التعليقة على المكاسب (لللاري)

اشارة

سرشناسه:لاري، عبدالحسين، 1340 - 1264؟ق. شارح

عنوان و نام پديدآور:التعليقه علي المكاسب/ تاليف عبدالحسين اللاري

مشخصات نشر:قم: موتمر احياآ ذكري آيه الله المجاهد السيد عبدالحسين اللاري، اللجنه العلميه للموتمر: موسسه المعارف الاسلاميه، 1418ق. = 1377.

مشخصات ظاهري:2 ج.نمونه

فروست:(موتمر احياآ ذكري آيه الله المجاهد السيد عبدالحسين اللاري 3، 4)

شابك:964-6289-21-5 ؛ 964-6289-21-5 ؛ 964-6289-21-5 ؛ 964-6289-21-5 ؛ 1964-6289-22-3

يادداشت:عربي

يادداشت:اين كتاب شرحي است بر المكاسب انصاري

يادداشت:به مناسبت كنگره بزرگداشت آيت الله سيد عبدالحسين لاري 1377: لار و جهرم

يادداشت:كتابنامه

موضوع:انصاري، مرتضي بن محمدامين، 1281 - 1214ق. المكاسب -- نقد و تفسير

موضوع:معاملات (فقه)

شناسه افزوده:انصاري، مرتضي بن محمدامين، 1281 - 1214ق. المكاسب. شرح

شناسه افزوده:كنگره بزرگداشت آيت الله سيد عبدالحسين لاري (1377. لار و جهرم)

شناسه افزوده:كنگره بزرگداشت آيت الله سيد عبدالحسين لاري. هيات علمي

شناسه افزوده:بنياد معارف اسلامي

رده بندي كنگره:BP190/1/الف 8م 702176 1377

رده بندي ديويي:297/372

شماره كتابشناسي ملي:م 77-5896

ص: 1

الجزء الأول

اشارة

ص: 2

ص: 3

ص: 4

ص: 5

مقدّمة التحقيق

اشارة

ما أشد حاجة المسلمين في عصرنا هذا و في هذه الظروف التي تمرّ بها الأمّة الإسلاميّة إلى القدوات و المثل البارزة لكي تقتدي بها، و تتأسّى بها، و تخطو خطاها في مسيرتها المصيرية.

و ما أكثر النماذج الفاضلة التي تخرّجت من مدرسة الوحي و العترة حاملة على عاتقها نشر القيم و التعاليم الإسلامية المنبثقة من ينابيع مدرسة أهل البيت عليهم السلام الذين هم صنو القرآن و عديله.

و لا غرو في انّ شيخ الفقهاء الشيخ مرتضى الأنصاري- هو أحد القدوات الفذّة و الّذي ظلّ شمعة تحوم حولها فرّاشات العلم آخذين منه العلم و المعرفة- قد بنى بفكره مدرسة أصولية و فقهية عريقة، و كتب في هذين المجالين- الفقه و أصوله- كتابين مهمّين و هما «الرسائل» و «المكاسب» و اللذين أصبحا مدارين للبحث و التنقيب في الحوزات العلمية التابعة لأهل البيت عليهم السّلام بحيث لا يمكن الاستغناء عنهما، خاصّة لمن أراد التفقّه في الدين.

و قد حاز كتاباه من الأهميّة شأنا عظيما بحيث ما زالا محورين للتحقيق و الاجتهاد، و خاصّة كتابه «المكاسب» الّذي عكف العلماء و الفضلاء على تدريسه، و شرحه، و التعليق عليه، و توضيح غوامضه، بحيث قيل: انّه أحرز صدارة الكتب من جهة كثرة الشروح و التعليقات.

و هذا الكتاب الذي بين يديك هو إحدى التعليقات الأنيقة و المليئة بنكت علميّة قلّما يجدها القارئ الكريم في سائر الشروح و التعليقات ..

ص: 6

و قد ظلّ هذا الكتاب- و الكثير من مصنّفات مؤلفه و تأليفاته- بين دفّتي النسيان و الغفلة برهة زمنية طويلة حتى منّ اللّٰه عزّ و جلّ على العاملين في الأمانة العامة لإحياء الذكرى السادسة و السبعين من وفاة المؤلّف آية اللّٰه العظمى العلّامة النحرير الفهامة الحاج السيد عبد الحسين النجفي اللاري أن يخرجوه بثوب جديد و نمق بديع ..

و لسوف يجد القارئ الابداعات و الاحتجاجات القوية و الرصينة التي تميّز بها سيّدنا اللاري قدّس سرّه.

و أمّا المؤلّف فقد ترجمنا له منفردا في مقدّمة تعليقاته على رياض المسائل.

و أمّا الكتاب- و الذي ذكره العلّامة الشيخ آقا بزرگ الطهراني في كتابه نقباء البشر في القرن الرابع عشر (ج 3 ص 1049)- فقد عثرنا بعد البحث الحثيث و الجهد الجهيد على ثلاث نسخ منه.

1- نسخة فتوغرافية من المجلد الأول أتحفنا بها حفيده الحجّة آية اللّٰه العظمى السيّد عبد العلي آية اللّٰهي حفظه اللّٰه إمام جمعة لار، و كانت هذه النسخة ناقصة و فاقدة لبعض الصفحات.

2- نسخة فتوغرافية أخرى من المجلد الأوّل مدّنا بها حفيده آية اللّٰه السيّد عبد الرسول الشريعتمداري الجهرمي، و هذه النسخة كانت كاملة و تامّة من أوّل صفحة حتى نهايتها.

3- نسخة خطّية من المجلد الثاني فقط. و قد أمدّنا بها حفيده آية اللّٰه السيد عبد الحسين آية اللّٰهي، و قد كانت هذه النسخة تحتوي على حواشي كتبها المؤلّف، و للأسف قد سقط منها بعض الصفحات عند تجليد الكتاب بحيث لا يمكن الاستفادة منها.

ص: 7

فلهؤلاء الأحفاد الأبرار نقدّم جزيل الشكر و الامتنان، راجين من العلي الأعلى طول العمر لهم، و زيادة توفيقهم لخدمة المذهب الحقّ و الفرقة الناجية و الحوزات العلمية.

منهجيّة التحقيق و التخريج:

بعد العثور على تلك النسخ الثلاث المذكورة قامت الأمانة بتوظيف بعض الفضلاء و المحقّقين- الذين سنشير إلى أسمائهم فيما بعد- بالبدء في عملية التحقيق حسب الأسلوب و الطريقة التالية:

1- استنساخ الكتاب.

2- مطابقة ما استنسخ مع النسخ الأصلية و مقابلته مع مصادرها.

3- إرجاع الأحاديث الواردة في الكتاب إلى المصادر و المراجع التي أشار إليها المصنّف قدّس سرّه في الكتاب.

4- ما أضفناه من المصادر أو من عندنا- من أجل مراعاة السياق- جعلناه بين [].

5- تقويم النصّ على قدر الوسع و الإمكان.

6- المراجعة النهائية من أجل تصحيح الأخطاء و الأغلاط المطبعية التي وجدت أثناء المراحل الأولى.

ملحوظة: أوّلا: لقد تقدّمت تعليقات السيّد اللاري قدّس سرّه على مبحث الخيارات تالية لتعليقاته على المكاسب المحرّمة، في المجلد الأول، و كذلك بعض التعليقات غير مرتّبة و منسّقة، و فيها تقديم ما شأنه التأخير و بالعكس، فقد التزمت الأمانة العامّة للمؤتمر بترتيب الكتاب و تنسيقه حسب ما جاء في المكاسب للشيخ الأنصاري قدّس سرّه فجعلت أوّلا مبحث الخيارات في أواخر المجلد الثاني، و كذلك رتّبت التعليقات طبقا لأقوال الشيخ في مكاسبه.

ص: 8

و ثانيا: نرى من الواجب أن نتقدّم بالشكر الجزيل إلى الإخوة المحقّقين الّذين قاموا بتحقيق هذا السفر الثمين، و تقديرا لخدماتهم نذكر أسماءهم و المرحلة التحقيقية التي قاموا بها:

1- الاستنساخ: محمد آغا أوغلو.

2- المقابلة: محمد آغا أوغلو، أبو علي الحكّاك.

3- استخراج المصادر: الحاج أبو أحمد، أبو حياة النعماني، أبو رعد، السيّد طالب الموسوي.

4- تقويم النصّ: الميرزا محمود الزنجاني، فارس حسّون كريم.

5- المراجعة النهائية: الشيخ يحيى كمالي البحراني.

6- تنضيد الحروف: محمد رحيمي.

7- التصحيح النهائي و الإخراج الفني: محمود البدري.

و في الختام نرجو من العلماء الأفاضل أن يغضّوا البصر عن أيّ سهو قد يوجد في هذا الكتاب، لأنّنا لم ندّع العصمة في عملنا هذا، خصوصا انّ المدّة التي تمّ فيها إنجاز هذا العمل- أي تحقيق جميع مصنّفات السيّد اللاري قدّس سرّه- كانت مدّة قصيرة لا تتعدى عشرة شهور، و لا يخفى انّ هذه الفترة الزمنية القصيرة تستدعي حصول بعض الأخطاء الغير متعمّدة، و خاصّة انّ بعض المصادر التي استفدناها في عملنا هذا كانت مفقودة أو لم نعثر عليها.

آملين أن يتقبّل اللّٰه منّا هذا العمل القليل، و يجعله في صحائف أعمالنا ليوم لا ينفع فيه مال و لا بنون إلّا من أتى اللّٰه بقلب سليم.

و آخر دعوانا أن الحمد للّٰه ربّ العالمين الأمانة العامّة للمؤتمر

ص: 9

ص: 10

ص: 11

ص: 12

ص: 13

بسم اللّٰه الرّحمن الرّحيم و بعد: فهذه تعليقات علّقتها على مكاسب أستاذ أساتيذنا الأعلام، عند مذاكرته لإخواننا الكرام.

[القول في المكاسب المحرمة]

[و ينبغي أولا التيمن بذكر بعض الأخبار الواردة على سبيل الظابطة للمكاسب]

قوله: «روى في الوسائل .. إلخ».

أقول: و هذه الرواية و إن كانت مرسلة، بالنظر إلى أن الحسن بن علي بن شعبة الذي رواها في تحف العقول (1) ليس من عداد الرجال الرواة، و لا من طبقتهم، إلا أنها مجبورة بشهرة أصحابنا المتأخّرين على العمل به، و نقله في الوسائل (2) و الحدائق (3)، و بموافقتها القواعد العقلية و النقليّة، و لفقه الرضا (4)، و رسالة السيّد المرتضى (5).

و أمّا استبعاد أن يكون بعض عبارتها من الإمام عليه السّلام فلعلّه من جهة نقله بالمعنى، أو بما يطابق حال السائل و فهمه الذي هو معنى البلاغة المطابقة لمقتضى حال المخاطب من حيث الذكاوة و البلادة، كما قال تعالى وَ مٰا أَرْسَلْنٰا مِنْ رَسُولٍ إِلّٰا بِلِسٰانِ قَوْمِهِ (6)، و قيل: «كلّم الناس على قدر عقولهم» فإن البلاغة تختلف باختلاف حال المخاطب.

قوله عليه السلام: «أربع جهات».

[أقول:] و أمّا المغارسات و الحيازات و المزارعات و النتاجات و مطلق إحياء


1- تحف العقول: 331.
2- الوسائل 12: 54 ب (2) من أبواب ما يكتسب به ح 1.
3- الحدائق الناضرة 18: 67.
4- فقه الإمام الرضا عليه السلام: 250.
5- رسالة المحكم و المتشابه: 29 (مخطوط).
6- إبراهيم: 4.

ص: 14

الموات من وجوه المعايش فلا يقدح حصرها في الأربع، لدخول المذكورات فيها بالمعنى الأعمّ.

قوله: «و البرابط».

[أقول:] جمع بربط على وزن جعفر: عود، و بالفارسيّة: سازى است.

كما أن المزامير جمع مزمار- بالكسر- قصبة يزمر بها. و هي مع الغناء و الدفّ و الطبل من جنس الملاهي و المطرب من الأصوات، إلا أن الفرق كون المطرب من الأصوات بالكلام غناء، و بآلة العود بربطا، و بآلة القصبة مزمارا. كما أنه بسائر الآلات يسمّى دفّا أو طبلا أو ناقوسا أو بوريا أو شيپورا و نحوها.

قوله: «فيه، أوله، أو شي ء منه، أوله».

أقول: التنويع ب «أو» تعميم لكلّية قاعدة: اقتضاء حرمة الشي ء حرمة مقدّماته، و أجزائه، و أسبابه المحصّلة له، و غاياته المترتّبة عليه عقلا و نقلا.

كما أن قوله: «و كذلك كلّ مبيع ملهوّ به» إشارة إلى عموم قاعدة كلّية حرمة الملاهي و بيع الملهوّ به، منها ما كثر اعتياده في الزمان من شرب الوافور و القليان و التتن و الدخان و الترياك و التنباك.

كما أن قوله: «معذّب فاعل ذلك على قليل من فعله أو كثير .. إلخ».

إشارة إلى عموم حرمة الظلم و الجور، و كلّية استقلال النقل و العقل بقبحه العقلي، الآبي من التخصيص بالمخالفين كما توهّمه بعض، أو بغير الأقلّ بالإضافة إلى الأكثر عند الدوران بين الأقلّ من أحد و الأكثر من آخر، كما يوهمه ظاهر عبارة الوحيد البهبهاني في رسالة المعاملات، حيث جوّز بل أوجب التولي من قبل الجائر في الظلم لمن علم أنه لو لم يتولّ القليل من الظلم لتولّى غيره الأكثر منه. و هو من أغرب الموهمات المنافية للعقل و النقل، التي لم يسبقه أحد فيما أعلم من مذهب العدليّة، و غير مراد قطعا، و لكن المراد لا يدفع الإيراد.

قوله: «نظير البيع بالربا، أو بيع الميتة .. إلخ».

ص: 15

[أقول:] التنويع إشارة إلى تعميم المحرّم من البيع للمحرّم بنفسه كبيع الخمر، أو بوصفه كبيع الربا.

قوله: «حلال لمن كان من الناس ملكا أو سوقة».

[أقول:] الملك هنا- بكسر اللام- بمعنى الوالي و السلطان العادل. و سوقة- بفتح (1) السين- بمعنى رعيّته، باعتبار أن الرعيّة مسوق و الراعي سائق.

قوله: «قيام الغير به. فتأمّل».

[أقول:] لعلّه إشارة إلى أن وجه من أهمل الواجب و المستحبّ من المعاملات لعلّه من جهة اندراجهما في المباح و الجواز بالمعنى الأعمّ.

أو من جهة انصراف الواجب و المستحبّ إلى الراجح النفسيّ التعبّديّ بالأصالة، و الراجح من المعاملات رجحانه عرضيّ غيريّ توصّليّ لمحض التوصّل إلى رفع حاجة النوع مثلا.

أو من جهة أغلبيّة المباح و الحرام من الراجح الشرعيّ في المعاملات بحسب وجودها الخارجيّ أو إيجادها القصدي، على وجه يلحق النادر بالعدم.

أو من جهة تغليب جهة المعامليّة و التوصّليّة في المعاملات، على وجه يلحق الجهة العباديّة و الراجحيّة النادرة بالعدم.

و أمّا ما عن المسالك (2) من أن وجه من خصّ تقسيم التجارة بالثلاثة من جهة جعله المقسم الأعيان المتّجر بها، و من عمّه للأحكام الخمسة جعل المقسم نفس الاكتساب و الاتّجار.

ففيه: ما في الجواهر (3) من أن الأعيان المتّجر بها باعتبار نفسها كما لا


1- السّوقة بضمّ السين، و لم أجد ضبطها بفتح السين في مصادر اللغة، أنظر لسان العرب 10: 170، القاموس المحيط 3: 248.
2- مسالك الأفهام 3: 118.
3- جواهر الكلام 22: 7.

ص: 16

يتعلّق بها الوجوب و الندب، كذلك لا يتعلّق بها سائر الأحكام من الحرمة و الإباحة. و أمّا باعتبار ما يتعلّق بها من فعل المكلّف فلا فرق بين الواجب و الحرام و المكروه و المستحبّ، و لا وجه لتخصيصها بالثلاثة دون سائر الأحكام.

قوله: «لأنّ ظاهر أدلّة تحريم بيع مثل الخمر منصرف إلى ما لو أراد ترتيب الآثار المحرّمة .. إلخ».

أقول: فيه أولا: أن لازمة انحصار المحرّم من بيع الخمر و نحوها في خصوص ما لو علم ترتّب الأثر المحرّم عليه و قصد ترتّبه في البيع أيضا، دون سائر صورة الثلاثة الآخر، ممّا لم يعلم و لم يقصد منه الأكثر المحرّم، أو علمه و لم يقصده، أو قصده و لم يعلم.

بل و جواز بيعه من طرف البائع غير القاصد منه ترتيب الأثر المحرّم على بيعه و إن حرم من طرف المشتري القاصد منه ترتيبه على شرائه أو بالعكس. بل و جواز نفس القمار و المقامرة غير المقصود منهما ترتيب الأثر المحرّم. بل و جواز صنعة الأصنام، و المعاملة مع الظّلام، و بيع الملاهي و كلّ حرام، إذا لم يقصد ترتيب الأثر المحرّم عليه. بل لازم ذلك كلّه انحصار جميع وجوه المعايش و المعاملات المحرّمة- على عموماتها و إطلاقاتها و كثرة أفرادها- في خصوص الحرام الغيريّ التبعيّ التوصّلي المقصود منه التوصّل إلى ترتيب الأثر المحرّم، و أن لا يكون فيها- على كثرتها و عموماتها- حرام نفسيّ يكون في نفسه حراما مع قطع النظر عن الحرمة الغيريّة المقدّميّة التوصّليّة.

و ثانيا: أن لازم ذلك عدم صحّة إطلاق الحرمة على شي ء من وجوه المعاملات المحرّمة المذكورة في النصوص و الفتاوى على وجه الإطلاق و العموم، حذرا من لزوم تأخير البيان عن وقت الحاجة، و التخصيص بالأكثر المستهجن عرفا. بل كان اللازم تبديل ما في النصوص و الفتاوى من قولهم: لا يحلّ بيع

ص: 17

الخمر إلّا في الضرورة، بقولهم: يحلّ بيعه إلا فيما قصد منه ترتيب الأثر المحرّم.

و ثالثا: أن سبب الانصراف في المطلقات إمّا غلبة الوجود أو غلبة الاستعمال، و من الواضح أن الموجود من غلبة الوجود بنفسه غير صارف، و الصارف من غلبة الاستعمال غير موجود.

و رابعا: أن الانصراف من شئون الإطلاقات، لا عمومات قوله المتقدّم:

«حرام محرّم بيعه و شراؤه، و إمساكه و ملكه، و هبته و عاريته، و جميع التقلّب فيه، إلّا في حال تدعو الضرورة فيه» و عموم قوله: «و كذلك كلّ مبيع ملهوّ به، و كلّ منهيّ عنه». و تطرّق التخصيص على تلك العمومات و إن كان ممكنا- بل ستعرف وقوعه في الجملة- إلّا أن وقوعه بما ادعي من التخصيص بما أراد ترتيب الآثار المحرّمة على وجه الإطلاق و الكلّية ممّا لم يقع في نصّ و لا معقد إجماع، بل الواقع خلافه.

قوله: «فلا دليل على تحريم المعاملة إلّا من حيث التشريع».

أقول: فرض التشريع في المعاملة مبنيّ على فرض المعاملات كالعبادات أمورا توفيقيّة، أو على كون الأصل فيها الحظر. و أمّا على المشهور المنصور- الذي هو منهم- من كون الأصل في الأشياء الإباحة- خصوصا الإباحة العقليّة- فلا يتأتّى التشريع في المعاملات غير المنصوصة حلّيتها بالخصوص.

ثمّ و من العجب فرضه حرمة التشريع فيما لا دليل على تحريمه في المعاملات، مع عدم احتماله في معاملة الترياك و التتن و التنباك المقصود منه الآثار المنهيّة من الإسراف و التبذير و الملاهي، مع اندراجها في عموم: «و كلّ منهيّ عنه، و كلّ ملهوّ به، و كلّ وجه من وجوه الفساد» الشامل لإفساد المال و الحال، إلّا لضرورة نظير الضرورة إلى الدم و الميتة.

[النوع الأول الاكتساب بالأعيان النجسة عدا ما استثني]

اشارة

قوله: «الضرورة المسوّغة للشرب كافية في جواز البيع».

ص: 18

[أقول:] و فيه: أن الضرورة المسوّغة للشرب بقاعدة «أن الضرورة تتقدّر بقدرها» إنما تكفي في جواز البيع حال الضرورة، لا مطلقا الذي هو محلّ النزاع، و إلّا لحلّ جميع المحرّمات بواسطة حلّها عند الضرورة، ما عدا حرمة الدم الذي لا تسوّغه الضرورة.

قوله: «يراد به جهة الصلاح الثابتة حال الاختيار دون الضرورة».

[أقول:] لا يقال: إن تخصيصها بحال الاضطرار معلوم من النصّ و الضرورة، و أمّا تخصيصها بحال الاختيار فأين مخصّصة؟

لأنّا نقول: تخصيصه بحال الاختيار في المعنى تعميم للحالتين، بمقتضى العموم و الأولويّة في حال الاضطرار، بخلاف العكس. مضافا إلى أنّ مقتضى قاعدة كون المشتقّ حقيقة في المتلبّس و مجازا في المقتضي عنه المبدأ و فيما لم يتلبّس بعد هو كون المراد بجهة المنفعة و الصلاح إنما هو المنفعة و الصلاح الفعلي، لا الشأني و لا المنقضي، خصوصا البعيد منهما.

لا يقال: لو كان المدار على المنفعة و الصلاح الفعلي لما صحّ شراء ما يصلح للشتاء في الصيف و بالعكس، بل لا يصحّ شراء العقاقير و الأدوية قبل حال المرض، لعدم الحاجة و المصلحة الفعليّة فيها قبل أوان الحاجة.

لأنّا نقول: المدار في المنفعة و الصلاح الفعلي على النوع لا خصوص الأشخاص، و الوجود الفعلي للنوع إنما هو بوجود الأشخاص و الأفراد. و هذا أوضح ما استفيد من النصوص مدارا و ميزانا مائزا بين ما يجوز و ما لا يجوز بيعه، من حيث الطرد و العكس و الجامعيّة و المانعيّة.

قوله: «بل لأن المنفعة المحلّلة للاضطرار و إن كانت كلّية لا تسوّغ البيع».

أقول: إذ لا ملازمة بين حلّيّة الأكل للضرورة و (عدم) (1) حلّيّة البيع،


1- ورد ما بين القوسين في النسخة الخطّية، و هو زيادة قطعا نشأت من طغيان قلمه الشريف قدّس سرّه.

ص: 19

خصوصا في غير حال الضرورة، و إلّا لحلّ جميع المحرّمات المحلّلة حال الضرورة حتى الخمر و العذرة.

أقول: بل المحلّلة لاضطرار التداوي و الاستشفاء من الأمراض، فضلا عن الحافظة للرمق و هلاك النفس، في حيّز التأمّل، بل المنع جدّا، بعد الاستخباث الراجع إلى تنفّر الطبع السليم منه.

و لعلّ فرض المنفعة فيه مع ذلك في بعض الأخبار مجرّد فرض، أو ضرب من التقيّة و المماشاة الزعميّة مع الزاعمين نفعها جهلا مركّبا، كجواب قوله تعالى:

يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَ الْمَيْسِرِ (1) بقوله قُلْ فِيهِمٰا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَ مَنٰافِعُ لِلنّٰاسِ (2). و أمّا رواية الجعفري: «أبوال الإبل خير من ألبانها» (3)- فمضافا إلى ضعفه و شذوذه، و مخالفة الضرورة، و معارضة الشهرة و نصوص الكتاب و السنّة و عموم: «حرّمت عليكم الخبائث»- لا تقاوم عمومات المنع.

قوله: «لأن الأول نصّ في عذرة الإنسان .. إلخ».

[أقول:] وجه نصوصيّة كلّ من اللفظين المتّحدين في خلاف معنى الآخر هو اختلاف حكميهما بما لا يحتمل لغيرهما.

قوله: «و فيه ما لا يخفى من البعد».

[أقول:] وجه البعد نصوصيّة لفظ السحت و الحرام- على خلاف لفظ النهي- في التحريم، بخلاف النهي، فإنه ظاهر فيه محتمل للكراهة.

قوله: «و أبعد منه ما عن المجلسي .. إلخ».

[أقول:] وجه الأبعديّة لعلّه من جهة أبعديّة فرض عدم الانتفاع بالعذرة في بلد السائل، لأنه قال في السؤال: «إنّي أبيع العذرة» (4)، فلو لم تكن العذرة منتفعة


1- البقرة: 219.
2- البقرة: 219.
3- الوسائل 17: 87 ب «59» من أبواب الأطعمة المباحة ح 3.
4- الوسائل 12: 126 ب «40» من أبواب ما يكتسب به ح 2.

ص: 20

بها فيها لم يكن كسبه بيعها.

قوله: «حمل خبر المنع على التقيّة، لكونه مذهب أكثر العامّة».

[أقول:] و وجه أبعديّته أقربيّة حمل خبر الجواز على التقيّة من العكس، لأنه مذهب أبي حنيفة (1) و أبي يوسف (2) المعاصرين لزمان الصادق عليه السلام، بخلاف خبر المنع، فإنه مذهب الشافعي (3) و مالك (4)، و التقيّة منهما أبعد، خصوصا بلفظ السحت الصريح في التحريم.

قوله: «من وجوه لا تخفى».

[أقول:] كضعف الخبر، و شذوذه، و عدم مقاومته المعارض الأصحّ الأشهر الناقل.

قوله: «إلا أن الإجماع المنقول هو الجابر».

أقول: بل و يكفي الجابر المتقدّم له من شهرة المتأخّرين، و إرسالهم العمومات إرسال المسلّمات، و ضابطة كلّية للتفريعات.

قوله: «و فيه نظر».

أقول: وجه النظر ما تقدّم من العمومات و الإجماع المنقول على الإلحاق.

و أيضا يمكن أن يكون سكوت الشيخ لتردّده في عذرة غير الإنسان، فلا يظهر من السكوت القول بالجواز.

قوله: «الأقوى جواز بيع الأرواث الطاهرة .. إلخ».

أقول: و يدلّ عليه- مضافا إلى ما في المتن من الشهرة و الإجماع المنقول- السيرة القطعيّة من المسلمين على الوقود بها و بيعها و شرائها من غير نكير، و عموم


1- المغني 4: 327.
2- انظر فتح العزيز (المجموع): ج 8 ص 113.
3- الحاوي الكبير 5: 383.
4- المغني 4: 327.

ص: 21

حلّية بيع كلّ ما فيه وجه من وجوه الصلاح، بعد فرض منفعة الوقود بها من أعظم المنافع الكلّية المقصودة منها، و مفهوم تقييد الممنوع بيعه من السرجين بالنجس في معقد الإجماع فافهم.

قوله: «فالظاهر إرادة حرمة البيع للأكل».

أقول: بل الأظهر حرمة بيع المسفوح النجس من الدم بقرينة القصّابين.

قوله: «لكن الظاهر أن حكمهم بتبعيّة الأم».

[أقول:] يعنى: أن هذا التعليل دوريّ شبيه بالمصادرة، لأن المراد بعدم الملك عدم الانتفاع.

قوله: «التقرير الغير الظاهر في الرضا».

[أقول:] وجه عدم ظهور التقرير في الرضا مع كون الأصل فيه الرضا:

وجود المانع من ظهوره في الرضا، و هو عموم المنع من جواز بيع الميتة، القابل للاكتفاء به في السكوت عن المنع في الكتاب و السنّة. أمّا الكتاب فيكفي عموم:

فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثٰانِ (1)، و عموم وَ الرُّجْزَ فَاهْجُرْ (2) بعد قوله تعالى إِنَّمَا الْخَمْرُ وَ الْمَيْسِرُ وَ الْأَنْصٰابُ وَ الْأَزْلٰامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطٰانِ (3).

و أمّا السنّة فيكفي ما تقدّم من عموم النهي عن بيع شي ء من وجوه النجس.

قوله: «فلا مانع من صحّة بيعه .. إلخ».

[أقول:] و فيه: أنه [إن] قام الدليل الخاصّ على جواز الانتفاع كما قلت فهو مخصّص لعموم المنع من جواز بيع الميتة، من باب ملازمة الإذن في الشي ء- و هو جواز الانتفاع- للإذن في لوازمه، و هو جواز البيع، و لا حاجة إلى تكلّف دعوى عدم المانع. و إن لم يقم الدليل الخاصّ فالمانع هو عموم قوله عليه السلام: «أو شي ء من


1- الحج: 30.
2- المدثر: 5.
3- المائدة: 90.

ص: 22

وجوه النجس» (1)في ص: 15- 16.

(2) فيما تقدّم من العمومات.

و دعوى ظهورها في الانصراف إلى حرمة الانتفاع- كما قاله المصنف- فيه أولا: المنع بما قدّمنا (3) من الوجوه الأربعة، و تعليل الانصراف بتعليل المنع من بيع شي ء من وجوه النجس بكونه منهيّا عن أكله و شربه عليل، بأنه كما علّل بالنهي عن خصوص الأكل و الشرب كذلك علّل أيضا بالنهي عن عموم إمساكه و جميع تقلّبه.

و ثانيا: لو سلّم ما قلت من عدم المانع فلا حاجة إلى ما قلت من فرض الدليل الخاصّ على جواز الانتفاع، ضرورة أن عدم المانع كاف في جواز البيع بعد وجود المقتضي له، من أصالة الإباحة الشرعيّة و العقليّة، و عموم أَحَلَّ اللّٰهُ الْبَيْعَ (4) و تِجٰارَةً عَنْ تَرٰاضٍ (5).

قوله: «إناطة جواز البيع و عدمه بجواز الانتفاع و عدمه».

أقول: هذه الإناطة مسلّمة، لكنّها بمنزلة الكبرى- كسائر العبارات التالية- للإناطة لا يثبت بها الصغرى، و هو جواز الانتفاع بجلد الميتة الذي هو المطلوب.

فإن كان المثبت له دليل خاصّ و نصّ مخصّص، كالاستصباح بالنجس (6)الوسائل 12: 86 ب «16» من أبواب ما يكتسب به ح 1.

(7) و بيع العبد الكافر (8) و كلب الصيد (9)، فعليه بإثباته. و إن كان أصالة الإباحة و عموم أَحَلَّ اللّٰهُ الْبَيْعَ و تِجٰارَةً عَنْ تَرٰاضٍ فمن المقرّر أن الأصل- و لو كان لفظيّا- دليل حيث لا دليل، فلا يقاوم الدليل، و هو عموم الأدلّة الناهية عن


1- الوسائل 12: 56 ب
2- من أبواب ما يكتسب به قطعه من ح 1.
3- في ص: 15- 16.
4- البقرة: 275.
5- النساء: 29.
6- الوسائل 12: 66 ب
7- من أبواب ما يكتسب به.
8- الوسائل 12: 86 ب «16» من أبواب ما يكتسب به ح 1.
9- الوسائل 12: 82 ب «14» من أبواب ما يكتسب به.

ص: 23

الانتفاع بالنجس بجميع وجوه الانتفاع.

قوله: «و الانصاف إمكان إرجاعه إلى ما ذكرنا. فتأمّل».

أقول: أمّا إرجاعه إلى ما ذكره فلإمكان رجوع شرطيّتهما إلى الشرطيّة في الجملة، أعني: شرطيّة أحدهما لا كلّ منهما.

و أمّا وجه التأمّل فلأن الاكتفاء بأحد الشرطين خلاف ظاهر الشرطيّة.

قوله: «و هو مشكل».

أقول: لا إشكال في كون الأخبار المجوّزة صحيحة و صريحة في تخصيص عمومات النهي عن بيع الميتة و الانتفاع بالنجس. و إنما الإشكال فيها من جهة استلزامها التخصيص في قاعدة اشتراك جميع المكلّفين في الأحكام الواقعيّة بغير المستحلّ، و هو من التصويب الباطل.

و يمكن رفع هذا الإشكال عن الأخبار المجوّزة أولا: بمنع استلزامها تخصيص قاعدة الاشتراك في الأحكام و تحليل الحرام، لاحتمال أن يكون تجويزها بيع الميتة من المستحلّ من باب «ألزموهم بما ألزموا به أنفسهم» (1)النساء: 29.

(2).

و ثانيا: بمنع بطلان اللازم، و هو التخصيص في قاعدة الاشتراك و بطلان التصويب بغير المستحلّ، لأن دليل الاشتراك و بطلان التصويب من الأدلّة النقليّة القابلة للتخصيص لا العقليّة الآبية منه.

قوله: «لوجود المقتضي و عدم المانع».

أقول: أمّا جواز بيع الميتة الطاهرة فلأصالة الإباحة و عموم أَحَلَّ اللّٰهُ الْبَيْعَ (3) و تِجٰارَةً عَنْ تَرٰاضٍ (4).

و أمّا عدم المانع فممنوع، إذ لا ينحصر المانع في النجاسة، بل عموم النهي


1- الوسائل 17: 598 ب
2- من أبواب ميراث المجوس ح 2.
3- البقرة: 275.
4- النساء: 29.

ص: 24

عن بيع الميتة في عرض النهي عن بيع الخمر و وجوه النجاسة مانع مستقلّ، لم يثبت التخصيص المخرج له عن عموم النهي، إلّا بفحوى الخبر (1) المتقدّم في جواز الإسراج بالزيت النجس و ذوبان الألية النجسة.

قوله: «خذها و أفسدها .. إلخ».

أقول: دلالة الخبر على جواز بيع الخمر مبنيّ على أن يكون المراد من الأخذ أخذها شراء، لا مجّانا أو تقاصّا عن الدراهم، قبل التخليل لا بعده، و أن يكون المراد من إفسادها تخليلها لا إهراقها، لعدم الماليّة، و إلّا فلا يدلّ على جواز بيعه، بل على منعه كما هو الأظهر.

قوله: «يمكن الاستدلال على ذلك بالتعليل .. إلخ».

أقول: الاستدلال على حرمة المتنجّس بعموم تعليل حرمة الأعيان النجسة بأنه «محرّم الأكل .. إلخ»، دون عموم وجوه النجس الظاهر في الأعيان النجسة دون المتنجّسة، مبنيّ على حجّية عموم منصوص العلّة، بأن يكون التعليل «بأنه محرّم الأكل» في قوّة التعليل بأن كلّ محرّم الأكل و لو كان من الأعيان المتنجّسة لا النجسة محرّم البيع، و إلّا فعلى القول بالمنع من حجّية عموم منصوص العلّة، و احتمال اختصاص ضمير العلّة بخصوصيّة خصوص معلوله، فينصرف عموم العلّة إلى خصوص عموم معلوله و لا يتعدّاه، و يكون التعليل «بأنه محرّم الأكل» في قوّة: لأن خصوصيّة حرمة أكل الأعيان النجسة توجب حرمة بيعها، لا أن حرمة مطلق الأكل توجب حرمة البيع.

[و أما المستثنى من الأعيان المتقدمة]

قوله: «و أن اشتراطهم قبول التطهير إنما هو فيما يتوقّف الانتفاع به على طهارته .. إلخ».

أقول: مضافا إلى ذلك فيه أولا: أن الظاهر من قبول التطهير- نظرا إلى أن


1- الوسائل 12: 66 ب (6) من أبواب ما يكتسب به.

ص: 25

المشتقّ حقيقة في المتلبّس دون غيره، و إلى أن الدليل على اشتراط قبول التطهير ليس إلّا نصوص (1) المنع من بيع النجس و اعتبار الطهارة فيه- إنما هو قبوله بالفعل لا بالقوّة، فضلا عن القوّة البعيدة، فضلا عن البعيدة الخارجة عن قدرة المالك رأسا.

و ثانيا: أن قبول الطهارة بالقوّة البعيدة لو صحّحت بيع النجس لصحّحت بيع كلّ من الأعيان النجسة، إذ ما من عين من الأعيان النجسة إلا و يقبل التطهير بالقوّة البعيدة، كالانقلاب و الانتقال و الاستحالة و التجفيف و التنقيص.

و ثالثا: أن الوصف الشأنيّ لو صحّح بيع النجس لكانت الصحّة مراعاة بحصوله، مثل الإجازة في الفضولي و القدرة على التسليم و القبض في غيره، فيلزم منه فساد بيع الكافر لو لم يسلم و المرتدّ لو لم يتب، بل لا أقلّ من لزوم أن يكون تخلّفه من قبيل تخلّف الوصف و الشرط موجبا للخيار، و لم يلتزم به أحد.

قوله: «ينشأ من تضادّ الحكمين».

[أقول:] يعني: من جواز بيعه، و وجوب إتلافه و حرمة إبقائه.

و فيه: أنه لا تضادّ في الحكمين بعد فرض اختلاف موضوع أحدهما و هو البيع و الآخر و هو النفس، مضافا إلى عدم التضادّ و التنافي بين موضوعهما، و إمكان الجمع بين البيع و الإتلاف في آن واحد، و ليسا مثل حفظه و إتلافه، و لا مثل استخدامه و إتلافه، في عدم الاجتماع و تضادّ الموضوعين.

فالأقوى صحّة بيعه و عدم صحّة رهنه، لأن سلب المنافع شرعا لا ينافي المقصود من البيع، بخلاف المقصود من الرهن.

قوله: «لأن مرجع التقييد إلى إرادة ما يصحّ عنه سلب صفة الاصطياد».

[أقول:] أي: لا سلب صفة السلوقيّة أقول: فيه أولا: أن سلب صفة


1- الوسائل 12: 56 ب (2) من أبواب ما يكتسب به ح 1.

ص: 26

الاصطياد عنه إنما هو عين منطوق القيد و الوصف لا مرجع القيد و مفهومه.

و ثانيا: أن تعليل عدم انصراف الصيود إلى السلوقي، بإرادة سلب صفة الاصطياد من سلب الصيود لا سلب صفة السلوقي، مصادرة بالمطلوب.

و ثالثا: أن الانصراف و الحمل على الغالب- و هو السلوقي- إن صحّ في مطلق الصيود صحّ في المقيّد الموصوف بالاصطياد أيضا. و بعبارة أخرى: كما أن المطلق الوارد مورد الغالب لا إطلاق فيه، كذلك القيد و الوصف و الشرط و الصلة و الموصول الوارد مورد الغالب لا مفهوم له، فلا فرق و لا فارق. إلّا أن يوجّه الفرق بأن القيد و الوصف و صلة الموصول لفظ زائد على إطلاق المطلق كالعموم، لا بدّ له بحسب البلاغة من معنى زائد على المطلق المنصرف إلى الغالب، و هو العموم غير المنصرف إليه.

قوله: «الأول أظهر فتدبّر».

[أقول:] لعلّه إشارة إلى أن وجه أظهريّة تعميم السلوقيّ لمطلق الصيود دون تخصيصه بخصوص الصيود منه، مع أظهريّة تعليله بأكثريّة الصيود منه بالخصوص في التخصيص لا التعميم، إنما هو إطلاق كلب الصيد في سائر الفتاوى و النصوص في التعميم لا التخصيص.

قوله: «مع أن دعوى الإجماع ممّن يصطلح الإجماع على مثل هذا الاتّفاق لا يعبأ بها».

[أقول:] لا يقال: إن مثل الشيخ هو الذي فتح باب الإجماع اللطفيّ و الكشفيّ، فكيف لم يصطلح الإجماع على مثل هذا الاتّفاق؟! مع أن المصنف (1) جعل هذا الوجه من جملة وجوه القدح في الإجماع المنقول.

لأنّا نقول: قد تقرّر في محلّه أن الإجماع مختلف جدّا بين الخاصّة


1- فرائد الأصول: 49.

ص: 27

و العامّة، و بين القدماء و المتأخّرين، من حيث الأقسام و الأحكام و اشتمال الإمام بالتضمّن أو الالتزام، و من حيث الاستناد إلى الملازمة العاديّة بين الرئيس و المرءوس، أو إلى قاعدة اللطف و الكشف و غيرهما، إلّا أن الظاهر مع ذلك كلّه عدم تغيّر المصطلح عند الكلّ بأنه اتّفاق كلّ أهل عصر واحد، و أن سائر الأقسام و الأفراد منه على اختلافها إنما تلحق بالإجماع المصطلح حكما لا اسما، لاشتراكهما فيما هو مناط الحجّية من باب التنزيل المجازي، فلا يحمل عليه إطلاق الإجماع، لظهوره في المصطلح.

قوله: «هو المنع. فافهم».

[أقول:] لعلّه إشارة إلى دفع ما يقال: من أن الظنّ الحاصل من عمومات الأدلّة المانعة أضعف من الظنّ الحاصل من الشهرة المجوّزة، لفعليّة هذا الظنّ و شأنيّة الظنّ الآخر، فكيف يكون أقوى منه؟!.

و طريق دفعه: أن أقوائيّة الظنّ الحاصل من الأدلّة إنما هو بالنسبة إلى الأدلّة من حيث انه ظنّ خاصّ، و أضعفيّته إنما هو بالنسبة إلى نفسه مع قطع النظر عن أدلّة اعتباره، و أقوائيّة الظنّ الحاصل من الشهرة المجوّزة من حيث العكس، فلا تنافي.

قوله: «بعد الجفاف».

أقول: و أقرب من ذلك قبولها التطهير بغسل المصبوغ بها بعد الصبغ، كالاختضاب بالحنّاء النجس ثم غسل محلّ الخضاب.

قوله: «و قد تقدّم أن المنع عن بيع النجس .. إلخ».

أقول: تقدّم (1) أيضا منّا ما فيه من الوجوه الأربعة، و أن فرض حلّ المنفعة إن كان بالدليل الخاصّ المخصّص للعمومات المانعة عن بيع النجس فالمفروض


1- في ص: 15- 16.

ص: 28

عدمه، و إن كان بأصالة الإباحة و عموم أَحَلَّ اللّٰهُ الْبَيْعَ (1) و تِجٰارَةً عَنْ تَرٰاضٍ (2) فمن المقرّر عدم مقاومتها لأدلّة الحرمة.

قوله: «المطلق المنصرف إلى الفوائد المحرّمة فافهم».

[أقول:] لعلّه إشارة إلى أن غلبة الوجود بنفسه لا يوجب الانصراف ما لم يستند إلى غلبة الاستعمال، أو إلى دفعه، لأن المراد من انصراف المطلق ليس انصراف لفظه حتى يعتبر في صارفة غلبة الاستعمال، بل انصراف فعله، أعني:

فعل البيع، حيث إن الفعل المجهول الوجه بالنسبة إلى الجاهل يحمل على الغالب وجوده من الصحيح و الفاسد، و بالنسبة إلى الفاعل يدان بنيّته، كما قيل: العقود تابعة للقصود.

بيان ذلك: أن كلّ ما كان من قبيل الإحسان و الظلم و إلقاء المحترم في القاذورة من الأفعال التي لها جهة واحدة، فهي لا تنصرف إلى غير جهتها المتّحدة. و كلّ ما كان من قبيل ضرب اليتيم و المحترم من الأشخاص و المصحف و طين الحائر، و مسّ الأسماء المشتركة بين المحترم و غيره، و نحوها من ذي الجهات العديدة من الأفعال، فهي ممّا لا تتعيّن و لا ينصرف فعلها إلّا إلى ما يعيّنه قصد الفاعل من الجهات العديدة.

هذا كلّه في توجيه ما وجّه به المصنف، التفصيل الذي اختاره قولا رابعا في المسألة.

و لكن فيه: أن تبعيّة الأفعال للعقد كتبعيّة العقود للقصود إنما هو فيما ثبت له في العرف و الشرع جهتان مختلفتان غير مميّزتين بوجه من الوجوه، كضرب اليتيم حيث ثبت في الخارج أنه بوجه العدوان حرام و بوجه الإحسان حسن،


1- البقرة: 275.
2- النساء: 29.

ص: 29

فينحصر تعيينه في القصد. و ما نحن فيه ليس كذلك، إذ لم يثبت شرعا إناطة حلّية بيع النجس و حرمته بماليّة المبيع و عدم ماليّته، و لا إناطة ماليّته و عدم ماليّته بإزاء ما يقابله من منافعه المحرّمة و المحلّلة كما زعم المصنف، حتى ينصرف تعيينه إلى القصد و ينحصر في القصد، و إنما هو أمر مستنبط و رجم بالغيب، و العلل المستنبطة كالقياس و الاستحسان ممّا لا تعتبر عندنا، خصوصا عند المصنف، كما صرّح (1) به في وجه خروج القياس عن مطلق الظنّ على تقدير الانسداد.

بل الثابت فيما نحن فيه إنما هو النهي عن بيع النجس على وجه العموم، و استثناء بيع الدهن منه على وجه التخصيص و مقتضى القاعدة العرفيّة في إطلاق المستثنى و تخصيصه بخصوص قصد الإسراج أو اشتراطه أو عدمهما هو الرجوع إلى إطلاق المخصّص و عدمه، كما أن المرجع في عموم المستثنى منه و عدمه إلى عمومه و عدم عمومه، لا إلى تبعيّة القصود و مدخليّتها في التعيين.

قوله: «و مرجع هذا في الحقيقة إلى أنه لا يشترط إلّا عدم قصد المنافع المحرّمة. فافهم».

[أقول:] لعلّه إشارة إلى منافاة صحّته لما ادّعاه من انصراف مطلق البيع (2) إلى ما يكون ماليّته في إزاء المنافع الغالبة المحرّمة.

أو إلى دفعه بأن هذا من شئون انصراف اللفظ لا الفعل، أعني: من انصراف لفظ البيع و المبيع، و أمّا انصراف فعله- و هو النقل و الانتقال- إلى الجهة المحلّلة فيكفي فيه مجرّد عدم قصد الجهة المحرّمة، كما وجّهنا به أمره المتقدّم (3) بالفهم.

ألا ترى أنه يكفي في جواز مسّ الأسماء المشتركة بين المحترم و غيره عدم قصد المحترم لا قصد غيره، و في إباحة السفر عدم قصد المعصية لا قصد الطاعة.


1- فرائد الأصول: 156.
2- أي: مطلق بيع الدهن المتنجّس من غير قصد الفائدة المحلّلة.
3- في ص: 28.

ص: 30

قوله: «على أضعف الوجهين من وجوب الاقتصار في الانتفاع بالنجس على مورد النصّ».

أقول: أضعفيّته مبنيّ على ما اختاره من إهمال عمومات النهي عن بيع النجس، و دعوى انصرافها إلى قصد ما يترتّب عليه من المنافع المحرّمة. و قد عرفت ما فيه، و أقوائيّة عمومها بأبلغ وجه.

قوله: «هو النفع المحرّم. فافهم».

[أقول:] لعلّه إشارة إلى ما قد يقال من عدم الفرق بين الشرطين في استناد فساد المشروط إلى فساد الشرط في البين، من جهة أن ما وقع من العقد المطلق لم يقصد، و ما قصد منه من المشروط بالشرط لم يقع شرعا.

أو إلى دفعه و إبداء الفرق الواضح بين قولك: بعتك النجس بشرط أن تأكله، و بعتك العنب بشرط أن تخمّره، من جهة أن بيع العنب لا فساد فيه إلّا من قبل تخمّره الفاسد، بخلاف بيع النجس فإن فساده من قبل نفسه قبل شرطه.

هذا، و لكن فيه أن فساد بيع النجس إن كان من جهة مانعيّة عموم النجاسة- كما هو الأشهر- فالفرق المذكور بين الشرطين و العلاوة المذكورة في البين واضح، إلّا أن هذا المبنى خلاف مختاره فيما مرّ و فيما سيأتي. و إن كان من جهة مانعيّة آثاره المحرّمة دون مانعيّة نفسه- كما هو مختاره- فالفرق المذكور بين الشرطين ممنوع في البين، إلّا أن العلاوة المذكورة مسلّمة فيه.

قوله: «إنما جعل غاية للإعلام».

[أقول:] يعني: أن الاستصباح إنما جعل في النصوص غاية للإعلام الخارج عن البيع، لا شرطا و لا قيدا داخلا في البيع حتى يعتبر اشتراطه أو قصده فيه، و لا غاية للبيع أيضا، لعدم الترتّب بينهما حتى يعتبر فيه، بل المترتّب على نقل البيع الانتقال لا الاستصباح.

ص: 31

قوله: «فهل يجب مطلقا أم لا؟ .. إلخ».

[أقول:] أي: فهل يجب مطلقا حتى على الأجنبيّ غير المتسبّب لإغراء الجاهل بنجاسته ببيع و نحوه، كما هو ظاهر العلامة (1) في تعليله وجوب الإعلام بوجوب النهي عن المنكر، أم لا يجب إلّا على البائع المتسبّب لإغراء المشتري ببيعه له من غير إعلام؟

قوله: «فإن الغاية للإعلام ليس هو تحقّق الاستصباح .. إلخ».

أقول: فيه أولا: أن ذلك مناف لقوله آنفا: «إنما جعل غاية للإعلام» و لما هو المحقّق من ترتّب الإصباح على الإعلام، و العمل على العلم، و الائتمار على الأمر، و الانتهاء على النهي، بحسب التديّن و الديانة و المقتضيات الإيمانيّة و المحاسن الفطريّة، لو لا الموانع الخارجيّة، كما أن ترتّب كلّ غاية على ذي الغاية و مسبّب على سببه مبنيّ على عدم الموانع الخارجيّة، و عدم ترتّبها بواسطة الموانع لا يخرجها عن الغاية و المسبّبيّة.

و ثانيا: أن الدليل على عدم كون الإعلام واجبا شرطيّا في صحّة البيع هو عدم ترتّب صحّة البيع عليه لا عدم ترتّب الإصباح عليه، فإن عدم ترتّب الإصباح عليه دليل عدم كونه شرطا في حصول الإصباح، لا دليل عدم كونه شرطا في صحّة البيع الذي هو محلّ النزاع. إلّا أن يوجّه قوله: «فإن الغاية .. إلخ» بأن عدم ترتّب الإصباح على الإعلام دليل عدم كونه غاية له، و أن الغاية له هو مجرّد رفع الجهل و الإغراء عن الجاهل، لا دليل عدم كونه واجبا شرطيّا حتى يرد عليه ما أورد.

قوله: «و يؤيّده أن أكل الحرام و شربه من القبيح».

أقول: وجه كونه مؤيّدا لا دليلا لعلّه من جهتين:


1- أجوبة المسائل المهنّائية: 49 المسألة 53.

ص: 32

أولا: من جهة أن قبحه في حقّ الجاهل بمعنى النقض لا العقاب، و أن حسن الاحتياط فيه حسن ندبيّ لا وجوبي، إلّا في الشبهة المحصورة لا البدويّة.

و ثانيا: أن قبح ارتكاب خلاف الواقع و حسن الاحتياط في تحصيل الواقع بالنسبة إلى الجاهل لا يستلزم وجوب الإعلام على العالم إلّا من باب المقدّمة و عموم وَ لٰا تَعٰاوَنُوا (1).

قوله: «لكن إثبات هذا مشكل».

أقول: وجه الإشكال من جهة أصالة البراءة من وجوب إعلام الجاهل كلّية على وجه العموم، و من جهة وجوب إرشاد الجاهل في الأحكام و تنبيه الغافل في الموضوعات، خصوصا في ما هو معرض إتلاف النفوس و الأعراض و الأموال في الجملة. فتأمّل.

قوله: «كما إذا أكره غيره على المحرّم».

[أقول:] بأن أمره بالظلم، أو نصبه واليا أو حاكما أو ضابطا أو كاتبا أو قاضيا على الجور و الظلم، و تحرير ديوانه، و الحكم بغير ما أنزل اللّٰه، و نحو ذلك ممّا جرت عليه عادة ملوك الجور و العدوان، و طاغية كلّ زمان، في إكراه الناس على الحرام، بكلّ من وجوه العلّية أو السببيّة أو الشرطيّة أو عدم المانعيّة من الحرام و المحرّمات.

قوله: «و لا إشكال في حرمته و كون وزر الحرام عليه، بل أشدّ، لظلمة».

أقول: وجه ذلك عموم قوله إِلّٰا مَنْ أُكْرِهَ وَ قَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمٰانِ (2).

و عموم قوله تعالى فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بٰاغٍ وَ لٰا عٰادٍ فَلٰا إِثْمَ عَلَيْهِ (3).

و عموم: «رفع عن أمّتي تسعة .. و منها: ما أكرهوا عليه .. و ما اضطرّوا


1- المائدة: 2.
2- النحل: 106.
3- البقرة: 173.

ص: 33

إليه» (1).

و لكن لا يخفى أن معذوريّة المكره- بالفتح- و كون وزره على المكره- بالكسر- عقلا و شرعا إنّما هو في غير الدماء و في غير شرب الخمر و مسح الخفّين، لاستثناء الدماء عقلا و شرعا، و الخمر و مسح الخفّين نصّا، و في غير ما يكون المكلّف بسوء اختياره معينا أو طالبا أو راغبا أو معرّضا نفسه لإكراه الغير له، كالضائف بسوء اختياره المكره له بأكل الحرام، و المجيب دعوته اختيارا مع العلم بأنه سيكرهه على الحرام، فإنه في جميع هذه الموارد- كالمتوسّط بسوء اختياره في الأرض المغصوبة- غير معذور عقلا و لا نقلا، بل هو ضامن و غارم على ما أكره، لأن ما كان بسوء الاختيار من الإكراه و الاضطرار فهو في حكم الاختيار لا الاضطرار عقلا و نقلا.

قوله: «و إلّا لم يكن عيبا. فتأمّل».

[أقول:] لعلّه إشارة إلى أنه و إن لم يكن عيبا عرفا بل و لا شرعا، بالنظر إلى عدم حرمته على الجاهل ظاهرا، إلّا أنه بالنظر إلى حرمته الواقعيّة و منقصته الخفيّة واقعا يعدّ نقصا واقعيّا و عيبا خفيّا، و لهذا يستحيل الخطأ و النسيان على المعصوم، و يغرم الجاهل المخطئ في حقوق الناس، و يضمن الطبيب و لو كان حاذقا، و يقضى الفائت و لو غافلا.

أو إشارة إلى عدم المنافاة بين كونه عيبا خفيّا و منكرا شرعيّا ليجب الإعلام به في المعاوضات من جهتين، و في غيرها من جهة النهي عن المنكر.

أو إشارة إلى أن إعلام الجاهل و تنبيه الغافل بالمحرّمات الواقعيّة و إن لم يثبت وجوبه بأدلّة النهي عن المنكر، إلّا أن استحبابه ثابت بمثل عموم استحباب الأذان الإعلامي، و عدم القول بالفصل بين ما يوجب إيقاظ النائم و عدمه،


1- الوسائل 11: 295 ب «56» من أبواب جهاد النفس و ما يناسبه ح 1.

ص: 34

خصوصا قبل الفجر، و بسيرة الأمير عليه السلام على إيقاظ النائمين في مسجد الكوفة للصلاة، و نصوص الأمر باستهلال شهر رمضان (1)، و أوامر اختبار المرأة عن حالها المشتبه بين حدوث الحيض و عدمه، أو انقطاعه و عدمه، أو بين الحيض و العذرة و القرحة أو الاستحاضة، أو بين القليلة و الكثيرة و المتوسّطة.

فإن بنينا على ظاهر تلك الأوامر ثبت وجوب الاستعلام و الإعلام في خصوص هذه الموضوعات، مضافا إلى ما تقدّم منها. كما أن نصوص حرمة كتمان الشهادة (2) و وجوب أدائها و تحمّلها أيضا ممّا يثبت وجوب الإعلام في الموضوعات في الجملة، مضافا إلى ما تقدّم أيضا. كما أن وجوب نصح المستشير و قوله عليه السلام: «اذكروا المرء بما فيه ليتحرزه الناس» (3) أيضا ممّا يثبت وجوب الإعلام في الجملة، مضافا إلى ما تقدّم.

قوله: «مرسلة الشيخ (4) المنجبرة بالشهرة المحقّقة .. إلخ».

أقول: انجبار الرواية بشهرة الرواية منصوص، و أمّا بشهرة الفتوى فمبنيّ على حجّية مطلق مظنون الصدور من الأخبار أو حجّية الظنّ المطلق في الأحكام، و إلّا فلا يسلم الانجبار بها، كما يومي إليه قوله: «لو سلّم».

قوله: «خصوصا بالحمل على الإرشاد أولى».

أقول: أمّا وجه أولويّة حمل الجملة الخبريّة في المرسل على الندب من الحمل على تقييد المطلق، فلأن تقييد المطلق و إن كان أشيع المجازات و أرجحها في مقام تعارض الأحوال، بل قيل بأنه حقيقة، إلّا أن تقييده بالجملة الخبريّة يستلزم مجازين: تجوّز في المطلق و تجوّز في استعمال الجملة الخبريّة في


1- لم نجد نصوص بهذا المعنى، و ربما كان مقصوده شي ء آخر.
2- الوسائل 18: 227 ب (2) من أبواب الشهادات.
3- جامع السعادات 2: 321، و فيه اختلاف يسير.
4- المبسوط 6: 283.

ص: 35

الإنشاء، بخلاف حملها على الندب، فإنّه تجوّز واحد.

و أمّا وجه خصوصيّة الإرشاد فلعدم استلزامه التجوّز أصلا.

قوله: «لإبائها في أنفسها عنه، و إباء المقيّد عنه».

أقول: في كلّ من الإباءين نظر، بل منع واضح. أمّا عدم إباء أنفسها عن التقييد فلأنها ليست من الأحكام الفعليّة، و لا في مقام إعطاء القاعدة الكلّية، حتى تأبى عن التقييد. فكما أن العمومات المتقدّمة عليه المانعة من وجوه الاستنفاع بالنجس لم تأب من التخصيص بجواز الاستصباح به، كذلك إطلاق المخصّص لها لا يأبى من التقييد ب «تحت السماء» بالطريق الأولى.

و أمّا عدم إباء المقيّد عنه فلأن إباء المقيّد عن التقييد مبنيّ على أن ما دلّ عليه التقييد المذكور من نجاسة الدخان مخالف للشهرة، و أن حرمة تنجيس السقوف لا دليل عليه. و كلاهما ممنوعان.

أمّا شهرة طهارة الدخان فلأنها في دخان أعيان النجس لا المتنجّس، خصوصا الدهن الذي لا ينفكّ دخانه عن أجزائه اللطيفة المتصاعدة من الدسومة المحسوسة غير المستهلكة فيه.

و أمّا تنجيس السقوف فما كان منها مثل سقوف المساجد و المشاهد فدليل حرمته واضح. و أمّا سقوف غير المساجد فلاحتمال النهي عن تنجيسها، للإرشاد إلى عموم الابتلاء بانتشار النجاسة و سرايتها إلى الجدران و ما يقربها من الألبسة و الظروف و الفروش و الأطعمة و الأشربة و الأبدان، بل و سرايتها إلى تنجيس كلّ من يجتمع مع الدخان تحت السقوف، بل كثيرا ما يتكوّن الدخان في سقوف الحمّام بقطرات ماء ينجّس من يتقطّر عليه، أو يجتمع الدخان في السقوف فيأخذه الجاهل أو الناسي نجاسته لمداد الكتب و الصحف، إلى غير ذلك من معرّضيّة تنجيسه السقوف مفاسد انتشار النجاسة و سرايتها المسوّغة لحرمة

ص: 36

تنجيسها، كما سيحكيه المصنف في آخر المسألة عن الكافي عن الوشّاء: «قلت لأبي الحسن عليه السلام: جعلت فداك إن أهل الجبل تثقل عندهم أليات الغنم فيقطعونها، فقال: حرام هي ميتة، فقلت: جعلت فداك فيستصبح بها؟ فقال: أما علمت أنه يصيب اليد و الثوب و هو حرام؟!» (1).

فعلى هذا ينبغي أن يقال في تفصيل المقال و تحقيق الحال: إنه إن لم نقل بانجبار المرسلة بشهرة الفتوى بها فلا مقتضى لتقييد الاستصباح بها تحت السماء رأسا. و إن قلنا بانجبارها- كما يقتضيه حجّية الظنّ المطلق في الأحكام، أو مطلق مظنون الصدور من الأخبار- فلا مانع من تقييدها الاستصباح بما تحت السماء، لأن المانع إن كان أولويّة الحمل على الإرشاد فهو غير مانع، لأنّ الإرشاد إلى عدم تأثّر السقوف بنجاسة الدخان غير مانعة الجمع مع تقييد الاستصباح بما تحت السماء، بل هو مقتض له أيضا. و إن كان المانع هو لزوم نجاسة الدخان و حرمة نجاسة السقوف، فمن الواضح عدم مانعيّتهما، للمنع من بطلان اللازم، حسب ما عرفت من أن ما يصحّ للمانعيّة من شهرة طهارة الدخان فيما نحن فيه لم يوجد، و ما وجد منه من حرمة تنجيس السقوف لا يصلح للمانعيّة.

قوله: «مع أنه لو عمّ المتنجّس لزم أن يخرج عنه أكثر الأفراد».

[أقول:] يعني: من الظروف و الفروش و الألبسة و الأمكنة و الأصبغة و الأمتعة و نحوها، ممّا لم يشترط في استعمالها الطهارة.

و لكن فيه: إمكان منع الملازمة، و إخراج جميع ما لا يتوقّف استعماله على الطهارة بعنوان واحد، كقولك: إلّا ما يقبل التطهير، أو ما لا يشترط فيه الطهارة، أو ما لا يستلزم منه التنجيس و المفسدة من الاستعمالات، بحيث لا يلزم من إخراجها التخصيص بالأكثر و إن كان الخارج أكثر، كقوله:


1- الكافي 6: 255 ح 3، و فيه اختلاف يسير.

ص: 37

إِنَّ عِبٰادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطٰانٌ إِلّٰا مَنِ اتَّبَعَكَ (1) و الحال أن تابعيه أكثر بأضعاف.

قوله: «المائعات المتنجّسة كالدهن و الطين و الصبغ و الدبس إذا تنجّست ليست من أعمال الشيطان».

أقول: فيه كما أن تصنيع الخمر و الأصنام إنما كان بتعليم الشيطان، كذلك تنجيس المتنجّس لا يكون في الخارج إلّا من شرّ الشيطان، إذ ما من شرّ و لا فساد و لا فسق و لا تنجيس و لا آفة و لا عاهة و لا خطأ و لا نسيان و لا جهل و لا غفلة إلّا و هو مستند بالأصالة أو الأوّليّة أو الأولويّة أو السببيّة أو العلّيّة إلى عمل الشيطان و وسوسته، كما أنه ما من معصية أو استعمال حرام إلّا و هو مستند إلى إغوائه و تسويله.

و على ذلك فلا فرق بين التخمير و التصنيم و بين التنجيس في كون كلّ منهما من تعليم الشيطان و تسبيبه. كما أنه لا فرق بينهما في كون استعمالها على النحو الخاصّ- يعني: على النحو المحرّم من الشرب و الأكل- أيضا من إغواء الشيطان و استتباعه. فآية الاجتناب عن الرجس بإطلاقها شاملة لاجتناب المتنجّس أيضا.

قوله: «و أضعف من الكلّ الاستدلال بآية تحريم الخبائث» (2).

أقول: وجه الأضعفيّة أن الخبيث في العرف و الشرع ما يتنفّر منه الطبع، فلا يشمل كلّ متنجّس، بخلاف عموم الرجس.

قوله: «المراد هنا حرمة الأكل بقرينة مقابلته بحلّية الطيّبات».

أقول: فيه أنه لا قرينة و لا صارف للحرمة و الحلّية عن عموم حذف المتعلّق لجميع الاستنفاعات، من الأكل و الشمّ و التنزّه و التفرّج و غيرها.


1- الحجر: 42.
2- الأعراف: 157.

ص: 38

قوله: «و الملاقي للنجس و إن كان عنوانا للنجاسة، لكنّه ليس وجها من وجوه النجاسة في مقابلة غيره».

أقول: يمكن منعه بأن الملاقي للنجس بعد فرض كونه عنوانا- أي:

موضوعا و محكوما للنجاسة- لا مانع من كونه وجها من وجوه النجاسة- أي:

فردا و مصداقا و قسيما من أفراد النجاسة و أقسامها و مصاديقها- في مقابل غيره، أي: غير الملاقي. أمّا بحسب الحكم الشرعي و هو وجوب الاجتناب فلاشتراكه معها فيه. و أما بحسب الصدق العرفي و إطلاق النجس فلاشتراكه أيضا فيه معها، فأين الفرق و الفارق؟ إلّا أن يستظهر من وجوه النجس خصوص الأعيان النجسة بالذات. لا العرض، و لكنّه غير بيّن و لا مبيّن.

قوله: «و فيه: أن طرحها كناية عن عدم الانتفاع بها في الأكل».

أقول: فيه أولا: أنه لو كان كناية عن خصوص عدم أكله لكان طرحه رأسا، و إراقة المرق المتنجّس و الماء المتنجّس، بل و المشتبه به عند اشتباه ماء الوضوء فيه، خصوصا الكثير من منزوحات البئر، من التبذير المحرّم، مع إمكان الانتفاع به في سقي الدوابّ و الزرع، بل و الطين و الجصّ و نحوها. فجواز إراقتها من غير نكير و لا تبذير أصدق شاهد على إرادة المعنى الحقيقي الظاهر من الإراقة و الطرح، لا الكناية عن عدم الأكل، لأن المعنى الحقيقي لا يجتمع مع الكنائي في إرادة واحدة.

و ثانيا: أن الكناية استعمال اللفظ في المعنى لينتقل منه إلى لازمة، و الانتقال يتوقّف على ناقل عرفي معيّن، و تعيينه بقوله: «فإن ما أمر بطرحه من جامد الدهن و الزيت يجوز الاستصباح به إجماعا» ممنوع، لأن ما أمر بطرحه من جامد الدهن مقدار جزئي بحسب العادة، بحيث يكون إثمه بتنجيس الظرف و المصباح أكثر من نفعه بالاستصباح، و خارج عن مورد نصوص جواز

ص: 39

الاستصباح، فلم يعلم جواز الاستصباح بالمقدار الجزئيّ من الجامد المتنجّس على ما كان الاستصباح بالمائع الكلّي منه بالنصّ، حتى يكون قرينة معيّنة على الانتقال من معنى الطرح إلى لازمة و هو عدم الأكل.

قوله: «فإن الظاهر من كلام السيّد (1) [المتقدم] أن مورد الإجماع هو نجاسة ما باشره .. إلخ».

أقول: ما استظهره من كلامه من أن معقد إجماعه ثبوت أصل النجاسة لا الأحكام المتفرّعة عليه إنما هو استشعار من انسياق كلامه في مقابلة العامّة المنكرين للنجاسة، و لكنّه لا يقاوم أظهريّة كلامه و تصريحه بالتعميم بقوله: «لا يجوز أكله و لا الانتفاع به .. إلخ».

و كذلك ما استظهره من إجماع الخلاف (2) من تخصيصه بردّ المخالفين لا يقاوم أظهريّة كلامه و تصريحه بالتعميم بقوله: «لا يجوز أكله و لا الانتفاع به بغير الاستصباح». مضافا إلى عدم مانعيّة الجمع بين المرادين و عدم المنافاة في البين بالجمع بين الظاهرين.

و كذلك إجماع الغنية (3) و إن كان ظاهرا فيما ذكره من تحريم لا تحريم سائر المنافع، إلّا أن استثناءه بيع الزيت للاستصباح به تحت السماء أظهر في حرمة الاستصباح تحت الظلّ، فضلا عن حرمة سائر الانتفاعات، و بقائها تحت عموم المستثنى منه. مضافا إلى عدم مانعيّة الجمع بين الظاهرين.

قوله: «فلا ريب في وهنها بما يظهر من أكثر المتأخّرين».

أقول: لو سلّم مخالفة المتأخّرين أمكن منع وهنها و قدحها في إجماعات المتقدّمين، لانقراض عصر المخالف، فإن المعتبر في الإجماع اتّفاق أهل عصر


1- الانتصار: 193.
2- الخلاف 6: 91، 92 المسألة 19.
3- غنية النزوع: 213.

ص: 40

واحد لا جميع الأعصار، و إلّا لم يتحقّق إجماع بعد.

قوله: «دون غيره، مثل بلّ الطين و سقي الدابّة».

أقول: عدم حرمة الانتفاع بهما كما يحتمل أن يكون من جهة أصالة الحلّ في كليّ الانتفاعات، كذلك يحتمل أن يكون من جهة تنقيح المناط من نصوص جواز الاستصباح، و إذا جاء الاحتمال بطل الاستدلال به على مخالفة الإجماع.

قوله: «و لا يخفى أن كلا وجهيه صريح في حصر التحريم».

(1) أقول: إنما الصريح فيما ذكر هو الوجه الثاني لا الأول.

قوله: «قال الشهيد في قواعده: النجاسة ما حرم استعماله في الصلاة و الأغذية (2) .. إلخ».

أقول: إثباته حرمة استعمال النجس في الصلاة و الأغذية لا ينفي ما عداه حتى يثبت حلّيّة سائر استنفاعاته.

قوله: «و مراده بالنهي عن النجس النهي عن أكله».

أقول: كما يحتمل ذلك يحتمل أن يريد بالنهي عنه عمومات النهي عنه الدالّة على حرمة جميع الاستنفاعات إلّا ما خرج، و إذا جاء الاحتمال بطل الاستدلال.

قوله: «جواز الانتفاع بالدهن المتنجّس في جميع ما يتصوّر من فوائده».

أقول: هذا أيضا ليس بصريح في مخالفة الإجماعات على أصالة حرمة الاستنفاعات بالمتنجّس إلّا ما خرج، لاحتمال استناد جوازها في خصوص الدهن المتنجّس إلى النصّ (3) لا الأصل، فضلا عن جوازها في غير الدهن المتنجّس.


1- الوسائل 12: 66 ب (6) من أبواب ما يكتسب به.
2- القواعد و الفوائد 2: 85.
3- الوسائل 12: 66 ب (6) من أبواب ما يكتسب به.

ص: 41

قوله: «و لا يخفى ظهوره في جواز الانتفاع».

أقول: بل الأمر بالعكس، فإن قوله: «إنما خرج هذا الفرد بالنصّ» صريح في عدم خروج سائر الاستنفاعات، إلى آخر سائر الفقرات و العبارات، فإنها أدلّ على موافقة الإجماع من الاستدلال بها على مخالفته، و لا أقلّ من الاحتمال المبطل للاستدلال.

قوله: «يقتضيه استصحاب الحكم قبل التنجيس و هي القاعدة .. إلخ».

أقول: الاستصحاب و القاعدة أصل لا يقاوم الدليل من عمومات النهي عن استعمال النجس، حسب ما عرفت. مضافا إلى أن قوله: «كلّ شي ء يكون لهم فيه صلاح (1)البقرة: 29.

(2) .. إلخ» محتمل لأن يكون بيانا كاشفا عن كون الحلال الواقعي و الحكم الشرعي تابعا للصلاح الواقعي و المصلحة و الحكمة النفس الأمريّة، كما يقال: إن الأحكام الشرعيّة تابعة للمصالح النفس الأمريّة، لا إنشاء لجعل الحلال الظاهري لكلّ ما فيه منفعة ظاهريّة، كقوله تعالى خَلَقَ لَكُمْ مٰا فِي الْأَرْضِ (3) و «خلق اللّٰه الماء طهورا» (4)، حتى يكون من القواعد الظاهر (5) المنشئة للحلّية الظاهريّة في كلّ ما فيه منفعة ممكنة، و ذلك لظهور الصلاح في السرّ و الحكمة المكمونة، بخلاف المنفعة، فإنها قد تطلق حتى على الموهمات الزعميّة، كقوله تعالى قُلْ فِيهِمٰا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَ مَنٰافِعُ لِلنّٰاسِ (6)، و لم يقل: فيهما مصالح، فرقا بين المصلحة و الحكمة و النفع و المنفعة. فافهم.

قوله: «حلّ بيع كلّ ما يباح الانتفاع به».


1- الوسائل 12: 55 ب
2- من أبواب ما يكتسب به قطعه من ح 1.
3- البقرة: 29.
4- الوسائل 1: 101 ب (1) من أبواب الماء المطلق ح 9.
5- كذا في النسخة الخطّية، و لعلّ الصحيح: الظاهريّة.
6- البقرة: 219.

ص: 42

أقول: ظاهر الرواية أن حلّية البيع منوط بحلّية الانتفاع لا بنفس ما يمكن الانتفاع، فالاستدلال به على قاعدة كلّية حلّية الانتفاعات في النجس كالمصادرة على المطلوب.

قوله: «و يمكن حمل كلام من أطلق المنع .. إلخ».

أقول: التقييد في المطلق- خصوصا في فتاوى العلماء- من غير مقيّد و لا صارف خلاف الظاهر جدّا، لا يصار إليه من غير قرينة صارفة، لقبح تأخير البيان عن وقت الحاجة.

قوله: «و يؤيّده تعليل استثناء الدهن لفائدة الاستصباح».

أقول: أمّا في النصوص فقد جعل الاستصباح غاية للتنبيه و الإعلام، لا تعليلا لجواز البيع حتى يكون من قبيل العلّة المنصوصة على حلّية كلّ ما فيه فائدة و منفعة، كتعليل حرمة الخمر بأنه مسكر الدالّ بعمومه على حرمة كلّ مسكر.

و أمّا في الفتاوى- فمضافا إلى أنّه لم يقع تعليلا إلّا في كلام من ذكر- فهو من قبيل العلّة المستنبطة التي لا حجّية فيها.

قوله: «قلنا: ليس المراد ذلك، لأن الفائدة بيان لوجه الاستثناء».

أقول: أمّا توجيهه فهو أن يكون جواز بيع الدهن المتنجّس لفائدة الاستصباح بيانا لوجه استثناء بيعه فائدة (1) الاستصباح، لا حصر المبيع المستثنى في المقيّد للاستصباح، فكأنّه قال: إلّا الدهن لكلّ فائدة كالاستصباح، لا المقيّد لخصوص الاستصباح.

و مع ذلك فيه أولا: أن التعليل به لم يقع في نصّ حتى يكون من قبيل العلّة المنصوصة في الحجّية، بل هو من قبيل العلّة المستنبطة التي لم تقع في كلام غير


1- كذا في النسخة الخطيّة، و الظاهر أن الصحيح: لفائدة.

ص: 43

من ذكر، و لا حجّية فيها أيضا.

و ثانيا: أن جعل الاستصباح وجها للاستثناء لا حصرا للمستثنى لعلّه خلاف الظاهر، و الاحتمال كاف في الإبطال للاستدلال.

و ثالثا: لو سلّم كون الاستصباح وجها للاستثناء لا المستثنى فغايته تعميم حكم جواز البيع لكلّ ما يمكن الاستصباح به، لا لكلّ ما يمكن الانتفاع به كما هو المدّعى، كما لا يخفى.

قوله: «يكفي في صحّة ما قلنا تطرّق الاحتمال».

أقول: الاحتمال الكافي لبطلان الاستدلال إنما هو الموجب للإجمال، لا المخالف لظاهر الحال و المقال.

قوله: «على مذهب المتكلّم. فافهم».

[أقول:] لعلّه إشارة إلى أن إشكال المستشكل لا يتوجّه على مخالفة مذهب المستشكل، و إنما يتوجّه على مخالفة مذهب المستشكل عليه، أو على مخالفة ما هو المسلّم بينهما.

[بقي الكلام في حكم نجس العين]

قوله: «فلظهورها في الانتفاعات المقصودة .. إلخ».

أقول: بل الظاهر من عموم حذف المتعلّق هو حرمة عموم الانتفاعات.

مضافا إلى أن التقييد و الانصراف من دون مقيّد و صارف خلاف الأصل، بل خلاف البلاغة، بل تأخير البيان عن وقت الحاجة قبيح على الحكيم، مع إمكان أن يقول بدل «فاهجر»: فلا تأكل أو فلا تناوله. مضافا إلى أن الاستقراء في المحرّمات الشرعيّة أنه إذا حرّم شيئا حرّم قليله و كثيره و أسبابه و غاياته و مقدّماته و مؤخّراته و جميع تقلّباته. مضافا إلى سيرة الصلحاء و العلماء و الأنبياء و الشواهد القطعيّة من حالهم على الاجتناب من جميع تقلّباته و استنفاعاته و تصنّعاته و محافظاته و إمساكاته، حتى التفرّج و النظر إليها و إمساكها و حفظها، كما صرّح به

ص: 44

في خبر تحف العقول (1) و نصوص (2) حرمة الخمر.

و أمّا ما قال من الاتّفاق على جواز إمساك نجس العين لبعض الفوائد، فلم تثبت الكلّية المدّعاة، لكون العامّ المخصّص حجّة في الباقي.

قوله: «فإن الظاهر أن المراد من النفع المفروض للدم و الأبوال و الأوراث هو النفع المحلّل .. إلخ».

أقول: أمّا توجيه ظهور النفع المطلق في النفع المحلّل، و انصراف فرض وجود النفع المقابل لفرض عدمه إلى حلّ النفع المقابل لحرمته، فدعوى الصارف العقلي المشار إليه بقوله: «و الّا لم يحسن ذكر هذا القيد .. إلخ». يعني: إن لم ينصرف النفع من قوله: «و إن فرض له نفع» إلى النفع المحلّل لم يحسن عقلا و لا عرفا التوصّل ب «إن» الوصليّة إلى فرض وجوده، لأن فرض وجود غير المحلّل منه تحصيل للحاصل، و فرض عدم غير المحلّل المصحّح لفرض وجوده في الأشياء المذكورة- يعني: الدم و الروث و البول ممّا لا يؤكل- خلاف الواقع و الظاهر من قوله تعالى حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَ الدَّمُ (3). و لم يحسن أيضا ذكر خصوص الصبغ للدم دون الأكل، مع اشتراكه في النفعين، و عدم الفارق بينهما في البين.

هذا، و لكن التوجيه غير وجيه. أمّا أولا: فمن جهة أنه توجيه لما لا يرضى به صاحبه، نظرا إلى أن فرض النفع المذكور في كلام الشهيد محلّلا ينافي قوله: «لا يجوز بيع الدم و إن فرض له نفع .. إلخ» لأن حلّية نفعه يستلزم حلّية بيعه من باب المقدّمة، و أن الإذن في الشي ء إذن في لوازمه كما هو المختار، أو من باب إناطة حلّية النفع و حرمته بحلّية النفع و عدمه، كما هو مختار المصنف في المسألة.


1- تحف العقول: 331.
2- الوسائل 17: 237 ب (9) من أبواب الأشربة المحرمة.
3- المائدة: 3.

ص: 45

و أمّا ثانيا: فمن جهة أن الصارف المذكور إنما هو يصلح لصارفيّة فرض النفع إلى حلّ النفع لو لم يفرض لعدمه وجه إلّا الحرمة. و هو ممنوع جدّا، لاتّفاق العرف و الشرع من جميع أهل الملل و النحل على استقذار أكل الدم و الروث و البول ممّا لا يؤكل، و استخباثها و تنفّر الطبع عنها، على وجه ينزّل عرفا و عقلا وجود منفعة الأكل المحرّم منها منزلة العدم بالنسبة إلى مثل وجود منفعة الصبغ بالدم، لكن لا من جهة حرمة أكله و حلّية الصبغ به، حتى يتوهّم انصرافها إلى الحرمة و الحلّية كما زعمه المصنف، و إلّا لكان الانصراف و التنزيل خاصّا بأهل الملل دون النحل، بل بخصوص الملتزم و المطّلع بالملّة، لا أنه مستقلّ بالعلّة و إن لم يلتزم و لم يطّلع و لم يكن من أهل الملل، بل التنزيل المذكور إنما هو من جهة الاستقذار العرفي من أكل الدم دون الصبغ به، أو من جهة عدم توهّم الحلّية في أكله و توهّمها في الصبغ به.

قوله: «فإن عدوله عن التعليل بعموم المنع عن الانتفاع بالنجس إلى ذكر خصوص الميتة يدلّ على عدم العموم في النجس».

أقول: فيه أولا: أن الاستدلال بعموم «حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ» لا يدلّ على عدم عموم المنع عن النجس، فإن إثبات الشي ء لا ينفي ما عداه.

و ثانيا: لو دلّ على عدم عموم المنع عن النجس فلعلّه لا من جهة عدم عمومه، بل من جهة طروّ التخصيص عليه أو توهّمه، فإن توهّمه ليس بأبعد من توهّم عدم عمومه.

قوله: «بل من جهة التسامح و الادّعاء العرفي تنزيلا للموجود منزلة المعدوم .. إلخ».

أقول: فيه أن هذا التسامح و الادّعاء العرفي المنزّل للموجود من منافع النجس منزلة العدم عرفا إن كان بالنسبة إلى منافعه المتعارفة كالتسميد للعذرة

ص: 46

و الإيقاد للروث، فمن البيّن أنه لا يصحّ و لا يجري ذلك التنزيل العرفي أصلا و رأسا، فضلا عن إيجابه خروج تلك المنافع عن عموم المنع و الحرمة.

و إن كان بالنسبة إلى منافعه النادرة المسمّى في اصطلاح شريف العلماء بالمضرّ الإجمالي، كالتداوي بالخمر و الإيقاد بالعذرة و الاستصباح و الإطلاء بالدهن، فمن البيّن أنه و إن صحّ و جرى ذلك التنزيل العرفي للمنافع النادرة منزلة العدم عرفا، إلّا أنه يوجب انصراف المطلق عنها و خروجها عن تحت المطلق لا العموم.

و إن كان بالنسبة إلى منافعه النادرة الأندر المسمّى في اصطلاح شريف العلماء بالمبيّن العدم، كالتخليل بالخمر و التداوي بالعذرة و سدّ الساقية بالميتة و إطفاء النار بالجلاب، فهو و إن صحّ و جرى بل و أوجب صحّة سلب تلك المنافع النادرة الأندر عرفا عن النجس، إلّا أنه لا يتمّ المطلوب كلّية بل جزئيّة، و لا يثبت المدّعى بالجملة بل في الجملة، ضرورة أن الموجبة الجزئيّة لا تنتج المطلوب الكلّي، و النتيجة تابعة لأخسّ المقدّمات. فالذي يعمّ المطلوب من التنزيل لا يتمّ، و الذي يتمّ لا يعمّ. فالموجب لصحّة سلب المنافع عرفا في الجملة غير منتج للمطلوب بالجملة، و المنتج له بالجملة غير موجب للصحّة.

قوله: «بل في الرواية (1) إشعار بالتقرير. فتفطّن».

أقول: لعلّه إشارة إلى أن إشعار الرواية بالتقرير ناظر إلى أن سكوت الامام عليه السلام عن عدم ردعه و منعه عن إيقاد الجصّ بالعذرة و عظام الموتى مستلزم و كاشف عن رضاه و جواز الانتفاع بالأعيان النجسة.

أو إلى إمكان منع الملازمة، بوجود المكفي للردع بعموم المنع في الآيات و الروايات، أو بوجود المانع من التقيّة، أو سلب القابليّة بالكلّية أو الجزئيّة.


1- الوسائل 2: 1099 ب «81» من أبواب النجاسات ح 1.

ص: 47

قوله: «و أمّا حمل الحرام على النجس كما في كلام بعض».

أقول: جملة: «كما في كلام بعض» وصف للنجس المحمول عليه لا للحمل، يعني: أن حمل الحرام في الرواية على النجس الذي لا يبالي به كما قاله بعض الأساطين فلا شاهد عليه.

قوله: «لعدم المانع مع وجود المقتضي. فتأمّل».

[أقول:] لعلّه إشارة إلى أنه إن سلّم عموم الآيات و الأخبار المانعة من قوله تعالى حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَ الدَّمُ (1) و نحوه، فهو مانع عامّ لجميع الانتقالات من بيع و غيره، بل و من جميع التقلّبات من استنفاع و غيره، و إن لم يسلّم عمومها فغير مانعة حتى من البيع إذا قصد منه الآثار المحلّلة، إذ المفروض اتّحاد المانع من النقلين، و عدم الفارق في البين.

قوله: «لكن الإنصاف أن الحكم مشكل. نعم، لو بذل مالا .. إلخ».

أقول: المراد من الحكم المشكل بقرينة العهد السابق و الاستدراك اللاحق هو جواز المعاوضة و دفع العوض المالي في إزاء ما فرض أنه ليس بمال عرفا.

و وجه هذا الإشكال حينئذ: أن معاوضة العين المفروضة غير مال بالمال.

كيف لا يعدّ ثمنا لنفس العين حتى لا يكون سحتا بمقتضى (2) النصوص؟! و لهذا يستدرك رفع هذا الإشكال بما قال من جعل العوض عوضا عن رفع اليد المانعة شرعا من حيازة الباذل، أو عوضا عن الدخول و التصرّف في ملك المانع من حيازته لأجل أن يحوزه، أو بما نقول من جعله عوضا عن حقّ الاختصاص الشرعي لذي اليد على ما في يده.

ثمّ إن في كلام المصنف إشكالين آخرين لا يستدرك رفعهما بشي ء.


1- المائدة: 3.
2- الوسائل 12: 126 ب «40» من أبواب ما يكتسب به.

ص: 48

أحدهما: فيما قال من الفرق عرفا بين جلد الميتة للاستقاء و العذرة للتسميد، من حيث جعل مثل منفعة الاستقاء المحلّلة لجلد الميتة مالا في العرف، و عدم جعل مثل منفعة التسميد بالعذرة مالا فيه، مع فرض اتّحاد النفع و اشتراكه بين النجسين، و انتفاء الفرق في البين.

ثانيهما: في أن حكم الماليّة العرفيّة في مثل جلد الميتة لمنفعة الاستقاء يستلزم جواز المعاوضة على نفسه و النقل و الانتقال بغير ما نصّ الشارع على منعه كالبيع، من هبة أو صلح أو إجارة أو إرث أو وصيّة، و إغرام المفوّت و المانع من الاستقاء بجلد الميتة بغصب أو إتلاف أو ضمان أو كفالة.

و هذا الإشكال أيضا ينحلّ إلى إشكالين:

أحدهما: في أصل التزام الفقيه بترتّب الأحكام المذكورة على ماليّة جلد الميتة لمنفعة الاستقاء.

و ثانيهما: في تخصيص ترتّبها على مثل جلد الميتة لمنفعة الاستقاء، دون الميتة لإطعام الجوارح و العذرة للتسميد و الخمر للتخليل، مع اشتراك المقتضي بين النفعين، و انتفاء الفرق في البين.

قوله: «يشترط في الاختصاص بالحيازة قصد الحائز للانتفاع .. إلخ».

أقول: فيه أولا: أنه لا دليل في نفس الحيازة و لا من الخارج على اشتراط القصد في إفادته التمليك أو الاختصاص، إذ لا مانع من كونها من الأسباب القهريّة لإفادة التمليك أو الاختصاص، كما أن فعل الإتلاف و اليد الجانية من الأسباب القهريّة للضمان و لو صدرت عن خطأ لا قصد. و حينئذ فلا يبعد أن تكون الحيازة و لو عبثا أو خطأ أو قهرا أو إكراها يوجب التملّك أو الاختصاص فيما لا يقبل التملّك، كما أن قبض العين المغصوبة و اللقطة و لو عن خطأ و غفلة أو عبث أو نسيان يوجب الضمان شرعا، و ثبوت أحكام الأمانة الشرعيّة على ما وقع في يده

ص: 49

بعموم: «على اليد ما أخذت حتى تودّي» (1).

و ثانيا: سلّمنا اشتراط القصد، لكن الخروج عن فرض اللغويّة و العبثيّة كما لا يقتضي بأزيد من قصد الحيازة أو قصد التملّك في إفادتها التملّك، كذلك لا يقتضي بأزيد من من قصد الاختصاص في إفادتها الاختصاص، فما المقتضي لاشتراط زيادة قصد الانتفاع؟

و ثالثا: سلّمنا اشتراط قصد الانتفاع، لكن قصد الانتفاع بالمحاز الجزئي القليل الذي لا ينتفع به منفردا إلّا بعد الاجتماع الكثير- كالتقاط النواة و البعرور و البعر- أيضا من قصد الانتفاع في كلّ ما يعتبر فيه القصد، فإن قصد المجموع المركّب من الهيئة الاجتماعية لا يتحقّق إلّا بقصد كلّ من أجزائه المنفردة. و حينئذ فلا مسرح للإشكال الذي رتّبه على اشتراط قصد الانتفاع بقوله: «فيشكل الأمر فيما تعارف في بعض البلاد .. إلخ». و لا حاجة إلى استدراك كلفة حمله بقوله:

«نعم، لو جمعها في مكانه المملوك .. إلخ».

[النوع الثاني مما يحرم التكسب به ما يحرم لتحريم ما يقصد به]

[القسم الأول ما لا يقصد من وجوده على نحوه الخاص إلا الحرام]

قوله: «بناء على أن تحريم هذه الأمور تحريم لمنافعها .. إلخ».

أقول: في كلّ من صحّة البناء و المبنى تأمّل، بل منع. أمّا الأول فلأن حرمة الاكتساب كما يحصل من حرمة منافع تلك الأمور المذكورة، كذلك يحصل من حرمة نفسها من باب المقدّمة و التعاون، أو الملازمة المنصوصة فيها بين حرمة الشي ء و حرمة ثمنه، إذ كما أن مقدّمة الحرام حرام كذلك غاية الحرام حرام عقلا.

هذا، مضافا إلى أن حرمة كلّ من نفس الأمور المذكورة و منافعها منصوص فيه بالاستقلال على حدة، فلا يبتني حرمة الاكتساب بالأمور المذكورة على تخصيص حرمتها بحرمة منافعها من جهتين: إحداهما: من جهة أن حرمة كلّ منهما كاف في حرمة الآخر. و ثانيها: من جهة أن حرمة كلّ منهما منصوص به


1- المستدرك للحاكم 2: 47، و عوالي اللئالي 2: 345.

ص: 50

مستقلا و على حدة، فلا يصحّ الابتناء المذكور.

و أمّا الثاني: فلأنه لو سلّمنا صحّة ابتناء حرمة الاكتساب بما ذكر على تخصيص حرمتها و انصرافها إلى حرمة منافعها، إلّا أنّه لا نسلّم صحّة المبنى المذكور، لعدم صحّة التخصيص بلا مخصّص و الانصراف بلا صارف.

قوله: «و لو فرض ذلك كان منفعة نادرة لا يقدح في تحريم العين .. إلخ».

أقول: الفرد النادر إنما لا يقدح خروجه عن المطلقات بواسطة الانصراف، و أمّا بالنسبة إلى عموم النواهي المحرّمة فيقدح خروج النادر فضلا عن المنفعة غير النادرة، و إن فرض اشتراك الهيئة المحرّمة بينها و بين المحلّلة، فإن خروجها و جواز البيع بقصدها- كما قاله المصنف- يقدح في عمومات الباب من غير مخصّص.

قوله: «محمول على الجهة المحلّلة التي لا دخل للهيئة فيها».

أقول: الجهة المحلّلة التي للهيئة فيها دخل مثل ضرب الدفّ و المزمار و العود لأجل إعلام الغافل و النائم لا لأجل الطرب، و الجهة المحلّلة التي لا دخل للهيئة المحرّمة فيها جعل الأمثلة المذكورة ظرفا أو اتّخاذها زينة. و من البيّن أن عدم مدخليّة الهيئة المحرّمة في الجهة المحلّلة مقتض لحلّيتها لا توجيها لحرمتها كما هو المدّعى، إلّا أن يوجّه بأن المراد الجهة المحلّلة من العنوان المحرّم لنفسه لا لهيئته، بمعنى الحرام الذي لا هيئة له مثل الخمر.

قوله: «لمنع شمول الأدلّة لمثل هذا الفرد».

أقول: و أيّ مانع من شمول الأدلّة لمثل هذا بعد فرض عمومها و صراحتها في العموم؟!

قوله: «لأن المتيقّن من الأدلّة .. إلخ».

أقول: الاقتصار على المتيقّن فيما خالف الأصل إنما هو في المجملات

ص: 51

و الأدلّة اللبيّة، لا العمومات و الأدلّة اللفظيّة كما فيما نحن فيه.

قوله: «الملحوظ في البيع قد يكون مادّة الشي ء».

أقول: و إن كان الملحوظ في البيع قد يكون المادّة إلّا أن مجرّد لحاظ المادّة و قصده في البيع لا يسوّغ جواز بيعه و رفع مانعيّة الهيئة و صدقها عليه، إلّا إذا انفكّت المادّة عن الهيئة و أزيلت الصفة المانعة عنها، أو لم تكن الهيئة المفروضة مانعة و محرّمة شرعا. و أمّا إذا لم تنفكّ عنها، و كانت مانعة محرّمة على وجه العموم كما هو المفروض، فمن البيّن أن حرمة الهيئة العارضة هي حرمة مادّتها المفروضة لها، لأن النهي عن الشي ء نهي عن لوازمه المقوّمة له، و إلّا لساغ بيع جميع العناوين المحرّمة و الأوصاف المانعة، من الخمر و الأصنام و الأزلام و الطبول و المزامير و الدفوف، بلحاظ قصد ما عدا وصف الخمريّة من مادّة جسميّته أو سائر أوصافه و ألوانه و منافعه غير المخمّرة (1)، من الاستشمام و الاستنشاق من البهائم و الأطفال.

و أمّا الاستدلال على جواز بيع المادّة بضمان الغاصب و المتلف لهذه الأمور موادّها دون هيئاتها، ففيه منع الدلالة، لاحتمال اختصاص ضمان الموادّ بصورة كون الإتلاف تدريجا لا دفعيّا، أو بصورة ما إذا لم يجز إلّا إتلاف الهيئة دون المادّة، كما هو الأظهر من أدلّة النهي عن المنكر، و أمّا إذا توقّف إتلاف الهيئة على إتلاف المادّة معا فلا ضمان للمادّة، كما لا ضمان للهيئة، لأن الإذن في الشي ء إذن في لوازمه. و مثله ما إذا لم يكن للمادّة قيمة بعد سلب الهيئة و زوال الوصف عنه.

قوله: «و لعلّ التقييد في كلام العلّامة ب (كون المشتري ممّن يوثق بديانته) (2) لئلّا يدخل في باب المساعدة على المحرّم .. إلخ».


1- كذا في النسخة الخطّية، و لعلّها تصحيف: المحرّمة.
2- لم نقف عليه في كتبه، انظر التذكرة 1: 465، فإن فيه نوع شبه، و لكن نقله عن التذكرة السيد العاملي في مفتاح الكرامة 4: 32.

ص: 52

أقول: بل احتمال أن يكون التقييد في كلام العلّامة لأجل إخراج المبيع عن الهيئة المحرّمة المانعة من صحّة البيع، و إدخاله في بيع الرضاض و المادّة المجرّدة عن المانع الداخلي المسلّم المانعيّة، نظير بيع المتنجّس حال تنجّسه لكن بشرط التطهير، أو بيع لحم الشاة حال حياته بشرط التذكية، أظهر من كونه لأجل دفع عروض ما لا يصلح للمانعيّة من الأمور الخارجيّة من جهات عديدة، ككون النهي عن التعاون بالنسبة إلى البيع نهيا خارجيّا فلا يقتضي الفساد، خصوصا في المعاملات، خصوصا مع إمكان التفصّي عن مانعيّته- على تقدير تسليم المانعيّة- بتكسيره بعد بيعه و قبل إقباضه، بل و بمحض عدم قصد المعاونة على الإثم في بيعه، كما سوّغوا به بيع العنب لمن يعمله خمرا.

قوله: «إن أراد بزوال الصفة زوال الهيئة فلا ينبغي الإشكال في الجواز، و لا ينبغي جعله محلّا للخلاف».

أقول: عدم إمكان إرادة الزوال الفعليّ للوصف المانع في محلّ الخلاف لا يعيّن المدّعى و هو إرادة الزوال القصديّ للوصف، بأن يكون مجرّد قصد المادّة الموصوفة بالوصف المانع كافيا في رفع المانعيّة و صحّة البيع، لاحتمال إرادة الزوال الشرطي المشروط في بيعه، بل الزوال الشأني القريب إلى الفعلي أو المشرف إلى الفعل بعلاقة أوله إليه بعد البيع فورا، كما هو الأظهر ممّن اعتبر في صحّة بيع الموصوف بالوصف المانع زوال الوصف، و لو بقرينة أقربيّته إلى الزوال الفعليّ المتعذّر من الزوال القصديّ المحض الخارج عن صدق الزوال رأسا، و لا يصدق عليه الزوال لا حقيقة و لا مجازا بمحض القصد إلى عدم إرادته في البيع.

قوله: «لحق الآلة المعدّة لها حكم آلات القمار».

أقول: بل الأظهر من عموم حرمة كلّ ملهوّ به و كلّ وجوه الفساد و القمار

ص: 53

و المسير في النصوص (1) هو حرمة عموم (2) الآلات المعدّة لها، كالشطرنج و الصولجان، و غير المعدّة لها كالمقامرة بالبيض و الخاتم و نحوها، بل و حرمة فعل المراهنة و لو لم يكن بآلة، كالمصارعة و المماطلة و المغالبة بركض و نحوه، بل و المقاولة بإنشاء شعر أو خطبة، بل و حرمة التفرّج، بل التعليم و التعلّم له، فضلا عن انضمام القول بالفعل و الفعل بالآلة، و بالالتزام بالعوض و أخذ العوض عليه.

فإن كلّها داخلة في عموم النهي عن وجوه الفساد، غايته أنه كلّما كثرت الضمائم اشتدّت الحرمة و تعدّدت جهاتها، فإن الحرام القولي إذا انضمّ الى الفعل صار حراما من جهتين، و إذا انضمّ إلى الآلة اشتدّت من جهة ثالثة، و إذا انضمّت إلى أخذ العوض اشتدّت من جهة رابعة، و إذا انضمّت إلى الالتزام بأخذ العوض اشتدّت من جهة خامسة، و إذا انضمّت إلى التديّن و الاستحلال العملي اشتدّت الحرمة من جهة سادسة، إلى أن يبلغ إلى الاستحلال القولي الموجب للكفر و الارتداد، الذي هو سوء عاقبة مآل الإصرار و الاستصغار الموعود عليه النار بقوله تعالى سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لٰا يَعْلَمُونَ* (3) وَ أُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ* (4) ثُمَّ كٰانَ عٰاقِبَةَ الَّذِينَ أَسٰاؤُا السُّواىٰ أَنْ كَذَّبُوا بِآيٰاتِ اللّٰهِ وَ كٰانُوا بِهٰا يَسْتَهْزِؤُنَ (5).

كما أن مآل كسب الطاعات، و تحصيل ملكة العدالات، و التزهّد في المباحات، على هذه المراتب و الكيفيّات إلى أن يبلغ في العروج و الترقّيات حدّ بلوغ الروحانيّات، و اجتذاب نفحات الرضا و الرضوان، التي هي أعظم من التنعّم


1- الوسائل 12: 54، 237 ب «2، 102» من أبواب ما يكتسب به.
2- الوسائل 12: 119، 242 ب «35، 104» من أبواب ما يكتسب به.
3- الأعراف: 182.
4- الأعراف: 183.
5- الروم: 10.

ص: 54

بالجنّات و الحور الحسان التي أعدّت للمتّقين، و العاقبة للمتّقين.

قوله: «إلّا أن المتيقّن منه ما كان من جنس المزامير و آلات الأغاني و من جنس الطبول».

أقول: فيه أولا: أن قاعدة الاقتصار على المتيقّن إنما يصار إليه فيما خالف الأصل من الأدلّة اللبيّة و المجملة، لا العمومات اللفظيّة المبيّنة كما فيما نحن فيه.

و ثانيا: أن ما كان من جنس المزامير و الطبول إنما هو من آلات الأغاني و الغناء، و هو أخصّ من عمومات حرمة اللهو و الملاهي بقوله: «و كلّ ملهوّ به» (1)كذا في النسخة الخطّية، و الظاهر أن الصحيح: فكيف لا يجعل .. إلخ، و لعلّه سقط من العبارة.

(2) بمراتب عديدة و جهات متعدّدة، و المفروض أن عموم النهي عن اللهو و الملاهي يقتضي حرمة مطلق اللهو حتى القولي كالقصص الملهية، فضلا عن الفعلي كالتصفيق و الترقيص و المصارعة و المماطلة و المغالبة و شرب الملهيات من الترياك و التنباك، فضلا عن المنضمّ بمطلق الآلة كاللعب بالطيور و السبحة، فضلا عن الآلات المعدّة له كالمجانيق و المراجيح و فنون الشعبذة المعدّة للّعب و اللهو و الإلهاء، فضلا عن اللهو بأصوات الغناء المطرب الموجبة للخفّة الملحقة بنوع من السكر المحرّم، فضلا عن الآلة المعدّة له من المزامير و الطبول و الصناديق، فإنها من أقصى منتهى مراتب حرمة الأغاني و وجوه الفساد، التي لا واسطة بينهما و بين الكفر و الارتداد إلّا الاستحلال، فكيف (3) يجعل من الملاهي؟

قوله: «خيار التدليس. فتأمّل».

[أقول:] لعلّه إشارة إلى أن خيار تفاوت سكّة السلطان مع سكّة غير السلطان ليس من تفاوت صفة شدّة الرغبة و ضعفها، كتفاوت وصف الجيّد و الردي ء و الصحيح و الأصحّ، حتى يكون من قبيل خيار التدليس، بل تفاوته من


1- الوسائل 12: 57 باب
2- من أبواب ما يكتسب به ح 1.
3- كذا في النسخة الخطّية، و الظاهر أن الصحيح: فكيف لا يجعل .. إلخ، و لعلّه سقط من العبارة.

ص: 55

باب تفاوت الذوات الصحيحة و المعيبة، و التامّ و الناقص عن الخلقة الأصليّة. فهو في نظر العرف من قبيل خيار العيب لا التدليس، و لهذا لا يتعاطون سكّة غير السلطان بوجه من الوجوه، و لا يفرضون في إزائه ماليّة أصلا، و لا يعبئون به رأسا، بل يجعلون تفاوته أشدّ من تفاوت المعيب بأشدّ وجه. نعم، لو كان تفاوته من باب تفاوت سكّة سلطان مع سلطان آخر- من حيث شدّة الرغبة، و ضعفها- كان من خيار التدليس لا العيب.

[القسم الثاني ما يقصد منه المتعاملان المنفعة المحرمة]

قوله: «يطرح ظاهر كلّ بنصّ الآخر. فتأمّل».

[أقول:] إشارة إلى منع كون الروايتين من قبيل المتعارضين بالنص و الظاهر و العام و الخاص حتى يطرح ظاهر كلّ منهما بنصّ الآخر، كأكرم العلماء و لا تكرم الفسّاق، بل تعارضهما من قبيل تعارض المتبائنين، كأكرم العلماء و لا تكرم العلماء، في عدم إمكان الجمع الدلالتي العرفي بينهما إلّا بشاهدين صارفين موجبين لطرح كلّ من ظاهريهما، بحمل «أكرم» على العدول و «لا تكرم» على الفسّاق.

و المفروض عدم الشاهد العرفي الموجود بين النصّ و الظاهر كالعام و الخاص، فتعيّن الرجوع فيهما إلى المرجّحات السنديّة الموجبة لطرح أحدهما رأسا و العمل بالآخر كلّا، كما هو القاعدة المسلّمة في علاج المتعارضين المتبائنين، حيث إن طرح أحد سنديهما خير من طرح كلّ من ظاهريهما.

قوله: «و الفرق بين مؤاجرة البيت لبيع الخمر فيه و بيع الخشب على أن يعمل صليبا أو صنما لا يكاد يخفى».

أقول: و يمكن أن يقال أولا: بمنع الفرق.

و ثانيا: لو سلّم ندور بيع المسلم الخشب على أن يعمل صنما فإنما هو في مثل زماننا لا زمان الصدور حتى يمنع من حمل الصادر عليه.

ص: 56

و ثالثا: سلّمنا، لكن الندور المانع من حمل المطلق عليه إنما هو ندور الاستعمال لا ندور الوجود. نعم، ندور الوجود مانع من حمل الواقعة الموجودة لا المسألة المفروضة عليه.

و رابعا: سلّمنا، لكن ندور اشتراط الحرام في البيع دون الإجارة إنما هو من جهة تضمّن البيع من حيث كونه تمليك العين لجميع منافعه المحلّلة و المحرّمة، فلا حاجة إلى اشتراط المحرّم، بخلاف الإجارة، فإنها لمّا كانت عبارة عن تمليك منفعة فيحتاج إلى تعيينها بالاشتراط.

و خامسا: سلّمنا ندور اشتراط الحرام في البيع من جميع الوجوه، لكنّه إنما يمنع من حمل المطلق عليه فقط، لا من حمله عليه و على غيره بالعموم. و بعبارة:

أن ندور اشتراط الحرام في بيع الخشب في الخبر (1) إنما يمنع من حمل قوله عليه السلام:

«لا يجوز» عليه فقط بالخصوص، و لا يمنع من حمله عليه و على غيره من سائر الأفراد غير النادرة، أعني: غير المشترط فيه الحرام، خصوصا بالنظر إلى عموم النكرة في سياق النفي، و عموم ترك الاستفصال في جواب السؤال.

قوله: «على وجه يكون دخيلا في زيادة الثمن».

أقول: لا مقيّد عرفا و لا شرعا و لا عقلا لتقييد قصد الصفة المحرّمة في البيع على وجه يكون دخيلا في زيادة الثمن، إذ يكفي في صدق «ثمن المغنّية سحت» عرفا و شرعا و عقلا أن يقصد الثمن في إزاء المغنّية بوصف المغنّية و لو لم يكن الثمن دخيلا في زيادة الثمن، بل و لو لم يكن ثمن و عوض على المنقول المحرّم بصلح أو هبة، إذ من المعلوم أن المانع من صحّة تعلّق النقل و الانتقال بالمغنية و حرمة ثمنها ليس إلّا من جهة قصد المحرّم و الفاسد من اللهو و الغناء، و من البيّن أن هذا المناط المنقّح- و هو فساد المقصود و حرمته- لا يفرّق بين حصوله في


1- الوسائل 12: 127 ب «41» من أبواب ما يكتسب به ح 1.

ص: 57

ضمن البيع أو الهبة أو الصلح أو سائر الانتقالات، و لا مقيّد لكونه في ضمن البيع، فضلا عن التقييد بمدخلّية الوصف في زيادة الثمن.

قوله: «و إن كانت نادرة .. إلخ».

أقول: فيه أولا: أن فرض النفع المحلّل لوصف الحرام من اللهو و الغناء غير واقع شرعا، فضلا عن فرضه مقيّدا بغير النادر المعتدّ به، إلّا على بعض ما يوافق العامّة من الأقوال الشاذّة في جواز مثل الغناء في خصوص القرآن، و جواز اجرة المغنّية في خصوص العرائس.

و ثانيا: لو سلّمنا، لكن ندور نفعه و عدم ندور نفعه مثل قلّة اجرة نفع الغناء و كثرته ممّا لا يجدي في حلّية الغناء و حرمته بعد فرض صدق الغناء المحرّم، فضلا عن أن يجدي المنفعة الكثيرة المعتدّ بها عن الحلّية و الخروج عن الحرمة، دون المنفعة النادرة القليلة غير المعتدّ بها النازلة منزلة العدم، مع أنها أولى بالحلّية و الخروج عن الحرمة. نعم، لو فرض نصّ الشارع بأن ثمن المغنّية و نفع الغناء حلال أمكن تنزيل المنفعة النادرة القليلة منزلة العدم في الخروج عن موضوع النفع المحلّل، بخلاف المنفعة الكثيرة المعتدّ بها. و أمّا فيما نصّ الشارع بالعكس و أن ثمن المغنية و نفع الغناء سحت و حرام (1)- كما هو المفروض- فالأمر بالعكس.

نعم، الذي يجدي تفصيله في الحلال هو أن يقال: إن المنفعة المحلّلة لمثل اللهو و الغناء إن كان حلّيتها بالأصل- كما هو الظاهر- فهو لا يقاوم عموم النصّ المحرّم لثمن المغنية و منفعة الغناء (2) المفروض. و إن كان بالنصّ ففيه أولا: أنه لا نصّ. و ثانيا: على تقديره فالمرجع في حلّيتها و عدمها و ترجيح أحد النصّين على الآخر إنما هو إلى إعمال المرجّحات الدلالتيّة أو السنديّة، لا إلى ندور النفع و عدمه و قلّته و كثرته، كما لا يخفى.


1- الوسائل 12: 84 ب «16» من أبواب ما يكتسب به.
2- الوسائل 12: 84 ب «16» من أبواب ما يكتسب به.

ص: 58

قوله: «هذا في غاية البعد، إذ لا داعي للمسلم .. إلخ».

أقول: قد تقدّم (1) منع بعده من وجوه عديدة، لا أقلّ من كون البعد على تقدير تسليمه مبنيّا على إرادة صورة الاشتراط النادر فقط، و أمّا في ضمن العموم بانضمام فرد آخر من العموم إليه كالمقصود منه الحرام من دون اشتراطه- كما أفتى بحرمته هو آنفا- بل و غير المقصود منه الحرام إذا علم ترتّبه عليه- كما يقتضيه العموم- فلا بعد فيه.

قوله: «فالأولى حمل الأخبار المانعة على الكراهة .. إلخ».

أقول: فيه أولا: أن حملها على تجوّز الكراهة ليس بأولى من بقائها على ظاهر الحرمة و العموم، و تقييد الأخبار المجوّزة بصورة عدم قصد الحرام من بيع العنب و العصير، كما هو الغالب من حال المسلم، بل و بصورة عدم العلم بإعماله خمرا حين البيع و إن علم به بعده، أو علم بأن عمل المشتري تخمير العنب كلّية لا خصوص هذا العنب، فإن خبر جواز بيع العنب لمن يعلم أنه يعمله خمرا (2) لا يأبى من الحمل على العلم به بعد البيع، أو العلم بأنه خمّار يعمل العنب خمرا لكن لا يعلم بإعماله هذا العنب خمرا. و لو أبى عنه فليس بأبعد من حمل نصوص المنع على الكراهة. و الاستشهاد عليه بقوله عليه السلام: «بيعه ممّن يطبخه أو يصنعه خلّا أحبّ إليّ و لا أرى به بأسا» (3) لا شاهد فيه، فإنه مثل قولك: الحلال أحبّ إليّ من الحرام، و قوله تعالى السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمّٰا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ (4) وَ لَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولىٰ (5).


1- في ص: 55.
2- الوسائل 12: 169 ب «59» من أبواب ما يكتسب به ح 5.
3- الوسائل 12: 170 ب «59» من أبواب ما يكتسب به ح 9، و فيه: و لا أرى بالأول بأسا.
4- يوسف: 33.
5- الضحى: 4.

ص: 59

سلّمنا إباء أخبار الجواز من الحمل على ذلك، و لكن لا تأبى من الحمل على التقيّة، لموافقة العامّة، خصوصا قوله عليه السلام: «هو ذا نحن نبيع تمرنا ممّن نعلم أنه يصنعه خمرا» (1)، فإن شاهد الحال القطعي من الامام عليه السلام آب من الاقتحام في التقريب إلى الآثام و لو كان المرام من المكروه لا الحرام.

و ثانيا: أن المرجع في تعارض ما نحن فيه من الأخبار المجوّزة و المانعة ليس إلى المرجّحات الدلالتيّة فضلا عن الحمل الكراهة، لعدم كون التعارض فيما نحن فيه من قبيل النصّ و الظاهر و الظاهر و الأظهر حتى يجمع بينهما بالحمل، بل من قبيل المتبائنين المتعيّن فيهما المرجّحات السنديّة و طرح المرجوح، و من جملة المرجّحات السنديّة المنصوصة موافقة الكتاب و السنّة الموافقة للأخبار المانعة عموم قوله تعالى وَ لٰا تَعٰاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَ الْعُدْوٰانِ (2) وَ لٰا تَقْرَبُوا الْفَوٰاحِشَ مٰا ظَهَرَ مِنْهٰا وَ مٰا بَطَنَ (3) و الإثم و البغي و اجتنبوا ظاهر الإثم و باطنه وَ لٰا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النّٰارُ (4) فَلٰا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرىٰ مَعَ الْقَوْمِ الظّٰالِمِينَ (5) بناء على عموم الظالم نفسه و هو الخمّار، و فحوى النصوص المانعة من إعانة الظالم في المباحات بل في الطاعات، كقوله عليه السلام لصفوان الجمّال: «كراؤك هذا الرجل .. إلخ» (6).

قوله: «و ربما زاد بعض المعاصرين على اعتبار القصد اعتبار وقوع المعان عليه في تحقّق مفهوم الإعانة».


1- الوسائل 12: 169 ب «59» من أبواب ما يكتسب به ح 6.
2- المائدة: 2.
3- الأنعام: 151.
4- هود: 113.
5- الأنعام: 68.
6- الوسائل 12: 131 ب «42» من أبواب ما يكتسب به ح 17.

ص: 60

أقول: أمّا هذا المعاصر فهو صاحب الفصول. و أمّا دعواه: فهو اعتباره في حرمة مقدّمة الحرام زيادة على قصد الحرام فيها التوصّل بها إلى الحرام (1)، و فصّل في المقدّمات بين الموصلة و غيرها في التنبيه الأول من تنبيهات مقدّمة الواجب من فصوله (2).

أمّا دليله على ذلك: فهو أن دليل مطلوبيّة شي ء للغير لبّي عقلي، فيقتضي مطلوبيّة ما ترتّب ذلك الغير عليه دون غيره، فيعتبر في المطلوب فيه المقيّد حيثيّة كونه مقيّدا، و هذا لا يتحقّق بدون القيد الذي فعل الغير (3).

و أمّا جوابه: فهو أن علّة وجوب المقدّمة إن كان وصفا اعتباريّا منتزعا من وجوب الغير و ترتّبه عليه- كما يقتضيه الدليل المذكور- فإنما يقتضي الوجوب العقليّ اللابدّي الراجع إلى الوصف بحال المتعلّق المبائن، الذي لا يجدي أثرا حقيقيّا في الموصوف، كتوصيف الرجل بأنه عالم أبوه، و مبنى النزاع إنما هو على تقدير وجوبها بغير ذلك المعنى.

و إن كان وصفا حقيقيّا قائما بحصول ذي المقدّمة فممتنع، لأنه بالنظر إلى كونه علّة لوجوب المقدّمة يلزم سبق المعلول على العلّة، و بالنظر إلى كونه معلولا لوجود المقدّمة يلزم أن يعود من جانبه فائدة إلى العلّة. و كلاهما محال. أمّا الأول فظاهر. و أمّا الثاني فلما قرّر في المعقول من استحالة أن يعود من جانب المعلول أثر أو فائدة و كمال إلى العلّة، لأكمليّة مرتبة العلل من مرتبة المعلولات، كما هو معنى من معاني أن أفعال اللّٰه ليست معلّلة بأغراض.

و إن كان قائما بنفس المقدّمة، فإن أريد من المقدّمة العلّة التامّة فهو خلاف المفروض، و خروج عن البحث. و إن أريد فيها الأعمّ فليست العلّة القائمة بنفسها


1- الفصول الغروية: 81.
2- الفصول الغروية: 86.
3- الفصول الغروية: 81.

ص: 61

للمطلوبيّة و المبغوضيّة إلّا أهليّة الإيصال بها مطلقا، سواء ترتّب عليها الغير أم لم يترتّب، بل و سواء قصد فاعل المقدّمة الوصول بها إلى ذي المقدّمة أم لم يقصده، لأن المدار و الاعتبار في الاتّصاف بالأوصاف و تحقّقها إنما هو على مجرّد حصول ملكتها و قوّة الاقتدار على صدور الوصف و إن لم يصدر فعلا. و بعبارة: أن المراد من المقدّمة الموصلة إن كان الإيصال الفعلي فلا شي ء من المقدّمات كذلك، إلّا العلّة التامّة الخارجة عن محلّ النزاع. و إن كان الإيصال الشأني و المدخليّة القابليّة فجميع المقدّمات كذلك، و هذه صفتها.

و هذا تفصيل جواب المصنف، عنه بقوله: «فإن حقيقة الإعانة على الشي ء هو الفعل بقصد حصول الشي ء، سواء حصل أم لا». إلّا أنه يرد عليه أنه بما تجيب عن المقدّمة الموصلة تجاب به عن المقدّمة المقصودة، فإن حقيقة الإعانة على الحرام هو الإتيان ببعض مقدّماته، سواء قصد بها الحرام أم لا. فكما أن ترتّب ذي المقدّمة على المقدّمة من الغايات الخارجة التي لا مدخليّة له في معنى المقدّمية و لا في حكمها، كذلك قصد ترتّبه عليها من الضمائم و المقارنات الخارجيّة التي لا مدخليّة له في معنى المقدّمية و لا في حكمها.

قوله: «فظهر الفرق بين بيع العنب و بين تجارة التاجر .. إلخ».

[أقول:] يعني: الفرق الاسمي في صدق الإعانة و عدمه بين الفرعين، و في استناد ذلك الفرق الاسمي إلى مدخليّة القصد في البين.

أقول: فيه أولا: إمكان منع الفرق بين الفرعين اسما و حكما، و الحكم بحرمة كلّ ما يوقع الغير في الحرام من المقدّمات و المعونات، و إن بلغت في البعد و الضعف و التسلسل ما بلغت، و لو لم تكن موصلة بل و لا مقصودة منها الحرام، بل و لا وجوديّة، كعدم بذل الطعام لمن يخاف تلفه، حيث استدلّ المبسوط و غيره

ص: 62

على حرمته بأن فيه إعانة على قتل مسلم (1)، مع أنه مقدّمة عدميّة غير مقصود به القتل. و كما استدلّ جمع من الأعلام في باب اشتراط خلوّ السرب من الموانع لوجوب الحج، بأن أخذ الخادة (2) و المال من الحاجّ ظلما من موانع وجوب الحج، لما فيه من الضرر المنفي و الإعانة على الظلم الحرام (3).

و ثانيا: سلّمنا الفرق المذكور بينهما، لكن لا نسلّم كونه فرقا اسميّا، من صدق الإعانة على البيع المقصود به الحرام، و عدم صدقها على التجارة و الحجّ و نحوهما ممّا يقصد به المباح و الطاعة، بل هو مستند إلى الفرق الحكمي و اختلاف الجهة الحكميّة بينهما، إذ كما أن التجارة و الحجّ مقدّمة و معونة و سبب لكلّ من استنفاع نفسه و دينه و من إنفاع غيره الظالم له، كذلك بيع العنب لعاصر الخمر مقدّمة و إعانة و سبب لكلّ من جلب منفعة تملّكه الثمن و من حدوث مفسدة تملّك غيره المثمن.

إلّا أن المرجع عند الدوران لمّا كان بمقتضى العقل إلى ارتكاب أقلّ القبيحين و الأخذ بأقوى السببين و أعظم الفائدتين، و كان ذلك المرجع مختلفا في البين و متفاوتا بين الفرعين، اختلف الحكمان.

و من البيّن أن الأقوى سببا و مسبّبا و فائدة- عقلا و نقلا- إنما هو ترجيح التجارة على تركها، لما في فعله من قوام المعاش و المعاد، و في تركه من الفساد و الإفساد، و ترك بيع العنب لعاصره خمرا، لما في فعله من الفساد و الإفساد، و في تركه من السداد و الرشاد.

مضافا إلى أولويّة دفع المفسدة من جلب المنفعة. و قوله عليه السّلام: «ما اجتمع


1- المبسوط 6: 285.
2- كذا في النسخة الخطيّة.
3- مسالك الافهام 2: 141، مدارك الأحكام 7: 62، الحدائق الناضرة 14: 141.

ص: 63

الحلال و الحرام إلّا و غلب الحرام الحلال» (1) يقتضي الحرمة في المقام من جهة التغليب العقلي و الشرعي، لا من جهة صدق المعاونة على الحرام فيه دون صدقه في التجارة و الحج، و لا من جهة مدخليّة قصد الحرام في صدق المعاونة عليه اسما، و لا مدخليّته في الحرمة حكما، بل لو لم يقصد البائع الحرام في بيع عنبه لعاصره خمرا لم نأب من حرمة بيعه أيضا، من جهة بقاء صدق المعاونة و تغليب الحرمة شرعا و عقلا. كما أنه لو لم نقل بتغليب الحرام الحلال في مثله لم نأب من تجويز بيعه له و إن قصد الحرام، لأن قصد الحرام على القول بحرمته إنما هو حرام عقلي لا شرعي، بل قبحه قبح فاعلي لا فعلي من باب التجرّي، خارج عمّا نحن فيه، و لا دخل له بحرمته من حيث المقدّميّة و صدق الإعانة على الحرام شرعا، بل المعاونة صادقة عرفا حتى لو لم يعلم بها، كما لو باع العنب لعاصره خمرا من غير قصد و لا علم، غايته أن عدم حرمته عليه إنما هو بعموم قاعدة حديث الرفع، لا من جهة عدم صدق المعاونة.

و الحاصل: أن الفرق بين الموارد المعاونة إن سلّم فليس من جهة الفرق في صدقها اسما، و لا من جهة مدخليّة القصد بل و لا العلم في صدقها عرفا، بل إنما هو من جهة اختلاف الحكم المختلف باختلاف مدركه من المعقول و المنقول و القواعد و الأصول.

و ثالثا: لو سلّمنا الفرق الاسمي في أفراد المعاونة، و مدخليّة قصد الحرام في صدقها عرفا، فإنّما يسلّم في تميّز المشتركات لا مطلقا، يعني: في خصوص ما إذا كان فعل المعاون من الأفعال المشتركة بين المعاونة على الإثم و غيره، و لم يكن له تميّز خارجي إلّا القصد، مثل السفر المشترك بين الطاعة و المعصية، و ضرب اليتيم المشترك بين العدوان و الإحسان، حيث لا يتميّز إلّا بالقصد، كما


1- سنن البيهقي 7: 169.

ص: 64

في كلّ فعل ذي جهات. مثلا: لو فرضنا أن للخمّار في ذمّتي عنبا يجب بذله له أداء لدينه، و عنبا يحرم بذله له لتخمير و نحوه، و فرضنا اندفاع أحد العنبين إليه، فإن كان المدفوع إليه ممتازا من حيث الكمّ و الكيف و الوزن و الوصف كان اعتبار تعيينه بالقصد تحصيلا للحاصل، كما فيما نحن فيه. نعم، لو لم يكن له جهة مميّزة و معيّنة غير القصد اعتبر في تعيينه و تميّزه القصد، لكنّه خارج عن محلّ الفرض.

و من هذه الأبواب ينفتح باب الجواب عن شبهة الجبر في استناد أفعال العباد من الصلاح و الفساد إلى مسبّب الأسباب، فإن جميع تهيئة أسباب الخير و الشرّ من الإيجاد و ما دونه من الحكيم المطلق إنما هو من باب اللطف و المعرضيّة للثواب و السعادة لا العقاب و الشقاوة، و بقصد الإحسان و الامتحان لا الحرمان و العدوان، و استناد الفعل إلى أقوى السببين و العلّتين من المباشر و السبب و الفاعل و العادل.

قوله: «و إلّا لزم التسلسل. فافهم».

[أقول:] أي: إن لم يشترط في حرمة المقدّمات و المعونات قصد الحرام لزم تسلسل الحرمة في سلسلة المقدّمات و المعونات إلى ما لا نهاية له، من المعاملات و المغارسات و الصناعات، بل التجارات و الإحسانات، المعلوم لفاعلها بالعلم الإجمالي الانتهاء إلى الحرام و الشرّ و الفساد، إلى أن ينتهي إلى ألطاف ربّ العباد بالنسبة إلى أهل الفساد، فيلزم حرمة جميع المعاملات، بل و جواز الجبر على اللّٰه تعالى.

قوله: «فافهم».

[أقول:] لعلّة إشارة إلى عدم إمكان منع الملازمة، بإبداء الفرق بين المقدّمات المحرّمة من حيث القرب و البعد و القوّة و الضعف و الخفاء و الجلاء و العلم و الجهل، إلّا من حيث القصد و عدم القصد.

ص: 65

و لكن قد عرفت ما فيه من إمكان منع الملازمة، بإبداء الفرق الحكمي بينها من حيث الحرمة و عدم الحرمة، المختلفة باختلاف مدرك الحكم لا صدق الاسم، حسب ما تقدّم (1) بأبلغ وجه.

قوله: «نعم لو ورد النهي بالخصوص عن بعض شروط الحرام، كالغرس للخمر، دخل الإعانة عليه في الإعانة على الإثم .. إلخ».

[أقول:] و فيه: أيّ فرق بين النهي الخاص عن بعض مقدّمات الحرام في إفادته النهي عنه مطلقا و لو لم يقصد به الحرام، و بين النهي العام عن عموم مقدّمات الحرام في عدم إفادته النهي عنها إلّا مع القصد؟

يعني: أيّ فرق بين قوله: لا تغرس للخمر، و بين: لا تعاون عليه؟ فإن عمّ النهي الخاص النهي عن الغرس له مطلقا و لو لم يقصده إذا علم به، فليعمّه النهي العام أيضا عن مطلق التعاون عليه ببيع و غيره مطلقا و لو لم يقصده إذا علم به، و إلّا إذا لم يعمه النهي العام إلّا مع القصد إلى الحرام- كما زعمه- لم يعمه النهي الخاص أيضا إلّا مع القصد إليه.

قوله: «محلّ تأمّل، إلّا أن يريد الفحوى».

[أقول:] وجه التأمّل ظهور الإعانة في المقدّمات الوجوديّة، و ترك بذل الطعام لخائف التلف من المقدّمات العدميّة التركيّة لتلفه، فلا يشمله صدق الإعانة إلّا بالفحوى، يعني: بأولويّة ترك اللقمة من شقّ كلمة في إهلاك النفس المحترمة.

قوله: «يمكن التفصيل في شروط الحرام .. إلخ».

أقول: فيه أن هذا التفصيل- و هو عدم انحصار منفعة العنب في الحرام- لا يوجب تفاوت حرمة البيع بعد فرض علم البائع بإعماله خمرا كما هو المفروض، فإنه بعد فرض العلم يصير أيضا محصور الفائدة في الحرام، فإن حصر فائدة


1- في ص: 62- 63.

ص: 66

المبيع في الحرام تارة بحسب العادة و تارة بحسب العلم بإعماله فيه، و لو لم يفد العلم حصره لم يفده القصد أيضا، بل و لا العادة أيضا.

قوله: «نظر إلى ذلك .. إلخ».

أقول: بل الأظهر ممّا تقدّم أن نظرهما في تجويز بيع العنب دون السلاح إنما هو أخبار الجواز في بيع العنب، التي عرفت علاجها بالطرح أو الحمل على التقيّة أو على صورة عدم العلم، لا أن نظرهما إلى التفصيل و الفرق المذكور بين البيعين، لما عرفت منع الفرق أوّلا، و عدم كونه فارقا ثانيا.

قوله: «فإن تملّك المستحلّ للعصير منحصر فائدته عرفا عنده في الانتفاع به حال النجاسة، بخلاف تملّك العنب».

أقول: فيه أولا: منع الفرق و انحصار فائدة العصير عرفا في الانتفاع به حال النجاسة، لإمكان الانتفاع به عرفا في غير الشرب أو بعد التخليل أو ذهاب الثلثين، خصوصا في بيع السلاح، فإنه يمكن انتفاع المحارب به في غير محاربة المسلمين، على نحو ما يمكن انتفاع الخمّار بالعنب في غير التخمير.

و ثانيا: سلّمنا الفرق المذكور بين البيعين، إلّا أنه غير فارق في البين بعد فرض العلم بانحصار فائدة تملّك العنب للخمّار في التخمير لا غير.

و ممّا يشهد على صدق ما ادّعيناه من صدق التعاون المحرّم عرفا و شرعا على مطلق المعاونة و لو لم يقصد به الحرام إذا علم الوصول إليه- مضافا إلى ما تقدّم من المتن و الشرح من قوله: «من أكل الطين فقد أعان على نفسه»- وجوه:

منها: قوله تعالى ذٰلِكَ بِأَنَّهُمْ لٰا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَ لٰا نَصَبٌ وَ لٰا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللّٰهِ وَ لٰا يَطَؤُنَ مَوْطِئاً يَغِيظُ الْكُفّٰارَ وَ لٰا يَنٰالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا إِلّٰا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صٰالِحٌ (1). بتقريب أنه إذا ثبت حكم الجهالة شرعا، و صدق اسم


1- التوبة: 120.

ص: 67

العمل الصالح عرفا على مطلق مقدّماته و غاياته المقصودة و غير المقصودة من التعب و النصب، ثبت حكم الحرام و صدق المعاونة عليه كذلك على مطلق مقدّمات الحرام و غاياته مطلقا و إن لم يقصد به الحرام إذا علم بترتّبه عليه.

و منها: عموم قوله تعالى مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسٰادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمٰا قَتَلَ النّٰاسَ جَمِيعاً (1). نظرا إلى أن وجه التشبيه كون المستبدّ في قتل- كالمبدع- معاونا على قتل جميع الناس، من جهة اتّحادهم مع المقتول في الاخوّة أو في شأنيّة البنوّة، أو معاونا على تأسّي جميع الناس به في التجرّي على القتل، مع عدم قصد القاتل معاونة الغير على القتل قطعا. و كذلك وجه تحمّل القاتل جميع ذنوب المقتول في النصوص (2) الأخر إنما هو من جهة معاونته و سببيّته لعدم تلافي المقتول و تداركه ذنوبه لو أراد.

و منها: عموم قوله عليه السّلام: «من سنّ سنّة سيّئة كان له وزر من عمل بها» (3) مع عدم قصد الفاعل عمل عامل.

و منها: عموم قوله عليه السّلام: «لا تعلّموا العلم لغير أهله فتظلموه» (4) مع عدم قصد المعلّم ظلم المتعلّم فيما علم عدم أهليّته.

و منها: ما ذكره الشهيد في المنية و غيره في آداب المفتي من أنه لا يجوز الفتوى بمرّ الواقع إذا ترتّب عليها المفسدة، مستشهدا بفتوى ابن عبّاس لمن استفتاه هل للقتل توبة؟ بقوله: «لا، مع قوله في المجلس لآخر: نعم، فلما سئل عن اختلاف الجوابين قال: «علمت من السائل الأول إرادة قتل فقلت له: لا توبة للقتل، لئلّا أعاونه عليه، و من الثاني الإياس من رحمة اللّٰه فقلت: نعم، لئلّا ييأس


1- المائدة: 32.
2- الوسائل 19: 7 ب (1) من أبواب القصاص في النفس ح 16.
3- صحيح مسلم 2: 704 ح 69.
4- البحار 108: 15 و فيه «لا تؤتوا الحكمة غير أهلها فتظلموها».

ص: 68

من روح اللّٰه» (1).

و منها: ما اتّفق لعلّامة أساتيدنا الأعلام من تحريمه التنباك كلّية، لمّا استلزم استعماله معاونة الكفّار الخارجة على أغراضهم الفاسدة.

قوله: «و كيف كان فلو ثبت تميّز موارد الإعانة من العرف فهو، و إلّا فالظاهر مدخليّة قصد المعين».

أقول: فيه أولا: إمكان أن يقال: أمّا تميّز موضوع الإعانة من قوله تعالى:

وَ لٰا تَعٰاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ (2) وَ لٰا تَقْرَبُوا الْفَوٰاحِشَ أي: القبائح مٰا ظَهَرَ مِنْهٰا وَ مٰا بَطَنَ* (3) وَ الْإِثْمَ وَ الْبَغْيَ (4)، فظاهر عرفا و لغة في مطلق ما يقوى به الحرام، و ما يقرّب إليه من مقدّماته و ما يتوقّف عليه الحرام عقلا أو عرفا أو شرعا، لفظا أو فعلا، شطرا أو شرطا، وجودا أو عدما، من غير مدخليّة قصد المعين الإعانة و المقدّميّة، بل و لا العلم بمعاونته و مقدّميّته و ترتّب الحرام عليه في تحقّق موضوع الإعانة و القرب و التقوى عرفا، كما لا مدخليّة للقصد بل و لا للعلم في تحقّق موضوع الإثم و الفاحشة و شرب الخمر و سائر الموضوعات المحرّمة نفسها، من الغناء و الزنا و القتل و الجرح من المحرّمات النفسيّة، فالغيريّة كذلك، من غير فرق من حيث الإطلاق و التقييد، و ذلك لما تقرّر في الأصول من أن الألفاظ موضوعة للمعاني الواقعيّة لا المعلومة، فضلا عن المقصودة.

و لو سلّمنا الشكّ في إجمالها فهو خلاف الأصل الأصيل في وضع الألفاظ غالبا، كما قرّر في باب المجمل و المبيّن، بل و خلاف وضع الشرع و وظيفته و معناه، فإن معنى الشرع و وضعه و وظيفته البيان لا الإجمال. و أمّا تميّز حكم


1- منية المريد: 299، ذكره في آداب الفتوى.
2- المائدة: 2.
3- الانعام: 151.
4- الأعراف: 33.

ص: 69

الإعانة و ما يقرّب إلى الحرام و يقوّيه و يترتّب عليه و يتوقّف عليه من المعونات و المقدّمات على كثرتها و تشتّت أقسامها المذكورة من القريب و البعيد فهو الحرمة، لعموم النكرة في سياق النفي من قوله وَ لٰا تَعٰاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ (1) وَ لٰا تَقْرَبُوا الْفَوٰاحِشَ (2)، و لم يخرج من عموم حكمها العقلي و النقلي- أعني: تبعيّة المقدّمات لذي المقدّمة عقلا و شرعا- إلّا ما يخرجه حديث: «رفع عن أمّتي تسعة، و منها: السهو و النسيان، و ما لا يعلمون، و ما أكرهوا عليه، و ما اضطرّوا إليه» (3). فالإعانة على ما لم يعلم ترتّب الحرام عليه من المقدّمات و المعونات و المقوّيات بأنواعها مرفوعة المؤاخذة بعموم «لا يعلمون».

و أمّا التجارات و الصناعات و المغارسات و الحرف و بعض العبادات- كالحج- فمرفوعة المؤاخذة بعموم «ما أكرهوا عليه» (4)، فإن ما يأخذه الجائر من التجارات و الحجّاج و يقوى به و يستعين به الجائر و الظالم إنما هو بالإكراه المرفوع من الأمّة، بل و بعموم: «ما لا يطيقون، و ما اضطرّوا إليه» (5)، فإن التجارات و الصناعات ممّا اضطرّوا إلى فعلها في معاشهم و معادهم و ممّا لا يطيقون تركها، بخلاف بيع العنب لعاصره خمرا، و عقد النكاح للمترتّب عليه فساد الملاهي و الحرام، و تعليم العلم لصارفه في الباطل، ممّا يطاق تركها و لم يضطرّوا إلى فعلها بوجه، فلا يقاس على التجارات و الصناعات المضطرّ إلى فعلها من جميع الوجوه في الخروج حكما عن عموم المنع عن المعاونة، بل هي باقية في عموم المنع عن المعاونة عقلا و نقلا، لأصالة عدم التخصيص و حجّية المخصّص في الباقي.

و ثانيا: لو سلّمنا الإجمال و مدخليّة القصد في اسم المعونة أو حكمها فإنما


1- المائدة: 2.
2- الأنعام: 151.
3- الوسائل 11: 295 ب «56» من أبواب جهاد النفس ح 1.
4- المصدر المذكور آنفا.
5- المصدر المذكور آنفا.

ص: 70

هو في خصوص ما إذا اشترك فعل بين ذي جهتين، مثل ضرب اليتيم المشترك بين التأديب و الإحسان و بين الظلم و العدوان، و السفر المشترك بين المعصية و الطاعة حيث لا تميّز بوجه إلّا بالقصد، بخلاف ما نحن فيه ممّا هو متميّز من دون قصد. نعم، قصد الحرام لو كان له مدخليّة في الحرمة فإنما هو حرمة خارجيّة من جهة التجرّي بنفس القصد، لا من جهة حرمة نفس الفعل المقرون به الذي نحن فيه، كما لا يخفى.

قوله: «بأن دفع المنكر كرفعه واجب، و لا يتمّ إلّا بترك البيع فيجب».

أقول: قد يورد على هذا الاستدراك: أنّك إن اعتبرت القصد في صدق المعاونة على بيع العنب لعاصره خمرا، اقتضى اعتباره أيضا في صدق المنكر على ذلك البيع و ترك المنكر على ترك ذلك البيع، لعدم الفرق، بل للأولويّة القطعيّة. و إن لم تعتبر القصد في صدق المنكر على بيع العنب لعاصره خمرا، و لا في صدق ترك المنكر على ترك ذلك البيع، اقتضى عدم اعتبار القصد في صدق المعاونة على ذلك البيع أيضا، لعدم الفرق، بل للأولويّة القطعيّة.

قوله: «إلّا أنه لم يقم دليل على وجوب تعجيز من يعلم أنه سيهمّ بالمعصية».

[أقول:] تعجيز من يعلم أنه سيهمّ بالمعصية تارة برفع المعونات و المقدّمات الموجودة عنده و إتلاف الأسباب المملوكة له كإتلاف العنب و المال المملوك لمن يعلم أنه سيهمّ بتخميره أو تبذيره، و تارة بترك معاونته و عدم تمكينه و تمليكه أسباب المعصية غير الموجودة و غير المملوكة. و الذي لم يقم دليل على وجوب تعجيزه إنما هو القسم الأول، حيث إن العنب و المال المملوك لمن يعلم أنه سيخمّره و يبذّره و يفسده لم يدخل في المنكر بعد حتى يجب أخذه أو إتلافه أو

ص: 71

تحجيره من مالكه، و لا في المعاونة على الخمر (1) حتى يحرم فعله و يجب تركه، بل التعرّض له حينئذ من قبيل القصاص الممنوع قبل الجناية، و العقاب المرفوع قبل المعصية، لم يقم دليل على وجوبه إلّا على شريعة الخضر عليه السلام في قتل الغلام و خرق السفينة، و يحتمله بعض الأحكام الجارية في الرجعة على يدي الحجّة عليه السّلام.

و أمّا القسم الثاني من تعجيزه عن المعصية بعدم تمكينه من الأسباب غير الموجودة له، و ترك تمليكه العنب غير المملوك له، فالدليل على وجوبه و حرمة تركه كلّ من عموم أدلّة النهي عن المنكر و المعاونة على المحرّم (2)، و صدق موضوع معاونة الحرام و المنكر عرفا على ترك تعجيزه بهذا المعنى عن المعصية، من غير فرق في الصدق العرفي بين من همّ فعلا بالمعصية و بين من يعلم أنه سيهمّ بها بعد.

و توهّم اختصاص صدق المنكر و المعاونة عرفا على خصوص من همّ بها فعلا لا من سيهمّ بعدا، ممنوع بأنه لو كان كذلك لم تدل مناهي المنكر و معاونة الإثم على حرمة مقدّمة من مقدّمات المنكر و الحرام أصلا، و لم يبق للمعاونة المحرّمة مورد رأسا، لأن الإثم و المنكر قبل وجوده ليس بمحرّم فعلي حتى يحرم مقدّماته، و بعد وجوده لا مقدّمة له، فيلزم نفي المورد للحرمة، و هو باطل، فالملزوم مثله.

قوله: «و ما نحن فيه من هذا القبيل .. إلخ».

أقول: الذي من قبيل الوجوب الجمعي المشروط باجتماع آحاده- مثل وجوب حمل الثقيل على من يتحمّله من الجماعة، الساقط عن الواحد عند عدم


1- كذا في النسخة الخطّية، و لعلّ الصحيح: المنكر.
2- المائدة: 2، الوسائل 11: 393 ب (1) من أبواب الأمر و النهي.

ص: 72

اجتماع البقيّة معه في الحمل- إنما هو مثل وجوب انعقاد الجمعة على عدد الانعقاد، حيث لم يحصل الانعقاد الواجب بالأقلّ من عدد الانعقاد، و وجوب جهاد الكفّار على عدد الغلب، حيث لم يحصل الغرض الموجب منه بالأقلّ من عدد الغلب.

و أمّا نحن فيه من مثل تمليك العنب لعاصره خمرا فهو من قبيل الوجوب الآحادي تركه و الحرام الآحادي فعله، لا الجمعي كالجهاد و الجمعة، و ذلك لأن النهي عن المنكر لا ينحصر في خصوص ترك المنكر حتى يجب على خصوص من يحصل بنهيهم تركه مجتمعا من الجماعة، دون من لم يحصل بنهيه تركه منفردا من الآحاد، بل الواجب من نصوصه جميع مراتب النهي عن المنكر على وجه الترتيب و الأقرب فالأقرب إلى ترك المنكر، أعني: ترك المنكر رأسا ثمّ الأقرب فالأقرب إليه، من تقليله و تخفيفه، و وجوب المهاجرة من بلده، و وجوب هجر فاعله و تفضيحه و تشنيعه، و ترك المداهنة معه، و الجلوس على خوانه، و مجالسته و مرافقته، و اخوّته و مؤاخاته و محبّته، و الركون إليه، و الرضا ببقائه، و معاونته و مجاورته و إجابته و تأمينه و تصديقه، و التسليم عليه و جواب السلام عليه، و النظر إلى وجهه، و إعانته حتى في المباحات، بل و في الطاعات، مثل كراء الجمال له في الحج، إلى أن تنتهي مراتب النهي عن المنكر إلى الإعراض القلبي و التبرّي القلبي عنه، إلى غير ذلك ممّا يقصم الظهور من مراتب وجوب النهي عن المنكر الواجب على الآحاد فردا فردا، مع عدم حصول ترك المنكر بها التي عقد في كلّ من كتب الأصول- كالوسائل و غيره- لكلّ من مراتبه العديدة بابا مستقلّا من النصوص الأكيدة الشديدة: منها: باب وجوب هجر الفاسق، و هجر فاعل المنكر، و التوصّل إلى إزالته بكلّ وجه ممكن، و لو بتفضيحه و تشنيعه و هجره و الإعراض عنه و لو بالقلب، كقوله عليه السّلام: «لآخذنّ البري ء بذنب السقيم، و لأحملنّ ذنوب

ص: 73

سفهائكم على علمائكم» إلى أن قال عليه السّلام: «ما يمنعكم إذا بلغكم عن الرجل منكم ما تكرهون، و ما يدخل علينا به الأذى، أن تأتوه فتؤنّبوه و تعذلوه و تقولوا له قولا بليغا؟! قلت: جعلت فداك إذا لا يقبلون منّا، قال: اهجروهم و اجتنبوا مجالستهم» (1). إلى غير ذلك.

قوله: «و أمّا ما تقدّم من الخبر في أتباع بني أميّة فالذمّ فيه إنما هو على إعانتهم بالأمور المذكورة في الرواية .. إلخ».

أقول: فيه أولا: ما عرفت من أن النصوص الصحيحة الصريحة من الكتاب (2) و السنّة (3)- الدالّة بعمومها على عموم النهي عن جميع معونات الحرام و المنكر، و مطلق مقدّماته و مراتبه و أنحائه و أقسامه- غير منحصرة في الرواية الخاصّة في مذمّة المعاونة لبني أميّة.

و ثانيا: أن الذمّ على المعونات المذكورة في الرواية لو لم يكن معلّلا بالعلّة المنصوصة العامّة- كمضمون قوله عليه السّلام: لو لا ما يتوصّل إلى ذي المقدّمات من المنكرات و المحرّمات- لما جاز التعدّي منها إلى سائر مقدّمات الحرام و المنكر، لما في التعدّي و الإلحاق من القياس الممنوع، خصوصا مع الفارق من حيث المقدّمة و ذي المقدّمة، و أمّا بعد استدلال الإمام عليه السّلام بعموم تلك العلّة المنصوصة العامّة لحرمة مطلق ما يتوقّف و يترتّب و يلزم منه الحرام و المنكر فلا وجه لمنع التعدّي و الإلحاق، بدعوى الخصوصيّة و الفرق الملغى في نظر الشارع المستدلّ بعموم العلّة المنصوصة.

لا يقال: لا علّة منصوصة في الرواية حتى يؤخذ بعمومها.


1- الكافي 8: 158 و 162 ح 150 و 169، الوسائل 11: 414 و 415 ب (7) من أبواب الأمر و النهي 2 و 3.
2- آل عمران: 104، الأعراف: 157، التوبة: 71.
3- الوسائل 11: 403 ب (3) من أبواب الأمر و النهي و ما يناسبهما.

ص: 74

لأنّا نقول: لا فرق في مفاد العلّية و عمومها عرفا بين قولك: لا تشرب الخمر لأنه مسكر أو علّة حرمة الخمر الإسكار، و بين قولك: لو لا الإسكار ما حرم الخمر، في عموم علّة الحرمة لكلّ مسكر من خمر أو بنج أو غيره. و كذلك ما نحن فيه لا فرق في مفاد العلّية و عمومها بين ما لو قال: حرم إعانة بني أميّة لأنه يؤدي إلى سلب حقّنا أو أن علّة حرمة إعانتهم هو التأدية إلى سلب حقّنا، و بين قوله: لو لا إعانتهم ما سلب حقّنا، في عموم علّية جهة الإعانة و المقدّمية و السببيّة لكلّ ما يؤدّي إلى كلّ منكر و حرام من أيّ مقدّمة و سبب، من غير مدخليّة لشي ء من خصوصيّة سبب و لا مسبّب و لا مقدّمة و لا ذي مقدّمة في الحرمة، سوى جهة المقدّميّة و السببيّة و التوقّف و الترتّب المشترك بين جميع المقدّمات و ذي المقدّمات و الأسباب و المسبّبات.

قوله: «يسقط وجوب الجزء إذا علم بعدم تحقّق الكلّ في الخارج .. إلخ».

أقول: سقوط الجزء بعدم تحقّق الكلّ و الشرط بعدم تحقّق المشروط، و المقدّمة بعدم تحقّق ذي المقدّمة، كالعكس و هو عدم المشروط بعدم الشرط و الكلّ بعدم الجزء و ذي المقدّمة بعدم المقدّمة، إنما هو مقتضى القاعدة العقليّة الأوّليّة المورودة بعمومات قاعدة: «الميسور لا يسقط بالمعسور» (1) و «ما لا يدرك كلّه لا يترك كلّه» (2)، بل و بخصوص نصوص (3) عمومات حرمة جميع مراتب المنكرات على وجه الترتيب المقرّر، من دفع أصل المنكر إلى أن ينتهي إلى أقلّ ما يمكن، من تفضيحه و تشنيعه و الإعراض عنه و عن مجلسه و بلده إلى غير ذلك، إلى أن ينتهي إلى الإعراض القلبي. و حينئذ فلا يسقط الكلّ بسقوط جزء منه، و لا المشروط بسقوط شرطه، بل الميسور الباقي من مراتبه العديدة لا


1- عوالي اللئالي 4: 58 ح 205.
2- عوالي اللئالي 4: 58 ح 207.
3- الوسائل 11: 403 ب (3) من أبواب الأمر و النهي و ما يناسبهما.

ص: 75

يسقط بسقوط المعسور، و يتعدّد المطلق بتعدّد تلك المراتب.

[القسم الثالث ما يحرم لتحريم ما يقصد منه شأنا]

قوله: «و تحريم هذا مقصور عن النصّ، إذ لا يدخل ذلك تحت الإعانة».

أقول: و فيه ما عرفت من منع كلّ من العلّة و المعلول.

أمّا منع العلّة فلأنه و إن لم يدخل تحت الإعانة من جهة فرض عدم القصد و عدم العلم بترتّب الحرام عليه، إلّا أنه يكفي في الدخول تحتها بانحصار فائدة بيع السلاح لأعداء الدين حال الحرب في الإعانة عليه، كما اعتبره سابقا في الصدق العرفي، و اشتراطه آنفا بقوله: «بحيث يصدق حصول التقوّي لهم بالبيع».

و أمّا منع المعلول فلعدم انحصار حرمته على وجه القاعدة الكلّية في الدخول تحت الإعانة، بل يكفي الدخول فيما لا يتمّ المنكر إلّا به، حسب ما ذكره هو.

قوله: «شبه الاجتهاد في مقابل النصّ، مع ضعف دليله».

أقول: أمّا وجه كونه شبه اجتهاد لا اجتهادا في مقابل النصّ، فلأنه بالنظر إلى استناد حكمه إلى عموم حرمة المعاونة المقابل للنصّ (1) الخاص بالجواز يكون اجتهادا في مقابل النصّ، و بالنظر إلى عدم استناد حكمه إلى صرف قاعدة مقدّمة الحرام حرام، بل إلى عموم النصّ بحرمته، لا يكون اجتهادا في مقابل النصّ.

و أمّا ضعف دليله- و هو عموم حرمة المعاونة- فمبنيّ على عدم صدق المعاونة على ما لم يعلم و لم يقصد منه الحرام. و لكن قد عرفت ضعف هذا المبنى حتى على مبناه.

قوله: «بحيث يصدق حصول التقوّي لهم بالبيع».

[أقول:] لا يقال: مع فرض عدم العلم و عدم قصد التقوّي بالبيع كيف يصدق


1- الوسائل 12: 69 ب (8) من أبواب ما يكتسب به.

ص: 76

التقوّي به؟ و يشترط اعتباره في الحرمة.

لأنّا نقول: فرض عدم العلم و القصد في البيع لا ينافي صدق التقوّي و الإعانة عرفا. أمّا على ما اخترناه فلعدم توقّف الصدق الاسمي على العلم و القصد. و أمّا على مختار المصنف فلانحصار فائدة بيع السلاح على المحارب حال الحرب في التقوّي به.

و كيف كان فاشتراط صدق التقوّي بالبيع المذكور في الحكم بحرمته ينافي قوله: «و حينئذ فالحكم مخالف للأصول، صير إليه للأخبار المذكورة». و ذلك لأنه إن كان المراد بالأصول أصل البراءة و الحلّ و «الناس مسلّطون» فالحكم بحرمة البيع المذكور و إن كان مخالفا لها إلّا أنه غير مشروط بصدق التقوّي به عرفا. و إن كان المراد من الأصول عموم قاعدة حرمة التقوّي و التعاون على الإثم فالحكم بهذه الحرمة و إن كان مشروطا بصدق موضوع التقوّي و التعاون إلّا أنه غير مخالف للأصول حتى يصار إليه للأخبار، و يقتصر في مخالفتها الأصل على المتيقّن من بيع خصوص السلاح، دون سائر أسباب التقوّي و التعاون.

قوله: «و فيه تأمّل».

[أقول:] لعلّه إشارة إلى دعوى انصراف الحقّ و الباطل إلى الديني، أي: إلى الكفر و الإسلام لا الصلاح و الفساد.

و فيه أولا: منع الانصراف، لعدم الصارف.

و ثانيا: لو سلّمنا، لكن المنع لا ينحصر في تقوّي الباطل، بل تقوّي الفساد، و المعاونة على الإثم أيضا منصوص المنع في مناهي الكتاب (1) و السنّة، خصوصا في رواية تحف العقول (2).


1- المائدة: 2.
2- تحف العقول: 331.

ص: 77

[النوع الثالث مما يحرم الاكتساب به ما لا منفعة فيه محللة معتدا بها عند العقلاء]

قوله: «و فيه تأمّل، لأن منافع كثير من الأشياء التي ذكروها في المقام يقابل عرفا بمال و لو قليلا، بحيث لا يكون بذل مقدار قليل من المال بإزائه سفها .. إلخ».

أقول: و في وجه التأمّل الموجّه بهذا الوجه نظر.

أمّا أولا: فمن جهة أن الباطل من قوله تعالى لٰا تَأْكُلُوا أَمْوٰالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبٰاطِلِ* (1) هو خلاف الصحيح، أي: ما لا أثر و لا ثمر له، لا خصوص ما يعدّ سفها، و لعلّه أعمّ من السفه.

و ثانيا: لو سلّمنا كون الباطل ما يعدّ سفها، لكن تقييد مالا يعدّ سفها ببذل مال قليل في إزائه دون الكثير ممنوع، لأن ما لا يسفّه على بذل قليله لا يسفّه على كثيره من جهة أصل المعاملة، و لو سفّه بذل الكثير فليس من حيث أصل المعاملة الذي هو محطّ النظر، بل من حيث وصف الباذل بالسفه، و هو مانع عرضي خارجي، خارج عن محطّ النظر. فالبذل المانع من صحّة أصل المعاملة الذي هو محطّ النظر لا يفرّق بين قليله و كثيرة، فإذا لم يسفّه على قليله و يسفّه على كثيره. و البذل المختلف بين قليله و كثيره- بحيث لا يسفّه على قليله و يسفّه على كثيره- غير مانع من صحّة أصل المعاملة، و خارج عن محطّ النظر.

و ثالثا: سلّمنا كون الباطل ما يعدّ سفها، لكن يحتمل أن يكون السفه منوطا بنظر الشرع، أو نظر من يكشف عنه، كالعقل السليم أو إجماع العلماء أو العقلاء المعصوم من الخطأ، لا مطلق العرف و العقلاء ممّن لا يعصم عن الخطأ.

و يشهد على ذلك وجوه:

منها: أن وظيفة العقل و العقلاء على تقدير اعتباره هو تشخيص الأحكام،


1- النساء: 29.

ص: 78

و أمّا تشخيص موضوع السفه فمرجعه إلى العرف الخاص الشرعي، فإن لم يكن فإلى العام لا العقلاء.

و منها: أن المرجع فيما هو من هذا السنخ من الموضوعات الكلّية المستنبطة المرتّب عليها الأحكام الشرعيّة، من الصفات النفسيّة كالتميّز و العقل و الصبا و البلوغ و العلم و المعرفة و الرشد و السفه و العدالة و التقوى و العصمة و الكفر و الإسلام و الإيمان و نحوها، إنما هو إلى نظر الشرع لا مطلق العرف و العقلاء، فليكن المرجع في أكل المال بالباطل و السفه كذلك.

و منها: أن السفه المانع من صحّة العقد الذي هو من صفات العاقد المقابل للرشد المعتبر في صحّة العقود، اختلف الفقهاء في أنه هل [هو] ملكة العدالة الشرعيّة في جميع الأمور، أو في خصوص التصرّفات الماليّة بحيث له قوّة الاعتدال في حفظ المال من السرف و الإفساد و التبذير و التقتير، أو مطلق قوّة حفظ المال من الإتلاف، لقوله عليه السّلام في تفسير الرشد: «أن لا يشتري الدرهم بدرهمين» (1)؟ فإذا كان المرجع في هذا السفه الذي هو من صفات العاقد إلى الشرع، فليكن السفه الذي هو من صفات العقد و أصل المعاملة كذلك.

و منها: الاستقراء في غالب ما لا يعدّه العقلاء سفها، خصوصا في أعصارنا، و هو في نظر الشرع من أسفه السفهاء، كبيع الخمر و جلود الميتة و المسكرات، و آلات الملاهي و القمار و الملاعب، و الغناء و الدفوف و الطبول، و الشعبذة، و كتب الضلال، و أشعار الجاهليّة و اللغويّة و الملهية، كالحافظ و اليغما و التأني (2)، و القهوة و الغرشة و الترياك و التنباك و الچائي و الوافور، ممّا يوجب


1- الوسائل 13: 430 ب «44» في أحكام الوصايا ح 8، «و فيه: الذي يشتري الدرهم بأضعافه».
2- كذا في النسخة الخطّية.

ص: 79

النقص و الفتور و الإسراف و التبذير، ممّا لا يعدّونه سفها، و الحال أن شاهد حال الأنبياء و الأوصياء و سنّتهم و سيرتهم قولا و فعلا على تسفيه ما هو من هذا القبيل و ما دونه بمراتب، كأكلك التمر و لفظك النواة و شربك الماء و إراقة فاضله، حيث نصّ الشرع بكونه من السرف المبغوض (1)، مع أن العرف و العقلاء لا يعدّون من السرف ما هو فوقه بأضعاف مضاعفة.

و هكذا أكل التمر مع السمن كلّ يوم (2)، و تصدّق المحتاج لعياله بدرهم على غيرهم (3)، حيث نصّ الشارع بكونه من السرف.

و هكذا الأكل على الشبع (4)، و فيما بين البكرة و العشيّ (5)، حيث علّل النهي عنه بكونه إفسادا للبدن، مع بناء الأطبّاء بل عقلاء الزمان على العكس.

و هكذا نهي الشارع عن السرف في ماء الوضوء بأكثر من مدّ و الغسل بأكثر من صاع (6)، مع تنصيصه بأن الواجد قدر ما يتوضّأ به بمائة و ألف أو مائة ألف درهم يتوضّأ بذلك المبلغ و لا يتيمّم (7)، مع تسفيه العقلاء شراء ما يتوضّأ به بهذا المبلغ الكذاف (8)، و عدّه من الغرر و الإسراف.

و هكذا أمره بلباس التقوى (9) و التواضع (10)، و لبس الخشن و الغليظ و الصفيق، و تقصير الثوب و رقعه و خصف النعل (11)، و نهيه عن لباس


1- الخصال 1: 10 و 93 ح 36 و 37.
2- لم نعثر عليه في مظانه.
3- الخصال 1: 10 و 93 ح 36 و 37.
4- الوسائل 3: 574 ب «2» من أبواب أحكام المساكن ح 2.
5- لم نعثر عليه في مظانه.
6- لم نعثر عليه في مظانه.
7- الوسائل 2: 997 ب «26» من أبواب التيمم.
8- كلمة فارسيّة، و تكتب في اللغة الفارسيّة: گزاف، و معناها: الغالي و النفيس.
9- الوسائل 1: 371 ب «13» من أبواب آداب الحمام.
10- الوسائل 11: 215 ب «28» من أبواب جهاد النفس و ما يناسبه.
11- الوسائل 3: 375 ب «29» من أبواب أحكام الملابس.

ص: 80

الشهرة (1) و الرقيق و الليّن (2) و ملابس العجم و مطاعمهم (3)، مع الأمر بإجادة الأكفان و المغالاة في أثمانها بما بلغ ثمن برد واحد أربعين أو أربعمائة دينار (4)، مع قصور فهم العقلاء عن إدراك الحكم المكمونة لاختلاف الحكم و توفيق الجمع بينها بأشدّ قصور و أعظم فتور.

قوله: «و لا مانع من التزام جواز بيع كلّ ماله نفع .. إلخ».

[أقول:] لا يقال: كفى بأصالة الفساد و استصحاب عدم النقل و الانتقال مانعا منه.

لأنّا نقول: الأصل العمليّ المذكور لا يقاوم الأصل اللفظيّ، و هو عموم:

وَ أَحَلَّ اللّٰهُ الْبَيْعَ (5). و لو شكّ في صدق البيع على ما يشكّ في صدق الماليّة عليه فعموم تِجٰارَةً عَنْ تَرٰاضٍ (6)، إلّا أن يستظهر بمانعيّة عموم لٰا تَأْكُلُوا أَمْوٰالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبٰاطِلِ* (7)، بناء على عموم الباطل لمثله.

قوله: «لا من حيث عدم المنفعة المتعارفة. فتأمّل».

[أقول:] لعلّه إشارة إلى أن المنع عن بيع النجس لو كان لتعبّد النجاسة لا من حيث عدم المنفعة لما ورد النصّ باستثناء ما فيه منفعة، من بيع المملوك (8) الكافر، و كلب الصيد و الحائط و الماشية (9)، و الزيت النجس للاستصباح (10)،


1- الوسائل 3: 358 ب «17» من أبواب أحكام الملابس ح 5.
2- الوسائل 3: 364 ب «21» من أبواب أحكام الملابس.
3- الوسائل 16: 508 ب «80» ب استحباب التواضع ح 1.
4- الوسائل 2: 749 ب «18» من أبواب التكفين.
5- البقرة: 275.
6- النساء: 29.
7- البقرة: 188.
8- الوسائل 13: 86 ب «16» من أبواب ما يكتسب به ح 1.
9- الوسائل 12: 82 ب «14» من أبواب ما يكتسب به.
10- الوسائل 12: 66 ب «6» من أبواب ما يكتسب به.

ص: 81

و شحم الميتة للصابون (1) و نحوه.

قوله: «الإشكال في تعيين المنفعة النادرة و تميّزها عن غيرها، فالواجب الرجوع في مقام الشكّ إلى أدلّة التجارة و نحوها».

أقول: فيه أولا: أن الموضوع المستنبط في نصوص المقام لحكم الحلّ و الحرام إنما هو ما فيه الصلاح و الفساد، لا المنفعة و عدم المنفعة. و لعلّ بينهما فرقا، من حيث إن الصلاح و الفساد عبارة عن العلل و الحكم المكمونة الواقعيّة للحكيم المطلق في أحكامه، ليكون المرجع في تميّز المشكوك منه إليه لا إلى غيره.

و ثانيا: سلّمنا، لكن إلغاء الشارع لبعض المنافع لعلّه ليس من جهة ندورها و تنزيلها منزلة العدم، بل من جهة عدم كونها منافع في نظر الحكيم و الصواب، و العقل السليم من اولي الألباب، و كون المتّبع في تشخيص المنافع إنما هو نظر ربّ الأرباب، و أن ما يزعمه غيره من الأطبّاء من بعض المنافع فيها فهو خطأ زعميّ، كما يرشد إليه تفسير الإمام عليه السّلام لقوله تعالى «قُلْ فِيهِمٰا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَ مَنٰافِعُ لِلنّٰاسِ» (2) بالنفع الزعمي، تسمية للشي ء باسم ضدّه، مماشاة من الكرام مع الخصوم اللئام، و بلاغة في الكلام، و تمهيدا للإلزام و الإفحام، كتسمية الخليل كلّا من الشمس و القمر و الكوكب هٰذٰا رَبِّي* (3) تمهيدا لإبطاله، و قوله عليه السّلام: «ما جعل اللّٰه في شي ء من الحرام شفاء» (4).

و ثالثا: سلّمنا، لكن ندور المنفعة على تقديره إنما هو صارف المطلقات، لا عمومات قوله عليه السّلام: «و كلّ شي ء يكون لهم فيه الصلاح من جهة من الجهات فذلك


1- مستدرك الوسائل 13: 73 ب (6) من أبواب ما يكتسب به ح 7.
2- مستدرك الوسائل 17: 83 ب «27» من أبواب الأشربة المحرّمة ح 2.
3- الأنعام: 76، 77، 78.
4- الوسائل 17: 77 ب «50» من أبواب الأطعمة المباحة ح 4، و فيه: من المرّ شفاء.

