ص: 2

ص: 3

الظاهرة الحسینیة

تألیف

سید محمد علی الحلو

إصدار

 قسم الشؤون الفکریة والثقافیة

 فی العتبة الحسینیة المقدسة

وحدة الدراسات التخصیصة فی الامام الحسین صلوات الله وسلامه علیه

ص: 4

جمیع الحقوق محفوظة

للعتبة الحسینیة المقدسة

الطبعة الأولی

1432ه_ - 2011م

العراق: کربلاء المقدسة - العتبة الحسینیة المقدسة

قسم الشؤون الفکریة والثقافیة - هاتف: 326499

Web: www.imamhussain-lib.com

E-mail: info@imamhussain-lib.com

ص: 5

ص: 6

قارئی العزیز:

ستجد ان بحوثنا هذه لم تعتمد علی مصادر معینة فی تعزیز الفکرة وإرسائها, فالبحث یعتمد علی المشاهدات الوجدانیة فضلا عن المرتکزات العامة التی سیجدها القارئ مخبوءةً فی مطاوی الذاکرة؛ والبحث مجرد تحفیز لذاکرة القارئ وتقریرٌ لوجدانیاته ومرتکزاته.

ص: 7

ص: 8

إنسان مواد الظاهرة الحسینیة فیقرأها فی کل یوم دون أن یُصغی إلی عنوان الظاهرة أو یلتفت إلی حضورها فی کل أحایین حیاته, فهو یدخل فی برنامجها التنظیری ویعمل علی إیجادها ویسعی فی صیاغتها دون الالتفات إلی عنوان الظاهرة أو شخوصها.

ولعل دراستنا هذه ستشارک فی التنبیه علی حضور الظاهرة الحسینیة فی کل أحوالنا دون الانتباه إلیها, فان القارئ سیجد کل مواد الظاهرة موجودةً لدیه تعایشه من الصباح إلی المساء, ولم تکن هذه الدراسة سوی استعادة الظاهرة الحسینیة إلی حضور الذاکرة, أو تحفیز الذاکرة إلی استحضارها لیقف القارئ یرتب من جدید مواد الظاهرة الحسینیة الحاضرة.. لکنها الغائبة.

السید محمد علی الحلو

النجف الشرف

ص: 9

ص: 10

ص: 11

فوقف عابس أمام أبی عبد الله علیه السلام وقال: ما أمسی علی ظهر الأرض قریب ولا بعید اعز علی منک ولو قدرت أن ادفع الضیم بشیء أَعزّ علیَّ من نفسی لفعلت, السلام علیک, أشهد أنی علی هداک وهدی أبیک.

ومشی نحو القوم مصلتا سیفه وبه ضربة علی جبینه فنادی: الا رجل؟ فأحجموا عنه لأنهم عرفوه أشجع الناس, فصاح عمر بن سعد: ارضخوه بالحجارة, فرمی بها فلما رأی ذلک ألقی درعه ومغفره وشد علی الناس, وانه لیطرد اکثر من مائتین, ثم تعطفوا علیه من کل جانب فقتل.(1)

فإلقاء الدرع والمغفرة حالة من حالات "التبرع" فی آلیات الدفاع عن النفس والتنازل عنها مقابل ان یطمع العدو "الجبان" فی منازلته وهذه الحالة ساعدت الأعداء أن یقاتلوا عابساً حینما تخلی عن کل آلیات الدفاع لیسهل - فی نظر الأعداء- قتله, وهذه الظاهرة هی من ظواهر الوقوع علی الموت نتیجة لحالة الیقین التی وصل الیها عابس فی قضیته وقناعته فی صحة ما هو علیه دون تردد, بل بإقدام یعد من أشجع الظواهر التی تابعناها فی دراستنا هذه.

ص: 12

ولما صرع واضح الترکی استغاث بالحسین علیه السلام, فأتاه أبو عبد الله علیه السلام واعتنقه وهو یجود بنفسه فقال: من مثلی وابن رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم واضع خده علی خدی, ثم فاضت نفسه الطاهرة.(1)

ومشی الحسین إلی أسلم مولاه واعتنقه وکان به رمق فتبسم وافتخر ومات.(2)

ولو وضعنا خطاً تحت مادة "تبسم" وتحت مادة "افتخر" لوجدنا أن ظاهرة إلغاء الذات من أجل الذات الأسمی تبرز من خلال هاتین المادتین, ونحتاج إلی إضافة مقولة واضح حینما یعتنقه الإمام الحسین علیه السلام لیقول «من مثلی وابن رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم واضع خده علی خدی» تبرز لدینا ظاهرة الإلغاء الکامل للذات لیتحقق لنا الهدف الأسمی, وهذه ظاهرة لابد من توفرها فی مواقف تحقیق الهدف, إذ لم یشعر واضح انه أقدم علی الموت وأهدی نفسه للفناء مقابل بقاء الأسمی وهو الإمام, بل لم یصل إلی حالة التفضل التی یُشعرها به موقفه التضحوی بل شعر بالإلغاء لموقفه ومن ثم لذاته التی لا ینظر فی هذه اللحظة إلا إلی الذات الأسمی وهو الحسین علیه السلام فهو یفتخر ان یکون الحسین علیه السلام قد أبدی له القبول والرضا بما فعله عند مصرعه.

ص: 13

ص: 14

استحوذ علی کل الإحساسات المشارکة فی صیاغة المفردة لترتبط بالقاعدة التأسیسیة للظاهرة.

ان الحس الإنسانی یرتبط مباشرةً من بعید أو من قریب بالقضیة الحسینیة بغض النظر عن الانتماء القومی أو الإقلیمی وحتی الدینی, ولذلک جعلنا قید "البعید" و"القریب" قیدا احترازیا تحدده الانتماءات المختلفة لتشکل من خلالها الظاهرة.

الحاضر:

إننا لابد ان نعترف بأن الظاهرة الحسینیة موجودة فی دواخلنا سواء کانت دواخلنا الفردیة أو دواخلنا الاجتماعیة. ولا یمکن لنا تقنین هذه الظاهرة لعفویتها أو قل لعفویة الانتساب لهذه الظاهرة.

ولابد هنا ان نرصد تلک الحالات المتشکلة منها الظاهرة الحسینیة لتعدد الظاهرة بتعدد حالاتها, ومن أهم تلک الظواهر:

ص: 15

ص: 16

ص: 17

ان ظاهرة الدم جعلت عاشوراء تنمو فی الذهن العام وتکبر فی الذاکرة الإنسانیة, کما ان هذه الظاهرة حافظت علی مشروعیة الواقعة واحتفظت بسلامة القضیة وحفظتها من المصادرات التی تربصت بها وأبعدتها عن محاولات التحریف.

ذکر لی المرحوم السید کاظم الشربی وکان رجلا فاضلا عالما حافظا لوقائع تاریخیة کثیرة ان الفاضل الشربیانی کان من العلماء العظام الذین فرضوا احترامهم ومنزلتهم حتی علی الدولة العثمانیة, وکانت الدولة العثمانیة تنفذ له خمساً وأربعین کلمة ای (أمراً) فی السنة بأمر السلطان العثمانی, وقد کان الشیخ جالسا فی الحضرة الحسینیة الشریفة فی یوم العاشر من محرم الحرام, فلما رآه مدیر الشَرِطة أقبل علیه وسلم وأبدی له احترامه، وکانت آنذاک مواکب التطبیر تدخل الی الصحن الشریف ومستمرة فی توافدها علی الصحن آنذاک, فقال المسؤول العثمانی: یا شیخ أهذا جائز أم لا؟ فقال له الشیخ الشربیانی: هذا لا یجوز - یشیر إلی مواکب التطبیر وکانت إجابته علی سبیل التنزل- فقال المسؤول: لم لا تمنعون إذن؟ فقال الشیخ: نخاف, قال المسؤول: کیف تخافون ونحن معکم؟ فقال الشیخ: نخاف منکم, قال: کیف؟ قال الشیخ: إن یوم الغدیر حضر فیه أکثر من مئة وعشرین ألفاً من المسلمین - وهو اقل الروایات- وکان النبی صلی الله علیه وآله وسلم أشهدهم علی ان علی بن أبی طالب هو وصیه وخلیفته من بعده وشهد علی ذلک المسلمون جمیعا ثم أنکرتموه انتم وقلتم: لم نصدق ذلک, وواقعة عاشوراء لو لم تکن فیها هذه الدماء فی کل عام تذکرکم بشهادة الحسین علیه السلام ودمائه النازفة لأنکرتموها کذلک، وقلتم: إن الحسین مات موتة طبیعیة وأنکرتم ما جری فی واقعة راح ضحیتها الحسین وأهل بیته الأطهار وأصحابه الأخیار, لکن هذا الدم بقی شاهدا یذکرکم بما جرت من دماء فی عاشوراء. فسکت المسؤول العثمانی ولم یَحر جوابا. کان الجواب عنیفا بعنف الدم العاشورائی الذی أثبت قضیة الفداء.

ص: 18

ص: 19

لتثیرعنده الرغبة الشدیدة فی البکاء, وهی حالة استسلام نفسی تسقط فیه النفس فی بقعة الحزن لکنه سقوط ایجابی, ای سیرفع من حالة القوة الشعائریة التی تدفعه للمشارکة فی تقویم النفس بشکلها الباحث عن الإبداع ای سیکون البکاء حالة تقشُّع لهمٍ مثقلةٍ به النفس وستتعافی من خلال إلقاء هذه النتوءات النفسیة المتسببة من حالة إجهاد نفسی یثقل النفس من الإبداع فإذا ألقت النفس هذه القیود النفسیة من خلال البکاء نشطت إلی الإبداع وقویت فی عملها بعد ذلک.

هذه الظاهرة میزت اتباع أهل البیت علیهم السلام «بالبکائیة الشعائریة», فالبکاء الذی تحدثه الوجدانیات الشعائریة لتستثیر لدیهم حالة البکاء وتقوی حالة الإبداع الذی یکون منشؤه غالبا من استرداد الحق المغتصب أو إثارة الرغبة فی أخذ الثأر والانتقام من الظالم الذی سبب هذه المأساة الکربلائیة وکل من سار علی خطه وانتهج منهجه.

اذن ظاهرة البکاء مصدر قوة لأتباع أهل البیت وکل من دخل فی المنظومة الشعائریة التی حقق أهدافها أهل البیت علیهم السلام وأمروا شیعتهم بالتزامها ومراعاتها.

ص: 20

ص: 21

ص: 22

والمشارکین فیها, فکأن هؤلاء الشعائریین یقعون علی موت محتمل دون تردد من اجل متابعة المسیرة الشعائریة بسلام.

هذا من ناحیة ومن ناحیة أخری یوفر الشعائریون کل انواع الأکل التی یمکن ان یستذوقها الزائر فضلا عن أسباب الراحة الممکن توفرها من تدفئة أو تبرید تبعا للأجواء حینئذ.

ص: 23

غیر معلنة ترصد حالات البذل والعطاء تصل الی ترلیون دولار صُرفت خلال محرم 2009 وهو رقم مهول حقا, وهذه الإحصائیات السریة ترصدها دوائر عالمیة امریکیة وغیرها لمتابعة المجریات الشعائریة وهم لیسوا فی صدد نشرها واعلانها بقدر ما هم فی صدد مراقبتها کظاهرة تثیر الانتباه وبرنامج تنظیمی لکنه علی المستوی الشعبی.

ان ظاهرة السخاء نُظمت بشکل مثیر واتخذت أطوارا وحالات توفیریة, ای العمل علی توفیر الأموال لإنجاح الشعائر من خلال ایجاد صنادیق توفیر اهلیة یضعها الشعائریون فی بیوتهم أو محالهم یرجون منها البرکة, ویداوم الناس علی ایداع تبرعاتهم فی هذا الصندوق حتی قرب محرم الحرام یُفتح هذا الصندوق لیسد نفقات الموکب المخصص من اجله التوفیر, واستمرت هذه الحالة حتی وقت قریب فبرزت الدفعات الملیونیة التی یقدمها المتمولون من اجل إحیاء هذه الشعائر وإدامتها وباتت صنادیق التوفیر فی اکثرها تشیر الی رمزیة الارتباط بالشعائر من قبل الافراد فضلا عن طلب البرکة المتوقعة بسبب هذا الصندوق.

ص: 24

أهل البیت علیهم السلام وفکرهم, وبقیت هذه الثقافة مغایرة تماما لثقافة السلطة, ولابد لقنوات التثقیف لدی شیعة اهل البیت علیهم السلام ان تتنامی بشکلها المطرد من دون التأثر بثقافة السلطة, فکانت القنوات الشعائریة أهم ما لدی هؤلاء الشعائریین الذین باتوا ینخرطون تحت المنبر الحسینی بدافع المواساة للإمام الحسین علیه السلام ولغرض الحصول علی الثواب الأخروی وکون الحضور تحت المنبر یعنی الثبات علی المبدأ وهو احد صور الثبات للإمام الشهید, إلا ان ذلک الشعور یخالطه لون من التثقیف الذی بات یتنامی یوما بعد آخر, وشعر اتباع أهل البیت علیهم السلام بضرورة الانضواء تحت هذا المنبر والتمسک به والالتزام بمراسمه، وذلک؛ لکون المنبر الحسینی هو رسالة صوتیة لم ینقطع بثها منذ آلاف السنین تقود اتباع اهل البیت علیهم السلام بما ینسجم والوضع المعاش, وغدت هذه المجالس تدفع باتجاه التثقیف علی أطروحة أهل البیت علیهم السلام وبرزت ظاهرة الثقافة تتعاظم یوما بعد آخر وکان لهؤلاء الشعائریین النصیب الکبیر فی التزود بهذه الثقافة, حتی اننا أدرکنا بعض الأمیین الذین لم یحسنوا القراءة والکتابة یحملون ثقافة تاریخیة متمیزة ویدرکون مجریات الحدث التاریخی بما ینسجم وفکر أهل البیت علیهم السلام ویحق لنا أن نشیر الی ان الحرکة الشعائریة أحدثت تحولا ثقافیا لدی الشعائریین بشکل یضمن فکر أهل البیت علیهم السلام محفوظا دون تحریف.

ص: 25

الظواهر - کون هذه المناسبة یجتمع فیها أکثر من خمسة عشر ملیون مشارک وهی نسبة هائلة تعطی نتائج إحصائیة خطیرة- فلو أخذنا هذه المناسبة فإننا نرصد خُلقا شعائریا بدیعا یسود الجو العام, وتتضافر جهود الجمیع فی إقصاء کل مظاهر «الأنا» لتبرز روح ال_«نحن» فی هذا المجتمع وهو ما یساعد علی خلق روح التفاهم والسعی من اجل إنجاح البرنامج الشعائری الذی یشارک فیه الجمیع.

ان حالة الثقة التی تهیمن علی الأجواء تبعد الانهزامیة المسببة للخلافات, فان العینة الأربعینیة ستحظی بالاهتمام من لدن الجمیع وهم یشاهدون الملایین تنساب من خلال برنامج مرسوم وهدف موحد هو الوصول إلی کربلاء وإنجاح المهمة الشعائریة, فمن خلال مشارکاتنا فی سنین عدة لم نجد ولو علی مستوی الکلمة خلافا أو صراعا ما, بل وجدنا الانسیابیة الملیونیة یدعوها هدفها المشترک إلی تجاوز کل الخلافات الفردیة أو الجماعیة وإظهار المجمعات الشعائریة علی أنها مجمعات سلام, تنشد المحبة وتدعو الی التسامح وهو امر یثیر التساؤل, ما الذی دعا هذه الملایین ان تتجاوز کل خلافاتها علی الرغم من عدم اتفاقها الثقافی أو القومی أو حتی المناطقی الذی غالبا ما یکون فاصلا بین المستویات الثقافیة أو الفکریة وتتعدی صراعاتها وخلافاتها؟والذی نراه من خلال الجو العام الذی یعیشه المشارکون بکل توجهاتهم أنهم محکومون بأخلاقیة الجماعة الشعائریة التی یربطها الهدف الاسمی والغایة الأنبل للوصول الی مواساة الإمام الحسین علیه السلام وهذه المواساة تدفعهم بالشعور بان المسؤولیة تکافلیة موزعة علی الجمیع وان الجمیع مخاطبون بالمسؤولیة علی وجه العین دون ان یتخلی احد عن هذه المسؤولیة وان کانت تشتد وتضعف تبعا للمهمة التی یتکفلها الأشخاص وبهذا فقد برزت لدینا ظاهرة من أهم الظواهر التی یمکن رصدها فی الحرکة الشعائریة الحسینیة.

