ص: 2

ص: 3

بسم الله الرحمن الرحیم

تصحیح و تحشیة

علی

الحضارة الإسلامیة

فی القرن الرابع

لآدم متز

تألیف

آیت الله الحاج الشیخ محمد الرحمتی

ص: 4

سرشناسه: آیة الله الحاج الشیخ محمد الرحمتی، 1307

عنوان و نام پدیدآور: تصحیح و تحشیة علی الحضارة/ تألیف محمد الرحمتی

مشخصات نشر: قم، مؤلف: 1432 ق = 1390

شابک: 1-7843-04-964-978

وضعیت فهرست نویسی: فیپا

یادداشت: عربی

موضوع: تمدن اسلام - تاریخ

رده بندی کنگره: 1390 7 ن 3ر / 62 / 35 DS

رده بندی دیویی: 909/097671

شماره کتابشناسی ملی: 2545113

***

تصحیح و تحشیة علی الحضارة الاسلامیة فی القرن الرابع

المصحح و المحشی: آیة الله الحاج الشیخ محمد الرحمتی

الناشر: المؤلف

المطبعة القدس

الطبعة: الأولی - 1432 ه.ق

العدد: 700 نسخة

السعر: 10000 تومان

رقم الایداع الدولی: 1-7843-04-964-978

«کافة حقوق الطبع محفوظة و مسجلة للناشر»

***

ایران، قم، فاطمی 26 (دورشهر) نهایة الزقاق - الرقم 45

ص: 5

ص: 6

یوءخذ علیه أنه یستدل فی بعض المسائل علی رأی بنص واحد ، ولو عرضت النصوص کلها لخرج الباحث منها برأی یخالف رأیه ؛ وأحیاناً نراه یحکم عقیدته ونشأته واعتماده علی النصوص فقط ، دون الروح والذوق الفنی والجوّ الإسلامی والوسط العربی ، یشرد فی رأیه ، ویخطئ فی نظره .

ولکن هذا کله لا یذهب بعظم قیمة الکتاب وفائدته للباحثین الإسلامیین ؛ فالکتاب یعلمنا طرق البحث العلمی ، ویقدّم لنا درساً قیماً فی صبر العلماء علی معاناة البحث ، والاستناد إلی أکبر عدد من المصادر وغربلتها وأخذ خیر ما فیها ، ویکشف لنا عن نواحٍ من الحضارة مجهولة .

ولعل کثیراً من المآخذ التی عددناها یرجع إلی أن الموءلف قد عاجلته منیتهُ والکتاب فی مسوداته لم یبیضها، ولم یضعها فی شکلها الأخیر

رأیت الکتاب قد ترجم من الألمانیة إلی الإنجلیزیة ثم ترجم إلی الإسبانیة ، فقلت إن الأولی أن یترجم إلی العربیة ، فأهلها هم وارثوا الحضارة الإسلامیة ، وهم أولی أن یطلعوا علی کل ما کتب فیها .

فلما سنحت لی الفرصة لترجمته برغبة بیت المغرب فی نشر کتب قیمة فی هذا الموضوع وأمثاله ، انتدبت له الأستاذ محمد عبد الهادی أباریدة ، کما انتدبته من قبل لترجمة کتاب الفلسفة الإسلامیة للأستاذ دی بور ، فأبلی فیه بلاء حسناً .

وعرفت أن کتابنا هذا یتطلب من مترجمه صبراً من جنس صبر الموءلف ، فکل صفحة منه تتضمن عدة مصادر ، واشترطت أن تنقل عبارات هذه المصادر بنص موءلفها لا بمعناها .

وبعض هذه المصادر مخطوط بألمانیا وبعضها مخطوط بهولندا ، وبعضها

ص: 7

مخطوط بفرنسا إلی غیر ذلک ، فتقبل الأستاذ أبو ریدة القیام بهذا الجهد کله بنفس طیبة تحب العلم وتصبر علی الجهد ، وتستلذ العناء فی سبیل علم تنشره أو خیر تقدمه ؛ ولیس یعلم مقدار ما عانی فی ذلک إلا اللّه ومن شاهده أثناء ترجمته وبحثه.

وکان من حسن حظه وحظ الفراءأن أرسل إلی بعثة فی فرنسا ، فأتاحت له هذه البعثة فرصة طیبة للاطلاع علی المصادر فی المکاتب الفرنسیة ، ومکنت له من أن یسافر إلی برلین ، ویتصل بهولندا لیقوم بترجمة هذه المصادر کلها ؛ فله الشکر الجزیل علی ما عانی ، وعلی ما قدم لقراء العربیة من خیر ، ولبیت المغرب الشکر علی ما أنفق ، وعلی ما اتجه إلیه من خدمة العلم .

أحمد أمین

ص: 8

ص: 9

الخشاب ومع ( صاحب السعادة ) کامل البنداری ( باشا ) ، وزیرنا المفوض فی بروکسل آنذاک ، فلهما الیوم الشکرُ الذی لم أستطع أن أبلّغه إلیهما فی تلک الأیام .

وقد شاء القدر العجیب ، فی أثناء الحرب وتقلباتها ومفاجآتها أن أُتمَّ دراستی ، بعد انقطاعها بباریس ، فی جامعة بازل بسویسرة ، حیث کان موءلف الکتاب أستاذا قبل عشرین عاما ، وأن أتتلمذ علی تلمیذه وخلیفته فی منصبه ، وهو أستاذی الکریم الفاضل العلاّمة المتواضع الأستاذ الدکتور رودلف تشودی ( Rudolf Tschudi ) .

وکان الکتاب أحیاناً موضع حدیثنا ؛ فأُحب أن أُنبّه القارئ إلی أن الموءلف کان یقصد من کتابه أن یسجّل حضارة الإسلام فی القرنین الثالث والرابع مع العنایة الخاصة بالقرن الرابع ، لیکون کتابه مُقابلا ومُشابها لما کتب عن حضارة عصر النهضة فی أوروبا، خصوصاً ما کتبه یاکوب بورکهارت Burckhardt Jacob السویسری البازلی عن عصر النهضة فی أوروبا وفی إیطالیا .

ولعل هذا هو السبب فی تسمیة الموءلف لکتابه باسم Die Renaissance Islams Des ، أی « نهضة الإسلام » ، وهی عبارة مختصرة للدلالة علی حضارة عصر النهضة فی الإسلام .

وکما أن حضارة عصر النهضة فی أوروبا کانت قائمة علی إحیاء الحاضرة القدیمة فی نواح کثیرة ومُقترنة بمیلاد القومیات وتجزّوء الدولة الواحدة التی قام علیها بناء العصر الوسیط فی أوروبا إلی دول صغیرة ، فکذلک کانت حضارة الإسلام بوجه عام متصلة بإحیاء ثقافات وحضارات متقدمة علیها ، وزاد علی ذلک فی العصر الذی یتکلم عنه الموءلف ، وهو القرن الرابع الهجری، انحلالُ دولة

ص: 10

الخلافة الکبری إلی دول صغری .

فلا غرابة أن یوءخذ الموءلف بهذا التشابه وأن یجعل له شأناً فی وضعه اسم کتابه ، بل کأنه یوءکد ذلک بأن یشیر فی کثیر من الأحیان وفی مواضع متفرقة(1) إلی أنه فی القرن الثالث ، وخصوصا فی القرن الرابع ، ظهرت بین المسلمین أفکارٌ ونظم ومذاهب وأسالیب فی الحیاة وعادات کانت موجودة قبل الإسلام عند أمم أخری ، ثم عادت إلی الظهور من جدید؛ ولعل هذا هو الدعامة الکبری التی تستند إلیها هذه التسمیة التی لم یجد الموءلف ما یرضیه غیرُها .

وثم نقط أُخری أحب أن أنبّه علی بعضها ؛ فمن ذلک ما لاحظته فی مواضع کثیرة جداً من عدالة هذا الموءلف فی حکمه؛ فهو لا یعرف التعصب ، ویذکر الأمثلة من الحضارة العربیة ومن غیرها ؛ بل یبین أن بعض ما نجده فی تاریخ العرب أحیاناً من قسوة ننفر منها قد أخذه العرب عن غیرهم کالبوزنظیین .

وهو یوءکد ، فی مواضع شتی ، خصائص الطبیعة العربیة مبرّناً إیاها أحیاناً ممّا یظهر فی تاریخها من مساوئ دخیلة عیلها ، وهو منصفٌ أیضاً فی تصوره للنظم الإسلامیة وفی مقارنته معاملة العرب لغیرهم بمعاملة غیرهم لهم .

وإن مقارناته المتنوعة واتزانه وعدم مبالغته فی تقدیر الوقائع الجزئیة لمن الصفات التی یجب أن یربی الباحثُ نفسَه علیها .

هذا إلی أنی توخّیاً للدقة قد صححتُ الترجمة فی مواضع متفرقة ، وذلک بفضل ما تیسر لی أثناء دراستی فی جامعة بازل من إتقان اللغة التی کتب بها

ص: 11

الکتاب ، کما أنی زدت تعلیقات جدیدة دون الإکثار منها .

والنصوص التی فی الکتاب هی کما فی مصادرها ؛ فإن کان فیها شیء غیر واضح ، خصوصاً فیما هو مأخوذ من مصادر مخطوطة ، فلا حیلة لی فی ذلک ، لأن المصادر لیست کلها تحت یدی، فالنصوص التی جمعتها لاتزال فی أوروبا، وأیضاً لأن الأصول الأولی التی کتبتُها بیدی تلفت بعد طبع الکتاب فی غیبتی .

ولکن هکذا کله لا شیء إلی جانب المصادر والمادة القیّمة التی یضعها الکتاب بین یدی الباحث .

ویحتاج هذا الکتاب ، نظراً لکثرة ما فیه من موضوعات فی الفصل الواحد ولکثرة أسماء الأعلام ، إلی فهرس کبیر، أرجو إن شاء اللّه أن أُلحقه بالجزء الثانی الذی قد بدأنا طبعته الثانیة .

وأخیراً فإن قراءتی للکتاب من جدید بعد سبع سنین قد أتاحت لی اللذة التی ذقتها مرة فی ترجمته ، کما ذکرتنی بظروف هذه الترجمة وما کان فیها من عناء .

وإنی لأرجو أن ینال القارئ ثمرة ما بُذل من جهد ، وأن تکون هذه الثمرة له نافعة ، وما التوفیق إلا باللّه

القاهرة فی 6ذی القعدة 1366 21 سبتمبر 1947 محمد عبدالهادی أبو ریدة

مدرس بکلیة الآداب بجامعة القاهرة

ص: 12

ص: 13

کان هذا العالم أستأذاً للغات الشرقیة بجامعة بازل (Basel) فی سویسرة ویدل هذا الکتاب الذی أقدمه لقراء العربیة علی سعة اطّلاع موءلفه وتعمّقه فی موضوع البحث ؛ فقد تناول الحضارة الإسلامیة فی القرن الرابع الهجری من جمیع نواحیها العقلیة والمادیة بعد أن راجع المصادر العربیة وغیر العربیة مراجعة واسعة النطاق ، حتی لُتَعدّ مراجعُه بالمئات ؛ وقد بلغ عدد المرات التی أشار إلیها فی الباب الواحد مئاتٍ أیضاً فی بعض الأحیان؛ ومن جملة مصادره مخطوطاتٌ أرْبت علی الأربعین موجودة فی مکاتب برلین وباریس ولیدن ولیبتزج ومیونخ وفینَّا ولندن ؛ وبعض هذه المخطوطات لم ینشر حتی الآن ، مع عظم قیمته ؛ کما أن الموءلف رجع إلی عدد کبیر جداً من المجلات العلمیة الأوربیة التی تبحث فی شئون الشرق .

غیر أن الأجل أدرکه ، وکتابه مکتوب بالآلة الکاتبة ، دون أن یتمکن من مراجعته مراجعة أخیرة تُهیّئه للطبع ومن غیر أن یضع له مقدمة .

إلاّ أن قیمة هذا الکتاب کانت سبباً فی إظهار للباحثین ؛ فنشره الأستاذ ریکندورف (Reckendort) عام 1922 م باسمه الذی اختاره الموءلف له ، وهو : «عصر النهضة فی الإسلام»(1) ؛ ثم ترجمه إلی اللغة الأسبانیة سلفادور فیلا (Salvador Vila) ونشره عام 1936 م ؛ وترجمه کذلک إلی اللغة الإنجلیزیة المرحوم صلاح الدین خُدابخش الهندی الذی کان أستاذاً بجامعة کلکنا ؛ ومات

ص: 14

قبل أن یتم الترجمة ، فأنمها الأستاذ مرجولیوث بجامعة أکسفورد ، ونشرت کاملة سنة 1936م .

هذه الظروف فی مجموعها جعلت الترجمة شاقة کل المشقة ، لأن المراجع تُذکر بحث لا یسهل الرجوع إلیها ؛ فقد یُذکر الکتاب أحیاناً من غیر ذکر موءلفه ولا ذکر المکان الذی یرجع الباحث إلیه للمقارنة ، أوقد یذکر الموءلف دون ذکر کتابه ؛ وفی کلتا الحالتین کان یندر أن یذکر زمان الطبع أو مکانه أو رقم الکتاب فی المکتبة التی هو فیها ، إن کان مخطوطاً .

لذلک کان لابد من البحث عن هذه المصادر فی فهارس المکاتب الأوروبیة للمطبوعات والخطوطات ومراجعة ذلک .

وقد استطعت أن أحصل علی المواضع التی أشار إلیها الموءلف فی المخطوطات ، وذلک بطلب تصویرها من مختلف مکاتب إوربا ، کما راجعت بعضها بنفسی فی باریس وبرلین أثناء العام الماضی .

کما استطعت بعد مراجعة الأصول العربیة أن أُصحّح أخطاء کثیرة فی النصوص أحیاناً وفی المراجع فی أغلب الأحیان ؛ کما أنی زدت المراجع إیضاحا یسهّل الرجوع إلیها ، وبقیت أشیاء یسیرة جدا وضعت علامة استفهام إلی جانبها لیحاول معالجتها من شاء .

وکذلک وسَعت بعض النصوص وبینتّ مناسبتها ، لتکون مفهومة للقارئ العربی ومشبعة لحاجته ، وذکرت أسماء الأعلام کاملة ، وعلّقت تعلیقات قلیلة جدا یتطلبها المقام .

ص: 15

علی أنی راجعت کل شیء تقریباً علی الأصول التی ذکرها الموءلف مراجعة دقیقة طلباً للدقة والضبط ، وراعیت فیما یتعلق بالمراجع العربیة أن یکون الأسلوب متمشیاً مع الأصل العربی الذی أشار إلیه الموءلف ، لتکون بین یدی القارئ حضارة القرن الرابع بلغة القرن الرابع ولغة رجاله وموءلفیه .

وإذا کان القارئ یری فی بعض الأحیان ما یشبه التفکک فی العرض ، فمرجع ذلک إلی أن الکتاب کتابٌ علمی یعنی بضبط الوقائع وإحصائها والاستنباط منها .

وقد ترجمت القسم الأول من هذا الکتاب وعرضته علی الأستاذ أحمد أمین بک ؛ فتفضل بقراءته من أوله إلی آخره قراءة دقیقة استنفدت کثیراً من وقته الثمین ، وأبدی ملاحظات قیمة کان لها أکبر الفضل فی إخراج الکتاب علی هذا النمط .

ولا یفوتنی أن أعبر عن شکری العظیم للأستاذ بول کراوس المدرس بکلیة الآداب لمعاونتی فی فهم کثیر من النقط الغامضة فی الأصل الألمانی .

لقد کان أستاذنا الجلیل أحمد أمین موفقاً کل التوفیق فی اختیار هذا الکتاب للترجمة ، لکی ینشره بیت المغرب فی جملة النشرات القیمة التی یخدم بها الثقافة العربیة .

وأرجو أن أکون قد وُفقت أنا أیضاً فی القیام بهذا العمل علی الوجه الذی یحقق النفع ، مع علمی بأن کل جهد فهو دون الکمال .

وإنی لأرجو أن أتمکن من ترجمة القسم الثانی وإکماله بالفهارس اللازمة للکتاب ، وإضافة ثَبتٍ للمراجع خدمةً للقارئ .

ص: 16

کما أرجو أن یسدَّ هذا الکتاب فراغاً کبیراً فی تاریخ الحضارة الإسلامیة وأن یحرک هَِمَمَ الباحثین إلی العنایة بتاریخ هذه الحضارة وبذل ما تستحقه من جهود .

واللّه ولی التوفیق ، وهو نعم المولی ونعم النصیر ؟

باریس فی أول المحرم سنة 1359

9 فبرابر سنة 1940

محمد عبد الهادی أبوریدة

بکلیة الآداب وعضو بعثة جامعة فوءاد الأول بباریس

ص: 17

ص: 18

فی ید الخلیفة إلاّ بغدادُ وأعمالها(1). ویشبِّه المسعودی فی عام 332 ه 944م فِعلَ أصحاب الأطراف ، وتغلُّبَ کل واحد منهم علی الصقع الذی هو فیه بفعل ملوک الطوائف بعد موت الإسکندر(2) .

علی أن شبحاً لسیادة الخلیفة ببغداد ظلّ وَهماً ماثلا فی الأذهان ؛ والمسعودی نفسه یتکلم عن «عمل» أمیرالموءمنین ، وینقل عن الفزاری أنه «من فرغانة وأقصی خراسان إلی طنجة بالمغرب ثلاثة آلاف وسبعمائة فرسخ ، ومن باب الأبواب إلی جدّة ستمائة فرسخ ، ومن الباب إلی بغداد ثلاثمائة فرسخ ومن مکة إلی جدّة اثنان وثلاثون میلا»(3) .

علی أن أصحاب الأطراف أو ملوک الطوائف کانوا یعترفون بالسیادة العلیا الدولة ، ویقدّمون للخلیفة الدعاء فی المساجد ، ویشترون منه ألقابهم ، ویرسلون إلیه الهدایا فی کل عام ؛ فمن ذلک أنه لما تمّ لعضد الدولة ابن بُوَیه فتحُ کرمان فی سنة 357ه ، اُنفِذ إلیه من الحضرة ببغداد عهدُ الخلیفة وخِلَعُهُ والعقدُ علی أعمال کرمان کلها(4) .

وکان مظهرُ سلطان الخلیفة منصبَه الجلیل فحسب ، وهو یشبه فی ذلک قیصراً من قیاصرة الإمبراطوریة الرومانیة المقدسة فی ألمانیا ، یحکم الأمة الألمانیة

ص: 19

ولیس له علیها إلاّ سلطان قلیل. ولکن فکرة الدولة لم تَفقِد، رغم هذا، ما کان له من القوة والسلطان ، حتی إن بنی أمیة فی الأندلس لم یتخذوا لأنفسهم لقب الخلیفة أوالتسمیة باسم «أمیرالموءمنین» ، بل کانوا یسمون أنفسهم « بنی الخلائف » .

ثم جاء الفاطمیون فکانوا أول من خرج علی هذه القاعدة ، فلم یکتفوا بأن یکونوا أمراء ذوی سلطة دنیویة فقط ، بل أرادوا أن یکونوا الخلفاء الحقیقیین للنبیّ صلی الله علیه و آله ، فاتخذوا لأنفسهم لقب الخلافة بعد فتح القیروان فی سنة 297 ه _ 909م(1) .

ثم أسرعت قیمة هذا اللقب إلی الهبوط حتی نجد حاکم سجلماسة ، جنوبی جبال أطلس ، وکان حاکما سُنِّیَّاً صغیراً ، یسمِّی نفسه بأمیرالموءمنین فی سنة 342 ه _ 953م وهو اللقب الذی کان من قبل یبعث فی النفس رهبةً عظیمة(2) .

ولما علم عبدالرحمان بالأندلس أن العلویین بإفریقیة تلقبّوا بأمیرالموءمنین اتخذ لنفسه أیضاً لقب الخلافة ، وتسمَّی بأمیرالموءمنین فی سنة 350ه _ 961م(3) .

ولکن لم یکن من شأن هذا الانقسام وتعدّد أمراء الموءمنین أن یوءدی إلی ضیق فی معنی الإسلام أو فی الوطن الإسلامی ، بل صارت کل هذه الأقالیم توءلف مملکة واحدة ، سمیت مملکة الإسلام _ وهو الاصطلاح الذی لم یستعمله

ص: 20

المسعودی _ تمییزاً لها عن مملکة الکفر، وقامت وحدةٌ إسلامیة لا تتقید بالحدود السیاسیة الجدیدة .

وهذا عکس ما نشأ عن اتحاد الإمبراطوریة الألمانیة فی القرن التاسع عشر(1) .

یعتبر المقدسی أن مملکة الإسلام تمتد من کاشغر فی أقصی المشرق إلی السوس الأقصی فی المغرب ، وأنها تُقطَع فی نحو عشرة أشهر(2) .

أما عند ابن حوقل فحدود مملکة الإسلام هی : شرقیها أرض الهند وبحر فارس ، وغربیها مملکة السودان الذین یسکنون علی المحیط الأطلسی ، وشمالیها بلاد الروم وما یتصل بها من الأرمن واللاّن والران والخزز والبُلغار والصقالبة والترک والصین ، وجنوبیها بحر فارس(3) .

وکان المسلم یستطیع أن یرتحل فی داخل حدود هذه المملکة فی ظل دینه وتحت رایته ، وفیها یجد الناس یعبدون الإله الواحد الذی یعبده ، ویصلّون کما یصلّی ، وکذلک یجد شریعة واحدة وعُرفاً واحداً ، وعاداتٍ واحدة .

ص: 21

وکان یوجد فی هذه المملکة الإسلامیة قانون عملی یضمن للمسلم حقَّ المواطِن ، بحیث یکون آمناً علی حریّته الشخصیة أن یمسَّها أحدٌ، وبحیث لا یستطیع أحد أن یسترقّه علی أی صورة من الصور(1) . [*1]

وقد طوَّف ناصر خِسرو فی هذه البلاد کلها فی القرن الخامس الهجری (الحادی عشر المیلادی) دون أن یلاقی من المضایقات ما کان یلاقیه الألمانی الذی کان ینتقل فی ألمانیا فی القرن الثامن عشر بعد المسیح علیه السلام .

وکان الخلیفة الفاطمی علی أشد ما یکون من المنافسة لبنی العباس ، فکان یخطَب له فی الیمن والشام زیادة علی إفریقیة ومصر ، وکان لمذهب الفاطمیین «دعاة منبثون فی کل صقع وناحیة»(2) ؛ وتدلنا هذه الحکایة الصغیرة علی أن الخلیفة الفاطمی کان ینسب له فعل کل شیء : کان علی صدر زبزب للسلطان عضد الدولة صورةٌ لسبع ذمن الفضة ، فسُرق ؛ وعجب الناس کیف کان هذا مع هیبة عضد الدولة المفرطة ، وکونه شدیدَ المعاقبة علی أقلّ جنایة ؛ ثم قُلبت الأرض فی البحث عن السارق ، فلم یوقَف له علی خبر ؛ فقیل عند ذلک إن صاحب مصر ، یعنی الخلیفة الفاطمی ، دسَّ من فعل هذا(3) .

وفی عام 401ه بلغ من جراءة قرواش بن المقلّد ، أمیر بنی عقیل ، أنه خطب للحاکم بأمر اللّه فی أعماله کلها ، وهی الموصل والأنبار والمدائن والکوفة ، وذلک تحت سمع العباسیین وبصرهم ، حتی أرسل الخلیفة القادر إلی بهاء الدولة فسیَّر

ص: 22

إلیه جیشاً ؛ فبعث قراوشُ یعتذر ، وقطع الخطبة للعلویین ، وأعادها للقادر(1) .

وکان الخلیفة فی بغداد یجد بعض العزاء عما ضاع من سلطانه حین یری مثلاً أن السلطان محموداً صاحب غزنة ، وهو الأمیر الذی أخذ نجمه فی الصعود ، یظهر له احتراماً عظیماً ، ویوقفه علی انتصاراته ، ویشکو إلیه ما یجد ؛ وفی سنة 403 ه (1012م) مثلاً أرسل الحاکم بأمر اللّه إلی السلطان محمود کتاباً یدعوه فیه إلی طاعته ، فبعث محمود بالکتاب إلی الخلیفة القادر بعد أن خرَّقه وبصق فی وسطه(2) .

وکان النزاع علی أشد ما یکون فیما یتعلق بمکة والمدینة من بین الأراضی المقدسة ، لأن امتلاکهما أصبح له شأنٌ أکبر من ذی قبل ؛ فلم تکن توجد من قبل مناسبةٌ للبحث فی علامة الخلیفة الحقیقی ؛ أما الآن فقد ظهرت من ثنایا النزاع حول هذا المنصب نظریةٌ جدیدة ، هی أن أمیرالموءمنین الحقیقی هو من کان مَلِکا للحرمین(3). وهذه هی النظریة التی یستند إلیها الیوم فی إثبات حق العثمانیین فی الخلافة(4) .

وکان العلویون فی هذا النزاع علی الأراضی المقدّسة هم الخصم الثالث الذی یأتی آخراً فیفوز بالغنیمة ، وکان الحسنیّون منهم یتمتّعون دائما حول المدینة بمال وجاه عظیم ، ولذلک استطاعوا أن یفتحوا مکة حوالی منتصف القرن الرابع

ص: 23

الهجری ، دون أن یعترض علیهم الطرفان الآخران ، وهما العباسیّون والفاطمیّون ونری فی أواخر هذا القرن فی البلاد المقدّسة الحالة التی نراها الیوم. فالمدینة هی مرکز الحرکة السیاسی _ وقد کانت العاصمة السیاسیّة قدیماً _ ومنها یسیر التیار السیاسی إلی مکّة ، وکذلک نجد الأشراف سادة الحرمین (1).

وفی هذا العصر نجد مملکة الإسلام تعود من الناحیة الجغرافیة إلی حدودها الأولی ، وتفقد مملکاتها فی الغرب ، وکان البحر الأبیض المتوسط بعد عصر شارلمان قد أصبح بحراً عربیّاً ؛ واستطاع العباسیّون منذ أوائل القرن الرابع أن یحافظوا علی حدودهم الغربیّة من اعتداء البوزنطیین ، وکانت أخبار الانتصارت تُقرأ من أعلی المنابر ببغداد. وفی عام 293ه _ 904م أخذ قرصان المسلمین مدینة سالونیقی ، ثانیة مدن الدولة البوزنطیة ، وهی مدینة کبیرة محصَّنة بأسوار وحصون وأبراج ، وأسروا من أهلها اثنین وعشرین ألفاً(2).

غیر أن زحف الروم بدأ سنة 314ه _ 926م باستیلائهم علی بمدینة ملطیّة(3) .

وفی عام 331ه _ 942م وافت جیوش الروم إلی دیار بکر ، وبلغوا قرب نصیبین ، وطلبوا من أهل الرُّها أن یدفعوا إلیهم المندیل الذی کان المسیح علیه السلام مسح به وجهه ، وصارت صورة وجهه فیه ، وذلک فی مقابل إطلاق عدد من أسری المسلیمن ؛ وکوتب الخلیفةُ المتَّقی فی ذلک فاستحضر الوجوه من أهل مملکته لأخذ رأیهم ، وقام جدال عظیم بینهم ، فذکر البعض أن هذا المندیل منذ

ص: 24

الدهر الطویل فی کنیسة الرُّها ، لم یلتمسه ملکٌ من ملوک الروم ، وأن فی دفعه إلیهم غضاضةً علی الأسلام ، لأن المسلمین أحق بمندیل عیسی علیه السلام ، وفیه صورته .

فقال علی بن عیسی ، وهو الوزیر المُسِنّ إذ ذاک : إن خلاص المسلمین من الأسر، وإخراجهم من دار الکُفر ، مع ما یقاسونه من الضنک والضرّ أوجب وأحق ، ووافقه جماعةٌ ممن حضر علی قوله ، وسُلّم المندیل ألی الروم ، فحملوه إلی القسطنطینیة ، وخرج البطریرک وکبار رجال الدولة لاستقباله ، ومشی أهل الدولة بأجمعهم بین یدیه بالشمع الکثیر ، وحُمِل إلی الکنیسة العظمی أَجْیا صوفیا ، ومنها إلی البلاط(1). ویشکو المسعودی « من ضعف الإسلام فی هذا الوقت وذهابه ، وظهور الروم علی المسلمین ، وفساد الحج ، وعدم الجهاد ، وانقطاع السبیل ، وفساد الطریق ، وانفراد کل رئیس وتغلُّبه علی الصقع الذی هو فیه ، کفعل ملوک الطوائف بعد مضیّ الإسکندر... ولم یزل الإسلام مستظهراً إلی هذا الوقت ، فتداعت دعائمه ، وهی اُسُّه ، وهی سنة اثنتین وثلاثین وثلاثمائة ، فی خلافة أبی إسحاق إبراهیم المتّقی للّه أمیرالموءمنین ، واللّه المستعان علی ما نحن فیه »(2).

ص: 25

أما الإمبراطوریة البوزنطیة فقد أسعدها الحظ فی هذا القرن بثلاثة قواد ذوی کفایة نادرة ، تعاقبوا علی عرشها ، وهم نقفور فوکاس (Nikephoros Phokas) وزیمسکیس (Zimiskes) ، وباسیلیوس (Basilios) .

وقد مکث آخرهم وأکفوءهم علی رأسها خمساً وخمسین سنة . وفی سنة 350ه _ 961م فتح نقفور جزیرة أقریطیش بعد حصار دام ثمانیة أشهر(1) .

وکانت هذه الجزیرة أکبر عش للقرصان المسلمین .

وبعد خمس سنین سقطت قبرص فی ید الروم ، فلم تعد للمسلمین السیادة المطلقة التی کانت لهم فی البحر الأبیض المتوسط .

وفی سنة 351ه _ 962م ورد نقفور حلب ، وفی سنة 354ه _ 965م فتحت مدینة المصیصة(2)، وأخیراً وقعت طرسوس ، مع ماسُجَّل لأهلها من شجاعة ، وکانت أکبر حصن للإسلام فی وجه المغیرین علیه ؛ وقد أخذها الروم بعد أن عظُم بها الغلاء والوباء حتی بلغ الأمر بالناس إلی أکل المیتة. وفی عام 357ه _ 968م فتح نقفور حماة وحمصا ، وأخذ من حمص رأس القدیس یوحنا المعمدانی ، وکذلک فتح مدینة اللاذقیة. وفی الشتاء التالی سقطت مدینة أنطاکیة بعد أن کان یُخیّل للناس أنها لن تُغلَب(3) .

ولما أعاد الروم فی سنة 362ه _ 972م علی الرُّها ونواحیها وساروا فی دیار الجزیرة حتی بلغوا نصیبیین ودخلوا دیار بکر ، فغنموا استباحوا وقتلوا وسبوا وخرّبوا البلاد ، قصد بغدادَ من نجا من أهل تلک البلاد مُستَنفِرین ، واجتمع معهم

ص: 26

أهلُ بغداد فی الجوامع ، وأصابهم جمیعاً غضبُ الیائسین ، فکسّروا المنابر ، ومنعوا الخُطَب ، وقصدوا دار الخلیفة ، فحاولوا الهجوم علیه ، واقتلعوا بعض شبابیک دار الخلافة ، وخاطبوا الخلیفة بالتعنیف ، فرماهم الغلمان بالنشاب من الرواشن(1).

وقد اجتمع من استنفار العامة للغُزاة جمعٌ عظیم من العامّة والأجلاد یبلغ زهاء ستین ألفاً ؛ فطلب عزُّ الدولة بختیار بن بویه من الخلیفة المطیع للّه أن یبعث له مالاً یخرجه للغُزاة ، فامتنع الخلیفة بحجة أن الأموال لا تُجبی إلیه ، فلا تلزمه النفقةُ علی الغزاة ، وهدّد بالاعتزال ، وتردّدت الرسائل بینه وبین بختیار ، حتی بلغ الأمر التهدید ، فبذل المطیع أربعمائة ألف درهم ، واحتاج فی ذلک إلی بیع ثیابه وإنقاض داره من ساج ورصاص ، وشاع بین الحجّاج أن الخلیفة قد صودر » .

ثم تحزَّب الغُزاة إلی سنّیین وشیعة ، ووثب بعضهم علی بعض ، وأعرضوا عن ذکر الروم جانباً ، ولما قبض بختیار المال صرفه فی مصالحه ، وبطل حدیث الغزاة(2) .

وفی عام 364ه _ 974م فتحت بعلبک وبیروت ، واُخذت من بیروت صورة المسیح التی تنسب إلیها الخوارق ، ونقلت إلی الکنیسة التی أسّسها زیمسکیس فی قصر البرنز بالقسطنطینیّة .

أما أهل دمشق فقد اضطروا إلی أن یفتدوا أنفسهم بدفع ستین ألف دینار ،

ص: 27

یحملونها للروم فی کل عام(1) .

أما فی جنوب المملکة الإسلامیة فقد حافظ المسلمون علی الحدود التی کانت للرومان قدیماً ، وصدّوا هجمات النوبة .

ویحدثنا المسعودی وهو بمصر فی عام 332ه _ 943م أن النوبة کانوا قد صولحوا منذ ولایة عبداللّه بن سعد علی روءوس من السَبی معلومة ، وأن هذا السبی صار سنّة جاریة فی کل سنة إلی عهده ؛ ویدعی هذا السبی بأرض مصر والنوبة بالبَقط ، ویقبضه نائب أمیر مصر المقیم ببلاد أسوان(2) .

وفی عام 345ه _ 956م سار عسکر مصر وفتحوا مدینة أبریم ، وهی آخر حصون النوبة ممّا یلی مصر(3) .

وفی أقصی الجنوب الغربی دخلت فی الإسلام مدینة أودغشت ، وهی المدینة التجاریة الکبری فی غرب الصحراء الإفریقیة ، فصارت هذه المدینة أقصی نقطة للإمبراطوریة الإسلامیّة من ناحیة وسط إفریقیة(4) .

علی أنه إدا کان سلطان الإسلام کان ینحسر عن بلاد فی الغرب ، فقد کان یقابل ذلک تقدُّمُه المستمر فی الشرق .

ففی عام 313ه _ 925م فتحت بلوخستان ، وکانت حتی ذلک الحین علی

ص: 28

الوثنیة(1) .

وفی سنة 349ه _ 960م أسلم من الأتراک نحوٌ من مائتی ألف خرکاة(2) : وعلی حین أنه فی أواخر القرن الثالث الهجری کانت أسبیجاب(3) آخر مدینة للمسلمین مما یلی الترک ، فإن دخول بغراخان فی سلک أمراء المسلمین جعل حدود المملکة الإسلامیّة تنتهی حدودها إلی کاشغر(4).

وفی عام 397ه _ 1006م کان أهل بلاد خُتَن مسلمین(5) .

وفی ذلک الوقت شمَّر السلطان محمود بن سبکتکین ، صاحب غزنة ، وأخضع بلاداً واسعة من بلاد الهند لسلطان الإسلام ، وکانت علامة الثقة عند ملوک الهند أنهم یقطعون أصابعهم ، « وکان عند السلطان محمود من أصابع من هادنه

ص: 29

الکثیر »(1) .

ولا نرید أن نتعرض هنا للبحث فیما إذا کان انقسام دولة بنی للعباس دلیلا من دلائل التدهور ، إذا نظرنا فی هذه المسألة بمنظار هذا العصر الذی نعیش فیه والذی یحکم فی مثل هذه الأحوال علی أساس الکمّ وعلی أساس ما یسمونه بالوحدة ؛ علی أننا نستطیع أن نقول إن الإمبراطوریات العالمیة الکبری ترتکز دائماً إما علی شخص زعیم عبقری وإما بنوع خاص علی وجود طائفة من أهل الخشونة والقوة الوحشیة ؛ ووجود هذه الإمبراطوریات علی کلتا الحالتین وجود غیر طبیعی .

علی أننا لا نجد فی مصر علی عهد الإخشید وکافور والفاطمیین ما یدل علی تأخرها ، بل هی قد کانت منیعة الجانب ، وافرة العدة ، عظیمة الخیرات ؛ وکذلک یشهد الرحالون بمناقب السامانیین وعدلهم وشریف أعمالهم وما کان لمملکتهم من عظمة ومَنَعة(2) .

أما بغداد فهی التی قد تنکَّرت لها الأیام ، وذلک منذ عام 315ه _ 927م حین أرهَجها العیّارون ، وعاثوا فیها فساداً ، وأعملوا فیها النهب(3) لأول مرة .

ثم صار أمرهم یتفاقم کلما ضعفت الحکومة لأول مرة ، وکانت أسوء أیّامها السنوات التی افلت فیها الزمام مین ید الحکومة فیما بین مقتل بحکم ودخول بنی بویه ، أی مابین عامی 329ه و 334 = 940 _ 945م ؛ وکأنما کان سقوط رأس القبة الخضراء التی فی قصر المنصور بمدینة السلام عام 329ه _ 940م إرهاصا

ص: 30

بأفول نجم بنی العباس ، وکانت تلک القبة «تاج بغداد وعلَم البلد» ؛ وکان لیلة سقوطها مطرٌ عظیم ورعد وبرق شدید(1) .

وفی سنة 331ه _ 942م استطاع ابن حمدی ، وهو لص ظهر ببغداد علی رأس جماعة من أصحابه ؛ أن ینتهب أموال أهل بغداد ، وکان قد أعی السلطانَ أمرُه ، وخلع علیه ابنُ شیرزاد ، ووافقه علی أن یصحِّح فی کل شهر خمسة عشر ألف دینار مما یسرقه هو وأصحابه ؛ فکان یستوفیها ویأخذ البراءات وروزات الجهبذ بما یوءدیه أولاً فأولا.

وکان ابن شیرزاد فی ذلک الوقت کاتباً للقائد الترکی المسمی توزون ، فکان أمرُ الحکومة فی یدیه ، ومضی علی الناس فی أیام ابن حمدی وقتٌ تحارسوا فیه بالبوقات فی اللیل ، وامتنع علیهم النوم خوفا من کبسات هذا اللص وأصحابه(2) .

وخلت المنازل ببغداد من أهلها ، وصاروا یطلبون من یسکن الدار بأجرة یعطاها لیحفظها ، وأُغلقت عدة حمامات ، وتعطلت أسواق ومساجد(3) ، وأضیف إلی هذا ما کان بین السنیین والشیعة من نزاع دائم ، فکانوا یلقون النار بعضهم علی بعض دائما .

وفی سنة 361ه _ 971م قامت بالکرخ فتنةٌ ، فأرسل الوزیر حاجبه لقتال العامة ، وکان شدید العصبیة للسنّة ، فاضطر إلی إلقاء النار فی أماکن کثیرة لیقضی علی الفتنة ، فاحترق الکرخ حریقاً عظیما ، وکان عدة من احترق فیه سبعة عشر ألف إنسان ، وثلاثمائة دکان ، وثلاثة وثلاثین مسجداً ، ومن الأموال مالا یُحصی .

ص: 31

وبدأ الناس ینتقلون من الجانب الغربی إلی الجانب الشرقی ، ولا یزال هذا الجانب إلی الیوم أعمر وأکثر سکاناً(1) .

وفی عام 332ه _ 972م تولی ابن شیرزاد القیادة بعد موت توزون ، فأخذ فی المصادرات ، وقسَّط علی العمال والکتاب والتجار وسائر الناس ببغداد مالاً لأرزاق الجند ، وکثرت الضرائب حتی تهارب الناس من بغداد وفسد الأمن ، وکثرت کبَسات اللصوص ، حتی انهم دخلوا دار أحد القضاة ، فتسلق حائطاً لینجو منه ، فوقع ومات(2) .

وفی هذا العصر یصف المقدسی بغداد فیقول إنها «کانت أحسن شیء للمسین ، وأجلّ بلد ، وفوق ما وصفنا ، حتی ضعُف أمر الخلافة ، فاختلّت ، وخفَّ أهلها ؛ فأما المدینة فخراب ، والجامع فیها یُعمر فی الجُمَع ، ثم یتخللَّها بعد ذلک الخراب ... وهی فی کل یوم إلی وراء ، وأخشی أنها تعود کسامرّا ، مع کثرة الفساد والجهل والفسق وجور السلطان(3) .

ویذکر الصابی عن جماعة من الناس أنهم فی عام 392ه _ 1001م شاهدوا صینیة الکرخ فیما بین طرفی الحذّائین والبزّازین ، والفواخت والعصافر تمشی فی أرضها انتصاف النهار ، وفی الوقت الذی جرت العادة بازدحام الناس فیه بهذا المکان ؛ وذلک لأن البلد کان قد خربَ ، وانتقلّ أهله عنه(4) .

ص: 32

ولأجل هذا نجد المقدسی یشید بذکر مدینة الفسطاط بمصر ، ویقول إنها

«ناسخ بغداد ، ومفخر الإسلام ، ومتجر الأنام ، وأجلّ من مدینة السلام»(1) . ولقد ظلت عاصمة مصر منذ ذلک الحین أکبر مدن الإسلام .

ص: 33

ص: 34

أمر فیه بنصب علی بن ابی طالب علیه السلام للناس بغدیر خمّ وصارت فی علّی علیه السلام لقوله من کنت مولاه فعلیّ مولاه ، وهذا خروج من الرسالة والنبوة وتسلیم منه لعلی علیه السلام ، وقالوا فی محمّد بن اسمعیل ، انّه حیّ لم یمت ، وانّه القائم ، ومعناه انّه یبعث بالرسالة وبشریعة جدیدة ینسخ بها شریعة محّمد صلی الله علیه و آله . وزعموا انّ اللّه تبارک وتعالی جعل لمحمّد بن اسماعیل جنّة آدم علیه السلام . ومعناها الاباحة للمحارم . وزعموا انّ لجمیع الأشیاء التّی فرضها اللّه علی عباده وسنّها نبیه صلی الله علیه و آله ظاهر وباطن وانّ النجاة فی العمل علی البطون . واستحلّوا استعراض النّاس بالسیف وقتلهم علی مذهب ( بعض فرق الخوارج ) فی قتل اهل القبلة وأخذ أموالهم . ورأوا سبی النساء وقتل الأطفال وزعموا وجوب البدئة بقتل من قال بالامامة . ولیس علی أقوالهم خاصّة من قال بامامة موسی بن جعفر وولده من بعده ( باختصار من فرق الشیعة للنوبختی ص 71 إلی76 ) .

وعن المفید قدس سره ان القرامطة أخلاف المبارکیة والمبارکیة سلفهم ( البحار 37/10 ) وتعرّض فی تعلیقات بیان الأدیان للقرامطة وأورد بعض ما یشک فی صحته ( ص 438 _ 444 ) ویشبه عقیدتهم فی قتال أهل القبلة وحلّیة الأموال وسبی النساء والأطفال ما تعتقده الوهابیّة فی سایر المسلمین .

ممّن یستغیث بقبور الأنبیاء والأولیاء فعن الصنعانی ( منهم فی تطهیر الاعتقاد ) من فعل ذلک ( أی الاستغاثة وأمثالها ) لمخلوق فهذا شرک فی العبادة وصار من تفعل له هذه الامور الهاً لعابدیه وصار الفاعل عابداً لذلک المخلوق وإن اقرّ باللّه وعبده .

وفی موضع آخر فمن رجع و اقّر حقن علیه دمه وماله وذراریه ومن اصرّ فقد أباح اللّه منه ما أباح رسول اللّه صلی الله علیه و آله من المشرکین . انتهی .

ولماّ دخلوا الطائف قتلوا الرّجال وأسروا النساء والأطفال وعن کتاب التوضیح سلیمان بن

ص: 35

عبداللّه بن محّمد ابن عبد الوهّاب انّه قال : واباح لأهل التّوحید أموالهم ونسائهم وان یتّخذوهم عبیداً .

وعن تاریخ الأمیر حیدر انّ الوهابیّین فی بعض حروبهم سبوا النساء وقتلوا الأطفال(1) .

[*] ولقد أخبر عن القرامطة(2) أمیرالمؤمنین علیه السلام فی احدی خطب الملاحم ( ینتحلون لنا الحبّ والهوی ویضمرون لنا البغض والقلی وآیة ذلک قتلهم ورّاثنا وهجرهم احداثنا قال ابن أبی الحدید (3) وصحّ ما اخبر به ، لأنّ القرامطة قلت من آل أبی طالب علیه السلام خلقاً کثیراً وأسماءهم مذکورة فی کتاب مقاتل الطالبیّین لأبی الفرج الاصفهانی ومرّ أبو طاهر سلیمان بن الحسن الجنابی فی جیشه بالغریّ وبالحایر فلم یعرّج علی واحد منهما ولا وقف وفی هذا الخطبة وهو یشیر إلی الساریة التی کان یستند إلیها فی مسجد الکوفة کأنّی بالجحر الأسود منصوباً هاهنا ویحهم انّ فضیلته لیست فی نفسه بل فی موضعه واسّه یمکث هاهنا برهة ثمّ هاهنا برهة ( وأشار إلی البحرین ) ثمّ یعود إلی مأواه وامّ مثواه ووقع الأمر فی الحجر الأسود بموجب ما اخبر به علیه السلام ) .

ص: 36

ص: 37

صبی ، ولا تجوز المبایعة له(1) .

ولکن الجماعة المنآمرین أخطأوا التقدیر ، فإن أمَّ المقتدر ، وهی أمُّ ولد رومیة ، قبضت علی زمام الأمر هی وأولیاوءها بید القوة والحزم ؛ فکانت تُولّی وتعزِل ، وحالت بین القوم وبین انتهاب ما فی بیت المال . ومما یدل علی قوة عزیمتها وبعد نظرها طریقتُها فی العنایة بمراقبة ما کان یقروءه أبناوءها : یحدثنا الصولی أنه کان یوماً عند الراضی ، یقرأ علیه شیئاً من شعر بشّار ، وبین یدی الراضی کتبُ لغة وکتب أخبار ، أذجاء خدمٌ من خدم السیدة جدته ، وهی شغب أم المقتدر ، فأخذوا جمیع ما بین أیدیهما من الکتب ، فجعلوه فی مندیل أبیض کان معهم ومضوا ؛ فوجم الراضی واغتاظ ، فسکّن منه أستاذُه ، وأفهمه أنهم أرادوا أَن یمتحنوا الکتب ، ولما مضت ساعتان أو نحو ذلک ردّوا الکتب بحالها ، فقال لهم الراضی : قولوا لمن أمرکم بهذا : قد رأیت هذه الکتب ، وإنما هی حدیث وفقه وشعر ولغة وأخبار وکتب العلماء ، ومن کمّله اللّه بالنظر فی مثلها ، وینفعه بها ، ولیست من کتبکم التی تبالغون فیها مثل عجائب البحر وحدیث سندباد والسنّور والفأر ؛ فخاف الصولی أن یوءدّی الخدمُ قولَه ، فیقال : من کان عنده ؟ فیذکرونه ، ویلحقه من ذلک مکروهٌ ، فقام إلی الخدم ، فسألهم ألا یعیدوا قولَه ، فقالوا : واللّه مانحفظه ، فکیف نعیده(2) ؟ وقد لبث المقتدر علی عرش الخلافة زهاء خمسة وعشرین عاماً ، تحت جناحی اُمِّه ، وقد خلع فی أثناء هذه المدة مرتین ، فکان یثور علیه بعض قواده ویزیلونه عن سریر مُلکه یوماً أو یومین ، ثم یعود إلیه ؛ ولم یخرج فی

ص: 38

جیش لیقاتل إلامرة واحدة ، وقد قُتل فیها ؛ وذلک أن قواّده طلبوا منه أن یخرج معهم لمحاربة موءنس ، فأبی ؛ وما زالوا به حتی خرج کارهاً ؛ وقد جَهِدَت به أُمُّه ألا یخرج ، وکشفت عن ثدییها ، وبکت ، ولکن غلب الفضاء ، فخرج وعلیه البُردة[*] النبویة التی یتوارثها الخلفاء؛ ووافی أصحابُ موءنس فضربه رجلٌ منهم من خلفه ضربة سقط منها إلی الأرض ، فأضجعه ، وذبحه بالسیف ، وسُلبت ثیابه والبُردة فیها حتی سراویله ؛ وتُرک مکشوف العورة إلی أن مرّ به رجلٌ من الأکَرَة ، فستر عورته بحشیش ، وکان المقتدر رَبع القامة ، إلی القصر أقرب ، دُرّی اللون ، صغیر العینین ، أحور ، حسن الوجه واللحیة أصهبهما(1) ؛ وکل ما یحکی عنه یدل علی الهدوء وحب الخیر وسلامة الصدر : کان الوزیر أبوالحسن علی بن عیسی یُطلِق فی کل شهر فی جملة نفقات المطبخ لثمن المسک نحو ثلاثمائة دینار ؛ وکان یوماً عند الخلیفة فدار بینهما الحدیث ؛ وعلم الوزیر من سیاق الکلام أن الخلیفة لا یأکل طعاماً فیه مسک ، ولا یُطرح له من المسک إلا الیسیر فی الخشکنانج ؛ ثم نهض الوزیر ومشی للخروج ، فأمر المقتدر باللّه برده ، وقال له : أظنک تنصرف الساعةَ ، وتفتتح نظرک باحتضار المتولّی للمطبخ وموافقته علی ما جری بیننا فی أمر المسک ، وتُسقِطه ، فقال : کذلک هو یا أمیر الموءمنین ! فضحک الخلیفة وقال : أحب ألا تفعل ذلک ، فلعل هذه الدنانیر تنصرف فی أقوات ونفقات قوم ، ولا أرید قطعَها عنهم(2) ؛ وکان المقتدر کثیر الشراب(3) .

ص: 39

ثم انتُخب أخوه القاهرُ خلیفةً بعده ؛ وکان القوم قد اتَّعظوا بحکم المقتدر ، فعیّنوا القاهر ، وقالوا : هو کهل ، ولا أُمَّ له ، فنرجو أن تستقیم أمورُنا معه(1). وکان القاهر أیضاً مربوعاً ، حسن الجسم ، أبیض ، تعلوه حمرة ، أعین ، وافر اللحیة ، ألثغ(2) .

وفی سنة 317ه _ 929 قامت ثورة قُصِد منها خلعُ المقتدر وتنصیب أخیه القاهر مکانه فأخمدت ، وحُمِل القاهر إلی أخیه فاستدناه ، وجعل یُهدِّی من روعه ، ویلتمس له العذرَ ، ویُبَرَّئه من إثم الموءامرة ، وهو یقول : نفسی نفسی ، اللّه اللّه یا أمیرالموءمنین ! یرجو أخاه أن یُبقی علی حیاته(3) .

وکان القاهر أهوج ، شدید الإقدام علی سفک الدماء ، محبا للمال ، قبیح السیاسة ، قلیل الرغبة فی اصطناع الرجال ، غیر مفکر فی عواقب الأمور ؛ وکان مولعاً بالشراب ، لا یکاد یصحو من السکر ، وکان یسمع الغناء ، ومع ذلک حرّم علی الناس الخمر والقیان(4) .

ولکنه وُفّق إلی القضاء علی موءنس القائد رغم ما کان لموءنس هذا من سلطان عظیم(5) .

کما أنه وفّر کثیراً من المال ؛ ولما طُلب منه أن یشهد علی نفسه بالخلع أبی أن

ص: 40

یحِلَّ الطالبین من بیعته ، فخُلع وسُملت عیناه ، ولم یسمَل قبله أحد من الخلفاء وملوک الإسلام(1) .

وسَمل الأعین هذا عادة أخذها المسلمون عن البوزنطیین ، ثم عاش القاهر بعد خلعه سبعة عشر عاماً فی دار الخلافة ؛ حتی نقله المستکفی منها ، وکان قد بلغ به الضرّ والفقر إلی أن کان مُلتَفَّا بقطن جُبَّة ، وفی رجله قبقاب خشب(2) .

وقد خرج فی یوم جمعة إلی جامع المنصور وغطی وجهه ، ووقف فعرّف الناسَ نفسه وسألهم أن یتصدَّقوا علیه ، فقام إلیه أحد الهاشمیین فأعطاه ألف درهم وردّه إلی داره .

ولما عُیِّنَ الراضی (322 _ 329ه = 933 _ 940م) ابن أخی القاهر خلیفةَ کان له من العمر خمسةٌ وعشرون سنة .

وکان أسمر ، أعین ، دون الأقنی ، مسنون الوجه ، خفیف العارضین واللحیة ، دحداحاً نحیفاً(3) .

وکان محبا للشعر والإنشاد ، ومن أحسن الناس علماً بالشعر ونقداً له ، کما ینقده العلماء ؛ وکان من أطبع ملوک بنی العباس فی الشعر ومن أکثرهم قولا له ؛ وقد ترک لنا من ذلک دیواناً مکتوباً .

وکان مولعاً بجمع البلّور حتی یقول الصولی : وما رأیت البلّور عند ملک أکثر منه عند الراضی ، ولا عمل مَلکٌ منه ما عمل ، ولا بذل فی أنمانه ما بذل ، حتی

ص: 41

اجتمع له من آلته ما لم یجتمع لملک قط(1) .

وقد أُولع بهدم القصور فی دار الخلافة وبناء غیرها أو تصییرها بساتین(2) .

وکان الراضی سمحاً ، عظیم العطاء ، واسع النفس ، ینفق ما وجد ؛ ویحکی أنه دخل علیه جماعةٌ من الجلساء ، وهو یهدم شیئاً ویبنی شیئاً ، وکان جالساً علی آجرّة حِیال الصناع ، فأمرهم بالجلوس فی حضرته ، فأخذ کل واحد منهم آجرّة فجلس علیها ؛ فلما قاموا أمر أن توزن آجُرة کل واحد منهم ویدفع إلیه وزنُها دراهم أو دنانیر(3) .

وکان ابن الأنباری یتردد إلی أولاد الراضی ؛ ویحکی عنه أنه مضی یوماً إلی سوق النخاسین ، وجاریةٌ تُعرَض حسنةٌ کاملةُ الوصف ، فوقعت فی قلبه ؛ ثم مضی إلی دار أمیرالموءمنین الراضی ، فقال له : أین کنت فعرّفه ، فأمر بشراء الجاریة له ، وحملها إلی منزله ؛ فلما جاء إلیه وجدها هناک(4) .

ولم یجد أصحاب الراضی فیه من العیب إلا أنه کان یوءثر لذته وشهوته علی رأیه ، وأنه کان ، رغم مرضه ، لا یحتمی ، وکان إذا وصف له أطباوءه شیئاً لا یستعمله ، وإذا أکل الشیء الضار لم یُعْلِمهم(5) .

ومات وهو فی الثانیة والثلاثین من العمر(6) .

ص: 42

وفی آخر علّته أخذ فی قضاء دیونه ، وتقدّم بعمل المُغْتَسَل والتابوت ، واختار لنفسه ثیاباً لکفنه ، وعزلها فی سفط ، وکتب رقعة فیها : هذه جهاز الآخرة(1) .

ولکن عهده لم یسلَم من سفک الدماء ؛ فقد احتال علی الوزیر ابن مقلة بعد ترکه الوزارة ، حتی قبض علیه وسجنه . وقبض علی جماعة من أهله وأقاربه ممن سعی فی تقلید الأمر لنفسه وبایعه الناس علیه ، فمنهم من قتله ، ومنهم من ضربه وسجنه ، فمات فی سجنه ، ومنهم من استتر طول مدته(2) .

ثم ارتقی عرشَ الخلافة بعده أخوه المتَّقی ، وهو فی السادسة والعشرین من العمر ؛ وکان رَبعَةً دُرَّیٌ اللون ، حسن الوجه ، أبیض ، أشهل ، مستدیر العینین ، مقرون الحاجبین ، قصیر الأنف ، فی شعره شُقْرَةٌ وجَعودة(3) .

ولم یشرب النبیذ قط ، وکان یتعبَّد ویصوم ، ولم یتخذ جلساء له ، وکان یقول : المصحف ندیمی ولا أرید جلیساً غیره(4) ؛ ولکنه کان رجلا لم یفارقه البوءس ، فلم یزل فیه إلی أن مات ؛ فمن ذلک أنه لما أرید أن یعذَر له ، وهو صغیر ، عُمل له کلُّ شیء حسن ؛ فکان فیما أعِدَّ له عشرُ وصائف للمِذَبَّات وکیزان الماء ، وأُمِر بأن ینظِّفوهن ویزِّینوهن ، فأدخلوا قبل أن یُعْذَر له بلیلة . الحمَّام ، فسقط علیهن ، فما أفلتت منهن واحدة ، فکان هو یختَن وأولئک یدفَنَّ ؛ ویقال إنه منذ نشأ ما جُعل برسمه خادم لحضانته إلا مات ، فکان الخدم إذا عُرضت خدمته علیهم استعفوا ؛ وقد رکب مع ابن رائق یوماً فی رحبة الجسر ، فاجتمع الناس یدعون له

ص: 43

وازدحموا للنظر إلیه ، فانقطع الکرسی وسقطوا إلی دجلة ، وهی زائدة ، فهلک فی ذلک الیوم عالمٌ عظیم من الأولیاء والنساء والصبیان(1) .

وظل البوءس حلیفاً بعد ارتقائه العرش ، فهو أول خلیفة ترک «مدینة السلام» خوفا وطلباً للنجاة ، ولحق بالحمدانیین ، وظل ینتقل معهم فی الجزیرة ، وهم یهزَمون مرة بعد أخری ؛ وقد أشار علیه الإخشید محمد بن طُغج ، بعد أن کتب إلیه یستقدمه ، بأن یسیر معه إلی مصر والشام ، ویکون بین یدیه ، فلم یفعل(2) .

وقد اطمأن إلی مواثیق القائد الترکی توزون ، وأَمِن جانبه بعد أن استوثق منه مرة بعد أخری ؛ ولکن توزون غدر به لأجل ستمائة ألف دینار أخذها من أحد طالبی عرش الخلافة ، فقبض علیه وخلعه ، وأمر بإحضار الجاریة الشیرازیة حُسن ، فتولت سَملَه بید غلامها السندی وعاش المتقی بعد خلعه أربعا وعشرین سنة ، ومات بداره(3) .

ثم خلفه المستکفی بعد أن تآمر علیه مع توزون ، وسفرت بینهما حُسن الجاریة الشیرازیة ، فارتقی المستکفی عرشَ الخلافة بعار هذه الموءامرة ، وکانت أمُّه أُمَّ ولدَ رومیة تسمی غُصن(4) .

وکان أبیض اللون ، صغیر الفم ، حسن الوجه والجسم ، بدیناً ، أعین ، طویل الأنف ، وافر اللحیة ، رَبعَة ، إلی الطول أقرب ، وقد وخطه الشیب(5) ؛ ونادراً ما

ص: 44

کانت تقرّ عینه بمنصبه ، وهو بین امرأة جشعة رفعته بدسائسها إلی منصب الخلافة ، وبین الترک الذین أصبحوا سادة بغداد.

وأخیراً جاء بنو بُوَیه ، فکان أولُ ما طلبه أحمد بن بویه من المستکفی أن یستکتب ابنَ شیرزاد ؛ وکان المستکفی قد حلف ألا یتصرَّف ابنُ شیرزاد فی أیامه ودولته ؛ ولما ألحّ علیه ابنُ بویة أجابه إلی ما طلب علی کُره منه ؛ قال ذکاء مولی الراضی : وکنت حاضراً ، فأجابه المستکفی علی کُره منه ، ورأیت عینیه وقد تغرغرتا بالدموع ، لِعظم ما ورد علیه من سوءال ابن بویه(1) .

ولما جاءوا إلیه لیخلعوه رضی أن یخلع نفسه ؛ ولکنه شرط علیهم أن یقطعوا شیئاً من أعضائه(2) .

غیر أن المطیع أخا المتقی هو الذی خلف المستکفی ، فأمر أن یُسمل انتقاماً لأخیه ؛ وطلب من یسمِله ، فلم یُقدِم علی ذلک أحد إلا خادمُ صقلبی کان المستکفی قد استخدمه ، ثم وَجِد علیه فی بعض أوقاته فضربه مائتی سوط وحبسه ؛ فکان هذا الخادم حَنِقا علیه ، فقال للمطیع : أنا أکحله ، وقام بهذه المهمة(3) .

أما الخلفاء المتأخرون فلم یکن لهم عمل بالفعل فی إدارة الدولة ، فطال لذلک حکمهم ؛ فأما المطیع فإنه خلع نفسه غیرَ مُستَکرَهٍ ، وترک ولایة الخلافة لابنه الطائع ؛ وذلک أن المطیع کان قد ناله فالجٌ قدیماً ، وکان یستره ؛ فظهر وتعذَّرت علیه الحرکةُ .

ص: 45

وثَقُل لسانه ، فترک ولایة الخلافة لابنه(1) .

ثم خُلع الطائع بعد ثمان عشرة سنة من حکمه ، وقُبض علیه . واعتُقل عند الخلیفة القادر مُکرَّما ، حتی مات بعد اثنتی عشرة سنة(2) ؛ ولا نعرف کثیراً عن هوءلاء الخلفاء ؛ فأما المطیع فکانت أمَّه أمَّ ولد صقلبیة ، وکانت أشهر منه ؛ وتعرف بالصفَّارة ؛ لأنها کانت تأخذ من ورق السوسن وغیره الشیء الیسیر ، وتجعله فی فمها ، وتصفر به صفیراً لم یسمع بمثله ، تحکی به کل طائر أو غیره(3) .

وأما الطائع فکانت علیه ملامحُ الجنس الشمالی ؛ فقد کان أبیض أشقر ، حسن الجسم شدید القوة ؛ ویحکی أنه کان فی دار الخلافة أَیلٌ عظیم یقتل بقرنه الدوابّ ، ولا یتمکن أحد من مقاومته ؛ فاحتمال الطائع حتی أمسک قرنیه بیدیه ، فلم یقدر أن یخلَّصهما منه ؛ واستدعی النجار ، فرکّب المنشارَ علیهما ، ولما بقیا علی یسیر قطعهما بیدیه(4) .

وکان القادر من أهل الستر والدیانة وإدامة التهجّد باللیل وکثرة البرّ والصدقات ؛ وکان یأخذ ثلثی الطعام الذی یُهیَّأُ لإفطاره ویقسمه بین جامعین کبیرین(5) .

وکان یخضب لحیته الطویلة الکثّة ، ویلبس زیّ العوام ، ویقصد الأماکن المعروفة بالبرکة مثل قبر معروف الکرخی ، وتربة ابن بشّار ؛ وکان یتخَفَّی ویغیِّر

ص: 46

زیَّه ، ویخرج لیتعرف أحوال رعیته ؛ وکان صحیح الاعتقاد ، ویحکی أنه صنَّف کتاباً فی الأصول علی مذهب أصحاب الحدیث ؛ وکان هذا الکتاب یقرأ کلَّ جمعة فی حلقة أصحاب الحدیث بجامع المهدی ، ویحضر الناسُ سماعَه(1) .

هذه صورة لبعض خلفاء بنی العباس أیام إدبار دولتهم ؛ وهی تخالف صورة خلفاء الفاطمیین الذین أخذ نجمهم إذ ذاک فی الارتفاع . یدّعی الفاطمیون أن الإمامة أو الأفضلیة صفةٌ خاصة تنتقل من الوالد إلی الولد ، فکفاهم ذلک من أول الأمر موءونة التنازع علی عرش الخلافة ؛ ویضاف إلی هذا هدوء السیاسة الحازمة وطمأنینتُها فی عهدهم ؛ فمن أمثلة ذلک أن والی الشام کتب مرة إلی المعزّ لدین اللّه (341 _ 365 ه = 952 _ 975م) مباشرة وتخطّی من دونه ، فمنع الخلیفةُ من ذلک ، وأعاد الکتاب إلی الوالی من غیر أن تُفَضّ أختامُه . وکان العزیز (365 _ 386 ه = 975 _ 976م) أعظم هوءلاء الخلفاء ؛ وکان أسمر ، طویلا ، أصهب الشعر أزرق العینین کبیرهما ، عریض المنکبین ، عارفاً بالخیل والجوهر(2) ، وکان صیاداً جریئاً ماهراً ؛ وقد ضرب أول مثل للفروسیة العربیة بما تنطوی علیه من العفو وکِبَر القلب ، وهی التی أثَّرت فیما بعد تأثیراً کبیراً فی الغرب ؛ فقد حدث أن أحد القواد الأتراک خرج علی طاعة جوهر عام 365ه _ 975م وهزم جوهراً ؛ فالتجأ هذا إلی عسقلان ، فأدرکه الترکی وحاصره مدة طویلة حتی طلب الصلح ؛ فأجابه وعلّق الترکی سیفاً مجرّداً علی باب حصن عسقلان ، وخرج جوهر وأصحابه من تحت السیف ، ثم دخلوا إلی مصر ، فلم

ص: 47

یرضَ العزیزُ بالصلح ، وسار بنفسه لمحاربة الترکی ؛ فهزمه وأسره ، واستنقذه من بین یدی آسریه ، بعد أن کاد یموت ضرباً ولکماً ؛ وأمّنه علی نفسه ، ودفع إلیه خاتمه ؛ واستسقی الترکی ماء ، فأمر العزیز بإحضار قدح شراب جلاَّب ، فلما أتی بالقدح توقّف الترکی علی الشرب خوفاً من أن یکون فی القدح سمٌّ قاتل ؛ وتبیَّن العزیز ذلک ، فأخذ القدح وشرب منه ، ثم أعطاه لیشرب ؛ وأفرد له خیمة ، وتقدّم بأن یُحمل إلیه جمیعُ ما یحتاج إلیه ، وحمله علی دوابَّه ، وأمره بالرکوب علی مرکبه ؛ وسأله عن أناس ممن یأنسَ بهم ، فالتمس إحضار قوم من أصحابه ؛ فأنی إلیه بهم من بین الأساری ، ولما رجع العزیز إلی مصر تقدم إلی وجوه دولته وقواده وأمرائه بإکرام الترکی وإجلاله(1) .

وأخیراً جاء الحاکم بأمراللّه ، وهو الشخصیة النادرة المتناقضة ؛ کان الحاکم رجلاً غریباً فی أطواره ؛ فمن ذلک أنه أقام سنین یجلس فی الشمع لیلاً ونهاراً ، ثم عنّ له أن یجلس فی الظلمة ، فجلس فیها مدة(2) .

وکان أحیاناً یواصل الرکوب لیلاً ونهاراً من غیر فتور ولا سکون ؛ وکان یرکب فی نفر من خاصته لیلاً ؛ فتقدّم أصحابُ الأعمال بمصر إلی التجار أن یوقدوا القنادیل علی حوانیتهم ودورهم ، وأن یبتاعوا باللیل ، فصارت الشوارع والأسواق فی اللیل بمنزلة النهار فی العمارة(3) .

وتقدّم بقتل سائر ما فی مصر من الکلاب إلاّ کلاب الصید ، لأنها کانت تنبح

ص: 48

باللیل إذا عبر الشوارع(1) ، ولما اعتلّ وضعُف عن الرکوب اتخذت له مِحَفَّةٌ یجلس فیها ویستلقی علیها ، ویحملها أربعة من رجاله ، ثم یدور اللیل والنهار(2) ؛ وفی مثل هذه الأحوال کان یأخذ الرقاع والمظالم بشرط ألا یکتب فیها إلا سطرٌ واحد علی وجه واحد ، ویأمر صاحبَ الرقعة أن یأتی له من علی یمینه ، وکان یأمرهم بالمصیر إلی مکان یعینه لهم فی الیوم التالی ، وکان یضع توقیعاته وعطایاه فی کَمِّه ، ویعطیها لهم یداً بید . وکان الحاکم ینفق ما استطاع ، ویجزل العطاء لرعیته ، «وأظهر من العدل ما لم یُسمع بمثله ، ولعمری إن أهل مملکته لا یزالون فی أیامه آمنین علی أموالهم غیر مطمئنین علی نقوسهم ، ولم تمتدّ یدُه قط إلی أخذ مال أحد ، بل کان له جود عظیم وعطایا جزیلة »(3) .

أما روءساء دولته فلم یکن أحد منهم آمناً علی نفسه ؛ فکان یفاجئ أعز أصحابه ، ویثب علیه وثوبَ المجنون ؛ فمن أمثلة ذلک أنه قَرَّب عَیناً الخادمَ الأسودَ ، ثم نَقَم علیه ، فقطع یده الیمنی ؛ ثم اختصّ به بعد ذلک أعظم اختصاص ، ولقّبه «قائد القواد ، وأستاذ الأستاذین» ، وکنّاه وقدّمه علی سائر أهل دولته ، وکثر میله إلیه وشغفُه به ، وبعد مدة تنکَّر له ، وقطع لسانه ؛ ثم أعقب ذلک بالزیادة فی عطایاه بالإنعام علیه(4) .

