نساء الطفوف

اشارة

رقم الإیداع فی دار الکتب والوثائق __ وزارة الثقافة العراقیة

لسنة 2010؛ 1665

الحداد، کفاح، 1959 -    م.

نساء الطفوف / لکفاح الحداد[تدقیق ....، تقدیم محمد علی الحلو]. - کربلاء: العتبة الحسینیة المقدسة، قسم الشؤون الفکریة والثقافیة 1432ق. = 2011م.

  ص271. - (قسم الشؤون الفکریة والثقافیة؛ 50)

المصادر: ص 263 - 264؛ وکذلک فی الحاشیة.

1 . الحسین بن علی (ع)، الإمام الثالث، 4 - 61 ق. أصحاب - النساء. 2 . واقعة کربلاء، 61 ق. والنساء المسلمات. 3 . النساء فی الإسلام. 4 . النساء والمهدویة - الانتظار. 5 . عاشوراء – فلسلفة – روابط – النساء. 6 . زینب بنت علی بن أبی طالب (س)، 6 -62ق. 7 . الحسین بن علی (ع)، الإمام الثالث، 4 – 61 ق. – النساء – دراسة وتعریف . ألف. الحلو، محمد علی، 1957 -     م.، مقدم ب. .... ج. العنوان.

4 ح  5 ن / 7509 / 41 BP

تمت الفهرسة قبل النشر فی مکتبة العتبة الحسینیة المقدسة

ص: 1

اشارة

ص: 2

ص: 3

نساء الطفوف

للباحثة الاجتماعیة

کفاح الحداد

إصدار

قسم الشؤون الفکریة والثقافیة

فی العتبة الحسینیة المقدسة

وحدة الدراسات التخصیصة فی الامام الحسین صلوات الله وسلامه علیه

ص: 4

حقوق النشر محفوظة

للعتبة الحسینیة المقدسة

الطبعة الأولی

1432ه_ __ 2011م

العراق: کربلاء المقدسة - العتبة الحسینیة المقدسة

قسم الشؤون الفکریة والثقافیة - هاتف: 326499

Web: www.imamhussain-lib.com

E-mail: info@imamhussain-lib.com

ص: 5

الاهداء

إلی المولودة فی معقل العصمة والتقی ومهبط الوحی والهدی إلی

المرأة الصالحة

والمجاهدة الناصحة

والحرة الأبیة

واللبوة الطالبیة

والمعجزة المحمدیة

والذخیرة الحیدریة

والودیعة الفاطمیة

إلی سیدتی ومولاتی زینب بنت أمیر المؤمنین علی بن أبی طالب علیهم السلام

اقدم هذه الوریقات

کفاح الحداد

ص: 6

مقدمة اللجنة العلمیة

لم تکن عاشوراء حکایة عابرة یستمتع بها قراءها، ولا هی بالحادثة الغابرة یستذکرها قصاصها، ولا هی واقعة تقادم علیها الزمان فیرتجعها ذکری من ذکریات الزمن المهدور... بل غدت عاشوراء أنشودة الأجیال علی مر العصور، وباتت واقعتها صانعة الأبطال تستنزل الذکریات مصاغة بصورها الملائکیة یوم کانت الأنوثة فی ربواتها تستصرخ الشهامة فتحیلها ثورة متلبسة بلبوس الشخوص، ومختالة بعنفوان التحدی وإعجاز الغیب یدفعها صانعةً لملاحم الذکریات... هذه هی عاشوراء تترجل الخطی فی مواقف یستجمعها الکتاب فی باقةٍ عطرةٍ من الأسماء: زینب بنت علی، فاطمة، سکینة، أم کلثوم، الرباب ومن خلف هذا الجمع الهاشمی تستدرج الکاتبة کواکب التضحیة، دلهم بنت عمرو، طوعة، ماریة بنت منقذ، النوار إلی غیرها من أریج باقة الفداء التی غدت تسطع فی أفق الخلود.

ان الکتابة عن عاشوراء مسألة فذة تحتاجُ معها إلی سبر أغوار تاریخیةٍ وأخلاقیة واجتماعیة خصوصاً إذا کانت الکتابة فیها عن أشخاص ملکت نفوسهم طاعةً إلهیة تتمثل فی طاعة الإمام ولیبلغوا عنفوان التضحیة والفداء بما قدموه وما سجلوه من مواقف ومثل علیا یعجز عندها الوصف، ویخشعُ دونها الطرف، ولا یبقی للمدح فی شموخها وکبریائها الا الانزواء فی خضم هذا الموج الهادر من الولاء والفداء.

ص: 7

لقد جالت أقلام الباحثین وحاولت همم المؤلفین أن یقفوا علی أعتاب الملحمة العاشورائیة فلم یجدوا إلا البقاء خارج الحقیقة لأن عاشوراء سرٌ مکنون لا یناله إلا أصحابها.

لقد حرصت الباحثة أن تقدمَ الطفوفَ بنسائه لنقرأهُ علی مُکثٍ، ونستذوقه علی حقیقته المنزّلة من فصول المعجزات، ولم یدّخر البحث جهدا فی تقدیم هذه النماذج التی اختلطت بدمائها مواقفها، وتجذرت من قیمها أفکارها، واستحالت تتلظی فی وهاد عالم یرفضُ قیم التفانی، ویسترخصُ مبادئ الولاء ویعجُ بأفکارٍ خاویة خالیة من المکرمات.. والبحث فی هذا قدّم نموذج المعرفة بوحدة واحدة لکنها بتجلیات عدة تسترخص معها التضحیات وتستجلب نساء الطفوف فی تألقِ الإبداع، وعنفوان العطاء الهاشمی، والألق الملکوتی الغابر فی غمرات الدهور...

عن اللجنة العلمیة السید محمدعلی الحلو

10 شعبان 1431ه_ - النجف الأشرف

ص: 8

المقدمة

فی تاریخ الاسلام الممتد وعلی مدی قرون عدیدة نجد ان صورة المرأة تسطع فیه إلی جانب صورة الرجل حتی فی اشد المراحل حراجة وخطورة وصعوبة، فهو لم یک تاریخا ذکوریا محضاً کما لم یک تاریخا انثویا محضا بل هو تاریخ الانسانیة المشترکة بصورتها الآدمیة لکلا الجنسین. فمنذ ظهوره رفض صنادید قریش ورجالاتهم الإیمان بالدعوة المحمدیة علواً واستکباراً فکانت السیدة خدیجة هی المسلمة الأولی والمؤمنة الأولی التی أحنت برسول الله صلی الله علیه وآله وسلم وقدمت الدعم المادی للرسالة الجدیدة.. وعاشت معه أیاماً صعبة تحملت فیها ما جری علی المسلمین من تعذیب واضطهاد علی ید المشرکین. وذاقت ألم الجوع والحرمان (وهی الثریة الغنیة) فی شعب ابی طالب حتی قضت نحبها فی عام سماه الرسول صلی الله علیه وآله وسلم بعام الحزن.. وکان یذکرها کثیرا ویعرّف بمکانتها فی نفسه. فقد قال صلی الله علیه وآله وسلم عنها فی رده علی زوجته عائشة التی انکرت علیه هذا الذکر الکثیر للسیدة خدیجة سلام الله علیها بالقول: وهل کانت إلا عجوزاً ابدلک الله خیراً منها فقال صلی الله علیه وآله وسلم:

«لا والله ما ابدلنی الله خیراً منها آمنت بی إذ کفر الناس وصدقتنی إذ کذّبنی الناس وواستنی فی مالها إذ حرمنی الناس ورزقنی الله منها أولاداً إذ حرمنی أولاد النساء»(1).


1- الصقلانی، الاصابة فی تمییز الصحابة.

ص: 9

وقد کانت المرأة حاضرة مع الرجل فی تدعیم الدولة الاسلامیة الفتیة من خلال البیعة والهجرة والمشارکة فی الحروب والاقبال علی التعلم الی غیر ذلک. ثم استمرت الدعوة الإلهیة لتمر علی منعطف صعب وشدید الخطورة فکانت صورة الزهراء علیها السلام وهی تطوف علی بیوت المسلمین تذکّرهم بعهدهم للرسول صلی الله علیه وآله وسلم وما جری فی حجة الوداع وکان علیاً علیه السلام معها یقود بغلتها ویشد ازرها. وما وهنت علیها السلام فی دفاعها عن حقها وعن تبیین المسار المنحرف الذی دخلت فیه الامّة حتی آخر لحظات حیاتها.. ثم کان رحیلها وتغییب قبرها لیکون وثیقة احتجاج خالدة علی مدی الزمان!..

ثم کان المنعطف الفیصل حینما خرج الإمام الحسین علیه السلام إلی کربلاء مع نساءه وعیاله فکانت ملحمة الطف العظیمة «یوم شبهه البعض بیوم القیامة»(1) لما کان فیه من مصائب وکروب یشیب لها الولدان شیباً. وکانت القضیة التی قادها الإمام الحسین علیه السلام والتی تمثلت فی طلب الإصلاح لهذه الأمة العظیمة بکل امتدادتها.. والتی تجسدت بشکل ملحمة عظیمة لا مثیل لها قبل وبعد الثورة ..کانت هذه الثورة قد أظهرت الادوار العظیمة  لنساء الطفوف فی الواقعة وبعدها وعلی رأس هؤلاء اخت الإمام الحسین علیه السلام السیدة زینب بنت علی بن أبی طالب علیه السلام والتی کانت لها الأدوار الریادیة فی قیادة القضیة الحسینیة وفی نشر أفکارها بعد استشهاد الإمام وصحبه الکرام.

فی کربلاء نقف وباجلال علی تضحیة الرجل والمرأة علی حد سواء، فکربلاء صورة لتجلی إخلاص المرأة والرجل، وتنافس المرأة مع الرجل الی نصرة الدین والی حمایة مقدساته ولکن کل بطریقته التی تتناسب مع خلقته وعظمته ومع خط السیر الربانی.


1- محمد جواد مغنیة فی کتابه الحسین وبطلة کربلاء.

ص: 10

 لقد کانت کربلاء صورة رجولیة علیا فی التضحیة والشهادة والفداء وصورة نسائیة علیا فی الصبر والصمود وفی حمل هموم الرسالة والدفاع عنها وعن کل المقدسات التی جاهد من أجل صیانة قیمها السامیة الابطال من الرجال والنساء مع الحفاظ علی کل القیم التی آمن بها الرجل والمرأة علی حد سواء.

وبعبارة أخری فاننا نجد فی هذه الواقعة سمواً إنسانیاً رفیعاً عالیاً فالإنسان الخلیفة هو الحاضر الذی رسم ایدولوجیة المعرکة وعرّف باهدافها وقیمها.. ومع ارتقاء هویة الإنسان - الإنسانیة بشقیها الذکر والانثی-. تبدو الواقعة وکأنها تجسید لقیم الإنسان بعیداً عن التقوقع فی دائرة الخصوصیة الجنسیة المحدودة.

وإذ یری الکثیر من المفکرین الإسلامیین والباحثین بانه لولا وجود النساء فی هذه المعرکة لما رسخت القضیة العاشورائیة فی الوجدان الشعبی __ وهذا لا یعد تغیباً لدور المعصوم علیه السلام فی هذا الشأن وغیره __.

ولما عرفنا أصلاً أسباب الثورة وأهدافها وشخوصها فقد ضاعت الکثیر من الوقائع المهمة فی التاریخ ولسبب بسیط هو انها لم تجد الألسنة التی تعبر عنها (والوکالات الخبریة أو الفضائیات) التی تبثها إلی الرأی العام لتعرفه بها وهذا عکس ما حصل مع ملحمة کربلاء حیث حملت النساء فیها رسالة الإعلام بنبل وآباء وبوضوح بعیداً عن التشویه والتزییف وطمس الحقائق.

والحق ان دور المرأة فی الثورة الحسینیة کان دوراً واسعاً متعدد الوجوه متعدد العطاءات کما انه کان دوراً ثقیلاً فی زمن عسیر وفی منعطف وعر من التحدیات والمصاعب التی عاشها أهل البیت علیهم السلام بل وعاشتها رسالة الإسلام کلها.. ولکن هذا الدور العظیم الذی جعله البعض عدلاً لدور الشهادة(1) لم یلاقِ من التعریف


1- یراجع کتاب الخطاب الحسینی للشیخ محمد مهدی الاصفی.

ص: 11

والنشر بشکل یتلائم مع عظمة شخوصه وأحداثه فما أکثر الکتب التی تناولت الحدیث عن أسباب الثورة وأهدافها وشخوصها - وهو أمر مهم ومطلوب - لکن بین هذا الکم الکبیر من الأوراق المنشورة.. کم نجد تعریفاً لهذا - العدل - وکم نجد توضیحاً لدور النساء فی المعرکة وبعدها؟.. ربما لا نجد إلا همساً!! .. ولهذا أری - ویری غیری أیضاً - ان دور المرأة فی النهضة الحسینیة قد تعرض للاجحاف والظلم والتهمیش وسوء الفهم حتی من قبل انصار الثورة وحملة المنبر الحسینی .. فلقد رسمنا لهن صورا مسوّرة بسور العجز والذل والانکسار المحبط وحصرناهن فی دائرة الرثاء والأسی والحزن ونسینا ان هؤلاء [وعلی رأسهن السیدة زینب علیها السلام] کن قمماً فی الصلابة وقوة الإرادة والثقة بالنفس إلی غیر ذلک من الصفات المهمة.. وما اکثر الباکین والنادبین الذین یبکون هؤلاء النساء وعلی ما جری لهن من مصائب جمة لکنهم یقتلون هؤلاء النساء فی الیوم واللیلة مئات المرات من خلال أمیة نساءهم وهیمنة الجهل والتخلف علی أوضاعهن وحبسهن فی سرادق الوهم والتخلف.. وساهمت النساء فی قتل سبایا الطفوف من خلال افراغهن من کل محتوی فکری وحضاری وحصر وجودهن فی بکاء انفعالی جامد غیر قادر علی هز الشخصیة الراکدة لتخرج رطباً جنیاً.

من ذلک کله نری أنفسنا بحاجة إلی الارتباط بهؤلاء النساء العظیمات وبمواقفهن وأدوارهن وذلک لکی:

1 - نفهم أنفسنا ونفهم هویتنا الإنسانیة والرسالیة.

2 - نفهم أدوارنا ومسؤولیاتنا وما هو المطلوب منا.

3 - نفهم دورنا المطلوب فی نصرة الإمام المنتظر عجل الله تعالی فرجه الشریف والتمهید لظهوره وهو الذی سیملأ الأرض قسطاً وعدلاً بعدما ملئت ظلماً وجوراً.

4 - ولکی نستقرئ منظمومة القیم التی عندنا ونری إلی أی مدی هی متوافقة مع قیم نساء الطفوف.

ص: 12

ومن هنا جاءت فکرة کتابة هذه الوریقات المحدودة التی هی:

هی تذکرة بهؤلاء النساء العظیمات فی التاریخ.

وهی دعوة للتأسی بهن والاقتداء بمنهجهن.

ولا ادعی القدرة علی عرض المطلوب فما تفلح قطرة من بحر المعرفة فی التعریف بالبحر کله لکنها بدایة متواضعة ولعلها تکون سبباً للمزید من البحوث.

وأود ان أشیر الی ان جلّ الحدیث فی هذا الکتاب سیکون عن نساء أهل البیت علیهم السلام، وخاصة عن السیدة زینب علیها السلام، باعتبارها سیدة الطف الأولی آملین ان نوفق فی التاسیس لبرنامج اعادة قراءة التاریخ برؤی معاصرة.

((وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَیَرَی اللّهُ عَمَلَکُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ)).

کفاح الحداد

ص: 13

الفصل الأول: المرأة قبل الطفوف

اشارة

ص: 14

ص: 15

ویمکن تقسیم هذه المرحلة الی 4 مراحل وهی:

1- المرأة فی العصر الجاهلی.

2- المرأة فی العصر الذهبی (العصر النبوی).

3- المرأة فی عصر خلافة الشیخین

4- المرأة فی العصر الأموی.

1 - المرأة فی العصر الجاهلی

 عُرف المجتمع الجاهلی بظلمه للانسان بصورتیه الذکر والانثی .. فقد عاش الرجل فیه مرارة الرق وامتهان الکرامة وتغییب الحقوق الانسانیة وکان حال المرأة اشد ایلاما واعظم جرحاً.. فقد کانت مظالم النساء فی العصر الجاهلی کثیرة تبدأ بالوأد ولا تنتهی عند العضل والظهار. وکانت تحرم من ارثها ولکنها فی نفس الوقت تصبح سلعة ومتاعا یورث کما یورث أی متاع! وللوارث الحق فی البیع والتزویج والحبس حتی الموت أیا کانت!. ولم تکن تملک حق اختیار الزوج أو حق التصرف فی أموالها، وکانت تعانی من الوأد الذی کان موجوداً عند قبیلة واحدة ثم اصبح عادة وعرفاً عند باقی القبائل!. والمؤودة المقتولة هی (الجاریة تدفن حیة سمیت بذلک لما یطرح علیها من التراب فیؤدها

ص: 16

أی یثقلها حتی تموت) وکان الوأد أحیاناً بسبب الفقر وغالباً ما یعود السبب إلی حمیة الجاهلیة حیث کانت القبائل العربیة یغیر بعضها علی بعض ولکی لا تصبح البنات اساری عند الاعداء عُمد إلی قتلهن وهن صغار، وکان الوأد یتم بعدة طرق منها ان المرأة فی الجاهلیة کانت إذا حملت حفرت حفرة وتمخضت علی رأسها فان ولدت جاریة رمت بها فی الحفرة وردت التراب علیها وان ولدت غلاماً حبسته ومنه قول الراجز:

سمیتها إذ ولدت تموت

والقبر صهر ضامن زمیت

فعد القبر صهر ضامن زمیت (أی وقور).

وفی تفسیر القرطبی والطبری عن قتاده قال: کانت الجاهلیة یقتل أحدهم ابنته ویغدو کلبه فعاتبهم الله علی ذلک وتوعدهم بقوله:(1)

(( وَإِذَا الْمَوْؤُودَةُ سُئِلَتْ (8) بِأَیِّ ذَنبٍ قُتِلَتْ)).(2)

ولهذا کان أحدهم یغتم إذا ولدت له بنتاً، وإلی هذا یشیر القرآن الکریم:

((وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالأُنثَی ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ کَظِیمٌ (58) یَتَوَارَی مِنَ الْقَوْمِ مِن سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَیُمْسِکُهُ عَلَی هُونٍ أَمْ یَدُسُّهُ فِی التُّرَابِ أَلاَ سَاء مَا یَحْکُمُونَ )).(3)

(فالإنسان الجاهلی کان یئد ابنته التی من صلبه ویتبنی ابن الفجور ویلحقه به!) وکان القوی یأکل الضعیف ویحّرم الرجال اطعمة علی النساء لکنها حلال علیهم، وکان القوم  یتکسبون بفروج الاماء والجواری حتی شاعت ظاهرة الرایات المنصوبة فی الأسواق وعلی الأبواب لدعوة الناس إلی الفجور والبغاء.(4)


1- السید مرتضی العسکری، القرآن الکریم وروایات المدرستین، ص 45.
2- سورة التکویر، الآیة 8-9.
3- سورة النحل، الآیة 58 - 59.
4- السید مرتضی العسکری، القرآن الکریم وروایات المدرستین، ص 45.

ص: 17

ولم تحصل المرأة علی ما یعینها علی بناء شخصیتها وذاتها من العلم والمعرفة أو العمل النظیف إلی غیر ذلک، وإلی وضع المرأة فی العصر الجاهلی یشیر العلامة الطباطبائی رحمه الله فی تفسیر المیزان إلی أحوال المرأة قبل الإسلام من خلال عدة امور منها:

1 . انهم کانوا یرونها إنساناً ضعیف الإنسانیة منحطاً لا یؤمن شره وفساده لو اطلق من قید التبعیة واکتسب الحریة فی حیاته.

2 . انهم کانوا یرون فی وزنها الاجتماعی انها خارجة من هیکل المجتمع المرکب غیر داخلة فیه وانما هی من شرائطه التی لا غنی عنها کالمسکن لا غنی عن الالتجاء إلیه.

3 . انهم کانوا یرون حرمانها من عامة الحقوق التی امکن انتفاعها منها الا بمقدار یرجع انتفاعها إلی انتفاع الرجال القیمین بأمرها.

4 . ان أساس معاملتهم معها فیما عاملوا هو غلبة القوی علی الضعیف وبعبارة أخری قریحة الاستخدام.

2 - المرأة فی العصر النبوی (العصر الذهبی)

وهو عصر الإسلام ویبتدء من ظهوره فی مکة حتی وفاة الرسول صلی الله علیه وآله وسلم عام 11ه_ فی المدینة. وإنما سُمی بالعصر الذهبی لأنه العصر الوحید الذی طبق فیه الإسلام وبالتالی فهو العصر الوحید الذی حصلت فیه المرأة علی حقوقها السیاسیة والثقافیة والاجتماعیة کما کان للمراة دور واضح فی الحیاة العامة وفی تغییر الکثیر من العادات والقیم التی کانت سائدة آنذاک. ویمکن القول ان المرأة فی هذا العصر بدأت تعرف ذاتها ونفسها وتسعی لبناء شخصیتها وفق آیات القرآن الکریم وبدأت تتسابق مع الرجل لتحصیل سعادة آخرویة مطلوبة.

ص: 18

وباجمال عام یمکن ان نتناول ما أحدثه الاسلام من تغییر فی وضع المرأة الذاتی والعام من خلال عدة أمور منها:

انه اعاد إلیها اعتبارها الإنسانی الذی افتقدته علی مر التاریخ فمن ناحیة اعتبرها  الاسلام صنو الرجل فی الخلق ولا تمایز بینهما فی أصل الخلقة والتکوین، قال تعالی:

((یَا أَیُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّکُمُ الَّذِی خَلَقَکُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا)).(1)

فالإنسان واحد وله صورتان صورة المرأة والرجل ولا فضل لاحدهما علی الآخر إلا بالتقوی قال تعالی:

((یَا أَیُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاکُم مِّن ذَکَرٍ وَأُنثَی وَجَعَلْنَاکُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَکْرَمَکُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاکُمْ)).(2)

وهاجم الإسلام بشدة عادات الجاهلیة التی تؤذی المرأة فهاجم الوأد هجوماً شرساً. قال تعالی:

((وَإِذَا السَّمَاء کُشِطَتْ)).(3)

واعلن احتجاجه علی قتل الأولاد بسبب الفقر فالله هو الرزاق الکریم. قال تعالی:

((وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلادَکُمْ خَشْیَةَ إِمْلاقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِیَّاکُم إنَّ قَتْلَهُمْ کَانَ خِطْءًا کَبِیرًا)).(4)


1- سورة النساء، الآیة 1.
2- سورة الحجرات، الآیة 13.
3- سورة التکویر، الآیة 11.
4- سورة الاسراء، الآیة 31.

ص: 19

بل ان القرآن الکریم هاجم وبشدة الکراهة التی یظهرها الآباء عند ولادة البنت، قال تعالی:

((وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالأُنثَی ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ کَظِیمٌ (58) یَتَوَارَی مِنَ الْقَوْمِ مِن سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَیُمْسِکُهُ عَلَی هُونٍ أَمْ یَدُسُّهُ فِی التُّرَابِ أَلاَ سَاء مَا یَحْکُمُونَ )).(1)

وحرم القرآن التعامل مع المرأة علی انها متاع یورث کما تورث الامتعة والمواشی حیث کان الوارث یتحکم فیها کیفما یشاء فله الحق  فی ان یعضلها من الزواج أو یزوجها من یشاء أو یبتز مالها قال تعالی:

((یَا أَیُّهَا الَّذِینَ آمَنُواْ لاَ یَحِلُّ لَکُمْ أَن تَرِثُواْ النِّسَاء کَرْهًا وَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُواْ بِبَعْضِ مَا آتَیْتُمُوهُنَّ)).(2)

واعطاها الحق الکامل فی الاحتفاظ بمالها وثروتها قال تعالی:

((لِّلرِّجَالِ نَصِیبٌ مِّمَّا اکْتَسَبُواْ وَلِلنِّسَاء نَصِیبٌ مِّمَّا اکْتَسَبْنَ)).(3)

و منحها من الحقوق ما للرجل قال تعالی:

((وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِی عَلَیْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ)).(4)

ولأنه اعتبرها إنساناً کاملاً کالرجل فهی إذاً کائن مکلف وعلیها ان تؤدی ما علیها من الطاعات والعبادات ولها من الثواب ماله وعلیها من العقاب ماعلیه کما انه سبحانه وتعالی بیّن مقاییس التفاضل بین الرجال والنساء سواء بین الجنس الواحد أو


1- سورة النحل، الآیة 59.
2- سورة النساء، الآیة 19.
3- سورة النساء، الآیة 32.
4- سورة البقرة، الآیة 228.

ص: 20

بین الجنسین وهی مقاییس اکتسابیة لا تقوم علی الجنس أو الخلق أو الصورة أو النسب الی غیر ذلک من الاعتبارات الدنیویة بل تقوم علی اساس الإیمان والعمل الصالح والتقوی قال تعالی:

((إِنَّ أَکْرَمَکُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاکُمْ)).(1)

وقال أیضاً:

((مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَکَرٍ أَوْ أُنثَی وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْیِیَنَّهُ حَیَاةً طَیِّبَةً وَلَنَجْزِیَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا کَانُواْ یَعْمَلُونَ)).(2)

ومدح القرآن الرجال والنساء لا للذکورة أو الانوثة بل لمؤهلاتهم التکاملیة ولایمانهم.

 قال تعالی:

((إِنَّ الْمُسْلِمِینَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِینَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِینَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِینَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِینَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِینَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِینَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِینَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِینَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاکِرِینَ اللَّهَ کَثِیرًا وَالذَّاکِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِیمًا)).(3)

وهاجم القرآن من یتعرض للمؤمنین والمؤمنات بالاذی علی حد سواء قال تعالی:


1- سورة الحجرات، الآیة 13.
2- سورة النحل، الآیة 97.
3- سورة الاحزا ب، الآیة 35.

ص: 21

((وَالَّذِینَ یُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِینَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَیْرِ مَا اکْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُّبِینًا)).(1)

وکشف لهم عن صورة الآخرة وعرفهم بالنور الذی سیمیزهم عن غیرهم، قال تعالی:

((یَوْمَ تَرَی الْمُؤْمِنِینَ وَالْمُؤْمِنَاتِ یَسْعَی نُورُهُم بَیْنَ أَیْدِیهِمْ وَبِأَیْمَانِهِم بُشْرَاکُمُ الْیَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِی مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِینَ فِیهَا ذَلِکَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِیمُ)).(2)

وجعل موازین الفلاح قائمة علی الصلاة والزکاة والأمر بالمعروف والنهی عن المنکر ورسم ابعاد العلاقة بین الرجل والمرأة بانها علاقة ولاء من اجل خدمة دین الله، قال تعالی:

((وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِیَاء بَعْضٍ یَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَیَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنکَرِ)).(3)

وجعل الخیبة فی عکس ذلک تماماً خیبة واضحة لکلا الجنسین، قال تعالی:

((الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُم مِّن بَعْضٍ یَأْمُرُونَ بِالْمُنکَرِ وَیَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَیَقْبِضُونَ أَیْدِیَهُمْ نَسُواْ اللّهَ فَنَسِیَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِینَ هُمُ الْفَاسِقُونَ)).(4)

وقال أیضاً:

((وَعَدَ الله الْمُنَافِقِینَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْکُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِینَ فِیهَا)).(5)


1- سورة الاحزاب، الآیة 58.
2- سورة الحدید، الآیة 12.
3- سورة التوبة ، الآیة 71.
4- سورة التوبة، الآیة 67.
5- سورة التوبة، الآیة 68.

ص: 22

وقال أیضاً:

((یَوْمَ یَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِینَ آمَنُوا انظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِن نُّورِکُمْ)).(1)

والقی بمسؤولیة اعالة المرأة وتأمین نفقاتها علی الرجال وخفف علیها فی عبادتها فهی لا تقضی صلاتها ولکن تقضی صومها، بل انه تعهد لها بالحمایة والرحمة کما جاء فی الحدیث الشریف عن الإمام الصادق علیه السلام:

«ان الله تبارک وتعالی علی الاناث أرأف منه علی الذکور».(2)

وضربها الله مثلاً للرجال والنساء علی حد سواء قال تعالی:

((وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِّلَّذِینَ آمَنُوا اِمْرَأَةَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِی عِندَکَ بَیْتًا فِی الْجَنَّةِ وَنَجِّنِی مِن فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِی مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِینَ (11) وَمَرْیَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِی أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِیهِ مِن رُّوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِکَلِمَاتِ رَبِّهَا وَکُتُبِهِ وَکَانَتْ مِنَ الْقَانِتِینَ)).(3)

((ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِّلَّذِینَ کَفَرُوا اِمْرَأَةَ نُوحٍ وَاِمْرَأَةَ لُوطٍ)).(4)

وکرّم الإسلام الأم وجعل الجنة تحت أقدامها وامر ببرها والاحسان إلیها. فقد جاء فی الحدیث الشریف:

«الجنة تحت أقدام الأمهات».

وقال تعالی:


1- سورة الحدید، الآیة 13.
2- الکلینی، الکافی، ح 6، ص 6.
3- سورة التحریم، الآیة 11-12.
4- سورة التحریم، الآیة 10

ص: 23

((وَوَصَّیْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَیْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَی وَهْنٍ)).(1)

ومن محصلة ذلک کله کانت (النساء شقائق الرجال) کما عبر الحدیث الشریف فبدأت المرأة المسلمة تشعر ان لها کیاناً مستقلاً وان علیها واجبات ولدیها حقوق وانها تتنافس مع الرجل من أجل الوصول إلی رضا الخالق وتحصیل النعیم الاخروی.

((إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِی نَعِیمٍ (22) عَلَی الْأَرَائِکِ یَنظُرُونَ (23) تَعْرِفُ فِی وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِیمِ (24) یُسْقَوْنَ مِن رَّحِیقٍ مَّخْتُومٍ (25) خِتَامُهُ مِسْکٌ وَفِی ذَلِکَ فَلْیَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ)).(2)

وبهذا بدأنا نلمس حضوراً جدیداً للمرأةلم یکن سابقاً فقد شارکت فی البیعة (آیة 13، سورة الممتحنة)، وشارکت فی الهجرة (الآیة 10، سورة الممتحنة)، وکانت حاضرة فی الحروب والغزوات فهذه امیمة بنت القیس بن ابی الصلت الغفاری تعالج مرضی وجرحی المسلمین وتلک نسیبة المازنیة تقاتل فی المعرکة دفاعاً عن رسالتها ودینها وتحامی عن رسول الله یوم أحد وکانت تقی الرسول صلی الله علیه وآله وسلم حتی اصابتها جراحات کثیرة.. یقول الواقدی فی المغازی:

وکن جئن (بعد معرکة أحد) أربع عشرة امرأة منهن فاطمة بنت رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم یحملن الطعام والشراب علی ظهورهن ویسقین الجرحی ویداوینهم.

کما ظهر خطاب جدید للمرأة فبدأت مطالبات وتصریحات واخذت النساء المسلمات یطرحن افکارهن وما یجول فی خاطرهن علی القیادة العلیا المتمثلة بالرسول


1- سورة لقمان الایه 14.
2- سورة المطففین، الآیات 22 - 26.

ص: 24

صلی الله علیه وآله وسلم دونما ادنی حرج واصبحت المرأة تطالب بحقوق وامتیازات أکثر ومن هذه الصور مطالبة اسماء بنت یزید الانصاریة، فقد جاء فی المأثور انها اتت الرسول صلی الله علیه وآله وسلم وهو بین اصحابه صلی الله علیه وآله وسلم، فقالت له: بأبی أنت وأمی انی وافدة النساء إلیک، واعلم نفسی لک الفداء انه ما من امرأة کائنة فی شرق ولا غرب سمعت بمخرجی هذا إلا وهی علی مثل رأیی، ان الله بعثک بالحق إلی الرجال والنساء فآمنا بک وبالهک الذی ارسلک، واِنّا - معشر النساء - محصورات مقسورات، قواعد بیوتکم ومقضی شهواتکم وحاملات أولادکم وانکم - معشر الرجال - فُضلتم علینا بالجمعة والجماعات وعیادة المرضی وشهود الجنائز والحج بعد الحج وأفضل من ذلک الجهاد فی سبیل الله. وان الرجل منکم إذا خرج حاجاً أو معتمراً أو مرابطاً حفظنا لکم أموالکم وغزلنا لکم اثوابکم وربینا لکم أولادکم فما نشارککم فی الأجر یا رسول الله؟

التفت النبی صلی الله علیه وآله وسلم إلی أصحابه وقال: هل سمعتم مقالة امرأة قط احسن من مساءلتها فی أمر دینها من هذه؟(1) فاجابه الصحابة: یا رسول الله ما ظننا ان امرأة تهتدی إلی مثل هذا.

ومطالبة أم سلمة اذ تسأل رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم: یا رسول الله لا اسمع الله ذکر النساء فی الهجرة بشیء فن_زلت الآیة:

(( فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّی لاَ أُضِیعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنکُم مِّن ذَکَرٍ أَوْ أُنثَی بَعْضُکُم مِّن بَعْضٍ فَالَّذِینَ هَاجَرُواْ وَأُخْرِجُواْ مِن دِیَارِهِمْ وَأُوذُواْ فِی سَبِیلِی وَقَاتَلُواْ وَقُتِلُواْ لأُکَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَیِّئَاتِهِمْ وَلأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ


1- الطباطبائی، تفسیر المیزان، ج 2، ص 350.

ص: 25

تَجْرِی مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ ثَوَابًا مِّن عِندِ اللّهِ وَاللّهُ عِندَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ)).(1)

وهذه الآیات نزلت فی رکب الفواطم (فاطمة بنت اسد، وفاطمة بنت محمد صلی الله علیه وآله وسلم، وفاطمة بنت الزبیر) اللائی هاجرن مع علی بن أبی طالب بعد الرسول صلی الله علیه وآله وسلم، ولحقت بهم فی ضجنان أم ایمن ونفر من ضعفاء المؤمنین فساروا وهم یذکرون الله فی جمیع أحوالهم حتی لحقوا بالنبی صلی الله علیه وآله وسلم.(2)

یروی البخاری ومسلم عن أبی سعید الخدری قال: «جاءت امرأة إلی رسول الله صلی الله علیه وسلم فقالت: یا رسول الله! ذهب الرجال بحدیثک، فاجعل لنا من نفسک یومًا نأتیک فیه، تعلمنا مما علمک الله. قال: اجتمعن یوم کذا وکذا، فاجتمعن، فأتاهنَّ النبی صلی الله علیه وسلم، فعلمهنَّ مما علمه الله. فهذه امرأة من الصحابیات تأتی الرسول صلوات الله علیه بجرأة أدبیة مشکورة وتخاطبه برباطة جأشٍ وتعرض علیه مطالیبها ومطالب النساء الاخریات وتحظی بالاجابة!. وهذا بحد ذاته ارتقاء فی سلم التطور الفکری والوعی النسائی.

وبدأت المرأة تشارک فی التغییر الاجتماعی عبر ازاحة الظواهر السلبیة التی کانت موجودة آنذاک کظاهرة الظهار کما ورد فی سورة المجادلة:

(( قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِی تُجَادِلُکَ فِی زَوْجِهَا وَتَشْتَکِی إِلَی اللَّهِ وَاللَّهُ یَسْمَعُ تَحَاوُرَکُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِیعٌ بَصِیرٌ (1) الَّذِینَ یُظَاهِرُونَ مِنکُم مِّن نِّسَائِهِم مَّا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ


1- سورة آل عمران، الآیة 195.
2- الطباطبائی، المیزان، ج 4، ص 95.

ص: 26

أُمَّهَاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِی وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَیَقُولُونَ مُنکَرًا مِّنَ الْقَوْلِ وَزُورًا وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ)).(1)

وإذا کانت بدایة التغییر الإنسانی تبدأ من تغییر العقائد والأفکار فمعنی ذلک ان العقیدة الإسلامیة قد حملت أساس التغییر الأولی للمرأة والرجل علی حد سواء، فلم تنطلق  المرأة بمفردها نحو الکمال والتکامل بل کانت مع الرجل فی مسیرة الدعوة والتزکیة، فإذاً هو تغییر شامل کاسح لکل القیم الجاهلیة التی تُبنی علی أساس الصورة والجنس، ولئن کان الإسلام قد رسم اطار الحیاة الخاصة للمرأة فی دائرة حیاتها الزوجیة والاسریة  فکانت هناک تباینات ظاهریة فی بعض الحقوق فان هذا لا یعد موشرا ًعلی التمییز ضد المرأة لان الإسلام ینطلق من رؤیة شاملة واسعة للمجتمع کله وعلی اساس العدالة والمساواة ولیس المساواة فقط (وان کانت المطالبة الان تدور حول التشابه قبل المساواة والعدالة!).

وبهذا کان ظهور الإسلام منعطفاً کبیراً فی حیاة المرأة والرجل علی حد سواء.. فالإنسان الجاهلی الذی آمن بالاسلام اخذ یعیش همَ الرسالة والدین.. واصبح ذو هدف عالمی فی نشر الإسلام فی ارجاء المعمورة، وشعر الرجل والمرأة بانهما معنیان بشؤون المجتمع واعمار الکون وان الارتقاء الذاتی والاجتماعی یتحقق عن طریق تبنی القیم الدینیة العلیا ولیس علی أساس المتعة المادیة الرخیصة أو العادات الجاهلیة.

وفی هذه الحقبة الزمنیة القصیرة لمعت اسماء فی سماء الرسالة وازهرت نجوم لا تضاهی وکانت هؤلاء النساء هن القدوة الحسنة الصالحة للاقتداء وهن یعبرن عن الإسلام کمنظومة صالحة لقیادة الأمة واعداد النموذج النسائی الرفیع المتسامی علی الشهوات والغرائز والذی یعیش غایات علیا تتمثل فی رضا الله وتحصیل الدار الآخرة


1- سورة المجادلة، الآیة 1-2.

ص: 27

ونصرة الرسالة.. وتأتی السیدة خدیجة بنت خویلد أم المؤمنین کنموذج سامی لامرأة ثریة انفقت ما لدیها من أجل نصرة عقیدة امنت بها، نموذج لامرأة قویة الشخصیة صمدت أمام حراب المجتمع وبغض نساءه وواست فقراء المسلمین بما عاشته من جوع أیام الحصار القاسی...

وکانت فاطمة الزهراء علیها السلام بضعة الرسول صلی الله علیه وآله وسلم نجماً زاهرا فی سماء العقیدة. هذه المرأة التی عاشت عمراً قصیراً لکنها کانت مع الرسالة وتعیش هم الرسالة کله حتی سمّاها أبوها النبی القائد صلی الله علیه وآله وسلم بأم أبیها.. فقد کانت الزهراء نموذجاً لامرأة تشارک فی الحیاة الثقافیة من خلال ما کان لدیها من حلقات ثقافیة تقیمها لنساء المدینة حیث تعلمهن شؤون دینهن وترد فیها علی اسئلتهن(1).

ثم کانت هی النموذج السیاسی من خلال مشارکتها فی حمل الهم السیاسی وکانت هی النائبة عن النساء المسلمات فی مؤتمر المباهلة. ثم انها علیها السلام کانت ذات حضور اجتماعی واسع تشهد لها به سورة الدهر فیما ورد فی فضائلها الکثیرة التی لا مجال للحدیث عنها الآن، بل انه حتی فی طریقة تعامل الرسول صلی الله علیه وآله وسلم معها فی اکرامه لها وقیامه لها واعانته لها فی شؤونها البیتیة لهونموذج لتبدیل صورة الکراهة التی کانت تلاقی بها الانثی فی المجتمع الجاهلی الی صورة انسانیة عظیمة.

ان هذه النماذج العلیا کانت تعبیراً واضح المعالم عن اطروحة الرسالة وما جاء به الإسلام الجدید بالنسبة للمرأة وما یرید أن تکون علیه.

وکانت هناک نماذج نسائیة رفیعة کسمیة أم یاسر.. الشهیدة الاولی.. والتی


1- فکانت أول المدارس الثقافیة فی الإسلام فی المدینة وبذلک قادت الحرکة الفکریة الأولی للنساء المسلمات.

ص: 28

یبشرها الرسول صلی الله علیه وآله وسلم مع زوجها وولدها بالقول: صبراً آل یاسر ان موعدکم الجنة.. ربما لم تصل سمیة إلی مرتبة الوعی الفکری الموجود حالیاً عند نساءنا لکنها جسدت إیمانها فی صورة خالدة وفی سلوک عملی مثمر.

وواجهت هذه السیدة کما واجهت خدیجة علیها السلام وغیرها من المسلمات الأوائل شتی أنواع العنف السیاسی القاسی ضد المرأة المسلمة - کما هی الحال فی الرجل - لکنها  کانت ذات ارادة قویة فی الله وکشفت عن صلابتها وصمودها امام التحدیات.

وهذه «نسیبة المازنیة» التی کانت تخرج مع رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم فی غزواته، وکان ابنها معها، فأراد أن ینهزم ویتراجع، فحملت علیه، فقالت: یا بنی، إلی این تفر عن الله وعن رسوله، فردته.

فحمل علیه رجل فقتله، فأخذت سیف أبنها، فحملت علی الرجل فقتلته. فقال رسول الله صلی الله علیه وآله: بارک الله علیک یا نسیبة.

وکانت تقی رسول الله صلی الله علیه وآله، حتی أصابتها جراحات کثیرة.(1)

ویمکن القول ان هذه الصور العلیا للنساء قد اوضحت للمرأة ما لها وما علیها من حقوق وواجبات ومسؤولیات وبالتالی اخرجت المرأة من اطار الاستغراق الذاتی والانغماس فی شؤون الحیاة الخاصة إلی أفق الحیاة العامة التی هی للجمیع رجالاً ونساءاً وبذلک قدّمن النموذج العملی للصورة التی یریدها الإسلام للمرأة المسلمة.. والتی هی صورة علیا لا تستغرقها الشهوات والملذات بل تتسامی فی حجابها وعفافها وفی طلبها للعلم وتبحث فی الدائرة الحیاتیة الواسعة عن میادین سبق مع الرجل المسلم لتحصیل رضا الله والفوز بالجنة.


1- عن سفینة البحار، ج2، ص 585.

ص: 29

3 - المرأة فی عصر خلافة الشیخین

یبدأ هذا العصر منذ وفاة الرسول صلی الله علیه وآله وسلم عام 11ه_ حتی استشهاد أمیر المؤمنین علیه السلام فی عام 40ه_.. یتمیز هذا العصر بانه یبتدئ باحتجاج شدید اللهجة من قبل الزهراء بنت الرسول صلی الله علیه وآله وسلم علی الخلیفة الأول، تشارکها فی هذه المواجهة مفردات من النساء مع مفردات رجالیة بقیت ثابتة علی عهدها لرسول الله صلی الله علیه وآله وسلم یوم الغدیر.

وقد کان احتجاج الزهراء علیها السلام بشأن سلب حقها فی ارض فدک ولم تکن الأرض -کمنفعة شخصیة - هی السبب  الوحید فی الاحتجاج علی الحکومة آنذاک بل ارادت الزهراء ان تکشف للأمة الإسلامیة من خلال قضیة فدک بدایة الانحراف الذی تتعرض له الأمة وبدایة التزییف والاقصاء للنهج القرانی والذی بدا واضحاً فی سلب أمیر المؤمنین علیه السلام حقه فی الخلافة واستغلال انشغاله بتکفین الرسول ودفنه کی یثّبت الحکم خارج البیت النبوی بصورة تدل علی استغراق الناکثین للبیعة فی حمّی الدنیا وحمّی الجاهلیة المقیتة ونموذجاً للذوب فی الانا والذات بعیداً عن مصلحة الإسلام العلیا. ولم یکن هیناً علی ابنة الرسول صلی الله علیه وآله وسلم ان تقیم دعوی الاحتجاج علی الخلیفة ولکن کان لابد من حرکة کی یفهم الناس وعورة الطریق الذی دخلو فیه.. وابتدأ احتجاج الزهراء علیها السلام من خلال مواقف عدة مرة مع الخلیفة نفسه ومرة أمام الأمة نفسها.. لقد واجهت الخلیفة نفسه دون خوف أو تردد.. وانی یکون ذلک وهی بضعة الرسول التی یغضب البارئ لغضبها.. فقد روی عبد الله بن الحسن بإسناده عن آبائه علیهم السلام:

أنه لما اجتمع أبو بکر وعمر علی منع فاطمة الزهراء علیها السلام فدکاً، وبلغها ذلک، لاثت خمارها علی رأسها، واشتملت بجلبابها، وأقبلت

ص: 30

فی لمّة من حفدتها ونساء قومها، تطأ ذیولها، ما تخرم مشیتها مشیة أبیها رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم، حتی دخلت علی أبی بکر وهو فی حشد من المهاجرین والأنصار وغیرهم، فنیطت دونها ملاءة، فجلست، ثم أنَت أنّةً أجهش القوم لها بالبکاء، فارتج المجلس، ثم أمهلت هنیهة حتی إذا سکن نشیج القوم وهدأت فورتهم.

 قالت: ...

یا أیها الناس أعلموا أنی فاطمة، وأبی صلی الله علیه وآله وسلم أقول عوداً وبدءاً، ولا أقول غلطاً ولا أفعل ما أفعل شططاً.

(( لَقَدْ جَاءکُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِکُمْ عَزِیزٌ عَلَیْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِیصٌ عَلَیْکُم بِالْمُؤْمِنِینَ رَؤُوفٌ رَّحِیمٌ)).

فإن تعزوه، وتعرفوه تجدوه أبی دون نسائکم، وأخاً ابن عمّی دون رجالکم ... إلی اخر خطبتها العظیمة.(1)

وقد حاول الخلیفة استرضاءها لکنها اعلنت موقفها بصراحة بالقول:

أیها المسلمون! أأغلبُ علی إرثیه؟ یا ابن أبی قحافة! أفی کتاب الله أن ترث أباک ولا أرث أبی؟ لقد جئت شیئاً فرّیاً علی رسول الله!! أفعلی عمدٍ ترکتم کتاب الله، ونبذتموه وراء ظهورکم؟

إذ یقول:

((وَوَرِثَ سُلَیْمَانُ دَاوُودَ)).

وقال فیما اقتضّ من خبر یحیی بن زکریا (علیه السلام) إذ قال:

((فَهَبْ لِی مِن لَّدُنکَ وَلِیًّا (5) یَرِثُنِی وَیَرِثُ مِنْ آلِ یَعْقُوبَ)).


1- الخطبة موجودة بکاملها فی کتاب (بلاغات النساء) لابن طیفور وفی الاحتجاج للطبرسی وکتب اخری.

ص: 31

وقال:

((وَأُوْلُواْ الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَی بِبَعْضٍ فِی کِتَابِ اللّهِ إِنَّ اللّهَ)).

وقال:

((یُوصِیکُمُ اللّهُ فِی أَوْلاَدِکُمْ لِلذَّکَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَیَیْنِ)).

وقال:

((إِن تَرَکَ خَیْرًا الْوَصِیَّةُ لِلْوَالِدَیْنِ وَالأقْرَبِینَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَی الْمُتَّقِینَ)).

وزعمتم أن لا حظوة لی ولا إرث من أبی ولا رحم بیننا، أفخصکم الله بآیة من القرآن أخرج أبی محمد (صلی الله علیه وآله وسلم) منها؟ أم تقولون: أهل الملتین لا یتوارثان؟ أو لست أنا وأبی من أهل ملّة واحدة؟ أم أنتم أعلم بخصوص القرآن وعمومه من أبی وابن عمی؟ فدونکها مخطومة مرحولة تلقاک یوم حشرک، فنعم الحکم الله، والزعیم محمد (صلی الله علیه آله وسلم) والموعد القیامة، وعند الله الساعة یخسر المبطلون، ولا ینفعکم ما قلتم إذ تندمون، ولکل نبأ مستقر وسوف تعلمون من یأتیه عذاب یخزیه ویحلّ علیه عذاب مقیم.

((وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَی أَعْقَابِکُمْ وَمَن یَنقَلِبْ عَلَیَ عَقِبَیْهِ فَلَن یَضُرَّ اللّهَ شَیْئًا وَسَیَجْزِی اللّهُ الشَّاکِرِینَ)).

إیها بنی قیلة أأهضمَ تراث أبی؟ وأنتم بمرأی منی ومسمع؟ ومنتدی ومجمع؟ تلبسکم الدعوة، وتشملکم الخبرة، وأنتم ذوو العدد والعدةً، والأداة والقوة، وعندکم السلاح والجنّة توافیکم الدعوة فلا تجیبون، وتأتیکم الصرخة فلا تغیثون، وأنتم موصفون بالکفاح، معرفون بالخیر

ص: 32

والصلاح والنجب التی انتجبت والخیرة التی اختیرت، لنا أهل البیت، قتلتم العرب وتحملتم الکدّ والتعب وناطحتم الأمم وکافحتم البُهم، لا نبرح أو تبرحون، نأمرکم فتأتمرون، حتی إذا دارت بنا رحی الإسلام، ودرّ حلبُ الأیام، وخضعت نعرة الشرک، وسکتت فورة الإفک، وخمدت نیران الکفر، وهدأت دعوة الهرج، واستوسق نظام الدین، فأنّی حرتم بعد البیان؟ وأسررتم بعد الإعلان؟ ونکصتم بعد الإقدام؟ وأشرکتم بعد الإیمان؟ بؤساً لقوماً نکثوا إیمانهم من بعد عهدهم، وهمّوا بإخراج الرسول، وهم بدأوکم أول مرة، أتخشونهم فالله أحق أن تخشوه إن کنتم مؤمنین.

ألا قد أری ان قد أخلدتم إلی الخفض، وأبعدتم من هو أحق بالبسط والقبض، ورکنتم إلی الدعة، ونحوتم بالضیقة بعد السعة، فمججتم ما وعیتم، ..، فإن تکفروا أنتم ومن فی الأرض جمیعاً فإن الله لغنی حمید.

ألا وقد قلت ما قلت علی معرفة منّی بالخذلة التی خامرتکم والغدرة التی استشعرتها قلوبکم، ولکنها فیضة النفس ونفثة الغیظ وخور القناة، وبثة الصدور، وتقدمة الحجة، فدونکموها فاحتقبوها دبرة الظهر، نقبة الخفّ باقیة العار، موسومة بغضب الله وشنار الأبد، موصولة بنار الله الموقدة التی تطلّع علی الأفئدة، فبعین الله ما تفعلون، وسیعلم الذین ظلموا أی منقلب ینقلبون، وأنا ابنة نذیر لکم بین یدی عذاب شدید.

فأجاب أبی بکر قال: یا ابنة رسول الله! لقد کان أبوک بالمؤمنین عطوفاً کریماً، ورؤوفاً رحیماً، وعلی الکافرین عذاباً ألیماً، وعقاباً عظیماً، إن عزوناه وجدناه أباک دون النساء، وأخاً لبعلک دون الإخلاء، آثره علی کل حمیم، وساعده فی کل أمر جسیم، لا یحبکم إلا کل سعید، ولا یبغضکم إلا کلّ شقی بعید، فأنتم عترة رسول

ص: 33

الله (صلی الله علیه وآله وسلم) الطیبون، والخِیرة المنتجبون، علی الخیر أدلّتنا، وإلی الجنة مسالکنا، وأنتِ یا خیرة النساء، وابنة خیر الأنبیاء، صادقة فی قولک، سابقة فی وفور عقلک، غیر مردودة عن حقک، ولا مصدودة عن صدقک، والله ما عدوت رأی رسول الله، ولا عملت إلا بإذنه، وأن الرائد لا یکذب أهله، وإنی أشهد الله وکفی به شهیداً، إنی سمعت رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم) یقول: نحن معاشر الأنبیاء لا نوّرث ذهباً ولا فضة ولا داراً ولا عقاراً، وإنما نورث الکتاب والحکمة، والعلم والنبوة، وما کان لنا من طعمة فلولیّ الأمر بعدنا أن یحکم فیه بحکمه، وقد جعلنا ما حاولته فی الکراع والسلام، یقاتل بها المسلمون ویجاهدون الکفّار.. وذلک بإجماع من المسلمین!! لم أتفرد به وحدی، ولم استبد بما کان الرأی عندی، وهذه حالی ومالی، هی لک وبین یدیک لا نزوی عنک ولا ندخّر دونک، وأنت سیدة أمة أبیک، والشجرة الطیبة لبنیک، لا ندفع مالک من فضلک، ولا نوضع من فرعک وأصلک، حکمک نافذ فیما ملکت یدای، فهل ترین أن أخالف فی ذلک أباک (صلی الله علیه وآله وسلم)؟

فقالت (سلام الله علیها):

سبحان الله! ما کان أبی رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم عن کتاب الله صادفاً ولا لأحکامه مخالفاً، بل کان یتبع أثره، لا ویقتنی سوره، أفتجمعون الی الغدر اعتلالاً علیه بالزور والبهتان وهذا بعد وفاته شبیه بما بغی له من الغوائل فی حیاته فهذا کتاب الله، حکماً عدلاً وناطقاً فصلاً، ویقول:

((یَرِثُنِی وَیَرِثُ مِنْ آلِ یَعْقُوبَ))؛

((وَوَرِثَ سُلَیْمَانُ دَاوُودَ))،

فبیّن الله عز وجل فیما وزع علیه من الأقساط وشرع من الفرائض والمیراث،

ص: 34

وأباح من حظ الذکران والإناث ما أزاح به علّة المبطلین وأزال التظنّی والشبهات فی الغابرین کلا بل سولت لکم أنفسکم أمراً، فصبر جمیل، والله المستعان علی ما تصفون.

فقال لها أبو بکر: صدق الله، وصدق رسوله، وصدقت أبنته، أنتِ معدن الحکمة، وموطن الهدی والرحمة، ورکن الدین، وعین الحجة، ولا أبعد صوابک، ولا أنکر خطابک، هؤلاء المسلمین بینی وبینک، قلدونی ما تقلدت، وباتفاق منهم أخذت ما أخذت، غیر مکابر ولا مستبد، ولا مستأثر، وهم بذلک شهود.

فالتفت فاطمة (علیها السلام) إلی الناس، وقالت:

معاشر المسلمین المسرعة إلی قیل الباطل، المغیضة علی الفعل القبیح الخاسر، أفلا یتدبرون القرآن أم علی قلوب أقفالها؟ کلا، بل ران علی قلوبکم ما أسأتم من أعمالکم فأخذ بسمعکم وأبصارکم، ولبئس ما تأولتم، وساء ما به أشرتم، وشرّ ما منه إعتصبتم، لتجدنّ والله محمله ثقیلاً ..، إذا کشف لکم الغطاء، وبان ما ورائه الضرّاء، وبدا لکم من ربکم ما لم تکونوا تحتسبون، وخسر هناک المبطلون.

ثم عطفت علی قبر النبی (صلی الله علیه وآله وسلم) وقالت:

ق_د ک_ان بع_دک أن_ب_اء وهنبث_ة

ل_و کنت شاهدها لم تکث_ر الخطب

إن_ا ف_قدن_اک ف_قد الأرض واب_لها

وختل قومک فاشهدهم ف_قد نکب_وا

ص: 35

وک_ل أه_ل ل_ه ق_رب_ی ومن_زلة

عن_د الإله علی الأذنی_ن مقت_رب

أب_دی رج_ال لن_ا نجوی ص_دورهم

لما مضیت وحالت دون_ک الت_راب

ت_جهمن_ا رج_ال واس_تخف ب_ن_ا

لم_ا ف_قدت وک_ل الإرث مغتصب

وکن_ت ب_درا ون_ورا ی_ستضاء ب_ه

علیک تن_زل م_ن ذی الع_زة الکتب

وک_ان جب_ری_ل بالآی_ات یؤنسن_ا

ف_قد ف_قدت وک_ل الخی_ر محتجب

ف_لیت ق_بلک کان الموت ص_ادفن_ا

لم_ا مضیت وح_الت دون_ک الکتب

إن_ا رزئن_ا ب_ما لم ی_رزّی ذو شجن

م_ن الب_ری_ة لا ع_جم ولا ع_رب

قال الراوی فما رأینا أکثر باکیاً ولا باکیة من ذلک الیوم.

والذی یتأمل هذا الحوار الساخن والذی کان امام الانصار والمهاجرین فانه یقف امام قوة امرأة وثباتها ولا یتردد اثنان فی القول ان الذی دفعها لمحاججة الخلفة الاول هو شعورها بالمسؤولیة وحرصها علی مصلحة الامة وعملا بفریضة الامر بالمعروف والنهی عن المنکر وجاء الخطاب ورسول الله راحل للتو والزهراء والامة معزاة برسول الله.

ترک هذا الموقف صداه علی المرأة المسلمة فها هی سیدة نساء العالمین وبضعة الرسول التی مَن آذاها فقد آذی رسول الله ومن اذی الرسول فقد اذی الله.. تغبن فی جملة حقوقها وهی تدافع عن حقها وتاتی بالشهود وتاتی بالادلة والبراهین ولکن لا من سامع! فکیف بالاخریات؟ ثم ما هو الموقف المطلوب هل هو السکوت امام کل الاخطاء والانحرافات ام هو الانزواء والانکماش ونبذ کل الصور المشرقة التی کانت للمرأة المسلمة فی عصرها الذهبی؟ وکیفما تکون الاجابات فلقد ترک الموقف المؤلم صداه وولّد عند المراة المسلمة ان الجاهلیة قد عادت وبدا العصر الذهبی للمرأة المسلمة یتحول الی طیف عابر الی الزمن الماضی وبذلک أُعلن عن بدایة تجمید الطاقات النسائیة التی تشکل نصف المجتمع.

وبوفاة الزهراء علیها السلام تغیب - والی امد - القدوة الصالحة المطلقة للنساء وتتسع المسافة بین ما هو مطلوب وما هو موجود الامر الذی یؤدی الی مزید من الانکماش الانزواء. ویمکن القول ان عصر الخلافة الراشدة هو عصر الافول بالنسبة للمرأة أو عصر القهقری فلا نسمع عن مطالبات أو احتجاجات الا الشیء الیسیر کما

ص: 36

حصل أبان حکم الخلیفة الثانی وهو یخطب فی المسلمین وینهاهم عن المغالاة فی المهور، فانبرت له امرأة من صف الناس، وقالت: ما ذاک لک.

فقال: ولمه؟

اجابت: لأن الله تعالی یقول:

((... وَآتَیْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنطَارًا فَلاَ تَأْخُذُواْ مِنْهُ شَیْئًا أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَاناً وَإِثْماً مُّبِیناً )).(1)

فرجع عمر عن رأیه، وقال: أخطأ عمر واصابت امرأة.

واما الحادثة الثانیة التی ترکت اثرها فی هذه الفترة فهی خروج السیدة عائشة زوج الرسول صلی الله علیه وآله وسلم علی أمیر المؤمنین وحدوث حرب الجمل فی البصرة، وقد اتسمت هذه الحالة بالامتداد - بین المدینة والبصرة - وعرّفها الکثیرون بانها فتنة لما خرجت (أم المؤمنین علی أمیر المؤمنین) وسمتها بنت الشاطئ بالمأساة!.( وقد انفردت «عائشة» بدور البطولة فی تلک المأساة المعروفة فی التاریخ باسم موقعة «الجمل» الذی رکبته أم المؤمنین علی رأس الجموع المعارضة الثائرة، وکانت هی القائدة العلیا للجیش: تصدر الأوامر، وتعین الأمراء، وتوجه الرسل بکتبها ذات الیمین وذات الیسار مصدرة بالعبارة التالیة:

«من عائشة ابنة أبی بکر، أم المؤمنین، حبیبة رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم، إلی ابنها الخالص فلان..».

«أما بعد فإن أتاک کتابی هذا فاقدم فانصرنا، فإن لم تفعل فخذّل للناس عن علی».


1- سورة النساء، الآیة 20.

ص: 37

ولباها من لبی، ورد علیها من یقول:

«... أما بعد فأنا ابنک الخالص إن اعتزلت ورجعت إلی بیتک، وإلا فأنا أول من ینابذک».

أو یقول:

«رحم الله أم المؤمنین! أُمرت أن تلزم بیتها، وأمرنا أن نقاتل، فترکت ما أمرت به وأمرتنا به، وصنعت ما أمرنا به ونهتنا عنه»!(1)

وقد نهتها ام سلمة حین أتت عائشة وقالت لها:

«أی خروج هذا الذی تخرجین؟... الله من وراء هذه الأمة!! لو سرت مسیر هذا ثم قیل لی: ادخلی الفردوس. لاستحییت أن ألقی محمداً هاتکة حجاباً قد ضربه علیّ!».

لکن «عائشة» لم ترجع... بل مضت فی طریقها. وتخلفت أمهات المؤمنین عنها. - وکن قد خرجن معها إلی مکة - مؤثرات أن یرجعن إلی «المدینة»، إلا «حفصة بنت عمر» فإنها قالت: «رأیی لرأی عائشة تبع».

وأرادت أن تخرج معها إلی البصرة. فحال أخوها «عبد الله بن عمر» دون ذاک، ولم تجد «حفصة» بداً من الاعتذار والقعود!.(2)

وکان لهذه الواقعة تأثیرها علی جمهورالمسلمین فی عدد الضحایا والذین کانوا یقدرون ب_15 الفا من حملة القرآن!! مضافا الیها تداعیات اخری کثیرة لا مجال لذکرها هنا. والمهم انها شوشت وشوهت المفاهیم حول وضع المرأة وعلاقتها بالسلطة والمجتمع،


1- الدکتورة عائشة عبد الرحمن، بنت الشاطئ، السیدة زینب، ص 62.
2- نفس المصدر السابق، ص 69.

ص: 38

کما  انها زعزعت هذه الواقعة  ثقة المرأة بنفسها وجعلتها فی حیرة من أمرها(1).

فما هو المطلوب منها وما هی أدوارها ومشارکتها فی الحیاة الاجتماعیة والسیاسیة وهل المطلوب لها ان تتحرک بهذا الاسلوب فی اشعال لهیب الحرب فی بلاد المسلمین ام المطلوب اللجوء الی لغة الحوار وحفظ الاولویات  الاساسیة للامة والتی تقوم علیها قیمها الدینیة العلیا، ومن جانب آخر فقد ضاعفت هذه الفتنة من نسبة التشوشات عند الرجل نفسه فی رؤیته للمرأة فما هی الصورة الصحیحة لحرکة المرأة فی المجتمع؟ ومَن الذی یرسم الابعاد الصحیحة لهذه الحرکة؟ وما هو الامتداد الواجب منها؟.

وإذا ما استعرضنا هذه الفترة التی امتدت اکثر من 30 عاماً تقریباً لوجدنا ان انحسار المرأة الطویل عن الحیاة العامة ثم مجیء حرب الجمل کخروج صریح عن المألوف والمطلوب ثم کانت هناک الفتوحات الکثیرة التی استغرقت المسلمین وجعلتهم یعیشون همّ الأراضی والغنائم (لا هم الرسالة والدین) الامر الذی افرز نوعاً من الابتعاد عن القیم الدینیة الأصلیة وتصویر الدین بانه مجرد طقوس جوفاء!.

فإذاً هناک تغیرات علی أکثر من صعید.. فهناک استغراق فی الجانب المادی والاقتصادی بسبب الفتوحات والتمایز الطبقی وهناک اهمال مقصود واقصاء واضح لأهل البیت علیهم السلام عن الحیاة العامة. کما ان هناک تغیرات اجتماعیة وفکریة کثیرة.

ویمکن ان نستقرئ الأسباب التی ادت إلی أفول العصر الذهبی للمرأة وإلی انحسار وجودها الفاعل فی الحیاة العامة إلی أمور منها:

1 - بقاء الن_زعة الجاهلیة فی النفوس، تلک الن_زعة التی تنظر إلی المرأة علی انها


1- هذه الواقعة شوهت تصورات المرأة عن ذاتها وعن الدین وعن القدوة.

ص: 39

مخلوق ثانوی للمتعة ولیس أکثر، وهی تابع للرجل ولیس کائناً مستقلاً. هذه الن_زعة التی بقیت رواسبها فی النفوس حیث ان الفترة الزمنیة بین فتح مکة سنة 8 ه_ بین وفاة الرسول صلی الله علیه وآله وسلم سنة 11ه_ کانت قصیرة الامد وقد دخل فی الإسلام خلق کثیر من طوائف ونماذج شتی فیهم المعاندین وفیهم السذج والجهال والحاقدین وبالتالی لم یتفهّم هؤلاء (فی هذا الظرف القصیر) رؤیة الإسلام حول المرأة ولم یجدو الوقت الکافی للاهتمام بامور الدین واکتفوا بقول الشهادتین دون وعی لمتطلباتها.. وهؤلاء عاشو منذ البدایة رؤیة ان فی انعزال النساء عن الحیاة المجتمعیة منفعة لهم فی قضاء شؤونهم وغیاب من یحاججهم ویناقشهم فی الشؤون العامة واقصاء للمنافس لهم فی سلطانهم الازلی وبعبارة أخری للابقاء علی الارث القدیم (ذکوریة المجتمع) مع الحفاظ علی کون المرأة مخلوق ثانوی اعجم لا یفقه أمور المجتمع ولا دور لها فیه. وللأسف بقی هذا الأرث متواصلاً حتی جاء إلینا ونحن فی القرن الحادی والعشرین!.

2 - انشغال المسلمین بأمر الفتوحات واتساع الدولة الإسلامیة بحیث اصبح ذلک شغلهم الشاغل وغاب ازاء ذلک اهتمامهم بالفکر والوعی الدینی وإلی هذا الأمر یشیر  الاستاذ مازن هاشم بالقول:

إن اتساع الدولة الإسلامیة ودخول اعراف کثیرة ونماذج شتی فی الإسلام قد أدی إلی تغییرات اجتماعیة فی نمط الحیاة واتساع المدن إلی غیر ذلک، ویضیف:

فی مثل هذا الجو بدأت المرأة انسحابها من المشارکة فی الحیاة العامة، وکان المجتمع فی الفترات اللاحقة یتکون فی غالبیته الساحقة - والتی اصبحت تشکل الواقع - من خلیط من البشر أصبح انسیاقهم للإسلام فی جزء منه نوعاً من التماشی الثقافی التقلیدی أکثر منه التزاماً فکریاً وإیمانیاً بحتاً.(1)


1- مازن هاشم، المنعطف، عدد 15/16، ص 9.

ص: 40

3 - اقصاء أهل البیت علیهم السلام عن الحیاة العامة بکل تشعباتها السیاسیة والثقافیة والاجتماعیة وهذا ما مهد لظهور الکثیر من الانحرافات وسهّل المروق عن النهج السلیم، مما أدی إلی اتساع الفارق بین النظریة والتطبیق. وإلی فرض الطوق حول اهل البیت وتحجیم ادوارهم الاساسیة طوال هذه المدة. ولقد وقع الخلفاء انفسهم فی اخطاء وزلات عکست حالة العجز عن فهم الرؤیة الاسلامیة الصحیحة فی الأمور التی اعترضت مسارهم مما جعلهم یستغیثون بأمیر المؤمنین علی علیه السلام مرات ومرات وهم القائلون: (اعوذ بالله من معضلة لیس لها ابا الحسن)(1). ولکنهم فی نفس الوقت حاصروا وجود أهل البیت علیهم السلام الفکری والثقافی والدینی فبقی الناس - غالبیتهم - فی جهلهم للاسلام واحکامه. فمثلاً صلاة المیت والتی صلوها مع الرسول صلی الله علیه وآله وسلم ملایین المرات لکنهم اختلفوا فی عدد تکبیراتها بعده!!.. وهذا هو السبب فی اختلاف الرؤی والمناهج فی وقتنا الحاضر فهناک من یری ان فی تعلیم النساء جنوناً وهناک من یری ان النساء تخرج من بیتها مرتین مرة لزوجها ومرة لقبرها وإذا ما تکلم أحد عن حقوق المرأة الحقیقیة فی الإسلام ومسؤولیاتها العظیمة ودورها فی زمن الانتظار فانه یُتهم ویُهاجم وینُبذ والله أعلم بعدها ماذا یحصل؟!.