ص: 26

ص: 27

علی روح المشارکین الذین تعلقوا بهؤلاء الشهداء وانقطعوا بکلهم الی الله تعالی, ویجد الشعائری ان روح الشهید الکربلائی تهیمن علیه وتأخذه إلی مساقات تعبویة تعبدیة فی صلاة الجماعة وهی أبرزها أو التحفیز للالتزام بالصلاة فی حال یکون المکلف قد تراجعت لدیه حالة الالتزام والمحافظة علی أوقات الصلاة, فنجد لدی هؤلاء تتصاعد لدیهم الرغبة فی الالتزام بالصلاة, أو تتضاعف الرغبة بالصلاة لدی المحافظین علیها, قد وقفت کثیرا عند صلاة اللیل یؤدیها جموع من المشارکین فی الشعائر الحسینیة وهو امر لم نعهده فی مناسبات أخری, أو صلاة الجماعة ینتظم بها العشرات فی صفوف متعبة من المشارکین، وشاهدتهم یؤدونها وکأنها من ضمن متطلبات الشعیرة التی شارکوا فیها, مما دفعنی للتفکیر الی ان الشعائر الحسینیة مطلقا تدفع المشارکین فیها الی اشتداد حالة العبودیة والخضوع لله تعالی, ومن هنا سینطلق بعض من لم یجد فرصة للمحافظة علی صلاته ان ینخرط فی الصف العبادی الشعائری فکفلته الشعائر الحسینیة, ای ان حصیلة المشارکة فی الشعیرة هی تمتین العلاقة بین العبد وربه بعد ان فُتحت لدیه آفاق عبادیة شعائریة, اذن لحظة الارتباط بالله ستقوی فی هذه المشارکات الشعائریة بشکل عنیف تترک فی نفس المشارک حالة الالتزام العبادی بأقوی صورها, فهو اما ان یبتدئ من نقطة الانطلاق العبادی الشعائری للعبادة والتوجه الی الله تعالی واما ان هذه الشعائر ترکت لدیه لحظة المشارکة العبادیة فی نفسه انشدادا قویا یدفعه فی یوم ما الی الالتزام بصلاته بشکل منتظم, هذه الظاهرة العبادیة الشعائریة هی رد واضح علی کل من یدعی ان بعض المشارکین لا یعرفون التوجه الی الصلاة ایام مشارکاتهم وهو فهم خاطئ بل ظالم لهذه الشعیرة وللمشارکین فیها, وکم سمعنا مثل هذه الجدالات السیئة غیر المجدیة والتی تنبع من اللامسؤولیة الدینیة التی تأخذ بعضهم الی متاهات الظلم واتهام الآخرین بغیر حق.

ص: 28

ص: 29

«ان ولدک سیقتل فی زمان خال عنی وعنک وعن ابیه وعن اخیه قالت علیها السلام ومن سیبکی علیه؟ فقال صلی الله علیه وآله وسلم: ان الله سیخلق لنا شیعة رجالهم یبکون علی رجالنا ونساؤهم یبکین علی نسائنا».

 وبقیت حالة الأهلیة مرتکزة فی نفوس الشعائریین رغم تعدد الثقافات الاجتماعیة, ای حاول الشعائریون القفز علی الموروث الاجتماعی فی التعامل مع المرأة عند تعاطیها الشعیرة وتبقی المرأة الشعائریة محفوظة الهویة مستقلة الذات, وبمعنی آخر فان تحرر المرأة بجانبها الشعائری یدفعنا الی القول بان فلسفة الشعائر حفظت للمرأة تحررها، واستقلت بذاتها مهما کان المجتمع مجتمعا متزمتا فی تعامله مع المرأة, ای ان "ذکوریة المجتمع" لم تقف حائلا فی "أنثویة الممارسة الشعائریة" وبقیت المرأة تشارک الرجل فی اظهار المشاعر وتقدیر الموقف, ولعمری لقد سبق المجتمع الشعائری کل المجتمعات المتحررة التی تنادی بحریة المرأة, أو تلک التی مارست الإخفاقات فی حریة المرأة واستقلالیتها.

ب- بناء مجتمع نسوی شعائری یمارس جمیع أنشطته الشعائریة وشخصیته القانونیة فی ظل تقنین شعائری ارتکازی, ای تحتفظ المجتمعات النسویة بقانونیتها الشرعیة الذی أصّله النبی صلی الله علیه وآله وسلم «ونساؤهم تبکی علی نسائنا»وهذا التأصیل أسس لمجتمع نسوی شعائری یمارس ثقافته بکل استقلال من دون ان تناله سطوة الرجل الذی تخلی عن هیمنته التقلیدیة، وأعطی للمرأة شخصیتها إذعانا منه بإمکانیة ممارسة المرأة لشعائرها وضرورة ذلک تمتینا للهدف العقائدی الذی یعم الجمیع, ولهذه المجتمعات النسویة تقالیدها الخاصة بها وشخصیتها المعترف بها عند مجتمع الرجل الذی یعمل علی تعزیز ضرورة هذه المجتمعات النسویة, وهنا نجد أن الرجل تحرر من عقدة الهیمنة غیر الطبیعیة فی تعامله مع المرأة واحتفظت المرأة بمجتمعها الشعائری الذی

ص: 30

من خلاله تبرز مواهبها الخطابیة مثلا أو الثقافیة أحیانا أو الفکریة فی أحیان أخری.

ح_-الاستقلالیة المالیة للمرأة فی المجتمع الشعائری, وهنا لابد من التأکید علی ان المرأة لها الحق فی القرار المالی بعد استقلالیتها المالیة التی یبیح لها الرجل فی التصرف لإنجاح هذه المهمة الشعائریة, فالمرأة التی تفقد شخصیتها المالیة ستظهرها فی الممارسات الشعائریة, فالمجلس النسوی المقام یدعم بتبرعات مالیة مختلفة وتکون علی اساس:

1- مالیة المرأة المستقلة والتی تحتفظ بحقها المالی واستقلالیته.

2- منح الرجل مالا لدعم المشروع الشعائری لزوجته وهنا تتصرف المرأة بکامل حریتها المالیة.

3- التبرعات التی یقدمها المتمولون لدعم مثل هذه المجالس السنویة.

4- النذورات والهدایا من المشارکین لدعم المجلس وإقامته.

وهنا لابد من الإشارة الی ان ذلک ربما لم یتحقق فی الحیاة الزوجیة کلها سوی ما تحققه ظاهرة المرأة الشعائریة, وهو تقدم علی صعید العلاقات الزوجیة بل والاجتماعیة کذلک.

ص: 31

ص: 32

اما بعد فقد نزل بنا من الأمر ما قد ترون وان الدنیا قد تغیرت وأدبر معروفها ولم یبق منها إلا صبابة کصبابة الإناء, وخسیس عیش کالمرعی الوبیل, ألا ترون الی الحق لا یعمل به, والی الباطل لا یتناهی عنه, لیرغب المؤمن فی لقاء الله, فانی لا أری الموت إلا سعادة والحیاة مع الظالمین إلا برما»(1).

ولم أقف علی خطبة تقدم فیها بعض الاغراض المهمة علی المقدمة وهی الحمد والثناء لله تعالی, وکانی أجد ان الإمام الحسین علیه السلام أراد ان یؤکد ان الغرض الذی یفتتح به الخطبة یعنی التوحید فی مساوقته للغرض, اذ تنبیه الأمة علی الحکمة وحسن التصرف ونبذ المنکر ورفض الظالمین یعنی هو الرجوع الی الله تعالی وطاعته وذلک یعنی عبادته تعالی والذی یؤول الی توحیده, فقدم غرض ما به التوحید علی الحمد والثناء, فضلا عن اثارة انتباه السامع بان الغرض الذی افتتح به خطبته هو التوحید الربوبی والافعالی الذی یطمح الإمام الحسین علیه السلام تربیة الأمة علیه.

لقد أکدت فصول الخطبة الحسینیة علی هذا الحماس الإصلاحی الذی نوه به الإمام علیه السلام وأکده فأوضح ضرورة الالتجاء إلی التغییر الذی هو الإصلاح والذی هو الثورة أخیرا.

لقد تسربت هذه الثوریة الإصلاحیة إلی الأمة العاکفة علی الاستسلام والخنوع للحاکم, واشتعلت جذوة التغییر فی وجدانها فلم تنفک عن التغییر والمطالبة به ثوریا, وهذا ما یفسر لنا ولادة الثورات الإصلاحیة بعد شهادة الإمام الحسین علیه السلام. ای خلفت ثورة الإمام فی النفوس دواعی الثورة وتجذرت فی مفاهیمها ضرورة الإصلاح فهی ضدّ الظلم أبدا, ولا تدع أحداً یبتز حقوقها منذ عرفت الحسین ثائرا ثم شهیدا.

ص: 33

لقد منحت ثورة الإمام الحسین علیه السلام قسطا وافرا من الثوریة لأتباعه ومریدیه, وتدفقت لدیهم دماء الثورة فی مراجل نفوسهم تدعوهم للتغییر الدائم, لذا تجد أن الشعائریة الحسینیة تضخ للمشارکین دیمومة الثورة وذلک من خلال مفاهیمها التی باتت متلبسة فی کل تحرکاتهم وسکناتهم, فالثورة الحسینیة ألهبت المشاعر ولابد من استمراریة هذا الشعور وحیویته, ای لابد ان یعیش شعور الثورة حیا فی نفوس الأمة ووجدانها ولابد من آلیة تدیم التواصل بین الثورة وبین أتباعها, فکانت الشعائر الوسیلة المهمة فی حرکیة هذه المبادئ لدی شعور الأمة وإحساسها, لذا فإننا نجد الشعائریین یمتازون بالثورة کظاهرة تمیزهم عن غیرهم, وقد عاصرنا بعض فصول هذا التوهج الثوری الذی دفع بالشعائریین إلی الثورة کما حدث ذلک فی صفر من عام 1977 والذی برهن علی ان الشعائریین یحملون الثورة فی دمائهم فقد اعترضت فی الثامن عشر من صفر قوة عسکریة تابعة للنظام البعثی الذی کان یحکم العراق فی عام 1977 وطلبت من المسیرة المتوجهة الی کربلاء التفرق وایقاف مسیرتهم وإلغاء هذه الشعیرة بالتهدید, ولم یستجب هؤلاء الشعائریون لنداءات القوة العسکریة وتهدیداتها بل واصلوا الإصرار للوصول إلی کربلاء وتیقنوا ان الرضوخ لمطالب النظام یعنی إلغاء المراسم العاشورائیة بکل تفاصیلها، فآثروا الوقوف ضد هذا الصخب من التهدید وثاروا بوجه القوة بتردید شعارات الرفض والتحدی وبدأت المواجهة غیر المتکافئة بین القوة العسکریة المزودة بالدبابات والأسلحة الفتاکة وبین الشعائریین العزل حتی قتل منهم الکثیر، وألقوا القبض علی الباقین، وحکموا بالإعدام من دون محاکمة عادلة، وبقیت هذه الحادثة تشیر إلی تلک الحماسة الثوریة التی عبّدت طریق کربلاء بدماء التضحیة والعطاء.

اذن فالظاهرة الثوریة ظاهرة کربلائیة وان لم تنتسب, ای الثوریة هذه تعتمل فی النفوس فهی وراثة کربلائیة وان لم یکن بین هذه الثوریة وبین أصحابها علقة الانتماء

ص: 34

الکربلائی. وکم قرأنا عن عظماء ثوریین تأثروا بکربلاء ومجَّدوها بکلمات خالدة معروفة لدی الجمیع, کما هو الحال فی محرر الهند المهاتما غاندی أو ما صرح به نابلیون بونابرت القائد الفرنسی حینما خاطب أخاه الذی قرر الرجوع من بعض معارکه قال:«لیتک کأخ الحسین.» ای أراد تذکیره بوفاء أبی الفضل العباس ووقفته الشجاعة مع أخیه الحسین.

اذن فالثوریة ظاهرة حسینیة لا تتخلف عن المشهد المعاش والذی یحمل کل جزء منه کربلاء بفصولها وجزئیاتها.

ص: 35

ص: 36

ان البکاء الذی عرف به شیعة أهل البیت علیهم السلام لإحیاء شعیرة الإمام المظلوم تنبع من إحساس الباکی بالظلم وفداحة ما وقع من حیف علی الإمام الشهید، فتتعزز لدیهم روح العمل علی رفع الحیف الذی لحق بهم من الحاکم, والحاکم لا یعنی المتسلط السیاسی بالضرورة, بل حتی المتسلط الفکری والثقافی الذی یهیمن علی المشهد العام والذی یجعل الآخر محکوما دائما؛ لذا تجد ان البکاء یخلق طاقة الإبداع ویتسامی إلی الرفض لکل منقصة من شأنها ان تسجل ظلما أو جورا, وهکذا یبقی البکاء حافزا لترویض النفس الجامحة وفی الوقت نفسه داعیا لصقلها عن کل شوائب الخنوع التی تدعو الی التکاسل ومن ثم الانصیاع إلی الظالم.

هذه هی ظاهرة الألم تخلق أُمّة سویة فی التفکیر, خلاقة فی السلوک, دائبة فی العمل, مبدعة فی القرار, ولا ننسی ان حالة البکاء بسبب الألم تعطی اطمئنانا اکبر للنفس فتجد النفوس الباکیة قد تخلصت من عقدتها بواسطة البکاء الذی یبعثه الألم, فالنفس الشیعیة نفس متألمة, ای باکیة وفی نفس الوقت مبدعة, خلاقة, سویة ثم هی مطمئنة تنشد الخیر والإبداع.

ص: 37

ص: 38

«من کان باذلا فینا مهجته, وموطنا علی لقاء الله تعالی نفسه, فلیرحل معنا فانی راحل مصبحا إن شاء الله تعالی»(1).

وکان دواعی الحرکة والخروج مع الإمام علیه السلام هو بذل النفس, وهو أقصی مصادیق الإیثار, وهنا نقف مع خطاب حسینی آخر نستجلی به حالة الإیثار بأروع صورها فقد أدرک الإمام علیه السلام ضرورة بیان تکلیف کل واحد من المشارکین فی کربلاء؛ لیوقفهم علی مصائرهم ثم السماح لهم بالانصراف لئلا یلاقوا مصیره من القتل والبلاء, إلا ان أصحابه أدرکوا کذلک ان تکلیفهم یقتضی فداءه علیه السلام بأرواحهم، وانهم لم یکونوا أغلی منه وأعظم من وجوده, فقال علیه السلام لأتباعه:

ألا وانی لأظن انه آخر یوم لنا من هؤلاء, ألا وانی قد أذنت لکم فانطلقوا جمیعا فی حل لیس علیکم منی ذمام, هذا اللیل قد غشیکم فاتخذوه جملا.

فقال له إخوته وأبناؤه وبنو أخیه وابنا عبد الله بن جعفر:

لِمَ نفعل ذلک؟ لنبقی بعدک؟! لا أرانا الله ذلک أبدا.

بدأهم بهذا القول العباس بن علی (رضوان الله علیه) واتبعته الجماعة فتکلموا بمثله ونحوه.

قال الحسین علیه السلام:

یا بنی عقیل, حسبکم من القتل بمسلم, فاذهبوا انتم فقد أذنت لکم.

قالوا: سبحان الله, فما یقول الناس؟! یقولون إنا ترکنا شیخنا وسیدنا وبنی عمومتنا - خیر الأعمام - ولم نرم معهم بسهم, ولم نطعن معهم برمح, ولم نضرب

ص: 39

معهم بسیف, ولا ندری ما صنعوا, لا والله ما نفعل ذلک, لکن تفدیک أنفسنا وأموالنا وأهلونا, ونقاتل معک حتی نرد موردک, فقبح الله العیش بعدک.

وقام إلیه مسلم بن عوسجة فقال: أنخلی عنک ولما نعذر إلی الله سبحانه فی أداء حقک؟ أما والله حتی اطعن فی صدورهم برمحی, واضربهم بسیفی ما ثبت قائمه فی یدی, ولو لم یکن معی سلاح أقاتلهم به لقذفتهم بالحجارة, والله لا نخلیک حتی یعلم الله ان قد حفظنا غیبة رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم فیک, والله لو علمت أنی اقتل ثم أحیا ثم احرق ثم أحیا ثم أذری یفعل ذلک بی سبعین مرة مافارقتک حتی ألقی حمامی»(1).

ولم ننس موقف سعید بن عبد الله الحنفی الذی وقف یدرأُ سهام الموت عن الحسین علیه السلام وهو یسقط بین یدیه مضرجا بدمه لیقول له:«وفیت یابن رسول الله؟» ولعلک تستمتع بهذه المشاهدة أو تهتز لهذا الموقف أو تخضع لهذا الإیثار وأنک لابد ان تذعن إلی أنّ ظاهرة الإیثار تسجل للجهد العاشورائی الذی ابرز هذه المواقف بأعظم تجلیاتها, وإذا أردنا ان نحیل الإیثار إلی مسالة الانحیاز لحب الخیر المجبولة علیها النفس الإنسانیة لتتکثر لدینا المواقف الایثاریة ولیس الموقف العاشورائی وحده الذی یمتاز بهذا الإیثار, فان مواقف أخری اتضحت فیها سمة الإیثار کعلامة بارزة أغدقت علیها صفة نزعة الإحسان وحب الخیر وسجلتها مواقف تحتفظ بها, إلا أن الإیثار العاشورائی ضرب مثلا أعلی فی هذا المجال وأسهم فی تعزیز رؤیة العطاء لیهیمن علی ملامح الموقف ویأخذ بالاعتبار البعد الإنسانی للواقعة بکل تفاصیلها.

هذه الظاهرة الکربلائیة - ظاهرة الإیثار- ضربت جذورها فی أعماق الحالة الشیعیة وتوارثت الروحیة الشیعیة صفة الإیثار حتی لنجد ان التاریخ یمتد بطوله لتؤسس السلوکیات الشیعیة منهجیتها فی الإیثار سواء کانت الثوریة أی علی الصعید

ص: 40

الثوری الشیعی, إذ اننا نجد ان الثورة الشیعیة احتفظت بمواقف الإیثار ولعب هذا الحس دوره فی ترسیم هذه الحالة وتشخیصها کما فی کل الثورات التی انتهجتِ الثار الحسینی فی تعاطیها مع النظام - کما فی ثورات الحسنیین؛ کثورتی محمد النفس الزکیة وأخیه إبراهیم الإمام- مع التحفظ علی بعض اطروحتیها, أو فی ثورة زید بن علی التی سبقت هاتین الثورتین والثورات الزیدیة التی تلتها, أو فی واقعة فخ وشهیدها الحسین بن علی, أو فی الثورات التی هی علی منوالها, فان الحس الحسینی فی الإیثار کان الظاهرة الأکثر حضورا فی تفاصیلها.