ص: 82

كلّه حلال بيعه و شراؤه .. إلخ» (1).

و رابعا: سلّمنا، لكن المرجع في الندور المشكوك صارفيّته إنما هو إلى أصالة إطلاق المطلق و عدم صارفيّة مشكوك الصارفيّة له، لا إلى الإطلاقات الخارجيّة من أدلّة التجارة.

و خامسا: سلّمنا مرجعيّة الخارج لا الداخل، لكن الرجوع في مشكوك الصارفيّة إلى ما ذكره المصنف من أدلّة التجارة ليس بأولى من الرجوع إلى عموم:

لٰا تَأْكُلُوا أَمْوٰالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبٰاطِلِ* (2).

قوله: «و الفرق أن الأول لا يملك .. إلخ».

أقول: تفصيل الفرق بين الأقسام و الأحكام في الملك و المال هو أن يقال:

إن الشي ء إمّا ملك و مال كالدراهم و الدنانير، أو ليس بملك و لا مال كالحشرات، أو ملك لا يتموّل كالحبّة من حنطة، أو بالعكس مال لا يتملّك، كالمساجد و القناطر و الأوقاف العامّة و المشارع و الشوارع.

أمّا الذي يملك و يتموّل- كالماء و النار و الكلإ- فلا إشكال في ثبوت أحكام اليد الملكيّة عليها من التملّك و التمليك و الضمان. كما لا إشكال في عدم ترتّب شي ء من أحكام اليد الملكيّة على ما لا يملك و لا يتموّل، كالحشرات و الفضلات، لعدم الملكيّة، بل و لا اليد الأولويّة و لا حقّ الاختصاص، لعدم الماليّة و العلاقة الشرعيّة.

و أمّا قول المصنف: «منع حقّ الاختصاص فيه مشكل، مع عموم قوله صلى اللّٰه عليه و آله:

«من سبق إلى ما لم يسبق إليه أحد من المسلمين فهو أحقّ به (3)، مع عدم أخذه قهرا ظلما عرفا».


1- الوسائل 12: 54 ب «2» من أبواب ما يكتسب به ح 1.
2- البقرة: 188.
3- سنن البيهقي 6: 142، و فيه اختلاف يسير.

ص: 83

ففيه: منع عموم الموصول إلّا لما يملك أو يتموّل، كالسبق إلى السوق و المسجد أو إحياء أرض أو حيازة ماء أو كلإ، و لو بقرينة سائر النصوص المصرّحة بذلك، أو ظهور السبق و الاستباق في مثلها لا غير، و منع عدّ أخذ مثل الذباب و القمّل و البرغوث من أحد قهرا ظلما، لأنه فرع ثبوت حقّ الاختصاص الشرعي، و الأصل عدمه.

نعم، لو استدلّ عليه بمثل قوله عليه السّلام في نهج البلاغة: «و لو ملئت لي الدنيا ذهبا على أن أظلم نملة في قشر شعيرة ما فعلت» (1) لكان أوضح.

و لكن مع ذلك في دلالته على المدّعي تأمّل، من جهة أن ثبوت حقّ اختصاص النملة في قشر الشعيرة لا يستلزم حقّ اختصاص الإنسان على النملة الذي هو المطلوب. و من جهة كونه في مقام بيان مراتب كمال الزهد و التقوى المستحبّ لا الواجب، مثل قوله عليه السّلام: «و لو أن قطرة خمر وقعت في بحر ثم جفّ البحر ثم نبت عليها نبات ثمّ أكل منها شاة ثم اشتبه الشاة في قطيعة ما أكلت من تلك القطيعة» (2).

و أمّا الذي يتموّل و لا يملك- كالمساجد و القناطر و الشوارح و المشارع و الكتب الموقوفة- فلا إشكال في ثبوت حقّ الاختصاص للسابق إليها، و لا في حرمة المزاحمة و المدافعة لحقّه، لعموم: «من سبق إلى شي ء فهو أحقّ به» (3).

و يتفرّع على حرمته بطلان صلاة المزاحم لحقّ الاختصاص كالغاصب، على القول بامتناع اجتماع الأمر و النهي في مكان واحد. بل و لا في ضمان المزاحم و المدافع لحقّ الاختصاص بالمثل و القيمة لذي الحقّ كالغاصب، لعموم:


1- نهج البلاغة: 247 رقم الخطبة 224، لم نجده بهذا المعنى و وجدنا فيه: «و اللّٰه لو أعطيت الأقاليم السبعة بما تحت أفلاكها على أن أعصي اللّٰه في نملة أسلبها جلب شعيرة ما فعلته».
2- لم نعثر عليه، و وجدنا نظيره في تفسير الكشاف 1: 260.
3- الوسائل 3: 542 ب (6) من أبواب أحكام المساجد ح 1، و فيه: موضع بدل شي ء.

ص: 84

«على اليد ما أخذت» (1). إلّا إذا كان المزاحم شريكا للمزاحم بالأصالة لو لا حقّ الأسبقيّة، كما لو سبق إلى المشارع و الشوارع و الموقوفات العامّة المشتركة بين المزاحم و المزاحم بالأصالة، فإنه يحرم مزاحمة السابق إليهما، لعموم حقّ الأسبقيّة، إلّا أنه لا يضمن المزاحم للمزاحم مقدار المزاحمة، لحقّ الشركة بينهما، و عدم صدق «على اليد ما أخذت» على اليد المشاركة في المأخوذ. نعم، لو لم يكن شريكا- كما لو أتلف الوقوف على الموقوف عليهم- فإنه يضمن لهم المثل و القيمة، لعموم: «على اليد ما أخذت» (2).

و أمّا الذي يملك و لا يتموّل- كحبّة من حنطة، أو مسّ يد الغير أو ثوبه أو حائطه- فلا إشكال في حرمة المزاحمة لمالكه من غير إذنه، لكونه غصبا عدوانا، و ظلما منهيّا عنه بقوله تعالى: «و عزّتي و جلالي لا يجوزني ظلم ظالم و لو مسحا بكفّ و لو كفّ بكفّ» (3) وَ مَنْ يَعْمَلْ مِثْقٰالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (4). و لأن حرمة الكثير المتموّل منه تقتضي حرمة القليل غير المتموّل منه بالاستصحاب.

إنما الخلاف في ضمانه على الغاصب و المتلف له مطلقا، أو عدمه مطلقا كما عن التذكرة (5)، أو التفصيل بين ضمان المثليّ منه و عدم ضمان غير المثليّ منه، وجوه بل أقوال أقواها الضمان مطلقا، و أضعفها العدم مطلقا، و أوسطها التفصيل.

أمّا وجه أقوائيّة الضمان مطلقا فلعموم قاعدة: «على اليد ما أخذت حتى تؤدّي» (6) خرج منه ما لا يملك، و بقي ما يملك مطلقا و لو كان غير مثليّ.


1- سنن البيهقي 6: 95.
2- سنن البيهقي 6: 95.
3- البحار 6: 30 ضمن ح 35.
4- الزلزلة: 8.
5- التذكرة 1: 465.
6- سنن البيهقي 6: 95.

ص: 85

فإن قلت: ضمان المثليّ منه بالمثل ممكن التأدية، و لكن تضمين غير المثليّ منه بالمثل غير مماثل، و بالقيمة غير متقوّم و لا متموّل بالفرض، فالتكليف بتضمين غير المثليّ يستلزم التكليف بما لا يطاق المستحيل على مذهب العدليّة، فيسقط التضمين، و يخرج عن عموم: «على اليد ما أخذت».

قلت: أولا نمنع الملازمة نقضا: بما لو عرض تعسّر المثل في المثليّ و القيمة في القيميّ على الضامن، و بما لو علم أصل الدين و جهل قدره أو وصفه أو هما، بل و لو جهل مع ذلك صاحبه، فبما يتخلّص به عن الضمان ثمّة يتخلّص به هنا.

و حلّا: بأنه كما «لا يسقط الميسور بالمعسور» (1) كذلك لا يسقط المقدور بالمعذور، بل يتخلّص عن ضمانه بكلّ ما تيسّر و قدر عليه و لو بصلح و نحوه، إذ كما أن العقل مستقلّ في الحكم بضمان نفس العين و وجوب ردّ العين ما دامت باقية، و بالأقرب فالأقرب إليها إذا انتفت و تعذّرت، و هو المثل في المثليّ أو القيمة في القيميّ، كذلك يحكم بالأقرب فالأقرب من أبداله الميسورة و أجزائه الباقية إذا انتفى الأصل و تعذّر المثل و الكلّ، فلا يسقط المضمون به رأسا بتعذّر أصله أو وصفه أو قدره أو جزئه أو أحد إبداله.

و ثانيا: سلّمنا الملازمة، لكن نمنع بطلان اللازم، و هو قبح التكليف بما لا يطاق إذا كان بسوء اختياره، كالمتوسّط بسوء الاختيار في الأرض المغصوبة.

و ما نحن فيه كذلك، فإن المتعرّض بسوء اختياره لغصب غير المثليّ غير المتموّل لم يقبح عقلا تضمينه بالمثل بل و بالقيمة، فضلا عن تضمينه بالقدر الميسور من غيره.

و ممّا ذكرنا يظهر وجه القول بالتفصيل و ضعفه، فضلا عن القول بعدم


1- عوالي اللئالي 4: 58 ح 205.

ص: 86

الضمان و سقوطه رأسا.

[النوع الرابع ما يحرم الاكتساب به لكونه عملا محرما في نفسه]

[المسألة الأولى تدليس الماشطة حرام]

قوله: «و في عدّ و شم الخدود من جملة التدليس تأمّل .. إلخ».

أقول: في كلّ من وجه التأمّل و توجيه رفعه نظر. أمّا وجه التأمّل في عدّ الوشم من التدليس بقوله: «لأن الوشم في نفسه زينة» فلإمكان منع كون الوشم كالاكتحال و التنظيف و لبس الحليّ و الجديد و الخاتم و نحوها ممّا هو زينة في نفسه، لا لأجل اشتباه خلاف الواقع بالواقع و تدليس العرض بالأصل و الكذب بالصدق و العرضيّ بالخلقيّ، بل إنما هو كسائر أفراد التمشيط من التحمير و التبييض و التدهين و نحوها ممّا من شأنه أن يحدث الزينة، لأجل اشتباه العرضيّة بالخلقيّة و تدليس الوصف الظاهر بالواقع، حتى إن الاكتحال في العين الزرقاء تدليس و في السوداء زينة نفسيّة. و المدار و العبرة في حكم التدليس و إن كان على التلبّس الفعليّ، إلّا أن المدار في عدّ الشي ء من أسباب التدليس و أمثلته إنما هو على إمكان التدليس به و شأنيّته للتدليس، و إلّا لعمّ التأمّل في جميع أمثلة التدليس و أسبابه، حتى التحمير و وصل الشعر حيث لا يلتبس الصفة العرضيّة بالخلقيّة.

قوله: «فإن ذلك».

[أقول:] يعني: التفصيل بين الوصل بشعر الإنسان فيعدّ تدليسا و شعر الحيوان فلا يعدّ تدليسا لا مدخل له في التدليس، لأن وصل الشعر بالشعر إن كان تدليسا لم يفترق فيه بين الوصلين، و إن لم يكن تدليسا فكذلك.

قوله: «إلّا أن يوجّه الأول بأنه قد يكون الغرض من الوشم أن يحدث في البدن نقطة خضراء حتى يتراءى بياض سائر البدن و صفاؤه أكثر .. إلخ».

أقول: فيه أولا: أن سببيّة الوشم لأكثريّة بياض البدن إنما هو توجيه كونه زينة لا تدليسا، إذ ما من زينة نفسيّة إلّا و يحدث في محلّها صفة زائدة، حتى

ص: 87

التنظيف و الغسل و لبس الحليّ و الجديد. فالتوجيه بإحداث الوشم أكثريّة بياض البدن توجيه عدم كونه تدليسا، و أمّا توجيه كونه تدليسا فإنما هو بإحداث التباس الوشم العرضيّ بالخلقيّ، لا بأكثريّة ظهور البياض به، فإن إحداث أكثريّة الوصف إنما هو في كلّ زينة نفسيّة، و لولاه لم يكن زينة نفسيّة، بل عمّ التدليس لجميع المزيّنات النفسيّة بأسرها حتى التنظيف و التكشيف.

و ثانيا: سلّمنا، لكن توجيه تدليس الوشم بكون الغرض منه إحداث أكثريّة بياض البدن مبنيّ على ما تقدّم من اعتبار قصد الحرام في مقدّماته و أسبابه، و قد عرفت منعه بأبلغ وجه.

و ثالثا: لو صحّ توجيه تدليس الوشم بكون الغرض منه التدليس لصحّ ذلك لتوجيه التدليس في جميع المزيّنات النفسيّة بأسرها، حتى التنظيف و لبس الحلّي و الجديد بمجرّد قصد التدليس.

قوله: «و لعلّه أولى من تخصيص عموم الرخصة بهذه الأمور».

أقول: وجه أولويّة حمل المناهي على الكراهة من تخصيص عموم الرخصة أن التخصيص كلّية و إن كان في نفسه أرجح المجازات طرّا، إلّا أنه في خصوص تخصيص عموم الرخصة بما عدا الواصلة من سائر الفقرات ينافي ظهور اتّحاد سياق سائر الفقرات للواصلة الصريحة في الرخصة.

هذا، و لكن لا يخفى أن خبر (1) الرخصة خاصّ بزينة الزوجة لزوجها، فيخصّص بها عموم (2) حرمة النبويّ المذكور بالزينة لغيره، من لزوم تدليس أو إيذاء لا مصلحة فيه أولا زينة يعتريه، بل يوجب قبح المنظر، كأغلب أقسام الوشم المتداول في الأعراب و أهل البوادي، و ثقب الأنوف، خصوصا بين


1- الوسائل 12: 94 ب «19» من أبواب ما يكتسب به ح 3.
2- الوسائل 14: 114 ب (8) من أبواب مقدمات النكاح ح 6.

ص: 88

المنخرين، مضافا إلى النهي (1) عن خزم (2) الأنوف، و أنه من دأب الجاهليّة نسخها الإسلام.

و الحاصل: أن تخصيص عموم حرمة الفقرات الأربع في النبويّ المذكور بصورة التدليس أو الإيذاء لغير مصلحة مسوّغة شرعا- كما يشهد عليه عموم خبر الرخصة- أولى من حمله على الكراهة، و إن كان حمله على الكراهة أولى من إبقائه على عموم الحرمة و تخصيصه بغير الواصلة، [كما] قاله المصنف.

قوله: «إن التدليس بما ذكرنا إنما يحصل بمجرّد رغبة الخاطب».

أقول: لو كان التدليس يحصل بمجرّد الترغيب بالأمر الواقعي لكان جميع المرغبّات و إظهار المزيّنات و المحسّنات بأسرها من التدليس المحرّم، حتى التنظيف و غسل الوجه و كشف للخاطب و المشتري (3) تدليس محرّم. و هو ممنوع جدّا. بل لزم انحصار الاجتناب عن التدليس في إخفاء المحاسن و استتارها عن الناظر الخاطب و المشتري بالستر و الاحتجاب، و هو مع القطع ببطلانه أقوى و أشدّ تدليسا. بل و لزم عدم جواز النظر إلى محاسن من يريد تزويجها أو شراءها من النساء و الإماء، و من الإجماع و الضرورة جوازه، و جواز تمكين الناظر منه.

لا يقال: لو لم يحصل التدليس بمجرّد مزيّة الرغبة لوجب النظر دفعا للتدليس و الغرر عن الخاطب و المشتري.

لأنّا نقول: عدم وجوبه ليس من جهة تفاوت الرغبة به، بل من جهة عدم تفاوت المقصود الأصلي من الزوجيّة و هو البضع، و من الجارية و هو الاستخدام به. و لهذا لا يعدّ انتفاء البكارة عيبا من العيوب الموجبة لخيار الفسخ، مع أنها من


1- لم نعثر عليه في مظانه.
2- كلّ شي ء ثقبته فقد خزمته، انظر لسان العرب 12: 174.
3- كذا في النسخة الخطّية، و لعلّ الرفع باعتباره خبرا ل «انّ» المقدّرة بعد «حتى»، و فرض «من التدليس» خبرا ل «لكان» في أول الكلام.

ص: 89

أعظم المرغوبات و مزيد الرغبات شرعا و عرفا، فضلا عمّا دونها من المرغوبات.

قوله: «و إمّا لأن المشارطة في مثل هذه الأمور لا يليق بشأن كثير».

أقول: يحتمل ثالثا: أن تكون كراهة المشارطة على المشّاطة من جهة كراهتها النفسيّة، فتكره المشارطة عليها بالتبعيّة.

و رابعا: من جهة مرغوبيّتها النفسيّة على وجه ينافيها الشرطيّة.

و خامسا: لعلّ الحكمة في كراهة المشارطة كونها من الأعمال اليسيرة السهلة التي ينبغي عدّها من التحيّات و التأليفات، المنافية للاشتراطات أو للأخوّة و المروّات، أو يوجب القساوة و التنفّرات.

[المسألة الثانية تزيين الرجل بما يحرم عليه من لبس الحرير و الذهب حرام]

قوله: «المسألة الثانية: تزيين الرجل بما يحرم عليه .. إلخ».

أقول: فيه أولا: أن اتّفاق النصوص و الفتاوى إنما هو على عموم النهي، و تحريم لبس الحرير و التختّم بالذهب على الرجال دون النساء و لو لغير التزيين، فتخصيص الحرمة و التشبّه بخصوص التزيين تخصيص بلا مخصّص.

و ثانيا: أن مقتضى البلاغة و البراعة و المناسبة هو التطبيق و المطابقة بين الأجوبة و الأسئلة، و الدليل و المسألة، و العنوان و البرهان، كما لا يخفى على من له براعة الاستهلال و البلاغة في مقتضى الحال.

قوله: «لا مجرّد لبس أحدهما لباس الآخر مع عدم قصد التشبّه».

أقول: بل الأظهر من التشبّه و التأنّث عموم تشبّه أحدهما بالآخر، سواء كان في خصوص التزيين أم في غيره، و سواء كان في خصوص الأفعال الخاصّة كملوطيّة الرجل و مساحقة المرأة، أو مجرّد الشكل و الصورة كحلق اللحى للرجل و الرأس للمرأة، أو في محض الكيفيّة و السيرة كتكشّف المرأة و تستّر الرجل، أو في محض اللباس و الحلية كلبس الرجل القناع و المرأة المنطقة، أو في محض التكلّم و اللهجة، أو في الكنية و التسمية كمخاطبة الرجل نفسه بخطاب المرأة

ص: 90

و بالعكس، أو تسمية الرجل باسم المرأة أو كنيتها و بالعكس، أو في محض المحبّة و الرغبة لكلّ منهما في عمل الآخر، من غير اعتبار التزيّن و لا التوصّل و لا القصد و لا العلم في موضوعه و لا في حكمه، سوى ما يقتضيه حديث الرفع امتنانا.

و الدليل على التعميم المذكور من حيث الموضوع و الحكم وجوه:

منها: كون اللبس و التشبّه و التأنّث كسائر الألفاظ موضوعة للمعاني الواقعيّة، الأعمّ من المقصود منه ترتّب الحرام و عدمه، و من المعلومة و عدمها، فلا مدخليّة لوصف التزيّن و لا للقصد و لا للعلم في صدق موضوعها عرفا و لا شرعا، و لا في انسحاب الحرمة إليها.

و منها: أن قوله عليه السّلام: «و نهى المرأة أن تتشبّه بالرجال في لباسها» (1) يدلّ بالفحوى و الأولويّة القطعيّة على حرمة التشبّه بهم فيما هو أشبه من اللباس، كالتشبّه بهم في الصورة أو السيرة، و بالإطلاق و مفهوم الموافقة أو بتنقيح المناط أو الإجماع المركّب و عدم القول بالفصل فيما يساوي التشبّه في اللبس، كالتشبّه في اللهجة و التسمية، أو فيما دونه كالتشبّه في الميل و الرغبة.

و منها: الاستقراء في الموضوعات العرفيّة و الشرعيّة المحرّمة، حيث لم يعثر المتتبّع فيها على ما يعتبر القصد أو العلم في شي ء منها على وجه الموضوعيّة، سوى ما كان من الأفعال المشتركة التي لا تتميّز إلّا بالقصد ممّا هو خارج عن محلّ الكلام، كالعقود التابعة للقصود. و أمّا قوله عليه السّلام: «كلّ شي ء طاهر حتى تعلم أنه قذر» (2) فإنما هو على وجه الطريقيّة و الامتنان بحديث الرفع. و أمّا قوله: «لا عمل إلا بالنيّة» (3) فالمراد بها القربة الخاصّة بالعبادة.


1- الوسائل 3: 355 ب «13» من أبواب أحكام الملابس ح 2.
2- الوسائل 2: 1054 ب «37» من أبواب النجاسات ح 4، و فيه: نظيف بدل طاهر.
3- الوسائل 1: 33 ب (5) من أبواب مقدّمة العبادات.

ص: 91

و منها: أن إناطة الشارع الحكيم حكم المحرّمات و المنهيّات بقصد الحرام دون غير القصد و قصد الغير ينافي الحكمة المحكمة و العلّة المنصوصة لكلّ منها بغير القصد، كتعليل حرمة الخمر بالإسكار، و الدم بالقساوة، و الميتة بالنجاسة، و الخنزير بالخباثة، و البول بالقذارة، و الطين بالمضرّة، و الإسراف و التبذير و القمار و الربا بالمفسدة، إلى غير ذلك من علل الشرائع و حكم المناهي و الموانع الآبية من التخصيص بالقصد و نحوه.

و منها: أنه لو اعتبر القصد فيها لزم خروج جميع المحرّمات عن الحرمة النفسيّة إلى الحرمة الغيريّة المقيّدة بصورة انضمام القصد الحرام لا غير، فيحلّ جميع المحرّمات النفسيّة- حتى الخمر و الزنا- بعدم قصد العنوان أو قصد العدم.

و منها: أنه لو كان القصد أو العلم شرطا أو شطرا في صدق موضوع المحرّمات لم يكن في رفعها عن الجاهل و المخطئ بحديث الرفع (1) امتنان، بل و لا صدق رفع، لارتفاع كلّ مشروط بارتفاع شرطه في نفسه لا برفع رافع، بل يكون رفع المرتفع في نفسه من تحصيل الحاصل المحال.

قوله: «بأن الظاهر من التشبّه صورة علم المتشبّه».

أقول: بل الأظهر ما عرفت من عموم الوضع و اللفظ، و عدم مدخليّة العلم و الجهل في موضوعه و لا في حكمه. مضافا إلى أن العلم الإجمالي منجّز للتكليف، و ليس بجهل و لا في حكم الجهل عقلا و لا شرعا، و إلّا لجاز ارتكاب كلّ من أطراف الشبهة المحصورة بالتدريج. بل جاز ما أورد عليه الفصول (2) من أن يتعمّد العامد بإخفاء درهمه أو ديناره في دراهم الغير فيتناول كلّا منها متدرّجا معتذرا بجهله الحرام، و كذلك يخفى حليلته في الأجنبيّات و يطأ كلّا منها معتذرا


1- الوسائل 11: 295 ب «56» من أبواب جهاد النفس و ما يناسبه.
2- الفصول الغروية: 362.

ص: 92

بجهله المحرّمة. بل جاز للخنثى أن تطأ جاريتها و توقع نفسها موطوءة لمولاها.

بل جاز للخنثى أن تتزوّج بكلّ من الذكر و الأنثى، معتذرا بجهله و عدم علمه بالحرام التفصيلي حين الفعل تدريجا.

لا يقال: إن استصحاب الحرمة في اللحوم و الفروج مانع من مجرى أصالة الحلّية و الإباحة في مشكوك الحلّية فيما نحن فيه.

لأنّا نقول اعتراضا: لو كان مانعا لمنع استصحاب حرمة الحرام المشتبه قبل الاشتباه عن ارتكاب كلّ شبهة محصورة.

و حلّا: بأن مانعيّته عند الخصم إنما هو قبل العلم الإجمالي بانقطاع استصحاب حرمة الحرام الواقعي و معارضته باستصحاب حلّية الحلال الواقعي قبل عروض الشبهة، و أمّا بعد عروضها فتعارضا [و] تساقطا، و يرجع في محلّهما إلى مقتضى الأصل الحاكم بالإباحة أو العقل الحاكم بالتحريم مقدّمة لتحصيل الواقع.

و من الفروعات المتفرّعة على هذا الأصل العليل- و هو اعتبار القصد و العلم التفصيلي بالحرام في تحريمه- توهّم بعض جواز نقل الأموات المستلزم للهتك المحرّم للمؤمن المحترم، من الانتفاخ و نشر الرائحة و الانفساخ، بقصد الاحترام لا الهتك.

بل و جواز نقلها بعد الدفن بقصد الأمانة لا الدفن و إن استلزم النبش المحرّم، مع تصريح السرائر (1) و بعض الأساتيد الأعلام بأنه من بدائع (2) الإسلام.

بل و جواز ضرب الطبول المحرّمة في جنب القبّة الرضويّة عليه آلاف سلام و تحيّة التي هي محلّ مختلف الملائكة، و إيذاؤهم و إيذاء الإمام عليه السّلام، و هتك


1- السرائر 1: 170.
2- كذا في النسخة الخطّية، و الصحيح: بدع، لأنها جمع البدعة، و أمّا البدائع فهي جمع البديعة.

ص: 93

الحرمات بقصد التعظيمات.

بل و جواز الكذب و الغناء و ضرب الطبول و الشيپور، و سائر المحرّمات المبتدعة من الشبيه و غيره، في مراثي سيّد الشهداء بقصد البكاء و الإبكاء لا الكذب و الغناء.

بل و من أعظم ما ابتلينا به من انطماس آثار مشايخنا الأعلام تجويز بعض المعاصرين حلق اللحى، و سائر البدائع (1) المبتدعة في تعزية سيّد الشهداء إذا قصد البكاء و الإبكاء دون التشبيه و الغناء. و هل هو إلّا الزمان الموعود بقوله عليه السّلام:

«سيأتي زمان لا يبقى من الإسلام إلّا اسمه، و من القرآن إلّا درسه، و من الإيمان إلّا رسمه» (2)؟!. يستحلّون الربا بالبيع، و الرشوة بالهديّة، و الخمر بالفقّاع و النبيذ، و بقصد التداوي و الاستشفاء، كاستحلال اليهود صيد السبت بالحيلة، و الحنفيّ نكاح المحارم بلفّ الحرير، و بيع الخمر بالاستنابة، و المالكيّ وطء الغلام بالمتعة، و التولّي من قبل الجائر بقصد التخفيف، و إعانة الجائرين و الظالمين بالدخول في أمرهم و سوادهم بقصد تعظيم شوكة الإسلام لا بقصد الظلم و الحرام. و من هنا هجروا الفرائض و السنن، و اتّبعوا الشهوات و الفتن، و الملاهي و المناهي في السّر و العلن.

و من أعظم ما ثلم به الإسلام بعد فقد أساتيدنا الأعلام تسليط طاغية الزمان الكفّار الخارجة على ثغور الإسلام، بحيث لم يبق للإسلام شأن و لا احترام.

و أعظم ثلمة حدثت بعد السقيفة على الإسلام أن السلطان عبد العزيز العثماني لمّا بلغ غاية الاقتدار طلب كتاب قانون الفرانسة الذي ابتدعه سفاؤهم،


1- انظر الهامش (2) في الصفحة السابقة.
2- أنظر جامع الأخبار للشعيري: 129، ثواب الأعمال: 301 ح 4.

ص: 94

و أجراه في جميع ممالكه على خلاف كتاب اللّٰه و سنّة نبيّه صلى اللّٰه عليه و آله، و لم ينكر عليه أحد من فقهائهم و لا وزرائهم، و لا من تخلّفه ممن بعده من سلاطينهم.

و في كلّ من هذه الحوادث العظيمة، و البدائع (1) الشنيعة، و الثلم المستحدثة، في أعمارنا القاصرة و أيّامنا الفاترة، من أقوى شواهد تصديق ما استحدثه السلف، و ابتدعه الأول، من تحريف الكتاب و السنّة، و هجر أهل الصواب و الملّة، و تغيير الوصيّة بالأذيّة، و من أصدق من اللّٰه حديثا حيث قال:

لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ (2)، سُنَّةَ اللّٰهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ* (3) وَ لَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللّٰهِ تَبْدِيلًا* (4)، و كفى بذلك عبرة لأولي الأبصار، و اقترابا للفرج و الانتظار، ليملأ الأرض قسطا و عدلا بعد ما ملئت ظلما و جورا.

[المسألة الثالثة التشبيب بالمرأة المعروفة المؤمنة المحترمة حرام]

قوله: «هذه الوجوه لا تنهض لإثبات التحريم، مع كونه أخصّ من المدّعي».

أقول: أمّا وجه عدم نهوضها لإثبات التحريم فناظر إلى أن الظلم و الإيذاء و الغيبة و التفضيح إنما هو ذكر النقص و العيب و الذمّ، دون ذكر المدائح و المحاسن المفروض.

و فيه: أن النقص و الظلم و الإيذاء و التفضيح الحاصل من ذكر المحاسن، بحسب الكيفيّة المتعارفة في أشعار التشبيب المسمّى بالفارسيّة التصنيف، أشدّ و أعظم و أقبح و أظلم من النقص و الظلم في الكميّة بالسبّ و القذف و اللعن و الطعن بالسنان، لأنه في النفوس و النصوص أبقى من بنيان مرصوص.

و ما أبعد ما بين ما قاله المصنف من عدم نهوض حرمة الإيذاء و الظلم


1- كذا في النسخة الخطّية، و الصحيح: بدع.
2- الانشقاق: 19.
3- الأحزاب: 38.
4- الأحزاب: 62.

ص: 95

و التفضيح لحرمة التشبيب، و بين ما ابتلينا بطوائف ممّن لو قلت له: رحم اللّٰه أمّك أو أختك أو زوجتك، قتلوك و ضربوك، و يستقبحون تسمية النساء حتى بالكنى، و إذا أرادوا التسمية عنها في خطاب أو كتاب سمّوها باسم ولدها موصوفا له بلفظ «بزرگ» يعني: الكبير، حتى إنهم يستقبحون إدخال الميتة العجوزة من القواعد في القبر من وراء الثياب و الكفن حتى عند الضرورة، كمثل بني أميّة يجتنبون من دم البعوضة و لا يجتنبون من قتل الحسين عليه السّلام.

و أمّا أخصّيّة الأدلّة المذكورة و أعميّتها من المدّعى فممنوع، لأن التشبيب غير المؤذي نادر لا يقدح خروجه بإطلاق مطلق التشبيب المدّعى. و حرمة الإيذاء بالنثر أيضا لا يقدح في تخصيص المدّعى بالشعر، لوضوح الحكم، و أن إثبات الشي ء لا ينفي ما عداه.

قوله: «من جهة اختلاف الوجوه المتقدّمة للتحريم».

أقول: و إن لم ينهض التفضيح و الإغراء من وجوه التحريم على حرمة التشبيب لمن لم يعرفها السامع، إلّا أن مثل الإيذاء و الغيبة كاف في النهوض على تحريمه.

لا يقال: إن الإيذاء و الظلم الحرام إنما هو الإيذاء و الظلم الفعليّ لا الشأنيّ.

لأنّا نقول: الإيذاء الشأني فيما نحن فيه كالغيبة و السرقة المخفيّة إنما هو فعليّ واقعيّ لا شأنيّ، إلّا من جهة وجود المانع من العلم به، لا من جهة عدم وجود المقتضي به.

قوله: «لم يحرم عليه الاستماع .. إلخ».

أقول: وجه عدم حرمة الاستماع و وجوب نهيه عن المنكر مبنيّ على أصالة الصحّة في فعل المسلم، و لكن مجراها إنما هو فيما له جهة صحّة متعارفة غير نادرة، مثل البيع غير الربوي بالنسبة إلى الربوي، بخلاف ما كان مبناه الفساد

ص: 96

أصالة و الجهة المصحّحة له على خلاف الأصل، كبيع الوقف و أمّ الولد و الكذب و الظلم و الغيبة و التشبيب، فإنه لا يحمل على الصحّة بمجرّد احتماله بعد المعارضة بالغلبة.

[المسألة الرابعة تصوير ذوات الأرواح حرام]

قوله: «و لا يحصل به تشبّه بحضرة المبدع تعالى».

أقول: عدم حصول التشبّه بحضرته تعالى في تصوير غير ذي الروح إن كان من جهة اختصاصه تعالى بخلق ذوي الأرواح دون غيرها من الشمس و القمر و الكواكب و الأشجار و الأزهار، ففيه منع واضح، فإن إبداع جميع المخلوقات من ذي الروح و غيره إنما هو من خصائص إبداعه و عجائب صنعه الخاصّ به تعالى.

و إن كان من جهة ما صرّح به من حصول تصوير غير ذي الروح بدون قصد التصوير أحيانا، ففيه أولا: عدم الفرق غالبا في اقتران حصول كلّ فعل بقصده، خصوصا التشكيل و التمثيل و لو لم يكن من ذي الروح.

و ثانيا: عدم اعتبار القصد في صدق موضوع التشكيل و التمثيل.

و ثالثا: لو سلّم اعتباره فلازمه اختصاص حرمة التمثيل و التصوير بالمقصود به التشبّه، و عدم حرمة غير المقصود به ذلك حتى من ذوي الأرواح.

و قد عرفت ما فيه من النقض و الإبرام، بل العمدة في مستند التفصيل بين ذي الروح و غيره هو النصوص لا غير.

قوله: «فتعيّن حملها على الكراهة دون التخصيص بالمجسّمة».

أقول: و المعيّن لحمل النهي عن مطلق المنقوش على الكراهة ليس إلّا عدم حرمة مطلق المنقوش، و هو قرينة صارفة لا معيّنة للحمل على الكراهة، مع أرجحيّة التخصيص من المجاز و لو بالمجسّم.

قوله: «فلو دعت الحاجة إلى عمل شي ء يكون شبيها بشي ء من خلق اللّٰه و لو كان حيوانا من غير قصد الحكاية فلا بأس .. إلخ».

ص: 97

أقول: إن كانت الحاجة الداعية إلى تشبيه حيوان مسوّغة شرعا للتشبيه الحرام، كضرورة أو إكراه أو رفع ضرر أو عسر منفيّ شرعا، كإقامة صورة جسم إنسان في الليل في المزارع و البساتين و الدور لتخويف السرّاق و السباع المفسدة و الحيوانات المؤذية عن الضرر و الإضرار، فهو مسوّغ له مطلقا و لو بقصد الحكاية. و إن لم تكن الحاجة الداعية مسوّغة له شرعا، كتصوير صورة الأباليس و الأجنّة لداعية إحراقها أو تقبيح منظرها أو ملاعبة الصبيان، أو تصوير صور الأنبياء و الملائكة لتعظيمها و تحسين منظرها، فلم يجز مطلقا و لو لم يكن بقصد الحكاية.

قوله: «و منه يظهر النظر فيما تقدّم عن كاشف اللثام».

[أقول:] أي: و من إناطة حكم حرمة التمثيل بقصد الحكاية يظهر النظر فيما تقدّم عن كاشف اللثام (1) من تعميم كراهة الصلاة في ذي التماثيل لذوات الأعلام.

و فيه أولا: إمكان منع النظر في تعميم الكراهة لذوات الأعلام بمنع استفادة التعميم إلى عموم التماثيل، بل إلى تنقيح مناط كراهة التماثيل في مطلق ما يشغل الإنسان و يلهيه النظر إليه في الصلاة، من نقوش كان الشاغل و الملهي أو من أعلام.

و ثانيا: لو سلّمنا استناد التعميم إلى عموم التماثيل فوجه النظر فيه إنما هو من جهة منع العموم و تخصيصه بغير الأعلام بحسب النصّ و الفتوى و الحكمة، لا من جهة عدم قصد الحكاية في الأعلام و قصدها في سائر النقوش، و إلّا لدار الحكم مدار القصد مطلقا حتى في ذي الروح.

قوله: «و ليس فيما ورد من رجحان تغيير الصورة بقلع عينها أو كسر رأسها دلالة عليه».


1- كشف اللثام 1: 194.

ص: 98

[أقول:] و ذلك إمّا من جهة كون الراجح هو التغيير الماحي للصورة لا مطلق التغيير. و إمّا من جهة عدم الملازمة بين رجحان التنقيص فيها و بين تجويز الناقص ابتداء، كما لا ملازمة بين جواز اقتناء ما تصوّر و حرمة عمل التصوير.

قوله: «ففي حرمته نظر، بل منع».

أقول: فيه أنه لو كان المانع منحصرا في مطلقات: «من مثّل مثالا (1) أو صوّر صورة» (2) لكان لمنع إطلاق المثال و الصورة على مثل الكفّ و القدم منه وجه، من دعوى الانصراف، و لكن في عموم مثل قوله عليه السّلام: «نهى أن ينقش شيئا من الحيوان» (3) «و نهى عن تزويق البيوت» (4) لتنقيش جزء من الحيوان لا مانع منه عرفا.

قوله: «هو قضاء العرف. فتأمّل».

[أقول:] لعلّه إشارة إلى أن قضاء العرف بالفرق المذكور إنما هو بين النفي و الإثبات المتعلّق بذي الأفراد، كالنكرة في سياق النفي و الإثبات، لا بذي الأجزاء من المركّب.

و فيه: منع الفرق، ألا ترى أن نهي الحائض عن الصلاة نهي عن الشروع في كلّ جزء من أجزائها و إن لم يتمّها، و عن قراءة العزائم نهي عن كلّ من أجزائها حتى البسملة، و كذلك عن المقامرة و المنازعة و المجادلة و المكالمة، بخلاف الأمر بالمركّب من الصلاة و الوقوف و المبيت، لا يتحقّق صدق الامتثال إلّا بإتمام الجزء الأخير من المجموع المركّب.

قوله: «الممنوع هو إيجاد الصورة، و ليس وجودها مبغوضا حتى يجب


1- الوسائل 2: 868 ب «43» من أبواب الدفن ح 1.
2- الوسائل 12: 220 و 221 ب «94» من أبواب ما يكتسب به ح 6 و 9.
3- الوسائل 12: 220 ب «94» من أبواب ما يكتسب به ح 6.
4- الوسائل 3: 560 ب «3» من أبواب أحكام المساكن ح 1.

ص: 99

رفعه .. إلخ».

أقول: الملازمة بين حرمة الشي ء و حرمة غاياته كالملازمة بين حرمة الشي ء و حرمة مقدّماته عقليّة.

و يمكن الاستدلال عليه بكلّ من الأدلّة الأربعة.

فمن الكتاب قوله تعالى حكاية عن الخليل عليه السّلام فَرٰاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْباً بِالْيَمِينِ فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ (1) فَجَعَلَهُمْ جُذٰاذاً (2). و قوله تعالى حكاية عن الكليم في العجل المصنوع لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفاً (3).

و من السنّة يكفي مثل قوله صلى اللّٰه عليه و آله في النبويّ المتقدّم (4): «و لا تدع صورة إلا محوتها» (5).

و من الإجماع استدلال الفقهاء على قبول الشهادة بوجوب أدائها، و على وجوب أدائها بوجوب تحمّلها، في قوله تعالى وَ لٰا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مٰا خَلَقَ اللّٰهُ فِي أَرْحٰامِهِنَّ (6)، و على وجوب الحذر بوجوب التحذير في آية النفر (7).

و من الاستقراء ما ترى من حرمة التخمير و وجوب إتلاف الخمر، و حرمة صياغة الأصنام، و آلات القمار، و الدفوف و الطبول و الملاهي، و أواني النقدين، و وجوب كرها و تضييعها، و حرمة كتابة كتب الضلال، و حرمة حفظها بعد الكتب، و حرمة إيجاد النجاسة في المسجد و وجوب رفعها، و حرمة الغصب و إبقاء


1- الصافّات: 93، 94.
2- الأنبياء: 58.
3- طه: 97.
4- لم يتقدّم منه «قدّس سرّه» و لكن سوف يأتي منه في ص: 102.
5- الوسائل 3: 562 ب «3» من أبواب أحكام المساكن ح 8.
6- البقرة: 228.
7- التوبة: 122.

ص: 100

المغصوب في يد الغاصب، و حرمة أكل الحرام و وجوب تهوّعه و تقيّئه بعد الأكل، بل و استبراء الجلل، و حرمة شروع الحائض في الصلاة و وجوب قطعها بعد الشروع، و حرمة إبداع بدعة و وجوب ردّها و ردّ من افتتن أو رضي بها، إلى غير ذلك من موارد الملازمة بين حرمة الشي ء و حرمة ما يترتّب عليه من الغايات.

و الموهم لمنع الملازمة أمران:

أحدهما: حرمة تصوير التماثيل، و ما ورد من عدم حرمة اقتناء ما يوطأ منها في الفرش و البسط (1).

و فيه: أنه لو سلّم ذلك فهو خروج عن الأصل بالنصّ، كخروج تصوير غير الروحاني عن عموم حرمة التصاوير بالنصّ (2).

و ثانيهما: ما ترى من أن حرمة بعض المقدّمات الفعليّة، من مثل ركوب الدابّة المغصوبة للتوصّل إلى مقصد صحيح، من حجّ أو جهاد أو فتح أو سبي حربي أو حمل ماء طهارة أو ساتر صلاة أو أداء دين أو خمس أو زكاة، لا تقتضي حرمة الغايات المرتّبة عليها بعد وجودها و حصولها، و لا يؤمر بإرجاع المحمول بعد الحصول و الوصول إلى محلّ الأصول و النكول عن القبول، و استرداد الأحمال و الأثقال و الكفّار المسبيّة و المستسلمة، بغير الدعوة و الطرق المشروعة من الإذن و الرخصة، إلى حالها الأصلي و محلّها الأولي.

و طريق دفع هذا الوهم أيضا أن يقال: إن لمثل ركوب الدابّة المغصوبة أو سلوك الطريق الممنوع فعلين متداخلين و إيجادين كلّيين، يستتبع كلّ منهما أثره الخاصّ به و غايته المرتّبة عليه. فالغاية المترتّبة على غصب الدابّة المركوبة إنما هو وصول الدابّة المغصوبة إلى المقصد، فيستتبعه حكم الغصب الموصل إليه في


1- الوسائل 3: 564 ب (4) من أبواب أحكام المساكن ح 2.
2- الوسائل 3: 560 ب (3) من أبواب أحكام المساكن.

ص: 101

المنع و وجوب الدفع إلى مالكها الأوّلي و محلّها الأصلي. و أمّا وصول الأثقال و بلوغ المآل إلى مقاصد الحلال- من الطهارة و الصلاة و الحجّ و الزكاة و سبي الكفّار و استسلام الأشرار- فهي من الغايات المترتّبة على طيّ المسافة الكلّية، فيستتبعها في المشروعيّة، و إن كانت في ضمن الطرق المحرّفة و الكيفيّة الممنوعة.

و لكن لا يخفى أن رفع هذا التوهّم بذلك الجواب- كرفع توهّم امتناع اجتماع الأمر و النهي في محلّ واحد- مبنيّ على ما هو الظاهر المشهور المنصور من تعلّق الأحكام بالكلّيات لا الأفراد إلّا من باب المقدّمة.

قوله: «لأن عمل الصور ممّا هو مركوز في الأذهان .. إلخ».

[أقول:] و فيه أولا: أن السؤال عن التصوير لا الصورة و التمثيل لا المثال و التنقيش لا المنقوش بعيد عن حال السائل الذي هو من أصحاب الإجماع، و أجلّ و أعلم من كان من أصحاب الصادقين، الذي لا يخفى على من دونه حرمة العمل بخلاف حرمة المعمول، بل و بعيد عن بلاغة السائل الذي هو محمد بن مسلم الثقفي الكوفي الذي هو أبلغ أصحاب الصادقين، إذ لو كان السؤال عن نفس العمل لا المعمول لسأل عن التصوير و التمثيل لا الصورة و المثال. فالسؤال عن التماثيل ظاهر في المثال و الصورة لا التمثيل و التصوير، كما أن السؤال عن الخمر في قوله تعالى يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَ الْمَيْسِرِ (1) ظاهر في السؤال عن نفسهما لا تصنيعهما.

و ثانيا: لو سلّمنا عدم ظهوره في السؤال عن نفس الصورة لا التصوير، فلا أقلّ من أن حذف المتعلّق مضافا إلى ترك الاستفصال في جواب السؤال يفيد عموم حرمة كلّ من التمثيل و المثال.


1- البقرة: 219.

ص: 102

قوله: «إضافيّ بالنسبة إلى هذين القسمين، يعني: لم يحرم من القسمين إلّا ما ينحصر فائدته في الحرام .. إلخ».

أقول: فكأنّه قال: لم يحرم من صنعتي التخمير و عمل السيوف و السكّين بالخصوص إلّا ما يحرم فائدته، كالتخمير بالنسبة إلى الخمر لا عمل السيف بالنسبة إلى السيف بالخصوص، لا أن كلّ ما حرم صنعته بالعموم حرم فائدته بالعموم.

هذا، و لكن فيه: أن الحصر الإضافيّ المذكور تخصيص في عموم الحصر بلا قرينة مخصّصة، بل القرينة المعمّمة له موجودة، لا تخفى على من راجع أحكام الصناعات و أقسامها من رواية تحف العقول (1) من جهات عديدة، من جهة عموم لفظ الحصر، و عموم انسياقه سياق أنواع البرابط و المزامير و الشطرنج و كلّ ملهوّ به و الصلبان و الأصنام، و عموم ذيله بقوله: «و جميع التقلّب فيه من جميع وجوه الحركات كلّها» (2) حيث إنه ظاهر في عموم المصنوع لا الصناعة، و عموم صدره بذكر صنوف التصاوير ما لم يكن مثل الروحانيّ أيضا، ممّا يقتضي دخول الصور المنقوشة في عموم ذيله: «إنما حرّم اللّٰه الصناعة التي هي حرام كلّها، التي يجي ء منها الفساد محضا .. إلخ» (3). مضافا إلى وروده في مساق تعليل حرمة الغايات بحرمة الصناعات، و مورد إعطاء القاعدة و الضابطة الكلّية.

قوله: «و أمّا النبويّ (4) فسياقه ظاهر في الكراهة، كما يدلّ عليه عموم الأمر بقتل الكلاب، و قوله عليه السّلام في بعض هذه الروايات: و لا قبرا إلا


1- تحف العقول: 335.
2- تحف العقول: 336.
3- تحف العقول: 335.
4- الوسائل 3: 562 ب «3» من أبواب أحكام المساكن ح 8.

ص: 103

سوّيته .. إلخ» (1).

أقول: فيه أولا: منع سياقه في الكراهة، لأن المكروه اقتناؤه من الكلاب لا يجوز قتله، فالأمر بقتله قرينة تخصيصه بالموذي و العقور المحرّم اقتناؤه.

و أمّا تسوية القبر فليس إلّا في بعض الروايات، مضافا إلى عدم استبعاد حرمته بالنظر إلى كونه بدعة.

و ثانيا: لو سلّمنا سياق الكراهة، فليس بقرينة صارفة، لظهور الأمر في الوجوب.

قوله: «و أمّا رواية عليّ بن جعفر (2) فلا تدلّ إلّا على كراهة اللعب بالصورة».

أقول: بل الظاهر من «لا يصلح»: لا يجوز، لا الكراهة، و من اللعب بها هو النظر إليها و اقتناؤها من حيث كونها تماثيل لا من حيث اللعب بها، بقرينة عدم كونها من الملاعب و الملاهي، كالدفوف و الطبول و المزامير.

نعم، هي و إن كانت من الملهيات إلّا أن كونها من الملهيات إنما هو باعتبار النظر إليها لا اللعب بها.

قوله: «و أمّا ما في تفسير الآية فظاهره رجوع الإنكار إلى مشيّة سليمان .. إلخ».

أقول: بل الأظهر من قوله: «ما هي بتماثيل الرجال و النساء» (3) رجوع الإنكار إلى نفس المعمول لا العمل، و لو بقرينة أن الظاهر من يَعْمَلُونَ لَهُ (4) باعتبار أن المعنى لشوكة سلطنته و عزّة مملكته و ملكه إنما هو المعمول لا العمل.


1- انظر الهامش (4) في الصفحة السابقة.
2- الوسائل 12: 221 ب «94» من أبواب ما يكتسب به ح 10.
3- الوسائل 3: 561 ب «3» من أبواب أحكام المساكن ح 4 و 6.
4- سبأ: 13.

ص: 104

قوله: «و أمّا الصحيحة (1) فالبأس فيها محمول على الكراهة لأجل الصلاة أو مطلقا. [مع دلالته على جواز الاقتناء و عدم وجوب المحو] (2).

أقول: حمل البأس على الكراهة مجاز بلا قرينة. و كذا التخصيص بكونها لأجل الصلاة تخصيص بلا مخصّص.

قوله: «مع دلالته على جواز الاقتناء و عدم وجوب المحو».

[أقول:] فيه: أن دلالته على ذلك إنما هو بعد التغيير الماحي للصورة لا مطلقا، كما يشهد عليه صريح الخبر الأخير: «فغيّر رأسه فجعل كهيئة الشجر» (3).

قوله: «و أمّا ما ورد من أن عليّا عليه السّلام لم يكن يكره الحلال» (4).

أقول: الاستدلال بالحديث الأوّل، أي: بأن عليّا كان يكره الصور في البيوت (5)، معنى (6) عن ضميمة لم يكن يكره الحلال حتى يقال بعدم دلالة الضميمة، لأن إطلاق الإكراه على الحرام في عرف الشرع و القدماء إلى زمان المتأخّرين اصطلح على ما يقابل الحرمة، فلا يحمل عليه الإطلاق.

قوله: «و أمّا رواية (7) الحلبي فلا دلالة لها».

أقول: دلالتها إنما هو ظاهر لفظ «أمرت».

قوله: «فهي معارضة بما هو أظهر و أكثر».


1- الوسائل 3: 564 ب «4» من أبواب أحكام المساكن ح 3.
2- ما بين المعقوفتين وردت في النسخة الخطّية، و الظاهر أنها زائدة من سهو قلمه الشريف «قدّس سرّه»، لأنه علّق عليها بعد هذه التعليقة.
3- الوسائل 3: 565 ب «4» من أبواب أحكام المساكن ح 7.
4- الوسائل 12: 447 ب «15» من أبواب الربا ح 1.
5- الوسائل 3: 561 ب «3» من أبواب أحكام المساكن ح 3.
6- كذا في النسخة الخطّية، و العبارة مشوّشة جدّا، و لعلّ المراد: لا بضميمة «لم يكن يكره الحلال» ..
7- الوسائل 3: 565 ب «4» من أبواب أحكام المساكن ح 7.

ص: 105

أقول: أما الأكثريّة فممنوعة، بل معكوسة، كما لا يخفى على من راجع نصوص الملازمة، فإنها الأكثر من نصوص المنع.

و كذلك الأظهريّة في نصوص منع الملازمة ممنوعة، بل معكوسة، فإن من أمعن النظر فيها وجدها بين ما دلّ على نفي البأس عن خصوص الصلاة في بيوت التماثيل، لا عن اتّخاذ التماثيل في البيوت الذي هو المدّعي، كصريح صحيحتي الحلبي (1) و عليّ بن جعفر (2) و ظاهر روايتي أبي بصير (3)، فإنها بقرينة الفرق بين نفي البأس عمّا يوطأ في الفرش و البسط دون ما نصب على الحائط و السرير- الراجع إلى الفرق بين ما يكون النظر إلى شاغلا ملهيا عن الصلاة كالمنصوب، و ما لا يكون ملهيا كالموطوء في الفرش- ظاهرة في تخصيص نفي البأس عن الصلاة في بيت التماثيل لا عن التماثيل، لكون الفرق المذكور فارقا لحكم الصلاة لا لحكم التماثيل، فلا ربط لها بالمدّعى و هو اتّخاذ التماثيل. و بين ما دلّ على المنع من التماثيل حتى ينزع الستر بها أو يقطع رءوسها و يفسدها، كالخبرين الآخرين (4)، و هما على خلاف المدّعى أدلّ منه على المدّعى. و لو سلّم فغاية الأمر دلالتها على وجود التماثيل في بيوت الصلاة أو مطلق البيوت، و هو أيضا أعمّ من المدّعى و هو جواز اتّخاذها فيه، إذ لا ملازمة بين وجود الممنوع و الرضا به و إمضائه، كما أن وجود الكفرة و الأصنام في بيوت الأنبياء و المسجد الحرام لا يدلّ على الرضا و الإمضاء.


1- الوسائل 3: 461، 463 ب «32» من أبواب مكان المصلي ح 2 و 10.
2- الوسائل 3: 461، 463 ب «32» من أبواب مكان المصلي ح 2 و 10.
3- الوسائل 3: 564 ب «4» من أبواب أحكام المساكن ح 2، و ج 12: 220 ب «94» من أبواب ما يكتسب به ح 4.
4- الوسائل 3: 321 ب «45» من أبواب لباس المصلي ح 20، و ص 463 ب «32» من أبواب مكان المصلي ح 12.

ص: 106

قوله: «و منه يظهر أن ثبوت البأس في صحيحة زرارة (1) السابقة مع عدم تغيير الرءوس إنما هو لأجل الصلاة».

أقول: ما أبعد بين دعوى المصنف ظهور النصّ المانع من نفس التماثيل في المنع عن الصلاة في بيت التماثيل، و بين دعوى ظهور النصوص (2) المصرّحة بجواز الصلاة في بيت التماثيل في جواز اقتناء التماثيل، فإن كان النصّ المثبت للبأس في التماثيل لأجل الصلاة لا التماثيل، فلتكن نصوص نفي البأس عن الصلاة في بيت التماثيل أيضا لأجل الصلاة لا التماثيل بالطريق الأولى.

و إن كان نصوص نفي البأس عن الصلاة في بيت التماثيل مع كثرتها و صراحتها لأجل التماثيل لا لأجل الصلاة، فليكن النصّ المثبت للبأس في التماثيل مع وحدته و صراحته لأجل التماثيل لا الصلاة بالطريق الأولى أيضا.

[المسألة الخامسة التطفيف حرام]

قوله: «فإن جرت المعاوضة .. إلخ».

أقول: و صور المسألة بحسب الاستقراء أربعة، لأن المعاوضة بين المطفّفين إمّا على الموزون الكلّي، أو الشخصي، أو الشرطي، أو الوصفي.

و لا إشكال في صحّة الأول، و لا في بطلان الثاني، لعدم مانعيّة التطفيف الشخصي و النقيصة الفرديّة الربويّة من صحّة الكلّي، و مانعيّته من صحّة الشخصي.

و إنما الإشكال في الأخيرين. و الأقوى رجوع الشرطي إلى الكلّي في الصحّة، و ثبوت خيار تخلّف الشرط، و الوصفيّ إلى الشخصيّ في الفساد و عدم الصحّة، للزيادة الربويّة.

و أمّا قوله: «و يمكن ابتناؤه على أن لاشتراط المقدار مع تخلّفه قسطا من


1- الوسائل 3: 564 ب (4) من أبواب أحكام المساجد ح 3.
2- الذي قد تقدّم منها الأحاديث في ص: 105.

ص: 107

العوض أم لا، فعلى الأول يصحّ، دون الثاني».

[أقول:] ففيه أولا: فساد المبنى المذكور و عدم صحّته شرعا، لأن الأمور الاعتباريّة كالشرط و الأجل ممّا لم يعتبر في إزائها شرعا و لا عقلا قسط من الثمن الخارجي، و لا ممّا هو من سنخه من الأمر الاعتباري، فهي في حكم العدم الصرف، لا يترتّب على وجودها و انضمامها إلى المعاملات الربويّة ما يترتّب على وجود الأشياء الواقعيّة و انضمامها إلى المعاملة الربويّة من التصحيح و الإصلاح.

و لهذا كان انضمام كلّ شي ء- و لو شقّ ثمرة- من الأشياء الواقعيّة الخارجيّة إلى الطرف الناقص من المعاملات الربويّة مصلحا لفساده و مصحّحا لبطلانه، لما في إزائه قسط من الثمن، بخلاف انضمام الأمور الاعتباريّة من الشرط و الأجل و إن بلغ ما بلغ في الكثرة، لا يصلح فساده و لا يصحّح بطلانه، و لا يوجب ضمانه لا بمثله و لا بغيره. و لهذا لو غصب شيئا من النقدين في مدّة مديدة لم يلزم الغاصب بعد ردّه بضمان مثل المدّة أو قيمتها.

لا يقال: لو لم يكن للأجل قسط من الثمن لم يجز بيع الشي ء نسيئة بأزيد من بيعه نقدا.

قلنا: صحّة الزيادة ليست لأجل كونها في إزاء الأجل، بل لو جعلت في إزائه فسد البيع قطعا، و إنما هو من جهة جعل مجموع الثمن في إزاء تمام المثمن لا الأجل.

و أمّا قولهم: «للأجل قسط من الثمن» فإنما معناه المبالغة المستفادة من الشرع من أن الزيادة الاعتباريّة الحكميّة في حكم الزيادة الحقيقيّة، لكن لا في تصحيح الربا و إصلاح فساده كما فيما نحن فيه، بل في إيجاد الربا و إيجاب فساده.

و ثانيا: لو سلّمنا صحّة المبنى المذكور، لكنّه لا يصحّح المعاملة الربويّة

ص: 108

و لا يصلح فساده الشرعي قطعا، لصدق موضوع الربا و الزيادة عرفا، و عموم حرمته شرعا حتى للزيادة الاعتباريّة الحكميّة، و الاقتصار على المتيقّن من تخصيصه نصّا، و هو انضمام الأشياء الواقعيّة إلى طرف النقيصة، لا الأمور الاعتباريّة و الزيادة الحكميّة.

و ثالثا: لو سلّمنا أن للأجل قسطا من الثمن و أن انضمامه إلى طرف النقيصة مصلح لفساده، و لكن لا نسلّم أن لاشتراط المقدار مع فرض تخلّفه قسطا من الثمن، و مصلحا لفساد الزيادة الربويّة، للفرق بين انضمام الأجل الممدود و الشرط المتخلّف، حيث يمكن جبران النقيصة الحقيقيّة بضميمة الأجل الممدود عرفا و إن لم يكتف بها شرعا، بخلاف انضمام اشتراط الكمال و التماميّة مع فرض عدمها في طرف النقيصة، فإنها و إن كانت زيادة لفظيّة اعتباريّة إلّا أنها في المعنى تزيد في النقيصة الذاتيّة نقيصة تخلّف الشرط، فكيف يمكن تداركها الزيادة الربويّة و إصلاح فسادها؟! و رابعا: لو سلّمنا تصحيح المبنى المذكور للشرطيّ من المعاوضة الربويّة لصحّحت الوصفيّ منها، بل و لزم تصحيح المؤجّل و المؤقّت من جميع المعاملات الربويّةانضمام أجل ممدود أو وقت إلى طرف النقيصة بالطريق الأولى، و اللازم باطل بالإجماع، فالملزوم مثله.

[المسألة السادسة التنجيم حرام]

قوله: «بل يجوز الإخبار بذلك إمّا جزما .. إلخ».

أقول: بل يجوز الإخبار عن الأوضاع الفلكيّة المسمّى بالنجوم لا جزما و لا ظنّا بوجه من الوجوه، إلّا على وجه النقل ما لم يستلزم الإغراء بالجهل، فضلا عن الإخبار عن أحكامها من الشرّ و الخير و السعد و النحس، و فضلا عن جواز القبول و الحجّية و الاعتماد عليها، و فضلا عن جواز الاعتقاد بها و ترتيب أحكام الصدق عليها، و ذلك لوجوه من النقل و العقل

ص: 109

منها: أن الإخبار عنها على غير وجه النقل رجم بالغيب، و إخبار عن الواقع بالوهم و الريب، و هو نوع من الكذب و العيب، كسائر الإخبارات غير المستندة إلى الحسّ كالمسموعات و المحسوسات، و لا إلى الحدس الناشئ عن مبادئ محسوسة، كالإخبار عن الملكات النفسيّة من مثل العدالة و الطبابة و الاجتهاد، بل المستندة إلى الأسباب الوهميّة و الخياليّة الصرفة التي لا تفيد لمتعارف الناس الأصحّاء المعتدلين المزاج السالمين عن مرض الإعوجاج إلّا صرف الوهم و الخيال، كقطع القطّاع و ظنّ الظنّان المستند إلى السحر و الشعبدة و الرمل و الجفر و الفال و القيافة و السكر و النوم و القمار و الكهانة، ممّا لا ينبغي لعاقل أن يستند إليه أو يعتمد عليه إلّا على وجه نقل الأكاذيب و الأعاجيب، إذ ليس لغير علام الغيوب سبيل و لا معرفة و لا دليل إلى الإخبار عن وراء الجدار فضلا عن أحوال الفلك الدوّار، و لا يدّعي من الفنون ما لا تراه العيون إلّا مجنون أو مأبون، كما قال تعالى إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلّٰا إِنٰاثاً (1) الآية.

و منها: أنه لو جاز الإخبار عن أوضاع الفلك الدوّار لوجب ترتيب الآثار، إذ لو كان لجوازه مقتضى كحرمة الكتمان وجب، و إلّا فلم يجز، لقوله عليه السّلام في جواب ما حقّ اللّٰه على العباد؟: «أن يقولوا ما يعلمون، و يكفّوا عمّا لا يعلمون» (2).

و إذا وجب الإخبار وجب القبول و ترتيب الآثار، من الصوم و الصلاة و الحجّ و الإفطار و أحكام العيدين و صلاة الخسوفين، و إلّا للغا الإخبار، و خرج عن المضمار، و اللازم باطل فالملزوم مثله.

و منها: عموم النصوص المستفيضة بل المتواترة المانعة من التنجيم مطلقا، من جميع الوجوه، قولا و فعلا، و إخبارا و اعتقادا، و تعليما و تعلّما، و استحلالا،


1- النساء: 117.
2- الوسائل 18: 112 ب «12» من أبواب صفات القاضي ح 4.

ص: 110

بالنصّ و الظهور و السياق، و جميع وجوه الدلالات، كقوله عليه السّلام: «المنجّم ملعون، و الكاهن ملعون، و الساحر ملعون» (1) و أنه «كافر كذّاب» (2) و أن «كتابه يحرق» (3).

و قوله عليه السّلام في ديوانه:

خوّفني منجّم أخو خبل تراجع المرّيخ في بيت الزحل

فقلت:

دعني من أكاذيب الحيل المشتري عندي سواء و زحل (4)

و منها: اتّفاق النصوص و الفتاوى على أن المعتمد على حساب التنجيم بالطلوع و الغروب و الزوال و الهلال و الكسوف و الخسوف في الصوم و الصلاة و الإفطار و الحج استوجب الحدّ و التعزير، بل الارتداد و القتل لو استحلّه، لعموم قوله عليه السّلام: «من أحلّ حراما و حرّم حلالا فقد خرج عن الإسلام» (5). و قوله عليه السّلام: «من قال للنواة حصاة، أو للحصاة نواة، و دان به فقد خرج عن الإسلام» (6). و لو كان المنجّم عادلا، و إن بعد فرض اجتماع العدالة معه، بل و لو كان جازما، بل و لو بالجزم المركّب، لأنه جزم في غير محلّه كالجهل المركّب، لم يعذر فيه الجاهل و المخطئ قطعا، و إلّا لكان الجازم بالباطل من جميع الكفّار- خصوصا الجازم بدين الآباء- معذورا، و هو باطل بالإجماع و الضرورة.

و منها: الاستقراء التامّ الحاصل للمتتبّع من كثرة خطئهم و اختلافهم، و تخطئة بعضهم لبعض في كلّ وضع من أوضاع الأفلاك من حيث الكمّ و الكيف،


1- الوسائل 12: 103 ب «24» من أبواب ما يكتسب به ح 7.
2- الحديث ملفق من حديثين، انظر نهج البلاغة: 105 الخطبة 79.
3- الوسائل 8: 268 ب «14» من أبواب آداب السفر إلى الحج ح 1.
4- ديوان الامام علي عليه السّلام: 109.
5- الوسائل 13: 164 ب «3» من أحكام الصلح ح 2، نقلا بالمعنى.
6- الوسائل 18: 92 ب (10) من أبواب صفات القاضي ح 13، نقلا بالمعنى.

ص: 111

بحيث يكون الاعتماد على كلّ منها ترجيحا بلا مرجّح، و إن كان الاختلاف يسيرا و قليلا.

و منها: ما شاهدنا من أول عمرنا إلى الحين من إخبار المنجّمين المخصوصين بكلّ من السلاطين، بأن الحركات الفلكيّة في هذه السنة تدلّ على الصحّة و السلامة، و القوّة و العافية، و الإقبال و الغلبة لكلّ من السلاطين و عساكرهم و ممالكهم، و مع ذلك كثيرا ما يتّفق العكس و الضدّ، و خوارق العادات و حدوث الحوادث العظيمة، من الطاعون و الوباء، و القحط و الغلاء، و الشدائد و الغناء، و الموت و العناء، و الكرب و البلاء، إلى ما لا يعدّ و لا يحصى، من اتّفاق أكل الناس بعضهم بعضا، و بلوغ الموت في الناس إلى حدّ الفناء. حتى شاهدنا هلاك كثير من الدول و السلاطين، و ملوك الأرضين، و استخلاف آخرين، على عكس إخبار المنجّمين لهم بالغلب و التمكين، و الأمن و التأمين، و الإقبال و التسكين. حتى إنّي سمعت علّامة أساتيدنا الأعلام- مع كمال مهارته و تبحره في علم النجوم- كان يخطّئهم، حاكيا عن السيّد الجزائري أن ديدن علماء العصر أنهم إذا أرادوا الحسنى من الشروع في شي ء أو سفر سألوا المنجّمين في ذلك، فكلّما أخبر المنجّمون به خالفوهم فيه، فرأوا الحسنى و الظفر فيه لا زال.

و منها: أن قول المنجّمين في كلّ واقعة و حكم معارض و مرجوح بتكذيب المخبر الصادق بالعموم و الخصوص، و الكلّية و الجزئيّة، و الالتزام و الملازمة.

أما تكذيبهم بالعموم و الكلّية ففي مثل قوله صلى اللّٰه عليه و آله: «من صدّق المنجّم فقد كذّب القرآن و الرسول» (1).

و أمّا بالخصوص و الجزئيّة، ففي خصوص هلال الصوم و العيدين ورد


1- الوسائل 12: 104 ب «24» من أبواب ما يكتسب به ح 11، نقلا بالمعنى.

ص: 112

النصوص بالمنع عن التظنّي و الحساب بقوله عليه السّلام: «صم للرؤية و أفطر للرؤية» (1) و للّٰه درّة من ضابط كلّي. و هكذا في خصوص الحركة و المسافرة ورد المنع من الاعتماد بقول المنجّم، كما لا يخفى على من راجع نصوص الباب (2).

و أمّا تكذيبهم بدلالة التعريض و الالتزام فبوجوه:

منها: ما نراه بالحسّ و الوجدان من اختلاف رؤية الهلال في النقص و الكمال، بواسطة اختلاف كيفيّة سيره من حيث السرعة و البطء، و لازمة اختلال الحساب في جميع الأبواب من حيث التسبيب و الأسباب، لأن أوضاع النجوم و أحكامها مبنيّة على إدراك كنه مقادير حركات النيّرين و أحوالها، من حيث الكيفيّة و الكميّة و الانفراد و الاجتماع و الافتراق و التركيب مع أحوال سائر الكواكب، و من المحسوس المعلوم عدم إدراك غير المعصوم على كنه حقيقة مقادير سيرها و أحوالها.

مع أن المحسوس لنا من مقادير سيرها و أحوالها و صفاتها بآلات الرصد و الزيج إنما هو على قدر حسّنا القاصر الفاتر في الظاهر، لا على قدر ما هي عليها في الواقع للحاضر الناظر. بل لم يبلغ المحسوس الظاهر بالنسبة إلى الواقع من أحوالها إلّا بمقدار النم (3) من أليم.

ألا ترى انّ حرارة الشمس المحسوسة لنا في الأرض من علو السماء الرابعة أعظم من حرارة النار بما لا يحصيه إلّا علّام الغيوب، فكيف يحيط به غيره؟! و هكذا مقدار سير فلك الأفلاك لا يحيط به إلّا خالق الأفلاك.

بل و يضاف إلى الجهل و العجز عن إدراك كنه مقادير أحوالها المفردة الجهل و العجز عن أحوالها المركّبة، من الاجتماع و الاقتران و الاتّصال، و سائر الأوضاع


1- الوسائل 7: 182 باب «3» من أبواب أحكام شهر رمضان.
2- الوسائل 8: 268 ب «14» من أبواب آداب السفر إلى الحج و غيره.
3- كلمة فارسيّة تعطي معنى: القطرة. و اليمّ: البحر.

ص: 113

و الأحوال الدخيلة قطعا في أوضاعها و خواصّها و تأثيراتها و أحكامها، كما يصدّقه قوله عليه السّلام: «إن كثيره لا يدرك، و قليله لا ينتج» (1).

و من جملة ما يستلزم اختلال نظم الحساب و اطّراده و كذب المنجّم نصوص ردّ الشمس على سليمان عليه السّلام لمّا توارث في الحجاب قال عليه السّلام: «ردّوها عليّ» (2)، و على يوشع النبيّ عليه السّلام و على أمير المؤمنين مرّتين (3). و نصوص أن الجمعة أقصر الأيّام وقتا و أسرعها سيرا لتعذيب الكفّار به، كردّ الشمس في كلّ يوم إلّا يوم الجمعة، كما في السماء و العالم عن الكافي عن الرضا عليه السّلام: «أن اللّٰه تعالى يجمع أزواج المشركين تحت عين الشمس، فإذا ركدت الشمس عذّب اللّٰه أرواح المشركين بركود الشمس ساعة، فإذا كان يوم الجمعة لا يكون للشمس ركود، رفع اللّٰه عنهم العذاب لفضل يوم الجمعة، فلا يكون للشمس ركود» (4). و من البيّن أن لازم كلّ ذلك تكذيب جميع مبادئهم و فساد مبانيهم من اطّراد نظم الحساب و مقادير سير الكواكب و أحوالها و أوضاعها المفردة و المركّبة من الاتّصال و الاقتران و الاجتماع و الافتراق.

و ممّا يستلزم كذبهم أن اطّراد صدقهم في حسابهم و إخبارهم عن تأثير الكواكب و خواصّها يستلزم بطلان إعجاز الأنبياء في أخبار المغيّبات و إيجاد خوارق العادات، من إحياء الأموات و إبراء الأكمه و الأبرص و الغلب و العطب، لاستناد ذلك إلى تأثير الكواكب و فنون العلم و المهارة العادية الحاصلة لكل من ارتاض في تحصيلها، كالسحر و الشعبدة و الكهانة و الطبّ و الحساب و الهندسة، و اللازم باطل [في] كلّ الشرائع و الملل، فالملزوم مثله.


1- الوسائل 12: 101 ب «24» من أبواب ما يكتسب به ح 1، مع اختلاف.
2- لم نعثر عليه في مظانه.
3- البحار 58: 242 ح 22.
4- الكافي 3: 416 ح 14.

ص: 114

و ممّا يستلزم كذبهم و بطلانهم اتّفاق نصوص المعصومين على انحصار سبب الخسوفين و الزلازل- كسائر الأسباب المخوفة- في كثرة المعاصي المسبّبة لانطماس النيّر في بحر فلكه، و حيلولة الفلك بينه و بين الأبصار بأمر الملائكة الموكّلين عليه، كما يشهد عليه الأمر بالفزع و الجزع و الصلاة و الدعاء لردّهما و كشفهما (1)، لأنهما من أعظم آيات العظمة و النعم الجسيمة، فإذا بلغت الذنوب إلى حدّ الكثرة توجّهت النقمة إلى انطماس النعمة في بحر فلكه، على عكس ما زعمه المنجّمون من أن سبب الخسوف حيلولة الأرض للقمر و الكسوف حيلولة القمر للشمس. و العقل البديهي حاكم على قبح ترجيح المرجوح و هو تصديق مثل المنجّم و الكاهن و الساحر الكاذب من النفوس الشريرة، و تكذيب المخبر الصادق من النفوس الطاهرة القدسيّة.

فإن قلت: لو لم تكن الحيلولة سبب الخسوفين فمن أين يعرف الحال بها في البين؟

قلت: حصول معرفة الكسوفين بالحيلولة في البين لا يقتضي سببيّة الحيلولة للكسوفين، و لا ينافي كون الحيلولة أو ما يؤدّي إليها من العلامات المقارنة علامة لسبب الخسوفين، و هو انغماس النيّرين في بحر الفلك، لا أنها نفس السبب المخسف، كما أن طلوع النجم المغربي علامة مقارنة لغروب الشمس، لا أنه سبب غروبها و أن غروبها بسبب حيلولته، و كما أن سرعة النبض و حرارة الملمس علامة مقارنة للحمى، لا أنهما سبب الحمى، بل السبب لها هو تعفّن الأخلاط و حيلولته.

فإن قلت: لو كان سبب الخسوفين كثرة المعاصي و عظمها لا الحيلولة، فما وجه اختصاص الخسوف بمنتصف الشهر و الكسوف بآخره، مع اشتراك الأزمنة


1- من لا يحضره الفقيه 1: 340 ح 1، البحار 26: 10 ح 2.

ص: 115

كلّها في كثرة المعاصي؟ فما وجه اختصاص الخسف ببعضها دون بعض؟

قلت: وجهه أنه لمّا كان كلّ من الوقتين هو منتهى كمال كلّ من النيّرين الأعظمين، و أن منتهى عظم المعاصي و اللمم عند منتهى كمال النعم، و أن منتهى رفع القلم و تأخير آثار النقم عند انتهاء أمد الكرم و حيلولة الأجل و الرقم، اختصّ الخسوفان، بحسب الغالب في الوقتين على ما تراه في البين.

و ممّا يستلزم أيضا كذب المنجّمين و اختلاط الحساب عليهم، و عدم اطّراد تخمينهم، ما تواتر في الأخبار، و اشتهر في الآثار، و دلّ عليه العقل و الاعتبار، من كتب الخاصّة و العامّة، كما في البحار وقوع الكسوف و الخسوف يوم عاشور و ليلته (1)، حتى بدت الكواكب فيها نصف النهار، على ما رواه البيهقي (2) و غيره، و يوم وفاة الخليل عليه السّلام (3) في عاشر الشهر (4) أيضا. و أن آيتين تكونان قبل قيام القائم عليه السّلام لم تكونا منذ هبط آدم عليه السّلام: كسوف الشمس في نصف رمضان، و القمر في آخره (5).

قال الشهيد في الذكرى في جملة فروع أحكام صلاة الكسوف: «الرابع: لو جامعت صلاة العيد، بأن تجب بسبب الآيات أو بالكسوفين، نظرا إلى قدرة اللّٰه تعالى و إن لم يكن معتادا» (6).

و عن الفقيه: «إن الذي يخبر به المنجّمون فيتّفق على ما يذكرونه ليس من هذا الكسوف من شي ء، و إنما يجب الفزع فيه إلى المساجد و الصلاة لأنه آية تشبه


1- البحار 91: 154.
2- السنن الكبرى 3: 37.
3- كذا في النسخة الخطّية، و المراد بالخليل إبراهيم بن رسول اللّٰه صلى اللّٰه عليه و آله، انظر الهامش (2) هنا.
4- السنن الكبرى 3: 36.
5- البحار 58: 153.
6- الذكرى: 246.

ص: 116

آيات الساعة» (1).

و في البحار لمّا نقل تفصيل الفلاسفة في حصر سبب الكسوف في حيلولة القمر بين الشمس و الأبصار، و سبب الخسوف في حيلولة الأرض، أجاب بوجوه:

منها: أن هذه مقدّمات حدسيّة ظنية معارضة بالمثل، و إمكان أن تكون هذه الاختلافات لجهة أخرى، كما قال ابن هيثم في اختلاف تشكّلات القمر:

يجوز أن يكون ذلك لأن القمر كرة مضيئة نصفها دون نصف، و أنها تدور على مركز نفسها بحركة متساوية بحركة فلكها، فإذا كان نصفه المضي ء إلينا فبدر، أو المظلم فمحاق، و فيما بينهما يختلف بقدر ما تراه.

و منها: إمكان أن يكون الفاعل المختار يحدث فيه نورا بحسب إرادته في بعض الأحيان دون بعض.

و منها: إمكان أن يكون عند حدوث تلك الأسباب يقع المرور على البحر أيضا، و يكون له أيضا مدخل في ذلك، و امتناع الخرق و الالتئام على الأفلاك، و عدم جواز الحركة المستقيمة فيها، و امتناع اختلاف حركاتها، و أمثال ذلك لم يثبتوها إلّا بشبهات واهية و خرافات فاسدة لا يخفى و هنا. مع أن القول بها يوجب نفي كثير من ضروريّات الدين، المعراج و نزول الملائكة، و الأنبياء و عروجهم، و خرق السماوات و طيّها، و انتشار الكواكب و انكسافها، في القيامة و في الدنيا، إلى غير ذلك ممّا صرّح به في القرآن و الأخبار المتواترة (2).

قوله: «و إن كان يقع الاختلاف .. إلى تفاوت يسير».

أقول: إذا كان محلّ الكلام في الاعتماد على قولهم إنما هو في محلّ


1- من لا يحضره الفقيه 1: 341 ذيل ح 1.
2- البحار 58: 151.

ص: 117

الاختلاف لا الوفاق فلا فرق بين كون الاختلاف يسيرا، كما في أخبارهم بكون القمر في العقرب أو الخسوفين، أم كثيرا كما في رؤية الهلال و سائر الأحوال.

قوله: «و يمكن الاعتماد في مثل ذلك على شهادة عدلين منهم .. إلخ».

أقول: إن صحّ الإخبار عن أوضاع النجوم و كان له محمل صحّة صحّ الاعتماد على المخبر عنه مطلقا و لو كان كافرا، من باب اعتبار قول أهل الخبرة فيما يختصّ بمعرفتهم و إخباراتهم، كقول اللغوي و المقوّم و الطبيب و سائر إخبار أهل الخبرة، و إلّا فلا يصحّ الاعتماد عليه مطلقا و لو كان عادلا، بل و لو أفاد أو استفيد من القطع، لأنه جهل مركّب ليس في محلّه، كقطع القطّاع و ظنّ الظنّان.

مضافا إلى عدم إمكان اجتماع العدالة مع اعوجاج السليقة بهذه المثابة، كما لا تجتمع العدالة مع الوسواس و قطع القطّاع و ظنّ الظنّان.

قوله: «كما حكي أنه اتّفق لمروّج هذا العلم .. إلخ».

أقول: فيه أولا: أكثريّة شعور الكلاب من شعور رئيس الملّة و الحكمة و الأسطرلاب ممّا لا يصدّقه أولو الألباب.

و ثانيا: لو صحّت الحكاية و صدقت لكانت على خلاف المطلوب و بطلانه أدلّ، و هو أعلميّة الكلاب في علم النجوم و الحساب و فهم الخطأ و الصواب من رأس رئيس أولي الألباب الذي هو قطب الأقطاب، و ما خطّأه الكلب من حساب النجوم كيف يعدّه العاقل في عداد العلوم؟!

قوله: «إن مقتضى الاستفصال .. إلخ».

أقول: لا استفصال في الحديث بين القضاء بالنجوم و عدمه حتى يفصّل في حكمه، إلّا على مفهوم اللقب و دلالة إثبات شي ء على نفي ما عداه، و هو عليل.

و كذلك رواية المحاسن (1) لا تدلّ عليه إلّا بمفهوم السالبة بانتفاء الموضوع


1- المحاسن: 349 ح 26.

ص: 118

غير المعتبر.

قوله: «لأنها ظاهرة في الحكم على سبيل البتّ، كما يظهر ذلك من قوله عليه السّلام .. إلخ».

أقول: أمّا الأخبار- فضلا عمّا عرفت من الآثار و الاعتبار- فظاهرها العموم لا التخصيص بالحكم، فضلا عن التخصيص بالاعتقاد، فضلا عن التخصيص بالبتّ. و أمّا قوله عليه السّلام: «فمن صدّقك بهذا فقد استغنى عن الاستعانة» (1) فليس أيضا بظاهر في التخصيص بصورة البتّ، إلّا من باب أن إثبات الشي ء ينفي ما عداه.

قوله: «فهو أسلم».

أقول: الإخبار عن حوادث أحكام النجوم من الخير و الشرّ بطريق جريان عادة اللّٰه على وقوع الحادثة عند الاقتران و الاتّصال الكوكبي، و إن سلم عن فساد عقيدة اقتضائها على وجه العلّية أو السببيّة أو المقتضي الراجع إلى اعتقاد الشرك و الكفر، إلّا أنه لم يسلم عن الكذب و الرجم بالغيب و الافتراء المحرّم على اللّٰه عقلا و نقلا، بواسطة ما عرفت من تخلّف العادة و عدم اطّرادها دائما و لا غالبا.

هذا كلّه مضافا إلى عدم اعتبار القصد و الاعتقاد في صدق موضوع الحرمة و الفساد في شي ء من موضوع الحرف و الصناعات و مقولة العلوم و الملكات، إلّا ما كان من مقولة الأديان أو الشهادات. فلا موهم لتخصيص عمومات النهي عن النجوم بشي ء من مراتب القصد و الاعتقاد، إلّا ما كان حكمه الكفر و القتل، فإنه بقرينة الكفر ربما يخصّص بمعتقد العلّية و الشرك.

نعم، ربما سرى الوهم في تخصيص عمومات النهي عن النجوم بالحكم على سبيل البتّ، لا مجرّد الإخبار عن أوضاعها، بل و لا عن أحكامها، بل و لا


1- نهج البلاغة: 105 الخطبة 79، مع اختلاف.

ص: 119

الحكم بها على سبيل المقتضي أو جريان عادة اللّٰه، من موهمات اعتبار النجوم.

منها: الأخبار المنقولة في السماء و العالم عن ربيع الأبرار الزمخشري عن عليّ عليه السّلام: «من اقتبس علما من النجوم من حملة القرآن ازداد به إيمانا و يقينا، ثم تلا إِنَّ فِي اخْتِلٰافِ اللَّيْلِ وَ النَّهٰارِ (1) الآية» (2).

و فيه أيضا: «إيّاكم و التكذيب بالنجوم، فإنه علم من علوم النبوّة» (3).

و عن الكاظم عليه السّلام لمّا سأله هارون عن النجوم و ما ورد فيه عن العامّة قال عليه السّلام: «إن هذا حديث ضعيف و إسناد مطعون فيه، و اللّٰه تبارك و تعالى قد مدح النجوم، و لو لا أن النجوم صحيحة ما مدحها اللّٰه عزّ و جلّ، و الأنبياء كانوا عالمين بها، و قد قال اللّٰه تعالى في حقّ إبراهيم عليه السّلام وَ كَذٰلِكَ نُرِي إِبْرٰاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمٰاوٰاتِ وَ الْأَرْضِ وَ لِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ (4)، و قال في موضع آخر فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ فَقٰالَ إِنِّي سَقِيمٌ (5)، فلو لم يكن عالما بعلم النجوم ما نظر فيها و ما قال: إنّي سقيم، و إدريس عليه السّلام كان أعلم أهل زمانه بالنجوم، و اللّٰه تعالى أقسم بمواقع النجوم، وَ إِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ (6) و قال وَ النّٰازِعٰاتِ غَرْقاً إلى قوله فَالْمُدَبِّرٰاتِ أَمْراً (7) يعني بذلك اثني عشر برجا و سبعة سيّارات، و الذي يظهر بالليل و النهار بأمر اللّٰه عزّ و جلّ و بعد علم القرآن ما يكون أشرف من علم النجوم، و هو علم الأنبياء و الأوصياء و ورثة الأنبياء الذين قال


1- يونس: 6.
2- ربيع الأبرار 1: 117.
3- ربيع الأبرار 1: 117.
4- الأنعام: 75.
5- الصافّات: 88- 89.
6- الواقعة: 76.
7- النازعات: 1 و 5.

ص: 120

اللّٰه تعالى وَ عَلٰامٰاتٍ وَ بِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ (1)، و نحن نعرف هذا العلم» (2).

إلى غير ذلك من المراسيل الضعيفة الشاذّة الموافقة للعامّة و التقيّة، ممّا لا يقاوم النصوص الناهية سندا و لا دلالة بوجه من الوجوه.

مضافا إلى إمكان الجمع بحمل أخبار صحّة النجوم على العلم المخزون الخاصّ المخصوص بالأنبياء و الأوصياء، بقرينة إضافته إلى حملة القرآن و تخصيصه بالأنبياء.

أو على القدر الذي يهتدى به في البرّ و البحر، كما صرّح باستثنائه في نصوص المنع.

أو على مثل ما يستدلّ بأفولها على حدوثها، و بحدوثها على محدثها، كما فسّر به علم نجوم الخليل عليه السّلام، و الاستدلال عليه بقوله تعالى إِنَّ فِي اخْتِلٰافِ اللَّيْلِ وَ النَّهٰارِ وَ مٰا خَلَقَ اللّٰهُ فِي السَّمٰاوٰاتِ وَ الْأَرْضِ لَآيٰاتٍ (3).

أو على أنه كان له أصل في الجملة قبل الإسلام، كالطيرة و الكهانة، و تعليم هاروت و ماروت السحر، و استراق الشياطين السمع إلى الكهنة، ثم اختلّ وضعها و رفع أثرها بالإسلام، كرفع أثر الكهانة و السحر و الطيرة به.

أو على أنه كان صحيحا حين لم تردّ الشمس على يوشع بن نون و أمير المؤمنين عليه السّلام، فلما ردّ اللّٰه الشمس عليهما ضلّ فيها علماء النجوم، كما هو صريح بعض الأخبار الآتية (4). و لا شبهة في أن حمل الأخبار الموهمة لصحّة علم النجوم على كلّ من هذه المحامل الخمسة إنما هو بقرينة معيّنة منصوصة، فلا يقاس عليها حمل النصوص الناهية عنه على شي ء من محامله الأربعة المذكورة


1- النحل: 16.
2- فرج المهموم: 107 ح 25.
3- يونس: 6.
4- لم يأتي منه «قدّس سرّه»، و لكن قد تقدم منه في ص: 133.

ص: 121

في المتن، إذ ليس على شي ء منها قرينة بيّنة و لا مبيّنة، مع كون القياس مع الفارق سندا و دلالة من جهات عديدة.

و من موهمات صحّة النجوم الموهمة لتخصيص عموم. نصوص المنع ما ورد مستفيضا من كراهة السفر و التزويج و القمر في العقرب و المحاق (1)، و استحباب الغسل في النوروز (2)، و الحجامة في سابع حزيران (3)، و الاستشفاء بماء النيسان (4).

و يدفعه: أن هذه الأحكام- كسائر الأحكام الشرعيّة- مبنيّة على الحقائق الواقعيّة لا المسامحات العرفيّة، إلّا أن الاختلاف فيها لمّا كان يسيرا بالغاية، و كان أحكامها من السنن لا الفروض، و لم يسأل عن موضوعاتها الشارع المبيّن كما سئل عن موضوع الفروض في الغروب و الأهلّة حتى يبيّن هنا كما بيّن هناك موضوعاتها الواقعيّة، لا جرم صار البناء فيها على المسامحة تسامحا في أدلّة السنن.

قوله: «من عدا الفرق الثلاث الأول، إذ الظاهر عدم الإشكال في كون الفرق الثلاث من أكفر الكفّار لا بمنزلتهم».

أقول: فيه أن من عدا الفرق الثلاث الأول من الفرقتين الأخيرتين ليستا بكافرتين قطعا، نظرا إلى أن الأولى منهما- و هي الاعتقاد بتبعيّة حركة الفلك لإرادة اللّٰه و مجبوليّته لها- عين الحقّ و النصوص المطلقة، كقوله تعالى وَ سَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَ النَّهٰارَ وَ الشَّمْسَ وَ الْقَمَرَ وَ النُّجُومُ مُسَخَّرٰاتٌ بِأَمْرِهِ (5) و في الرعد:


1- الوسائل 8: 266 ب (11) من أبواب آداب السفر إلى الحج و غيره، و ج 14: 80 ب «54» من أبواب مقدّمات النكاح و آدابه.
2- الوسائل 2: 960 ب «24» من أبواب الأغسال المسنونة.
3- مستدرك الوسائل 13: 85 ب (11) من أبواب ما يكتسب به ح 41.
4- مهج الدعوات: 419- 420.
5- النحل: 12.

ص: 122

وَ سَخَّرَ الشَّمْسَ وَ الْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى* (1) و في إبراهيم:

وَ سَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَ الْقَمَرَ دٰائِبَيْنِ وَ سَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَ النَّهٰارَ (2).

و أمّا الثانية- و هي الاعتقاد بأن اختيارها في التأثير عين اختياره تعالى-:

فلأنه و إن لم يكن دليل على ثبوته إلّا أنه لا دليل أيضا على كفره، بل و لا على بطلانه، لثبوت نظيره في النفوس الملكيّة، كاللوح و القلم و جبرائيل و ميكائيل و عزرائيل، بل و في النفوس البشريّة المعصومة بنصّ وَ مٰا تَشٰاؤُنَ إِلّٰا أَنْ يَشٰاءَ اللّٰهُ* (3)، بل و في النفوس الفلكيّة بظاهر قوله تعالى فَالْمُدَبِّرٰاتِ أَمْراً (4). و ظاهر قوله تعالى وَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (5). و ظاهر قوله صلى اللّٰه عليه و آله في السماء و العالم عن أبي ذرّ: «قلت: يا رسول اللّٰه أين تغيب الشمس؟ قال: في السماء، ثم ترفع من سماء إلى سماء حتى ترفع إلى السماء السابعة العليا، حتى تكون تحت العرش، فتخرّ ساجدة معها الملائكة الموكّلون بها، ثم تقول: يا ربّ من أين تأمرني أن أطلع، أ من مغربي أم من مطلعي؟ فذلك قوله تعالى وَ الشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهٰا (6) الحديث» (7). بل ربما أثبتوا الاختيار في جميع الأشياء بظاهر قوله تعالى وَ إِنْ مِنْ شَيْ ءٍ إِلّٰا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَ لٰكِنْ لٰا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ (8).

و كيف كان، فلو لم يثبت الدليل على صحّة الاعتقاد الخامس كالرابع فلم


1- الرعد: 2.
2- إبراهيم: 33.
3- الإنسان: 30.
4- النازعات: 5.
5- يس: 40.
6- يس: 38.
7- التوحيد: 280 ح 7، و فيه: فتخرّ ساجدة فتسجد معها الشمس.
8- الأسراء: 44.

ص: 123

يثبت على بطلانه، فضلا عن الدليل على كفره. فتعيّن انحصار كفر المنجّم من حيث الاعتقاد في الفرق الثلاث الأول لا غير. و أمّا قوله: «الفرق الثلاث من أكفر الكفّار لا بمنزلتهم». ففيه أن تنزيل المنجّم منزلة الكافر إنما يصحّ على ما استظهرناه من عموم موضوع التنجيم المحرّم لما عدا فرق الاعتقاد، من جميع سائر معانيه المجرّدة عن اعتقاد الكفر، من جهة كونه من مقولة العلوم و الملكات كالحرف و الصناعات، فيشمل عموم التحريم النظر في النجوم و التعليم و التعلّم و الإخبار عن أوضاعه، فضلا عن أحكامه، فضلا عن الحكم به على وجه جريان عادة اللّٰه بالتأثير عندها، فضلا عن الحكم به على وجه الاقتضاء. و يشملها أيضا عموم صدق التنزيل بالسحر و الكهانة و الكفر، للملازمة، و صدق عموم المنزلة بالكفر في سوء الوبال و الفعال و عظم الخطيئة و المآل.

و أمّا على ما استظهره المصنف من خروج جميع ما عدا فرق الاعتقاد من سائر المعاني المتقدّمة، بدعوى انصراف موضوع التنجيم عنها إلى صورة الاعتقاد، و خروج صور الاعتقاد الثلاث من عموم المنزلة، لعدم صدقها على أكفر الكفرة، فيلزمه خلوّ المورد أصلا و رأسا، لعمومات المنع عن علم التنجيم و الحساب.

قوله: «مع صحّة عقائدهم الإسلاميّة فغير معلوم دخولهم في المنجّمين».

أقول: فيه أولا: أن اجتماع صحّة العقيدة مع استخراج النجوم و تخريص المنجّم مجرّد فرض محال، كفرض اجتماع العدالة مع الوسواس و قطع القطّاع.

و ثانيا: لو سلّمنا صحّة عقائدهم الإسلاميّة فإنما هو مانع من خصوص كفر المنجّم و دخوله في خصوص نصوص كفر المنجّم، لا من دخوله في عموم المنجّم و سائر أحكام لعنه و تكذيبه و ذمّه و التحذّر منه و الطعن عليه و تنزيله منزلة الكاهن و الساحر.

ص: 124

قوله: «و يؤيّده ما رواه في البحار (1) .. إلخ».

أقول: فيه منع التأييد بمكاتبة النوبختي، لما فيها من قصور المقاومة لنصوص ذمّ المنجّم سندا و دلالة و كيفيّة و كمّية و اعتضادا، من جهات شتّى، بل من جميع الجهات.

قوله: «و القولان باطلان .. إلخ».

أقول: حاصل الكلام في الوجه الثاني من وجوه اعتقاد سببيّة النجوم للتأثيرات على وجه المدخليّة الناقصة: أنهم اختلفوا في حكم المعتقد به على أقوال:

أحدها: الكفر. و هو المنقول عن المجلسي (2). قال المصنف: و لعلّ وجهه المخالفة للضرورة. أقول: أو الموافقة لعموم نصوص تكفير المنجّم.

و ثانيها: التخطئة و العصيان. و هو المنقول عن الشهيد في قواعده (3). قال المصنف: و لعلّ وجهه عدم المقتضي لصحّته من العقل و النقل. أقول: أو وجود المانع من صحّته، من عموم النهي و المنع من التنجيم.

و ثالثها: صحّة الاعتقاد به. و هو المنقول عن القاشاني (4).

قال المصنف: و هو خلاف المشهور.

أقول: فيه أن الذي هو خلاف المشهور إنما هو صحّة الاعتقاد بتأثيراته الشخصيّة الجزئيّة المعيّنة عند المنجّمين، الذي هو محلّ النزاع، و أمّا الاعتقاد بتأثيراته الكلّية الإجماليّة الواقعيّة على ما هي عليها في الواقع، الخارج عن محلّ النزاع، الذي هو مراد الكاشاني في إثبات البداء به، فليس بخلاف المشهور، بل


1- بحار الأنوار 58: 250 ح 36.
2- بحار الأنوار 58: 308.
3- القواعد و الفوائد 2: 35.
4- كتاب الوافي 1: 507- 508 ب «50» من أبواب معرفة مخلوقاته و أفعاله سبحانه.

ص: 125

هو المشهور المنصور المتّفق عليه ظواهر نصوص الكتاب و السنّة.

بل ظاهرها أن الأجرام السفليّة فضلا عن العلويّة لها تأثير و عقل و روح و شعور و اختيار و إرادة و إطاعة أيضا، و إن كان الذي فيها من العقل و الروح و الشعور مخالفا لما في سائر ذي العقول و الشعور كمّا و كيفا، فإن مقدوراته تعالى غير متناهية كمّا و لا كيفا، و لا يحيطون بشي ء من علمه إلّا بما شاء (1)، كما قال تعالى وَ إِنْ مِنْ شَيْ ءٍ إِلّٰا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَ لٰكِنْ لٰا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ (2).

وَ مٰا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَ لٰا طٰائِرٍ يَطِيرُ بِجَنٰاحَيْهِ إِلّٰا أُمَمٌ أَمْثٰالُكُمْ (3). و قوله:

إِنّٰا عَرَضْنَا الْأَمٰانَةَ عَلَى السَّمٰاوٰاتِ وَ الْأَرْضِ وَ الْجِبٰالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهٰا وَ أَشْفَقْنَ مِنْهٰا (4). و قوله لَوْ أَنْزَلْنٰا هٰذَا الْقُرْآنَ عَلىٰ جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خٰاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللّٰهِ (5).

و قوله تعالى: للسماء و الأرض ائْتِيٰا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قٰالَتٰا أَتَيْنٰا طٰائِعِينَ (6). فإن ظاهر استناد القول و الأمر و الإطاعة و ضمير من يعقل إليهما تضمّنهما لضرب من العقل و الروح و الشعور.

و قوله تعالى وَ النُّجُومَ مُسَخَّرٰاتٍ بِأَمْرِهِ* (7) وَ سَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَ الْقَمَرَ دٰائِبَيْنِ (8) وَ جَعَلْنٰاهٰا رُجُوماً لِلشَّيٰاطِينِ (9)


1- البقرة: 255.
2- الأسراء: 44.
3- الأنعام: 38.
4- الأحزاب: 72.
5- الحشر: 21.
6- فصّلت: 11.
7- النحل: 12.
8- إبراهيم: 33.
9- الملك: 5.

ص: 126

فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ فَقٰالَ إِنِّي سَقِيمٌ (1) فَالْمُدَبِّرٰاتِ أَمْراً (2) و قوله وَ يُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ (3) يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَ أَيْدِيهِمْ وَ أَرْجُلُهُمْ بِمٰا كٰانُوا يَعْمَلُونَ (4).

و قوله عليه السّلام في دعاء الصحيفة عند رؤية الهلال: «أيّها الخلق المطيع الدائب السريع» (5) الدعاء و التسليم و التوديع له و مخاطبته بخطاب من يعقل. و قوله عليه السّلام:

«يا من بكت عليه السماء و الأرض بالدماء» (6) «و إن الأرض لتشكو من بول الأغلف» (7) و نوم الغافل و عصيان العاصي، و تستغفر للمطيع و تشهد للمصلّي و الساجد. إلى غير ذلك ممّا لا يعدّ و لا يحصى.

بل الضرورة على صحّة نسبة الآثار المحسوسة إلى الكواكب و الأفلاك، كقول الموحّد: أنزلني الدهر، و أنبتنا الربيع، و أصهرنا الشمس، و أضاءنا القمر، و شفانا الطبيب، و سقانا المطر. إلى غير ذلك.

و لكن قد عرفت أن ذلك كلّه إنما يدلّ على صحّة التأثيرات الواقعيّة في النجوم على ما هي عليها في الواقع، دون التأثيرات المستخرجة بالتخمين و التخريص و الرجم بالغيب الذي هو عيب و ريب. و الاستدلال على صحّتها و صحّة معتقدها بتلك النصوص المذكورة من قبيل المغالطة و الإشارة إلى الصورة المنقوشة بقول: هذا فرس، و كلّ فرس صاهل، فهذا صاهل.

قوله: «الثالث استناد الأفعال إليها كاستناد الإحراق إلى النار .. إلخ».


1- الصافّات: 88 و 89.
2- النازعات: 5.
3- الرعد: 13.
4- النور: 24.
5- الصحيفة السجاديّة: 216.
6- ذكر نظيره في البحار 45: 206 و 215 ح 13 و 38.
7- الوسائل 15: 160 ب «52» من أبواب أحكام الأولاد ح 1، مع اختلاف.

ص: 127

أقول: الكلام في هذا الوجه الثالث هو الكلام في الوجه الثاني السابق، من حيث الصحّة و البطلان، و الوجوه و الأقوال، و ما هو حقيقة الحال من المختار و مدلول الأخبار.

قوله: «بل في بعض الأخبار ما يدلّ بظاهره على ثبوت التأثير للكواكب .. إلخ» (1).

أقول: مدلول هذه الأخبار كمدلول النصوص المتقدّمة إنما هو ثبوت التأثير الواقعي لها على ما هي عليها في الواقع، الخارج عن محلّ الكلام. و الاستدلال عليها بالأخبار المذكورة من قبيل المغالطة و الإشارة إلى الصورة المنقوشة بالحقيقة الكلّية الواقعيّة. بل هي على نفي المدّعى و بطلانه أدلّ من الدلالة على المدّعى و صحّته بأبلغ وجه.

[المسألة السابعة حفظ كتب الضلال حرام في الجملة]

قوله: «حفظ كتب الضلال لا يحرم إلّا من حيث ترتّب مفسدة الضلالة قطعا أو احتمالا قريبا .. إلخ».

أقول: محصّل شقوق المسألة: أن كتب الضلال إمّا أن يكون فيها مفسدة فعليّة، أو شأنيّة. و على كلّ منهما: إمّا قطعيّة، أو ظنّية عبّر عنها المصنف بالاحتمال القريب. و إمّا لم يكن فيها مفسدة، أو كان فيها مفسدة فعليّة معارضة بمصلحة أقوى، أو شأنيّة معارضة بأقوى أو أقرب.

أمّا الشقوق الأربعة الأول فلا ريب في حرمتها و دخولها في عموم ما سبق من الأدلّة العقليّة المقدّمية التوصّليّة و النقليّة المطلقة.

و أمّا الأربعة الآخر فلا دليل على حرمتها و دخولها فيما تقدّم من الأدلّة إلّا على تقدير إطلاق معقد عدم الخلاف غير القاصر عن الإجماع، أو إطلاق سائر الأدلّة على الوجه الدالّ على حرمتها بالحرمة النفسيّة و المفسدة الذاتيّة، لا الغيريّة


1- الاحتجاج 2: 250.

ص: 128

الموصلة إلى مفسدة الضلال و الإضلال، كحرمة الخمر و الغناء و القمار و الزنا و الملاهي و الأشعار.

و على كلّ تقدير فالمراد من كتب الضلال إما مطلق ما يكون باطلا في نفسه مع الغضّ عمّا يترتّب عليه من الضلال و الإضلال، ككتب النجوم و السحر و الشعبدة و الرمل و الجفر، و ملاهي الرقص و القمار و الغناء و الأشعار و الشطرنج و الأعداد و الفال، و كتب الأكاذيب و الأباطيل.

و إمّا مطلق ما وضع لحصول الضلال، أي: ما من شأنها أن تضلّ، كأكثر كتب العرفان و فلاسفة الزمان و الطبيعيّين و شعراء الجاهليّة و الصوفيّة و البابيّة و الشيخيّة و المخالفين، و كبعض الظواهر المنكرة و المتشابهات المؤوّلة شرعا ممّا من شأنها الضلال بالنسبة إلى الجهّال الغافلين عن قرائن الأحوال.

و إمّا ما يوجب الضلال و ليس له في الكتب المضلّة مثال، إذ ليس فيها في حقيقة الحال ما يوجب الضلال و الإضلال إلّا بضميمة سوء الفعال و الإعوجاج عن الاعتدال، لوجوب اللطف و إزاحة العلّة، ليهلك من هلك عن بيّنة و يحيى من حيّ عن بيّنة.

فتعيّن إما إرادة المعنى الأول من كتب الضلال، كما هو مدلول إطلاق بعض الأدلّة النقليّة (1)، و إمّا الثاني، كما يقتضيه الدليل العقلي و هو التعاون على الإثم و العدوان. و لازم الأول هو عدم الماليّة في كتب الضلال، لا حرمة الحفظ و وجوب الإتلاف، و لازم الثاني الثاني.

قوله: «نعم، توجب الضلالة لليهود و النصارى قبل نسخ دينهما».

أقول: بل لا فرق في موجبيّة الكتب المحرّفة الضلالة و دخولها في كتب الضلال بكلا معنييه بالنسبة إلى المسلمين و غيرهم، و لا بالنسبة إلى ما قبل النسخ


1- الوسائل 8: 268 ب «14» من أبواب السفر إلى الحج و غيره ح 1.

ص: 129

و بعده، بل و لا بالنسبة إلى العالم بالنسخ و الجاهل. بل هي من أوضح أفراد كتب الضلال، و إلّا لم يكن لها مثال في حال.

غاية الفرق أنها بالنسبة إلى المسلمين- و بعد بداهة نسخها- توجب الضلال بمعنى الشبهة في مقابل البداهة، و بالنسبة إلى اليهود و النصارى قبل نسخها توجب الضلال الشأني، بمعنى الضلال لو لا المانع من تحصيل الحاصل، و بعد نسخها توجب الثبات على الضلال و تقوّيه و تشييده، و محق الحقّ و توهين الدين و هتكه.

و لو لم يكن فيها إلّا ما فيها من شدّ عزم الضالّين على الضلال، و إيهام عوام المسلمين- كالمخالفين- لشبهة الحقّية و الصحّة و الحلّية في مثل نكاح المحارم، و حلّية الخمر و النبيذ، و تخطئة الأنبياء و تخميرهم (1)، و الفجور بمحارمهم عند تخمير العقل و لو قبل النسخ، و التسبيح و التهليل بالرقص و الدفّ و العود و المزمار، و ارتداد هاروت و ماروت من الملائكة المعصومين، و شبهة الجبر و التفويض و التجسيم، و جواز الرؤية على اللّٰه، إلى غير ذلك من الشنائع و القبائح و الأباطيل المضلّة السارية من تلك الكتب المحرّفة إلى أكثر فرق الإسلام، فهو كاف في صدق الضلال و الإضلال، بل هو في أضلّ ضلال، و أكفر الأحوال، و من أسوأ سوء الظنّ و الفعال بأحكام ذي الجلال، و أحوال ذوي العصمة و الكمال.

و غاية توجيه منع المصنف من إطلاق إيجابها الضلال مع ذلك كلّه لعلّه الجمود على كون التحريف هو مطلق الزيادة و النقيصة مع الغضّ عن كيفيّة تحريفها، على وجه لا يخلو عن أحد مراتب الضلال و الإضلال على سبيل منع الخلوّ، أو الجمود على مرتبة من مراتب الضلال الفعلي و الغضّ عن تعدّد مراتبها بما لا يحصى، و عن تعيين كون المراد من ضلال الكتب وضعها للضلال الشأني،


1- أي: نسبة شرب الخمر إليهم، كما نسب إليهم ذلك في الأناجيل المحرّفة.

ص: 130

و أن فعليّتها الضلال ليس له مثال، و لا يحصل في حال، و أنه ما من شي ء من أنواع الكفر و الضلال و الشرك و الإضلال إلّا و هو مملوء منها بالتحريف، و منسوب فيها بالتوصيف إلى اللّٰه و إلى خلفائه، تعالى اللّٰه عمّا يقول الظالمون علوّا كبيرا.

مضافا إلى أن مجرّد وجود الباطل في مقابل الحقّ، و الكتاب المحرّف في مقابل القرآن، لا يقصر في هتك الحقّ و تقوّي الكفر و توهين القرآن من نصب الأصنام في المسجد الحرام، و حكومة الظلّام في مقابل الإمام، و بناء مسجد ضرار في مقابل مسجد الأخيار.

و ممّا ذكرنا يظهر لك أن حكم تصانيف المخالفين بأسرها من الأصول و الفروع و الحديث و التفسير حكم الكتب المحرّفة، بل هي هي طابق النعل بالنعل. و أن منع المصنف من شمول الأدلّة لها إلّا القليل ممّا ألّف في الجبر و نحوه ممنوع بما عرفت، من أن المراد بكتب الضلال إن كان مرتبة فعليّة من الضلال فليس له مثال في حال، حتى ما استثناه من القليل المؤلّف في الجبر. و إن أريد به سائر مراتبه الشأنيّة فلا يخلو شي ء منها من شي ء من مراتب الضلال الشأني، و لو بإيثار الثبات، و إلقاء الشبهات، و تقديم المتشابهات على المحكمات، و تفسير القرآن بالرأي و الاستحسان، و القول في الدين بقياس الشياطين، و تأويل النصوص بأهواء النفوس، و تحريف الكتاب بغير حساب، و جعل الأكاذيب الباطلة من جملة الأدلّة، كاستدلالهم على طهارة المنيّ بما عن أبي هريرة عن عائشة أنها كانت تحكّ المنيّ من ثوب النبيّ صلى اللّٰه عليه و آله (1)، أي: لم تغسله، فقد ترى ما فيه من ضعف الدلالة و السند، و إثبات الفاسد بالأفسد، إلى غير ذلك ممّا فيه من مفسدة شوب الفطرة السليمة، و اعوجاج السليقة المستقيمة، و الانحراف عن الدين القيّمة.


1- صحيح مسلم 1: 238 ب «32» حكم المني، تلخيص الحبير 1: 32 ح 21، لكن الحديث لم يرد عن أبي هريرة.

ص: 131

[المسألة الثامنة الرشوة حرام]

قوله: «و يدلّ عليه الكتاب و السنّة».

أقول: بل الأدلّة الأربعة. فمن الكتاب قوله تعالى وَ لٰا تَأْكُلُوا أَمْوٰالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبٰاطِلِ (1). و قوله تعالى إِنَّ كَثِيراً مِنَ الْأَحْبٰارِ وَ الرُّهْبٰانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوٰالَ النّٰاسِ بِالْبٰاطِلِ (2). وَ أَخْذِهِمُ الرِّبَوا وَ قَدْ نُهُوا عَنْهُ وَ أَكْلِهِمْ أَمْوٰالَ النّٰاسِ بِالْبٰاطِلِ (3). و قوله تعالى أَكّٰالُونَ لِلسُّحْتِ (4).

و من العقل وضوح كون الرشوة ظلما قبيحا، خصوصا على الحكم بالباطل، و خصوصا للآخذ، و خصوصا مع الغناء و تعيّن القضاء. مضافا إلى دلالة الفطرة السليمة على قبحه و حسن تركه، حتى عند الكفرة و الملاحدة و خارجي المذهب، فقد نقل في قضاء السرائر أن عمر بن عبد العزيز المرواني في زمان خلافته «أهدي إليه تفّاحة فلم يقبلها، فقيل له: إن النبيّ صلى اللّٰه عليه و آله كان يقبل الهديّة، قال:

إنها للنبيّ و في زمانه هديّة، و لنا في هذا الزمان رشوة» (5). إلى غير ذلك.

قوله: «قلّما يستعمل الرشوة إلّا فيما يتوصّل به إلى إبطال حقّ .. إلخ».

أقول: محصّل المفاد ممّا يصطاد: أن في كون الرشوة بذل شي ء على مطلق ما لا يجوز البذل عليه من حكم أو تطلّب أمر، أو خصوص ما إذا كان المبذول عليه حكما أو أمرا باطلا، أو الأعمّ منه و ممّا يكون حقّا، بأن يكون الرشوة مطلق ما يبذل لتحصيل غرض الباذل مطلقا حقّا كان أو باطلا، أو خصوص ما يبذل على الحكم بالباطل دون الأمر الباطل، وجوها بل أقوالا أربعة.

و عن المختلف تفصيل خامس، و هو جواز الرشى مع عدم الغناء و عدم


1- البقرة: 188.
2- التوبة: 34.
3- النساء: 161.
4- المائدة: 42.
5- كتاب السرائر 3: 178، لكن الحديث ذكره في ب الهبات و النحل و ليس في القضاء.

ص: 132

تعيّن القضاء، و عدم جوازه مع الغناء أو تعيّن القضاء (1). و لكن الوجوه السابقة تفصيل في موضوع الرشى، و الخامس تفصيل في حكمه.

و الأشهر الأظهر في كلّ من المقامين العموم و الإطلاق، لعموم الأدلّة و إطلاقها، إلّا ما لا يصلح للتخصيص ممّا يوهمه، مثل قوله: «و ممّا يدلّ على عدم عموم الرشى لمطلق الجعل على الحكم ما تقدّم في رواية عمّار بن مروان (2) من جعل الرشى في الحكم مقابلا لأجور القضاة».

و يدفعه: أن حمل المطلق على المقيّد عرفا إنما هو مع اتّحاد حكمهما، كأعتق رقبة و أعتق رقبة مؤمنة، و أمّا مع اختلاف حكمهما، كأعتق رقبة و أطعم رقبة مؤمنة، فلا يحمل المطلق على المقيّد. و كذلك ما نحن فيه، فإن قولك: أجور القضاة سحت، و أمّا في الحكم فهو الكفر باللّه، فليس بظاهر في اتّحاد الحكم حتى يكون قرينة على الحمل و اتّحاد الموضوع. و من هنا لا يتأتّى الحمل في الأحكام الندبيّة و الوضعيّة، لقابليّتهما التعدّد، بخلاف مراتب الإلزام. فقوله عليه السّلام:

«أجور القضاة سحت» «و أمّا في الحكم فهو الكفر» نظير قوله: الظلم حرام، و أمّا بآل الرسول فهو أحرم و أشدّ، في عدم اقتضاء الحمل.

و مثل قوله: «في رواية يوسف بن جابر فيمن لعنه النبيّ صلى اللّٰه عليه و آله و رجلا احتاج الناس إليه لفقهه فسألهم الرشوة» (3).

و يندفع: لكن لا بما في المتن من حمل الاحتياج فيه على الاحتياج إلى نوعه لا شخصه، لأنه خلاف الظاهر، بل لأن مفهوم و هو لا يحرم سؤال الرشوة ممّن لا يحتاج إليه الناس من قبيل السالبة بانتفاء الموضوع. مضافا إلى عدم حجّية مفهوم الوصف.


1- مختلف الشيعة: 342.
2- الخصال 1: 329 ح 26.
3- الوسائل 18: 163 ب (8) من أبواب آداب القاضي ح 5.

ص: 133

و مثل قوله عليه السّلام في رواية حمزة بن حمران: «إنما ذاك الذي قضى بغير علم و لا هدى من اللّٰه ليبطل به الحقوق، طمعا في حطام الدنيا» (1).

و يندفع: لكن لا بمجرّد دعوى كون الحصر إضافيّا حتى يقال إنه خلاف الظاهر، و إن لم يكن خلافه، بل لو سلّمنا ظهوره في الحصر الحقيقي إلّا أنه مع ذلك لا يدلّ على حصر حرمة الرشى بالقضاء الباطل. أمّا على تقدير كون اللام في قوله «ليبطل به الحقوق» للعاقبة و المآل، كما في قوله تعالى فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَ حَزَناً (2) فواضح أن بطلان المآل بسوء عاقبة الفعال لا ينافي ترتّبه على نيّة العكس، أعني: قصد القضاء بالحقّ بواسطة اقترانه بقصد الرشى، كما أن جميع العبادات المقرونة بغير الخلوص يترتّب عليها سوء عاقبة البطلان و إن قصد بها الصحّة. و أمّا على تقدير كون اللام المذكورة للغاية فلأن القضاء بالرشى باطل شرعا و إن قضى بالحقّ واقعا، كما في مقبولة ابن حنظلة:

«و ما يحكم له- أي: السلطان الجائر و قاضي الجور- فإنما يأخذه سحتا، و إن كان حقّه ثابتا» (3). فتأمّل.

و مثل قوله: «كما يظهر بالتأمّل في رواية يوسف (4) و عمّار (5)».

و يدفعه: وضوح عدم ظهور الروايتين في اختصاص حرمة الرشى بصورة الاستغناء بالتأمّل، بل الظهور بالعكس. مضافا إلى توقّف التخصيص على المخصّص و الانصراف على الصارف، و إذ ليس فليس، خصوصا مع عموم [حرمة] أجور القضاة.


1- الوسائل 18: 102 ب (11) من أبواب صفات القاضي ح 12.
2- القصص: 8.
3- الوسائل 18: 98 ب (11) من أبواب صفات القاضي ح 1.
4- الوسائل 18: 163 ب (8) من أبواب آداب القاضي ح 5.
5- الخصال 1: 329 ح 26.

ص: 134

و مثل قوله: «لما تقرّر عندهم من حرمة الأجرة على الواجبات العينيّة». «و لا مانع من التكسّب بالقضاء من جهة وجوبه الكفائي».

و يدفعه: ما سيأتي من أن فعل الواجب مطلقا و لو كان كفائيّا- ما لم يسقط بفعل الغير- غير قابل عرفا و لا شرعا للماليّة و الملكيّة، حتى يصحّ المعاوضة عليها بالاجور و الماليّات، كالعبادات. و حينئذ فإن جعل العوض و الأجر على نفس فعل الواجب فلا يصحّ مطلقا و لو في الكفائيّ و التوصّلي. و إن جعل العوض و الأجر على ما يقارن فعلها من إيجاد الداعي و نحوه صحّ حتى في الواجب العيني، بل العبادات فضلا عن الكفائيّ و التوصّليّات.

قوله: «و أمّا ما تقدّم في صحيحة ابن سنان (1) من المنع من أخذ الرزق من السلطان فقد عرفت الحال فيه».

[أقول:] أي: من كون الآخذ غير أهل، أو كون المأخوذ من غير بيت المال، كما في الفقيه في جواب من قال لعليّ عليه السّلام و اللّٰه إنّي لأحبّك، فقال له:

«و لكنّي أبغضك، قال: و لم؟ قال عليه السّلام: لأنّك تبغي في الأذان كسبا، و تأخذ على تعليم القرآن أجرا». و قال عليه السّلام: «من أخذ على تعليم القرآن أجرا كان حظّه يوم القيامة» (2). و فيه أيضا عن الصادق عليه السّلام: «أنا أقرأ القرآن فتهدي إليّ الهديّة فأقبلها؟ قال: لا، قلت: إن لم أشارطه، قال: أ رأيت إن لم تقرأ كان يهدى لك؟ قلت: لا، قال: فلا تقبله» (3).

قوله: «و أمّا الهديّة، و هي ما يبذله على وجه الهبة ليورث المودّة الموجبة للحكم له، حقّا كان أو باطلا .. إلخ».

أقول: فيه أنه إن أريد بالهديّة معناها الحقيقي فهو كالهبة و التحيّة و العطيّة


1- الوسائل 18: 161 ب (8) من أبواب آداب القاضي ح 1.
2- من لا يحضر الفقيه 3: 109 ح 461، و فيه اختلاف يسير.
3- من لا يحضره الفقيه 3: 110 ح 462، و فيه اختلاف يسير.

ص: 135

وزنا و معنى و حكما، لأن معناه ما يبذل بقصد التفضّل و الإحسان، لا لغرض فساد و بطلان، على عكس الرشوة، محكوم عليه بالحسن و الرجحان لا الحرمة و البطلان، بالأدلّة الأربعة.

و إن أريد بها معناها المجازي بقرينة الحكم عليه بالغلول و السحت، فهو و إن كان كذلك إلّا أن معناه ما يبذل ظاهرا و صورة على وجه الهديّة و الإحسان، و معنى و باطنا بقصد الرشوة و البطلان مطلقا، سواء قصد منه الحكم بتوسّط إيثار المودّة الموجبة له أم بدون الواسطة، فإن ذلك غير فارق معنى و لا حكما بين الرشوتين، بل الفارق الخفاء و الظهور في البين. مضافا إلى أنه لو سلّم الفارق المذكور بينهما لزم تقديم الهديّة على الحكم لا تأخيرها، لامتناع تأخّر السبب عن المسبّب، و الحال تأخيرها في تفسير السحت بقوله عليه السّلام: «هو الرجل يقضي لأخيه حاجته ثم يقبل هديّته» (1).

قوله: «و للرواية توجيهات».

أقول: أمّا وجه احتياجها إلى التوجيه فلمخالفة حرمة الهديّة بعد قضاء الحاجة، لظهورها في معنى العطيّة و الإحسان الممدوح عقلا و نقلا.

و أمّا التوجيهات فيجمعها أن قبول الهديّة للقاضي الحاجة إمّا أن يكون مع قصد كلّ من الباذل و القابل الرشى في القضاء و الإهداء، أو مع قصد الباذل لا القابل، أو العكس، أو لا مع قصد أحدهما الرشى.

و أمّا في صورتي قصد الباذل الرشى فتحرم الهديّة ذاتا و نفسا، لكونها الرشى اسما و حكما.

و أمّا في صورتي عدم قصد الباذل فهي و إن لم تحرم ذاتا و نفسا، لعدم صدق الرشى اسما، إلّا أن مقتضى ظاهر الرواية، و عموم «هدايا العمّال غلول


1- الوسائل 12: 64 ب (5) من أبواب ما يكتسب به ح 11.

ص: 136

و سحت» (1)، و أصالة عدم التخصيص و التقييد بلا مخصّص و لا مقيّد، هو حرمتها من باب المقدّمة، للتجرّي و الاقتحام في مزالّ الأقدام، و الوقوع في معرض الحرام، و استحلال جميع الآثام بالحيل و الأوهام، فإن النفس إذا اعتادت بالهدايا لم تخف الوقوع في البلايا، و إذا ذاقت حلاوة التحف أمنت من الوعيد و الأسف، و استحلّت الحرام بالحيل و الحرف، فإن النفس لأمّارة بالسوء إلّا ما رحم، و لا عاصم إلّا من عصم.

و لعلّ ما ذكرنا من حمل الوجهين الأخيرين من الهديّة المحرّمة على الحرمة الغيريّة المقدّميّة أولى من حمل المصنف إيّاهما على المبالغة في رجحان التجنّب عن قبول الهدايا، لأن الأول محمل حقيقيّ أو أقرب مجاز من الثاني.

قوله: «لا لأجل الرشوة، لعدم الدليل عليه، عدا بعض الإطلاقات المنصرف إلى الرشى في الحكم، بل لأنه أكل للمال بالباطل .. إلخ».

أقول: فيه أولا ما عرفت من منع عدم الدليل عليه بعد عموم الرشى و إطلاقها عليه، و منع التخصيص بلا مخصّص و الانصراف بلا صارف.

و ثانيا: سلّمنا، لكن الفرق بين ما يحرم لأجل الرشوة فيحرم قبضه، و ما يحرم للأكل بالباطل فلا يحرم قبضه بل يحرم تصرّفه، ممنوع جدّا، و لا وجه له أصلا، لأن النهي عن الأكل كناية عن مطلق التصرّف، كالنهي عن التأليف في:

فَلٰا تَقُلْ لَهُمٰا أُفٍّ (2) حيث إنه كناية عن مطلق الضجر.

قوله: «و أمّا بذل المال على وجه الهديّة الموجبة لقضاء الحاجة المباحة فلا خطر فيه، كما يدلّ عليه ما ورد .. إلخ».

[أقول:] و فيه أولا: منع حلّية الهديّة الموجبة لقضاء الحاجة المباحة، لعموم


1- الوسائل 18: 163 ب (8) من أبواب آداب القاضي ح 6، و فيه: هدية الأمراء غلول.
2- الأسراء: 23.

ص: 137

النصوص المحرّمة لهدايا العمّال، خصوصا المفسّر للسحت بقوله عليه السّلام: «هو الرجل يقضي لأخيه حاجته ثمّ يقبل هديّته» (1) صريح في حرمة الهديّة الموجبة لقضاء الحاجة.

و ثانيا: منع دلالة ما استدلّ به عليه من قوله: «لا بأس ببذل الرشوة ليتحرّك من منزله ليسكنه» (2) فإنّه إنّما يدلّ على حلّية الرشوة في إزاء الحقوق الماليّة الخارجة عن محلّ الكلام، لا الأحكام الشرعيّة و لا الأمور غير الماليّة التي هي محلّ الكلام.

و ثالثا: منع دلالة ما استدلّ به على التفصيل في الرشوة بين الحاجة المحرّمة و غيرها برواية أبي بصير (3)، لأنّها إنّما تدلّ على التفصيل في الرشوة بين ما يدفع به الظلم فيباح لدافعة لا لآخذه، و ما يوجبه فتحرم مطلقا. و هو أيضا تفصيل في الرشوة بين المحرّم و غيره من الحقوق الماليّة، لا الأحكام الشرعيّة و لا الأمور غير الماليّة، بل تفصيل بين الإرشاء و الرشوة، و ما يدفع الضرر و يصلح المال، و ما يوجب الإضرار و يفسده، و هو خارج عن محلّ الكلام بكلا شقّيه.

قوله: «و المراد المنزل المشترك كالمدرسة و المسجد و السوق».

أقول: وجه تخصيصه بالمنزل المشترك من حقوق الاختصاص دون الأملاك الخاصّة و المشتركة المشاعة لعلّه من جهة عدم إطلاق الرشوة على ما بإزاء الحقوق الملكيّة، و إنّما يطلق عليها الثمن أو مال الإجارة، و إنّما أطلق مجازا على ما بإزاء الحقوق الماليّة المشتركة كالأوقاف تنزيلا لها منزلة الأملاك الخاصّة


1- الوسائل 12: 64 ب (5) من أبواب ما يكتسب به ح 11، مع اختلاف يسير.
2- الوسائل 12: 207 ب «85» من أبواب ما يكتسب به ح 2.
3- الوسائل 12: 409 ب «37» من أبواب أحكام العقود ح 1، و فيه عن الصيرفي.

ص: 138

الخارجيّة.

قوله: «و لو لم يقصد بها المقابلة، بل أعطى مجّانا ليكون داعيا على الحكم، و هو المسمّى بالهديّة، فالظاهر عدم ضمانه، لأنّ مرجعه إلى هبة مجّانيّة فاسدة .. إلخ».

أقول: الفرق بين صور الرشوة الثلاث كون المقصود بالمحاباة في الأوّل المقابلة للحكم، و في الثاني المقابلة لسببه الداعي إليه من إيثار المحبّة الموجبة للحكم، و في الثالث جعل الداعي مقرونا بالإرشاء لا عوضا مقابلا للرشوة.

و حكم الأوّلين حكم الهبة المعوّضة بعوض فاسد في ضمان المأخوذ.

و حكم الثالث حكم الهبة المجّانيّة الفاسدة، بعد فرض عموم (1) حرمة الرشى لكلّ منها في عدم ضمان المأخوذ.

قوله: «لأنّ مرجعه إلى هبة مجّانيّة فاسدة، إذ الداعي لا يعدّ عوضا .. إلخ».

أقول: بل و يمكن إرجاعه إلى هبة مجّانيّة صحيحة لا يضمن بصحيحه كما لا يضمن بفاسده، أو هبة معوّضة بعوض صحيح كذلك، نظير الهبة و العطيّة و الصدقة على الكفّار أو المنافقين لأجل تأليف قلوبهم إلى الإسلام أو الإيمان، على وجه المعاوضة و المقابلة أو الداعي و المقارنة للرشى المباح شرعا. و لكن إمكان ذلك مبنيّ على تقدير أن يكون الرشى كالكذب مقتضيا للقبح و الحرمة ما لم يمنع منه مانع ضرورة أو يعارض بأقوى مصلحة كإنجاء مسلم و نحوه، و إلّا فعلى تقدير كونه كالظلم علّة تامّة للقبح و الحرمة فلا يتأتّى الصحّة في شي ء من


1- الوسائل 12: 61 ب (5) من أبواب ما يكتسب به.

ص: 139

كيفيّاته و مراتبه بوجه من الوجوه، إلّا بالخروج الموضوعي عن حقيقة العدوان إلى محض الإحسان.

قوله: «و كونها من السحت إنّما يدلّ على حرمة الأخذ لا على الضمان».

أقول: حرمة الأخذ و إن لم يدلّ على ضمانه بنفسه إلّا أنّه يدلّ عليه بضميمة الملازمة العقليّة الثابتة سابقا بين حرمة الشي ء و حرمة غاياته، كدلالة حرمة التصوير على حرمة إبقائه و وجوب محوه، و حرمة الأكل على حرمة إبقائه في الجوف و وجوب تقيّئه، و دلالة وجوب تحمّل الشهادة على وجوب أدائها، و وجوب أدائها على وجوب قبولها. و منه دلالة حرمة أخذ الرشوة على حرمة إبقائها و وجوب ردّها و ضمانها، إلّا ما خرج بإسقاط ضمانه من قبل المالك الحقيقي، كإسقاطه ضمان الخمر و الخنزير و آلات اللهو و القمار، أو من قبل المالك المجازي، كإسقاطه ضمان المجّانيّات و ما أذن بإتلافه أو إهلاكه.

قوله: «فروع في اختلاف الدافع و القابض».

أقول: أمّا أقسام الاختلاف في الضمان و عدمه فكما أشار إليه المصنّف ثلاثة، لأنّ منشأ الاختلاف إمّا من جهة الاختلاف في صحّة الهديّة و فسادها بعد الاتّفاق على تحقّق الهديّة.

و إمّا من جهة الاختلاف في أصل تحقّق الهديّة و عدمه، بأن يدّعي القابض الهديّة، و الدافع ينكرها و يدّعي الرشوة.

و إمّا من جهة الاختلاف في مضمونيّة المدفوع الفاسد و عدمه، بأن يدّعي الدافع أنّه رشوة أو هديّة فاسدة مضمونة، و القابض يدّعي أنّه هديّة فاسدة غير مضمونة.

و أمّا مورد الاختلاف ففيما أشار إليه المصنّف بقوله: «إذا كانت الدعوى

ص: 140

بعد التلف» إذ لو كانت قبله كانت الدعوى رجوعا في الهبة على التقديرين، و انتفى أثر الخلاف في البين.

و أمّا مرجع الاختلاف، فلتقديم قول القابض أصالة البراءة، و عدم الضمان، و استصحاب عدم تحقّق سببه. و لتقديم قول الدافع أصالة الضمان، بمعنى عموم:

«على اليد» (1)، و أعرفيّة الدافع بنيّته الراجع إلى قاعدة: «من ملك شيئا ملك الإقرار به» و أصالة الصحّة في فعل المسلم، الراجع إلى أمارة غلبة الصحّة في فعل المسلم، و إلحاق الظنّ الشي ء بالأعمّ الأغلب. و لكن مجرى الأخير فيما عدا الوجه الأخير.

ثمّ إنّ هذه الأصول الثلاثة المقتضية للضمان و إن كانت متراكمة متوافقة في اقتضاء الضمان، إلّا أنّ كلّا منها حاكمة على كلّ ما في طرف القابض من أصالة البراءة و عدم الضمان و استصحاب عدم سببه. أمّا أصالة الصحّة فلكونها من الأمارات الناظرة إلى الواقع، النازلة منزلة الواقع، الرافعة لموضوع كلّ الأصول و القواعد. و أمّا قاعدتا اليد و أعرفيّة الناوي بنيّته فلأنّهما قاعدتان مجعولتان في مورد استصحاب العدم، و هو قرينة معيّنة لحكومتهما على الاستصحاب الحاكم على سائر الأصول، و حاكم الحاكم حاكم. و لعلّ قوله:

«فافهم» إشارة إلى ذلك.

قوله: «و يحتمل العدم، إذ لا عقد مشترك هنا اختلفا في صحّته و فساده .. إلخ».

أقول: مجرى أصالة الصحّة في فعل المسلم لا يختصّ بعقوده، بل يعمّ مطلق أفعاله و نيّاته، بل و أقواله لو لا الدليل المخرج لقول الفاسق من آية النبإ (2).


1- عوالي اللئالي 2: 345 ح 10.
2- الحجرات: 6.

ص: 141

و هو أصل موضوعيّ، بل أمارة معتبرة بالأدلّة الثلاثة، مقدّمة بل حاكمة على جميع الأصول، إلّا أن يعارض بمثله، من غلبة الفساد و فساد الاعتقاد في بعض البلاد.

[المسألة التاسعة سبّ المؤمنين حرام في الجملة]

قوله: «سبّ المؤمنين حرام في الجملة بالأدلّة الأربعة».

أقول: أمّا من الكتاب فيكفي قوله تعالى وَ لٰا تَنٰابَزُوا بِالْأَلْقٰابِ (1) وَ لٰا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً (2) وَ قُولُوا لِلنّٰاسِ حُسْناً (3) وَ جٰادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ (4) الآية. و قوله تعالى وَ الَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَ الْمُؤْمِنٰاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتٰاناً وَ إِثْماً مُبِيناً (5).

قوله: «السبّ و الشتم بمعنى واحد».

أقول: بل الظاهر أنّ الشتم عرفا خاصّ بسبّ الأقارب، المسمّى بالفارسيّة:

بدشنام، و السبّ مطلق الذمّ، المسمّى بالفارسيّة: ناسزا. نعم، السبّ و الذّم بمعنى واحد.

قوله: «و لو لا لقصد الإهانة غيبة محرّمة».

أقول: مثل ما لو قصد المغتاب بالغيبة ذمّ الفعل لا الفاعل و لو استلزمه في الخارج، أو قصد بتوصيفه المذموم تشخيص الفاعل لا الذمّ، مثل الأعمى و البادي. و لكن دخول أمثال ذلك في الغيبة لا يستلزم حرمتها شرعا كما زعمه المصنّف.

و يمكن فرض الغيبة أخصّ مطلقا من السبّ، باعتبار التخصيص بالغياب دون الحضور، و أعمّ مطلقا باعتبار تخصيص السبّ بذكر المناقص و المعايب،


1- الحجرات: 11 و 12.
2- الحجرات: 11 و 12.
3- البقرة: 83.
4- النحل: 125.
5- الأحزاب: 58.

ص: 142

و تعميم الغيبة لمطلق ما يكره المغتاب و لو بذكر محامده التي لا يرضى بإظهارها و إبرازها، لمصلحة، أو خوف مفسدة تقيّة، أو حسد على نفسه أو ماله أو عرضه.

قوله: «و يمكن أن يستثنى .. إلخ».

أقول: بل و يستثنى منه نسبة الذمّ إليه، بل السبّ و القذف و القتل، في مقام الولاية العامّة و السلطنة التامّة الإلهيّة التي للنبيّ صلى اللّٰه عليه و آله- و آله عليهم السّلام بعموم:

«أَوْلىٰ بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ» (1) و كذا في مقام الشهادة على جرحه، أو الاستشارة و الاستعلام عن حاله، أو لمصلحة دفع مفسدة المنكر عنه، أو دفع مضرّة شرّ الظالم عنه، كما لو قصد الظالم أذيّة مؤمن فتدفع شرّه بنسبة الجنون إلى ذلك المؤمن، كما عن الصادق (2) عليه السّلام أنّه كان يلعن و يظهر التبرّي من بعض خواصّه من أمثال زرارة، فإذا سئل اعتذر بقوله تعالى أَمَّا السَّفِينَةُ فَكٰانَتْ لِمَسٰاكِينَ ..

فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهٰا (3). إلى غير ذلك من المصالح المسوّغة للسبّ شرعا أو عقلا، كما أنّ طبيبا ممّن يقرب عصرنا عالج بحران أحد الأكابر بإكثار سبّه و شتمه في حضوره مصلحة لجلب بحرانه.

قوله: «أنت و مالك لأبيك (4). فتأمّل».

[أقول:] لعلّه إشارة إلى أنه لو حمل الحديث على ظاهر الحقيقة لا المبالغة فلا يزيد في الظهور على قوله عليه السّلام: «العبد و ما يملك لمولاه» (5) في تخصيص حقّه بالملك و المال لا الحال و الأحوال. يعني: كما أنّ للمولى حقّ الولاء و الملكيّة في مال عبده، كذلك للأب حقّ القوت و النفقة و الولاية في مال ابنه، لا حقّ سبّه


1- الأحزاب: 6.
2- الوسائل 20: 196 خاتمة الكتاب ذيل رقم 489.
3- الكهف: 79.
4- الوسائل 12: 196 ب «78» من أبواب ما يكتسب به ح 8.
5- لم نجده بهذا اللفظ و وجدناه بلفظ آخر انظر مستدرك الوسائل 13: 429 ب «3» من أبواب الحجر ح 1.

ص: 143

و إيذائه، كما يشهد به مورد الخبر، إذا جاء رجل إلى النبيّ صلى اللّٰه عليه و آله بأبيه يطالبه إرثه من امّه و هو صغير، فسأل النبيّ أباه فقال: أنفقته عليه و هو صغير، و أكلت بقدر قوتي، فقال النبيّ صلى اللّٰه عليه و آله لابنه: «أنت و مالك لأبيك» (1).

[المسألة العاشرة السحر فهو حرام في الجملة]

قوله: «الشهيدين (2) عدّا من السحر: استخدام الملائكة و استنزال الشياطين في كشف الغائبات .. إلخ».

أقول: هذا القسم من السحر داخل في قسم أكاذيب السحرة و دعاواهم الباطلة التي لا حقيقة لها أصلا و رأسا. و إنّما عدّه من عدّه من السحر حملا لأكاذيبهم الباطلة على الصدق و الحقيقة، مشيا على الظاهر، و طردا للأقسام، و غضّا عن الضرورة على بطلانه بالأدلّة الأربعة.

فمن الكتاب ظهور قوله تعالى فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمٰا مٰا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَ زَوْجِهِ (3) في عدم ازدياد تأثيره على قدر التفرّق، و أنّ ذلك منتهى تأثيره، بقرينة ذكره في مقام تعظيم السحر و تهويله، فلو وقع به أعظم لكان هو الحريّ بالذكر، لأنّ الأمثال عند المبالغة في المقال لا تضرب إلّا بأعلى الأحوال.

و تفسير قوله تعالى وَ جٰاؤُ بِسِحْرٍ عَظِيمٍ (4) الذي كان عددهم على ما قيل اثني عشر ألف ساحر، و سحرهم أعظم ما يمكن لهم بقوله تعالى سَحَرُوا أَعْيُنَ النّٰاسِ (5) و قوله تعالى يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهٰا تَسْعىٰ (6) فلو قدروا في نصب الحبال على أزيد من الخيال، الخالي عن حقيقة الحال، لم يتركوه في الفعال، و لم يقرّ كلّهم على نفسه بالضلال و الإضلال، و لم يخرّوا بالسجود


1- الوسائل 12: 196 ب «78» من أبواب ما يكتسب به ح 8.
2- الدروس 3: 164، مسالك الأفهام 3: 128.
3- البقرة: 102.
4- الأعراف: 116.
5- الأعراف: 116.
6- طه: 66.

ص: 144

و الإذلال، بمجرّد ما شاهدوا في القبال من حقيقة الإبطال، و لم يجوّزوا الاحتمال المبطل للاستدلال. و كيف يمكن استكشاف الغيب بالسحر و استخدام الجنّ، و قد نفاه اللّٰه تعالى عنهم بقوله فَلَمّٰا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كٰانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مٰا لَبِثُوا فِي الْعَذٰابِ الْمُهِينِ (1) و قوله تعالى فَلٰا يُظْهِرُ عَلىٰ غَيْبِهِ أَحَداً إِلّٰا مَنِ ارْتَضىٰ مِنْ رَسُولٍ (2)؟! و من السنّة ما يأتي عن الاحتجاج في آخر سؤال الزنديق عن الصادق عليه السّلام «أ فيقدر الساحر على أن يجعل الإنسان بسحره في صورة كلب أو حمار أو غير ذلك؟ من جوابه عليه السّلام: «هو أعجز من ذلك و أضعف من أن يغيّر خلق اللّٰه» (3) الحديث.

و من الإجماع ما يظهر للخبير البصير من اتّفاقهم على عجز الساحر و إن بلغ ما بلغ، من تسخير ذبابة أو بقّة أو نملة أو قملة أو فأرة و لو اجتمعوا له، و إن يسلبهم الذباب شيئا لا يستنقذوه منه، فكيف بتسخير حيّة أو عقرب أو كلب أو سبع، فضلا عن تسخير الجنّ و الكواكب؟! مضافا إلى أنّ هذا القسم من السحر لو كان لبان بأكثر بيان من سائر أقسامه المبيّنة في أزماننا، من خواصّ تركيب الأدوية الغريبة، و الآلات العجيبة المستحدثة للتعيل (4) و الساعة و المارتين و الطوب، و المراكب الناريّة، و عكس الأشكال و الأفعال و الأقوال، و سائر فنون الخيال و عجائب الأحوال، لأنّ توفّر الدواعي على التسخير أشدّ و فوائده


1- سبأ: 14.
2- الجن: 26 و 27.
3- الاحتجاج: 340.
4- كذا في النسخة الخطّية، و لعلّه اسم آلة كانت آن ذاك. كما و أنّ المراد بعكس الأشكال و الأفعال و الأقوال: آلة التصوير و السينما و التسجيل. و الطوب هي المدفع من الأسلحة، و يقال لها بالفارسيّة: توپ. و المارتين أظنّها اسما لنوع من الأسلحة كالبندقيّة الرّشاشة.و المراكب الناريّة هي السفن البخاريّة.

ص: 145

أعظم [من] سائر أقسام السحر، خصوصا من فراعنة الدول و سلاطين الجور المحيطين بجميع أقسام السحر و أنحائه و مراتبه، إلّا هذا القسم الذي اتّفقت آراؤهم على استحالته و امتناعه عقلا و نقلا و عادة.

و أمّا من العقل فلضرورة العقل على قبح إجراء المعجزة على يد الكذبة، و إقدار السحرة على خوارق العادة و كشف المغيبات، المبطل للمعجزات بإبداء الاحتمال المبطل للاستدلال.

قوله: «أو بتمزيج القوى السماويّة بالقوّة الأرضيّة، و هي الطلسمات».

أقول: تمزيج القوّتين بغير الآلات المعدّة له و الأسباب الخفيّة له محال.

و بها عبارة عن مثل اكتساب حرارة الشمس بالزجاجة المحرقة لما قابلها، و ضياء الشمس و القمر بالآلات المضيئة في الظلماء و نحوه، ممّا تداول عند الكفرة.

و على كلّ تقدير فلا ربط لها بالطلسمات، لأنّ الطلسمات تمزيج حروف مقطّعة عند شرف الشمس و نحوه، يدّعون أنّها الاسم الأعظم، كسائر الأكاذيب المجعولة في تأثير جلّ الختوم و الياسين المغربي و سائر الطلسمات و المربّعات و المركّبات.

قوله: «السابع تعليق القلب، و هو أن يدّعي الساحر أنّه يعرف علم الكيمياء و علم السيمياء و الاسم الأعظم حتى يميل إليه العوام، و ليس له أصل».

أقول: و ليت شعري إذا لم يكن لدعوى علوم الكيمياء و السيمياء و الاسم الأعظم أصل مع إمكانها العقلي بل العادي، فكيف بدعوى علم الغيب و تسخير الجنّ و الأرواح و الكواكب و الملائكة من المحالات العقليّة و النقليّة و العاديّة بالضرورة و الأدلّة الأربعة؟!

قوله: «و أمّا غير تلك الأربعة، فإن كان ممّا يضرّ بالنفس المحترمة فلا إشكال أيضا في حرمته».

أقول: فيه أنّه إن كان المدار في المسألة على الجمود بظواهر الفتاوى

ص: 146

و إطلاق النصوص (1) المحرّمة للسحر فمن البيّن أنّ مقتضاها عموم حرمة السحر ذاتا، و نفسا، كحرمة الظلم و الكذب و الخمر و اللواط و القمار، و عدم الفرق و التفصيل بين ما يصدق عليه السحر من جميع أفرادها و أقسامها المتقدّمة، سواء ضرّ بالمسحور أم لا، و سواء كان المسحور حيوانا أو إنسانا، و سواء كان جنّيا أو بشرا، و سواء كان فلكا أو ملكا، خصوصا الأقسام المنصوصة في مثل خبر الاحتجاج (2) و فتوى المجلسي (3) و نحوه. فلا وجه للتفصيل بين الأربعة و غيرها، و لا بين ما يضرّ و ما لا يضرّ.

و أمّا إن كان المدار فيها على تنقيح المناط القطعي الحاصل من مثل قوله تعالى وَ مٰا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبٰابِلَ هٰارُوتَ وَ مٰارُوتَ وَ مٰا يُعَلِّمٰانِ مِنْ أَحَدٍ حَتّٰى يَقُولٰا إِنَّمٰا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلٰا تَكْفُرْ (4) الآية، و مثل قوله عليه السّلام للساحر: «حلّ و لا تعقد» (5)، من عدم كون حرمة السحر ذاتيّا نفسيّا، بل غيريّا مقدّميّا دائرا مدار ما يترتّب عليه من الضرر و الإضرار و الكفر و الاستكبار، كما هو المختار، فمن البيّن عدم حرمة شي ء من أقسامها بالذات أصلا و رأسا حتى الأقسام الأربعة، بل و حتى الاستخدام و استكشاف المغيبات على فرض إمكانه ما لم يضرّ أو يكفر، ضرورة أنّ الحرام النفسي ممّا يمتنع عقلا نزوله من وحي السماء و تعليمه من الملك و الأنبياء، كما نصّ به الآيات (6) و الإنباء (7)، بل خصّ إبداعه و تعليمه بالشياطين، كالخمر و اللواط و الشرك و الأصنام و سائر أصناف الحرام.


1- الوسائل 12: 105 ب «25» من أبواب ما يكتسب به.
2- تقدّم ذكر مصدره في هامش (3) ص: 144.
3- البحار 59: 277- 297.
4- البقرة: 102.
5- الوسائل 12: 105 ب «25» من أبواب و ما يكتسب به ح 1.
6- البقرة: 102، الأعراف: 116، يونس: 77، 81.
7- الوسائل 12: 105 ب «25» من أبواب ما يكتسب به.

ص: 147

و أيضا الحرام النفسي ممّا لا يجوز دفعه به، كما لا يجوز رفع الظلم بالظلم، و لا دفع الشتم بالشتم، و لا رفع الخمر بالخمر، و لا دفع القمار بالقمار، بخلاف السحر، فإنّه يجوز دفع السحر بالسحر، كما يجوز دفع السمّ بالسمّ. و هو أيضا ممّا يدلّ على عدم حرمته النفسيّة، كما هو مضمون الآيات و الروايات المسوّغة دفع السحر بالسحر. إلّا أن تحمل النصوص المسوّغة على حال الضرورة المبيحة للمحظورات، بسبب انحصار دفع السحر بالسحر دون غيره، أو على جوازه في الشريعة السابقة دون اللاحقة، كما احتملها المصنّف بدعوى الانصراف و الاستظهار، إلّا أنه تأمّل في المحمل الأخير.

بقوله: «و فيه نظر».

[أقول:] وجه النظر أنّ ثبوته في الشريعة السابقة كاف، لاستصحاب بقائه في اللاحقة ما لم يثبت الناسخ. و ليته تأمّل في المحمل الأوّل أيضا، بتقريب ما تقدّم من أنّه إن بني في النصوص (1) المحرّمة للسحر على ظهورها في الحرمة النفسيّة كفى به صارفا و معيّنا لحمل النصوص (2) المجوّزة على حال الضرورة، من غير حاجة إلى معيّن و مخصّص آخر في نفس النصوص المجوّزة. و إن بني في النصوص المحرّمة على المختار من عدم الحرمة النفسيّة فلا وجه لحمل النصوص المجوّزة على الضرورة أو الشريعة السابقة، لتوافق النصّين و عدم المعارضة في البين.

قوله: «و عمل السيمياء ملحق بالسحر اسما أو حكما».

أقول: فيه أن دخوله اسما واضح. و أمّا حكما فمبنيّ على حرمة اسم السحر نفسا، و أمّا على عدم تحريمه النفسي فلا وجه لإطلاق تحريم شي ء من أقسامها، حتى التسخير لدفع السحر، أو إذا كان المسخّر حربيّا أو مؤذيا.


1- الوسائل 12: 105 ب «25» من أبواب ما يكتسب به.
2- الوسائل 12: 105 ب «25» من أبواب ما يكتسب به.

ص: 148

قوله: «و المراد به- على ما قيل- إحداث خيالات لا وجود لها في الحسّ».

[أقول:] يعني: إحداث أسباب أو تركيب آلات و أدوية تصرف الخيال عن عدم الشي ء إلى وجوده، و تلبس الصورة بالحقيقة، كما سحروا الكليم به. كما أنّ الكيمياء أيضا تركيب أدوية لتلبيس صورة الفضّة و الذهب بحقيقته.

[المسألة الحادية عشرة الشعوذة فهو حرام بلا خلاف]

قوله: «و يدلّ على الحرمة بعد الإجماع- مضافا إلى أنّه من الباطل و اللهو- دخوله في السحر».

أقول: فيه أنّ دخوله في الباطل و اللهو و السحر لا يستلزم أصل الحرمة فضلا عن إطلاقها.

[المسألة الثانية عشرة الغشّ حرام بلا خلاف]

قوله: «الغشّ حرام بلا خلاف».

أقول: بل بالأدلّة الأربعة، لأنّه نوع من المكر و التلبيس و الظلم القبيح عقلا و نقلا، فمن الكتاب قوله تعالى الَّذِينَ آمَنُوا وَ لَمْ يَلْبِسُوا إِيمٰانَهُمْ بِظُلْمٍ (1) الآية.

قوله: «إلّا أن ينزّل [الحرمة- في موارد] الروايات الثلاث (2)- على ما إذا تعمّد الغشّ برجاء التلبيس على المشتري و عدم التفطّن له .. إلخ».

أقول: فيه أوّلا: منع إمكان التنزيل على التعمّد و القصد، لإباء الحكم العقليّ- و هو قبح الظلم- عن التخصيص.

و ثانيا: لو سلّمنا إمكان التخصيص فلا موجب له، و الأصل عدمه في المشكوك. و خروج ما لا يخفى من الغشّ لا يوجب خروج ما خفي بمسامحة المشتري، لأنّ العامّ المخصّص حجّة في الباقي، خصوصا و خروج ما لا يخفى


1- الأنعام: 82.
2- الوسائل 12: 208 و 220 ب «86 و 9» من أبواب ما يكتسب به ح 8 و 1 و 2.

ص: 149

منه إنّما هو بالتخصّص لا التخصيص و الخروج عن موضوع الغشّ، بخلاف ما خفي بمسامحة المشتري، فإنّه على تقدير خروجه إنّما يخرج عن حكم الحرمة، و هو تخصيص بلا مخصّص.

هذا كلّه، مع أنّ المشتقّ حقيقة في المتلبّس لا المنقضي و لا ما لم يتلبّس بعد. و من البيّن أنّ ما خفي من الغشّ، بمسامحة المشتري من الغشّ المخفيّ فعلا و غير المخفيّ شأنا، يعني: من شأنه أن لا يخفى على المشتري لو لم يتسامح في التفطّن به، و لكن قد خفي فعلا بمسامحته. و حينئذ كيف يلغى حكم الغشّ المخفيّ فعلا بواسطة عدم خفائه الشأني؟!

قوله: «فالعبرة في الحرمة بقصد تلبيس الأمر على المشتري».

أقول: فيه إمكان أن يقال: أمّا في موضوع التلبّس و تحقّق اللبس و الاشتباه فلا يعتبر القصد قطعا. و أمّا في حكمه بالحرمة فغاية ما اعتبره حديث الرفع (1) هو العلم و الاختيار، فيكون الخارج عن الحرمة هو صورة الجهل بالتلبيس أو الإكراه و الاضطرار، دون صورة عدم القصد بالتلبيس مع العلم بتحقّقه، بل و مع القصد به تبعا في ضمن قصد البيع أصالة لا محالة.

قوله: «و في التفصيل المذكور في رواية الحلبي (2) إشارة إلى هذا المعنى».

أقول: بل الأظهر كونه إشارة إلى التفصيل بين ما لا يغشّ به كخلط الماء في اللبن بقدر ما يصلحه مخيضا، و في العسل بقدر ما يصلحه و يصفّيه من الشمع، و في اللحم بقدر ما يصلحه مرقا، و منه خليط الذهب و الفضّة بقدر ما يصلحه للصياغة، و بين ما يغشّ به المسلمين كالقدر المفسد و الزائد على القدر المصلح،


1- الوسائل 11: 295 ب «56» من أبواب جهاد النفس و ما يناسبه ح 1.
2- الوسائل 12: 421 ب (9) من أبواب أحكام العيوب ح 3.

ص: 150

فإنّ القدر المصلح من أمثال ما ذكر خارج عن الغشّ اسما لا حكما حتى يكون تفصيلا بين المقصود به الغشّ و عدمه، كما لا يخفى على من راجع الرواية.

قوله: «و أنت خبير بأنّه ليس الأمر كذلك .. إلخ».

أقول: وجه الفرق بين مسألة شراء هذا الصحيح فإذا هو معيب، و مسألة الاقتداء بهذا الإمام الهاشمي فإذا هو غيره: بأنّ مسألة الاقتداء من موارد تعارض الاسم و الوصف، و أنّ الشبهة فيه موضوعيّة، باعتبار عروض الاشتباه للناوي في كون النيّة الأصليّة و المقصود الأصلي له بالذات هل هو شخص الإمام المشتبه اتّصافه بالهاشمي، أو وصفه المشتبه انطباقه على الشخص، بعد معلوميّة حكم كلّ من الفرضين، و انحصار الشبهة في الموضوع الصرف.

و أنّ مسألة شراء هذا الصحيح المنكشف كونه معيبا ليس من هذا الباب، بل وصف الصحّة ملحوظ فيه على وجه الشرطيّة لا الوصفيّة. و لو فرض على وجه الوصفيّة فالصحيح في المبيع هو المقصود الأصلي المتبوع للعقود، إذ المعيب المغاير للصحيح لا يكون مقصودا في البيع، بخلاف الوصف المغاير للاسم في الإمام قد يكون مقصودا بالأصالة في المأموم.

هذا، و لكن الفرق المذكور بين المسألتين ممنوع، فإنّ المعيب المغاير للصحيح لا يكون مقصودا في البيع مع العلم بالعيب. و أمّا مع الجهل به- كما هو المفروض- فقد يكون مقصودا بالذات و الأصالة، خصوصا إذا لم يخرجه العيب عن اسم المبيع و جنسه و إطلاقه المقصود بالبيع أصالة و بالذات، كمزج الأدنى في الأعلى، أو الماء في اللبن كما مثّل به الممثّل لمسألة الشراء بالاقتداء.

و يشهد على ما ذكرنا من عدم الفرق بين المثالين اشتراكهما في وجهين الصحّة و الفساد، بل الأقوى في بيع المعيب الصحّة، كما صرّح به المصنّف في آخر المسألة، مع أنّه لو كان الفارق كون الصحّة فيما نحن فيه ملحوظا على وجه

ص: 151

الشرطيّة أو مقصودا على وجه الأصالة لتعيّن فيه الفساد لا محالة، و لم يبق للصحّة فيه وجه فضلا عن كونه الأصحّ، أمّا على الأوّل فلمكان الشرطيّة، و أمّا على الثاني فلمكان التبعيّة.

و أمّا ما استشهد به على فساد بيع المعيب. بقوله: «و لذا اتّفقوا على بطلان الصرف فيما إذا تبيّن أحد العوضين معيبا من غير الجنس». فعلى تقدير تسليمه مفارق لما نحن فيه من المعيب بالجنس إلى المعيب بغيره الخارج المخرج عمّا نحن فيه.

[المسألة الثالثة عشرة الغناء لا خلاف في حرمته في الجملة]

قوله: «و قد يخدش في الاستدلال بهذه الروايات (1) بظهور الطائفة الاولى بل الثانية في أنّ الغناء من مقولة الكلام، لتفسير قول الزور به».

أقول: فيه أوّلا أنّ استظهار ذلك مبنيّ على دعوى ظهورين:

أحدهما: دعوى ظهور آية (2) قول الزور في القول الباطل، على أن يكون البطلان وصفا لنفس القول، كالكذب و السبّ و النميمة و البهتان و الغيبة، لا وصفا لكيفيّته، كالغناء و اللغو و اللهو.

و ثانيهما: دعوى ظهور الأخبار المفسّرة (3) له بالغناء في تخصيص حرمة القول الباطل الذي هو ظاهر الآية في خصوص المكيّف بكيفيّة الغناء الذي هو ظاهر الرواية.

و كلا الظهورين ممنوعان:

أمّا الأوّل: فلأنّ القول الموصوف بالبطلان و إن كان ظاهرا في الباطل نفسه لا بكيفيّته، إلّا أنّ المضاف إلى الباطل قد يعمّ الباطلين، إذ يكفي في النسبة أدنى ملابسة، فلا يختصّ وصف الزور بالباطل نفسه، خصوصا الوصف غير المعتمد


1- الوسائل 12: 225 ب «99» من أبواب ما يكتسب به ح 2 و 8 و 9 و 20 و 26.
2- الحج: 30.
3- تقدّم ذكر مصدره في هامش (1) من هذه الصفحة.

ص: 152

على موصوف و لا مضاف كالآية الثالثة (1)، إلّا أن تقدّر: لا يشهدون المشاهد الزور، و هو خلاف الأصل، بل و كالآية الثانية (2)، إلّا أن تقدّر: لهو الحديث بحديث اللهو، و هو خلاف الأصل أيضا. فلا وجه لتخصيصها بالباطل نفسه لا الباطل بكيفيّته.

و أمّا الثاني: فلأنّ ظهور تفسير القول الباطل بالغناء في التخصيص و التفسير بالأخصّ ليس بأولى من ظهوره في التفسير بالأعمّ، أعني: تفسير الباطل بنفسه في الأعمّ منه و من الباطل بكيفيّته، أو التفسير بالفرد الأخفى و هو الغناء من باطل الكيفيّة، ليدلّ بالفحوى و الأولويّة على الفرد الأجلى من الكذب و السبّ و الافتراء من الباطل بنفسه، بل هذا هو الأولى و المتعيّن لوجوه:

منها: أصالة عدم التخصيص فيما لو دار التفسير بين التخصيص و عدمه.

و منها: استلزام التخصيص المذكور لعدم حرمة الأقاويل الباطلة المنفكّة عن الغناء، كما استلزم عدم حرمة الغناء المنفكّ عن الأباطيل، و اللازم باطل فالملزوم مثله.

و منها: أنّ ظهور سائر الأخبار و الآية الثانية و الثالثة، و سائر الآيات كقوله تعالى وَ الَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ (3) وَ إِذٰا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرٰاماً (4)، و ما ورد في تفسير قوله تعالى وَ مٰا خَلَقْنَا السَّمٰاءَ وَ الْأَرْضَ وَ مٰا بَيْنَهُمٰا لٰاعِبِينَ. لَوْ أَرَدْنٰا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْواً لَاتَّخَذْنٰاهُ مِنْ لَدُنّٰا (5) الآية، و تفسير


1- الفرقان: 72.
2- لقمان: 6.
3- المؤمنون: 3.
4- الفرقان: 72.
5- الوسائل 12: 228 ب «99» من أبواب ما يكتسب به ح 15، و الآية، الأنبياء: 16، 17.

ص: 153

قوله تعالى السَّمْعَ وَ الْبَصَرَ وَ الْفُؤٰادَ كُلُّ أُولٰئِكَ كٰانَ عَنْهُ مَسْؤُلًا (1)، و نصوص (2) حرمة ثمن الجارية المغنّية، أظهر و أكثر و أصحّ و أصرح من الآية الاولى في الدلالة على حرمة مطلق الغناء، فلتحمل الاولى عليها، حملا للظاهر على الأظهر، و كون الأخبار كالقرآن يفسّر بعضه بعضا.

و منها: أنّ الأبلغ في الكلام، و الأغلب بتفسير الإمام عليه السّلام، و الأوفق بما ورد (3) في المقام من أنّ القرآن ذو وجوه و بطون، و إنما يفهم القرآن من خوطب به، إنّما هو عدم حمل تفسير قول الزور بالغناء على التفسير بالأخصّ، بل حمله على التفسير بالأعمّ أو بالفرد الخفيّ و الأخفى، لأنّه محلّ الحاجة و البلوى.

قوله: «فالمحرّم هو ما كان من لحون أهل الفسق و المعاصي .. إلخ».

أقول: فيه أوّلا: أنّه و إن ورد: «أقروا القرآن بألحان العرب و أصواتها، و إيّاكم و لحون أهل الفسق و الكبائر، فإنّه سيجي ء بعدي أقوام يرجّعون القرآن ترجيع الغناء و النوح و الرهبانيّة ..» الخبر (4)، ألّا أنّ لحون أهل الفسوق مجمل المراد غير مضبوط المفاد من حيث الكمّ و الكيف، فلا يحمل عليها ما هو أبين و أظهر و أكثر و أجلى و أصحّ و أصرح من نصوص الغناء، إذ كما يحتمله يحتمل السرعة في قراءة القرآن أو تفريق كلماته، كما ورد: لا تهذّه هذّ الشعر، و لا تنثره نثر الرمل، و لا على وجه القساوة و لا الغفلة، بل أقروه بالحزن و الرقّة و البكاء و التباكي و تحسين الصوت و حضور القلب و الترتيل و الوجل، إلى غير ذلك ممّا هو أعمّ من الغناء مطلقا أو من وجه.


1- الوسائل 12: 231 ب «99» من أبواب ما يكتسب به ح 29، و الآية، الأسراء: 36.
2- الوسائل 12: 86 ب «16» من أبواب ما يكتسب به ح 6.
3- لم نجده بهذا اللفظ و وجدناه بألفاظ اخرى، انظر البحار 92: 78 ب (8).
4- الوسائل 4: 858 ب «24» من أبواب قراءة القرآن ح 1.

ص: 154

و ثانيا: لو سلّمنا المدار عليه فالنهي إنّما هو عن إعماله في خصوص قراءة القرآن لا مطلقا، كما هو المدّعى.

و ثالثا: لو سلّمنا إطلاق النهي عنه، لكن مقتضى القاعدة ملاحظة النسبة بينه و بين سائر نصوص النهي عن الغناء، و الرجوع إلى حمل المطلق منهما على المقيّد و العامّ على الخاصّ، دون العكس و هو التعدّي عن الغناء لو كان أخصّ إلى مطلق الصوت اللهوي. إلّا أن يوجّه بإرجاع النزاع إلى تعارض اللغات، الراجع فيه إلى تقديم المثبت على النافي، أي: العامّ على الخاصّ. و لكن ينافيه الرجوع في تعارض كونه مطلق الترجيع أو الخاصّ بالمطرب إلى ترجيح الخاصّ بالطرب على مطلق الترجيع.

إلّا أن يوجّه تقديم المثبت على النافي هناك، بدعوى رجوع النافي فيه إلى أنّه لا أدري الإثبات الراجع إلى الدراية، و تقديم النافي هنا بدعوى رجوعه إلى الاطّلاع على خطأ المثبت، و استناد إثباته إلى مجرّد الاستعمال الأعمّ من الحقيقة، أو الاقتصار فيما خالف الأصل على المتيقّن، و الرجوع فيما عداه من الشبهة الحكميّة التحريميّة إلى أصالة الإباحة.