علی هذا انکمشت المرأة وعاشت فراغاً فکریاً بعد الرسول صلی الله علیه وآله وسلم اقسی من الفراغ الفکری الذی عاشه الرجل وحیل بینها وبین فهم الدین الصحیح لضعف الصلة بین الناس ونساء أهل البیت علیهم السلام کالسیدة زینب علیها السلام وباقی الصالحات کأم سلمة (رض) الأمر الذی ابقی المرأة فی دائرة الوهم وضیق الافق وغیاب الوعی. وازاء امرأة کهذه ماذا نتوقع ان تکون النتائج؟ وهل هناک انتظار لانطلاقات نسویة أو ممارسات ثقافیة أو اسهامات أو ابداعات فی الصعید


1- تاریخ ابن کثیرج7 ص35.

ص: 41

الاجتماعی أو الفکری أو السیاسی؟.

إلی هذا یشیر الاستاذ مازن هاشم بالقول: ان المرأة شارکت فی الفترة الأولی عملیاً وعلی جمیع الاصعدة بحیث کان من غیر الممکن ان یتم عزلها عن عملیة الجهاد وهی التی کانت تشارک بشکل أساس فی مختلف فعالیات الحیاة والمجتمع بدءأً من عملیات اتخاذ القرارات وانتهاءاً بالمشارکة العملیة فی تنفیذها وذلک بحکم المنظومة السیاسیة والاجتماعیة الشوریة.. بینما تغیرت فی الفترات اللاحقة تلک المنظومة وضاقت إلی حد کبیر لتخرج منها شرائح کبیرة کان فی مقدمتها المرأة التی انعزلت شیئاً فشیئاً داخل جدران المنازل والقصور وساهم نمط الحیاة المیسر فی ذلک.(1)

وأبان خلافة امیر المؤمنین الامام علی بن ابی طالب علیه السلام وخاصة بعد انتهاء التحکیم  الذی حصل فی صفین. بدأ الامویون بترتیب اوضاعهم تمهیدا لاستیلاءهم علی الخلافة لاحقاً.. وقد حصلت انتهاکات کثیرة منها ما فعله العامری حیث قتل عاملا لعلی یقال له حسان بن حسان مع جمع من الموالین لأهل البیت وإلی هذا اشار الامام فی احدی خطبه بالقول:

هذا أخو عامر قد جاء الأنبار فقتل عاملها حسّان بن حسّان وقتل رجالاً کثیر أو نساءً، والله بلغنی انّه کان یأتی المرأة المسلمة والأخری المعاهدة فین_زع حجلها ورعائها ثم ینصرفون موفورین لم یکلم أحدٌ منهم کلماً، فلو أنَّ امرءاً مسلماً مات دون هذا أسفاً لم یکن علیه ملوماً بل کان به جدیراً.(2)

وهذ الخطبة تبین ألم الامام علیه السلام لما حصل للنساء وتکشف لنا عن المنحدر الذی سقطت فیه الامة.


1- مازن هاشم، المنعطف 15/16، ص 10.
2- عبد الحسین احمد الأمینی النجفی، الغدیر فی الکتاب والسنّة والادب، ج11، ص 17.

ص: 42

وقد اغار بسر بن ارطأة علی همدان وسبی نسائهم فکن اول مسلمات سبین فی الاسلام.(1)

وقد کانت هناک احتجاجات نسائیة علی السلوک الاموی منها احتجاج نساء من بنی کنانة علی قیام بسر بذبح ولدی عبید الله بن عباس.. قال ابن یونس: کان عبید الله بن العبّاس قد جعل ابنیه عبد الرّحمن وقثم عند رجل من بنی کنانة وکانا صغیرین فلمّا انتهی بُسر الی بنی کنانة بعث إلیهما لیقتلهما، فلمّا رأی ذلک الکنانی دخل بیته فأخذ السیف واشتدّ علیهم بسیفه حاسراً وهو یقول:

أللیث من یمنع حافات الدار

ولا یزال مصلتاً دون الدار(2)

إلا ف_ت_ی أروع غی_ر غ_دّار

فقال له بُسر: ثکلتک أمّک والله ما أردنا قتلک فِلمَ عرضتَ نفسکَ للقتل. فقال: أُقتل دون جاری فعسی أعذر عند الله وعند الناس.

فضرب بسیفه حتّی قُتل، وقدّم بُسرم الغلامین فذبحهما ذبحاً، فخرج نسوةٌ من بنی کنانة فقال قائلةٌ منهنَّ: یا هذا هؤلاء الرجال قتلت فعلامَ تقتل الولدان؟ والله ما کانوا یُقتلون فی الجاهلیّة ولا إسلام والله انّ سلطاناً لا یقوم إلا بقتل الرضَّع الصغیرة والمدره الکبیر، وبرفع الرّحمة وعقوق الأرحام لسلطان سوء فقال لها بُسر: والله لقد هممت أن أضع فیکنَّ السیف.

فقالت: تالله انّها لأخت التی صنعت، وما أنا بها منک بآمنة. ثمَّ قالت للنساء اللواتی حولها: ویحکنَّ تفرَّقن.(3)


1- نفس المصدر، ص21.
2- والصحیح: ولا یزال مصلتاً دون الجار.
3- عبد الحسین احمد الامینی النجفی، الغدیر فی الکتاب والسنّة والادب، ج11، ص22.

ص: 43

4 - المرأة فی العصر الأموی

واجه المجتمع الإسلامی فی العصر الأموی الکثیر من الضغوطات والتحدیات، فقد اتبع الأمویون سیاسة الترهیب ضد کل من لا یتبنی النهج الاموی والذی یقوم اساسا علی بغض علی بن ابی طالب علیه السلام وسبه علی المنابر!!. وبهذا بدات حقبة دمویة مقیتة تقوم علی تصفیة کل الموالین لآل البیت علیهم السلام. فقد کتب معاویة إلی ولاته فی جمیع الأمصار: «انظروا مَنْ قامت علیه البیّنة أنّه یحبّ علیّاً وأهل بیته، فامحوه من الدیوان، وأسقطوا عطاءه ورزقه»(1).

وکتب کتاباً آخر جاء فیه: «مَنْ اتّهمتموه بموالاة هؤلاء القوم، فنکِّلوا به، واهدموا داره»(2).

وقد صوّر الإمام محمّد الباقر (علیه السلام) تلک المأساة الدامیة بأقصر عبارة وأدقها حین قال:

«فقُتلت شیعتنا بکلِّ بلدة، وقطعت الأیدی والأرجل علی الظنّة، وکان منْ یُذکِّر بحبِّنا والانقطاع إلینا سُجن، أو نُهِبَ ماله، أو هُدِمَت داره، ثمّ لم یزل البلاء یشتدّ ویزداد إلی زمانِ عبید الله بن زیاد قاتل الحسین (علیه السلام)»(3).

وبهذا استشهد خلق کثیر کحجر بن عدی وعمرو بن حمق  الخزاعی ورشید الهجری وغیره.


1- ابن أبی الحدید، شرح نهج البلاغة، ط دار احیاء الکتب العربیة، بیروت، الطبعة الثانیة، 1387ه_، ج11، ص45.
2- المصدر السابق.
3- المصدر السابق، ص 43.

ص: 44

وکثیراً ما کان الانصار والموالین یمکثون بلا عطاء ولا ذنب لهم الا أنهم ینصرون أهل البیت علیهم السلام(1).

وکانوا (الامویون) إذا عصاهم أحد من المسلمین قطعوا عطاءه ولو کان العاصون بلدةً برمتها.(2)

واتبع الأمویون سیاسة الترغیب عبر اغداق الأموال لشراء الذمم ووضع الأحادیث المزیفة ونسبتها إلی الرسول صلی الله علیه وآله وسلم وهی التی تمسح عن أهل البیت وخاصة أمیر المؤمنین علیه السلام کل فضیلة وتهب فضائله إلی آل أمیة!!.

کما أثار معاویة الروح القبلیة والقومیة وبذلک اثیرت الصراعات والتمییز العنصری بین طبقات المجتمع الواحد. وعمد الامویون الی اتباع سیاسة الاقصاء لأهل البیت علیهم السلام عن الحیاة العامة وبکل الوسائل اینما کانوا وکیفما کانوا رجالاً ونساءاً. وعمل الامویون ایضا علی تجویع انصاراهل البیت واغداق الأموال الطائلة علی أعدائهم وعلی الشعراء الذین یمدحون بنی امیة وعلی وضّاع الأحادیث فقد اُعطی سمره بن جندب 400 ألف درهم لیجعل الآیة:

(( وَمِنَ النَّاسِ مَن یَشْرِی نَفْسَهُ ابْتِغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ)).

نازلة فی ابن ملجم ففعل!.(3)

واما عبد الرّحمان بن عوف فقد قسّم میراثه علی ستة عشر سهماً، فبلغ نصیب کلّ امرأة له ثمانین ألف درهم!.(4)


1- محمد مهدی شمس الدین، ثورة الحسین ، 68، نقلاً عن زیدان، التمدن الإسلامی.
2- نفس المصدر.
3- ابن ابی الحدید، شرح نهج البلاغة، ج 4، ص 73.
4- المسعودی، مروج الذهب، ج 3، ص 23.

ص: 45

وحصل مروان بن الحکم علی خمسمائة ألف دینار من موارد أفریقیة!.(1)

وحصل ابن العاص علی هدیّة مقدارها مائة ألف درهم!.(2)

کما حصل عبد الله بن خالد بن أسید علی هدیة مقدارها أربعمائة ألف درهم!.

وظهرت فی هذه الفترة الفرق المتعددة کالجبریة والقدریة والتی مارست دور المخدر فی شل الحرکة الثوریة عند الناس وجعلهم یرضخون للحاکم الظالم.

وبهذا یمکن وصف هذه المرحلة بانها فوضی فکریة دینیة مالیة اجتماعیة سیاسیة اشتدت بعد تنصیب یزید ولیاً للعهد واجبار الناس علی مبایعته.

وفی فوضی کهذه هل تجد المرأة الوقت الکافی  لبناء  ذاتها أو تفّهم مجریات الأمور واستقراء الساحة السیاسیة؟.

وإذا کانت المرأة قد اقصیت عن الحیاة العامة قبل ان یتشکل البیت الاموی ثم اصبحت اسیرة الجهل والتضلیل الفکری واخرس لسانها الخوف فاصبحت کائناً ثانویاً تابعاً غیر قادر علی القیام بأی دور وهذه الحال لا تخص المرأة وحدها بل تمس شرائح کثیرة من المجتمع بل وحتی الرجل نفسه.

یضاف إلی ذلک ما عاشه المجتمع من الاسترخاء والرکون إلی السکینة والراحة والانشغال بالدنیا بسبب الفتوحات الکثیرة التی اتسعت مع امتداد رقعة الدولة الإسلامیة وتداخل الاقوام الکثیرة واختلاطهم معها مما أدی إلی تبنی عادات وتقالید جدیدة لم تکن موجودة فانه من المحتم ان هذه الأمور تترک اثارها علی الحیاة الاجتماعیة کلها ولیس علی وضع المراة فحسب.

ویمکن رسم المشهد النسائی قبل الثورة من خلال عدة نماذج:


1- ابن الأثیر، الکامل فی التاریخ، ج 3، ص 91.
2- ابن قتیبة الدینوری، المعارف، دار إحیاء التراث العربی، بیروت، الطبعة الثانیة، 1390ه_، ص 84.

ص: 46

1. نموذج المرأة العام والذی هو امتداد لما ذکرناه فی وصف المرأة فی عصر الخلفاء. نموذج لامرأة مشغولة بحیاتها بعیدة عن الوعی الفکری والثقافی، لیست لها مشارکات اجتماعیة أو سیاسیة. مع وجود خوف یستولی علی الجمیع من النظام الأموی الفاشی. إذاً هی صورة لامرأة سلبیة متواریة عن الحیاة المجتمعیة خوفاً أو جهلاً أو رغبة. یشارکها نموذج لرجل لم یفهم الإسلام وغیر قادر علی استیعاب نظریته الصحیحة من أصحابه الأصلیین فهو یأخذ من هنا روایة تمجد معاویة  واخری من هناک تسحب من علی علیه السلام فضائله المنصوص علیها فی القرآن وروایة ثالثة تصارع للابقاء علی فضائل اهل البیت لاصحابها. وأمام هذا التشتت فی الأحادیث والروایات والاوضاع العامة المشحونة بحملات المطاردة والقتل والسجن والتشرید فالأفضل الجنوح إلی السلامة لتکون المرأة مفردة سلبیة تتلقی ما یفرغ فی جوف رأسها دون مناقشة أو فهم او رغبة فی التطور الذاتی.

2 . نموذج الجواری اللائی بدأت قصور بنی أمیة تمتلیء بهن وغالباً ما یتم استیرادهن من خارج بلاد المسلمین ومهمتهن الغوایة والإثارة، وقد کان لهن الباع الاکبر فی  ترویج صورة المرأة - الجسد - الشیء أو السلعة. وبهذا عملن علی ترسیخ  الصورة السلبیة للمرأة وفتحن ابواب المتعة والشهوة للرجال بسبب سهولة الحصول علیهن مما أدی إلی التبلد العقلی بسبب الافراط فی التفریغ الجنسی کما عزز الشک والریب فی العلاقات التی تقوم بین النساء والرجال!. الامر الذی ساهم فی تکریس المزید من الاقصاء والتبعیة بالنسبة للمراة. وقد جلب النخاسون الجواری من کل مکان لتباع فی أسواق المدن العربیة والاسلامیة.

3 . وإذا اردنا النظر إلی نساء القصر الأموی فاننا نجد نموذج النساء الجواری. المرأة الجسد والسلعة وإلی جانبهن نساء بنی أمیة.. نماذج لاسوأ النساء یتربعن فی قصور الخلافة والحکم ویتحکمن فی رقاب المسلمین ومنهن هند بنت عتبة آکلة الاکباد، ألم تبقر

ص: 47

هند أمّ أبیه (معاویة) فی أُحد بطن حمزة، وتمثّل به، وتمضع کبده، ثمّ أنشأت تقول:

شفیت من حمزة نفسی بأُح_د

حین بقرت بطنه عن الکبد؟!(1)

والتی لم یحک التاریخ أبداً عن امرأة فی مثل حقدها علی الإسلام وعلی آل الرسول وهی تمثل ادنی درجات الهبوط الانسانی لاعمالها الوحشیة التی تتأفف المرأة عنها ذاتیا!!. تقول عنها بنت الشاطئ: أتصرف الخلافة عن حفید «خدیجة» أم المؤمنین وبطلة الإسلام الأولی، إلی حفید «هند» آکلة الأکباد وبطلة الانتقام الوحشی فی موقعة «أُحد»؟ إن الإسلام لم یکن قد نسی بعد ما ناله من «هند» فی «أُحد»، وإن الجراح التی أحدثتها «هند» بالمسلمین لم تکن قد التأمت بعد. فما زال فیهم - یومئذ - أحیاء شهدوا «هنداً» حین ظهرت فی «مکة» تعیر قریشاً بهزیمتهم الشنعاء أمام فئة قلیلة من المؤمنین، انتصرت علی جیش لأبی سفیان - زوج هند وزعیم المشرکین - کامل العدة والعدد، وترکت علی الساحة الدامیة حول ماء «بدر» جثث الأبطال الصنادید من قوم «هند». وفی الحق أن «هنداً» أسلمت بعد ذاک کما أسلم زوجها عام الفتح. لکن هذا لم یمح صفحتها الأولی، ولم یحل دون نبز أبنائها «ببنی آکلة الأکباد».(2) وقد عجبت کثیراً لبعض الکتاب المسلمین الذین یقدمون هذه المراة المتوحشة علی انها قدوة النساء!! ومن البدیهی ان نساء المجتمع یتطلعن إلی من یتربعن علی کرسی الحکم ویتاثرن بهذا النموذج فما الذی یتعلموه من هند سوی الوحشیة والحقد الاسود؟!.

4 . ما بقی من الساحة الاجتماعیة بعد تفریغ غیر المسلمین منهم ینقسم إلی قسمین - کالساحة الرجالیة تماماً - فهناک الموالون لأهل البیت علیهم السلام وهناک المعادون ومن شارکوهم فی عدائهم وأکثر هؤلاء من الأمویین المتعلقین بسدة الحکم


1- العلامة السید مرتضی العسکری، معالم المدرستین، ص452.
2- الدکتورة عائشة عبد الرحمن، السیدة زینب، ص 79 - 80.

ص: 48

ورجالات البلاط الاموی. أمّا الموالون فقد عانوا الامرّین فی عهد معاویة بالذات وما بعده من خلفاء بنی أمیة(1)، إذ قامت السیاسیة الأمویة علی التنکیل باتباع أهل البیت ومحاصرتهم والتضییق علیهم فی الشؤون المعاشیة وإقامة الحد علیهم لا لذنب سوی ولائهم لأهل البیت علیهم السلام ولم تقبل شهادتهم بل کانت السلطات الأمویة تطاردهم وتقتلهم شر قتلة کما فعلت بمیثم التمار ورشید الهجری وحجر بن عدی وغیرهم.

و المرأة الموالیة عاشت مع الرجل هذه الظروف العسیرة من التجویع والمطاردة والتشرید والسجون. فإذا لم تقبض السلطات الأمویة علی الرجل المسلم أخذت زوجته أو أمه أو أخته اسیرة حتی یسلّم نفسه، أی تعتمدها کورقة ضاغطة، کما فعلوا مع زوجة عمرو بن حمق الخزاعی وهی آمنة بنت الشرید إذ إنّ عمراً فر من السلطة الأمویة فکتب معاویة إلی ابن زیاد ان احمل إلی زوجته فالقی القبض علی زوجته آمنة بنت الشرید وحملها أسیرة من الکوفة إلی الشام إلی معاویة فسجنت حتی جیء برأس زوجها عمرو إلی الشام بعد ان القی القبض علیه فی غار قرب الموصل من قبل والی معاویة علیها، وطعن بتسع طعنات ثم قطع رأسه فکان رأسه أول رأس حمل فی الاسلام(2) وحمل علی قناة إلی معاویة فی الشام فقال معاویة للحرس انطلق بهذا الرأس وضعه فی حجر زوجته آمنة واحفظ ما تقول فلم تشعر وهی بالسجن إلا ورأس زوجها عمرو فی حجرها فضمته إلی صدرها وبکت وقالت غیبتموه عنی طویلاً واهدیتموه إلی قتیلاً فأهلاً وسهلاً بها من هدیة غیر قالیة ولا مقلیة ثم قالت للحرس أبلغ معاویة عنی ما


1- وإلی هذا یشیر الإمام الباقر علیه السلام (وقتلت شیعتنا بکل بلدة وقطعت الأیدی والأرجل علی الظنة وکل من یذکر بحبنا والانقطاع إلینا سجن أو نهب ماله أو هدمت داره ثم لم یزل البلاء یشتد ویزداد فی زمان عبید الله بن زیاد قاتل الحسین علیه السلام.
2- تاریخ ابن کثیر، 8:48.

ص: 49

أقول وقل له یتّم الله ولدک واوحش منک أهلک ولا غفر لک ذنبک وعجل لک الویل من نقمه وطلب منک بدمه فلقد جئت شیئاً فریاً وقتلت باراً تقیاً فلما سمع کلامها أمر باحضارها وصار یشتمها ویتهددها.(1)

وهذا التعامل السیئ مع المرأة المسلمة کورقة ضاغطة للحصول علی أفراد ومعلومات لیمثل درجة خطیرة من العنف السیاسی الموجه ضدها ویکشف لنا عن لؤم النفوس وحقدها علی المسلمین والمسلمات فما معنی حملها للشام؟ وما معنی القاء الرأس فی حجرها؟ وما معنی تسجیل کلماتها؟ وهذه صور مارس مثلها طغاة العصر الحدیث ضد المسلمین والموالین فی بقاع شتی من العالم.

الی هذا یشیر العلامة الامینی بالقول: إن معاویة أوَّل مَن قتل نساء کلّ من والی أهل بیت النبیّ (علیهم السلام) وذبح صبیانهم ونهب أموالهم، ومثَّل بقتلاهم وشتَّت شملهم، وفرَّق جمعهم، واستأصل شأفتهم، ونفاهم عن عُقر دورهم، وأبادهم تحت کلّ حجر ومدَر؟!(2)

هذه هی الصورة العامة للنساء الموالیات لآل البیت ولا ننسی ان معاناة الأم الموالیة کانت شاقة للغایة، فلعن أمیر المؤمنین علی بن أبی طالب علیه السلام علی المنابر کان سُنّة سنّها معاویة ولا یکاد وعاظ البلاط الاموی یجدون سیئة إلا ونسبوها إلیه علیه السلام ویذکر المؤرخون ان عمر بن عبد العزیز کان قبل تولیه الخلافة یتساءل عن سبب هذا السب للإمام وقد نزلت فیه آیة کذا وآیة کذا!. وهذه مؤشرات تدل علی حجم الصراعات الداخلیة  التی عاشتها المرأة الموالیة والتی منها صراع سیاسی مع الحکم الأموی الذی یطارد الموالین ویعتقلهم ویسجنهم وصراع تربوی فی تنشئة الاولاد


1- الکاشی، ثورة الإمام الحسین علیه السلام بین السائل والمجیب، ص 79.
2- عبد الحسین أحمد الأمینی النجفی، الغدیر فی الکتاب والسنّة والادب، ج11، ص 73.

ص: 50

علی الولاء لآل البیت علیهم السلام وصیانة عقائدهم وصراع فکری وصراع اجتماعی وصراع نفسی مستمر یحمل تبعات کل هذه الضغوطات.

والمرأة التی تعیش کل هذه التحدیات الصعبة وفی اجواء هذا المناخ القاسی هل ستجد الوقت الکافی لتهتم ببناء شخصیتها أو تتاح لها فرصة المشارکة المجتمعیة فی أمور نافعة؟. ورغم کل هذه الظروف الصعبة التی عاشتها المرأة الموالیة فان العنف السیاسی المؤلم ما کان لیوهن عزیمتها ویزعزع ولاءها اذکانت تنشئة الأولاد علی الولاء لآل البیت والتبری من أعدائهم هو أخطر واقدس مهماتها وإلیها تعود ثمرة الأجیال الموالیة اللاحقة، معنی هذا انها کانت علی یقین بصدق عقیدتها ونهجها.. ثابتة فی مواقفها.. ذات إرادة قویة فی مواجهة التحدیات الصعبة. ثم انها ما شغلتها الأمور التی شغلت غیرها من النساء من الاهتمام بیسر الحیاة لتنسی َمهماتها الاساسیة ولم تبق أسیرة همومها واشجانها واحزانها امام مظالم بنی امیة التی تهد الجبال الرواسی لتصبح کائناً سلبیاً غیر قادر علی النماء بل علی النقیض من ذلک کانت تجد ان مهامها کثیرة ومقدسة وعلیها ان تؤدیها لتدخل السرور علی سیدة نساء العالمین التی مثلت المرأة المعصومة الکاملة ولکنها ایضا المرأة المظلومة المغبون حقها والتی کان غیاب قبرها دلیلاً علی استدامة مظلومیتها وتعالی صرختها الابدیة فی طلب النصرة. وبهذا نجد الصورة بکل ما فیها من مظلومیة او عنف سیاسی قاسٍ من جانب لکنها ایضا مؤشر قوة واقتدار یعرض الطاقة الانسانیة العظیمة الکامنة عند المرأة من جانب آخر. ولعل صورة الوافدات علی معاویة تکشف لنا عن ذلک وهن الموالیات لاهل البیت والناصرات لعلی إبّان حکمه واللائی استدعاهن معاویة کی ینال من عقیدتهن فی الولاء فانقلب السحر علی الساحر ومنهن سودة الهمدانیة ودارمیة الجحونیة والزرقاء بنت عدی وغیرهن.

فقد حجّ معاویة سنة من سنیّه، فسأل عن امرأة من بنی کنانة کانت تن_زل بالحجون، یقال لها «دارمیّة الحجون» وکانت سوداء کثیرة اللحم، فأخبر بسلامتها، فبعث

ص: 51

إلیها، فجیء بها، فقال: ما حالک یا ابنة حام؟ قالت: لست لحام إن عبتنی، إنّما أنا امرأة من بنی کنانة، ثمت من بنی أبیک.

قال: صدقت، أتدرین لم بعثت إلیک؟

قالت: لا یعلم الغیب إلا الله.

قال: بعثت إلیک لأسألک، علامَ أحببت علیاً وأبغضتنی، ووالیته وعادیتنی؟

قالت: أو تعفینی یا أمیر المؤمنین.

قال: لا أعفیک.

قالت: أما إذا أبیت، فأنی أحببت علیاً علی عدله فی الرعیة، وقسمه بالسویة، وأبغضتک علی قتال من هو أولی منک بالأمر، وطلبتک ما لیس لک بحق. ووالیت علیاً علی ما عقد له رسول الله من الولاء، وعلی حبه للمساکین، وإعظامه لأهل الدین، وعادیتک علی سفکک الدماء، وشقک العصا وجورک فی القضاء، وحکمک بالهوی.

قال: فلذلک انتفخ بطنک.

قالت: یا هذا، بهند والله یضرب المثل فی ذلک لا بی.

قال معاویة: یا هذه، اربعی، فانا لم نقل إلا خیرا، فرجعت وسکنت.

فقال لها: یا هذه، هل رأیت علیاً؟

قالت: أی والله لقد رأیته؟

قال: فکیف رأیته.

قالت: رأیته والله لم یفتنه الملک الذی فتنک، ولم تشغله النعمة التی شغلتک.

قال: هل سمعت کلامه؟

قالت: نعم والله، کان یجلو القلوب من العمی کما یجلو الزیت الصدأ.

ص: 52

قال: صدقت، فهل لک من حاجة؟

قالت: أو تفعل إذا سألتک؟ قال: نعم.

قالت: تعطینی مائة ناقة حمراء فیها فحلها وراعیها.

قال: تصنعین بها ماذا؟

قالت: أغذو بألبانها الصغار، واستحیی بها الکبار، واکتسب بها المکارم، وأصلح بها بین العشائر.

قال: فان أعطیتک ذلک، فهل أحلّ عندک محل علیّ؟

قالت: ماء ولا کصدّاء، ومرعی ولا کالسعدان، وفتی ولا کمالک.

ثم قال: أما والله لو کان علی حیّاً ما أعطاک منها شیئاً.

قالت: لا والله ولا وبرة واحدة من مال المسلمین.

واستدعی معاویة امرأة من أهل الکوفة تسمی «الزرقاء بنت عدیّ» کانت تعتمد الوقوف بین الصفوف وترفع صوتها صارخة، یا أصحاب علی، تسمعهم کلامها کالصوارم، مستحثة لهم بقول لو سمعه الجبان لقاتل، والمدبر لأقبل، والمسالم لحارب، والفار لکرّ، والمتزلزل لاستقر.

فلما قدمت علی معاویة، قال لها: هل تعلمین لم بعثت إلیک؟

قالت:  لا یعلم الغیب إلا الله سبحانه وتعالی.

قال: ألست الراکبة الجمل الأحمر یوم صفین، وأنت بین الصفوف توقدین نار الحرب، وتحرضین علی القتال؟

قالت: نعم. قال: فما حملک علی ذلک؟

قالت: یا أمیر المؤمنین، انه قد مات الرأس، وبتر الذنب، ولن یعود ما ذهب،

ص: 53

والدهر ذو غیر، ومن تفکر أبصر، والأمر یحدث بعده الأمر.

قال: صدقت، فهل تعرفین کلامک وتحفظین ما قلته؟

قالت: لا والله، ولقد انسیته.

قال: لله أبوک، فلقد سمعتک تقولین:

«أیها الناس، ارعوا وارجعوا، انکم أصبحتم فی فتنة، غشتکم جلابیب الظلم، وجارت بکم عن قصد المحجة، فیا لها فتنة عمیاء صماء بکماء، لا تسمع لناعقها ولا تسلس لقائدها. ان المصباح لا یضیء فی الشمس، وان الکواکب لا تنیر مع القمر، وانّ البغل لا یسبق الفرس، ولا یقطع الحدید الا بالحدید، ألا من استرشد ارشدناه، ومن سألنا أخبرناه.

أیها الناس: ان الحق کان یطلب ضالته فاصابها، فصبراً یا معشر المهاجرین والأنصار علی الغصص، فکأنکم وقد التأم شمل الشتات، وظهرت کلمة العدل، وغلب الحق باطله، فانه لا یستوی المحق والمبطل. أفمن کان مؤمناً کمن کان فاسقاً لا یستوون. فالن_زال الن_زال، والصبر الصبر، ألا ان خضاب النساء الحناء، وخضاب الرجال الدماء، والصبر خیر الأمور عاقبة، أئتوا الحرب غیر ناکصین، فهذا یوم له ما بعده».

ثم قال: یا زرقاء، ألیس هذا قولک وتحریضک؟

قالت: لقد کان ذلک.

قال: لقد شارکت علیاً فی کل دم سفکه.

فقالت: أحسن الله بشارتک یا أمیر المؤمنین، وأدام سلامتک، فمثلک من بشر بخیر، وسرّ جلیسه.

فقال معاویة: أو یسرک ذلک؟

ص: 54

قالت: نعم والله، لقد سرّنی قولک، وأنی لی بتصدیق الفعل. فضحک معاویة، وقال: والله لوفاؤکم له بعد موته أعجب عندی من حبکم له فی حیاته.(1)

هؤلاء النساء کن یدافعن عن عقیدتهن ویقلن قول الحق أمام الطاغیة المتجبر، وهذا دلیل علی صلابة هؤلاء النساء وعلی وعیهن الثقافی الذی ظهر من خلال عقیدة الولاء وبهذا تکون المرأة الموالیة صفا واحدا مع الرجال الموالین الذین کانوا یتحدون بطش الأمویین بکل بسالة کحجر بن عدی ورشید، بل إن هؤلاء النساء الموالیات کن سبباً لبلورة عقیدة الولاء وصیانتها.

ولأم المؤمنین ام سلمة صورة مشرقة فی قوة شخصیتها واهتمامها بأمور المسلمین والدفاع عن الحق والامر بالمعروف والنهی عن المنکر ففی کتاب العقد الفرید لابن عبد ربه الاندلسی یشیر:

ولما مات الحسن بن علی حج معاویة فدخل المدینة وأراد أن یلعن علیاً علی منبر رسول الله فقیل له: إن ههنا سعد بن أبی وقاص ولا نراه یرضی بهذا فابعث إلیه وخذ رأیه..، فقال سعد: إن فعلت لأخرجن من المسجد ثم لا أعود إلیه فأمسک معاویة عن لعنه حتی مات سعد ولما مات لعن (علیاً) علی المنبر وکتب إلی عماله ان یلعنوه علی المنابر ففعلوا فکتبت أم سلمة:

انکم تلعنون الله ورسوله علی منابرکم وذلک بانکم تلعنون علی بن أبی طالب ومن أحبه وأنا أشهد أن الله أحبه ورسوله.(2) وکان ذلک یمثل ادانة نسویة للنهج الاموی القائم علی  سیاسة اللعن لاهل البیت الذین اذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهیرا.


1- هاتان القصتان عن قصص العرب، ج2، وقد نقلتا بتصرف واختصارعن محمد الصدر فی کتابه اخلاق اهل البیت ص408.
2- ابن عبد ربه الاندلسی، العقد الفرید، تحقیق، د. عبد المجید الترحینی، مج5، ص 114.

ص: 55

وفی هذه الحقبة الزمنیة ظهرت من داخل البیت النبوی تصدعات خطیرة اهمها  استشهاد الامام الحسن بن علی علیهما السلام علی ید زوجته جعدة التی دست له السم، ففی الوقت الذی کان الناس ینتظرون صوراً مشرقة من بیت الامامة تأتی صورة جعدة المرأة القاتلة الخائنة لتشوه لا صورة المرأة مع الامام بل صورة المرأة بشکل عام وتجعل الناس فی حیرة من تفسیر الموقف، فقد قیل:

انه کان سبب موت الحسن بن علیّ من سمِّ سمَّ به یقال: إنَّ زوجته جعدة بنت الأسود بن قیس الکندی سقته إیّاه، ویذکر والله اعلم بحقیقة أمورهم: انّ معاویة دسّ إلیها بذلک علی أن یوجّه لها مائة الف درهم ویزوجها من ابنه یزید، فلمّا مات الحسن وفیّ لها معاویة بالمال وقال: إنِّی أحبّ حیاة یزید.(1)

أرسل إلیها «معاویة»: «إنی مزوجک بیزید ابنی، علی أن تسمی زوجک الحسن ابن علی». ووعدها بمائة ألف درهم فقبلت، وسمت «الحسن»، فدفع لها «معاویة» المال ولم یزوجها من «یزید» معتذراً إلیها بأن حیاته غالیة علیه! فخلف علیها رجل من «آل طلحة» فأولدها، فکان إذا وقع بین أولادها وبین بطون قریش کلام، عیروهم وقالوا: یا بنی مسمة الأزواج...(2)

وانه لصورة قاسیة مؤلمة اذ کیف تمتد ید الغدر الی سید شباب اهل الجنة من زوجته التی اختارها لتکون شریکة حیاته فی سرائها وضرائها، لکنها باعته بثمن بخس ولعذاب الآخرة أخزی، وهذه الصورة ترکت اثرا سلبیا علی الموالین والمعاندین علی حد سواء!.

أیضاً تأتی مواقف السیدة عائشة لتصب فی خط تکمیلی لهذا السلوک فنراها


1- عبد الحسین أحمد الأمینی النجفی، الغدیر فی الکتاب والسنّة والادب، ج 11، ص 11.
2- دکتورة عائشة عبد الرحمن، السیدة زینب، ص77.

ص: 56

(وهی أم المؤمنین) تخرج علی بغلتها ناهیة عن دفن الامام بجوار جده رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم وهو الذی قال فیه:

«من أحب الحسن والحسین فقد احبنی، ومن ابغضهما فقد ابغضنی».(1)

وهذه کلها مواقف جعلت الرجال والنساء یرزحون تحت طائلة جملة من التساؤلات التی لا تنفک عقدتها بسهولة بسبب البطش الاموی والفوضی الفکریة والاجتماعیة التی سادت آنذاک.

والمحصلة من ذلک کله ان المرأة المسلمة بدأت تنفصل عن المجتمع وهمومه وشؤونه شیئاً فشیئاً، وغابت عن الأدوار الفاعلة المغیّرة له، وانعزلت بین جدران البیوت وجدران الوهم والجهل والتخلف، ووجد الرجل ذلک کله یصب فی نفعه العام فاستحوذ علی کل شؤون الحیاة الاجتماعیة والسیاسیة والثقافیة والدینیة الأمر الذی أدّی بالمرأة إلی ان تفقد ثقتها بنفسها شیئاً فشیئاً وتفقد ثقتها بأدوارها ومؤهلاتها وتشعر بالاغتراب عن المجتمع الکبیر بل وتعیش رؤی مشوهة عن دورها فی الحیاة وتری انها کائن تابع لیس أکثر، فأهملت التعلم والتثقف وأهملت بناء شخصیتها بناءً صحیحاً متوازناً وترکت المطالبة بحقوقها حتی أصبحت رکنا منسیا فی المجتمع وشیئا (ولیس الانسان الخلیفة) استوی وجوده وغیابه!.

حتی کان القرن العشرون حیث اخذت العلمانیة الجدیدة تنشر أفکارها بین صفوف النساء المسلمات وهن یعشن التخلف والامیة والجهل وتستعبدهن التقالید والعادات البعیدة کل البعد عن الاسلام.


1- سنن ابن ماجة فی فضائل الحسن والحسین , ومسند احمد2\288و440 و531

ص: 57

الفصل الثانی: نساء الطفوف

اشارة

ص: 58

ص: 59

یمکن الکلام عن نساء الطفوف ضمن مجموعتین متمایزتین حیث تضم المجموعة الأولی  حرائر أهل البیت علیهم السلام ونساء بیت الوحی وهی المجموعة التی هاجرت مع الإمام الحسین علیه السلام من المدینة إلی مکة ثم إلی کربلاء.

وهی ایضا المجموعة التی تعرضت لأقسی التحدیات والخطوب، فهی التی عاشت أحداث المعرکة فی کربلاء وعاشت أجواءها الساخنة کما ان هذه المجموعة تمثل رکب السبایا اللائی اُسرن بعد استشهاد الامام الحسین علیه السلام من العراق إلی الشام ورجعن ثانیة الی کربلاء فی الاربعین وبعدها عُدن الی المدینة المنورة.

کما أنها المجموعة التی قامت بالدور الإعلامی الخطیر حیث نشرت فکر الثورة وأهدافها فی الامصار والبلاد التی دخلوا إلیها.

وعلی رأس هذه المجموعة تأتی عقیلة بنی هاشم واللبوة الطالبیة السیدة زینب بنت أمیر المؤمنین علیه السلام والتی یعود إلیها الثقل الکبیر من مهام ما بعد الطفوف ومعها:

السیدة أم کلثوم بنت أمیر المؤمنین.

وفاطمة بنت  الامام الحسین بن علی.

ص: 60

واختها سکینة بنت الحسین.

والرباب بنت امرؤ القیس الکلبیة أم الرضیع وهی الوحیدة من زوجات الحسین علیه السلام التی کانت حاضرة فی الواقعة علی اختلاف الروایات.

ورملة أم القاسم وزوجة الإمام الحسن المجتبی.

ورقیة بنت الإمام الحسین وکانت طفلة صغیرة.

وحمیدة بنت مسلم بن عقیل.

وأخریات غیرهن جئن مع الإمام إلی کربلاء.

أما المجموعة الثانیة فتضم نساء مؤمنات کان حضورهن عرضیاً لم یخضع لتنسیق مسبق أو برمجة سابقة.

وهؤلاء النساء شاءت الاقدار ان یکن ناصرات للإمام ومن انصاره وبعضهن کن حاضرات فی أرض الطفوف؛ إذ إن ثلاثة من انصار الإمام کانوا قد جاءوا مع اُسرهم إلی الإمام الحسین علیه السلام وبقوا معه وهم عبد الله بن عمیر الکلبی، وجنادة بن حرث الانصاری، ومسلم بن عوسجة الأسدی وکان عبد الله بن عمیر قد أخذ معه امه وزوجته  إلی أرض کربلاء، مضافاً إلی هؤلاء کانت هناک طوعة التی نصرت وآوت مسلم بن عقیل سفیر الإمام الحسین علیه السلام وکانت هناک دلهم بنت عمیر وام وهب وأُخریات سنمرّ علیهن حینما نستعرض أدوارهن.

ومع نساء الطفوف هؤلاء تلمع اسماء أخری کأم سلمة (رض) والنساء اللائی اقمن مجالس العزاء فی المدینة ومعهن أیضاً نستحضر صورة أم البنین فاطمة بنت حزام الکلابیة (أم العباس واخوته) علی تفاوت ملحوظ فی الروایات بین من یؤکد حیاتها عند استشهاد الامام ومن ینفی ذلک.

ص: 61

لماذا حمل الإمام نساءه وعیاله إلی کربلاء؟

کان أَمام الإمام الحسین علیه السلام خیاران بالنسبة لأسرته، فهو إما ان یحمل عیاله ونساءه معه وإما ان یُبقی الجمیع ویخرج بمفرده مع أولاده واخوته وباقی الانصار من رجال بنی هاشم. فإذا کان الأمر بأن یترکهم فی مکانهم ویهاجر بنفسه فلا شک فی أن السلطات الأمویة ستحاول الاستفادة منهم کورقة ضاغطة علی الإمام نفسه کی یسلم نفسه. کما فعل الامویون مع عمرو بن حمق الخزاعی حیث أسروا زوجته لمّا فرّ من ایدی السلطات الامویة الحاقدة.

وأیضاً حصلت هذه الحالة مع زوجة المختار التی اعتقلت هی الأخری لارغام زوجها علی الاذعان للسلطة الامویة الحاکمة.

فالامام لم یکن لیأمن علی عیاله ونسائه لو أبقاهم فی المدینة وخرج ثائرا.. وحتی لو أمن الامام علی نسائه وعیاله وأبقاهم فی مکانهم وخرج فی طلب الاصلاح فی ثورة یعلم مسبقا ان القوم یطلبونه ولو أمسکوا به فسیقتلونه لا محالة وسُیقتل مع اخوته وابناء عمومته فی أی مکان من الأرض وسیبادون جمیعهم(1) ومن ثم لا یفهم أحد لماذا اصلاً خرج الإمام الحسین علیه السلام للثورة؟ ولماذا لم یبایع؟ وحتماً ستحاول السلطات الأمویة التکتم علی الأمر واستعمال آلیات القتل الصامتة بأی شکل من الاشکال وبهذا یضیع دم الحسین علیه السلام وتضیع ثورته ورسالته وهذا المنطق لا یتناسب ایضا مع ماحمله الامام من مطالب صرح بها اکثر من مرة کقوله علیه السلام:


1- فیما قال لها (لأم سلمة): إنّی أعلم الیوم الذی أُقتل فیه والساعة التی أُقتل فیها وأعلم من یقتل من أهل بیتی وأصحابی أتظنین أنک علمت ما لم أعلمه وهل من الموت بد فإن لم أذهب الیوم ذهبت غدا. وقال لأخیه عمر الأطرف: إنّ أبی أخبرنی بأنّ تربتی تکون إلی جنب تربته أتظن أنک تعلم ما لم أعلمه. وقال لأخیه محمد بن الحنفیة شاء الله أن یرانی قتیلاً ویری النساء سبایا. (المقرم مقتل الحسین ص134).

ص: 62

إنی لم اخرج أشراً ولا بطراً ولا مفسداً ولا ظالماً، وانما خرجت لطلب الإصلاح فی أمة جدی صلی الله علیه وآله وسلم أرید أن آمر بالمعروف وأنهی عن المنکر وأسیر بسیرة جدی وأبی علی بن أبی طالب، فمن قبلنی بقبول الحق فالله أولی بالحق ومن رد علیّ هذا اصبر حتی یقضی الله بینی وبین القوم وهو خیر الحاکمین.(1)

علی هذا یکون الخیار الثانی هو الاقرب لما یصبو الیه الامام من تغییر فی الواقع الاجتماعی والقیمی والانسانی.

ولنا ان نتصور الإمام کقائد ثورة یرید ان یقوم بحرکة واسعة تهز المجتمع کله وتهز الصرح الأموی من جذوره فقد یکون من الشاق علیه ان یسیر مع کوکبة من النساء والصغار والرضع فی سفر طویل. ولو کان سفر استجمام لما خلا من مشقة من جانب المسؤولیات والاعداد والتحضیر لمستلزمات السفر نفسه. فکیف بسفر الثورة التی یخطط لها الامام والتی یقدّر لها ان تکون فی ارض بعیدة عن مستقره الحالی؟.

لکن الإمام علیه السلام حمل نساء آل البیت علیهم السلام وحرائرهم.. وهو یعلم بما سیعانیه الجمیع من مشکلات الطریق الطویل والاوضاع الطارئة والتشنجات التی سیتعرض لها الجمیع لا محالة؛ لان هناک تخطیطاً مستقبلیاً للثورة، إذ لا یمکن للإمام علیه السلام ان یکون قد خطط لأوان الثورة والتی قد تقدر بسویعات محدودة فی عمر الزمن ویترک ما بعدها فالمهم نتائج الثورة وما ستفرزه من احداث ووقائع علی ارض الواقع فهو علیه السلام حتماً کان قد خطط لما بعد الثورة فی امتداداتها المتعددة وفی کیفیة التعریف بها وکیفیة تحقیق أهدافها، فاذا کانت نهایة هذه الجولة التضحویة هو الانکسار العسکری فلابد ان یسعی لأن یحقق لها نجاحاً اجتماعیاً وثقافیاً وحضاریاً علی المدی الطویل من الزمان والمکان..


1- المقرم، عبد الرزاق الموسوی، مقتل الحسین علیه السلام، ص 139.

ص: 63

 ومن هنا کان الخیار الثانی بأن یأخذ العیال والنساء معه هو الخیار الأکثر تناسباً مع الثورة والأکثر انسجاماً مع ما کان یخطط له الإمام علیه السلام. فالامام علیه السلام ما کان همه  الثورة فی وقتها فحسب ولکن کان یهدف إلی تحقیق التواصل الزمنی البعید المدی لدی الأمة مع الثورة (فی نوع من الامتداد الواعی الشعوری الذی یخترق ایدولوجیات الزمن لکی تبقی نابضة قادرة علی ضخ الدم النقی المحرک للحیاة) وهذا ما حصل فهو إذاً حمل عیاله ونساءه لأدوار اُعدوا لها مسبقاً ولمهام مرت صورتها فی عقلهم الواعی والباطن قبل أو ان الثورة.

لقد حمل الامام معه جملة من المبلغات اللائی کانت الواقعة بحاجة إلی خطابهن تماماً کما کانت الثورة بحاجة إلی دمه وتضحیته والی هذا یشیر الشیخ مرتضی مطهری فی کتابه الملحمة الحسینیة «التکتیک التبلیغی هو حمله لاهله وعیاله وأولاده فی القافلة الحسینیة وبهذه الطریقة یکون قد استخدم العدو استخداما غیر مباشر من خلال فرض هؤلاء الناس کحربة تبلیغیة ورسل دعایة للاسلام الحسینی ضد یزید»..

ویضیف: أن الإمام استخدم عدداً من المبلغین الذین اخذهم العدو بیده وبإرادته لینفذوا إلی قلب حکومة العدو فی الشام وهو بحد ذاته تکتیک یفوق التصور الاعتیادی».(1) فالإمام لم یأخذ معه نساء عادیات انما أخذ معه نساء واعیات مؤمنات بثورته وهن ایضا مبلغات یمتلکن ادوات التبلیغ السلیم لیُعَرِّفْنَ الناس بالقضیة والثورة وأهدافها واسبابها ویکشفن النقاب عن الوجه الاموی الاسود ولیکنَّ سبباً لهزّ الوضع العام وتحریکه وضخ القیم الجدیدة وتخلید النهضة الحسینیة فی الوجدان الشعبی کل هذه القرون.

ولقد استوقفه کثیرون وحاولوا ثنی الامام عن اخذ النساء معه لکنه أصرَّ علی أن


1- مرتضی مطهری، الملحمة الحسینیة، ح1، ص 209.

ص: 64

تکون النساء ضمن قافلته وقال له عبد الله بن عباس: فإن عصیتنی وأبیت إلا الخروج إلی الکوفة فلا تخرجن نساءک وولدک معک.(1)

وقال لأخیه محمد بن الحنفیة: شاء الله أن یرانی قتیلاً ویری النساء سبایا

فلمّا کان فی السّحر ارتحل الحسین علیه السلام فبلغ ذلک ابن الحنفیّة فاتاه فاخذ زمام ناقته التی رکبها فقال له: یا اخی ألم تعدنی النّظر فیما سألتک؟ قال: بلی، قال: فما حداک علی الخروج عاجلاً؟ فقال: أتانی رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم بعد ما فارقتک فقال: یا حسین علیه السلام أخرج فانّ الله قد شاء ان یراک قتیلاً فقال له ابن الحنفیة إنّا لله وانّا إلیه راجعون فما معنی حملک هؤلاء النساء معک وأنت تخرج علی مثل هذه الحال؟ قال: فقال له: قد قال لی: إنّ الله قد شاء ان یراهنّ سبایا...(2)

من ناحیة أخری لو سلمنا بأن الإمام علیه السلام لم یشأ أن یأخذ معه النساء والعیال.. فما هی ردة فعل النساء أنفسهن؟ ماذا سیصنعن لو جاءهنّ رسول یخبرهن بمقتل الحسین علیه السلام فی هذه الفلاة الواسعة؟ هل سیکون لهؤلاء النساء دور سوی النواح والبکاء؟. ومن المؤکد ان هذا البکاء سیکون فی المدینة وحدها ولأیام معدودة من الزمن کما حدث مع باقی الأئمة علیهم السلام وینتهی کل شیء!! حینئذ لن یکون للنساء دور فی القضیة أبداً. ولا تبقی للنساء أیة مهام أو مسؤولیات أمام هذه الثورة التی ستستباح فیها کل المقدسات بما فی ذلک المعصوم نفسه.. وستبقی صورة المرأة السلبیة المن_زویة عن هموم الامة والتی لا تعیش حتی لذاتها؛ إذ کیف یمکن بناء الذات بمعزل عن الحیاة الاجتماعیة وعن الاهتمام بشؤون المسلمین؟. فهذه الصورة الهامشیة لا تتناسب ابدا مع شخصیة نساء أهل البیت علیهم السلام واللائی عاش


1- المسعودی، مروج الذهب ومعادن الجوهر، تحقیق محمد محی الدین عبد الحمید ، ج3، ص 65.
2- ابن طاووس، اللهوف، ص 64.

ص: 65

بعضهن کثیراً من أوجاع الامة المسلمة وبخاصّة بعد وفاة الرسول صلی الله علیه وآله وسلم وأول الاوجاع ظلامة الزهراء علیها السلام.

وهنا لابد من اشارة وهی ان الامام کان قد اطمأنّ إلی الوعد الالهی بصیانة هؤلاء المخدرات وبأنهنّ سیکنّ بعیدات عن الاذی، ونجد ذلک واضحا من خلال وصیته للنساء لما ودعهن وقال: استعدوا للبلاء واعلموا ان الله تعالی حامیکم وحافظکم.(1)

المرأة اذاً طالبت بالذهاب مع الامام لنصرته واستعدت للخروج إلی کربلاء قائلة: «یا ابن عباس، تشیر علی سیدنا بأن یخلفنا ها هنا، ویمضی وحده لا والله بل نحیا معه، أو نموت.. وهل أبقی الزمان لنا غیره.. لا نفارقه أبداً حتی یقضی الله ما هو کائن».(2) وهی تعرف ما ینتظرها من ظروف قاسیة ومهام ثقیلة وبهذا تکاملت الإرادة من جانبین؛ فمن جانب أراد الإمام للثورة ان تستمر فی اشتعالها وازدیاد شرارتها ووضوح معانیها ولا أحد یسهم فی توضیح مفردات الثورة غیر هؤلاء النساء، کما سیأتی ضمن الدور الاعلامی. ومن جانب آخر علمت النساء وبخاصة السیدة زینب علیها السلام ان الإمام انطلق إلی نهضة إصلاحیة کبری فی أمة جده صلی الله علیه وآله وسلم وفی هذه النهضة الإسلامیة الاصلاحیة لابد ان یکون للمرأة محط قدم فی التأثیر والبلاغ. وإلی هذا یشیر الشیخ عبد الوهاب الکاشی بالقول:

إن الحسین علیه السلام کان یعرف انه إذا قتل فلا یوجد رجل فی العالم الإسلامی یمکنه ان یتکلم بشیء ضد سیاسة الأمویین مهما کان عظیماً حیث إنهم قطعوا الألسن وکمّوا الأفواه فکان قتله سدی وقد لا یعرف أحد من المسلمین ما جری علیه.. فأراد الحسین علیه السلام ان یحمل معه ألسنة ناطقة بعد قتله لتنشر أنباء تلک


1- المقرم،مقتل الحسین, ص 276.
2- محمد بحر العلوم، فی رحاب السیدة زینب، ص 108.

ص: 66

التضحیة فی العالم الإسلامی ومذیاعاً سیاراً یذیع تفاصیل تلک المأساة الإنسانیة والجرائم الوحشیة، فلم یجد سوی تلک المخدرات والعقائل اللواتی سبین وسیرّن بعد الحسین علیه السلام فی رکب فظیع مؤلم یجوب الأقطار یلقین الخطب فی الجماهیر وینشرن الوعی بین المسلمین وینبهن الغافلین ویلفتن أنظار المخدوعین ویفضحن الدعایات المضللة حتی ساد الوعی وتنبه الناس الی فظاعة الجریمة وانهالت الاعتراضات والانتقادات علی یزید والأمویین من کل الفئات والجهات(1). وهذا بالضبط ما أراده الإمام من خلال حمله للنساء والعیال، وهذا ما حصل أیضاً إذ لولا وجود هذه الثلة المبارکة لما تم کشف القناع عن یزید ورفع الستار عن جرائم الأمویّین.

ان وجود المرأة فی مناطق الن_زاعات غالباً ما یکون عامل تحریک للرأی العام وعامل تعریف بجرائم العدو، ولهذا نجد أنّ الإعلام إذا ما اراد ان یظهر بطش الحاکم وطغیانه فانه یعرض صوراً لنساء معذبات أو مقتولات أو أطفال یبکون ویستصرخون ویصرخون.. صور من الممکن ان تهز الضمیر الاجتماعی وتحدث فیه حرکة باتجاه المطلوب، بمعنی  ان وجود المرأة فی الن_زاعات المسلحة والحروب غالبا مایکون عاملاً لکشف وحشیة العدو ومجازره وبشاعته ولنا ان نستعرض فی ذاکرتنا ما کان یبث من صور عن المعارک التی شهدها القرن المنصرم وبدایاته والتی یستخدم فیها مونتاجاً خاصاً لعرض بکاء الامهات وذهول الزوجات وانین البنات. ولهذا اهتزت الکوفة لما جاء رکب الحسین علیه السلام وارتجت لمرأی الأطفال الذین ترتعد فرائصهم واصفرت وجوههم، وماجت للحرائر المخدرات  اللواتی ارتسم الحزن علی وجوههن وبان ثقل الدموع فی مآقیهن وازداد الآلم حینما جادت علیهن الکوفیات بالإزر والمقانع وضج الناس بالبکاء والعویل حینما ازیح الستار عن القناع الاموی، فهؤلاء لسن سبایا


1- الشیخ عبد الوهاب الکاشی، مأساة الحسین بین السائل والمجیب، ص 80.

ص: 67

الخوارج والدیلم کما قال ابن زیاد انما هن سبایا آل البیت علیهم السلام!!.

علی هذا یمکن الإقرار بأن الامام علیه السلام أخذ النساء معه کی یؤدین ادواراً مهمة لنصرة الثورة أو بالاحری کانت ادوار النساء ضمن البرنامج التخطیطی لقائد الثورة الذی لم یکن یفکر بانه سینُهی المواجهة بعدم مبایعته لیزید، من ثم استشهاده بل لابد من توجیه الأمة إلی قیم جدیدة وتربویات مطلوبة. ولم یکن لهذه المهمة الصعبة من یؤدیها سوی هؤلاء النساء وعلی رأسهن السیدة زینب علیها السلام، وهذا یشیر إلی ثقته الکاملة بأُخته وبأن هؤلاء النساءهن موضع اعتماد وهن قادرات علی أداء التکالیف المطلوبة.

وقد ذکر المرحوم کاشف الغطاء: لو قتل الحسین هو وولده، ولم یتعقبه قیام تلک الحرائر فی تلک المقامات بتلک التحدیات لما تحقق غرضه وبلغ غایته فی قلب الدولة علی یزید.(1)

إذن کانت هناک أدوار مهمة ومسؤولیات خطیرة ولم یکن هناک من هو قادر علی القیام بهذه المهام سوی السیدة زینب علیها السلام وباقی نساء أهل البیت. ولو اردنا ان نعرف ما هو التفاوت بین رؤیة الإمام علیه السلام ورؤیة المفکرین المعاصرین من خلال استعراض تجارب الإسلامیین أنفسهم والذین حملوا فکر الإسلام فی وقت صعب وتحدیات جسیمة، لکن مشکلتهم انهم لم یفهموا دور المرأة فی الحیاة والثورة ولم یحسبوا لها حساباً فی ما قدموه من اطروحات نهضویة حصروا المرأة من خلالها فی زوایا محددة وعزلوها عن شؤون نهضتهم. فعموم الحرکات الإسلامیة فی القرن العشرین کانت تقصی المرأة عن جانب اهتماماتها تحت رؤی متعددة منها عدم تصور اهلیتها وکفاءتها بل تصوروا ان مکانها بیتها فقط!. ومنها عدم الثقة بها؛ لأنهم کانوا یرونها


1- حیاة الإٌمام الحسین علیه السلام 298 - 2 : 297 - 2.

ص: 68

عاملاً من عوامل افشاء الأسرار لا أکثر وبهذا طغت الهواجس والرؤی السلبیة النابعة من الموروث الاجتماعی علی خارطة تفکیرهم، وکم وجدنا قادة مسلمین کباراً ومراجع عظاماً لکن نساءهم لا یفقهن من الحیاة شیئاً؛ إذ کانت عقولهن هواء وافئدتهن خواء!. وبهذا عطلوا المرأة عن الوعی والمعرفة والفهم. فکیف تستطیع امرأة لا یتجاوز تفکیرها جدران بیتها ولا یطال وعیها المساحات الدینیة الواسعة للحیاة ان تنشئ جیلاً إسلامیاً سامیاً قادراً علی أداء ادوار عُلی؟.

بهذا یمکن القول: ان واقعة الطفوف کانت بحاجة إلی تواجد المرأة کی تنجح الثورة، وبحاجة إلی حضور نسائی متمیز لا یجزی عنه الرجل أبداً. فمن المعلوم ان الإمام لو اصطحب الکثیر من الرجال لأبیدوا بکاملهم وبهذا جاء حمل النساء کدلالة علی تخطیط مستقبلی للثورة فیما یمکن ان تؤدیه النساء من أدوار تدور ضمن مصلحة الإسلام الکبری والإیمان بمبادئ الإمام فی الإصلاح والتغییر، فهو إذن اجتیاز للدائرة المحددة التی تشمل حیاة المرأة الخاصة ضمن (حسن التبعل) ولکنها لا تلغی شخصیة المرأة نفسها أو أهدافها الممتدة فی الحیاة أو مسؤولیاتها العدیدة. وکان الحضور النسائی متمیزاً فی نساء عرفن بالعلم والمعرفة والبلاغة والفصاحة والصبر الجمیل إلی غیر ذلک، وبذلک نجح الرجل (الإمام وانصاره) فی تضحیته کما نجحت المرأة «زینب علیها السلام» فی التبلیغ والإعلام الموجه، ولم تکن الأدوار التقلیدیة للنساء کالأمومة والزوجیة عائقاً أمام تحقیق نجاح أوسع ضمن دائرة الأهداف العامة ابدا بل کانت هذه الادوار سبباً لاضفاء مزید من الحزن والتفجع علی ما جری فی الطفوف، فهؤلاء النساء قدمن الغالی والنفیس بل ضحین بالولد والاخ والزوج لنصرة الثورة فی زمن تقاعس فیه الاشاوس من الرجال عن نصرة الامام الذی کانوا یسمعون استغاثته!. وبهذا تحولت الأدوار التقلیدیة التی تضجر منها المرأة المعاصرة إلی أدوار رسالیة ومحطات انطلاق لرسم هویة ثائرة للمرأة المسلمة فی الأمر بالمعروف والنهی عن المنکر.

ص: 69

أدوار النساء فی ملحمة الطفوف

اشارة

کان لنساء الطفوف ضمن المجموعتین اللتین عرضناهما أدوارٌ متعددة ظهر بعضها قبل الواقعة وبعضها فی أثنائها وبعدها. وکانت الأدوار النسائیة واضحة متمیزة رغم ان عدد النساء اللائی یدخلن ضمن المجموعتین کان معدوداً ومحدوداً أیضاً.

اما أهم الأدوار النسائیة فی الواقعة فهی:

1 . دور نصرة الثورة.

2 . دور المتابعة والحمایة.

3 . الدور القیمّی.

4 . الدور الاعلامی.

5 . روایة المقتل الحسینی.

6 . اعلان الحداد العام.

1 - دور نصرة الثورة ودعمها بشتی الوسائل

ألف - دور حرائر أهل البیت فی نصرة الإمام الحسین علیه السلام ونصرة ثورته

وهذا ما نلمسه من خلال اصرارهن علی المجیء مع الإمام علیه السلام إلی کربلاء ومتابعة شؤون هذا السفر الطویل وهو ما سنمر علیه فی تشعبات مستقبلیة.

لکن العجیب ان الإمام علیه السلام لما خرج من المدینة لم یکن معه سوی عشیرته! ونفس الشیء حصل لما خرج من مکة!، لم یکن هناک الموالون الذین کان یُتوقع ان یذهبوا معه!، وقد بقی الناس فی أماکنهم حتی لما جاءهم خبر عزمه علی الذهاب الی کربلاء فیما بعد فلِمَ لم یتبعوه؟ وهذا أمر یثیر التساؤل اذ یری بعض کتاب

ص: 70

التاریخ ان مقولة الإمام علیه السلام لبعض من نهوه عن حمل النساء معه (شاء الله ان یراهن سبایا) انها کانت اعلانا عن ما ینتظرهم من تحدیات ومنعطفات صعبة فهو سیقتل وهؤلاء النساء سیتم اسرهن، إذن الأمر یحتاج إلی نصرة.. وکأنه قدم رسالة لهم ان الحال هذه فلو نصرتمونا ونصرتم نساء بیت الوحی لکان خیراً لکم، ولکن لم یفهم الناس هذه الرسالة وقتها أو ربما لم یریدوا فهمها او انهم فهموها فقدموا لانفسهم الاعذار فبقوا فی دیارهم قاعدین!. وبعد ان استشهد الإمام علیه السلام عضوا أصابعهم من الندم!

جاء فی المقتل الحسینی:

ولما استقر المجلس بأبی عبد الله حمد الله وأثنی علیه وقال: یا ابن الحر ان أهل مصرکم کتبوا إلی انهم مجتمعون علی نصرتی وسألونی القدوم علیهم ولیس الأمر علی ما زعموا، وان علیک ذنوباً کثیرة، فهل لک من توبة تمحو بها ذنوبک؟

قال: وما هی یا ابن رسول الله؟، فقال: تنصر ابن بنت نبیک وتقاتل معه.

فقال ابن الحر: والله انی لأعلم ان من شایعک کان السعید فی الآخرة ولکن ما عسی ان اغنی عنک، ولم اخلف لک بالکوفة ناصراً، فانشدک الله ان تحملنی علی هذه الخطة، فان نفسی لا تسمح بالموت! ولکن فرسی هذه «الملحقة» والله ما طلبت علیها شیئاً قط إلا لحقته ولا طلبنی أحد وأنا علیها إلا سبقته فخذها فهی لک.

قال الحسین: أما اذا رغبت بنفسک عنا فلا حاجة لنا فی فرسک ولا فیک وما کنت متخذ المضلین عضدا وإنی أنصحک کما نصحتنی، ان استطعت أن لا تسمع صراخنا، ولا تشهد وقعتنا فافعل، فوالله لا یسمع واعیتنا أحد ولا ینصرنا إلا اکبه الله فی نار جهنم.

وندم ابن الحر علی ما فاته من نصرة الحسین علیه السلام فأنشأ:

ص: 71

أیا لک حسرة م_ا دمت حیّ_اً

تردَّد بی_ن ص_دری والت_راقی

غداةَ یقول لی بالقص_ر ق_ولا

أتترکن_ا وت_ع_زم ب_الف_راق

حسین حین یطلب بذل نصری

علی أه_ل الع_داوة والشق_اق

فل_و فل_ق التَّلهُّف قلب ح_رٍّ

لهمَّ الی_وم قلب_ی ب_ان_ف_لاق

ول_و واسیت_ه یوم_اً بنفس_ی

لن_لت ک_رام_ةً ی_وم التَّ_لاق

مع ابن محمد تف_دی_ه نفس_ی

ف_ودع ث_م أس_رع ب_انطلاق

لقد فاز الأولی نص_روا حسین_اً

وخاب الآخ_رون ذوو النف_اق(1)

لقد کانت هذه فرصة للکثیر لتحصیل أعلی درجات الحیاة الآخرة ولکنها لم تجد اذناً واعیة!.

وبذلک تقدمت هؤلاء النساء العظیمات دون ان یبدین أی تردد أو تلکؤ لنصرة الإمام ومعهن أولادهن. والسیدة زینب علیها السلام وزوجها عبد الله بن جعفر بن أبی طالب والذی کان مریضاً لکنه ارسل أولاده مع خالهم إلی معترک النضال. وأم البنین (علی اختلاف الروایات فی عمرها وفی زمن وفاتها) والتی ارسلت أولادها الأربعة ومنهم العباس حامل رایة الإمام ورملة زوجة الامام الحسن المجتبی علیه السلام والتی جندت ولدها القاسم لنصرة الامامة.

باء -   دلهم بنت عمیر

وهی زوجة زهیر بن القین وکانت امرأة صالحة وکانت معه فی سفره وکان زهیر عثمانی الهوی مما جعله یتحاشی الامام فی المسیر. یقول السید ابن طاووس:


1- المقرم، عبد الرزاق الموسوی، مقتل الحسین علیه السلام، ص 190.

ص: 72

... ثمّ سار (علیه السلام) فحدّث جماعة من بنی فزارة وبجیلة قالوا: کنّا مع زهیر ابن القین لمّا اقبلنا من مکّة فکنّا نسائر الحسین علیه السلام حتّی لحقناه فکان إذا أراد النّزول اعتزلناه فن_زلنا ناحیة فلمّا کان فی بعض الأیّام نزل فی مکان لم نجد بداً من أن ننازله فیه فبینا نحن نتغذّی من طعام لنا إذ اقبل رسول الحسین علیه السلام حتّی سلّم ثمّ قال: یا زهیر بن القین إنّ أبا عبد الله الحسین علیه السلام بعثنی إلیک لتأتیه فطرح کلّ إنسان منّا ما فی یده حتّی کأنّ علی رؤوسنا الطیر فقالت له زوجته وهی دیلم بنت عمرو:

سبحان الله أیبعث إلیک ابن رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم ثم لا تأتیه؟ فلو اتیته فسمعت من کلامه فمضی إلیه زهیر بن القین فما لبث أن جاء مستبشراً قد اشرق وجهه فأمر بفسطاطه وثقله ومتاعه فحوّل إلی الحسین علیه السلام وقال لامرأته أنت طالق فانّی لا أحبّ ان یصیبک بسببی إلا خیر وقد عزمت علی صحبة الحسین علیه السلام لافدیه بنفسی وأقیه بروحی ثمّ أعطاها مالها وسلّمها إلی بعض بنی عمّها لیوصلها إلی أهلها فقامت إلیه وبکت وودّعته وقالت کان الله عوناً ومعیناً خار الله لک اسألک ان تذکرنی فی القیامة عند جدّ الحسین علیه السلام فقال لاصحابه من أحبّ أن یصحبنی وإلا فهو آخر العهد منّی به.(1)

ویفرح زهیر بولائه للإمام بقوله لعزرة الذی ارسله ابن سعد نحو الحسین علیه السلام: یا عزرة، إن الله قد زکاها وهداها فاتّقِ الله یا عزرة فانی لک من الناصحین، أنشدک الله یا عزرة أن لا تکون ممن یعین أهل الضلالة علی قتل النفوس الزکیة.

ثم قال عزرة: یا زهیر ما کنت عندنا من شیعة أهل هذا البیت إنما کنت علی غیر رأیهم قال زهیر: أفلست تستدل بموقفی هذا أنی منهم أما والله ما کتبت إلیه کتاباً قط


1- السید الجلیل ابن طاوس، اللهوف علی قتلی الطفوف، ص 71 - 73.

ص: 73

ولا أرسلت إلیه رسولاً ولا وعدته نصرتی ولکن الطریق جمع بینی وبینه فلما رأیته ذکرت به رسول الله ومکانه منه وعرفت ما یقدم علیه عدوه فرأیت أن أنصره وأن أکون من حزبه واجعل نفسی دون نفسه لما ضیعتم من حق رسوله.

زهیر الذی کان یتحاشی الامام الحسین تراه یقف مدافعا عنه امام القوم حیث یدعوه الناس للتخلی عن النصرة فی حین یقول: والله وددت انی قتلت ثم نشرت ثم قتلت حتی اقتل کذا الف مرة، وان الله عز وجل یدفع بذلک القتل عن نفسک وعن انفس هؤلاء الفتیان من أهل بیتک.(1)

ونال زهیر وسام الشهادة وبقی اسمه خالداً مع الشهداء ومع انصار الحسین علیه السلام ولزوجته المؤمنة الموالیة الاثر الکبیر فی ذلک فهی التی کانت تحثه علی لقاء الإمام الحسین علیه السلام وهی التی کانت تعاتبه حینما کان معرضا عنه فی المسیر. فالمرأة الصالحة هی التی تدفع زوجها لتحصیل الجنان رغم ان الأمر لیس بالهین أبداً. فأواصر الحب الزوجی تبقی قویة یشوبها حرص اقوی علی الشریک وخوف من الفقدان والفراق لکن کل العلاقات تذوب وتتسامی امام نصرة الدین والعقیدة، فکیف تسامت هذه المرأة لتجعل ارادة الله فوق ارادة قلبها ولتعود إلی قومها بمفردها تارکة الزوج الحبیب یحث الخطی نحو مذبح الشهادة. ولما ودعته قالت له: کان الله عوناً ومعیناً خار الله لک أسألک ان تذکرنی فی القیامة عند جدّ الحسین علیه السلام.