وسنتکلم فی غیر هذا المقام عن مثل هذا التصرف الذی لا ضابط له فیما یتعلق بمعاملته للیهود وا لنصاری ، وعن زهده ورغبته فی الورع ؛ ذلک أنه فی

ص: 49

آخر الأمر ربّی شعره حتی طال علی أکتافه ، وامتنع من تقصیصه ، ومن تقلیم أظافره ، وغیّر الثیاب الصوف البیضاء بملابس سوداء واستبدل بالعمامة الزرقاء عمامةً سوداء ، وصار یلبس الکسوة الواحدة المدة الطویلة إلی أن تتلبّد بما ینالها ویتداولها من العرق الدائم ، ویعلوها من الغبار المتَّصل ؛ وواصل تدویر الصحاری والفیافی ؛ وقصد جبل المقطم حیث کان ینفرد بنفسه ؛ لذلک نجد العالم المسیحی یحیی بن سعید ، یقول إن حاله صارت غیر بعیدة من حال بختنصر ملک بابل الذی صارت البراری مأوی له کالوحوش ؛ وزادت أظافیره ، فأشبهت مخالیب العقاب ، وطال شعره کالأسد جزعاً علی إبادته هیکل الرب الأورشلیمی ، ولذلک أصاب یحیی حین شخّص مرض الحاکم بأنه صِنف من سوء المزاج الیایس المُمرِض فی دماغه أحدث له ضرباً من ضروب المالیخولیا وفساد الفکر ، فاحتاج فی مداواته منه إلی جلوسه فی دهن البنفسج وترطیبه به(1) .

ص: 50

ص: 51

الرسول صلی الله علیه و آله (1) وقال المسعودی ولما قتل عامر بن اسماعیل خادم مروان وأراد الکنیسة الّتی فیها بنات مروان ونسائه إذا بخادم لمروان شاهر السیف یحاول الدخول علیهن فأخذوه فسئل عن أمره فقال : أمرنی مروان إذا هو قتل أن أضرب رقاب بناته ونسائه فلا تقتلونی ، فانکّم واللّه إن قتلتمونی لیفقدن میراث رسول اللّه صلی الله علیه و آله الی فأخرجهم من القریة إلی موضع رمل ، فقال اکشفوا هنا ، فکشفوا . فاذا البرد والقضیب ومخصر قد دفنها مروان لئلاّ تصیر إلی بنی هاشم فوجّه بها عامر بن اسماعیل إلی عبداللّه بن علی . فوجّه بها عبداللّه إلی أبی العباس السّفاح فتداولت ذلک خلفاء بنی العباس إلی أیام المقتدر .

فیقال : إنّ البرد کان علیه یوم مقتله ، ولست أدری اکلّ ذلک باقٍ مع المتّقی للّه إلی هذا الوقت ( وهو سنة 332 ) فی نزوله الرقّة أم قد ضیع ذلک . وکعب(2) هذا عدّه القاضی نور اللّه نوّر اللّه مرقده من شیعة أمیرالموءمنین علیه السلام وذکر عن السید المرتضی له فی مدح أمیرالموءمنین علیه السلام هذین البیتین أوردهما فی الذریعة :

صهر النبّی وخیرالناّس کلّهم فکّل من رامه بالفخر مفخور

صلّی الصلاة مع الامّی أولّهم قبل العباد وربّ الناسّ مکفور(3)

وللنبی صلی الله علیه و آله برد آخر نازع فیه وفی سیفه وترسه العباس علیاً علیه السلام إلی أبی بکر وروی ابوبکر للعبّاس قول النبّی صلی الله علیه و آله : أیکّم یوازرنی فیکون وصیی وخلیفتی فی أهلی وینجز موعدی ویقضی دینی .

فقال له العباّس : فما أقعدک مجلسک هذا تقدمّت علیه وتأمرّت علیه .

فقال ابوبکر اغدراً یا بنی عبدالمطلّب .

ص: 52

ص: 53

غیر والٍ فکان لا یذکر أحدٌ مع الخلیفة فی الخطبة ، لأن ذلک کان یشعر بشیء من الانتقاص لمنصب الخلیفة ، وقد حدث أن اسندت الحجبة ورئاسة الجیش لمحمد بن یاقوت فی عام 323ه _ 934م فأدخل یده فی تدبیر کل شیء ، ونظر فیما ینظر فیه الوزیر ، وطالب أصحاب الدواوین بحضور مجلسه ، وألا یقبلوا توقیعاً فی سائر الأحوال إلا بعد أن یوقّع فیه بخطه ، واضطر الوزیر إلی أن یحضر مجلسه ، وصار کالمتعطَّل ملازماً لمنزله لا یعمل شیئا(1) ؛ ولکن لما دعا الأئمة له فی الجانب الشرقی والغربی ببغداد ، بعد دعائهم للخلیفة الراضی ، وقرَظوه أنکر الراضی ذلک ، وأمر أن یقلّد مکان الأئمة جمیعا أئمةٌ من بنی العباس(2) .

غیر آن الراضی اضطر فی العام التالی أن یرضی بذکر ابن رائق بعده فی الخطبة ، ومعنی هذا أنه اعترف بأمیر دونه فی العراق(3) .

وکان بنو حمدان ، من بین سائر أمراء البلاد أسوأ من یمثل خصال البدو ومن

ص: 54

أمثلة طباعهم البدویة أنه لما التقی علیّ بن عبداللّه بن حمدان مع المتقی وابن رائق فی الموصل نزل المتقی دارَ ابن فهد الموصلی ، ونزل ابن رائق فی دار بالقرب منه ؛ أما علی بن حمدان ، فإنه نزل بدیر الأعلی فی خیمة أقامها .

وکان علیّ هذا قد أنس بابن رائق ، وکان یدعوه للشراب ، فکان إذا عمل الشراب فیه وصف نفسه بالشهامة والرجولة وازدری بنی حمدان وقال لعلی : وأی شیء تَسْوون أنتم ، وأی یوم کان لکم ، وهل أنتم إلا أعراب ! ؟(1) .

وسنتکلم فی غیر هذا المقام عن سوء سیرة الحمدانیین فی الحکم ونهبهم أموال الرعیة وأملاکهم ، وجورهم علی الزراع وعداوتهم للعمارة وللأشجار ، وتخریبهم ، ونقضهم الدائم للعهود التی یقطعونها ؛ ومن أمثلة غدرهم أن الحسین بن حمدان ، وهو رأس أسرتهم ، قتل العباس بن الحسن الوزیر فی عام 296ه _ 908 م ، وهو راکب یوما إلی بستانه ؛ وذلک أنه أعرضه وعلاه بالسیف ، فقتله(2) ؛ وکذلک فعل ناصرُ الدولة أبو محمد بن حمدان بابن رائق ، فقتله وهو ضیفٌ عنده فی خیمته قتل غدر وخیانة(3) .

وکان النزاع وعدم رعایة حقوق الطاعة سائدین فی بیت بنی حمدان ، ولاسیما فی فرعهم بالجزیرة(4) . وکذلک کان الحال فی فرعهم بالشام حیث قتل أبوالمعالی بن سیف الدولة بن حمدان خالَه أبافراس ؛ فقد لحقه وقتله رغم

ص: 55

استئمانه ، ثم أخذ رأسه وترک جثته فی البریَّة(1) .

ولم یظهر أحدٌ من الحمدانیین بشیء من الفروسیة والأعمال العظیمة إلا سیف الدولة . علی أننا نلاحظ أنه کان فی حربه مع الروم یقع دائماً فی نفس الفخّ ، ولذلک یقول أبوالفداء : «وکان سیف الدولة مُعجَبا بنفسه ، یحب أن یستبدّ ، ولا یشاور أحداً ، لئلا یُقال إنه أصاب برأی غیر»(2) .

وکثیراً ما صبّ القائدان الترکیان ، توزون ویجکم ، علی رأس الهزائم .

وکذلک یرجع أصلُ البریدیین إلی الدولة الإسلامیة الأولی ، فقد کانوا حکاماً للعراق زماناً طویلاً ، وکانوا فی أول أمرهم کتاباً أصحاب دراریع(3) .

أکثرمما کانوا قوَّادا . ومع هذا فقد خاضوا غمار کثیر من المواقع وقاتلوا قتال البواسل ؛ ولکنهم من قصر النظر والجشع لم ینزلوا لبنی حمدان عن شیء .

وقد بدأ عهد الفساد الحقیقی ببغداد عام 330ه _ 941م، وهو العام الذی فتح فیه البریدیُّ بغداد وفرّ فیه الخلیفة إلی الموصل ؛ وذلک أن البریدی ظلم الناس ظلمَه المعروف ، وافتتح الخراج فی آزار وخبط أصحاب الأراضی وخبط أهلَ الدمة ووظّف علی کل کرّ من الحنطة سبعین درهما ، وأخذ جزءا من مأل التجار غصبا(4) .

وفرّ آخر البریدیین إلی القرامطة فی جنوب جزیرة العرب ، ولکنه بعد ذلک

ص: 56

کتب إلی معز الدولة یلتمس الأمان لیصیر إلی حضرته ، فأعطاه من التوثقة ما أحب ، فوافاه وقَبَّل الأرض بین یدیه ؛ وأکرمه معزُّ الدولة ، وأقطعه الضیاع ، ورسمه بمنادمته(1) .

ولو أننا قارنا بین هوءلاء الأمراء الذین یقترن حکمهم بالنهب وبین القواد الذین جاءوا من الشمال وأقاموا ملکهم فی داخل بلاد الإسلام ، لوجدنا أن هوءلاء الأخیرین أحسن سیرة فی الحکم وأشبه بآباء لرعیتهم . ومنهم السامانیون الذین أرادوا أن ینشئوا بینهم وبین الفرس نسبا ، وأن یُرجعوا أصلهم لملوک بنی ساسان .

وقد بلغوا أوج عزتهم فی أواخر القرن الثالث الهجری حیث کانت بلاد ما وراء النهر والجبل وأیران کلها إلی کرمان تحت سلطانهم ؛ بل کان فی داخل حدود دولتهم الکبیرة ولا یاتُ تکاد تکون مستقلة ، مثل لبلاد سجستان التی یحکمها بنو الصفّار ؛ وهوءلاء وإن کانوا یخطبون لصاحب بخاری فلم یکن له علیهم إلاّ حملُ أموال وهدایا ؛ بل اضطر السامانیون نظراً لسعة أرجاء دولتهم إلی إنشاء ما یشبه منصب «نائب الملک» ، فکانوا هم مثلاً یقیمون فی بخاری علی حین أن صاحب جیشهم کان یقیم فی نیسابور التی جعلها الظاهریون قصبة خراسان .

أما عن حکمهم فالمقدسی یمتدح سیرتهم فی الحکم ، ویقول إنهم من أحسن الملوک سیرة ونظراً وإجلالاً للعلم وأهله ؛ فقد کان من رسومهم مثلاً أنهم لا یکلِّفون أهل العلم تقبیل الأرض بین أیدیهم ، ویذکر المقدسی أن فی أمثال الناس : «لو أن شجرة خرجت علی آل سامان لیبست » ، ویقول : ألا تری إلی

ص: 57

عضد الدولة وتجبُّره وتمکُّنه ، وکمال دولته ، وقوة أمره ! قد فُتِحت له البلاد طوعا ، ومَلک ما ملک ، فلما تعرَّض لآل سامان وطلب خراسان أهلکه اللّه ، وشتّت جمعه ، وفرّق جیوشه ، ومکّن أعداءه من ممالکه ، فتباًّ لمن عائد آل سامان(1).

ولعل هذا الإِطراء من جانب المقدسی کان لأسباب شخصیة ؛ فالحقیقة أن الدیلم أخذوا من السامانیین إیران کلها ، وإن کان ذلک لم یتم لهم إلاّ بعد نضال طویل ، حتی کان سبکتکین قائد معزّ الدولة ببغداد یضطر إلی الإسراع للری فی کل عام تقریبا لمعاونة أخی معز الدولة فی محاربته للسامانیین ؛ ولم یمض أکثر من عشرین سنة علی مبالغة المقدسی فی مدح آل سامان حتی اجتاح الترک دولتهم من الشمال والجنوب ، وقُتل آخر ملوکهم هارباً . علی أن ملوک السامانیین کانوا دائما یظهرون ولاءهم للخلیفة فی بغداد وتعلُّقَهم به ، وکانوا دائما یبعثون إلیه الهدایا ، بل نجد أحمد بن إسماعیل یرسل فی سنة 301ه _ 913م إلی الخلیفة ببغداد شیخاً یستحمد إلیه ما فعله من ردّ غارة الترک علی المسلمین وقَتلَه کثیراً منهم ، ویخطب إلیه شرطة بغداد ، بعد أن خلا منصب صاحب الشرطَة بوفاة من کان یشغله من بنی طاهر(2) ؛ وکذلک نجد نصراً السامانی یرسل للخلیفة عام 330ه _ 941م هدیة کبیرة ، ومعها رأس أحد ثوّار الدیلم ، فکأن نصراً قد رضی أن یضع نفسه فی موضع والٍ من ولاة الخلیفة(3) .

وکان المستقبل للشعوب التی تسکن جبال الألب الآسیویة فی شمال فارس ،

ص: 58

والتی کانت حتی ذلک الحین بمثابة قواّد مدَّخرین لوقت یظهرون فیه . وقد استطاعوا أن یخضعوا لحکمهم بلاداً أوسع کثیراً من البلاد التی أخضعها نظراوءهم السویسریون الذین یسکنون جبال الإلب الأوربیة حین بلغوا ذروة قوّتهم ؛ وکان القائد مرداویج الدیلمی أکبر من استرعی نظر الموءرخین من بین قواد الجبل الذین حکموا إیران الغربیة بعد موت یوسف بن أبی الساج .

ولم یکن الإسلام عمیقاً فی قلب هذا القائد ، فقد فعل بأبناء المسلمین وبناتهم فعل الکفار ، فأعمل فیهم السَبی ، حتی قیل إنه تملک من الغلمان والجواری فی قول المقل خمسین ألفاً ، وفی قول المُکثِر مائة ألف ؛ وأعمل السیف والنار فی أهل همدان کأنهم کافرون(1) ؛ حتی إن أهل فارس شغبوا فی سنة 320ه 932م أمام دار الخلیفة ببغداد واعترضوا علی فرض الحکومة للضرائب فی حین أنها لا تقف إلی جانب المسلمین لتحمیهم .

وبعث مرداویج بقائد من قواده إلی مدینة الدینور ، فدخلها بالسیف ، وقتل من أهلها آلافاً کثیرة ؛ «فخرج إلیه فی مستوری أهل البلد وصوفیتها وزهادها رجلٌ یقال له ابن مشاده وبیده مصحف قد نشره ، فقال للقائد : اتق اللّه ، وارفع السیف عن هوءلاء المسلمین ، فلا ذنب لهم ولا جنایة یستحقون بها ما قد نزل بهم ، فأمر بأخذ المصحف من یده فضُرب به وجهُه ، ثم أمر به فذُبح»(2) .

کان مرداویج رجلاً متفائلاً عریض الآمال والمشروعات ؛ فقد زعم أن یردّ

ص: 59

دولة العجم ویبطل دولة العرب(1) ؛ وسأل عن تیجان الفرس وهیئتها ، فمُثلَت له ، فاختار صفة تاج کسری ، فُعمِل له تاجٌ من الذهب جُمعت فیه أنواع الجواهر ، وضُرب له سریرٌ من الذهب رُصِّع بالجواهر ، فجلس علیه ، وجعل علیه منصَّةً عظیمة ، وجعل أمامه سریراً من الفضة علیه فرش مبسوط ، ودون ذلک کراسی مذهَّبة لیرتَّب أصحاب الأفدار مراتبَهم فی الإجلاس ؛ وکان ینوی قصد بغداد وتشعیث الدولة ؛ وکتب إلی عامل له أن یعِدّ له إیوان کسری منزلا ، ویعمره کهیئته قبل الإسلام . وقد طاف به بعض شیاطین الدهاة فزخرفوا له صورة ملک سیظهر ، وتُجبَی له کنوز الأرض ، فمال إلی ذلک ، وأظهر أنه ذلک الملک الذی یملک الأرض فأراد أن یسیر إلی مدینة السلام ویقبض علی الخلیفة ویولّی أصحابه مدن الإسلام بأسرها فی شرق الأرض وغربها ، مما فی ید ولد العباس وغیرهم ؛ واسترسل فی مثل هذا الخیال(2) ؛ وکان جنوده یخشون سطوته وغدره وکبریاءه .

ولما حضرت لیلة الوقود فی أصفهان (انظر فصل الأعیاد) جُمِعت الأحطاب من الجبال والنواحی البعیدة ، واُعدت الشموع العظام ، وعُمِل بمجلسه الخاص تماثیلُ وأساطین کبیرة من الشمع ، وحُشِد علی رؤوس الجبال والیفاعات ما لم تِجرِ العادة بمثله ؛ فلما خرج وطاف بذلک استحقره کله واستصغره ، «قال وذلک لأجل سعة الصحراء ، ولان البصر إذا امتد فی فضاء واسع ثم انقلب عنه إلی هذه الأشیاء المصنوعة استحقرها . وإن کانت عظیمة » ، واغتاظ وسکت ودخل إلی خیمته واضطجع والتف بکسائه ، وحوّل وجهه إلی خلاف الباب لئلا یکلمه أحد ؛

ص: 60

ولم یجسر القواد والأمراء علی مخاطبته ؛ ثم أقنعه الوزیر بعد کدّ أن یظهر للناس ، فرکب کارهاً متحاملاً بعد لجاج وإباء ؛ فطاف مغضبا مغتاظا ، وانصرف إلی موضعه ، ولزم حالته الأولی(1) .

وکان له أربعة آلاف من الممالیک الأتراک(2) إلی جانب خمسین ألفاً من الدیلم ، وقد استخلص من هوءلاء الأتراک نفراً اختص بهم ، فَوَجِد الدیلم من ذلک(3) .

ورغم أنه کان یوءثر الغلمان الأتراک فقد اتفق یوما أن شَغَبت دوابُّهم ، وارتفعت أصواتها وأصوات من یزجرها ، فانتبه مرداویج مذعوراً علی هذه الأصوات الهائلة المنکرة ، فأمر أن تُحَطّ السروج عن الدواب ، وتُجعل علی ظهور الغلمان الأتراک مع جمیع آلتها ، وأن یقودوا الدوابَّ بأنفسهم من أرسانها إلی الإصطبلات ؛ وکانت الصورة قبیحة ، وقد حَقِد علیه الغلمان لذلک ثم اتفقوا علی الفتک به ، فهجموا علیه وهو فی الحمّام وقتلوه(4) . وقد استطاع أخوه وشمکیر وابنه قابوس أن یحتفظا بإمارة صغیرة فی أقصی الشمال من إیران ؛ ثم آل میراثهم إلی بنی بُوَیه ، وهم قواد مرتزقة من بلاد الجبل بفارس .

وکان بنو بُوَیه بعیدین عن الثقافة العربیة ، حتی إن معز الدولة لما جاء إلی بغداد ومَلَکها احتاج إلی من یترجم له کلام الوزیر علی بن عیسی(5) ؛ وقد رفع

ص: 61

بنو بویه أنفسهم بالدهاء والمکر والمهارة الجندیة ؛ وکانوا لا یترددون ولا یخجلون من ترک خدمة قائد إلی خدمة آخر یدفع لهم أکثر من الأول ؛ فمن ذلک أنه لما هُزم ماکان بن کاکی الدیلمی ، وکان معه أبوالحسن علی بن بویه وأخوه أبوعلی الحسن ، استأذناه فی الانحیاز إلی مرداویج ، وقالا لما کان : «الأصلحُ لک مفارقتُنا إیاک ، لتخفّ عنک موءونتُنا ، ویقع کَلّنا علی غیرک ، فإذا تمکَّنت عاودناک» فأذن لهما(1) .

وکان من أکبر الصفات التی ظهرت فیها مقدرة بنی بویه أنهم کانوا یستطیعون جمعَ المال من کل وجه ، وأن یدّخروه حتی یکون بین أیدیهم المالُ دائماً ؛ وقد ساعدهم الحظ فی ذلک بأمور هی من عجیب الاتفاقات ؛ فیحکی مثلاً أن علی بن بویه لما دخل شیراز اجتمع أصحابه وطالبوه بالمال ، ولم یکن معه ما یرضیهم ، فأشرف أمره علی الانحلال ، واشتغل قلبه واغتم غما شدیداً ، فبینما هو مستلقٍ علی ظهره ، وقد خلا للفکر والتدبیر ، إذ رأی حیة قد خرجت من سقف المجلس الذی کان فیه من موضع ودخلت موضعاً آخر ؛ وخاف أن تسقط علیه ، وهو نائم ، فأمر الفراشین بإخراجها ، فوجدوا السقف یفضی إلی غرفة بین سقفین ، فأمرهم بفتحها ، فوجدوا فیها عدة صنادیق من المال وغیره ، فأنفق ذلک فی رجاله بعد أن أشفی أمره علی الانحلال(2) .

وکان السبب فی ارتفاع علی بن بویه سماحته وشجاعته وسعة صدره وحسن

ص: 62

سیاسته ؛ فمن ذلک أنه کان فی الری وشمکیر وأبوعبداللّه الحسین بن محمد الملقب بالعمید ، ولم یزل علیّ بن بویه بأبی عبداللّه هذا یلاطفه بالهدایا ، حتی غمره بالبرّ ، فکتم کتابا من مرداویج إلی وشمکیر بمنع علیّ من الخروج ، وأسرّ لعلیّ بالخروج ، قفاز بالولایة ، ولما وصل إلی الکرج أحسن إلی الرجال ، ولا طف عامل البلد ، فکان یکتب بشکره وضبطه الناحیة ؛ واتفق أن افتتح قلاعاً کانت فی أیدی الخُرَّمیّة فی تلک الأطراف ، ووقع بین أصحابها خلاف ، فانحاز بعضهم إلیه ، وأطلعه علی ذخائر جلیلة أخذها وصرفها کلها فی استمالة الرجال واستعطاف القلوب ؛ ولا طف قواد مرداویج ، وأفضل علیهم ، حتی أوجبوا طاعته ، وکان ذا فضل یتسامع به الناس فیمیلون إلیه(1) .

فلا عجب إذن أن یسهل علیه الانتصار علی جیش الخلیفة حتی استولی علی جنوب إیران .

وکان بنو بویه إلی جانب هذا یحسنون معاملة الأسری ، ویعفون عنهم ، ویوءمِّنونهم من جمیع ما یکرهون ، حتی یطمئنوا إلیهم ، علی حین کان أعداوءهم یعدّون للأسری قیوداً وبرانس لیشهروهم بها ؛ ولقد ظفر علی بن بویه بأعداء له معهم هذه الآلات فعدل عن العقاب إلی العفو ، وابتعد عن الطغیان(2) .

کان رکن الدولة صاحب الری «لا یستجیب إلی عمارة نواحیه ، خوفا من إخراج درهم واحد من الخرانة ، ویقنع بارتفاع ما یحصل للوقت»(3) .

ص: 63

وقد جمع عضد الدولة بما کان فیه من حرص ثروة هائلة ، وکذلک ترک فخرُ الدولة (المتوفی عام 387ه _ 997م) فی العصور الأخیرة ، التی لم تکن عصور الغنی العظیم ، مالا کثیراً ؛ فقد ذکر ابن الصابی أنه خلّف 284 ,875 ,2 دیناراً ومن الورق والنقد والفضة 790 ,860 ,100 درهما ، ومن الجواهر والیواقیت واللوءلوء والماس والبلّور والسلاح وضروب المتاع شیئاً کثیراً ؛ وکان شحیحاً حتی کانت مفاتیح خزائنه فی الکیس الحدید مسمّراً بالمسامیر لایفارقه(1) .

وکذلک یقول ابن الجوزی إن بهاء الدولة جمع من الأموال ما لم یجمعه أحد من بنی بویه ، وکان یبخل بالدرهم الواحد ویوءثر المصادرات(2) .

والصفة الثانیة الکبری مما اتصف به بنو بُوَیه التضافر الوثیق والطاعة التامة ، وذلک فی أجیالهم الأولی علی الأقل ؛ ویرجع الفضل فی ذلک إلی الصفات العظیمة التی توفرت لعلی بن بویه الذی لقب فیما بعد بعماد الدولة ، وهو الذی یرجع إلیه الفضل فیما بلغه بیت بنی بویه من قوة وعزة .

ومن أمثلة طاعتهم والتزامهم النظام أن معز الدولة ، وهو أصغر الإخوة الثلاثة ، وکان حاکما علی العراق إذ ذاک ، لما لقی أخاه عماد الدولة بأرّجان عام 363 ه قبَّل الأرض بین یدیه ؛ وکان یقف قائما عنده ، فیأمره بالجلوس فلا یفعل(3) .

ولما مات الأخ الأکبر انتقلت الریاسة إلی أخیه الثانی رکن الدولة فی الریّ ، فکان معز الدولة لا یخالف له أمراً ، وکان رکن الدولة یأمره بإنفاذ الجیوش

ص: 64

فیفعل(1) .

ولما أیقن معز الدولة بالتلف وصَّی ابنه ، وهو علی سریر الموت ، بطاعة رکن الدولة ، واستشارته فی کل ما یعرض له من مُهمّ ، وکذلک ابن عمه عضد الدولة لأنه أسنّ منه وأقوم بالسیاسة(2) .

ولما أراد عضد الدولة هذا أن یأخذ العراق من ید ابن عمه معز الدولة بعد ما أظهر من عدم الکفایة ، وسمع أبوه حالَ أولاد أخیه من القبض علیهم ، رمی بنفسه عن سریره ، وأقبل یتمرّغ ویزبد ، ویمتنع من الأکل والشرب أیاماً، ومرض من ذلک مرضاً لم یستقلّ منه باقی حیاته ؛ وکان یقول : إنی أری أخی معز الدولة متمثلاً إزائی یعضّ علی أنامله ، ویقول : «یا أخی هکذا ضمنت لی أن تخلفنی فی أهلی وولدی !» ، وقد غضب والد عضد الدولة علی ابنه ، وأمره أن یخرج من بغداد ویسلمها لأبناء عمه ، فخرج منها طاعة لأبیه ، بعد أن کان قد أقام بها ، واتخذ لنفسه بها داراً(3) .

أما عماد الدولة فلم یکن رجلا یمثل خصال السید الحاکم ، بل کان أشبه یتاجر مخادع ؛ وکانت له مواهب الأکرة الأذکیاء العملیّین ؛ فمن ذلک أنه تقلد من الخلیفة الراضی أعمالَ فارس علی أن یحمل له فی کل سنة بعد جمیع المؤن والنفقات مائة ألف ألف درهم ؛ فأرسل إلیه الوزیر ابن مقلة الخِلَع واللواء ، ورسم للرسول ألا یسلم اللواء والخِلَع ؛ إلاّ بعد تسلیم المال الذی استقر علیه الاتفاق .

ص: 65

فلما قرُب الرسول من البلد تلقاه علی بن بویه علی بُعد ، وسار معه وطالبه أن یسلّم إلیه اللواء والخِلَع ؛ فعرَّفه ما رسمه له الوزیر ، فخاشنه علی بن بویه ، وأرهبه حتی سلّم الخِلَع ، فلبسها ودخل بها شیراز وبین یدیه اللواء ، وأقام الرسول مدةً یطالب بالمال ، فلم یدفع علیّ إلیه شیئاً ، حتی اعتلّ الرسول ومات بشیراز(1) .

وأما رکن الدولة فقد کان حلیما ، واسع الکرم ، حسن السیاسة لرعایاه وجُنده ، رءوفاً بهم ، بعید الهمة ، یتحرّج من الظلم ، ویمنع أصحابه منه ، وقد أثنی الموءرخون علی عدله وکرمه(2) .

ومن أمثلة ذلک أن إبراهیم السلاّر انهزم من بین یدی عدوّ له ، وورد حضرة رکن الدولة «بدابّتَه وسوطه» ؛ فأکرمه رکن الدولة ، وبالغ فی إعطائه ، وحمل له من کل صنف یکون عند الملوک ؛ وکان الموءرّخ ابن مسکویه حاضراً بالری ، فرکب للنظر إلی الهدایا المحمولة إبراهیم ، وکانت کثیرة لم یَرَ ابن مسکویه مثلها(3) ؛ وقد اقترح الأستاذ ابن العمید وزیر رکن الدولة ، بعد ما رأی سوء تدبیر إبراهیم واشتغاله بالنساء واللعب والسکر الدائم ، وبعد أن شاهد طمع الناس فیه ، أن یدبّر رکنُ الدولة الناحیة لنفسه ، حتی لا یضیع سَعیه فی إرجاعها لصاحبها ، ویعوِّض إبراهیم بشیء آخر حتی یجلس آمناً فارغ البال ، ویشتغل بما یوءثره من صحبة المغنین والمساخر ، «فأبی علیه رکن الدولة وفکّر فی شیء یفکر فیه مثله من أصحاب الهمم الکبار وقال : یتحدث الناس أنی افتتحت البلاد لرجل لجأ إلیَّ ؛

ص: 66

ثم طمعتُ فیه !»(1) .

ولقد قاسی ابنُ العمید الکثیرَ فی خدمته ؛ وکان ابن العمید وزیراً جیِّد التدبیر علیما بصناعة الملک وإصلاح ما فسد من أموره ، ولکن رکن الدولة کان مغلوباً علی أمره لا یری النظر فی العواقب ، ولا یستمع إلی آراء ابن العمید مع جودتها ، حتی إن ابن مسکویه یذکر ضعف رکن الدولة وفساد الأحوال فی حکومته ، ویذکر کفایة ابن العمید وحسن تدبیره ثم یقول : «فما حیلة وزیره ومدبّره» ، وکان رکن الدولة مع فضله علی أقرانه من الدیلم علی طریقة الجند المتغلّبین ، ینعم بما یتعجّل له ، ولا یری النظر فی عواقب أمره وعواقب أمور رعیته» ، وکان یفسح لجنده وعسکره علی طریق مداراتهم ، وکان یوسِّع علیهم فی الإقطاعات ؛ وکانوا یتواعدون من اللیل إلی مواضع غامضة یجتمعون فیها ؛ وربما خرجوا إلی الصحراء ، واجتمعوا علی ظهور دوابِّهم ، «وثنوا إرجلهم علی أعناقها بقدر ما یدبِّرون الرأی فی وجه الحیلة ، فإذا تمّ لهم تدبیر یومهم فهو عیدُهم ونشاطهم» .

وکان رکن الدولة یری أن دولته مقرونة بدولة الأکراد ، فکان لذلک لا یمنعهم من العبث ولا یطلق یدَ حُماة الأطراف فی قصدهم ، «ویرضی أن یقال له قُطعت القافلة ، وسِیقت المواشی ، فیقول : لأن هوءلاء أیضاً ، یعنی الأکراد ، یحتاجون إلی القوت(2) .

وکان الأمیر معز الدولة ، أمیر العراق ، حدیداً سریع الغضب بذیء اللسان ، یکثر سَبَّ وزرائه والمحتشمین من حشمه ، وکان یلحق المهلبی من فحشه

ص: 67

وشتمه مالا صبر لأحد علیه ؛ بل کان یضربه بالمقرعة(1) .

ولکن معز الدولة کان خوَّاراً فی أمراضه ، فکان کلما اشتدت علیه العلّة ، وأیقن بالتلف (کان مریضاً بامتناع البول وبرمل فی مثانته) بکی وندب علی نفسه علی عادة الدیلم(2) .

وکان أیضاً «سریعَ الدمعة » ، وکاد ینهزم فی إحدی المواقع ، فبکی بین أیدی غلمانه ، ثم سألهم أن یجتمعوا ، ویحملوا علی العدوّ ، وهو فی أولهم ، فإما أن یظفر وإما أن یکون أوّل من یقتل(3) .

وکان لا یعرف للخلیفة قدرَه ، فقد وثب علیه ، وهو تحت سلطانه ، وثبة الجندی المرتزق الغلیظ القلب ؛ ولما مات وزیره أبو محمد المهلبی بعد أن ولی الوزارة له ثلاث عشرة سنة قبض معز الدولة أموالهَ وذخائرَه ، وأخذ المالَ من أهله وأصحابه وحواشیه ، حتی مِن ملاّحه ومَن خدمه یوماً واحداً ؛ فاشتعظم الناس ذلک واستقبحوه(4) .

وبنی لنفسه داراً جدیدة فی شمال بغداد ، فکان جملة ما خرج علیها ثلاثة عشر أَلف ألف درهم ، ولم یتردد فی أن یصادر بسبب ذلک جماعة من أصحابه(5) .

وکان لا یأبه کثیراً لحقوق رعیته ، فاضطر إلی خبط الناس واستخراج الأموال

ص: 68

من غیر وجوهها ، وأقطع قوّاده وخواصه وأتراکه ضیاع السلطان وغیرها ، وکان یسامح الوزراء المقطعین ، ویقبل منهم الرشی ؛ واتسع الخرق حتی صار الرسم جاریاً بأن یخرب الجندُ إقطاعاتهم ، ثم یردُّوها ، ویعتاضوا عنها بما یختارون ، ویتوصلوا إلی حصول الفضل والفوز بالربح .

ورقّت أَحوال الرعیة ، فمن هارب جالٍ ، إلی مظلومٍ صابر ، إلی مستریخ لتسلیم ضیعته إلی المُقطَع لیأمن شرّه وبوائقَه ؛ وقلَّ حَفلُ الناظرین فی الأعمال تعویلا علی أخذ ما صفا ، وترک ما کَدُرَ ، والرجوع علی السلطان بالمطالبة .

وفوضّ معز الدولة تدبیر کل ناحیة إلی بعض الوجوه من خواص الدیلم ، فاتخذوها مسکناَ وطُعمَة ، والتحف علیهم المتصرّفون الخوّنة ، فبطلت العمارة ، وخربت البلادُ ، واعتاض العمال عما یذهب من أموالهم بالمصادرة والحیف علی الرعیة ، وانصرف عمال المصالح عنها لخروج الأعمال عن ید السلطان(1) .

ولکن معز الدولة کان یُعنی بسدّ البثوق فی سدود الأنهار ، حتی خرج بنفسه مرة لسد بثق بادوریا ، وحمل التراب فی طرف قبائه ، ففعل جمیع العسکر مثل فعله ، وکذلک خرج إلی النهر وانات فسدَّ بثقَها ، فعَمِرت هذه الأجزاء بعد خرابها ، وعم الرخاء ، حتی مالت العامة ببغداد إلی أیام معز الدولة وأحبوه(2) .

أما ابنه بُختیار الملقب بعزّالدولة فقد وُهب قوةً جسدیة عظیمة ، وکان شجاعاً ، وبلغ من قوته أنه کان یمسک الثور العظیم من قرنیه فلا یتحرک(3) .

ص: 69

ولکنه فیما عدا ذلک فشل فشلا یرثی له ؛ «وکان یحب أن یقضی أوقاته فی الصید والأکل والشرب والسماع واللهو واللعب بالنرد وتحریش الکلاب والدیکة والفتاخ ؛ فإذا وقفت أمورهُ قبض علی وزیره واستبدل به»(1) .

ویقول بعض أصحابه إنه کان من ملذاته دفاترُ عزیزة یضن بها ، وجوارٍ صوانع لا یسمح بهنّ ، وخیلٌ عِراَبٌ کان یستأثر بها ویحب أن یشتریها من البادیة(2) ؛ وقد انفق مرة أن أُسِرَ له فی موقعة بالأهواز غلام ترکی ، فجُنَّ علیه جنوناً ، وتسلّی عن کل شیء خرج عن یده إلا عنه ، «وامتنع عن الطعام والشراب وانقطع إلی النحیب والشهیق والعویل .

وتضجّر بالجیش ، وتبرّم بحضورهم ، واطّرح التدبیر . ثم إذا وصل إلیه وزیره وقوّاده وکتّابُه وخواصُّه فی المهمّ قطعهم عن ذلک بالشکوی بما حلّ به والبَوح بما فی نفسه ، وتقضّت أوقاته ومجالسه بهذا الخطب الجلیل عنده . فخف میزانه عند الناس وسقط من عیونهم»(3) .

وکان عضد الدولة (المتوفی عام 372ه _ 982م) ، دون سائر أعضاء أسرته ، هو الذی یمثل السیدَ الحاکم تمثیلاً حقیقیاً ؛ وقد خضعت لسلطانه ، فی آخر أمره ، البلادُ الممتدة من بحر الخزر إلی کرمان وعمان ؛ فلا بدع أن یلقّب بشاهنشاه (ملک الملوک) لأول مرة فی الإسلام(4) .

ص: 70

بعد أن کان هذا اللقب یشعِر من قبل بالتجروءعلی مقام الألوهیة ؛ وقد ظل هذا اللقب لمن جاء بعده من ملوک بنی بُوَیه(1) . فکان أیضاً إحیاء لرسوم الشرق القدیمة.

کان عضد الدولة یحمل طابَع أهل الشمال ، فکان أزرق العینین ، أشقر ، أصهب الشعر(2) .

وکان الوزیر ابن بقیة یسمیه أبابکر الغُددی تشبیهاً له برجل أشقر أزرق أعمش أئمش یسمی أبابکر کان یبیع الغدد برسم السنانیر ببغداد(3) .

وکان عضد الدولة رجلا قاسیاً ، وقد بلغه عن الوزیر ابن بقیة أمورٌ ساءته فطلب من بختیار بن معز الدولة یسلِّمه إلیه ، فسلمه إلیه مسمولا ؛ فطرحه عضدُ الدولة إلی الفِیلة ، وأُضرِیَت علیه ، فقتلته شر قتلة ؛ وهذه العقوبة هی الأولی من نوعها فی الإسلام(4) .

وقد بلغ من هیبته وخوف عماله منه أن الوزیر المطهَّر بن عبداللّه خرج من مدینة السلام لطلب أحد الخارجین علی عضد الدولة ، فالتاث علی المطهَّر الأمر وخاف تغیُّر عضد الدولة علیه ، فقتل نفسه(5) .

ص: 71

ولکن عضد الدولة کان إیضاً قاسیاً علی نفسه ، فیحکی أن جاریة کانت له شَغَلَت قَلبَهُ بمیله إلیها عن تدبیر المملکة ، فأمر بتغریقها(1) .[*]

وکان یعنی بمعرفة الأخبار وسرعة وصولها ، شأن کل من یرید أن یحکم دولة کبیرة حکما صحیحاً ؛ فکان یسأل عن الأخبار الواردة ، فإن تأخرت عن وقتها قامت قیامته ، وسأل عن سبب التعویق ؛ فإن کان من غیر عذر أنزل البلایا علی أصحاب الأخبار ؛ وکانت الأخبار تصل من شیراز إلی بغداد فی سبعة أیام ؛ أی أنها تقطع کل یوم ما یزید علی مائة وخمسین کیلومتراً(2) .

وقد أحکم نظام الجاسوسیة ؛ «وکان یبحث عن أشراف الملوک ؛ وینقب عن سرائرهم ؛ وکانت أخبار الدنیا عنده ، حتی لو تکلم إنسان بمصر رقی إلیه ذلک ؛ حتی إن رجلا بمصر ذکره بکلمة ، فاحتال حتی جاء به ووبَّخه علیها ، ثم ردّه ؛ فکان الناس یحترزون فی کلامهم وأفعالهم من نسائهم وغلمانهم»(3) .

ص: 72

وقد طهَّر السبل من الصوص فی إحدی القوافل بغلا یحمل حاوی شِیبَت بالسمّ ، فأکلوا منها فهلکوا ؛ وکانت هذه مکیدة عجیبة(1) .

وأعاد النظام إلی صحراء جزیرة العرب وإلی صحراء کرمان ، وکانت أشهر بمخاوفها ، حتی رُفعت الحبایة عن قوافل الحج ، وزال ما کان یجری علیها من القبائح وضروب العسف ؛ وأقام للحجاج السواقی فی الطریق واحتفر لهم الآبار ، واستفاض الینابیع وأدار السور علی مدینة الرسول(2) ؛ وأمر بعمارة منازل بغداد وأسواقها ، وکانت مختلّة قد أُحرق بعضها ، وخرب البعض ؛ وابتدأ بالمساجد الجامعة ، وکانت فی نهایة الخراب ؛ وهدم ما کان مستهدما من بنیانها ، وأعاد بناءها ؛ وألزم أرباب العقارات بالعمارة ، فمن قصرت یدُه عن ذلک اقترض من بیت المال ؛ وأمر من کانت له دار علی الشط من الأولیاء والحاشیة أن یجتهد فی عمارتها وتحسینها .

وکان الناس قد استطابوا هدم المنازل وبیع أنقاضها ، فأبطل هذه السنة وأعاد عمارة بستان عرصة دار العباس بن الحسین وغیره ، فامتلأت الخرابات بالزهر والخضرة والعمارة ، «بعد أن کانت مأوی الکلاب ومطارح الجیف والأقذار» ؛ وجُلبت إلیها الغروسُ من فارس وسائر البلاد ؛ وکانت الأنهار ببغداد قد دُفنت مجاریها وعَفَت رسومُها ، ونشأ جیلٌ من الناس لا یعرفها ؛ فأمر بحفر عمداتها ورواضعها ؛ وقد کانت علی الأنهار قناطر قد تهدَّمت وأُهمل أمرها ، «فلم تکن

ص: 73

تخلو من أن یجتاز علیها البهائم والنساء والأطفال والضعفاء فیسقطون ، فُبنیت کلها جدیدة وثیقة ، وعُملت عملا محکما ؛ وکذلک جری أمر الجسر ببغداد ، فإنه کان لا یجتاز علیه إلا المخاطر بنفسه ، لا سیما الراکب لشدة ضیقه وضعفه وتزاحُم الناس علیه ؛ فاختیرت له السفن الکبار المتقنة ، وعُرَّض حتی صار کالشوارع الفسیحة وحُصِّن بالدار ابزینات ..وأعید کثیر من قناطر أفواه الأنهار»(1) ؛ وحول من البادیة قوما فأسکنهم فارس وکرمان فزرعوا وعمروا البریة(2) .

ومع هذا فلم تکن العراق مرکز الدولة ، بل کان مرکز الدولة فی فارس حیث کان یفین قاضی القضاة أیضاً ، ویستخلف له أربعة خلفاء علی أرباع بغداد(3) .

وکان عضد الدولة کثیر الغضّ من أهل بغداد والازدراء لهم ، حتی قال : ما وقعت عینی فی هذا البلد علی أحد یستحق اسم الفضل أو أن یسمی برجل غیر نفسین ؛ فلما تأملت وجدتهما لیسا من أهل بغداد ، وأصلهما من الکوفة(4) ؛ وعمل سوقا للبزازین ، ووقف علیه وقوفا کثیرة(5) .

وکان ینقل إلی بلاده ما لا یوجد بها من الأصناف ؛ فما نقله إلی کرمان حب النیل(6) ؛ وبنی بشیراز داراً عظیمة تشتمل علی ثلاثمائة وستین حجرة(7) . ووسّع

ص: 74

الدار الکبیرة التی کانت للقائد سبکتکین ببغداد ، والتی ترکها بعد وفاتة ، وأجری إلی بستانه الماء فی مجری عالٍ یخترق الصحراء والأرباض ؛ واستخدم الفیلة فی نقض هذه الدور ، ورَمی حیطانها ، وفی دَک الأرض ، وکان أول من استعمل الفیول فی القتال(1) ؛ وکان عازما علی القیام بمشروعات بناء غیر ما تقدم فمات قبل ذلک(2) .

وکانت عادته أن یباکر دخول الحمام ، فإذا خرج وصلی الفجر دخل إلیه خواصُّه ، فإذا ترجل النهار سأل عن الأخبار الواردة ؛ ثم یتغدَّی ، والطبیب قائم ، وهو یسأله عن منافع الأطعمة ومضارّها . ثم ینام إلی الظهر ؛ فإذا انتبه صلی الظهر وخرج إلی مجلس النّدما ، والراحة وسماع الغناء إلی أن یمضی من اللیل صدر ثم یأوی إلی فراشه(3) .

وکان قد تعلّم علی أحسن المعلمین ، وکان یفتخر بمعلمیه(4) ؛ وکان یحب العلم والعلماء ؛ ویجری الجرایات علی الفقهاء والمحدِّثین والمتکلمین والمفسرین والنحاة والشعراء والنسابین والأطباء والحُسّاب والمهندسین(5) .

وسنتکلم عن مکتبته وترتیبها وإعدادها فی غیر هذا المکان ، (انظر الفصل الخاص بالعلماه) . علی أن عضد الدولة کان یتشاغل بالعلم ویتفرَّغ للأدب فی

ص: 75

أیام دولته ؛ وقد وُجد له فی تذکرة : إذا فرغنا من حل إقلیدس کله تصدقت بعشرین ألف درهم ، وإذا فرغنا من کتاب أبی علی النحوی تصدقت بخمسین ألف درهم ؛ وکان یحب الشعر ویعطی الشعراء ، ویؤثر مجالسة الأدباء علی منادمة الأمراء(1) ؛ وکان یقول الشعر وینشده ، ویحکم علی معانیه بعد التقدیر له(2) .

وقد ذکر له الثعالبی شعراً عربیا ینسب إلیه ، وهو لا یعدو أن یکون کلاماً موزوناً ردیئاً(3) .

ولکن هذا کله لم یمنع عضد الدولة من إساءة معاملة الصابی ، مع أنه کان سید الکتّاب فی ذلک العصر . وقد أفرد عضد الدولة فی داره لأهل الخصوص والحکماء والفلاسفة موضعاً یقترب من مجلسه ، فکانوا یجتمعون فیه للمفاوضة آمنین من السفهاء ورعاع العامة .

وأمر بإدرار الأرزاق علی قُوّام المساجد والموءذنین والأئمة والقرّاء فیها ، وإقامة الجرایات لمن یأوی إلیها من الغرباء والضعفاء(4) .

وبنی مارستاناً کبیراً ببغداد. وقد وُجد فی تذکرة له : وکل ابن یولد لنا کما نحب نتصدق بعشرة آلالف درهم ، فإن کان من فلانة فبخمسین ألف درهم ؛ وکل بنت فبخمسة آلاف ، فإن کان منها فبثلاثین ألفاً(5) ؛ وتجاوزت صدقاته أهل الملّة إلی أهل الذمَّة ، فأذن للوزیر نصر بن هارون فی عمارة البیع والدیرة ، وإطلاق الأموال

76

لفقراء أهل الذمَّة(6) .

غیر أن عضد الدولة لم یکن أباً لرعیته ، بل ظل الحاکم الأجنبی عنهم ؛ وهو کالراعی الذی یحسن العنایة بغنمه لینتفع منها بأکبر نصیب ؛ وفی آخر أیامه أحدث رسوماً جائرة ، وزاد الرسوم القدیمة ؛ وکان یتوصل إلی أخذ المال بکل طریق(7) .

وفی آخر عمره کان دخله فی السنة ثلاثمائة ألف ألف وعشرین ألف ألف درهم ، فأراد ان یبلغ به ثلاثمائة وستین ألف ألف ، لیکون دخله کل یوم ألف ألف درهم ، «وکان مع صدقاته وإیصاله ینظر فی الدینار ویناقش فی القیراط(8) .

والحکم الأخیر الذی انتهی إلیه مسکویه فی کلامه عن عضد الدولة أنه قال : «فلولا خِلالٌ کانت فی عضد الدولة یسیرة ، لا أستحسن ذکرها ، مع کثرة فضائله لبلغ من الدنیا مناه ورجوتُ له من الآخرة رضاه ، واللّه ینفعه بما قدَّمه من العمل الصالح ، ویغفر له ما رواء ذلک»(9) .

وتتجلی مواهب عضد الدولة السیاسیة فی اختیاره لولاته : فقد ولَّی علی الجبل وهمذان والدینور ونهاوند وأسد آباد وغیرها بدرَ بن حسنویه الکردی (المتوفی عام 405ه _ 1014م) ؛ وقد قامت هیبته بالشجاعة والعدل والسیاسة وکثرة الصدقة .. وکانت جرایانه وصدقاته متصلة علی الفقهاء والأشراف والقضاة

ص: 77

والشهود والأیتام والضعفاء ؛ وکان یصرف کل سنة ألف دینار إلی عشرین رجلا یحجون عن والدته وعن عضد الدولة . وکان یتصدق کل جمعة بعشرة آلالف درهم علی الضعفاء والأرامل ، ویصرف کل سنة ثلاثة آلاف دینار إلی إلی الأساکفة والحذّائین بین همذان وبغداد لیقیموا المنقطعین من الحاج بالأحذیة .

وکان یصرف إلی تکفین الموتی کل شهر عشرین ألف درهم ؛ وعمَّر القناطر ؛ واستحدث فی أعماله ثلاثة آلاف مسجد وخان للغرباء ؛ ولم یمرَّ بماء جارٍ إلا بنی عنده قریة ؛ وکان ینفذ کل سنة فی الصدقات علی أهل الحرمین وحفظ الطرق ومصالحها مائة ألف دینار ؛ وکان ینفق علی عمارة المصانع وتنقیة الآبار وجمع العلوفة فی الطریق ، ویعطی سکان المنازل رسوماً لقیامهم ، وعمل إلی الحرمین والکوفة وبغداد ما یفرق علی الأشراف والفقهاء والقراء والفقراء وأهل البیوتات(1) .

وقد تَخَرّج علی یدی عضد الدولة القائدُ أمیر الجیوش (المتوفی عام 401ه _ 1010م) ، وهو الذی ولاّه بهاء الدولة تدبیر العراق لإعادة النظام إلیها ، فقدم بغداد عام 392ه _ 1002م ، والفتن قائمة ؛ فقتل وصلب وغرَّق ، حتی بلغ من هیبته أنه أعطی غلاماً له صینیة فضة فیها دنانیر ؛ وأمره أن یأخذها علی رأسه ویسیر من أول بغداد إلی آخرها علَّ أحداً یعترضه ، فعاد وقد انتصف اللیل دون أن یعترضه أحد(2) .

ولم یخرج بیت بنی بویه بعد عضد الدولة جیلاً یصلح للحکم ؛ واضمحلّت فی

ص: 78

أواخر الأمر مواردهم المالیة ، واختلت المملکة أیام جلال الدولة ، وقُطعت عنه المادة حتی أخرج ثیابه وآلاته وباعها فی الأسواق ، وخلت داره من حاجب وفراش وبواب ، وصار أکثر الأبواب مغلقاً ، وانقطع ضَربُ الطبل له فی أکثر الأیام لانقطاع الطبَّالین(1) .

وأما أمراء الترک فیمثلهم بحکم والإخشید، وکلٌ منهما جندی ماهر وحاکم قدیر ، وإن کان مظهرهما الخارجی لم یکن بشیء .

أما بحکم الفقیه خصال قائد الجند المرتزقة کلها ؛ فقد انتقل من خدمة ما کان الدیلمی إلی خدمة مرداویج ؛ وبعد قتل مرداویج _ ویقال إنه کانت لبحکم یدٌ فی قتله _ ذهب مع مئات قلیلة من الترک والفرس إلی ابن رائق ؛ وظل غلمان مرداویج تحت إمرة بحکم(2) .

ولم یکن عددهم عظیما ؛ فیقول مسکویه إنهم کانوا ثلاثمائة غلام استأمنوا إلیه(3) ؛ ثم تقدم ابن رائق إلی بحکم بأن یکابت کل من بالجبل من الأتراک والدیلم بالمصیر إلیه ، فکاتبهم وصار إلیه عدّةٌ وافرة منهم(4) .

ثم استقلَّ بحکم بدوره السیاسی الخاص ؛ فأزال اسم ابن رائق عن أعلامه ، وترک الانتساب إلیه(5) .

وحاربه حتی أخرجه من بغداد ، وصار هو أمیراً علی العراق ؛ وکان معه فی

ص: 79

ذلک الوقت سبعمائة من الترک وخمسمائة من العجم(1) .

وکان الخلیفة الراضی یحب بحکم أکثر من حبه لابن رائق ، وقد خلع علیه خِلَع المنادمة ، وجعله أمیر الأمراء(2) .

وبعد موت الراضی طمع بحکم فی جماعة من ندمائه ، وظن أنه ینتفع مع عجمته بآدابهم ؛ فلما نظر لم یجد منهم من یفهَّمه ما ینتفع به إلاّ الطبیب سنان بن ثابت ، فوصله وأکرمه ، وطلب منه أن بداویه من غلبة الغضب والغیظ ، وإذا عرف له عیباً ألا یحتشم من ذکره له ، ثم یرشده إلی علاجه لیزول عنه(3) .

وکان بحکم ذا شجاعة نادرة ، فقد لقی عشرة آلاف من عسکر البریدی بأتمّ عدة وأکمل سلاح ، ولم یکن معه إلا مائتان وتسعون من الأتراک ، فهزم عسکر البریدی ؛ وفی إحدی المواقع طرح بحکم نفسه مع جماعة من الأتراک فی دیالی ، وسبحوا وعبروا إلی الأرض التی علیها العدو ، وذلک أمام عینه ، وعبر الدیلم فی الطیارات وبعضهم عبر سباحة ؛ وقاتل العدو ، وهو یظن أنه منه فی أمان ، حتی هُزموا وانصرفوا بین یدیه(4) ؛ وخرج ابن رائق من بغداد ، ولم یتَشَفَّ بحکم منه ، فلما کان مع الراضی فی سُرّ من رأی ، وورد الخبر بخروج ابن رائق إلی باب الأنبار استأذن بحکم الخلیفة فی أن یعبر من سُرّ من رأی إلی هیت مجتازاً الصحراء لیأخذ علی ابن رائق الطریق فلا یفوته ، فلم یأذن له الراضی

ص: 80

وقال : هذا لا یصح ، لأنه رجل قد أمّنتُه ، وإذا فعلنا ذلک بعد الأمان کان قبیحاً(1) .

وقد غلب بحکم هذا سیفَ الدولة صاحب الانتصارات المشهورة علی الروم کلما نزل سیف الدولة لمحاربته .

ولما جاء بحکم إلی بغداد حمل معه کثیراً من ضروب الغلظة التی اقترنت بحیاته الجندیة ؛ وعند ما دخل واسط طالب أهلها بالمال واشتدّ فی تعذیبهم حتی کان یضع علی بطن الرجل منهم طستاً فیه جمر ؛ فنبّهه البعض إلی أنه یفعل ما کان یفعله مرداویج بأهل الجبل ، ود کَّره بأنه فی بغداد ودار الخلافة لا الری وإصبهان ، ولا تحتمل بغداد هذه الأخلاق(2) .

وقد أبغض أهلُ بغداد بحکم لقبح سیرته ، فلما ظهر ابن رائق سُرُّوا به ، وأظهروا ما فی أنفسهم من بغض بحکم ، فکان العیّارون والصبیان یهزأون ببجکم ورجاله ویقولون : بجکم حلقوا نصف سباله ؛ فإذا رأوا ترکیا علیه قلنسوة صاحوا به : قلنسوة طیری ! لیس أمیرنا بجکم(3) .

علی أن بجکم کان أمیراً محبا لعمارة البلاد ، حتی إنه رأی قصور الأکاسرة الخربة فی المدائن ، فعمَّر مواضع کبیرة فی تَلک الناحیة وأنشأها ، وأجری إلیها الأنهار ، وغرس بها غروساً(4) .

وکان یدفن أمواله فی الصحراء ویأخذ معه رجالا لیعاونوه ، فیطبق علیهم

ص: 81

الصنادیق ، ویحملهم علی بغال إلی جوف الصحراء ؛ وبعد أن یدفن المال یطبق علیهم الصنادیق ویعود بهم فلا یدرون إلی أین ذهبوا من أرض اللّه ولا من أین جاءوا .

وکان هو یتخذ لنفسه علامات یهتدی بها(1) . وأصل هذا التصرف راجع إلی بساطة بجکم وتخبُّطه فیما یجهله من الأمور غیر العسکریة .

أما محمد بن طفج فأصله من أولاد ملوک فرغانة ، وکان جده قد جاء من الترکستان فی عهد الخلیفة المعتصم ؛ وکان هذا الخلیفة أول من جلب الکثیر من الجنود الأنراک واستخدمهم ، أما أبوه فقد ارتقی حتی صاروا لیا علی دمشق ، ولکنه عُزل وسُجن هو وابنه محمد ، فذاق هذا الأخیر من الحیاة حلوها ومرّها ؛ وخدم ابنُ طغج قواداً کثیرین ، حتی إنه کان مرّة بازیاراً لعامل الشام یخرج معه للصید ویحمل معه الجوارح ؛ وقد أتیحت له فرصة لإظهار شجاعته عند حاکم مصر مما رفعه إن منصب والی مصر ؛ ثم صار أمیرها المستقل ، وامتد حکمه أخیراً علی بلاد تساوی فی المساحة أکبر رقعة حکمها ملوک الفراعنة ، فکانت له مصر والشام والیمن ومکة والمدینة وغیرها(2) ؛ فلا عجب إذاً أن نری الخلیفة المستکفی یکتب إلی الإخشید ویعرض علیه إمارة بغداد بعد موت توزون ، ویضمن له القیام بالأمر ، فلا ینشط لذلک ؛ وکان الإخشید أزرق

ص: 82

بطیناً(1) .

وکان شدید القوة لا یقدر علی أن یجرَّ قوسَه غیرُه ؛ ولکنه کان قد ثار به طرف من سوداء مرّة ، فکان یعتاده فیخلط(2) ؛ وقد حَسُنَ حالُ مصر علی یدیه ، وعنی بالنظام فیها ، وأمر بضرب الدینار الإخشیدی علی عیار کامل ، وصلحت النقود فی عهده بعد فسادها(3) .

وکان جیشه أعظم جیوش عصره ، فلما استدعاه المتقی فی عام 333ه _ 944م، واقترب من الرقّة والرافقة أشرف أهلهما علی السواحل والأسوار ونظروا من عظم العسکر وحسن عدّنه مالم یشاهدوا مثله(4) .

وقد التقت فی الإخشید خصلتان : السذاجة وحب التملک ، فکان اجتماعهما طریفاً ؛ وقد بدأ بمصادرة جمیع العمال الأغنیاء ، أصدقاءً کانوا أم أعداءً ، وأَخذ أموالهم فی هدوء من جانبه وبرود ؛ وکثیر منهم کان یستحق هذا . وقد اشتهرت عنه محبته للعنبر ، فکان أکثر ما یُهدی إلیه ؛ وکان إذا جاءت الأوقات التی یهدی إلیه فیها أخرج من خزائنه العنبر وباعه إلی التجار ، فیشتریه الذین یهدونه إلیه ، فیحصل له الثمنُ الوافر ، ثم یعود العنبر إلیه(5) .

وتحکی عنه حکایات تدل علی أنه کان لا یأنف أن یأخذ ما یعجبه إذا وجده

ص: 83

عند أحد من أصحابه(1) .

ولکن کان الغالب علی الإخشید الحیاء ورقّة الوجه ، وکان إذا صادر أَحداً لم یعذبّه ولم یضربه ، ولم یضیق علیه ، ولم یرَه حتی تنتهی المصادرة ، وکان رسمه ألا یتعرّض للحُرَم(2) .

وکان یحب الصالحین ویکرمهم ویرکب إلیهم ویطلب دعاءهم . یقول ابن سعید(3) : «وحدثنی مسلم بن عبداللّه الحسینی قال : وصفت للأخشید رجلاً صالحا بالقرافة یعرف بابن المسبّب ، فرکب معی إلیه ، وسأله الدعاء ، ثم انصرف .

فقال لی : تعالَ أُریک أنا أَیضاً رجلاً صالحا ؛ فمضیت معه إلی أبی سلیمان بن یونس ، فرأیت شیخاً أَدیباً جالساً علی حصر سامان مُبَطَّن ، فقام فتلقَّی الإخشید وأَقعده علی الحصیر ؛ فأدخل یده تحت الحصیر فأخرج منه مندیلا نظیفاً مطویا فغطاه علی یده وقراء علیه» . وکان الإخشید یحب قراءة القرآن ویبکی عند سماعها(4) .

وقد وقع له مرة أمرٌ عجیب ؛ وذلک أن رجلا من أهل العراق صعد فوق زمزم بمکة وصاح : معاشر الناس ! أنا رجل غریب ، ورأیت البارحة رسول اللّه صلی الله علیه و آله ، وهو یقول لی : سِر إلی مصر ، والقَ محمد بن طغج ، وقل له عنّی یطلق محمد بن علی المادرای ، فقدأضرّ بولدی . ثم سارت القافلة إلی مصر ، وسار الرجل

ص: 84

ووصل إلی مصر وبلغ الإخشیدَ خَبرُه ، فأحضره ، وقال إیش رأیت ؟ فأخبره ، فقال : کم أنفقت فی مسیرک إلی مصر ؟ قال : مائة دینار ، فقال : هذه مائة دینار من عندی ، وعُد إلی مکة ، ونَم فی الموضع الذی رَأَیتَ فیه رسولَ اللّه صلی الله علیه و آله ، فإذا رأیتَهُ فقل لرسول اللّه : قد بلّغتُ رسالتک إلی محمد بن طغج ، فقال : بقی لی عنده کذا وکذا ، وذکر شیئاً کثیراً ، فإذا دفعه إلی أطلقته ، فقال له الرجل : لیس فی ذکر رسول اللّه صلی الله علیه و آله هَزلٌ ، وأنا أخرج إلی المدینة ، وأنفق من مالی وأسیر إلی رسول اللّه صلی الله علیه و آله وأقف بین یدیه یقظان بغیر منام ، وأقول : یا رسول اللّه أدَّیتُ رسالتک إلی محمد بن طغج ، فقال لی کذا وکذا ، وقام الرجل ؛ فأمسکه ، وقال : حصلنا فی الجد ؛ إنما طَنَنّا بک ظناً ، والآن فما تَبرَحُ حتی أطلقه ، فأرسل إلیه الإخشید من توسّط فی أمره وأطلقه(1) .

وفی سنة 331ه _ 942م ورد الخبر من دمیاط إلی مصر بأن رجلا أقطع الید قدیماً ، ممن قد أُخذ مع قوم اتهموا بقطع الطریق ، غاب عن البلد زمانا ثم عاد ویده صحیحة ، وقد إدّعی أنها کانت مقطوعة وأنها کانت عند أهله ؛ وقال إنه کان فی مسجد یتعبّد فیه وأن یده عادت صحیحة ؛ فافتتن الناس به وکثر القول فیه ، فوجّه الإخشید من أحضره إلی داره ، وسأله عن قصّته فقال : رأیت فی النوم کأن سقف المسجد قد انفتح ونزل إلیَّ منه ثلاثة أنفس : النبی وجبریل وعلی علیهم السلام ؛ فسألتُ النبی رَدَّ یدی ، فَرَدّها إلیَّ ، وانتبهتُ ، وقد عادت . وورد من دمیاط کتاب بأن جماعة من المستورین رأوه مقطوع الید ؛ فأوصله الإخشید إلیه وأکبره ،

ص: 85

واستعظم قدرة اللّه تعالی فیه ، ثم قیل إن هذا الرجل دلّس وکذب ، وزالت الفتنة واللّه أعلم(1) .

ص: 86

ص: 87

ص: 88

وکان تغییر[1] الدین لا یجوز إلاّ إذا کان دخولاً فی الإسلام ؛ فکانت الطوائف الدینیة منفصلة بعضها عن بعض تمام الانفصال ، وکان المسلم[1] إذا ارتد عن الإسلام عوقب بالقتل ، کما أن قانون الدولة البوزنطیة کان یقضی بقتل المسیحی إذا هو غیَّر دینه(1) .

ص: 89

ولم یکن ثمَّ تزاوجٌ بین المسمین ، وذلک لأن القانون المسیحی لم یکن یجیز للمرأة النصرانیة أن تتزوج بغیر نصرانی ، لئلا تنتقل هی وأولادها إلی غیر المذهب ، ولا کان یجوز للنصرانی بحسب قانون الکنیسة أن یتزوج بغیر نصرانیة إلا رجاء إدخالها هی وأولادها فی النصرانیة(1) .

أما زواج المسیحی من مسلمة فکان مستحیلا . علی أنه کان فی الدولة الإسلامیة ما یضمن لکل دیانة من دیانات أهل الذمة کیانها الخاص ، فکان لا یجوز للمسیحی[1] أن یتهوَّد ، ولا للیهودی أن یتنصر ؛ ولا یکون تغییر الدین إلا إذا کان ذلک دخولاً فی الإسلام ؛ ولم یکن النصرانی[2] یرث الیهودی ولا العکس ، کما لم یکن الیهودی[3] أو النصرانی یرث المسلمَ ولا المسلمُ غیرَ المسلم یهودیاً کان أو نصرانیاً(2) .

وقد أصدر الخلیفة المقتدر فی سنة 311ه _ 923م کتاباً فی المواریث أمر فیه بأن « تُرَدَّ ترکة من مات من أهل الذمة ، ولم یخلف وارثاً ، علی أهل ملتّه » ، علی

ص: 90

حین أن ترکة المسلم کانت ترَدّ إلی بیت المال(1) .[1]

وفی النصف الثانی من القرن الرابع الهجری صدر منشور کُتب للصابئین عن أمیرالموءمنین ، أمَرَ فیه ، إلی جانب صیانتهم وحراستهم والذبّ عن حریمهم ورفع الظلم عنهم ونحو ذلک ، بالتخلیة بینهم وبین مواریثهم ، وتَرک مداخلتهم ومشارکتهم فیها ، لأن أمیرالموءمنین یری فی مواریث الصابئین وغیرهم من المخالفین رَأْی رسول اللّه صلی الله علیه و آله ، إذ یقول فی الأثر الثابت عنه : «لا یتوارث أهلُ ملَّتین»(2) .[1]

وفی أثناء القرن الرابع الهجری اعتُرف للمجوس بأنهم أهل ذمّة ، إلی جانب الیهود والنصاری ؛ وکان لهم ، کالیهود والنصاری ، رئیسٌ یمثلهم فی قصر الخلافة وعند الحکومة ؛ ولکن کان بین هذه الطوائف الثلاث فروق ؛ فأما الیهود فإنهم استطاعوا أن یستنقذوا مرکزهم السیاسی من خلال الاتحاد المفکک الذی کان للامبراطوریة البابلیة رغم ما تعرضوا له من مخاطر وتقلُّبات ؛ وأما المجوس فهم بقیة لعدو باسل مستقل لم یتمَّ التغلب علیه فی مواطنه البعیدة المنال ؛ أما

ص: 91

النصاری فقد کانوا من قبل یخضعون لحکم الساسانیین علی ما یشبه حال أهل الذمة ، وکانت الظروف التی عاشوا فیها أقسی علیهم من غیرهم وأقل حفظاً لمصالحهم من الیهود أو من شعوب الولایات التی أُخذت من الروم(1) ؛ «وکانت الریاسة فی المجوس والیهود وراثیة ، وکان یلقب روءساؤهم ، بلقب المُلک ، وکانوا یدفعون الضرائب لرؤسائهم ، خلافا لما کان الحال علیه بالنسبة للنصاری»(2) ؛ وقد قال بطریرک الیعاقبة فی مجلس له مع الخلیفة : إن روءساء المجوس والیهود حکام دنیویون ، وإنه هو رئیس روحی ، ولا یستطیع إلا فرض العقوبة الروحیة ، کان یحکم بإزالة القسس والأساقفة عن مناصبهم أو بمنع العلمانیین من حضور البیعة(3) .

وصار الجاثلیق النسطوری ، رئیس المسیحیین الشرقیین ، بعد أن انتقل مرکز الدولة الإسلامیة إلی الشرق ، هو الرئیس الأکبر للنصرانیة ، وکانت تنتخبه الکنیسة ویصادق الخلیفة علی انتخابه ، ویکتب له عهداً کما یکتب لکبار العمال والمتصرّفین ، وقد وَرَدَ فی نسخة عهد الجاثلیق عام 533ه _ 1139م(4) .