و لكن الفارق بين النفيين غير بيّن، و لا مبيّن في البين، بل البيّن و المبيّن بحسب القواعد رجوع التعارض على تقديره في الأوّل إلى تعارض النصّين، المحكوم فيه بتحكيم الخاصّ على العامّ، و في الثاني إلى تعارض قول اللغويّين المحكوم فيه بالعكس، و هو تحكيم العامّ على الخاصّ.

فتلخّص ممّا ذكرنا: أنّ مقتضى القواعد و رعاية البلاغة و الحكم و المصالح المقتضية لتفسيره عليه السّلام جميع آيات الزور و اللهو و اللغو و اللعب بالغناء (1) لا غير، إنّما هو جعل المدار في المحرّم من تعارض نصّي الغناء و غيره على الغناء وجودا


1- الوسائل 12: 225 ب «99» من أبواب ما يكتسب به.

ص: 155

و عدما عموما و خصوصا بلغ ما بلغ، و رفع اليد عمّا سواه من الصوت اللهوي و لحون أهل الفسوق، دون العكس كما لا يخفى. و من تعارض قولي اللغوي في كونه الترجيع أو خصوص المطرب إنّما هو على تقديم المثبت و هو مطلق الترجيع على النافي و هو خصوص المطرب، و يوافقه الاحتياط في الشبهة التحريميّة أيضا.

قوله: «و توجيه كلامهم بإرادة ما يقتضي الطرب و يعرض له بحسب وضع نوع ذلك الترجيع و إن لم يطرب شخصه لمانع».

أقول: الفرق بين هذا التوجيه الإطراب بالمقتضي نوعه و إن لم يطرب شخصه لمانع، و بين ما ادّعاه الشهيد الثاني (1) و غيره من تعميم الإطراب لما من شأنه الإطراب لو لم يمنع منه مانع، مع كون الإطراب في كليهما شأنيّا مقدّرا فعليّته على عدم وجود المانع: أنّ المقتضي للإطراب في التعميم شأنيّ بحسب شخصه، و في التوجيه فعليّ بحسب نوعه. و المانع في التعميم مانع من أصل اقتضاء الترجيع الطرب كالبكم، و في التوجيه مانع من بروزه و ظهوره لا من اقتضائه كالصمّ. نظير مانعيّة صفاء الماء من تغيّره بمقدار من الدم بحيث لو لا صفاؤه لتغيّر فعلا، و مانعيّة صبغه بلون الحمرة من بروز تغيّره التقديريّ الفعلي بحيث لولاه لبرز و ظهر تغيّره، حيث يعدّ وصف التغيّر في الأوّل شأنيّا و في الثاني فعليّا، مع عدم ظهوره الفعلي في الفرضين.

و كذلك مانعيّة غلظة الصوت من إطرابه تارة يكون مانعا من أصل اقتضائه، كما لو كان الترجيع في الخفّة بحيث لا يقتضي بنفسه الإطراب الفعلي إلّا مع انضمام حسن الصوت و عدم غلظته، و تارة يكون مانعا من بروز إطرابه و ظهوره، كما لو كان الترجيع في الشدّة بحيث يقتضي بنفسه الإطراب الفعلي من غير


1- مسالك الافهام 3: 126.

ص: 156

انضمام حسن الصوت، إلّا أنّ غلظة الصوت مانع من بروزه و ظهوره. فيعدّ إطرابه في الأوّل شأنيّا لا فعليّا، و في الثاني فعليّا لا شأنيّا. و المانع في الأوّل من أصل الإطراب، و في الثاني من بروزه و ظهوره لا اقتضائه.

قوله: «لعدم الدليل على حرمة الغناء إلّا من حيث كونه باطلا و لهوا و لغوا و زورا».

أقول: بل الأمر بالعكس، أعني: لا دليل على إطلاق حرمة الباطل و اللهو و اللغو و اللعب و الزور إلّا من حيث كونه غناء، بعد تفسير من لا ينطق عن الهوى من أئمّة الهدى (1) جميع الأصوات الباطلة من اللهو و اللغو و اللعب و الزور بالغناء قولا واحدا، إذ لو كان لها ضابط أضبط و لفظ أبين و معنى أبلغ و أجمع من لفظ الغناء لفسّرها به لا بالغناء، و لو كان للتفسير بالغناء في عرف الشارع إجمال أو احتمال ممّا طرأ في عرفنا المتأخّر لوقع السؤال و الاستفصال عنه للمشافهين به عن الإمام عليه السّلام، و إذ ليس فليس، و لو كان لبان.

و أمّا ما ذكره من حرمة سائر أقسام اللهو بالآلة كالأوتار، و بالصوت و الآلة كالقصب و المزمار، فليس لمحض إطلاق اللهو حتى يتمسّك به على حرمة الصوت اللهويّ أيضا، بل إنّما هو بالنصّ الخاصّ الذي لا يقاس.

لا يقال: لو كان الغناء و أبين و أبلغ من اللهو فما حكمة عدم تنصيص القرآن به؟

لأنّا نقول: لعلّ حكمته أنّ شأن السلطان الإجمال في البيان، و حوالة البيان إلى وسائط الترجمان، و كثرة الأعوان و مصالح الاقتران، المشار إليه بقوله صلى اللّٰه عليه و آله:

«إنّي تارك فيكم الثقلين كتاب اللّٰه و عترتي» (2) لئلّا يستغنوا عن مسألة الأوصياء، و يقولوا ما قال القائل: كفانا كتاب اللّٰه!!


1- الوسائل 12: 225 ب «99» من أبواب ما يكتسب به.
2- الوسائل 18: 19 ب (5) من أبواب صفات القاضي ح 9.

ص: 157

و أمّا حكمه الرجوع بعد هذا البيان إلى الإجمال و الكتمان و الحرمان و الخسران، فلعلّ حكمته شدّة الافتتان و الامتحان في أبناء الزمان بهجر القرآن و الأقران من خلفاء الرحمن، و الانهماك في العصيان و سخف الورع و الإيمان، و ملاهي الچائيّ و القليان، و اتّباع الهوى و الأوثان، و كفرة يونان.

قوله: «ثمّ إنّ اللهو يتحقّق بأمرين، أحدهما: قصد التلهّي و إن لم يكن لهوا، و الثاني: كونه لهوا في نفسه».

أقول: إن اعتبر ظاهر إطلاق مناهي اللهو و اللغو- كقوله تعالى وَ الَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ (1) لٰا تُلْهِكُمْ أَمْوٰالُكُمْ (2) الآية، و قوله عليه السّلام في جواب الصيد اللهو: «ما للمؤمن و الملاهي، إن المؤمن لفي شغل شاغل» (3)- فمن البيّن أن ظاهر إطلاقها هو تحقّق اللهو بكلّ واحد من الأمرين لا بمجموع الأمرين، نظرا إلى أنّ ما كان لهوا في نفسه فلا مدخليّة للقصد في تحقّقه عرفا، و ما لم يكن لهوا في نفسه كان القصد محقّقا له من دون الانضمام إلى الآخر، لأصالة عدم التخصيص. و أمّا خروج بعض التلهيّات كاللعب باللحية و السبحة- على تقديره و تقدير كونه من باب التخصيص لا التخصّص- فلا يوجب خروج الباقي، لأنّ العامّ المخصّص حجّة في الباقي.

و إن لم يعتبر ظاهرها، بأن حملت على الكراهة أو فسّرت بالغناء، فلا وجه لحرمة اللهو و لو جمع الأمرين.

قوله: «الجمع بين هذه الأخبار يمكن بوجهين».

أقول: الفرق بين الوجهين: أنّ الأول تفصيل في حرمة الغناء من حيث موارده، أعني: في مورد قراءة القرآن لا في غيره، كالتفصيل بالعكس، و التفصيل


1- المؤمنون: 3.
2- المنافقون: 9.
3- مستدرك الوسائل 13: 216 ب «79» من أبواب ما يكتسب به ح 4.

ص: 158

بين الأعراس و غيره. و الثاني: تفصيل في حرمة الغناء من حيث نفسه، أعني:

الحرمة الغيريّة في نفسه و النفسيّة في غيره، و هو جوازه في نفسه و حرمته لغيره من المقارنات الخارجة.

كما أنّ الفرق بين هذين الوجهين و مختار المصنّف من حرمة الصوت اللهوي دون مطلق الغناء: أنّ مختاره تفصيل في حرمة الغناء من حيث أفراده، كالتفصيل بين المطرب و غيره.

كما أنّ الأظهر الأشهر حرمته مطلقا من حيث نفسه، و من حيث أفراده المطربة و غيرها، و من حيث موارده في القرآن و غيره، و في الأعراس و غيرها، و في الحروب و غيرها، حتى الهلهلة في الأعراس، كالتصفيق و الرقص و دقّ الإصبعين. و كذلك الهوسة لتشييد الحروب الخاصّ بالعرب، كاختصاص المزيقة (1) و الطبل بحروب الكفرة و الإعلام بالوقت و غيره. و منه الطبل المعمول للإعلام على سطح صحن الرضا عليه السّلام من أعظم منكرات بدع الإسلام. و كذلك الترادف و التجاوب في اللطميّات بجميع أنحائها من الغناء المهيّج للطرب، و أنحاء ما يسمّيه الفرس بآوازه خوانى، من السرود (2) و التصنيف و الشلوى (3) و هفت بند و ذاكري. و كذلك ما يتغنّى به النسوان لملاعبة الصبيان و مناومة اليقظان. و كذلك تهليلات العامّة بهيئة الاجتماع و الاختراع، و سائر مبتدعات الصوفيّة في كيفيّة الذكر و التصدية و الدعاء من التطريب المبتدع.

قوله: «و النسبة بين الموضوعين عموم من وجه .. إلخ».

أقول: أمّا توجيه النسبة فبفرض مادّة الاجتماع في الغناء المقرون بالأباطيل و قراءة القرآن، و افتراق حرمة الغناء عن تحسين القراءة في الغناء


1- و هي الموسيقى.
2- كلمة فارسيّة بمعنى النشيد.
3- كلمة فارسية بمعنى التغنّي.

ص: 159

المقرون بالباطل، و العكس في الترجيع الراجع إلى التجويد في القراءة لا الغناء.

هذا، و لكن توجيه العموم و الجمع بينهما بذلك غير وجيه:

أمّا أوّلا: فلمنع كون التعارض بينهما عموما من وجه، بل هو من قبيل التباين الكلّي فإنّ تحسين الصوت و ترجيعه و تزيينه، بقرينة الإضافة إلى القراءة، و شاهد الحال القطعي من قراءة الأنبياء و الأئمّة و الصلحاء و العلماء و القرّاء السبعة و غيرهم خلفا عن سلف، هو خصوص الترتيل المأمور به من حفظ الوقوف و أداء الحروف، و ما يرجع إليه من المدّ و التفخيم و الترقيق، و سائر ما يرجع إلى محسّنات القراءة و علم التجويد. و لا ريب أنّه مبائن للغناء مباينة الضحك للبكاء و النكاح للزنا و البيع للربا، خصوصا على اعتبار الطرب في الغناء، فإنّ كلّا من الموضوعين و إن اشتركا في السنخيّة و الغاية إلّا أنّهما كالمتضادّين لا يجتمعان، كالملح في الطعام حيث إنّ المقدار المصلح منه للطعام يضادّ المقدار الزائد المفسد له في الاسم، فلا يجتمعان في الإرادة، و لا يعمّ أحدهما الآخر في الدلالة.

و أمّا ثانيا: فلو سلّمنا عدم الضدّية و البينونة بين الموضوعين و كون النسبة عموما من وجه في البين، إلّا أنّ هذا النحو من العموم في حكم المعدوم و التباين المعلوم عند أرباب العلوم، لوجوده في كلّ سحت و حرام، حتى اللواط بالغلام بالنسبة إلى أدلّة الإحسان و الإكرام، و إدخال السرور في قلب الأيتام، و حتى الزنا و السرقة بالنسبة إلى استحباب الصدقة، و حتى بذل ثمن الخمر و العذرة بالنسبة إلى أدلّة الحجّ و العمرة. و يشهد على ذلك قوله عليه السّلام: «لا يطاع اللّٰه من حيث يعصى» (1) و «لا طاعة لمخلوق في سخط الخالق» (2). و كتابه عليه السّلام إلى معاوية:

سمعتك تبني مسجدا من جباية و أنت بحمد اللّٰه غير موفّق


1- انظر مجمع البحرين 4: 372.
2- نهج البلاغة: 500 رقم 165.

ص: 160

كمطعمة الرمّان ممّا زنت به جرت مثلا للخائن المتصدّق

فقال لها أهل البصيرة و التقى ويل لك لا تزني و لا تتصدّق

(1) و أمّا ثالثا: فلو سلّمنا تعارض العموم من وجه بين الموضوعين و عدم المرجّحات الداخليّة الدلالتيّة في البين، إلّا أنّ المرجّحات الخارجيّة السنديّة من العقل و النقل و الأصحّية و الأصرحيّة و الأشهريّة، خصوصا مخالفة العامّة من المرجّحات المنصوصة من جميع الوجوه، في طرف عموم (2) حرمة الغناء دون جوازه أصلا و رأسا، لأن جوازه و لو في بعض الأفراد و الموارد من الشواذّ النادرة الضعيفة سندا و دلالة و موافقة لفتوى العامّة (3) و عملهم و ديدن ملوكهم و سلاطينهم و أهل طريقتهم و تصوّفهم، المأخوذة من ديدن الكفرة و كتبهم المحرّفة، كما في مزامير أهل الذمّة: «هلّلوني سبّحوني برقص و عود و مزمار، فإنّ اللّٰه يحبّ شعبه».

و لو لم يكن إلّا الإجماع العملي و السيرة القطعيّة من العلماء الإماميّة و الحكماء الربّانيّة و الصلحاء الدينيّة على استقباح الغناء و استنكاره لكفى به مرجّحا لعموم الحرمة، و كاشفا قطعيّا عن رأي المعصوم.

و أمّا رابعا: فلو لم يكن مرجّح إلّا قوله صلى اللّٰه عليه و آله في خطبة الوداع: «معاشر الناس ما من شي ء يقرّبكم إلى الطاعة و يبعّدكم عن المعصية إلّا و قد أمرتكم به، و ما من شي ء يقرّبكم إلى المعصية و يبعّدكم عن الطاعة إلّا و قد نهيتكم عنه» (4) لكفى به مرجّحا، لعموم (5) حرمة الغناء، خصوصا المطرب منه، حيث إنّه بديهيّ التقريب إلى معصية اللهو و اللغو و التبعيد عن طاعة الذكر و الشكر.


1- البحار 34: 430.
2- تقدّم ذكر مصادره في هامش (1) ص: 151.
3- المجموع 12: 322.
4- الكافي 2: 74 ح 2.
5- تقدّم ذكر مصادره في هامش (1) ص: 151.

ص: 161

و أمّا خامسا: فلو سلّمنا التعارض و انتفاء المرجّحات من جميع الجهات فلا نسلّم التساقط و الرجوع إلى البراءة و الإباحة، بل الأشهر تقديم الناقل، و إلّا ففي التخيير و الإباحة أو التوقّف و الاحتياط وجوه و أقوال.

قوله: «و الظاهر أنّ شيئا منها لا يوجد بدون الغناء على ما استفيد من كلام أهل اللغة».

أقول: فيه ما عرفت من مصادمة هذا الاستظهار لبداهة البينونة و الضدّيّة عرفا بين الغناء و ما يرجع إلى علم التجويد و الترتيل في القراءة، و أنّه لا يطلق الغناء على أحد القراء فضلا عن الأنبياء، بل نسبة الغناء إليهم عرفا كنسبة الزنا قبحا، و أنّ تفسير الغناء عن بعض اللغويّين (1) بمدّ الصوت و ترديده و تزيينه أو تحسينه أو ترقيقه أو ترجيعه إنّما هو تعريف لفظيّ، و هو تبديل لفظ بلفظ أعمّ أشهر، مثل قولهم: السعدانة نبت، لا تعريف معنويّ حتى يعمّ النباتات المباينة له.

قوله: «قد يكون للرجل الجارية تلهيه، و ما ثمنها إلّا ثمن الكلب (2).

فتأمّل».

[أقول:] لعلّه إشارة إلى ضعف ما ذكره من صراحة تلهّيه في حرمة مطلق الغناء، لاحتمال الانصراف إلى اللهو بالآلة أو بالباطل، كما هو المعهود المتعارف في زمان صدور الرواية.

أو إلى ضعف ما ذكره سابقا من عدم ظهور شي ء من الروايات في شي ء من جواز الغناء، بأنّ ظاهر «لا بأس بالغناء إذا لم يعص به» كما في الأولى (3)، أو «ما لم يزمر به» كما في الثانية (4)، أو «ما لم يدخل عليها الرجال» كما في


1- المصباح المنير: 455، النهاية لابن الأثير 3: 319، الصحاح 1: 171- 172.
2- تقدّم ذكر مصدره في هامش (2) ص: 153.
3- الوسائل 12: 85 ب «15» من أبواب ما يكتسب به ح 5.
4- مسائل علي بن جعفر: 156 ح 219.

ص: 162

الأخيرتين (1)، هو جوازه في نفسه ما لم يقترن بالأباطيل و المزمار و دخول الرجال، لا أنّه مجرّد إشعار في خصوص الأخيرة حتى يصحّ رفع اليد عنه لأجل إطلاقات الحرمة.

فالإنصاف في الجواب تسليم ظهور تلك الأخبار في المعارضة لنصوص الحرمة النفسيّة، إلّا أنّ الترجيح مع ذلك لنصوص الحرمة دلالة و سندا. و اعتضادا من جهات عديدة.

أمّا ترجيحها دلالة، فلوضوح أظهريّتها و أصرحيّتها في عموم حرمة الغناء من ظهور المعارض في جوازه.

و أمّا سندا، فلأكثريّتها منها جدّا، حتّى صرّح المصنّف و غيره بتواترها، دون معارضها. و كذا أصحّيتها و أشهريّتها على وجه يعدّ معارضها من الشاذّ النادر المطروح.

و كذا أبعديّتها من التقيّة و موافقة العامّة، المعلّل بكون الرشد في خلافهم (2)، خصوصا بقرينة السؤال في المعارض عن الغناء في العيدين أو عن كسب المغنّية في الأعراس الخاصّة بدأب العامّة لا غير.

و أمّا اعتضادا، فلاعتضاد نصوص (3) الحرمة بالكتاب و السنّة المتواترة، و بالسيرة القطعيّة من العلماء، و الصلحاء خلفا عن سلف إلى أن ينتهي إلى عصمة الأنبياء و الأوصياء، و بأصالة تقديم الناقل، و ما يقتضيه الحكم العقليّة و المصالح الشرعيّة و السياسات المدنيّة من تأسيس القواعد على وجه الكلّية، و حسم مادّة الفساد على وجه الاطّراد، كما في تشريع العدد و الحداد، و قوله صلى اللّٰه عليه و آله في خطبة الوداع: «معاشر الناس ما من شي ء يقرّبكم إلى المعصية و يبعّدكم عن الطاعة إلّا


1- الوسائل 12: 84 و 85 ب «15» من أبواب ما يكتسب به ح 1 و 3.
2- الوسائل 18: 80 ب (9) من أبواب صفات القاضي ح 19.
3- تقدّم ذكر مصادره في هامش (4) ص: 160.

ص: 163

و قد نهيتكم عنه» (1) الحديث.

هذا كلّه، مضافا إلى معارضة تلك النصوص المجوّزة لما في الوسائل (2) و المستند (3) ممّا هو أصحّ سندا و أصرح دلالة، من النصوص المحرّمة للغناء و كسبه أو لشراء المغنّيات و بيعهنّ، كقوله: «المغنّية ملعونة ملعون من أكل كسبها» (4)، و مرسلة الفقيه: «أجر المغنّي و المغنية سحت» (5) إلى غير ذلك.

قوله: «يرجّعون القرآن ترجيع الغناء و النوح و الرهبانيّة» (6).

[أقول:] أي: الرهبانيّة التي ابتدعوها الصوفيّة.

قوله: «لا يجوز تراقيهم» (7).

[أقول:] أي: لا يتجاوز ترجيعهم القرآن التراقي، جمع ترقوة: العظام المحيطة بالصدر المركّب عليها الرقبة، كناية عن فساد قراءتهم و عدم قبوله و صعوده إلى السماء، كما قال تعالى وَ الْعَمَلُ الصّٰالِحُ يَرْفَعُهُ (8). و هو أبلغ معنى من جعله المصنّف إشارة إلى أنّ مقصودهم عدم تدبّر معاني القرآن.

قوله: «و من المعلوم أنّ مجرّد ذلك لا يكون غناء إذا لم يكن على سبيل اللهو».

أقول: هذا إنّما يتمّ على القول بجعل الغناء الصوت اللهوي أو المطرب، و أمّا على تقدير القول بأنّه مطلق الترجيع فرفع المنافاة بين الترجيعين إنّما يكون بجعل الترجيع المحبوب في القرآن هو المقدار المصلح للقراءة، الراجع إلى علم


1- تقدّم ذكر مصدره في هامش (4) ص: 160.
2- انظر الوسائل 12: 86 ب «16» من أبواب ما يكتسب به.
3- انظر مستند الشيعة 2: 341.
4- الوسائل 12: 103 ب «24» من أبواب ما يكتسب به ح 7.
5- الفقيه 3: 105 ح 436.
6- تقدّم ذكر مصدره في هامش (4) ص: 153.
7- تقدّم ذكر مصدره في هامش (4) ص: 153.
8- الفاطر: 10.

ص: 164

التجويد و الترتيل، كالمدّ في محلّه، دون المقدار المفسد له، كالمدّ في غير محلّه، فالمقصود من ترجيعه أن لا يقرأ بغير محسّنات علم القراءة.

قوله: «و إلّا فيحكم بإباحته للأصل».

[أقول:] أي: لا بكونه مقدّمة لغير حرام، كما يظهر من قوله: «و على أيّ حال فلا يجوز التمسّك في الإباحة بكونه مقدّمة لغير حرام».

و فيه أوّلا: أنّه إذا فرض عدم عموم حرمة الغناء للغناء الموجب للبكاء المستحبّ شمله إطلاق دليل استحبابه قطعا، فلا مجرى لأصالة إباحته، لأنّه دليل حيث [لا] دليل، و الإطلاق أقوى دليل.

و ثانيا: لو سلّمنا عدم شمول إطلاق المستحبّ له، أو عدم سلامته من المعارض، فلا مجرى أيضا لأصالة الإباحة فيما هو من مقولة العبادات المتوقّفة على التوقيف و التلقي من الشارع كما و كيفا، فإنّه و إن لم يعمه دليل الحرمة إلّا أنّ الحرمة التشريعيّة المستلزمة للفرية على اللّٰه فيما لم يأذن به اللّٰه بمضمون آللّٰهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللّٰهِ تَفْتَرُونَ (1)، اللازمة من التعبّد بعباديّة البكاء في ضمن الغناء، كاف أيضا في حرمته، فلا مجرى أيضا لأصالة إباحته.

و ثالثا: لو سلّمنا إباحته بأيّ وجه و لو بالأصل لتمّ استدلال المستدلّ على إباحته و نفي حرمته بإعانته على البكاء، و لم يبق للتفريع على إباحته بالأصل وجه، لمنع الاستدلال بقوله: «فلا يجوز التمسّك في الإباحة بكونه مقدّمة لغير حرام».

قوله: «فلا دليل على تحريمه لو فرض شمول الغناء له، لأنّ مطلقات الغناء منزّلة على ما دلّ على إناطة الحكم فيه باللهو و الباطل من الأخبار المتقدّمة، خصوصا مع انصرافها في أنفسها- كأخبار المغنّية- إلى هذا الفرد».


1- يونس: 59.

ص: 165

أقول: فيه ما عرفت من عموم (1) أدلّة تحريم الغناء و عدم المخصّص و المنزّل و الصارف لها بوجه من الوجوه. مضافا إلى أصالة عدمها.

و دعوى المصنّف دلالة الأخبار المتقدّمة على إناطة الحكم باللهو و الباطل، فقد عرفت ما فيه أولا: من كون الأمر بالعكس، و هو إناطة الحكم فيها بالغناء لا غير.

و ثانيا: سلّمنا، لكن لا نسلّم كون اللهو و الباطل غير الغناء عرفا، بل هو هو، خصوصا بعد تفسيره بالغناء و تفسير الغناء بمطلق الترجيع.

و ثالثا: سلّمنا المغايرة بينهما و إناطة الحكم بخصوص اللهو و الباطل دون مطلق الغناء، لكن لا نسلّم كونه من قبيل العلّة المنصوصة، بل هو من قبيل العلّة المستنبطة التي ليست بحجّة، خصوصا فيما هو كالاجتهاد في مقابل النصّ.

قوله: «فلم أجد ما يصلح لاستثنائه .. إلخ».

أقول: ما يصلح لاستثنائه وجوه:

منها: خروجه عن موضوع الغناء و اسمه من قبيل التخصّص و الاستثناء المنقطع، لا التخصيص و الاستثناء المتّصل، و ذلك لاعتبار الطرب- و هو خفّة العقل- في موضوعه فعلا أو شأنا، و لا عقل للحيوانات رأسا فضلا عن خفّته.

و سوقها بالحداء إنّما هو بتخويفها أو تشويقها على السري لا لإطراب الغناء.

و منها: السيرة المستمرّة خلفا عن سلف على سوق الإبل بالحداء من غير نكير.

و منها: تقرير النبيّ به لعبد اللّٰه بن رواحة، بل أمره به، على ما حكاه الجواهر (2) و كاشف اللثام (3). و ما في المتن من ضعف سنده أو دلالته مجبور


1- تقدّم ذكر مصادره في هامش (1) ص: 151.
2- جواهر الكلام 22: 50.
3- كشف اللثام 2: 373.

ص: 166

بالشهرة و السيرة.

قوله: «و العمل بها تبعا للأكثر غير بعيد».

أقول: قد عرفت ما فيها سندا و دلالة و معارضة، و أنّها لا تقاوم عموم (1) النصوص المحرّمة للغناء من جهات عديدة، من جهة الأصحيّة و الأصرحيّة و الأشهريّة، و الأبعديّة عن العامّة و التقيّة عملا و فتوى، و الأوفقيّة بكتاب اللّٰه و السنّة المتواترة و السيرة القطعيّة، بل للمصالح و الحكم العقليّة، حسب ما تقدّم.

مضافا إلى معارضتها في نفسها بما سيأتي من الوسائل و المستند في ضمن أبواب البيع من النصوص المحرّمة للغناء و كسبه و شراء المغنّيات و بيعها و ثمنها، إذ لو كان لها جهة إباحة لم يحرم بيعها و لا شراؤها و لا ثمنها مطلقا.

بل ليست أخبار جواز الغناء في الأعراس (2) إلّا كأخبار جواز الدفّ فيها و في الختان، المأخوذة عن العامّة عنه صلى اللّٰه عليه و آله: «أعلنوا بالنكاح، و اضربوا بالغربال» (3)، يعني: الدفّ. و عنه صلى اللّٰه عليه و آله: «الفصل بين الحلال و الحرام الضرب بالدفّ عند النكاح» (4). و ما عن صحيح البخاري عن أبي هريرة عنه صلى اللّٰه عليه و آله: «اختتن إبراهيم عليه السّلام بعد ثمانين سنة بقدوم على دفّ» (5)، و القدوم آلة ينحت بها النجّار.

و في المجمع (6) تفسير الدفّ فيه بالجنب.

و هي مع معارضتها بأخبار الطعن و التكذيب، و معلوميّة الجعل و الفرية على النبيّ صلى اللّٰه عليه و آله من وجوه لا تخفى، مأخوذة من كتب محرّفة اليهود و النصارى، كما في


1- تقدّم ذكر مصادره في هامش (1) ص: 151.
2- الوسائل 12: 84 ب «15» من أبواب ما يكتسب به.
3- نصب الراية لأحاديث الهداية 3: 168.
4- سنن ابن ماجة 1: 611 ح 1896.
5- صحيح البخاري 4: 170، و ليس فيه على الدفّ.
6- مجمع البحرين 5: 59.

ص: 167

مزاميرهم: «هلّلوني سبّحوني برقص و عود و مزمار»، كما في إنجيلها: «يا عيسى لا تكثرنّ شرب الماء، و اصنع خمرا، فإنّه أصلح لمعدتك». إلى غير ذلك من القبائح و الفواحش و الفضائح غير المعدودة، المنسوبة فيها إلى أنبيائهم و الملائكة، بل و إلى ربّهم، تعالى اللّٰه و خلفاؤه عمّا يقول الظالمون علوّا كبيرا.

[المسألة الرابعة عشرة الغيبة حرام]

قوله: «نعم، لو أرجعت الكراهة إلى الوصف الذي يسند إلى الإنسان تعيّن إرادة كراهة ظهورها، فيختصّ بالقسم الأوّل».

أقول: فيه منع تعيين إرادة كراهة ظهورها و تخصيصها بالقسم الأوّل برجوع الكراهة إلى الوصف، لأنّ كراهة الوصف خصوصا العاهات لا العادات- كالجذام و البرص و العمى و العور و الحول و الجنون و السفه و الجهل و الفقر- كما قد يكون باعتبار ظهور ما خفي منها، كذلك قد يكون باعتبار إظهار ما لم يخف منها، و باعتبار نفس وجودها، و باعتبار الإسناد إليها و التعيير بها دون وجودها و ظهورها، فكراهة الوصف غير معيّنة لإرادة ظهور ما هو مستور، بل المعيّن له و المخصّص به لو كان فإنّما هو الأخبار المعيّنة للغناء يكشف المستور لا الظاهر و الظهور.

قوله: «وافق الأخبار».

[أقول:] أي: أخبار (1) اعتبار كشف المستور في الغيبة.

أقول: و هو الأوفق بوظيفة تفسير اللغوي- كالصحاح (2)- لموضوع الغيبة، بخلاف تفسير المستور بمعنى غير المتجاهر، فإنّه تفصيل في حكم الغيبة لا موضوعه، خاصّ بوظيفة الفقيه لا اللغوي.

قوله: «لكن المثبت لكون الغيبة حقّا بمعنى وجوب البراءة منه ليس إلّا


1- الوسائل 8: 602 و 604 ب «152 و 154» من أبواب أحكام العشرة.
2- الصحاح 1: 196.

ص: 168

الأخبار غير النقيّة».

أقول: بل لا إشكال في اعتبارها سندا و دلالة و اعتضادا. أمّا سندا فلاستفاضة سند كلّ من أخبار حقّيته و كفاية الاستغفار في مبرئيّته، خصوصا أخبار حقّيته، خصوصا مستندة خبر الكراجكي (1) و فقرأت الصحيفة السجّاديّة (2) منها، بل لا يبعد تواترها، إذ قد عمل بها من لم يعمل بأخبار الآحاد كالسرائر (3).

و أمّا أخبار مبرئيّته بالاستغفار فهي و إن لم تكن بتلك المثابة في الاعتبار و الاستفاضة، إلّا أنّها لا تخلو عن الاعتبار، خصوصا السكونيّين (4)، فإن السكونيّ و إن ضعّف بتهمة العاميّة إلّا أنّه لا أصل لها، و قضاوته محمولة على الصحّة أو التقيّة.

و أمّا دلالة مبرئيّة الاستغفار للغيبة فلظهور إطلاق الأخبار و سياقها في المبرئيّة، خصوصا عند تعذّر الاستبراء بغير الاستغفار.

و يعضده أنّ الغيبة و إن كانت من حقوق الناس، إلّا أنّها ليست كحقوق الجنايات حتّى يتوقّف إبراؤها على القصاص، و لا كحقوق القذف و السرقة حتّى يتوقّف إبراؤها على الحدّ، و لا كحقوق الماليّة حتّى يتوقّف على ردّ المثل و القيمة، بل إنّما هي من الحقوق المتوقّف إبراؤها على الإرضاء و رفع الإكراه الحاصل من الغيبة و لو شأنا. و من البيّن أنّ الاستغفار له من أعظم أسبابه المرضية له و الرافعة


1- كنز الفوائد 1: 306.
2- الصحيفة السجادية: 198، و ص 332.
3- السرائر 2: 69، ذكر قسم من صدر الحديث و تمامه في كشف الريبة ص 110.
4- كذا في النسخة الخطيّة، و هو سهو تبعا لسهو الشيخ الأعظم في المكاسب، لأنّ الموجود عن السكوني هي رواية واحدة، و هي المروية في الوسائل 11: 343 ب «78» من أبواب جهاد النفس و ما يناسبه ح 5، و أمّا الرواية الأخرى المنسوبة للسكوني- كما في المكاسب- فهي مروية عن حفص بن عمير، كما في الوسائل 8: 605 ب «155» من أبواب أحكام العشرة ح 1.

ص: 169

لإكراهه من الاستحلال أو الاعتذار منه، بل و من الإقرار بخطائه عند سامع غيبته، خصوصا عند تعذّر الاستحلال منه بموته و نحوه، أو عدم رضاه بالاستحلال إلّا بطلب شي ء زائد على الاستحلال من الأموال و الأفعال.

و يؤيّده أيضا أنّ الاستغفار استحلال من مولى العبد المملوك و وليّ أمره و مالك رقبته، و هو لا يقصر من الاستحلال من نفس العبد إن لم يكن هو الأولى بالعفو و الاستعفاء.

و لو سلّمنا عدم كون الاستغفار سببا مرضيا له و مبرئا عنه، فلا أقلّ من كونه بدلا عنه كبدليّة المثل و القيمة عن العين المضمونة عند تعذّر ردّها، و بدليّة ردّ العين المضمونة إلى ورثة الميّت، بل لا يقصر عن بدليّة الصدقة شرعا عن اللقطة و المال المجهول المالك عند تعذّر الردّ إلى صاحبها.

ثمّ المراد من مبرئيّة استغفار المغتاب بالكسر للمغتاب بالفتح هل هو الاستغفار له على وجه النيابة، أو الهديّة، أو الصدقة، أو التحيّة و الزيارة، أو الدعاء؟

فهل يستغفر المغتاب بالكسر لنفسه بقصد النيابة عن المغتاب بالفتح كما يقضي عنه دينه و حجّه و صلاته و زكاته؟

أو بقصد الهديّة بثوابه له، كإهداء ثواب التلاوة و صلاة الزيارة للمزور و صلاة الوحشة للمدفون؟

أو بقصد الصدقة عنه، كالصدقة باللقطة و الأموال المجهولة المالك عن صاحبها؟

أو بقصد التحيّة، كالزيارة و التسليم على وجه التعارف و التعظيم؟

أو على وجه الدعاء له بالمغفرة، كما يدعو لإخوانه المؤمنين بالمغفرة في ظهر الغيب، في صلاة الليل و صلاة الميّت بقوله: اللّٰهم اغفر لفلان؟

ص: 170

و هو الأظهر من قوله، عليه السّلام: «كفّارة الاغتياب أن تستغفر لمن اغتبته» (1)، و الأشبه بالمثليّة و البدليّة بين العوض و المعوّض، فإنّ الأشبه بالغيبة تداركه بالاستغفار للمغتاب بالفتح لا المغتاب بالكسر.

و يؤيّده نصوص أرجحيّة الدعاء لإخوانه المؤمنين في ظهر الغيب من الدعاء لنفسه، و قوله عليه السّلام: «إذا مات ابن آدم انقطع منه كلّ شي ء ما عدا ثلاث:

صدقة جارية، أو ولد صالح يستغفر له، أو علم ينتفع به» (2).

ثمّ الاستبراء من غيبة المملوك و الصبيّ المميز المحرّم الغيبة هل هو بالاستحلال منه و الاستغفار له، أم من مولاه و وليه، أم منهما معا، أم التفصيل بين المملوك و الصبيّ، أم بين الاستحلال و الاستغفار؟ وجوه.

و التحقيق أن يقال: أمّا الاستغفار له فلا مانع من مبرئيّته عن اغتياب كلّ من العبد و الصبيّ، بعد عموم المقتضي و إطلاق مبرئيّته.

و أما مبرئيّة الاستحلال، فإن قلنا بعموم قوله: «لا يجوز أمر الصبيّ حتى يبلغ» (3) و عموم قوله تعالى عَبْداً مَمْلُوكاً لٰا يَقْدِرُ عَلىٰ شَيْ ءٍ (4) توقّف الاستحلال من المولّى عليه على إجازة وليّه، كما هو مقتضى القول بعدم صحّة عبادات الصبيّ و معاملاته حتى يبلغ أو يجيزه الوليّ، و إلّا- أي: و إن لم نقل بعموم المنع و المانع- صحّ الاستبراء منهما كالاستغفار لهما من غير إجازة، كما هو مقتضى القول بشرعيّة عبادات الصبيّ و صحّة معاملاته.

ثمّ الاستبراء من الإيذاء و الجناية على الميّت بغيبة أو ضرب أو نبش قبر بغير ما له مقدّر شرعيّ، هل هو بالاستغفار و الصدقة عنه، أم بالاستحلال من


1- تقدّم ذكر مصادره في هامش (4) ص: 168.
2- عوالي اللئالي 2: 53 ح 139، نقلا بالمضمون.
3- الوسائل 1: 30 ب (4) من أبواب مقدّمة العبادات ح 2.
4- النحل: 75.

ص: 171

وارثه و وليّه؟ وجهان أقواهما الأوّل.

ثمّ الاستبراء من الإيلام و الجناية على الحيوان بغير ما أبيح شرعا، أو ما يضمنه الجاني لمالكه، فهل هو بالتوبة و الاستغفار من خالقها، كما يقتضيه عموم (1) مكفّريّة التوبة و الاستغفار، أو بالتلافي عليها بالتوسعة و الرفاهة في مأكلها و مشربها و الفكّ و التخفيف و التخلية عن سبيلها لو أمكن، أو ليس له مبرّئ شرعيّ سوى الجزاء و القصاص المقرّر لها في الحشر من المؤلم، كما هو من شئون العدل و قضيّة عدله المنصوص في قصاص الحيوانات بعضها من بعض، و قضيّة استصحاب حقّها إلى يوم الجزاء؟

وجوه أظهرها الأوّل، و أشبهها الأخير، و أوسطها الوسط، لما ورد من التوصية بالترفّه على الحيوانات أو فكّها و الشفاعة في عتقها، كما في الروايات المستفيضة. منها: ما في بصائر الدرجات عن جابر الأنصاري قال: «بينما نحن يوما من الأيّام عند رسول اللّٰه قعود إذ أقبل بعير حتى برك و رغا و تسيل دموعه، قال صلى اللّٰه عليه و آله: لمن هذا البعير؟ قالوا: لفلان، قال: عليّ به، فقال له: بعيرك هذا يزعم أنه ربّي صغيركم و كدّ على كبيركم، ثم أردتم أن تنحروه، قالوا يا رسول اللّٰه: لنا وليمة فأردنا أن ننحره، قال: فدعوه لي، قال: فتركوه، فأعتقه رسول اللّٰه، فكان يأتي دور الأنصار مثل السائل يشرف على الحجر، فكان العواتق يحسبن له حتى يجي ء فيقلن: هذا عتيق رسول اللّٰه صلى اللّٰه عليه و آله، فسمن» (2).

قوله: «فإنّ من لا يبالي بظهور فسقه بين الناس لا يكره ذكره بالفسق».

أقول: هذه حكمة استثناء المتجاهر لا علّة، و إلّا لم يحتج إلى استثنائه، و خرج عن موضوع اسم الغيبة لا حكمه، كالاستثناء المنقطع: فالعمدة في استثنائه


1- تقدّم ذكر مصادره في هامش (4) ص: 168، البحار 75: 257 ح 48.
2- بصائر الدرجات: 348 ح 5.

ص: 172

النصوص، و العلّة المستنبطة منها أنّ من لم يراع حرمة ربّه العظيم لم يراع الربّ حرمته بين الناس.

قوله: «و مفهوم قوله عليه السّلام: «من عامل الناس فلم يظلمهم ..» (1) الحديث».

[أقول:] لا يقال: إن هذا المفهوم أعمّ من المدّعى، لاقتضائه استثناء مطلق الفاسق المصرّ و لو لم يتجاهر، كما أفتى به المجمع (2).

لأنّا نقول: عموم هذا المفهوم معارض بعموم منطوق المستفيضة (3) المفرّقة بين المستور و الظاهر، و مخصّص بمفهوم «إذا جاهر الفاسق» (4) الخبر.

قوله: «و ينبغي إلحاق ما يتستّر به بما يتجاهر فيه إذا كان دونه في القبح».

أقول فيه: إن كان المدار في جواز غيبته على إطلاق: «إذا جاهر الفاسق بفسقه فلا حرمة له و لا غيبة له» (5)- كما هو الأظهر-، صحّ إلحاق ما استتر به بما تجاهر فيه مطلقا و لو كان فوقه في القبح لا دونه. و إن كان المدار فيه عليه تقييد إطلاق: «من تجاهر بالفسق» بخصوص المتجاهر فيه- نظرا إلى أنّ الحكم المتعلّق بالوصف المناسب مشعر بالعلّية- لم يصحّ إلحاق ما استتر به بما تجاهر فيه و لو كان دونه في القبح، فضلا عن المساوي و الأقبح.

قوله: «و لعلّ هذا هو المراد ب «من ألقى جلباب الحياء» (6)».

أقول: فيه أنّه إن خصّص إلقاء جلباب الحياء- الذي هو كناية عن التجاهر و الإعلان- بخصوص العظائم و الكبائر من المعاصي، كان الحكم بجواز الغيبة فيه أولى بالتخصيص بخصوص ما تجاهر فيه دون ما تستّر به، و لو كان المتستّر به


1- الوسائل 18: 293 ب «41» من أبواب الشهادات ح 15.
2- مجمع البيان 2: 131.
3- الوسائل 8: 604 ب «154» من أبواب أحكام العشرة.
4- الوسائل 8: 604 ب «154» من أبواب الأحكام العشرة ح 3.
5- الوسائل 8: 604 ب «154» من أبواب الأحكام العشرة ح 3.
6- مستدرك الوسائل 9: 129 ب «134» من أبواب أحكام العشرة ح 3.

ص: 173

دون المتجاهر به في القبح. و إن لم يخصّص التجاهر بخصوص كبائر المعاصي، بل بني على ظاهر إطلاقه التجاهر و لو بالصغيرة، كان الحكم بجواز غيبة المتجاهر أولى بالإطلاق و العموم و لو فيما تستّر به، سواء كان المتستّر به دون المتجاهر به أو فوقه.

قوله: «ففيه إشكال، من إمكان دعوى ظهور روايات الرخصة فيمن لا يستنكف عن الاطّلاع على عمله مطلقا .. إلخ».

أقول: فيه ما عرفت أوّلا: من أنّ المتجاهر بالفسق- على ما هو الظاهر من إطلاقه، و العلّة المستنبطة من نصوصه- هو مطلق المتظاهر في مقابل المتستّر، لا خصوص غير المستكره من ظهوره في مقابل المستكره منه، و إلّا لكان خارجا عن موضوع اسم الغيبة لا حكمه، كالاستثناء المنقطع.

و ثانيا: سلّمنا، لكن إطلاق غير المستكره من تجاهر فسقه في بلد كاف في انسحاب حكمه إلى بلد التستّر و الغربة، لأنّ انسحاب حكم إطلاق التجاهر في مكان إلى المكان المتستّر فيه لا يقصر في الإطلاق من انسحاب حكم إطلاق التجاهر في معصية إلى المعصية المتستّر فيه، خصوصا إذا كان دونه في القبح، و من الزمان المتجاهر فيه إلى الزمان المتستّر به، كالأيّام و الليالي المتبرّكة، خصوصا إذا كان دونه في القبح، و من الحال المتجاهر فيه- كحال الغضب- إلى الحال المتستّر به، خصوصا إذا كان دونه في القبح. فإطلاق التجاهر بالنسبة إلى معصية دون معصية، و بالنسبة إلى زمان دون زمان، و بالنسبة إلى حال دون حال، و بالنسبة إلى ناظر دون ناظر، إذا كان متساوي النسبة في إطلاق الحكم بالرخصة، فكذلك بالنسبة إلى مكان دون مكان، و بالنسبة إلى بلد دون بلد. فإذا اقتصر على التخصيص بالمتيقّن من حيث المكان، فليقتصر عليه من حيث أفراد المعصية و أزمنتها و شاهديها و أحوال العاصي و حالاته، و لا أظنّ التزم فقيه به.

ص: 174

و ثالثا: سلّمنا أنّ إطلاق التجاهر في مكان خاصّ معارض بإطلاق التستّر في المكان المتستّر به و إطلاق حرمة غيبة المتستّر بالأمر المستور، لكن- مضافا إلى أنه مشترك الورود، و منقوض بأن إطلاق كلّ مخصّص بالكسر معارض بإطلاق المخصّص بالفتح- فيه: أن إطلاق المستثنى- و هو التجاهر- كنفس المستثنى، فضلا عن عموم الحكم عليه بأنّه لا غيبة له، مقدّم على إطلاق المستثنى منه و هو حرمة غيبة المستور قطعا، كتقدّم الحاكم على المحكوم و عموم العلّة على المعلول.

و رابعا: سلّمنا التوقّف أو التساقط بعد المعارضة، لكن المرجع بعده إلى أصل البراءة و الإباحة لا الاحتياط و الحرمة، على ما هو المشهور المنصور في الشبهات الحكميّة التحريميّة.

قوله: «و مناط الثاني إظهار عيوبه فلا يجوز إلّا بمقدار الرخصة».

[أقول:] لا يقال، كلّ من جاز سبّه و ذمّة في المحضر جاز إظهار عيوبه في الغياب بالأولويّة، لأنّ سوء المحضر أغلظ عقوبة.

لإمكان منع الأولويّة، بل و دعوى العكسيّة في الغالب، بأنّ التأذّي و الأذيّة بإظهار العيوب المستورة لمن لم يطّلع عليها قد يكون أشدّ من التأذّي بالسبّ و الذمّ حضورا بأضعاف مضاعفة. و ذلك لأنّ السبّ حضورا و إن كان أصرح ذمّا و أغلظ هتكا من الغيبة، إلّا أنّ الغيبة من جهة الانتقال فيها من الملزوم- و هو إظهار العيب- إلى لازمة- و هو الذمّ و التنقيص- يكون كالكناية أبلغ من التصريح، لأنّه كدعوى الشي ء ببيّنة و برهان، و هو أقبح و أفحش من السبّ. إلّا أن يقال: بأن المسوّغ للأمرين لمّا كان إطلاق التجاهر بالشين، و عموم لا حرمة و لا غيبة له في البين، اقتضى اتّحاد حكم المسألتين و إن اختلف الموضوعان.

قوله: «لعدم عموم في الآية [و عدم نهوض ما تقدّم في تفسيرها

ص: 175

للحجّية .. إلخ]» (1).

أقول: فيه أولا: أنّ المستثنى بقوله تعالى إِلّٰا مَنْ ظُلِمَ (2) و إن لم يكن له عموم كعموم قوله عليه السّلام: «إذا جاهر الفاسق فلا حرمة له و لا غيبة» (3)، ليعمّ جواز تظلّم المظلوم بإظهار مناقص الظالم و لو لم تكن ظلما كالعور و الحول، أو كانت ظلما لكن بالنسبة إلى نفس الظالم كشرب الخمر و ترك الصلاة، أو بالنسبة إلى غير المتظلّم لا المتظلّم، إلّا أنّ إطلاقه و إن لم يشمل لما ذكر من الأفراد لكنّه شامل لمطلق التظلّم و لو عند من لا يزيل الظلم عنه، و ذلك لانتفاء المقيّد الصارف لإطلاق مَنْ ظُلِمَ عن هذا المقدار من التظلّم، و إن وجد الصارف له عن المقدار الزائد عليه.

و ثانيا: سلّمنا الصارف لهذا الإطلاق عمّا نحن فيه، لكن لا صارف لإطلاق: «فَمَنِ اعْتَدىٰ عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدىٰ عَلَيْكُمْ» عن التظلّم عند من لا يزيل الظلم، بل تظلّم المظلوم بمقدار المظلوميّة و عدم الزيادة على المثليّة قسم من التقاصّ و القصاص على قدر الحقّ، الكافي في جوازه العقل بل و الأصل، و لو لم يرد فيه نصّ. و عدم التمكّن من إزالة الظلم لا يمنع من التظلّم رأسا، كما أن عدم التمكّن من استيفاء الحقّ لا يمنع من حقّ المطالبة، و لا من حقّ العقوبة و المؤاخذة، و إن لم يفد إلّا تسجيل العذاب، كما ورد: «ليّ الواجد يحلّ عرضه و عقوبته» (4) و «ما لا يدرك كلّه لا يترك كلّه» (5)، بل منع المظلوم من التظلّم عند من لا يزيل ظلمه مزيد في ظلمة، فلا يجوز.


1- يلاحظ أن العبارة ما بين المعقوفتين قد علق عليها السيّد المحشّي «قدّس سرّه» في هنا.
2- النساء: 148.
3- الوسائل 8: 604 ب «154» من أبواب أحكام العشرة ح 4.
4- الوسائل 13: 90 ب (8) من أبواب الدين و القرض ح 4.
5- عوالي اللئالي 4: 58 ح 207.

ص: 176

قوله: «و عدم نهوض ما تقدّم في تفسيرها للحجّية».

[أقول:] و ذلك لعدّ تفسير القميّ (1) من الروايات الموقوفة، و العيّاشيّ (2) من المضمرة. و لكن يمكن توجيهها بأنّ شاهد حال الراوي فيها يعدّها في عداد المسانيد الظاهرة في الحجيّة.

قوله: «مع أنّ المرويّ عن الباقر عليه السّلام في تفسيرها المحكيّ عن مجمع البيان: «أنّه لا يحبّ الشتم في الانتصار إلّا من ظلم» (3) الحديث».

[أقول:] فيه: أنّ معنى الانتصار بالشتم ليس الشتم عند من ينتصر به و يزيل ظلمه، بل معناه مطلق التظلّم و معارضة المظلوم الظالم بالظلم المماثل، و مغالبة المشتوم الشاتم بالشتم، و استيفاء كلّ حقّ بمثله بما يجوز الانتصار به في الدين، أي: بمقدار ما يجوز المعارضة و المقابلة به في الدين، و هو المثليّة لا التشفّي بالزيادة. و حينئذ فتظلّم المظلوم بالظلم و المشتوم بالشتم و المذموم بالذم انتصار على الظالم بمثل ظلمه و بما يجوز الانتصار به في الدين، خصوصا إذا كان بما دون المثل كمّا أو كيفا، و عند من لا يرجى منه، إزالة ظلمه و استيفاء تمام حقّه، بل لو زاد على المثل بأضعاف لم يخرج عن صدق الانتصار و إن خرج عن حكمه.

قوله: «و ما بعد الآية لا يصلح للخروج بها عن الأصل الثابت بالأدلّة العقليّة و النقليّة».

أقول: فيه: أنّ ما بعد الآية- و هو مفهوم حصر إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النّٰاسَ وَ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ (4)- كمنطوق ما قبل الآية هو عموم نفي السبيل عن الظلم بحقّ، و هو تظلّم المظلوم و استيفاء ظلمه بالمثل


1- تفسير القمي 1: 157.
2- تفسير العياشي 1: 283 ح 296.
3- مجمع البيان 2: 131.
4- الشورى: 42.

ص: 177

و الظلم بحقّ على وجه التقاصّ و القصاص بحقّ. و من البيّن أنّ هذا المقدار من التظلّم بالمثل خارج عن موضوع الأدلّة العقليّة- و هو قبح الظلم- و النقليّة- و هو عموم وَ لٰا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً (1) و لٰا يُحِبُّ اللّٰهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ (2)- من باب التخصّص لا التخصيص حتّى يقتصر في الخروج على المتيقّن، ضرورة أنّ استيفاء المظلوم حقّه من الظالم بالمثل و ما دونه و لو كان من حقّ الأولويّة لا الحقوق الواجبة لا يعدّ ظلما و لا حراما، بل يكفي في جوازه العقل، بل و الأصل، و لو لم يكن عليه عموم و لا نصّ.

نعم، لو أردنا إثبات جواز التظلّم بالزيادة على المثل كمّا أو كيفا، كتظلّم المظلوم بغير ما ظلم به من إظهار المناقص غير الظلميّة كالعور و الحول، أو بما ظلم الظالم به نفسه لا غيره كشرب الخمر و ترك الصلاة، أو بما ظلم به شخص ثالث غير المتظلّم، توقّف على إطلاق أو عموم المسوّغ من النصوص.

قوله: «الظاهر من الجواب أنّ الشكوى إنّما كانت من ترك الأولى».

أقول: كما يحتمل أن يكون المراد من الكامل البالغ أعلى مراتب الكمال لتكون، الشكوى من ترك حقّ الأولويّة، كذلك يحتمل البالغ أدنى درجاته لتكون الشكوى من تركه الحقوق الواجبة، و الاحتمال مبطل للاستدلال.

و لكن يسهّل الخطب أنّ هذا الخبر و إن لم يظهر منه المدّعى إلّا أنّ الخبر السابق (3): «من استقضى فقد أساء» (4) صريح فيه، مضافا إلى ظهور خبري العيّاشي (5) و المجمع (6) في تفسير «من ظلم» بمن لم يحسن ضيافة الضيف، مضافا


1- الحجرات: 12.
2- النساء: 148.
3- لا يخفى أنّه لم يسبق ذكر منه «قدّس سرّه».
4- الوسائل 13: 100 ب «16» من أبواب الدين و القرض ح 1.
5- تقدم ذكر مصادرهما في هامش (2 و 3) ص: 176.
6- تقدم ذكر مصادرهما في هامش (2 و 3) ص: 176.

ص: 178

إلى إطلاق نفس الآية، و عموم فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدىٰ عَلَيْكُمْ (1).

بل قد عرفت أنّ التظلّم بالمثل و لو عن حقّ الأولويّة خارج عن موضوع الظلم و الغيبة اسما لا حكما، فيكفي في جوازه العقل و الأصل، و لو لم يكن له عموم و لا نصّ.

قوله: «فالأحوط عدّ هذه الصورة من الصور العشر المتقدّمة (2) التي رخّص فيها في الغيبة لغرض صحيح أقوى من مصلحة احترام المغتاب».

أقول: أمّا الصور العشر المتقدّمة فهي ما جمعها في آخر الأمر الأوّل من معاني الغيبة بقوله: «ثمّ الظاهر المصرّح به في بعض الروايات (3) عدم الفرق في الغيبة بين ما كان نقصا في بدنه، أو نسبه، أو خلقه، أو فعله، أو قوله، أو دينه، أو دنياه حتّى في ثوبه، أو داره، أو دابّته».

و أمّا المراد من ترخيص الغيبة فيها لغرض صحيح فهو ما ذكره في الأمر الثالث فيما استثني من الغيبة بقوله: «و اعلم .. إلخ».

قوله: «فإنّ خيانته قد تكون أقوى مفسدة من الوقوع في الغيبة».

[أقول:] وجه الأقوويّة أنّه قد يترتّب على ترك النصح بترك غيبة الخائن إتلاف المال و الحال، و النفوس و الناموس، المفوّضة إلى الخائن المستتر و الفاسق المضمر، بالوكالة و الأمانة و الشراكة و الوصلة، خصوصا بتوصية الأموات و تولية الموقوفات.

و بواسطة ترك نصح المستشير و عدم التحذّر و التحذير من الخائن و الشرير


1- البقرة: 194.
2- يلاحظ أن في المكاسب: الآتية، بدل: المتقدّمة، و تعليقة السيّد المحشّي «قدّس سرّه» تبتني على نسخته من المكاسب، و هي نسخة مغلوطة، و الصحيح ما في المتن، و هي عشر صور ذكرها في نفس الصفحة، ابتداء من س: 18.
3- مستدرك الوسائل 9: 117 ب 132 من أبواب أحكام العشرة ح 19.

ص: 179

يترتّب الضرر الخطير على المستشير، بل و العذاب الكثير على الخائن الفقير، بخلاف اغتيابه لأجل التحذّر و التحذير، فليس فيه سوى التعبير عمّا فيه من التحقير و إظهار ما في الضمير.

قوله: «مع ظهور عدّة من الأخبار في وجوبه».

[أقول:] كقوله عليه السّلام: «اذكروا المرء بما فيه ليحترزه الناس» (1).

قوله: «و احتمال كونها متجاهرة مدفوع بالأصل».

أقول: فيه أوّلا: أنّ أصالة عدم كونها متجاهرة بعد فرض كونها عاصية من قبيل الشكّ في الحادث، المعارض فيه أصالة عدم التجاهر بأصالة عدم التستّر، لا الشكّ في الحدوث حتى يعتبر فيه الأصل، نظير الشكّ في كون المعصية الصادرة غيبة أو سبّا، و كون الفاعل رجلا أو امرأة، ممّا لا مجرى للأصل فيها عند العقل و العقلاء.

و ثانيا: أنّ أصالة عدم تجاهرها دليل حيث لا دليل على ظهور تجاهرها من عموم: «لا تدفع يد لامس» (2)، مع فرض حبسها و تقييدها و المنع من الدخول عليها، بل أيّ تجاهر أجهر من ذلك.

و ثالثا: سلّمنا، لكن مجرّد عدم ردّ غيبتها النبيّ صلى اللّٰه عليه و آله لا يدلّ على تقرير جواز غيبتها، فإنّه إنّما يدلّ على تقريره لو لا رادع معلوم من مثل قوله تعالى:

وَ لٰا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً (3) الآية، و لٰا يُحِبُّ اللّٰهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ (4).

و رابعا: سلّمنا عدم رادع معلوم، لكن عدم ردع النبيّ صلى اللّٰه عليه و آله إنّما هو من جهة عدم تحقّق الغيبة، و هو إظهار العيب المستور عليه صلى اللّٰه عليه و آله، لإحاطة علمه صلى اللّٰه عليه و آله بجميع


1- جامع السعادات 2: 321.
2- الوسائل 18: 414 ب «48» من أبواب حدّ الزنا ح 1.
3- الحجرات: 12.
4- النساء: 148.

ص: 180

الأحوال و الفعال بواسطة العلم الحصولي و عرض الأعمال. و حينئذ فلا دلالة في أمثال تلك الروايات على جواز غيبة المستفتي عنه للمستفتي، سوى كون مصلحته أقوى من مصلحة تركها، كأقوائيّة مصلحة كشف عورة المريض على الطبيب من مصلحة سترها، فيقتصر في جوازها على قدر الضرورة و حالها و محلّها لا غير.

قوله: «إلّا أنّ ما يدلّ على كونه من الكبائر كالرواية (1) المذكورة [و نحوها] ضعيفة السند».

[أقول:] و يمكن النظر فيه أوّلا: بانجبار سندها بالشهرة و الاستفاضة، بل التواتر حسب ما سيأتي. و أمّا دلالتها فصريحة في أنّها كالغيبة من الكبائر، بل التصريح في بعضها بأنّ السامع عليه وزر المغتاب سبعين مرّة (2).

و ثانيا: لو سلّمنا، لكن يكفي في أنّ سماع الغيبة كالغيبة من الكبائر كونه أحد ركني الغيبة، كالعقد المتوقّف تحقّقه على كلّ من الإيجاب و القبول و المزاوجة، المتوقّف تحقّقه على كلّ من الزوج و الزوجة [و الصفّ و المقاتلة من قوله تعالى إِنَّ اللّٰهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقٰاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا (3)] (4) المتوقّف تحقّقه على الاثنينيّة، كما هو الظاهر أيضا من قوله عليه السّلام: «السامع للغيبة أحد المغتابين» (5) على قراءته بالتثنية لا الجمع، كما هو الظاهر.

قوله: «فيحمل فعل القائل على الصحّة ما لم يعلم فساده».


1- كشف الريبة: 64.
2- الوسائل 8: 99 ب «152» من أبواب أحكام العشرة ح 13.
3- الصف: 4.
4- ما بين المعقوفتين ورد في النسخة الخطّية، و لم نر له وجها صحيحا، و لعلّه من طغيان قلمه الشريف «قدّس سرّه»، و وضعناه في المتن كما هو عليه.
5- كشف الريبة: 64.

ص: 181

[أقول:] و يمكن النظر فيه أولا بما في القوانين (1) و أصول المصنف (2) من أنّ أصالة الصحّة إنّما تقتضي الصحّة الفاعلي لا الحاملي.

و ثانيا: سلّمنا الصحّة الحاملي، لكن مجراها فيما لم يكن الأصل فيه الفساد من الأفعال، كالبيع و الشراء و نحوهما ممّا يكون الصحّة و الفساد فيه على السواء، لا كبيع الوقف و الربا و الخمر و النجس و الرشى و الظلم و الجور و الزنا ممّا كان الأصل فيه الفساد و الفحشاء، إلّا ما صحّ بإكراه أو استثناء، خصوصا في هذه الأزمنة و البلاد، الغالب فيها الفساد و الجهل و العناد، و سوء الفعال و الاعتياد بالملاهي و الرقاد، لقوله عليه السّلام: «لا تثقنّ بأخيك كلّ الثقة، فإنّ صرعة الاسترسال لا تستقال» (3). و ما في نهج البلاغة: «إذا استولى الفساد على الزمان و أهله ثمّ أحسن رجل الظنّ برجل فقد غرّر» (4). و قوله عليه السّلام: «إذا كان الجور أغلب من الحقّ، لا يحلّ لأحد أن يظنّ بأحد خيرا حتّى يعرف ذلك منه» (5).

قوله: «و لعلّ وجه زيادة عقابه أنّه إذا لم يرده تجرّي المغتاب على الغيبة، فيصرّ على هذه الغيبة و غيرها».

أقول: مضافا إلى أنّ عدم ردّ المغتاب يوجب تجرّيه، بل و إصراره عليه بغير حساب، بل و استحلال ما عاب و اغتاب، إلى حدّ الارتداد و الخلود في العقاب، بل و يوجب سوء الظنّ و الارتياب في كلّ ما لا يدركه من الحقّ و الصواب، و لو كان من كلام أولي الألباب و أحكام ربّ الأرباب. مضافا إلى أنّ كون السماع الجزء الأخير للعلّة التامّة للاغتياب، و كونه عمدة الأسباب، كاف في


1- انظر قوانين الأصول 2: 126.
2- فرائد الأصول: 417.
3- الوسائل 8: 502 ب «102» من أبواب أحكام العشرة ح 4.
4- نهج البلاغة: 489 رقم 114.
5- البحار 78: 370، نقلا بالمضمون.

ص: 182

تضاعف العقاب.

قوله: «و الظاهر أنّ الردّ غير النهي عن الغيبة».

[أقول:] و ذلك الظهور الردّ و النصر و الانتصار، خصوصا بقرينة ما يترتّب عليه من كثرة الأجر و الآثار في تخطئة المغتاب بأنّه غير مصاب، لا مجرّد منعه عن الاغتياب الذي هو إبراز عيب المعاب، فإنّ مجرّد ذلك ليس ردّا على المغتاب، بل لا يخلو في نفسه عن نوع اغتياب، و تصديق المغتاب فيما أعاب، فكيف يترتّب عليه ذلك الثواب؟! و من هنا يظهر أنّ ردّ الغيبة على المغتاب الواجب على السامع لا يجوز بمثل: لا تكذب على أخيك و لا تتّهمه، أو لا تفتر عليه، أو قد فسقت، أو لعنت، أو نممت فيما نسبته، أو وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ (1) وَيْلٌ لِكُلِّ أَفّٰاكٍ أَثِيمٍ (2) هَمّٰازٍ مَشّٰاءٍ بِنَمِيمٍ (3) فإنّ أمثال ذلك من باب ردّ الفاسد بالأفسد، و انتهاك حرمة الحاضر لردّ انتهاك حرمة الغائب، و هو أحد المحرّمين، بل أقواهما غير الجائز من باب ردّ الغيبة، و إن جاز من باب النهي عن المنكر المتوقّف عليه.

و لا يجوز أيضا بمثل قولك لا تغتب، أو لا تجهر بالسوء، و لا تظهر معايب أخيك، و لا تعيّبه بما فيه، لاستلزامه تصديق المغتاب فيما أعاب، نظير قول المولى لعبده: طلّق زوجتك، فإنّه إمضاء لعقده، فلا يجب عليه الطلاق، بخلاف ما لو قاتل: لم أمض عقدك، فإنّه طلاق، و نظير اجتهاد الشافعيّة (4) في مقابل نصوص:

«التائب كمن لا ذنب له» (5) بأنّ التوبة عن ذنب إقرار به فيؤخذ به.


1- الهمزة: 1.
2- الجاثية: 7.
3- القلم: 11.
4- المغني لابن قدامة 12: 81.
5- الوسائل 11: 358 و 360 ب «86» من أبواب جهاد النفس و ما يناسبه ح 8 و 14.

ص: 183

بل الردّ الواجب على السامع للغيبة من باب ردّ الغيبة إنّما هو بمثل قولك:

لا تسئ الظنّ بأخيك، فإنّ بعض الظنّ إثم، و احمل فعل أخيك على أحسنه، أو لعلّ ما أخطأت أو سهوت أو اشتبهت في الإعابة، أو لعلّ ما المعاب معذور شرعا بسهو أو نسيان أو غفلة، أو مقهور في الإساءة بإكراه أو اضطرار أو علّة، فإنّ هذا هو ردّ الغيبة لا غير.

قوله: «و الظاهر إرادة الحقوق المستحبّة التي ينبغي أداؤها .. إلخ».

أقول: بل الأظهر خصوصا من قوله عليه السّلام: «لا براءة له منها إلّا بأدائها أو العفو» و قوله: «فيقضى له عليه» (1) إنّما هو الحقوق الواجبة، و ذلك لظهور انصراف حقوق الأخوّة في الكامل العارف المؤدّي لحقوق الأخوّة الإيمانيّة حقّ الأداء. و من المعلوم أنّ مثله واجب المجازات بالمثل بل الأحسن، لقوله تعالى:

هَلْ جَزٰاءُ الْإِحْسٰانِ إِلَّا الْإِحْسٰانُ (2) وَ إِذٰا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهٰا أَوْ رُدُّوهٰا (3) و قوله تعالى إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا (4) الآية. غاية الأمر وجوب تلك الحقوق بالوجوب الكفائيّ لا العيني. و يدلّ عليه اتّفاق النصوص و الفتاوى على وجوب إقامة المعتكف في المسجد، و عدم جواز الخروج إلّا لأمر واجب، كجنازة أو عيادة أو جمعة أو لقضاء حاجة مؤمن.

و حينئذ فما يرى من عدم وجوب تلك الحقوق إنّما هو بواسطة قيام من به الكفاية، كردّ سلامه و حضور جنازته و تسميت عطسته و قضاء حاجته، أو بواسطة تجاهره بالفسق، المسوّغ لغيبته، أو بواسطة تضييعه حقوق الأخوّة المسقط لحقوق نفسه بالمقاصّة أو التهاتر في الحقوق، خارج بالتخصّص لا التخصيص.


1- الوسائل 8: 550 ب «122» من أبواب أحكام العشرة ح 24.
2- الرحمن: 60.
3- النساء: 86.
4- الحجرات: 10.

ص: 184

و لو سلّم فهو مقدّم على التجوّز بحمل الحقوق على الحقوق المستحبّة، خصوصا مع استلزامه التخصيص بغير ما وجب من الحقوق، كردّ سلامه و حفظ حليلته. مضافا إلى أنّ العامّ المخصّص من تلك الحقوق الواجبة بالاستحباب حجّة في الباقي، فكيف يحمل جميع الحقوق على الاستحباب مع اختصاص التخصيص بالمستحبّ- على تقدير التسليم- ببعضها؟!

قوله: «ثمّ إنّ ظاهرها و إن كان عامّا إلّا أنّه يمكن تخصيصها بالأخ العارف بها المؤدّي لها».

أقول: و يمكن النظر فيه أولا: بأنّ التخصيص خاصّ بفرض الحقوق واجبة، و أمّا على ما فرضت من كونها مستحبّة فلا يتأتّى التخصيص في المستحبّات، لأنّ تعدّد مراتبها يوجب الجمع بينهما و رفع المنافاة.

و ثانيا: لو سلّمنا تخصيص الحقوق بالأخ الكامل، لكن المخصّص لا ينحصر فيما ذكر من النصوص، بل فيها ما هو أصحّ و أصرح جدّا، مثل ما نقله البحار: «من أنّ زيد النار دخل على أخيه الرضا عليه السّلام فسلّم فلم يردّ عليه الجواب، فقال: أنا ابن أبيك و لا تردّ عليّ جوابي؟ فقال عليه السّلام: أنت أخي ما دام أطعت اللّٰه، فإذا عصيته لم يكن بيني و بينك إخاء» (1) الحديث.

و ما في نهج البلاغة من قوله عليه السّلام: «و اللّٰه لقد رأيت عقيلا و لقد أملق حتى استماحني من برّكم صاعا، و رأيت صبيانه شعث الشعور، غبر الألوان من فقرهم، كأنّما اسودّت وجوههم بالعظلم، و عاودني مؤكّدا، و كرّر عليّ القول مردّدا، فأصغيت إليه سمعي، فظنّ أنّي أبيعه ديني، و اتّبع قيادة مفارقا طريقتي، فأحميت له حديدة ثمّ أدنيتها من جسمه ليعتبر بها، فضجّ ضجيج ذي دنف من


1- البحار 49: 221 ح 10.

ص: 185

ألمها، و كاد أن يحترق من مسيسها» (1) إلخ.

و ما في الاحتجاج في آخر احتجاجات الرضا عليه السّلام: «أنّه عليه السّلام لمّا ولي ولاية العهد دخل إليه آذنه فقال: إنّ قوما بالباب يستأذنوك، يقولون: نحن من شيعة عليّ.

فقال عليه السّلام: أنا مشغول فاصرفهم.

فصرفهم إلى أن جاءوا هكذا يقولون و يصرفهم شهرين، ثمّ أيسوا من الوصول فقالوا: قل لمولانا: إنّا شيعة أبيك عليّ بن أبي طالب عليه السّلام، و قد شمت بنا أعداؤنا في حجابك، و نحن ننصرف عن هذه الكرّة، و نهرب من بلادنا خجلا و أنفة ممّا لحقنا، و عجزا عن احتمال مضض ما يلحقنا بشماتة أعدائنا.

فقال عليه السّلام: ائذن لهم ليدخلوا، فدخلوا فسلّموا عليه فلم يردّ عليهم، و لم يأذن لهم بالجلوس، فبقوا قياما.

و قالوا: يا ابن رسول اللّٰه ما هذا الجفاء العظيم و الاستخفاف بعد هذا الحجاب الصعب، أيّ باقية تبقى منّا بعد هذا؟

فقال الرضا عليه السّلام: أقروا وَ مٰا أَصٰابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمٰا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَ يَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ ما اقتديت إلّا بربّي عزّ و جلّ و برسوله و بأمير المؤمنين عليه السّلام.

إنّ شيعته: الحسن و الحسين و سلمان و أبو ذر و المقداد و عمّار و محمد بن أبي بكر، الذين لم يخالفوا شيئا من أمره، و أنتم في أكثر أعمالكم له مخالفون، و مقصّرون في كثير من الفرائض، و تتهاونون بعظيم حقوق إخوانكم في اللّٰه، و تتّقون حيث لا تجب التقيّة، و تتركون التقيّة حيث لا بدّ من التقيّة لو قلتم: إنّكم مواليه و محبّوه، و الموالون لأوليائه و المعادون لأعدائه، لم أنكره من قولكم، و لكن هذه مرتبة شريفة ادّعيتموها، إن لم تصدّقوا قولكم بفعلكم هلكتم، إلّا أن


1- نهج البلاغة: 346- 347 رقم (224)، و فيه بدل «مسيسها» «ميسمها».

ص: 186

تدرككم رحمة ربّكم.

قالوا: يا بن رسول اللّٰه فإذا نستغفر اللّٰه و نتوب إليه من قولنا، بل نقول كما علّمنا مولانا: نحن محبّوكم و محبّو أوليائكم، و معادو أعدائكم.

فقال الرضا عليه السّلام: فمرحبا بكم يا إخواني و أهل ودّي ارتفعوا، فما زال يرفعهم حتى ألصقهم بنفسه.

ثمّ قال لحاجبه: كم مرّة حجبتهم؟ قال: ستّين مرّة.

قال: فاختلف إليهم ستّين مرّة متوالية، فسلّم عليهم و أقرأهم سلامي، فقد محوا ما كان من ذنوبهم باستغفارهم و توبتهم، و استحقّوا الكرامة لمحبّتهم لنا و موالاتهم، و تفقّد أمورهم و أمور عيالاتهم، فأوسعهم نفقات و مبرّات و صلات و دفع معرّات» (1).

[المسألة الخامسة عشرة القمار و هو حرام إجماعا]

قوله: «فإن ظاهر ذلك أن محلّ الخلاف هنا هو محلّ الوفاق هناك».

[أقول:] و ذلك لظهور تحريم المسابقة فيما عدا المنصوص مع العوض الذي هو محلّ الوفاق هناك في الحرمة التكليفيّة الذي هو محلّ الخلاف هنا، لا خصوص الحرمة الوضعيّة و هو الفساد هناك.

قوله: «ليس بحرام إلّا أنّه لا يترتّب عليه الأثر».

[أقول:] أي: أثر صحّة المراهنة و الزوم الوفاء بها.

قوله: «لكن هذا وارد على تقدير القول بالبطلان».

[أقول:] يعني: إيراد ظهور الخبر (2) في نفي حرمة نفس فعل المراهنة وارد أيضا في نفي حرمة المؤاكلة به، مع ما عرفت من الاتّفاق على بطلانه و حرمة أكل المال بالباطل، و أنّ ما يضمن بصحيحه يضمن بفاسده.


1- الاحتجاج: 440- 441.
2- الوسائل 16: 114 ب (5) من أبواب كتاب الجعالة ح 1.

ص: 187

قوله: «حرام أيضا. فتأمّل».

[أقول:] إشارة إلى إمكان تخصيص قوله عليه السلام: «لا شي ء في المؤاكلة» (1) بنفي الحرمة دون نفي الضمان، كما في الجاهل بحكمها، أو بنفي الضمان دون الحرمة، كما في أكل الرشوة المبذولة على وجه الهديّة، على ما اختاره المصنّف من إرجاعها إلى الهبة الفاسدة، أو بنفي الصحّة و آثارها لا نفي الحرمة و لا الضمان، كما لعلّه الأظهر.

و عليه، فالخبر على تقدير صحّته مناف لصحّة المراهنة، لا لحرمتها، و لا لضمان المؤاكلة بها، فيوافق المشهور المنصور، لا أنّه يخالفه.

قوله: «إلّا أن يقال: بأن مجرّد التصرّف من المحرّمات العلميّة .. إلخ».

أقول: فيه أوّلا: أنّ الجهل في سائر الأنام و إن كان عذرا مغيّرا في الظاهر للحرام، بواسطة تقييد الأحكام بالعلم و الإعلام، إلّا أنّ الاقتحام في خلاف الواقع للإمام، و تفويت الواقع عليه و لو حال الجهل و المنام، نقص تامّ و نقض عامّ لغرض الحكيم العلّام، من نصبه على الأنام حتى على الملائكة الكرام، و جعله مظهرا للعدل و الاعتصام، و هدى إلى باب السلام، و مصباحا في الظلام، و مرآة لأوصاف الجلال و الجمال و الكمال، كما قرّر في محلّه عقلا و نقلا، بل بكلّ من وجوه الأدلّة الأربعة بأبلغ وجه و أجمع.

و ثانيا: أنّ حديث (2) تقيّؤ الإمام عليه السّلام ضعيف السند بسهل بن زياد، و اشتراك أحمد بن محمد. مضافا إلى شذوذه، و موافقته العامّة، و كونه من الآحاد التي لا يجوز التعويل عليها في أصول الدين.

و ثالثا: أنّه ضعيف الدلالة، لأنّ تقيّؤ المأكول المقامر به بعد الإخبار إنّما يستلزم الجهل بحرمته حين الأكل لو حصّله الغلام من مال غير الإمام بالمقامرة،


1- الوسائل 16: 114 ب (5) من أبواب كتاب الجعالة ح 1.
2- الوسائل 12: 119 ب «35» من أبواب ما يكتسب به ح 2.

ص: 188

و أمّا لو حصّله بالشراء من مال الإمام عليه السّلام- كما هو ظاهر الخبر (1)- فمجرّد مقامرة الغلام به بعد الشراء لا يوجب حرمته، بل و لا كراهته على الإمام عليه السّلام، حتى يكون التقيّؤ بعد إخباره بالحال من جهة حصول العلم بحرمته بعد الجهل به حين الأكل.

بل يكون التقيّؤ حينئذ إمّا من جهة مجرّد رفع الاستكراه الطبعي الحاصل لنفسه من الإخبار، أو لغيره المخبر فيه بلعب القمار، نظير غسل اليد بعد الأكل من وسخ الطعام لا النجاسة.

أو من جهة ردع الغلام و نهيه عن منكر المقامرة بتقيّؤ ما قامر به، حيث إنّ فعل التقيّؤ أشدّ إنكارا و ردعا على الغلام المقامر من نهيه القوليّ عن المقامرة، كما لا يخفى أنّ الأفعال أشدّ تأثيرا من الأقوال في اقتضاء التأسّي و متابعة الحال.

أو من جهة مصلحة تحريص الناس على شدّة التحرّز عن المقامرة، كتصريحه على شدّة التحرّز من الخمر بقوله عليه السّلام: «لو وقعت قطرة منه في بحر، ثم جفّ البحر و نبت عليها نبات، فأكل ذلك شاة، ما أكلت من لبن تلك الشاة» (2).

أو من جهة مصلحة تحمية الناس عن أكل مال الغير بالمقامرة بواسطة تقيّؤ مال نفسه المقامر به، كتحميتهم بقوله عليه السّلام: «اتركوا ما لا بأس به حذرا عمّا فيه البأس» (3). و قوله عليه السّلام: «خالفوهنّ في المعروف، حتى لا يطمعن في المنكر» (4).

أو من جهة المماشاة مع المخبر بأكل ما قامر به الغلام، بضرب من التقيّة أو السياسات المدنيّة، كما كان ديدنه صلى اللّٰه عليه و آله المداراة، و قوله عليه السّلام:

«دار الناس، فإن عقولهم لا تتحمّل» (5). و قوله عليه السّلام: «كلّم الناس على قدر


1- تقدّم ذكر مصدره في هامش (1) ص: 187.
2- لم نجده بلفظه، و وجدنا نظيره في الكشاف 1: 260.
3- تحف العقول: 60.
4- نهج البلاغة: 105 رقم «80».
5- أخرج ذيله مع اختلاف في الصدر السيد الزبيدي في اتحاف السادة 6: 265.

ص: 189

عقولهم» (1). و قوله عليه السّلام في باب الروضة من الكافي: «و اللّٰه لو لا أن يقول الناس إنّ محمدا استعان بقوم فلمّا ظفروا بعدوّه قتلهم، لقدّمت كثيرا من أصحابي و ضربت أعناقهم» (2).

و روى العامّة (3) و الخاصّة عنه صلى اللّٰه عليه و آله، كالصدوق في المجالس، أنّه قال: صلى اللّٰه عليه و آله لعليّ: «يا عليّ و اللّٰه لو لا أنّي أخاف أن تقول فيك طوائف من أمّتي ما قالت النصارى في المسيح، لقلت فيك اليوم قولا لا تمرّ بملإ إلّا أخذوا التراب من تحت قدميك يتبرّكون به» (4).

قوله: «و إرادة نفي جواز العقد عليه في غاية البعد».

أقول: نفي الجواز بدلالة الاقتضاء في منفيّات الحقيقة المتعذّرة في لسان الشارع، إن لم يكن أقرب من نفي الصحّة فلا أقلّ من دخوله في عموم حذف المتعلّق، و هو نفي مطلق الحكم الشرعي، سواء كان وضعيّا أو تكليفيّا، لأنّ التخصيص يحتاج إلى مخصّص و الانصراف إلى صارف، و الأصل عدمه.

قوله: «و على تقدير السكون فكما يحتمل نفي الجواز التكليفي فيحتمل نفي الصحّة».

[أقول:] فيه: أنّ الاحتمال المبطل للاستدلال إنّما هو المورث للإجمال، و قد عرفت أنّ نفي الجواز التكليفي إن لم يكن أظهر فلا أقلّ من دخوله في عموم حذف المتعلّق، أعني: نفي مطلق الحكم الشرعي الأعمّ منهما.

قوله: «العوض أيضا غير مأخوذ فيه. فتأمّل».

[أقول:] إشارة إلى إمكان الفرق بانصراف فعل القمار إلى خصوص المقامرة


1- الكافي 1: 23 ح 15، و فيه: إنّا معاشر الأنبياء أمرنا أن نكلّم .. إلخ.
2- الكافي 8: 345 ح 544.
3- علل الحديث 1: 313 ح 941، و ليس فيه: لا تمرّ بملإ .. إلخ، بل فيه بدله: و ذكر الحديث.
4- أمالي الصدوق 86 ح 1، و ص 489 ح 9.

ص: 190

بعوض، بخلاف انصرافه إلى المقامرة بالآلة، نظرا إلى أنّ الآلة اسم يبعد أخذه في مفهوم الفعل، بخلاف العوض و المراهنة، فإنّه من سنخ الفعل، و انصراف الفعل إلى الفعل كانصراف الاسم إلى الاسم ممكن، بخلاف انصراف كلّ إلى غير سنخه.

[المسألة السادسة عشرة القيادة من الكبائر]

قوله: «و هي، من الكبائر».

أقول: و الدليل على حرمته و كونه من الكبائر كلّ من الأدلّة الأربعة فمن الكتاب قوله تعالى وَ يَنْهىٰ عَنِ الْفَحْشٰاءِ وَ الْمُنْكَرِ (1) وَ لٰا تَعٰاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَ الْعُدْوٰانِ (2)، و فحوى إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفٰاحِشَةُ (3) الآية.

و من السنّة ما ورد (4) في حدّه، و في تفسير (5) الواصلة و المستوصلة. و من الإجماع ما ادّعاه جماعة من الإجماع صريحا على حرمته، و عدّه في عداد الكبائر المجمع عليه. و من العقل كونه من أعظم مقدّمات الحرام المحرّمة عقلا و شرعا.

[المسألة السابعة عشرة القيافة و هو حرام في الجملة]

قوله: «هو الذي يعرف الآثار».

أقول: تعريفه بذلك مأخوذ من صرف ادّعائهم معرفة الآثار، كتقسيم السحر بتسخير الكواكب و الأفلاك و الجنّ و الملائك، أخذا من صرف دعاويهم الباطلة و خرافاتهم العاطلة و أكاذيبهم المجعولة، التي يصدّقهم الجاهل الغافل عنها، كدعوى الصوفيّة الطريقة و المرشديّة، و الكشفيّة الكشف، و العرفانيّة المعرفة، و الحكميّة الحكمة.

فالحقّ تعريف القائف بمدّعي معرفة الآثار لا حقيقة، و هو الاستناد في


1- النحل: 90.
2- المائدة: 2.
3- النور: 19.
4- الوسائل 18: 424 و 429 ب «1 و 5» من أبواب حدّ السحق و القيادة.
5- الوسائل 12: 94 ب «19» من أبواب ما يكتسب به ح 3.

ص: 191

تشخيص الأنساب و الطوالع و العواقب و أحوال المرضى و الغيّب و السرقة و السارق إلى علامات شعريّة و شباهات وهميّة و مبادئ غير حسّية، المورثة لقطع القطّاع و ظنّ الظنّان في النسوان و الصبيان، خصوصا في بعض البلدان، مثل كيّ الصبيان لبقاء الولدان، و هو من بدائع الشيطان، كالفوّال و الرمّال و الكشّاف و الصرّاف.

قوله: «و الظاهر أنّه مراد الكلّ».

أقول: بل زاد في الجواهر (1) تقييد حرمتها بما إذا جزم به أو رتّب عليه محرّما من المواريث و الأنكحة، إلّا أنّه لا مخصّص و لا صارف لتقييد إطلاق نصوص حرمتها و لا لمعاقد الإجماع على حرمتها بأحد الأمرين، خصوصا على تقدير اندراجها في الكهانة و النجوم أو الرجم بالغيب و الظنين، و أنّ بعض الظنّ إثم، و قتل الخرّاصون، و خصوصا بملاحظة وقوع القيافة نصّا و فتوى في سياق مطلقات النهي عن النجوم و الكهانة، و عداد المكاسب من المحرّمات النفسيّة لا الغيريّة، كالقمار و القيادة.

قوله: «و لذا نهي في بعض الأخبار (2) عن إتيان القائف و الأخذ بقوله .. إلخ».

أقول: و إن كان المنهيّ فيها إتيان القائف و الأخذ بقوله، إلّا أنّ المعلوم في الخارج أنّه لا وجه لحرمة إتيانه و الأخذ بقوله إلّا حرمة نفس القيافة، كما لا وجه لحرمة استماع الغناء و الغيبة إلّا حرمة نفس الغناء و الغيبة، و لا لحرمة إتيان القمار و تصديق الفاسق و الكاذب إلّا حرمة نفس المقامرة و الفسق و الكذب.

فالاستدلال بتلك الأخبار أدلّ على خلاف المدّعى منه على المدّعى.

و ثانيا: سلّمنا عدم دلالة النهي عن إتيانه و الأخذ بقوله على حرمته نفسا،


1- جواهر الكلام 22: 92.
2- الوسائل 12: 108 ب «26» من أبواب ما يكتسب به ح 2.

ص: 192

إلّا أنّ إطلاق معقد سائر النواهي و الإجماع كاف في حرمته النفسيّة، مضافا إلى الظاهر سياقها و عدّها في عداد المكاسب المحرّمة نفسا لا غيرا، كالكهانة و القمار و الغيبة و الكذب.

قوله: «كما يشهد به ما عن الكافي .. إلخ».

أقول: محلّ الشاهد من هذا الخبر على إنكار القضاء بالقيافة على العامّة قوله عليه السّلام: «ابعثوا أنتم إليهم، و أمّا أنا فلا» (1)، بناء على أنّه لعدم المشروعيّة لا لرفع التهمة. فما عن الحدائق (2) من الاستدلال به على عدم الحرمة محلّ نظر، لقصور الخبر من معارضة ما عرفت من وجوه، منها موافقة العامّة (3) و احتمال التقيّة، و أن يكون قوله عليه السّلام: «ابعثوا أنتم .. إلخ» لعدم المشروعيّة لا لدفع التهمة، أو للعلم بصدقها في خصوص المقام، و إلّا فعدم جواز الأخذ بها على وجه ترتيب آثار المواريث بل الإمامة العامّة مسلّم، بل ضروريّ الحرمة في الشريعة.

قوله: «في الخبر: «ما كان فينا إمام قطّ حائل اللون» (4)».

[أقول:] أي: أسمر اللون و أسوده. مقصودهم التعريض على الجواد بإنكار ما قاله الرضا عليه السّلام: «هو ابني» و أنّه من شيف الأسود مولاه، كما يظهر من صريح الرواية الأخرى، و تشبيهه فيها بإبراهيم بن رسول اللّٰه في رمي مارية القبطيّة، بل و من ذيل هذه الرواية على ما فصّلت في الباب التاسع من مدينة المعاجز (5) بأصرح وجه.

[المسألة الثامنة عشرة الكذب حرام بضرورة العقول و الأديان]

قوله: «الكذب حرام بضرورة العقول و الأديان .. إلخ».

أقول: دلالة كلّ من الكتاب و السنّة و الإجماع عليه واضح. و أمّا ضرورة


1- الكافي 1: 322 ح 14.
2- الحدائق الناظرة 18: 182- 184.
3- صحيح مسلم 2: 1081.
4- الكافي 1: 322 ح 14.
5- مدينة المعاجز 7: 264 ح 4، و فيه: أنّه من شنيف الأسود .. إلخ.

ص: 193

العقول فإنّما هو على قبحه و نقصه الذاتي لا حرمته الشرعيّة، فإنّ الإخبار بخلاف الواقع كذبا لا يزيد قبحا و نقصا على الخباثة و القذارة و القساوة و الشقاوة الذاتيّة التي في أولاد السفاح و الشياطين من النفوس الخبيثة الشريرة، و مع ذلك لم تترتّب العقوبة على مجرّد الخباثة الذاتيّة و الشقاوة الأصليّة قبل إبرازها بالمخالفة الفعليّة. إلّا أن يفرض الكذب في الجملة كالكذب على اللّٰه سببا أو كاشفا عن سوء السريرة و التجرّي الحرام عقلا، أو أنّ المراد من حرمته الحرمة في الجملة الأعمّ من الحرمة النفسيّة و الغيريّة، أو الكبيرة و الصغيرة، أو المقتضي للحرمة لا العلّة التامّة، و إلّا لكان حرمته كالظلم من مستقلّات العقل الآبية من التخصيص بالمسوّغات، و البحث عن تلك المحتملات و المباحثات.

قوله: «و كتب اللّٰه عليه بتلك الكذبة سبعين زنية» (1).

[أقول:] و وجه تضاعف عقوبته بسبعين زنية أنّ الكاذب مع وجود خوف كشف الخلاف فيه و اسوداد وجهه و سقوطه عن أعين الناس، ليس على كذبه شي ء من القوى الشهويّة الباعثة على الزنا و لا الغضبيّة الباعثة على الظلم، و كلّما ضعف سببه تضاعف عقوبته، كزنا المحصن و المحصنة و الشيخ و الشيخة. و لهذا يقبل توبة المرأة و المرتدّ الملّي دون الرجل الفطري، و يقتل ساحر المسلم دون الكافر، و يكفر المستحلّ و لو لم يفعل المعصية، و لا يكفر الفاعل و لو أصرّ بالمعصية.

قوله: «هذا أولى من تقييد المطلقات المتقدّمة».

[أقول:] وجه الأولويّة أنّ إثبات كون الكذب على اللّٰه من الكبائر لا ينفي ما عداه حتى يقيّد المطلقات، بخلاف المطلقات، فإنّها نافية للتقييد بدون المقيّد.

قوله: «و يستفاد منه أنّ عظم الكذب باعتبار ما يترتّب عليه من


1- مستدرك الوسائل 9: 86 ب «120» من أبواب أحكام العشرة ح 15.

ص: 194

المفاسد».

أقول: هذا مفاد الصغير و الكبير من الكذب بالنسبة لا المطلق، و هو لا ينافي كون الكذب في نفسه كبيرة على الإطلاق، فإنّ كلّ كبيرة و لو كان أكبر الكبائر في نفسه على الإطلاق- حتّى الكفر و الشرك منه- ما هو صغير بالنسبة إلى ما يترتّب عليه من المفاسد، و هو لا ينافي كبيريّته في نفسه. ألا ترى أنّ قتل النفس المحترمة من الكلاب صغير بالنسبة إلى قتل سائر الحيوانات، و هو صغير بالنسبة إلى قتل ذمّي، و هو صغير بالنسبة إلى قتل مسلم، و هو صغير بالنسبة إلى مؤمن، و هكذا إلى ما لا نهاية له.

قوله: «ما من أحد (1) الخبر يدلّ على أنّ الكذب من اللمم».

أقول: بل الأظهر دلالته على أنّ الكذب بصيغة المبالغة لا الكاذب بصيغة الفاعل من يغلب منه تعمّد الكذب لا من يندر منه الكذب قليلا، إذ ما من أحد إلّا و يكون منه النادر القليل، خصوصا على وجه الخطأ و السهو و النسيان. فكلّ من السؤال و الجواب في نفسه- مضافا إلى ظاهر المطابقة- ظاهر في بيان معنى المبالغة من مثل قوله تعالى سَيَعْلَمُونَ غَداً مَنِ الْكَذّٰابُ الْأَشِرُ (2)، هل يعمّ مطلق الكذب ليعمّه حكمها، أو يخصّ بالزيادة ليخصّها الحكم؟ فالتخصيص بالزيادة يجعل الكذب المطلق صغيرة بالنسبة إلى الزائد الخاصّ لا مطلقا، كما هو المدّعى.

قوله: «و فيه أيضا إشعار بأنّ مجرّد الكذب ليس فجورا».

أقول: فيه أنّ احتمال أن يكون قوله: «إنّ الكذب يهدي إلى الفجور» (3)


1- الوسائل 8: 573 ب «138» من أبواب أحكام العشرة ح 9.
2- القمر: 26.
3- الوسائل 8: 577 ب «140» من أبواب أحكام العشرة ح 3.

ص: 195

الكذب المعهود الذكري- و هو خلف الوعد أو الهزل- ممّا لا نضايق كونه صغيرة في نفسه، لا أنّ مطلق الكذب ليس فجورا حتى يثبت المدّعي.

قوله: «المبالغة في الادّعاء و إن بلغت ما بلغت ليست من الكذب».

أقول: لا دليل على خروج المبالغة عن الكذب سوى السيرة القطعيّة على المبالغة بين المسلمين بل المعصومين، من غير نكير، بل ربما يعدّون المبالغة من البلاغة. و لكن السيرة دليل جوازها لا خروجها عن اسم الكذب عرفا، خصوصا بالنسبة إلى أصل الزيادة، فإنّه و إن كان أصل الدعوى في محلّه صدقا واقعا إلّا أنّ الزيادة و إن كان في محلّه إلّا أنّه كذب ظاهرا، إلّا أنّه لا ينافي جوازها، بل و لا عدّها في البلاغة، كسائر المجازات العقليّة اللغويّة، المتأخّر عنها القرائن الصارفة.

قوله: «إلّا إذا بني على كونه كذلك في نظر المادح، فإنّ الأنظار تختلف .. إلخ».

أقول: المدار في كذب الإخبار على مخالفة الواقع لا اختلاف الأنظار، ألا ترى أنّ إخبار الأحول عن الواحد بالاثنين و الصفراويّ عن الحلو بالمرّ كذب لا صدق، مع موافقة الأخبار بنظر المخبر و ذائقته؟!

قوله: «فلا ينبغي الإشكال في عدم كونها من الكذب .. إلخ».

أقول: تفصيل الكلام في بيان الأقسام و الأحكام و تحرير محلّ النزاع في المرام هو أن يقال: لا إشكال في أنّ صدق الخبر و كذبه هو المطابقة و اللامطابقة للواقع، إنّما الإشكال في أنّ الطريق إلى هذه المطابقة و اللامطابقة للواقع- بحسب الصدق العرفي، لا الجواز الشرعي الدائر مدار المسوّغات الشرعيّة، أو الضروريّات العقليّة المبيحة للمحظورات، المقدّرة بقدرها عقلا- هل هو بإرادة اللافظ و دلالة اللفظ كما هو الفرد المتيقّن من الصدق و الكذب عرفا، أو بالإرادة

ص: 196

مطلقا كما عن المشهور و مختار المصنّف، أو بالدلالة مطلقا كما عن بعض الأفاضل؟ وجوه بل أقوال. و ثمرة النزاع تظهر في جواز الكذب للمورّي مطلقا حتى لغير التقيّة و الضرورة المبيحة للمحظورات على المشهور، و عدم جوازه على القول الآخر إلّا لمسوّغ شرعيّ أو عقليّ.

و أمّا شقوق الأقسام و الأمثلة ففي هذا الشكل:

أ) الصدق هو المطابق للواقع 1- بالدلالة و الإرادة معا كقول الشيعي: عليّ أمير المؤمنين، فإنّه صدق على القولين بالدلالة و الإرادة.

2- بالدلالة كقول السنّيّ: عليّ أمير المؤمنين، مورّيا: من قبل الناس، صدق على غير المشهور بالدلالة، كذب على المشهور بالإرادة.

3- بالإرادة كقول الشيعيّ: عمر أمير المؤمنين، مورّيا: بالجور، صدق على المشهور بالإرادة و التورية، كذب على غير المشهور بالدلالة.

ب) الكذب اللامطابق للواقع.

1- كقول الشيعيّ: عمر أمير المؤمنين، مورّيا كذب على القولين بالدلالة و الإرادة.

2- كقول السنّيّ: عمر أمير المؤمنين كذب على غير المشهور بالدلالة صدق على المشهور بالإرادة.

3- كقول السنّيّ: عليّ أمير المؤمنين، مورّيا كذب على المشهور بالإرادة صدق على غيره بالدلالة.

و أمّا تحقيق الحقّ من الأقوال، فيترجّح كون الخبر المخالف للواقع بجميع أقسامه الخمسة المتداخلة في ثلاثة من الستّة كذبا حقيقيّا، للتبادر، و صحّة السلب. و يصدّقه وجوه

ص: 197

منها: ضرورة قبح الخطاب بظاهر و إرادة خلافه بدون نصب قرينة صارفة، و من المعلوم أن لا وجه لقبحه سوى الكذب، و المفروض أن لا يترتّب عليه مفسدة سوى الإغراء بالجهل الكذبي.

و منها: أنّ التورية بمحض الإرادة لو كانت مخرجة عن اسم الكذب عرفا لجاز الكذب بها مطلقا حتّى لغير التقيّة و الضرورة، و لا للمصلحة المسوّغة عقلا أو شرعا، بل حتّى في جميع الأقارير و الوصايا و الحلف و اليمين الكاذبة و الشهادات الباطلة إذا لم يترتّب عليها مفسدة خارجيّة، بل جاز السبّ و القذف و الكفر بمحض التورية، بل لزم قبول الإنكار بعد الإقرار بدعوى التورية، بل لزم سقوط الحدّ بدعوى التورية، بل و قبول دعوى التورية في جميع العقود و الإيقاعات الاختياريّة و لو لم تكن لإكراه أو مصلحة مسوّغة. و اللوازم كلّها باطلة بالضرورة، فالملزوم مثلها.

و منها: أنّ التورية لو كانت مخرجة عن الكذب لما صحّ تكذيب المنافقين الشاهدين بالرسالة بقوله تعالى وَ اللّٰهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنٰافِقِينَ لَكٰاذِبُونَ (1)، و لا تكذيب المغرور في العصيان بكرم ربّه بقوله تعالى كَلّٰا بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ (2)، و لا تكذيب الأعراب إذ قالوا: «أمنّا» بقوله تعالى قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا (3)، و لا تكذيب مدّعي المحبّة بقوله عليه السّلام: «لا تخدعنّ فللمحبّ دلائل» (4) إلخ.

و منها: لو كانت التورية مخرجة عن الكذب لوجب الخروج بها عنه في جميع المسوّغات الشرعيّة و العقليّة حتى في التقيّة و الضرورة، لوجود المخلص و المندوحة بالتورية عن الكذب، و لا ضرورة مع المناصّ و المندوحة، خصوصا


1- التوبة: 107.
2- الانفطار: 9.
3- الحجرات: 14.
4- لم نعثر عليه في مظانّه.

ص: 198

في نصوص تقيّة الإمام المعصوم المنزّه عن كلّ نقص و حرام، فإنّه و إن لم يجب عليه التورية فيها للخروج عن الكذب الحرام، إلّا أنّه يجب لمزيد التنزيه و الاعتصام، اللائق بمراتب الإمام، و خلفاء الملك العلّام. و مع ذلك لم يلتزم أحد من الأعلام بلزوم التورية في أخبار التقيّة على كثرتها بشي ء من التأويل و إن بعد، بعد الحمل على التقيّة بمجرّد موافقة العامّة، و هو أقوى شاهد صدق على المطلوب.

و قد استدلّ المصنّف على كون التورية مخرجة عن الكذب بوجوه:

منها: قوله: «و لذا صرّح الأصحاب فيما سيأتي من وجوب التورية عند الضرورة بأنّه يورّي بما يخرجه من الكذب .. إلخ».

و فيه أوّلا: ما سيأتي منه من منع مسلّمية وجوبها إلّا على ظاهر ما نسبه إلى المشهور في خصوص الضرورة الملجئة إلى الحلف كاذبا، و أنّ مقتضى إطلاقات أدلّة الترخيص في الحلف كاذبا عدم اشتراط التورية فيها أصلا و رأسا.

و ثانيا: لو سلّمنا، فإنّما هو في خصوص الضرورة المجلئة إلى الحلف كذبا، لا مطلق موارد الضرورة إلى الكذب بغير الحلف، فضلا عن موارد عدم الضرورة. و حينئذ، فيحتمل أن يكون اعتبارها في خصوص الحلف على تقدير تسليمه لأجل التبعيد عن هتك عظم الحلف باللّه المنهيّ بالاختيار و لو كان صادقا، فإنّ التورية و إن لم تخرجه عن حقيقة الكذب بالجملة، إلّا أنّه يبعّده عن الحقيقة في الجملة، و من البيّن أنّ الضرورات المبيحة للمحظورات كما تقدّر بقدرها كمّا فكذا تقدّر بقدرها كيفا، فيقتصر فيما خالف الأصل على المتيقّن من جواز الحلف للضرورة بكيفيّة التورية لا مطلقا.

و منها: ما استدلّ به المصنّف أيضا من سلب الكذب عن تورية إبراهيم عليه السّلام

ص: 199

في قوله تعالى إِنِّي سَقِيمٌ (1) بإرادة السقيم في دينه، و في قوله بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ (2) بإرادة اشتراطه ب إِنْ كٰانُوا يَنْطِقُونَ (3) و عن قوله تعالى أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسٰارِقُونَ (4) بإرادة سارق يوسف عليه السّلام، و عن قول الجارية للمستأذن على مولاها: «ليس هو هاهنا» (5)، و عن حلف الصحابي بأنّ المصحوب أخوه (6).

و يمكن الجواب أوّلا: بأنّ المراد من نفي الكذب عن التورية فيها لعلّه نفي حرمته لا نفي حقيقته، كما في قوله عليه السّلام: «لا ذنب مع الندم» (7) و «لا إصرار مع الاستغفار» (8) و «لا إسراف في خير» (9).

فإن قلت: على تقدير كون النافي لحرمة الكذب هو الضرورة المبيحة لكلّ محظور حتّى الكفر، كقوله: لكلّ من الكوكب و القمر و الشمس: هذا ربّي هذا ربّي (10)، و توطئة للنفي و مقدّمة للسلب، فما وجه التورية بعد نفي حرمة الكذب للضرورة؟

قلت: لعلّ وجه التورية مع انتفاء حرمة الكذب للضرورة لأجل مزيّة التنزيه، و تبعيد مراتب النبوّة عن بعض شوائب منافاة المروّة و مناقص الكذب في الجملة، و إن لم ينتف صدقه بالجملة، نظرا إلى أنّه الأليق بمنصب النبوّة و العدالة و العصمة.


1- الصافات: 89.
2- الأنبياء: 63.
3- الأنبياء: 63.
4- يوسف: 70.
5- الوسائل 8: 580 ب «141» من أبواب أحكام العشرة ح 8.
6- سنن أبي داود 3: 224 ح 3256.
7- انظر مجمع البحرين 6: 174.
8- مجمع البحرين 3: 364.
9- عوالي اللئالي 1: 291 ح 154.
10- الأنعام: 77، 78.

ص: 200

و ثانيا: سلّمنا كون التورية في الآيات و الروايات مخرجة عن الكذب، لكنّه في خصوص ما لم تكن التورية على خلاف الظاهر، كما في المجملات من الآيات (1) و الروايات (2) المستدلّ بها، لا فيما له ظاهر و يورّي بإرادة خلافه من غير قرينة صارفة، كما هو المدّعى. فالاستدلال بها على تقدير الدلالة خارج عن المقالة.

قوله: «و العقل مستقلّ بوجوب ارتكاب أقلّ القبيحين».

أقول: فيه أوّلا: أنّ ارتكاب أقلّ القبيحين إنّما مجراه في خصوص ما لو دار أمر المكلّف الواحد لا المكلّفين بين ارتكاب أقلّ القبيحين العقليّين أو الضررين الدنيويّين، كما لو أكره المكلّف مخيّرا بين كذب أو كذبين أو ظلم أو ظلمين أو شتم أو شتمين في غير الدماء، أو قطع إصبعه أو قطع حياته، بخلاف ما لو دار الأمر في ارتكاب أقلّ القبيحين أو الضررين بين مكانين، كارتكاب أحد للأقلّ و الآخر للأكثر، كما فيما نحن فيه، فإنّ الأمر دائر بين ارتكاب قبح كذب و ارتكاب الآخر ما هو أقبح منه: فإنّه لا يرجّح العقل ارتكاب قبيح لدفع الأقبح عن الغير. ألا ترى أنّه لا يجوز الظلم و لو بأقلّ ما يكون لدفع ظلم من هو أشدّ ظلما على الناس، و إلا لصحّ الظلم من كلّ من يكون ظلمه أقلّ من ظلم الآخر، و لو كان ابن سعد بالنسبة إلى شمر، و هو بمكان من القبح العقلي و خلاف الضرورة.

و كذا لو دار الأمر في ارتكاب أقلّ القبيحين الشرعيّين لا العقليّين، أو الضررين الأخرويّين لا الدنيويّين، فإنّه لا يحكم العقل أيضا بتعيين الأقلّ، بل يرجع فيه إلى ترجيح الشرع، كما لو دار الأمر بين سرقة درهم أو تفويت ألف صوم أو صلاة ألف يوم فلا يرجّح الأقلّ، بل يتعيّن الأكثر. و ما نحن فيه أيضا من


1- تقدّم ذكر مصادرهما في هامش (1 و 2) ص: 199.
2- تقدّم ذكر مصادرهما في هامش (1 و 2) ص: 199.

ص: 201

هذا القبيل، فإنّ حرمة الكذب شرعيّ لا عقليّ حتّى يترجّح الأقلّ مطلقا.

قوله: «إلّا أنّه يمكن القول بالعفو عنه».

أقول: إمكان العفو شرعا عن الكذب ذي المصلحة مع إمكان التورية و عدم توقّف المصلحة على الكذب، مبنيّ على ما ذكرنا من عدم مخرجيّة التورية عن الكذب، أو على عدم كون الكذب علّة تامّة للقبح العقليّ، بل هو مقتض لقبحه، حتّى يجوز طرد المانع منه شرعا أو عقلا، و إلّا فالعلّة التامّة للقبح العقلي يأبى من التخصيص و العفو عنه قطعا.

قوله: «لأنّ النسبة بين هذه المطلقات».

[أقول:] أي: ما دلّ على جواز الكذب مطلقا مع الاضطرار- و هو عدم التمكّن من التورية- و عدمه، و بين جواز كلّ ما اضطرّ إليه من الكذب و غيره.

«عموم من وجه، فيرجع إلى عمومات حرمة الكذب. فتأمّل».

لعلّه إشارة إلى منع استبعاد التقييد، لكن لا بما ذكر بعد بقوله: «هذا مع إمكان منع الاستبعاد»، بل بأنّ المقيّد بالاضطرار لا ينحصر في مثل الخبر الأخير الأعمّ من وجه حتّى يستبعد التقييد به، بل بما قبل الآخر، و هو قوله عليه السّلام: «إذا حلف الرجل لم يضرّه إذا أكره أو اضطرّ إليه» (1)، فإنه أخصّ مطلقا من سائر المطلقات، فلا يستبعد تقييدها به.

أو إشارة إلى منع أصل التقييد لا استبعاده، بما عرفت من أنّ تقييد مطلق جواز الكذب بصورة الاضطرار- و هو عدم معرفة التورية- إنّما يصحّ لو كانت التورية مخرجة عن الكذب، و قد عرفت عدم مخرجيّته عن كذب ما هو ظاهر في الكذب بوجه، و أنّ اعتبارها في خصوص الحالف كذبا على القول به لعلّه لخصوص تبعيد الحلف باللّه عن بعض مراتب الكذب الصريح، تحفّظا على مزيد


1- الوسائل 16: 137 ب «12» من أبواب كتاب الإيمان ح 18.

ص: 202

تعظيم الجلالة من الهتك بالكذب الصريح.

و أمّا ما تقدّم (1) من آية تورية الخليل عليه السّلام و الصّديق عليه السّلام و أخبار تورية غيرهم فقد عرفت خروجها عن محلّ النزاع أوّلا: بدلالتها على جواز التورية لا وجوبها المتنازع فيه. و ثانيا: بالتورية فيما ليس له ظاهر يخالفه، لا فيما له ظاهر يخالفه الذي هو محلّ الكلام.

قوله: «يمكن الفرق بين المقامين .. إلخ».

أقول: يمكن منع هذا الفرق بأنّه إن تعلّق الإكراه في العقد و الإيقاع بالمعنى الحقيقيّ الواقعي، فكذلك الإكراه المتعلّق بالحلف متعلّق بالحلف على المعنى الحقيقيّ الواقعي، و إن تعلّق فيهما بالأعمّ من الحقيقيّ فكذلك الإكراه المتعلّق بالحلف من غير فرق.

قوله: «و هذا بخلاف الكذب، فإنّه لم يسوّغ إلّا عند الاضطرار إليه، و لا اضطرار مع القدرة».

أقول: و يمكن منع هذا الفرق أيضا بما عرفت من تسويغ الكذب عند عدم الاضطرار أيضا، بل و عند عدم الإكراه أيضا، لمصلحة من المصالح، فلا فرق من هذه الجهة أيضا.

نعم، يمكن الفرق بينهما بأنّ الإكراه المتعلّق بالإنشاء بمجرّده مخرج عن الإنشاء الحقيقي و مانع منه بدون التورية، بخلاف الإكراه المتعلّق بالأخبار، فإنّه غير مخرج إيّاه عن حقيقة الإخبار و غير مانع منه إلّا بالتورية.

أو بأنّ المكره عليه في الإنشاء ليس بحرام و لا قبيح حتّى يحتاج إلى التورية المخرجة عنه، بخلاف المكره عليه في الإخبار فإنه كذب محرّم قبيح يحتاج إلى التورية المخرجة عنه.


1- راجع ص: 199.

ص: 203

أو بأنّ التورية المعتبرة في اليمين الكاذبة إنّما لأجل التحفّظ عن هتك عظم الحلف بالكذب الصريح، حيث إنّه منهيّ شرعا حتّى بالصدق، فلا ينافي اعتباره في الإنشاء الكذب، لعدم المنع و الهتك فيه.

قوله: «لأنّ التقيّة تتأدّى بإرادة المجاز و إخفاء القرينة».

[أقول:] بخلاف الاستحباب، فإنّه مجاز بلا مئونة إخفاء القرينة. مضافا إلى أن الاستحباب أقرب المجازات إن لم يكن مجازا مشهورا راجحا على الحقيقة. مضافا إلى موافقة قاعدة التوسّع في أدلّة السنن.

قوله: «فخبّت نفسه» (1).

[أقول:] من الخبّ بالفتح و التشديد: الخداع و الفساد و الإفساد.

قوله: «قد ورد في أخبار (2) كثيرة جواز الوعد الكاذب مع الزوجة».

أقول: و إن عارضها بعض ما تقدّم من النهي عن و عد الكذب للصبيّ، إلّا أنّه يمكن الجمع بينهما بحمل النهي على الكراهة، أو على غير الزوجة، أو بما إذا لم يرد الموعد الوفاء من أوّل الأمر، أو بما إذا لم يترتّب على وعد الكذب مصلحة الألفة أو دفع مفسدة النفرة.

[المسألة التاسعة عشرة الكهانة]

قوله: «الإخبار عن الغائبات على سبيل الجزم».

أقول: بل المنصوص (3) حرمة مطلق الرجم بالغيب، سواء كان على سبيل الجزم أو غيره، و سواء كان مسبوقا بالسؤال عنه أم لا؟ و سواء كان بالتنجيم أو الكهانة أو القيافة أو الفال أو الرمل و الجفر، بأيّ قسم من أقسامها المجعولة حتّى التفاؤل بالقرآن، فضلا عن التفاؤل بكتاب الحافظ و المثنوي، و الإصغاء بالمسموع


1- الوسائل 8: 579 ب «141» من أبواب أحكام العشرة ح 6، و فيه و في المكاسب المطبوع: فتخبث.
2- الوسائل 8: 578 ب «141» من أبواب أحكام العشرة.
3- الوسائل 12: 108 ب «26» من أبواب ما يكتسب به.

ص: 204

في الطرق، و نحوها من المجعولات التي لا نهاية لها بين الجهّال.

[المسألة العشرون اللهو حرام]

قوله: «و لا يبعد أن يكون القول بجواز خصوص هذا اللعب، و شذوذ القول بحرمته .. لأجل النصّ على الجواز فيه بقوله: لا بأس».

أقول: أمّا النصّ فهو خبر علاء بن سيابة عن الصادق عليه السّلام: «سئل عن شهادة من يلعب بالحمام، قال عليه السّلام: لا بأس إذا كان لا يعرف بفسق، قال: فإنّ من قبلنا يقولون: قال عمر هو الشيطان، فقال: سبحان اللّٰه أما علمت أنّ رسول اللّٰه صلى اللّٰه عليه و آله قال:

إنّ الملائكة لتنفر عند الرهان و تلعن صاحبه، ما خلا الحافر و الخفّ و الريش و النصل، فإنّها تحضره» (1).

و أمّا الاستدلال به على جواز اللعب بالطيور فأشذّ من القول بحرمته، لوجوه:

منها: عدم الوقوف على توثيق علاء بن سيابة، غير ما يروي عنه أبان من عثمان الثقة على يقول. و على تقدير وثاقة الراوي فالرواية شاذّة عملا و رواية.

و منها: عدم مقاومته لعموم الآيات و شهرة روايات قبح اللعب بجميع الأشياء و حرمة كلّ ملهوّ به في خبر تحف العقول (2)، بل و لا لظاهر فتواهم الظاهر في الإجماع على حرمة صيد اللهو، و عموم تعليل النصّ فيه بقوله عليه السّلام: «ما للمؤمن و الملاهي، إنّ المؤمن لفي شغل شاغل» (3)، و على فسق اللاعب بالطيور و عدم قبول شهادته، و عدم صحّة المسابقة و المراهنة بالطيور بلا عوض، فإنّه لا وجه لحرمتها سوى كونه لهوا و لعبا.

و في السرائر: «و قول شيخنا في نهايته: و تقبل شهادة من يلعب بالحمام، غير واضح، لأنّه سمّاه لاعبا، و اللعب بجميع الأشياء قبيح، فقد صار فاسقا بلعبه،


1- الوسائل 18: 305 ب «54» من أبواب كتاب الشهادات ح 3.
2- تحف العقول: 335- 336.
3- تقدّم ذكر مصدره في هامش (3) ص: 157.

ص: 205

فكيف تقبل شهادته؟ و إنّما أورد لفظ الحديث إيراد لا اعتقادا» (1). بل في المستند (2) عن حقّ اليقين للمجلسي و غيره نفي الخلاف عن حرمة مطلق الملاهي. بل عن الأردبيلي في شرح الإرشاد (3) و غيره نقل الإجماع عليه، بل استظهر هو الإجماع المحقّق عليه.

و منها: موافقة الخبر للتقيّة و مذهب العامّة و أخبارهم من جواز المسابقة بالطيور و القدم و المصارعة، و أنه صلى اللّٰه عليه و آله سابق عائشة بالقدم مرّتين سبق في إحداهما و سبق في الأخرى (4)، و أنّه صلى اللّٰه عليه و آله صارع ثلاث مرّات كلّ مرّة على شاة فصرع خصمه في الثلاث و أخذ ثلاث شياه (5)،، و أنّه صلى اللّٰه عليه و آله قال: «أعلنوا النكاح بالغربال» (6) يعني: الدفّ. و قال صلى اللّٰه عليه و آله: «الفصل بين الحلال و الحرام الضرب بالدفّ» (7). و عن أبي هريرة أنّ الخليل إبراهيم عليه السّلام: «اختتن بعد ثمانين سنة بالدفّ» (8). إلى غير ذلك من مزخرفاتهم غير اللائقة بصبي عاقل، فضلا عن رئيّ (9) عادل، فضلا عن نبيّ كامل، مظهر أوصاف الكمال و مرآة صفات ذي الجلال.

و منها: احتمال أن يكون المراد بلعب الحمام في خبر الجواز اتّخاذها للاستئناس بها، أو لإنفاذ الكتب، أو للفرخ، أو لتنفير الشياطين، أو نحو ذلك من المصالح المسوّغة، كما احتمله بعض الأعلام.

أقول: بل و احتمل الغلط في نسخ الحمار بالحمام، و كون المراد: لا بأس


1- السرائر 2: 124.
2- مستند الشيعة 2: 637.
3- مجمع الفائدة 8: 41.
4- سنن أبي داود 3: 29 ح 2578.
5- تلخيص الحبير 4: 162 ح 24 ح 2024.
6- تقدّم ذكر مصادرهم في هامش (3- 5) ص: 166.
7- تقدّم ذكر مصادرهم في هامش (3- 5) ص: 166.
8- تقدّم ذكر مصادرهم في هامش (3- 5) ص: 166.
9- فلان رئيّ قومه: صاحب رأيهم و وجههم. أساس البلاغة: 149.

ص: 206

بالمسابقة بالحمار، كما يدلّ عليه استدلال الإمام عليه السّلام على جوازه في ذيل الخبر (1) باستثناء الخفّ و الحافر.

قوله: «فجعل إبليس و قابيل المزاعف و الملاهي» (2).

[أقول:] و في المجمع: «في الحديث أنّ اللّٰه بعثني لأمحق المعازف و المزامير» (3) جمع معزف، بكسر الميم، و هي الدفوف و غيرها ممّا يضرب بها.

قوله: «القول بحرمته شاذّ مخالف للمشهور و السيرة».

أقول: أمّا شذوذه و مخالفته المشهور فقد عرفت منعه جدّا في صريح السرائر (4) بأنّ اللاعب بجميع الأشياء قبيح، و اللاعب بها فاسق لا تقبل شهادته.

و صريح خبر تحف العقول: «و كلّ ملهوّ به حرام» (5). و عموم تعليل المنع عن صيد اللهو بقوله عليه السّلام: «ما للمؤمن و الملاهي، إنّ المؤمن لفي شغل» (6). و ما عن المجلسي (7) من نفي الخلاف عن حرمة مطلق اللهو. بل و عن الأردبيلي و غيره في شرح الإرشاد (8) نقل الإجماع عليه، بل قد استظهر المستند (9) الإجماع المحقّق عليه.

و أمّا السيرة فالكاشف منها غير موجود قطعا، خصوصا في مقابل عموم الآيات و الروايات الرادعة لها، و الموجود منها غير كاشف، لأنّها سيرة الجهّال و أهل الضلال، المتجاهرة حتّى في ضروريّ الحرمة من أقسام اللهو و اللعب.


1- تقدم ذكر مصدره في هامش (1) ص: 204.
2- الوسائل 12: 233 ب «100» من أبواب ما يكتسب به ح 5، و فيه و في المكاسب:
3- مجمع البحرين 3: 318.
4- تقدّم ذكر مصدره في هامش (1) ص: 205.
5- تقدّم ذكر مصدره في هامش (2) ص: 204.
6- تقدّم ذكر مصدره في هامش (3) ص: 157.
7- تقدّم ذكر مصادرها في الهوامش (2- 4) ص: 205.
8- تقدّم ذكر مصادرها في الهوامش (2- 4) ص: 205.
9- تقدّم ذكر مصادرها في الهوامش (2- 4) ص: 205.

ص: 207

و لو سلّمنا خروج ما خرج بالنصّ و السيرة، لكنّه لا يقدح في عموم حرمة البقيّة و أصل الكليّة. فإخراج النصّ و السيرة للهو المسابقة و الرياضة و ملاعبة الزوجة و الصبيان عن حرمة اللهو و اللعب و البطلان، لا يقضي بإخراج ملاهي الچائي و الوافور و العكار (1) و القليان، فضلا عن الدفّ و الرقص في العرس و الختان، فإنّها من عمل الشيطان، و شبهة لا تصادم العقل و البرهان.

قوله: «أمّا اللعب فقد عرفت أنّ ظاهر بعض ترادفهما».

أقول: بل الأظهر من اللغة و العرف عدم ترادفهما، و أنّ الباطل الذي لا فائدة فيه من فعل الجوارح هو اللعب، و من الكلام هو اللغو، و من الأعمّ منهما هو اللهو. و لهذا يقيّد تارة بلهو الحديث، و اخرى بفعل اللهو.

بقي الكلام في مستثنيات المقام ما لم يتعرّض له الأعلام، كما تعرّضوا لمستثنيات الكذب في الغيبة و سائر ما تقدّم من عناوين الحرام.

فنقول: من المستثنيات بالأدلّة الثلاثة السبق و الرماية و الملاعبة للنسوان، خصوصا الصبيان، بالهزّ و اللعب و اللغو و الإلهاء، لإنامة اليقظان بقدر الإمكان.

و منها: الرياضة بالمصارعة و المسابقة و الركض و المشي بالأقدام، و حمل الأثقال و جرّ الأجرام، للأغراض العقليّة و رفع الأمراض الرطوبيّة. و لكن لمّا كان المسوّغ لذلك منحصرا في الضرورة قدّر بقدرها كمّا و كيفا، و بما إذا انحصر إصلاح سوء المزاج في خصوص هذا اللهو من العلاج، و إلّا فلا ضرورة مع المندوحة، و لا يضيق المجال مع سعة الحال و وجود الأبدال، إلّا بفرض المحال بانتفاء الحلال.

و منها: السباحة، لنصوص استحبابها، و أنّ من حقوق الولد على والده تعليمه السباحة، خصوصا لسكّان سواحل البحار و الأنهار الكبار التي هي


1- كذا في النسخة الخطّية مهملة، و لعلّها تصحيف: السيگار، و هي السيجارة.

ص: 208

معرض الغرق.

و منها: السياحة في الصحاري و البلاد، لكن لخصوص تجارة أو زيارة أو تحصيل عبرة أو صنعة مشروعة لا غير مشروعة، كسياحة القلندريّة و الصوفيّة، لمزيد العلّية و الضلالة الأبديّة. و الدليل عليه قوله تعالى فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ (1) و السّٰائِحُونَ الرّٰاكِعُونَ (2)، و قوله عليه السّلام:

تغرّب عن الأوطان في طلب العلى و سافر ففي الأسفار خمس فوائد تفرّج همّ و اكتساب معيشة و علم و آداب و صحبة ماجد

(3) و منها: الدعابة و المزاح، لقوله عليه السّلام: «ما من مؤمن إلّا و فيه دعابة» (4). و كان فيه صلى اللّٰه عليه و آله دعابة (5). و كان صلى اللّٰه عليه و آله يداعب الرجل يريد أن يسرّه (6). و في الحديث: «إن اللّٰه يحبّ المداعب في الجماعة بلا رفث» (7) أي: الممازح فيه بلا فحش. «قيل: و ما الدعابة؟ قال عليه السّلام: المزاح و ما يستملح» (8). و لكن من المعلوم و لو بشاهد حال المؤمن و المعصوم أنّ المطلوب من الدعابة و المزاح إنّما هو خصوص ما يسرّ و لا يضرّ.

و منها: الاستئناس و التنزّه و التفرّج بالمفرّحات و المفرّجات المباحة، من الطيور و النساء و البنين و المياه و الخضر و الرياحين، و لكن بما لا يؤدّي إلى مثل السكر و تضييع العمر و الإجحاف و الإسراف في الإتراف المحرّم، و ذلك لأنّ


1- التوبة: 2.
2- التوبة: 112.
3- ديوان أمير المؤمنين عليه السّلام: 45.
4- الوسائل 8: 477 ب «80» من أبواب أحكام العشرة ح 3.
5- انظر مستدرك الوسائل 8: 407 ب «66» من أبواب أحكام العشرة ح 1.
6- الوسائل 8: 478 ب «80» من أبواب أحكام العشرة ح 4.
7- الوسائل 8: 478 ب «80» من أبواب أحكام العشرة ح 5.
8- الوسائل 8: 477 ب «80» من أبواب أحكام العشرة ح 3.

ص: 209

المسوّغ له من قوله تعالى قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللّٰهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبٰادِهِ وَ الطَّيِّبٰاتِ مِنَ الرِّزْقِ (1)، و من العقل الحاكم بإباحة كلّ ما فيه منفعة خالية عن أمارة المضرّة، مقيّد بنصوص وَ لٰا تُسْرِفُوا* (2) و الإسراف أمر يبغضه اللّٰه، و أنّه أمارة المضرّة، و بفحوى النهي عن صيد اللهو المعلّل بعموم: «ما للمؤمن و الملاهي، إن المؤمن لفي شغل شاغل» (3).

و ممّا ذكرنا يندفع ما توهّم استثناؤه بسيرة أهل الزمان، من ملاهي الچائيّ و القليان، و الوافور و القهوة و الفنجان، و جلوس القهاوي بكبر و طغيان، و هل هو إلّا من عمل الشيطان، و سفاهات يونان، و إسراف و تبذير و خسران، و مضعّفات العقل و الأبدان بل الإيمان، سيّما الوافور الموجب للفتور في الجنان و الأركان، المبتدعة في البلدان لتضييع العمر و الحرمان، و التبعيد عن الطاعة و الجنان، و التقريب إلى العصيان و النيران؟ أم هو من حكمة لقمان، و أتباع إمام الزمان و التأسّي بخلفاء الرحمن. فيا أيّها الثقلان هل يستوي الحقّ و البطلان، و الربح و الخسران، و الفسق و الإيمان، مثل الفريقين كالأعمى و الأصمّ و البصير و السميع هل يستويان؟

و منها: ما توهّمه بعض الأعلام تبعا لجهّال العوام من استثناء ما لم يقصد به اللهو الحرام من الملاهي و الآثام، كضرب الطبول للإفهام، و الأطواب للإعلام، و تشديد الحروب و الاقتحام، أو لتعظيم الإمام، و شعائر الإسلام، و المشعر الحرام، بزعم الإكرام و الاحترام، إنّما هو من بدع الإسلام في تحليل الحرام، و هتك الإمام بزعم الإكرام، و الإعظام بأعظم الآثام، كما هو دأب العوام، ضرورة أنّ الأحكام تابعة لأساميها لا لقصود فاعليها، و إلّا لصحّ العدوان بقصد الإحسان، و السرقة


1- الأعراف: 32.
2- الأعراف: 31، الأنعام: 141.
3- تقدّم ذكر مصدره في هامش (3) ص: 157.

ص: 210

بقصد الصدقة، و الفجور بقصد السرور، و ما هو إلّا قول زور، و ناشئ عن الغرور، و راجع إلى كفر الكفور.

و منها: توهّم جملة من الأعيان استثناء الدفّ و الغناء في العرس و الختان، لأخبار عامّية، كقوله: «أعلنوا النكاح بضرب الغربال» (1) أي: الدفّ، و «الفصل بين الحلال و الحرام بضرب الدفّ» (2). و عن أبي هريرة أنّ الخليل إبراهيم عليه السّلام اختتن بعد ثمانين سنة بالقدوم و الدفّ (3).

و منها: توهّم استثناء المصارعة و المسابقة بالأقدام تبعا للعامّة المتّهمة، بأنّه صلى اللّٰه عليه و آله سابق عائشة مرّتين فسبق في إحداهما و سبق في الأخرى (4)، و أنّه صارع رجلا على شاة ثلاث مرّات فغلبه و أخذ منه ثلاث شياه (5)، إلى غير ذلك من فروعهم المبنيّة على أصولهم الباطلة و أخبارهم الكذبة، المنافية لضرورة المذهب و نصوص الكتاب و السنّة و الفطرة العقليّة.

[المسألة الثانية و العشرون معونة الظالمين في ظلمهم حرام]

قوله: «و الوجه فيه واضح من جهة قبحه عقلا».

أقول: و هل قبحه العقلي من باب الكذب المقتضي للقبح، أم من باب الظلم الذي علّة تامّة للقبح؟ وجهان الأقرب الثاني، لاختصاص نصوص الباب بغير ذمّ الكذّاب، و لأنّ ذمّ العادل بالفسق ظلم لشخص العادل المذموم، و بالعكس ظلم لنوع العادل بالمفهوم، فهو على كلا تقديرية ظلم معلوم أو مفهوم. و تظهر ثمرة الوجهين في مستثنيات الباب كمّا و كيفا.

و أمّا ذمّ من يستحقّ الذمّ فالأصل جوازه، بل قد يجب بالعرض، لعروض مصلحة شرعيّة، كما أنّه قد يحرم لعروض غيبة محرّمة أو خوف تقيّة أو مفسدة.

و كذلك مدح من يستحقّ المدح، الأصل أيضا جوازه بالأصالة، و لكن قد يعرضه


1- تقدّم ذكر مصادرها في هامش (3) ص: 166.
2- تقدّم ذكر مصادرها في هامش (4) ص: 166.
3- تقدّم ذكر مصادرها في هامش (5) ص: 166.
4- تقدّم ذكر مصادرهما في هامش (4) ص: 205.
5- تقدّم ذكر مصادرهما في هامش (5) ص: 205.

ص: 211

الوجوب، لوجوب شكر المنعم، و من لم يشكر الناس لم يشكر اللّٰه، كما قد يعرضه الحرمة، لخوف تقيّة، و الاستحباب لإدخال السرور، و الكراهة لإغراء الغرور، كما في الخبر: «أحبّ إخواني إليّ من أهدى إليّ عيوبي» (1) و «حثوا وجوه المدّاحين بالتراب» (2).

قوله: «و أمّا لدفع شرّه فهو واجب».

أقول: في أصل وجوب المدح و الذمّ المحرّمين عقلا لمطلق رفع الشرّ فضلا عن إطلاق وجوبه نظر، ضرورة أنّ الضرورة المبيحة للمحظورات شرعا بعموم:

لٰا يُكَلِّفُ اللّٰهُ نَفْساً إِلّٰا وُسْعَهٰا (3) وَ مٰا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ (4) وَ لٰا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ (5)، و حديث (6) رفع التسع، لا تجوّز أصل ما فرض ظلما لدفع الشرّ مطلقا، فضلا عن وجوبه له مطلقا، بل إنّما تقدّر بقدرها كمّا و كيفا. فإن كان الشرّ ممّا يتحمّل عادة فلا تسوّغ الضرورة المدح المحرّم له عقلا أصلا و رأسا، فضلا عن وجوبه له. و إن كان ممّا لا يتحمّل عادة سوّغت الضرورة الأمر المحرّم له، لكن على وجه الجواز لا الوجوب، فأين مورد أصل الوجوب فضلا عن إطلاقه؟

نعم، لو كان المدح و الذمّ جائزا بالأصالة- كمدح من يستحقّ المدح و ذمّ من يستحقّ الذمّ- أمكن عروض الوجوب عليه لمصلحة ملزمة. و أمّا ما كان بالأصالة حراما ذا مفسدة عقليّة- كذمّ الممدوح و مدح المذموم، الراجع إلى الظلم


1- تحف العقول: 366.
2- الوسائل 12: 132 ب «43» من أبواب ما يكتسب به ح 1.
3- البقرة: 286.
4- الحج: 78.
5- البقرة: 185.
6- الوسائل 5: 345 ب «30» من أبواب الخلل ح 2.

ص: 212

الشخصيّ المعلوم أو النوعيّ المفهوم بالفرض- فلا يعقل عروض المصلحة الملزمة عليه.

مضافا إلى أنّه لو صحّ عروض الوجوب و المصلحة الملزمة للمدح و الذمّ المحرّمين لما صحّ للمعصومين تحسين كلّ ممّن اختار القتل على التقيّة بالمدح و الذمّ المحرّمين بتعجيله إلى الجنّة، و من اختار التقيّة به على القتل بتفقّهه في الأمر. بل لوجب النكير و الإنكار من المعصومين على من اختار القتل من أصحابهم على المدح و الذمّ المحرّمين، كوالدي عمّار و أبي ذرّ و حجر بن عديّ و ميثم التمّار و عبد اللّٰه بن عفيف و محمّد بن أبي عمير و يعقوب بن إسحاق، و سائر كبار الأصحاب، المشهورة قضاياهم في كتب الرجال.

قوله: «و إنّ لي ما بين لابتيها» (1).

أقول: أمّا الواو فحاليّة، و الجملة حال من فاعل «عقدت». و لابتيها تثنية لابة، هي الحرّة بالفتح ذات الأحجار السوداء، و جمعها لابات. و ضمير الهاء إن كان راجعا إلى المدينة كما في الحديث: «حرم رسول اللّٰه المدينة، ما بين لابتيها صيدها» (2) كان المراد من لابتيها الحرّتين العظيمتين المكتنفتين بها، و فسّر بما بين السورين، أو بما بين ظلّ عائر و وعير، يعني: ما أحبّ أن أعقد لهم عقدة و الحال أن لي ما بين سوري المدينة و حدّيها. و إن كان راجعا إلى الدنيا كان لابتاها كناية عمّا بين المشرق و المغرب، يعني: ما أحبّ أن أعقد لهم عقدة و الحال أنّ لي ما بين المشرق و المغرب، كقوله عليه السّلام: «لو أعطيت السبع الأقاليم على أن أظلم نملة في قشر شعيرة ما فعلت» (3).


1- الوسائل 12: 129 ب «42» من أبواب ما يكتسب به ح 6.
2- الوسائل 10: 285 ب «17» من أبواب المزار و ما يناسبه ح 5.
3- نهج البلاغة: 347 خ 224.

ص: 213

قوله: «أو المسنّاة يصلحها» (1).

[أقول:] المسنّاة بضمّ الميم- نحو المرز بكسر الميم-: مجمع التراب المحجّر للأرض المحياة.

قوله: «ما أحبّ ظاهر في الكراهة».

[أقول:] و فيه نظر، لأعميّته من الكراهة، فيحمل على خصوص الحرمة، لنصوصها الخاصّة، تقديما للخاصّ على العامّ و الأظهر على الظاهر، خصوصا بعد تعليل «ما أحبّ» بقوله: «إنّ أعوان الظلمة .. إلخ» (2).

قوله: «و أمّا أعوان الظلمة فهو من باب التنبيه على أنّ القرب إلى الظلمة و المخالطة معهم مرجوح».

[أقول:] و فيه: أنّ تقييد الأعوان- الذي هو جمع العون، الظاهر في معنى الفعل و حدث المصدريّة، الظاهرة في مطلق الإعانة و لو في المباحات، خصوصا بقرينة التصريح فيه بقوله: «ما أحبّ أنّي عقدت لهم عقدة أو وكيت لهم وكاء» (3)، و في خبر آخر بقوله: «لا تعنهم على بناء مسجد» (4)- بخصوص الإعانة على وجه الاعتياد و الانتساب، و جعل الإعانة لهم عادة و حرفة مستمرّة كالملكة، خلاف الأصل الأصيل، و تخصيص العموم بلا دليل. و دعوى الانصراف- مضافا إلى أنه بلا صارف- إنّما هو من خصائص الإطلاق، لا يتأتّى في عموم: «لا تعنهم على بناء مسجد» (5) و «أنّ أعوان الظلمة في سرادق من النار» (6).

قوله: «و أمّا رواية صفوان (7) فالظاهر منها أنّ نفس المعاملة معهم ليست


1- تقدّم ذكر مصادرهم هامش (1) ص: 212.
2- تقدّم ذكر مصادرهم هامش (1) ص: 212.
3- تقدّم ذكر مصادرهم هامش (1) ص: 212.
4- الوسائل 12: 129 ب «42» من أبواب ما يكتسب به ح 8.
5- تقدّم ذكر مصدره في هامش (4) هنا.
6- تقدّم ذكر مصدره في هامش (1) ص: 212.
7- الوسائل 12: 131 ب «42» من أبواب ما يكتسب به ح 17.

ص: 214

محرّمة، بل من حيث محبّة بقائهم .. إلخ».

[أقول:] و فيه و أيضا: ما تقدّم من أنّ تقييد حرمة نفس المعاملة فيه بحرمتها من حيث المحبّة، و تقييد حيث المحبّة بالمحبّة الخاصّة المحرّمة من حيث قصد الإعانة في الظلم، أو الإعانة المنصرفة إلى خصوص الإعانة المستمرّة الدائمة، خلاف الظاهر و الأصل الأصيل، و انصراف بلا صارف و لا دليل. بل الظاهر من تعليل الحرام بالأمر العامّ تعميمه الحرام، لا تخصيصه بغير المقام، و صرفه عن المرام.

و بعبارة: ظاهر الرواية- خصوصا بمعونة أنّ الأخبار كالقرآن تفسّر بعضها بعضا- أنّ نفس الكراء و المعاملة معهم حرام لسبب و علّة أنّه مستلزم لعموم المحبّة، و مطلق الركون و التولّي و المودّة المحرّمة لمن حادّ اللّٰه و رسوله، و المنافية للتبرّي و هجر أهل الفسوق و المعاصي، كما يدلّ عليه بالعموم و الأولويّة نصوص الكتاب و السنّة المتواترة في وجوب هجر الفاسق و التبرّي منه، بل التبعّد من ساحة أهل المعاصي، و النظر في وجوههم، و الركون إليهم، و القعود معهم، و المداهنة معهم، فضلا عن المعاملة و الإعانة لهم، كقوله وَ لٰا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا (1) فَلٰا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرىٰ مَعَ الْقَوْمِ الظّٰالِمِينَ (2) وَ اتَّقُوا فِتْنَةً لٰا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً (3) وَ مَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ (4) وَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ لَمْ يُهٰاجِرُوا مٰا لَكُمْ مِنْ وَلٰايَتِهِمْ مِنْ شَيْ ءٍ (5)


1- هود: 113.
2- الأنعام: 68.
3- الأنفال: 25.
4- المائدة: 51.
5- الأنفال: 72.

ص: 215

وَ إِذْ قٰالَ إِبْرٰاهِيمُ لِأَبِيهِ وَ قَوْمِهِ إِنَّنِي بَرٰاءٌ مِمّٰا تَعْبُدُونَ (1). إلى غير ذلك ممّا لا يخفى كتابا و لا سنّة من النصوص (2) المستفيضة المتواترة التي لا معارض لها و لا صارف، كما في رسالة آيات الظالمين الدالّة بعمومها على عموم حرمة إعانة الظالم مطلقا و لو في المباحات.

و أمّا حرمة إعانة في الظلم فلا اختصاص له بالظلم، بل الإعانة على مطلق الإثم و العدوان حرام، بل الإعانة على الظلم إنّما هو من عين الظلم المحرّم عقلا، الآبي من التخصيص قطعا، بخلاف مطلق الإعانة و لو في المباحات، فإنّه و إن حرم نفسا مطلقا إلّا أنّه كسائر المحرّمات النفسيّة الشرعيّة مخصّصة بمثل قوله تعالى إِلّٰا مَنْ أُكْرِهَ وَ قَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمٰانِ (3) و إِلّٰا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقٰاةً (4) فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بٰاغٍ وَ لٰا عٰادٍ فَلٰا إِثْمَ عَلَيْهِ (5) وَ مٰا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ (6) وَ مٰا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسٰابِهِمْ مِنْ شَيْ ءٍ وَ لٰكِنْ ذِكْرىٰ (7) أي: لأجل الموعظة و ذكر الآخرة، أو لدفع ضرر و إضرار، أو لتأليف قلب، أو إتمام حجّة، أو لتفريج كربة عن مؤمن أو فكّ أسره، كما في المستفيضة الآتية، أو نحو ذلك من الضرورات المبيحة للمحظورات، و موارد اللطف الواجب على الحكيم من تقريب العباد إلى الطاعة و تبعيدهم عن المعصية.

و من هنا سرى الخلط و الوهم إلى مثل المصنّف و من تقدّمه من صاحب


1- الزخرف: 26.
2- الوسائل 12: 127 ب «42» من أبواب ما يكتسب به.
3- النحل: 106.
4- آل عمران: 28.
5- البقرة: 173.
6- الحج: 78.
7- الأنعام: 69.

ص: 216

الجواهر (1) و الرياض (2) و غيرهم، في إنكار حرمته النفسيّة، أو تخصيصها بخصوص إعانة الظالم في ظلمه، أو بقصد غرض محرّم من تقوية سلطانه و شوكته، أو لحبّ الدنيا و رئاسته، أو الإعانة المعدّة له من خواصّه، أو إعانة الظالم من المخالفين دون الظالم من أهل الدين. و الكلّ تقييد بلا مقيّد، و جمع بلا شاهد، بل مناف لحجّية العامّ المخصّص في الباقي.

و دعوى قصور السند و الدلالة في بعضها، أوّلا ممنوع بما تقدّم. و ثانيا على تقديره منجبر بشهرة الروايات و كثرتها عددا و صحّة و صراحة، و بموافقة الكتاب و الاحتياط، و مخالفة العامّة في العمل و الرأي و التقيّة، و كفى به في الجبر و الحجّية. كيف و ظلمة أهل الدين كنساء النبيّ صلى اللّٰه عليه و آله و المنافقين عذابهم مضاعف لا أخفّ، مع أنّ خصوص المورد لا يخصّص عموم الوارد.

و دعوى صاحب الجواهر (3) أنّ هذا مخالف للسيرة القطعيّة. فيه: أنّ المسلّم من مخالفة السيرة إنّما هي في الضرورات المبيحة للمحظورات لا مطلقا.

ألا ترى سيرة الصلحاء و العلماء على كمال الامتناع و الإباء من مصاحبة الجهلة، فضلا عن الظلمة، و فضلا عن إعانتهم؟! و يكفيك الرجوع فيما ذكره منتهى المقال (4) في أحوال صاحب المدارك و المعالم و الشيخ الحرّ و بحر العلوم، و ما شاهدناه برأي العين من سيرة المصنّف، و سيّد مشايخنا الأعلام و سائر أساتيدنا الكرام، من كمال الإباء و الامتناع من ملاقاة سلاطين الزمان، فضلا عن إعانتهم.

تنبيه: و ممّا ذكرنا تبيّن أنّ الفقهاء و إن لم يتعرّضوا في الفقه إلّا لحرمة إعانة الظلمة من جهة مناسبة تعلّقه بالمكاسب، إلّا أنّ المحرّم بحسب الأدلّة لا


1- جواهر الكلام 22: 159.
2- رياض المسائل 5: 35.
3- جواهر الكلام 22: 53.
4- منتهى المقال 2: 386 رقم 729، ص 359 رقم 3089، و لم نعثر على الشيخ الحرّ.

ص: 217

ينحصر في مطلق إعانتهم، بل يعمّ مطلق الإعانة على الإثم و العدوان، لقوله:

وَ لٰا تَعٰاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَ الْعُدْوٰانِ (1)، بل و يعمّ مطلق إعانة الفاسق، لكونه ظالما لنفسه، بل و يعمّ مطلق الركون إليهم و القعود معهم، لعموم وَ لٰا تَرْكَنُوا (2) فَلٰا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرىٰ مَعَ الْقَوْمِ الظّٰالِمِينَ (3)، بل و يعمّ مطلق النظر إلى وجوههم، بل و إلى زيناتهم و محاسنهم و مناظرهم المعدّة لجلب القلوب و عيون النّظارة، لعموم قوله تعالى وَ لٰا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلىٰ مٰا مَتَّعْنٰا بِهِ أَزْوٰاجاً مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيٰاةِ الدُّنْيٰا (4) الآية، و ما تقدّم عن تفسير العيّاشي (5)، و النظر إليهم على العمد من الكبائر، بل و مطلق حبّهم، بل و مطلق الرضا بفعلهم، بل و مطلق المداهنة معهم، بل و مطلق عدم التبرّي منهم، و عدم الهجر لهم، و عدم الردع و الإعراض عنهم، كما لا يخفى على من راجع آيات الظالمين، إلّا لضرورة أو تقيّة أو إتمام حجّة أو تفريج كربة من الضرورات المبيحة للمحظورات.

تنبيه آخر: و يتفرّع على ما اخترناه من أصالة حرمة مطلق إعانة الظلمة و لو في المباحات بالحرمة النفسيّة إلّا لضرورة مسوّغة فروع كثيرة الابتلاء و عامّة البلوى:

منها: أنّه لو اضطرّ المعين بالإعانة المحرّمة بالاضطرار، أو التقيّة و الإكراه و الإجبار، أو الجهل و الخطأ و الإعسار، المستندة إلى سوء الاختيار، كالدخول في محلّة الأشرار أو التقرّب إليهم بالجوار أو الاتّجار و الاشتهار، فهل يوجب هذا الاضطرار المعذوريّة و الاعتذار، أو يلحق هذا الاضطرار بحكم الاختيار؟ وجهان


1- المائدة: 2.
2- هود: 113.
3- الأنعام: 68.
4- طه: 131.
5- في ص: 176.

ص: 218

بل قولان، من عموم (1) أدلّة رفع العسر و الحرج و الاضطرار، و من استناد الاضطرار الناشئ عن الاختيار إلى الاختيار عرفا و عقلا و شرعا. أمّا عرفا فلاستناد الأفعال القوليّة الاضطراريّة إلى الاختيار عرفا. ألا ترى استناد القتل عرفا إلى الرامي و الرمي بالاختيار، لا السهم المرميّ بالاضطرار، و استناد الإحراق عرفا إلى المحرق المختار لا إلى النار؟!.

و أمّا عقلا فلتجويز العقل و العقلاء التكليف بغير المقدور الناشئ عن الاختيار. و لهذا حكموا على المتوسّط في الأرض المغصوبة بالتخلّص عن الغصب و النهي عن الغصب، و على القطّاع بمخالفة قطعه و إن كان جهلا مركّبا، و على الجاهل المقصّر بعدم المعذوريّة، و على المخطئ في أصول الدين بعدم المعذوريّة.

و أمّا شرعا فلما تقدّم (2) من منع صفوان عن إكرائه الجمال الظالم مع إكراهه و اضطراره، فليس إلّا لاستناد ذلك الإكراه و الاضطرار إلى اختياره الجماليّة، و لهذا باع جماله. و لما في الوسائل (3) و غيره باب مبوّب من النصوص المستفيضة الصريحة في وجوب تحمّل المشقّة الشديدة، فيغسل من تعمّد الجنابة و إن أصابه ما أصابه، دون من احتلم، فإنّه يتيمّم. و ما ورد من أنّ: «من سنّ سنّة سيّئة كان له وزر من عمل بها» (4)، مع أنّ عمل العامل بالبدعة خارج عن اختيار المبدع.

و ما ورد (5) في تائب بني إسرائيل عمّا ابتدعه من الدين أنّه لا تقبل توبته


1- تقدّم ذكر مصادره في هامش (3 و 6) ص: 211.
2- في ص: 214.
3- الوسائل 2: 986 ب «17» من أبواب التيمّم.
4- صحيح مسلم 2: 704 ح 69.
5- تفسير الامام عليه السّلام: 252- 257.

ص: 219

حتّى يحيي من مات على دينه و يرجعهم عنه. و في المرتد الفطري (1) من أنّه يقتل و لا يستتاب، أي: لا تقبل توبته، مع كونه مأمورا بالتوبة. و قوله تعالى فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمٰانُهُمْ لَمّٰا رَأَوْا بَأْسَنٰا (2) يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيٰاتِ رَبِّكَ (3) أي:

ظهور القائم، على ما في تفسير الإمام عليه السّلام (4) لٰا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمٰانُهٰا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمٰانِهٰا خَيْراً (5).

و ما ورد (6) من تكليف المصوّرة يوم القيامة بالنفخ في الصورة، و تكليف الظلمة بردّ المظلمة، و قوله تعالى ارْجِعُوا وَرٰاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُوراً (7)، بل الظاهر من نفس أدلّة الرفع، بل صريح بعضها مثل: «ما حجب اللّٰه علمه عنه فهو موضوع» (8)، و «ما غلب اللّٰه عليه فهو أولى بالعذر» (9) أنّ المرفوع خصوص ما كان من قبل اللّٰه لا من قبل نفسه، حتى السهو و النسيان و خطأ المجتهد، و خوف الجبان و الوسواس و كثير الشكّ، و قطع القطّاع و ظنّ الظنّان.

و على ذلك فلا يستباح شي ء من المقدّمات الاختياريّة المفضية بالاضطرار إلى إعانة الظلمة و الأشرار و الكفّار، بل يجب التخلّص، منها مقدّمة للتخلّص عمّا يترتّب عليها من الإعانة المحرّمة و لو كانت اضطرارا، إلّا إذا اضطرّ أيضا إلى نفس المقدّمة المفضية إلى الحرام. و لو لا ذلك الاضطرار لم يستبح شي ء من الحرف و الصناعات و التجارات و الزراعات أصلا و رأسا، إذ ما من شي ء منها إلّا


1- الوسائل 18: 544 ب «1» من أبواب حدّ المرتد.
2- غافر: 85.
3- الأنعام: 158.
4- تفسير العسكري عليه السّلام: 478.
5- الأنعام: 158.
6- الوسائل 12: 220 ب «94» من أبواب ما يكتسب به ح 6.
7- الحديد: 13.
8- الوسائل 18: 119 ب «12» من أبواب صفات القاضي ح 28.
9- الوسائل 5: 353 ب «3» من أبواب قضاء الصلوات ح 13.

ص: 220

و يفضي إلى إعانتهم المحرّمة لا محالة.

و منها: أنّ العسر و الاضطرار المبيح لمحظورية الإعانة المحرّمة هل هو عسر نوعيّ ليكون حصوله في أغلب أفراد المكلّفين أو أغلب أحوال المكلّف موجبا لاطّراد حكم الرفع بالنسبة إلى الجميع حتى بالنسبة إلى الفرد النادر من المكلّفين و الحال النادر من المكلّف غير المتعسّر عليه و فيه اجتناب الإعانة المحرّمة، أم هو عسر شخصيّ دائر مدار موضوعه الشخصيّ الفعلي وجودا و عدما فلا ينسحب حكم العسر و الاضطرار المرفوع عن أغلب الأفراد و الأحوال إلى الفرد النادر و الحال النادر؟ وجهان بل قولان، من عموم قوله عليه السّلام: «بعثت على الشريعة السمحة السهلة» (1) «و أن شيعتنا لأوسع ما بين السماء و الأرض، و الخوارج ضيّقوا على أنفسهم» (2)، و من أنّ ظاهر رفع العسر و الاضطرار، خصوصا بقرينة سياق رفع السهو و النسيان، كون العسر علّة للرفع، فلا ينفكّ عن معلوله المرفوع، بل يدور مداره وجودا و عدما.

و أمّا أغلب أحكام الشريعة السمحة السهلة المنوطة بالعسر النوعي، كقصر المسافر المنوط بمشقّة السفر على الأغلب و لو لم يتعسّر على الكلّ و في الكلّ، و مسيس الحاجة الضروريّة إلى الحديد في الأغلب لرفع نجاسته عن الكلّ و في الكلّ، فإنّما هو بقرينة الإلحاق و اتّحاد السياق، كقوله صلى اللّٰه عليه و آله في جواب الأعرابي ما لنا نقصّر و قد أمنّا؟: «صدقة تصدّق اللّٰه بها عليكم فاقبلوها» (3)، و قوله صلى اللّٰه عليه و آله: «لو لا أن أشقّ على أمّتي لأمرتهم بالسواك» (4). إلى غير ذلك من دليل الاتّحاد و الاطّراد، و إلحاق النادر بالغالب من الأفراد، و هو الأشهر الأظهر.


1- مستدرك الوسائل 1: 419 ب «59» من أبواب آداب الحمام ح 9.
2- البحار 80: 82 ح 2.
3- مسند أحمد 1: 25، تلخيص الحبير 1: 58.
4- عوالي اللئالي 2: 21 ح 43.

ص: 221

و يتفرّع عليه أنّ العسر و الضرورة المبيحة للإعانة المحرّمة إنّما تقدّر بقدرها كمّا و كيفا، و زمانا و مكانا، وجودا و عدما. فلو اضطرّ إلى الإعانة المحرّمة بقدر أو حال أو زمان أو مكان لم يجز له التعدّي عن محلّ العسر و الضرورة إلى الزيادة أصلا و رأسا كأكل الميتة.

و منها: أنّه لو اضطرّ إلى الإعانة أو المعاملة أو الوصلة المحرّمة أو غير المكافئة في محلّ أو زمان أو مكان، ثمّ زال ذلك العسر و الإكراه و الاضطرار المبيحة له، و تمكّن المعين من الإقالة و استرجاع المعونة و استرداد المئونة و الصلة و الهديّة و انفساخ العقود المكرهة و الازدواج غير المكافئ، فهل يجب عليه الاسترجاع و الاسترداد و الإقالة و الفسخ و الانفساخ مع بقاء العين و صدق المعونة، أم لا؟ وجهان بل قولان، من عموم (1) أدلّة الرفع و استصحاب بقاء الحكم المرفوع على ما كان، و من أنّ حكم الإكراه و العسر المرفوع كحكم السهو و النسيان المرفوع حكم اضطراريّ عقليّ يقدّر بقدره، فإذا زال موضوع الاضطرار زال حكمه، فلا سبيل إلى استصحابه مع تبدّل موضوعه، بل يرجع فيه إلى حكمه الاختياريّ الأصليّ الأوّلي، و هو حرمة الإعانة. كما أنّه لو أعين الإعانة المحرّمة من غير ضرورة مسوّغة ثمّ طرأ الاضطرار المبيح لم يجز استرداد المعونة، فيتبدّل حكم الاضطرار بتبدّل موضوعه، كما يتبدّل حكم الاختيار بتبدّل موضوعه. و هو ظاهر.

و منه يعلم أيضا أنّه لو زال وصف الظالم عرفا المنوط به حرمة معونته شرعا أزيل عنه الحكم بحرمة معونته، و لكن إذا كان الزوال بمزيل شرعيّ- كالتوبة و ردّ المظلمة، لا بمجرّد عزل و انعزال، و انتفاء المال و اختلال الحال بالقهر و الاستيصال- فإنّه مستصحب الموضوع عرفا و الحكم شرعا. كما أنّه لو انعكس


1- تقدم ذكر مصدره، في هامش (6) ص: 211.

ص: 222

الفرض، و تبدّل صفة غير الظالم المباح إعانته بوصف الظلم المحرّم إعانته شرعا، انعكس الحكم، و استرجع المعونة و استردّ الصلة و أقيل البيعة و انفسخ الزوجيّة، مع المكنة و بقاء عين المعونة و صدق المعونة باستبقائه. كما أنّ شرط المكافأة في الدين المنوط به صحّة نكاح المتزاوجين، لو انفقدت بعد العقد بارتداد و فسق مانع من النكاح، انفسخ العقد و حصل البينونة و الفراق.

و هكذا وصف الفسق و العدوان، المانع شرعا من وجوه الكرامة و الإحسان، دار مداره الحكم وجودا و عدما. فلو أعين الفاسق بمعونة محرّمة ثمّ زال فسقه لم يسترجع المعونة المحرّمة و إن بقيت عينها، بل استحلّت عليه و إن لم يتب، لزوال اسم الفاسق و العاصي و الزاني بمجرّد الترك عرفا فيزول حرمة إعانته شرعا و إن لم يتب و لم يحصل وصف العادل، لوجود الواسطة عرفا بين العادل و الفاسق في التارك للوصفين.

و ما يقال: من أنّ تركه التوبة الواجبة فورا من جملة الإصرار فيه: أنّه في حكم الإصرار شرعا، لا اسمه المنصرف إلى الفعل عرفا، بخلاف وصف الظلم، فإنّه لا يزول بمجرّد الترك ما لم يتب و يردّ المظلمة. و لعلّ الفارق إطلاق الظلم على الظالم لنفسه شرعا، و عدم انصرافه إلى الظالم لغيره عرفا، بخلاف الفاسق.

و هكذا الحكم لو انعكس فأعين العادل بإعانة محلّلة من برّ و إحسان و كرامة و تيجان ثمّ ارتدّ أو طرأ عليه الفسق و العدوان، ففي وجوب استرجاع المعونة و استرداد الصلة و انفساخ البيعة و العقد مع المكنة و بقاء عين المعونة و صدقها وجهان، من عموم أدلّة النقل و الانتقال و لزوم الوفاء بالعقد (1) في الحال و المآل و استصحاب الحكم و الحال، و من أنّ قاعدة أنّ الأحكام تابعة لأساميها


1- المائدة: 1.

ص: 223

و عموم (1) أدلّة النهي عن التعاون و المواصلة و المعاملة و المصاحبة حاكمة على عموم (2) أدلّة النقل و الانتقال و لزوم الوفاء بالعقد و المقال، فيجب هجره و التبرّي منه باسترجاع المعونة و نشوز الزوجة و فسخ البيعة و استرداد الصلة و الوصلة.

و منها: أنّه على تقدير القول بحرمة إعانة الظالم و الفاسق و حبّة و الرضا بفعله و وجوب هجره و التبرّي منه مطلقا و لو في المباحات، فهل هو حرام مطلقا، و يجب التبرّي عنه مطلقا، أي: من جميع الجهات و الحيثيّات، حتى من حيث أبوّته و أخوّته و قرابته و رحميّته و فقره و احتياجه و إيمانه و إسلامه و كرمه و شجاعته و علمه و مدافعته و سائر محامده، أم هو حرام من حيث خصوص ظلمه و فسقه و عصيانه لا غير، فيجوز بل يجب إعانته و صلته و حرمته و سائر ما كان له من حقوق الأبوّة و الاخوّة و القرابة و الرحميّة و الإيمان و الإسلام و القيافة و حقّ الجوار؟ وجهان بل قولان، صرّح الجواهر (3) و الرياض (4) بالثاني، لعموم أدلّة أحكام الجهات و الحيثيّات، أي: عموم حقّ الأبوّة و الاخوّة، بل استصحاب حكمها فيما لو طرأ عليها حيثيّة الظلم و العدوان.

و الأظهر الأوّل، لظهور حكومة عمومات النهي عن إعانة الظالم و الفاسق على جميع ماله من أحكام الحيثيّات و الجهات من الكرامات و الاحترامات و النسب و الحسب، و مقابلة المهاجر و الأنصار أرحامهم في المقاتلة و الجهاد و النخوة بالقرابة، بأنّ الإسلام قطع الأرحام، و احتجاج الإمام عليه السّلام على من اعتذر في مخالفة حقّ بوجوب إطاعة أبيه بعموم قول النبيّ صلى اللّٰه عليه و آله: «لا طاعة لمخلوق في


1- تقدّم ذكر مصادرها في ص: 190.
2- تقدّم مصادره في هامش (7) ص: 213.
3- جواهر الكلام 22: 54.
4- رياض المسائل 5: 37.

ص: 224

سخط الخالق» (1).

مضافا إلى عموم قوله تعالى كُونُوا قَوّٰامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدٰاءَ لِلّٰهِ وَ لَوْ عَلىٰ أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوٰالِدَيْنِ وَ الْأَقْرَبِينَ (2). و إجماع العلماء قولا و فعلا على إجراء جميع الحدود و التعزيرات من الولد على والديه، و من غير الهاشميّ على الهاشميّ العلوي و لو كان أعلم العلماء، و لم يراعوا حيثيّة الأبوّة و السيادة و الأعلميّة بوجه من الوجوه.

مضافا إلى أنّ نهي المعصوم صفوان عن حبّ البقاء من حيث إعطاء الكراء، و عن الركون إلى السلطان من حيث خصوص الإعطاء بقدر تناول العطاء، نصّ صريح على حرمة الولاء و وجوب الهجر و البراء من جميع الأنحاء.

مضافا إلى أنّ تخصيص جميع النواهي الناهية عن إعانة الظلمة و حبّ بقائهم و الركون إليهم على كثرتها و استفاضتها و تواترها و صحّتها و صراحتها في العموم بخصوص حيثيّة الظلم و الفسق، تخصيص لها بالفرد النادر الأندر، بل المعدوم، إذ ما من ظالم و فاسق و لا كافر حتى إبليس و قابيل و فرعون و قارون و أبي لهب و منافقي هذه الأمّة إلّا و فيه حيثيّة أخرى، بل حيثيّات لا تخفى، من العبادة و القرابة و المصاحبة و الهجرة و المجاهدة و الأسنّية و الأسبقيّة و غيرها من الحيثيّات الحسبيّة و النسبيّة.

مضافا إلى أنّ من أمثال القرآن ضَرَبَ اللّٰهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَ امْرَأَتَ لُوطٍ كٰانَتٰا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبٰادِنٰا صٰالِحَيْنِ فَخٰانَتٰاهُمٰا فَلَمْ يُغْنِيٰا عَنْهُمٰا مِنَ اللّٰهِ شَيْئاً وَ قِيلَ ادْخُلَا النّٰارَ مَعَ الدّٰاخِلِينَ (3)، و قوله تعالى في ابن


1- تقدّم ذكر مصدره في هامش (2) ص: 159.
2- النساء: 135.
3- التحريم: 10.

ص: 225

نوح إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صٰالِحٍ (1)، و قوله تعالى مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرٰاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهٰا كَمَثَلِ الْحِمٰارِ يَحْمِلُ أَسْفٰاراً (2)، و قوله تعالى في عالم بني إسرائيل وَ اتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنٰاهُ آيٰاتِنٰا فَانْسَلَخَ مِنْهٰا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطٰانُ فَكٰانَ مِنَ الْغٰاوِينَ .. فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ (3) الآية.

مضافا إلى ما في البحار: «من أنّ زيد النار كان يدخل على أخيه الرضا عليه السّلام فيسلّم عليه و لم يردّ عليه الجواب، فقال: أنا ابن أبيك و لا تردّ عليّ جوابي! فقال عليه السّلام: أنت أخي ما دام أطعت اللّٰه، فإذا عصيته لم يكن بيني و بينك إخاء- إلى أن قال عليه السّلام- المحسن منّا له كفلان من الثواب، و المسي ء منّا له ضعفان من العذاب» (4).

هذا كلّه، مضافا إلى أنّ قوله تعالى يٰا نِسٰاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفٰاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضٰاعَفْ لَهَا الْعَذٰابُ (5) و قوله تعالى إِنَّ الْمُنٰافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النّٰارِ (6) سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ (7) صريح في أنّ حيثيّة الأحساب و الأنساب توجب تضاعف العذاب و أشدّية العقاب.

هذا كلّه، مضافا إلى أنّ فتح هذا الباب من الريب و الارتياب يوجب تحليل كلّ حرام من البدء إلى الختام لنفع مثل الأيتام، و تحليل السرقة لأجل الصدقة، و تحليل الميسر و الخمور بقصد المنافع و السرور، و ثمن العذرة لأجل الحجّ و العمرة، و تحليل الملاهي و الغناء لأجل البكاء و الإبكاء على سيّد الشهداء عليه السّلام،


1- هود: 46.
2- الجمعة: 5.
3- الأعراف: 175- 176.
4- البحار 49: 217- 218 ذيل ح 2 و ذيل ح 3.
5- الأحزاب: 30.
6- النساء: 145.
7- التوبة: 101.

