر قطب الراوندی رفعه عن النبی صلی الله علیه و آله وسلم أنّه قال : إنّ اللّه حرّم الدف والکوبة والمزامیر وما یلعب به(1) .
بتقریب : أن التحریم بالنسبة إلی هذه الآت ورد مطلقاً ، فیشمل بیعها أیضاً ، فإذا حرم بیعها کان البیع باطلاً ، ولکن فی السند إرسال .
ومنها : معتبرة السکونی عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال : قال رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم : أنهاکم عن الزفن والمزمار وعن الکوبات والکبرات(2) .
بتقریب : نهی رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم عن الزفن - وهو الرقص - والکوبة - وهی الطبل والصغیر - والکَبَر - وهی الطبل - ونهیه صلی الله علیه و آله وسلم عن هذه الأمور مطلقة ، فیشمل بیعها ، فصار بیعها باطلاً .
ومنها : غیر ذلک من الروایات فراجع إن شئت إلی الباب 100 و101 من أبواب ما یکتسب به من وسائل الشیعة 17 / 316 و 312 ، والباب 79 من أبواب ما یکتسب به من مستدرک الوسائل 13 / 215 ، والباب 21 من أبواب ما یکتسب به وما لا یکتسب به من جامع أحادیث الشیعة 22 / 244 وفیه ثلاثون روایة ، وکتابنا موسوعة أحادیث أهل البیت علیهم السلام 11 / 154 فی ذیل عنوان الموسیقی .
وبالجملة ، بطلان بیع آلات اللهو فی مذهبنا إجماعیٌّ ، وتدل علیه مضافاً إلی الوجوه السابقة ، الروایات الواردة فی المقام .
ثم فلیعلم أنّ هنا أیضاً مسائل ثلاث : 1 - صنع آلات اللهو 2 - وبیعها 3 - واللهو بها ، وکلّ ذلک حرام محرّم ولا یجوز أخذ شیء فی قبالها کما مرّ فی آلات القمار .
إذا قلنا بتحریم اقتنائها وقصد المعاوضة علی مجموع الهیئة والمادة ، لا المادة فقط .
ثم هل القدر المتیقَّن من حرمة استعمال أوانی الذهب والفضة استعمالهما فی الأکل
ص:171
والشرب أو مطلق اقتنائهما والتزیّن بهما أیضاً حرام ؟ فلابدّ من ملاحظة الروایات الواردة فی المقام :
منها : صحیحة محمد بن إسماعیل بن بزیع قال : سألت أبا الحسن الرضا علیه السلام عن آنیة الذهب والفضة فکرهها ، فقلت : قد روی بعض أصحابنا : أنّه کان لأبیالحسن مرآة ملبّسة فضّة ، فقال : لا - والحمد للّه - إنّما کانت لها حلقة من فضة وهی عندی . ثم قال : إنّ العباس حین عذر عمل له قضیب ملبّس من فضّة من نحو ما یعمل للصبیان تکون فضّة نحواً من عشرة دراهم ، فأمر به أبو الحسن علیه السلام فکسر(1) .
ذیل الروایة تدلّ حرمة مطلق التزین والاقتناء بالفضة ، ولکن الظاهر عدم إفتاء الأصحاب بها . ویمکن رفع الید عن هذا الذیل بقرینة الروایات الآتیة .
ومنها : خبر داود بن سرحان عن أبی عبد اللّه علیه السلام : لا تأکل فی آنیة الذهب والفضة(2) .
الروایة تدلّ علی حرمة استعمالهما فی الأکل والشرب فقط ، وفی السند ضعف بمعلی بن محمّد . ولکن رواها البرقی فی المحاسن(3) بسند صحیح .
ومنها : خبر محمد بن مسلم عن أبی جعفر علیه السلام : أنّه نهی عن آنیة الذهب والفضة(4) .
یمکن استفادة حرمة الإقتناء من الروایة إذا کان النهی فیه مطلقاً ، ولکن فی السند ضعف بسهل بن زیاد . ویمکن تقیید إطلاق النهی فیها بالروایات الخاصة بالأکل والشرب ، ویمکن تصحیح سندها بما رواه البرقی فی المحاسن(5) .
ومنها : خبر موسی بن بکر عن أبی الحسن علیه السلام قال : آنیة الذهب والفضة متاع الذین
ص:172
لا یوقنون(1) .
یمکن استیناس حرمة الإقتناء مطلقاً من الروایة ، وفی سندها ضعف بسهل وموسی بن بکر . ولکن یمکن تقییدها بغیرها من الروایات وتحسین سندها بما رواه البرقی فی المحاسن(2) عن موسی بن بکر والذهاب إلی حسنه .
ونظیرها مرسلة الصدوق عن النبی صلی الله علیه و آله وسلم (3) .
ومنها : موثقة سماعة بن مهران عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال : لا ینبغی الشرب فی آنیة الذهب والفضة(4) .
« لا ینبغی » فی الروایة بقرینة غیرها من الروایات تحمل علی الحرمة ، و هکذا بعدم الفرق بین الأکل والشرب یعرف حکمه .
ومنها : خبر یوسف بن یعقوب قال : کنت مع أبی عبد اللّه علیه السلام فی الحجر فاستسقی ماءاً ، فأتی بقدح من صفر ، فقال رجل : إنّ عبّاد بن کثیر یکره الشرب فی الصفر ، فقال : لا بأس ، وقال علیه السلام للرجل : ألا سألته أذهب هو أم فضة(5) ؟
الروایة تدلّ علی حرمة الشرب فی آنیة الذهب والفضة ، والإمام علیه السلام أخذ حکمها معلوماً عند السائل ، ولکن فی السند ضعف بیوسف .
ومنها : صحیحة محمد بن مسلم عن أبی جعفر علیه السلام قال : لا تأکل فی آنیة ذهب ولا فضة(6) .
سند الروایة صحیح ، لأنّ للصدوق قدس سره سند صحیح إلی کتاب أبان بن عثمان والرجل ثقة ، وهو ینقل عن محمد بن مسلم لا أبان بن تغلب الثقة الذی فی سند الصدوق إلی کتابه
ص:173
ضعف ، فالسند صحیح والتعبیر عن الروایة بالخبر کما فی بعض المؤلَّفات غیر تام . ودلالتها أیضاً واضحة .
ومنها : خبر مناهی النبی صلی الله علیه و آله وسلم : نهی رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم عن الشرب فی آنیة الذهب والفضة(1) .
دلالتها واضحة ، ولکن فی سندها ضعف .
ومنها : صحیحة الحلبی عن أبی عبد اللّه علیه السلام أنّه کره آنیة الذهب والفضة والآنیة المفضّضة(2) .
الکراهة بالنسبة إلی آنیة الذهب والفضة بقرینة غیرها من الروایات تحمل علی الأکل والشرب فیهما ، وبالنسبة إلی المفضَّض تحمل علی الکراهة المصطلحة لا الحرمة ، کما یظهر الأخیر لمن یلاحظ روایات الباب 66 من أبواب النجاسات من وسائل الشیعة 3 / 509 .
ومنها : معتبرة مسعدة بن صدقة عن الصادق علیه السلام عن أبیه علیه السلام عن رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم نهاهم عن سبع : منها الشرب فی آنیة الذهب والفضة(3) .
دلالة الروایة واضحة ، وسندها معتبر .
الظاهر - واللّه سبحانه هو العالم - أنّ من تأمل فی هذه الروایات ظهر له أنّ الحرمة بالنسبة إلی آنیة الذهب والفضة تنحصر فی حرمة استعمالهما فی الأکل والشرب فقط ، فلا بأس بالتزیّن بهما واقتنائهما ، فلا بأس ببیعهما مطلقاً .
نعم ، استعمالهما فی الأکل والشرب فقط حرامٌ .
الدراهم المغشوشة علی قسمین :
الأوّل : الدراهم الفاسدة الخارجة من رواج المعاملة ، صُنعت لأجل غش الناس
ص:174
وإغوائهم وتملّک أموالهم . وعلی هذا القسم تحمل الروایات المانعة من بیعها والآمرة بإفنائها حسماً لمادّة الفساد ، نحو : حسنة أو معتبرة موسی بن بکر قال : کنّا عند أبی الحسن علیه السلام وإذا
دنانیر مصبوبة بین یدیه ، فنظر إلی دینار فأخذه بیده ثمّ قطعه بنصفین ، ثم قال لی : ألقه فی البالوعة حتّی لا یباع شیء فیه غش(1) .
دلالة الروایة علی وجوب إفنائها قطعاً لمادّة الفساد واضحة ، ویأتی منّا اعتبار سندها فی بحث الغش(2) .
ومنها : خبر المفضل بن عمر الجعفی قال : کنت عند أبی عبد اللّه علیه السلام فألقی بین یدیه دراهم ، فألقی إلی درهماً منها فقال : إیش هذا ؟ فقلت : ستّوق ، فقال : وما الستوق ؟ فقلت : طبقتین فضة وطبقة من نحاس وطبقة من فضة ، فقال : اکسرها فإنّه لا یحلّ بیع هذا ولا إنفاقه(3) .
دلالة الروایة علی کسر الدرهم المغشوش واضحة . والظاهر أنّ المراد بالستوق وجود طبقتین من الفضة فی جانبی الدرهم وطبقة من النحاس فی وسطها بحیث یری من إطرافها أنّها من الفضة ولکن فی جوفها کلّها النحاس . وأمر الإمام علیه السلام بکسر هذا الدرهم . والشاهد علی ما ذکرنا فی تعریف الستوق خبر دعائم الإسلام الآتی ، ولکن فی السند ضعف بعلی بن الحسن الصیرفی ، لأنّه مجهول الحال ، والتعبیر بالموثق فی شأنها کما عن بعض(4) غیر تام .
ومنها : حسنة جعفر بن عیسی قال : کتبت إلی أبی الحسن علیه السلام ما تقول جعلت فداک فی الدراهم التی أعلم أنّها لا تجوز بین المسلمین إلاّ بوضیعة ، تصیر إلیّ من بعضهم بغیر وضیعة بجهلی به ، وإنّما آخذه علی أنّه جید أیجوز لی أن آخذه وأخرجه من یدی علی حدّ ما صار إلیّ من قِبَلهم ؟ فکتب علیه السلام : لا یحلّ ذلک . وکتبت إلیه : جعلت فداک هل یجوز إن وصلت إلیّ ردّه علی صاحبه من غیر معرفته به ، أو إبداله وهو لا یدری أنّی أبدّله منه أو أردّه علیه ؟ فکتب : لا
ص:175
یجوز(1) .
بتقریب : أنه إذا کان لا یجوز ذلک بالنسبة إلی الدراهم التی لا تجوز بین المسلمین إلاّ بوضیعة ، فعدم الجواز بالنسبة إلی الدراهم المغشوشة رأساً بطریق أولی یجری . وسند الروایة أیضاً حسنة ، لأنّ جعفر بن عیسی بن یقطین ممدوح .
ومنها : خبر دعائم الاسلام رفعه عن أبی عبد اللّه علیه السلام أنّه سئل عن إنفاق الدراهم المحمول علیها ، قال : إذا کان الغالب علیها الفضة فلا بأس بإنفاقها ، وقال : فی الستوق ، وهو المطبَّق علیه الفضة وداخله نحاس ، یقطع ولا یحلّ أن ینفق ، وکذلک المزیبقة والمکحلة(2) .
والروایة تدل علی عدم جواز إنفاق الدرهم المغشوش وقطعه حسماً لمادّة الفساد ، ولکن فی السند إرسال .
وبالجملة ، حیث کان إنفاق الدراهم المغشوشة غش فی المعاملة تشمله أیضاً الروایات الواردة فی حرمة غش المسلمین .
منها : صحیحة هشام بن سالم عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال : لیس منّا من غشّنا(3) .
ومنها : صحیحة اُخری له عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال : قال رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم لرجل یبیع التمر : یا فلان أما علمت أنّه لیس من المسلمین مَنْ غشّهم ؟ !(4)
ومنها : صحیحة هشام بن الحکم قال : کنت أبیع السابری فی الضلال فمرّ بی أبو الحسن الاوّل موسی علیه السلام ، فقال لی : یا هشام إنّ البیع فی الظلال غش ، والغش لا یحلّ(5) .
ولإثبات حرمة الغش راجع إلی وسائل الشیعة 17 / 279 باب 86 من أبواب ما یکتسب به ، ومستدرک الوسائل 13 / 201 باب 69 من أبواب ما یکتسب به ، وجامع احادیث الشیعة 22 / 426 ، وکتابنا موسوعة أحادیث أهل البیت علیهم السلام 8 / 104 .
ص:176
والحاصل عدم جواز إنفاق الدراهم المغشوشة فی المعاملات ولزوم کسرها وقطعها وإفنائها حسماً لمادّة الفساد وإخراجها من جریان المعاملات والسوق ودائرتهما .
ونظیرها فی زماننا هذا الأوراق النقدیة المزوّرة لأجل التدلیس علی الناس وتزویرهم ، وهکذا الأمر فی غیرها من الأوراق الإعتباریة الموضوعة ، نحو الوثائق المزوّرة الموضوعة وغیرها .
الثانی : الدراهم التی تکون رائجة بین المسلمین ومعاملاتهم وسوقهم ولکنّها خلطها
کثیراً بالنسبة إلی الدراهم الجیدة ، والحکومة والسلطة فی الوقت تؤیدها وتعتبرها غالباً ، فهل یجوز المعاملة بهذه الدراهم أم لا ؟
الظاهر جواز البیع والمعاملة بهذه الدراهم ، والأخبار بذلک مستفیضة :
منها : صحیحة فضل أبی العباس قال : سألت أبا عبد اللّه علیه السلام عن الدراهم المحمول علیها ؟ فقال : إذا أنفقت ما یجوز بین أهل البلد فلا بأس ، وإن أنفقت ما لا یجوز بین أهل البلد فلا(1) .
ومنها : خبر حریز بن عبد اللّه قال : کنت عند أبی عبد اللّه علیه السلام فدخل علیه قوم من أهل سحبستان فسألوه عن الدراهم المحمول علیها ؟ فقال : لا بأس إذا کان جواز المصر(2) .
ومنها : خبر محمّد بن مسلم ، عن أبی جعفر علیه السلام قال : جاءه رجلٌ من سجستان فقال له : إنّ عندنا دراهم یقال لها : « الشاهیة » ، تحمل علی الدرهم دانقین ، فقال : لا بأس به إذا کانت تجوز(3) .
ومنها : صحیحة محمّد بن مسلم قال : سألته عن الدراهم المحمول علیها ؟ فقال : لا بأس بإنفاقها(4) .
لا بأس بالاضمار فی هذه الصحیحة حیث مُضْمِرها محمّد بن مسلم .
ص:177
ومنها : صحیحة اُخری لمحمّد بن مسلم قال : قلت لأبی عبد اللّه علیه السلام : الرجل یعمل الدراهم یحمل علیها النحاس أو غیره ، ثم یبیعها ، قال : إذا بیّن ذلک فلا بأس(1) .
ومنها : صحیحة عبد الرحمن بن الحجاج قال : قلت لأبی عبد اللّه علیه السلام : أشتری الشیء بالدراهم فأعطی الناقص الحبة والحبتین ، قال : لا حتّی تبینه ، إلاّ أن یکون نحو هذه الدراهم الأوضاحیة التی تکون عندنا عدداً(2) .
والظاهر أنّ الدراهم الأوضاحیة کانت من الدراهم الرائجة فی ذلک العصر وکانت من
الدراهم المحمول علیها ولکن رواجها موجب لعدم التبین فی حقّها .
ومنها : غیرها من الروایات الواردة فی الباب العاشر من أبواب الصرف من وسائل الشیعة 18 / 185 ، والباب التاسع من أبواب بیع الصرف من جامع أحادیث الشیعة 23 / 229 .
بعد التأمل فی هذه الروایات ظهر جواز المعاملة بهذه الدراهم بأحد شرطین علی سبیل منع الخلو :
الأوّل : إذا کانت هذه الدراهم رائجة فی المصر ، بلا فرق بین أن تکون الحکومة والسلطة فی الوقت تعتبرها أم لا ؟ لعدم ذکر اعتبار الحکومة فی الروایات ، وإن کان الرواج من دون اعتبارها خارجاً مشکل . تدلّ علی هذا الشرط الروایات الثلاث الاُوَل .
الثانی : إذا بیّن للبائع بکیفیة الدراهم وأعلمه بذلک ، وقبل البایع فلا بأس به ، وتدلّ علی هذا الشرط الروایتان الأخیرتان .
وأمّا الإطلاق الوارد فی الصحیحة الاُولی لمحمّد بن مسلم(3) یقیّد بأحد هذین الشرطین المأخوذین من الروایات . وهکذا الأمر بالنسبة الی غیرها من الإطلاقات لو وُجدتْ .
ثم إنّ الظاهر من الجمع بین الروایات الواردة فی المقام هو ما ذهبنا إلیه من تقسیم هذه
ص:178
الدراهم إلی القسمین ، وأمّا ما ذهب إلیه المحقق الخوئی قدس سره من حمل الطائفة الأولی علی الکراهة(1) فخلاف الظاهر .
قیود المعاملة علی قسمین :
القیود التی وردت فی المعاملة - سواء ذکرت فی متن المعاملة بنحو التوصیف أو التقیید أو الإشتراط أو انصرفت المعاملة إلیها أو وقعت المعاملة مبنیّة علیها إذا تخلّف - فهی علی قسمین رئیسین :
القسم الأوّل : أن یعدّ القید عرفاً من مقومات الشیء ، کما إذا باعه علی أنّه فضة فبان رصاصاً ، أو علی أنّه عبد حبشیٌ فبان أنّها أمة مغربیة ونحو ذلک . وحیث أنّ القیود والعناوین
فی هذا الفرض من مقومات المبیع عرفاً فإذا تخلّف بطل البیع . وفی ما نحن فیه إذا وقعت المعاملة علی الدرهم من الفضة المسکوک بسکة فلان السلطان فبان أنّه رصاص أو أنّه غیر سکة السلطان الرائج فی البلاد ، حیث أنّ العنوان والقید من مقومات الشیء بطل العقد لما ذکرناه .
القسم الثانی : أن لا یعد القید عرفاً من مقومات الشیء بل من جهات الفضل والکمال ، کما إذا باع عبداً علی أنّه کاتب فبان أنه أمی أو إذا باع اللبن علی أنّه من الغنم فبان أنّه من البقر .
ففی هذا القسم صحت المعاملة ولکن یثبت للمشتری خیار العیب أو خیار تخلّف الوصف . وفی ما نحن فیه لو باع الدرهم علی أنّه سکة سنة کذا فبان أنّه سکة سنة اُخری - حیث أنّ القید والعنوان هنا لیس من مقومات الشیء بل من جهات الفضل والکمال - صحت المعاملة وثبت خیار تخلف الوصف .
هذا کلّه إذا کان المتعاملان جاهلین ، ونحوها إذا کان المشتری فقط جاهلاً ، وأمّا إذا کان البائع جاهلاً والمشتری عالماً ففی القسم الأوّل - یعنی تخلّف الذات - بطلت المعاملة ولکن مع تخلّف جهات الفضل والکمال صحت المعاملة ولا خیار للمشتری لعلمه بالنقص . نعم ، یثبت
ص:179
الخیار للبائع لجهله .
هل یجوز إعطاء الدراهم الفاسدة الخارجة من رواج المعاملة التی صنعت لأجل غش الناس وإغوائهم وتملّک أموالهم باطلاً - یعنی القسم الأوّل من الدراهم المغشوشة التی ذهبنا إلی لزوم کسرها وإفنائها حسماً لمادّة الفساد - هل یجوز إعطاؤها إلی الظالم لدفع ظلمه أو العشار أو الجمارک ونحوها أم لا ؟
الظاهر جواز ذلک لدفع ظلمهم وتعدیهم کما ذهب الیه صاحب الجواهر قدس سره (1) ، وأمّا أنّهم ینفقونها فی الناس ویجلبون بها أموال الناس ظلماً فلا یدفع الجواز ، لأنّ عملهم وفعلهم لا یردّ جواز فعل الآخر کما هو واضح . واللّه سبحانه هو العالم .
هل یجوز التزیّن بالدراهم المغشوشة وحفظها واقتنائها فی متاحف التزویر أم لا ؟ ثم علی القول بالجواز هل یجوز بیعها لذلک أم لا ؟
الظاهر جواز التزیّن بها وحفظها واقتنائها فی متاحف التزویر ، لعدم ترتب أیّ فساد حینئذ علیه کما ذهب إلیه بعض أساتذتنا - مدظله(2) - وهکذا یجوز بیعها لذلک .
وأمّا الأمر الوارد فی الروایات بکسرها وإفنائها فلیس إلاّ لجهة ترتب الفساد علیها ولیس أمراً تکلیفیاً محضاً ، ولذا یجوز فی صورة عدم ترتب الفساد حفظها واقتناؤها ، بل یجوز بیعها مع علم المشتری بکیفیتها وأنّه یقصد التزیّن بها أو حفظها فی معرضه أو متحفه ونحو ذلک . واللّه سبحانه هو العالم .
ص:180
ما یقصد منه المتعاملان المنفعة المحرّمة ... فهنا مسائل ثلاث :
بیع العنب علی أن یُعمل خمراً والخشب علی أن یُعمل صنماً أو آلة لهو أو قمار ، وإجارة المساکن لیباع أو یحرز فیها الخمر ، وکذا إجارة السفن والحَمولة لحملها .
فقد استدل علی حرمة البیع أو الإجارة للمقاصد المذکورة بوجوه :
الأوّل : الإجماع ، ادعاه الشیخ فی الخلاف(1) وابن زهرة الحلبی فی الغنیة(2) والعلامة فی المنتهی(3) ، وقال النراقی بعد نقل الإجماع من المنتهی : « وهو الحجة فیه »(4) . وقال صاحب الجواهر : « لا خلاف أجدها فیها »(5) ، والشیخ الأعظم أیضاً ادعی عدم الخلاف فی المسألة(6) .
وفیه : إن الإجماع هنا - علی فرض تحققه - لیس إلاّ مدرکیّاً ، فلابدّ من ملاحظة غیره من الأدلة والوجوه المذکورة فی المقام .
الثانی : أن هذه المعاملة بیعاً کانت أو إجارة إعانة علی الإثم ، فتحرم لذلک .
وفیه : أولاً : یأتی منّا معنی الإعانة علی الإثم وأحکامها فی ذیل المسألة الثالثة من هذا القسم إن شاء اللّه تعالی ، ومنعنا حرمة الإعانة علی الإثم مطلقاً .
ص:181
وثانیاً : بفرض صدقها علی هذه المعاملة وحرمتها ، بینهما عموم من وجه ، والإعانة
علی الإثم لا تصدق إلاّ بالإقباض خارجاً مع العلم ، وهذا الإقباض ربّما یکون بغیر البیع ، فبین البیع والإعانة عموم من وجه ، فلا یمکن الإستدلال بها علی حرمة المعاملة مطلقاً .
وثالثاً : حرمة الإعانة علی الإثم - علی فرض ثبوتها - لیست إلاّ حرمة تکلیفیه وهی لا تدلّ علی بطلان المعاملة وضعاً .
إن قلت : ورود الحرمة فی المعاملات تقتضی فسادها .
قلت : نعم ، إذا کانت الحرمة تعلقت بنفس المعاملة ، ولکن فی المقام تعلقت بعنوان الإعانة ، فلا تدلّ علی فساد المعاملة .
ورابعاً : هذا الإشتراط فی المعاملة لیس إلاّ شرطاً فاسداً ، وفساد الشرط لا یسری إلی فساد العقد ، لأنّ الشروط لا تقابل بجزء من الثمن حتّی یُحکم بفساد المعاملة بالنسبة إلیها .
الثالث : إن صحت هذه المعاملة کانت أکلاً للمال بالباطل ، المنهی عنه فی الآیة الشریفة .
وفیه : أولاً : إنّ الآیة الشریفة لیست بصدد شرائط العوضین کما مرّمنا مراراً .
وثانیاً : إنّ الشروط لا تقابل بجزء من الثمن لیصدق من فسادها أکل المال بالباطل بل هی مجرد التزامات لا یترتب علی مخالفتها إلاّ الخیار .
الرابع : ما ذکره العلامة النراقی فی المستند ، وقال : « مع کونه بنفسه فعلاً محرَّماً لمّا بینا فی موضعه : أنّ فعل المباح بقصد التوصل به إلی الحرام محرّم »(1) .
وفیه : أولاً : أنّ « مقدمة الحرام حرامٌ » ، لیست عندنا تامّة ، ولازم ذلک کون فاعل الحرام مرتکب لمحرمات کثیرة بعدد مقدماته ، ولا یلتزم به أحد .
وثانیاً : حرمة مقدمة الحرام - علی فرض ثبوتها - إنّما هی فی المقدمات التی لا تنفک عن ذیها ، نحو المقدمة الأخیرة فی المقدمات الإعدادیة والمقدمات التولیدیة ، وأمّا غیرها من المقدمات لیست محرّمة ، وما نحن فیه لیس من هذا القبیل ، لتمکن المشتری من عدم الوفاء
ص:182
بالشرط خارجاً .
الخامس : أدلة النهی عن المنکر تشمل المقام ، بدعوی أنّ دفع المنکر کرفعه واجب ، بل یمکن أن یقال : أنّه أولی بالوجوب .
وفیه : أولاً : یمکن المناقشة فی وجوب دفع المنکر ، وإن کان رفعه مع شرائطه واجباً .
وثانیاً : علی فرض وجوب دفع المنکر ، یترتب النهی التکلیفی المحض علی المعاملة ، وهذا لا یقتضی فساد المعاملة وضعاً کما مرّ سابقاً فی الدلیل الثانی .
السادس : استدل بعض أساتذتنا - مدظله - علی بطلان المعاملة وحرمتها علی وجه تفرد به - أدام اللّه أیّامه - وقال : « ولو قلنا فی المسألة الآتیة - أعنی بیع الجاریة المغنیّة - بالحرمة والفساد بمقتضی الأخبار الواردة فیها کما یأتی فثبوتهما فی المقام اُولی ، حیث إنّ الجاریة المغنیّة تشمل علی المنافع المحلّلة أیضاً ولم یسقطها البائع ، فإذا فرض الحرمة والفساد فیها بسبب لحاظ غنائها ففی المقام الذی أسقط البائع جمیع المنافع المحلّلة وأسقط الشارع المنفعة المحرّمة یکون الحرمة والفساد أوضح ، إذ المبیع حینئذ یصیر فی قوة من لا منفعة له أصلاً ... »(1) .