أو المنهجیة السلوکیة, وهو علی صعید الأخلاق, فان الخلق الشیعی قد تبنّی الإیثار کمسالة أساسیة فی توجهاته, ولعل قصص العلماء وغیرهم شهدت حالة الإیثار بکل عافیتها. او المنهجیة الشعائریة, وهو صعید الممارسة الشعائریة الذی تمیزت به الشعائر الحسینیة فکانت ظاهرة الایثار هی الأبرز من بین الظواهر التی تتحکم فی هذا المضمار.

وهکذا تعد ظاهرة الإیثار الأکثر انتشارا فی الحالة الشیعیة وعلی جمیع مستویاتها.

ص: 41

ص: 42

خلاصه من کل ما یریده خصومه به من التنکیل, بل وجد فی الإصرار لذته علی محاربة هؤلاء المهزومین دون ان یجدوا منه ولو لحظة واحدة قرار الاستسلام.

وفی علم الأخلاق یتقرر ان الشجاعة نزعة النفس حینما ترقی إلی المجد, وعزمة الکریم وهو یری استباحة مبادئه علی ید الطغاة، فتدفعه عزته للدفاع عن مبادئه، یقول ابن مسکویه فی تهذیب الأخلاق الشجاعة: «.. وذلک ان الشجاع خوفه من الأمر اشد من خوفه علی الموت, ولذلک یختار الموت الجمیل علی الحیاة القبیحة, علی ان لذة الشجاع لیست تکون فی مبادئ أموره، فان الأمور تکون مؤذیة له لکنها تکون الأمور وتکون أیضا باقیة مدة عمره وبعد عمره, لا سیما اذا حامی عن دینه وعن اعتقاداته الصحیحة فی وحدانیة الله عزوجل, والشریعة التی هی سیاسة الله وسنته العادلة التی بها مصالح العباد فی الدنیا والآخرة.

فان مثل هذا إذا فکر فی قصر مدة عمره, وعلم انه لا محال سیموت بعد أیام ثم کان محبا للجمیل ثابتا علی الرأی الصحیح, فهو لا محال یحامی عن دینه ویمنع العدو من استباحة حریمه, والتغلب علی مدینته, ویأنف من الفرار ویعلم ان الجبان اذا اختار الفرار فإنما یستبقی شیئا هو لا محال فان زائل, وان تأخر أیاما معدودة, ثم هو فی هذه الحیاة الیسیرة ممقوت مکدر الحیاة بالذل وضروب الصفات, وهذه حال الشجاع مع قوی نفسه..»(1).

وهذا العقاد یقرظ اللحظات الأخیرة للإمام بقوله: «تنادی القوم بمصرع الحسین فبلغت صیحتهم مسمعه الذی أثقله النزع وأوشک ان یجهل ما یسمع. فلم یخطر له ان یسکن لینجو وقد ذهب الأمل وحم الختام, ولم یخطر له انه ضعیف منزوف یعجل به القوم قبل ان ینال من القوم أهون مثال, ولم یحسب حساب شیء فی تلک اللحظة العصیبة إلا ان یجاهد فی القوم بما استطاع, بالغا ما بلغ من ضعف هذا المستطاع..

ص: 43

فالتمس سیفه فاذا هم قد سلبوه, ونظر الی شیء یجاهد به فلم تقع یده الا علی مدیة صغیرة لا غناء بها مع السیوف والرماح.. ولکنه قنع بها وغالب الوهن والموت, ثم وثب علی قدمیه من بین الموتی وثبة المستیئس الذی لا یفر من شیء ولا یبالی من یصیب وما یصاب. فتولاهم الذعر وشلت أیدیهم التی کانت خلیقة ان تمتد إلیه, وانطلق هو یثخن فیهم قتلا وجرحا حتی أفاقوا له من ذعرهم ومن شغلهم بضجتهم وغیمتهم, فلم یقووا علیه حتی تعاون علی قتله رجلان.. فکان هذا هو حقا الکرم والمجد فی عسکر الحسین إلی الرمق الأخیر»(1).

وإذا کان الکرم والمجد هما خُلُقَی الحسین علیه السلام فان الشجاعة هی ما یجمع هاتین الصفتین ویؤطرهما بإطار خلقه الکریم وسجیته الشریفة.

هذه هی ظاهرة حسینیة ورثها آل بیت الحسین وأضافوا إلیها أتباعهم وشیعتهم علی هذا المنوال وبنفس السجیة والعظمة.

فأتباع الحسین علیه السلام تمیزوا بظاهرة الشجاعة کونها ظاهرة حسینیة, حتی انک لا تجد شجاعة إلا حطت علی صفحات هذا الماضی العتید, ولا تری إصرارا إلا وکان شیمة هذا الجمع الشدید فی منازلة الشدائد ومکابرة الأعداء.

کانَ شیعة الحسین یمتازون بظاهرة الشجاعة, وما زالوا یتوارثونها حتی أن شعائرهم الحسینیة یجللها شرف الإصرار وخاصیة الشجاعة, وترتسم علی حرکاتهم الشعائریة هذه الظاهرة فکأنها اشتقت هذه الشعائر من تلک الظاهرة الحسینیة الرائعة فی تعاطیها, والأروع فی تأصیلها؛ لأنها رمز الفناء وعلامة التضحیة والفداء. فشعیرة اللطم علی الصدور، والتطبیر، وأمثالها ما هی إلا إقدام علی الألم الذی هو بمعناه الآخر إقدام علی الموت، فهل أشد من هذه المواقف واعتی من تلک النفوس؟! لأنها حزمت بالصبر وتحلّت بالشجاعة.

ص: 44

ص: 45

رضی الله من رضانا, أی ما زلنا فی عینه وتحت رعایته سبحانه, ولم تنقطع ألطافه ومنحه ومراضیه عنا, وإذا کان الأمر کذلک فان ما نزل بنا هو کرامة منه تعالی لنا ولابد من الصبر علی ما ابتلینا به لیوفینا أجورنا وأجور الصابرین, فکان کلامه علیه السلام دفع دخل لما قد یتوهمه المتوهم بأن ما هم فیه من البلاء کان لذنب أو غضب, وکذلک ما ینزل فی شیعتنا واتباعنا إنما هو لنیل کرامة الله ورضاه.

هذه الحالة غدت من مواصفات الحالة الشیعیة التی امتازت بمقارعة الظالمین بما أبدته من الصبر والثبات حیال الظروف السیاسیة التی تکاتب علیها الأنظمة الحاکمة فکانت الحالة الشیعیة, المعارضة الرسمیة المرافقة لها فی مسیرتها طوال تاریخها الدموی الحاکم.. بل صارت ظاهرة الصبر هی العلامة الفارقة للوضع الشیعی التقلیدی الذی ورثته الروح الشیعیة وتقوضت جماعتها لجهود التنکیل والمطاردة التی عانتها من خلال سیاسة البطش المنتهجة من قبل الأنظمة, وهکذا دأبت الثقافة الشیعیة للعمل علی تعزیز ظاهرة الصبر حتی تمیزت بها وصارت إحدی مواصفاتها.

ص: 46

ص: 47

الأمة؟ فعن قلیل ترد علی عملک حین تطوی صحائف الاستغفار»(1).

فالرسالة تفضح السیاسة الأمویة الطائشة التی تجاوزت کل القیم الإسلامیة والإنسانیة، وهی تنذر الأمة بعاقبة الانحراف التی تمر بها الأمة، وتحصد سوء فعلها وإسرافها فی أمرها.

وفی السنة التی توفی بها معاویة کان الإمام علیه السلام یحضِّر لمشروع الثورة، وذلک من خلال الإعلان العام لرفضه واستنکاره لبیعة یزید والعمل علی قهر الأمة بقبولها, ففی منی اجتمع أکثر من سبعمائة رجل عامتهم من التابعین ونحو مائتی رجل من أصحاب النبی صلی الله علیه وآله وسلم فقام خطیبا فحمد الله وأثنی علیه ثم قال علیه السلام:

«أما بعد, فإن هذا الطاغیة قد فعل بنا وبشیعتنا ما قد رأیتم وعلمتم وشهدتم, وإنی أرید أن أسالکم عن شیء, فإن صدقت فصدقونی, وان کذبت فکذبونی, وأسألکم بحق الله علیکم وحق رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم وقربتی من نبیکم لما سیرتم مقامی هذا ووصفتم مقالتی ودعوتم أجمعین فی أمصارکم من قبائلکم من أمنتم من الناس.

وفی روایة أخری بعد قوله "فکذبونی" قال:

«اسمعوا مقالتی واکتبوا قولی ثم ارجعوا إلی أمصارکم وقبائلکم فمن أمنتم من الناس ووثقتم به فادعوهم الی ما تعلمون من حقنا, فإنی أتخوف أن یدرس هذا الامر ویذهب الحق ویغلب, والله متم نوره ولو کره الکافرون.

وما ترک شیئا مما انزل الله فیهم من القرآن الا تلاه وفسره, ولا شیئا مما قاله رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم فی أبیه وأخیه

ص: 48

وأمه وفی نفسه وأهل بیته إلا رواه.

وکل ذلک یقول أصحابه: اللهم نعم, وقد سمعنا وشهدنا, ویقول التابعی اللهم قد حدثنی به من أصدقه وائتمنه من الصحابة, فقال:

أنشدکم الله إلا حدثتم به من تثقون به وبدینه.

قال سلیم بن قیس الهلالی راوی الخطبة: فکان فیما ناشدهم الحسین علیه السلام وذکرهم ان قال:

أنشدکم الله أتعلمون أن علی بن أبی طالب کان أخا رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم حین آخی بین أصحابه فآخی بینه وبین نفسه, وقال: أنت أخی وانا اخوک فی الدنیا والآخرة؟

قالوا: اللهم نعم. قال:

أنشدکم الله هل تعلمون أن رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم اشتری موضع مسجده ومنازله فابتناه ثم ابتنی فیه عشرة منازل تسعة له وجعل عاشرها فی وسطها لأبی, ثم سد کل باب شارع إلی المسجد غیر بابه, فتکلم فی ذلک من تکلم فقال: ما أنا سددت أبوابکم وفتحت بابه ولکن الله أمرنی بسد أبوابکم وفتح بابه, ثم نهی الناس ان یناموا فی المسجد غیره, وکان یجنب فی المسجد ومنزله فی منزل رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم فولد لرسول الله صلی الله علیه وآله وسلم وله أولاد.

قالوا: اللهم نعم. قال:

أفتعلمون أن عمر بن الخطاب حرص علی کوةٍ قدر عینه یدعها فی منزله إلی المسجد فأبی علیه, ثم خطب فقال: إن الله أمرنی أن أبنی مسجدا طاهرا لا یسکنه غیری وغیر أخی وبنیه؟

ص: 49

قالوا: اللهم نعم. قال:

أنشدکم الله أتعلمون ان رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم نصبه یوم غدیر خم فنادی له بالولایة وقال: لیبلغ الشاهد الغائب؟

قالوا: اللهم نعم. قال:

أنشدکم الله أتعلمون ان رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم قال فی غزوة تبوک: أنت منی بمنزلة هارون من موسی, وأنت ولی کل مؤمن بعدی؟

قالوا: اللهم نعم. قال:

أنشدکم الله أتعلمون ان رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم حین دعا النصاری من أهل نجران إلی المباهلة لم یأت إلا به وبصاحبته وابنیه؟

 قالوا: اللهم نعم. قال:

أنشدکم الله أتعلمون انه دفع إلیه اللواء یوم خیبر ثم قال: لأدفعه إلی رجل یحبه الله ورسوله ویحب الله ورسوله, کرار غیر فرار یفتحها الله علی یدیه؟

قالوا: اللهم نعم. قال:

أتعلمون أن رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم لم تنزل به شدةٌ قط إلا قدمهُ لها ثقةً به, وانه لم یدعه باسمه قط إلا یقول: یا أخی وادعوا لی أخی.

قالوا: اللهم نعم. قال:

أتعلمون أنه کانت له من رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم کل یوم

ص: 50

خلوة, وکل لیلة دخلة إذا سأله أعطاه وإذا سکت أبداه؟

قالوا: اللهم نعم. قال:

أتعلمون أن رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم قال: انا سید ولد بنی آدم وأخی علی سید العرب, وفاطمة سیدة نساء أهل الجنة والحسن والحسین ابنای سیدا شباب أهل الجنة؟

قالوا: اللهم نعم. قال:

أتعلمون ان رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم أمر بغسله واخبره أن جبرئیل یعینه علیه؟

قالوا: اللهم نعم. قال:

أتعلمون أن رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم قال فی آخر خطبة خطبها: إنی ترکت فیکم الثقلین کتاب الله وأهل بیتی فتمسکوا بهما لن تضلوا؟

قالوا: اللهم نعم.

فلم یدع شیئا أنزله الله فی علی بن أبی طالب علیه السلام خاصة وفی أهل بیته من القرآن ولا علی لسان نبیه صلی الله علیه وآله وسلم إلا ناشدهم فیه فیقول الصحابة: اللهم نعم قد سمعنا ویقول التابع: اللهم قد حدثنیه من أثق به فلان بن فلان, ثم ناشدهم أنهم قد سمعوه یقول:

من زعم انه یحبنی ویبغض علیا فقد کذب لیس یحبنی ویبغض علیا.

فقال له قائل: یا رسول الله وکیف ذلک؟ قال:

لأنه منی وانا منه, من أحبه فقد أحبنی, ومن أحبنی فقد أحب الله ومن أبغضه فقد أبغض الله ومن أبغضنی فقد أبغض الله.

ص: 51

فقالوا: اللهم نعم, قد سمعنا وتفرقوا علی ذلک(1).

وقد حرصنا علی متابعة فصول الخطاب کله؛ لأنّه یترجم قضیة مهمة وخطیرة وهی کون الثورة الحسینیة لم تنطلق من فراغ بل کانت تحتل مساحة واسعة من الثقافة العامة للأمة؛ ومسؤولیتها فی ذلک تکمن فی إدراک خطورة الموقف الذی تداعت بسببه أمور أدت إلی الثورة والنهوض لتغییر الواقع, فالإمام یذکرهم بتاریخ طویل مشرف لأهل البیت فی تثبیت الرسالة ودعائم أرکان الدین, وأی تقویض لهذه الدعائم فستکون الأمور خلاف ما جاء به النبی صلی الله علیه وآله وسلم, ولم یشعرالصحابة الشهود علی احداث عقود بان هناک انقلابا حدث علی المبادئ والقیم کما أشار إلی ذلک القرآن الکریم:

(( وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَی أَعْقَابِکُمْ)).

فالانقلاب الذی حذر من مغبة ارتکابه القرآن الکریم یستوضحه الإمام فی مواقف شهد علیها الصحابة, فلا مندوحة لهم من الاعتذار, ما لم یعلموا علی طبق ما أمرهم النبی صلی الله علیه وآله وسلم من الحفاظ علی أصول الدین وبقاء الثوابت.

فالثورة إذن بدأت بالتثقیف وسبقتها أطروحة التغییر الفکری والجهاد من أجل استبیان الحقائق وإسداء النصح.

هذه الخاصیة لم تکن تاریخیة بحتة بل صارت من موروثات الثقافة الشیعیة التی قدست المعرفة کما قدست الجهاد ضد الظالمین وغدا التثقیف إحدی علامات الوضع الشیعی الذی لا ینفک عن محاولة الوعی الذی یبثه بین اتباعه, أی وَرِث الوجود الشیعی حرکته التثقیفیة من عاشوراء یوم کان الإمام الحسین علیه السلام یقدم الحقائق

ص: 52

والنصح لأصحابه بل حتی لأعدائه.. وغدت هذه الحالة ظاهرة تتمیز بها الشخصیة الشیعیة وکل حرکاتها الإصلاحیة.

قلنا إن هذه الظاهرة صارت من الموروثات الشیعیة وظهرت ملامحها فی الحرکة الشعائریة التی رافقت التاریخ الشیعی منذ کربلاء الشهادة حتی یومنا هذا, فالشعائر الحسینیة" نضجت" فیها الظاهرة الثقافیة وعملت علی تفعیلها وهی من اهم منجزات الشعیرة الحسینیة التی طاردتها الأنظمة الحاکمة, إذ کانت هذه الشعائر ترتضخ المعرفة لاتباعها وتعمل علی تثقیفهم, فالمجلس الحسینی لم یقتص علی مصیبة الحسین علیه السلام وأهل بیته بل یسبقها الخطیب بمحاضرة تاریخیة أو قضیة عقائدیة أو مسألة علمیة أو جمیعها کما هو الغالب حتی یخرج بحصیلة عامة یربط نتیجتها بالمصاب الحسینی الذی اجتمع من أجله الحاضرون, أی سیتحمل المشارک فی المجلس ثقافة ما تنسجم وتطلعات القضیة الشیعیة بل تتجاوزها الی قضایا عامة دولیة منها ومحلیة أخری, لذا نجد أنّ هذه المجالس تکفلت بتنضیج الرؤیة الشیعیة لدی اتباعها, وحققت انجازا عظیما فی فک الحصار المضروب علی الفکر الشیعی وأبدت فعالیتها فی تعزیز الثقافة المطاردة التی ضرب علیها النظام السلطوی طوقا من الحظر الذی حاول قمعها وإقصاءها.