وبهذه الکلمات القصار تکشف عن ایمانها العمیق بالله وعن ولائها لاهل البیت علیهم السلام.. انه قلبها الذی قال لها انه الفراق الأبدی والموعد الدار الآخرة ورغم ذلک زفت زوجها الی میدان الحرب فاستحقت الأجر العظیم والخلود فی ذمة التاریخ.


1- المقرم، 214.

ص: 74

جیم - دور طوعة فی نصرة مسلم بن عقیل سفیر الإمام الحسین علیه السلام

طوعة یقال لها أم ولد کانت للاشعث بن قیس فاعتقها وتزوجها اسید الحضرمی فولدت له بلالا، کان مع الناس، وامه واقفة علی الباب تنتظره وقف مسلم علی باب البیت والحیرة تسیطر علی مشاعره، والخجل یحوط شفتیه، طلب الماء منها، جاءته بالماء، شرب ثمّ جلس علی باب الدار لا یدری أین یتوجّه؟ أثار وضعه الحائر، وسیماء الغربة علیه، وجلوسه عند باب البیت، انتباه طوعة، فراحت تتساءل، ألم تشرب الماء؟ إذن لِمَ لا تنصرف؟ فأجاب: انّه غریب لیس له دار، ولا أهل فی هذا البلد، ثمّ عرفها بنفسه: (أنا مسلم بن عقیل بن أبی طالب سفیر الحسین، ورسوله إلی الکوفة وابن عمه). فتحت له باب البیت ثمّ أدخلته فاختبأ لیقضی لیلته، وینظر ماذا سیکون الغد.(1)

استضافها فأضافته بعد ان عرَّفها انه لیس له فی المصر أهل ولا عشیرة وأنه من أهل بیت لهم الشفاعة یوم الحساب فأدخلته بیتاً غیر الذی یأوی إلیه ابنها وعرضت علیه الطعام فأبی وانکر ابنها کثرة الدخول والخروج لذلک البیت فاستخبرها فلم تخبره إلا بعد ان حلف لها کتمان الأمر.

وعند الصباح اعلم ابن زیاد بمکان مسلم فأرسل ابن الأشعث فی سبعین مع قیس لیقبض علیه، ولما سمع مسلم وقع حوافر الخیل عرف انه قد أُتی(2) فعجل دعاءه الذی کان مشغولاً به بعد صلاة الصبح ثم لبس لامته وقال لطوعة: قد أدیت ما علیک من البر واخذت نصیبک من شفاعة رسول الله ولقد رأیت البارحة عمی أمیر المؤمنین فی المنام وهو یقول لی: أنت معی غداً.(3)


1- ذکر هذه الأحداث الطبری، تاریخ الأمم والملوک، ج 4، ص 277 و278.
2- المقاتل لأبی الفرج وتاریخ الطبری، ج1، ص 210، ومقتل الخوارزمی، ج 1، ص 208، فصل 10.
3- نفس المهموم، ص 56.

ص: 75

والعجب انه لیس هناک بیت یؤوی مسلماً فی الکوفة کلها!! فالشیعة الخُلص کانوا فی السجون وباقی الناس اقعدهم الخوف واغراهم المال عن النصرة ولما استبدت الحیرة بمسلم لم یجد خیارا سوی ان یقف بجوار بیت لا یعلم من هم اصحابه! فتکون هذه المرأة الموالیة هی الناصرة له وهی المضیفة له. ولکن ابنها الذی آثر الدنیا هو الذی یشی بمسلم ویرسل خبره إلی ابن زیاد ویکون سبباً للایقاع به.

عجباً لهذه المرأة العظیمة التی لم یداخلها الخوف الذی جثم علی قلوب الناس فأبوا ان یضیفوا من دعوه الی بیوتهم ومن وعدوه بالنصرة!! لکن الموقف یشیر الی قوة التفکیر وإلی دعم قوی للرسالة رغم خطورة المرحلة.

دال - دور ام وهب  فی نصرة آل البیت علیهم السلام

وهی زوجة عبد الله بن عمیر الکلبی المکنی بأبی وهب جاء فی المقتل:

فلما اخذت زوجته ام وهب بنت عبد الله من النمر بن قاسط، عموداً واقبلت نحوه تقول له: فداک ابی وأمی قاتل دون الطیبین ذریة محمد صلی الله علیه وآله وسلم فأراد ان یردها إلی الخیمة فلم تطاوعه وأخذت تجاذبه ثوبه وتقول: لن ادعک دون ان اموت معک فناداها الحسین: جزیتم عن أهل بیت نبیکم خیراً إرجعی إلی الخیمة فانه لیس علی النساء قتال فرجعت.(1)

وحمل الشمر فی جماعة من اصحابه علی میسرة الحسین فثبتوا لهم حتی کشفوهم وفیها قاتل عبد الله بن عمیر الکلبی فقتل تسعة عشر فارساً واثنی عشر راجلاً وشد علیه هانی بن ثبیت الحضرمی فقطع یده الیمنی وقطع بکر بن حی ساقه.

فأخذ أسیراً وقتل صبراً، فمشت الیه زوجته ام وهب وجلست عند رأسه تمسح الدم عنه وتقول: هنیئاً لک الجنة اسأل الله الذی رزقک الجنة ان یصحبنی معک فقال


1- الطبری، ج1، ص 245؛ وابن الاثیر، ج 4، ص 37.

ص: 76

الشمر لغلامه رستم: اضرب رأسها بالعمود فشدخه وماتت مکانها وهی أول امرأة قتلت من أصحاب الحسین.(1)

ویضیف المقرم فی المقتل قائلا:

وقطع رأسه ورمی به إلی جهة الحسین فأخذته امه ومسحت الدم عنه ثم أخذت عمود خیمة وبرزت إلی الأعداء فردها الحسین وقال: ارجعی رحمک الله فقد وضع عنک الجهاد فرجعت وهی تقول: اللهم لا تقطع رجائی فقال الحسین: لا یقطع الله رجاءک.(2)

وهنا لابد من تأمل صغیر فقد کانت هذه المرأة حاضرة مع زوجها فی کربلاء وقد همت بان تقاتل دفاعاً عن الحسین علیه السلام لکن الإمام لم یسمح لها بالقتال، فما علی المرأة من قتال، لکن الشهادة کانت مذخورة لها فإذا بها  المرأة الوحیدة التی قتلت مع أصحاب الإمام الحسین علیه السلام!. یالعظمة النساء یقتل الزوج والولد وتبقی تقاتل الرجال دفاعا عن ابن رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم!.

ولا أدری لماذا اصطحب ابو وهب زوجته وامه إلی أرض المعرکة وهو یعرف ان قتالاً حامیاً سیدور وقد جاء لنصرة الإمام وارجح الظن انه لما سمع ان الحسین علیه السلام جاء بعیاله ونسائه إلی کربلاء اخذ هو أیضاً عائلته معه کی تکون إلی جوار حرائر الوحی فی ذلک الوقت العصیب، وما أکثر الآفلین فی موقع الخطوب! وما أکثر الأصدقاء الذین یفرون بعیداً حین تقع النائبات!.

وما أکثر الأخوان حین تعدهم

ولکنهم فی النائبات قلیل


1- الطبری، ج6، ص251، وفی مسند أحمد ج2، ص 100، طبعة أولی عن ابن عمر: مرّ رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم فی غزاة غزاها بامرأة مقتولة فنهی عن قتل النساء والصبیان.
2- المقرم , مقتل الحسین ص242.

ص: 77

هاء - ام عمرو بن جنادة الانصاری

جاء فی المقتل الحسینی:

وجاء عمرو بن جنادة الانصاری بعد أن قتل ابوه وهو ابن إحدی عشرة سنة یستأذن الحسین فأبی وقال: هذا غلام قتل أبوه فی الحملة الأولی ولعل أمه تکره ذلک قال الغلام: ان أمی امرتنی فإذن له فما أسرع أن قتل ورمی برأسه إلی جهة الحسین فأخذته امه ومسحت الدم عنه وضربت به رجلاً قریباً منها فمات وعادت إلی المخیم فأخذت عموداً وقیل سیفاً وانشأت:

إِنّ_ی عجوز فی النس_ا ضعیف_ة

خ_اوی_ة ب_الی_ة ن_حیفة

اض_رب_کم بض_رب_ة عنیف_ة

دون بن_ی فاطم_ة الش_ریفة

فردها الحسین إلی الخیمة بعد أن أصابت بالعمود رجلین.(1)

واو- دور ماریة بنت منقذ العبدی

وهی «ماریة» أبنة سعد أو منقذ علی اختلاف الروایات وهی من الشیعة المخلصین ودارها مألف لهم یتحدثون فیه فضل أهل البیت وقد قتل زوجها وأولادها یوم الجمل مع أمیر المؤمنین علیه السلام. ولما بلغها أن الحسین علیه السلام کاتب أشراف أهل البصرة ودعاهم إلی نصرته جاءت وجلست بباب مجلسها وجعلت تبکی. حتی علا صراخها فقام الناس فی وجهها وقالوا لها: ما عندک ومن أغضبک؟ قالت: ویلکم. ما أغضبنی أحد. ولکن أنا امرأة ما أصنع. ویلکم سمعت أن الحسین ابن بنت نبیّکم استنصرکم وأنتم لا تنصرونه. فأخذوا یعتذرون منها لعدم السلاح والراحلة. فقالت: أهذا الذی یمنعکم؟ قالوا: نعم؛ فالتفتت إلی جاریتها وقالت لها: انطلقی إلی


1- المقرم، ص 253.

ص: 78

الحجرة وآتینی بالکیس الفلانی، فانطلقت الجاریة وأقبلت بالکیس إلی مولاتها. فاخذت مولاتها الکیس وصبته وإذا هو دنانیر ودراهم. وقالت: فلیأخذ کل رجل منکم ما یحتاجه وینطلق إلی نصرة سیدی ومولای الحسین.

قال الراوی: فقام عبد الله الفقعسی وهو یبکی - وکان عنده أحد عشر ولداً - فقاموا فی وجهه وقالوا: إلی أین ترید؟

قال: إلی نصرة ابن بنت رسول الله. ثم التفت إلی من حضر وقال: ویلکم هذه إمرأة أخذتها الحمیة وأنتم جلوس؟ ما عذرکم عند جده رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم یوم القیامة؟.

قال: ثم خرج من عندها وتبعه من ولده أربعة فأقبلوا یجدون السیر. حتی استخبروا بأن الحسین علیه السلام ورد کربلاء. فجاء الشیخ بأولاده إلی کربلاء ورزقوا الشهادة.

وفی روایة اخری انها لما قالت کلمتها قال یزید بن نبیط وهو من عبد القیس لأولاده وهم عشرة: أیکم یخرج معی؟ فانتدب منهم اثنان عبد الله وعبید الله، وقال له أصحابه فی بیت تلک المرأة نخاف علیک أصحاب ابن زیاد، قال: والله لو استوت اخفاقها بالجدد لهان علی طلب من طلبنی(1) وصحبه مولاه عامر وسیف بن مالک والادهم بن أمیة((2) فوافوا الحسین بمکة وضموا رحالهم إلی رحله حتی وردوا کربلاء وقتلوا معه.(3)

وقد ذکر ابن الأثیر هذا الاجتماع وسجّله فی کتابه الکامل فی التاریخ:


1- تاریخ الطبری، ج1، ص 198.
2- المقرم عن-  ذخیرة الدارین، ص 224.
3- عبد الرزاق الموسوی المقرم، مقتل الحسین، ص 144.

ص: 79

(واجتمع ناس من الشیعة بالبصرة فی من_زل امرأة من عبد القیس یقال لها ماریة بنت سعدة وکانت تتشیّع، وکان من_زلها لهم مألفاً(1) یتحدّثون فیه، فعزم یزید بن نبیط علی الخروج إلی الحسین علیه السلام، وهو من عبد القیس، وکان له بنون عشرة، فقال لهم: أیکم یخرج معی؟ فخرج معه ابنان له: عبد الله وعبید الله، فساروا فقدموا علیه بمکّة ثمّ ساروا معه فقتلوا معه).(2)

زاء - دور النساء النادبات علی الإمام علیه السلام فی منع تعیین عمر بن سعد والیاً علی الکوفة

ذکر صاحب المقتل الحسینی:

وکان من صنع المختار معه (مع عمر بن سعد) انه لما أعطاه الامان استأجر نساء یبکین علی الحسین ویجلسن علی باب دار عمر بن سعد، وکان هذا الفعل یلفت نظر المارة إلی ان صاحب هذه الدار قاتل سید شباب أهل الجنة، فضجر ابن سعد من ذلک وکلم المختار فی رفعهن عن باب داره، فقال المختار: ألا یستحق الحسین البکاء علیه(3)، ولما اراد أهل الکوفة ان یؤمروا علیهم عمر بن سعد بعد موت یزید بن معاویة لینظروا فی امرهم جاءت نساء همدان وربیعة، إلی الجامع الأعظم صارخات یقلن ما رضی ابن سعد بقتل الحسین حتی اراد ان یتأمر فبکی الناس واعرضوا عنه.(4)


1- مألفاً: مقرّاً للاجتماع.
2- المقرم ,مقتل الحسین ص144 نقلا عن الطبری، تاریخ الأمم والملوک، ج 4، ص 263؛ وابن الأثیر، الکامل فی التاریخ، ج 4، ص 21.
3- العقد الفرید، باب نهضة المختار.
4- المقرم ص206 نقلا عن مروج الذهب، ج2، ص 105، فی اخبار یزید.

ص: 80

حاء - ام سلمة تبکی الإمام علیه السلام

رأت أم سلمة(1) رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم فی المنام أشعث مغبراً وعلی رأسه التراب.

فقالت له: یا رسول الله ما لی أراک أشعث مغبراً؟ قال: قتل ولدی الحسین وما زلت أحفر القبور له ولأصحابه(2)، فانتبهت فزعة ونظرت إلی القارورة التی فیها تراب أرض کربلاء فإذا به یفور دما(3) وهو الذی دفعه النبی صلی الله علیه وآله وسلم إلیها وأمرها أن تحتفظ به وزاد علی ذلک سماعها فی جوف اللیل هاتفاً ینعی الحسین علیه السلام فیقول:


1- المقرم ص290 نقلا عن  ابن الأثیر فی الکامل ج2_ ص 38: یستقیم هذا بناء علی وفاتها بعد الخمسین، وفی الاصابة ج4، ص460 بترجمتها عن ابن حبان ماتت ام سلمة سنة 61، وقال أبو نعیم: ماتت سنة 62 وهی آخر امهات المؤمنین، وعند الواقدی: ماتت سنة 59 وفی تهذیب الاسماء للنووی ج2، ص 362 عن احمد بن ابی خیثمة: ماتت فی ولایة یزید بن معاویة وفی مرآة الجنان للیافعی ج1، ص 137: توفیت ام سلمة ام المؤمنین سنة 61، وابن کثیر فی البدایة وان تبع الواقدی الا انه قال الأحادیث المتقدمة فی مقتل الحسین تدل علی انها عاشت إلی ما بعد مقتله، وفی عمدة القاری للعینی شرح البخاری ج1، ص 427 آخر بحث القنوت: ان ام سلمة ماتت فی شوال سنة تسع وخمسین وفی تهذیب تاریخ ابن عساکر ج1، ص 341: عن الواقدی ماتت ام سلمة قبل مقتل الحسین بثلاث سنین ولکن فی اصول الکافی عن أهل البیت: ان الحسین اودعها ذخائر الامامة واوصاها ان تدفعها إلی زین العابدین علیه السلام وفی سیر اعلام النبلاء للذهبی ج2، ص 142: ام سلمة زوجة رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم آخر من مات من امهات المؤمنین، عمرت حتی بلغها مقتل الحسین الشهید فوجمت لذلک وغشی علیها وحزنت علیه کثیراً ولم تلبث بعده إلا یسیراً وانتقلت إلی الله تعالی.
2- امالی  الشیخ الطوسی ص 56، وفی تهذیب التهذیب ج2، ص139؛ وسیر اعلام النبلاء للذهبی ج2، ص213: ان ام سلمة رأت رسول الله فی المنام واخبرها بقتل الحسین علیه السلام.
3- المقرم نقلا عن کامل ابن الأثیر ج4، ص 38؛ ومقتل الخوارزمی ج2، ص 95.

ص: 81

أیها القاتلون جهلاً حسی_ناً

أبش_روا ب_العذاب والتنکی_ل

قد لعنتم علی لسان ابن داود

وم_وسی وص_احب الانجی_ل

کلُّ أهل السماء یدعو علیکم

م_ن نب_یٍّ وم_رسل وقتی_ل(1)

وکانت تسمع فی جوف اللیل أصوات نعی الحسین ولم تر أحداً فمن ذلک:

ألا ی_ا عی_نُ ف_احتفلی بجهدٍ

ومَنْ یبکی علی الشهداء بعدی

علی رهط تقودهُ_مُ المن_ای_ا

إلی متجب_رٍ فی م_لک عب_دِ(2)

ولما سمع ابن عباس بکاءها أسرع إلیها یسألها الخبر فأعلمته بأن ما فی القارورتین یفور دماً.(3)

وفی أصول الکافی أن الإمام الحسین علیه السلام کان قد أودعها ذخائر الإمامة وأوصاها ان تدفعها إلی الإمام زین العابدین علیه السلام.

9- ومما نضیفه هنا ان الإمام حینما اعطی الرخصة لیلاً لأصحابه کی یذهبوا عنه متسترین بهذا اللیل کانت النساء قد سمعن الکلام، هؤلاء النساء اللاتی جئن مع اسرهن مثل أسرة عبد الله بن عمیر الکلبی، وجنادة بن حرث الانصاری، ومسلم بن عوسجة الأسدی وغیرهم ولکن واحدة منهم لم تطلب الرحیل ولم تعلن ذلک أبداً بل بقین مع الرجال الی جنب الامام علیه السلام وهذه مکرمة عظیمة لهؤلاء النساء القویات فی الدین والقویات فی الارادة.


1- المقرم ص291 نقلا عن  تاریخ ابن عساکر ج4، ص 341؛ وفی تاج العروس ج2، ص 103؛ ذکر البیت الأول والثالث وفی روایته لعجزه »من نبی ومالک ورسول«.
2- تاریخ ابن عساکر ج4، ص 341
3- حدیث القارورتین فی معالم الزلفی ص 91 باب 49؛ ومدینة المعاجز ص 244؛ باب 49: کلاهما للسید هاشم البحرانی.

ص: 82

طاء - مجالس العزاء

وقد اقیمت فی الشام حینما کانت السبایا هناک وأیضاً فی کربلاء بعد عودتهن إلیها فی الاربعین وفی المدینة قبل وصول السبایا وبعده.

ومازالت مجالس العزاء حتی یومنا الحاضر تقیمها النساء الموالیات النادبات للامام وهنّ الصورة الحاضرة لنساء الطفوف.

2 - دور المتابعة والحمایة

یکاد یکون هذا الدور خاصا بالسیدة زینب علیها السلام بوصفها مَنْ تولت أمور العیال بعد استشهاد  اخیها علیه السلام ومرض الامام زین العابدین علیه السلام، ولنا ان نتصور ثقل المسؤولیة التی حملتها السیدة زینب فی هذا السفر الطویل الذی بدأ منذ خروج الامام علیه السلام من المدینة حتی عودة الرکب إلیها فی شهر ربیع الاول وقد کانت مهمة جسیمة فی وقت عصیب ومشحون بالتوترات وعدم الاستقرار فی مکان واحد مع وجود الاعداء والحاقدین والشامتین .. وفی مسیر مفعم بالحزن وبخاصة بعد استشهاد الامام وبدء رحلة السبی حیث یذکر المؤرخون انه کان فی موکب السبایا ما یقارب العشرین امرأة واکثر من هذا العدد من الاطفال ومع قطع الرؤوس وحملها علی الرماح امام موکب السبایا وذهول الامهات وأنین الزوجات والبنات وفی نفس الوقت رعایة المریض فقدکانت مهام قاسیة وثقیلة ایضا.

 وتعنی مهمة المتابعة أو الحمایة رعایة شؤون المرضی من النساء والأطفال وحمایة الاطفال وتسلیة النساء وإبقاء الصورة الحسینیة فی اطار الصلابة وعدم الخنوع أو نسیان العزة والکرامة.. ومن هذة الاشارة یمکن ادراک صلابة السیدة وسعة صدرها ومتانة البنیان الروحی عندها وحجم ایمانها بالثورة..

وسنمر علی بعض المواقف التی توجهنا نحو الصورة بشکل سریع، واهمها:

ص: 83

1 . متابعة شأن الإمام الحسین علیه السلام نفسه حتی استشهاده، ونری ذلک بوضوح فی طول المسیرة التی کانت فیها معه ونورد هنا بعض المواقف الأساسیة:

أ- موقف السیدة زینب علیها السلام فی استعلام نوایا أصحاب الإمام علیه السلام.

جاء فی المقتل:

ثم دخل الحسین خیمة زینب ووقف نافع بإزاء الخیمة ینتظره فسمع زینب تقول له: هل استعلمت من أصحابک نیاتهم فانی أخشی ان یسلموک عند الوثبة.

فقال لها: والله لقد بلوتهم فما وجدت فیهم إلا الاشوش الاقعس یستأنسون بالمنیة دونی استیناس الطفل إلی محالب أمه.

قال نافع: فلما سمعت هذا منه بکیت وأتیت حبیب بن مظاهر وحکیت ما سمعت منه ومن اخته زینب.

قال حبیب: والله لولا انتظار أمره لعاجلتهم بسیفی هذه اللیلة، قلت: إنی خلفته عند أخته وأظن النساء أفقن وشارکنها فی الحسرة فهل لک ان تجمع اصحابک وتواجهوهن بکلام یطیب قلوبهن فقام حبیب ونادی: یا أصحاب الحمیة ولیوث الکریهة، فتطالعوا من مضاربهم کالأسود الضاریة فقال لبنی هاشم: ارجعوا إلی مقرکم لا سهرت عیونکم.

ثم التفت إلی أصحابه وحکی لهم ما شاهده ، فقالوا بأجمعهم والله الذی منَّ علینا بهذا الموقف لولا انتظار أمره لعاجلناهم بسیوفنا الساعة! فطبْ نفساً وقرَّ عیناً فجزّاهم خیراً.

وقال هلموا معی لنواجه النسوة ونطیب خاطرهن فجاء حبیب ومعه أصحابه وصاح: یا معشر حرائر رسول الله هذه صوارم فتیانکم آلوا ألا یغمدوها إلا فی رقاب

ص: 84

من یرید السوء فیکم وهذه أسنة غلمانکم اقسموا ألا یرکزوها إلا فی صدور من یفرق نادیکم.

فخرجن النساء إلیهم ببکاء وعویل وقلن: ایها الطیبون حاموا عن بنات رسول الله وحرائر أمیر المؤمنین.

فضج القوم بالبکاء حتی کأن الأرض تمید بهم.(1)

ب - کانت متابعة لشؤون أخیها

وذلک حسبما نقله المقرم فی المقتل:

 قال علی بن الحسین:

سمعت أبی فی اللیلة التی قتل فی صبیحتها یقول وهو یصلح سیفه:

یا دهر أفٍّ لک م_ن خلی_ل

کم لک بالاشراق والاصی_ل

مِنْ صاحب وط_الب قتی_ل

والده_ر لا یقن_ع بالبدی_ل

وانّ_ما الأم_ر إلی الج_لی_ل

وک_ل حیٍّ س_الک سبی_ل

فأعادها مرتین أو ثلاثاً ففهمتها وعرفت ما أراد وخنقتنی العبرة ولزمت السکوت وعلمت ان البلاء قد نزل.

وأما عمتی زینب لما سمعت ذلک وثبت تجرُّ ذیلها حتی انتهت إلیه وقالت: واثکلاه لیت الموت اعدمنی الحیاة! الیوم ماتت أمی فاطمة وأبی علی وأخی الحسن، یا خلیفة الماضی وثمال الباقی فعزاها الحسین وصبَّرها وفیما قال: یا أختاه تعزّی بعزاء الله واعلمی ان أهل الأرض یموتون وأهل السماء لا یبقون وکل شیء هالک الا وجهه، ولی ولکل مسلم برسول الله أسوة حسنة.


1- المقرم ص219 نقلاعن الدمعة الساکبة، ص325.

ص: 85

فقالت علیها السلام: أفتغصب نفسک اغتصاباً فذاک أقرح لقلبی وأشد علی نفسی.

وبکت النسوة معها ولطمن الخدود وصاحت أم کلثوم وامحمده واعلیاه واأماه واحسیناه واضیعتنا بعدک؟!

فقال الحسین: یا اختاه یا ام کلثوم یا فاطمة یا رباب انظرْنَ إذا قتلت فلا تشققن علیّ جیباً ولا تخمشن وجهاً ولا تقلن هجراً.(1)

2 - حمایة الإمام زین العابدین علیه السلام وقد کان مریضاً فی أثناء المعرکة وقد همَّ الأمویون بقتله غیر أنّ زینب علیها السلام کانت الحمی له، وقد ورد فی ذلک عدة مواقف منها:

أ - حینما بقی الإمام الحسین علیه السلام وحیداً خرج ینادی بأعلی صوته: هل من ذاب عن حرم رسول الله؟ هل من موحد یخاف الله فینا؟ هل من مغیث یرجو الله فی اغاثتنا؟ فارتفعت أصوات النساء بالبکاء(2).

ونهض السجاد علیه السلام یتوکأ علی عصا ویجر سیفه؛ لأنه مریض لا یستطیع الحرکة فصاح الحسین بأخته احبسیه؛ لئلا تخلو الأرض من نسل آل محمد، فأرجعته إلی فراشه.(3)

ب - حینما احترقت الخیام وهجمت الجند لسلبها أراد الشمر قتله

جاء فی المقتل:

وانتهی القوم إلی علی بن الحسین وهو مریض علی فراشه لا یستطیع النهوض


1- المقرم ,مقتل الحسین ص218
2- اللهوف، ص 65.
3- المقرم، مقتل الحسین، ص 316.

ص: 86

وقائل یقول: لا تدعوا منهم صغیراً ولا کبیراً وآخر یقول: لا تعجلوا حتی نستشیر الأمیر عمر بن سعد، وجرد الشمر سیفه یرید قتله فقال له حمید بن مسلم: یا سبحان الله أتقتل الصبیان؟ انما هو صبی مریض! فقال: إن ابن زیاد أمر بقتل أولاد الحسین وبالغ ابن سعد فی منعه خصوصاً لما سمع العقیلة زینب أبنة أمیر المؤمنین تقول: لا یقتل حتی اقتل دونه فکفّوا عنه.(1)

ج_ - فی مجلس ابن زیاد

قال الراوی:

التفت ابن زیاد إلی علی بن الحسین وقال له: ما اسمک؟

قال: انا علی بن الحسین.

فقال له: أو لم یقتل الله علیاً؟ فقال السجاد علیه السلام:

کان لی أخ أکبر منی یسمی علیاً قتله الناس.

فردَّ علیه ابن زیاد بأن الله قتله. قال السجاد علیه السلام:

الله یتوفی الأنفس حین موتها وما کان لنفس ان تموت إلا بإذن الله.

فکبر علی ابن زیاد ان یرد علیه فأمر ان تضرب عنقه.

لکنَّ عمته العقیلة اعتنقته وقالت: حسبک یا ابن زیاد من دمائنا ما سفکت وهل ابقیت أحداً غیر هذا فان اردت قتله فاقتلنی معه.

فقال السجاد علیه السلام:

أما علمت ان القتل لنا عادة وکرامتنا من الله الشهادة فنظر ابن زیاد إلیهما وقال: دعوه لها عجباً للرحم ودَّت انها تقتل معه.(2)


1- المقرم ص301.
2- المقرم ص325 نقلا عن ابن الأثیر، ج4، ص 34.

ص: 87

د - فی الشام حینما وضعهم یزید فی الخربة التی لا تقیهم من الحر

جاء فی المقتل الحسینی:

ولقد احدثت خطبة العقیلة زینب هزة فی مجلس یزید وراح الرجل یحدث جلیسه بالضلال الذی غمرهم وانهم فی ای واد یعمهون، فلم یر یزید مناصاً إلا ان یُخرج الحرم من المجلس إلی خربة لا تکنُّهم من حرٍّ ولا برد فأقاموا فیها ینوحون علی الحسین علیه السلام ثلاثة أیام.

وفی بعض الأیام خرج السجاد علیه السلام منها یتروح، فلقیه المنهال بن عمر وقال له: کیف امسیت یا ابن رسول الله؟ قال علیه السلام:

أمسینا کمثل بنی إسرائیل فی آل فرعون یذبحون أبناءهم ویستحیون نساءهم، امست العرب تفتخر علی العجم بان محمداً منها، وامست قریش تفتخر علی سائر العرب بأن محمداً منها، وأمسینا معشر أهل بیته مقتولین مشردین فانا لله وانّا إلیه راجعون.

قال المنهال: وبینما یکلمنی إذ امرأة خرجت خلفه تقول له: إلی این یا نعم الخلف؟ فترکنی واسرع إلیها فسألت عنها قیل: هذه عمته زینب.(1)

ه_ - مواساة الإمام زین العابدین علیه السلام بعد ما رأی مصرع ابیه واخوته وباقی عشیرته

جاء فی المقتل:

وأما علی بن الحسین فإنه لما نظر إلی أهله مجزرین وبینهم مهجة الزهراء بحالة تنفطر لها السماوات وتنشق الأرض وتخر الجبال هدّا عظم ذلک علیه واشتد قلقه فلما تبینت ذلک منه زینب الکبری بنت علی علیه السلام أهمها أمر الإمام فأخذت تسلیه


1- المقرم ص360.

ص: 88

وتصبره وهو الذی لا توازن الجبال بصبره وفیما قالت له:

«ما لی أراک تجود بنفسک یا بقیة جدی وأبی واخوتی فوالله ان هذا العهد من الله إلی جدک وأبیک ولقد اخذ الله میثاق أُناس لا تعرفهم فراعنة هذه الأرض وهم معروفون فی أهل السماوات انهم یجمعون هذه الاعضاء المقطعة والجسوم المضرجة فیوارونها وینصبون بهذا الطف علماً لقبر أبیک سید الشهداء لا یدرس اثره ولا یمحی رسمه علی کرور اللیالی والأیام ولیجتهدن أئمة الکفر واشیاع الضلال فی محوه وتطمیسه فلا یزداد أثره إلاعلواً».(1)

3 - متابعة شأن رقیة علیها السلام حتی دفنها فی الشام:

حیث کانت السیدة زینب علیها السلام معها لما طالبت رؤیة أبیها وجاءوها بالطشت ولما ماتت وغسلت.

4 - متابعة شأن فاطمة بنت الحسین وبخاصة فی موقف الشامی فی مجلس یزید:

نظر رجل شامی إلی فاطمة بنت علی فطلب من یزید ان یهبها له لتخدمه ففزعت ابنة أمیر المؤمنین وتعلقت بالعقیلة زینب وقالت: کیف اخدم؟ قالت العقیلة: لا علیک انه لن یکون أبداً فقال یزید: لو اردت لفعلت! فقالت له: إلا أن تخرج عن دیننا فرد علیها: إنما خرج عن الدین أبوک واخوک! قالت زینب: بدین الله ودین جدی وأبی وأخی اهتدیت أنت وأبوک إن کنت مسلماً قال: کذبت یا عدوة الله! فرقت (علیها السلام) وقالت:

أنت أمیر  تشتم ظالماً وتقهر بسلطانک وعاود الشامی الطلب فزبره یزید ونهره وقال له: وهب الله لک حتفاً قاضیاً.(2)


1- المقرم ص308.
2- الطبری، ج6، ص 265.

ص: 89

وهنا لابد من ان نشیر إلی ان جل مهام متابعة أفراد القافلة الحسینیة وبخاصة بعد استشهاد الإمام کانت مسؤولیة السیدة زینب بعدما أوصاها الإمام الحسین علیه السلام بذلک وعهد إلیها بالمهام الأساسیة.

3 - الدور القیمی

اشارة

لا یغیب عن بالنا ان ثورة الإمام الحسین علیه السلام کانت ثورة قیمیة بکل معناها فقد کانت رحی الحرب تدور بین فریقین؛ أحدهما: آمن بقیم الإسلام ومثله وأخلاقه وسعی لاصلاح المجتمع وفق تلک القیم، والآخر: سعی لایجاد مجتمع آخر مبتعدا عن نهج الإسلام - وان حمل اسمه أمام الملأ - وبعیدا عن هذه القیم وتلک المثل التی حملها الحسین علیه السلام.

والقیم مشتقة من کلمة قیمة وهی مأخذوة من القیام الذی هو نقیض الجلوس ویأتی بمعنی آخر هو العزم وذلک فی قوله تعالی:

(( وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ یَدْعُوهُ)) أی عزم.

ویجیء القیام بمعنی الوقوف والثبات یقال أمة قائمة أی متمسکة بدینها. وقوّم السلعة أی قدّرها وفی ذلک الآیة:

(( ذَلِکَ الدِّینُ الْقَیِّمُ)).

أی المستقیم الذی لا زیغ فیه ولا میل عن الحق.(1)

وتُعرّف القیم بانها معیار للحکم علی کل ما یؤمن به مجتمع ما من المجتمعات البشریة ویؤثر فی سلوک أفراده حیث یتم من خلاله الحکم علی شخصیة الفرد ومدی صدق انتمائه نحو المجتمع بکل افکاره ومعتقداته وأهدافه وطموحاته.(2)


1- د. احمد کنعان، أدب الأطفال والقیم التربویة، ص 133.
2- نفس المصدر، ص 135.

ص: 90

وتتمیز القیم بانها تمثل انعکاساً لمعتقدات أفراد المجتمع، ومن ثم فهی تعکس هویته وصفاته الممیزة.. وغیاب القیمة أو عدم وضوحها یؤدی إلی ضیاع الفرد ذاته ویؤدی به إلی فقدان الاحساس بالحیاة وباهدافها. ویعدّ الدین من العوامل الأساسیة المؤثرة فی بناء القیم. کما وتعدّ المرأة احد أهم وسائل نقل القیم من جیل إلی آخر عبر التربیة من جانب. ومن جانب آخر تکون المرأة اکثر صیانة للقیم؛ لأنها أقل تمرداً علیها وأکثر استجابة لها وأکثر اهتماماً بحفظها وحمایتها.

فی عصر الإمام الحسین علیه السلام اهتزت المنظومة القیمیة من خلال التکالب علی الدنیا وسیادة روح الانهزامیة والوشایة والسعایة وانتشر الفساد والانحراف فی عموم مفاصل الدولة والامة علی حد سواء. وبهذا کان عصر ما قبل ثورة الإمام علیه السلام یمثل ادنی درجات الانهیار الأخلاقی والفساد الاداری والاجتماعی والسیاسی وهذا واضح وعلی اکثر من صعید، وقد بلغ الهبوط القیمی مداه بشکل لا یمکن علاجه بالوعظ والکلمات، حتی کانت واقعة الطف التی أیقظت ضمیر الامة وهزت البنیة التحتیة للنهج الاموی القائم علی منظومة الفساد والتحریف وشراء الذمم والضمائر، ومن ثم افرزت الثورة قائمة طویلة من القیم الإیجابیة العلیا التی کان لها أثر کبیر فی تبدیل أخلاق الأمة کلها لیس علی مدی جیل واحد بل اجیال عدة ولیس علی الواقع الآنی للامة بل علی مستوی الحاضر والمستقبل. ونجحت فی استبدال منظومة القیم فبدلاً من الرضا بحیاة الذل والرضوخ للظالم اصبحت قیمة العز والتضحیة والشهادة ضد الحاکم الظالم هی القیم الجدیدة. وبدل الروح الانهزامیة جاءت روح المبادرة والروح الإیجابیة وهکذا.

ولا أرید استعراض کل قیم الثورة الحسینیة فهذا مجال یطول الکلام عنه ولکنی أرید ان أمر علی القیم التی حملتها النساء إلی المجتمع من خلال تضحیاتهن بحضورهن فی أرض کربلاء، وهی بلا شک قیم کثیرة ترکت اثرها علی نساء زمانها وعلی نساء زماننا

ص: 91

وهی أکثر ما نحتاج إلیه الیوم إزاء التحدیات الجسام التی تحیط بالمرأة المسلمة.

والملاحظ ان هذه القیم قد ظهرت فی وقت امتحان القیم وکان امتحاناً عسیراً واختباراً صعباً للغایة خسر فیه الکثیر من صنادید الرجال لکن نجحت هذه المجموعة الصغیرة فی بیانها وایضاحها - علی الرغم من قلة الامکانات - لکن ارادة النساء صنعت المعجزات.(1)

وابرز هذه القیم:

ألف . الدفاع عن المقدس

لا بد من الاشارة أولا إلی ان الأمة الاصیلة والتی تتمتع بعوامل القوة والخلود هی التی تحافظ علی مقدساتها وتعمل علی صیانتها أمام التیارات والاتجاهات المخالفة والتی تسعی بکل الوسائل لأجل اضعاف وضعضعة البنی التحتیة للامة القویة وأول خطوة فی هذا المجال هو اختراق المقدس نفسه ومصادرة قدسیته واسقاطه کرمز ثابت وحیوی فی عیون ابنائه ومن ثم تنفصل الأمة عن تاریخها وتراثها وعن احد اهم عناصر القوة فیها وتصبح مقطوعة الجذور متکسرة الدعائم. وهذا یفسر لنا سبب تزاید الموضات الجدیدة فی الرسوم الکاریکاتوریة ضد رموز الإسلام العظیم والتی تدخل ضمن اطار الهجمة الشرسة علی الاسلام ومقدساته، فاذا أُهین المقدس تختل خطوط التواصل بینه وبین الامة مما یمهد لبدء التشویش والتشکیک ضمن هذه العلاقة وفی المرة الأولی قد تصبح المعارضة قویة؛ لان العلاقة مازالت متأصلة لکن مع تداوم الهجوم تضعف ردود الفعل. ویصبح الامر اشد طامة فیما إذا تخلی العلماء والمثقفون عن ادوارهم فی بیان استتباعات الاحداث، ولکن إذا ضعفت المواجهة فسوف تتواری صور


1- یقول مرتضی مطهری (لیس هناک أیة واقعة فی التاریخ تعکس الفضائل الإنسانیة کواقعة کربلاء)  الملحمة الحسینیة,ج1، ص 68.

ص: 92

المقدسات العلیا خلف الرموز البدیلة وتزداد ضبابیة الصورة فی عیون أبنائها شیئاً فشیئاً ولا یبقی للأبناء شیء یسمونه المقدس کی یحافظوا علیه!.

ولقد کان المسلمون فی عصر الرسالة یشعرون بالقداسة الکبری لشخص الرسول صلی الله علیه وآله وسلم ولکننا نری انکسار هذه القداسة من خلال الأحداث التی جرت بعده فالناس انشغلوا عن موته ودفنه بأحداث السقیفة وجاءوا بمن یرغبون ناکثین الولاء والعهد الذی قدموه یوم الغدیر!. ثم جاءت شهادة الزهراء علیها السلام کأقسی انتهاک لصورة المقدس وفی زمن قصیر بعد وفاة ابیها وبصورة مؤلمة للغایة.. حریق عند الباب، حصار، ضرب حتی ماتت ساخطة علی الشیخین وعلی کثیر غیرهما وکان تغییب قبر الزهراء علیها السلام بحد ذاته نوعاً من الاحتجاج الازلی علی عدم حفظ المقدسات وعلی عدم احترام الأمة نفسها لمکانة العترة التی هی عدل القرآن کما جاء فی الحدیث المروی عن الرسول صلی الله علیه وآله وسلم: انی تارک فیکم الثقلین کتاب الله وعترتی(1)، ویبقی هذا الاحتجاج جلیا خالداً کنوع من وخز الضمیر والتذکیر بالمقدس المنتهک الحرمة.

وبهذا تجرأت الأمة علی المقدس؛ إذ لم تبق هناک مساحات محرمة لا یمکن اختراقها واصبح المقدس نفسه فی صورة اللا مقدس أو بالاحری الشیء العادی الذی عندهم. وساد سوء الظن والفتنة والشک فکانت شهادة الإمام علی بن أبی طالب علیه السلام فی الشهر المقدس والمکان المقدس والوقت المقدس!!، وهو علیه السلام ایضا کان الامام المعصوم والقرآن الناطق فهو المقدس ولکن الامة لم تعد تنظر إلی الحدود الأولی للمقدس کما کان الأمر فی زمن الرسول صلی الله علیه وآله وسلم، ولهذا نجد الإمام الحسن علیه السلام یعانی الأمرّین فانصاره یکنوه ب_(یا مذل المؤمنین) وأعداؤه


1- صحیح مسلم122 / 7 صحیح الترمذی328 / 5.

ص: 93

یتربصون لقتلهِ، وحتی لما استشهد بعد ان دست زوجته السم له (انظر إلی الساحة القریبة لاجتثاث المقدس) جاء التجرؤ علی جسده فی التابوت فکان رمی الجنازة بالنبال وکان المنع من دفنه إلی جوار جده الذی قال عنه:

«من أحب الحسن والحسین فقد احبنی، ومن ابغضهما فقد ابغضنی»(1)

فی حین ان المیت المسلم حتی لو کان إنساناً عادیاً جداً فله حرمة وله قداسة وهذه القداسة الخاصة تتطلب دفنه فی المکان الذی یلیق به والصلاة علیه وعدم اهانة جنازته! إلی غیر ذلک.

ولقد افرزت ثورة الإمام الحسین علیه السلام نمطین من التعامل مع المقدس:

نمطاً حفظ هذه القدسیة وصانها وحماها..

ونمطاً استهان بها إلی أبعد الحدود فانتهک الحرمة واتی بکل قبیح ومنکر..

ففی واقعة الطف قتلوا سید شباب اهل الجنة وریحانة الرسول صلی الله علیه وآله وسلم فاستحلوا دمه ومثّلوا بجثته علیه السلام، ولا یجوز التمثیل حتی بالکلب العقور! وذبحوه ورفعوا راسه علی الرمح یطوفون به فی البلدان استبشارا وفرحا وسرورا!!.

وسبوا نساءه المسلمات المخدرات حرم رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم ونساء بیت الوحی، ولا یجوز أصلاً سبی المرأة المسلمة، إلی غیر ذلک من صور العنف القاسی ضد أهل البیت علیهم السلام الذین أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهیراً.

 وقد عمل الامویون علی تشویه صورة المقدس بدعوی ان الذی ثار علیهم کان خارجیا!! ولم یعلنوا عن الاسم الصریح له ومن أین جاء الی کربلاء!. فقد راعهم الاستقبال الکبیر الذی اعده اهل الکوفة لما سمعوا باقبال الحسین الیهم:


1- سنن ابن ماجة فی فضائل الحسن والحسین , ومسند احمد2\288و440 و531

ص: 94

... ولکن الناس لما ذهبوا لاستقباله (الامام الحسین) عند مدخل المدینة، فدخَلها (ابن زیاد) فی أهله وحشمه وعلیه عمامة سوداء قد تَلَثَّم بها، وهو راکب بغلة والناس یتوقعون قدوم الحسین فجعل ابن زیاد یسلم علی الناس فیقولون: وعلیک السلام یا ابن رسول الله! (تصوروه الحسین) قدمْتَ خیر مَقْدَم، حتی انتهی إلی القصر وفیه النعمان بن بشیر، فتحصَّنَ فیه، ثم أشرف علیه، فقال: یا ابن رسول الله مالی ولک؟ وما حملک علی قصد بلدی من بین البلدان؟ فقال ابن زیاد: لقد طال یومک یا نعیم، وحَسَرَ اللثام عن فیه، فعرفه، ففتح له، وتنادی الناس: ابن مرجانة، وحَصَبوه بالحصباء، ففاتهم ودخل القصر!!.(1) إذ ان الذی استقبلوه کان ملثما وقد تصوروا انه الحسین فی حین انه کان عبید الله بن زیاد الذی جاء لتولی منصبه الجدید والیا علی الکوفة!!. هذه الحادثة کشفت للامویین عن مکانة الامام فی قلوب الناس فوضعوا خططا جدیدة لتقویض الحرکة الحسینیة واولها اخفاء اسم الثائر وتشویه ثورته. وإذا کان هناک من یجهل من هو الثائر فکیف بالذی عاش معه دهرا!!. کعمر بن سعد فهؤلاء یعرفون من هو الحسین علیه السلام ویعرفون انه المقدس ولکنهم تمردوا علیه بتلک الصورة الوحشیة!. وقد حاول الامام علیه السلام ان یذکرهم بالقداسة لما خرج یوم عاشوراء، إذ کان قد ارتدی عمامة رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم؛ لإلقاء الحجة علیهم.

وفی الصورة الأولی نجد أصحاب الإمام علیه السلام قمة سامیة فی التفانی والفداء صیانة للمقدس، ونجد وصایاهم کلها تدور حول نصرة الإمام علیه السلام والتضحیة دونه.(2) فلقد تفانی الجمیع رجالا ونساء فی تقدیم الدعم للامام ولم یتخلَّ


1- المسعودی, مروج الذهب ومعادن الجوهر، ج 3، ص 66.
2- راجع المقرم، مقتل الحسین علیه السلام 212 - 214.

ص: 95

واحد او واحدة عن نصرة الامام رغم ان التحدی کان خطیرا، فهذا وهب الکلبی بالغ فی الجهاد وکان معه امرأته ووالدته فرجع إلیهما وقال: یا امّه أرضیت ام لا؛ فقال الأم: ما رضیت حتّی تقتل بین یدی الحسین علیه السلام؛ وقالت امرأته بالله علیک لا تفجعنی بنفسک؛ فقالت له امّه یا بنیّ اعزب عن قولها وارجع فقاتل بین یدی ابن بنت نبیّک تنل شفاعة جدّه یوم القیمة فرجع فلم یزل یقاتل حتّی قطعت یداه فاخذت امرأته عموداً فاقبلت نحوه وهی تقول فداک ابی وأمی قاتل دون الطیّبین حرم رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم) فاقبل کی یردّها إلی النساء فأخذت بجانب ثوبه وقالت: لن أعود دون ان أموت معک فقال الحسین علیه السلام جزیتم من أهل بیتی خیراً ارجعی إلی النساء رحمک الله فانصرف إلیهنّ ولم یزل الکلبی یقاتل حتّی قتل رضوان الله علیه.(1)

وهذه ام عمرو بن جنادة الانصاری تدفع ولدها لحمایة المقدس:

فعندما جاء عمرو بن جنادة الانصاری بعد أن قتل ابوه وهو ابن إحدی عشرة سنة یستأذن الحسین فأبی وقال: هذا غلام قتل أبوه فی الحملة الأولی ولعل أمه تکره ذلک قال الغلام: ان أمی امرتنی؛ فإذن له فما أسرع أن قتل ورمی برأسه إلی جهة الحسین فأخذته امه ومسحت الدم عنه وضربت به رجلاً قریباً منها فمات وعادت إلی المخیم.(2)

وماریا التی جادت بالمال لنصرة المقدس.

ویمکن مراجعة أدوار النساء فی نصرة آل البیت علیهم السلام والتی تدخل ضمن صیانة المقدس والدفاع عنه. وقد سعت حرائر أهل البیت علیهم السلام إلی کشف


1- ابن طاووس، اللهوف، ص105.
2- المقرم، ص253.

ص: 96

اللثام عن خداع بنی امیة حینما القت السیدة زینب علیها السلام خطبتها فی الکوفة فعرف الناس انهم حاربوا المقدس وهتکوا حرمة القداسة ولهذا انطلقت الثورات بعدها فکانت ثورة التوابین والمختار إلی غیر ذلک.

قالت السیدة زینب فی خطبتها:

وأنّی ترحضون، قتل سلیل خاتم النبوة، ومعدن الرسالة. ومدرة حجتکم ومنار محجتکم، وملاذ خیرتکم، ومفزع نازلتکم. وسید شباب أهل الجنة ألا ساء ما تزرون.

وقالت ام کلثوم:

وأی دماء سفکتم وأی کریمة أصبتموها وأی صبیة أسلمتموها وأی أموال انتهبتموها قتلتم خیر الرجالات بعد النبی ونزعت الرحمة من قلوبکم ألا إن حزب الله هم المفلحون. وحزب الشیطان هم الخاسرون.

وقالت فاطمة بنت الحسین:

حتی قبضه الله تعالی الیه محمود النقیة، طیب العریکة، معروف المناقب، مشهور المذاهب، لم تأخذه فی الله سبحانه لومة لائم، ولا عذل عاذل، هدیته اللهم للإسلام صغیراً، وحمدت مناقبه کبیراً، ولم یزل ناصحاً لک ولرسولک، زاهداً فی الدنیا غیر حریص علیها، راغباً فی الآخرة، مجاهداً لک فی سبیلک، رضیته فاخترته وهدیته إلی صراط مستقیم.

باء . قیم حمایة المرأة
اشارة

کشفت الواقعة عن سمو السلوک الانسانی لدی الامام فی تعامله مع النساء، وعن تدنی السلوک الاموی فی هذا التعامل. واذا اخذنا بعین الاعتبار ان الرؤی المعاصرة تعدّ التعامل مع المرأة وما علیه من اوضاع اجتماعیة من تدهور أو تخلف أو ارتقاء مقیاسا لتفسیر تخلف المجتمع أو تقدمه استطعنا ان نصل الی فهم اعمق  لواقعة الطف من خلال

ص: 97

هذه المعادلة. ففی الوقت الذی یبذل الامام علیه السلام جهده فی ان لا یُقحم النساء فی الحرب العسکریة یسعی التیار الاموی الی تسلیط مزید من الضغوطات علی الامام من خلال استفزاز النساء واحراق الخیام فیما بعد والطواف بهن فی البلدان !!. وفی الوقت الذی نری الرؤی المعاصرة تبتز قداسة المرأة الانسان والخلیفة نجد الاسلام یحرص علی حمایة المرأة ضمن الدائرة الانسانیة.

وعموما تتجلی قیم صیانة المرأة فی جانبین:

فمن جهة ان الإمام الحسین علیه السلام سعی إلی صیانة المرأة المتواجدة فی أرض المعرکة وتمت هذه الصیانة والحفظ لمکانة المرأة من خلال عدة أمور منها:

1 - منع الإمام الحسین علیه السلام النساء من القتال

عندما اخذت ام وهب بنت عبد الله من النمر بن قاسط عموداً واقبلت نحو زوجها وهی تقول فداک ابی وامی قاتل دون الطیبین حرم رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم فأراد ان یردها إلی النساء فأخذت بجانب ثوبه وقالت لن أعود دون ان اموت معک فقال الحسین علیه السلام جزیتم من أهل بیتی خیراً ارجعی إلی الخیمة فأنه لیس علی النساء قتال فرجعت(1)... وعندما رد ام عمرو بن جنادة الانصاری إلی الخیمة بعد أن اصابت بالعمود رجلین.

2 - خاطب الإمام الأعداء بان لا یتعرضوا للنساء فهو الذی یقاتل

قال مخاطبا أعداءه:

ویلکم یا شیعة آل أبی سفیان ان لم یکن لکم دین وکنتم لا تخافون المعاد فکونوا أحراراً فی دنیاکم هذه وارجعوا إلی احسابکم إن کنتم عرباً کما تزعمون، قال فناداه شمر لعنه الله: ما تقول یا ابن فاطمة، فقال انی أقول أقاتلکم وتقاتلوننی والنساء لیس


1- المقرم ص239.

ص: 98

علیهن جناح فامنعوا عتاتکم وجهّالکم وطغاتکم من التعرّض لحرمی ما دمت حیّاً(1)...

3 - حفر الخندق حول الخیام

ثم انه علیه السلام أمر أصحابه ان یقاربوا البیوت بعضها من بعض لیستقبلوا القوم من وجه واحد، وأمر بحفر خندق من وراء البیوت یوضع فیه الحطب ویلقی علیه النار إذا قاتلهم العدو کیلا تقتحمه الخیل، فیکون القتال من وجه واحد.(2)

4 - منع النساء من الخروج من الخیام حتی استشهاده علیه السلام

ولم تخرج النساء من الخیام حتی احتراقها علی أغلب الروایات. والدلیل مجیء فرس الحسین ناعیا راکبه عند باب الخیمة التی تجمعت فیها النساء وهو یصهل بحزن وفی ذلک یعلق مرتضی مطهری فی ملحمته ان النساء کن فی الخیام وکلما سمعن صوت الامام شعرن بالامن والسکینة وانما بقین فی الخیام طاعة لوصایاه علیه السلام ویضیف مطهری: ان اوامر الامام کانت صارمة فی عدم تجاوز الخیمة. نعم هناک بعض الروایات عن خروج السیدة زینب علیها السلام وبعض النساء عن الخیام لأمور طارئة ولدقائق معدودة منها:

1- خروج السیدة زینب علیها السلام لما استشهد علی الاکبر.. وروی الطبریّ: عن حُمید بن مسلم الأزدی قال: سماع أذنی یومئذ من الحسین یقول: قتل الله قوماً قتلوک یا بُنیّ، ما أجرأهم علی الرّحمن وعلی انتهاک حرمة الرّسول، علی الدّنیا بعدک العفاء. قال: وکأنِّی أنظر إلی امرأة خرجت مُسرعة کأنّها الشّمس الطالعة تنادی: یا أُخیّاه ویا ابن أخاه! قال: فسألتُ عنها فقیل: هذه زینب أبنة فاطمة بنت رسول الله،


1- اللهوف، ص120.
2- الطبری، ج1، ص 240.

ص: 99

فجاءت حتّی أکبّت علیه، فجاءها الحسین، فأخذ بیدها فردّها إلی الفسطاط، وأقبل الحسین إلی ابنه، وأقبل فتیانه إلیه فقال: إحملوا أخاکم. فحملوه من مصرعه حتّی وضعوه بین یدیّ الفسطاط الذی کانوا یقاتلون أمامه.(1)

2- خروج أم وهب إلی المیدان فردها الحسین الی الخیمة (جزیتم عن أهل بیت نبیکم خیراً إرجعی إلی الخیمة).

3- روایة یذکرها ارباب المنبر الحسینی حول تقدیم الجواد للامام لما سقط علی ارض المعرکة.

4- خروج ام عمرو بن جنادة الانصاری، (فأخذته امه ومسحت الدم عنه وضربت به رجلاً قریباً منها فمات وعادت إلی المخیم).(2)

ولعل هناک مواقف أخری مختلفاً فی صحتها لکن الأعم ان النساء بقین فی الخیام طاعة للحسین علیه السلام حتی جاء الجواد باکیا.

5 - مراعاة مشاعر النساء

ا- الامام یصبّر ابنته سکینة:

 قال المقرم فی مقتله علیه السلام:

والتفت الحسین إلی ابنته سکینة التی یصفها الحسن المثنی «بأن الاستغراق مع الله غالب علیها» فرآها منحازة عن النساء باکیة نادبة فوقف علیها مصبراً ومسلیاً ولسان حاله یقول:

ه_ذا الوداع عزیزتی والملتقی

یوم القیامة عند ح_وض الکوثر


1- العلامة السید مرتضی العسکری، معالم المدرستین، ص 434.
2- المقرم، ص253.

ص: 100

ف_دعی البکاء وللأسار تهیَّأی

واستشعری الصبر الجمیل وبادری

وادا رأیتینی علی وج_ه الثّری

دامی الورید مبضَّع_اً فتصبَّ_ری(1)

ب- ویتألم  الامام لبکاء النساء فیطلب من العباس وابنه الاکبر اسکاتهن:

قال المقرم فی مقتله علیه السلام:

 ثم دعا براحلته فرکبها ونادی بصوت عال یسمعه جلهم:

أیها الناس اسمعوا قولی ولا تعجلوا حتی أعظکم بما هو حق لکم علی، وحتی اعتذر إلیکم من مقدمی علیکم فان قبلتم عذری وصدقتم قولی وأعطیتمونی النصف من أنفسکم کنتم بذلک أسعد ولم یکن لکم علیَّ سبیل وإن لم تقبلوا منی العذر ولم تعطوا النصف من أنفسکم فأجمعوا أمرکم وشرکاءکم ثم لا یکن أمرکم علیکم غمة ثم اقضوا إلی ولا تنظرون إن ولییِّ الله الذی نزل الکتاب وهو یتولی الصالحین.

فلما سمعّت النساء هذا منه صحْنَ وبکیْنَ وارتفعت اصواتهنَّ فأرسل إلیهنَّ أخاه العباس وابنه علیاً الأکبر وقال لهما: أَسکتاهنَّ فلعمری لیکثرنّ بکاؤهنَّ.(2)

ج- ثم انه علیه السلام ودع عیاله ثانیاً وامرهم بالصبر ولبس الأزر، وقال: استعدوا للبلاء واعلموا ان الله تعالی حامیکم وحافظکم...

د- مقولته علیه السلام لما رأی عمروبن جنادة الانصاری یستأذنه للحرب: هذا غلام قتل ابوه بالحملة الأولی ولعل أمه تکره ذلک....

ه_- لما همّ بالخروج من المدینة اجتمعت النساء باکیات فمشی إلیهن الحسین وسکتهن وقال: أنشدکن الله ان تبدین هذا الأمر معصیة لله ولرسوله...(3)


1- المقرم، ص 277.
2- المقرم، ص 227.
3- المقرم، ص137.

ص: 101

6- اسناد مسؤولیات حمایة العیال والنساء إلی السیدة زینب علیها السلام وکان الإمام زین العابدین علیه السلام مریضاً من جهة، ومن جهة أخری؛ لأنها قادرة علی توجیه النساء أنفسهن الوجهة المتناسبة مع قیم الثورة وأخلاقها وهو ما سنتطرق إلیه لاحقا.

7- ولقد استغل الاعداء انشغال الامام بعیاله فقال عمر بن سعد: ویحکم اهجموا علیه ما دام مشغولاً بنفسه وحرمه والله إن فرغ لکم لا تمتاز میمنتکم عن میسرتکم، فحملوا علیه یرمونه بالسهام حتی تخالفت السهام بین أطناب المخیم وشک سهم بعض ازر النساء فدهشْنَ وارعبْنَ وصحْنَ ودخلن الخیمة ینظرن إلی الحسین کیف یصنع فحمل علیهم کاللیث الغضبان فلا یلحق أحداً إلا بعجه بسیفه فیقتله والسِهام تأخذه من کل ناحیة وهو یتقیها بصدره ونحره.(1)

ولما وصل الماء لیشرب منه ترکه لما سمع بتجاوز الاعداء علی خدر النساء عندما قصده القوم واشتد القتال:

وقد اشتد به العطش، فحمل عن نحو الفرات علی عمرو بن الحجاج وکان فی أربعة آلاف فکشفهم عن الماء واقحم الفرس الماء فلما همَّ الفرس لیشرب قال الحسین: انت عطشان وانا عطشان فلا اشرب حتی تشرب! فرفع الفرس رأسه کأنه فهم الکلام ولما مد الحسین یده لیشرب ناداه رجل اتلتذ بالماء وقد هتکت حرمک؟ فرمی الماء ولم یشرب وقصد الخیمة.(2)

وللنساء فی هذه الواقعة مواقف انسانیة رائعة ضمن قیم خاصة منها:

1 - امرأة من الکوفیات تجمع الأزر والمقانع للنساء:


1- المقرم، ص 277.
2- المقرم، ص 275.

ص: 102

جاء فی المقتل: فاشرفت إمرأة من الکوفیّات فقالت من أی الأساری أنتنّ فقلن نحن أساری آل محمد صلی الله علیه وآله وسلم فن_زلت المرأة من سطحها فجمعت لهن ملاء، وازراً ومقانع واعطتهن فتغطّین.(1)

2 - فی سبی النساء تطلب السیدة ام کلثوم ان یمر بطریق قلیل النظارة: ولما قربوا من دمشق أرسلت أم کلثوم إلی الشمر تسأله أن یدخلهم فی درب قلیل النظّار ویخرجوا الرؤوس من بین المحامل لکی یشتغل الناس بالنظر إلی الرؤوس فسلک بهم علی حالة تقشعر عن ذکرها الابدان وترتعد لها فرائص کل انسان.(2)

3 - فی الشام تتصدی السیدة زینب علیها السلام لصیانة فاطمة بنت الحسین فی موقف الشامی الذی ارادها جاریة وتعلنها ثورة ضده فی مجلسه:

نظر رجل شامی إلی فاطمة بنت علی فطلب من یزید ان یهبها له لتخدمه ففزعت ابنة أمیر المؤمنین وتعلقت بالعقیلة زینب وقالت: کیف اخدم؟ قالت العقیلة: لا علیک انه لن یکون أبداً فقال یزید: لو اردت لفعلت! فقالت له: إلا أن تخرج عن دیننا فرد علیها: إنما خرج عن الدین أبوک واخوک! قالت زینب: بدین الله ودین جدی وأبی وأخی اهتدیت أنت وأبوک إن کنت مسلماً قال: کذبت یا عدوة الله! فرقت (علیها السلام) وقالت: أنت أمیر مسلط تشتم ظالماً وتقهر بسلطانک وعاود الشامی الطلب فزبره یزید ونهره وقال له: وهب الله لک حتفاً قاضیاً.(3)

4 - السیدة سکینة بنت الحسین علیها السلام تطلب من سهل بن سعد الساعدی ان یقدموا الرؤوس امام النساء:


1- اللهوف علی قتلی الطفوف، ص144.
2- المقرم، ص 347.
3- الطبری، ج6، ص 265.

ص: 103

جاء فی المقتل:

ودنا سهل بن سعد الساعدی من سکینة بنت الحسین وقال: ألک حاجة فأمرته ان یدفع لحامل الرؤوس ان یجعل الرؤوس أمام النساء، کی تنشغل الناس بالنظر إلی الرؤوس عن النظر إلی أساری آل محمد صلی الله علیه وآله وسلم ففعل «سهل».((1)

4 - فی مواجهة السیدة زینب علیها السلام مع یزید تذکره بالقیم الخاصة بالمرأة وحجابها بالقول:

امن العدل یا ابن الطلقاء، تخدیرک حرائرک وإماءک، وسوقک بنات رسول الله سبایا، قد هتکت ستورهنَّ، وابدیت وجوههنَّ، تحدو بهنَّ الأعداء من بلد إلی بلد، ویستشرفهنَّ أهل المناهل والمعاقل، ویتصفح وجوههنَّ القریب والبعید، والدنی والشریف، لیس معهنَّ من حماتهنَّ حمی ولا من رجالهنَّ ولی....

جیم . ادب التعامل مع المصاب الجلل

فی واقعة الطف استشهد آل البیت کلهم فضلاً عن ریحانة رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم ولم یکتف الحال بالقتل بل کان التمثیل بالجثث الذی ربما کان اقسی من فاجعة القتل نفسها، ولکن حرائر بیت الوحی تعاملن مع الموقف القاسی بکل صبر وتجلد ولا ینقل التاریخ ان ای واحدة بدر منها ما یخالف الشریعة فی السلوک. ولنا ان نستعرض المواقف الآتیة لنکون علی بینة من ذلک.

- فقد جاء فی المقتل:

ان الامام علیه السلام لما ارتجز الأبیات سمعت ذلک السیدة زینب علیها السلام (... وثبت تجرُّ ذیلها حتی انتهت إلیه وقالت واثکلاه لیت الموت اعدمنی الحیاة! الیوم ماتت أمی فاطمة وأبی علی وأخی الحسن، یا خلیفة الماضی وثمال الباقی فعزاها الحسین


1- 1- المقرم، 394.

ص: 104

وصبَّرها وفیما قال: یا أختاه تعزّی بعزاء الله واعلمی ان أهل الأرض یموتون وأهل السماء لا یبقون وکل شیء هالک الا وجهه، ولی ولکل مسلم برسول الله أسوة حسنة.

فقالت علیها السلام:

افتغصب نفسک اغتصاباً فذاک أقرح لقلبی وأشد علی نفسی.

وبکت النسوة معها ولطمن الخدود وصاحت أم کلثوم وامحمده واعلیاه واأماه واحسیناه واضیعتنا بعدک؟!

فقال الحسین:

یا اختاه یا ام کلثوم یا فاطمة یا رباب انظرْنَ إذا قتلت فلا تشققن علیّ جیباً ولا تخمشن وجهاً ولا تقلن هجراً.

ثم انه علیه السلام ودع عیاله ثانیاً وامرهم بالصبر ولبس الأزر، وقال:

استعدوا للبلاء واعلموا ان الله تعالی حامیکم وحافظکم...(1)

هذا حصل قبل مقتله اما ما حصل بعد استشهاده علیه السلام فقد جاء فی المقتل:

 فقلن النسوة: بالله علیک إلا ما مررتم بنا علی القتلی، ولما نظرن إلیهم مقطعی الأوصال قد طعمتهم سمر الرماح ونهلت من دمائهم بیض الصفاح وطحنتهم الخیل بسنابکها صحن ولطمن الوجوه وصاحت زینب:

یا محمداه هذا حسین بالعراء مرمل بالدماء مقطع الأعضاء، وبناتک سبایا وذریتک مقتلة فأبکت کل عدو وصدیق حتی جرت دموع الخیل علی حوافرها.(2)


1- المقرم، ص217.
2- المقرم، ص307.

ص: 105

ثم بسطت یدیها تحت بدنه المقدس ورفعته نحو السماء وقالت:

إلهی تقبل منا هذا القربان(1)..

- بکاء النساء علی مصرع العباس:

 ورجع الحسین إلی المخیم منکسراً باکیاً یکفکف دموعه بکمه وقد تدافعت الرجال علی مخیمه فنادی: أما من مغیث یغیثنا؟ أما من مجیر یجیرنا؟ أما من طالب حق ینصرنا، اما من خائف من النار فیذب عنا! فأتته سکینة وسألته عن عمها، فاخبرها بقتله! وسمعته زینب فصاحت:

وا أخاه وا عباساه وا ضیعتنا بعدک!

وبکیت النسوة وبکی الحسین معهن وقال:

وا ضیعتنا بعدک!!(2)

- موقف السیدة مع ابن زیاد

جاء فی المقتل:

ووضع رأس الحسین بین یدیه وجعل ینکث بالقضیب ثنایاه... وانحازت زینب ابنة أمیر المؤمنین علیه السلام عن النساء وهی متنکرة لکن جلال النبوة وبهاء الإمامة المنسدل علیها استلفت نظر ابن زیاد فقال: من هذه المتنکرة؟

قیل له: أبنة أمیر المؤمنین «زینب العقیلة».

فأراد ان یحرق قلبها بأکثر مما جاء إلیهم فقال متشمتاً: الحمد لله الذی فضحکم وقتلکم وأکذب أحدوثتکم.


1- المقرم  ص 307.
2- المقرم ، ص 370.

ص: 106

فقالت علیها السلام:

الحمد لله الذی اکرمنا بنبیه محمد وطهرنا من الرجس تطهیراً، انما یفتضح الفاسق، ویکذب الفاجر، وهو غیرنا.

قال ابن زیاد کیف رأیت فعل الله بأهل بیتک؟

قالت علیها السلام:

ما رأیت إلا جمیلاً.(1)

دال . ایثار المصلحة العامة علی المصلحة الخاصة
اشارة

غالباً ما تتهم النساء بأنهن منغمسات فی ذواتهن أو انهن یعشنَ فقط لمصالحهن الشخصیة!! ویقیم هؤلاء  الدلیل علی ما یقولون من خلال مایرونه من تهافت النساء علی الموضة واستنفاذ المال والوقت والجهد من أجل التجمل وتحسین الصورة والمظهر واهمال البعض لمهامهن الأسریة. غیر ان هذا لا یجد له إلا صدی محدوداً؛ اذ ان البعض یحاول الرد علی هذه التهمة الأزلیة بما تفرزه صورة الأمومة من تضحیة وفداء وإیثار علی النفس بشکل لا یقبل الجدل فالام نموذج سامٍ للتضحیة ونکران الذات. غیر أنّ آخرین یفسرون الأمومة أیضاً بانها إشباع لغریزة ذاتیة تنطلق ایضا من ذات المرأة وما تقدمه من تضحیات وعناء وفداء انما تحصد نتائجه هی أولاً قبل غیرها . وأیاً کانت الآراء فمما لاشک فیه ان المرأة کالرجل تعیش اهدافها الایمانیة والوطنیة وهی تقدم ابناءها وزوجها لما آمنت به من مثل، وهذا یعنی ان لا تفاوت بین الجنسین فی التنازل عن المصالح الذاتیة من اجل المصالح العلیا. وقد افرزت الواقعة عن هذه القیمة العظیمة عند النساء أنفسهن فهؤلاء النساء اللائی خرجن مع الإمام الحسین علیه السلام فی رحلته الطویلة انما کن یبغین أهدافاً علیا فی نصرة الإمام وصیانة عقیدة الولاء ولم یکن


1- المقرم 324.