وفیه : أولاً : نحن ذهبنا إلی جواز بیع الجاریة المغنیّة کما علیه عدّة من الأعلام ، ویأتی البحث حوله فیما بعد .
وثانیاً : القول بتعدّی حکم الحرمة والفساد من بیع الجاریة المغنیّة إلی البیع والإجارة فی مسألتنا هذه بنظرنا القاصر أشبه شیءٍ بالقیاس ، فلا یمکن الاستدلال به ، کما مرّ منّا نظیر هذا الإشکال فی کلام بعض الأعیان قدس سره فی الوجه الثامن من الوجوه التی أقیمت علی فساد بیع هیاکل العبادة المبتدعة ، فراجع ما حرّرناه هناک .
السابع : الإستدلال بالروایات الواردة فی المقام :
منها : صحیحة جابر قال : سألت أبا عبد اللّه علیه السلام عن الرجل یؤاجر بیته فیباع فیه الخمر ؟ قال : حرام أجره(2) .
ص:183
وأمّا سندها : الراوی الأخیر فی نقل الکافی(1) والاستبصار(2) والطبعة الحدیثة من مکاسب التهذیب(3) « جابر » ،ولکن فی الطبعة السابقة من مکاسب التهذیب(4) وفی المتاجر
من التهذیب فی کلتا الطبعتین(5)(6) « صابر » .
فعلی هذا الأقوی عندنا أنّه « جابر » ، والمراد به جابر بن یزید الجعفی ، وهو ثقة والمراد بعبد المؤمن ، الأنصاری أخو أبی مریم الأنصاری ، وکلاهما ثقتان ، ولذا صارت الروایة صحیحة الإسناد کما عبّرنا عنها بالصحیحة . ومن المحتمل أن « صابر » أیضاً فی بعض نسخ التهذیب کان مصحفاً لجابر .
وأمّا إن کان الراوی الأخیر « صابر » فلم یحرز وثاقته وصارت الروایة ضعیفة الإسناد به کما عبّر عنها بعض الأصحاب بالخبر ، نحو صاحبی المستند(7) والجواهر(8) والشیخ الأعظم(9) والنائینی(10) والإیروانی(11) والخوئی(12) والخمینی(13) والسبزواری(14) والتبریزی(15) وغیرهم قدس سرهم .
ص:184
وأمّا دلالتها : فعلی بطلان الإجارة واضحة ، لأنّ الظاهر من الحرمة فی المعاملات الحرمة الوضعیة ، وهی البطلان . وبعدم الفرق واتحاد الملاک بین الإجارة والبیع یعلم حکم البیع أیضاً .
ومنها : خبر عمرو بن حریث قال : سألت أبا عبد اللّه علیه السلام عن التوت أبیعه یصنع للصلیب والصنم ؟ قال : لا(1) .
دلالة الروایة علی بطلان البیع واضحة ، ولکن فی السند ضعف .
ومنها : صحیحة عمر بن اُذینة قال : کتبت إلی أبی عبد اللّه علیه السلام أسأله عن رجل له خشب فباعه ممّن یتخذه برابط ؟ فقال : لا بأس به .
وعن رجل له خشب فباعه ممّن یتخذه صلباناً ؟ قال : لا(2) .
والروایة - وإن کانت صحیحة الإسناد - ولکن حکم فیها بصحة البیع فی البربط وهی آلة لهو ، وببطلان البیع فی الصلیب وهو من هیاکل العبادة المبتدعة ، مع أنّ الملاک فیهما واحد وهو وقوع العقد علی استفادة الحرام من الشیء . فلا یمکن الإستدلال بهذه الصحیحة علی طرفی القول بالجواز والحرمة فی المسألة . وأعنی أن هذه الروایة بنفسها صارت من المتعارضین ولا یمکن الأخذ بها ، وهی نظیر ما مرّ منّا فی موثقة سماعة(3) الواردة فی بیع العذرة ، فراجع ما حرّرناه هناک .
أللهم إلاّ أنْ یقال : بأنَّ الأهمیة وشدّة الحرمة فی الصلیب وهیاکل العبادة المبتدعة صارت علّة الحرمة فی بیع الخشب ممّن یتخذه ، کما یأتی تفصیل ذلک فی المسألة الثالثة من هذا القسم إن شاء اللّه تعالی ، فانتظر .
ومنها : صحیحة اُخری لابن اُذینة قال : کتبت إلی أبی عبد اللّه علیه السلام أسأله عن الرجل یؤاجر سفینته ودابّته ممّن یحمل فیها أو علیها الخمر والخنازیر ؟ قال : لا بأس(4) .
ص:185
دلالة الروایة علی صحة هذه الإجارة واضحة وسندها أیضاً صحیح .
فکیف یمکن الجمع بین هذه الصحیحة وصحیحة جابر أو خبره أو خبر صابر ؟ الظاهر واللّه سبحانه هو العالم حمل صحیحة جابر أو خبره أو خبر صابر علی صورة اشتراط الحرام أو التقیید به أو انصراف المعاملة إلی الحرام أو وقعت مبنیّة علی الحرام ، وحمل صحیحة ابن أذینة علی ما عدی ذلک ، نحو ما إذا اتفق الحمل خارجاً .
بتقریب رفع الید عن ظاهر کلّ منهما بنص الآخر أو بالأخذ بالقدر المتیقَّن فی کلّ منهما .
ویؤیّد هذا الجمع خبر دعائم الاسلام رفعه عن أبی عبد اللّه علیه السلام أنّه قال : من اکتری دابةً أو سفینةً فحمل علیها المکتری خمراً أو خنازیراً أو ما یحرم ، لم یکن علی صاحب الدابة شیءٌ ، وإن تعاقدا علی حمل ذلک فالعقد فاسد والکراء علی ذلک حرام(4) .
وذهب إلی هذا الجمع جلّ أصحابنا المتقدمین وعدّة من أصحابنا المتأخرین قدس اللّه أسرارهم ، منهم : صاحبا الحدائق(1) والریاض(2) والشیخ الأعظم(3) والمحقق النائینی(4) والفقیه السبزواری(5) .
بنظرنا القاصر هذا هو الجمع الممکن بین روایات الباب ، وأمّا ما ذهب إلیه بعض الأساطین نحو السید الخوئی قدس سره من حمل روایة جابر علی الکراهة(6) فغیر تام .
ثم إن صاحب الجواهر قدس سره ذهب إلی ترجیح صحیحة ابن أذینة والجواز فی مسألتنا ، فقال بعد نقل الروایات المجوِّزة بنظره : « فلا إشکال فی دلالتها علی المطلوب کما لا إشکال فی قوّتها علی المعارض من وجوه ، خصوصاً بعد تأیدها بالسیرة علی المعاملة مع الملوک والاُمراء
ص:186
فیما یعملون صرفه فی تقویة الجند والعساکر المساعدین لهم علی الظلم والباطل وإجارة الدور والمساکن والمراکب لهم لذلک ، وبیع المطاعم والمشارب للکفار فی نهار شهر رمضان مع علمهم بأکلهم فیه وبیعهم بساتین العنب منهم مع العلم العادی بجعل بعضه خمراً ، وبیع القرطاس منهم مع العلم بأنّ منه ما یُتخذ کتب ضلال ... »(1) .
وأنت خبیر بأنّ هذه السیرة المدعاة من قبله قدس سره - وإن کانت صحیحة جاریة - ولکن کلامنا فی صورة اشتراط المعاملة علی الحرام أو التقیید بالحرام ونحو ذلک لا فی صورة علم البائع بأنّ المشتری یصرفه فی الحرام ، والأخیرة هی المسألة الثالثة الآتیة إن شاء اللّه ، والسیرة جاریة فیها لا فی مسألتنا . ونحن أیضاً نذهب إلی الجواز فی المسألة الثالثة ، ویأتی البحث عنها آنفاً إن شاء اللّه تعالی . والحمد للّه العالم بأحکامه وحلاله وحرامه .
ص:187
نبحث عن المسألة فی مقامین :
ذهب الشیخ الأعظم قدس سره إلی أنّ للبیع هنا صوراً ثلاث :
الاُولی : أنّ الصفات المحرّمة قد تکون داعیة إلی المعاملة بأزید من الثمن المتعارف ، وحیث أنّ تبعّض المعاملة وتقسیط الثمن بالنسبة إلی أصل العین ووصفها غیر متعارف ، تبطل المعاملة رأساً ، لأنّ تملک الثمن فی مقابل الوصف المذکور یدخل فی أکل المال بالباطل .
الثانیة : إذا اشتری العین التی لها الصفة الخاصة ولکن لا یقصدها المتعاملان بل یقصدان نفس العین ، مثلاً یشتریان الجاریة المغنّیة بما أنّها جاریة لا بما أنّها مغنیة ، فلا بأس بهذه المعاملة وهی صحیحة .
الثالثة : إذا اشتری العین مع وجود الصفة فیها ، ولکن لم یقصدا الحرام من تلک الصفة بل یقصدان حلالها ، نحو شراء الجاریة المغنّیة بوصف غنائها واشتراطها فی المعاملة ولکن یقصدان کسبها المحلّل فقط ، کالغناء فی الأعراس علی القول باستثنائها من حرمة الغناء . ففی هذه الصورة إذا کانت المنفعة المحلّلة المترتبة علی الوصف مقصودة للعقلاء ولم تکن نادرة فلا بأس بهذه المعاملة .
وأمّا إذا کانت المنفعة نادرةً ، فهل تلحق بالعین التی لها منفعة محرّمة غالباً ولها منفعة محلّلة نادرة بعدم جواز بیعها أم لا تلحق ؟
ذکر الشیخ الأعظم أنّ الأقوی عدم الإلحاق ، وحکم بصحة بیع الجاریة المغنّیة بلحاظ أنّ الغناء صفة کمال تصرف فی الحلال ولو نادراً ، وأنّ النصوص فی حرمة بیعها منصرفة عن هذه الصورة .
هذا کله تقریر وبسط وتوضیح لکلام الشیخ الأعظم قدس سره (1) .
ص:188
قد مرّ منّا فی بحث الدراهم المغشوشة أنّ الأوصاف والقیود التی وردت فی المعاملة بأیّ نحو کانت ، تنقسم علی قسمین رئیسین :
القسم الأوّل : أن یعدّ القید عرفاً من مقومات الشیء ، کما إذا باعه علی أنّه فضة فبان
رصاصاً ، ففی هذه الصورة تکون المعاملة باطلة مع تخلف الوصف والقید .
القسم الثانی : أن لا یعدّ القید عرفاً من مقومات الشیء بل من جهات الفضل والکمال ، کما إذا باع عبداً علی أنّه کاتب فبان أنه أمی ، ففی هذه الصورة تکون المعاملة صحیحة ولکن للمشتری خیار تخلف الوصف .
وحیث أنّ وصف الغناء لیست من مقومات الجاریة بل هی من صفات الکمال عند أهلها ، فیقع تمام الثمن بإزاء نفس الجاریة ، لأنّها من الأموال عند العقلاء ، فحینئذ لا یقع فی مقابل صفة التغنی أیّ شیء من الثمن ، ولذا علی القاعدة الأوّلیة تشملها إطلاقات حلّیة البیوع ، فتکون المعاملة صحیحة .
هذا ما ذهب إلیه المحقق الخوئی(1) قدس سره وبعض أساتذتنا(2) - مدظله - فی المقام ویقولان : بأن الحکم بفساد بیع الجاریة المغنیة علی خلاف القواعد الأوّلیة فی المعاملات .
أقول : تقسیم الاُوصاف والقیود التی وردت فی المعاملة علی قسمین رئیسین کما مرّ منّا صحیح ، ولکن بنظرنا القاصر بیع الجاریة المغنیة لا یدخل فی القسم الثانی بل یدخل فی القسم الأوّل ، یعنی أهل الغناء واللهو یعتبرون هذه الصفة فی الجاریة التی یشترونها بمنزلة أحد مقوماتها ، بحیث لو لم تکن صفة الغناء فیها کأنّ لم یشتر شیئاً أبداً . ولذا ربّما یبذلون بإزائها أکثر من قیمة الجاریة بآلاف واُلوف .
وعلی هذا حیث کانت الصفة محرَّمة شرعاً یکون أخذ المال بإزائها من أکل المال بالباطل ، فتکون المعاملة علی حسب القواعد الأوّلیة باطلة کما ذهب إلیه الشیخ الأعظم(3)
قدس سره .
ص:189
ویؤید ما ذکرناه کلام بعض آخر من أساتذتنا - مدظله - فی المقام حیث یقول : « ... إنّ وصف الغناء فی الجاریة المغنّیة المعدّة له کان یعدّ رکناً فی المعاملة علیها عند العرف ، وکان وزانه وزان هیئات آلات اللهو والقمار التی تعدّ رکناً بحیث یستهلک فیها مادّتها وإن کانت لها قیمة . فکأنّ الجاریة المغنّیة نوع برأسها فی قبال ما یشتری للنکاح أو الخدمة ، وکان لها أهل خاص وسوق خاص ، وربّما لم یکن لها مع قطع النظر عن غنائها قیمة ولم یرغب فیها
أصلاً » (1) .
ولکن مع ذلک کلّه یظهر لنا عند التأمل بأنّ التغنی لیس من مقومات الجاریة بل یکون داعیاً للمشتری . ومن الظاهر أنّ الدواعی یمکن أن تکون مختلفات مع المقوّمات . وعلی هذا یقع بیع الجاریة المغنّیة علیها ، وصفة الغناء تکون داعیة فقط ، فلذا یصح ما ذکره الأعلام من صحة بیعها علی القواعد الأوّلیة .
هذا کلّه فی المقام الأوّل .
منها : صحیحة إبراهیم بن أبی البلاد قال : قلت لأبی الحسن الأوّل علیه السلام : جعلت فداک إنّ رجلاً من موالیک عنده جوار مغنیّات قیمتهنّ أربعة عشر ألف دینار ، قد جعل لک ثلثها ، فقال : لا حاجة لی فیها ، إنّ ثمن الکلب والمغنیة سحت(2) .
سند الروایة صحیح ودلالتها علی بطلان بیع المغنیة واضحة ، حیث قال علیه السلام : إنّ الثمن سحت .
ومنها : خبر آخر لإبراهیم بن أبی البلاد قال : أوصی إسحاق بن عمر بجوار له مغنّیات أن نبیعهن ویحمل ثمنهنّ إلی أبی الحسن علیه السلام . قال إبراهیم : فبعت الجواری بثلاثمائة ألف درهم وحملت الثمن إلیه ، فقلت له : إنّ مولی لک یقال له : إسحاق بن عمر أوصی عند وفاته ببیع جوار له مغنّیات وحمل الثمن إلیک وقد بعتهنّ وهذا الثمن ثلاثمائة ألف درهم ، فقال :
ص:190
لا حاجة لی فیه ، إنّ هذا سحتٌ وتعلیمهنّ کفر والإستماع منهنّ نفاق وثمنهنّ سحت(1) .
دلالة الروایة علی بطلان بیعهنَّ واضحة ، ولکن فی السند إرسال .
ومنها : حسنة إسحاق بن یعقوب فی التوقیعات التی وردت علیه من محمّد بن عثمان العمری بخط صاحب الزمان علیه السلام : أمّا ما سألت عنه أرشدک اللّه وثبتک من أمر المنکرین لی - إلی أن قال - : وأمّا ما وصلتنا به فلا قبول عندنا إلاّ لما طاب وطهر وثمن المغنیة حرام(2) .
دلالة الحسنة علی بطلان بیع المغنیة واضحة .
ومنها : خبر الحسن بن علی الوشاء قال : سئل أبو الحسن الرضا علیه السلام عن شراء المغنیة ؟ قال : قد تکون للرجل الجاریة تلهیه ، وما ثمنها إلاّ ثمن کلب سحت والسحت فی النار(3) .
دلالتها علی فساد بیعها واضحة ،ولکن فی سندها ضعف بسهل بن زیاد .
ومنها : خبر سعید بن محمد الطاطری عن أبیه عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال : سأله رجل عن بیع الجواری المغنیات ؟ فقال : شراؤهنَّ وبیعهنّ حرام وتعلیمهنّ کفر واستماعهنّ نفاق(4) .
دلالة الروایة واضحة ، ولکن فی سندها ضعف .
ومنها : صحیحة معمّر بن خلاد عن أبی الحسن الرضا علیه السلام أنّه قال : خرجت وأنا اُرید داود بن عیسی بن علی وکان ینزل بئرمیمون وعلیَّ ثوبان غلیظان ، فرأیت امرأة عجوزاً ومعها جاریتان ، فقلت : یا عجوز أتباع هاتان الجاریتان ؟ فقالت : نعم ولکن لا یشتریهما مثلک ، قلت : ولم ؟ قالت : لأنّ إحداهما مغنیّة والاُخری زامرة ، فدخلت علی داود بن عیسی فرفعنی وأجلسنی فی مجلسی ، فلمّا خرجت من عنده قال لأصحابه : تعلمون من هذا ؟ هذا علی بن موسی الذی یزعم أهل العراق أنّه مفروض الطاعة(5) .
ص:191
بتقریب : أن العجوز إمّا عرفت أنّ الإمام علیه السلام هو الإمام المعصوم المفترض طاعته ، وإمّا لم تعرف بل وجدت فی سیماه أثر العبادة والسجود وعرفت أنّه علیه السلام من الذین یذهبون فی طریق الشریعة ، وفی کلا الفرضین الحکم حتّی عند العجوز واضح من حرمة الغناء تکلیفاً ومن عدم جواز بیع الجاریة المغنّیة والجاریة الزامرة فی الشریعة وعند المتشرعة ، ولذا قالت : « لا یشتریهما مثلک » . وقررها الإمام علیه السلام فی حکمها . فالروایة تدل علی بطلان بیعها فی الشریعة المقدسة . مضافاً إلی دلالتها أیضاً علی ما ذکر بعض الأعلام من أنّ أهل العرف والغناء یأخذون صفة الغناء من مقومات الجاریة المغنّیة ، ولذا قالت فی جواب الإمام علیه السلام ولم ؟ لأنّ إحداهما مغنّیة والاُخری زامرة . وهذه الصحیحة مضافاً إلی دلالتها علی حرمة الغناء تکلیفاً وفساد بیع الجاریة المغنّیة ، یمکن أن یستفاد منها أنّ صفات التغنی والضرب بآلات اللهو والموسیقی وهکذا الرقص من مقومات الجاریة عند أهلها ، ولذا حکم بفساد هذه
المعاملة علی القاعدة الأولیّة الشیخ الأعظم قدس سره .
ومنها : خبر دعائم الاسلام رفعه عن جعفر بن محمّد علیه السلام أنّه قال : لا یحلّ بیع الغناء ولا شراؤه واستماعه نفاق وتعلّمه کفر(1) .
بتقریب : أن عدم حلّیة بیع الغناء یعنی فساد بیع المغنیّة لا أقل من شمولها له . ولکن فی السند إرسالٌ .
ومنها : خبر القطب الراوندی رفعه عن النبی صلی الله علیه و آله وسلم أنّه قال : لا یحلّ بیع المغنّیات ولا شراؤهنّ وثمنهنّ حرام(2) .
دلالتها واضحة ، ولکن فی سندها إرسالٌ .
ومنها : خبر ابن أبی جمهور الأحسائی رفعه عن النبی علیه السلام أنّه نهی عن بیع المغنّیات وشرائهنَّ والتجارة فیهنَّ وأکل ثمنهنَّ(3) .
دلالته واضحة ، ولکن فی سنده ارسالٌ .
ص:192
وبالجملة ، ظاهر هذه الروایات - وفیها الصحیحة والحسنة - تدلّ علی بطلان بیع الجاریة المغنیّة . وقد یقال بوجود روایات تعارضها ، نحو :
خبر عبد اللّه بن الحسن الدینوری قال : قلت لأبی الحسن علیه السلام : جعلت فداک ما تقول فی النصرانیة أشتریها وأبیعها من النصرانی ؟ فقال : اشتر وبع ، قلت : فأنکحُ ؟ فسکت عن ذلک قلیلاً ، ثم نظر إلیَّ وقال شبه الإخفاء : هی لک حلال .
قال : قلت : جعلت فداک فأشتری المغنّیة أو الجاریة أن تغنی اُرید بها الرزق لا سوی ذلک ، قال : اشتر وبع(1) .
بتقریب : أنّ الإمام علیه السلام أجاز البیع إذا کان لطلب الرزق ، قال علیه السلام : اشتر وبع .
وفیه : أولاً : الروایة ضعیفة الإسناد بالدینوری ولیس له إلاّ روایة واحدة وهی هذه .
وثانیاً : الظاهر أنّ مراد الإمام علیه السلام - علی فرض صدوره منه علیه السلام - بیع المغنّیة بصفة
أنّها جاریة لا أنّها موصوفة بصفة الغناء ، وهذا ظاهر سؤال السائل « أرید بها الرزق » ، یعنی الرزق الحلال ، وأجازه الإمام .
وکذلک حملها المحقق النائینی قدس سره حیث یقول : « وأمّا لو قصد نفس الموصوف دون الصفة [ یعنی صفة التغنی ] فلا إشکال فی الصحة ، لأنّه مال عرفاً وشرعاً ، لأنّ المبغوض هو إعمال الوصف فیما هو حرام شرعاً ، وأمّا ذات العبد والجاریة فلم یخرجا عن المالیّة ، ویدل علیه ما فی ذیل روایة الدینوری ... »(2) .
وثالثاً : ثمَّ لو تنزلنا علی فرض دلالة الروایة علی جواز بیع الجاریة المغنّیة مع دخالة وصفها فی الثمن ، تحمل الروایة علی التقیة . والشاهد علی ذلک موجود فیها ، وهو کلام الدینوری : « فسکت عن ذلک قلیلاً ثم نظر إلیَّ وقال شبه الإخفاء : هی لک حلال » .
ولو لم یکن مقام التقیة ، فلا وجه لهذا السکوت والنظر والمقال شبه الإخفاء ، فکلّ هذا
ص:193
شاهد علی أنّ الإمام علیه السلام فی مقام التقیة لذا أجاز بیع الجاریة المغنّیة تقیةً .
رابعاً : علی فرض تمامیة الدلالة علی جواز بیعهنّ ، وقع التعارض بین هذه الروایة وغیرها من الروایات الماضیة ، والترجیح مع الروایات الماضیة لکثرتها وشهرتها وصحة أسناد بعضها .
وأمّا مرسلة الصدوق قال : سأل رجل علی بن الحسین علیه السلام عن شراء جاریة لها صوت ؟ فقال : ما علیک لو اشتریتها فذکّرتک الجنة - یعنی بقراءة القرآن والزهد والفضائل التی لیست بغناء ، فأمّا الغناء فمحظور(1) .
لا تدلّ هذه المرسلة علی جواز بیعهنّ ، لأنه أولاً : أنّها مرسلة لا یمکن الإستدلال بها .
وثانیاً : مورد السؤال لیست الجاریة المغنّیة بل السؤال عن الجاریة لها صوت ، وبینهما بون بعید ، فمورد المرسلة خارج عن محلِّ کلامنا .
وثالثاً : الظاهر أنَّ التفسیر الوارد فیها من کلام الصدوق قدس سره لا من الإمام علیه السلام .
ومع ذلک کلّه یمکن حمل الروایات الناهیة علی صورة قصد صفة التغنی فی الجاریة ، وحمل هاتین الروایتین علی صورة قصد الموصوف أی نفس الجاریة .
وعلی هذا یمکن الجمع بین الروایات ونتیجتها الحکم بصحة بیع الجواری المغنّیات إلاّ
أن یقصد من البیع الغناء . ویأتی منّا الکلام حول جواز بیعهنَّ فی بحث الغناء ، فانتظر .
یظهر من الروایات حرمة کسب المغنّیة وضعاً وتکلیفاً إلاّ التی تزفّ العرائس ، تدلّ علی هذا الحکم :
حسنة نصر بن قابوس قال : سمعت أبا عبد اللّه علیه السلام یقول : المغنّیة ملعونة ، ملعون من أکل کسبها(2) .
ظهور الحرمة من اللعن واضح ، والروایة تدل علی حرمة الغناء بفقرتها الاُولی أی
ص:194
« المغنیة الملعونة » ،وتدلّ علی حرمة اکتسابها أیضاً بفقرتها الثانیة ، وسندها لا بأس به .
ومنها : خبر أبی بصیر قال : سألت أبا عبد اللّه علیه السلام عن کسب المغنّیات ؟ فقال : التی یدخل علیها الرجال حرام ، والتی تدعی إلی الأعراس لیس به بأس ، وهو قول اللّه عزوجلّ : «وَمِنَ النَّاسِ مَن یَشْتَرِی لَهْوَ الْحَدِیثِ لِیُضِلَّ عَن سَبِیلِ اللَّهِ»(1)(2) .
وردت فی الروایة حرمة کسب المغنّیات التی یدخل علیها الرجال وعدّ من مصادیق الآیة الشریفة ، وورد فیها أیضاً حکم الاستثناء ، یعنی جواز کسبهنَّ فی الأعراس . ولکن فی السند ضعف بعلی بن أبی حمزة البطائنی .
ومنها : صحیحة أبی بصیر قال : قال أبو عبد اللّه علیه السلام : أجر المغنّیة التی تزفّ العرائس لیس به بأس ، ولیست بالتی یدخل علیها الرجال(3) .
ومنها : خبر آخر لأبی بصیر عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال : المغنّیة التی تزف العرائس لا بأس بکسبها(4) .
الروایة ضعیفة بالحکم لأنّه مجهول .
ویمکن اتحاد الروایتین الأخیرتین ، بل اتحادهما مع ما قبلهما من خبر أبی بصیر ، ونفس
وجود هذا الاستثناء یدلّ علی حرمة غیرها من کسب المغنّیات ، أو أنّ مفهومها یدلّ علی حرمة کسب المغنّیات .
ومنها : خبر دعائم الإسلام عن أبی جعفر محمد بن علی علیه السلام : أنّ رجلاً من شیعته أتاه فقال : یابن رسول اللّه وردت المدینة فنزلت علی رجل أعرفه ولا أعرفه بشیءٍ من اللهو ، فإذا جمیع الملاهی عنده ، وقد وقعت فی أمر ما وقعت فی مثله ، فقال له : أحسن جوار القوم حتّی تخرج من عندهم . فقال : یابن رسول اللّه فما تری فی هذا الشأن ؟ قال : أمّا القینة التی تتخذ لهذا
ص:195
فحرام ، وأمّا ما کان فی العرس وأشباهه فلا بأس به(1) .