إن الثقافة الشیعیة کظاهرة ترعرع معها الفرد الشیعی وبنت کیانه فی اللبنة الأولی من معرفته وشخصیته الممزوجة بها رؤیته الأولی منذ أن نشأ حتی تکاملت ثقافته ورشدت رؤیته.

ص: 53

ص: 54

ظاهرة الفن المسرحی الذی لم یعرفه الوسط العربی آنذاک ولم یعتمده فی یومیاته التی کانت زاخرة بالأدب کالشعر والخطابة والبلاغة والأمثال والروایة, إلا أن المسرح فن طارئ علی الحیاة العربیة لم تعرفه إلا بعد واقعة کربلاء, ولعل ما حدث فی مجلس الإمام الصادق علیه السلام من حادثة التمثیل کانت باکورة الأعمال المسرحیة التی بدأها الإمام علیه السلام کبذرة أولی لهذا الفن المسرحی المفجع.

روی الکلینی فی الکافی فی کتاب الروضة أن الکمیت دخل علی الإمام الصادق علیه السلام وأنشده فی مصیبة جده الحسین علیه السلام فبینما الإمام یبکی إذ خرجت جاریة من عند الحرم وعلی یدیها طفل رضیع فوضعته فی حجر الإمام الصادق علیه السلام فاشتد بکاء الإمام وعلا نحیبه وجرت دموعه علی لحیته الکریمة وصدره الشریف(1).

وهذه بادرة أولی - فیما أعلم- بدأت فیها محاولات التمثیل لیکون فی الثقافة الشعائریة الفن المسرحی الذی یعمله الشیعة الیوم وشارکت قنواتهم الإعلامیة فی عرض مثل هذه المسرحیات بل تطورت إلی إعلام لها هویتها الخاصة لتأخذ مکانها فی الأعمال التلفزیونیة الناجحة.

ومن الجدیر بالذکر ان التمثیل إحدی خاصیات الظاهرة الحسینیة ما دفع علماء الشیعة إلی الحث علیه وتهذیبه والاهتمام به.

ففی معرض حدیثه عن التمثیل یقول العلامة الشیخ عبد الحسین الحلی (رضوان الله علیه) فی نصرة المظلوم: «وأنت إذا تیقنت قیام تلک الفائدة الجلیة بالمآتم الحسینیة قیاما طبیعیا أرشدت إلیه الأئمة الأطهار علیه السلام بهاتیک الأخبار لزمک الالتزام بوجوبها کفایة ووجوب کلما یفید مفادها کذلک من تمثیل الفاجعة لحاسة البصر, أو

ص: 55

سیر مواکب الرجال فی الأزقة والشوارع مذکرة بها, ولم تحتج بعد تلک الفائدة الملموسة بالید الی نضد الأدلة علی مشروعیتها؛ إذ إنها بهذا البیان الذی یشهد به الوجدان, اجل من ان یرتاب مریبٌ فی رجحانها بل وجوبها کفایة. وان اقر بها علاقة وشبها بالمآتم «التمثیل» فان من سبر غوره, وتعمق بالغوص علی سره یعلم ان فیه من النکت ما لیس فی إقامة المآتم المجردة عنه.. إذا کان السر فی إقامة المآتم والغرض منها ظاهراً إظهار مظلومیة سید الشهداء لدی العموم, وباطنا اتفاق کلمة الشیعة وحفظ عقائدهم عن الاندراس علی مرور الأزمان. فلا ریب ان تمثیل الواقعة لحاسة البصر بما یصدر فیها من حرکة وسکون وقول وفعل أبلغ فی إظهار مظلومیة ذلک الشهید الأعظم من الأقوال المجردة علی المنابر وفی المجامع, وأدخل فی تثبیت العقائد وإحکام الروابط بین أفراد الجعفریة.

إذا کانت الفرقة الجعفریة تذکر فی المآتم وعلی المنابر المصائب التی وردت علی الحسین علیه السلام ونصب أعینها الأحادیث المرغبة علی البکاء علیه والحزن لأجله فتمثیل تلک المصائب للأنظار, له تأثیر عظیم فی القلوب؛ لأنه یجعل العام والخاص من الجعفریة راسخ العقیدة ثابت الیقین.

لا شک فی أن الجعفریة فی تمثیلها للفادحة الحسینیة تصیب من جهة إحیاء أمر الأئمة علیهم السلام، وهذا هو السبب الوحید لتسلیم الحسین علیه السلام نفسه للقتل: ومن جهة أُخری یحصل لهم ولغیرهم تخزین الطبائع وإبکاء النواظر وإثارة العواطف الرقیقة نحو المصاب بتلک الفادحة الکبری ورفع أستار عن فضائح الظالمین وأتباعهم.

إن الذین ادخلوا التمثیل فی التذکارات الحسینیة لا شک أنهم من کبراء رجال أهل الدین المفکرین, وأرباب السلطة المتبعة من الشیعة، ولذلک یظن البعض انه انتشر فی بلدان الشیعة من قبل سیاسة السلاطین الصفویة الذین هم أول سلسلة استولت علی

ص: 56

السلطنة بقوة المذهب ثم أیده رؤساء الشیعة الروحانیون شیئا فشیئا وأجازوه(1).

ولا نرید ان نستقصی کلمات الأعلام الذین أجازوا تمثیل الواقعة وشجعوا علیه کونه جزءا من شعائر المذهب.

وهذا یوقفنا علی مدی إسهام الحرکة الشعائریة فی نهضة المسرح العربی الذی لم یکن یعرفه العرب قبل ذلک، بعد ما کانت تجربتهم المسرحیة أوربیة النشوء لکن ثقافة المسرح تعززت بسبب الجهد الشیعی الذی قدم الجدید علی المستوی الشعبی, نعم علی مستوی التنظیر المسرحی لم یکن هناک اهتمام؛ إذ کان الاهتمام الشعبی فی تأکید المسرح هو المطلوب فی تحقیق الشعیرة الحسینیة التی یهتم بها شیعة اهل البیت.

ص: 57

ص: 58

ص: 59

وحین برز علی الأکبر «لم یتمالک الحسین علیه السلام دون ان أرخی عینیه بالدموع وصاح بعمر بن سعد:

ما لک؟ قطع الله رحمک کما قطعت رحمی ولم تحفظ قرابتی من رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم وسلط الله علیک من یذبحک علی فراشک.

ثم رفع شیبته المقدسة نحو السماء وقال:

اللهم اشهد علی هؤلاء فقد برز إلیهم أشبه الناس برسولک محمد خلقا وخُلقا ومنطقا وکنا إذا اشتقنا إلی رؤیة نبیک نظرنا إلیه, اللهم فامنعهم برکات الأرض وفرقهم تفریقا ومزقهم تمزیقا واجعلهم طرائق قددا ولا ترض الولاة عنهم ابدا فانهم دعونا لینصرونا ثم عدوا علینا یقاتلونا.

ثم تلا قوله تعالی:

(( إِنَّ اللّهَ اصْطَفَی آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِیمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَی الْعَالَمِینَ (33) ذُرِّیَّةً بَعْضُهَا مِن بَعْضٍ وَاللّهُ سَمِیعٌ عَلِیمٌ))(1).

فهذه الذریة المبارکة التی بعضها من بعض هی ذریة رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم والمتمثلة بولده علی الأکبر الذی عدا علیه قومه فقتلوه کما عدا قابیل علی هابیل فقتله, وعدا قوم نوح فکذبوه وعدا قوم إبراهیم فاحرقوه وعدا قوم موسی فأخافوه, فالاعتداء الغاشم الذی لقیته هذه السلسلة من الأنبیاء واحد کونهم السلسلة المکملة بعضها للبعض الآخر فکلهم مصطفون من الله تعالی للرسالة, فهم مبتلون کذلک من قومهم بالقتل والمطاردة وما ولدی هذا - وهو لسان حال الحسین علیه

ص: 60

السلام- إلا ضمن السلسلة المصطفاة والمبتلاة کذلک وهو شاهد علی توارث المهمة لآل البیت وکونه الاصطفاء اللدنی الذی قرره القرآن الکریم فکذلک هو شاهد علی الابتلاءات التی لقیها هؤلاء المصطفون کما یلقاه الحسین علیه السلام فی نفسه وولده وأصحابه.

هذا الترابط القرآنی الذی أوجده الإمام علیه السلام یوم عاشوراء أحدث نقلات نوعیة خطیرة فی افهام اولئک الذین خرجوا لقتاله بغض النظر عن التغییرات فی المواقف، حتی غدوا یتصارعون فی أنفسم وکوامن وجدانهم ویعلمون ان الواقف أمامهم هو امتداد رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم، وانهم بغوا علیه وقاتلوه ظلما وناجزوه عدوانا.

لقد فتح الحسین بن علی فی قرآنیته أفاق الصراع, وکشف عن مدلهمات الأمور, وأوجز الملحمة فی تراتیل قدسیة ضاقت علی کثیر فک رموزها وکشفت للآخرین ما حارت به الافهام وتبلدت فیه الألباب.

ص: 61

لطفه علی المسکین المغتر بتلک التمویهات لتقریبه من الحق وإرشاده إلی السبیل وهکذا أهل البیت تشرق أنوارهم علی من یعلمون صفاء قلبه وطهارة طینته واستعداده للهدایة. فقال علیه السلام له:

یا شیخ أقرأت القرآن؟

قال: بلی. قال علیه السلام:

أقرأت:

(( قُل لَّا أَسْأَلُکُمْ عَلَیْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِی الْقُرْبَی)).

وقرأت قوله تعالی:

(( وَاعْلَمُواْ أَنَّمَا غَنِمْتُم مِّن شَیْءٍ فَأَنَّ لِلّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِی الْقُرْبَی))؟

قال الشیخ: نعم قرأت ذلک. فقال علیه السلام:

نحن والله القربی فی هذه الآیات.

ثم قال له الإمام:

أقرأت قوله تعالی:

(( إِنَّمَا یُرِیدُ اللَّهُ لِیُذْهِبَ عَنکُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَیْتِ وَیُطَهِّرَکُمْ تَطْهِیرًا))؟

قال: نعم. فقال علیه السلام:

نحن أهل البیت الذین خصهم الله بالتطهیر.

قال الشیخ: بالله علیک أنتم هم؟! فقال علیه السلام:

وحق جدنا رسول الله إنا لنحن هم من غیر شک.

فوقع الشیخ علی قدمیه یقبّلهما ویقول: أبرأ إلی الله ممن قتلکم وتاب علی ید

ص: 62

الإمام مما فرط فی القول معه, وبلغ یزید فعل الشیخ وقوله, فأمر بقتله(1).

وبهذا فقد دخل القرآن الکریم فی الصراع الفکری الذی أججه مقتل الإمام الشهید وحکم لآل البیت صحة المنهج وسلامة المعتقد, وکشف التزویر الذی أحدثته الدعایة الأمویة فی شل حرمة الإصلاح الرسالی الذی أعلنه الإمام الحسین علیه السلام.

استطاع الإمام زین العابدین فی ثلاث آیات قرآنیة أن یغیر من قناعة الشیخ مما أربک النظام هذا التحول الفکری الذی أحدثته هذه الآیات القرآنیة فأمر بقتل الشیخ فکیف بحال الأمة لو اطلعت علی ما اطلع علیه الشیخ؟!

هکذا کان القرآن بل ولا یزال ظهیرا للحرکة الحسینیة التی اختطفت النصر الموهوم من عیون آل أبی سفیان وألقت کبریاءهم إلی حضیض التنظیرات الزائفة غیر المجدیة. ولما کان القرآن حاکما فی المنازعات التی جرت بین کل طرف لإظهار موقفه حاول الأمویون تسخیره لصالحهم إلا أن الإمام زین العابدین تصدی لهذا التحرک الموهوم وکشف تزییف الحقائق التی لج فیها بنو أمیة.

فقد دار الکلام بین الإمام زین العابدین وبین یزید أن قال یزید لعلی بن الحسین: «وما أصابکم من مصیبة فبما کسبت أیدیکم» قال علی بن الحسین:

ما هذه فینا نزلت إنّا نزل فینا:

(( مَا أَصَابَ مِن مُّصِیبَةٍ فِی الْأَرْضِ وَلَا فِی أَنفُسِکُمْ إِلَّا فِی کِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِکَ عَلَی اللَّهِ یَسِیرٌ (22) لِکَیْلَا تَأْسَوْا عَلَی مَا فَاتَکُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاکُمْ)).

فنحن لا نأسی علی ما فاتنا ولا نفرح بما آتانا.

ص: 63

فانشد یزید قول الفضل بن العباس بن عتبة:

مهلا بنی عمنا مهلا موالینا

لا تنبشوا بیننا ما کان مدفونا(1)

فتسخیر الآیات القرآنیة من قبل یزید کان فی غیر محله, وکان علی بن الحسین دقیقا فی کشف مغالطات النظام فاستبدل آیة مکان أخری لئلا یجعلها النظام وسیلة لتمریر خططه, فغلبة الإمام علی بن الحسین علی محاولة یزید دلیل علی ان الظاهرة القرآنیة کانت حاضرة فی کل حین من أحیان المشهد الکربلائی.

ص: 64

أظننت یا یزید حیث أخذت علینا أقطار الأرض, وآفاق السماء, فأصبحنا نساق کما تُساق الاساری ان بنا علی الله هواناً, وبک علیه کرامة, وان ذلک لعظم خطرک عنده فشمخت بأنفک, ونظرت فی عطفک, جذلان مسرورا, حین رأیت الدنیا لک مستوسقة, والأمور متسقة, وحین صفا لک ملکنا وسلطاننا فمهلاً مهلاً, انسیت قول الله تعالی:

(( وَلاَ یَحْسَبَنَّ الَّذِینَ کَفَرُواْ أَنَّمَا نُمْلِی لَهُمْ خَیْرٌ لِّأَنفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِی لَهُمْ لِیَزْدَادُواْ إِثْمًا وَلَهْمُ عَذَابٌ مُّهِینٌ)).

ثم تسترسل فی خطبتها العظیمة حتی تقول:

فوالله ما فریت إلا جلدک, ولا حززت إلا لحمک, ولتردن إلی رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم بما تحملت من سفک دماء ذریته وانتهکت من حرمته فی عترته ولحمته, حین یجمع الله شملهم, ویلم شعثهم, ویأخذ بحقهم.

(( وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِینَ قُتِلُواْ فِی سَبِیلِ اللّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْیَاء عِندَ رَبِّهِمْ یُرْزَقُونَ))(1).

ص: 65

ثم یتمادی فی جهله لیقول:

أتدرون من أین اُتی ابن فاطمة, وما الحامل له علی ما فعل وما الذی أوقعه فیما وقع؟

قالوا: لا.

قال: یزعم أن أباه خیر من أبی, وأمه فاطمة بنت رسول الله خیر من أمی وجده خیر من جدی وانه خیر منی وانه أحق بهذا الأمر منی.

فأما قوله: أبوه خیر من أبی, فقد حاج أبی أباه إلی الله عزوجل وعلم الناس ایهما حُکمَ له, وأما قوله: خیر من أمی فلعمری فاطمة بنت رسول الله خیر من أمی, واما قوله: جده خیر من جدی فلعمری ما احد یؤمن بالله والیوم الآخر وهو یری ان لرسول الله فینا عدلاً ولا نداً, ولکنه انما اُتی من قلة فقهه ولم یقرأ:

((قُلِ اللَّهُمَّ مَالِکَ الْمُلْکِ تُؤْتِی الْمُلْکَ مَن تَشَاء وَتَنزِعُ الْمُلْکَ مِمَّن تَشَاء وَتُعِزُّ مَن تَشَاء وَتُذِلُّ مَن تَشَاء)).

وقوله تعالی:

((وَاللّهُ یُؤْتِی مُلْکَهُ مَن یَشَاء))(1).

وهذا اغرب ما رأیت من المحاججات, فقد حاج یزید نفسه, فهو یعترف ان الحسین من سلالة خیر البشر اذ لا یقاس به احد, ولا یبلغ شأوه متحد, ولا ینازعه فی ذلک کبیر ولا صغیر, ولا وضیع ولا شریف, وأمه فاطمة خیر نساء العالمین وأبوه صهر رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم ووصیه وهو یعلم ان الموت لما کان اجلاً محتوماً لا یعنی ان الله یأخذ عباده به, فلا تعنی ان معاویة حاج علیا بموته قبله فتلک آجال لا

ص: 66

تدخل بها إرادة أحد ورغبته فی تقدیمه أو تأخیره، والأعجب تکذیبه لقول النبی صلی الله علیه وآله وسلم إن الحسن والحسین إمامان قاما أو قعدا وقوله:حسین منی وانا من حسین, واذا کان الحسین علیه السلام امتداداً لرسول الله صلی الله علیه وآله وسلم فکیف تغیب عنه الحکمة ویُتهم بعدم الفقه فی الدین؟! وهل هو الا من رسول الله علماً وحکمةً وفقهاً وسمتاً؟! وقد حاول یزید ان یسخر الآیات القرآنیة بما ینسجم وتوجهات النظام فی شل حرکة الإصلاح وتزییف الحقائق.

ص: 67

ص: 68

فقال:

ومعشرٌ راودتهم عن نفوسهم

بیض الضبا غیر بیض الخرد العربِ

وفی قوله تعالی:

((إِن کَانَ قَمِیصُهُ قُدَّ مِن قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الکَاذِبِینَ (26) وَإِنْ کَانَ قَمِیصُهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ فَکَذَبَتْ وَهُوَ مِن الصَّادِقِینَ)).