«ولما أَنهَیتُ حالک إلی أمیرالموءمنین ، وأنک أمثَلُ أهل ملّتک طریقةً ، وأقربهم إلی الصلاح مذهباً... وحضر جماعةَُ من النصاری الذین یُرجع إلیهم فی استعلام

ص: 92

سیرة أمثالک ... فاتفقوا باجتماع من آرائهم وأهوائهم علی اختیارک لریاستهم ومراعاة شوءونهم وتدبیر وقوفهم والتسویة فی عدل الوساطة بینهم ، قوّیهم وضعیفهم ، وسألوا أیضاً نَصبَک علیهم بالإذن الذی به تثبت قواعده ... وبرز الإذن الإمامی الأشرف لازالت أوامرُه معضودة بالتوفیق بترتیبک جاثلیقاً لنسطوریی النصاری بمدینة السلام ومن تضمنته دیار الإسلام وزعیما لهم ومن عداهم من الروم والیعاقبة والَمَلَکِیة فی جمیع البلاد وکل حاضر فی هذه الطوائف وبادٍ وانفرادک عن کافة أهل ملتک بتقمص أهبة الجثلقة المتعارفة فی أماکن صلواتکم ومجامع عباداتکم غیرَ مشارک فی هذا الإنسان ولا مفسح فی التحلّی به لمطران أو لمطران أو أسقف أو شماس(1) . حطّاً لهم عن رتبتک ووقوفاً بهم دون محلک ؛ وإن ولج أحد فی باب المجادلة .. وأبی النزول علی حکمک .. کانت العقوبة به حائقة حتی تعتدل قناتُه .. وأمر بحملک علی مقتضی الأمثلة الإمامیة فی حق من تقدمک من الجثالقة .. والحیاطة لک ولأهل ملتک فی الأنفس والأموال والحراسة للکافظ بصلاح الأحوال واتباع العادة المستمرة فی مواراة أمواتکم وحمایة بِیعکُم ودیاراتکم .. وأن یقتَصَر فی استیفاء الجزیة علی تناولها من العقلاء والواجدین من رجالکم(2) ، دون النساء ومن لم یبلغ الحُلُم من أطفالکم ، ویکون استیفاوءها

ص: 93

نوبةً واحدة فی کل سنة من غیر عدول فی قبضها عن قبضة الشرع المستحسنة ، وفَسِّح (هکذا فی النص) فی أن تتوسط طوائف النصاری فی محاکماتها فتأخذ النصفَ من القویّ للمستضعف» .

وکذلک کان یُکتب لبطریق الیعاقبة عهدً ، فکان لا بد له أن یذهب إلی قصر الخلافة عند تنصیب کل خلیفة جدید(1) .

ولکن الخلیفة منعه حوالی عام 300ه _ 912م من أن یتخذ ببغداد مقرّاً له(2) .

وکان للنصاری النوبیین دون سائر النصاری مرکزٌ خاص ممتاز فی المملکة الإسلامیة ، فکانوا یدفعون الضرائب لملکهم ، وکان للضرائب عامل من قِبَله فی بلاد الإسلام ، وقد حدث أن واحداً منهم اعتنق الإسلام ، وکان ابن ملک النوبة ببغداد زائراً ، فأمر باعتقاله وغلَّه بالقیود(3) .

ولا یتکلم الموءرخون المسلمون کثیراً عن رئیس الیهود ؛ ویقول موءرخون الیهود إنه عانی فی القرن الرابع أیاما شدیدة(4) ؛ وقد تکلم عنه بنیامین (Benjamin von Tudela) وبتاحیا (Petachja von Regensburg) فی القرن السادس الهجری .

ص: 94

وقد کان انقسام الإسلام إلی خلافة ببغداد وأخری بالقاهرة مما أثر فی تنظیم المجتمع الیهودی ، ولذلک نجد ببغداد رأس الجالوت الذی لقبه المسلمون بسیدنا ، ولکن کلمته کانت لا تسری إلا شرقی الفرات(1) ؛ ونجد فی القاهرة رئیسا آخر یلقَّب سر هسّاریم (أی أمیر الأمراء) ، وکان یعین أحبار الیهود فی الشام ومصر ، أی فی حدود مملکة الفاطمیین(2) .

ولا بد أن یکون الفاطمییون قد تکلَّفوا إیجاد هذه الطائفة الخاصة من الأمراء (ناجید _ أمیر) بالقاهرة رغبة منهم فی معارضة کل ما هو بغدادی ؛ فعندنا من القرن الثانی عشر المیلادی ، أی بعد سقوط دولة الفاطمیین مباشرة ، کتابٌ لرئیس الطائفة الیهودیة بمصر موجَّه إلی بغداد یشکو فیه من إمام غیر مقبول أُرسل من بغداد(3) ؛ ویقدّر ربَّی بنیامین (وهو رحالة سافر عام 1165م) الیهود الذین فی المملکة الإسلامیة _ بعد صرف النظر عن المغرب _ بنحو ثلاثمائة ألف یهودی ، علی حین أن ربَّی بتاحیا _ وقد سافر بعد صاحبه بعشرین عاما _ یقدر أن عدد الیهود فی العراق وحدها یبلغ ستمائة ألف(4).

ولا تنطبق هذه الأرقام علی اشام فی القرن الرابع الهجری لأن السیاسة التی جری علیها قواد الصلیبین إزاء الیهود کادت تفنی الطائفة الإسرائیلیة ؛ ویقدَّر بنیامین عددَ سکان الحی الخاص بالیهود فی القدس بأربعة أنفس(5) ؛ ولم یجد

ص: 95

بتاحیا هناک إلاّ شخصاً واحداً . ویقول بایلومارسیلیوس جورجیوس (Bailo Marsilius Georgius) فی خبر یرجع تاریخه إلی اکتوبر 1243م إنه لم یکن فی الحی الخاص بالبندقیین فی صور إلا تسعة من شبان الیهود(1) .

أما بنیامین فیقول إنه کان یسکن دمشق ثلاثة آلاف یهودی تحت حکم المسلمین _ وعند بتاحیا عشرة آلاف _ وفی حلب خمسة آلاف یهودی . أما علی نهری دجلة والفرات فکان الیهود مجتمعین بکثرة کما کانوا بألمانیا فی ذلک الوقت علی نهری الرین والموزل . وقد کانوا کثیرین علی نهر دجلة بنوع خاص ، یقول ربَّی بتاحیا(2) : «وثَمَّ یهود فی جمیع المدن والفری التی بین نینوی ودجلة» . وکان فی جزیرة ابن عمر أربعة آلاف ، وفی الموصل سبعة آلاف (وعند بتاحیا ستة آلاف ) ، وفی مدینة حربة بأقصی الشمال فی العراق خمسة عشر ألفا ، وفی عکبری وواسط عشرة آلاف ، ولکن من العجیب أنه لم یکن یوجد ببغداد إلاّ ألف یهودی(3) ؛ وکانت المدن التی بها یهود کثیرون علی الفرات هی مدینة الحلّة ، وکان بها عشرة آلاف ، والکوفة ، وکان بها سبعة آلاف ، والبصرة وکان بها ألفان ، وفی أوائل القرن الرابع الهجری کان الیهودهم أکثر أهل مدینتی سورا ونهر ملک

ص: 96

من بین أجزاء العراق الأخری(1) .

وکلما تقدمنا شرقا زاد عدد الیهود ، فکان بهذان ثلاثون ألفاً ، وبأصفهان خمسة عشر ألفاً ، وبشیراز عشرة آلاف ، وبغزنة ثمانون ألفاً ، وبسمرقند ثلاثون ألفاً(2) .

ویقول المقدسی فی القرن الرابع ما یوءید هذا فیذکر أن بخراسان یهوداً کثیرین ونصاری قلیلین(3) ، وأن بالجبل یهوداً أکثر من النصاری(4) .

وکان بالمشرق أیضاً المدینتان الوحیدتان اللتان أطلق علیهما اسم الیهودیة : إحداهما قرب أصفهان والأخری شرقی مرو . وکذلک وجد المقدسی إقلیم خوزستان «قلیل النصاری غیر کثیر الیهود أو المجوس» (ص 414) ، وکذلک فی فارس وجد «المجوس أکثر من الیهود ، وبه نصاری قلیل»(5) (ص439) .

وکذلک الحال فی جزیرة العرب ، فالیهود أکثر من النصاری (مقدسی ص 95) ، وهم الغالب علی مدینة قرح ، ثانیة مدن الحجاز عمارةً وتجارة (مقدسی ص 83 _ 84) . أما مصر فالأرقام التی ذکرها بنیامین أقل مما تقدم بکثیر(6) :

ص: 97

فکان بالقاهرة سبعة آلاف وبالإسکندریة ثلاثة آلاف ، وبمدن الدلتا نحو ثلاثة آلاف ، وثَمّ ستمائة فی المدن التجاریة بالصعید .

أما عدد النصای فلا یمکن تعیینه إلا تعیینا تقریبا ناقصا جدا ؛ وفی عهد عمر ابن الخطاب رضی الله عنه کان عدد الذین دفعوا الجزیة خمسمائة ألف إنسان(1) ، وlمعنی هذا أن أهل الذمة بلغوا خمسمائة ألف منهم الیهود(2) ؛ ویدل إحصاء سکان مصر فی القرن الثانی الهجری علی أنه کان بها خمسة ملایین من القبط یدفعون الجزیة(3) .

وهذا یدل علی أنه کان بمصر زهاء خمسة عشر ملیوناً من النصاری الأقباط(4) ؛ وبلغ مقدار الجزیة ببغداد فی أول القرن الثالث الهجری مائة ألف وثلاثین ألف درهم(5) ، وفی أوائل القرن الرابع بلغت مائة وستین ألف درهم(6) .

وبدل هذان الرقمان علی أنه کان ببغداد نحوٌ من خمسة عشر ألفا من أهل الذمة یدفعون الجزیة ، ویجب أن نسقط منهم ألف یهودی . ونستطیع أن نقول

ص: 98

بشیء من الیقین إنه کان ببغداد ما بین أربعین وخمسین ألف نصرانی ، والمدینتان الوحیدتان فیما بین الفرات ودجلة اللتان یقول ابن حوقل إن أکثر أهلهمه نصاری هما الرُّها وتکریت ؛ ویقول عن تکریت إنها مدینة قدیمة البناء ، وتجمع سائر فرق النصاری ، وبها من البیع والأدیرة القدیمة التی تقارب عهد عیسی علیه السلام والحواریین ، لم تتغیر أبنیتها وثاقةً وجّلّداً(1) .

أما المجوس فکانوا کثیرین بالعراق(2) ، وأکثر ما کانوا فی جنوب فارس وفی سنة 369ه _ 979م وقعت فتنة عظیمة بینهم وبین عامة شیراز من المسلمین ؛ ونُهبت فی هذه الفتنة دور المجوس ، وضُربوا ، فسمع عضد الدولة الخبر وجمع کل من له أَثَرٌ فی ذلک وبالغ فی تأدیبهم وزجرهم(3) ؛ ولکن شیراز کانت مدینة هادئة فی العادة ، وقد عجب المقدسی من أنه لم یرَ فیها علی مجوسی غیاراً یمیّزه ومن أن الأسواق تُزیَّن فی أعیاد الکفار .

وفی عام 371ه _ 981م مات أحد کبار الصوفیة ، فمشی فی جنازته المسلمون والیهود والنصاری .

وکانت تقع فی المفازة التی بشرق فارس مدینة القرینین ، وأهلها مجوس ، وکسبهم من کری حمیرهم ، یضربون علیها إلی الآفاق(4) .

أما الصابئة فکان آخر عهد ازدهر أمرهم فیه أواخر القرن الثانی ، فی عهد الخلیفة الأمین ؛ ففی ذلک العصر «عاد شأنُ الوثنیة بحرّان إلی الظهور ، وَقِیدَتْ

ص: 99

الثیران فی جمیع الشوارع مزینَنَةً بغالی الثیاب والورود والریاحین وبالأجراس علی قرونها ، وسار خلفها الرجال بالمزامیر»(1) .

وفی حوالی عام 320ه استفتی الخلیفةُ القاهرُ أبا سعید الأصطخری محتسبَ بغداد فی الصابئین ، فأفتاه بقتلهم ، لأنه تبین له أنهم یخالفون الیهود والنصاری ویعبدون الکواکب ؛ فعزم الخلیفة علی ذلک حتی جمعوا من بینهم مالاً کثیراً فکفّ عنهم(2) .

وقد صدر حوالی منتصف القرن الرابع الهجری منشورٌ کُتب للصابئین المقیمین بحرّان والرقّة ودیار مضر أَمَرَ فیه الخلیفةُ بصیانتهم وحراستهم(3) ؛ ولکنهم انقرضوا حوالی عام 400ه 1009م ، حتی إن ابن حزم یقول إنهم فی جمیع الأرض لا یبلغون أربعین نفساً(4) .

ولم یکن فی التشریع الإسلامی ما یغلق دون أهل الذمَّة أی باب من أبواب الأعمال ؛ وکان قدمهُم راسخاً فی الصنائع التی تُدِرّ الأرباح الوافرة ، فکانوا صیارفة وتجاراً وأصحاب ضیاع وأطبّاء(5) ؛ بل إن أهل الذمة نظموا أنفسهم بحیث کان معظم الصیارفة والجهابذة فی الشام مثلاً یهوداً ، علی حین کان أکثر الأطباء والکتبة نصاری(6) .

ص: 100

وکان رئیس النصاری ببغداد هو طبیب الخلیفة ، وکان روءساء الیهود جهابذتَهم عنده(1) .

وکان أصغر دافعی الضرائب هم الیهود الخیّاطون والصبّاغون والأساکفة والخرّازون ومن إلیهم(2) .

وقد وجد بنیامین (ص35) فی القدس فی القرن الثانی عشر المیلادی أن الیهود یحتکرون صنعة الصباغة ، وکذلک الاثنی عشر یهودیا الذین وجدهم فی

ص: 101

بیت لحم ؛ فقد کانوا جمیعاً صبّاغین (ص40) ، لأن الیهودی ولو کان واحداً فی بلد فإنه یشتغل بهذه الصناعة (بنیامین ص 32 و43 و44 و49) .

أما حیاة الذمّی فإنها عند أبی حنیفة وابن حنبل تکافئ[1] حیاةَ المسلم ، ودِیَتُه دِیَةُ المسلم ؛ وهی مسألة مهمة جداً من حیث المبدأ .

أما عند مالک فَدِیةُ الیهودی أو النصرانی نصف دیة المسلم ، وعند الشافعی ثلثها ؛ أما المجوسی فَدِیَتُهُ جزء من خمسة عشر جزءاً من دیة المسلم[1] . ومما کان یستحق التأدیب ، لا الحدّ ، عند فقهاء المسلمین أن یقال للمسلم : یا یهودی أو یانصرانی أو ما جری هذا المجری(1) .

ولم تکن الحکومة الإسلامیة تتدخل فی الشعائر الدینیة لأهل الذمّة ، بل کان یبلغ من بعض الخلفاء أن یحضر مواکبهم وأعیادهم ویأمر بصیانتهم(2) ؛ وفی حالة انقطاع المطر کانت الحکومة تأمر بعمل مواکب «یسیر فیها النصاری ، وعلی رأسهم الأسقف ، والیهود ومعهم النافخون فی الأبواق»(3) ؛ وکذلک ازدهرت الأدیرة فی هدوء ؛ فمن ذلک الدیر المسمی دیر قُنّی ، وهذا الدیر کان «یقع علی

ص: 102

مسافة ستة عشر فرسخاً من بغداد ، منحدراً فی الجانب الشرقی ، بینه وبین دجلة میل ونصف ، وهو دیر حسن نزِهٌ عامر ، وفیه مائةُ قَلاّیه لرهبانه والمتبتّلین فیه ، لکل راهب قلاّیة ؛ وهم یبتاعون هذه القلالی بینهم من ألف دینار إلی مائتی دینار إلی خمسین دیناراً(1) .

وحول کل قلایة بستان فیه من جمیع الثمار والنخل والزیتون ، وتُباع غلّته من مائتی دینار إلی خمسین دینارً ، وعلیه سور عظیم یحیط به ، وفی وسطه ، نهرُ جارٍ ؛ وعیده الذی تجتمع الناس إلیه عید الصلیب»(2) .

وکان أکبر الأدیرة بمصر الدیر المعروف بدیر أنطانیوس ، وبیننه وبین النیل ثلاثة أیام فی البریة ؛ وهو یقع شرقی إطفیح من قبلی مصر ، وهو علی جبل عالٍ ، وله بمصر وقوفات وأملاک عدة ، وعلیه حصن دائر ، وداخل الحصن بستان کبیر ، وفیه نخیل مثمر ، وأشجار تفاح وکمثری رمان وغیرُ ذلک ، وأرضه مزورعة بالبقول ، وله ثلاثة عیون ماء تجری دائماً ویسقی منها البستان ؛ ومن جملة البستان فدان وسدس کرم عنب ، وقیل إن عِدَّة نخیله ألف رأس نخل ، وبه جوسق کبیر وقلالٍ للرهبان مطلة علی البستان ، وله بإطفیح أیضاً أملاک وبساتین ، ولیس مثله فی سائر الدیارات التی یسکنها رهببان المصریین(3) .

ص: 103

علی أن الکنیسة الرسمیة فی الدولة الرومانیة الشرقیة قد ذهبت فی معاداتها للمسیحیین الذین یخالفون رجالها فی التفکیر أبعد مما ذهب إلیه الإسلام بالنسبة لأهل الذمة ؛ فلما أعاد الإمبراطور نقفور افتتاح بلاد الشام فی القرن الرابع الهجری _ العاشر المیلادی _ کان مما وعد به أهل الشام وأمّنهم به أن یحمیهم من مضایقة کنیسة الدولة ، ولکنه رغم هذا الأمان ، لم یألُ جهداً فی مضایقة الیعقوبیین ، فاضطرهم مثلا إلی الخروج من أنطاکیة ، ولذلک بجد موءرخی الیعقوبیین یصفون البطارقة التی عینتهم الدولة فی أنطاکیة بأنهم أضلّ من فرعون وأشد کفراً باللّه من بختنصّر ؛ ولما أعید فتح ملطیة أُخذ بطریرک الیعاقبة وسبعةٌ من کبار أساقفتهم إلی القسطنطینیة وسُجنوا هناک ، ووضع الملکانیون أیدیهم علی الکنیسة الکبری بملطیة(1) ؛ فأما البطریرک فإنه مات منفیاً علی حدود بلغاریا ؛ وکذلک مات أحد أصحابه فی السجن ، ورُجم الثالث أمام قصر الإمبراطور ، ورجع ثلاثة عن المذهب الیعقوبی ، وأعید تعمیدهم ، ولکنهم لم یجدوا السکینة التی یرجونها ، وصاروا موضع السخریة کأنهم شیاطین .

وأخیراً لم یستطع روءساء الکنیسة السریانیة أن یقیموا فی مقر بطریقهم بعد دخول المذهب الملکانی ، «وبعد أن أعیدت أنطاکیة إلی المسیحیة» ، کما یقول الملکانیون ، فاضطروا إلی الانتقال إلی آمد طلباً لتسامح أکثر فی بلاد الکفار(2) .

ص: 104

ولقد منعت الکنیسة الرسمیة نصاری أرمینیة من استعمال النواقیس(1) .

وکثیراً ما کان رجال الشرطة المسلمون یتدخلون بین الفرق النصرانیة لمنعهم من المشاجرات ، حتی عین حاکم أنطاکیة فی القرن الثالث الهجری رجلاً یتقاضی ثلاثین دیناراً من النصاری فی الشهر ، وکان مقره قرب المذبح ، وعمله أن یمنع المتخاصمین من قبل بعضهم بعضاً(2) .

وفی سنة 322 ه مات أسقف تّنیس ، وکان بینه وبین البطریک وَحَشةٌ ، فلما مات انقسم أهل مصر وأهل تنیس حزبین ، أحدهم مع البطریک والأخر علیه ، «وقام لکل حزب من الحزبین غرض فی نصرة هواه ، حتی کان الأبُ لا یکلم ابنه ولا المرأةُ تخاطب بَعلَها» ؛ وکان کل فریق یستعین بالسلطان علی الآخر ، حتی خرج جماعة من النافرین عن البطریرک ، وذهبوا إلی الإخشید محمد بن طغج ، فوجَّه معهم من ختم الکنیسة الجامعة التی کان الأسقف نازلا بها ومنع الصلاة فیها وقبض علی الأسقف والبطریرک(3) .

وفی سنة 200ه _ 815م أراد الخلیفة المأمون أن یصدر کتابا لأهل الذمّة یضمن لهم حریة الاعتقاد وحریة تدبیر کنائسهم ، بحیث یکون لکل فریق منهم مهما کانت عقیدتهم ، ولو کانوا عشرة أنفس ، أن یختاروا بطریقهم ، ویعترف له بذلک ، ولکن روءساء الکنائس هاجوا وأحدثوا شغبا ، فعدل المأمون عن إصدار

ص: 105

الکتاب(1) .

أما فیما یتعلق ببناء الکنائس فلم تکن الدولة الساسانیة من قبل تسیر علی خطة ثابتة فی ذلک ، [فکانت تسمح ببنائها أحیاناً] ، علی حین أن القانون الرومانی فی العهد الأخیر کان یحرّم علی الیهود أن ینشئوا کنائس جدیدة لهم ، ولا یسمح لهم إلاّ بإصلاح ما تهدّم منها(2) .

أما فی الإسلام فنجد سیاسة الدولة تجمع فی أوقات متتابعة بین تسامح الفرس وتعصب الرومان ، فکان یسمح للنصاری أحیاناً ببناء کنائس جدیدة ، وأحیاناً کانوا یمنعون حتی من إصلاح الکنائس القدیمة(3) ؛ ففیما بین عامی 169 و171ه _ 785 و787م هدم علی بن سلیمان والی مصر من قبل الرشید الکنائسَ الُمحدَثة بمصر ، وبُذِل له خمسون ألف دینار لیترک الهدم ، فامتنع ؛ ثم جاء بعده والٍ آخر ، فأذن للنصاری فی بنیان الکنائس التی هدمها علی بن سلیمان ، فبُنیت کلها بمشورة اللیث بن سعد وعبداللّه بن لهیعة ، وقالا : هو من عمارة البلاد ، واحتجّا بأن عامة الکنائس التی بمصر لم تُبنَ إلا فی الإسلام فی زمن الصحابة والتابعین(4) .

وفی عام 300ه _ 912م ثار المسلمون فهدموا کنیسة بناها النصاری فی

ص: 106

تِنّیس ، فأعان السلطانُ النصاری حتی بنوا الکنیسة(1) .

وفی سنة 326ه _ 938م انهدمت قطعة من کنیسة أبی شنودة بمصر ، فبذل النصاری للإخشید مالا لیطلق عمارتها ، فقال : خذوا فتوی الفقهاء ؛ فأما ابن الحداد فأفتی بألا تُعمَّر ، وأفتی بذلک أصحاب مالک ، وأفتی محمد بن علی بأن لهم أن یرمّوها ویعمروها ، واشتهر ذلک عنه ، فحملت الرعیة إلی داره النار وأرادوا قتله ، فاستتروندم علی فتیاه . وشغبت الرعیة وأغلقت الدروب وأحاطت بالکنیسة ؛ فأرسل الإخشید عسکراً کبیرا ، فزحفت علیهم الرعیة ورموهم بالحجارة ؛ فدعا الإخشید بأبی بکر بن الحداد الفقیه ، وقال له : إرکب إلی الکنیسة ، فإن کانت تبقی فاترکها علی حالها ، وإن کانت مَخوفةً فاهدمها إلی لعنة اللّه ... فأخذ ابنُ الحداد معه مهندساً ، فدخلها وأخذ بیده شمعة ، فطاف بها وعاد إلی أبی بکر ، وقال له : تبقی هکذا خمس عشرة سنة ، ثم یسقط منها موضع ، ثم تقیم إلی تمام أربعین ویسقط جمیعها ؛ فانصرف أبوبکر إلی الإخشید وعرفّه ، فترکها ، ولم یعمرها ، وکان أمرها کما قال المهندس ؛ فعمرت سنة ست وستین قبل تمام أربعین سنة ، ولو تُرکت لسقطت(2) .

وکان أهل الذمة یعاملون فی مارستانات بغداد معاملة المسلمین ، ولکن حدث وباءُ فی أوائل القرن الرابع ، فوقّع الوزیر علی بن عیسی إلی سنان بن ثابت طبیب الخلیفة ، وهو الذی کان یتولی المعالجة وإعطاء الأدویة للمرضی خارج

ص: 107

بغداد ، بأن یعالج المسلمین قبل أهل الذمة(1) .

وکان موتی المسلمین وأهل الذمة یدفنون کلٌّ علی حدة ، ولکن یحکی أنه فی عام 319ه _ 931م جاء إلی تکریت سَیلٌ کبیر ، فغرّق منها أربعمائة دار وغرّق خلقاً کثیراً من الناس ، ودُفن المسلمون والنصاری مجتمعین لا یعرف بعضهم من بعض(2) .

ولم یکن یوجد فی المدن الإسلامیة أحیاءٌ مختصة للیهود والنصاری بحیث لا یتعدونها ، وإن آثر أهلُ کل دین أن یعیشوا متقاربین . وکانت الأدیرة المسیحیة منتشرة فی کل أجزاء بغداد حتی کادت لا تخلو منها ناحیة .

ولما کان الشرع الإسلامی خاصاً بالمسلمین فقد خلّت الدولة الإسلامیة بین أهل الملل الأخری وبین محاکمهم الخاصة بهم ؛ والذی نعلمه من أمر هذِه المحاکم أنها کانت محاکم کَنَسِیَّة ، وکان روءساء المحاکم الروحیون یقومون فیها مقام کبار القضاة أیضاً ؛ وقد کتبوا کثیراً من کتب القانون .

ولم تقتصر أحکامهم علی مسائل الزواج بل کانت تشمل إلی جانب ذلک مسائلَ المیراث وأکثَر المنازعات التی تخص المسیحیین وحدهم مما لا شأن للدولة به .

علی أنه کان یجوز للذمی أن یلجأ للمحاکم الإسلامیة ؛ ولم تکن الکنائس بطبیعة الحال تنظر إلی ذلک بعین الرضا ، ولذلک ألّف الجاثلیق تیموتیوس (Timotheus) حوالی عام 200ه _ 800م کتاباً فی الأحکام القضائیة المسیحیة

ص: 108

«لکی یقطع کل عذر یتعلل به النصاری الذین یلجأون إلی المحاکم غیر النصرانیة بدعوی نقصان القوانین المسیحیة»(1) ؛ وفی الفصلین الثانی عشر والثالث عشر من هذا الکتاب فرض تیموتیوس علی من یذهب طائعاً إلی المحاکم الإسلامیة أن یتوب ویتصدّق ، ویقوم علی المسح والرماد(2) .

ثم جاء خلیفته فقرّر أن النصاری إذا خرجوا إلی الأحکام البرانیة فإنهم یوءدّبون علی قدر جرمهم ، ویمنَعون من البیعة إلی حین(3) .

وفی عام 120ه _ 738م ولی قضاء مصر خَیرُ بن نعیم ، فکان یقضی فی المسجد بین المسلمین ، ثم یجلس علی باب المسجد بعد العصر علی المعارج ، فیقضی بین النصاری(4) .

ثم خصص القضاةُ للنصاری یوماً یحضرون فیه إلی منازل القضاة لیحکموا بینهم ، حتی جاء القاضی محمد بن مسروق الذی ولی قضاء مصر عام 177ه ، فکان أول من أدخل النصاری فی المسجد لیحکم بینهم(5) .

وعلی أی حال فإن بعض فقهاء الإسلام أجازوا تقلید الذمی القضاء بین أهل دینه ، وهذا ، وإن کان العرف به جاریاً ، فهو تقلید زعامة وریاسة ولیس بتقلید حکم وقضاء ؛ وإنما یلزمهم حکمه لالتزامهم له ، وإذا امتنعوا من التحاکم إلیه لم یجبَروا علی ذلک ؛ فإذا رجعوا إلی قاضی الإسلام[1] فإنه یقضی بینهم بحکم

ص: 109

الإسلام ، لأنه یکون علیهم أنفَذَ ولهم ألزم(1) .

ولا نجد فیما انتهی إلینا من القوانین التی وضعتها البطارقة سوی عقوبات دینیة کَنَسیة ؛ فمنها التوبیخ أمام الناس ، والقیام علی المسح والرماد أمام البیعة ، ودفع کفارة مالیة للبیعة ، والمنع من حضورها ومن التمتع برسوم المبارکة الدینیة عند الموت ومن الدفن علی الطریقة النصرانیة(2) ؛ ومن أمثلة العقوبة أن النصرانی الذی یضرب آخر یمنَع من البیعة ومن رسوم المبارکة من القسیس شهرین ، ویقف کل یومِ أحَدٍ علی المسح والرماد ، وعلیه أن یتصدّق علی الفقراء بحسب قدرته(3).

أما فی الأندلس فعندنا من مصدر جدیر بالثقة أن النصاری کانوا یفصلون فی خصوماتهم بأنفسهم ، وأنهم لم یکونوا یلجأون للقاضی إلاّ فی مسائل القتل ؛ فکانوا یقدمون المتهم إلیه ویعرضون أدلتهم ، فإذا قال القاضی : « حسنٌ » ، قُتِل المجرم(4) .

ویقول ربّی بتاحیا إن روءساء الیهود فی الموصل کانوا هم الذین یعاقبون مرءوسیهم ، حتی ولو کان أحد طرفی الخصومة مسلماً ؛ وکان بالموصل سجن یسجن فیه الیهود(5) .

ص: 110

وأکبر ما کان یُحْرَم منه أهل الذمّة ویوءثر فی نفوسهم تأثیراً عمیقاً أنه لم یکن یُسمخ لهم بالتقدم للشهادة أمام القضاء ، کأنهم عبید . وذهب بعض الفقهاء إلی أنه لا تُقبل شهادتُهم علی أهل دینهم ، وذهب البعض مذهباً آخر(1) .

أما المحاکم النصرانیة فإنها کانت تقبل شهادة المسلم علی النصرانی علی کُره منها لذلک بالطبع . وکل ما کانت تطلبه هو أن یکون الشاهد تقیّاً یخاف اللّه غیرَ مطعون فی ذمته ، وهذه هی الشروط التی کان القاضی المسلم یحتّم توفرَها فی الشاهد(2) .

وکان أهل الذمّة ، بحکم ما کانوا یتمتعون به من تسامح المسلمین معهم ومن حمایتهم لهم ، یدفعون الجزیة ، کل واحد منهم بحسب مقدرته ؛ وکانوا ثلاث طبقات : تدفع الدنیا منها اثنی عشر درهما ، والوسطی أربعة وعشرین ، والعلیا ثمانیة وأربعین درهما فی السنة ، أو دیناراً أو دینارین أو ثلاثة فی البلاد التی عُملَتُها الذهب ؛ وکانت هذه الجزیة أشبه بضریبة للدفاع الوطنی ، فکان لا یدفعها إلا الرجل القادر علی حمل السلاح ، ولایدفعها ذوو العاهات ، ولا المترَهّبون وأهل الصوامع إلا إذا کان لهم یسارُ(3) .

ص: 111

ویحکی ابن خرداذبه(1) . أن الروم کانوا یأخذون من الیهود والمجوس دیناراً فی السنة ؛ وکذلک فرض النصاری علی المسلمین الجزیة لما فتحوا بلادهم(2) .

علی أن غالبیة دافعی الجزیة کانوا یدفعون الحد الأدنی ، حتی أن بنیامین یقول : «إن الیهود فی کل بلاد الإسلام یدفعون دیناراً واحداً»(3) .

وکذلک یقول بتاحیا : «إن الیهود فی العراق لا یدفعون شیئاً للخلیفة ، وإنما یدفع الواحد منهم فی کل عام دیناراً واحداً لرأس الجالوت»(4) .

ویحکی بَیلو مرسیلیوس جورجیوس (Bailo Marsilius Oeorgius) فی اکتوبر سنة 1243م ، وهو فی مدینة صور ، أن «کل یهودی متی بلغ الخامسة عشرة یدفع فی کل عام دیناراً بوزنطیاً لعاملنا ، وذلک فی عید القدّیسین(5) .

وقد ظلت الجزیة بوجه عام عند المقدار الذی فرَضته الشریعة(6) . وإنما کانت تتغیر تغیراً یسیراً بحسب تغیر العملة .

وکانت الحکومة فی مصر فی أول القرن الثالث الهجری تکتفی بأخذ نصف دینار ؛ ولکن فی سنة 390ه _ 1000م اضطر البطریرک جورجیوس المصری أن

ص: 112

یدفع دیناراً ونصف دینار ، بعد أن کان یدفع دیناراً واحداً(1) ؛ وکذلک یخبرنا البطریرک دیونیسیوس ، وکان بمصر زائراً ، حوالی عام 200ه _ 815م عن مدینة ثَّنیس المشهورة بصناعة النسیج ، فیقول : «ومع أن مدینة تنیس عامرة بالسکان کثیرة الکنائس ، فإنی لم أرَمن البوءس فی بلد أکثر من بوءس أهلها ، وقد سألتهم عن مصدر هذا البوءس فأجابونی : إن مدینتنا مُحَاطة بالماء فلا نستطیع زرعا ولا تربیة ماشیةِ ؛ والماء الذی نشر به یُجلب لنا من بعید ، ونشتری الجرّة منه بأربعة دراهم ؛ ولا شغل لنا سوی نسیج الکتان ، فنساوءنا تغزله ونحن ننسجه ، ونُعطی علی ذلک نصف درهم فی الیوم من تجار الأقمشة ؛ ومع أن أجرتنا لا تکفی لإطعام کلا بنا فإن علی کل منا أن یدفع ضریبة مقدارها خمسة دنانیر ، وفی ذلک نُضرب ونُسجن ونُلزم بإعطاء أبنائنا وبناتنا رهائن ، فُیلزمون بالعمل کالعبید سنتین لأجل کل دینار ؛ ولو ولدت عندهم امرأةٌ طفلاً فإنهم یأخذون قَسَمَنا بأن لا نطالب به ؛ وقد یحدث أن تحل ضرائب جدیدة قبل إطلاق هوءلاء النساء» . فأجابهم البطریرک أنه بحسب قانون العراق علیهم متی طلبت منهم الجزیة أن یدفع الغنی منهم ثمانیة وأربعین درهما والمتوسط أربعة وعشرین والفقیر اثنی عشر درهما(2) .

ص: 113

وکانت الجزیة توءخذ مقسَّطة علی ستة أجزاء أو خمسة أو أربعة أو ثلاثة(1) أو اثنین(2) ؛ وقد فرضت فی أول الأمر بالعراق فی کل شهر(3) ، وذلک لأن عمال المسلمین کانوا یتقاضون منها مرتباتهم فی کل شهر ؛ وکذلک کان الحال فی الأندلس فی القرن الثالث الهجری(4) . ولکن فی عام 366ه _ 976م صدر أمرُ الخلیفة الطائع بأن تُوءخذ الجزیة من أهل الذمة فی المحرم من کل سنة بحسب منازلهم ، وألا توءخذ من النساء ولا ممن لم یبلغ الحلم ، ولا من ذی سنّ عالیة ولا ذی عاهة بادیة ، ولا من فقیر معدم ، ولا من راهب متبتِّل(5) .

وکانت العادة جاریة بأعطاء براءة لمن یدفع الجزیة ، وفی العصور السیئة کانت تعلق علی رقبة أهل الذمة علامة البراءة ، وتُختم أیدیهم(6) .

وهذه العادة قدیمة ترجع إلی عصر الأشوریین الذین کانوا یعلقون فی رقاب

ص: 114

العبید قطعة من الفخار أسطوانیة مکتوباً علیها اسم العبد واسم سیده(1) . وکان الیهود فی عهد التلمود یعلّون عبیدهم بالختم علی الرقبة أو الثوب(2) . وفی عام 500م کان حاکم مدینة الرُّها یعلق إلی رقبة الفقراء الذین یأخذون رطل خبز کل یوم قطعة من الرصاص مختومة(3) .

علی أن الفقهاء القدماء ، مثل أبی یوسف ویحیی بن آدم لم یقولوا شیئاً فی هذا الباب ؛ ویظهر أن هذا الأمر نادراً ما کان یقع .

ویقول دیونیسیوس إنه کان من التجارب الموءلمة لحصر أهل الذمة ومعرفة عددهم «أن یرسل مع عمال الضرائب ختّامون یختمون کل واحد باسم بلده واسم قریته ؛ فکانوا یطبعون علی یده الیمنی اسم البلد وعلی الیسری اسم العراق ، ویعلّقون علی رقبة کل رجل حلقتین علی إحداهما اسم البلد وعلی الأخری اسم القسم ، وکانوا یقیدون اسم الشخص وأوصافه الجسمیة ومسکنه . وکان ینشأ عن هذا اضطراب کبیر ؛ لأنه کان یوءدی إلی القبض علی کثیر من الغرَباء ، فیذکرون أسماء مساکن لهم ، فتُقید ، ولا تکون لهم هذه المساکن فی الحقیقة. ولو أن هذا النظام اتّبع إلی آخر ما یوءدی إلیه لأحدث من الفساد أکثر من کل ما تقدمه من الأنظمة ؛ وإذا وجد العامل أن ما لدیه من عمل لا یکفیه فإنه یذهب إلی أی جهة

ص: 115

تصادفه ، ویقبض علی الغادین وارائحین ؛ وقد یطوف بالمکان الواحد أکثر من عشرین مرة ، ولا یهدأ له بال حتی یصل إلی تقیید جمیع السکان بحیث لا یفلت منهم أحد ؛ وهکذا وقع ما قاله النبی دانیال والرسول یوحنا : «کل الناس طُبعوا بطابع هذا الحیوان علی أیدیهم وصدورهم وظهورهم»(1) .

ومن الواضح أن البطریرک دیونیسیوس لا یتکلم هنا عن الختم والعلامات باعتبارها شیئاً عادیا . علی أن شاعراً بصریا من العصر العباسی الأول یقول :

ختم الحبُّ لها فی عنقی موضعَ الخاتم من أهل الذمم(2)

وقد حکی الجاحظ المتوفی عام 255ه _ 869م عن أحد الثقات الذین یعتَمدُ علیهم أن من تمام آلة الخمُّار أن یکون ذمِّیَّا مختوم العنق(3) .

وقد وُجدت حول مدینة همذان علامة من هذا النوع یرجع تاریخها إلی السنة الأولی من القرن الرابع(4) .

وعندنا نصٌّ صریح علی أنه کانت تکتب لأهل الذمة فی الربع الأول من القرن الرابع براءةٌ مختومة عند أدائهم للجزیة(5) .

ولم یکن المترهَّبون المسیحیون یعفون من الجزیة إلا إذا کانوا مساکین یتَصَدُّق علیهم کباقی المساکین(6) ؛ وهذا کان من حیث المبدأ العام والوجهة

ص: 116

النظریة ؛ ذلک أنه فی مصر عام 312ه _ 924م «أخذ الرهبانُ والأساقفةُ بأداء الجزیة ، فأُخذت الجزیة منهم ، ومن الضعفاء والمساکین ومن جمیع الدیارات بأسفل مصر والصعید ، ومن رهبان طور سیناء،؛ وسافر قوم من الرهبان إلی العراق واستغاثوا بالمقتدر ، فکتب لهم أَلاّ تُوءخَذَ الجزیةُ من الرهبان ولا من الأساقفة .. وأن یجری أمرهم علی ما کانوا علیه»(1) .

علی أنه فی عام 1664م کان یعفی من الجزیة بمصر : «جمیعُ الأوربّیین والرهبان المتبتَّلین من المسیحیین والبطریرک وجمیع الأتراک (أی المسلمین)»(2) .

ولم یکن أخذ الجزیة أرحم من غیرها من الضرائب ، وإن کانت الشریعة الإسلامیة قد أمرت بعدم القسوة فی تحصیلها ، فقد نُهی فی الإسلام عن اتباع الأسالیب القدیمة القاسیة ، من تعذیب ، أو تکلیف أصحابها ما لا یطیقون ، أو إقامتهم فی الشمس وصبّ الزیت علی روءسهم ونحو ذلک ؛ وإنما أجار الفقهاء حبس أهل الذمة حتی یوءدوها(3) .

وقد وُجدت فی بلاد الإسلام من أول الأمر تعلیماتٌ خاصة باللباس ؛ فقد أمر هارون الرشید عام 191ه _ 807م بأن یوءخذ أهلُ الذمة فی مدینة السلام بمخالفة هیئنهم هیئة المسلمین فی بلاسهم ورکوبهم ، فأخذوا بأن یجعلوا فی أوساطهم الزنّارات مثل الخیط ، وبأن تکون قلانسهم مضرَّبة ، وأن یجعلوا شراک تعالهم مثنیّة ، وأن یتخذوا علی سروجهم فی موضع القرابیس مثل الرمانة من خشب

ص: 117

وتمتّع نساؤهم من رکوب الرحائل ، ولا یرکبنّ یهودی ولا نصرانی علی سرج ، بل علی أکاف(1) . وکان الیهود فی القرن الثانی (الثامن المیلادی) یلبسون براطیل طویلة شبّهها بعض الشعراء بالأمیال الطوال أو بالمقاعید علی روءوس القرود(2) .

وکان النصاری فی ذلک الوقت یلبسون البرانس ، ولکن لما صارت القلانس الطوال عند المسلمین لباساً قدیماً لبسها النصاری وبقیت خاصة بهم(3) .

أما اللون فلم یصلنا فی التعلیمات القدیمة أن أحداً أُلزم باتخاذلون معین ؛ ویظهر أن هذه المسألة تُرکت للعادات المحلیة ، ویصف الجاحظ (المتوفی عام 255ه _ 869م ) عادة العراقیین فیقول : «من تمام آلة الخمّار أن یکون ذِمَّیا ، ویکون اسمه آذین أو مازبادا أو أزدانقاذا أو میشا أو شلوما ، ویکون أرقط الثیاب مختوم العنق»(4) .

وقد حدث فی عهد هارون الرشید أن ولی القضاء محمد بن مسروق ، فتحامل علی أهل مصر ، فأساءوا علیه الذکر والثناء ، ودعوا علیه فی المسجد الجامع ، فوقف علی باب المقصورة غیر خائف ، وقال بأعلی صوته : «أین أصحاب الأکسِیةِ العسلیة ؟ أین بنو البغایا ؟ لم لا یتکلم متکَلمهم بما شاء حتی یری ویسمع ؟ فما تکلم أحد بکلمة »(5) .

ص: 118

وقد صدر أمر المتوکل فی عام 235ه _ 849م بأخذ النصاری وأهل الذمّة بلبس هذه الطیالسة العسلیة ؛ ومن أراد لبس قلنسوة مثل قلنسوة المسلمین فَلیجعَل علیها زِرَّین ؛ وکذلک أُمروا بأن یجعلوا علی ما ظهر من لباس ممالیکهم رقعتین ، لونهما یخالف لون الثوب الظاهر ، وأن تکون إحدی الرقعتین بین یدیه عند صدره ، والأخری خلف ظهره ، وأن تکون کل واحدة من الرقعتین قدر أربع أصابع ولونها عسلیا ، وکذلک أمر بمنع ممالیکهم من لبس المناطق وأمرهم بلبس الزنانیر ، وبأن یجعل علی أبواب دورهم صور شیاطین من خشب تفریقاً بین منازلهم ومنازل المسلمین(1) ، وفی عام 239 ه _ 853م أمر المتوکل أن یقتصر أهل الذمة فی مراکبهم علی البغال والحمر ، دون الخیل والبراذین(2) .

علی أن هذه الأوامر المضحکة لم تثمر إلا قلیلا ؛ وکان أهل الذمّة یأبون الخضوع لها بشجاعة ، وفی سنة 272ه _ 885م ثار عامة بغداد علی النصاری لأنهم خالفوا ورکبوا الخیل ، وهُدمت فی هذا الشغب کنیسة کلیل یشو(3) (إکلیل یسوع) ؛ وکذلک نجد الشاعر ابن المعتز یشکو حوالی عام 290 ه من مغالاة النصاری فی البغال والسروج ، ومن تحکُّمهم فی المسلمین ؛ ویعتبر هذا من

ص: 119

علامات ظهور المسیخ الدجَّال(1) . وقبل أول القرن الرابع بأربع سنین عادت القوانین الخاصة باللباس إلی الظهور ، وشُدِّدَ فی أمرها ، ثم لم نسمع عَن مثلها شیئا فی القرن الرابع کله ؛ فقد نامت ولم تظهر إلا عند ما قوی أمر أهل السنَّة فی القرن الخامس الهجری (الحادی عشر المیلادی) حیث عادت بشکل جدی .

وفی عام 429ه _ 1037م صدر توقیع الخلیفة بإلزام أهل الذمة ملابس یعرفون بها عند المشاهدة ، واستدعی لذلک جاثلیق النصاری ، ورأس جالوت الیهود فی جمع حافل من الأشراف والوجوه ، فقالوا : السمعَ والطاعةَ(2) .

وظهر فی هذا العصر لأول مرة منعُ أهل الذمة من تعلیة بیوتهم علی أبنیة المسلمین ؛ فإن ملکوا بیوتا عالیة أُقِرُّوا علیها ، ومنُنعوا من الإشراف منها علی المسلمین وأهل الذمة(3) .

وأول من ذکر هذا فیما أعلم هو أبوالحسن الماوردی المتوفی عام 450ه _ 1058م .

وقد سرت هذه الفکرة بعد ذلک إلی الغرب ، فنجد البابا إنّوسِنت الثالث یشکو من أن الیهود بنوا فی مدینة سِنس کنیسة لهم تعلو علی کنیسة مسیحیة مجاورة لها(4) .

ص: 120

ولم یکن الاستهزاء والبغضاء بین الأدیان أقلّ منه بین الأجناس ؛ ومن أمثلة ذلک أن الیهود وُصفوا بأنهم أنتن خلق اللّه فِنَاءٌ(1) ، وکذلک وُصف النصاری بشدة السکر وخصوصاً غداة عید الفصح(2) ، وبأن راهباتهم وشمامستهم ضعفاء الفضیلة .

وکذلک یرمی الصابئة بأن بینهم من المعاداة ما لا یکون بین غیرهم ، وأن بعضهم یسعی فی بعض ، ویقَّبح علیه ما وجد إلی ذلک سبیلا(3) .

وکان المسلمون المثَقَّفون یعلمون حقا أن المسیحیة قد حثَّت علی المحبة ورقّة القلب أکثر مما حثت علی ذلک جمیعُ الدیانات ؛ ولکنهم کانوا یرون أن النصاری قلّما یعملون بذلک ؛ یقول الجاحظ : «وکلُّ خِصاء فی الدنیا فإنما أصلُه من قِبَل الروم ؛ ومن العجب أنهم نصاری ، وهم یدَّعون من الرحمة والرأفة ورقة القلب والکبد ما لا یدعیه أحد من جمیع الأصناف ، وحَسْبُکَ بالخِصاء مُثلة وحسبک بصنیع الخاصی قسوةً»(4) ؛ وکذلک تکلّم البیرونی فی صدد کلامه عن العقوبات والکفّارة عند الهنود عن فلسفة نبیلة بینهم فهو یقول : «مثال الحال فیهم علی شبیه بحال النصرانیة فإنها مَبنیَّة علی الخیر وکفّ الشر ، من ترک القتل أصلا ، ورمی القمیص خلف غاصب الرداء ، وتمکین لاطم الخذّ من الخدّ الاُخری ، والدعاء للعدو بالخیر ، والدعاء للعدو بالخیر ، والصلوات علیه ؛ وهی لعمری سیرة فاضلة ، ولکن أهل الدنیا لیسوا بفلاسفة کلهم ؛ وإنما أکثرهم جٌهَّال ضُلاَّل ، لا یقوِّمهم غیرُ السیف

ص: 121

والسوط ، ومنذ تنصبَّر قسطنطینوس المظفَّر لم یسترح کلاهما من الحرکة ؛ فبغیرهما لا تَتمُّم السیاسة»(1) .

ومن الأمور التی نعجب لها کثرةُ عدد العمال والمتصرّفین غیر المسلمین فی الدولة الإسلامیة ؛ فکان النصاری هم الذین یحکمون المسلمین فی بلاد الإسلام(2) ؛ والشکوی من تحکیم أهل الذمة فی أبشار المسلمین وأموالهم شکوی قدیمة(3) ؛ ویحکی عن عُمَرَ بن الخطاب أنه لما عرف أن لأبی موسی الأشعری کاتباً نصرانیا ضرب فخذه ، وقال : ألا اتخَذْتَ رجلاً حنیفاً ، وکان عُمَرُ أیضاً یأبی أن یتخذ الکتاب من النصاری أو الیهود(4) .

وقد قُلّد دیوان جیش المسلمین لرجل نصرانی مرّتین فی أثناء القرن الثالث ، فَوُجِّه اللوم للوزیر لأنه «جعل أنصار الدین وحُماة البیضة یقبّلون یدیه ویمتثلون أمره»(5) .

وکان المتصرَّفون النصاری والیهود یقسمون الیمین ، شأنُهم شأن المسلمین ؛ وقد جاءت فی کتاب دیوان الإنشاء الذی أُلِّف عام 840 ه _ 1436م صیغة الیمین الذی کان یقسمه الیهود فی ذلک العهد ؛ وذکر أیضاً أن أوَّلَ من استحدث هذه الأیمان لأهل الیهودیة الفضلُ بن الربیع وزیر الرشید ، أحدثها له کاتب عنده ،

ص: 122

ومنها استُنبِطَت هذه الألفاظ(1) .

وکانت الحرکات التی یقصد بها مقاومة النصاری موجَّهة أولا إلی محاربة تسلُّط أهل الذمة علی المسلمین ، وسیطرة أهل الذمة شیء لا یحتمله المسلم الحق . وفی عام 235ه _ 849م أمر الخلیفة المتوکل ألا یُستعان بأهل الذمة فی الدواوین وأعمال السلطان التی تجری أحکامهم فیها علی المسلمین(2) ؛ فمن ذلک أمر بعزل النصاری عن مقیاس النیل(3) ، ولکن هذا الخلیفة نفسه بنی بعد ذلک بعشر سنین ، قَصرهَ المسمی بالجعفری ، وأجری إلیه نهراً ، وصیّر النفقة علیه إلی دُلَیل بن یعقوب النصرانی(4) ؛ وفی عام 296ه _ 909م کان النصاری قد علا أمرُهم وغلبوا علی الکتَّاب ، فأمر المقتدر بما أمر به المتوکل من رفضهم واطّراحهم عن الخدمة(5) ؛ وفی هذه السنة نفسها أمر المقتدر ألا یستخدم أحد من الیهود والنصاری إلا فی الطب والجَهبَذة(6) ، ولکن أمر المقتدر کان ضعیف الأثر إلی درجة مضحکة ؛ فقد کان وزیره أبوالحسن علی بن الفرات یدعو أربعة من النصاری إلی طعامه کل یوم ، وکانوا فی جملة الکتّاب التسعة الذین اختص

ص: 123

بهم(1) .

وکان الکتاب المسیحیون منتشرین فی کل مکان حتی إن محمد بن عبداللّه بن طاهر فی القرن الثالث اتخذ له قهرماناً نصرانیا(2) ، ولما أراد المقتدر أن یستوزر الحسین بن القاسم عام 319ه _ 931م راسله فی أن یجتهد فی إصلاح أعدائه ، فابتدأ ببنی رائق ، فکان یمضی إلی کاتبهم النصرانی ویضمن له الضمانات ؛ ثم فعل ذلک بأصطفن بن یعقوب کاتب موءنس ، وقال له : إن تقَلَّدتُ الوزارة فأنت فَلَّدتَنیها» ، وکذلک فعل بغیر هوءلاء من کتَّاب النصاری(3) .

وکان الحسین بن القاسم یسعی دهره فی طلب الوزارة ، وکان یتقرب إلی النصاری الکتّاب بأن یقول لهم : «إن أهلی منکم ، وأجدادی من کبارکم ، وإن صلیباً سقط من ید عبیداللّه بن سلیمان ، جدَّی ، فی أیام المعتضد ، فلما رآه الناس قال : هذا شیء تتبرک به عجائزنا ، فتجعله فی ثیابنا من حیث لا نعلم» تَقَرُّباً إلیهم بهذا وشِبهه(4) .

ولقد کان تقدیر هذا الوزیر صحیحاً ، ففی عهد امقتدر نفسه ، وهو الذی أراد اطّراح النصاری عن المناصب العامة ، تقلد هذا الرجل الذی کان یتقرَّب إلی النصاری ویتملّقهم منصب الوزارة . وإلی جانب ما ذکرنا نجد أن رئیس المتآمرین علی موءنس المظفر کان مفلحاً الأسود الخادم ، وکان الأمر کله ، کما یقول عریب ، لهذا الخادم ولکاتبه النصرانی بشر بن عبد اللّه ، وکان بشر هذا

ص: 124

مجبوباً(1) .

وفی عام 324 ه 935م مات أصطفن بن یعقوب النصرانی صاحب بیت مال الخاصة(2) .

وکذلک ابتدأ علی بن بویه بأن اتخذ له کاتباً نصرانیا من أهل الری(3) .

ولما خرج الوزیر عز الدولة إلی البصرة عام 357 ه 967م استخلف أبا العلاء صاعد بن ثابت النصرانی بالحضرة(4) . وکذلک کان للخلیفة الطائع (363 _ 381 ه = 973 _ 991م کاتبٌ نصرانی(5) .

وفی النصف الثانی من القرن الرابع اتخذ کل من عضد الدولة (المتوفی عام 372ه _ 982م) فی بغداد والخلیفة العزیز فی القاهرة وزیراً نصرانیا .

وقد استأذن نصر بن هارون وزیر عضد الدولة سیدَه فی عمارة البیع والدیرة وفی إطلاق المال لفقراء النصاری ، فأذن له(6) .

وقد أفتی بعض فقهاء الإسلام الکبار بأنه یجوز أن یکون وزیر التنفیذ لا وزیر التقویض من أهل الذمة(7) .

ص: 125

وقد ولّی المأمون علی مدینة بوره بمصر عاملا مسیحیا ، فکان إذا جاء یوم الجمعة لبس السواد وتقلد بالسیف والمنطقة ، ورکب بزذوناً وقدَّامه أصحابُه ، فإذا وافی باب المسجد وقف ، ودخل خلیفته، وکان مسلماً یصلی بالناس ویخطب للخلیفة ، ثم یخرج إلیه(1) .

وکان لخمارویه وزیرٌ نصرانی فاجتاز یوماً راکباً فتعرض له بَنَان الحمّال الصوفی وأنزله عن دابته ، وقال له : لا ترکب الخیل ، فأمر خمارویه أن یوءخذ بغان ویطرح بین یدی سبع ، فطرح وبقی لیلته ، فلما جاء الصباح وجدوا بُناناً قاعداً مستقبلاً للقبلة ، والسبعُ بین یدیه(2) .

وفی عام 389ه 999م توفی القاضی محمدبن النعمان ، فوُجد علیه مالٌ من أموال الیتامی وغیرهم ، فأرسل کاتب نصرانی یسمی فهداً ، فاحقاط علی القاضی وشرع فی تغریم الشهود الذین کان القاضی أودع عندهم الأموال ، وألزم ابن القاضی ببیع ما خلفه أبوه للوفاء بالودائع(3) .

ومن العجیب أنه علی الرغم من هذا الوضع الذی لم یکن طبیعیاً لانجد الموءرِّخین ، حتی المسیحیین منهم ، یذکرون إلا قلیلا من المشاغبات بین المسلمین وأهل الذمة فی القرن الرابع الهجری ، وسأقصّها کما ذکروها : فی سنة 312ه 924م ثار المسلمون بدمشق هدموا کنیسة کبیرة ، وأخذوا منها زهاء

ص: 126

مائتی ألف دینار من صلبان ذهب وفضة وکوءوس وصَوَانٍ ونحوها ، ونهبوا دیاراتٍ کثیرة ؛ وکذلک ثاروا بالرملة فهدموا کنیستین للملکیة وهدموا کنیسة قیساریة ؛ فرفع النصاری الأمر إلی المقتدر فوقّع لهم ببنیان هذه الکنائس(1) .

وکذلک ثار المسلمون بعسقلان ، فهدموا کنیسة کبیرة ، ونهبوا مافیها ، وأحرقوها ؛ وعاضد الیهود المسلمین فی هدمها ، وکان الیهود یشعلون النار فی الحطب ویجرونه بالبکر إلی أعلی السقوف حتی یحرقوها وینحل رصاصها تقع العمد ، وقد خرج أسقف عسقلان إلی مدینة السلام متوسِّلا لردِّها ، فلم ینجح له سعی(2) .

وفی سنة 381ه 937م ثار المسلمون فی بیت المقدس ونهبوا بعض الکنائس(3) . وفی سنة 381ه 991م استهزأ رجلان من المسلمین بمنجم مسیحی لأنه لم یکن یحمل علامات النصاری .

فشکا ذلک إلی رئیسه ، فسجنهما فشعثت بعد ذلک کنیستان ؛ وقد هدأ الجاثلیق هذه القصة بعد هدایا کثیرة(4) .

ثم هاج المسلمون بعد ذلک ، لأنهم وجدوا رأس خنزیر فی أحد المساجد ، وظنوا أن النصاری هم الذین رموه(5) وفی عام 392ه 1002م ثار العامة بالنصاری فی مدینة السلام لمقتل أحد المسلمین ، ونهبوا بیعة وأحرقوها ،

ص: 127

فسقطت علی جماعة من المسلمین رجالا وصبیانا ونساءً ، وکان الأمر عظیما(1) .

وفی عام 403ه 1012م توفیت بنت أبی الهیجاء ؛ فأخرجت جنازتها نهاراً ، ومعها الطبول والنوائح والزمور والرهبان والصلبان والشموع ؛ فقام رجل من الهاشمیین فأنکر ذلک ، ورجم الجنازة ، فوثب أحد الغلمان بالهاشمی ، فضربه بدبوس علی رأسه فشجّه فسال دمه ؛ وهرب النصاری بالجنازة إلی بیعة باب الروم ؛ فتبعهم المسلمون ، ونهبوا البیعة وأکثر دور النصاری المجاورة لها ؛ وثارت الفتنة بین غلمان أبی الهیجاء وبین العامة ، ورُفعت المصاحف فی الأسواق ، وغُلقت أبواب الجوامع ؛ وقصد الناس إلی دار الخلیفة علی سبیل الاستنفار ، فطلب الخلیفةُ الکاتبَ من المناصح ، فامتنع فغاظ الخلیفة امتناعُه ، وتقدّم بإصلاح الطیار للخروج عن البلد ، وجمع الهاشمیین إلی داره ، واجتمعت العوامُّ فی یوم الجمعَة ؛ وقصدوا دار المناصح فدفع غلمانُه رجلاً ذُکر أنه علوی ، فزادت الشناعة ؛ وامتنع الناس من صلاة الجمعة وظفرت العامة یقوم من النصاری ، فقتلوهم وتردّدت الرسائل بین الخلیفة وبین المناصح إلی أن بذلَ الکاتب النصرانی إلی دار الخلافة ، فکفّ العامة عن ذلک ، ثم أُفرج عن الکاتب بعد قلیل(2) .

وهذه الحوادث قلیلة جداً بالقیاس إلی بلاد المشرق کلها علی سعتها . أما فی مصر فکانت العلاقات بین المسلمین والنصاری متوتِّرة ؛ فقد کان فی مصر کنیسةٌ

ص: 128

متحدة أمام الإسلام ، وکان بها شعبٌ له لغته الخاصة وشخصیته أمام العرب ، ولم یبدأ القبط فی ترک لغتهم القبطیة إلا حوالی أواخر القرن الرابع(1) .

وفی القرنین الأوّلین للهجرة لم تنقطع ثورات القبط ؛ بل تتابعت حتی أخمدت آخر ها عام 216ه 831م . وفی ذلک الوقت کان کل أهل الطبقة الوسطی بمصر نصاری ؛ وکان بین العرب والقبط من قلة التفاهم ماکان بین الیونان والمصریین من قبل ، وذلک علی الرغم من أن الأقباط قد أدخلوا منذ أول الأمر فی الحدیث یوصی فیها به الکتاب النصاری فی الدولة الإ سلامیة ، ففی حدیث ذکروه : وهم (القبط) أعوانکم علی عدوکم وأعوانکم علی دینکم ، قالوا : کیف یکونون أعوانا علی دیننا یا رسول للّه ؟ قال : یکفونکم أعمال الدنیا ، وتتفرّغون للعبادة»(2) ؛ ولقد قام الأقباط بهذا الدور خیر قیام حتی إن أکثر الفتن التی وقعت بین النصاری والمسلمین بمصر نشأت عن تجبُّر المتصرفین الأقباط ؛ ولما

ص: 129

جاءت انتصارات الروم علی المسلمین حوالی منتصف القرن الرابع الهجری کان لها صداها فی مصر ؛ فلما ورد الخبر بأن الروم دخلوا الشام عام 349ه 960م وقتلوا وخرّبوا ، هاج المسلمون علی النصاری ، ووقعت صیحةٌ فی الجامع العتیق بعد صلاة الجمعة فهاج الرعاع ونهبوا کنیستین(1) .

ولما غزا الإمبراطور نقفور جزیرة أفریطیش فی العام التالی ووصل خبرُ ذلک إلی مصر ثار المسلمون وقصدوا کنیسة میخائیل التی للملکیة بقصر الشمع فشعثوها وخربوها ، وظلت مغلقة مدة طویلة وأبوابُها مطمورةٌ بالتراب(2) .

وقد أظهر خلفاء الفاطمیین الأولون لأهل الذمة تسامحاً نَعجَب له ؛ إذ لا یُنتظر ذلک من قوم مثلهم ، لهم مذهبٌ خاص انفردوا به ، وخالفوا به جمهور المسلمین ؛ فقد کان للخلفاء الفاطمیین أطباء من الیهود ، ولم یَحتَجْ هؤلاء الأطباء إلی تغییر دینهم(3) ؛ وعظم نفوذُهم حتی صار لایعمل شیء فی بلاط المعز إلا بمعونة الیهود ؛ عرف ذلک الوزیرُ الداهیةُ ابن کلّس الذی کان یهودیا ، فأسلم وصار یتحیز إلی إخوانه فی الدین من قبل(4) .

وکانت النزعة العقلیة فی مذهب الإسماعلیة واعتقادهم بإمکان إقامة الدلیل النظری علیه مما مهّد للمناقشة العلنیة بین المسلمین والنصاری لأول مرة فی تاریخ الإسلام(5).

ص: 130

وفی عهدالعزیز باللّه زاد بلاط الخلیفة فی إکرام النصاری ؛ وذلک أنه کان للغزیز أصهارٌ مسیحیون منهم أرستس خال السیدة ابنة العزیز باللّه ، وقد صُیّر بطریرکا علی بیت المقدس ، وصُیّر أخوه أرمانیوس مطراناً علی القاهرة ومصر ، وکان لهما جمیعاً محلٌّ لطیف عند العزیز وتقدّمٌ فی مملکته(1) .

فلا عجب بعد هذا أن نجد الشاعر الحسن بن بشر الدمشقی یقول تعریضاً بهذه الحالة :

تنصّر ، فالتنصرُ دین حق علیه زمانتا هذا یدلٌّ

وقُل بثلاثة عزُّوا وجلّوا وعَطِّل ما سواهم فهو عطل

فیعقوب الوزیر أبٌ وهذا الع_ _زیز ابن وروح القدس فضل

ولما شکا الفضل إلی العزیز أمرَ هذا الشاعر وطلب معاقبته امتعض منه ، إلاّ أنه قال : أعف عنه ، فعفا عنه ؛ ثم دخل الوزیر علی العزیز وشکا إلیه أیضاً ، فقبض علی الشاعر ثم أطلقه(2).

ثم إن هذا الخلیفة نفسه استوزر بعد ذلک عیسی بن نسطورس النصرانی ، واستناب بالشام یهودیاً اسمه منشا ؛ فاعتزّ بهما النصاری والیهود ، وآذوا المسلمین ، فکتب أهل مصر رقعة وجعلوها فی ید صورة عملوها من الورق ، وأقعدوا الصورة فی طریق العزیز والرقعة بیدها ، وفیها : بالذی أعزَّ الیهود بمنشا والنصاری بعیسی بن نسطورس، وأذلَّ المسلمین بک إلاّ کشفتَ ظلامتی ! فلما رآها العزیز علم ما أُرید ، فقبض علی الرجُلین وصادرهما(3).

ص: 131

وفی عهد هذا الوزیر النصرانی وقعت فتنة بین المسیحیین والمسلمین وذلک أنه لما خرج الإمبراطور باسیلیوس إلی الشام لفتحها فی عام 386ه 996م برز العزیز فی سائر جیوشه وأظهر العزم علی غزو بلاد الروم ، وأمر عیسی بن نسطورس بإنشاء أسطول یسیر معه ؛ فلما تم إعداده وقعت فیه نار فی الیوم الذی عزم فیه العزیز علی السیر ، واتهم الرعیة تجّار الروم الواردین بالبضائع إلی مصر بإحراقه ، فثار العامة وقتلوا منهم مائة وستین رجلا ، ثم تحوّلوا عن الروم إلی نهب کنائس النصاری ، وجرح فی هذا الشغب أسقفُ النسطوریین جراحات مات فیها .

وقد أعاد الوزیر النظام إلی نصابه واعتقل ثلاثة وستین من النهّابه ، وأمر العزیز بإطلاق ثلثهم وضرب ثلثهم وقتل ثلثهم وذلک بأن کتب رقاعاً علی بعضها : تُضرَب ، وعلی بعضها تُقتل ، وعلی بعضها تُطلق ؛ وأمر کل واحد من النهَّابة أن یأخذ رقعة منها بعد أن وُضعت تحت إزار ، فکان یُعمل به بحسب ما یخرج فی یده(1) .

وفی عام 393ه 1003م بدأت علامات العاصفة التی أثارها تعصب الخلیفة الحاکم بأمر اللّه(2) .

ص: 132

ولما رأی العامة أن العنان قد أُرسل لهم ، بدأوا یهدمون الکنائس ، وبنی الخلیفة مکانها مساجد ، منها الجامع الأزهر المشهور ؛ ثم أعاد الحاکم قوانین اللباس القدیمة علی أشد صورها ، فألزم النصاری أن یعلَّقوا فی أعناقهم صُلبانا من الخشب ؛ ومُنعت مواکبهم العامة ؛ وحُظِر علیهم ضرب النواقیس ، وأمر ألا یظهر صلیبٌ ولا تقع علیه عین ؛ فنُزِعت الصُّلبان من الکنائس وطُمست آثارُها من ظاهر البیع والکنائس .

وأُتلفت الکنائس الکبری مثل کنیسة القبر بالقدس ودیر القصیر الکبیر المبنی علی سفح جبال المقطم ، وقد انتهک المسلمون حرمة المقبرة الکبری فی هذا الدیر ؛ ولکن الحاکم لم یرِد ذلک ، وقد أمر بمنعه بمجرد علمه به .

ورغم هذا کله استوزر الحاکم منصور بن سعدون النصرانی ، واتخذ لنفسه أطباء نصاری طول هذه المدة .

وقد نقدم بإثبات أسماء سائر المسلین المتعطلّین والمتصرّفین من الکتّاب الذین یصلحون للخدمة فی دواوینه لیستعیض بهم عن النصاری .

وکان سائر کتابه وأصحاب خدمته وأطباء مملکته نصاری إلا نفراً یسیراً من الکتّاب ؛ ثم کثرت الشناعات السیئة فی النصاری ، فاجتمع سائر من بمصر من الکتّاب والعمال والإطباء وغیرهم من أساقفتهم وکهنتهم وتوجهوا إلی قصره فی یوم الخمیس ثانی عشر ربیع الأول سنة 403ه (1012م) ، وکشفوا عن روءوسهم من باب القاهرة ، ومشوا حُفاة باکین مستغیثین إلیه یسألونه العفو والصفح ، ولم

ص: 133

یزالوا فی طریقهم یقبّلون التراب إلی أن وصلوا إلی قصره ، وهم علی تلک الحال ؛ فأنفذ إلیهم أحدَ أصحابه، وأخذ منهم رقعة کانوا قد کتبوها یلتمسون فیها عفوه عنهم ؛ ثم عاد الرسول إلیهم وردّ علیهم ردًّا جمیلا، ووعدهم بما اطمأنت له قلوبهم ، فلما کان یوم الأحد النصف من شهر ربیع الأخر أُمروا بتعظیم الصلبان التی فی رقابهم ، وأن یجعلوا طولها ذراعاً ملکیاً فی عرض مثلها ، وأن یکون سُمکها إصبعاً ، وأمر الیهود أن یعلّقوا فی أعناقهم أیضاً أُکرَ خشب من خمسة أرطال إشارةً إلی رأس العجل الذی عبدوه سالفاً ؛ وتهدد النصاری ، وکثر الإرجاف بهم ، فأسلم کثیر کم شیوخ الکتاب والمتصرّفین ، وتبعهم خلقٌ من عوام النصاری ؛ وتلاحقوا فلم یبق منهم إلا نفر یسیر ؛ ولم تزل الطرقات إیاماً عدة لا یری فیها نصرانی .