الظاهر من قوله علیه السلام « أحسن جوار القوم حتّی تخرج من عندهم » یعنی یلاحظ الرجل فی معاشرتهم الخُلق الحَسَنِ ، ولعله ناظر إلی أنهم لا یفیدهم النهی عن المنکر ، أو أنّهم لا یرون بعض الملاهی من المنکرات کما هو مذهب القوم فتویً أو عملاً .
وأمّا قوله علیه السلام : « أمّا القینة التی تتخذ لهذا فحرام » یعنی الأمة التی تغنی ، ویظهر هذا من استثنائه علیه السلام العرس . وأمّا ما ورد فی ذیل الروایة من قوله « وأشباهه » لم یرد فی غیرها ، فلا یمکن الأخذ به ، لا سیما مع الإرسال الموجود فی الروایة . وعدم إفتاء الأصحاب فی جواز التغنی فی أشباه العرس .
وبالجملة ، هذه الروایات مع ضمّ الروایات الواردة فی حرمة الغناء والروایات المذکورة سابقاً فی بطلان بیع المغنّیات تدلّ بوضوح علی حرمة کسب المغنّیات وضعاً وتکلیفاً ، وورد الإستثناء بالنسبة إلی کسب المغنّیة التی تغنی فی زف العرائس فقط .
قیّد بعض الفقهاء هذا الاستثناء باُمور ثلاثة : 1 - إذا لم تتکلم بالباطل 2 - ولم تلعب بالملاهی 3 - ولم یدخل علیها الرجال .
ولکن قال صاحب الجواهر قدس سره بعد هذه القیود المذکورة فی کلام البعض : « لکن فیه أنّ ذلک کلّه محرّمات خارجة عنه لا مدخلیة له فیها خصوصاً الأخیر ...»(2) وما ذکره قدس سره متین جداً .
هل یجوز کسب المغنّی وغناؤه فی الأعراس فی مجالس الرجال إلحاقاً له بالمغنّیة أم لا ؟
الظاهر - واللّه سبحانه هو العالم - حرمة غنائه حتّی فی مجالس الأعراس وحرمة کسبه فیها تکلیفاً ووضعاً ، لأنّ الحکم فی المغنّیة علی خلاف القاعدة والأصل فیقتصر علی مورده الخاص ، ولا یمکن التعدی منها إلی المغنّی کما قال صاحب الجواهر قدس سره : « نعم ینبغی
ص:196
الإقتصار علی خصوص المغنّیة دون المغنّی وعلی العرس دون الختان ونحوه »(1) .
مع ذلک کلّه أنکر جدنا الشیخ الأکبر کاشف الغطاء قدس سره استثناء التغنی فی الأعراس من حرمته وادعی عدم جواز التخصیص فیه ، وقال فی ختام کلامه : « ... وقد ظهر ممّا مرّ أنّه لا ینبغی صدور الإستثناء من أهل النظر ، کیف لا ؟ وتحریم الغناء کتحریم الزنا ، أخباره متواترة وأدلته متکاثرة ، عُبّر عنه بقول الزور ولهو الحدیث فی القرآن ، ونادت الأخبار بأنّه المحرّک علی الفجور والعصیان ، فکان تحریمه من الاُمور العقلیة التی لا تقبل تقییداً ولا تخصیصاً بالکلیّة . وکیف یخطر بالبال أو یجری فی الخیال أن یقع مثل هذا الکلام من سادات الأنام ، الآمرین بترک الشبهات خوفاً من الوقوع فی المحرمات ؟ ! مع أنّه مؤذن بجواز ما فیه معظم اللهو عن ذکر المعاد ومدنٍ إلی الزنا واللواط اللذین هما رأس الفساد . علی أن فی ضعف دلالة تلک الأخبار ما یخرجها عن محلِّ الإعتبار وموافقتها للتقیة یرفع اعتبارها فی مقابلة ما مرّ بالکلیّة ، ولو کانت فی غایة الکثرة ما عادلت فکیف مع أنّها فی غایة الندرة ؟ ! ولو فُرِّق بین الحقِّ والباطل لرأیته من القسم الثانی بدیهة ، وربّما کان قبحه فی غیر الأعراس أقلّ منه فیها .
ثم إنّ القول بالتحریم هو المشهور علی الظاهر ، لأنّ کلّ من حرّم الغناء ولم یستثن فهو من المحرِّمین وحاله کحال المصرّحین ، وهم عدد کثیر من الفحول والأساطین ، لکنّه بعید عن طریقة المخالفین والمتصوّفین »(2) .
أقول : یأتی منّا تفصیل الکلام حول هذا الإستثناء فی مبحث الغناء إن شاء اللّه تعالی، فانتظر .
قد قسّم الشیخ الأعظم هذا الفرع إلی قسمین :
ص:197
بیع العنب ممّن یعمله خمراً أو الخشب بقصد أن یعمله صنماً أو صلیباً أو بربطاً ، یعنی قصد البائع المنفعة المحرّمة بنحو الداعی من دون أن یبذل بإزائه الثمن . وفی هذا القسم أیضاً ذهب الشیخ الأعظم إلی الحرمة وبطلان المعاملة وقال : « ... لأنّ فیه إعانة علی الإثم والعدوان ولا إشکال ولا خلاف فی ذلک»(1) .
واعترض علیه المحقق الخوئی قدس سره بوجوه أربعة :
أولاً : أنّ مفهوم الإعانة علی الإثم والعدوان - کمفهوم الإعانة علی البرّ والتقوی - أمر واقعی لا یتبدل بالقصد ، ولا یختلف بالوجوه والإعتبارات .
وثانیاً : لا دلیل علی حرمة الإعانة علی الإثم ما لم یکن التسبیب والتسبب فی البین .
وثالثاً : إنّا إذا سلّمنا حرمة البیع مع قصد الغایة المحرّمة لصدق الإعانة علی الإثم علیه ، فلابدّ من الإلتزام بحرمة البیع مع العلم بترتب الحرام أیضاً ، لصدق الإعانة علی الإثم علیه . وإن قلنا بالجواز فی الثانی من جهة الأخبار المجوِّزة فلابدّ من القول بالجواز فی الأوّل أیضاً ، لعدم اختصاص الجواز الذی دلّت علیه الأخبار بفرض عدم القصد .
ورابعاً : لم یتبین لنا الفرق بین القسمین ، فإن القصد بمعنی الإرادة والاختیار یستحیل أن یتعلق بالغایة المحرَّمة فی محل الکلام ، لأنّها من فعل المشتری ، ... فلا معنی لفرض تعلّق القصد بالغایة المحرّمة ، وأمّا القصد بمعنی العلم والإلتفات فهو مفروض الوجود فی القسمین ، فلا وجه للتفصیل بینهما ...»(2) .
أقول : ما ذکره قدس سره من الوجوه الأربعة تامة ، ولا فرق بین القسمین فی المقام .
بیع العنب ممّن یعمله خمراً وبیع الخشب ممّن یعمله صنماً أو صلیباً أو بربطاً أو آلة لهو أو آلة قمار من دون قصد البائع ذلک . ذهب الشیخ الأعظم قدس سره فی هذا القسم إلی الجواز وقال : « ... فالأکثر علی عدم التحریم للأخبار المستفیضة ... »(3) .
أقول : حیث أنّ القسمین ، بنظرنا علی نمط واحد ولا فرق بینهما نبحث عنهما فی
ص:198
مقامین :
حکم المسألة بحسب القواعد العامة وعمدتها الإعانة علی الإثم .
فلابد لنا أن نبحث عن هذه القاعدة العامة ، أعنی حرمة الإعانة علی الإثم ، ویقع الکلام فی هذه القاعدة فی اُمور :
الظاهر أنّ المراد من الإعانة ومفهومها العرفی هی : وقوع المعان علیه فی الخارج والعمل ، بلا فرق بین وجود قصد المعین الإعانة وعلمه أم لا ، وبلا فرق بین المقدمات القریبة والبعیدة ، وغیر ذلک من الأقوال فی مفهومها التی ربّما أنهاها البعض إلی ستة(1) .
والشاهد علی ذلک الاستعمالات العرفیة لها، نحو : کتبتُ باستعانة القلم ، أو أعاننی والدی فی تحصیل العلوم ، أو أعاننی الریح علی تحمّل حرارة الجوّ ، أو قوله صلی الله علیه و آله وسلم فی مرفوعة الراوندی : « من تبسّم علی وجه مُبتدعٍ فقد أعان علی هدم الإسلام »(2) ، إلی غیر ذلک من استعمالاتها . ودعوی کونها مجازات ، جزافیة لعدم القرینة علیها .
والإعانة من الاُمور الإضافیة ، أی تحتاج إلی وجود طرفی المعین والمعان فی الخارج ، وإلاّ لم یصدق عنوان الإعانة کما لا یخفی .
هل هی حرام أم لا ؟ الأصل الأوّلی یقتضی جوازها ، ولکن ذهب المشهور من فقهائنا إلی حرمتها ، واستدلوا علی ذلک بعدّة من الوجوه :
الأوّل : دعوی الإجماع علی حرمة الإعانة علی الإثم .
وفیه : أولاً : تحصیل الإجماع مشکل جداً ، نعم ذهب المشهور إلی الحرمة فی المقام .
ص:199
وثانیاً : علی فرض وجود الإجماع ، من المحتمل أن یکون مستند المجمعین إحدی الوجوه المذکورة ، فصار الإجماع مدرکیّاً ولم یکن تعبدیّاً ، فلا یفیدنا شیئاً .
الثانی : قوله تعالی «وَتَعَاوَنُواْ عَلَی الْبرِّ وَالتَّقْوَی وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَی الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ»(1) .
بتقریب : أنّ الآیة الشریفة تدلّ علی لزوم الإعانة علی البرّ والحسنات والخیر والتقوی ، وتنهی أیضاً عن الإعانة علی الإثم والمعصیة والذنب وعدوان العباد ، والنهی ظاهر فی الحرمة .
وفیه : التعاون غیر الإعانة ، التعاون عبارة عن اجتماع أشخاص لإیجاد أمر من المعصیة أو الطاعة کهدم مسجد أو بنائه ، ولذا ینسب الفعل إلی الجمیع لا إلی الشخص الواحد ، بخلاف الإعانة التی هی عبارة عن تهیئة مقدمات فعل الغیر مع استقلاله فی فعله ، کإعطاء الخشب لمن أراد أن یصنع آلة لهو أو قمار . فبین الإعانة والتعاون بون بعید ، والآیة الشریفة تدلّ علی حرمة التعاون علی الإثم والعدوان ، ولکن الإعانة غیر التعاون فلا تدلّ علی حرمة الإعانة .
الثالث : ترک الإعانة علی الإثم دفع للمنکر ، ودفع المنکر کرفعه واجب ، فترک الإعانة علی الإثم واجب ، فالإتیان بها حرام .
وفیه : أولاً : حرمة الإعانة علی الإثم إنّما تتم علی هذا الاستدلال إذا ذهبنا إلی أنّ الأمر بالشیء یقتضی النهی عن ضده العام ، ولم یذهب إلی هذا المبنی أحد من المحققین .
وثانیاً : النهی عن المنکر وان کان من الواجبات الشرعیة بل بها تقام الفرائض إلاّ أنّ الدلیل منحصر بوجوبه ، ولا یدلّ دلیل علی وجوب دفع المنکر ، وهو عبارة عن تعجیز فاعله عن الإتیان به .
نعم ، إذا کان المنکر من الأمور التی اهتمّ الشارع بترکها - کقتل النفوس ، وهتک الأعراض ، ونهب الأموال المحترمة - یجب دفعها ، یعنی علی کلِّ مسلم أن یمنع من إحداث هذه
ص:200
الاُمور ، بل لعلَّ دفعها عین رفعها ، إذ لا معنی لرفع القتل أو الهتک أو النهب إلاّ دفعها ، ولا یتحقق رفعها إلاّ بدفعها . ففی هذه الاُمور نذهب إلی وجوب دفع المنکر ، وأمّا فی غیرها فلیس لنا دلیل علی ذلک .
وأمّا ما ذکره المحقق الخوئی قدس سره رداً علی هذا الوجه بقوله : « وفیه : أولاً : إنّ الإستدلال بدفع المنکر هنا إنّما یتجه إذا علم المعین بانحصار دفع الإثم بترکه الإعانة علیه ، وأمّا مع الجهل
بالحال أو العلم بوقوع الإثم بإعانة الغیر علیه فلا یتحقق مفهوم الدفع »(1) .
غیر تام ، لأنّ مع إتیان الغیر لا یتحقق مفهوم الدفع بالنسبة إلی الجمیع ولکن یتحقق الدفع بالنسبة إلی التارک وهو بنفسه لا یفعل الحرام ، وکلّ إنسان مسؤل عن فعل نفسه لا غیره . فمع ترکه الإعانة یتحقق مفهوم الدفع بالنسبة إلیه ، وهذا یکفی فی صحة الاستدلال ، فتأمل .
الرابع : الاستدلال بالروایات المستفیضة الواردة حول حرمة إعانة الظالمین وأعوانهم وتقویتهم وتعظیمهم ولو بمدّة قلم أو کتابة رقعة أو جبایة خراج ، فقد ورد فی خبر علی بن أبی حمزة البطائنی قال : کان لی صدیق من کتّاب بنی اُمیة ، فقال لی : إستأذن لی عن أبی عبد اللّه علیه السلام ، فأستاذنت له علیه فأذن له ، فلمّا أن دخل سلّم وجلس ، ثم قال : جعلت فداک إنّی کنت فی دیوان هؤلاء القوم فأصبت من دنیاهم مالاً کثیراً وأغمضت فی مطالبه ؟ فقال أبو عبد اللّه علیه السلام : لو لا أنّ بنی أمیة وجدوا من یکتب لهم ویحبی لهم الفیء ویقاتل عنهم ویشهد جماعتهم لما سلبونا حقّنا ، ولو ترکهم الناس وما فی أیدیهم ما وجدوا شیئاً إلاّ ما وقع فی أیدیهم ، الحدیث(2) .
وورد فی صحیحة أبی بصیر قال : سألت أبا جعفر علیه السلام عن أعمالهم ، فقال لی : یا أبا محمّد لا ولا مدّة قلم ، إنّ أحدهم لا یصیب من دنیاهم شیئاً إلاّ أصابوا من دینه مثله أو قال : حتّی یصیبوا من دینه مثله - الوهم من ابن أبی عمیر -(3) .
ص:201
وهذه الروایات وأمثالها تدلّ علی حرمة إعانة الظالمین ، وبتنقیح المناط وعدم الفرق نذهب إلی حرمة الإعانة علی کلِّ إثم .
وفیه : الجواب عن هذا الاستدلال واضح ، نقول بحرمة إعانة الظالمین ولو بمدّة قلم ولکن لا یمکن التعدی إلی حرمة الإعانة علی کل إثمٍ ، ولا علم لنا بعدم الفرق بینهما ودون إثباته خرط القتاد ، وهذا الإستدلال أشبه شیءٍ بالقیاس بل هو بعینه .
وبالجملة ، لا دلیل علی حرمة الإعانة علی الإثم ، والأصل الأوّلی یقتضی جوازها ، فنذهب إلی جوازها خلافاً للمشهور وتبعاً لعدّة من المحققین منهم : السید الخوئی قدس سره (1) وشیخنا
الأستاذ - مدظله -(2) .
ذهب المحقق النائینی قدس سره إلی عدم جواز تخصیص حکمها وقال : « لا إشکال فی عدم إمکان تخصیصها بعد تحقق موضوعها ، لأنّ هذه من العناوین الغیر قابلة للتخصیص ، فإنّها کنفس المعصیة وکالظلم ، فإنّه کما لا یمکن أن یکون معصیةً خاصةً مباحةً فکذلک لا یمکن أن تکون الإعانة علی المعصیة مباحة ... »(3) .
والحق أنّها تقبل التخصیص ویکفی فی ردّ المحقق النائینی قدس سره ما ذکره تلمیذه المحقق الخوئی قدس سره فی المقام ، حیث قال : « ولکن الوجوه المتقدمة الدالة علی الجواز حجة علیه ، ومن هنا لو أکره الجائر أحداً علی الإعانة علی الإثم أو اضطر إلیها لا شبهة حینئذ فی جوازها ، ولو کانت حرمتها کحرمة الظلم لا تختلف بالوجوه والإعتبار ولا تقبل التخصیص والتقیید لمّا کانت جائزة فی صورتی الإکراه والاضطرار أیضاً »(4) .
الظاهر - واللّه سبحانه هو العالم - أنّ حکم الإعانة سواء کان الجواز أو الحرمة قابل
ص:202
للتخصیص والتقیید ولیس کالمعصیة والظلم وحکمهما ، ولذا ذهبنا إلی جوازها . ولکن یقیّد هذا الجواز بروایات حرمة إعانة الظالمین ، وهکذا المشهور یقیّدون حرمتها بالروایات المجوّزة الواردة فی مسألتنا هذه ، أعنی بیع العنب ممّن یرید أن یصنعه خمراً . هذا کلّه فی المقام الأوّل ، یعنی ما تقتضیه القواعد العامة فی المقام .
تدلّ عدة من الروایات علی جواز هذا البیع :
منها : صحیحة محمد الحلبی قال : سألت أبا عبد اللّه علیه السلام عن بیع عصیر العنب ممّن یجعله حراماً ؟ فقال : لا بأس به ، تبیعه حلالاً لیجعله حراماً ، فأبعده اللّه وأسحقه(4) .
ومنها : صحیحة عمر بن اُذینة قال : کتبت إلی أبی عبد اللّه علیه السلام أسأله عن رجل له کرم أبیع العنب والتمر ممّن یعلم أنّه یجعله خمراً أو مسکراً ؟ فقال : إنّما باعه حلالاً فی الأبان الذی یحلّ شربه أو أکله ، فلا بأس ببیعه(1) .
ومنها : صحیحة اُخری للحلبی عن أبی عبد اللّه علیه السلام انّه سُئل عن بیع العصیر ممّن یصنعه خمراً ؟ فقال : بعه ممّن یطبخه أو یصنعه خلاًّ أحبّ إلیَّ ولا أری بالأوّل بأساً(2) .
ومنها : صحیحة رفاعة بن موسی قال : سئل أبو عبد اللّه علیه السلام وأنا حاضر عن بیع العصیر ممّن یخمره ، قال : حلال ، ألسنا نبیع تمرنا ممّن یجعله شراباً خبیثاً(3) .
ومنها : صحیحة أبی المغرا قال : سأل یعقوب الأحمر أبا عبد اللّه علیه السلام وأنا حاضر فقال : إنّه کان لی أخ وهلک وترک فی حجری یتیماً ولی أخ یلی ضیعة لنا وهو لنا وهو یبیع العصیر ممّن یصنعه خمراً ویؤاجر الأرض بالطعام - إلی أن قال : - فقال : أما بیع العصیر ممّن یصنعه خمراً فلا بأس ، خذ نصیب الیتیم منه(4) .
ص:203
ومنها : خبر یزید بن خلیفة عن أبی عبد اللّه علیه السلام سأله رجل وأنا حاضر قال : إنّ لی الکرم ؟ قال : تبیعه عنباً ، قال : فإنّه یشتریه من یجعله خمراً ؟ قال : فبعه إذاً عصیراً ، قال : فإنّه یشتریه منّی عصیراً فیجعله خمراً فی قربتی ؟ قال : بعته حلالاً فجعله حراماً فأبعده اللّه ، ثم سکت هنیهة ثم قال : لا تذرن ثمنه علیه حتّی یصیر خمراً فتکون تأخذ ثمن الخمر(1) .
ومن هنا ظهر وجه الکراهة الواردة فی خبر یزید بن خلیفه والنهی عن بیع العصیر إلاّ بالنقد الواردة فی صحیحة أحمد بن أبی نصر الآتیان ، والوجه فی ذلک لئلا یؤخذ ثمن الخمر .
ومنها : خبر یزید بن خلیفة قال : کره أبو عبد اللّه علیه السلام بیع العصیر بتأخیر(2) .
ومنها : صحیحة أحمد بن محمّد بن أبی نصر قال : سألت أبا الحسن علیه السلام بیع العصیر
فیصیر خمراً قبل أن یقبض الثمن ؟ فقال : لو باع ثمرته ممّن یعلم أنّه یجعله حراماً لم یکن بذلک بأس ، فأمّا إذا کان عصیراً فلا یباع إلاّ بالنقد(3) .
ومنها : خبر أبی بصیر قال : سألت أبا عبد اللّه علیه السلام عن ثمن العصیر قبل أن یغلی لمن یبتاعه لیطبخه أو یجعله خمراً ؟ قال : إذا بعته قبل أن یکون خمراً وهو حلال فلا بأس(4) .
ومنها : خبر أبی کهمس قال : سأل رجل أبا عبد اللّه علیه السلام عن العصیر فقال : لی کرم وأنا أعصره کلّ سنة وأجعله فی الدنان وأبیعه قبل أن یغلی ، قال : لا بأس به وإن غلی فلایحلّ بیعه ، ثم قال : هو ذا نحن نبیع تمرنا ممّن نعلم أنّه یصنعه خمراً(5) .
ومنها : خبر دعائم الاسلام رفعه عن أبی عبد اللّه علیه السلام أنّه سئل عن بیع العنب والتمر والزبیب والعصیر ممّن یصنعه خمراً ، قال : لا بأس بذلک إذا باعه حلالاً ، فلیس علیه أن یجعله المشتری حراماً(6) .
ص:204
ومنها : حسنة محمّد بن إسماعیل قال : سأل الرضا علیه السلام رجل - وأنا أسمع - عن العصیر یبیعه من المجوس والیهود والنصاری والمسلمین قبل أن یختمر ویقبض ثمنه أو ینسأ ، قال : لا بأس إذا بعته حلالاً ، فهو أعلم ، یعنی : العصیر ، وینسئ ثمنه(1) .
سندها حسن بعلی بن السندی ، لأنّه لاأقل من حسنه ، « فهو أعلم » یعنی المشتری أعلم بما هو وظیفته ، قوله « یعنی » من کلام الراوی .
وبالجملة ، أنت تری أن جمیع الروایات تدلّ علی جواز بیع العنب ممّن یعمله خمراً .
وقد تخیّل وجود التعارض بین هذه الطائفة من الروایات الدالة علی الجواز وبین الروایتین الآتیتین :
إحداهما : صحیحة ابن أذینة قال : کتبت إلی أبی عبد اللّه علیه السلام أسأله عن رجل له خشب فباعه ممّن یتخذه برابط ؟ فقال : لا بأس به وعن رجل له خشب فباعه ممّن یتخذه صلباناً ؟ قال : لا(6) .
وثانیتها : خبر عمرو بن حریث قال : سألت أبا عبد اللّه علیه السلام عن التوت أبیعه یصنع للصلیب والصنم ؟ قال : لا(2) .
ولکن نحن لا نری المعارضة هنا ، لأنّ الفقرة الاُولی من صحیحة ابن اُذینة تدلّ علی الجواز بوضوح ، حیث أجاز الإمام علیه السلام بیع الخشب ممّن یتخذه بربطاً ، وأمّا الفقرة الثانیة منها وخبر عمرو بن حریث فنأخذ بهما فی موردهما ، وهو بیع الخشب ممّن یتخذه ویصنع منه هیاکل العبادة المبتدعة ، نحو : الأُوثان والأصنام والصلبان ونذهب إلی عدم جواز هذا البیع ، لأنّ أمر التوحید مهمّ بل إنّه من أهم الأمور ، وهذه الأشیاء تعارض توحید اللّه سبحانه وتدعو الناس إلی الشرک و «إِنَّ اللّهَ لاَ یَغْفِرُ أَن یُشْرَکَ بِهِ وَیَغْفِرُ مَا
ص:205
دُونَ ذَلِکَ لِمَن یَشَاء وَمَن یُشْرِکْ بِاللّهِ فَقَدِ افْتَرَی إِثْماً عَظِیماً»(1) و «إِنَّ اللّهَ لاَ یَغْفِرُ أَن یُشْرَکَ بِهِ وَیَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِکَ لِمَن یَشَاءُ وَمَن یُشْرِکْ بِاللّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً بَعِیداً »(2) .
ولذا لا نحتاج إلی وجوه الجمع فی المقام التی أنهاها بعض أساتذتنا - مدظله - إلی ستة أوجه(3) .
واختار - مدظله - بعد نقلها ما اخترته فی المقام وقال : « والصناعة الفقهیة أیضاً تقتضی ، الجواز لاستفاضة أخبار الجواز وصحة کثیر منها وإفتاء الأکثر بها ، وخبر المنع ورد فی خصوص بیع الخشب ممّن یتخذه صلیباً أو صنماً . ویمکن التفصیل بین هیاکل العبادة وبین غیرها ممّا لیست فی حدِّها من الأهمیة والفساد ، وإلقاءِ الخصوصیة إنّما یصح مع العلم بعدمها ، ولا علم بذلک فی المقام مع قوّة المفسدة فی هیاکل العبادة »(4) .
وهکذا اختار مختارنا فی المقام المحقق الخوئی قدس سره (5) وشیخنا الأستاذ - مدظله - وقال : « المتیقَّن هذا الوجه »(6) ، وقال الشیخ الأعظم فی شأنه : « وهذا الجمع قول فصل لو لم یکن
قولاً بالفصل »(7) والحمد للّه علی کل حالٍ .
ص:206
ما یحرم لتحریم ما یقصد منه شأناً بمعنی ، أنّ من شأنه أن یقصد منه الحرام ، وتحریم هذا مقصور علی النص ... کبیع السلاح من أعداء الدین ... .
وقد ادعی الإجماع فی مسألتنا فی الجملة فی کلمات بعض فقهائنا ، منهم :
المحدث البحرانی قدس سره قال : « المشهور بین الأصحاب بل الظاهر أنّه لا خلاف فیه : تحریم بیع السلاح علی أعداء الدین »(1) .
وقال فی الریاض : « الثالث : ما یقصد به المساعدة علی المحرَّم کبیع السلاح مثل السیف والرمح لأعداء الدین مسلمین کانوا أم مشرکین إذا کان فی حال الحرب مع أهله إجماعاً ، وهو الحجة »(2) .