ص: 226

و تحليل اللواط لتحصيل الذلّ و الانحطاط، و استماع تغنّي الفاجرة لأجل تذكّر الآخرة، إلى غير ذلك ممّا يضحك الثكلى من مزخرفات صوفيّة العامّة العمياء، من الخطأ و السفه و الجفاء الساري إلى بعض الجهلاء.

و منها: الإعانة أو قبول الولاية لأجل التوصّل بها إلى إقامة واجب أو ترك حرام لا يتمّ ذلك الواجب و ترك الحرام إلّا بها، كإقامة الحدود و الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر و دفع المظلمة و كشف الكربة، و نحوه من الواجبات. و ظاهر المشهور جوازها بقول مطلق. و لعلّه مبنيّ على إنكار حرمتها النفسيّة، كما يشهد به استدلالهم بالمقدّمية التي لا تأتي إلّا في المباحات.

و كيف كان، فالحقّ التفصيل باعتبار أنّ الإعانة المحرّمة إمّا في ظلم أو غيره. و على كلّ منهما: إمّا أن يكون لأجل توصّل المعين إلى ما تعيّن على نفسه، أو على غيره من الواجبات و ترك المحرّمات ممّا لا يتمّ إلّا به.

أمّا الإعانة المحرّمة لأجل توصّل المعين إلى ما تعيّن على نفسه من الواجبات فلا إشكال و لا خلاف في جوازها و لو في المحرّمات الظلميّة، لرجوع الأمر فيها إلى الضرورة المبيحة للمحظورات، و قاعدة جواز ارتكاب أقلّ القبيحين مقدّمة لفعل أهمّ الواجبين المعيّنين، لضرورة الداعية له في البين، كما في تزاحم الحقّين و التزام أهمّ الواجبين. كما لا يجوز تلك الإعانة الظلميّة من المعين و لو كانت أقلّ قليل لأجل التوصّل إلى ما تعيّن على غيره من الواجبات و ترك المحرّمات، و لو كان من أهمّ الفرائض و أعظم العزائم المعيّنة عليه، ضرورة قبح الظلم الاختياري بالذات لمصلحة الوصول إلى ما تعيّن على الغير من الواجبات، الآبي من التخصيص عقلا و نقلا. أمّا عقلا فبالضرورة. و أمّا نقلا فلقوله تعالى:

عَلَيْهِ مٰا حُمِّلَ وَ عَلَيْكُمْ مٰا حُمِّلْتُمْ (1) و لٰا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ (2)


1- النور: 54.
2- المائدة: 105.

ص: 227

وَ لٰا تُطِعِ الْكٰافِرِينَ* (1) وَ لٰا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا (2) وَ لٰا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنٰا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنٰا وَ اتَّبَعَ هَوٰاهُ (3). و قوله عليه السّلام: «شرّ الناس من ظلم الناس لغيره» (4).

و قوله عليه السّلام لمّا قيل له في معاوية أنصبه شهرا و اعزله دهرا: «هيهات هيهات» (5).

«و لو أعطيت السبع الأقاليم على أن أظلم نملة في قشر شعيرة ما فعلت» (6).

إنّما الإشكال في جواز القسم الثالث من الإعانة المحرّمة، و هي الإعانة غير الظلميّة لأجل التوصّل إلى مصلحة ما تعيّن على الغير و هو المستعان لا المعين، من واجب أهمّ أو ترك حرام أعظم من حرمة إعانة المعين له، نظرا إلى أنّ هذا القسم من الإعانة المحرّمة لم يسوّغها الضرورة المسوّغة للقسم الأوّل، و لم يمنعها مانع القسم الثاني من الظلم القبيح الذاتي الآبي من التخصيص.

فمقتضى عموم أدلّة حرمة الإعانة الحاكمة على أصل الإباحة و عموم حسن المعاشرة هو حرمة تلك الإعانة، و لكن مقتضى استثناء هذا القسم من عموم أدلّة الحرمة بقوله تعالى ذٰلِكَ ذِكْرىٰ (7) و قوله عليه السّلام: «إلّا لتفريج كربة عن مؤمن أو فكّ أسره» (8) و قوله عليه السّلام: «كفّارة العامل للسلطان قضاء حوائج الإخوان» (9) و قوله عليه السّلام: «فإن وليت شيئا من أعمالهم فأحسن إلى إخوانك يكون واحدة بواحدة» (10) هو جواز هذا القسم من الإعانة المحرّمة و لو لمصلحة الغير، كتجويز


1- الأحزاب: 1.
2- هود: 113.
3- الكهف: 28.
4- مستدرك الوسائل 12: 99 ب «77» من أبواب جهاد النفس و ما يناسبه ح 8.
5- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 10: 233.
6- تقدّم ذكر مصدره في هامش (3) ص: 212.
7- هود: 114.
8- الوسائل 12: 140 ب «46» من أبواب ما يكتسب به ح 9.
9- الوسائل 12: 139 ب «46» من أبواب ما يكتسب به ح 3.
10- الوسائل 12: 140 ب «46» من أبواب ما يكتسب به ح 9.

ص: 228

الشارع الكذب النافع لرفع ظلم أو فتنة أو إنجاء مسلم أو تقيّة و إن حرم بالأصالة.

و هذا بخلاف القسم الثاني من الإعانة في الظلم اختيارا، فإنّه و إن كان أقلّ قليل لا يسوّغه التوصّل إلى ما تعيّن على الغير و إن توصّل بها إلى فعل ما هو من أعظم المصالح أو ترك ما هو من أقبح القبائح، ضرورة انتفاء المسوّغ للظلم الاختياريّ عقلا، و إبائه من التخصيص قطعا، و فرض المصلحة الكلّية النوعيّة و إن بلغت ما بلغت كثرة إلّا أنّها لا تسوّغ المفسدة الذاتيّة الاختياريّة عقلا. نعم، لو لم تكن فيها مفسدة ذاتيّة- كقبح الكذب المحرّم شرعا- سوّغتها المصلحة الكلّية شرعا و إن رجعت إلى الغير.

فإن قلت: ما الفرق و الفارق بين الظلم المسوّغ في القسم الأوّل لرفع ما هو أعظم ظلما، و بين هذا الظلم غير المسوّغ لرفع ما هو أعظم من باب جواز ارتكاب أقلّ القبيحين؟

قلت: الفرق و الفارق و هو استناد الإعانة الظلميّة في الأوّل إلى الاضطرار، و في الثاني إلى الاختيار. و ارتكاب أقلّ القبيحين إنّما يسوّغ الأقلّ فيما لو اضطرّ إلى القبيح و دار أمره بين الأقلّ و الأكثر، جوّز له العقل ارتكاب الأقلّ: فالاضطرار سوّغ القبيح و الدوران عيّن الأقلّ، بخلاف الإعانة الظلميّة فيما نحن فيه، فإنّها و إن كانت من المعين أقلّ قليل ما يفرض من غير المعين، إلّا أنّ دوران الأمر بين ظلم المعين و لو كان بأقلّ ما يكون و ظلم غيره و لو بأكثر ما يكون يخرج المعين عن الاختيار إلى الاضطرار في أصل الظلم حتى يكون مسوّغا لأقلّه.

فإن قلت: أقلّ المسوّغ له إطلاق نصوص قوله تعالى اجْعَلْنِي عَلىٰ خَزٰائِنِ الْأَرْضِ (1). و قوله عليه السّلام: «كفّارة العامل للسلطان قضاء حوائج


1- يوسف: 55.

ص: 229

الإخوان» (1). قوله عليه السّلام: «فإن وليت شيئا من أعمالهم فأحسن إلى إخوانك يكون واحدة بواحدة» (2). و قوله عليه السّلام: «ما من جبّار إلّا و معه مؤمن يدفع اللّٰه به عن المؤمنين» (3). «إنّ للّٰه تعالى في أبواب المظلمة من نوّر اللّٰه به البرهان» (4) الحديث.

أو لعلّ المسوّغ ما له ادّعاه الجواهر (5) من السيرة القطعيّة على إعانة النبيّ صلى اللّٰه عليه و آله المنافقين المبطنين للكفر و الظلم بفنون الإعانات و المداراة و حسن المعاشرات و بذل الصدقات. و هكذا أمير المؤمنين لمّا أسّر عائشة فأحسن أسرها (6). و هكذا سيرة الحسن و سائر الأئمّة. و هكذا سيرة الخلّصين من الصحابة، كعمّار و ابن مسعود و ابن أحنف قد تولّوا على الكوفة من قبل عمر.

و هكذا سلمان قد تولّى على المدائن. و هكذا عليّ بن يقطين من قبل هارون، و عبد اللّٰه النجاشي تولّى الأهواز، إلى غير ذلك.

قلت: النصوص المذكورة- كالإجماع العملي ذي جهات- كقضايا الأحوال التي كستها الإجماع لا تفيد العموم في المقال، لطروّ الاحتمال المبطل للاستدلال، لاحتمال كونه من الإعانة في المباحات لا المحرّمات، كمجرّد المصاحبة و المراودة و المجالسة لمجرّد التوصّل به إلى عموم مصالح الناس و إصلاح أمورهم، أو في المحرّمات غير الظلميّة، كالإعانة على الملهيات و المسكرات لترك أعظم المحرّمات من الظلم و التهلكات. و لو سلّم كونه في الظلم


1- تقدّم ذكر مصدره في هامش (9) ص: 227.
2- تقدّم ذكر مصدره في هامش (10) ص: 227.
3- الوسائل 12: 134 ب «44» من أبواب ما يكتسب به ح 4.
4- مستدرك الوسائل 13: 130 ب «39» من أبواب ما يكتسب به ح 3، نقلا بالمضمون.
5- تقدّم ذكر مصدره في هامش (3) ص: 216.
6- مصنّفات الشيخ المفيد 1: 415.

ص: 230

فلعلّه في الضرورات المبيحة للمحظورات، كما يشهد به مواقع من السؤال و الجواب في كتاب النجاشي (1) إليه عليه السّلام.

و منها: أنّ ما يدفعه الدافع إلى الجائر باسم الخاوة و التذكرة و السلاميّة و القرنطينة و حقّ المرور و العبور، لتخلية السرب عن طريق الحجّ أو الزيارة، أو لدخول الكعبة أو المقام أو المشاهد المشرّفة، أو لإقامة التعزية، أو لرفع التقيّة، أو لنقل الأموات أو لدفنها في بعض الأماكن المشرّفة، أو لإحقاق حقّ، أو الرجوع إلى شرع، أو لتسنين سنّة، أو ابتياع بيعة، أو اكتساب حرفة أو صنعة، إلى غير ذلك ممّا دوّنه الديوانيّون و ابتدعه المبتدعون المفسدون في الأرض، فهل هو من الإعانة و الرشوة المحرّمة، ليسقط وجوب ما يتوقّف عليها من الواجبات فضلا عن المستحبّات و المباحات، كما عدّه بعض من موانع تخلية السرب المشروط بها وجوب الحجّ، مستدلّا عليه بأنّ ما يدفعه إلى الظالم لأجل رفع المنع إعانة على ظلمه المحرّم، أم هو تحمّل ظلم لا إعانة ظلم كما قيل؟ وجهان بل قولان.

و الحقّ أن يقال كلّية: إنّ ظاهر الأدلّة أنّ ذلك كلّه من باب الرشوة أو الإعانة المحرّمة للظالم نفسا، فلا يسوّغها إلّا ما سوّغ سائر المحرّمات، أو سوّغ الرشوة و الإعانة المحرّمة للظالم في سائر المقامات، من ضرورة أو اضطرار أو إكراه أو مسيس حاجة أو سدّ خلّة أو تفريج كربة أو تقيّة، فقد تقتضي الضرورة أو الحاجة أو التقيّة في بعض الأزمنة و الأمكنة و بعض الأحوال و بعض الأعمال جوازها، و في غيرها العدم ففي مثل زمان بني أميّة و المتوكّل المنحصر فيه تشريع الزيارة و ترويجها في تحمّل الرشوة و الظلم و الخوف قد يجوز بل قد يجب، و في غير زمان حصر التشريع و غير مكان حصر الطريق في الرشوة و تحمّل الظلم فلا يجوز، و فيمن لا يتعسّر و لا يتضرّر بدفع الرشوة و الإعانة قد يجوز بل قد يجب،


1- كشف الريبة: 122 ح 10.

ص: 231

و فيمن تعسّر أو تضرّر بها لا يجوز، و فيمن اضطرّ أو احتيج إلى الاستطراق المتوقّف على الرشوة و الإعانة قد يجوز، بل يجب، و في غيره فلا.

و حينئذ فيشكل الحال في حكم أكثر الأسفار و الأعمال و المكاسب المتوقّفة على المقدّمات المحرّمة من رشوة أو إعانة، من حيث الحكم بالإباحة أو الحرمة و القصر و الإتمام، سيّما لو كان المال المدفوع في هذه الطرق على وجه الجزية و الصغار لأشرّ الكفّار و الفجّار من أوقر الأخيار و الأبرار، المستلزم لهتك شعائر الإسلام، و توهين عزائم بيوت اللّٰه الحرام و مشاهده العظام، كما دوّنه حكّام هذا الزمان، فلا إشكال في أنّه حرام فوق حرام و إن خالف سيرة الخواصّ و العوام.

و منها: أنّ حضور جماعة المخالفين، و تشييع جنائزهم و عيادة مرضاهم و طبابة أمراضهم، و حسن معاشرتهم و إكرام ضيافتهم، و مزاوجتهم و مناكحتهم، و توجيه أباطيلهم و نقل أقاويلهم، و تحمّل شهاداتهم و فصل خصوماتهم، و تعظيم أساتيدهم و تكريم أكبارهم، و أداء حقوقهم و ترك عقوقهم، هل هو من إعانة الظلم و العصيان و التعاون على الإثم و العدوان، كما يقتضيه عموم (1) أدلّة حرمة الركون و التعاون، أما لا، كما يقتضيه عموم (2) النصوص الآمرة بحسن المعاشرة لهم و حسن المعروف إليهم؟ وجهان بل قولان، أظهرهما المنع كلّية إلّا لضرورة أو تقيّة، لأنّ النصوص الآمرة بحسن المعاشرة معهم و إن كانت مستفيضة صريحة صحيحة- بل حاكمة و مخصّصة للنصوص الناهية عن الركون و إعانة الظلمة، لورودها مورد خصوص المخالفين- إلّا أنّها خاصّة مختصّة في نفسها و بتنقيح المناط القطعي من الخارج بخصوص صورة التقيّة أو الضرورة أو الحاجة أو إتمام


1- تقدّم ذكر مصدره في
2- تقدّم ذكر مصادره في هامش (8 و 10) ص: 227.

ص: 232

الحجّة أو قطع المحجّة، كما يدلّ عليه الأدلّة الثلاثة بل الأربعة الصريحة في وجوب التبرّي و البراءة منهم (1)، و الدعاء و اللعن و على جنائزهم بعد التكبير الرابع (2)، و عليهم بعد الصلوات الخمس في المأثور من التعقيبات و في قنوت كلّ صلاة، بل كان عليّ عليه السّلام (3) يقنت بلعن صنمي قريش في كلّ غدا. و كما يدلّ عليه أيضا النصوص (4) تقدّم ذكر مصدره في هامش (7) ص: 213.

(5) الناهية عن تزويجهم بالمؤمنات دون العكس، و عن عتق المملوك منهم (6)، و عن مطلق الصدقات من الزكاة و الفطرة (7)، بل و من الحبوة، بل و من وجوه الكرامة.

مضافا إلى خصوص نصوص تخصيص التولّي بالمؤمنين و التبرّي بالمنافقين في قوله تعالى: و الْمُؤْمِنُونَ وَ الْمُؤْمِنٰاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيٰاءُ بَعْضٍ (8). و الْمُنٰافِقُونَ وَ الْمُنٰافِقٰاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ (9). و قوله تعالى:

لٰا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَ عَدُوَّكُمْ أَوْلِيٰاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ (10)، و خصوص منع صفوان (11) عن إكرائهم الجمال، و غيره عن المجالسة و المصاحبة لهم، و قوله عليه السّلام:

«لو لا أن بني أميّة وجدوا من يجبي لهم الصدقات و يشهد جماعتهم ما سلبوا حقّنا».


1- مستدرك الوسائل 12: 317 ب «37» من أبواب الأمر و النهي و ما يناسبها ح 1.
2- مستدرك الوسائل 2: 253 ب «4» من أبواب صلاة الجنازة ح 1 و 3.
3- البحار 85: 260 ح 5.
4- الوسائل 14: 424 ب
5- من أبواب ما يحرم بالكفر و نحوه ح 3.
6- الوسائل 16: 19 ب «17» من أبواب كتاب العتق ح 3.
7- مستدرك الوسائل 7: 149 ب «15» من أبواب زكاة الفطرة.
8- التوبة: 71.
9- التوبة: 67.
10- الممتحنة: 1.
11- تقدّم ذكر مصدره في هامش (7) ص: 213.

ص: 233

و أمّا مصاحبة المعصومين مع بعض المنافقين فمن قضايا الأحوال التي كستها الإجمال و الاحتمال المبطل للاستدلال، فلعلّه بنيّة إتمام الحجّة أو ضرورة محوجة أو لقطع محجّة، كما نقل من مصاحبات و مجادلات مؤمن الطاق مع أبي حنيفة ما يتمّ بها الحجج البالغة و المحجّات القاطعة التي هي من أعظم المجاهدات الواجبة. فمنها لمّا قال له أبو حنيفة: جاء شيطان الطاق، أجابه بداهة أَنّٰا أَرْسَلْنَا الشَّيٰاطِينَ عَلَى الْكٰافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا (1). و لمّا قال له: مات إمامك، قال: و أمّا إمامك فمن المنظرين. و لمّا قال له: إن كنت صادقا في الرجعة فأقرضني مائة دينار استرجعها منّي في الرجعة، قال: ائتني بضامن يضمنك أن ترجع بصورة إنسان، لا مسوخ كلب أو خنزير. و لمّا قال له: إذا مات ميّتكم كسرتم يده اليسرى ليعطى كتابه بيمينه، قال: أمّا هذا فجعل، و لكنّكم إذا مات ميّتكم حصّنتموه بجرّة من ماء لئلّا يعطش في المحشر، فيردّه عليّ عليه السّلام عن الكوثر. و لمن أنشد: من رأى صبيّا ضالّا، قال مؤمن الطاق: أمّا الصبيّ الضالّ فلم أره، و لكن الشيخ الضالّ هذا، يعني: أبا حنيفة (2). إلى غير ذلك من احتجاجاتهم البليغة المسوّغة لحرمة المصاحبة قطعا.

و يتفرّع على ذلك فروع:

منها: عدم وجوب تجهيز ميّتهم علينا، من تغسيل و لا تكفين و لا تدفين و لا صلاة، إن هم إلّا كالأنعام بل هم أضلّ، كما قال اللّٰه تعالى وَ لٰا تُصَلِّ عَلىٰ أَحَدٍ مِنْهُمْ مٰاتَ أَبَداً وَ لٰا تَقُمْ عَلىٰ قَبْرِهِ (3). و قول المجتبى عليه السّلام لمعاوية لمّا قال أعلمت ما صنعنا بأصحاب أبيك؟ قال: «ما صنعتم؟ قال: قتلناهم و غسلناهم و كفّناهم و صلّينا عليهم و دفنّاهم، قال عليه السّلام: خصمك القوم، و أمّا نحن إن قتلنا


1- مريم: 83.
2- الاحتجاج: 381، اختيار معرفة الرجال: 190، منتهى الآمال 2: 176.
3- التوبة: 84.

ص: 234

أصحابك ما كفّناهم و لا غسلناهم و لا صلّينا عليهم و لا دفنّاهم» (1).

و أمّا تجهيز ميّت فسقة الشيعة فلا بدّ أن يكون خارجا بالدليل ما لم يخرج الفاسق عن السبيل، إلّا حرمة النبش و النقل المستلزم للهتك باقية تحت الأصل الأصيل في اختصاصها بالمؤمن لا الفاسق.

و منها: عدم صحّة إتيان الظالم بل مطلق الفاسق شيئا من سهام الزكاة إلّا سهم المؤلّفة، بل و لا الفطرة إلّا للضرورة، حتّى إنّ المخالف لو استبصر لم يقض شيئا من عباداته الموافقة لمذهبه إلّا الزكاة، لوقوعه في غير أهله، كما هو منصوص (2) أيضا.

و كذلك الخمس و الحبوة و الخراج و المقاسمة من بيت المال تؤخذ منهم و لا تعطى لهم، إلّا ما يأخذه السلطان الجائر قهرا فيسقط عن المأخوذ منه، و يجوز استنقاذه منه باسم الجائزة و الهبة و الشراء، كما هو منصوص: «لك المهنّأ، و عليه الوزر» (3).

و كذلك التزويج، يجوز أن يتزوّج من الظالم و الفاسق، و لا يجوز تزويجهم المؤمنة، لنصوص (4) اشتراط المكافأة في الإيمان، و أنّ المرأة تأخذ بدين بعلها، بخلاف العكس.

فلو تزوّجت المؤمنة بالمخالف عصيانا أو جهلا بالحكم أو بالموضوع، أو تنصّب و استنّ العاقد بالمؤمنة بعد العقد، فهل يحكم ببطلان عقدها أو انفساخه،


1- انظر الاحتجاج: 296- 297، و لكن ذكر هذا الكلام ضمن احتجاج الحسين عليه السّلام مع معاوية.
2- الوسائل 6: 148 ب «3» من أبواب المستحقّين للزكاة.
3- الوسائل 12: 56 ب «51» من أبواب ما يكتسب به ح 1.
4- الوسائل 14: 43 ب «25» من أبواب مقدّمات النكاح و آدابه.

ص: 235

نظرا إلى استفادة شرطيّة المكافأة في الإيمان من النصوص (1) الناهية عن تزويجهم، أو يحكم بوجوب اختيارها النشوز و عدم ترتيب أحكام المزاوجة، جمعا بين مقتضى العقد و وجوب التبرّي؟ و على الثاني فهل للحاكم فسخه أو جبره على الطلاق عند الامتناع؟ وجوه، أظهرها بطلان العقد و اشتراط المكافأة في الإيمان. و على تقدير عدمه فالأظهر من عموم أدلّة الولاية للحاكم جبر الممتنع على الطلاق، لحكومة أدلّته على كون: «الطلاق بيد من أخذ بالساق» (2)، لقوله تعالى النَّبِيُّ أَوْلىٰ بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ (3) و السلطان وليّ الممتنع.

و منها: عدم صحّة عتق المملوك لهم هنا و إن صحّ منهم لنا، لعموم مفهوم:

فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ* (4). و قوله عليه السّلام لمن أعتق خادما: «ردّها في ملكها ما أغنى اللّٰه عن عتق أحدكم، تعتقون اليوم و يكون علينا غدا، لا يجوز لكم أن تعتقوا إلّا عارفا» (5). و كذا عدم صحّة طلاقهم لهم و إن صحّ لنا منهم، من باب ألزموهم بما ألزموا به أنفسهم (6) من الأحكام الضرورية.

من منها: عدم صحّة النذر و الصدقة و الوقف و قضاء الوليّ الصلاة و الصيام و الحجّ عنهم، و صحّة العكس، بل وجوبه، لعموم لٰا تَجِدُ قَوْماً .. يُوٰادُّونَ مَنْ حَادَّ اللّٰهَ وَ رَسُولَهُ (7). وَ لَوْ كٰانُوا أُولِي قُرْبىٰ (8). و عموم:


1- الوسائل 14: 423 ب (10) من أبواب ما يحرم بالكفر و نحوه.
2- سنن ابن ماجة 1: 672 ح 2081.
3- الأحزاب: 6.
4- النساء: 92.
5- الوسائل 16: 19 ب «17» من أبواب كتاب العتق ح 3.
6- الوسائل 15: 321 ب «30» من أبواب مقدّمات الطلاق و شرائطه ح 5، 6.
7- المجادلة: 22.
8- التوبة: 113.

ص: 236

وَ لٰا تُصَلِّ عَلىٰ أَحَدٍ مِنْهُمْ مٰاتَ أَبَداً وَ لٰا تَقُمْ عَلىٰ قَبْرِهِ (1). و عموم إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللّٰهُ لَهُمْ (2). إِنَّ اللّٰهَ لٰا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفٰاسِقِينَ (3). و أمّا صحّة قضاء الوليّ عن أبيه الفاسق دون المنافق فالنصّ و الإجماع هو الفارق.

و منها: هل تحلّ لهم المباحات الأصليّة من الماء و الكلإ و النار؟ و هل تحلّ لهم الصدقات و الوقفيّات من مستثنيات الخمس و إحياء الموات و حقّ السبق إلى السوق و المساجد و حقّ الحيازات، نظرا إلى العمومات من قوله صلى اللّٰه عليه و آله: «الناس شرع سواء في النار و الماء و الكلإ» (4) «و من أحيا أرضا فهي له» (5) «و من سبق إلى مكان فهو أحقّ» (6)، أم يختصّ ذلك كلّه بغير الفاسق و المنافق؟ لورودها مورد الامتنان الخاصّ بأهل الإيمان لا الفسق و العصيان من عبدة الشيطان، و لتخصيص عمومات الإباحات و الصدقات بخصوص قوله: «ما كان لنا فهو لشيعتنا» (7). بل بخصوص: «أحللنا لشيعتنا الأطيبين» (8). و بفحوى مفهوم الوصف و القيد من قوله تعالى فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بٰاغٍ وَ لٰا عٰادٍ فَلٰا إِثْمَ عَلَيْهِ (9). لِمَنِ اتَّقىٰ (10).

و قوله عليه السّلام: «و لو أنّ غير موالي عليّ دخل البحر فاغترف غرفة قائلا: بسم اللّٰه و الحمد للّٰه، ثمّ شرب لم يشرب إلّا كدم مسفوح أو لحم خنزير» (11).


1- التوبة: 84.
2- التوبة: 80.
3- المنافقون: 6.
4- الوسائل 17: 331 ب «5» من أبواب إحياء الموات ح 1.
5- الوسائل 17: 326 ب «1» من أبواب إحياء الموات.
6- الوسائل 3: 542 ب «56» من أبواب أحكام المساجد ح 2.
7- الوسائل 6: 384 ب «4» من أبواب الأنفال و ما يختصّ بالإمام ح 17.
8- الوسائل 6: 379 الباب المتقدّم ح 3.
9- البقرة: 173.
10- البقرة: 203.
11- لم نعثر عليه في الكتب الحديثيّة، و وجدناه في مجمع البحرين 2: 432.

ص: 237

و منها: التلمّذ عندهم و التعلّم منهم و الرجوع إلى تفاسيرهم و أقوالهم و أفعالهم و التشبّه بأعمالهم من غير ضرورة مسوّغة، و دخل في تصديق الفاسق و تكريم المنافق و الركون و المودّة و التشبّه بالأعداء، لعموم قوله تعالى: «قل لعبادي لا تطعموا مطاعم أعدائي، و لا تلبسوا ملابس أعدائي، و لا تشبّهوا بأعدائي، فتكونوا أعدائي كما هم أعدائي» (1). مضافا إلى خصوص قوله عليه السّلام: «من أصغى إلى أحد فقد عبده، فإن كان عن اللّٰه فقد عبد اللّٰه، و إن كان عن غيره فقد عبد غير اللّٰه» (2).

و منها: أداء الشهادة عند القاضي الفاسق أو المنافق فضلا عن الجائر من الركون المنهيّ، فلا يجوز إلّا لضرورة مسوّغة أو إحقاق حقّ واجب أو إتمام حجّة أو قطع محجّة، كمحاجّة فاطمة عليه السّلام و إقامتها الشهود عند أبي بكر على أحقّية ما في يد تصرّفها من ملكيّة فدك (3).

و منها: التحكّم و التحاكم إلى الفاسق أو المنافق من غير ضرورة مسوّغة، فإنّه حرام بالأدلّة الثلاثة، منها قوله تعالى أَ لَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا .. يَتَحٰاكَمُوا إِلَى الطّٰاغُوتِ وَ قَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ (4). و في مقبولة ابن حنظلة: «سألت الصادق عليه السّلام عن رجلين من أصحابنا يكون بينهما من منازعة في حقّ أو ميراث فتحاكما إلى السلطان أو إلى القضاة، أ يحلّ ذلك؟ قال عليه السّلام: من تحاكم إليهم في حقّ أو باطل فإنّما تحاكم إلى الطاغوت، و ما يحكم له فإنّما يأخذه سحتا، و إن كان حقّه ثابتا، لأنّه أخذ بحكم الطاغوت، و إنّما أمر اللّٰه أن يكفر


1- مستدرك الوسائل 3: 248 ب (10) من أبواب أحكام اللباس ح 4.
2- الوسائل 12: 111 ب «28» من أبواب ما يكتسب به ح 4.
3- الاحتجاج: 97.
4- النساء: 60.

ص: 238

به» (1) الحديث.

لا إشكال في كون أصل التحاكم إلى الجائر بل و كذا الأخذ بحكمه حراما إنّما الإشكال في حرمة المأخوذ إذا كان حقّا لآخذه، خصوصا إذا كان عينا لا دينا. و هو أظهر الوجوه.

أمّا إذا كان دينا فلأنّ تعيين الحاكم غير معيّن له، لأنّه تعيين من لا حكم لتعيينه شرعا، و تعيين مالكه أيضا كذلك، لأنّه تعيين جبرا.

و أمّا إذا كان عينا فهو و إن استبعد حرمته مع كونه حقّا لآخذه بمحض الاقتران بحكم الجائر، إلّا أنّ الاستبعاد اجتهاد في مقابل إطلاق النصّ بحرمته.

مضافا إلى رفع الاستبعاد بكون المراد حرمته عرضا بحكم الجائر من حيث حكمه، لا ذاتا مخرجا عن ملك مالكه إلى ملك غاصبه، و لا موجبا عليه ضمانه و غرامته كحرمة مال الغير، بل تكون العين المأخوذة حراما على الغاصب من جهة غصبه، و على الآخذ من جهة أخذه بحكم الجائر.

فلو أغمض في الأخذ عن حكم الجائر، و لم يلتزم في الأخذ بحكمه، بل التزم في أخذه بحكم الشارع و حقّ الواقع، فلا إشكال في حلّيته مطلقا، حتى في صورة ما إذا كان الحقّ دينا كلّيا و عيّنه الجائر في عين، و لكن أخذه الآخذ بعنوان التقاصّ لا الالتزام بتعيين الجائر. و نظيره في تحريم الأعيان المملوكة المحلّلة بمجرّد عروض عارض تحريم الذبيحة بمجرّد ذكر غير اللّٰه، و حرمة العبادة بمجرّد نيّة التشريع أو الرياء و السمعة، و تحريم وطء الحليلة بمجرّد تشبيهها بالأجنبيّة أو تخيّلها أجنبيّة، و تحريم مال المرتدّ على نفسه بمجرّد ارتداده، إلى غير ذلك من أشباه المسألة ممّا يرفع الاستبعاد عنها، كما لا يخفى.

و يتفرّع عليه فروع:


1- الوسائل 18: 98 ب (11) من أبواب صفات القاضي ح 1.

ص: 239

منها: أنّه لو أخذ الآخذ حقّه بعنوان الالتزام بحكم الظلّام مستحلّا له، أو بحكم الجائر في المقام، كما هو دأب العوام، ارتدّ عن الإسلام، لاستحلاله الحرام، مضافا إلى فعله الحرام و إن كان جاهلا بالأحكام.

و منها: حقوق الوصاية و التوصية على الأموات و تولية الأوقاف هل يصحّ أن يجعل للفاسق و المنافق، نظرا إلى عموم: «الناس مسلّطون على أموالهم» (1)، و عمومات الأمر بالتوصية و الأوقاف على حسب آراء واقفيها، أم لا يصحّ؟

وجوه بل أقوال أظهرها العدم مطلقا، لوجوه:

منها: أنّ التوصية و التولية ائتمان، فلا يصحّ إلى الفاسق فضلا عن المنافق.

و أنه موادّة و إحسان، فلا يصحّ و لا يليق بأهل العصيان و العدوان. و أنّه إكرام و احترام، فلا كرامة للفاسق و الظلّام.

و منها: فحوى قوله تعالى وَ لٰا تُؤْتُوا السُّفَهٰاءَ أَمْوٰالَكُمُ (2)، بناء على تفسيره بالصبيان و النسوان، و كون الفاسق أسفه.

و منها: فحوى قوله عليه السّلام في النساء: «تطيعوهنّ في حال، و لا تأمنوهنّ على مال، و لا تذروا لهنّ تدبير العيال» (3). و عموم تعليله بأنهنّ ناقصات العقول (4)، مع كون الفاسق أنقص.

و منها: فحوى: «لا تعلّموا العلم لغير أهله فتظلموه، و لا تمنعوه من أهله فتظلموهم» (5).

و منها: فحوى قوله عليه السّلام في تميّز دم العذرة عن الحيض بتطوّق القطنة


1- عوالي اللئالي 2: 138 ح 383.
2- النساء: 5.
3- الوسائل 14: 129 ب «94» من أبواب مقدّمات النكاح و آدابه ح 7.
4- نهج البلاغة: 105- 106 ح 80.
5- البحار 1: 140 ح 30.

ص: 240

و عدمه: «هذا سرّ اللّٰه فلا تذيعوه، دعوا الناس على ما اختار اللّٰه لهم من ضلال» (1).

و منها: عموم إخفائهم الحقّ و الصواب عن أكثر الأصحاب، بل عدم انتقال علومهم- على ما نقل- إلّا إلى أربعة (2): سلمان، و جابر الجعفي، و يونس بن عبد الرحمن.

و منها: فحوى النصوص (3) الناهية عن بيع السلاح على أعداء الدين مطلقا أو عند محاربة المسلمين. إلى غير ذلك ممّا يدلّ بالفحوى و الأولويّة على عدم ائتمان الفاسق، و عدم قابليّته و لياقته للائتمان بالتوصية و التولية.

و منها: أنّ توصية المكلّف الفاسق و جعل التولية و التوصية له سفه شرعيّ ينافي العقل و الرشد المعتبر في العقود و الإيقاعات، خصوصا على القول بتفسير الرشد بالعدالة في مطلق الأحوال، أو في خصوص حفظ المال عن الإسراف و التبذير و الاضمحلال.

و منها: أنّ جعل الشارع الوصاية و التولية للفاسق حكم ضرريّ على الأنفس و الأعراض و الأموال، و هو منفيّ بقوله صلى اللّٰه عليه و آله: «لا ضرر في الإسلام» (4).

فإن قلت: إنّ الحكم الضرريّ إنّما هو لازم خيانة الفاسق لا نفس فسقه، و خيانته مجبورة بحكم العزل و الانعزال، كما أنّ بيع المغبون ضرره مجبور بحكم الخيار لا بطلان أصل البيع.

قلت: الفرق كون المغبون بمجرّد العلم بغبنه قادرا على جبر غبنه بالخيار، بخلاف الأيتام و الأموات و القصّر، فإنّهم غير عالمين و لا قادرين على جبر ضررهم و قصورهم إلّا بنفي صحّة تولية الفاسق عليهم من البدء.


1- الوسائل 2: 535 ب «2» من أبواب الحيض ح 1.
2- كذا في النسخة الخطّية، و كأنّ السيّد المحشّي «قدّس سرّه» نسي الرابع و لم يذكره.
3- الوسائل 12: 69 ب (8) من أبواب ما يكتسب به.
4- عوالي اللئالي 3: 210 ح 54.

ص: 241

فإن قلت: كما يصحّ توكيل الفاسق و المنافق بالإجماع، فليصحّ توصيته و توليته أيضا.

قلت: القياس باطل، مضافا إلى وجود الفارق، من حيث إنّ التوكيل تحميل و التولية تجميل، و من حيث إنّ خطر خيانة الوكيل منجبر بحياة الموكّل و قدرته على عزله، بخلاف الموصى و المولّى عليه القصّر.

فإن قلت: سيرة المسلمين على جعلهم التوصية و التولية للإخوان و البنين و لو كانوا من أفسق الفاسقين، كتوصية مسلم بن عقيل إلى ابن سعد أمير الفاسقين.

قلت: هذه السيرة من قضايا الأحوال التي اعتراها الإجمال و الاحتمال المبطل للاستدلال، لاحتمال الضرورة أو التقيّة أو ضرب من الوكالة لا الوصاية.

و منها: ولاية الأب و الجدّ هل تثبت للفاسق و المنافق، نظرا إلى عموم:

فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ (1) و عموم: «لا ينقض النكاح إلّا الأب» (2) و عموم:

«ليس لها مع الأب أمر» (3) و عموم: «سألته عن الذي بيده عقدة النكاح، قال عليه السّلام:

هو وليّ أمرها» (4) و في أخبار أخر هو الأب و الجدّ، أم يعتبر في ولايتهما الوثوق و العدالة؟ وجهان، أظهرهما الثاني، لوجوه:

منها: فحوى قوله عليه السّلام في نكاح من تشاحّ فيه الأب و الجدّ: «الجدّ أولى بذلك ما لم يكن مضارّا» (5) بناء على شأنيّة المضارّة- و هو الفسق- لا فعليّتها.


1- النساء: 25.
2- الوسائل 14: 205 ب «4» من أبواب عقد النكاح و أولياء العقد ح 5.
3- الوسائل 14: 207 ب (6) من أبواب عقد النكاح و أولياء العقد ح 3.
4- الوسائل 14: 212 ب (8) من أبواب عقد النكاح و أولياء العقد ح 2.
5- الوسائل 14: 218 ب (11) من أبواب عقد النكاح و أولياء العقد ح 2.

ص: 242

و فحوى قوله الآخر: «إذا كان الجدّ مرضيّا» (1)، بناء على تفسيره بمن ارتضى دينه، كقوله وَ لٰا يَشْفَعُونَ إِلّٰا لِمَنِ ارْتَضىٰ (2) أي: دينه، بل التائب عن الكبائر، كما هو الظاهر من مرسلة ابن أبي عمير المنقولة في إكسير السعادة (3)، و ظاهر سؤال السائل: «فإن هوي أبو الجارية هوى، و هوى الجدّ هوى، و هما سواء في العدل و الرضا» (4). بل و فحوى ترجيحه الجدّ مع فرض مساواتهما في العدل و الرضا أيضا بقوله عليه السّلام: «أحبّ إليّ أن ترضى بقول الجدّ» (5) إنّما هو اعتبار العدالة و مانعيّة الفسق حين التشاحّ، و بضميمة عدم القول بالفصل يتمّ المطلوب.

و عموم فحوى قول الصادق عليه السّلام عمّن سأله عن الذي بيده عقدة النكاح، فقال عليه السّلام: «الذي يأخذ بعضا و يترك بعضا، و ليس له أن يدع كلّه» (6)، نظرا إلى أن مانعيّة عفو الكلّ عن نفوذ الولاية دالّة بالأولويّة على مانعيّة الفسق و النفاق عن نفوذها. فتأمّل.

و منها: عموم قوله عليه السّلام: «لا ضرر و لا ضرار في الإسلام» (7)، و من المعلوم أن ولاية الفاسق و المنافق على وجه النفوذ في مال القصّر و نفسه و عرضه و دينه حكم ضرريّ يوجب الضرر و الإضرار، حتّى في دين المولّى عليه، و إخراجه عن الإيمان إلى الفسق و العصيان و الإثم و العدوان، و موالاة عبدة الشيطان.

و منها: أنّ الفاسق سفيه غير رشيد شرعا، فلا ينفذ أمره في نفسه فكيف ينفذ في غيره المولّى عليه القصّر؟! خصوصا على القول بتفسير الرشد بالعدالة في


1- الوسائل 14: 218 ب (11) من أبواب عقد النكاح و أولياء العقد ح 4.
2- الأنبياء: 28.
3- اكسير السعادة: 41- 42.
4- الوسائل 14: 218 ب (11) من أبواب عقد النكاح و أولياء العقد ح 4.
5- الوسائل 14: 218 ب (11) من أبواب عقد النكاح و أولياء العقد ح 4.
6- الوسائل 14: 213 ب (8) من أبواب عقد النكاح و أولياء العقد ح 3.
7- تقدّم ذكره مصدره في هامش (4) ص: 240.

ص: 243

مطلق الأحوال، أو في خصوص حفظ المال عن الإسراف و التبذير و الاضمحلال.

فمن لم يكن له ولاية على نفسه فكيف يكون له ولاية على غيره؟! أمّا الكبرى فبديهيّة.

و أمّا الصغرى فلعموم قوله تعالى أَ فَمَنْ كٰانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كٰانَ فٰاسِقاً لٰا يَسْتَوُونَ (1). و عموم وَ مَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرٰاهِيمَ إِلّٰا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ (2) أَلٰا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهٰاءُ وَ لٰكِنْ لٰا يَعْلَمُونَ (3) صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لٰا يَعْقِلُونَ (4) إِنْ هُمْ إِلّٰا كَالْأَنْعٰامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ (5). و عموم وَ لٰا تُؤْتُوا السُّفَهٰاءَ أَمْوٰالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللّٰهُ لَكُمْ قِيٰاماً (6)، خصوصا على تفسير السفهاء بالصبيان و النسوان، و أسفهيّة أهل الفسق و العصيان، و الظلم و العدوان.

و فحوى قوله عليه السّلام في النساء: «لا تطيعوهنّ في حال، و لا تأمنوهنّ على مال، و لا تذروا إليهنّ تدبير العيال» (7). و تعليله بنواقص العقول (8)، مع كون الفاسق أسفه و أنقص عقلا منهنّ.

و عموم ما في الصافي (9) في شرح سورة الحمد قال صلى اللّٰه عليه و آله: «أكيس الكيّسين من حاسب نفسه و عمل لما بعد الموت، و إنّ أحمق الحمقاء من اتّبع نفسه هواه، و تمنّى على اللّٰه الأماني».

و ما في ترجمة البحار عن النبيّ صلى اللّٰه عليه و آله: «قسّم العقل ثلاثة أجزاء، فمن كانت


1- السجدة: 18.
2- البقرة: 130.
3- البقرة: 13.
4- البقرة: 171.
5- الفرقان: 44.
6- النساء: 5.
7- تقدّم ذكر مصادرهما في هامش (3 و 4) ص: 239.
8- تقدّم ذكر مصادرهما في هامش (3 و 4) ص: 239.
9- تفسير الصافي 1: 84.

ص: 244

فيه كمل عقله، و من لم تكن فيه فلا عقل له: حسن المعرفة باللّه عزّ و جلّ، و حسن الطاعة، و حسن الصبر على أمره» (1).

و عموم ما في الكافي فيمن وصف بالعقل و كان مبتلى بالوضوء، فقال عليه السّلام:

«و أيّ عقل له و يعبد الشيطان»؟! (2).

و عموم فحوى قوله عليه السّلام: «إنّ شارب الخمر سفيه لا يزوّج» (3). إلى غير ذلك في باب العقل و الجهل من الكافي و غيره، ممّا لا يحصى صحّة و صراحة و كثرة و دلالة على أنّ الفاسق سفيه و غير رشيد، و متّصف بالحماقة و الغيّ و ضدّ الرشد، كما عن الشيخ (4) و الراوندي (5) و أبي المكارم (6) و فخر الإسلام (7)، بل عن الغنية الإجماع على اعتبار العدالة في الرشد.

و أمّا استدلال الجواهر (8) كالمشهور على عدم اعتبار العدالة في معنى الرشد بصدقه فيما دونها عرفا، فهو ممنوع بعد سلبه عنه، و إطلاق ضدّه عليه شرعا فيما عرفت من نصوص الكتاب و السنّة، ضرورة تقديم عرف كلّ متكلّم و اصطلاحه على عرف غيره، و لهذا حكموا بنجاسة الفقّاع و العصير النبيّ إذا غلى بمجرّد قوله عليه السّلام: «خمر» (9) مع عدم مساعدة العرف عليه.

و كذلك استدلاله بسيرة المسلمين بل و ضرورة الدين على المعاملة مع


1- البحار 77: 158 ح 145.
2- الكافي 1: 12 ح 10.
3- الكافي 5: 299 ح 1، و ص 348 ح 2.
4- الخلاف 3: 284.
5- فقه القرآن: 72- 73.
6- غنية النزوع: 252.
7- إيضاح الفوائد 2: 55.
8- جواهر الكلام 26: 51.
9- الوسائل 17: 288 ب «27» من أبواب الأشربة و الأطعمة ح 4.

ص: 245

الفاسقين و المنافقين و المشركين و الخمّارين، لعلّها كالسيرة على معاملة المسرفين و المبذّرين، و تزويج الخمّارين، و الركون إلى الظالمين، و مشابهة أعداء الدين.

و كذا الاستدلال بلزوم العسر و الحرج في الدين لو قلنا بفساد معاملة الفاسقين و المنافقين.

فأمّا بالنسبة إلى الفاسقين بعضهم مع بعض فبمنع بطلان اللازم، لأنّ فساد معاملاتهم المشروطة بالرشد. بمعنى العدالة كفساد عباداتهم المشروطة صحّتها بالإيمان و قبولها بالتقوى و العدالة، إنّما هو بسوء اختيارهم في حال اختيارهم، و ما في الاختيار لا ينافي الاختيار، و المقدور بالواسطة مقدور.

و أمّا بالنسبة إلى الرشيد العادل المعامل مع الفاسقين و المنافقين فبمنع لزوم العسر، و إمكان تصحيحها في حقّه و من طرفه، و إن كان باطلا من طرف الفاسق و في حقّه بوجوه:

منها: من باب قاعدة: «ألزموهم بما ألزموا به أنفسهم» المحلّل لنا مطلّقات العامّة و المشركين مع فسادها في الواقع، و أثمان الخمر و الخنزير المحلّلة على المسلم أخذها عوض دينه من الذمّي.

و منها: أنّه من باب إمضاء وليّ الأمر و إجازته لنا المعاملة مع الفاسقين، من باب الولاية العامّة و اللطف العامّ الواجب على الإمام عليه السّلام بالنسبة إلى الأطيبين من شيعته، كما قال عليه السّلام: «شيعتنا منّا خلقوا من فضل طينتنا» (1). «ما أنصفناهم إن أخذناهم» (2). «ما كان لنا فهو لشيعتنا» (3). «أبحنا لهم المناكح لتطيب ولادتهم، و المتاجر لتحلّ مآكلهم، و المساكن لتصحّ صلاتهم» (4).

و منها: تصحيحها بالنسبة إلى عدول المؤمنين من باب التوسعة و توسيع


1- أمالي الطوسي 1: 305.
2- مستدرك الوسائل 7: 303 ب «4» من أبواب الأنفال و ما يختصّ بالإمام ح 3.
3- تقدّم ذكر مصدره في هامش (7) ص: 236.
4- مستدرك الوسائل 7: 303 ب «4» من أبواب الأنفال و ما يختصّ بالإمام ح 3.

ص: 246

الشارع لنا في طريق الرشد و عدم السفه، بأن اكتفى في طريقه بأصالة الصحّة في أفعال المسلمين عند عدم العلم برشدهم و سفههم، كما وسّع علينا في طريق العدالة بمعنى الملكة، بظنّ العدالة، أو بحسن الظاهر، أو ظهور الإسلام مع عدم ظهور الفسق. و في طريق النسب بظنّ النسب، بل و بقاعدة الفراش. و بصحّة الأخبار بمجرّد الوثوق بالراوي، أو بظنّ الصدور في الرواية. و في موضوعات الحلال و الحرام و الطهارة و النجاسة المشتبهة بأصالة الطهارة و الإباحة.

و منها: تصحيحها بالنسبة إلينا من باب الضرورة المحوجة، أو التقيّة اللازمة، أو العسر و الحرج المنفيّ عن الدين، و الضرر و الإضرار المنفيّ في الإسلام نوعا أو شخصا.

لا يقال: إنّ التوسعة في الطريق ليس بأولى من العكس.

لأنّا نقول: التوسعة في الطريق جمع بين الحسنين و أقلّ القبيحين، و عمل بالحقّين، و أخذ بالحكمتين: حكمة الواقع بالالتزام، و ما يقتضيه ضرورة المقام.

فروع: منها: لو أوصى الموصي أو وليّ الواقف فاسقا، فهل تبطل الوصاية و التولية إليه بالخصوص، و يرجع أمر الوصاية و التولية إلى المتولّي العامّ و هو الحاكم، فإن لم يكن فعدول المؤمنين كما في سائر الأمور الحسبيّة، أم تبطل الوصاية و الوقفيّة من أصله، و يرجع الوصيّة إلى الورثة و الوقف إلى الواقف، كما لو لم تقع الوصيّة و الوقفيّة من أصله؟ وجهان الأظهر الأوّل، لعموم (1) الوفاء بالعقود، و استصحاب بقاء صحّة أصل الوصاية و الوقفيّة بعد فساد التولية، و ذلك لتحقّق صدق موضوع الوصاية و الوقفيّة، بل و حصول شرطه الذي هو رشد الموصي و الواقف بالفرض.

و أمّا رشد الوصيّ و المتولّي فعلى تقدير اعتباره هو شرط صحّة تعيينه للشخص


1- المائدة: 1.

ص: 247

المعيّن، فانتفاؤه انتفاء للتعيين المشروط به، و فساده فساد للأمر المعيّن المنوط به، دون انتفاء أصله و فساد صدقه الموجودان بالفرض. فتلك الوصيّة و الوقفيّة حينئذ كالوصيّة و الوقفيّة غير المعيّن لها وصيّ أو متول، أو المعيّن الذي فات أو مات المعيّن فيه، في الرجوع إلى الأمور الحسبيّة الراجعة إلى الحاكم، و مع فقده فإلى عدول المؤمنين.

و كذا الحكم لو جعل التولية و الوصاية إلى مؤمن عادل ثمّ فسق الوصيّ و المتولّي بعد تحقّق الوصاية و التولية، فإنّ الأمر يرجع إلى الحاكم.

أمّا لو عاد إلى العدالة فهل يرجع الأمر إليه- نظرا إلى زوال المانع، فيقتضي المقتضي أثره- أو يبقى أثر المانعيّة و إن زال المانع؟ وجهان، أوجههما الثاني، استصحابا لبقاء ما كان على ما كان، كاستصحاب نجاسة الكرّ المتغيّر إذا زال تغيّره من قبل نفسه، و إن كان شكّا في المقتضي. و هذا بخلاف الحال في الولاية الأصليّة التي للأب و الجدّ و الحاكم و عدول المؤمنين فإنّه لو زال عنهم الفسق المانع و عادوا إلى العدالة عاد فيها الولاية الأصليّة، فرقا بين الولاية الأصليّة و الجعليّة، حيث إنّ المقتضي في الأصليّة لا يزول بوجود المانع، فإذا زال المانع اقتضى المقتضي أثره، بخلاف الجعليّة بجعل الجاعل فإنّ المقتضي فيها هو الجعل زال بوجود مانعة، فإذا زال مانعة لا يعود إلّا بجعل حادث آخر مفروض العدم، فلا يعود بعد زواله.

و منها: أنّه إذا بطلت وصاية الوصيّ و تولية المتولّي و ولاية الفاسق بفسق أو خيانة أصليّ أو عارض بعزل أو انعزال و كان تصرّفه و تعيينه و تقسيمه مال المولّى عليه و الموقوف عليه على وجه الجور و العدوان فهل يجوز للمولّى عليه و الموقوف عليه تناول ما عيّنه له و قسّمه عليه من الحقوق الإرثيّة و الوقفيّة و الارتزاق- كما يجوز لعموم الناس تناول حقّ الخراج من الجائر بأيّ وجه اتّفق،

ص: 248

و للمغصوب منه تناول الغصب من الغاصب بأيّ وجه أمكن- أم لا يجوز لهم ذلك، كما لا يجوز لغير هم تناول ما في اليد العادية بشراء و ابتياع و لو كان على وجه الغبطة و مصلحة المولّى عليه؟ و هو الأظهر، لفحوى قوله عليه السّلام: «ما يأخذه بأمر السلطان فهو سحت و إن كان حقّا ثابتا له» (1).

و أمّا حلّ أخذ الخراج للشيعة من السلطان الجائر فإنّما خرج عن الأصل بالنصّ الفارق، و الإذن الفائق عن الإمام الصادق عليه السّلام، و الوحي الناطق بأنّه أولى بالمؤمنين من أنفسهم و أموالهم، بقوله عليه السّلام: «لك المهنّأ و عليه الوزر» (2).

و أمّا حلّ أخذ المغصوب منه العين المغصوبة من الغاصب فللفرق الفارق بين أخذ العين المغصوبة من غير تعيين و تقسيم من ليس له التعيين و التقسيم، و من غير أن يكون بعنوان أمر الغاصب و حقّه، و بين العكس فيما نحن فيه، من حيث إنّ تعيين المشترك و تقسيم المشاع من الإرث و الموقوف عليه ممّن ليس له التعيين و التقسيم لا يجوز للوارث و الموقوف عليه أخذه إلّا بضرب من التقاصّ، و إذن من له التعيين و التقسيم من الحاكم أو عدول المؤمنين.

نعم، لو انحصر الوارث و المال الموروث فيما لا يحتاج أخذه إلى تعيين و تقسيم من ليس له تعيينه، لم يحتج حلّه إلى الأخذ بتقاصّ أو إذن من له الولاية، و كان المولّى عليه كالمغصوب منه في جواز أخذ حقّه ممّن ليس له ولاية شرعيّة، و كان يده يدا عادية.

و منها: هل تكون العدالة شرطا و الفسق مانعا في ولاية عدول المؤمنين، و التصدّي للأمور الحسبيّة، و هي الواجبة وجودها بعد تعذّر الحاكم من أيّ شخص كان و على أيّ وجه اتّفق، كما هو الأصل، و ظاهر من عبّر بعدول


1- الوسائل 18: 98 ب (11) من أبواب صفات القاضي ح 1.
2- تقدم ذكر مصدره في هامش (3) ص: 234.

ص: 249

المؤمنين، و ظاهر صحيحة محمد بن إسماعيل فيمن مات بغير وصيّة و خلّف صغارا و متاعا و جوازي، فباع عبد الحميد المتاع و أراد بيع الجواري، فما ترى؟

قال عليه السّلام: «إذا كان القيّم مثلك و مثل عبد الحميد فلا بأس» (1)، بناء على كون المراد بالمثليّة العدالة لا الفقاهة، لأنّه مناف لإطلاق مفهومه، و هو ثبوت البأس مع عدم الفقيه و لو مع تعذّره، و لا مجرّد كونه من أهل الولاية أو الوثاقة و رعاية الغبطة و لو من باب الأخذ بالمتيقّن في مخالفة الأصل، و ظاهر موثّقة زرعة: «إن قام رجل ثقة قاسمهم ذلك كلّه فلا بأس» (2)، بناء على أنّ المراد بالثقة العدالة و لو من باب الأخذ بالمتيقّن في مخالفة الأصل، أو من باب حمل المطلق على المقيّد بالعدالة في صحيحة إسماعيل بن سعد: «لا بأس إذا رضي الورثة بالبيع و قام عدل في ذلك»؟ (3) أم لا تكون العدالة شرطا و لا الفسق مانعا، كما هو ظاهر من عبّر- كالشهيد في قواعده (4)- بأنّه يجوز للآحاد مع تعذّر الحكّام تولية آحاد التصرّفات الحكميّة على الأصحّ، كدفع ضرورة اليتيم، لعموم تَعٰاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَ التَّقْوىٰ (5). و قوله عليه السّلام «و اللّٰه تعالى في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه» (6). و قوله عليه السّلام: «كلّ معروف صدقة» (7).

وجهان، أوجههما التفصيل في أحكام فعل المتصدّي للأمور الحسبيّة بين سقوط التكليف عن المكلّف بفعله و إسقاطه عن الغير، فلا تعتبر العدالة و لا يمنع


1- الوسائل 12: 270 ب «16» من أبواب عقد البيع و شروطه ح 2.
2- الوسائل 13: 474 ب «88» من أبواب الوصايا ح 2.
3- الوسائل 12: 269 ب «16» من أبواب عقد البيع و شروطه ح 1.
4- القواعد و الفوائد 1: 406 قاعدة «148».
5- المائدة: 2.
6- سنن ابن ماجة 1: 82 ح 225.
7- وسائل 6: 321 ب «41» من أبواب الصدقة ح 1 و 2.

ص: 250

الفسق، و بين نفوذ فعله و إنفاذه إلى سائر المكلّفين، فتعتبر العدالة و يمنع الفسق.

و ذلك لأنّ الأمر المأمور به عقلا أو نقلا إمّا أن يكون المطلوب حصوله و وجوده من مأمور خاصّ على وجه خاصّ كالعبادات، و حكمه أن لا يصحّ إلّا على وجه القربة لا غير، و من المسلم لا الكافر، و لا يقبل إلّا من العادل لا الفاسق.

و إمّا أن يكون المطلوب حصوله من مأمور خاصّ على وجه التقييد، كالوظائف الخاصّة بالحاكم من الفتوى و الإفتاء و إجراء الحدود و القضاء، و حكمه الاختصاص بالحاكم، فلا يصحّ بل و لا ينفذ من غيره. أو على وجه التعدّد المطلوبي، كالعبادات بالنسبة إلى التقوى، حيث لا تقبل إلّا من المتّقين، و لكن يصحّ من غيرهم.

و إمّا أن يكون المطلوب حصوله كيف ما اتّفق، لا من مأمور خاصّ و لا على وجه خاصّ، كالواجبات التوصّليّة، من دفع الميّت و الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر و حفظ النفوس و الأعراض و الأموال في الجملة، و هو المتيقّن من الأمور الحسبيّة التي هي مورد ولاية عدول المؤمنين بعد تعذّر الحاكم. و لمّا كان المطلوب من تلك الأمور الحسبيّة الحصول من الحاكم و لكن على وجه التعدّد المطلوبي لا التقييدي صحّ فعله من أيّ مأمور كان و لو فاسقا أو كافرا، بل و على أيّ وجه اتّفق و لو على وجه الإكراه و الإجبار، و يسقط بفعله التكليف عن الفاعل، بل و عن سائر شركائه المكلّفين به، فلا يجب عليهم إعادة ما فعله المتصدّي من دفن الميّت و حفظ اليتيم، و لو كان المتصدّي فاسقا أو كافرا. و لكن لا ينفذ فعله من التسلّط على أخذ غرامات الدفن و نفقات الحفظ ببيع و ابتياع ماله و سقوط ضمانه و إنفاذ معاملاته، لا بالنسبة إلى المولّى عليه و لا بالنسبة إلى غيره، إلّا إذا كان المتصدّي لتلك الأمور هو الوليّ العامّ، كالحاكم الشرعي أو عدول المؤمنين

ص: 251

عند تعذّره.

و الحاصل: أنّ الأمور الحسبيّة من حيث هي هي المطلوب منها هو حصول الفعل بأيّ وجه اتّفق، و من حيث اللزوم و الإلزام و الالتزام هو الحصول من الحكّام، و مع التعذّر فمن عدول الأنام، فهي من الحيث الأوّل من الواجبات التوصّليّة الصرفة الساقطة بفعل كلّ فاعل و لو كان فاسقا، و من الحيثيّة الثانية من الوظائف الخاصّة التي لا تنفذ إلّا من الحاكم، و مع تعذّره فمن عدول المؤمنين.

فروع: منها: لو تصدّى العادل لشي ء من الأمور الحسبيّة، كما لو باع أو ابتاع شيئا لدفع ضرريّة القصّر و الأيتام ثمّ فسق، أو بالعكس، فهل ينفذ بيعه و ابتياعه في حقّ الغير من المولّى عليه و غيره، أم لا؟ وجهان، الأوجه التفصيل بين الفرض الأوّل فينفذ، و العكس فلا ينفذ إلّا بإجازة جديدة بعد العود إلى العدالة.

و منها: أنّه لا إشكال في أنّ المتصدّي لشي ء من الأمور الحسبيّة مع حضور الوصيّ و الوليّ من غير أن يستأذنهما فاعل للحرام و الفسق. و لكن هل يبطل بذلك فعله إذا كان عبادة- كغسل الميّت و تحنيطه و الصلاة عليه، نظرا إلى نهيه عن تلك العبادة من غير استيذان من له الإذن- أم لم يبطل، نظرا إلى عدم تعلّق النهي بنفس الصلاة؟ وجهان، مبنيّان على امتناع اجتماع الأمر و النهي و عدمه. فعلى الامتناع تبطل العبادة و تجب الإعادة، و لا يسقط لا عن الفاعل و لا عن غيره. و على الجواز يصحّ، و يسقط عن الفاعل و إن أثم، بل و عن الوليّ و الوصيّ أيضا، لكن لا مطلقا بل بناء على إجراء أصالة الصحّة الحامليّة في فعل الأثيم.

و منها: أنّ مقتضى أدلّة الولاية عدم جواز تقدّم أحد- و إن كان نائبا عامّا- على الوليّ الأصلي في التصدّي للأمور الحسبيّة ما دام الأصليّ حاضرا، إلّا بإذنه أو تعذّره، و إن صحّ و سقط- بل و أسقط التكليف- بفعل غير المأذون عصيانا.

ص: 252

كما لا يجوز تقدّم عدول المؤمنين فيها على حاكم الشرع و لا على الوليّ و الوصيّ ما دام حاضرا، إلّا بإذنه أو تعذّره و إن صحّ و سقط و أسقط التكليف بفعل غير المأذون عصيانا.

كما لا يجوز تقدّم غير العادل على العادل فيها ما دام حاضرا إلّا بإذنه و إن صحّ و سقط و أسقط التكليف بفعل غير المأذون عصيانا، و وجب عليه أيضا كفاية.

نعم، لو تعذّر الوليّ الأصلي قام مقامه المنصوب الخاصّ أو العامّ، كما لو تعذّر المنصوب قام مقامه عدول المؤمنين بالنصّ و الإجماع.

و أمّا لو تعذّر المنصوب الخاصّ و العامّ كحاكم الشرع العادل و عدول المؤمنين فهل يقوم الفقيه غير العادل مقامه و غير عدول المؤمنين مقامهم عند تعذّرهم- كما كانوا يقومون مقام الفقيه العادل عند تعذّره- أم لا؟ كما هو الأصل الأصيل، و الاقتصار على النصّ و الدليل فيما خالف أصالة عدم الولاية و السبيل بالنسبة إلى النفوذ و الإنفاذ، و إن اقتضى أصالة البراءة و الصحّة السقوط و الإسقاط بفعل كلّ فاعل و لو كان فاسقا.

لا يقال: قاعدة «الميسور لا يسقط بالمعسور» يقتضي سقوط شرطيّة العدالة في الولاية مع عدم سقوط المشروط بها و هو الولاية، كما لا يكتفى بصلاة العاري عند تعذّر الساتر.

لأنّا نقول: وصف العدالة ميسور لكلّ مأمور، فلا يسقط بالمعسور، لأنّ التعذّر بالاختيار في حكم الاختيار.

و منها: لو تعذّر كلّ من له الولاية الشرعيّة من الحاكم و عدول المؤمنين بواسطة تعذّر الوصف أو الموصوف فهل يقوم عدول المؤمنات مقامهم في الولاية الشرعيّة في الأمور الحسبيّة من حيث اللزوم و الإلزام و النفوذ و الإنفاذ- كما قام العدول مقام الحاكم عند تعذّره- أم لا تقوم مقامهم و لو تعذّروا، لأنّ الأصل

ص: 253

الأصيل عدم الولاية و السبيل إلّا بالمتيقّن من النصّ و الدليل، فلا يجوز العدول عن العدول إلى البديل و لو تعذّر الأصيل؟

و الأظهر ثبوت ولاية العادلة عند تعذّر العدل، لكن لا لإلحاقها بالعدول نصّا أو إطلاقا أو قياسا حتى يمنع ذلك جدّا، بل لأنّ أمرها بالأمور الحسبيّة- خصوصا إذا انحصر كلّي التكليف و المكلّفين فيها- أمر بلوازمها من نفوذ البيع و الابتياع الحسبي في حقّ المولّى عليه و غيره، و إلّا لزم سقوط تكليفها بالأمور الحسبيّة، أو الالتزام في أمرها باللغويّة، و الأوّل خلاف للفرض، و الثاني خلاف العقل.

فكما استدلّوا بآية (1) حرمة كتمان ما في أرحامهنّ على وجوب تصديقهنّ، و بآية الإنذار (2) على وجوب تصديق المنذر لئلّا يلزم اللغويّة، كذلك يستدلّ بالأوامر الحسبيّة كقوله تعالى تَعٰاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَ التَّقْوىٰ (3) و «عونك الضعيف صدقة» (4) على نفوذ بيع العادلة و ابتياعها في الأمور الحسبيّة لئلّا يلزم اللغويّة. و ليس حكم العكس كذلك، و هو ما لو انحصر المكلّف بالأمور الحسبيّة في فاسق أو فاسقة، فلا يتعيّن له الولاية الشرعيّة لتقييد الأوامر الحسبيّة فيه بالعدالة الميسورة له، فلا تسقط بالمعسور.

و منها: هل لعدول الجنّ ولاية شرعيّة في الأمور الحسبيّة على الناس في عرض الناس أو في طولهم و عند تعذّرهم، أو ليس لهم ذلك لا عرضا و لا طولا إلّا على أنفسهم؟ وجوه، من عموم أدلّة الاشتراك و الخطاب على وجه العرضيّة


1- البقرة: 228.
2- التوبة: 122.
3- المائدة: 2.
4- الوسائل 11: 108 ب «59» من أبواب جهاد العدو و ما يناسبه ح 2.

ص: 254

بقوله تعالى أَيُّهَ الثَّقَلٰانِ (1) يٰا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَ الْإِنْسِ (2)، و من انصراف الأوامر الحسبيّة إلى الناس، و لكنّه بدويّ من كثرة الاستئناس، بل لا يتأتّى في العمومات، فضلا عن المنصوصات. و لو سلّمنا الانصراف فلا أقلّ من كون عدول الجنّ في طول عدول الإنس و عند تعذّرهم، كولاية العادلة عند تعذّر العادل.

و منها: هل للصبيّ العادل ولاية شرعيّة في الأمور الحسبيّة في عرض ولاية عدول المؤمنين أو في طولهم كولاية العادلة في طول العادل و تعذّره، أو لا ولاية له فيها لا عرضا و لا طولا كالفاسق و البهائم؟ وجوه مبنيّة على شرعيّة عبادته و صحّة معاملته و عبارته و عدالته. فإن قلنا بها قلنا بولايته في عرض ولاية سائر العدول، لعموم الخطاب و أدلّة الاشتراك، من غير فرق سوى ارتفاع قلم المؤاخذة و العقوبة، دون أصل التكليف و الولاية. و إلّا فإن قلنا بقابليّته العدالة كان ولايته في طول ولاية عدول المؤمنين، كولاية العادلة في طول ولايتهم، و إلّا فالأصل عدم ولايته لا عرضا و لا طولا. و الأظهر الأشهر الأوّل، كما أسلفناه في عبادته و معاملته حرفا بحرف.

و منها: هل يعتبر اشتراط العدالة أو مانعيّة الفسق في صحّة عبادة المعين و الأجير و النائب و الوكيل لقاعدة اقتضاء الشغل اليقيني البراءة اليقينيّة و استصحابا لبقاء ما كان في الذمّة على ما كان، أم لا يعتبر، لأصالة الصحّة؟ وجوه.

و تحقيق الحال أن يقال: إنّ الكلام تارة في صحّة عبادة الوكيل و الأجير، بمعنى السقوط عن نفسه و استحقاق الأجرة عليه.

و تارة في إسقاطه ما في ذمّة غير الأصيل، بحيث لو كان الأصيل أو الوليّ أو الوصيّ عاجزا عن مباشرة الوضوء و الغسل، و الطواف و السعي و الهدي و الحجّ


1- الرحمن: 31.
2- الأنعام: 130.

ص: 255

أو الصوم و الصلاة و الخمس و الزكاة و الكفّارة و غيرها من الديون فاستعان و استناب بالغير في ذلك كان فعل الغير من الأجير و الوكيل مسقطا ما في ذمّة الأصيل، كما كان يسقط ما في ذمّة نفسه بسبب الإجارة و الاستنابة.

و محلّ النظر في الثاني أيضا- أعني: إسقاط فعل الوكيل ما في ذمّة الأصيل- تارة ناشئ عن الشكّ في أصل وقوع الفعل عن الوكيل و عدمه.

و تارة ناشئ عن الشكّ في أنّ ما فعله الوكيل عن الأصيل هل وقع على وجه الصحّة ليجزي عن الأصيل، أم لا؟

و تارة ثالثة ناشئ عن الشكّ في أنّه لو ادّعى الوكيل الفراغ عن العبادة الموكّل فيه و المستأجر عليه هل ينفذ في حقّ الأصيل ليبرأ ما في ذمّته و يسقط عنه التكليف، أم لا؟

و تارة رابعة ناشئ عن الشكّ فيما لو تلبّس الوكيل بفعل مترتّب شرعا على الفراغ عمّا وكّل فيه أو استأجر عليه، أو بفعل مشروط شرعا بالفراغ عمّا و كلّ فيه أو استأجر عليه، هل ينفذ ذلك الفعل من حيث الملازمة لإسقاط ما في ذمّة الأصيل و عدمه؟ فهذه مسائل ستّ:

أمّا الاولى: فلا خلاف و لا إشكال في أنّه و إن اعتبرت العدالة و التقوى في قبول العبادات بل و غيرها، إلّا أنّه لا إشكال و لا خلاف في عدم اعتبارها في صحّة عبادة العامل لنفسه، بل و لغيره نيابة أو وكالة أو تبرّعا بحسب الواقع.

و أمّا المسألة الثانية: و هي ما لو شك الأصيل في فعل الوكيل و وقوعه من البديل و عدمه، كما لو استأجر الأجير أو وكّل الوكيل في العبادة فمات الأجير و الوكيل قبل العلم بفعله و فراغ ذمّته، فلا شكّ و لا ريب في عدم سقوط ما في ذمّة الأصيل بمجرّد توكيل الوكيل و استئجار البديل، ما لم يعلم بفعل الوكيل، فضلا عن إسقاطه عن الأصيل، لقاعدة الشغل و استصحابه.

ص: 256

و أمّا المسألة الثالثة و الخامسة: و هي ما إذا فعل الوكيل الفعل و لكن شكّ في كونه على وجه الصحّة أو الفساد برياء أو سمعة، أو ما إذا فعل ما هو مشروط أو مترتّب على الفراغ من العمل الموكّل فيه، كالتصرّف في اجرة ما هو مشروط بالفراغ منه، أو الشروع فيما هو مرتّب شرعا على الفراغ من العمل المستأجر عليه، ففي إسقاط هذا الفعل من الوكيل و البديل ما في ذمّة الأصيل و عدمه وجهان، مبنيّان على أنّ اعتبار الصحّة في فعل المسلم هل هو [من] باب الغلبة و الأمارة الناظرة إلى الواقع ليعمّ الصحّة الحاملي، أو من باب التعبّد بالأصل العملي لئلّا يتعدّى عن الصحّة الفاعلي؟

و نحن و إن اخترنا في محلّه اعتبار أصل الصحّة من باب الغلبة و الأمارة و تعميمها الصحّة الحاملي في فعل المسلم و إن لم يكن عادلا، إلّا أنّ مجرّد فعل الوكيل و البديل غير كاف في إسقاط ما في ذمّة الأصيل، إلّا مع الوثوق بصحّة فعل الفاعل و غلبة الصحّة في فعله. و أمّا لو عورضت هذه الغلبة الصحّة بغلبة الفساد في العمل و الاعتقاد، كما في هذه الأزمنة و البلاد، فيشكل السقوط و الإسقاط، و رفع اليد عن قاعدة الشغل و استصحابه حتّى يعلم المبرئ و فراغ الذمّة. فتدبّر جدّا.

و أمّا المسألة الرابعة: و هو ما إذا ادّعى الكفيل و الوكيل و البديل فراغ ذمّته عن عمل الأصيل و إبراء ذمّته عن العمل، فلا خلاف في نفوذ إقراره إلى الأصيل، و إسقاط ما في ذمّته بدعوى الكفيل و الوكيل و البديل، لعموم قاعدة «من ملك شيئا ملك الإقرار به». يعني: إقرار المقرّ نافذ بكلّ ما له فعله من إنشاء أو فعل أو حقّ مطلقا، و لو بعد زوال الولاية و العزل عن الوكالة.

و إن كان في عموم القاعدة، أو تخصيصها بما قبل زوال الولاية و الوكالة، أو بمورد إقرار العقلاء على أنفسهم الخاصّ بإقرار البائع العاقل دون إقرار الصبيّ

ص: 257

بما له أن يفعله من الوصيّة بالمعروف أو الصدقة، أو تخصيصها بإقرار ماله أن ينشئه من بيع أو ابتياع كالوليّ، دون ماله أن يفعله من صلاة أو حجّ كالأجير، أو بمورد اعتبار قول من ائتمنه المالك بإذن كالوكيل، أو الشارع بأمر كالحسبيّات أو بمورد كون الدعوى بلا معارض، أو بمورد ظهور صدق المقرّ و عدم دواعي كذبه، كإقرار الوليّ في حال الولاية بإنشاء ماله إنشاؤه (1)، وجوه مختلفة باختلاف المدرك منها للقاعدة. و هي و إن لم تستند إلى نصّ بعموم و لا خصوص إلّا أنّها اشتهرت من زمن الشيخ إلى زماننا على وجه العموم و الكلّية، و الفتوى بها في الموارد الشخصيّة، بل عن العلّامة (2) الإجماع على بعض مواردها الجزئيّة، فكأنّها بنفسها نصّ معتبر أو مضمون نصّ معتبر، مضافا إلى اعتبار كلّ ما يحتمل أن يكون له مدرك من الوجوه. هذا ممّا لا إشكال فيه.

إنّما الإشكال في أنّ قبول إقرار من ملك و إنفاذه فيما ينفذ من الوكيل و الكفيل و البديل إلى إسقاط ما في ذمّة الأصيل، هل هو من باب الشهادة أو الدعوى بلا معارض ليقبل بلا ضمّ يمين، أو من باب الأخذ بظهور صدق المدّعي، كظهور حال المسلم في صحّة فعله، و دعوى ذي اليد في قبول قوله فيما بيده؟ وجهان، أقواهما الثاني، لأنّها إن كانت شهادة فهي شهادة واحدة لا تقبل إلّا بيمين. و إن كانت دعوى فهي لا تزال معارضة من الوكيل بالأصيل، فتحتاج إلى يمين أو دليل.

و منها: هل يجوز لمن يريد الصلاة و لو جمعة أو جماعة الاكتفاء بأذان الفاسق و إقامته، أو بإدراك جماعة قبل التفرّق و لو كانوا فسّاقا، أو أمّهم فاسق لإطلاق أدلّة السقوط كقوله عليه السّلام: «و يجزئكم أذان جاركم» (3) خصوصا على القول


1- اسم ل «كان» في بداية الفقرة، في قوله: و إن كان ..
2- لم نعثر عليه في مظانّه.
3- الوسائل 4: 659 ب «30» من أبواب الأذان و الإقامة ح 3.

ص: 258

بكون السقوط عزيمة لا رخصة، أم يشترط في السقوط عدالة المسقط؟ نظرا إلى استصحاب عدم السقوط، و قاعدة الشغل، خصوصا على القول بوجوب الأذان و الإقامة، و استناد السقوط بحسب الحكمة إلى حرمة المسقط و كرامته، و لا حرمة و لا كرامة للفاسق.

و لسياق قوله عليه السّلام: «لا بأس بالغلام الذي لا يبلغ الحلم أن يؤمّ القوم و أن يؤذّن لهم» (1).

و لظاهر قوله صلى اللّٰه عليه و آله: «يؤمّكم أقرؤكم، و يؤذّن لكم خياركم» (2)، مع الإغماض عن ظهور سياقه في الاستحباب.

و لظاهر قوله عليه السّلام: «أذّن خلف من قرأت خلفه» (3).

و لظاهر قوله عليه السّلام: «لا يستقيم الأذان و لا يجوز أن يؤذّن إلّا رجل مسلم عارف، فإن علم الأذان و أذّن به و لم يكن عارفا لم يجز أذانه و لا إقامته، و لا يقتدى به» (4)، خصوصا بملاحظة سياقه في اعتبار عدالة الإمام، خصوصا بالنظر إلى التأسّي بأمر النبيّ في الأسراء جبرئيل فأذّن و أقام.

و هو الأحوط إن لم يكن أظهر، خصوصا بملاحظة نصوص (5) إكرام المؤذّنين و حسن الظنّ بهم، كقوله صلى اللّٰه عليه و آله: «يحشر المؤذّنون مع النبيّين و الصدّيقين و الصالحين» (6). إلى غير ذلك ممّا لا يحصى.

و منها: هل يجوز التعويل في دخول الوقت على أذان الثقة مطلقا؟


1- الوسائل 4: 662 ب «32» من أبواب الأذان و الإقامة ح 4.
2- الوسائل 4: 640 ب «16» من أبواب الأذان و الإقامة ح 3.
3- الوسائل 4: 664 ب «34» من أبواب الأذان و الإقامة ح 2.
4- الوسائل 4: 654 ب «26» من أبواب الأذان و الإقامة ح 1.
5- الوسائل 4: 613 ب «2» من أبواب الأذان و الإقامة.
6- الوسائل 4: 616 ب «2» من أبواب الأذان و الإقامة ح 22.

ص: 259

لقوله عليه السّلام: «صلّ الجمعة بأذان هؤلاء، لأنّهم أشدّ شي ء مواظبة على الوقت» (1)، و قوله عليه السّلام: «إذا أذّن- يعني: مؤذّن مكّة- فقد زالت الشمس» (2).

أم لا يجوز التعويل إلّا على أذان العدل مطلقا؟ لقوله عليه السّلام: «المؤذّن مؤتمن، و الإمام ضامن» (3)، خصوصا بقرينة السياق، و قوله عليه السّلام: «المؤذّنون أمناء المؤمنين على صلاتهم و صومهم و لحومهم و دمائهم» (4).

أم لا يجوز التعويل في دخول الوقت على أذان المؤذّن مطلقا؟ استصحابا لعدم دخول الوقت، و قاعدة الشغل، إلّا عند وجود مانع من غيم و نحوه، حملا للنصوص المطلقة على المقيّد منها بخصوص وجود المانع. و هو الأحوط إن لم يكن الأظهر.

و منها: هل تعتبر العدالة في عدد انعقاد الجمعة؟ كما تعتبر في الإمامة و قبول الشهادة، و كما يومئ إليه قوله عليه السّلام: «تجب الجمعة على سبعة نفر من المؤمنين، و لا تجب على أقلّ منهم: الإمام، و قاضيه، و المدّعي حقّا، و المدّعى عليه، و الشاهدان، و الذي يضرب الحدود بين يدي الإمام عليه السّلام» (5)، بناء على كون النسخة: «المؤمنين» لا «المسلمين»، و انصرافه إلى عدولهم، و على اشتراط أعيان السبعة لا عددهم. و هو مناف لصريح قوله: «و لا تجب على أقلّ منهم» حيث لم يقل: على غيرهم، و لعدم اشتراط أعيان السبعة عندنا، بل و لا لحضور إمام الأصل.

أم لا تعتبر العدالة؟ فتنعقد و لو بالفسّاق و أهل النفاق، لإطلاق أدلّة عدد


1- الوسائل 4: 618 ب «3» من أبواب الأذان و الإقامة ح 1.
2- الوسائل 4: 619 ب «2» من أبواب الأذان و الإقامة ح 9.
3- الوسائل 4: 618 ب «2» من أبواب الأذان و الإقامة ح 2.
4- الوسائل 4: 619 ب «2» من أبواب الأذان و الإقامة ح 7.
5- الوسائل 5: 9 ب «2» من أبواب صلاة الجمعة و آدابها ح 9.

ص: 260

الانعقاد في سبعة، و أقلّهم خمسة كما هو الأظهر، و إن كان الأحوط اعتباره.

و منها: هل تعتبر في خطيب الجمعة حال الخطبة العدالة كما تعتبر في إمامها حال الإقامة، أم لا تعتبر فيها كما لا تعتبر في عدد انعقادها؟ كما هو الأصل، و إطلاق نصوص اعتبار أن يكون الخطيب ممّن يحسن الخطبتين، خصوصا على القول بعدم اشتراط اتّحاد الخطيب مع الإمام عليه السّلام. و هو الأظهر، و إن كان الأحوط الاشتراط، خصوصا على القول باشتراط اتّحاد الإمام مع الخطيب، خصوصا بملاحظة ظهور المستفيضة: «إنّما جعلت الجمعة ركعتين من أجل الخطبتين، فهي صلاة حتّى ينزل الإمام» (1) في عموم البدليّة و المنزلة.

و منها: هل تعتبر في تعيين القبلة و الهلال، و دخول وقت الصلاة و الصيام، و مواقيت الحجّ و حدود الحلّ و الحرم و المشعر و عرفات و منى و مكّة و الحائر، عدالة الشاهد كما تعتبر في تعيين سائر الموضوعات، أم يكفي الظنّ و الوثوق الحاصل من أهل الخبرة و الفسوق؟ قولان أقربهما التفصيل بين من يتمكّن من تحصيل العلم أو ما يقوم مقامه من البيّنة العادلة، فلا يجوز التعويل على ما دونه، و بين من لا يتمكّن بواسطة مانع كالعمى أو غيم في السماء، فيجوز الاكتفاء، كما نصّ به الأوصياء.

و منها: هل تعتبر في تعديل المعدّل و تزكية المزكّي و توثيق الراوي و اعتبار الرواية العدالة، أم يكفي الوثاقة و حسن الظنّ و الصداقة و لو من قول الفسقة؟

قولان، من كون الأصل الأصيل في تشخيص كلّية الموضوعات الصرفة عدم الاكتفاء إلّا بالعلم أو ما يقوم مقامه، و من أنّ الاطّلاع على الملكات النفسيّة و الأمور الخفيّة كالعدالة و الصداقة، كالاطّلاع على السرائر المكمونة كالأنساب و الأوقاف و الملكات و الأمراض، ممّا لم يعلم بها إلّا علّام الغيوب، و لم يرض


1- الوسائل 5: 15 ب (6) من أبواب الصلاة الجمعة و آدابها ح 4.

ص: 261

بتعطيل الأحكام المترتّبة عليها من الحدود و الحقوق و إقامة الشهادات و الجمعة و الجماعات، فيقتضي الاكتفاء فيها بالظنّ و الوثوق، كما هو المشهور المنصور بل المنصوص.

و منها: أنّه هل يعتبر في مقوّم قيّم المتلفات و أروش المعيبات و تقدير الدّيات و تقسيم المشتركات و تخريص الخراج و المقاسمات و الزكاة و تعيين اللغات و القراءات و تفسير الآيات عدالة المقوّم و المقدّر و المعيّن و المقسّم و الخراص و اللغويّ و المفسّر و القارئ بل تعدّدهما، أم يكفي الظنّ و الوثوق الحاصل من قول أهل الخبرة و لو فاسقا أو كافرا؟ وجهان بل قولان، أحوطهما بل أقواهما الأوّل، للأصل الأصيل في كلّي الموضوعات- خصوصا الموضوعات الصرفة- و هو عدم الاكتفاء بما عدا العلم و ما يقوم مقامه كالبيّنة العادلة.

و أمّا ما استدلّ به على الاكتفاء بالإجماع و السيرة و انسداد باب العلم فيها.

فأوّلا: ممنوع جدّا. و ثانيا: لو سلّم فإنّما هو فيما لم يتعلّق بحكم شرعيّ، بل تعلّق بتفسير خطبة أو معنى شعر، أو علم شي ء من غير عمل، أو مقدّمة لتحصيل علم بعد تراكم الظنون.

و منها: هل يصحّ تصحيح أفعال الفسّاق، و أهل الظلم و النفاق، و ما في أيديهم و الأسواق، بأصل الصحّة و الطهارة و الحلّية و التذكية و الملكيّة؟ كما هو ظاهر الاتّفاق، نظرا إلى عموم (1) أدلّة حمل فعل المسلم على الصحّة و الطهارة و الحلّية و التذكية، و أنّ يده و سوقه أمارة الملكيّة و التذكية و الحلّية و الطهارة.

أم لا يصحّ مجرى شي ء من ذلك إلّا في عدول المؤمنين؟ كما هو الأحوط بل الأقوى، نظرا إلى أنّ مدرك تلك الأصول إن كانت الغلبة، كقوله عليه السّلام: «ما غلب


1- أنظر الوسائل 8: 614 ب «161» من أبواب أحكام العشرة ح 3، و أنظر هامش (6- 8) ص: 263.

ص: 262

عليه المسلمون فلا بأس» (1)، و قوله عليه السّلام: «من أسلم أقرّه على ما في يده، و لو أفضى إليه الحكم لأقرّ الناس على ما في أيديهم» (2)، و تعليل جواز استناد الشهادة بالملكيّة إلى ما في اليد بقوله: «و لو لم يجز ذلك لم يقم للمسلمين سوق» (3)، فمن المعلوم أنّ تلك الغلبة قد لا تطّرد، بل قد تنعكس غلبة الصحّة بغلبة الفساد في المعاش و المعاد، خصوصا في هذه الأزمنة و البلاد، و العمل و الاعتقاد، فلا مجرى لأصالة الصحّة و الرشاد، و لم يبق لكلّية القاعدة اطّراد و لا اعتماد، لقوله عليه السّلام في نهج البلاغة: «إذا استولى الصلاح على الزمان و أهله ثمّ أساء رجل برجل لم يظهر منه خزية فقد ظلم، و إذا استولى الفساد على الزمان و أهله ثمّ أحسن رجل الظنّ برجل فقد غرّر» (4). و في البحار عن الدرّة الباهرة: «إذا كان زمان العدل أغلب من الجور فحرام أن يظنّ بأحد حتّى يعلم ذلك منه، و إن كان زمان الجور أغلب من العدل فليس لأحد أن يظنّ بأحد خيرا حتّى يعرف ذلك منه» (5).

فإن قلت: ظاهرا تلك النصوص أنّ المنوط بغلبة الصحّة و الفساد إنّما هو الأفعال، دون اليد و السوق و الأقوال. و لو سلّمنا تعميمها فإطلاق حكم اليد و السوق و ورودها مورد غلبة الفساد حاكم على تعميم الفساد، و مخصّص لعمومه.

قلت: أوّلا: بعموم إذا استولى الفساد و غلب الجور لغلبة اليد و السوق في الفساد.

و ثانيا: سلّمنا التخصّص أو التخصيص و التحكيم، لكن نقول: إنّ إطلاق حكم اليد و السوق وارد مورد تشريع أصل الحكم لا بيان أفراده، كإطلاق اعتبار


1- الوسائل 2: 107 ب «50» من أبواب النجاسات ح 5.
2- الوسائل 18: 214 ب «25» من أبواب كيفيّة الحكم و أحكام الدعوى ح 1.
3- الوسائل 18: 215 ب «25» من أبواب كيفيّة الحكم و أحكام الدعوى ح 2.
4- نهج البلاغة: 489 رقم 114.
5- البحار: 78: 370.

ص: 263

سائر الأمارات و الظواهر و البيّنات، إنّما هو من باب الظنّ الشخصيّ الفعلي، لا النوعيّ الشأني، و لا السببيّة المطلقة.

و لو تنزّلنا فمن باب السبية المقيّدة بعدم الظنّ بالخلاف، فلا يشمل صورة المعارضة بغلبة الفساد أو الظنّ به. فكما أنّ إطلاق فَكُلُوا مِمّٰا أَمْسَكْنَ (1) وارد مورد تشريع أصل حلّية صيد الكلب و كونه غير ميتة، لا بيان أفراد حلّيته ليشمل موضع العضّ، كذلك إطلاق:

«من أسلم أقرّه على ما في يده» (2)، خصوصا المعلّل بقوله: «لو لم يجز هذا لم يقم للمسلمين سوق» (3) خصوصا احتجاج عليّ عليه السّلام على أبي بكر: «أ تحكم فينا بخلاف حكم اللّٰه في المسلمين؟ تسألني البيّنة على ما في يدي و قد ملكت في حياة رسول اللّٰه صلى اللّٰه عليه و آله و بعده» (4)، كما يشهد عليه نصوص الترجيح في تعارض اليدين و البيّنتين باليمين أو أكثريّة الشهود أو القرعة، و اشتراطهم في الراوي أن يكون ضابطا لا كثير السهو و النسيان.

و أمّا ما كان مدركه الأصل التعبّديّ العملي، كقوله: «ضع فعل أخيك على أحسنه» (5)، «و كلّ شي ء طاهر حتّى تعلم أنّه قذر» (6) و «كلّ شي ء لك حلال حتّى تعرف الحرام بعينه» (7) أو «حتّى يجيئك شاهدان أنّ فيه الميتة» (8). و «كلّ ما حجب اللّٰه علمه عنه فهو موضوع» (9). و قوله عليه السّلام عمّن رأى أنّه يجعل فيه- أي:


1- المائدة: 4.
2- تقدّم ذكر مصادرهما في هامش (2 و 3) ص: 262.
3- تقدّم ذكر مصادرهما في هامش (2 و 3) ص: 262.
4- الوسائل 18: 215 ب «25» من أبواب كيفيّة الحكم و أحكام الدعوى ح 3.
5- تقدّم ذكر مصدره في هامش (1) ص: 289.
6- مستدرك الوسائل 2: 583 ب «30» من أبواب النجاسات و الأواني ح 4.
7- الوسائل 17: 90 ب «61» من أبواب الأطعمة المباحة ح 1.
8- الوسائل 17: 91 الباب المتقدّم ح 2.
9- تقدّم ذكر مصدره في هامش (8) ص: 219.

ص: 264

الجبن- الميتة، فقال عليه السّلام: «أمن أجل مكان واحد يجعل فيه الميتة حرم جميع ما في الأرض، فما علمت فيه ميتة فلا تأكله، و ما لم تعلم فاشتر و بع و كل، و اللّٰه إنّي لأعترض السوق فاشتري اللحم و السمن و الجبن، و اللّٰه ما أظنّ كلّهم يسمّون» (1) الخبر.

فهو و إن لم يكن كالأدلّة و الأمارات ناظرة إلى الواقع و غالبة الوصول إليه، بل كان مضمونها التعبّد بالأصل العملي و الطريق التعبّديّ مع قطع النظر عن الواقع و عن وصوله إليه، إلّا أنّه لمّا علم كونه واردا مورد الامتنان الخاصّ بأهل الإيمان لم يتعدّ مجراه إلى أهل الفسق و العصيان و الظلم و العدوان، كما يشير إليه قوله تعالى قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللّٰهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبٰادِهِ وَ الطَّيِّبٰاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيٰاةِ الدُّنْيٰا خٰالِصَةً يَوْمَ الْقِيٰامَةِ (2). و مفهوم قوله تعالى:

فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بٰاغٍ وَ لٰا عٰادٍ فَلٰا إِثْمَ عَلَيْهِ» (3). و قوله عليه السّلام: «و إن شيعتنا لأوسع ما بين السماء و الأرض» (4). «و لو أنّ غير موالي عليّ دخل البحر و اغترف غرفة بيده و شرب مع التسمية و التحميد لم يشرب إلّا كدم مسفوح أو لحم خنزير» (5).

و يدلّ عليه أيضا نصوص (6) تخصيص سهم الغارمين من الزكاة بمن كان غرمه في طاعة لا معصية إسراف و تبذير، خصوصا على القول باشتراط العدالة في سائر أصناف مستحقّيه. و تخصيص مستثنيات الخمس من المناكح و المتاجر


1- الوسائل 17: 91 ب «61» من أبواب الأطعمة المباحة ح 5.
2- الأعراف: 32.
3- البقرة: 173.
4- قرب الإسناد: 385 ح 1358.
5- تقدّم ذكر مصدره في هامش (11) ص: 236.
6- الوسائل 6: 143 ب «1» من أبواب المستحقين للزكاة.

ص: 265

و المساكن بقوله: «بالأطيبين من شيعتنا» (1). و تخصيص سفر القصر بسفر الطاعة لا المعصية. إلى غير ذلك ممّا يدلّ صريحا أو فحوى على اختصاص الامتنان بأهل الإيمان، لا الفسق و العصيان.

و منه يعلم اختصاص مجرى ما ذكر من الأصول الخمسة الامتنانيّة بما إذا كان كلّ من فاعل الفعل و حامله من أهل الإيمان، و لا مجرى لها في غير المورد مطلقا، سواء كان كلّ منهما أو أحدهما دون الآخر فاسقا، فلا يجري [في] الحامل الظالم و الفاسق و إن كان فاعله مؤمنا عادلا، بل و لا العكس لا يجري في فعل الظالم و الفاسق و إن كان حامله مؤمنا عدلا. فتدبّر أو تأمّل جدّا.

فتلخّص ممّا ذكرنا أنّ إسلام الفاسق و الظالم المنافق على تقدير تسليمه لا يفيده شيئا من أحكام الإيمان و الإسلام، و لا الإكرام و الإعظام، و لا شيئا من وجوه الكرامة و الاحترام، و الشريعة السمحة السهلة لخير الأنام من الامتنانات، و لا البراءات و لا الإباحات، و لا التوسّعات و لا الحلّيات، و لا الطهارات و لا التذكيات، و لا الدعوات و لا التوليّات، و لا الولايات، إلّا حقن الدماء، و حرمة الذراري و النساء، و حلّية الذبائح و المناكح، و طهارة الأسئار، على القول المختار من عدم إلحاقهم بالكفّار ما لم يموتوا على الإصرار، و إلّا فخلّدوا بعذاب النار و غضب الجبّار و انتقام العزير القهّار.

هذا، و لكن ذلك من الأسرار التي لا يتحمّله إلا الأخيار الأبرار، و لا يأتمنه الأشرار، و لا يليق به الفجّار و الكفّار، كما قال عليه السّلام: «أمرنا صعب مستصعب، لا يتحمّله إلا ملك مقرّب، أو نبيّ مرسل، أو مؤمن امتحن اللّٰه قلبه للإيمان» (2)، بل المصالح النوعيّة و الألطاف الخفيّة تقضي إخفاء الأحكام الواقعيّة،


1- تقدّم ذكر مصدره في هامش (8) ص: 236.
2- بصائر الدرجات: 26 ب «12».

ص: 266

و سلوك مسلك المداراة و التقيّة، و إعمال الأحكام الظاهريّة، إلى أن يظهر حجّته على البريّة، المكمون في سرادق الغيبة و حجب العزّ الكبريائيّة.

فمقتضى مصالح الحال و ألطاف حكمة الحكيم المتعال، في زمن الغيبة و الضلال، و التقيّة و الإمهال، هو إلزام الجهّال بظواهر الحرام و الحلال، و تسهيل المبدأ و المآل، و اطّراد الأحوال و الأفعال، و اتّحاد المسلك و المقال، جلّ جلال حكم ذي الجلال، و كم للّٰه من لطف خفيّ يدقّ خفاه عن فهم الذكيّ.

[المسألة الثالثة و العشرون النجش حرام]

قوله: «و حرمته بالتفسير الثاني خصوصا لا مع المواطاة يحتاج إلى دليل».

أقول: دليل حرمته بالمعنى الثاني هو دليل حرمته بالمعنى الأوّل من العقل و النقل، لعدم الفرق بين المعنيين من حيث الإضرار و الغشّ و الخدعة و الإغراء، و من حيث إطلاق قوله عليه السّلام: «الناجش و المنجوش ملعون» (1)، و عموم: «و لا تناجشوا» (2). بل ذكر اللغويّون- كالقاموس (3) و المجمع- المعنى الثاني أوّلا في التعداد، مصرّحا في المجمع بأنّ «النهي للتحريم، لما فيه من إدخال الضرر على المسلم» (4). فالقول بالتفصيل كما في المتن أو الكراهة مطلقا كما عن الدروس (5) لا وجه له سوى اختصاص معقد الإجماع المنقول بالمعنى الأوّل. و لعلّه وجه التفصيل بين المعنيين.

ثمّ النجش في البيع هل يوجب الخيار مطلقا، أم لا مطلقا، أم يوجبه مع الغبن لا مع عدمه، أم يبطل البيع إن كان من البائع؟ وجوه بل أقوال، أقواها


1- الوسائل 12: 337 ب «49» من أبواب آداب التجارة ح 2.
2- الوسائل 12: 338 ب «49» من أبواب آداب التجارة ح 4.
3- القاموس 2: 289.
4- مجمع البحرين 4: 154.
5- الدروس الشرعية 3: 178، و فيه: الأقرب التحريم.

ص: 267

الثالث.

[المسألة الرابعة و العشرون النميمة محرمة بالأدلة الأربعة]

قوله: «سلّط اللّٰه عليه تنّينا» (1).

[أقول:] التنّين كسكّين الحيّة العظيمة، شرّ من الكوسج، في فمه أنياب مثل أسنّة الرماح، طويل كالنخلة السحوق، أحمر العينين كالدم، واسع الفم و الجوف، برّاق العينين، يبلع كثيرا من الحيوان، يخافه حيوان البرّ و البحر، إلى آخر ما في المجمع (2).

قوله: «و يدلّ على حرمتها جميع ما دلّ على حرمة الغيبة».

أقول: بل و جميع ما دلّ على حرمة السحر، لأنّ من أكبر السحر النميمة، كما في الاحتجاج (3)، و لقوله تعالى وَ لٰا تُطِعْ كُلَّ حَلّٰافٍ مَهِينٍ هَمّٰازٍ مَشّٰاءٍ بِنَمِيمٍ (4)، و قوله تعالى وَ يَتَعَلَّمُونَ مٰا يَضُرُّهُمْ وَ لٰا يَنْفَعُهُمْ (5) و مٰا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَ زَوْجِهِ (6).

[النوح بالباطل]

قوله: «و كلاهما محمولان على المقيّد جمعا».

أقول: فيه أوّلا: بأن تقييد النوح بالباطل ممّا لم نقف به على نصّ صريح فيه. نعم، في المجمع: «إنّما تحتاج المرأة في المأتم إلى النوح لتسيل دمعتها، فلا ينبغي أن تقول هجرا» (7). يعني: باطلا. و فيه إذن به ما لم تهجر.

و ثانيا: سلّمنا تفسير الهجر بالباطل، لكن معناه اللغو لا الكذب. و لو تنزّلنا فمعناه أعمّ من الكذب، فلا وجه لتقييده به، بل تقييد النوح المحرّم بالكذب ليس


1- الوسائل 8: 618 ب «164» من أبواب أحكام العشرة ح 6.
2- مجمع البحرين 6: 221.
3- الاحتجاج: 340.
4- القلم: 10- 11.
5- البقرة: 102.
6- البقرة: 102.
7- مجمع البحرين 2: 422.

ص: 268

بأولى من تقييده بالنوح المشتمل على الغناء، أو على عدم الرضا بالقدر و القضاء، أو المسمع صوتها الأجانب.

و دعوى الجواهر (1) أنّ السيرة على جواز مطلق النوح بسيرة نوح فاطمة على أبيها، و الفاطميّات على الحسين، تقيّد المحرّم منه بالباطل جمعا.

فيه: أنّ المتيقّن من السيرة إنّما هو تقييد الجائز بالنوح على النبيّ و الإمام و الشهداء معهم، لا تقييد النهي عنه بالمحرّم من الكذب و نحوه.

و أمّا مرسلة المجمع: «لا بأس في أجر النائحة» (2) ففيه ضعف السند بالإرسال، و الدلالة باحتمال الحمل على النوح الحلال، مضافا إلى المعارضة بما عن الفقيه في حديث المناهي: «نهى صلى اللّٰه عليه و آله عن الرنّة عند المصيبة، و عن النياحة، و الاستماع إليها، و نهى عن تصفيق الوجه» (3)، و ما عن الكافي عن الصادق عليه السّلام:

«من أنعم اللّٰه عليه بنعمة، فجاء عند تلك النعمة بمزمار فقد كفر، و من أصيب بمصيبة فجاء عند تلك المصيبة بنائحة فقد كفر» (4)، و ما في الخصال (5) و معاني الأخبار (6) من قوله صلى اللّٰه عليه و آله: «أربعة لا يزال إلى يوم القيامة: الفخر بالأنساب، و الطعن في الأحساب، و الاستسقاء بالنجوم، و النياحة، و أن النائحة إذا لم تتب قبل موتها تقوم يوم القيامة و عليها سربال من قطران»، و موثّقة سماعة: «سألته عن كسب المغنّية و النائحة، فكرهه» (7).

و على ذلك فأظهر أقوال المسألة من القول بتحريم النوح مطلقا، أو


1- جواهر الكلام 22: 54.
2- مجمع البحرين 2: 422.
3- الفقيه 4: 3 و 4 ح 1.
4- الكافي 6: 432 ح 11.
5- الخصال: 226 ح 60.
6- معاني الأخبار: 326 ح 1.
7- الوسائل 12: 90 ب «17» من أبواب ما يكتسب به ح 8.

ص: 269

الكراهة مطلقا، أو التفصيل بين الباطل و غيره، هو الأول المحكيّ عن الشيخ في المبسوط (1) و ابن حمزة في الوسيلة (2)، بل ادّعى المبسوط عليه الإجماع في آخر كتاب الجنائز بقوله: «و أما اللطم و الخدش و جزّ الشعر و النوح فإنه كلّه باطل محرّم إجماعا» (3).

هذا كلّه، مضافا إلى تقييد إطلاق «لا بأس بأجر النائحة» في مستدركات الوسائل (4) عن فقه الرضا بما إذا قالت صدقا، كتقييد سائر مطلقات جواز النوح بما لم تهجر.

مضافا إلى احتمال حمل مطلق نصوص جواز النوح على البكاء المجرّد عن الرنّة و الأشعار المبكية، كما هو المعيّن في محمل نوح فاطمة على أبيها و نوح الصادق عليه السّلام على ولده الفائت، بل هو صريح تمام نصوص باب جواز النوح من مستدركات الوسائل (5)، فإنّها صريحة في البكاء.

[المسألة السادسة و العشرون الولاية من قبل الجائر محرمة]

قوله: «بناء على أنّ المشار إليه هو العدل و ترك الظلم .. إلخ».

أقول: البناء على كون الإشارة إلى حرمته الغيريّة لا ينفي ما عداه و هو حرمته النفسيّة، سيّما مع عدم الانفكاك. بل لو فرضنا ظهور نصّ في حرمته الغيريّة، لكن يقدّم عليه أظهريّة نصوص الكتاب (6) و السنّة (7) في حرمته النفسيّة قطعا، فضلا عن عدم الظهور في شي ء منها أصلا و رأسا.

قوله: «ثمّ إنّه يسوّغ الولاية المذكورة أمران .. إلخ».


1- المبسوط 1: 189.
2- الوسيلة: 69.
3- المبسوط 1: 189.
4- مستدرك الوسائل 13: 93 ب «15» من أبواب ما يكتسب به ح 1.
5- مستدرك الوسائل 2: 383 ب «58» من أبواب الدفن و ما يناسبه.
6- المائدة: 51، التوبة: 23، آل عمران: 28.
7- الوسائل 12: 135 ب «54» من أبواب ما يكتسب به، و ص 140 ب «46» من أبواب ما يكتسب به ح 9، و ص 54 ب (2) من أبواب ما يكتسب به.

ص: 270

[أقول:] و فيه: أنّ الحرام النفسي و ما فيه المفسدة الذاتيّة على وجه العلّية التامّة كالظلم، كما هو صريح نصوص تحف العقول (1)، و نصوص وَ مَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فأولئك [منهم فَأُولٰئِكَ] (2) هُمُ الظّٰالِمُونَ، لا تسوّغه المصالح أصلا و رأسا، و لا تجتمع مع المصالح، لاستحالة اجتماع الضدّين، فلا تسوّغه إلّا ضرورة أو تقيّة.

نعم، لو كان كالكذب مقتضى للحرمة و المفسدة لا علّة تامّة لها سوّغته المصلحة. لكنّه خلاف ما عرفت من نصوص الكتاب و السنّة.

قوله: «بالإجماع و السنّة الصحيحة .. إلخ».

[أقول:] فيه: أنّ معقد الإجماع و السنّة الصحيحة و قول الصّديق اجْعَلْنِي عَلىٰ خَزٰائِنِ الْأَرْضِ (3) إنّما هو التولّي من قبل الجائر فيما له فيه ولاية شرعيّة، كالمغصوب الذي يستعين من الجائر على حقّه و ماله و ملكه، و ما يختصّ به من الأموال و الوظائف الشرعيّة من حقّ الوصاية و التولية، كالفقيه الجامع يستعين بالجائر على القضاء بالعدل و الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر، و إقامة شعائر الإسلام من الجمعة و الجماعة، و ترويج الأحكام من الحلال و الحرام، و حفظ الأوقاف و الأيتام. و منه طلب الصّديق عليه السّلام خزائن الأرض، فإنّها من قطائع النبوّة و الولاية الكلّية و الرئاسة الإلهيّة الخاصّة به. و منه تولّي عليّ بن يقطين و سلمان على المدائن و عمّار بن ياسر و ابن مسعود على الكوفة، و من المعلوم أنّ هذا القسم من الولاية الصوريّة الظاهريّة من قبل الجائر خارج عن محلّ الكلام، بل


1- تحف العقول: 332.
2- كذا في النسخة الخطّية، و لعلّها زائدة، أو أراد التلفيق بين آية 51 من سورة المائدة:
3- يوسف: 55.

ص: 271

هو استعانة بالجائر على حقّ و رفع ظلامة و باطل، فلا يقاس بها ما نحن فيه، لأنّه مغالطة صرفة.

قوله: «الولاية إن كانت محرّمة لذاتها كان ارتكابها لأجل المصالح و دفع المفاسد أهمّ».

[أقول:] فيه أوّلا: أنّ حرمة الولاية كقبح الظلم عقليّ و علّة تامّة للمفسدة، يستحيل اجتماعها مع المصلحة المسوّغة.

و ثانيا: لو سلّمنا أنّه نقليّ كالكذب مقتض لا علّة تامّة، لكن تجويز الكذب لمصلحة بالنصّ لا يجوّز سائر المحرّمات، من زنية أو شرب مسكر أو أكل ميتة لمصلحة، خصوصا لمصلحة الغير مطلقا.

قوله: «و لا يخفى أنّ العريف سيّما في ذلك الزمان لا يكون إلّا من قبل الجائر».

[أقول:] و فيه منع، لأنّ العرافة الرئاسة وزنا و معنى، و العريف هو المعروف، و المعاريف و العرفاء الرؤساء، كما في المجمع (1) و غيره (2)، و من المعلوم أنّ العرافة كالرئاسة و الخلافة و السلطنة و الحكومة و سائر الألفاظ موضوعة لمعانيها الواقعيّة الحقّة الصحيحة الشرعيّة، لا المجازيّة الباطلة الفاسدة، و إن غلبت و شاعت و ذاعت في أوهام المبطلين و إطلاقاتهم، كإطلاقهم الإله و الآلهة على ما زعموها من أصنامهم و أزلامهم تحكّما و زورا، مع أن غلبة العرافة في الجائرة و الباطلة سيّما في زمان صدور نصوصها ممنوعة، بل الأغلب العرافة الحقّة، كرئاسة الأزواج على أزواجهم، و أولي الأرحام على أرحامهم، و الأولياء على مواليهم، و الملّاك على مماليكهم و أملاكهم، و سلطنة الناس على أموالهم، و ولاية الحاكم


1- مجمع البحرين 5: 98.
2- لسان العرب 9: 238.

ص: 272

الشرعيّ على القضاء و الأمور الحسبيّة و الوظائف الشرعيّة و إجراء الحدود و إقامة شعائر الإسلام و ترويج الأحكام من الحلال و الحرام، و ولاية كلّ الناس على المباحات الأصليّة.

قوله: «إلّا لتفريج كربة مؤمن .. إلخ» (1).

[أقول:] و فيه: أنّ الاستدلال به على جواز التولّي من قبل الجائر لمطلق المصالح مبنيّ على كون الاستثناء متّصلا. و هو ممنوع، لظهور كون الاستثناء من وطء بسطهم لا تولّي أعمالهم، مضافا إلى أنّ كشف كربة المؤمن و فكّ أسره من الواجبات الكفائيّة و الأمور الحسبيّة و الولايات الشرعيّة التي لا يحرم تناولها من الغاصب و المانع بأيّ وجه اتّفق، و هو أخصّ من المدّعى.

قوله: «و ظاهرها إباحة الولاية من حيث هي».

[أقول:] و فيه: أنّه لا موهم لهذا الظهور إلّا مثل قوله عليه السّلام: «ما من جبّار إلّا و معه مؤمن يدفع اللّٰه به عن المؤمنين» (2). و هو مدفوع بأنّ المعيّة أعمّ من التولية من قبله التي هي محلّ الكلام، إذ قد يكون المعيّة على وجه الصداقة و الرفاقة و النسبة و الرحميّة و الوجاهة و الرفعة الإلهيّة، لأجل إتمام الحجّة عليهم و التوسّط و الشفاعة لديهم، كمعيّة مؤمن آل فرعون و امرأته، و سلمان و عمّار و أبي ذرّ مع أبي بكر و عمر، و عليّ بن يقطين مع هارون، و نصير الدين الطوسي مع السلطان هولاكو، و المحقّق الكركي و المجلسي مع السلاطين الصوفيّة، و الاحتمال يبطل الاستدلال.

قوله: «و الأولى أن يقال: إنّ الولاية غير المحرّمة منها ما يكون مرجوحة .. و منها ما يكون مستحبّة .. و منها ما يكون واجبة .. إلخ» (3).


1- الوسائل 12: 140 ب «46» من أبواب ما يكتسب به ح 9.
2- الوسائل 12: 134 ب «44» من أبواب ما يكتسب به ح 4.
3- علّق السيّد المحشّي قدس سرّه على هذه العبارة في ص: 271، و المضمون مختلف فيهما.

ص: 273

[أقول:] فيه: أنّ اختلاف نصوص المعيّة مع الجائر لا ينحصر في اختلاف مقاصد التولّي من قبله و مصالحه المقصودة الدنيويّة لنفسه أو لإخوانه، أو لمصالحه الأخرويّة الواجبة عليه، كالأمر بالمعروف و النهي عن المنكر، بل اختلافها من جهة اختلاف مراتب العمل و العامل و موارده، من حيث إنّ أفضل الأعمال أحمزها و أخلصها و أعظمها، فإن المعيّة لإنجاء نبيّ أفضل منها لإنجاء مؤمن، و هي أفضل منها لإنجاء مسلم، و هي أفضل منها لإنجاء ذمّي، و هكذا.

قوله: «بل من باب مزاحمة قبحها بقبح ترك الأمر بالمعروف .. إلخ».

[أقول:] فيه: أنّ صحّة التوجيه المذكور مبنيّ على أن يكون تزاحم القبيحين المذكورين كتزاحم الحقّين دليله لبيّا من عقل أو إجماع، و المفروض أنّه لفظيّ كالمتعارضين، فمرجعه إلى التساقط و الرجوع إلى الأصل العملي لا التخيير الظاهري.

قوله: «الولاية غير المحرّمة منها ما يكون مرجوحة .. و منها ما يكون واجبة .. و منها ما يكون مستحبّة .. إلخ».

أقول: قد عرفت أنّ الولاية غير المحرّمة الآتي فيها الأقسام المذكورة إنّما هو التولّي فيما له ولاية شرعيّة حقّانيّة، كتولّي الفقيه الجامع من قبل الجائر لأجل القضاء بالعدل و رفع الظلم، و الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر، و إجراء الحدود و الأحكام من الحلال و الحرام، و إقامة شعائر الإسلام، و حفظ أموال الأيتام و شريعة خير الأنام. و من المعلوم أنّ هذا القسم من التولّي في الحقيقة خارج عن محلّ الكلام في المقام.

و إنّما محلّ الكلام هو التولّي من قبل الجائر، إمّا في خصوص جوره و ما ليس له بحقّ كالحكومة الجوريّة على العباد و جباية الخراج و المقاسمة لهم و إجراء أحكامهم الباطلة و أوامرهم الفاسدة، و إمّا ترويج أمورهم و إعانتهم

ص: 274

و التحرير و الكتابة لهم و تنجيز حوائجهم، و نحو ذلك من إعاناتهم و معوناتهم المحرّمة حرمة نفسيّة على وجه العلّية التامّة، كالظلم في نصوص الكتاب (1) و السنّة (2). فالتولّي غير الحرام القابل للأقسام خارج عن محلّ الكلام، و الذي هو محلّ الكلام في المقام حرام غير قابل للأقسام، فالمقايسة بينهما مغالطة.

قوله: «و الشهيدين للعامّة» (3).

[أقول:] فإن قلت: ثبوت الكفّارة عليه كما ينافي جوازه لمطلق المصالح الدنيويّة، كذلك ينافي جوازه لضرورة أو تقيّة أو سائر المصالح الأخرويّة، لأنّ الضرورات تبيح المحظورات، بل قد توجبها، فمنافاة الكفّارة مشتركة الورود.

قلت: جواز المحظور بل وجوبه لضرورة كأكل الميتة لا ينافي الكفّارة عليه، كقتل الخطأ و إفطار من لا يطيق الصيام بالفدية، و استغفار النبيّ و سائر الأنبياء لمعاشرة الأشرار و ارتكاب سائر أوامر الاضطرار.

قوله: «يحشره اللّٰه على نيّته» (4).

[أقول:] فيه: أنّ النيّة المسوّغة لمحظور التولّي عن الجائر لا ينحصر في التولّي لمطلق المصالح الدنيويّة، بل لعلّه لدفع مفسدة الضرورة و الإكراه و التقيّة، و سائر المصالح الأخرويّة الموجبة للمعيّة. و الاحتمال يبطل الاستدلال، فالاستدلال به مصادرة.

قوله: «التقيّة في كلّ ضرورة .. إلخ» (5).


1- تقدّم ذكر مصدرهما في هامش (6) ص: 269.
2- تقدّم ذكر مصدرهما في هامش (7) ص: 269.
3- هذه العبارة ليست في المكاسب، و الظاهر وجود سقط بمقدار صفحتين أو أكثر أو أقلّ في النسخة الخطّية، و الظاهر أنّ جملة «و الشهيدين للعامّة» من الشرح، إذ من البعيد ابتداء الشرح ب «فإن قلت .. إذ لا محلّ للفاء».
4- الوسائل 12: 139 ب «46» من أبواب ما يكتسب به ح 6.
5- الوسائل 11: 468 و 469 ب «25» من أبواب الأمر و النهي و ما يناسبهما ح 1 و 8.

ص: 275

أقول: كما خصّص عموم التقيّة شرعا باستثناء الدم و بشرب الخمر و مسح الخفّين، كذلك يخصّص عقلا و كلّية باستثناء ما يستلزم نقض غرض الحكيم، كما في خصوص تبليغ النبيّ الأحكام فلا يتّقي فيها النبيّ، لأنه نقض غرض الحكيم من النبوّة و بعثه في تبليغ الأحكام، بخلاف التقيّة منه في الأفعال- كصلح الحديبيّة- فيجوز، كما يجوز للإمام في الأفعال و الأحكام، كتحكيم الحكم على عليّ، و صلح الحسن مع معاوية قهرا، بمعنى تقاعده عن أخذ حقّه- لا تراضيه بالباطل- من باب فَمَهِّلِ الْكٰافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً (1)، كإنظار إبليس في غيّه.

و يستثنى من عموم التقيّة أيضا ما يستلزم النقض الشرعيّ و العرفيّ المنفّر للطبيعة على النبيّ و الإمام، بل على كلّ معصوم من الآثام، كتزويج المؤمن المشركة و بالعكس، و بيعة الطاغية و التولّي عنه في فعل لا مجرّد قول، فإنّ الإكراه يسوّغه للإمام كغير الإمام. و منه قبول الرضا عليه السّلام إكراها ولاية عهد الطاغية قولا لا فعلا.

و منه يعلم أنّ تزويج الأنبياء الكافرات و المشركات من باب التمليك في الواقع، و إن سمّي تزويجا في الظاهر من باب التقيّة و المداراة الظاهريّة و حسن المعاشرة الصوريّة، جمعا بين مصلحتي الواقع و الظاهر. و عدم صحّة أخبار تزويج بنات الأنبياء و الأوصياء الكفرة الفجرة. و عدم صحّة أخبار بيعتهم الطاغية و التولّي عنهم، بل و لا التسليم عليهم بإمرة المؤمنين و العبوديّة لهم، و لا الصلاة خلفهم، إلى غير ذلك من الأخبار الضعاف المنقصة لشأن الإمامة و العفّة و العصمة، و المنفّرة للطبيعة، فلا يسوّغها الإكراه و التقيّة في مثل الإمام و إن سوّغها في سائر الأنام، لقوله عليه السّلام لمّا أرادوا منه البيعة و النزول على حكم يزيد: «و اللّٰه لا أعطيكم


1- الطارق: 17.

ص: 276

بيدي إعطاء الذليل، و لا أقرّ لكم إقرار العبيد» (1) .. «الموت أولى من ركوب العار» (2).

ثمّ التقاعد عن أخذ الحقّ من الأعداء و التسويف في الانتقام إن كان من اللّٰه المختار سمّي إمهالا و إنظارا و إتماما للحجّة. و إن كان من غيره المضطرّ سمّي إكراها و مداراة و تقيّة و صلحا.

قوله: «لعموم دليل نفي الإكراه لجميع المحرّمات حتّى الإضرار بالغير .. إلخ».

[أقول:] فيه: أنّ عموم نفي الإضرار (3) و إن بلغ ما بلغ لا ينفي الإضرار بالغير، لأنّ ما يلزم من نفيه ثبوته أو بالعكس فهو باطل مستهجن الإرادة عرفا.

فتأمّل.

و لما فيه من الترجيح المرجوح أو الترجيح بلا مرجّح، خصوصا بعد ملاحظة النصوص (4) المؤكّدة لحقوق الأخوة و الاتّحاد و المساواة و المواساة، و وجوب أن يحبّ لنفسه من الخير ما يحبّ لغيره، و يكره له ما يكره لنفسه، و لا يسلّمه و لا يخذله و يعينه.

مضافا إلى إمكان دعوى الإجماع و السيرة العمليّة من الصحابة و التابعين على عدم إضرار الغير، خصوصا بالإضرار الكلّي مالا أو عرضا بمجرّد إكراه يسير.

مضافا إلى لزوم استباحة أموال المسلمين و أعراضهم بمجرّد إكراه يسير من مكره ضرير أو حقير أو فقير، كزوج أو زوجة أو والد أو ولد، فيباشر جميع


1- وقعة الطف لأبي مخنف: 209.
2- مثير الأحزان: 72.
3- الوسائل 17: 340 ب «12» من أبواب إحياء الموات.
4- الوسائل 8: 414 و 542 ب «14 و 122» من أبواب أحكام العشرة.

ص: 277

مقدّمات قتل من أكره على قتله، من إحضاره و إضجاعه و قيده و حبسه و ضربه إلى حدّ الدم و إزهاق الروح و فري الأوداج، فيوكله إلى غيره، و هو كالمحال من شاهد الحال.

ثمّ إنّه على تقدير رفع المؤاخذة عن المكره في الإضرار على الغير مطلقا، فهل المرفوع خصوص المؤاخذة و الإثم، كالساهي و الناسي و الجاهل و المغرور في الإضرار، أو مطلق الأحكام حتّى الضمان، كالمكره الملجإ في الإضرار إلى حدّ يعدّ في الضعف آلة للمكره بالكسر، و يكون السبب أقوى من المباشر عرفا؟

وجهان بل قولان، ظاهر الأكثر و الأشهر- كالمتن و غيره- أنّ ضمان إضرار المكره بالفتح على المكره بالكسر لا الفتح، كما هو صريح الشهيدين (1) و غيرهما. و لكن الأظهر خصوصا فيما عاد منافع الإضرار إلى المضرّ المكره المباشر لا المكره، لأنّه الأقوى من السبب، كما استقربه (2) الجواهر في باب الغصب (3) ..

قوله: «و صرف الضرر عن نفسه إلى غيره مناف للامتنان، بل يشبه الترجيح بلا مرجّح».

أقول: يمكن أن يستفاد من كون الامتنان برفع كلّ من الإكراه و الحرج و الضرر بالنفس و الإضرار بالغير نوعيّا أو شخصيّا، التفصيل في البين و الترجيح بين الضررين بالميسور و المعسور، لأنّ الضرر المكره عليه إمّا أن يكون معسورا تحمّله عادة على المكره بالفتح دون غيره، أو بالعكس، أو يكون معسورا على كلّ منها، أو ميسورا على كلّ منهما.

فما كان معسورا تحمّله على أحدهما و ميسورا على الآخر، كما لو أجرم


1- اللمعة الدمشقيّة و الروضة البهيّة 10: 28.
2- جواهر الكلام 37: 57.
3- في النسخة الخطّية هنا بياض بمقدار صفحة و نصف، و الظاهر أن الكلام لم يتمّ، لأن جملة «و لكن الأظهر ..» بقيت بعد بلا خبر، إلّا بتأويل بعيد جدّا.

ص: 278

الجائر المعسر بمال غير مقدور عليه مقدور على الآخر، جاز للمكره بالفتح رفع الضرر المعسور عن نفسه بإضرار الغير المقدور له، و لو بسرقة ذلك المال و بذله للجائر، و إن ضمن السارق غرامته عند الميسرة و القدرة، كجواز الغصب و السرقة عند المجاعة و المخمصة بقدر حفظ الرمق متضّمنا قيمته و غرامته.

و ما كان معسورا على كلّ منهما أو ميسورا على كلّ منهما لا يجوز رفعه عن نفسه بإضرار الغير مطلقا، سواء كان الضرر متوجّها بالأصالة إلى نفس المكره أو غيره، لعدم الترجيح بلا مرجّح، و أمّا الترجيح بأقلّ الضررين فإنّما هو فيما توجّه الضرران إلى شخص واحد لا إلى شخصين.

قوله: «إذ لا تعادل نفس المؤمن شي ء. فتأمّل».

[أقول:] إشارة إلى أنّ قوله عليه السّلام: «لا تعادل نفس المؤمن شي ء» إنّما هو مورد وجوب ترجيح الراجح من قاعدة ارتكاب أحد القبيحين اللازم على المكلّف، كما في أكل مال الغير لرفع المخمصة و حفظ النفس المحترمة، لا فيما دار الأمر بين ارتكاب أقلّ القبيحين من شخص لرفع الأقبح من شخص آخر، فإنّه خارج عن مورد ارتكاب أقلّ القبيحين، و لو كان الأقلّ من أصغر حقوق اللّٰه و الأكثر من أعظم حقوق الناس و النفوس المحترمة.

أو إشارة إلى أنّ قوله: «حرمة مال المؤمن حرمة دمه» (1) إنّما يقتضي المساواة في الحرمة لا عموم التسوية حتّى في السقوط بالتقيّة، حتّى إنّ وجوب حفظ الأعراض و أموال الأيتام لا يزيد على وجوب حفظ الصوم و الصلاة الساقط بالإكراه و التقيّة، و لا يبلغ حدّ الدماء غير الجاري فيه حكم الإكراه و التقيّة.

قوله: «و أما الإضرار بالعرض بالزنا و نحوه ففيه تأمّل، و لا يبعد ترجيح


1- الوسائل 8: 598 ب «151» من أبواب أحكام العشرة ح 9.

ص: 279

النفس عليه».

[أقول:] و ذلك لأنّ الإضرار بالزنا في نفسه كالإضرار بإبطال الصوم و الصلاة حقّ اللّٰهي لا يضرّ بالنفس، بخلاف الإضرار بالنفس بضرب أو جناية، فإنّه ضرر عرفيّ مقدّم على مثل الزنا و نحوه، إلّا إذا فرض الزنا بالنسبة إلى بعض ذوي الشئون الآبية من النقص عارا و فضيحة، فإنّ ضرره مقدّم على الضرر بالنفس قطعا، بل حتّى على الموت، كما قال عليه السّلام: «الموت أولى من ركوب العار» (1). و هو الظاهر من الضرر العرضيّ أيضا، لا مجرّد الزنا.

قوله: «و احذر مكر خوزيّ الأهواز .. إلخ» (2).

[أقول:] الخوز بالمعجمتين و ضمّ أوله صقع معروف في العجم من أرض فارس، على ما في المجمع (3). و اسم لبلاد خوزستان. و خوزان بضم أوّله قرية في أصبهان، و في هرات، على ما القاموس (4). و يروى بالراء المهملة قرية في بلخ و قرية في أسترآباد، و قرية متّصلة بلار من أسنّة الألوار.

قوله: «و ليكن جوائزك و عطاياك و خلعك للقوّاد و الرسل و الأحفاد و أصحاب الرسائل و أصحاب الشرط و الأخماس .. إلخ».

[أقول:] القوّاد و القادة جمع القائد، و هو من يقود الجيش أو الخيل أو الدابّة أو الأعمى. فالقائد الآخذ بقياد الدابّة من أمامها، عكس السائق، و هو من يسوقها من ورائها.

و الأحفاد كالحفدة جمع حافد: الأعوان و الخدّام. و قيل: ولد الولد.

و أصحاب الشرط و الأخماس. الشرط جميع شرطة، كغرف و غرفة:


1- تقدّم ذكر مصدره في هامش (2) ص: 276.
2- الوسائل 12: 150 ب «49» من أبواب ما يكتسب به ح 1.
3- مجمع البحرين 4: 19.
4- القاموس المحيط 2: 175.

ص: 280

أعوان السلطان و ولاته، و أول كتيبة تشهد الحرب و تتهيّأ للموت، مأخوذ من الشرط بفتحتين واحد الأشراط، و هي العلامات، لأنّهم جعلوا لأنفسهم علامات يعرفون بها للأعداء. و الأخماس جمع الخميس: الجيش.

قوله عليه السّلام: «و ما وكدي».

[أقول:] أي: و ما حرصي و تأكيدي من الدنيا إلّا فراقها.

[المسألة الثامنة و العشرون الهجر بالضم و هو الفحش من القول حرام]

قوله: «حرّم اللّٰه الجنّة على كلّ فحّاش بذي ء» (1).

[أقول:] البذي ء على فعيل: السفيه و الناطق بالفحش، و البذاء الفحش.

و استشكل المجمع في الخبر (2).

[النوع الخامس مما يحرم التكسب به ما يجب على الإنسان فعله]

قوله: «لانتقاضه طردا و عكسا بالمندوب و و الواجب التوصّلي».

[أقول:] أي: لأعميّة الدليل- و هو منافاة الأجرة للإخلاص المعتبر في الواجب- من المدّعى و هو تخصيص المنع بالواجب، من جهة شمول المنافاة المندوب الخارج من المدّعى أيضا، و أخصّيته منه من جهة عدم شموله الواجب التوصّلي، فلم يكن الدليل جامعا لأفراد المدّعى و لا مانعا لأغياره، و هو الطرد و العكس المعتبر في الحدود في اصطلاح المنطق.

قوله: «فالأجرة في مقابل النيابة في العمل المتقرّب به إلى اللّٰه .. إلخ».

أقول: جعل الأجرة في مقابل النيابة- و هو تنزيل النائب نفسه منزلة المنوب عنه في العمل- إنما يفرض في بعض الأجراء في القضاء، و أمّا أغلب الأجراء، سيّما على مثل التلاوة و القراءة و التعزية و غسل الأموات و الصلاة عليها و الأذان الإعلامي و القضاء بين الناس و إقامة الجمعة و الجماعة لهم و تعليمهم معالم الدين و شعائر الإسلام، خصوصا على تقدير وجوبها العيني بالانحصار، فلم


1- الوسائل 11: 329 ب «72» من أبواب جهاد النفس ح 2.
2- مجمع البحرين 1: 48.

ص: 281

يلاحظوا فيما استؤجروا عليه من هذه الواجبات قصد النيابة و التنزيل المذكور، و لم يجعلوا الأجرة في مقابل النيابة بهذا المعنى أصلا و رأسا، بل إمّا يعملون الواجبات المذكورة بقصد القربة لا غير مع الإغماض عن قصد النيابة و ما بإزاء الأجرة، كما في قارئ التعزية و غاسل الأموات و مقيم الجمعة و الجماعة، و إمّا يعملونها بقصد القربة على وجه الهديّة أو الصدقة بثوابها عن المنوب عنه، كالتلاوة و القراءة و صلاة الوحشة عن الميّت، أو لأجل إبراء ما في ذمّة المنوب عنه من القضاء، أو إسقاط ما في ذمّة الأجير أو المؤجر من الأداء، و إمّا لأجل استحقاق الأجرة و في إزاء الأجرة.

أمّا صحّة ما عدا الوجه الأخير فواضح. و أمّا الوجه الأخير فلا بدّ في تصحيحها إمّا من ضمّ الأجرة على وجه التبعيّة للإخلاص، لا العكس، و لا فرض كلّ منهما علّة تامّة و غاية مستقلّة للعمل، و إمّا من جعل الأجرة في مقابل إحداث داعي التقرّب و الإخلاص، و هو غير نفس التقرّب و الإخلاص المصحّح للعمل، بل هو من مقدّماته التوصّليّة القابلة لمقابلة الأجرة و عدم توقّفه على القربة، و فائدته عائدة أيضا إلى نفس المؤجر و المنوب عنه، فلا مانع من الأجرة.

فعلم ممّا ذكرنا أنّ تصحيح عبادة الأجراء لا ينحصر فيما ذكره المصنّف، من جعل الأجير نفسه نازلا منزلة المنوب عنه في العمل المتقرّب به إلى اللّٰه، بل قد يحصل بالإغماض عن الأجرة رأسا، أو اعتبارها مستقلّا، أو جعلها في مقابل إحداث داعي القربة لا نفس القربة المانعة الجمع مع الأجرة. و أنّ التصحيح بهذا الوجه لا يختصّ بعبادة الأجراء، بل يعمّ تصحيح الأجرة على جميع الواجبات التي هي محلّ الكلام، و هي ما يتصوّر فيه نفع راجع إلى المؤجر و المنوب عنه، و لو كان واجبا عينيّا تعيينا. و أمّا ما لا يرجع نفعه إلّا إلى عامله- كالصلاة و الصوم عن نفسه- فهو خارج عن محلّ الكلام، لا يجوز أخذ الأجرة عليه، لعدم وصول

ص: 282

عوض الأجرة إلى باذلها، فهو أكل للمال بالباطل، لعدم حرمة عمله، و عدم توقّف استيفائه على طيب نفسه، بل بقهر عليه مع الامتناع و عدم طيب النفس.

قوله: «فرق بين الغرض الدنيوي .. إلخ».

[أقول:] الفارق أنّ المقصود المترتّب على فعل العبادة للّٰه- من أداء الدين، و سعة الرزق، و شفاء المريض، و سائر الحوائج الدنيويّة- من قبيل الفائدة و خواصّه القهريّة اللازمة له و لو لم تقصد، فليست بمانعة الجمع مع قصد التقرّب، بخلاف المترتّب على فعل المستأجر عليه و هو استحقاق الأجرة، فإنّه من قبيل الغاية الموقوفة على قصدها من فعل المستأجر عليه على وجه العلّية، فلا تجتمع مع قصد التقرّب بهذا الوجه.

قوله: «و ليس استحقاق الشارع للفعل و تملّكه المنتزع من طلبه من قبيل استحقاق الآدمي».

أقول: الفرق أنّ استحقاق الشارع الفعل بالذات، و استحقاق الآدمي بواسطة العوض المقابل له. و أنّ فائدة فعل العابد لا يعود إلى المعبود، بل إلى نفس العابد، بخلاف فائدة فعل الأجير، فإنّه يعود إلى المؤجر و المستأجر عنه، لا إلى نفس الأجير. و أنّ المطلوب الدنيوي و الأخروي في العبادة من المعبود الواحد، و في الإجارة، الأجرة من المؤجر و التقرّب من المعبود، فلا يجتمعان في محلّ واحد.

قوله: «لأنّ محلّ الكلام أخذ الأجرة على ما هو واجب على الأجير، لا على النيابة فيما هو واجب على المستأجر. فافهم».

[أقول:] إشارة إلى أنّه لا يقال: لا فرق بين الواجبين في منافاة أخذ الأجرة للإخلاص المعتبر في تحقّق الواجب في البين، سواء كان واجبا على الأجير أو المستأجر. لأنّا نقول: الفرق كون الأجرة في الواجب على المستأجر في مقابل النيابة، فيجتمع مع الإخلاص المعتبر في الواجب، و في الواجب على الأجير لا

ص: 283

مقابل الأجرة حتّى يجتمع مع الإخلاص المعتبر في الواجب. و لكن قد عرفت ما فيه نقضا و حلّا.

قوله: «فتسويغ أخذ الأجرة عليها لطف في التكليف بإقامة النظام».

أقول: الفرق بين جواز أخذ الأجرة على الصنائع الواجبة بهذا الوجه و بينه بالوجه الأوّل: أنّ جوازه بالوجه الأوّل بالدليل المخرج الشرعي من الإجماع و السيرة، و بهذا الوجه بالدليل العقلي، و هو اللطف في التكليف بإقامة النظام، و أنّه لولاه لاختلّ النظام و وقع أكثر الناس في المعصية، المنافي لقاعدة اللطف الواجب على الحكيم، من تقريب العبد إلى الطاعة و تبعيده عن المعصية في مصطلح المتكلّمين.

كما أنّ الفرق في جواز أخذ الأجرة عليها بالوجه السادس و السابع: أنّ وجوب الصنائع بالوجه السادس مشروط بالأجرة و متأخّر عنها، و قبلها لا وجوب لها حتّى يمنع من الأجرة، و بالوجه السابع وجوب مقدّميّ غيريّ لأجل التوصّل إلى وجوبها الكلّيّ الأصليّ، و هو إبقاء النظام و حفظ الأنام. و هذا الوجوب المقدّميّ، و هو مداواة الطبيب المريض و معالجته، و إن كان واجبا على الطبيب عينا أو كفاية، إلّا أنّ وجوبه لمّا لم يكن وجوبا بالذات و بالأصالة، بل كان مقدّمة للتوصّل إلى إبقاء النظام و حفظ الأنام، الحاصل ببذل الطبيب نفسه للعمل الأعمّ من التبرّع المجّاني و من أخذ الأجرة، جاز له أخذ الأجرة عليه.

فافترق الوجهان من حيث الصغرى و الكبرى. أمّا من حيث الصغرى فلأنّ وجوب الصنائع على الوجه السادس وجوب مشروط بالأجرة، و على السابع وجوب مقدّميّ. و أمّا من حيث الكبرى فلأنّ مقتضى الوجه السادس التفصيل في أخذ الأجرة بين الواجب المشروط وجوبه بالأجرة و غيره، و مقتضى الوجه السابع التفصيل بين الواجب الأصليّ الذاتي و المقدّميّ الغيريّ.

ص: 284

قوله: «من جهة عموم آية فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ (1) فافهم».

[أقول:] إشارة إلى أنّه لا يقال: بمنع العموم و انصراف الأجور إلى أجرة العمل و هو نفس الإرضاع، لا عوض المبذول من اللبان و اللبن، حتّى يكون من قبيل بذل المال للمضطرّ في كون المرجوع عوض المبذول لا أجرة البذل. لأنّا نقول: لو سلّمنا ظهور الآية و انصرافها إلى جواز أخذ أجرة عمل الرضاع و كونه عملا محترما و لو وجب على الأم عينا، لكن يمكن فرضه من قبيل رجوع الوصيّ بأجرة المثل خارجا بالنصّ، إلّا أنّه بعيد عن ظاهر الآية و السيرة العمليّة، فإنّ ضمان الأفعال و احترام الأعمال- كإنقاذ الغريق و إطفاء الحريق و علاج المريض و لو وجبت عينا- لا يقصر عقلا و لا عرفا بل و لا شرعا عن ضمان الأموال المبذولة في مقابلها قطعا.

قوله: «لأنّ المفروض بعد الإجارة عدم تحقّق الإخلاص .. إلخ».

أقول: منافاة الجمع بين العمل للإخلاص و لاستحقاق الأجرة إنّما هو على تقدير قصد كلّ من الغايتين مستقلّا على وجه العلّية الغائيّة، أو قصد الأجرة مستقلّا و الإخلاص تبعا. و أمّا صورة العكس، و هو قصد الفعل للإخلاص و ضميمة الأجرة على وجه التبعيّة، فلا مانع من اجتماعه و صحّته و تحقّقه، كما لا مانع أيضا من صحّة الأجرة و استحقاقها لو أغمض عنها في مقام العمل للإخلاص بالمرّة، أو جعل الأجرة في مقابل إحداث داعي القربة في العمل لا في مقابل نفس العمل، أو في مقابل إهداء ثوابه إلى المستأجر بعد العمل، كما تقدّم في الواجب.

قوله: «و الإجارة يتعلّق به» أي: بالفعل.


1- الطلاق: 6.

ص: 285

[أقول:] «بالاعتبار الأوّل». أي: باعتبار كونه فعلا للمنوب بعد نيابة النائب عنه.

قوله: «لكن ليس كذلك».

[أقول:] إذ من المعلوم و المفهوم من عموم تَعٰاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَ التَّقْوىٰ (1)، و استحباب اتّخاذ الديك للإعلام و الاستعلام بأذانه، تأتّي استحباب الإعلام و لو بالأذان غير المقرّب.

قوله: «و أمّا الرواية فضعيفة».

[أقول:] يعني دلالة، فإنّ المنع من اتّخاذ الأجر أعمّ من فساد الإجارة.

و أمّا سندا فالأولى مشهورة منقولة في فقيه الصدوق (2). و الثانية (3) حسنة بل معتبرة.

قوله: «لو احتاج إلى بذل مال فالظاهر عدم وجوبه».

أقول: بل الأظهر وجوبه، و عدم الفرق في وجوب ما لا يتمّ الواجب إلّا به بين بذل المال و قطع المسافة.

[خاتمة تشتمل على مسائل]

[الأولى بيع المصحف]

قوله: «و إيّاك أن تشتري منه الورق و فيه القرآن مكتوب» (4).

[أقول:] أي: و إيّاك أن تشتري الورق مع كتابة القرآن على وجه الوصفيّة أو الجزئيّة.

قوله: «أو يقال: إنّ الخطّ لا يدخل في الملك شرعا و إن دخل فيه عرفا.

فتأمّل».

[أقول:] إشارة إلى أنّ عدم تملّك الخطّ بالثمن يستلزم عدم تملّكه بالأجرة


1- المائدة: 2.
2- من لا يحضره الفقيه 3: 109 ح 461.
3- الوسائل 11: 518 ب «41» من أبواب الأمر و النهي ح 6.
4- الوسائل 12: 116 ب «31» من أبواب ما يكتسب به ح 11.

ص: 286

أيضا، فيلزم حمل ما روي من جواز تملّكه بالأجرة (1) على جواز تملّكه بالهديّة، أو جعل الأجرة في مقابل مقدّمات الكتابة لا نفس الكتابة.

و لكن يمكن منع الملازمة نقضا، بصحّة الاستئجار و الأجرة على بناء حائط المسجد دون بيع الحائط المبنيّ بعد البناء. فتأمّل.

[الثانية جوائز السلطان و عماله]

قوله: «و كذا إذا كانت محصورة بين ما لا يبتلي المكلّف».

[أقول:] و هذا التفصيل مبنيّ على ما تفرّد به المصنّف في فرائده (2). و لا يخلو من نظر بل منع قرّرناه في محلّه.

قوله: «فلا وجه لوجود الكراهة الناشئة عن حسن الاحتياط مع اليد، و ارتفاعها مع الإخبار. فتأمّل».

[أقول:] إشارة إلى أنّه و إن أمكن التفكيك في الاعتبار بين اليد و الإخبار، إلّا أنّ خبر الفاسق باليد أضعف اعتبارا من يد الفاسق بالقول، فإذا سقطت يد الظالم عن الاعتبار مع قوّة اعتبارها بأصالة الصحّة بواسطة اتّهامها أو غلبة فسادها، سقط خبره عن الاعتبار أيضا بتلك الواسطة بطريق أولى.

أو إشارة إلى أنّ مالا يدخل في الملك شرعا لا يدخل فيه عرفا. نعم، يدخل فيه تبعا، كالأراضي المفتوحة عنوة، و حقّ الاختصاص من الموقوفات العامّة كالمساجد و المدارس، حيث لا تملك إلّا تبعا للآثار.

قوله: «المال المحتمل الحرمة غير قابل للتطهير».

[أقول:] فيه: أنّه ممنوع أوّلا: بعموم نصوص (3) مطهّريّة التخميس للمال الحرام المحتمل بقاؤه بعد التخميس، و عدم اختصاص تطهيره بالحلال المخلوط.

و ثانيا: بعموم أدلّة الولاية الكلّية الإلهيّة و السلطنة العامّة الأوّليّة الأولويّة،


1- الوسائل 12: 115 ب «31» من أبواب ما يكتسب به ح 4.
2- فرائد الأصول: 250.
3- الوسائل 6: 352 ب (10) من أبواب ما يجب فيه الخمس.

ص: 287

التي هي أولى بالمؤمنين من أنفسهم (1)، و أولى من البحر في عموم المطهّرية و القابليّة لتطهير كلّ ما ينفعل بالانفعال منه بعد عوده إليه و الاتّصال به.

فإن قلت: لو كان الحرام الواقعي قابلا للتطهير فلم ردّ الحجّة الأموال المخلوطة بالحرام المهديّة إليه من قم؟ بقوله عليه السّلام: «كيف تمسّ اليد الطاهرة الأموال النجسة؟!» (2).

قلت: عدم قبولها ليس لعدم قابليّتها التطهير، بل لحكمة تنزيه يده التي هي يد اللّٰه تعالى عن شوائب النقص و الحاجة، و التحفّظ على ظواهر الأحكام و الحلال و الحرام، و معرفة الإمام عليه السّلام و رفع الاتّهام.

قوله: «و على أيّ تقدير فهو على طرف النقيض ممّا تقدّم عن المسالك».

[أقول:] أمّا على تقدير كون القاعدة في الشبهة المحصورة عدم وجوب الاحتياط، فلتصريح المسالك (3) بأنّ حكم المال المختلط بالحرام وجوب اجتناب الجميع. و أمّا على خروج مورد الشبهة المحصورة من جوائز الظلمة عن عنوان الأصحاب، و اختصاص عنوانهم بالشبهة غير المحصورة، فلتفسيره عنوان الأصحاب بمطلق الشبهة بقوله «التقييد بالعين إشارة إلى جواز أخذها و إن علم أن في ماله مظالم .. إلخ» (4).

قوله: «فالرواية إمّا من أدلّة حلّ مال السلطان المحمول بحكم الغلبة إلى الخراج و المقاسمة، و إمّا من أدلّة حلّ المال المأخوذ من المسلم .. إلخ».

أقول: أمّا احتمال مال الخراج في مال الضيافة و الدراهم و الكسوة المرفوعة إلى السائل فبعيد عن مورد الرواية (5). و أمّا احتمال حلّية المأخوذ من


1- الأحزاب: 6.
2- كمال الدين 2: 458، دلائل الإمامة: 510.
3- مسالك الأفهام 3: 141.
4- مسالك الأفهام 3: 141.
5- الوسائل 12: 156 ب «51» من أبواب ما يكتسب به ح 1.

ص: 288

يد العامل من باب حمل فعل المسلم على الصحّة، و أنّه ممّا اقترضه أو اشتراه في الذمّة، فهو و إن كان أقرب من الاحتمال الأوّل بالنسبة إلى مورد الرواية، إلّا أنّه ينافيه التعليل بقوله: «لك المهنّأ و عليه الوزر»، إذ لا وزر في إنفاق الحلال.

نعم، في الرواية احتمال ثالث، و هو كون المال المدفوع إلى السائل مجهول المالك حراما على دافعه حلالا على مستحقّه، من باب أنّه مال الإمام فأباحة على السائل، أو من باب أنّ مصرفه الصدقة و السائل مستحقّ له. و هو أقرب ما يحتمل في مورد الرواية، و تعليلها بأنّ «لك المهنّأ و عليه الوزر». و لكن احتماله أيضا مسقط للاستدلال به على إباحة مطلق جوائز الظالم، و لو اشتبهت بالحرام من باب الشبهة المحصورة بالنسبة إلى مطلق الناس، و لو لم يستحقّ الصدقة المجهولة المالك و لم يأذن له الإمام، كما هو محلّ الكلام.

قوله: «ثمّ لو فرض نصّ مطلق في حلّ هذه الشبهة، مع قطع النظر عن التصرّف و عدم الابتلاء بكلا المشتبهين، لم ينهض للحكومة على قاعدة الاحتياط في الشبهة المحصورة، كما لا ينهض ما تقدّم».

أقول: أمّا عدم نهوض ما تقدّم من قوله عليه السّلام: «كلّ شي ء حلال» (1) فلأنّه معارض صرف على وجه المناقضة و طرف النقيض من قاعدة الاحتياط في الشبهة المحصورة، فلا يقدّم عليها.

و أمّا عدم نهوض النصّ المطلق في حلّ خصوص جوائز الظالم فممنوع، لأنّه فرد خاصّ يمكن خروجه عن عموم قاعدة الاحتياط في كلّي الشبهة المحصورة بالنصّ المخرج، كما نصّ به المسالك فيما تقدّم (2).

نعم، لو فرض النصّ المطلق مطلقا بالنسبة إلى أفراد الشبهة المحصورة


1- الوسائل 12: 60 ب (4) من أبواب ما يكتسب به ح 4.
2- في ص: 287.

ص: 289

لا خصوص أفراد الجوائز، لم ينهض للحكومة على قاعدة الاحتياط في الشبهة المحصورة، كما لا ينهض ما تقدّم لما تقدّم.

قوله: «هذه الخدشة غير مسموعة عند الأصحاب، فإنّهم لا يعتبرون في الحمل على الصحيح احتمال تورّع المتصرّف عن التصرّف الحرام .. إلخ».

أقول: في إطلاقه منع، فإنّ ما لا يعتبر في مجراه غلبة الصحّة هو الصحّة عند الفاعل، كما هو مورد عموم نصوص: «احمل فعل أخيك على أحسنه .. إلخ» (1).

و أمّا الصحّة عند الحامل فممّن أنكرها القمّي (2) في الصحيح و الأعمّ، و من اعتبرها فإنّما يعتبرها من باب غلبة الصحّة في أفعال المسلم. فإذا اتّفقت الغلبة أو عورضت بغلبة الفساد و عدم المبالاة في أفعاله لم يحمل على الصحّة الحامليّة، و إن حملت على الصحّة عند الفاعل تعبّدا.

قوله: «فلا يحمل على الصحيح الواقعيّ. فتأمّل».

[أقول:] إشارة إلى أنّ فساد تصرّف الظالم المجيز في كلّ من أطراف الشبهة المحصورة التي تحت يده في ظاهر الشرع، إذا منع من حمله على الصحيح الواقعي و مصادفة الواقع قهرا، كذلك يمنع المجاز من الحمل عليه.

قوله: «و لا يخفى عدم تماميّتها».

[أقول:] و ذلك لأنّ عدم القدرة على ردّ العين المغصوبة لا يسقط ضمان المثل أو القيمة، و عدم المعرفة بصاحبها لا يسقط ضمان التخميس أو التصدّق عن صاحبها.

قوله: «بقرينة الاستهلاك. فتأمّل».

[أقول:] إشارة إلى أن كلّا من الظلمة و أموالهم المحرّمة محصورة لا غير


1- الوسائل 8: 614 ب «161» من أبواب أحكام العشرة ح 3.
2- قوانين الأصول 1: 51.

ص: 290

محصورة.

قوله: «نعم يسقط بإعلام صاحبه به».

أقول: و إن كانت النسخ الموجودة عندي هكذا إلّا أنّ الظاهر كونها غلطا، و الصحيح: يسقط بإسقاط صاحبه. كما أنّ قوله: «أو مع الوضع (1) تنزيلا له منزلة اللقطة» أيضا كذلك غلط ينبغي تصحيحه بتبديل «أو مع الوصف» فإنّ الأقوال في قبول دعوى اللقطة هي قبول قوله مطلقا، أو مع الوصف مطلقا، كما في إطلاق بعض النصوص (2)، أو مع الأوصاف الخفيّة الموجبة لظنّ صدقه، كما عن بعض، أولا يصدّق إلّا مع البيّنة العادلة، كما عن بعض.

قوله: «و يشكل بظهور النصّ في تعيين التصدّق .. إلخ».

أقول: و يرفع الإشكال بأظهريّة حكومة أدلّة أولويّة ولاية الإمام عليه السّلام على أنفسهم و أموالهم (3) في تعيين الرجوع إلى الحاكم، و عدم التخيير بينه و بين الصدقة، و عدم الولاية لكلّ منهما، فضلا عن تعيين التصدّق، ضرورة أنّ عموم ولاية الإمام عليه السّلام في عرض ولاية اللّٰه لا يوازيه و لا يشاركه ولاية أحد من الأولياء، حتّى الملائكة و روح القدس، و حتّى الرسل المصطفين من الملائك الأربع، محكومين بحكمه و مؤتمرين بأمره، عِبٰادٌ مُكْرَمُونَ لٰا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَ هُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ (4). فإذا كانت ولاية سائر الأولياء بأسرها في طول ولايته لا في عرضها، فكيف يقدّم عليها ولاية القابض مجهول المالك مع الشكّ في أصل ولايته الطوليّة أيضا المنفيّة بالأصل، فضلا عن العرضيّة المنفيّة بضرورة الدين؟!


1- في المكاسب: الوصف.
2- الوسائل 17: 356 ب (6) من أبواب اللقطة ح 1.
3- الوسائل 6: 334 ب «51» من أبواب الصدقة ح 1.
4- الأنبياء: 26- 27.

ص: 291

و حينئذ فيتعيّن حمل نصوص الأمر له بالتصدّق (1) على الإذن لخصوص المأذون له، دون الإذن العامّ لغيره بالتصرّف، أو بيان المصرف لا إثبات ولاية المتصرّف، كما يشهد عليه صريح خبر داود المتقدّمة عن الصادق عليه السّلام: «و اللّٰه ما له صاحب غيري، فاذهب و قسّمه بين إخوانك» (2)، و يشهد عليه صريح سائر النصوص (3) المتواترة في تعميم مال الإمام لجميع ما في الأرض و ما فيها و ما عليها و ما سقت و ما أسقت، و عدم انحصاره في الأنفال و الخمس، و أسرار حكمة مطهّريّة الخمس للمال المختلط بالحرام و للجوائز المشبهة بالحرام.

و يتفرّع على ذلك الخلاف في كون القابض المجهول المالك هل له ولاية التصدّق به، أو يتعيّن الرجوع فيه إلى الحاكم؟ و في أنّ مصرفه مصرف الخمس أو الزكاة؟ و في ضمان المتصدّق و عدمه لو ظهر المالك و لم يجز التصدّق؟

قوله: «مع أنّ كونها من المالك غير معلوم، فلعلّها ممّن تجب عليه».

أقول: بل الأصحّ كونها من المالك الحقيقي و هو الإمام كما عرفت، إلّا أنّه خلاف استصحاب بقائه على ملك مالكه المجازي، و ضمان المتصدّق باللقطة و وديعة اللصّ.

قوله: «إلّا أن يقال: إنّه ضامن بمجرّد التصدّق، و يرتفع بإجازته. فتأمّل».

[أقول:] إشارة إلى أنّ لازمة الذي تضمين المتصدّق فيما لم يظهر المجيز، أو تضمين الفقير مع بقاء العين، بل و تضمين نمائه المتجدّد قبل الإجارة مطلقا و لو


1- الوسائل 12: 144 ب «47» من أبواب ما يكتسب به ح 1، و ص 484 ب «16» من أبواب الصرف ح 1 و 2، و ج 13: 303 ب (6) من أبواب أحكام الوقوف و الصدقات ح 1، و ج 17: 585 ب (6) من أبواب ميراث الخنثى ح 11، و ص 357 ب (7) من أبواب اللقطة ح 2.
2- الوسائل 17: 357 ب (7) من أبواب اللقطة ح 1.
3- الكافي 1: 407 باب «انّ الأرض كلّها للإمام عليه السلام».

ص: 292

أجاز، ممّا لم يلتزم به أحد، و لم يف به دليل ضمان اللقطة الذي هو الأصل لما نحن فيه، سيّما على ما عرفت من كون مجهول المالك من في ء الإمام عليه السّلام الخاصّ به، لا ملك صاحبه.

قوله: «لكن يستفاد منه أنّ الصدقة بهذا الوجه حكم اليأس عن المالك».

[أقول:] أي: لا يحكم اللقطة في لزوم التعريف إلى سنة.

قوله: «و باعتبار نفس المال إلى المحرّم و المكروه و الواجب».

أقول: بل و المباح و الحلال المعيّن بحيازة أو تجارة أو وراثة لا مانع منه.

قوله: «بل يجوز ذلك لآحاد الناس، خصوصا نفس المستحقّين .. إلخ».

أقول: أمّا وجوبه على الحاكم فمن باب عموم الولاية الشرعيّة. و أمّا جوازه على المستحقّين فمن باب التقاصّ و استنقاذ حقوقهم. أو أمّا على غيرهم فمن باب الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر. فتأمّل. فإنّ المقاصّة لغير الحاكم إنّما يجوز في الحقوق الشخصيّة لا النوعيّة، بل في التوصّليّة المحضة من حقوق الناس، لا العبادات، على أنّ فتح باب المقاصّة للعوام بدون إذن الحاكم- كما تداوله السواد في بعض البلاد- مثار للفساد و العناد، و رفع الوداد بين العباد، و نقض غرض الشارع في الأحكام، و هتك الإسلام بإيثار الفتنة و الاتّهام.

قوله: «فالتمسّك بالسيرة المذكورة أوهن من دعوى الانصراف السابقة».

أقول: بل لا تقصر هذه السيرة عن سيرة الجبابرة و الملوك خلفا عن سلف على سفك الدماء، و قتل الأنبياء، و استيصال الأوصياء، و استحلال الظلم و الجور و أموال المسلمين، و وضع الجزية على رقاب المسلمين و أموالهم، باسم الخراج و الجمرك و التذكرة و حقّ المرور و حقّ السلطان، و ترك الجهاد و الجمعة و الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر، و مداهنة الظلمة و الكفّار، و موالاتهم و مسايرتهم و مشابهتهم في المأكل و المشرب و الألبسة و الصورة و السيرة، إلى غير ذلك من

ص: 293

المحرّمات الضروريّة المخالفة لمحكمات الكتاب و السنّة و الإجماع و العقل.

كما لا تقصر دعوى انصراف الدّين عن تركة الظالم عن دعوى انصراف قبح الظلم و حرمته- فيما يقرب من خمسمائة آية محكمة و رواية متواترة- إلى خصوص ظلم العترة الطاهرة من المخالفين في الدين، دون ظلم غيرهم، مع أنّ قبح الظلم و حرمته من مستقلّات العقل الآبية عن التخصيص، و شأن نزول الآيات إنّما كان قبل حدوث الظلم على العترة، فكيف تنصرف إليه مع أنّ أكثرها عمومات؟! و ما هو إلّا شبهة في مقابل ضرورة الدين، و زخرف من زخارف وحي الشياطين.

[الثالثة ما يأخذه السلطان المستحل لأخذ الخراج و المقاسمة من الأراضي باسمها]

قوله: «و يمكن أن يكون مستنده أنّ ذلك حقّ للأئمّة .. إلخ».

أقول: بل المتيقّن المعيّن بالسبر و التقسيم كون المستند ذلك لا غير، لأنّه لو لم يكن حقّا لهم لكان حقّا لمالكه أو لمستحقّه، و على كلّ من التقديرين لا يستحلّ لثالث، خصوصا بعد فرض حرمته على الجائر المستحلّ أخذه بالتراضي، فضلا عن غيره.

قوله: «و الأولى أن يقال: إذا انضمّ إليه إذن متولّي الملك».

أقول: هذه الأولويّة ممنوعة، بل ممتنعة عقلا و نقلا، كتابا (1) و سنّة (2). أمّا عقلا فلأنّ ولاية الإمام و سلطنته ليست كسلطنة الناس على أموالهم حتّى يوجب نقلها إلى الغير نقصا في الناقل، بل هي رئاسة إلهيّة كلّية عامّة تامّة كسائر شئون المبدأ الفيّاض، من الوجود و العلم و القدرة و الحياة التي أفيضت إلى الممكنات، من غير أن ينقص المبدأ الفيّاض بالإفاضة، بل يمتنع النقص في شأنه بالإفاضة و العليّة و إن لم تنته الإفاضات و المعلولات تعالى شأنه، و ليست كسلطنة الناس


1- الأحزاب: 6.
2- بصائر الدرجات: 200 ح 2، البحار 39: 343 ح 15.

ص: 294

في قابليّة النقل و الانتقال مع العزل و الانعزال و النقص و الانفعال، كما لا يخفى على العارف بأصول المعارف.

قوله: «إذ ليس بحلال ما أخذه الجائر. فتأمّل».

[أقول:] إشارة إلى أنّ حرمة المأخوذ على الجائر و عدم حلّيته عليه لا يستلزم حرمته و عدم حلّيته على الآخذ منه بشراء و غيره، بعد ترخيص من هو المالك الحقيقيّ له و أولى بالمؤمنين من أنفسهم و أموالهم.

قوله: «الخبر» (1).

[أقول:] بضمّ الخاء المعجمة و سكون الباء الموحّدة- كالخبرة-: النصف.

و المخابرة المزارعة على نصيب معيّن من الثلث و الربع. و أصله من خيبر، خابرهم- أي: عاملهم- في خيبر، أو من خبار الأرض.

قوله: «في الحديث ثمّ أؤاجرها من أكرتي .. كذلك أعامل أكرتي» (2).

[أقول:] الأكرة بالضمّ الحفرة، و أكرت النهر: شققته. و بالتحريك جمع أكرة بالفتح، بمعنى الزارع و الزرّاع لصاحب الأرض بنصف الحاصل، على ما في القاموس (3)، و هو المراد به في الحديث.

قوله: «و لعلّه من الأملاك المغصوبة من الإمام».

أقول: و ممّا يعيّن ذلك- مضافا إلى أنّ مجرّد الاحتمال مبطل للاستدلال- أن اشتراء الغير لا يسوّغ حلّية شراء السائل بقوله عليه السّلام: «قل له: يشتره، فإن لم يشتره اشتراه غيره» (4)، إلّا إذا فرض أنّ التعليل به ليس تعليلا كلّية لحلّية الشراء، بل علّة لتحليل الإمام عليه السّلام على بعض مواليه، لمّا رأى غيره يشتريه رضي منه بأقلّ


1- الوسائل 13: 214 ب «18» من أبواب أحكام المزارعة ح 3.
2- الوسائل 13: 208 ب «15» من أبواب أحكام المزارعة ح 3.
3- القاموس المحيط 4: 382.
4- الوسائل 12: 162 ب «53» من أبواب ما يكتسب به ح 1.

ص: 295

الضررين إذا استلزم تركه أعظم ما في البين، فإنّ المغصوب منه إذا رأى دوران الأمر بين صرف الغاصب المغصوب على عدوّه أو وليّه رضي بصرفه على وليّه.

[و ينبغي التنبيه على أمور]

قوله: «لكن الوجه في تخصيص العلماء العنوان به جعله كالمستثنى من جوائز السلطان، التي حكموا بوجوب ردّها على مالكها إذا علمت حراما بعينها. فافهم».

[أقول:] إشارة إلى تقوية توجيه تخصيص العلماء العنوان به، بأنّه لأجل اتّباع تخصيص أسأله النصوص بخصوص المأخوذ، و بأنّ إثبات الشي ء لا ينفي ما عداه، سيّما بضميمة ترك الاستفصال في أجوبة السؤال. لكن مقتضى مفهوم الشرط في جواب صحيحة الحذّاء بقوله: «إن كان قد أخذها و عزلها فلا بأس» (1) تخصيص نفي البأس بالمأخوذ بعد الأخذ و القبض، و ثبوت البأس في غيره. كما يشهد عليه النهي عن بيع ما لم يقبض، خصوصا ما يستلزم الإعانة المحرّمة على قبول التولّي من قبل الجائر، و لو في خصوص أخذه الخراج المحرّم عليه أو الأخذ بأمره.

فمقتضى قاعدة الجمع مهما أمكن أولى من الطرح التفصيل في المسألة، بحمل النصوص (2) المسوّغة لشراء ما لم يؤخذ على ما لا يستلزم الإعانة للجائر على الأخذ المحرّم، و حمل النصوص المانعة منه على ما يستلزم الإعانة (3)، كما يشهد عليه قوله عليه السّلام: «لو لا أن بني أميّة وجدوا من يجبي لهم الصدقات و يشهد جماعتهم ما سلبوا حقّنا» (4)، و فحوى قوله عليه السّلام في مقبولة ابن حنظلة: «ما يحكم له الجائر فإنّما يأخذه سحتا، و إن كان حقّا ثابتا، لأنّه أخذه بحكم الطاغوت، و إنّما


1- الوسائل 12: 161 ب «52» من أبواب ما يكتسب به ح 5.
2- الوسائل 12: 161 ب «52» من أبواب ما يكتسب به.
3- الوسائل 12: 144 ب «47» من أبواب ما يكتسب به ح 1.
4- الوسائل 12: 144 ب «47» من أبواب ما يكتسب به ح 1.

ص: 296

أمروا أن يكفروا به» (1).

قوله: «و قد ضعّف في محلّه بمنع هذا الحكم، و مخالفته لاتّفاق الأصحاب».

أقول: منع الحكم و مخالفته الاتّفاق ممنوع بعد استظهاره الحدائق (2)، و ظهوره من جميع نقلة الأخبار الصريحة الأخر بغير نكير، فإنّه ظاهر في القبول و التسليم لها، و لا معارض لها نصّا و لا فتوى سوى ما يوهمه من سيرة عليّ عليه السّلام في أهل البصرة حتّى أمر بردّ أموالهم، حتّى القدر كفاها صاحبها لمّا عرفها (3).

و لكن يدفع هذا الوهم تصريح النصوص (4) و الفتاوى بأنّ ردّها كان على طريق المنّ لا الاستحقاق، كما منّ النبيّ صلى اللّٰه عليه و آله على المشركين في فتح مكّة (5).