علی أن کثیراً ممن أسلموا إنما تظاهروا بالإسلام تظاهُراً ، ومنهم محسن بن بدوس الذی قتل عام 415ه 1024م وهو یلی بیت المال إذ ذاک ، فقد قیل إنه لما قُتل قیل إنه لما قُتل وجد أغلف لأنه کان نصرانیاً ، وکان قد ظاهر عند إسلامه أنه أحضر الخاتن وختنه ، ولم یکن من ذلک شیء(1) .

أما الیهود فإنهم تمسکوا بدینهم ولم یُسلِم منهم إلا نفرٌ یسیر ، وکذلک النصاری الذین فی بقیة البلاد ، فلم یُسلِم منهم فی بقیة أعمال المملکة إلا قلیل ، وهُدمت ألوف کثیرة من الکنائس والأدیرة واستُخرج من المتولَّین أمرها من النصاری فی کل بلدة ما دُفع إلی الفَعَلة الذین قاموا بهدمها ؛ وأُتی علی جمیع أدیرة المملکة إلا

ص: 134

الدیر القدیم المجاور للإسکندریة والدویرة القربیة منه ، لأن بعض قبائل العرب دافعوا عنها لمنافع لهم فیها .

وأُوعز بهدم دیر طور سیناء ، وأقطعه الحاکم لرجل توجه إلیه ، فکان من حکمة المترهَّب فیه أنه أحسن لقاء الرجل وسلّمه جمیع آلات الدیر ، وتلطَّف فی إفهامه أن هدمه یصعب علیه وعلی غیره لحصانته ووثاقة بنیانه ، وأنه یحتاج فی هدمه إلی نفقات تفوق ما یحصل له منه ، فترک الرجل التعرُّض له .

ولکن الحاکم لم یستمر علی هذا الاضطهاد ، فلما وصلت إلی أنفه رائحة المذهب الدرزی الذی کان قد ظهر حدیثاً ومال إلیه وأراد أن یقوّیه علی رغم معارضة المتمسکین بأصول الإسلام الأولی لم یعد لدیانات أهل الذمة ما کان لها من أثر فی نفسه ؛ ففی عام 410ه _ 1019م رُفع إلیه عدة مرات أن النصاری یجتمعون فی بیوتهم ویقدَّسون ویصلون ویحضر معهم جماعة من الذین أسلموا فیشارکونهم فی أخذ القربان ، فلم ینکر ذلک وأعرض عن کلام الساعین .

وفی هذا العام نفسه أعاد جمیع الأوقاف المقبوضة التی کانت برسم دیر طور سیناء کما أذن بعمارة دیر القصیر وأطلق ما کان برسمه من الأوقاف(1).

وفی عهد الخلیفة الظاهر الذی جاء بعد الحاکم عاد کل شیء إلی ما کان علیه ، فعاد النصاری إلی التظاهر بأعیادهم وخروج الباغوث إلی کنائسهم التی فی ظاهر المدینة والقاهرة ، والخلیفة بمصر یحضر لمشاهدة اجتماعاتهم ویتقدم بصیانتهم(2) .

ص: 135

وخفّفوا الغیار الذی کان علیهم ، ولم یبق من ذکر عهد الخلیفة المجنون إلا لباسُ زِنار أو عمامة سوداء ، وهی التی یلبسها المسیحیون منذ ذلک الحین(1).

وقد ولی الوزارة بالقاهرة منذ عام 436ه إلی 439ه = 1044 إلی 1047م أبونصر صدقة بن یوسف الفلاحی ، وکان یهودیا فأسلم ؛ وکان یدبر الدولة معه أبو سعد التستری الیهودی ولذلک قال الشاعر المصری الحسن بن خاقان :

یهودُ هذا الزمان قد بلغوا غایة آمالهم وقد ملکوا

العزُّ فیهم والمال عندهمو ومنهم المستشار والملک

یا أهل مصر إنی نصحت لکم تهوّدوا ، قد تهوّد الفلک(2) .

ص: 136

ص: 137

أبی حنیفة وأصحابه ومالک والشافعی والّثوری ارث الذمّی من الذمّی کما هو عندنا .

[3] هذا(1) بالنسته إلی الشّق الاّول صحیح لا خلاف فیه بین أهل الاسلام ولکن المسلّم عندنا معاشر الشیعة بل غیر واحد من الصحابة انّ المسلم یرث الکافر ویمنع الکافر من الارث حتّی اذا کان أقرب منه إلی المیّت وعند الشافعی وغیره من الفقهاء انّ المسلم لا یرث الکافر .

[1] هذا علی اصول غیرنا وعندنا ارث القرابة علی طبقات ثلاث یقارنهم الزوجان سواء ما نسمّیه فرضاً وهو مقدار السهم الوارد فی الکتاب العزیز أو ما اصطلح علیه بالرّد أو بسبب القرابة ویرشد إلیه آیة « وَأُولُوا الاْءَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلی بِبَعْضٍ »(2) واذا عدموا أو منعوا من الارث شرعاً یرث وارث السبب غیر الزوجین وآخرهم الامام علی تفصیل مذکور فی الکتب الفقهیة ولا أصل عندنا للعول ولا للتعصیب .

[1] هذا روایتهم (أهل السنة) عن النبی صلی الله علیه و آله وعلی فرض ورودها وصحّتها فسّرها(3) الامام الصادق علیه السلام بقوله نرثهم ولا یرثونا ان الاسلام لم یزده فی حقّه الا شدّة : أو لم یزده إلاّ غراً فی حقّه :

[1] ذکر(4) شیخ الطائفة قدس سره اجماعنا علی أنّه لا یقتل مسلم بکافر مطلقا قال وبه قال غیر علی علیه السلام عمر وعثمان وزید بن ثابت ومن الفقهاء مالک والاوزاعی والثوری والشافعی وأحمد بن حنبل واسحق وذکر أن طائفة منهم الشعبی والنخعی وأبو حنیفة وأصحابة ذهبوا إلی قتله بالذمّی لا بالمستأمن والحربی .

ص: 138

وتعرّض الشیخ قدس سره فی(1) الحکایة لطیفة فی قتل الموءمن بالکافر عن الساجی أنّه تقّدم إلی أبی یوسف فی مسلم قتل کافراً فأراد أن یقیده به وکان علی رأس أبی یوسف رجل فی یده رقاع فناوله الرّقاع وحبس منها رقعة .

فقال : ما تلک الرقعة .

فقال : فیها شعر .

فقال هاتها فأعطا فاذا فیها شعر شاعر بغدادی کان یکنی أبا المصرخی بقول :

یا قاتل المسلم بالکافر جُرت وما العادل کالجائر

یا من ببغداد وأطرافها من فقهاء النّاس أو شاعر

جار علی الدّین ابو یوسف بقبله المسلم بالکافر

فاسترجعوا وابکوا علی دینکم واصطبروا فالأجر للصابر

فأخذ أبو یوسف الرقعة ودخل علی الرشید فأخبره ، فقال له احتل فیها .

فلمّا کان المجلس الثانی قال أبو یوسف لأولیاء القتیل ایتونی بشاهدین عدلین یشهدان عندی انّه کان یوءدّی الجزیة عن ید فتعذّر ذلک فاهدر دمه وأخذوا الدیة .

[1] دیة(2) الیهودی والنصرانی عند معظم الشیعة الامامیة کدیة المجوسی /800 درهم ونصفها للمرأة ولمخالفینا أقوال : 1 _ دیتهما ثلث دیة المسلم 3133 من الابل أو قیمتها وعن القدیم الثلث من ألف دینار أو اثنی عشر ألف درهم وهذا الشافعی وبعض الصحابه والتابعین والفقهاء . 2 _ نصف دیة المسلم ذهب إلیه عمر بن عبد العزیز وعروة بن الزبیر ومالک بن انس . 3 _ انّها مثل دیة المسلم وهو قول ابن مسعود وبعض الصحابة و التابعین

ص: 139

وقول الثوری وأبی حنیفة وأصحابه . 4 _ انّها دیة المسلم فی القتل عمداً ونصفها فی القتل خطأ ذهب إلیه أحمد بن حنبل ولم یفرّق بین الذّمی والمعاهد والمستأمن .

وامّا المجوسی فقول مالک والشّافعی /800 درهم وهو اجماع الصحابة وجعل عمر بن عبد العزیز دیته کدیة الیهودی عنده نصف دیة المسلم وأبو حنیفة جعلها کدیة المسلم. . .

[1] وفی(1) القرآن الکریم قوله : « سَمّاعُونَ لِلْکَذِبِ أَکّالُونَ لِلسُّحْتِ فَإِنْ جاوءُکَ فَاحْکُمْ بَیْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ یَضُرُّوکَ شَیْئاً وَإِنْ حَکَمْتَ فَاحْکُمْ بَیْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللّه َ یُحِبُّ الْمُقْسِطینَ » . فالقاضی مخیّر فی الحکم بینهم والاعراض عنه واذا حکم فیحکم بحکم الاسلام...

ص: 140

ص: 141

الإسلامیة الأولی[1].

ذلک أنه من أکبر ما تمتاز به الحرکة الفکریة فی القرن الرابع الهجری ظهور مذهب الشیعة یحمل بین ثنایاه الکثیر من الأفکار الشرقیة القدیمة ، ویجعلها مکان بعض الأفکار الإسلامیة .

ولقد أبانت لنا مباحث فلهاوزن بصورة أدنی إلی الصواب أن مذهب الشیعة لیس _ کما کان یعتقد البعض _ ردّ فعل من جانب الروح الأیرانیة یخالف الإسلام(1) .

ومما یوءید أبحاث فلهاوزن التوزیعُ الجغرافی للشیعة فی القرن الرابع ؛ وقد ألمع الخوارزمی فی أواخر القرن الرابع إلی أن الراق هو الموطن الأول للتشیع(2).

وکانت الکوفة ، وبها قبر علی ( رضی الله عنه )[1] أکبر مر کز للشیعة حتی ذلک العهد ، وکان یقال : «من أراد الشهادة فلید خل دار البطیخ (بالکوفة ) ولیقل : رحم اللّه عثمانَ بنَ عفان »(3).

وفی غضون القرن الرابع امتدَّ مذهب الشیعة إلی البصرة ، وهی المنافس القدیم للکوفة والتی کان یقال عنها فی القرن الثالث : أما البصرة وسوادها فقد غلب علیها عثمان وصنائع عثمان فلیس بها من شیعتنا إلاالقلیل ، « وأماالکوفة

ص: 142

وسوادها فقد غلب علیها علی وشیعته »(1) .

وفی البصرة اضطر أبوبکر الصولی (المتوفی عام 330ه _ 942م ) أن یستتر حتی مات لأنه روی خبراً فی علیب ( رضی الله عنه )، فطلبته الخاصة والعامة لتقتله(2).

وفی القرن الخامس الهجری کان فی البصرة مالا یقلّ عن ثلاثة عشر مکاناً تتصل بذکری علی(3).

وکان یقدسها الشیعة ، بل کان یوجد فی المسجد الکبیر فی ذلک الوقت أثرٌ من آثار علی یعرض للناس ، وهو قطعة من الخشب طولها ثلاثون ذراعاً وعرضها خمسة أشبار وسمکها أربعة أصابع ، یقال إن علیّاً جاء بها من الهند(4) .

وکانت الشام منذ أول الأمر تربَةً غیر صالحة لدعوة العلویین ؛ ویحکی أن أبا عبدالرحمن النسائی (303 _ 215ه) دخل دمشق ، وکان یتشیَّع ، فسُئل عن معاویة وما رُوی من فضائله فقال : أما یرضی معاویة أن یخرج رأساً برأس حتی یفضَّل ؟ وفی روایة أنه قال : ما أعرف له فضیلة إلا «لا أشبع اللّه له بَطناً» ، فما زالوا یدفعونه حتی أخرجوه من المسجد ، وداسوه ثم داسوه ، ثم حُمل إلی الرملة ، فمات وهو منقول بسبب ذلک الدَوس(5) .

وکان أهل طبریة ونصف نابلس وقَدَس وأکثر عمان شیعة(6) . ولا أدری کیف

ص: 143

کان ذلک . ورغم قیام الدولة الفاطمیة نلاحظ أن حزب الشیعة لم یتقدم إلا قلیلا ؛ وإذا کان ناصر خسرو قد وجد أهل طرابلس فی عام 428ه _ 1037م شیعة(1) .

فقد جاء ذلک من أن بنی عمّار ، وهم إحدی الأسرات الصغیرة الکثیرة علی الأطراف ، کانوا هناک علی مذهب الشیعة ؛ ویظهر أنهم عملوا بمقتضی القاعدة السیئة التی تجعل للأمیر الحق فی فرض المذهب الذی یریده(2) .

وهی قاعدة لم ینادِ بها أحدٌ فی الإسلام فضلاً عن أن تُطبَّق تطبیقاً شرعیا .

وکانت جزیرة العرب شیعة کلها عدا المدن الکبری مثل مکة وتهامة وصنعاء وقُرح ، وکان للشیعة غلبةٌ فی بعض المدن أیضا مثل عمان وهجر وصعدة(3) .

وفی بلاد خوزستان التی تلی العراق کان نصف الأهواز ، وهی القصبة ، علی مذهب الشیعة(4) ؛ أما فی فارس فکان الشیعة کثیرین علی السواحل التی تتصل اتصالا وثیقاً بالعراق وخصوصا بالعرب المتشیعین(5) ؛ أما فی جمیع المشرق فکانت الغلبة لأهل السنّة إلا أهل قُمّ[1] .

فإنهم کانوا «شیعة غالیة ، قد ترکوا الجماعات ، وعطلوا الجامع إلی أن ألزمهم رکن الدولة عمارته ولزومه»(6) .

ص: 144

والسبب[1] . فی تفرّد أهل قم بذلک أن هذه المدینة قد احتلها من قبل أصحاب ابن الأشعث ، وکان رئیسهم قد أدّب ابنه فی الکوفة ؛ وکان غلوّ أهل قمّ موضع کثیر من النوادر « . . . ومن ظریف ما یحکی أنه ولّی علیهم والٍ ، وکان سنیا متشدّداً ، فبلغه عنهم أنهم لبغصهم الصحابة الکرام لا یوجد فیهم مَن اسمه أبوبکر قط ولا عمر ، فجمعهم یوما وقال لروءسائهم : بلغنی أنکم تبغضون صحابة رسول اللّه صلی الله علیه و آله ، وأنکم لبغضکم إیاهم لا تسمون أولادکم بأسمائهم ، وأنا أُقسم باللّه العظیم لئن لم تجیئونی برجل منکم اسمه أبوبکر أو عمر ، ویثبت عندی أنه اسمه ، لأ فعلنَّ بکم ولأصنعن ؛ فاستمهلوه ثلاثة أیام وفتشوا مدینتهم ، واجتهدوا ، فلم یروا إلا رجلاً صعلوکاً حافیا عاریا أحوَل أقبح خَلق اللّه منظراً ، اسمه أبوبکر ، لأن أباه کان غریبا استوطنها فسمّاه بذلک فجاءوا به ، فشتمهم وقال : جئتومنی بأفبح خلق اللّه تتنادورن علیّ ! وأمر بصفعهم فقال له بعض ظرفائهم : أیها الأمیر اصنع ما شئت ، فإن هواء قمّ لا یجیء منه من اسمه أبوبکر أحسن صورة من هذا ؛ فغلبه الضحک وعفا عنهم . . . »(1) .

وکان فی قمّ فرقةٌ من الغُلاة وهم الغرابیة[1] .

ومذهبهم أن المال کله للبنت، فلما ولی علیهم قاضٍ حکم للبنت بالنصف

ص: 145

هدّدوه بالقتل ؛ « وهم قوم من شرار الروافض یذهبون ذلی هذه المقالة لأجل فاطمة رضی اللّه عنها »(1).

وفی عام 201ه _ 816م دفنت فی قمّ السیدة فاطمة ابنة الإمام الثامن ، الرضا ، لأن قمّ کانت فی ذلک الوقت أحب مکان یدفن الفرس فیه موتاهم ، بعد مشهد .

أما أصفهان فقد کان فی أهلها بَلَه وغُلوّ فی معاویة علی عهد المقدسی ؛ ویحکی المقدسی أنه وُصف له رجلٌ بالزهد واالتعبُّد ، فقصده لیسائله ، فرآه یقول إن معاویة نبیٌّ مُرسَل ، فلما أنکر المقدسی علیه ذلک أصبح یشنِّع علیه ، ولولا أن القافلة أدرکته لبطشوا به(2) .

وکانت أصفهان تخالف قُمّ کل المخالفة ؛ ففی عام 345ه 956م وقعت بها فتنة کبیرة نشأت عن اختلاف المذاهب ؛ وکان سبب ذلک أنه قیل عن رجل قمّی إنه سبَّ بعض الصحابة ، فثار أهل أصفهان ، واجتمع خلق لا یحصون کثرة ووقع بینهم قتلی ، ونهب أهل أصفهان أموال التجار من أهل قمّ(3).

وفی أواخر القرن الرابع الهجری نجد الهمذانی یقول إن خراب نیسابور واضطرابها وما نزل بأهلها من بلاء ، وکذلک ما نزل بقهستان حتی صارت مأکلة الغُصَصَ ونَجعَة الأکدار ، کل ذلک لفشوّ مقالة الشیعة فیهما .

ویحکی الهمذانی عن صاحب له رجع من هراة ذکر أنه سمع فی السوق صبیا

ص: 146

یُنشِد : أن محمداً وعلیّا لعنا تیما ( منها أبوبکر ) وعدی ( منها عمر )(1) ، وفی ذلک العصر لم یکن قد تم لمذهب الشیعة افتتاح البلاد التی یملکها الیوم ، ولکنه کان سائراً فی أحسن طریق یوصله إلی ذلک ؛ بل کان الاضطهاد مما یساعد هذا المذهب علی الانتشار .

أما من حیث العقیدة والمذهب فإن الشیعة هم وَرَثَة المعتزلة[1] .

ولابد أن تکون قلّة اعتداد المعتزلة بالأخبار المأثورة مما لائم أغراض الشیعة .

ولم یکن للشیعة فی القرن الرابع مذهبٌ کلامی خاص بهم[1] .

[1] ولم یکن للشیعة مذهب کلامی إلی یعمل علی حسب مذهب المعتزلة .

فنجد مثلا أن عضد الدولة وهو من الأمراء المتشیِّعین ، یعمل علی حسب مذهب المعزلة(2).

ولم یکن هناک مذهب شیعی إلا للفاطمیین ؛ ویصرِّح المقدسی بأنهم یوافقون المعزلة فی أکثر الأصول(3).

وعلی العکس من هذا نجد الشیعة الزیدیة یرتقون بسند مذهب المعزلة حتی ینتهی إلی علی بن أبی طالب ( رضی الله عنه )، ویقولون إن واصلاً أخذ عن محمد بن علی بن أبی طالب ، وإن محمداً أخذ عن أبیه(4).

ص: 147

« والزیدیة یوافقون المعتزلة فی أصولهم کلها إلا فی مسألة الإمامة »(1) .

ویدل علی العلاقة الوثیقة بین المعتزلة والشیعة أن الخلیفة القادر جمع بینهما حینما نهی فی عام 408ه _ 1017م عن الکلام والمناظرة فی الاعتزال والرفض ( أی مذهب الشیعة ) والمقالات المخالفة للإسلام(2) .

ثم إن الطریقة التی سار علیها ابن بابویة القمّی، أکبر علماء الشیعة فی القرن الرابع الهجری ، فی کتابه المسمی کتاب العلل تذکّرنا بطریقة علماء المعتزلة الذین کانوا یبحثون عن علل کل شیء .

وکان فی مذهب الشیعة ، کما کان فی مذهب المعتزلة ، مکانٌ لکل ألوان الزندقة [ *8 ] .

فنجد ابن معاویة منذ القرن الثانی الهجری ( الثامن المیلادی ) ، یجمع حوله الزنادقة ؛ وقتل أحد هوءلاء لأنه أنکر البعث ، وکان یقول إن الناس تفنی کالنباتات(3).

وفی عام 341ه 952م ظفر الوزیرالمهلّبی بقوم من التناسُخیة ، فیهم شاب یزعم أن روح علی بن أبی طالب ( رضی الله عنه ) انتقلت إلیه ؛ وفیهم امرأة تزعم أن روح فاطمة ( رضی اللّه عنها ) انتقلت إلیها ؛ ؛ وفیهم آخر یزعم أنه جبریل ؛ فَضُربُوا ، فالتجأوا لأهل البیت ، فأمر معزّ الدولة بإطلاقهم لتشیُّع کان فیه(4).

ومثل هذه المقالات ، وخصوصاً القول بالرجعة وبالتناسخ، یوجد فی مذاهب

ص: 148

الغنوسطیین المسیحیین(1).

وکثیراً ما نجد فی العراق حوالی عام 300ه _ 912م من یقول إن اللاهوتیة اجتمعت فی علی ( رضی الله عنه ) ، کما اجتمعت فی عیسی علیه السلام من قبل (انظر الفصل الخاص بالدین) .

وکان أحد خطباء الشیعة ببغداد فی عام 420ه _ 1029م یدعو فی خطبة الجمعة بعد الصلاة علی النبی صلی الله علیه و آله ، فیقول : وعلی أخیه أمیرالموءمنین علی بن أّبی طالب مُکلّم الجمجمة ، ومحیی الأموات ، البشری الإلهی ، مُکلَّم فتیة أصحاب الکهف ، وغیر ذلک من الغلو(2) .[10]

ومن هذا ما یحکی عن المسیح علیه السلام ؛وقد ظلت هذه الصفات عند المسلمین مما اختص به المسیح علیه السلام مدة طویلة ، وسری کثیر مما کان یقال لإثارة العواطف فی یوم جمعة الآلام عند المسیحیین إلی یوم عاشوراء .

یقول القمی (المتوفی عام 355ه _ 966م : « إذا نَظَرتِ السماء حمراء ، کأنها دمٌ عبیطٌ ، ورأیتِ الشمس علی الحیطان ، کأنها الملاحف المُعَصفَرَة ، فاعلمی أن سید الشهداء الحسین قد قتل »(3).[1]

وکذلک ذهب الشیعة فی السیدة فاطمة ( رضی الله عنه ) إلی ما یشبه صفات السیدة مریم علیهاالسلام ، فهی قد سُمّیت البتول مثل مریم ؛ ویروی الشیعة عن النبی صلی الله علیه و آله أنه

ص: 149

أجاب من سأله:[1]

ما البتول ؟ فقال : البتول التی لم تَرَ حُمرَةً قط ، أی لم تَحِض ، فإن الحیض مکروهة فی بنات الأنبیاء(1).

وکذلک زعم الشیعة أن الحسین ( علیه السلام ) لم یُقتَل ، وأنه شُبِّه للناس ، کعیسی بن مریم علیه السلام (2) ؛ وربما تکون هناک علاقة بین لباس الشیعة وبین اللباس الأبیض الذی اتخذته الفرق الغنوسطیة .

وکان الشیعة أیضاً فی أول الأمر یلبسون البیاض ؛ ویقول الشاعر ابن سکرة(3) :

إن عید أهل قُم وقاشان والکرج

یتلافی بیاضهم بقلوبٍ من السبج

وقال بعض روءساء الشیعة المخالفین لما علیه جمهورهم ، وقد لبس سواداً : بیِّض قلبک ، والبَس ما شئت(4) .

وکانت أعلام القرامطة بیضاء ، وکذلک کانت ملابس خلفاء الفاطمیین وخطبائهم(5) .

ص: 150

أما اللون الأخضر الذی یتمیز به العلویون الیوم فإن أول من أمر باتخاذه سلطان مصر شعبان بن حسین (المتوفی عام 778ه _ 1376م )(1).

وربما یکون الشیء الوحید الجدید فی مذهب الشیعة فی هذا العصر أنهم یردّون کل الأخبار والآثار إلی علیّ وأهل بیته[1] .

وقد صادف هذا الصنیع أشد استنکار من علماء أهل السنة(2) ؛ وفی سنة 300ه _ 912م روی رجلٌ حدیثاً وسنده بالسبط والصادق حتی انتهی إلی علی بن أبی طالب ، ونُقل ذلک إلی مجلس فیه ابن راهویه الفقیه ، وکان متّهما بالنّصب ، فقال : ما هذا الإسناد؟(3) .

وکان وضعُ الأخبار من جانب الشیعة وخصومهم فی هذا الباب من الأمور التی جروا علیها من قدیم ، وکانوا لا یجدون فی ذلک حرجاً[1] .

ویذکر أن ابن إسحاق صاحب السیرة النبویة کان یتشیَّع ویقدّم علیا علی عثمان ، وکان یدخل فی کتابه أشعاراً للشیعة .

ویروی أیضاً أن عوانة بن الحکم (المتوفی عام 147ه 764م) کان یضع أخباراً لبنی أمیة ، وعامة أخبار المدائنی مأخوذة عنه(4) .

وإذا کان أحد الشعراء حوالی عام 300ه 912م یعزو أساطیر الشیعة إلی قلة

ص: 151

معرفتهم بالأخبار(1) .

فإن المقدسی یحکی لنا أنه کان یوما بجامع واسط ، وإذا برجل قد اجتمع علیه الناس ، فدنا منه ، فإذا هو یروی حدیثاً بسنده عن النبی علیه السلام : إن اللّه یُدنی معاویة یوم القیامة ، فیجلِسه إلی جنبه ، ویغلّفه [؟] بیده ، ثم یجلوه علی الناس کالعروس ، فقال له المقدسی : بماذا؟ قال: بمحاربته علیاً ، فقال له المقدسی : کذبت یا ضالّ ! فقال : خذوا هذا الرافضی ؛ فأقبل الناس علیه ، فعرفه بعض الکبتة ودفهم عنه(2) .

وکذلک حکی المقدسی أنه کاد یبطش به لأنه أنکر علی رجل من عُبّاد أصفهان قوله إن معاویة نبی مرسل(3) .

علی أن علیا لم یصبح موضع النزاع ، ومضی الوقت الذی نجد فیه خلیفة عباسیاً مثل المتوکل ( 223 _ 247ه 847 _ 861م ) شدید البغض لعلی ولأهل بیته ، حتی کان من جملة ندمائه رجل یشدّ علی بطنه تحت ثیابه مخدة ، ویکشف رأسه وهو أصلع ، ویرقص ، ویقول : قد أقبل الأصلع البطین أمیرالموءمنین ، یعنی علیاً رضی الله عنه ، والمتوکل یشرب ویضحک(4) .

ص: 152

وکان أهل السنة فی الجملة یذکرون علیا بالإجلال ، ولم یکونوا قط أعداء له(1) .

فالهمذانی (المتوفی عام 398ه _ 1008م ) مثلا قد شنَّع علی الشیعة ، ورد علی طعن الخوارزمی فی عمر(2) .

وقد ألّف مرثیة للحسین ، وتحدّث عن مقتله وصُنع بنی أمیة بأبناء النبی(3) .

وکان أشد ما یوءلم نقوس أهل السنة ما أولع به الشیعة من سبّ الصحابة الأولین ، وفی سنة 402ه _ 1011م توفی ببغداد أحد علماء أهل السنة الأکابر ، وکان دیّنا حسن الاعتقاد ، واجتاز یوما بالکرخ، فسمع سبّ بعض الصحابة ، فجعل علی نفسه ألا یمشی فی الکرخ ؛ وکان یسکن باب الشام ، فلم یعبر قنطرة الصراة حتی مات(4) .

وکانت الحکومة إذا أرادت أن تعاقب شیعیا لمذهبه لم تذکر اسم علی ، بل یُجعل سببُ العقوبة أنه شتم أبابکر وعمر(5).

وفی عام 351ه _ 962م کتب عامة الشیعة بأمر معز الدولة علی المساجد ماهذه صورته : لعن اللّه معاویة بن أبی سفیان ، ولعن من غَضَبَ فاطمة فدکاً ، ومن منع الحسن أن یُدفنَ عند قبر جَدِّه ، ومن نفی أباذر . . فلمّا جاء الصباح محاه بعض الناس ؛ فأشار الوزیر المهلبی علی معز الدولة أن یکتب موضع المحو : لعن اللّه

ص: 153

الظالمین لآل رسول اللّه ، ولا یذکر أحداً إلا معاویة ، ففعل ذلک(1).

وقد لجأ کثیر من العلویین إلی مصر التی لم تکن تربطها بعرش الخلافة ببغداد رابطةُ الطاعة التامة .

وفی سنة 236ه _ 850م کان المتوکل قد حبس الطالبیین فی سُرّ من رأی(2) .

وورد کتابه إلی والی مصر بإخراج الأشراف العلویین وإعطاء الرجل منهم ثلاثین دیناراً والمرأة خمسة عشر دینارً ؛ فقدموا العراق ، ثم أُمروا بالخروج إلی المدینة(3) ؛ ولکن کثیراً من العلویین استطاعوا أن یفلتوا من هذا النظام ، وسرعان ما ثاروا وبایعوا واحداً منهم ، فورد کتاب المنتصر إلی والی مصر بألاّ یُقبَّل علوی ضیعة ، ولا یرکب فرساً ، ولا یسافر من الفسطاط إلی طرف من أطرافها ، وأن یُمنعوا من اتخاذ العبید إلا العبد الواحد ، وإن کانت بین أحد الطالبیین وبین أحد من سائر الناس خصومة فلیقبَل قول خصم الطالبی فیه ، ولا یطالب ذلک الخصم ببیّنة(4).

فلا عجب إذن أن نری مصر تشهد حوالی عام 250ه ثورة للعلویین بعد أخری ؛ وفی القرن الرابع الهجری بدأت فتن المغرب تستولی علی مصر ، فوحّد ذلک بین أغراض العلویین السیاسیة وبین أغراض الشیعة .

وقد بلغت الفتنة فی یوم عاشوراء سنة 350ه _ 961م مبلغاً شدیداً فی العاصمة ، فنشب الفتالُ بین الجند السنیّین من السودان والترک وبین الشیعة ؛

ص: 154

وکان الجنود یسألون من یجدونه : من خالک؟ فإن لم یقل : معاویة ضربوه(1) .

وطاف أحد السودان المتهیجین بالطرقات ، وهو یصیح : معاویة خال علی ؛ فتابعه العامة ، وأصبحت هذه هی صیحة أهل السنة بمصر حین یریدون قتال الشیعة .

وقد حافظت الحکومة علی النظام بقدر استطاعتها ؛ وفی عام 353ه 964م ضُرب أحد کبار الشیعة ، وحُبس حتی مات فی السجن .

وقام علی قبره قتالٌ بین الجند وبین أصحابه .

ولما دخل جوهرٌ مصر وصارت الحکومة شیعیة کانت العامة عند أقل إشارة لهم یصیحون صیحة السنة علی الشیعة من نحو : معاویة خال علی .

ففی سنة 361ه _ 972م قُبض علی عجوز عمیاء تنشد فی الطریق ، وحُبست ؛ ففزع جماعة من الرعیة ، نادوا بذکر الصحابة ، وصاحوا : «معاویة خال الموءمنین وخال علی ّ، فبعث جوهرٌ ونادی فی الجامع العتیق : « أقلّوا القول ودعوا الفُصول ، فإننا حبسنا العجوز صیانة لها ، فلا ینطقن أحد إلا حلت به العقوبة الموجعة » ، ثم أُطلقت العجوز(2) .

بل یحکی أیضا أنه فی عام 362ه _ 973م شغب جماعة من الصیارفة السنیین وصاحوا : معاویة خال علی بن أبی طالب(3)، هذا مع أن الصیارفة أهدأ

ص: 155

العناصر السیاسیة .

علی أن حکومة الفاطمیین کانت تتوخّی جانب الحکمة فی الجملة ، ولم تکن حکومة متعصَّبة ؛ ولکنها جعلت أحسن المناصب فی القضاء والإفتاء للشیعة وحدهم .

وقد بلغ من تسامحها أنها لم تمنع العامة فی عام 362ه _ 973م من الاحتفال بعید اتخذه أهل السنّة ، بعد عید الغدیر عند الشیعیة ، مضاهاةً للشیعة ونکایة لهم ، وهو الیوم الذی دخل فیه رسول اللّه علیه السلام الغارَ هو وأبوبکر الصدیق ؛ وبالغوا فی هذا الیوم فی السرور وإظهار الزینة ونصب القباب وإیقاد النیران(1).

وقد شذ الخلیفة الحاکم فی هذا أیضاً؛ ففی عام 393ه _ 1002م أمر نائبُ دمشق من قِبَل الحاکم برجل مغربی ، فضُرب وطیف به علی حمار ، ونودی علیه : هذا جزاء مَن أحبَّ أبابکر وعمر ؛ ثم أمر به فضربت عنقه(2) .

وفی عام 395ه _ 1005م بلغ تعصب الحاکم المذهب أقصی حد ، فکان من الأشیاء الکثیرة التی أمر بها أن یکتب علی الجوامع والمساجد والحیطان والدروب لعنُ أبی بکر وعثمان ومعاویة وغیرهم من الصحابة ، وکذلک سائر خلفاء بنی العباس ؛ وعَظم ذلک علی أهل السنّة(3) .

وفی عام 396ه 1005م أمر بمنع الناس فی یوم عاشورا من الخروج للنوح

ص: 156

والبکاء علی الحسین فی الشوراع ، لبأن العامة کانوا یمدون أیدیهم إلی أمتعة الباعة ؛ فرفعوا ذلک إلی الحاکم ، فمر بمنعهم من المرور فی الشوارع ، وأن یختص النوح والنشید بالصحراء(1) .

وفی عام 399ه _ 1009م عاد الحاکم إلی الأمر بأن لا یسبّ أحدٌ من السلف الذین کان أمر بسبهم ، وهذه هی عادته من الأمر بالشیء ثم الأمر بترکه(2) .

علی أن مذهب الشیعة لم یستطع أن یجذب إلیه الناس ؛ فیحدثنا المقدسی أنه لم یجد الشیعة ذلا فی أعلی القصبة ، وکذلک أهل صندفا(3) .

وکانت فی الغرب علی الحدود بین الجزائر وتونس توجد أیضاً مدینة نفطة ، وجمیع أهلها شیعة ؛ وکانت تسمی الکوفة الصغری(4) .

علی أنه بعد التدهور السیاسی للفاطمیین سرعان ما رجعت موجة هذا التیار الشیعی ، حتی لم یبق له أثر .

وکانت بغداد هی العاصمة بمعنی الکلمة الحقیقی ؛ وآیة ذلک أن جمیع الحرکات الروحیة فی مملکة الإسلام کانت تتلاطم أمواجها فی بغداد؛ وکان بها لجمیع المذاهب أنصار .

ولکن أکبر حزبین کانا بها فی القرن الرابع الهجری هما الحزبان المتشدّدان فی التمسک بمذهبهما ، وهما الجنابلة والشیعة(5) .

ص: 157

وکان أنصار الشیعة یسکنون بنوع خاص حول سوق الکرخ ، ولم یتعدّوا الجسر الکبیر ویحتلّوا باب الطاق إلا فی أواخر القرن الرابع الهجری(1) .

ولم یستطیعوا التعدی إلی القسم الغربی ، لأن الهاشمیین کانوا یکوّنون عصبة قویة هناک ، ولا سیما حول باب البصرة وکانوا من أشد أعداء الشیعة(2) .

علی أن یاقوتا وجد أن أهل محلة باب البصرة _ بین کرخ بغداد والقبلة _ کلهم سنّیة حنابلة ، وأن عن یسار الکرخ وفی جنوبها سنّیة .

أما الکرخ فأهلها کلهم شیعة إمامیة لا یوجد فیهم سنّی ألبتة(3) .

وإلی جانب ما تقدم کان باب الشعیر غربی شاطئ دجلة من أکبر مراکز أهل السنة(4).

ورغم ما قام به المتوکل من تشدید فی اضطهاد الشیعة فی القرن الثالث الهجری ، تلاحظ أن قوتهم کانت عظیمة حتی إن الخلیفة المعتضد عزم فی عام 284ه 897م علی لعن معاویة علی المنابر ؛ وأمر بإنشاء کتاب فی ذلک وصلت إلینا صورتُه ، فخوفه الوزیر من اضطراب العامة ، فقال المعتضد : إن اضطربت العامّةُ وضعتُ فیها السیف ؛ فقال له الوزیر : فما تصنع بالطالبیین الذین هم فی کل ناحیة یخرجون ویمیل إلیهم کثیر من الناس لقرابتهم من الرسول ، وفی هذا الکتاب إطراوءهم ؛ وإذا سمع الناس کانوا إلیهم أمیل(5) ؟

ص: 158

ویذکر الموءرخون لأول مرة عام 313ه _ 925م أن الشیعة البغدادیین کانوا یجتمعون فی مسجد براثا[1] .

فعلم الخلیفة بأن قوماً منهم یجتمعون فیه لسبّ الصحابة ؛ فأمر بکبسه فی یوم جمعة وقت الصلاة فوجد فیه ثلاثون إنسانا یصلّون ؛ فقبض علیهم وفُتِّشوا ، فوجد معهم خواتم من طین أبیض علیها اسم الإمام ، کما کان یفعل دعاة الفاطمین مع من ینتسب إلیهم .

وقد استصدر الخلیفة فتوی بهدم المسجد حتی سُوَّی بالأرض ، وعفی رسمه ، ووُصل بالمقبرة التی تلیه(1).

وفی سنة 321ه 933م همّ علی بن یلبَق ، وهو من القواد الترک ، مرة أخری بأن یلعن معاویة وابنه یزید علی المنابر ؛ فاضطربت العامة ، وکان البربهاری رئیس الحنابلة یثیر الفتن هو وأصحابه(2).

وفی عام 323ه _ 935م نودی فی جانبی بغداد بأن لا یجتمع من الحنابلة نفسان فی موضع واحد ، وکان لکثرة تشرطهم علی الناس وإیقاعهم الفتن المّتصلة ؛ وخرج توقیع الخلیفة الراضی بکتاب بیّن فیه أخطاء الحنابلة وتوعّدهم بالعقاب ، وقد وصلت إلینا صورة هذا الکتاب(3).

ص: 159

فهو یتهمهم بالطعن علی خیار الأمة وبنسبة شیعة أهل بیت رسول اللّه صلی الله علیه و آله إلی الکفر ، وإرصادهم بالمکاره فی الطرقات والمحالّ وإنکار زیارة قبور الأئمة صلوات اللّه علیهم ، والتشنیع علی زُوّارها بالابتداع ، وأن الحنابلة مع إنکارهم لذلک ، یبلفقون ویجتمعون لقصد رجل من العوام لیس بذی شرف ولا نسب ولا سبب برسول اللّه صلی الله علیه و آله ، ویأمرون بزیارة قبره والخشوع لدی تربته ، وفی آخر الکتاب یقسم أمیرالموءمنین باللّه لئن لم ینصرف الحنابلة عن مذموم مذهبهم لیوسعنّهم ضرباً وتشریداً ولیستعملنّ السیفَ فی رقابهم والنار فی محالّهم ومنازلهم(1) .

ثم أن یحکم أمر بإعادة بناء مسجد براثا فی عام 328ه _ 940م وبتوسیعه لیکون مسجداً لأهل السنة ، وکتب فی صدره اسم الراضی باللّه ؛ ثم جاء المتّقی باللّه فأمر بنصب منبر فیه ، کان فی مدینة المنصور معطّلاً مخبوّا فی خزانة المسجد علیه اسم هارون الرشید ؛ ونُصب هذا المنبر فی قبلظ المسجد ، وافتُتح هذا المسجد للصلاة فی عام 329ه _ 941م(2).

وکان الحمدانیون أول أسرة شیعیة تدخلت فی أمور بغداد ، وکان هذا التدخل مثیراً للعجب ؛ ذلک أن ابن حمدان علی شدة تشیعة ومیله إلی علی وأهل بیته

ص: 160

سعی فی البیعة لا بن المعتز علی انحرافه عن علی وَ غُلُوِّه فی النّصب(1).

ولکن الأحوال تغیرت لما استولی الدیلم علی بغداد ، وکانوا قد دخلوا فی الأسلام حدیثاً علی ید أحد العلویین ؛ فلم یکد معز الدولة یدخل بغداد حتی قبض علی الخلیفة المستکفی وأنزله عن عرشه علی صورة مهمینة .

وکان من الأسباب الظاهرة فی ذلک أن المستکفی کان قد قبض علی الشافعی رئیس الشیعة(2).

وفی سنة 349ه _ 960م قامت فتنة بین العامة ببغداد ، وتعطلت الجمعة بمساجد أهل السنة لا تصال الفتن ، ولم تُقَم الجمعة إلا فی مسجد براثا الشیعی(3) .

وفی عام 351ه _ کتب معز الدولة علی المساجد لَعنَ الصحابة ، فمحاه الناس أثناء اللیل(4) .

وفی العام التالی أمر الناس أن یحتفلوا بیوم عاشوراء ، وهو أکبر عید للشیعة ، وأن یظهروا الحزن .

فأُغلقت الأسواق وعطل البیع والشراء ، ولم یذبح القصّابون ، ولا طبخ الهراسون ، ولا تُرک الناس أن یستقوا الماء ، ونصبت القبابُ فی الأسواق ، وعُلقَّت علیها المسوح ، وخَرَجَت النساء مُنَشّرات الشعور مسودّات الوجوه ، قد شققن

ص: 161

ثیابهن یدُرن فی البلد وینُحن ویلطُمن وجوههن علی الحسین ( رضی الله عنه ).

وفی هذا الیوم کان یزار قبر الحسن بکربلاء(1).[1]

ویصف البیرونی ما جری علیه بنو أمیة من إظهار الفرح فی یوم عاشوراء ، وما کان یظهره الشیعة من حزن ، ثم یقول : «ولذلک کره فیه العامة تجدید الأوانی والثیاب»(2) .

وفی الیوم الثامن عشر من ذی الحجة فی هذا العام جاء عید الغدیر (غدیر خمّ) ، فاحتفل به الشیعة ببغداد ، وزعموا إنه الیوم الذی عهد فیه الرسول علیه السلام إلی علی بن أبی طالب واستخلفه(3) .

وفیه أظهروا السرور بأمر معزّ الدولة ، علی خلاف صنیعهم فی یوم عاشوراء ، فنصبوا القباب وعلّقوا الثیاب ، وأظهروا الزینة .

وفی لیلته أُشعلت النیران بمجلس الشرطة ، وضربت الدبادب والبوقات ؛ وفی صبیحته نحروا جملاً وبکّروا إلی مقابر قریش(4) .

أما بنو أمیة فکانوا قد اتخذوا یوم عاشوراء من قبل یوم سرور ، «فلبسوا فیه ما

ص: 162

تجدد وتزینوا واکتحلوا وعیدوا وأقاموا الولائم والضیافات وطعموا الحلاوات والطیبات، وجری الرسم فی العامة علی ذلک أیام ملکهم ، وبقی فیهم بعد زواله عنهم » .

وقد حاول أهل الحدیث أن یظهروا فضل یوم عاشوراء فذکروا ما روی عن النبی علیه السلام من الحضّ علی فعل الخیر فیه(1) .

وکانوا یزعمون أن «الا کتحال فیه مانع من الرمد فی تلک السنة »(2).

ولذلک یقول القمّی (المتوفی عام 355ه _ 966م) مشدِّداً فیمن یفرح بیوم عاشوراء :[1]

«من ترک السعی فی حوائجه یوم عاشوراء قضی اللّه له حوائج الدنیا والآخرة ، ومن کان یومُ عاشوراء یومَ مصبیبته وحزنه وبکاءه یجعل اللّه عزوجل یومَ القیامة فرحَه وسروره ... ومن سمی یوم عاشوراء یوم برکة وادّخر بمنزله شیئا لم یبارَک له فیما ادّخر، وحُشر یوم القیامة مع یزید وعبید اللّه بن زیاد وعمر بن سعد لعنهم اللّه إلی أسفل درک من النار »(3).

ولما زالت الدولة الفاطمیة وجاء ملوک بنی أیوب اتخذوا یوم عاشوراء ، بعد أن کان یوم حزن ، یوم سرور ، جَریاً علی عادة أهل الشام(4) .

ثم إن أهل السنّة أرادوا أن یعملوا لأنفسهم ما یکون بإزاء یوم عاشوراء، فجعلوا بعده بثمانیة أیام یوما نسبوه إلی مقتل مُصعَب بن الزبیر ، وزاروا قبره فی

ص: 163

مسکن ، کما یزار قبرس الحسین بکربلاء(1).

وکذلک عملوا بأزاء یوم الغدیر بعده بثمانیة أیام یوما ادعوا أنه الیوم الذی دخل فیه النبی علیه السلام وأبوبکر فی الغار ، وعملوا فی هذا الیوم ما یعمله الشیعة فی یوم الغدیر .

وکان أول ما عمل أهل السنة ذلک فی یوم الجمعة لأربع بقین من ذی الحجة عام 389ه _ 999م(2).

وفی هذه الأعیاد لم یکن الأمر یخلو من شغب وفتن بین الفریقین ، حتی کان الحکام الأقویاء یمنعون من عملها أحیاناً(3).

وقد حدث مرة فی فتنة بین أهل السنة والشیعة أن الشیعة صاحوا : حاکم یا منصور ، إشارة إلی العدو المقیم بالقاهرة ؛ وقد بلغ الخلیفة ذلک ، فأحفظه ، وأنفذ الحراس الذین علی بابه لمعاونة أهل السنة ؛ فهزموا الشیعة ؛ ثم اجتمع الأشراف إلی دار الخلیفة، فسألوه العفو عما فعله السفهاء ، فعفا عنهم(4) وفی عام 420ه _ 1029م کان خطیب مسجد براثا ، وکان شیعیا ، یذکر مذاهب فاحشة من مذاهب الشیعة ویغلو فی علی[1] .

فأمر الخلیفة بالقبض علیه ، وعین محله خطیباً آخر ؛ فلما صعد المنبر دقه بِعَقَب سیفه علی ما جرت به العادة ، والشیعة ینکرون هذا ، وقصر فی الخطبة عما

ص: 164

کان یفعله مَن تقدمه فی ذکر علی ابن أبی طالب ، وقال: اللهم اغفر للمسلمین ، ومن زعم أن علیا مولاه ، فرماه العامّةِ حینئذ بالآجُرّ ، فوافاه کالمطر ، وخُلع کِتفُه ، وکُسِر أنفهُ، وأدمی وجهُه؛ وعرف الخلیفة ذلک ، فغاظه وأحفظه ؛ وکتب فی الشیعة کتاباً شدیداً للوزیر؛ وفی آخر الأمر اجتمع قوم من مشایخ أهل الکرخ ، وتوجّهوا مع الشریف المرتضی إلی دار الخلافة ، فأحالوا ما جری علی سفهاء الأحداث ، وسألوا الصفح عن هذه الجنایة، وطلبوا إقامة خطیب عملت له نسخةٌ یعتمدها فیما یخطب ، وتجنّب ما یحفِظ الشیعة(1) .

ومما کان له شأن فی توارث الشیعة المفاجئة فی القرن الرابع الهجری أن مشهدیهم الکبیرین المقدّسین عندهم کانا بالعراق .

علی أن موضع قبر علی[1] .

کان موضع شک؛ وقد بیّن المسعودی ذلک فی عام 332ه _ 944م ، حیث یقول إنه قد تُنوزع فی موضع القبر؛ فذهب قوم إلی أنه دُفن فی مسجد الکوفة(2)؛ وقال آخرون إنه دفن فی القصر بالکوفة ؛ وذهب جماعة إلی أنه حُمل إلی المدینة فدُفن عند قبر فاطمة؛ وقال قوم إنه حُمِلَ فی تابوت علی جمل وإن الجمل تاه ووقع فی بلاد طیء(3)؛ ثم یقال إن أبا الهیجاء عبداللّه بن حمدان (المتوفی عام 317ه _ 929م) شَهَر مکاناً بمشهد علی ، کان یقال إنه قبر علی بن أبی طالب ؛ وذلک بأن جعل علیه حصناً منیعا ، وابتنی علی القبر قُبَّة عظیمة مربعة الأرکان لها

ص: 165

باب من کل جانب ، وسترها بفاخر الستور ، وفرشها بثمین الحصر السامانیة(1) .

ولما مرض الوزیر أبومحمد بن سهلان واشتد علیه المرض نذر، إن عُوفی ، بنا سورٍ علی مشهد أمیرالموءمنین علی ؛ فعوفی ، فأمر ببناء سور علیه عام 400ه _ 1010م(2) وأول من دُفن فی هذا المشهد من العظماء فیما أعلم ، رجلٌ من أهل البصرة عام 342ه _ 953م(3) وأول من دفن فیه من الأمراء عضدُ الدولة ( المتوفی عام 372ه _ 982م) ، فحُمِل إلیه بعد أن کان قد دُفن بدار الملک ببغداد(4) .

وعضد الدولة هذا هو الذی أمر بإعادة بناء مشهد الحسن بن علی(5)، بعد أن کان الخلیفة المتوکل قد أمر فی عام 236ه _ 850م بهدم قبره وهدم ما حوله من المنازل وبأن یُحرَث ویُبذَر ویسقی(6) .

وکان یزعم البعض أن رأس الحسین ، « سیدالشهداء » ، یوجد فی رباط صغیر قریبا من مدینه مرو ، وذلک فی القرن الرابع الهجری(7) .

ص: 166

ویقول المقریزی إن رأس الحسین حُمل من عسقلان إلی القاهرة ووصل إلیها فی عام 548ه _ 1153م(1) .

ویری ابن تیمیة أن هذا باطل باتفاق أهل العلم ، وأن أحداً من أهل العلم لم یقل إن رأس الحسین کان بعسقلان(2) .

وفی عام 399ه _ 1009م توفی أبوالعباس الکافی الوزیر بالری ، وکان قد وصّی قبل موته أن یُدفن فی مشهد الحسین؛ فکتب ابنه إلی العلویین أن یبیعوه تربة بخمسمائة دینار ، فقال الشریف اذ ذاک : هذا رجل التجأ إلی جوار جدّی ، ولا آخذ لتربته ثمناً ؛ وأُعطیت للرجل تربة من غیر أن یدفع شیئا(3) .

ولم یصل إلینا وصف لداخل مشهد الحسین بکربلاء قبل وصف ابن بطوطة له فی القرن الثامن الهجری ؛ أما قبل ذلک فیذکر أن القبر کان یُغَطّی بقماش تاریز، وحوله شموع مضاءة(4) ثم إن عمید الدولة بن بویه بنی علی قبر علی الرضا بطویس حصناً ومسجداً لم یکن بخراسان أحسن منه(5) .

ص: 167

ص: 168

[1] یقولون(1) علی بن ابی طالب علیه السلام کالزاغ : والمعلّق یزید علی(2) المتن قوله ان عقیدتهم ان شبه محمد بعلی علیهماالسلام اشّد من شبه الغراب بالغراب ویخطؤون جبرئیل فی ابلاغه الرسالة إلی محّمد صلی الله علیه و آله بل کان علیه ان یبلغه علیّاً علیه السلام ویقتعدون فی علی وابنائه النبوّة ویلعنون جبرائیل وربما یطلق علیهم الذبابیّة الخ .

التحامل فی هذا المقام أشدّ لکن الحقّ کما أشار إلیه أحمد أمین ( فی مقدّمة الکتاب ) ( کما یوءخذ علیه انه یستدلّ فی بعض المسائل علی رأی بنّص واحد إلی آخر ) وکلّ من له المام بمسائل الفقه یدری ان الامامیة أعلی اللّه کلمتهم اتّحدت کلمتهم تبعاً لأئمّتهم أهل بیت رسول اللّه صلی الله علیه و آله والعترة المقرونة بالکتاب فی الحدیث المشهور بل المتواتر بین الفریقین(3) انی تارک أو مخلّف فیکم الثقلین ، أو الخلیفتین ما إن تمسّکتم به لن تضلّوا بعدی کتاب اللّه وعترتی أهل بیتی وانهما لن یفترقا حتی یردا علیّ الحوض علی انّ المال الموروث یرثه الاقرب للمیّت فالأقرب بنتاً واحدة کانت أو بنتین أو أزید وکذا الأخت سواء سمّی له فی الکتاب العزیز أم لم یسم لآیة اُولی الارحام(4) ( قال تعالی : « وَأُولُوا الاْءَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلی بِبَعْضٍ فی کِتابِ اللّه ِ إِنَّ اللّه َ بِکُلِّ شَیْءٍ عَلیمٌ » ) وقد أخطأ السبکی فی طبقاته حیث عزی هذا القول إلی قوم من شراد الروافض کخطأ الموءلّف خطأ تبعاً فی قوله دفنت فی قم السیدة فاطمة ابنة الامام الثامن الرضا علیه السلام والحال انّ السیدة فاطمة هی اُخت الرضا بنت الامام موسی الکاظم علیهماالسلام .

[1] هذا أیضاً خطأ بل الشیعة لهم اصول وقواعد رصینة متینة لا یرثون العلم إلاّ من أهل

ص: 169

البیت آل رسول اللّه صلی الله علیه و آله فراجع نهج الحق للعلامة الحلی قدس سره فی ما یتعلق بالأبحاث الکلامیة فانه قدس سره صرح بمتابعة المعتزلة للامامیة. وتأسیس(1) الشیعة للسیّد حسن الصدر الکاظمی اعلی اللّه مقامة.

حتی تعرف ان للشیعة الامامیة التقدم والسبق فی علوم الاسلام وتدوین کتبها وفتح باب العلوم علی کلّ فرق الاسلام ومنها علم الکلام فأوّل من تکلّم فی هذا العلم منهم واول من ناظر فی التشیّع منهم وأوّل من کتب وألّف منهم وانظر إلی نص ابن أبی الحدید بألفاظه(2) ( ومن کلامة علیه السلام اقتبس وعنه نقل وإلیه انتهی ومنه ابتدأ فان المعتزلة الذین هم أهل التوحید والعدل وأرباب النظر ومنهم تعلّم الناس هذا الفنّ . تلامذته وأصحابه لأنّ کبیرهم واصل بن عطا تلمیذ أبی هاشم عبداللّه بن محمّد بن الحنفیّة وأبو هاشم تلمیذ أبیه وأبوه تلمیذه علیه السلام وامّا الأشعریة فانهم ینتمون إلی أبی الحسن علی بن ( اسماعیل بن ) أبی بشر الأشعری وهو تلمیذ أبی علی الجبائی وأبو علی أحد مشایخ المعتزلة فالأشعریّة ینتهون بالاخرة إلی استاذ المعتزلة ومعلّمهم وهو علیّ بن ابی طالب علیه السلام وأمّا الامامیة والزیدیة فانتماوءهم إلیه ظاهر . انتهی .

وقد بیّن الفرق الشیخ المفید بین الشیعة وبین المعتزلة وغیرهم فی ما یرجع إلی العقاید الکلامیة فی کتاب اوائل المقلات(3) وأوضح المطلب علی نحو لا یبقی مجال لما زعمه المصنف فراجع .

ص: 170

استشهاد مضحک وقول بلا دلیل فالسلطان(1) عضد الدّولة اتّصال وثیق بالشیخ المفید احد أعلام الشیعة فی القرن الرابع ورئیسها المشهور المتضلع فی فنون کثیرة المتکلّم الکبیر وکان عضد الدولة یعظّمه غایة التعظیم ویزوره فی داره وعدة المسیر سید شریف من مروّجی مذهب الاسلام فی المأة الرابعة وأوصی أن یحمل جنازته إلی النجف الأشرف ودفن فی جوار الروضة المتبرّکة العلویة وکتب علی قبره هذا قبر عضد الّدولة وتاج الملّة أبی شجاع بن رکن الدولة احبّ مجاورة هذا الامام المعصوم لطمعه فی الخلاص یوم تأتی کلّ نفس تجادل عن نفسها وصلواته علی محمّد وعترته الطّاهرة : فلهذا وذاک لامجال لتصدیق کلام المصنف فیما ذکر فالشیعة مذهب کلامی ولا یعمل عضد الدولة حسب مذهب الاعتزال بل نقول تأییداً لعظمة الشیعة فی ذاک العصران القرن الرابع من اجلی القرون الّتی تجلّت الشیعة فیها باظهر وأبرز وأنفع الموءلّفات فی العلوم الاسلامیّة ومنها علم الکلام وهو عصر الشیخ الصدوق والشیخ المفید والسیدین المرتضی والرضی قدسّ اللّه أسرارهم وقد قضی شیخ الطائفة الامامیة الطوسی قدس سره شطراً من صیانة العلمیة فی ذاک القرن وله(2) کتاب تلخیص الشافی ومقدمة فی المدخل إلی علم الکلام وشرحها والمسائل الرازیة فی الوعید وبامکانک مراجعة الشافی(3) للسید المرتضی والفصول(4) المختارة واوائل المقالات وشرح عقائد الصدوق وکتب کلامیة اخری للشیخ المفید قدس سره وله

ص: 171

قریب من مأتی مصنف کبار وصغار ولمن عاصره أو تقدم أو تاخر عن عصره بقلیل تألیفات ممتّعة مذکورة فی محلّها من کتب الرجال والسیر والتاریخ وفهارس کتب الصنّفین من الشیعة الامامیة لاسیّما الذّریته وأشار الیهم وترجم لهم فی تأسیس الشیعة فی الطبقة الخامسة کابن(1) اعین ذوبی وعن ابن شهر آشوب انه من غلمان السید المرتضی قدس سره له کتاب عیون الأدلةّ اثنی عشر جزءاً فی الکلام ( قال الموءلف(2) التأسیس ولا أعرف کتاباً ابسط منه فی کلام علم الکلام ) وکالعلاّمة أبی(3) الفتح الکراجکی شیخ الفقهاء والمتکلمین وحید عصره وفرید دهره ومنهم الشیخ(4) أبا علی بن مسکویه احمد بن محمّد بن یعقوب بن مسکویه الرازی الأصل واحبا نصر(5) الفارابی محمد بن أحمد بن طرخان ابن اوزلغ وکآل(6) نوبخت وفیهم جماعته متکلمون وذکر من کلمات العلماء ما یدل علی تشیّعهم وإن کان فی بعضهم تأمل وبامکانک تعرّف تألیفاتهم وکتبهم فی الکلام وسائر أنواع العلوم وعمّا یریبنی وکلّ عالم منصف وبحّاث منقّب ان الشیخ المفید والسید المرتضی والشیخ الصدوق والشیخ الطوسی ونظرائهم لیسوا من المهملین والمغمورین فی ذاک النصر فکیف لم یذکرهم المصنف فی أی فصل من کتابه ولا أشار إلی مصنفاتهم فی الکلام وآرائهم فی الامامة فما ذکره المصنّف فی حقّ الشیعة لیس الاّ رجماً بالغیب او تحاملاً أو قولاً بلا دلیل

ص: 172

و ینبغی لفت نظر إلی ما کتبه فی ذیل اصل الشیعة و اصولها (1) للعلامة المصلح الکبیر المرحوم الشیخ محمد حسین آل کاشف الغطاء قال مانصه: التشیع بالمعنی الخاص ینافی الاعتزال و یکفی فی تحقیق المباینة ان الشیعة تقول بالنص والمعتزلة لا تقول به، و لکن کثیراً من الشیعة کانوا یتظاهرون بالاعتزال لمصلحة کانت یقتضیها ذلک الوقت و منهم یحیی بن زید العلوی الذی ینقل عنه ابن ابی الحدید جملة من التحقیقات العالیة فلیفهم هذا.

و کذا إلی ما ذکره (2) الدکتور حامد حفنی داود استاذ الأدب العربی بکلیة الالسن (فی القاهرة) فی مقدمة لکتاب عقائد الامامیة للعلامة المجاهد الشیخ محمد رضا المظفر تغمده الله برحمته. قال طی کلام له و یبقی هنا سؤال واحد یستلزم منا ان نجیبک علیه هو: هل تأثر الشیعة بالمعتزلة أم تأثر المعتزلة بالشیعة؟ فاما جمهور الباحثین فیرون ان الشیعة تأثروا بالمعتزلة فی الاخذ بالمنهج العقلی و لکنی ازعم لک ان المعتزلة هم الذین تأثروا بالشیعة و ان التشیع کعقیدة سابق علی الاعتزال کعقیدة و ان الاعتزال ولد و درج فی احضان التشیع و ان رؤوس الشیعة کانوا اسبق فی الوجود من جهابذة المعتزلة، الی و من هنا استطیع ان اجلی للقارئ المتدبر ان التشیع لیس کما یزعمه المحرفون والسسفیانیون من الباحثین مذهباً نقلیاً محضاً أو قائماً علی الآثار الدینیة المحشونة بالخرافات والأوهام والاسرائیلیات أو مستنداً فی مبادئه من عبدالله بن سبأ و غیره من الشخصیات الخیالیة فی التاریخ إلی آخر کلامه.

[*8] کذبه واضح لو أراد أن المذهب یفسح لهم المجال کما یرشد الیه ما أورده فی قوم من

ص: 173

التناسخیه: و لقد أجاد صاحب الریاض (1) حیث قال لدفع تهمة الاعتزال عن الصاحب بن عباد. والسر فی نسبة الاعتزال إلیه و إلی أمثاله أن العامة من الأشعریة لم یفرقوا فی الاصول بین المعتزلة و الشیعة، بل اعتقادهم انها علی طریقة واحدة و لهذا تری ان الاشاعرة إنما یحاجون (مع) المعتزلة و حدها فی کتبهم الکلامیة، و من ذلک ان الأشاعرة لما اعتقدوا الجبر حقیقة و ان أنکروه لفظاً و کتابة (لیس کلهم هکذا) ظنوا ان کل من أنکر هذه العقیدة الفاسدة فهو معتزلی من غیر تحقیق الحال فی عقیدة الشیعة و برائتها من کلا الاعتقادین.

[*9] اشتشهاد غلط لا ربط له بما تقدم ولا یثبت دعواه.

[*10] هذه واردة فی زیارات (2) أمیرالمؤمنین علیه السلام و مذکورة فی حالاته و تواریخه و لا غلو فیه لکونه نفس النبی صلی الله علیه و آله. بحکم آیة المباهلة فلیذکر معجزة المسیح علیه السلام فی احیائه الموتی کما هو وارد فی القرآن الکریم و وارد فی أناجیلهم، و أخبار تکلیم (3) الامام علیه السلام الجماجم کاحیاء الموتی و تکلیم الفتیة أصحاب الکهف واردة فی البحار عن کتب کثیرة فراجع.

و یقال للمصنف (قل للذی یدعی فی العلم فلسفة حفظت شیئاً و غابت عنک أشیاء نسیت أیها المصنف عقیدتکم فی المسیح و انه ابن الله أو حل فیه روح الله و قولهم بالتثلیث (الاقانیم الثلاثة).

[*10] ذکره الصدوق (4) مسنداً له إلی میثم التمّار باختلاف یسیر .

ص: 174

والرّوایات(1) فی بکاء السماء وهی حمرتها واسطارها دماً عبیطاً بلغت حدّ التّواتر وقد ذکر(2) المفسر الکبیر العلاّمة الطباطبائی قدس سره ان البکاء فی الآیة الشریفة « فَما بَکَتْ عَلَیْهِمُ السَّماءُ وَالاْءَرْضُ وَما کانُوا مُنْظَرینَ »(3) . ان بکائهما علی شیء فائت کنایة تخییلیة عن تأثرهما عن فوته وفقده فعدم بکائهما علیهم بعد اهلاکهم ( قوم فرعون ) کنایة عن هوان امرهم علی اللّه وعدم تأثیرها راکهم فی شیء من اجزاء الکون .

واشار(4) إلی عدم الحاجة إلی حمل البکاء علی الکنایة التخییلیة لو بنی فی فعناه علی ما یظهر من الروایات: بعد ان اورد نبذاً منها وفیها روایة عن الدر المنثور للّسیوطی کما تعّرض(5) صدیقنا المفسر الفاضل الشیخ محمّد الصادقی لهذا الآیة والکلام علیها وعلی الروایات ومنها عدة روایات عامّة نصبودة مبسوطة ینبغی مراجعة تفسیره .

[1] رواها المجلسی(6) عن الصدوق قدس سرهما .

هذا لیس قولاً الشیعة الامامّیة ولاغیرهم ولا اعتقد من یوجد فی زماننا یقول به ثم هو قول بعض المتسمّین بالشیعة من الذین انقرضوا ولیسوا بشیعة وما یذکر فی ذیل الکتاب ملاکاً لهذا القول ( کتاب العلل ص 99 ب ) یکون حجة علیه حیث یسأل(7) عبداللّه بن الفضل فقلت له یابن رسول اللّه فما تقول فی قوم من شیعتک یقولون به فقال ( ابو عبداللّه الصادق علیه السلام ) ما هؤلاء من شیعتی وانا بریء منهم وقال علیه السلام للرّاوی

ص: 175

یابن عمّ وانّ ذلک ( أی شیعته العامیّة یوم عاشوراء یوم برکة ) لأقلّ ضرراً علی الاسلام وأهله ممّا وضعه قوم انتحلوا مودّتنا وزعموا انّهم یدینون بموالاتنا ویقولون بامامتنا زعموا ان الحسین علیه السلام لم یقتل وانّه شبّه للنّاس أمره کعیسی بن مریم الی قوله علیه السلام یابن عم من زعم ان الحسین لم یقتل فقد کذب رسول اللّه وعلیّاً وکذّب من بعده من الأئمّة فی أخبارهم بقتله ومن کذبهم فهو کافر باللّه العظیم ودمه مباح لکّل من سمع ذلک منه وفی التوقیع(1) الوارد عن مولانا صاحب الزمان عجل اللّه فرجه امّا قول من زعم ان الحسین لم یقتل فکفر وتکذیب وضلال وفی روایة العیون(2) یقول الهروی قلت للرضا علیه السلام ان فی سواد الکوفة قوما إلی قوله قلت یا بن رسول اللّه وفیهم قوم یزعمون ان الحسین بن علی لم یقتل فقال کذبوا علیهم غضب اللّه ولعنته وکفروا بتکذیبهم لنبیّ اللّه فی أخباره بانّ الحسین بن علی علیهماالسلام سیقتل . ص 109

[1] الشیعة الامامیّة لا یرون فرقاً بین امام وامام من أئمّتهم من الائمة المعصومین الاثنی عشر علیهم السلام ویرون قولهم واحداً وما قاله أحدهم هو قول کلّهم وقول کلّ واحد منهم قول النبی صلی الله علیه و آله ودلائلهم مذکورة فی محلّها من الکتب الکلامیة والاعتقادیة ولا یوءاخذ المذهب وأهله وأکابره وعلمائه بفعل بعض السّفهاء لو وضع حدیثاً کرامة أو تقرباً إلی أمیر أو وزیر وهذه کتب رجالهم تری فیها وانهم ینقّبون عن حال کل راوٍ للاخبار فضیلة أو کرامة أو ما یتعلق بالدین والتفسیر اصولاً وفروعاً ولایقبلون الاّ ممّن صحّ دینه وسلمت عقیدته أو ثبت صدقه ووثاقته وربما یکون الراوی صاحب تألیفات وکتب وهو امامی المذهب لایقبلون حدیثه لفسق فی العمل أو انحراف فی العقیدة أو

ص: 176

وضع للحدیث فراجع ما کتبوا فی الرجال ( ککتاب النجاشی وخلاصة الأقوال للعلاّمة الحلی ورجال الاسترآبادی وریاض العلماء وتنقیح المقال ومعجم رجال الحدیث وأمثالها کثیر ) .

[1] هذا یدعیة ابن(1) ابی الحدید فی شرح نهج البلاغة ویذکر أمثلة انکار کثیر منها ولید التعصّب ویمسّ قبول بعضها عقیدته فی الصحابة ولا یمکنه قبوله والبقاء علیها وقبله وبعده اتهموا الشیعة بالکذب ووضع الأحادیث حتّی انّ بعضهم ( عبداللّه القصیمی ) کاد أن یحصر الوضاعین والکذّابین بین الاّمة الاسلامیّة بالشیعة فقال الکذابة(2) حقّاً کثیرة فی رجال الشیعة واصحاب الاهواء طمعاً فی الدنیا وتزلّفاً أی أصحاب أو کیداً للحدیث والسنّة وحنقاً علی أهلها إلی ولیس فی رجال الحدیث من اهل السنّة من هو متهم بالوضع والکذابة طمعاً فی الدنیا وازدلافاً إلی اهلها وانتصاراً للاهواء والقصائد المدخولة الباطلة نعم : قد یوجد بینهم من ساء حفظه او من کثر نسیانه او من انخدع بالمدلسین الضعفاء.