والنراقی قدس سره قال : « بیع السلاح لأعداء أهل الدین مسلمین کانوا أم مشرکین وحرمته فی الجملة إجماعیّة هو الحجة فیها »(3) .
وقال جدنا الفقیه الشیخ جعفر قدس سره : « بیع أولیاء الدین أو أعدائه السلاح ، وهو مطلق ما یتخذ للحرب ، ولو أرید خصوص الحدید کان مثالاً - وکذا مطلق نقله لأعداء الدین من إسلام أو مذهب ، أصل أو فرع ، قُصد به المساعدة أو لا ، مع قیام الحرب بین الظالمین والمظلومین وإن کانوا مسلمین ، مع احتمال انتفاعهم به فی تلک الحرب ، للإجماع وظاهر
ص:207
الأخبار ، ومع عدم قیام الحرب لا یحرم إلاّ مع القصد أو الشرط »(1) .
وادعی الشیخ الأعظم قدس سره : عدم الخلاف فیها(2) .
وقد أنهی الفقیه السید الیزدی قدس سره الأقوال فی مسألة بیع السلاح من أعداء الدین إلی ثمانیة ، فقال : « والمتحصل من ظواهر کلماتهم أقوال :
أحدها : وهو ظاهر المشهور اختصاص الحرمة بحال قیام الحرب .
الثانی : التحریم فی حال المباینة وعدم الصلح ، وهو مختار جماعة .
الثالث : التحریم فی حال الحرب أو التهیّؤ له ، وهو ظاهر المسالک(3) .
الرابع : التحریم مطلقاً ، وهو المحکی عن حواشی الشهید(4) بل عن الشیخین(5) والدیلمی(6) والحلبی(7) والتذکرة(8) ، وربّما یستظهر(9) من الشرائع أیضاً .
الخامس : التحریم مع قصد المساعدة فقط ، حکاه فی الجواهر(10) عن بعض ، ویمکن استظهاره من عبارة الشرائع .
السادس : التحریم مع أحد الأمرین من القصد إلی المساعدة أو قیام الحرب ، اختاره فی الجواهر(11) .
ص:208
السابع : التحریم مع الأمرین من القصد وقیام الحرب ، حکاه فی الجواهر(1) .
الثامن : ما اختاره فی المستند(2) من إطلاق المنع بالنسبة إلی المشرکین والتفصیل بین
حال المباینة والصلح بالنسبة إلی المسلمین المعادین للدین ، وهو المحکی عن المهذب(3) ، بل مقتضی عبارته المحکیة فی المستند أنّ إطلاق المنع بالنسبة إلی الکفار إجماعیٌّ ، وإنّما الخلاف بالنسبة إلی المسلمین فی الإطلاق والتقیید ... »(4) .
ثم اختار قدس سره التحریم وقال : « الأقوی هو التحریم مع القصد مطلقاً . ومع عدمه فی غیر حال الصلح ، سواءً کان الحرب قائماً بالفعل أو کانوا متهیئین له أو لا ، فیکفی مطلق المباینة ... »(5) .
أقول : والعمدة هی ملاحظة الروایات الواردة فی المقام .
الروایات
منها : خبر وصیة النبی صلی الله علیه و آله وسلم لعلیِّ علیه السلام أنّه قال : یا علی کَفَر باللّه العظیم من هذه الأمة عشرة القتّات - إلی أن قال - : وبایع السلاح من أهل الحرب(6) .
والروایة وإن دلت علی الحرمة إلاّ أن فی سندها ضعف ، ویمکن المناقشة فی دلالتها أیضاً ، بأنّ الظاهر من أهل الحرب القائمین به والمحاربین فعلاً ، فالروایة تدلّ علی حرمة بیع السلاح منهم فی حال الحرب لا مطلقاً .
ص:209
ومنها : صحیحة علی بن جعفر عن أخیه موسی بن جعفر علیه السلام قال : سألته عن حمل المسلمین إلی المشرکین التجارة ، قال : إذا لم یحملوا سلاحاً فلا بأس(1) .
جوّز الإمام علیه السلام فیها التجارة معهم إذا لم تکن سلاحاً ، ومفهومها إذا حملوا السلاح ففی هذه التجارة بأس . فهذه الصحیحة تدلّ علی حرمة بیع السلاح منهم بنحو الموجبة الجزئیة ،
یعنی إذا حملوا السلاح فیه بأس ، ولو کان هذا البأس فی صورة قیام الحرب والمباینة .
وبالجملة ، الروایتان لا تدلاّن علی حرمة بیع السلاح منهم مطلقاً ، وعلی فرض دلالتهما علیه تدلاّن بنحو العموم ، وإذا وردت الروایات المفصلة وکانت بنحو الخصوص تقدّم علیهما بالصناعة الفقهیة ، فانتظر .
منها : خبر أبی القاسم الصیقل قال : کتبت إلیه أنّی رجل صیقل أشتری السیوف وأبیعها من السلطان أجائز لی بیعها ؟ فکتب علیه السلام : لا بأس به(2) .
السند ضعیف بأبی القاسم الصیقل ، لأنّه مجهول ، مضافاً إلی وجود الإضمار فی الروایة وعدم تعیّن أنّه کتب إلی الإمام علیه السلام أو إلی غیره . ثمّ إنّ الظاهر من السلطان الوارد فی الروایة سلاطین الجور من المسلمین الذین کانوا فی زمن الأئمة علیهم السلام ، کما اعترف بذلک المحقق الإیروانی قدس سره (3) وإثنان من أساتیذنا - مد ظلهما(4)(5) - فی المقام . فالروایة لا تدلّ علی جواز بیع السلاح من أعداء الدین مطلقاً .
ومنها : صحیحة محمد بن قیس قال : سألت أبا عبد اللّه علیه السلام عن الفئتین تلتقیان من أهل الباطل أبیعهما السلاح ؟ فقال : بعهما ما یکنهما الدرع والخفین ونحو هذا(6) .
ص:210
الروایة صحیحة الإسناد ومورد السؤال عن بیع السلاح من أهل الباطل المقاتلین لغیرهم من أهل الباطل ، فالسلاح یُستفاد منه فی حرب الباطل علی الباطل ، ومع ذلک أجاز الإمام علیه السلام فی هذه الصحیحة بیع الأدوات الدفاعیّة فقط لهم نحو الدرع ، ولذا لابدّ من حملها علی کونهما محقونی الدم کأهل الذمة ، ولذا لاتدلّ الصحیحة علی الجواز مطلقاً فی مسألتنا هذه .
وبالجملة ، لیس فی الروایات ما یدلّ علی الجواز مطلقاً ، خلافاً لما ادعاه بعض .
منها : حسنة بل صحیحة أبی بکر الحضرمی قال : دخلنا علی أبی عبد اللّه علیه السلام فقال له حکم السراج : ما تقول فی من یحمل إلی الشام السروج وأداتها ؟ فقال : لا بأس ، أنتم الیوم بمنزلة أصحاب رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم ، إنّکم فی هدنة ، فإذا کانت المباینة حرم علیکم أن تحملوا إلیهم السروج والسلاح(1) .
سند الروایة حسنة بعبد اللّه بن محمد الحضرمی بل صحیحة لأنّه ثقة علی الأقوی . وتدلّ علی جواز حمل السروج وأداتها والسلاح إلی أهل الشام وهم أعداء الدین فی فرض الهدنة ، یعنی السکون من الفتن بالصلح معهم . والشاهد علی ذلک استشهاد الإمام علیه السلام بقوله : « أنتم الیوم بمنزلة أصحاب رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم » ،یعنی کما لا خلاف بین أصحاب رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم فی زمن حیاته صلی الله علیه و آله وسلم وکان بینهم الصلح والهدنة ، الیوم أنتم وهم کذلک کما هو الظاهر . ولیس المراد بهذه الفقرة یعنی « الباقین علی صحبته ودینه بعد موته » کما استظهره المحدث البحرانی قدس سره (2) ، ولا المراد بها یعنی من " الأصحاب" النفر الیسیر الذین کانوا مع أمیر المؤمنین علیه السلام بعد وفاة رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم » کما استظهره المحقق الإیروانی قدس سره (3) .
ویؤید ما ذکرناه کلام الفقیه الیزدی قدس سره فی حاشیته علی المکاسب حیث یقول : « الظاهر أنّ المراد أنتم وأهل الشام بمنزلة أصحاب رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم حیث ، أنّهم مع کون
ص:211
بعضهم منافقاً ومع عداوة بعضهم لبعض فی الواقع ، کانوا فی الظاهر متوافقین ولم یکن بینهم نزاع ، فکذلک أنتم وأهل الشام ، فیکون المخاطب بأنتم مجموع الطرفین من أهل الحق وأهل الشام »(1) .
وبالجملة ، الروایة دالة علی جواز حمل السلاح إلی أعداء الدین فی صورة المصالحة والمداهنة .
ومنها : ما رواه المشایخ الثلاثة عن هند السرّاج قال : قلت لأبی جعفر علیه السلام :
لحک اللّه إنّی کنت أحمل السلاح إلی أهل الشام فأبیعه منهم ، فلمّا عّرفنی اللّه هذا الأمر ضقت بذلک وقلت : لا أحمل إلی أعداء اللّه ، فقال لی : إحمل إلیهم ، فإنّ اللّه یدفع بهم عدوّنا وعدوّکم - یعنی :
الروم - وبعه ، فإذا کانت الحرب بیننا فلا تحملوا ، فمن حمل إلی عدونا سلاحاً یستعینون به علینا فهو مشرک(2) .
والروایة سنداً ضعیفة بأبی سارة وهند السرّاج ، لأنّهما مجهولان ، ولکنّها تدلّ بوضوح علی جواز حمل السلاح إلی أعداء الدین فی صورة مصالحتهم مع أهل الإیمان وعدم جوازه فی صورة قیام الحرب .
ومنها : خبر السراد عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال : قلت له : إنّی أبیع السلاح ، قال : لا تبعه فی فتنة(3) .
ذکر فی الوسائل الراوی الأخیر بعنوان السرّاج فصارت الروایة ضعیفة الإسناد به لأنّه مجهول ، ولکن ورد فی الکافی(4) والتهذیب(5) السرّاد بدلاً من السرّاج ، والسرّاد إن أرید به الحسن بن محبوب کما هو لُقّب بالسرّاد والزرّاد وکلاهما بمعنی واحد یعنی صانع الزرد و السرد وهما بمعنی الدرع فهو ثقة وقال العلامة فی شأنه : « ثقة عین روی عن الرضا علیه السلام وکان
ص:212
جلیل القدر یعدّ فی الأرکان الأربعة »(1) فصارت الروایة صحیحة الإسناد ولکن لا یمکن له أن ینقل عن الإمام الصادق علیه السلام بلا واسطة ، لأنّه مات فی آخر سنة أربع وعشرین ومائتین وکان من أبناء خمس وسبعین سنة ، فکانت ولادته عام تسع وأربعین ومائة ، واستشهد شیخ الأئمة الإمام الصادق علیه السلام فی خمس وعشرین من شوال عام ثمان وأربعین ومائة وله خمس وستون سنة ودفن بالبقیع مع أبیه وجده وعمّه الحسن علیهم السلام کما ذکره الشیخ المفید فی الإرشاد(2) . وحینئذ ولد الحسن بن محبوب السراد بعد استشهاد الإمام الصادق علیه السلام بسنة ، فکیف یمکن أن ینقل عنه علیه السلام بلا واسطة ؟ ! . واعترف بذلک المحقق الخوئی قدس سره وقال : « ... لعدم ثبوت روایة الحسن بن محبوب وهو السرّاد عن أبی عبد اللّه علیه السلام »(3) .
ولذا نقل الشیخ فی الاستبصار(4) الروایة عن السرّاد عن رجل عن أبی عبد اللّه علیه السلام ، وبهذا السند - وإن صح نقل ابن محبوب - ولکن صارت الروایة مرسلة لعدم تعیین هذا الرجل .
وکیف ما کان نقل صاحب الوسائل الراوی الأخیر بعنوان السرّاج ولم یرد ذکره فی مصادر الحدیث التی بتناول أیدینا ، ولعلّه قدس سره صحف بین السرّاج والسرّاد ، وإن ورد ذکر سرّاج خادم أبی عبد اللّه علیه السلام فی کتب الحدیث(5) والرجال(6) .
ویخطر بالبال أنّ السرّاد المذکور فی السند غیر الحسن بن محبوب ، ولکن فی هذه العجالة لا یمکن تعیینه بشخصه .
وبالجملة ، إلی هنا لا یتمّ سند الروایة ، فصارت إمّا مرسلة بسند الشیخ فی الإستبصار أو ضعیفة لعدم تعیین وتوثیق هذا السرّاد فی المعاجم الرجالیة .
وتنبّه علی کلِّ ذلک المحدث البحرانی قدس سره حیث یقول : « وفی التهذیب رواه عن السرّاد
ص:213
عن رجل عنه وهو الظاهر ، حیث أنّ السرّاد المذکور إنّما یروی عن أبی عبد اللّه علیه السلام بالواسطة ، هذا إن حمل أنّه الحسن بن محبوب المشهور بهذا اللقب وإلاّ فلا ویکون الرجل مهملاً »(1) .
ومراده قدس سره من « التهذیب » الإستبصار ، لأنّ بعض مهرة فن الحدیث یعدّونه بعنوان تتمة التهذیب کما هو واضح عند أهله .
هذا کلّه فی سند الروایة .
وأمّا دلالتها : نهی علیه السلام عن بیع السلاح فی الفتنة ، ومن أظهر مصادیق الفتنة قیام الحرب والتهیؤ له ، فالروایة تدلّ علی حرمة بیع السلاح فی الحرب من أعداء الدین .
فهذه الطائفة من الروایات تدلّ علی جواز بیع السلاح من أعداء الدین فی صورة المصالحة والمداهنة معهم ، وحرمته فی صورة قیام الحرب أو التهیؤ له .
ولابدّ من الأخذ بها وتقدیمها علی الطائفة الاُولی الدالة علی الحرمة مطلقاً ، لأنّها خاصة فی قبال العام ، فتقدّم علی ما مرّ منّا فی ذیل الطائفة الأولی .
وأمّا الروایات الدالة علی الجواز مطلقاً قد ذکرنا أنّها لم توجد ، و علی فرض وجودها
تقیَّد بهذه الروایات المفصلة . وهذا هو الجمع العرفی بین الروایات ، وذهب إلیه المشهور من فقهائنا فأفتوا بجواز بیع السلاح منهم فی الصلح وحرمته فی الحرب .
ثمّ إنّ المشهور ذهبوا إلی جواز بیع السلاح من أعداء الدین مشرکین کانوا أم مسلمین فی صورة المصالحة والمداهنة وعدم الجواز فی صورة قیام الحرب أو التهیؤ له .
ولکن ظاهر صحیحة أبی بکر الحضرمی الماضیة جواز حمل السلاح إلی أعداء الدین من المسلمین فقط ، لأنّ مورد سؤال السائل حمل السروج وأداتها إلی أهل الشام وأهلها فی زمن الإمام الصادق علیه السلام کانوا من المسلمین ، وأجاب الإمام علیه السلام أیضاً بقوله : « فإذا کانت المباینة حرم علیکم أن تحملوا إلیهم (یعنی إلی أهل الشام) السروج والسلاح » . فهذه الصحیحة - وهی العمدة فی الروایات المفصِّلة - منحصرة بأعداء الدین من المسلمین فقط ولا تشمل المشرکین الکافرین .
ص:214
وهکذا الأمر فی خبر هند السرّاج الماضی ، حیث سأل السائل عن حمل السلاح إلی أهل الشام فأجابه الإمام علیه السلام : « إحمل إلیهم » یعنی إلی أهل الشام وهم مسلمون ولکن کانوا من أعداء الدین یعنی أعداء المذهب الحق الإثنی عشری الإمامی .
فهاتان الروایتان المفصِّلتان منحصرتان بأعداء الدین من المسلمین فقط ولاتشملان المشرکین .
وأمّا خبر السرّاد الماضی - وإن یمکن استفادة العموم منه وشموله فی شأن المشرکین والمسلمین - إلاّ أنّ فی سنده إمّا إرسالٌ أو ضعف ، فلا یمکن الأخذ بإطلاقه أو شموله .
وعلی هذا یجوز بیع السلاح من أعداء الدین المسلمین المخالفین لمذهب الإمامیة فی حال المداهنة والمصالحة معهم ، ولا یجوز البیع منهم فی حال قیام الحرب أو التهیؤ له .
وأمّا بیع السلاح من أعداء الدین من المشرکین فبقی علی حرمته ولم یرو ترخیص فی شأنه ، سواء فی حال المصالحة والمداهنة لهم أو فی حال قیام الحرب والتهیؤ له . فهذا القول اختاره ابن فهد الحلی فی المهذب البارع(1) والنراقی فی المستند(2) .
وبالجملة ، بنظرنا القاصر صحیحة علی بن جعفر المذکورة تدلّ علی حرمة حمل السلاح إلی المشرکین مطلقاً ، فلابدّ من الأخذ بإطلاقها . وأمّا الروایات المجوِّزة منحصرة ببیع
السلاح من أعداء الدین المسلمین فقط ، ولذا نأخذ بها وتکون النتیجة حرمة حمل السلاح وبیعه إلی أعداء الدین المشرکین مطلقاً ، سواء فی حال قیام الحرب أو فی حال المصالحة والمداهنة وجواز حمل السلاح وبیعه إلی أعداء الدین من المسلمین فی حال المصالحة والمداهنة فقط وحرمة بیعه منهم فی حال قیام الحرب أو التهیؤ له .
هذا ما یخطر بالبال بعد التأمل التام فی الروایات الواردة فی المقام .
الأوّل : کلّ ما یوجب تقویة المشرکین وصار موجباً لشوکتهم بحیث یخاف منهم علی
ص:215
بیضة الإسلام والمذهب الحقّ حرام مطلقاً ، سواء فی ذلک المشرکین أو المخالفین . وهکذا لا فرق بین بیع السلاح أو الأدوات الدفاعیة بل حتی العلاقات التجاریة الموجبة لتقویتهم ، والدلیل علی ذلک لزوم المحافظة علی الإسلام والمذهب وحرمة تضعیفهما کما هو واضح لمن له أدنی إلمام بالفقه .
الثانی : حرمة بیع السلاح من قطاع الطریق .
بیع السلاح من قطاع الطریق سواء کانوا من المسلمین أو المشرکین بقی علی حرمته لأنّ الترخیص الوارد فی الروایات ثبت بالنسبة إلی أعداء الدین من المسلمین فی حال المصالحة والمداهنة فقط وهم غیر قطاع الطریق ، فبیع السلاح من قطاع الطریق بقی علی حرمته ، ولأنّ بیع السلاح منهم من أظهر مصادیق معونة الظالمین وإعانتهم ، وهی حرامٌ إجماعاً ، حتّی علی القول بعدم حرمة الإعانة علی الأثم کما هو المختار . لأنّ من أظهر مصادیق الظالمین هم قطاع الطریق ، وحرمة معونتهم وإعانتهم إجماعی عندنا . والعجب من المحقق الخوئی قدس سره حیث جعل هذه المسألة من صغریات الإعانة علی الإثم ویقول : « ... إن قلنا بحرمة الإعانة علی الإثم فلا یجوز بیعه منهم وإلاّ جاز کما هو الظاهر »(1) .
فعلی ما ذکرنا لا نحتاج إلی الحکم بالحرمة هنا إلی إحراز البایع استعمال المشتری ذلک السلاح فی الإعتداء علی الغیر فلا یجوز حینئذ ، ومع عدم الإحراز فلا بأس کما ذهب إلیه شیخنا الأستاذ - مد ظله -(2) ، لأنّ نفس تمکینهم من السلاح وبیعه لهم من أظهر مصادیق
إعانة الظالمین ، وهی حرام أجماعاً .
الثالث : هل النهی فی المقام یدلّ علی الفساد أم لا ؟
إذا تعلق النهی بأمر خارج عن البیع - نحو تقویة أعداء الدین وإعانتهم - فلا یدلّ علی فساد المعاملة ولا یفید إلاّ الحرمة التکلیفیة ، کما ذهب إلی هذا القول صاحب الحدائق(3)
ص:216
والشیخ الأعظم(1) والسید الیزدی(2) والمحققون النائینی(3) والخوئی(4) قدس سرهم وشیخنا الأستاذ(5) - مد ظله - ، ولکن إذا قلنا بأنّ النهی تعلق بنفس المعاملة - کما تدلّ علیه الروایات الواردة فی المقام وقد مرّ ذکرها - صارت المعاملة فاسدة وأفادت الحرمة الوضعیة . وهذا هو المختار وذهب إلیه ثانی الشهیدین فی المسالک(6) والمحقق الأردبیلی فی شرح الإرشاد(7) وجدنا الفقیه الشیخ الأکبر کاشف الغطاء قدس سرهم فی شرح القواعد(8) .
ص: 217
ص:218
ص:219
ص:220
تعرّض الشیخ الأعظم قدس سره فی هذا القسم إلی بطلان بیع ما لا منفعة فیه ، منفعة معتدّاً بها عند العقلاء ومحلّلة عند الشارع الأقدس .
الأوّل : بیع ما لیس له نفع محلّل وأخذ الثمن فی قباله ، أکلٌ للمال بالباطل فیکون فاسداً وتدلّ علیه قوله تعالی : «لاَ تَأْکُلُواْ أَمْوَالَکُمْ بَیْنَکُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَن تَکُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ»(1) ، واستدل بهذا الدلیل فخر المحققین قدس سره فی إیضاح الفوائد(2) .
وفیه : أولاً : الآیة الشریفة - کما مرّ منا - فی مقام بیان الأسباب الصحیحة للمعاملة فی مقابل الأسباب الفاسدة لها فلا تکون فی مقام بیان شرائط العوضین .
وثانیاً : بعد التوافق علی المعاملة والرضا بها دخلت فی تجارة عن تراضٍ لا أکل المال بالباطل .
الثانی : الإجماع علی بطلان بیع ما لا منفعة فیه ، وادعاه جماعة من الفقهاء نحو : صاحبی الغنیة(3) والجواهر(4) .
وفیه : أولاً : أنّ المحصَّل منه غیر حاصل والمنقول منه لیس بحجة .
وثانیاً : من المحتمل بل المتعیّن أنّ استناد المجمعین إلی الوجوه المذکورة فی المسألة ، فلا یکون الإجماع إجماعاً تعبدیّاً بل صار إجماعاً مدرکیّاً ، فلیس بحجة .
الثالث : قالوا فی تعریف البیع أنه « مبادلة مال بمالٍ » کما عن المصباح المنیر(5) ، وما
ص:221
لیس فیه المنفعة لم یعدّ مالاً فلا یصح بیعه .
وفیه : أولاً : قد کثر استعمال البیع والشراء فی غیر المبادلة المالیّة فی الکتاب المجید ،
نحو قوله تعالی : «إِنَّ اللّهَ اشْتَرَی مِنَ الْمُؤْمِنِینَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ یُقَاتِلُونَ فِی سَبِیلِ اللّهِ فَیَقْتُلُونَ وَیُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَیْهِ حَقّاً فِی التَّوْرَاةِ وَالإِنجِیلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَی بِعَهْدِهِ مِنَ اللّهِ فَاسْتَبْشِرُواْ بِبَیْعِکُمُ الَّذِی بَایَعْتُم بِهِ وَذَلِکَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِیمُ»(1) .
وقوله تعالی : «وَمِنَ النَّاسِ مَن یَشْرِی نَفْسَهُ ابْتِغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ وَاللّهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ»(2) .
وقوله تعالی : «أُولَئِکَ الَّذِینَ اشْتَرَوُاْ الضَّلاَلَةَ بِالْهُدَی وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ»(3)
وقوله تعالی : «أُولَئِکَ الَّذِینَ اشْتَرَوُاْ الْحَیَاةَ الدُّنْیَا بِالآَخِرَةِ»(4)
وقوله تعالی : «وَمِنَ النَّاسِ مَن یَشْتَرِی لَهْوَ الْحَدِیثِ لِیُضِلَّ عَن سَبِیلِ اللَّهِ بِغَیْرِ عِلْمٍ وَیَتَّخِذَهَا هُزُواً أُولَئِکَ لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِینٌ»(5) .
ومن الواضح أنّ « البیع والشراء یتلازمان» کما ذکره الراغب فی المفردات(6) ، وقال الفیروزآبادی فی القاموس : « أنّ کل من ترک شیئاً وتمسک بغیره فقد اشتراه»(7) .
وثانیاً : فما عن المصباح مضافاً إلی عدم حجیة قوله ، أنّه لیس تعریفاً حقیقیاً بل مجرد شرح اسم ، فلا یبحث فیه طرداً وعکساً ، نقضاً وإبراماً .
وثالثاً : علی فرض قبول تعریف المصباح لا یجری فی المقام أحکام البیع ولکن یمکن
ص:222
التمسک بإطلاقات «تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ»(1) و«أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ»(2) ونحوهما .
الرابع : معاملة ما لا نفع فیه من المعاملات السفهیة ، فتکون فاسدة لذلک .
وفیه : أولاً : منع الصغری : المعاملة إنّما تکون سفهیة إذا انتفعت عنها الأغراض الشخصیة والنوعیة کلتیهما ، ولکن فی هذه المعاملة ربّما تعلّق الغرض الشخصی بالمعاملة وإلاّ
لم یتعرض البائع لها ، ونفس وجود الغرض الشخصی یخرج المعاملة عن کونها سفهیة .
وثانیاً : منع الکبری : لم یدلّ دلیل علی بطلان المعاملات السفهیة بعد شمول العمومات والإطلاقات الواردة فی صحة البیع والتجارة والوفاء بالعقد ، نعم : قام الدلیل علی فساد المعاملة السفیه لکونه محجوراً عن التصرف ، ومن الواضح أنّ معاملة السفیه غیر المعاملة السفهیة .
الخامس : قد استدل الشیخ الأعظم قدس سره فی بطلان بیع ما لا منفعة فیه ببعض فقرات روایة تحف العقول الماضیة فی أوّل الکتاب .
وفیه : أولاً : أنّها روایة ضعیفة الإسناد بل مرسلة .
وثانیاً : لم یثبت عندنا کونها روایة کما مرّ منّا فی محلّها .
وثالثاً : دلالة الروایة علی البطلان فی مسألتنا هذه غیر تامة .
فإلی هنا لم نجد ما یدلّ علی بطلان بیع ما لا منفعة فیه کما ذهب إلیه المحقق الخوئی قدس سره (3) .