قوله: «و أمّا الأمر بإخراج الخمس في هذه الرواية (6) فلعلّه من جهة اختلاط مال المقاسمة بغيره».

أقول: بل الأظهر أنّه من جهة اتّفاق النصوص (7) و الفتوى على أنّ الخراج من جملة الغنائم و وجوه المال الخاصّ خمسها بالإمام.

قوله: «ما ذكره من جواز الوقف لا يناسب ذكره في جملة التصرّفات فيما يأخذه الجائر».

أقول: و ذلك لأنّ الوقف متعلّق بالأعيان، و تصرّف الجائر فيما يأخذه متعلّق بمنافع الأرض. و فيه: أنّه قد يتعلّق بإبل الصدقات.


1- الوسائل 18: 98 ب (11) من أبواب صفات القاضي ح 1.
2- الحدائق الناضرة 18: 270.
3- السنن الكبرى 8: 182- 183، تلخيص الحبير 4: 47.
4- الوسائل 11: 56 ب «25» من أبواب جهاد النفس و ما يناسبه.
5- الوسائل 11: 58 ب «25» من أبواب جهاد النفس و ما يناسبه ح 6.
6- الوسائل 12: 161 ب «52» من أبواب ما يكتسب به ح 2.
7- الوسائل 6: 364 ب «1» من أبواب الأنفال و ما يختص بالإمام.

ص: 297

قوله: «و إن أراد وقف الأرض المأخوذة منه إذا نقلها إليه لبعض مصالح المسلمين، فلا يخلو عن إشكال».

[أقول:] وجه الإشكال: أنّ الأراضي المفتوحة لا تملك بالأصالة، سيّما بتمليك الجائر، و لا وقف إلّا في ملك، غاية الأمر إباحة الإمام على مواليه تقبيلها أو أخذها من الجائر لأجل الانتفاع بزرعها و محصولها.

و يدفعه إجازة المالك الحقيقي أنواع الوقف في الأراضي الخراجيّة، من المساجد و القناطر و الرباط و المقابر و القناطر و العيون و الآبار و الأنهار و الأشجار.

قوله: «ما دلّت عليه النصوص و الفتاوى كفاية إذن الجائر في حلّ الخراج، و كون تصرّفه بالإعطاء و المعاوضة و الإسقاط و غير ذلك نافذا».

[أقول:] و فيه: ما عرفت من أنّ ذلك مقتضى الجمود على صرف ظواهر بعض فتاوى مثل الشهيدين (1) و الكركي (2) لا غير، و أمّا نصوص الباب (3) المقرونة بالكتاب عند أولي الألباب، سيّما تعليله حلّ الخراج بقوله: «لك المهنّأ و عليه الوزر» (4)، و صحيحة زرارة المتقدّمة قال عليه السّلام: «هو له، قلت: إنه أدّاها، فعضّ على إصبعه» (5) في (6) عدم كفاية إذن الجائر في حلّ الخراج لو لا إذن الامام، و أن تصرّف الجائر بالإعطاء و المعاوضة و الإسقاط و غير ذلك وزر حرام و غصب و ظلم.

مضافا إلى أن من المعلوم بضرورة الدين أنّ الأراضي الخراجيّة حقّ


1- الدروس الشرعية 3: 169، مسالك الأفهام 3: 143.
2- قاطعة اللجاج «رسائل المحقق الكركي» 1: 285.
3- الوسائل 12: 161 ب «52» من أبواب ما يكتسب به.
4- الوسائل 12: 156 ب «51» من أبواب ما يكتسب به ح 1.
5- في هامش (6) ص: 296.
6- جملة: «في عدم كفاية ..» في قوّة جواب «و أمّا نصوص ..» قبل سطرين، أي: فهي دالّة على عدم ..

ص: 298

ملكيّتها أو توليتها خاصّ مختصّ من حقوق الإمام عليه السّلام المغصوبة للظلّام، فكيف ينفذ الملك العلّام إذنهم و تصرّفاتهم الغصبيّة المنافية للعدل و العدالة و المصلحة و الحكمة، و قاعدة اللطف الواجب على الحكيم من تقريب العباد إلى الطاعة و تبعيدهم عن المعصية؟ و هل هو إلّا تهافت و تناقض مناف لشواهد الحال و المقال من أحكام ذي الجلال و الملك المتعال؟! تعالى اللّٰه عمّا يقول الظالمون علوّا كبيرا. كيف و قد قال: «ليس لعرق ظالم حقّ» (1).

و في موثّقة سماعة: «سألت الصادق عليه السّلام عن رجل أصاب مالا من عمّال بني أميّة، و هو يتصدّق منه و يصل قرابته و يحجّ ليغفر اللّٰه ما اكتسب، و يقول: إِنَّ الْحَسَنٰاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئٰاتِ، فقال عليه السّلام: إنّ الخطيئة لا تكفّر الخطيئة، و إن الحسنة تحطّ الخطيئة» (2). و هو صريح في أنّ تصرّفات الجائر في الأموال الخراجيّة حتّى صدقاتهم غير صحيحة، بل هي خطيئة فوق خطيئة، مع ظهور كون العامل المتصدّق من مواليهم المقرّ بكون الاكتساب من الجائر سيّئة، فكيف بغيره المستحلّ له؟! و فحوى قوله عليه السّلام: «و لو أنّ رجلا قام ليله و صام نهاره و حجّ دهره و تصدّق بجميع ماله، و لم يعرف ولاية وليّ اللّٰه فيكون أعماله بدلالته فيواليه، ما كان له على اللّٰه ثواب» (3). فمن لم يقبل عباداته سيّما التصدّق بجميع ما له المملوك له بغير توسّط دلالة وليّ اللّٰه و إذنه عليه السّلام، كيف يصحّ و ينفذ تصرّفاته الظلميّة العدوانيّة في أموال المسلمين و أنفسهم، المفضية إلى التجرّي و الاستحلال و الكفر و الضلال و انتهاك حرمة ذي الجلال بسوء الفعال و الأعمال؟! و فحوى قوله عليه السّلام في باب ما أوله الزاء في المجمع: «لو أنّ غير وليّ


1- عوالي اللئالي 2: 257 ح 6.
2- الوسائل 8: 104 ب «52» من أبواب وجوب الحج ح 9.
3- الكافي 2: 19 ح 5.

ص: 299

عليّ عليه السّلام أتى الفرات و قد أشرف ماؤه على جنبيه و يزخّ زخّا، فتناول بكفّه و قال:

بسم اللّٰه، فلمّا فرغ قال: الحمد للّٰه، كان دما مسفوحا أو لحم خنزير» (1). فإذا حرم على غير موالي عليّ عليه السّلام شربة ماء البحر المباح كحرمة الخنزير و الدم المسفوح، فكيف ينفذ تصرّفاته العدوانيّة فيما لا يستحقّه من أموال المسلمين؟! نعم، إنّما أحلّها الإمام عليه السّلام بالإذن الخاصّ أو العامّ لبعض شيعته من باب الإذن و الرضا بأقلّ الضررين، لمّا استلزم تركه أعظم ما في البين، من صرفه بعد الغصب على أعدائه و قتل أوليائه، و على شرب الخمور و التجاهر بالفجور، و تشييد أركان ظلمهم و سلطان جورهم.

فتبيّن من ذلك عدم جواز الاكتفاء بإذن الظالم الغاصب، و لا جواز دفع الخراج إليه اختيارا، بل يجب مهما أمكن دفعه إلى وليّ الأمر أو نائبه، و لو بخفية أو سرقة أو غيلة، كما عرفت تصريح نصوص الإمام و فتاوى جملة من الأعلام.

قوله: «المستفاد من الأخبار الإذن العامّ من الأئمّة .. إلخ».

أقول: الأخبار المتقدّمة في حلّ الجوائز و شراء الخراج ليس فيها إلّا الإذن الخاصّ لشخص خاصّ من مواليه، فلا يتعدّى إلى غيرهم، اقتصارا فيما خالف الأصل على المتيقّن. إلّا أن يستفاد عموم الإذن من عموم المستفيضة: «ما كان لنا فهو لشيعتنا» (2)، و إن خصّصت في النصوص الأخر بالأطيبين من شيعتنا (3)، و بالمناكح و المتاجر و المساكن، كما لا يخفى.

قوله: «الحكم مع حضور الإمام مراجعته أو مراجعة الجائر مع التمكّن- إلى قوله- إذ ولاية الجائر إنّما يثبت على من دخل في قسم رعيّته حتّى يكون في سلطانه».


1- مجمع البحرين 2: 432.
2- الوسائل 6: 384 ب (4) من أبواب الأنفال ح 17.
3- الوسائل 6: 378 ب (4) من أبواب الأنفال و ما يختصّ بالإمام.

ص: 300

أقول: فيه ما عرفت من أنّه أمّا على مذهب العامّة فالمرجعيّة و الولاية خاصّة بالجائر لا غير، كما أنّه على مذهب الخاصّة العدليّة بالعكس خاصّة بالإمام عليه السّلام لا غير، فإثبات المرجعيّة و الولاية لكلّ منهما جمع بين الضدّين، و شرك في البين، و خروج عن الفرقين، قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمىٰ وَ الْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمٰاتُ وَ النُّورُ (1)، أَ فَمَنْ كٰانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كٰانَ فٰاسِقاً ..» (2)

الآية.

قوله: «و هذا الدليل و إن كان فيه ما لا يخفى من الخلل».

[أقول:] و ذلك لأنّ غصب غير مستحقّ مال لا يسوّغ شراءه لغير مستحقّ آخر الذي هو المدّعى، لو لا إذن صاحبه الحقيقي في شرائه.

قوله: «لأنّ الشبهة الخاصّة إن كانت عن سبب صحيح .. إلخ».

[أقول:] فيه أوّلا: أنّ الشبهة الخاصّة إن أوجبت الحلّية للجائر أوجبتها الشبهة العامّة أيضا.

و ثانيا: فرض الصحّة في شبهة استحلال ما يستقلّ العقل بقبحه من الظلم فرض محال لا يوجب المعذوريّة فضلا عن الحلّية، إلّا على ما توهّم في الأصول من حجّية قطع القطّاع بالنسبة إلى نفسه، المدفوع بأنّ غايته المعذوريّة لا الحجّية، في خصوص القاصر لا المقصّر أيضا.

قوله: «و قد تمسّك في ذلك بعض بنفي السبيل للكافر على المؤمن.

فتأمّل».

[أقول:] إشارة إلى أنّ المنفيّ بجعل اللّٰه إنّما هو سبيل الحقّ و الحجّة البالغة، و أمّا سبيل الباطل و الحجّة الداحضة بسوء الاختيار فلم ينف عن الكفّار.


1- الرعد: 16.
2- السجدة: 18.

ص: 301

أو إشارة إلى أنّ شبهة الاستحقاق في الكافر أشدّ منها في سلطان المخالف، و فيه أشدّ منها في سلطان الموافق، فلو كانت شبهة الاستحقاق توجب ولاية الاستحقاق و إمضاء ولاية المشتبه لأوجبته في الكافر بالأولويّة، لأقوائيّة الشبهة فيه، كيف و من المعلوم أنّ شبهة استحقاق الظلم و استحلال أموال المسلمين مخالف لضرورة الدين، و مزيد للعلّة، و مخالف للعقول المستقلّة، و ضرورة الإسلام و الملّة، فكيف يوجب إمضاء الشبهة و الزلّة، و يكون فارقا بين مستحلّ الخراج و غيره في حلّيته أخذه ممّن استحلّه دون من لم يستحله؟! فعلم أنّ شبهة الاستحلال غير محلّل و لا فارق، و إنّما الفارق المحلّل ليس إلّا إذن من له الإذن و الولاية الحقّة. و على تقدير حصولها عموما أو خصوصا فلا فرق في حلّ أخذه من ظالمي العامّة أو الخاصّة أو الكفرة، كما يشهد به عموم تعليل الحلّ بقوله: «لك المهنّأ، و عليه الوزر» (1) و قوله: «اشتره فإنّك إن لم تشتره اشتراه غيرك» (2).

قوله: «المضي فيما نحن فيه تصرّف الجائر في تلك الأراضي مطلقا».

[أقول:] فيه: ما عرفت من تعليل نصوص حلّ أخذ الخراج من الظالم (3) أن الممضى إنّما هو أخذ الموالي الخراج من الظالم مطلق، لا العكس، أعني: أخذ الظالم مطلقا من الموالي.

قوله: «مع أنّ أصالة الصحّة لا يثبت الموضوع، و هو كون الأرض خراجيّة».

[أقول:] و فيه: أنّ ما لا يثبته هو أصالة الصحّة عند الفاعل الذي هو أصل


1- الوسائل 12: 156 ب «51» من أبواب ما يكتسب به ح 1.
2- الوسائل 12: 162 ب «53» من أبواب ما يكتسب به ح 1.
3- الوسائل 12: 161 ب «52» من أبواب ما يكتسب به.

ص: 302

من الأصول العمليّة، و مضمون: «ضع فعل أخيك على أحسنه» (1). و أمّا أصالة الصحّة عند الحامل الذي هو من الأمارات المستندة إلى الغلبة، على تقدير جريانه و عدم معارضته بغلبة الفساد أحيانا، فيثبت موضوع الخراجيّة.

قوله: «يمكن الاكتفاء عن إذن الإمام عليه السّلام المنصوص في مرسلة الورّاق (2) بالعلم بشاهد الحال برضا أمير المؤمنين و سائر الأئمّة بالفتوحات الإسلاميّة، الموجبة لتأيّد هذا الدين، و قد ورد أنّ اللّٰه يؤيّد هذا الدين [بالرجل الفاجر و] (3) بأقوام لا خلال لهم منه» (4).

أقول: شاهد حال الإمام عليه السّلام إنّما هو على الرضا بالغايات المترتّبة على غزواتهم من فتوحات الإسلام المطلوبة على وجه التعدّد المطلوبي، و هو لا يقتضي الرضا بالمقدّمات الموصلة إليها مطلقا و بأيّ وجه اتّفق، فإنّ إقامة شعائر الإسلام و إيتاء ذي القربى و الإمام عليه السّلام و إراقة الدماء و إطعام الطعام مطلوب، و مع ذلك قال تعالى لٰا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلّٰا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ (5). وَ أْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوٰابِهٰا (6). وَ لَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهٰا (7). و لَنْ يَنٰالَ اللّٰهَ لُحُومُهٰا وَ لٰا دِمٰاؤُهٰا وَ لٰكِنْ يَنٰالُهُ التَّقْوىٰ (8). إِنَّمٰا يَتَقَبَّلُ اللّٰهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (9). و قوله عليه السّلام: «ما أكثر الضجيج و أقلّ الحجيج» (10). و قوله عليه السّلام: «إنّ اللّٰه


1- الوسائل 8: 614 ب «161» من أبواب أحكام العشرة ح 3.
2- الوسائل 6: 369 ب «1» من أبواب الأنفال ح 16.
3- ما بين المعقوفتين لم يرد في المكاسب.
4- الوسائل 11: 28 ب «9» من أبواب جهاد العدو ح 1.
5- الأحزاب: 53.
6- البقرة: 189.
7- البقرة: 189.
8- الحج: 37.
9- المائدة: 27.
10- بصائر الدرجات: 358 ح 15، البحار 27: 181 ح 30.

ص: 303

يؤيّد هذا الدين بالرجل الفاجر، و بأقوام لا خلاق لهم منه» (1) إلى غير ذلك من الغايات المطلوبة التي مبادئها مشوبة و غير مرغوبة.

و كذلك خبر الخصال المتقدّم: «كان يشاورني في موارد الأمور فيصدرها عن أمري» (2) لا يستلزم إذنه لهم بالغزوات على الوجه المجزي في العبادات، بجعل الغزوة جهادا و شهادة، و القتل فيها فوزا و سعادة، و خمس غنائمه للسادة، بل كانت مشاورته و ائتماره على وجه الخفاء و الإباء، و الرياء و الإغراء، و الحيلة و الشقاء، و الغدر و الجفاء، و متابعة الهوى و مخالفة الهدى، لا على وجه الطاعة و الوفاء، و القربة و الولاء، و متابعة المولى.

و على ذلك فيقرب في النظر و إن خالف الأكثر أن يكون جميع فتوحات الإسلام بعد النبيّ صلى اللّٰه عليه و آله بحكم الفي ء و الأنفال، الخاصّة بالإمام عليه السّلام على وجه التمام، لعدم ثبوت صدورها عن إذنه الخاصّ أو العامّ بوجه العلم و الإعلام. فاعتبروا يا اولي الأفهام، و اكشفوا عنكم اللثام، و اغتنموا حقّ الاغتنام في معرفة الإمام، فقد تمّ الكلام في هذا المقام.

قوله: «معارض بالعموم من وجه لمرسلة الورّاق» (3).

أقول: أعميّة المرسلة مبنيّة على أعميّة الغزو بغير إذن الإمام للغزو بغير السيف، و هو ممنوع جدّا، خصوصا في الغزو المضاف إلى القوم، فإنّه خاصّ عرفا بخصوص المأخوذ بالقهر و السيف لا الغيلة و الحيلة و السرقة، فيخصّص عمومات: «ما أخذ بالسيف فهو للمسلمين» (4) و


1- الوسائل 11: 28 ب (9) من أبواب جهاد العدو ح 1.
2- الخصال: 374 ح 58، و لكن لم يتقدّم منه «قدّس سرّه».
3- الوسائل 6: 369 ب «1» من أبواب الأنفال و ما يختصّ بالإمام ح 16.
4- انظر الوسائل 11: 119 ب «72» من أبواب جهاد العدو، و ج 12: 273 ب «21» من أبواب عقد البيع و شروطه.

ص: 304

أَنَّمٰا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْ ءٍ فَأَنَّ لِلّٰهِ خُمُسَهُ وَ لِلرَّسُولِ (1).

مضافا إلى معارضة هذه العمومات بما هو أكثر و أشهر و أظهر و أصحّ و أصرح، و أبعد من التقيّة و المعصية، و أقرب إلى الطاعة و الحكمة، و معرفة الإمامة و الولاية الكلّية التامّة في نصوص الكتاب (2) و السنّة، من أنّ الأنهار الثمانية و الأرض و ما فيها و عليها و ما سقت و ما أسقت كلّها لنا، و ما كان لنا فهو لشيعتنا، و ليس لعدوّنا منه شي ء، و أنّ شيعتنا لأوسع ما بين السماء و الأرض (3).


1- الأنفال: 41.
2- الأحزاب: 6.
3- الوسائل 6: 384 ب (4) من أبواب الأنفال و ما يختصّ بالإمام ح 17.

ص: 305

كتاب البيع

اشارة

ص: 306

ص: 307

[تقريظ]

بسم اللّٰه الرّحمن الرّحيم و به نستعين الحمد للّٰه ربّ العالمين، و صلّى اللّٰه على محمد و آله الطاهرين، و لعنة اللّٰه على أعدائهم أجمعين إلى يوم الدين.

اللّٰهم وفّقني لإلهام الحقّ و الصواب، في إعلاء شأن مصنّف هذا الكتاب.

و من بركات النجف الأشرف- على مشرّفه آلاف التحية- أنّه قد برز في هذا الدهر بالرياضات الشاقّة و مجالسة حذّاق العصر، من جملة السادة العلماء المعاصرين: سيّدي الورع الربّاني، و مولاي العالم الفاضل الصمداني، المنزّه من كلّ سوء و شين، جناب الآقا السيّد عبد الحسين، أدام اللّٰه أيّام إفاداته على الخواصّ و العوام، و نفع بوجوده الشريف جميع من في هذه الأيّام.

و لعمري انّه سفينة مشحونة بالفقه و التقوى، و طريق يسلك فيه شعائر العلم و الهدى، من التزم به فقد نجا و لحق، و من عانده أو تخلّف عنه فقد مرق و زهق.

فقد فاز بالقوّة القدسية غاية المراد، و تحلّى بحلية العلم و مطلق الاجتهاد. فيكون مرجع الأحكام، و ملاذ الخاصّ و العامّ، و حريّا بوجوه الاحترام.

صانه اللّٰه سبحانه و إيّاي عن حوادث الأيّام. حرّره الجاني الأخير. لطف اللّٰه المازندراني.

ص: 308

بسم اللّٰه الرّحمن الرّحيم و الحمد للّٰه بجميع محامده كلّها على جميع نعمه، حمدا حقّ حمده، حمدا يدوم بدوامه، و الصلاة و السلام على محمد و آله.

[حقيقة البيع]

و بعد: فهذه تعليقات رشيقة، و مشارب رحيقة على كتاب البيع من مكاسب أستاذ أساتيذنا الأعلام طاب ثراه.

قوله: «الحقّ سلطنة فعليّة لا يعقل قيام طرفيها بشخص واحد، بخلاف الملك».

أقول: فيه: أوّلا: منع الفرق بين السلطنتين، إلّا في كون الحقّ سلطنة فعليّة و الملك سلطنة ماليّة، و هو غير فارق من حيث القابليّة للنقل و الانتقال من غير إشكال. فكما لا مانع من انتقال حقّ الخيار بالموت إلى الوارث كذلك لا مانع من انتقاله بالصلح أو البيع.

و ثانيا: لو سلّمنا الفرق و الفارقيّة فليس الفارق في عدم تعقّل قيام الحقّ في طرف واحد و تعقّله في الملك، بل لو سلّمنا الفارق فإنّما هو الدليل الخارج من إجماع و نحوه على عدم قابلية النقل و الانتقال في الحقّ و قابليّته في الملك.

و يظهر الفرق في كون المنقول إلى الغير من الحقوق إسقاط على تقدير الفرق و تمليك على عدمه، و إيقاع على الأوّل، و عقد على الثاني.

قوله: «و لا يحتاج إلى من يملك عليه حتى يستحيل اتّحاد المالك و المملوك عليه، فافهم».

[أقول:] إشارة إلى أنّ احتياج المالك إلى مملوك غير احتياجه إلى المملوك عليه.

و لكن قد عرفت عدم احتياج السلطنة إلى من يسلّط عليه حتّى يكون

ص: 309

فارق بينه و بين المملوك، بل الفرق: احتياجه إلى الملك من مملوك مالي.

و الحاصل: أنّ السلطنة تحتاج إلى متعلّق ما، سواء كان شخصا، أو مالا، أو فعلا، و الملك يحتاج إلى مملوك ماليّ بحسب منصرف الإطلاق العرفي، و هو غير فارق.

قوله: «النقل بالصيغة أيضا لا يعقل إنشاؤه بالصيغة .. إلخ».

[أقول:] و لا وجه لعدم تعقّله سوى ما ذكره هو من لزوم الدور، أو أعمّيّة التعريف من المعرّف، و يسهل خطبة أنّه إيراد عامّ وارد على جميع التعاريف، و مندفع عن الجميع لفرض كون التعريف أجلى و أعرف عرفا من المعرّف بحيث لا يتوقّف معرفة المعرّف- بالكسر- على معرفة المعرّف- بالفتح- كما في العكس حتّى يلزم الدور المذكور.

قوله: «كالتعويض الغير المشترط».

[أقول:] أي: كالتعويض عن فعل الهبة لا الموهب، أي: البذل لا المبذول.

قوله: «إذ ليس المقصود الأصليّ من المعاوضة و المقابلة. فتأمّل».

[أقول:] إشارة إلى أنّ المقصود الأصليّ من القرض و إن لم يكن المعاوضة بل لزوم العوض من أحكامه الشرعيّة و مقتضياته العقليّة الغير المأخوذة في القصد من القرض أصالة إلّا أنّها لا تنفكّ عن القصد تبعا.

و لذا قال المجمع: القرض ما تعطيه غيرك ليقضيك، و إعطاء شي ء ليستعيد عوضه في وقت آخر. (1)

قوله: «و لذا لا يجري فيه ربا المعاوضة، و لا الغرر المنفيّ فيها، و لا ذكر العوض و لا العلم به. فتأمّل».

[أقول:] إشارة إلى إمكان المنع من عدم جريان أحكام المعاوضة فيه، سيّما


1- مجمع البحرين 4: 226- 227.

ص: 310

ربا المعاوضة.

فقد يقال: كما أنّ بيع الحنطة بشعير زائد معاوضة باطلة كذلك قرض الحنطة بشعير قرض باطل بالربا.

قوله: «فالبيع و ما يساويه معنى من قبيل الإيجاب و الوجوب، لا الكسر و الانكسار كما تخيّله بعض. فتأمّل».

[أقول:] إشارة إلى أنّ ذلك مبنيّ على كون البيع اسم للأعمّ. و أمّا على كونه اسما للصحيح فهو من قبيل الكسر و الانكسار الموقوف صدقه على التعقّب بالقبول.

قوله: «و منه يظهر ضعف أخذ القيد المذكور في معنى البيع فضلا [عن] أن يجعل أحد معانيها».

[أقول:] و الفرق: أنّه على الأوّل من قبيل استعمال الكلّي في خصوص الفرد مجازا. و على الثاني من قبيل استعمال المشترك في أحد معنييه حقيقة.

كما أنّه على تقدير نفي الفرضين من قبيل إطلاق الكلّيّ على الفرد، و إرادة الخصوصيّة من الخارج من قبيل الدالّين و المدلولين.

قوله: «فيستدلّ بإطلاق الحكم بحلّه أو بوجوب الوفاء به على كونه مؤثّرا في نظر الشارع أيضا. فتأمّل».

[أقول:] إشارة إلى ما فيه: أوّلا: من إمكان منع ثبوت الحقيقة العرفية في الصحيح في نظر العرف، لأصالة عدمه.

و ثانيا: لو سلّمنا ثبوته فلا نسلّم كون المراد من الصحيح: الصحيح في نظر العرف، بل هو الصحيح الواقعيّ الجامع لجميع الأجزاء و الشرائط الواقعيّة في نظر الشارع، لا مجرّد العرف.

[الكلام في المعاطاة]

اشارة

قوله: «منها: ظهور أدلّته الثلاثة في ذلك».

ص: 311

[أقول:] أي: ظهور الإجماع، و عدم الدليل، و النهي عن بيع المنابذة (1) .. إلخ.

في أنّ محلّ الكلام من بيع المعاطاة إنّما هو المقصود به التمليك، لا مجرّد الإباحة، مضافا إلى أنّ المعلوم المتداول في المعاطاة بين الناس ليس إلّا قصد التمليك و ترتيب آثار الملكية، غايته أنّ التمليك متزلزل شرعا يتوقّف لزومه على التلف، كالعقد الخياري.

قوله: «و يدفع الثاني».

[أقول:] أي: إرادة نفي اللزوم من نفي البيع تصريح بعضهم بأنّ شرط لزوم البيع منحصر في مسقطات الخيار.

و فيه: أنّ انحصار لزوم البيع في مسقطات الخيار صريح في انحصار لزوم بيع الخيار في مسقطات الخيار، لا انحصار مطلق البيع في اللزوم، و أنّ غير اللازم ليس ببيع، فإن لزوم المعاطاة على القول بكونه تمليكا و تملّكا أيضا ينحصر في التلف و نحوه من مسقطات الخيار، كبيع الخيار.

قوله: «عدّ هذا من الأقوال في المعاطاة، تأمّل».

[أقول:] وجه التأمّل: رجوعه إلى القول بعدم اللزوم إن أراد من اشتراطه باللفظ خصوص لفظ الإيجاب و القبول، و عدمه إن أراد الأعمّ منه و من لفظ «الاستدعاء».

قوله: «و القول بعدم إباحة التصرّف».

أقول: و هذا سادس الأقوال و آخرها، و هو القول ببطلان المعاطاة.

ثمّ إنّ الكلام في ترجيح الأقوال و تأسيس الأصل الأصيل في كلّ عقد عرفيّ، و في كلّ إيجاب و قبول، و في كلّ بيع عرفيّ هل هو الصحّة و اللزوم، أو الفساد الموقوف على تفسير بعض الآيات الواردة على سبيل الضابطة في العقود؟


1- الوسائل 12: 266 باب «12» من أبواب عقد البيع و شروطه ح 13.

ص: 312

فنقول: قال اللّٰه تعالى في مفتتح سورة المائدة آخر السور المنزلة يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ (1) الآية و تشخيص مدلولها في ضمن مراحل:

أمّا المرحلة الأولى: ففي تشخيص مدلول العقد لغة و عرفا. أمّا لغة فهو و إن استعمل في معاني عديدة- كما عن القاموس (2) و الصحاح (3) العقد: عقد الحبل، و البيع، و عقد يعقده شدّه، و عنقه إليه لجأ، و الحاسب حسب، و العقد:

الضمان و العهد و الجمل الموثّق. و في معنى العهد: العهد الوصيّة، و التقدّم إلى المرء في الشي ء و الموثق، و اليمين، و الحفاظ، و رعاية الحرمة، و الأمان، و الذمّة و الالتقاء، و المعرفة- إلّا أنّ قاعدة أصالة عدم الاشتراك و أولويّة المجاز منه تقتضي كونه حقيقة في أحدها، و مجازا في الباقي. و غلبة مراعاتهم الترتيب بتقديم المعنى الحقيقيّ على غيره في التعداد و الذكر تقتضي تعيين مجازيّة العقد في ما عدا الشدّ و الوصل، و حقيقة في معنى الشدّ و الوصل، سواء كان حسّيّا كشدّ الحبل و وصله، أم غير حسّيّ كالعهد المشدّد بين اثنين، فكلّ عقد عهد، و لا عكس، لعدم لزوم الشدّة و الاثنينيّة.

و قاعدة أصالة الحقيقة- مضافا إلى تفسير أكثر المفسّرين و الفقهاء- تقتضي تعيين إرادة مطلق العقود، فإنّها باعتبار المعقود و العاقد ثلاثة أضرب:

عقد بين اللّٰه و بين عباده، و هو إلزامهم بالتكاليف: من الإيمان به و ملائكته و كتبه و رسله و أوصياء رسله، و تحليل حلاله، و تحريم حرامه، و الإتيان بفرائضه و سننه، و رعاية حدوده و أوامره و نواهيه.

و عقد بين اللّٰه و نفسه، كالنذر و اليمين.

و عقد بينه و بين غيره من البشر، كعقود الأمانات و المعاملات الغير


1- المائدة: 1.
2- القاموس المحيط 1: 315.
3- الصحاح 2: 510.

ص: 313

المحظورة شرعا.

فظاهر الآية- مضافا إلى تفسير أكثر الفقهاء و مفسّري الخاصّة و العامّة- يقتضي إرادة كلّ عقد من تلك العقود، سواء كان تركه قربة أو واجبا في الشرع، كالعقود المخترعة و الفاسدة.

و أمّا ما عن تفسير القميّ رحمه اللّٰه، عن الجواد عليه السّلام: من «أنّ رسول اللّٰه صلى اللّٰه عليه و آله عقد عليهم لعليّ عليه السّلام بالخلافة في عشرة مواطن، ثمّ أنزل اللّٰه يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ التي عقدت عليكم لأمير المؤمنين عليه السّلام» (1) فمضافا إلى احتمال كونه من البطون الغير المنافية لإرادة الظهور معه لا يوجب تخصيص عموم العقود و إن صلح له، لأنّ شأن النزول لا يخصّص عموم النازل، و المورد لا يخصّص عموم الوارد فيه بمجرّد صلوحه للتخصيص. ألا ترى أنّ السؤال لا يقيّد الجواب؟ حتّى اشتهر بأنّ ترك الاستفصال في جواب السؤال ينزّل منزلة العموم في المقال، مع أنّ السؤال أصلح لتقييد الجواب في المورد بكثير.

و أمّا ما اشتهر من «أنّ الجمع المحلّى باللام إنّما يفيد العموم حيث لا عهد» فليس المراد حيث لا صلوح للعهد، بل المراد: حيث لا ظهور للعهد في التخصيص، كظهور ما: إذا تقدّم المعهود بلفظ النكرة ثمّ تعقّبه العامّ المكتنف بالفاء الدالّة على التفريع و الاتّصال مع تقاربهما من جهة الزمان و المكان و صورة التلفظ و اتّحادهما من جهة المتكلّم و المخاطب، فإنّ انصراف العموم إلى العهد مشروط باجتماع هذه الشروط المفقود جلّها، بل كلّها فيما نحن فيه، كما في قوله تعالى:

أَرْسَلْنٰا إِلىٰ فِرْعَوْنَ رَسُولًا فَعَصىٰ فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ (2) خلافا لما في العوائد (3) من رفعه اليد عن ظهور الظاهر بمجرّد الاقتران بما يصلح للصارفيّة


1- تفسير القمّي 1: 160.
2- المزّمّل: 15- 16.
3- عوائد الأيّام: 19.

ص: 314

و القرينيّة، و هو من متفرّدات صاحبه، و لو قلنا باعتبار ظواهر الألفاظ من باب الظنّ الفعليّ، كما قرّر في محلّه.

و أمّا المرحلة الثانية: ففي تشخيص مدلول الوفاء بالعقود لغة، و المراد منه عرفا.

فنقول: لا إشكال في أنّ مدلول الوفاء بالعقد لغة و عرفا هو «القيام- بمقتضاه باتّفاق اللغويّين و المفسّرين و الفقهاء. إنّما الإشكال في تشخيص المراد منه شرعا، و أنّه هل أريد منه بيان لزوم العقود و صحتها معا كما عليه مشهور الفقهاء، أم اللزوم دون الصحّة، أم الصحّة دون اللزوم، أم عدم شي ء من اللزوم و لا من الصحّة كما عن مختلف العلّامة (1)؟ وجوه أربعة:

فعلى الأوّل يكون المراد من الإيفاء: وجوب القيام بمقتضى المعقود دائما؛ حتّى يرد المزيل الشرعيّ مطابقا لحكم العقل بحسن الوفاء، فيكون الأصل وجوب الوفاء بكلّ عقد خرج ما خرج بالدليل، كالشركة و المضاربة و مثلهما فإنّها و إن كانت صحيحة بسبب الإجماع أو قوله تعالى تِجٰارَةً عَنْ تَرٰاضٍ (2) أو داخلة تحت عموم الآية إلّا أنّها ليست بلازمة بالدليل الخارجي.

و كالمغارسة و شركة الوجوه و الأبدان فإنّها محظورة رأسا من الخارج، فكلّ ما يندرج في «تجارة» عن تراض، يثبت صحّته منه و لزومه من الآية، و ما لا يندرج فيه يثبت صحّته و لزومه معا بها، بل يثبت الصحّة و اللزوم في جميع العقود بهذه الآية، خرج ما خرج من الصحّة و اللزوم و بقي الباقي.

و يتفرّع على هذا المعنى عدم وجوب تتبّع أحوال العرف في كلّ عقد عن تشخيص أنّ بناءهم فيه على اللزوم و الجواز، بل يثمر الآية، في العقد المجهول


1- المختلف 6: 255.
2- النساء: 29.

ص: 315

الحال بخصوصه- شرعا أو عرفا- ثبوت أصالة الرخصة و الإيجاب و اللزوم إلى أن يثبت المنع من الخارج.

و يتفرّع عليه أيضا عدم استلزام خروج الخارج عن تحت أصالة اللزوم؛ لخروجه عن تحت أصالة الصحّة و الجواز، بخلاف العكس فإنّ نفي الأخصّ يستلزم نفي الأعمّ، و لا عكس.

هذا كلّه في بيان المراد من الإيفاء على تقدير دلالته على اللزوم و الصحّة معا.

و أمّا على تقدير دلالته على اللزوم دون الصحّة فيكون المراد من الإيفاء:

وجوب القيام بمقتضى العقود بعد إحراز صحّتها من العرف، أو من الشرع؛ بسبب إجماع، أو إطلاق قوله تعالى تِجٰارَةً عَنْ تَرٰاضٍ (1).

و يتفرّع على هذا المعنى: وجوب تتبّع أحوال العرف أو الشرع في تشخيص صحّة كلّ ما يراد إدخاله تحت أصالة اللزوم من العقود، و عدم مجرى الأصل في العقد المجهول حاله من حيث الصحّة.

و أمّا على تقدير دلالة الإيفاء على الصحّة دون اللزوم فيكون المراد من الإيفاء: بيان الصحّة و ترتّب الثمرة الّتي كانت منظورة للمتعاقدين، يعني: كلّ ما تعاقدون عليه فيما بينكم فقد أجزته و رتّبت عليه الثمرة الّتي كانت مقصودة منه، فصار شرعيّا، فيكون الأمر بالإيفاء من باب دفع الحظر، و إثبات محض الرخصة، و جواز ما يفعلون، و لازمة أن يصير: كلما كان عندهم على وجه اللزوم لازما، و على وجه الجواز جائزا، و هذا أيضا يحتاج إلى تتبّع أحوال العرف في اللزوم و الجواز فيما لم يعلم حاله من الشرع.

و أمّا على تقدير دلالتها على غير اللزوم و غير الصحّة- كما حكي عن


1- النساء: 29.

ص: 316

المختلف (1)- فيكون المراد من الإيفاء: وجوب القيام بمقتضى العقود، بمعنى:

اعتقاد لزوم اللازم و جواز الجائز، و حلية الحلال و حرمة الحرام.

و على هذا يكون المراد: ما علم لكم من العقود جوازه أو لزومه من العرف، أو عدم جوازه و لا لزومه منه فأوفوا بها على مقتضاها، فاعتقدوا لزوم اللازمات و جواز الجائزات و اعملوا بمقتضاها، و رجحان الراجحات و مرجوحيّة المرجوحات و اعملوا بمقتضاها، و ما لم يعلم لكم من العقود صحّته أو عدم صحّته من العرف فاعملوا فيها بما يقتضيه الشكّ و عدم العلم من الرجوع إلى الأصول الخارجيّة.

فيكون الأمر بإيفاء العقود من باب محض الإمضاء و الإرشاد إلى ما لها شرعا أو عرفا، من الاتّصاف باللزوم أو عدمه، أو الصحّة أو عدمها، إن معلوما فمعلوما، و إن مشكوكا فمشكوكا.

ثمّ إنّ أقصى المعاني القابلة لتقريب إرادتها من الإيفاء هي المعاني الأربعة المذكورة، دون احتمال إرادة وجوب القيام بمقتضى العقد ما لم يرجع المتعاقدان أو أحدهما إلى الفسخ، و لا غيره من سائر ما احتمله في العوائد (2)، لرجوعه إلى ما يبعد احتماله جدّا من التوقّف على ما يخالف الأصل من إضمار أو تقدير أو تقييد.

كما أنّ أقصى المعاني المحتملة في العقود هي إرادة عقود اللّٰه تعالى على عباده، أو عقود العباد مع اللّٰه تعالى، أو عقودهم فيما بينهم و بين أقرانهم، أو مجموع الأنواع الثلاثة من العقود.

و إذا ضربت المحتملات الأربعة من العقود في المحتملات الأربعة من


1- انظر الهامش (1) ص: 315.
2- عوائد الأيّام: 13.

ص: 317

الإيفاء بلغ الحاصل من المحتملات ستّة عشر محتملا.

و كما قد علمت أنّ إضافة محتمل آخر إلى المحتملات الأربعة من الإيفاء بعيد جدّا. فاعلم أيضا: أنّ إضافة محتمل آخر إلى المحتملات الأربعة من العقود- و هو احتمال إرادة مطلق العقود، حتّى العقود المخترعة- أبعد جدّا؛ لأنّه إن لم نخرجها عن عموم العقود بعد دخولها لزم فقه جديد و دين بديع، و إن أخرجناها عن تحته لزم التخصيص بالأكثر، لعدم إحصاء المخترعات، فلا بدّ من الالتزام بخروجها على وجه التخصّص، لا التخصيص بحمل العقود على العقود المعهودة دون ما يعمّ المخترعة، كما احتمله في العوائد (1). و لهذا أسقطناه عن عداد المحتملات.

و كما قد علمت أيضا أنّ المتعيّن من محتملات العقود بواسطة ظهور اللفظ، و أصالة العموم، و عدم التخصيص، و نقل اللغويّين، و مشهور المفسّرين و الفقهاء هو إرادة جميع الأنواع الثلاثة من العقود، لا سيّما العقود الفقهيّة الّتي هي محطّ نظر الفقهاء فاعلم أيضا: أنّ المتعيّن من محتملات الإيفاء بواسطة ظهور الأمر و معونة فهم المشهور هو إرادة المعنى الأوّل، أعني: إفادة اللزوم و الصحّة في جميع العقود حتّى يرد المزيل، دون سائر المعاني المحتملة؛ و ذلك لظهور دلالة الإيفاء، و هو وجوب القيام بمقتضى العقود بالمطابقة على لزوم العقود حتّى يرد المزيل، كما ورد في المشاركة و نحوها، و بالالتزام على صحّتها حتى يرد المزيل أيضا، كما ورد في بيع الربويّ و نحوه، ضرورة أنّ القيام بمقتضى الشي ء فرع ثبوت اقتضاء لذلك الشي ء، و هو معنى صحّته. كما أن مطلوبيّة كلّ ملزوم فرع مطلوبيّة لوازمه، و مطلوبيّة الأخصّ فرع مطلوبيّة الأعمّ و لو بدلالة الالتزام العقليّ التبعي.

فإن قلت: «دلالة الإيفاء على اللزوم و الصحّة معا يستلزم استعماله في أكثر


1- عوائد الأيّام: 9.

ص: 318

من معنى.

قلت: الملازمة واضحة المنع بما عرفت من أنّ المدلولين ليسا في عرض واحد حتى يتأتّى الملازمة، و إنّما هما في الطول، من قبيل اللازم و الملزوم، و التابع و المتبوع.

فإن قلت: لو كان دلالته على الصحّة من باب الملازمة و الدلالة التبعيّة لدلّ نفي اللزوم على نفي الصحّة، كما دلّ إثبات اللزوم على إثبات الصحّة، فإنّ نفي الملزوم و المتبوع في الدلالة الالتزاميّة التبعيّة يدلّ على نفي لوازمها و توابعها كما أنّ وجودها يدلّ على وجودها.

ألا ترى انتفاء المفاهيم لو انتفى دلالة مناطيقها، و انتفاء وجوب المقدّمة لو انتفى وجوب ذيها؟

قلت: استفادة الصحّة من اللزوم و إن كانت تبعيّة إلّا أنّ المستفاد أصليّ غير تبعيّ حتّى ينتفي بانتفاء متبوعه، كما في سائر الاستفادات التبعيّة الّتي يكون المستفاد فيها أيضا تبعيّا، حسب ما قرّر في محلّه من باب مقدّمة الواجب. فالصحّة بحسب الاستفادة تابعة للّزوم، و بحسب الوجود بالعكس، كما هو حال سائر مداليل الأدلّة الإنّيّة، كالنار فإنّها بحسب الاستفادة تابعة للدخان، و بحسب الوجود بالعكس، فانتفاء الملزوم و المتبوع- و هو لزوم العقد فيما نحن فيه- لا يستلزم انتفاء اللازم و التابع و هو الصحّة؛ لكون دلالته عليها بالإن لا اللمّ.

ثمّ إن دلالة الإيفاء على لزوم العقود و صحّتها ليس على وجه التشريع و التأسيس مطلقا؛ لما في المتن و غيره من: أنّه ليس للشارع في موضوعات المعاملات و لا في أحكامها تشريع و لا تصرّف و لا اختراع، سوى اعتباره في بعضها بعض الشروط الخارجة عن ماهيّاتها، و لا على وجه الإرشاد و التأكيد

ص: 319

مطلقا حتّى يرجع إلى المعنى المتقدّم نقله عن مختلف (1) العلّامة، أعني: إرادة بيان الصحّة و إجزاء كلّ ما يرتّب العرف على عقودهم، إن لزوما فلزوم، و إن جوازا فجواز؛ ليكون الأمر بالإيفاء من باب رفع الحظر و إثبات محض الرخصة، لما عرفت من أنّ ذلك المعنى خلاف ظاهر الأمر، بل إنّما يكون على وجه التأكيد و الإرشاد بالنسبة إلى العقود المعلومة حالها من الشرع أو العرف، و على وجه التأسيس و التقرير بالنسبة إلى العقود المشكوكة حالها شرعا و عرفا.

و من هنا يعلم رجوع الفرق و الثمرة بيننا و بين العلّامة إلى مرجعيّة عموم الآية (2) للعقود المشكوكة حالها شرعا و عرفا، من حيث اللزوم أو الصحّة عندنا، و إلى مرجعيّة الأصول الخارجيّة لها عند العلّامة.

و أمّا ما في العوائد (3) من الإيراد بأنّ الجمع بين إرادة التأكيد و التأسيس من الإيفاء يستلزم استعمال اللفظ في أكثر من معنى واحد ففيه منع الملازمة.

أوّلا: بأنّ الرجوع إلى عموم الآية بالنسبة إلى العقود المشكوكة حالها ليس من باب الموضوعيّة و التعبّد الشرعيّ حتّى يلزم من إرادة الإرشاد منها بالنسبة إلى العقود المعلومة حالها الاستعمال في أكثر من معنى، بل لعلّه من باب الطريقيّة و الكاشفيّة عن ثبوت ذلك في أصل العرف و إن خفي على أهله. و على ذلك فلا يلزم من مرجعيّة عموم الآية للعقود المشكوكة حالها الاستعمال فيما عدا التأكيد و الإرشاد، غاية الأمر استعماله في الإرشاد الأعمّ من خفاء المرشد إليه على العرف، و عدم خفائه عليه.

و ثانيا: سلّمنا كونه من باب التعبّد الشرعيّ إلّا أنّه مع ذلك لا يلزم من انضمام إرادة التأكيد منه بالنسبة إلى العقود المعلومة حالها الاستعمال في أكثر من


1- المختلف 6: 255.
2- المائدة: 1.
3- العوائد: 20.

ص: 320

معنى؛ لأنّ انضمام إرادة التأكيد معه إنّما هو من مقتضيات الصارف الخارجي، و هو سبق العلم بحال العقد الّذي ينبغي الاقتصار على القدر المتيقّن من صارفيّته، و على ذلك يكون دلالة الإيفاء على التأكيد و التأسيس معا من قبيل الدالّين و المدلولين، لا من قبيل الدالّ الواحد و المدلولين ليلزم استعمال اللفظ الواحد في أكثر من معنى واحد.

و ثالثا: بأنّ التأكيد و التأسيس من الأوصاف و الكيفيّات الخارجة عن المراد، الطارئة عليه أحيانا بواسطة القرائن الخارجيّة من سبق العلم ببيانه، و عدم سبقه لا من المعاني المتأصّلة بالإرادة ليلزم من اجتماعهما الاستعمال في أكثر من معنى.

ثمّ إنّ عموم الإيفاء بالعقود في الآية إنّما هو عموم أفرادي، و ليس فيها و راء الاشتمال على العموم الأفراديّ عموما أزمانيا و لا أحواليا، إذ لم يؤخذ كلّ زمان أو كلّ أحوال فردا مستقلّا لمتعلّق الحكم في الآية كما أخذ كلّ فرد منه كذلك، كما في مثل «أكرم العلماء في كلّ يوم» أو «في كل حال».

و يتفرّع على ذلك أنّه متى تخصّص عمومه بإخراج فرد عن تحته اقتصر في الإخراج على الفرد المتيقّن من غير تعدّ إلى سائر الأفراد المشكوكة؛ لأصالة عدم تخصيص آخره، و متى تخصّص بإخراج زمان أو حال أمكن التعدّي إلى سائر الأزمنة و الأحوال المتعاقبة له بالاستصحاب؛ لأنّ إبقاء الحكم في الزمان المتعاقب للزمان الأوّل لا يوجب تخصيصا آخر وراء التخصّص الأوّل، بعد أن كان المفروض عدم ملاحظة المتكلّم كلّ زمان فردا مستقلّا لمتعلّق الحكم، بخلاف ما إذا لاحظه كذلك، كما في «أكرم العالم في كلّ زمان» أو «في كلّ حال».

و ينقدح من ذلك ضعف القول بفوريّة خيار الغبن المخصّص لعموم الوفاء

ص: 321

بقاعدة نفي الضرر بما احتجّ عليه المحقّق الثاني في مسألة خيار الغبن في باب تلقّي الركبان من: أنّ عموم الوفاء بالعقود من حيث الأفراد يستتبع عموم الأزمان (1)، فيمنع جريان الاستصحاب لأجل عموم الوفاء، خرج منه أوّل زمان الاطّلاع على الغبن و بقي الباقي.

فإنّ الأقوى ما يظهر من المسالك (2) و غيره من إجراء الاستصحاب في هذا الخيار بناء على ما تقدّم من أنّه لا يستفاد من إطلاق وجوب الوفاء بالعقد إلّا كون الحكم مستمرّا، لا أنّ الوفاء في كلّ زمان موضوع مستقلّ محكوم بوجوب مستقلّ حتّى يقتصر في تخصيصه على ما ثبت من جواز نقض العقد في جزء من الزمان و بقي الباقي. و لتمام الكلام في هذا المطلب محلّ آخر سيأتي إن شاء اللّٰه تعالى.

و أمّا المرحلة الثالثة: ففي دفع موهمات الوهن في دلالة الآية- على ما ذكر- الّتي أوردها في العوائد (3) على صحّة التمسّك بالآية في لزوم جميع العقود و صحّتها، و هي وجوه:

منها: الاستشكال بلزوم تخصيص الأكثر في عموم دلالة الآية على اللزوم، و بواسطة خروج أكثر العهود الغير المعنونة في أبواب الفقه، بل و أكثر العهود المعنونة فيها أيضا على اللزوم إلى الجواز، و في عموم دلالتها على الصحّة أيضا بواسطة خروج العقود الفاسدة الّتي هي أضعاف الصحيح منها من جهة اشتراط الصحيح شرعا بشروط عديدة تنتفي الصحّة بانتفاء كلّ واحد منها، فلزم من إخراج العقود الفاسدة عن عموم الصحّة تخصيصه بالأكثر، كما يلزم من إخراج العقود الجائزة عن عموم اللزوم تخصيصه بالأكثر.


1- جامع المقاصد 4: 38.
2- المسالك 3: 205.
3- العوائد: 16 و 17.

ص: 322

و يدفعه: أوّلا: بفرض الخارج من العقود عن تحت الآية خارجا عن حكم العامّ، لا نفس العامّ حتّى يعدّ أكثريّته في العرف مستهجنا، فيرجع التخصيص بالأكثر حينئذ إلى التقييد بالأكثر، و هو ليس كالتخصيص بالأكثر في الاستهجان عرفا.

و ثانيا: بفرض الخارج عن نفس العامّ على تقدير التسليم خارجا بعلاقة التشبيه و التنزيل، دون علاقة العموم و الخصوص حتّى يعدّ أكثريّته من مستهجنات العرف، فإنّ التخصيص بالأكثر المستهجن عرفا عند القائل باستهجانه انّما هو التخصيص بعلاقة العموم و الخصوص. و أمّا التخصيص بالأكثر بعلاقة التنزيل فلا استهجان فيه، بل قد ورد في أفصح ما يكون من الكتاب الكريم، كما في قوله تعالى إِنَّ عِبٰادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطٰانٌ إِلّٰا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغٰاوِينَ (1)، و قوله في الحديث القدسي: «يا ابن آدم، كلّكم جائع إلّا من أطعمته» (2)، مع كون الباقي في كلّ منهما أقلا بالعيان و البرهان. أمّا العيان فمحسوس. و أمّا البرهان فلقوله تعالى وَ مٰا أَكْثَرُ النّٰاسِ وَ لَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ (3).

و بالجملة: فكما أنّ شرف المطيعين في الرفعة و دنوّ الغاوين في الانحطاط ممّا صحّح تنزيل كثرة الغاوين منزلة القلّة، و قلّة المطيعين منزلة الكثرة في الآية كذلك غلبة استعمال العقود الصحيحة و تداولها و إن قلّ عددها، و ندور تداول العقود الفاسدة و إن كثر عددها ممّا يصحّح تنزيل الأكثر منزلة الأقلّ، و بالعكس فيما نحن فيه.

و ثالثا: بأنّ عموم العقود عموم أفراديّ لا نوعي حتّى يستكثر العقود الفاسدة و الجائزة عليه.


1- الحجر: 42.
2- صحيح مسلم 4: 1994 ح 55.
3- يوسف: 103.

ص: 323

و لا ريب أنّ أفراد العقود الصحيحة و اللازمة أكثر من أفراد غيرها، سيّما في مثل البيع و الإجارة و النكاح.

و رابعا: بإمكان فرض خروج الخارج عن تحت عموم الآية (1) من باب التخصّص دون التخصيص، بحمل عموم العقود على العهد و الإشارة إلى العقود المتداولة الصحيحة، ليكون خروج العقود الفاسدة و المخترعة من باب التخصّص، أعني: عدم الدخول، لا من باب التخصيص، أعني: إخراج ما دخل.

و أمّا ما استشكل عليه: بأنّ حمل العقود على العقود المتداولة يستدعي الاقتصار على المتداول في ذلك الزمان، و عدم صحّة التمسّك بالآية في موضع من المواضع إلّا في خصوص إثبات بعض ما يعلم لزومه خارجا أيضا، و هو خلاف سيرة العلماء و طريقتهم المسلوكة فيما بينهم من التمسّك بها في مواضع النزاع و الوفاق.

فيدفعه أيضا: حمل عموم العقود على العهد و الإشارة إلى جنس العقود المتداولة في ذلك الزمان، المعهودة المضبوطة الآن في كتب فقهائنا، كالبيع و الإجارة و نحوهما، لا خصوص أشخاص كلّ عقد متداول فيه مع كيفيّاتها المخصوصة و المتداولة فيه. و لا ريب أنّ مواضع استدلالاتهم بتلك الآية الشريفة داخلة في جنس تلك العقود و في أفرادها و إن جهل اشتراكها معها في الخصوصيّات، و ذلك لا يقدح في دخولها في تلك العقود.

و من جملة موهمات و هن عموم الآية: ما أورده في العوائد أيضا من: «أنّه و إن كان مقتضى الجمع المحلّى باللام كونه مفيدا للعموم و لكن يخدشه في الآية أمران:

أحدهما: أنّا قد ذكرنا في كتبنا الأصوليّة: أنّ الثابت من أصالة الحقيقة إنّما


1- المائدة: 1.

ص: 324

هو إذا لم يقترن بالكلام حين التكلّم به ما يوجب الظنّ بعدم إرادة الحقيقة، أي: لم يقترن به ما يظنّ بصارفيّته عن الحقيقة، بل و لا بما يشكّ في قرينيته و صارفيّته عنه. و ممّا لا شكّ فيه أنّ تقدّم طلب بعض أفراد الماهية، أو الجمع المحلّى على طلب الطلب باللفظ الدالّ على الماهية، أو بالجميع ممّا يظنّ معه إرادة الأفراد المتقدّمة، و لا أقلّ عن صلاحية كونه قرينة لإرادتها.

و على هذا فتلك الآية في سورة المائدة- على ما ذكره المفسرون- آخر السور المنزلة في أواخر عهد النبيّ صلى اللّٰه عليه و آله. و لا شكّ أنّ قبل نزولها قد علم من الشارع وجوب الوفاء بطائفة جمّة من العقود، كالعقود الّتي بين اللّٰه سبحانه و بين عباده من الإيمان به و برسله و كتبه، و الإتيان بالصلاة و الصيام و الزكاة و الحجّ و الجهاد و غيرها، بل بعض العقود الّتي بين الناس بعضهم مع بعض، كالبيع و النكاح و الإجارة و الرهن و أمثالها.

و تقدّم طلب الوفاء بتلك العقود يورث الظنّ لإرادتها من قوله أَوْفُوا بِالْعُقُودِ خاصّة، أو يصلح قرينة لإرادتها، فلا يمكن التمسّك بأصالة الحقيقة في إرادة جميع الأفراد. مضافا إلى أنّ قوله تعالى أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعٰامِ .. إلى أخره تفصيل لبعض العقود أيضا، كما مرّ في كلام بعض المفسّرين، و هذا أيضا ما يضعف الحمل على العموم.

و ثانيهما: أنّه إذا ورد أمر بطلب ما لم يسبق طلبه فهو للتأسيس، و إن ورد بطلب ما سبق طلبه أوّلا فهو للتأكيد، و إن ورد أمر بطلب عامّ سبق بعض أفراده و تأخّر بعض أفراده الآخر وجب أن يحمل على التخصيص بما طلب أوّلا حتّى يكون تأكيدا، أو بغيره حتى يكون تأسيسا. و أمّا حمله على العموم فيكون تأسيسا و تأكيدا معا فغير جائز، كما في استعمال المشترك في معنييه؛ لأنّ كلّ ما يدلّ على عدم جوازه يدلّ على جوازه أيضا. و لا شكّ أنّه كان وجوب الوفاء

ص: 325

بعقود كثيرة معلوما قبل نزول الآية، فلا يمكن حملها على العموم .. إلى آخر كلامه» (1).

و لكن يدفعه منع موهنيّة شي ء من الأمرين المذكورين لعموم الآية.

أمّا الأمر الثاني- و هو استلزام عمومها استعمال اللفظ الواحد في أكثر من معنى واحد، أعني: التأكيد و التأسيس معا- فقد مرّ في المرحلة السابقة منعه بما لا مزيد عليه، فلا نطيل بالإعادة.

و أمّا الأمر الأوّل فلمنع مورثيّة مجرّد تقدّم بعض أفراد العامّ الظنّ بتخصيص العامّ بها بالوجدان، و منع مخصّصيّة مجرّد صلوحه للتخصيص و الصارفيّة بالبرهان و إن قلنا باعتبار ظواهر الألفاظ من باب الظنّ الفعليّ حسب ما تقدّم في المرحلة الاولى تفصيله في الجملة.

مضافا إلى أنّه لو سلّم انصراف عموم العقود إلى المعهود تقدّمه فهو مع ذلك شامل للعقود الفقهيّة، الّتي هي محطّ نظر الفقهاء، لاعتراف المورد في ضمن إيراده بنزول الآية في أواخر عهد النبيّ صلى اللّٰه عليه و آله و لا شكّ أنّ جميع تلك العقود الفقهيّة قبل نزول الآية كانت متداولة في العرف؛ من حيث النوع بتنصيص الشارع، أو بتقريره و إن لم تتداول من حيث خصوص الأفراد، كما لا يخفى.

و من جملة موهمات الوهن في عموم الآية: ما استشكل به في العوائد (2) أيضا بما يرجع محصّله إلى منع دلالة الآية على لزوم عقد إلّا بعد إحراز الشدّ و الاستيثاق الشرعيّ أو العرفيّ في ذلك العقد؛ لأنّه المفهوم من لفظ «العقد»، و مع إحراز ذلك منه لا حاجة إلى التمسّك بالآية. و إذا توقّف استفادة عموم اللزوم من الآية على إحراز الشدّ و التوثيق فلا ينفع في ما هم بصدده من الاستدلال بالعموم


1- العوائد: 19- 20.
2- العوائد: 20.

ص: 326

في موارد الشكّ على اللزوم، لرجوعه إلى الدور، و توقّف عموم اللزوم للعقد على إحراز الشدّ و التوثيق فيه، و توقّف الشدّ و التوثيق فيه على عموم اللزوم له.

و يدفعه أيضا: أنّه إن أريد من اعتبار الشدّ و التوثيق في مجرى عموم الآية على العقود بناء المتعاقدين و قصدهم عدم الرجوع و تكلّمهم بلفظ قاصدا منه البقاء على مقتضى العقد فيسلّم توقّف مجرى عموم اللزوم من الآية على إجرائه من العرف، إلّا أنّه لا يسلّم عدم الحاجة إلى مجراه حينئذ، لوضوح أنّ الفرق بين الالتزام العرفيّ و إمضاء لزومه شرعا عموم و خصوص مطلق.

و إن أريد من اعتبار الشدّ و التوثيق في معنى العقد معنى آخر وراء ذلك- كما هو صريح كلامه- فهو ممنوع جدّا؛ لما عرفت من أنّ العقد في ما نحن فيه ظاهر بحسب العرف و اللغة في مطلق الشدّ الراجع إلى الالتزام و الاستحكام، سواء علم لزومه عرفا أم لم يعلم حسب ما تقدّم.

و من جملة موهمات و هن العموم: موهمان آخران في العوائد (1)، يرجع محصّلهما إلى منع دلالة الآية على اللزوم، بدعوى: إجمال العقود تارة من جهة تكثير معانيه، كالوصيّة و الأمر و الضمان و اليمين و غير ذلك، فلا معيّن لإرادة ما هم بصدده من معانيه. و تارة أخرى (2) من جهة أنّ معنى العقد و إن كان حقيقة الجمع بين الشيئين بحيث يعسر الانفصال بينهما إلّا أنّ هذا المعنى غير مراد منه، بل المراد منه هو المعنى المجازي، و المجاز متّسع الدائرة؛ لاتّساع علائقه، و عدم معيّن لها، فيجمل المراد من إحدى الجهتين.

و يدفعه: أمّا إجمالا: فلمنع إجمال الآية بأصالة عدم الإجمال و ندوره و قلّته، سيّما من الشارع، فإنّ معناه المبيّن، و وظيفته التبيين، سيّما بالنسبة إلى


1- العوائد: 21.
2- العوائد: 22.

ص: 327

أحكامه، حتّى ادّعوا عدم وجوده في شي ء من أحكام الكتاب و السنّة بالتصدّي لتبيين كلّ ما مثّل به للمجمل في بحث المجمل و المبيّن.

و أمّا تفصيلا: فلأنّ إجمال العقد: إمّا من جهة دعوى اشتراكه بين ما ذكر فلأنّ اشتراكه:

أوّلا: ممنوع بأصالة عدم الاشتراك و النقل، و قلّته و ندوره، و أولويّة المجاز منه، إلّا على المذهب المهجور من القول بأصالة الحقيقة كالسيّد (1).

و ثانيا: لو سلّمنا اشتراكه لكنّه لا يؤثّر إجماله؛ لوجود المعيّن، و المرجّح الدلالتي، و هو أظهريّة ما نحن بصدده من بين معانيه المتقدّمة عرفا، مضافا إلى وجود المعيّن و المرجّح الخارجيّ له، و هو فهم المشهور.

و أمّا من جهة دعوى مجازيّته و دعوى إجمال المجازات لاتّساع علائقها فلما فيه.

أوّلا: من منع صغراه، و هو مجازيّة العقد في العهد الصادر عن المتعاهدين:

بأنّ العقد على ما يظهر من اللغة (2) و العرف هو الشدّ و الوصل بين الشيئين أعمّ من كونه حسّيّا كشدّ الحبل، أم غير حسّيّ كالبيع و أمثاله، لا أنّه حقيقة في الحسّيّ و مجاز في غيره، بل هو مشترك معنويّ بينهما.

و ثانيا: من منع كبراه، و هو إجمال المجاز بواسطة اتّساع علائقه، فإن اتّساع المعاني المجازيّة باتّساع علائقه، لا يؤثّر الإجمال في المراد بعد إعمال قاعدة حمل المنصرف عن معناه الحقيقيّ إلى الأقرب، فالأقرب عرفا من معانيه المجازيّة، إلّا فيما لو فرض تساويهما و عدم الأقربيّة العرفيّة بينها، و إلّا ففيما وجدت الأقربيّة العرفيّة لم يخالف أحد في التعويل عليها من أهل العرف، و لا من


1- الذريعة 1: 10- 11.
2- مجمع البحرين 3: 103.

ص: 328

أهل اللسان، و لا من العلماء، سوى هذا الفاضل.

و أمّا ما يحكى عن نهاية العلّامة من موافقته لهذا الفاضل في القول بإجمال المجاز فغير معلوم، لاحتمال أن يريد من إجماله: إجماله في فرض عدم الأقربيّة العرفيّة، لا مطلقا، أو إجماله من حيث ذاته مع الإغماض عن ضميمة الأقربيّة إليه، و إلّا فلا مجال لإنكار كون الأقربيّة العرفيّة من المرجّحات الدلاليّة المعيّنة للمراد على تقدير إجماله.

و ثالثا: سلّمنا إجماله و عدم الأقربيّة المعيّنة للمراد، إلّا أنّ فهم مشهور الفقهاء جابر و معيّن للمراد من العقود في المقام و إن لم نقل بجابريّته في سائر المقامات.

فتلخّص من جميع ما ذكرنا: دفع جميع موهمات و هن الآية الشريفة و إحياء دلالتها على كلّ من الصحّة و اللزوم، حتّى يرد المزيل الشرعيّ أو العرفيّ المتفرّع عليه إحياء كلّ ما يشكّ في صحّته و لزومه من العقود بعد إحراز كونه عقدا. فالأصل الأصيل الّذي عليه التعويل هو الصحّة و اللزوم في كلّ ما يشكّ في صحّته أو لزومه من العقود، لكنّه بعد إحراز صدق العقد عليه عرفا، الّذي هو عبارة عن الشدّ و الاستحكام الراجع إلى اعتبار التلفّظ بالصيغة الدالّة عليه، مضافا إلى اعتبار الاثنينيّة و لو بالاعتبار.

و من هنا يعلم ضعف تسمّك من تمسّك بعموم تلك الآية (1) على صحّة بيع المعاطاة و عدم مجرى لشمول عمومها المعاطاة؛ لأنّ نهوض العموم فرع صدق موضوع العامّ المنتفي صدقه عن المعاطاة، لعدم التلفّظ باللفظ الدالّ على الشدّ و الاستحكام في بيع المعاطاة، فلا بدّ من الركون في صحّتها إلى عمومات أدلّة أخر، كما لا يخفى.


1- المائدة: 1.

ص: 329

ثمّ إنّ الكلام في صحّة بيع المعاطاة و فساده يقع تارة في تشخيص محلّ النزاع و موضوعه المستنبط، و تارة في تشخيص حكمه.

أمّا الكلام في محلّ النزاع الّذي هو من الموضوعات المستنبطة فيقع من جهتين:

إحداهما: في تشخيص ما يعتبر في محلّ النزاع من قصد التمليك أو الإباحة.

الثانية: في تشخيص ما يعتبر في محلّ النزاع في المعاطاة من سائر شروط العوضين و المتعاوضين، و ما لا يعتبر منهما في المعاطاة.

أمّا الكلام في تشخيص محلّ النزاع من الجهة الأولى فالظاهر أنّ محلّ النزاع إنّما هو في المعاطاة المقصود بها التمليك، لا الإباحة، و لا مجرّد الإعطاء لتناول ما في يد صاحبه لجميع وجوه أنحاء المشخّص للموضوعات المتنازع فيها: من تصريح جماعة منهم عليه، و دلالة تعليلاتهم على الصحّة و الفساد عليه، تصريحا و تلويحا حسب ما تعرّض الماتن (1) لبسطه. و من مشاهدة أنّ الواقع المتداول في أيدي الناس هو المعاطاة بقصد التمليك، لا الإباحة.

و من أنّ المتبادر من بيع المعاطاة عرفا عدم الفرق بينه و بين البيع المشتمل على العقد إلّا الصيغة، و أنّهم يقصدون فيه كلّ ما يقصدون به في بيوعهم. و من أنّ قصد الإباحة فيها ينافي ما ترتّب عليها على القول بالصحّة من جواز الوطء و العتق و البيع و غير ذلك من آثار الملكية. و احتمال إلغاء الشارع للأكثر المقصود و ترتّب أثر الملكيّة عليه شرعا بالجعل الشرعيّ تعبّدا بعيد:

أوّلا: بقلّة النظير له في المعاملات شرعا، أو عدم النظير له رأسا.

و ثانيا: بعدم دليل عليه شرعا، و عدم إشعار كلامهم بالاستناد إليه.


1- المكاسب: 82- 83.

ص: 330

و ثالثا: بعدم بناء الشارع في المعاملات على الجعل، مضافا إلى أنّ المعاطاة و إن كانت أمرا عرفيّا لكنّها موضوع مستنبط يتعلّق عليها أحكام الشرع، و تحصيل هذا الموضوع ليس من الأمور التعبّدية شرعا أو عرفا، بل للشخص تحصيل كيفيّته بحسب عمل نفسه و عمل غيره. و لا ريب أنّ من راجع نفسه في معاملة المعاطاة رأى أنّه لم يقصد بفعله عند التعاطي سوى التمليك و التملّك.

فتلخّص بكلّ واحد من تلك الوجوه الخمسة تشخيص كون المقصود من المعاطاة التمليك و التملّك. و إن أبيت فلا أقلّ من إفادة تراكمها الظنّ باعتبار التمليك.

و من المعلوم المقرّر في محلّه كفاية مطلق الظنّ في الموضوعات المستنبطة.

نعم، الذي يوهم إرادة الإباحة في محلّ النزاع من المعاطاة أمران:

أحدهما: تعليل غير واحد من القائلين بفساد المعاطاة: بأنّه ليس بيعا؛ نظرا إلى أنّ صحّة السلب من علائم المجاز، كما أنّ عدمها من علائم الحقيقة.

و يدفعه: أنّه و إن كان بملاحظة نفسه ظاهر في إرادة نفي الماهيّة إلّا أنّه بملاحظة أظهريّة كلماتهم الأخر، بل و بعض تصريحاتهم محمول على إرادة نفي اللزوم.

و ثانيهما: اتّفاقهم- ظاهرا- على أنّ المعاطاة إن صحّت فلا تفيد سوى الإباحة، فصحّة حمل الإباحة عليها أمارة حقيقيّة فيها، كما أنّ عدم صحّة الحمل أمارة عدم الحقيقة، فمع قصد الملك و عدم الإباحة لا منشأ لإباحة التصرّف، إذ الإباحة إن كانت من المالك فالمفروض أنّه لم يصدر منه إلّا التمليك، و إن كانت من الشارع فالمفروض:

أوّلا: عدم الدليل عليه شرعا، بل و عدم إشعار كلامهم بالاستناد إليه.

ص: 331

و ثانيا: بقلّة النظير له شرعا، أو عدمه رأسا.

و ثالثا: بعدم بناء الشارع في المعاملات على إلغاء الأثر المقصود، و ترتيب أثر جعليّ من عنده، و مقتضى ذلك كون المقصود من المعاطاة الإباحة دون التمليك، أو التمليك من جهة اعتقاد أنّه يؤثّر التمليك و الجهل عن كونه لا يؤثّره، ضرورة استحالة توجّه القصد إلى تحصيل ما يعلم عدم حصوله.

و يندفع أيضا: إمّا على ما أشار إليه الكركيّ (1) من تفسير الإباحة المحمولة على المعاطاة على الملك الجائز- ناقلا إيّاه عن كلّ القائلين بالإباحة في المعاطاة- فلعدم منافاته للتمليك المطلق المقصود.

و إمّا على الأخذ بظاهر قول المجمعين على الإباحة في المعاطاة فلما ستعرف من عدم استلزام التمليك للتملّك و حصول أثر الملك. كما أنّ تكسير شي ء لا يستلزم انكسار ذلك الشي ء و قبوله الأثر، بل يدور مدار قابليّة محلّ التأثير للتأثّر من الخارج.

و إن أبيت عن ذلك فلا نابي من الالتزام بأنّ التمليك المقصود من المعاطاة تمليك معلّق على إمضائه في نظر العرف أو الشرع، لا تمليك منجّز حتّى ينافيه الحكم عليه في الخارج بالإباحة. أو بأنّه ليس تمليكا فقط، بل هو تمليك مع الإباحة على وجه التعدّد المطلوبي، لا التقييديّ حتّى ينتفي أحدهما بانتفاء الآخر في الخارج.

و إن أبيت عن ذلك أيضا فلا نابي من الالتزام بكون الإباحة المترتّبة على المعاطاة إباحة شرعيّة بالأشباه و النظائر الآتية في المتن في منع استتباع العقود للقصود؛ لأنّه و إن بعّده ما ذكر إلّا أنّه مع لا مناص عنه بعد دوران الأمر بين الالتزام به، أو الالتزام بما هو أبعد منه جدّا، و هو الالتزام بقصد الإباحة في


1- جامع المقاصد 4: 58.

ص: 332

المعاطاة، أو الالتزام بمخالفة الأصل الأصيل، و هو إفادة المعاطاة التمليك من غير دليل حسب ما يأتي الكلام فيه بالتفصيل.

فإن قلت: النزاع في أنّ المعاطاة حكمه الملك أو الإباحة مبنيّ على تأصّل الأحكام الوضعيّة و استقلالها. و أمّا بناء على انتزاعها من الأحكام التكليفيّة- كما هو التحقيق الّذي عليه المحقّقون منهم الماتن في أصوله (1)- فلا موقع لهذا النزاع و لا محلّ.

قلت: لو كان النزاع في أنّ المعاطاة تفيد الملكيّة أو الإباحة لكان مبنيّا على ما ذكر، إلّا أنّه ليس في الملكيّة و الإباحة، و إنّما هو في الملك و الإباحة.

و فرق الملك عن الملكيّة كفرق الملزوم عن لازمة الأعمّ، و السبب عن السببيّة و البول- مثلا- عن الناقضيّة، فلا يخفى كما خفي.

قوله: «بل لم نجد قائلا به إلى زمان المحقّق الثاني .. إلخ».

أقول: بل استكشف شيخنا العلّامة من عدم وجود قائل به من صدر الإسلام إلى زمان الكركيّ الّذي يقرب من تسعمائة سنة الإجماع بجميع أنحائه و أقسامه و طرقه، من القدماء و المتأخّرين، و القوليّ و الفعلي، و المحصّل و المنقول، و اللطفيّ و التقريري، و العادي و غيرها.

ثمّ إنّه لو سلّمنا عدم استكشاف الإجماع بجميع أقسامه من ذلك فلا أقلّ من استكشافه عن مدرك ظنّيّ و لو كشفا ظنّيّا، و به الكفاية لاندراجه تحت الظنون الخاصّة. بل لو تنزّلنا فلا أقلّ من استكشافه عن الظنّ الاطمئنانيّ بالواقع، و به الكفاية في الاعتبار حتّى عند من لم يكتف بمطلق الظنّ.

قوله: «للسيرة المستمرّة على معاملة المأخوذ بالمعاطاة معاملة الملك .. إلخ».


1- فرائد الأصول: 350- 351.

ص: 333

أقول: و يمكن الإيراد عليه نقضا: باستمرار سيرة أكثر الناس في عباداتهم على عدم تحصيل مسائلها و شروطها، كما هو حقّه من التقليد أو الاحتياط، و في معاملاتهم على شركة الأبدان، و شركة الوجوه و في الإجارة بقولهم: «كلّ يوم» أو «كلّ شهر بكذا من الثمن» مع عدم تعيين المدّة، و غير ذلك من المعاملات الفاسدة، و في سياساتهم على ضرب الأطفال الصغر و المماليك و الخدّام و النسوان و عقوبتهم بالعقوبات الفاحشة الفاجرة لأدنى جناية، بل و لغير جناية من ترك أدب و نحوه، و على التعرّض لإعراض الناس في غيابهم، و على السبّ و الاستهزاء و السخرية في حضورهم، و على المزاح بظواهر ما يعدّ من أنواع التجرّي المحرّم، إلى غير ذلك من سيراتهم الناشئة عن المسامحة و قلّة المبالاة في الدين.

و حلّا: بأنّ السيرة المذكورة على ترتّب آثار الملكيّة على المعاطاة إنّما تكشف عن رضا المعصوم لو لا قيام الإجماع المتقدّم على خلافه إلى زمان المحقّق الثاني. مضافا إلى أنّ السيرة إنّما هي على إباحة التصرّفات المشتركة بين الملك و عدم الملك: من البيع و الوطء و العتق و الإيصاء، لا على ترتّب الآثار المختصّة بالملك: كالتوريث و التخميس و التزكية ..، إلى آخر ما في المتن (1).

قوله: «و يدلّ عليه أيضا عموم قوله تعالى وَ أَحَلَّ اللّٰهُ الْبَيْعَ (2)».

أقول: و يمكن منع دلالته، لكن لا لمنع صدق البيع على بيع المعاطاة حتى يعدّ مكابرة؛ لأنّ البيع هو مبادلة مال بعوض، و هو حاصل في المعاطاة قطعا.

و لا لمنع عموم البيع كما قيل حتّى يدفعه: أنّه و إن لم يكن عمومه لفظيّا إلّا أنّ فيه عموم حكمتي يقتضيه حكمة دليل العقل.

و لا لانصراف عمومه عن بيع المعاطاة حتّى يدفعه: عدم وجود سبب من


1- المكاسب: 83.
2- البقرة: 275.

ص: 334

سببي الانصراف، و هما غلبتي الوجود و الاستعمال في خلاف المعاطاة، بل إنّما هو لأجل أنّ تحليل البيع كما يحتمل أن يدلّ بالمطابقة على صحّة البيع عرفا، أو على حلّيّة جميع التصرّفات المترتّبة على البيع حتّى المتوقّفة على الملك الدالّ بالالتزام على حصول الملك من المعاطاة كذلك يحتمل دلالته على حلّيّة التصرّفات في الجملة في قبال حرمته الربا؛ ليكون إطلاقه واردا مورد بيان حكم آخر، أو على إمضاء ما يترتّب عرفا أو شرعا على البيع من التصرّفات، إن مالكيّة فمالكيّة، و إن غير مالكيّة فغير مالكيّة، فلا يدلّ إلّا على مجرّد الإمضاء و التأكيد و الإرشاد إلى ما هو المتداول الثابت عرفا أو شرعا على البيع، فيكون تشخيص آثار البيوع موكولة إلى المشخص الخارجي، و الآية (1) تدلّ على مجرّد إمضاء ما هو الثابت في الخارج تأكيدا له، لا مستفادة من دلالة الآية كما قيل به في دلالة آية أَوْفُوا بِالْعُقُودِ (2).

و حينئذ فإن لم نقل بظهور تحليل البيع المقابل لتحريم الربا في أحد المعنيين الآخرين فلا أقلّ من الشكّ في ظهوره في أحد المعنيين الأوّلين أيضا، و به الكفاية في بطلان الاستدلال، فتأمّل جدّا، فإنّ كلّا من احتمالي التأكيد و الورود مورد حكم آخر لعلّه مخالف لأصل أصيل إن لم يخالف ظاهر الدليل.

و ممّا ذكرنا يظهر سبيل المناقشة في التمسّك بآية تِجٰارَةً عَنْ تَرٰاضٍ (3) على حصول الملك من المعاطاة من غير زيادة و نقصان، فإنّ الآيتين قريب المؤدّى جدا.

قوله: «لأنّ عمومه باعتبار أنواع السلطنة».

[أقول:] و ربّما يبعد بأنّ عموم التسليط و إن كان باعتبار أنواع السلطنة-


1- البقرة: 275.
2- المائدة: 1.
3- النساء: 29.

ص: 335

أعني: التسليط في نوع البيع، و نوع الإجارة، و نوع الهيئة، و نوع الوقف، و غيرها من أنواع التمليك دون التسليط باعتبار أفراد كلّ واحد من تلك الأنواع- إلّا أنّ إخراج فرد كالمعاطاة عن تحت أفراد نوع البيع و إن أوجب التقييد بالأصالة في نوع البيع لا في عموم التسليط إلّا أنّه بالواسطة يرجع أيضا إلى تقييد العموم، و هو خلاف الأصل و العموم، ضرورة أنّ التقييد مخالف لأصالة الإطلاق من غير فرق بين تعلّقه بالعموم بالأصالة أو بالتبع، لتعلّقه بفرد نوع من الأنواع المندرجة في العموم، و هو «كرّ على ما فرّ».

فإن قلت: غرض الماتن من توجيه العموم إلى أنواع السلطنة ورود عمومه مورد بيان حكم الأنواع دون الأفراد، فتكون الأفراد غير ملحوظة في العموم حتّى يعدّ خروج بعضها تخصيصا، بل هو تخصّص لا تخصيص.

قلت: التفصّي عن عموم التسليط (1) بدعوى ورود إطلاقه مورد بيان حكم آخر و إن لم يوجب «الكرّ على ما فرّ» عنه من العموم إلّا أنّه يحتاج إلى الإثبات و البرهان، إذ لا أقلّ من مخالفته الأصل و الظهور، إذا الورود مورد بيان حكم آخر أمر يحتاج إلى القرينة العرفيّة عليه، و إلّا لأمكن التفصّي عن كلّ عموم بمجرّد احتماله، حتّى عن عموم العلماء لكلّ فرد من أفراد نوع من أنواعهم و أصنافهم.

نعم، يمكن توجيه التفصّي عن عموم التسليط للزوم المعاطاة بوجه وجيه آخر، لعلّه مقصود الماتن أيضا و إن قصر عنه تعبيره- و هو أن يقال: إنّ عموم التسليط و إن فرض فيه ما فرض من السعة و الشمول لجميع الأنواع و الأفراد- إلّا أنّه مع ذلك لا يستلزم حصول التسليط في جميع محالّه و أسبابه، بل يدور حصول التسلّط و التأثّر مدار قابليّة ذلك المحلّ و السبب للتأثّر في الخارج بمجرّد قصد التسليط و عدم قابليته له.


1- عوالي اللئالي 1: 222 ح 99.

ص: 336

كما أنّ عموم التكسير و التأثير لا يستلزم حصول الانكسار و قبول التأثّر في جميع محالّه و أسبابه، بل يدور مدار قابليّة ذلك المحلّ للتأثّر بذلك السبب و عدمه، فكما أنّ عدم قابليّة بعض المحالّ للتأثّر بكلّ سبب من أسباب التأثير يرجع إلى التخصّص لا إلى تخصيص عموم التأثير ببعض أفراده كذلك عدم حصول التملّك بمجرّد قصد التمليك في المعاطاة على القول به يرجع إلى التخصّص، لا إلى التخصيص في عموم التسليط حتّى يدفعه أصالة عدم التخصيص و التقييد. كما أنّ مرجع كلّ ما يستند عدم تأثّره بتأثير المؤثّر إلى عدم قابليّة المحلّ و السبب إنّما هو إلى التخصّص لا التخصيص.

ألا ترى أنّ عدم قابلية الضدّين للاجتماع لا يجدي تخصيصا في عموم قدرته تعالى على كلّ شي ء.

فظهر ممّا ذكرنا: ضعف تمسّك من تمسّك على حصول التملّك بالتعاطي بعموم «الناس مسلّطون» (1)، و ضعف من تمسّك أيضا بعمومه لنفي شروط العقد و الصيغة بالعربية و الماضويّة، و تقدّم الإيجاب، و صحّة التمسّك به لنفي شروط المتعاقدين. و أمّا شروط العوضين فستعرف جواز التمسّك به لنفي بعضها دون بعض.

قوله: «منها: أنّ العقود و ما قام مقامها لا تتبع القصود».

أقول: و يمكن الجواب عن التزام ذلك للقول بإباحة المعاطاة.

ثالثا- علاوة على الجوابين اللذين في المتن- بالتزام: أنّ المقصود من المعاطاة مجرّد إعطاء شي ء لتناول شي ء آخر من غير قصد الإباحة، و لا التمليك حتّى يلزم تخلّف العقود عن القصود، بل لمجرّد قصد تناول ما في يد صاحبه، كما هو المقصود من معاطاة المدلّس الغاشّ صاحبه بشي ء من أنواع التدليس و الغشّ


1- عوالي اللئالي 1: 222 ح 99.

ص: 337

بإعطاء الفلوس القلّب و الدراهم الصوريّة، أو نحو ذلك ممّا يكون مقصوده من التعاطي مجرّد تناول ما في يد صاحبه و لو على وجه السرقة و الحرمة، إلّا أنّه يعطيه بدل ما أخذ منه، لا من باب إباحته أو تمليكه له، بل من باب القهر و الإكراه لأجل إسكاته عن المخاصمة و المطالبة حياء أو خوفا منه أو من الناس، كما هو المتداول ظاهرا من معاطاة غالب الفجّار و الفسّاق الّذين لا يبالون عن شي ء من أنواع المحرّمات، أعاذنا اللّٰه من القساوة.

و الفرض من ينتظر المتعاطي بالمدلّس الغاشّ، في عدم قصد التمليك و لا الإباحة ليس إلّا دفع ما زعمه الماتن من «امتناع خلوّ الدافع عن قصد عنوان من عناوين البيع» (1).

و رابعا: بالتزام قصد مجرّد إباحة التصرّفات من المعاطاة دون قصد التمليك.

و خامسا: بالتزام قصد الإباحة و التمليك على وجه التعدّد المطلوبيّ دون التقييدي، أعني: تقييد الإباحة بالتمليك حتّى تتخلّف العقود عن القصود عند القائل بإفادة المعاطاة الإباحة لا التمليك، فيكون المقصود في المعاطاة الإباحة و التمليك الناشئ عن زعم حصوله بالمعاطاة، و جهلا أو تجاهلا عن عدم حصوله بها.

و سادسا: بالتزام قصد التمليك المعلّق على تحقّقه في نظر العرف، أو إمضائه في نظر الشرع، فما دام لم يتحقّق عرفا أو لم يمض شرعا بالإجماع المفروض فهو باق على الإباحة بالإذن الفحوي، أو شاهد الحال، إذ لعلّ الالتزام بكلّ من هذه الالتزامات الستّة أهون من الالتزام بمخالفة أصل أصيل من غير دليل، أعني: مخالفة أصالة عدم التمليك بالمعاطاة من غير دلالة لفظ عليه.


1- المكاسب: 81.

ص: 338

قوله: «و منها قصر التمليك على التصرّف .. إلخ».

[أقول:] و توضيح ذلك بعبارة اخرى: أنّ فرض كون التصرّف مملّكا على القول بالإباحة في المعاطاة يستلزم كون المتصرّف في تمليك نفسه موجبا قابلا.

و فيه: أوّلا: النقض بجميع الإباحات الّتي يكون التصرّف فيها مملّكا في الهدايا و الضيافات و غيرهما المتقدّمة في الذكر.

و ثانيا: الحلّ بأنّ التصرّف في المعاطاة إن جعلناه من النواقل القهريّة- كما هو الأقوى و الأظهر- فلا يستلزم كون المتصرّف قابلا و لا موجبا. و إن جعلناه من النواقل الغير القهريّة فغاية ما يستلزم كونه موجبا، و أمّا كونه مع ذلك قابلا فلا.

و لو سلّمنا استلزام كونه موجبا و قابلا معا فنمنع استبعاد اللازم لوقوع الأشباه و النظائر الكثيرة له في الشرع:

منها: رجوع الزوج إلى مطلّقته الرجعيّة قبل قضاء عدّتها، حيث إنّ مجرّد رجوعه بلمس أو تقبيل يعدّ شرعا منزلة الإيجاب و القبول معا.

و منها: إيجاب الموكّل في العقد لنفسه، حيث إنّه كاف و مجزئ عن القبول في تحقّق العقد على القول بصحّته.

و منها: الآخذ بالشفعة فإنّه أيضا موجب و قابل.

و منها: الفاسخ بالخيار فإنّه أيضا كذلك.

قوله: «و ذلك جار في القبض .. إلخ».

[أقول:] و فيه: أوّلا: أنّه إن أراد جريانه في القبض و لو مع وجود الفرق المثمر بينهما فهو لا يثبت دعوى مساواة الفرضين، أعني: مساواة فرض الالتزام بالإباحة مع فرض الالتزام بالتمليك في المعاطاة، فضلا عن دعوى أولويّة الثاني من الأوّل.

و إن أراد جريانه في القبض من غير فرق مثمر بين الفرضين فهو ممنوع

ص: 339

جدّا، إذ من جملة فروقه و ثمراته: كون النماء الحاصل قبل القبض تابع لأصله على تقدير عدم جريانه في القبض، و غير تابع على تقدير جريانه.

و ثانيا: سلّمنا جريانه في القبض على وجه المساواة و عدم الفرق، بل الأولويّة إلّا أنّه مع ذلك لا يستلزم مساواة الفرضين في الحكم، ضرورة أنّ مساواة القبض للتصرّف في الرجوع إلى الإيجاب و القبول في المعاطاة، بل و أولويّته أيضا لا يستلزم مساواتهما في الحكم، أعني: المملكية، إلّا على حجّيّة القياس الّذي ليس من مذهبنا، بل و لا من مذهب مخالفينا في مثل المقام المفروض قيام الإجماع على خلافه.

قوله: «لا أنّ الوجوه المذكورة تنهض في مقابل الأصول و العمومات».

[أقول:] أي: في مقابل أصالة عدم ملكيّة التعاطي و عمومات «لا عتق إلّا في ملك» (1).

و فيه: أنّه كيف لا تنهض هذه الاستبعادات في مقابل تلك الأصول و العمومات؟ مع أنّها لا تقصر عمّا ينهض من الظنون العاديّة في مقابل أصالة عدم الدخول بالزوجة مع الخلوة التامّة، و عدم النفقة مع المعاشرة العامّة، و أصالة الطهارة و عدم النجاسة في غسالة الحمّام، و طين الطرق، و سؤر المتّهم من الصبيان و النسوان و الكفّار و المخالفين، و فراوي العراق المنهيّ الصلاة فيها، معلّلا بأنّهم يستحلّون الميتة بالدباغة (2)، إلى غير ذلك من موارد تقديم الظاهر على الأصل.

قوله: «و لا من القائم مقامها شرعا».

[أقول:] فيه منع؛ لأنّ التعاطي و إن لم يكن من العقود المعتبر في تحقّقها الإيجاب و القبول إلّا أنّه من القائم مقامها شرعا و عرفا في أغلب متاجرهم


1- عوالي اللئالي 3: 421 ح 3.
2- الوسائل 2: 1081 ب «61» من أبواب النجاسات ح 4.

ص: 340

و مكاسبهم و مقاصدهم، بل في ما عدا النكاح و الطلاق من جميع عقودهم و إيقاعاتهم و نقلهم و انتقالاتهم، للإجماع و السيرة القطعيّة الكاشفة عن صحّتها و قيامها مقام العقود عرفا و شرعا، كتابا و سنّة بعموم أَحَلَّ اللّٰهُ الْبَيْعَ (1)، و تِجٰارَةً عَنْ تَرٰاضٍ (2)، و «الناس مسلّطون» (3).

قوله: «تبعيّة العقد للقصد و عدم انفكاكه عنه إنّما هو لأجل دليل صحّة ذلك العقد .. إلخ».

[أقول:] أي: لأجل قاعدة كلّيّة تبعيّة مطلق الأحكام الشرعيّة لأساميها، أي: موضوعاتها العرفيّة، و عدم انفكاكها عنها شرعا و عرفا، و دورانها مدارها وجوبا و عدما، كما لا يخفى على المتتبّع.

قوله: «السبب الفعلي لا يقوم مقام السبب القوليّ في المبايعات».

[أقول:] فيه ما عرفت من قيام الكتاب و السنّة و الإجماع و السيرة الوضعيّة على قيام التعاطي مقام السبب القوليّ في ما عدا النكاح و الطلاق في إقالة مطلق التملّك أو التمليك المطلق.

قوله: «تخلّف العقد عن مقصود المتبايعين كثيرة .. إلخ».

[أقول:] فيه: منع التخلّف أوّلا: بأنّ تبعيّة العقود خاصّة بالعقود الصحيحة.

و ثانيا: بأنّ التخلّف في موارده إنّما هو عن بعض المقصود بطروّ دليل، أو ضميمة قاعدة خارجيّة، بخلاف التخلّف عمّا نحن فيه.

و ثالثا: لو فرضنا التخلّف الكلّيّ أحيانا بمخرج خارجيّ فلا يقدح في كلّيّة القاعدة. كما أنّ العامّ المخصّص حجّة في الباقي، و تخصيص القواعد و العمومات غير عزيز.


1- البقرة: 275.
2- النساء: 29.
3- عوالي اللئالي 1: 222 ح 99.

ص: 341

قوله: «لإفادة العقد الفاسد الضمان عندهم في ما يقتضيه صحيحه».

[أقول:] و هذا معنى قولهم: «كلّ ما يضمن بصحيحه يضمن بفاسده، و كلّ ما لا يضمن بصحيحه لا يضمن بفاسده»، يعني: كلّ ما كان من العقود يترتّب الضمان على صحيحه- كعقد النكاح و نحوه- يترتّب الضمان على فاسدة لو فسد بتخلّل بعض شروط صحته، و كلّ ما كان منها لم يترتّب على صحيحه ضمان- كالهبة و الهديّة- لم يترتّب الضمان على فاسدة لو فسد بتخلّل شروط صحّته، و مأخذ هذه القاعدة كقاعدة «أنّ العقود تابعة للقصود» هو الاستقراء المحصّل من التتبّع في كلمات الشرع أو المتشرّعة الكاشفة عنه في باب المعاملات، كما هو المأخذ في أكثر قواعد باب المعاملات.

قوله: «فيكون كتصرّف ذي الخيار و الواهب فيما انتقل عنهما بالوطء و البيع و العتق و شبهها».

أقول: وجه الشبه: أنّ تصرّف ذي الخيار و الواهب بالوطء و نحوه كما يوجب لزوم الهبة و رفع الخيار كذلك تصرّف المتعاطي في المال المأخوذ بالمعاطاة يوجب لزوم المعاطاة.

لا يقال: إنّ التصرّف ملزم للتمليك في المشبه به فيقتضي أن يكون كذلك في المشبه، و الحال أنّ المقصود كونه ملزما للإباحة في المشبه و هو المعاطاة، فتشبيه المعاطاة ببيع الخيار و الهبة نقض للغرض الّذي هو في صدده من إفادة المعاطاة الإباحة، لا التمليك.

لأنّا نقول: الغرض المقصود من التشبيه: تشبيهه به في مجرّد ترتّب اللزوم على التصرّف و إن كان تعلّق اللزوم في المشبه به التمليك و في المشبه الإباحة و لكنّ الأشبه مع ذلك هو تشبيه مملّكية التصرّف في المال المتعاطي بمملّكية العتق و التصدّق عمّن وكّلك بقوله: «أعتق عبدك عنّي» أو: «تصدّق بمالك عنّي»،

ص: 342

فكما أنّ العتق و التصدّق عن الموكّل يقتضي بقاعدة «لا عتق إلّا [في] ملك» و نحوه الكشف عن سبق الملك على العتق و التصدّق آنا ما كذلك عتق الأمة المأخوذة بالمعاطاة أو وطؤها كاشف عن سبق الملك عليهما آنا ما، آخذا بمقتضى الجمع بين أصالة عدم الملك، إلّا في الزمان المتيقّن بوقوعه، و بين دليل جواز التصرّف المطلق و أدلّة (1) توقّف بعض التصرّفات على الملك.

فكما أنّ قول القائل: «أعتق عبدك عنّي» يدلّ بدلالة الاقتضاء على تمليك العبد إيّاه لتوقّف صحّة العتق عليه شرعا كذلك إباحة المتعاطيان التصرّف في المال المتعاطي- الّذي من جملته العتق و الوطء- تدلّ بدلالة الاقتضاء على مملّكيّة العتق و الوطء له؛ لتوقّفهما على الملك شرعا.

ثمّ إنّ المعيار المائز بين التصرّفات المملّكة للمال المأخوذ بالمعاطاة، و بين الغير المملّكة له بناء على إفادة المعاطاة الإباحة دون التمليك: هو أنّ كلّ تصرف كان من قبيل التصرّفات الموجبة للضمان أو الأرش أو الإضرار على صاحب المال فهو من التصرّفات المملّكة للمتعاطي، و كلّ تصرّف لم يوجب شيئا ممّا ذكر لم يكن مملّكا له، فلا يخفى.

قوله: «فهو استبعاد محض».

[أقول:] أي: استبعاد من غير مستبعد، و فرض السيرة مستبعدة رجوع إلى السيرة، و قد عرفت و هن اعتبارها بالنقض و الحلّ السابقين، فلا وجه لتعداد ما يزعمه الجاهل متعدّدا، و الحال أنّ مرجع جميعها إلى السيرة الموهون اعتبارها بالنقض و الحلّ، مع أنّ تعلّق الاستطاعة الموجبة للحجّ و تحقّق الغنى المانع عن استحقاق الزكاة لا يتوقّفان على الملك، بل يتوقّفان على القدرة، و لهذا يحكمون باستطاعة من بذل له الزاد و الراحلة و بغنى من كان له حرفة أو صنعة أو قدرة على


1- الوسائل 16: 6 ب (5) من أبواب العتق.

ص: 343

اكتساب ما يكفي مئونة سنته.

نعم، الّذي يتوقّف على الملك ظاهرا، كتعلّق الخمس و الزكاة، و أداء الديون، و حقّ الشفعة، و الميراث، لا استبعاد في الالتزام بانتظار تصرّف أحد المتعاطيين في المال المتعاطي بناء على عدم إفادة المعاطاة التملّك. و هل تجد من نفسك استبعادا في الالتزام بتوقّف حقّ الشفعة على تصرّف المشتري في الدار المشفع بالدخول أو السكون فيه آنا ما، و بتوقّف الزكوات و الديون على تصرّف المتعاطيين في المال المتعاطي؟

نعم، إن كان استبعاد فإنّما هو ناشئ إمّا عن توهّم استلزام القول بالإباحة المجرّدة، لعدم تعلّق شي ء من الزكوات و الديون و حقّ الشفعة بما في يد المتعاطيين مطلقا و لو تصرّفا فيه، لا في خصوص فرض ما إذا لم يتصرّفا فيه بعد.

و إمّا ناشئ عن استبعاد أصل تحقّق فرض عدم التصرّف في ما في اليد من المال المأخوذ بالتعاطي إلى أن يورث، أو يصير معرضا لتعلّق الأخماس و الزكوات و نحوهما، لا عن استبعاد حكم الفرض بعد تحقّقه.

و بعبارة اخرى: أنّ الاستبعاد ناشئ عن أصل ندور وقوع الفرض و تحقّقه بحيث كاد أن يلحق و عدم بالمعدومات و الفرضيّات البحتة، لا أنّه ناشئ عن استبعاد الحكم ببقاء الإباحة و عدم التملّك على الفرض بعد وقوعه و تحقّقه في الخارج، فتدبّر فإنّ كثيرا من الاستبعادات المتعلّقة بالأحكام راجعة بعد التأمّل و التدرب إلى أصل ندور تحقّق موضوعاتها، لا إلى نفس الحكم بعد تحقّق موضوعه.

قوله: «كما يقدّر ملكية المبيع للبائع و فسخ البيع من حين التلف استصحابا لأثر العقد».

أقول: و لتقدير الملكية في الفقه أشباه و نظائر أخر يقرّب تقديره في ما نحن فيه، بل يعيّنه لاتّحاد المناط الباعث على الالتزام به فيها مع الباعث على الالتزام

ص: 344

به في المعاطاة:

فمنها: الإجماع على صحّة العتق و التصدّق بمالي عن الغير إذا قال لي:

«أعتق عبدك عنّي»، أو «تصدّق بمالك عنّي» و الرجوع إليه في ثمن المعتوق و الصدقة، مع أنّ صحّة العتق و التصدّق عن شخص و الرجوع إليه في قيمة العبد و التصدّق كلّها من آثار الملكيّة، و لمّا لم يكن فيه ملكية قديمة التجأوا إلى تقدير الملكيّة المستحدثة قبل العتق و التصدّق آنا ما.

و منها: جواز وطء الغاصب الجارية المبتاعة بالثمن المغصوب مع علم البائع بغصبيّة ثمنها، و جواز تصرّف الغاصب بجميع التصرّفات المالكيّة في ثمن المبيع المغصوب مع علم المشتري بغصبيّة المثمن، مع أنّ الوطء و نحوه من التصرّفات من آثار تملّك الغاصب ثمن المغصوب أو مثمنة، و الحال أنّ مجرّد إباحة المال المبذول له بإزاء رفعه اليد عن المغصوب لا يثبت الملكيّة القديمة له، فلا بدّ من تقديرها في التصرّفات المالكيّة.

و منها: الأكل و الشرب و غيرها من التصرّفات المباحة للشخص اختيارا في مال الضيافة و الهديّة، و قهرا في حقّ المارّة و غيره من الإباحات المجّانية المترتّب عليها بعض آثار الملكيّة.

إلّا أن يقال بما قاله الشهيد في قواعده: من أنّه لا ضرورة إلى التقدير هنا (1)، و هو مبنيّ على كون الأكل و الشرب من آثار مجرّد الرضا، لا الملكيّة حتى يحتاج إلى تقديرها، و هو قويّ نظرا إلى قوله تعالى لٰا تَأْكُلُوا أَمْوٰالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبٰاطِلِ إِلّٰا أَنْ تَكُونَ تِجٰارَةً عَنْ تَرٰاضٍ (2)، و لم يقل: إلّا عن ملك، و «لا يحلّ مال امرئ مسلم إلّا عن طيب نفسه» (3)، و لم يقل: إلّا عن ملك.


1- القواعد و الفوائد 1: 69.
2- النساء: 29.
3- عوالي اللئالي 2: 113 ح 309.

ص: 345

و منها: انعتاق كلّ من العمودين على المشتري بمجرّد الشراء، حيث قدّروا الملك فيه قبل الانعتاق و بعد الشراء آنا ما، تحفّظا على قاعدة «لا عتق إلّا في ملك».

و منها: ما عن جماعة من الأصحاب: من تمليك الوكيل عوض ما يشتريه لنفسه من مال الموكّل، و ثمن ما يبيعه لنفسه من أعيان مال الوكيل إذا قال له:

«اشتر لنفسك من مالي ذلك الشي ء»، أو: «بع لنفسك ذلك العين من أعيان مالي»، مع أنّ تمليك الوكيل ما يشتري لنفسه من مال الموكّل له في شرائه لنفسه، أو ثمن المبيع الموكّل في بيعه لنفسه من آثار تملّكه ذلك المال، و المبيع الموكّل في بيع لنفسه من آثار تملّكه ذلك المال و المبيع، و لمّا لم يكن له ملكيّة قديمة بمجرّد التوكيل فلا بدّ من تقديرها لئلّا يلزم تخلّف قيام الثمن في غير مقام المثمن، و بالعكس.

إلى غير ذلك من موارد عدم الملكيّة القديمة المترتّب عليها آثار الملكية كلّا أو بعضا، فإنّها من الأشباه و النظائر المقرّبة لتقدير الملك في ترتّب الآثار الملكيّة على المعاطاة، و من موارد نقض استبعاد ترتّب التصرّفات المالكيّة عليها مع إفادتها الإباحة دون الملكيّة القديمة.

و حلّ ذلك النقض و تفصيل ذلك الإجمال: أنّ الجمع بين دليل إباحة التصرّفات المالكيّة الغير المنفكّة عن الملك في تلك الموارد المذكورة و بين دليل عدم الملكيّة فيها و أصالة عدمها إلّا في الزمان المتيقّن كما يقتضي الالتزام بتقدير الملك في آخر أزمنة إمكان تقديره في تلك الموارد، كذلك الجمع بين دليل ترتّب التصرّفات المالكية الغير المنفكّة عن الملك على المعاطاة و بين دليل الإجماع المتقدّم على عدم إفادتها الملكيّة و أصالة عدمها إلّا في الزمان المتيقّن يقتضي تقدير الملك قبل صدور التصرّفات المالكيّة و ترتّبها على المعاطاة آناً ما.

ص: 346

و إن شئت قلت: كما أنّ دليل إباحة جميع التصرّفات حتّى المتوقّفة على الملك يدلّ بدلالة الاقتضاء على تقدير الملك في تلك الموارد المذكورة، كذلك دليل إباحة جميع التصرّفات حتّى المتوقفة على الملك في المعاطاة يدلّ بدلالة الاقتضاء على تقدير الملك في آخر أزمنة إمكان تقديره.

لا يقال: إنّ تقدير الملك في تلك الموارد المذكورة إنّما ثبت بالإجماع فلا يتعدّى إلى غيرها.

لأنّا نقول: الإجماع إن ثبت في تلك الموارد فإنّما هو على صحّة العتق و الوطء و سائر التصرّفات المالكيّة، لا على تقدير الملك قطعا، و تقدير الملك فيها إنّما هو للتحفّظ على القواعد الشرعيّة في مثل «لا عتق إلّا في ملك» و نحوه، كما لا يخفى على من تتبّع مظانّها و لاحظها بأدنى ملاحظة.

قوله: «مشكل».

أقول: إن كان وجود المخالف موجبا للإشكال و الوهن في تحصيل الإجماع البسيط على نفي اللزوم فينبغي أن يوجب الإشكال و الوهن في تحصيل الإجماع المركّب على نفيه أيضا؛ لاتّحادهما في وجود المخالف، إذ كما أنّ للبسيط مخالفا في قباله كذلك للمركّب أيضا مخالف في قبالهما. و إن كان وجود المخالف غير موهن و مشكل في تحصيل الإجماع البسيط على نفي اللزوم فالعدول عن تحصيله إلى تحصيل الإجماع المركّب. بقوله: «نعم، يمكن .. إلخ» (1) ترجيح بلا مرجّح، و تفصيل بلا مفصّل، و لعلّ أمره بالتأمّل (2) أيضا إشارة إلى ذلك، أو إلى الوهن في تحصيل المركّب أيضا، فتدبّر و تأمّل.

بقي الكلام في حجّية القول بعدم إفادة المعاطاة الإباحة رأسا، أو التفصيل بين ما إذا كان الدالّ على التراضي و المعاملة اللفظ و عدمه.


1- المكاسب: 86.
2- المكاسب: 86.

ص: 347

و لعلّه: إمّا لدعوى الاقتصار على القدر المتيقّن من التوقيفات و أصالة عدم الإباحة و التراضي في ما عدا القدر المتيقّن.

و يندفع بما عرفت من عدم ريب و لا شكّ بعد إطلاق قوله تعالى تِجٰارَةً عَنْ تَرٰاضٍ (1)، و الإجماع المنقول، بل المحصّل بالتقريب المتقدّم، بل الضرورة على صحّة المعاطاة حتّى يبادر إلى الأخذ بالمتيقّن من صحّة البيوع.

و إمّا لتوهّم تخصيص إطلاق تِجٰارَةً عَنْ تَرٰاضٍ و معاقد الإجماع و الضرورة بظهور قوله عليه السّلام: «إنّما يحلّل الكلام و يحرّم الكلام» في حصر أسباب الحلّيّة في الكلام. فقد صحّ عن ابن أبي عمير أنّه لمّا سأل أبا عبد اللّٰه عليه السّلام عن الرجل يجيئني و يقول: اشتر لي هذا الثوب و أربحك كذا و كذا، فقال عليه السّلام: «أ ليس إن شاء أخذ، و إن شاء ترك؟! قلت: بلى، قال: لا بأس إنّما يحلّل الكلام و يحرّم الكلام» (2).

و يندفع أيضا: إمّا بتخصيص عموم مفهوم حصر أسباب حلّيّة البيع في الكلام بقيام الإجماع على خروج المعاطاة عن عموم مفهوم الحصر.

و إمّا بجعل الإجماع على حلّيّة المأخوذ بالمعاطاة من دون كلام قرينة كون الحصر حصر تقييد لا حصرا مطلقا، أعني: حصر قلب لقلب اعتقاد المخاطب عدم إفادة الكلام الحلّية في بيع ما ليس عنده، كما في قوله، تعالى إِنَّمٰا يُوحىٰ إِلَيَّ أَنَّمٰا إِلٰهُكُمْ إِلٰهٌ وٰاحِدٌ .. (3)، مع عدم انحصار الوحي إليه في التوحيد، و عدم انحصار صفاته تعالى في الوحدة. و كما في قوله تعالى وَ مٰا مُحَمَّدٌ إِلّٰا رَسُولٌ .. (4)، مع عدم انحصار صفاته، صلى اللّٰه عليه و آله في الرسالة. فكما أنّ الحصر في


1- النساء: 29.
2- الوسائل 12: 376 ب (8) من أبواب أحكام العقود ح 4.
3- الأنبياء: 108.
4- آل عمران: 144.

ص: 348

الآيتين حصر تقييد بقرينة قيام الدليل الخارجيّ على عدم إطلاق الحصر كذلك في الحديث حصر تقييد بقرينة الإجماع، بل الضرورة المذكورين.

و إمّا بجعل الإجماع قرينة كون المبيع في مورد الرواية عند مالكه الأوّل، ليكون وجه انحصار إيجاب البيع في الكلام في مورد الرواية هو عدم إمكان المعاطاة في خصوص المورد.

و أمّا حصر الماتن قدس سرّه وجه انحصار إيجاب البيع في الكلام في عدم إمكان المعاطاة في خصوص المورد دون سائر الوجوه المتقدّمة بقوله: «إذ المفروض أنّ المبيع عند مالكه الأوّل» (1) ففيه: منع كون المفروض ذلك، بل الغالب كون المبيع عند السمسار و الدلّال، لا عند مالكه الأوّل، بل الظاهر من تضمين السؤال الإشارة إلى الحاضر بقوله: «اشتر لي هذا الثوب» أيضا ذلك، و لو سلّمنا فلا أقلّ من تساوي الاحتمالين في مورد السؤال، فيعمّهما الجواب من باب ترك الاستفصال. و لعلّ الأمر بالتأمّل (2) في كلامه إشارة إلى ذلك أيضا.

قوله: «فلا ينفع الاستصحاب».

[أقول:] و توجيه عدم نفعه يرجع: إمّا إلى صيرورة الشكّ في لزوم المعاطاة بعد فقد التعيّن السابق به الذي هو من شروط صحّة الاستصحاب شكّا في الحادث الّذي لا يجري فيه الأصل، و على تقدير جريانه غير معتبر عند العقلاء.

و إمّا إلى صيرورة استصحاب الملك بعد رجوع أحد المتعاطيين أصلا مثبتا لإثباته اللزوم، و هو فصل من فصول كلّيّ الملك المستصحب، لا أثر شرعي. و قد اشتهر في لسان متأخّر المتأخّرين بأنّ إثبات الفصول بالأصول غير مقبول.

و لكن يدفعه:

أوّلا: بإمكان دعوى كفاية تحقّق القدر المشترك في الاستصحاب، و لكنّه


1- المكاسب: 86.
2- المكاسب: 86.

ص: 349

مضافا إلى ابتنائه على تقدير حجّية استصحاب الكلّيّ مع الشكّ في تعيين فرده و تردّده بين ما هو باق جزما و ما هو مرتفع كذلك: إمّا مبنيّ على تقدير القناعة بترتيب آثار كلّي الملك على استصحابه- أعني: ترتيب إباحة التصرّفات الثابتة على استصحاب الكلّيّ، لا لترتيب اللزوم الّذي هو فصل ذلك الكلّيّ و من لوازمه الغير الشرعيّة- و إمّا مبنيّ على تقدير الالتزام بكون اللزوم من الأمور المنتزعة عن الإباحة، و ليس من الأمور المتأصّلة و الفصول المقوّمة لكلّيّ الملك حتّى يكون إثباته بالأصول غير مقبول. و لعلّ أمر الماتن (1) بالتأمل إشارة إلى مباني حجّية استصحاب الكلّيّ في المقام، أو إلى ما فيها من الكلام.

أمّا المبنى الأوّل- و هو حجّية استصحاب الكلّيّ المردّد بين ما هو باق جزما و ما هو مرتفع كذلك، المعبّر عنه بالشكّ في الاستعداد، و الممثّل له باستصحاب كلّيّ الحيوان الدائر بين البقّ و الفيل إلى أطول زمان، يمكن عيش الفيل فيه- فهو و إن صحّحه الماتن في أصوله (2) إلّا أنّه محلّ خلاف، و المخالف له المحقّق القمّي قدس سرّه.

و أمّا المبنى الثاني- و هو القناعة- فلأنّه لا يجدي ما نحن بصدده من إثبات لزوم المعاطاة على القول بإفادته الملك.

و أمّا المبني الثالث فهو و إن صحّحه الماتن أيضا في أصوله وفاقا للمحقّقين إلّا أنّ الكلام في المقام مبنيّ على تقدير خلافه.

و ثانيا: بمنع كون نسبة اللزوم إلى الملك نسبة الفرد إلى الكلّيّ، و ذلك لأنّ انقسام الملك إلى اللزوم و الجواز من جهة الاختلاف في أسبابه، لا من جهة الاختلاف في حقيقته بالوجدان و البرهان المذكورين في المتن (3)، و مقتضى ذلك


1- المكاسب: 85.
2- فرائد الأصول: 371.
3- المكاسب: 85.

ص: 350

أن يكون اللزوم من الأمور المنتزعة الصرفة عن استصحاب الملك، لا من الفصول و الخصوصيّات المقوّمة له حتّى يكون إثباتها بالأصول غير مقبول، و أن يكون استصحاب الملك من غير الاستصحابات الكلّيّة المردّدة بين ما هو باق جزما من الأفراد، و ما هو مرتفع كذلك منها حتى يكون معرضا للتأمّلات السابقة، بخلاف مقتضى الجواب الأوّل.

و ثالثا: بأنّه يكفي في الاستصحاب الشكّ في أنّ اللزوم من خصوصيّات الملك، أو من لوازم السبب المملّك، و ذلك: إمّا على تقدير صحّة الاستصحاب على كلّ من تقديري المشكوك فيه فواضح. و إمّا على تقدير صحّته على تقدير دون تقدير فلعدم فقدان شي ء من الشروط المعتبرة في الاستصحاب من اليقين السابق و الشكّ اللاحق و بقاء الموضوع. و أمّا تعيين علّة الشكّ و منشئه فليس من الشروط، فتأمّل و تدرّب.

قوله: «نعم، لو تداعيا احتمل التحالف في الجملة».

ي [أقول:] و ذلك لأنّ المدّعي قد يوجّه الخلاف في وقوع العقد و صدوره بلفظ الهبة، أو بلفظ دالّ على اللزوم، مع الإغماض عن رجوع الدعوى إلى لزوم العقد الصادر أو جوازه، فإنّه بهذا اللحاظ يحتمل التحالف، نظرا إلى أنّ الأصل لا يشخّص اللفظ المتنازع في صدوره، بخلاف لحاظ توجّه الدعوى إلى لزوم العقد الصادر في الخارج و عدم لزومه، فإنّ الأصل بهذا اللحاظ يشخّص اللزوم.

و بالجملة: أنّ وجه الدعوى إلى أسباب اللزوم لم يكن في الدين أصل يشخّص أسباب اللزوم، و أنّ وجهها إلى المسبّب كان الأصل اللزوم.

فتلخّص ممّا ذكرنا: صحّة اقتضاء الأصول اللفظيّة و العمليّة اللزوم في كلّ عقد شكّ في لزومه، و كذا لو شكّ في أنّ الواقع في الخارج هو العقد اللازم أو غيره، سواء كان في غير مقام التداعي، أو في مقام التداعي ما لم تتوجّه الدعوى

ص: 351

إلى جهة غير اللزوم، كما لا يخفى، إلّا أنّ الظاهر في ما نحن فيه قيام الإجماع بجميع أنحائه، بل الضرورة على عدم لزوم المعاطاة و خروجها عن تحت أصالة اللزوم كما عرفت، و ستعرف من المتن و غيره.

قوله: «فالقول بالملك اللازم قول ثالث. فتأمّل».

[أقول:] إشارة إلى أنّ هذا الإمكان خلاف ما هو ظاهر المفيد و غيره و مقتضى الأصول العمليّة من استصحاب الملكيّة و اللفظيّة من إطلاق الكتاب و السنة من أَحَلَّ اللّٰهُ الْبَيْعَ (1) و تِجٰارَةً عَنْ تَرٰاضٍ (2) و «الناس مسلّطون» (3) و «البيعان بالخيار ما لم يفترقا».

قوله: «فتعيّن المعنى الثالث .. إلخ».

أقول: فيه- مضافا إلى ما في المعنى الثالث من استلزام إضمار العدم و الوجود المخالف للأصل- منع تعيين المعنى الثالث في الرواية؛ لما ستعرفه.

قوله: «أو المعنى الرابع .. إلخ».

أقول: فيه- مضافا إلى ما فيه من استلزام التفكيك بإرجاع قوله: «إنّما يحلّل الكلام» إلى العهد الذكري، و هو المقاولة و المراوضة، و إرجاع الكلام الآخر في قوله: «إنّما يحرّم الكلام» إلى العهد الذهنيّ المخالف للظاهر- منع تعيين المعنى الرابع في الرواية، كمنع تعيين شي ء من سائر المعاني الثلاثة المتقدّمة فيه، بل المتعيّن في الرواية معنى خامس أقرب عرفا من تلك المعاني، و أسلم ممّا لم يسلم منه سائر المعاني، و هو إرادة أنّ الكلام المعهود ذكرا في مورد الرواية- و هو المراوضة و المقاولة أو جنس الكلام- سبب تحليل المبيع على المشتري و تحريمه على البائع، و بعكسه في الثمن.


1- البقرة: 275.
2- النساء: 29.
3- عوالي اللئالي 1: 222 ح 99.

ص: 352

و من الواضح سلامة هذا المعنى عمّا يستلزم كلّ واحد من المعاني المذكورة في المتن (1)؛ و ذلك لسلامته عمّا في معنييه الأوّلين من عدم انطباق الجواب للسؤال فيهما، و عمّا في معناه الثالث من استلزام الإضمار المخالف للأصل، و عمّا في رابعة من استلزام مخالفة الظاهر و التفكيك بين محلّي اللام بإرجاع أحدهما إلى العهد الذكريّ و الآخر إلى الذهني.

فإن قلت: المعنى الخامس و إن سلم عمّا في سائر المعاني المذكورة في المتن إلّا أنّه لم يسلم عن مخالفة ظاهر آخر، و هو الالتزام بتقييد الحصر بحصر القلب، أو تخصيص عموم مفهوم الحصر بإخراج بيع المعاطاة.

قلت: مضافا إلى أنّ تقييد الحصر أو تخصيص عموم مفهومه مشترك الورود بين المعنى الخامس و سائر معاني المتن لا ريب أنّ التقييد و التخصيص أولى من سائر المجازات.

فإن قلت: إنّ المعنى الخامس يستلزم التخصيص بالأكثر في معنى الرواية؛ لأنّ ظاهره حصر أسباب التحليل و التحريم في الشريعة في اللفظ، فيستلزم إخراج الهدايا و التحف و المعاطاة و الضيافات و موارد شاهد الحال.

قلت: نمنع الملازمة أوّلا: بظهور الرواية بقرينة مورد السؤال في حصر أسباب تحليل البيع و الشراء الذي لا يستلزم لإخراج ما عدا بيع المعاطاة من الأمور المذكورة، لعدم دخول ما عدا المعاطاة في البيع حتى يحتاج إلى الإخراج، و ليس المراد من الرواية حصر أسباب مطلق التحليل و التحريم في الشريعة في اللفظ حتّى يستلزم لإخراج جميع ما ذكر.

و ثانيا: بأنّ الالتزام بخروج الهدايا و الضيافات و المعاطاة، و سائر الموارد المأذون فيها بشاهد الحال على تقدير التسليم لا يستلزم التخصيص بالأكثر في


1- راجع المكاسب: 86.

ص: 353

حصر أسباب التحليل و التحريم في الشريعة في الكلام؛ و ذلك لأنّ الباقي تحت ما يتوقّف تحليله على الكلام من أسباب أنواع البيوع و الإجارات و القروض و النذورات و الأنكحة و الأطلقة و سائر العقود اللازمة و الجائزة أكثر من الخارج بكثير قطعا.

و ثالثا: سلّمنا كون الخارج أكثر من الباقي لكنّ خروجه الأكثر ليس بالتخصيص حتّى يستهجنه العرف، بل إنّما هو بالتقييد، و هو غير مستهجن عرفا؛ و ذلك لأنّ عموم المفرد المحلّى باللام- أعني: لفظ الكلام- عموم حكمتيّ من شئون الإطلاق عندنا معاشر المشهور، لا عموم لفظيّ كما توهّم.

و رابعا: لو سلّمنا لزوم التخصيص بالأكثر فإنّما هو مشترك الورود بين المعنى الخامس و بعض سائر المعاني الأربعة، لا أنّه مختصّ بالمعنى الخامس.

ثمّ إن هذا كلّه في تشخيص حكم المعاطاة بعد تشخيص موضوعه المتنازع فيه من الجهة الاولى، أعني: من جهة اعتبار قصد الإباحة أو التمليك.

بقي الكلام في تشخيص موضوعه المتنازع فيه من الجهة الثانية الموعود عليها، أعني: تشخيص اعتبار سائر شروط البيع من شروط العوضين و المتعاوضين في المعاطاة و عدم اعتبارها.

فعن صاحب الحدائق (1) و الشهيد في المسالك (2): أنّه يعتبر في صحّة المعاطاة جميع ما يعتبر في البيع ممّا عدا الصيغة الخاصّة من شروط العوضين و المتعاوضين.

و عن الشهيد قدس سرّه في حواشيه (3) على القواعد عكس ذلك، أعني: عدم اعتبار شي ء من شروط البيع في المعاطاة، و لا من أحكامه.


1- الحدائق 18: 350.
2- مسالك الأفهام 3: 147.
3- حكاه عنه العامليّ في مفتاح الكرامة 4: 159.

ص: 354

و وجه بالتفصيل بين الشروط المستفاد اعتبارها في البيع بالدليل اللفظيّ، كالنصوص و الظواهر فتعتبر في المعاطاة، و بين الشروط المستفاد اعتبارها فيه بالدليل اللبيّ، كالإجماع و الشهرة فلا يعتبر.

و تفصيل آخر بين أن تكون المعاطاة مفيدة للملك، فيعتبر فيها ما يعتبر في البيع، و بين أن تكون مفيدة للإباحة فلا يعتبر فيها ما يعتبر فيه.

و تفصيل ثالث بين اعتبار ما عدا رفع الجهالة من شروط البيع في المعاطاة و اغتفار الجهالة فيها.

و التحقيق أن يقال: أمّا على القول بكون المقصود من المعاطاة الإباحة و لو مع ضميمة قصد التمليك على وجه التعدّد المطلوبيّ لا التقييدي، أو على القول المختار من كونها مفيدة للإباحة المالكية لا الشرعيّة و لو كان المقصود التمليك فلا إشكال في عدم اعتبار شي ء من شروط البيع و لا أحكامه في المعاطاة، فضلا عن شروط سائر العقود اللازمة و الجائزة، فيجوز المعاطاة على كلّ واحد من هذه الأقوال مع جهالة الثمن و المثمن، و جهالة الأجل، و مع عدم التقابض في المجلس في النقدين، بل و مع الصدور عن غير البالغين، بل و مع عدم حصول التعاطي فعلا من الطرفين بأن حصل الإعطاء فعلا من جانب واحد، أخذا بإطلاق تِجٰارَةً عَنْ تَرٰاضٍ (1)، و «لا يحلّ مال امرئ مسلم إلّا عن طيب نفسه» (2).

كما لا إشكال في اعتبار جميع شروط البيع ما عدا الصيغة الخاصّة في المعاطاة على القول بإفادتها الملك اللازم، و كذا على القول بإفادتها الإباحة الشرعيّة لا المالكيّة، و ذلك: إمّا على القول بإفادتها الملك اللازم فلكونها بيعا لازما- و هو من أكمل أفراد البيع- فيلحقها جميع الشروط المعتبرة في البيع. و إمّا


1- النساء: 29.
2- عوالي اللئالي 2: 113 ح 309.

ص: 355

على القول بإفادتها الإباحة الشرعيّة فلأنّه و إن لم يكن كذلك إلّا أنّه لمّا كان دليل الإباحة الشرعيّة هو السيرة و الإجماع دون التراضي و طيب النفس فلا بدّ من الاقتصار على القدر المتيقّن من معقده، و هو الجامع لشروط البيع.

و وجه عدم نهوض إطلاق التراضي و طيب النفس على القول بالإباحة الشرعيّة: هو تقييد رضا المتعاطيين بالحصول في ضمن التملّك المفروض إلغاؤه و انتفاؤه شرعا، و انتفاء القيد- و هو التملّك- قاض بانتفاء المقيّد- و هو الرضا و طيب النفس- هذا كلّه ممّا لا إشكال فيه.

إنّما الإشكال في أنّه على القول بإفادتها الملك الجائز- كالمحقّق الكركيّ (1)- هل يعتبر فيها ما يعتبر في البيع من شروط العوضين و المتعاوضين مطلقا؛ نظرا إلى إطلاق البيع عليها حينئذ فيلحقها ما يلحقه من الشروط و الأحكام، أم لا يعتبر فيها مطلقا بناء على نقل البيع شرعا إلى البيع اللازم، و هو الصادر بصيغة خاصّة أو انصرافه إليه، أم التفصيل بين الشروط المعتبرة في البيع بالدليل اللفظيّ فيعتبر فيها، و بين الشروط المعتبرة فيه بالدليل اللبّيّ فلا تعتبر، نظرا إلى الأخذ بالمتيقّن في اللّبيّات، أم التفصيل بين اعتبار ما عدا الجهالة فيها من سائر شروط البيع، و بين اغتفار الجهالة فيها، نظرا إلى أنّ سيرة الناس جارية على عدم تعيين مقدار المكث، و لا مقدار التصرّف، و لا موضع المكث في الحمّام و السفن و المنازل و الدوابّ و غيرها، بل و لا تعيين ثمن الأجرة و المبيع اكتفاء بقولهم: «حالك حال الناس» و نحو ذلك؟ وجوه أربعة، بل أقوال:

أمّا الأوّل منها- و هو اعتبار جميع شروط البيع و أحكامه في المعاطاة ما عدا الصيغة الخاصّة- فإنّما يبتنى على القول ببقاء البيع عرفا فيما يشمل المعاطاة، و عدم صيرورته حقيقة شرعية و لا متشرّعة فيما عدا و المعاطاة ممّا يقع بصيغة


1- جامع المقاصد 4: 58.

ص: 356

خاصّة.

كما أنّ الثاني منها- و هو عدم اعتبار شي ء من شروط البيع فيها- إنّما يبتنى على صيرورته حقيقة شرعيّة فيما يقع بصيغة خاصّة، أو انصرافه إليه.

كما أنّ الثالث منها- و هو التفصيل بين الشروط المعتبرة في البيع بدليل لفظيّ و بين غيرها- إنّما يبتنى على بقائه شرعا في المعنى العرفيّ الشامل للمعاطاة، و صيرورته حقيقة اصطلاحيّة عند المتشرّعة فيما عدا المعاطاة ممّا يقع بصيغة خاصّة، و هو الأقوى و الأظهر؛ لأنّ نفي الحقيقة الشرعيّة عن ألفاظ المعاملات و إن كان هو الموافق لأصالة العدم- أعني: عدم النقل و الاشتراك- و للشهرة العظيمة، بل الاتّفاق، إلّا أنّه لا مجال لإنكار اصطلاح المتشرّعة له فيما عدا المعاطاة ممّا يقع بصيغة خاصّة؛ للشهرة، بل الإجماع المنقول عن غير موضع من مفتاح الكرامة (1)، و به الكفاية في إثبات ما يكون من الموضوعات المستنبطة الكافي في إثباتها مطلق الظنّ اتّفاقا.

فتبيّن من ذلك: أنّ أصحّ المباني هو المبنى الثالث المتفرّع على صحّته اعتبار جميع الشروط المعتبرة في البيع باللفظ، لا اللبّ في المعاطاة على القول بإفادتها الملك.

و أمّا استشهاد الماتن على القول الثاني- و هو عدم اعتبار شي ء من شروط البيع في المعاطاة حتّى على القول بإفادتها الملك بقوله: «لانصراف المطلق إلى الفرد المحكوم باللزوم (2) .. إلخ» ففيه: أنّه إن أريد الانصراف القهريّ الناشئ عن وجود أحد سببي الانصراف من غلبتي الوجود و الاستعمال- كما هو الظاهر- ففيه: أنّ غلبة البيع اللازم الناشئ عن إعمال الصيغة الخاصّة على البيع المعاطاة


1- مفتاح الكرامة 4: 154.
2- المكاسب: 87.

ص: 357

بأحد الغلبتين ممنوعة إن لم تكن معكوسة بالحسّ و العيان.

و إن أريد الانصراف القصديّ الناشئ عن اصطلاح المتشرعة للبيع في اللازم دون اصطلاح الشارع فهو و إن كان حقّا إلّا أنّه لا يثبت مدّعاه الّذي هو بصدده من عدم اعتبار شي ء من شروط البيع في المعاطاة؛ لما عرفت من أنّ غاية مقتضاه هو عدم اعتبار الشروط المستفادة من الدليل اللّبيّ في المعاطاة، لا عدم الشروط مطلقا.

كما أنّ استشهاد صاحب الجواهر عليه أيضا في جواهره بالشواهد الآتية مدفوع بمنع الصغرى، و هي أصل الشاهد في بعضها، و منع الكبرى، و هي شهادة الشاهد في بعضها الآخر.

فمن جملة ما استشهد به على عدم اعتبار شي ء من شروط البيع في المعاطاة: هو صحّة سلب اسم البيع عنها، و هو ممنوع جدّا؛ لأنّه: إن أريد صحّة سلب اسم البيع عرفا فقد عرفت الشهرة، بل الاتّفاق المنقول، بل المحصّل من التبادر.

و التصريح بكون البيع: هو مبادلة مال بمال كما عن المصباح (1)، أو ما يؤدّي مؤدّاه كما في المجمع و غيره من: أنّه إعطاء ثمن و أخذ مثمن (2). فيعمّ الحاصل من صيغة خاصّة و عدمه، و بأصالة عدم النقل و الشهرة، بل الاتّفاق على عدم الحقيقة الشرعيّة في ألفاظ المعاملات يثبت كونه في الشرع كذلك.

فقد استظهر الماتن قدس سرّه من كلام المحقّق الثاني نفي الكلام عن إطلاق البيع على المعاطاة (3)، حتّى على القول بفسادها كالعلّامة (4)، فضلا عن القول بصحّتها،


1- المصباح المنير 1: 69.
2- مجمع البحرين 4: 303 و فيه: إعطاء المثمن و أخذ الثمن.
3- المكاسب: 87.
4- نهاية الإحكام 2: 449.

ص: 358

فكيف و كلامنا على فرض إفادتها الملك؟! و إن أريد صحّة سلب اسمه عنها في عرف المتشرّعة لاصطلاحهم البيع في البيع اللازم المشتمل على الإيجاب و القبول بصيغة خاصّة، أو صحّة سلبه مجازا مريدا به سلب اللزوم من باب سلب المطلق و إرادة سلب المقيّد فهو و إن كان مسلّما إلّا أنّه لا يثبت المدّعى، و هو عدم اعتبار شي ء من شروط البيع في المعاطاة، بل غاية ما يثبت على التقدير الأوّل هو عدم الشروط المعتبرة في البيع بالدليل اللّبيّ. و أما على التقدير الثاني فلا يثبت ذلك أيضا، فضلا عن غيره.

و من جملة ما استشهد به الجواهر أيضا على عدم كون المعاطاة بيعا: هو استشهاده بإطلاق قوله عليه السّلام: «البيّعان بالخيار ما لم يفترقا» (1)، و «من أقال نادما ببيعه أقال اللّٰه عثرته» (2)، و «من اشترى حيوانا كان بالخيار إلى ثلاثة أيّام» (3) إلى غير ذلك ممّا لا يتمّ في بيع المعاطاة المفروض كونه جائزا بالذات إلّا بتكلّف مستقبح يمكن القطع بفساده. انتهى (4).

و طريق الاستدلال بها على عدم كون المعاطاة بيعا هو اقتضاء إطلاقها: أن يكون كلّ بيع قابلا للخيار و الإقالة- و هو بقاعدة عكس النقيض- يستلزم لقوله:

«كلّ ما ليس بقابل كالمعاطاة ليس ببيع».

و فيه: أوّلا: أنّ مقتضى الإطلاقات المذكورة لا تقاوم ما تقدّم من الشهرة، بل الاتّفاق على كون المعاطاة بيعا عرفا، حتّى على القول بفسادها كالعلّامة.

و ثانيا: نمنع عدم قابليّة المعاطاة للخيار و الإقالة و غير هما ممّا ذكر، بل هو


1- الوسائل 12: 346 ب «1» من أبواب الخيار ح 3.
2- الوسائل 12: 286 ب «3» من أبواب آداب التجارة ح 2، مع اختلاف في اللفظ.
3- لم نجده بهذا اللفظ في مصادر الحديث، و ورد مضمونه في الأخبار، انظر الوسائل 12: 348 ب «3» من أبواب الخيار.
4- جواهر الكلام 22: 241- 242.

ص: 359

قابل و إن لم تظهر ثمرة جريان الخيار و الإقالة فيها إلّا بعد اللزوم، فالخيار و الإقالة و غير هما ممّا ذكر موجودة من زمن المعاطاة، إلّا أنّ أثرها يظهر بعد اللزوم، و على هذا فيصحّ إسقاطه و المصالحة عليه قبل اللزوم، كما سيأتي عند تعرّض الملزمات.

و من جملة ما استشهد (1) به أيضا على ما ذكر: استشهاده بأنّ قوله عليه السّلام: «كلّ مبيع تلف قبل قبضه فهو من مال بائعه» (2) كالصريح في عدم تحقّق البيع بالتقابض الّذي هو في الحقيقة من أحكام البيع، أو شرط في صحّته في الصرف.

و فيه: أنّه و إن سلّم ظهوره في عدم تحقّق البيع بالتقابض الّذي هو من أحكام البيع أو من شروط صحّته إلّا أنّه لا يقاوم ما تقدّم من الاتّفاق على شمول البيع العرفيّ للمعاطاة و التقابض، و حينئذ فهو قرينة تخصيص عموم كلّ بالبيع بصيغة خاصّة، أو ارتكاب الاستخدام بإرجاع الضمائر المتتالية للعامّ إلى بعض أفراده على الخلاف في أنّ العامّ المتعقّب ضميرا يرجع إلى بعض أفراده مخصّص لعمومه، أو موجب للاستخدام.

و من جملة ما استشهد به أيضا على ما ذكر (3): استشهاده بفحوى ما تسمعه في النكاح، بل و الطلاق و الظهار و غير هما من الإيقاعات المعلوم عدم جريان المعاطاة فيها. بل ربّما قيل بشمول العقود لها بناء على إرادة مطلق الملزم من العقد فيها و لو من جانب.

بل قد يشهد له ما في الدعائم: قال جعفر بن محمد عليهما السّلام أَوْفُوا بِالْعُقُودِ في البيع و الشراء و النكاح و الحلف و الصدقة (4).


1- جواهر الكلام 22: 242.
2- الوسائل 12: 358 ب (10) من أبواب الخيار.
3- جواهر الكلام 22: 242.
4- دعائم الإسلام 2: 27- 28 ح 53.

ص: 360

و فيه: أنّه إن أريد من فحوى دلالة عدم جريان المعاطاة في النكاح على عدم جريانه في البيع على وجه يعدّ في العرف بيعا هو مفهوم الموافقة فهو قياس محض، و تسميته بدلالة الفحوى محلّ نظر.

و إن أريد من دلالته عليه بالفحوى دلالته عليه بالأولويّة فهي ممنوعة إن لم تكن معكوسة، ضرورة أغلبيّة سائر ما يجري فيه المعاطاة من العقود: كالإجارة و الوكالة و البيع و الشركة و الوديعة و العارية و الرهن و القرض و الضمان و الكفالة، و غيرها على ما لا يجري فيه، كالنكاح و الطلاق مع الإشكال في كونه عقدا، فالالتزام بخروج ما يجري فيه المعاطاة مع كثرة مواردها عن تحت الأصل و القاعدة ليس بأولى من الالتزام بخروج ما لا يجري فيه المعاطاة مع قلّة موارده، بل انحصاره في النكاح إن لم يكن الأولى، بل المتعيّن هو الثاني.

[و ينبغي التنبيه على أمور]
[الأول الظاهر أن المعاطاة قبل اللزوم على القول بإفادتها الملك بيع]

قوله: «و أمّا على القول بالإباحة».

[أقول:] فيشكل بأنّه بعد عدم حصول الملك بها لا دليل على تأثّرها في الإباحة.

و فيه: أنّ ذلك الإشكال إنّما يتمّ لو أردت من الإباحة الإباحة الشرعيّة المستلزمة لإلغاء الشارع الإباحة المالكيّة.

و أمّا لو أريد من الإباحة الإباحة المالكيّة فالدليل على تأثّرها في الإباحة هو إطلاق تِجٰارَةً عَنْ تَرٰاضٍ (1)، و «طيب النفس» (2) و أَحَلَّ اللّٰهُ الْبَيْعَ (3)، و «الناس مسلّطون» (4) و إن لم يصدق التعاطي الفعليّ من الطرفين؛ لأنّ الموضوع المستنبط المتعلّق به الإباحة، و التحليل ليس لفظ «المعاطاة» حتّى يدور الحكم


1- النساء: 29.
2- عوالي اللئالي، 2: 113 ح 309.
3- البقرة: 275.
4- عوالي اللئالي 1: 222 ح 99.

ص: 361

مدار صدقه، بل إنّما هو البيع و تِجٰارَةً عَنْ تَرٰاضٍ و «طيب النفس» الصادق مطلقا و إن لم يصدق التعاطي فعلا.

و بالجملة: فلا إشكال في عدم اعتبار حصول التعاطي فعلا من الطرفين في صحّة المعاطاة، إلّا على القول بإفادتها الإباحة الشرعيّة من جهة انحصار دليل الإباحة الشرعيّة، مع عدم الإباحة من جانب المالك في دعوى قيام السيرة عليها كقيامها على الإباحة في المعاطاة الحقيقة.

أمّا على القول بإفادتها الملك فلعموم حكم البيع لكلّ بيع فعليّ صدق التعاطي عليه أم لا؟

و أمّا على القول بإفادتها الإباحة المالكية فلإطلاق تِجٰارَةً عَنْ تَرٰاضٍ و «طيب النفس» و إن لم يكن المقصود من المعاطاة التمليك، مضافا إلى صدق البيع عرفا و شرعا على القول بإفادتها الإباحة المالكيّة إذا كان المقصود منه التمليك، و عرفا فقط لا شرعا على القول بكون المقصود منه مجرّد الإباحة.

و الحاصل: أنّ المعاطاة الحقيقيّة هي ما حصل فيها التعاطي فعلا من الطرفين على وجه يمكن تنزيل أحدهما منزلة الإيجاب، و الآخر منزلة القبول، سواء لم يقترن بصيغة أصلا أم اقترن بصيغة فاسدة، فإنّ كلّ عقد صدر بلفظ فاسد انقلب معاطاة و ألحقه حكمها، كما استظهره في الدروس (1) أيضا عمّا نقل عن الحلبيّ (2) من حكمه بلزوم البيع الصادر بلفظ فاسد بمجرّد التصرّف من أحد الطرفين.

و يقرب منه: حصول التعاطي فعلا من طرف واحد على وجه ينزّل منزلة البيع نسية.

و دونه في القرب حصوله فعلا، لكن من غير إعطاء أصلا، فضلا عن


1- الدروس الشرعيّة 3: 194.
2- الكافي في الفقه: 355.

ص: 362

التعاطي، كتناول الماء مع غيبة السقّاء و وضع ثمنه في المكان المعدّ له.

و دونه في القرب: حصول مجرّد المقاولة فعلا بينهما من غير حصول فعل فعلا، فضلا عن حصول الإعطاء، و فضلا عن حصول التعاطي، و فضلا عن حصول التعاطي الفعليّ من الطرفين.

و دونه في القرب: حصوله من غير تحصيل و لا مقاولة و لا إيصال، فضلا عمّا عداه، كما إذا فرض اتّفاق حصول مبيع في يدك و حصول ثمنه في يد بائعه بواسطة اتّفاق تهافت الأرباح و نحوه، و علم كلّ منهما رضا الآخر في تملّك ما وقع في يده من مال الغير بإزاء تملّك الغير ما وقع في يده من ماله.

و إذ قد عرفت أنّ صور المعاطاة خمس فأعلم: أنّه لا إشكال في انحصار المعاطاة الحقيقيّة في الصورة الأولى منها، و لا في صدق البيع العرفيّ على ما عدا الصورة الأخيرة من سائر الصور. و أنّه لمّا لم تكن المعاطاة موضوعا مستنبطا للحكم بالإباحة في المسألة لم يكن إشكال في إلحاق ما عدا الصورة الأخيرة بالصورة الأولى حكما، و إن خرجت عنها موضوعا بناء على المختار في إفادة المعاطاة الإباحة المالكيّة، لأنّ دليل الإباحة المالكيّة هو قوله تعالى تِجٰارَةً عَنْ تَرٰاضٍ، و «طيب النفس»، و «الناس مسلّطون». و المفروض إطلاقها على كلّ ممّا عدا الصورة الأخيرة.

نعم، بناء على القول بإفادة المعاطاة الإباحة الشرعيّة لمّا كان دليلها السيرة و الإجماع اتّبع الحكم للقدر المتيقّن من معقدهما، و أشكل جريانهما فيها عدا الصورة الاولى من باقي الصور، سيّما في الصورة الثالثة، و سيّما في الرابعة، فإنّ إشكال جريان السيرة و الإجماع في الصورة الثالثة آكد من إشكال جريانهما في الصورة الثانية؛ نظرا إلى أنّ كثرة تداول الصورة الثالثة في معاملات الناس لم يبلغ مبلغ تداول الصورة الثانية في الكثرة. كما أنّ تداول الصورة الرابعة لم يبلغ مبلغ

ص: 363

تداول الصورة الثالثة فيها.

و أمّا الصورة الخامسة- و هي الصورة الأخيرة- فلمّا لم يطلق عليها البيع العرفيّ لم يكن وجه لإلحاقها بالمعاطاة حكما، أعني: في الحكم بلزومها بمجرّد التصرّف، و لا في غير ذلك من أحكام البيع. كما لم تلحق بها اسما و إن أبيح لكلّ منهما التصرّف فيما وقع في يده من مال الغير، مع علم كلّ منهما برضا الآخر، إلّا أنّه لا يلحق تصرّفهما أحكام البيع من اللزوم و غيره، بل يتعلّق بذمّة المتصرّف بعد ذهاب العين بتصرّفه، المثل في المثليّ، و القيمة في القيميّ، كما في التصرّفات الغير المأذون فيها، غاية الفرق بين التصرّفين: أنّه حلال على الأوّل، و حرام على الثاني. و أمّا من حيث إنّ المترتّب على ذمّة المتصرّف المثل في المثليّ و القيمة في القيميّ فكلاهما سيّان.

قوله: «و إن خصّصنا الحكم بالبيع».

[أقول:] و ذلك: إمّا على القول بأنّ حرمة الربا من أحكام مطلق المعاوضة كما عليه المحقّق (1) و غيره فواضح إطلاق حرمته في المعاطاة، سواء قلنا بأنّها مفيدة للإباحة أو الملك. و إمّا على القول باختصاص حرمة الربا بالبيع كما عن ابن إدريس (2)، فوجه حرمته في المعاطاة: إمّا على القول بإفادة المعاطاة الملك فواضح أيضا، لكونه بيعا في الشرع و العرف. و إمّا على القول بإفادتها الإباحة لا الملك فلما أشار إليه الماتن قدس سرّه في أوّل التنبيه من استظهار كونه بيعا عرفيا و إن لم يؤثّر شرعا إلّا الإباحة (3).

نعم، لا يتوجّه إطلاق تحريمه الربا فيه على القول بأنّ المقصود في المعاطاة مجرّد الإباحة خاصّة. و لعل إطلاق الماتن قدس سرّه الحرمة ناشئ عن


1- شرائع الإسلام 3: 219.
2- السرائر 2: 253 و 257.
3- المكاسب: 87.

ص: 364

الإغماض عن هذا الفرض؛ لضعّف القول به جدّا، و إلّا فقد صرّح هو في أوّل التنبيه: بأنّ المعاطاة على هذا القول ليست بيعا، لا شرعا و لا عرفا (1)، و مع ذلك كيف يطلق الحرمة فيه حتّى على القول باختصاص حرمته بالبيع؟ و لعلّ الأمر بالتأمّل في بعض النسخ إلى إشارة الى ذلك، و كون الزيادة الربويّة في الإباحة المعوّضة إباحة بلا عوض.

[الأمر الثالث تميّز البائع عن المشتري]

قوله: «الثالث تميّز البائع عن المشتري».

أقول: تميّز البائع عن المشتري لمّا كان متفرّعا على إحراز أصل البيع في المعاملة فلا بدّ أن نقول مقدّمة: إنّ المتعاطيين إن قصدا في التعاطي إباحة كلّ منهما ما يعطي صاحبه فلا إشكال في عدم كونه بيعا في العرف، كما أنّه لا إشكال في كونه بيعا في العرف و لو قصدا في التعاطي تمليك كلّ منهما الآخر ما يعطيه.

إنّما الإشكال في أنه لو قصدا من التعاطي مجرّد المبادلة و تناول كلّ منهما مال الآخر من غير قصد الإباحة و لا خصوص التمليك هل يعدّ بيعا في العرف؛ نظرا إلى أنّ الأصل في معاملة الأعيان البيع، كما أنّ الأصل في معاملة المنافع الإجارة، أمّ يعدّ مصالحة ليلحقه أحكام المصالحة الّتي من جملتها: جواز المصالحة مع الإقرار و الإنكار، و مع الجهل و غيره؛ نظرا إلى أنّ المصالحة معناها:

التسالم على شي ء و رفع الخصومة فيه، و هو الجنس الأعمّ و القدر المتيقّن من المقصود في جميع المعاملات، فيقتصر عليه عند الشكّ في قصد الزائد، أم يعدّ من الهبة المعوّضة ليلحقه أحكامها المختصّة بها؛ نظرا إلى إمكان انحلال كلّ من التبادلين إلى إيجاب و قبول على حدة، فإعطاء الثمن بمنزلة إيجاب، و أخذه بمنزلة قبول. و كذا إعطاء المثمن بمنزلة إيجاب آخر، و أخذه بمنزلة قبول آخر، فكما أنّ الهبة المعوّضة تناول مشتمل على إيجاب و قبول بإزاء تناول كذلك كذلك ما نحن فيه، أم يعدّ معاملة مستقلّة لئلّا يلحقها شي ء من الأحكام المختصّة بسائر


1- المكاسب: 87.

ص: 365

المعاملات؟ وجوه، أقربها انطباقا على أصالة عدم ترتّب شي ء من الآثار و الأحكام المختصّة بغيرها عليها هو المعاملة المستقلّة.

و أمّا أصالة البيع فليس لها معنى سوى الغلبة، و مجراها إنّما هو في معاملات الناس المشكوك كيفيّتها على الشخص، لا في معاملات نفسه المعلوم كيفيّتها عنده.

و كذا أصالة عدم قصد ما يزيد على التسالم الّذي هو معنى المصالحة فإنّها لا تجري في معاملات نفس الشخص، مضافا إلى أنّ الشكّ بالنسبة إلى قصد المتعاطيين شكّ في الحادث، لا الحدوث حتّى يجري فيه الأصل. فتبيّن أنّ الأصل الأصيل كونه معاملة مستقلّة، و مقتضاه عدم ترتّب الأحكام المختصّة بسائر المعاملات عليه إلّا بعد التصرّف، فيلزم ترتّب أحكام اللزوم عليه من حين التصرّف، لا من أوّل المعاملة، أخذا بأصالة العدم إلى الزمان المتيقّن، كما يلزم ترتّب أحكام اللزوم في سائر المعاملات الغير اللازمة من حين التصرّف.

و إذا عرفت ما يعدّ بيعا من أقسام المعاطاة و ما لا يعدّ فاعلم: أنّ البائع و المشتري لمّا كانا من الموضوعات المستنبطة الّتي خصّ الشارع كلّا منهما بحكم مخالف لحكم الآخر، كحكمه بأنّ ما تلف قبل قبضه فهو من مال بائعه (1) و لمشتري الحيوان الخيار إلى ثلاثة أيام (2)، فلا بدّ بعد تمييز كون المعاملة بيعا من بيان ما يتميّز البائع عن المشتري. و قد اختلف كلم الأصحاب في طرق تمييز كلّ منهما عن الآخر، و مع ذلك لم يتمكّنوا من تعريف المائز بما يصحّ طردا و عكسا، فأقرب طرق تميّز كلّ منهما عن الآخر هو الإحالة إلى العرف.

إذن لا أقول بعدم إمكان تعريف المميّز لهما بما عدا الحوالة إلى العرف.


1- الوسائل 12: 358 ب (10) من أبواب الخيار.
2- الوسائل 12: 348 ب (3) من أبواب الخيار.

ص: 366

بل أقول: لمّا كان حصول امتيازهما من مراجعة العرف أوضح من مراجعة غيره لم يسلم تعريف المميّز لهما بغير ذلك عن التعريف بالأخفى أو الأعمّ أو الأخصّ.

و أيضا لا أقول: إنّ الرجوع إلى العرف تمييز كلّ منهما عن الآخر في جميع الموارد بحيث لم يبق لتميّزه مورد اشتباه مخفيّ الامتياز من العرف.

بل إنّما أقول: إنّ بمراجعة العرف و إن لم يحصل امتيازهما في جميع الموارد إلّا أنّ امتياز غالب موارده منه و الرجوع إلى الأصول العمليّة في النادر المخفيّ امتيازه من العرف على تقدير تحقّقه أقرب من التعريفات الّتي لم يسلم شي ء منها عن التعريف بالأخفى أو الأعمّ أو الأخصّ.

و وجه الأقربيّة: أنّ القاعدة في تشخيص الموضوعات المستنبطة و تميّز بعضها عن بعض هو أنّه إن شخّصها هو كان المرجع إلى تشخيصه و تمييزه، و إن لم يشخّصها هو كان المرجع في تمييزها إلى العرف، و إن لم يحصل أحيانا من العرف تميّزها أو تمييز بعض مواردها كان المرجع لا محالة إلى الأصول العمليّة.

ثمّ الأصل العمليّ فيما لم يشخّص امتياز البائع عن المشتري من العرف قد يقتضي عدم ترتّب أحكام المبيع على مشكوك المبيعيّة، و قد يقتضي عدم ترتّب أحكام المشتري للحيوان من الخيار إلى ثلاثة أيام على المشكوك مشتريّته، و قد يقتضي عدم ترتّب كلا حكمي البائع و المشتري على مشكوك البائعيّة و المشتريّة، و قد لا يقتضي عدم ترتّب شي ء من الحكمين، كما لا يقتضي ترتيبه بواسطة تعارضه بأصل آخر، أو رجوعه إلى الشكّ في الحادث على حسب اختلاف موارد الشكّ.

و بالجملة: فالمرجع في تمييز البائع عن المشتري إلى العرف، و ما لم يحصل تمييزه منه على تقدير تحقّقه فالمرجع فيه إلى الأصل العمليّ المختلف

ص: 367

مقتضاه بحسب اختلاف الموارد. و أمّا تعريفاتهم المميّز فمع كثرتها تعريفات غالبيّة لا يحصل التمييز بها دائما:

فمنها: ما عن القطب: من جعل المعيار المائز للبائع عن المشتري في النقد، كالدراهم و الدنانير و الفلوس المسكوكة، فمن يعطي النقد فهو المشتري، و من يعطي غيره فهو البائع (1).

و فيه: أنّ المائز المذكور غير مطّرد فيما كان العوضان كلاهما من النقد، أو كلاهما من غير النقد.

و منها: ما عن الشهيد (2): من علاوته على المعيار المذكور معيارا آخر، و هو دخول الباء، فما من شأنه الاقتران بباء العوضيّة من العوضين فهو المثمن (3)، و ما ليس من شأنه الاقتران بها منهما فهو المبيع.

و فيه أيضا ما في الأوّل من عدم اطّراده في معاوضة النقد بنقد آخر، أو الجنس بجنس آخر؛ لشأنيّة كلّ منهما الاقتران بباء العوضيّة.

و منها: ما عن بعض: من جعل المعيار المائز بينهما في لفظ «البيع» و «الشراء»، فمن قال: «بعت» فهو البائع، و من قال: «اشتريت» فهو المشتري.

و فيه: أنّه غير مطّرد في بيع الأخرس و إن عمّمه بما من شأنه التلفّظ بالبيع و الشراء. و إن لم يتلفظّ ففيه أيضا: أنّه غير مطّرد في تعويض الدراهم بالدنانير، و الخبز بالحنطة مثلا.

و منها: ما استقواه الماتن من جعل المائز في البادئ و المستتبع، فمن بدأ في الإعطاء و الدفع فهو البائع، و من تبعه فيه ثانيا فهو المشتري (4).


1- فقه القرآن 2: 55.
2- القواعد و الفوائد 2: 265.
3- كذا في الأصل، و الظاهر أنّ الصحيح «فهو الثمن»، و كما في المصدر.
4- المكاسب: 88.

ص: 368

و فيه أيضا: أنّه غير مطّرد، إذ كثيرا ما يبدأ المشتري في إعطاء الثمن، ثمّ يستتبعه البائع في إعطاء المثمن.

و منها: ما ارتضاه الماتن (1) من التفصيل بين ما إذا كان أحد العوضين ممّا تعارف جعله ثمنا كالدراهم و الدنانير، و بين ما إذا كان العوضان من غيرهما، حيث جعل المعيار في الأوّل في الثمن، فالمشتري هو صاحب الثمن، مع عدم التصريح بالخلاف، و البائع هو آخذ الثمن كذلك. و في الثاني جعل المعيار في القصد، فالمقصود دفعه بالأصالة هو المبيع، و المقصود دفعه بالتبع لأجل قيامه مقام الآخر فهو الثمن.

و أمّا لو لم يلاحظ إلّا كون أحدهما بدلا عن الآخر من دون نيّة قيام أحدهما مقام الثمن في العوضيّة، أو لوحظ القيمة في كليهما فاحتمل كون كلّ منهما مصداقا للبائع و المشتري باعتبارين فيحنث كلّ منهما لو حلف على عدم البيع أو عدم الشراء، مع احتمال أن يترتّب على كلّ منهما أحكام البائع و المشتري بالاعتبارين.

و بطلان الماتن قدس سرّه على وجه الجزم بعدم ترتيب أحكام البائع و لا المشتري عليهما؛ لانصرافهما في أدلّة تلك الأحكام إلى من اختصّ بصيغة البيع أو الشراء، فلا يعمّ من كان في معاملة واحدة مصداقا لهما باعتبارين (2) فممّا لا ينبغي. مضافا إلى ما في جعل المعيار القصد من إفادته التمييز لنفس المتبايع دون الغير، كالحاكم لو ترافعا عنده. إلى غير ذلك من التعريفات الراجعة إلى ما ذكر، و التعريف بالغالب كجعل المعيار في مصدر الإيجاب و القبول، أو مصدر الفعل و الانفعال.

[الرابع أن أصل المعاطاة يتصور بحسب قصد المتعاطيين على وجوه]

قوله: «على وجوه».

[أقول:] و محصّل الوجوه: أنّ المقصود من التعاطي، بل من كلّ متعامل:


1- المكاسب: 88.
2- المكاسب: 88.

ص: 369

إمّا تمليك بإزاء تمليك، و إمّا تمليك بإزاء تملّك، و إمّا إباحة بإزاء إباحة، و إمّا إباحة بإزاء تملّك. إلى غير ذلك من الوجوه المتصوّرة.

و الكلام فيها: تارة في تشخيص الفرق المائز بعضها عن بعض، و تارة في تشخيص حكمها من حيث الصحّة و البطلان، و تارة في تشخيص ما يترتّب عليها على تقدير الصحة من إباحة جميع التصرّفات أو بعضها.

أمّا الكلام في المقام الأوّل فتفصيله: أنّ الفرق بين ما إذا قصد المتعاطي التمليك بإزاء التمليك و بين أن يكون مقصوده التمليك بإزاء التملّك كون المعاملة في الأوّل بين التمليكين، أعني: الفعلين المؤثّرين للملك، لا بين الملكين اللازمين من التمليك. و في الثاني بين التمليك و حصول ملك فالمعاملة على الأوّل متقوّمة بالعطاء من الطرفين، بحيث لو مات الثاني قبل الدفع لم تتحقّق المعاطاة، و هو بعيد عن معنى البيع، و قريب إلى معنى الهبة المعوّضة، بخلافه على الثاني حسب ما يستفاد تفصيله من المتن (1).

و أمّا الكلام في المقام الثاني و الثالث فتفصيله: أنّه لا إشكال في صحّة الفرضين الأوّليين، و لا في ترتّب إباحة جميع التصرفات حتّى المالكيّة عليهما حسب ما في المتن. إنّما الإشكال في صحّة الفرضين الأخيرين، أعني: فرضي قصد الإباحة بإزاء الإباحة، أو بإزاء التملّك، و في ترتّب جميع التصرفات المالكيّة عليهما على تقدير الصحّة.

أمّا الكلام في أصل صحّتهما فممّا لا ينبغي الإشكال فيه، بعموم السيرة، و تِجٰارَةً عَنْ تَرٰاضٍ (2)، و تحليل طيب النفس (3)، و تسليط الناس على


1- المكاسب: 88.
2- النساء: 29.
3- عوالي اللئالي 2: 113 ح 309.

ص: 370

أموالهم (1) على وجه، و «المؤمنون عند شروطهم» (2) حسب ما سنتعرّض لتفصيله عند تعرّض الماتن له، اقتفاء بآثاره، و إن كان الأنسب تقديم الكلام فيه.

و أمّا الكلام في ترتّب إباحة جميع التصرّفات حتّى المالكيّة على التعاطي بقصد الإباحة بإزاء الإباحة فتفصيله: أنّ الماتن و إن استظهر عدم ترتّبها (3) تبعا للشيخ (4) و الشهيد (5) إلّا أنّ الأظهر وفاقا للأكثر، بل الإجماع المركّب، و عدم القول بالفصل بين التصرّفات على وجه منقول هو ترتّب إباحة جميع التصرفات حتّى المتوقّفة على الملك على التعاطي بقصد الإباحة، من غير فرق بين التصرفات المالكيّة و غيرها، فيجوز وطء الجارية للمباح له و عتقها، و غيرهما من التصرفات المالكيّة و لو لم يسبقها شي ء من التصرّفات الملزمة للإباحة، كما صرّح به في الجواهر (6) أيضا؛ و ذلك لعموم جريان السيرة، و إطلاق تِجٰارَةً عَنْ تَرٰاضٍ، و طيب النفس، و تسليط الناس على أموالهم.

و أمّا ما زعمه الماتن (7) من منافاة عمومها لمؤدّي قاعدة توقّف العتق على الملك، و توقّف الوطء على التحليل بصيغة خاصّة لا بمجرّد الإذن في مطلق التصرفات، ففيه: منع المنافاة نقضا بصحّة عتق عبدك عن الغير بمجرّد استدعائه، من غير سبق تمليك إياه، و صحّة وطء جارية الغير بمجرّد قوله: «أبحت لك وطئها».

و جواب الماتن: بأنّ قول الرجل: «أعتق عبدك عنّي بكذا» استدعاء


1- عوالي اللئالي 1: 222 ح 99.
2- الوسائل 15: 30 ب «20» من أبواب المهور ح 4.
3- المكاسب: 89.
4- المبسوط 3: 315.
5- حكاه عن حواشيه النجفيّ «قدّس سرّه» في جواهر الكلام 22: 224.
6- جواهر الكلام 22: 214- 215.
7- المكاسب: 89.

ص: 371

لتمليكه و إعتاق المولى عنه جواب لذلك الاستدعاء، فيحصل النقل و الانتقال بهذا الاستدعاء و الجواب، و يقدر وقوعه قبل العتق آنا ما، فيكون هذا بيعا لا يحتاج إلى الشروط المقرّرة في عقد البيع (1)، مدفوع: بأنّه مضافا إلى كونه مجرّد تمحّل و تكلّف يستلزم عدم القول بصحّة العتق في أكثر الموارد الّتي لم يكن التمليك الضمنيّ مقصودا للمتكلّم و المخاطب، كالعوام، بل و أكثر الخواصّ، و يستلزم أيضا صحّة تمليكه العبد المأمور بعتقه و انعزال نفسه عن العتق.

و حلّا: بأنّ منافاة «لا عتق إلّا في ملك» (2) لعموم إباحة جميع التصرّفات بالعمومات المذكورة موقوف على أن يكون معناه: لا عتق إلّا في ملك خاصّ، أعني: الخاصّ حصوله بتحصيلك، و هو ليس بأولى من أن يكون معناه: لا عتق إلّا بملك، سواء أحصل بتحصيلك و اختيارك، أم حصل قهرا بجعله تعالى، و استبعاد حصوله القهريّ بجعله تعالى ليس بأشدّ من استبعاد حصوله الاختياريّ بمجرّد استدعاء عتقه عنه مع انتفاء جميع الشروط المقرّرة لعقد البيع، بل و مع انتفاء قصد المتكلّم و المخاطب البيع، سيّما مع عدم النظير شرعا لحصول الملك الاختياريّ الفاقد لجميع الشروط المقرّرة للبيع، و وجود الأشباه و النظائر الكثيرة لحصول العتق القهريّ بجعله تعالى من غير أن يريده المالك، فضلا عن أن يحصّله:

منها: انعتاق العمودين قهرا بمجرّد شرائهما و لو لم يقصده المشتري.

و منها: انعتاق أمّ الولد بمجرّد موت مولاها، و انعتاق المملوك بالعمى و الجذام و الإقعاد و التنكيل، و غير ذلك من الانعتاقات القهريّة الحاصل بجعله تعالى، من غير قصد المالك تحصيلها، و مع ذلك كيف يكون حمل مثل «لا عتق


1- المكاسب: 89.
2- عوالي اللئالي 2: 299 ح 4.

ص: 372

إلّا في ملك» على إرادة تحصيل الملك الاختياريّ أولى من إرادة ما يعمّ حصوله القهريّ بالجعل من عنده تعالى آنا ما قبل التصرفات المالكية، على أن تكون التصرّفات المالكية المترتّبة على الإباحة كاشفة عن سبق حصول الملك القهريّ فيها آنا ما بجعله تعالى و قدرته، كما في تلك الأشباه و النظائر؟ بل الأولى و المتعيّن هو الثاني لا الأوّل؛ و ذلك لأنّ حمله على إرادة الأوّل يستلزم تقييد عموم تحليل التراضي، و طيب النفس، و التسليط للتصرّفات المالكيّة و غيرها بتحصيل ملك اختياريّ في تحليل التصرفات المالكية، و الأصل عدم التقييد و التخصيص.

سلّمنا تساوي المعيّنين و إجمال اللفظ مفهوما إلّا أنّ عموم العامّ مبيّن و رافع احتمال التخصيص بمحتمل التخصّص حسب ما قرّر في محلّه.