ص: 107

الإمام نفسه یمثل نفسه بالنسبة لهن بمعنی انه الأخ أو الزوج أبداً فحسب، بل ان الإمام کان یمثل القیادة والإمامة والشرعیة ولهذا کان الدفاع عن الإمام دفاعاً عن الإسلام کله ودفاعاً عن مقدساته.

یقول الشیخ مرتضی مطهری: الشیء الوحید الذی لا یمکن ان نراه مطلقاً فی منطق الإمام الحسین علیه السلام هو منطق المنفعة والمصلحة الذاتیة. فکربلاء کلها کانت سیراً إلی الله.(1)

وعادة فی کل سفر نروم القیام به فلابد ان نبحث عن ادوات الراحة من خلال وسیلة السفر والمکان الذی نقصده والظروف المحیطة بالسفر. فی حین ان هؤلاء النساء لما خرجن مع الإمام لم یسألن عن مفردات الراحة وقد ترکن بیوتهن لنصرة الإمامة کما ترکت السیدة زینب علیها السلام بیتها وزوجها المریض لنصرة الإمام. فهؤلاء خرجن فی سفر صعب وشاق للغایة, فقد کان الجانب الأمنی فی هذا السفر مبهماً ولا یمکن تثبیته أبداً، فهو سفر محفوف بالمخاطر وإلیه اشارت أحادیث الرسول صلی الله علیه وآله وسلم السابقة التی تنذر بکارثة فی نهایة المطاف. ثم هو سفر طویل فی ظروف صعبة وحرجة. والغایة من هذا السفر هو نصرة الإمامة والدین.. وهو هدف کل البعد عن الغایات الذاتیة المحددة.

علی هذا لا نجد فی قاموس الذین خرجوا مع الإمام من المدینة رجالاً ونساء هدفا واضحا سوی مصلحة الدین وحمایة الإمامة لا أکثر. وبذلک ضربت هؤلاء النساء أعلی درجات التسامی فی هذا الإیثار الکبیر الذی خاب فیه الکثیرون. فالإمام علیه السلام کتب لبنی هاشم وصیة: من لحق بنا منکم استشهد، ومن تخلف لم یبلغ الفتح(2). ورغم


1- مطهری الملحمة الحسینیة.
2- المقرم ص66.

ص: 108

ذلک فقد خرج بهذا العدد القلیل الذی شکلت فیه النساء الحضور الکبیر.

وإذا أردنا ان نأخذ دلالات أخری علی هذه القیمة نجد ذلک فی أمور:

1 . الأم تحث ولدها علی الشهادة لنصرة الإمام

کما حصل مع ام وهب الکلبی..قال الراوی:

.. وبالغ وهب فی الجهاد وکان معه امرأته ووالدته فرجع إلیهما وقال یا امّه أرضیت أم لا فقالت الأم ما رضیت حتّی تقتل بین یدی الحسین (علیه السلام)، وقالت امرأته بالله علیک لا تفجعنی بنفسک فقالت له أمّه یا بنیّ اعزب عن قولها وارجع فقاتل بین یدی ابن بنت نبیّک تنل شفاعة جدّه یوم القیمة(1).

2 . ام عمرو بن جنادة الانصاری

وجاء عمرو بن جنادة الانصاری بعد أن قتل ابوه وهو ابن إحدی عشرة سنة یستأذن الحسین فأبی وقال: هذا غلام قتل أبوه فی الحملة الأولی ولعل أمه تکره ذلک قال الغلام: إن أمی امرتنی فأذن له فما أسرع أن قتل.((2)

3 . دلهم تحث زوجها علی الالتحاق بالحسین علیه السلام

فقالت له زوجته وهی دلهم بنت عمرو: سبحان الله أیبعث إلیک ابن رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم ثم لا تأتیه؟ فلو اتیته فسمعت من کلامه، فمضی إلیه زهیر بن القین فما لبث أن جاء مستبشراً قد اشرق وجهه فأمر بفسطاطه وثقله ومتاعه فحوّل إلی الحسین علیه السلام، وقال لامرأته: أنت طالق، فانّی لا أحبّ ان یصیبک بسببی إلا خیر وقد عزمت علی صحبة الحسین علیه السلام لافدیه بنفسی وأقیه بروحی ثمّ أعطاها ما لها وسلّمها إلی بعض بنی عمّها لیوصلها إلی أهلها فقامت إلیه وبکت وودّعته وقالت


1- السید الجلیل ابن طاووس، اللهوف علی قتلی الطفوف، ص105.
2-  2-عبد الرزاق الموسوی المقرم، مقتل الحسین علیه السلام، ص253.

ص: 109

کان الله عوناً ومعیناً خار الله لک أسألک ان تذکرنی فی القیمة عند جدّ الحسین علیه السلام فقال لاصحابه من أحبّ أن یصحبنی وإلا فهو آخر العهد منّی به.(1)

ولا توجد زوجة محبة لزوجها تدفع زوجها إلی هذا المنعطف الخطیر وهی تعلم انه لا یعود أبداً، إلا إذا کان إیمانها عظیماً. وقد اشاع الامویون سابقا عن مجیء جیش عظیم لمهاجمة الکوفة فکانت النساء تسحب أولادهنّ وأزواجهن من الشوارع وتعیدهم إلی البیوت!!.

وفی هذه القیمة تغیب الانا ونجد نکران الذات یتجلی فی کثیر من المواقف فهذه زینب علیها السلام تتابع الإمام فی شؤون الحرب وتتفقده وتتناسی أو ربما تقصی أمومتها فلا تسأل حتی عن اولادها الذین استشهدوا قبل الامام! والامثلة علی ذلک کثیرة.

هاء . القیم الانسانیة والاخلاقیة
اشارة

وهی کثیرة أشیر إلی البعض منها:

أ- قیمة الوفاء

1 - وتتجلی هذه القیمة فی بقاء النساء إلی جنب الثائر فی أصعب الظروف, وتتضح الصورة أکثر حینما اعطی الإمام الرخصة لمن کان معه بان یتخذ هذا اللیل جملا وینصرف فی لیلة العاشر، وهنا نسمع تباری الانصار فی بیان مواقف الاستماتة وکانت النساء حاضرات سواء النساء اللائی جئن مع الإمام أو اللائی جئن مع اسرهن کأم وهب وأم عبد الله بن عمیر الکلبی وغیرهن. فالکل سمعوا بالرخصة لکن احداًلم ینصرف ولم نسمع أبداً أن هؤلاء النساء قد شجعن الرجال (الازواج والأبناء) علی ترک الإمام بل العکس هو الصحیح.


1- السید الجلیل ابن طاووس، اللهوف علی قتلی الطفوف، ص 71 - 73.

ص: 110

2 - وتتجلی هذه القیمة أیضاً فی وفاء السیدة زینب علیها السلام فی عهودها مع الإمام فی حفظ العیال وفی حفظ مظاهر العز إلی غیر ذلک.

ب - قیمة استنکار الظلم
اشارة

ولها أکثر من مورد خاصة وان استنکار الظلم الذی لحق بآل البیت نجده بوضوح بعد الواقعة فی أمور منها:

1 . موقف نساء ربیعة ومضر من عمر ابن سعد فی تولیه الإمارة

جاء فی المقتل:

وکان من صنع المختار انه استأجر نساء یبکین علی الحسین ویجلسن علی باب دار عمر بن سعد، وکان هذا الفعل یلفت نظر المارة إلی ان صاحب هذه الدار قاتل سید شباب أهل الجنة، فضجر ابن سعد من ذلک وکلم المختار فی رفعهن عن باب داره، فقال المختار: ألا یستحق الحسین البکاء علیه، ولما اراد أهل الکوفة ان یؤمروا علیهم عمر بن سعد بعد موت یزید بن معاویة لینظروا فی أمرهم جاءت نساء همدان وربیعة، إلی الجامع الأعظم صارخات یقلن ما رضی ابن سعد بقتل الحسین حتی اراد ان یتأمر فبکی الناس واعرضوا عنه.(1)

2 - موقف النوار

ولما رجع کعب بن جابر إلی أهله عتبت علیه امرأته النوار وقالت: اعنت علی ابن فاطمة وقتلت سید القراء لقد اتیت عظیماً من الأمر والله لا أکلمک من رأسی کلمة أبداً فقال:

سلی تخبری عنّی وأن_ت ذمیم_ة

غداة حسین والرم_اح ش_وارع


1- مروج الذهب، ج2 / 105 فی اخبار یزید.

ص: 111

الم آت اقصی ما کره_ت ولم یخل

علی غداة الروع م_ا انا ص_انع(1)

3 - موقف العیوف

وکان من_زل خولی  الذی حمل رأس الحسین علی بعد فرسخ من الکوفة فأخفی الرأس عن زوجته الانصاریة لما یعهده من موالاتها لأهل البیت علیهم السلام الا أنها لما رأت من التنور نوراً راعها ذلک؛ إذ لم تعهد فیه شیئاً، فلما قربت منه سمعت أصوات نساء یندبن الحسین بأشجی ندبة، فحدثت زوجها وخرجت باکیة ولم تکتحل ولم تتطیب حزناً علی الحسین(2).

4 - موقف نساء المدینة لما جاء خبر استشهاد الامام علیه السلام

... وخرجت بنت عقیل بن أبی طالب فی جماعة من نساء قومها حتی انتهت إلی قبر النبی صلی الله علیه وآله وسلم فلاذت به وشهقت عنده ثم التفتت إلی المهاجرین والانصار تقول:

ماذا تقولون إن قال النب_ی لک_م

یوم الحساب وصدق القول مسم_وع

خذلتمو عت_رتی أو کنتُ_مُ غیب_ا

والح_ق عن_د ولیِّ الأم_ر مجم_وع

اسلمتموهم بأیدی الظالمی_ن فم_ا

منکم له الی_وم عن_د الله مشف_وع

ما کان عند غداة الطَّف إذ حضروا

ت_لک المنای_ا ولا عنه_نَّ مدف_وع

فأبکت من حضر ولم یر باک وباکیة أکثر من ذلک الیوم.(3)

وکانت أختها زینب تندب الحسین بأشجی ندبة وتقول:


1- عبد الرزاق الموسوی المقرم، مقتل الحسین (علیه السلام)، ص 250.
2- أنساب الاشراف للبلاذری، ج 5، ص 238.
3- امالی , الشیخ الطوسی ص 55، وسماها ابن شهراشوب فی المناقب، ج 2، ص 227 اسماء.

ص: 112

ماذا تق_ول_ون إذ قال النبی لکم

ماذا فعلت_م وأنت_م آخ_ر الأم_م

بعت_رتی وبأهلی بع_د مفتق_دی

منه_م أس_اری ومنهم ضُرِّجوا بدم

ما کان هذا جزائی إذ نصحت لکم

أنْ تخلفونی بس_وء فی ذوی رحم_ی(1)

5-  امرأة من بنی بکر بن وائل

لم نعرف اسمها وعرفنا عشیرتها وکانت مع زوجها فی جیش عمر بن سعد یا للعجب!!. اذ روی حمید بن مسلم قال: رأیت أمرأة من بنی بکر بن وائل کانت مع زوجها فی أصحاب عمر بن سعد فلمّا رأت القوم قد اقتحموا علی نساء الحسین علیه السلام وفسطاطهنّ وهم یسلبونهنّ اخذت سیفاً واقبلت نحو الفسطاط وقالت یا آل بکر ابن وائل أتسلب بنات رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم لا حکم إلا الله یا لثارات رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم فاخذها زوجها وردّها إلی رحله.(2)

تُری کیف صانت هذه المرأة ولاءها وزوجها علی غیر مذهبها؟ وکیف اعلنت صرختها غیر خائفة ولا وجلة؟. لقد قالوا یوما ان المرأة علی دین زوجها لکنها هنا اقوی من زوجها فی ایمانها وقوة شخصیتها.

6- موقف أُم عبد الله ابنة الحر...

روی الطبری، قال: ومکث الحسین علیه السلام طویلاً من النهار کلما انتهی إلیه رجل من الناس انصرف عنه، وکره ان یتولی قتله وعظیم اثمه علیه قال: وان رجلاً یقال له مالک بن النسر من بنی بداء أتاه وضربه علی رأسه بالسیف وعلیه برنس له فقطع البرنس وأصاب السیف رأسه، فأدمی رأسه فامتلأ البرنُس دماً، فقال له الحسین:

لا أکلت بها ولا شَرِبت، وحشرک الله مع الظالمین.


1- المقرم، عبد الرزاق الموسوی، مقتل الحسین (علیه السلام)، ص 335.
2- اللهوف، ص 132.

ص: 113

قال: فألقی ذلک البُرنس ثمّ دعا بقلنسوة فلبسها واعتمّ وقد أعیا وبلّد، وجاء الکندی حتی أخذ البرنُس وکان من خزّ، فلمّا قدم به بعد ذلک علی امرأته أُمّ عبد الله ابنة الحرّ أخت الحسین بن الحرّ البدّی، أقبل یغسل البُرنس من الدمّ فقالت له امرأته: أسلب ابن بنت رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم تدخل بیتی؟! أخرجه عنِّی. فذکر أصحابه أنّه لم یزل فقیراً حتّی مات.(1)

7- ما ظهر من مواقف السیدة زینب علیها السلام مع ابن زیاد ویزید

وکشاهد علی ذلک فی خطبتها امام اهل الکوفة:

ویلکم یا أهل الکوفة، أتدرون أی کبد لرسول الله فریتم؟ وأی کریمة له ابرزتم؟ وأی دم له سفکتم؟ وای حرمة له انتهکتم؟ لقد جئتم شیئاً إداً، تکاد السموات یتفطرن منه، وتنشق الأرض، وتخر الجبال هدّاً!

 کذلک ماورد فی خطبتها فی قصر یزید.

8- موقف امرأة فی قصر یزید

قال الراوی: ثم جعلت امرأة من بین هاشم کانت فی دار یزید لعنه الله تندب علی الحسین (علیه السلام) وتنادی یا حبیباه یا سیّد أهل بیتاه یا ابن محمد یا ربیع الأرامل والیتامی یا قتیل أولاد الأدعیاء.(2)

9- موقف نساء أُخریات لم یکنّ موالیات ولکن لم یدُرْ فی خلدهن ان یزید سیقوم بارتکاب هذه الجریمة البشعة کزوجة یزید

قال الراوی: ولما رأت هند بنت عمرو بن سهیل زوجة یزید الرأس علی باب دارها والنور الإلهی یسطع منه ودمه طری لم یجف ویشم منه رائحة طیبة دخلت المجلس


1- العلامة السید مرتضی العسکری، معالم المدرستین، ص 445.
2- السید الجلیل ابن طاووس، اللهوف علی قتلی الطفوف، ص 179.

ص: 114

مهتوکة الحجاب وهی تقول: رأس ابن بنت رسول الله علی باب دارنا فقام إلیها یزید وغطاها..(1)

ج - قیمة الصدق

فقد کان الاعلام الحسینی قائماً علی الصدق وکان ذلک واضحا فی کلمات النساء وفی خطبهن وفی ما اثرنه ضمن اجواء المصیبة عکس الرجال الأمویین الذین اعتمدوا الکذب والتزویر لتشویه الحقائق واخفائها ولکنهم فشلوا.

د - قیمة حفظ العز

1 - موقف السیدة زینب من الشامی الذی اراد فاطمة بنت الإمام جاریة.

2 - موقف السیدة زینب فی أخذ الطعام من الصغار رغم جوعهم الشدید. جاء فی المقتل: وأخذ أهل الکوفة یناولون الأطفال التمر والجوز والخبز فصاحت أم کلثوم(2): إن الصدقة علینا حرام ثم رمت به إلی الأرض.(3)

3 - الاعتزاز بالشهادة

وهذا واضح من خطب النساء فی الکوفة والشام وقول السیدة زینب علیها السلام لابن زیاد ما رأیت إلا جمیلاً، وغیر ذلک.

ه_ - قیم العطاء

وهی واحدة من سمات أهل البیت علیهم السلام، غیر أنها فی الواقعة تجلت فی یوم عصیب یشیب الولدان أهمها کرم السیدة زینب علیها السلام مع بشیر بن حذلم لما وصلوا المدینة.


1- المقرم، مقتل الحسین علیه السلام، ص 356.
2- وفی کتاب: فی رحاب السیدة زینب لمحمد بحر العلوم انها زینب الکبری.
3- المقرم ص310.

ص: 115

قال ابن الأثیر واصفاً العودة: «فخرج بهم (بشر) فکان یسایرهم لیلاً فیکونون أمامه بحیث لا یفوتون طرفه. فإذا نزلوا تنحّی عنهم هو وأصحابه، فکانوا حولهم کهیئة الحرس، وکان یسألهم عن حاجتهم ویلطف بهم حتی دخلوا المدینة فقالت فاطمة بنت علی لأختها زینب:

لقد أحسن هذا الرجل إلینا فهل لک أن نصله بشیء؟

فقالت:

والله ما معنا ما نصله به إلا حُلیّنا.

فأخرجتا سوارین ودملجین لهما فبعثتا بهما إلیه واعتذرتا فرد الجمیع وقال: لو کان الذی صنعتُ للدنیا لکان فی هذا ما یُرضینی، ولکن والله ما فعلته إلا لله ولقرابتکم من رسول الله صلی الله علیه وسلّم».(1)

و - قیمة الإیثار والتضحیة

وهذا یبدو واضحاً من خلال هجرة النساء مع الإمام مع کل مشقات السفر وفقدان الراحة والخطر المحدق ولنا ان نتصور أوضاع النساء فی الخیام مع الأطفال وقد قطع الماء عن الجمیع, وقد ضحت هؤلاء النساء بأولادهن وازواجهن واخوانهن فی سبیل نصرة الإمام، وکانت کلمات الفخر بالشهادة هی الظاهرة علی الشفاه الیابسة ولم یسجل التاریخ ان السیدة زینب سألت عن اولادها ابدا.

وتذکر الروایات ان امرأة واحدة استشهدت فی الواقعة حیث منع الإمام علیه السلام النساء من القتال وهی زوجة عبد الله بن عمیر الکلبی، الذی أخذ أسیراً وقتل صبراً، (فمشت الیه زوجته ام وهب وجلست عند رأسه تمسح الدم عنه وتقول: هنیئاً لک الجنة اسأل الله الذی رزقک الجنة ان یصحبنی معک فقال الشمر لغلامه رستم:


1- الکامل فی التاریخ، ج 4، ص 88.

ص: 116

اضرب رأسها بالعمود فشدخه وماتت مکانها وهی أول امرأة قتلت من أصحاب الحسین.(1)

کما استشهد أطفال کثیر ومنهم الطفلة رقیة التی استشهدت فی الشام.

ز - قیمة الصبر

وهو احتمال المکاره من غیر جزع ولعمری فالصبر من اکثر السجایا والقیم وضوحاً وظهوراً بالنسبة للنساء ویکفی انه رغم کل ما مر بهن من صعوبات وازمات ولکنهن بقین یکظمن الغیظ ویحبسن النفس عن الجزع ووضح هذا الأمر حتی من النساء العادیات جداً اللائی استشهد رجالهن أمامهن فی المعرکة ونقرأ فی الزیارة:

«سلام علی قلب زینب الصبور سلام علی من تظافرت علیها المصائب والکروب وذاقت من النوائب ما تذوب منه القلوب».

وفاضت زینب بالصبر علی من کان معها فهذا الامام زین العابدین یتزاید المه وحزنه وقلقه لمرأی تلک الاجساد الطاهرة علی الرمضاء تصهرها حرارة الشمس وقد فرق بین الرؤوس والأبدان وغابت الأبدن تحت اکوام السهام والطعنات فقد جاء فی المقتل:

وأما علی بن الحسین فانه لما نظر إلی أهله مجزرین وبینهم مهجة الزهراء بحالة تنفطر لها السماوات وتنشق الأرض وتخر الجبال هدّا عظم ذلک علیه واشتد قلقه فلما تبینت ذلک منه زینب الکبری بنت علی علیه السلام أهمها أمر الإمام فأخذت تسلیه وتصبره وهو الذی لا توازن الجبال بصبره وفیما قالت له:

«مالی أراک تجود بنفسک یا بقیة جدی وأبی وأخوتی فوالله ان هذا العهد من الله إلی جدک وأبیک ولقد اخذ الله میثاق أُناس لا تعرفهم فراعنة هذه


1- المقرم، عبد الرزاق الموسوی، مقتل الحسین (علیه السلام)، ص 241.

ص: 117

الأرض وهم معروفون فی أهل السماوات انهم یجمعون هذه الأعضاء المقطعة والجسوم المضرجة فیوارونها وینصبون بهذا الطف علماً لقبر أبیک سید الشهداء لا یدرس اثره ولا یمحی رسمه علی کرور اللیالی والأیام ولیجتهدن أئمة الکفر واشیاع الضلال فی محوه وتطمیسه فلا یزداد أثره إلا علواً».((1)

ولا أدری هنا کیف اصف ألموقف وکیف اُعبر أهل هو الثبات أم الصبر أم المواساة من أم المصائب وهی أمام المصائب کلها.

ها هو الامام السجاد یجود بألمه بعد مرضه وهذه زینب تجود بصبرها بعد اکوام الجراح. انها مؤشرات تعرّف بعظمة امرأة.

واو . قیم تکامل الشخصیة
اشارة

(وهی القیم التی تتعلق بشخصیة الفرد وسلوکه وشعوره الداخلی الذی ینعکس فی حرکاته وتصرفاته).(2)

وهذه القیم تتیح للشخص التعامل السلیم مع الظروف المختلفة وتنعکس علی سلوکه الخارجی. ومن البدیهی أن الإعداد لها یتم منذ الصغر کیما یتم تنضیج الشخصیة من خلال البناء السلیم والمتوازن، وأهم هذه القیم:

أ - التکیف الذکی

ویعنی القدرة علی التأقلم مع الظروف المختلفة فضلاً عن الصعبة والحرجة والأزمات. وهذا التکیف (أو ما یعبر عنه احیاناً بالتوافق الاجتماعی) یجُنب الإنسان الأمراض النفسیة أو الانهیارات العصبیة التی تطیح حالیاً بالإنسان المعاصر نتیجة عدم


1- 1- المقرم، عبد الرزاق الموسوی، مقتل الحسین علیه السلام، ص 308.
2- د. احمد علی کنعان، أدب الأطفال والقیم التربویة.

ص: 118

قدرته علی مواکبة التغییرات فی الأوضاع والشؤون العامة والخاصة وهو مما یضاعف من نسبة الانتحار کتعبیر سلبی عن عدم القدرة علی التوافق. أما الذین یعیشون أهدافاً علیا وکبیرة ومهمة فیکون التکیف عندهم أسرع من حیث ان وجود الأهداف یخفف من حدة الصواعق التی یتعرض لها الفرد.

ولقد تعرضت نساء الطفوف لأقسی الضغوطات ولأقسی أنواع العنف السیاسی المتعدد لکنهن أثبتن مهارة عالیة فی التکیف مع الأوضاع الصعبة التی عاشتها وبخاصّة فی السبی والأسر وفی قصر یزید وابن زیاد وخربة الشام وهذه المرونة العالیة فی التکیف والتأقلم مع سمو الأهداف ازاحت کل خوف أو قلق.

ویسهم البناء السلیم للشخصیة والتعود التدریجی علی مواجهة الصعاب والمکاره مع عمق الإیمان بالله علی التأقلم مع الظروف الصعبة والحوادث القاسیة والتی غالباً ما تکون القاطع العرضی لخط الحیاة الطولی. وهذا یسوقنا إلی بحث تربوی وهو ان التربیة التی تقوم علی الحمایة الزائدة تقلل من قابلیة التأقلم.

ب - التصمیم والإرادة

وتعنی قدرة الفرد علی المضی فی رأیه بکل قوة وحزم وصلابة وشجاعة وجرأة وثبات واصرار وبسالة وقدرة علی مواجهة الصعوبات والاخطار.(1)

وهذا واضح منذ بدایة مسیر النساء مع الإمام انهن کن ذوات ارادة واضحة ولم یحُلْ منع المانعین للإمام عن حمل النساء من ارادتهن أو تصمیمهن. ورغم کل الصعوبات فقد بقین علی ثبات واحد وعدم تراجع أو تردد طوال المسیرة. والذی یتابع مسیرة النساء فی المدینة والعودة إلیها لا یجد موقفاً واحداً یدل علی خوف أو ضعف أو تردد بل کانت الشجاعة کلها والثبات کله.


1- نفس المصدر.

ص: 119

ج - الأمل بالمستقبل

ورغم کل ما تعرضن إلیه فلم یجد الیأس إلیهن سبیلاً، وهو ما کان یریده الأمویون من خلال تشدید العنف ضد النساء بکل أشکاله، ولکننا لا نجد صورة للیأس أبداً؛ اذ کان التفاؤل واضحاً فی کلمات السیدة زینب علیها السلام أمام یزید:

فکد کیدک، واسع سعیک، فوالله لن تمحو ذکرنا أبداً..

وهذا أیضاً یأتی من الإیمان بالله وبالأهداف الرسالیة العلیا .

د - الثقة بالنفس

وتعنی شعور الفرد بالتکامل الداخلی وبانه قادر علی ان یعتمد علی نفسه،(1) ومن خلال مسیرة النساء لم یظهر علیهن أی تردد أو خوف بل القوة والشجاعة کانت واضحة حتی عند أولئک النساء اللائی جئن مع ازواجهن إلی أرض الطفوف کأُم وهب.

وکانت حرائر أهل البیت علیهم السلام علی ثقة کاملة بالله وبالنفس فی انهن سیؤدین أدوارهن کاملة فتقدمن لالقاء الخطب والبیان کاشف عن هذه الثقة.

ه_ - الجرأة الشخصیة

وتعنی شعور الفرد بالقدرة علی تحمل المسؤولیة واتخاذ القرار المناسب فی الوقت المناسب وقبول التحدی والصعوبات والاسراع باقتراح المبادرات النابعة من قناعة وإرادة وتصمیم بعیداً عن الهروب والانطوائیة.(2)

ولعل فی ایواء طوعة لسفیر الحسین مسلم بن عقیل أکبر دلیل علی هذه القوة الإیجابیة التی باتت فی وقت تهاوی فیه ولدها وبقیة الصنادید عن تقدیم العون لمسلم خوفاً من العقاب الأموی.


1- نفس المصدر.
2- نفس المصدر.

ص: 120

4 - الدور الإعلامی

اشارة

وهو من أهم الأدوار التی حملتها هؤلاء النساء وعلی رأسهن السیدة زینب علیها السلام وهو أیضاً أحد أهم الأسباب التی دفعت الإمام علیه السلام إلی اصطحاب نسائه وعیاله إلی أرض المعرکة، وقد کان للدور الإعلامی النسوی الأثر الکبیر فی نشر وقائع الثورة والتعریف بشخوصها، واستطاعت اقتحام مرکز قوة العدو؛ لتمیط اللثام عن الحقائق التی حاول النظام اخفاءها من خلال حملة التشویه التی قام بها ضد شخوص الثورة، والإعلام بان هؤلاء سبایا الترک والدیلم، وان الذی قتل فی کربلاء هو من الخوارج. ولولا هذا الدور العظیم لماتت الثورة وأهدافها کما ماتت الکثیر من الأحداث المهمة التی شهدها التاریخ والتی یعود سبب الضیاع الأصلی إلی عدم وجود من یتولی المسؤولیة الإعلامیة.

ویمکن القول: إن هذا الدور قد بدأ منذ استشهاد الإمام علیه السلام وقد استمر حتی وصول السبایا إلی الشام ومن ثم المدینة حیث اقیمت مجالس العزاء التی هی إحدی صور هذا الخطاب. غیر ان البعض یری ان هذا الخطاب مازال مستمرا إلی یومنا هذا وهو سیستمر حتی الظهور حیث تظهر فیه الأمور علی حقائقها الناصعة(1).

واذ یعد الإعلام أحد أهم المؤسسات التربویة فی المجتمع حیث تلعب وسائل الإعلام  دوراً مهماً فی تشکیل الرأی العام أو توجیهه نحو مسار معین، ویسهم الإعلام الهادف أیضاً فی القضاء علی الشائعات والتی نجد لها صدی شعبیاً واسعاً عند الناس ویعتمد فی ذلک أسلوب بث المعلومات الصحیحة وتقدیمه الأدلة والمستندات حول ما یعلنه أمام الملأ.

وقد اعتمد الأمویون سیاسة الإعلام المضلل لتبریر استیلائهم علی السلطة


1- راجع محمد مهدی الآصفی، الخطاب الحسینی، المرحلة الثانیة للثورة الحسینیة.

ص: 121

ولتبریر الکثیر من الممارسات اللا أخلاقیة التی قاموا بها فی اضطهادهم للکثیر من المؤمنین الموالین, بل وحتی سب أمیر المؤمنین علیه السلام علی المنابر اعتمدوا فی إبقائه کسنة ثابتة أیام حکمهم علی ما بثوه من أحادیث کاذبة تنتقص من مکانة أمیر المؤمنین علیه السلام - والعیاذ بالله - وتمسح عنه کل فضیلة وکل آیة تذکره بمدح عظیم. ویمکن القول ان کل الأحداث التی جرت بعد الواقعة وبعد استشهاد الإمام من ثورات ومن تنامٍ للحقد علی الأمویین یعود بالدرجة الأولی إلی الدور الإعلامی الذی اظهر مظلومیة أهل البیت علیهم السلام وبشاعة اعدائهم وهدّم منظومة القیم التی روجها الأمویون من خلال إعلامهم المضلل کالانهزامیة والجبریة والسکوت عن ظلم  الحاکم الجائر إلی غیر ذلک.

ویمکن تقسیم هذا الدور إلی ثلاثة مقاطع زمنیة متتابعة:

1 . المرحلة الأولی وتبدأ منذ استشهاد الإمام علیه السلام إلی أسر النساء وحمل السبایا إلی الکوفة وإلی مجلس عبید الله بن زیاد.

2 . والمرحلة الثانیة تبدأ منذ خروج هذه القافلة من الکوفة فی رحلة المسیر إلی الشام والی قصر یزید.

3 . والمرحلة الثالثة هی مرحلة عودة السبایا من الشام إلی کربلاء ثم إلی المدینة المنورة.

فهذا الدور الخطیر یمر عبر هذه المراحل الثلاث المتتابعة زمنیاً ومکانیاً وهذه السعة والامتداد فی الأماکن والأوقات هو الذی أسهم فی تحقیق النجاح لهذا الدور.

کما ان الذین اشترکوا فی هذا الخطاب المهم هم السبایا والأسری الذین حملهم عمر بن سعد إلی قصر الطاغیة فی الکوفة ثم الشام. فحرائر بیت الوحی هن اللاتی حملن مسؤولیة هذه المهام مع الإمام زین العابدین علیه السلام والذی کان مریضاً لا

ص: 122

یقوی علی القتال ولکنه کان یقوی علی تقدیم الخطاب المطلوب. وعلی رأس الحرائر تأتی السیدة زینب علیها السلام لتکون صاحبة الثقل الأکبر فی هذا الخطاب.. والمتأمل لهذه المراحل یری انه لا توجد بینها فترات استراحة أو فترة هدنة مؤقتة بل یستمر الألم من مرحلة إلی مرحلة ولنا ان نتصور حال هؤلاء النساء فی کل الأحداث الصعبة التی مرت بهن.

المرحلة الأولی
اشارة

وتبدأ هذه المرحلة منذ استشهاد الإمام علیه السلام.. حیث کانت النساء فی الخیام وقد علمن بمصرعه علیه السلام من خلال صوت الفرس الذی عاد باکیاً، ومن ثم هجوم قوات العدو علی معسکر الحسین علیه السلام فاحرقوا الخیام مما أدی إلی فرار النساء مذعورات خائفات من خیمة إلی خیمة حتی تم جمعهن فکنّ عشرین امرأة حملن إلی ابن زیاد سبایا ضمن أربعین جملاً حملت العیال کلهم من النساء والأطفال مع الإمام زین العابدین علیه السلام.

ویمکن عرض أهم محطات هذه المرحلة الإعلامیة:

ألف - مجیء النساء إلی أرض المعرکة بعد الاستشهاد

قال الراوی:

بعد ان سیر ابن سعد الرؤوس الی الکوفة بقی هو لیدفن قتلاه تارکا سید شباب اهل الجنة علی الرمضاء، فقالت النسوة: بالله علیک إلا ما مررتم بنا علی مصرع الحسین، ولما نظرن إلیهم مقطعی الأوصال قد طعنتهم سمر الرماح ونهلت من دمائهم بیض الصفاح وطحنتهم الخیل بسنابکها صحن وصاحت زینب: یا محمداه هذا حسین بالعراء مرمل بالدماء مقطع الأعضاء، وبناتک سبایا وذریتک مقتلة فأبکت کل عدو وصدیق حتی جرت دموع الخیل علی حوافرها.

ص: 123

ثم بسطت یدیها تحت بدنه المقدس ورفعته نحو السماء وقالت: إلهی تقبل منا هذا القربان.(1)

قالت السیدة کلمتها هذه أمام الجیش الذی کان یعیش فرحة الانتصار وتداعب مخیلاته صور العطایا التی سیحصل علیها من ابن زیاد من مال وثروة وجاه وامارة للری مرجوة عند قائد الجند.. لکن الحوراء علیها السلام قوضت نشوة الانتصار هذه من خلال رسالتها الکلامیة  القصیرة فلم تجعل کلماتها همساً لا یسمعه أحد بل لابد للجمیع ان یسمعوا ولا بد ان تُهَز ساعة الانتصار هذه بوخز الضمیر فجاءت کلماتها حمما حارقة لاحلام النشوة. وربما أجاز عمر بن سعد المرور علی مصارع القتلی؛ لأنه توقع انهیار عزائم النساء أمام الصورة المحزنة لمصرع الحسین علیه السلام وبانهن سیتهاوین أمام الجند الفرحین بحطام الدنیا وبهذا تتکامل نشوة الانتصار ویشعر بالفرح العظیم فی انه اقترب من حلمه!. غیر ان المشهد انقلب فکانت صلابة السیدة وصبرها وافتخارها بالشهادة قد کسر نشوة الانتصار المزیف وکان خطابها أمام الجند والذی ینقله صاحب اللهوف مضیفاًََََ إلیه قائلا:

فوالله لا أنسی زینب بنت علیّ علیه السلام تندب الحسین علیه السلام وتنادی بصوت حزین وقلب کئیب: یا محمداه صلی علیک ملائکة السماء هذا حسین مرمّل بالدماء مقطّع الأعضاء وبناتک سبایا إلی الله المشتکی والی محمد المصطفی والی علی المرتضی والی فاطمة الزهراء والی حمزة سیّد الشهداء واکرباه الیوم مات جدّی رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم یا أصحاب محمداه هؤلاء ذرّیّة المصطفی یساقون سوق السبایا وفی روایة: یا محمداه بناتک سبایا وذرّیّتک مقتّلة تسفی علیهم ریح الصبا وهذا حسین محزوز الرأس من القفا مسلوب العمامة والرداء بأبی من اضحی عسکره فی یوم


1- المقرم ص307

ص: 124

الاثنین نهبا بأبی من فسطاطه مقطّع العری بأبی من لا غائب فیرتجی ولا جریح فیداوی بأبی من نفسی له الفداء بأبی المهموم حتّی قضی بأبی العطشان حتّی مضی بأبی من شیبته تقطر بالدماء بأبی من جدّه محمد المصطفی بأبی من جدّه رسول اله السماء بأبی من هو سبط نبیّ الهدی بأبی محمّد المصطفی بأبی خدیجة الکبری بأبی علیّ المرتضی علیه السلام بأبی فاطمة الزهراء سیّدة النساء بأبی من ردّت له الشمس صلًی. وقال الراوی: فابکت والله کلّ عدوّ وصدیق...(1)

هذه الکلمات الملفعة بالحزن تنطلق کسیل جارف یذیب رعشات الانتصار المؤقت.. زینب علیها السلام بکل هذه الصلابة تقدم شکواها من هذه الأمة الباغیة إلی الرسول صلی الله علیه وآله وسلم الذی یدعی الجمیع طاعتهم له! وتنقل له صورة ریحانته المقطع الأوصال المحزوز الرأس المحترقة خیامه المنهوبة عیاله.. شکوی عظیمة قدمتها السیدة أمام الملأ الغارق فی الدنیا وهنا نخرج بخلاصة من الأمور کلها حول هذا الموقف:

1-  ان ماحصل کان قد کسر نشوة الانتصار لدی الجند الذی سمع الملامة الأولی والتقریع الخالد قبل ان یسمع تبریک الفوز!.

2- کلامها علیها السلام کان أمام المجرمین أنفسهم الذین قتلوا وذبحوا وأحرقوا وأسروا وهو بمنزلة وخز للضمیر المیت الذی ربما لم یلتفت وقتها إلی ما قدّم لکن الأحداث التالیة هزت مضجعه.

3- کان کلامها أمام عمر بن سعد نفسه.. فقد جاء فی المقتل:

وانتهت نحو الحسین وقد دنا منه عمر بن سعد فی جماعة من أصحابه، والحسین یجود بنفسه! فصاحت: أی عمر أیقتل ابو عبد الله وأنت تنظر إلیه؟ فصرف بوجهه


1- اللهوف، ص 133 - 134.

ص: 125

عنها ودموعه تسیل علی لحیته.(1) وهو اول توبیخ لقائد الجیش الذی حقق انتصاره بقتل سید شباب أهل الجنة وریحانة المصطفی وهو فی فرحة ونشوة!! فلا بد إذاً من تقریع أولی علی ما قدمت یداه فهو الملام الاول الذی کان حاضرا فی ارض المعرکة لتنفیذ أوامر اسیاده ساحقا کل المقدسات! قال الراوی: فکأنِّی أنظر إلی دموع عمر وهی تسیل علی خدّیه ولحیته، وقال: وصرف بوجهه عنها.(2) فلقد ذکّرته زینب علیها السلام بالرسول وبالحسین وبالمدینة التی ترکها للفوز بولایة شبر من الدنیا!! لقد کانت کلماتها صفعة له أمام جنده. والموقف کان من الفجاعة والالم بحیث ان الإمام زین العابدین علیه السلام یشتد قلقه لما یری جسد ابیه واخوته واعمامه بتلک الحالة..

باء - عند باب الکوفة

ثم تبدأ مسیرة القافلة الطویلة.. مسیرة الحزن والأسی من کربلاء باتجاه الکوفة ونساء بیت النبوة وحرائر الرسالة ومعهن الامام السجاد وابنه الباقر علیه السلام، وبعد الزوال ارتحل إلی الکوفة ومعه نساء الحسین وصبیته وجواریه وعیالات الاصحاب وکنَّ عشرین امرأة، وسیروهنَّ علی أقتاب الجمال بغیر وطاء کما یساق سبی الترک والروم وهن ودائع خیر الأنبیاء ومعهن السجاد علی بن الحسین وعمره ثلاث وعشرون سنة، وهو علی بعیر ظالع بغیر وطاء وقد أنهکته العلة، ومعه ولده الباقر، وله سنتان وشهور،(3) والجمیع فی وضع لا یحسدون علیه أبداً.. ارکبوهن علی الجمال بلا غطاء، ولا وطاء .. وهن النساء المرهقات اللائی لم تغفُ عیونهن لیلة الأمس ولم یشعرن بطعم


1- الکامل, ابن الأثیر ج 4، ص 32؛ و تاریخ الطبری ج 6، ص 259 طبع أول؛ ومقتل الحسین للمقرم، ص284.
2- العلامة السید مرتضی العسکری، معالم المدرستین، ص447.
3- المقرم، ص 305.

ص: 126

الراحة وکلهن مفجوعات حائرات یرثین الأحبة فی القلوب فهذه ترثی ولدها وأخری أباها وثالثة أخاها.. موکب حزین یسیر مع القتلة والمجرمین الذین قتلوا الأحبة ومثلّوا باجسادهم حقداً علیهم!... وهم یسیرون ما بین ضرب السیاط وشماتة الأعداء!!. (واخذ زجر بن قیس وصاح بهن فلم یقمن، فأخذ یضربهن بالسوط واجتمع علیهن الناس حتی ارکبوهن علی الجمال.(1)).

 لله.. هؤلاء السبایا!!

ویصل الموکب الحزین إلی الکوفة، وقد تجمع الناس من کل حدب وصوب بعد ان أعلن ابن زیاد انهم سیأتون برأس الخارجی الذی خرج علی ابن زیاد.. ولنا ان نتصور الموقف فهذه زینب علیها السلام تعود إلی الکوفة التی کان ابوها حاکما لها وکانت لها فیها مجالسها الثقافیة مع نساء المدینة.. وإذا بها تدخلها الیوم أسیرة مغلولة الایدی مع جمع من النساء المسبیات ولیس لهن حول ولا قوة.. وقد جاء الناس من کل حدب وصوب لرؤیة اسری الترک کما اعلن ابن زیاد.. وهذا الجمهور المستغرق فی التیه قاده الفضول إلی بوابة الکوفة لیطالع السبایا والرؤوس.. کأی حالة تستهوی الناس وتدفعهم للنظر والتطلع. وکان ابن زیاد قد نشر إعلامه المضلل الذی یتحدث عن انتصاره وفرحه لقتل الخارجی الذی خرج علی ابن زیاد ویزید.. وکانت الناس لا تدری من هو الخارجی بدلیل ما جاء فی مقتل الحسین للمقرم (وأشرفت علیهن امرأة من الکوفیات ورأتهن علی تلک الحال التی تشجی العدو الألد فقالت: من أی الأساری أنتم؟ قلن: نحن أساری آل محمد!!).(2)

الناس إذاً مجتمعون یدفعهم الفضول للنظر والتطلع. وموکب نساء أهل بیت


1- المقرم، ص 309.
2- ابن طاووس، اللهوف علی قتلی الطفوف، ص 145.

ص: 127

النبوة موکب حزین مفجع تتقدمه الرؤوس الشریفة وتعلو الصفرة وجوه الصغار ویکاد یطیح الإرهاق بنفوس الجمیع لکنه رغم کل هذه الاوجاع موکب یعرّف بشمائل الاسری من خلال معالم الهیبة والوقار التی جللتهم.

وابتدأت السیدة زینب علیها السلام خطابها العظیم، إذ یقول المقرم فی مقتل الحسین: ولقد أوضحت ابنة أمیر المؤمنین علیه السلام للناس خبث ابن زیاد ولؤمه فی خطبتها بعد أن أومأت زینب علیها السلام إلی ذلک الجمع المتراکم فهدأوا حتی کأنِّ علی رؤوسهم الطیر ولیس فی وسع العدد الکثیر ان یسکن ذلک اللغط أو یردَّ تلک الضوضاء لولا الهیبة الإلهیة والبهاء المحمدی الذی جلّل «عقیلة آل محمد صلی الله علیه وآله وسلم».

فیقول الراوی: لما اومأت زینب ابنة علی علیه السلام إلی الناس فسکنت الأنفاس والأجراس فعندها اندفعت بخطابها مع طمأنینة نفس وثبات جأش وشجاعة حیدریة.(1)

[فکانت خطبتها العظیمة] فقالت صلوات الله علیها:

الحمد لله والصلاة علی أبی محمد وآله الطیبین الأخیار، أما بعد یا أهل الکوفة، یا أهل الختل والغدر، أتبکون فلا رقأت الدمعة، ولا هدأت الرنة، إنما مثلکم کمثل التی نقضت غزلها من بعد قوة انکاثاً، تتخذون ایمانکم دخلا بینکم، ألا وهل فیکم إلا الصلف النطف(2) والعجب والکذب والشنف(3) وملق الاماء(4)، وغمز الأعداء(5)، أو کمرعی علی


1- المقرم، عبد الرزاق الموسوی، مقتل الحسین علیه السلام، ص 310 - 311.
2- الصلف بفتحتین: الذی یتمدح بما لیس عنده، والنطف القذف بالفجور.
3- الشنف: المبغض بغیر حق.
4- الملق: التذلل.
5- الغمز: الطعن بالشر.

ص: 128

دمنة(1)، أو کقصعة علی ملحودة(2) ألا بئس ما قدمت لکم أنفسکم ان سخط الله علیکم، وفی العذاب أنتم خالدون.

اتبکون وتنتحبون، أی والله فابکوا کثیراً، واضحکوا قلیلاً فلقد ذهبتم بعارها وشنارها، ولن ترحضوها بغسل بعدها أبداً، وأنّی ترحضون، قتل سلیل خاتم النبوة، ومعدن الرسالة. ومدره حجتکم ومنار محجتکم، وملاذ خیرتکم، ومفزع نازلتکم. وسید شباب أهل الجنة ألا ساء ما تزرون.

فتعساً ونکساً وبعداً لکم وسحقاً، فلقد خاب السعی، وتبت الأیدی، وخسرت الصفقة، وبؤتم بغضب من الله ورسوله، وضربت علیکم الذلة والمسکنة.

ویلکم یا أهل الکوفة، أتدرون أی کبد لرسول الله فریتم؟ وأی کریمة له ابرزتم؟ وأی دم له سفکتم؟ وای حرمة له انتهکتم؟ لقد جئتم شیئاً إدّاً، تکاد السموات یتفطرن منه، وتنشق الأرض، وتخر الجبال هدّاً!

ولقد أتیتم بها خرقاء. شوهاء. کطلاع الأرض وملء السماء أفعجبتم أن مطرت السماء دماً، ولعذاب الآخرة أخزی وهم لا ینصرون فلا یستخفنکم المهل، فانه لا یحفزه البدار، ولا یخاف فوت الثار، وان ربکم لبالمرصاد(3).

وهنا أمر علی الهیبة الزینبیة فهی (ما ان أومأت إلی الناس ان اسکتوا) فسکتوا.. یا للعظمة مجرد ایماءة! فلم تطلب منهم بلسانها بل بمجرد ایماءة!! وکان سکوتهم عظیماً


1- الغرض التعریف بان الدمنة وان زها ظاهرها بالنبت الا انه لا یفید الحیوان قوة لأنها مجمع الأوساخ والکثافات السامة القاتلة فنتاج الدمنة لا یکون طیباً.
2- (قصعة) بالقاف المثناة والصاد المهملة :وهی الجص تتناسب مع الملحودة التی هی القبر.
3- المقرم، عبد الرزاق الموسوی، مقتل الحسین علیه السلام، ص 311 - 312.

ص: 129

(فسکنت الأنفاس والأجراس!!) وحینما نمر علی الموکب الحسینی أمام بوابة الکوفة وقد اجتمع الناس من کل حدب وصوب للتفرّج علیهم. فان ثقل الفاجعة سیکون عظیما  محبطا شدید الاحباط ومخرسا للجمیع. وکثیرا مایکون من عوامل الخرس هو الازدحام الجماهیری وبخاصة ان النفوس مرهقة مستغرقة فی شجون تهد الجبال هداً. فی هذه المحنة القاسیة تنبری السیدة إلی تقریع الناس ولومهم علی تخاذلهم ونقضهم للعهود وجبنهم عن نصرة الامام الذی دعوه للثورة وکان الناس یومها احوج ما یکونون لهذا العتاب الساخن کی یستیقظوا.. فما یکفی ان یعرفوا ان هذا الرأس المرفوع علی السنان هو رأس ابن بنت المصطفی وسید شباب أهل الجنة؛ اذ لابد من ان تهتز الضمائر وتتحرک الآهات وتعاد بلورة الحزن وتحویله إلی حزن فاعل مثمر للثورات فیما بعد. لقد کانت خطبة السیدة زینب أمام جمهور الکوفة أول تعلیق رسمی یصدر عن لسان أهل البیت عن الفاجعة ثم کانت خطبة السیدة فاطمة بنت الحسین علیه السلام وخطبة أم کلثوم ثم خطبة الإمام زین العابدین علیه السلام. وقد تمیزت خطبة السیدة زینب علیها السلام بالقصر ولکنها حوت علی معانٍ جلیلة أهمها:

1 . العتاب مع الموالین المتخلفین عن النصرة (ویلکم یا أهل الکوفة).

2 . بیان مقام الإمام الحسین علیه السلام (وانّی ترحضون قتل سلیل خاتم النبوة).

3 . تعزیز الشعور بالاثم (فلقد ذهبتم بعارها وشنارها)، (فتعسا ونکسا وبعداً لکم وسحقا).

4 . التذکیر بالآخرة والعذاب المنتظر (ولعذاب الآخرة أخزی).

وسیأتینا شرح الخطبة الکاملة فی نهایة الکتاب ونفس هذه المیزات الأربع کانت فی الخطب التالیة التی القیت فی الکوفة.

ص: 130

نعم القت السیدة حمماً حارقة علی أهل الکوفة فی أول لقاء جماهیری، فاحترقت القلوب واکتوت بنار المصیبة حتی استطاعت تلک النار ان تذیب رکام الاثم الذی سببه تخلفهم وتقاعسهم عن نصرة الإمام علیه السلام فانطلقت الثورات جارفة لکل القتلة إلی محط اللعن الأبدی.

وتکرار الخطب یعنی تکرار اللوم والتقریع ویعنی تکرار عرض الحقائق فالذی فاتته الخطبة الأولی سیهتز عند الثانیة والذی فاتته الثانیة لابد من ان ینحدر باکیاً عند الثالثة.. ثم ان هذه الخطبة کانت نموذجاً لخطاب سیاسی بلیغ ومؤثر ویسلط الضوء علی المطلوب فی العملیة الإعلامیة وهذا واضح من تأثیره علی المتلقی الذی شعر بالانهیار أمام الحقائق المعلنة، ثم ان التکرار هو أحد أسالیب تغییر البرمجة الفکریة والعقلیة ولا ننسی أبداً ان هذه الخطب جاءت من قلوب مفجوعة فاستقرت فی قلوب بدأت تتفجع للمأساة.

 ویمکن استقراء النتائج الأولیة لخطب النساء فی ما اورده صاحب اللهوف حیث یصف تفاعل الناس مع خطبة السیدة زینب علیها السلام:

قال الراوی: فوالله لقد رأیت الناس یومئذ حیاری یبکون وقد وضعوا أیدیهم فی أفواههم ورأیت شیخاً واقفاً إلی جنبی یبکی حتّی اخضلّت لحیته وهو یقول بأبی أنتم وأمّی کهولکم خیر الکهول وشبابکم خیر الشباب ونساؤکم خیر النساء ونسلکم خیر نسل لا یخزی ولا یبزی.(1)

وخطبت فاطمة بنت الحسین علیه السلام فقالت:

الحمد لله عدد الرمل والحصی، وزنة العرش إلی الثری، أحمده وأُؤمن به وأتوکل علیه، واشهد ان لا إله إلا الله وحده لا شریک له وان محمداً عبده


1- السید الجلیل ابن طاووس، اللهوف علی قتلی الطفوف، ص 148 - 149.

ص: 131

ورسوله. وان أولاده ذبحوا بشط الفرات، من غیر ذحل ولا ترات.

اللهم انی اعوذ بک أن افتری علیک، وان أقول علیک خلاف ما انزلت من اخذ العهود والوصیة لعلی بن أبی طالب المغلوب حقه المقتول من غیر ذنب «کما قتل ولده بالامس» فی بیت من بیوت الله تعالی، فیه معشر مسلمة بألسنتهم، تعساً لرؤوسهم ما دفعت عنه ضیماً فی حیاته ولا عند مماته، حتی قبضه الله تعالی الیه محمود النقیبة، طیب العریکة، معروف المناقب، مشهور المذاهب، لم تأخذه فی الله سبحانه لومة لائم، ولا عذل عاذل، هدیته اللهم للإسلام صغیراً، وحمدت مناقبه کبیراً، ولم یزل ناصحاً لک ولرسولک، زاهداً فی الدنیا غیر حریص علیها، راغباً فی الآخرة، مجاهداً لک فی سبیلک، رضیته فاخترته وهدیته إلی صراط مستقیم.

أما بعد یا أهل الکوفة، یا أهل المکر والغدر والخیلاء، فانا أهل بیت ابتلانا الله بکم، وابتلاکم بنا. فجعل بلاءنا حسناً، وجعل علمه عندنا وفهمه لدینا، فنحن عیبة علمه، ووعاء فهمه وحکمته، وحجته علی الأرض فی بلاده لعباده، أکرمنا الله بکرامته، وفضلنا بنبیه محمد صلی الله علیه وآله علی کثیر ممن خلق الله تفضیلاً.

فکذبتمونا وکفرتمونا، ورأیتم قتالنا حلالاً، وأموالنا نهباً، کأننا أولاد ترک أو کابل کما قتلتم جدنا بالأمس، وسیوفکم تقطر من دمائنا أهل البیت لحقد مقتدم، قرت لذلک عیونکم، وفرحت قلوبکم افتراء علی الله ومکراً مکرتم، والله خیر الماکرین، فلا تدعونَّکم أنفسکم إلی الجدل بما اصبتم من دمائنا، ونالت أیدیکم من أموالنا، فان ما أصابنا من المصائب الجلیلة، والرزایا العظیمة «فی کتاب من قبل أن نبرأها، إن ذلک علی الله یسیر، لکیلا تأسوا علی ما فاتکم ولا تفرحوا بما آتاکم، والله لا یحب کل مختال فخور».

تباً لکم فانظروا اللعنة والعذاب، فکأن قد حل بکم وتواترت من

ص: 132

السماء نقمات، فیسحتکم بعذاب ویذیق بعضکم بأس بعض ثم تخلدون فی العذاب الألیم یوم القیامة بما ظلمتمونا، ألا لعنة الله علی الظالمین.

ویلکم. اتدرون أیة ید طاعنتنا منکم؟ وأیة نفس نزعت إلی قتالنا؟ أم بأیة رجل مشیتم إلینا؟ تبغون محاربتنا، قست قلوبکم وغلظت أکبادکم، وطبع الله علی أفئدتکم، وختم علی سمعکم وبصرکم وسوَّل لکم الشیطان وأملی لکم، وجعل علی بصرکم غشاوة فأنتم لا تهتدون.

تباً لکم یا أهل الکوفة، أی ترات لرسول الله قِبلَکم، وذحول له لدیکم، بما عندتم بأخیه علی بن أبی طالب جدی وبنیه وعترته الطیبین الأخیار، وافتخر بذلک مفتخرکم.

نحن قتلنا علیاً وبنی ع_لی

بسیوف هن_دیَّة ورم_اح

وسبینا نساءهم سبی ت_رک

ونطحناهُمُ ف_أیّ نط_اح

بفیک أیها القائل الکثکث والأثلب(1) افتخرت بقتل قوم زکاهم الله وطهرهم وأذهب عنهم الرجس فاکظم واقْعَ کما أقعی أبوک فانما لکل امریء ما اکتسب. وما قدمت یداه.

حسدتمونا ویلاً لکم علی ما فضلنا الله تعالی، ذلک فضل الله یؤتیه من یشاء والله ذو الفضل العظیم، ومن لم یجعل الله له نوراً فما له من نور.

یقول الراوی: فارتفعت الأصوات بالبکاء والنحیب وقالوا: حسبک یا ابنة


1- فی تاج العروس: الاثلب بکسر الهمزة واللام وفتحهما والفتح أکثر الحجر وقیل دقائق الحجارة، وقال شمر الاثلب بلغة الحجاز الحجارة وبلغة تمیم التراب وهو دعاء! وفی الحدیث: الولد للفراش وللعاهر الاثلب وفیه ص 640: الکثکث کجعفر وزبرج دقائق التراب ویقال: التراب عامة یقال بفیه الکثکث أی التراب.

ص: 133

الطاهرین فقد حرقت قلوبنا وأنضجت نحورنا وأضرمت أجوافنا فسکتت.(1)

وقالت أُم کلثوم:

صه یا أهل الکوفة، تقتلنا رجالکم، وتبکینا نساؤکم. فالحاکم بیننا وبینکم الله یوم فصل الخطاب.

یا أهل الکوفة سوأة لکم، ما لکم خذلتم حسیناً وقتلتموه وانتهبتم أمواله، وسبیتم نساءه ونکبتموه، فتباً لکم وسحقاً، ویلکم أتدرون أی دواهٍ دهتکم وای وزر علی ظهورکم حملتم. وأی دماء سفکتم وأی کریمة أصبتموها وأی صبیة أسلمتموها وأی أموال انتهبتموها قتلتم خیر الرجالات بعد النبی ونزعت الرحمة من قلوبکم ألا إن حزب الله هم المفلحون. وحزب الشیطان هم الخاسرون.(2)

وعن خطبة أم کلثوم:

قال الراوی: فضج الناس بالبکاء والنّوح ونشر النساء شعورهن ووضعن التراب علی رؤوسهن وخمشن وجوههن وضربن خدودهن ودعون بالویل والثبور وبکی الرجال ونتفوا لحاهم فلم یر باکیة وباک أکثر من ذلک الیوم.(3)

جیم - فی مجلس ابن زیاد

حیث کانت أوامره بان تدخل السبایا مع الرؤوس إلی مجلسه العام!. نوعاً من التشفی بمصائب أهل البیت ونوعاً من بیان حقدهم علیهم واستخفافهم بکل ما هو مقدس، بل هو نوع من استعراض العضلة الأمویة أمام هذا الرکب الذی یقوده مریض


1- المقرم، مقتل الحسین علیه السلام، ص 305.
2- المقرم، ص 316.
3- نفس المصدر، ص 156.

ص: 134

عاجز عن حمل السلاح! قال الراوی:

لما رجع ابن زیاد من معسکره بالنخیلة ودخل قصر الامارة ووضع امامه الرأس المقدس أذن للناس إذناً عاما وأمر بادخال السبایا مجلسه فادخلت علیه حرم رسول الله بحالة تقشعر لها الجلود.

ووضع رأس الحسین بین یدیه وجعل ینکث بالقضیب ثنایاه... وانحازت زینب ابنة أمیر المؤمنین علیه السلام عن النساء وهی متنکرة لکن جلال النبوة وبهاء الإمامة المنسدل علیها استلفت نظر ابن زیاد فقال: من هذه المتنکرة؟

قیل له: أبنة أمیر المؤمنین «زینب العقیلة».

فأراد ان یحرق قلبها بأکثر مما جاء إلیهم فقال متشمتاً: الحمد لله الذی فضحکم وقتلکم وأکذب أحدوثتکم.

فقالت علیها السلام:

الحمد لله الذی اکرمنا بنبیه محمد وطهرنا من الرجس تطهیرا، انما یفتضح الفاسق، ویکذب الفاجر، وهو غیرنا.

قال ابن زیاد کیف رأیت فعل الله بأهل بیتک؟

قالت علیها السلام:

ما رأیت إلا جمیلا.(1)

ویمکن ان نفهم تداعیات الموقف من خلال ما جری فیما بعد فی الکوفة نفسها، فقد جاء فی المقتل:

ولما وضح لابن زیاد ولولة الناس ولغط أهل المجلس خصوصاً لما تکلمت معه زینب العقیلة خاف هیاج الناس فأمر الشرطة بحبس الأساری فی دار إلی جنب المسجد


1- المقرم، عبد الرزاق الموسوی، مقتل الحسین علیه السلام، ص 323 - 324.

ص: 135

الأعظم قال حاجب ابن زیاد: کنت معهم حین أمر بهم إلی السجن فرأیت الرجال والنساء مجتمعین یبکون ویلطمون وجوههم.(1)

وقد هاجم ابن زیاد عدداً من الموالین معلنین بذلک عن استنکارهم لعمله کما فی موقف زید بن الأرقم وموقف ابن عفیف الازدی وجندب بن عبد الله الازدی رحمهم الله.

وبعد کل الذی حصل خاف ابن زیاد علی حکومته وعلی نفسه فأمر بارسال السبایا إلی الشام مع الرؤوس وارتجت الکوفة کلها لتودیع أهل البیت علیهم السلام (وعجت نساء همدان بالبکاء)(2) وضجّ الناس بالبکاء عندما غادر موکب أهل البیت


1- المقرم, 326.
2- حیاة الإمام الحسین للشیخ باقر القرشی، ج3، ص 368. یعلق الشیخ الآصفی علی ذلک بالقول: ان الذی حدث لها  ولأهل بیتها حَدَثَ بعلم الله وسلطانه فقد کان الله یعلم بما یحدث فی کربلاء، وکان قادراً علی أن یحول بینهم وبین ما صنعوا بآل بیت رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم، والله تعالی جمیل، رؤوف بعباده، ولو کان الذی حدث لآل البیت یضرّ بهم، لحال الله تعالی بینهم وبین ما یریدون، وکان الله تعالی علی ذلک قدیراً، ولم یخرج الطاغیة فی بطشه وفتکه عن قبضة سلطان الله تعالی. ولکن الله تعالی جعل ابتلاء المؤمنین بالخوف والجوع والنقص فی الأموال والأنفس والثمرات طریقاً إلی رضوانه وصلواته ورحمته... وقد جعل الله تعالی أهل البیت علی طریق رضوانه ورحمته وصلواته: ((وَلَنَبْلُوَنَّکُمْ بِشَیْءٍ مِّنَ الْخَوفْ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمَوَالِ وَالأنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِینَ (155) الَّذِینَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِیبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّ_ا إِلَیْهِ رَاجِعونَ (156) أُولَ_ئِکَ عَلَیْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَ_ئِکَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ)). ولن یسلک الإنسان الطریق إلی رضوان الله ورحمته إلا من خلال هذه الضرّاء والبأساء، وما یصیب الإنسان فی أزمات الابتلاء من زلزال فی النفوس ((أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا یَأْتِکُم مَّثَلُ الَّذِینَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِکُم مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء وَزُلْزِلُواْ حَتَّی یَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِینَ آمَنُواْ مَعَهُ مَتَی نَصْرُ اللّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللّهِ قَرِیبٌ)). إنّ هذه الهزّات والزلازل التی تصیب المؤمنین وهذه البأساء والضرّاء والقتل هو السبیل السالک إلی رضوان الله ورحمته، وهذه مشیئة الله تعالی، ولیس فی مشیئة الله إلا الجمیل. والسیدة زینب (علیها السلام) تدرک هذه البصائر من کتاب الله، وتعرف أن أخاها وأهل بیتها خرجوا یأمرون بالمعروف وینهون عن المنکر. وقد قدّر الله تعالی وکتب لهم القتل، فبرزوا إلی مصارعهم بأمر من الله تعالی ورضاه وابتغاء لمرضاته، فلا تری فیما أراد الله تعالی به وبها وبأهل بیتها إلا الجمیل. وهی مطمئنة إلی ذلک، واثقة بذلک، فتقول وبکل ثقة واطمئنان فی جواب الطاغیة: «ما رأیت إلا جمیلا» ولکن أنّی یدرک الطاغیة البلید هذا الجمال. وبهذه البصیرة الصافیة النفّاذة تتجاوز عواطفها وآلامها وتتقبل المصاب الفجیع بسکون واطمئنان وقوّة وثقة بالله تعالی. وهی تعلم ان الله تعالی سوف یجمع بین أخیها الإمام الشهید (علیه السلام) وبین الطاغیة الذی اسکرته نشوة النصر ومصرع الطیبین من آل محمد (صلی الله علیه وآله وسلم)، وهناک ینقلب الحال، ویخزی الطاغیة ومن أمّره، ویفلح الحسین علیه السلام وأهل بیته وأصحابه. فتقول له، وهو فی نشوة النصر، وسکرة الغرور: «وسیجمع الله بینک وبینهم فتحاجّ وتخاصم، فانظر لمن یکون النصر یؤمئذٍ».

ص: 136

علیهم السلام الکوفة مغلولین، قد أوثقوا بالحبال بحالة تقشعر من ذکرها الأبدان، وترتعد مفاصل الإنسان بل الحیوان، کما یقول الفاخوری.(1)

وکان علی بن الحسین علیهما السلام یقول:

«تنوحون وتبکون فمن الذی قتلنا».(2)

ویذکر الشیخ الصدوق فی الأمالی عن حاجب الطاغیة: (ان الطاغیة بعدما سمع اعتراض الناس ورأی سخطهم أمر بعلی بن الحسین علیه السلام فغل وحمل مع النسوة والسبایا إلی السجن، وکنت معهم فما مررنا بزقاق إلا وجدناه ملئ رجالاً ونساء یضربون وجوههم ویبکون، فحبسوا فی سجن وطبق علیها).(3)

وتسیر قافلة الحسین علیه السلام إلی الشام فی صورة محزنة وکان العتاة والقتلة


1- الآصفی الخطاب الحسینی نقلا عن تحفة الأنام فی مختصر تاریخ الإسلام: 84.
2- المقرم  نقلاً عن تحفة الانام من مختصر تاریخ الإسلام، ص 84.
3- آیة الله الشیخ محمد مهدی الآصفی، الخطاب الحسینی، المرحلة الثانیة للثورة الحسینیة، ص 91.

ص: 137

معهم وکلما دمعت عین واحد منهم ضربوه بالرمح کما یقول الإمام زین العابدین علیه السلام وسنمر علی الموضوع فی تفصیل أکثر فی حادثة السبی.

لقد منعوا الإمام الحسین من دخول الکوفة کی لا تحصل ثورته فیها وأبعدوه إلی صحراء کربلاء حیث لا ناس هناک ینصرونه ولا مکان لبیوت أو منازل آهلة فیهبون لنجدته وتقدیم العون إلیه وبذلک تکون ثورته عقیمة میتة لکن النساء نقلن الثورة إلی الکوفة کلها وبعدها إلی الشام کله والی کل المدن التی کانت فی المسیر ونجحن فی هذا المشروع الکبیر کما سیأتینا.

المرحلة الثانیة من الدور الإعلامی
اشارة

وهی تبتدئ منذ وصول السبایا إلی الشام وتستمر حتی خروجهم منها فی مدّة قصیرة ربما هی ثلاثة ایام لکن ثقلها فی المنظومة الحسینیة کان عظیماً.

فلقد کان یزید علی أحرّ من الجمر لرؤیة هذا السبی النبوی الذی یسیح جراحاً، ولیسترجع الشعور بالنشوة والتعویض عن عقدة الحقارة التی استقرت فی الظل الباطن للامویین علی مدی عقود طویلة ولهذا استعد یزید أکثر من استعداد ابن زیاد لإقامة الاحتفال الکبیر الذی انتظره طویلا.

وفی أول یوم من صفر دخلوا دمشق فأوقفوهم علی (باب الساعات) وقد خرج الناس بالدفوف والبوقات وهم فی فرح وسرور ودنا رجل من «سکینة» وقال: من أی السبایا أنتم؟ قالت: نحن سبایا آل محمد صلی الله علیه وآله وسلم.(1)

وقد دخلوا مجلس یزید فی حالة مؤلمة للغایة فقد أوثقوهم بالحبال فکان الحبل فی عنق زین العابدین إلی زینب وام کلثوم وباقی بنات رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم، وکلما قصروا عن المشی ضربوهم حتی اوقفوهم بین یدی یزید وهو علی سریره فقال علی بن الحسین علیه السلام: ما ظنک برسول الله لو یرانا علی هذا


1- المقرم، مقتل الحسین علیه السلام، ص 348.

ص: 138

الحال؟ فبکی الحاضرون وأمر یزید بالحبال فقطعت.(1)

ویمکن مراجعة المقتل الحسینی لیکون هناک اطلاع عن کثب علی حال السبایا لما دخلن المجلس وعن فرح یزید وشماتته بهن واظهار حقده الدفین علی أهل البیت علیهم السلام.