وربّما یؤید ما ذکرناه بما ورد فی صحة بیع الهرّ ، نحو صحیحة محمد بن مسلم وعبد الرحمن عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال : ثمن الکلب الذی لا یصید سحت ، ثمّ قال : ولا بأس بثمن الهرّ(4) .
وخبر دعائم الاسلام رفعه إلی أمیر المؤمنین علیه السلام أنّه رأی رجلاً یحمل هرّة ، فقال : ما
ص:223
تصنع بها ؟ قال : أبیعها ، فنهاه ، قال : فلا حاجة لی بها ، قال : فتصدّق إذاً بثمنها(1) .
بتقریب : أنّ الهرّ فی ذلک الزمان کان من الأشیاء التی لیست لها منفعة معتداً بها ومع ذلک ورد الترخیص فی جواز بیعها ، وقال العلامة قدس سره فی التذکرة : « لا بأس ببیع الهرّ عند علمائنا ، وبه قال ابن عباس والحسن وابن سیرین والحکم وحماد والثوری ومالک والشافعی وإسحاق وأصحاب الرأی »(2) .
وهکذا یؤید ما ذکرناه ، ما مرّ منّا من جواز بیع القردة فی تتمة بحث بیع المسوخ(3) ، مع
أن القردة لا سیما فی ذاک الزمان لیست لها منفعة معتداً بها ومع ذلک جوّزنا بیعها .
الأوّل :
یجوز بیع السباع لوقوع التذکیة علیها وجواز الإنتفاع بجلودها فی غیر الصلاة ، وتدل علیه عدّة من الروایات :
منها : موثقة سماعة قال : سألته عن جلود السباع ، أینتفع بها ؟ فقال : إذا رمیت وسمّیت فانتفع بجلده وأمّا المیتة فلا(4) .
ومنها : موثقة اُخری لسماعة قال : سألته عن لحوم السباع وجلودها ؟ فقال : أمّا لحوم السباع فمن الطیر والدواب فإنّا نکرهه ، وأمّا الجلود فارکبوا علیها ولا تلبسوا منها شیئاً تصلون فیه(5) .
ومن الواضح دلالة الکراهة فی لسان الأئمة علیهم السلام علی الحرمة المصطلحة .
ومنها : موثقة ثالثة لسماعة قال : سُئل أبو عبد اللّه علیه السلام عن جلود السباع ؟ فقال :
ص:224
ارکبوها ولا تلبسوا شیئاً منها تصلّون فیه(1) .
وقد مرّ منّا جواز بیع السباع فی بحث بیع المسوخ ، فراجع ما حررناه هناک(2) إن شئت . فإذا کان الإنتفاع بجلودها جائزة فیجوز بیعها علی کلِّ من المبنیین من عدم جواز بیع ما لامنفعة فیه وجوازه کما هو الظاهر .
الثانی :
یجوز الإنتفاع بعظام الفیل وعاجه وبیعها وشراؤها .
مع أنّ الفیل من المسوخ والسباع ، وقد مرّ منّا جواز التمشط بعاج الفیل وبیعها فی بحث بیع المسوخ ، فراجع إن شئت ما حررناه هناک(3) .
الثالث :
یمکن أن یستند عدم المنفعة المعتدّ بها إلی اُمور :
الف : خسة الشیء : نحو کلّ ما ینفصل من الآدمی من شعر ومخاط ولعاب وظفر وغیره ، ومثّل بهذه الأشیاء الشیخ الطوسی فی المبسوط(4) . وحشرات الأرض من العقارب والحیات والخنافس والجعلان والضفادع والدیدان وکبعض أقسام الطیور من بُغاثها(5) والنسر(6) والغربان والرَّخَم(7) ، ومثّل بهذه المحقق الخوئی قدس سره فی المصباح(8) .
ب : قلّة الشیء : نحو جزءٍ یسیر من المال لا یبذل فی مقابله مال ، کحبّة من الحنطة أو
ص:225
الشعیر وغیرهما . وهذه وإن کانت عند العرف والشرع من الأملاک إلاّ أن قلّتها تخرجها من المالیة .
ج : کثرة الشیء : نحو الماء فی البحر أو الشط ، والتراب فی بعض البلاد والرمل فی العالج .
د : عدم الحاجة إلی الشیء : نحو الثلج فی الشتاء .
ولعلّ الملاک الجامع فی الجمیع عدم الرغبة فی شرائه وبذل المال بإزائه ، کما قاله بعض أساتذتنا(1) - مد ظله - فی المقام .
الرابع :
قال المحقق الخوئی قدس سره : « لو حاز ما لا نفع له کالحشرات ثبت له الاختصاص به ، فیکون أولی به من غیره ، فلیس لأحد أن یزاحمه فی تصرفاته فیه للسیرة القطعیة . علی أنّ أخذ المحاز من المحیز قهراً علیه ظلم فهو حرام عقلاً وشرعاً . وأمّا حدیث : « من سبق إلی ما لم یسبق إلیه أحد من المسلمین فهو أحقّ به»(2) فقد تقدم أنّه ضعیف السند غیر منجبر
بشیءٍ »(3) .
أقول : نعم لو حاز ما لا منفعة فیه ثبت له حقّ الإختصاص بل الملکیة ولکن قد مرّ منّا الجواب عن إشکاله قدس سره بحدیث السبق فراجع ما حرّرناه فی بحث حقّ الإختصاص(4) .
الخامس :
هل فی غصب ما لا نفع فیه ضمانٌ أم لا ؟ ذهب إلی عدم الضمان مطلقاً العلاّمة فی التذکرة(5) وشیخنا الأستاذ(6) - مد ظله - وإلی الضمان فی المثلی وعدمه فی القیمی الشیخ
ص:226
الأعظم قدس سره (1) ، وإلی الضمان مطلقاً السید الیزدی قدس سره (2) والمحقق الخوئی قدس سره (3) والمحقق الأردکانی قدس سره (4) وبعض أساتذتنا(5) - مد ظله - .
والفرق بین مقالة القائلین بالضمان مطلقاً ، أنّ السید الخوئی قدس سره یری بقاء مشغولیّة ذمّة الغاصب إلی یوم القیامة فی القیمی ، إذ لا قیمة لهذا المال ، کما تبقی مشغولیة الذمة للمفلس أیضاً .
والشیخ الأردکانی یری ثبوت الضمان فی المثلی بمجرد الغصب وفی القیمی یتوقف علی غصب ما یصیر بضمه إلیه مالاً لیدخل فی موضوع دلیل الضمان ، فالفرق بینهما أنّ الضمان فی الأوّل غیر مترتب وفی الثانی مترتب ، ثم أمر قدس سره بالتأمل .
ولکن الأستاذ - مد ظله - یری إمکان إرضاء الغاصبُ المالک بإعطاء المال له لا بعنوان القیمة بل بقصد إرضائه .
والسید الیزدی قدس سره قال : « الحق الضمان مطلقاً بردّ المثل فی المثلی وما یکون بقدره من
شیء آخر فی القیمی وإن کان قلیلاً لا یقابل بالمال ، فإنّ العوض لابدّ وأن یکون بقدر المعوّض وصالحاً للعوضیّة لا أن یکون مالاً فتدبر »(6) .
أقول : الظاهر ثبوت الضمان مطلقاً یعنی فی المثلی والقیمی ، والدلیل علی ذلک : السیرة القطعیة من العقلاء والمتشرعة علی الضمان ، وهذه السیرة المستمرة القطعیة من زماننا هذا إلی زمن المعصومین علیهم السلام جاریة ، وهی حجة فی المقام ، فلابدّ من الأخذ بها ، وهی مطلقة تشمل ضمان ما لا نفع فیه قیمیاً کان أو مثلیاً . ویؤیدها :
أولاً : قاعدة الإتلاف ، بأنّ « من أتلف مال الغیر فهو له ضامن » .
ص:227
بتقریب : أن الإتلاف یوجب الضمان سواءً فی ذلک بین المال والملک ، والتعبیر بالمال لأنّه أظهر مصادیقه وکان شائعاً ، وإلاّ لا فرق بین المال والملک فی أن إتلافهما موجب للضمان .
وثانیاً : قاعدة ضمان الید ، بأنّ « علی الید ما أخذت حتّی تؤدّی » .
بتقریب : أن « ما أخذت » أعمٌ من المال أو الملک ، فیشمل المقام ، فلو أخذ شخص ملک الغیر ولو لم یکن مالاً کان علیه الضمان .
وأنت تری بأنّ السیرة جاریة فی المقام ، یعنی حتّی فی ضمان ما إذا لم یکن الشیء لقلّته مالاً ولو مع عدم الإنضمام إلی سائر أجزائه ، خلافاً لما ذکره شیخنا الأستاذ - مد ظله - .
وبأنّ الدلیل یشمل القیمی کما یشمل المثلی ، فلا فرق بینهما ، فلا یتم ما ذکره الشیخ الأعظم قدس سره .
وهکذا لا یتوقف ثبوت الضمان فی القیمی علی غصب ما یصیر بضمّه إلیه مالاً لیکون الضمان فیه مترتباً ، فلا یتم ما ذکره المحقق الأردکانی قدس سره .
ویمکن أن یخرج الغاصب من مشغولیّة ذمّته فی القیمی بالنسبة إلی المالک بإرضائه بمال أو الإستحلال منه ، فلا یتمّ ما ذکره المحقق الخوئی قدس سره من بقاء مشغولیّة ذمّته للمالک إلی یوم القیامة .
وبالجملة ، نحن نلتزم بأنّ الضمان من أحکام الملک ولیس من أحکام المال فقط ، بل یجری فی المال أیضاً ، لأنّه کان ملکاً غالباً ، واللّه سبحانه هو العالم والحمد له .
ص: 228
ص:229
ص:230
قال الشیخ الأعظم قدس سره : « النوع الرابع ما یحرم الاکتساب به لکونه عملاً محرّماً فی نفسه ، وهذا النوع وإن کان أفراده هی جمیع الأعمال المحرَّمة القابلة لمقابلة المال بها فی الإجارة والجُعالة وغیرهما ، إلاّ أنّه جرت عادة الأصحاب بذکر کثیر ممّا من شأنه الإکتساب به من المحرّمات ، بل وغیر ذلک ممّا لم یتعارف الاکتساب به کالغیبة والکذب ونحوهما . وکیف ما کان فنقتفی آثارهم بذکر أکثرها فی مسائل مرتبة بترتیب حروف أوائل عنواناتها إن شاء اللّه »(1) .
أقول : قبل الورود فی العناوین المطروحة لابدّ لنا أنْ نتکلم فی الاکتساب بالمحرّمات وهل هو حرام وضعی بمعنی بطلانه أم لا ؟ فهاهنا بحثان :
الأوّل : حرمة نفس هذه الاعمال والعناوین المطروحة ، بمعنی الحرمة التکلیفیة نبحث عنها فی ذیلها .
الثانی : حرمة الاکتساب بالمحرمات بمعنی الحرمة الوضعیة یعنی بطلانها .
الشیخ الأعظم قدس سره ترک هذا البحث الأخیر ، ولعلّه کان عنده بمکان من الوضوح . ولکن لابدّ لنا من البحث حوله فنقول :
1 - منها : إنّ العمل المحرَّم لیس مالاً فی نظر الشارع ، ولهذا لو منع شخص عن تغنی جاریة مغنّیة لا یکون ضامناً بالنسبة إلی المنفعة المحرّمة بلا إشکال وإن کانت أجیرة لذلک ، وما لا یکون مالاً فی محیط الشرع لا تکون المعاملة علیه معاملة . وإن شئت قلت : إنّ سلب المالیة عن شیءٍ شرعاً وإسقاطها دلیل علی ردع المعاملة به . ذکره المحقق الخمینی قدس سره فی کتابه(2) .
ص:231
وفیه : إنّ هذا الاستدلال تام علی المشهور ، ولکن بناءً علی مختارنا من عدم لزوم المالیة فی البیع وصحته ، لا یتمّ کبری هذا الإستدلال . یعنی سلب المالیة عن المحرّمات الشرعیة فی نظر الشارع تام ولکن البیع لا یلزم فی صحته مالیة المبیع کما مرّ منّا فی النوع
الثالث ، فلا یتمّ هذا الاستدلال علی القول المختار .
2 - ومنها : ما ذکره قدس سره أیضاً : أنّ مقتضی ذات المعاملة لدی العقلاء إمکان التسلیم والتسلم ، ومع منع الشارع عن تسلیم المنفعة المحرّمة وتسلّمها ، لا یعقل أن تکون المعاملة نافذة عند الشارع ، فمنع التسلیم والتسلّم دلیل علی الردع عن المعاملة ، فتقع باطلة(1) .
أقول : هذا الاستدلال علی بطلان المعاملة علی المحرّمات تام ، لأنّ مع عدم إمکان التسلیم والتسلّم کانت المعاملة باطلة شرعاً وعقلائیاً ، وحیث لا یمکن تسلیمها فی المحرّمات شرعاً ، فالمعاملة باطلة .
3 - ومنها : ما ذکره قدس سره أیضاً بقوله : « إنّ الآیة الکریمة أعنی «لاَ تَأْکُلُواْ أَمْوَالَکُمْ بَیْنَکُمْ بِالْبَاطِلِ»(2) وإن کان الموضوع فیها البطلان العرفی والعقلائی لا الشرعی ، لکن بتحکیم ما دلّ علی نفی المالیة أو نفی تسلیم المنفعة ینسلک فی مفاد الآیة ، فإنّ أخذ مال الغیر بلا انتقال منفعة إلیه أکل المال بالباطل ، ویؤیده النبوی وروایة التحف »(3) .
وفیه : قد مرّ منّا مراراً فی هذا الکتاب أنّ الآیة الشریفة لیست فی مقام بیان شرائط العوضین حتی یتم هذا الاستدلال ، بل الآیة الشریفة فی مقام بیان عدم جواز أکل المال بالأسباب الباطلة ، نحو الرشوة والقمار ومثلهما ، فلا یتمّ هذا الاستدلال .
وکذا لا یتم التأیید ، لأنّ النبوی : « إنّ اللّه إذا حرّم شیئاً حرّم ثمنه » وروایة التحف قد مرّ منّا الإشکال فی سندهما ودلالتهما فی أوائل الکتاب ، فراجع ما حرّرناه هناک .
4 - ومنها : ما ذکره المحقق الخوئی قدس سره من : « أنّه یکفی فی عدم جواز المعاملة علی الأعمال المحرّمة مادلّ علی حرمتها من الأدلة الأوّلیة ، إذ مقتضی أدلة صحة العقود لزوم الوفاء
ص:232
بها ، ومقتضی أدلة المحرّمات حرمة الإتیان بها ، وهما لا یجتمعان »(1) .
أقول : وهذا الاستدلال أیضاً تام .
5 - ومنها : ما ذکره الفقیه الیزدی قدس سره فی تعلیقته علی المکاسب : « عدم جواز أخذ الأجرة علی العمل المحرّم لقوله صلی الله علیه و آله وسلم : « إنّ اللّه إذا حرّم شیئاً حرّم ثمنه » فإنّ المراد من الثمن
مطلق العوض »(2) .
وقد اعترض علیه المحقق الخوئی بعد المناقشة فی سند الحدیث بقوله : « إنّا نمنع صدق الثمن علی مطلق العوض »(3) .
أقول : قد مرّ منّا المناقشة فی سند الحدیث ودلالته فی أوائل الکتاب ، وهکذا یصح منع الثمن علی مطلق العوض ، ولکن الظاهر أنّ مراد الفقیه الیزدی قدس سره إلقاء الخصوصیة وتنقیح المناط القطعی وإسراء حکم البیع إلی غیره من المعاملات ، کما یساعد علی ذلک الإعتبار العقلی وفهم العقلاء ، کما نبّه علیه بعض أساتذتنا - مد ظله -(4) فی المقام .
وهذا البیان وإن کان رافعاً الإشکال المحقق الخوئی علی السید الیزدی قدس سرهم ولکن قد مرّ منّا ضعف سند الحدیث ودلالته ، فلا یفید فی المقام شیئاً .
ثم بعد ثبوت بطلان المعاملات علی المحرّمات والحرمة الوضعیة بالنسبة إلی الاکتساب بها ، لابدّ من البحث عن المحرّمات بترتیب حروف الهجاء ، والشیخ الأعظم قدس سره ابتدأ بتدلیس الماشطة وإن تعرض لبحث الإحتکار فی آخر بحث بیعه(5) ولکن الظاهر تقدیم البحث حول الإحتکار ، ولذا نقول :
ص: 233
وفیه جهات من البحث :
« الحُکر : إدّخار الطعام للتربص ، وصاحبه محتکر » کذا فی لسان العرب(1) .
وفی النهایة الأثیریة فیه : « من احتکر طعاماً فهو کذا» أی اشتراه وحبسه لیقلّ فیغلو(2) .
وفی الصحاح : « احتکار الطعام : جمعه وحبسه یتربّص به الغلاء ، وهو الحُکرة بالضمِّ »(3) .
والظاهر : أنّ للغة « الإحتکار » معنی عام یشمل الجمع والحبس لکلِّ شیءٍ ممّا یحتاج الناس إلیه لیغلو ثمنه ، فلا یختص لغةً بشیءٍ دون شیءٍ .
قال العلاّمة فی التذکرة : « فی الإحتکار قولان لعلمائنا : التحریم وهو أصح قولی الشافعی لما رواه العامة عن النبی صلی الله علیه و آله وسلم أنّه قال : « لا یحتکر إلاّ خاطیء» أی آثم و ... ، والکراهة ، للأصل »(4) .
وقال أیضاً فی المختلف : « اختلف علماؤنا فی الاحتکار هل هو محرّم أو مکروه ، قال الصدوق فی مقنعه أنّه حرام وبه قال ابن البراج ، والظاهر من کلام ابن إدریس ، وقال الشیخ فی
ص:234
المبسوط والمفید أنّه مکروه ، وبه قال أبو الصلاح فی المکاسب من الکافی . وقال فی فصل البیع
أنّه حرام . والأقرب : الکراهة ، لنا الأصل عدم التحریم وما رواه ... »(1) .
وقال الشهید معلِّقاً علی کلام العلامة الحلی فی إرشاد الأذهان حیث یقول : « والاحتکار علی رأی » ، « أقول : هذا عطف علی المکروه ، وهو مذهب المفید(2) رحمهم الله والشیخ فی المبسوط(3) وأبی الصلاح فی المکاسب(4) ، لأصالة العدم ولتسلیط الإنسان علی ماله ، ویؤیده روایة الحلبی(5) فی الحسن عن الصادق علیه السلام ... ، وقال الصدوق(6) وابن البراج(7) وأبو الصلاح فی فصل البیع(8) : هو حرام ، وهو ظاهر کلام ابن إدریس(9) ، لما رواه إسماعیل ابن أبی زیاد(10) فی الصحیح عن الصادق علیه السلام ... ولأنّه یجبر علی البیع ... »(11) .
وقال السید العاملی فی مفتاح الکرامة : « والاحتکار منهی عنه إجماعاً کما فی نهایة الأحکام(12) ، ومراده ما هو أعم من المکروه بقرینة ما بعده ، وقد حکم المصنف بأنّه حرام وفاقاً للمقنع والفقیه فی ظاهره والهدایة للصدوق علی ما نسب إلیها(13) والإستبصار(14)
ص:235
والسرائر والتحریر(1) والتذکرة والدروس(2) وجامع المقاصد(17) والمسالک(18) والروضة(19) ،
وهو قویّ کما فی التنقیح(3) والمیسیة ، وهو المنقول عن القاضی والحلبی فی أحد قولیه والمنتهی(4) ... والقول بالکراهة خیرة المقنعة والنهایة(5) والمبسوط والمراسم(6) والشرائع(7) والنافع(8) والإرشاد(9) والمختلف وإیضاح النافع ، وهو المنقول عن التقی فی القول الآخر »(10) .
وقال اُستاذه الشیخ الأکبر کاشف الغطاء فی شرحه علی القواعد : « یحرم عقلاً ونقلاً الاحتکار بالمعنی الأعم - ولو مجازاً - وهو حبس کلّ ما یحتاجه أرباب النفوس المحترمة ویضطرون إلیه ولا مندوحة لهم عنه من مأکول أو مشروب أو ملبوس أو غیرها ، ولا یقیّد هذا بزمان دون زمان ولا بأعیان دون أعیان ولا انتقال بعقد ولا تحدید بحدٍّ ، إذ المدار علی حصول الإضطرار - إلی أن قال قدس سره - : وفی مقابلة هذا القول قول بالکراهة ، یعادله بل یقوی علیه فتویً ودلیلاً ، ومن أدلّته : أصالة الإباحة وقاعدة تسلیط الملاّک علی أموالهم یصنعون بها ما شاؤوا و ... »(11) .
ص:236
وبالجملة ، ظهر من کلمات الأصحاب قدس سرهم قولان حول الإحتکار ، الحرمة والکراهة ، والعمدة ملاحظة الأدلة الواردة فی المقام ، وعمدتها الروایات .
منها : خبر ابن القداح عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال : قال رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم : الجالب مرزوق والمحتکر ملعون(2) .
ومنها : مرسلة الصدوق قال : نهی أمیر المؤمنین علیه السلام عن الحُکرة فی الأمصار(3) .
ومنها : مرسلة الرضی رفعه عن أمیر المؤمنین علیه السلام أنّه کتب فی عهده إلی الأشتر النخعی : فامنع من الإحتکار ، فإنّ رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم منع منه ، ولیکن بیعاً سمحاً بموازین عدل وأسعار لا یجحف بالفریقین من البائع والمبتاع ، فمن قارف حُکرة بعد نهیک إیّاه فنکّل به وعاقبه فی غیر إسراف(4) .
أقول : للنجاشی والشیخ الطوسی سند معتبر إلی هذا العهد الشریف ، فالروایة معتبرة الإسناد .
ومنها : مرسلة ورام بن أبی فراس عن النبی صلی الله علیه و آله وسلم عن جبرئیل قال : اطلعت فی النار فرأیت وادیاً فی جهنم یغلی ، فقلت : یا مالک لمن هذا ؟ فقال : لثلاثة المحتکرین والمدمنین للخمر والقوّادین(5) .
ص:237
ومنها : خبر الحسن بن أبی الحسن البصری عن أمیر المؤمنین علیه السلام فی حدیث طویل : ثم مشی حتّی دخل سوق البصرة ، فنظر إلی الناس یبیعون ویشترون ، فبکی علیه السلام بکاءً شدیداً ، ثم قال : یا عبید الدنیا وعمّال أهلها إذا کنتم بالنهار تحلفون وباللیل فی فُرشکم تنامون وفی خلال ذلک عن الآخرة تغفلون فمتی تحرزون الزاد وتفکّرون فی المعاد ؟
فقال له رجل : یا أمیر المؤمنین إنّه لابدّ لنا من المعاش ، فکیف نصنع ؟ فقال أمیر
المؤمنین علیه السلام : إنّ طلب المعاش من حلّه لا یُشغل عن عمل الآخرة .
فإن قلت : لابدّ لنا من الإحتکار لم نکن معذوراً ، فولّی الرجل باکیاً ، فقال أمیر المؤمنین علیه السلام : أقبل علیَّ أزدک بیاناً ، فعاد الرجل إلیه ، فقال له : إعلم یا عبد اللّه أنّ کلّ عامل فی الدنیا للآخرة لابدّ أن یوفّی أجر عمله فی الآخرة ، وکلّ عامل دنیاً للدنیا عُمالته فی الآخرة نار جهنم . ثم تلا أمیر المؤمنین علیه السلام قوله تعالی : «فَأَمَّا مَن طَغَی وَآثَرَ الْحَیَاةَ الدُّنْیَا فَإِنَّ الْجَحِیمَ هِیَ الْمَأْوَی»(1)(2) .
أقول : إذا لم یکن المحتکر معذوراً من الإحتکار یعنی أنّه فی إحتکاره غیر معذورٍ وهو آثم وعاصٍ ، فالروایة تدل علی حرمة مطلق الإحتکار .
ومنها : مرسلة دعائم الإسلام عن أمیر المؤمنین علیه السلام أنّه کتب إلی رفاعة : أنْهِ عن الحُکرة ، فمن رکب النهی فأوجعه ، ثمّ عاقبه بإظهار ما احتکر(3) .
ومنها : مرسلة اُخری للدعائم عن أمیر المؤمنین علیه السلام أنّه قال : المحتکرُ آثمٌ عاصٍ(4) .
ومنها : مرسلة ثالثة للدعائم عن أمیر المؤمنین علیه السلام أنّه قال : کلّ حُکرة تضر بالناس وتغلی السعر علیهم فلا خیر فیها(5) .
ویمکن المناقشة فی دلالتها علی الحرمة ، لأنّ ظهور جملة « لا خیر فیها » فی الحرمة مشکلٌ .
ص:238
ومنها : مرسلة الآمدی عن أمیر المؤمنین علیه السلام أنّه قال : الإحتکار شیمة الفجّار(1) .
ومنها : مرسلة اُخری للآمدی عن أمیر المؤمنین علیه السلام أنّه قال : کن مقتدراً ولا تکن محتکراً(2) .
تلک عشرة کاملة من الروایات الواردة فی النهی عن مطلق الإحتکار ، ومعتبرها سنداً
ما ورد فی ذیل عهد الأشتر النخعی ، وأمّا غیرها من الروایات - واّن کانت کلّها من حیث السند ضعیفة - ولکن من تعددها یمکن الوثوق بصدور بعضها من الأئمة علیهم السلام ولو إجمالاً ، فثبت ورود النهی عن مطلق الإحتکار . هذه کلّها الطائفة الأولی .
منها : خبر إسحاق بن عمار قال : دخلت علی أبی عبد اللّه علیه السلام فخبّرته أنّه ولد لی غلام ، فقال : ألا سمّیته محمّداً ؟ قال : قلت : قد فعلت ، قال : فلا تضرب محمّداً ولا تسبّه ، جعله اللّه قرّة عین لک فی حیاتک وخلف صدق من بعدک ، فقلت : جعلت فداک فی أیّ الأعمال أضعه ؟ قال : إذا عدلته عن خمسة أشیاء فضعه حیث شئت : لاتسلّمه صیرفیاً فإنّ الصیرفی لا یسلم من الربا ، ولا تسلّمه بیّاع الأکفان فإن صاحب الأکفان یسرّه الوباء إذا کان ، ولاتسلّمه بیّاع الطعام فإنّه لا یسلم من الإحتکار ، ولا تسلّمه جزّاراً فإن الجزّار تُسلب منه الرحمة ، ولا تسلّمه نخّاساً فإنّ رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم قال : شرّ الناس من باع الناس(3) .