و ممّا ذكرنا يعلم: أنّ تنظير الماتن (1) حكومة دليل عدم جواز وطء جارية الغير أو عتقها على عموم طيب النفس و تسليط الناس بحكومة دليل عدم جواز وطء جارية الغير أو عتقها على عموم وجوب الوفاء (2) بالنذر و العهد (3) إذا نذر وطء جارية الغير أو عتقها له أو لنفسها تنظير بما لا يخلو من نظر.

لأنّه إن كانت الجارية المنذور وطؤها أو عتقها ممّا أباح مالكها التصرّف لك فيها كيف ما شئت فحكومة دليل عدم جواز الوطء و العتق على عموم وجوب الوفاء بالنذر ممنوع في المقيس عليه، فكيف في المقيس؟

و إن كانت ممّا لم يبح المالك التصرّف لك فيها فحكومة دليل عدم الجواز على عموم الوفاء بالنذر و إن كان مسلّما إلّا أنّه لا يقتضي حكومة دليل عدم جواز الوطء و العتق على عموم تحليل التراضي و طيب النفس و التسليط؛ لأنّه قياس مع


1- المكاسب: 89.
2- الإنسان: 7، الحجّ: 29.
3- الإسراء: 34.

ص: 373

الفارق، و هو وجود المحلّل في المقيس دون المقيس عليه، فإثبات حكومة دليل عدم جواز التصرّفات المالكية- فيما نحن فيه- بالتنظير المذكور: إمّا مصادرة بالمطلق، أو قياس مع الفارق.

ثمّ إنّ اعتضاد الماتن (1) في توقّف العتق في مسألة «أعتق عبدك عنّي» على تحصيل الملك الاختياري ضمنا بتصريح العلّامة في التذكرة (2) على موافقته له غير صريح في المدّعى؛ لاحتمال إرادة العلّامة قدس سرّه من الالتزام بالملك الضمنيّ التقديريّ هو الملك القهريّ الحاصل بجعله تعالى، لا الملك الاختياريّ المحصّل من قصده، كما لا يخفى على المتأمّل في عبارته المنقولة في المتن.

كما أنّ عدّهم دلالة «أعتق عبدك عنّي» من دلالة الاقتضاء المتوقّف عليه صحّة الكلام شرعا، حيث يفسّرون «أعتق عبدك عنّي» بقولهم، أي: مملّكا له إيّاه يحتمل إرادة التمليك القهريّ المنتزع عن هذا الكلام، لا التمليك الاختياري، فلا يكون في ذلك أيضا صراحة على عدم إباحة التصرّفات المالكية في المعاطاة المقصود بها الإباحة.

نعم، كلّ ما ذكره الماتن من وجوه منع ترتّب إباحة جميع التصرفات المالكية إنّما ينهض حجّة على المنع فيما لو لم يقم دليل شرعيّ على حصول الملكية للمباح له بمجرّد الإباحة، كما في مسألة بيع الإنسان مال غيره لنفسه أو شرائه بمال الغير لنفسه بمجرّد إذن الغير له في بيع ماله لنفسه، أو الشراء بماله لنفسه.

و وجه نهوض وجوه المنع في تلك المسألة دون مسألة المعاطاة مع اشتراكهما في الإذن و قصد الإباحة: أنّ صحّة المعاطاة و لو قصد بها مجرّد الإباحة


1- المكاسب: 89- 90.
2- التذكرة 1: 462.

ص: 374

لما كان ثابتا بالسيرة و الشهرة و العمومات المذكورة، مضافا إلى الأشباه و النظائر الكثيرة كان الالتزام بترتّب جميع التصرفات المالكية عليه و تقدير الملك القهريّ لأجلها ممّا لا بدّ منه، حذرا عن التخصيص و التقييد في دليل الصحّة، بخلاف مسألة بيع مال الغير لنفسه فإنّه لمّا لم يكن دليل شرعيّ من السيرة و لا من غيرها على صحّة انتقال المعوّض إلى غير صاحب العوض، بل و لا نظير له شرعا لم يكن مسرح لتقدير الملك القهريّ فيه، فإنّ تقديره إنّما هو فرع إحراز الصحّة احترازا عن التخصيص في دليل الصحّة، و مع عدم إحراز الصحّة و عدم الدليل عليه كيف يتعقّل الاحتراز عن تخصيصه بتقدير الملك.

و وجه عدم الدليل على صحّتها: أنّ صحّتها متوقّف على أحد أمرين، كلاهما مفقودان فيها حسب ما في المتن (1) تفصيله، فارجع إليه.

و بالجملة: لا ينبغي الإشكال في عدم الدليل على صحّة مسألة البيع أو الشراء لنفسه من مال الغير بمجرّد توكيل الغير إيّاه في ذلك، فإنّه أشبه شي ء بتوكيله في وطء جاريته في عدم صحّته بمجرّد التوكيل.

نعم، لو فهم من توكيله توكيله في تمليك الثمن قبل الشراء، أو المثمن بعد الشراء صحّ الشراء به لنفسه و دخل في ملكه. فالكلام إذا في مقامين:

الأوّل: في أنّ توكيل الغير في البيع أو الشراء لنفسه من مالك على تقدير تصريحه بهذا النحو من التوكيل و عدم الرضا بنحو آخر هل هو نافذ شرعا و ناقل الثمن أو المثمن إلى الوكيل، أو باطل و غير نافذ، كتوكيله في وطء الجارية؟

وجهان، أقواهما الثاني؛ لما عرفت.

الثاني: في أنّه لو لم يصرّح بهذا النحو من التوكيل المقيّد بعدم الرضا بغيره، بأن قال: «وكّلتك بأن تبيع مالي لنفسك» أو «تشتري بمالي لنفسك» من غير


1- المكاسب: 89.

ص: 375

تصريحه بعدم الرضا بانتقال الثمن قبل الشراء، أو المثمن بعد الشراء إلى نفسه فهل يحمل على إرادة صورة صحّة التوكيل، و هو التوكيل في انتقال المال قبل الشراء أو بعده إلى نفسه، أم يحمل على ظاهر اللفظ من إرادة التوكيل في خصوص الشراء من ماله لنفسك من غير توكيل في انتقال المال إلى نفسك؟ وجهان، أقواهما الثاني أيضا؛ نظرا إلى حكومة ظهور اللفظ في الفساد على أصالة الصحّة في التوكيل.

و ممّا ذكرنا في مسألة توكيل الغير في بيع مالك لنفسه يظهر لك: أنّ الحال في مسألة إعطائك الغاصب الثمن أو المثمن بإزاء تناول المغصوب منه كذلك لا يوجب إباحة جميع التصرفات؛ حتّى المتوقّفة على الملك؛ لأنّ المقصود من الإعطاء إن كان إباحة المعطى له فقد عرفت أنّه إنّما ينفذ فيما يثبت جوازه بالإباحة من الخارج، لا فيما لم يثبت جوازه كالوطء و العتق. و إن كان المقصود منه التمليك فالمفروض أنّ سببه البيع، و هو لا يتحقّق إلّا بين عوضين، و رفع يد الغاصب عن المغصوب ليس عوضا البتة، و على ذلك فيجوز رجوع المعطي فيما أعطى الغاصب ما دام عينه باقية في يده. و أمّا فيما لم تكن العين باقية فهو و إن ثبت شرعا عدم رجوعه إلّا أنّه لا يدلّ على سبق إباحة تصرّف الغاصب بالتصرفات المالكية، و تقدير الملك القهريّ كتقديره في المأخوذ بالمعاطاة؛ لاحتمال أن يكون حكم الشارع بعدم رجوعه إلى الغاصب في ما أعطاه مع علمه بالغصب لأجل التأديب، و حكمته الردع عن إعطاء المال للغاصب و أخذ المغصوب منه؛ ليرتدع الغاصب و ينسدّ عليه باب الاستنفاع بالغصب و الاستطماع فيه.

و كذا يظهر لك أنّ الحال في مسألة ما لو صرّح بإباحة جميع التصرفات على غيره كذلك لم يستباح للغير التصرّفات المالكيّة المتوقّفة على الملك بواسطة

ص: 376

تقدير الملك القهريّ؛ لما عرفت من أنّ تقديره فرع إحراز صحّة تلك التصرفات المالكيّة من الخارج بمجرّد الإباحة، و لمّا لم يثبت من الخارج إباحتها بمجرّد الإباحة سيّما إذا قيّدت بزمان خاصّ فإنّ الالتزام بتقدير الملك لأجل إباحة التصرفات المالكية في ذلك الزمان بعيد، و الالتزام بترتيب آثار الملك في غير ذلك الزمان على تقديره في ذلك الزمان أبعد، فلا جرم يقتصر على التصرفات الجائزة شرعا لغير المالك.

بل و كذا الحال في مسألة أكل الطعام في الضيافات، فإنّه لو لا قيام السيرة على عدم جواز الرجوع في قيمة المأكول لم نقدّر الملك القهري قبل الأكل آنا ما، بل أمكن الالتزام بجواز الرجوع إلى الأكل في قيمة المأكول؛ لأنّ الإذن في الأكل أعمّ من الأكل مجّانا، أو مع ضمان القيمة، فيندرج أكله بمجرّد الإذن فيه تحت عموم «من أتلف مال غيره فهو له ضامن». و توهّم انصراف عمومه إلى التلف الغير المأذون فيه مدفوع نقضا برجوع الآذن للغير في الأكل إلى قيمة المأكول إذا لم يكن في الضيافة و نحوه من الموارد الّتي يعلم من شاهد الحال فيها أنّ المراد من الإذن: الإذن مجّانا، لا الإذن بعوض.

و حلّا بعدم وجود شي ء من سببي الانصراف فيه.

بل و كذا الحال على الأحوط بل الأقوى في مسألة المال المأخوذ بالمعاطاة المقصود بها الإباحة، فإنّ في جريان السيرة حتّى إلى صورة قصد الإباحة من المعاطاة، و كذا في نهوض العمومات من «طيب النفس» (1) و تِجٰارَةً عَنْ تَرٰاضٍ (2) و «تسليط الناس» (3)، حتّى إلى تلك الصورة محلّ للتأمّل و مجال للمناقشة، و إن استظهرنا في الأوّل دفع جميعها بأبلغ وجه إلّا أنّ الاحتياط مع ذلك سبيل النجاة و لا ينبغي تركه.


1- انظر الهوامش (2 و 3) ص: 369 و هامش (1) ص: 370.
2- انظر الهوامش (2 و 3) ص: 369 و هامش (1) ص: 370.
3- انظر الهوامش (2 و 3) ص: 369 و هامش (1) ص: 370.

ص: 377

قوله: «أمكن الجمع بينهما بالقول بتحصيل الملك القهريّ آنا ما. فتأمّل».

[أقول:] إشارة إلى أنّ الالتزام بالملك القهريّ المخالف للأصل ليس بأولى من تعميم الملك من قوله: «لا عتق إلّا في ملك» (1) للأعمّ من ملك العين، أو ملك التصرّف، بل و لا من تخصيص عموم «لا عتق إلّا في ملك» بتحكّم تعميم سلطنة الناس على أموالهم، و تعميم أَحَلَّ اللّٰهُ الْبَيْعَ (2)، و تِجٰارَةً عَنْ تَرٰاضٍ و «لا يحلّ مال امرئ مسلم إلّا عن طيب نفسه»، خصوصا على القول بانتزاع المالكية، كسائر الأحكام الوضعيّة من الأحكام الشرعية.

قوله: «لا يوجب جواز التصرّفات المتوقّفة على الملك. فتأمّل».

[أقول:] إشارة إلى منع جوازه؛ لدخوله في عموم لٰا تَأْكُلُوا أَمْوٰالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبٰاطِلِ* (3)، إلّا إذا فرض تمليك ثمن المغصوب مجّانا أو عوضا عن رفع اليد العارية، لا تملّك المغصوب، و الفرض الأوّل غير حاصل، و الثاني داخل في عموم الباطل.

[الخامس في حكم جريان المعاطاة في غير البيع من العقود]

قوله: «الخامس: في حكم جريان المعاطاة في غير البيع من العقود».

أقول: الوجوه، بل الأقوال في حكم المسألة أربعة:

أحدهما: جريان المعاطاة في جميع العقود، بل و في الإيقاعات أيضا، إلّا ما خرج، كالنكاح و الطلاق.

ثانيها: عدم جريانه في غير البيع مطلقا.

ثالثها: التفصيل بين جريانها في الإجارة و الهبة دون غيرهما؛ نظرا إلى أكثريّة تداول السيرة بالمعاطاة فيهما من السيرة في غيرهما.

رابعا: التفصيل بين جريانها في ما عدا المبنى ذاته في الشريعة على اللزوم


1- عوالي اللئالي 2: 299 ح 4.
2- البقرة: 275.
3- النساء: 29.

ص: 378

من العقود، و عدم جريانها في المبنى ذاته شرعا عليه كالرهن.

فإن قلت: إنّ جريانها في ما عدا البيع من العقود ينافي حرصهم على ضبط الصيغ الموجبة لانعقاد سائر العقود و تميّزها عمّا لا يوجب انعقادها به، فضبطهم في كلّ باب من أبواب العقود و الإيقاعات للصيغ الموجبة لانعقاد ذلك الباب، و تخصيص انعقاد العقود بالصيغ الخاصّة بكلّ واحد منها دليل عدم جريان المعاطاة فيها.

قلت: أمّا ضبطهم صيغ العقود اللازمة فلعلّه لأجل بيان توقّف لزوم ذلك العقد عليها دون توقّف أصل الصحّة عليها، كما هو المتعيّن في ضبطهم صيغة البيع مع اتّفاقهم ظاهرا على صحّته بالمعاطاة.

و أمّا ضبطهم صيغ العقود الغير اللازمة مع حصولها بمجرّد المعاطاة و عدم توقّف حصولها على الصيغة فلعلّه لأجل الفرق بين ما يحصل بالصيغة، و ما لا يحصل بها في صراحة دلالة الألفاظ على القصود، و عدم احتياجها إلى ضمّ شي ء من القرائن الكاشفة عن المراد، و قصور دلالة الأفعال عن تلك الصراحة فتحتاج إلى ضمّ ما يصرّح كشفها عن المراد من القرائن الحاليّة أو المقاليّة. أو لعلّه لأجل أنّ بتلك الصيغ من الآثار و الأحكام المختصّة ما ليس لمجرّد المعاطاة و الإذن منها، كما لا يخفى على المتتبّع الخبير.

و بالجملة: فضبط الصيغ للعقود الجائزة لا يدلّ على انحصار انعقادها في الصيغ، بل يجوز اشتراك المعاطاة معها في الجواز.

ثمّ إنّ الدليل على جواز تعدّي المعاطاة إلى سائر العقود، بل و إلى الإيقاعات يمكن أن يكون وجوها، أقواها ما عن الشيخ صاحب كشف الغطاء:

من دعوى جريان السيرة المستمرّة خلفا عن سلف في كلّ من العقود على المعاطاة فيها، حتّى في الرهن و الوقف. بل و كذا سيرتهم في الإيقاعات- كالنذور و العهود- أيضا جارية على الاكتفاء بمجرّد النيّة، أو المقاولة بما عدا الألفاظ

ص: 379

الخاصّة بها شرعا. و إذا علمنا باستمرار سيرتهم و جريان طريقتهم على ذلك من أزمنة المعصومين عليه السّلام و عدم استحداثها في الأزمنة المتأخّرة فلا إشكال في كشفها عن رضا المعصوم و تقريره إيّاهم، و هو قويّ في النظر؛ لأنّ المنع من كشفها عن التقرير منحصر في أمور لا تتأتّى في المقام:

منها: منع أصل جريان السيرة في غير البيع، و لا مجال لمنعه، لشهادة العيان على ثبوت السيرة من قديم الزمان في إجازة الحمّاصيّ و السفن و الدوابّ و المرابط و المساكن المعدّة للمتطرّقين. و كذا في سائر العقود على التعاطي.

و منها: منع استمرار هذه السيرة في زمن المعصومين و دعوى حدوثها في الأزمنة المتأخّرة، و لا مجال لمنعه أيضا؛ لأنّه خلاف قضاء العادة، ضرورة قضاء العادة بأنّه لو كانت سيرة زمن المعصوم على خلاف سيرة أهل زماننا لوصل إلينا الخبر، و إذ ليس فليس.

و منها: منع اطّلاع المعصوم من الطرق البشريّة بتلك السيرة المستمرّة في زمانه، حتّى يستكشف من عدم ردعه تقريره و رضاه بها، و هو بعيد عادة في طول زمان حضورهم فيما بين الناس بما يقرب من ثلاثمائة سنة.

و منها: منع تقرير المعصوم إيّاهم، و هو أبعد من سوابقه، لأنّ عدم ردع المعصوم عمّا جرت عليه سيرتهم مع تمكّنه في طول ذلك الزمان عن ردعهم و وجوب ردعه عن الباطل مهما أمكن من باب اللطف الّذي هو منصبه كاشف قطعيّ عن تقريره إيّاهم و رضاه.

و منها: منع تمكّنه من الردع و هو بعيد جدّا في طول ذلك الزمان، مع عدم مانع من تقيّة و لا من غيرها.

و منها: عدم ردعهم عن السيرة، و هو أبعد من سوابقه أيضا؛ لقضاء العادة بأنّه لو ردع لوصل إلينا الرادع، لتوفّر الدواعي عليه.

ص: 380

و احتمال إحالته عليه السّلام الردع إلى الأصول و العمومات أيضا بعيد جدّا، فمن منصبه الردع بقاعدة وجوب اللطف في مثل ما جرت عليه سيرة الناس، فقضاء اللطف و العادة في الردع عمّا جرت عليه السيرة ينبغي أن يبلغ في الكثرة و الشدّة مبلغ الردع عن القياس في عدم الاكتفاء بالحوالة إلى الأصول و عمومات (1) حرمة العمل بالظنّ؛ لقضاء اللطف أن يكون الردع عن كلّ شي ء بحسبه.

و من هنا يعلم إحياء دلالة أكثر سيرات المسلمين على تقرير المعصوم و كشفها عنه بعد تحقّق أصل السيرة، و دفع احتمال نشؤها عن عدم المبالاة ما لم يقم على بطلانها ما هو مقاوم لها من الأدلّة؛ لانحصار بطلانها في منع أصل موضوعها، و إلّا فبعد تسليم أصل موضوعها تكون بمنزلة أصل أصيل في الكشف عن التقرير ما لم يقم على خلافها الدليل؛ لبعد ما ذكر من سائر موانع كشفها عن التقرير بعد فرض تحقّقها و اطّلاع المعصوم بها.

فتلخّص ممّا ذكر: قوّة القول بتعدّي المعاطاة عن البيع إلى جميع العقود، حتّى الرهن و الوقف، إلّا ما خرج بالدليل، كالنكاح و الطلاق.

و أمّا استشكال الماتن (2) قدس سرّه تبعا لجامع المقاصد (3) في جريان المعاطاة في الرهن بأنّها في البيع: إمّا مفيدة للإباحة، أو الملكية الجائزة على الخلاف، و الأوّل غير متصوّر في الرهن. و أمّا الجواز فكذلك؛ لأنّه ينافي الوثوق الّذي به قوام مفهوم الرهن، خصوصا بملاحظة أنّه لا يتصوّر في الرهن ما يوجب رجوعها إلى اللزوم ليحصل به الوثيقة في بعض الأحيان فمدفوع: إمّا على تقدير إفادتها الإباحة- كما هو المختار- فلأنّ الإباحة الغير المتصوّرة في الرهن إنّما هي الإباحة المتصوّرة في البيع، أعني الإباحة من الطرفين. و أمّا الإباحة من طرف


1- يونس: 36، الحجرات: 12.
2- المكاسب: 90.
3- جامع المقاصد 5: 45.

ص: 381

المرتهن فهي متصوّرة قطعا. مضافا إلى أنّ عدم تصوّرها من طرف الراهن إنّما هو لدليل خاصّ، و هو عموم حرمة الربا (1) أو غيره، و إلّا فلا مانع من تصوّرها من طرفه أيضا.

و إمّا على تقدير إفادتها الملك الجائز فلأنّ منافاة الجواز إنّما هو للوثوق التامّ الملزم شرعا. و أمّا الوثوق في الجملة فلا ينافيه الجواز البتّة.

و قوله: لا يتصوّر في الرهن ما يوجب رجوع الجواز إلى اللزوم ليحصل به الوثيقة في بعض الأحيان (2) ممنوع؛ لتصوّر رجوعه إلى اللزوم بواسطة النذر، أو العهد، أو الحلف، أو التصرّف و لو من طرف الراهن في الدين فإنّه كاف في الملزميّة من الطرفين، كما أنّه كاف في ملزميّة البيع من الطرفين على ما سيجي ء في بيان الملزمات، و بيان أنّ الملزم للمعاطاة فيما تجري فيه من العقود الأخر هو الملزم في باب البيع، كما اعترف به الماتن قدس سرّه أيضا.

ثمّ إنّ من جملة ما استدلّ به على تعدّي المعاطاة إلى سائر العقود: ما استظهره الماتن (3) من التذكرة: من عدم القول بالفصل بين البيع و غيره، حيث قال في باب الرهن من التذكرة (4): إنّ الخلاف في الاكتفاء فيه بالمعاطاة و الاستيجاب و الإيجاب عليه المذكورة في البيع بجملتها آت هنا. انتهى.

و لكنّ عبارته المنقولة ظاهرة في عدم قوله بالفصل، لا عدم قول بالفصل، لا منه و لا من غيره.

و من جملتها: إطلاق أدلّة كلّ باب من أبواب العقود.

و فيه: أنّه لا إطلاق لكلّ باب من أبواب العقود حتّى يفي به على تعدّي المعاطاة إليه؛ و ذلك لعدم إطلاق في بعضها أصلا، و ورود إطلاق بعض ماله


1- البقرة: 275.
2- المكاسب: 90.
3- المكاسب: 90.
4- التذكرة 2: 12.

ص: 382

إطلاق مورد بيان حكم آخر، كإطلاق ما في باب الرهن من قوله تعالى فَرِهٰانٌ مَقْبُوضَةٌ (1)، فلم يبق إطلاق سليم عن الانصراف يصحّ التمسّك به على صحّة ذلك الباب بالمعاطاة، إلّا قليل: كإطلاق قوله عليه السّلام في باب الصلح: «الصلح جائز» (2)، و في باب الإجازة: «الإجارة نافذة» (3)، و في باب البيع أَحَلَّ اللّٰهُ الْبَيْعَ (4).

و من جملتها: التمسّك بصحّة إطلاق موضوع كلّ عقد من العقود و أساميها على المعاطاة فيه- مثلا- يصحّ عرفا إطلاق لفظ «الإجارة» على الإجارة بالمعاطاة، فيشملها حكم الإجارة.

و فيه: أنّ مرجعه إلى إطلاق أدلّة العقود الّذي عرفت عدم اشتمال كلّ العقود عليه، و إلّا فالحكم لا يتبع صدق اسم الموضوع ما لم يحرز فيه الإطلاق، بل قد ينفكّ الكبرى و الحكم عن الصغرى، و الموضوع عند عدم كلّية الكبرى و إطلاق الحكم، فإثبات الحكم و الكبرى على الموضوع و الصغرى في الجملة لا يستلزم إثباته دائما. كما أنّ إثبات الحكم على الطبيعة لا يستلزم إثباته على جميع الأفراد إلّا على العموم السريانيّ الّذي ارتضاه صاحب القوانين (5).

و لكنّا تعرّضنا لدفعه في محلّه نقضا: بأنّ القول بالعموم السرياني- أعني سراية حكم الطبيعة إلى أفراده- يستلزم سدّ باب انصراف المطلقات إلى الأفراد الشائعة، و عدم الفرق بين الشائعة و الأندرة، فضلا عن النادرة، و هو بمكان من


1- البقرة: 283.
2- الوسائل 13: 164 ب «3» من أبواب أحكام الصلح.
3- لم نظفر عليه بهذا اللفظ، و ورد بلفظ: «فالإجارة جائزة»، انظر مستدرك الوسائل 14:
4- البقرة: 275.
5- قوانين الأصول 1: 217- 218.

ص: 383

الندور.

و حلّا: بأنّ حكم الطبيعة لا يستلزم السراية إلى شي ء من الأفراد، بل يجوز أن يحكم على الطبيعة بحكم لا يتأتّى في شي ء من أفراد تلك الطبيعة، بأن يقال مثلا: إنّ طبيعة الرّمان لها كذا من الخواصّ، لكنّ في كلّ واحد من أفراده خصوصيّة مانعة عن تلك الخاصّيّة، فإذا كان للطبيعة من حيث هي خاصّيّة أمكن مانعيّة خصوصيّة كلّ واحد من أفرادها عن تلك الخاصيّة، فلا دليل على سراية خاصيّة الطبيعة إلى شي ء من أفراده، سوى لزوم اللغويّة في كلام الحكيم من إثبات الخاصيّة للطبيعة عند انفكاكها عن جميع الأفراد المفروضة له. و معلوم أن الاحتراز عن لزوم اللغويّة و ارتفاع ملازمة الهذريّة لا يقتضي بأزيد من التعدّي إلى فرد واحد من أفراد تلك الطبيعة إلّا بالرجوع إلى دليل الحكمة، أعني: ضميمة أصالة عدم الإجمال في كلام الحكيم، و عدم المرجّح- لتعيين ذلك الفرد المسري إليه حكم الطبيعة من بين سائر الأفراد الشائعة الّذي يقتضي تعدّي حكم الطبيعة إلى الأفراد الشائعة.

فتبيّن أنّ ثبوت الحكم على طبيعة أحد العقود لا يقتضي سرايته إلى كلّ ما صدق اسم ذلك العقد عليه بقاعدة العموم السرياني، إلّا بالرجوع إلى العموم الحكمتيّ المتوقّف على إحراز إطلاق الحكم الّذي قد عرفت خلوّ كثير من أبواب العقود عن ذلك الإطلاق، فلا يتمّ التمسّك به في تعدّي المعاطاة إلى جميع العقود.

قوله: «و فيه: أنّ معنى جريان المعاطاة في الإجارة .. إلخ».

أقول: و يندفع هذا الإيراد عن المحقّق الثاني (1) أوّلا: بمنع كون معنى جريان المعاطاة في الإجارة عنده هو إفادة الملكية، و ذلك لأنّ التزام المحقّق بإفادة المعاطاة الملكيّة في البيع لا يستلزم التزامه بإفادتها الملكية في غير البيع،


1- جامع المقاصد 4: 59.

ص: 384

بل قد صرّح بإفادتها الإباحة في القرض على ما حكى الأستاذ (1) عنه في صيغ العقود.

و ثانيا: سلّمنا أن يكون معنى جريان المعاطاة في الإجارة هو إفادة الملكيّة لكنّ الإيراد عليه بقوله: «لم نجد من صرّح به»، و بقوله: إن توقّف الملك في الهبة على الإيجاب و القبول كاد أن يكون متّفقا عليه مشترك الورود بين البيع و غيره»، فبعد التزامه بإفادة المعاطاة الملكية في البيع مع عدم وجدان من صرّح به، بل و مع ظهور الاتّفاق على خلافه حسب ما تقدّم كيف يستوحشه الالتزام بمثله في غير البيع بمجرّد عدم وجدان من صرّح به و مجرّد استقراب الاتّفاق على خلافه في الهبة؟!

قوله: «موضوع نظر؛ لأنّ فساد المعاملة يوجب منعه عن العمل .. إلخ».

[أقول:] و فيه منع النظر، إذ من الظاهر أنّ مقصود الفقيه المستدلّ على جريان المعاطاة في الإجارة و الهبة بقوله: «لو كان هذه إجارة فاسدة لم يستحقّ اجرة مع علمه بالفساد (2) .. إلخ» هو عدم جواز العمل له، و عدم استحقاقه الأجرة عليه من حيث الإجارة، و من جهة تلك المعاملة الخاصّة، لا عدمها مطلقا، أعني:

من جميع الحيثيّات و الجهات حتّى يرد عليه ما أورده الماتن قدس سرّه من المنع.

قوله: «و الجواز غير معروف في الموقف من الشارع، فتأمّل» (3).

[أقول:] إشارة أوّلا: إلى المنع من عدم معروفيّة جوازه لفتوى الذكرى (4) في وقف المساجد، بل و للسيرة القطعية في وقف الآبار و الأنهار و القناطر و المقابر و المنابر، و سائر الأوقاف العامّة دون الخاصّة بنوع أو صنف.


1- رسائل المحقّق الكركي 1: 187.
2- جامع المقاصد 4: 59.
3- المكاسب: 90.
4- ذكري الشيعة: 157.

ص: 385

و ثانيا: لو سلّم عدم معروفيّة جوازه فلعلّه من جهة لزومه بمحض الإعطاء و التصرّف الوقفيّ بنيّة القربة الملزمة للصدقات، أو لإعراض المخرج عن الملكيّة.

و ثالثا: عدم معروفيّة الجواز لا يمنع من جوازه بالأصل.

[الأمر السادس في ملزمات المعاطاة]

قوله: «الأمر السادس: في ملزمات المعاطاة .. إلخ».

أقول: أصل ما يمكن أن يكون ملزما للمعاطاة أمور من التصرفات:

منها: التلف، و ينقسم إلى تلف العوضين كلاهما، أو أحدهما، أو بعض كلّ منهما، أو بعض أحدهما. و على كلّ منهما ينقسم الملزم إلى ما يحكم به العقل، كإدخال العوضين في ملك المتعاوضين، و إلى ما يحكم به الشرع تعبّدا، كإدخال العوضين في حكم مال المتعاوضين و إن كان كلّ منهما باقيا على ملك المالك الأوّل، و على كلّ منهما: إمّا أن يفيد المعاطاة الإباحة، أو الملكيّة.

و منها: الخلط و المزج، و ينقسم إلى امتزاج الأحسن بالأدون، أو بالأعلى منه، أو بالمساوي له.

و منها: التصبيغ و التلوين، و ينقسم إلى ما يكون الصبغ مزيدا لقيمة المصبوغ، أو منقصا له، أو لا مزيدا و لا منقصا.

رابعها: تغيير الصورة بغير الصبغ، كطحن الحنطة، و فصل الثوب المنقسم أيضا إلى ما يزيد في القيمة أو ينقص، أو لا يزيد و لا ينقص.

خامسها: النموّ بالنماء المتّصل بالعوص من حين التعاطي، أو المنفصل المتجدّد فيه بعد التعاطي، إلى غير ذلك من أنواع التصرّفات المختلفة المتشتّتة بأنواع متكثّرة. و الكلام في ملزميّة هذه التصرفات و عدم ملزميّتها: تارة من حيث الأصل لو شككنا في ملزميّتها، و تارة من حيث مقتضى الدليل في ملزميّتها.

أمّا الكلام في تأسيس الأصل ففي اقتضاء الأصل ملزميّتها مطلقا، أو عدم

ص: 386

ملزميّتها مطلقا، أو التفصيل بين الالتزام بملزميّتها على تقدير إفادة المعاطاة الملكية، و عدم ملزميّتها على تقدير إفادتها الإباحة، أو التفصيل بالعكس، أعني:

ملزميّتها على تقدير الإباحة و عدم ملزميّتها على تقدير الملكية وجوه أربعة، بل ربّما قيل: أقوال أربعة، و تشخيص الأصل الأصيل منها يتوقّف على تشخيص مقدّمة، أعني: تشخيص كون الرجوع و جوازه هل هو من عوارض العوضين و صدق الترادّ حتّى يمتنع بارتفاع مورد الترادّ كما ارتضاه الماتن (1)، أم من خواصّ ترادّ العين و بقاء أحد العوضين و لو تلف الآخر، كما عن شرح القواعد اختياره حتّى لا يمتنع إلّا بتلف كلّ العوضين، لا بتلف أحدهما فقط، أم هو من عوارض العقد و لو كان العقد فعليا كما فيما نحن فيه، كخيار الفسخ، لا من عوارض بقاء العوضين حتى يكون الرجوع فسخا فيما نحن فيه، فيستصحب جوازه حتّى بعد تلف العوضين، كجواز الفسخ بعد تلف العوضين، كما عن الجواهر (2) اختياره، و مرضيّ أستاذنا العلّامة؟ وجوه.

أمّا كونه من عوارض العوضين و الترادّ المتفرّع عليه امتناع جواز الرجوع بعد تلف العينين فهو و إن كان هو مقتضى الاقتصار على القدر المتيقّن من جواز الرجوع إلّا أنّه يستلزم جواز الرجوع إلى العوضين مع بقاء العقد و العهد المعهود بين المتعاوضين، و مرجعه إلى الالتزام بجواز الرجوع إلى العوضين تعبّدا مع بقائهما على مال المتعاوضين، و هو مستلزم بتخصيص عموم «من أتلف مال غيره فهو له ضامن» (3)، و عموم «الناس مسلّطون على أموالهم» (4)، و عموم


1- المكاسب: 91.
2- الجواهر 22: 235.
3- لم نجده بهذا اللفظ، و ورد مضمونه في أحاديث، انظر الوسائل 18: 239 ب (11) من أبواب الشهادات ح 2 و 3.
4- انظر هامش (1) ص: 370.

ص: 387

لٰا تَأْكُلُوا أَمْوٰالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبٰاطِلِ* (1)، و عموم «لا يحلّ مال امرئ مسلم» (2)، بخلاف كونه من عوارض العقد المترتّب عليه جواز الرجوع حتّى بعد التلف، فإنّه و إن كان مخالفا لمقتضى استصحاب بقاء الملكية أو الإباحة الثابتتين قبل الرجوع إلّا أنّه غير مخصّص للعمومات المذكورة حتّى يوجب تخصيصها به.

و من البيّن أنّه متى دار الأمر بين الالتزام بمخالفة العموم و بين الالتزام بمخالفة الاستصحاب كان المرجع إلى العموم و رفع اليد عن الاستصحاب. و لهذا قيل: إنّ الأصل دليل حيث لا دليل، و لا شكّ أنّ العموم دليل، كما يشخّص حكم معلوم الفرديّة بأصالة عدم التخصيص كذلك يشخّص فرديّة معلوم الحكميّة بأصالة عدم التخصيص. ألا ترى أنّ «أكرم العلماء» كما يقتضي إكرام معلوم العالميّة من الأفراد المشكوك حكمها كذلك يقتضي عالميّة معلوم الإكرام من الأفراد المشكوك عالميّتها بأصالة عدم التخصيص، فكذلك عموم «من أتلف مال غيره فهو له ضامن»، و عموم تسليط الناس على أموالهم، و عموم لٰا تَأْكُلُوا*، و «لا يحلّ مال امرئ مسلم» يقتضي أن يكون جواز الرجوع إلى العوضين من عوارض فسخ العقد، لا من عوارض بقاء العوضين؟! و لو كان العقد المعهود فيما بين المتعاوضين باقيا على مقتضاه- و هو دخول كلّ من العوضين تحت مال من هو في يده- فحكم الشارع بجواز الرجوع إلى العوض، و جواز إتلافه مع بقائه تحت سلطنة ذي اليد، و عدم رضائه بالرجوع موجب تخصيص عموم «تسليط الناس على أموالهم»، و عموم «من أتلف مال غيره فهو له ضامن»، و عموم «لا يحلّ»، و لٰا تَأْكُلُوا*، بخلاف كونه من عوارض العقد، فإنّ جواز الرجوع إلى العوض و جواز إتلافه على هذا التقدير متفرّع على فسخ العقد، و خروج العوض عن تحت يد ذي اليد، و دخوله تحت مال المفسخ، فلا يلزم عليه تخصيصا ممّا


1- انظر هامش (2 و 3) ص: 369.
2- انظر هامش (2 و 3) ص: 369.

ص: 388

يلزم على التقدير الأوّل.

فإن قلت: على تقدير كون الرجوع إلى العوض من عوارض العوضين نلتزم بالملك التقدير بجعله تعالى حتّى لا يلزم عليه تخصيص العمومات المذكورة.

قلت: مضافا إلى كون الالتزام بالملك التقدير في المرجوع إليه مخالف للاتّفاق ظاهرا و متفرّع على خصوص ما لو لم يكن للملك الاختياري فيه سبيل- كما في انعتاق العمودين على المشتري- لا شكّ أنّ الالتزام به أشبه شي ء بالأكل من القضاء، ضرورة أنّ الالتزام بكون الرجوع مفسخ للعقد و العهد و موجب لرجوع المرجوع إليه إلى مال الراجع و الفسخ أسهل بمراتب من الالتزام ببقاء العوضين تحت يد المتعاوضين، و استناد جواز الرجوع مع ذلك إلى تقدير ملك تقديريّ قهريّ مخلوق بجعله تعالى و إن لم يرض به صاحب المال.

هذا كلّه مضافا إلى كون الرجوع من مقتضيات فسخ العقد لا العوضين من الأمور المذكورة في طباع الناس السليمة عن شوائب الأوهام جبلّة، و لهذا تراهم يستندون في جواز الرجوع إلى العوض إلى الندامة، و فكّ العقد و العهد المقرّر بينهم على المعاملة، لا إلى بقاء العوضين و صدق الترادّ، و به الكفاية شاهدا على المطلق.

و بالجملة: فأوّلا: نستظهر الإجماع و الاتّفاق على كون الجواز من عوارض العقد، لا العوضين من أمور:

أحدها: من جواز فسخ المعاملة و العقد عند عدم قصد الترادّ؛ لعدم القدرة عليه، أو لعدم إرادته، أو للإغماض عنه، فإنّ جواز فسخ العقد و المعاملة- سيّما من الطرفين مع بقاء العوضين- إجماعيّ، و هو دليل إثبات كون الرجوع من عوارض العقد، لا الترادّ.

ص: 389

ثانيها: من الأولويّة القطعيّة، فإنّ كون جواز الرجوع في العقد اللازم و المعاملة مع الصيغة من عوارض العقد و آثار الفسخ يقتضي كونه من عوارض العقد و آثار الفسخ في العقد الجائز، و المعاملة المعاطاتيّة بالطريق الأولى، و إلّا لزم أن تكون العقود الجائزة و المعاملة المعاطاتية أشدّ و أوثق من المعاملة اللازمة و العقد بالصيغة.

و ثالثها: من قولهم: «الأفعال قاصرة عن الدلالة بخلاف الألفاظ اتّفاقا».

فإنّه كالصريح في الاتّفاق على قابلية المعاملات الفعلية للفسخ و الخيار الّذي هو من عوارض العقد لا العوضين.

رابعا: من قولهم: «تلف العوضين ملزم للمعاطاة إجماعا»، فإنّه كالصريح أيضا في اتّفاقهم على كون المعاطاة معاملة جائزة، و كلّ ما كان جائزا فالرجوع فيه من عوارض العقد، لا العوضين، إلى غير ذلك من الأمور الدالّة الكاشفة عن اتّفاقهم على جواز كون المعاطاة معاملة جائزة، و كون الرجوع فيه من عوارض العقد و فسخه، و مقتضاه جواز الرجوع و أصالة عدم ملزميّة شي ء من الملزمات المذكورة باستصحاب عدمها إلى أن يثبت الملزميّة من إجماع و نحوها. كما أنّ مقتضى القول بلزوم المعاطاة و عدم خروجها عن تحت أصالة اللزوم بالإجماعات المتقدّمة على خروجها هو استصحاب الملزميّة إلى أن يثبت من الخارج مخرج.

و ثانيا: لو تمشّينا و تنزّلنا لقلنا: إنّ معنى الترادّ لا يخلو: إمّا جواز رجوع كلّ من المتعاوضين إلى عوضه تعبّدا من الشارع على قهر المتعاوض الآخر و بقاء العوض على ماله. و إمّا جواز الرجوع إلى عوضه مع رجوع العوض إلى ماله بالفسخ و حلّ العقد. و هذا يتصوّر على وجهين:

أحدهما: أن يكون بقاء العوضين جزءا من موضوع جواز الرجوع و هو الفسخ.

ص: 390

و ثانيهما: أن يكون بقاؤهما شرطا و قيدا للحكم بجواز الرجوع.

أمّا الترادّ بالمعنى الأوّل فقد عرفت أنّه مخصّص لعموم سلطنة الناس على أموالهم، و عموم أدلّة ضمان المتلف مال غيره، و عموم سائر المطلقات المتقدّمة، مع أنّ تجويز الشارع الرجوع إلى العوض مع بقائه على مال الغير و إلغائه رضاه على رغم أنفه بعيد بالغاية، و فضيح إلى النهاية، و ليس له نظير سوى حقّ المارّة على القول به مع الكراهة، بخلاف تقدير فسخ العقد فإنّه مخصّص لتلك العمومات بالتقريب المتقدّم. و لو سلّمنا أنّ كلّا منهما مخصّص فلا أقلّ من دوران الأمر بين تخصيصين، و لا ترجيح لأحدهما على الآخر، فلا بدّ من الرجوع إلى الخارج في الترجيح.

لا يقال بمرجوحيّة تخصيصها بفسخ العقد، نظرا إلى أنّ الآثار المترتّبة على فسخ العقد أكثر من الآثار المترتّبة على الترادّ، ضرورة أنّ الترادّ فرع بقاء العوضين، بخلاف الفسخ.

لأنّا نقول: أكثريّة آثار أحد التخصيصين لا يصيّره أكثر من تخصيص واحد حتّى يرجّح عليه التخصيص الآخر، و ليست النسبة بين التخصيصين من قبيل النسبة بين الأقلّ و الأكثر حتّى يأخذ بالأقلّ أيضا، بل النسبة بينهما من قبيل النسبة بين المتباينين و الشكّ في الحادث، فالمرجع إلى الخارج.

و أمّا الترادّ بالمعنى الثاني فهو على تقدير تعقّله و عدم رجوعه إلى المعنى الثالث لا دليل على ثبوته، و احتماله غير قادح في جواز استصحاب حكم الموضوع مطلقا، حتّى عند انتفاء ما يحتمل اعتبار بقائه جزءا في الموضوع، بناء على ما هو المشهور المنصور من المسامحة في موضوع الاستصحاب، لا المداقّة.

و أمّا الترادّ بالمعنى الثالث فلا دليل على ثبوته و إن تعقّل ثبوته، و احتماله

ص: 391

غير قادح في مجرى استصحاب الحكم مطلقا، حتّى عند انتفاء ما يحتمل اعتبار بقائه شرطا في الحكم، أعني: في حكم جواز الرجوع إلى العوضين في مفروض الجواز من المعاملات.

فتلخّص ممّا ذكرنا: أنّ المعاطاة مبنيّة على الجواز، لا اللزوم، و أنّ الرجوع فيها من عوارض العقد، لا العوضين، و مقتضاه جواز الرجوع فيها مطلقا، آخذا باستصحاب جواز الرجوع، و عموم تسليط الناس على أموالهم، سواء قلنا بإفادة المعاطاة الإباحة أو الملكية، و سواء أتلف العوضان أم لم يتلفا.

لا يقال: إنّه على تقدير تلف العوضين لا مجرى لاستصحاب جواز الرجوع قبل التلف، لتبدّل موضوع الاستصحاب، و لا نهوض لعموم تسليط الناس على أموالهم بعدم بقاء صدق المالية بعد تلف المال.

لأنّا نقول: رفع قدرة المتلف عن إرجاع المتلوف إلى صاحبه لا يوجب انعدامه، بل إنّما يوجب انتقاله من عالم القدرة على إرجاعه إلى عالم عدم القدرة عليه، و بمجرّد ذلك لا يخرج عن صدق المالية، بل غايته أنّه ينقلب التكليف بإرجاعه إلى التكليف بإرجاع مثله، أو قيمته، و لهذا ترى المتداول في ألسنة المدّعين مطالبة المتلف أموالهم المتلوفة مع علمهم بإتلافها من غير نكير لهم، فتدبّر.

لا يقال: إنّ أصالة بقاء سلطنة مالك العين الموجودة المقتضية جواز الرجوع بعد التلف معارضة بأصالة براءة ذمّته عن مثل التالف أو قيمته.

لأنّا نمنع المعارضة، لكن لا لورود عموم «على اليد ما أخذت» (1) على استصحاب عدم الضمان السابق هنا حتّى يندفع بأنّ هذه اليد قبل تلف العين لم تكن يد ضمان، بل و لا بعده إذا بنى مالك العين الموجودة على إمضاء المعاطاة


1- المستدرك 17: 88 ب «1» من أبواب كتاب الغصب ح 4.

ص: 392

و لم يرجع، بل إنّما هو لحكومة أصالة بقاء السلطنة على أصالة عدم الضمان بالمثل أو القيمة إن لم نقل بورودها عليه، نظرا إلى رجوعها إلى الأصل اللفظي، و هو عموم تسليط الناس على أموالهم.

فتلخّص ممّا ذكرنا: أنّ الأصيل الأصيل هو جواز الرجوع إلى العوضين بعد تلفهما، و إذا ثبت جواز الرجوع بعد تلفهما بالأصل الأصيل ثبت جوازه بعد سائر التصرّفات الغير المتلفة، أو المتلفة من طرف دون طرف، أو بعضا دون بعض بالطريق الأولى. هذا كلّه في مقتضى الأصل.

و أمّا مقتضى الدليل ففيما إذا تلف العوضين كلاهما أو أحدهما: هو عدم جواز الرجوع و ملزميّة التلف للمعاطاة، لظهور الإجماع عليه المصرّح به في المتن (1) و غيره.

و لو سلّمنا عدم الإجماع على ملزميّة التلف خصوصا في تلف أحد العوضين دون الآخر، بل في مطلق التلف، نظرا إلى ما نقله الماتن (2) عن بعض مشايخه (3) و معاصريه تبعا للمسالك (4) من القول بعدم اللزوم في تلف العوضين على القول بالإباحة في المعاطاة إلّا أنّه لا أقلّ من الشهرة الكافية في الحكم بالملزميّة. مضافا إلى أنّ عموم قاعدة «لا ضرر» أيضا قاض بالملزميّة، و عدم جواز الرجوع فيما يلزم من الرجوع فيه الضرر على المتلف بضمان القيمة أو المثل.

لا يقال: إنّ مدلول القاعدة هو نفي الضرر الناشئ عن قصور النفس و عدم اختيار دفعه، دون نفي الضرر الناشئ عن تقصير نفسه بواسطة عدم توثيقه المعاملة و شدّها و أحكامها بالصيغة.


1- المكاسب: 91.
2- المكاسب: 91.
3- المناهل: 269- 270.
4- مسالك الأفهام 3: 149.

ص: 393

و بعبارة أخرى: معنى «لا ضرر»: هو عدم جعله تعالى في الشريعة حكما مضرّا بالمكلّفين، فلا يشمل نفي الضرر الناشئ عن قبل نفس المكلّف كما في ما نحن فيه.

لأنّا نقول: بعد الإجماع على إباحة المعاطاة لا يعدّ ارتكابه تقصيرا و الإضرار الناشئ عنه إضرارا ناشئا عن التقصير. نعم، لو لم يكن مباحا كان الضرر الناشئ ناشئا عن قبل نفسه فلا يكون الضرر المترتّب عليه منفيّا بقاعدة «لا ضرر».

لا يقال: لو بنينا على عموم قاعدة نفي الضرر لزم عدم جواز الرجوع حتّى في بعض صور عدم تلف شي ء من العوضين لو لزم الضرر من الرجوع، كما في رجوع المكري للدابّة أو السفينة في أثناء الطريق الّذي يتعسّر فيه الإكراء، أو تعلو فيه قيمة الكراء بأضعاف القيمة الأولى، فإنّ الرجوع في أمثال ذلك أيضا يستلزم إدخال الضرر على من يرجع إليه مع جوازه قطعا. مضافا إلى أنّه قد يلزم الضرر من عدم الرجوع فيما لو فرض تصاعد قيمة المبيع و الإجارة بأضعاف قيمته الأولى.

لأنّا نقول: نمنع الملازمة بعدم التعدّي في عموم نفي الضرر عن الموارد المجبورة بموافقة فتوى الأصحاب الّتي منها ما نحن فيه، فإنّ التمسّك بنفي الضرر فيما لو تلف العوضان كلاهما أو بعضهما أو بعض أحدهما مجبور بفتوى الأصحاب فيها بعدم الرجوع، فإنّه و إن لم يبلغ فتواهم حدّ الاتّفاق سيّما فيما عدا الصورة الاولى من صور التلف إلّا أنّ فتوى الجماعة من الأصحاب كاف في جبران و هن عموم القاعدة بعد فرض عمومها البتّة.

و بالجملة: فمقتضى الأصل الأصيل و إن كان هو جواز الرجوع و عدم ملزميّة التلف فضلا عن ملزميّة سائر أنواع التصرّف إلّا أنّ مقتضى الدليل الوارد

ص: 394

عليه من الشهرة إن لم يكن إجماعا و من عموم نفي الضرر المجبور ضعفه بفتوى الأصحاب هو ملزميّة التلف بجميع أنحائه و أنواعه، و عدم جواز الرجوع بعده و عدم ضمان كلّ منهما مال صاحبه بعد التلف، سواء أتلف العينان أو أحدهما أو بعض كلّ واحدة منهما، أم تلف النماء المتّصل أو المتجدّد بعد التعاطي فإنّ تلف النماء مطلقا كتلف الأصل مطلقا في الملزميّة، و سواء قلنا بإفادة المعاطاة الملكيّة أو الإباحة، غايته أنّ الملزميّة على تقدير الإباحة تستدعي الالتزام بتقدير الملكيّة قبل التلف آنا ما، تحرّزا عن انفكاك اللازم عن الملزوم لو قلنا بأنّ الملزميّة من اللوازم المختصّة بالملك، و لا نابي من الالتزام به على هذا القول، كما لم نأب عن الالتزام به في كلّ إباحة ثبت الدليل على ترتّب آثار الملكيّة عليها.

و توهّم جريان قاعدة الضمان باليد على تقدير إفادة المعاطاة الإباحة لتضمّن كلّ من المتلفين مال صاحبه بعد تلف ما أبيح لهما بالمعاطاة مندفع: بأنّ هذه اليد قبل تلف العينين لم تكن يد ضمان، بل و لا بعده إذا بنى مالك العين الموجودة على إمضاء المعاطاة و لم يرد الرجوع.

ثمّ إنّ هذا كلّه في بيان أحكام أنواع التلف من الحكم عليها بالملزميّة، و الخروج عن تحت الأصل الأصيل، و استصحاب جواز الرجوع و بقاء السلطنة.

و يلحق بحكم التلف: البيع بعقد لازم، و العتق و الوطء في الملزميّة و الخروج عن تحت الأصل المذكور بما اخرج التلف عن تحته. و أمّا سائر أنواع التصرفات من الخلط، و المزج، و الصبغ، و القصر، و التفصيل و الخياطة و اللبس، و تجدّد النماء من دون تلف، و تغيير الصورة، و الهبة، و بيع الفضولي، و المعاطاة، و لو كان أحد العوضين دينا في ذمّة أحد المتعاطيين ففي ملزميّتها و الخروج عن تحت الأصل الأصيل لم يثبت الدليل و إن لم يتضيّق في بعضها السبيل، حسب ما في المتن التفصيل، و إليه المرجع و التحويل.

ص: 395

ثمّ إنّ ملزميّة التلف للمعاطاة و غيره من الملزمات هل يقتضي تقدير الملك القهريّ بجعله تعالى أم لا؟ وجهان، أقواهما الأوّل، لأنّه لو لم يقدر الملك القهريّ و لو لم يكشف الملزم عن سبق حصوله قهرا لكان لزوم المعاطاة بالملزم مخصّصا لعموم «من أتلف مال غيره فهو له ضامن»، و عموم تسليط الناس على أموالهم، و الأصل عدم التخصيص. و لأنّ وجه عدم إمضاء الشارع التمليك و اللزوم بمجرّد المعاطاة إنّما هو قصور دلالة الأفعال بمجرّدها عن القصود و الصراحة، فبعد وصولها إلى حدّ الصراحة بضميمة حصول الملزم لها لا وجه لتبعيض الإمضاء، أعني: إمضاء ترتّب آثار التمليك دون نفس التمليك المؤثّر لها، لعدم المانع من الإمضاء المطلق بعد ارتفاع مانعية قصور دلالة الفعل بانقلابها إلى الصراحة بضميمة حصول الملزم إليها. و لأنّه لا فرق بين الملزميّة و حصول الملك، سوى ما يمكن أن يفرض الملزميّة من مسبّبات الملكيّة، و من عادته تعالى في الغالب عدم جريان المسبّبات بدون أسبابها، كما في النصّ: «أبى اللّٰه أن يجري الأشياء إلّا بأسبابها» (1)، فتفكيكه بين إمضاء المسبّب دون سببه المؤثّر له من جملة خرق العادات المخالفة للغالب.

فتلخّص من هذه الوجوه: قوّة استكشاف الملزم للمعاطاة عن سبق الملك القهريّ فيها.

قوله: «المثل و القيمة، فتدبّر».

[أقول:] إشارة إلى أنّه لو قيل بتقديم البدل الجعليّ في التبادل قلنا:

المفروض على القول بإفادته الإباحة إلغاء جعله بدلا شرعيّا، فيتعيّن بدله الفعلي، و هو المثل و القيمة.

قوله: «و الظاهر أنّه في حكم التلف، لأنّ الساقط لا يعود».


1- الكافي 1: 183 ح 7.

ص: 396

أقول: عدم عود الساقط إنّما يسلم لو كان تعاطي المتعاطيين بقصد استيفاء الدين و إيفائه، فإنّ سقوط الدين عن ذمّة المديون في هذا الفرض بمنزلة الإبراء غير قابل للعود بالإقالة و الفسخ.

و لعلّ مقصود الشهيد في الدروس (1) من الجزم بعدم عود الساقط من الدين الثابت في ذمّة أحد المتعاطيين أيضا هو التعاطي بقصد استيفاء الدين من طرف الآخذ، و إيفاؤه من طرف المعطي. و أمّا إذا كان إعطاء المديون العوض للديّان بقصد البيع و التمليك و أخذ الديّان إيّاه بقصد الشراء و التملّك و لو بعوض الدين- كما هو الغالب في قصد التعاطي- فلا وجه للجزم بعدم عود الساقط و تضعيف احتمال عوده، سواء أقلنا بإفادة المعاطاة الملك أم الإباحة، لاحتمال أن يكون سقوطه سقوطا مراعى فيعود بالعود، و سقوطا منجّزا فلا يعود، و لا مرجّح لأحد الاحتمالين على الآخر على كلّ من تقديري الملك و الإباحة.

قوله: «و كذا على القول بالإباحة، لأنّ التصرف الناقل يكشف عن سبق الملك للمتصرّف فيرجع بالفسخ إلى ملك الثاني فلا دليل على زواله .. إلخ».

[أقول:] و فيه: أنّ كشف البيع لنفسه عن سبق الملك لنفسه إنّما يبتنى على القول بأنّ إذن المالك للغير ببيع ماله لنفسه يمضي شرعا، كما عن جماعة منهم:

الشهيد (2) و قطب الدين (3).

و أمّا على القول بعدم إمضائه شرعا- كما هو الأحوط إن لم يكن أقوى وفاقا للعلّامة- فلا يكشف عن سبق الملك للبائع حتّى يرجع بالفسخ إلى ملك الثاني.

قوله: «و لو باع العين ثالث فضولا .. إلخ».


1- الدروس الشرعيّة 3: 192.
2- لم نعثر عليه.
3- فقه القرآن 2: 44.

ص: 397

أقول: و صور هذه المسألة: أنّه: إمّا أن يجيز البيع الفضوليّ كلاهما، أو لم يجيزاه كلاهما، أو يجيزه أحدهما دون الآخر مع سكوته عن الإجازة، أو منعه عنها بالردّ أو باللفظ قبل إجازة الآخر أو بعده.

و على الأوّل: إمّا أن يتّفق إجازة كلّ منهما مقارنا لإجارة الآخر، أم متأخّرا عن إجازة الآخر، و على كلّ من هذه الصور: إمّا أن نقول بإفادة المعاطاة الإباحة أو الملك، و حكم كلّ واحد من الصور المذكورة ظاهر بالتأمّل في مراجعة المتن، فتدبّر.

[السابع أن الشهيد الثاني في المسالك ذكر وجهين في صيرورة المعاطاة بيعا بعد التلف أو معاوضة مستقلة]

قوله: «يقول بالإباحة اللازمة، فافهم».

[أقول:] إشارة إلى الفرق بين الإباحة اللازمة و سائر العقود اللازمة، من حيث إنّ وصف الإباحة باللزوم وصف لحال متعلّقه، و هو المباح لا الإباحة، بخلاف وصف البيع و سائر العقود اللازمة به.

[الثامن لا إشكال في تحقق المعاطاة المصطلحة التي هي معركة الآراء بين الخاصة و العامة بما إذا تحقق إنشاء التمليك أو الإباحة بالفعل]

قوله: «الثامن لا إشكال. إلخ».

أقول: الكلام في إلحاق البيع الواقع بالصيغة الفاسدة الخالية عن شرائط الصحّة بالمعاطاة في الحكم و عدمه. و قبل الخوض في تنقيح حكم المسألة يقع الكلام في مقدّمات.

الأوّلي: في بيان أقسام الإذن و تشخيص أحكامها، فنقول: الإذن و رضا المالك بالتصرّف في ماله: تارة يحصل من شاهد الحال، كشهادة حال الرجل من سخاوته و إسلامه و حسن خلقه و كرامة طبعه على الإذن، و الرضا بشرب ماء منه، و التوّضؤ من مائه، و نحوهما من الأمور اليسيرة الضرر أو ممّا لا ضرر فيه أصلا.

و تارة يحصل من فحوى الخطاب. و في شمول فحوى الخطاب لما عدا الأولويّة من الصور المساوية للمنطوق به، كما عليه صاحب الجواهر غير بعيد.

ص: 398

و تارة يحصل من التصريح بما يدلّ على الرضا مطابقة أو تضمّنا أو التزاما بأقسامه الثلاثة، كدلالة الإذن في الشي ء على الإذن في لوازمه و مقدّماته.

و تارة رابعة يحصل من كتابة أو إشارة، و هذا القسم من جملة قرائنه الفعلية، لا الحالية كالقسم الأوّل، و لا اللفظية كالقسمين الآخرين.

أمّا الإذن الحاصل من شاهد الحال أو شي ء من الأفعال فيعتبر في اعتباره العلم بحصوله، و دورانه مدار وجود العلم، بخلاف الحاصل من الأخيرين فإنّه يكفي في اعتباره الظنّ الفعليّ أو الشأنيّ على الخلاف في أنّ اعتبار ظواهر الألفاظ من باب الظنّ الفعليّ أو الشأني. و في إلحاق الدلالة الالتزامية الغير اللفظيّة بشاهد الحال في اعتبار العلم وجه غير بعيد.

ثمّ إنّ كلّ واحد من أنواع الإذن: إمّا غير معارض، أو معارض.

أمّا الأوّل: فإمّا مفرد و أقسامه صريح أو شاهد حال أو فحوى، و إمّا مركّب من الأوّل و الثاني، أو الأوّل و الثالث، أو من الثاني و الثالث، أو من الثلاثة جميعا.

فأقسام الإذن الغير المعارض سبعة.

و لا إشكال في ترتّب الحكم التكليفيّ من الإباحة و الجواز عليها، إنّما الإشكال في ترتّب الحكم الوضعيّ، و هو الملكيّة عليها. و الأقوى أنّ مجرّد الرضا و طيب النفس و إن ترتّب عليه الحكم التكليفيّ- و هو الإباحة- إلّا أنّه لا يستلزم ترتّب الحكم الوضعيّ من اللزوم و الملكيّة عليه، بل يستتبع مفاد دليل ذلك الحكم الوضعيّ في الاحتياج إلى ضميمة الإنشاء إلى الرضا و عدمه.

و أمّا الإذن المعارض من أنواع الإذن الثلاثة: فإمّا معارض بمثله و أقسامه ثلاثة، أو بغيره فكذلك.

و على كلّ من الأقسام الستّة: إمّا أن يكون المناط في الإذن و المنع المعارض له منقّح في كلّ من طرفي التعارض، أو في طرف الإذن دون المنع، أو

ص: 399

العكس. أو غير منقّح في شي ء من الطرفين أصلا. فبلغ الأقسام إلى أربع و عشرين صورة، و على كلّ من صور تنقيح المناط البالغة إلى ثماني عشرة صورة: إمّا أن يعلم المأذون بتحقيق المناط أيضا، أعني: تحقيق اندراجه تحت المناط المنقّح أو خروجه عن تحته، و إمّا أن يشكّ في الاندراج و الخروج.

مثلا: إذا علم بتنقيح كون المناط في الإذن هو العدالة، و في المنع هو الفسق: فإمّا أن يعلم بكونه عادلا ليندرج في مناط الإذن، أو بكونه فاسقا ليندرج في مناط المنع. و إمّا أن يشكّ في عدالة نفسه و فسقه، فبلغ أقسام العلم بتنقيح المناط الثماني عشرة بعد ضربها في أقسام تحقيق المناط إلى أربع و خمسين صورة، و إذا انضمّ إليها صور عدم العلم بتنقيح المناط الستّ بلغت ستّين صورة.

و التفصيل في حكمها أن يقال: أمّا المتعارضان على وجه التباين أو العموم من وجه فلا إشكال في سقوطهما و الرجوع إلى الأصول الخارجة و إن تعاضد أحدهما بمرجّح ظنّيّ، لأنّ الظنّ المطلق غير حجّة في تشخيص الموضوعات الصرفة، و إن كان حجّة في الأحكام فلا يرجّح به هنا إلّا إذا رجع إلى مفاد الألفاظ العرفية.

و أمّا المتعارضان على وجه العموم المطلق فيعلم حكمهما في ضمن مقدّمتين:

إحداهما: أنّ صلوح الشي ء المكتنف باللفظ للقرينيّة الصارفة هل تصرف اللفظ عن ظهوره كما عليه صاحب المناهج (1) و العوائد (2)، أما لا تصرفه عن ظهوره كما عليه المشهور، و هو المقبول كما قرّر في غير موضع من الأصول، و لهذا ذهب المشهور إلى عدم رجوع الاستثناء المتعقّب للجمل المتعدّدة إلى ما


1- المناهج: 14.
2- لم نعثر عليه.

ص: 400

عدا الأخير منها بمجرّد صلوحه و احتمال رجوعه إلى كلّها، فإنّ أصالة الظهور و الحقيقة و عدم المجاز كما هو محكم عند وجود القرينة و الصرف كذلك محكم عند الشكّ في قرينيّة الموجود المكتنف باللفظ، سواء ارتبط ذلك بالأحكام الكلّية أم الموضوعات الصرفة.

نعم، لو بلغ صلوح الشي ء للقرينيّة إلى مثابة لا يبقى معه الظنّ و الظهور الحاصل من أصالة الحقيقة و عدم المجاز توقّف في صرفه الظاهر عن ظهوره، و عدم صرفه عنه، كما في المجاز المشهور على المشهور.

و من هنا يعلم: أنّ كلّ ما يكتنف بالإذن أو المنع ممّا يصلح أن يكون قرينة صرفة عن الظهور و إناطة الإذن أو المنع به لا يصرف الظاهر عن ظهوره، بل يبنى على إطلاق الإذن و المنع و عمومهما، إلى أن يثبت التقييد و التخصيص بمعلوم القرينة و الصرف، لا بمحتملهما. فإذا أبيح لك التصرّف في مال على وجه اكتنف الإذن بما يصلح أن يكون قرينة إناطتهما بوصف أو شرط من الأوصاف و الشروط المقصودة فيك- كالعدالة و القرابة و الفقر و الديانة و نحوها- جاز لك التصرّف فيه على مذهب المشهور، و لم يجز على مذهب صاحب العوائد.

و ثانيتهما: أنّ التخصيص مقدّم على سائر المجازات من الإضمار و التقدير في كلّ ما تعارض المتعارضان على وجه العموم و الخصوص، سواء أعلمنا بعلّتي العموم و الخصوص و بعدم إبائهما عن التخصيص بالمخصّص، أم لم نعلم من الصور المذكورة.

و أمّا إذا علمنا بالعلّة لكنّها آبية عن التخصيص: فإن كان كلّ منهما آب عن التخصيص كان تعارضهما في حكم تعارض المتباينين في السقوط و الرجوع إلى الأصل. و إن كان الآبي عن التخصيص أحدهما فقط فهو في حكم النصّ بالنسبة إلى غير الآبي عنه في صرفه عن ظهوره.

ص: 401

المقدّمة الثانية: أنّ المشهور المنصور عندنا- وفاقا لأكثر المحقّقين- هو إدراك العقل الحسن و القبح، و حجّية مدركاته، و الملازمة بينه و بين حكم الشارع، و يتفرّع على هذه المقدّمة: أنّ العقل بعد حجّيته و إدراكه رضا المالك بالتصرّف في ماله و لو رضا شأنيّا مركوزا في خزانة الخاطر لا يقصر عن الفعل و اللفظ الدالّين على الرضا في إفادة الإباحة و سائر الأحكام.

نعم، لو قلنا بمقالة الأشاعرة: من عدم إدراك العقل الحسن و القبح أو عدم حجّيّة ما يدركه قصر دلالة العقل على الرضا عن دلالة الفعل و اللفظ عليه في الإفادة. و على ذلك لو منع أحد التصرّف في ماله صريحا و علم الممنوع من شاهد حال المانع الرضا بالتصرّف لو علم أنّه من هو؟ و أنّه متّصف بوصف من القرابة أو الديانة أو الصيانة لو تفطّن المانع له لرضا، و أنّ منعه من جهة الجهل به أو بوصفه جاز للممنوع التصرّف في مال المانع، و إن صرّح بمنعه و عدم رضاه، لأنّ الرضا الشأنيّ المركوز في خزانة الخاطر بعد استفادته العقل من حال المانع كاف في الإباحة و إن لم يكن المانع متفطّنا له.

و لهذا قيل بوجوب مقدّمة الواجب و مطلوبيّته مع عدم تفطّن الموجب لذي المقدّمة لها غالبا بالتفطّن التفصيليّ للاكتفاء في وجوبها بالتفطّن الإجماليّ المركوز في نفس الموجب، و كذا العكس، فإنّ من أذن لشخص التصرّف في ماله أو إعطاء أعطاه شيئا من ماله بزعم أنّه فقير أو متّصف بشي ء من الصفات المفقودة في المأذون له بحيث لو كان الآذن عالما بفقده فيه لم يأذن له لا يجوز له التصرّف و أخذ المعطى اعتمادا على ظاهر الإذن، إلّا إذا كان الوصف المفقود داعيا لإذن الآذن، لا عنوانا له كما هو لو كان الإذن و الإعطاء و عنوانه شخص المأذون و إن كان داعي الإذن و الإعطاء هو وصفه المفقود فيه دون العكس، و هو: ما إذا كان الوصف عنوان الإذن و الإعطاء.

ص: 402

المقدّمة الثالثة: في تشخيص محلّ النزاع في المسألة، فنقول و باللّٰه الاستعانة: لا إشكال في تحقّق المعاطاة المصطلحة الّتي هي معركة الآراء بين الخاصّة و العامّة بما إذا تحقّق إنشاء التمليك أو الإباحة بالفعل، و هو قبض العين، و لا فيما إذا تحقّقت بالقول الفاقد لشرائط اللزوم بناء على القول بعدم اشتراط اللزوم بشي ء زائد على الإنشاء اللفظي.

كما لا إشكال في عدم تحقّقها بالقول و لا بالفعل مع اختلال شرائط المتعاقدين من العقل و الرشد و الاختيار و القصد، أو شرائط العوضين من المعلوميّة و الطلقيّة و المقدوريّة على التسليم و القابلية للتمليك.

إنّما الإشكال و الخلاف في تحقّقها بالقول عند اختلال شروط ذلك القول و الصيغة الخاصة، من دون اختلال سائر الشروط المعتبرة في المتعاقدين و العوضين، كما لا يخفى.

بل و لا إشكال في تحقّقها بالصيغة الفاقدة للشرائط إذا فرض وقوع تقابضهما بإنشاء جديد غير الإنشاء الحاصل في ضمن الصيغة الفاقدة للشرائط.

كما لا إشكال في عدم تحقّقها بتلك الصيغة لو فرض أنّ تقابضهما و رضاهما بالمعاوضة مقيّد بتأثّر الصيغة الفاقدة للشرائط لتلك الآثار اعتقادا أو تشريعا، بحيث تكون صحّة المعاملة من جهة الصيغة و تأثيرها جهة تقييديّة مأخوذة في الرضا بالمعاملة و التقابض، ضرورة انتفاء المقيّد- و هو الرضا بالمعاملة- بانتفاء قيده، و هو صحّة الصيغة و تأثيرها ذلك.

و إنّما الإشكال و الخلاف فيما لو قصد البيع و وقوع المعاوضة بتلك الصيغة الفاقدة للشرائط من غير تقييد الرضا بخصوص تأثير الصيغة له، و لا بخصوص تأثير التقابض له بأن كان مقصودهما وقوع البيع و المعاملة بينهما بأيّ وجه اتّفق، سواء صحّت الصيغة أو فسدت.

ص: 403

و إذ قد عرفت أنّ محلّ النزاع في ذلك الفرض فالأقوى ما اختاره المشهور من إلحاقها بالمعاطاة في الصحّة و سائر الأحكام المترتّبة على المعاطاة من غير إشكال و لا دغدغة. و لعلّ هذا الحكم إجماعيّ، و أنّ الخلاف ناشئ عن عدم تشخيص موضوعه، و اشتباه فرضه بالفرض المقيّد فيه الرضا بصحّة الصيغة و تأثيرها.

كما لا إشكال في صحّة كلّ ما اقترن فعله بما يصلح و ما لا يصلح لتحصيله إذا قصد الفاعل تحصيله بأيّهما حصل و لم يتقيّد بتحصيله من خصوص ما لا يصلح لتحصيله، و لهذا يحكم بإجزاء صلاة من ذكر في ركوعه أو سجوده الذكر مرّتين: أحدهما بلحن، و الآخر بتصحيح إذا قصد الاجتزاء بأيّهما حصل الاجتزاء به و أثّر الصالح للاجتزاء أثره، سواء اتّفق وقوعه قبل الفاسد أو بعده.

و من هنا يعلم اندفاع تمسّك القائلين بفساد الفرض و عدم إلحاقه بالمعاطاة، بأنّ ما قصد لم يقع، و ما وقع لم يقصد، فإنّ ذلك إنّما ينهض حجّة على فساد الفرض المتقدّم الخارج عن محلّ النزاع، أعني: فرض تقييد الرضا و التقابض بتأثير الصيغة، لا على فساد ما نحن فيه من فرض عدم تقييد الرضا بتأثير الصيغة، فإنّ ما قصد في هذا الفرض وقع، و ما و مع قصد، لا أنّ ما قصد لم يقع و ما وقع لم يقصد كما توهّم.

و كذا يعلم عدم توقّف إدخال الفرض المذكور في المعاطاة على كفاية الرضا الشأنيّ في المعاطاة، لما عرفت من عدم خلوّ الفرض عن بقاء نوع من الرضا الفعليّ فيه، مضافا إلى عدم استبعاد كفاية الشأنيّ أيضا على تقدير التوقّف، و لا على كفاية وصول كلّ من العوضين إلى المالك الآخر في المعاطاة من غير اشتراط إنشاء الإباحة أو التمليك بالقبض، لما عرفت من عدم خلوّ الفرض المقرّر فيه النزاع عن بقاء نوع من الإنشاء الدالّ عليهما الصيغة في ضمن التقابض

ص: 404

الدالّ عليه التقابض، كما هو قضيّة عدم تقييد الرضا و الإنشاء الدالّ عليها الصيغة بتأثير الصيغة، مضافا إلى عدم استبعاد كفاية مجرّد الوصول حسب ما زعمه الماتن، كما لا يخفى.

نعم، إنّما يتمّ توقّف دخول محلّ النزاع في المعاطاة على الأمرين المذكورين لو كان النزاع في فرض ما إذا كان الرضا مقيّدا بتأثير الصيغة الفاسدة البيع زعما منهما التأثير على وجه لو لا زعمهما التأثير لم يقيّد إرضائهما بتأثير الصيغة، و لا يبعد دخول هذا الفرض في محلّ النزاع أيضا، إلّا أنّ الأقوى عدم إلحاقه بالمعاطاة و إن قيل بإلحاقه كما أنّ الأقوى في الفرض السابق إلحاقه بالمعاطاة و إن قيل بعدم إلحاقه.

فتلخّص ممّا ذكرنا: أنّه لا نزاع في إلحاق الفرض الأوّل بالمعاطاة، أعني:

فرض ما إذا تعدّد الإنشاء في ضمن كلّ من الصيغة الفاسدة و التقابض كما لا نزاع في عدم إلحاق الفرض الثاني بها، أعني: فرض ما إذا اتّحد الإنشاء و الرضا المقيّدان بتأثير الصيغة الفاسدة حقيقة، و أنّ النزاع إنّما هو في كلّ من الفرضين الأخيرين، أعني: فرضي عدم تقييد الرضا بتأثير الصيغة، أو تقييده بتأثيرها الناشئ عن زعم التأثير على وجه لو لا الزعم لم يقيّد به. و إن كان الأقوى في أوّلهما الإلحاق بالمتعدّد في دخوله في المعاطاة، و في آخر هما الإلحاق بالمتّحد المقيّد فيه الرضا بالتأثير حقيقة في عدم الإلحاق و عدم الدخول في المعاطاة لتوقّف إلحاقه و دخوله في المعاطاة على الأمرين المذكورين، أعني: كفاية مجرّد الرضا الشأني، و مجرّد الوصول من غير إنشاء في المعاطاة، و هو محلّ تأمّل، فإنّ غاية ما يفيده الرضا الشأنيّ و الوصول من غير إنشاء إنّما هو الإباحة المجّانية من الطرفين ما دام العلم باقيا بالرضا، و هذا ليس من المعاطاة في شي ء، و لا يترتّب عليه أثر المعاطاة من اللزوم بتلف أحد العينين، أو جواز التصرّف إلى حين العلم

ص: 405

بالرجوع و إن لم يبعد الإلحاق أيضا حسب ما في المتن، فتدبّر جدّا فإنّ الإلحاق لا يخلو من إطلاق.

[مقدّمة في خصوص ألفاظ عقد البيع]

[اعتبار اللفظ في عقد البيع]

قال الماتن قدس سرّه: «مقدّمة في خصوص ألفاظ عقد البيع .. إلخ».

أقول: و قبل الخوض في تحقيق ما يعتبر من الخصوصيّات في ألفاظ صيغ العقود ينبغي تأسيس الأصل الأصيل الّذي يصحّ عليه التعويل عند فرض الدليل، فنقول و باللّٰه التوفيق:

إن الأصل الأوّليّ في العقود- أعني الأصل العمليّ- هو الفساد، استصحابا لعدم النقل و الانتقال، و إبقاء لكلّ من العوضين في ملك مالكه الأوّل.

و أمّا الأصل الثانوي- أعني القاعدة المستفادة من الشرع الواردة على الأصل الأوليّ العمليّ- ففي وجوده و عدم وجوده في مسألة المعاملات وجهان مبنيّان على تشخيص كون المراد من العقود المحكوم عليها بالصحة و اللزوم في ضمن قوله تعالى أَوْفُوا بِالْعُقُودِ (1) هل هي العقود العرفيّة و ما يعدّ في العرف عقدا، أو هي العقود المعتبرة في نظر الشارع المعلومة عنده لا عند العرف؟

وجهان، بل قولان:

من أنّ سائر الألفاظ- سيّما ألفاظ المعاملات- موضوعة للمعاني الواقعيّة الراجع واقعها إلى العرف لا الشرع، فيحمل ألفاظ العقود عليها إلحاقا للمشكوك بالأعمّ الأغلب.

و من أنّه لو كان المراد من العقود هو العقود العرفيّة و ما يعدّ في نظر العرف عقدا لزم التخصيص بالأكثر في الآية، و إخراج أكثر العقود الفاسدة بواسطة اختلال شي ء من شروط المتعاوضين، أو العوضين، أو الصيغة، فلم يبق بعد إخراج العقود الفاسدة عن تحتها إلّا أقلّ قليل، فظاهر المشهور النافين لتوقيفيّة


1- المائدة: 1.

ص: 406

ألفاظ العقود هو القول الأوّل، و ظاهر المحكيّ عن الإيضاح (1) و المسالك (2) و كنز العرفان (3) المثبتين بتوقيفيّتها هو القول الثاني، و الظاهر و الأقوى هو القول الأوّل، لكن لا لمجرّد شهرته حتّى يناقش في حجّيّتها، و لا لمجرّد استلزام القول الثاني لإجمال الآية المخالف لأصالة عدم الإجمال و ندوره، بل و عدمه في الأحكام الشرعيّة الفرعيّة حتّى يدفعه المعارضة باستلزام القول الأوّل للتخصيص بالأكثر المستهجن عرفا، مضافا إلى أنّ الإجمال اللازم على القول الثاني إجمال الآية من جهة الإطلاق فقط، نظير إجمال المطلقات الواردة مورد حكم آخر، لا إجمالها من جميع الجهات النادر جدّا، بل إنّما هو لما أسلفنا تحقيقه في المرحلة الثالثة من مراحل تفسير الآية الّتي عقدناها لدفع لزوم التخصيص بالأكثر و غيره من موهمات إجمال الآية الشريفة بأبلغ وجه و أبسط. و من شاء راجع، فلا نطيل بالإعادة.

و على ذلك فالأصل الأصيل الّذي يصحّ عليه التعويل ما لم يقم على خلافه دليل هو أصالة الصحّة و اللزوم في كلّ ما شكّ في صحّته من العقود بعد إحراز كونه عقدا عرفيا يصدق عليه لفظ «العقد» عرفا.

كما أنّ الأصل الأوّليّ العمليّ قبل إحراز صدق اسم العقد عليه هو الفساد و عدم اللزوم، استصحابا لعدم النقل و الانتقال، و بقاء كلّ من العوضين تحت ملك مالكه الأوّل.

و من تأسيس هذا الأصل الأصيل يعلم: أنّ الأصل عدم قيام الإشارة من الأخرس مقام اللفظ عند تمكّنه من التوكيل لو لا الشهرة، و إطلاق فحوى ما ورد من عدم اعتبار اللفظ في طلاق الأخرس، لأنّ الشكّ في أصل صدق اسم العقد


1- إيضاح الفوائد 3: 12.
2- مسالك الأفهام 7: 86.
3- كنز العرفان 2: 146.

ص: 407

عرفا على إشارته، لا في صحّته بعد إحراز صدق الاسم عليه عرفا حتّى يقتضي الأصل الثانويّ- و هو إطلاق الآية- الصحّة، إلّا أنّ للشهرة- سيّما مع عدم الخلاف و إطلاق فحوى النصّ- ورودا على أصالة عدم كفاية الإشارة منه عند إمكانه من التوكيل. و كذلك الأصل اعتبار كلّ ما يشكّ مدخليّته في صدق العقد عرفا: من الصراحة و العربية و الهيئة و الترتيب و الموالاة ما لم يقم على خلافه دليل.

قوله: «و إليه ذهب الحلّيّ هناك، أي في الطلاق».

أقول: و لعلّه لأجل أنّ الكتابة و إن كانت أبعد عن الإنشاء من الإشارة إلّا أنّها أقرب من الإشارة إلى الامتياز بين ما يقع الطلاق به من لفظ «أنت طالق».

و بين ما لا يقع الطلاق به من سائر الألفاظ، كانت بريّة أو خليّة، و اللّٰه العالم بالحقيقة.

قال الماتن قدس سرّه: «فالمشهور عدم وقوع العقد بالكنايات».

أقول: بل الظاهر إجماعهم على اشتراط التصريح في انعقاد العقود اللازمة، و عدم كفاية الكناية في انعقادها. و أنّه إن كان خلاف و اشتباه فهو في الصغرى، أعني: في امتياز الصراحة عن الكناية و اشتباه أحدهما بالآخر، و إلّا فالظاهر من فتاوى الخاصّة و العامّة هو الاتّفاق في الكبرى، أعني: في اشتراطه الصراحة و عدم كفاية الكناية، بل ظاهر بعضها- على ما سنتعرّض لتفصيلها- هو اعتبار التوقيف في ألفاظ العقود و الاقتصار على الألفاظ المتلقّاة من الشارع و إن كان يضعّفه إطلاق «أَوْفُوا بِالْعُقُودِ».

ثمّ إنّ الكناية باتّفاق أهل البيان و الأصول: هو لفظ أريد به لازم معناه، مع جواز إرادته معه و إن اختلف الأصوليّون مع البيانيّين في كونها قسيما للمجاز، كما أنّها قسيم للحقيقة، أم أعمّ من المجاز ليكون المجاز قسما، لا قسيما لها؟

فذهب الأصوليّون إلى الثاني، و البيانيون إلى الأوّل، و منشأ اختلافهم هو

ص: 408

الاختلاف في استلزام المجاز للقرينة المانعة عن إرادة الحقيقة و عدم استلزامها، و الخطب سهل، لرجوع نزاعهم إلى الاختلاف في الاصطلاح، و لا مشاحّة فيه.

مضافا إلى أنّ وجه تثليث أقسام الدلالة بالنسبة إلى علم البيان تعلّق القصد فيه ببيان مطلق الدلالة، و تثنيتهما بالنسبة إلى علم الأصول عدم تعلّق القصد فيه بمطلق الدلالة.

و كيف كان فإرادة الجود من مثل «كثير الرماد»: تارة يحصل باستعمال لفظه في نفس الملزوم و هو كثرة الرماد، لينتقل منه إلى لازمة و هو الجود.

و تارة باستعمال لفظه في نفس اللازم من غير واسطة، و هو تارة مع نصب قرينة معاندة لإرادة الملزوم معه، و تارة مع عدم نصب قرينة معاندة لإرادة الملزوم معه.

و تارة يحصل باستعمال اللفظ في اللازم و الملزوم معا.

أمّا الوجه الأوّل- و هو استعمال اللفظ في الملزوم لينتقل منه إلى لازمة- فإن كان الملزوم فيه معنى حقيقيا للّفظ كان استعماله حقيقة. و إن كان معنى مجازيا كان مجازا.

فقولنا: «زيد كثير الرماد» جملة خبريّة إن استعملت في معناها الحقيقيّ بأن قصد بها الإخبار عن كثرة الرماد حقيقة لينتقل منه إلى لازم معناه- أعني:

كونه جوادا- كان اللفظ حقيقة لا محالة، لأنّه لم يستعمل حينئذ إلّا في ما وضع له و قصد الانتقال منه إلى لازمة غير مخلّ بذلك.

و إن استعملت في صورة معناها بأن قصد بها صورة الإخبار عن كثرة رماده لينتقل منه إلى لازمة لزم التجوّز في الإسناد، لأنّه لم يوضع لصورة الإخبار، بل لحقيقته، فيكون اللفظ باعتباره مجازا. و على التقديرين تكون الكناية في المركّب.

ص: 409

و يمكن أن يجعل المحمول حقيقة في المثال المذكور هو الجود المدلول عليه بذكر ملزومه. و لفظ «كثير الرماد» و إن كان محمولا عليه بحسب الظاهر لكن إنّما جي ء به لينتقل منه إلى المحمول الحقيقي- أعني الجواد- فيحمل عليه، فتكون الكناية في المفرد، أعني المحمول.

و على التقادير يكون اللفظ مستعملا في الملزوم للانتقال إلى اللازم، فكلّ منهما مراد منه، لكن أحدهما بلا واسطة، و الآخر بواسطة. و أمّا لو استعمل كثير الرماد في الجود نظرا إلى علاقة الملزوم كان مجازا مرسلا قطعا، كما مرّ.

و أمّا الوجه الثاني- و هو استعمال اللفظ في نفس اللازم مع نصب القرينة المعاندة لإرادة الحقيقة- فهو داخل في المجاز و الكناية على اصطلاح الأصوليّين، و في المجاز دون الكناية على اصطلاح البيانيّين. هذا إذا كان استعمال اللفظ في لازم معناه بقرينة جليّة.

و أمّا إذا كان استعماله فيه بقرينة خفيّة و أمارة ضعيفة في موارد يتسامح فيها في الدلالة و يكتفى فيها بمجرّد الإبهام و الإشارة، بحيث يمكن للمستعمل إنكار إرادة اللازم و منع السامع من التسامح في تنزيل كلامه عليه لو دعت الحاجة إلى الإنكار و المنع فيمكن اندراجه حينئذ في الكناية على اصطلاح البيانيّين أيضا، لإمكان الفرق بينها و بين المجاز في اصطلاحهم باشتراط الصراحة في قرينته، و الظهور المعتدّ به.

و أمّا الوجه الثالث- و هو استعمال اللفظ في اللازم مع عدم نصب القرينة المعاندة لإرادة الحقيقة- فهو داخل في الكناية على كلا الاصطلاحين.

كما أنّ الوجه الرابع كذلك بناء على القول بجواز استعمال اللفظ في أكثر من معنى واحد.

و إذ قد عرفت معنى الكناية و المجاز و أقسامهما في الجملة فاعلم: أنّ

ص: 410

المراد ممّا انعقد عليه الإجماع- و هو اشتراط التصريح في انعقاد العقود و عدم كفاية الكناية في انعقادها- ليس اشتراط أن يكون انعقادها بالألفاظ المتلقّاة من الشارع خاصّة، أعني: المستعملة في عنوان ذلك العقد في الكتاب أو السنّة، لا غير، كما يوهمه ظاهر المحكيّ عن غير واحد ممّا سيأتي، لأنّه مناف لإطلاق «أَوْفُوا بِالْعُقُودِ»، و لتصريح المشهور بكفاية كثير من الألفاظ الغير المتلقّاة من الشارع، و لتفسيرهم اشتراط التصريح بعدم اكتفاء الكناية. و لا اشتراط أن يكون بلفظ أمر الشارع إيقاع العقد به، لا غير، كما يوهمه بناء بعض الوساوسة على تكرار عقد النكاح لجميع ما يصلح له من الموادّ و الهيئات و أنحائها المختلفة، فإنّ هذا الاحتمال أبعد من سابقه، لأنّه مضافا إلى أنّه ينافي ما ينافيه الاحتمال السابق يستلزم اشتراط صحّة العقود بما هو مفقود.

و كذا ليس المراد من اشتراط الصراحة و عدم كفاية الكناية اشتراط الحقيقة في الصيغة و عدم كفاية المجازات كما يوهمه تصريح بعضهم، فإنّه أيضا مناف لإطلاق الآية، و تصريح المشهور بخلافه.

نعم، لو قلنا بإجمال الآية و عدم جواز التمسّك بعمومها كان المرجع هو الاقتصار على القدر المتيقّن من الصيغ. و لكن قد عرفت ضعف هذا القول في محلّه، و تأسيس عموم الآية و إفادتها أصالة الصحّة و اللزوم إلّا ما أخرجه الدليل.

و بعد تأسيس ذلك الأصل لا مسرح للاقتصار على القدر المتيقّن، بل المراد من اشتراط التصريح إنّما هو اشتراط أن يكون اللفظ مفيدا عنوان ذلك العقد بغير طريق الكناية، سواء أفاده بالوضع اللغوي، أم الشرعي، أم بالمجازات المحفوفة بالقرائن الجليّة الغير القابلة للإنكار، دون الخفيّة القابلة لإنكار التعويل عليها إذا دعت الحاجة إلى الإنكار.

فالمراد من الكناية في معقد الإجماع أو الشهرة على عدم كفاية الكنايات

ص: 411

ليس ما يعدّ مجازا أو كناية في اصطلاح الأصوليّين خاصّة، و لا ما يعدّ كناية في اصطلاح البيانيّين خاصّة، و لا ما يعدّ كناية في كلا الاصطلاحين، كما يوهمه انصراف الكناية من كلّ ذي اصطلاح إلى مصطلحه، بل المراد من الكناية على ما يظهر من الفتاوى: هو ما أفاد لازم ذلك العقد بحسب الوضع، كما كان المراد من الصراحة هو ما أفاد نفس ذلك العقد من دون توسّط اللازم. و الكناية بهذا المعنى و إن لم توافق الكناية بالمعنى الاصطلاحي- و هو اللفظ المراد به لازم معناه مع جواز إرادته معه، بل كان النسبة بينهما عموما من وجه- إلّا أنّه توافق الكناية بالمعنى اللغوي، و هو التستّر، نظرا إلى أنّ المفيد لازم العقد دون عنوانه، باعتبار أنّ اللازم من حيث إنّه لازم أعمّ من ملزومه، و العامّ لا يدلّ على الخاصّ يكون الملزوم مستورا فيه غير مصرّح به. و إن انضمّ إلى ذلك اللفظ المفيد لازم العقد بحسب الوضع القرائن الخارجية الدالّة على إرادة نفس العقد، سواء أ كانت قرائن مقالية أم حالية، و ذلك لأنّ أقصى ما تقتضيه القرائن المنضمّة إلى لفظ اللازم، المعيّنة لإرادة الملزوم منه هو الكشف عن إرادة الملزوم و هو نفس العقد دون الكشف عن تعلّق الإنشاء بالملزوم مع تعلّقه في الظاهر بنفس لازمة. و من المعلوم أنّ التصريح بإرادة العقد غير محقّق للعقد فضلا عن تحقّقه بمجرّد الكاشف عن إرادته، و ذلك لأنّ الإنشاء محقّق للعقد، و هو يستتبع مفاد آلته بحسب الوضع، فإن كان مفاد آلته بحسب الوضع هو اللازم كان الإنشاء متعلّقا به و إن حفّت بقرينة إرادة الملزوم منه ضرورة عدم المنافاة بين تعلّق الإنشاء بمفاد ظاهر اللفظ- و هو لازم العقد من الإذن و الإباحة و تجويز التصرّفات- و بين إرادة الملزوم، و هو نفس العقد منه.

و وجه عدم منافاته: إمّا من الغافل أو الجاهل أعمّيّة لازم العقد من نفس العقد فواضح، كما في أكثر العوامّ الزاعمين في معاملاتهم مساواة إباحة التصرّف

ص: 412

و الإذن فيه، و غيرهما من لوازم العقود لملزوماتها و هو نفس العقد، و لهذا ترى كثيرا ما يكتفون في عقودهم حتّى في مثل النكاح بمجرّد إنشاء المراضاة و إباحة التصرفات و الإذن و غيرهما من لوازم العقد، دون إنشاء نفس العقد، زعما منهم مساواة تلك اللوازم لملزوماتها، و جهلا أو غفلة عن أعمّيّة تلك اللوازم من ملزوماتها.

و إمّا من العالم بأعمّيّة اللازم من ملزومه و انتفائه بالأعمّيّة حين الإنشاء فلإمكان أن يريد تعلّق إنشائه باللازم أصالة ليحصل منه إنشاء الملزوم تبعا، نظير ما هو المراد من أحد أقسام الكناية من إرادة المعنى الحقيقيّ من اللفظ أصالة لينتقل منه إلى المعنى المجازي تبعا.

نعم، لو فرض المنضمّ إليه من القرائن الدالّة على تعيين كون المنشأ بإنشاء اللازم هو نفس العقد و أنّ المراد من إنشاء اللازم هو إنشاء نفس الملزوم خرج الفرض عن باب العقد بالكناية، و دخل في باب العقد بالمجاز، فيلحقه ما يلحق بابه من الحكم بالانعقاد، و عدمه. و قد عرفت أنّ الأصل الأصيل عندنا الانعقاد بالمجاز المكتنف بقرينة جليّة لا تقبل الإنكار لو دعت الحاجة إلى الإنكار، بناء على ما هو المقرّر عندنا- معاشر المشهور من عموم أَوْفُوا بِالْعُقُودِ و دلالته على أصالة الصحّة و اللزوم في كلّ عقد عرفيّ بعد إحراز صدق العقد عليه عرفا، خلافا لمن زعم عدم الانعقاد بالمجاز مطلقا، توهّما منه إجمال الآية و عدم عمومها المقتضي للاقتصار على القدر المتيقّن من الانعقاد. و لمن فصل- كالمحقّق (1) رحمه اللّٰه- بين المجازات البعيدة و القريبة، جمعا بين كلماتهم بحمل المجازات الممنوعة على المجازات البعيدة، كمتّعتك منفعة داري بكذا مثلا، و المجازات الغير الممنوعة على المجازات القريبة، كبعتك منفعتها بكذا مثلا.


1- جامع المقاصد 4: 207- 208، و حكاه عنه الأنصاريّ في المكاسب: 94.

ص: 413

و إذا تبيّن لك أنّ لازم العقد من حيث إنّه لازم أعمّ من ملزومه، و أنّ العامّ لا يدلّ على الخاصّ، و أنّ انضمام القرائن الدالّة على إرادة الملزم لا يستلزم تعلّق الإنشاء بالملزوم، بل هو أعمّ منه و من إرادة تعلّقه باللازم علمت و عرفت من هنا أنّ الكناية- و هو اللفظ المفيد لازم العقد وضعا- لا يلحق بالصريح بواسطة ضمّ القرائن المعيّنة لإرادة نفس العقد منها، إلّا إذا دلّت على تعلّق الإنشاء بنفس العقد، لا على مجرّد إرادته من تعلّق الإنشاء بلازمه، و أنّ وجهه كون المخاطب لا يدري بم خوطب؟ و المراد من عدم دراية ما خوطب به ليس عدم دراية المراد منه حتّى يندفع إطلاقه بأنّ القرائن لو انضمّت إليه تعيّنه، بل المراد: عدم دراية أنّ المنشأ بإنشاء اللازم هو لازم العقد ليترتّب عليه آثار اللازم، أو نفس العقد ليترتّب عليه آثار نفس العقد، من جهة أنّ تعلّق الإنشاء باللازم مع ضمّ القرائن الدالّة على إرادة نفس العقد أعمّ من كون الغرض تعلّقه باللازم حقيقة و أصالة. و إن كان الغرض منه الانتقال إلى إرادة الملزوم، و من كون الغرض تعلّقه به صورة من باب التوطئة و التوسّط لتعلّقه بنفس الملزوم. و من المعلوم أنّ العام لا يدلّ على الخاصّ إلّا بضمّ القرينة الدالّة على الخصوصيّة.

فتلخّص ممّا ذكرنا: أنّ المحتمل من اشتراط الصراحة في العقود و عدم كفاية الكناية وجوه:

أحدها: اشتراط الانعقاد بالألفاظ المتلقّاة من الشارع، أعني المستعملة في عنوان ذلك العقد في الكتاب أو السنّة، كما يوهمه ظاهر بعض فتاويهم الآتية، حملا لألفاظ العقود على التوقيف تعبّدا، كحمل ألفاظ العبادات عليه تعبّدا.

ثانيها: احتمال اشتراط كونه بلفظ أمر الشارع بإيقاع العقد به، لا غير كما يوهمه عمل بعض الوساوسة على تكرار عقد النكاح بجميع ما يحتمل فيه من الألفاظ و أنحائها.

ص: 414

و ثالثها: احتمال اشتراط الحقيقة في الصيغة، و عدم الانعقاد بالمجازات رأسا، كما أوهمه تصريح بعضهم، أو تفصيلا بين نوعي المجازات القريبة و البعيدة، كما عن المحقّق.

و رابعها: احتمال اشتراط انعقاده بما يفيد نفس العقد من الألفاظ، سواء أ كان بلفظ حقيقيّ أم مجازي، و سواء أ كان متلقّيا من الشارع أم لا.

و خامسها: احتمال اشتراط الانعقاد بما له من الألفاظ ظهور عرفيّ معتدّ به في المعنى المقصود، سواء أ كان بلفظ الحقيقة أم المجاز أم الكناية، كما استظهره الماتن من النصوص المتفرّقة حملا لما يعتبر في ألفاظ العقود على ما يعتبر في سائر ألفاظ الأقارير و المحاورات العرفية.

و تلخّص لك أيضا: أنّ المراد من اشتراط الصراحة ليس هو الوجه الأوّل، لمنافاته إطلاق الآية، و تصريحاتهم و تفسيراتهم المذكورة. و لا الوجه الثاني، لأنّه أبعد من الأوّل. و لا الوجه الثالث، لمنافاته إطلاق الآية و عمومها، فتعيّن أن يكون المراد هو الوجه الرابع.

و أمّا الخامس فهو و إن استظهره الماتن قدس سرّه من نصوصهم المتفرّقة في أبواب العقود، و من الفتاوى المتعرّضة لصيغها، و من دعوى تنقيح المناط القطعيّ، و هو عدم تعقّل الفرق في الوضوح الّذي هو مناط الصراحة بين إفادة لفظ للمطلب بحكم الوضع، أو إفادته له بضميمة لفظ آخر يدلّ بالوضع على إرادة المطلب من ذلك اللفظ إلّا أنّ في ظهور ما استظهره من كلّ واحد من الوجوه الثلاثة نظر، بل منع.

أمّا نصوصهم المتفرّقة و فتاويهم المتعرّضة لصيغ العقود الّتي أشار إليها بقوله: «و حكي عن المحقّق (1): أنّ عقد البيع لا يلزم فيه لفظ مخصوص»،


1- حكاه عنه الفاضل الآبي في كشف الرموز 1: 445- 446.

ص: 415

و «حكي عن الشهيد (1) رحمه اللّٰه من جواز البيع بكلّ لفظ دلّ عليه، مثل: أسلمت إليك، و عاوضتك»، و «عن العلّامة (2) و الفخر (3) من: أنّ الإيجاب هو اللفظ الدالّ على النقل، مثل: بعتك، أو ملّكتك، أو ما يقوم مقامهما» إلى غير ذلك من إطلاقاتهم المتفرّقة و تمثيلاتهم المتعرّضة لصيغ العقود الّتي استظهر منها الماتن- طاب ثراه- عدم اشتراط التصريح و الاكتفاء بالكنايات فلعدم ظهور شي ء من تلك النصوص و الفتاوى فيما استظهره من مخالفة المشهور و الاكتفاء بالكنايات في العقود.

أمّا نصوصهم المتفرّقة على جواز البيع بكلّ لفظ دلّ عليه و عدم لزوم لفظ مخصوص و غيرهما من سائر المطلقات فلاحتمال ورود إطلاقها مورد بيان رفع احتمال ما عدا الوجه الرابع من سائر الوجوه المتقدّمة عليه، كرفع احتمال اشتراط التلقّي من الشارع بأحد معنييه، أو رفع احتمال اشتراط الحقيقة في صيغ العقود دون ورود إطلاقها مورد بيان رفع اشتراط الصراحة و الاكتفاء بالكناية، و مع هذا الاحتمال، بل و رجحانه بالشهرة كيف يبقى ظهور لإطلاق تلك النصوص في ما استظهره من كون إطلاقها في صدد مخالفة المشهور، و بيان الاكتفاء في انعقاد العقود بكلّ لفظ له ظهور عرفيّ معتدّ به في المعنى المقصود و لو كان بالكناية؟

و أمّا تمثيلاتهم المتعرّضة لصيغ العقود و تجويزهم البيع بالألفاظ المختلفة فلعدم ظهور شي ء منها أيضا في مخالفة المشهور، و جواز الاكتفاء بالكناية.

أمّا التمثيل لجواز البيع بمثل «ملّكتك هذا بهذا» أو بمثل «نقلته إلى ملكك بكذا»، أو «جعلته ملكا لك بكذا» فلأنّ تلك الأمثلة من الألفاظ الحقيقيّة المفيدة


1- حكاه عنه العاملي في مفتاح الكرامة 4: 150.
2- تحرير الأحكام 1: 164.
3- حكاه عنه العاملي في مفتاح الكرامة 4: 150.

ص: 416

لنفس العقد صريحا، سيّما بملاحظة القرائن المقامية لو انضمّت إليه، لا من المجازات، و لا من الكنايات المفيدة لازم العقد أصالة حتّى يستظهر منها اكتفاؤهم في الانعقاد بكلّ لفظ.

و كذا تمثيل الشهيد (1)- رحمه اللّٰه- لجواز البيع بمثل «عاوضتك» فإنّه أيضا من الألفاظ الحقيقية المفيدة نفس البيع صريحا كما مرّ في تعريفهم البيع «بمبادلة مال بمال»، و «معاوضة شي ء بشي ء»، فليس دلالة المعاوضة على البيع من دلالة المجازات و الكنايات في شي ء حتّى يستظهر منها ما استظهر، بل هو لفظ حقيقيّ دالّ على البيع صريحا، سيّما بملاحظة ضمّ القرائن المقامية إليه.

و لو سلّمنا كونه من الكنايات فحمل تمثيل الممثّل به على تجويزه الكناية في الانعقاد، و على مخالفته المشهور في الكبرى ليس بأولى من الحمل على مخالفته معهم في الصغرى، أعني في زعمه الكناية صريحا.

و أمّا التمثيل لجواز البيع بمثل «أسلمت إليك، أو «أسلفتك بكذا» فلأنّ السلم و السلف و إن كان معناهما الحقيقيّ المتلقّى من الشارع هو بيع مقيّد خاصّ، و دلالتهما على البيع المطلق مجاز بعلاقة الخصوص و العموم إلّا أنّ تجويز البيع المطلق بهما مع ذلك لا يدلّ على تجويزه البيع بسائر المجازات الغير المتلقّاة من الشارع، أو المتلقّاة الغير المستعملة بعلاقة الخصوص و العموم، فضلا عن دلالته عليه تجويز البيع بالكنايات.

و كذا تمثيل بعضهم في بيع التولية بقوله: «ولّيتك العقد» أو «ولّيتك السلعة»، و التشريك في البيع بمثل «شرّكتك»، و في مسألة التقبيل بلفظ التقبيل فإنّها أيضا من الألفاظ الحقيقة المتلقّاة من الشارع المفيدة نفس عنوان ذلك العقد المعقود منها صريحا، سيّما بملاحظة ضمّ القرائن الحالية إليها.


1- و لكن فيما حكاه عنه العاملي في مفتاح الكرامة «4: 150»: قارضتك.

ص: 417

و لو سلّمنا كونها من المجازات فلا يدلّ تمثيل الممثّل بها على تجويزه انعقاد العقود بغيرها من سائر المجازات الغير المتلقّاة من الشرع، فضلا عن الدلالة على تجويزه بالكنايات.

بل لو سلّمنا كونها من الكنايات فحمل تجويز المجوّز للعقد بها على مخالفته المشهور في الكبرى- أعني في اعتبار الصراحة- ليس بأولى من حمل تجويزه بها على اشتباهه في الصغرى، أعني في زعمه الكناية صريحا.

و أمّا التمثيل من بعضهم لانعقاد القرض بمثل «تصرّف فيه»، أو «انتفع به و عليك ردّ عوضه» أو «خذها بمثله» و «أسلفتك» فلعلّه لأجل صراحتها و لو بضمّ القرائن إليها، أو لزعم صراحتها عند المكتفي بها، أو لبنائه على كون القرض من العقود الجائزة من الطرفين، كما صرّح في الروضة (1) باستناد الاكتفاء بتلك الألفاظ في القرض إلى كونها من العقود الجائزة، لا اللازمة. أو لأجل تغليب جانب الجواز فيها من طرف المقترض على جانب اللزوم فيها من طرف المقرض على القول بلزومها من طرفه، و أنّه يملك القرض بمجرّد القبض، و ليس للمقرض جبره على ردّ العين و لو كان موجودا بعد، بل للمقترض ردّ مثله و إن كره المقرض حينئذ.

كما احتمل استناد الاكتفاء بها إلى هذا الوجه شيخنا العلّامة.

و مع وجود هذه الاحتمالات القريبة المتكاثرة في مستند الاكتفاء بتلك الألفاظ في القرض كيف يستظهر من الاكتفاء بها عدم اشتراط المكتفي بها الصراحة في العقود و اكتفائه فيها بالكنايات؟

و أمّا التمثيل من بعضهم لجواز الرهن بمثل: «هذه وثيقة عندك» أو «خذه على مالك» أو «أمسكه بمالك» أو «حتّى أعطيك مالك» فلعلّه أيضا لأجل


1- الروضة البهيّة 4: 12.

ص: 418

صراحة تلك الألفاظ و لو بضمّ القرائن، أو لأجل زعم صراحتها عند المكتفي بها، أو لأنّه جائز من طرف المرتهن، الّذي هو المقصود الذاتيّ منه فغلّب جانب الجواز مطلقا، كما صرّح باستناد الاكتفاء بها في الروضة (1) إلى هذا الوجه.

و أمّا التمثيل من بعضهم لجواز إيجاب الضمان بمثل «تعهّدت المال» أو «تقلّدته» و المزارعة بلفظ «ازرع» و الإجارة بلفظ «العارية» أو بلفظ «بيع المنفعة» فلصراحتها و لو بضمّ القرائن، أو لزعم صراحتها عند المكتفي، لا للاكتفاء بالكنايات، كما زعمه الماتن (2).

و أمّا التمثيل من بعضهم لجواز الوقف بمثل «حرّمت» و «تصدّقت» مع القرينة الدالّة على إرادة الوقف مثل «أن لا يباع و لا يورث» فلصراحتها و لو بضمّ القرائن، أو لزعم صراحتها عند مجوّزها، أو لأنّ الوقف معاملة مع اللّٰه تعالى و هو عالم بالسرائر، لا معاملة مع من لا يدري بم خوطب به؟ حتّى يحتاج إلى الصراحة.

و لهذا استظهر في الروضة عن الأكثر: أنّه لو نوى الوقف في ما يفتقر إلى القرينة وقع باطنا، و دين بنيّته لو ادّعاه أو ادّعى غيره (3).

و أمّا التمثيل من جماعة لوقوع العقد الدائم بلفظ «التمتّع» فلعلّه مقيّد بما إذا بلغ حدّ الصراحة بضمّ القرائن الحاليّة و المقامية إليه، أو لزعم صراحته عند مجوّزة.

هذا تمام الفتاوى المتعرّضة لصيغ العقود و الأمثلة المختلفة الّتي استظهر الماتن من كلّ واحد منها مخالفة المشهور، و عدم اشتراط الصراحة و الاكتفاء بالكناية. و قد عرفت ممّا ذكرنا عدم ظهور شي ء منها في ما استظهره منها بأبلغ


1- الروضة البهيّة 4: 54.
2- المكاسب: 94.
3- الروضة البهيّة 3: 164.

ص: 419

وجه و أبسط.

و أمّا استظهاره مدّعاه و هو الاكتفاء بالكنايات بتنقيح المناط الّذي أشار إليه بقوله: «إذ لا يعقل الفرق في الوضوح الّذي هو مناط الصراحة بين إفادة لفظ للمطلب بحكم الوضع أو إفادته بضميمة لفظ آخر يدلّ بالوضع على إرادة المطلب من ذلك اللفظ» ففيه: منع عدم تعقّل الفرق بينهما بالمعارضة، و أنّه لو لم يتعقّل الفرق بينهما لجاز انعقاد العقد باللفظ الدالّ على إرادته بمعونة القرائن الحالية، بل لجاز بالمعاطاة المسبوق بمقال أو المقترن بحال يدلّ على إرادة البيع جزما، و اللازم باطل، فالملزوم مثله.

وجه الملازمة عدم الفرق في الوضوح الّذي جعله مناط الصراحة بين القرائن اللفظيّة و الحاليّة، بل و لا بين انضمام القرائن إلى اللفظ أو الفعل. فإنّه إن أراد من الوضوح الّذي جعله مناط الصراحة مطلق الوضوح كان دعوى الفرق بين الوضوح الناشئ عن الأقوال و بين الناشئ عن الأفعال و الأحوال رجوع عمّا بني عليه المناط.

و إن أراد منه الوضوح الخاصّ باللفظ احتمل بعد اعتبار أصل اللفظ في الوضوح اعتبار خصوصية أخرى من خصوصيّات الألفاظ فيه، أعني اعتبار ما عدا الكناية و المجاز فيه، إذ لعلّ ما يكون المعتبر في نظر الشارع لانعقاد العقود هو الصراحة اللفظيّة البالغة في الكشف عن إنشاء العقد إلى مرتبة لا يمكن الرجوع بعده بإنكار إرادته لو دعت الحاجة إلى الإنكار، قطعا لمادّة الخصومة، و سدّا لباب النزاع.

و لمّا لم يكن المجازات بتلك المثابة في الصراحة و قطع مادّة الخصومة من رأس و سدّ باب النزاع و الإنكار سيّما الكنايات و لو بلغت من الاقتران بالقرائن ما بلغت- لإمكان إنكار الاعتماد عليها لو دعت الحاجة إلى الإنكار- احتمل أن

ص: 420

يرى الشارع المصلحة في عدم اكتفائه بالمجازات و الكنايات، و لو بلغت من الاقتران بالقرائن المصرّحة للمراد ما بلغت. و مع وجود هذا الاحتمال- أعني اعتبار الشارع خصوصيّة ما عدا المجازات في العقود- يكون إلحاق المجازات بغيرها قياس مستنبط العلّة.

و دعوى إمكان رفع احتمال اعتبار الخصوصيّة بعموم أَوْفُوا بِالْعُقُودِ (1) و أصالة الصحّة و اللزوم المستفادان منه، مضافا إلى عدم جريانه في مطلق المجازات، فضلا عن جريانه في الكنايات، لتوقّف مجرى عموم الوفاء على إحراز كون الواقع عقدا عرفيا الغير المحرز في الكنايات و المجازات البعيدة و الخفي قراءتها، رجوع عمّا بنى عليه الاكتفاء بالمجازات و الكنايات من دعوى تنقيح المناط بعدم تعقّل الفرق.

فتلخّص ممّا ذكرنا عدم ظهور شي ء من الوجوه الّتي استظهر الماتن منها الاكتفاء بالمجازات و الكنايات، و أنّ استظهاره منها عجيب! و الأعجب منه أنّه لم يكتف بذلك حتّى تكلّف بتطبيقه على مدّعاه سائر العبارات الظاهرة، بل الصريحة في توقيفيّة ألفاظ العقود و الاقتصار فيها الصيغ المأثورة منها في كلام الشارع، كالعبارة المحكيّة عن الفخر في الإيضاح من أنّ كلّ عقد لازم وضع الشارع له صيغة مخصوصة بالاستقراء (2) فلا بدّ من الاقتصار على المتيقّن.

و عن المسالك (3) من أنّه يجب الاقتصار في العقود اللازمة على الألفاظ المنقولة شرعا، المعهودة لغة.

و العبارة المحكيّة عن كنز العرفان في باب النكاح من أنّه حكم شرعيّ حادث فلا بدّ له من دليل يدلّ على حصوله، و هو العقد اللفظيّ المتلقّى من


1- المائدة: 1.
2- إيضاح الفوائد 3: 12.
3- مسالك الأفهام 3: 147، و ج 7: 86.

ص: 421

النصّ (1). ثمّ ذكر لإيجاب النكاح ألفاظ ثلاثة، و علّلها بورودها في القرآن!.

بل الأعجب من ذلك كلّه أنّه لم يكتف بتطبيقه على مدّعاه مثل تلك العبائر الظاهرة، بل الصريحة في خلاف مدّعاه حتّى استأيد لمدّعاه و استرشد إليه بتلك العبائر و الفتاوى الصريحة في خلافه، كما لا يخفى.

ثمّ إنّ هذا كلّه في بيان حكم صيغ العقود و امتياز ما ينعقد به العقد عمّا لا ينعقد من حيث الكبرى. و أمّا بيان حكم الصيغ من حيث الصغرى تفصيلا فيتوقّف على التعرّض لخصوص كلّ واحد من ألفاظ الإيجاب و القبول على وجه الجزئيّة، و هي كثيرة:

فمنها: لفظ «بعت» و «شريت»، و في انعقاد كلّ من الإيجاب و القبول أو أحدهما بكلّ من اللفظين، أو عدم انعقاد شي ء من الطرفين بشي ء من اللفظين، أو التفصيل بين انضمام القرائن المعيّنة و بين عدم الانضمام وجوه مبنيّة على ما تقدّم من احتمال توقيفيّة ألفاظ العقود بالمعنى الأخصّ، و من احتمال اعتبار الوضع الحقيقيّ في صيغها، و عدم ثبوت النقل الحقيقيّ في تلك الصيغ، و من احتمال الاكتفاء بالصراحة مطلقا، سواء في ذلك الحقائق و المجازات. و قد عرفت الحقّ مع الأخير منها بأبلغ تقرير و تحرير.

كما أنّ في الاكتفاء بمجرّد انضمام قصد الإيجاب و القبول إليه على تقدير احتياجه إلى الضميمة، أو الاكتفاء بمجرّد انضمام القرائن الحاليّة إليه، أو بمجرّد انضمام أصالة صحّة المعاملة إليه، أو الاكتفاء بمجرّد انضمام إحدى الغلبتين من الاستعمال و الوجود إليه، أو الاحتياج إلى خصوص انضمام القرائن اللفظيّة الّتي منها التعدية إلى المفعولين المميّزة لصيغة الإيجاب عن القبول عند اشتراك الصيغة و اتّحاده بينهما وجوه مبنيّة على قرينيّة ما عدا الأخير منها، كالأخير، و عدمه.


1- كنز العرفان 2: 147.

ص: 422

و الظاهر أنّه لا ريب في عدم قرينيّة مجرّد القصد، و عدم احتمال قرينيّته في كلام أحد.

كما لا خلاف في قرينيّة الوجه الآخر. و لا ريب في قرينيّة الأحوال المنضمّة إليه، و لا في قرينيّة غلبة الاستعمال، بل و لا في قرينيّة غلبة الوجود على إشكال ما، و لا في عدم قرينيّة أصالة صحّة المعاملة، سواء أقلنا بأنّ مأخذها الغلبة في أفعال المسلمين، أم التعبّد الصرف، لكن لا لعدم مجرى أصالة صحّة المعاملة في ما يصحّ من المعاملات بغير اللفظ، كبيع المعاطاة و نحوه، حتّى يندفع بتخصيص مجراها بما لا يصحّ بغير اللفظ و الصيغة، كالنكاح و نحوه. بل إنّما هو لأجل أنّ المراد من أصالة الصحّة إن كان إطلاق آية أَوْفُوا بِالْعُقُودِ (1) فقد عرفت اختصاص مجراه بما إذا أحرز فيه صدق العقد عرفا من الصيغ، و المفروض كون الشكّ في الصحّة ناشئا عن الشكّ في تحقّق موضوع العقد عرفا، لا في اعتبار أمر زائد على تحقّق الموضوع العرفيّ بتلك الصيغة. و إن كان المراد منه أصالة الصحّة في أفعال المسلمين فمن البيّن اختصاص مجراها بما إذا كان الشكّ في الصحّة ناشئا عن الشكّ في إيقاع العقد بأي من صيغتي الصحيح و الفاسد، و المفروض أنّ الشكّ في ما نحن فيه ناشئ عن الشكّ في أصل صحّة الصيغة، و عدمه بعد إحراز كون الإيقاع به لا بغيره.

و بعبارة أخرى: أنّ الشكّ في ما نحن فيه ليس ناشئا عن دوران الأمر في الواقع بين وقوع العقد بإحدى الصيغتين المفروض صحّة إحداهما و فساد الأخرى حتّى يجري فيه أصالة الصحّة في أفعال المسلمين، بل إنّما هو ناشئ عن دوران الأمر بين صحّة اللفظ المخصوص المعلوم وقوع العقد به، و عدم صحّته، و لا أصل في البين.


1- المائدة: 1.

ص: 423

هذا كلّه في بيان صحّة الإيجاب و القبول بلفظ «بعت» و «شريت» على وجه من الإجمال، و تفصيله من جميع الوجوه أنّه لا خلاف فتوى و لا نصّا في وقوع الإيجاب بأيّ واحد من لفظي «بعت» و «شريت».

أمّا لفظ «شريت» فلأنّه و إن قلّ استعماله عرفا في الإيجاب، بل لم ينقل الإيجاب به في الأخبار، و لا في كلام القدماء. إلّا أنّ الظاهر عن اللغويّين هو وضعه للبيع (1)، بل قيل: لم يستعمل في القرآن الكريم إلّا في البيع. و بذلك الكفاية في وضوحه الّذي هو مناط الصراحة المعتبرة في صيغ العقود.

و أمّا لفظ «بعت» فلأنّه و إن كان من الأضداد بالنسبة إلى البيع و الشراء إلّا أنّ كثرة استعماله في البيع وصلت إلى حدّ تغنيها عن القرينة.

كما لا خلاف نصّا (2) و لا فتوى في صحّة القبول بلفظ «شريت» أيضا، بل الأقوى صحّته بلفظ «بعت» أيضا، لأنّ البيع و إن كان قليل الاستعمال عرفا في القبول إلّا أنّ القرائن المكتنفة به- الّتي منها التأخير، بناء على وجوب تقديم الإيجاب على القبول، أو غلبته- موضّحة إرادة القبول منه بالوضوح الّذي هو مناط الصراحة الكافية في الصحّة عندنا- معاشر المشهور- بأصالة الصحّة، و إطلاق الآية (3).

فتلخّص ممّا ذكرنا: صحّة وقوع الإيجاب و القبول بأيّ من لفظي «بعت» و «شريت»، سواء اتّحد لفظي الإيجاب و القبول بتكرير لفظ «بعت» أو «شريت»، أو اختلف لفظهما.

و على كلّ من الوجوه الأربعة سواء اقترنت الصيغة بالقرينة اللفظية المميّزة


1- انظر لسان العرب 14: 427.
2- لم نظفر عليه. نعم، ورد القبول بلفظ: «اشتريت» انظر الوسائل 12: 272 ب «19» من أبواب عقد البيع و شروطه.
3- المائدة: 1.

ص: 424

للإيجاب عن القبول الّتي منها التعدية إلى المفعولين، أم اقترنت بالقرينة الحاليّة المميّزة له الّتي منها التقديم و التأخير، بناء على وجوب تقديم الإيجاب أو غلبته و إن عدم صحّة الإيجاب، و القبول إنّما يختصّ بما إذا فرض اشتراك اللفظ بين الإيجاب و القبول، و تجرّد في مقام قصد المعاملة عمّا عدا القصد من جميع القرائن الحاليّة و المقاليّة الكاشفة عن أصل القصد، و المميّزة لقصد الإيجاب عن القبول، و هو طن لم يكن مجرّد فرض لا وقوع له أصلا في المعاملة بلفظ «البيع» و «الشراء» فلا أقل من كونه نادر الوقوع جدّا بحسب العادة، كما لا يخفى، على أنّه لا يبعد القول بأنّ الصراحة المعتبرة في العقود مختصّة بصراحة اللفظ من حيث دلالته على خصوص العقد، و تميّزه عمّا عداه من العقود.

و أمّا تميّز إيجاب عقد معيّن عن قبوله الراجع إلى تميّز البائع عن المشتري فلا يعتبر فيه الصراحة، بل يكفي استفادة المراد و لو بقرينة المقام، أو غلبته.

و من جملة ألفاظ الإيجاب و القبول: لفظ «ملّكت» بالتشديد. و في انعقاد البيع به في كلّ من طرفي الإيجاب و القبول مطلقا، أو عدم انعقاده به مطلقا، أو التفصيل بين ما يكون المنضمّ إليه من القرائن الحاليّة أو اللفظيّة، كسبق مقاولة البيع بينهما و نحوه، أو التفصيل في القرائن اللفظيّة بين سبق مقاولة البيع بينهما على التمليك و بين التصريح بمثل «ملّكتك» بيعا، أو التفصيل بين انعقاد الإيجاب به دون القبول وجوه.

كما أنّ في استناد انعقاد البيع به على القول به إلى أصالة البيع في المعاملات و غلبته، أو إلى إطلاق أَوْفُوا بِالْعُقُودِ (1) أو إلى صراحة لفظ «الملك» في البيع وجوه.

و كما أنّ في استناد عدم انعقاد البيع به على القول به إلى توقيفيّة ألفاظ


1- المائدة: 1.

ص: 425

العقود بأحد معنييه، أو إلى مجازيّة التمليك في البيع، أو إلى كناية عنه و كونه من لوازمه الأعمّ أيضا وجوه.

و الأقوى من بين وجوه انعقاد البيع ب «ملّكت»، و عدمه هو الانعقاد به مطلقا، للشهرة المنقولة في المتن إن لم تكن محصّلة، بل و للإجماع المنقول عن نكت الإرشاد (1) و غيره إن لم يكن محصّلا، مضافا إلى أغلبيّة البيع من سائر المعاملات، و إطلاق أَوْفُوا بِالْعُقُودِ، و إلى صراحة لفظ «الملك» المقارن بذكر العوض، أو غيره من القرائن الحاليّة و المقاليّة في البيع بمقتضى الوضع التركيبي، فإنّ مادّة التمليك و إن كانت مشتركة معنى بين ما يتضمّن المقابلة و بين المجرّد عنها إلّا أنّها إن اتّصلت بذكر العوض أو غيره من القرائن أفاد المجموع المركّب بمقتضى الوضع التركيبي البيع، و إن تجرّدت عن ذكر العوض و سائر القرائن اقتضى تجريده الملكيّة المجّانيّة.

و من هنا يعلم إمكان وجه آخر في المسألة، و هو فرض النزاع فيها لفظيّا، لإمكان الجمع بحمل ما قيل من أنّ التمليك يستعمل في الهبة بحيث لا يتبادر عند الإطلاق غيرها على التمليك المجرّد عن ذكر العوض، و حمل ما قيل من انعقاد البيع به على التمليك المقترن بذكر العوض، أو بحمل الأوّل على صورة التجرّد عن جميع القرائن المكتنفة المعيّنة لإرادة البيع، و حمل القول الآخر على صورة الاقتران بشي ء منها و لو من القرائن الحاليّة.

و أمّا لفظ «أدخلته في ملكك» فالحال فيه هو الحال في لفظ «ملّكتك» من حيث الوجوه و الوجاهة.

و أمّا لفظ «جعلته لك» فهو و إن نهض إليه بعض وجوه التمليك إلّا أنّ الأوجه فيه التفصيل بين القول بظهور اللام في التمليك، فيفيد البيع بما كان يفيده


1- لم نجده فيه، راجع غاية المراد في شرح نكت الإرشاد: 80- 81.

ص: 426

التمليك من الاقتران بذكر العوض أو غيره من القرائن المصرّحة بإرادة البيع، و بين القول بظهوره في الاختصاص، أو عدم اقترانه بشي ء من القرائن المصرّحة بإرادة البيع فلا يفيد البيع، لإلحاقه بالكنايات على هذا الفرض.

فتلخّص ممّا ذكرنا قوّة انعقاد الإيجاب بكلّ ما دلّ عليه من الألفاظ الصريحة، سواء كان من المتلقّاة من الشارع أو غيرها، و سواء كان من الألفاظ الحقيقيّة أو المجازيّة، بل و سواء دلّ بمعونة القرائن المقاميّة أو الحاليّة.

و كذا الكلام في انعقاد القبول على الأقوى و الأظهر و الأشهر، فالكلام فيه من حيث الإجمال و الكلّية هو انعقاد القبول بكلّ ما ينعقد به الإيجاب من الألفاظ الصريحة، سواء كانت متلقّاة من الشارع أم لا، و سواء كانت من الألفاظ الحقيقيّة أم لا، و سواء كان دلالته على القبول بمعونة القرائن المقاليّة أو الحاليّة.

و استشكال الماتن (1) في الاعتماد على القرائن الغير اللفظيّة في تعيين المراد من ألفاظ العقود قد عرفت اندفاعه بإطلاق الآية (2)، و الشهرة و الإجماع المنقولين إن لم يكونا محصّلين. و أمّا من حيث التفصيل و الجزئيّة فهو انعقاد القبول بلفظ «قبلت» و «شريت» و «اشتريت» و «بعت» و «ابتعت» و «ملّكت» و «تملّكت» بالتشديد، و «ملكت» بالتخفيف، و «رضيت» و «ارتضيت» و إن كان الأصل في القبول «قبلت» و غيره بدل عنه، إلى غير ذلك من الألفاظ الصريحة في القبول بنفسها، أو بما يكتنف بها من القرائن و لو قرينة تأخيره الدالّ على كونه قبولا، بناء على لزوم تقديم الإيجاب على القبول، أو غلبة ذلك، لإطلاق أَوْفُوا بِالْعُقُودِ بعد إحراز صدق اسم العقد عرفا على العقد بتلك الألفاظ، و للشهرة، بل الإجماع المنقولين، بل المحصّلين من إطلاق عبارة الأكثر.


1- المكاسب: 95.
2- المائدة: 1.

ص: 427

و يشترط في العقد الإيجاب و القبول من دون التعرّض للفظ خاصّ، بل و من عبارة كلّ من عطف على «بعت» و «ملّكت» و شبههما، أو ما يقوم مقامهما، فإنّ إرادة خصوص لفظ «شريت» من المعطوف بعيد جدّا. كما أنّ إرادة إيرادهم الإطلاق مورد بيان حكم آخر خلاف الظاهر و الغالب، و اللّٰه العالم بحقّ المطالب.

[مسألة في اعتبار العربيّة في العقد]

قال الماتن قدس سرّه: «المحكيّ عن جماعة منهم: السيّد عميد الدين (1)، و الفاضل المقداد (2)، و المحقّق (3) و الشهيد (4) الثانيان اعتبار العربيّة في العقد».

أقول: قبل الخوض في وجه المسألة ينبغي أوّلا تحرير محلّ النزاع، ثمّ تأسيس الأصل، ثمّ الشروع في دليل المسألة.

أمّا الكلام في تحرير محلّ النزاع فتفصيله: أنّ النزاع في اعتبار العربيّة و عدمه في العقد إنّما هو في المتمكّن من مباشرة العربيّة بنفسه، أو بالتوكيل. و أمّا غير المتمكّن من العربيّة بشي ء من الوجهين فلا نزاع في عدم اعتبارها في حقّه و جواز غيرها من سائر اللغات بالنسبة إليه، كما هو ظاهر الروضة (5)، و صريح غيره. بل و كذا العاجز المتمكّن منها بالتوكيل، فإنّه و إن احتمل في حقّه اعتبار العربيّة بالتوكيل بعض أخذا بأصالة عدم النقل و الانتقال بغيرها إلّا أنّ الأقوى و الأشهر عدم اعتبارها في حقّه أيضا.

بل عن مفتاح الكرامة (6) أنّه لا احتاط به أحد. و المراد من العجز ما يشمل المشقّة الكثيرة في التعلّم، أو فوات بعض الأغراض المقصودة من إخفاء العقد و نحوه المنافية للتوكيل.


1- لم نجده في كنز الفوائد للسيّد عميد الدين.
2- لم نجد تصريحا له بذلك، و إنّما مثّل لصيغة البيع بالعربيّة، راجع التنقيح الرائع 2: 24.
3- جامع المقاصد 4: 59- 60.
4- الروضة البهيّة 3: 225.
5- الروضة البهيّة 3: 225.
6- مفتاح الكرامة 4: 164.

ص: 428

ثمّ إنّه بعد العجز عن العربيّة هل يستوي سائر اللغات من العجميّ و التركيّ و الهنديّ و الزنجيّ و غيرها من أنواع اللغات و أصنافها المتشتّتة في الاجتزاء، أم لبعضها على بعض تقدّم في الرتبة بالنسبة إلى العاجز؟

وجهان، أقواهما الاستواء، للأصل، و عدم ما يصلح للفرق بينها.

و أمّا الكلام في تأسيس الأصل فقد مرّ غير مرّة أنّ الأصل العمليّ الّذي هو عبارة عن استصحاب بقاء الملك و عدم النقل و الانتقال بغير العربيّة- الّذي هو من استصحاب الأعدام الأزليّة المجمع على حجّيّة الاستصحاب فيها- يقتضي اعتبار العربيّة، و أنّ الأصل اللفظيّ- و هو إطلاق أَوْفُوا بِالْعُقُودِ عندنا معاشر المشهور القائلين بإطلاق الآية، و عدم إجمالها، و منع لزوم التخصيص بالأكثر من إطلاقها حسب ما قرّر في صدر المعاطاة بأبلغ وجه و أبسط- يقتضي العكس، و هو عدم اعتبار العربيّة، و الاجتزاء بغيرها من أيّ لغة كانت.

و أمّا الكلام في دليل اعتبار العربيّة فيمكن أن يكون وجوها:

منها: الأصل العمليّ، و استصحاب بقاء الملك، و عدم النقل و الانتقال بغير العربيّة.

و فيه: أنّ الاستدلال بالأصل العمليّ مبنيّ على القول بإجمال الآية، و إلّا فالأصل دليل حيث لا دليل، و إطلاق الآية دليل وارد على كلّ أصل أصيل.

و منها: لزوم الاقتصار على القدر المتيقّن من أسباب النقل، كما اعتمد عليه الشرائع (1) في باب النكاح، و احتمل الماتن الاعتماد عليه عليه مطلقا.

و فيه: أنّ التمسّك به أيضا مبنيّ على القول بإجمال الآية الممنوع إجمالها في محلّه بأبلغ وجه عندنا معاشر المشهور.


1- شرائع الإسلام 2: 321.

ص: 429

و منها: الإجماع المنقول عن المبسوط (1) و التذكرة (2) و غيرهما على اعتبار العربيّة في عقد النكاح، بناء على تنقيح اتّحاد المناط في سائر العقود، أو على أنّ اعتبار العربيّة في عقد النكاح يقتضي أولويّة اعتباره في سائر العقود، نظرا إلى أنّه قد تسامح الشارع في عقد النكاح بما لم يتسامح به في سائر العقود، ممّا يمكن الاستشكاف به عن تسهيل الشارع انعقاد النكاح من بين سائر العقود تكثيرا للنسل، أو غيره من المصالح، كالاكتفاء فيه بالسكوت من البكر، و بإهمال ذكر المهر، و بإسقاطه من المفوّضة بعضها بلا عوض، و بدون تعيين وصف المعقودة من جهة البكارة، و سائر الأوصاف الطبيعيّة و الخلقيّة، إلى غير ذلك ممّا لا يكتفى به في سائر العقود، كما لا يخفى على المتتبّع الخبير.

و فيه: أنّ الإجماع على اعتبار العربيّة في عقد النكاح على تقدير تسليمه و عدم الاعتناء بتجويز ابن حمزة (3) و غيره النكاح بغير العربيّة مع القدرة عليها لا يتعدّى عن النكاح إلى سائر العقود، لمنع تنقيح المناط، و منع الأولويّة، لأنّ القطعيّ منهما مفقود، و الظنّيّ منهما ملحق بالقياس، مضافا إلى أنّ مجرّد المسامحة في باب النكاح ببعض ما لا يتسامح به في سائر العقود معارض بالمسامحة في سائر العقود بالمعاطاة و غيرها ممّا لا يتسامح به في باب النكاح، إجماعا، و إلى ما في الآثار و الأخبار من أنّ الاحتياط في باب النكاح آكد من الاحتياط في سائر الأبواب، و أنّ اهتمام الشارع في أمر الفروج آكد من اهتمامه في سائر الأمور، كما لا يخفى على المتتبّع الخبير.

و منها: ما حكاه في المتن عن جماعة (4) من الاستدلال على اعتبار العربيّة


1- المبسوط 4: 194.
2- تذكرة الفقهاء 2: 582.
3- الوسيلة: 291- 292.
4- جامع المقاصد 4: 59- 60.

ص: 430

بالتأسّي بالنبيّ صلى اللّٰه عليه و آله المأمور به في قوله تعالى لَكُمْ فِي رَسُولِ اللّٰهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ (1).

و يندفع، لكن لا بما توهّم من استحباب التأسّي تفصّيا عن انتقاض وجوبه بالخصائص حتّى يندفع بخروج الخصائص بمخصّص خارجي، و أنّ العامّ المخصّص حقيقة في الباقي، بل الصواب الجواب بأنّ وجوب التأسّي به إنّما يجب في الأمور الغير العاديّة، لا في الأمور العاديّة من الحركات و السكنات، و إلّا لوجب التأسّي به في مجاورة الحجاز، و تعلّم لسان أهل الحجاز، و التكلّم بنهجهم، و التلبّس بلباسهم، و التزوّج من نسائهم، و الأكل من طعامهم، و الشرب من مياههم، إلى غير ذلك من الأمور العاديّة للنبيّ.

نعم، لو تردّد فعله عليه السلام بين الجبلي و الشرعيّ فهو يحمل على الجبليّ، لأصالة عدم التشريع، أو على الشرعي، لأنّه عليه السّلام بعث لبيان الشرعيّات، و قد وقع ذلك في مواضع، منها: جلسة الاستراحة، و منها: دخوله من ثنية كذا و خروجه من ثنية كذا، حيث يحتمل أن يكون لمصادفة طريقه، أو لأنّه سنّة.

قال الشهيد في قواعده: الصحيح حمل ذلك كلّه على الشرعيّ (2).

و منها: استناد اعتبار العربي إلى أنّ عدم صحّته بالعربيّ الغير الماضي يستلزم عدم صحّته بغير العربيّ بطريق أولى.

و فيه: أنّ عدم صحّته بالعربي الغير الماضي على تقدير تسليمه إنّما هو لأجل التحفّظ من الاشتهار المشبه للإباحة، كما صرّح به الشرائع في باب النكاح (3)، فلا يحمل عليه ما لا يحتمل الاشتهار من الألفاظ الصريحة الّتي هي من قبيل المترادف للعربي من سائر اللغات، لاستلزامه القياس مع الفارق.


1- الأحزاب: 21.
2- القواعد و الفوائد 1: 211- 212 قاعدة «61».
3- شرائع الإسلام 2: 321.

ص: 431

و بعبارة اخرى: أنّ عدم صحّته بالعربيّ الغير الماضي على تقدير تسليمه إنّما هو لأجل عدم وضع الغير الماضي للإنشاء الصريح في لغة العرب، فلا يحمل عليه ما وضع للإنشاء الصريح من سائر اللغات.

و منها: صحّة سلب اسم العقد عن العقد بغير اللغة العربيّة.

و فيه: منع صحّته، ضرورة كون العقد لغة و عرفا هو العهد الواقع بين الاثنين على وجه الاستحكام من أيّ لغة كانت، فيشمله عموم الوفاء إلّا على القول بثبوت الحقيقة الشرعيّة في خصوص لفظ العقد بالنسبة إلى العقد باللفظ العربيّ من بين سائر ألفاظ المعاملات، أو القول بوضع ألفاظ المعاملات للصحيح المشكوك إطلاقه على العقد بغير العربيّ، و في إثبات كلّ منهما في ألفاظ العبادات ألف كلام، فضلا عن إثبات شي ء منهما في ألفاظ المعاملات.

و منها: ما عن الجواهر (1): من استناده اعتبار العربيّة إلى مقايسة ألفاظ العقود بألفاظ الصلاة و القرآن و الأدعية المأثورة في عدم اجتزاء الترجمة عنها بشي ء من سائر اللغات لغير العاجز عن العربيّة.

و فيه مضافا إلى القياس أنّه مع الفارق، و هو ورود التعبّد بخصوص العربيّة في ألفاظ الصلاة و القرآن و الأدعية المأثورة في الأخبار و الآثار، دون وروده في ألفاظ العقود، و به الكفاية فارقا بينهما، فلا تقاس ألفاظ العقود الغير الثابت فيها التعبّد بألفاظ الصلاة و القرآن و الأدعية المأثورة الثابت فيها التعبّد في عدم الاجتزاء بغير العربيّ. كما لا تقاس الأدعية الغير المأثورة بالأدعية المأثورة في ذلك، و لهذا يجوز الدعاء الغير المأثور بأيّ لغة من اللغات، بل و كذا الدعاء المأثور لا بقصد المأثور يجوز بأيّ لغة من اللغات.

و منها: ما في الروضة من التمسّك بانصراف إطلاق العقد عن غير العربيّ


1- الجواهر 22: 250.

ص: 432

إلى العربيّ من بين اللغات، معلّلا للانصراف إلى العربيّ بقوله: «لأنّ ذلك هو المعهود من صاحب الشرع» (1)، فينصرف إليه إطلاقه، كما ينصرف إطلاق كلّ مطلق وارد مورد العهد و الغلبة إلى المعهود و الغالب.

و يمكن المناقشة بأنّه إن أريد من معهوديّة العربيّ من صاحب الشرع معهوديّة تكلّمه بالعربيّ، فهو إنّما يجدي إلحاق المشكوك كونه عربيّا من تكلّماته بالعربيّ، لا إلحاق المشكوك إرادة العربيّ منه من التكلّم المعلوم عربيّته بالعربيّ، كما في ما نحن فيه، فإنّ شكّنا ليس في عربيّة لفظ «العقود» حتّى يلحق بالمعهود الغالب من تلفّظات الشرع، و إنّما الشكّ في عربيّة المراد من لفظه المعلوم عربيّته، و من المعلوم عدم معهوديّة العربيّ في مرادات الشرع حتّى يلحق به المشكوك من مراداته.

و إن أريد من معهوديّة العربيّ من صاحب الشرع معهوديّة العقود العربيّة ذكرا ففيه: أنّ شرط انصراف إطلاق المطلق و عموم العامّ إلى المعهود الذكريّ عرفا هو سبق ذكر ذلك المعهود بلفظ التنكير و تعقّبه بلفظ الفاء، كما في مثل:

أَرْسَلْنٰا إِلىٰ فِرْعَوْنَ رَسُولًا. فَعَصىٰ فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ (2)، و في مثل «جاءني رجال فأكرمت الرجال». و من الواضح عدم وجود شي ء من شرطي هذا الانصراف في ما نحن فيه، و هو قوله تعالى يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ (3).

و إن أريد من معهوديّة العربيّ من صاحب الشرع غلبة استعمال العقود العربيّة في لسانه فمن الواضح عدم أصل استعمال العقود في القرآن في أكثر من موضع أو موضعين، فضلا عن كون المستعمل فيه عربيّا.


1- الروضة البهيّة 5: 111.
2- المزّمّل: 15 و 16.
3- المائدة: 1.

ص: 433

و إن أريد من معهوديّته غلبة إيجاد العقود العربيّة من صاحب الشرع فمن الواضح على المتتبّع الخبير عدم إيجاده شيئا من العقود العربيّة سوى عقد مولاتنا فاطمة عليها السلام لمولانا عليّ عليه السلام، كما في الأخبار (1) و آثار المزار من أنّه عليه السلام زوّج في السماء بسيّدة النساء، و كان شهودها الملائكة الأصفياء.

و إن أريد من معهوديّة العربيّ منه غلبة وجود العقود العربيّة على العقود الغير العربيّة في ما بين الناس ففيه: أنّ من الواضح المنع، بل العكس.

هذا، و لكن يمكن توجيه الاستدلال بالانصراف بأنّ المراد من معهوديّة العربيّ ليس شيئا من المعاني المذكورة، و إنّما المراد منه كون الحاضرين محفل خطاب الشرع المخاطبين بإطلاق أَوْفُوا بِالْعُقُودِ واجدين للعربيّ، فينصرف إليه إطلاق الخطاب المتوجّه إليهم، بناء على ما هو المشهور المنصور من اختصاص خطاب المشافهة بالحاضرين محفلة، و لا يجوز للغائب التمسّك بإطلاق ذلك الخطاب عند مخالفته مع الحاضر في الصنف، نظرا إلى أنّ التكليف المشروط مطلق بالنسبة إلى الواجدين للشرط.

و إيراد صاحب القوانين (2) عليه: بأنّ اعتبار الاتّحاد في الصنف لا يحدّه قلم، و لا يحيط ببيانه رقم، فاحتمال مدخليّة كونهم في عصر النبيّ صلى اللّٰه عليه و آله، أو أنّ صلاتهم كانت خلفه، و أمثال ذلك في الأحكام الشرعيّة، و حصول التفاوت بذلك، و عدم الحكم باشتراك الغائبين معهم من جهة هذه المخالفة و التفاوت ممّا يهدم أساس الشريعة و يسدّ باب الأحكام مدفوع: بأنّ المراد اعتبار الاتّحاد حيث لا يقوم دليل على عدم اعتباره، و الاتحاد في الكون في زمان النبيّ صلى اللّٰه عليه و آله و نحوه ممّا قام الإجماع، بل الضرورة على عدم اعتباره في معظم الأحكام، فلا يلزم على


1- أمالي الصدوق: 223 ح 2.
2- قوانين الأصول: 233- 234.

ص: 434

تقدير اعتباره ما ذكره من الانهدام و الانسداد، و بأنّ المراد من كون التكليف المشروط مطلقا بالنسبة إلى الواجدين للشرط إنّما هو في ما يستمرّ الشرط دون ما ينقطع، كالكون في زمان النبيّ صلى اللّٰه عليه و آله و نحوه.

و من هنا ظهر وجاهة استدلالنا بظاهر آية الجمعة (1) على وجوب صلاة الجمعة في زماننا، لأنّ احتمال اشتراط حضور السلطان العادل أو نائبه الخاصّ منفيّ بالأصل لو لا توهّم قيام إجماع أو نحوه من الأدلّة الخارجيّة على خلاف الأصل.

كما أنّ توهّم كون الحاضرين واجدين للشرط و حضور السلطان العادل أيضا مدفوع: بعدم استدامة وجدانهم الشرط في أسفارهم و إحضارهم، و ضعف استدلالنا بظاهر أَوْفُوا بِالْعُقُودِ (2)، لأنّ احتمال اشتراط العربيّة في العقد غير منفيّ بالأصل، لكون الحاضرين محفل الخطاب به واجدين له استدامة، و التكليف المشروط مطلق بالنسبة إلى الواجدين للشرط المستمرّ في الغالب، و إطلاقه وارد مورد الغالب.

فتلخّص ممّا ذكرنا: الرجوع بالأخرة عن إطلاق الآية (3)، و ضعف تمسّك من تمسّك لعدم اشتراط العربيّ في العقد، بأنّ غير العربيّ من اللغات من قبيل الترادف يصحّ أن يقام مقامه، و بأنّ الغرض إيصال المعاني المقصودة إلى فهم المتعاقدين، فيتأدّى بأيّ لفظ اتّفق، لأنّهما ممنوعان بعد الرجوع عن إطلاق الآية (4) بوروده مورد الغالب، أعني غلبة كون الحاضرين للخطاب واجدين للشرط و هو العربيّة، فلا حاجة إلى التقييد بها، مضافا إلى الإجماع المنقول الوارد على إطلاقها في باب النكاح. بل لا يبعد استظهار الشهرة الواردة على إطلاقها


1- الجمعة: 9.
2- المائدة: 1.
3- المائدة: 1.
4- المائدة: 1.

ص: 435

أيضا في سائر أبواب العقود و إن كان كلام أكثر القدماء و المتأخّرين خال عن التصريح باعتبار العربيّة في ما عدا النكاح، إذ لعلّه من جهة الإشكال على وضوح اعتبارها.

كما أنّ عدم تصريحهم باعتبارها في القرآن و الصلاة و الأدعية المأثورة من تلك الجهة أيضا، إلّا أنّ ما بينهما بون بعيد قد عرفت وجهه، فيبعد اتّحاد جهتيهما من تلك الجهة جدّا.

ثمّ إنّه على تقدير اعتبار العربيّة هل يعتبر عدم لحنها من حيث المادّة و الهيئة، أم لا يعتبر مطلقا، أم التفصيل بين اللحن من حيث المادّة فيعتبر عدمه و بين اللحن من حيث الهيئة فلا؟ وجوه، الأقوى الأوّل، لأنّ اللحن في العربيّ مخرج إيّاه عن العربيّ مطلقا، فيلحقه ما يلحق الخارج عن العربيّ إلى سائر اللغات من الاجتزاء بها و عدمه، و لأنّ الحاضرين كما أنّهم واجدين لشرط العربيّة استدامة كذلك واجدين لشرط صحّتها أيضا من الحيثيّتين استدامة، فيكون إطلاق الآية (1) واردا مورد الغالب من جهة الصحّة أيضا.

و توجيه الماتن (2) فرق المفترق بين ما لو قال: «بعتك»- بفتح الباء- و بين ما لو قال: «جوّزتك» بدل «زوّجتك» في تصحيحه الأوّل دون الثاني بقوله: «لعلّه لعدم معنى صحيح في الأوّل إلّا البيع، بخلاف التجويز فإنّ له معنى آخر، فاستعماله في التزويج غير جائز» فيه: أنّه إن أغمض عن القرائن المكتنفة بكلّ منهما كان لكلّ منهما معنى آخر، و إن لم يغمض عنها لم يكن لشي ء منهما معنى آخر، فاختصاص أحدها بمعنى آخر دون الآخر في محلّ النظر. فتدبّر.

[المشهور اشتراط الماضويّة في عقد البيع]

قال الماتن قدس سرّه: «المشهور- كما عن غير واحد- اشتراط الماضويّة .. إلخ».


1- المائدة: 1.
2- المكاسب: 96.

ص: 436

أقول: تفصيل الكلام في المرام يقع في مقامات: الأوّل: في تأسيس الأصل، و تفصيله: هو أنّ الأصل العمليّ قد عرفت غيرة مرّة أنّه مع اشتراط كلّ ما يشكّ في اشتراطه في صحّة المعاملة لاستصحاب بقاء الملكيّة و عدم حصول النقل و الانتقال بما عدا المتيقّن حصوله به.

و أمّا الأصل اللفظيّ فوارد على مقتضى الأصل الأوّلي، و ناف لاشتراط الماضويّة، و هو غير منحصر في لفظ «البيع» من قوله تعالى وَ أَحَلَّ اللّٰهُ الْبَيْعَ حتّى يضعّف بورود إطلاقه مورد بيان حكم آخر، أعني: بيان حلّية البيع في الجملة في مقابل القائلين إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبٰا (1)، فردّهم بقوله وَ أَحَلَّ اللّٰهُ الْبَيْعَ وَ حَرَّمَ الرِّبٰا (2)، معناه: أنّ البيع ليس كالربا. كما أنّ قوله تعالى:

فَكُلُوا مِمّٰا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ (3) في مقابل رفع توهّم كونه كالميتة، معناه: حلّيّة ما يمسكه الكلب المعلّم في الجملة، و بيان أنّه ليس كالميتة، فالتمسّك بإطلاق البيع على عدم اشتراط الماضويّة في عقده كالتمسّك بإطلاق فَكُلُوا مِمّٰا أَمْسَكْنَ على حلّيّة موضع العضّ من دون غسله، و لا في لفظ تِجٰارَةً عَنْ تَرٰاضٍ (4) حتّى يقال فيه ما قيل في لفظ «البيع» من منع الإطلاق.

بل إنّما المراد من الأصل اللفظيّ هو عموم العقود من آية أَوْفُوا بِالْعُقُودِ، فإنّه و إن قيل فيه أيضا ما قيل من منع عمومه بالحمل على العقود المتعارفة أو المعهودة عرفا تفصّيا عن زعم استلزام عمومه التخصيص بالأكثر، إلّا أنّك قد عرفت منع الملازمة، و ردّ ذلك كلّه بالنقض و الحلّ في محلّه، فراجعه إن شئت.

فتلخّص ممّا ذكرنا: أنّ مقتضى عموم أَوْفُوا بِالْعُقُودِ الوارد على


1- البقرة: 275.
2- البقرة: 275.
3- المائدة: 4.
4- النساء: 29.

ص: 437

أصالة عدم حصول النقل و الانتقال بما عدا المتيقّن هو عدم اشتراط الماضويّة في الصيغة بعد حصول الصراحة المعتبرة في العقود.

نعم، يمكن أن يقال: بأنّ الغالب في العقود تداولها بالصيغ الماضويّة، فيصرف الإطلاق إليها، كما هو الحال في كلّ ما ورد مورد الغالب من المطلقات.

و لكن يندفع أوّلا: بأنّ ما في العقود عموم لا الإطلاق، و الانصراف إلى الأفراد الغالبة من خصائص الإطلاق، لا العموم.

و ثانيا: بأنّه إن أريد غلبة استعمال العقود في العقود بالصيغ الماضويّة فهو ممنوع جدّا. و إن أريد غلبة وجود العقود بالصيغ الماضويّة فهو على تقدير تسليمه لا يوجب الانصراف بمجرّده، كما لا يخفى.

فتبيّن: أنّ أصالة عدم اشتراط الماضويّة بعموم العقود أصل أصيل عليه التعويل ما لم يقم على الخلاف دليل.

المقام الثاني: في تحرير محلّ النزاع في اشتراط الماضويّة، و عدمه:

و تفصيله: أنّ محلّ النزاع إنّما هو في العقود اللازمة. و أمّا العقود الجائزة فلا نزاع ظاهرا في عدم اشتراط الماضويّة و الاكتفاء في انعقادها بغير الصيغة الماضويّة من الطرفين، بل و بغير القول من طرف القائل، بل و من طرف المجيب أيضا، كما لو أوقعاه بالفعل و المعاطاة، أو نحوها من إيماء أو كتابة أو إشارة.

و كذا لا نزاع ظاهرا في صدق العقد على الواقع منها بالقول من الطرفين، و لا في عدم صدقه على الواقع منها بالفعل، و المعاطاة من الطرفين أو من طرف المجيب فقط، و إنّما النزاع في صدق العقد على الواقع منها بالفعل، و المعاطاة من طرف القابل فقط.

فعن البعض منع الصدق عليه، و إثباته غير بعيد، بل استظهره الأستاذ دام ظلّه.

ص: 438

و أمّا ذات الجانبين- كالرهن من العقود- فهل يرجّح فيها جانب الجواز في عدم اشتراط الماضويّة، أو جانب اللزوم في اشتراطها وجهان أقربهما الثاني، لأصالة عدم حصول النقل و الانتقال بما عدا المتيقّن، خرجت العقود الجائزة من الطرفين بالإجماع، و بقي الباقي.

لا يقال: نرجّح جانب الجواز فيها بعموم العقود الوارد على أصالة عدم النقل و الانتقال.

لأنّا نقول: هذا خروج عن محلّ الفرض، لأنّ الإشكال في إلحاق ذات الجانبين من العقود بالجائزة أو اللازمة منها مبنيّ على فرض قصور لفظ «العقود» عن العموم بأحد الموهمات المتقدّمة، و فرض مخالفة العقود الجائزة اللازمة في اشتراط الماضويّة، و إلّا فبعد تسليم عموم لفظ العقود لم يبق بين الجائزة و اللازمة فرق من جهة عدم اشتراط الماضويّة حتّى يبقى للإشكال في إلحاق ذات الجهتين بأيّهما مسرح.

و الحاصل: أنّ ذات الجهتين من العقود إنّما يلحق بالعقود اللازمة دون الجائزة في اشتراط الماضويّة فيها من جهة أنّ دليل اعتبار الماضويّة في العقود اللازمة و هو أصالة عدم حصول النقل و الانتقال بما عدا المتيقّن من الصيغ دليل جار في ذات الجانبين أيضا، لأنّ الخارج عن تحت الأصل المذكور على هذا التقدير ليس إلّا العقود الجائزة من الطرفين بالإجماع، و هو دليل لبّيّ يقتصر فيه على القدر المتيقّن.

و بعبارة اخرى: أنّ لسان الدليل المخرج للعقود الجائزة عن تحت أصالة اشتراط الماضويّة ساكت عن إخراج ذات الجانبين، فيقدّم عليه لسان أصالة اشتراطها، لكونه كالناطق.

و بتقرير آخر: أنّ ترجيح جانب اللزوم على جانب الجواز في اشتراط

ص: 439

الماضويّة فيه على تقدير اشتراطه في العقود اللازمة إنّما هو من جهة أنّ جانب الجواز مقتضاه السكوت عن حال الاشتراط، و عدم الاشتراط، بخلاف جانب اللزوم فإنّ مقتضاه النطق باشتراطها، فيقدّم على جانب الجواز، و ذلك لأنّ جانب الجواز ليس مقتضاه اشتراط، عدم الماضويّة، بل هو كالساكت عن حال الاشتراط، و عدمه، بخلاف جانب اللزوم.

المقام الثالث: في تحقيق الحقّ في المسألة:

و تفصيله: هو أنّهم اختلفوا في اعتبار الماضويّة في العقود و عدمه على أقوال، ثالثها: التفصيل بين عقد النكاح و غيره.

أمّا وجه الاشتراط مطلقا فهو الأصل العملي، أعني استصحاب عدم حصول النقل و الانتقال بما عدا المتيقّن، و للشهرة المحقّقة، و الإجماع المنقول عن العلّامة في التذكرة (1)، و للاشتهار المشبه للإباحة، أعني لكون الغير الماضي أشبه بالاستدعاء و الاستعلام على ما تمسّك به في الشرائع (2)، و لكن في إطلاقه منع.

و أمّا وجه عدم اشتراطها فلعلّه لإطلاق البيع، و التجارة، و عموم العقود، و فحوى ما دلّ عليه في النكاح (3)، و ما دلّ في بيع الآبق (4)، و اللبن في الضرع (5) من الإيجاب بلفظ المضارع في بعض الروايات، و ما في باب المزارعة من قيام الشهرة على جوازها بصيغة الأمر ك «ازرع» هذه الأرض، استنادا إلى رواية (6).

و ما في باب المساقاة من تجويزه العلّامة في التذكرة (7) بلفظ الأمر ك «تعهّد


1- تذكرة الفقهاء 1: 462.
2- شرائع الإسلام 2: 12.
3- الوسائل 14: 466 ب «18» من أبواب المتعة.
4- الوسائل 12: 262 ب (11) من أبواب عقد البيع و شروطه، و ص: 259 ب (8).
5- الوسائل 12: 262 ب (11) من أبواب عقد البيع و شروطه، و ص: 259 ب (8).
6- الوسائل 13: 200 ب (8) من أبواب المزارعة ح 5 و 10.
7- تذكرة الفقهاء 2: 342.

ص: 440

نخلي»، أو «اعمل فيه»، مع عدم نصّ مخرج لها عن نظائرها من العقود اللازمة.

و ما في باب الهبة و القرض و الرهن من قيام الإجماع ظاهرا على عدم اشتراط الماضويّة فيها، مع أنّ المعوّضة و ما للأرحام من الهبات من العقود اللازمة، و كذا القرض من جانب المقرض، و الرهن من جانب الراهن.

و أمّا وجه التفصيل فلاختلاف باب البيع و الإجارة بالنسبة إلى اشتراط الماضويّة لسائر أبواب العقود اللازمة من حيث الفتوى و النصّ (1).

هذا، و لكنّ الأقرب بالقواعد هو اشتراط الماضويّة مطلقا، إلّا في ما أخرجه الدليل من أبواب العقود، لكن لا لمجرّد أصالة اشتراطها و استصحاب عدم النقل و الانتقال بما دونها حتّى يدفعه ورود الأصل اللفظيّ عليه. و لا لمجرّد ورود إطلاق البيع و التجارة مورد بيان حكم آخر حتّى يدفعه الاكتفاء ببقاء عموم «العقود» على الجواز من الأصول اللفظيّة، و لا لما قيل من أنّ الغير الماضي أشبه بالاستدعاء و الاستعلام حتّى يدفعه بأنّ الكلام في ما احتفّ بالقرائن المصرّحة، لا في مطلق غير الماضي، بل إنّما هو لأجل الشهرة، و الإجماع المنقول على اشتراط الماضويّة في صيغ العقود، إلّا ما خرج بالدليل عن موضوع العقود اللازمة، أو عن حكمها، و لا ريب في حجّيّة مثل تلك الشهرة العظيمة. و الإجماع المنقول و إن لم نقل بحجّيّة مطلق الشهرة و الإجماع المنقول و قلنا بعموم العقود أيضا.

و ممّا ذكرنا يعلم: أنّ اختلاف كلمة الأصحاب و عدم اشتراطهم الماضويّة في ذكر من الأبواب لا يوجب و هن شهرتهم على اشتراطها، و لا تقريب عدم اشترطها، بل إنّما يوجب خروج ما لم يشترطوا فيه الماضويّة عن تحت أصالة اشتراطها في العقود اللازمة، خروجا موضوعيّا، أو حكميّا بواسطة مخرج نصّيّ


1- الوسائل 13: 249 ب (8) من أبواب أحكام الإجارة.

ص: 441

أو فتوائي، كما هو القاعدة العرفيّة المقرّرة في الجمع بين كلّ عامّ و خاصّ، و مطلق و مقيّد من الكلمات الموهمة للاختلاف و التناقض في بادئ الرأي.

و تفصيل ما ذكرنا: هو أن يقال: أمّا عقد النكاح فهو و إن كان من العقود اللازمة إلّا أنّ خروجها عن حكم نظائرها على القول به إنّما هو للنصّ الخاصّ به.

و دعوى التعدّي إلى غيره بالفحوى نظرا إلى أنّها إذا لم تعتبر في النكاح مع أنّ الاحتياط في أمر الفروج أشدّ و آكد شرعا لم يعتبر في غيره بطريق الأولى، مدفوعة بمنع الأولويّة القطعيّة، لما مرّ (1) من أنّ أشدّيّة الاحتياط في أمر الفروج إنّما هو من جهة خاصّة، كالتحفّظ من اختلاط الأنساب، لا من جميع الجهات، ألا ترى أسهليّة عقد النكاح من سائر العقود من جهة الانعقاد، حيث يكتفى من البكر بالسكوت، و يصحّ من دون تعيين المهر و لا الأجل؟ إلى غير ذلك ممّا لا يكتفى به في ما عدا النكاح من سائر العقود، و يكشف عن كون الشارع كأنّه اكتفى في انعقاد علقة الزوجيّة بأدنى سبب تكثيرا للنسل، و مع ذلك كيف يبقى مسرح للقطع بأولويّة عدم اشتراط الماضويّة في سائر العقود من مجرّد عدم اشتراطها في عقد النكاح؟ و أمّا الأولويّة الظنّية فملحقة بالقياس في عدم الحجّية.

هذا كلّه مضافا إلى إمكان منع الحكم بعدم الاشتراط في المقيس عليه و هو النكاح، لاستناده إلى أخبار قاصرة السند أو الدلالة.

و أمّا وجه عدم اشتراطهم الماضويّة في القرض فلخروجه: إمّا عن حكم العقود اللازمة و لو لم يكن المخرج له سوى مجرّد الشهرة، و إمّا عن موضوع العقود اللازمة، كما هو مقتضى ظاهر اتّفاقهم على جوازه، فإنّ ظاهر اتّفاقهم على جوازه هو جوازه من الطرفين، فيدخل في موضوع العقود الجائزة، و كما هو


1- في ص: 429.

ص: 442

مقتضى تصريح الشيخ (1) بأنّ للمقرض الرجوع إلى العين مع بقائها و إن كره المقترض، محتجّا بأنّه عقد يجوز الرجوع فيه كالهبة، إذ ليس لجوازه معنى سوى الانفساخ بمجرّد الفسخ، و رجوع العين بمجرّد الرجوع إليه كالعارية و بيع الخيار.

كما لا معنى للزومه سوى عدم الانفساخ و رجوع العين إلّا بالإقالة من الطرفين.

و قد وجّه [في] المسالك (2) أيضا القول بجواز القرض و جواز رجوع المقرض إلى العين بأبلغ توجيه، من شاء راجعه.

إلّا أنّ هذا القول يستلزم تخصيص كلام المشهور القائلين بعدم رجوع المقرض إلى العين، بل للمقترض ردّ مثله و إن كره المقرض بصورة ما إذا كان رجوع الراجع من باب استيفاء الوفاء بالقرض، لا من باب انفساخ أصل القرض.

كما أنّ قول المشهور أيضا يستلزم تخصيص الاتّفاق على جواز عقد القرض بمعنى آخر غير معنى جواز استرداد العين.

و أمّا وجه عدم اشتراط الماضويّة في الهبة المعوّضة و ذات الأرحام مع أنّها لازمة فلأنّها و إن ألحقت بالعقود اللازمة بالعرض- أعني بواسطة أخذ العوض في المعوّضة، و بواسطة كون الرجوع إلى الأرحام في ذات الأرحام يورث النشوز و العقوق- إلّا أنّها بالذات لمّا كانت من العقود الجائزة غلب فيها جانب الجواز في عدم اشتراط الماضويّة في صيغها، و إن أبيت فبالشهرة الكفاية في خروجها عن حكم العقود اللازمة و إن كانت منها.

و كذا الوجه في عدم اشتراطها في عقد الرهن، كما صرّح به الروضة (3) أيضا.

و أمّا المزارعة بصيغة الأمر ك «ازرع هذه الأرض» فممنوع الصحّة و إن


1- المبسوط 2: 161.
2- مسالك الأفهام 3: 439.
3- الروضة البهيّة 4: 54.

ص: 443

نسب إلى المشهور، لاستناد شهرتهم على تقدير تحقّقها إلى رواية (1) قاصرة الدلالة، باحتمال إرادة المقاولة من صيغة الأمر، لا المعاقدة به، و لو سلّم فإنّما هو للنصّ الخاصّ، فلا وجه للتعدّي.

و أمّا صحّة المساقاة بصيغة الأمر فإنّه و إن نسب إلى العلّامة في التذكرة (2) إلّا أنّها أشدّ منعا من المزارعة، لخلوّها عن النصّ، و عن الشهرة.

و أمّا صحّة بيع الآبق و اللبن في الضرع فإنّه و إن نسب إلى صاحب الحدائق (3) إلّا أنّها أيضا ممنوعة، لاستنادها إلى ما يقصر سندا أو دلالة، باحتمال إرادة المقاولة منها بين المتعاقدين، لا المعاقدة، و على تقدير التسليم فالفارق النصّ.

هذا كلّه ما يقتضيه القواعد في الجمع بين حجّية الشهرة و الإجماع المنقول على اشتراط الماضويّة في صيغ العقود، و بين الموارد المختلفة فيها كلمات الأصحاب في سائر أبواب العقود المذكورة. و ختم المصنّف المسألة بقوله «فتأمّل» إشارة إلى ما ذكر.

نعم، المانع من حجّيّة الشهرة و الإجماع المنقول لم يحتج إلى الجمع بين كلماتهم بالقواعد و الأصول، بل منع من اشتراط الماضويّة مطلقا، مؤيّدا بمنع الأصحاب عن اشتراطه في بعض الموارد المخصوصة المتقدّمة، و هو غير بعيد بعد اعتبار الصراحة و عموم العقود، و لكنّ الاحتياط سبيل النجاة.

[الأشهر لزوم تقديم الإيجاب على القبول]

قال الماتن قدس سرّه: «مسألة: الأشهر- كما قيل- لزوم تقديم الإيجاب على القبول .. إلخ».

أقول: أمّا الأصل في المسألة فهو الأصل المؤسّس في سائر المسائل


1- تقدّم ذكر مصدره في هامش (6) ص: 439.
2- تذكرة الفقهاء 2: 342.
3- الحدائق الناضرة 18: 434- 435، و ص: 487.