ثم کانت خطبة السیدة فی المجلس:

«الحمد لله رب العالمین، وصلی الله علی رسوله وآله أجمعین، صدق الله سبحانه حیث یقول:

(( ثُمَّ کَانَ عَاقِبَةَ الَّذِینَ أَسَاؤُوا السُّوأَی أَن کَذَّبُوا بِآیَاتِ اللَّهِ وَکَانُوا بِهَا یَسْتَهْزِؤُون)).(2)

اظننت یا یزید حیث اخذت علینا اقطار الأرض، وآفاق السماء، فأصبحنا نساق کما تساق الأساری ان بنا علی الله هوانا، وبک علیه کرامة، وان ذلک لعظم خطرک عنده فشمخت بأنفک، ونظرت فی عطفک، جذلان مسروراً، حین رأیت الدنیا لک مستوسقة، والأمور متسقة، وحین صفا لک ملکنا وسلطاننا فمهلاً مهلاً، انسیت قول الله تعالی:

((وَلاَ یَحْسَبَنَّ الَّذِینَ کَفَرُواْ أَنَّمَا نُمْلِی لَهُمْ خَیْرٌ لِّأَنفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِی لَهُمْ لِیَزْدَادُواْ إِثْمًا وَلَهْمُ عَذَابٌ مُّهِینٌ)).(3)

أمن العدل یابن الطلقاء، تخدیرک حرائرک وإماءک، وسوقک بنات رسول الله سبایا، قد هتکت ستورهنَّ، وابدیت وجوههنَّ، تحدو بهنَّ الاعداء من


1- نفس المصدر السابق، ص 350.
2- سورة الروم، الآیة 10.
3- سورة آل عمران، الآیة 178.

ص: 139

بلد الی بلد ویستشرفهن اهل المناهل والمعاقل, ویتصفح وجوههنَّ القریب والبعید، والدنی والشریف، لیس معهنَّ من حماتهنَّ حمی ولا من رجالهنَّ ولی، وکیف یرتجی مراقبة من لفظ فوه اکباد الازکیاء ونبت لحمه من دماء الشهداء , وکیف یستبطأ فی بغضنا أهل البیت من نظر إلینا بالشنف والشنآن، والاحن والاضغان ثم تقول غیر متأثم ولا مستعظم:

لأهلَّوا واستهلَّوا فرحاً

ثم قالوا: یا یزید لا تشل

منحنیاً علی ثنایا أبی عبد الله سید شباب أهل الجنة تنکتها بمخصرتک وکیف لا تقول ذلک، وقد نکأت القرحة واستأصلت الشأفة، باراقتک دماء ذریة محمد صلی الله علیه وآله ونجوم الأرض من آل عبد المطلب وتهتف بأشیاخک زعمت انک تنادیهم فلتردنَّ وشیکا موردهم ولتودَّنََ انک شللت وبکمت ولم تکن قلت ما قلت وفعلت ما فعلت.

اللهم خذ لنا بحقنا، وانتقم ممن ظلمنا، واحلل غضبک بمن سفک دماءنا، وقتل حماتنا.

فوالله ما فریت إلا جلدک، ولا حززت إلا لحمک، ولتردنَّ علی رسول الله صلی علیه وآله بما تحملت من سفک دماء ذریته وانتهکت من حرمته فی عترته ولحمته، حیث یجمع الله شملهم، ویلمُّ شعثهم، ویأخذ بحقهم

(( وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِینَ قُتِلُواْ فِی سَبِیلِ اللّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْیَاء عِندَ رَبِّهِمْ یُرْزَقُونَ )).(1)

وحسبک بالله حاکما، وبمحمد صلی الله علیه وآله خصیما، وبجبرائیل ظهیراً، وسیعلم من سوَّل لک ومکَّنک من رقاب المسلمین بئس للظالمین بدلاً وایکم شر مکاناً، واضعف جنداً.

ولئن جرَّت علی الدواهی مخاطبتک، إنی لأستصغر قدرک واستعظم


1- سورة آل عمران، الآیة 169.

ص: 140

تقریعک، واستکثر توبیخک، لکن العیون عبری، والصدور حری.

ألا فالعجب کل العجب، لقتل حزب الله النجباء، بحزب الشیطان الطلقاء، فهذه الأیدی تنطف من دمائنا، والافواه تتحلب من لحومنا وتلک الجثث الطواهر الزواکی تنتابها العواسل، وتعفرها امهات الفراعل ولئن اتخذتنا مغنما، لتجدنا وشیکا مغرما، حین لا تجد إلا ما قدمت یداک وما ربُّک بظلام للعبید، والی الله المشتکی وعلیه المعول.

فکدْ کیدک، واسعَ سعیک، وناصبْ جهدک، فوالله لا تمحو ذکرنا، ولا تمیت وحینا، ولا یرحض عنک عارها، وهل رأیک إلا فندٌ وأیامک إلا عدد، وجمعک الا بدد، یوم ینادی المنادی ألا لعنة الله علی الظالمین.

والحمد لله رب العالمین، الذی ختم لأولنا بالسعادة والمغفرة ولآخرنا بالشهادة والرحمة، ونسأل الله ان یکمل لهم الثواب، ویوجب لهم المزید ویحسن علینا الخلافة، انه رحیم ودود، وحسبنا الله ونعم الوکیل».

وقد اشتد الموقف فی الشام کما حصل فی الکوفة بعد خطبة الإمام زین العابدین علیه السلام وخطبة السیدة زینب علیها السلام فی مجلس یزید.. فقد احدثت هذه الخطبة هزة فی مجلس یزید (وراح الرجل یحدث جلیسه بالضلال الذی غمرهم وانهم فی أی واد یعمهون)، فلم یر یزید مناصاً إلا ان یخرج الحرم من المجلس إلی خربة لا تکنُّهم من حرٍّ ولا برد فأقاموا فیها ینوحون علی الحسین علیه السلام(1) ثلاثة أیام.(2)

وفی بعض الأیام خرج السجاد علیه السلام منها یتروح، فلقیه المنهال بن عمر وقال له: کیف أمسیت یا ابن رسول الله؟ قال علیه السلام: أمسینا کمثل بنی اسرائیل فی آل فرعون یذبحون أبناءهم ویستحیون نساءهم، امست العرب تفتخر علی العجم


1- تاریخ الطبری، ج1، ص 266؛ والبدایة لابن کثیر ج8، ص 195.
2- اللهوف ص 207.

ص: 141

بان محمداً منها، وامست قریش تفتخر علی سائر العرب بأن محمداً منها، وأمسینا معشر أهل بیته مقتولین مشردین فانا لله وانّا إلیه راجعون.(1)

قال المنهال: وبینما یکلمنی إذ امرأة خرجت خلفه تقول له: إلی این یا نعم الخلف؟ فترکنی واسرع إلیها فسألت عنها قیل: هذه عمته زینب.(2)

محطات من خطاب السیدة زینب علیها السلام فی قصر یزید

لقد کان خطاب السیدة زینب علیها السلام خطاب احتجاج امام الحکومة الامویة وعلی رأسها حاکمها فهو اذاً خطاب احتجاج واعتراض وتأنیب وتذکیر بالوعد الالهی وأهم محطاته:

1 . التذکیر بأن الکرامة الإلهیة لا تقاس بالمظاهر الخارجیة التی کانت موجودة فشتان ما بین سبی النساء وسوقهن من بلد إلی بلد مع الرؤوس وبین ما کان علیه یزید من نعیم وملک.

2 . التذکیر بقیم صیانة المرأة التی ما زال المجتمع حتی تلک الساعة یعتز بها ویحافظ علیها (تخدیرک حرائرک وإماءک...). وهذا الأمر حینما یصدر من المرأة المتعرضة للحادث یکون اشد تأثیراً فکیف وان الاحتجاج انطلق من عقیلة الهاشمیین للخلیفة یزید وأمام الملأ؟.

3 . بیان مکانة أهل البیت علیهم السلام، اذ تقول:

 منحنیاً علی ثنایا أبی عبد الله سید شباب أهل الجنة تنکتها بمخصرتک وکیف لا تقول ذلک، وقد نکأت القرحة واستأصلت الشأفة، باراقتک دماء ذریة محمد صلی الله علیه وآله ونجوم الأرض من آل عبد المطلب.


1- المقرم ص360
2- المقرم ص360.

ص: 142

4 . التأکید علی الانتصار الحتمی لأهل البیت (فکد کیدک...) وهذا یعرّف بمقدار الأمل العظیم الذی کان عند النفوس المعذبة، وبمقدار یقینها ووعیها بأهدافها ورسالتها.

ومن البدیهی ان خطبة السیدة زینب علیها السلام وخطبة الإمام زین العابدین علیه السلام کانتا بمنزلة الکشف الواعی عن المخطط الأموی کله فی ساحة تکنّ العداء لأهل البیت علیهم السلام، وکانت فرحة بانتصار الخلیفة علی من خرج علی سلطانه وظلمه، ولکن النتائج جاءت معاکسة لذلک فاهتزت الشام.. ولقد احدثت خطبة العقیلة زینب هزة فی مجلس یزید وراح الرجل یحدث جلیسه بالضلال الذی غمرهم ..

وقد استنکر عمله المقربون له منذ بدایة دخول السبایا إلی مجلسه واستنکر الحاضرون فی المجلس وقال ابو برزة الأسلمی: اشهد لقد رأیت النبی یرشف ثنایاه وثنایا أخیه الحسن علیه السلام ویقول: انتما سیدا شباب أهل الجنة قتل الله قاتلکما ولعنه واعد له جهنم وساءت مصیراً فغضب یزید منه وأمر به فأخرج سحباً.(1)

وقال یحی بن الحکم بن ابی العاص اخو مروان وکان جالساً عنده:

لَهامٍ بجنب الط_ف أدنی قرابة من ابن

زیاد العب_د ذی الحس_ب الوغ_ل

سمیة أمسی نس_لها ع_دد الحص_ی

ولیس لآل المصطفی الیوم من نس_ل

فضربه یزید علی صدره وقال: اسکت لا أم لک.(2)

والتفت رسول قیصر إلی یزید وقال: إن عندنا فی بعض الجزائر حافر حمار عیسی ونحن نحج إلیه فی کل عام من الاقطار ونهدی إلیه النذور ونعظمه کما تعظمون کتبکم


1- نفس المصدر، ص355.
2- تاریخ الطبری ج1، ص 265؛ وکامل ابن الأثیر ج4ص37.

ص: 143

 فأشهد انکم علی باطل(1) فأغضب یزید هذا القول وأمر بقتله فقام إلی الرأس وقبَّله وتشهد الشهادتین وعند قتله سمع أهل المجلس من الرأس الشریف صوتاً عالیاً فصیحاً «لا حول ولا قوة إلا بالله».(2)

ثم جعلت امرأة من بین هاشم کانت فی دار یزید لعنه الله تندب علی الحسین (علیه السلام) وتنادی یا حبیباه یا سیّد أهل بیتاه یا ابن محمداه یا ربیع الأرامل والیتامی یا قتیل أولاد الأدعیاء.(3) ولما رأت هند بنت عمرو بن سهیل زوجة یزید الرأس علی باب دارها والنور الإلهی یسطع منه ودمه طری لم یجف ویشم منه رائحة طیبة دخلت المجلس مهتوکة الحجاب وهی تقول: رأس ابن بنت رسول الله علی باب دارنا فقام إلیها یزید وغطاها..(4)

وکان من أشد الناس انکاراً له ولده معاویة. فأخذ یزید یثوب إلی عقله عندما أکثروا عتابه ولومه، وتکرر علیه انکار الناس، وقد ذکروا أن مروان کان یومئذٍ بالشام، فقال لیزید - وهو یری تردی الحالة الاجتماعیة والسیاسیة وتصاعد انکار المسلمین علی بنی أمیة -: (لا یصلح لک توقف أهل بیت الحسین علیه السلام فی الشام فأعدّ لهم الجهاز، وابعث بهم إلی الحجاز).(5)

وشعر یزید بالندم فقال: ما کان علیّ لو احتملت الأذی وانزلته - أی الحسین - معی فی داری، وکلمته فیما یرید. لعن الله ابن مرجانة، فقد بغّض بقتله إلیّ المسلمین، وزرع لی فی قلوبهم العداوة، فبغّضنی إلی البرّ والفاجر بما استعظم الناس فی قتلی حسیناً،


1- المقرم، عبد الرزاق الموسوی، مقتل الحسین علیه السلام، ص 355.
2- المصدر نفسه ص350.
3- السید الجلیل ابن طاووس، اللهوف علی قتلی الطفوف، ص 179.
4- المقرم، مقتل الحسین علیه السلام، ص 356.
5- الآصفی، آیة الله الشیخ محمد مهدی، الخطاب الحسینی، المرحلة الثانیة، للثورة الحسینیة، ص 114.

ص: 144

مالی ولابن مرجانة لعنه الله وغضب علیه.(1)

ثم اقام مجالس العزاء فی الشام وأفرد یزید لأهل البیت علیهم السلام، داراً قریبة من قصوره (دار الحجارة) وأذن لهم بإقامة العزاء والنیاحة علی الحسین علیه السلام، من بعد ما کان ذلک محظوراً علیهم. فأقمن المأتم علی الحسین سبعة أیام، وکان یجتمع عندهنّ کل یوم جماعة کثیرة لا تحصی من النساء.(2) فلم تبق هاشمیة، ولا قرشیّة إلا لبست السواد حزناً علی الحسین علیه السلام.(3)

وأیضاً روی المفید فی الإرشاد: إن الطاغیة أمر بالنسوة أن ین_زلن فی دار علی حدة معهن أخوهنّ علی بن الحسین، فأفرد له داراً یتصل بدار یزید فأقاموا أیّاماً(4).

وأقمن المآتم علیه ثلاثة أیام.(5)

وروی سبط ابن الجوزی فی التذکرة قال:

قال الزهری: لما دخلت نساء الحسین علیه السلام وبناته علی نساء یزید قمن إلیهن، وصحن، وبکین، وأقمن المآتم علی الحسین علیه السلام.

وقال الشعبی: لما دخل نساء الحسین علیه السلام علی نساء یزید قلن:

واحسیناه، فسمعهنّ یزید، فقال:

یا صیحة تحم_د من صوائ_ح

ما أهون الموت علی النوائح(6)


1- الآصفی، الخطاب الحسینی نقلاً عن تاریخ الطبری: 7/19؛ وابن الأثیر: 3/300.
2- نفس المهموم: 451 عن کامل البهائی: 2/ 299 - 302.
3- الآصفی، الخطاب الحسینی، ص 115.
4- الآصفی، الخطاب الحسینی، نقلاً عن الإرشاد للمفید: 231.
5- نفس المصدر عن جلاء العیون لسید شبر: 2/264.
6- الآصفی، الخطاب الحسینی نقلاً عن تذکرة الخواص: 150.

ص: 145

وکانت نتائج ذلک کله ان یزید أمر بارجاع السبایا إلی المدینة.. لما خشی الفتنة وانقلاب الأمر علیه عجل باخراج السجاد والعیال من الشام إلی وطنهم ومقرهم، ومکَّنهم مما یریدون وأمر النعمان بن بشیر وجماعة معه أن یسیروا معهم إلی المدینة مع الرفق.((1)

المرحلة الثالثة من الدور الإعلامی
اشارة

وساحتها المدینة المنورة ویمکن تقسیمها إلی قسمین:

1- القسم الأول یتحدث عن الدور الإعلامی المحدود قبل وصول السبایا

2 - القسم الثانی یتحدث عن الدور الإعلامی بعد وصول السبایا وعودة الرکب الحسینی إلی المدینة.

ألف - القسم الأول

وحیث اراد ابن زیاد ان یعلن (انتصاره) فی المدینة فقد ارسل إلیها من یخبرها بما جری علی الحسین علیه السلام وآل بیته قال الراوی: وکانت نساؤه وعیاله سبایا فارسل ابن زیاد عبد الملک بن الحارث السلمی إلی المدینة لیبشر عمرو بن سعید الاشدق بقتل الحسین فاعتذر بالمرض فلم یقبل منه وکان ابن زیاد شدید الوطأة «لا یصطلی بناره» وأمره أن یجدَّ السیر فان قامت به الراحلة یشتری غیرها ولا یسبقه الخبر من غیره فسار مجدَّاً حتی إذا وصل المدینة لقیه رجل من قریش وسأله عما عنده فقال له: الخبر عند الأمیر ولما أعلم ابن سعید بقتل الحسین فرح واهتز بشراً وشماتة.

وأمر المنادی أن یعلن بقتله فی ازقة المدینة فلم یسمع ذلک الیوم واعیة مثل واعیة نساء بنی هاشم فی دورهن علی سید شباب أهل الجنة واتصلت الصیحة بدار «الاشدق» فضحک وتمثل بقول عمرو بن معد یکرب:


1- 6 - المقرم، مقتل الحسین علیه السلام، ص 361.

ص: 146

عجَّت نساء بنی زیاد عجَّة

کعجیج نسوتنا غداة الأرنب

ثم قال: واعیة بواعیة عثمان.(1)

وقد سمی بالاشدق لأنه اصابه اعوجاج فی حلقه إلی الجانب الآخر لاغراقه فی شتم علی بن ابی طالب علیه السلام(2)، وکانت ردود الفعل ان المدینة اهتزت بالأمر فخرجت بنت عقیل بن أبی طالب فی جماعة من نساء قومها حتی انتهت إلی قبر النبی صلی الله علیه وآله وسلم فلاذت به وشهقت عنده ثم التفتت إلی المهاجرین والانصار تقول:

ماذا تقولون إن قال النب_ی لک_م

یوم الحساب وصدق القول مسم_وع

خذلتمو عت_رتی أو کنتُ_مُ غیب_ا

والح_ق عن_د ولیِّ الأم_ر مجم_وع

اسلمتموهم بأیدی الظالمی_ن فم_ا

منکم له الی_وم عن_د الله مشف_وع

ما کان عند غداة الطَّف إذ حضروا

ت_لک المنای_ا ولا عنه_نَّ مدف_وع

فأبکت من حضر ولم یر باک وباکیة أکثر من ذلک الیوم.(3)

وکانت أختها زینب علیها السلام تندب الحسین علیه السلام وتقول:

ماذا تق_ول_ون إذ قال النبی لکم

ماذا فعلت_م وأنت_م آخ_ر الأم_م

بعت_رتی وبأهلی بع_د مفتق_دی

منه_م أس_اری ومنهم ضرّجوا بدم

ما کان هذا جزائی إذ نصحت لکم

أنْ تخلفونی بس_وء فی ذوی رحم_ی(4)


1- المقرم، مقتل الحسین علیه السلام، ص 334.
2- المقرم، مقتل الحسین علیه السلام نقلاً عن معجم الشعراء للمرزبانی ص 231.
3- أمالی الشیخ الطوسی ص 55.
4- المقرم، عبد الرزاق الموسوی، مقتل الحسین (علیه السلام)، ص 335.

ص: 147

فأجابها ابو الأسود، وهو غارق فی البکاء والشجون:

((رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَکُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِینَ)).(1)

وأخذ یقول:

أقول، وزادنی حنق_اً وغیظ_ا

أزال الله م_لک بن_ی زی_اد

وابعدهم، کما بعدوا وخان_وا

کما بعدت ثمود وق_وم ع_اد

ولا رجعت رکائبه_م إلیه_م

إذا وقفت ب_هم ی_وم التن_اد(2)

وأقامت أم البنین زوجة أمیر المؤمنین العزاء علی الحسین علیه السلام، وکانت نساء بنی هاشم یجتمعن عندها للعزاء والنیاحة.(3)

باء - القسم الثانی

إنّ الدور الإعلامی فی المدینة یبدأ مع عودة السبایا حیث اقیمت مجالس الحداد والعزاء باشراف أهل البیت أنفسهم.

وکان للحالة الأولی من وصول الخبر إلی المدینة أثره الکبیر فی تهیئة الأرضیة لما جری من حوادث فی القسم الثانی. فقد علم أهل المدینة بما جری علی الحسین علیه السلام وأهل بیته واقاموا مجالس العزاء.. روی ابن عساکر فی تاریخ دمشق: أن عبد الله بن عباس کان فی الحرم، إذ أسرّ إلیه شخص بالحادث المفجع فی العراق فذعر، واجهش بالبکاء. فسأله محمد بن عبد الله: ما حدث یا أبا العباس؟

قال: مصیبة عظیمة نحتسبها عند الله، وارتفع صوته بالبکاء، وانصرف إلی


1- سورة الأعراف، الآیة 23.
2- حیاة الإمام الحسین للقرشی: 3/419.
3- الآصفی، الخطاب الحسینی.

ص: 148

من_زله، واقام فی من_زله مأتماً علی الحسین علیه السلام واقبل الناس یعزّونه بمصیبة الحسین.(1)

وکذلک عبد الله بن جعفر فقال ابن جریر: لما ورد نعی الحسین جلس عبد الله ابن جعفر للعزاء وأقبل الناس یعزونه فقال مولاه (ابو اللسلاس)(2): هذا ما لقیناه من الحسین!! فحذفه بنعله وقال: یا ابن اللخناء أللحسین تقول ذلک؟! والله لو شهدته لأحببت أن لا أفارقه حتی اقتل معه، والله انه لمما یسخی بنفسی عن ولدیَّ ویهون علیّ المصاب بهما أنهما أصیبا مع أخی وابن عمی مواسیین له صابرین معه ثم أقبل علی جلسائه وقال: الحمد لله لقد عزّ علی المصاب بمصرع الحسین أن لا أکون واسیته بنفسی، فلقد واساه ولدای(3)..

وهذا قد مهد لأن یکون هناک تجمع حاشد لأهل المدینة ما ان سمعوا بمقدم الإمام زین العابدین علیه السلام إلی المدینة.. یقول الراوی: ثم انفصلوا من کربلاء طالبین المدینة قال بشیر بن حذلم فلمّا قربنا منها نزل علیّ بن الحسین علیه السلام فحطّ رحله وضرب فسطاطه وانزل نساءه وقال: یا بشیر رحم الله اباک لقد کان شاعراً، فهل تقدر علی شیء منه؟ فقال بلی یا بن رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم انّی لشاعر فقال علیه السلام ادخل المدینة وانع أبا عبد الله علیه السلام، قال بشیر: فرکبت فرسی ورکضت حتّی دخلت المدینة فلمّا بلغت مسجد النبیّ صلی الله علیه وآله وسلم رفعت صوتی بالبکاء وانشأت أقول:

یا أهل یث_رب لا مقام لکم بها

قت_ل الحسین فأدمعی م_درار

الجسم منه بکربلاء مضرّج

والرأس من_ه علی القناة ی_دار


1- الآصفی، الخطاب الحسینی، المرحلة الثانیة للثورة الحسینیة، نقلاً عن تاریخ ابن عساکر: 13/86.
2- فی الإرشاد للشیخ المفید وکشف الغمة للاربلی ص 194: ابو السلاسل.
3- تاریخ الطبری ج6، ص 218.

ص: 149

قال ثمّ قلت هذا علیّ بن الحسین علیه السلام مع عمّاته واخواته قد حلّوا بساحتکم ونزلوا بفنائکم وأنا رسول إلیکم اعرّفکم مکانه، قال فما بقیت فی المدینة مخدّرة ولا محجّبة إلا برزن من خدورهنّ مکشوفة شعورهنّ مخمّشة وجوههنّ ضاربات خدودهنّ یدعون بالویل والثّبور فلم أر باکیاً أکثر من ذلک الیوم ولا یوماً أمرّ علی المسلمین منه وسمعت جاریة تنوح علی الحسین علیه السلام فتقول:

نعی سیدی ن_اع نع_اه ف_اوجع_ا

وأمرضنی ن_اع نع_اه فأفجع_ا

فعینیّ ج_وداً ب_الدم_وع واسکب_ا

وجودا بدمع بعد دمعکما مع_اً

علی من دهی عرش الجلیل فزعزع_ا

فأصبح هذا المجد والدین أجدع_ا

علی اب_ن نب_یّ الله واب_ن وصیّ_ه

وإن کان عنّا شاحط الدّار أشسع_ا

ثم قالت: أیها الناعی جدّدت حزننا بأبی عبد الله علیه السلام وخدشت منّا قروحاً لما تندمل فمن أنت رحمک الله؟ فقلت أنا بشیر بن حذلم وجّهنی مولای علیّ بن الحسین علیه السلام وهو نازل فی موضع کذا وکذا مع عیال أبی عبد الله علیه السلام ونسائه قال: فترکونی مکانی فضربت فرسی حتّی رجعت إلیهم فوجدت الناس قد أخذوا الطرق والمواضع فن_زلت عن فرسی وتخطیّت رقاب الناس حتّی قربت من باب الفسطاط وکان علیّ بن الحسین علیه السلام داخلا فخرج ومعه خرقة یمسح بها دموعه وخلفه خادم معه کرسیّ فوضعه له وجلس علیه وهو لا یتمالک عن العبرة وارتفعت أصوات الناس بالبکاء وحنین النسوان والجواری والناس یعزّونه من کلّ ناحیة فضجّت تلک البقعة ضجّة شدیدة.(1)

وأما نساء آل البیت علیهم السلام فقد هاجت بهن ذکریات الأمس القریب مع الأخوة والأعزة کیف خرجوا من المدینة جمعاً من الرجال والنساء ناصرین للإمام فی ثورته العظیمة فعادت النساء باکیات یندبن رجالهن..


1- السید الجلیل ابن طاووس، اللهوف علی قتلی الطفوف، ص 197 - 200.

ص: 150

وکان من رثائهن فی أبی عبد الله علیه السلام:(1)

مدینة جدّنا لا تقبلینا

فبالحسرات والأحزان جینا

خرجنا منک بالأهلین جمعاً

رجعنا لا رجال ولا بنینا

وکنا فی الخروج بجمع شمل

رجعنا حاسرین مسلبینا

وکنّ_ا فی أم_ان الله جه_راً

رجعن_ا ب_القطیع_ة خائفی_ن_ا

ومولان_ا الحسین لن_ا أنی_س

رجعن_ا والحسی_ن ب_ه رهی_ن_ا

فنحن الضائع_ات بلا کفی_ل

ونحن الن_ائح_ات علی أخی_ن_ا

ألا ی_ا جدّن_ا قتلوا حسین_اً

ول_م یرع_وا جن_اب الله فی_ن_ا

ألا ی_ا جدّن_ا بلغت عدان_ا

من_اه_ا واشتفی الأع_داء فی_ن_ا

لقد هتکوا النس_اء وحمّلوه_ا

علی الأقت_اب قه_راً أج_معین_ا(2)

ثم أخذت زینب بنت أمیر المؤمنین بعضادتی باب المسجد وصاحت:

- یا جَدَّاه إِنّی ناعیة إلیک أخی الحسین.

وصاحت سکینة: یا جَدَّاه إلیک المشتکی مما جری علینا فوالله ما رأیت أقسی من یزید ولا رأیت کافراً ولا مشرکاً شراً منه ولا أجفی وأغلظ فلقد کان یقرع ثغر أبی بمخصرته وهو یقول: کیف رأیت الضرب یا حسین.(3)

وأقمْنَ حرائر الرسالة المأتم علی سید الشهداء ولبسْنَ المسوح والسواد نائحات اللیل والنهار والإمام السجاد یعمل لهن الطعام.(4)


1- الأغانی، لأبی الفرج الاصفهانی، ج2، ص 158.
2- الآصفی، الخطاب الحسینی، نقلاً عن منتخب الطریحی: 357.
3- المقرم نقلا عن ریاض الأحزان، ص 163.
4- المقرم نقلا عن محاسن البرقی ج2، ص 420، باب الإطعام والمأتم.

ص: 151

وفی حدیث الإمام الصادق علیه السلام:

ما اختضبت هاشمیة ولا ادهنت ولا أُجیل مرود فی عین هاشمیة خمس حجج حتی بعث المختار برأس عبید الله بن زیاد.(1)

وأما الرباب فبکت علی أبی عبد الله حتی جفَّت دموعها ومما قالته فی رثاء زوجها الحسین علیه السلام:

إنَّ الذی کان نوراً یُسْتَض_اء ب_ه

بکربلاء قتی_ل غی_ر مدف_ون

سب_ط النبیِّ ج_زاک الله صالح_ة

عنّا وجنبت خس_ران الموازی_ن

قد کنتَ لی جب_لا صعباً ألوذ ب_ه

وکنتَ تصحبنا بالرحم والدّی_ن

مَنْ للیتامی ومَنْ للسائلی_ن ومَ_نْ

یغنی ویأوی إلیه ک_لُّ مسکی_ن

والله لا ابتغی صه_راً بصه_رک_مُ

حتی أُغیَّب بین الرم_ل والطِّی_ن(2)

وکانت زینب بنت علی علیه السلام لا تجف لها عبرة ولا تفتر من البکاء والنحیب، وکلّما نظرت إلی علی بن الحسین علیه السلام ابن أخیها تجدّد حزنها وزاد وجدها.(3)

ومن ثم اقیمت مجالس العزاء فی المدینة برعایة أهل البیت علیهم السلام واستمرت هذه المجالس فی توجیه الناس نحو قیم الثورة الحسینیة حتی وقتنا الحاضر.

الدور الإعلامی فی المیزان

کربلاء تمثل حادثة منفردة فی کل احداثها وشخوصها وزمانها ومکانها وحتّی حضور النساء فی هذه الواقعة کان متمیزاً ومختلفاً عما سواه. فمن المعلوم انه کانت


1- مستدرک الوسائل ج2، ص 215 باب 94.
2- المقرم، مقتل الحسین علیه السلام، ص 376.
3- الآصفی، الخطاب الحسینی، نقلاً عن منتخب الطریحی: 358.

ص: 152

للنساء مشارکات فی المعارک فیما سبق، اذ یحضرن اما عاملاً لتقویة المعنویات کما حصل فی معرکة أحد حیث حضرت نساء قریش خلف المقاتلین وهن یرتجزن:

نحن نس_اء طارق

نمشی علی النمارق

ان تقبلوا نعان_ق

أو تدبروا نفارق

والهدف من کل ذلک هو دفع الرجال للقتال. واما ان تحضر النساء فی الحروب للتمریض کما فی صورة رفیدة التی کانت تضمد جراحات المسلمین.. وغالباً ما ینتهی دور النساء بانتهاء المعارک وعودة المقاتلین، اما فی واقعة الطف فالأمر کان متبایناً جداً فقد کان حضور النساء إلی کربلاء هو لأداء أدوار جدیدة وتولی مهام استمرت حتی بعد انتهاء المعرکة. فالملاحظ ان الدور الإعلامی استمر حتی وصول النساء إلی المدینة حیث اقمن مجالس العزاء وکشفن عن الصورة الواقعیة لمقتل الامام علیه السلام الأمر الذی دفع والی المدینة إلی إخراج السیدة زینب علیها السلام عن المدینة، فضاق الوالی الأموی بذلک ذرعاً، وکتب إلی یزید کتاباً یقول فیه:

«ان وجود زینب ابنة علی بین أهل المدینة مهیج للخواطر، فانها فصیحة عاقلة لبیبة، وقد عزمت هی ومن معها علی القیام للأخذ بثأر الحسین، فعرفنی رأیک».(1)

علی هذا یمکن القول ان هذا الدور قد اعطی للمرأة صورة جدیدة عن أدوار مستقبلیة یمکن ان تؤدیها، وأهم ما نلاحظه فی هذا الدور هو قدرة النساء علی تهییج مشاعر الناس وایقاظ الحس الإیمانی والانسانی وتجمیع الطاقات وشحذ الهمم بشکل فعال أدی إلی قیام الثورات علی الأمویین وظهورها وأولها ثورة التوابین عام 62 ه_. أی بعد أمد یسیر من معرکة الطف وهذه اشارة إلی نجاح الدور الإعلامی وتحقیق أهدافه الخالدة.


1- محمد بحر العلوم، فی رحاب السیدة زینب، ص 197.

ص: 153

ولقد تمیزت خطب النساء وکلماتهن فی هذا الدور بأمور نذکر أهمها:

1 . ان عموم الخطب والکلمات کانت تحمل منظومة قیمیة جدیدة أسهمت وإلی حد کبیر فی تغییر المنظومة السابقة التی زرعها الإعلام الأموی الکاذب فبدل الاستکانة اصبح الجهاد والتضحیة من أجل الشهادة وبدل الخوف من اظهار الولاء کان هناک الاعلان عن محبة آل البیت علیهم السلام بدلیل ان الثورات کلها انطلقت من مبدأ الولاء لآل البیت علیهم السلام، وبدل الخضوع للدنیا والرکون إلیها والرضا بالظلم کان التفکیر بالآخرة والتسابق نحو الشهادة ورفض الظلم واعلان الثورة علیه.. وهذا یشیر إلی مقدار الکم القیمی الذی حملته النساء والذی ظهر واضحا من خلال السلوک والأفعال، اذ اننا لا نجد فی هذه الخطب والکلمات أی شیء یتنافی مع الأدب العام أو اللیاقة. فلیس هناک فحش أو سب، أو شتم بل هو خطاب یتعالی عن کل هذه الصفات. وهذا یوصلنا إلی مطاف آخر ان ثورة الإمام کانت قیمیة أخلاقیة تغییریة کبری أدت إلی إعادة النظام الأخلاقی للناس بعد انهیاره وغرق الناس فی مستنقع الفوضی والفساد الأخلاقی.

2 . ولأنه کان خطاباً قیمیاً فقد استقر علی اعمدة الصدق والصراحة. إذ لم تنقل هؤلاء النساء کذباً أو زوراً والعیاذ بالله، بل نقلن الحقائق المؤلمة التی مرت بهن، ونقلن الصورة کما هی من خلال أوضاع السبی والانتقال من بلد إلی آخر فکانت خیر   صورة ناطقة لما جری من أحداث، فی حین اعتمد الإعلام الأموی علی التضلیل والتشویه ومهما استعان هذا الإعلام بمقدرات القوی الظاهریة فانه خطاب لا یدوم؛ لأنه لا یستقر علی أعمدة قویة وأهمها الصدق.

3 . ثم انه کان خطاباً انسیابیاً إذ لم یکن هناک أی تکلف فی مفرداته أو فی إیصاله إلی المتلقی؛ فقد کان الخطاب هو نقلاً لصورة مستقرة فی قلوب أُضیئت بأنوار الهدایة

ص: 154

إلی البشر الغارقین فی سرادق الوهم. ولهذا لم تکن هناک حاجة للتکلف الزائد؛ لأنه انعتاق الحقیقة إلی النور فهو إذاً خطاب القلب المجروح. ولأنه خطاب نابع من القلب، فلا بد أن یستقر فی القلوب التی خرجت تبحث عن الحقائق فجاءتها کسحاب مطر شدید بعد ازمة جفاف.

4 . وهو أیضاً لم یکن خطاباً فکریاً بحتاً استهدف خطاب العقل معتمداً علی النظریات والأدلة والنتائج بشکل یثقل علی الإنسان البسیط والعادی فهمه. کما انه لم یکن خطاباً عاطفیاً مجرداً یهمه تصویر المأساة بشکل خاوٍ دون تحریک العقل البشری، فهو إذاً خطاب فکری عاطفی اراد ان یحقق انتصاراً فکریاً فی التعریف بأصحاب الثورة وفی التأکید علی مبدأ الولاء لأهل البیت علیهم السلام وفی التعریف بمتطلبات هذا الولاء، کما انه حقق انتصاراً عاطفیاً من خلال صور الحزن التی رافقت المشهد الثقافی. ولهذا نجح الخطاب فی تحریک القلوب والعقول، ومن ثمَّ فلا بد من حرکة سلوکیة واضحة تعبر عن فهم الخطاب واستیعابه وبهذا تکون مؤشرا علی نجاحه فکانت الثورات القاصمة للوجود الأموی وکانت مجالس العزاء نموذجاً خالداً لهذا الفهم.

5 . کما انه لم یکن خطاباً عادیاً أبداً، لم یکن مجرد کلمات بسیطة کما هی العادة فیما تتفوه به النساء. بل کان خطاباً بلیغاً بل هو قمة فی الفصاحة والمتانة الأدبیة والصیاغة اللفظیة بما یوحی انه انبعث من أناس علی درجة عالیة من الفهم والوعی الثقافی وهذا نجده فی کل الخطب. وقد اشاد الإمام السجاد علیه السلام بخطاب عمته زینب علیها السلام فقال لها: انت بحمد الله عالمة غیر معلمة فهمة غیر مفهمة.(1)

لقد القت النساء خطبا عدیدة وهن فی مراحل عمریة متفاوتة کما ان نسبتهن مع الشهداء کانت مختلفة. فقد کانت السیدة زینب علیها السلام فی الخمسین فی حین کانت


1- المقرم، عبد الرزاق الموسوی، مقتل الحسین، نقلاً عن الاحتجاج الطبرسی ص166.

ص: 155

فاطمة بنت الحسین علیه السلام فی الثلاثین لکن مع ذلک لا نجد تفاوتاً ثقافیاً أو بلاغیاً واسعاً بین الخطب.

6. وهو أیضاً لم یکن خطاب اناس قانطین او اناس استبدبهم الیأس فأرادوا تفریغ حمولتهم ابداً فقد کان نبراس الأمل معهم فی کل أدوارهم(1). ونحن نلمس مواقع عدة للأمل والتفاؤل بمستقبل یسحق بنی أمیة ویُعلی من شأن آل البیت علیهم السلام ونذکر لذلک مثالاً هو خطاب السیدة زینب علیها السلام مع یزید (کد کیدک، واسع سعیک، فوالله لا تمحو ذکرنا أبداً ولا تمیت وحینا ولا یرحض عنک عارها وهل رأیک الا فند وأیامک إلا عدد وجمعک إلا بدد).

7 . ثم ان الخطاب أکد علی قیمة الانتصار، انتصار الإمام وانتصار مبادئه وانتصار خط الولاء رغم ان الإعلام الأموی ابتهج بانتصار الخلیفة علی الخارجی واعلن الفرح والزینة.. وتأکید الانتصار یبدو فی أکثر من موقع واشارة وهو اذ أکد الانتصار فانه أکد مظلومیة أهل البیت علیهم السلام واستعرض مکانتهم بشکل شد العقول إلی الکلمات فکانت ثورات.. کما تقول فاطمة بنت الحسین علیه السلام فی خطبتها: «کما قتل ولده بالأمس فی بیت من بیوت الله تعالی، فیه معشر مسلمة بألسنتهم، تعساً لرؤوسهم ما دفعت عنه ضیماً فی حیاته ولا عند مماته، حتی قبضه الله تعالی إلیه محمود النقیبة، طیب العریکة، معروف المناقب، مشهور المذاهب، لم تأخذه فی الله سبحانه لومة لائم، ولا عذل عاذل، هدیته اللهم للإسلام صغیراً، وحمدت مناقبه کبیراً، ولم یزل ناصحاً لک ولرسولک، زاهداً فی الدنیا غیر حریص علیها، راغباً فی الآخرة، مجاهداً لک فی سبیلک، رضیته فاخترته وهدیته إلی صراط مستقیم».(2)


1- راجع مواساة السیدة زینب علیها السلام للإمام السجاد علیه السلام، المقرم، مقتل الحسین علیه السلام ص 308.
2- المقرم، مقتل الحسین علیه السلام، ص 314.

ص: 156

8 . والعجیب ان هذا الخطاب کان شجاعاً قویاً قال کلمته فی الوقت الذی تراجع فیه الصنادید عن بیان آرائهم او اعلان ولائهم ونصرتهم لمن یطلب النجدة بشکل لا یتناسب حتی مع الاخلاق العربیة المعروفة. کان الخطاب شجاعاً أمام المجرمین والقتلة وکل واحدة منهن کانت امرأة عزلاء خاویة من کل سلاح إلا سلاح الإیمان والقیم امام هذه الجموع المصفوفة أمامها الشاهرة سیوفها وحرابها.. هؤلاء النساء صببن الحمم الخطابیة البلاغیة فی وقت غفلة الناس وجبنهم وتخاذلهم وتراخی قواهم فجاءت هذه الکلمات لتُحیی الشجاعة فی نفوسهم، ولهذا مررنا فیما تقدم من البحث علی مواقف قوة وشجاعة ظهرت فی مجالس الحاکمین وأحیاناً خارجها من أناس عزل.. لقد اکتسبوا الشجاعة بفعل الخطاب الشجاع...

9 . ثم ان هذا الخطاب کان منوّعاً متعدد الوجوه والمسالک وهو یعطی لکل شریحة ما تحتاجه من الخطاب؛ فمع الموالین لابد من وخز الضمیر وتعزیز الشعور بالاثم کی یعودوا أدراجهم محاسبین أنفسهم عن تقصیرهم فی نصرة الإمام. فی حین امام الاعداء کان الخطاب فاضحاً لأفعالهم متوعداً بخیبة خططهم منذراً بأفول دولتهم وعاکساً للاعتزاز بالشهادة والتضحیة والتفاخر بآل البیت حسباً ونسباً وموقفاً وهذا ان دل علی شیء فانما یدل علی قوة الذکاء لدی هؤلاء النساء والقدرة العالیة علی تشخیص ما هو مطلوب وضروری لکل حدث وواقعة.

10 . ویمکن القول فی نهایة المطاف: إن هذا الخطاب قد نجح فی کسر الصورة النمطیة التی سادت آنذاک عن المرأة، وهی صورة سلبیة لامرأة ضعیفة بعیدة عن هموم المجتمع غارقة فی ذاتها، عاجزة عن اتخاذ أی موقف له اثره فی حیاة الناس والأمة فإذا بهذا الإعلام النسائی یقدم لنا صورة المرأة القویة فی الله.. الحاملة هموم الأمة والساعیة لتغییر الواقع عبر مجابهة الظالمین، وقدم لنا المرأة التی تعیش الولاء خطا ورسالة وفکراً

ص: 157

ومنهجا لا مجرد تمتمات لسان .. وبهذا نقف فی الدور الإعلامی أمام نساء عظیمات لهن القدرة علی احتمال المصائب وابتلاع الهم وتغییر أمور الناس.. فهل تصل نساؤنا المعاصرات إلی هذه الصورة؟.  

یقول الشیخ مطهری فی الملحمة الحسینیة: حول تأثیر شخصیة عیال الحسین علیه السلام فی التبلیغ وهو التبلیغ الذی حمل دورین؛ دور التعریف بالإسلام، ودور اعلام الناس ووضعهم بالصورة الصحیحة عما کان یجری وأحداث العمل الآخر الذی تمکن أهل البیت علیهم السلام من انجازه هو تحقیق الاتصال الجماهیری والتحدث إلی الجمهور وعلی منبر العدو نفسه فی الوقت الذی لم یکن مثل ذلک الأمر ممکنا قبل الحادثة واثناءها لخوف الناس وعدم تجرئهم علی الاتصال بآل البیت علیهم السلام بسهولة.(1)

5 - روایة المقتل الحسینی

کیف کان بامکاننا ان نفهم ما جری فی کربلاء إزاء التضلیل الإعلامی وتزییف الحقائق والوقائع الذی اعتمدته السیاسة الأمویة ورصدت له مبالغ ضخمة وامکانیات عظیمة ؟ وکیف نعرف ما هی الأحداث التی حصلت یوم العاشر من محرم؟ .  

یجیب الشهید السید محمد الصدر فی کتابه أضواء علی الثورة الحسینیة علی کل هذه التساؤلات بالقول:

ان الرواة الأوائل لحادثة الطف هم:

1 . الأئمة المعصومون.

2 . النساء من ذریة الحسین وذریة أصحابه، فمن الممکن ان یتحدثن عما رأینه عن تلک التفاصیل.. وتُعَدُّ کل واحدة منهن شاهد حال حاضر للواقعة.


1- مطهری، مرتضی: الملحمة الحسینیة، ج3، ص 237.

ص: 158

فلقد تکلمت النساء فی کل مکان وصلن الیه عما جری فی کربلاء، وعن حکایة الرأس المرفوع علی السنان والتعریف بالسبایا واستخدمن فی ذلک کل ما لدیهن من قدرات کلامیة وبیانیة فی التعریف بالمقتل الحسینی وبهذا نبذ الناس الروایة الأمویة التی بثوها عن الإمام ومقتله علیه السلام وتمسکوا بروایة هؤلاء النساء فی الکشف عن أحداث الواقعة المأساویة الکبری. فأمام التضلیل الأموی کان کلام النساء هو الوحید الذی رد علی التشویه فی الحقائق وصوت النساء هو الصوت الاول الذی اخترق الحصار الاموی للاعلام.

ورغم ان البعض یحجم هذا الدور باعتبار ان النساء کن فی الخیام ولا یمکنهن سرد کل الوقائع حیث ان السید محمد الصدر یعقب علی ذلک بالقول: ومع ذلک یجب ان لا نبالغ فی ذلک لأمرین الأول ان النساء کن موجودات فی الخیام ولسن مشرفات علی الواقعة ولا متابعات للحوادث ولا یعرفن أشخاص الرجال الأجانب باسمائهن؛ الثانی کانت المصلحة الدینیة والاجتماعیة تقتضی اقامة المزید من المآتم علی واقعة الطف بعد عودتهم إلی المدینة المنورة.

وأقول ربما یکون هذا صحیحاً لکنّ هناک أموراً یجب ان تؤخذ بنظر الاعتبار منها:

1 . ان نساء أهل البیت کن فی الخیام ولکن النساء الاخریات خرجن إلی أرض المعرکة وعدن إلیها بعدما طلب الإمام الحسین منهن ذلک.

2 . ان تتابع الشهداء کان واضحاً وکان الإمام یجمعهم فی خیمة واحدة وکانت النساء تتابع الوقائع وتری عودة الجثث الطواهر.

3 . الامام الحسین علیه السلام هو آخر من استشهد وبتتابع سقوط الشهداء کان لابد وان تکون هناک صورة اولیة عن استشهاد کل واحد، ولا ننسی ان النساء فی أی دور کانوا تابعوا خروج الاحبة ومن ثم استشهادهم.

ص: 159

4 . ان النساء قد نقلن وقائع عدیدة جرت ربما بعد الواقعة، ولیس مهماً ان تعرف الاسماء کلها فروایات النساء مع الآخرین الذین شهدوا الواقعة ودونوها مثل حمید بن مسلم کانت هی الحجر الاساس فی التعریف بالمقتل الحسینی ومن ثم فأمام التضلیل الأموی کان کلام النساء هو الوحید الذی رد علی التشویه فی الحقائق. والملاحظ ان الإمام زین العابدین علیه السلام کان أیضاً مریضاً فی الخیمة ولکنه نقل الوقائع بعد ذلک!!

والمهم فی کل ذلک التعریف بالوقائع الاصلیة اما الجزئیات فقد وصلت الینا فیما بعد حتی من الذین حاربوا الامام وممن کانوا فی الجیش الاموی.

وقد اقیمت مجالس العزاء فی المدینة وسعت من خلالها نساء الطفوف فی التعریف بما جری فی کربلاء. ویمکن القول: إن هذا الدور یأتی مکملاً لما قام به أهل البیت علیهم السلام من روایتهم للمقتل الحسینی ونحن اعتمدنا علی کل ما جاءنا من روایات بعد التدقیق فیها حتی وصلنا إلی الصورة الصحیحة للمقتل الحسینی.

6 - اعلان الحزن العام (الحداد الرسمی)

اشارة

وقد اقیمت مجالس العزاء فی الشام ومن ثم فی کربلاء فقدکانت هناک صور واضحة لاظهار الحزن وبعد العودة إلی المدینة أیضاً اقیمت مجالس العزاء لذکر مصائب آل البیت علیهم السلام، وقد هجرت النساء الزینة والخضاب کما ورد فی الروایة عن الإمام الصادق: ما اختضبت هاشمیة ولا ادهنت ولا أجیل مرود فی عین هاشمیة خمس حجج حتی بعث المختار برأس عبید الله بن زیاد.(1)

واقمن حرائر الرسالة المأتم ولبسن السواد نائحات اللیل والنهار والإمام السجاد علیه السلام یعمل لهن الطعام(2)، انه حزن جماعی نسائی رجالی عام، وأما علی بن


1- المقرم، مقتل الحسین، ص376.
2- نفس المصدر السابق.

ص: 160

الحسین فانقطع عن الناس انحیازاً عن الفتن وتفرغاً للعبادة والبکاء علی أبیه ولم یزل باکیاً لیله ونهاره فقال له بعض موالیه: إنی أخاف علیک أن تکون من الهالکین فقال علیه السلام: یا هذا إنما اشکو بثی وحزنی إلی الله وأعلم من الله ما لا تعلمون ان یعقوب کان نبیاً فغیَّب الله عنه واحداً من أولاده وعنده اثنا عشر وهو یعلم أَنّه حیٌّ فبکی علیه حتی ابیضت عیناه من الحزن وانّی نظرت إلی أبی واخوتی وعمومتی وصحبی مقتولین حولی فکیف ینقضی حزنی، وانی لا أذکر مصرع بنی فاطمة إلا خنقتنی العبرة وإذا نظرت إلی عماتی واخواتی ذکرت فرارَهُنَّ من خیمة إلی خیمة.(1)

 الکل اعلن الحداد وکان الحداد نفسه تحدیاً للسلطة الظالمة التی أراقت دم الإمام وأصحابه فی أرض الطفوف.

وقد اتخذ الحزن مظاهر عدة منها إقامة مجالس العزاء نفسها؛ إذ اقام الإمام السجاد مجالس خاصة، وقد تهیأت المدینة للحداد منذ ان جاء خبر مقتل الامام؛ إذ ارسل الوالی  من یعلن عن قتل الامام یقول الراوی:

ارسل المنادی یعلن عن قتله فی ازقة المدینة فلم یسمع ذلک الیوم واعیة مثل واعیة نساء بنی هاشم فی دورهن علی سید شباب أهل الجنة.(2)

وقال: فما بقیت فی المدینة مخدّرة ولا محجّبة إلا برزن من خدورهنّ مکشوفة شعورهنّ مخمّشة وجوههنّ ضاربات خدودهنّ یدعون بالویل والثّبور فلم أر باکیاً أکثر من ذلک الیوم ولا یوماً أمرّ علی المسلمین منه ثم قالت: أیها الناعی جدّدت حزننا بأبی عبد الله علیه السلام وخدشت منّا قروحاً لما تندمل(3).. وقد عرضنا لموقف ابنة عقیل


1- المقرم، مقتل الحسین علیه السلام، ص 377.
2- المقرم، مقتل الحسین علیه السلام، ص 334.
3- ابن طاووس، اللهوف علی قتلی الطفوف، ص 334 - 335.

ص: 161

فی شعرها (ماذا تقولون) کواحد من مظاهر الحداد التی سبقت وصول السبایا وفی الشام أیضاً کانت هناک مظاهر حزن [فأقمن المأتم علی الحسین سبعة أیام، وکان یجتمع عندهنّ کل یوم جماعة کثیرة لا تحصی من النساء.(1) فلم تبق هاشمیة، ولا قرشیّة إلا لبست السواد حزناً علی الحسین علیه السلام].(2)

ولما عرج الدلیل علی کربلاء اقامت النساء مجالس نیاحة کصورة لاعلان الحداد العام, والمعروف ان المرأة أظهر للحزن من الرجل من خلال لبس السواد وترک الخضاب والبکاء ونعی الامام وهذا ما حصل فی المدینة بعد عودة السبایا ولهذا بان الحداد واضحا فی المدینة واستفادت النساء من کل هذه فی التعریف بمقتل الامام واماطة اللثام عن القناع الاموی الحاقد. وکان الامام السجاد علیه السلام یندب أباه واخوته وابناء عشیرته فی کل مناسبة حتی عد احد البکّائین الخمسة. وقد اشتد الحزن فی المدینة بعد ان ترکت الواقعة ردود فعل واضحة مما جعل الحاکم الاموی یخشی الفتنة فأمر باخراج السیدة زینب عن المدینة بوصفها المسبب عن التعریف باحداث الطفوف وبشکل مکثف وصریح وهذا الابعاد والنفی للسیدة کان محاولة للسیطرة علی زمام الامور.

السبی.. المأساة الکبری

... وسیق موکب الأسری والسبایا فکان أبشع موکب شهده التاریخ منذ کان.. بهذه الکلمات تصف الکاتبة (بنت الشاطی) موکب السبایا.. والحق انه أیضاً افجع موکب شهده التاریخ. ویبدأ سبی النساء منذ استشهاد الإمام علیه السلام حیث هجم الأعداء علی معسکر الإمام واحرقوا الخیام واعتقلوا کل من کان فیها..


1- نفس المهموم: 451.
2- الآصفی، الخطاب الحسینی، ص 115.

ص: 162

یقول الراوی: لما قتل أبو عبد الله الحسین علیه السلام مال الناس علی ثقله ومتاعه وانتهبوا ما فی الخیام، وأضرموا النار فیها وتسابق القوم علی سلب حرائر الرسول صلی الله علیه وآله وسلم ففررن بنات الزهراء علیها السلام حواسر مسلبات باکیات، وان المرأة لتسلب مقنعتها من رأسها وخاتمها من اصبعها وقرطها من اذنها والخلخال من رجلها. فقد أخذ رجل قرطین لأم کلثوم وخرم اذنها، وجاء آخر إلی فاطمة ابنة الحسین فانتزع خلخالها وهو یبکی قالت له: مالک؟ فقال: کیف لا أبکی وأنا أسلب ابنة رسول الله قالت له: دعنی، قال: أخاف أن یأخذه غیری.

ورأت رجلا یسوق النساء بکعب رمحه وهن یلذن بعضهن ببعض وقد اخذ ما علیهن من اخمرة واسورة ولما بصر بها قصدها ففرت منه فأتبعها رمحه فسقطت لوجهها مغشیاً علیها ولما افاقت رأت عمتها أم کلثوم عند رأسها تبکی.

أُزْعِجَت م_ن خدرها حاس_رة

ک_القطا رُوِّع من بعد هج_ود

تن_دب الصون الذی قد فق_دت

صب_رها فی_ه إلی خی_ر فقی_د(1)

وبعد الزوال ارتحل إلی الکوفة ومعه نساء الحسین وصبیته وجواریه وعیالات الأصحاب وکنّ عشرین امرأة وسیروهنَّ علی أقتاب الجمال بغیر وطاء کما یساق سبی الترک والروم وهن ودائع خیر الأنبیاء ومعهن السجاد علی بن الحسین وعمره ثلاث وعشرون سنة، وهو علی بعیر ظالع بغیر وطاء وقد أنهکته العلة ومعه ولده الباقر وله سنتان وشهور.(2)

وأتاهن زجر بن قیس وصاح بهن فلم یقمن، فأخذ یضربهن بالسوط واجتمع علیهن الناس حتی ارکبوهن علی الجمال.(3)


1- المقرم، مقتل الحسین علیه السلام، ص 300 -  301.
2- نفس المصدر السابق، ص 305.
3- نفس المصدر 309.

ص: 163

وتسیر قافلة السبایا فی طریق طویل یبتدئ من کربلاء إلی الکوفة ثم إلی الشام ثم العودة من الشام إلی کربلاء ثم إلی المدینة فی مسیرة طویلة قدرها أصحاب المقاتل بما یقارب الشهرین!!

لقد کانت رحلة طویلة، قاسیة، صعبة، محزنة، مفجعة وثقیلة بکل ما فیها من ضغوطات نفسیة وبدنیة واجتماعیة لکنها کانت حقاً عدل القتل والتمثیل.(1)

نقل عن ابی الجوزی عن جده انه قال: لیس العجب ان یقتل ابن زیاد حسیناً وانما العجب کل العجب ان یضرب یزید ثنایاه بالقضیب ویحمل نساءه سبایا علی اقتاب الجمال.(2)

وإلی هذه الصورة یشیر مغنیة فی کتابه قائلا: لقد رأی الناس فی السبایا من الفجیعة أکثر مما رأوا فی قتل الحسین وهذا بعینه ما أراده الحسین من الخروج بالنساء والصبیان.(3)

وإلی هذه الحال یشیر البعض الی ان فاجعة کربلاء لها عدلان رئیسان یکمل أحدهما الآخر عدل القتل والتمثیل والهتک لحرمة هذه الصفوة من أبناء الأمة وعلی رأسهم الإمام الحسین علیه السلام ابن بنت رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم وأهل بیته وصحبه الکرام.

وعدل السبی والأسر والهتک والاستهتار بحرمات هذه النسوة اللائی یمثلن حرم رسول الله  وأهل بیته.(4)


1- السید محمد باقر الحکیم، دور المرأة فی النهضة الحسینیة.
2- یراجع محمد جواد مغنیة،  الحسین وبطلة کربلاء,ص 35.
3- نفس المصدر.
4- الشهید السید محمد باقر الحکیم: دور المرأة فی النهضة الحسینیة، ص 64.

ص: 164

وهذا هو الجانب الأول فی هذه المأساة اما الجانب الثانی منها فهو ان کل أدوار نساء أهل البیت علیهم السلام ظهرت فی هذه المرحلة، فضلاً عن الدور الإعلامی الکبیر والعظیم والخطیر، فلولا تنقل رکب السبایا من بلد الی بلد لما استطاعت النساء تصدیر الحقائق فی الامصار والبلدان التی وصلوا إلیها. هذا الامر یضاف إلی ما اظهرته النساء من مرونة عالیة فی التکیف مع الأحداث فحولت النساء حالة السبی من حالة شلل اجتماعی وضغط نفسی فادح إلی حالة عطاء اعلامی ضخم وإلی حرکة ثوریة فعالة استطاعت ان تزیح النقاب عن الوجه الأموی المقیت.

 وعادة حینما تحدث الحروب فی أی مکان فان النساء والأطفال هما أکثر الشرائح تضرراً من انعکاسات الحرب ورغم التفاوت الموجود بین الحروب المعاصرة والسابقة من حیث قوة الفتک وسعة الانتشار والتقنیات إلی غیر ذلک لکن تبقی النساء والأطفال شرائح سهلة التصدع إزاء المؤثرات الخارجیة القاسیة، وعادة ما تعیش هذه الشرائح انعکاسات نفسیة قاسیة تظهر واضحة فی ارتفاع نسبة الخوف والتوتر وزعزعة الأمن النفسی والشعور بالاحباط والاکتئاب والشک بالقضیة وبقدسیة الثورة أو المعرکة التی خاض غمارها.

وتنتاب النساء مشاعر اقسی خاصة إذا کانت مع الأولاد اوإذا کان الأولاد ضمن الأسری أو تعرضوا لحوادث حیث یسیطر الخوف أکثر وتزداد المحاولات الساعیة  للحفاظ علی الموجودین الأحیاء مما یضاعف من نسبة التوترات والقلق والهواجس ویزید الارباک.

مضافاً إلی ذلک ان النساء تتأثر بمشاهد العنف وبخاصة عنف الحروب بشکل أکبر وأکثر من الرجال بسبب البناء الفزیولوجی، ولأن ذاکرة النساء تمتد زمناً أطول مع الحفاظ علی امتیازها بالقدرة علی الاحتفاظ بالجزئیات الصغیرة فان عامل التذکر یتخذ

ص: 165

له مدی أطول مما یعنی معایشة الصورة المؤلمة للوقائع التی حصلت فی الحرب ویزداد الحال تأثراً إذا ازدادت مدة المعایشة مع هذه المشاهد المرعبة. ورغم ان الإیمان بقدسیة المعرکة یخفف الالم لکن یبقی الإنسان بشراً ذا عواطف ومشاعر جیاشة ویبقی یتذکر ویبکی ویذرف الدمع رغم حرصه علی ان لا یوحی للآخرین بانه یائس أو ذلیل.

علی ضوء هذه الدراسة المبسطة لانعکاسات الحروب علی النساء یمکن ان نفهم وضع السبایا بشکل أعمق فمن ناحیة ان هؤلاء النساء کن قد عشن کل مظاهر القسوة والعنف التی مورست ضد أهل البیت علیهم السلام فقد رأین الأحبة صرعی مجزّرین علی أرض المعرکة, شاهدوا عطش العیال، ذبح الرضیع، وحصار القوم وقتل الانصار ومقتل علی الأکبر والعباس بشکل مأساوی مؤلم للغایة اضافة إلی قطع الرؤوس وتعلیقها علی الرماح أمام موکب السبایا طوال المسیرة الطویلة. ولنا ان نتصور أحوالهن عندما مرّوا بهن علی مصارع الشهداء فی مسیرهم إلی ابن زیاد وکیف أکل الحزن قلوبهم وتعالت استغاثاتهم وهم فی کل ذلک بین الرؤوس والدمع والألم والجوع والعطش تقودهم زمرة ابن زیاد وعمر بن سعد وشمر، أی انهن کن یرینَ القتلة الذین کانوا یرقصون علی اشلاء الضحایا الذین کانوا من سلالة بیت النبوة وفیهم سید شباب أهل الجنة!. وهم یظهرون الشماتة والفرح أملاً وانتظاراً للجائزة الکبری التی سیحصلون علیها تقدیرا لهم لقیامهم بکل تلک الافعال الشنیعة!. یُظهرون کل ذلک أمام مجموعة نساء اسیرات ثکالی فقدن الأحبة فی وقت واحد وبصورة تقرح القلوب وسرن مقهورات بل حتی لم یتمکنّ من دفنهم!. ولنا ان نتصور أحوال النساء هذه والواقع اخطر من الکلمات المکتوبة. ولم یکن السفر من الکوفة الی الشام بالسهل الیسیر، فقد عرف الطریق الوعورة والمصاعب، ولم یکد السائر فیه یبلغ الشام حتی یقطع من عمره أکثر من شهر علی الابل الصابرة المجدة.

ولکن ابن زیاد أراد أن یکون الطریق بأقل بکثیر من هذه المدة لیضرب عصفورین

ص: 166

بحجر واحد: أولاً - الامعان فی اجهاد السبایا، واذلالهم، وثانیاً تفادیاً لکل الاحتمالات التی تنشأ من تنقل الموکب - حسب طبیعته فی القری والمدن التی یمر بها، وخشیة ردود الفعل فیها، قال الراوی:

«لقد کان مسیرة الطریق شهراً للابل ذوات الصبر والقوة، ولکن الحداة الغلاظ ارهقوا قدرتها، وأوجعوا صبرها، فقطعت الإبل فی عشرة أیام أو دونها ما کان علیها أن تقطعه فی شهر أو أکثر، وکأنما سالت امام الإبل عثرات الطریق لتحط عن قریب بعض أوزار القوم، ولولا أنها کانت تحمل عفافاً وطهراً لیس مثله فی الأرض عفاف وطهر، لألقت بأحمالها حین کانت تفزعها أصوات الحداة، وکأنها حست بما تحمل، وحنت لرنة الحزن من فوقها فسارت وأسرعت، کأنها لم تسمع من قبل برنة حزن کما سمعت فی هذا البکاء.

وسیر بالسبایا فی اعتساف وارهاق لیل نهار، وسیر بهن من خلف الرؤوس عما کان یسار بالسبایا من الحروب، وکان سیر شمر بن ذی الجوشن أمیراً لهذا الرکب سبباً فی أن یصوم أهل البیت عن الکلام، فما نبست منهن نابسة بکلمة ولا أشارت واحدة منهن باشارة، وکان إذا حدث أحد نفسه بالکلام أو علا صوته بالبکاء قرعه الفرسان بالرماح!.

وجعل ابن ذی الجوشن کلما مر ببلد أرسل إلیه قبل أن یدخله أنه موکب رجل خارجی خرج علی أمیر المؤمنین، فإذا جازت الکذبة علی القوم مرّ بالبلد، وإذا لم تجز الکذبة، أو خیف البلد مال منه، ولم یعرج علیه.

وطالما مال الرکب عن الطریق التی تسلکها الإبل، وخاصة البریة والرمال خوفاً من غضب الناس إذا علموا فثاروا، فإذا خرج ابن ذی الجوشن من بلد وقریة لیلاً أصبح یتفقد أثواب الرکب، فلعل أهل البلد جاءوا بشیء زائد فیأخذه منهم».(1)


1- محمد بحر العلوم، فی رحاب السیدة زینب، السیرة والتاریخ (3)، ص 173 - 175.

ص: 167

اننا الآن مع کل هذه الطرق المعبدة لنشعر بالتعب فی السفر البری فی حافلات مکیفة ومریحة فکیف کان السفر فی ذاک الزمان؟ خصوصا وان شمرا لعنه الله کان لا یسیر ضمن الطرق الرئیسة خوف الاذی الذی یتوقع ان یتعرضوا له! معنی هذا انهم ساروا فی طرق فرعیة صعبة ومرهقة للغایة.. ولنا ان نتصور اوضاع الرکب الحسینی وبخاصة النساء الثکالی المرهقات.. کان من الممکن ان یصبن بانهیار أو یتملکهن خوف أو رعب لکن الأمر کان عکس ذلک تماماً فقد ابدین قدرة عظیمة فی اداء الدور الاعلامی بشکل یدهش السابقین واللاحقین.. فها هی العقیلة زینب علیها السلام ما ان تدخل الکوفة حتی تهاجم أهلها بخطابها العظیم وتصب علیهم حمماً من الکلمات الضاریة التی أوجعتهم فانتبهوا. بل وتجعل کل الحاضرین یغرقون فی بحر الدموع والآهات والحسرات ثم جاءت باقی الخطب کذلک. ان هذا یعکس لنا أموراً منها صلابة هؤلاء النساء وثباتهن وهذا یعود بالدرجة الأولی إلی ثقتهن بالقضیة التی جئن من أجلها وإلی نمط التربیة وإلی قدرتهن علی تحمل الشدائد التی أبت الجبال حملها وإلی إیمانهن العظیم بالله تعالی والذی قدّر الامور.

ومن البدیهی ان قول الإمام الحسین علیه السلام (شاء الله ان یراهن سبایا) کان قد رسم لهن صورة ذهنیة عما ینتظرهن من أدوار قادمة وخطوب جسام. ویری العلماء المعاصرون ان من عوامل نجاح الشخصیة هو توقعها لحوادث مستقبلیة وحوادث صعبة وثقیلة وتهیئة الذات للاستعداد لمواقف کهذه. وهذا النمط من التفکیر یحرر من المسیر الروتینی للحیاة ویکسب الفرد قوة ازاء مواقف عارضة ویعلمه ادوات الصلابة والثبات. بمعنی آخر إنه یمنحه سرعة التکیف ازاء الأحداث المفاجئة، فکیف إذا کانت هی أحداثاً متوقعة ومنتظرة ودار الکلام عنها منذ أمد بعید؟.

ومن هنا کان للسبی انعکاسات وأبعاد إیجابیة کثیرة علی واقع الثورة. فلقدکان

ص: 168

هدف السلطة الأمویة من سبی النساء هو إرسال رسالة إلی کل الذین یفکرون فی الثورة علی النظام أو الذین لا یدینون بالولاء للحکم الأموی مفادها: اننا لا نرحم أیاً کان حتی لو کان الخارج علینا من أهل بیت الرسول صلی الله علیه وآله وسلم أو سید شباب أهل الجنة.. وکان الأمویون یخططون لرسم صورة مشوهة لهؤلاء السبایا فی صورة الذل والانکسار وطلب الرحمة لکن الأمر أصبح عکس ذلک تماماً فهذه کلمات النساء تتوعد الحاکم الظالم وتعاتب الناس (بقسوة) علی تخلفهم عن النصرة ومن ثم فما خطط له الإمام علیه السلام من اصطحاب النساء معه فی المعرکة کان صحیحاً وحکیماً، لأنه أسهم فی عرض قداسة الفکرة التی انطلق منها الإمام الحسین علیه السلام وهذه بذاتها کانت رسالة معاکسة للرسالة الأمویة وکانت أقوی تأثیراً لما اصطحب المشهد العام من مناظر مؤثرة وصور مؤلمة.

وکان الإعلام الأموی قد أعلن فی کل مکان قبل وصول السبایا إلیه ان هؤلاء سبایا الترک والدیلم. ولکن النساء قلبن هذه الدعایة وغیرّن الحال لما رأی الناس مظاهر الحشمة والوقار علیهن فعلموا ان هؤلاء النساء من أهل بیت النبوة ولنا ان ندرس هذه الشواهد:

جاء فی المقتل:أشرفت امرأة من الکوفیّات فقالت: من أی الأساری أنتنّ؟ فقلن نحن أساری آل محمد صلی الله علیه وآله وسلم فن_زلت المرأة من سطحها فجمعت لهن ملاء، وازراً ومقانع واعطتهن فتغطّین.

ولما همت السیدة زینب بإلقاء خطبتها (أومأت زینب علیها السلام إلی ذلک الجمع المتراکم فهدأوا حتی کأنَّ علی رؤوسهم الطیر ولیس فی وسع العدد الکثیر ان یسکن ذلک اللغط أو یردَّ تلک الضوضاء لولا الهیبة الإلهیة والبهاء المحمدی الذی جلّل «عقیلة آل محمد صلی الله علیه وآله وسلم».