بیع الطعام مکروه لأنّه مظنة الإحتکار الحرام .
منها : معتبرة السکونی عن أبی عبد اللّه علیه السلام عن أبیه علیه السلام قال : قال رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم : لا یحتکر الطعام إلاّ خاطیء(4) .
ص:239
ظهور الخطأ فی المعصیة واضح .
ومنها : مرسلة الصدوق قال : قال رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم : لا یحتکر الطعام إلاّ خاطیء(1) .
ومنها : خبر السکونی عن جعفر بن محمّد علیه السلام عن أبیه علیه السلام عن آبائه علیهم السلام قال : قال رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم : طرق طائفة من بنی اسرائیل لیلاً عذابٌ ، فأصبحوا وقد فقدوا أربعة أصناف : الطبّالین والمغنّین والمحتکرین للطعام والصیارفة آکلة الربا منهم(2) .
ومنها : معتبرة الثمالی بل صحیحته قال : قال أبو عبد اللّه علیه السلام : إنّ اللّه عزّ و239
جل تطوّل
علی عباده بالحبّة فسلّط علیها القملة ، ولو لا ذلک لخزنتها الملوک کما یخزنون الذهب والفضة(3) .
ومنها : صحیحة هشام بن سالم عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال : إنّ اللّه تطوّل علی عباده بثلاثة : ألقی علیهم الریح بعد الروح ولولا ذلک ما دفَنَ حمیمٌ حمیماً ، وألقی علیهم السلوة ولولا ذلک لأنقطع النسل ، وألقی علی هذه الحبّة الدابة ولو لا ذلک لکنزها ملوکهم کما یکنزون الذهب والفضة(4) .
وروی الصدوق نحوها بسنده الصحیح عن هشام بن سالم فی الخصال 1 / 112 ح 87 وعلل الشرائع 1 / 299 ح 1 . والظاهر أنّ المراد بالریح بعد الروح : ظهور الرائحة الخبیثة بعد الموت وقبض الروح . السلوة : الصبر والنسیان .
ومنها : خبر الأصبغ بن نباتة قال : سبّ الناس هذه الدابة التی تکون فی الطعام ، فقال علی علیه السلام : لا تسبّوها ، فوالذی نفسی بیده لولا هذه الدابة لخزنوها عندهم کما یخزنون الذهب والفضة(5) .
ص:240
أقول : رجال السند کلّهم ثقات إلاّ أباجمیلة مفضل بن صالح ، فلم یثبت توثیقه بل رمی بالضعف ، ولذا عبرنا عن الروایة بالخبر .
ومنها : مرسلة أبی العباس المستغفری عن رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم أنّه قال : من احتکر علی المسلمین طعاماً ضربه اللّه بالجذام والإفلاس(1) .
ظهور الروایة فی الحرمة واضح ، لأنّ اللّه عاقبه فی الدنیا بالجذام والإفلاس مضافاً إلی عقابه الاُخروی .
والحاصل : تقریب دلالة الروایات الثلاث الأخیرة علی حرمة احتکار الطعام : کما أنّ تخزین وتکنیز الذهب والفضة منهی عنه فی الشریعة المقدسة لقوله تعالی : «الَّذِینَ یَکْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلاَ یُنفِقُونَهَا فِی سَبِیلِ اللّهِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِیمٍ یَوْمَ یُحْمَی عَلَیْهَا فِی نَارِ جَهَنَّمَ فَتُکْوَی بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا کَنَزْتُمْ لأَنفُسِکُمْ فَذُوقُواْ مَا کُنتُمْ
تَکْنِزُونَ»(2) .
فهکذا تخزین واحتکار الطعام والحبوب منه أیضاً منهی عنه فی الشریعة المقدسة . وظهور النهی فی الحرمة .
أقول : لا یمکن تخصیص هذه المطلقات الواردة فی الطعام بالروایات الصحاح الواردة فی ذیل قوله تعالی : «وَطَعَامُ الَّذِینَ أُوتُواْ الْکِتَابَ حِلٌّ لَّکُمْ»(3) ، حیث فسر الطعام فیها بالعدس والحمّص والبقول والحبوب وأشباه ذلک ، فراجع إن شئت إلی وسائل الشیعة 24 / 203 باب 51 من أبواب الأطعمة المحرّمة .
لأنّ الروایات المذکورة هناک فسرت الآیة الشریفة ولم ترد فی مقام تعیین الطعام مطلقاً ، أعنی أنّه إذا ذُکر الطعام فی أیّ موضع یکون المراد به الحبوب ونحوها ، فلذا لا یمکن تخصیص مطلق الطعام بهذه الروایات کما هو ظاهر .
وهکذا لا یمکن تخصیص الروایات المطلقة فی الطائفة الأولی بهذه الطائفة الثانیة ،
ص:241
أعنی انحصار الإحتکار فی الطعام ، لأنّ ورود النهی عن احتکار الطعام من أظهر مصادیق الإحتکار بل فرده الشائع والغالب ، ولاحتمال تعدّد الحکم ، بأنّ الإحتکار حرام وفی الطعام أشدّ حرمةً .
منها : صحیحة سالم الحناط قال : قال لی أبو عبد اللّه علیه السلام : ما عملک ؟ قلت : حنّاط ، وربّما قدمت علی نفاق وربما قدمت علی کساد فحبست ، قال : فما یقول من قِبَلک فیه ؟ قلت : یقولون : محتکر ، فقال : یبیعه أحدٌ غیرک ؟ قلت : ما أبیع أنا من ألف جزء جزءاً ، قال : لا بأس ، إنّما کان ذلک رجل من قریش یقال له حکیم بن حزام ، وکان إذا دخل الطعام المدینة اشتراه کلّه ، فمرّ علیه النبی صلی الله علیه و آله وسلم فقال : یا حکیم بن حزام إیاک أن تحتکر(1) .
وذکروا فی الرجال سلم الحناط وسالم الخیاط وکلاهما ثقتان ولا یبعد الإتحاد ، فالروایة صحیحة الاسناد ، والمراد بالنفاق : الرّواج .
ومنها : صحیحة الحلبی عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال : سئل عن الحُکرة ؟ فقال : إنّما الحُکرة أن تشتری طعاماً ولیس فی المصر غیره فتحتکره ، فإن کان فی المصر طعام أو متاع غیره فلا بأس أن تلتمس بسلعتک الفضل(2) .
ومنها : صحیحة حماد ، روی فیها نحو الحدیث الماضی ثم زاد : وقال : وسألته عن الزیت ؟ فقال : إذا کان عند غیرک فلا بأس بإمساکه(3) .
ومنها : صحیحة اُخری للحلبی عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال : سألته عن الرجل یحتکر الطعام ویتربص به هل یجوز ذلک ؟ قال : إن کان الطعام کثیراً یسع الناس فلا بأس به ، وإن کان الطعام قلیلاً لا یسع الناس فإنّه یکره أن یحتکر الطعام ویترک الناس لیس لهم طعام(4) .
ص:242
ومن المعلوم أنّ الکراهة الواردة فی کلماتهم تُحمل علی الحرمة المصطلحة ، کما ذهب إلیه فی نفس الروایة المحدث الخبیر صاحب الوسائل .
ومنها : صحیحة سلمة الحناط عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال : متی کان فی المصر طعام غیر ما یشتریه الواحد من الناس فجائز له أن یلتمس بسلعته الفضل ، لأنّه اذا کان فی المصر طعام غیره یسع الناس لم یغلُ الطعام لأجله ، وإنّما یغلو إذا اشتری الواحد من الناس جمیع ما یدخل المدینة(1) .
الظاهر أن سلمة الحناط هو نفس سالم أو سلم الحناط أو الخیاط أبو الفضل الثقة ، فالسند صحیح .
ومنها : خبر حذیفة بن منصور عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال : نفد [ فقد ] الطعام علی عهد رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم ، فأتاه المسلمون فقالوا : یا رسول اللّه قد نفد الطعام ولم یبق منه شیءٌ إلاّ عند فلان فمره ببیعه . قال : فحمد اللّه وأثنی علیه ثمّ قال : یا فلان إنّ المسلمین ذکروا أنّ الطعام قد نفد إلاّ شیء عندک ، فأخرجه وبعه کیف شئت ولا تحبسه(2) .
ومنها : صحیحة سالم أبی الفضیل قال : قلت لأبی عبد اللّه علیه السلام إنّی أجلب الطعام الی
الکوفة فأحبسه رجاء أن یرجع إلی ثمنه أو أربح فیه ، فقال : أنت محتکر وإنّ الحُکرة لا تصلح . قال : فسألنی هل فی بلادک غیر هذا الطعام ؟ قال : قلت : نعم کثیر . قال : فقال : لستَ بمحتکر ، إنّ المحتکر أن یشتری طعاماً لیس فی المصر غیره(3) .
سالم أبو الفضیل یحتمل قویاً أن یکون هو سالم أو سلم الحناط الثقة والراوی عنه هو عاصم بن حمید الحناط الثقة ، فالروایة صحیحة الإسناد .
ومنها : مرسلة دعائم الإسلام عن أبی عبد اللّه علیه السلام أنّه قال : إنّما الحُکرة أن یشتری طعاماً لیس فی المصر غیره فیحتکره ، فإن کان فی المصر طعام أو متاع غیره ، أو کان کثیراً یجد الناس ما یشترون فلا بأس به ، وإن لم یوجد فإنّه یکره أن یحتکر ، وإنّما کان النهی من
ص:243
رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم عن الحُکرة ، أنّ رجلاً من قریش یقال له حکیم بن حزام کان إذا دخل المدینة طعام اشتراه کلّه ، فمرّ علیه النبی صلی الله علیه و آله وسلم ، فقال له : یا حکیم إیاک أن تحتکر(1) .
هذه الطائفة من الروایات تدلّ علی التفصیل فی احتکار الطعام بین وجود الطعام فی البلد وعدمه وبین وجود بائع آخر للطعام وانحصاره ، فحکم بحرمة الإحتکار فی صورة عدم الطعام فی البلد وانحصار البائع به ، وجوازه إذا وُجد الطعام فی البلد وکثر بائعه .
وعلی موازین الصناعة الفقهیة هذه الطائفة الأخیرة تقید الروایات الواردة فی احتکار الطعام ، فاحتکار الطعام فی هاتین الصورتین حرام علی سبیل منع الخلو ، یعنی إذا فقد الطعام فی البلد أو انحصر البائع بالمحتکر .
منها : معتبرة السکونی عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال : الحُکرة فی الخصب أربعون یوماً وفی الشدّة والبلاء ثلاثة أیام ، فمازاد علی الأربعین یوماً فی الخصب فصاحبه ملعون ، ومازاد علی ثلاثة أیّام فی العسرة فصاحبه ملعون(2) .
ومنها : خبر أبی مریم عن أبی جعفر علیه السلام قال : قال رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم : أیّما رجل اشتری طعاماً فکبسه أربعین صباحاً یرید به غلاء المسلمین ثم باعه فتصدّق بثمنه لم یکن
کفارة لما صنع(3) .
الکبس : الجمع .
ومنها : صحیحة إبراهیم بن عبد الحمید عن أبی الحسن موسی بن جعفر علیه السلام فی حدیث عن النبی صلی الله علیه و آله وسلم أنّه قال : وأمّا الحناط فإنّه یحتکر الطعام علی اُمّتی ، ولئن یلقی اللّه العبد سارقاً أحبّ إلیّ من أن یلقاه قد احتکر الطعام أربعین یوماً ، الحدیث(4) .
ومنها : مرسلة جعفر بن أحمد القمی عن هشام بن عروة عن أبیه عن جده قال : قال
ص:244
رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم : من احتکر فوق أربعین یوماً فإنّ الجنة توجد ریحها من مسیرة خمسمائة عام وإنّه لحرام علیه(1) .
ومنها : مرسلة أبی العباس المستغفری عن رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم أنّه قال : من جمع طعاماً یتربص به الغلاء أربعین یوماً فقد بَری ء من اللّه وبَرئ منه(2) .
هذه الطائفة تقیّد احتکار الطعام فی القحط والغلاء بثلاثة أیام وفی الرخص والخصب والسعة بأربعین یوماً ، فلابدّ من الأخذ بها وتقیید احتکار الطعام بهذه الأیام . وذهب إلی هذا التقیید الشیخ فی النهایة(3) والقاضی ابن البراج کما نقل عنه العلامة فی المختلف(4) وابن حمزة فی الوسیلة(5) .
اللهم إلاّ أن یقال : إنّ هذا التحدید بلحاظ الأعم الأغلب والمدار بتحقیق الضیق والغلاء واحتیاج الناس إلیه ، ولو لم یتحقق الأربعون فی الرخص أو الثلاثة فی الغلاء . وذهب إلیه المفید فی المقنعة(6) وأبو الصلاح فی الکافی(7) وابن زهرة فی الغنیة(8) والشهید الأول فی
الدروس(9) والشهید الثانی فی الروضة(10) وبعض أساتیذنا - مد ظله -(11) .
منها : موثقة غیاث عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال : لیس الحُکرة إلاّ فی الحنطة والشعیر
ص:245
والتمر والزبیب والسمن(1) .
ومنها : حسنة السکونی عن الصادق عن آبائه علیهم السلام عن النبی صلی الله علیه و آله وسلم أنّه قال : الحُکرة فی ستة أشیاء : فی الحنطة والشعیر والتمر والزیت والسمن والزبیب(2) .
والروایة حسنة سنداً بحمزة بن محمد العلوی القزوینی شیخ الصدوق .
ومنها : خبر أبی البختری عن الصادق علیه السلام عن أبیه علیه السلام : أنّ علیاً علیه السلام کان ینهی عن الحُکرة فی الأمصار ، فقال : لیس الحُکرة إلاّ فی الحنطة والشعیر والتمر والزبیب والسمن(3) .
ومنها : مرسلة دعائم الإسلام عن أمیر المؤمنین علیه السلام أنه قال : لیس الحُکرة إلاّ فی الحنطة والشعیر والزبیب والزیت والتمر(4) .
ومنها : مرسلة أبی العباس المستغفری عن النبی صلی الله علیه و آله وسلم أنّه قال : الإحتکار فی عشرة والمحتکر ملعون : البر والشعیر والزبیب والذرّة والسمن والعسل والجبن والجوز والزیت(5) .
الصناعة الفقهیة تقتضی تقدیم الطائفة الخامسة علی الطوائف السابقة ، لأنّها تحصر الإحتکار المحرَّم فی الأشیاء الخاصة وأسنادها ودلالتها تام ، فلابدّ من الأخذ بها وتقیید غیرها بها ، لا سیما بعد ورود کلمتی « لیس » و « إلاّ» الواردتین فی روایاتها .
وعلی هذا نذهب إلی حرمة الإحتکار فی الحنطة والشعیر والتمر والزبیب والسمن والزیت فقط ولا حرمة فی غیرها ، وکذلک ذهب المشهور من فقهائنا رضوان اللّه تعالی علیهم .
إن قلت : قد تُحمل أخبار هذه الطائفة الخامسة علی أنّ الأشیاء المذکورة کانت عمدة ما یحتاج الناس إلیه فی عصر صدور الروایات ، أو أنّها صدرت للنهی عن عمل الخلفاء وعمّالهم فی البلاد فی تلک الأعصار ، لأنّهم کانوا یتعرضون لأموال الناس باسم المنع عن الحُکرة ، وبالجملة روایات هذه الطائفة ناظرة إلی القضایا الخارجیة ولم تصدر بنحو القضیة
ص:246
الحقیقیة ، الدالة علی الحکم الفقهی الثابت فی الأعصار والأمصار(1) .
قلت : هذا الحمل خلاف ظاهر الروایات ، فإن ظاهرها أنّها صدرت من الأئمة علیهم السلام بنحو القضایا الحقیقیة ، وهی تدلّ علی الحکم الفقهی الثابت فی الأعصار جیلاً بعد جیل وفی الأمصار نسلاً بعد نسل ، فان بیان الحکم الفقهی الثابت من شؤون الأئمة علیهم السلام لثبوت الولایة التشریعیة عندنا فی حقّهم .
وأمّا إثبات أنّها بنحو القضایا الخارجیة فهو خلاف الظاهر ویحتاج إلی القرینة ، وهی مفقودة فی المقام وفی کلامه - مد ظله - .
ثم علی القول بانحصار حرمة الإحتکار فی الأشیاء الستة المذکورة کما هو المختار ، فما حکم الإحتکار فی غیرها من الأشیاء التی یحتاج الناس إلیها ؟
الظاهر - واللّه سبحانه هو العالم - أنه یمکن القول بحرمة إحتکار کلّ ما یحتاج الناس إلیه وتضطر النفوس المحترمة إلیه من مأکول أو مشروب أو ملبوس أو دواءٍ أو وسیلة أو غیرها .
والدلیل علی ذلک لیست الروایات الماضیة حیث تم الکلام بأنّها تدلّ علی حرمة الإحتکار فی الأشیاء الستة فقط .
وهکذا لیس دلیلنا صحیحتی الحلبی الماضیتین(2) فی الطائفة الثالثة من الروایات ، لعدم إمکان استفادة التعلیل منها فی المقام بحیث یعمّم الحکم ویخصّص به ، کما استدل بذلک المحقق الحائری قدس سره (3) وبعض أساتیذنا - مد ظله -(4) فی المقام .
ص:247
وهکذا لیس دلیلنا قاعدتی نفی الحرج والضرر کما تمسک بهما المحقق الحائری قدس سره (1) ، لأنّ القاعدتین کما قُرّر فی محلِّهما فی علم الاُصول من القواعد الإمتنانیة ورفعت الأحکام بهما ولم یثبت بهما حکم ، ولذا لا یمکن إثبات الحرمة بهما کما هو المعلوم المقرَّر فی محلّه .
وهکذا لیس دلیلنا الإضطرار کما تمسّک به الفقیه صاحب الجواهر قدس سره (2) لأنّ الإضطرار أیضاً من الأدلة الإمتنانیة یرفع به الحکم ولا یمکن إثبات الحکم به نحو ما مرّ منّا فی قاعدتی نفی الحرج والضرر کما قرّر فی محلّه .
بل دلیلنا الوحید الإختلال بالنظام ، حیث أنّ إحتکار ما یحتاج الناس إلیه مختل بنظام معاشهم ، وکلّ ما أوجب اختلال النظام حرام ، فالإحتکار حرام ، وهذا الدلیل عام یشمل مطلق الإحتکار .
وممّن وافقنا فی نتیجة الإستدلال - یعنی حرمة مطلق الاحتکار - من المتأخرین جماعة :
منهم : صاحب الجواهر قدس سره بعد ما ذهب إلی کراهة الإحتکار بذاته وحرمته مع قصد الإضرار بفعله أو بإطباق المعظم علیه ، قال : « بل هو کذلک فی کلِّ حبس لکلِّ ما تحتاجه النفوس المحترمة ویضطرون إلیه ولا مندوحة لهم عنه من مأکول أو مشروب أو ملبوس أو غیرها ، من غیر تقیید بزمان دون زمان ولا أعیان دون أعیان ولا انتقال بعقد ولا تحدید بحدٍّ بعد فرض حصول الإضطرار ... »(3) .
ومنهم : المحقق الحائری قدس سره قال : « إذا فرض الإحتیاج إلی غیر الطعام من الأمور الضروریة للمسلمین فمقتضی ما تقدم من دلالة دلیل الحرج والضرر حرمته ... »(4) .
ومنهم : بعض أساتیذنا - مدظله - وحتّی ذهب إلی أن تعیین موضوعات الحُکرة من شؤون الحاکم بحسب ما یراه من احتیاجات الناس فی عصره ومجال حکمه(5) .
ص: 248
الظاهر إتفاق الأصحاب علی أنّه یجبر المحتکر علی البیع ، حتّی ذهب إلیه القائلون بالکراهة فی نفس الاحتکار .
وقال الشیخ الأکبر کاشف الغطاء : « ولیس بینه (أی بین الإجبار علی البیع) وبین التحریم ملازمة ولا بینه وبین الکراهة منافاة »(1) .
وقال تلمیذه فی مفتاح الکرامة : « وقد یُستدل بذلک (أی علی الإجبار علی البیع) علی التحریم ولیس کذلک للاتفاق علیه والإختلاف فی التحریم ، والجبر قد یکون علی المحتسب کزیارة النبی صلی الله علیه و آله وسلم فتأمل »(2) .
وقد اعترف بثبوت الإجبار علی قولی التحریم والکراهة فی الاحتکار تلمیذه الآخر صاحب الجواهر قدس سره فی کتابه(3) .
واعترف به أیضاً الشیخ الأعظم قدس سره فی المکاسب(4) .
فالکلّ یعترفون بلزوم إجبار المحتکر علی البیع حتّی القائلین بالکراهة فی نفس الإحتکار . ذهب إلیه المفید فی المقنعة(5) والشیخ فی النهایة(6) والمبسوط(7) وأبو الصلح الحلبی فی الکافی(8) وابن حمزة فی الوسیلة(9) وابن إدریس فی السرائر(10) والمحقق الحلی فی الشرائع(11)
ص:249
والمختصر(1) والعلامة فی القواعد(13) والتذکرة(14) والشهید فی الدروس(15) ، وغیرهم فی غیرها .
وادعی علیه الإجماع کما فی المهذب البارع(2) ، ولا کلام فیه کما فی إیضاح النافع(3) ،رولا نعلم فیه خلافاً کما فی التنقیح(4) . وقد نفی الخلاف بین الأصحاب فی إجبار المحتکر أصحاب الحدائق(5) ومفتاح الکرامة(6) والجواهر(7) والمکاسب(8) .
وادعی علیه الإجماع أیضاً الشیخ الأکبر کاشف الغطاء قدس سره حیث قال : « للإجماع المنقول علی لسان جماعة والأخبار ... »(9) وصاحبا الریاض(10) والمستند(11) قدس سرهم .
والحاصل : إنّ إجبار المحتکر علی البیع من قبل أصحابنا إجماعی ولا خلاف فیه حتّی القائلین بالکراهة یقولون به ، وتدلّ علیه بعد هذا الإجماع ، الروایات :
منها : خبر ضمرة عن علی بن أبی طالب علیه السلام عن رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم أنّه صلی الله علیه و آله وسلم : مرّ بالمحتکرین ، فأمر بحُکرتهم أن تخرج إلی بطون الأسواق ، وحیث تنظر الأبصار إلیها ،فقیل لرسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم : لو قَوَّمْتَ علیهم ، فغضب رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم حتی عُرِفَ الغضبُ فی وجهه ،
ص:250
فقال : أنا أقوّم علیهم ، إنّما السعر إلی اللّه یرفعه إذا شاء ویَخفضه إذا شاء(1) .
سند الشیخ إلی ضمرة ضعیف ولکن روی الصدوق هذه الروایة بسنده المعتبر عن
غیاث بن ابراهیم فی کتابه التوحید(2) ، ودلالتها علی إجبار المحتکرین علی البیع واضح .
ومنها : خبر حذیفة بن منصور عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال : نفد الطعام علی عهد رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم ، فأتاه المسلمون فقالوا : یا رسول اللّه قد نفد الطعام ، لم یبق منه شیءٌ إلاّ عند فلان فَمُرهُ ببیعه .
قال : فحمد اللّه وأثنی علیه ثمّ قال : یا فلان إنّ المسلمین ذکروا أنّ الطعام قد نفد إلاّ شیءٌ عندک ، فأخرجه وبعه کیف شئت ولا تحبسه(3) .
دلالة الروایة علی المطلوب واضحة ولکن سندها ضعیف .
ومنها : مرسلة دعائم الاسلام عن أمیر المؤمنین علیه السلام : أنه کتب إلی رفاعة : إنْهَ عن الحُکرة ، فمن رکب النهی فأوجعه ثم عاقبه بإظهار ما احتکر(4) .
قال : « ویجبر علی البیع ، لا التسعیر علی رأی »(1) وقال فی التذکرة : « ... فإنّه لا یجوز أن یسعّر حالة الرخص عندنا ... وأمّا حالة الغلاء فکذلک عندنا »(2) یعنی ذهب قدس سره إلی عدم جواز
التسعیر فی حالتی الرخص والغلاء .
ومن المتأخرین السید الطباطبائی فی ریاض المسائل(3) والشیخ الأعظم فی المکاسب(4) .
ثمّ فی قبال المشهور ، القول ، بالجواز وهو خیرة المفید فی المقنعة(5) والدیلمی فی المراسم(6) ، ومال إلیه جدنا الفقیه الشیخ الأکبر کاشف الغطاء فی شرح القواعد(7) .
ثم إنّ هاهنا قولاً ثالثاً ، وهو جواز التسعیر إن أجحف المحتکر فی الثمن ، ذهب إلیه ابن حمزة فی الوسیلة(8) والعلامة فی المختلف(9) ونجله فی إیضاح الفوائد(10) والشهید فی الدروس(11) واللمعة(12) وابن فهد الحلی فی المقتصر(13) والفاضل المقداد فی التنقیح(14) والمحقق
ص:252
الکرکی فی جامع المقاصد(1) . والنراقی فی المستند(2) وصاحب الجواهر نفی البعد عن هذا القول(3) .
فالأقوال فی التسعیر صارت ثلاثة .
أما الروایات
منها : معتبرة غیاث بن إبراهیم عن جعفر بن محمد علیه السلام عن أبیه علیه السلام عن جده علیه السلام قال : مرّ رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم بالمحتکرین فأمر بحُکرتهم أن یخرج إلی بطون الأسواق وحیث تنظر الأبصار إلیها ، فقیل لرسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم : لو قَوَّمْتَ علیهم ، فغضب صلی الله علیه و آله وسلم حتی عُرف الغضب فی وجهه وقال : أنا اُقوِّمُ علیهم ؟ ! إنّما السعر إلی اللّه عزّ وجل یرفعه إذا شاء ویخفضه اذا شاء .
وقیل لرسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم : لو أسعرتَ لنا سعراً فإنّ الأسعار تزید وتنقص ، فقال صلی الله علیه و آله وسلم : ما کنتُ لألقی اللّه عزّ وجل ببدعة لم یُحدث لی فیها شیئاً ، فدعوا عباد اللّه یأکل بعضهم من بعض(4) .