لکنّه غفل عن عیوب نفسه فرمی الشیعة بانانین من الأکاذیب فقال(3) ان الأئمة من آل البیت عند الشیعة أنبیاء وانّهم یوحی الیهم وان الملائکة تأتی الیهم بالوحی وانّهم یزعمون لفاطمة وللأئمّة من ولدها ما یزعمون للانبیاء . ولقد ردّ علیه العلامة الأمینی قدس سره أکاذیبه وافترائاته لا علی الشیعة فحسب بل علی سایر علماء الاسلام وذکر سبعمأة(4) من اصحاب الروایات نصوا علی کذبهم أو وضعهم وفیهم علماء فقهاء زهاد عباد نسّاک

ص: 177

ثقات نعم فیهم قلیل لا یصح ما قیل فیهم وفی بعضهم توقّف وذکر قائمة(1) الموضوعات .

والمقلوبات عن رجال قلیلین بما یبلغ 408684 فجزاه عن الاسلام واهله خیر الجزاء وهدی اللّه اولئک الکذابین والمفترین وجزاهم ما یستحقونه ) .

نعم لا نقول ولا یقول أحد من الامامیة ان کل ما ورد من الأحادیث فی فضل علی وأهل بیته الکرام علیهم السلام صحاح والشیعة یعتقدون بها بل نکذب بعضها ونتوقف فی بعض آخر ونقول بمقتضی شطر وافر منها لا شتهارها وصحة اسنادها وتلّقی العلماء جیلاً بعد جیل بالقبول وقد ورد کثیر من أخبار الفضائل فی أهل البیت فی کتب العامة وصحاحهم وقد جمع العلاّمة الموفق السید الفیروزآبادی ما أمکنه فی ذلک من الصحاح الستّة ونشره فی کتاب اسماه فضائل الخمسة فی الصحاح الستة جزاه اللّه عن أهل بیت نبیّه خیر الجزاء .

[1] مسجد معروف بین مشهد الکاظمین علیهماالسلام وبغداد وکان دیراً فأمر امیرالموءمنین علیه السلام فی(2) رجوعه من قتال الخوارج الراهب الساکن هناک بعد اسلامه علی یده علیه السلام ان یبنیه مسجداً واخبر ببناء بغداد واخرج عیناً لمریم علیهاالسلام ودلّ علی صخرة بیضاء وضعت عیسی علی نبینا وآله وعلیه السلام من عاتقها علیها واخبر ان هناک قبر نبی من الأنیباء أمر الشّمس أن ترجع فرجعت وکان معه 13 رجلاً من أصحابه وعن ابی جعفر علیه السلام انه صلّی فیه ابراهیم قبل عیسی علیه السلام صفحه 4 دفتر دوم .

[1] هذا اشتباه بل القبر لاخیه الحسین سید الشهداء علیه السلام .

ص: 178

قوله ( ذیله الصفحة ) ولا تجد قط ذکراً . هذا من جهل القائل لو أراد روایات غیرتاریخیّة ولیس الجهل غدراً فلیراجع الکتب التی ألّفت للزیارات من اقدم العصور ککامل الزیارات والمصباح وغیرهما...

قولة من قول السیدة سکینة : لم یثبت من قولها ولایناسب شأنها وما ورد عنها مع انه لا ربط قوی بین هذا وما افتتح به کلامه :

[1] لیس لأولّ مرّة یسند ما یرویه الصدوق القمی قدس سره فی کتاب العلل إلی نفسه ورأیه وکانّه یتعمّد فی فرض جدال وقتال بین ما ینقله عن اهل الحدیث ( من العامّة ) ومایذکره عن القمی اشعاراً باستمرار الجدال والمغالبة بین الفریقین وما اسنده الیه إنّما هو(1) روایته بطریقه إلی الرضا علیه السلام .

ما افحش هذا الموءلف وقد تکرر منه التعبیر عن بعض معجزات امیرالموءمنین علیه السلام وکراماته بالغلو .

[1] هذا تعبیر من لا تحقیق له وانّما یقف متحیرّاً عند أول شبهة ترد علیه من معاندا وجاهل مثله والاّ فایة شبهته فی موضع قبر علی علیه السلام وابنه سید الشهداء سلام اللّه علیه وقد زارهما اولادهما واحفادهما من اقدم العصور کالامام زین العابدین والامامین الباقر والصاّدق علیهم السلام ودلّوا أصحابهم وعلی مواضع القبر حتّی صار الیوم من أوضح الواضحات کموضع مکّة والمدینة وما رواه المسعودی قد ورد فی کتبنا ووجهه معلوم لانّه المتقیمة علی المعاندین وخصوم اهل البیت لا سیّما بنی امّیة والخوارج وأعظم به من جهل حیث یقول الموءلف ص 122 ( ثم یقال ان ابا الهیجاء عبداللّه بن حمدون الخ) .

وعبّر عنه المسعودی(2) بابن ابی الهیجاء فراجع فرحة الغری(3) وما أورده فی ذلک للدلالة علی قبر مولانا علی علیه السلام من الشواهد والروایات ولا کرامات قبل ان یخلق ابو الهیجاء

ص: 179

وکذا شرح(1) ابن ابی الحدید فقد صرح بالحق المحقق .

ص: 180

تعلیقات

(1)

من أراد کلاماً موجزاً عن الشیعة فلیرجع إلی کتاب : Johannes Hauri Islam, p. 89 ffومن أراد التفصیل فلیرجع إلی کتاب جولد تزیهر :

Goldziher, Vorlesungen uber den Islam ؛ وهذا الکتاب مترجم إلی الإنجلیزیة بعنوان : Muhammed and Islam وإلی الفرنسیة بعنوان :

Dogme et la loi de Í Islam وإلی العربیة بمصر حدیثاً .

یقول جولدتزیهر فی صفحة 222من الترجمة الإنجلیزیة : إن من الحقائق الأولیة أن مسأله الخلافة قسمت المسلمین إلی فرقتین .

أهل السنة ،والشیعة وکان لأهل البیت فریقٌ یعترف سراً بحقوقهم ، حتی فی عهد الخلفاء الثالثة الإولین ؛ ولکن هذا الفریق لم یکن یجاهر بالخصمام .

وبعد عصر هوءلاء الخلفاء صار یعارض کل من حکم من غیر أبناء علی ّ؛ وکانت هذه المعارضة موجهة أول الأمر إلی الأمویین ،ثم إلی من بعدهم ممن لم تتوافر فیهم الشروط التی یوجبها الشیعة فی الإمام ؛ وهم حین یبینون ونجوه النقص فی هوءلاء الحکام یقررون الحقوق الشرعیة لأبناء النبی علیه السلام ممثَّلة فی

ص: 181

ذریة علی وفاطمه؛ وکما أنهم اتهموا الخلافاء الثلاثة الأولین سربَا بأنهم معتصبون ظالمون ، فکذلک عارضوا النظام السیاسی فی الدولة الإسلامیة سراً وجهراً فی کل العصور .

فإنهم یقولون إن الرئیس الشرعی الوحید من الناحیة الروحیة والزمنیة هو الذمام المعصوم الذی یعین تعییناً ، ویکون من أبناء النبی علیه السلام .

وفی صفحة 230تکلم جولدتزیهر عن الفرق الاساسی بین الخلیفة عند أهل السنة والإمام عند الشیعة .

أوجب أهلُ السنّة تنصیب خلیفة مهمته تنفیذ أکام الشریعة وفروضها ، وحمایة حدود بلاد الاسلام والدفاعُ عنها ، والإشرافُ علی تعبئة الجیوش ، وأَخذُ ما فُرض علی المسلمین فی أموالهم ، وتقسیم غنائم الحرب بینهم بالعدل ، وغیر ذلک من المهام ؛ وبالاختصار فالخلیفة هو ممثل السلطة القضائیة والإداریة والحربیظ ، وهو مجرد خلیفة لمن تقدمه ، ویختاره المسلمون بالطرق العادیة (بالانتخاب أو بتعیین سلفه له ) لسیاستهم ؛ ولا یشترط فیه أن یکون أعلم المسلمین.

أما الإمام عند الشیعة فهو رئیس المسلمین ومعلمهم ، بفضل ما وهبه اللّه من الصفات؛ وبحکم وراثة للنبی علیه السلام ؛ وهو یحکم ویعلّم متلقیا ذلک عن اللّه علی نحو ما کان موسی یسمع کلام اللّه من الشجرة[1] .

فکأنه یتلقی عن اللّه رسالة مستمرة ؛ وهو یجمع إلی هذه المزیة صفات خاصة

ص: 182

من طور فوق طور الإنسان.

ویزعم الشیعة أن وراثة الإمامة تنقلت من آدم ، حتی انتهت إلی عبد المطلب جدّ النبی علیه السلام وجدّ علی رضی الله عنه ؛ ومن عبدالمطلب انقسم النور قسمین ، أحداهما انتقل ذلی عبد اللّه والد النبی ، والآخر إلی أخیه عبد المطلب[1] .

والد علی ثم سار النور من علی إلی ذریته ، وهذا النور الذی فی روح الإمام یجعله إمام عصره ، ویجعل له قوی روحانة تجاوز حدود القدرة الإنسانیة ؛ وروح الإمام أنقی من أرواح سائر الناس ، لأنه مبرّأ من بواعث الشر مُتحلٍٍ بالفضائل الإلهیة وهذه هی صفات الإمام عند المعتدلین من الشیعة ؛ أما الغلاة منهم فهم یرفعون الإمام ذلی الأفق الإلهی .

وفی ص 254وما بعدها ینبه جولدتزیهر علی أخطاء شائعة فیما یتعلق بالشیعة 1 _ یذهب البعض إلی أن الفرق بین مذهب أهل السنة ومذهب الشیعة أن الأولین یعترفون بأن السنَّة أصل من أصول العقائد والأحکام الدینیة بعد القرّآن، وأن الشیعة یرقضون السنّة .

یقول جولد تزیهر :إن هذا خطأ جوهری فی فهم مذهب الشیعة ؛ ومنشوءه اختلاف التسمیة بین الفریقین؛ فلیس بین الشیعة من ینکر السنّة ؛ بل هم یقرون بالسنة التی حَمَلَها أهلُ البیت ، ویذهبون إلی أن خصوم الشیعة یعتمدون فی بأخذ السنة علی الصحابة الغاصبین .

وثم الأحادیث التی رواها أهل السنّة لا تختلف إلا فی السند ؛ والشیعة یقبلون الأحادیث التی رواها أهل السنة[1] .

والتی توءید الشیعة أو علی الأقل لا تعارض مذهبهم ؛ ومن أمثلة ذلک أن من

ص: 183

الشیعة المتشدّدین[1] .

من یعتمدون علی أحادیث البخاری ومسلم ، ویقروءونها أیام الجَمع ؛ ونستطیع معرفة شأن السنَّة عندهم من أن کثیراً من قول علی فی القرآن والسّنة یوءخذمما رواه الشیعة عن علی فاحترام السنة من مستلزمات مذهب أهل السنة والشیعة علی السواء ؛ ومما یدل أیضاً علی اعتداد الشیعة بالسنة النبویة أنهم کتبوا الکثیر فی السنَّة وما یتعلق بها ، وأنهم وضعوا أحادیث کثیرة وأذاعوها[1] .

فالشیعة لا یعارضون أهل السنَّة بصفتهم منکرین للسنة ، بل بصفظ أنهم أولیاء أهل البیت أو الخاصة الذین یمتازون علی العامة الغارقین فی بحار العمی والضلال.

2 _ ومن الآراء الخاطئة القولُ بأن منشأ التشیع یرجع إلی مذاهب الفرس وتأثیرها فی الإسلام ؛ وهدا ناشیء عن خطأ تاریخی ، وقد رفضه فلها وزن فی بحث له (هو:

Wellhausen, Die Religios - politischen Oppositionsparteien. im Alten Islam

وذلک أن حرکة التشیع نشأت علی تربة عربیة خالصة ، ولم بین السامیین إلا بعد ظهور المختار .

هذا إلی أن أصول النظریة الإمامیة تنتشر بما تتضمنه من النظر إلی الدولة نظرة دینیة لا دنیویة ، ومن القول بالمهدی ونحوه یکمن أن نرده إلی الأثر الیهودی والمسیحی[1] .

بل إن ما ذهب إلیه الشیعة الغالیة من تألیه علی کان أول من أتی به عبدُاللّه بن

ص: 184

سبأ[1] .

قبل تأثیر المذاهب الآریة ؛ وکذلک التجسیم عند الشیعة ، یرجع بعضه إلی أصل عربی وقد ذهب إلی قول الشیعة أهل النظر العقلی بین العرب ، وکذلک الفرس ، وقد رحّب الفرسُ بمعارضة الشیعة ؛ ثم تأثر هذا المذهب فیما بعد بما هو موروث عند الفرس من تألیه الملوک[1] .

ولکن الأصول الأولی للتشیع لا ترجع إلی أثر أجنبی ، بل هی عربیة فی صمیمها[1].

3 _ أن الشیعة هم أصحاب الفکر الحّر ، خلافاً لأهل السنة الجامدین ، وهو ما ذهب إلیه أخیراً البارون کرادفوا .

وهذا الرأی لا یقبله من له علم بمذهب الشیعة[1].

فمن الموءکد أن تقدیس علی هو محور الاعتقادات الدینیة عند الشیعة؛ وکل ما عدا هذا فهو ثانوی المرتبة ، ودن الشیعة بتفضیلهم الإمام المعصوم من غیر اعتماد علی قوة الرأی العام قد نبذوا ما تراه فی مذهب أهل السنّة من عناصر التفکیر الحر .

وعلی هذا فإن خصوع الشیعة لمذهب یتلقونه عن سلطة معصومة لا تقبل معارضة هو ما تتمیز به الحیاة الدینیة عندهم .

أما علاقة الشیعة بالمعتزلة فیقول جولدتزیهر إن الصلة بینهم أمر لا سبیل إلی الشک فیه ، لما ذهب إلیه أحد علماء الشیعة[1] .

من أن القول بالأمام الغائب جزء من قول أصحاب التوحید والعدل ، وهم المعتزلة ومن الشیعة فرعُ الزیدیة ، وهم أکثر من غیرهم میلا إلی مذهب المعتزلة .

ص: 185

وقد أثّر مذهبُ المعتزلة فی التشییع إلی عصرنا[1] .

ومن الخطأ قولُ من قال : إن مذهب المعزلة لم یلعب دوراً کبیراً فی الدین والأدب بعد انتصار الأشاعرة .

ومما یثبت بطلان هذا الرأی ما انتهی ذلینا من کتب کثیرة للشیعة یتجلی فیها تأثیر المعتزلة ؛ فمن ذلک أن الشیعة یقسمون کتبهم إلی باب العدل والتوحید ؛ بل نجد من کبار المعتزلة کالنظاّم من قررّ من قبل أن الحجة فی قول الإمام المعصوم ، وقول الشیعة بضرورة وجود إمام معصوم له اتصال بما اختص به المعتزلة من القول بوجوب هدایة أساسها الحکمة والعدل الإلهیان ؛ فلا بد عند بعض المعزلة من أن یجعل اللّه لکل عصر إماماً معصوماً.

وقد نقل جولدتزیهر فی آخر الفصل الخاص بالزهد والتصوف من کتابه المتقدم ما ذکره الغزالی فی فیصل التفرقة من أن أساس الإیمان الاعتقاد بالأصول ؛ أ»ا الخلاف فی فروع العقائد والعبادات ، ولو کان فیه إنکار الخلافة التی یقول بها أهل السنة ، کما فعل الشیعة ، فلا یکفی لاعتبار صاحبه زندیقاً .

وقد أوصی الغزالی بإمساک اللسان عن تمزیق أعراض أهل القبلة .

ص: 186

تعلیقات هذا الفصل

[1] هذا لیس عقیدة الشیعة الامامیة ولا الزیدیة بل نقول انّ الامام ورث العلم عن من تقدّمه من الائمّة واحداً بعد واحد إلی أن یصل إلی أولّهم علی امیرالوءمنین علیه السلام وهو تلقّی العلم من النّبی صلی الله علیه و آله وهو عن اللّه فهم قائلون بالوسائط بین اللّه و الائمة ولا یعتقدون انّ الشریعة یتلقّاها الامام عن اللّه بلا وساطة النبی او الامام الذی تقدّمه فراجع الکتب(1) الکلامیة حتّی ان خصومهم انّما ینازعونهم فی الاعتقاد بعصمة الامام وانّه منصوب من قبل الرسول أو الامام الذّی تقدمه ونهایة الامر یسندون نصب الامام إلی اللّه بتبلیغ النّبی صلی الله علیه و آله .

[1] اشتباه والصحیح ابی طالب

[1] هذا لیس بصحیح فالشیعة الامامیة کما سبق یشترطون فی الاخذ بالحدیث شروطاً منها الاطمینان بصدوره عن المعصوم وهذا الشرط مفقود غالباً فی ما یرویه اهل السنّة عموماً نعم فی موارد ومتفرّقة توفّرت القرائن علی الصدور والصدق فی مایرویه عدّة منهم فیقبل الحدیث ویصطلح علیه ، بالموثق قبال الصحیح الذی رواته کلّهم فی کلّ طبقة امامیّون عدول .

[1] هذا لو صّح ففی بعض البلاد الزاماً وافحاماً للخصم .

ص: 187

[1] هذا افتراء لو عمّ کلامه الشیعة الامامیة فلا موجب لذلک لفنائهم وتوفّر المصادر الحدیثیة الواردة عن أئمتهم علیهم السلام فی اکثر الموارد لو لا کلّها وتحرجهم عن الکذب والوضع ومن نسب الیه لا یقبلون حدیثه لو صحّت النسبة مضلاً عن من عرف بالکذب والوضع .

[1] هذا ایضاً غلط فی الاستنتاج واشتباه فی البحث والتّنقیب اذ کلّ باحث له ادنی معرفة باصول العقائد الشیعیة یعرف یقیناً بان لا منشأ ولا مرجع لعقائدهم فی الامامة وما یتعلّق بها إلاّ اتکّاءهم علی کونها وراثة عن النّبوة وکما ان النبی لیس من شأن آحاد النّاس ولا جماعاتهم نصبه وبعثه کذلک الامام فلابد من النصب من قبل اللّه والنّص من النّبی أو الامام السابق طریق إلی معرفة النصب الإلهی .

[1] لقد حقّق العلاّمة الفاضل الشیخ الامینی قدس سره فی مواضع من کتابه القیّم الغدیر کذب نسبة الشیعة والتشیع إلی عبداللّه بن سبا(1) ،وقبله المحقون تعرّضوا الذکره فی کتب الرجال الحدیث(2) بیّنوا وحقّقوا خروجه عن الاسلام وانه علیه السلام قتله بعد استتابته منها (3/94 ج 3/266 _ 267) وابان الستر عن وجوه الاساطیر المختلفة حول عبد اللّه بن سبا التی طالما تداولتها اقلام المورخین والباحثین وحول جماعة کثیرة خرقها واختلقها سیف بن عمر التمیمی النافذ البصیر والباحث المتتبع اسلامیة السید مرتضی العسکری ویجدر بالمباحث مراجعة ما(3) نشر حتی یتبین المخالفی الشیعة والمتحاملین علیهم من بضاعة کاسدة ومستندات واهیة وقصص ضالیة ولقد

ص: 188

أنصف بعض علماء السنة وهو الاستاذ محمّد کرد علی فیما ذکره فی کتابه(1) خطط الشام قال اما ما ذهب الیه بعض الکتاب من أن مذهب التشیع من بدعة عبداللّه بن سبا المعروف بابن السوداء فهو وهم وقلّة علم بتحقیق مذهبهم ومن علم منزلة هذا الرجل عند الشیعة و برائتهم منه ومن أقواله وأعماله وکلام علمائهم فی الطعن فیه بلا خلاف بینهم فی ذلک قوله بما علم مبلغ هذا القول من الصواب :

[1] لوکان غرضة تألیه الامام عند الفرس فهذا غلط واشتباه

[1] الصحیح ان عربیة کعربیة القرآن لا تعنی الاّ لغة الدین لا شیئاً آخر .

[1] هذا أیضاً جهل أو تجاهل بمذهبهم اذ تقدیس علی علیه السلام لیس یقصد به إلاّ العصمة والاّ فهو علیه السلام اوّل من فتح باب التفکیر الحر وهذه نماذج من کلماته وخطبه وکتبه علیه السلام إلی امرائه وعمّاله وغیرهم مجموعة فی نهج البلاغة فانظر فی قوله علیه السلام (2) وصیة لابنه الحسن علیه السلام لاتکن عبد غیرک وقد جعلک اللّه حرّاً :

وأبد رأیک قوله من غیر اعتماد : جهل عبادهم وأصولهم فاهل السنة لایرون باب الاجتهاد مفتوحاً ( وان تزلزل هذا الاصل اخیراً ) بل انسد عندهم من زمن العباسیین(3) .

والشیعة مفتوح بابه عندهم حتّی انّهم فی الأغلب لا یرون تقلید المجتهد المیت ابتداءً بل وکثیر منهم جتی بقاءً ولو کان لأهل السنّة طریق إلی التفکیر الحر لما ذهبوا إلی تقدیس کلّ صحابی حتّی امثال خالد بن الولید والمغیرة بن شعبة وسمرة بن جندب ومعاویة بن ابی سفیان وعمروبن العاص وأبی هریرة فتراهم یحجّون باحادیثهم ویوردونها فی

ص: 189

مجاههم التی سمیت بالصّحاح . بل البخاری منهم احتج(1) بعمران بن حطان الخارجی .

[1] استشهاد ضعیف وسبق الکلام علی المدعّی هم یشترکون فی کثیر من مباحث العدل والتوحید ویختلفون فی کثیر والکل متفقون علی مسئلة التحسین والتقبیح العقلیین . فراجع الکتب الکلامیة ومنها التجرید وشرحه للعلامة الحلّی والاخر للقوشجی ودلائل الصدق وغیرها .

[1] المناقشة فیه واضحة لامکان ان اما یشابه عقیدة الشیعة فی المعتزلة لتأثیر الشیعة فی المعتزلة فالشیعة اثّروا فیهم لاتأثروا بهم وذلک لوجود الأئمة المعصومین وحضورهم بین الناس فی أغلب الایّام والأحیان فی القرنین الاولین وإلی أزید من نصف القرن الثالث والشیعة وربما غیرهم بامکانهم استعلام المسائل الکلامیة إلی واستفهام الاحکام إلی منهم اؤتمن اخذ منهم وتعلّم من أصحابهم ورفع التحیّر عنهم تجاه الشبهات الالحادیة وغیرها التی کانت ترد علی الاسلام عموماً وعلی الشیعة خصوصاً لاسیما فی أیام عظمة العباسیین وانتشار الاراء والکتب المختلفة وترجمتها إلی العربیة وظهور الزنادقة والدهرّیة وأمثالهم وبامکانک تعرّف ذلک من الاحتجاجات التی وردت عن المعصومین علیهم السلام قبال اولئک خصوصاً عن الرضا علیه السلام فالأئمّة الشیعة حق عظیم علی کیان الاسلام والمسلمین فی حفظه وابقائه والحمایة عنه ودفع غبار الشبهات عنه راجع الاحتجاج(2) والبحار(3) .

ص: 190

ص: 191

الدار (1)، له ثلاثة فروع : دیوان المشرق ؛ ودیوان المغرب ؛ ودیوان السواد (أی العراق ) وکذلک وضع هذا الخلیفة أزمّة هذه الدواوین کلها فی ید رئیس واحد(2) ، ثم جعل الأصول کلها فی ید رئیس واحد فی سنة 300ه _ 912م(3) بحیث جاء القرن الرابع الهجری ، وإدارة الدولة تنقسم إلی ما یشبه وزارتین إحداهما للداخلیة ، وهی دیوان الأصول ، والأخری للمالیة وهی دیوان الأزمّة .

وکان کل دیوان کبیر ینقسم أقساماً کثیراً تسمی دواوین أیضاً ؛ لأنه کان لکل ناحیة دیوانُها .

ولکن لما کان الوزیر ، وهو رئیس السلطة المرکزیة ، هو الذی یتولی إدارة دیوان السواد بنفسه ، فإن کثیراً من دواوین الولایات ببغداد کانت تقوم مقام دواوین للدولة .

ولم تصل الأدارة فی الدولة الإسلامة إلی تعیین الحدود الفاصلة بین الدواوین بدقة ، وأستطیع أن أذکر منها :

(1) دیوان الجیش ، وله مجلسان : أحدهما مجلس التقریر، والثانی مجلس المقابلة .

ویجری فی الأول أمرُ استحقاقات الرجال ، ومعرفة أوقات أَعطیاتهم ، وتقدیرُ أرزاقهم ؛ فأما الثانی فیختص بالنظر فی السجلات ، وتصفُّح الأسماء ، ونحو ذلک .

وینقسم کل من المجلسین إلی أقسام خاصة بالعساکر ، مثل العسکر المنسوب

ص: 192

إلی الخاصة ، والعسکر المنسوب إلی الخدمة ، وما فی النواحی من البعوث(1) .

(2) دیوان النفقات فی بغداد؛ وأکبر مهامّه حاجات دار الخلافة وکان أکثر أرض العراق مضمَّناً ، فکان علی المتضمَّنین أن یقوموا بالوفاء بالنفقات .

وهذا الدیوان ینقسم إلی المجالس الآتیة :

(أ) مجلس الجاری ویختص بأمر استحقاقات الحَشَم .

(ب) مجلس الأنزالِ، وهو الذی یقوم بمحاسبة التجار الذین یقیمون الوظائف من الخبز واللحم والحیوان والحلوی والفاکهة ، وغیر ذلک من سائر صنوف الإقامات والأنزال .

( ج ) مجلس الکراع ، ویجری فیه أمرُ علوفة الکراع وغیره ، مثل الخیل والشهاری والبراذین والبغال والحمیر والإبل وغیره مما یعتلف من الطیر والوحش ؛ ویجری فیه أمرُ سیاسة الکراع وعلاجه ، وأرزاق القوام والراضة ونحو ذلک.

(د ) مجلس البناء والمرمّة ، وهو مجلس یکبُر ویصغُر علی حسب الخلفاء فی الأغراق فی البناء أو الا کتفاء بیسیره ؛ ویجری فیه محاسبة الزرّاع والمهندسین وباعة الجصّ والآجرّ والنَورَة والأسفیداج وأصحاب الساج والنجارین والمزوّفین والمذهَّبین وسائر الصناع .

(ه) مجلس الحوادث ؛ ویجری فیه أمر النفقات الحادثة ( أی غیر العادیة ) فی کل وجه من وجوهها .

( و) مجلس الإنشاء والتحریر.

ص: 193

(ز) مجلس النسخ(1) .

(3) دیوان بیت المال ، وهو فی بغداد یشرف علی ما یرِد علی بیت المال من الأموال وما یخرج من ذلک من وجوه النفقات والإطلاقات .

ویجب أن تَمُرّ به الکتب التی فیها حَملُ مال ، قبل انتهائها إلی دواوینها ، لتُثبتَ فیه ، وکذلک سائرُ الکتب النافذة إلی صاحب بیت المال من جمیع الدواوین بالمطالبة بالأموال .

ویکون لصاحب هذا الدیوان علامة علی الکتب والصکاک والإطلاقات ، یتفقدها الوزیر وخلفاوءه ویراعونها ویطالبون بها(2) .

وفی عام 314ه 926م صدر أمرٌ بمطالبة صاحب بیت المال ببغداد بتقدیم الروزنامجات فی کل أسبوع للوزیر ، لیستطیع معرفة ما حلّ وما قبض وما بقی ؛ وکان الرسم إذا عُملت الختمَة لم ترفع إلی الدیوان عن الشهر الأول إلا فی النصف من الثانی(3) .

(4) دیوان المصادَرین(4) ، وکانت الوثائق التی یدفع بمقتضاها فی هذا الدیوان تُکتب علی نسختین ، إحداهما للدیوان والأخری للوزیر(5) .

(5) دیوان الرسائل ، وکان یسمی فی مصر علی عهد الفاطمیین دیوان

ص: 194

الإنشاء(1)، وکان صاحب هذا الدیوان بمصر فی أوائل القرن الخامس الهجری یتقاضی فی کل شهر ثلاثة آلاف دینار ، عدا ما کان یکتبه من السجلات والعهودات وکتب التقلیدات ، فقد کان له علی ذلک رسوم یستوفیها(2) .

(6) دیوان البرید؛ وتأتی لصاحبه الکتب من جمیع النواحی ، وهو المُنفذُ لها إلی مواضعها ؛ وهو یتولی عرض کتب أصحاب البرید والأخبار فی جمیع النواحی علی الخلیفة ، أو یعمل جوامعَ لها ؛ وله النظرُ فی أمر المرتّبین فی السکک ، وتنجیز أرزاقهم ، وتقلید أصحاب الخرائط فی سائر الأمصار ، ولا غنی له ، بعد أن یکون ثقة عند الخلیفة ، عن معرفة الطرق والمسالک إلی جمیع النواحی ، بحیث یجد عنده الخلیفة من المعرفة ما یحتاج إلیه عند إنفاذ جیش أو غیره(3) .

وکانت معرفة الأخبار وإبلاغُها قد بلغت درجة عظیمة من الرقی فی الدولة الإسلامیة ؛ فقد حُکی أن الخلیفة الموفَّق أراد أن یشغل قلب أحمد بن طولون ، فدسّ من سرق نَعلَه من بیت حظیة له لا یدخله إلا ثقاته ؛ ثم بعثها إلیه ؛ فقال له الرسول :

من قدر علی أخذ هذه النعل من الموضع الذی تعرفه ألیس هو بقادر علی أخذ

ص: 195

روحک ؟(1) وکان صاحب البرید هو صاحب الأخبار الرسمی ، وکان له «عیون» یوافونه بکل جدید؛ وهذا میراث أخذه العرب عن البیزنطیین ، ففی عهد قسطنطین الأکبر کان لصاحب البرید أعوانٌ یسمَّون باسم Veredarii (وهم نقلة الأخبار الذین یرکبون الخیل ) ، وکانوا یمدّونه بالأخبار(2) .

وکان بعض المتعلمین فی ذلک الوقت یعیشون من نقل الأخبار ، کما هو الحال الیوم بالنسبة لمراسلی الصحف ومندوبیها(3) وجاء فی عهد بولایة برید ما یوجب علی صاحب البرید «أن یعرف حال عمال الخراج والضیاع فیما یجری علیه أمرهم ، ویتتبع دلک تتبّعاً شافیاً ، ویستشفه استشفافاً بلیغاً ، وینهیه علی حقه وصدقه .. . وأن یعرف حال عمارة البلاد وماهی علیه من الکمال والاختلال ، وما یجری فی دمور الرعیة ، فیما یعامَلون به ، من الإنصاف والجور والرفق ، والعسف ؛ فیکتب به مشروحا .. . وأن یعرف ما علیه الحکام فی حکمهم وسیرهم وسائر مذاهبهم وطرائقهم... وأن یعرف حال دار الضرب وما یضرب فیها من

ص: 196

العین والوَرِق ، وما یلزمه الموردون من الکلف والموءن ؛ ویکتب بذلک علی حقه وصدقه ... وأن یوکَّل بمجلس عرض الأولیاء وأعصیاتهم من یراعیه ویطالع ما یجری فیه ، ویکتب بما تقف علیه الحال من وقته ، وان یکون ما ینهیه من الأخبار شیئاً یثق بصحته ... وأن یعرض المرتَّبین لحمل الخرائط فی عمله ، ویکتب بعددهم وأسمائهم ومبالغ أرزاقهم ، وعدد السکک فی جمیع عمله وأمیالها ومواضعها ، ویوعز إلی هوءلاء المرتَّبین بتعجیل الخرائط المُنفذَة علی أیدیهم ، وإلی الموقِّعین بإثبات المواقیت وظبطها حتی لا یتأخر أحد منهم عن الأوقات التی سبیله أن یرد السکّة فیها ، وأن یفرد لکل ما یکتب فیه من أصناف الأخبار کُتُباً بأعیانها ، فیفرد لأخبار القضاة وعمال المعاون (؟) والأحداث .. . والخراج والضیاع وأرزاق الأولیاء ونحو ذلک کتباً ، لیجری کل کتاب فی موضعه »(1) ولم یکن صاحب البرید یعنی فقط بالأخبار التی تتعلق بمهام سیاسة الدولة ، بل کان علیه أن یبلغ کل ما عدا ذلک من طرائف الأخبار .

فقد حدث فی عام 300ه _ 912م أن ورد کتاب من صاحب البرید من بلدة الدینور یذکر فیه أن الموکَّل بخبر التطواف رفع إلیه یذکر أن بغلة لرجل وضعت فَلوَةً ویصف اجتماعَ الناس لذلک وتعجبهم لما عاینوا منه ، ویقول : «فوجهت من أحصر لی البغلة والفلوة ، فوجدت البغلة کَمتَاء خلوقیة ، والفلوة سویة الخَلق ، تامّة الأعضاء ؛ مُنسَدلة الذنب ، سبحان الملک القدوس ، لا معقَّب لحکمه ، وهو سریع الحساب »(2) .

ص: 197

(7) دیوان التوقیع ، وإلیه تنتهی رقاع من یسأل شیئاً عند الخلیفة ، بعد أن یراها صاحب دیوان الدار ، ویقتصّ المسألة والرقعة ویشرح حالّها ، وما لعله یکون جری فیها ؛ وبعد أن یستطلع صاحب دیوان التوقیع رأی الخلیفة فیها ، ویوقّع علیها بخطه فی دیوان التوقیع یرسل إلی صاحب دیوان الدار بنسختها أو اقتصاص ما تضمنّت ؛ ومن دیوان الدار تسرسل إلی صاحب الدیوان الذی تجری فیه المسألة (کالخراج أو الضیاع أوالمال أو النفقات ..الخ )(1) .

وکان الفصل فی أمر الرقعة یکتب علی الرقعة نفسها توقیعاً من الخلیفة أو کاتبه .

وقد بلغت هذه التوقیعات أقصی ما یمکن أن تبلغه من الاختصار ، والبلاغة ، وإظهار ذکاء موقَّعها وقدرته علی حسن الفصل وإصابة الغرض .

وکان البلغاء یتنافسون فی تحصیل توقیعات جعفر بن یحیی البرمکی ، الذی کان یلی دیوان التوقیع للرشید ، لیقفوا منها علی أسالیب البلاغة وفنونها ، حتی قیل إنها کانت تباع کل توقیع بدینار(2) .

(8) دیوان الخاتم ، وبه تمرُّ وتُثبَت فیه الکتبُ التبی یحتاج إلی ختمها بخاتم أمیرالموءمنین ؛ وذلک بعد أن یمرَّ الکتاب علی دواوین عدة وبعد المقابلة(3) .

(9) دیوان الفضّ ، ومنزلة هذا الدیوان من الخلیفة منزلة مجلس الاسکدار فی دیوان الخراج من المتولی له ، أن سبیل الکتب التی ترد من العمال فی النواحی إلی أمیرالموءمنین أن یکون ابتداوءها به وخروجها إلی الدواوین منه ، بعد فضّها

ص: 198

وأخذ جوامعها لیقرأها الخلیفة ویوقع فیها بما یراه .

وکان هذا الرسم جاریاً فی أول الأمر ، لما کان الخلفاء هم الذین یتولون النظر فی الکتب بأنفسهم ؛ ثم آل ذلک إلی الوزیر ، فصار هو المتولّی لفض الکتب وإخراجها إلی الدواوین ، وانتقل عملُ دیوان الفض إلی حضرة الوزیر ، وصار المتولّی له کاتباً برسمه فی دارالوزیر(1) .

وفی حوالی عام 300ه _ 912م قُلّد دیوان الفض ودیوان الخاتم لرجل واحد ، وکان جاریهما أربعمائة دینار ودینار(2) .

(10) دیوان الجهبّذة ، ویجری فیه من الأموال مالُ الکسور والکفایة والوقایة وما یجری مجری ذلک من توابع أصول الأموال ، ثم ما یزیده شرارُ الجهابذة من الفضول علی هذه التوابع بسبب إعنات من علیه مال من أهل الخراج ومن یجری مجراهم فی النقود والصروف ، وما یرتفقون به من التقدیم والتأخییر عمن یتعذّر علیه الأداء فی وقت المطالبة .. فإن بعضهم لما وجد ذلک فی بعض النواحی زاد فی ضمان البجهبذة بتلک الناحیة علی من هو ضامن لها ، ووقع النزاید فی هذه الوجوه بالظلم والعدوان علی الرعیة وسائر من یقام لهم الجاری ، وتُطلَق لهم النفقة ، حتی توافی مال الجهبذة إلی جملة وافرة أصل أکثرها عدوان(3) .

(11) دیوان البر والصدقات(4) .

ص: 199

وکان أصحاب الدواوین فی أوائل القرن الرابع الهجری علی ثلاث طبقات(1) .

وکان صاحب دیوان السواد یقبض أعلی مرتّب بین أصحاب الدواوین ، وهو خمسمائة دینار فی کل شهر .

وکان صاحب دیوان المشرق أو دیوان الخاصة مثلاً یقبض مائة دینار فی کل شهر(2) .

وفی عهد الخلیفة المعتضد (289 _ 279ه 902 _ 892م ) بلغت أرزاق أصحاب الدواوین کلها من أکابر الکتّاب إلی الخُزّان والبوّابین والأعوان ، وثمن الصحف والقراطیس والکاغد أربعة آلاف وسبعمائة دینار فی الشهر ، وذلک عدا ما کان یقبضه الوزراء ، وعدا أزراق کتّاب دواوین الإعطاء وخلفائهم علی مجلس التفرقة وأصحابهم وأعوانهم وخُزّان بیت المال؛ فإن هوءلاء یأخذون أرزاقهم مما یوفّرونه من أموال الساقطین وغُرَم المخلّین بدوابّهم(3) .

فکانت المرتَّبات التی یتقاصاها هوءلاء تتوقف علی مقدار یقظتهم وعنایتهم .

علی أن الأرزاق کانت تطلق فی الأسبوع الأول من الشهر(4) .

وفی أوائل القرن الرابع ظهر رسمٌ جدید ، ثم صار رسماً کثیرا ما لجأ إلیه الحکام ، وهو ألا یعطی أصحاب الأزراق أعطیاتهم عن السنة کاملة ؛ ففی عام 314ه _ 926م اقتُصر فی أرزاق معظم العمال علی عشرة أشهر فی کل سنة ؛ وکان صغار أصحاب الأرزاق أکثرهم عرضة للغبن ؛ فمثلا اقتُصر فی أرزاق

ص: 200

أصحاب البُرُد والمنفقین علی جاری ثمانیة أشهر(1) .

وکان یستعاض عما یفقده بعض أصحاب الدواوین بتقلیده دواوین أخری ؛ فمثلا فی حوالی عام 300ه _ 912م کان یتولی دیوان الأزمَّة والتوقیع وبیت المال رجل واحد(2) .

وکان علی رأس کل ولایة رجلان :الأمیر (وهو قائد الجیش ) ، والعامل؛ ویسمی هذا الأخیر صاحب الخراج ، لأن أکبر واجباته حملُ خراج الولایة إلی خزانة الدولة ؛ وهو الذی یتولی الإنفاق علی الولایة مما یحصل لدیه من الأموال ، لأن خزانة الدولة العامة کانت لا تتولی إلا أمر نفقات دار الخلافة والدواوین وما یتعلق ببغداد(3) .

وکان الأمیر یخاطب فی المراسلة بما یخاطب به العامل ؛ وکانت منشورات الوزیر ترسل لکل منهما فی وقت واحد(4) .

ولکن الأمیر کان یمتاز علی صاحبه لأن له الصلاة بالناس ، هذا یجعله رئیس المسلمین جمیعاً فی ولایته(5) ؛ وإذا تضافر الأمیر والعامل استطاعا أن یفعلا بالولایة ما شاءا، کما حدث فی عام 931 _ 319م من أن العامل والأمیر تضافرا بفارس وکرمان علی قَطع حَمل الأموال إلی الخلیفة المقتدر ببغداد مدة

ص: 201

طویلة(1) .

ولو أن رجلا واحداً قُلَّد المنصبین معاً لأصبح کالحاکم المستقل بولایته.

ونظراً لما فی اجتماع هذین المنصبین من المزیة امتنع بجکم ، القائد الترکی الطموح ، من المسیر إلی الأهواز لتولی أمورها عام 325ه _ 937 م إلا أن یکون له الحربُ والخراجُ ، فأُجیب إلی ذلک (2).

وقد کانت ولایة مصر علی قسمین : والٍ للحرب والصلاظ ، واخر للخراج وتدبیر الأموال ، حتی جاء ابن طولون فجمع بین الولایتین ، وکذلک فعل الأخشید ، وکان کل منهما فی الواقع حاکما مستقلا فی مصر (3).

ویشکو دیونیسیوس nov suisynoid erhcamlletالمتوفی عام 229ه _ 843م فی آخر کتابه فی التاریخ ، من کثرة عدد العمال ؛ لأنهم بهذه الکثرظ یغتصبون عیش الفقیر بکل الوسائل (4) ؛ ففی مدینة الرقة مثلا ، وهی مدینة صغیرة علی نهر الفرات کان یوجد :( 1) قاض ، (2) وکاتب سلعة یعرف بالبندار ، یطالب بالخراج ووجوه المال ، (3) وصاحب جند ، (4) وصاحب برید ینهی أخبار الولایة للخلیفة ، (5) ومتولٍّ للضیاع السلطانیة (الصوافی ) ، (6) وصاحب معونة (5) و کان یوجد مثل هوءلاء الولاة فی کل « عَمَل » من اعمال الدولة

ص: 202

السامانیة (1) وکان أکثر هذا العدد الکبیر من العمال یخرجون بخروج الوزیر الذی عینهم ، وعند ذلک یطلون متعطّلین فی شوارع بغداد ، یثیرن الفتن حتی یعود حزبهم إلی ولایة الحکم ج کما کان الحال فی أسبانیا وفی الولایات المتحدة منذ عهد غیر بعید ج وإلاب شغبوا فعکّروا هدوء البلاد.

ویحکی أنه قدم مرة علی صاحب أصفهان شیخ من الکتّاب یطلب التصرُّفَ، ویحمل کتباً من إخوان لصاحب أصفهان ببغداد یوصونه به ، فقرأ الحاکم أول کتاب ، ولم یقرأ باقی الکتب ، وضجر ، وتغیظ ، وقال :« قد واللّه بُلینا بکم معاشرَ المتعطّلین ! کل یوم یصیر إلینا منکم واحد یرید تصرُّفاً أو برّاً ، ولو کانت خزائن الأرض لی لکانت قد نفدت » (2).

وکان من دهاء عضد الدولة أنه کان یوصل إلی العمال المتعطّلین ما یقوم بهم ویحاسبهم به إذا عملوا (3).

وکان الإخشید أول من ربّب الرواتب (4) ؛ وقد أقرّ الفاطمیون نظامه فی جملته؛ وکانوا ینوون ، فیما یلوح ، أن یقسَّموا حکم البلاد بین أولیائهم ؛ والدلیل علی ذلک أن جوهراً وإن کان قد ترک العمال فی مناصبهم ، فإنه لم یدَع عملا إلا جعل فیه مغربیا شریکا لمن فیه (5). ولکن لما ظهر أن هوءلاء المغاربة أکثر إتعاباً

ص: 203

للدولة من غیرهم لم یتمّ ما کان مُزمَعاً من إخراج العمال القدماء ، وهم نصاری فی الغالب .أما الأرزاق فلدینا من أخبار الإدارة الفاطمیة أن الوزیر کان یتقاضی خمسة آلاف دینار فی کل شهر ، وهو مثل مرتب صاحبه ببغداد ؛ أما رواتب أصحاب الدواوین فکانت أقل بکثیر مما فی بغداد ؛ فکان صاحب دیوان الإنشاء یأخذ مائة وعشرین دیناراً ، وصاحب بیت المال مائة دینار ، وأصحاب الدواوین الأخری ما بین سبعین وثلاثین دیناراً فی کل شهر . وفی القرن الثالث الهجری عیشن أحدُ أصحاب دویان الرسائل رجلا أتاه یطلب الکتابة ، وکان یعطیه فی کل شهر أربعین دیناراً لیقوم بالإجابة علی الرسائل التی ترد إلی الدیوان (1)

وعلی حین أننا لا نجد بین قواد الجیش إلا أسماء قوم من الموالی فإن وظائف الدواوین کانت وقفاً علی الأحرار، « وکان الفرس هم شُحنة دواوین الخلافة ..

فمنهم البرامکة ،وآل ذی الریاستین ، وإلی یومنا هذا منهم المادرائیون والفریابیون (2).

ولما کانت الصبغة الغالبة علی عمال الدواوین هی الصبغة الاقتصادیة المالیة ، فقد کان لابد للواحد منهم من أن تتوفر لدیه بعض خصال التاجر ، وکان الفارسی أمهر تاجر فی المملکة الذسلامیة . ولاتزال الکفایة الإداریة موروثةً فی الفرس إلی یومنا هذا ، فیحدثنا الخبیر النمساوی الذی قام بتنظیم البرید فی فارس « أن

ص: 204

کل فارسی یحسی من نفسه الصلاحیة لکل عمل ، وهو لا یترددّ فی أن یدخل الیوم عملا إداریا مدنیابً ، ویقوم به ؛ ثم یکون غداً فی منصب حربی »(1) .

وهذه من خصال الفرس القدیمة ؛ ویحکی أنه کان لبختیار بن معز الدولة کاتبٌ فارسی ، وکان مستولیاً علیه ؛ ثم تحقَّق بالجندّیة ، وادَّعی الشجاعة ، وأعاره الناس من ذلک ما لم یکن عنده ، تقرُّباً إلیه ، ثم عزم أخیراً علی تقلد الجیش والنسمیة بالاسفهسلار ؛ ولکنه اضطر إلی الفرار من بغداد عام 358ه _ 969م(2) .

وکان الاشتغال فی الدواوین یختلف عن عمل الفقهاء والعلماء کل الاختلاف ؛ فکان المشتغل بإدارة الدواوین هو ممثل الثقافة الأدبیة، وکان لا یعالج العلوم الشرعیة إلابمقدار ما یتطبه عمله وثقافته .

أما التمایز الظاهری بینهم فکان یتجلی فی أن الکتابت یلبس درباعة ، علی حین أن العالم یلبس الطیلسان (3) ویحکی أن الوزیر العتبی أراد أن یلزم أباعبداللّه بن أبی ذُهل ( المتوفی عام 378ه _ 988م ) تَقشلبُد دیوان الرسائل ، فقال له : هذا قضاء القضاة بکور خراسان ، ولا یخرج عن حد العلم ؛ ولکن ابن أبی ذهل بکی وهدّد بترک البلد ، حتی أعفاه الوزیر من ذلک (4). علی أن الخلفاء کانوا یأبون أن یستوزروا العلماء وأصحاب الطیالس ؛ وقد أشیر علی الخلیفة المقتدر أن یستوزر محمد بن یوسف القاضی فقال : لعمری إنه عالم ثقة ، ذلا أننی لو فعلتُ ذلک لا فتضحت عند ملوک الإسلام

ص: 205

والکفر؛ لأننی أکون بین أمرین : إما أن تُتَصَورّ مملکتی بأنها خالیة من کاتب یصلح للوزارة ، فیصغُر الأمر فی نفوصهم ، أو أننی عدلت عن الوزراء إلی أصحاب الطیالس ، فأُنسب إلی سوء الاختیار (1)

وهذه الطائفة من الکتّاب أکبر ما یمیز الدولة الإسلامیة عن أوروبا فی أوائل العصور الوسطی ، حیث کان لا یتولی العمل بالدواوین إلا أهل الثقافة الدینیة ؛ ولم یکن ذلک من الخیر للإسلام ، لأن العمل فی الدواوین بما ینقصه من تعمق وما یوءدی إلیه من رکود عقلی کان یندر أن ینشئ عقولا تأخذ بحظ فی الحرکة العقلیة ؛ وکان العمل فی الدواوین ملجأ ملائما للأدباء الذین لم ینشأوا فی الأوساط الدینیة ، وهم المتعلمون الذین صاروا بعملهم فی الدواوین مجردین من البواعصث الداخلیة والخارجیة التی تدفع العقل إلی العمل ؛ ولا یزال « الأفندی » الراضی عن نفسه ، بثقافته السطحیة وقلة دوافعة إلی التفکیر، عقبة فی طریق التقدم حتی یومنا هذا ، وهو أخطر علی التقدم من رجل الدین الیق الأفق والمحدود النظر(2).

وقد جاء فی خبر یرُوی عن عُمشرَبن الخطاب رضی الله عنه ، ما یضع القواعد الأساسیة لما ینبغی أن یکون علیه العامل .

فیحکی عن عمر أنه کان إذا استعمل رجلا اشترط علیه إربعاً : ألا یرکب برذونا ، ولا یلبس ثوبا رقیقاً ، ولا یأکل نقیا (؟) ولا

ص: 206

یغلق بابه دون حوائج الناس ولا یتخذ جاجباً (1).

ولکن المال لعب فی القرن الثالث الهجری دوراً سیئاً فی حیاة عمال الدواوین ، وکان لکل شئ ثمن یبذل وخصوصاً لمناصب الدواوین (2) وکان العامل متی تقلّد المنصب حاول أن یسترد ما خسره مستعیناً علی ذلک بالخیانة ؛ فکان العمال مثلا یعینون أرزاقا لقوم لا یحضرون إلی العمل ، وأرزاقا بأسماء قوم لم یخلقوا ، وکانوا یقَّیدون برسم الفقهاء والکتاب مرتباتٍ بأسماء الغلمان والوکلاء فی الحاشیة ؛ وکانوا یصرفون الورق الوقراطیس ، ثم یبیعونه فیحصل لهم منه مال (3).

وکان عامل مصر یقبض ثلاثة آلاف دینار فی کل شهر ، وهو مبلغ کبیر ؛ ولکن کان علی العامل أن یسدد نفقات دیوانه ، وکان یعلم أن رزقه لا یکفی نظراً لکثرة الهدایا التی یبعث بها إلی الأمیر والوزیر والخلیفة . وقد شکت إحدی خظایا الخلیفة مرة من مماطلة بعض أصحاب الدواوین فی تسلیم إقطاع وهبه لها الخلیفة ، فقال لها : کان الطواب أن تبعثی إلیه بثیاب وألطاف ف فتستغنی عن خطابی ، ففعلت ما نصحها به ،وتمّلها ما أرادات (4). ویصف ابن المعتز الولاة فی بعض شعره ، حیث یقول:

أفما تری بلداً أقمتُ به أعلی مساکن أهله خُصُّ

ص: 207

ووُلاتُه نَبَطٌ زنادقة *** ملأی البطون ، وأهله خُمصُ (1).

وکان أهل التُّقی فی ذلک الوقت یعتبرون عمال السلطان والفُسّاق فریقاً واحداً ؛ کما جمع العهد الجدید بین المذنبین واخذی الظرائب الجمرکیة .

ویحکی أنه بلغ من دِین بعض أهل الورع إنه امتنع من نقش فص للأمیر ، فزاد فی الأجرة حتی بلغت مائة دینار ، فأبی الرجل ؛ ثم جاء إلیه بعد ذلک تاجر فأعطاه علی نقش بعض الفصوص عشرة دراهم ، فأخذها ، وذلک اجتهاداً منه فی ألا یأخذ الحرام (2).

وقد کان یضرب المثل بزهد جعفر بن مبشّر ، وقد أضرَّت به الحاجة ، حتی کان یقبل القلیل من زکاة إخوانه . وقد أُعجب أحدالتجار بحسن کلامه مرة ، وعرف مسکنته ، فأرسل إلیه خمسمائة دینار ، فردّها فقیل به : قد عذر ناک فی ردّمال السلطان للشبهة ، وهذا تاجر مالُه من کسبه ، فلا وجه لردّک له (3).

وحکی أن بعض المتصرَّفین احتبس أبا علی اُلجبَّائی للطعام ، فأجابه ؛ فأنکر رجلٌ ذلک علیه ، فقال له : ألَستَ تعلم أن طعامه الذی یقدمه إلینا مما یستریه ، وأن الغالب أنهم یشترونه لا بعین المال ، أفما تعلم أن ذلک ملکه ، وأنه مما یحلّ له تناوُله (4).

ص: 208

« وکان أحمد بن حرب بن حرب یوما علی طعام مع قوم وفدوا علیه من کبار نیسابور ووجوهها ، إذ دخل ابنه فی الغرفة سکران یغنَّی ویلغب ، ولم یسلّم علی القوم ؛ ولما رأی أحمد دهشتهم سألهم : ما بکم ؟ فقالوا خجلنا من أن یدخل علیک ولدک علی هذه الصورة ، فقال لهم أحمد :ذنه مغذور ، فقد أکلت أما وزوجتی لیلة من طعام بعثه إلینا جارٌ لنا ، وفی هذه اللیلة حُمل بهذا الغلام ، فنمنا ، ولم نصلّ ، فلما کان من الیوم التالی سألنا جارنا : من أین هذا الطعام الذی بعث به إلینا ، فعلمنا أنه من طعام ولیمة عرس فی دار أسعد عمال السلطان»(1).

وکان بعض الناس لا یسلم علی عامل السلطان بما تجری به العادة من قول: السلام علیکم، بل کان البعض یقول جاداً أو مستهزئاً: تب من عمل السلطان و قد تاب رجل مرة من عمل السلطان ؛ ثم طُلب لتقلیده عملاً جلیلاً ، فکسر الثوبة ، فسماه الناسس المرتدّ (2).

ونادراً ما کان الرأی العام یعتبر قلة الأمانة فی إدارة الدواوین شیئاً یخلّ بالشرف . ویعجب الموءرخون حین یجدون أحد کبار العمال من أهل الأمانة . ومما یحکیأنه توفی فی عام 314ه 926م صاحبُ بیت مال العامة ؛ فأراد الوزیر أن یقبض أمواله ، واشتد فی المطالبة؛ ولکنه لم یجد شیئاً ، لأن ذلک الرجل کان « صحیح الأمانة » (3).

وکثیراً ما کان یترک العمال فی مناصبهم أو یعاودن إلیها بعد ترکها مع الشبهة فی أمانتهم ؛ وذلک بعد أن یدفعوا ما یقرُّر علیهم. علی أن هذا لم یکن یقع دائماً.

ص: 209

أما مصادرة العمال فإننا نعرف من مصدر جدیر بالثقة أن الأخشید ، صاحب مصر ، وکان رجلا مالیا ماهراً ، هو أول من نکب عماله وکتَّابه مراراً (1).

فهو موءسّس نظام مصادرة العمال وفرض الأموال علیهم . وکان العامل إذا صو در وثُقل علیه عب ءُ المصادرة تبرّع له أصحابه ، وجمعوا مالاً للتخفیف عنه (2) .

وقد صادر الحاکم بأمر اللّه أحد أصحاب الدواوین ، وقطع یدیه عام 404ه _ 1013م، ثم أکمل بقیة تصرفاته الغریبظ ، فقلّده دیوان النفقات عام 409ه _ 1018م ، بل قلده الوزراة عام 418ه _ 1027م(3).

علی أن السنَّة الفاسدة التی جری علیها حال الدواوین فی دولة الخلفاء تجلّی أثرها السئ فی ظهور مرض لحق بحرفظ الاشتغال فی الدواوین ، کما أن لکل حرفة مرضاً ؛ وذلک هو التهافت الشدید علی الألقاب ، والتکاف فی أسالیب المکاتبات . وقد بدأ هذا فی القرن الرابع ، وبقی إلی الیوم . وفی المکاتبات الرسمیة کانت تُوجَّه عنایةٌ کبیرة إلی العنوانات وتعضیم شأن المخاطَب وإلی الإسهاب فی ذلک ، علی حین کان یختم الخطاب ویوقع علیه فی إیجاز علی خلاف عادة الأوربیین . وقد بدأ هذا منذ القرن الثالث الهجری ، وذلک أن العادة کانت جاریة فی المکاتبة بین الناس بأن یقال : من فلان إلی فلان أو من أبی فلان إلی أبی فلان ؛ ولم یکن علی شئ من العنوانات دعاء ، حتی جاء الفضل بن سهل

ص: 210

فی خلافة المأمون ، فکتب کتاباً عنوانه: لأبی فلان أبقاه اللّه من أبی فلان (1) .

ثم استعمل الناس بعد ذلک الدعاء علی عنوانات الکتب . وقد انتهت إلینا المخاطبات المختلفة التی کان الوزیرس یخاطب بها العمال علی اختلاف درجاتهم فی القرن الرابع الهجری .

فکان یکتب إلی أمیر الشام وأجنادها: أعزَّک اللّه ومدَّ فی عمرک وأتم نعمته علیک وإحسانه إلیک ؛ وإلی الزُّرّاع والمهندسین : حفظک اللّه وعافاک َ؛ وإلی أصحاب البُردُ ممن یتقلد الأعمال الجلیلة : أکرمک اللّه ومدَّ فی عمرک ؛ وأتم نعمته علیک وأحسانه إیک ؛ وإلی التجار والمبتاعین للغلاّت إذا جُمعت للواحد منهم أعمالس : عافانا اللّه وإیاک من السوء (2) .

وکان الوزراء والکبراء فی ّأول القرن الرابع یخاطبون بسیدنا أو مولانا ، ویستعمل فی ذلک ضمیر المخاطب المفرد. وفی عام 374ه _ 984م کان ابنُ سعدان الوزیرُ یخاطب الوزیرَ ابن عباد بالصاحب الجلیل. والصاحبُ ابنُ عباد یخاطب ابن سعدان بالأستاذ مولای ورئیسی(3).

ویقول أبوبکر محمد بن العباس الخوارزمی (4) ( المتوفی عام 383ه _ 993م) فی هذه الألقاب :

مالی رأیت بنی العباس قد فتحوا *** من الکنُنی ومن الألقاب أبوابا

ص: 211

ولقّشبوا رجلاً لو عاش أوّلُهم *** ماکان یرضی به للحش بوَّابا

قلَّ الدراهم فی کفّی خلیفتنا *** هذا فأنفق فی الأقوام ألقابا

وفی عام 429ه _ 1037م لُقَّب قاضی القضاة الماوردی بلقب أقضی القضاة ؛ وجری من بعض الفقهاء إنکارٌ لهذه التسمیة ، وقالوا : لایجوز أن یسمّی به أحدٌ ، هذا بعد أن کتبوا خطوطهم بجوار تلقیب جلال الدولة بملک الملوک الأعظم ، فلم یلتفت إلیهم الماوردی ، واستمر له هذا اللقب ذی أن مات ، ثم تلقَّب به القضاة بعده (1).

وقد حاول الخلیفة الحاکم بأمر اللّه أن یلغی الألقاب ؛ فبعد أن سخا فی منح الألقاب علی اختلاف أنواعها؛ أسقطها عام 408ه _ 1017م ما عدا ألقاب تسعة نفر ، هم أکبر حملة الألقاب ، ولکنه أعاد الألقاب ، ولکنه أعاد الألقاب ، ولکنه أعاد الألقاب بعد قلیل (2).

علی عادته الجاریة من نقض وإبرام . ویقال إن أبا الحسن کاتب الخلیفة القادر باللّه (422 _ 381ه 1031 _ 991م) هو مخترع لفظ « الحضرة » فی المخاطبة ؛ وفی هذه المسألة الصغیرة أیضاً نجدنا حتی الآن نسیر علی رسم القرن الرابع . وهذا الکاتب هو مخترع عبارة : الحضرة العالیة الوزاریة ؛ وهو أول من أخرج عبارة : الحضرة الممقدسة النبویة فی الکلام عن الخلیفظ ، وأشرک بذلک عبارة : السُدَّة النبویة ، ثم کتب عن الخلیفة بلفظة غریبة غیر مستقیمة الدلالة وهی :«الخدمة» وتصرف فی ذلک حتی قال : قالت الخدمة فوفعلت الخدمة ، وسُئلت الخدمة ، حتی رأیت بخط أبی الحسن بن أبی الشوارب فی ترجمة رقعة :

ص: 212

« خادم الخدمة الشریفة فلان بن فلان »(1).

وقد لقَّب الخلیفة القائم وزیرَه ( قتل عام 450ه _ 1058م) بألقاب هی :رئیس الروءساء ، وشرف الوزراء ، وجمال الوری (2).

أما بین القضاة فقد بقی الرسم القدیم جاریاً ، فکان قاضی القضاة یوقع للقضاة بما یقول فیه :«أبو فلان ، فلان بن فلان القاضی أیده اللّه یفعل کذا »، وإلی قضاة النواحی :« فلان بن فلان الحاکم »، بغیر کنیة ولا دعاء ولا ذکر قضاء(3).

وفی عهد المقتدر کانت تغلق الدواوین فی دار الخلافة یومی الجمعة والثلاثاء ، وقد أمر المقتدر ( 289 _ 279ه 902 _ 892م) بذلک «لأن یوم الجمعة یوم صلاة ، وکان یحبه ، لأن موءدّبه کان یصرفه فیه عن مکتبه؛ ولأن الناس یحتاجون فی وسط الأسبوع إلی الراحة والنظر فی أمورهم ، والتشاغل بما یخصُّهم »(4).

ص: 213

ص: 214

الحارث بن وهب احد بنی لیث بکر بن کنانة، و قال له ما قلاصٌ و اعبدٌ بعتها بمأة دینار؟

قال خرجت بنفقة لی فاتّجرت فیها، قال و انا و الله ما بعثناک للتجارة ادّها.

ووجّه إلی عمرو بن العاص محمّد بن مسلمة لیشاطره علی ما یدیه فلما کان الغد واحضر ماله جعل محمّد یأخذ شطراً و یعطی عمراً شطراً الی آخره.

و یقول (1) سلیم بن قیس الهلالی فاغرم عمر بن الخطّاب تلک السنة جمیع عمّاله انصاف اموالهم لشعر أبی المختار (ذکره قبل ذلک) و لم یغرم قنفذ العدوی شیئاً و قد کان من عمّاله و ردّ علیه ما اخذ منه و هو عشرون ألف درهم و لم یأخذ منه عشره و لا نصف عشره و کان من عمّاله الذین اغرموا، أبو هریرة و کان علی البحرین فاحصی ماله مبلغ 24000 فاغرمه 12000 إلی آخره.

ص: 215

ص: 216

جمیع القواد ، مع أنه لیس إلا رئیس الکتاب ، ومع أن الدولة قامت فی الأصل علی أساس حربی ؛ وکان هذا الوضع الجدید إحیاءً لنظام التدرُّج فی المناصب ذلی أن تنتهی برئیس أعلی ، وهو النظام القوی الذی کان موجوداً فی تاریخ الشرق القدیم .

علی أنه لما عاد القائد موءنس المظفّر إلی بغداد فی عام 312ه _ 942م، رکب الوزیر طَیارَهُ للسلام علیه ، ولتهنئیته بمقدمه ،وهذا ما لم تَجرِ به عادة الوزیر ، ومالم یفعل مثلَه وزیرٌ من قبل؛ حتی إن الوزیر لما خرج لینصرف خرج معه موءنس إلی أن نزل فی طیاره ، وقبّل یدَه (1).

وفی أول القرن الرابع کان رسم الوزیر فی لباسه هو رسم سائر العمال ، فکان یلبس دَرّاعةً وقمیصاً ومُبَطَّنة وخُفّاً (2) ؛ وکان السواد هو اللباس الرسمی (3) أما فی أیام الاحتفالات الرسمیة فکان یرتدی ثیاب الموکب ، وهی قیبشاء وسیفٌ بمنطقة ، ومع هذا عمامة سوداء ، وهی الجزء الذی لا ینزعه الوزیر من لباسه الذی یلبسه عادة (4).

ص: 217

وکان الخلیفة یخلع علی الوزیر هذه الثیاب ، التی هی رسم الوزارة ، عند تقلیده ؛ فیرکب الوزیر من داره إلی دار الخلافة ، وبین یدیه الحجاب والقواد والغلمان ، ثم یعود إلی داره ، وهم معه . ویصف الموءرخون ذلک ، ولا یهلمون أن یذکروا بعض ما کان یقع من الأمور النادرة ، فُیذکر مثلا أن بعض الوزراء دخذه البول ، وهو فی طریقه إلی منزله ، فنزل وهو فی خِلشع الخلیفة إلی دار أحد عمال الدواوین ، فبال عنده وأمر له بزیادة فی رزقة (1).

وإذا وصل الوزیر إلی داره حضر الناس علی طبقاتهم للسلام والتهنئة . وکان الخلیفة یرسل له مالا وثیابا وطیباً وطعاماً وأشربة وثلجاً(2).

وکذلک انتهی إلینا العمل الیومی لأحد الوزراء حوالی عام 300ه _ 912م ، مع الإشارة ذلی أن أخلاقه ، وهو وزیر، کانت مثلها وهو صاحب دیوان؛ « فکان من رسم الوزیر ( ابن الفرات ) أن یغدو إلیه الکتاب ، فیواقفهم علی الأعمال ، ویسلّم إلی کل منهم ما یتعلق بدیوانه ، ویوصیه بما یرید وصاته به ، ثم یروحون إلیه بما

ص: 218

یعملونه من أعمالهم ، فیواقفهم علیها ، وعلی ما أخرجوه من الخروج وقضوه من الأمور ، ویقیمون إلی بعض من اللیل ؛ وإذا خفّ العمل ، وقد عُرضت علیه فی أثناء الکتبُ بالنفقات والتسبیبات والحسبانات، نهض من مجلسه ، وانصرف الجماعة بعد قیامه (1)؛ وفی مثل هذا المجلس کان الکتاب یجلسون أمام الوزیر ، کلٌّ فی مکانه ، ومعه دواته ، وکان رئیس هوءلاّء الکتاب یجلس متقدماً علیهم (2).

وکان الوزیر یحتفط بصورة من الواثائق المهمة ، ویضعها فی جملة سجلاته ، وکانت هذه ، متی عُزل ، تنقل إلی دار من یخلفه فی الوزارة . ولما تقلد ابن الفرات الوزارة بعد علی بن عیسی عام 304ه 916م کادت هذه السجلات أن تبلغ سقف الخزانة التی کانت فیها (3).

ویذکر أن بعض الرقاع الهامة السرّیة کانت تُحفظ فی سفط خیزران یکتب علیه بخط الوزیر: ما یحتفظ به من المهمات : وکان السقط یسختم بختم الوزیر(4).

وکانت دار الوزیر حتی عام 320ه _ 932م هی الدار التی کانت قدیماً لسلیمان بن وهب علی الشاطئ الشرقی لنهر دجلظ ، والتی کانت تسمی دار المحرَّم ؛ وکان ذرعها یربو علی ثلثمائة ألف ذذاع . وقد أُرید تحصیل مال من هذه الدار الواسعة التی کانت تقع فی حی من أغلی أحیاء بغداد ثمناً ، « فقُطَّعت وبیعت من جماعة من الناس بمال عظیم ..

وصُرف ثمنها فی مال الصلة لبیعة القاهر

ص: 219

باللّه (1)» ؛َ وأعدت للوزیر دار أحد ءبناء الخلفاء (2).

وکان یقف علی باب دار الوزیر کثیرٌ من الرجال لحراستها ؛ وقد بلغ من کثرتهم أنه کان ربما أُ خذ منهم ثلاثون رجلا فی وقت واحد ، وأُنفذوا فی أمر مهم (3).

وکان فی مجلس الوزیر غلمان مسلَّحُون یسیرون بین یدی الوجوه من الناس ، ویخرجون بین یدی الوزیر دائما، یجرُّون سیوفهم ، والناس یشاهدونهم(4).

وکان رسم الوزیر ألا یذهب ذلی دار الخلافة إلا فی أیام الموکب ، وکان ذلک فی یوم الاثنین والخمیس فی أوائل القرن الرابع (5) ؛ وقد جری الرسم أن یسایر الوزیرَ إذا رکب ذلی دار الخلافة واحدٌ من کتّابه الّأربعة الذین یتولون الدیوان (6)

وکانت للوزیر فی دار الخلافة دار مفردة یجلس فیها ، والخواص والحواشی بین یدیه ،حتی یستدعیه الخلیفة . ومنذ عام 312ه _ 924م صار یجلس فی دار الحاجب متقرَّباً إلیه ومداراً له ، فکان هذا دلیلا علی تناقص منزلته (7).