ص: 169

فیقول الراوی: لما اومأت زینب ابنة علی علیه السلام إلی الناس فسکنت الأنفاس والأجراس فعندما اندفعت بخطابها مع طمأنینة نفس وثبات جأش وشجاعة حیدریة.(1)

وبعبارة اخری (جاء أهل الکوفة لیتفرجوا علی أسری الخوارج فی مدینة علی وإذا بصوت علی ینطلق هادراً بین الناس فانکشفت الخدعة وبدأ الناس بالبکاء والعویل).

جاء فی المقتل: وفی أول یوم من صفر دخلوا دمشق فاوقفوهم علی (باب الساعات) وقد خرج الناس بالدفوف والبوقات وهم فی فرح وسرور ودنا رجل من «سکینة» وقال: من أی السبایا أنتم؟ قالت:

نحن سبایا آل محمد صلی الله علیه وآله وسلم.

ودنا شیخ من السجاد علیه السلام وقال له: الحمد لله الذی اهلککم وأمکن الأمیر منکم!. فقال علیه السلام له:

یا شیخ أقرأت القرآن؟

قال: بلی، قال علیه السلام:

أقرأت:

((قُل لَّا أَسْأَلُکُمْ عَلَیْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِی الْقُرْبَی)).

وقرأت قوله تعالی:

((وَآتِ ذَا الْقُرْبَی حَقَّهُ )).

وقوله تعالی:

((وَاعْلَمُواْ أَنَّمَا غَنِمْتُم مِّن شَیْءٍ فَأَنَّ لِلّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِی الْقُرْبَی))؟


1- المقرم، عبد الرزاق الموسوی، مقتل الحسین علیه السلام، ص 310 - 311.

ص: 170

قال الشیخ: نعم قرأت ذلک. فقال علیه السلام:

نحن والله القربی فی هذه الآیات.

ثم قال له الإمام:

اقرأت قوله تعالی:

((إِنَّمَا یُرِیدُ اللَّهُ لِیُذْهِبَ عَنکُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَیْتِ وَیُطَهِّرَکُمْ تَطْهِیرًا))؟

قال: بلی. فقال علیه السلام:

نحن أهل البیت الذین خصهم الله بالتطهیر.

قال الشیخ: بالله علیک انتم هم فقال علیه السلام:

وحق جدنا رسول الله انا لنحن هم من غیر شک.

فوقع الشیخ علی قدمیه یقبلهما ویقول أبرأ إلی الله ممن قتلکم وتاب علی ید الإمام مما فرط فی القول معه وبلغ یزید فعل الشیخ وقوله فأمر بقتله.(1)

لقد نشر موکب السبایا فکر الثورة فی کل مکان وصلوا إلیه بالخطب المجللة وبالکشف عن وقائع المعرکة والأحداث الدامیة التی حصلت وکان هذا بحق سبقاً إعلامیاً ونشراً خبریاً وبثاً واسعاً إلی أماکن متعددة حیث کانوا مضطرین إلی المرور بالقری والبلدان؛ لأن الرحلة طویلة والمؤن لا تکفی ووسائل النقل کالبغال والحمیر لا تتحمل المشی الطویل وهذا الانتقال من بلد إلی بلد أسهم فی نشر الواقعة. وهذا ما اکده المؤرخون من هیاج الوضع فی الشام والتوصیة بإخراج أهل البیت علیهم السلام منه بسرعة.

وتبعا لذلک فقد ازدادت نسبة التفاعل الجماهیری مع هذه القافلة المتعبة التی فیها أطفال جیاع صفر الوجوه ونساء باکیات نادبات مرهقات وعلیل مریض یجر نفسه جراً


1- المقرم، مقتل الحسین علیه السلام، ص 349.

ص: 171

. وکان منظر السبایا المؤلم قد عزز من مظلومیة أهل البیت علیهم السلام وزاد من حجم الجنایة الأمویة علیهم أمام الناس فکل امرئ طالع موکب السبایا اعتصره الألم والحزن علی ما یری وحینما یعلم ان هؤلاء هم حرائر بیت الوحی والنبوة یصاب بالاحتراق والانکسار الأمر الذی أوجد کمیّن عالیین: کماً عالیاً من المظلومیة المنتشرة أمام الناس وکماً عالیاً من بیان وعرض للوحشیة من قبل یزید وبقیة أزلامه.. وهذا التفاعل زاد من مساحة التواصل النفسی. فهذه الصورة المؤلمة زادت فی تهییج المشاعر وزیادة النقمة علی الحکم الأموی ولهذا لما خرج الرکب من الکوفة أخذ یتعمد عدم دخول المدن الآهلة بالناس لکی یکون بمنأی عن استتباعات الحال.

لقد خرجت هؤلاء النساء بإرادتهن مع الحسین علیه السلام وخرجن ناصرات للإمام داعمات له فی ثورته الکبری فی وقت تقاعست فیه الأمة والفطاحل من الرجال عن نصرة الامام علیه السلام!!..

وهؤلاء النساء أسهمن فی تغییر  الصورة النمطیة التی کانت علیها المرأة. فالمرأة المسلمة هنا تبدو مسؤولة عن دینها ورسالتها ومکلفة بالدفاع عن المقدسات وقد تقاعس الرجال عن نصرة الإمام وقلّ الناصرون منهم. ولکن هذا الأمر لم یغیر من عزائم النساء أو یضعف هممهن ابداً... ورغم ان نساء أهل البیت علیهم السلام هن النموذج الأکمل للعفاف والستر لکنهن خرجن لنصرة الدین حینما تطلب الأمر ذلک.. فلقد کانت هذه رسالة المرأة والرجل ومسؤولیتهما علی حد سواء.

علی هذا یمکن القول: إن قافلة السبایا هی التی أسهمت فی نشر فکر الثورة وتعزیز الشعور بالأثم لدی الناس، ومن ثم مهدت الطریق لاشتعال الثورات بعد ذلک ومن ثم سقوط الدولة الأمویة.

لقد نجحت السبایا فی تغییر حالة السبی من حالة ألم إلی حالة انطلاق ومن حالة

ص: 172

انین فردی إلی انین جماهیری ومن حالة مشاعر ذاتیة محصورة إلی مشاعر مجتمعیة عامة واضحة فی بکاء الناس وتطلعهم للثأر والتوبة عما سلف.

وبهذا لم یذهب دم الحسین علیه السلام هدراً.. لقد کان النظام الأموی یرید ابعاد الثورة عن المدن الکبیرة (الکوفة) وحصرها فی صحراء کربلاء لکن موکب السبایا نقل وهج الثورة إلی کل المدن والبلدان التی نزلوا فیها وبهذا استن_زلوا حقد الناس وغضبهم علی ابن زیاد ویزید وعلی الامویین قاطبة. ولأن الإمام الحسین رسم الخط الفیصل فی حیاة عزیزة لا ذل فیها فقد استرخص الناس ذواتهم وانطلقوا فی ثورات کثیرة..

مطهری: تاریخ کربلاء انما احیاه وخلده الاسری ای ان الاسری هم الذین تمکنوا من المحافظة علی هذا التاریخ وان جهاز الحکم الاموی قد ارتکب خطأ بالغا ًفی عملیة اسر أهل البیت والانتقال بهم من ساحة المعرکة.(1)

وفی نهایة هذا المقال احببت ان انقل رأیاً اعجبنی للسید محمد باقر الحکیم رحمه الله فی کتابه دور المرأة فی النهضة الحسینیة حیث یقول: فنحن نجد فی الفقه الإسلامی حکماً یتعلق بالبغاة - وهذا تعبیر قرآنی والبغی من یبغی علی الحاکم العادل - وهو أن الباغی یجوز قتله، ولکن تبقی عیالات الباغی إذا کان مسلماً فی مأمن من الأذی فلا یجوز أن تؤسر، أو تصبح غنائمَ، وبهذا تفترق نساء البغاة وأطفالهم عن نساء الکفار وأطفالهم، فإن عیالاتهم یتحولون إلی سبایا، ورجالهم یتحوّلون إلی أساری، وأموالهم تتحول إلی غنیمة.

وأول من بیّن هذا الفرق فی الحکم هو: (الإمام علی علیه السلام، وذلک فی أعقاب حرب الجمل، عندما طلب بعض المقاتلین منه أن یقسم الغنائم التی استولوا علیها بعد المعرکة بینهم، فرفض الإمام علی علیه السلام ذلک، وکان جوابه قویاً


1- الملحمة الحسینیة، مطهری، ص181.

ص: 173

وشدیداً، بعد أن نهاهم ونهرهم عندما ألحوا علیه، فأجابهم: من یقبل منکم أن تکون غنیمته أمه عائشة - باعتبار أن عائشة أم المؤمنین کانت من جملة الأساری - فوجدوا أن الإجابة صحیحة، فمن یقبل أن تکون غنیمته أمه، حیث قال: «..أما علمت أنّ دار الحرب یحل ما فیها وأنّ دار الهجرة یحرم ما فیها ألا فمَهلاً مهلاً رحمکم الله فإن لم تصدّقونی وأکثرتم علیّ - وذلک أنّه تکلّم فی هذا غیر واحد - فأیّکم یأخذ عائشة بسهمه؟!» وفهموا أن الحکم الشرعی بالنسبة إلی بغاة المسلمین، یختلف عن الحکم الشرعی بالنسبة إلی الکفار. والمسلمون بکل مذاهبهم وطوائفهم یلتزمون بهذه الفتوی، ویقبلون هذا الحکم الشرعی.

ولکن فی کربلاء نجد الأمویین یسلکون سلوکاً آخر، حیث قاموا بسبی حرم رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم وأسرهنّ!! وعیالات أصحاب الحسین علیه السلام وأولاده، کما قاموا بنهب أموالهم، وعدّوها غنائم حرب!!.(1)

أمیر المؤمنین علیه السلام زار السیدة عائشة بعد وقعة الجمل وودعها أکرم وداع وسار فی رکابها أمیالاً وارسل معها من یخدمها ویحف بها.(2)

وقد بقیت ذاکرة السبی المؤلم عند أهل البیت علیهم السلام فهذا الإمام السجاد علیه السلام  یقول فی وصف ذلک المشهد:

«والله ما نظرت إلی عمّاتی وأخواتی إلا وخنقتنی العبرة، وتذکّرت فرارهن یوم الطف من خیمة إلی خیمة، ومن خباء إلی خباء، ومنادی القوم ینادی: احرقوا بیوت الظالمین».(3)


1- محمد باقر الحکیم، دور المرأة فی النهضة الحسینیة، ص 73 - 75.
2- محمد الصدر: أخلاق أهل البیت، ص 309، نقلاً عن عبقریة الإمام للعقاد.
3- حیاة الإمام الحسین 299:3.

ص: 174

ص: 175

الفصل الثالث: نساء الطفوف فی دائرة الضوء

اشارة

ص: 176

ص: 177

الموازنة بین أدوار الجنسین

اشارة

نساء الطفوف کن شرائح متنوعة من المجتمع النسائی فیهن العالمة المعلمة. وبینهن من لم تحظ إلا بالحد الأدنی من حفظ بعض السور القرآنیة. وفیهن الکبیرة فی السن والفتاة الشابة والطفلة الصغیرة ومن کانت ذات حسب رفیع وضمن اعلی البیوتات ومن کانت من اسرة عادیة جداً. وفیهن من اسلمت توا وبینهن من شبعت حبا وحنانا فی حجر جدها رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم. وفیهن الزوجة والأخت والبنت والأم والبعیدة کل البعد عن هذه الانساب.

ومع تعدد الشرائح النسویة من حیث العمر والصلة والقرابة والوعی والفهم کان تعدد الأدوار واضحاً ومفیداً. وکلٌ قد أدی دوره حسب ما وصل إلیه وعیه وحسب قدرته وحسب ما اتیح له. ولهذا نجد انه کانت هناک أدوار ثقیلة ومهام جسیمة کأدوار السیدة زینب علیها السلام وهناک أدوار اخف ثقلا فی الصورة لکنها کانت ذات ثقل واضح فی المعرکة المصیریة.. وهذا التنوع أسهم فی تعریف کل شریحة بدورها وبمهامها وبتوقعات الزمن وبما تستطیع ان تقدمه المرأة من اسهامات لتثبیت عقیدة الولاء والتمهید لانتصار الاطروحة المهدویة العالمیة مستقبلا.

وتبعاً لهذا کان تنوع الأسالیب التی اتبعتها النساء فی التعبیر عن الولاء والمظلومیة واضحاً. وهذا التنوع أسهم فی تعریفنا بمساحات العمل النسوی المتعدد الادوار والمسؤولیات والاسالیب واعطی للمرأة رسالة خالدة عما تستطیع القیام به.

ص: 178

لقد کانت واقعة کربلاء ثورة مجتمع صغیر متعدد الشرائح بکل ما فیه من رجال ونساء، شیباً وشباباً، کهولاً وصبیة، فتیات وأرامل امام قیادة المجتمع الکبیر ولکن أحد أهم المعالم الممیزة للأدوار عموماً هو ان کلا الجنسین (الرجال والنساء) انطلقوا من هویاتهم الاصلیة ولم یتجاوز أحد علی هویته الخاصة. وبمعنی آخر أکثر تفصیلاً ان النساء انطلقن من خلال أدوارهن محافظات علی هویتهن الانثویة وکذلک الرجال. فالإمام علیه السلام اصطحب اخوته (العباس وعبد الله وجعفر وعثمان..) لیقاتلوا ویحملوا السیوف وین_زلوا لیوثاً إلی میادین الوغی فی حین حمل اخواته معه لیکن مقاتلات ولکن بالکلمة فسیوفهن کانت کلماتهن التی تحولت إلی نبال ورماح حادة استقرت فی الصدر الأموی فمزقته. ولم تخرج النساء مقاتلات ولم یسمح الإمام لهن بذلک.

قال الراوی: واخذت زوجته ام وهب بنت عبد الله من النمر بن قاسط، عموداً واقبلت نحوه تقول له: فداک ابی وأمی قاتل دون الطیبین ذریة محمد صلی الله علیه وآله وسلم. فأراد ان یردها إلی الخیمة فلم تطاوعه وأخذت تجاذبه ثوبه وتقول: لن ادعک دون أن أموت معک فناداها الحسین: جزیتم عن أهل بیت نبیکم خیراً ارجعی إلی الخیمة فانه لیس علی النساء قتال فرجعت.(1)

ولم تطالب النساء بان تخرج إلی ساحات القتال بل علی العکس من ذلک فأوامر الإمام کانت عدم تجاوز باب الخیمة حتی استشهاده واطاعت النساء الأوامر ویظهر ذلک من مواقف عدة فقد ودعت السیدة زینب علیها السلام أخاها علیه السلام الوداع الثانی وجاءت إلیه بالجواد ولکنها عادت ادراجها إلی المخیم ولیس فی ذلک أی غضاضة أو انتقاص بل أدت السیدة کل أدوارها کاملة. واستشهد العباس علیه السلام فلم یأذن


1- المقرم، مقتل الحسین علیه السلام، ص 238، نقلاً عن الطبری ج6، ص 245، وابن الأثیر ج4، ص37.

ص: 179

الإمام لأحد بالذهاب إلی جسده الذی بقی فی موضع استشهاده.

وحینما ندرس أدوار الرجال نراها تدور بالدرجة الأولی حول النصرة والقتال فی حین کانت أدوار النساء التبلیغ والإعلام وبهذا نجح کلا الفریقین فی تأدیة المطلوب. ان واحداً من أهم مشکلاتنا المعاصرة هی مشکلة الدور. فلقد عاشت المرأة صراعاً طویلاً ضد أدوارها التقلیدیة (کالأمومة) ولکن الحال أدی إلی انتکاسة کبری لتخلی المرأة عن واحدٍ من أدوارها الاساسیة والاصلیة والقدیمة. (فالمرأة الجدیدة) تنظر إلی هذه الأدوار علی انها انتقاص لحریة المرأة فی جسدها وفی حیاتها، وتطالب بأدوار أکبر کدورها فی المناجم وفی غسل الشوارع! وهذا یعود إلی ما روّج له الفکر المعاصر من انتقاص حاد للأنوثة بکل أدوارها وتعظیم للذکورة بکل أدوارها واعمالها وتصویر الرجل بانه الکمال المطلق فاندفعت المرأة تبذل الکثیر وتضحی بالکثیر کی تصل إلی النجاح فی تصورها علی حساب وأد الانوثة فی ذاتها بیدها هی!.

فإذا اردنا ان نفهم أنفسنا وما هو المطلوب منا فلنفکر فی شخوصنا.. من نحن؟ والی أین؟ وماذا نستطیع ان نفعله؟.. علینا ان نتقبل ذواتنا کما خلقها الله ولا نعیش اوهاماً زائلة وسرابا خداعا.

العنف السیاسی ضد نساء الطفوف

یعدّ العنف السیاسی اخطر انواع العنف الممارس ضد المرأة وربما یعود الی المیزات الخاصة التی یتصف بها من الشدة والسعة والتنوع والامتداد والعوامل النفسیة الضاغطة. یعرّف العنف عادة بانه احد انماط السلوک العدوانی تجاه المرأة ویتمثل فی استخدام القوة والقهر والتهدید لالحاق الاذی والضرر بالاشخاص والممتلکات ومن ثم فهو کل ممارسة تعتمد القوة وتستهدف الحاق الاذی النفسی والاجتماعی والبدنی بالمرأة سواء بصورة مباشرة أو غیر مباشرة. أما العنف السیاسی فهو یختلف عن باقی أنواع العنف؛ إذ إنه

ص: 180

یرتبط بجهة سیاسیة وهی التی تتولی ممارسة العنف باشکاله المختلفة ضد المرأة. وقد تکون هذه الجهة متمثلة فی النظام الحکومی الذی یلجأ الی سن القوانین التی تسبغ الشرعیة علی صور العنف ضد المرأة کالقانون الذی یعفی القاتل فی جریمة شرف من القصاص أو یمنع المرأة المتزوجة من العمل أو یمنع الحجاب وهذا شکل واحد یتمیز باسباغ الوضع القانونی علی الاحوال السیئة والمضطهِدة للمرأة. أو فی القوانین التی سنّها الأمویون لمحاربة أهل البیت علیهم السلام والموالین لهم والتی شملت النساء والرجال دون فرق. ویکون القمع السیاسی بأشکاله المختلفة من السجن والتهجیر والطرد من العمل ومصادرة الاموال والاقامة الجبریة أیضاً من مظاهر العنف السیاسی ضد المرأة والتی تأخذ طابع تأیید ودعم ورعایة من حکومة البلد، الامر الذی یفرز صفة المقاومة احیاناً بشکل المطالبة بالحقوق أو التضحیة من اجل التغییر واستبدال النظام.

لقد تعرضت نساء الطفوف لأقسی اشکال العنف السیاسی - والذی کان بشکل مباشر - متخذا صورا عدة منها الضرب، الشتم، حمل الرؤوس أمام النساء، قطع الماء، حرق الخیام، قتل الصغار، کشف الوجوه، السبی، قتل الأحبة والتمثیل بهم.. الی غیر ذلک. وقد سبق ذلک صور أخری لهذا العنف فی اقصاء اهل البیت عن الحیاة العامة وفی مطاردة انصارهم والتنکیل بهم وفی سن القوانین المحاربة لاهل البیت علیهم السلام ابتداءً من سب أمیر المؤمنین علی المنابر وهو أول مسلم یسب هکذا وبعلانیة. وقد کانت مدة العنف طویلة أیضاً فقد سبق الواقعة واستمر بعدها وقد صاحب هذا العنف حرباً نفسیة قاسیة کانت تستهدف معنویات أهل البیت علیهم السلام بالدرجة الأولی عبر وسائل عدة منها تشویه صورة الثورة والإمام والتعریف بانه خارجی ومعاملة النساء کأنهن سبایا من الکفار - ولسن من أهل بیت النبوة - اضافة إلی مرافقة الأعداء والقتلة للعترة الطاهرة. والتظاهر بالقوة والغلبة عبر آلیات کرفع الرؤوس أمام النساء ووضع رأس الحسین علیه السلام فی الطشت  واعلان الفرح والزینة إلی غیر ذلک.

ص: 181

والحرب النفسیة امتدت مع السبایا الی الأماکن والبلدان التی وصلوها وهم یرون فرح أعدائهم وعبثهم ولهوهم، ولکن معنویات النساء العالیة والدعم الاجتماعی والنفسی الذی کان بینهن وتوکیل الأمور إلی الله قلب الحرب النفسیة إلی مسار مضاد لما خطط له أعداؤهم ألا وهو إزاحة عقدة الخوف والتعریف بمظلومیة آل البیت علیهم السلام.

التعامل مع الضغوط

وهذا کله قد ضاعف من نسبة الضغوطات التی عاشتها هؤلاء النساء بالاخص عقیلة بنی هاشم السیدة زینب علیها السلام، فقد عاشت السیدة مریم علیها السلام ضغطاً اجتماعیاً واضحاً ظهر فی ترددها من اعلان مولد المسیح علیه السلام علی الملأ وعبرّت عن الحال بالقول (یا لیتنی مت قبل هذا وکنت نسیاً منسیاً) فی حین عاشت السیدة آسیة علیها السلام ضغطاً سیاسیاً واضحاً ظهر فی طغیان فرعون ومحاولته فی اجبارها علی التخلی عن عقیدة التوحید بشتی أنواع العذاب الذی صبه علیها. فی حین عاشت هؤلاء النساء ضغوطاً واسعة اجتماعیة وسیاسیة ونفسیة وثقافیة أیضاً. بانت من خلال معاناة الأطفال فی قطع الماء وفی إبادة الأحبة بابشع الوسائل دمویة وألماً وأقساها وأکثرها، وبانت فی مسیرة السبایا الطویلة مع الرؤوس والثکالی والدخول إلی قصور الطواغیت والقتلة ولکن هؤلاء النساء نجحن فی ایجاد آلیات صحیحة فی التعامل مع الضغوط عرفّها لنا العلماء المعاصرون.. وأهم هذه الآلیات:

1 - الاسناد الجماعی الذی قدمته السیدة زینب بالدرجة الأولی إلی باقی النساء والی الامام السجاد أیضاً، فقد کانت السیدة تداری الکل وتخفف الاحمال عن الکل فقد حرصت السیدة علی رعایة أسر الشهداء والثکالی ومتابعة شؤونهم. وإذا کان السند یخفف ثقل المصاب فیا تری من قدم الاسناد لزینب نفسها؟!

ص: 182

2 - التصدی للمشاکل التی واجهت النساء کالذی حصل مع سهل (ودنا سهل ابن سعد الساعدی من سکینة بنت الحسین وقال: ألک حاجة؟ فأمرته ان یدفع لحامل الرؤوس ان یجعل الرؤوس أمام النساء کی تنشغل الناس بالنظر إلی الرؤوس عن النظر إلی أساری آل محمد صلی الله علیه وآله وسلم ففعل «سهل».)(1)

أو فی مواجهة السیدة زینب للشامی الذی طلب فاطمة بنت الحسین جاریة له. فلقد تحرکت بسرعة وغیرّت الموقف وقد کانت هناک ظروف قاهرة تعاملت معها النساء بالصبر وضبط النفس.

3 - نمط الشخصیة المتوازنة المرنة، إذ تکون أکثر قدرة ونجاحا فی مواجهة الضغوط والمتابع لشخصیة السیدة زینب یجد مرونة عالیة فی التکیف مع الضغوط والمعلوم ان زیادة الضغوط یؤثر علی الصحة النفسیة والجسدیة مما یؤدی إلی استن_زاف الطاقة وتدمیرها ومن ثم تدمیر الذات. وحالیا هناک 75% من المرضی المعاصرین المراجعین للأطباء یشکون من عدم قدرتهم علی التکیف مع الضغوط ومن ثم انهیارهم امامها أو ظهور أعراض اضطرابات نفسیة کالقلق والشعور بالذنب والیأس والخوف والکآبة وعدم الثقة بالنفس.

فی حین ان هذا کله لا نجده عند نساء الطفوف أو عند السبایا أو عند السیدة زینب علیها السلام حیث یخفف الإیمان بالله والایمان بقداسة القضیة من حدة الضغوط. فلقد کان المرور علی أجساد الضحایا فی المعرکة وهم بتلک الحالة کفیلاً بتدمیر معنویات نساء الطفوف وسلب ارادتهن واظهار جزعهن.

ولکننا نجد لغة العیون طافحة بالدموع مع صبر جمیل والتغلب علی کل مشاعر الاحباط.


1- المقرم، ص349.

ص: 183

غیاب الشکوی

رغم کل هذه الظروف الصعبة والقاسیة فقد استطاعت هؤلاء النساء تحمل الأذی الذی تنوء عن حمله الجبال، والصبر علیه ولم ینقل عن واحدة منهن أیة شکوی سواء فی الحضور إلی کربلاء أو فی الاهوال التی مرت بهم. بل نجد حالة من تفویض الأمر إلی الله ورؤیة الأمور بخیر (ما رأیت إلا جمیلاً...) وفی الحمد الواضح فی کل خطبة رغم عظم المصاب. فی حین ان التاریخ ینقل لنا عن غلام عبد الله بن جعفر بن أبی طالب والذی اظهر ضجره واستیاءه من اصطحاب الإمام للنساء إلی کربلاء، قال ابن جریر: لما ورد نعی الحسین جلس عبد الله بن جعفر للعزاء وأقبل الناس یعزونه فقال مولاه (ابو السلاس): هذا ما لقیناه من الحسین!! فحذفه بنعله وقال: یا ابن اللخناء أللحسین تقول ذلک؟! والله لو شهدته لأحببت أن لا أُفارقه حتی اقتل معه، والله انه لمما یسخی بنفسی عن ولدیَّ ویهون علیّ المصاب بهما أنهما أٌصیبا مع أخی وابن عمی مواسین له صابرین معه ثم أقبل علی جلسائه وقال: الحمد لله لقد عزّ علی المصاب بمصرع الحسین أن لا أکون واسیته بنفسی، فلقد واساه ولدای.(1)

ورغم قساوة کل الظروف وثقل المسؤولیات والاهتمام بصیانة البیت النبوی ونقل فکر الثورة إلی الناس جمیعاً رغم کل ذلک لا نسمع عتاباً مع الأحبة أو شکوی أو تذمراً کما یحلو لأرباب المقاتل ان یصوروا لنا هذا الاستیاء والضجر والعتاب مع الحسین الذی حمل النساء وزجّهن فی هذا الاتون المستعر.. یالعظمة هؤلاء النساء الصابرات المصبرات مع کل هذه الرزایا والخطوب. ومن المعروف ان النساء أمام الشکوی یکنَّ علی صور عدة منهن نموذج صابر یفضی بثه وحزنه إلی الله راضیاً بقدره وقضائه وهناک طائفة تعودت علی الشکوی وباستمرار کنمط سلوکی متمیز لدیهن


1- المقرم، مقتل الحسین (علیه السلام)، ص 340.

ص: 184

فهن یشتکین حتی لو کان الحال حسنا ویجددن الشکوی فی أمور عفا علیها الزمن ویعشن حالة عدم الرضا عن کل شیء موجود مما یؤدی الی استفحال الشکوی.. وغالبیة هذه النماذج الشکاءة هن نساء عاجزات عن ایجاد الحلول لمشکلاتهن أو ایجاد المفر من المعضلات التی تعترض حیاتهن وبعض هؤلاء النساء یصل فیهن العجز والضعف وقلة الثقة بالنفس إلی أن یعبرن عنها من خلال الشکوی کمخرج مؤقت یرد إلیهن الشعور بالأمان. وبهذا یهدمن حیاتهن ویهدرن طاقاتهن وعمرهن فی شکوی فارغة لا تسمن ولا تغنی، وهن لا یخسرن فقط حیاتهن بل یزداد الآخرون منهن نفوراً وضجراً ومللاً. وهن یرمین بأسباب المشکلة علی الآخرین ویحاولن ان یخلصن أنفسهن من أی شعور بالتفکیر بالمشکلة واسبابها ودورهن فیها. وتزداد حالة الشکوی کلما زاد البعد عن الله تعالی وضعفت الحالة الایمانیة. ولهذا لم نجد لهذه المفردة وجوداً فی قاموس نساء الطفوف لقوة العلاقة مع الله تعالی ولعمق الایمان بأهداف الثورة.

المهارات الحیاتیة

اشارة

نساء الطفوف کن یتمتعن بمهارات حیاتیة عالیة واعنی بالمهارات (السلوکیات المقبولة التی تتیح للأفراد التفاعل مع المواقف بفاعلیة وتمکنهم من تجنب الاستجابات غیر المناسبة) وأهم هذه المهارات الحیاتیة:

1 - مهارات الحوار

وهذه بانت علی أکثر من صعید من خلال مواقف عدة منها:

حوار السیدة زینب علیها السلام مع ابن زیاد.

حوار السیدة زینب علیها السلام مع عمر بن سعد.

حوار السیدة مع الشامی.

حوارات السیدة العامة کمواساتها للامام السجاد علیه السلام.

ص: 185

2 - مهارة التعاون والمشارکة

وبانت واضحة من خلال تعاون هؤلاء السبایا علی شؤون الثورة سواء فی السبی او قبله اوبعده.

وأیضاً من خلال مواقف السیدة زینب علیها السلام فی متابعتها لشؤون العلیل والسبایا والاهتمام بالطفلة رقیة.

3 - مهارة الاتصال الشفوی والتواصل اللفظی

ولعل الخطب النسائیة أکثر دلیل علی البیان اللفظی کخطبتی السیدة زینب علیها السلام فی الکوفة والشام وخطبة ام کلثوم وفاطمة بنت الحسین علیه السلام.

کما بانت هذه المهارة من خلال مواقف الرد علی الشامی والمواساة مع الإمام زین العابدین علیه السلام.

4 - مهارة التعاطف

عبر مشارکة الآخرین انفعالاتهم وفهم أحاسیسهم ویبدو الأمر واضحاً فی تسلیة أسر الشهداء والارامل والثکالی ومواساة الإمام  السجاد علیه السلام.

5 - مهارة الاقناع عبر تقدیم الدلیل والبرهان

وهذا واضح فی خطب الاحتجاج والتأنیب التی تکلمت بها النساء وقد نجح الاقناع من خلال تحویل آراء الناس ومشاعرهم نحو الإمام الحسین وثورته وابطال المخطط الاموی.

وهذا یدل علی نجاح الأسالیب التی اتبعوها فی التأثیر علی الناس ومخاطبة العقول والقلوب، وهو فن اجادته هؤلاء النساء وبان بشکل متمیز فی هذه الواقعة من خلال ردود الفعل التی نقلها رواة المقتل کما ذکرنا ذلک سابقا.

ص: 186

6 - مهارة اتخاذ القرار وحل المشکلات

وتبدو واضحة فی ادارة السیدة زینب علیها السلام للقافلة والسعی لعدم طغیان المشکلات علی السطح.. لا أقول لم تکن هناک مشکلات.. أبداً فان المسافر فی سفر قصیر یعانی من الکثیر من الصعوبات والازمات العارضة فکیف بمسیرة سبایا ثکالی مع رؤوس مرفوعة ولمدة طویلة، لقد کانت هناک مشکلات کثیرة لعل واحدة منها مشکلة الشامی الذی اراد بنت الحسین خادمة ولعل واحدة منها مشکلة رقیة وما اثارته من استغاثات وهی صورة معبرة عن معاناة الاطفال والذین قدّر البعض عددهم ب_40 طفلاً وأیضاً کانت هناک مشکلة العلیل فی السفر وغیرها، ولکن هؤلاء النساء استطعن تطویق المشکلة وتحجیمها أو تخفیف ردود الفعل الناتجة عنها.

7 - مهارات إدارة المشاعر

 من خلال التعامل مع الحزن والقلق ومع الصدمات المؤلمة والإساءات التی تعرضوا لها - وما اکثرها - وامتصاص الغضب ولعل أهم الآلیات هنا هو کظم الغیظ والصبر وتفویض الأمر إلی الله والمساندة الجماعیة.

الضبط العاطفی

تعرف العاطفة علی انها تنظیم وجدانی ثابت نسبیاً (عکس الانفعال الذی یکون حالة طارئة ووقتیة) فالإنسان لیس مرکباً آلیاً جامدا ک_(الریموت) بل هو یفیض بمشاعره ویتفاعل مع محیطه من خلال عواطفه.. یفرح ویحزن ویحب ویکره.. ولهذه الصور العاطفیة انعکاساتها الکبیرة علی شخصیة الإنسان وعلی سلوکه. ولهذا اهتم الإسلام بالبناء العاطفی عن طریق تهذیب العواطف وتوجیهها الوجهة السلیمة بحیث تکون عامل بناء لا عامل تخریب.

ص: 187

وتعدّ العواطف واحدة من أهم دوافع العمل. فنحن نقوم بالعمل علی احسنه إذا کنا نحبه والعکس صحیح. کما تحتل العواطف زخماً عالیاً من الطاقة النفسیة التی تترک الأثر العمیق علی الحالة الشعوریة للأفراد.

وقد اتهمت المرأة علی طول المسیرة البشریة بانها کیان عاطفی مرکز. وعُدَّتْ عاطفتها محطة ضعفها!.

وفسر الکثیر حرمانها من بعض الوظائف والمناصب بانه یعود إلی الزخم العاطفی الذی تحمله والذی لا تستطیع ضبطه بالصورة المطلوبة!! ولکن فی العصر الحدیث ظهرت لنا مفردات جدیدة کالذکاء العاطفی والصحة العاطفیة والجفاف العاطفی والأمیة العاطفیة إلی غیر ذلک مما نجده فی صفحات الکتب الحدیثة، فالإنسان المعاصر بعد ان وصل إلی الفضاء وسیطر علی باطن الأرض ونجح فی خلق الإنسان الآلی وجد نفسه بحاجة الی ان یعیش مشاعر الحب والفرح والحزن کی یشعر علی الأقل بالراحة النفسیة والتوازن النفسی.

وبهذا الصدد یری کثیر من المهتمین بشؤون الانسان والمجتمع ان العالم الآن محتاج إلی عاطفة النساء أکثر من حاجته إلی سیوف الرجال!!.

لقد خلق الله تعالی المرأة بکیان عاطفی ممیز کی یؤهلها لأداء مهامها الأساسیة فی الکون ألا وهی تربیة الأجیال وصیانة الأسر.

وهذا الفیض العاطفی الذی یشبع الحاجات الأولی للانسان سواء فی طفولته أو فی مراحله المتتابعة لا یمکن تعویضه عن طریق الریموت والحاسوب وغیر ذلک. ولهذا بدأت الدراسات المعاصرة تهتم بدراسة العواطف وأنواعها وأقسامها وکیفیة توجیهها وعدّت [الأمیة العاطفیة (والتی هی عدم القدرة علی التعبیر عن العواطف)]، عدّت واحداً من أمراض العصر الحدیث.

ص: 188

ویخطیء من یقول ان الرجل خلق بلا عواطف، بل ان الله تعالی خلق للزوجین الذکر والأنثی جهازاً عاطفیاً کاملاً وربما تتفاوت المرأة بعض الشیء عن الرجل فی اظهار العواطف والتعبیر عنها بحکم مهامها وتربیتها وبحکم العلاقات الاجتماعیة التی سادت المجتمعات، فقد عُرف عن المرأة أنها أکثر قدرة علی التعاطف مع الآخرین، والتعاطف هو القدرة علی التواصل مع الناس فی المواقع الصعبة والخطیرة(1).

فالمرأة أکثر قدرة علی توظیف هذه العواطف فی الاتجاه الأکثر فائدة وأثراً، وبهذا یعزی إلی الأمهات الأثر الأکبر فی توفیر الحاجات النفسیة للأطفال من أجل البناء السلیم لشخصیاتهم. ویشدد علماء التربیة المعاصرون علی ضرورة تواجد الأم قرب أولادها فی مرحلة بناء الشخصیة.

فالعاطفة إذاً هی إحدی مرتکزات الجهاز النفسی الذی اهتم الإسلام بتهذیبه وتوجیهه لتخلیص الإنسان من الآلیة فی السلوکیات واخراجه من طابع الروتین الی طابع التفاعل والشعور,  فلا بد ان تهتز مشاعره وینبض قلبه ویفکر ویبکی ویتألم ویحب ویدافع عن حبه وولائه فیعیش ألم الإسلام الکبیر ومحطات فرحه. وبهذا تکون الشخصیة الرسالیة هی نسیجاً مترابطاً یین الفکر والسلوک والعاطفة.

وتُسهم الإرادة فی توجیه العواطف کما یعمل الفکر علی تربیة العواطف باتجاه القیم الدینیة والإنسانیة التی یؤمن بها الفرد.

وبعد هذه المقدمة نعود إلی نماذجنا الأولی فی نساء الطفوف فنجد نماذج رائعة للولاء العاطفی والوجدانی ونماذج إنسانیة سامیة تعیش ألم الآخرین وتعیش همَّ الحسین علیه السلام.. الوحید الغریب فی البیداء الذی یطلب النصرة وینادی بأعلی صوته


1- وهو القدرة علی تفهم مشاعر أو عواطف الآخرین.

ص: 189

مستغیثا وما من مغیث.. نجد السیدة زینب علیها السلام تذوب جویً حینما تسمع الإمام الحسین علیه السلام ینعی نفسه لیلة العاشر قال علی بن الحسین: سمعت أبی فی اللیلة التی قتل فی صبیحتها یقول وهو یصلح سیفه:

یا دهر أُفٍ لک من خلیل

کم لک بالاشراق والأصیل(1)

لکنها تصون دموعها عن الظهور أمام الأعداء والشامتین حینما تری الإمام علیه السلام مقطع الأوصال مزروعاً بالسهام وقد فاض دمه علی التراب الزاکی وتناثرت اشلاؤه علی الرمضاء.. فأی عظمة عاشتها هذه المرأة العظیمة؟.

لقد عاش الرسالیون فی حیاتهم الکثیر من محطات الضغط العاطفی وعملوا علی توجیه المشاعر بالاتجاه السلیم وإدارتها فالإمام زین العابدین علیه السلام عُد أحد البکائین الخمسة فقد استفاد من کل فرصة لیظهر فیها حزنه علی مصاب أبیه وکانت عملیة تهییج العواطف احد اهم اسباب المواجهة مع الحکومة الامویة وقد نجح الامام فی ذلک نجاحا خالداً ما نزال نری آثاره حتی الآن، وتلک الزهراء علیها السلام تعلن حزنها وبکاءها وسیلة احتجاج علی الأمة الناکثة لوعدها فیقام لها بیت الاحزان تأییدا لها فی ثورتها البکائیة.. إلی غیر ذلک من الشواهد.

لکن السیدة زینب حبست دموعها وعملت علی توجیه النساء اللائی کن معها علی ان یتبعن هذا الأسلوب الذکی من أجل ایصال رسالة الإمام الحسین، لقد کان الضغط العاطفی علی السیدة زینب عظیماً لکنها استطاعت ان تجعل ارادتها أقوی فما سمحت لدموعها بالن_زول ولا لحزنها بالظهور إلا فی المواقع التی تطلبت ذلک کما فی یوم الأربعین حیث کانت هناک الحاجة العلیا لاظهار اقصی درجات الحزن والذی یمثل أقصی درجات الاحتجاج علی السیاسة الأمویة واحد أهم عوامل الکشف عن الظلم


1- المقرم، ص 217.

ص: 190

الأموی الذی صُب علی أهل البیت علیهم السلام، وبذلک کان یوم عودة السبایا إلی کربلاء ومن ثم إلی المدینة یوم حزن عظیم هز الأمة کلها.

واهتمت السیدة بتوجیه عواطف الاخریات اللائی کن فی موکب السبایا وبذلک تحول الجمیع إلی صورة زینبیة واحدة فی الإباء والصمود والصبر.

وبهذا کان للعواطف أثرها فی تأجیج الحزن علی أهل البیت علیهم السلام کما کان لأسالیب الضغط علی العواطف أثرها فی ابانة عظمة هؤلاء النساء فالعواطف یمکن ان تکون سلاحاً لاحیاء الأمة کما یمکن لها عبر توجیهها الوجهة السلیمة ان تکون وسیلة لنهضة الأمم.

الاستقلالیة

نساء الطفوف علی العموم عشن الاستقلالیة الواضحة فی قراراتهن ومواقفهن ولم یشعرن ان هناک آراء مفروضة علیهن. ولو اردنا ان نسأل طوعة لماذا آوت مسلماً؟ فستکون اجابتها بانها فعلت ذلک بحریة تامة ولم یجبرها احد، فلقد کانت حرة التفکیر وحرة الإرادة أیضاً رغم ان ارادتها وتفکیرها کانا علی عکس ولدها تماما فقد کان مسیّرا بأوامر ابن زیاد. ولم تکن تابعة فی قراراتها لأی شخص آخر عکس ولدها الذی عاش التبعیة للحاکم والمال. ونفس الشیء یقال عن نساء رکب الحسین اللاتی هاجرن معه فقد اخترن طریق الهجرة بمحض إرادتهن بل فرضن ارادتهن رغم وجود معارضة لخروجهن مع الامام. ونفس الشیء یقال عن باقی النساء.. وکلما شعرت المرأة باستقلالیة مواقفها فانها تتحرر من التبعیة ویعمق لدیها الشعور بالمسؤولیة وبانها ذات تکالیف ومسؤولیات لا یؤدیها عنها غیرها ومن ثم فانها توفق أکثر لاتخاذ قرارات صائبة؛ إذ تتیح لها هذه الاستقلالیة تبنی آلیات صحیحة لصناعة القرار وللتخطیط للمستقبل ولمعرفة الأهم من المهم.

ص: 191

والواقع المعاصر یقول لنا ان نساءنا یعشن التبعیة بل اصبحت جزءاً من کیانهن ولدیهن شعور بالعجز عن تبنی رأی او موقف وهذه التبعیة تسهل لهن عملیة التخلص من المسؤولیات عن طریق تبنی الاعذار! فی تصور خاطئ انه یخلصهن من الحساب والسؤال. وهناک من یستفید من تکریس هذه التبعیة لأنها تجعل المرأة أداة طیعة فی ید الآخرین!.

ان المرأة والرجل کائنان مستقلان لکل منهما تکلیفه وحسابه وکل منهما یحیا حیاته ومماته ویُسأل بعد مماته ولا بد ان یقدم لحیاته، ولو کان تابعاً بهذه الصورة لانتفی الحساب وجعل الحساب والتکلیف علی من کان تابعا له وهذا وهم کبیر.

وأما القوامة فانها محدودة فی الحیاة الزوجیة فقط بوصفها متعلقة بالطرفین من  خلال الحقوق والواجبات، ثم ان القوامة لیست الغاء للشخص الآخر أو مصادرة وجوده بل هی إدارة کما هی الحال فی الإدارات الأخری.

نساء الطفوف کن مستقلات فی کل الأمور تقریباً ومع ذلک لم یظهرن أی تردد أو تراجع أو ندم علی موقف. فقد دفعت دلهم زوجها دفعاً إلی الجنة وکان هو مترددا فی البدایة فی حین ان التردد لم یظهر ابدا فی سلوکها حتی لما طلقها وافترقت عنه، وکذلک أم وهب وأم عبد الله والنوار، وغیرهن؛ لانهن هن من اخترْنَ هذه القرارات وهذه المواقف البطولیة ولهذا نلمس غیاب السلبیة أو التحیّر أو النکوص فی السلوک والمواقف الأمر الذی جعل الطاقة الذاتیة لا تتبدد فی اتجاهات سلبیة وتتجه بالکامل نحو الهدف الأصلی..

لقد مارست النساء أدوارهن بکفاءة دون اکراه أو اجبار بل بحریة نابعة من صمیم الذات. ورغم انهن کن مستقلات التفکیر والارادة والقرار لکنهن لم یکنّ أبداً منفصلات عن أسرهن سواء بالرعایة أو الحمایة أو بالوصل والاغاثة بل تحرکت حیاتهن مع أسرهم وعشن معهم وإلیهم.

ص: 192

نساء الطفوف.. صلاح وإصلاح

اشارة

کان الهدف الأساسی الذی أعلنه الإمام علیه السلام من ثورته هو ما قاله علیه السلام: إنی لم اخرج أشراً ولا بطراً ولا مفسداً ولا ظالماً، وانما خرجت لطلب الإصلاح فی أمة جدی صلی الله علیه وآله وسلم أرید أن آمر بالمعروف وأنهی عن المنکر وأسیر بسیرة جدی وأبی علی بن أبی طالب، فمن قبلنی بقبول الحق فالله أولی بالحق ومن رد علی هذا اصبر حتی یقضی الله بینی وبین القوم وهو خیر الحاکمین.(1)

فقد کانت ثورته المبارکة تهدف إلی تطهیر الواقع الفکری والنفسی والاجتماعی والسیاسی من الانحراف والفساد الذی ألمّ بالمجتمع آنذاک واصلاحه عبر القیم الجدیدة التی حملتها ثورة الإمام علیه السلام. والإمام علیه السلام لم یرسم خارطة الثورة کی تکون حملته الإصلاحیة آنیة لزمانها ومکانها بل انه أراد ان یکون الهدف الإصلاحی ممتداً فی الأمة عابراً لمساحات الزمان والمکان بما یحمله من خلود المفاهیم ودیمومة الوعی الإنسانی وقد کان أحد أهم أسباب حمل النساء معه فی الثورة هو حمل رؤی الإصلاح الجدید إلی الأمة بعد ان حاول الأمویون تقویض الثورة فی محدودیة صحراء کربلاء التی حوصر بها الإمام وانصاره. لقد کان الهدف من ذلک هو ان تقوم النساء بأدوار التبلیغ والإعلام ونشر الفکر الحسینی الرامی إلی الإصلاح وتطهیر الفساد الموجود آنذاک وبذلک یکون الإصلاح مسؤولیة کل فرد رجلا کان أم امرأة.

((وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِیَاء بَعْضٍ یَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَیَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنکَرِ...))(2).


1- المقرم، عبد الرزاق الموسوی، مقتل الحسین علیه السلام، ص 139.
2- سورة التوبة، الآیة 71.

ص: 193

ولفهم هذه الأمور أکثر لابد ان نسلط الضوء علی أمور عدة منها: حاجة المجتمع آنذاک للإصلاح وظهور علامات الفساد الإداری والسیاسی والاجتماعی والفکری والاقتصادی. وتتضح معالم الفساد الموجود آنذاک من خلال استقراء الواقع العام فیکفی فی الواقع السیاسی ان یکون الحاکم فاسداً وان یکون وکلاؤه ونوابه کذلک.

وهذا ما اشار إلیه الحسین علیه السلام بقوله:

«ویزید فاسق فاجر، شارب الخمر، قاتل النفس المحرمة، معلن بالفسق والفجور..».

أما علی صعید الواقع الاجتماعی فنحن نری الحرب مشتعلة ضد الموالین لآل البیت علیهم السلام فقد تعرضوا للکثیر من اعمال الابادة والتهمیش ومصادرة لقمة العیش ونری ذلک أیضاً فی القیم التی انتشرت آنذاک بین عموم المسلمین فی الخنوع والانهزامیة والرضا بالذلة وشراء الضمائر إلی غیر ذلک.

أما الفساد الفکری فیکفی ما قام به الأمویون من تشویه الفکر الدینی ونشر الأحادیث الموضوعة والکاذبة ومصادرة کل رأسمال فکری لأمیر المؤمنین علیه السلام وأهل البیت علیهم السلام.

من کل ذلک نری ان الواقع کان بحاجة إلی إصلاح عام. فهل یا تری یمکن ان یکون هناک اصلاح دون ان یکون للمرأة دور ومشارکة؟ وهی التی عانت - کما اشرنا - من استتباعات الوضع الفاسد بشکل مباشر أو غیر مباشر.

ان الأمر الذی لا یقبل الشک أو الجدال هو ان عملیة الإصلاح الشامل فی المجتمع تستوجب ان یکون هناک احتواء شامل لکل الشرائح الاجتماعیة، ونلاحظ ان إحدی أهم اخطاء المصلحین فی العالم هو انهم یرومون الإصلاح والتغییر فی المجتمع عبر

ص: 194

قناة واحدة أو قنوات محدودة وابقاء باقی القنوات الأخری مسدودة. وهذا ما سبب موت هذه الحرکات الإصلاحیة وإجهاضها فلا یمکن ان تنجح أی مساعٍ للاصلاح ما لم یتم تحریک کل فئات المجتمع ونفی الغبار عنه. وهو ما اشرنا إلیه سابقاً حینما قلنا ان ثورة الإمام الحسین علیه السلام کانت ثورة مجتمع صغیر - بکل فئاته - ضد قیادة المجتمع الکبیر وبهدف اصلاح المجتمع الکبیر.

وبهذا کان للمرأة حضورها الواضح فی ساحة الاصلاح کما کان ذلک میسرا للشیخ والشاب والصبیة والفتی إلی غیر ذلک. ان حضور المرأة فی المشروع الإصلاحی الحسینی کشف عن قوة دور النساء ومتانة البناء الذاتی وبخاصة للسیدة زینب علیها السلام والتی کانت ذات الحمل الأکبر فی عملیة الإصلاح من خلال نشر البرنامج الحسینی والتعریف بآلیات الإصلاح وحتمیة انتصاره. فلقد رسمت صورة المرأة الآمرة بالمعروف والناهیة عن المنکر من خلال کل الوسائل التی اتیحت لها فی الثورة.

ان الاصلاح یستلزم الإیمان بوجود فساد فی المجتمع فلا بد من ان تکون هناک رؤیة فاحصة للمجتمع للتعرف علی مواقع الفساد.

وقد کشفت النساء عن الفساد الاجتماعی بحق المرأة من خلال قول السیدة زینب علیها السلام:

«تخدیرک حرائرک واماءک وسوقک بنات رسول الله سبایا... ».

وهنا قد نأتی علی سؤالین مهمین هما:

- هل ان الإمام علیه السلام لما حمل النساء معه کان یروم مشارکة قویة للمرأة فی برنامجه الإصلاحی؟

- والسؤال الثانی: هو اننا لا نری تغییراً علی الخارطة الاجتماعیة والحیاتیة بعد الثورة فی ما یتعلق بمسیرة المرأة فأین هو الإصلاح فی دائرة الحضور النسوی؟

ص: 195

الإمام الحسین رائد الإصلاح

تتفاوت الرؤی حول أدوار النساء فی الحیاة العامة. ویمکن تقسیم هذه الرؤی إلی ثلاث رؤی معاصرة:

1 . الرؤیة التقلیدیة للمرأة والتی تحصر دورها فیما علیها وفیما لها، فالمطلوب هو أداؤها للتکالیف الأساسیة کالصوم والصلاة وان تکون مطیعة لزوجها وهذا کل همها فی الحیاة. هؤلاء التقلیدیون یحاولون الابقاء علی واقع النساء بما هو علیه فهم یرون ان أوضاع النساء بما علیه لا تحتاج إلی إصلاح أو تغییر أساسی فهن یقمن بأداء التکالیف الأساسیة مقابل النفقة مثلاً. وهؤلاء یرفضون کل ما هو معصرن ویجعلون حلول مشاکل النساء المعاصرة بالاتکاء علی رمزیات الفکر الدینی بعیداً عن الأخذ بأسلوب الحداثة أو العصرنة أو مراعاة تغییر الزمان والمکان وبهذا تکون أفکارهم محدودة لمن یتکئون علی الماضی دون الأخذ بتطورات الحاضر والمستقبل. والمرأة هنا تابع ولیست کائنا مستقلا کما انها بعیدة عن مفاهیم الاستخلاف والأمر بالمعروف. وهی لا تعیش فی وعیها ظروف الامة ومشاکلها لضیق الدائرة الحیاتیة والهدفیة لها والدین هنا مجرد احکام عبادیة مجزأة والقائلون بهذه الرؤیة لا یستطیعون ایجاد تفسیر منطقی لحمل الامام الحسین علیه السلام نساءه الی کربلاء سوی انها حالة خاصة لزمانها وتحت رعایة المعصوم المباشرة !! وبهذا لا یکون هناک حدیث عن دور سیاسی او تکاملی للمرأة.

2 . الرؤیة التجدیدیة للمرأة والتی تمیل إلی الرؤی الغربیة والتی تحاول التخلص من ضغط الدین عن طریق جعل التکالیف لزمانها الذی مضی (کالحجاب والقوامة وغیر ذلک) وهم یقتدون بالنمط الغربی ویحاولون محاصرة القیم والعادات والتقالید وإقصاءها. ولأن المرأة هنا تشبه الرجل (ولیست شریکة له فی مسؤولیة الخلافة) فیکون

ص: 196

حل مشکلات النساء عن طریق التنمیة الاجتماعیة والاقتصادیة بعیداً عن الدین، فلتعمل بأی شکل وفی ای مکان کان وهی کائن غیر مرتبط بالأسرة (التی یرونها قیداً). هؤلاء یرون ان المرأة کائن مستقل معزول عن الأسرة والمجتمع. ولهذا یخاطبون المرأة کمفردة مستقلة بعیداً عن وشیجة العلاقات التی تربطها بزوجها واولادها ویحاولون وضع القوانین الجدیدة من خلال هذه الرؤیة. فالمرأة هنا کائن منفصل (کما هی الحال فی المنظومة الغربیة التی اباحت الاجهاض، لانه حق المرأة لکنها اصطدمت بحق الطفل فی الحیاة) والدین لیس له أی تأثیر علی حیاة المرأة واهدافها .

3 . الرؤیة الدینیة المعاصرة او الحضاریة للمرأة: وهی تتکئ علی الفکر الدینی إذ لا حیاة للأفراد دون وجود دین ینظم حیاتهم ویضع لهم ضوابط دنیویة اخرویة ویبیّن لهم قیما أساسیة تصوغ للإنسان المعاصر أهدافه واتجاهاته واسالیبه فی الحیاة. لکنهم یأخذون بنظر الاعتبار آلیات التطور المعاصر ویحاولون ایجاد موافقة بین الدین وبین متطلبات الوضع المعاصر. فهم یضعون القوانین التی تتکئ علی الدین وتأخذ بعین الاعتبار التطور والحداثة وتنظر إلی المرأة من زاویة الانسان الخلیفة لله فی أرضه فله مسؤولیاته وأهدافه وواجباته وحقوقه. هذا التیار یحاول قراءة الفکر الإسلامی مجدداً ضمن آلیات معاصرة تحامی عن قدسیة الدین وعن فاعلیته فی کل عصر وزمان وما وجدناه من مشارکة للمرأة فی العملیة السیاسیة فی إیران والعراق ولبنان ومن التأکید علی دورها الاجتماعی والتغییری یدخل ضمن هذه المنظومة.

وحتی فی إطار القدرة (کما سیأتینا) هؤلاء یطرحونها من باب ایجاد النموذج الشامل المتوازن الذی یجمع بین المرأة الانسان والمرأة الانثی والذی یستوعب وجودها الفردی والاجتماعی کنموذج الزهراء بثورتها وبعبادتها وبأمومتها وبحسن تبعلها أو کنموذج ابنتها الحوراء زینب علیها السلام ومن ثم هم یرون ان للمرأة دورا اساسیا فی الحیاة العامة لا یلغی ادوارها الاولی کالامومة والزوجیة ولا یتمیع ضمن الصور

ص: 197

المشوهة للمرأة تحت مسمیات الحداثة والعصرنة. ولهذا یرون ان صورة المرأة فی کربلاء قابلة للتجدید والظهور فی کل عصر وزمان انطلاقاً من ادوار المرأة التعددیة ولیست المحدودة کما یراها التقلیدیون.

من هذه الرؤیة العامة یمکن القول: إنه لا یمکن للإمام ان ینطلق فی ثورة الإصلاح هذه دون ان یهتم بنصف المجتمع. صحیح انه کان قد اناط الدور الإعلامی بالنساء عموماً وللسیدة زینب علیها السلام علی الأخص، ولکنه لم ینطلق لزمانه المحدد وانما اراد ان یوصل رسالة الإصلاح الخالدة إلی الرجال والنساء کافة وعلی مر العصور.

غیاب أم حضور؟

ان المتتبع للتاریخ لا یری صوراً نسائیة بعد الثورة وهذه القراءة السطحیة تجعل حضور النساء فی الواقعة (والذی هو عدل التضحیة) وکأنه صورة عابرة لمجری تاریخی قدیم. والمستقرئ للتاریخ بعد الواقعة یری ان الحال بقی کما هو علیه حول مشارکة المرأة فی الأدوار والمسؤولیات الاجتماعیة والسیاسیة، وبأن الانکماش والاقصاء الذی لمسناه فی أوضاع ما قبل الثورة بقی علی ما هو علیه بعد الثورة، فأین التغییر إذاً؟

وقد یکون هذا الرأی صائباً للذین یقرأون الصور الحاضرة فی المساحة التاریخیة ولا ینقبّون فی أوراق التاریخ ودفاتره عن الأحداث والوقائع التی حصلت، علی هذا لابد ان نفهم دور المرأة فی صناعة التاریخ کی نصل الی قرار صائب.

دور المرأة فی صناعة التاریخ

لقد استطاعت ثورة الإمام علیه السلام رغم انکسارها العسکری ان تعید برمجة القیم الإنسانیة والاجتماعیة والشخصیة فی المجتمع وهذا ما نجده واضحاً من توالی الثورات وانطلاق الموالین فی بیان إداناتهم المستمرة للنظام الأموی ومن ثم الحکم

ص: 198

العباسی بعدما ازیحت ثقافة الخوف والذل التی کانت سائدة إلی ثقافة العز والکرامة.

وعموما کانت النساء بعیدات عن القتال وربما عن المشارکة فی الثورات التی اتخذت طابعا رجولیا فقد عاشت النساء مسؤولیاتهنّ الاولی فی الاهتمام الأکثر بتربیة الجیل الموالی والناصر لآل البیت علیهم السلام والذی ولد فی العصر الاموی الاسود ثار فی العصر العباسی الاکثر ظلما لآل البیت. فلقد ترکت ثورة الإمام الحسین علیه السلام جرحاً لا یندمل فی قلوب النساء والرجال من خلال صور التضحیة والفداء ومن خلال جرح الأمهات والثکالی ونداء السبایا - فاصبحت المرأة المسلمة الموالیة تعی مسؤولیتها فی ضرورة تنشئة الأولاد علی مبادئ الولاء لآل البیت علیهم السلام وعلی حبهم وکیفیة صیانة الرمز الدینی وحمایة المقدسات. وإذ لم تکن هناک صورة واضحة عن ماهیة المطلوب من المرأة المسلمة قبل الثورة ولکن الصورة اتضحت بعدها فبدأت المرأة تربی أبناءها لیس لأمومتها فحسب ولکن لنصرة  خط الإمامة، وهذا ما یفسر لنا استمرار التیار الموالی لأهل البیت علیهم السلام فی عدده وعدته وقوته وثباته. إذ کان الرجال یستشهدون فی المعارک والثورات التی خاضوها وکانت النساء تکمل المسیرة عبر التنمیة البشریة الموالیة. ولو لم تتبنَّ المرأة هذا الخط لحصل فراغ کبیر لا یسد ابداً. فالمرأة بعد الطفوف بدأت تعی ان لها دورا وان هناک مهام ومسؤولیات لا یؤدیها غیرها ولئن کانت نساء الطفوف قد عانین ما عانین من أجل الدفاع عن المقدس وحمایة خط الولاء فان المطلوب من النساء بعد الطفوف اکثر. ان هذا یجرنا إلی التفکیر فی مهمة المرأة الأولی فی التربیة ویمکن من خلال استقراء اوضاع الدول التی تخلت فیها المرأة عن وظیفتها التربویة ان نری انعکاسات ذلک ففی بعض المجتمعات  التی تقوم فیها الخادمات بمهام التربیة ظهر جیل یعانی من مشکلة اللغة ومن ضعف الحس الایمانی والوطنی لأنه یأخذ قیم الخادمة المربیة واتجاهاتها ولیست اتجاهات الام الاصلیة ومن ثم حصل نوع من الاغتراب الأمر الذی جعل اصوات الاستغاثة تنطلق من کل مکان. ولتخلی الام

ص: 199

(عالمیاً) عن هذه المسؤولیة نشأ جیل یهوی العنف ویتخذه منهجا فی الحیاة لانه عاش الحرمان العاطفی لغیاب الام وعدم استطاعة المعلمة والخادمة تعویض النقص فی مشاعر الحب والحنان. ولقد اطل القرن العشرون مع مطالبات بنبذ الامومة وانتهی بصیحات تطالب بعودة المرأة الی البیت والاسرة!.

ولو قرأنا التاریخ قبل الثورة لوجدنا الرموز النسائیة بحد ذاتها محدودة العدد وقد ظهرت فی نموذج سیدات نساء العالمین وفی مواهب المسلمات فی صدر الاسلام. ولکن یا تری هل یعنی ذلک ان المرأة لم یکن لها دور فی صناعة التاریخ إلا من خلال هذه الصورة الظاهرة؟

ان دور المرأة فی صیاغة التاریخ یمر بشکلین أساسیین:

الشکل الأول: وهو الأعم هو الشکل غیر المباشر والصورة غیر الظاهرة علی شاشة التاریخ ولکنها صورة فاعلة ومؤثرة وذات امتدادات طولیة. وتأتی من خلال أدوار النساء التقلیدیة وبخاصة دور الزوجة والأم والذی اهتم بصناعة الأجیال، وهذا الدور کان ضبابیاً حتی للمرأة الموالیة وان وجدناه فی آحاد ومفردات، ولکن هذه الصورة اخذت لها ابعاداً أساسیة عند المرأة الموالیة بعد الثورة ونضجت وبشکل واعٍ استقر فی لباب المرأة من خلال اعداد الجیل الموالی والذی یدیم خط الولاء لأهل البیت علیهم السلام ومن هؤلاء النساء اللائی نجهل أسماءهن ومن کانت سجون الحجاج تغص بهن وکانت سجون الرشید تعج بهن. وفی زماننا المعاصر کان صدام یقنص هؤلاء النساء ویغیبهن فی (التیزاب) کما جری مع الکثیر من النساء أمثال الشهیدة بنت الهدی - التی سنمر علیها - وسلوی البحرانی وآلاف من النساء قتلن واعدمن وغیّبن فی غیاهب السجن.

والمستتبع للتاریخ یری ان صورة الرجل الذی یصنع التاریخ کانت محدودة فی الخلفاء الظالمین لآل البیت علیهم السلام وفی أعوانهم فأین کان الرجل الموالی؟ لقد کان ثائراً فی سلسلة ثورات متتالیة أبید فیها الکثیر منهم کثورة التوابین التی اتت علی خمسة

ص: 200

آلاف رجل وکذلک بقیة الثورات ومنها الثورات المعاصرة.. کان الرجال یُستشهدون ویترکون ذراریهم بین حاکم ظالم محارب لأهل البیت یروم تنشئة الأجیال علی بغض علی علیه السلام والنیل منه وبین أم موالیة تصر علی ادامة خط الولاء وتعانی الکثیر من الضغط الاقتصادی والنفسی والاجتماعی والفکری حتی ینشأ ولدها علی حب أهل البیت علیهم السلام وربما عشنا بعض مفاصل هذه الحالة وعاش ابناؤنا أیضاً بعض استتباعاتها وإلی هذا یقول الشاعر:

لا ع_ذب الله أمی انها ش_رب_ت

ح_ب الوص_ی وغذتنی_ه فی لب_ن

وکان لی وال_د یهوی اب_ا حسن

فصرت من ذی وذا أهوی أبا حسن

- أما الشکل الثانی فی صناعة التاریخ فکان فی اسماء محدودة وواضحة عرفنا بعضها وجهلنا کثیراً غیرها من الرجال والنساء. وکان اسم الرجل یظهر بوضوح؛ لأن العرف نفسه یروج له فی حین تبقی صور النساء وأسماؤهن فی ضمن الدائرة الحمراء! لان التاریخ نفسه لم یکن انسانیا فی کثیر من مقاطعه بل کان ذکوریا.

لقد أسهم التاریخ نفسه فی ظلم الانسان رجلاً کان أو امرأة فالتاریخ کتب لنا عن مجون الحکام وبطش الطغاة وظلمهم للبشر وعما قاموا به من اعمال یعدها البعض افتخارات فی حین انها احتراقات واحتقارات!.. فهل الذی یقوم بذبح البشر واراقة دمائهم وطمس حضاراتهم هل یستحق التمجید والخلود؟.. ولکن التاریخ هو هذه  الوقائع  المرة اذ نادراً ما یکتب التاریخ عن الفضائل وعن السمو الانسانی وعن سبل تکامل البشر. ولأن الاغلب فی مسار التاریخ هی حاکمیة الرجل ونبذه للانثی ایا کانت فقد اخفی التاریخ الکثیر من الحقائق العلیا فیما یخص النساء وبقی تاریخا ذکوریا فی حین ان تاریخ الاسلام کان تاریخ الرجل والمرأة علی حد سواء.

ومع کل ذلک نجد صوراً خالدة فی التاریخ کصورة العقیلة زینب علیها السلام

ص: 201

والوافدات علی معاویة وسمیة ونسیبة.. ولکن من البدیهی أیضاً ان تکون هناک صورٌ أخری فی التسافل الحیوانی کصورة آکلة الاکباد.

وبعد کل ما استعرضناه نصل الی نتیجة وهی اننا مدینون للمرأة فی حفظ رسالة الولاء وایصالها لنا بکل امانة، فیا تری کیف نحافظ علیها؟

ویمکن القول: إن حضور السیدة زینب علیها السلام فی برنامج الإصلاح الحسینی قد کشف اموراً منها:

1- انه لا یمکن لأی مسیرة اصلاح ان تنجح ما لم تهتم بالمرأة وتوکل إلیها مهام المشارکة فیها. وان أی عمل اصلاحی یهمل نصف المجتمع سیصاب بالتلکؤ والضعف وهذا الاهتمام بوجود المرأة فی البرامج الاصلاحیة یسهم فی ایجاد الحلول الاصلاحیة لمشاکل النساء والمجتمع، فإصلاح اوضاع النساء یحتاج إلی جهد المرأة والرجل، وکذلک اصلاح اوضاع الرجال، وکذلک اصلاح أوضاع المجتمع.

2- نساء الطفوف کسرن الصورة السلبیة النمطیة عن المرأة ونشرن صورة المرأة الآمرة المعروف والناهیة عن المنکر والناصرة لدینها، صورة إیجابیة تعرّف المرأة بدورها المطلوب فی کل عصر سواء فی عصور التضییق والحراب أو فی عصور الانفتاح والحریة.

3- هذا الحضور النسائی المتمیز کسر العقل الذکوری الذی کان لا یری دوراً للمرأة أو أیة قیمة مجتمعیة.. ها هو سید الشهداء وأبو الاحرار علیه السلام یوکل إلی اخته أصعب المهام فی ظروف قاسیة للغایة.. مهام قد لا یقوی الرجال علیها لأنها متعددة فی ظروف عسیرة وضاغطة.. ولکن السیدة زینب علیها السلام تحقق نجاحا منقطع النظیر وتکون سبباً لکل هذا الخلود الذی حظیت به الثورة الحسینیة بشکل لم یکن له سابقة أو لاحقة، فسید الشهداء علیه السلام یدعو من خلال هذا الحضور النسائی إلی دعم حضور المرأة فی المواقع الصعبة، وإلی اسناد المهام لها وعدم الشک فی

ص: 202

قدراتها وکفاءتها. فمن قال ان المرأة ضعیفة او کائن هزیل أو ان لیس لها دور فی المسیرة الانسانیة فتبقی مرکونة علی الرف.. أبداً.. ولولا هذه الثورة لما بانت قوة المرأة.

4- اصلاح رؤیة المرأة إلی نفسها.. فلماذا لا تعید المرأة قراءة أدوار هؤلاء النساء لتعرف دورها ومهامها ولا تبقی اسیرة الوهم بالعجز وعدم القدرة علی ان تقوم بقسط من المهام التی تتطلبها المراحل الراهنة من دورة الاسلام فی الکون.. هذا الاصلاح له اثره من حیث:

* انه یخلص المرأة من الهامشیة واللامبالاة ویجعلها تعیش واقعها ضمن المبالاة والاهتمام والفاعلیة.

*  انه یسهم فی توجیه النظر إلی مشکلات مجتمعها والتعریف بالمساحات التی تحتاج الی اهتمام اکثر.

* یخلصها من العبثیة والتشتت فنحن نری حجم الانفاق الذی یصب علی الإعلام لقوقعة النساء ضمن إطار الزینة والموضة فی إطار الصورة والجسد وجعل ذلک شغلهن الشاغل لإبعادهن عن الاهتمام بشؤون المجتمع واصلاح شؤونه.