قال الشاعر:

فانعموا بنفوس لا عدیل لها

حتی اسیلت علی الخرصان والقضبِ

فانظر لأجسادهم قد قُد من قبلٍ

أعضاؤها لا الی القمصان والأُهَبِ

وقوله تعالی:

((وَاذْکُرْ عَبْدَنَا أَیُّوبَ إِذْ نَادَی رَبَّهُ أَنِّی مَسَّنِیَ الشَّیْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ (41) ارْکُضْ بِرِجْلِکَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ)).

ضمنه الشاعر بقوله:

کل رأی ضر أیوب فما رکضت

رجل له غیر حوض الکوثر العذب

وفی قصة موسی قال تعالی:

((فَلَمَّا قَضَی مُوسَی الْأَجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِن جَانِبِ الطُّورِ نَارًا قَالَ لِأَهْلِهِ امْکُثُوا إِنِّی آنَسْتُ نَارًا لَّعَلِّی آتِیکُم مِّنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّکُمْ تَصْطَلُونَ)).

وفی هش الکلیم علی أغنامه بعصاه قال تعالی:

((قَالَ هِیَ عَصَایَ أَتَوَکَّأُ عَلَیْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَی غَنَمِی وَلِیَ فِیهَا مَآرِبُ أُخْرَی)).

ص: 69

ضمن الشاعر هاتین الآیتین بهذه الأبیات:

وآنسین من الهیجاء نار وغی

فی جانب الطف ترمی الشهب بالشهبِ

فیمموها وفی الایمان بیض ظبا

وما لهم غیر نصر الله من اربِ

تهش فیها علی آساد معرکةٍ

هش الکلیم علی الأغنام للعشب

وفی قصة النهر وما جری علی طالوت وأصحابه فی الابتلاء بشربه قال تعالی:

(( فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللّهَ مُبْتَلِیکُم بِنَهَرٍ فَمَن شَرِبَ مِنْهُ فَلَیْسَ مِنِّی وَمَن لَّمْ یَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّی إِلاَّ مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِیَدِهِ فَشَرِبُواْ مِنْهُ إِلاَّ قَلِیلاً مِّنْهُمْ فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِینَ آمَنُواْ مَعَهُ قَالُواْ لاَ طَاقَةَ لَنَا الْیَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنودِهِ قَالَ الَّذِینَ یَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلاَقُو اللّهِ کَم مِّن فِئَةٍ قَلِیلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً کَثِیرَةً بِإِذْنِ اللّهِ وَاللّهُ مَعَ الصَّابِرِینَ)).

ومبتلین بنهر ما لوارده

من الشهادة غیر البعد والحجب

فلن تبلَ ولا فی غرفة أبدا

منه غلیل فؤاد بالظما عطب

حتی قضوا فغدا کل بمصرعه

سکینة وسط تابوت من الکثب

فلْیبکِ طالوت حزنا للبقیة من

قد نال داود فیه أعظم الغلب

وقول الشاعر: «سکینة وسط تابوت من الکثب» مأخوذ من قوله تعالی:

((وَقَالَ لَهُمْ نِبِیُّهُمْ إِنَّ آیَةَ مُلْکِهِ أَن یَأْتِیَکُمُ التَّابُوتُ فِیهِ سَکِینَةٌ مِّن رَّبِّکُمْ وَبَقِیَّةٌ مِّمَّا تَرَکَ آلُ مُوسَی وَآلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلآئِکَةُ إِنَّ فِی ذَلِکَ لآیَةً لَّکُمْ إِن کُنتُم مُّؤْمِنِینَ)).

وقد جمع الشاعر مَطالع بعض الآیات القرآنیة کالعادیات والمرسلات والنازعات والذاریات فضلا عما جاء فی سیاقات بعضها کالناشرات والموریات, فقد استخدم هذه

ص: 70

الألفاظ وضمنها فی أبیاته فقال:

یرنو إلی"الناشرات" الدمع طاویة

اضلاعهن علی جمر من النوب

و"العادیات" من الفسطاط ضابحةً

و"الموریات"زناد الحزن فی لهبِ

و"المرسلات" من الأجفان عبرتها

و"النازعات" برودا فی ید السلبِ

والذاریات ترابا فوق ارؤسها

حزنا لکل صریع بالعرا ترِبِ

ویمکن تلخیص جهد الشاعر القرآنی بهذه القائمة المقابلة لکل آیة کریمةٍ ببیت شعری ضمنه الشاعر والیک ما قدمه الباحثان فی مقالتهما المنشورة(1).

1- قوله تعالی:

((وَلَمَّا وَرَدَ مَاء مَدْیَنَ وَجَدَ عَلَیْهِ أُمَّةً مِّنَ النَّاسِ یَسْقُونَ)) القصص: 23.

ضمنه الشاعر بقوله:

لم انسَ إذ ترک المدینة واردا

لا ماء مدین بل نجیع دماء

2- وقوله تعالی:

((عَمَّ یَتَسَاءلُونَ (1) عَنِ النَّبَإِ الْعَظِیمِ)) النبأ 1-2.

قال الشاعر:

یا أیها النبأ العظیم إلیک فی

ابنیک منی أعظم الأنباء

3- وقوله تعالی:

((قَالَ هِیَ رَاوَدَتْنِی عَن نَّفْسِی وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّنْ أَهْلِهَا إِن کَانَ قَمِیصُهُ قُدَّ مِن قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الکَاذِبِینَ)) یوسف:26.

ص: 71

قال الشاعر:

فانظر لأجسادهم قد قُد من قبلٍ

أعضاؤها لا إلی القمصان والاهب

4- قوله تعالی:

((فَالْعَاصِفَاتِ عَصْفًا (2) وَالنَّاشِرَاتِ نَشْرًا)) المرسلات:2-3

قال الشاعر:

یرنو الی الناشرات الدمع طاویةً

اضلاعهن علی جمرٍ من النوب

5- قوله تعالی:

((وَالْمُرْسَلَاتِ عُرْفًا)) المرسلات:1.

وقوله تعالی:

((وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا)) النازعات:1.

قال الشاعر:

والمرسلات من الأجفان عبرتها

والنازعات برودا فی ید السلبِ

6- قوله تعالی:

((وَالذَّارِیَاتِ ذَرْوًا )) الذاریات:1.

قال الشاعر:

والذاریات ترابا فوق أرؤسها

حزنا لکل صریعٍ بالعرا ترب

7- قوله تعالی:

((وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ (4) فِی جِیدِهَا حَبْلٌ مِّن مَّسَدٍ)).

ص: 72

قال الشاعر:

وصبیةٌ من بنی الزهراء مربقة

بالحبل بین بنی حمالة الحطبِ

8- قوله تعالی:

((هَلْ أَتَی عَلَی الْإِنسَانِ حِینٌ مِّنَ الدَّهْرِ)) الإنسان:1.

قال الشاعر:

هل أتی «هل أتی» فی مدح فضلهمُ

من الإله لهم فی اشرف الکتب

9- قوله تعالی:

((قَالَ قَآئِلٌ مَّنْهُمْ لاَ تَقْتُلُواْ یُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِی غَیَابَةِ الْجُبِّ)) یوسف:10.

قال الشاعر:

والفضل آفة أهلیه ویوسف فی

غیابة الجب لولا الفضل لم یغبِ

10- قوله تعالی:

((قَالَ إِنَّمَا أَشْکُو بَثِّی وَحُزْنِی إِلَی اللّهِ)) یوسف:86.

قال الشاعر:

یا سادتی یا بنی الهادی ومن لهمُ

بثی وحزنی اذا ما ضاق دهریَ بی

11- قوله تعالی:

((یَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ کُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ)) الحج:2.

قال الشاعر:

ولتذهل الیوم منکم کل مرضعة

فطفله من دما أوداجه رضعا

ص: 73

12- قال تعالی:

((فَلَمَّا اسْتَیْأَسُواْ مِنْهُ خَلَصُواْ نَجِیًّا)) یوسف:80.

قال الشاعر:

وقفوا معی حتی اذا ما استیأسوا

خلصوا نجیاً بعدما ترکونی

13- قوله تعالی:

((کَلَّا إِنَّ کِتَابَ الفُجَّارِ لَفِی سِجِّینٍ )) المطففین.

قال الشاعر:

تلک الرزایا الباعثات لمهجتی

ما لیس یبعثه لظی سجین

14- قوله تعالی:

((فَجَاءتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِی عَلَی اسْتِحْیَاء)) القصص: 25.

قال الشاعر:

قد کان موسی والمنیة اذ دنت

جاءته ماشیةً علی استحیاء

15- قال تعالی:

((وَخَرَّ موسَی صَعِقًا)) الأعراف:143.

قال الشاعر:

فهناک خر وکل عضو قد غدا

منه الکلیم مکلم الأحشاء

16- قوله تعالی:

((یَا أَیُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) قُمْ فَأَنذِرْ )) المدثر:1-2.

ص: 74

وقوله تعالی:

((یَا أَیُّهَا الْمُزَّمِّلُ (1) قُمِ اللَّیْلَ إِلَّا قَلِیلًا)) المزمل:1-2.

قال الشاعر:

مدثرین بکربلا سلب القنا

مزملین علی الربی بدماء

17- قوله تعالی:

((وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَ_کِن شُبِّهَ لَهُمْ)) النساء:157.

قال الشاعر:

فان علیه اُلقی الشیخُ الذی

تشکل فیه شبه عیسی لصالب

18- قوله تعالی:

((وَجَآؤُوا عَلَی قَمِیصِهِ بِدَمٍ کَذِبٍ)) یوسف:18.

قال الشاعر:

لی حزن یعقوب لا ینفک ذا لهبٍ

لصرعٍ نصب عینی لا الدم الکذب

19- قوله تعالی:

((أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَدًا یَرْتَعْ وَیَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ)) یوسف:12.

قال الشاعر:

وغلمة من بنی عدنان أرسلها

للجد والدها فی الحرب لا اللعب

20- قوله تعالی:

((وَرَاوَدَتْهُ الَّتِی هُوَ فِی بَیْتِهَا عَن نَّفْسِهِ )) یوسف:23.

ص: 75

قال الشاعر:

ومعشر راودتهم عن نفوسهم

بیض الظبا غیر بیض الخرد العُرب

21- قوله تعالی:

((ارْکُضْ بِرِجْلِکَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ )) ص: 42.

قال الشاعر:

کل رأی ضر أیوب فما رکضت

رجل له غیر حوض الکوثر العذب

22- قوله تعالی:

 (( قَالَ هِیَ عَصَایَ أَتَوَکَّأُ عَلَیْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَی غَنَمِی وَلِیَ فِیهَا مَآرِبُ أُخْرَی)) طه:18.

قال الشاعر:

تهش بها علی آساد معرکةٍ

هش الکلیم علی الأغنام للعشب

23- قوله تعالی:

((فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللّهَ مُبْتَلِیکُم بِنَهَرٍ)) البقرة:249.

قال الشاعر:

ومبتلین بنهر ما لوارده

من الشهادة غیر البعد والحجب

24- قوله تعالی:

((وَقَالَ لَهُمْ نِبِیُّهُمْ إِنَّ آیَةَ مُلْکِهِ أَن یَأْتِیَکُمُ التَّابُوتُ فِیهِ سَکِینَةٌ مِّن رَّبِّکُمْ)) البقرة:248.

ص: 76

قال الشاعر:

حتی قضوا فغدا کلٌ بمصرعه

سکینةٌ وسط تابوت من الکثب

25- قوله تعالی:

((فَإِذَا خِفْتِ عَلَیْهِ فَأَلْقِیهِ فِی الْیَمِّ وَلَا تَخَافِی وَلَا تَحْزَنِی)) القصص: 7.

قال الشاعر:

وما حکتها ولا "أم الکلیم" اسیً

غداة فی الیم ألقته من الطلب

26- قوله تعالی:

((وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلآئِکَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ فَسَجَدُواْ إَلاَّ إِبْلِیسَ قَالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِینًا)) الاسراء:61.

قال الشاعر:

وصفوة الله لم یسجد له حسدا

إبلیس لما رأی من أشرف الرتب

27- قوله تعالی:

((وَطَبَعَ اللّهُ عَلَی قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ یَعْلَمُونَ)) التوبة:93.

قال الشاعر:

وتلکم شبهة قامت بها عصبٌ

علی قلوبهم الشیطان قد طبعا

28- قوله تعالی:

((وَخَرَّ موسَی صَعِقًا)) الأعراف:143.

وقوله تعالی:

((وَمَا قَتَلُوهُ یَقِینًا (157) بَل رَّفَعَهُ اللّهُ إِلَیْهِ)) النساء:157.

ص: 77

قال الشاعر:

فان جسمک موسی مذ هوی صعقا

وان رأسک روح الله مذ رفعا

29- قوله تعالی:

(( قُلْنَا یَا نَارُ کُونِی بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَی إِبْرَاهِیمَ )) الأنبیاء: 69.

قال الشاعر:

ونار فقدک فی قلب الخلیل بها

نیران نمرود عنه الله قد دفعا

30- قوله تعالی:

(( فَانبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَیْنًا)) الأعراف:160.

قال الشاعر:

کلمتُ قلب کلیم الله فانبجست

عیناه دمعاً دماً کالغیث منهمعا

31- قوله تعالی:

(( بَل رَّفَعَهُ اللّهُ إِلَیْهِ وَکَانَ اللّهُ عَزِیزًا حَکِیمًا)) النساء: 158.

قال الشاعر:

ولو رآک بأرض الطفّ منفردا

عیسی لما اختار ان ینجو ویرتفعا

32- قوله تعالی:

(( لِکُلٍّ جَعَلْنَا مِنکُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا)) المائدة:48.

قال الشاعر:

إن لم تسدوا الفضا نقعاً فلم تجدوا

الی العلا لکم من منهجٍ شرعا

ص: 78

33- قوله تعالی:

((وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَیْبًا)) مریم:4.

قال الشاعر:

وان سراج العیش حان انطفاؤها

فقد اشعلت نار المشیب ذبالها

34- قوله تعالی:

(( بَلْ سَوَّلَتْ لَکُمْ أَنفُسُکُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِیلٌ)) یوسف:18.

قال الشاعر:

وقوّضَ بالصبر الجمیل فتیً به

فقدن حسان المکرمات جمالها

35- قوله تعالی:

((فَأَمَّا مَن ثَقُلَتْ مَوَازِینُهُ (6) فَهُوَ فِی عِیشَةٍ رَّاضِیَةٍ (7) وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِینُهُ (8) فَأُمُّهُ هَاوِیَةٌ)) القارعة:6-7.

قال الشاعر:

وماضرَّ میزانی ثقالُ جرائمی

اذا کنتُ فیها مستخفاً ثقالها

36- قوله تعالی:

((وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِکُوا بِرِیحٍ صَرْصَرٍ عَاتِیَةٍ)) الحاقة:6.

قال الشاعر:

فکأن الریاح منه استعارت

یوم عادٍ عدوا فأضحت رماما

37- قوله تعالی:

(( وَأَوْحَیْنَا إِلَی مُوسَی إِذِ اسْتَسْقَاهُ قَوْمُهُ أَنِ اضْرِب بِّعَصَاکَ الْحَجَرَ فَانبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَیْنًا)) الاعراف:160.

ص: 79

قال الشاعر:

فتخال موسی فی انبجاس محاجری

مستسقیا للقوم ماء جفونی

38- قوله تعالی:

((قَالُواْ نَفْقِدُ صُوَاعَ الْمَلِکِ)) یوسف: 72.

قال الشاعر:

فکأن یوسف فی الدیار محکمٌ

وکأننی بصواعه اتهمونی

قوله تعالی:

((وَإِنَّ یُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِینَ (139) إِذْ أَبَقَ إِلَی الْفُلْکِ الْمَشْحُونِ (140) فَسَاهَمَ فَکَانَ مِنْ الْمُدْحَضِینَ (141) فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِیمٌ (142) فَلَوْلَا أَنَّهُ کَانَ مِنْ الْمُسَبِّحِینَ (143) لَلَبِثَ فِی بَطْنِهِ إِلَی یَوْمِ یُبْعَثُونَ (144)  فَنَبَذْنَاهُ بِالْعَرَاء وَهُوَ سَقِیمٌ (145) وَأَنبَتْنَا عَلَیْهِ شَجَرَةً مِّن یَقْطِینٍ )) الصافات: 139-146.

قال الشاعر:

ما ساهموا الموت الزؤام ولا اشتکوا

نصباً بیومٍ بالردی مقرونِ

حتی اذا التقمتهم حوت القضا

وهی الأمانی دون خیر أمین

نبذتهم الهیجاء فوق تلاعها

کالنون ینبذ بالعرا ذا النون

فتخال کلاً ثم یونس فوقه

شجر القنا بدلاً عن الیقطین

39- قوله تعالی:

((کَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَا (11) إِذِ انبَعَثَ أَشْقَاهَ)) الشمس:11-12.

ص: 80

وقوله تعالی:

((وَأَصْحَابُ الْأَیْکَةِ وَقَوْمُ تُبَّعٍ کُلٌّ کَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِیدِ)) ق:14.

قال الشاعر:

وتتبعت اشقی ثمود وتُبعٍ

وبنت علی تأسیس کل لعین

40- قوله تعالی:

((فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْیَاهَا)) الشمس:13.