وکان الوزیر یجلس فی مجلس الخلیفظ موالیاً له بوجهه ، وهی عادة المرءوس بالنسبة إلی رئیسه . وأذا أراد الوزیر أن یکتب شیئاً فی حضرة الخلیفة ،

ص: 220

فقد کان الرسم أن تُخضشر له دواة لطیفة بسلسلة فیمسکها بیده الیسری ، ویکتب بیده الیمنی ؛ وقد رأی الخلیفة المقتدر مرة مشقة ذلک علی وزیره علی بن عیسی ، وهو یکتب کتاباً هاما بحصرته ، فأمر بأن یقف بعض الخدم فیمسک الدواة إلی أن یفرغ من الکتابة ، وکان علی بن عیسی أول وزیرأُکرم بهذا ،ثم صار رسماً للوزراء بعده (1).

وکان للوزیر فی الأوقات التی یکون فیها بدار الخلافة نائب ٌیقوم فی الدار لمهمّ عساه یعرض (2)، وکان للوزیر من بین خدم الخلیفة قوم یعوّل علیهم فی مراعاة أخباره (3).

وکان الخلیفة هو الذی یعین وزیره ، وکان فی العادة یقرّ وزیر الخلیفة السابق فی منصب الوزارة ؛ وفی عام 300ه _ 912م أراد الخلیفة أن یختار لنفسه وزیراً ، وطلب من أحد ثقاته قبول الوزارة ، فامتنع لکبر سنّه ، فأرسل إلیه الخلیفة أسماء رجال کثیرین لیرشح منهم من یراه أهلا للوزارة ، فکتب تحت اسم کل واحد منهم بما رآه ، وأشار بتعیین رجل کان قاضیاً ، فظن الخلیفة أن وزیره غشّه ولم یخلص فی النصح ؛ ولما سُئل الخلیفة فی ذلک.

قال لعمری إنه (القاضی ) عالم ثقة ، إلا أننی لو فعلت ذلک لا فتضحت عند ملوک الإسلام والکفر ، لأننی أکون بین أمرین : أما أن تُتَصَوَّر مملکتی بأنها خالیة من کابت یصلح للوزارة ، فیصغر البأمر فی نفوسهم ، أو أننی عدلت عن الوزراء

ص: 221

إلی أصحاب الطیالس ، فأنسَب إلی سوء الاختیار (1) علی ّأنه حوالی هذا الوقت تقلد القاضی المروزی ( المتوفی عام 334ه _ 946م) ببخاری وزارة الأمیر السامانی صاحب خراسان (2).

وکان الزمان زمان أرستو قراطیة ، حتی أدی الحال إلی نشوء جیل لکل طائفة من أصحاب المناصب ؛ فکان هناک وجوه الحضرة من أولاد الوزراء والکتّاب والأمراء والأشراف ، وکان أولاد الزراء هم الطبقة العلیا بین أبناء العمال (3).

وکانت المناصب أحیاناً وراثیة ؛ فقد ذکر أن الوزیر ابن مقلة خلفه ابنُه ، وهو فی الثامنة عشرة (4) ؛ وکذلک تولی أبوالفتح بن العمید الوزارة بعد أبیه ، وله من العمر إحدی وعشرون سنة (5) ،وقد ولی الوزارة من آل خاقان أربعة وزراء فی سبعین عاماً ، وکذلک تقلد أربعة من بنی الفرات الوزارة فی خمسین سنة ؛ وکان ابن العمید وزیراً لعماد الدولة رأس أسرة بنی بویه وموءسس مملکتهم ، وکان ابنه وحفیده وزیرین لرکن الدولة .

أما بنو هوهب ، وأصلهم من نصاری العراق ، فقد توارث عشرة منهم أرقی مناصب الدولة ؛ وکان أربعة منهم وزراء (6)

وقد ولی الوزارة واحد من بنی هوب عام 319ه _ 931م ، وکان فی شبابه

ص: 222

مبذراً مسرفاً ، وقد ضیق علیه أصحاب المطالبات حتی أمر القاضی بالحجر علیه ، ووسضع تحت الوکالة ؛ ولذلک کان من صدق فراسة موءنس القائد أنه خشی أن هذا الوزیر سیکون سیئ التصرف فی أمور الدولة ، کما کان سیئ التصرف فی أمواله (1)

ومما یزید الأمر خطورة أن أهم عمل للوزیر هو إدارة مالیة البلاد ، فهو الذی یعمل الدخل والخرج، ویقرض الضرائب أو یسقطها (2)، ویحصّل الأموال من النواحی (3)

وفی عام 303ه _ 915م شغب الغلمان والرجالة علی الوزیر یطلبون الزیادة ، فمضوا إلی داره وأحرقوا بابه ، وذبحوا فی إصطبله دوابَّه (4) .

وجمیع الوزراء الذین استعفوا أو عُزلوا فی القرن الرابع إنما فشلوا أمام الصعوبات المالیة وفی عام 334ه _ 946م سمع الوزیر أبوالفضل السلمی وهو فی داره لیلة جَلَبَة الخیل ، وعلم أن غوغاء العسکر قد اجتمعوا یوءلّبون ویلقون علیه الذنب فی تأخیر أرزاقهم ، فدعا بالحلاق ، فحلق له رأسه ، واغتسل بماء ساخن ، ولبس الکفن ، ولم یزل لیلته یصلی ؛ ثم دخل الجند علیه وقتلوه ، وهو ساجد؛ وکن هذا الوزیر فقیهاً مناظراً ومحدثاً حافظاً ، وکان یصوم الاثنین والخمیس ، ولا یدع صلاة اللیل ، وولی الوزارة للسلطان وهو علی ذلک ، وکان

ص: 223

یسأل اللّه الشهادة ، حتی وقع له ما وقع (1)

وکانت سنة 334ه _ 946م أهم سنة فی تاریخ الوزراء ؛ ففی هذا الوقت دخل بنو بویه بغداد ، وقام کاتبُ الأمیر الذی غلب علی تدبیر الأمرو مقام الوزیر ، وبطل رسم الوزارة (2).

وقد تکلم هلال الصابی فی کتابه تاریخ الوزراء عن أهم وزراء القرن الرابع الهجری ، وهو یقسمهم إلی وزراء الدولة العباسیة « وکتّاب » الأیام الدیلمیة (3).

ولذلک یحکی أن جوهراً أیام فتحه لمصر توقّف فی مخاطبة أّبی الفضل جعفر ابن الفرات فی کتابه بالوزیر ، ولم یخاطبه بذلک إلا بعد مراجعة ، وقال : ماکان وزیر خلیفة (4) أما عند الفاطمیین فکان اسم الوزیر غیر مقبول فی أول الأمر ، وکان قاضی القضاة أجلّ أرباب الوظائف عندهم ، ولم یتخذ خلفاوءهم وزراء إلاّ فی عهد الخلیفة الفاطمی الثانی ، العزیزباللّه(5).

وهو الوزیر ابن کلّس الذی کان یهودیا فأسلم ( وتوفی عام 380ه _ 990م) . وقد حدثنا القلقشندی فی العصور المتأخرة عن منصب قاضی القضاة فقال :«وإذا کان ثُمّش وزیر لا یخاطب بقاضی القضاة لأن ذلک من نعوت الوزیر (6) .

ویقول المقریزی إنه بعد موت ابن کلّس لم یستوزر العزیز باللّه أحداً ، وإنما

ص: 224

کان ثَمَّ رجلٌ یلی الوساطة والسفارة ، واستقر ذلک فی جماعة کثیرة بقیة أیام العزیز وسائر أیام الحاکم ، ثم ولی الوزارة أحمد بن علی الجرجرائی فی أیام الظاهر ، ومال زال الوزراء من بعده واحداً بعد واحد (1). ولم یکن جمهور الناس یفطن لهذا التمییز بین الوزیر والوسیط أوالسفیر؛ وکذلک نجد یحیی بن سعید مثلا حوالی عام 400ه _ 1010م یستعمل فی کلامه لفظ الوزراء من غیر تفرقة بین الوزیر والسفیر أوالوسیط .

ولم تکن مهمة الوزیر إذا کان وزیراً لأحد أمراء الأطراف هی بعینها مهمة وزیر الخلافة ؛ وقد لُقّب الوزیر الفضل بن سهل ، وزیر المأمون ، من بین وزراء الدولة الأولین بلقب ذی الریاستین ؛ وربما کان ذلک لأنه کان خبیراً بشوءون السیف والقلم(2).

ولکن الصفة الحربیظ للوزیر لم تکن بارزة فی ذلک العهد، ولم یلِ الوزارة قائدٌ خبیر إلاالحسن بن مخلد الذی تقلد وزارة المعتضد ، وخُلع عام 272ه _ 885م (3).

أما عند آل بُوَیه ، فقد کان الوزیر یقوم بمهام الوزارة وبقیادة

ص: 225

الجیوش فی المعارک (1) ، بل نجد أدیباً مُبرُّزاً کالصاحب بن عباد یقوم الجیوش فی أیام وزارته(2).

ومما یدل علی سقوط هیبة الوزراء ، ویدل أُیضاً علی فظاظة الطبع أن الأمیر معز الدولة ببغداد، وکان أَمیراً حدیداً سریع الغضب ، ضرب وزیره أَبا محمد المهلَّبی ، وهو من المهالبة الذین کانوا حکاماً من قدیم علی عهد بنی أمیة مائة وخمسین مقرعة ، ووکّل به فی داره ؛ ولکنه لم یعزله من وزارته؛ وشاور معز الدولة مَن حضره، وقال : هل یجوز أن أستنیم إلی هذا الرجل ، وقد لحقه منی هذا المکروه العظیم ؟ فقال له أحد من استشاره إن مرداویج قد ضرب وزیره أعظم من هذا الضرب ، حتی کان لا یطیق المشی ، ولا یقدر علی الجلوس لما حلّ به ، ثم خلع علیه وردّه إلی أمره (3).

ثم جاء بختیار بن معز الدولة ، وکان غیر کف ء للملک ، فاستوزر صاحب مطبخه (4) فی سنة 362ه _ 973م، وهو الوزیر ابن بَقیة الذی کان « یقدَّم الطعام

ص: 226

إلیه ، ویحمل الفضایر بیده ویتّشح بمنادیل الغمر ، ویذوق الألوان عند تقدیمه َإیاها (1) ؛» ولکن ابن عمه وهو السلطان عضد الدولة ، قبض علی أبی الفتح بن العمید وزیر أبیه ، وکان ابن العمید قد أسرف فی الاتصال بالعدو ، فسمل عینیه وقطع أنفه (2).

وطلب من ابن عمه ، عز الدولة بن معز الدولة ، أن یسلّم له ابن بقیة لأمور ساءته منه ، فسُلّم إلیه مسمولا ؛ فأمر عضد الدولة بأن یشهر فی العسکر علی جمل ، ثم طُرح إلی الفیشلة ، وأُضریت علیه ، فقتلته شر قتلة ؛ وصُلب علی شاطئ دجلة (3)

وقد اجتاز أحد أصدقاء هذا الوزیر المنکود ، الذی ارتکب کثیراً من ضروب القسوة (4) فرثاه بقصیدظ طویلة جیدة منها:

ولما ضاق بطنُ عن أن *** یضمَّ عُلاک من بعد الوفاة

أصاروا الجوَّ قبرک واستعاضوا *** عن الأکفان ثوب السافیات(5).

وقد أحدث عضد الدولة فی منصب الوزارة شیئین لم یکونا قبله ؛ أولهما أنه اتخذ وزیرین معاً ؛ والثانی أن أحد هذین الوزیرین ، وهو ابن منصور نصر بن

ص: 227

هارون ، کان نصرانیا ؛ وقد أبقی عضدُ الدولة نصراً علی بلاد فارس وطنه ، وأحذ الوزیر الثانی ، وهو المطهّر هذا معروفاً بشراسة وخبث فی أخلاقة ؛ وکان سیئ الفکر ، فلما وجّهه عضد الدولة إلی البطیحة لاستثصال اللصوص منها ، والتاث علیه الأمر ، خشی النخفاض منزلته عند عضد الدولة وتغیرَه له ، وأشفق من تذرُّع أعدائه بذلک للطعن علیه وإظهار معایبه ، فاختار الموت علی ذلک ، وأخذ سکیناً فقطع بها شرایین ذراعیه جمیعاً ، وسال دمه حتی مات (1). وکان الوزیر الذی جاء بعده خلیفة لنصربن هارون الذی کان مقیما بفارس یدبّر أعمالها ، ولم یکن الوزیران علی وفاق ، بل کان کل واحد یدبّر المکاید لصاحبه(2).

ولما جاء بهاء الدولة جری علی رسم أبیه فعین ، وهو بشیراز ، وزیرین عام 992 _ 382م ، وجعل أحدهما مدبَّراً لأمور العراق (3) ولما مات الصاحب ابن عباد سنة 384ه _ 994م ، بعد أن دبّر أمور الوزارة بفارس أحسن تدبیر ، وقعت مساومة شائنة حول هذا المنصب ، وذلک أن أحد الولاة أرسل یخطب والوزارة ویضمن ثمانة آلاف ألف درهم ، فبذل الوزیر الذی کان فی الوزارة ، إذا ذاک سیة آلاف ألف درهم علی إَقراره فی الوزارة ، فأشرک السلطان فخر الدولة بینهما فی الوزراة ، وسامح کلا منهما بألفی ألف درهم من جملة ما بذل ، وجمع بینهما فی النظر ، ورتّب أمرهما علی أن یجلسا فی دَست واحد ، ویکون التوقیع لهذا یوماً والعلامة للآخر؛ وکانا یتقارعان علی من یخرج لقیادة الجیوش ، ثم سعت بنهما

ص: 228

السعاة ،ودبر أحدهما للآخر فقتله (1).

وأخیراً صار للوزیر النهصرانی بالمشرق نظیر فی مصر ، ففی سنة 380ه _ 990م قلّد الخلیفة الفاطمی العزیزُ باللّه وزارتَه لعیسی بن نسطورس (2).

علی أن الوزراء لم یبرء وا من الرغبة فی الألقاب التی عظم أمرها حوالی عام 400ه ، والتی تدل دلالة واضحة علی تدهور المجتمع فی ذلک العصر.

وفی عام 411ه _ 1020م أکرم أمیرُ بغداد وزیرهَ ، فأمر بأن تَضرب الدبادب أمام داره فی أوقات الصلاة ، وهو ما کان ینفرد به السلطان وحده ، وکذلک لقّبه بلقب وزیر الوزراء (3) ، وسرعان ما استعمل الخلیفة الحاکم ( المتوفی عام 411ه _ 1020م ) هذا اللقب الجدیدی الذی کان له أثر عظیم ، فلقّب قطبَ الدولة علی بن جعفر بن فلاح وزیرَ الوزراء ذا الریاستین الأمیر المظفر قطب الدولة (4).

أما الهلال الصابی الموءرخ ( المتوفی عام 447ه _ 1055م) ، فیعتبر ّأن مخاطبة الملوک المدبَّرین لوزرائهم بأمثال هذا اللقب هی من انقلاب الرسوم وتغیر حقائق الّأشیاء (5).

وفی سنة 416ه _ 1025م خلع جلال الدولة ببغداد علی وزیرة ولقبّه عَلَم الدین سَعد الدولة ، أمین الملَّة ، شرف الملک ؛ فکان هذا الوزیر أول من لقّب

ص: 229

بالألقاب الکثیرة (1) وهذه الجالة تشبه ما علیه الشرق الیوم ، وإذا قارنّا بین الوزیر فی ذلک العصر بما صار یمله من ألقاب وبن سلفه ممن لم تکن فهم ألقاب لوجدنا أنه بالنسبة لهم لم یکن له شئ من القوة والسلطان.

الوزراء فی القرن الرابع الهجری

سنبدأ بالکلام عن علی بن الفرات ، وهو الذی خلف أخاه العباس فی منصب الوزراة عام 296ه _ 909م .

وکان علی حین تقلّد الوزارة فی الخامسة والخمسین من العمر . وکان وزیراً واسع الثروة حتی یقول الطولی :« وما سمعنا بوزیر جلس فی الوزراة ، وهو یملک من العین والورق والضیاع والأثاث ما یحیط بعشرة آلاف غیر این الفرات» (2) . وقد ظهر فی منصبه بمظهر الفخامة التامة ،فکان یجری علی خمسة آلاف إنسان ما بین مائة دینار فی الشهر إلی خمسة دراهم ، وکان یطلق للشعراء فی کل سنة من سنی وزارته عشرین ألف درهم رَسماً لهم ، سوی ما یصلهم به متفرَّقاً ، وعند مدیحهم إیاه ، وکان فیمن یدعی إلی طعامه کلََ یوم تسعة کُتّاب ، هم خاصة کُتّابه ، وکان منهم أربعة نصاری .

وکانت ألوان الطعام توضع وترفع علی مائدته أکثر من ساعتین ، وکان له فی داره مطبخان : مطبخ الخاصة ، ولا یمکن أن یحصی ما کان یدخله من الحیوان لکثرته ، ومطبخ العامة الذی یختص بما یقدّم إلی الحجّاب المقیمین بالدار ویفرَّق

ص: 230

منه للرجّالة والبوابین وأصاغر الکتَّاب وغلمان أصحاب الدواوین ، وکان یقدَّم إلی هذا المطبخ کل یوم تسعون رأساً من الغنم ، وثلاثون جدیا ، ومائتا قطعة دجاجدا سماناً ، وفراریج مصدَّرة ، ومائة قطعة درَّاجا، ومائتا قطعة فراخا ، وهناک خبازون یخبزون الخبز لیلا ونهاراً، وقوم یعملون الحلواء عملا متصلا، ودار کبیرة للشراب ، وفیها ماذیان یجعل فیها الماء المبرّد ، ویسقی منه جمیع من یرید الشرب من الرجَّالة والفرسان والأعوان والخُزَّان ، ومن یجری مجراهم من الأتباع والغلمان ؛ وکان بالدار مزمّلات فیها الماء الشدید البرد . وبرسم خزانة الشراب خدمٌ نظاف علیهم الثیاب الدبیقیة السریة ، وفی یدکل واحد منهم قدح فیه سکنجبین أو جُلاّ ب ومخوض وکوز ماء، ومندیل من منادیل الشراب نظیف ، فلا یترکون أحداً ممن یحضر الدار من القواد الخدم السلطانیین والکتاب والعمال إلا عرضوا ذلک علیه (1) . وکانت داره مدینة بذاتها ، حتی کان بها فوجان من الخیاطین (2) .وکان فی جانب الدار أدراج کثیرة لأصحاب الحوائج والمتظلَّمین ، حتی لا یلتزم أحد منهم موءونة لما یبتاعه من ذلک (3) ؛ ولما خُلع علی هذا الوزیر خِلعَ الوزارة زاد فی ذلک الیوم ثمن الشمع قیراطاً فی کل مَنٍّ ، وزاد سعر القراطیس لکثرة استعماله لهما ، ولأنه کان من رسمه ألا یخرج أحد من داره وقت العشاء إلا ومعه شمعة منویة ودرج منصوری . وقد سُقی فی داره فی ذلک الیوم واللیلة إربعون ألف رطل ثلجاً(4) ، وجری رسمه مدة وزارته أن یعطی

ص: 231

کلُّ من یخرج من داره عند اصفرار الشمس شمعة (1) .

وفی عام 311ه _ 923م اتخذ ابن الفرات مارستانا ببغداد ، وکان ینفق علیه مائتی دینار من ماله فی کل شهر (2) . وکان هذا الوزیر یحمل بین جنبیه نفسه کبیرة ، فلقد قُدَّمت إلیه جرائد بأسماء من یعادیه ، ویدبّر فی زوال أمره ، فلم یفتح الصنادیق التی کانت فیها ، وأحرقها وقال لمن کان حاضراً: واللّه لو فتحتُها وقرأت ما فیها لفسدت نیاتُ الناس کلَّهم علینا ، واستضعروا الخوف منا ومع فعلنا ما فعلناه طوینا الّأمور بهذا ، فهدأت القلوب واطمأنت النوفس (3).

ولما فسد أمره عند المقتدر وتألب علیه الجمیع أشار علیه بعض المشیرین أن یقسُّط علی نفسه وکتّابه وعُماله ما یحمله للخلیفة ، فیرضی عنه ، فقال :« فأی شئ أقبح بی ، مع علوّ همتی ، وکثرة نعمتی ، من أن أسنشئ أصحاباً وعمّالا ، یلون بولایتی ، وینکبون بنکبتی ، وبتصرّ فی ، ویتعطلون بعطلتی ، ثم أزیل نعمهم وأحوالهم بیدی وفی أیامی : القتل واللّه أهون من ذلک » (4).

وحُکی أن رجلا اتصلت عُطلَتُه ، وانقطعت مادته ؛ فحمل نفسه علی أن زوَّر کتاباً من أبی الحسن بن الفرات إلی عامل مصر للوصایة به والإحسان إلیه ، فارتاب العامل بالخطاب وارتبط الرجل عنده علی وعد ، وأنفذ الکتاب إلی ابن

ص: 232

الفرات ؛ ورأی ابن الفرات أن یستشیر کُتاّبه ، فأشار بعضهم بالتأدیب أو بقطع إبهامه أو بکشف قصته للعامل حتی یطرده ویحرمه ، فقال ابن الفرات :« ما أبعدکم من الخیریة ! رجل توسبل بنا ، وتحمل المشقة إلی مصر فی تأمیل الصلاح بجاهنا ، واستمداد صنع اللّه ورزقظ بالانتساب إلینا ، تکون أحسن أحواله عند أجملکم محضراً تکذیبُ طنه وتخیبُ سعیه ! واللّه لا کان هذا أبداً » ؛ ثم أخذ القلم ووقع بخطه علی ظهر الکتاب المزورَّ یوصی به ، ویقول إن الکتاب کتابه (1).

ولما نُکتب الوزیر علی بن عیسی وتذلّل لا بن الفرات لا بن الفرات حتی قبُّل یده وقام لابنه المحسَّن ، وکان ابن عشر سنین ، قال ابن الفرات بعد انصراف علی : رأیتم تَظامُنَ علی بن عیسی للنکبة واستعانته علیها بالاستعطاف والتذلُّل ، وهذه طریقة لا أحسانها ، لأن کبدی فی المحن کإکباد الإبل ، لا جرم أنها نزداد وتتضاعف (2).

وقد أکسبته الخدمة الطویلة خبرة بشوءون الوزارة و إدارة الدولة ؛ وقد استطاع أن یسیطر علی حیاة الدولة الاقتصادیة المتشعبة سیطرة کاملة ، حتی استحق من وجوه کثیرة أن یقول علی بن عیسی لما کُذِب علیه بموت ابن الفرات: الیوم ماتت الکتابة (3) ومن حِکَمه السیاسیة القاسیة قوله : أصل أمور السلطان مَخرَقةٌ، فإذا تمّت واستحکمت صارت سیاسة ، وقوله :تَمشِیةُ أمور السلطان علی الخطأ خیر من وقوفها عند الصواب ؛ وکان یقول : إذا کانت لک حاجة ذلی الوزیر . فاستطعت أن تقضیها بخازن الدیوان أو کاتب سرّه فافعل ولا تبلغ إلیه فیها (4).

ص: 233

علی أنه لم یتحرّج ولم یتهیب من مدّیده إلی خزانةّ الدولة ؛ بل أضاف هو وأخوه کثیراً من ضیاع السلطان إلی أملا کهما ، وعظم دَخلُهما ؛ وقد وجد أعداوءه من الطعن فیه أنه لما صودر وُجد فی ودائعه ما هو مختوم بختم أبی خراسان خازن المعتضد علی بیت مال القلعة ، ووُجد عنده مالٌ أکثره محمول من بیت مال الخاصة (1) قال أبوعلی بن مقلة کاتب ابن الفرات ، وقد جری ذکر هذا الوزیر : « یا قوم ! هل سمعتم بمن سرق فی عشر خطوات سبعمائة ألف دینار ؟ قلنا :کیف ذلک ؟ قال کنت بین یدی ابن الفرات فی وزارته الّأولی ، نحن فی دار الخلافة نقَرّر أرزاق الجیش ، ونقیم وجوه مال البیعة ونرتَّب إطلاقه، وذلک عقیب فتنة ابن المعتز ، فلما فرغ مما أوءاده خرج ورکب طیارَه ، وبلغ نهر المعلَّی ، فقال: إننا للّه إنا للّه ! قفوا ! فوقف الملّاحون ؛ فقال لی : وقَّع إلی إبی خراسان صاحب بیت المال بحمل سبعمائة ألف دینار تُضاف إلی مال البیعة ، وتُفَرَّق علی الرجال ، فقلت فی نفسی : ألیس قد وجّهنا وجوه المال کله ؟ ما هذه الزیادة ووقّعت بما رسمه ، وعلَّم فیه بخطه ، ودفعه إلی غلام ، وقال :لا تنزح من بیت المال حتی تحمل هذا المال الساعة إی داری ، ثم ذکر أنه باب لا یبفق مثلُه سریعاً ، ویحتمل ما احتمله من هذا الاقتطاع الکثیر ، فاستدرک من رأیه ما استدرک ».(2).

وکان الوزیر علی بن عیسی زمیل ابن الفرات من قبل ومنافسه من بعد یخالفه مخالفة تامة . وینتمی علی بن عیسی إلی أسرة قدیمة من الکُتَّاب (3) ؛ قال

ص: 234

معاطره الصولی : ولا أعلم أنه وزر لبنی العباس وزیر یشبهه فی زهده وتعبُّده ؛ فقد کان یصوم نهازه ویقوم لیله (1).

وکان یخرج نصف ما یرتفع له فی السنة فی أبواب البز وسبل الخیر (2) وکان متهاونا قلیل المبالاة حتی إنه لم یستطع أ ن یغیر طبعه فی کلامه عند مخاطبة الخلیفة ، وذلک علی عکس ابن الفرات، مما أحفظ الخلیفة علیه (3).

وقد طلب الأخفش اللغوی ( المتوفی عام 315ه) من علی بن عیسی أن یجری علیه زرقا ، ووسّط فی ذلک أبا علی بن مقلة ، فانتهره علی بن عیسی انتهاراً شدیداً فی مجلس حافل ، فشق ذلک علی ابن مقلة ، وقام من مجلسه « وقد اسدودّت الدنیا فی عینیه »؛ ووقف الأخفش علی الصورة فاغتم وقیل إنه قبض علی قلبه فمات (4).

وکان علی بن عیسی متمسکا بالوقار ، ولا رُوءی قط متبذلّا ، ولا کان یفارق الخفّ فی أکثر أوقاته إلا إذا أوی إلی فراشه أو قعد مع حُرَمه (5).

وکان یستغل بالنظر فی أمور الدولة لیله ونهاره (6).

وکان یجعل وراءه کل باب مسورَّرة ، ویسبِل علیها ستراً طویلاً یغطّیها ، فإذا جلس بعد عمله الکثیر فی أخریات النهار مجلساً حافلا ألصق بها ظهرة لئلا

ص: 235

یشاهد مستنداً تمسُّکا بالوقار (1)

وقد رأینا فیما تقدم ما أصابه من الذلة والاستکانة بعد عزله من الوزارة ، وکان لتدینه وورعه یلوم ابن الفرات علی تقلیده دیوان جیش المسلمین لرجل نصرانی (2): وقد تحرّج من تقلید أبنائه الأعمالَ مدة وزارته (3) وحاول أن یتدارک العجز فی بیت المال بالاقتصاد فی الأمور الصغیرة فأنقص أرزاق العمال والجند ، وأسقط ما کان یفَرَّق علی القواد والفرسان فی کل عید ؛ وکان ذلک من شاة إلی عدة بعران ؛ وحاول أن یمنع من امتداد الأیدی إلی الأموال العامة . ولکن ابن الفرات شنَّع علیه بقوله:یا أبا الحسن علی بن عیسی ! شغلت نفسک بأخلاق المملکة والنظر فی علوفة البط والحطیطة من أرزاق الناس ، وما یجری هذا المجری من الصغار المتهجنات؛ لَعِماَرَة بیدرٍ واحد أصلح للسلطان وأَعوَدس علیه من توفیرک ما توتقرّبت به إلیه . وکان یوفرمن الأشیاء الصغیرة ویحکی أنه قضی مرة ساعة یناظر فی علوفة البط حتی إن المتولی لکیل العلوفة سأل کاتبه عن رزقه فی الشهر ، ووجد أنه یتقاضی عن الساعة عشرین دیناراً، فقال :« قد نظر الوزیر فی أکثر من ساعة لتوفیر مالایبلغ ما استحقه من الرزق ».

ولکن علی بن عیسی مع تقواه هذه وتدقیقه فی الأمور الصغیرة لم یصدُق الخلیفة حینما راسله لیقرّ بما عنده من أموال ؛ فکتب یذکر أنه لا یقدر علی أکثر

ص: 236

من ثالثة آلاف دینار ، هذا وقد وُجد له بعد ذلک عند رجل سبعة عشر ألف دینار .

ولما ضیبقوا علیه استجاب أخیراً إلی دفع ثالثمائة ألف دینار ، یعجُّل منها الثلث فی ثالثین یوما ، ویوءدی الباقی علی رسم المصادرات(1) .

وکان علی بن عیسی یوبخ أبا عبد اللّه البریدی لأنه حلف للسلطان أن استغلال ضیعته عشرة آلاف دینار، وهو فی الحقیقة ثلاثون ألفاً ، فقال البریدی إنه اقتدی بعلی ابن عیسی حیث حلف لا بن الفرات أن ارتفاع ضیعته عشرون ألفاً ، فوُجد بعد ذلک خمسین ألفاً ، فکأنه ألقم علی بن عیسی حجراً (2).

فلم یکن هذا الوزیر نقی الید تماما ، وقد فرَّط فی تضمین الشام ومصر ، وترک مالا معجَّلا إلی مال موءجَّل لا یدری ما یجری فیه ، وقد واجهه خصومه بذلک ، فلم یستطع أن یبرز هذا التصرف (3).

وقد ولی أبوعلی محمد بن عبید اللّه الخاقانی الوزراة مدة سنتین ، وذلک بین وزارة ابن الفرات وعلی بن عیسی. وکان الخاقانی هذا ابن وزیر ، وهو ینتمی إلی أسرة من الأشراف المتصلین بالخلافة . ویذکّرنا ما سجله التاریخ من أمره بکثیر من الدیمقراطیین الذین یفتحون صدورهم للعامة : کان الخاقانی متخلقا عامیا ، إلا أنه کان خبیثاً داهیا (4) ؛ فقد کان یوقّع بکل سوءال ، ویعِدُ بإنفاذ کل محال ، وکان من عادته إذا سُئل حاجة أن یدق صدره بیده ، ویقول : نعم وکرامة ، حتی لُفّبَ «دقّ صدره » وبلغ من لین العریکة وقلة البصیرة وعدم تصور عواقب الأمور ،

ص: 237

وعدم المنع من شئ یخاطب فیه أن انبسطت العامة علیه فضلا عن الخاصة (1).

وقد صُوّرت شخصیته وأحیطت بحکایات مصحکة قیلت عن غیره ، وهی تدل علی قلة الأذی أحیانا وعلی سوء السریرة أحیانا أخری ، وکانت طریقته کثرة التولیة والعزل ، فکان یعین فی المنصب الواحد رجالا کثیرین واحداً بعد واحد ، ولم یکن ذلک عن قلة تقدیر المسئولیة ، بل لیأخذ من کل منهم رشوة (2).

ویحکی أنه اجتمع فی خان واحد بمدینة خلوان ( بالعراق ) سبعةُ أنفس ، وقد فلّد الخاقانی کلَّ واحد منهم ماه الکوفة فی عشرین یوما ؛ واجتمع بالموصل خمسة آخرون قد قلّدهم منصباً آخر ، وهناک تشاکوا ما بذلوه عن تقلیدهم (3) ویذکر أن الخاقانی قلّد عمالةَ بادور یا فی أحد عشر شهرا أحد عشر عاملا (4).

وإذن فقد تقلّد منصبَ الوزارة فی أوائل القرن الرابع وزراء ثلاثة یختلف أحدهم عن صاحبه کل الاختلاف ، ولا یجمع بنهم إلا خصلة واحدة هی الخیانة التی بها النتهبوا خزانة الدولة .

أما حامد بن العباس (5) الذی ولی الوزارة عام 306ه _ 918م فقد کان علی خلاف غیره من الوزراء ؛ لأنه لم یتخرّج فی الدواوین ، بل بدأ حیاته بالاشتغال فی أمور التجارة والمال وضمان الخراج ، حتی عظم شأنه ؛ ولما ولی الوزارة

ص: 238

وکان فی الثمانین من عمره ، واحتفظ بما کان بیده من ضمانات ؛ ولم یکن یعرف شیئاً من أمور الکتابة ، ولم یکن نصیبه من الوزارة إلا اللقب والخلعة ، وکان المدّبر للأمور علی بن عیسی الذی کان وزیرا من قبل ، وقد قال ابن بسَّام الشاعر مستهزئاً بحامد بن العباس (1):

یاابن الفرات تعزّء *** قد صار أمرک آیه

لمّا عُزلت حصلنا *** علی وزیر بدایه

وقد قیل فیهما :« هذا وزیر بلاد سواد ؛ وذا سواد بلا وزیر». ولما سأل حامد بن العباس الخلیفة المقتدر إطلاق ش علی بن عیسی والإذن له فی استخلافه فی الدواوین لقلة خبرة حامد بالوزارة ، قال المقتدر : ما أحسب أن علی بن عیسی یجیب إلی ذلک ، ویرضی بأن یکون تابعاً بعد أن کان رئیسا ، فقال حامد بحضرة الناس : إنما مثل الکاتب کمثل الخیاط ، یخیط ثوبا بعشر دراهم ، ویحیط ثوبا قیمته ألف دینار ، فضحک الناس منه واستنقصوه (2) ولما ناظر حامدُ بن العباس ابنَ الفرات بعد عزله أفحش له فی القول فقال له ابن الفرات : لیس ما أنت فیه بَیدَراً تقسمه ، وأَکَّارا تشتمه وتحلق لحیته وتضربه ، وعاملا تذبح دابّته وتعلق رأسها فی عنقه ، فإنما هذا الدار دار خلیفة(3).

وقد أظهر من الأبّهة ما یظهره ذوو المجد الحدیث لا الموءثَّل ؛ فکان له ألف وسبعمائة حاجب وأربعمائة مملوک یحملون السلاح ، لکل واحد منهم ممالیک ؛

ص: 239

وکان الملاحون فی حرّاقته من الخصیان البیض ، وهم أغلی الخصیان ثمناً(1) .

وقد جری بینه وبین مفلح الأسود کلام مرة ، فقال له حامد :« لقد همت أن أشتری مائة خادم أسود وأسمیهم مفلحا وأهبهم لغلمانی »(2).

وکان ظاهر المروء ة کثیر العطاء ؛ فیحکی أن أحد خدم المقتدر شکا إلیه فناء شعیره ، فکتب له بمائة کرّمن الشعیر ؛ وکان ینفق علی الطعام کل یوم مائتی دینار ، ولا یسمح بأن یخرج من الدار أحد من الجلَّة والحاشیة والعامة وغیرهم ، إذا حضر الطعام ، إلا یأکل ، حتی غلمان الناس ؛ ورما نُصب فی داره فی الیوم الواحد أربعون مائدة . وقد أهدی إلی المقتدر بستانا أنفق علی بنائه مائة ألف دینارف ویحکی أنه رکب یوما إلی بستان له ، فرأی فی طریقة داراً محترفة وشیخاً یبکی ، وحوله صبیان ونساء علی مثل حاله؛ فلما عرف أن داره قد احترقت وأنه افتقر بألّم قلبه، وتنغَّصت علیه النزهة بسبب ذلک ، ولم تسمح له نفسه بالتوجه إلی بستانه إلا بعد أن أمر أن تُبنی الدار کما کانت ، وتوضع فیها الفراش وکل ما کان فیها ، حتی إذا عاد العشیة من النزهة وجد الشیخ وعیاله کما کانوا ، وقد بُنیت الدارُ علی أحسن مما کانت ، وأُنفق فی ذلک مال کثیر (3).

ولکن حامد بن العباس لم یتورّع من خزن الحبوب فی العراق وخوزستان وأصفهان ، بعد أن کان قد ضمن هذه البلاد بمال یدفعه للخلیفة ، حتی ارتفعت الأسعار ، وأدَّی ذلک إلی اضطراب العامة وثورتهم علیه حتی فُسخ الضمان (4).

ص: 240

أما الوزیر ابن مقلة ( ولد فی بغداد عام 272ه _ 885م) فقد نشأ من بیت متواضع (1)؛ وتقلّد الوزارّة ، وهو فی الستین من العمر ، وکان ممن استغل بین یدی ابن الفرات وارتفع بسببه (2) .

وقد تعلم منه الشی الکثیر ، ومن ذلک أنه استطاع أن یجمع کثیراً من المال فی سنین قلیلة ؛ ووزرر لثاثئة خلفاء فی أوائل القرن الرابع ، وبنی لنفسه داراً عظیمة فی بقعة من أحسن بقاع مدینة السلام .

وکان یعتقد بالنجوم ، فجمع المنجمین ، حتی اختاروا له وقت البنایة ، فوضع أساس الدار بین المغرب والعشاء وکان له بستان کبیر أنشأه بلا نخل ، وعمل له شبکه ابریسم ، وکانت تفرخ فیه الطیور التی لا تفرخ إلا فی الشجر کالقماری والدباسی والهزار والببَّغ والبلابل الطواویس ؛ وکان فیه من الغزال والبقر البدویة والنعام والإبل وحمیر الوحش .

وکان یحاول أن یجرب التزاوج بین الحیوان ، وبُشّر مرة بأن طائراً بحریا وقع علی طائر برّی ّ، فأزوجا وباضا وأقفسا ، فأعطی من بشّر بذلک مائه دینار (3).

وکان ابن مقلة صاحب موءامرات ، جریئاً فی ذلک ؛ ویتهمه الموءرخون بالأیقاع بین القاهر ( 322ه _ 934م) وجنده وبأنه شحذ نیاتهم ، و جمع کلمتهم علی قصد

ص: 241

القاهر والفتک به (1).

وقد سعی عند بحکم وعند الخلیفة الراضی علی ابن رائق الذی کان فی ذلک الحین قابضاً علی زمام الامور ببغداد و ذلک لأن ابن رائق لما صار إلیه تدبیر المملکة قبض علی ضیاع ابن مقلة (2).

ولکن الخلیفة احتال حتی قبض علیه وسلّمه لا بن رائق ، وذلک علی الرغم من أنه استشار المنجمین فی اختیار وقت للقاء الخلیفة (3) واستقر الأمر علی معاقبته بقطع یده الیمنی (4) ؛ ومن نکدا الدنیا ، کما یقول الثعالبی ، أن مثل هذه الید النفیسة تُقطع ؛ لأن خط ابن مقلة کان من أحسن خطوط الدنیا ، وهو أکبر موءسس للکتابة العربیة الجدیدة التی ظلت مستعملة طول القرن الرابع الهجری (5) . علی أن ابن مقلة بدلاً من أن یکتب بیده الیسری کان یشدّ القلم علی ساعده الأیمن ویکتب (6) ؛ غیر أنه ، رغم ما حلّ به ، واصل سعایاته ودسائسه غیر راجع عن ذلک ، فقطع لسانه بعد ثلاث سنین ، وبقی فی الحبس مدة طویلة ، حتی مات .

وقد وصف الموءرخون حال هذا الرجل فی آخر أیامه ، بعد القوة وحیاة الأشبه ؛ فیقال إنه کان لا یجد من یخدمه ، حتی کان یستقی الماء بنفسه من البئر ،

ص: 242

فیجذب حبل الدلو بیده الیسری ثم یمسکه بفیه (1).

ومن وزراء القرن الرابع أبوالعباس الخصیبی ؛ وکان یواصل شربش النبیذ باللیل والنوم بالنهار فی أیام وزارته کلها ؛ وکان ینتبه مخموراً لا فضل فیه للعمل ، فیترک فضب الکتب الواردة من عمال الخراج وقرائتها والتوقیع علیها وإخراجها ، ذلی الدواوین .

وکانت تُعمل له جوامع مختصرة لما یرد من الکتب المهمة ، فتُعرص علیه إذا انتبه ، فربما قرأها ، ، وربما لم یقرأها . فیقروءها أبوالفرج إسرائیل النصرانی ، ویوقّع فیها بحسب ما یری (2) وکان الخصیبی مشغولا بالشراب واللعب ، ولا یحسن شیئاً غیر المصادرات (3).

وقد تولی الوزارة حوالی منتصف القرن الرابع أبو محمد الحسن للهلبی ، فکان وزیراً ذا کفایة عظیمة ؛ وأصله من آل المهلّب بن أبی صفرة (4) ، فهو إذن من سادة الإسلام الأولین ، وکان وطن المهالبة بالبصرة ، حیث اتخذوا فی القرن الثالث الهجری دوراً عظیمة عرُفت بحسنها(5).

وکان أبو محمد المهلّبی ، قبل الوزارة ، فی شدة عظیمة ؛ وسافر مرة وهو علی تلک الحالة ، فلقی فی سفره عنتاً شدیداً ، واشتهی اللحم فلم یقدر علیه ، وأنشد فی ذلک الوقت شعراً تبرّم فیه بالحیاة وتمنی أن یجد أحداً یبیع له الموت فیشتریه ؛

ص : 243

وسمعه رفیق له ، فاشتری له لحماً بدرهم ، وأطعمه ، وتفارقا .

ثم تنقّلت الأحوال بالمهلّبی وتولی الوزارة ، وضاق الحال برفیقه الذی اشتری له اللحم ، وبلغه أنه تقلّد الوزارة ، فقصده ، وأنشده شعراً ذکّره فیه بعهده به ؛ فهزّت المهلبی أریحیة الکرم ، وأمر له بسبعمائة درهم وقلّده عملا یرتفق منه (1).

وفی عام 334ه _ 946م ، وهو العام التاریخی المشهور ، استولی المهلّبی علی بغداد إلی أن وردها معز بُ الدولة (2).

ونجد المهلبی قبل ذلک أی فی عام 326ه 938م وکیلا لأبی زکریا السوسی ، وکان السوسی هذا من کبار رجال المال(3).

ثم استخلفه الوزیر أبو جعفر الصیمری علی الأمور بمدینة السلام ؛ وأنا به بعد ذلک بحضرة معز الدولة ، فحسُن موقعه عند معز الدولة ومال إلیه وقرّبه ؛ فاشتد ذلک علی الصیمری ، فتطّلب للمهلبی الذنوب ، وأطلق فیه لسانه بالوقیعة (4) ولما مات الوزیر فی سنة 339ه _ 950م استکتبه معز الدولة وآثره علی جمیع الکتّاب (5) ؛ ولم یخاطب بالوزارة إلا فی سنة 345ه. (6) وکان الأصفهانی صاحب الآغانی منقطعاً إلی الوزیر المهلّبی ، کثیر المدح له ؛ وهو یصفه بأن له نظما کالدرّ ونثراً رقیقاً وقدرة علی التعبیر عن المعنی الکثیر باللفظ القلیل (7) ؛

ص: 244

ولکن المهلبی کان إلی جانب هذا قائداً محنّکا ، فمن ذلک أنه هزم صاحب عمان حینما غزا البصرة وغنم منه وأسر(1).

ولقد مات عام 325ه _ 963م وهو خارجٌ لفتح عمان ، وذلک بعد أَن لبث فی الوزارة أکثر من ثلاث عشرة سنة کان فیها یدبر أمور أکبر دیوان فی الدولة (2) ؛ وکان مخلصاً فی المحافظة علی النظام ، فردَّ رسوم الضرائب إلی ما کانت علیه قبل ظلم البریدیین (3) ؛ وکان یوءدّب العابثین ، فمن ذلک أنه قبض علی جاجب قاضی القضاة وضربه ضربَ التلف ، وکان یبلغه أن هذا الرجل عاهر « یتعرض لحُرَم الناس ممن لهنَّ خصومة أو حاجة عند قاضی القضاة» (4) ؛ولکن المهلبی کان یفعل فی بعض الأحیان ما یثیر سخطنا ، ومن أمثلة ذلک أنه تعقّب أحد العمال ، وأخذ فی التنقیر عن أمواله وفی إرهاب غلمانه حتی ظفر بالمال الکثیر ، واستعمل الدهاء والمکر والبطش فی بلوغ ذلک ، وإن کان لیس فی هذا ما یشین عند خلفاء ذلک ذلک العهد وأمرائه ، حتی إن مسکویه یذکر صنیع المهلبی معجباً بذکائه وصدق تخمینه ورضاء معز الدولة عنه (5)؛بل نجد أن المهلّبی نفسه لم یسلم من مثل هذا المصیر؛ فلما مات قبض معز الدولة علی عیاله وولده ومن دخل إلیه یوما واحداً ، حتی الملاّحین والمُکارین الذین کانوا یخدمون حاشیته ، وصادرهم جمیعا ، وفعل بهم مالا یفعل إلا بعدّ مکاشف ، حتی استظع الناس

ص: 245

ذلک واستقبحوه (1) ؛ وکان المهلبی یجد من سیده أمیراً قاسیا ، فکان یلحقه منه أذی کثیر ، حتی لقد ضربه بالمقارع مرة مائة وخمسین مقرعة (2).

ولم یکن علی وفاق مع سبکتکین القائد الترکی الذی کان أکبر ثقات معز الدولة (3) ؛ ولکن المهلبی کان له علی معز الدولة سلطانٌفی الأمور الهامة ، فلما أراد الأمیر أن یترک بغداد لم یزل المهلبی به حتی صرفه عن رأیه ، فابتنی قصره العظیم ببغداد وبقی بها (4) .

وکان ندماء المهلبی أعیان الفضل وسادة ذوی العقل (5)، من أهل الأّدب والعلوم ؛ وکانوا یجتمعون علی کثیر من الشراب والطرب . وقد تکلم مسکویه من المتحمسین للمهلبی (6)؛ وقد حدث مرة أنه صاغ دواة وَ مرقعاً ، وحّلاهما حلیة ثقیلة ، وکان بعض الکّتاب فی دیواه یتذاکرون سرَّ حسن الدواة ، وذلک علی مسمع منه وغفلة منهم ، فقال أحدهم : ما کان أحوجنی إلیها لأبیعها وأنتفع بثمنها ، فقال له آخر : وأی شئ یعمل الوزیر ؟ فأجابه :یدخل فی حر أُمُّه ؛ فلم یکن من المهلبی إلا أن أهدی الدواة ، ومعها عطایا أخری للرجل الذی تمنها (7).

ویحدثنا القاضی أبوعلی التنوخی ، معترفاً بفضل الوزیر المهلبی ؛ فیقول إنه

ص: 246

استدعاه لطداقظ کانت بینه وبین أبیه وقلده عملا ، وکان أبوعلی یلازم الوزیر ،فدخل علیه یوما قاضی القضاة أبوالسایب ، وکان أبوالسایب یبغض أبا علی بزیادة عداوة کانت لأبیه ؛ وأراد الوزیر أن یلقی فی نفس القاضی رهبة أبی علی ، حتی یرهبة ویکرمَه ؛ وعلم من خلق القاضی أنه لا یجئ إلا بالرهبة ؛ فأخذ الوزیر یکلم الفتی ، ویوهم قاضی القضاة أنه یسارّه فی أمر من أمور الدولة ، وأمور الدولة وأفهم أباعلی غرضه من هذه المسارَّة ، وأنها شدیدة علی نفس القاضی ، وقال له أن یمضی إلیه فی الغد لیری ما یعامله به ، فلما جاء إلی القاضی کاد یحمله علی رأسه (1).

وکان أشهر الوزراء أواخر القرن الرابع ابن عباد الملقب بالصاحب (2) الذی ولد عام 326 وتوفی عام 385ه 995 _ 938م، وزیر بنی بویه بالرّی .

وکان فی بدء أمره معلماً فی قریة ، ثم ترقت به الحال ، بعد أن کان من صغار الکتاب ، إلی أن بلغ منصب الوزیر المدبَّر لأمور الملک ؛ وکن الأمیر الشاب الذی استوزره والذی أنشأ له ابن عباد مملکته لا یخالفه فی دمر من الأمور ، بل حَکّمه فی کل شئ، وکان یجلّه بکل ضروب الإجلال(3)؛ ولما مات الصاحب عُمل له ما یعمل للملوک، فحضر جنازته مخدومهُ فخر الدولة وجمیع أعیان المملکة ،

ص: 247

وقد غیروا لباسهم ؛ فلما خرج نعشه صاح الناس صیحة واحدة ، وقبّلوا الأرض لنعشه ، ومشی فخر الدولة أمامه ، وقعد للعزاء أیاما(1).

وکان ابن عبّاد من الأدباء ومن المعنّیبن بأهل الأدب ؛ وقد شبّهه مادحوه بهارون الرشید ، وذلک لأنه أشبه الرشید بأن جمع حوله أحسن أهل الّلسن ، وکانت له مراسلات مع روءساء الأدباء بالشام وبغداد أمثال الرضی والصابی وابن الحجاج وابن سکّرة وابن نباته (2)، وکان فهرس کتبه عشرة مجلدات، وملک من کتب العلم خاصة ما یحمل علی أربعمائة جمل وذلک رغم أنه لم یکن خبیراً بالعلوم الإلهیة ، وأنه کان شدیدی التعصب علی أهل الحکمة والناظرین فی أجزائها کالهندسة والطب والتنجیم والموسیقی والنمنطق والعدد (3). وتُذکر له رسالة حسنة فی الطب (4)؛ ولم یکن الصاحب یقدر علی عطایا الأدباء عن سعة کما یحکی عمن تقدمه من إجزال العطاء لهم ، فقد « کان لا یزید علی مائة درهم وثوب إلی خمسمائة ، وما یبلغ إلی الألف نادر ، وما یوفی علی الألف بدیع »(5).

وکان الصاحب یعجبه الخزُّ خاصة وکان یکثر من إهدائه ، فنظر أبوالقاسم الزعفرانی الشاعر یوما إلی من فی دار الصاحب من الخدم والحاشیة ، فوجد علیهم الخزوز الفاخرة الملونة ، فکتب قصیدة یطلب فیها کسوة من الخزّ قال

ص: 248

فیها :

وحاشیة الدار یمشون فی *** ضروب من الخزّ إلا أنا

« فقال الصاحب . قرأت فی أخبار معن بن زائدة أن رجلا قال له : احملنی أیها الأمیر ! فأمر له بناقة وفرسوبغلة وحمار وجاریة ، ثم قال: لو علمت أن اللّه تعالی خلق مرکوبا غیر هذا لحملتک علیه ؛ وقد أمرنا لک من الخزّ بحبُّة وقمیص ودرّاعة وسراویل وعمامة ومندیل ومطرف ورداء وجورب، ولو علمنا لباساً آخر یتّخذ من الخز لأعطینا که »(1).

غیر أنه کان من عدم توفیق الصاحب أنه أغضب التوحیدی ، فأثار علی نفسه الذمّ من أقذع الإلسنة فی عصره ؛ علی د«ه قد وصلت إلینا رسالة من أبی حیان کتبها للصاحب ومدحه بها فی أول اتصاله به (2) ثم انتهت العلاقات بینهما بأن کتب أبوحیان رسالته فی ذمّ الصاحب ، وکان فیها من الإقذاع فی الثلب ما جعلها تعتبر جالبة للنحس والشوءم علی من یقتنیها ؛ ومع هذا فإنها من أروع آیات النثر العربی ، ومن أحسن ما کُتب فی تصویر شخصیات الناس فی القرن الرابع الهجری .

فمن ذلک أن أبا حیان یقول : وکان أبوالفضل بن العمید إذرآه قال : أحسب أن عینیه رسکّبتا من زئبق ، وعنقة عُمل بلَولَب ؛ وصَدَقَ ، فإنه کان ظریف التشثَّنی والتلَوّی ، شدید التفکک والتفتل ، کثیر التعوّج والنموّج ، فی شکل المرأة الموسسة

ص: 249

والفاجرة الماجنة (1).

وعن أبی حیان أنه وصف الصاحب بأنه لا یرجع إلی التأله والرحمة والرقة والرأفة والرحمة ؛ والناس کلهم یحجمون عنه لجراءته وسلاطته واقتداره وبطشه ، شدید العقاب ، ضعیف الثواب .. مغلوب بحرارة الرأس ، سریع الغضب ، قریب الطیرة ، حسود حقود، وحسده وَقفٌ عیل أهل الفضل ، وحقده سار إلی أهل الکفایة .. وقد قتل خلقاً ، وأهلک ناساً ، ونفی أمة ، نخوة وبغیاً ، تجبُّرا وزهوا ؛ ومع هذا یخدعه الصبی ویخلبه الغبی ، لأن المدخل علیه واسع ، والمأتی إلیه سهل ، وذلک بأن یقال له :« مولای یتقدم بأن أُعارششیئا من کلامه ورسائله منظومة ومنثورظ ، فما جُبتُ الأرض إلیه من فرغانة ومصر وتفلیس إلا لأستفید من کلامه ، وأفصح به وأتعلم به البلاغة ؛ لکأنما رسائل مولانا سُور قرآن ، وفِقُرُه آیات فرقان ، واحتجاجه من أثنائها برهان ، فسبحان من جمع العالم فی واحد ،وأبرز جمیع قدرته فی شخص ! »؛ فیلین عند ذلک ویذوب ، ولیهی عن کل مهم ، وینسی کل فریضة علیه ، ویتقدم إلی الخازن بأن یخرج إلیه رسائله مع الورق ، ویسهل الإذن علیه ، والوصول إلیه والتمکن من مجلسه .. ثم یعمل فی أوقات کالعید والفصل شعراً ، ویدفعه إلی أبی عیسی بن المنجم ، ویقول له : قد نحلتک هذه القصیدة ؛ امد حنی بها فی جملة الشعراء وکن الثالث من المنشدین، فیفعل ذلک إبو عیسی ، وهو بغدادی محکّک ، قد شاخ علی الخدائع وتحنّک ؛ وینشد فیقول الصاحب عند سماعه شعرَه فی نفسه وَوَصفشه بلسانه ، ومدحشه من تحبیره :

أُعِد یا أبا عیسی: فإنک واللّه مُجید ، زه یا أبا عیسی ! قد صفا ذهنک، وزادت

ص: 250

قریحتک وتنقبحت وقوافیک ، لیس هذا من الطراز الأول ، حین أنشدتنا فی العید الماضی ، مجالس تخرّج الناس ، وتهب لهم الذکاء وتزیدهم الفطنة ، وتحول الکودن عتیقاً .

والمحمّر جواداً ؛ ثم لا یصرفه عن مجلسه إلا بجائزة سنیة وعطیة هنیئة ، ویغایظ به الجماعة من الشعراء وغیرهم ، لأنهم یعلمون أن أبا عیسی لا یقرض مصراعا ولا یزن بیتا ، ولا یذوق عروضا .. والذی غلطه فی نفسه ، وحمله علی الإعجاب بفضله والاستبداد برأیه أنه لم یجَبَّه قط بَتخطئة ، ولا قوبل بتسوئة ، لأنه نشأ علی أن یقال : أصاب سیدنا ، وصدق مولانا ، وللّه درّه ما رأینا مثله! من ابن عبد کان مضافا إلیه ؟

ومن ابن ثوابة نقیسه علیه ؟ ومن ابراهیم بن العباس الصولی ؟ ومن صریع الغوانی ؟ من أشجع السلمی ، إذا سلک طریقهم ؟ قد استدرک مولانا علی الخلیل فی العروض ، وعلی أبی عمرو ابن العلاء فی اللغة ، وعلی أبی یوسف فی القضاء ، وعلی الإسکافی فی الموازنة ، وعلی ابن نوبخت فی الآراء والدیانات ، وعلی ابن مجاهد فی القراءات ؛ وعلی ابن جریر فی التفسیر ، وعلی إرسطاطلیس فی المنطق ، وعلی الکندی فی الحذق ، وعلی ابن سیرین فی العبارة ف وعلی أبی العیناء فی البدیهظ ، وعلی ابن کعب فی الفردوس(؟) وعلی عیسی بن کعب فی الروایة ، وعلی الواقدی فی الحفظ ، وعلی النجار فی البدل ، وعلی ابن ثوابة فی التقفیة ...

فتراه عند هذا الهذر وأشباهه یتلوی ویبتسم ، ویطیر فرحا به وینقسم ، ویقول : ولا کذی ، ثمرة السبق لهم ، وقصرنا أن نلحقهم أو نقفو أثرهم ؛ وهو فی ذلک

ص: 251

یتشاجی ویتحایک ، ویلوی شدقة ویبتلغ ریقه ، ویردّ کالاأخذ ، ویأخذ کالمتنع ، ویغضب فی عرض الرضی ، ویرضی فی لبوس الغضب ، ویتهالک ویتمالک ، ویتفاتک ویتمایل ، ویحاکی المومسات ، ویخرج فی أصحاب السماجات ؛ وهو ، مع هذا ، یظن أنه خافٍ علی نقاد الأخلاق ، وجهابذة الأحوال ؛ وقد أفسده أیضاً ثقة صاحبه به ، وتعویله علیه ، وقلة سماعه من الناصح فیه ، دلا لا ونزقا وعجبا ، واندراء علی الناس ، وازدراء للصغار والکبار ، وجبهاً للصادر والوارد ، وفی الجملة آقانه کثیرة وذنوبه جمَّة ، ولکن الغنی ربٌ غفور:

ذرینی للغنی أسعی فإنی *** رأیت الناس شرُّ هم الفقیر

وأبعهدهم وأهونهم علیهم *** وإن أمسی له حسب وخیر

ویقصیه الندی وتزدریه *** خلیلته ونیهره الصغیر

وتلقی ذالغنی ، وله جلال *** یکاد فوءاد صاحبه یطیر

قلیلٌ ذنبه ، والذنب جمّ *** ولکن الغنی رب غفور

قال : فکیف تتم له الأمور مع هذه الصفات ؟ قلت : واللّه لو أن عجوزاً بلهاء أو أمَةً ورهاء أُقیمت مقامه لکانت الأمور ، علی هذا السیاق ؛ لأنه قد أَمِن أن یقال: لِمَ فعلتَ؟ ولِمَ لَم تفعل ؟ وهذا باب لا یبفق لأحد ممن خدم الملوک إلا بجدٍّ سعید .

ولقد نصح صاحبَه الهروی فی أموال تاویة وأمور من النظر عاریة ؛ فقذف بالرقعة إلیه حتی عرف ما فیها ، ثم قتل الرافع حَنَقاً ، هذا وهو یدین بالوعید ، وقال لی الثقة من أصحابه: ربما شرع فی أمر یحکم فیه بالخطأ ، فیقلبه جذُّه صواباً ، حتی کأنه عن وحی ؛ وأسرارُ اللّه فی خلفه عند الارتفاع والانحطاط خفیة ؛ ولو

ص: 252

جرت الأمور علی موضع الرأی وقضیة العقل لکان معلماً فی مصطبة علی شارع أو فی دارٍ لتانٍ ؛ فإنه یخرج الإنسان بتفقیهه وتشادقة ، واستحقاره واستکباره ، وإعادته وإبدائه ؛ وهذه أشکال تعجب الصبیان ولا ولا تنفرَّهم عن المعلمین ؛ ویکون مرحهم به سبباً للملازمة والحرص علی التعلم والحفظ والروایة والدراسة .. قال (أبوحیان) : وکان ابن عباد یقول للإنسان إذا قدم علیه من أهل العلم : یا أخی تکلّم واستأنس وانبسط ولا تُرَع .. ولا یروعک هذا الحشم والخدم .. فإن سلطان العلم فوق سلطان الولایة .. فقُل ماشئت .. فلست تجد عندنا إلا الإنصاف ،حتی إذا استوفی ما عند ذلک الإنسان بهذه الرخارف والحیل ، وسار الرجل معه فی حدوره علی مذهب الثقة فحاجّه وضایقه ، ووضع یده علی النکتة الفاصلة والأمر القاطع ، تنمَّر له ، وتغّیر علیه ، ثم قال یا غلام : خذ بید هذا الکلب إلی الحبس ، وضعه فیه بعد أن تصُبُّ علی کاهله وظهره وجنبیه خمسمائة سوط وعصا ، فإنه معاند ضدّ ..؛ ولیس الخبر کالعیان ؛ من لم یحضر ذلک المجلس لم یر منظراً رفیعاً ورجلا رقیعاً ..وهل عند ابن عباد ة إلا أصحاب الجدر یشغبون ویحمقون ویتصایحون ، وهو فیما بینهم یصیح (1) ..کان ابن عباد لا یسکت عما لا یعرف ؛ قال لکاتبه فی بعض الأیام بعد أن وبخه وأطال :« بادر إلی عمل حساب بتفصیل باب یبین فیه أمر داری وما دخل علیه أمر دخلی وخرجی ؛ فتفرّد الکاتب أیاماً وحّرر الحساب علی قاعدته وأصله والرسم الذی هو معروف بین أهله ، وحمله إلیه ؛ فأخذه من یده وأمرّ عینه فیه من غیر تثبت أو فحص أو مسألة ، فحذف به إلیه ، وقال : أهذا حساب؟ أهذا کتاب ؟ أهذا تحریر؟ أهذا

ص: 253

تقریر؟ أهذا تفصیل؟ أهذا تحصیل؟ واللّه لولا أبی ربیتک فی داری ، وشُغلت بتخریجک لیلی ونهاری ، ولک حرمة الصبی ورعایة الآباء لأطعمتک هذا الطومار ، وأحرقنک بالنفط والقار ، وأدّبت بک کلَّ کاتب وحاسب ، وجعلتک مُثلة لکل شاهد وغائب ، أمِثلی یموَّه علیه ویطمع فیما لدیه ، وأنا خُلقت للحسابة والکتابة ؟ واللّه ما أنام لیلة إلا وأُحصل فی نفسی ارتفاعَ العراق ، ودَخل الآفاق ؛ أغرَّک منی أنی أجررت رسنک ، وأخفیت قبیحک ، وأبدیت حسنک؟ غیر هذا الذی رفعت ، وأعرف قبل وبعد ما صنعت ، واعلم أنک من الآخرة قد رجعت ، فزد فی صلاتک وصدقک ، ولا تعوّل علی قحتک وصلابة حدقتک»؛ یقول الکتابت :«فواللّه ما هالنی کلامُه ولا دحاک فی بهذیانُه ؛ لأنی کنت أعلم جهله فی الحسابة ونقصه فی هذا الباب ؛ فذهبت وأفسدت ، وأخرت وقدمت ، وکابرت وتعمدت ؛ ثم رددته إلیه فنظر فیه ، وضحک فی وجهی ؛ وقال : أحسنت ، بارک اللّه علیک ! هکذا أردت ، وهذ ا بعینه طلبت ، لو تغافلت عنک فی أول الأمر لما تیقظت فی الثانی ؛ فهذا کما تری ، أعجب منه کیف شئت »(1)

أما ابن العمید ( المتوفی عام 360ه _ 971م) فقد صوّره لنا ابنُ مسکویه فی تارخه ، وکان خازنا لدار کتبه مدة طویلة ، وبقی فی نفسه لا بن العمید صورة ودثر قویان ، حتی إن التوحیدی یهزأ بابن مسکویه ویعیبه بأنه یفسد قوله بکثرة ذکره : قال الهلبی ، قال ابن العمید ، فعل ابن العمید (2).

وقد ابتدأ مسکویة بمدح بطله بالقدرة علی الحفظ ؛ وکان لهذه المزیة فی ذلک

ص: 254

العصر قیمة ٌأکبر مما لها الیوم ؛ یقول الموءرخ :« وحدثنی غیر مرة أنه کان فی حدائثة یخاطر رفقاءه والأدباء الذین یعاشرهم علی حفظ ألف بیت فی یوم واحد ؛ وکان رحمه اللّه أثقل وزنا وأکبر قدراً من أن یتزید ..وکذلک شعره الذی جد فیه وهزل ، فإنه فی أعلی درجات الشعر ..فأما المنطق وعلوم الفلسفة والإلهیات منها خاصة فما جسر أحدٌ فی زمانه أن یدَّعیها بحضرته ، إلا أن یکون مستفیداً أو قاصداً قصد التعلّم دون المذاکرة .

ثم کان یختص بغرائب من العلوم الغامضة التی لا یدعیها أحدٌ کعلوم الحیل التی یحتاج فیها إی أواخر علوم الهندسة والطبیعة ، والحرکات الغریبة وجرّالثقیل ومعرفة مرکز الأثقال وإخراج کثیر مما امتنع علی القدساء من القوة إلی الفعل ، وعمل آلات غریبة لفتح القلاع والحیل علی الحصون، وحیل فی الحروب مثل ذلک ، واتخاذ أسلحة عجیبة بسهام تنقذ أمداً بعیداً ونوءثر آثاراً عظیمة ، ومرایا محرقة علی مسافة بعیدة جدا ، ولُطف کفٍّ لم یسمع بمثله ومعرفة بدقائق علم التصاویر ، وقد رأیته یتناول التفاحة أو ما یجری مجراها ؛ فیبعث بها ساعة ، ثم یدحرجها ، وعلیها صورة وجه قد خطها بظفره ، لو تعمد لها غیره بالآلات المعدة فی الأیام الکثیرة ما تأتی له مثلُها ؛ فدا اظطلاعه بأمور الملک فقد دلت عله رسائله . ولا سیما رسالته التی یخبر فیها باضطراب أمر فارس وسوأ سیاسة من تقدمه لها ، وما یجب أن تُتلافی به ، حتی تعود إلی باحسن أحوالها؛ « فإن هذه رسالة تُتَعلّم منها صناعُة الوزارة » ..ولما حصل بفارس علّم عضدَ الدولة وجوه التدابیر السدیدة وصناعةَ الملک التی هی « سناعة الصناعات »، ولقّنه ذلک تلقیناً ، فصادف متعلما لُقنا ؛ حتی قال عضد الدولة مراراًً : إن أبا الفضل بن العمید

ص: 255

کان أستاذنا ؛ وکان لایذکره فی حیاته إلا الأستاذ الرئیس .

وکان ابن العمید یقود الجیوش ویحضر المعارک ، وکان أسداً فی الشجاعة لا یسطلی بناره ، ولا یدخل فی غباره ؛ وکا ن یرکب العمّاریات ، ولا یستل ظهور الدوابّ لإفراط علة النقرس وغیرها علیه .وکان قلیل الکلام نزر الحدیث ذلا أذا سُئل ووجد من یقهم عنه ؛ وکان لحسن عشرته وطهارة أخلاقة أذا دخل إلیه أدیبٌ أو عالم متفرّدٌ بفنّ سکت له ،وأصغی إلیه ، واستحسن کل ما یسمعه منه استحسان من لا یعرف منه إلا قدر ما یقهم به ما یورده علیه ؛ حتی إذا طاوله ، وأتت الشهور والسنون علی محاضرته ، واتفق له أن یسأله عن شئ تدفّق حینئذ بحرُه ، وجاس خاطرُه وبُهت من کان عند نفسه أنه بارع فی ذلک الفن ؛ « وما أکثر من خجل عنده من المعجبین بأنفسهم !»؛ وکان مرکزه فی غایة الصعوبة ، وهو بین أمیر لم تکن له بین جنده هیبة إلا بالمداراة والمسامحة فی أشیاء کثیرة وإطلاق الأیدی بالبعث ، ولم یکن یستجیب إلی عمارة البلاد « خوفاً من إخراج درهم واحد من الخزانة ، ویقنع بارتفاع ما یحصل للوقت » ، وبین جند الدیلم الذین کانوا یطالبون بالمحالات ، ویثقلون موءونتهم علی الرعیة ، ویتواعدون باللیل إلی مواضع غامضة یجتمعون فیها ؛ وربما خرجوا إلی الصحراء بقدر ما یدبرون الرأی فی وجه الحیلة وترتیب ما یریدون ؛ ولکن ابن العمید استطاع علی الرغم من هذا أن یعید النظام حتی استقام الأمر ، وقامت الهیبة فی صدور الجند والرعیة ویحکی ابن مسکویه أنه کان یکفی ابن العمید أن یرفع الطرف إلی أحدهم علی طریق الإنکار ، فترتعد الأعضاء وتضطرب ، وتسترخی المفاصل، وأنه شاهد ذلک فی مواقف کثیرة . وقد استطاع

ص: 256

أن یعرف طبائع الدیلم وما فیهم من حسد وجشع ، وأنه لایملکهم أحد إلا بترک الزینة، وبذل مالا یبطهم ولا یخرجهم إلی التحاسد، وبترک التکبر علیهم ، وبالظهور فی مرتبة أوسطهم حالا. ولما رأی ابن العمید أن ابنه یحب أن یسیر فی خواص الدیلم، ویستمیل قولبَهم بالخِلَع والهدایا، ویدعوهم إلی اللعب والصید، ویستضیفهم فی الصحراء، نهاه عن ذلک ووعظه ألایسیر معهم هذه السیرة، ولکن النصحَ لم ینفع؛ فتجرّع ابن العمید غیظه، وزاد ذلک فی مرضه، حتی مات فی همذان، وهو یقول فی مجلس خلواته: ما یهلک آلَ العمید، ولا یمحو آثارهم من الأرض إلا هذا الصبی، یعنی ابنه؛ وکان یقول فی مرضه: ما قتلنی إَلا جُرَع الغیظ التی تجرّعتها منه(1).