ص: 444

المتقدّمة: من كون العمليّ منه مع اشتراط كلّ ما يشكّ في اشتراطه في صحّة العقد استصحابا، لعدم النقل و الانتقال بما عدا المتيقّن. و من كون اللفظي منه مع عدم اشتراط ما يشكّ في اشتراطه فيه آخذا بعموم العقود.

و الخدشة بحمل الآية (1) على العقود المتعارفة في زمان النبيّ صلى اللّٰه عليه و آله صنفا فلا يشمل المشكوك صنفه في ذلك الزمان و إن علم تعارف نوعه كالبيع الفضوليّ مثلا، حيث إنّه متعارف نوعه و هو البيع دون صنفه و هو الفضوليّة، أو بحملها على العقود المتعارفة شخصا- أعني المتداولة بكيفيّاتها المخصوصة لئلّا يشمل المشكوك تداول شخصه- و إن علم تداول نوعه و صنفه كالبيع المتقدّم قبوله على إيجابه مع تداول نوعه و هو البيع مثلا، و تداول شخصه من عربيّة الصيغة و ماضويّتها و غيرهما من كيفيّاتها المخصوصة. مدفوعة بما مرّ في مقدّمة الكتاب عند التعرّض لتفسير الآية (2) من أنّ الجميع المحلّى باللام حقيقة في العموم، فيشمل مطلق العقود المتداولة نوعها في ذلك الزمان، كالبيع و الإجارة و غيرهما من العقود المضبوطة الآن في كتب فقهائنا، لا خصوص المتداول صنفه أو شخصه و كيفيّاته المخصوصة، لعدم المخصّص، و عدم ما يوهم التخصيص سوى توهّم الانصراف الخاصّ بالمطلقات، لا العمومات.

و إذا كان المراد من العقود هو مطلق العقود المتعارفة بالنوع، فلا يخرج عن تحت عمومه سوى ما لم يعلم تعارف نوعه، كالمعارضة بمثل قولك: «عارضت»، أو «عاوضت فرسي بفرسك» ممّا لم يعلم دخول نوعه في أحد أنواع العقود المضبوطة في كتب الفقهاء، مضافا إلى عدم دخول صنفه و لا شخصه فيها.

هذا كلّه في بيان تأسيس الأصل الأصيل قبل التعرّض للدليل.

و أمّا تشخيص محلّ النزاع في جواز تقديم القبول على الإيجاب فيتوقّف-


1- المائدة: 1.
2- المائدة: 1.

ص: 445

أوّلا- على تشخيص كون المائز بين القبول و الإيجاب اللّذين هما من الموضوعات الصرفة لا المستنبطة- كالبيع و الشراء- هل هو في البادئ و المستتبع؟ يعني: أنّ البادئ بالصيغة و الإعطاء و الدفع هو الموجب، و تابعه فيه هو القابل.

أو في قصد الدفع و الأخذ، يعني أنّ القاصد بالأصالة دفع ماله هو الموجب، و القاصد بالأصالة تناول المدفوع إليه هو القابل ..

أو في قصد الفعل و الانفعال، يعني أنّ القاصد بصيغته إنشاء الفعل هو الموجب، و القاصد بصيغته الانفعال و التأثّر بأثر إنشاء المنشئ هو القابل.

أو موكول إلى العرف، يعني أنّ ما يعدّ في العرف من الألفاظ صريحا في الإيجاب فصاحبه الموجب، و ما يعدّ في العرف منها صريحا في القبول فصاحبه القابل؟

وجوه، أوجهها الأخير دون الأوّل، ضرورة أنّ جعل المائز في البادئ بالصيغة و المستتبع لم يبق معه مسرح لتعقّل النزاع في تقديم القبول على الإيجاب مع كونه نزاع قديم بين السلف و الخلف.

اللّٰهمّ إلّا أن يراد من كون البادئ موجبا من كان من شأنه البدو، لا البادئ فعلا، و دون الثاني، و لا الثالث، لانتقاض كلّ منهما طردا أو عكسا فتعيّن الوجه الآخر، أعني: كون المراد من الموجب في محلّ النزاع هو المتلفّظ بما يعدّ في العرف من الصيغ صريحا في الإيجاب، ك «بعت» و «آجرت». و من القابل هو المتلفّظ بما يعدّ في العرف صريحا في القبول، ك «قبلت» و «ابتعت» و نحوهما من الصيغ الصريحة عرفا في القبول.

و إذا تشخّص لك محلّ النزاع فاعلم أيضا: أنّ النزاع في صحّة تقديم القبول على الإيجاب مبنيّ على المذهب المشهور من عدم كفاية مطلق الكلام في لزوم

ص: 446

المعاملة. و أمّا على المذهب المتقدّم نقله عن السيّد الكركيّ (1) في المعاطاة من كفاية مطلق الكلام فيه، استنادا إلى رواية: «إنّما يحلّل الكلام و يحرّم الكلام»، فلا يتوجّه عليه النزاع فيه اعتبار تأخير القبول، كما لا يتوجّه عليه اعتبار العربيّة و الماضويّة و غيرها من الشرائط إلّا ما خرج بالدليل.

ثمّ هل النزاع في المسألة عقليّ راجع إلى النزاع في إمكان صحّة تقديم القبول على الإيجاب عقلا و امتناعه، أم عرفيّ راجع إلى النزاع في صحّة إطلاق العقد على ما يتقدّم فيه القبول على الإيجاب و عدم إطلاقه؟ وجهان: من استدلال بعضهم على منع صحّة تقديم القبول بأنّ القبول الّذي هو أحد ركني عقد المعاوضة فرع الإيجاب، فلا يعقل تقدّمه عليه. و من استدلال بعضهم الآخر عليه بالشهرة، و بأنّ تقديم القبول خلاف المتعارف عرفا، فلا يشمله عموم العقود.

و الأوجه حينئذ تعميم النزاع في المسألة من جهتي العقل و العرف رعيا للمطابقة بينها و بين كلّ واحد من أدلّتها.

و إذ قد عرفت تشخيص محلّ النزاع و مبناه و جهته فاعلم: أنّهم اختلفوا في صحّة تقديم القبول على الإيجاب بوجوه:

ثالثها: التفصيل بين عقد النكاح فيصحّ فيه التقديم، و بين سائر العقود فلا.

و رابعها: التفصيل بين تقديم القبول بطريق الأمر و الاستيجاب فيصحّ، و بين تقديمه بغيره فلا.

و خامسها: التفصيل المستفاد من المتن بين التقديم بلفظ «قبلت» و «رضيت» فلا يصحّ، و بين التقديم بلفظ «اشتريت» و «ابتعت» و نحوهما فيصحّ.

و التحقيق: أنّ مفاد أدلّة منع صحّة تقديم القبول من حيث اقتضاء المنع عموما أو خصوصا مختلف.


1- انظر مسالك الأفهام 3: 147، و الهامش (2) هناك.

ص: 447

أمّا مفاد استدلالهم على المنع بأنّ تقديم القبول خلاف المتعارف فمقتضاه على تقدير التسليم أنّه: إن قلنا بانصراف عموم العقود إلى العقود المتعارفة لزمنا منع صحّة التقديم عموما، كما يلزم منه اعتبار كلّ ما يشكّ اعتباره في صحّة العقد من العربيّة و الماضويّة و غيرهما من سائر الشروط، رجوعا إلى استصحاب عدم النقل و الانتقال بما عدا المتيقّن.

و لكن فيه- مضافا إلى إمكان منع كون التقديم خلاف المتعارف- ما مرّ غير مرّة من منع انصراف العقود إلى العقود المتعارفة شخصا أو صنفا بأبلغ وجه من النقض و الحلّ.

و أمّا اعتبارهم الموالاة بين الإيجاب و القبول فليس لمجرّد أنّ الفاقد للموالاة العرفيّ من العقود غير متعارف شخصا أو صنفا حتّى ينافي ما ذكرنا، و إن استندوا أيضا في اعتبارها إلى عدم تعارف الفاقد لها، بل إنّما هو- على ما سيأتي- لأجل عدم تعارف الفاقد لها نوعا، أعني: عدم دخوله في نوع من أنواع العقود المتداولة المضبوطة في كتب الفقهاء.

فالمراد من عدم تعارف الفاقد للموالاة عدم صحّة إطلاق العقد عرفا عليه، و صحّة سلب اسم كلّ نوع من أنواعه المتداولة عن عرفا، لا مجرّد عدم تعارفه صنفا أو شخصا و إن صدق عليه اسم نوع من أنواعه المتداولة عرفا حتّى ينافي منعنا انصراف العقود إلى العقود المتعارفة.

و أمّا مفاد استدلالهم على منع تقديم القبول بالشهرة و الإجماع المنقول فالمتيقّن من معقدهما على تقدير تسليمهما و تسليم حجّيّتهما- كما هو الأقرب عندنا- إنّما هو لفظ «قبلت» و «رضيت»، دون سائر ألفاظ القبول من لفظ «ابتعت» و «اشتريت».

ص: 448

و أمّا مفاد استدلالهم على منع تقديم القبول: «بأنّ القبول الّذي هو أحد ركني عقد المعاوضة فرع الإيجاب فلا يعقل تقدّمه عليه» (1) إلى آخر تقريبه الّذي في المتن، فغاية اقتضائه هو تفصيل الماتن قدّس سرّه في ألفاظ القبول باعتبار دلالتها عرفا: بين ما دلّ عرفا على المطاوعة و الانفعال بإيجاب الموجب و التأثير بأثر إيجابه، كلفظ «قبلت» و «رضيت»، أو على الالتزام بمثل التزام الموجب له، كقبول المصالحة بلفظ «صالحت» في إزاء الإيجاب بمثله فلا يجوز التقديم. و بين ما دلّ عرفا على مجرّد الرضا بإيجاب الموجب، كالوكالة و العارية و شبههما، أو على الالتزام المغاير لالتزام الموجب، كالقبول بلفظ «اشتريت» المغاير للإيجاب بلفظ «بعت» بالتغاير الاعتباريّ العرفي، حيث إنّهما و إن اشترك كلّ منهما مع الآخر في تمليك ماله بإزاء مال غيره و تملّك مال غيره بإزاء ماله إلّا أنّهما يتغايران من حيث دلالة البيع على التمليك بالأصالة، و التملّك بالتبع، و دلالة الاشتراء عليهما بالعكس، فلا يجوز التقديم حسب ما أشار الماتن إلى توضيح كون القبول فرع الإيجاب، فلا يتعقّل تقدّمه على الإيجاب، و إلى دلالته على التفصيل المذكور في ألفاظ القبول باعتبار دلالتها عرفا.

هذا، و لكن لنا أن نورد عليه أوّلا: بأنّ عدم معقوليّة تقدّم القبول الدالّ على المطاوعة و الانفعال على الإيجاب مبنيّ على أن يكون مطاوعة القابل للموجب في العقود و انفعاله بفعل الإيجاب مطاوعة حقيقيّة حسيّة، كمطاوعة المنكسر لكاسره، و المنفصل لفاصله، فإنّ هذا النحو من التأثير هو غير معقول تقدّمه على تأثّر المؤثّر. و من المعلوم الواضح أنّ المطاوعة و الانفعال الممكن تحقّقه في القابل هو المطاوعة و الانفعال التنزيلي، لا الحسّيّ الحقيقي. و المراد من الانفعال التنزيلي تنزيل القابل نفسه منزلة المتأثّر بإيجاب الموجب. و من الواضح أنّه لا


1- المكاسب: 96.

ص: 449

فرق في إمكان تعقّل حصول هذا الانفعال التنزيليّ بين تقدّمه على الإيجاب أو تأخّره عنه، سوى كونه عند التقدّم معلّقا على لحقوق الإيجاب به، و عند التأخّر منجّزا، لسبق الإيجاب عليه، و هو غير فارق أيضا، لأنّ تعليق تأثير القابل في صورة التقدّم على لحوق الإيجاب له لا يزيد على تعليق تأثير إيجاب الموجب في صورة التأخير على لحقوق القبول له، فكما أنّ التعليق من طرف الموجب الّذي لا مناصّ منه في صورة تأخير القبول غير قادح في صحّة العقد، كذلك ينبغي أن يكون التعليق من طرف القابل غير قادح في صحّة العقد أيضا.

و أمّا ما سيأتي (1) من الإجماع على اعتبار التنجيز في العقود و عدم صحّة التعليق فيها فالمراد منه على تقدير تسليمه عدم صحّة التعليق بالأمور الخارجة عن القبول و الإيجاب. و أمّا تعليق تأثير الإيجاب على لحوق القبول له أو العكس فممّا لا مناصّ للعقود منه قطعا.

و ثانيا: سلّمنا استحالة تقدّم ما يدلّ على المطاوعة من ألفاظ القبول، إلّا أنّ ذلك قرينة انسلاخه عن معنى المطاوعة عند التقدّم، كما أنّ استحالة كون الرجل أسدا حقيقيّا في قولك: «زيد أسد» قرينة إرادة الشجاعة من الأسد. إلّا أن يقال:

بأنّ استعمال الدالّ على المطاوعة من لفظ «قبلت» و «رضيت» في إنشاء النقل و الرضا بإنشاء الموجب من غير مطاوعة يعدّ من المجازات المستهجنة المستبشعة الخارجة عن عموم العقود.

و ثالثا: سلّمنا لغويّة المطاوعة قبل الإيجاب، إلّا أنّ مدلول القبول لا ينحصر في مطاوعة أثر الإيجاب حتّى ينعدم بانعدامه، بل إنشاء القبول في العقود متضمّن على شيئين: أحدهما: مطاوعة أثر الإيجاب و هو تملّك مال الموجب، و الآخر: تمليك ماله للموجب، و عدم تعقّل المطاوعة قبل الإيجاب على تقدير


1- في ص: 459.

ص: 450

تسليمه يقتضي إلغاء أثره، و هو تملّك مال الموجب خاصّة. و أمّا تمليك ماله للموجب فهو باق، و لعلّ ببقائه الكفاية في خروج الملك عن مال مملّكة و دخوله في ملك المملّك له، كما في عقد الوقف و العتق و النذر بمال معيّن، فإنّ مجرّد إنشاء التمليك فيها كاف في خروج الملك عن مال مملّكة و دخوله في ملك المملّك له و إن توقّف على القبض في خصوص الوقف إلّا أنّه لم يتوقّف في شي ء منها على التملّك و قبول التمليك.

و أمّا إجماعهم المدّعى على اشتراط الإيجاب و القبول معا فيما عدا الوقف و النذر من سائر العقود فالمتيقّن منه كون المراد اعتبار توقّف العقد على تمليك كلّ من المتعاقدين ماله للآخر بلفظ صريح بإزاء تمليكه الآخر ماله، كما هو مقتضى الاثنينيّة المعتبرة في مدلول العقود و لو تركّب من إيجابين، لأجل إخراج الإيقاعات الغير المعتبر في تحقّقها الاثنينيّة.

و أمّا إرادة اعتبار توقّف العقد على المركّب من إيجاب و قبول و تمليك و تملّك لأجل إخراج المركّب من الإيجابين فغير معلوم الاعتبار، و ما لم يعلم اعتباره في العقود ينفي اعتباره بعموم العقود. و ربما يؤيّد اكتفاء مجرّد التمليك في صلوح إخراج مال المملّك إلى المملّك له و عدم توقّفه على التملّك و المطاوعة و الانفعال قول بعضهم: بأنّ عقد الفضولي مملّك سواء ألحقه الإجازة أم لم يلحقه، غاية الأمر تعلّق ضمان القيمة أو المثل بذمّة العاقد فضولة عند عدم لحوق الإجازة له تنزيلا للفضولي منزلة الإتلاف.

و رابعا: لو تنزّلنا عن ذلك كلّه إلّا أنّ التفرقة بين البيع و بين الوكالة و العارية في منعه التقديم في الأوّل دون الثاني بعد التفرقة في ألفاظ القبول ممّا لا يرجع إلى محصّل، لأنّه إن أراد استناد التفرقة بينهما إلى التفرقة بين لفظي القبول فيهما فمن البيّن اشتراكهما في لفظ القبول، فكما أنّ قبول البيع قد يكون بلفظ المطاوعة

ص: 451

ك «قبلت» و «رضيت» و قد يكون بغير المطاوعة ك «اشتريت» و «ابتعت»، كذلك قبول الوكالة و العارية أيضا قد يكون بلفظ المطاوعة ك «قبلت التوكيل» أو «رضيت به» أو «توكّلت» و قد يكون بغير المطاوعة ك «أنا وكيلك» أو «قابل لوكالتك»، فإن جاز تقديم القبول في البيع بأيّ من اللفظين جاز في الوكالة بأيّهما و إن لم يجز لم يجز مطلقا.

و إن أراد استناد التفرقة بينهما إلى التفرقة بين مادّة عقد الوكالة و مادّة عقد البيع ففيه- مضافا إلى خروجه عن فرض التفصيل بين ألفاظ القبول- أنّ كلّ ما يعتبر في مادة عقد البيع من الاكتفاء في قبوله بمجرّد الرضا أو عدمه يعتبر في مادّة عقد الوكالة. و أمّا الاكتفاء في الوكالة بمجرّد الرضا و الإذن- و لو من باب المعاطاة- فلا يكتفي في دخوله في باب العقود، كما أنّ الاكتفاء بمثله في البيع أيضا لا يكتفي في دخوله في باب العقود و صدق اسم العقد عليه و إن صدق عليه البيع.

و ممّا ذكرنا يظهر لك ما في تفرقته بين البيع و المصالحة المعوضة من التأمّل و المنع.

فتلخّص ممّا ذكرنا أنّه لو لا الشهرة و الإجماع المنقول لم يكن وجه للمنع من تقديم القبول و لا للتفصيل بين ألفاظ القبول باعتبار الدلالة عرفا على المطاوعة و غيرها، و لا بين البيع و الوكالة بوجه من الوجه، بل كان التعويل لا محالة على الأصل الأصيل، و هو إطلاق العقود ما لم يقم على خلافه دليل. و قد عرفت أنّ المتيقّن من مورد الشهرة و الإجماع المنقول على تقدير حجّيتهما هو المنع من تقديم «قبلت» و «رضيت» في خصوص البيع و الإجارة. و أمّا غيرهما أو في غيرهما فلا يبعد الأخذ بعموم العقود، و هو قويّ.

ثمّ إنّ هذا كلّه في بيان اعتبار الترتيب و عدمه بين الإيجاب و القبول. و أمّا

ص: 452

الموالاة بينهما فلا إشكال في اعتبارها في الجملة لصحّة سلب اسم العقد عرفا عن الفاقد للموالاة العرفي إنّما الكلام في تشخيص ما يخلّ بالموالاة العرفي، و ما لا يخلّ من الفواصل الواقعة في البين.

فنقول في تشخيصه: إنّ الفاصل بين الإيجاب و القبول تارة يكون بالسكوت، و تارة بالنطق. و على الثاني إمّا أن يكون بردّ الإيجاب، أو بذكر شرط، أو بذكر كلام أجنبي في البين كذكر حمد أو خطبة أو غيرهما، و الكلام في تشخيص المخلّ عن غير المخلّ من هذه الفواصل الأربعة تارة من حيث الأصل، و تارة أخرى من حيث الدليل.

أمّا من حيث الأصل فالأصل الأصيل عند الشكّ في مخلية أيّ واحد من الفواصل الأربعة هو فساد العقد استصحابا لعدم النقل و الانتقال، سواء كان الشكّ في مخلية الموجود من تلك الفواصل أو في وجود المخلّ منها، و ذلك لرجوع الشكّ في كلّ من الفرضين إلى الشكّ في صدق اسم العقد و الأصل عدم النقل و الانتقال بالمشكوك صدق اسم العقد عليه.

أمّا في الفرض الأوّل فلأنّ الشكّ في مخلية الموجود شكّ في الحادث لا الحدوث، فلا مجرى لاستصحاب عدم مخليته. مضافا إلى أنّه مثبت.

و أمّا في الفرض الثاني فلأنّ الشكّ في وجود المخلّ و إن كان شكّا في الحدوث و يجري فيه استصحاب عدم وجوده إلّا أنّ المترتّب عليه أثر غير شرعيّ، و هو صدق العقد، فهو من الأصول المثبتة الغير الثابت حجّيتها عندنا.

نعم، لو أثبتنا لأدلّة المسألة ك أَحَلَّ اللّٰهُ الْبَيْعَ و تِجٰارَةً عَنْ تَرٰاضٍ عموم وراء عموم العقود. و قلنا بأصالة اللزوم في كلّ بيع و لو لم يصدق عليه اسم العقد كان المرجع للشاكّ في مخلية ذلك الفاصل إليه، سواء كان الشكّ في مخلية ذلك الفاصل أم في وجود ذلك المخلّ، لإناطة الملك و اللزوم في المعاملة على

ص: 453

هذا التقدير بصدق البيع و التجارة، لا بصدق العقد حتّى يضرّه عدم صدقه، و لكنّه تقدير في تقدير. هذا كلّه في مقتضى الأصل عند الشكّ في مخلية شي ء من الفواصل.

و أمّا مقتضى الدليل فلا ريب في أنّ الفصل بالسكوت الطويل مخلّ دون السكوت اليسير، و المرجع في انضباطه إنّما يكون إلى العرف و هو في كلّ أمر بحسبه، فيجوز الفصل بين الكلمات بما لا يجوز بين الحروف، كما في الأذان و القراءة.

و أمّا الفصل بالأجنبي كقول القابل بعد الإيجاب: «الحمد للّٰه قبلت» أو بشرط من الشروط كقوله: «إن كان كذا- مثلا- فقبلت» فلم يعلم جوازه، فالمرجع فيه إلى أصالة عدم جوازه و عدم النقل و الانتقال إلّا بدونه. ثمّ البحث في الفصل بالتعليق بين الإيجاب و القبول من حيث الفصل لا ينافي البحث الآتي في جواز التعليق في العقود و عدمه من حيث هو تعليق، فإنّ النسبة بين الحيثيتين عموم من وجه.

و أمّا الفصل بردّ الإيجاب فالظاهر من تتبّع كلماتهم الاتّفاق على إخلال العقد به، و يعاضد ذلك ما نقله شيخنا العلّامة عن شيخه صاحب الجواهر مشافهة من دعوى الاتّفاق في باب الفضولي على لزوم استمرار جميع شروط العقد و شروط المتعاقدين و العوضين في صحّة الفضولي من أوّل العقد إلى زمان لحوق الإجازة. فلو أخلّ بين الزمانين بشي ء من شروط العقد- كالتعليق و نحوه- أو بشي ء من شروط المتعاقدين- كما لو حدث لأحدهما في الأثناء جنون أو إغماء آنا ما ثمّ زال فورا- أو بشي ء من شروط العوضين- كما لو انقلب المبيع بما لا يصحّ بيعه آنا ما ثمّ رجع إلى أصله- بطل العقد بذلك التخلّل و لو آنا ما.

ص: 454

و أمّا ما قاله الشهيد (1) و غيره بل عن الدروس (2) نسبته إلى المشهور من أنّه لو ردّ الموصى له الوصيّة في حياة الموصي جاز القبول بعد وفاته، فلا ينافي ما استظهرنا من الاتّفاق على مخلية الفصل بالردّ، لكن لا من جهة أنّ الوصيّة من العقود الجائزة و محلّ النزاع العقود اللازمة حتّى يمنع بأنّ الظاهر من استدلالهم على اعتبار الموالاة بصحّة سلب اسم العقد عن الفاقد لها تعميم النزاع من جهة اللزوم و الجواز، كما أنّ الظاهر من أدلّة اعتبار الترتيب أيضا التعميم من تلك الجهة، بل إنّما هو من جهة أنّ الظاهر من تعليل جواز قبول الوصيّة بعد الردّ في حياة الموصي بقولهم، إذ لا اعتبار بردّه السابق حيث إنّ الملك لا يمكن تحقّقه حال الحياة و المتأخّر لم يقع، بل و من تصريح الشهيد في الروضة (3) هو ابتناء جواز القبول بعد الردّ في حياة الموصي على مذهب من يعتبر تأخير القبول عن الحياة. و أمّا على تقدير جواز تقديمه في حال الحياة فينبغي تأثير الردّ حالتها أيضا، كما صرّح به الروضة (4)، حتّى قال: بل يمكن القول بعدم جواز القبول بعد الردّ مطلقا لإبطاله الإيجاب السابق و لم يحصل بعد ذلك ما يقتضيها، إلى آخر كلامه.

قوله: «و للتأمّل في هذه الفروع و في صحّة تفريعها على الأصل المذكور مجال».

[أقول:] وجه ذلك أنّ الاتّصال المعتبر بين المستثنى و المستثنى منه كالاتّصال المعتبر بين الموصوف و الصفة و التابع و المتبوع و الشرط و المشروط إنّما هو لتحصيل صدق الكلام و التحذّر عن كذبه، كما أنّ عدم جواز تأخير البيان عن وقت الحاجة للتحذّر عن الإغراء بالجهل، و كذا متابعة المأموم للإمام في الجمعة


1- اللمعة الدمشقيّة: 104.
2- الدروس الشرعيّة 2: 296.
3- الروضة البهيّة 5: 15.
4- الروضة البهيّة 5: 15.

ص: 455

و الجماعة و استتابة المرتدّ، كتوبة كلّ مذنب، و تضيّق وقت الجمعة إلى ساعة الزوال، و الكسوفين إلى الانجلاء، و الموالاة بين أعضاء الوضوء، إلى غير ذلك من المضيّقات إنّما هو لفوريّة الحكم الشرعيّ لا لصدق الموضوع العرفي، كما فيما نحن فيه من اعتبار الارتباط العرفي بين الإيجاب و القبول في صدق موضوع العقد عرفا، و كذا في سنة التعريف و اليوم إلى الليل و ثلاثة الحيض، و في أثناء القراءة و بين كلماتها و حروفها، و بين السلام و جوابه لصدق موضوعهما.

[و من جملة شروط العقد الموالاة بين إيجابه و قبوله]

قوله: «هذا موهن آخر للرواية (1). فافهم».

[أقول:] إشارة إلى أنّ الإخلال بالموالاة أشدّ و هنا من الإخلال بالترتيب، لصحّة سلب اسم العقد و موضوعه به دونه، إلّا أنّ عمل الأصحاب بالرواية كما هو جابر لموهن الإخلال في الترتيب كذلك جابر لموهن الإخلال بموالاته بذلك المقدار، المقدر إمّا من جهة عدم بلوغه حدّ صحّة سلب اسم العقد، و إمّا من جهة عدم إناطة صحّة النكاح بصدق العقد المركّب من الإيجاب و القبول، بل يكفي بالإيجاب المضرّ و خصوصا ممّن له الولاية الكلّية الإلهيّة الّتي هي أولى بالمؤمنين من أنفسهم و أموالهم، كتزويجه تعالى حوّاء من آدم و فاطمة من علي، و قوله تعالى فَلَمّٰا قَضىٰ زَيْدٌ مِنْهٰا وَطَراً زَوَّجْنٰاكَهٰا (2)، و قوله تعالى أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ (3)، كما يكتفى بالبكر بالسكوت.

[و من جملة الشرائط الّتي ذكرها جماعة التنجيز في العقد]

قال: «و من جملة الشرائط الّتي ذكرها جماعة التنجيز في العقد .. إلخ».

أقول: عمدة الكلام في المسألة بعد تفصيل صور التعليق و أقسامه هو تشخيص كون الأصل في المسألة هل هو جواز التعليق ليحتاج الكلام في إثبات المنع إلى بيان المخرج الخارجي أوّلا و إلى بيان مقدار منعه ثانيا، أو هو عدم


1- الوسائل 15: 3 ب «2» من أبواب المهور ح 1.
2- الأحزاب: 37.
3- القصص: 27.

ص: 456

جوازه لئلّا يحتاج المنع في هذا التقدير إلى شي ء ممّا احتيج إليه في التقدير الأوّل و تشخيص هذا الأصل موقوف على تشخيص كون الإنشاء قابلا للتعليق أم لا؟

و فيه وجهان.

فالّذي جزم به الفصول (1) في مقدّمة مقدّمة الواجب هو قابليّة الإنشاء للتعليق، و عدّ منه كلّ واجب مطلق توقّف وجوده على مقدّمات مقدورة غير حاصلة.

و الّذي جزم به القوانين (2) في صدر قانون أمر الآمر مع العلم بانتفاء شرطه و في قانون الخطاب الشفاهي هو عدم قابلية الإنشاء للتعليق، و عدّ الواجبات المعلّقة المقرونة بأداة الشرط من الإخبار و الإعلام بكون وجوبها سيتحقّق عند تحقّق شروطها، لا من الإنشاء الفعلي.

و الّذي تمسّك الفصول (3) به على الأوّل هو استظهار الفرق بين قول المولى:

«إذا دخل وقت كذا فافعل كذا» و بين قوله: «افعل كذا في وقت كذا» في كون الظاهر من الأوّل إنشاء طلب مشروط حصوله بمجي ء وقت كذا، و من الثاني إنشاء طلب حالي و المطلوب فعل مقيّد بكونه في وقت كذا، و فساد ما يزعمه المانع مانعا من هذا الظهور الحامل له على تأويله بالإخبار و الإعلام، كالمثال الأوّل حسب ما سيأتي.

و أمّا التمسّك بمجرّد ما في المتن (4) من وضوح كون التعليق في الإنشاء أمرا مقصورا واقعا في العرف و الشرع كثيرا في الأوامر و المعاملات من العقود و الإيقاعات فللمانع منع هذا الوضوح و تأويل جميع ما يدعي ظهوره فيه من الأمثلة إلى الإخبار و الإعلام، أو كون التعليق في المنشئ لا الإنشاء، و في


1- الفصول الغرويّة: 80.
2- قوانين الأصول 1: 124، 233- 234.
3- الفصول الغرويّة: 80.
4- المكاسب: 100.

ص: 457

الوجوب لا الإيجاب، و في المطلوب لا الطلب.

و الّذي يمكن التمسّك به للثاني وجهان:

أحدهما: ظهور تسميته بالواجب المعلّق في كون الوجوب معلّقا على حصول المعلّق عليه لا بالفعل كظهور الواجب المشروط في مثله أيضا.

و يمكن دفعه: بأنّ التسمية غير مطّردة مع المسمّى كالحدود اللفظيّة. ألا ترى اختلاف القوم في كون الحروف موضوعة بالوضع العامّ و الموضوع له العامّ، أو بالوضع العامّ و الموضوع له الخاصّ مع اتّفاق الفريقين على تسمية من بالابتداء و إلى بالانتهاء.

و ثانيهما: أنّه إذا توقّف فعل الواجب على شي ء غير مقدور له امتنع وجوبه قبله، و إلّا لزم أحد الأمرين من عدم توقّفه عليه حيث وجب بدونه، أو التكليف بالمحال حيث ألزم المكلّف بالفعل في زمن يتعذّر فيه حصول ما يتوقّف عليه.

و يدفعه: أنّ المراد من وجوب الفعل قبل حصول ما يتوقّف عليه ليس كون الزمان المتقدّم ظرفا للوجوب و الفعل معا، بل المراد أنّه يجب على المكلّف في الزمان السابق أن يأتي بالفعل في الزمان اللاحق، كما يجب على المكلّف الممنوع من العبادة فيه مثلا أن يأتي بها خارجه في الزمان ظرف للوجوب فقط و الزمن اللاحق ظرف لهما معا، كالمكان الخارج عن المكان الممنوع من العبادة فيه بالنسبة إلى المكلّف الموجود فيه من غير فرق.

فإن قلت: إذا وجب الفعل قبل حصول ما يتوقّف عليه من الأمر الغير المقدور فوجوبه إمّا أن يكون مشروطا ببلوغ المكلّف إلى الوقت الّذي يصحّ وقوعه فيه، أولا، فإن كان الأوّل لزم أن لا يكون وجوب قبل البلوغ إليه كما هو قضيّة الاشتراط، و إن كان الثاني لزم التكليف بالمحال، فإنّ الفعل المشروط بكونه في ذلك الوقت على تقدير عدم البلوغ إليه ممتنع.

ص: 458

قلنا: إن أردت بالبلوغ نفسه اخترنا الشقّ الثاني، و نمنع لزوم التكليف بالمحال على تقديره، لأنّه إنّما يلزم إذا وجب عليه إيجاد الفعل المقيّد بالزمن اللاحق على تقدير عدم بلوغه إليه، و هو غير لازم من عدم اشتراطه بنفس البلوغ.

و إن أردت بالبلوغ ما يتناول بعض الاعتبارات اللاحقة بالقياس إليه ككونه ممّن يبلغ الزمن اللاحق منعنا توقّف الوجوب على سبق البلوغ أو مقارنته له، بل يكفي مجرّد حصوله و لو في الزمن اللاحق. فيرجع الحاصل إلى أنّ المكلّف يجب عليه الفعل قبل البلوغ إلى وقته على تقدير بلوغه إليه، فيكون البلوغ كاشفا عن سبق الوجوب واقعا، و عدمه كاشفا عن عدمه كذلك، لا أن يكون سببا.

و الفرق بين كاشفيّة البلوغ عن سبق الوجوب و بين سببيّته له أمر متعقّل لا يرتاب في تعقّله ذو عقل، بل و لا في وقوعه، و تحقّقه في العرف و الشرع كثير في الأوامر و المعاملات من العقود و الإيقاعات، كالوصيّة، و العقود الفضوليّة، و التوكيل، و النذر، و الظهار، و المكاتبة، و التدبير، و غير ذلك ممّا اتّفقوا على صحّة التعليق فيه.

و دعوى أنّها مخرجة عن الإنشاء إلى الإخبار و الإعلام بها يبعده أنّها إن كانت إخبارا عن تحقّق الإنشاء في السابق فخلاف المفروض، و إن كانت إخبارا عن تحقّقه في اللاحق فمضافا إلى أنّه أيضا خلاف المفروض هو مجرّد و عد يحتمل البداء و فسخ العزم، فكيف يؤثّر أثر الإنشاء فعلا من اللزوم و الالتزام؟! و الحاصل: أنّ استحالة تعقّل التعليق في الإنشاء ممنوعة.

بما يرجع حلّا: إلى الوجدان المعتضد بأصالة الإمكان و ظهور الأمر المعلّق في الإنشاء لا الإخبار.

و نقضا: إلى أنّه لو كان التكليف المشروط من باب الإعلام و الإخبار عن

ص: 459

حصول الطلب عند حصول الشرط لا من باب إنشاء الطلب المشروط لاحتمل الصدق و الكذب و من البيّن عدمه، و لاحتمل البداء و فسخ العزم بوفاء الوعد بحصول الطلب عند حصول الشرط المستلزم لعدم الذّم و العقاب على تركه و من البيّن بطلان اللازم.

فإن قلت: إنّ البيع المعلّق على حصول شي ء متراخ لو لم يرجع إلى الإخبار و الإعلام بالبيع عند حصول المعلّق عليه لزم إمّا انتقال المبيع إلى المشتري من حين العقد، و إمّا بقاءه تحت ملك البائع في مدّة الانتظار، و إمّا صيرورته ملكا لكلّ منهما في مدّة الانتظار.

أمّا الأوّل فهو من آثار العقد المنجّز بالوفاق فلا يترتّب على المعلّق، و أمّا الثالث فيستلزم اجتماع الضدّين، فتعيّن الثاني، و هو المطلوب.

قلت: نختار الشقّ الثالث، و نمنع لزوم اجتماع الضدّين منه، لأنّ اجتماعه إنّما يلزم من اجتماع الملكين المنجّزين. و أمّا الملك المنجّز لأحد فيجوز اجتماعه مع الملك المعلّق لآخر من غير اجتماع الضدّين البتّة.

فتلخّص ممّا ذكرنا: تأسيس كون الأصل الأصيل في المسألة هو جواز التعليق، آخذا بعموم أَوْفُوا بِالْعُقُودِ (1) بل و بعموم أَحَلَّ اللّٰهُ الْبَيْعَ (2) و تِجٰارَةً عَنْ تَرٰاضٍ (3) على وجه إلّا ما خرج بالدليل، و تشخيص كون النزاع في المسألة نزاع شرعيّ لا عقليّ، أعني: نزاع في ثبوت الدليل المخرج عن تحت الأصل و العمومات و عدمه شرعا لا نزاع في تعقّل التعليق في الإنشاء و عدمه عقلا، لما عرفت من أنّ التحقيق تعقّله، كما حقّقه الأستاذ، تبعا لاستاذيه


1- المائدة: 1.
2- البقرة: 275.
3- النساء: 29.

ص: 460

المصنّف (1) و الفصول (2)، و لكنّ الحقّ تعقّله، كما عرفت.

و إذ قد عرفت ذلك فاعلم أنّ التعليق يتصوّر على ثمانية عشر صورة أو أزيد، و محلّ النزاع منها و إن كان بالنظر إلى إطلاق بعض فتاويهم يشمل جميع صور التعليق سوى الملحق بالتيمّن و التبرّك ك «إن شاء اللّٰه» إلّا أنّ عمدة الدليل على منع التعليق في المسألة لمّا كان منحصرا في الشهرة و الإجماعات المنقولة- كما في المتن (3)- و في أصالة الفساد- كما في تعليلاتهم الأخر بالتوقيف و عدم تعقّل التعليق في الإنشاء- كان المتيقّن دخوله في معقدهما من أقسام التعليق قسمان:

أحدهما: ما كان التعليق فيه منافيا للجزم بالإنشاء، كتعليق الإنشاء على ما هو مشكوك الحصول، و ليس صحّة العقد معلّقة عليه في الواقع، كقدوم الحاجّ مثلا.

ثانيهما: ما كان التعليق فيه موجبا لتفكيك أثر العقد عن نفس العقد المؤثّر له، كتعليق العقد على أمر معلوم الحصول في المستقبل المعبّر عنه بالصحّة، كقول الواقف: «إذا جاء رأس الشهر فقد وقفته»، بل لا يبعد انحصار معقد المنع في القسم الأوّل.

و لكنّ الّذي استظهره الماتن قدس سرّه (4) تبعا لغير واحد هو دخول القسم الثاني أيضا في معقد المنع، و حينئذ فالممنوع من التعليق هو ما كان من أحد هذين القسمين على سبيل منع الخلوّ دون سائر أقسام التعليق ممّا كان معلوم الحصول ك «إن كان لي فقد بعته»، أو كان صحّة العقد معلّقة عليه ك «إن كنت عاقلا أو مختارا فقد بعته»، فإنّ الظاهر المصرّح به في كلام غير واحد عدم دخول شي ء


1- المكاسب: 100.
2- تقدّم ذكره في هامش (1) ص: 456.
3- المكاسب: 99.
4- المكاسب: 99.

ص: 461

منها في محلّ المنع.

أمّا وجه التعليق المنافي للجزم بالإنشاء في معقد الشهرة و الإجماعات المنقولة على المنع فلما صرّح به غير واحد منهم من أنّ هذا النحو من التعليق بعرضه عدم الحصول فينافي الجزم المعتبر في الإنشاء.

و أمّا وجه دخول التعليق الموجب لتفكيك أثر العقد عن نفس العقد المؤثّر على تقدير تسليم دخوله فلمنافاته لتأثير العقد الأثر، الّذي رتّبه الشارع على نفسه بواسطة مداخلة حصول المعلّق عليه في تأثيره أثره المترتّب على نفسه، فيخرج بواسطة تلك الواسطة في تأثيره عن العقود الشرعيّة إلى العقود المخترعة الّتي لا يشملها عموم (1): «الوفاء بالعقود».

و أمّا وجه عدم دخول سائر أقسام التعليق فلما في المتن (2) من: «أنّ تعليق العقد بما هو معلّق عليه في الواقع ليس تعليقا في الحقيقة في كلام المتكلّم» إلى آخر كلامه.

ثمّ إنّه قد علم ممّا ذكرنا أنّ الجزم المعتبر في صحّة المعاملات ليس كالجزم المعتبر في صحّة العبادات، فإنّ الجزم المعتبر في صحّة العبادة جزمان:

أحدهما: الجزم بمحبوبيّة تلك العبادة و مقربيّته، فلو تردّد في تأثرها القرب و عدم تأثّرها بواسطة اشتمالها على بعض ما يحتمل المانعيّة أو فقدها لبعض ما يحتمل الجزئيّة أو الشرطيّة بطلت.

ثانيهما: الجزم في فعلها و إيقاعها، فلو أوقعها على وجه الترديد بين فعلها أو قطعها بطلت أيضا، و الجزم المعتبر في صحّة العقود و المعاملات هو الجزم الثاني لا الأوّل، أعني: الجزم في إنشاء العقد لا الجزم في تأثيره المنشئ، فلو


1- المائدة: 1.
2- المكاسب: 100.

ص: 462

أنشأ العقد على وجه الترديد في إنشائه و عدم إنشائه بطل، بخلاف ما لو أنشأه جزما على وجه الترديد في تأثيره المنشئ و عدم تأثيره فإنّه لم يبطل، كما لو باع شيئا مع التردّد في كونه ممّا يملك أو لا يملك، أو في أنّ مالكه يجيز أو لا يجيز، أو في اجتماع شروط المتعاقدين من البلوغ و العقل و الرشد و الاختيار و عدمه، فإنّ الترديد في شي ء من ذلك لا يقدح في صحّة العقد إذا لم يرجع إلى الترديد في أصل الإنشاء، سيّما إذا أطلق العقد لفظا و لم يصرّح بتعليقه على شي ء من ذلك، فإنّ الظاهر الاتّفاق على صحّة المطلق إنشائه لفظا، و إن كان في المعنى معلّقا على تقدير اجتماع ما يتردّد العاقد في اجتماعه من شروط العقد أو المعقود عليه أو المتعاقدين، و إن استظهر الماتن (1) من الشهيد في القواعد (2) خلافه، و هو الجزم بالبطلان، أو الدخول في محلّ النزاع.

و من هنا يظهر أنّ تكرار العقد الواحد بالصيغ المكرّرة من الفارسيّ و العربيّ و غيرهما من الخصوصيّات و الكيفيّات المحتملة من المتردّد في صحّة أيّهما غير قادح في الصحّة و إن كان إنشاء كلّ منها معلّقا في المعنى على صحّته بالخصوص و عدم تأثير السابق و اللاحق شيئا.

و ذلك إمّا لاختصاص النزاع في المسألة بالتعليق اللفظي دون المعنويّ.

و إمّا لاختصاصه بالتعليق المتسبّب لارتفاع أصل قصد الإنشاء دون الغير المتسبّب لارتفاع قصد الإنشاء، كما فيما نحن فيه.

لا يقال: إنّ التعليق في المنشئ متسبّب لارتفاع قصد الإنشاء في العقد لا محالة «و العقود تابعة للقصود» فما لم يشتمل على قصد ليس بعقد.

لأنّا نقول: كما أنّ الجزم بالطلب لا يتسبّب لارتفاعه القطع بعدم حصول


1- المكاسب: 99.
2- القواعد و الفوائد 2: 237- 238 قاعدة 238.

ص: 463

المطلوب له فضلا عن الترديد في حصوله له، كذلك الجزم بالإنشاء لا يتسبّب، لارتفاعه القطع بعدم حصول المنشأ له، و عدم تأثير إنشائه المنشأ شرعا، فضلا عن الترديد في تأثيره المنشئ شرعا حتّى يرجع إليه، كما لا يخفى.

و من هنا يعلم أيضا أنّ المنشئ لو أنشأ عقدا على وجه الجزم قاطعا بعدم اجتماع شروط العقد أو المعقود عليه أو العوضين أو المتعاقدين صحّ عقده لو بان اجتماعه لذلك الشرط، فضلا عمّا لو أنشأه على وجه الجزم متردّدا في اجتماعه للشروط المذكورة ثمّ بان اجتماعه لها، إلّا أن يتسبّب الترديد في تأثّره الإنشاء، لارتفاع القصد عن أصل الإنشاء. و لعلّ إلى ذلك ينظر جزم الشهيد في القواعد (1) بالبطلان فيما لو زوّج امرأة يشكّ في أنّها محرّمة عليه فظهر حلّها، أو خالع امرأة أو طلّقها و هو شاكّ في زوجيتها، أو ولّى نائب الإمام عليه السّلام قاضيا لا يعلم أهليّته و إن ظهر أهلا مع جزمه فيها بالإخراج عن ذلك بيع مال مورّثه لظنّه حياته فبان ميّتا، أو تزويج أمة أبيه فظهر ميّتا. فإنّ التفرقة بين الفروع المذكورة في حكمه بالبطلان في بعضها و بالصحّة في بعضها الآخر مع كون الكلّ من باب واحد لا وجه له سوى ما ذكرنا من رجوع الترديد في تأثير الإنشاء تارة إلى الترديد في أصل الإنشاء، و عدم رجوعه إليه تارة أخرى، فيبطل في الراجع، و يصحّ في غيره (2).

قوله: «بل جعل الشرط هو الجزم. إلخ».

[أقول:] الفرق بين التنجيز و الجزم أنّ التنجيز و التعليق من مقولة اللفظ، و الجزم الترديد من مقولة المعنى، و الأوّل من أوصاف العقود، و الثاني من أوصاف


1- تقدّم ذكر مصدره في هامش (1) ص: 462.
2- من قوله: «في بعضها» الى قوله: «و يصحّ في غيره»- بزيادة (و اللّٰه العالم بحقائق أحكامه) في آخره- قد تكرر في نسخة الأصل بعد إتمام التعليقة على قوله: و فيه اشكال. و قبل التعليقة على قوله: و من جملة الشروط في العقد .. إلخ. و الظاهر انّ التكرار حصل نتيجة إلحاق بعض التعليقات في الأثناء.

ص: 464

القصود.

و من هنا يعلم أنّ محلّ النزاع في التعليق على الأمر المتوقّع لا الواقع، و في الإنشاء لا المنشئ، و في الإيجاب لا الوجوب، و في الطلب لا المطلوب، و أنّ المدرك في هذه المسألة هو المدرك فيما تقدّم، فالدليل الدليل، و الأصل العملي هو الأصل العملي من أصالة الفساد و عدم النقل و الانتقال، و الأصل اللفظي هو الأصل اللفظي من إطلاق العقد و البيع و التجارة على المنجّز، و صحّة سلبها عن التعليق في الإنشاء دون المنشئ، و في الإيجاب دون الوجوب، و في الطلب دون المطلوب.

قوله: «العمدة في المسألة هو الإجماع .. إلخ».

[أقول:] فيه: أنّ الظاهر و إن كان ذلك إلّا أنّ تعليل المجمعين اشتراط التنجيز بمنافاة التعليق و الترديد للجزم في إنشاء العقد و صدقه أظهر في تعيّن الدليل في التعويل على التعليل و الأصل الأصيل، و هو إطلاق العقد في الإنشاء المنجّز، و أصالة الفساد في المعلّق دون كون المدرك الشهرة و الإجماع، كما هو الأظهر أيضا من سائر أدلّة المسألة و تعليلاتهم الآتية، و من المعلوم تقديم الأظهر على الظاهر.

قوله: «فالتعليق غير متصوّر فيه .. إلخ».

[أقول:] فيه: ما عرفت من أنّ تعليلهم نفي التعليق في الإنشاء بمنافاته الجزم المعتبر في صدق العقد دليل كون النفي بانتفاء الموضوع لا المحمول الغير المعقود كنفيهم حجّية مفهوم الوصف و اللقب من باب السالبة بانتفاء الموضوع أيضا.

قوله: «فلا ريب في أنّه أمر متصوّر واقع في العرف و الشرع كثيرا في الأوامر و المعاملات».

ص: 465

أقول: أمّا في الأوامر فكقوله تعالى وَ إِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا .. فَلَمْ تَجِدُوا مٰاءً فَتَيَمَّمُوا* (1) فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ (2) أي غدا.

و أمّا في العقود فكقولهم: «بعتك كذا بشرط كذا» أو «بعتك منفعة الدار أو الآبار و الأشجار بعد العام المستأجرة»، أي بعد العام المسبوق بإجارة الغير.

و أمّا في الإيقاع فكقولهم: «أنت حرّ بعد وفاتي» و «لك الثلث بعد وفاتي» و «عليّ كذا إن فعلت كذا» أو «لك كذا إن فعلت كذا» إلى غير ذلك من التعليق و الشروط الواقعة في العقود و العهود الصحيحة الصريحة في العرف و الشرع في الكتاب (3) و السنّة (4).

و لكن قد عرفت الجواب عنها بأنّ صحّة التعليق في أمثال ذلك إنّما هو في المنشئ لا الإنشاء، و في الوجوب لا الإيجاب، و في المطلوب لا الطلب، و في المعهود لا العهد، و في المنذور لا النذر. و تظهر الثمرة في وجوب مقدّمات الواجب المعلّق قبل دخول وقته و حصول شرطه، و وجوب إيجاد المقدّمات قبل وقت ذي المقدّمة كوجوب الطهارة للصوم بمجرّد الرؤية، و المحافظة على الاستطاعة و مقدّمات الحجّ بمجرّد الاستطاعة و لو قبل عام الحجّ بسنين، و وجوب المحافظة على المنذور و المعهود و المشروط على الناذر و العاهد و الشارط قبل حصول الشروط المتوقّعة، و في كون النماء المتخلّل بين المشروط و شروطها المتوقّعة في زمن التوقّع من الناقل على تقدير التعليق في النقل و من المنقول له و إليه على تقدير التعليق في المنقول لا هو المعمول.

قوله: «و الظاهر الفرق بين مثال الطلاق و طرفيه بإمكان الجزم فيهما،


1- المائدة: 6.
2- البقرة: 185.
3- المائدة: 1، الأسراء: 34.
4- الوسائل 12: 352 ب (6) من أبواب الخيار.

ص: 466

دون مثال الطلاق. فافهم».

[أقول:] إشارة إلى توجيه الفرق بأنّ طلاق الأجنبيّة بزعم المطلّق تحصيل للحاصل المحال، بخلاف تزويج المحرّمة عليه.

أو إلى أنّ الفرق غير فارق، لأنّ المحال تحصيل الحاصل الواقعي، لا الزعمي الغير الحاصل في الواقع.

[و من جملة شروط العقد التطابق بين الإيجاب و القبول]

قوله: «لا يبعد الجواز».

[أقول:] و ذلك بناء على إرادة البائع بيع كلّ من نصفي المثمّن بنصف من الثمن، لا بيع المبيع منهما على وجه الاشتراك المطلق بكلّ الثمن على وجه يكون له الرجوع فيه إلى كلّ منهما على وجه الانفراد و الاجتماع.

قوله: «و فيه إشكال».

[أقول:] وجه الإشكال: احتمال إرادة البائع خلاف ما أراده المشتري من تعدّد الشراء و توزيع الثمن عليها.

[و من جملة الشروط في العقد أن يقع كلّ من إيجابه و قبوله في حال يجوز لكلّ واحد منهما الإنشاء]

قال: «و من جملة الشروط في العقد أن يقع كلّ من إيجابه و قبوله في حال يجوز [لكلّ واحد] منهما الإنشاء».

أقول: الكلام في اعتبار هذا الشرط يقع تارة في بيان المراد، و اخرى في صحّة ما أراد.

أمّا الكلام في المقام الأوّل: فالظاهر من مجموع كلامه أنّ المراد من اعتبار هذا الشرط هو توقّف صحّة العقد على استمرار جميع شروط العقد و المتعاقدين و العوضين من أوّل زمان العقد إلى آخر زمان تمام السبب الناقل، و هو القبول في عقد البيع و الإجازة في عتق الفضوليّ و القبض في الوقف، و المركّب من الأوّلين في بيع الفضوليّ، و من الأخيرين في الوقف الفضوليّ، و من الأوّل و الثالث في عقد الهبة، و من المجموع الثلاثة في الهبة الفضولية، فيبلغ الحاصل من اعتبار كلّ من

ص: 467

الشروط الثلاثة: شروط العقد و العوضين و المتعاقدين في كلّ من المواضع الثلاثة الأوّل و الآخر و الوسط إلى اعتبار تسعة شروط، فلو أخلّ بشي ء منها بطل العقد.

و مثال الإخلال بشروط العقد هو إنشاء العقد أوّلا من غير رضا، ثمّ إلحاق الرضاء له قبل تمام السبب، أو إنشائه مع الرضاء ثمّ عرض البداء له قبل تمام السبب، سواء استمرّ عروضه أم زال قبل تمامه.

و مثال الإخلال بشي ء من شروط العوضين هو عدم قابليتهما للملك حين العقد، ثمّ عرض لهما القابليّة قبل تمام السبب كانقلاب ما هو خمر، أو مال للغير حين العقد إلى الخلّ، أو إلى مال نفسه بإرث و نحوه قبل تمام السبب أو العكس، أعني قابليّتهما للملك حين العقد ثمّ عرض لهما عدم القابليّة بانقلاب الخلّ خمرا، أو انتقال مال نفسه إلى وارثه بارتداد و نحوه قبل تمام السبب، سواء استمرّ عدم القابليّة أو زال قبل تمام السبب أيضا.

و مثال الإخلال بشي ء من شروط المتعاقدين هو عدم كمالهما بالبلوغ و العقل و الرشد حين العقد، ثمّ عرض لهما الكمال قبل تمام السبب أو العكس، أعني كمالهما حين العقد، ثمّ عرض لهما الحجر بسفه أو فلس أو إغماء أو جنون قبل تمام السبب، سواء استمرّ ذلك العارض أم زال قبل تمام السبب. فمقتضى إطلاق اعتبار هذا الشرط هو بطلان العقد بالإخلال به في جميع شقوق الإخلال المذكورة، حتّى في صورة ما لو أنشأ العقد مع اجتماع جميع الشروط ثمّ عرض لأحدهما قبل تمام السبب جنون ما أو إغماء أو انقلب الخلّ خمرا آنا ما ثمّ زال العارض من حينه قبل تمام السبب، هذا هو ظاهر المراد.

و أمّا الكلام في صحّة ما أراد فتفصيله: أنّ اعتبار هذا الشرط في العقود- مضافا إلى تخلّفه في الوصيّة حيث يجوز التخلّل بين إيجابه و قبوله بالردّ قبل الموت على المشهور، و في عقد المكره، حيث صرّحوا بجواز لحقوق الرضا له،

ص: 468

و في تزويج المالك أمته بجعل المهر عتقها، حيث اتّفقوا على جوازه مع عدم تسلّطها على البضع حين العقد- لا دليل على صحّة إطلاق اعتباره في جميع الشقوق المذكورة، إذ لا إجماع و لا شهرة من محصّل و لا منقول و لا غيرهما سوى ما ذكره الماتن قدس سرّه من عدم تحقّق معنى المعاقدة و المعاهدة عرفا عند الإخلال به، و هو لا ينهض دليلا على صحّة إطلاق اعتبار استمرار جميع الشروط من أوّل العقد إلى زمان تمام السبب، بحيث لو تخلّل فيما بين العقد و السبب المتمّم له إغماء أو جنون ما ثمّ زال من حينه بطل العقد، إذ من البيّن عدم قدح هذا النحو من الإخلال العارض في صدق التعاقد و التعاهد عرفا إذا زال من حينه قبل تمام السبب، فهل ترى من نفسك إخلال صدق التعاقد و التعاهد عرفا بمجرّد انقلاب الخلّ خمرا بعد إنشاء العقد آنا ما ثمّ عاد إلى أصله قبل تمام القبول؟! و توهّم دلالة إطلاق أدلّة اعتبار شروط العقد و المتعاقدين و العوضين على استمرار اعتبارها من أوّل العقد إلى زمان تمام السبب مدفوع بأنّ إطلاقها وارد مورد بيان حكم آخر، أعني: بيان فساد العقد الفاقد بشي ء منها رأسا كبيان فساد بيع الخمر و بيع الصبي و المجنون و نحوه من العقود الفاقدة للشروط من حين العقد إلى آخر تمام السبب.

و أمّا الجامعة لجميع الشروط حين العقد و حين القبول الفاقدة لها فيما بينهما آنا ما بواسطة عروض عارض زال من حينه فلا دليل على فسادها، لأنّ إطلاق أدلّة اعتبار الشروط المذكورة واردة مورد بيان حكم غير هذه الصورة قطعا، و عدم الدليل على فسادها دليل عدم فسادها، ضرورة صدق التعاقد و التعاهد، فيشملها عموم أَوْفُوا بِالْعُقُودِ (1).

نعم، غاية ما يسلّم من عدم صدق التعاقد و التعاهد هو عدم صدقهما على


1- المائدة: 1.

ص: 469

صورة ما إذا كان عدم قابليّة المتعاقدين للإيجاب و القبول بموت أو جنون أو إغماء أو إكراه مستمرّ من أوّل العقد إلى آخر تمام السبب، دون ما إذا كان عدم قابليّتهما بواسطة عدم بلوغ فبلغ قبل تمام السبب، أو بواسطة سفه أو فلس فزال قبل تمام السبب، سيّما إذا عرض المانع من إغماء أو تنعّس بعد الإيجاب و زال قبل تمام السبب، فإنّ بقاء صدق التعاقد و التعاهد سيّما في الفرض الأخير ممّا لا ينبغي الإشكال فيه و إن قلنا بوضع ألفاظ المعاملات شرعا للصحيح، كما لا يخفى.

فتبيّن من ذلك أنّه لا دليل على صحّة إطلاق اعتبار الشرط المذكور في العقود سوى الاحتياط، بل لا تعرّض له في كلام أحد من القدماء و لا المتأخّرين، و إنّما هو من استنباطات متأخّر المتأخّرين الّتي استنبطها ظاهرا من إطلاق أدلّة اعتبار الشروط الواردة مورد بيان حكم آخر، كما عرفت.

و أمّا الإجماع الّذي نقل ادّعاءه شيخنا العلّامة عن شيخه صاحب الجواهر مشافهة فيما تقدّم (1) فمضافا إلى احتمال ورود إطلاق دعواه مورد بيان حكم آخر أيضا و كون الإجماع من اللبّيات الّتي لا إطلاق لها أصلا أنّ الإطلاق في دعواه على تقدير ثبوته موهون جدّا، لكن لا لمجرّد عدم حجّية الإجماع المنقول، بل لعدم اجتماعه لشرائط الحجّية على القول بالحجيّة.

[فرع لو اختلف المتعاقدان اجتهادا و تقليدا في شروط الصيغة]

قوله: «أردؤها أخيرها».

[أقول:] وجه رداءته: أنّ عدم القائل بسببيّة العقد المركّب منهما في النقل لا يستلزم عدم سببيّته في الواقع حتّى يجب استثناءه عن جواز اختلاف المتعاقدين، هكذا وجّه الرداءة شيخنا العلّامة.


1- تقدّم في ص: 453.

ص: 470

و لكنّه غير وجيه، أمّا على القول بوجوب اللطف الّذي هو طريقة الشيخ (1) فلوضوح منع عدم الملازمة بين عدم القائل بالسببيّة و عدم السببيّة، و أمّا على القول بعدم وجوبه فلأنّ مجرّد عدم القائل بسببيّته و إن لم يستلزم عدم السببيّة بالقطع إلّا أنّه يستلزمه بالظنّ لا محالة، و به الكفاية في حسن التحرّز عنه و استثناء فرضه عن الجواز و لو لم نقل بحجّية مثل ذلك الظنّ.

و على ذلك لم يكن التفصيل في القول بالصحّة أردأ الوجوه، بل كان أحسنها جميعا إن صحّ مبنى القول بالصحّة، و أحسن من خصوص القول بإطلاق الصحّة إن لم يصحّ.

و أمّا تحقيق صحّة هذا المبنى و عدمه- أعني: تشخيص كون الأحكام الظاهريّة المجتهد فيها- هل هي بمنزلة الواقعيّة الاضطراريّة ليكون الإيجاب بالفارسيّة من القائل بصحّته عند من يراه باطلا بمنزلة إشارة الأخرس و إيجاب العاجز عن العربيّة و كصلاة المتيمّم بالنسبة إلى واجد الماء، أم هي أحكام عذريّة لا يعذر فيها إلّا من اجتهد أو قلّد؟ فالمتكفّل له تفصيلا أواخر مبحث الإجزاء من أساسنا في الأصول و الصحّة غير بعيدة، و عليها من فحول المتأخّرين صاحب الضوابط (2) و القوانين (3). و مرجعها إلى دعوى مقدّمتين:

إحداهما: أنّ الشارع لم يجعل طريقا مخترعا إلى أحكامه الواقعيّة وراء إمضاء الطرق المنجعلة عند العقلاء في الوصول إلى مطالبهم و مقاصدهم.

و ثانيهما: أنّ سيرة العقلاء من الموالي بالنسبة إلى عبيدهم و من السلاطين بالنسبة إلى رعاياهم و من التجّار بالنسبة إلى عمّالهم على الاكتفاء بالأمارات، الّتي أمروا بها من جهة غلبة إيصالها إلى الواقع، على وجه تكون الوقائع النادرة


1- عدّة الأصول: 602.
2- ضوابط الأصول: 184.
3- قوانين الأصول 1: 130.

ص: 471

المتخلّفة عن مصادفة الواقع في نظرهم خالية عن الواقع، فيكون مطلوبيّة الواقع في أنظارهم مقصورا على الوقائع الغالبة المصادفة لا غير.

و مرجع ذلك إلى القناعة عن الواقع بمقدار مؤدّى الإمارة من المطابقة له غالبا عن المقدار الزائد، و هو المطابقة له دائما، لا إلى رفع اليد عن الواقع دائما و جعل الطريق موضوعا صرفا حتّى يبعده الوجدان و البرهان.

قوله: «إذا اعتقد اعتبار الموالاة، فتأمّل».

[أقول:] إشارة إلى أنّ استدراك هذه الصورة مستدرك و استثناء منقطع، لأنّ الكلام فيما لو اختلف المتعاقدان في صحّة العقد كالبيع في وقت النداء أو بغير العربيّة و الماضويّة ممّن يجوّزه أحدهما دون الآخر، لا فيما إذا اعتقد كلّ منهما بطلان الصيغة من طرف مقابله لا من طرفه، كإخلال أحدهما بترتيب ما لا يسوّغه الآخر، و الآخر بموالاة ما لا يسوّغه الأوّل، فإنّه باطل، لأنّ العقد المركّب من الصحيح و الباطل باطل و إن كان بطلانه من الطرف الآخر.

[مسألة لو قبض ما ابتاعه بالعقد الفاسد]
[لم يملكه و كان مضمونا عليه]
اشارة

قوله: «و يدلّ عليه النبويّ» (1).

[أقول:] أمّا الخدشة في سنده بأنّه عامّي مدفوعة بانجباره بالشهرة، و أيّ شهرة بحيث لم يلف فقيها إلّا و تمسّك به في فقهه.

و أمّا الخدشة في دلالته بما عن العوائد (2) من دعوى إجماله بواسطة دوران معناه بين تقدير استقرار الضمان «على اليد» أو وجوب الحفظ عليه أو ظهوره في وجوب الحفظ دون استقرار الضمان- نظرا إلى أنّ كلمة «على» ظاهرة في الحكم التكليفي فلا يدلّ على الضمان- فأيضا ضعيفة:

أوّلا: بفهم المشهور الضمان منه خلفا عن سلف قرينة معيّنة لدلالته عليه، بناء على جابريّة الشهرة الدلالة.


1- عوالي اللئالي 1: 389 ح 22.
2- عوائد الأيّام: ص 316- 318.

ص: 472

و ثانيا: بأنّ من الواضح على كلّ من له أدنى خبرة بمحاورات العرف عدم إجمال مثل هذه العبارة، بل ظهورها في الضمان ممّا يكاد أن يلحق بالنصوص، كما في أشباه هذه العبارة و أنظارها من أيّ لغة كانت. ألا ترى قول العرب الأخذ عليه أو برقبته و قول الفرس: «دست دست را ميشناسد و هر كه برده بپاى أو است»، كالنصّ (1) الصريح في الدلالة على الضمان، فكيف بقول من أبلغ الكائنات و لغته الّتي هي أفصح اللغات؟

هذا، مع أنّ الأصل و الغالب عدم الإجمال و ندوره جدّا في المحاورات، سيّما من الشارع الّذي معناه البيان و شأنه التبيان، و سيّما في الأحكام.

و بالجملة فقوله الشريف صلى اللّٰه عليه و آله: «على اليد ما أخذت حتى تؤدّي» (2) كالنصّ الصريح في أنّ تقديره على صاحب اليد عهدة ما أخذ أو دركه أو ضمانه أو ما يؤدّي مؤدّاها حتّى يؤدّي، لا واجب عليه حفظ ما أخذ.

أمّا تقدير الاستقرار دون الوجوب فلأنّ الظرف فيما نحن فيه مستند إلى عين من الأعيان، فهو ظاهر في الحكم الوضعي ك «عليه مال» أو «دار»، لا أنّه مستند إلى فعل من أفعال المكلّفين ك «عليه أكل» أو «شرب» أو نحوهما من الأفعال حتّى يكون ظاهرا في الحكم التكليفي. مضافا إلى أنّ الأحكام الوضعيّة عندنا أيضا منتزعة عن الأحكام التكليفيّة، و ليست بأمور مستقلّة حتّى ينافيها الأحكام التكليفيّة.

و أمّا تقدير الضمان دون الحفظ فلرجوعه إلى التقدير الأوّل و هو تقدير الاستقرار لا إلى تقدير آخر وراءه، بخلاف الحفظ فإنّ تقديره يستلزم تعدّد المقدّر، و الأصل عدمه. و أمّا عدم تقدير الأداء أو الردّ عوض الحفظ فلأنّه مضافا


1- تقدّم ذكره في ص: 471.
2- عوالي اللئالي 1: 389 ح 22.

ص: 473

إلى منافاتهما الأصل أيضا منافيان للغاية بقوله: «حتى يؤدّي».

فتلخّص من ذلك: أنّ دلالة «على اليد ما أخذت» على الضمان إمّا من جهة ظهور كلمة «على» في الحكم الوضعي لا التكليفي بواسطة إسناده إلى العين لا الفعل.

و إمّا من جهة ضميمة القرائن الخارجيّة، من فهم المشهور، و ملاحظة الأشباه و النظائر العرفيّة، و أصالة عدم الإجماع، و غير ذلك، معينة بتقدير الضمان.

إلّا أنّه على التقدير الأوّل لا تقدير للضمان، و إنّما هو منتزع من نفس تعلّق الظرف بالاستقرار فلا يقدّر بتقدير آخر وراء تقدير الاستقرار، بل تقدير الاستقرار مغني عن تقديره، بخلافه على التقدير الثاني و يعضد قاعدة اليد قوله عليه السلام (1) في الأمة المبتاعة: «إذا وجدت مسروقة» إلى آخر قول المصنّف: «فهو كالتالف لا المتلف.

فافهم» (2). فتأمّل.

إشارة إلى أنّ ضمان المتلف على تقدير كونه من باب «من أتلف مال غيره فهو له ضامن» ظاهر في الإتلاف الفعليّ لا الشأنيّ و التنزيليّ، بخلاف ضمان اليد فإنّه يعمّ حتّى المنافع الناشئة من المالك بحبس ملكه من الاستنفاع و الاستخدام به مدّة الحبس و المنع.

ثمّ إنّ هذا كلّه في بيان أصل دلالة الحديث الشريف على الضمان في الجملة في مقابل السلب الكلّي.

و أمّا بيان مقدار الدلالة و كميّته فتفصيله: أنّ المراد من «اليد» المضمّن هل هو اليد المستقلّ على المال، أو الأعمّ منه و من المشترك فيه؟ وجهان، بل قولان، استظهر الأوّل شيخنا العلّامة دام ظلّه، و الثاني عن صاحب الجواهر (3).


1- الوسائل 14: 592 ب «88» من أبواب نكاح العبيد و الإماء ح 3.
2- المكاسب: 101.
3- جواهر الكلام 22: 257.

ص: 474

فكلّ من الأيادي المشتركة في المال المضمون عليه ضامن على الأوّل بالاستقلال لكلّ المال، و على الثاني بنسبته مع الشركاء، فإن كانت الشركة بين اثنين فكلّ منهما ضامن للنصف، أو بين ثلاثة فللثلث، أو بين أربعة فللربع، و هكذا، فلا يجوز لصاحب المال مطالبة كلّ من الأيادي المشتركة في ماله المضمون عليه للقدر الزائد عن مقدار شراكة اليد فيه، لأنّ الأيادي المشتركة مجموعها يد واحد في الضمان، لا كلّ واحدة منها يد مستقلّة، فالمتعلّق بالمجموع ضمان واحد لا ضمانات متعدّدة على حسب تعدّدهم، و يشهد على ذلك نسبة العرف المال إلى مجموع الأيادي المشتركة لا إلى كلّ واحد منهم إذا سئلوا عن كون المال في يد من.

و أمّا الأيادي المتعاقبة بالاستقلال فالظاهر من إطلاق «على اليد» و عمومه الحكمي هو تعلّق الضمان بكلّ منها على وجه الاستقلال فيختار المالك بين مؤاخذة المال من الجميع و بين مؤاخذته من كلّ من شاء منهم على وجه الاستقلال، لكن بأداء الواحد يسقط عن الباقين، كما يسقط الدين عن ذمّة المديون بأداء الغير عنه.

ثمّ المراد من «اليد» المضمّن هل هو يد الاستيلاء و لو لم تجتمع مع الجارحة، أم يد الجارحة و لو لم تجتمع مع الاستيلاء، أم كلاهما معا؟ وجوه، أوجهها الأوّل، و على ذلك فمجرّد استيلاء المستولي مضمّن للمستولى عليه و إن كان تحت جارحة الغير، و مجرّد يد الجارحة غير مضمّن ما لم يكن على وجه الاستيلاء.

ثمّ اليد المزاحمة ليد المالك في ملكه على وجه الإشاعة هل هي كاليد المزاحمة له عل وجه التعيين في موجبيّة الضمان بقدر حصّة اشتراكها إن نصفا فبالنصف و إن ثلثا فبالثلث و هكذا، أم لا يوجب الضمان بالبعض كما لا يوجبه

ص: 475

بالكلّ؟ وجهان، من انّ اليد المشتركة في المال على وجه الإشاعة يد تامّ بالنسبة إلى حصّة الشراكة كاليد المشتركة فيه على وجه التعيين فيلحقها ما يلحقها من الضمان بقدر حصّة الاشتراك، و من أنّ اليد المشتركة في المال المشاع يد ناقص بالنسبة إلى كلّ جزء من أجزاء المشاع، كما أنّه كذلك بالنسبة إلى كلّ المال المشاع بينهما و المضمن من اليد ظاهرا هو اليد التامّ لا الناقص، فلا يلحق الناقص ما يلحق التام من الضمان.

و بعبارة اخرى: أنّ نسبة اليد إلى كلّ جزء من أجزاء المشاع هو نسبته إلى كلّ المال المشاع، فكما أنّه لا يضمن الكلّ من جهة نقصان اليد بالنسبة إلى الكلّ كذلك لا يضمن البعض من جهة نقصان اليد بالنسبة إلى البعض أيضا.

ثمّ إنّ حبس الحرّ و منعه عن المنافع العائدة إليه بحرفة أو صنعة هل هو كحبس العبد و منعه عن المنافع العائدة إلى موالاة بحرفة أو صنعة في موجبيّة ضمان تلك المنافع، أم لا؟ وجهان، أظهرهما الثاني، لأنّ منافع كلّ شي ء تابعة لأصله، فمنافع الحرّ تابعة للحرّ، فكما أنّ الحرّ لا يصدق اليد عليه بمجرّد الاستيلاء عرفا فكذا منافعه الفائتة منه بالاستيلاء المانع منها، بخلاف العبد فإنّه لمّا صدق عليه اليد عرفا بالاستيلاء استتبعه منافعه فمنافع الحرّ تابعة للحرّ، فكما أنّ الحرّ لا يضمن بالاستيلاء فكذا منافعه لا تضمن به، إلّا أن تضمن بقاعدة «لا ضرر»، و هو على تقدير نهوضه إلى التضمين خارج عمّا نحن فيه من إثبات التضمين بقاعدة اليد.

ثمّ الأوقاف هل هي كالأملاك في تعلّق الضمان بأخذها للمأخوذ منه؟

وجهان، أوجههما أنّه إن كان الأخذ داخلا في الموقوف عليهم و شريكا معهم فلا ضمان عليه و إن ارتكب المعصية في منع المأخوذ منه حقّ الأولويّة الثابتة له بالسبق، و إلّا فعليه الضمان، كما لا يخفى على المتأمّل.

ص: 476

[القول في بيان قاعدة الضمان و عكسها]

قوله: «المراد من «العقد» (1) أعمّ من الجائز و اللازم. إلخ».

أقول: محصّل الكلام في معنى قولهم: «كلّ عقد يضمن بصحيحه يضمن بفاسده»، و كذا العكس أن يقال، أمّا المراد من العقد فأعمّ من الجائز و اللازم، بل و ممّا كان فيه شائبة الإيقاع، أو كان أقرب إليه، فيشمل الجعالة و الخلع، لكن حكما لا اسما، فالجاعل يضمن بالعقد الفاسد للمجعول له، كما أنّه يضمن له بالعقد الصحيح، و الخالع زوجته بإزاء مال يضمن لها ذلك المال بالخلع الفاسد، كما يضمن لها قطع العلقة الزوجيّة بالخلع الصحيح. و أمّا سائر الإيقاعات فلا يشمله حكما، كما لا يشمله اسما، بل و في شمول الجعالة و الخلع حكما تأمّل أيضا سيأتي وجه في عداد المستثنيات.

و أمّا المراد من عموم (2) العقود فليس باعتبار خصوص الأنواع، بل أعمّ منه و من الأصناف، أخذا بعموم العقود حسب ما في المتن (3). و أمّا بحسب الأشخاص فلا يتعقّل لخصوص شخص العقد من حيث هو شخص صحيح و فاسد بالفعل حتّى يندرج تحت عموم القاعدة.

و أمّا المراد من الضمان فهو و إن احتمل له معان عديدة:

أحدها: كون تلفه في ملكه لا ملك غيره، نظرا إلى أنّ تلف المال مملوكا للتالف فيه نوع من دخول الضرر و النقصان على نفسه في ماله، ليس فيه ذلك الضرر و النقصان لو تلف مملوكا للغير، فإنّ الأكل شيئا من مال نفسه يدخل عليه ضررا و نقصانا لا يدخل عليه ذلك الضرر و النقصان لو أكله من مال غيره بضيافة أو إباحة، و لكن هذا معنى مجازي لا يطلق عليه الضمان حقيقة، فلا يقال: إنّ الإنسان ضامن لأمواله.


1- في المكاسب: «بالعقد».
2- المائدة: 1.
3- المكاسب: 102.

ص: 477

ثانيهما: كون دركه و خسارته في ماله الأصلي، فيكون ضمان الشي ء بمعنى أنّ له ما بإزاء و عوض في ماله الأصلي في مقابل المجانيّات و اللاعوض الصرف، و الضمان بهذا المعنى تارة يكون بإزاء عوضه الجعلي، و تارة يكون بإزاء عوضه الواقعي و هو المثل و القيمة، و تارة ثالثة بإزاء أقلّ الأمرين من الجعلي و الواقعي، و إذا انضمّ إلى هذه المعاني الأربعة للضمان احتمال تفكيك معناه في الجملتين و عدم تفكيكه تبلغ الاحتمالات ثمانية.

إلّا أنّ الظاهر الواضح من ظاهر الضمان و حقيقته- مضافا إلى معونة الخارج أيضا- هو إرادة الضمان المقابل للمجان في الجملتين من غير تفكيك، دون إرادة ما عداه من سائر الاحتمالات السبعة، كما يظهر للمتأمّل بأدنى تأمّل.

و أمّا المراد من الفاسد فأعمّ ممّا يكون فساده بواسطة فقد شي ء من شروط العقد أو المتعاقدين أو العوضين.

و أمّا المراد من اقتضاء الصحيح الضمان فهو اقتضائه له بنفسه، فلو اقتضاه الشرط المتحقّق في ضمن العقد الصحيح ففي الضمان بالفاسد من هذا الفرد المشروط فيه الضمان تمسّكا بهذه القاعدة إشكال حسب ما في المتن (1).

و أمّا المراد من الصحّة فهو الصحّة الشرعيّة لا الجعليّة ليكون الموضوع هو العقد الّذي وجد له بالفعل صحيح و فاسد، لا ما يفرض تارة صحيحا و اخرى فاسدا، إلى آخر ما في المتن.

ثمّ إنّ هذا كلّه في بيان معنى القاعدة: و أمّا المدرك لها فما يصلح للمدركيّة لها و لو في الجملة وجوه:

منها: الإجماع المنقول عن الجواهر (2) استظهاره على كلّ من طرفي


1- المكاسب: 102.
2- انظر جواهر الكلام 22: 258 و ج 25: 227.

ص: 478

القاعدة أصلا و عكسا.

و منها: الإقدام على ما يظهر من الشيخ (1) في كلّ من طرفي القاعدة أصلا و عكسا أيضا.

و منها: قاعدة اليد، كما صرّح به الشهيد (2) في طرف الأصل دون العكس.

و منها: قاعدة نفي الضرر و حرمة مال المسلم على ما احتمله الماتن قدس سرّه (3) في طرف الأصل دون العكس أيضا.

كما أنّ منها قاعدة الأولويّة الّتي تمسّك بها الشيخ (4) في طرف العكس دون الأصل.

فمجموع ما يحصل ما يصلح مدركا للقاعدة خمسة وجوه، و المشترك صلوحه لكلّ من طرفي القاعدة الإجماع و قاعدة الإقدام، و المختصّ بطرف الأصل قاعدتي اليد و نفي الضرر، و بطرف العكس الأولويّة، فالحاصل لطرف الأصل أربعة مدارك و لطرف العكس ثلاثة، و يحصل للقاعدة من ملاحظة ضمّ كلّ من مدارك أصلها الأربعة إلى كلّ من مدارك عكسها الثلاثة اثنتي عشر صورة، يتّحد مدرك الطرفين في بعضها، و يختلف في بعضها الآخر.

أمّا مدركيّة الإجماع المنقول استظهاره على كلّ من طرفي القاعدة ففيه: أنّ مسلّميّة كلّ من طرفي القاعدة في الجملة و إن كان ضروريّا بحيث لا يرتاب فيه جاهل فضلا عن عالم إلّا أنّ من المعلوم عدم انعقاد الإجماع على أصل القاعدة، لعدم وجودها في كلام من تقدّم على العلّامة، بل الإجماع إن كان فهو على مدرك القاعدة لا على نفس القاعدة.


1- انظر المبسوط 2: 149.
2- الظاهر أنّ مقصوده الشهيد الثاني، مسالك الأفهام 4: 56.
3- المكاسب: 103.
4- لم نعثر عليه في مظانّه.

ص: 479

و أمّا الإقدام فهو و إن سلم مدركيّته لأصل القاعدة و عكسها في الجملة إلّا أنّ الماتن أورد على الإقدام.

أوّلا: بعدم تحصيل دليل له.

و ثانيا: بانتقاضه طردا و عكسا، و لكن لا ورود لشي ء من إيراديه، و يعلم ذلك من التعرّض أوّلا: لبيان معنى الإقدام. و ثانيا: لبيان دليله. و ثالثا: لبيان دفع موارد نقضه و مستثنياته.

فنقول: أمّا الإقدام في المقام فعبارة عن التواطي و التراضي الّذي يوقعه الشخص لشخص آخر على شي ء.

و أمّا الدليل على صحّة القيام بمقتضاه فمضافا إلى عموم «الناس مسلّطون على أموالهم» (1) و تِجٰارَةً عَنْ تَرٰاضٍ (2) و «طيب النفس» (3) قيام السيرة القطعيّة من لدن زمان المعصوم عليه السلام إلى يومنا هذا على مجرّد التواطي و التراضي في أكثر معاملاتهم، من غير اجتماع شروط العقد و لا المتعاقدين و لا العوضين بحيث يعدّون القيام بمقتضاه من الأمور الصحيحة الواقعيّة من غير نكير و لا شبهة تعرض لهم في صحّته، و ما هو إلّا من جهة تقرير المعصومين عليه السلام و إمضائهم، فإنّ عدم ردع المعصوم عن العمل المتداول في زمانه بما يقرب من تسعمائة سنة مع اطلاعهم به عادة و تمكّنهم من الردع دليل قطعي على إمضائه و تقريره إيّاهم، و إلّا لردعوا، و لو ردعوا لشاع و ذاع حتّى قرع الأسماع، مثل شياع الردع عن القمار و الربا و نحوهما، و إذ ليس فليس، بل الواجب على المعصوم عليه السّلام عدم الاكتفاء في الردع، سيّما عن الفعل المتداول عموم البلوى به بالحوالة إلى أصالة الحرمة، و القناعة عن التصريح بعموم و نحوه، بل لا بدّ له من المبالغة في الردع تصريحا


1- عوالي اللئالي 1: 222 ح 99.
2- النساء: 29.
3- الوسائل 3: 424 ب «3» من أبواب مكان المصلّي ح 1.

ص: 480

و تنصيصا في المحافل و المساجد و المجامع و المنابر حتّى يملئ الأسماع و يكثر الاطّلاع، حسما لمادّة العذر، و إتماما للحجّة الواجبة عليه من باب اللطف و التقريب إلى الطاعة و التبعيد عن المعصية لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَ يَحْيىٰ مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ (1)، كما كان دأبهم و سجيّتهم على هذا المنوال في بيان أحكام الحرام و الحلال.

و ممّا ذكر ظهر الدليل للإقدام و قوّة ما حكاه شيخنا العلّامة دام ظلّه عن مفتاح الكرامة (2) من صحّة جميع ما يتواطؤ و يتراضى عليه الناس فيما بينهم من المعاملات و إن لم تجتمع لشي ء من شروط العقد كالإيجاب و القبول و العربيّة و الصراحة و التنجيز و الترتيب و الموالاة، و لا لشي ء من شروط العوضين كالتعيين و قابليّة المبيع للتمليك و غير ذلك، و لا لشي ء من شروط المتعاقدين كالبلوغ و العقل و الاختيار إلّا ما أخرجه الدليل من التواطي كما في القمار و الربا و النكاح.

لا نقول: بكفاية مجرّد الرضا في تحقّق عنوان العقد و ترتيب آثاره الخاصّة بعنوان العقد حتّى ينافيه فقد الشروط المقرّرة لكلّ من العقود المتداولة، بل إنّما نقول بكفاية مجرّد الرضا في إباحة ما تراضوا عليه المتراضيان، و إن لم يندرج تحت أحد عناوين العقود المضبوطة في كتب الفقهاء، و لم يترتّب عليه شي ء من الآثار الخاصّة بشي ء من تلك العناوين المضبوطة للعقود، بل كان معاملة مستقلّة بمقتضى أصالة عدم ترتّب شي ء من الآثار الخاصّة بعنوان أحد العقود، فإنّ ضبط العقود في عدد معيّن من جهة بيان الآثار الخاصّة بها شرعا، لا من جهة بيان انحصار الصحّة و الإباحة في الاندراج تحت شي ء منها.


1- الأنفال: 42.
2- مفتاح الكرامة 4: 159.

ص: 481

و كذا لا نقول: بكفاية رضا الصبي و المجنون في صحّة المعاملة مطلقا و لو لم يكن مميّزا، بل إنّما نقول بكفاية رضائه و إقدامه في موارد رضا العقلاء و رضا نفسه لو كان عاقلا بالغا، أو في مورد إحراز رضا الوليّ فيه من شاهد حال الناس و نحوه.

لا يقال: قد لا يكون للصبي و المجنون وليّ.

لأنّا نقول: لا يخلوان عن الوليّ، إذ لا أقل من وجود حاكم شرع إذا لم يكن لهما أب و لا جدّ و لا وصيّ، أو عدول المؤمنين إذا لم يكن مع ذلك حاكم شرع أو الإمام عليه السلام إذا لم [يكن] غيره.

و من هنا يظهر أيضا دفع وسوسة بعض الوسواسيين في معاملة الصبيان مطلقا حتّى في الأمور الحقيرة و لو كان الصبي مراهقا للبلوغ و أعقل من ابن سينا، و في مباشرة ما يتعلّق بالصبيان حتّى في مثل الدخول في دارهم و الجلوس هنيئة على فراشهم و لو لأجل التعزية و الفاتحة لأبيهم أو العيادة لأنفسهم، مع أنّه من موارد رضا العقلاء و رضا أنفسهم أيضا لو كانوا عقلاء، بل ربّما يكون في الاجتناب عن مثل قبول ضيافتهم و هديّاتهم اللائقة بحالهم فضلا عن مثل الدخول في دارهم أو الجلوس على فراشهم لأجل تعزيتهم أو عيادتهم أو إصلاح شأنهم نوع من الجفاء بحقّهم، المؤدّي إلى ترك المواصلة و المواجهة و الإفادة و الاستفادة المخالف لسيرة الناس و رضا العقلاء، الكاشفة عن تقرير المعصوم و رضائه بعد اطلاعه و عدم ردعه، فكما أنّ أكل أموال اليتامى ظلما و عدوانا حرام موبق عند الشرع و العقلاء كذلك الاجتناب التامّ عن كلّ ما يتعلّق بهم حتّى اللائق بحالهم بذله في تعزية أو ضيافة أو إصلاح شأن ربّما يعدّ جفاء و إهانة بحقّهم عند الشرع و العقلاء، سيّما إذا كانوا من ذوي الشئون و البيوت الّذين ينخفض شأنهم و ينكسر اعتبارهم بسدّ ذلك الباب عليهم.

ص: 482

و بالجملة: لا ينبغي للمكلّف التفريط في الاحتياط من جهة المؤدّي إلى خلاف الاحتياط من جهات، كما لا ينبغي الإفراط في مساهلة أمر الدين المؤدّي إلى عدم المبالاة باليقين، بل خير الأمور أوسطها.

و بالجملة: قد علم ممّا ذكرنا اندفاع ما أورده الماتن (1) على مدركية الاقدام لقاعدة الضمان بأن دليل الاقدام مطلب يحتاج الى دليل لم نحصله، لما عرفت (2) سبيل تحصيله من عموم الآيات و الأخبار و السيرة القطعيّة بأسهل ما يكون، و يزيد على سهولة تحصيل دليل الإقدام من تلك السبل ملاحظة انحصار سبيل تحصيل أدلّة سائر القواعد المقرّرة عند المتشرّعة في تلك السبل أيضا.

و إذا انجرّ إلى ها هنا الكلام فلا بأس في التعرّض لقاعدة الإعراض و إن كان خارجا عن المقام، لكونه كالضدّ للإقدام، إلّا أنّ الأشياء كما قد تعرف بأنظارها قد تعرف بأضدادها.

فنقول: الإعراض في المقام هو خلع علقة القلب عن المال، و عن أنوار الفقاهة تفسيره بإقالة الملك مع المالك الحقيقي، و لعلّه أضبط من حيث الطرد و العكس. و تمام الكلام في المرام يتمّ في ضمن التفصيل:

أوّلا: بتأسيس الأصل في بقاء ملكيّة المال المعرض عنه بعد تحقّق الإعراض و عدم بقائه.

و ثانيا: ببيان وجوب الدليل على خروج المعرض عنه عن ملك المعرض و عدمه.

و ثالثا: بتشخيص لحقوق المعرض عنه بالإباحات المالكيّة بعد الإعراض أو الشرعيّة.


1- المكاسب: 103.
2- في ص: 479- 480.

ص: 483

و رابعا: بتشخيص مبدأ خروج المعرض عنه عن ملك المعرض، و منتهى ملكيّة عن المعرض عنه على تقدير الخروج.

فالكلام إذن في مراحل:

أمّا المرحلة الاولى: فتفصيل الكلام في خروج المعرض عنه عن ملك مالكه بمجرّد الإعراض و عدمه راجع إلى الشكّ في مقدار قابليّة ملكيّة المالك للملك و استعداده، و أن ملكيّة المالك ملكه ملكيّة دائمة أو ما دام لم يحصل الإعراض، فإذا حصل خرج عن ملكه و دخل في المباحات الشرعيّة، فالمورد إذن من موارد استصحاب الكلّي المردّد بين ما هو باق جزما و ما هو مرتفع كذلك، المعبّر عنه في الأصول بالشكّ في الاستعداد، و الممثّل له باستصحاب كلّي الحيوان الدائر بين البقّ و الفيل إلى أطول زمان يمكن عيش الفيل فيه.

فالفاضل القميّ (1) قدس سرّه على منع صحّة استصحاب الكلّي المشكوك في استعداده، لبنائه على انحصار دليل حجّية الاستصحاب في الظنّ الحاصل من الغلبة، و انصراف أخبارها أيضا إلى موارد الظنّ و الغلبة، و من المعلوم عدم الظنّ و الغلبة في بقاء المشكوك المردّد بين ما هو باق جزما و ما هو مرتفع كذلك.

و من عداه كصاحب الفصول (2) و الماتن (3) قدس سرّه على الصحّة في أصولهما، اعتمادا في حجّية الاستصحاب على عموم أخبار «لا تنقض اليقين بالشكّ»، و منع انصرافها إلى موارد الظنّ و الغلبة، كما هو الأقرب إلى الظاهر.

و أمّا المرحلة الثانية: فتفصيل الكلام فيها: أنّ الإعراض إمّا أن يكون معلوم التحقّق بتصريح المعرض و نحوه، أو معلوم العدم كذلك، أو ظاهرا من حال المعرض أو من طرحه و الانصراف عنه أو مشكوكا. أمّا الإعراض المشكوك


1- قوانين الأصول 2: 70 و 73.
2- الفصول الغرويّة: 379.
3- فرائد الأصول: 371.

ص: 484

تحقّقه فكالمعلوم عدم تحقّقه بأصالة العدم. و أمّا المعلوم تحقّقه بتصريح و نحوه بل و كذا الظاهر من شاهد حال و نحوه فلا ريب في خروج المعرض عنه معه عن ملك المعرض و رجوعه إلى المباحات الّتي تتملّك بمجرّد الحيازة و القصد، و ذلك لقيام السيرة القطعيّة المستمرّة من زمن المعصوم إلى يومنا هذا على تملّك المسلمين المعرض عنه بمجرّد الحيازة و القصد و ترتيب آثار الملكيّة عليه، مستندين في ذلك إلى خروجه عن ملك المعرض و لحوقه بالمباحات، الّتي يكون الناس فيها شرع من غير نكير و لا شبهة منع، و هو كاشف قطعي عن تقريره عليه السّلام و رضائه، إذ لو لم يرض لردع، و لو ردع لشاع و ذاع حتّى قرع الأسماع، و إذ ليس فليس.

أمّا ملازمة عدم رضائه للردع فللزوم تبليغ الأحكام من باب اللطف و التقريب إلى الطاعة و التبعيد عن المعصية، و هو إن كان مشروطا باطلاع المعصوم من الطرق البشريّة و تمكّنه من الردع إلّا أنّهما محرزان فيما نحن فيه، لقضاء العادة باطلاع المعصومين عليه السلام على الأمر المتداول فعله و عموم البلوى به فيما يقرب من تسعمائة سنة. و أمّا تمكّنه فمضافا إلى أصالة عدم المانع منه معلوم العدم لعدم تقيّة و لا غيرها من الموانع، سيّما المانع المستوعب جميع ذلك الزمان الطويل، فإنّه أيضا من المحالات العاديّة المعلوم عدمه بقضاء العادة.

و أمّا ملازمة الردع للوصول إلينا فلتوفّر الدواعي و قضاء العادة به أيضا، و إذا كان الواجب عليه الردع عن كلّ ما لا يرضى به و لم نقف على صدور ردع منهم عليه السلام عمّا كان متداولا بين الناس مع تحقّق اطلاعهم عليه السلام به و تمكّنهم عليه السلام من الردع عنه كان ذلك كاشفا قطعيّا عن رضائهم به و إمضائهم إيّاه، سيّما فيما نحن فيه، فإنّه من أوضح موارد كاشفيّة السيرة عن تقرير المعصوم و رضائه، إلّا أن ينكر كاشفيّة السيرة رأسا في شي ء من موارد الفقه، كما لا يبعد عن دأب

ص: 485

الوساوسة، و إلّا ففي أيّ مورد من موارد الفقه إذا سلم فيه كاشفيّة السيرة فما نحن فيه أوضح منه.

و ممّا ذكرنا يعلم أنّ الأصل في كلّ سيرة هو الكاشفيّة عن الرضا و التقرير إلّا ما ثبت عند الردع القاطع للعذر، كما في التعرّض لإعراض الناس في غيابهم، و السبّ و السخرية و الاستهزاء في حضورهم، إلى غير ذلك من السيرات المعلوم ردع المعصومين عليه السلام عنها بأبلغ وجوه الردع، و استنادها إلى مجرّد المسامحة و عدم المبالاة في الدين، حتّى لو سئلوا الناس عن وجه سيرتهم لاعترفوا بتقصيرهم أو اعتذروا بما ليس عذرا، بخلاف ما لو سئلوا عن وجه سيرتهم على العمل الغير الثابت فيه ردع فإنّهم يجيبون بإصابتهم، و به الكفاية فارقا بين السيرتين، و مبطلا لمقايسة أحدهما بالآخر.

هذا كلّه مضافا إلى النصوص الدالّة أيضا على خروج المال عن ملك مالكه بالإعراض.

فمن النصوص ما وقفنا عليه في باب النوادر في باب القضاء و الأحكام من السرائر: و روى الحسين بن علي بن يقطين، عن أميّة بن عمر، عن الشعيري «قال:

سئل أبو عبد اللّٰه عليه السلام عن سفينة انكسرت في البحر فاخرج بعضه بالغوص و أخرج البحر بعض ما غرق فيها، فقال: أمّا ما أخرجه البحر فهو لأهله اللّٰه أخرجه، و أمّا ما اخرج بالغوص فهو له و هو أحقّ به» (1).

أقول: و لعلّ وجه الفرق عدم تحقّق الإعراض المخرج عن الملك فيما أخرجه البحر فهو لأصحابه، بخلاف ما تركه أصحابه آيسين منه، فإنّ الظاهر من شواهد الحال تحقّق إعراضهم عنه فهو لمن وجده و غاص عليه، لأنّه صار بمنزلة المباحات.


1- السرائر 2: 195.

ص: 486

و مثل هذا الخبر خبر آخر في السرائر أيضا «فيمن ترك بعيره من جهد في غير كلإ و ماء فهو لمن أخذه، لأنّه خلّاه آيسا منه و رفع يده عنه، فصار مباحا. ثمّ قال ابن إدريس: و ليس هذا يعني التعدّي عن مورد الخبرين قياسا، لأنّ مذهبنا ترك القياس، و إنّما هذا- يعني ذكر الغوص و البعير في مورد الخبرين- على جهة المثال، و المرجع فيه- يعني في التعدّي- إلى الإجماع و تواتر النصوص دون القياس و الاجتهاد. ثمّ قال: و على الخبرين إجماع أصحابنا منعقد» (1)، انتهى كلام السرائر، مشتملا على ما فيه كفاية و غنية للمستدلّ من دعوى الإجماع و تواتر النصوص.

هذا، مع ما يظهر للمتتبّع في سائر مطاوي كلماتهم و فتاويهم من كون خروج المعرض عنه عن ملك المعرض من المسلّمات الّتي لا نزاع لهم فيه، و أنّه إن كان لهم نزاع فهو في تشخيص الصغرى و هو تحقّق الإعراض ببعض شواهد الحال و عدمه، أو في تشخيص كون المعرض عنه بعد إباحته بالإعراض باقيا في ملك المعرض، ليكون من الإباحات المالكيّة المتقدّرة بقدر رضا المالك من التصرّف و أنواع التصرّف، أو خارجا عن أصل ملكه ليكون من الإباحات الشرعيّة المترتّب عليها جواز جميع التصرّفات المالكيّة، دون التقدير بقدر و لا التخصيص بنوع.

فلاحظ كلام العلّامة في باب المساقاة من التذكرة (2): فرع لو باع أحد شجرة واقعة في أرض مشاع بينه و بين غيره فقطع المشتري الشجرة و قطع أصوله و بقي بعض العروق الصغار الغير المعتنى به و نبت منها دوي و جاء آخر فربّاه حتّى صارت شجرة فهل هو من المشتري، أو من المحيز، أو من جميع الشركاء في


1- السرائر 2: 195.
2- تذكرة الفقهاء 2: 341.

ص: 487

الملك، أو من البائع الأوّل؟ الأظهر إن كان المحيز يسقي تلك العروق قبل نبات الدوي فهو مال المحيز إذا علم إعراض المشتري- كما هو ظاهر الحال- و إن ربّاها بعد نباته و صيرورته شيئا له ماليّة فهو مال المشتري، إلّا إذا علم منه الإعراض بعد النبات فمال المحيز، و أمّا الشركاء فلا حقّ لهم، لانقطاع الحقّ به.

و قال أيضا في باب المزارعة: «إذا زارع أحد في أرضه فسقط من حبّه شي ء و نبت في ملك صاحب الأرض عاما آخر فهو لصاحب الأرض عند علمائنا، و قال الشافعي: لأنّه عين ماله كما لو بذره قصدا، و قال أحمد: يكون لصاحب الأرض، لأنّ صاحب البذر قد أسقط حقّه بحكم العرف و زال ملكه عنه، لأنّ العادة ترك ذلك لمن حازه، و لهذا أبيح التقاطه و زرعه، و لا خلاف في إباحة التقاط ما رماه الحصاد من سنبل و حبّ، فجرى ذلك مجرى نبذه على سبيل الترك فصار كالشي ء التافه يسقط منه كالتمرة و اللقمة و النوى، و لا شكّ أنّه لو التقط النوى و غرسه كان له دون من سقط، و ليس بجيّد، لأنّ الحقّ و الملك يزولان بالإعراض، بل به و بالاستيلاء، فإذا لم يحصل الثاني و نبت الحبّ لم يكن من جملة ما تمثّل به» (1) انتهى.

و لكنّك قد عرفت من الأدلّة المتقدّمة كالسيرة و النصوص و الإجماع و التواتر المنقولين عن السرائر (2) ظهور كون الإباحة في المعرض عنه إباحة شرعيّة صادرة عن قبل الشارع على مجرّد تحقّق الأعراض، لا إباحة مالكيّة حتّى تقدّر بقدر رضا المالك من التصرّف و نوعه، و كون مبدأ تلك الإباحة الشرعيّة و منتهى ملكيّة المعرض عن المعرض عنه هو من حين تحقّق الإعراض و خلع علقة القلب عن المال، لا من حين استيلاء يد المتصرّف عليه بالتصرّفات


1- تذكرة الفقهاء 2: 340.
2- تقدّم ذكر مصدره في ص: 486.

ص: 488

المالكية و كون الإعراض الظاهر من شاهد الحال بمنزلة الإعراض المعلوم بتصريح و نحوه في الآثار و الأحكام. فراجع، فلا نطيل بإعادة الكلام، و أفراد كلّ بمقام. هذا كلّه في بيان دليل الإقدام و تقريب تحصيله، دفعا لما زعمه الماتن قدس سرّه (1) من عدم تحصيل دليله.

بقي الكلام في زعمه الآخر، و هو موارد نقضه و مستثنياته.

فمن جملة ما زعمه قدس سرّه من مستثنياته و موارد نقضه ما أشار إليه بقوله: «إذ قد يكون الإقدام موجودا و لا ضمان كما قبل القبض» (2).

و فيه أوّلا: منع وجود إقدام المشتري على ضمان المبيع و لو تلف قبل القبض حتّى يكون ذلك من موارد انفكاك الإقدام عن الضمان، بل الموجود إنّما هو إقدامه على ضمانه لو تلف بعد القبض لا مطلقا، و لهذا لو صرّح المشتري بضمان المبيع مطلقا ضمنه مطلقا و لو تلف قبل قبضه.

و ثانيا: سلّمنا دلالة نفس الشراء على اقدام المشتري على ضمان المبيع مطلقا، إلّا أنّ عدم ضمانه مع ذلك لو تلف قبل القبض إنّما هو للنصّ الخاصّ به، و لهذا لا يتعدّى عنه إلى عقد النكاح حيث إنّ الزوج يضمن صداق الزوجة و لو تلفت قبل تمكين نفسها منه، الّذي هو بمنزلة القبض.

و منها: ما أشار إليه بقوله: «و قد لا يكون إقدام في العقد الفاسد مع تحقّق الضمان، كما إذا شرط في عقد البيع ضمان المبيع على البائع إذا تلف في يد المشتري».

و فيه ما تقدّم في معنى قاعدة «كلّ عقد يضمن بصحيحه يضمن بفاسده» من أنّ ظاهر العبارة كون الموضوع هو العقد الّذي وجد له صحيح و فاسد بالفعل، لا


1- المكاسب: 103.
2- المكاسب: 102.

ص: 489

ما يفرض تارة صحيحا و اخرى فاسدا، فتخلّف الضمان عن الإقدام في المثال المذكور لا يوجب كون المثال من مستثنيات قاعدة «كلّ ما يضمن بصحيحه يضمن بفاسده»، لأنّ خروج المثال عن تحت القاعدة خروج موضوعي لا حكمي، و لا كونه من مستثنيات مضمنيّة الإقدام، لأنّ مضمنيّة الإقدام لا ينتقض عمومه بمضمنيّة غير الإقدام أيضا من اليد و الإتلاف و التسبيب، و كذلك تمثيله الآخر لتفكيك الضمان عن الإقدام بما إذا قال: «بعتك بلا ثمن» أو «أجرتك بلا ثمن» لا يعدّ من مستثنيات قاعدة «ما يضمن بصحيحه يضمن بفاسده». لأنّه إن أريد من البيع بلا ثمن البيع الحقيقي فهو و إن أوجب الضمان مع عدم الإقدام عليه إلّا أنّ خروجه عن القاعدة خروج اسمي لا حكمي، لعدم كونه ممّا له صحيح و فاسد بالفعل، بل هو فاسد فقط لتنافي ظاهر البيع لنفي الثمن. و إن أريد منه الإعارة مجازا بناء على قرينيّة نفي الثمن لصرف البيع إلى الإعارة فليس فيه ضمان حتّى يصلح مثالا لما مثّل به، لأنّ صحيح العارية لا يضمن فكيف فاسدها؟! و لعلّ تقوية الشهيد (1) عدم الضمان فيه ناظر إلى انصراف المثال إلى العارية، و إلّا فالضمان متوجّه لولاه بقاعدة اليد.

و من جملة ما يحتمل توهّم كونه من مستثنيات مضمنيّة الإقدام و موارد نقضه هو بيع الصبي و إقباضه المبيع حيث لا يضمن الصبي.

و يندفع هذا الوهم أيضا: بمنع عدم ضمان الصبي إذا كان مميّزا، و منع تحقّق إقدامه على الضمان إذا كان غير مميّز، ففيما يتحقّق إقدامه على الضمان لا ينفكّ عن الضمان، فيما ينفكّ عن الضمان لم يتحقّق فيه إقدامه عليه.

و من جملة ما يحتمل توهّم كونه من المستثنيات أيضا: هو صورة علم الدافع بفساد البيع مع جهل القابض حيث يزعم أنّ الدافع في هذه الصورة هو الّذي


1- تقدّم ذكر مصدره في هامش (2) ص: 478.

ص: 490

سلّطه عليه، و المفروض أنّ القابض جاهل، فيكون مغرورا فلا يضمن.

و يدفعه أيضا: أنّ دليل رجوع الغار على من غرّ إن لم يشمل المغرور بواسطة الجهل في الحكم- كما في الفرض- فلم ينفكّ الضمان عن الإقدام فيه، و إن كان يشمله كان عدم الضمان في المقام بواسطة حكومة قاعدة الغرر على قاعدة الإقدام، و من المعلوم أنّ تخريج بعض الموارد عن تحت القاعدة بواسطة حكومة دليل آخر لا يوجب انتقاض أصل القاعدة رأسا، كما أنّ تخريج بعض أفراد العامّ عن تحته لا يوجب سقوطه عن الحجّية في الباقي.

و لكنّ التحقيق اختصاص دليل رجوع المغرور إلى من غر بمن نشأ غروره عن الجهل بالموضوع دون الناشئ غروره عن الجهل بالحكم- كما فيما نحن فيه- إمّا من جهة عدم معذوريّة الجاهل بالحكم. و إمّا من جهة عدم صدق المغرور على الناشئ جهله من الجهل بالحكم الشرعي. و إمّا من جهة أنّ العبارة المذكورة- أعني: رجوع الغار إلى من غرّ- ليست برواية مسندة و لا مرفوعة، و إنّما هي معقد الإجماع، فيقتصر فيها على المتيقّن، و ليس لنا في قاعدة رجوع الغار إلى من غر سوى وقوع هذه العبارة معقد الإجماع، الكاشف عن وجود مدرك له رواية أخرى و لا حديث آخر إلّا قوله عليه السلام: «لا غرر في البيع» (1). و لعلّ هذا هو الوجه في عدم رجوع المغرور بأمنيّة الطريق المتلف للأموال مثلا إلى من غرّه.

و توضيح هذا بأزيد من ذلك يظهر من التعرّض لتفصيل الكلام أوّلا: في معنى الغرر، و ثانيا: في مدركه، و ثالثا: في تأسيس الأصل المعوّل عليه في موارد الشكّ و أفراده الخفيّة.

فنقول: أمّا معنى الغرر لغة فهو الخدعة، و في عرف المتشرّعة هو التسبيب


1- الوسائل 12: 330 ب «40» من أبواب آداب التجارة ح 3.

ص: 491

لغرامة شخص مال الغير أو لخسارته مال نفسه بإباحة مال عليه ليأكله أو بذل جارية ليطأها أو مركوب ليركبه، بزعم أنّه من مال المبيح ثمّ يستبان بعد الأكل و الوطء و الركوب أنّه من مال نفسه أو من مال ثالث فيغرمه، ثمّ يرجع في الخسارة و الغرامة إلى من غرّه.

ثمّ المعتبر في رجوع المغرور إلى الغار بل في صدق الغرور عرفا جهله بالغرر، و أن يكون جهله به مستندا إلى الجهل في الموضوع، كالجهل بكون المباح له مالا للمبيح. و أمّا إذا استند إلى الجهل في الحكم الشرعي- كالجهل بكون المقبوض بالبيع الفاسد ممّا يضمن القابض شرعا- أو الجهل بكون العقد بالفارسي مثلا فاسدا موجبا للضمان القابض به فلا يرجع المغرور إلى الغار، إمّا لعدم صدق الغرر حينئذ عرفا، أو للشكّ في صدقه عرفا فيرجع إلى أصالة عدم ضمان الغار شرعا، أو لعدم معذوريّة الجاهل في الأحكام شرعا، أو لعدم إطلاق دليل رجوع المغرور إلى الغار في هذا الفرض لكونه دليلا لبيّا يجب الاقتصار فيه على المتيقّن.

ثمّ و هل يعتبر في ضمان الغار قصده إدخال الخسارة و الغرامة على المغرور، أم لا يعتبر قصده ذلك بل يكفي في ضمانه مجرّد استناد الخسارة و الغرامة إليه و لو لم يقصده كما لو أباح له وطء جارية بظنّ أنّها له فبانت للغير؟

وجهان أظهرهما الثاني، لإطلاق الغرر على ما من شأنه الضرر و الغرامة و إن لم يقصده الغار.

نعم، يعتبر في رجوع المغرور إليه أن تكون الخسارة و الغرامة الداخلة عليه مستندة في العرف أو العادة إلى نفس الغرر، لا إلى سبب أقوى كالمباشرة و نحوه، و تشخيص الاستناد إليه عرفا و عدمه أمر يختلف باختلاف الموارد و الخصوصيّات، ففي بعضها الاستناد إلى نفس الغرر معلوم، كما في مثل إباحة

ص: 492

الجارية حيث يكون استناد الوطء عرفا و عادة إلى التغرية بإباحتها معلوم من العرف و العادة، بخلاف مثل الإخبار عن أمنيّة الطريق المخوف بوجود القطّاع فيه حيث إنّ استناد تلف مال المغرور بسلوك ذلك الطريق إلى نفس الغار عرفا و عادة، مع أنّ مباشرة السالك أقوى مشكوك، بل معلوم العدم، ففيما علم من العرف و العادة استناد الخسارة أو الغرامة إلى نفس الغرر لا إشكال في الرجوع إلى الغار، و فيما علم عدمه لا إشكال في عدمه، و فيما شكّ الاستناد إليه عرفا و عادة يرجع إلى أصالة أصالة العدم، أعني: عدم ضمان الغار خسارة المغرور و الغرامة الداخلة عليه.

و ممّا ذكرنا يعلم أنّ عدم ضمان الغار أو تأمّل العلماء في ضمانه في بعض الموارد راجع إلى عدم صدق الغرر، أو الشكّ في صدقه، أو لقصور دليله عن الإطلاق، أو لمعارضته بسبب أقوى، لا أنّه راجع إلى انتقاض أصل القاعدة، كما يتوهّمه القاصر عن فهم كلمات العلماء و الجمع بينهما، بل الظاهر أنّه لا مورد لانتقاض قاعدة «رجوع المغرور إلى من غرّ»، و لا لقاعدة التسبيب إلّا مورد الطبابة المخصّصة بدليل خاصّ، و هو قوله عليه السلام: «الطبيب ضامن و لو كان حاذقا» (1)، بل في ظنّي أنّي رأيت في بعض كتب الحديث للعلّامة المجلسي بعض ما يعارضه من الأخبار الدالّة على عدم ضمان الطبيب و إن ادّعى شيخنا العلّامة الشهرة على ضمانه بطبابة و لو لم يستند خطاءه إلى تقصير أصلا، و اللّٰه أعلم.

و من جملة ما لعلّه يتوهّم كونه من موارد نقض مضمنية الإقدام أيضا مسألة ضمان الأجير على خياطة ثوب- مثلا- إذا أفسد الثوب و لو كان حاذقا من غير تفريط، و الحال أنّه غير مقدم على الضمان، و لا متصرّف بيد العدوان، بل متصرّف بالإذن، و مع ذلك يحكم عليه بالضمان.


1- انظر الوسائل 19: 194 ب «24» من أبواب موجبات الضمان ح 1.

ص: 493

و يندفع أيضا هذا النقض نقضا: بمسألة ضمان الطبيب مع إذنه في الطبابة من قبل الشارع و ولي المريض، فبما يجيب يجاب.

و حلّا: بأنّه إن فسّرنا الإحسان من قوله تعالى مٰا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ (1) بما يضمن نفع الغير من الأفعال كالأمانة و الوديعة- كما عليه جماعة من الأصحاب- كان ضمان الأخير مع عدم إقدامه على الضمان من جهة أنّ مطلق الإذن له لمّا كان أعمّ من الإذن على وجه الاستيمان و الإذن على وجه الضمان و العامّ لا يدلّ على الخاصّ لم يوجب إخراج يد الأجير عن عموم قاعدة «على اليد» و إدخاله في يد المحسنين «الّذين ليس عليهم سبيل»، كما لم يوجب إخراج الطبيب عن قاعدة التسبيب و إدخاله في المحسنين أيضا.

و إن فسّرنا الإحسان بما لا حرج فيه و إن لم يشتمل على المنافع العائدة إلى الغير- كما استظهره شيخنا العلّامة دام ظلّه من عدم تعديته ب «إلى» في الآية (2)- كان مقتضى القاعدة عدم ضمانها، لاندراجهما عند عدم التفريط و التقصير المفروض في عموم «المحسنين الّذين ليس عليهم سبيل»، كما عليه جماعة من الفقهاء (3)، إلّا أنّ القائلين بضمانهما مع ذلك إنّما يستندون إلى الدليل الخاصّ المخرج- كعموم «الطبيب ضامن» و «الأجير ضامن»- لصورتي التفريط و عدمه.

و لعلّ الحكمة في ضمانهما ملاحظة الشارع وجود المصلحة العامّة القاضية لشدّة المحافظة على أموال الناس و نفوسهم، و ترك المسامحة و المساهلة المؤدّية إلى تلف النفوس و أموال الناس، فإنّ ملاحظة هذه المصلحة العامّة و شدّة الرأفة و الرحمة الكامنة تقتضي أن يكون إضمان الطبيب و الأجير حتّى عند عدم التفريط


1- التوبة: 91.
2- التوبة: 91.
3- المبسوط 3: 242، الكافي في الفقه: 347، المراسم: 196.

ص: 494

و التقصير أبقى للنفوس و الأموال، كما في مصلحة تشريع القصاص، لكونه أبقى للحياة.

و بالجملة: فتلخّص ممّا ذكرنا أنّ الإذن المسقط للضمان ليس مطلق الإذن، بل المسقط هو خصوص الإذن المقصود منه الأمان بتنصيص المالك، كما في الأمانات و الودائع، أو بحكم الشارع، كما في مقبوضات الأجير و الصانع إذا أفسدت لا بسببهما، لاندراجهما في المحسنين و الأمناء شرعا.

و أمّا إذا أفسدت بسببهما كالقصار يخرق أو يحرق و الحجّام يحني في حجامته و الختان يختن فسبق موسه الحشفة و تجاوز حدّ الختان. فلو لا النصوص (1) الخاصّة الدالّة على ضمان الصانع و لو كان حاذقا و احتاط و اجتهد لأمكن اندراجهما في المحسنين و الأمناء أيضا، إلّا أنّه لا مناص عنها، بل قد حكي الإجماع عن المرتضى رحمة اللّٰه (2) على الضمان الأجير و الصانع المألوف، لا بسببهما و إن كان الإجماع على الضمان، لا بسبب ممنوع، لأصالة البراءة، و لكون يد الأجير و الصانع يد الأمانة إذا كان التلف لا بسببهما.

بقي الكلام في بيان أنّ الإذن المتعقّب للتصرّف فيما يحرم التصرّف فيه بلا إذن هل يؤثّر أثر الإذن المقارن للتصرّف في الأحكام الشرعيّة و هو الإباحة و سقوط العقاب، و في الأحكام الوضعيّة و هو صحّة التصرّفات الماضية من البيع و نحوه و سقوط ضمان المتصرّف فيه عنه؟ قولان: حكي الأوّل عن الجواهر (3).

و التحقيق في هذا الفرع أن يفصّل بين ما إذا كان دليل المشروط بالإذن و الرضا من التصرّفات لبّيا فلا يؤثّر الإذن المتعقّب أثر الإذن المقارن، سواء كان دليل الاشتراط لبّيا أيضا أم لفظيّا، للزوم الاقتصار على القدر المتيقّن من


1- تقدّم ذكر مصدره في ص: 492.
2- الانتصار: 225.
3- جواهر الكلام 22: 285.

ص: 495

المشروط اللبّي. و بين ما إذا كان دليل المشروط لفظيّا فيتمسّك بعمومه و إطلاقه على عدم اشتراط اقتران الإذن و الرضا بالتصرّف و لو كان دليل شرطيّة الإذن و الرضا لفظيّا؛ لأنّ إطلاق شرطيّة الإذن إذا لم ينفع مقتضى إطلاق دليل المشروط و هو عدم تقييد شرطيّة الشرط بالاقتران لا يضرّه شيئا.

هذا ما يقتضيه القاعدة، و لكن الإجماع قائم ظاهرا على حرمة التصرّف في مال الغير فعلا للعالم بتعقّب رضائه أو إرضائه، و على ضمان المتصرّف فيه و عدم صحّة التصرّفات الماضيّة فيه من البيع و نحوه.

ثمّ استظهار هذا الإجماع ليس من جهة توهّم استحالة تأخير الشرط عن المشروط و تأثير المتأخّر في المتقدّم حتّى يندفع بأنّ الشرط المتأخّر لا يؤثّر بنفسه في المشروط المتقدّم، بل المؤثّر في المشروط المتقدّم اعتبار لحوقه له، ككونه ممّا يتعقّبه الشرط، فالمؤثّر في المشروط المتقدّم هو كونه ممّا يتعقّبه الشرط لا نفس الشرط المتأخّر عنه حتّى يستحيله العقل، و لا ريب أنّ اتّصاف المشروط بما سيتحقّق أمر مقارن للمشروط، كاتّصافه بما قارنه من الشروط، بل استظهار الإجماع المذكور إنّما هو من مراجعة العقل المستقلّ بقبح الظلم، و كون التصرّف في مال الغير من دون رضائه ظلم و إن علم بأنّه سيحصل منه الرضا بالإرضاء أو غيره، و من مراجعة الأفهام المأنوسة بالفقه و الشرع، فإنّ من راجع وجدانه المأنوس بالفقه و الشرع قطع بحرمة وطء الزوجة المعقودة من دون الرضا و إن علم برضاها أو إرضائها فيما بعد، و كذا يقطع بحرمة أكل مال الناس، و بطلان الصلاة في ثوب الناس، أو الطهارة بماء الناس، إلى غير ذلك من الموارد الغير المقترن فيها التصرّف في أموال الناس بطيب النفس و إن علم المتصرّف بحصول الرضا و طيب النفس فيما بعد.

نعم، إن كان خلاف فهو في الاكتفاء بالرضا الشأنيّ المتقدّم فيه الكلام في

ص: 496

بعض تذنيبات المعاطاة بالتفصيل، و أمّا الرضا التعليقي المتأخّر حصوله عن التصرّف حقيقة فالظاهر الإجماع على عدم كفايته في إباحة التصرّفات المتقدّمة و صحّتها و سقوط ضمانها، بل غاية فائدة الرضا المتجدّد هو الإبراء و الصحّة و سقوط الضمان من حين التجدّد لا ممّا قبله.

فتلخّص من ذلك أنّ للإذن و الرضا و طيب النفس أقسام كثيرة و أحكام مختلفة فلا يشتبه عليك بعضها ببعض و انتظر لتمام البسط في أقسام الإذن و أحكامه إلى مسألة العقد الفضولي، فإنّ لتمام البسط فيها مجال أوسع.

و من جملة ما لعلّه يتوهّم أو توهّم كونه من مستثنيات قاعدة «ما يضمن بصحيحه يضمن بفاسده»: عقد النكاح حيث يضمن بصحيحه و لو لم يدخل و لا يضمن بفاسده إذا لم يدخل اتّفاقا، و كذا المكاتبة حيث يضمن بصحيحها و لا يضمن بفاسدها اتّفاقا، و كذا المسابقة يضمن بصحيحها و لا يضمن بفاسدها عند الشيخ (1) و المحقّق (2) و غيرهما، خلافا لآخرين.

و يندفع هذا الوهم أيضا مضافا إلى القول بأجرة السبق في المسابقة من جماعة: بأنّ المراد ممّا «يضمن بصحيحه يضمن بفاسده» خصوص ما كان الضمان بصحيحه واقعا بالمطابقة في إزاء ما يعود نفعه من الغير إلى الضامن، دون ما لم يكن للضمان بصحيحه ما بإزاء أصلا كالإيقاعات، أو كان للضمان بالصحيح فيه ما بإزاء لكن لم يعد نفعه إلى الضمان كالسبق في المسابقة، أو عاد نفعه إلى الضامن لكن لم يكن من الغير كمال المكاتب- بالفتح- للمكاتب- بالكسر- حيث إنّ العوض و المعوض ملك السيّد، أو كان العائد إلى الضامن من منافع غيره لكن لم يكن الضمان واقعا بالمطابقة في إزائه، كما في عقد النكاح فإنّ ضمان الضامن


1- المبسوط 6: 302.
2- شرائع الإسلام 2: 286.

ص: 497

المهر بصحيحه ليس ناظرا إلى إزاء ما يعود إليه من منافع الزوجة، لعدم ازدياد المنافع العائدة منها إليه على المنافع العائدة منه إليها من التمتّع و غيره، بل الضمان للمهر نظره بالمطابقة إلى نوع من الهديّة و التحيّة و الإكرام، كما لا يخفى على اولي الأفهام، و لهذا لا يذكرون المهر في عقد النكاح بعنوان العوضيّة، بخلاف ثمن المبيع في عقد البيع. و أيضا لا يسترجع المهر بعد العقد لو تلفت الزوجة قبل التمكين منها، بخلاف ثمن المبيع فإنّه يسترجع إذا تلف المبيع قبل القبض:

فالفرق بين ثمن المبيع و المهر من حيث الناظريّة إلى العوضيّة و عدمه مع مشاركتهما في حصول العوضيّة لا محالة كالفرق بين دلالة الأخبار على النسبة الخارجيّة و عدم دلالة الإنشاء عليها مع مشاركتهما في ثبوت الخارج المطابق و اللامطابق لا محالة، و كالفرق بين التخصيص و الحكومة مع مشاركتهما في المفسريّة.

فتلخّص ممّا ذكرنا: أنّ جميع ما احتمل كونه من مستثنيات قاعدة الضمان و الإقدام و موارد نقضه إنّما يكون استثناء على تقدير التسليم من باب التخصّص لا التخصيص.

بقي الكلام في تحقيق الحال عن مستثنيات عكس قاعدة الضمان، أعني:

«ما لا يضمن بصحيحه لا يضمن بفاسده».

فمن جملة ما يزعم كونه من مستثنياته هو العين المستأجرة، حيث إنّ صحيح الإجارة لا يوجب ضمان العين المستأجرة و فاسدها يوجبه على ما عن الرياض (1) و مجمع البرهان (2).

و يندفع أيضا: بأنّ عدم ضمان العين المستأجرة بالعقد الصحيح إن كان من


1- رياض المسائل 6: 18.
2- مجمع الفائدة و البرهان 10: 68.

ص: 498

مقتضيات القاعدة- أعني: من مقتضيات التسليط على المنافع، بناء على أنّ التسليط على منافع العين تسليط على نفس العين، فالإذن فيها إذن في العين- كان ضمان العين المستأجرة بالعقد الفاسد ممنوعا، لكون المفروض أنّ الإذن في المنافع إذن في عينها، و اليد المأذونة يد محسن لا يد عدوان، بناء على أنّ الإحسان عبارة عمّا لا حرج فيه لا أنّه صفة زائدة عليه حتّى يختصّ بالأمانات و الودائع، و كانت قاعدة الضمان حينئذ غير مخصّصة و لا متخصّصة بالعين المستأجرة.

و إن كان عدم ضمان العين المستأجرة بالعقد الصحيح من مقتضيات الدليل الخارج عن القاعدة- أعني: الإجماع بناء على أنّ التسليط على منافع العين لا يقتضي التسليط على نفس العين، و الإذن فيها لا يقتضي الإذن فيه، بحيث لو لا قيام الإجماع على عدم ضمان العين المستأجرة بالعقد الصحيح لقلنا بالضمان فيه- كان ضمان العين المستأجرة بالعقد الفاسد مسلّما، إلّا أنّه خارج عن قاعدة «ما لا يضمن بالتخصّص لا التخصيص»، لأنّ المراد من المضمون مورد العقد و مورد العقد في الإجارة المنفعة، فالعين يرجع في حكمها إلى القواعد حسب ما أشار إليه المتن هذا هو الجواب.

و أمّا كون التسليط على المنفعة تسليط على عينها و عدمه فالتحقيق فيه التفصيل، و أنّه يختلف باختلاف العادة في الموارد، ففيما كانت العين المستأجرة من الأعيان الّتي يكون التسليط و الإذن فيها من لوازم التسليط و الإذن في استيفاء منافعها عادة- كالثياب و الألبسة- لم تضمن العين في فاسد الإجارة كما لم تضمن في صحيحها، و فيما كانت العين المستأجرة من الأعيان الّتي لم يكن التسليط و الإذن فيها من لوازم التسليط و الإذن في استيفاء منافعها- كما هو الغالب في استئجار السفن و دوابّ السفر- ضمن العين في صحيح الإجارة إذا أخذها بوجه

ص: 499

الإجارة لا بإذن آخر، فضلا عن الضمان في فاسدها، لكن لا لكون مجرّد الإذن لا يسقط الضمان، إلّا إذا كان على وجه الإيداع و الأمان، بل لأنّا و إن قلنا بكون مجرّد الإذن مسقط للضمان و مطلق ما لا حرج فيه داخل في الإحسان إلّا أنّ المفروض عدم حصول مجرّد الإذن أيضا في العين، نظرا إلى أنّ المفروض عدم كون الإذن في العين من لوازم الإذن في استيفاء المنفعة، و عدم حصول إذن آخر وراء دفع المؤجر العين، بناء منه على استحقاق المستأجر لها لحقّ الانتفاع فيه و المفروض عدم الاستحقاق، فيده عليه يد عدوان موجبة للضمان.

لا يقال: إنّ زعم المؤجر استحقاق المستأجر لها داعي للإذن و الرضا بأخذ العين، لا قيد للإذن و الرضا حتّى ينتفي المقيّد بانتفائه.

لأنّا نقول: زعم المؤجر استحقاق المستأجر لها لا يقتضي أزيد من الإذن المقيّد بالاستحقاق المنتفي بانتفائه، فالإذن المطلق الّذي لا ينتفي بانتفاء المقيّد يحتاج إلى مقتضى آخر و المفروض عدمه. و من التأمّل فيما ذكرنا تعرف دفع سائر المستثنيات المرقومة في المتن لقاعدة «ما لا يضمن بصحيحه لا يضمن بفاسده» أيضا، و اللّٰه العالم بحقائق أحكامه.

قوله: «يوجب ذلك تفكيكا في العبارة. فافهم».

[أقول:] إشارة إلى أنّ عدم التفكيك يستلزم استعمال الضمان في مقابل المجان، الأعمّ من تداركه بعوضه الواقعي و الجعلي كاستعمال الأمر من قوله:

«اغتسل للجمعة و الجنابة» في مطلق الطلب و لو مجازا، لئلّا يلزم التفكيك أو استعمال اللفظ الواحد في أكثر من معنى.

قوله: «و تداركه (1) بردّ الثمن. فتأمّل».

[أقول:] إشارة إلى ما تقدّم آنفا من أنّ تلف المبيع من بائعه و ردّ ثمنه إلى


1- في المكاسب: «و يتداركه».

ص: 500

صاحبه لا يطلق عليه الضمان و إن أطلق عليه الخسران و النقصان.

[الثاني من الأمور المتفرّعة على عدم تملّك المقبوض بالبيع الفاسد وجوب ردّه فورا إلى المالك]

قوله: «الثاني من الأمور المتفرّعة على عدم تملّك المقبوض [بالبيع الفاسد] وجوب ردّه».

أقول: بعد ما فرغ الماتن من تفريع الضمان على عدم تملّك المقبوض بالبيع الفاسد بقاعدة اليد و قاعدة الإقدام أخذ في بيان تفريع الأمر الثاني، و هو وجوب ردّه فورا، و الكلام تارة في فرعيّة وجوب الردّ فورا لعدم التملّك بالبيع الفاسد و عدم فرعيته له، و تارة أخرى في بيان أنّ مئونة الردّ على المشتري أو البائع.

أمّا الكلام في الأوّل فتفصيله: أنّهم اختلفوا في فوريّة وجوب ردّ المقبوض بالبيع الفاسد و عدمه على قولين.

و تحقيق الكلام فيه: أمّا من حيث الأصل العملي فمع عدم وجوب الردّ أخذا بأصالة البراءة لا يقال: بمعارضته بأصالة عدم وجوب المئونة على البائع و بأصالة براءة ذمّة البائع عن وجوب الاسترداد.

لأنّا نقول: مضافا إلى معارضتهما بأصالة عدم وجوبهما على المشتري لا يصلحان لمعارضة أصالة براءة ذمّة المشتري عن الردّ، و ذلك لأنّ أصالة عدم وجوب الاسترداد على البائع لا أثر له حتّى يصلح لمعارضة، ما له أثر من الأصول. و أمّا أصالة عدم وجوب المئونة عليه فلأنّه و إن كان له أثر إلّا أنّه من قبيل المحكوم و المزال بالنسبة إلى أصالة براءة ذمّة المشتري عن الردّ، فلا يصلح للمعارضة أيضا.

و أمّا من حيث الأصل اللفظي فمع وجوب الردّ على المشتري فورا للوجوه المرقومة في المتن الّتي منها عموم حذف المتعلّق المعبّر عنه بعموم المقتضي و المقتضى، لكونه من شئون دلالة الاقتضاء المستفاد من قوله: «لا يحلّ مال امرء

ص: 501

مسلم إلّا عن طيب نفسه» (1)، حيث يدلّ على تحريم جميع الأفعال المتعلّقة به الّتي منها كونه في يده.

إلّا أن يناقش أوّلا: بأنّ كونه في يده أمر عدمي ليس فعل من الأفعال.

و ثانيا: سلّمنا، لكنّه من الأفراد النادرة للأفعال المتعلّقة بمال الغير أو الأندرة منها، كالنظر إلى ماله أو تخيّل ماله فلا يشمله عموم حذف المتعلّق، كما لا يشمل النظر إلى مال الغير أو تخيّله، فإنّ عموم حذف المتعلّق كعموم التشبيه، و عموم المنزلة عموم حكمتي لا يتعدّى عن الأفراد الشائعة و الغالبة، و لكن للتأمّل في كون الكون في اليد من الأعدام لا الأفعال، بل و في كونه من الأفعال النادرة على تقدير فعليّته مجال واسع.

هذا، مضافا إلى أنّ في مجرّد الشهرة المحكيّة عن مجمع الفائدة (2) و فهم الأصحاب الكفاية في وجوب الردّ، و لا يعارضها نسبة الخلاف إلى الأصحاب في السرائر (3)، حيث قال: المقبوض بالبيع الفاسد بمنزلة المغصوب عند الأصحاب إلّا في الإمساك، لعدم ثبوت النسبة، و لاحتمال إرادة صورة الجهل بالفساد على تقدير ثبوتها أو صورة تعميم الإذن في القبض، كما يومئ إليه تعليله بذلك، و ديدنهم في التعاطي و التبادل على ذلك، بخلاف النسبة الاولى إلى الأصحاب فإنّه لا يحتمل فيها ما يحتمل في الثانية، فهي كالنصّ و الحاكم على النسبة الثانية في التقديم عليها على تقدير ثبوتها، بل لا يبعد التمسّك على وجوب الردّ أيضا ببناء العقلاء على إلزام الأخذ بردّ المأخوذ و إلزام القابض بردّ المقبوض، إلّا أنّ للتأمّل في ثبوته بل و في كشفه عن حكم العقل المستقلّ مجال واسع، بل منع واضح، لأنّ ديدن الناس و سيرتهم جارية في التعاطي و التقابض على تعميم الإذن


1- الوسائل 3: 424 ب «3» من أبواب مكان المصلّي ح 1.
2- مجمع الفائدة و البرهان 8: 193.
3- السرائر 2: 326.

ص: 502

في القبض، لا تخصيصه بصورة إمضاء الشارع له.

و أضعف من ذلك الاستدلال عليه بقوله عليه السلام: «على اليد ما أخذت حتّى تؤدّي» (1)، بناء على أنّ تقديره على اليد وجوب ردّ ما أخذت. و وجه أضعفيّته ما تقدّم من فساد مبناه و أنّ كلمة «على» إنّما تكون ظاهرة في الحكم التكليفي إذا أضيفت إلى فعل من أفعال المكلّفين، و أمّا إذا أضيفت إلى الأعيان- كما فيما نحن فيه- فهي ظاهرة في الحكم الوضعي و هو الضمان.

و أضعف من ذلك أيضا الاستدلال عليه ب «حتّى تؤدّي». ثمّ هذا كلّه في تشخيص وجوب الردّ على المشتري.

و أمّا تشخيص كون مئونة الردّ على المشتري أو البائع فممّا لا كلام و لا إشكال في تفريعه على فوريّة الردّ و عدمه، فإن قلنا بعدم فوريّة الردّ كانت المئونة على البائع، و إن قلنا بفوريّته- كما عرفت أنّه الأظهر الأشهر- كانت المئونة على المشتري، لدلالة وجوب كلّ شي ء على وجوب ما لا يتمّ إلّا به من المقدّمات و عدم وجوبه على عدم وجوبها.

لا يقال: إنّ وجوب مقدّمة الواجب خلافي، بل المشهور المنصور على عدم وجوبها.

لأنّا نقول: الخلاف إنّما هو في وجوبها الشرعي الاستقلالي، المترتّب عليه تعدّد الثواب و العقاب، و غير ذلك. و أمّا وجوبها العقلي التبعي المترتّب عليه اللابدّيّة و المطلوبيّة التبعيّة فممّا لا خلاف فيه و لا إشكال، بل هو من مستقلّات العقل.

نعم، قد يشكل في إطلاق وجوب مئونة الردّ على المشتري من جهة شمول «ما لو كان في ردّه مئونة كثيرة إلّا أن يقيّد بغيرها بأدلّة نفي الضرر»، كما


1- تقدّم ذكر في هامش (2) ص: 472.

ص: 503

قاله الماتن قدس سرّه (1)، إلّا أنّ في إطلاق التقييد بغيرها أيضا إشكال، من جهة شمول ما لو أوجب إدخال المئونة على المشتري الضرر الكثير به، فإنّ أدلّة نفي الضرر كما يقتضي نفي وجوب المئونة على المشتري إذا أوجب به الضرر كذلك يقتضي نفي وجوبها على البائع إذا أوجب به الضرر الكثير.

فالتحقيق في رفع الإشكال هو أن يقال: بوجوب مئونة الردّ على المشتري، إلّا إذا أوجب ردّه كثرة المئونة فتجب على البائع، إلّا إذا عورض بلزوم الضرر على البائع أيضا فيجب تحمّل أقلّ الضررين مع اختلافهما بالكثرة و القلّة، و مع التساوي القرعة أو الرجوع إلى المشتري، نظرا إلى أنّ أدلّة نفي الضرر عنه معارضة بأدلّة نفيه عن المشتري، فيتساقطان و يرجع إلى الأصل، و هو وجوب المئونة على المشتري من باب المقدّمة لوجوب الردّ عليه.

[الثالث أنه لو كان للعين المبتاعة منفعة استوفاها المشتري قبل الرد كان عليه عوضها]

قوله: «فنفي الضمان محتجّا بأنّ الخراج بالضمان» (2).

أقول: إنّ ما احتجّ به قاصر عن الحجّية سندا و دلالة، أمّا سندا فلكونه عاميّا مرسلا غير منجبر، و أمّا دلالة فلأنّ الباء و إن كانت للسببيّة و المقابلة إلّا أنّ الضمان فيه محتمل للضمان الجعلي و هو العوض الجعلي الّذي تراضوا به و أمضاه الشارع، كما في المضمون بالعقد الصحيح، و محتمل للضمان الواقعي و هو العوض الواقعي، أعني: المثل أو القيمة و إن لم يتراضيا عليه، و على كلّ من معنيي الضمان الجعلي و الواقعي يحتمل الضمان لضمان العين و لضمان المنافع فيحصل، لقوله عليه السلام: «الخراج بالضمان» (3) على تقدير صحّة سنده أربعة من المعاني:

أحدها: كون المنافع المستوفاة من العين بإزاء الضمان الجعلي المتعلّق بالعين، و يختصّ مجّانية المنافع بالعقد الصحيح المتعلّق بعينها ببيع و نحوه.


1- المكاسب: 104.
2- عوالي اللئالي 1: 219 ح 89.
3- عوالي اللئالي 1: 219 ح 89.

ص: 504

ثانيها: كون المنافع المستوفاة من العين بإزاء الضمان الجعلي المتعلّق بالمنافع بإجارة و نحوها، و إطلاق الضمان بهذا المعنى كثير التداول في لسان العرف فيقولون: فلان ضمن بستانا، و ضمن أرضا أو نهرا، و قلّ ما يقولون:

استأجر أرضا أو نهرا، و لا خلاف في صحّة الخراج بالضمان بكلّ من هذين المعنيين، إلّا أنّه لا ربط له بشي ء من المعنيين فيما نحن فيه.

و ثالثها: كون المنافع المستوفاة بإزاء الضمان الواقعي المتعلّق بالمنافع، و هو بهذا المعنى دليل ضمان عوض المنافع المستوفاة من العين المقبوض بالعقد الفاسد على المشتري لا دليل عدم ضمانها، كما توسّل به الوسيلة (1).

رابعها: كون المنافع المستوفاة من العين بإزاء ضمان العين بالضمان الواقعي، و هو بهذا المعنى و إن دلّ على عدم ضمان المنافع المستوفاة من العين المغصوبة فضلا عن المقبوضة بالبيع الفاسد إلّا أنّ حمله على هذا المعنى- مضافا إلى عدم ذهاب أحد من المسلمين إليه سوى أبي حنيفة (2)، و إلى ورد صحيحة أبي ولاد (3) و غيرها (4) على ردّه و طعنه- ليس بأولى من حمله على سائر المعاني الأخر، سيّما على المعنى الثالث، بل لو سلّمنا أولويّته كفى في انصرافه عنه و تعيين غيره من سائر المعاني الشهرة، بل الإجماع المحكي على ضمان المنافع المستوفاة.

قوله: «و إنّما تملّك الانتفاع الّذي عيّنه المالك. فتأمّل».

[أقول:] إشارة إلى احتمال كون الخراج أعمّ من المنفعة و الاستنفاع، مضافا إلى ما في أصل الخبر من الضعف الغير المنجبر، و الفرق أنّ تمليك المنفعة يقبل


1- الوسيلة: 255.
2- المحلّى لابن حزم 8: 139، و الوسائل 13: 255 ب «17» من أبواب أحكام الإجارة ح 1.
3- الوسائل 13: 255 ب «17» من أبواب أحكام الإجارة ح 1.
4- الوسائل 13: 255 ب «17» من أبواب أحكام الإجارة ذيل ح 1.

ص: 505

النقل و الانتقال و التضمين و الضمان، كاستخدام الجارية و الاستمتاع منها، بخلاف الاستنفاع فإنّه لا يقبل النقل و الانتقال و التضمين و الضمان.

قوله: «و أمّا المنفعة الفائتة بغير استيفاء فالمشهور .. إلخ».

أقول: الكلام في تشخيص حكم المنفعة الفائتة من الضمان و عدمه يقع تارة في بيان أقوال المسألة و تعدادها و هي خمسة حسب ما تكفّل المتن تفصيلها، و تارة في تأسيس الأصل و هو مع القول بعدم الضمان مطلقا، و تارة ثالثة في بيان مدارك الأقوال و حججها و يتلوها بيان الترجيح و عدمه.

فنقول: أمّا حجّة القول بالضمان مطلقا فوجوه، أقواها عموم (1): «على اليد ما أخذت». و إشكال الماتن (2) في شمول الموصول للمنافع و في صدق الأخذ على حصولها في اليد بواسطة قبض العين لاستظهاره من الأخذ القبض بلا واسطة لا مع الواسطة مدفوع نقضا: بتحقّق قبض الثمن في السلم بقبض الجارية المجعول خدمتها ثمنا، و كذا الدار المجعول سكناها ثمنا، و باتّفاق الأصحاب على ضمان منافع المغصوب، فكذا منافع المقبوض بالبيع الفاسد إلّا أن يدّعي استناد تحقّق قبض الثمن بقبض الجارية المجعول خدمتها ثمنا، و استناد ضمان منافع المغصوب إلى الإجماع، لا إلى صدق الأخذ حتّى يتأتّى في منافع المقبوض بالبيع الفاسد، و لكنّه كما ترى.

و منها: إطلاق «لا يحلّ مال امرء مسلم إلّا عن طيب نفسه» (3) على إشكال الماتن، و دفعه بالنقض المتقدّم.

و منها: الشهرة على ما ادّعاها الماتن قدس سرّه، بل ادّعى شيخنا العلّامة أنّها شهرة


1- تقدّم ذكر مصدره في ص: 471.
2- المكاسب: 104.
3- تقدّم ذكر مصدره هامش (1) ص: 501.

ص: 506

عظيمة، و الإجماعان المنقولان عن العلّامة (1) و السرائر (2)، إلّا أن يدّعي بأنّ القدر المتيقّن من معقدهما ضمان المقبوض باليد الغاصبة، فلا يشمل يد المشتري فيما نحن فيه. و لكنّك خبير بأنّه خلاف ظاهر النقل، و بأنّ ضمان منافع المغصوب مستند إلى إطلاق «على اليد»، لا إلى الإجماع المخالف للقاعدة حتّى يقتصر على القدر المتيقّن من معقده.

و أمّا حجّة القول بعدم ضمانها مطلقا فهو أصل البراءة، و قد عرفت ورود الأدلّة المتقدّمة على خلافه، و كذا قاعدة «ما لا يضمن بصحيحه لا يضمن بفاسده»، و قد عرفت في معنى القاعدة أنّ مورد العقد هو العين لا المنافع و أنّ المنافع تابعة للعين في الضمان و عدمه. مضافا إلى أنّ القاعدة المذكورة ليست بإجماعيّة و لا من العناوين المنصوص بها الأخبار حتّى يتمسّك بإطلاقها، و كذا سكوت الأخبار الواردة في ضمان المنافع المستوفاة من العين المغصوبة عن المنافع الفائتة في مقام البيان. و فيه احتمال منع كون السكوت في مقام البيان، إذ لعلّه لأجل خلوّ موارد تلك الأخبار عن المنافع الفائتة، و اختصاص مواردها بالمنافع المستوفاة و لهذا سكت عن حكم غيرها.

و أمّا وجه التوقّف: فهو زعم تصادم الأدلّة، أو تصادم احتمال دلالتها لاحتمال عدم الدلالة، و قد عرفت منع تصادمها و عدم مقاومة وجوه عدم الضمان لوجوه الضمان.

و أمّا وجه التفصيل بين علم البائع بالفساد فلا يضمن و بين جهله فيضمن فلعلّه لأجل فرض علمه قرينة إطلاق إذنه في القبض، و لكن في قرينيّة مجرّد علمه لإطلاق إذنه منع إلّا بمعونة الخارج عن محلّ الفرض.


1- تذكرة الفقهاء 1: 495.
2- السرائر 2: 326.

ص: 507

فتلخّص من جميع ما ذكر: قوّة القول بالضمان المطلق لقوّة أدلّته، و اللّٰه أعلم.

[الرابع إذا تلف المبيع فإن كان مثليّا وجب مثله]

قوله: «الرابع: «إذا تلف المبيع فإن كان مثليّا وجب مثله .. إلخ».

أقول: تفصيل الكلام في المسألة يقع تارة في بيان مدرك تعيين المثل في المثليّ و القيمة في القيميّ، و تارة في تشخيص الضابط للمثليّ و القيميّ، و تارة ثالثة في تأسيس الأصل المعوّل عليه في الموارد المشكوك كونها مثليّة أو قيميّة.

أمّا الكلام في المرحلة الاولى فتفصيله: أنّه و إن لم يكن في النصوص حكم يتعلّق بعنوان المثليّ إلّا أنّه يكفي في اعتباره في المثليّات الشهرة و عدم نسبة الخلاف في اعتباره إلّا إلى الإسكافي (1). مضافا إلى الاستدلال في المبسوط (2) و المختلف (3) على ضمان المثليّ بالمثل و القيميّ بالقيمة بقوله تعالى:

فَمَنِ اعْتَدىٰ عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدىٰ عَلَيْكُمْ (4).

بتقريب: أنّ مماثل ما اعتدى هو المثل في المثليّ و القيمة في القيميّ، و المناقشة بأنّ مدلولها اعتبار المماثلة في مقدار الاعتداء لا في المعتدي به- أعني: المماثلة في الكمّ لا الكيف- مدفوع: بعموم التشبيه و المنزلة، و عموم حذف المتعلّق المعبّر عنه بعموم المقتضى و المقتضي المفهوم بدلالة الاقتضاء. كما أنّ توهّم اختصاص حكم الآية بالمتلف عدوانا مدفوع بضميمة عدم القول بالفصل، على أنّه يمكن الاستدلال على ضمان المثل في المثلي و القيمة في


1- نقله عنه في مختلف الشيعة: 458.
2- المبسوط 3: 60.
3- كذا في النسخة الخطّيّة، و الظاهر أنّها الخلاف كما هو كذلك في المكاسب صريحا، و لأنّه لم نعثر على استدلاله بالآية في المختلف. المكاسب: 106، و انظر مختلف الشيعة: 458، الخلاف 3: 402.
4- البقرة: 194.

ص: 508

القيمي بالقاعدة المستفادة من بناء العقلاء، على أنّه متى تعذّر الشي ء المطلق قام مقامه الأقرب إليه فالأقرب. و من البيّن أنّ المثل أقرب من حيث الماليّة و الصفات إلى المثليّ بعد تعذّره بالتلف، ثم قيمة التالف من النقدين و شبههما أقرب من حيث الماليّة، لأنّ ما عداهما يلاحظ مساواته للتالف بعد إرجاعه إليهما، و لأجل الاتّكال على بناء العقلاء لا تكاد تظفر على مورد واحد من هذه الموارد على كثرتها قد نصّ الشارع فيه على ذكر المضمون به، بل كلّها إلّا ما شذّ و ندر قد أطلق فيها الضمان، فلو لا الاعتماد على ما هو المتعارف لم يحسن من الشارع إهماله في موارد البيان.

ثمّ إنّ مقتضى الاستدلال على ضمان المثل في المثليّ ببناء العقلاء كون المثليّ و القيميّ من الموضوعات الصرفة فلا يكفي في تشخيصها مطلق الظنّ حتّى عند الانسداديين. كما أنّ مقتضى الاستدلال عليه بالآية (1) هو كون المثليّ من الموضوعات المستنبطة المكتفي في تشخيصها مطلق الظنّ حتّى عند الانفتاحيين، بل و في الاكتفاء بالشهرة و الإجماع المنقول بعد البناء على حجّيتهما في عدّة من الموضوعات المستنبطة وجه قويّ.

و أمّا المرحلة الثانية: و هو تشخيص الضابط للمثليّ، فتفصيل الكلام فيه:

أنّه ليس المراد من المثليّ معناه اللغوي، إذ المراد بالمثل لغة المماثل، فإن أريد من جميع الجهات فغير منعكس، و إلّا فغير مطّرد، و ليس للمثليّ أيضا حقيقة شرعيّة كما هو واضح، و لا حقيقة متشرّعة، لاختلاف المتشرّعين في تعريفه بالمتساوي الأجزاء في الحقيقة النوعيّة، كما عن غاية المراد (2)، و في القيمة كما عن المشهور، و بزيادة عطف المنافع على الأجزاء كما عن الروضة (3)، أو بزيادة


1- البقرة: 194.
2- غاية المراد: 135.
3- الروضة البهية 7: 36.

ص: 509

عطف الصفات على المنافع كما عن السرائر (1)، أو تعريفه بما قدر بالكيل أو الوزن كما عن العامّة (2)، أو بزيادة جواز بيع بعضه ببعض كما عن آخر منهم، أو بزيادة جواز بيعه سلما، كما عن ثالث منهم، و المراد باجزائه ما يصدق عليه اسم الحقيقة، و بالمتساوي من حيث القيمة تساويها بالنسبة، بمعنى كون قيمة كلّ بعض بالنسبة إلى قيمة البعض الآخر كنسبة نفس البعضين من حيث المقدار إن نصفا فبالنصف، و إن ثلثا فبالثلث، و إن ربعا فبالربع، و هكذا يعني بالمتساوي الأجزاء في القيمة ما يتوزّع قيمة كلّه على قيمة كلّ واحد من أجزائه بنسبة ذلك الجزء إلى كلّه، بأن يكون قيمة الكلّ ليس بإزاء الهيئة المجموعة من الكلّ كالثوب، بل بإزاء كلّ واحد من أجزائه بالنسبة كالماء و الحنطة و الشعير دون الثوب و الأرض و البعير. هذا كلّه في بيان المراد من التعريف.

و أمّا صحّة ما أراد فمضافا إلى عدم اطّراد شي ء من التعاريف المذكورة و عدم انعكاسها حسب ما أشار إليه المتن لما يشتمل شي ء منها على تعريف المثليّ بذاتيّاته كالجنس و الفصل ليعدّ من الحدود في اصطلاح أهل الميزان، و لا بإعراضه الخاصّة الملازمة له كتعريف الإنسان بالضاحك ليعدّ من الرسوم، و لا بتبديل لفظ بلفظ أشهر ليعدّ من التعريف باللفظي عندهم، و إنّما هي من قبيل تعريف الشي ء ببعض لوازمه الخفيّة البعيدة، مع عدم الخلوّ عن العموم من وجه و الخصوص من وجه آخر، و المعذّر عنها أنّها تعريفات تقريبيّة لا تحقيقيّة كتعريف الشي ء بدفع بعض أضداده كتعريفك الإنسان بغير الصاهل أو بغير الناهق.

و كيف كان فالأقرب من جميع تلك التعاريف من حيث الجمع و المنع و الوضوح، بل و هو المظنون إرادته من كلّ التعاريف- وفاقا لما استظهره شيخنا


1- السرائر 2: 485.
2- روضة الطالبين 4: 108.

ص: 510

العلّامة منها- هو تعريف المثليّ بالمبذول أمثاله و أشباهه و إنظاره المتقاربة إليه في المنافع و الصفات المتفاوت بها الرغبات. و أمّا الصفات الغير المتفاوت بها الرغبات فالتفاوت بها غير قادح في مثليّة المثليّ و القيميّ بغير المبذول أمثاله و أشباهه المتقاربة إليه في المنافع و الصفات المذكورة كالثوب و الجارية و نحوهما، و ابتذال الأمثال و الأشباه المتقاربة للشي ء في الصفات المذكورة تارة يكون بجري عادته عليه تعالى كما في أكثر مصنوعاته و مخلوقاته تعالى من الماء و الحنطة و الشعير و التمر و الزبيب و أمثالها، و تارة يكون بصنعة المخلوق الماهر في صناعته كما في كثير من مصنوعات أهل الصنائع الحادثة في أعصارنا كالكتب المبصومة ببصمة واحدة، إذ قلّ ما يتّفق بينها من التفاوت المختلف به الرغبات، و كذا الطوس و أمثاله المصوغة بقالب واحد و استاد واحد و كرخانة (1) واحدة، و لا فرق في الحكم بمثليّة المثليّ بين استناد ابتذال الأمثال إلى صنعة الخالق أو المخلوق، لإطلاق المثليّ و إن كان المتيقّن هو الأوّل.

قوله: «إلّا أنّ انطباق التعريف على الجنس بهذا الاعتبار بعيد جدّا».

[أقول:] وجه بعده: تسامحهم في الإطلاق بالمجاز و الحذف و الإضمار بما لا يتسامح به في التعريف و الانطباق المبنيّ على الاطّراد و الانعكاس و الجامع و المانع فقد يطلق المثليّ على الجنس باعتبار أنواعه و أصنافه ك «زيد عالم» أي أبوه، و «عصى آدم» أي بنية، بخلاف التعريف.

ثمّ و يساعد ما استظهرناه من كون المثليّ هو المبذول أمثاله و أشباهه المتقاربة في الصفات المذكورة فهم العرف من المثليّ ذلك، و بناء العرف و العقلاء في الضمان عليه و قضاء الحكمة الثابتة بالاستقراء و التتبّع في بناء الشارع على التسهيل و السهولة لا التضييق و المشقّة و الصعوبة له.


1- كذا في النسخة الخطيّة.

ص: 511

و من البيّن المقرّر في محلّه كفاية مطلق الظنّ في إثبات الموضوعات المستنبطة الّتي منها المثليّ فيما نحن فيه. فتدبّر.

و على ذلك و إن قل موارد الشكّ للمثليّ و القيميّ إلّا أنّه مع ذلك لا يخلو عن موارد الشكّ رأسا، بل له أيضا موارد شكّ اختلفت فيها آراء الأصحاب، كالرطب و العنب و سائر الفواكه و الذهب و الفضّة و الحديد و الرصاص و النحاس، بل و الثياب.

فإنّ مقتضى ما استظهرناه و استقر بناه في ضابط المثليّ و القيميّ و إن كان هو مثليّة كلّ ما ابتذل أمثاله و أشباهه في الصفات الغير المتفاوت بها الرغبات من الأمثلة المذكورة المختلف فيها آراء الأصحاب، إلّا أنّه مع ذلك ربما يشكّ في مثليّة بعض أفراد صنف من أصناف الفواكه أو الذهب أو الفضّة أو النحاس أو الحديد أو الرصاص أو الثياب بالنسبة إلى سائر أفراده الأخر المندرجة كلّها في صنف واحد، بواسطة اختلاف أوصاف تلك الأفراد بالوصف المتفاوت به الرغبات و إن اندرجت في صنف واحد، بل ربما يشكّ في مثليّة بعض أفراد صنف واحد من أصناف الحنطة أو الشعير أو الماء، لاختلافها ببعض ما يتفاوت به الرغبات في الصفات و لو باختلاف الزمان و المكان، مع اتّفاقهم على أنّ كلّ صنف من أصناف نوع واحد من أنواع الشعير و الحنطة و الماء، بل كلّ نوع من أنواع جنس واحد من الأجناس الثلاثة مثليّ بالنسبة إلى سائر أفراد ذلك الصنف أو النوع، و كذا قد يشكّ في قيميّة بعض أفراد الجواري و الثياب و الدوابّ بالنسبة إلى سائر أفرادها الأخر المندرجة كلّها في نوع واحد أو صنف واحد، بواسطة عدم تفاوتها أو عدم تفاوت الرغبة بتفاوتها من شدّة المماثلة و الاتّحاد، مع اتّفاقهم على قيميّة الجواري و الدوابّ، بل و الثياب.

إذا عرفت ذلك فلا بدّ من بيان المرجع لموارد الشكّ في المثليّة و القيميّة،

ص: 512

و هو المرحلة الثالثة الموعود عليها.

فنقول في تفصيلها: إنّه إن تمّ الاستدلال بالآية (1) المذكورة على ضمان المثل في المثليّ كان المرجع في موارد الشكّ في المثليّة إلى عموم الآية، بناء على ما هو الحقّ المحقّق في محلّه من أنّ العامّ المخصّص بالمجمل المفهوميّ المردّد بين الأقلّ و الأكثر لا يخرج عن الحجيّة بالنسبة إلى موارد الشكّ.

و إن لم يتمّ الاستدلال بالآية عليه بأن انحصر الاستدلال عليه في الشهرة و الإجماع المنقول أو بناء العقلاء، أو تمّ الاستدلال بها لكن لم نقل بعموم العامّ المخصّص بالمجمل، ففي كون المرجع في موارد الشكّ إلى براءة ذمّة الضامن عن تعيين المثلي عليه، أو إلى أصالة اشتغال ذمّته بما يرضى به المالك، أو إلى تخيير الضامن أو الحاكم بالتخيير الاجتهادي نظرا إلى إطلاق أدلّة الضمان، أو الفقاهتي نظرا إلى دوران الأمر بين المحذورين. وجوه، أوجهها الاشتغال لحكومته على البراءة، لدوران المضمون به فيما نحن فيه بين المتبائنين لا بين الأقلّ و الأكثر، كما هو واضح، و على التخيير، لأنّ الاجتهادي منه مفقود لعدم إطلاق لأدلّة الضمان، و الفقاهتي منه محكوم لأدلّة الاشتغال، و لعلّ هذا هو وجه تأمّل المصنّف (2) في التخيير بعد توجيهه.

نعم، يمكن أن يقال: إنّ الأصل في المضمونات القيمة إلّا ما خرج بالدليل، لأنّ القيمة أقرب إلى الضبط و الانضباط من المثل، و هي الّتي توازي و تقابل ماليّة العين و ماليّة كلّ وصف من أوصافها، و من ديدن الشارع جعل المدار في أحكامه على الأضبط فالأضبط، كما هو واضح على المتتبع الخبير، و لكن في أضبطيّة القيمة، بل و في تقديم مراعاة الانضباط على مراعاة حقوق الناس الموافق للعقل


1- البقرة: 194.
2- المكاسب: 106.

ص: 513

و الاحتياط مجال للتأمّل و الانبساط.

و يمكن أن يقال أيضا: إن الأصل في المضمونات القيمة إلّا ما خرج بالدليل من جهة أخرى، أعني: من جهة أنّ الغالب تعلّق الضمان بإتلاف الماليّات دون المثليّات. ألا ترى أنّ إتلاف أعراض الناس بالاغتياب أو الاتّهام أو الاستهزاء أو الشتم لا يوجب الضمان بالمثل؟ مع أنّ لكلّ من الاغتياب و الاتّهام و الاستهزاء و الشتم مثل مثيل، و كذا الفجور بالناس بوطء أو لمس أو تقبيل أو نظر لا يوجب الضمان بالمثل و إن كان له بإزائه مثل مثيل، و ليس ذلك إلّا من جهة عدم تعلّق الضمان بالماليّات، و إن لم يكن لها مثل فاعتبار المثليّة في الضمان أمر زائد يحتاج إلى دليل خارج، ففيما ثبت أخذ به، و فيما لم يثبت كان المرجع إلى الأصل، و هو غلبة تعلّق الضمان بالمال، و لكن في مرجعيّة تلك الغلبة و حجّيتها مجال للمقال على تقدير تسليم أصلها بلا إشكال، و اللّٰه أعلم بحقيقة الحال.

قوله: «مع الاختلاف الحق بالقيميّ، فتأمّل».

[أقول:] إشارة إلى منعه بأنّ مقتضى أقربيّة المثل إلى التالف إلحاقه بالمثليّ مطلقا و مقتضى عموم (1) اليد و قاعدة «الاشتغال تخيير المالك مطلقا»، فلا وجه لإلحاقه بالقيميّ.

[الخامس ذكر في القواعد أنّه لو لم يوجد المثليّ إلّا بأكثر من ثمن المثل ففي وجوب الشراء تردّد]

قال طاب ثراه: «الخامس: ذكر في القواعد (2) أنّه لو لم يوجد المثليّ (3) إلّا بأكثر من ثمن المثل، ففي وجوب الشراء تردّد».

أقول: الكلام تارة في تصوير صور الترديد، و تارة في تشخيص السديد منها عن غير السديد.

فنقول: أمّا صور الترديد المحتملة عقلا من القريب و البعيد فيجمعها


1- تقدّم ذكر مصدره في ص: 479.
2- قواعد الأحكام 1: 204.
3- في المكاسب: «المثل».

ص: 514

احتمال كون المستقرّ في الذمّة هو عين المتلوف، أو مثله، أو قيمته. و على الأخير احتمال كون المستقرّ في الذمّة هو قيمة يوم القبض، أو يوم تلف المقبوض، أو يوم الإعواز، أو يوم مطالبته، أو يوم دفعه و أدائه، أو أعلى قيمتي يومي القبض و التلف، أو يومي القبض و الإعواز، أو يومي القبض و المطالبة، أو يومي القبض و الدفع، أو يومي التلف و الإعواز، أو يومي التلف و المطالبة. هذا مجموع صور الترديد و إن خلا بعضها عن قائل و مريد و لكلّ وجه جديد، سيأتي عن قريب لا بعيد، فيمتاز السديد منها عن غير السديد.

[السادس لو تعذّر المثل في المثليّ]
اشارة

قال طاب ثراه: «لو تعذّر المثل في المثليّ .. إلخ».

أقول: تفصيل الكلام في المسألة ينبغي أن يقع أوّلا: في محلّ النزاع.

و ثانيا: في بيان الصور المحتملة و الأقوال المختلفة فيها. و ثالثا: في بيان وجوه الصور و الأقوال، ثمّ بيان حقيقة الحال. و رابعا: في بيان ضابط التعذّر و عدم التعذّر.

فنقول: أمّا تحرير محلّ النزاع فتفصيل الكلام فيه: أنّ الظاهر عدم النزاع في تعيين وجوب قيمة المتعذّر مثله من المثليّات في صورة مطالبة المالك، لأنّ منع المالك ظلم و إلزام الضامن بالمثل منفيّ بالتعذّر، فوجب القيمة، جمعا بين الحقّين. و إنّما النزاع في أمرين آخرين:

أحدهما: في أنّه في صورة عدم مطالبة المالك هل يجوز للضامن دفع قيمة المتعذّر إلى المالك تخليصا لذمّته عن ربقة الدين و لو استدعى المالك انتظار وجود المثل فيمهله حتّى يوجد المثل فيستوفي المثل منه، أم لا يجوز له دفع قيمة المتعذّر إلى المالك مع إمهاله و انتظاره أو ان وجود المثل، أم التفصيل بين المتعذّر مثله في ابتداء تلفه فينقلب بعد التلف إلى القيمة و بين المتيسّر مثله في بعض أزمنة التلف ثمّ طرأ تعذّره بعد ذلك فلا ينقلب إلى القيمة بل يبقى على صفة المثل إلى

ص: 515

زمان مطالبة المالك؟

وجوه، بل أقوال، مال إلى التفصيل شيخنا الجليل، أخذا بالأصل الأصيل، و هو براءة ذمّة الضامن عن التقبيل للتمثيل، و لعلّه عليل بأنّه ليس عن الاشتغال سبيل، لكن لا لما عن الفاضل التوني «رحمه اللّٰه» (1) من منع جريان البراءة في حقوق الناس، و لا لما عن صاحب الإشارات من منع جريان أدلّة البراءة في مضمون الخطاب المجمل، أعني: فيما كان الشكّ ناشئا من إجمال الخطاب المأمور به، بل إنّما هو لأجل دوران المضمون به فيما نحن فيه بين المتبائنين لا بين الأقلّ و الأكثر.

قوله: «عبّر بعضهم بيوم الدفع. فتأمّل (2)».

[أقول:] إشارة إلى أنّ اعتبار القيمة في المثليّ المتعذّر يوم المطالبة أو يوم الدفع لا يقتضي عدم إلزام المالك بقبول القيمة قبل المطالبة، إلّا إذا أريد من القيمة قيمة مثل المثليّ المتعذّر، و أمّا لو أريد قيمة ثمنية المتعذّر كما هو الحقّ- فيقتضي إلزام المالك بقبول القيمة مطلقا و لو لم يطالبه، كما كان يجب عليه قبول العين قبل تلفه، و المثل قبل تعذّره مطلقا و لو لم يطالبه.

و الخلاف الآخر في أنّه على تقدير تعيين دفع القيمة هل يتعيّن قيمة يوم الغصب، أو يوم الإتلاف، أو يوم الإعواز أو يوم المطالبة، أو يوم الأداء، أو أعلى القيم من يوم الغصب إلى يوم الإتلاف، أو الى يوم الإعواز، أو إلى يوم المطالبة، أو إلى يوم الأداء، أو من يوم الإتلاف إلى أحد ما يليه من سائر الأيّام الثلاثة، أو من يوم الإعواز إلى سائر ما يليه من يومي المطالبة و الأداء، أو من يوم المطالبة إلى يوم الأداء؟ وجوه، بل أقوال، و إذا ضممت إليها سائر وجوه التركيب الثلاثيّة


1- الوافية: 193.
2- في المكاسب: «فليتأمّل».