قال الشاعر:

ما کان ناقة صالح وفصیلها

بالفضل عند الله الا دونی

هذه الشواهد الأربعون التی تعیننا فی بیان الظاهرة القرآنیة الحسینیة والتی أسسها شعراء حسینیون نذروا أنفسهم علی ان یقدموا هذه الملحمة علی أنها أطروحة قرآنیة وفِّقَ الشاعر الحسینی أیما توفیق حتی استطاع ان یوظف القصیدة الحسینیة فی خدمة المفهوم القرآنی, وأثبت أن القرآن یتحرک من خلال المشهد الکربلائی المتکون من الشخوص والأحداث المقاربات لحدث الآیة القرآنیة وشخوصها, أی ان الشاعر الحسینی استطاع ان یقدم مقاربات ناجحة بین الآیة وبین الحدث أی بین الحادثة القرآنیة والحادثة الکربلائیة حتی تمکنت القصیدة الحسینیة ان تعشِّق بین الآیة القرآنیة وبین المجریات الکربلائیة بما أعطی للحدث الکربلائی تراثه القرآنی وأعطی للآیة القرآنیة حرکیتها "الکامنة" التی تحتاج إلی محرک واقعی ینطلق من الواقع سواء الحاضر منه أو التاریخی, وبلغ بالشاعر الحسینی ان یستنهض الآیة القرآنیة لتحکی له الواقعة واستطاع ان یوظف الواقعة لتجسد الآیة شخوصا واحداثا, ومن الملفت للنظر ان الشاعر استطاع ان یتعامل مع أکثر من آیة لیقدم صورته الکربلائیة کما فی آیتی المدثر والمزمل بقوله:

مدثرین بکربلا سلب القنا

مزملین علی الربی بدماء

ص: 81

واستطاع کذلک ان یتعاطی مع آیة واحدة لیکون بها ثلاثة أبیات وذلک فی قوله تعالی:

((وَإِنَّ یُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِینَ ))... إلی قوله تعالی ((وَأَنبَتْنَا عَلَیْهِ شَجَرَةً مِّن یَقْطِینٍ)).

فاستطاع الشاعر ان یکون أربعة أبیات بقوله:

ما ساهموا الموت الزؤام ولا اشتکوا... الی آخر الابیات, فهو لم یجمد علی مفهوم قرآنی واحد بل استطاع ان ینتزع الصورة الکربلائیة من أکثر من آیة وفی الوقت نفسه ان یعدد الصورة الکربلائیة فی ضمن آیة واحدة, فکان البناء الفنی قرآنیاً صرفاً تداعت فیه الصور بشکل غیر مسبوق کما فی قوله:

کأن جسمک موسی مذ هوی صعقا

وان رأسک روح الله مذ رفعا

فالبیت وظفه لملحمتین قرآنیتین مهمتین إحداهما ملحمة موسی والأخری ملحمة عیسی علیهما السلام فکان بارعا بحق بأن یختزل ملحمتین فی بیت واحد. علی ان الشاعر وظف القصیدة الحسینیة للمفهوم القرآنی وبث فی شاعریته روحاً قرآنیة أعرض عنها جمیع الشعراء فکان الشاعر الکربلائی سبّاقا لهذا الإبداع, واکبر ظنی أن الشاعر الحسینی یدفعه إحساسه المشبع بالغبن الذی أحدثته الواقعة الکربلائیة من تقتیل وتنکیل، ثم هو لا یفتأ حتی یتلقی اتهامات تحریف القرآن أو عدم اهتمام الشیعة بالمفاهیم القرآنیة وابتعادهم عن القرآن بشکل تفاقمت هذه التهم إلی حد التکفیر, فی حین یری الشاعر الحسینی ان ثورة الحسین علیه السلام کانت تنطلق من القرآن الکریم وحاولت الحفاظ علی القرآن وإرجاع الأمة إلیه بعدما أبعدتها المفاهیم السیاسیة عن ذلک, ثم هو یتردد فی ذهنه مقالات الإمام وخطبه القرآنیة وما استخدمه أهل البیت علیهم السلام من آیات قرآنیة فی سبیل إثبات حضور القرآن فی حیاة الأمة وجرها إلیه وربطها به ثم بعد ذلک یجد الشاعر نفسه متهماً من قبل الآخر بعدم الاهتمام بالقرآن والابتعاد عنه.

ص: 82

ص: 83

ص: 84

قانیةً تقرر فیها توهج الشاعریة الکربلائیة, وتنفتح الروح الإبداعیة لتولد منها القصیدة التی تحکی واقع المأساة. ولنا أن نقول إن الادب العربی - خصوصا القصیدة الشعریة- أنقذته واقعة کربلاء من حالة التسیب وباتت القصیدة الکربلائیة قصیدة ملتزمة تنشد قضیتها بکل مسؤولیة, فالأطلال التی کان یبکی علیها الشاعر العربی استبدلتها القضیة الحسینیة بالبکاء علی أجسادٍ زواکٍ قدمت نفسها قربانا لقضیتها, والغزل الذی ینسجه الشاعر من مخیلته ملیء بمغامرات الحب والعشق غیر الملتزم, بینما استبدل الشاعر الکربلائی القصیدة الغزلیة بمغازلة الأشخاص التی أرخصت نفسها للفداء, ولم یکن التفاخر بالقبیلة مرغوبا لدی الشاعر الحسینی حتی استبدله بالمفاخرة بمواقف الاُلی من آل هاشم وأصحابهم الذین سجلوا ملاحم التضحیة, وبات الهجاء غیر محمود فی أدبیات القصیدة الکربلائیة سوی ما یحکی عن مساوئ اولئک الذین عدوا علی آل نبیهم ولم یراعوا له إلاّ ولا ذمةً, اذن خلقت کربلاء شاعرا ملتزما, وقدمت قصیدة إبداعیة مسؤولة لا تعانی من هوس الوجدان المنفلت, وبمعنی آخر صار الأدب الشیعی أدبا ملتزما بحرارة المأساة, ومتعقلاً بفاعلیته الحماسیة, فی حین یتراجع غیره إلی منخفضاتٍ واطئة الی الإحساس بجمالیة الغرض؛ لیکون غرضا تقلیدیا غیر متوهج بشعور المسؤولیة, ویبقی الأدب غیر الشیعی أدبا ضعیفا غیر ذی جدوی ولا ذا إبداع, وتتفاقم مسؤولیة الشاعر الکربلائی لتأخذ بالحیز الشعری لتملأه إبداعات جدیدة یوما بعد آخر, حتی غدا الشعر شیعی الانتماء کربلائی الإبداع وغیره لا یعدو عن محاولات خاسرة غیر ذات جدوی, لذا فانک تری ما من شاعر تتطاول شاعریته الی عنان أفق الشهرة والإبداع الا وکان شیعیا بامتیاز, وهاک النابغة الجعدی, وأبا الأسود الدؤلی, والفرزدق والکمیت الاسدی وأبا تمام الطائی وأبا نؤاس وأبا الطیب المتنبی وغیرهم ممن حملوا خشبة القصیدة الشعریة علی أعناقهم

ص: 85

لیرتقوا فیها بأسباب الإبداع الشعری, ولست فی صدد اتهام الشاعر غیر المنتمی لأهل البیت فی إخفاقاته الشعریة غیر الإبداعیة إلی عدم قدرته علی الإبداع والترقی بالصورة الشعریة أو الغرض الشعری لقصیدته, فلم یکن هذا الاخفاق ذاتیا بل کونه یحکی عن عدم انتمائه الی قضیة تعزز لدیه الإبداع وینطلق من هذه القضیة الی أغراضه الشعریة بل یکاد یکون ذا شاعریة عبثیة غیر متسقة مع وجدانیاته أو انها متسیبة الأغراض لا تحکی عن قضیة ما, وهذا الذی جعل بعد ذلک ان یکون الأدب شیعیاً صرفاً, والشعر حسینیاً محضاً, تتنامی إبداعات الشاعر خلف قضایا إنسانیة ودواعٍ أخلاقیة ودوافع عاطفیة کلها یجمعها عنوان کربلاء.

ص: 86

ثم قال علیه السلام:

من قال فی الحسین شعرا فبکی وابکی غفر الله ووجبت له الجنة(1).

کما ورد عن أئمة أهل البیت علیهم السلام انه من قال فینا بیتا من الشعر بنی الله تعالی له بیتا فی الجنة, وفی آخر حتی یؤیَد بروح القدس, وفی ثالث بنی الله له فی الجنة مدینةً یزوره فیها کل ملک مقرب ونبی مرسل.

وقال أبو جعفر الباقر علیه السلام فی أیام التشریق لما انشد قصیدته:

«من لقلب متیَّمٍ مستهام» لا تزال مؤیداً بروح القدس, واستأذن الکمیت علی الصادق علیه السلام فی أیام التشریق ینشده قصیدته فکبر علی الإمام ان یتذاکروا الشعر فی الأیام العظام, ولما قال له الکمیت انها فیکم انس أبو عبد الله علیه السلام حیث انه من الذکر اللازم لان فیه إحیاء أمرهم ثم دعا بعض أهله فقرب ثم انشده الکمیت فکثر البکاء ولما اتی علی قوله:

یصیب به الرامون عن قوس غیرهم

فیا آخراً اسدی له الغی اول

رفع الصادق علیه السلام یدیه وقال:

اللهم اغفر للکمیت ما قدم وأخر وما أسر وأعلن وأعطه حتی یرضی(2).

إذن استطاع المنهج التربوی لأهل البیت ان یوجد الابداع الأدبی ویترعرع المبدع فی کنف دعوتهم للإبداع ویدفعونه إلی التماس أسالیب الفن والابتکار فی بیان مظلومیتهم لکن من خلال استعراض ما جری علی سید الشهداء الحسین بن علی علیه السلام.

ص: 87

ص: 88

فتراجع وتنصل ندماً

او تخادع واطلبِ المکر احتیالا

أنزوعا بعدما جئتَ بها

تنزع الأکباد بالوجد اشتعالا

فرِغ الکفَ ولا ادری لمن

فی جفیر الغدرِ تستبقی النبالا

نلتَ ما نلتَ فدع کل الوری

عنک أو فاذهب بمن شئت احتمالا

ازلالُ العفو تبغی وعلی

آل حوض الله حرمت الزلالا

لا أقالتنی المقادیر اذا

کنتُ ممن لک یا دهرُ اقالا(1)

واذا اراد ان یصف حال النساء عند هجوم القوم علیهن فانه یبتکر صوراً تعز علی اعتی خیال شعری ان یتصورها:

وحائراتٍ أطار القوم أعینها

رعبا غداة علیها خدرها هجموا

کانت بحیث علیها قومها ضربت

سرادقاً أرضه من عزهم حرمُ

یکاد من هیبةٍ ان لا تطوف به

حتی الملائک لولا انهم خدمُ

فغودرت بین أیدی القوم حاسرةً

تسبی ولیس لها من فیه تعتصم(2)

ولم أجد فیما اطلعت علیه أحداً تتداعی لدیه الصور الکربلائیة کما تداعت للسید حیدر الحلی, فهو یستحضر المشاهد, وتتوالی لدیه الاحداث سراعا, وکأن صورةً تتبع اخری فی مسلسلٍ لا ینقطع عن الانهماک فی تقدیم موقف حی یتجلی فیه المشهد العاشورائی بأشخاصه, وقرع طبول الموت ترنُ فی اسماع المتلقی حتی لا ینفک من مشهد مرعب یأخذ بالألباب, أو صهیل الکماة فی معترک الابطال, أو قعقعة السیوف تطیح باختطافها جماجم صرعی علی صهوات سوابق مهزومة تتسابق مع رؤوس أصحابها فتتداعی علی ارض المعرکة:

ص: 89

کفانی ضنی ان تری بالحسی_ن

شفت آلُ مروان اضغانها

فأغضبت الله فی قتلهِ

وأرضت بذلک شیطانها

عشیة أنهضها بغیها

فجاءته ترکب طغیانها

بجمع من الأرض سد الفرو

ج وغطی النجود وغیطانها

وطا الوحش إذ لم یجد مهرباً

ولازمت الطیر اوکانها

وحفت بمن حیثُ یلقی الجموع

یثنی بماضیه وحدانها

وسامته یرکب إحدی اثنتی_ن

وقد صرّتِ الحرب أسنانها

فإما یُری مذعنا أو تمو

ت نفسٌ أبی العز إذعانها

فقال لها اعتصمی بالابا

فنفس الأبی وما زانها

إذا لم تجد غیر لبس الهوان

فبالموت تخلع جثمانها

رأی القتل صبرا شعار الکرام

وفخراً یزینُ له شانها

فشمر للحرب فی معرکٍ

به عرک الموت فرسانها

فأضرمها لعنان السما

ء حمراء تلفح أعنانها

رکینٌ وللأرض تحت الکما

ة رجیفٌ یزلزلُ ثهلانها

اقر علی الأرض من ظهرها

إذا ململ الرعبُ اقرانها

تزید الطلاقةُ فی وجهه

إذا غیر الخوفُ ألوانها

ولما قضی للعلا حقها

وشید بالسیف بنیانها

ترجل للموت عن سابق

له أخلت الخیلُ میدانها

کأن المنیة کانت لدی_ه

فتاةٌ تواصل خلصانها

جلتها له البیضُ فی موقفٍ

به أثکل السمر خرصانها

ص: 90

فبات بها تحت لیل الکفاح

طروب النقیبة جذلانها

وأصبح مشتجراً للرماح

تحلی الدما منه مرانها

عفیراً متی عاینته الکماة

یختطف الرعب ألوانها

فما أجلت الحرب عن مثلهِ

صریعاً یجبن شجعانها

غریبا أری یا غریب الطفوف

توسدَ خدیک کثبانها

ألست زعیم بنی هاشم

ومطعام فهرٍ ومطعانها؟!(1)

فالبیت الواحد هنا خزینٌ من المعانی تتداعی فیه الصور لیوثق به الحادثة, فهو لا ینفک عن توارد المشاهد الحیة تباعاً, ویحاول الشاعر أن یقدم صوراً متحرکة تأخذ بعین المتلقی الذی ینشد لهذا المشهد أو ذاک فیعایش المعرکة بجزئیاتها، حتی لکأن قعقعة السیوف واصطکاک الرماح وصهیل الخیول تدوی فی أسماع المتلقی لیعیش المعرکة بملاحمها العسیرة ومواقفها الصعبة المریرة. وما أروعه حیث یصف الدهر بأنه تعثر فاخذ یرتطم بأعمدة الخیر! لأنه أعمی لا یمیز بین هذا وذاک.

مشی الدهر یوم الطف اعمی فلم یدع

عمادا لها إلا وفیه تعثرا

ولا نرید ان نستعرض قصائد السید حیدر الحلی بقدر ما أردنا ان نقدم نموذجاً ابداعیاً عن الظاهرة الأدبیة الحسینیة, ولم أکن مبالغاً إذا قلت: ما من شعرٍ حسینی إلا وفیه إبداع یتجدد ومهارات فنیة تستدعی کفاءة النظم وحمایة التصویر.

وتتفاقم الظاهرة الأدبیة لتحیل الفقهاء شعراء یحیون الواقعة الحسینیة باشعارهم, ویتسابقون إلی نظم قصائدهم, ولا ادری ما الذی دعا العلماء ان یشارکوا الشعراء فی مرثیاتهم، ولعل الملکة الشعریة التی تنامت لدیهم کانت دوافعها واقعة کربلاء, إذ تحریک الملکة وتنمیتها ولید مشاعر حزینة تأخذ بالنفس إلی غایات الإبداع, ودواعی

ص: 91

الهمة, وعزیمة المنافسة, حتی أحیلت کربلاء إلی مدرسة إبداع, فالعلامة الشیخ محمد حسین آل کاشف الغطاء یشارک فی رثاء الإمام الحسین برائعةٍ أدبیة یضمنها نکات علمیة تعطی لملحمته الأدبیة بعداً آخر.

عدلت بآل محمد فیما قضت

وهمُ أئمة عدلها وقضاتها

المرشدون المرفدون فکم هدیًً

وندیً تمیح صلاتها وصلاتها

والمنعمون المطعمون اذا انبرت

نکباء صوحت الثری نکباتها

والجامعون شتات غیر مناقبٍ

لم تجتمع بسواهم أشتاتها

یا غایة تقف العقول کلیلة

عنها وان ذهبت بها غایاتها

یا جذوة القدس التی ما أشرقت

شهب السما لو لم تکن لمعاتها

یا قبة الشرف التی لو فی الثری

نصبت سمت هام السما شرفاتها

یا کعبة الله التی ان حجت لها

الأملاک منه فعرشه میقاتها

یا نقطة الباء التی باءت لها

الکلمات وائتلفت بها ألفاتها

یا وحدة الحق التی ما ان لها

السبع الطباق تحرکت سکناتها

یا وجهة الاحدیة العلیا التی

بالاحمدیة تستنیر جهاتها

یا عاقلی العشر العقول ومن لها

السبع الطباق تحرکت سکناتها

ثم یعرج علی کربلاء بقوله:

ضربوا الخیام بکربلا وعلیهم

قد خیمت ببلائها کرباتها

إلی ان یقول:

وبدت علوج أمیة فتعرضت

للأسد فی یوم الهیاج شیاتها

إلی آخر ملحمته التی بلغت أکثر من مئة وستین بیتا.

ص: 92

وملحمته الأخری التی مطلعها:

أقوت فهن من الأنیس خلاء

دمنٌ محت آیاتها الأنواء

والتی بلغت أکثر من ثمانین بیتا.

وقصیدته الثالثة التی مطلعها:

خذوا الماء من عینی والنار من قلبی

ولا تحملوا للبرق منا ولا السحب

والتی بلغت أکثر من أربعین بیتا.

أما قصیدته الرابعة فمطلعها:

فی القلب حر جوی ذاکٍ توهجه

الدمع یطفیه والذکری تؤججه

وقد بلغت أکثر من أربعین بیتا کذلک.