ص: 257

ص: 258

انه کان ینفذ إلی بغداد فی السنة خمسة آلاف دینار تفرق علی الفقهاء و الأدباء، و قیل عنه لم یرفی احد من أهل العالم مثل ما رأی فیه من الکرم و السماحة، و مما یریبنا لصدق المؤلف و ان کان الذئب علی من نقل عنهم. توجد هم من تشیعه.

فقد کتب فی رقعة الاموی الذی جاءه مستعطیاً مادحاً لنفسه و للصاحب بابیات.

انا رجل یرموننی الناس بالرفض *** فلا عاش حربی لدی علی خفض

ذرونی و آل المصطفی خیرة الوری *** و ان لهم حبی کما لهم بغض

و لو ان عضواً ما عن آل احمد *** لشاهدت بعضی قد تبرأ من بعضی

و أورد (1) الأمینی انه مرض بالاهواز باسهال فکان اذا قام عن الطلست ترک إلی جانبه عشرة دنانیر حتی لا یتبرم به الخدم، فکانوا یودون دوام علت، و لما عوفی تصدق بنحو من خمسین ألف دینار، و رثاه الرضی (2) بعد موته بقصیة غراء لم یسمع بمثلها اذن الزمان مطلعها:

اکذا المنون تقنطر الابطالا *** اکذا الزمان یضعضع الا جبالا

و ذکر القاضی نورالله الشهید قدس سره حکایة لطیفة فی اشتهار تشیعه، و لقد سرد العلامة الأمینی (3) الشواهد علی تشیعه بحیث لا یبقی مجال للتردید فیه.

وسبق فیما تقدم وجه نسبة الاعتزال إلی الشیعة.

و عن المجلسی الاول انه من أفقه فقهاء أصحابنا المتقدمین و المتأخرین.

و فی مقام آخر من رؤساء المحدثین و المتکلمین.

ص: 259

و عن الشیخ البهائی عده من علماء الشیعة فی عداد ثقة الاسلام الکلینی و الصدوق و الشیخ المفید و الشیخ الطوسی و الشیخ الشهید و نظرائهم.(1)

[*2] الجواب عن هذه الرسالة الآیة المبارکة القرآنیة «یا أیها الذین آمنوا إن جاءکم فاسق بنبإ فتبینوا».

ص: 260

ص: 261

اعتمادها علی الزراعة ؟ أما فی الأرض الزراعیة فلم یکن بدٌّ من أن یتمشی نظام الضرائب مع حال الزرَّاع وأوقات الغرس والحصاد ، أی أنه لم یکن بدٌّمن السیر طبقاً للسنة الشمسیة (1).

وکانت هذه السنة الشمسیة هی القبطیة والشامیة فی البلاد التی ، کانت تحت حکم الروم ؛ أما فی المشرق فکانت هی السنة الفارسیة ؛ وفی فارس کان یفتتح الخراج فی إبان النیروز (2) ؛ وإنما آثر الفرس ذلک من قدیم الزمان ، لأنه وقت الانقلاب الصیفی الذی هو وقت إدراک الغلاّت ، فکان أصوب لافتتاح الخراج فیه من غیره(3) .

ثم جاء ملوک العرب فاقتدوا بملوک الفرس فی المطالبة بالخراج أبان النیروز . ولکن الفرس کانوا یکبسون السنین فی کل أربع سنین بیوم فأبطل الإسلام ذلک ، ونشأ عن عدم الکبس أن الخراج کان یفتتح قبل نضج الزرع .

وبینما کان المتوکل یطوف یوماً فی مُتصیدٍ له إذ رأی زرعاً اخضر لم یدرک بعد ، ولم یستحصد ؛ وکان المتوکل قد استوءذن فی فتح الخراج ، فقال : من أین یعطی الناسُ الخراجَ ؟ فقیل له إن الأمر جارٍ علی ما أسّسه ملوک الفرس من المطالبة بالخراج فی أثناء النیروز ؛ فوقع عزم المتوکل علی تأخیر النیروز سبعة عشر یوماً من حزیران ، تدارُکاً لما فات من عدم الکبس ، ونفذت الکتب بذلک

ص: 262

إلی الآفاق ؛ ثم تستل المتوکل ، ولم یتم له ما دبّر ، فلما قام المعتضد احندی ما فعله المتوکل فی تأخیر النیروز ، غیر أنه نظر من جهة غیر التی نظر إلیها المتوکل فأخر النیروز إلی الحادی عشر من حزیران ، ثم وضع النیروز علی شهور الروم لُتکبس شهورُه إذا کبست الرومُ شهورَها ، لا علی سنین الفرس من الکبیس بشهر فی کل مائة وعشرین سنة .

ولما کان لا یمکن ترک السنة الهلالیة لأسباب دینیة فقد سارت السنتان الهلالیة والخراجیة مع اختلافهما فی الطول جنباً لجنب ، وحدث اضطراب کبیر بسبب تفاضل السنین ؛ حتی صارت الجبایة الخراجیة فی السنة التی تنتهی إلیها تیسب فی التسمیة إلی ما قبلها ، ولما یکن من الجائز کبس سنة الهلال بشهر ثالث عشر ، « لأنهم لو فعلوا ذلک لتزحزحت الأشهرُ الحرم عن موقعها ، وانحرفت المناسکُ عن حقائقها ، ونقصت الجبایة عن سنی الأهلة بقسط ما استرقه الکبسُ منها ، فانتظروا بذلک الفضل أن تتم سنة أوجب الحساب المقرّب أن تکون کل اثنتین وثالثین سنة شمسیة ثلاثاً وثالثین سنة هلالیة ، فنقلوا المتقدمة إلی المتأخرة نقلا لا یتجاوز الشمسیة ..وقد رأی أمیر الموءمنین نقل سنة خمسین وثلثمائة الخراجیة إلی إحدی وخمسین وثلثمائة الهلالیة ، جمعاً بینهما ، ولزوماً لتلک السنّة فیهما »

وهذا جزء من الکتاب الذی أنشأه أبو أسحاق الصابی فی هذا الصدد(1)

ومما اختص به نظام المسلمین الإداری فیما یتعلق بالمال أن دواوین الخراج

ص: 263

فی الولایات کانت تقوم مقام حزائن للدولة ، فکانت تُستوفی من مال الخراج النفقاتُ الراتبة وأعطیاتُ الجند، ثم یحمل ما یتبقی إلی بیت المال العام بمدینة السلام (1) ؛ ولذلک فإن خزانة بغداد کانت لا تُعنی إلا بدرار الخلافة وحاجاتها وبشوءون الدواوین وبالجزء الشرقی من بغداد ، لأنه کان بحسب رسم خاص تابعاً لدار الخلافة ؛ أما الجانب الغربی ، وهو بغداد الحقیقة ،فکان جزءاً من عمالة بادوریا(2).

وقد بین لنا الخوارزمی أسماء الدفاتر والمواضعات المستعملة فی الدواوین بخراسان فی القرن الرابع الهجری (3) فمنها:

قانون الخراج ، وهو أصله الذی یرجع إلیه ، وتبنی الجبایة علیه (4)

الأوراج ، ویسنقل إلیه ما علی إنسان إنسان ، ویثبت فیه ما یوءیدیه دفعةً بعد

ص: 264

أخری ، إلی أن یستوفی ما علیه .

الروزنامج ،ومعناه کتاب الیوم ؛ لأنه یکتب فیه ما یجری کل یوم من استخراج أو نفقة أو غیر ذلک .

الختمة ،وهی کتاب یرفعه الجهبذ فی کل شهر بالاستخراج والجمل والنفقات والحاصل ، کأنه یختم الشهر به .

الختمة الجامعة ، تُعمل کل سنة کذلک .

التأریج ، لفظة فارسیة ، معناها النظام ، لأنه کسواد یعمل للعقد لعدة أبواب یحتاج لعلم جملها

العریضة ، وهی شبیهة بالتأریج ، إلا أنها تُعمل لأبواب یحتاج إلی أن یعلم فضلُ ما بینها ، فینقص الأقل من الأکثر من بابین ، ویوضع ما یقضل فی باب ثالث هو الذی تعلم العریضة لأجله ، « مثل أن تعمل عریضظ للأصل والاستخراج ،ففی أکثر الأحوال ینقص الاستخراج عن الأصل ، فیوضع فی السطر الأول من سطور العریضة ثلاثة أبواب ، أحدها للأصل ، والثانی للاستخراج ، والثالث لفضل ما بینهما ».

البرا .حجة یبذلها الجهبذ أو الخازن للموءدِّی بما یوءدیه ذلیه .

المروافقة والجماعة ، حساب جامع یرفعه العامل عند فراغه من العمل ، ولا یسمی موافقة مالم یرفع باتفاق بین الرافع والمرفوع إلیه؛ فإن انفرد به أحدُهما دون ان یوافق الآخر علی تفصیلاته سمّی محاسبة .

وعندنا کذلک أبواب میزانیة الدولة لسنة 306ه _ 918م، وهی تقوم علی میزانیة عام 303ه؛ فکانت تقسم المیزانیة العامة ، علی نحو ما کانت تقسم

ص: 265

الدفاتر فی دواوین الخراج ، إلی باب الاستخراج أو الدخل وباب النفقات ، وکذلک یقسم باب النفقات إلی النفقات الراتبة والحادثة ؛ وکانت المیزانیة تنتهی یعجز کما هو الحال عندنا . وکانت مقادیر خراج العراق وخوزستان وفارس وإیران تذکر عیناً ؛ علی حین أنه حتی عام 260ه _ 873 م، وهی تقوم علی میزانیة عام 303ه؛ فکانت تقسم المیزانیة العامة ، علی نحو ما کانت تقسم الدفاتر فی دواوین الخراج ، إلی باب الاستخراج أو الدخل وباب النفقات ؛ وکذلک یقسم باب النفقات إلی النفقات الراتبة والحادثة ؛ وکانت المیزانیة تنتهی یعجز کما هو الحال

عندنا .وکانت مقادریر خراج العراق وخوزستان وفارس وإیران تذکر عیناً ؛ علی حین أنه حتی عام 260ه _ 873م کان یذکر النوع إلی جانب القیمة بالذهب؛ وهذا یدل علی تقدم فی النظام المالی فی شرق المملکة الإسلامیة . أما فیما یتعلق بالشام والعراق فکان الخراج یحسب بالعین وبالنوع (1) ( السکر من الشعیر أو الحنطة ).

وکانت سیطرة العملة ،وهی السیطرة التی من شأنها القضاء علی سائر القسم الأخری المتدرّجة ، وجعَل قیمة الأشیاء متوقفظ علی قیمتها النقدیة ، سبباً فی زوال کثیر من الضرائب الرمزیة الشکلیة التی تفرض لمجرد تقریر الحق فی الضریبة ؛ وهذه الضرائب هی التی جعلت دفاتر الضرائب فی العصور الوسطی الأوربیة کثیرة الأبواب ؛ ولا نجد من أمثلة هذه الضرائب إلا ما ذکر عن مدینة اسبیجاب علی أقصی حدود المملکة الإسلامیة شرقاً من أن خراجها أربعة دوانیق ومکنسة تُبعث إلی السلطان کل عام مع الهدایا(2)

وقد جرت العادة حوالی عام 300ه _ 912م أن ترسل مع الخرائج أو الهدیة

ص: 266

أشیاء طریفة غریبة عن المألوف؛ ففی عام 299 ه _911م أُرسل مع مال مصر تیسٌ له ضرع یحلب اللبن ، وفی سنة 301ه _ 913م وصلت هدایا صاحب عُمان إلی السلطان ، وفیها ببّغة بیضاء وعزال أسود ، وفی سنة 305ه وردت من عمان أیضاً هدّایا جلیلة ،فیها طائر أسود یتکلم بالفارسیة والهندیة أفص من الببغاء وفیها ظباء سود (1).

وکان الإقطاع فی المملکة الإسلامیة کلها ضرباًهاماً من ضروب تملک الأرض ؛ والإفطاع فی المشرق والمغرب علی السواء میراث قدیم . ویقول أبویوسف : فأما القطائع من أرض العراق ، فکل ما کان لکسری ومرازّبته وأهل بیته مما لم یکن فی ید أحد (2) ؛ أما فی المغرب فکان الإقطاع نظاماً رومانیا ، وکانت أرض الحکومة والأرض التی لا یملکها أحد تنتقل بحسب نظام الإقطاع إلی أفراد الشعب(3)

أما الخراج الذی یجب أن یدفعه صاحب الأرض المقطعظ فکان یحدّد فکان یحدّد باتفاق خاص بینه وبین الحکومة ،وهو عند الفقهاء العُشر (4).

ص: 267

ولم یکن أصحاب الإقطاعات أحسن حالا من غیرهم من أصحاب الضیاع العادیین ؛ وقد حکی التنوخی فی القرن الرابع الهجری أن الرشید اعتل ، فداواه طبیبه ، فأمر بإقطاعه ما قیمته ألف ألف درهم ، فقال له : مالی حاجة إلی الإقطاع ؛ ولکن تهب لی ما أشتری الضیاع به ، فأجاب الخلیفة طلبه وأمر بمعاونته حتی ابتاع ضیاعاً غلتها ألف ألف درهم ، موءثر أن یکون جمیع ما یمتلکه ضیاعاً لا إقطاع فیها(1).

وکان یقع فی کثیر من الأحیان خلاف بین الملاک والعمال فی بعض الأراضی ؛ فیذکر صاحب الأرض أنهاقطیعة ، علی حین أن عامل الخراج یذهب إلی أنها أرض خراج عادیة(2) .

وکانت الأرض لامقطعة تعود دائما إلی الحکومة ، وذلک بسبب مصادرة أصحابها أو نظراً لخرابها ، وکثیراً ما یکون هذا الحراب بسبب الظرائب الباهظة . وفی القرن الثالث الهجری غلب بنو الصفار علی فارس ، فجلا قوم من أرباب

ص: 268

الخراج عنها لسوء المعاملة ؛ فقررت الحکومة خراجها علی من بقی ، وسُمی ذلک بالتکملة ، لأنه کمل بها قانون فارس القدیم ، ولم نزل هذه التکملة تستوفی حتی أُعید افتتاح فارس عام 298ه فتظّلم أُهل فارس ، وورد قوم من أَجلادهم إلی بغداد لرفع ظلامتهم ، فجمع المقتدر مجلسا من القضاة والفقهاء والکتاب والعمال والقوّاد ، فأفتی الفقهاء ببطلان التکمة ، وصدر کتاب الخلیفة بذلک عام 303ه _ 915م(1).

والظاهر أن أَمر التکملة کان شاذّا فی ذلک العهد فی المشرق ؛ أما فی مصر فقد کانت القاعدة أن تضمن المدینة الأفراد الذین یجلون عن الأرض ؛ وفی العراق کان لابد من هذا الضمان فیما یتعلق بالجریة الواجبة علی أهل الذمة (2).

ولم یلغَ نظام ضمان المدینة هذا فی فرنا إلا قبل الثورة الفرنسیة بقلیل ، وفی الروسیا إلاّ منذ عام 1906م .

وکانت الحکومة تملک أراضی أخری تسمیها الضیاع السلطانیة ، وکانت هذه الضیاع نزداد فی أیام الرخاء بابتیاع أراض جدیدة(3).

أما فی أوقات الشدة فکان یباع بعضها . وقد حدث فی سنظ 323ه _ 935م أن باع الوزیر علی النجار ضیاعا سلطانیة لیفی بسداد ما کان قد استسلفه من مالهم (4).

وکانت هذه الضیاع تتعرض دائما للخطر إذا ضعفت الحکومة ؛ فعند ذلک

ص: 269

یقتطع کبار الملاک الأقویاء والوزراء بعضها ، ویضیفون ذلک إلی أملاکهم (1).

وکان یحدث أن یرغب صغار أرباب الضیاع فی الإفلات من عب ء الخراج العادی ، فاعتادوا أن یلجئوا ضیاعهم إلی الکبراء الأقویاء ، فکانت تجری بأسمائهم ، ویخفّف عن أهلها الخراج ، فیدفعون العشر فقط ، کما هو الحال فی الإقطاعات ؛ ولکنها تبقی فی أیدی أهلها یتبایعونها ویتوارثونها ، وإن کانت بأسماء من الجلوها إلیهم . وهذه التلجئة نظام قدیم ، وقد أوجدها فی مصر علی عهدالرومان البوزنطیین کبارُ أصحاب الضیاع ، ویحکی أنها کانت موجودة فی عهد الأمویین (2).

ثم صارت الصصطلاحات قائما بذاته بین مواضعات الکتاب فی دواوین الخراج بخراسان (3).

وأصبح لها قسم خاص بها فی القرن الرابع الهجری ، وکانت شائعه فی فارس بنوع خاص لنقل الخراج فیها (4).

وفی عام 415م اعتُبر الم ..فی مصر بحکم القانون موالی تابعین للأفویاء الذین احتموا بهم (5)، ولکنهم لم یصیروا إلی هذه الحالة قط فی فارس .

ومن وجوه الأموال التی ترد إلی بیت المال أخماس المعادن والرکاز ، ولامال المدفون[*6] من دفائن الجاهلیة ، وخُمس سیب البخر مما یقذف به

ص: 270

ویستخرج منه ، مثل العنبر والحلیة ، ومنها أثمان الأُبّاق من العبید ، وما یوءخذ من الصوص من الأموال والأمتعة ، أذا لم یأت لذلک طالب یستحقه ، منها ما یوءخذ من مواریث من یموت ولا یخلَّف وارثا له (1)

وکان لا یوءخذ لبت المال إلامن میراث المسلمین ، فمثلا کتب الخطیب البغدادی ( 463 _ 392) إلی الخلیفة : إنی إذا مت کان مالی لبیت المال ( وکان مقدار ذلک مائتی دینار ) (2) ؛ وفی عام 311ه _ 923م أصدر الخلیفة المقتدر کتاباً فی أمر المواریث نص فیه علی أن تُرَدّ ترکة من یموت من أهل الذمة ، ولا یخلف وارثا؛ ، علی أهل ملته لا علی بیت المال ، وذلک عملا بما روی عن النبی صلی الله علیه و آله من أن المسلم لا یرث الکافر ، وأن الکافر لا یرث المسلم ، وأنه لا یتوارث أهل ملّتین(3).

وقد تجادل کثیر من الفقهاء فی مسألة کبری من المسائل التی تُبحث حدیثاً ، وهی مسألة رد الترکة إلی بیت المال بدلا من ردها إلی الأباعد من ذوی الأرحام ؛ وقد زادشأن هذه المسإلة عند المسلمین ، لأن کثیراً من الفقهاء ذهبوا إلی أن بعض الأقارب الأدنین لا یجوز أن یحوزوا أکثر من الأسهم المفترضة لهم فی القرآن ؛ أما ما یفضل عن ذلک فهو نصیب بیت المال (4) وفی القرن الثالث الهجری أنشئ دیوان خاص یسمی دیوان المورایث ،

ص: 271

وذلک فی عهد الخلیفة المعتمد (279 _ 254ه 892 _ 869م) .

وکان هذا الدیوان مجالا واسعاً لظلم الناس والإعنات فی مواریثهم وأخذ مالم تشجربه السنة (1) ویقول ابن المعتز قرب أواخر القرن الثالث یشکو ما یجری علی أصحاب المواریث (2):

وویل من مات أبوه موسرا *** ألیس هذا محکما مشهرّا

وطال فی دار البلاء سجنه *** وقیل من یدری بانک ابنه

فقال : جیرانی ومن یعرفنی *** فنتفوا سباله حتی فنی

وأسرفوا فی لکمه ودفعه *** وانطلقت أکفُّهم فی صفعه

ولم یزل فی أضیق الحبوس *** حتی رمی لهم بالکیس

وقد استطاع الخلیفة الراضی أن یکبح شهوة الأمراء للاستیلاء علی مواریث

ص: 272

الناس ؛ فقد حدث أن رجلا مات وخلف مالا عظیما ، فوجَّه ابنُ رائق من حمل من داره وحوانیته مالا ومتاعا ؛ فلما عرف الراضی ذلک أنکره ، وأنفذ إلی ابن رائق بما أقلقه ؛ فأمر برد جیمع ما أُخذ من المال إلی موضعه (1).

علی أن سیف الدولة المعروف بشجاعته والمشهور بشعرائه وسوء حکمه کان یأخذ المواریث أخذاً رسمیا؛ ففی عام 333ه _ 944م عین أبا حسین علی بن عبد الملک الرقی قاضیاًعلی حلب؛ فکان هذا القاضی یصادر الترکات ویقول : الترکة لسیف الدولة ولیس لأبی الحسین إلا أخذ الجعالة (2)

وقد تکلم المقدسی عن رکن الدولة وأهل بیته من الأمراء ،فعدد بعض مساوئهم ، ولکنه أکد من فضائلهم بنوع خاص أنهم «لهم سیاسة عجیبة ورسوم ردیة ؛ غیر أنهم لا یتعرضون للترکات »(3).

وکان کثیر من الحکام یحاولون أن یعتبروا الترکة من غیر وارث ، لیستولوا علیها ؛ ولکن لم یوجد فی الإسلام قانون طبق علی المسلمین یشبه مثلا القانون الذی کان فی إنجلترا فی القرن الثالث عشر المیلادی(4)

وکان من محاسن أعمال عمید الجیوش حاکم بغداد المتوفی عام 401ه _ 1010م أنه حُمل إلیه مرةً مالٌ کثیر قد خلفه بعض التجار المصریین ، وقیل له : لیس للمیت وارث ؛ فقال : لایدخل خزانة السلطان مالیس لها ؛ یترک إلی أن یصح خبره؛ فلما کان بعد مدة جاء أخ للمیت بکتاب من مصر بأنه مستحق

ص: 273

للترکة ، فقصد باب عمید الجیوش وأوصل إلیه الکتاب ، فقضی حاجته . ولما وصل التاجر إلی مصر أظهر الدعاء له ، فضج الناس بالدعاء له والثناء علیه ، وبلغ عمید الجیوش الخبرُ فسُرَّبه (1).

ولکن الأمر لم یکن یجری هذا المجری بالنسبة لغیر المسلمین ؛ ففی القرن الثانی عشر المیلادی اعتل ربی بتاحیا ، وهو بالموصلف وقال الأطباء إنها علة الموت ؛ « ولما کان الرسم هناک فی ذلک الوقت أن تستولی الحکومة علی نصف ما یخلفه کل یهودی غریب یموت هناک ، وکان الربی بتاحیا حسن اللباس ، فقد قیل إنه غنی ؛ وجاء عمال الحکومة لقبض ترکته ، کأنه قد مات ».

وکثیراًما کان یوءخذ جزء من مال الأغنیاء فی حیاتهم ، وقد نشأ هذا الرسم من أن بعض العمال کانوا یستولون علی الأموال بغیر حق ، ثم یضطرون إلی إرجاعها ؛ وهذا شبیه بما فعله نابلیون الأول حین ألزم قواده من ذوی الیسار العظیم أن یدفعوا للخزانة مبالغ کبیرة . علی أن جمیع التجار الذین کانت تُبتزُّ دموالهم کانت لهم معاملات مع الدولة أصابوا منها مالا وفیراً ، أو علی الأفل ظُن بهم ذلک .یقول ابن المعتز فی وصفه لجور الحکومة فی عهد المعتمد(2):

وتاجر ذی جوهر ومال *** کان من اللّه بحسن حال

قیل له: عندک للسلطان *** ودائع غالیة الأثمان

فقال :لا واللّه ما عندی له *** صغیرة من ذا ولا جلیله

وإنما أُربحت فی التجارة *** ولم أکن فی المال ذا خسارة

ص: 274

فدخنوه بدخان التبن *** وأوقد وه بثقال اللبن

حتی أذا مل الحیاة وضجر *** وقال : لیت المال جمعاً فی سقر

أعط همو ما طلبوا ، فأُطلقا *** یستعمل المشی ویمشی العنقا

ونری من الثبت الذی یحوی أسماء المصادرین أنهم کانوا عمالا من عمال الدولة أو جهابذة کانوا یعلمونها (1).

ولیس فیما انتهی إلینا من حکایات تتعلق بالمصادرات مثلٌ واحد لأخذ الحکومة أموال العمال الخاصة ظلماً وجوراً من غیر طریقة قانونیة ؛ فیحکی لنا ابن مسکویه « أن الوزیر أبا علی بن مقلة کان یعادی أبا الخطاب بن أبی العباس بن الفرات ، ولم یکن یجد إلی القبض علیه طریقاً دیوانیا ، لأنه کان ترک التصرُّف عشرین سنة ؛ ولزم منزله ، وقنع بدخل ضیعته )(2)علی أن نظام المصادرة قد تقلّب فی أطوار ، فکان فی أوائل القرن الرابع ضرباً من ضروب العقاب ، وبعد ذلک صار کل من کانت له صلة بالحکومة مشتبهاً فی نقاوة یده ، فکان یصادر بین حین وآخر.

ص: 275

وکا ن الأخشید صاحب مصر وأدری الحکام بأمور المال بین عامی 300ه (912م)و350ه(961م) ،یقوم بالمصادرات الکثیرة فی هدوء من جانبه وبرود ، فکان یقبض علی عماله وخاصته وثقاته ، ویصادرهم علی المبالغ الکبیرة هم وأهلهم ومن یکون فی دورهم یوم المصاردة . وکان أحب ألیه أن یأخذ غلمانهم بسلاحهم ودوابّهم وثیابهم فیجعلهم بین یدیه (1) ؛ وکان إذا أفلت أحد من المصادرة حیاًّ لم یسلم من أخذ أمواله بعد وقاته . وکانت طریقة الأخشید أنه « إذا توفی قائد من قوّاده أو کاتب تعرّض ورثته ، وأخذ منهم وصادرهم ، وکذلک کان یفعل مع التجار المیاسیر (2)» .

ففی عام 323ه _ 934م توفی عفان بن سلیمان البزاز أجل ّتاجر کان بمصر ؛ فأخذ الأخشید من میراثه نحو مائة ألف دینار (3) ،ولما مات الوزیر أبو محمد الملهلّبی ( عام 352ه 963م) ، بعد أن لبث فی الوزارة ثلاث عشرة سنة ، قبض معز الدولة ترکته وصادر عیاله ومن دخل إلیه یوماً حتی الملاّحین والمُکارین الذین کانوا یخدمون حاشیته ؛ وقد استقبح الناس ذلک من معز الدولة واستفظعوه (4).

وکذلک لما مات الصاحب بن عباد بعد أن کان وزیر فخر الدولة ، المتحکم فی تدبیر الملک له ، حتی کان لا یعصی له أمراً ، أرسل هذا الأمیر ُمن أحاط علی دار الصاحب وخزائنه ، ووُجد له کیسٌ فیه رقاع أقوام بمائة ألف وخمسین ألف دینار

ص: 276

مودعة عندهم ؛ فطولبوا بذلک ، ونُقل ما کان فی الدار والخزائن إلی دار فخر الدولة (1).

وکان أهل المال یستعملون جمیع الوسائل لأفساد خطة المصادرین وخداعهم ، فمن ذلک أنهم کانوا یودعون أموالهم عند ناس کثیرین (2)؛ ویلحنون أسماءهم ویکنّون عن ألقابهم (3)

ولما اعبُقل ابن العمید عام 366ه _ 978م وأیقن أن القوم قاتلوه وأنه لا ینجو منهم ، وإن بذل ماله ، أخرج من جیبه رقعة فیها ثبت مالا یحصی من ودائعه وکنوز أبیه وذخائره ، فألقاها فی کانون ناربین یدیه ، وقال للموکّل به : اصنع ما أنت صانع ، فواللّه لا یصل من أموالی المستورة إلی صاحبک دینار واحد ، فما زال یعرضه علی العذاب إلی أَن تلف من غیر أن یخبرهم بشئ (4) ولما صح عند الخلیفة المتقی قتل بحکم المتقی إی داره ، وحفر أما کن فیها ، فحصل له من مال بجکم ما یزید علی ألفَی ألف عینا وورقاً ، ثم أمر بغسل التراب ، فأُخرج منه ستة وثالثون ألف درهم(5).

ولکن بجکم کان قد دفن أمواله فی الصحراء ولم یقتصر علی ما دفنه فی البیوت ؛فکان الناس یتحدثون بأنه یفتل من یعاونه فی ذلک ، لئلا یدل علیه فی وقت أخر ؛ وبلغ بحکم ما یقوله الناس ، فأنکر ذلک ؛ وحکی لسنان بن ثابت ما

ص: 277

کان یفعله إذا أراد دفن مال فی الصحراء: کان یحضر إلی داره بغالا علیها صنادیق فارغة ، فیجعل المال فی بعضها ، ویدخل من یرید أن یکون معه من المساعدین فی البعض الآخر ، ویطبق علیهم ؛ ثم یأخذ مقود قطار البغال بنفسه ، ویسیر إلی حیث یرید ، ثم یفتح عن الرجال ، فیحفرون ، ویدفن المال؛ وبعد ذلک یردّ الرجال إلی الصنادیق ویطبقها علیهم ، ویعود ، فلا یدری الرجال إلی أین ذهبوا من أرض اللّه ولا من أین أنوا ، وکان هو یجعل لنفسه علامات یهتدی بها ؛ وبهذه الطریقة استغنی عن القتل ، وأقسم لثابت أنه لم یقتل أحداً من أجل دفن المال ، وأن ذلک من تشنیع الناس(1).

وفی عام 350 ه _ 961م ، توفی أبوعلی خازن معز الدولة وکان رجلا کثیر التمویه متفاقراً ، یظهر الفقر والاقتصاد ، حتی کان معز الدولة یعنقد أنه بائس لا یملک شیئا ؛ فاستأذن الوزیرُ المهلّبی معزَّ الدولة فی البحث عن أمواله ، واستعمل طریقة رجال الشرطة ؛ فقبض علی غلمانه . وکان یخلو ببعضهم ویرهبه ویرغبه ، حتی استطاع أن یعرف أن أبا علی الخازن طرد غلاماً له مزینا حبشیا من حجرة موسومة به ، وجلس فی هذه الحجرة للخلوة أیاما ؛ فعبر الوزیر المهلبی دار أبی علی والنمس حچرة المزین ، فحفر فیها ، فظعر بمال ؛ وکان فی جملة المدفون آلة شبیة المیزان من خشب الساج ، لا شئ فیها ، فعجب منها ؛ ثم قلبها فوجد علیها کتابة بخط ودی ، فإذا هی أسماء قوم ورموز لا یفهم منها شئ؛ فلم یشکّ الوزیر أنها أسماء قوم مودّعین وأن الرموز مبلغ ما عندهم من المال ؛ ولم یزل یستعمل الدهاء وال .فی فک الرموز ومعرفة المعاملین حتی صحّ له ذلک ، وبطش بمن

ص: 278

اهتدی إلیه حتی حصل منهم علی المال (1) .

وکان أحد الأغنیاء إذا مات جرَّ موتُه ال . لأهله ولکل من یتصل به من الکتاب ولاجهابذة والأصدقاء ؛ فکاوا ی .ویستترون ویمتنعون من تسلیم الوصیة للحکومة ، حتی لا تهتدی إلی مکان الترکة ووجوهها ؛ وقد حدث مثل هذا عند وفاة أحد العلویین إلی أن ت ..أمر الترکة أخیراً علی خمسین ألف دینار تحمل إلی الخزانه صلحاً علی الترکه(2).

والرسوم الجمرکیة غیر جائزة فی الشریعة الإسلامیة ، إذا دققنا النظر فی أحکامها . ورغم هذا ..مراصد المکوس کانت منتشرة فی کل مکان . وقد حاول الفقهاء أن یحلوا هذه المسألة بأن اعتبروا الضرائب الجمرکیة داخلة ضمن الزکاة ، وهذا بالنسیمة للمسلمین علی الأقل ؛ ومن هذا نشأت فکرة أن التاجر یستطیع أن یطوف عاما کاملا أینما شاء من حدود البلاد معفی من المکوس متی رفع المکس مرة واحدة ،وهو العُشر ، وأنه لابد له أیضا أن یدفع ضریبة ما معه عین المال علی معدّل رُبع العُشر(3).

ص: 279

وکانت التعریفة الجمرکیة فی الواقع مختلفة ، فکان یوءخذفی جدّة عن کل حمل من الحنطة نصف دینار وکیل من فرد الزاملة ، وعلی سفط ثیاب الشطوی ثلاثة دنانیر ، وعلی سفط الدببقی دیناران ، وعن حمل الصوف دیناران . وکان یوءخذ بالقلزم ( السویس) عن کل حمل درهم ؛ وکانت تفرض رسوم فی الموانی العربیة الأخری . ولکن المکوس کانت أقلّ مما تقدم ، وکانت الضرائب توءخذ بالإسکندریة علی المراکب الآتیة من الغرب وبالفرما علی مراکب الشام(1).

وکان لصغار ملوک العرب علی اختلافهم مراصد برّیة تدفع إلیها الظرائب علی

ص: 280

تفاوت فی القیمة ؛ فکان بعضهم یأخذ نصف دینار عن کل حمل ، وأکثرهم کان لا یأخذ عن الحمل إلا درهما (1).

أما العراق فکانت کثیرة المراصد فی البر والبحر والنهر ؛ وکانت البصرة مشهورة بتفتیش صعب وشوکات منکرة . وفی عهد المقدسی کان علی باب البصرة عند حدود مملکة الخلیفة من حدود بلاد القرامطة دیوان للقرامطة ودیوان آخر للدیلم ، حتی لقد کان یوءخذ علی الغنمة الواحدة أربعة دراهم ( أی ضعف ثمنها ) .وکان الدیوان لا یفتح إلا ساعة من النهار(2)

وکان یوءخذ من کل حمل دخل الیهودیة ، وهی القسم التجاری فی أصفهان ، ثلاثون درهما (3)

وکان الخراج فی طوران یوءخذ عن الحمل ستظ دراهم إذا دخل وکذلک إذا خرج ، ومن الرقیق اثنا عشر إذا دخل حسب ،وإن کان من نحو الهند فعشرون من الحمل ، وإن کان من قبل السند فعلی حسب القیم (4).

وکانت توءخذ فی المملکة الإسلامیة ضرائب علی المصادرات ، کما کان الحال فی کل العصور القدیمة . وقد نص الفقهاء علی أنه ینبغی أن یکون للإمام مسالح علی المواضع التی تنفذ إلی بلاد أهل الشرک ، فیفتشون من یمّر یهم من التجار ؛ فمن کان معه سلاحٌ أُخذ منه ورُدّ ، ومن کان معه رقیق رُدّ ، ومن کان معه کتب قرئت کتبه ؛ فإن کان فیها خبر من أخبار المسلمین قد کتب به أُخذ الذی

ص: 281

أصیب معه الکتاب وبُعث به إلی الإمام لیری فیه رأیه(1).

وفیما وراء النهر کان لا یعبر الرقیق نهر جیحون إلا بجواز من السلطان ، ویأخذ مع الجواز من سبعین إلی مائة درهم ، وکذلک علی الجواری بلا جواز إذا کانوا أتراکاً ، ویوءخذ علی المرأة عشرون إلی ثلاثین درهما ، وعلی الجمل درهمان ، وعلی قماش الراکب درهم(2).

أما فی بلاد طوران فکان یوءخذ الخراج من کل ما خرج إلاّ الرقیق، فکان لایوءخذ عنه إلا إذا دخل (3)

وفی جنوب جزیرة العرب کان لا یوءخذ بمدینة عثّر إلا عمّا یخرج (4).

وکان یعطی للمصدّرین جوائز بکرمان ، وذلک لکثرة التمر ، حتی إن الجمالین کانوا یحملون التمر مناصفة إلی خراسان ، ویقصدها کل سنة نحو مائة ألف جمل، ویعطی السلطان کل جمل دیناراً (5).

وقد وصف الراحلون صعوبة التفتیش فی عدن بنوع خاص(6).

وشکا ابن جبیر الرحالة الأندلسی فی القرن السادس الهجری ( الثانی عشر المیلادی ) مما عومل به فی الإسکندری، قال :« فمن أول ما شاهدنا فیها یوم کزولا أن طلع أمناء إلی المرکب من قبل السلطان بها لنقیید جمیع ما جُلب فیه ،

ص: 282

فاستحضر جمیع من کان فیه من المسلمین واحداً واحداً ، وکتبت أسماوءهم وصفاتهم وأسماء بلادهم ، وسُئل کل واحد منهم عما لدیه من سِلَعِ أو ناضّ لیوءدی زکاة ذلک کله ، دون أن یبحث عما حال عیه الحول من ذلک أومالم یحُل ؛ وکان أکثرهم مشخّصین لأداء الفریضة ، لم یستصحبوا سوی زاد لطریقهم (1)، فألزموا أداء زکاة ذلک دون أن یسأل هل حال علیه الحول أم لا؛ واستُزل أحمد بن حسان منا لیسأل عن أبناء المغرب وسلع المرکب ، فطیف به مرقباً علی السلطان أولا ، ثم علی القاضی ، ثم علی أهل الدیوان ، ثم علی جماعة من حاشیة السلطان ؛ وفی کلّ یستفهم ثم یقّید قوله فخلُّی سبیله ، وأمر المسلمون بتنزیل أسبابهم ، وما فضل من أزودتهم . وعلی ساحل البحر أعوان یتوکلون بهم ، وحمل جمیع ما أنزلوه إلی الدیوان فاستدعوا واحداً بعد واحد ، وأحضر مالکل واحد من الأسباب ، والدیوان قد غص بالزحام ، فوقع التفتیش لجمیع الأسباب ؛ ما دقّ منها وما جلّ ، واختلط بعضهم ببعض ، وأُدخلت الأیدی إلی أوساطهم بحثاً عما عسی أن یکون فیها ؛ ثم استحلفوه بعد ذلک هل عندهم غیر ما وجدوا لهم أم لا ؛ وفی أثناء ذلک ذهب کثیر من أسباب الناس لا ختلاط الأیدی وتکاثر الزحام ، ثم أُطلقوا بعد موقف من الذل والخزی عظیم ، نسأل اللّه أن یعظم الأجر بذلک »(2).

ولما کان من الأمور المقرَّرَة أن الدولة الإسلامیة ملک للمسلمین ، فقد قُضی منذ أول عهد الإسلام بالفصل بین بیت المال العام وبین خزانة الخلیفة ، وهی المسماة بیت مال الخاصة ؛ ولکن لما کان الذی یتولی الإنفاق من هاتین

ص: 283

الخزانتین رجلا واحداً لا یقدم حساباً لأحد، فقد کان مدی النفصالهما مسألة تتعلق بضمیره(1).

ولذلک ترددت حکایات موءثّرة فیما بعد تبین مقدار عنایة کل من أبی بکر وعمر بالفصل بین مال امسلمین ومالهم الخاص . وکان هناک توازن بین بیتی المال ، فکان إذا نقد ما فی بیت المال العام یجب علی بیت مال الخاصة أن یمدید المعونة حتی لا تفلس الدولة (2)؛ وعندنا دلیل من رقعة للوزیر علی بن عیسی ، علی أن الخلیفة المعتضد (289 _ 279ه 901 _ 892م) ، وکذلک الخلیفة المکتفی (295 _ 289ه 907 _ 901م) ؛ علی ما عرف به من النظر فی القلیل الیسیر ، کانا ینفقان من بیت مال الخاصة الجملة بعد الجملة (3).

ولم یکن اللجوء إلی بیت مال الخاصة فی عهد المعتضد قد صار رسماً جاریاً ، ومما یحکی أن أحد الوزراء استخلف ابنه علی الوزارة لما خرج من بغداد ، فضاقت الأموال علی الولد ،و اشتدت المطالبة بالاستحقاقات ، فدعته الضرورة إلی طلب قرض من الخلیفظ ، فکتب الوزیر لابنه موبّخاً معنّفاً ، وأعلمه أنه قد أخطأ وأساء ، وجنی علی نفسه ، وعلی أبیه جنایة لا یمکن تلافیها ، وأنه کان یجب أن یستسلف المال من التجار ، ویلتزم من ماله ومال أبیه قدر الربح فیه ، ولا یفعل ما فعله(4).

ص: 284

وفی عهد الخلیفة المقتدر ( 320 _ 295ه 932 _ 907) استُنزف بیت مال الخاصة ، وذلک لأن المیل أُخذ منه بزعم إعادتة متی تحسّن الحال ، وفی عام 319ه _ 931م عرض الوزیر علی المقتدر ما کان من العجز وهو سبعمائة ألف دینار ، وقال له : لیس لی معول إلا علی ما یطلقه أمیرالموءمنین لأنفقه، فعظم ذلک علی المقتدر ، وکتب أحد المتطلُِّعین للوزارة إلیه رقعة یضمن فیها القیام بجمیع النفقات من غیر أن یطلب منه شیئاً ، وأن یستخرج سوی ذلک ألف ألف دینار تذهب إلی بیت مال الخاصة ، فقلَّده الخلیفةُ الوزارة ، ولکنه عُزل فی العام التالی ، ووُجد أنه احتال بأن أضاف إلی ما یقدّر حصولُه من النواحی أموالَ نواح قد خرجت عن ید السلطان بتغلّب من تعلب علیها ، وأسقط من النفقات زیادات الند والحاشیة ، ولم یسقط من الأموال التی یقَدَّرُ حصولُها من النواحی ارتفاع ما باع من الضیاع . وإنما أراد بهذا کله أن یجعل تقدیر النفقات مقاراً لارتفاع الأموال من النواحی لیسکن بذلک قلب المقتدر ، فکانت الحسبة التی قدمها مموهتة (1).

وفی عام 329ه _ 940م طلب الوزیر من الخلیفة خمسمائة ألف دینار لیقرقها فی الجند ، فامتنع علیه ، ثم أنفذها إلیه بعد التهدید(2).

وکان یجب علی الخلیفة بحکم أنه الرئیس الروحی للمسلیمن أن یقوم بنفقات موسم الحج ، ونفقات الغزوات الصئفظ ، وفداء أسری المسلمین ، والقیام بنفقات الرسل الواردین، وذلک من بیت المال الخاصة (3).

ص: 285

أما العطایا وکل ما یتعلق بنفقات دار الخلافة ، فکان یوءخذ من بیت المال العام (1).

وعندنا بیان یرجع إلی أول القرن الرابع مشتمل عی وجوه الأموال التی تُحمل إلی بیت مال الخاصة (2)

(1) الأموال المخّلفظ التی یترکها الآباء لأبنائهم فی بیت المال . ویقال إن الرشید خلّف اکبر مقدار من المال ، وهو ثمانیة وأربعون ألف ألف دینار ؛ وکان المعتضد ( 289 _ 279ه) یستفضل فی کل سنة من سنی خلافته ، بعد النفقات ، مما کان یحصله بیت مال الخاصة ألف ألف دینار ، حتی اجتمع فی بیت المال تسعة آلاف ألف دینار ، وکان یرید أن یتمها عشرة ألاف ألف دینار ، ثم یسبکها ویجعلها نقرة واحدة ؛ونذر عند بلوغ ذلک أن یترک عن أهل البلاد ثلث الخراج فی تلک السنة . وأراد أن یطرح السبیکة علی باب العامة لیبلغ أصحاب الأطراف أن له عشرة آلاف ألف دینار ، وهو مستغن عنها ؛ فاخترمنه المنیة قبل بلوغ الأمنیة(3).

ص: 286

ثم جاء المکتفی بعد المعتضد ( 289ه _ 295ه) ، فأبلغ المدّخر إلی إربعة عشر ألف ألف دینار (1).

(2) مال الخراج والضیاع العامة الذی یرتفع من أعمال فارس وکرما ن ( بعد إسقاط النفقات ) ؛ وبلغ مقدارذلک فی کل سنة منذ عام 299ه إلی 320ه (932 _ 911م) ثلاثة وعشرین ألف ألف درهم ، منها أربعة آلاف آلف درهم کانت تحمل إلی بیت مال العامة ، والباقی ،وهو تسعة عشر ألف ألف درهم ، إلی بیت مال الخاصة .

ویجب أن نسقط من ذلک النفقات الحادثة التی تتطلبها هذه البلاد، ففی عام 303ه 915م أنفق الخلیفة لفتحها ما یزید علی سبعة آلاف ألف درهم (2).

(3)أموال مصر والشام ،وکانت جزیة أهل الذمّة مثلا تحمل إلی بیت مال اخلیفة باعتباره أمیرالموءمنین ، لا إلی بیت مال العامة (3)؛ وهذا ما یجب للخلیفة نظریا .

(4) المال الذی یوءخذ من المصادرة لأموال الوزراء المعزولین والکتاب والعمال وما یحصل من ارتفاع ضیعاتهم ، والمال الذی یوءخذ من الترکات (4).

ص: 287

(5) ماکان یحمل إلی بیت مال الخاصة من أموال الضیاع والخراج بالسواد ولاأهواز والمشرق والمغرب .

(6) ما کان یستفضله الخلفاء ،فکان کل من الخلیفتین الأخیرین فی القرن الثالث الهجری ( وهما المعتضد والمکتفی ) یستفضل فی السنة ألف ألف دینار ؛ وکان سبیل المقتدر أن یستفضل مثلها فیکون مبلغه فی خمس وعشرین سنة خمسة وعشرین ألف ألف دینار أعنی نحواً من نصف ما خلفه الرشید(1) . ولکن المقتدر أتلف کل هذه الأموال الطائلة حتی لم یبق فی بیت مال الخاصة بعد ما أُنفق فی محاربة القرمطی عام 315ه 927م إلا خمسمائة ألف دینار (2)

ولم یکن فی سائر دواوین الإسلام دیوان أصعب عملا وأکثر أنواعا من دیوان فارس ، لاختلاف ربوعها وتقارب الأخرجة علی أصناف زروعها واختلاف أبواب أموالها وتشعُّب الأعمال علی المتقلّدین لها (3).

ص: 288

وقد نبغ فی دواوینها الکثیر من العمال .أما ضرائبها فیقول المقدسی : ولا تسأل عن ثقل الضرائب وکثرتها ، ویقول : فرأت فی کتاب بخزانة عضد الدولظ . أهل فارس أنجع الناس بطاعة السلطان ، وأصبرهم علی الظلم ، وأثقلهم خراجا ، وأذلهم نفوسا ، وهم لم یعرفوا عدلا قط (1).

وکانت فارس فی عام 303ه 915 تدفع ضرائب تفوق غیرها بکثیر (2) فلیس غریباً أن نجد البلخی یخصص لفارس أطول مقالة من مقالاته السیاسیة (3).

وربما کان تنظیم هذه البلاد الجبلیة متنوعا منذ عهد الساسانیین ، فکان فیها قلاع صخریة بعیدظ المنال ، وغابات ؛ وأشراف یملکون أرضاً واسعة ، فکان هذا من دواعی تکوین نظام إقطاعی کامل منذ ذلک الحین ، حتی أن المقدسی یقول إن أکثر الضیاع بها مقتطعة (4).

ومع هذا کان النظام المالی من النمو بحیث أن الأکرة الذین کانوا یزرعون الضیاع السلطانیة بالمقاسمة أو المقاطعة کان علیهم ضرائب یوءدونها دراهم(5).

وکان یفرض الخراج علی أساس ما إذا کانت الأرض تسقی أولا تسقی ؛ وإذا کانت تسقی فهو علی أساس ما إذا کانت تسقی ب آلة أم بغیر آلة ؛ فإن کانت لا تسقی بالآلات دُفع عنها مقدار هو المعیار ، ویوءخذ ثلثا ذلک عما یسقی بآلة

ص: 289

ونصفه عما لا یسقی قط (1).

وأما خراج الشجر والغروس المثمرة ، ومنها الکرم ، فقد کان الخلیفة قد أسقط عنه الخراج ؛ ولکن أصحاب خراج الزرع شکوا إلی الخلیفة المقتدر ثقل الخراج علیهم بسبب ما أُلزموه من التکملة ، فحُرم أهل الشجر مما کانوا یتمتعون به من الإعفاء وفُرضت علیهم الضرائب ؛ فکان یدفع عن الجریب الکبیر من الکرم ألف وأربعمائة وخمسة وعشرون درهما (2)، وعلی کل نخلة ربع درهم (3).

وکانت الطواحین احتکاراً للسلطان ، وکذلک أجرة الدور التی یعمل فیها ماء الورد (4).

وفی مدن فارس کانت أراضی الأسواق وشوارعها ملکا للحکومة تأخذ عنها أجراً ؛ أما الدور فکانت ملکاً لأصحابها .

(7) وکان فقهاء المسلمین یعتبرون کل مازاد عن الضرائب الشرعیة ( وهی عشر الإرض والزکاة وجزیة أهل الذمة ) ضرائب غیر قانونیة .

ولذلک أبطل الوزیر التقّی علی بن عیس المکس بمکة وجبایة الحمور بدیار ربیعة (5).

ولهذا السبب أیضاً نجد الخلیفة الحاکم بأمر اللّه فی مصر حینما أراد أن یرجع إلی أصول الإسلام الأولی ، یسقط جیمع الرسوم والمکوس التی جرت العادة بها ،

ص: 290

و سرعان ما أعیدت فی عهد خلفه إلی ما کانت علیه (1)

وکما أن فارس کانت هی البلاد المعروفة بخراجها ، فقد کانت مصر أرض المکوس؛ ویدل بیان وجوه المال فی عهد الفاطمیین علی أن کل شئ کانت تفرض علیه المکوس ، ولم یسلم من ذلک إلا الهواء (2)؛ وکان لابد أن یدفع فی جملة مبلغ الضرائب جزء من اثنی عشر منها « وضیعة ً» وعُشر « للصرف » وجزء من مائة للبراءة (3)

والمؤرخون الإسلامیون الذین یعتبرون أن الإدارة الإسلامیة الأولی هی التی تتمشی مع الشریعة یصفون ابن المدبّر الذی ولی خراج مصر بعد سنة خمسین ومائتین بأنه من «شیاطین الکتاب »؛ لأنه أول من أحدث مالا سوی مال الخراج بمصر (4).

ولکن هذه المکوس لم تکن حدیثة بل کانت موجودة علی عهد البطالسة والرومان والبوزنطیین ، « وکان الإنسان لا یتمالک أن یسأل نفسه : هل بقی بمصر

ص: 291

الیوم شئ مما یمکن أن تفرض علیه المکوس بدون مکوس؟)(1)

ویظهر أن الإسلام فی العهد الأول من لم یقض علی الکثیر من الوسائل الاقتصادیظ القدیمة التی جرت العادة باللجوء إلیها لا متصاص ثروة الناس (2). وقد ذکر المقدسی أن الظرائب بمصر ثقیلة وبخاصة فی تنیس وهی مدینة بمصر تحیط بها المیاة مشهودة بمنسوجاتها (3)

وقد بلغ من شدة وطأة الضرائب بها وکثرة الرسوم أن اهلها شکوا إلی البطریق وهو مارٌّ بمصر حوالی عام 200ه _ 815م أن الواحد منهم یلزم بدفع خمسة دنانیر فی کل عام ، وهو مبلغ لا یقدرون علیه ؛ وتستعمل القسوة فی تحصیلة منهم (4) ،وقد بقی النظام القدیم قائما بتفاصیله . وظلت الإسکندریة محافظة علی مکانتها الخاصة التی کانت لها فی عهد البطالسة (5) حتی أوائل القرن الرابع الهجری ، حیث نجد فی إحصاء أموال الدولة إفرادَ باب خاص عنوانه : مصر والإسکندریة (6) فقد حافظت الإسکندریة علی مکانها باعتبارها .مستقلا بجبایته ، کما کان الحال علی عهد البطالسة ؛ بل نجد القلقشندی ، بعد القرن الرابع

ص: 292

بکثیر ، یقول إن الإسکندریة توءدی خراجها إلی خزانة السلطان راساً (1).

هذا إلی أن حق الملکیة المطلقة عند الفراعنة ،وهو الذی ورثظ البطالسة والرومان والبوزنطیون ، کان له شأن کبیر فی تشریع العرب المتعلق بالضرائب (2).

(8) وکذلک بقی بمصر نظام الاحتکار فی الاقتصاد قوّته. ویحکی لنا القدسی الذی زار مصر فی أوائل عهد الفاطمیین :« أما الضرائب فثقیلة بخاصة تنیس ودیاط وعلی ساحل انیل ، وأما ثیاب الشطویة فلا یمکن القبطی أن ینسج شیئا منها إلا بعد ما یختم علیها بختم السلطان ، ولا تُباع ذلا علی ید سماسرة عُقدت علیهم ؛ وصاحب السلطان یثبت ما یباع فی جریدته ، ثم تُحمل إلی من یطویها ، ثم إلی من یشدها بالقشر ،ثم إلی من یشدها فی السفط وإلی من یحزمها ؛ وکل واحد منهم له رسم یأخذه ،ثم علی باب الفرضة یوءخذ أیضاً شئ ، وکل واحد یکتب علی السفط علامته ، ثم تفتش المراکب عند إقلاعها . ویوجد بتنیس علی زقّ الزیت دینار ، ومثل هذا وأشباهه ، ثم علی شط النیل بالفسطاط ضرائب ثقال . رأیت بساحل تنیس ضرائبیاًّ جالسا ، قیل : قبالة هذا الموضع فی کل یوم ألف دینار ، ومثله عدة علی ساحل البحر بالصعید وساحل الإسکندریة .»(3)

أما فی المشرق فلم تفرض الضرائب علی البضائع إلا فی النصف الثانی من القرن الرابع الهجری ، وقد فرض عضد الدولة ( المتوفی عام 374ه) فی آخر أیام

ص: 293

دولته رسوماً علی بیع الدواب وغیرها من الأمتحة وزاد علی ما تقدم ومنع من عمل الثلج والقز وجعلها متجراً للخاص (1) ولذلک قال الشاعر :

أَفی کل أسواق العراق إتاوة وفی کل ما باع امروء مکس درهم (2)

ولما عزم صمصام الدولة بن عضد الدولة ببغداد فی عام 375ه _ 985م أن یضع علی الثیاب الإبریسم والقطن المبیعة ضریبة مقدارها عُشر النمن اجتمع الناس فی جامع المنصور ، وعزموا علی قطع الصلاة ، وکاد البلد یفتتن ، فأعفوا من ذلک (3).

وفی عام 389ه _ 998م أُرید مرة أخری وضعُ العُشر علی ما یعمل من الثیاب الأبریسیات والقطنیات بمدینة السلام ، فثار الناس وقصدوا المسجد الجامع بالمدینة ومنعوا الخطبة والصلاة ، وأحرقوا دار الحمولی ، فلم یبق فیها جدار قائم ، واحترق ما کان فیها من حسبانات الدواوین ، وقبض علی جماعة من ال .اتهموا بما جری وعوقبوا ؛ واستقرَُّ الأمر علی أخذ العُشر من قیم الثیاب الآبریسیات خاصة ، ووضعت الختوم علی کل ما یقطع من المناسج ویباع ویحمل (4).

ولم یقتصر أمر الضرائب علی أدوات الترف ، بل تعداها إلی الضروریات ، ففُرضت ضریبة علی الملح . وفی سنة 425ه _ 1033م خاطب الدینوری الزاهد

ص: 294

الملک فی إزالة ضرائب الملح ، وأعمله ما یصیب الناس من الأذی بذلک ، .الملک طلبه ، وکتب برفع هذه الضرائب منشوراً قُرئ فی الجوامع ، وکتب علی أبوابها بلعن من یتعرض لإعادة هذه الجبایة ، وکان ارتفاعها ألفی دینار فی کل سنة(1).

علی أن المصریین لم یثوروا أبداً بسبب شئ من هذه الضرائب .

أما فی الشام فکانت ضرائب البضائع هینة ؛ ولکن کان فی بیت المقدس ضرائب ثفال علی ال . فلم یکن یجوز لأحد أن یبیع شیئا مما یرتفق به الناس إلا بها ، وثمّ رجالٌ علی أبوابها وآخرون علی ما یباع فیها (2).

وکان من الضرائب التی اختص بها هذا الإقلیم ضرائب الحمایة علی من یکون عنده مرکب مثلاً ، وکان الذی یأتی من ذلک یعادل ما یأتی من خراج الأرض(3).

وکانت الضرائب فی البلاد التی تسبتلی بها تختلف باختلاف الحکام ؛ بقول ابن حوقل فی کلامه عن الشام :« فأما خراجاتها وأعشارها ومرافق سلاطینها ، فکان ذلک علی أوقات مختلفة بقوانین متباینة وجبایات ناقصة وزائدة ،وذلک أنها منذ سنة ثلاثین ( 330ه) بین قوم یتطاول أحدهم علی الآخر ، وأکثرهم غرضه ما اجتلبه فی یومه وحصّله لوقته ، لا یرغب فی عمارة ولا یلتفت إلیها

ص: 295

برؤیتة ولا إشارة »(1).

وقد رأی هذا الموءلف نفسه ارتفاع الشام وما فی ضمنها من الأعمال والأجناد ؛ ووقف علی ذلک من جماعة علی بن عیسی ومحمد بن سلیمان لسنة 296ه، وسنة 306ه فکان ، بعد أرزاق العمال ، تسعة وثلاثین ألف ألف درهم (2).

وکان بیت المال فی کل من هذین القطرین وهما الشام ومصر یقوم بالمسجد الجامع ، وهو شبه قُبَّة مرتفعة محمولة علی أساطین ؛ ولبیت المال باب حدید وأقفال ، والصعود إلیه علی قنطرة من الخشب ، وإذا صُلّیت العشاء الآخرة أُخرج الناس کلهم من المسجد ، حتی لا یبقی فیه أحد ،ثم أُغلقت أبوابه ، وذلک لوجود بیت المال فیه(3).

ونستطیع أن نسأل :هل هذا من الرسوم المصریة أو الشامیة قدیماً ؟ وهل کانت خزانة الکنیسة تُحفظ علی هذه الصورة؟ ثم هل کانت الکنیسة فی العصر القدیم والعصر البوزنطی خزانة للدولة لا معبداً فقط؟(4) نلاحظ أنه حتی القرن الرابع الهجری کان تضمین الأراضی لمستغلیها بمصر یجری فی المسجد الجامع کل أربع سنین ، فکان ینادی علی البلاد صفقات فی جامع عمرو أمام متولی

ص: 296

خراج مصر وکتّابه ، وهذه عادة من عادات المصریین قدیما (1).

وقد ظلت العراق معظم القرن الرابع ( حتی عام 370ه _ 980م) تحت حکم بنی حمدان ، وکانوا أمراء شبه مستقلین ؛ وهوءلاء الأمرآئ الذین لم یظهر من بینهم بالأعمال العظیمة والفروسیة إلا سیف الدولة صاحب حلب ، جاروا علی الرعیة جوراً عظیما ، وهو ما یفعله أهل البادیة الذین لا یعلمون ولا یحسنون لشئ تعهُّدا ً. وکانوا أسوأ جمیع حکام القرن الرابع . والترک والفرس الذین حکموا فی هذا القرن هم جمیعاً کالآباء لرعیتهم ، إذا قوربوا بالحمدانیین . ومما نشأ عن طبیعتهم البدویة أنهم کانوا لا یبالون بالشجر، ففی سنة 333ه _ 944م أغلقت مدینة حلب أبوابها فی وجه عسکر سیف الدولة ، فاقتلعوا کل الأشجار الجمیلة المحیطة بالمدینة ، وکانت هذه الأشجار ، کما یقول الشاعر الصنوبری المعاصر لذلک العهد ، أکبر ما ازدان به الإقلیم (2).

وقد اغتصب الحمدانیون أکثر أرض العراق ، واشتروا منها القلیل بسهم من أعشار ثمنها (3) ، حتی صارت الموصل وأکثر أعمالها ملکا لناصر الدولة ، وکان یضایق أصحاب الأرض حتی یلجئهم إلی البیع بأوکس الأثمان ، وطالت حیاته وامتدت إیامه حتی استولی علی الناحیة ملکا ومُلکا (4)؛ وقد اکتسح الحمدانیون أشجار الفاکهة والبساتین ، وجعلوا مکانها الغلاّت والحبوب مثل القطن والأرزوالسمسم ، وجلا کثیر من أهل هذه البلاد ، وکان ممن جلا بنو حبیب ، وهم بنوعم

ص: 297

بنی حمدان ، فقد خرجوا بذراریهم ومواشیهم فی اثنی عشر ألف فارس إلی بلد الروم ، حیث أُنزلوا علی کرائم الضیاع ، ثم عادوا إلی بلاد الإسم علی بصیرة بفسادها وعلم بطرقها ، وقلوبُهم تضطرم حقداً وتفور کیداً ، فشنّوا علیها الغارة سلباً ونهباً ، وصارت لهم بذلک عادة . وصادرت الحکومة أرض من جلا عن البلاد وسُلّم بعضها إلی من بقی ، ولم یمکن لهوءلاء ترک البلاد، « وآثروا فطرة الإسلام ، ومحبة المنشأ حیث قضوا أیام الشباب علی مقاسمة النصف من غلاّتها علی أی نوع کانت ، وعلی أن یقدّر الأمیر الدخل ویقومّه عیناً إن شاء أو ورقا ً» . وفی سنة 358ه _ 968م بلغ حاصل نصیبین من الحبوب خمسة آلاف درهم ، عدا ضریبة الجماجم ، فإنها بلغت خمسة آلاف دینار ، وبلغت ضرائب الخمر خمسة آلاف دینار ، وبلغ ارتفاع ما یوءخذ عن الغنم والبقر والدوابّ والبقول خمسة آلاف دینار ، ورُفع من الطواحین والضیاع المقبوضة والمشتراة وغلاّت العقار المسقَّف من الحمَّامات والد کا کین سبعة عشر ألف دینار ، هذا ألف دینار ، هذا علی أن جُلّ البلد قد خرب ، وناسه قد هلکوا ، وبادت الأشجار والبساتین ؛ فلما زال حُکما الحمدانیین غُرست الأشجار وکثرت الکروم والفواکة(1).

فلا عجب بعد هذا أن نجد ابن حوقل حوالی عام 370ه _ 980م یقول إن بنی حمدان هم أغنی ملوک الإسلام فی عهده إلی جانب عبد الرحمن الثالث خلیفة الأندلس(2).

وفی عام 368ه _ 978م فتح عضد الدولة بعض قلاع بنی حمدان ، فکان قیمة

ص: 298

ما فی القلعة عشرین ألف ألف درهم (1).

ومع هذا کانت تقوم بسبب دفع الجزیة منازعات مستمرة بین الحمدانیین من جهة ، وبین بغداد وبوزنطة من جهة أخری (2).

أما إقلیم خراسان الذی خضع فی أثناء القرن الرابع لأمر کثیرین فی مقدمتهم السامانیون والبویهیون ، فقد کانت الضرائب فیه علی ما کانت علیه فیی القرنین الثالث والرابع ، وقد لاحظ ابن حوقل مثل هذا فی هراة (3) ،وهو یحسن الثناء علی السامانیین ، وعلی حسن إدارتهم المالیة وضبطهم للأعمال فی شمال المملکة الإسلامیة وفی شرقها ، یقول ابن حوقل : ولیس بأرض المشرق ملک أمنع جانباً ، ولا أوفر عدة ، ولا أکمل عُدة ،ولا أنظم أسبابا ، ولا أکثر أَعطیةً ، ولا أدر طعاماً ، ولا أدوم حُسن نیاتٍ منهم ، مع قلة جبایاتهم ، ونزور أخرجتهم ، وقلة الأموال فی خزائنهم ، وذلک أن جبایة خراسان وما وراء النهر لأبی صالح منصور بن نوح فی وقتنا هذا ، لکل خراج یقبض وضمان یحل فی کل ستة أشهر ، عشرون ألف ألف درهم . وعلیه أربعة أطعام فی کل سنة دارَّظ غیر مقطوعة ولا ممنوعة ، وکل طعم منها فی رأس تسعین یوماً، یخرج منه إلی غلمانه وقواده ولسائر المتصرّفین خمسة آلاف ألف درهم ، فتستوفی الأربعة أطعام الخراج الواحد لسائر خدمته من الرجال عندآخر السنة ، وتستوعب أعطیتهم نصف جبایاته المذکورة ، وهی عشرون ألف ألف درهم عن نفس طیبة ومسرة ظاهرة ، وغبطة بقیام المعدلة فیهم تامة ..ولهذه الحال أعمالهم مشحونة بالقضاة والجباة

ص: 299

والکفاة ولاولاة ،منزلین علی أرزاق تتساوی ، وأحوال فی المراتب تتدانی ، وذلک أن رزق القاضی وصاحب البرید والعامل علی جبایة الأموال من البنادرة ووالی الصلاة والمعونة راتبهم بقدر کل ناحیة وحسب کل کورة ، ولیس ینقص بعضهم عن بعض » (1).

وقد ارتفعت الجبایظ فی فارس فی عهد عضد الدولة أعظم حکام القرن الرابع ، من 500ر 887ر1 إلی 000ر150ر2، وذلک فی عام 306ه _ 918م. أی أن زیادة الدخل کانت تقرب من السدس(2).

وقد کان فی استطاعة عضد الدولة أن ینفق عن سعة لأن دخله فی السنة کان ثلثمائة وخمسة وعشرین ألف ألف درهم ، ولکنه « کان نیظر فی الدینار ویناقش فی القیراط » ، کما یقول ابن الجوزی (3).

أما مصر فقد حافظت فی الجملة علی المستوی العالی الذی کانت فیه ، فقد استطاع أحمد بن طولون بما کان له من قوة عظیمة أن یستخرج خمسة آلاف ألف دینار فی القرن الثالث . أما فی خلال القرن الرابع بما کان فیه من اضطراب فقد اشتمل ارتفاعها علی ثلاثة آلاف ألف ومائتین ونیف وسبعین ألفاً من الدنانیر ، وفی أواخر القرن بلغ الخراج علی ید الوزیر ابن کلَس أربعة آلاف ألف (4).

ص: 300

ولم یحدث فی القرن الرابع تدهور مالی عام ، وکان الدخل یتوقف ، کما هو الحال دائما ، علی الرجل القابض عی ناصیة الحکم . ففی عام 355ه _ 965م أشار ابن العمید علی رکن الولة أن یدّبر ناحیة أذربایجان لنفسه ویرفع له منها خمسین ألف ألف درهم ، وکانت بلاد أذربیجان غنیة ، ولکن کان علیها إبراهیم السلار ، وکان حاکما ضعیفاً سیئ التدبیر مهملا لأمورها مشتغلاً باللعب ، فلم یکن یرتفع منها أکثر من ألفی ألف درهم « وذلک بسبب إقطاعات الدیلم والأکراد ، وبعد ما یستولی علیه قوم معتزّزون لا یتَمکن من استیفاء الحقوق علیهم ، وبعد ما یضیع بالإهمال وترک العمارة (1).

ولا نجد مثالاً للانحطاط الحقیقی الکبیر فی دفع الضرائب إلا فی العراق ؛ وکان ذلک منذ النصف الثانی للقرن الثالث الهجری . وقد قدّر ابن خرداذبة ارتفاع العراق لسنة 240ه _ 854م بثمانیة وسبعین ألف ألف درهم ، وفی عام 280ه _ 893م ضُمّن جزء کبیر من العراق بألفی ألف وخمسمائة ألف وعشرین ألف دینار ، وهو نصف ما کان أو أقل (2).

وقد بلغ خراج العراق فی میزانیة عام 306ه _ 918م 734ر 547ر1 دیناراً ، وهو أقل من الثلث (3)

وزاد الدخل بعض الزیادة فی أثناءالقرن الرابع ، ففی سنة 358ه _ 968م عقد

ص: 301

ضمان العراق باثنین وأربعین ألف ألف درهم(1).

وعرض عضد الدولة بعد ذلک مثل هذا المبلغ(2).