* شعورها بالمسؤولیة الثابتة علیها والتی لا تتغیر مع تغیر الزمان والمکان أبداً.

((وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِیَاء بَعْضٍ یَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَیَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنکَرِ...))(1).

* ویؤدی إلی تخلیصها من الانانیة والانکفاء علی الذات وإلی الانطلاق إلی المجتمع الکبیر وإلی علاج مشکلاته بما فیها مشکلات النساء.

* وکل ذلک سیمهد لتطویر الذات عبر زیادة ثقة المرأة بنفسها والابتعاد عن کل علامات الهوان والضعف.


1- سورة التوبة، الآیة 71.

ص: 203

نساء بین النهضتین

ما بین نساء الانتظار ونساء الطفوف

انتهت واقعة الطف بأشخاصها لکنها بقیت فی الوجدان الإنسانی کصورة مشرقة لرفض الذل والظلم والثورة علی الواقع الفاسد المنحرف، وبقیت نساء الطفوف العظیمات رموزاً علیا وأمثالاً سامیة لأدوار النساء التی لا تنطلق من إطار الأنوثة أو العقد النفسیة بل تنطلق من صورة الإنسان العظیم حامل رسالة الاستخلاف والذی سیکون أُنموذجاً عالیاً للخلیفة فی الأرض وبهذا فقد بقیت أُنموذجاً خالداً لکل النساء والرجال وعلی مر العصور.

ونحن نعیش الآن زمن الانتظار والتمهید لظهور المصلح الکبیر الذی سیمحو کل ملامح الفساد ویجتث کل مواقع الظلم ویجعل الأرض تعیش تحت رایة العدالة الإلهیة.. وهو الحلم الذی عاشته البشریة دوماً وخطط لأجله الانبیاء علیهم السلام وکانت تضحیة الإمام الحسین علیه السلام الغالیة من أجل هذا التمهید الأزلی لانتصار العدل وإزالة الجور. وقد أکدت الأحادیث علی أهمیة الانتظار.

ففی الحدیث عن الرسول صلی الله علیه وآله وسلم:

أفضل أعمال أمتی انتظار الفرج.

وفی أحادیث أخری اشارات عن حضور النساء مع الإمام عجل الله تعالی فرجه الشریف، وهی اشارات ربما اختلف البعض فیها لکننا سنعود ثانیة إلی دور المرأة فی صناعة التاریخ فنری الدور المباشر الذی تشیر إلیه الروایات کما فی الحدیث عن الإمام الباقر علیه السلام:

ص: 204

«ویجیء والله ثلاثمائة وبضعة عشر رجلاً فیهم خمسون امرأة یجتمعون بمکة من غیر میعاد».(1)

وعن المفضل، عن أبی عبد الله علیه السلام قال:

«یکن مع القائم علیه السلام ثلاث عشرة امرأة »

قلت: وما یصنع بهن؟ قال علیه السلام:

« یداوین الجرحی، ویقمن علی المرضی کما کان مع رسول الله صلی الله علیه وآله».(2)

ولا ننسی الدور اللامباشر للمرأة فی صناعة التاریخ وهذا یعنی ان المرأة موجودة فی ادوار فعالة سواء فی زمن الانتظار او الظهور, وتعتمد المرأة الناصرة للإمام عجل الله تعالی فرجه الشریف فی زمن الانتظار علی صورة نساء الطفوف الخالدة فی العطاء والتضحیة وفی الدفاع عن العقیدة والامام.. وتبدو مسؤولیة المرأة فی زمن الانتظار متأطرة فی جانبین أساسین:

1 . الجانب الأول هو بناء الذات وتربیة النفس واصلاحها وتهذیبها والاهتمام بالأعمال الصالحة والمخلصة. فکل عمل مخلص هو انتظار للفرج.

2 . والجانب الثانی یتمثل فی تربیة الجیل المنتظر وإعداده وتقویة ثقافة الانتظار لدی نساء المجتمع (وعمومه) من خلال اتباع آلیات مناسبة وهذه الثقافة تنمی عند  الأفراد حالة الاستعداد والتأهب للظهور.

فثقافة الانتظار مشروع حضاری یعید الجذور الإنسانیة للحضارة البشریة ویرسم معالم المجتمع التوحیدی الذی هو حلم الانبیاء علیهم السلام فمن این نبتدئ؟


1- المجلسی، بحار الأنوار، ح52، ص 223).
2- إثبات الهداة: ج3 ص575 ح 725 (ب 32 فصل 38).

ص: 205

والجواب:

ألف . فی البدء هل لدینا القناعة الکافیة بان الإسلام یحمل حلولاً لمشاکلنا وانه یمثل النجاة مما نعیشه من أزمات ومستنقعات؟.

ولعل واحدا من أهم مشکلات المرأة المسلمة المعاصرة - وکذلک المسلم المعاصر - هو انها لا تعیش الوعی الکافی بان الإسلام یحمل اطروحة ناجحة ومفیدة للمرأة ولکل البشر ولکل المجتمعات، هناک تشتت فی وعینا، ونعیش ارهاصات قالها الآخرون لابعادنا عن دیننا. مقولات مشوهة من أمثال: ان الإسلام ظلم المرأة وانه حرمها حقوقها وکأن المطلوب من المرأة المسلمة المعاصرة ان تشن حرباً علی الإسلام (الذی خنق المرأة وصادر حریتها کما أُدخل فی وعیها) وبعدها تنطلق بافق آخر یسمی أیضاً إسلاماً!!. وهذا هو  السخف بعینه!. لابد أولاً ان أعی اطروحة الإسلام  بشکل عام وبخاصة فیما یتعلق بقضایا المرأة وان اضع الجدار العازل بین اطروحة الإسلام ومنظومة العرف (المقدس) والتی هی فی کثیر من الأحایین تعاکس الإسلام وتشوه صورته، لابد ان اعرف حالة المرأة فی العالم الآن. فهی تقدمت فی جوانب عدة فی الجانب الحقوقی مثلا (بشکل عام) وفی جانب العمل والتعلم والسیاسة إلی غیر ذلک.

لکن کیف افسر الظواهر الطاغیة فی العالم من باب تأنیث الفقر، تأنیث الأمیة، الرقیق الأبیض، البغاء، العنف ضد المرأة (بکل أشکاله) وإلی غیر ذلک من الظواهر السیئة؟.

ولذا لابد أولاً من ان احرر عقلی من کل فکر مضاد للإسلام ومن کل فکرة تصطدم مع الإسلام وتحاربه واجعل عقلی ساحة واعیة لمفاهیم الإسلام الصحیحة وبالذات فیما یخص المرأة فالحجاب تحرر وانعتاق ولیس عبودیة واسترقاقاً والقوامة إدارة وصیانة ولیست تسلطاً وإذلالاً إلی غیر ذلک من الأمور.

ص: 206

باء . ان تعرف المرأة المسلمة المنتظرة فلسفة الانتظار ومن هو الإمام المهدی، ولماذا غاب؟. وهذه الرؤیة المعرفیة تُسهم فی رسم الصورة الأولیة للإمام - المقدس - الذی تدافع عنه المرأة المسلمة وتقدم له النصرة بکل الوسائل.

ثم لابد من آلیات للتواصل مع الإمام عجل الله تعالی فرجه الشریف والذی تعرض علیه أعمال موالیه. وبلا شک لابد وان یکون هناک سعی فی تقدیم ما یفرح قلبه عن طریق الابتعاد عن الذنوب وهجران المعاصی والسعی إلی اکتساب الفضائل والحفاظ علی الحجاب وغیرها.

ولعل واحدة من أسالیب التواصل مع المقدس فی زمن الغیبة هو تقدیم الهدایا للإمام عجل الله تعالی فرجه الشریف هدایا معنویة ومادیة کأن تکون رکعتی صلاة أو صدقة أو الدعاء المستمر له أو المعایشة لهمه وألمه والتألم لحاله (عزیز علی ان أری الخلق ولا تری ولا أسمع لک حسیساً ولا نجوی. عزیز علی ان تحیط بک دونی البلوی). والاهتمام بذکری مولده وقراءة الأدعیة التی تعمق الرابطة معه والفرج له کدعاء العهد والندبة إلی غیر ذلک.

ولا یقتصر الأمر علی المرأة وحدها بل لابد من ان تشارک أسرتها وجماعتها فی أعمال النصرة واظهار الولاء ونحتاج هنا الی ان نرسم صورة أولیة للإمام فی عیون أولادنا الصغار وان نجیب علی اسئلتهم ونعرّفهم بأسباب غیبته وما هو مطلوب منهم فی زمن الغیبة وکلما کان الأم، والأب، أنموذجین سامیین للأخلاق الفاضلة - بعیدین عن العنف والشتم والسخریة - کلما کان تقبل الأولاد لهذه الأفکار العلیا اسرع.

جیم . علی ان اعیش الوعی الکامل فی أهمیة الإصلاح وأهمیة الأمر بالمعروف والنهی عن المنکر وان ادرک حاجة المجتمع والإنسان إلی المصلح والإصلاح وان اعرف آلیات الإصلاح المطلوب, اذ لا یمکن القیام بأی عمل إصلاحی أو تغییری أو المشارکة

ص: 207

فی عملیة الأمر بالمعروف والنهی عن المنکر ما لم یکن الفرد نفسه - رجلاً کان أو امرأة - صالحاً من جوانب عدة کأن یکون ذا معرفة دینیة وذا معرفة بعوامل الزمان والمکان والتغییرات الحاصلة، وذا قدرة علی التحمل وعلی تبنی آلیات ناجحة فی التغییر. یقول الشیخ مطهری فی ملحمته الحسینیة:

انک لو اردت ان تأمر بالمعروف وتنهی عن المنکر بشکل غیر مباشر فان إحدی الطرق المحنکة هی ان تکون قبل کل شیء صالحاً وتقیاً وصاحب فعل قبل ان تکون صاحب قول. وعندما تکون أنت شخصیاً أنموذجاً بهذه المواصفات ستکون مثالاً مجسماً للأمر بالمعروف والنهی عن المنکر.(1)

 ومما لا شک فیه ان النهضة الحسینیة رفعت من شأن عملیة الأمر بالمعروف والنهی عن المنکر،(2) وکشفت عن دور المرأة والرجل فی هذه العملیة الحیویة کما کشفت عن قابلیات النساء والرجال وعن آلیات التعامل مع الانحراف والفساد.

واذ تبدو الحاجة إلی أنموذج المرأة الآمرة بالمعروف (کلمة المعروف تشتمل علی کل الأهداف والمفاهیم الإسلامیة الإیجابیة) والناهیة عن المنکر، أی المرأة التی تهتم بالإصلاح کأمر أساسی فی تطور المجتمع ونهضته، فإذا اهمل الاصلاح اهمل دم الحسین علیه السلام واهملت عطاءات نساء الطفوف وتأخر الظهور.

وتزداد الحالة سوءاً إذا تصورت المرأة ان لا مهام لها فی عصر الانتظار سوی البقاء فی البیوت والاهتمام بالموضة ومشاهدة مسلسلات رمضان الممجدة للانحرافات!. وان صورة نساء الطفوف لزمانها ولیس لزماننا! وکأن الحسین علیه السلام کان لزمانه! فحسب.


1- مطهری، الملحمة الحسینیة، ج2، ص 92.
2- مطهری،الملحمة, ص 228.

ص: 208

ان المرأة الآن بحاجة إلی قراءة واعیة للذات تجتث من خلالها کل خرافات الماضی وضبابیة الحاضر، إذ تنتظرها الکثیر الکثیر من المهام فی زمن الانتظار وترقب الظهور.

والمرأة التی تحمل مشعل الامر بالمعروف والنهی عن المنکر علیها ان تسیر فی خط  زینب - علیها السلام- کأُنموذجٍ سامٍ للشخصیة الإسلامیة التی ترتکز علی بناء فکری واضح بعیداً عن الضبابیة.. وبناء نفسی متین یمنحها القدرة علی مواجهة الصعاب.. وبناء اجتماعی ناجح یمهد لانطلاقتها وحرکتها فی الدائرة الاجتماعیة.

دال . نساء الطفوف وبالذات السیدة زینب علیها السلام کن أنموذجاً رائعاً فی قوة البناء الذاتی ومتانته الذی لم یتهاون أمام الجیش الکبیر الذی خرج لقتال الحسین علیه السلام ولم ینهر أمام طاغیة زمانه یزید أو عبید الله وغیرهما من العتاة. وهذا البناء الذاتی الصلب فی الله الرحیم بخلقه تحتاجه کل امرأة منتظرة فی زمن الانتظار. فلا بد ان تکون هناک أولویات لکی ننجح فی بناء ذواتنا بما یؤهلنا للصمود أمام التحدیات المعاصرة والمستقبلیة.

وبناء الذات یعنی تحریر الإنسان أولاً من قیوده وأثقاله التی تشدّه إلی الدنیا ومن الصفات السلبیة التی تسلب قدراته الإیجابیة کالتکبر والشکوی الزائدة وفقدان الثقة بالنفس إلی غیر ذلک من معوقات الرقی والتکامل وبهذا تتحول المرأة إلی إنسان إیجابی معطاء یعیش  المسؤولیة والتمهید للظهور معتمدا علی کل الآلیات المتاحة انطلاقاً من الأمر بالمعروف والنهی عن المنکر إلی غیره.

اما أهم مرتکزات البناء الذاتی الناجح وأهمها فهی:

1 . ما هی رسالتک فی الحیاة ؟. فالمهم ان نعرف من أین وإلی أین وکیف السبیل إلی أهدافنا. فنحن لم نخلق عبثاً وانما نسیر نحو الغایة التی خلقنا لاجلها ونحو أهدافنا ولا بد ان نقف عند رسالتنا ونقرأها بوعی مرات ومرات.

ص: 209

2 . لأرسم صورة مستقبلیة عن نفسی کناصرة - وناصر - للإمام وانا حالیاً فی طریق التمهید ولأتعرف علی احتیاجاتی المطلوبة للوصول إلی الصورة العلیا..

3 . نساء الطفوف هن القدوة الحسنة لی فی مسار الانتظار، لأتعلم کیف انصر الامام وکیف اصون المقدس وکیف اعیش نکران الذات.

4 . لأتعرف علی نفسی وارسم خارطة لمواقع الضعف عندی ومواقع القوة وآلیات التغییر فلا یمکن ان انجح فی الحیاة ما لم افهم نفسی وقدراتی.

5 . لاسعی لاکتساب المهارات الحیاتیة المهمة کالثقة بالنفس وقوة الإرادة وأدب الحوار والإقناع والاستماع والتقدیر والاحترام والاخوة والصداقة والتعاون وآلیات الاستثمار والتخطیط النافع، وآلیات حل المشکلات، وآلیات تنظیم الوقت إلی غیر ذلک.

6 . البناء الروحی مهم للغایة فعلاقتی مع الله تؤثر علی حجم مواجهتی للخطوب وعلی ثباتی علی مبادئی، ولا بد من تدعیم البناء الروحی بالذکر وتلاوة القرآن الکریم واداء الفرائض والمواظبة علی صلاة اللیل وتعزیز الشعور بمعیة الله.

7 . لأعوّد نفسی علی تحمل المشاق والتعامل الصحیح مع الضغوطات واتخلی عن ساعات راحة احبها.. لابد من ان أقوم بتجارب صعبة ربما ساواجهها مستقبلاً. - لنعود أنفسنا التکیف الذکی مع المواقف والأحداث التی تمر علینا. فالحیاة لا تسیر علی مسار واحد؛ إذ فیها تغییرات وتناقضات وأمور سارة ومحزنة إلی غیر ذلک، وهناک من یصاب بالصدمة والسکتة والذهول والضیاع حینما یعترض مسیر حیاته عامل ما یؤدی إلی تلکؤ الروتین الذی اعتاده، وهناک من یوطن نفسه علی الوصول إلی أهدافه رغم التحولات.. لاتصور تغییرات فی حیاتی، مشکلات، صعود فی سلم الحیاة، کیف سأکون ثابتة أمام التحدیات؟.

ص: 210

8 . لاعّود نفسی علی الاهتمام بأمور المسلمین ..لاتابع نشرات الأخبار، لأحضر فی المناسبات المهمة مع الناس کمراسم الدعاء والزیارة، ولاشملهم بالدعاء والاستغفار فی صلاة اللیل.

9 . لاحرص علی الاستزادة من العلم والمعرفة فنساؤنا _بل وحتی رجالنا_مع الأسف یعشن اما أمیة کتابیة واما امیة معرفیة سواء فی إطار المعرفة الدینیة أو المعرفة الاجتماعیة بل اننا نجد نساء حاصلات علی شهادات علیا من أرقی الجامعات ولکنهن لا یستطعن تلاوة بعض الآیات القرآنیة بشکل صحیح!!، والثقافة للرقی ولیست للاسترخاء والتباهی. فزینب علیها السلام لم تکن بنت عاشوراء أو ولیدة الطف بل عاشت آلام الرسالة وأحداثها الصعبة والمرة منذ وفاة الرسول صلی الله علیه وآله وسلم حتی شهادة أمها، ثم ابیها ثم أخیها.. ولما جاءت إلی کربلاء کانت مدرسة للعلم والثقافة والشجاعة.

10 . لاصون هویتی.. فقد کانت لنساء الطفوف هویتان:

الأولی: إنسانیة ظهرت واضحة فی أداء مسؤولیات الاستخلاف والرغبة فی ترشید المجتمع نحو الله والرحمة والسمو علی عوامل الجذب الدنیویة وإلی غیر ذلک..

الثانیة: هویة نسائیة ظهرت من خلال حرصها علی حجابها، وتقبلها لذاتها وعدم مطالبتها بأدوار ذکوریة.

ولا بد للمرأة المسلمة المنتظرة ان تعیش کلا الهویتین وتسعی للحفاظ علیهما دون افراط أو تفریط.

11 . الحضور الاجتماعی.. فنساء الطفوف لم یعشن الانزواء لا قبل الفاجعة ولا بعدها فقد کانت للسیدة زینب علیها السلام مجالسها مع النساء بهدف التوعیة والإرشاد قبل الثورة وإقامة مجالس العزاء للنساء بعدها. کما انها تواصلت مع شریحة الثکالی

ص: 211

والأمهات المفجوعات ومع الشرائح الأخری ولم یکن الحضور صوریاً أو شکلیاً بل کان حضوراً واعیاً وذکیاً.

إذن یکون حرصنا الاکبر  فی ان یکون لنا حضور فی الساحة الاجتماعیة ولنبتعد عن الانزواء فانه تبدید للطاقات وتجمید للحرکة.

هذه المشارکة والحضور الاجتماعی تسهم فی:

ألف . التعرف علی المشکلات الاجتماعیة وبخاصة فیما یرتبط بوضع النساء.

باء . ینمی الشعور بالمسؤولیة تجاه الأُخریات وینمی المهارات الاجتماعیة.

جیم . الحضور الاجتماعی یخفف من الانانیة والانغلاق علی الذات.

دال . یُسهم فی إیصال ثقافة الانتظار إلی الاخریات. وفی دعم ثقافة الأمر بالمعروف والنهی عن المنکر ویمهد للأعمال الصالحة.

 وواحدة من أهم أبواب الحضور الاجتماعی هی المشارکة فی الشعائر الحسینیة وبکل أشکالها سواء فی زیارة الرسول والأئمة علیهم السلام أو فی حضور مسیرات عاشوراء أو الاربعین والمجالس الحسینیة والتی لم تصل بعد الی مستوی الطموح لکنها مازالت مؤثرة علی شرائح کثیرة من النساء. وتعد هذه کلها محطات تجمیع الأمة وتحشید الطاقات وتمثل روافد فکریة تعمل علی زیادة الارتباط مع التاریخ ومع نساء الطفوف ومع عقیدة الانتظار.

12- اغتنام  الفرص: فلقد کانت فرصة طیبة فی ان یسلم وهب النصرانی علی ید الامام وان یحظی بشرف الشهادة. وکانت أیضاً فرصة  لزهیر ودلهم وطوعة فی ان یسجلوا موقفا خالداً ولم یفکروا یوما فی ذلک، ولکنها فرصة جاءت الیهم لتکسبهم شرفاً وخلوداً, وإضاعة الفرصة غصة والفرص تمر مر السحاب فلابد ان نعرف کیف نصونها ولهذا من الانسب ان لا نتعود رد الفرص أو قول (لا) لکل مهمة تعرض علینا.

ص: 212

نساء الطفوف.. القدوة الخالدة

السیدة زینب علیها السلام .. المثل الأعلی للمرأة المسلمة

واحدة من أهم سبل العروج نحو الرقی والتکامل هو وجود المثل الأعلی والقدوة الحسنة للفرد والتی تخرج الفرد من قواعد التنظیر والأفکار الجامدة وتحولها إلی إطار الواقع التطبیقی والصورة الحیة للمفهوم وللفکرة. وبهذا یکون دور القدوة الصالحة دوراً تربویاً عالیاً فی التعریف بالنموذج الذی تسعی الیه النظریة الفکریة. کما انه أسلوب سهل یزیح العوائق التی یتصورها الفرد أمام رقیه وتکامله، من حیث ان هذه الصورة التطبیقیة تعطی للإنسان الأمل فی امکانیة تحقیق النموذج السامی وتعرّفه بالوسائل والآلیات الواجب اتباعها فی هذا المضمار وبهذا توجّه إرادة الإنسان نحو مسیرة الکمال المنشود. ولولا وجود النموذج الحی والصورة التطبیقیة للنظریة الفکریة لبقی الإنسان فی موضعه حائراً لا یدری ما هی صورة النموذج والمثل الأعلی وما هو السبیل إلیه بل ربما لا یکلف نفسه عناء الرقی والتکامل.

ولهذا اهتم القرآن الکریم بأمر القدوة الصالحة وعرض النماذج العلیا فی القدوات المعصومة والتی تمثلت بالأنبیاء علیهم السلام وبخاصة النبی الخاتم صلی الله علیه وآله وسلم قال تعالی:

(( لَقَدْ کَانَ لَکُمْ فِی رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ)).(1)

((أُوْلَ_ئِکَ الَّذِینَ هَدَی اللّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ)).(2)

أو فی نماذج علیا للنساء  کما هی الصور التی عرضها القرآن الکریم فی نماذج


1- سورة الاحزاب، الآیة 21.
2- سورة الأنعام، الآیة 90.

ص: 213

الصالحین والصالحات کامرأة فرعون ومریم واللتین ضربهما القرآن مثلاً کنماذج للقدوة الحسنة لکل الذین آمنوا - من  الرجال والنساء - وعلی مر العصور.

قال تعالی:

((وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِّلَّذِینَ آمَنُوا اِمْرَأَةَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِی عِندَکَ بَیْتًا فِی الْجَنَّةِ وَنَجِّنِی مِن فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِی مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِینَ (11) وَمَرْیَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِی أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِیهِ مِن رُّوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِکَلِمَاتِ رَبِّهَا وَکُتُبِهِ وَکَانَتْ مِنَ الْقَانِتِینَ)).(1)

وهذه القدوات المعصومة المطلقة الخالیة من الزلل هی نماذج ثابتة، خالدة، لیس فیها اختلال أو تضارب بل هی قمة النماذج الإنسانیة، وتصلح جمیع جوانب حیاتها وسلوکیاتها لتکون نماذج حیة وثابتة لکل عصر وزمان.

وهناک قدوات غیر معصومة وغیر مطلقة ولکنها أیضاً نماذج علیا، وصور عظیمة اقتدی بها الناس ومازالوا مثل سمیة ونسیبة ودلهم.

ولعلنا الآن نلمس استتباعات الحرب الفکریة وصراع العولمة الذی یبغی تثبیت نماذج مهزوزة للقدوات فی الفنانین والراقصات ونجوم السینما وغیرهم ومحاولة تشویه نماذج القدوات التی رسخت فی الوجدان الشعبی تحت مسمیات وصور هزیلة.. وهذا ما یبرر لنا سعی اعداء الإسلام علی مر التاریخ  لطمس صورة الإمام الحسین علیه السلام وصورة انصاره وتشویه معالم البطولات وتحریفها بما هو مشوه وضبابی.

ومن البدیهی ان طرح نموذج القدوات الضعیفة أو السیئة، - بعض العلماء لا یسمی القدوات السیئة بهذا الاسم بل یعرضها تحت عناوین المحاکاة والتقلید -، یقطع


1- سورة التحریم، الآیات 10 - 12.

ص: 214

العلاقة مع البناء التاریخی المتین وینهی أواصر الترابط مع النماذج الخالدة کما انه یمهد إلی تحدید صور ضبابیة للرقی الإنسانی فی نماذج واهنة تدور ضمن إطار الأهداف المادیة والدنیویة وضمن دائرة الجسد والشهوة والهوی وهذه کلها قواطع وموانع تحول دون الوصول للمثل الأعلی المطلوب وهذه هی إحدی الکوارث التربویة التی نعیشها والتی جند لها الإعلام اللا دینی کل اجندته وآلیاته للنجاح فیها.

نساء الطفوف ... القدوة الحسنة

تشکل منظومة نساء الطفوف منظومة کاملة لکل نماذج القدوات الحسنة، ومنظومة سامیة فی تقدیم المثل الأعلی الصالح لکل زمان ومکان. وهؤلاء النساء العظیمات وعلی رأسهن السیدة الحوراء زینب علیها السلام عقیلة الطالبیین هن النموذج الحی للرسالة فی کل زمان وبخاصة فی زماننا حیث التحدیات الصعبة والمجابهات الفکریة فی أعلی المدارج هؤلاء النساء لسن شخوصاً عشن ومتن.. لسن نساء عبرن أیاماً وسنوات إلی نهایة الأمد بل یمثلن رؤیة الإسلام والإمام علیه السلام للمرأة ویمثلن منطلقات للمرأة المسلمة المعاصرة فیما یجب ان تکون علیه.

هؤلاء النساء عشن الحریة بکاملها لم یذعنَّ للحاکم ولم یخضعن للسلطان ولم تُزِدْهُنَّ حراب الأسر والأذی إلا تصمیماً علی إدامة المسیر حتی یأتی الله بأمره.. وقد نعیش الاغتراب عنهن حینما نذعن للنفاثات فی العقد، وللمضللین من شیاطین الإنس والجن، وحینما نساوم علی العقائد من أجل دنیا فانیة ومتعة وقتیة زائلة.

لقد عاشت هؤلاء النساء الاهتمام الفکری بالأمة المسلمة، وکیف السبیل إلی بیان الحقائق لها وکشف الوجه المشوه للحاکم الأموی وأعوانه وعشن أیضاً الاهتمام الحرکی بالأمة المسلمة المغلوب علی أمرها آنذاک فی کیفیة انقاذها وإحیائها وبیان محطات العز لها وکیف تحیا بکرامة دونما ذل أو عبودیة..

ص: 215

فمن ناحیة تعرض نساء الطفوف نماذج لقدوات متعددة الأدوار. حیث نجد الأمهات الفدائیات من أمثال أم وهب وأم عبد الله الکلبی ورملة.. واللائی دفعن أولادهن للتضحیة فداءً للإمام الحسین علیه السلام ونجد أمهات لا یسألن عن أولادهن الشهداء بین الضحایا کالسیدة زینب علیها السلام؛ لأنهن کان الشغل الشاغل لهن فقط فی صیانة الإمامة. وهناک نماذج سامیة للزوجات الصالحات فدلهم زوجة زهیر بن القین وزوجة حبیب بن مسلم کن زوجات حبیبات ومحبات یدفعن أزواجهن للموت لنصرة الإمام علیه السلام رغم ما فی الفراق عن الحبیب من لوعة. ونجد الرباب زوج الحسین علیه السلام نموذجاً متألقاً. هذه المرأة التی یقول فیها الإمام:

لعمرک إننی لأحب داراً

تحل بها سکینة والرباب

تراها تعیش کل صور الأذی وفی اجواء الحرب الظالمة تعیش لوعة أبناء یستغیثون من الظمأ وتری ولدها الرضیع مذبوحاً وابنتها تتلوی من العطش وزوجها الحبیب یجود بنفسه ولا من معین، وهی فیما بعد تقاد أسیرة ویبحث عنها العدو اللئیم ضمن قافلة السبایا متشمتاً بقول الحسین فیها.. هذه الزوجة الصابرة لا نسمع لها شکوی أو عتاباً مع الزوج أبداً بل کلها مشاعر جیاشة نحو الاحبة الذین صرعوا علی أرض المقدسات. نجد الرباب نموذجاً سامیاً فی الزوجة الحانیة التی تقف إلی جوار الزوج حتی بعد استشهاده وتجتر آلام الفاجعة دون ان یکون لها شکوی فهی المؤمنة بأهداف الحسین الصابرة علی جهاده وعلی أمره بالمعروف ونهیه عن المنکر.. وقد تکون صورة الرباب الزوجة المواسیة حاضرة لدی الکثیرات من النساء اللائی یرون أزواجهن منصرفین لهموم الرسالة ولا یجدون الوقت الکافی لأن یکونوا مع أسرهم.. ولکن ان تری الزوج والولد بهذه الصورة وان تحضر مجلس الأعداء فذاک أمر آخر.

وفی نساء الطفوف نجد النماذج العلیا للشابات فی فاطمة بنت الحسین علیه السلام

ص: 216

والتی القت خطبتها فی الکوفة أمام الناس الذین تلکأوا عن نصرة الإمام وبکل قوة وثبات وهی الاسیرة المرهقة وهی الوحیدة التی تکلمت من بنات الإمام بعد استشهاده، هذه الیتیمة القت من جوفها حمماً علی المتخاذلین فتحولت تلک الحمم إلی وقود یشعل بیارق الثورة.. وتجد کلماتها لا تقل فصاحة أو قوة عن باقی الخطب فهی نموذج سامٍ فی الوعی والمعرفة وفی نصرة الرسالة والعقیدة ضمن شعار الکلمة وضمن شعار القیم التی حملتها فتراها تلجأ الی عمتها زینب علیها السلام ما ان بان لها طیف من هوی الشامی الذی ارادها جاریة. فما کانت والعیاذ بالله من أولئک الذین ارتأهم الشامی بل کانت أجل واسمی لکن کم هو مؤلم ما سمعت من کلام وهی قمة فی الطهر والعفاف وهی الحرة الأبیة، وما احوج شاباتنا اللواتی تستغرقهن غوایة الموضة والسفور والتشرنق حول دائرة المکیاج والملابس إلی ان یعشن صورة الشابة التی هی مثلهن فی العمر وربما فی الرغبات لکنها عاشت أهدافها العلیا المقدسة وصانت قیمها رغم قلة الناصر وأدت ما انیط بها من دور إعلامی جلیل بکل قوة وجدارة فی زمن نحس مکفهر.

أما الشابة الأخری وهی سکینة بنت الإمام فلم تکن أقل شجاعة عن اختها وهی أیضاً نموذج للشابة المؤمنة المحافظة علی حجابها وایمانها حتی فی مواقع الخطر.. ونموذج للشابة التی لا تعیش التذمر رغم کل المصائب التی مرت علیها، ما نسمع لها عتاباً وذماً وهروباً من واقع ثقیل المأساة أبداً بل هی البطلة الثابتة المبادئ الراسخة الإیمان.

أقول فی نفسی: ما احوج شاباتنا الیوم للتأسی بهؤلاء الشابات العظیمات اللائی - رغم صغر سنهن - عشن أدواراً صعبة وأهدافاً علیا وکن نموذجاً للمرأة التی تسمو علی الشهوات والاهواء.

وهناک نسوة لم یکن بقوة أسرة المعصوم أو کفاءتها لکنهن قدمن العظیم والکثیر

ص: 217

فهذه طوعة الشجاعة الابیة تنصر مسلماً وتؤیده فی وقت خذله صنادید الکوفة. وعجباً للتاریخ الذی سجل لحظات النصرة هذه لتکون وساماً خالداً لهذه المرأة القویة فی دینها الثابتة علی ولائها والتی لم تصبح ضحیة الأهواء کما کان ابنها وغیره من الرجال.

وکان التاریخ - ومازال - ینسب الغوایة للنساء ویصفهن بقلة الإیمان وتزحزح العقائد والذوبان فی الهوی وهی تهمة غادرة اراد الرجال من خلالها ان یبرروا فیها ضعفهم وانزلاقهم فی الشهوات. وطوعة قالت عکس ما قالوا وثبتت فی التاریخ قوة الشخصیة لدی المرأة المسلمة.

هؤلاء القدوات الصالحة یعلمننا ان نتحرک دون شکوی أو تذمر أو استیاء وان ننتهز الفرص من أجل التغییر والإصلاح فی أمة المصطفی. واذا کنا نفکر کم نتبوأ من مساحات فی الحیز الاجتماعی فهذا ما لم تفکر فیه هؤلاء النساء إذ کانت حرکتهن خالصة لله ومع الله وإلی الله ولابد ان نتعلم وان تکون لنا اذن واعیة.

الشهیدة بنت الهدی ..نموذج معاصر

لم تجرِ العادة ان یکتب الرجل فی کتبه ومؤلفاته باسم غیر اسمه أو التعویض باشارة عنه؛ لأن العرف یدعمه ویسانده فی تعریف نفسه. أما المرأة فغالباً ما یکون نجاحها محاصراً معسراً ولهذا کتبت بنت الهدی باسم مستعار یکنّی عن هویتها النسائیة لا أکثر. ورغم ذلک فقد حورب هذا الاسم النسائی ضمن اطروحات العلماء المتصلبة؛ إذ کیف یمکن لهذه الانثی ان تقتحم قلاع العلماء الکبار فتأخذ منهم سطوراًً وصفحات کانت مقصورة علیهم!. وهذا الامر عاشته المرأة الغربیة قبلها فقد کتبت جان ساند باسم الرجال رغم انها کانت إیاها لا إیاه!. فالذکوریة کانت حاکمة ومسیطرة علی العقل المجتمعی.

ولکن بنت الهدی رحمها الله کانت اقوی من التحدیات المعاصرة فکتبت ونشرت

ص: 218

کتبها النسائیة فی زمن الهجمة الشیوعیة المحاربة للإسلام وفی وقت تفرغ فیه علماؤنا الاعلام للرد علی الفکر الشیوعی وحمایة الفکر الدینی بشکل عام، تبنّت الشهیدة احیاء وتوعیة عقل المرأة المسلمة ووقایته من التلوث الزاحف وتقدیم القناعات القویة لها حول دینها وإسلامها. وکانت ضمن حرکة دؤوب بین أطیاف المجتمع العراقی فنشرت  فکرها فی الحیز الجامعی واستقطبت طالباته وقدمت لهن الرؤیة المعاصرة للإسلام والذی یرید للمرأة ان تکون واعیة متسلحة بالمعرفة والعلم (طلب العلم فریضة علی کل مسلم ومسلمة) لکن ضمن القیم الإسلامیة. اعدت الشهیدة جیلاً من النساء المؤمنات الصالحات اللائی حملن مشعل التغییر والإصلاح وانطلقن یکملن برنامجها الإسلامی الکبیر حتی ظهر الخط الإسلامی الواضح من خلال انتشار ظاهرة الحجاب فی الوسط الجامعی وفی أوساط الأثریاء والفقراء علی حد سواء. وکانت ظاهرة ممیزة وجهت رسالة واضحة للحکام والشیاطین بابطال اجندتهم الفکریة التی رصدوها لحرب الإسلام وتشویه أفکاره وقیّمه الحضاریة.

ولهذا سارع نظام صدام المقبور إلی انهاء حیاتها کی ینهی صورة معاصرة للمرأة المتسلحة بالعقیدة وهی تدافع عن العقیدة. صورة لامرأة آمرة بالمعروف ناهیة عن المنکر فی زمن الضباب والتضییق.. قتلها صدام لکی لا تسیر علی خُطی زینب فتنطلق فی دور إعلامی واسع ینشر لواء الإسلام عالیاً فی سماء أرض الطفوف بعدما ألبت الناس علی النظام من خلال انتفاضة رجب(1) فلابد ان یقطع هذا الدور.

ان الکفر الحاقد لم یبق لها جسداً ولا أثراً سوی تلک الصفحات المکتوبة فی


1- فی انتفاضة رجب عام 1979 اعتقل المرجع السید محمد باقر الصدر فما کان من السیدة آمنة الصدر اخته إلا أن تحضر الحرم الحیدری وتعلن نبأ اعتقال السید وتدعو الناس للجهاد ولنصرة المرجع الصدر، فخرجت المظاهرات فی أنحاء العراق ضاغطة علی الحکومة فی الافراج عن السید وهذا ما حصل.

ص: 219

أوراقها القدیمة.. لکن طالباتها مازلن ینشرن لواء الإسلام فی ارجاء المعمورة مستفیدات من کل الآلیات المتاحة.

ان بنت الهدی صورة معاصرة ومشرقة للمرأة المسلمة ولادوارها الزینبیة فی زمن التحدیات الصعبة. ولعل هناک صوراً أخری لا تقل عن هذه الصورة لکنها غائبة أو مغیبة (کما غاب الألوف من الرجال فی سجن الحجاج).. انها ثمرة العطاء الزینبی الخالد لعاشوراء عام 61 ه_.. إذ لم تکن ثورة الحسین وکلمات زینب لوقتها وزمانها وأرضها المحدودة إنما کانت لکل الأمة علی مر الأزمان والتواریخ.

کیف تبقی صورهم فی الذاکرة؟

نحتاج إلی ان نحافظ علی هذه النماذج السامیة فی القدوات الصالحة وان نبقی وهج أنوارهم فی نفوسنا.. ولا بد أولاً ان نفهم هؤلاء النساء ونعرفهم ونعرف أدوارهم وکیف ضحین وجاهدن فی الله حق جهاده.

ولا بد لنا - کمربین - ان نستعین بکل ما من شأنه ان یحفظ هذه الصورة النبیلة عبر استخدام التقنیات المعاصرة والاصرار علی حمایة المنبر الحسینی بتقدیم هذه النماذج بشکل دوری ودائم کی لا یضعن فی غیابت النسیان.

لابد من التعریف بشخوصهن وأدوارهن وزرع القوة فی نفوس بناتنا ونسائنا بأنهن قادرات علی إعادة الأدوار الکریمة وعلیهن التعرف علی آلیات النجاح التی اتبعنها.. لابد أولاً ان نعرفهن علی قوة المرأة المسلمة وقوة شخصیتها ولکننا - مع الأسف - ظلمناهن.

فهذه هی مشکلتنا الإساسیة، فلقد حرصنا علی الدوام علی تصویر هؤلاء النساء اللائی کن جبالاً فی الشجاعة والصمود والثبات. حرصنا علی تصویرهن علی انهن نساء عاجزات ضعیفات لم یکففن عن الشکوی والعتاب مع الاخ والزوج والابن

ص: 220

وشتان بین الصورتین.. وهذا لعمری ظلم کبیر!..ولقد حرصنا دوماً علی تقدیم صور النساء فی الفاجعة لاستثارة العواطف واشعال المشاعر وهذا ما جعلنا نقفز علی کل ما هو صحیح وواقعی من أجل دموع قلائل. کسرنا هؤلاء القدوات حینما جعلناهن نماذج سلبیة جامدة واقتربنا منهن فقط ضمن دائرة المأساة والمواساة لا أکثر.

ظلمنا هؤلاء العظیمات حینما فکرنا ان نقترب من الإمام ونسائه لا من موقع الثورة والتغییر والانتصار الحتمی الخالد بل من موقع الانکسار والبکاء والندب الجاحد الذی یمیت هؤلاء العظیمات فی دوائر الانهیار.

ظلمنا هؤلاء النساء حینما جعلنا الحواجز بیننا وبینهن واسعة وبعیدة فهن غائبات عن حیاتنا إلا فی دائرة البکاء.. لقد وسعنا قبور هؤلاء العظیمات فهن فی وعینا کائنات میتة ماتت بعد بکاء طویل وشکوی مستمرة!.

ظلمنا هؤلاء النساء اللائی عشن الحرص علی الإسلام والإمام والأمة کلها.. ظلمناهن لما عشنا همَّ أنفسنا وذواتنا بعیداً عن هموم الأمة الکبیرة وهموم الإسلام الذی یذبح من منحره کل یوم ربما مئات من الحسینیین والزینبیات... ورغم ان نساءنا الیوم یعشن الکثیر من المشکلات والتصدعات فی جدران الهویة والهدف والطموح لکنهن لم یتعلمن آلیات التعامل مع هذه التصدعات من خلال صور نساء الطفوف أنفسهن!.. أو لیس هذا ظلماً کبیراً لهؤلاء النساء الخالدات؟.. والأدهی والأمّر اننا نستجدی من الاخریات ممن هن أقل شأناً وحظاً ودیناً ما نتصوره ناصراً لنا علی مشکلاتنا. وهذا ظلم أکبر من سابقه.

ربما نبکی زینب علیها السلام ونذرف علیها دموعاً متتابعات لکننا نقتل فی کل یوم ولیلة الف زینب من خلال استهانتنا بمبادئ دیننا، بمواقیت صلاتنا، بحجابنا، بقیمنا، باهتمامنا بمعرفتنا.. نقتل زینب حینما نعیش استغراق الصورة والمظهر لا استغراق الدین والعلاقة مع الله.

ص: 221

نحن نقهر أنفسنا علی الذوبان ضمن الصورة الجسد وننسی ان زینب علیها السلام کانت عظیمة حرة أبیة طفرت علی کل ابعاد العبودیة التی تطوق نساءنا المعاصرات. لم تکن واحدة من نساء الطفوف تعیش القهر والجبر علی الحضور إلی کربلاء أو علی القیام بأدوارها الرسالیة العظیمة وعشنا نحن قهر الموضة وقهر العادات والأعراف فبقینا نرزح تحت قیود العبودیة دهراً طویلاً.

وإذ اننا نعیش کل هذا الظلم الکبیر لهؤلاء النساء، فکیف نستطیع ان نضعهن فی سلم الاقتداء الصاعد عبر الفکر والمنهج ولیس فی سلم الاقتداء الجامد عبر العواطف المیتة؟.. وإذا ما حررنا هؤلاء النساء فی وعینا وذاکرتنا وأخرجناهنّ من سجن ظُلمنا إیاهن فحینئذ نستطیع تحفیز القدوة فی سلوکنا وسلوک الآخرین.

لنتعلم أولاً ان نبکی علی الحسین وأنصاره ونسائه لا من أجل الثواب والأجر - وان کان هذا مطلوباً بحد ذاته وتشجع علیه الرسالة - لکن من باب ابراز الحاجة والعوز إلی محطات الانطلاق کی ننطلق کما انطلقوا.

ص: 222

ص: 223

الفصل الرابع: سیدة الطف الأولی

اشارة

ص: 224

ص: 225

السیدة زینب بنت علی بن أبی طالب علیهم السلام

اشارة

فی العام الخامس للهجرة، تطایرت نسائم الفرح فی أرجاء البیت الفاطمی وقد غمره السرور وفاضت به البهجة بمیلاد الحفیدة الأولی للرسول صلی الله علیه وآله وسلم وها هی الزهراء علیها السلام قد تهللت أساریرها واشرق وجهها وهی تحتضن المولودة الصغیرة متأملة البراءة العذبة المرسومة علی محیاها الصغیر.. وانتشر خبر ولادة الحفیدة الأولی فی أرجاء المدینة کما ینتشر عطر المسک الزکی وتسلق جدران مسجد النبی صلی الله علیه وآله وسلم لینتشر بین جنباته وأرکانه وها هو علی بن أبی طالب علیه السلام وصی رسول الله وأخوه وابن عمه یتلقی البشری فتهفو نفسه لرؤیة المولودة المبارکة فیترک المسجد ویحث الخطی إلی البیت یتبعه ولداه الحسنان علیهما السلام سبطا هذه الأمة وریحانتا رسول الله وسیدا شباب أهل الجنة لیریا اختهما الصغیرة وقدکان الحسین علیه السلام یکبرها بسنتین.

حمل علی علیه السلام الطفلة بین یدیه.. تأمل وجهها الباسم وطبع علی جبینها قبلة وقرأ الأذان والإقامة فی اذنیها. وتسابقت النساء تزف له التهانی بالزهرة المتفتحة فی البیت المحمدی سلیلة الزهراء وخدیجة الکبری علیهما السلام.. وتساءل الجمیع عن اسم هذه المولودة؟ فسکت علی والتفتت إلیه الزهراء علیها السلام وقالت سمّ هذه المولودة فقال: ما کنت لأسبق رسول الله وکان فی سفر له. ولما جاء النبی صلی الله علیه وآله وسلم سأل عن اسمها فقال صلی الله علیه وآله وسلم ما کنت لاسبق ربی تعالی، فهبط

ص: 226

جبرئیل یقرأ علی النبی صلی الله علیه وآله وسلم السلام من الله الجلیل وقال له سمّ هذه المولودة زینب فقد اختار الله لها هذا الاسم. وزینب تعنی زین أبیها وکانت حقاً زین ابیها وأمها وزین رسالتها ودینها.

مناقبها الفاضلة

وفی هذا البیت الذی استضاء بأنوار الرسالة المحمدیة وثبتت أرکانه علی دعائم التوحید شبّت زینب وترعرعت لتکون تربیتها علی ید سیدة نساء العالمین فاطمة بنت سیدة نساء العالمین خدیجة علیها السلام وعلی ید سید الأوصیاء وقائد الغر المحجلین والسابق إلی الإسلام علی بن أبی طالب علیه السلام، وهکذا رضعت زینب من ثدی الإیمان وتغذت من مائدة الرسالة؛ لترتقی السلم الإیمانی لتکون حقاً عقیلة بن هاشم - والعقیلة هی المرأة الکریمة فی قومها - فالاستعداد الفطری للکمال موجود عند الجمیع ویمکن الوصول إلیه عن طریق التربیة الصالحة والتوجیه والجهد والاکتساب، وإذا کان عدد قلیل من النساء قد وصلن إلی مرتبة التکامل الإنسانی علی مر التاریخ فلیس هذا بسبب القضاء أو القدر أو الضعف البدنی بل بسبب الإهمال لعناصر القوة والوعی فی تربیة الشخصیة (فالمرأة بحاجة إلی تنمیة شخصیتها وبنائها علی أساس تقویة الطاقة العقلیة لدیها بالتجربة الحیة والمعرفة الواسعة ولا بد من وجود النمو العقلی والعملی والحرکی لها).

ولقد توفرت لزینب علیها السلام کل أسباب التربیة الناجحة، ولهذا فنحن لا نجد فضیلة إلا وزینب علیها السلام فی قمتها فمن زهدها انها کانت - علی ما رواه الإمام السجاد علیه السلام - انها ما ادخرت شیئاً من یومها لغدها أبداً.

وکانت علیها السلام تقضی عامة لیالیها بالتهجد وتلاوة القرآن وما ترکت صلاة اللیل حتی فی لیلة الحادی عشر من محرم رغم شدتها.

وعن عماد المحدثین: ان زینب علیها السلام کانت تروی عن امها وأبیها

ص: 227

وأخویها وقد روی عنها ابن عباس وعلی بن الحسین وعبد الله بن جعفر.

وکانت علیها السلام من أکثر نساء أهل البیت جرأة وبلاغة وفصاحة وهذا واضح من خطبها فی الکوفة والشام.

وعن الصدوق محمد بن بابویه (طاب ثراه):

کانت زینب علیها السلام لها نیابة خاصة عن الحسین علیه السلام والناس یرجعون إلیها فی الحلال والحرام حتی برئ زین العابدین من مرضه.

وفوق کل هذا فقد کانت علی قدر کبیر من العلم والمعرفة وکانت لها مجالس لتعلیم النساء القرآن الکریم فی الکوفة ما بین عامی 35 - 40 ه_، وهذا ان دل علی شیء فانما یدل علی ان لها دوراً کبیراً فی عملیة التوعیة النسائیة، وهذه العملیة المهمة والخطیرة تحتاج إلی المرأة المثقفة الواعیة العالمة بشؤون دینها والأمة نفسها تحتاج إلی هذه العملیة لتحریک العنصر النسوی والقضاء علی الجهل بین صفوفهن.. وخلاصة ما قلناه ان زینب الحوراء علیها السلام کانت صنوان أمها فی طیب الخلق وحسن السجایا وکانت تشبه اباها فی قوة القلب فی الشدائد والثبات عند النائبات والصبر علی الخطوب القاسیات.

زواجها المبارک

ولعظم مناقبها وکرم أخلاقها العالیة فقد خطبها الکثیرون فردّهم الإمام علیه السلام بحثاً عن الکفوء الذی یلیق بهذه المرأة العظیمة، ولم یکن هناک اجدر من ابن اخیه عبد الله بن جعفر بن ابی طالب الذی کان أول مولود یولد فی الإسلام فی أرض الحبشة التی هاجر إلیها أبوه جعفر وامه اسماء بنت عمیس مع جمع من المسلمین. وکان جعفر من احب الناس إلی رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم وقد عاد من الحبشة إبان فتح خیبر فجعل النبی صلی الله علیه وآله وسلم یقبله وهو یقول ما ادری بأیهم انا اشد فرحاً بقدوم جعفر أم بفتح خیبر.

ص: 228

زینب... المرأة الصابرة

ابتداء من عصر عاشوراء تنتقل المهام الاساسیة للسیدة زینب علیها السلام .. فقد اصبحت هی مدیرة القافلة ذلک ان الرجل الوحید الذی بقی من أهل بیت الحسین علیه السلام فی کربلاء کان الإمام زین العابدین، إذ کان فی حالة صحیة متردیة.(1)

ان المقام الشامخ لزینب علیها السلام انما تبلور فی الواقع من عملها التبلیغی.

ولقد استطاعت زینب علیها السلام التغلب علی عواطفها فی اللحظات الحرجة وکان من الممکن ان تنهار لعظم الفاجعة ولکنها صمدت وسیطرت علی مشاعرها واحاسیسها لتعطی صورة المرأة الصابرة الثابتة التی تفوق صلابتها الجبال الراسیات.

زینب علیها السلام خطبت فی الناس وکانت فی منتهی الحیاء والعفة والعظمة وبذلک تکون قد عجنت فی شخصیتها حیاء المرأة وشجاعة علی.(2) یقول الراوی ولم ارَ والله خَفِرة قط أنطلق منها.(3)

أظهرت السیدة زینب علیها السلام درجة عالیة من التسامی من خلال التحول إلی الأهداف العلیا التی انطلق من أجلها الإمام علیه السلام فی نهضته ویبدو ذلک من مواقف عدة فقد مر بنا فی أدوار نساء الطفوف فی دور المتابعة والحمایة والذی یکاد یکون خاصاً بالسیدة علیها السلام نری سؤالها ومتابعتها لشؤون الإمام والاخوة ولکن لا ینقل المؤرخون أی شیء عن سؤالها عن أولادها الذین استشهدوا فی الواقعة.. لقد کان الإمام کل همها وکل حیاتها ولکن لیس بمعنی الأخ فحسب  بل کان بمعنی الولی الشرعی والإمام المعصوم والقائد الأول.


1- مطهری، الملحمة الحسینیة، ص 253.
2- مطهری، الملحمة الحسینیة، ص 256.
3- المقرم، مقتل الحسین.

ص: 229

وهذه مرتبة عالیة تشیر إلی عِظم نکران الذات وتبلور المهم نحو الاهم والذوبان فی الهم الأکبر ولعل نکرانها لذاتها واهتمامها بشؤون الرسالة والإسلام یبدو واضحاً منذ البدایة حیث اصرت علی ان تکون معه، وهی تعلم مشقة السفر وغیاب الراحة والأمان فیه. لکنها انطلقت من موقع حاجة الرسالة إلی وجودها واهمیة دورها فی کربلاء.

کما ابدت السیدة مهارة عالیة فی قیادة إدارة شؤون القافلة الحسینیة وتولّیها بعد استشهاد الإمام الحسین علیه السلام حیث کان الإمام زین العابدین علیه السلام مریضاً آنذاک فما هو معروف ان الأزمات والخطوب تُعَدَّ المرآة العاکسة لشخصیة الفرد، فالشخصیة لا تبدو ملامحها وخصوصیاتها وقدراتها إلا فی الظروف الصعبة وفی المحکات الحرجة وهذا ما یقوله الشیخ مطهری رحمه الله: لم تکن زینب علیها السلام شخصاً فی التاریخ ولکنها انطلقت لدعم الحق الذی عرفت أهله لتکون کلمة الله هی العلیا.

فالتاریخ انما یدون حرکة الذین یترکون بصماتهم علیه وواحدة من البصمات الموجودة هو دور القادة والمدراء فی الحرکة العامة. ونحن إذا تتبعنا التاریخ نفسه فماذا یحدثنا عن خلافة مروان الحمار غیر الحماقة والذل، وماذا یزید علی خلافة سلیمان بن عبد الملک غیر الشره والظلم اللا محدود. ویمکن ان نتابع الشأن الاداری والقیادی للسیدة زینب علیها السلام من خلال عدة أمور:

ففی الأوقات الحرجة واللحظات العصیبة، عادة ما یبحث الناس عمن یلتفون حوله ومن یعینهم فی ذلک الظرف العسیر، وبعد واقعة الطف لم یبق من الرجال أحد إلا الإمام السجاد علیه السلام والذی کان هو الآخر مریضاً وبحاجة إلی رعایة وعنایة.. کانت هناک مجموعة من الطیور الجریحة والمنکسرة فی الرکب الحسینی وهؤلاء کلهم التفوا حول السیدة زینب علیها السلام لأمور منها وصیة الإمام الحسین علیه السلام للسیدة وتکلیفها بهذا الأمر.

ص: 230

لقد کانت لزینب علیها السلام مسؤولیتان: الأولی ان تعطی النموذج الأعلی للمرأة المسلمة فی ان تکون اکبر من المصیبة. والأخری ان تعطی القوة والصلابة لمن حولها.

وقد کانوا کلهم قبل استشهاد الإمام وبعده متمسکین بالسیدة، فهذه رباب تسلم رضیعها الظامی إلی السیدة زینب لتوصله بدورها إلی الإمام الحسین علیه السلام، وهذه فاطمة بنت الحسین علیه السلام تلوذ بعمتها فی مجلس یزید، وتلک رقیة ترافقها السیدة حتی وفاتها ودفنها فی الشام. وقد سمعنا ولاحظنا مراراً ان کثیراً من الذین یدّعون وجود قدرات قیادیة وإداریة علیا لدیهم یتعثرون أمام المشکلات والأزمات التی تعترض طریقهم وکثیراً ما ینهارون أو یبحثون عن ملجأ یفرون الیه. وبعضهم یلجأ للانتحار لأنه غیر قادر علی التکیف مع المشکلات أو المصاعب التی تعترض سبیلهم، فی حین ان الظروف التی مرت علی آل البیت عرّفت بقدرات السیدة وابانتها إلی العالم الإنسانی کله، ففی الظروف الصعبة یلتف الأفراد حول نموذج یتعلقون به وهذا یتطلب الإیمان بقدرة هذا الشخص فلا بد وان یکونوا قد عرفوا له مواهب وملکات واخلاقیات علیا. ولابد ان یعرفوا انه یمتلک مقداراً من القوة التی یعبر فیها عن رأیه بصراحة دون خوف أو وجل. وان یتخذ مواقف حاسمة فی المنعطفات الساخنة (فاطمة بنت الحسین  مع الشامی) (وموقفها من الصدقات)،  وان لا یبدی ضعفا اوانهیاراً أمام المجموعة کی لا ینهار أعضاؤها الباقون، وهذا هو أحد الأسباب التی تحدثنا عن مواقع القوة لدی السیدة فی شخصها وشخصیتها وفی قدرتها علی اتخاذ الموقف الحازم فی الظرف الصعب. وهنا سنمر علی صفة أخری لدی السیدة ومواهبها الإداریة والقیادیة.. فالإداری الناجح والقائد الناجح هو الذی یتمتع بمعنویات عالیة ویقف علی أرضیة صلبة من القوة النفسیة الصامدة. وهو - أی القائد والإداری - لابد وان یطلع علی نفسیة موظفیه فیعرف بحساباته وأرقامه کم هی معنویات من هم تحت یدیه لیهب لهؤلاء

ص: 231

الضعاف فی المعنویات وذوی الدرجة الدنیا من القوة الذاتیة الباطنیة فیهبهم ما یشد ازرهم ویقوی شکیمتهم ویثبتهم فی موقع الانهیار، ولهذا لم نسمع عن أی موقف ضعیف أو مهزوز أو لا یناسب الساحة المقدسة لآل البیت علیهم السلام.

لقد مرت السیدة علی مصرع الحسین علیه السلام ووضعت یدها تحت منحره لتقول نحن آل البیت قدمنا قربانناً لنصرة دین الله. ولم تهن ولم تضعف أمام الجند بل اظهرت شجاعتها وصلابتها واخفت دموعها مع نفسها حتی لا یراها عدو أو شامت وبهذا عرفت نساء القافلة ما هو المطلوب منهن. فهنا فی قضیة الحسین لیس هناک وقت لاظهار العجز وافراغ الحزن الاجوف، وبهذا قادت السیدة زینب علیها السلام القضیة الحسینیة - تحت رعایة المعصوم - فی مساراتها الحادة والصعبة لکنها عبرتها بقوتها وقوة إیمانها بالله تعالی وکانت تهتم بتقویة المعنویات لدی ابناء القافلة، ولأن النساء عشن اجواءً قیمیة سابقة فی بیوتهن الأولی فقد کان للعامل النفسی والمعنوی أثرٌ فی صیاغة القیم التی حملها الحسین علیه السلام فی ثورته سواء القیم الأساسیة فی العز والکرامة والتضحیة والصبر والجهاد والأمر بالمعروف والنهی عن المنکر أو القیم الأساسیة الأخری کقیم صیانة المرأة وحفظ ماء الوجه برد الصدقات وإلی غیر ذلک.(1)

بل ان معنویاتها العالیة وروحیتها السامیة لتحکی عن عظیم صبرها.. لله درک یا سیدتی.. هی التی مرت علی أجسام الضحایا وهی التی قدمت القربان وهی التی کانت تأنس بصوت الإمام الحسین خارج الخیمة یقاتل حتی إذا انقطع الصوت وجاءته لتراه کومة من سهام!!.. هی تواسی الإمام السجاد علیه السلام لما رأی مصرع أبیه. ولا


1- زینب ادخلت السکینة فی قلوب الأطفال وهدأت روعهم خاصة بعد هجوم الخیول علی المخیم المحترق وفزع النساء وحیرتهن فی أی اتجاه یتحرکن تأتی زینب المکلوم قلبها لتهدئ هذا الجمع الغفیر ولا یمکن ان ینجح أحد فی هذا الدور ما لم یکن هو مظلّلاً بالسکینة. (مؤسسة البلاغ, نساء هن المثل الاعلی).

ص: 232

أقول ان الإمام - والعیاذ بالله - أقل صبر وکیف ذلک وهو شیخ الصابرین ولکنی أقول بقدرة هذه المرأة علی ضبط عواطفها - فدموعها داخلیة - والسماح بالقدر المناسب فی الوقت المناسب لمشاعرها ان تظهر علی السطح. فهی تواسی الإمام الجدید الذی آمنت بطاعتها له وتصّبره علی مرأی الخطب العسیر وتذکره بالعهد القدیم .. کانت السیدة تواسی الإمام وتواسی الآخرین لکن من الذی واساها وصبرّها وقدم لها العزاء؟!

وتشاطرت هی والحسین بدع_وة

حت_م القض_اء علیهما ان یندب_ا

هذا بمشتب_ک النص_ول وه_ذه

فی حیث معترک المکاره فی السّب_ا(1)

وبهذا فالمرأة القویة الشخصیة القویة الروح والمبدأ القویة فی ضبط العواطف والمشاعر لهی نعم العون للرجل فی ساعة الخطر وفی مساحات الشدة، فهذا رسول الله یجد فی خدیجة نعم المواسی ونعم العون، وإذ قدمت السیدة خدیجة للمسلمین مالها فهی قدمت للرسول صلی الله علیه وآله وسلم تصبرها وتصبیرها، قدمت المشارکة النفسیة فی مواجهة الضغوط وهو احوج ما یحتاج إلیه کل مصلح وکل نبی وکل قائد.. وهو ما یعبر عنه الرسول صلی الله علیه وآله وسلم بالقول:

آمنت بی إذ کفر الناس وصدقتنی إذ کذّبنی الناس وواستنی فی مالها إذ حرمنی الناس ورزقنی الله منها أولاداً إذ حرمنی أولاد النساء».(2)

وکذلک کانت السیدة الزهراء لأمیر المؤمنین علیهما السلام.. لقد آمن کلاهما بالقضیة الحاسمة آنذاک قضیة الولایة وقضیة الرسالة وقضیة فدک.. کانت الزهراء علیها السلام هی التی تدافع عن حق زوجها - وهو حق الرسالة نفسه - وهی التی تعلن استنکارها للظلم والحیف والجور لم یکن مع علی رجال کثیرون فی صراعه الأول لکن


1- المقرم، عبد الرزاق الموسوی، مقتل الحسین علیه السلام، ص 307.
2- الصقلانی \الاصابة فی تمییز الصحابة.

ص: 233

الزهراء کانت إلی جواره حتی إذا ما رحلت وقف عند القبر باکیاً.

وقد حاصرنا مفهوم القوة فی الکتف العریض والید الغلیظة وفی صولة السیوف. ولکن القوة الذاتیة لدی الإنسان کقوة زینب ناءت عن مضاهاتها آلاف السیوف..

ویری البعض ان هناک تخوّفاً لدی الرجال من ان تکون المرأة قویة فی شخصیتها ویتصورون القوة فی الجرأة أو الوقاحة وکلاهما مرفوض إنما القوة تبدو فی صیانة المواقف وفی التحکم بالمشاعر وفی دعم الأساسیات العامة التی تریدها الأمة.. وإذا کان الأمر کذلک فلِمَ الخوف من قوة شخصیة المرأة؟ وقد رأینا بعضهم یسعی لابقاء المرأة بین ظلام الجهل واساطیر الخرافة ویتصور انه بهذه الوسیلة سیبقی علی المرأة فی قبضة یده - یا للعجب - کأننا نعیش فی غابة لابد من قوی یأکل الضعیف ولا بد للضعیف ان یعیش أخرسَ أبلهَ أعمی کی یبقی فی الغابة!.

ان المرأة اذا تکاملت اقتربت فی سماتها من الرجل المتکامل وهذا ما بان واضحاً عند السیدة زینب علیها السلام والتی کانت شبیهة لاخیها الإمام الحسین علیه السلام فی رفضه للضیم والذل وعدم رضوخه لیزید، فزینب قالت له (مثلی لا یبایع مثلک) ولکن بلغة أخری، وهی إذ لم تعطهم اعطاء الذلیل، فهی أیضاً بقیت الحافظة للقیم التی نادی بها الإمام الحسین ونشرها.

وزینب مثلت المعارضة للحکم الأموی وهی مع نساء الطفوف کنَّ نموذجاً لنساء محجبات مؤمنات عابدات معارضات للحکم الأموی.

والسیدة زینب علیها السلام التی تصدّت لکل هذه الاحمال والأثقال فی وقت الشدة وتحملت المسؤولیات الجسام، بل تعددت مسؤولیاتها ما بین الحفاظ علی العیال والحفاظ علی القیم والحفاظ علی القضیة والحفاظ علی المواقف العامة وما بین التسامی والانعتاق من أسر الضغوطات والطیران فی أجواء السماء الإلهیة.. لم تنس ولم تترک صلاة

ص: 234

اللیل حتی لیلة الحادی عشر وهی بهذا القلب الکسیر والهم الثقیل وعیون الأعداء ترصد زینب وترصد صلاتها، فالصلاة معراج کل مؤمن لکنها صلاة الاستنکار والإدانة لما قام به الأمویون.. ومهما زاد بطشهم فعلاقة السیدة مع الله مازالت فی القمة.

وقد رأیت بعض النساء  أمام أدنی مشکلة فی البیت مع الزوج اوالأولاد تهمل صلاتها وتقلص حجم ما تستطیع تقلیصه وتقدم لنفسها عذراً فی ذلک بانها مثقلة الهم، ولیست المرأة وحدها فی هذا الجانب بل الرجل أیضاً وبخاصة الرجل المعاصر الذی تحیطه المغریات وتحاول ان تنتزعه (المعاصَرة) من دینه وقیمه..

وبسبب مجالس العزاء التی اقامتها فی المدینة والتعریف بفکر الثورة الحسینیة أمر یزید باخراجها من المدینة کی یصبح قبرها فیما بعد مزاراً وموئلاً..

لقد کانت ثورة الإمام الحسین علیه السلام برجالها ونسائها ومسیرها حرکة جلیة نحو الله لم تکن هناک دنیا أو اهواء او استرقاق دنیوی، بل کانت هناک رغبة وتسابق نحو تحصیل رضا الله وجنات الخلد، ولئن استشهد الإمام علیه السلام وصحبه بتلک الطریقة المؤلمة فان مواقفها  کانت سجل انتصارات وبطولات وملاحم تحکی عن عظمة امرأة خلقت من الماء والطین لیس اکثر لکنه الایمان الذی جعلها اقرب الی الله.. ومن مظاهر الإیمان هو الصلاة والعلاقة مع الله (ما رأیت إلا جمیلاً.. اللهم تقبل هذا القربان) وهذا لا یکون إلا من نفس راضیة بقضاء الله وقدره مطمئنة إلی وعده.

یقول الإمام زین العابدین علیه السلام:

ان عمتی زینب کانت تؤدی صلاتها من قیام الفرائض والنوافل وعند سیر القوم بنا من الکوفة إلی الشام وفی بعض المنازل کانت تصلی فی جلوس فسألتها عن سبب ذلک فقالت أصلی من جلوسی لشدة الجوع لأنها کانت تقسم ما یصیبها من الطعام علی الأطفال.(1)


1- جعفر النقدی، زینب الکبری.

ص: 235

وقالت فاطمة بنت الحسین علیه السلام:

واما عمتی زینب فانها لم تزل قائمة فی تلک اللیلة (أی العاشر من محرم) فی محرابها تستغیث إلی ربها فما سکنت لنا عین ولا هدأت لنا رنة(1).

وقالت أیضاً:

ان عمتی مع تلک المصائب والمحن النازلة بها فی طریقنا إلی الشام ما ترکت نوافلها اللیلیة.

السیدة زینب علیها السلام لم تکن امرأة قائدة ومدیرة ومواسیة وموالیة بل کانت أیضاً نموذجاً سامیاً للمرأة الربّانیة ..ولقد ضرب الله مریم علیها السلام مثلاً فی تهجدها وعبادتها لله تعالی وکانت علیها السلام تصلی فی أوقات الرخاء والیسر، فکیف بالسیدة زینب قد واظبت علی عبادتها فی أوقات الشدة والأعداء یحاصرونها ویحرمونها من الماء وهم یشتمون آل البیت ویستهینون بکل المقدسات والقیم.

وقد بانت علاقتها القویة مع الله من خلال عبادتها وخطبها وکلماتها مع الجمیع، بانت وکأنها رسالة إلهیة تتحرک بین أبناء البشر ومع کل الظروف الصعبة یأتی الإیمان والعلاقة الطیبة مع الله لیکون المعین علی الثبات علی العقیدة وعلی تحمل القول الثقیل والقدرة فی التحکم فی المشاعر والأهواء والاستمرار فی طریق ذات الشوکة دون ارتخاء أو تنازل.. ولو سألنا أنفسنا ما هی أزمة الإنسان المعاصر - الرجل والمرأة - لوجدنا ان أزماته کلها الروحیة والاجتماعیة والنفسیة تعود إلی أزمته الأصلیة فی غیاب العلاقة مع الله وعدم وجود الذخیرة الروحیة الناتجة عن ذلک والقادرة علی فتح أبواب الأزمات والشبهات أمامه والتی ترسم له هدفیته الواضحة فی الحیاة.

والسیدة زینب علیها السلام رفضت الاستغلال السیّئ للفاجعة فرفضت ان


1- الشریف الجواهری، مثیر الأحزان، ص 560.

ص: 236

تدخل علیهن  ای امرأة کانت واشترطت ان لا یسمح بالدخول علیهن الاّ لامرأة مسبیة أو أم ولد لکن هذا لم ینفِ الحضور الاجتماعی المتین الذی رسم آثاره فی کل موقع نزلت فیه.