سند الروایة تام وظهورها فی عدم جواز التسعیر واضح .
ویؤید عدم جواز التسعیر الروایات الواردة : بأنّ اللّه وکّل بالأسعار ملکاً یدبّرها ، حیث جعل اللّه أمر السعر بید ملک وما جعله علی ید غیره :
منها : صحیحة أبی حمزة الثمالی عن علی بن الحسین علیه السلام قال : إنّ اللّه تبارک وتعالی وکّل بالسعر ملکاً یُدَبِّرُهُ بأمره .
وقال أبو حمزة الثمالی : ذکر عند علی بن الحسین علیه السلام غلاءُ السعر ، فقال : و ما علیَّ من غلائه إن غلا فهو علیه وإن رَخُصَ فهو علیه(5) .
ص:253
ومنها : خبر محمد بن أسلم عمّن ذکره عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال : إنّ اللّه عزّ وجل وکّل بالسعر ملکاً ، فلن یغلو من قلّة ولن یرخص من کثرة(1) .
ومنها : خبر یعقوب بن یزید عمّن ذکره عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال : إنّ اللّه وکّل بالأسعار ملکاً یدبرها(2) .
ویمکن المناقشة فی دلالة هذه الروایات : بأن التسعیر إذا کان فی مسیره الطبیعی هذه
الروایات ناظرة إلیه ، ولکن إذا خرج من سیره العادی بواسطة الإحتکار والحبس ، والقحط والغلاء المصنوعیان ، فهذه الروایات لم تنظر إلیه . وأشار إلی ما قلناه صدوق الاُمّة قدس سره بعد نقل هذه الروایات حیث یقول : « الغلاء هو الزیادة فی أسعار الأشیاء حتّی یُباع الشیء بأکثر مما کان یُباع فی ذلک الموضع ، والرخص هو النقصان فی ذلک ، فما کان من الرخص والغلاء عن سعة الأشیاء وقلّتها فإن ذلک من اللّه عزّ وجل ویجب الرضا بذلک والتسلیم له ، وما کان من الغلاء والرخص بما یأخذ الناس به لغیر قلّة الأشیاء وکثرتها من غیر رضی منهم به أو کان من جهة شراء واحدٍ من الناس جمیع طعام بلدٍ فیغلو الطعام لذلک فذلک من المسعِرِ والمتعدِّی بِشِری طعام المصرِ کلّه کما فعله حکیم بن حزام ... »(3) .
ولعلّ الروایات الواردة(4) فی عدم تسعیر النبی یوسف علیه السلام فی أیام القحط أیضاً شاهدة علی ما ذکرنا ، حیث کان القحط والغلاء فی مصر طبیعیاً عادیّاً ولم یکن صناعیّاً .
ومن الروایات التی تدلّ علی عدم جواز التسعیر : مرسلة دعائم الإسلام عن أبی عبد اللّه علیه السلام أنّه سئل عن التسعیر ، فقال : ما سعّر أمیر المؤمنین علیه السلام علی أحد ، ولکن من نقص عن بیع الناس ، قیل له : بع کما یبیع الناس وإلاّ فارفع عن السوق ، إلاّ أن یکون طعامه أطیب من طعام الناس(5) .
ص:254
والحاصل : معتبرة غیاث بن إبراهیم المذکورة فیما مضی یکفی فی الحکم بعدم جواز التسعیر من قبل الحاکم . نعم ، علیه أن یلاحظ البیع بحیث لا یتضرر منه کلّ من البائع والمشتری کما ورد ذلک فی ما کتب أمیر المؤمنین علیه السلام فی عهده إلی الأشتر النخعی ، حیث کتب علیه السلام : فامنع من الإحتکار ، فإنّ رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم منع منه ، ولیکن البیع بیعاً سمحاً بموازین عدل وأسعار لا یجحف بالفریقین من البائع والمبتاع ، فمن قارف حُکرة بعد نهیک إیّاه فنکّل به وعاقبه فی غیر إسراف(1) .
وقد مرّ منّا أنّ لهذا العهد سنداً معتبر للنجاشی والشیخ فی فهرستهما(2) .
وبعبارة اُخری : لیس للحاکم الشرعی التسعیر ، ولکن ینظر هو بأن لا یجحف بالبائع والمشتری ، وکلّ منهما إن أراد الاجحاف بصاحبه علی الحاکم أن یمنعه .
هذا تمام الکلام فی بحث الإحتکار ، والحمد اللّه ربّ الأسعار .
ص:255
وهو الفحش وعدم المبالاة بالقول وسوء اللسان وخُبثه ، وهو حرام . وتدلّ علی حرمته - مضافاً إلی الأدلة الواردة فی حرمة إیذاء المؤمن وحرمة الفحش - عدّة من الروایات :
منها : صحیحة أبی عبیدة الحذاء عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال : الحیاء من الإیمان والإیمان فی الجنة ، والبذاء من الجفاء والجفاء فی النار(1) .
ومنها : صحیحة عبد اللّه بن سنان عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال : قال رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم : إذا رأیتم الرجل لا یبالی ما قال ولا ما قیل له فإنّه لغَیَّة أو شَرَک شیطان(2) .
اللغِیِّة : الزنا ، وتشریک الشیطان للانسان فی الأموال یعنی حمله إیّاه علی تحصیلها من الحرام وإنفاقها فیه ، وأمّا مشارکته له فی الأولاد إدخاله معه فی النکاح إذا لم یسمّ اللّه ولکن النطفة واحدة . ودلالة الروایة علی حرمة عدم المبالاة بالقول واضحة ، وسندها أیضاً صحیح کما مرّ .
ومنها : حسنة أو معتبرة سُلیم بن قیس عن أمیر المؤمنین علیه السلام قال : قال رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم : إنّ اللّه حرّم الجنة علی کلّ فحّاش بذیء ، قلیل الحیاء ، لا یبالی ما قال ولا ما قیل له ، فإنّک إنْ فتّشته لم تجده إلاّ لغیّة أو شَرَک شیطان ، فقیل : یا رسول اللّه وفی الناس شَرَک شیطان ؟ فقال رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم : أما تقرأ قول اللّه عزّ وجل : «وَشَارِکْهُمْ فِی الأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ»(3) الحدیث(4) .
ص:256
دلالتها علی حرمة البذاء واضحة ، وسندها لا بأس به ، لأنّ رجاله کلّهم ثقات إلاّ أبان بن أبی عیاش لم یرد توثیقه ، ولکن حیث تلقی الأصحاب کتاب سُلیم بن قیس الهلالی بالقبول
ولم ینقل کتابه إلاّ من طریق إبن أبی عیاش ، فهذا القبول یدلّ علی اعتباره ولاأقل من حسنه .
ومنها : خبر الحسن الصیقل عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال : إنّ الفحش والبذاء والسلاطة من النفاق(1) .
السلاطة : شدّة اللسان ، ودلالة الروایة علی الحرمة واضحة ، لأنّ النفاق من المحرّمات الشرعیة ، ولکن فی سندها ضعف بمحمّد بن سنان علی القول بضعفه ، والحسن بن زیاد الصیقل لأنّه مجهول أو ضعیف .
ومنها : خبر عبد اللّه بن القاسم عمّن حدثه قال : قلت لأبی عبد اللّه علیه السلام : أری الرجل من أصحابنا ممّن یقول بقولنا خبیث اللسان ، خبیث الخلطة ، قلیل الوفاء بالمیعاد ، فیغمّنی غمّاً شدیداً ، وأری الرجل من المخالفین علینا حسن السمت ، حسن الهدی ، وفیّاً بالمیعاد ، فاغتمّ لذلک غمّاً شدیداً ، فقال علیه السلام : أو تدری لم ذاک ؟ قلت : لا ، قال : إنّ اللّه تبارک وتعالی خلط الطینتین فعرکهما ، وقال بیده هکذا راحتیه جمیعاً واحدة علی الاُخری ، ثم فلقهما ، فقال : هذه إلی الجنة وهذه إلی النار ولا اُبالی ، فالذی رأیت من خبث اللسان والبذاء وسوء الخلطة وقلّة الوفاء بالمیعاد من الرجل الذی هو من أصحابکم یقول بقولکم ، فیما إلتطخ بهذه من الطینة الخبیثة وهو عائد إلی طینته ، والذی رأیت من حسن الهدی وحسن السمت وحسن الخلطة والوفاء بالمیعاد من الرجال من المخالفین ، فما إلتطخ به من الطینة الطیبة . فقلت : جعلت فداک فرّجت عنّی فرّج اللّه عنک(2) .
سند الروایة مرسل ، ویمکن المناقشة فی دلالتها علی الحرمة أیضاً بما لا یخفی .
ولتفصیل روایات الباب راجع الکافی 2 / 232 والوافی 5 / 953 وبحار الأنوار 76 / 103 ووسائل الشیعة 16 / 34 ومستدرک الوسائل 12 / 82 وجامع أحادیث الشیعة
ص:257
16 / 559 وکتابنا موسوعة أحادیث أهل البیت علیهم السلام 2 / 28 .
والحاصل ، أن الروایات تدل علی حرمة البذاء تکلیفاً ، وأمّا أخذ شیء فی قبال هذا العمل المحرّم أیضاً حرام بالحرمة الوضعیة ، یعنی لا یجوز أخذ الشیء فی قباله ولا یدخل فی ملک القابض ، لقوله تعالی : «لاَ تَأْکُلُواْ أَمْوَالَکُمْ بَیْنَکُمْ بِالْبَاطِلِ»(1) ، وأکل المال فی مقابلة
هذا الحرام من مصادیق أکل المال بالباطل ، حتّی علی ما ذهبنا إلیه من أنّ الآیة الشریفة تنهی عن أکل المال بالأسباب الباطلة ، نحو : القمار والظلم والفحش والربا ، ومنها : البذاء . فأخذ المال فی قبال البذاء باطل وفاسد وحرام بالحرمة الوضعیة ، فلا یجوز الإکتساب بها ، فینبغی ذکرها فی المکاسب المحرَّمة کما ذکرنا ، لا سیما مع خلو حرف الباء من عنوانٍ ، ویأتی منّا عنوان « الهُجْر » - وهو الفحش - فی محلّه . والحمد للّه رب المحامد کلِّها .
ص: 258
یقع البحث فی جهات :
لا بأس بکسب المشاطة وعملها ، وتدلّ علیه عدّة من الروایات المعتبرة :
منها : صحیحة محمد بن مسلم عن أبی عبد اللّه علیه السلام - فی حدیث أم حبیب الخافضة - قال : وکانت لاُمّ حبیب اُخت یقال لها : اُمّ عطیة - وکانت مقینة - یعنی ماشطة - فلما انصرفت اُمّ حبیب إلی اُختها فأخبرتها بما قال لها رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم فأقبلت اُمّ عطیة إلی النبی صلی الله علیه و آله وسلم فأخبرته بما قالت لها اُختها ، فقال لها : اُدن منّی یا اُمّ عطیة إذا أنتِ قَیّنتِ الجاریة فلا تغسلی وجهها بالخرقة ، فإنّ الخرقة تشرب ماء الوجه(1) .
الروایة صحیحة الاسناد . التقیّن : التزیین ، المقینة : المزینة . دلالتها علی جواز التقیّن وتزیین المرأة واضحة ، حیث لم ینه النبیّ صلی الله علیه و آله وسلم اُمّ عطیة عن عملها بل أوصتها فقط بعدم اغتسالها وجه المرأة بالخرقة .
ومنها : خبر إبن أبی عمیر عن رجل عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال : دخلتْ ماشطةٌ علی رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم ، فقال لها : هل ترکتِ عملکِ أو أقمتِ علیه ؟ فقالت : یا رسول اللّه أنا أعمله إلاّ أن تنهانی عنه فأنتهی عنه ، فقال : إفعلی ، فإذا مشطتِ فلا تجلی الوجه بالخرق فإنّه یذهب بماء الوجه ، ولا تصلی الشعر بالشعر(2) .
دلالتها علی جواز عمل الماشطة واضحة ، حیث لم ینه النبی صلی الله علیه و آله وسلم عن عملها بل نهاها عن الفعلین فقط ، و لکن سند الروایة ضعیف بعلی بن احمد بن أشیم ، لأنّه مجهولٌ ، وفیها أیضاً إرسالٌ .
ص:259
ومنها : خبر القاسم بن محمد الجوهری عن علی بن أبی حمزة البطائنی قال : سألته عن إمرأة مسلمة تمشط العرائس لیس لها معیشة غیر ذلک وقد دخلها ضیق ؟ قال : لا ، بأس ولکن
لا تصل الشعر بالشعر(1) .
الظاهر : المروی عنه هو موسی بن جعفر علیه السلام ، ولکن الروایة ضعیفة ومضمرة من حیث السند ، وأمّا دلالتها علی جواز مشاطة فواضحة .
ومنها : مرسلة الصدوق قال : قال علیه السلام : لا بأس بکسب الماشطة ما لم تشارط وقبلت ما تعطی ولا تصل شعر المرأة بشعر إمرأة غیرها ، وأمّا شعر المعز فلا بأس بأن توصله بشعر المرأة(2) .
الروایة تدلّ علی جواز کسبها ، وأمّا النهی عن إشتراطها الاُجرة فکالنهی کذلک فی حقِّ الحجام لا تدلّ أزید من کراهة إشتراطهما الاُجرة ، ولکن فی سندها إرسال وإضمار .
ومنها : خبر سعد الإسکاف عن أبی جعفر علیه السلام قال : سُئل عن القرامل التی تصنعها النساء فی رؤوسهنَّ یصلنه بشعورهنَّ ؟ فقال : لا بأس علی المرأة بما تزیّنت به لزوجها ، الحدیث(3) .
الروایة تدلّ علی جواز تزیّن المرأة لزوجها ، والتزیّن یمکن أن یکون بعملها مباشرة ویمکن أن یکون بعمل غیرها ، وتلک الغیر لیست إلاّ الماشطة ، فیجوز عمل الماشطة ، فإذا کان عملها جایزاً ، کذلک یجوز لها أخذ الأجرة علیه ، ولکن فی سندها ضعف .
والحاصل : عمل المشاطة فی نفسها لا بأس به ویجوز أخذ الاُجرة علیه .
قد وردت فی عدّة من الروایات النهی عن « الوصل » و «النمص » و « الوشم » و « الوشر » فلابدّ من البحث حول هذه الأعمال الأربعة :
ص:260
إن کان المراد به ما ورد فی بعض الروایات من تفسیر الواصلة بالفاجرة والموصولة بالقوّاد ، فحرمته من الضروریات بین المسلمین :
منها : خبر سعد الإسکاف عن أبی جعفر علیه السلام قال : سئل عن القرامل التی تصنعها النساء فی رؤوسهنَّ یصلنه بشعورهنّ ؟ فقال : لا بأس علی المرأة بما تزیّنت به لزوجها . قال :
فقلت : بلغنا أنّ رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم لعن الواصلة والموصولة ، فقال : لیس هناک ، إنّما لعن رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم الواصلة والموصولة التی تزنی فی شبابها ، فلمّا کبرت قادت النساء إلی الرجال ، فتلک الواصلة والموصولة(1) .
ومنها : معتبرة إبراهیم بن أبی زیاد الکرخی قال : سمعت أبا عبد اللّه علیه السلام یقول : لعن رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم الواصلة والمستوصلة ، یعنی : الزّانیة والقوّادة(2) .
سند الروایة لا یبعد حسنه ، لأنّ الحسین بن إبراهیم بن أحمد بن هشام المکتب ، شیخ الصدوق ، لو لم یکن ثقة لا أقل من حسنه ، وأمّا إبراهیم بن أبی زیاد الکرخی أیضاً لا یبعد حسنه ، وأمّا غیرهما من رجال السند فکلّهم ثقات ، فالروایة لا یبعد أن تکون حسنة سنداً .
ومنها : مرسلة عمار الساباطی قال : قلت لأبی عبد اللّه علیه السلام : إنّ الناس یروون : أنّ رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم لعن الواصلة والموصولة ، قال : نعم ، قلت : التی تمتشط وتجعل فی الشعر القرامل ؟ قال : فقال لی : لیس بهذا بأس ، قلت : فما الواصلة والموصولة ؟ قال : الفاجرة والقوّادة(3) .
فمع ورود هذا التفسیر لابدّ من حمل روایات اللعن الواردة فی شأن الواصلة والموصولة بالفاجرة والقوّادة . ولیس فیه عجب ، خلافاً لابن حنبل - لمّا ذکر له ذلک - قال : « ما سمعت
ص:261
بأعجب من ذلک » . کما نقل عنه إبن الأثیر فی نهایته(1) والعلامة المجلسی قدس سره فی مرآة العقول(2) وملاذ الأخیار(3) .
وأمّا إن کان المراد بالوصل ما ورد فی تفسیر علی بن غراب من أنّ « الواصلة التی تصل شعر المرأة بشعر إمرأة والمستوصلة التی یفعل ذلک بها »(4) .
وفیه : أولاً : عدم حجیة تفسیر وفهم علی بن غراب لنا .
وثانیاً : بورود الروایات المذکورة فیما مضی علی خلاف تفسیره کما مرّت .
وثالثاً : من المحتمل أن ابن غراب أخذ تفسیره هذا من العامة ، کما أنّ مضمونه روی فی سنن البیهقی(5) .
ورابعاً : علی فرض إعتبار تفسیره ، لابدّ من حمله علی الکراهة جمعاً بینه وبین غیره من الروایات ، لأنّ الروایات الواردة فی حکم وصل الشعر علی طوائف الثلاث :
الطائفة الأولی : تدل علی الجواز مطلقاً ، نحو : خبر سعد الإسکاف(6) ومرسلة عمار الساباطی(7) المتقدمتین .
والطائفة الثانیة : تدل علی المنع مطلقاً ، نحو : خبر إبن أبی عمیر عن رجل عن أبی عبد اللّه علیه السلام (8) وخبر علی بن أبی حمزة البطائنی(9) الماضیین .
والطائفة الثالثة : تدل علی التفصیل بین وصل الصوف وشعر المعز وشعر المرأة بنفسها وبین المرأة الاُخری ، فحکمت بالجواز فی الاُولی وبعدمه فی الثانیة ، نحو :
ص:262
خبر عبد اللّه بن الحسن قال : سألته عن القرامل ، قال : وما القرامل ؟ قلت : صوف تجعله النساء فی رؤوسهنَّ ، قال : إذا کان صوفاً فلا بأس ، وإن کان شعراً فلا خیر فیه من الواصلة والموصولة(1) .
والروایة تدلّ علی جواز وصل الصوف بشعرها ولکن نفت جواز وصل الشعر بشعرها مطلقاً ، ولکن فی سندها ضعف وإضمار .
ومنها : خبر ثابت بن سعید قال : سئل أبو عبد اللّه علیه السلام عن النساء یجعل فی رؤوسهنَّ القرامل ، قال : یصلح الصوف وما کان من شعر امرأة لنفسها ، وکره للمرأة أن تجعل القرامل من شعر غیرها ، فإن وصلت شعرها بصوف أو بشعر نفسها فلا یضرّها(2) .
دلالتها علی التفصیل واضحة ، ولکن فی سندها ضعف لأنّ ثابتاً مجهولٌ .
ومنها : مرسلة الصدوق قال : قال علیه السلام : لا بأس بکسب الماشطة ما لم تشارط وقبلت ما تعطی ، ولا تصل شعر المرأة بشعر إمرأة غیرها ، وأمّا شعر المعز فلا بأس بأن توصله بشعر المرأة(3) .
والروایة تدلّ علی التفصیل ، ولکن فی سندها إرسال وإضمار .
ومقتضی الجمع بین الروایات الجواز بالنسبة إلی وصل الصوف أو شعر الحیوانات نحو المعز وشعر المرأة نفسها بشعرها ، وأمّا وصل شعر المرأة الاُخری بشعرها فلا یجوز ، إلا أن الأصحاب ذهبوا فی وصل شعر المرأة الاُخری بشعرها إلی الکراهة نحو : الشیخ فی الخلاف(4) والعلامة فی المنتهی(5) والشیخ الأعظم فی المکاسب(6) وصاحب الجواهر قدس سرهم فی کتابه(7)
ص:263
وتلمیذه السید علی بحر العلوم رحمهم الله فی برهان الفقه(1) والمحقق الإیروانی فی حاشیة المکاسب(2) والمحقق الأردکانی فی غنیة الطالب(3) وشیخنا الأستاذ - مدظله - فی إرشاد الطالب(4) وبعض أساتذتنا - مد ظله - فی دراساته(5) . ولکن استشکل الفقیه السبزواری قدس سره فی استفاده الکراهة من الروایات(6) ، وهکذا قبله الفقیه السید الیزدی قدس سره ذهب إلی الکراهة ثم استشکل فیه وقال : « ومن ذلک یظهر أنّ الحکم بالکراهة فی المذکورات أیضاً مشکلٌ ، إلاّ من باب قاعدة التسامح العقلی أو الشرعی بملاحظة النبوی بعد دعوی ظهورها فی المرجوحیة فی حدّ نفسه
فیصدق البلوغ ... »(7) .
أما المحقق الخوئی قدس سره فقد ذهب إلی الجواز مطلقاً حتّی فی وصل شعر المرأة الاُخری بشعرها ، لضعف ما دلّت علی الکراهة سنداً ، ولذا قال : « ولکنّها جمیعاً ضعیفة السند ، وإذن فمقتضی الأصل هو الجواز مطلقاً »(8) . وتبعه تلمیذه فی عمدة المطالب(9) ، وقبلهما ذهب إلی الجواز العلامة الحلی قدس سره فی تذکرته حیث قال : « وإذا لم یحصل تدلیس بالوصل ، لم یکن به بأس »(10) . و ما ذکره العلامة الحلی والمحقق الخوئی « قدس سرهما » تام ، وإن کان الأحوط الذهاب إلی الکراهة فی وصل شعر المرأة الاُخری بشعرها موافقة للمشهور وعملاً بروایاتها .
وهو حفّ الشعر ونتفه فما حکمه ؟ تدلّ علی عدم جواز النمص خبر علی بن غراب عن
ص:264
جعفر بن محمّد علیه السلام عن آبائه علیهم السلام عن علی علیه السلام قال : لعن رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم النّامصة والمنتمِصَة والواشرة والمستوشِرَة والواصلة والمستوصِلة والواشمة والمستوشمة .
بانضمام تفسیر علی بن غراب قال : النّامِصَة التی تنتف الشعر من الوجه والمنتمصة التی یفعل ذلک بها . والواشرة التی تشر أسنان المرأة وتُفْلِجها وتُحدّدها ، والمستوشرة التی یفعل ذلک بها . والواصلة التی تصل شعر المرأة بشعر امرأة غیرها ، والمستوصلة التی یفعل ذلک بها .والواشمة التی تشم وشماً فی ید المرأة أو فی شیءٍ من بدنها ، وهو أن تَغرِزَ یدیها أو ظهر کفّها أو شیئاً من بدنها بإبرة حتّی تؤثّر فیه ثمّ تحشوه بالکحل أو بالنورة فیخضرُّ ، والمستوشمة التی یفعل ذلک بها(1) .
وقد مرّ منّا ضعف سند الروایة وعدم حجیة تفسیر علی بن غراب وعدم إفتاء الأصحاب علی مدلولها فلا تفید شیئاً فی المقام ، مضافاً إلی ورود الروایات بجوازها :
منها : صحیحة علی بن جعفر عن أخیه موسی بن جعفر علیه السلام قال : سألته عن المرأة ،
أتحفّ الشعر عن وجهها ؟ قال : لا بأس(2) .
ومنها : خبر علی بن جعفر أنّه سأل أخاه موسی بن جعفر علیه السلام عن المرأة تحف الشعر من وجهها ؟ قال : لا بأس(3) .
ولا یبعد إتحاد الروایتین .
ومنها : مرسلة أبی بصیر قال : سألته عن قصّة النواصی ترید المرأة الزینة لزوجها وعن الحفّ والقرامل والصوف وما أشبه ذلک ؟ قال : لا بأس بذلک کلّه(4) .
قال بعض أساتیذنا فی ذیل الروایة : « القُصة : بضم القاف ، الخُصلة من الشعر ، وقُصة النواصی : الخصلة من الشعر تجمع فی الناصیة للزینة ، نحو ما هو المتعارف فی عصرنا
ص:265
أیضاً »(1) .
فمع ورود صحیحة علی بن جعفر الماضیة فی جواز حفّ الشعر ونتفه فلا مجال إلاّ الإفتاء بها والحکم بجوازه .
وقد مرّ خبر علی بن غراب وتفسیره فی الوشم والوشر آنفاً ، وقد مرّ منّا أیضاً إشکالنا فیه .
وأمّا خبر عبد اللّه بن سنان عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال : قال رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم : الواشمة والموتشمة والناجش والمنجوش ملعونون علی لسان محمد صلی الله علیه و آله وسلم (2) .
فیمکن أن یُستدل به علی عدم جواز الوشم ، لأنّ ظهور اللعن فی الحرمة واضح .
وفیه : أولاً : قد یقال : الروایة ضعیفة سنداً بمحمد بن سنان وإن وثقه المفید قدس سره فی الإرشاد(3) واعتمد علیه المجلسی قدس سره فی الوجیزة(7) ومال إلی الإعتماد علیه جدنا من طریق الاُمّ حجة الإسلام الشفتی رحمه الله فی رسائله الرجالیة(4) وجدنا الأعلی العلاّمة الشیخ محمّد تقی قدس سره صاحب هدایة المسترشدین فی فقهه « تبصرة الفقهاء »(5) ونحن أیضاً نذهب إلی وثاقته واعتباره .
وثانیاً : لم یفت أحد من الأصحاب بالحرمة فیهما لهاتین الروایتین ، فلا یمکن الإفتاء علیهما . وغایة ما یمکن أن یقال فیهما ، القول بالکراهة و دون إثباتها خرط القتاد .
ص:266
ذهب جدنا الشیخ الأکبر الفقیه الشیخ جعفر کاشف الغطاء قدس سره إلی جمع آخر بین الروایات الظاهرة فی الحرمة نحو خبر علی بن غراب وغیرها وبین الروایات المجوّزة : بأن هذه الأعمال جائزة إذا کانت للزوج ، ومحرمة إذا کانت لغیره ، قال قدس سره بعد ذکر تفسیر ابن غراب فی النبوی : « ... ویخصَّص أمثاله بما کان لغیر الزوج ونحوه ، لما دلّ علی استحباب التزیّن له بأنواع الزینة وعلی خصوص الوصل بالشعر . ولا عیب فی الصلاة من جهته کما ظُنّ ، فیُخَصّ المنع بالتدلیس ، ومع تنقیح المناط یعمّ کلّ تدلیس ، ولا یُشترط إذن الزوج إلاّ فیما یخشی منه النقص فی محاسن الزوجة بانهدام أسنانها أو ضرر فی بدنها ونحو ذلک ، وأمّا المالک فیلزم استئذانه مطلقاً »(1) .