وکان الفرق بین حال العراق قدیماً وبین ما آلت إلیه فیما بعد عظیما جداً ، فقد کان خراجها قدیماً مضرب المثل فی الکثرة ، حتی کان البعض یقول واللّه لو أعطیتنی خراج العراق ما فعلت کیت وکیت(3).

ثم آل الحال فی آخر القرن الرابع إلی أن یقول عضد الدولة : غرضی من العراق الاسم ومن أرّجان ( القسم الساحلی من فارس ) الدخل(4).

وکان أکبر أسباب هذا التدهور أن البلاد استحالت إلی مستنقعات ، ونظراً لأنها کانت تُروی بالطرق الفنیة فقد کانت تحتاج إلی عنایة ونظام أکثر مما وُجّه لها . وقد اضطر الزرّاع إلی الجلاء ، وکان أهل الموصل مثلاً عرباً جاءوا فی القرن الرابع إلی شمال العراق لیزرعوا تلک الأراضی الفیضانیة التی کانت حتی ذلک الحین جرداء لا نبات فیها(5).

وبعد هذا الفساد کان اعتماد الخزانة ببغداد علی خراج العراق یعرضها للإفلاس ، ثم أصببت حکومة العراق بأول ضائقة مالیة حینما منع الصفّار حمل أموال فارس إلیها ، وقد أدت هذه الضائقة حوالی عام 270ه إلی فکرة الاقتراض ، وأول ما ظهر ذلک فی صورة قرض غیر مضمون غیر مضمون الردّ ؛ وذلک أن

ص: 302

الخلیفة الموفق احتاج إلی مال یخرج به الجند لمحاربة الصفّار ، والتمس من وزیره صاعد بن مخلد أن یحتال فی ذلک ، فقال الوزیر : واللّه ما لی حیلة إلا من حضر النفقات ومنع المرتزقین ، فقال الموفقّ : أین بقع ذلک مما أحتاج ؛ والذی أرید « أن نأخذ من التجار قرضاً، ووظف علیه وعلیک وعلی الکتّاب والعمال مالاً نستعین به علی إخراچ راشد ( .الحملة ) ، فإذا اتسعنا رددناه علیهم » ، فاستوحش صاعد من ذلک ، وأزاد إعمال الحیلة فیث التباعد عنه(1).

وفی سنة 300ه احتاج الوزیر إلی شئ من مال الأهواز ، ولم یکن أصحابه متأهبین لذلک ، فأرسل فی إحضار یوسف بن فیجاس الجهبذ الیهودی، وکان جهبذ الأهواز ، وطلب منه تقدیم ، (2) مال.

وفی سنة 319ه _ 931م م تواطأ مُتَضمَّناً أعمال الخراج والضیاع بفارس وکرمان وتعاقداً علی قَطع حمل المال إلی السلطان ، واشتدت الضائقة بالوزیر فباع من الضیاع السلطانیة بنحو خمسمائة ألف دینار ج وکان ذلک لأول مرة (3)، واستسلف من مال سنة عشرین وثلثممائة شَطرَهُ قبل الفتتحها بشهور ، فلم یبق من مال هذه السنة إلا أقلة ، واضطر فوق هذا إلی أن یقترض مائتی ألف دینار بربح درهم فی کل دینار (4).

وفی سنظ 323ه _ 934م لم تُدفع للتجار أموالُهم ، فطالبوا الوزیر بها، فدفعته

ص: 303

الضرورة إلی أن سبّب لهم علی عمال السواد ببعض مالهم، ثم باع علیهم بالباقی ضیاعاً سلطانیة (1).

وفی سنة 324ه _ 935م احتاج الوزیر إلی مال لدفع استحقاقات الجند ، فطالب میاسیر التجار بأموال یعجلّونها ، ویکتب لهم بها سفاتج ، وأُمر من کان ینزل بسورالمدینة أن ینتقل عنه لتبُاع المنازل التی کانت هناک ملکا للحکومة(2).

وفی هذه الأحوال عاد الأمر فی تحصیل الخراج إلی ما کان جاریاً قبل الإسلام من وسائل ردیئة ، وکانت القروض التی احتاجت إلیها الدولة مبدأ تضمین الخراج فی المشرق ، وأول ما أخذ بطریقة القروض فی عهد الخلیفة المعتضد (289 _ 279ه 901 _ 892م): حدَّث أبوالقاسم عبید اللّه بن سلمان وزیر المعتضد أحد أصحابه فقال له : قد وردنا علی دنیا خراب مُستَغِلقة، وبیوت مالٍ فارغة ، وابتداء عَقد لخلیفة جدید الأمر ، وبیننا وبین افتتاح الخراج مدة ولا بد لی فی کل یوم من سبعة آلاف دینار لنفقات الحضرة علی غایة الاقتصار والتجزیة ، فإن کنت تعرف وجهاً تعیننی به فأرشدنی إلیه ، فأشار صاحب الوزیر بإطلاقهما من سجنهما ، فخاطبا أحد الأّغنیاء فی أن یضمن جزءاً من أرض العراق علی أن یحمل من ماله فی کل یوم سبعة آلاف دینار ، فأعطی خطه بذلک ،وعرف الوزیر الأمر فاستطیر هو والخلیفة سروراً لهذا الحل الجدید بما انطوی علیه من

ص: 304

مهارة(1).

ونجد فی ثبت خراج سنة 915 _ 303م أن خراسان وألأهواز وواسط کانت ضماناً إلا الضیاع (2)وفی سنة 306ه _ 918م ضمّن الخلیفة خراج مصر بثلاثة آلف ألف دینار(3).

وفی سنظ 308ه ضمن الوزیرُ حامد بن العباس خراج العراق وخوزستان وأصفهان للمقتدر ، فارتفعت الأسعار ببغداد َ؛ لأن الوزیر جمع الحبوب فی تلک البلاد ومنع من حملها إلی بغداد ، فثار العامة علی الوزیر ، وسبّوه وفتحوا السجون ، وکبسوا دار صاحب الشرطة وانتهبوا بعض دوابّه ، ومنعوا صلاة الجمعة ، وهدموا المنابر ، وأحرقوا الجسور ، فأمر السلطان بمحاربة العوام ، فأُخذوا ، فضُرب بعضهم ، وفرَّ الباقون ، وطلب حامد بن العباس من الخلیفة فسح ضمانه ، واستأذنه فی الشخوص إلی واسط لینفذ عماله بما فیها من الأطعمة إلی بغداد، واستأذنه فی الشخوص إلی واسط لینفذ عماله بما فیها من الأطعمة إلی بغداد، وفسُخ ضمان حامد وسأل الخلیفة أن یعفیه من الوزارة فلم یجِبه(4).

ولم یکن الذی یتولی صمان الخراج ، فی العراق علی الأقل ، رجلا من عامة الناس ، بل کان عاملا علی خراج البلاد التی یضمنها (5) وکان له أن یولی فی هذا

ص: 305

الإقلیم عمال الخراج ویعزلهم (1).

وکان للحکومة إلی جانب الضامن رجلٌ یشرف علیه لیری إن کان یتحصَّل له زیادة عل ضمانه(2) ، وأن یراعی بنوع خاص أن الضامن یوءدی ما ینفق علی کری الأنهار وحراسة البزندات والبذور ، وعلی المعاونین الذین یحفظون الأمن (3).

أما الضمانات الصغیرة مثل ضمان الصدقات .فیحکی عن الوزیر أبی الحسن بن الفرات أنه قال لکتاب سأله أن یضمنه الصدقات بفارس : « إنما یرغب فی عقد الضمان علی تاجر ملّی أو عامل وفی أوتانٍ (؟) غنی، فأما أصحاب الحروب فعقد الضمان علیهم ومطالبتهم بالخروج من أموالها یستدعی منهم العصیان وخلع طاعة السلطان »(4).

وکان أمراء الأطراف فی معظم الأحوال یظهر أمرهم بأن یکونوا ضامنین للبلاد التی یحکمونها ، ولم یظهروا فی صورة أصحاب الإقطاعات کما کان الحال فی الإمبراطوریة الجرمانیة المقدسة ، وکانوا یتوصّلون إلی الملک بأن یبتدئوا باحتلال المدن والأقالیم غصباً؛ ثم یقاتلون علیها عسکر الخلیفة ، حتی یعترف لهم بالإمارة فی مقابل مال یضمنون أداءه ، وکانت أمثال هذه الضمانات التی توءخذ کرهاً توءتی الحکومة صفقظ سیئة بالنسبة للضمانات الأخری .ففی سنة 296ه _ 909م ضمن ابن أبی الساج أرمینیة وأذر بایجان قبل أن تؤولا إلی

ص: 306

السامانیین بمائة وعشرین ألف دینار ، وهو ما یقرب من عُشر الدخل الذی کانت تدفعه هذه البلاد منذ مائة سنة(1)

وفی سنة 322ه _ 934م فتح عماد الدولة بن بُویه إقلیم فارس ، وطلبها ضماناً من الخلیفة ، علی یدفع إلیه ألف ألف درهم ، علی حین أنها کانت توءتی من مال الخراج والضیاع وحده منذ عام 299ه 911م إلی ما بعد ذلک بعشرین عاماً ثمانیة عشر ألف ألف درهم(2).

وکذلک کان ضمان عمان فی أوائل القرن الرابع ثمانین ألف دینار ، وکان خراجها تحت الإدارة المباشر قبل ذلک بمائة عام ثلاثمائة ألف دینار(3)

وکان استعمال الوسائل القاسیة فی تحصیل الخراج من الوسائل المعروفة قدیماً ، وبما کان ضروریا ، فمثلاً کان أهل بادوریا حول بغداد معروفین بالجَلدَ ، وکان علیهم بقایا أموال ، فتولًی علیهم ابن أبی السلاسل ، وفی قلیه أحقاد ورغبة فی القشقی منهم ، وإخراج ما علیهم من البقایا ؛ فطالبهم ، فامتنعوا وصبروا علی الحبس والقید، فأملی رقعة إلی الوزیر علی بن عیسی یغریه فیها بهم کل إغراء ، ویقول : هوءلاء قوم یدِلُّون بالجَلَد، وعلیهم أموال قد ألطّوا بها ، وصبروا علی الحبس والقید ، ومتی لم تُطلَق الید فی تقویمهم واستخراج المال منهم تأسی بهم اهل السواد وبَطَل الارتفاع ؛ فردّ علیه الوریر بقوله :الخراج ، عافاک اللّه ، دَینٌ لا

ص: 307

یجب فیه غیر الملازمة . قد تتعدَّ ذلک إلی غیره(1).

وهذا القرار الذی قروه الوزیر بطابق المبدأ الذی عُمِل به فی زمن الرشید ، وهو المنع من ضرب الناس فی الخراج أو إقامتهم فی الشمس أو تقییدهم(2).

وکان أصحاب الخراج فی عهد هذا الخلیفة نفسه یطالَبون بصنوف من العذاب حتی عام 184ه حین أمر الرشید برفع العذاب عنهم ، فارتفع من تلک السنة(3)

وفی عام 187ه _ 803 م وُلّی علی خراج مصر عاملٌ بعد أن ضمن جبایة الخراج عن آخره « بلا سوط ولا عصا» (4).

علی أن دیونیسیوس یصف جُباة الخراج فی العراق حوالی عام 200ه _ 815م بأنهم « قوم من العراق والبصرة والعاقولا ، وهم عُتاة لیس فی قلوبهم رحمة ولا إیمان ، شرّمن الأفاعی ، یضربون الناس ویحبسونهم ، ویعلقون الرجل البدین من ذراع واحد حتی یکاد یموت »(5) .

وفی أواخر القرن الثالث وصف الأمیر عبداللّه بن المعتز (6) الإدارة فی عهد الوزیر ابن بلبل ، وکان ابن المعتز یحمل له کراهیة شدیدة ، ووصف کیف کانت تجبی أموال الخراج من غیر رحمة :

ص: 308

فکم وکم من رجل نبیل *** ذی هیبة ومرکب جلیل

رأیته یعتلّ بالأعوان *** إلی الحبوس وإلی الدیوان

حتی أُقیم فی جحیم الهاجره *** ورأسه کمثل قِدر فائره

وجعلوا فی یده حبالا *** من قنّب یقطّع الأوصالا

وعلقوه فی عری الجدار *** کأنه برّادة فی الدار

وصفقوا قفاه صفق البطل *** نصباً بعین شمات وخل

إذا استغاث من سعیر الشمس *** أجابه مستخرج برفس

وصبَّ سجانٌ علیه الزیتا *** وصار بعد بزة کمیتا

حتی إذا طال علیه الجهد *** ولم یکن مما أراد بدّ

قال ائذنوا لی أسأل التجارا *** قرضاً وإلا بعتهم عقارا

وأجّلونی خمسة أیاما *** وطوّقونی منکمو إنعاما

فضایقوا وجعلوها أربعه *** ولم یوءمل فی الکلام منفعه

وجامع المعینون الفجره *** وأقرضوه واحداً بعشره

وکتبوا صکا ببیع الضیعة *** وحلفوه بیمین البیعة

ثم تأدّی ما علیه وخرج *** ولم یکن یطمع فی قرب الفرج

وجأه الأعوان یسألونه *** کأنهم کانوا یدلّلونه

وان تلکّا أخذوا عمامته *** وجمشوا أخدعه وهامته

فالآن زال کل ذاک أجمع *** وأصبح الجور بعدل یقمع

وکان التعذیب أشد مما تقدم إذا کان استرداداً لأموال الدولة، وأخص ما کان یستعمل فی ذلک القیودُ الحدیدیظ الثقیلة فی الأرجل ، والضرب المُتلِف، والتعلیق

ص: 309

من الید الواحدة (1) ، وقد عذّب الخلیفة القاهر أُمّ المقتدر أخیه وسلفه علی عرش الخلافة، فضربها ، وعلّقها برجلها لتخرج ما لها ،وتحلّ أوقافها ، وکل فی بیعها ، فامتنعت ،ووکلّت فی بیع أملاکها دون أوقافها ، ولکن القاهر أرغمها علی ما أراد ، وکتب إقراراً منها بذلک ، وأحضر القضاة لشهادة علی ترکبلها ، واستلزمت الشهادة أن یروها رأی العین . وقد تحدّث القاضیان الدیان وأیاها بهذه القصة فقالا:« ولما رأیناها رأینا عجوزاً رقیقة الحال سمراء الوق إلی البیاض والصفرة ، علیها أثر ضرب شدید ، فما انتفعنا بأنفسنا ذلک الیوم ، فِکراً فی تقلّب الزمان ، وتصرُّف الحدثان »(2) .

ثم غُذَّب آخرون بأن غُرزت فی أظافیرهم أطراف القصب (3) ، أوبالضرب علی رءوسهم بالدبابیس (4) ، وقدوصف شاهد عیان کیف جئ بأحد المصادرین من محبسه «یرسف فی قیوده ، وعلیه جبة دنسة وشعره طویل .وجعل یشکو ما أصابه من المکاره ، وفرائصه تُرعد »(5) .

ص: 310

وربما أمعن المطالبون فی التعذیب فألبسوا فریستهم جبَّة صوف مدهونة بانفط أوبماء الأ کارع (1).

وفی سنة 325ه _ 936م دخل بحکم الترکی وأصحابه العراق ، فاعتقل الناس ، واشتد فی مطالبتهم بالمال وعذّبهم ، فکان یضع علی بطونهم أطسات الجمر ، حتی قال له رجل أراد أن یسبر ما فی نفسه من طلب العراق: أیها الأمیر ! أنت مُطالب بملک ، ومرشّح نفسک لخدمة الخلافة ، ألا تعلم أن هذا إذا سُمع به أوحش منک؟ وقد حَمَلتَ نفسک فی أمرنا علی مثل ما کان یعمله مرداویج بأهل الجبل ، وهذه بغداد ودار الخلافة لا الری وأصبهان ، ولا تحمل هذه الأخلاق ؛ فلما سمع بحکم ذلک انحلّ وفک القیود وأزال المطالبة(2).

وکانت هذه المطالبات القاسیة تعتبر عند الجمیع أعمالاً تدل علی قلة الإیمان ، کما یوءخذ من حکایة ترجع إلی القرن الرابع : « حدث أبوالحسن علی بن الحسین بن عبدالأعلی قال : کنت بحضرة أبی الحسن ابن الفرات فی وزارته الإولی ( 299 _ 296ه 911 _ 908م) ، وهو جالس یعمل ، إذا رفع رأسه ، وترک العمل من یده ، وقال : أرید رجلاً لایوءمن باللّه ولا بالیوم الآخر یطیعنی حق الطاعة ، فأُنفذه فی مهم لی ، فإذا بلغ فیه ما أرسمه له أحسنت إلیه إحساناً یظهر علیه وأغنیته؟ فأمسک من حضر ، ووثب رجل یکنی بأبی منصور ، أخ لابن أبی شیب حاجب ابن الفرات ، فقال : أنا أیها الوزیر ، قال : وتفعل ؟ قال :أفعل وأزید ، قال: کم ترتزق؟ قال أرتزق مائة و عشرین دیناراً. قال: و قعوا له بالضعف،

ص: 311

وقال :سَل حوائجک ، فسأله أشیاء أجابه إلیها ، فلما فرغ من ذلک قال : خذ توقیعی وامض إلی دیوان الخراج وأوصله إلی کاتبی الجماعة ، وطالبهما بإخراج ما علی محمد بن جعفر بن الحجاج ، وطالبه بأداء المال ، وأتلفه إلی أن تستخرج جمیعه ، ولا تسمع له حجة ولا تمهله ألبتّة . فخرج وأخذ من رجَّالة الباب ثلاثین رجلا ، فقلت (الحاکی) لأخرجنَّ وأمضینَّ إلی الدیوان حتی أنظر ما یوءول إلیه الحالَ؛ فخرجت وصرت إلی الدیوان .فدخل أبو منصور هذا إلی الصقربن محمد وعبیداللّه بنمحمد الکلوذانی ، وهما صاحبا المجلس شرکة ، فلم یجد الکلوذانی ووجد الصقر بن محمد، فأوصل إلیه التوقیع ، وقال له أَخرج ما علی ابن الحجاج ، فقال : علیه من باب واحد ألف ألف درهم ، فطالبه بذلک إلی أن نفرغ من العمل بسائر ما یلزمه . وکان محمد بن جعفر من عمال أبی الحسن علی بن عیسی ، قال : فأحضر ابن الحجاج ، وشتمه ، وافتری علیه ، وابن الحجاج یستعطفه ، ویخضع له ؛ ثم أمر بتجریده وإیقاع لمکروه به ، فأُوقع ، وهو فی ذلک کله یقول : کفی ، اللّه ، ثم أمر أبو منصور بنصب دقل ، فنُصب ، وجُعل فی رأسه بکرة فیها حبل وشدت فیه یدُ ابن الحجاج ، ورُفع إلی أعلی الدقل ، وهو یستغیث ویقول : یکفی ، اللّه. فما زال معلَّقاً ، وأبومنصور یقول له : المال المال ، وهو یسأله حطَه وإنظاره إلی أن یواقف الکتّاب علی ما أخرج عیه ، وهو لا یسمع منه ، وقد قصد تحت أ .واختلط ، وغضب من غیر غضب من غیر غضب ، اعتماداً لأن یبلغ ابن الفرات فعلُه ، فلما ضجر قال لمن یمسک الحبال : أرسلوا ابن الفاعلة (وعنده أنهم یتوقفون ولا یفعلون)، فأرسلوه لما رأوه علیه من الحدة والغضب ، ووافی ابن الحجاج إلی الأرض ، وکان بدیناً سمیناً، فوقع علی عنق أبی منصور فدّقها ، وخرّ

ص: 312

علی وجهه ، وسقط ابن الحجاج مغشیا علیه ، فحُمل أبومنصور إلی منزله فی محمل فمات فی الطریق ورُدّ ابن الحجاج إلی محبسه ، وقد تخلّص من التلف ،وعجب من حضر مما رآِ وکتب صاحب الخبر بالصورة إلی ابن الفرات ، فورد علیه منها أعظمُ مورد ، وبکّرت عرفان زوجة ابن الحجاج إلی موسی بن خلف حتی أوصلها إلی ابن الفرات ، فقررت أمره علی مائة ألف دینار سلّمت ببعضها جعدة وقراها من طوج کوفی ونُجَّم الباقی ، وأُطلق ابن الحجاج ؛ وکان الناس یعجبون من قول ابن الفرات: أرید رجلاً لا یوءمن باللّه ولا بالیوم لآخریطیعنی »(1)، ولم تُبسط علی الناس أصناف العذاب والمکاره حتی کانوا یموتون تحتها أقبح موت إلا فی عهد الأمیر بختیار ببغداد ، وکان حکم هذا الأمیر أسوأحکم فی القرن الرابع(2).

ولعلّ مما تمجه النفس أن تری کبار العمال یشترون من السلطان رجالا منکودین ، وأن کلا منهم ینافس الآخر فی تقدیم أکبر ضمان ، إذا سُلّم إلیه وزیر نهب الأموال ، آملاً أن یقدر بعد ذلک علی استخراج مبلغ یزید علی ضمانه بوسائل التعذیب(3).

ولکن هذه الوسیلة لاغتصاب الأموال قویت أیضاً فی عهد بختیار خاصة ، ولم تکن شائعظ فی عهد جمیع الحکام .

ص: 313

ص: 314

بعد اخراج خمسها او مطلقا فتعطی لمن یعمرها و یستغلها، و یقدر له اجرة الارض و هی الخراج و شرطها کون الفتح باذن المعصوم، و الا فتکون من الانفال الراجعة الیه علیه السلام.

3- أو تکون مواتا حال الفتح فهی للامام علیه السلام.

4- أو یسلم علیها اهلها علی ان تکون للمسلمین و هی کالثانیة، و یرجح ان تکون راجعة إلی الامام علیه السلام و تعد من الانفال. و الخراج إنما یکون علیهما لا علی القسمین الاول و الثالث.

نعم قد تکون الارض الخراجیة او الموات تقطع من جانب الحاکم المتسلط إلی ای واحد من المتقربین منه او المنسوبین الیه او خدمه او اعوانه او قواده او من عمل له ای عمل معجب. و هذا ما اشیر الیه فی المتن. و عند الفقهاء فیه العشر و عده فی ذیل الصفحة ثالث الاقسام. و اما الاقسام الخمسة الباقیة فالاول ذکرناه اول الاقسام. والثانی ثالثها الذی اشرنا الیه. والرابع هو ثانی الاقسام التی ذکرناها. و الخامس و السادس یرجعان إلی الانفال و هی ملک لمن احیاها مطلقا أو یؤدی خراجها إلی الامام المعصوم او نائبه اذا لم یکن المحیی مسلما. و للشیخ الطوسی قدس سره فی الخلاف (1) مدعیا فیه و فی القسم التالی اجماع الفرقة و اخبارهم. ما اصطلح علیه بارض العشر. فاذا صالحنا المشرکین علی ان تکون الارض لهم بجزیة التزموها و ضربوها علی ارضهم (اراضیهم) فیجوز للمسلم ان یشتریها و یصح الشراء و تصیرارضها عشریة و من هذا القسم ما اشرا (2) الیه بقوله یجوز (متی) اسلموا سقط عنهم و صارت الارض عشریة:

ص: 315

[*5] یذکر الشهید (1) الاول محمد بن مکی قدس سره و هو من اعاظم فقهاء الشیعة فی القرن الثامن الهجری ان عند العامة کل مال جهل مالکه و لا یتوقع معرفته فهو لبیت المال و قد نظم بعضهم وجوه بیت المال فقال:

جهات اموال بیت المال سبعتها *** فی بیت شعر واها فیه لافظه

خمس خراج و فیء جزیة عشر *** و وارث فرد و مال ضل حافظه

ثم قال و ظاهر کلام اصحابنا انحصار وجوه بیت المال فی المأخوذ من الارض المفتوحة عنوة خراجاً و مقاسمة و یمکن الحاق سهم سبیل الله فی الزکوة علی القول بمعصومه و قد ذکر الاصحاب ان مصرف الجزیة عسکر الا سلام و العشر لا اصل له عندنا وارث من لا وارث له للامام و المال المأیوس من صاحبه یتصدق به.

نعم قد یشکل المرتضی فی دیة الجنایة علی المیت انها لبیت المال و یجری فی کلام بعض اصحابنا ان میراث من لا وارث له لبیت المال و اما الخمس فمصرفه معلوم عندنا...

[*6] هذا فیه الخمس و الباقی لواجده بشرائط مذکورة فی کتبنا الفقیة استدلالیة او فتوائیة.

[*7] هذا و ما بعده یدخل فی أحد السبعة الذکورة فی الشعر السابق لانهما مصداق مال ضل حافظه، و عندنا یعد من مجهول المالک و له احکام خاصة مذکورة فی الکتب الفقهیة.

[*8] قد تقدم فی کلام الشهید انه للامام، و مما هو مسلم عندنا ان ارث الامام علیه السلام بالولاء و هو فی غیر الزوجیة مترتب علی عدم مناسب (ای) وارث نسبی و عدم معتق و ضامن الجریرة

ص: 316

[*9] سبق منا الکلام فی ذلک.

[*10] هذا غلط و قد اشرنا الیه سابقاً.

[*11] القول جریا علی مذهب اهل البیت.

[*12] هولآء الفقهاء من قبیل و عاظ السلاطین.

[*13] لعل هذا هو السبب فی تسمیة من یأخذ المکوس بالعشار، بل فی هذا الزمان یسمی البصرة او معظمها عشاراً لاجل میناءها.

[*14] بینما رسول الله صلی الله علیه و آله (1) مات و هو مدیون، و قتل امیر المؤمنین علیه السلام (2) و علیه دین و مات الحسن علیه السلام و علیه دین، و قتل الحسین علیه السلام و علیه دین، بل عن جعفر (3) بن محمد عن آبائه علیهم السلام لقد قبض رسول الله صلی الله علیه و آله و ان درعه لمرهونة عند یهودی من یهود المدینة بعشرین صاعاً من شعیر استلفها نفقة لاهله، و فی دعاء الندبة (4) المشهور قوله صلی الله علیه و آله لعلی علیه السلام و انت تقضی دینی.

و عن الطبری (5)باسناد له عن عباد عن علی علیه السلام انه قال: قال رسول الله صلی الله علیه و آله: من یؤدی عنی دینی و یقضی عداتی و یکون معی فی الجنة؟ قلت: انا یا رسول الله، و عن فردوس (6) الدیلمی، قال سلمان قال صلی الله علیه و آله: علی بن ابی طالب ینجز عداتی و یقضی دینی و قوله علیه السلام (7) انت قاضی دینی فی روایات کثیرة.

ص: 317

و عن قتاده (1) بلغنا ان علیاً علیه السلام نادی ثلاثة اعوام بالموسم من کان له علی رسول الله صلی الله علیه و آله شیء (دین) فلیأتنا نقضی عنه...

[*15] و امیر المؤمونین علی علیه السلام کان (2) یکنس بیت المال کل جمعة و یصلی فیه رکعتین و ما خلف (3) صفراء و لا بیضاء إلا سبعمأته فضلت من عطائه أراد أن یبتاع بها خادما لأهله:

(من کلام الحسن علیه السلام فی صبیحة اللیلة التی قبض فیها امیرالمؤمنین علیه السلام ).

[*16] قال شیخنا شیخ الطائفة الطوسی قدس سره فی الخلاف (4) ما یؤخذ من الجزیة و الصلح و الاعشار من المشرکین، للمقاتلة المجاهدین، و استدل علیه باجماع الفرقة و اخبارهم فی أن الجزیة للمجاهدین لا یشرکهم فیها غیرهم و اذا ثبت ذلک ثبت فی الکل لأن الصلح ایضاً جزیة عندنا فاما الاعشار فانه ینصرف (یصرف) فی مصالح المسلمین الخ....

[*17] تقدم الکلام علیه قریبا.

[*18] ان هذا اشتباه فان المنهج الذی جاء به الا سلام هو اعطاء الزکوة، و اموالها معلومة لا تتجاوز تسعة، و لها شرائط و نصب خاصة و مصارف معینة ذکرها فی القرآن الکریم: «إنما الصدقات للفقراء و المساکین و العاملین علیها و المؤلفة قلوبهم و فی الرقاب و الغارمین و فی سبیل الله وابن السبیل فریضة من الله و الله علیم حکیم»(5)

والخمس، و انما یتعلق بسبعة احدها الغنیمة فی الحروب و هو والزکوة انما یجبان علی

ص: 318

الناس ابتداء من ناحیة الشریعة المقدسة

و اما الکفارات بمختلف أنواعها فأکثرها لیس بسبب ابتدائی، بل ایجاد موجبه إلی الانسان نفسه نعم فی بعض الموارد القلیلة فی الحج توجد کفارات للمضطر و نحوه.

کما ان النذورات سببها بید المکلفین و هناک انفاقات خاصة لقرابة الشخص کالوالدین للولد والعکس و کانفاق الزوج علی زوجته، لیس شیء منها امتصاصاً للشروة و لا یوجد غیرما ذکرنا شیء فی الاسلام من طریق الامتصاص امضاه الشارع أو أبقاه و قد تقدم الکلام فی الجزیة و العشر و ان الاول علی أهل الذمة و الثانی علی الاراضی بالکیفیة المتقدمة ولکل من هذه شروط واحکام خاصة و لا ینبغی ان یعد امتصاصاً.

[*19] هذا لا یرجع إلی الشرع و لا یمس کرامته و انما هو فعل من تسمی بالاسلام من القواد والحکام:

[*20] قال الیعقوبی (1) و کان سنة 184 واعتل الرشید فی تلک السنة علة شدیده و شفی منها، فدخل الیه الفضیل بن عیاض فرأی الناس یعذبون فی الخراج فقال ارفعوا عنهم، انی سمعت عن رسول الله صلی الله علیه و آله یقول، من عذب الناس فی الدنیا عذبه الله یوم القیاة، فامر ان یرفع العذاب عن الناس، فارتفع العذاب من تلک السنة.

[*21] ما ابعد بین هذه الافعال و ما کان یوصی به امیرالمؤمنین علیه السلام و یفعله، فقد ورد فی کتاب له إلی عماله علی الخراج: و لا تبیعن (2) للناس فی الخراج کسوة شتاء و لا صیف ولا دابة یعتملون علیها و لا عبداً، و لا تضربن أحداً سوطاً لمکان درهم و لا تمسن مال احد من الناس مصل ولا معاهد إلا ان تجدوا فرساً أو سلاحاً یعدی به علی اهل الاسلام.

ص: 319

[*22] یحدثنا المسعودی (1) عن الحجاج حیث امر ابن عم له بدوی علی اصفهان بعدان کلفه بقسمة ثلاثة دراهم بین اربعة، فما زال یقول ثلاثة دراهم بین أربعة، ثلاثة بین أربعة.

لکل واحد منهم درهم، یبقی الرابع بلا شیء، کم هم ایها الامیر؟ قال: هم أربعة، قال نعم ایها الامیر، قد وقفت علی الحساب، لکل واحد منهم درهم، و انا اعطی الرابع منهم درهماً من عندی، و ضرب بیده ؤلی تکته فاستخرج منها درهماًریال و قال أیکم الرابع؟ فلا ها الله ما رأیت کالیوم زوراً مثل حساب هؤلاء الحضربین، فضحک الحجاج و من معه، ثم قال الحجاج ان اهل اصبهان کسروا خراجهم ثلاث سنین، کلما اتاهم و ار اعجزوه فلا رمینهم ببدویه هذا و عنجهیته إلی و کتب له عهده علی اصبهان الی، فلما استقر فی داره باصبهان، جمع اهلها فویخهم علی نقص الخراج و طلبوا منه تأخیر الخراج ثمانیة أشهر، فاخذ منهم عشرة ضمناء یضمنون و أعطاهم عشرة أشهر مهلة، فلما قرب الوقت راهم غیر مکترثین لما یدنوا من الاجل، فقال لهم: فلم ینتفع بقوله، فلما طال به ذلک، جمع الضمناء و قال لهم: المال، فقالوا اصابنا من الآفة ما نقض ذلک، فآنی ان لا یفطر (و کان فی شهر رمضان)حتی یجمع ماله أو یضرب اعناقهم، ثم قدم أحدهم و ضرب عنقه، و کتب علیه فلان بن فلان ادی ما علیه، و جعل رأسه فی بدرة و ختم علیها، ثم قدم الثانی، ففعل به مثل ذلک، فلما رأی القوم الرؤوس تبذر و تجعل فی الاکیاس بدلاً من البدر، قالوا ایها الامیر توقف علینا حتی نحضر لک المال، ففعل فاحضروه فی اسرع وقت إلی و لم یزل علیها والیا حتی مات الحجاج

ص: 320

ص: 321

السواد هو کذلک لون الخرقة التی کانت تحضر فیها الصدقة کل یوم عند صلاة الصبح لنفریقها علی المحتاجین(1).

وکذلک کان عَلَم الخلافة أسود ، علیه بالکتابة البیضاء : محمد رسول اللّه(2).

أما خلفاء الفاطمیین بمصر فکان لباسهم البیاض ، وهو شعار العلویین ؛ وکانت ألویتهم بیضاء ، وعلیها أحیاناً أهلّة من ذهب ، فی کلٍّ منها صورة سبع من الدیباج الأحمر ؛ وقدشبّهها أحد الشعراء بشقائق النعمان (3).

وکانت طریقة تتویج الخلیفة أن یعقِدَ لواء نفسه علی الرسم المعروف فی ذلک ، وأن یتسلم خاتم الخلافة ممن یکون ذلک معه(4).

وهذا تتوبجٌ علی الطریقة العربیة البسیطة أما أمراء الأطراف فقد کان التتویج بالنسبة لهم تتویجاً حقیقیا تجری رسومه علی الطریقة الوثنیة؛ فکان یوضع علی

ص: 322

رأس الأمیر تاجٌ مرصّع بالجواهر ، ویلبس طَوقاً وسوارَین من الذهب المنظوم بالجوهر عادة(1).

وکان لباس الحاشیة الرسمی فی القرن الثالث الهجری أحمر اللون فی العادة؛ فیحکی أن المتوکل شرب یوماً فی أحد قصوره ، وأمر بضرب دراهم ؛ وصُبغ منها الأحمر والأصغر ، ثم أمر الحاشیة أن یعِدَّ کل واحد منهم قباء جدیداً وقلنسوة علی خلاف لون الآخر وفلنسوته ؛ ثم أمر بنثر الدراهم کما ینثر الورد ، وحوله الندماء والخدم وقوف (2).

أما فی القرن الرابع فکان الغلمان عند ساعات الاستقبال بعضهم بسواد وبعضهم ببیاض(3).

وکان یحمل علی رأس خلفاء العباسیین والفاطمیین شَمسة الخلافة (وتسمی

ص: 323

فی مصر .)؛وقلَّ ما نسمع عن الشَّمسة ببغداد، ففی عام 332ه _ 943م أمر الخلیفة أن تُحمل بین یدی أحد الکبراء شمسة الخلافة ، فکان هذا ..بما لم بسبح به من کان قبله من الخلفاء(1).

وکانت المظلة فی القاهرة علامة أبّهة الخلافة ، وکان لونها یشابه لون ثیاب الخلیفة(2).

وکان من علامات سیادة الخلیفة ببغداد أن یضرب علی باب داره بالطبول والدبادب ولاأبواق فی أوقات الصلوات الخمس ، وکان لایوقَف ذلک إلا أیام العزاء بدار الخلافة(3).

وقد حاول الخلیفة أن یحافظ علی هذه المزیة ویحول دون اتخاذ الأمراء لها ولکن ذلک لم یدُم ؛ ففی عام 368ه _ 978م أمر الخلیفة بأن تُضر _ الدبادب علی باب عضد الدولة فی أوقات الصلوات الثلاث : الغداة والمغرب والعشاء؛ وفی عام 418ه _ 1027م أذن الخلیفة بعد إباء لجلال الدولة بأن یضرب الطبل أمام داره فی الصلوات الخمس ؛ وفی سنة 436ه _ 1044م ضُرب الطبل أمام دارالأمیر خسماً ، کما هو الجال بانسبة للخلیفة تماماً(4).

وظل لقب الخلیفة بسیطاً کبساطة لباسه ، وهو اللقب المشهور :«أمیر

ص: 324

الموءمنین »(1)؛ علی أنه منذ أیام الخلیفة العباسی الثانی صار الخلیفة یمسی باسم فیه نسبة إلی اللّه ؛ وکان اتخاذ هذا اللقب أول عمل یقوم به بعد البیعة له(2).

ولا نعرف المثال الأولی الذی کان أساساً لذلک . وفی سنة 322ه _ 933م طلب الخلیفة الراضی من صدیقة الصولی ج الأدیب ولاعب الشطرنج المشهور ج أن یوجّه إلیه بالأسماء التی تُنعت بها الخلفاء وتکون أوصافاً لهم . ویحکی لنا الصولی نفسه (3) أنه بعث إلیه رقعة فیها ثلاثون اسماً لیختار منها ما یرید ، وأشار علیه أن یختار منها المرتضی باللّه .وقد وثق من اختیاره له حتی إنه ابتدأ من وقته یعمل أبیاناً ضادیة نافیتها المرتضی ، علی أن ینشده إیاها ؛ فلما فرغ منها جاءه ورسول الخلیفة برقعة فیها :إن إبراهیم بن المهدی لما بویع أیام المقتدر بالخلافة أراد أن یکون له ولی عهد ، فأحضروا المنصور بن المهدی وسموه المرتضی ، وما أحب ، أن أتسمی باسم قد وقع لغیری ، ولم یتَم له أمره ؛ وقد اخترت الراضی باللّه. وقد حفظ لنا الصولی فی تاریخه القصیدة الأولی التی ألقها ، ولم یقدّر لها أن تنشد .وقد أمره الخلیفة أ ن یعملها قصیدة أخری علی قافیة الراضی ، فعملها(4).

وکان کاتب الخلیفة الفادر (422 _ 381ه 1031 _ 991م) أول من أخرج فی ذکر الخلیفة وصّفَه بالحضرة المقدسة النبویة ، اختراعاً جعله قُربة ، فصار سنّة ؛

ص: 325

ومضی فی ذلک حتی خرق العرف والعادة ، فکتب عن الخلیفة بالخدمة ، حتی رأیت بخط أبی الحسن بن أبی الشوارب القاضی فی ترجمة رفعة : خادم الخدمة الشریفة فلان بن فلان »(1).

وکان الأمراء وکبارُ أصحاب المناصب والعمال ینها لکون جیمعاً علی الألقاب تهالکا شدیداً ، وکانواجمیعاً یلَقبّون بألقاب منسوبة إلی الدولة مثل ولی الدولة ، وعماد الدولة ، ومعُین الدولة ، وعزّالدولة ، ونحو ذلک(2).

ویقول البیرونی (المتوفی عام 447ه _ 1055م):«وبنو العباس لما لقّبوا أعوانهم بالألقاب الکاذبة ، وسوّوا فیها بین المُوالی والمعادی ، ونسبوهم إلی الدولة بأسرهم ضاعت دولتهم »(3).

وفی النصف الثانی من القرن الرابع احتیج إلی التفریق بین أصحاب الألقاب فُثّنی لبعضهم التلقیب ، فکان عضد الدولة ( المتوفی عام 372ه _ 982م) یلَقّب بتاج الملة ؛ وأخیراً ثُلَّث التلقیب ، فلقَّب بهاء الدولة ضیاء الملة وغیاث الأمة . ثم ذاعت ألقاب الدولظ فی کل مکان عند الفاطمیین ، وعند السامانیین فی تلقیب قواد الجیوش دون تلقیب أنفسهم ، لأنهم لم یرغبوا فیها ، واکتفوا بالتکنیة ، وعند

ص: 326

بغراخان الترکی؛ فإنه لما خرج فی سنة 382ه _ 992م لقّب نفسه بشهاب الدولة ؛ ثم ظهرت ألقاب کاذبة فیها معارضة لروح الإسلام وتجروء علی مقام الألوهیة . وکان البویهیون أول من سموا وزراءهم بأسماء مما ینبغی أن یطلق علی اللّه مثل :الأوحد وکافی الکفاة ، وأوحد الکفاة ؛ وجاوز نفر هذا الحد ، فسموا أنفسهم بأمیر العالم وسید الأمراء ؛ ولذلک یوقل البیرونی بعد ذکره ما تقدم :«فأذاقهم اللّه الخزی فی الحیاة الدنیا ، وأظهر لهم ولغیرهم عجزهم »(1).

وأخیراً یقال إن الخلیفة القادر باللّه ( 422 _ 381ه 1030 _ 991م) لقب محمود بن سبکتکین صاحب غزنة بأکبر لقب ظل له شأن عند الأجیال التالیة وهو لقب السلطان ، وکان محمود أول من لقب به(2).

ولکن أمیر بغداد طلب فی سنة 423ه _ 1031م أن یلقّب بالسلطان المعظم مالک الأمم ، فقال القاضی الماوردی ، رسول الخلیفة إلی الأمیر ؛ إن هذا لا یمکن ؛ لأن السلطان المعظم هو الخلیفة ، وکذلک مالک الأمم ، فعدل الأمیرإلی لقب مالک الدولة، فأجاوءه الماوردی(3).

وفی سنة 429ه _ 1037م زید فی ألقاب جلال الدولة شاهنشاه الأعظم ملک الملوک ، وهو اللقب الوثنی القدیم ؛ فنفر العامة من ذلک ،ورموا الخطباء الذین ذکروه فی المساجد بالآجرَّ ؛ ووقعت فتنة ؛ ومع أن الفقهاء أفتوا بأن هذه الأسماء أنما یعتبرَ فیها القصد والنیة ، وأنَّ ملک الملوک معناه ملک ملوک الأرض ، ولیس

ص: 327

فیه ما یوجب النکیر ولا الممائلة بین المخلوق والخالق ، وأن هذا القب جائز ،کما جاز أن یقال :کافی الکفاة ، وقاضی القضاة فإن کثیرین من أهل الجد والتدفیق لم یرضوا به ، وذکروا أن القاضی الماوردی منع من جوازه ، حتی أدی ذلک إلی أن انقطع عن خدمة جلالة الدولة بعد أن کان مختصاًّ به(1).

ولم یرض هلال الصابی عن تلقیب القادر باللّه ابنه وولی عهده بالغالب باللّه فی عام 391ه _ 1009م؛ وهو یذکر بعد حکایته لهذا تلک العبارة المعروفة التی کانت مکتوبة علی قصر الحمراء: لا غالب إلا اللّه وحده لا شریک له(2)

ولم تکن ثمة قیمة حقیقیة إلا الألقاب التی یمنحها الخلیفة ، وکان یدفع له من أجلها الشئ الکثیر؛ وکان ذلک أکبر أبواب دخله فی أواخر القرن الرابع الهجری ، فبعد أن لُقّب أمیر بغداد بمالک الدولة فی سنة 423ه _ 1031م بعث للخلیفة ألطافا کثیرة ؛ وقد أرسلها قبل التلقیب ، وإن کان قد أحب أن یلقّب أولا ثم یرسلها . وکانت هذه الهدایا ألفی دینار ؛ وثلاثین ألف درهم ، وعشرة أثواب خز ، ومائة ثوب دیباج مرتفعة ، ومائة أخری دونها ، وعشرین منّا عوداً ، وعشرة أمناء کافوراً ، وألف مثقال عنبراً ، وألف مثقال مسکا ، وثلاثمائة مبخر صینی ، وأرسل أیضاً هدایا أخری لبعض رجال الحاشیة(3).

ص: 328

وفی هذا العصر أیضاً ارتقت صور الأدب فی حضرة الخلفاء حتی صارت علی رسم بقی فی جوهره مستمراً طول العصور . کان الخلیفة المأمون حوالی سنة 200ه یخاطب کما یخاطب أی رجل آخر بلفظ أنت (1).

وکذلک کان یخاطب الخلیفة المقتدر عادة حوالی عام 300ه(2).

وإن کانت تستعمل إذ ذاک طریقة الخطاب بضمیر الغائب إلی جانب ذلک ، فکان یقال أمیرالموءمنین أمر بکیت کیت . وفی أواخر القرن الثالث لم یکن من السائغ أن یخاطَب أی رجل بمثل هذه الباسطة ، وفی أوائل القرن الرابع لقی الخلیفةُ المتقی الأخشیدَ صاحب مصر بالرقّة ؛ وقد حمل الأخشید الهدایا ، وأظهر الخدمة والأدب ؛ وخاطب وزیرُ المتقی الأخشیدَ باسمه ، فأمره الخلیفة بأن یکنَّیه تأکیداً لقدره واحتراماً له (3).

وفی القرن الخامس الهجری ( الحادی عشر المیلادی ) کان الخلیفة المعتضد لشدة هیبته إذا خاطب صدیقه الطبیب ثابت بن سنان فی الملأ سمّاه ؛ وإذاکان فی الخلوات کنّاه(4)

وکان المأمون یمدیده مسلماً علی البطریق دیونیسیوس، وهکذا کان یفعل بکل من یرید إکرامه(5)

ص: 329

ولما فارق موءنس القائد الخلیفة فی أوائل القرن الرابع الهجری قبّل یده(1)؛

وکان من خاص التکریم فی ذلک العهد أن یقبل الإنسان رجل من هو فوقه(2)وکتف من یساویه (3)

وکذلک سلّم الجواری من قبل علی تلیماکوس (Telemachos) بأن قبّلن کتفه وأعلی رأسه(4).

وقد دعا الخلیفة الراضی المیر بجکم مرة، فقبل هذا القائد فخذ الراضی ویده (5)

وکان الأولون من مسلمی العرب یرون فی تقبیل الأرض أمام المخلوقین اجتراء علی حقوق اللّه ؛ ولما قدم علی المقتدر باللّه رسل ملک الروم أعفاهم من تقبیل البساط لئلا یطالَب المسلمون بمثل هذا فی بوزنطة(6).

وفی حکایظ ترجع إلی أوائل القرن الرابع أن رجلا صالحا کتب کتاباً لغلام من غلمان نازوک یستعطف قیه سیدة ، بعد أن طرده ؛ فاستدعی نازوک ذلک الرجل ، فحضر مرناعا ، وأهوی لیقبل الأرض ؛ فقال له نازوک ، وکان صاحب الشرطة : « .. عافاک اللّه ، لا تفعل ، هذه من سنن الجبّارین ، مانرید نحن هذا »(7).

ص: 330

علی أنه حوالی عام 330ه لما لقی الأخشیدُ الخلیفة المتقی فی الرقة ترجّل عن بعدٍ ومشی الغلام بسیفه ومنطقته وجعبته بین یدی الخلیفة علی سبیل الخدمة ، وقبّل الأرض مراراً ، وتقدم فقبل یده ، ثم صاح به محمد بن خاقان : ارکب یامحمد ، ثم صاح : ارکب یا أبابکر ، فقیل إن المتّقی قال لاین خاقان : کنَّه ، فکناه للوقت ؛ ثم کان الأخشید یقف بین یدیه علی سیفه ، وإذا رکب حجبه ، وجعل مقرعته علی کتفه لأنه لم یخدم خلیفة قط غیره ، وافتخر بذلک ؛ وقد أعجب الخلیفة من فعله ، وقال له :«قد ولیتک أعمال ثلاثین سنة ، فاستخلف لک أونوجور ، وقیل إنه کنّاه أبالقاسم ، فقبَّل الأرض مراراً ، وأهدی إلیه الأخشید هدیة أخری علی ما فعله بابنه أونوجور وتکنیته له »(1)؛ وفی عام 369ه _ 979م تم فی دار الخلافة تتویج عضد الدولة علی أفخم صورة: جلس الخلیفة الطائع علی سریر الخلافة فی صدر صحن السلام ، وحوله من خدمه الخواص نحو مائة بالمناطق والسیوف ، وبین یدیه مصحف عثمان، وعلی کتفیه البردة ، وبیده القضیب ، وهو متقلّد بسیف ، ووقف الأشراف من الجانبین ؛ودخل الأتراک والدیلم ولم یکن مع أحد منهم حدید ؛ فلما وصل عضد الدولة أذن له الخلیفة ، فدخل ؛ فلما وقع علیه طرفُ الخلیفة قبَّل الأرض بین یدیه ، فارتاع أحد القواد لما شاهد ، وقال بالفارسیة : ما هذا أیها الملک ، أهو اللّه عزوجل ! فالتفت عضد الدولة إلی من یفهّمه أن هذا خلیفة اللّه فی الأرض ؛ ثم استمر عضد الدولة یمشی ، ویقبل الأرض تسع مرات ، والتفت الطائع إلی خادمه ، وقال له : استدنه ، فصعد عضد الدولة وقبَّل الأرض دفعتین ، فقال له الطائع : أُدنُ إلی أُدن إلی ، فدنا ، وأکب

ص: 331

یقبل رجله وثنی الطائع یمینه علیه . وکان بین یدیه سریر، ومما یلی الجانب الأیمن الکرسی ، فقال له : إجلس ، مرتین ، فلم یفعل ، فقال له : أقسمت، لتجلسنّ، فقبّل الکرسی وجلس ، وبعد ملاطفة قال له الخلیفة :قد رأیتُ أن أفوّض إلیک ما کل اللّه تعالی إلی من أمور الرعیة فی شرق الأرض وغربها وتدبیرها فی جمیع جهاتها سوی خاصتی وأسبابی وما وراء بابی ، فتولّ ذلک مستجیراً باللّه تعالی ، فقال له عضد الدولة :یعینی اللّه عزّوجل علی طاعة مولانا وخدمته ؛ ثم أمر الخلیفة بأن تُفاض علیه الخِلَع ، ویتَوّج ، فنض عضد الدولظ إلی الرواق ، فأُلبس الغلع وخرج،وأمره الخلیفة بالجلوس ، ثم عُقدت له الألویة ، وقُرئ کتابه ؛ ثم نصحه الخلیفة بما أراد ، وقلَّده سیفاً ،وخرج ، وبعد ثلاثة أیام بعث الخلیفة إلیه هدیة فیها غلالة قصب وصینیة ذهب وحردادی بلور : «فیه شراب ناقص کأنه قد شرب بعضه ، وعلی فم الحردادی خرقة حریر مشدودة مختومة »(1).

وکان إجلال الخلیفة فی مصر الفاطمیة أعظم مما تقدم ، ففی سنة 366ه _ 976م قُرئ سجل أحد القضاة فی الجامع الأزهر ، « وهو قائم علی قدمیه ، فکلما مرّ ذکر المعزّ أوأحدٍ من أهله أو مأ بالسجود»(2).

ولما أُسند القضاء أیضاً فی عام 398ه _ 1008م إلی مالک بن سعید الفارقی قُرئ سجلُّه بالقصر ، وهو قائم علی رجلیه ، وکان القاضی کلما مر ذکر الحاکم فی السجل قبَّل الأرض (3)، وقد أمر الناس فی الحرمین فی إحدی السنین أن یقوموا

ص: 332

عند ذکر هذا الخلیفة ، وکان إذا ذُکر فی الأسواق ومواضع الاجتماع بمصر قام الناس وسجدوا(1).

ولکن هذا الخلیفة فی آخر أمره أظهر الزهد فمنع الناس من تقبیل التراب بین یدیه ومن بوس الید والرتماء بالسجود له ، ومنع من مخاطبته مولانا ؛ ولکن هذه الرسوم عادت فی زمن خلفه إلی ما کانت علیه من قبل (2).

ولما احتضر الحاکم وصّی أبا محمد الحسن بن عمّار أحد شیوخ کتامة ، ثم جعل له الوساطة ، وخلع علیه ، وکان الناس یذهبون إلی قصره ، فمنهم من یومی بتقبیل الأرض ، ولا یقبل یده سوی أناس بأعیانهم ، وشرّف بعض الناس بتقبیل رکابه ، وکان أجل الناس من یقبل رکبته(3)

وقد ضرب أحد رجال الحاشیة فی بخاری حوالی هذا العصر أحسن مثل للأدب وحسن الإصغاء للملک والإقبال علیه ؛ فبینما کان عنده یحادثه فی بعض مهماته لَسَعَتهُ عقربٌ فی إحدی رجلیه عدة لسعات ، فلم یتحرک ، ولم یظهر علیه أثر ذلک ؛ فلما عاد إلی منزله نزع خُفه ، وأخرج العقرب منها(4).

ونظر الأخشید إلی کافور یوما ، وقد جئ بفیل وزرافة ،فمال جمیع العبید والخدم بأبصارهم للفرجة ، فلم تبرح عینه من عین الأخشید خوف أن یحتاج إلیه

ص: 333

ویدعوه ، فیکون مشتغلا عنه(1).

وقد تکلم المسعودی فی عام 332ه _ 944م عن هذا الأدب فی حضرة الملوک ، فقص علینا یحادثه بحدیث لأنوشروان فی بعض حروبه ؛ فعصفت الریح فأذرت ترابا وقطعاً من الآجر من أعلی السطح إلی المجلس ، فارتاع من حضر لوقعها ، والهذلی شاخص نحو السفاح ، لم یتغیر من شدة میل ذهنه وانشغال فکره بمحادثة الأمیر ، حتی لم یصبح فیه لحادث مجالٌ(2).

ویحدثنا أیضاً عن دحد سُمرَاء شبرویه بن أبرویز أنه کان یسایر الملک ، ویستمع حدیثه مُصغیاً ذلیه بجواحه کلها ، حتی ترک النطر إلی موطئ حافر دابتّه ، فزلّت إحدی قوائمها فمالت بالرجل إلی النهر ووقع فی الماء ، فسُرَّ الملک بذلک ، لأنه لم یکن یظنه بهذا المقدار من الإقبال علیه ، «فحشا فاه جوهراً ودُرًّا ، واستبطنه ، حتی غلب علی أکثر أمره (3)».

وکان الأمراء فی مخاطباتهم الرسمیة وفیما بینهم یتکلمون عن الخلیفة ، أمیرالموءمنین ، بکل احترام ، ویعبّرَون فی کلامهم عنه بمولانا ، ویضع الواحد منهم نفسهم من الخلیفة موضع «المولی »(4)؛ وکان أحدهم إذا کتب لآخر افتتح

ص: 334

کتابه بالکلام عن الخلیفة من نحو:«کتابی ومولانا أمیر الموءمنین سالم موفور واللّه علی ذلک محمود مشکور »(1) ، وکان کل شئ ینسب إلی أمره(2).

وفی سنة 378ه أهدی الصاحب بن عبّاد إلی فخر الدولة فی أول المحرم دیناراً وَزنُه ألفُ مثقال ، وکان علی أحد جانبیه أبیاتٌ من الشعر ، وعلی الجانب الآخر سورةُ الإخلاص ولقبُ الخلیفة الصائع للّه ولقبُ فحر الدولة واسمُ جرجان ، لأنه ضرب فیها؛ هذا مع أن الإهداء کان بالری ، فی مکان طهران الحالیة ، مع بعدها عن دار الخلافة(3).

ولکن أمیرالموءمنین کان عند التقائه بالأمراء یری ضعفه المتزاید ونقصان منزلته ، ومن ذلک أن بجکم القائد الترکی کان من عادته فی داره وحشمه ألا یشرب الماء إذا جاءوه به إلا بعد أن یذوقه بین یدیه من جاء به ؛ وعَلم الخلیفة الراضی بذلک ؛ فاستعمل معهما یعمل له فی منزله ؛ فکان إذا حُمل شئ وُضع بین یدی الراضی أولاً ، فأکل منه ؛ ثم یوضع بین یدی بجکم ، وجری ذلک فی کل ما یوضع بین یدیه ، وکان بجکم یستعفی الراضی من هذا فلا یعفیه (4).

(وقد تعرض بلاط الخلافة لأکبر ما أنقص هیبته فی عهد المستکفی 334 _ 333ه 946 _ 944م) لأنه وقع فی سلطان امرأة فارسیة مستبدة تسمی حُسن ،

ص: 335

«والتفُّ إلی حسنّ نفرٌ ممن کانوا معها علی الأصول القبیحة .وکانت تتولی عرض الغلمان والحچّاب فی قصر الخلیفة فی مجلس یقال له الحودان ، لم یکن یصل إلیه أحد إلا وزیر أو صاحب ، فانخرقت الهیبة بهذه المرأة ، وذهبت الرسوم التی کانت للخلافة ، وصارت الدار طریقاً لکل من لم یرَها ، وکان کل من وصل إلی المستکفی أجلسه بین یدیه .» ؛ وأرادت هذه المرأة أن تأمن توزون وتصلح قلبه ، فجعلت الخلیفة یدعوه ویکرمه بما لم یسمح به أحد من الخلفاء قبله ؛ فکان یأکل معه علی مائدة واحدة ، ویقدم له دابّةً فی الرواق التسعینی ، وهو موضع لم یرکب منه خلیفة قط؛ وأمر أن تحمل بین یدیه شمسةُ الخلافة و أن یسیر الخدم معه إلی داره(1)؛ و کان من سوء حظ الخلفاء أن الدیلم الذین ملکوا بغداد کانوا شیعة، فازداد أمر الخلافة إدباراً، و ذهبت حرمةُ الخلفاء، ولم یبق لهم من الأمر شیء؛ لأن الدیلم « کانوا یتشیعون و یغالون فی التشیع و یعتقدون أن العباسیین قد غصبوا الخلافة، و أخذوها من من مستحقّیها، فلم یکن عندهم باعثٌ دینی علی الطاعة(2)».

وقد کان ثوار دار الخلافة حتی ذلک الوقت هم الذین یخلعون الخلفاء و یقتلونهم؛ أما الآن، بعد قدوم الدیلم، فقد صار الخلیفة یعامَل أمام الناس جمیعاً معاملة سیئة، لا تُراعی له فیها حرمةٌ و لا یعرف له فیها قدر ففی سنة 334ه _ 945 م ذهب الأمیر معز الدولة إلی دار الخلیفة، و ذهب إلیها سائر الناس علی رسمهم؛ فلما جلس المستکفی علی سریره، ووقف الناس علی مراتبهم، دخل

ص: 336

الأمیر معز الدولة، فقبَّل الأرض علی رسمه، ثم قبَّل ید المستکفی و وقف بین یدیه یحدثه؛ ثم جلس علی کرسی، فتقدم نفسان من الدیلم و مدّا أیدیهما إلی المستکفی، و علا صوتهما بالفارسیة؛ فظن أنهما یریدان تقبیل یده فمدها إلیها، فجذباه بها و طرحاه إلی الأرض، و وضعا عمامته فی عنقه، و جرَّاه؛ فنهض حینئذ معز الدولة، و اضطرب الناس و ارتفعت الزعقات، و الفتتنت دار السلطان، و ضُربت الأبواق، و ساق الدیلمیان المستکفی باللّه ماشیاً إلی دار معز الدولة حیث سُملت عیناه(1).

وفی 364ه دخل عضد الدولة بغداد، فکان من حسن سیاسته أنه سعی حتی ردَّ الخلیفة بعد أن أخذه الأتراک معهم کارهاً؛ و خرج للقائه فی الماء، . معه حشدٌ عظیم من أهل بغداد، و سار معه حتی أنزله بدار الخلافة(2)؛ و لکن عضد الدولة طلب من الخلیفة فیما بعد، لما رجع إلی بغداد عام 370ه _ 980 م، أن یخرج لقائه إلی جسر النهروان، «و لم تکن العادة جاریة یخروج الخلفاء لتلقّی أحد من الأمراء(3)».

و کانت حاشیة دار الخلافة و نفقاتهم فی عهد الخلیفة المعتضد 279 ج 289ه 892 ج 901 م کما یلی:

1 _ أمراء بیت الخلافة.

2 _ أصحاب النوبة من الرجَّالة، و أرزاقهم فی کل یوم ألف دینار، منها سبعمائة

ص: 337

دینار للبیضان، و هم البوّابون، و ثلثمائة للسودان، و أکثرهم ممالیک الخلفاء(1).

و من رسمهم أن ینوبوا فی مصافّ باب الخاصة و حوالی القصر. ولهم وظیفة خبز یمَیزون بها لقلة أرزاقهم(2).

3 _ الغلمان الُمعتَقون، و هم فی الغالب مما لیک الخلفا؛ و منهم یختار الحجابُ، و عدّتهم خمسة و عشرون، و خلفاء الحجاب، و کانوا نحو خمسمائة(3).

ولما قتل المقتدر کان معه رجل من خلفاء الحجاب طرح نفسه علیه فذبح أیضاً(4). وفی ستة 329ه _ 940 م أنشئ لأول مرة منصبُ حاجب الحجاب(5).

4 _ المختارون، و هم حرس مستخلصون للموکب و ملازمة الدار و الدخول أوقات جلوس الخلیفة، و المقام من أول النهار إلی آخره. و کان جند کل قائد ببغداد بما فیهم ممالیکه المسلحون یوءلِّفون وحدة قائمة بذاتها؛ فاختار الخلیفة من کل قیادة من عُرف بالشهامة و الشجاعة، و سُمُّوا قوادهم، فقیل الیأنسیة ( و ذلک نسبة لیأنس )، والمُفلحیة و المسروریة و هکذا. علی أنه کان للمعتضد ممالیک یقیمون فی القصر و الحُجَر تحت مراعاة الخدم و الأستاذین و سمّاهم الحُجَریة؛ و هم یختارون من بین الفرسان الذین یحسنون الرکوب و

ص: 338

الرمی و یسمون أیضاً عسکر الخاصة. و کان لخمارویه بمصر قوم معروفون بالشجاعة و شدة البأس اتخذهم حرساً له، و سماهم المختارة؛ فکانوا یقاتلون أمام جنده، و إذا رکب مشوا خلفه(1).

5 _ أصناف أخری من المرسومین بخدمة الدار و الرسائل الخاصة و القراء و أصحاب الأخبار و الموءذِّنین و المنجّمین و الفنجامیین و الفرانقیین و الأنصار و الحرس و أصحاب الأعلام و البوقیین و المخرّقین و المضحکین و الطبّالین و السقایین و الطبّاخین و الخبازین و خزنة السروج و عمال الصطبلات الخمسة ج خامسها للإبل ج و أصحاب الصید و الملّاحین فی الطیارات، و خَدَمَة المشاعل و الأطباء.

6 _ الحُرَم، و أرزاقهن فی الیوم مائة دینار؛ و لیس عندنا معرفة دقیقة بعددهن. و قد ذکر الخوارزمی ما زعمه البعض من أن المتوکل کان له اثنا عشر ألف سربة (2) ، و یقول المسعودی إنه کان له أربعة آلاف سریة، و فی أحد المخطوطات أربعمائة(3)؛ و کان علی رأس نساء القصر حوالی عام 300ه قهرمانتان، إحداهما للخلیفة و الأخری للسیدة والدته؛ و کان یسلم للأولی کبارُ المعتقلین لیحبَسُوا عندها مکرَّمین حبساً هیناً؛ فمثلا وُکِّل بابن الفرات حوالی 300ه _ 912 م عند زیدان القهرمانة(4)، کما سُلِّم إلیها الأمیرُ الحسین بن حمدان،

ص: 339

و الوزیر علی بن عیسی سنة 303ه _ 915 م(1).

و کان اتخاذ الخلیفة نساء من غیر مبالاة بأصلهن، و إن کان معظمهن من جواری الترک و الروم، سبباً فی إیجاد کثیر من الضطراب فی البلاط و فی المناصب الإداریة العلیا؛ فکانت کل سیدة تحابی من یتصل بها من الأقارب و الأولیاء، و ترفعهم ما استطاعت؛ و من أمثلة ذلک أن الخلیفة المهدی کتب إلی عامل جرش فی إشخاص الغطریف بن عطاء أخی الخیزران أم موسی و هارون ابنییه؛ و کان الغطریف غلاماً لرجل من أهل جرش، فأعتقه، و کان یوءاجر نفسه ینظر کروم؛ فحباه العامل و کساه، و حمله إلی المهدی، فرفع منزلته، ثم ولّاه علی البمن(2).

و کان للمقتدر خالٌ رومی یسمی غریب، و کان له نفوذ کبیر و کان یخَاطَب بالإمرة(3).

و فی سنة 301ه استطاعت أم موسی الهاشمیة قهرمانة السیدة أم الخلیفة أن تسعی فی إسناد نقابة بنی هاشم الطالبیین و العباسیین لأخیها؛ فضجّ الهاشمیون حتی ردّوا النقابة إلی ابن النقیب السابق(4).

و قد أثبتّت التجربة أن کثیراً من المنازعات مصدرها أمُّ الخلیفة؛ وقد ذاق المتصلون بالخلیفة و بال ذلک، حتی إن الخلیفة کان ینتخب أحیانا لأنه لا أمَّ له

ص: 340

رجاء أن تستقیم الأمور معه(1).

و کان فی دار المقتدر حوالی عام 300ه _ 912 م أحد عشر ألفاً من الخدم الخصیان(2)، و فی روایة أخری أنه کان بها سبعة آلاف خادم و سبعمائة حاجب(3)، و فی مصدر قدیم موثوق به أن خدم المتوکل و حاشیته کانوا سبعمائة(4).

وقد جری أباطرة الدولة الرومانیة فی العصر المتأخر علی عادة الفرس القدماء، فجمعوا حولهم جماعة یدعونهم إلی الطعام و الشراب، و سموهم « أصدقاء الإمبراطور »؛ و کذلک فعل الخلیفة المأمون لما ورد إلی بغداد، فإنه أمر بأن تُثبت له أسماء من یصلح لمنادمته من أهل الأدب(5).

وقد آثر أن یکونوا من العلماء و القوّاد و ممن جالس الخلفاء. و کذلک حاول القائد بجکم أن ینتفع بندماء الخلیفة الراضی، فلم یجد من ینفعه إلا الطبیب سنان بن ثابت(6).

وکان للخلیفة المعتمد ( 256 ج 279 ه 869 ج 892 م ) مع ندمائه مجالساتٌ و مذکرات قد دُوّنت فی أنواع من الأدب، فیها مدح الندیم و ذکر فضائله و ذمّ

ص: 341

التفرد بشرب النبیذ و ما قیل فی ذلک(1)، وکان للندماء أرزاق(2).

وقد وصف لنا الصولی أول جلسة للخلیفة الراضی ( 322 ج 326ه 936 ج 940 م ) مع أصحابه : کانوا یجلسون علی رسم و ترتیب مخصوص، و کانوا فی أول جلسة أربعة عن یمینه و خمسة عن یساره؛ فکان علی یمینه قریبا إلیه إسحاق بن المعتمد أحد الأمراء، و یلیه الصولی، الأدیب و لاعب الشطرنج المشهور، ثم أحمد بن محمد العروضی الذی کان مرسوما بتأدیب أبی إسحاق المتقی أمیرالموءمنین، ثم یلیه محمد بن عبداللّه بن حمدون، أحد أبناء الأشراف المتصلین بالبلاط؛ و کان علی یساره ثلاثة من آل المنجم و هم من أدباء الحاشیة، و اثنان من بنی البریدی العمال المشهورین، و کان یعلّمان الخلیفة الخط. و قد افتُتح المجلسُ بإنشاد قصائد بمناسبة تقلید الخلافة، ثم تکلم الخلیفة، فشکا ثقلَ العب ء الذی ألقاه علیه هذا المنصبُ بسبب قلّة الأموال و تغیر الأحوال و کلَب الجند و خراب الدنیا؛ و ذکر أنه یستصحبه من الغم و الأسف و الاهتمام أکثر مما یوءمل من السرور، و رجا اللّه أن یعیله بجمیل نیته. و کان مما قاله : و اللّه لقد جاءنی هذا الأمر، و لا شرعتُ فیه، و لا جئتُه، ولا عُلم إلیه ذلک منی فی سر و لا علانیة، ثم تحدث عن إعناتِ القاهر له و خوفِه من قتله إیاه فی لیله و نهاره، إلی أن قال : ألیس بابن المعتضد و أخ المقتدر و عمّ لنا؟ هذا و اللّه عار و عیب لا یزال، فقال له الصولی : قد أزال اللّه عن سیدنا کلَّ عیب؛ و له فی رسول اللّه أسوة حسنة؛ هذا عمه

ص: 342

أبو لهب أنزل اللّه فیه سورة من القرآن یعرفها کل إنسان، فما لحقه عاره. یقول الصولی : « فکنا بین یدیه فی ذلک الیوم ثلاث ساعات من اللیل نشرب، و کان هو لا یشرب، قد ترک النبیذ جملة »؛ و کان لکل من الفریقین اللذین علی یمینه و علی یساره فی أول جلسة نوبة خاصة به؛ و یظهر أن بعض النوبة کانوا یحضرون النوبة الأخری أحیانا(1).