ومما ینقله أصحاب المقاتل ان السیدة زینب لم تستقبل أیاً من أصحاب الواجهات فصاحت (زینب) بالناس: لا تدخل علینا إلا مملوکة أو أم ولد فانهن سبین کما سبینا.(1)

ومن المعروف ان الطامعین والطامحین إلی تحصیل المناصب والمقامات العلیا یحاولون تقویة وجودهم من خلال استغلالهم لهذه المواقف، ولهذا کثیراً ما نری الإعلام یعرض لنا الرؤساء (الجلادین) کیف انهم یساعدون الفقراء أو یزورون المرضی أو یزورون الشخصیة العلمائیة أو یقدمون لها دعماً أیاً کان.. السیدة زینب علیها السلام قطعت السبیل امام هذا النمط من الاستغلال فرفضت دخول أی امرأة ما لم تکن امرأة عاشت مأساتهم ومصائبهم.

ورغم کل المصائب والمصاعب کانت السیدة علیها السلام شخصیة متوازنة لم یطح بها الاضطراب النفسی الذی یئن منه الرجال والنساء؛ لأن الإنسان المؤمن یفرغ همومه من خلال إیمانه بانتصار العدالة الإلهیة، ومن خلال یقینه بعدم ضیاع جهوده أو أعماله فی الحیاة الدنیا.

کانت السیدة من أولیاء الله الذین یعیشون همّ الآخرین وکیفیة انقاذهم من الشقاء، ولأجل ذلک هاجرت مع أخیها وتحملت کل شیء.. وعاشت أهدافاً واضحة فی الثورة ولم تعش الضبابیة التی تعیشها نساؤنا ورجالنا فی معرفة ما هو المطلوب وما هو الهدف وکیف الطریق إلی الهدف.


1- المقرم، مقتل الحسین علیه السلام، ص 326.

ص: 237

لقد کانت المحن التی مرت بها من شهادة أمها وهی صغیرة واختفاء قبرها ومتابعة شؤون والدها المقصی عن الساحة کلها لا عن الخلافة وحدها ورؤیة مصائب أبیها واخیها الحسن ومن بعدُ الإمام الحسین علیه السلام. کل ذلک اکسبها القدرة علی التحمل وبهذا تحول العسر الذی عاشته إلی طریق نحو تکاملها. ورغم ان التاریخ لا یتحدث کثیراً عن السیدة وعن عموم آل البیت منذ وفاة الرسول صلی الله علیه وآله وسلم حتی تولی أمیر المؤمنین علیه السلام خلافة الدولة الإسلامیة الکبری عام 35ه_. فلقد کان للسیدة زینب علیها السلام مجالسها الثقافیة فی الکوفة إبّان خلافة أبیها علیه السلام فی المدة ما بین 35 - 40 ه_ وبذلک أسهمت کثیراً فی نشر الوعی الثقافی بین النساء خاصة إذ إنّ الکوفة کانت بعیدة عن مرکز الوحی ومنطلق الإسلام الأول، وقد کان لهذه المجالس أثر کبیر فی وعی النساء الکوفیات وفی جعل الکوفة بالذات بلداً متمیزاً بولائه لأهل البیت علیهم السلام ومتمیزاً بنسائه فی الطفوف وقبلها - راجع سیر الوافدات علی معاویة -(1).

بهذا تبدو السیدة زینب علیها السلام نموذجاً ثقافیاً عالیاً اشار إلیه الإمام زین العابدین علیه السلام بقوله: فأنت عالمة غیر معلَّمة فهمة غیر مفهَّمة.(2)

وهذا ما اثبتته هی فی مجالسها وخطبها وکلامها وسلوکها وهی أیضاً نموذج لصورة متکاملة لما تحتاج إلیه المرأة المسلمة من ثقافة.. وبخاصةٍ فی عصرنا عصر العولمة وعصر القریة الکونیة وعصر تحدی الثقافات وعصر مسخ الثقافات.

فلهذا زینب علیها السلام عالمة، عظیمة الصبر قویة فی الله قمة سامیة فی إیمانها وشجاعة نادرة أمام أعدائها أین کل هذا من الصورة السلبیة التی نحملها نحن فی وعینا


1- محمد الصدر، أخلاق أهل البیت.
2- المقرم، مقتل الحسین علیه السلام، ص313.

ص: 238

عن السیدة زینب بانها - والعیاذ بالله - المنهارة، الشاکیة، القلیلة الصبر.

تقول عنها بنت الشاطیء: وکانت «زینب» هی التی جعلت من مصرع «الحسین» مأساة خالدة، لا نعرف ما هو أبعد منها أثراً فی تطور العقیدة عن الشیعة.

وکانت هی التی صیرت من لیلة العاشر من المحرم، مأتماً سنویاً للأحزان والآلام، یحج فیه أحفاد «التوابین» إلی المشهد المقدس فی «کربلاء»، حیث یعیدون تمثیل المأساة، وکانت هی التی سلطت علیها - من أنفسهم - نکالاً ألیماً لا ینتهی بالموت، وإنما هی نار «الندم» الجامحة، یصلاها منهم الجیل بعد الجیل.(1)

بهذا یمکن القول: ان لنساء الطفوف أنواعاً متنوعة من الذکاءات وقد نحصر جلها فی السیدة زینب علیها السلام بوصفها سیدة الطف الأولی، فقد کان لها ذکاء لغوی ولفظی من خلال الإفادة من أکثر الکلمات تأثیراً وآثاراً علی المستمع کما هو ملاحظ فی خطبتها. کما ان هذا النوع من الذکاء قد اشار إلی موقعیة الکلمات فی التأثیر المختلف بین الموالین المتخاذلین وبین الأعداء الحاقدین فلکلّ کلماته التی تؤثر علیه.

کما کشفت السیدة عن نمط عالٍ من الذکاء العاطفی والذی یمثل 85% من الاداء المرتفع للأفراد القیادیی، والذی یتمثل فی قدرتها علی التحکم فی عواطفها وفی توجیه عواطف الاخریات والآخرین (کما فی کلامها مع الإمام زین العابدین علیه السلام). وفی توجیه العواطف لتکون سلاحاً قویاً بارزاً وخالداً أمام الأعداء. وهذا الذکاء هو الذی صان هؤلاء من الوقوع اسری العواطف السلبیة کالیأس والغضب والخوف وتحرک المنظومة کلها باتجاه التفاؤل (کد کیدک...) وباتجاه تحقیق الأهداف العلیا للثورة الحسینیة (انما خرجت لطلب الإصلاح فی أمة جدی أرید ان آمر بالمعروف وأنهی عن المنکر). وأیضاً کشفت عن درجة علیا فی مقاییس الذکاء الاجتماعی والذی


1- بنت الشاطی، دکتورة عائشة عبد الرحمن، السیدة زینب، ص 167.

ص: 239

عرفه (ثوراندیک) بانه القدرة علی فهم الرجال والنساء والبنین والبنات وقیادتهم لیعملوا بحکمة فی العلاقات الإنسانیة. وعرفه آخرون بانه القدرة علی التعامل مع الناس، والقدرة علی اصدار الأحکام فی المواقف الاجتماعیة والقدرة علی التعرف علی حالة المتکلم النفسیة إلی غیر ذلک.. ولم نشاهد فی سلوکیات نساء الطفوف أی خلل فی سیاق التعامل الاجتماعی سواء معهم فیما بینهم کمنظومة آل البیت علیهم السلام أو مع الآخرین من المناصرین والموازرین الذین نصروا الإمام الحسین علیه السلام بأصنافهم، لا نجد هناک سلوکاً خاطئاً وموقفاً یتم الاعتذار منه هیهات لقد کانت السلوکیات کلها فی المضامن العلیا.

لقد کان حسن التصرف - بالتعبیر الحدیث - أحد أهم مظاهر السلوک لدی هؤلاء النساء الخالدات.

مضافاً إلی الذکاء الذاتی الفردی والذی یمیز صاحبه بقوة ارادة وبقدرته علی تحفیز ذاته بذاته دون وجود أشخاص آخرین (فهو سند لغیره) ویعیش أهدافه العلیا ویسعی من أجلها کما انه یمتلک حلوله لمشکلاته - ومشکلات الآخرین - بعیداً عن الحیل النفسیة وحالات الانکفاء علی الذات والطفولة.

وهناک الذکاء الحرکی الذی یهتم باختیار المکان ونمط الحرکة فالسیدة زینب علیها السلام تقف علی التل الزینبی وقفة شموخ سائلة عن مصیر الإمام، والتاریخ یسجل هذه اللحظات الصعبة بل ویبقی صورة التل الزینبی انموذجاً للتواصل بین السیدة وأخیها، وأیضاَ نتقصی حرکتها فی الشام فی تتبع الإمام زین العابدین علیه السلام لما خرج من الخربة.

وقد بقی لزینب علیها السلام رمزها فی ارض الطفوف فالتل الزینبی کان یشرف علی مصارع القتلی فی حادثة الطف. إذ کانت السیدة زینب الکبری (سلام الله علیها)

ص: 240

تتفقد حال اخیها الحسین (علیه السلام). هذا التل یشیر إلی رحلتها المقدسة إلی کربلاء ویعرّف بدورها وبطولاتها ویجعلنا بحاجة إلی اعادة النظر فی أنفسنا لنری ما هی المسافة بیننا وبینهن واین هو موقفنا أمام المشکلات والخطوب العاصفة بالاسلام.

ولقد صدق مطهری حینما قال: من بدایة الخلیقة الی الآن لم تأت ِامرأة من نساء الاولیاء والانبیاء بصبر وحلم زینب.

تأملات فی خطاب السیدة زینب (علیها السلام) فی مجلس ابن زیاد

اشارة

تأملات فی خطاب السیدة زینب (علیها السلام) فی مجلس ابن زیاد (1)

إنّ خطاب السیدة زینب علیها السلام کان یومئذٍ یتدفق کالشلال الهادر الذی ینحدر من قمة الجبل، یجرف معه ما یواجهه من الصخور، والأحجار، التی یقتلعها عن مستقرّها لا یصدّه شیء، ویرغمک أن تفتح له سمعک وقلبک.. کذلک کان تأثیر هذا الکلام یومئذٍ علی ذلک الجمهور الغفیر الذی جاء متفرجاً علی مأساة أهل البیت علیهم السلام، ولیس متعاطفاً، کما یتفرج الناس علی أی مشهد یثیر فضولهم... فأرغمهم الخطاب علی ان یعدلوا عن هذا الموقف إلی التعاطف والتفاعل، وأبکاهم فاجهشوا بالبکاء، وارتفع نحیبهم وصراخهم، وهزّهم من الأعماق. لقد أحبطت السیدة زینب علیها السلام بکلماتها کل الجهد الذی بذله الطاغیة فی إدارة هذا المشهد الإعلامی وإعداده. إنّها کانت حمماً، ولیست کلمات، قذفتها ابنة علی والزهراء علی کل ما شیّده طاغیة بنی أمیة فی الشام وعاملهم فی الکوفة فهدمت کلما صنعوا من مجد کاذب وغرور وکبریاء وسلطان.

ولست أدری ماذا أودع الله تعالی فی خطابها واشاراتها، من التأثیر والنفوذ والقوة یومئذٍ، عندما أشارت إلی ذلک الجمهور المتفرّج اللاغط: أن اسکتوا، فسکنت الأنفاس والأجراس، کما تقول الروایة.


1- نص منقول بتصرف من کتاب الخطاب الحسینی للشیخ الآصفی.

ص: 241

ولیس لنا أن نتوقف بالتأمّل فی کلمات ابنة الزهراء ووارثة علم علی وشجاعته وبلاغته، ومن الخیر أن نمضی مع هذا السیل الجارف المتدفق من الخطاب الزینبی الهادر، ولا نشوّش علی القارئ هذه الفرصة، حتی یرتوی من الخطاب کما یحب ویشتهی.

ولکن أجد من النافع أن أِشرح بعض مقاطع هذا الخطاب لیعرف القارئ خلفیاته فی القرآن والحدیث والتاریخ. وإلیک طائفة من هذه النقاط، معتذراً إلی سیدة نساء کربلاء وابنة سیدة نساء العالمین.

1 - الشجب والتأنیب والتقریع

کان أهل البیت علیهم السلام عند دخولهم إلی الکوفة بعد مأساة کربلاء بتلک الحالة المزریة، یتحدثون مع أهل الکوفة بمرارة وألم، لا نعرف فی تاریخ أهل البیت علیهم السلام مثله قط بل إنهم اتبعوا فی ذلک المنهج ما أسست له بضعة النبی صلی الله علیه وآله وسلم فاطمة علیها السلام فهی أول من شجب وأنب وقرع المتخاذلین فضلاً عن التخصیص فی الخطاب لذوی النخب ومن علیهم المتّکأ: یکشفها ابتداءً قولها علیها السلام: إیه بنی قبلة. وکانوا یؤنّبون أهل الکوفة، ویشجبون تخاذلهم عن نصرة الحسین علیه السلام وغدرهم، وقعودهم عنه، بل خروجهم لقتال الحسین ومشارکتهم فی محاربته.. أشدّ ما یکون الشجب والتقریع بعدما دعوه وکاتبوه، ووعدوه أن ینصروه ویقفوا معه، وتواترت إلیه علیه السلام کتبهم، فتقول بحرقة وبألم ما بعده ألم:

«یا أهل الکوفة یا أهل الختل والخذل (الغدر)».

وعندما رأتهم یتصارخون بالبکاء قالت لهم:

«أتبکون فلا رقأت الدمعة».

وتقرّعهم بما جنت أیدیهم من الجریمة التی تخر الجبال لها هداً، فتقول: «أتدرون، ویلکم أی کبد لرسول الله صلی الله علیه وآله وسلم فریتم، وأی دم له سفکتم، وأی

ص: 242

حرمة له انتهکتم، لقد جئتم شیئاً إدّاً تکاد السموات یتفطرن منه، وتنشق الأرض وتخرّ الجبال هدّاً».

ویتکرر هذا التأنیب والتقریع والشجب بکل ما تحمل الکلمة من حرقة وألم وأذی فی کلمات الإمام علی بن الحسین علیهما السلام وفاطمة الصغری والسیدة أم کلثوم فی أوّل لقاء التقوا فیه أهل الکوفة وجهاً لوجه.

وعندما ارتفع نحیبهم وأجهشوا بالبکاء ندماً وحسرة قالت لهم:

«أتبکون وتنتحبون، أی والله، فأبکوا کثیراً واضحکوا قلیلاً، فلقد ذهبتم بعارها وشنارها، ولن ترحضوها بغسل أبداً».

ولسوف یطول بکاؤکم ویقل فرحکم وسرورکم ولن تغسلوا عار تلک الجریمة، وأنی تغسل الدموع عار تلک الجریمة التی شارکوا ودخلوا فیها وتخاذلوا فیها عن الحسین علیه السلام ونصرته، واصطفّوا مع أعدائه، رَهَباً أو رَغباً.

سبحان الله! ما هذه بکلمات، ولکنها أفلاذ من کبد الحوراء، بنت فاطمة، تتقطّع حسرة وألماً فی هذه المأساة التی سجلها الله تعالی فی ذاکرة التاریخ لیعرف الأجیال التی تأتی فیما بعد، بأیّ ثمن حفظت هذه الثلة من أهل البیت علیهم السلام الإسلام فی تلک الحقبة الصعبة من التاریخ.

2 - عاقبة الخذلان

ولن یطول الأمر بالذین ترکوا ابن بنت رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم وحده، فی مقابلة عدوان بنی أمیة وبطشهم، وانتهاکهم لحرمات الله، فلم یغضبوا لله، ولم یضربوا معه بسیف، وخذلوه وخانوه، وصفوا مع الطاغیة، وتعاونوا معه علی قتله، وهو یدعوهم إلی الله، والطاغیة یدعوهم إلی النار...

فلن یطول بهم الامر حتی یذلهم الله علی ید طغاة بنی أمیة الذین آثروا نصرهم

ص: 243

والوقوف معهم علی الانتصار للحسین علیه السلام، وهذه سنن الله عزّ وجل تلقیها الحوراء زینب علیها السلام فی ذلک المشهد العجیب، بعد عودتها من مأساة کربلاء... فلن یطول بهم الزمان حتی یحکمهم الحجّاج بالسیف والقهر والذل والبطش، ویذلهم ببطشه، ویسفک دماءهم.

وکأنما تری الحوراء فی ذلک الیوم بطش الحجّاج بهم وإذلاله لهم، بعد أن تخاذلوا عن نصرة أخیها بکربلاء وهو یدعوهم إلی الله ورسوله:

«فتعساً ونکساً، وبعداً لکم، وسحقاً، وبؤتم بغضب من الله ورسوله، وضربت علیهم الذلة والمسکنة».

إنّ السیوف التی غُمدت عن نصرة الحسین علیه السلام سُلّت بعد ذلک لقتال الحسین جنباً إلی جنب مع الطاغیة یوم عاشوراء، ثم لم تطل بهم العافیة التی طلبوها فی الدنیا بجانب بنی أمیة، حتی استبدّ بهم طغاة بنی أمیة وحکمهم الحجّاج فأکثر فیهم القتل وانتهک حرماتهم، وأراهم الرعب والخوف والذل والبطش.

وتتنبأ الحوراء زینب علیها السلام بهذه العاقبة لأولئک الناس یومئذٍ، حینما تقول: «وبؤتم بغضب من الله ورسوله، وضربت علیکم الذلة والمسکنة».

3 - التعمیم فی الخطاب

یلفت النظر فی هذا الخطاب التقریعی ان السیّدة زینب علیها السلام تعمّم التقریع والتأنیب بقتلهم للحسین علیه السلام علی الحاضرین الذی استقبلوهم بظهر الکوفة، وعلی المشارکین فی قتال أخیها علی نحو سواء فتقول:

«أتدرون أی کبد لرسول الله فریتم، وأی کریمة له أبرزتم، وأی دم له سفکتم، وأی حرمة له انتهکتم. فلقد ذهبتم بعارها وشنارها، ولن ترحضوها بغسل أبداً».

ص: 244

ولم یکن فی ذلک الجمهور نفر کثیر ممن شارک فی قتل الحسین علیه السلام، فإن الجلاوزة جاءوا بأهل البیت علیهم السلام والرؤوس الشریفة قبل عودة الجیش إلی الکوفة، علی أننا نستبعد أن یکون هؤلاء الذین استقبلوا أهل البیت علیهم السلام بالبکاء والنحیب ممن تلطّخت أیدیهم بدماء شهداء الطف.

فمن هذا الخطاب، کما هو ظاهر لا یخص الذین تولّوا قتل الحسین وأصحابه علیهم السلام، وإنّما یشمل جمهوراً کبیراً من أهل الکوفة، الذین تخاذلوا عن نصرة الحسین علیه السلام، ورضوا بمقتله ولم یغضبوا لقتل الحسین علیه السلام، هؤلاء یشملهم هذا الخطاب، وملاک التعمیم هو الرضا والسخط.

فإنّ الرضا والسخط یجمعان الناس الذین یجمعهم الرضا والسخط، وان تباعدت أزمانهم وبلادهم ویقرّبان الناس الذین یفرّقهم الرضا والسخط، وإن تقارب مکانهم وزمانهم.

یقول أمیر المؤمنین علیه السلام:

«أیّها الناس إنّما یجمع الناس الرضا والسخط، وإنّما عقر ناقة ثمود رجل واحد، فعمّهم الله بالعذاب لما عمّوه بالرضا، قال سبحانه:

(( فَعَقَرُوهَا فَأَصْبَحُوا نَادِمِینَ))(1).

فما کان إلا أن خارت أرضهم بالخسفة خوار السکة المحماة من الأرض الخوارة».(2)

وهؤلاء الناس رضوا بقتل الحسین علیه السلام، حتی الذین لم یشارکوا منهم فی قتال الحسین علیه السلام، وأصحابه یوم عاشوراء، وآیة هذا الرضا انّهم لم یسخطوا ولم


1- سورة الشعراء، الآیة 157.
2- نهج البلاغة، 2/207.

ص: 245

یغضبوا، ولم یثوروا بوجه الطاغیة، ولم یتلاوموا فیما بینهم علی تخاذلهم عن دعوة ابن بنت رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم، ولا نستثنی منهم إلا (التوّابین) الذین عادوا إلی رشدهم فیما بعد، وتلاوموا وتعاهدوا علی الثأر لدم الحسین علیه السلام، إذ فاتهم الانتصار للحسین علیه السلام.

روی محمد بن الأرقط عن أبی عبد الله الصادق علیه السلام، قال:

«تن_زل الکوفة؟

قلت: نعم. قال:

فترون قتلة الحسین بین أظهرکم،

قلت: جعلت فداک ما رأیت أحداً منهم. قال:

فإذن أنت لا تری القاتل إلا من قتل أو وُلی القتل، ألم تسمع إلی قول الله عزّ وجل:

(( قَدْ جَاءکُمْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِی بِالْبَیِّنَاتِ وَبِالَّذِی قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِن کُنتُمْ صَادِقِینَ))(1).

فأی رسول قتل الذی کان محمد صلی الله علیه وآله وسلم بین أظهرهم ولم یکن بینه وبین عیسی علیه السلام رسول، وإنّما رضوا قتل أولئک فسمّوا قاتلین».(2)

ویشیر الإمام علیه السلام فی هذه الروایة إلی الآیات (181 - 183) من سورة آل عمران:

(( لَّقَدْ سَمِعَ اللّهُ قَوْلَ الَّذِینَ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ فَقِیرٌ وَنَحْنُ أَغْنِیَاء سَنَکْتُبُ مَا قَالُواْ


1- سورة آل عمران، الآیة 183.
2- تفسیر البرهان: 1/328 .

ص: 246

وَقَتْلَهُمُ الأَنبِیَاء بِغَیْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُواْ عَذَابَ الْحَرِیقِ (181) ذَلِکَ بِمَا قَدَّمَتْ أَیْدِیکُمْ وَأَنَّ اللّهَ لَیْسَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِیدِ (182) الَّذِینَ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ عَهِدَ إِلَیْنَا أَلاَّ نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّیَ یَأْتِیَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْکُلُهُ النَّارُ قُلْ قَدْ جَاءکُمْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِی بِالْبَیِّنَاتِ وَبِالَّذِی قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِن کُنتُمْ صَادِقِینَ )).

فإنّ هؤلاء الذین ینسب الله تعالی إلیهم القول بأن الله فقیر ونحن أغنیاء وقتلوا الأنبیاء بغیر حق... قد قالوا هذه الکلمة، کما یثبتها المفسرون فی شأن نزول هذه الآیة، ولکن لم یقتلوا نبیّاً قط... وقد جاءت هذه النسبة إلیهم بوضوح فی موضعین من هذه الآیات، فأی نبی قتل هؤلاء، وبینهم وبین أنبیاء بنی إسرائیل عدّة قرون من الزمان... وإنّما الذی قتل الأنبیاء من بین إسرائیل وأنکر نبوتهم وجحدهم سلفهم من الیهود.

والجواب: إنّ الیهود فی عصر الرسول صلی الله علیه وآله وسلم کانوا راضین بجرائم آبائهم، ولم یتبرّأوا منهم، ولم ینکروا علیهم، ولم یعلنوا رفضهم وبراءتهم عنهم، فنسب الله تعالی إلیهم جرائم آبائهم فی قتل الأنبیاء.

وتشیر السیدة زینب بطلة مأساة کربلاء إلی هذه الحقیقة.

فإنّ هؤلاء شاهدوا أبشع جریمة فی عمل بنی أمیة، وأنصع دعوة فی تاریخ الإسلام فی دعوة الحسین علیه السلام، فلم یقفوا مع الحسین علیه السلام وینکروا علی طغاة بنی أمیة جریمتهم بحق الحسین علیه السلام وأصحابه.

ولم یتبرأوا من فعلتهم، ولم یعلنوا سخطهم وانکارهم وبراءتهم منهم، وآثروا العافیة فی کل ذلک علی مرضاة الله، فسکتوا ورضخوا وخذلوا إمام المسلمین علیه

ص: 247

السلام... ولا نستثنی منهم إلا الذین عادوا إلی رشدهم وتابوا وأعلنوا غضبهم وخروجهم علی بنی أمیة بعد ذلک.

فتخاطبهم الحوراء بهذا الخطاب المؤلم الشامل، وبهذا التقریع الشدید العام:

«فلقد ذهبتم بعارها وشنارها، ولن ترحضوها بغسل بعدها أبداً، وأنّی ترحضون قتل سلیل خاتم النبوة، ومعدن الرسالة. . وسید شباب أهل الجنة ألا ساء ما تزرون».

«ویلکم یا أهل الکوفة، أتدرون أی کبد لرسول الله فریتم؟ وأی کریمة له أبرزتم؟ وأی دم له سفکتم؟ وای حرمة له انتهکتم؟».

ثم تعمّهم بالدعاء بعد أن عمّتهم الجریمة:

«فتعساً ونکساً وبعداً لکم وسحقاً، فلقد خاب السعی، وتبت الأیدی، وخسرت الصفقة، وبؤتم بغضب من الله ورسوله، وضربت علیکم الذلة والمسکنة».

4 - الإمهال فی العذاب

وتنذرهم ابنة علی علیه السلام فی هذا الخطاب بعذاب الدنیا وألیم عذاب الآخرة:

أفعجبتم إن مطرت السماء دماً.

(( وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَخْزَی وَهُمْ لَا یُنصَرُونَ )).

وأی عذاب هذا العذاب؟ أن تمطر السماء دماً، ثم تنذرهم بأنّ عذاب الآخرة أشد وآلم.

ثم تنذرهم مرة أخری أن لا یغرّنهم، ولا یستخفّنهم تأجیل العذاب عنهم إلی حین، فإنّ الله تعالی یمهل ولا یهمل، تقول علیها السلام:

ص: 248

«فلا یستخفنکم المهل، فإنّه لا یحفزه البدار، ولا یخاف فوت الثار، وان ربّکم لبالمرصاد».

ومن أشد ما یعاقب الله تعالی عباده أن یمهلهم ویستدرجهم إلی العصیان والإثم، ویملی لهم، ثم ینقضّ علیهم العذاب، فیأخذهم فجأة، ضحیً وهم یلعبون.

یقول تعالی:

(( وَلاَ یَحْسَبَنَّ الَّذِینَ کَفَرُواْ أَنَّمَا نُمْلِی لَهُمْ خَیْرٌ لِّأَنفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِی لَهُمْ لِیَزْدَادُواْ إِثْمًا وَلَهْمُ عَذَابٌ مُّهِینٌ))(1). (( فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُکِّرُواْ بِهِ فَتَحْنَا عَلَیْهِمْ أَبْوَابَ کُلِّ شَیْءٍ حَتَّی إِذَا فَرِحُواْ بِمَا أُوتُواْ أَخَذْنَاهُم بَغْتَةً فَإِذَا هُم مُّبْلِسُونَ))(2).

فتنذرهم السیدة أن لا یستخفنهم الإمهال فی العذاب، فإنّ الله تعالی لا یحفزه البدار، ولا یستعجل بعذاب عباده، وفی ذلک نقمة وعقاب لمن یستحق النقمة والعقاب فلا یتوب ولا یؤوب إلی رشده فیزداد إثماً، ویستدرجه الإمهال إلی الامعان فی العصیان والإثم.

عن أبی عبد الله الصادق علیه السلام:

«إذا أراد الله عزّ وجلّ بعبد خیراً، فأذنب ذنباً تبعه بنقمة یُذکِّره الاستغفار، وإذا أراد الله بعبد شرّاً فأذنب تبعه بنعمة لینسیه الاستغفار ویتمادی به، وهو قول الله عزّ وجل:

((سَنَسْتَدْرِجُهُم مِّنْ حَیْثُ لاَ یَعْلَمُونَ))(3)(4)


1- سورة آل عمران، الآیة 178.
2- سورة الأنعام، الآیة 44.
3- سورة الاعراف، الآیة 182.
4- بحار الأنوار: 73/ 387.

ص: 249

وما من عقوبة للأمم التی استحقت العقوبة بالعصیان والإثم أشد من الاملاء والإمهال.

یقول أمیر المؤمنین علیه السلام، والکلام فی نهج البلاغة:

«أیها الناس لیراکم الله من النعمة وجلین، کما یراکم من النقمة فرقین، إنّه مَن وسّع علیه فی ذات یده، فلم یر ذلک استدراجاً فقد أمن مخوفاً، ومن ضیّق علیه فی ذات یده فلم یر ذلک اختباراً فقد ضیّع مأمولاً».(1)

ویقول علیه السلام:

«کم من مستدرج بالاحسان إلیه، ومغرور بالستر علیه، ومفتون بحسن القول فیه، وما ابتلی الله أحداً بمثل الإملاء له».(2)

ولم یطل الإملاء والإمهال الإلهی بهؤلاء القوم الذین أنذرتهم ابنة الزهراء علیها السلام بعذاب الله فی ذلک الیوم الرهیب، طویلاً فما مرَ علیهم سنوات خمس حتی سلّط الله تعالی علیهم المختار رحمه الله فاستتبعهم ولاحقهم والتقطهم وعاقبهم تحت شعار: «الثأر من قتلة الحسین»، ولم یسلم منهم إلا القلیل وأذاقهم الذل والخوف والرعب وحر الحدید، ولعذاب الآخرة آلم وأشد وأقسی.

ثم لم یمضِ بعد ذلک سنوات حتی سلط الله علیهم الحجاج بن یوسف لعنه الله، فأذاقهم الذل والهوان والقتل وسلب منهم الأمان والعافیة التی کانوا یطلبونها لدنیاهم فخذلوا الحسین علیه السلام، فعاقبهم الله بالحجّاج.

ثم توالت علیهم المحن والنکبات محنة بعد محنة ونکبة بعد نکبة، وتتابع علیهم طغاة بنی أمیة طاغیة بعد طاغیة.


1- نهج البلاغة، حکمة رقم 358.
2- نهج البلاغة، حکمة رقم 116.

ص: 250

5 – الإحباط

وتذکّرهم زینب علیها السلام بقوله تعالی:

(( وَلاَ تَکُونُواْ کَالَّتِی نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِن بَعْدِ قُوَّةٍ أَنکَاثًا تَتَّخِذُونَ أَیْمَانَکُمْ دَخَلاً بَیْنَکُمْ ...)).(1)و(2)

فقد نقض القوم کل ما شیّدوه وعملوه من قبل، وقد کان فیهم من وقف مع علی علیه السلام فی الجمل وصفین والنهروان، ولکنهم نقضوا کل ذلک فی عاشوراء عام (61ه_) بخذلانهم للحسین علیه السلام ووقوفهم إلی جنب الطاغیة وقتالهم الحسین، ورضاهم بقتالهم. إن المحافظة علی الأعمال الصالحة قد تکون أشق من أصل العمل، ولیس بقلیل الذین أحسنوا، وعملوا الأعمال الصالحة، ثمّ أفسدوا أعمالهم وأبطلوها.

یقول تعالی:

(( إِنَّ الَّذِینَ کَفَرُوا وَصَدُّوا عَن سَبِیلِ اللَّهِ وَشَاقُّوا الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَیَّنَ لَهُمُ الهُدَی لَن یَضُرُّوا اللَّهَ شَیْئًا وَسَیُحْبِطُ أَعْمَالَهُمْ (32) یَا أَیُّهَا الَّذِینَ آمَنُوا أَطِیعُوا اللَّهَ وَأَطِیعُوا الرَّسُولَ وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَکُمْ)).(3)

ویقول تعالی:

(( وَقَدِمْنَا إِلَی مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاء مَّنثُورًا)).(4)


1- سورة النحل، الآیة 92.
2- النقض یقابل الإبرام، وهو بمعنی افساد ما أحکم من حبل أو غزل. والنکث بمعنی النقض، وکل شیء نقض بعد الفتل فهو أنکاث حبلاً کان أو غزلاً، والآیة الکریمة تنهاهم عن أن یکونوا کالمرأة التی تغزل ثم تعود فتنقض ما غزلت وتهدم ما بنت.
3- سورة محمد، الآیة 32 - 33.
4- سورة الفرقان، الآیة 23.

ص: 251

وکما أن السیئات تحبط الحسنات، کذلک الحسنات تکفّر السیئات وتغطیها.

والقرآن یشیر إلی کل من هذین: الاحباط والتکفیر، یقول تعالی:

((یِا أَیُّهَا الَّذِینَ آمَنُواْ إَن تَتَّقُواْ اللّهَ یَجْعَل لَّکُمْ فُرْقَاناً وَیُکَفِّرْ عَنکُمْ سَیِّئَاتِکُمْ وَیَغْفِرْ لَکُمْ وَاللّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِیمِ)).(1)

ویقول تعالی:

((وَأَقِمِ الصَّلاَةَ طَرَفَیِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِّنَ اللَّیْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ یُذْهِبْنَ السَّ_یِّئَاتِ...)).(2)

فالأعمال، کالأشیاء المادیة، فیها بناء وهدم، وفیها إعادة بناء ما هدمه الإنسان، وهدم ما بناه.

إنّ السلوک الاجتماعی والسیاسی والمالی فی وسط المجتمع من أشق الأمور، فقد یهدم الإنسان فی موقف سیاسی أو اجتماعی ما بناه وعمله فی حیاته.

وتنصحهم السیدة زینب ألا یکونوا ممّن أحبطوا أعمالهم.

((وَلاَ تَکُونُواْ کَالَّتِی نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِن بَعْدِ قُوَّةٍ أَنکَاثًا)).

وألا یتخذوا أیمانهم ومواثیقهم التی أعطوها للحسین علیه السلام من قبل حین سألوه القدوم إلیهم، دخلاً وأداة للغدر والخیانة.

وطالما یجدون فرصة للعودة والتوبة إلی الله فعلیهم أن یعودوا ویتوبوا إلی الله عن الخذلان والتقصیر، الذی حصل منهم تجاه دعوة سید شباب أهل الجنة.


1- سورة الأنفال، الآیة 29.
2- سورة هود، الآیة 114.

ص: 252

ولئن کان فی کلمات السیدة زینب علیها السلام تقریع موجع یعبّر عن آلام بطلة مأساة کربلاء... فإنّها (علیها السلام) تفتح لهم طریق العودة إلی الله مرة أخری، وان یؤوبوا إلی أنفسهم، ویستغفروا الله، ولئن فاتهم أن ینصروا الحسین علیه السلام فلا یفوتهم أن یثأروا له وللکوکبة الصالحة التی خرجت معه، وأن ینتقموا من الظالمین الذین أکثروا الفساد فی الأرض.

6 - علاقة الکوارث الکونیة بسیّئات الناس
اشارة

نجد فی کلام السیدة زینب علیها السلام إشارتین جدیرتین بالتوقف والتأمّل فی علاقة الکوارث الکونیة والعذاب الإلهی النازل علی الأرض بسیّئات الناس وذنوبهم.

فهی تخاطبهم منذرة إیّاهم من عذاب الله: أتدرون أی کبد لرسول الله فریتم؟ وأی کریمة له ابرزتم؟ وأی دم له سفکتم؟ وای حرمة له انتهکتم؟

(( لَقَدْ جِئْتُمْ شَیْئًا إِدًّا (89) تَکَادُ السَّمَاوَاتُ یَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا)).(1)

ثم تقول بعد ذلک، وفی نفس السیاق: «ولقد أتیتم بها خرقاء شوهاء کطلاع الأرض، وملء السماء، أفعجبتم ان مطرت السماء دماً، ولعذاب الآخرة أخزی».


1- سورة مریم، الآیة 89. الآیة الکریمة من سورة مریم: 89، وهی بصدد تهویل الشرک بالله، وأن بالشرک بالله تکاد السماوات أن تتفطر وتکاد الأرض أن تنشق وتکاد الجبال أن تسقط (تخر) هدّاً (أی هدماً) یعنی تکاد أن تنهدم الجبال وتتساقط. و(الإد) الذنب الفظیع، وواضح أن الآیة الکریمة بصدد التهویل، وتحسیس المشرکین بهذه المظاهر الکونیة المحسوسة علی عظم الجریمة، ولکنها واضحة فی علاقة العذابات الکونیة کالزلازل والکوارث الکونیة بسیّئات أعمال الناس وجرائمهم.

ص: 253

الکوارث الکونیة عند مصرع الحسین علیه السلام

وقد استفاضت الروایات أنّ رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم کان قد أخبر أم المؤمنین أم سلمة رحمها الله بمصرع الحسین علیه السلام وأودع عندها قارورة، وعرّفها أنها إذا فاضت دماً فهو علامة مصرع ولده الحسین علیه السلام... فلمّا خرج الحسین علیه السلام من المدینة إلی مکة ومنها إلی العراق کانت أم سلمة تنظر إلی القارورة کل یوم، وتقول: إنّ یوماً تتحولین إلی دم لیوم عظیم.

فرأت رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم فی الیوم العاشر من المحرم فی المنام أشعث، مغبرّاً، وعلی رأسه التراب، فقالت له: مالی أراک یا رسول الله مغبراً؟!

فقال لها: قتل ولدی الحسین علیه السلام، ومازلت أحفر القبور له ولأصحابه، فانتبهت من منامها مذعورة، فبادرت إلی القارورة التی جعلها رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم علامة لها فإذا بها تفور دماً.

فنادت أم سلمة: قتل الحسین، ملأ الله بیوتهم وقبورهم ناراً، فأقبلوا النساء علیها، وقلنَ لها: (من أین علمت ذلک فأخبرتهنّ برؤیاها، وتصارخت النسوة، حتی ضجت المدینة، وهذه الروایة معروفة وقد ذکرها جملة من المؤرخین».(1)

وقال ابن حجر الهیتمی فی الصواعق المحرقة: (ومما ظهر یوم قتله علیه السلام من الآیات أیضاً أن السماء اسودّت اسوداداً عظیماً، حتی رؤیت النجوم نهاراً، ولم یرفع حجر إلا وجد تحته دم عبیط).(2)


1- منهم ابن عساکر فی تاریخ دمشق: 13/85 و4/340، والیافعی فی مرآة الجنان: 1/134، وأحمد فی (المسند): 1/242، وابن الأثیر فی الکامل: 4/38، والخوارزمی فی المقتل: 2/95، والمحب الطبری فی ذخائر العقبی: 148، والسیوطی فی تاریخ الخلفاء: 139، وابن حجر فی تهذیب التهذیب: 2/355. والشیخ الطوسی فی الأمالی: 3/56، والطریحی فی (المنتخب): 235، والسیوطی فی (الخصائص): 2/126، ومصادر أخری أخذناها من مقتل الحسین للعلامة الفقید السید عبد الرزاق المقرّم (ره): 343.
2- الآصفی: الخطاب الحسینی، نقلاً عن مقتل الحسین علیه السلام للمقرّم: 345.

ص: 254

یقول السید عبد الرزاق المقرّم فی المقتل:

(أظلمت الدنیا ثلاثة أیام واسودّت سواداً عظیماً حتی ظن الناس ان القیامة قامت وبدت الکواکب نصف النهار ولم یر نور الشمس.

والروایات التاریخیة فی ذلک متضافرة، تناقلها أئمة التاریخ والسیرة، وحفّاظ الحدیث النبوی، ولا نرید أن نسهب فی هذا الأمر أکثر من هذا الحد.

الکوارث الکونیة وعلاقتها بسیئات الناس فی القرآن

والقرآن صریح وواضح بعلاقة الکوارث الکونیة بسیئات أعمال الناس. وإلیک هذه الآیات من کتاب الله:

یقول تعالی:

((وَمَا أَصَابَکُم مِّن مُّصِیبَةٍ فَبِمَا کَسَبَتْ أَیْدِیکُمْ وَیَعْفُو عَن کَثِیرٍ)).(1)

ویقول تعالی:

((ظَهَرَ الْفَسَادُ فِی الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا کَسَبَتْ أَیْدِی النَّاسِ لِیُذِیقَهُم بَعْضَ الَّذِی عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ یَرْجِعُونَ)).(2)

ویقول تعالی:

((أَوَ لَمْ یَسِیرُوا فِی الْأَرْضِ فَیَنظُرُوا کَیْفَ کَانَ عَاقِبَةُ الَّذِینَ کَانُوا مِن قَبْلِهِمْ کَانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثَارًا فِی الْأَرْضِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَمَا کَانَ لَهُم مِّنَ اللَّهِ مِن وَاقٍ)).(3)


1- سورة الشوری، الآیة 30.
2- سورة الروم، الآیة 41.
3- سورة المؤمن، الآیة 21.

ص: 255

ویقول تعالی:

((وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِکَ قَرْیَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِیهَا فَفَسَقُواْ فِیهَا فَحَقَّ عَلَیْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِیرًا)).(1)

ویقول تعالی:

((کَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَا (11) إِذِ انبَعَثَ أَشْقَاهَا (12) فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْیَاهَا (13) فَکَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا فَدَمْدَمَ عَلَیْهِمْ رَبُّهُم بِذَنبِهِمْ فَسَوَّاهَا (14) وَلَا یَخَافُ عُقْبَاهَا)).(2)

وقال تعالی:

((أَلَمْ تَرَ کَیْفَ فَعَلَ رَبُّکَ بِعَادٍ (6) إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ (7) الَّتِی لَمْ یُخْلَقْ مِثْلُهَا فِی الْبِلَادِ (8) وَثَمُودَ الَّذِینَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ (9) وَفِرْعَوْنَ ذِی الْأَوْتَادِ (10) الَّذِینَ طَغَوْا فِی الْبِلَادِ (11) فَأَکْثَرُوا فِیهَا الْفَسَادَ (12) فَصَبَّ عَلَیْهِمْ رَبُّکَ سَوْطَ عَذَابٍ (13) إِنَّ رَبَّکَ لَبِالْمِرْصَادِ)).(3)

ویقول تعالی فی قوم:

((مِمَّا خَطِیئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا فَلَمْ یَجِدُوا لَهُم مِّن دُونِ اللَّهِ أَنصَارًا)).(4)


1- سورة الإسراء، الآیة 16.
2- سورة الشمس، الآیات 11 - 14.
3- سورة الفجر، الآیة 6 - 14.
4- سورة نوح، الآیة 25.

ص: 256

النعمة وعلاقتها بالتقوی

والعکس أیضاً صحیح، فکما تن_زل الکوارث والنقم بسیئات أعمال الإنسان، کذلک تن_زل النعم والخیرات والبرکات علی الأرض بحسنات أفعال الناس.

وکما تکون الآثام والمعاصی سبباً فی نزول الکوارث من زلزلة وصاعقة وفقر وبأس وابتلاء وأمراض وحروب کذلک تکون التقوی سبباً لن_زول الرحمة، من لدن الله إلی الأرض، ویفتح الله تعالی علی الناس بالتقوی برکات الأرض والسماء.

یقول تعالی:

((وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَی آمَنُواْ وَاتَّقَواْ لَفَتَحْنَا عَلَیْهِم بَرَکَاتٍ مِّنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ وَلَ_کِن کَذَّبُواْ فَأَخَذْنَاهُم بِمَا کَانُواْ یَکْسِبُونَ)).(1)

والسنّة الإلهیة العامة فی هذا وذاک انّ الله تعالی لا یغیر ما بالناس من نعمة ورحمة أو ابتلاء وشدّة إلا بسیئات أعمالهم وحسناتها، فإذا حسنت أعمالهم أحسن الله إلیهم، وإذا ساءت أعمالهم عاقبهم الله تعالی فساءت أحوالهم.

یقول تعالی:

((إِنَّ اللّهَ لاَ یُغَیِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّی یُغَیِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلاَ مَرَدَّ لَهُ)).(2)

ویقول تعالی:

((ذَلِکَ بِأَنَّ اللّهَ لَمْ یَکُ مُغَیِّرًا نِّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَی قَوْمٍ حَتَّی یُغَیِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ)).(3)


1- سورة الأعراف، الآیة 96.
2- سورة الرعد، الآیة 11.
3- سورة الأنفال، الآیة 53.

ص: 257

وهاتان الآیتان واضحتان فی الدلالة علی العلاقة بین أحوال الناس وأوضاعهم السیاسیة والاقتصادیة والاجتماعیة وبین أعمالهم، فإذا ساءت أعمالهم ساءت أحوالهم وأوضاعهم، وإذا حسنت أعمالهم طابت وحسنت أوضاعهم وأحوالهم.

العلاقة بین العمل والجزاء

ولا نرید أن نترک هذا الحدیث قبل أن نتطرق إلی القانون العام الشامل لکل ما ذکرناه، وهو علاقة العمل بالجزاء فی المعاییر الإلهیة.

إنّ الجزاء الوارد فی النصوص الإسلامیة من کتاب وسنّة من قبیل نتائج الأعمال وآثارها التکوینیة، ولیست من قبیل العلاقة بین العمل والجزاء فی الدنیا. فإنّ العلاقة بین العمل والجزاء فی الدنیا علاقة قانونیة تدخل فی دائرة التقنین والتشریع، ویختلف الجزاء من أمة إلی أخری، حسب اختلاف القوانین والتشریعات، فقد تکون القوانین متسامحة فی تقدیر العقوبة، فتکون العقوبة هیّنة، وقد تکون القوانین متشدّدة فتکون العقوبة شدیدة وقاسیة.

ولکن الجزاء فی الآخرة، عقوبة ومثوبة، من قبیل النتائج والآثار التکوینیة للأعمال، ولا تدخل فی حقل القرارات التشریعیة... ومثل ذلک فی الدنیا أن من لا یتحفظ علی صحته ولا یحتمِ یمرض. والمرض هنا نتیجة عدم الاحتماء، والتاجر الذی یهمل الحرکة فی السوق یصیبه الفقر والخسران. والفقر والخسارة نتیجة لانعدام السعی والحرکة فی السوق. والطالب الذی یکسل عن الدراسة ولا یجتهد فی الدرس یفشل فی الامتحان، والذی یسعی ویجتهد ینجح ویتقدم.

کذلک العلاقة بین العمل والجزاء فی الآخرة من هذا القبیل، وکذلک فی الدنیا، فی غیر العقوبات التشریعیة التی تدخل فی دائرة التقنین والتشریع.

ص: 258

7 - ما یقدمه الإنسان بین یدیه إلی الله

تقول الحوراء زینب علیها السلام فی خطابها لأهل الکوفة:

«ألا بئس ما قدمت لکم أنفسکم أن سخط الله علیکم وفی العذاب أنتم خالدون».

وهذه الفقرة من کلام السیدة مقتبسة من قوله تعالی:

((تَرَی کَثِیرًا مِّنْهُمْ یَتَوَلَّوْنَ الَّذِینَ کَفَرُواْ لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنفُسُهُمْ أَن سَخِطَ اللّهُ عَلَیْهِمْ وَفِی الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ)).(1)

وهذه النقطة من کلام السیدة علیها السلام ذات علاقة بالنقطة السابقة، فی علاقة العمل بالجزاء. إنّ جزاء عمل الإنسان فی الآخرة هو نتیجة عمله فی الدنیا، وهذه النتیجة هی باطن عمل الإنسان تتراءی له فی الدنیا بغیر هذه الصورة، وتتجلی له فی الآخرة بصورته الحقیقیة. حیث یکشف عن بصر الإنسان، فیری واقع عمله وباطنه الذی کان یخفی علیه فی الدنیا. یقول تعالی:

(( لَقَدْ کُنتَ فِی غَفْلَةٍ مِّنْ هَذَا فَکَشَفْنَا عَنکَ غِطَاءکَ فَبَصَرُکَ الْیَوْمَ حَدِیدٌ)).(2)

وکأنّ الإنسان کان فی غفلة من حقیقة السیئة وواقعها وجوهرها فارتکبها، فلمّا کُشِفَ عن عینه الغطاء بالموت وجد ما غفل عنه.

إنّ مال الیتیم الذی یأکله الناس حراماً، ظاهره ذهب وفضة ومتاع وضیاع، وباطنه نار یغفل عنها الإنسان، فإذا حل به الموت وکشف عن عینیه الغطاء، عرف ما غفل عنه فی الدنیا.


1- سورة المائدة، الآیة 80.
2- سورة ق، الآیة 22.

ص: 259

یقول تعالی:

((إِنَّ الَّذِینَ یَأْکُلُونَ أَمْوَالَ الْیَتَامَی ظُلْمًا إِنَّمَا یَأْکُلُونَ فِی بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَیَصْلَوْنَ سَعِیرًا)).(1)

إنّ الناس لا یرون من هذه النقود والضیاع فی الدنیا إلا ظاهرها، فإذا ماتوا عرفوا ما غفلوا عنه وعرفوا أنّ الذی أکلوه من أموال الیتامی کان ناراً فی بطونهم.

وان الثمن البخس الذی یبیع به علماء أهل الکتاب ما عرفوا من التوراة والانجیل فأخفوه عن الناس وتکتّموا به... إنّ لهذا الثمن البخس الذی تلقوه إزاء هذا الکتمان ناراً فی بطونهم غفلوا عنه فی الدنیا، فإذا ماتوا عرفوا به:

(( إِنَّ الَّذِینَ یَکْتُمُونَ مَا أَنزَلَ اللّهُ مِنَ الْکِتَابِ وَیَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِیلاً أُولَ_ئِکَ مَا یَأْکُلُونَ فِی بُطُونِهِمْ إِلاَّ النَّارَ وَلاَ یُکَلِّمُهُمُ اللّهُ یَوْمَ الْقِیَامَةِ وَلاَ یُزَکِّیهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِیمٌ)).(2)

ویقول تعالی:

((... وَالَّذِینَ یَکْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلاَ یُنفِقُونَهَا فِی سَبِیلِ اللّهِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِیمٍ (34) یَوْمَ یُحْمَی عَلَیْهَا فِی نَارِ جَهَنَّمَ فَتُکْوَی بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَ_ذَا مَا کَنَزْتُمْ لأَنفُسِکُمْ فَذُوقُواْ مَا کُنتُمْ تَکْنِزُونَ)).(3)

إنّ تعبیرات القرآن فی هذه النقطة واضحة وصریحة مثل:


1- سورة النساء، الآیة 10.
2- سورة البقرة، الآیة 174.
3- سورة التوبة، الآیتان 34 - 35.

ص: 260

(( هَ_ذَا مَا کَنَزْتُمْ لأَنفُسِکُمْ)) (( إِنَّمَا یَأْکُلُونَ فِی بُطُونِهِمْ نَارًا)) ((مَا یَأْکُلُونَ فِی بُطُونِهِمْ إِلاَّ النَّارَ)).

وأمثال ذلک، وهی تأبی الحمل علی المجاز. وهذا هو باطن عمل الإنسان وجوهره الذی کان یخفی علیه فی الدنیا. وما یصدر عن الإنسان من عمل من خیر وشر، یبقی ولا ینعدم، فإذا مات الإنسان أحضره الله تعالی عنده، فوجد ما عمله من خیر أو شر حاضراً.

((یَوْمَ تَجِدُ کُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَیْرٍ مُّحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوَءٍ...)).(1)

ها هنا یجد الإنسان عمله حاضراً أمامه بعینه، فإذا کان عمله سوءاً تمنی أن یکون بینه وبین عمله أمد بعید، وان یتخلص من عمله، ولکن هیهات

((... تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَیْنَهَا وَبَیْنَهُ أَمَدًا بَعِیدًا وَیُحَذِّرُکُمُ اللّهُ نَفْسَهُ وَاللّهُ رَؤُوفُ بِالْعِبَادِ))(2).

وجزاء الإنسان فی الآخرة بنفس عمله، وعمله جزاؤه.

یقول تعالی:

((... لَا تَعْتَذِرُوا الْیَوْمَ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا کُنتُمْ تَعْمَلُونَ)).(3)

ویقول تعالی:

((... ثُمَّ تُوَفَّی کُلُّ نَفْسٍ مَّا کَسَبَتْ...)).(4)


1- سورة آل عمران، الآیة 30.
2- سورة آل عمران، الآیة 30.
3- سورة التحریم، 7.
4- سورة البقرة، الآیة 281.

ص: 261

وفی سورة الإسراء نلتقی آیة عجیبة فی کتاب الله:

((وَکُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَآئِرَهُ فِی عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ یَوْمَ الْقِیَامَةِ کِتَابًا یَلْقَاهُ مَنشُورًا (13) اقْرَأْ کَتَابَکَ کَفَی بِنَفْسِکَ الْیَوْمَ عَلَیْکَ حَسِیبًا)).(1)

و(الطائر) هو (العمل). ویوم القیامة یجعل الله أعمال الناس فی أعناقهم، وهو کتابهم الذی یعکس أعمالهم، إنّ أعمالهم هو کتابهم الذی یلقون به الله تعالی، والإنسان هو الذی یقرأ کتابه یومئذٍ، لا غیره ((اقْرَأْ کَتَابَکَ)) وهو الذی یحاسب نفسه ویحکم علی نفسه:

((کَفَی بِنَفْسِکَ الْیَوْمَ عَلَیْکَ حَسِیبًا)).

إذن جزاء الإنسان هو عمل الإنسان، باطن عمل الإنسان، وهذا الباطن کان قائماً فی الدنیا غیر أن الإنسان کان غافلاً عنه.

فإذا مات الإنسان انکشف باطن عمله، وأُحضر عمله إلیه، ویری الإنسان عندئذٍ عمله الذی قدمه لنفسه، یقول تعالی:

((یَوْمَئِذٍ یَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا لِّیُرَوْا أَعْمَالَهُمْ (6) فَمَن یَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَیْرًا یَرَهُ (7) وَمَن یَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا یَرَهُ)).(2)

إنّ الإنسان یومئذٍ یری عمله من خیر أو شر، فإذا عمل خیراً رآه أمامه، ولو کان مثقال ذرة من الخیر.

ومن عمل شرّاً یره أمامه، ولو کان مثقال ذرّة من الشّر، فإنّ المیزان والحساب دقیق، غیر أن الله رؤوف بعباده رحیم.


1- سورة الإسراء، الآیتان 13 - 14.
2- سورة الزلزلة، الآیات 6 - 8

ص: 262

فما یعمله الإنسان من عمل فی الدنیا من خیر أو شر، إنّما یقدمه الإنسان لنفسه فی الآخرة فإذا مات وجده أمامه.

یقول تعالی:

((...وَنَکْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَکُلَّ شَیْءٍ أحْصَیْنَاهُ فِی إِمَامٍ مُبِینٍ)).(1)

وهنا (الإمام المبین) لا یغفل عن شیء قدمه الإنسان أبداً فهو یحصی کل صغیرة وکبیرة مما قدمه الإنسان لنفسه إحصاءً دقیقاً.

((وَمَا تُقَدِّمُواْ لأَنفُسِکُم مِّنْ خَیْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ اللّهِ )).(2)

وتأمّلوا فی هذه الآیة من کتاب الله:

(( یَا أَیُّهَا الَّذِینَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِیرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ)).(3)

حیث یأتی الأمر بأن ینظر الإنسان فیما یقدمه لآخرته، بعد الأمر بالتقوی وقبله، وهو یستوقف الإنسان طویلاً، فإذا کان ما یعمله الإنسان من عمل هو ما یقدّمه لغد، فما أحراه بأن یتقی الله تعالی فی عمل یعمله من صغیر وکبیر.(4)

السلام علی من أصبح حرمها موئل آمال الآملین وملتقی وفود الزائرین ویتمسک بضریحها جمیع المحبین والمحتاجین ویأتمّ بقبرها الخلائق فی کل حین.


1- سورة یس، الآیة 12.
2- سورة البقرة، الآیة 110 والآیة 223.
3- سورة الحشر: الآیة 18.
4- الآصفی، آیة الله الشیخ محمد مهدی، الخطاب الحسینی، المرحلة الثانیة للثورة الحسینیة، ص74.

ص: 263

المصادر

1.  ابن طاووس، اللهوف فی قتلی الطفوف.

2. آیة الله الشیخ محمد مهدی الآصفی، الخطاب الحسینی، المرحلة الثانیة للثورة الحسینیة.

3. بنت الشاطیء, بطلة کربلاء.

4. د. أحمد علی کنعان، أدب الأطفال والقیم التربویة.

5. السید حسین معن، الإعداد الروحی.

6. السید محمد باقر الحکیم، دور المرأة فی النهضة الحسینیة.

7. عبد الحسین أحمد الأمینی النجفی، الغدیر فی الکتاب والسنّة والادب.

8. عبد الرزاق المقرم، مقتل الحسین علیه السلام.

9. عبد الوهاب الکاشی، مأساة الحسین بین السائل والمجیب.

10. العلامة السید مرتضی العسکری، معالم المدرستین.

11. کفاح الحداد النجاح فی عالم المرأة.

12. کفاح الحداد، المرأة والعمل السیاسی.

ص: 264

13. مؤسسة البلاغ، الإمام الحسین علیه السلام یوم عاشوراء.

14. مؤسسة البلاغ، زینب وفاجعة کربلاء.

15. مؤسسة البلاغ، نساء المثل الأعلی.

16. مجموعة باحثین، مجلة المنعطف، العدد 15/ 16.

17. مجموعة مؤلفین، المرأة فی الفکر الإسلامی المعاصر، کتاب المنهاج.

18. محمد جواد مغنیة، الحسین وبطلة کربلاء.

19. محمد مهدی الآصفی، فی رحاب الإمام الحسین علیه السلام.

20. محمد مهدی شمس الدین، ثورة الحسین.

21. مرتضی مطهری، الملحمة الحسینیة.

22. المسعودی، مروج الذهب ومعادن الجوهر، تحقیق محمد محی الدین عبد الحمید.

ص: 265

المحتویات

الاهداء. 5

مقدمة اللجنة العلمیة. 6

المقدمة. 8

الفصل الأول

المرأة قبل الطفوف

1 - المرأة فی العصر الجاهلی.. 15

2 - المرأة فی العصر النبوی (العصر الذهبی). 17

3 - المرأة فی عصر خلافة الشیخین.. 29

4 - المرأة فی العصر الأموی.. 43

الفصل الثانی

نساء الطفوف

لماذا حمل الإمام نساءه وعیاله إلی کربلاء؟. 61

أدوار النساء فی ملحمة الطفوف... 69

1 - دور نصرة الثورة ودعمها بشتی الوسائل... 69

ألف - دور حرائر أهل البیت فی نصرة الإمام الحسین علیه السلام ونصرة ثورته. 69

باء -  دلهم بنت عمیر. 71

جیم - دور طوعة فی نصرة مسلم بن عقیل سفیر الإمام الحسین علیه السلام. 74

ص: 266

دال - دور ام وهب  فی نصرة آل البیت علیهم السلام. 75

هاء - ام عمرو بن جنادة الانصاری.. 77

واو- دور ماریة بنت منقذ العبدی.. 77

زاء - دور النساء النادبات علی الإمام علیه السلام فی منع تعیین عمر بن سعد والیاً علی الکوفة. 79

حاء - ام سلمة تبکی الإمام علیه السلام. 80

طاء - مجالس العزاء. 82

2 - دور المتابعة والحمایة. 82

3 - الدور القیمی... 89

ألف . الدفاع عن المقدس... 91

باء . قیم حمایة المرأة. 96

1 - منع الإمام الحسین علیه السلام النساء من القتال.. 97

2 - خاطب الإمام الأعداء بان لا یتعرضوا للنساء فهو الذی یقاتل... 97

3 - حفر الخندق حول الخیام. 98

4 - منع النساء من الخروج من الخیام حتی استشهاده علیه السلام. 98

5 - مراعاة مشاعر النساء. 99

جیم . ادب التعامل مع المصاب الجلل.. 103

دال . ایثار المصلحة العامة علی المصلحة الخاصة. 106

1 . الأم تحث ولدها علی الشهادة لنصرة الإمام. 108

2 . ام عمرو بن جنادة الانصاری... 108

3 . دلهم تحث زوجها علی الالتحاق بالحسین علیه السلام. 108

هاء . القیم الانسانیة والاخلاقیة. 109

أ- قیمة الوفاء. 109

ب - قیمة استنکار الظلم.. 110

ج - قیمة الصدق... 114

د - قیمة حفظ العز.. 114

ه_ - قیم العطاء. 114

و - قیمة الإیثار والتضحیة. 115

ز - قیمة الصبر.. 116

واو . قیم تکامل الشخصیة. 117

أ - التکیف الذکی... 117

ب - التصمیم والإرادة. 118

ج - الأمل بالمستقبل... 119

د - الثقة بالنفس..... 119

ه_ - الجرأة الشخصیة. 119

4 - الدور الإعلامی... 120

المرحلة الأولی.. 122

ص: 267

ألف - مجیء النساء إلی أرض المعرکة بعد الاستشهاد. 122

باء - عند باب الکوفة. 125

جیم - فی مجلس ابن زیاد. 133

المرحلة الثانیة من الدور الإعلامی.. 137

محطات من خطاب السیدة زینب علیها السلام فی قصر یزید.. 141

المرحلة الثالثة من الدور الإعلامی.. 145

ألف - القسم الأول.. 145

باء - القسم الثانی... 147

الدور الإعلامی فی المیزان.. 151

5 - روایة المقتل الحسینی... 157

6 - اعلان الحزن العام (الحداد الرسمی). 159

السبی.. المأساة الکبری.. 161

الفصل الثالث

نساء الطفوف فی دائرة الضوء

الموازنة بین أدوار الجنسین.. 177

العنف السیاسی ضد نساء الطفوف.... 179

التعامل مع الضغوط... 181

غیاب الشکوی... 183

المهارات الحیاتیة. 184

1 - مهارات الحوار. 184

2 - مهارة التعاون والمشارکة. 185

3 - مهارة الاتصال الشفوی والتواصل اللفظی.. 185

4 - مهارة التعاطف.... 185

5 - مهارة الاقناع عبر تقدیم الدلیل والبرهان.. 185

6 - مهارة اتخاذ القرار وحل المشکلات... 186

7 - مهارات إدارة المشاعر. 186

الضبط العاطفی... 186

الاستقلالیة. 190

نساء الطفوف.. صلاح وإصلاح.. 192

الإمام الحسین رائد الإصلاح... 195

ص: 268

غیاب أم حضور.. 197

دور المرأة فی صناعة التاریخ... 197

نساء بین النهضتین.. 203

ما بین نساء الانتظار ونساء الطفوف.... 203

نساء الطفوف.. القدوة الخالدة. 212

السیدة زینب علیها السلام .. المثل الأعلی للمرة المسلمة. 212

نساء الطفوف ... القدوة الحسنة. 214

الشهیدة بنت الهدی ..نموذج معاصر.. 217

کیف تبقی صورهم فی الذاکرة. 219

الفصل الرابع

سیدة الطف الأولی

السیدة زینب بنت علی بن أبی طالب علیه السلام. 225

مناقبها الفاضلة. 226

زواجها المبارک..... 227

زینب... المرأة الصابرة. 228

تأملات فی خطاب السیدة زینب (علیها السلام) فی مجلس ابن زیاد. 239

1 - الشجب والتأنیب والتقریع. 239

2 - عاقبة الخذلان.. 239

3 - التعمیم فی الخطاب... 239

4 - الإمهال فی العذاب... 239

5 - الإحباط.. 239

6 - علاقة الکوارث الکونیة بسیّئات الناس... 239

الکوارث الکونیة عند مصرع الحسین علیه السلام. 239

الکوارث الکونیة وعلاقتها بسیئات الناس فی القرآن.. 239

النعمة وعلاقتها بالتقوی... 239

العلاقة بین العمل والجزاء. 239

7 - ما یقدمه الإنسان بین یدیه إلی الله.. 239

المصادر. 239

ص: 269

اصدارات قسم الشؤون الفکریة والثقافیة

فی العتبة الحسینیة المقدسة

تألیف

اسم الکتاب

ت

السید محمد مهدی الخرسان

السجود علی التربة الحسینیة

1

زیارة الإمام الحسین علیه السلام باللغة الانکلیزیة

2

زیارة الإمام الحسین علیه السلام باللغة الأردو

3

الشیخ علی الفتلاوی

النوران ___ الزهراء والحوراء علیهما السلام __ الطبعة الأولی

4

الشیخ علی الفتلاوی

هذه عقیدتی __ الطبعة الأولی

5

الشیخ علی الفتلاوی

الإمام الحسین علیه السلام فی وجدان الفرد العراقی

6

الشیخ وسام البلداوی

منقذ الإخوان من فتن وأخطار آخر الزمان

7

السید نبیل الحسنی

الجمال فی عاشوراء

8

الشیخ وسام البلداوی

إبکِ فإنک علی حق

9

الشیخ وسام البلداوی

المجاب بردّ السلام

10

السید نبیل الحسنی

ثقافة العیدیة

11

السید عبدالله شبر

الأخلاق (تحقیق: شعبة التحقیق) جزآن

12

الشیخ جمیل الربیعی

الزیارة تعهد والتزام ودعاء فی مشاهد المطهرین

13

لبیب السعدی

من هو؟

14

السید نبیل الحسنی

الیحموم، أهو من خیل رسول الله أم خیل جبرائیل؟

15

الشیخ علی الفتلاوی

المرأة فی حیاة الإمام الحسین علیه السلام

16

السید نبیل الحسنی

أبو طالب علیه السلام ثالث من أسلم

17

السید محمدحسین الطباطبائی

حیاة ما بعد الموت (مراجعة وتعلیق شعبة التحقیق)

18

ص: 270

السید یاسین الموسوی

الحیرة فی عصر الغیبة الصغری

19

السید یاسین الموسوی

الحیرة فی عصر الغیبة الکبری

20

الشیخ باقر شریف القرشی

حیاة الإمام الحسین بن علی (علیهما السلام) ___ ج1

21

الشیخ باقر شریف القرشی

حیاة الإمام الحسین بن علی (علیهما السلام) ___ ج2

22

الشیخ باقر شریف القرشی

حیاة الإمام الحسین بن علی (علیهما السلام) ___ ج3

23

الشیخ وسام البلداوی

القول الحسن فی عدد زوجات الإمام الحسن علیه السلام

24

السید محمد علی الحلو

الولایتان التکوینیة والتشریعیة عند الشیعة وأهل السنة

25

الشیخ حسن الشمری

قبس من نور الإمام الحسین علیه السلام

26

السید نبیل الحسنی

حقیقة الأثر الغیبی فی التربة الحسینیة

27

السید نبیل الحسنی

موجز علم السیرة النبویة

28

الشیخ علی الفتلاوی

رسالة فی فن الإلقاء والحوار والمناظرة

29

علاء محمدجواد الأعسم

التعریف بمهنة الفهرسة والتصنیف وفق النظام العالمی (LC)

30

السید نبیل الحسنی

الأنثروبولوجیا الاجتماعیة الثقافیة لمجتمع الکوفة عند الإمام الحسین علیه السلام

31

السید نبیل الحسنی

الشیعة والسیرة النبویة بین التدوین والاضطهاد (دراسة)

32

الدکتور عبدالکاظم الیاسری

الخطاب الحسینی فی معرکة الطف ___ دراسة لغویة وتحلیل

33

الشیخ وسام البلداوی

رسالتان فی الإمام المهدی

34

الشیخ وسام البلداوی

السفارة فی الغیبة الکبری

35

السید نبیل الحسنی

حرکة التاریخ وسننه عند علی وفاطمة علیهما السلام (دراسة)

36

السید نبیل الحسنی

دعاء الإمام الحسین علیه السلام فی یوم عاشوراء __ بین النظریة العلمیة والأثر الغیبی (دراسة) من جزءین

37

الشیخ علی الفتلاوی

النوران الزهراء والحوراء علیهما السلام ___ الطبعة الثانیة

38

شعبة التحقیق

زهیر بن القین

39

السید محمد علی الحلو

تفسیر الإمام الحسین علیه السلام

40

الأستاذ عباس الشیبانی

منهل الظمآن فی أحکام تلاوة القرآن

41

السید عبد الرضا الشهرستانی

السجود علی التربة الحسینیة

42

السید علی القصیر

حیاة حبیب بن مظاهر الأسدی

43

ص: 271

الشیخ علی الکورانی العاملی

الإمام الکاظم سید بغداد وحامیها وشفیعها

44

جمع وتحقیق: باسم الساعدی

السقیفة وفدک، تصنیف: أبی بکر الجوهری

45

نظم وشرح:  حسین النصار

موسوعة الألوف فی نظم تاریخ الطفوف __ ثلاثة أجزاء

46

السید محمدعلی الحلو

الظاهرة الحسینیة

47

السید عبدالکریم القزوینی

الوثائق الرسمیة لثورة الإمام الحسین علیه السلام

48

السید محمدعلی الحلو

الأصول التمهیدیة فی المعارف المهدویة

49

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.