ولم تقتصر إبداعاته الملحمیة فی الحسین علیه السلام علی هذه الأربع العظام بل تعدتها إلی أکثر من ذلک إلا اننا وقفنا علیها کما اختارها السید المقرم (رضی الله عنه) فی مقتله.

وللعلامة المحقق الشیخ محمد حسین الاصفهانی قصائد ملحمیة یتعرض فیها الی مأساة کربلاء وقد جاء فی بعضها:

لک الهنا یاسید الکونین

فغایة الآمال فی الحسین

لک الهنا یا صاحب الولایة

لنعمة لیس لها نهایة

الی ان یقول:

قام بحق السیف بل اعطاه

ما لیس یعطی مثله سواه

کأن منتضاه محتوم القضا

بل القضا فی حد ذاک المقتضی

ص: 93

الی ان یقول:

هو الذبیح فی منی الطفوف

لکنه ضریبة السیوف

الی آخر ملحمته التی بلغت المئات.

وللعلامة الحجة الشیخ محمد جواد البلاغی ملاحم مطلعها:

یا تریب الخد فی رمضا الطفوف

لیتنی دونک نهباً للسیوف

والقصیدة من روائع هذا الفیلسوف والمفسر الذی ملأ الدنیا بتحقیقاته.

وللعلامة الحجة الشیخ محمد حسین الحلی رائعته التی مطلعها:

خلیلی هل من وقفة لکما معی

علی جدثٍ اسقیه صیب ادمعی

لیروی الثری منه بفیض مدامعی

فان الحیا الوکاف لم یک مقنعی

لان الحیا یهمی ویقلع تارة

وانی لعظم الخطب ما جف مدمعی

خلیلیَّ هیا فالرقاد محرمٌ

علی کل ذی قلبٍ من الوجد موجع

هلما معی نعقر هناک قلوبنا

إذا الوجد ابقانا ولم تتقطَّعِ

هلما نقم بالغاضریة مأتما

لخیر کریم بالسیوف موزع

إلی آخر القصیدة.

وللعلامة الشیخ محمد تقی الجواهری هائیته العصماء مطلعها:

دعانی فوجدی لا یسلیه لائمه

ولکن عسی یشفیه بالدمع ساجمه

الی أن یقول:

فان یک إسماعیل اسلم نفسه

إلی الذبح فی حجر الذی هو راحمه

فعاذ ذبیح الله حقا ولم یکن

تصافحه بیض الظبا وتسالمه

فان -حسینا -اسلم النفس صابرا

علی الذبح فی سیف الذی هو ظالمه

ص: 94

وهذا غیضٌ من فیض شعراء فقهاء قدموا أطروحاتهم الأدبیة لتبقی مخلدةً فی ذاکرة الدهر.

لقد کانت "الظاهرة الأدبیة الحسینیة" فتحا للإبداع الشعری وتسامت القصیدة العربیة الی أرقی إبداعاتها حتی أکاد اجزم ان الإبداع الشعری ترعرع فی واقعة الطف من یوم عاشوراء, ویبقی الإبداع الأدبی ینتسب إلی القصیدة الحسینیة وان لم تنتمِ فکرا وعقیدة إلا أنها انتمت إبداعا, وانتسبت وجداناً, وتقلدت الحزن, وتسربلت زهو الفاتحین.

ص: 95

ص: 96

المعتزلی ذکر عن شیخه أبی جعفر الاسکافی بعض ملامح هذا العصر الهائج بمواقفه العاصفة ضد فکر أهل البیت فقال: «وذکر شیخنا أبو جعفر الاسکافی (رحمه الله تعالی) - وکان من المحققین بموالاة علی علیه السلام, والمبالغین فی تفضیله؛ وان کان القول بالتفضیل عاما شائعا فی البغدادیین من أصحابنا کافة, إلا ان أبا جعفر أشدهم فی ذلک قولا, وأخلصهم فیه اعتقادا- أن معاویة وضع قوما من الصحابة وقوما من التابعین علی روایة اخبار قبیحة فی علی علیه السلام, تقتضی الطعن فیه والبراءة منه؛ وجعل لهم علی ذلک جعلا یُرغب فی مثله, فاختلقوا ما أرضاه, منهم أبو هریرة وعمرو بن العاص والمغیرة بن شعبة, ومن التابعین عروة بن الزبیر.

روی الزهری ان عروة بن الزبیر حدثه قال: حدثتنی عائشة قالت: کنت عند رسول الله اذ اقبل العباس وعلی فقال: یا عائشة ان هذین یموتان علی غیر ملتی أو قال:دینی.

وروی عبد الرزاق عن معمر قال: کان عند الزهری حدیثان عن عروة عن عائشة فی علی علیه السلام, فسألته عنهما یوما فقال: ما تصنع بهما وبحدیثهما والله اعلم بهما: انی لأتهمهما فی بنی هاشم.

قال: فاما الحدیث الأول فقد ذکرناه, واما الحدیث الثانی فهو ان عروة زعم ان عائشة حدثته, قالت: کنت عند النبی صلی الله علیه وآله وسلم اذ اقبل العباس وعلی فقال: «یا عائشة إن سرکِ ان تنظری إلی رجلین من أهل النار فانظری إلی هذین قد طلعا», فنظرتُ فإذا العباس وعلی بن أبی طالب.

واما عمرو بن العاص, فروی عنه الحدیث الذی أخرجه البخاری ومسلم فی صحیحیهما مسنداً متصلاً بعمرو بن العاص قال: سمعت رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم یقول: «ان آل أبی طالب لیسوا لی بأولیاء إنما ولیی الله وصالح المؤمنین».

ص: 97

واما أبو هریرة فروی عنه الحدیث الذی معناه: أن علیا علیه السلام خطب ابنة أبی جهل فی حیاة رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم, فأسخطه, فخطب علی المنبر وقال:

لا والله, لا تجتمع ابنة ولی الله وابنة عدو الله أبی جهل, إن فاطمة بضعة منی یؤذینی ما یؤذیها, فان کان علی یرید ابنة أبی جهل فلیفارق ابنتی, ولیفعل ما یرید...»(1).

إلی غیر ذلک من محاولات الحذف والإلغاء للفکر العلوی الذی عانی من آل أبی سفیان ما لایخطر علی بال أحد, ولنا ان نقف علی ما انتشر من بغض علی علیه السلام فی الأقطار حتی قال ابوجعفر الاسکافی فی توصیف الانتماء الأموی للبلدان الإسلامیة ما نصه:

کان أهل البصرة کلهم یبغضونه, وکثیر من أهل الکوفة وکثیر من أهل المدینة واما اهل مکة فکلهم کانوا یبغضونه قاطبة, کانت قریش کلها علی خلافه, وکان جمهور الخلق من بنی أمیة علیه(2).

ولک ان تقیس علی مدی هذا المحنة التی عاشها المنتسبون لآل علی وکیف تعامل معهم الحکام وأدّی ذلک الی تهمیشهم بل الی مطارداتهم و«من اشد الأیام التی مرت بها الشیعة قساوةً, هو زمن حکومة معاویة بن أبی سفیان, والتی استمرت زهاء عشرین عاما, لم تکن الشیعة بمأمن وکان اغلب رجال الشیعة یشار إلیهم بالبنان, ولم تکن لدی الحسن والحسین علیهما السلام اللذین عاصرا معاویة أدنی الوسائل تمکنهم من القیام والقضاء علی الأوضاع المؤلمة..(3).

ص: 98

ولا یمکننا هنا ان نتابع المسیرة التاریخیة المؤلمة المضرجة بدماء الشیعة منذ عهود حتی ارتکز فی الذهنیة العامة ان المفردة الشیعیة بکل مناحیها تعنی المعارضة للنظام الحاکم وان الشیعی مهما کان فهو لا یعنی إلا المعارضة للدولة, حتی وصل الأمر إلی أن الحاکم، الشیعی یعد -عند بعضهم- لا یمثل إلا حالة طارئة, والغریب فی الأمر ان المتسولین السیاسیین یصفون السیاسی الشیعی بأنه یعوزه الانتماء الوطنی فی حین لا یزال هؤلاء مرتبطین بالمقدس "السیاسی", کما ان بعضهم لا یروق لهم السیاسة الصادرة من ساسة عراقیین مجاهدین کونهم مصنفین, وهذا التصنیف المذهبی المقیت یأخذ بالبلاد إلی أبعاد کبیرة من الفتنة والتمزق ولا نرید أن نرمی إلی ابعد من ذلک فان العراق الدولة والوطن والمواطن عینة جیدة لدراستنا وسوف نلغی کل المشاهدات الطائفیة التی تشارک فی تأصیل هذه النظرة؛ لئلا یخرج البحث عن صیاغاته الفنیة، ونکتفی بالإشارة إلی دراسة الأستاذ حسن العلوی «الشیعة والدولة القومیة فی العراق 1914- 1990» وهی دراسة جدیرة بالاهتمام؛ إذ وضع الباحث نقاطا علی الحروف لا یستغنی أی احد عن الوقوف عندها والتأمل فیها.

المهم هنا التفریق بین الطائفی والمنتمی.

کل هذه الأمور تدفعنا للتفکیر الجدی بمعالجة هذه المعضلة الطائفیة والتی انخرط فیها الکثیر - للأسف- بوعی مسبق أو بدون وعی، وذلک من خلال الموروثات الاجتماعیة, علی أننا نرغب فی الإشارة إلی التفکیک بین ما هو طائفی وبین ما هو منتمٍ.

فمن المشکلات الفکریة التی واجهت المثقفین وحتی المتدینین بل انجرّ ذلک حتی إلی العامة, هی مشکلة التشخیص للطائفی ومن هو الطائفی.

فالحدیث عن الطائفیة والطائفی هو الحدیث عن التمذهب السیاسی والانتماء الفکری, فهناک فرق بین التمذهب السیاسی الذی یعمل علی إبعاد الآخر وتهمیشه من خلال الأداة الحکومیة أو السیاسیة التی تدخل فی ترسیم الدولة والمواطنة, فیأخذ البعض

ص: 99

عنوان المذهبیة عنصرا مهما فی تحدید معالم المواطنة، وسیکون للانتماء الفکری فی إقصاء أو تقریب مجموعة علی أُخری، وبذلک ستکون المواطنة تابعة لهذا الانتماء العقائدی وستترتب الآثار السیاسیة والحقوق المدنیة بکل تفاصیلها علی هذا الانتماء أو ذاک, فالتمذهب السیاسی حینما یکون هو الأساس فی مواطنة المواطن وتمتعه بحقوق المواطنة أو اقصاءاتها فستکون الطائفیة الظاهرة بأجلی مصادیقها, وعلی هذا فقد عانی المواطن الشیعی طیلة أربعة عشر قرناً تمییزا طائفیا مقیتا, بل اخذ الأمر ابعد من ذلک فقد وصفت دولٌ شیعیة بغیر واقعها, ووصمت کیاناتها خلاف حقیقتها واتهمت بتهم تتراوح بین طائفیة إلی شعوبیة حتی إرهابیة فی أحایین أخری, ولا نرغب فی استعراض ما عانته هذه الدولة أو تلک من تنکیل وسحق لحضارتها ومصادرة لجهودها.

لا نرید أن نفتح ملفات القتل الجماعی الذی عاناه أتباع أهل البیت فی عصور أمویة وفترات عباسیة ألغت معها هویة التشیع من الانتساب الرسمی للدولة أو إلغاء سمة المواطنة عمن ینتسب لمذهب أهل البیت حتی صار ذلک موروثا لکل الأنظمة الحاکمة التی تلت المشهد الأموی أو الحقبة العباسیة التی غابت فیها معادلات الانتماء الدینی أو الانتساب الوطنی.

هذه الحالة شکلت محنة فی الذات الشیعیة التی عانت التهمیش والإلغاء والتعامل معها علی أساس المواطنة من الدرجة الأدنی، لکیلا تتبوأ أی مکانة فی منصب من مناصب الدولة سواء فی محافلها السیاسیة التنظیمیة أو محافلها الاجتماعیة العامة.

ومن المؤکد ان تبحث هذه الذات المغیبة والشخصیة المطاردة عن آلیات تحفظ وحدتها وتقاوم ظروف القهر والغلبة الحاکمة علی شخصیتها المعنویة ووجودها العام بشکل یمنع معه کل التجاوزات الموروثة "للأقلیة الحاکمة" علی الأغلبیة المحکومة - وکأن هذه المعادلة غیر المتوازنة صارت هی العرف السیاسی لبلدان الوجود الشیعی- ولأجل الإبقاء علی الجماعة الشیعیة بکل تراثها وقیمها وفکرها بل حتی وجودها

ص: 100

الشخصی فإنها لابد أن تنتهج منهج المقاومة, ولا اقصد هنا بالمقاومة انها المقاومة المسلحة ففی التشیع ان المقاومة المسلحة هی آخر الحلول, بل هناک المقاومة الایجابیة التی تنتهجها الجماعات الشیعیة والتی تتخذ المنهج الفکری والاسلوب الإعلامی برنامجا لنشر فکرها وبیان رؤیتها.

إن المقاومة "الایجابیة" فی المفهوم الشیعی یعنی ان هناک مجتمعا تخلقه هذه المقاومة, أو مقاومة تخلق مثل هذا المجتمع, وعلی کلا التصوّرین فان المجتمع الشیعی الذی یؤهل المقاومة أو التی تؤهله المقاومة أو التی تؤهله المقاومة الایجابیة یحتاج إلی بناء عقیدی, وهذا التنظیم سنراه لیس تنظیما سیاسیا ولیس للعسکرة شأنٌ فی تکوینه, بل ولا للحزبیة دخلٌ فی تجذیره, بل سنراه تنظیما إنسانیا اعتباطیا تتدخل فیه مجموعة من الاعتبارات الإنسانیة التی تدخل فی صیاغة المجتمعات المختلفة.

لقد باتت الحاجة ملحة إلی روابط اجتماعیة تنمو فی وسطٍ عقیدی یمنح هذه الروابط صفة الشرعیة لبناء مجتمعات شیعیة تترعرع وسط فکرة التضحیة والفداء، أی ترسیخ مبدأ الفداء فی أوساط هذا المجتمع، ومعلوم ان الشعائر الحسینیة تکفلت فی إعداد معطیین وتقدیمهما:

الأول: فی بناء مجتمعٍ متکامل.

الثانی: ان هذا المجتمع یترعرع وسط فکرة الفداء.

ولابد من الإشارة إلی هاتین القضیتین:

أما الأول

فان المشاعر الاحتفائیة بقضیةٍ ما، لابد ان تجعل هذا الاحتفاء سبباً فی تحشید الوجدان العام الذی یصطف حیال تحقیق قضیةٍ یُراد إثباتها فی وسط یتنکر لها _ علی الرغم من اعترافه بها لکن هذا الاعتراف لم یکن رسمیا _ علی ان هذا التنکر یتفاقم إلی

ص: 101

مشروعٍ تصفوی لهذه الفئة المحکومة علی ید حاکمها، ولابد ان یکون هذا التعاطی مع أمر کهذا یشکل محنة حقیقیة لهذه الفئة المحکومة أو قل المغلوبة علی أمرها وهی تحاول بطرقٍ مختصرة تحقیق أهدافها، ومن ثم الحفاظ علی وجودها المغلوب وتنامیها المنقهر، فکانت آلیات التجمع الشعائری اسلوبا إبداعیا من اجل تنامی هذه المشاعر الحماسیة التی تفرض علی أصحابها اتخاذ السلوک الجمعی، أی اسلوب المجتمعات الوجدانیة الحاشدة، وبمعنی آخر فإن التحشیدات الشعائریة ستخلق سلوکیة الجماعة أو سینخلق لدیها«المذاق الاجتماعی»، واقصد من «المذاق الاجتماعی» ان المجموعة الشعائریة لا تنمو إلا فی وسط اجتماعی یتکتل من اجل تحقیق أهدافه أو إعلامها إلی الملأ.

إذن صارت الاجتماعیة للأوساط الشعائریة ظاهرة، وهی التی نقصدها بالظاهرة الاجتماعیة.

فالظاهرة الاجتماعیة هی مجموعة الروابط الشعائریة التی أفرزتها مناسبة عاشوراء واستدعت اتباع أهل البیت إلی الاحتشاد داخل هذا المحفل الشعائری الذی یترجم مشاعرهم ووجدانیاتهم.

أما المعطی الثانی 

فان قضیة الفداء تتنامی فی المجتمع الشعائری بفعل توجهات هذا المجتمع إلی تحقیق أهدافه وهو یتطلب اجتماع أکثر من جهد لانجاز یدفع فی أکثر من جهد لإنجاز المهمة الشعائریة ؛ علی أن هذا الانجاز یدفع أکثر الأحیان إلی الحالة الفدائیة التی تتصاعد وتائرها لإنجاز المهمة، ولا نبتعد کثیرا عن السیاقات التاریخیة الکربلائیة التی أنجزت الفداء علی انه الظاهرة الأکثر سطوعا فی أرجاء الحادثة، واؤکد علی أن کربلاء أنجزت حالة الفداء فی تعاطیها مع الأحداث أی ان هناک فداءً کربلائیاً خاصاً اختصت به کربلاء بمشاهداتها ومواقف أصحابها حتی عممت کربلاء هذه الحالة إلی ظاهرة خاصة بها.