وتبعه بعض أساتیذنا - مدظله - فی غیر الوصل ، فقال : « وأمّا الخصال الثلاث الأخر فهی من اُوضح مصادیق الزینة ، فإن وقعت بقصد التدلیس أو بقصد جذب الفسّاق من الأجانب - علی ما کانت تصنعه الفواجر - کانت محرّمة بلا إشکال ، وإلاّ فلا وجه لحرمتها بل ولا کراهتها ، ولا سیما فیما إذا تزیّنت بها المرأة لزوجها وأخفتها عن الأجانب ، بل یمکن القول بحسنها عقلاً واستحبابها شرعاً فی هذه الصورة ، لإعفاف الزوج وإقناعه وکفّه عن المحرّمات ، وعلی ذلک استقرت سیرة العقلاء بل والمتشرعة أیضاً ، وتحمل أخبار النهی واللعن علی موارد التدلیس وقصد الفساد أو المعرضیّة لهما ، ولا سیما بعد تفسیر الوصل فیها بالقیادة التی لا إشکال فی حرمتها ، فتدبر »(2) .
أقول : هذا الجمع حسن متین ترضی النفس به ، وأمّا إخراج الوصل عن بقیة الاُمور کما صنعه الاُستاذ - مد ظله - غیر تام علی ما یخطر بالبال ، وقبلهما ذهب إلی هذا الجمع المحقق البحرانی قدس سره فی الحدائق(3) . وهذا تمام الکلام فی حکم هذه الأعمال ، والحمد للّه العالم بالأحکام والأحوال .
ص:267
قال فی الحدائق : « والمراد بذلک : ما إذا أرادت تزویج إمرأة برجل ومثله بیع أمة ، بأن تستر عیوبها وتظهر لها محاسن لیست فیها ، کتحمیر وجهها ووصل شعرها ونحو ذلک ممّا یوجب رغبة الزوج فی تزویجها أو المالک فی شرائها »(1) .
هذا الکلام من صاحب الحدائق قدس سره یبیّن لنا محط نظر الأصحاب فی البحث ، وهو : إرادة الماشطة المدلِّسة تزویج المرأة أو بیع الأمة ، یعنی یصدق علی نفس فعل الماشطة التدلیس . وبعبارة اُخری : الماشطة هی التی ترید تزویج المرأة أو بیع الأمة بالتدلیس ، والشاهد علی ما ذکرنا ملاحظة کلمات أصحابنا قدس سرهم فی المقام ، نحو :
1 - المحقق الأردبیلی قدس سره قال : « المراد تدلیس المرأة التی ترید تزویج امرأة برجل أو بیع أمة ، بأن تستر عیبها وتظهر ما یحسنها من تحمیر وجهها ووصل شعرها مع عدم علم الزوج والمشتری بذلک »(2) .
2 - قال الفقیه السید علی الطباطبائی فی الریاض : « تدلیس الماشطة بإظهارها فی المرأة محاسن لیست فیها من تحمیر وجهها ووصل شعرها ونحو ذلک إرادة منها ترویج کسادها »(3) .
یعنی أرادت الماشطة بنفسها ترویج کسادها .
3 - وقال الفاضل النراقی قدس سره : « تدلیس الماشطة بإظهارها فی المرأة محاسن لیست فیها لترویج کسادها ... »(4) .
4 - وقال الفقیه صاحب الجواهر : « تدلیس الماشطة مثلاً الإمرأة علی خطّابها والجاریة علی مشتریها بإظهار حسن لیس فیها وإخفاء قبحها کتحمیر وجهها ووصل شعرها ونحو ذلک »(5) .
ص:268
5 - وقال تلمیذه السید علی آل بحر العلوم قدس سره : « ومن أفراد الغش تدلیس الماشطة بفعل ما تری المرأة لخاطبها أو الأمة لمشتریها فی محاسن لیست فیها واقعاً کتحمیر وجهها وتسوید شعرها وغیر ذلک مع فرض حصول الغش والتدلیس به ، فیحرم لحرمة الغش ویلزمه حرمة عوض العمل ... »(1) .
والغرض من نقل کلمات هؤلاء وهم من أساطین الفقه ، أنّ محط البحث والکلام فی مورد تدلیس واقع علی ید الماشطة ، وهی عالمة قاصدة به ، مضافاً إلی هذه التصریحات تدلّ علیه بیانهم بأنّ ذکر الماشطة وقع علی سبیل المثال ، ولو أن المرأة بنفسها قامت بهذا التدلیس فعملها أیضاً محرّم ولذا قال المحقق الأردبیلی : « بل ولو فعلت المرأة بنفسها ذلک کذلک »(2) ، ونحوه عبارة ثانی الشهیدین فی کتابه المسالک(3) کما نقل عنه فی مفتاح الکرامة(4) .
وقال المحقق البحرانی : « والظاهر أنّ ذکر الماشطة فی کلامهم إنّما مخرج التمثیل وإلاّ لو فعلت المرأة بنفسها ذلک للغرض المذکور فالظاهر أنّ الحکم فیها کذلک »(5) .
فعلی ما ذکرنا بطوله من کلمات الأصحاب ظهر لک أنّ محلّ البحث فی تدلیس الماشطة أعنی فعل التدلیس الذی وقع علی ید الماشطة کما یُشعر بذلک عنوان البحث ، ولذا لم یرد علیهم ما ذکره المحقق الإیروانی : « أنّ الماشطة لا ینطبق علی فعلها غشّ ولا تدلیس ، إنّما الغش
والتدلیس یکون بفعل من یعرض المغشوش والمدلس فیه علی البیع ، نعم الماشطة أعدّت المرأة لأنْ یغشّ بها ، وحالها کحال الحائک الذی بفعله تعدّ العمامة لأنْ یدلس بلبسها وکفعل السبحة المعدّ لها لأن یدلّس بالتسبیح بها ریاءً»(6) .
ص:269
واستجوده المحقق الخوئی فی تقریرات بحثه(1) .
ولکن قد عرفت أنّ المحقق الإیروانی قدس سره أخرج کلام الأصحاب عن مورده ثمّ استشکل علیه ، والحقّ ما ذکرناه .
ثمّ بعد ظهور محل الکلام فی البحث لابدّ من ذکر الأدلة التی اُقیمت علی حرمة تدلیس الماشطة فنقول :
الدلیل الأوّل : الإجماع قام علی تحریم تدلیس الماشطة :
أوّل من ادعی علیه الإجماع المحقق الأردبیلی(2) ثم تبعه أصحاب الریاض(3) والمستند(4) وشرح القواعد(5) ومفتاح الکرامة(6) والجواهر(7) وحاشیة المکاسب(8) .
وفیه : أولاً : تحصیل الإجماع فی کلمات القدماء من أصحابنا مشکل ، وهو الحجة فی المقام .
وثانیاً : یحتمل أن یکون الإجماع مدرکیاً وکون مدرکهم الدلیل الآتی .
الدلیل الثانی : الغش والتدلیس حرام بالروایات الصحاح ، وهذا العمل من الماشطة أیضاً تدلیس ، فهذا العمل حرام .
ویأتی منّا أدلة حرمة الغش فی بحثه إن شاء اللّه تعالی ، ولم یرد فی خصوص تدلیس الماشطة روایة خاصة کما اعترف به المحقق البحرانی قدس سره فی الحدائق(9) ، ولا نحتاج إلیه بعد
ص:270
دخول فعلها فی التدلیس والغش الثابت حرمتهما بالروایات الصحاح .
فعلی ما ذکرنا ظهر ما فی کلام الفقیه الیزدی قدس سره من الحکم بالحرمة علی فعل الماشطة مع قصد التدلیس(1) .
والوجه فی ذلک : أنّ التدلیس والغش فعل خارجی لا یحتاج إلی القصد والنیة ، فلو أنّ شخصاً لم یقصد التدلیس والغش ولکن صدق علی فعله أنّه غشّ أو دلَّس کان فعله محرّماً ، والأمر فی الماشطة أیضاً کذلک .
وبالجملة ، تدلیس الماشطة بما أنّه تدلیس وغشّ یشمله الأدلة العامة فی حرمة الغش فهو حرام . هذا کلّه إذا صدق علی فعل الماشطة أنّها تغش أو تدلّس ، بأن تتصدی هی بنفسها لتزویج المرأة أو بیع الأمة .
ولکن إذا لم تتصد الماشطة ذلک للتزویج أو البیع ، والولی أو المرأة بنفسهما تصدیا للتزویج والمالک تصدی لبیع أمته ، والماشطة مشغولة بفعلها یعنی المِشاطة والتزیین فقط . فحینئذ تارة تعلم الماشطة بأن یُغشّ أو یُدلّس بفعلها وتارة لا تعلم ، فعلی فرض علمها یمکن الحکم بحرمة فعلها علی القول بحرمة الإعانة علی الإثم مطلقاً ، وقد مرّ منّا الإشکال فی ذلک .
وعلی فرض عدم علمها لا یمکن الحکم بالحرمة مطلقاً ، لعدم الدلیل علیها .
ظهر ممّا ذکرنا فی حکم تدلیس الماشطة ، حکم العملیة الجراحیة البلاستیکیة المعمولة فی عصرنا هذا علی وجوه النساء وأعضائهنَّ وحتّی علی فروجهنّ من تضییقه وتحسینه وترمیم بکارته ، من عدم حرمة هذه العملیة من هذه الجهة إلاّ إذا صدق علیها عنوان الغش والتدلیس ، وهو لا یصدق علی فعل الجرّاح إلاّ فی موارد نادرة کما لا یخفی .
وهذا تمام الکلام فی بحث تدلیس الماشطة والحمد للّه أوّلاً وآخراً وهو العالم بأحکامه .
ص:271
قد تعرّض الشیخ الأعظم قدس سره (1) تحت هذا العنوان لمسألتین :
1 - تزیین الرجل بالحریر والذهب .
2 - تشبّه الرجل بالمرأة وعکسه ولذا نبحث عنهما فی مقامین :
هل المحرّم علی الرجل عنوان التزیّن بالحریر والذهب أو لبسهما فلو لم یصدق التزیین ؟ لأنّ بینهما عموم وخصوص من وجه ، قد یصدق الزینة ولا یصدق اللبس کما إذا خیط بالحریر أو الذهب الثوب ، أو شدّ الأسنان بالذهب أو تعلیق الساعة علی اللباس بالذهب ، وقد یصدق اللبس ولا یصدق الزینة کلبسهما تحت الألبسة وتختم الرجل بالذهب للتجربة والإمتحان ، وقد یصدق اللبس والزینة معاً کمن لبس لباساً من الحریر خاصة أو الحریر والذهب ممزوجاً ونحوهما . فلابدّ من ملاحظة الأدلة فی المقام حیث ثبت أنّ المحرّم فیها عنوان التزیین أو اللبس أو کلیهما ، ولذا نبحث عنها فی جهتین :
الدلیل الأوّل : أدعی المحقق الأردبیلی قدس سره الإجماع علی حرمة التزیین بهما للرجال وهکذا فی المسألة الثانیة أعنی التشبّه ، ولکن استشکل فیه بقوله : « والإجماع غیر ظاهر فیما قیل »(2) .
ولکن ادعی الفقیه السید علی الطباطبائی قدس سره الإجماع علی حرمة تزیین الرجل
ص:272
بالذهب وإن قلّ والحریر إلاّ ما استثنی(1) ، وهکذا الفاضل النراقی(2) .
وذهب صاحب الجواهر إلی الإجماع بین المسلمین فی عدم جواز لبس الحریر المحض
للرجال ، وإلی الإجماع عندنا فی عدم جواز الصلاة فیه إذا کان ممّا تتمّ به الصلاة(3) .
فالدلیل الأوّل علی حرمة الحریر علی الرجال هو الإجماع بین المسلمین والفریقین .
وفیه : ثبوت إتفاق الفقهاء من العامة والخاصة علی حرمة الحریر للرجل متحقق ، ولکن هل هذا علی نحو اللبس أو التزیین غیر معلوم ، هذا أولاً .
وثانیاً : تحصیل الإجماع المحصَّل فی المقام مشکل کما مرّ من المحقق الأردبیلی قدس سره .
وثالثاً : الإجماع علی فرض ثبوته مدرکی ومأخذه الروایات الواردة فی المقام ، فلا یفید الإجماع شیئاً و لابدّ من ملاحظة الروایات .
الدلیل الثانی : الروایات تدلّ علی حرمة لبس الحریر علی الرجل .
منها : معتبرة محمّد بن مسلم عن أبی جعفر علیه السلام قال : لا یصلح لباس الحریر والدیباج ، فأمّا بیعهما فلا بأس(4) .
بقرینة الحکم والموضوع وغیرها من الروایات ، فإن الروایة تدل علی حرمة لبس الحریر والدیباج علی الرجل مطلقاً ، یعنی فی حال الصلاة وغیرها . والسند قوی ومعتبر .
ومنها : خبر جراح المدائنی عن أبی عبد اللّه علیه السلام إنّه کان یکره أن یلبس القمیص المکفوف بالدیباج ، ویکره لباس الحریر ولباس الوشی [ القسی ] ، ویکره المیثرة الحمراء فإنّها میثرة إبلیس(5) .
والروایة تدل علی حرمة لبس الحریر والدیباج علی الرجل ، ومن المعلوم أنّ الکراهة فی لسان الأئمة علیهم السلام تحمل علی الحرمة .
ص:273
والوشی فی اللغة : تحسین الشیء وتزیینه(1) ، ولباس الوشی لعله کان لباساً فی تلک الأعصار یزیّنونه بالحریر ، وتظهر من مکاتبة الحمیری أنّه یعمل من قزّو أبریسم(2) . وأمّا إذا کان لباس القسی - کما فی نسخة - فالمراد به ثیابٌ یوتی بها من الیمن کما فی معجم مقاییس اللغة(3) أو ثیاب فیها حریر تجلب من مصر ، نسبة إلی قریة تصنع بها کما فی لسان العرب(7) ،ولم
ینقل لنا کیفیته ولکن الظاهر أنّه أیضاً یصنع من الحریر والدیباج بقرینة عطفه فی کلامه علیه السلام بلباس الحریر .
وأمّا المیثرة : شیءٍ یحسن بقطن أو صوف ویجعله الراکب تحته ، وجمعه میاثر ومؤاثر(4) . وعلی هذا المعنی لابدّ من حمل النهی عن المیثرة الحمراء علی الکراهة کما هو واضح .
وبالجملة ، الروایة تدلّ علی حرمة لبس الحریر والدیباج علی الرجال ، ولکن سندها ضعیف بقاسم بن سلیمان ، لأنّ الرجالیین توقفوا فیه ولم یوثقوه .
ومنها : معتبرة مسعدة بن صدقة عن جعفر بن محمد علیه السلام عن أبیه علیه السلام أنّ رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم نهاهم عن سبع خصال : منها لباس الإستبرق والحریر والقَزِّ والأرجوان(5) .
والروایة تدلّ حرمة لبس الحریر ، لأنّ النهی ظهوره فی الحرمة ، والسند لا بأس به .
ومنها : معتبرة إسماعیل بن الفضل عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال : لا یصلح للرجل أن یلبس الحریر إلاّ فی الحرب(6) .
النهی یدلّ علی حرمة لبس الحریر للرجال ، والإستثناء یدلّ علی جوازه فی الحرب .
ص:274
وسند الروایة معتبر بعبد اللّه بن محمد بن عیسی أخی أحمد الثقة ، وعبد اللّه کان معتمداً علیه ، وإسماعیل بن الفضل هو الهاشمی الثقة .
ومنها : موثقة ابن بکیر عن بعض أصحابنا عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال : لا یلبس الرجل الحریر والدیباج إلاّ فی الحرب(1) .
ظهور النهی فی الحرمة واضح ، ولکن فی سند الروایة إرسال .
ومنها : موثقة سماعة بن مهران قال : سألت أبا عبد اللّه علیه السلام عن لباس الحریر والدیباج ، فقال : أمّا فی الحرب فلا بأس به وإن کان فیه تماثیل(2) .
فی هذه الموثقة إشعار بأنّ فی غیر الحرب به باسٌ ، یعنی یحرم فی غیر الحرب .
ومنها : مرسلة الصدوق قال : لم یطلق النبی صلی الله علیه و آله وسلم لبس الحریر لأحد من الرجال إلاّ لعبد الرحمن بن عوف وأنّه کان رجلاً قِملاً(3) .
دلالتها علی حرمة لبس الحریر للرجال واضحة ، ولکن فی سندها إرسال .
ومنها : صحیحة زرارة قال : سمعت أبا جعفر علیه السلام ینهی عن لباس الحریر للرجال والنساء إلاّ ما کان من حریر مخلوط بخزّ لحمته أو سداه خزّ أو کتان أو قطن ، وإنّما یکره الحریر المحض للرجال والنساء(4) .
الروایة تدلّ علی حرمة لبس الحریر المحض للنساء والرجال ، ولکن النساء خرجنّ بواسطة غیرها من الروایات من هذه الحرمة الی الجواز وبقی الرجال فی الحکم بالحرمة .
وبالجملة ، هذه الروایات کما تری تدلّ علی حرمة لبس الحریر للرجال فقط ولم یرد فیها عنوان التزیین ، فما حرم علی الرجال لبس الحریر المحض وبطلت صلاتهم فیها کما تدلّ علیه الروایات(5) . نعم استثنی لهم ما لا تتمّ الصلاة فیه کالقلنسوة ونحوها .
ص:275
تدلّ عدّة من الروایات علی حرمة لبس الذهب علی الرجال :
منها : موثقة روح بن عبد الرحیم عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال : قال رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم لأمیر المؤمنین علیه السلام : لا تتختم بالذهب فإنّه زینتک فی الآخرة(1) .
نهی صلی الله علیه و آله وسلم عن التختم بالذهب ، والتختم من أظهر مصادیق الزینة وإن صدق فی لسان العرب علیه اللبس ، والتعلیل أیضاً فیه إشعار بحرمة هذا التزیین فی الدنیا . وسند الروایة موثق ، لأن المراد بغالب بن عثمان هو المنقری الثقة وإن کان واقفیاً بقرینة روایة ابن فضال عنه وروایته عن روح بن عبد الرحیم ، فالروایة موثقة سنداً به وبابن فضال .
ومنها : خبر أبی الجارود عن أبی جعفر علیه السلام : أنّ النبی صلی الله علیه و آله وسلم قال لعلیّ علیه السلام : إنّی اُحبّ
لک ما اُحبّ لنفسی وأکره لک ما أکره لنفسی ، لا تتختم بخاتم ذهب فإنّه زینتک فی الآخرة ، الحدیث(2) .
ومنها : خبر حنان بن سدیر عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال : سمعته یقول : قال النبی صلی الله علیه و آله وسلم لعلیّ علیه السلام : إیّاک أن تتختّم بالذهب ، فإنّه حلیتک فی الجنة ، وإیّاک أن تلبس القسی(3) .
ومنها : خبر جراح المدائنی عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال : لا تجعل فی یدک خاتماً من الذهب(4) .
ومنها : معتبرة عمار بن موسی عن أبی عبد اللّه علیه السلام فی حدیث قال : لا یلبس الرجل الذهب ولا یصلّی فیه ، لأنّه من لباس أهل الجنة(5) .
هذه الروایة تدلّ علی حرمة لبس الذهب علی الرجال وبطلان الصلاة فیه وسندها معتبر .
ص:276
ومنها : خبر موسی بن أکیل النمیری عن أبی عبد اللّه علیه السلام فی الحدید : إنّه حلیة أهل النار والذهب أنّه حلیة أهل الجنة ، وجعل اللّه الذهب فی الدنیا زینة النساء ، فحرّم علی الرجال لبسه والصلاة فیه ، الحدیث(1) .
فی الروایة إشعار بحرمة التزین بالذهب علی الرجال ، والتلبس به من أحد مصادیقه .
ومنها : معتبرة مسعدة بن صدقة عن جعفر بن محمد علیه السلام عن أبیه علیه السلام : أنّ رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم نهاهم عن سبع ، منها : التختّم بالذهب(2) .
ومنها : صحیحة علی بن جعفر عن أخیه موسی علیه السلام قال : سألته عن الرجل هل یصلح له أن یتختم بالذهب ؟ قال : لا(3) .
الظاهر أن النهی فی عدم جواز التختم بالذهب بعنوان أحد مصادیق التزیّن والتحلی
به ، ولا نری الفرق بین التختم بالذهب وغیره من الحلی والزینة . وسند الروایة صحیح ، لأنّ لصاحب الوسائل سنداً صحیحاً إلی کتاب علی بن جعفر العریضی قدس سره .
ومنها : خبر البراء بن عازب قال : نهی رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم عن سبع وأمر بسبع ، نهانا أن نتختّم بالذهب وعن الشرب فی آنیة الذهب والفضة وقال : من شرب فیها فی الدنیا لم یشرب فیها فی الآخرة ، وعن رکوب المیاثر ، وعن لبس القسیّ ، وعن لبس الحریر والدیباج والإستبرق ، وأمرنا باتباع الجنائز وعیادة المریض وتسمیت العاطس ونصرة المظلوم وإفشاء السلام وإجابة الداعی وإبراء القسم(4) .
سند الروایة ضعیف بعدّة من الضعاف والمجاهیل .
ومنها : خبر إبن عباس عن النبی صلی الله علیه و آله وسلم أنّه قال فی حجة الوداع : إنّ من أشراط القیامة إضاعة الصلاة - إلی أن قال : - فعند ذلک تحلّی ذکور اُمّتی بالذهب ویلبسون الحریر والدیباج ، الحدیث(5)
ص:277
ومنها : خبر جابر الجعفی عن الباقر علیه السلام أنّه قال : لیس علی النساء أذان ولا إقامة إلی أن قال : ویجوز للمرأة لبس الدیباج والحریر فی غیر صلاة وإحرام وحرم ذلک علی الرجال إلاّ فی الجهاد ، ویجوز أن تتختّم بالذهب وتصلّی فیه وحرم ذلک علی الرجال [ إلاّ فی الجهاد ] ، قال النبی صلی الله علیه و آله وسلم : یا علی لا تتختّم بالذهب فإنّه زینتک فی الجنة ، ولا تلبس الحریر فإنّه لباسک فی الجنة ، الحدیث(1) .
ومنها : مرسلة دعائم الإسلام عن رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم أنّه نهی الرجال عن حلیة الذهب ، قال : هی حرام فی الدنیا(2) .
ومنها : مرفوعة القطب الراوندی عن النبی صلی الله علیه و آله وسلم أنّه خرج وفی إحدی یدیه ذهب والاُخری حریر وقال : إنّ هذین محرّمان علی ذکور اُمتی ، حلّ لاُناثها(3) .
ظاهر هذه الروایات بقرینة تناسب حکمها وموضوعها أنّ التزیّن والتزیین بالذهب
والتلبس به علی الرجال حرام ، ولا تنحصر الحرمة بالتلبس بالذهب فقط بخلاف الحریر ، فإن التلبس به کان علی الرجال حراماً . وأمّا الذهب حرمته لا تنحصر بالتلبس بل تشمل التزیّن أیضاً . ویؤید ما ذکرنا قوله تعالی : «جَنَّاتُ عَدْنٍ یَدْخُلُونَهَا یُحَلَّوْنَ فِیهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِبَاسُهُمْ فِیهَا حَرِیرٌ»(4) .
حیث جعل اللّه تعالی الذهب حلّی أهل الجنة وزینتهم وجعل لباسهم الحریر . والروایات أیضاً أشارت إلی الآیة الشریفة حیث ورد فیها : « فإنّه (أی الذهب) زینتک فی الآخرة أو فی الجنة » .
وبالجملة ، مدار الحرمة فی الذهب علی التزیین واللبس معاً علی الرجال وفی الحریر علی اللبس فقط علیهم .
فعلی ما ذکرنا تمت الحرمة التکلیفیة الواردة فی کلام صاحب العروة قدس سره لا الحرمة
ص:278
الوضعیة ، حیث یقول فی المسألة 23 من شرائط لباس المصلی : « ... نعم إذا کان زنجیر الساعة من الذهب وعلّقه علی رقبته أو وضعه فی جیبه لکن علّق رأس الزنجیر یحرم ، لأنّه تزیین بالذهب ولا تصح الصلاة فیه أیضاً »(1) .
لأنّنا استفدنا حرمة التزیین بالذهب علی الرجال من الروایات ، وأمّا الحرمة الوضعیة بالنسبة إلی الصلاة - یعنی بطلانها - فیدور مدار لبس الذهب وصدق عنوان الصلاة فیه ، یعنی إذا صدق أنّه صلی فی الذهب کانت صلاته باطلة . وفی صدق التلبس وإقامة الصلاة فیه فی مثل تعلیق الزنجیر الذی ذکره فی هذه المسألة مشکل جداً بل منع ظاهر . کما وافقنا فی هذا الفرض بعض المحشین للعروة ، نحو : بعض أساتیذنا - مد ظله -(2) والسید السیستانی(3) - مد ظله - وقبلهما تنظّر السید الحکیم قدس سره فی بطلان الصلاة(4) . وأمّا شدّ الأسنان بالذهب فلا یصدق علیه عنوان التزیین عرفاً ، وعلی فرض صدقه عرفاً فهو مقام العلاج ویکون من الضرورات التی تبیح المحظور ، مضافاً إلی ورود روایة صحیحة تجوّز شدّ الأسنان بالذهب ،
وهی :
صحیحة محمّد بن مسلم قال : رأیت أبا جعفر علیه السلام یمضغ علکاً ، فقال : یا محمد نقضت الوسمة أضراسی فمضغت هذا العلک لأشدّها ، قال : وکانت استرخت فشدّها بالذهب(5) .
والروایة بقرینة تناسب الحکم والموضوع وعدم الفرق بین الأضراس وغیرها من الأسنان تشمل الأسنان البارزة أیضاً ، فیجوز شدّ الأسنان بالذهب مطلقاً إذا کان الشدّ فی مقام الع