ص: 102

ص: 103

الشیعی أو الجماعة الشیعیة حتی تلک التی تعیش فی وسط آخر یفرض علیها تلک القیود المذکورة، اذ ان النفسیة الشیعیة تنغمس فی شعور من الأمل والتفاؤل الذی یخلصها من جمیع هذه المکابدات النفسیة وهذا الأمل یتخذ حالة الانتظار لمخلِّص موعود وهو الإمام المهدی _ کما هو متبانی علیه فی التراث الإسلامی سواء الشیعی أو السنی علی حد سواء إلا ان الشیعی تعامل مع هذا التراث النبوی بجدیةٍ عالیةٍ وخصوصیة ممتازة اورثته حالة التعایش الواقعی - النفسی مع هذه القضیة المهدویة ولسنا فی صدد استعراضها _ فعلی الرغم من حالة المضایقة "التقلیدیة" التی یعیشها الفرد الشیعی المحکوم، إلا ان ذلک لم یخلق لدیه حالة إحباط أو تعثر فی مسیرته، فهو یتعامل مع الأحداث برصانة وکیاسة وذلک إضافة إلی حالة الأمل التی تقضیها النفسیة الشیعیة مع تطلعات الظهور الموعود للمنقذ والمخلِّص، فإنها تحظی بحالة من الطمأنینة العالیة فضلا عن حالةٍ ترفیهیةٍ تعیشها الشخصیة الشیعیة بسبب المناسبات الشعائریة التی یحتفی بها اتباع أهل البیت،فان التجمعات الشعائریة تخلق حالة تعایش بین جمیع المشارکین ویتعاظم الشعور المشترک بینهم، وهذا الشعور المشترک هو الذی یوجد حالة التآلف والتحابب بین المشارکین هذا من جهة, ومن جهة أخری فان تنظیم سفرات علی مدار السنة إحیاء لمناسبات أهل البیت علیهم السلام تبعث علی الارتیاح والشعور العام لدی المشارکین فتری ان هذه "الرحلات الشعائریة" تزید من الانبساط النفسی لدی الزائر حتی تکوّن حالة من حالات تجدید النشاط والشعور بالحیویة المتجددة التی یحتاجها الإنسان المبدع، لذا فانی لا أبالغ ان الفرد الشیعی یکون الأبدع فی مجال عمله لدی کل الأوساط التی یتعایش معها، إذن فالحالة الترفیهیة ضروریة فی خلق الشخصیة المتکاملة والتی لا تعانی من أی انتکاسات نفسیة، فی حین نجد الآخر غیر المنتسب لمدرسة آل البیت یعانی من احباطات نفسیة دائمة، وهو وإن یحظی بحرکة سیاحیة معینة إلا ان هذه الحرکة السیاحیة غیر هادفة أولا، وغیر منتظمة أو منضبطة اجتماعیاً ثانیاً.

ص: 104

واقصد من کونها هادفة أو غیر هادفة، أنّ السفرات الشعائریة تهدف إلی تحقیق هدفٍ غیبی وهو الرضا والأجر الذی سیشمل الزائر عند وصوله إلی المرقد المزور أو المشارکة فی إحیاء شعیرةٍ ما، فانه سیصل إلی حالة الانتعاش الروحی والمعنوی حینما یشعر انه حقق هدفاً مهماً وهو الحصول علی الأجر الإلهی، وقد تعارف لدی شیعة أهل البیت علیهم السلام اهتمام الأئمة بهذه الحرکة والدعاء لمن یزور مراقدهم ویتعاهدها خصوصاً زیارة الإمام الحسین علیه السلام فإنها تعنی لدی أهل البیت الشیء الکثیر الذی یؤکد علی حقوقهم وإبقاء مظلومیتهم شاهدة عیان، وحدیث معاویة بن وهب ملحمة فی الحث علی الزیارة وبیان اهتمام الأئمة بذلک واظهار مقام الزائر وشأنه عندهم.

إن معاویة بن وهب حینما دخل علی الإمام جعفر الصادق علیه السلام وجده ساجدا وهو یدعو بهذا الدعاء یقول:

«اللهم یا من خصنا بالکرامة ووعدنا الشفاعة وخصنا بالوصیة واعطانا علم ما مضی وعلم ما بقی، وجعل أفئدة من الناس تهوی الینا، اغفر لی ولإخوانی وزوار قبر جدی الحسین الذین أنفقوا أموالهم واشخصوا ابدانهم رغبة فی برنا ورجاء لما عندک فی صلتنا وسرورا ادخلوه علی نبیک وإجابة منهم لأمرنا وغیظاً ادخلوه علی عدونا أرادوا بذلک رضاک فکافئهم عنا بالرضوان واکلأهم باللیل والنهار، واخلف علی أهالیهم وأولادهم الذین خلفوا بأحسن الخلف، واصحبهم واکفهم شر کل جبار عنید، وکل ضعیف من خلقک وشدید، وشر شیاطین الإنس والجن. وأعطهم أفضل ما أملوه فی غربتهم عن أوطانهم. وما آثروا به علی أبنائهم وأهالیهم وقراباتهم.

اللهم إن أعداءنا عابوا علیهم خروجهم إلینا فلم ینههم ذلک عن الشخوص إلینا خلافاً منهم علی من خالفنا.

ص: 105

اللهم ارحم تلک الوجوه التی غیرتها الشمس.

وارحم تلک الخدود التی تقلبت علی حفرة أبی عبد الله الحسین.

وارحم تلک الأعین التی جرت دموعها رحمة لنا.

وارحم تلک القلوب التی جزعت واحترقت لنا.

وارحم تلک الصرخة التی کانت لنا.

اللهم إنی استودعک تلک الأنفس والأبدان حتی توفیهم علی الحوض یوم العطش الأکبر.

ولما استکثر معاویة بن وهب هذا لزوار الحسین قال له الإمام علیه السلام:

إن مَن یدعو لزوار الحسین فی السماء أکثر ممن یدعو لهم فی الأرض(1).

هذا الدعاء یؤکد علی ضرورة مواصلة الاتباع لزیارة مراقد أئمتهم لحصول البرکة الدنیویة والأجر الأخروی الذی لا ینال أمثاله إلا بهذه الزیارات الشعائریة. اما کون الاقتصادیة: منتظمة أو منضبطة فان هذه الزیارات ذات هدفیة متوخاة من قبل الزائرین، سواء کانت هذه الهدفیة دینیة _ وهی أولها _ أو سیاسیة، أو اجتماعیة، والهدفیة السیاسیة تعمل علی بعث رسائل للحاکم لیقرأ فیها توجهات الشعائریین أو مطالبهم، والهدفیة الاجتماعیة تسعی الی محاولات التعایش السلمی والاجتماعی بین الشعائریین أنفسهم، وبینهم وبین فئات المجتمع الأخری وذلک من خلال الاحتکاک الاجتماعی بسبب نشوء علاقات بین الجمیع تهدف إلی تقویة أواصر الصِلات والترابط التی تجمع أتباع أهل البیت من خلاله فی کسر الحاجز النفسی الذی ضربه الحاکم علی اتباع أهل البیت وبذلک تجاوزوا محنة المحاصرة، وتخطوا أسباب العزلة التی فرضها علیهم الحکام.

ص: 106

ص: 107

لم یکن ذلک عائقاً من إبقاء الشیعة فی مکانةٍ اجتماعیةٍ تتحدی معها صعوبات السلطة ومحن المطاردات المفروضة، فالحالة الاقتصادیة الشیعیة المقهورة تعالجها آلیات اقتصادیة أخری اصَّلها أهل البیت وأسسوا لها نمطاً اقتصادیاً یعتمد علی القرآن الکریم لقوله تعالی:

((وَاعْلَمُواْ أَنَّمَا غَنِمْتُم مِّن شَیْءٍ فَأَنَّ لِلّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِی الْقُرْبَی وَالْیَتَامَی وَالْمَسَاکِینِ وَابْنِ السَّبِیلِ))(1).

وهذه الآیة الکریمة تفرض توزیع الثروات الاقتصادیة بین الناس علی أساس وضع متجانس یقضی علی حالة الفقر أو یخفف - علی الأقل _ من أزمات الفقر الطبیعیة أو المفتعلة، ونمت هذه العلاجیة فی الوسط الإسلامی وترکزت خصوصا فی الوسط الشیعی علی اعتبار ان الغنیمة الواردة فی الآیة الکریمة هی کل ما یغتنمه الإنسان فی حرکته الیومیة العملیة، وما یجنیه من خلال ممارسات السوق أو المعاملات الیومیة وما یکتسبه من خلال عملیاته الاقتصادیة فضلا عن شمول الغنیمة لغنائم الحرب، فی حین تقتصر المدارس الإسلامیة الأخری علی مفهومٍ واحد من الغنیمة وهی غنیمة الحرب دون ان تدخل الغنائم الاقتصادیة العملیة فی هذا المفهوم، وهو بحث یحتاج إلی تفصیل لیس محله هنا، إلا اننا نرید ان نقف علی أن الفکر الشیعی التزم الاقتصادیات الإسلامیة کحلول لمعالجات أزمات الفقر الحادة بین طبقات المجتمع الشیعی هذه المعالجة _ معالجة الخمس _ المنتشرة فی الوسط الشیعی لم تکن هی وحدها تتکفل فی إنقاذ الاقتصاد الشیعی فان آلیات أخری أسسها أهل البیت علیهم السلام، وذلک ضمن سیاقات شعائریة أسهمت وبشکلٍ فعال فی رفع المستوی المعیشی للوضع الشیعی بشکلٍ مثیر، فالمواسم الشعائریة _ مثلا _ فی الزیارات المخصوصة التی یجتمع فیها الملایین

ص: 108

من الزائرین تتطلب حرکة اقتصادیة غیر طبیعیة تدخل فیها مجالات عدة منها الفنادق التی یحتاجها جموع الزائرین، ومنها وسائط النقل للقطاعات الخاصة التی تتکفل فی نقلهم، ومنها المطاعم التی تعمل علی توفیر الوجبات المستمرة لإطعامهم، فضلا عن محلات البیع التی تعمل لیل نهار لرفد الزائرین الذین یتبضعون لحمل هدایاهم الی أهالیهم وأصدقائهم. هذه الحرکة الاقتصادیة تدفع بالاقتصاد الفردی والاجتماعی إلی مؤشرات غیر مسبوقة تنمو من خلالها الدخول الفردیة للمجتمع الشیعی، وبمعنی آخر ان القضیة الحسینیة آثرت الاقتصاد الشیعی بفعل الحرکة الشعائریة التی تلت هذه الواقعة، وشارکت فی ترسیم الجدوی الاقتصادیة الشیعیة، وأسست بسببها طبقات من المستثمرین غیر العادیین.

لم تقف الظاهرة الاقتصادیة عند حدود مواسم الزیارات المخصوصة، بل ان هذه الظاهرة _ خصوصا فی العقود الاخیرة _ شملت الحیاة الیومیة للقطاعات الشیعیة مما تکفَّل بإیجاد مدخول شیعی متمیز لا یخضع لمضایقات السلطة، ولا تستطیع السلطة بدورها ان تحدد مسارات الاقتصاد الشیعی الحر، وهو اقتصادٌ حسینی بکل أبعاده، فالحرکة "السیاسیة الشعائریة" مستمرة یومیاً علی مدار السنة من دون توقف مما اثَّر ذلک فی المدخول الشیعی، بل وفی الشخصیة الشیعیة المتحررة من هیمنة النظام ومضایقات السلطة.

والحمد لله أولاً وآخراً کما هو اهله حمداً کثیراً دائماً سرمداً یلیق بجلاله وجماله وصلی الله علی نبیه المصطفی وآله المیامین المعصومین المنتجبین.

ص: 109

ص: 110

4- ظاهرة السلام والتعایش.... 24

5- ظاهرة القیادة الذاتیة. 26

6- ظاهرة العبادة الشعائریة. 26

7- ظاهرة المرأة الشعائریة. 28

ظاهرة الثوریة. 31

ظاهرة الألم.. 35

ظاهرة الإیثار. 37

ظاهرة الشجاعة. 41

ظاهرة الصبر. 44

الظاهرة الثقافیة. 46

الظاهرة الإعلامیة. 53

الإعلام المضاد. 56

الظاهرة القرآنیة. 57

الظاهرة القرآنیة قبل الشهادة. 58

الظاهرة القرآنیة ما بعد الشهادة. 60

القرآنیة الزینبیة. 63

الزیف المفضوح.. 64

الظاهرة القرآنیة وأدبیات الثورة الحسینیة. 66

الظاهرة القرآنیة فی شعر صالح الکواز. 67

الظاهرة القرآنیة.. الثقافة القرآنیة. 82

الظاهرة الأدبیة. 83

خلق الإبداع الشعری فی مدرسة أهل البیت... 85

الشعر الحسینی فی حلبة الإبداع.. 87

الظاهرة الاجتماعیة. 95

الظاهرة...المشاهدات والتجلیات... 102

الظاهرة الترفیهیة. 102

الظاهرة الاقتصادیة. 106

ص: 111

سلسلة إصدارات قسم الشؤون الفکریة والثقافیة

فی العتبة الحسینیة المقدسة

تألیف

اسم الکتاب

ت

السید محمد مهدی الخرسان

السجود علی التربة الحسینیة

1

زیارة الإمام الحسین علیه السلام باللغة الانکلیزیة

2

زیارة الإمام الحسین علیه السلام باللغة الأردو

3

الشیخ علی الفتلاوی

النوران ___ الزهراء والحوراء علیهما السلام __ الطبعة الأولی

4

الشیخ علی الفتلاوی

هذه عقیدتی __ الطبعة الأولی

5

الشیخ علی الفتلاوی

الإمام الحسین علیه السلام فی وجدان الفرد العراقی

6

الشیخ وسام البلداوی

منقذ الإخوان من فتن وأخطار أخر الزمان

7

السید نبیل الحسنی

الجمال فی عاشوراء

8

الشیخ وسام البلداوی

إبکِ فإنک علی حق

9

الشیخ وسام البلداوی

المجاب بردّ السلام

10

السید نبیل الحسنی

ثقافة العیدیة

11

السید عبدالله شبر

الأخلاق (تحقیق: شعبة التحقیق) جزئین

12

الشیخ جمیل الربیعی

الزیارة تعهد والتزام ودعاء فی مشاهد المطهرین

13

لبیب السعدی

من هو؟

14

السید نبیل الحسنی

الیحموم، أهو من خیل رسول الله أم خیل جبرائیل

15

الشیخ علی الفتلاوی

المرأة فی حیاة الإمام الحسین علیه السلام

16

السید نبیل الحسنی

أبو طالب علیه السلام ثالث من أسلم

17

السید محمدحسین الطباطبائی

حیاة ما بعد الموت (مراجعة وتعلیق شعبة التحقیق)

18

السید یاسین الموسوی

الحیرة فی عصر الغیبة الصغری

19

السید یاسین الموسوی

الحیرة فی عصر الغیبة الکبری

20

الشیخ باقر شریف القرشی

حیاة الإمام الحسین بن علی (علیهما السلام) ___ ج1

21

ص: 112

الشیخ باقر شریف القرشی

حیاة الإمام الحسین بن علی (علیهما السلام) ___ ج2

22

الشیخ باقر شریف القرشی

حیاة الإمام الحسین بن علی (علیهما السلام) ___ ج3

23

الشیخ وسام البلداوی

القول الحسن فی عدد زوجات الإمام الحسن علیه السلام

24

السید محمد علی الحلو

الولایتان التکوینیة والتشریعیة عند الشیعة وأهل السنة

25

الشیخ حسن الشمری

قبس من نور الإمام الحسین علیه السلام

26

السید نبیل الحسنی

حقیقة الأثر الغیبی فی التربة الحسینیة

27

السید نبیل الحسنی

موجز علم السیرة النبویة

28

الشیخ علی الفتلاوی

رسالة فی فن الإلقاء والحوار والمناظرة

29

علاء محمدجواد الأعسم

التعریف بمهنة الفهرسة والتصنیف وفق النظام العالمی (LC)

30

السید نبیل الحسنی

الأنثروبولوجیا الاجتماعیة الثقافیة لمجتمع الکوفة عند الإمام الحسین علیه السلام

31

السید نبیل الحسنی

الشیعة والسیرة النبویة بین التدوین والاضطهاد (دراسة)

32

الدکتور عبدالکاظم الیاسری

الخطاب الحسینی فی معرکة الطف ___ دراسة لغویة وتحلیل

33

الشیخ وسام البلداوی

رسالتان فی الإمام المهدی

34

الشیخ وسام البلداوی

السفارة فی الغیبة الکبری

35

السید نبیل الحسنی

حرکة التاریخ وسننه عند علی وفاطمة علیهما السلام (دراسة)

36

السید نبیل الحسنی

دعاء الإمام الحسین علیه السلام فی یوم عاشوراء __ بین النظریة العلمیة والأثر الغیبی (دراسة) من جزئین

37

الشیخ علی الفتلاوی

النوران الزهراء والحوراء علیهما السلام ___ الطبعة الثانیة

38

شعبة التحقیق

زهیر بن القین

39

السید محمد علی الحلو

تفسیر الإمام الحسین علیه السلام

40

الأستاذ عباس الشیبانی

منهل الظمآن فی أحکام تلاوة القرآن

41

السید عبد الرضا الشهرستانی

السجود علی التربة الحسینیة

42

السید علی القصیر

حیاة حبیب بن مظاهر الأسدی

43

الشیخ علی الکورانی العاملی

الإمام الکاظم سید بغداد وحامیها وشفیعها

44

جمع وتحقیق: باسم الساعدی

السقیفة وفدک، تصنیف: أبی بکر الجوهری

45

نظم وشرح:  حسین النصار

موسوعة الألوف فی نظم تاریخ الطفوف __ ثلاثة أجزاء

46