ص: 516

من يوم الغصب و الإتلاف إلى الإعواز مثلا تضاعفت الوجوه. و يظهر وجاهة الوجيه منها و عدمه من مقدّمات:

الاولى: أنّ القيمة المدفوعة إلى المالك هل هي قيمة عين المثليّ المتلوف، أم قيمة مثله المتعذّر؟ وجهان: أقواهما الأوّل، لعدم الدليل و المقتضي لحيلولة المثليّ بعد التلف إلى غير ما هو المدفوع فعلا بعوضه. و منه ينقدح ضعف اعتبار قيمة يوم إعواز المثل، و كذا ضعف التفصيل بين المتيسّر مثله في بعض أزمنة التلف فلا ينقلب إلى القيمة، و بين المتعذّر مثله من ابتداء تلفه فينقلب إلى القيمة.

قوله: «فيجب أعلى القيم منها. فافهم».

[أقول:] إشارة إلى ضعفه لرجوع الضمان بأعلى القيم إلى ضمان العين معلّق له على علوّ القيمة المحتملة للتحقّق و العدم، و قد عرفت أنّ العبرة في الضمانات على التنجيز لا التعليقات، و أن تجدّد ارتفاع قيمة المتلوف بعد الغصب و التلف لا يدخل في الضمان أيضا، إلّا على ما استظهره الفاضل التوني (1) عن قاعدة «لا ضرر و لا ضرار»، و هو بمعزل عن الظهور في المشهور.

و من ذلك أيضا ينقدح ضعف اعتبار قيمة يوم الغصب، لأنّ ضمان الشي ء يوم غصبه ضمان شأني معلّق على تقدير تلفه، إذ الواجب فعلا قبل التلف هو ردّ العين لا ضمانه حتّى يكون العبرة بحاله.

و كذا ينقدح ضعف اعتبار قيمة يوم التلف إذا لم يصادفه يوم الإعواز، لأنّ ضمان المثليّ يوم تلفه بالقيمة أيضا ضمان شأنيّ معلّق على تقدير إعواز مثله في ذلك اليوم المفروض عدمه.

نعم، ضمان القيميّ يوم تلفه ضمان فعليّ منجّز إذا قلنا بأنّ القيمي مضمون بالقيمة، و إلّا كان حاله حال المثليّ في عدم اعتبار قيمة يوم التلف.


1- الوافية: 194.

ص: 517

و كذا ينقدح أنّ العبرة في القيمة في المثليّ ليست بيوم الإعواز، لأنّ ضمان قيمة المثليّ فيه أيضا ضمان شأنيّ معلّق على تقرير المطالبة، المفروض تأخّرها عنه، و ذلك لعدم الدليل و المقتضي لحيولة المثليّ المستقرّ في الذمّة إلى القيمة بمجرّد إعواز مثله، مع كون الأصل عدمه سوى وجوب الأداء، و هو غير منحصر بحسب المكنة في القيمة حتّى ينحل إليها، للتمكّن من الاستبراء أو الاستمهال إلى زمان تيسّر المثل، و لا بقيمة يوم المطالبة، لأنّ الضمان في يوم المطالبة أيضا شأنيّ معلّق على تقدير الأداء المفروض تأخيره عنه. فتعيّن أن يكون العبرة في ضمان المثليّ المتعذّر مثله بقيمة يوم الأداء و الدفع، فإنّ انحلال المثليّ المستقرّ مثله في الذمّة إلى القيمة لا دليل عليه في شي ء من الأيّام إلّا الجري على مذهب العدليّة من قبح التكليف بما لا يطاق، و هو لا يتحقّق فعلا إلّا أن يكلّف الضامن بالمثل في يوم الأداء دون تكليفه به في ما قبله من سائر الأيّام، فإنّ قبح التكليف بما لا يطاق فيها قبح شأنيّ معلّق على تقدير الأداء المفروض عدم تحقّقه و لا ضير فيه، كما لا يخفى.

بقي الكلام في تشخيص كون المناط في انتقال المثليّ إلى القيمة هل هو تعذّر مثله كما هو المعبّر به في كلام بعضهم، أو هو التعسّر كما هو ظاهر المعبّرين بالإعواز؟ وجهان، و قضية الأخذ بالمتيقّن هو الرجوع إلى الأخصّ و هو المتعذّر، لأنّه المجمع عليه و المتيقّن منه. ثمّ المراد من التعذّر هل هو التعذّر العقليّ- كما استقربه الماتن (1) طاب ثراه- و هو أن لا يوجد المثل في العالم بحيث لو وجد في قطر من أقطاره وجب تحصيله و لو أدّى إلى صرف مئونة كثيرة كما كان يجب ردّ العين أين ما كانت و لو توقّف على صرف مئونة كثيرة؟ أو المراد من التعذّر أن لا


1- المكاسب: 108.

ص: 518

يوجد في البلد و ما حوله؟ كما عن التذكرة (1)، و زاد في المسالك (2) قوله: ممّا ينقل عادة إليه؟ كما ذكروا في انقطاع المسلم فيه، و عن جامع المقاصد (3) الرجوع فيه إلى العرف؟ و استقربه شيخنا العلّامة مستظهرا إيّاه من فتوى العلماء و من الحدس و شمّ الفقاهة، بل ربّما يونسه تفسير تعذّر الماء المجوّز للتيمّم بالتعذّر العرفي لا العقليّ و تفسير الاستطاعة في الحجّ بالعرفي، و ما ورد في بعض الأخبار (4) السلم أنّه إذا لم يقدر المسلّم إلى على إيفاء المسلّم فيه تخيّر المشتري، و من المعلوم أنّ المراد بعدم القدرة ليس التعذّر العقليّ المتوقّف على استحالة النقل من بلد آخر، بل الظاهر منه عرفا ما عن التذكرة (5)، و لكن يبعده مع ذلك عدم وقوع التعذّر فيما نحن فيه في معقد إجماع و لا نصّ، كوقوعه في سائر الموارد المذكورة حتّى يكون من الموضوعات المستنبطة الّتي يكون المرجع في تشخيصها إلى عرف الشارع لو كان له فيها عرف خاصّ، و إلّا فإلى العرف العامّ إن شخّص به، و إلّا فإلى مطلق الظنّ المشخّص له.

أقول: و على ذلك فمقتضى القاعدة المعاضدة بالاشتغال هو ما استقر به الماتن (6) طاب ثراه من حمل التعذّر على التعذّر العقليّ، و يؤيّده أيضا انحصار وجه رجوع المثليّ بعد التعذّر إلى القيمة في الدليل العقليّ، و هو استحالة التكليف بما لا يطاق، و معلوم أنّ مجرّد تعذّر المثليّ عرفا لا يخرجه عن الطاقة، فلا مخرج له عن التكليف المستقرّ، إلّا أن يقال: بأنّ في تحمّله الضرر الكثير فينفى


1- تذكرة الفقهاء 2: 383.
2- مسالك الافهام 12: 183.
3- جامع المقاصد 6: 245.
4- الوسائل 13: 54 ب (11) من أبواب السلف.
5- تذكرة الفقهاء 2: 383.
6- المكاسب: 108.

ص: 519

بقاعدة «لا ضرر»، و لعلّه الأظهر، كما هو الأشهر، وفاقا لشيخنا الأكبر، دامت علينا إفاداته في كلّ محفل و محضر.

قوله: «و فيه تأمّل».

[أقول:] وجه التأمّل: إمّا في الملازمة فلإمكان أن يكون سقوط المثل في المثليّ المتعذّر و انقلابه قيميّا مراعى بعدم الظفر بمثله أو أدائه قبل الظفر به. و إمّا في بطلان اللازم فلاستصحاب سقوطه السابق على الظفر به.

الثانية: أنّ مضمونيّة المغصوب هل هي تابعة لضمانه الفعليّ التنجيزي، أم لضمانه الشأني التعليقي؟ وجهان، أقربهما إلى الاعتبار و الآثار هو الأول لا الثاني. و منه ينقدح ضعف اعتبار جميع صور أعلى القيم من يوم الغصب إلى أحد سائر الأيّام التالية الأربعة ثنائيّة و ثلاثيّة.

قوله: «فالظاهر (1) هو الأوّل، لكن مع فرض وجوده بحيث يرغب في بيعه .. إلخ».

أقول: إن كان المدار في معنى التعذّر الموجب لرجوع المثلي إلى القيمة هو التعذّر العقلي- كما بنى عليه آنفا، و يقتضيه استصحاب الاشتغال أيضا- فلا وجه للتقييد وجود المثل بقوله: «لكن مع فرض وجوده بحيث يرغب في بيعه».

و إن كان المدار على التعذر العرفي- أخذا بأصالة البراءة، و استئناسا بشمّ الفقاهة و بسائر موارد التعذّر في الأحكام الشرعيّة، و قاعدة «لا ضرر و لا ضرار»- فلا وجه لاستظهار الوجه الأوّل، بل كان ينبغي على ذلك استظهار الوجه الثاني أو الثالث، و هو فرض الوجود المتوسّط لا أوّل زمان الوجود و لا آخره، و هو الذي ارتضاه شيخنا العلّامة، كما ارتضى في أصل التعذّر التعذّر العرفي أيضا.


1- في المكاسب: الظاهر.

ص: 520

قوله: «و فصّل الشيخ .. إلخ» (1).

أقول: تفصيل الشيخ «قدس سرّه» و إن قرب في الجملة إلى الاعتبار، لكن الظاهر عراؤه- كعراء غيره من سائر الأقوال- عن الآثار في شي ء من النصوص و الأخبار. و على ذلك فالمتعيّن مرجعيّة الأصول في المسألة، أعني البراءة المقتضية أدنى قيمتي بلد التلف و المطالبة، كما هو المرضي، وفاقا لشيخنا العلّامة في كلّ ما دار الشكّ بين الأقل و الأكثر الغير الارتباطي، لرجوعه إلى العلم التفصيلي بالمتيقّن و الشكّ البدوي في الزائد، و الأصل عدمه.

أو الاشتغال المقتضي أعلى القيمتين، كما عن الفاضل التوني (2)، إلّا إذا استلزم دخول الضّرر الفاحش على الضامن فينفى بقاعدة «لا ضرر» هذا في باب الغصب.

و أمّا القرض و السلم فالكلام فيهما و إن احتمل الحمل على الغصب إلّا أنّ الظاهر رجوع الحكم فيهما باعتبار بلد القرض و السلم، لافتراقهما عن الغصب بالاشتمال على العقد و المعاقدة المنصرف إلى بلد القرض و السلم إطلاقه، و بهذا الفرق تبيّن افتراقه.

قوله: «و حكي [نحو هذا] عن القاضي أيضا (3). فتدبّر».

[أقول:] إشارة إلى إمكان الفرق بين القرض و الغصب، بأنّ الغاصب يؤخذ بأشق الأحوال، أي و لو استلزم العسر و الضرر، لقدومه عليه بنفسه، بخلاف القرض فلا يبعد انصرافه- كالسلف- إلى قيمة يوم التلف.

أو إشارة إلى ضعف الفارق سندا و دلالة.

[فرع: لو دفع القيمة في المثلي المتعذّر مثله ثمّ تمكّن من المثل فالظاهر عدم عود المثل]

قال الماتن طاب ثراه: «فرع: لو دفع القيمة في المثلي المتعذّر مثله ثمّ


1- المبسوط 3: 76.
2- الوافية: 198.
3- المهذب 1: 350.

ص: 521

تمكّن من المثل فالظاهر عدم عود المثل».

أقول: للمسألة شقوق لعلّ الخلاف ناشئ عن عدم تنقيحها و تشقيقها، فتارة يكون دفع قيمة المثلي من الضامن و قبضه من المالك واقعا على وجه التراضي بينهما منجّزا، بحيث لا يكون تراضيهما في مكمون الخاطر معلّقا على تقدير تعذّر المثل و إن كان الداعي لتراضيهما و تواطئهما المنجّز على القيمة هو زعمهما التعذّر.

و تارة يكون الدفع و القبض واقعا بينهما على وجه التراضي المعلّق في مكمون الخاطر على تقدير تعذّر المثل.

و على كلّ من التقديرين إمّا أن يكون وجود المثل بعد دفع القيمة حاصلا بإيجاد متأخّر عن زمان دفع القيمة، بحيث يكون في زمان دفع القيمة متعذّر الوجود ثمّ حدث وجوده بعد الدفع.

و إمّا أن يكون وجوده بعد دفع القيمة حاصلا بواسطة اندفاع موانع العلم بوجوده، بحيث يكون زعم تعذّره عند دفع القيمة ناشئا عن موانع خارجيّة من ظلمة، أو بعد، أو خفاء.

أمّا صورة تراضيهما و تواطئهما على القيمة المقبوضة منجّزا فالظاهر الاتّفاق و عدم النزاع في عدم عود المثل في ذمّته و لو ظهر بعد الدفع سبق وجوده حين الدفع، لأنّ المثل كان دينا في الذمّة سقط بأداء عوضه مع التراضي فلا يعود، كما لو تراضيا بعوضه مع وجوده.

كما أنّ الظاهر الاتّفاق و عدم النزاع أيضا في عود المثل إلى الذمّة لو كان تواطؤهما و تراضيهما على القيمة معلّقا في مكمون الخاطر على تقدير تعذّره المنكشف عدمه بعد الدفع، و أنّه كان موجودا حين الدفع لكن خفي وجوده بواسطة الموانع الخارجيّة الّتي أوجبت زعم تعذّره، و ذلك لانتفاء الرضا المعلّق

ص: 522

بانتفاء التعذّر المعلّق عليه بالفرض، سواء فسّر التعذّر- الناقل للمثليّ إلى القيمة- بالتعذّر العقليّ أو العرفي، لفرض انتفاء التعذّر الواقعي حين الدفع بكلا معنييه.

فتعيّن أنّه إن كان نزاع فهو في صورة ما لو كان تراضيهما على القيمة معلّقا على تقدير تعذّر المثل و قد حدث بعد الدفع وجوده، حيث إنّها في بادئ النظر ذات وجهين فمن جهة إطلاق تعليق الرضا على التعذّر المنفي بعد الدفع يوهم عود المثل إلى الذمّة، و من جهة تحقّق التعذّر الواقعي حين الدفع بكلا معنييه، و أنّ وجوده بعد الدفع إنّما هو بوجود حادث غير الوجود الأوّل يقتضي عدم العود في هذه الصورة، كعدم العود في صورة تنجّز التراضي منهما على القيمة، سواء فرضت كون القيمة قيمة عين المثلي المتعذّر مثله، أم قيمة المثل المتعذّر، و هو الأقوى. و منه يظهر ضعف ما في المتن من الإطلاق و التفصيل. هذا الكلام كلّه في الاستدلال على ضمان المثليّ بالمثل و فروعه.

و أمّا الكلام في ضمان القيميّ بالقيمة فتفصيله ما أشار إليه الماتن طاب ثراه بقوله:

[السابع لو كان التالف المبيع فاسدا قيميّا]

«السابع: لو كان التالف المبيع فاسدا قيميّا .. إلخ».

أقول: الكلام في المسألة ينبغي في مطالب مفصّلة.

أمّا تعريف القيميّ فيعرف من المقايسة على ما تقدّم في تعريف المثليّ فبكل ما يعرّف المثليّ من الوجوه و الحدود المختلفة يعرّف القيميّ بضدّه، من دون زيادة و نقصان، فالبيان هو البيان.

و أمّا حكم القيمي إذا تلف فاختلف فيه، بأنّ المضمون في القيميّات هل هو القيمة كما هو المشهور؟ أم المثل كما عن الإسكافي (1) و الشيخ و المحقّق في الخلاف (2) و الشرائع (3) في باب القرض؟ أم التفصيل بين تعذّر المثل له فالقيمة


1- حكاه عنه في غاية المراد: 135.
2- الخلاف 3: 175 المسألة 287.
3- شرائع الإسلام 2: 84.

ص: 523

و عدم تعذّره بأن وجد لذلك القيمي مثل فالمثل، كما هو وجه لا قول؟ بل احتمل و لو من جهة إطلاق كلمات الفريقين كونه قولا ثالثا في المسألة.

و أمّا ثمرة النزاع فتظهر في تعيين ما يستحقّه المالك في المطالبة و ما يستبرأ به الضامن بالدفع.

و في كون العبرة عند تعذّر المثل أو البناء على دفع القيمة بقيمة يوم الدفع، أو بقيمة ما قبله من سائر الأيام.

و في صحّة مصالحة المضمون في الذمّة بأقلّ منه و عدم صحّته، حيث إنّه إن فرض المضمون في الذمّة مثل التالف صحّ بيعه أو صلحه بأقلّ منه أو بأكثر، و إن فرض قيمته لم يصحّ بيعه و لا صلحه بأقلّ منه و لا بأكثر، لاستلزامه الربا، إلّا فيما لو فرض تغاير الثمن و المثمن و لو بسبب التداول، بأن كان الثمن المدفوع بإزاء ما في الذمّة غير الثمن المتداول المشتغل به الذمّة.

و أمّا مدارك الوجوه، فمدرك مضمونيّة القيمي بالقيمة هو الشهرة، و الإجماع المنقول، و الاستقراء الحاصل من ملاحظة الأخبار الكثيرة المتفرقة الواردة في كثير من القيميّات، بحيث يظهر من الحكم بتضمين القيمة في كلّ واحد منها إرادة التمثيل به لا التخصيص، فيلحق بها سائر أمثلة القيميّات في التضمين بالقيمة، كما لا يخفى على المراجع إليها، و إلى كثرتها حسب ما فصّلت في المتن (1).

و أمّا مدرك مضمونية القيمي بالمثل فلعلّه دعوى بناء العقلاء على مضمونيّة التالف بالأقرب فالأقرب إليه، و من المعلوم أنّ المثل من جميع الجهات أقرب إلى التالف بعد تعذّر عينه فيتعيّن.

و أمّا مدرك التفصيل فهو التفصيل بين الأخذ بالمتيقّن من معقد الشهرة


1- المكاسب: 109.

ص: 524

و الإجماع المنقول و الأخبار المتفرّقة، و هو إرادة صورة تعذّر المثل من التضمين بالقيمة، و بين الأخذ ببناء العقلاء على تضمين الأقرب إلى التالف في صورة تيسّره.

و أمّا الترجيح في المسألة فمع القول الأوّل، لقوّة مداركه، و ضعف ما عداه، لما في كلّ من مداركه الثلاثة: الشهرة و الإجماع المنقول و الاستقراء فضلا عن مجموعها الكفاية، بل الغنية بعد ما توفّقنا لدفع جميع شبهات المشتبهين و أوهام الموهمين عدم حجّيتها بأبلغ وجه في الأصول، وفاقا لأكبر مشايخنا الفحول.

و أمّا الاستقراء فلتعلّق الظنّ الحاصل منه بالمراد من ألفاظ الشارع، لا بنفس الواقع من دون توسّط واسطة حتّى يبتني حجّيته على حجّية مطلق الظنّ.

و مما ذكرنا ظهر ضعف الأخذ بالمتيقّن من المدارك الثلاثة بالإطلاق، و ضعف الأخذ ببناء العقلاء بالمنع.

بل لا يبعد أن يكون النزاع في ضمان القيمي بالمثل نزاع صغروي مأخوذ من النزاع في كون القيمي الموجود بإزائه ما يساويه من جميع الجهات و الصفات قيميّات أم مثليّا. و على هذا التقرير لا يتعدّى النزاع إلى الحكم الكبروي الذي هو ضمان القيميّات بالقيمة و إن سلّمنا مثليّة بعض القيميّات الموجود لها مماثل من جميع الجهات، و التزمنا بتضمين المثل لها.

ثمّ إنّه على تقدير القول بتضمين القيميّ بالقيمة اختلفوا في تعيين قيمة يوم التلف، أو يوم الغصب، أو يوم الأداء، أو أعلى القيم.

أقول: مسألة تعيين قيمة القيميّ بيوم التلف أو بغيره، أمّا في الوجوه فتوافق مسألة تعيين قيمة المثلي المتعذّر مثله بيوم التلف أو بغيره، فيتأتّى فيها من الوجوه هنا ما تأتّى في تلك من الوجوه ثمّة، ككون العبرة بقيمة يوم الغصب و القبض، أو بيوم التلف و الإتلاف، أو بيوم المطالبة، أو بيوم الدفع و الأداء، أو بأعلى قيمتي

ص: 525

يومي الغصب و التلف، أو بغير ذلك من صور التركيب الثنائيّة و الثلاثيّة و الرباعيّة، إلّا فرض التعيين بيوم الإعواز لا يتأتّى هنا وجها و لا قولا و إن تأتّى ثمّة وجها و قولا.

و أمّا في مجرى الأصول فتوافق أيضا مسألة تعيين قيمة المثليّ المتعذّر مثله، من جهة أنّ الشكّ في تعيين القيمة المضمونة لكلّ من القيميّ أو المثليّ المتعذّر مثله من قبيل الشكّ بين الأقلّ و الأكثر الغير الارتباطي، الّذي هو مجرى أصالة البراءة، إلّا على ما عن الفاضل التوني (1) من منعه مجرى أدلّة البراءة في حقوق الناس، أو على ما عن صاحب الإشارات قدس سرّه من منع مجراها في مضمون الخطابات المجملة، و إلّا فعلى المشهور المنصور لا مانع من مجرى أدلّة البراءة في الشكّ في الزيادة الغير الارتباطيّة، كما فيما نحن فيه، فإنّ مجرد أداء أقلّ القيمتين يسقط عمّا في الذمّة بحسبه، و لا يرتبط إسقاط المؤدّى بحسبه بإسقاط ما بقي إن كان ما بقي، فيجري البراءة عن بقاء البقيّة بعد إسقاط المتيقّن، لرجوعه إلى الشكّ البدوي في الزيادة المنفيّة بالأصل.

و أمّا ما تقدّم عنّا من منع مجرى البراءة فإنّما هو فيما لو شكّ في أنّ المثلي المتعذّر مثله هل يسقط بأداء قيمته مع استدعاء المالك المثل من الضامن، فيما يوجد فيه المثل من الأزمنة المتأخّرة، أم لا يسقط إلّا بإرضاء المالك بالقيمة، و هذا غير ما نحن فيه، لكونه من قبيل الشكّ في المضمون به، الدائر بين المتبائنين، فيختصّ بمجرى الاشتغال، للعلم الإجمالي بالمكلّف به، و ما نحن فيه من قبيل الشكّ في الأقل و الأكثر الغير الارتباطي، فيختصّ بمجرى البراءة، لكون العلم بالتكليف فيه علم في الجملة لا علم إجمالي، فينحلّ إلى العلم التفصيليّ بالمتيقّن و الشكّ البدويّ في الزائد المختصّ بمجرى البراءة.


1- الوافية: 194.

ص: 526

و أمّا في القواعد و الأصول الغير العمليّة من الشهرة و السيرة و الاعتبار و الآثار فتخالف مسألة ضمان المثليّ المتعذّر مثله، من حيث إنّ مقتضى تضمين المثليّ بالمثل هو تعيين قيمة يوم الدفع عليه إذا تعذّر المثل، لعدم الدليل، و المقتضي على حيلولة المثليّ إلى القيمة فيما قبل الدفع حسب ما مرّ.

و مقتضى تضمين القيمي بالقيمة هو تعيين قيمة يوم تلفه عليه، إذا الواجب قبله هو ردّ العين لا ردّ القيمة إلى آخر ما أشار إليه الماتن قدس سرّه.

نعم، لو قلنا بتضمين القيمي بالمثل كالمثلي لم يبق فرق في تعيين قيمة يوم التلف إذا تعذّر المثل بين المسألتين، لا في الوجوه و الأقوال، و لا في الاعتبار و الآثار.

و أمّا على ما هو المشهور المنصور من تضمين القيميّ بالقيمة فتفترق المسألتان في الحكم المستند إلى الاعتبار و الاعتبار و الآثار المعاضدة بالقواعد و الأصول و إن اتفقتا في الوجوه و الأقوال و مجرى الأصول و الأحوال، و لهذا استقرّ مذهب مشهور المتأخّرين على اعتبار قيمة يوم الدفع في المثليّ المتعذّر مثله، و قيمة يوم التلف في القيميّ. هذا كلّه فيما يقتضيه القواعد و السواعد و الشهرة و السيرة من ضمان القيمي بقيمة يوم تلفه.

و أمّا ما يقتضيه ظاهر صحيحة أبي ولّاد (1) المعروفة ففي انطباقه على اعتبار قيمة القيمي بيوم التلف- كما عن الجواهر (2)- أو على اعتبار قيمة يوم الغصب- كما هو الأظهر وفاقا لما استظهره الماتن (3) و شيخنا العلّامة- أو على اعتبار قيمة يوم الردّ- كما هو وجه لا قول- أو على أعلى القيم من حين الغصب


1- الوسائل 13: 255 ب «17» من أبواب أحكام الإجارة ح 1.
2- جواهر الكلام 37: 102.
3- المكاسب: 109.

ص: 527

إلى التلف- كما عن الشهيد الثاني (1)- أو على خلاف القاعدة المتّفق عليها نصّا و فتوى- لتعدّ من المجملات- أو ممّا يقتصر فيه على خصوص مورده و هو البغل من بين سائر القيميات- كما عن الشيخ (2)- وجوه أقوال:

أظهرها ما استظهره الماتن طاب ثراه من أنّ الفقرة الأولى من الصحيحة و هي قوله: «نعم قيمة بغل يوم خالفته» (3) ظاهره بحسب التركيب اللغوي و المتفاهم العرفي في اعتبار قيمة يوم الغصب.

و لكن مع ذلك يمكن انطباقه على ما هو المشهور المنصور عندنا من اعتبار يوم التلف، بحمل التقييد بيوم المخالفة على الورود مورد الغالب في مثل مورد الرواية من عدم تفاوت قيمة البغل في مدّة خمسة عشر يوما لأجل السر و المؤيّدين المرقومين في المتن، و ذلك لأنّ ما احتمله جماعة منهم صاحب الجواهر في كتاب الغصب من تعلّق الظرف بقوله: «نعم» القائم مقام قوله عليه السلام:

«يلزمك»، يعني يلزمك يوم المخالفة قيمة بغل (4) بعيد لفظا و معنا، إمّا لفظا فلأنّ القيد المتعقّب للأمور العديدة ظاهر في الأخير، كالاستثناء المتعقّب للجمل المتعدّدة، و إمّا معنى فلما في المتن من استلزامه عدم انطباق الجواب على السؤال.

و دعوى أنّ عدم استدلال الأصحاب به على اعتبار قيمة يوم الغصب يشعر بعدم دلالته عليه، أو بالإعراض الموهن لدلالته على تقديرها بواسطة وقوفهم على ما لعلّه صارف ممنوعة.

أوّلا: بظهور دلالته عليه بحيث لا يدخله الوهم بالإعراض.


1- مسالك الأفهام 12: 186.
2- لم نجده في مظانّ كتب الشيخ.
3- المكاسب: 110.
4- جواهر الكلام 37: 101.

ص: 528

و ثانيا: بمنع أصل الإعراض عنه، و لو سلّم فجهة الإعراض مختلفة في المعرضين، فلا تكشف عن وهن دلالتها، إذ لعلّ إعراض بعضهم من جهة اختلاف فقرأت الصحيحة، و إعراض بعضهم الآخر من جهة ورود التقييد فيه مورد الغالب، و إعراض بعضهم الآخر من جهة ترجيح الشهرة القائمة على خلافه، و إعراض بعضهم الآخر من جهة عدم دلالته، فلم يتّحد جهة إعراض جميع المعرضين على تقدير تسليمه حتّى يوهن دلالتها كالإجماع التقييدي.

و أمّا الفقرة الثانية- و هي قوله عليه السلام في جواب السؤال عن إصابة العيب:

«عليك قيمة ما بين الصحّة و العيب يوم تردّه» (1)- فمضافا إلى ما في المتن من أنّ الظرف متعلّق ب «عليك»، لا قيد للقيمة إلى آخره (2) قد نقل عن الجواهر وقوفه على سقوط الظرف في نسخة قديمة محشّاة من نسخ التهذيب، و أنّ الموجود فيها «عليك قيمة ما بين الصحّة و العيب تردّه عليه» من دون ذكر اليوم (3).

هذا، و لكن الأصل و الغالب عدم زيادة اليوم، و كون السهو في النقص و الترك، لا فعل الزيادة، و عليه يتعيّن ضمان قيمة يوم الردّ لا غير، كما هو ظاهر «على اليد ما أخذت حتّى تؤدّي» (4).

و أمّا اعتبار يوم المخالفة فلبيان أنّ مبدأ ضمان الكراء من يوم المخالفة لا ضمان العين به، ردّا على الحنفيّة، كما يقتضيه بلاغة مطابقة الكلام لمقتضى الحال و إن خالف السؤال، خصوصا على فرض ظهور تقدّم يوم الكراء على يوم المخالفة لا تأخّره حتّى يحمل على يوم التلف.

قوله: «و من يعرف ذلك. فتأمّل».


1- تقدّم ذكر مصدره في هامش (1) ص: 526.
2- المكاسب: 110.
3- جواهر الكلام 37: 102.
4- عوالي اللئالي 1: 389 ح 22.

ص: 529

[أقول:] إشارة إلى «ذلك» قوله: «و فيه نظر»، لأنّ نفي الضرر لو اقتضى ضمان ارتفاع القيمة مع التلف لاقتضاه مطلقا.

قوله: «وجب غرامة أكثرها. فتأمّل».

[أقول:] إشارة إلى أنّ ارتفاع القيم إن كان أمرا اعتباريّا لم تضمن بالمال- لا استقلالا- تبعا للعين المضمونة، و إلّا ضمنت جميع القيم لا أكثرها.

قوله: «لغلبة اتحاد زمان البيع و القبض. فافهم».

[أقول:] إشارة إلى أنّ غلبة الوجود لا يوجب انصراف المطلق، خصوصا في مقام المداقّة.

قوله: «ثمّ إنّ جميع ما ذكرنا من الخلاف إنّما هو في ارتفاع القيمة بحسب الأزمنة، و أمّا إذا كان بسبب الأمكنة .. إلخ».

أقول: ينبغي أن يكون المدار في الأمكنة على ما هو المدار في الأزمنة، فإن كان المدار في ضمان التالف بيوم التلف كان المدار أيضا في ضمانه بمكان التلف، و إن كان بيوم الغصب كان بمكان الغصب، و إن كان بيوم الدفع كان بمكان الدفع و هكذا، لاتّحاد الموجب و السبب في المسألتين.

و لمّا كان المدار في الضمان بيوم التلف، أو بيوم الدفع مبنيّا على تشخيص كون القيمي مضمونا بالقيمة، أو المثل كان المدار في الضمان بمكان التلف أو الدفع أيضا مبنيّا على تشخيص ذلك، فإن قلنا بضمان القيمي بالقيمة- كما هو المشهور المنصور- كان العبرة في ضمانه بيوم التلف فكذا بمكان التلف، لاتّحاد الموجب و المقتضي و هو تدارك الشي ء بحسب ماليّته عند اختلاف الماليّة بحسب الأزمنة و الأمكنة.

و إن قلنا بضمان القيميّ بالمثل كالمثليّ كان العبرة في ضمانه بيوم الدفع فكذا بمكان الدفع، لاتّحاد الموجب، و هو عدم الدليل على حيلولة المثليّ إلى

ص: 530

القيمة فيما قبل يوم الدفع من سائر الأيّام.

نعم، لو اعتبرنا يوم الغصب في ضمان القيميّ تعبّدا بظاهر صحيحة أبي ولّاد المتقدّمة (1) لم نعتبر في الأمكنة مكان الغصب، بل بقينا على اعتبار مكان التلف و إن خالف زمان المضمون فيه، لاختلاف الموجب على هذا التقدير، فلا يلزم الموافقة و الالتزام في الأمكنة بما التزم به في الأزمنة.

قوله: «و هو الأوفق بأصالة عدم تسلّط المالك على أزيد من إلزامه به و العين. فتأمّل».

[أقول:] إشارة إلى معارضة أصالة عدم تسلّط المالك على ذلك بعموم تسلّط المالك، بل الضامن أيضا على استعجال الوفاء و الاستيفاء للحقّ، و عدم الإنظار و الانتظار.

قال الماتن طاب ثراه: «ثمّ إنّ المال المبذول يملكه المالك .. إلخ».

أقول: اختلفوا في أنّ المبذول في عوض الحيلولة بين المالك و ملكه هل يملكه المالك من حين الإباحة عليه ملكا لازما كما عن المشهور؟ أم ملكا متزلزلا مراعى ببقاء الحيلولة و ارتفاعها كما احتمله الشهيد الثاني (2)، و استحسنه في محكي الكفاية (3)؟ أم يباح له إباحة مطلقة، نظير الإباحة المطلقة في المعاطاة- على القول بها- و يكون دخوله في ملكه مشروطا بتلف العين كما عن المحقّق القمي في أجوبة مسائله (4)؟

و على أيّ حال اختلفوا أيضا في انتقال العين إلى ملك الضامن و عدمه على وجوه، ثالثها: حصول الملك لكلّ منهما متزلزلا مراعى ببقاء الحيلولة و ارتفاعها.


1- تقدّم في ص: 526.
2- مسالك الأفهام 12: 201.
3- كفاية الأحكام 259.
4- جامع الشتات 2: 540.

ص: 531

و ثمرة كلّ من الخلافين تظهر في ضمان ما يتجدّد لكلّ من العوض أو المعوّض من الزيادات المتّصلة و المنفصلة، و في غير ذلك من الآثار الملكيّة.

و الّذي يقتضيه الاعتبار و القواعد و الآثار هو أن يقال: أمّا العين المغصوبة فباقية على ملك مالكها ما دامت باقية و إن تملّك المبذول بعوضها، لاستصحاب بقاء ملكيّته، و لا تلازم بين خروج المبذول عن ملك باذله و دخول العين في مكانه، لأنّه غرامة لا معاوضة ليلزم الجمع بين العوض و المعوّض، فالمبذول هنا كالمبذول مع تلف العين في عدم البدل له.

و أمّا العوض المبذول بإزاء الحيلولة فمقتضى الاستصحاب أيضا بقاؤه على ملك باذله و إن تسلّط عليه المبذول له بالسلطنة المطلقة، بقضاء حقّ البدليّة عن سلطنته المنقطعة عن العين إلى أن يتصرّف فيه بشي ء من التصرّفات المتوقّفة على الملك كالعتق، فيقدّر قبله الملكيّة آنا ما، تفصّيا عن لزوم تخصيص عموم الأدلّة الدالّة على توقّف ذلك التصرّف على الملك على النهج المختار في المقبوض بالمعطاة.

فمحصّل الكلام في المسألة راجع إلى أنّ إباحة جميع التصرّفات حتّى المتوقّفة على الملك هل يستلزم الملك من حين الإباحة كما عن المشهور، أم يكفي حصوله من حين التصرّف؟ و قد تقدّم في المعاطاة بيانه، و أنّ مقتضى الاستصحاب هو الثاني و إن كانت الشهرة على الأوّل في المسألتين، بل لعلّ مراد المشهور إرادة تقييد الملك بحين التصرّف و إن كان إطلاقهم الملك يأبى عن التقييد، أو ابتناء قولهم بحصول الملك من حين الإباحة على القول بكون الأحكام الوضعيّة- الّتي منها الملكيّة- أمورا منجعلة خارجيّة لا تحتاج إلى جعل آخر وراء وجودها الخارجي، و أنّ كلام الشارع لا يؤثّر فيها أثرا سوى الكشف عن وجودها الخارجي المسبوق في علمه.

ص: 532

و على ذلك يرجع الكلام إلى أنّه إن قلنا بأنّ الملكيّة: عبارة عن نفس السلطنة المطلقة المفروض حصولها للمالك فيما بذل له بدلا عن سلطنته المنقطعة عن العين- كما هو قضيّة القول بتأصّل الأحكام الوضعيّة- كان الحقّ مع المشهور، القائلين بملكيّة المدفوع بدل الحيلولة، لعدم احتياج الملكيّة على هذا التقدير إلى ما وراء السلطنة المطلقة على جميع التصرّفات، المفروض حصولها بقضاء حقّ البدليّة و العوضيّة عن سلطنته المنقطعة عن العين.

و إن قلنا بأنّه يحتاج إلى جعل وراء وجودها الخارجي المفروض حصولها بقضاء حقّ البدليّة- كما هو قضيّة القول المجعولية الأحكام الوضعيّة و انتزاعها عن الأحكام التكليفية- كان الحقّ مع القول بالإباحة، لعدم تحقّق جعل الشارع الملكيّة فيه وراء ما يقتضيه حقّ البدليّة، إلّا أن يستكشف بالشهرة عن جعله، و لكنّه مبنيّ على حجّية تلك الشهرة المحكيّة، و على تشخيص أن يكون معقدها هو الملكيّة من حين الإباحة، لا من حين التصرّف كما احتملناه.

قوله: «أمكن سقوطه. فتأمّل».

إشارة إلى أنّ سقوطه بنفي الضرر معارض بعموم «على اليد ما أخذت» (1)، و الضامن يؤخذ بأشقّ الأحوال.

قوله: «لكن مقتضى القاعدة ضمانه، لأنّ مع التلف يتعيّن القيمة .. إلخ».

أقول: إن أراد من القاعدة المقتضية لضمانه له قاعدة الاشتغال فمن المعلوم أنّ المورد من موارد البراءة، لأنّ المفروض خروج الغارم بدفع الغرامة عن عهدة العين في الجملة، و الشكّ في طروّ ضمان جديد عليه بطروّ ارتفاع قيمة العين بعد دفع الغرامة، و الأصل عدمه و البراءة عنه.

و إن أراد من القاعدة المقتضية لضمانه تعليله الفرق بقوله: «لأنّ مع التلف


1- تقدّم ذكر مصدره في هامش (3) ص: 528.

ص: 533

يتعيّن القيمة .. إلخ» فهو عليل غير فارق بين التلف و التعذّر، بعد فرض دفع الغرامة سيّما بعد تملّكها المالك، فإنّ تعيين القيمة في التلف و التخيير بينها و بين أن يصبر المالك إلى أن يتمكّن من العين في التعذّر غير فارق، بعد فرض دفع الغارم إيّاها و قبولها المالك، ضرورة أنّ الفرق في المدفوع غرامة بين تعيينه للغرامة و عدم تعيينه- المفروض تعيّنه بالاختيار و القصد- غير فارق في الخروج عن عهدة المغروم به.

نعم، إنّما يكون فارقا لو صبر المالك إلى أن يتمكّن من العين، و لم يقبل الغرامة المدفوعة إليه، فالفرق المذكور بين التلف و التعذّر فارق شأنيّ معلّق على تقدير خارج عن محلّ الفرض. و لهذا استقرب شيخنا العلّامة عدم ضمان القيمة المرتفعة للعين بعد دفع غرامتها، تعويلا على أصل البراءة، و وفاقا لما عن الشيخ (1)، و ظاهر غيره.

و لكن الأقوى في نظري القاصر الضمان، وفاقا للماتن، و لما عن التذكرة (2) و غيره، لكن لا لمقتضى الاشتغال، و لا لما في المتن (3) من تعليله الفرق حتّى يرد عليهما ما أورد، بل لعموم «على اليد ما أخذت حتّى تؤدّي» (4)، فإنّ مقتضى عمومه هو ضمان العين و ضمان جميع منافعه المتجدّدة ما دامت العين باقية. و لعلّ مراد الماتن من مقتضى القاعدة أيضا ذلك، لا الاشتغال و تعليله الفرق.

إلّا أن يقال: إنّ عموم «على اليد» عموم حكميّ لا ينصرف إلى المنافع المتجدّدة بعد دفع الغرامة. فتأمّل.

قوله: «ثمّ إنّه لا إشكال في أنّه إذا ارتفع تعذّر العين و صار ممكنا وجب


1- المبسوط 3: 96.
2- تذكرة الفقهاء 2: 385.
3- المكاسب: 113.
4- تقدّم ذكر مصدره في هامش (3) ص: 528.

ص: 534

ردّه».

أقول: نعم، لا إشكال في وجوب ردّ العين بعد ارتفاع تعذّره و إن دفع الغرامة إلى مالكها، لكن لا لما ذكره الماتن من عموم «على اليد ما أخذت حتّى تؤدّي»، لوضوح أنّ الاستدلال عليه إن كان بقوله: «حتّى تؤدّي» فمن الواضح عدم دلالته على وجوب الأداء، لأنّه نظير قولك للمسافر: «يجب عليك القصر حتّى تحضر» في عدم دلالته على وجوب الحضور. و إن كان بعموم «على اليد» فمن الواضح أنّ وجوب الردّ حكم تكليفي ليس من أفراد «على اليد» حتّى يدخل في عمومه، لظهور «على اليد» في الحكم الوضعي، و هو الضمان المفروض سقوطه بدفع الغرامة. و ذلك لما عرفت من ظهور كلمة «على» إذا أضيفت إلى الأعيان لا الأفعال في الحكم الوضعي لا التكليفي، و استعماله في كليهما استعمال للفظ في أكثر من معنى، و استعماله في الحكم الوضعي و هو الضمان لا يدلّ على المدّعي، و هو الحكم التكليفي، بعد فرض سقوط الضمان بالغرامة المدفوعة.

بل الاستدلال على وجوب ردّ العين بعد ارتفاع تعذّره إنّما هو باستصحاب بقاء وجوب الردّ الّذي كان ثابتا قبل التعذّر، و دفع الغرامة بعد طروّ التعذّر عليهما إنّما أفاد خروج الغاصب عن ضمانه لو تلف، فإذا زال تعذّره قبل تلفه وجب ردّه باستصحاب بقاء وجوب ردّه.

و بعبارة اخرى: أنّه قبل التعذّر كان مضمونا و واجب الردّ أيضا، فإذا تعذّر وجب غرامتها بالضمان و سقط وجوب الردّ للعذر العقلي، و هو التعذّر، فإذا زال التعذّر عاد وجوب الردّ استصحابا لوجوب الردّ السابق، و لا يجوز استصحاب عدم وجوب الردّ الثابت في حال التعذّر، لارتفاع موضوعه و هو التعذّر، بخلاف استصحاب وجوبه السابق.

ص: 535

و بالجملة: فالمورد من موارد استصحاب حال المخصّص- بالفتح- لا المخصّص- بالكسر- لأنّه عقليّ زائل بزوال موضوعه، فلا مسرح لاستصحابه.

قوله: «لا عوض قدرة الغاصب على تحصيلها للمالك. فتأمّل».

[أقول:] إشارة إلى أنّ كلّ من الغرامة و العين المضمونة عوض عن الآخر، كعوضيّة الثمن عن المثمن في المعاوضات، فلا حقّ لمطالبة العوض قبل المعوّض على غير وجه الترادّ و الاقتران، إلّا في عوض البضع لها المطالبة قبل الدخول للنصّ المخرج.

ثمّ إنّ أكثر ما ذكرنا مذكور في كلماتهم في باب الغصب، لكن الظاهر أنّ أكثرها بل جميعها حكم المغصوب من حيث كونه مضمونا، لا من حيث كونه مغصوبا فيشمل المقبوض بالبيع الفاسد إذا كان مضمونا أيضا، بل يشمل المقبوض بجميع الأيادي المضمونة، سواء كان بالغصب، أو بالبيع الفاسد، أو العارية، أو الاستئجار، أو بغير ذلك من الأيادي المضمونة، لعموم: «على اليد ما أخذت» و عدم خصوصيّة زائدة في الغصب سوى الإثم نعم، ربما يفترق من جهة نصّ في المغصوب مخالف لقاعدة الضمان، كما احتمل في الحكم بوجوب قيمة يوم الضمان، أو أعلى القيم من جهة صحيحة أبي ولّاد (1). و لكن قد عرفت عدم دلالته على ما يخالف قاعدة الضمان و انطباقه عليها.

كما أنّ ما اشتهر من أنّ الغاصب يؤخذ بأشقّ الأحوال لم يعرف له مأخذ واضح، و على تقدير أن يكون له مأخذ أيضا يمكن حمله على الضمان أيضا، كما لا يخفى عليك.


1- تقدّم ذكر مصدره في هامش (1) ص: 526.

الجزء الثاني

اشارة

ص: 2

ص: 3

ص: 4

ص: 5

كتاب البيع

شروط المتعاقدين

[منها البلوغ]

قال الماتن طاب ثراه: «المشهور- كما عن الدروس (1) و الكفاية (2)- بطلان عقد الصبيّ .. إلخ».

أقول: قبل الخوض في دليل المسألة ينبغي تحرير محلّ الكلام، ثمّ تأسيس الأصل الأصيل، الذي يصحّ عليه التعويل عند إعواز الدليل.

فنقول: أمّا الكلام في تحرير محلّ النزاع من عقد الصبيّ فتفصيله: أنّ الخلاف في صحّة عقد الصبيّ لا ينحصر في صورة العقد لنفسه بالأصالة و الاستقلال، بل يعمّ هذه الصورة و صورة العقد للغير بالوكالة، أو لنفسه بإذن الولي السابق، أو بإجازته اللاحقة، فالخلاف في صحّة عقد الصبيّ يعمّ جميع الصور الأربعة و إن اختلف كيفيّة الخلاف فيها بالشدّة و الضعف، كما أنّ المراد بالصبيّ يعمّ المميّز و غيره.

ثمّ المراد من صحّة عقده ليس صحّة جميع عقوده، لينتقض ببطلان بعضها اتفاقا، و إلحاق عهده بالخطإ في الجنايات، و لا من بطلانه بطلان جميع عقوده، لينتقض بصحّة وصيّته و تدبيره و إحرامه و إسلامه و عباداته و غير ذلك، بل المراد من صحّته و بطلانه أنّ القاعدة المستفادة من الشرع هل هو صحّة عقوده إلّا ما خرج، أو بطلان عقوده إلّا ما خرج، و من هنا يعلم اندفاع توهّم انتقاض القول ببطلان عقده بصحّة وصيّته و تدبيره و عباداته و غير ذلك مما يمكن الالتزام بخروجه بمخصّص خارجي، من نصّ أو إجماع، كاندفاع توهّم انتقاض القول


1- الدروس الشرعيّة 3: 192.
2- كفاية الأحكام: 84.

ص: 6

بصحّته بإلحاق عهده بالخطإ في الجنايات.

و أمّا الكلام في تأسيس الأصل فيه فمن الواضح أنّ الأصل العلمي هو عدم صحّة عقده، استصحابا لعدم النقل و الانتقال به، و أمّا الأصل اللفظي فمقتضاه الصحّة و ترتيب آثارها إن لزوما فلزوم، و إن جوازا فجواز؛ لعموم أَوْفُوا بِالْعُقُودِ (1)، و صدق العقد على عقدة عرفا.

نعم، قد يشكّ في صدق العقد عرفا على عقد بعض الصبيان الغير المميّزين، من جهة الشكّ في قابليّتهم لقصد الإنشاء و عدمه، فلا يتأتّى في عقودهم عموم أَوْفُوا بِالْعُقُودِ للشكّ في صدق موضوع العقد عليه.

و أمّا المميّز القابل لقصد الإنشاء سيّما المراهق للبلوغ سيّما إذا كان في العقل و الرشد مثل فخر المحقّقين فلا ينبغي الإشكال في أنّ مقتضى الأصل الأصيل و هو عموم أَوْفُوا بِالْعُقُودِ هو صحّة جميع عقوده بالاستقلال و الإذن و الإجازة.

نعم، الإشكال و الخلاف إنّما هو في ورود الدليل الخاصّ على بطلانه و عدمه، و فيه أقوال.

ثالثها: التفصيل بين الصبيّ المأذون أو المجاز في عقده فيصحّ، و بين غيره فلا، و هو الظاهر عن كلّ ما استدلّ به على البطلان المطلق، بل الأظهر صحّة عقد الرشيد و إن لم يبلغ و لم يؤذن و لم يجز له. أمّا الشهرة و الإجماع المنقول على البطلان فلأنّ المتيقّن من معقدها بطلان عقد الصبيّ الغير المأذون: و لا المجاز دون المأذون أو المجاز، بل الغير الرشيد دون الرشيد.

و أمّا خبر ابن حمزة و ما في معناه من أن الغلام لا يجوز أمره في البيع و الشراء، و لا يخرج عن اليتم حتّى يبلغ خمس عشرة سنة ففيه.

أوّلا: دلالته على كفاية الرشد و العقل، و عدم انحصار الجواز في البلوغ، لما في ذيل الخبر المذكور في غير باب من أبواب الوسائل من العطف على قوله:


1- المائدة: 1.

ص: 7

«إلّا أن يبلغ خمس عشرة» بقوله: «أو يشعر أو ينبت قبل ذلك» (1)، فإنّ ظاهر عطف الشعور على البلوغ بلفظ «أو» يدلّ على كفاية التمييز في أمر الصبيّ.

و ثانيا: لو أغمضنا عن دلالة ذيل الخبر أو عن وجوده في بعض أخبار أخر فلنا منع دلالة صدر الخبر على انحصار جواز أمر الصبيّ في البلوغ، لمعارضته بما يدلّ من الأخبار الأخر على كفاية الرشد و العقل في جواز أمره في كلّ شي ء، كما عن باب الحجر من الوسائل عن الصادق عليه السّلام «أنّه سئل عن قول اللّٰه عزّ و جلّ:

فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوٰالَهُمْ (2)، قال: إيناس الرشد حفظ المال» (3).

و فيه أيضا قال: «سألته عن اليتيمة متى يدفع إليها مالها؟ قال: إذا علمت أنّها لا تفسد و لا تضيّع الخبر» (4).

و فيه أيضا عن أمير المؤمنين عليه السّلام «أنّه قضى أن يحجر على الغلام المفسد حتّى يعقل» (5).

و في باب الصدقات من الوسائل أيضا عن العسكري عليه السّلام قال: «إذا بلغ الغلام ثماني سنين فجائز أمره في ماله، و قد وجب عليه الفرائض و الحدود، و إذا تمّ للجارية سبع سنين فكذلك» (6).

و في باب الوصايا منه أيضا في تفسير قوله تعالى:


1- الوسائل 13: 142 ب «2» من أبواب أحكام الحجر ح 1، و ج 1: 30 ب «4» من أبواب مقدّمة العبادات ح 2، و ج 12: 268 ب (14) من أبواب عقد البيع و شروطه ح 1.
2- النساء: 6.
3- الوسائل 13: 143 ب «2» من أبواب الحجر ح 4.
4- الوسائل 13: 142 ب «1» من أبواب الحجر ح 3.
5- الوسائل 13: 142 ب «1» من أبواب الحجر ح 4.
6- الوسائل 13: 321 ب «15» من أبواب الوقوف و الصدقات ح 4.

ص: 8

حَتّٰى إِذٰا بَلَغَ أَشُدَّهُ (1) قال: «الاحتلام، قال: فقال: يحتلم في ستّ عشرة و سبع عشرة سنة و نحوها، فقال: لا، إذا أتت عليه ثلاث عشرة سنة كتب له الحسنات و كتبت عليه السيئات، و جاز أمره إلّا أن يكون سفيها أو ضعيفا، فقال: و ما السفيه؟ فقال: الذي يشتري الدرهم بأضعافه، قال: و ما الضعيف؟ قال: الأبله» (2).

إلى غير ذلك من الأخبار المتفرّقة في أبواب الوسائل، المعارضة للأخبار الظاهرة في انحصار جواز أمر الصبي في البلوغ، و تعارضها من قبيل تعارض العامّ و الخاصّ من وجه، لاجتماع مدلوليهما في البالغ الرشيد، و افتراق مدلول الأول في البالغ الغير الرشيد و الثاني في الرشيد الغير البالغ، و الترجيح مع الثاني؛ لأنّه أكثر عددا، و أقرب إلى الأصول اللفظيّة، أعني: إطلاق أَوْفُوا بِالْعُقُودِ (3) و تِجٰارَةً عَنْ تَرٰاضٍ (4) و غيرهما و إن لم يكن أقوى دلالة و أصحّ سندا.

و حمل إطلاق الرشد على البلوغ لكونه الفرد الغالب ليس بأولى من العكس، أعني: حمل إطلاق البلوغ على الرشد، لكونه الفرد الغالب.

و ثالثا: سلّمنا عدم دلالته على كفاية مجرد الرشد بل و دلالته على العدم، لكن الظاهر من نفي الجواز و إن كان ربما يشعر بعموم نفيه إلّا أنّ الأظهر من جواز أمره هو استقلاله في التصرّف؛ لأنّ جواز الأمر مرادف لمضيّه، فلا ينافي عدمه ثبوت الوقوف على الإجازة، كما يقال: بيع الفضولي غير ماض، بل موقوف.

و يشهد له الاستثناء في بعض تلك الأخبار بقوله: «إلّا أن يكون سفيها»، فلا دلالة لها حينئذ على سلب عبارته، و أنّه إذا ساوم وليّه متاعا و عيّن له قيمته و أمر الصبيّ بمجرّد إيقاع العقد مع الطرف الآخر كان باطلا، و كذا لو أوقع إيجاب


1- الأحقاف: 15.
2- الوسائل 13: 430 ب «44» من أبواب أحكام الوصايا ح 8.
3- المائدة: 1.
4- النساء: 29.

ص: 9

النكاح أو قبوله لغيره بإذن وليّه، فإنّ صحّة عقده حينئذ راجع في الحقيقة إلى جواز أمر الوليّ، لا جواز أمر نفسه المنفيّ.

و أمّا حديث رفع القلم عن الصبيّ (1) المستدلّ به الشيخ (2) و ابن إدريس (3) و العلّامة (4) ففيه:

أوّلا: ظهوره في رفع قلم المؤاخذة لا قلم جعل الأحكام، ضرورة أنّ مصبّه و مساقه هو مصبّ رفع عن أمّتي ما لا يعلمون (5)، و مساق أنّ نيّة السوء لا تكتب على هذه الأمّة (6) في الورود مورد التفضّل و الامتنان، لا مورد إهانة الصبيان و إلحاقهم بالجماد و البهائم من أصناف الحيوان، في سلب العبرة و الاعتبار عن عقودهم و قصودهم و عباراتهم.

و ثانيا: لو سلّمنا، فلا نسلّم دلالته على نفي المقتضي، لصحّة عقودهم، بل غاية دلالته على تقدير التسليم هو مانعيّة الصبوّة عن الصحّة كمانعيّة السفه و الرقّيّة، فيصحّ بلحوق الإجازة من الوليّ، أو من نفس الصبيّ بعد زوال صبوّته المانعة بطروّ البلوغ. فقوله: «الغلام لا يجوز أمره» (7)، لا يزيد في الدلالة على مانعيّة الصبوّة.

كمانعيّة السفه و الرقّيّة بقوله عَبْداً مَمْلُوكاً لٰا يَقْدِرُ عَلىٰ شَيْ ءٍ (8)، بل كقوله عليه السّلام: «من فقه الضيف أن لا يصوم تطوّعا إلّا بإذن صاحبه، و من طاعة


1- الوسائل 1: 32 ب «4» من أبواب مقدّمة العبادات ح 11.
2- المبسوط 3: 3.
3- السرائر 3: 207.
4- تذكرة الفقهاء 2: 145.
5- الوسائل 11: 295 ب «56» من أبواب جهاد النفس و ما يناسبه.
6- الوسائل 1: 36 ب «6» من أبواب مقدّمة العبادات ح 6 و 7.
7- الوسائل 12: 268 ب (14) من أبواب عقد البيع و شروطه ح 1، المكاسب: 114.
8- النحل: 75.

ص: 10

المرأة لزوجها أن [لا] تصوم تطوّعا إلّا بإذنه و أمره، و من صلاح العبد و طاعته و نصحه لمولاه أن لا يصوم تطوّعا إلّا بإذن مولاه، و من برّ الولد بأبويه أن لا يصوم تطوّعا إلّا بإذن أبويه» (1).

و أمّا ما استأنس به الماتن قدّس سرّه على البطلان المطلق مما ورد في الجنايات من أنّ عمد الصبيّ خطأ (2) فلا استئناس به، على أنّ قصده كلا قصد، للفرق الواضح بين العمد و القصد و الخطأ و اللاقصد، مفهوما و مصداقا، بالعموم و الخصوص المطلق، فإنّ العمد المقابل للخطإ لا يستعمل إلّا في العمد المحظور بقصد، و الخطأ المقابل للعمد لا يستعمل إلّا في العمد المحظور لا عن قصد، بخلاف القصد و اللاقصد فلا ينحصر متعلّقهما في المحظورات، فلا يقال لغير الصائم: عمد في الأكل أو خطأ فيه، بل يقال: قصد الأكل أو لم يقصده، بخلاف الصائم، فيقال له: عمد الأكل أو لم يعمده، كما يقال: قصده أو لم يقصده.

و على ذلك لا استئناس في حديث: «عمد الصبيّ خطأ» (3) على ما استأنس به الماتن (4) من أنّ كلّ حكم شرعيّ تعلّق بالأفعال الّتي يعتبر في ترتّب الحكم الشرعيّ عليها القصد، بحيث لا عبرة بها إذا وقعت بغير القصد، فما يصدر منها عن الصبيّ قصدا بمنزلة الصادر عن غيره بلا قصد، لما عرفت من أنّ العمد و الخطأ غير القصد و اللاقصد.

ثمّ إنّ هذا كلّه في تشخيص كون الأصل اللفظي و مقتضى القواعد صحّة عقد الصبيّ إلّا ما خرج، أو بطلانها إلّا ما خرج، بعد تشخيص كون الأصل العملي الأوّلي مع البطلان، و قد عرفت أنّ المتيقّن و الأظهر من كلّ ما استدلّ به على


1- الوسائل 7: 396 ب (10) من أبواب الصوم المحرم و المكروه ح 2.
2- الوسائل 19: 307 ب (11) من أبواب العاقلة ح 3، المكاسب: 115.
3- الوسائل 19: 307 ب (11) من أبواب العاقلة ح 3، المكاسب: 115.
4- المكاسب: 115.

ص: 11

البطلان التفصيل بين المجاز بإذن سابق أو لاحق فيصحّ، و بين غيره فلا.

و أمّا تشخيص المخرجات و المستثنيات عن تحت الأصل و القاعدة فتفصيل الكلام فيه أن يقال: أمّا على ما اخترناه من كون الأصل و القاعدة هو مشاركة الصبيّ للبالغين في جميع الأحكام الوضعيّة و التكليفيّة و السياسات و العقوبات- نظرا إلى عمومها و إطلاقها- فالخارج عن تحت هذا الأصل العامّ و القاعدة المطلقة أمور:

منها: المؤاخذة على موجباتها حيث خصّت بالبالغين، و خرج الصبيان عن تحت عمومها، و المخرج لهم هو الإجماع، و حديث رفع القلم عنهم (1).

و منها: الجنايات بل مطلق ما لا يعذّر فيه العامد في الشريعة، حيث خرج الصبيان عن عموم مشاركة البالغين فيما لم يعذر العامد فيه من المحظورات، و المخرج لهم عن عموم المشاركة صحيحة ابن مسلم «بأنّ عمد الصبيّ خطأ» (2).

و منها: بطلان جميع عقودهم الغير المجازة بإذن سابق من الأولياء أو بإجازة لاحقة منهم، حيث خرج الصبيان عن عموم مشاركة البالغين في صحّة العقود بالاستقلال و الأصالة، و المخرج لهم عن ذلك هو الشهرة، و الإجماع المنقول، و خبر ابن حمزة المتقدّم (3) من أنّ أمر الصبيّ لا يجوز. هذا كلّه في بيان المخرجات و المستثنيات على القول بكون الأصل و القاعدة مشاركة الصبيّ مع البالغين في جميع الأحكام.

و أمّا على القول بالعكس و عدم مشاركته معهم فالخارج و المستثنى عن عموم هذا الأصل و إطلاق هذه القاعدة على تقدير تسليمها أيضا أمور:

منها: عبادات الصبيّ، فإنّه يشارك البالغين في مشروعيّتها و إن قلنا بأصالة


1- تقدّم ذكر مصدره في هامش (1) ص: 9.
2- الوسائل 19: 307 ب (11) من أبواب العاقلة ح 2.
3- تقدّم ذكر مصدره في هامش (1) ص: 7.

ص: 12

عدم المشاركة، لثبوت المخرج من الشهرة و الأخبار الدالّة على وجوب الصوم على الصبيّ إذا طاقه ثلاثة أيّام متتابعة (1)، و الصلاة إذا عقلها (2)، فإنّ أقرب مجازاتها الاستحباب.

و ما في الوسائل: «لا بأس بالغلام الّذي لم يبلغ الحلم أن يؤمّ القوم، و أن يؤذّن لهم» (3).

و ما رواه الكليني (4)، و الصدوق (5) في توحيده، عن طلحة بن زيد، عن الصادق عليه السّلام قال: «إنّ أولاد المسلمين موسومون عند اللّٰه، شافع و مشفّع، فإذا بلغوا اثني عشرة سنة كانت لهم الحسنات، فإذا بلغوا الحلم كتبت عليهم السيّئات» (6)، و لا قائل بالفصل، و للزوم الظلم عليه تعالى لو خلا عمله من الثواب، و لا ينفع الاعتياد فيما بعد، فإنّه ربما لا يحتاج إليه، و لفحوى ما دلّ على الثواب للوليّ، مع أنّ مشقّة الفاعل أكثر بكثير. إلى غير ذلك من الوجوه المقرّرة في بحث أنّ الأمر بالأمر أمر من كتاب الأساس في الأصول.

و منها: المعاملات الحقيرة، فإنّ الصبيّ يشارك البالغين في صحّتها منه عن قبل الأولياء عند جماعة من القائلين ببطلان عقوده و معاملاته، كما عن الفاضل القميّ في جواب سؤاله (7)، و عن المحدّث الكاشاني (8) و كاشف الغطاء (9) و صاحب


1- الوسائل 7: 168 ب «29» من أبواب من يصحّ منه الصوم ح 5.
2- الوسائل 3: 12 ب «3» من أبواب أعداد الفرائض و نوافلها ح 2.
3- الوسائل 5: 397 ب (14) من أبواب صلاة الجماعة ح 3.
4- الكافي 6: 3 ح 8.
5- التوحيد 392 ح 3.
6- الوسائل 1: 30 ب «4» من أبواب مقدّمة العبادات ح 1.
7- جامع الشتات 1: 150.
8- مفاتيح الشرائع 3: 46.
9- كشف الغطاء: 49.

ص: 13

الرياض (1) حيث استثنوا المعاملات الحقيرة للأولياء عن عموم بطلان عقود الصبي عندهم، دفعا للعسر و الحرج اللازم من عدم استثنائه، و أخذا بالسيرة المستمرّة بين المسلمين خلفا عن سلف، على صحّة نيابتهم الأطفال في شراء باقة من البقل و بيع بيضة بفلس، و إجلاس الصبيان مجلس أساتيدهم و أوليائهم في الدكاكين و الأسواق للمعاملة، و اتخاذ الأكابر و ذوي الشئون الصبيان في بيوتهم لحوائج الأسواق، و لا إشكال في حجّية مثل هذه السيرة و كشفها عن تقرير المعصوم، بعد اطلاعه عليها و تمكّنه من الردع و عدم الردع، بما يفي في قطع مادّة العذر و الاعتذار.

خلافا للماتن قدّس سرّه (2) حيث منع صحّة معاملات الصبيّ مطلقا حتّى في المحقّرات، منكرا للزوم العسر و الحرج و لكاشفيّة السيرة المذكورة عن تقرير المعصوم عليه السّلام.

و فيه: أمّا إنكار لزوم العسر و الحرج من تفويض المحقّرات إلى الصبيان فهو و إن كان الأصل للشاكّ في لزومه العدم إلّا أنّه إن أراد إنكار لزوم العسر الشخصيّ فمسلّم الإنكار، إلّا أنّ العبرة ليست به، و إن أراد إنكار لزوم العسر النوعيّ الّذي به العبرة فلا مجال لإنكاره.

و أمّا إنكار السيرة فمنحصر إمّا في إنكار أصل السيرة، أو إنكار اطلاع المعصوم عليها، أو إنكار تمكّنه من الردع، أو إنكار عدم ردعه بدعوى كفاية الردع بمثل خبر ابن حمزة المتقدّم (3)، أو بمثل الحوالة إلى الأصول.

أمّا أصل وجود السيرة فلا مجال لإنكاره في المحقّرات، بل في كلّ ما يليق بحال الصبيان من المعاملات، لشهادة العيان بجريان سيرة المسلمين على


1- رياض المسائل 5: 61.
2- المكاسب: 115- 117.
3- تقدّم في ص: 7.

ص: 14

الوكول إلى كلّ صبيّ ما هو فطن فيه بحيث لا يغلب في المساومة عليه، فقد ترى أنّهم يكلون إلى البالغ أربع سنين شراء باقة بقل أو بيع بيضة بفلس، و إلى البالغ ثمان سنين شراء اللحم و الخبز و نحوهما، و إلى البالغ أربع عشرة سنة شراء الثياب بل الحيوان، بل يكلون إليه أمور التجارة في الأسواق و البلدان، و لا يفرّقون بينه و بين الكامل خمس عشرة سنة، و لا يكلون إليه شراء مثل القرى و البساتين و بيعها إلّا بعد أن يحصل له التجارب.

و قول الماتن: «لا أظنّ أنّ القائل بالصحّة يلتزم العمل لسيرة على هذا التفصيل» (1) مجرّد استبعاد إذا لم يكن جهة انفراد، و إلّا فهو الفارق بين الأفراد.

و تقوية الماتن قدّس سرّه (2) احتمال كون هذه السيرة ناشئة عن عدم المبالاة في الدين كما في كثير من سيرهم الفاسدة، كسيرتهم على عدم الفرق بين المميّزين و غيرهم، و لا بينهم و بين المجانين، و لا بين معاملتهم لأنفسهم بالاستقلال بحيث لا يعلم الوليّ أصلا و معاملتهم لأوليائهم على سبيل الآليّة، مع أنّ هذه مما لا ينبغي الإشكال في فسادها، سيّما الأخير. مدفوع.

نقضا: بلزوم سقوط جميع سيرات المسلمين عن الحجّية ما لم يعاضدها الأدلّة الخارجيّة، إذ ما من سيرة من سير المسلمين إلّا و يتأتّى فيها هذا الاحتمال.

و حلّا: بأنّا لم نقصد الاستكشاف من مجرّد تلك السيرة عن حكم العقل أو الشرع حتّى يدفعه احتمال صدورها عن عدم المبالاة بل إنّما نقصد الاستكشاف منها و من عدم ردع المعصومين عنها بعد فرض اطلاعهم عليها عن تقريرهم و رضائهم بها، ضرورة أنّ عدم مبالاة المسلمين في أمر من أمور الدين لا يقتضي عدم مبالاة المعصومين فيه أيضا، بل يقتضي أشدّية مبالاتهم في الردع على الوجه الآكد و الأبلغ.


1- المكاسب: 116.
2- المكاسب: 116.

ص: 15

و من هنا يعلم أنّ الأصل في كلّ سيرة هو الكاشفيّة عن الرضا و التقدير إلّا ما ثبت عنه الردع القاطع للعذر، كما في معاملة الصبيان لأنفسهم من دون رضا الأولياء، لا أنّ الأصل في كلّ سيرة هو عدم الكاشفيّة و عدم الحجّية إلّا ما ثبت بدليل خاصّ.

و من هنا يعلم أيضا أنّ مقايسة السيرة الجارية على صحّة معاملة الصبيان في المحقّرات عن قبل الأولياء على السيرة الجارية على عدم الفرق بين المميّزين و غيرهم، و لا بينهم و بين المجانين، و لا بين معاملتهم لأنفسهم بالاستقلال و معاملتهم للأولياء على سبيل الآليّة فيه.

أوّلا: منع السيرة على عدم الفرق إن لم ندّعي السيرة على الفرق.

و ثانيا: سلّمنا السيرة على عدم الفرق بين ما ذكر، إلّا أنّ مقايسة السيرة فيما نحن فيه على السيرة الجارية على عدم الفرق بين ما ذكر قياس مع الفارق، و هو ثبوت الردع في المقيس عليه و عدم ثبوته في المقيس، حتّى لو سئل عن نفس المعاملين مع الصبيّ الغير المأذون لاعترفوا بالتقصير، أو اعتذروا بما ليس عذرا، بخلاف ما لو سئلوا عن وجه معاملتهم مع المأذون فإنّهم يجيبون بأنّه مأذون، الّذي هو بمنزلة الصغرى لكلّية صحّة كلّ ما هو مأذون فيه من المعاملات المكمون في أنفسهم قطعيّتها أو ظنيّتها، مع أنّ شكّهم في كلّية صحّته كاف في صحّته بعد قيام سيرتهم عليه من دون ثبوت ردع عنه.

و الحاصل: أنّا لم نتحاش عن حجّية كلّ سيرة من سير المسلمين و كاشفيّته عن رضا رئيسهم المعصوم.

فإن قلت: قد نرى بالعيان قيام الإجماع و البرهان على فساد بعض سيرهم.

قلنا: هو الفارق بينه و بين ما نحن فيه، كما لا يخفى.

و أمّا احتمال حدوث السيرة الجارية على صحّة معاملة الصبيان في

ص: 16

المحقّرات عن قبل أوليائهم بعد زمن المعصومين فبعيد جدّا؛ لتشابه الأزمان و عدم تفاوت الأحوال و الدواعي، مضافا إلى عدم احتمال حدوثه أحد مع توفّر الدواعي على ضبط ما يحدث من السير، سيّما المخالفة للقواعد و السنن، أ لا ترى ضبطهم كون السيرة الجارية بين المسلمين على شرب التتن حادثة من سفهاء إيران، و على شرب الچائي حادثة من الإرسيّة، و على امتياز الهاشميين لغيرهم في الألبسة حادثة من سلاطين الصفويّة، إلى غير ذلك من السير الحادثة، حيث ضبط حدوثها بحيث لم يشك في حدوثها، مع أنّها ليست من السير المخالفة للقواعد، فالمنصف يقطع بأنّ ما نحن فيه ليس منها.

و أمّا احتمال عدم اطلاع المعصومين بتلك السيرة الجارية على معاملة الصبيان عن قبل أوليائهم في المحقّرات من الطرق البشريّة الموجبة لوجوب ردعهم عنها فبعيد جدا؛ لقضاء العادة باطلاع المعصومين من جميع أنحاء الطرق البشريّة فضلا عن بعضها على الأمر المتداول فعله، و عموم البلوى به فيما يقرب من تسعمائة سنة.

و أمّا احتمال عدم تمكّنه من الردع عنها فمضافا إلى أصالة عدم المانع منه معلوم العدم، لعدم تقيّة و لا غيرها من الموانع، سيّما المانع المستوعب جميع تلك المدّة الطويلة، فإنّه أيضا من المحالات العاديّة المعلوم عدمه بقضاء العادة، ألا ترى أنّ الأمور المخالفة للعامّة و سلاطين الجور مع شدّة التقيّة فيها قد أبرزوها حقّ الإبراز، فكيف بالأمور الموافقة للعامة؟ و عدم شائبة التقيّة فيها أصلا.

و أمّا احتمال اكتفاء المعصومين في الردع عن تلك السيرة بالحوالة إلى مثل أصالة الفساد في المعاملات، أو إلى عموم حرمة أكل مال الغير، أو إلى إطلاق رواية ابن حمزة المتقدّمة (1) فمدفوع أيضا: بأنّ الاكتفاء بمثل الحوالة إلى أصل أو


1- تقدّم في ص: 7.

ص: 17

عموم أو إطلاق في التبليغ إنّما هو فيما لم يعم به البلوى و لم يجري السيرة على العمل به، و أمّا فيما عمّ به البلوى بل قد جرى عليه السيرة بزعم صحّته- كما فيما نحن فيه- فليس من مقتضى اللطف، و عادة المعصومين الاكتفاء في تبليغ الردع عن مثله بالحوالة إلى أصل أو عموم أو إطلاق، فضلا عن العموم و الإطلاق النازل منزلة الإجمال في مثل المقال. بل كان اللازم بمقتضى اللطف و العادة في كلّ ما شاع المنكر بتلك المثابة في الشيوع و عموم البلوى و جريان السيرة عليه المبالغة في الردع عنه على الوجه الأكيد و النهي الشديد، بل لا يكتفي بمجرّد ذلك حتّى يعلّق الردع و النهي بعنوان ذلك المنكر صريحا لا تلويحا، كما علم ذلك منهم عليهم السّلام بالنسبة إلى القياس (1)، و شرب المسكرات (2) و غيرهما من المنكرات الشائعة في عصرهم، لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَ يَحْيىٰ مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ (3).

و بيان المنكر بالردع عنه يختلف باختلاف حال المنكر من حيث الشدّة و الضعف، و باختلاف حال المكلّفين في عموم البلوى به و عدمه، و في كثرة ارتكابه و قلّته، فربّ منكر يكفي في بيانه و الردع عنه بالحوالة إلى أصل من الأصول أو قاعدة من القواعد، و ربّ منكر لا يكتفى في بيانه و الردع عنه بمجرّد ذلك بل يحتاج إلى الردع بعموم أو إطلاق، و ربّ منكر لا يكفي في بيانه و الردع عنه ذلك المقدار أيضا بل يحتاج إلى تأكيد الردع بعمومات متتابعة و تشديد النهي بإطلاقات متعاقبة، و ربّ منكر لا يكفي في بيانه و الردع عنه بهذا المقدار أيضا بل يحتاج من جهة كثرة تداوله و شدّة حرمته إلى تعلّق الردع و النهي بعنوانه الصريح الخاصّ، كما في القياس و نحوه.

و ما نحن فيه من معاملة الصبيان عن قبل أوليائهم على تقدير كونه منكرا


1- الوسائل 18: 20 ب (6) من أبواب صفات القاضي.
2- الوسائل 17: 259 ب «15» من أبواب الأشربة المحرّمة.
3- الأنفال: 42.

ص: 18

في الواقع إنّما هو من قبيل الوجه الأخير الذي لا يكتفي في بيانه و الردع عنه إلّا بعنوانه الصريح الخاصّ- كالقياس- على الوجه الأكيد و الردع الشديد حتّى يطرق الأسماع، و يقطع مادّة العذر في المحافل و البقاع، فإنّ المعصومين إنّما نصّبوا رحمة للعالمين، و ليس من دأبهم المؤاخذة و إلزام المكلّفين من الطرق الخفيّة و المستمسكات المخفيّة، بل لم يرضوا باقتحام الكفّار في المنكر، فكيف يرضوا باقتحام مواليهم فيه؟

ثمّ إنّ صحّة معاملة الصبيّ المأذون لا ينحصر فيما قرّرنا من السيرة، بل يحتمل أيضا صحّتها من باب الآليّة، و إلحاق الصبيّ بالآلة الّتي يتعاطى بها المتعاملين الثمن أو المثمن.

أو من باب تولّي المعامل مع الصبيّ طرفي العقد فيكون موجبا قابلا بعد إحرازه مأذونيّة الصبيّ في المعاملة و رضا الآذن له فيها، كما عن كاشف الغطاء (1) نفي البعد عنه.

أو من باب إلحاق معاملة الصبيّ المأذون في المعاملة بالمعاطاة الواقع بين الكاملين بمجرّد المراضاة و إن خرج عن موضوع المعاطاة بعدم وقوع التعاطي بينهما، بناء على عدم توقّف صحّة المعاطاة على تعاط قائم بشخصين، و حصوله بمجرّد إحراز المراضاة كيف ما اتّفق، كما عن بعض المحقّقين توجيهه الصحّة به.

و لكن على كلّ من هذه التوجيهات الثلاثة للصحّة يخرج صحّة معاملة الصبيّ عن موضوع كونه مستثنى من معاملة الصبيّ، لرجوع وجه الصحّة في كلّ من التوجيهات الثلاثة إلى وقوع المعاملة بين الكاملين، لا بين الصبيّ و غيره، أو بين الصبيين حتّى يكون من مستثنيات معاملة الصبيّ.

و إلى هذا أشار الموجّه المذكور في المتن: بأنّ التحقيق أنّ هذا ليس


1- كشف الغطاء: 50.

ص: 19

مستثنى من كلام الأصحاب، و لا منافيا له (1) .. إلخ.

قوله: «بل ما ذكر أولى بالجواز من الهديّة، من وجوه».

[أقول:] و هي أشديّة العسر، و أقوائيّة السيرة، و أبعديّة الآليّة فيه منه في الهديّة بمزيّة الإنشاء، و مزيد الاعتناء به و بفعله و عقده و قصده في المعاملة، دون الإهداء.

ثمّ إنّ الماتن قدّس سرّه (2) بعد ما ضعّف السيرة المتقدّمة على استثناء المحقّرات من معاملة الصبيان قد ضعّف كلّ من سائر توجيهات الصحّة الثلاثة الباقية، بما سيأتي التعرّض لما في تضعيفه من الضعف، كما تقدّم تضعيف خدشته في السيرة بأبلغ وجه و أبسط.

مضافا إلى توقّف تضعيفه التوجيهات الثلاث على عدم تماميّة السيرة المتقدّمة على صحّة معاملة الصبيّ المأذون، بخلاف ما لو تمّت السيرة المتقدّمة، فإنّه على تقدير تماميّتها لا يتوقّف صحّة معاملة الصبيّ المأذون على تماميّة شي ء من التوجيهات الثلاثة، بل يحتمل أن يكون وجه صحّتها كونه معاوضة مستقلّة، أو إباحة معوّضة، أو كون الصبيّ كالكبير في صحّة المعاملات و لو في الجملة لا بالجملة، إلى غير ذلك من التوجيهات التبرعيّة الّتي هي كالجموع التبرعيّة و النكات بعد الوقوع الّتي لا يقدح الخدشة في وجاهتها بصحّة وقوع الواقع بعد فرض وقوعه.

هذا، مع أنّ الخدشة في توجيهه الصحّة من باب المعاطاة بأنّه موقوف أوّلا على ثبوت حكم المعاطاة من دون إنشاء إباحة أو تمليك مدفوعة.

أوّلا: بما استظهرناه سابقا من إطلاق تِجٰارَةً عَنْ تَرٰاضٍ (3) و حديث


1- المكاسب: 116.
2- المكاسب: 116.
3- النساء: 29.

ص: 20

«طيب النفس» (1) الاكتفاء في حكم المعاطاة بمجرّد المراضاة كيف ما اتفق، و عدم توقّفه على إنشاء إباحة أو تمليك.

و ثانيا: سلّمنا توقّفه على حصول الإنشاء، لكن ندّعي حصول ذلك الإنشاء بدفع الوليّ المال إلى الصبيّ.

و قول الماتن قدّس سرّه: «إنّ هذا إنشاء إباحة لشخص غير معلوم، و مثله غير معلوم الدخول في حكم المعاطاة مع العلم بخروجها عن موضوعها (2) .. إلخ».

[أقول:] مدفوعة: أوّلا: بأنّه معلوم الدخول في حكم المعاطاة بإطلاق تِجٰارَةً عَنْ تَرٰاضٍ، و «طيب النفس»، ألا ترى أنّ تسبيل الماء لكلّ من شرب و إباحة الطعام لكلّ من أكل إلى غير ذلك من الإباحات العامّة صحيحة بإطلاق «التراضي» و «طيب النفس»، مع عدم كون المقصود منها الإباحة لشخص معلوم.

و ثانيا: أنّا نفرض إنشاءه الإباحة لشخص معلوم بدفعه المال إلى الصبيّ و إرساله إلى ذلك الشخص المعلوم ثمّ نلحق الغير المعلوم به، بضميمة الإجماع المركّب و عدم القول بالفصل.

لا يقال: إنّ إلحاق الإباحة لشخص غير معلوم بالإباحة لشخص معلوم بضميمة الإجماع المركّب ليس بأولى من العكس، أعني: إلحاق الإباحة لشخص معلوم بالإباحة لشخص غير معلوم بضميمة الإجماع المركّب.

لأنّا نقول: ضميمة الفرض الأوّل- و هو السيرة- أقوى، فهو أولى من العكس.

و كذلك الخدشة في توجيه الصحّة من باب التولّي لطرفي العقد الإيجاب


1- الوسائل 3: 424 ب (3) من أبواب مكان المصلّي ح 1.
2- المكاسب: 116.

ص: 21

و القبول، أوّلا: بأنّ تولّي وظيفة الغائب- و هو من أذن للصغير- إن كان بإذن منه فالمفروض انتفاؤه، و إن كان مجرّد العلم برضاه فالاكتفاء به في الخروج عن موضوع الفضولي مشكل، بل ممنوع. مدفوعة: باختيار الشقّ الأوّل و منع انتفائه؛ لأنّ إتيان الصبيّ للمعاملة بأمارات الإذن من الوليّ و الشواهد الحاليّة الكاشفة عن إذن الوليّ له في المعاملة لا يقصر عن الكتابة المؤذنة بالوكالة لتولّي العقود و المعاملات عن قبل الغائب.

و كذلك الخدشة الأخرى على ذلك بأنّ من المحسوس بالوجدان عدم قصد من يعامل مع الصبيان النيابة عمّن أذن للصبيّ مدفوعة: بأنّ مجرد التعاطي مع الصبيّ على أنّه مأذون كاف في تحقّق النيابة المكمونة في خزانة الخاطر، و لا يحتاج إلى ما وراء ذلك من إحضارها في الخاطر و قصد عنوانها مقترنا بالمعاملة، سيّما في المعاطاة المبني على مجرّد المراضاة، كما لا يخفى.

ثمّ إنّه إذا ثبت صحّة ما يصدر من الصبيّ من المعاملات اللائقة بحاله بإذن الوليّ فهل يختصّ صحّتها منه بصورة آليّته عن قبل الوليّ في المعاملة، أم يعتبر مع ذلك في صحّتها قصد عنوان الآليّة لئلّا يصحّ معاملة الصبيّ أصالة و لا وكالة إذا لم يقصد عنوان الآليّة في المعاملة، أم يكفي في صحّتها مجرد رضا الولي و إن كانت المعاملة لنفسه؟ وجوه.

أقواها الأخير و إن كان الأحوط منه الأوّل ثمّ الأحوط منه الوسط، و ذلك لأنّ المتيقّن من معقد الشهرة و الإجماع المنقول و أخبار عدم جواز أمر الصبيّ حتّى يبلغ (1) هو صورة عدم رضا الوليّ بأمره دون صورة رضائه، فضلا عن صورة إذنه الذي هو أخصّ من الرضا، سيّما صورة قصد عنوان الآليّة، و من المقرّر في أصولنا حجّية العامّ المخصّص بالمجمل المفهوميّ و الاقتصار في


1- الوسائل 1: 30 ب (4) من أبواب مقدّمة العبادات.

ص: 22

تخصيصه على القدر المتيقّن، فيقتصر فيما نحن فيه من عدم جواز معاملة الصبيّ على خصوص صورة رضا وليّه، و يرجع فيما عداه إلى عموم أَوْفُوا بِالْعُقُودِ (1)، و إطلاق تِجٰارَةً عَنْ تَرٰاضٍ (2) و «طيب النفس» (3).

و يتفرّع على ذلك قوّة صحّة معاملة الصبيّ و إن كان لنفسه في المحقّرات، بل مطلق ما يليق بحاله من المعاملات، الّتي هو فطن فيها بحيث لا يغلب في المساومة، و حلّية أخذ ما يبذله الصبيّ عن رضا بإزاء معاملاته و إن كان ما يبذله من ماله أو حيازاته أو لقطاته المتملّكة له بالالتقاط إذا أحرز رضا وليّه بتلك المعاملة علاوة على رضا نفسه، وفاقا لشيخنا العلّامة، و ما عن الفاضل القمّي في جواب سؤاله (4).

بل الأقوى حلّية مطلق ما يبذله الصبيّ من ماله و لو مجّانا من الهديّات و الهبات و الضيافات اللائقة بحاله إذا أحرز رضا الوليّ فيها و لو بالفحوى أو شاهد الحال؛ لعموم الأدلّة و إطلاقها على ما عدا المتيقّن من التخصيص، و هو صورة عدم رضا وليّه.

ثمّ الوليّ للصبيّ لا ينحصر في الأب و الجدّ حتّى يخرج الفاقد لهما عن الحكم المذكور، بل لا يخلو الصبيّ عن وليّ في مذهب الإماميّة، إذ الفاقد للأب و الجدّ لا أقلّ له من وصيّ، و مع فقده أيضا لا أقلّ من وجود حاكم شرع، و مع فقده أيضا فلا أقلّ من وجود عدول المؤمنين، و مع فقده الجميع فلا أقلّ من وجود الإمام الذي لا يخلو الأرض منه، فإذا أحرز رضا أحد أوليائه المترتّبين و لو بشاهد الحال أو الفحوى كفى في حلّية ما يبذله الصبيّ و لو مجّانا مما يليق


1- المائدة: 1.
2- النساء: 29.
3- تقدّم ذكر مصدره في هامش (1) ص: 20.
4- جامع الشتات 1: 101.

ص: 23

بحاله، بعد انضمام رضا الوليّ إلى رضائه.

بل و كذا الحكم إن احتمل كون المبذول من مسروقاته أو مقبوضاته بالوجوه الفاسدة؛ لاندفاع احتمال الفساد عمّا في يد المسلم من الأموال بأصالة الصحّة و غلبتها و لو كان المسلم صبيّا مميّزا.

نعم، يكره الأخذ من كسب الغلام الذي لا يبالي بالحرام، لما ورد في رواية السكوني عن أبي عبد اللّٰه عليه السّلام قال: «و نهى النبي صلّى اللّٰه عليه و آله عن كسب الغلام الذي لا يحسن صناعة بيده»، معلّلا بأنّه: «إن لم يجد سرق» (1)، كما يكره الأخذ من كسب غير الغلام ممن لا يبالي بالحرام.

ثمّ لو سلّمنا عدم صحّة معاملات الصبيّ إلّا في صورة الآليّة و إذن الوليّ له فهل يكفي في إحراز الآليّة و المأذونيّة بمجرّد الشواهد الظنّية كالاكتفاء بجلوسهم مقام أوليائهم و تظاهرهم على رءوس الأشهاد حتّى يظنّ أنّ ذلك من إذن الأولياء و خصوصا في المحقّرات، أم لا يكفي إحرازها إلّا بالعلم أو ما يقوم مقامه كما لا يكفي إحراز الرضا إلّا بأحدهما؟ وجهان. من عدم حجّية الظنّ في الموضوعات الصرفة، و كون المتيقّن من معقد السيرة هو صورة العلم. و من أنّ الأظهر جريان السيرة على الاكتفاء بالشواهد الظنّية في إحراز الآليّة و المأذونيّة للصبيّ، كما عن كاشف الغطاء (2) التصريح به، مضافا إلى عود لزوم العسر و الحرج و انسداد باب المعاملة مع الصبيان لو اقتصر على خصوص العلم في إحراز المأذونيّة و الآليّة.

و حاصل الكلام من البدو إلى الختام: أنّ الأصل الأصيل الّذي عليه التعويل هو مشاركة الصبيان مع البالغين في جميع الأحكام التكليفيّة و الوضعيّة، إلّا ما خرج من التكليفيّة كرفع المؤاخذة، و من الوضعيّة كرفع الصحّة عن المعاملات


1- الوسائل 12: 118 ب «33» من أبواب ما يكتسب به ح 1.
2- كشف الغطاء: 49- 50.

ص: 24

المستقلّة لنفسه من دون إذن الوليّ، كما هو الأقرب إلى القواعد و عموم الخطابات و إطلاقها، إذ لم نستعهد ورود شي ء من الخطابات بلسان يا أيّها المكلّفين، أو يا أيّها البالغين، بل هي واردة بلسان يٰا أَيُّهَا النّٰاسُ (1)، و يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا (2)، يٰا بَنِي آدَمَ (3)، و نحوها من العمومات و الإطلاقات الشاملة للصبيان.

و لو سلّمنا أنّ الأصل عدم مشاركتهم مع البالغين، فلا أقلّ من استثناء أمور:

منها: عباداتهم، فإنّها مشروعة للوجوه الخاصّة المتقدّمة.

و منها: المحقّرات، بل مطلق اللائق بحالهم من المعاملات المأذون فيها عن قبل الوليّ، للسيرة المتقدّمة.

و منها: إنشاءاتهم و قصودهم في العقود الصادرة عنهم وكالة عن قبل الأولياء، أو غيرهم، لعموم أَوْفُوا بِالْعُقُودِ (4).

و منها: رضاؤهم و مراضاتهم في تصحيح جميع ما يتوقّف على الرضا و المراضاة، من المعاطاة و الإباحات و الضيافات و الهديّات، و غيرها من المجّانيات و غير المجّانيات اللائقة بحالهم إذا رضي الوليّ بها، لعموم تِجٰارَةً عَنْ تَرٰاضٍ (5)، و إطلاق «طيب النفس» (6).

بقي الكلام في حكم قبوضهم في الأحكام المتوقّفة على القبض و المقابضة، كلزوم الوقف و الرهن و الضمان، و تعيين الحقوق الكلّية الثابتة في


1- الحج: 1 و 5.
2- المائدة: 8.
3- الأعراف: 27.
4- المائدة: 1.
5- النساء: 29.
6- تقدّم ذكر في هامش (1) ص: 20.

ص: 25

الذمّة الموقوف تعيّنها على القبض، إلى غير ذلك من الأحكام المتوقّفة على القبض الصحيح، هل يتحقّق بقبض الصبيّ مطلقا، أم لا يتحقّق بقبضه مطلقا، أم التفصيل بين قبضه وكالة فيترتّب عليه أحكام القبض الصحيح، و أصالة فلا؟ و هو الأقوى، فيكون حكم قبضه هو حكم إنشاءاته في الصحّة و النفوذ وكالة، لا أصالة. و الوجه الوجه.

[منها القصد]

قال طاب ثراه: «و من جملة شرائط المتعاقدين: قصدهما .. إلخ».

أقول: الخارج بهذا القيد عقد الغالط و العابث، و أمّا خروج عقد الفضولي و المكره، و ما لا يقبل التمليك شرعا كبيع الخمر و الخنزير، كما ربما يتوهّم أو توهّم فممنوع.

أمّا بيع المكره فخروجه بقيد القصد على إطلاقه ممنوع؛ لأنّ الإكراه على العقد تارة يورث سلب القصد عن العاقد فيخرج، و تارة لا يورث سلبه فلا يخرج، فيكون الإكراه داعيا إلى القصد، كما يكون داعيا إلى العقد.

و أمّا البيع الفضولي و ما لا يقبل التمليك شرعا فلا يخرج شي ء منهما بقيد القصد، من جهة أنّه لا دليل على اشتراط أزيد من القصد المحقّق في صدق مفهوم العقد، و أمّا اشتراط العلم بتأثيره شرعا فلا دليل عليه بعد صدق اسم العقد و القصد عرفا.

لكن لا لدعوى صدق التأثير و التكسير عرفا من دون التأثر و الانكسار، كما يقال: كسرته فلم ينكسر، و سحقته فلم ينسحق حتّى يمنع صدقه على وجه الحقيقة، بل لأنّ نفي ترتيب آثار قبول أثر العقد على ما لا يملك شرعا عند الشارع لا يقتضي نفي ماهيّة صدق ذلك العقد عرفا، كما أنّ نهي السلطان رعيّته عن بيع شي ء من الأشياء لمصلحة من المصالح لا يدلّ على نفي ماهيّة صدق ذلك البيع في العرف بعد اتفاقه، كما لا يخفى. هذا كلّه في بيان اعتبار قصد المتعاقدين

ص: 26

إلى مدلول اللفظ ليخرج الغالط، و إلى المعنى ليخرج الهازل.

و أمّا تعيين المالكين الّذين يتحقّق النقل أو الانتقال بالنسبة إليهما ففي اعتباره مطلقا- كما هو الأشبه إلى الأصول العمليّة- أو عدمه مطلقا- كما هو الأقرب إلى الأصول اللفظيّة- أو التفصيل بين أن يتوقّف تعيين المالك على التعيين حال العقد لتعدّد وجه وقوعه الممكن شرعا اعتبر في النيّة أو مع اللفظ به أيضا، و بين عدم توقّف تعيين المالك على التعيين حال العقد- بأن يكون العوضان معنيين و لا يقع العقد فيهما على وجه يصحّ إلّا لمالكهما فلا يعتبر مطلقا- أو إذا لم ينو الخلاف، أو لم يصرح بالخلاف و إن نواه وجوه.

أقواها التفصيل المطلق، وفاقا للماتن، و بعض المحقّقين المذكور في المتن (1)، لكن لا لما ذكره الماتن، و لا لما ذكره البعض من المحقّقين، و توضيح ذلك أن يقال:

أمّا وجه اعتبار تعيين المالك في الشقّ الأوّل من التفصيل فليس لما ذكره بعض المحقّقين من قوله: «لو لا ذلك لزم بقاء الملك بلا مالك في نفس الأمر» (2).

لإمكان المناقشة في هذا الاستدلال، نقضا: ببيع الفضولي عن قبل مالك معيّن، و حلّا: بأنّه إن قلنا بأن إجازة المالك المعيّن في الفضولي كاشفة عن وقوع البيع في الواقع منعنا الملازمة المذكورة، و هو بقاء الملك بلا مالك في الواقع لو لم يعيّن المالك، بل كان مالكه في صورة لحوق الإجازة هو المجيز المعلوم في علم الباري، و في صورة عدم لحوق إجازة له هو المالك الأوّل.

و إن قلنا بأنّ الإجازة ناقلة عن الملك لا كاشفة منعنا بطلان اللازم، و هو بقاء الملك بلا مالك أو منعنا الملازمة أيضا بأنّه قبل الإجازة باقيا على ملك مالكه


1- المكاسب: 117.
2- مقابس الأنوار: 115.

ص: 27

الأوّل.

و بالجملة: فعدم تعيين المالكين في العقود نوع من العقود الفضوليّة كالمعيّن فيها المالكين، فقول البائع: بعت ثوبا كذا بكذا و كذا من الدرهم من دون تعيينه مالك الثمن و لا المثمن في حكم الفضولي المعيّن فيه المالكين، فيتعيّن مالك المثمن بمن بادر إلى إجازة مثل ذلك البيع ببذل ذلك المثمن، و كذا يتعيّن مالك الثمن بمن بادر إلى إجازة ذلك البيع بقبوله، فالمقتضي لصحّة الفضولي من الإطلاقات و عمومات أَحَلَّ اللّٰهُ الْبَيْعَ (1) و أَوْفُوا بِالْعُقُودِ (2) و تِجٰارَةً عَنْ تَرٰاضٍ (3) «و الناس مسلّطون» (4) و غيرها قاض بصحّة مطلق الفضوليّ و ان لم يعيّن فيه المالكين لو لا ظهور الشهرة بل الإجماع من الحدس على الفرق و عدم صحّة مثله.

و لا لأجل ما عن ذلك المحقّق أيضا من قوله: «لو لا اعتبار التعيين، يعني في الشقّ الأوّل من تفصيله لزم عدم حصول الجزم بشي ء من العقود الّتي لم يتعيّن فيها العوضان .. إلخ» (5).

لمنع الملازمة؛ بأنّ اللازم هو انتفاء الجزم بتعيين المالكين في العقود لا انتفاء الجزم بنفس العقد، و هو النقل و الانتقال، فإنّ الجزم بنفس العقد الذي هو النقل و الانتقال لا ينافيه عموم المنتقل منه و عموم المنتقل إليه، كما لو قال: بعت كلّ ثوب من الثياب المتّصفة بالصفات الكذائيّة من أيّ مالك من المماليك بمبلغ كذا في ذمّة أيّ شخص من الأشخاص المجيزين لذلك العقد، فإنّه لو لا الحدس


1- البقرة: 275.
2- المائدة: 1.
3- النساء: 29.
4- عوالي اللئالي 1: 222 ح 99.
5- مقابس الأنوار: 115.

ص: 28

بفتوى المشهور بل الإجماع على عدم صحّته لم يمنع مانع آخر من نهوض الإطلاقات و العمومات إلى صحّته و تنجّزه من كلّ من يجيزه من المالكين للثمن و المثمن.

فكلّ مالكي الثمن و المثمن المجيزين لذلك العقد الكلّي العامّ يندرجان في طرفي ذلك العقد الكلّي العام، الّذي يصحّ بعد الإجازة بالعمومات و الإطلاقات المتقدّمة (1) لو لا الحدس بعدم إفتاء المشهور به، لصدق اسم العقد عرفا عليه، و وجود الجزم المعتبر فيه. نعم الجزم المنتفي في مثل هذا العقد هو الجزم بتعيين المالكين.

و أمّا الجزم بنفس العقد فهو موجود و به الكفاية في العقود، فإنّ الجزم بنفس العقد إنّما ينتفي فيما يشترك بين العقد و غيره من الأفعال، لا فيما يتعيّن كون المقصود منه العقد، و لكن يشترك فيه المالكين بين أشخاص عديدة، و انتفاء الجزم الثاني في المعاملات غير قادح في صحّتها.

و أمّا قدح انتفائه في العبادات حيث لا يكفي في صحّتها مجرّد الجزم بعنوان عبادة من العبادات من دون الجزم بتعيين تلك العبادة من بين المشتركات فيمكن أوّلا: منع قدحه، لعدم الإجماع على قدحه في العبادة أيضا.

بل قد نقل شيخنا العلّامة عن الفاضل القميّ (2) في جواب سؤاله صحّة العبادات المأتي بها بعنوان العبادة، من دون تعيين مصرفها من بين المصارف المشتركة، فأجاز احتساب تلك العبادة بعد إيقاعها من كلّ ما شاء من المصارف، فإذا قرأ قراءة أو زار زيارة على وجه القربة المطلقة من دون تعيين من يرجع الثواب إليه جاز احتسابها، بعد الإتمام عن نفسه و عن غيره، بل أجاز أخذ الأجرة


1- تقدّم في هامش (1- 4) ص: 27.
2- جامع الشتات 1: 302- 304.

ص: 29

على انتقالها إلى الغير بعد وقوعها على الوجه الكلّي كما يجوز قبله.

و ثانيا: لو سلّمنا قدحه في العبادات، فإنّما هو من جهة انتفاء القربة الّتي بها قوام العبادات، نظرا إلى أنّ إتيان العبادة من دون تعيينها من بين المشتركات ليس لداعي أمر خاصّ من تلك الأوامر المتعددة و إنّما هو لداعي أحدها لا بعينه، و هو أمر منتزع ليس بمأمور به بذلك العنوان المنتزع، و إنّما المأمور به كلّ واحد من الأوامر المتأصّلة الّتي لم يأت العمل بداعي أحدها بخصوصه، فيكون البطلان من جهة أنّ ما وقع لم يؤمر به و ما أمر به لم يقع، بخلاف المعاملات فإنّ قوامها ليس بتحقّق القربة و لوازمها حتّى ينتفي صحّتها بانتفاء شي ء من اللوازم العقليّة القربة.

و لا لأجل قوله: «لا دليل على تأثّر التعيين المتعقّب» (1).

لما عرفت ما فيه من النقض بتأثّر الإجازة المتعقّبة، و من الحلّ بإمكان الاستدلال عليه بالإطلاقات و العمومات المتقدّمة.

و لا لأجل قوله: «لا دليل على صحّة العقد المبهم، لانصراف الأدلّة إلى الشائع المعهود» (2).

لما فيه من أنّه إن أريد انصراف العمومات إلى العقود المعهودة نوعها فما نحن فيه من البيوع الغير المتعيّن فيها المالكين من قبيل المعهودة نوعها قطعا، و إن أريد انصرافها إلى المعهودة صنفها فهو ممنوع؛ لبعده عن ظاهر عموم أَوْفُوا بِالْعُقُودِ (3)، أو إلى المعهودة شخصها فأبعد جدّا؛ لاقتضائه الاقتصار في صحّة العقود على خصوص الثابت عليه السيرة من العقود.

و لا لأجل ما استدلّ به الماتن من قوله: «لتوقّف اعتبار ملكيّة ما في الذمم


1- مقابس الأنوار: 115.
2- مقابس الأنوار: 115.
3- المائدة: 1.

ص: 30

على تعيين صاحب الذمّة .. إلخ» (1).

لما فيه من إمكان منع التوقّف، فكما أنّ نفس ما في الذمّة كلّي لا يتوقف على تعيينه في الأعيان الخارجيّة كذلك كلّي صاحب الذمّة لا يتوقّف على تعيينه في الأشخاص الخارجيّة، بل يكفي التعيين المتعقّب بالإجازة لذلك الكلّي، كما لا يكفي نظيره في الفضولي.

و لا لأجل قوله: «إجراء أحكام الملك على ما في ذمّة الواحد المردّد بين شخصين فصاعدا غير معهود» (2).

لما عرفت ما فيه من أنّه إن أراد كونه غير معهود نوعها فممنوع؛ لأنّ عدم تعيين المالكين لا يخرج البيع عن نوع البيع، و إنّما يخرجه عن الصنف الممنوع اشتراط معهوديتة بعموم أَوْفُوا بِالْعُقُودِ حسب ما قرّر.

فتلخّص مما ذكرنا: أنّ اعتبار التعيين في الشقّ الأوّل من التفصيل المذكور ليس لأجل شي ء مما ذكره بعض المحقّقين، و لا لأجل شي ء مما ذكره الماتن طاب ثراه، بل إنّما هو لأجل أنّ الظاهر الشهرة بل الإجماع على اعتبار التعيين فيه، و لو لا الشهرة و الإجماع لم نفرّق بين الشقّين في الحكم بعدم اعتبار التعيين.

ثمّ إنّ هذا كلّه في وجه اعتبار التعيين في الشقّ الأوّل من التفصيل.

و أمّا وجه عدم اعتبار التعيين في الشقّ الثاني فهو عموم أَوْفُوا بِالْعُقُودِ (3) و تِجٰارَةً عَنْ تَرٰاضٍ (4) و «تسليط الناس على أموالهم» (5) و غيرها من الإطلاقات و العمومات.

لا ما قاله الماتن طاب ثراه: «من أنّ مقتضى المعاوضة و المبادلة دخول كلّ


1- المكاسب: 117.
2- المكاسب: 117.
3- المائدة: 1.
4- النساء: 29.
5- عوالي اللئالي 1: 222 ح 99.

ص: 31

من العوضين في ملك مالك الآخر، و إلّا لم يكن كلّ منهما عوضا و بدلا، و على هذا فالقصد إلى العوض و تعيينه يغني عن تعيين المالك» (1).

لما فيه من أنّه إن أراد أنّ دخول كلّ من العوضين في ملك مالك الآخر من مقتضى إطلاق المعاوضة فهو مسلّم، لكنّه لا ينهض إلى عدم اعتبار التعيين مطلقا، حتّى في صورة التقييد، و إن أراد كونه من مقتضى ماهيّة المعاوضة لينتفي ماهيّة المعاوضة بتقييد دخول أحد العوضين في ملك ثالث- كما هو صريح كلامه (2)- فهو ممنوع، لوقوع نظيره في الشرع بكثير.

منها: الأمر بالعمل العائد نفعه إلى ثالث، فإنّه يستحق العامل الأجرة من الآمر و إن لم يرجع نفع عمله إلى الآمر.

و منها: حقّ الجعائل لردّ ضالّة الغير، كما لو قال الجاعل: «من أتى بضالّة فلان فله عندي كذا» فإنّ الآتي بها يستحقّ حقّ الجعالة من الجاعل و إن لم يرجع إليه النفع.

و منها: الهبة المعوّضة بعوض مشروط لثالث، فإنّ الظاهر صحّته و إن لم يدخل كلّ من العوضين في ملك المالك الآخر.

و منها: تزويج الناس أولادهم أو غير أولادهم بجعل المهر في ذممهم أو في أعيان أموالهم، مع عدم دخول العوض إلى أنفسهم. اللّٰهمّ إلّا أن يمنع صحّة ذلك العقد، كما عن بعض، أو يمنع كون المهر عوضا عن الزوجة، بناء على أنّه من مقولة الهديّات، و أنّ عوض الزوجة الزوج، كما عن بعض آخر.

ثمّ الفرق بين قولهم: «يشترط في العقود القصد» و بين قولهم: «العقود تابعة للقصود» إمّا بحسب المعنى فهما متعاكسان، ضرورة أنّ معنى شرطيّة القصد في العقود عبارة عن تأصّل العقود و استتباع القصود لها في التأثير و الصحّة، و معنى


1- المكاسب: 117.
2- المكاسب: 117.

ص: 32

تبعيّة العقود للقصود هو عكس ذلك، أعني: تأصّل القصود في التأثير و استتباع الألفاظ لها.

و إمّا بحسب الفائدة فشرطيّة القصد في العقود مخرج لعقد الهازل و العابث و الغالط، و تبعيّة العقد للقصد مدخل للعقد بأيّ لفظ كان، من أيّ لغة كان و لو بالكناية و المجاز، و مخرج للعقد الغير المطابق للقصد في الإطلاق و التقييد.

و تفصيل ذلك فيه أن يقال: إنّ هذا القصد إمّا متقدّم على العقد، أو متأخّر عنه، أو مقارن له، و على كلّ من هذه التقادير الثلاثة إمّا أن يتعلّق هذا القصد بلوازم ذلك العقد، أو بمنافي ذلك العقد، أو بالأمور الخارجة الغير المنافية لمقتضى العقد و لا اللازمة له، و على كلّ من هذه التقادير إمّا أن يتلفّظ في العقد بالمقصود من الإطلاق و التقييد و الشرط، أو لا يتلفظّ في العقد بما هو مقصوده من الإطلاق و التقييد و الشرط، أو لا يقصد أيضا شيئا من الإطلاق و التقييد، كما لو عقد على امرأة مع الذهول عن إطلاق العقد أو تقييده بشرط البكارة مثلا. و لعلّ ما يأتي تفصيل حكم جميع التقادير فيما بعد إن شاء اللّٰه تعالى.

و من جملة فروعها ما أشار إليه الماتن قدّس سرّه بقوله:

«و أمّا تعيين الموجب لخصوص المشتري و القابل لخصوص البائع فيحتمل اعتباره .. إلخ».

أقول: الكلام في هذه المسألة ينبغي أن يقع تارة: في اعتبار قصد تعيين خصوص المشتري البائع و خصوص البائع المشتري و عدم اعتبار قصد تعيين الخصوصيّة، و تارة أخرى: في أنّه على تقدير عدم اعتبار قصد الخصوصيّة لو قصد تعيينها فحكمه ما ذا؟ فهل يتبع قصده، أم لا.

إذا عرفت ذلك ظهر لك ما في المتن من التخليط بين الفرضين؛ لأنّ ظاهر قوله في صدر العنوان: «و أمّا تعيين الموجب .. إلخ» يعطي كون النزاع في الفرض الأوّل، أعني: في أصل اعتبار قصد تعيين الخصوصيّة و عدمه، و ظاهر استدلاله

ص: 33

على اعتبار قصدها بظاهر الكلام الدالّ على قصد الخصوصيّة و تبعيّة العقود للقصود يعطي كون النزاع في الفرض الثاني، كما لا يخفى على المتأمّل.

و كيف كان، فتحقيق الكلام إمّا في الفرض الأوّل- و هو اعتبار قصد تعيين الخصوصيّة- فالأقوى عدم اعتباره في صحّة العقود، إلّا ما علم من العقود اعتباره فيه بدليل خارج، لعموم أَوْفُوا بِالْعُقُودِ (1)، و سائر العمومات و الإطلاقات.

و أمّا ما استدلّ به الماتن و غيره على اعتبار قصد تعيينها (2) فقد عرفت عدم انطباقه على النزاع الأوّل.

و إمّا في الفرض الثاني- و هو ما لو قصد في العقد خصوص طرفي الموجب و القابل- فلا يخلو إمّا أن يقصد الخصوصيّة على وجه التقييد بحيث ينوط النقل و الانتقال مدارها وجودا و عدما، أو على وجه الاعتقاد لا التقييد، و على الأوّل إمّا أن يكون قصد خصوصيّة الطرفين من أركان العقد- كخصوصيّة الطرفين في عقد النكاح- أو لا يكون قصدها من أركانه، كما في البيع و الإجارة حيث إنّ ركني البيع و الإجارة هما العوضان لا خصوصيّة المتعاوضين، بخلاف النكاح فإنّه بالعكس.

أمّا صورة قصد خصوصيّة الطرفين على وجه التقييد فيما كانت الخصوصيّة من أركان العقد فلا إشكال ظاهرا في تبعيّة العقد للقصد، سيّما إذا كان لفظ العقد ظاهرا في إرادة الخصوصيّة كلفظ الخطاب، و يتفرّع على ذلك فساد عقد الموجب القاصد خصوصيّة القابل عن غيره لا نفسه، و فساد عقد القابل القاصد خصوصيّة الموجب عن غيره لا نفسه، عملا بظاهر الكلام الدالّ على قصد الخصوصيّة و تبعيّة العقود للقصود.


1- المائدة: 1.
2- المكاسب: 117.

ص: 34

و أمّا صورة قصد خصوصيّة الطرفين على وجه التقييد فيما لم تكن الخصوصيّة من أركان العقد- كما في البيع و الإجارة- فلا إشكال ظاهرا في تبعيّة العقد للقصد فيه كالصورة الأولى، لعين ما مرّ فيها، إلّا أنّ الفرق عدم فساد العقد فيه بتخلّف الخصوصيّة؛ لكون المفروض عدم كون الخصوصيّة المقصودة من الأركان حتّى يفسد العقد بتخلّفها، بل حكمه حكم تخلّف سائر الشروط الخارجة إذا قصدت في العقد في كون تخلّفها يوجب الخيار لا الفساد.

و أمّا صورة قصد الخصوصيّة على وجه الاعتقاد لا على وجه التقييد فلا إشكال في عدم تبعيّة العقد للقصد فيه و عدم إيجاب تخلّفه الخيار، كما لا يوجب الفساد؛ لرجوع الخصوصيّة المعتقدة من دون قصدها على وجه التقييد إلى إطلاق العقد في الحقيقة، و نظير هذه المسألة مسألة ما لو اقتدى المقتدي بزيد- مثلا- فبان بعد الصلاة أنّه غيره، حيث حكموا بصحّة صلاته لو اقتدى بالحاضر على أنّه زيد، و فسادها لو اقتدى بزيد على أنّه الحاضر، و كذا المسافر سفر المعصية، حيث أنّ حكمه الإتمام فيه لو قصد السفر بداعي المعصية فيه، و القصر لو قصد المعصية في السفر بداعي آخر. و إذ قد عرفت ذلك فلنرجع إلى شرح ما في المتن.

قوله: «و يرد على الوجه الأوّل- من وجهي الفرق- أنّ كون الزوجين .. إلخ».

أقول: و يوجّه ورود هذا الإيراد أنّ كون الزوجين في النكاح كالعوضين في سائر العقود لا يدلّ على عدم كون المتعاوضين في سائر العقود أيضا كالعوضين في وجوب تعيينهما. و لكن يضعّفه: أنّ قول القائل كون الزوجين كالعوضين و إن لم يدل على عدم وجوب التعيين في البيع بالصراحة إلّا أنّه دالّ عليه بمفهوم المخالفة.

ص: 35

لا يقال: إنّ اللقب ليس له مفهوم.

لأنّا نقول: و إن لم يكن للقب مفهوم بحسب الوضع إلّا أنّ ذكر هذا اللقب في مقام الافتراق بين النكاح و البيع قرينة واضحة على ثبوت مفهوم المخالفة له، كما أنّ قولك: «أنا لست بزان» في مقام الافتراق عن مخاطبك قرينة واضحة على كونه زانيا بمفهوم المخالفة، و الكناية أبلغ من التصريح.

و قد كنت أنا في زمان جهلي أزعم أنّ أكثر فقرأت مزار الأمير عليه السّلام مثل:

أشهد أنّك آمنت باللّه و أقمت الصلاة و آتيت الزكاة، و أمثالها مما لا يليق بخدام الأمير عليه السّلام فكيف يليق به عليه السّلام؟ فألهمت بعد مدّة أنّ المقصود منها في الحقيقة التعريض بإرادة مفهوم المخالفة في مخالفيه، و أنّهم لم يؤمنوا باللّه، و لم يقيموا الصلاة، و لم يؤتوا الزكاة و إن كانت إرادة الأكمليّة أيضا كافية.

قوله: «مع أنّ الظاهر أنّ ما ذكرنا من الوقف و إخوته كالنكاح».

أقول: و يندفع هذه العلاوة أيضا: بأنّ تخصيصه الفرق بالنكاح ليس لإرادة التقييد به، بل لإرادة التمثيل به لكلّ ما تكون الخصوصيّة فيه من أركان العقد كالعوضين، فيشمل الوقف الخاصّ و الهبة و الوكالة و الوصيّة، و أمّا المصالحة فتابعة لموردها، فإن كانت في مورد البيع فحكمها حكم البيع، و إن كانت في مورد الإبراء فحكمها حكم الإبراء.

قوله: «و لا ينافي ذلك عدم سماع قول المشتري في دعوى كونه غير أصيل. فتأمّل».

أقول: أمّا وجه عدم منافاة عموم القصد لعدم سماع قول صاحب القصد فلأنّ تابعيّة العقود للقصود إنّما هي بالنسبة إلى نفس القاصد فيما بينه و بين ربّه من التكليفات، و أمّا بالنسبة إلى غيره ممن لم يطّلع على قصده فالعقود تابعة لظاهر اللفظ، كما لا منافاة بين أن يكون إقرار المقرّ لأحد بحقّ تابعا لقصده بالنسبة إلى

ص: 36

تكاليف نفسه فيما بينه و بين ربّه، و بين عدم سماع تفسيره الإقرار بما يخالف ظاهر لفظه.

و أمّا وجه التأمّل في عدم سماع قول المشتري في دعوى كونه غير أصيل فمن جهة ابتناء عدم سماع قول المشتري على القول بتفسير المدّعي بمن يخالف قوله الظاهر من اللفظ أو العادة، لا على القول بتفسير المدّعي بسائر التفاسير، كما لا يخفى.

قوله: «فتأمّل، حتّى لا يتوهّم رجوعه إلى ما ذكرنا سابقا».

[أقول:] أي: ما منعناه، و وجه الفرق أنّ ما منعه سابقا هو عدم صدق الزوج و اخوته على الوكيل، و ما ذكره آنفا هو عدم تعارف صدق الزوج و أخواته على الوكيل، و بينهما فرق واضح، كالفرق بين منع صدق اللفظ علي شي ء و بين دعوى انصرافه عنه بعد تسليم صدقه عليه.

[منها الاختيار]

قال طاب ثراه: «و من جملة (1) شرائط المتعاقدين: الاختيار في مقابل الإكراه .. إلخ».

أقول: الكلام في الإكراه تارة في تشخيص موضوعه المستنبط، و تارة في بيان حكمه، أمّا موضوعه فلما كان المرجع في كلّي تشخيص الموضوعات المستنبطة إلى عرف الشارع، و مع فقد عرفه فيها فإلى العرف العامّ، و مع فقده فإلى مطلق الظنّ في تشخيصه، و لم يعلم من عرف الشارع تشخيص الإكراه في المسألة إلّا امتيازه عن الجبر في الجملة، فلا محالة يكون المرجع لنا في تشخيصه إلى العرف و اللغة، لمساعدتهما عليه.

فنقول: الإكراه على الشي ء لغة (2) و عرفا: هو حمل الغير على ما يكرهه،


1- هذه الكلمة غير موجودة في المكاسب.
2- مجمع البحرين 6: 360.

ص: 37

فاشتراط الاختيار في المتعاقدين عبارة عن اشتراط القصد إلى وقوع مضمون العقد عن الرضا و طيب النفس، في مقابل الكراهة و عدم طيب النفس، فاشتراط الاختيار مساوق لاشتراط الرضا و طيب النفس، و لكن الكراهة أخصّ من عدم الرضا و الطيب، لأنّ الكراهة أمر وجودي ملازم لعدم الرضا، بخلاف عدم الرضا فإنّه أمر عدمي غير ملازم لها، كما أنّ الجبر أخصّ من الكراهة أيضا لاعتبار عدم المندوحة في صدق الجبر، و عدم اعتبار عدمها في صدق الإكراه.

و يعلم من ذلك أمور:

منها: أنّ الاختيار المشروط في المتعاقدين مقابل الكراهة فلا يصحّ عقد المكره، لا مقابل الجبر ليشمل الكراهة فيصحّ عقد المكره.

و منها: تعميم المكره عرفا و لغة لمن لم يقصد اللفظ لشدّة الخوف و الدهشة كالغالط، و لمن قصد اللفظ لكن لم يقصد مدلوله لذلك كالهازل، بل و لمن قصد اللفظ و المدلول معا لكن لم يقصد الغاية المترتّبة عليهما من النقل و الانتقال كالأوامر الصوريّة، بل و لمن قصد اللفظ و المعنى و الغاية جميعا لكن لم يرض و لم تطب نفسه به.

خلافا لما نسب في المتن (1) إلى ظاهر الشهيدين (2) و العلّامة (3) من تخصيص المكره بالقاصد إلى اللفظ الغير القاصد إلى مدلوله. و لكن المتأمّل الراجع إلى كلامهم و لو إلى قرينة حالهم يقطع بأنّ مرادهم من عدم قصد المكره مدلول اللفظ عدم قصده لازم المدلول و هو الرضا و الطيب، لا عدم قصد نفس المدلول، و على تقدير إرادة خصوص ذلك من المكره يكون خروج المكره من قيد اعتبار القصد، لا من قيد اعتبار الاختيار، و هو سهل.


1- المكاسب: 118.
2- الدروس الشرعيّة 3: 192، مسالك الأفهام 3: 156.
3- انظر تحرير الأحكام 2: 51.

ص: 38

و منها: أنّ خوف المكره قد يوجب الفعل بدفع الضرر و لكنّه مستقلّ في فعله و مخلّي طبعه فيه، بحيث تطيب نفسه بفعله و إن كان من باب علاج الضرر، و قد يفعل لدفع ضرر إيعاد الغير على تركه بحيث لا تطيب نفسه به، و ذلك معلوم بالوجدان، و الذي يفسد العقد هو الإكراه بالمعنى الثاني لا الأوّل، لتعلّقه في الحقيقة بمقدّمات الفعل لا بنفس الفعل و إن لم يخرج بذلك عن اسم الإكراه عرفا، و كذا حياء المستحيي و طمع المستطمع على الفعل قد يوجب الفعل على وجه تطيب به نفسه و إن كان من باب الحياء و الطمع، و قد يوجب فعله على وجه لا تطيب به نفسه، و الذي يفسد فعل العقد هو الثاني لا الأوّل أيضا، لرجوعه في الحقيقة إلى مقدّمات الفعل لا نفس الفعل.

فظهر من ذلك أنّ مجرّد الفعل لدفع الضرر المترتّب على تركه من الخوف أو الحياء أو الطمع لا يدخله في حكم الإكراه أو الحياء أو الطمع، و هو فساد العقد و عدم صحّته، بل و لا في اسمه حقيقة ما لم يوجب ارتفاع الرضا و الطيب النفساني، كيف! و الأفعال الصادرة من العقلاء كلّها أو جلّها ناشئة عن دفع الضرر أو الحياء أو الطمع، بل قد ذكروا الخوف و الحياء و الطمع من جملة الجهات المصحّحة للقربة الّتي بها قوام العبادات أيضا.

و منها: أنّ اعتبار التورية على القول به في مواقع الاضطرار و الإكراه إنّما هو للتخلّص عن موضوع الكذب لا الإكراه. و على كلّ من التقديرين فبيان موضوع اللغات ليس كبيان الأحكام من الوظائف الواجبة على الشارع و إن كان بيانها راجحة.

و منها: أنّ الأصل العملي في المسألة و إن كان مع عدم القصد إلّا أنّه بالنسبة إلى القصد الزائد على المدلول الظاهر من اللفظ كإرادة عموم المجاز أو الاشتراك، و أمّا بالنسبة إلى ظاهر حال اللفظ و اللافظ في مقابل دعوى الغلط و الهزل

ص: 39

فالأصل القصد و عدم الغلط و الهزل و السهو و النسيان، و عدم تعلّق الإكراه إلّا برضاه دون اللفظ و معناه، كما في سائر العقود المكرهة طرّا، و لهذا قالوا: الإرادة تابعة للدلالة، و الإقالة خير من الإعالة، و التأسيس خير من التأكيد.

و منها: أنّ حمل الغير على ما يكره إن اقترن بوعيد مظنون الترتّب على ترك ذلك الفعل مضرّ بحال الفعل أو متعلّقه نفسا أو عرضا أو مالا فلا إشكال في دخوله في اسم الإكراه، كمعلوم الترتّب و في حكمه أيضا إن أوجب سلب الرضا و الطيب النفساني عن الفعل، كما لا إشكال ظاهرا في أنّ المقترن بوعيد موهوم الترتّب أو مشكوكه لا يدخل في اسم الإكراه، كما لا يدخل في حكمه أيضا إذا لم يوجب انتفاء الرضا و الطيب عنه، و إمّا إذا أوجب انتفاؤه فالظاهر دخوله في حكم الإكراه و إن لم يدخل في اسمه، فيبطل عقده و إن لم يسمع قوله في عدم الرضا، و ذلك لأنّ المناط في صحّة عقد المختار و فساد عقد المكره هو الرضا و عدم الرضا، و لكن لمّا كان هذا المناط صفة باطني نفساني لا يقف عليه سوى صاحبه و لا يقبل قول مدّعيه فيه اعتبروا في الشرائط إبدال الرضا بوصف ظاهري مساوق له، و هو الاختيار، و إبدال عدم الرضا أيضا بوصف ظاهري أخصّ منه، و هو الإكراه، ليصحّ التعويل على ظاهرهما، و يسمع قول مدّعيهما في الدعاوي. فتفطّن فإنّ هذا أمر واضح من كلامهم و استدلالهم و إن لم أقف على من سبقني في تفطّنه صراحة.

و منها: عدم اعتبار العجز عن التفصّي في موضوع الإكراه الرافع لأثر الحكم الوضعي، و اعتباره في موضوع الإكراه الرافع لأثر الحكم التكليفي، فيكون النسبة بين الإكراه الرافع أثر الحكم التكليفي و الرافع أثر الحكم الوضعي عموما مطلقا، كما يكون النسبة بين مناطيهما و هو عدم الرضا و دفع الضرر عموما من وجه

ص: 40

حسب ما في المتن (1).

و من هنا ربما ينشأ إشكال تقريبه: أنّه إن اعتبر في رفع الإكراه عدم وجود المندوحة و التفصّي فليعتبر مطلقا في رفع الأحكام الوضعيّة و التكليفيّة، و إن لم يعتبر فلا ينبغي أن يعتبر مطلقا، لا في رفع الأحكام الوضعيّة و لا التكليفيّة، فالتفكيك بين اعتباره في رفع الأحكام التكليفيّة و عدم اعتباره في رفع الأحكام الوضعيّة يؤدّي إلى استعمال الإكراه في أكثر من معنى. من دون قرينة.

و لكن يندفع هذا الإشكال: بأنّ معلوميّة إناطة رفع الإكراه لأثر الحكم التكليفي بقاعدة رفع الضرر، و إناطة رفعه لأثر الحكم الوضعي بعدم الرضا و الطيب من الخارج قرينة خارجيّة على تقييد حكم الإكراه في الأحكام التكليفيّة بعدم المندوحة و التفصّي، و تقييد حكم الإكراه في بعض الموارد لا يوجب استعمال نفس الإكراه في أكثر من معنى، مضافا إلى أنّ استعمال اللفظ في أكثر من معنى على وجه عموم المجاز و الاشتراك غير باطل، و إنّما الباطل استعماله في غير هذا الوجه، كما هو مقرّر في محلّه. هذا كلّه في تشخيص موضوع الإكراه في الجملة.

و أمّا الكلام في حكمه فيدلّ على اعتبار الاختيار في صحّة العقود و فسادها من المكره مضافا إلى أصالة عدم النقل و الانتقال في عقد المكره وجوه:

منها: الإجماع بجميع أنحائه من الفعليّ و القوليّ و القدمائيّ و المتأخّريني، و من المحصّل و المنقول، و من البسيط و المركّب منه، و من ضميمة عدم الفرق و الفصل بين طلاق المكره و سائر عقوده.

و منها: قوله تعالى:


1- المكاسب: 120.

ص: 41

لٰا تَأْكُلُوا أَمْوٰالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبٰاطِلِ إِلّٰا أَنْ تَكُونَ تِجٰارَةً عَنْ تَرٰاضٍ (1).

و قوله عليه السّلام: «لا يحلّ مال امرئ مسلم إلّا عن طيب نفسه» (2).

و منها قوله صلّى اللّٰه عليه و آله في الخبر المتّفق عليه بين المسلمين: «رفع أو وضع عن أمّتي تسعة أشياء أو ستّة».

و منها: «ما أكرهوا عليه و ما لم يطيقوه و ما أخطئوا» (3).

و ظاهره و إن كان رفع المؤاخذة إلّا أن استشهاد الإمام عليه السّلام (4) به في رفع بعض الأحكام الوضعيّة، بل و عموم حذف المتعلّق المعبّر عنه بعموم المقتضي و المقتضى لكونه من قبيل دلالة الاقتضاء يشهد بعموم المؤاخذة فيه لمطلق الإلزام عليه بشي ء، مع أنّه يمكن الاكتفاء في الاستدلال بمجرّد تعميم رفع المؤاخذة للمؤاخذة على نفس المكره عليه، و للمؤاخذة على ما يترتّب عليه من الوطء مثلا في النكاح، و الأكل في البيع، و نحوهما.

فالمعنى على الأوّل هو رفع المؤاخذة على المكره، و على الثاني هو رفع الإلزام بشي ء عليه، و على الثالث هو رفع منشئيّة المكره عليه للمؤاخذة، و هو و إن رجع إلى سابقه من حيث الثمرة إلّا أنّه يفترق عنه من حيث الطريق و الوصول إلى تلك الثمرة، من قبيل افتراق الدليل الإنّي عن اللمّي.

و الحاصل: أنّ المرفوع في حديث الرفع إمّا خصوص المؤاخذة و العقاب الأخروي على نفس المكره.

و إمّا مطلق الإلزام على الشي ء الشامل لرفع الأحكام الوضعيّة من اللزوم و الصحّة في العقود و الجزئيّة و الشرطيّة و القاطعيّة و المانعيّة في الماهيّات المركّبة


1- النساء: 29.
2- الوسائل 3: 424 ب «3» من أبواب مكان المصلّي ح 1.
3- الوسائل 11: 295 ب «56» من أبواب جهاد النفس و ما يناسبه.
4- الوسائل 16: 136 ب (12) من أبواب الأيمان ح 12.

ص: 42

بالتخلّل الخطائي، كما في السهو و النسيان، و الإكراهي كما في التقيّة.

و إمّا خصوص المؤاخذة لكن لا على نفس المكره فقط لئلّا يشمل الأحكام الوضعيّة، بل أعمّ منه و من المؤاخذة على ما يترتّب على مقتضى المكره من الوطء في النكاح المكره، و الأكل في البيع المكره، و عدم القضاء و الإعادة في الصلاة و الحجّ و الصيام المكره فيها على تخلّل جزء أو شرط.

و أمّا الآثار العقليّة الملازمة لفعل المكره أو المنسي فغير قابلة للرفع حتّى يعمّها حديث الرفع.

فالمراد من الحديث منحصر في أحد المعاني الثلاثة المتقدّمة، و على كلّ من المعنيين الآخرين الذي يقتضيه عموم حذف المتعلّق و استشهاد الإمام عليه السّلام يتأسّس من الحديث الشريف فوائد كثيرة.

منها: تأسيس أصل أصيل، و هو تقييد جميع الأجزاء و الشرائط المعتبرة في الماهيّات بالاختيار و العلم شرعا، إلّا ما خرج بالدليل كأركان الصلاة، و ذلك لعموم: «رفع الإكراه و النسيان» (1).

و منها: تأسيس أصالة الإجزاء في جميع العبادات الصادرة عن المكلّف على وجه التقيّة من الصلاة و الصوم و الحج و الوضوء و غيرها، فيسقط القضاء و الإعادة فيها بعد رفع التقيّة إلّا ما خرج بالدليل، و ذلك أيضا لعموم: «رفع ما استكرهوا عليه».

و منها: عدم توقّف تشخيص ماهيّات العبادات المركّبة من الأجزاء و الشرائط على ما تصدّى لتحقيقه صاحب القوانين من أصالة عدم ما عدا المعلوم جزئيّته أو شرطيّته (2)، حتّى يناقش بأنّ أصالة عدم الزائد لا يثبت كون الماهيّة


1- تقدّم ذكر مصدره في هامش (3) ص: 41.
2- قوانين الأصول 1: 55- 56.

ص: 43

فيما عداه من الأجزاء و الشرائط لكونه مثبتا، كما توهّم، بل يكفي في تشخيص تحقّق ماهيّة كلّ عبادة من العبادات المركّبة من الأجزاء و الشرائط بمجرد عدم العلم و الوقوف على جزئيّة ما عدا المعلوم جزئيّته أو شرطيّته من سائر الأجزاء و الشرائط المشكوكة بعموم قوله عليه السّلام: «رفع عن أمتي ما لا يعلمون»، كما بنى عليه الفصول (1) قدّس سرّه تشخيص ماهيّة العبادات المركّبة بعد ما كان بانيا على عدم تشخيصها بأصالة العدم، لكونه مثبتا.

ثمّ بقي الكلام في تشخيص سائر مصاديق الإكراه، و قد عرفت أنّ تشخيص صدق الإكراه إنّما يثمر في الدعاوي، و أمّا في غيرها فصحّة العقد منوطة بمجرّد الرضا، فلو أكره الشخص على عقد فعقد راضيا صحّ عقده، سواء رضي حقيقة أو حياء أو طمعا، فضلا عما لو رضي لأجل شفقة دنيويّة أو دينيّة على وقوع الغير في الحرام لو لم يرض بعقده، أو لأجل الجهل و الغفلة عن أنّ التخلّص عن اسم الإكراه و عن حكمه الشرعي غير متوقّف على الرضا بوقوع أثر العقد، فيوطّن نفسه على الرضا بوقوع أثره جهلا، كما في كثير من العوام.

و من هنا يعلم أنّه لا وجه لاستشكال المصنّف (2) في صدق الإكراه على عقد المكره الراضي في عقده لأجل شفقة دنيويّة أو دينيّة أو الجهل و الغفلة، لما عرفت من أنّ العاقد المكره على العقد يدين بنيّته في عقده، فيصحّ منه العقد المفروض رضاؤه به بالنسبة إلى نفسه، و يدين بظاهره بالنسبة إلى غيره، فيقبل قوله لو ادّعى عدم رضائه، فلا يصحّ بالنسبة إلى غيره، فبالنسبة إلى نفسه لا إشكال في صحّته لفرض رضائه، و بالنسبة إلى غيره لا إشكال في بطلانه لفرض صدق الإكراه عليه ظاهرا، فالإشكال ليس في محلّه.


1- الفصول الغرويّة: 51.
2- المكاسب: 121.

ص: 44

مع أنّا لو سلّمنا الإشكال في صدق الإكراه على شي ء من الفروض الّتي استشكل فيها المصنّف فالمرجع إلى العمومات و الإطلاقات الدالّة على صحّة العقود، بناء على الاقتصار في تقييدها بالمكره على القدر المتيقّن منه، فلم يبق مسرح للإشكال من تلك الجهة أيضا، كما لم يبق من سائر الجهات.

قال- طاب ثراه-: «ثمّ المشهور بين المتأخّرين أنّه لو رضي المكره بما فعله صحّ العقد».

أقول: الكلام في صحّة عقد المكره بعد لحوق الرضا له يتوقّف أوّلا: على تشخيص ما يعتبر في مفهوم صدق العقد، و ثانيا: على تشخيص ما يعتبر في صحته.

فنقول: أمّا ما يعتبر في مفهوم صدق العقد فهو اللفظ الدالّ على العقد عرفا، لكون العقد عرفا و لغة إنّما هو من مقولة الألفاظ لا المعاني، فيخرج عن موضوعه المعاطاة و الكتابة و الإشارة للقادر، ثمّ المعتبر في صدق موضوعه القصد إلى اللفظ ليخرج عقد الغالط و النائم، بل و القصد إلى مدلوله ليخرج عقد الهازل عن موضوعه.

و أمّا قصد الإنشاء أو الإخبار ففي اعتبار أيّهما في صدق موضوع العقد خلاف بين العامّة و الخاصّة، تعرّضنا لتحقيقه في مقدّمات بحث الأخبار من الأصول، و على تقدير عدم اعتباره في صدق موضوعه فإجماع الإماميّة قائم على اعتباره في حكمه، كما تعرّضنا في ذلك البحث أيضا لتحقيق كونه حقيقة في الإنشاء على تقدير اعتباره في صدقه أو مجازا، فليراجع.

و أمّا اعتبار الرضا في صدق موضوعه ليخرج عقد الفضولي عن موضوعه فضعيف بالغاية. و أضعف منه اعتباره من نفس العاقد اللازم منه خروج عقد المكره عن موضوعه.

ص: 45

إذا عرفت ذلك فيكفي في عدم اعتبار مقارنة الرضا للعقد في صحّته بعد فرض عدم اعتباره في صدق موضوعه الإطلاق.

مضافا إلى الشهرة المحصّلة و الإجماع المنقول و إن كان الظاهر استنادهما إلى الإطلاق أيضا، لا إلى أمر آخر وراء الإطلاق اطلعوا عليه و خفي علينا حتّى يعدّ وجها برأسه.

و مضافا إلى فحوى صحّة عقد الفضولي، و الفرق بينهما غير فارق.

نعم؛ ربما انتصر للقول ببطلان عقد المكره و إن تعقّبه الرضا بمفهوم الحصر من قوله تعالى لٰا تَأْكُلُوا أَمْوٰالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبٰاطِلِ إِلّٰا أَنْ تَكُونَ تِجٰارَةً عَنْ تَرٰاضٍ (1)، بتقريب: أنّه و إن اختلفوا في حجيّة مفهوم حصر «إنّما» إلّا أنّهم لم يختلفوا في حجيّة مفهوم حصر «ما و إلّا».

و فيه: أنّ الاستثناء منقطع لا متّصل، و الاستثناء المنقطع في معنى الاستدراك المحض لا الاستثناء، فكأنّه قال عزّ من قائل لٰا تَأْكُلُوا أَمْوٰالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبٰاطِلِ، و لكن كلوها بتجارة عن تراض في عدم ثبوت مفهوم حصر له، فكما لا يفهم من الآية حرمة الأكل بالإباحة و الهبة و الإذن و شاهد الحال و غيرها من المجّانيات- الّتي لا يصدق عليها أصل التجارة، لكون المأخوذ في مفهومها المعاوضة عرفا و لغة- كذلك لا يفهم منها حرمة الأكل بالتجارة الناشئة عن الإكراه المتعقّب بالرضا، و إذا لم يفهم منه حرمة هذا النوع من التجارة كان المرجع في صحّته سائر الإطلاقات و العمومات الدالّة على صحّة العقود و لزومها، ك أَوْفُوا بِالْعُقُودِ (2).

و أمّا الاستدلال بمفهوم الوصف من تجارة عن تراض ففيه: ما أشار إليه


1- النساء: 29.
2- المائدة: 1.

ص: 46

الماتن طاب ثراه (1).

و أمّا الاستدلال بعموم حديث الرفع (2) ففيه: مع دلالته على فساد عقد المكره بعد لحوق الرضا له من وجوه:

أحدها: من جهة ورود حديث الرفع مورد الامتنان، و المناسب لذلك رفع إلزام المكره بشي ء، لا رفع اختياره فإن رفع الاختيار عن المكره و تأثير رضاه اللاحق في العقد السابق إنّما يناسب الإهانة و الاستهجان، لا الإحسان و الامتنان.

و ثانيها: من جهة ظهور قوله عليه السّلام: «رفع عن أمّتي ما استكرهوا عليه» هو رفع ما هو ضرر عليه، فلا يعم المرفوع ما هو حقّ له لا عليه، كما أنّ قوله عليه السّلام «إقرار العقلاء على أنفسهم نافذ» (3) لا يعمّ نفوذ إقرارهم لأنفسهم بما فيه جرّ نفع أو دفع ضرر، و من المعلوم أنّ الحكم بوقوف عقد المكره على رضاه راجع إلى أنّ له أن يرضى بذلك، و هذا حقّ له لا عليه حسب ما أشار إلى تفصيله في المتن-

إلى أن قال:- هذا على القول بكون الرضا ناقلا واضح، و كذا على القول بكونه كاشفا بعد التأمّل (4).

أقول: الظاهر أنّ مراده من «التأمّل» التأمّل في أنّ كاشفيّة الرضا عن النقل على القول به ليس كاشفا عن حصول النقل من مجرّد العقد السابق المكره عليه، بل إنّما يكون كاشفا عن حصوله من العقد السابق مع الوصف بالرضا اللاحق و لو بالوصف الاعتباري المنتزع، أعني: اتّصاف العقد السابق بكونه مما يستعقبه الرضا اللاحق، فكاشفيّة الرضا على القول به ليست كاشفيّة صرفة، بل لا بدّ من مدخليّتها في النقل و لو ببعض الاعتبارات في الجملة لا بالجملة.


1- المكاسب: 122.
2- تقدّم ذكر مصدره في هامش (3) ص: 41.
3- الوسائل 16: 111 ب «3» من أبواب الإقرار ح 2.
4- المكاسب، 122.

ص: 47

و أمّا على الكاشفيّة الصرفة الإنيّة الّتي لا مدخليّة للرضا في علّية النقل بوجه و كون النقل مستندا إلى علّية العقد المكره فمن المعلوم استناد الصحّة بالرضا اللاحق إلى نفس العقد المكره المرفوع حكمه بالإكراه.

و ثالثها: من جهة أنّ حديث الرفع عن المكره و أخواته إنّما يرفع الآثار المترتّبة على نفس الفعل لا بشرط العمد و الإكراه، دون رفع الآثار المترتّبة على الفعل بوصف العمد مثل قوله: «من تعمّد الإفطار فعليه كذا»، لأنّ هذا الأثر يرتفع بنفسه في صورة الخطأ و النسيان و الإكراه، لا بواسطة عروض الخطأ و الإكراه، و لا الآثار المترتّبة على عنوان الإكراه أو شي ء من أخواته من الخطأ و النسيان من حيث هي، إذ لا يعقل رفع الأثر الشرعي المترتّب على الإكراه و السهو و الخطأ من حيث هذه العنوانات، كوجوب الكفّارة المترتّبة على قتل الخطأ، و وجوب سجدتي السهو المترتّب على نسيان بعض الأجزاء.

فانحصر كون المرفوع هو الآثار المترتّبة على الفعل لا بشرط الإكراه و العمد، دون المترتّبة عليه بشرط العمد و لا المترتّبة عليه بوصف الإكراه، و من البيّن أنّ الحكم بوقوف عقد المكره على رضاه إنّما هو من آثار العقد بوصف الإكراه، لا من آثار نفس العقد مع قطع النظر عن الإكراه حتّى يرفعه الإكراه هكذا ما في المتن (1).

و فيه: منع و نقض بالرضا اللاحق للفضولي، فإنّه من آثار العقد من حيث هو لا بشرط.

و رابعها: من جهة أنّ المراد بالآثار المرفوعة هي الآثار المجعولة الشرعيّة الّتي وضعها الشارع، و أمّا ما لم يكن بجعله من الآثار العقليّة و العاديّة فلا تدلّ الرواية على رفعها و لا رفع الآثار المجعولة المترتّبة عليها؛ فإنّ الآثار العقليّة


1- المكاسب: 122.

ص: 48

و العاديّة تتبع حكم العقل و العادة، كالإحراق اللازم للنار بالعقل و العادة، فلو مسست شيئا يحكم العقل و العادة بحصول الإحراق و لا يمكن الحكم بعدمه بقول الشارع: إذا لم يعلم الاحتراق بعد مسّ النار، و من ذلك يظهر عدم اندراج الأصول المثبتة في أخبار الاستصحاب.

و من قبيل الآثار العقليّة و العاديّة الآثار الشرعيّة الثابتة بملازمة أمر عقليّ أو عاديّ، فإنّها تتبع وضعا و رفعا الملزوم العقليّ و العادي، فاللوازم الشرعيّة الثابتة بأمر عقليّ أو عاديّ كاللوازم العقليّة و العاديّة في عدم صلاحيّتها للجعل.

و من البيّن أنّ الحكم بوقوف عقد المكره على رضاه إنّما هو من آثار جزئيّة الرضا للعقد في التأثّر و سببيّة النقل و الانتقال، و جزئيّة الجزء من الآثار العقليّة و العاديّة، لا الشرعيّة حتّى ترتفع شرعا بحديث الرفع.

و فيه تأمّل كما في المتن (1)، لأنّ استقالة جزئيّة الجزء من المجموع المركّب عقليّ، و أمّا تأثير الجزء و الشرط أثرهما فمن الآثار الشرعيّة الراجعة إلى وظيفة الشارع إثباتا و نفيا فيما نحن فيه. و لأنّ الحكم المتعلّق بالوصف المناسب المشعر بالعليّة يقتضي مانعيّة الإكراه ما دام موجودا، فإذا زال الإكراه بالرضا اللاحق زال حكمه، و هو الرفع.

فإن قلت: سلّمنا عدم اقتضاء حديث الرفع (2) لفساد عقد المكره المتعقّب به رضاه لأحد الوجوه المتقدمة، لكنّه مع ذلك مانع عن الإطلاقات المقتضية لصحّته، بواسطة أنّ مقتضى حكومة الحديث على الإطلاقات هو تقييدها بمسبوقيّة الرضا، فلا يجوز الاستناد إليها لصحّة بيع المكره و وقوفه على الرضا اللاحق، فلا يبقى دليل على صحّة بيع المكره فيرجع إلى أصالة الفساد؛ لكون


1- المكاسب: 122.
2- تقدّم ذكر مصدره في الهامش (3) ص: 41.

ص: 49

الشكّ في أصل حكم العقد لا في وجه وقوعه الخارجي حتّى يكون موردا لأصالة الصحّة في المعاملات و الغلبة، فكأنّ مفاد الإطلاقات و هو سببيّة البيع و الرضا للنقل و الانتقال مطلقا مقيّد بقول الشارع إلّا بيع المكره و رضاه، فإنّه لا أثر له.

قلت: نمنع مانعيّة حديث الرفع عن الإطلاقات، كما منعنا اقتضاءه سابقا، لكن لا لما قاله الماتن طاب ثراه- من منع أصل حكومة حديث الرفع على الإطلاقات مقيّدة بحكم الأدلّة الأربعة المقتضية لحرمة أكل المال بالباطل، و مع عدم طيب النفس بالبيع المرضي به سبقه الرضا أو لحقه، و مع ذلك فلا حكومة للحديث عليها، إذ البيع المرضي به سابقا لا يعقل عروض الإكراه له، و أمّا المرضي به بالرضا اللاحق فإنّما يعرضه الإكراه من حيث ذات الموصوف، و هو أصل البيع و لا نقول بتأثيره إلى آخر كلامه (1)- حتّى يرد عليه أنّ تقييدها أوّلا بحكم الأدلّة الأربعة بالبيع المرضي به سبقه الرضا أو لحقه لأجل اندفاع حكومة الحديث عليها ليس بأولى من العكس، أعني: تقييدها أوّلا بحكم حديث الرفع بغير المكره، لأجل اندفاع حديث الرفع على الإطلاقات.

إلّا أنّا نقتصر من تقييده الإطلاقات بغير المكره على القدر المتيقّن من تقييده، و هو استمرار الإكراه و عدم الرضا، و أمّا المتعقّب به الرضا فيرجع في حكمه إلى الإطلاقات، كما يرجع في العامّ المخصّص بالمجمل المفهومي إلى عموم العامّ أيضا. فتدبّر.

[منها إذن السيّد لو كان العاقد عبدا]

قال: «و من شروط المتعاقدين إذن السيّد لو كان العاقد عبدا».

أقول: الكلام تارة في شقوق عقد العبد، و اخرى في بيان حكمها.

أمّا شقوقه فهي أنّ العقد تارة يصدر عن نفس العبد لنفسه في ذمّته أو بما


1- المكاسب: 122.

ص: 50

في يده أو لغيره، و تارة يصدر عن الغير للعبد في ذمّته أو بما في يده.

و على كلّ من التقديرين إمّا أن يسبق العقد إذن المولى أو يلحقه إجازته، أو لا يسبقه الإذن و لا يلحقه الإجازة، أو يسبقه النهي على وجه يتعلّق النهي بنفس المعاملة ك «لا تبع» مثلا فباع، أو بجزئها ك «لا تبع بمبلغ كذا» فباع بذلك المبلغ، أو بشرطها ك «لا تبع بيع الملاقيح»، فإنّ القدرة على التسليم حال البيع شرطه، و هو مفقود فيه «أو بوصفها الداخل، أي اللازم ك «لا تبع بيع الربوي أو الحصاة» مثلا، أو بوصفها الخارج ك «لا تبع العنب ليعمل خمرا» و بيع تلقّي الركبان، أو بشي ء مفارق متّحد معه في الوجود ك «بع، و لا تكلم الأجنبيّة» فباعها بالمكالمة معها، أو بشي ء مفارق غير متّحد معه في الوجود ك «بع و لا تنظر إلى الأجنبيّة».

فبلغت شقوق معاملة العبد ستة و عشرون شقّا، سبعة منها شقوق المنهي عنها، و الباقي شقوق غير المنهي من المأذون و غير المأذون.

و أمّا حكمه فالكلام تارة من حيث الأصول العمليّة، و تارة من حيث الأصول اللفظيّة و القواعد الشرعيّة.

أمّا من حيث الأصول العمليّة فحكم العبد حكم الحرّ في مجرى أصل البراءة و الإباحة، فيما عدا معاملاته من باقي أفعاله و حركاته و سكناته و إن زاحمت حقوق السيّد، و مجرى أصالة الفساد و استصحاب عدم النقل و الانتقال في جميع معاملاته و إن أذن له السيد فيها.

و أمّا من حيث الأصول اللفظيّة و عموم القواعد الشرعيّة من قوله تعالى:

ضَرَبَ اللّٰهُ مَثَلًا عَبْداً مَمْلُوكاً لٰا يَقْدِرُ عَلىٰ شَيْ ءٍ (1)، و قوله عليه السّلام: «المملوك لا حجّ له و لا عمرة و لا شي ء إلّا بإذن المالك» (2) هو حرمة جميع تصرفات المملوك


1- النحل: 75.
2- الوسائل 8: 32 ب «15» من أبواب وجوب الحجّ و شرائطه ح 3 و 4.

ص: 51

الغير المأذون فيها من معاملاته و عباداته إلّا ما خرج بالدليل، كفرائضه تعالى، بل و من كلّ ما يطلق عليه الشي ء من حركاته و سكناته، إلّا الفرد الأندر الّذي لا يندرج في العموم أو الفرد المفضي إلى العسر و الحرج المنفيين عن الشريعة، فيجب على العبد إطاعة السيّد في كلّ شي ء إلّا ما خرج بالدليل، أو ما يؤدّي إلى العسر و ضيق السبيل، أو ما كان من أندر أفراد الشي ء الّذي لا يشمله العموم، كالنظر في شي ء و التفكر فيه.

و يشبه بالعبد في هذا الحكم الولد، فيجب عليه إطاعة الوالدين في كلّ شي ء إلّا ما استثني من الأمور الثلاثة المتقدّمة، للشهرة و فحوى الأخبار الدالّة على عقوق الولد الغير المستأذن عن والده، في الصيام المندوب و الحجّ المندوب و السفر المندوب و الصلاة المندوبة (1)، و يلحق بها سائر الأفعال بالفحوى أو الأولويّة.

ثمّ إنّ الحرمة المتعلّقة بتصرّفات العبد حكمها حكم سائر النواهي في الدلالة على الفساد عقلا و عرفا إن تعلّقت بنفس عباداته، أو بجزئها، أو شرطها، أو وصفها الداخل، و عدم الدلالة على الفساد إن تعلّقت بمعاملاته مطلقا، أو بعباداته باعتبار وصفها الخارج، أو شي ء مفارق لها بقسيميه.

إلّا أنّ المستفاد من التتبّع و الاستقراء في نواهي الشرع المتعلّقة بالمعاملات هو فسادها غالبا، فيلحق المشكوك بالأعمّ الأغلب، فكان مناط نهي الشارع عن المعاملات هو الإشارة إلى أنّك لا تفعل لأنّه لم يحصل، لا التكليف بلا تفعل لأنّي لم أقبل، فيكون معنى نهيه عن المعاملات بالفارسيّة «نكن كه نمى شود» نه «نكن كه نمى خواهم».

و أمّا نهي السيّد العبد عن المعاملة فلا يقتضي فسادها بالاستقراء، كما لا


1- الوسائل 7: 395 ب (10) من أبواب الصوم المحرّم و المكروه.

ص: 52

يقتضيه بالعقل و العرف و إن تعلّق بنفسه.

خلافا لبعض العامّة، كالحكم بن عتبة و إبراهيم النخعي و أصحابهما الزاعمين فساد نكاح العبد مطلقا و إن لحقه إجازة المولى (1).

و يردّهم أوّلا: وضوح أنّ ترتّب آثار المعاملة لا ينافي مبغوضيّتها المستفادة من النهي، سيّما من نهي المولى دون الشارع، كترتّب الضمان على الغصب، و الدّية على القتل، و الجرح المحرمين، و المهر على بعض صور الزنا، و غير ذلك، فلا منافاة عقلا و لا عرفا بين الحرمة و الصحّة في المعاملات حتّى يكون التخصيص عرفا موجبا للفساد. ألا ترى أنّه لو قيل: الطلاق موجب للفراق و العدّة ثم قيل للسفيه: لا تطلق لم يفهم الفساد، كما لو قيل: السقمونيا مسهل للصفراء ثم قيل: لا تشربه لم يفهم منه عدم التأثير إذا شربه.

و ثانيا: لو سلّمنا اقتضاء النهي الفساد حتّى في المعاملات عرفا- كما زعمه بعض العامّة- أو بالاستقراء و الدليل الخارج- كما هو المختار- فإنّما هو مختصّ بنهي الشرع دون غيره و إن رجع إليه بالتبع، كما يدلّ عليه صحيحة زرارة عن المملوك تزوّج بغير إذن سيّده، فقال: «ذلك إلى سيّده إن شاء أجاز و إن شاء فرّق بينهما، قلت: أصلحك اللّٰه إن الحكم بن عتبة و إبراهيم النخعي و أصحابهما يقولون: إنّ أصل النكاح فاسد و لا تحلّ إجازة السيّد له، فقال أبو جعفر عليه السّلام: «إنّه لم يعص اللّٰه إنّما عصى سيّده، فإذا أجازه فهو له جائز» (2).

فهذه الرواية صريحة في عدم اقتضاء نهي السيّد فساد عقد العبد و إن لم تخل من الإجمال من جهة دلالتها على اقتضاء نهي الشارع الفساد و عدمه.

و من جهة أنّ اقتضاءه الفساد على تقديره هل هو بالذات كما زعمه


1- الوسائل 14: 523 ب «24» من أبواب نكاح العبيد و الإماء ح 1، و فيه الحكم بن عيينة.
2- الوسائل 14: 523 ب «24» من أبواب نكاح العبيد و الإماء ح 1، و فيه الحكم بن عيينة.

ص: 53

العامّة (1)، أو بالاستقراء و الدليل الخارج كما هو المختار؟

و من جهة أنّ فارق تفرقة العصيانين في اقتضاء الفساد هل يرجع إلى معنى أنّه لم يعص اللّٰه بالأصالة، بل عصاه بالتبع لعصيان سيّده، فإذا أجازه فهو له جائز، كما ارتضاه الضوابط (2).

أو إلى معنى أنّه لم يخالف مقتضى الحكم الوضعي الواقعي و هو إذن الشارع و رخصته من جهة العمومات بصحّة الفضولي بعد الإجازة، بل إنّما خالف الحكم الوضعي الظاهري، و هو الإذن من السيّد المستلزم لمخالفة الحكم التكليفي الظاهري، و هو الإذن من الشارع، فإذا أجازه فهو له جائز، كما ارتضاه القوانين (3) و الفصول (4) و الإشارات (5).

أو إلى أنّه لم يعص اللّٰه في نفس العقد أو ما في حكمه بل إنّما عصاه في شي ء خارج متّحد معه في الوجود، و هو مخالفة السيّد، كما عن التوني (6) و المناهج (7) ارتضائه في معنى الحديث المذكور.

أو إلى أنّه لم يخالف الحكم الوضعي الإرشادي بل إنّما خالف التكليفي، أعني: لم يفعل ما لم يحصل بل إنّما فعل ما لم يقبل، فإذا لحقه القبول فهو مقبول، كما هو الموافق للقواعد و الأصول.

أو إلى أنّه لم يخالف فيما يستحيل تدارك مخالفته فيما بعد الوقوع، و هو عصيانه تعالى حيث لا يتصوّر رضاؤه بما سبق من معصيته، بل إنّما خالف فيما


1- البحر المحيط 2: 445.
2- ضوابط الأصول: 190- 191.
3- قوانين الأصول 1: 162.
4- الفصول الغرويّة: 144.
5- إشارات الأصول: 107.
6- الوافية: 106.
7- مناهج الأحكام «للنراقي»: 77.

ص: 54

يمكن تداركه فيما بعد، و هو معصية السيّد حيث إنّه مما يمكن تداركه بلحوق رضائه، فإذا أجازه فهو له جائز، كما ارتضاه الماتن في المتن.

ثمّ قال: «و من ذلك يعرف أنّ استشهاد بعض بهذه الرواية على صحّة عقد العبد و إن لم يسبقه إذن و لم يلحقه إجازة بل و مع سبق النهي أيضا، لأنّ غاية الأمر هو عصيان العبد و إثمه في إيقاع العقد و التصرّف في لسانه الّذي هو ملك للمولى، لكن النهي مطلقا لا يوجب الفساد، خصوصا النهي الناشئ عن معصية السيّد، كما يومئ إليه هذه الأخبار الدالّة على أنّ معصية السيّد لا يقدح بصحّة العقد في غير محلّه؛ بل الروايات ناطقة- كما عرفت- بأنّ الصحّة من جهة ارتفاع كراهة المولى و تبدّله بالرضا بما فعله العبد .. إلخ» (1).

و فيه: أنّ الصحّة من جهة ارتفاع كراهة المولى و تبدّله بالرضا بما فعله العبد إنّما هو صحّة مضمون العقد، و أمّا نفس العقد و الإنشاء فلا يعقل أن يصحّحه الرضا اللاحق، بل إن وقع صحيحا فهو صحيح و إن لم يلحقه الإجازة و الرضا، و إن لم يقع صحيحا فهو باطل و إن لحقه الإجازة و الرضا.

و اعتراف الماتن بذلك ثمّ جوابه بقوله: «إلّا أنّ الأقوى هو لحوق إجازة المولى، لعموم أدلّة الوفاء بالعقود .. إلخ» (2)

فيه: أنّ نهوض عموم أدلّة الوفاء بالعقود فرع إحراز صدق العقد قبل لحوق الإجازة، و بعد إحراز صدقه إن أريد كون الرضا اللاحق مؤثّرا في صحّة نفس العقد فهو تحصيل للحاصل، لأنّ صحّة نفس العقد لا يزيد على صدق العقد المفروض حصوله قبل الرضا.

و إن أريد كونه مؤثّرا في مضمون العقد و هو ترتيب آثاره فهو إنّما يجي ء فيما لو أوقع العبد العقد لنفسه لا لغيره و أمّا إذا أوقعه عن الغير فرضا المولى أجنبي عن التأثير في حقّ ذلك الغير.


1- المكاسب: 123.
2- المكاسب: 123.

ص: 55

فإن قلت: إنّ عموم (1) «عبدا مملوكا لا يقدر على شي ء إلّا بإذن المولى أو إجازته» يقتضي التعبّد بعدم ترتيب آثار العقد على عقده من دون رضا السيّد و إن كان العقد صحيحا، سواء أوقع العبد العقد لنفسه أو لغيره.

قلت: إن بنيت على تخصيص عموم أَوْفُوا بِالْعُقُودِ (2) بعموم «لا يقدر على شي ء» لزم التعبّد بعدم ترتيب الآثار على عقده الغير المسبوق بالإذن و الرضا و إن لحقه الإجازة و الرضا فيما بعد، و إن اقتصرت في تخصيصه على القدر المتيقّن- و هو صورة عدم الرضا لا سابقا و لا لاحقا، كما التزمت به في توجيه تأثير الإجازة اللاحقة- فليقتصر في تخصيصه أيضا على القدر الأيقن من ذلك، و هو تأثير الإجازة و الرضا اللاحق في خصوص ما إذا أوقع العبد العقد لنفسه، دون ما إذا أوقعه عن غيره، فإنّه لا يحتاج في ترتيب الآثار إلى إجازة السيّد و رضائه اللاحق.

قوله: «فافهم و اغتنم».

[أقول:] إشارة إلى أنّ عصيان السيّد و إن رجع إلى عصيان اللّٰه إلّا أنّه بالتبع القابل للتبديل و التحويل، بخلاف عصيانه تعالى بالأصالة، فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللّٰهِ تَبْدِيلًا وَ لَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللّٰهِ تَحْوِيلًا (3)، و كفى به فارقا.

و إذ قد عرفت ذلك فلنرتجل الكلام في المرام في تفصيل حكم كلّ واحد من شقوق عقد العبد.

فنقول: أمّا عقد لنفسه أو عقد للغير عن نفسه فحكمه أنّه إن كان ذلك العقد مسبوقا بإذن السيّد فلا إشكال و لا خلاف في صحّته، و أمّا إذا لم يكن مسبوقا بإذنه ففيه وجوه:


1- تقدّم مصدره في هامش (1) ص: 50.
2- المائدة: 1.
3- فاطر: 43.

ص: 56

أحدها: صحّة عقده مطلقا، أي و لو لم تلحقه الإجازة كما لم يسبقه الإذن، نظرا إلى عموم أدلة الوفاء بالعقود.

و ثانيها: فساده مطلقا، أي و لو لحقته الإجازة، نظرا إلى عموم لٰا يَقْدِرُ عَلىٰ شَيْ ءٍ (1)، و الاقتصار في تقييده على القدر المتيقّن، و هو صورة سبق الإذن منه دون صورتي عدم سبقه.

و ثالثها: التفصيل بين ما تلحقه الإجازة فيصحّ، و ما لا تلحقه فلا يصحّ، و هو الظاهر من القواعد و النصوص (2) به بالخصوص.

و أمّا عقده لغيره فيساوي العقد لنفسه في أنّه إن كان مسبوقا بالإذن صحّ إجماعا، و إلّا ففيه الوجوه المذكور، إلّا أنّه يفترق عنه عندنا في كون الأقوى فيه هو الوجه الأوّل و هو الصحّة مطلقا، لا الوجه الأخير و هو التفصيل بين لحوق الإجازة و عدمه.

خلافا للماتن طاب ثراه (3) حيث لم يفرّق بين الفرضين في اختيار التفصيل. و يضعّفه عموم أدلّة الوفاء بالعقود، و الاقتصار في تخصيصه على القدر المتيقّن، و هو صورة ما إذا عقد لنفسه، كما أنّه مورد السؤال المجاب فيه بقوله عليه السّلام: «ذلك إلى سيّده إن شاء أجاز و إن شاء فرّق» (4).

و أمّا لو اشترى نفسه من مولاه لغيره فقد صحّ و لزم، وفاقا للماتن (5) لكفاية رضا المولى الحاصل من تعريضه البيع من إذنه الصريح، بل يمكن جعل نفس الإيجاب موجبا للإذن الضمني.


1- النحل: 75.
2- الوسائل 14: 523 ب «24» من أبواب نكاح العبيد و الإماء.
3- المكاسب: 123.
4- تقدّم ذكر مصدره في الهامش (1) ص: 52.
5- المكاسب: 124.

ص: 57

أقول: الفرق كون الرضا القلبي من أوصاف الحال، و الإذن الضمني من مقولة الأفعال و إن لم يكن من صريح الأقوال، بل و يمكن صحّته مع فرض عدم إذنه لا صريحا و لا ضمنا، لما تقدّم من عموم أدلّة الوفاء بالعقود.

و ما عن القاضي (1) من البطلان في المسألة فإن كان مستنده ما قيل:

من اتحاد عبارته مع عبارة السيّد- نظرا إلى تنزيل لسانه منزلة لسان السيّد، و عبارته منزلة عبارته، فيتّحد الموجب و القابل- ففيه أوّلا: منع الاتّحاد، لتغاير العبد للسيّد حقيقة و ثانيا: سلّمنا الاتّحاد، لكن التغاير الاعتباري كاف في الصحّة، لنزوله منزلة التغاير الحقيقي، فكيف! و هو حقيقيّ حقيقة.

و إن كان مستنده عدم قابليّة المشتري للقبول في زمان الإيجاب و عدم استقلال العبد في شي ء ففيه: أنّ عدم قابليّته للقبول في زمان الإيجاب لا يقدح لما أشار إليه الماتن (2)، و أنّ المتيقّن من عدم استقلاله في شي ء هو عدم استقلاله في مخالفة السيّد و معارضته، اقتصارا على القدر المتيقّن من تخصيص عموم الوفاء بالعقود بالمجمل المفهومي.

و إن كان مستنده نهي المولى و منعه من تصرّف العبد ففيه ما مرّ من عدم اقتضاء نهيه الفساد في تلك المعاملة من جهات عديدة، من جهة أنّه لم يعص اللّٰه بل عصى سيّده، و من جهة تعلّق نهيه بأمر خارج لا داخل. هذا حكم ما إذا أمر العبد أمر باشتراء نفسه من مولاه.

و أمّا إن أمره بالاشتراء من وكيل المولى فإن كان الوكيل مأذونا في إذن العبد فحكمه حكم الشراء من نفس المولى بلا فرق، و أمّا إذا لم يكن مأذونا في


1- جواهر الفقه: 63 المسألة 235.
2- المكاسب: 124.

ص: 58

الإذن فعن المحقق (1) و الشهيد (2) الثانيين البطلان، و وافقهما الماتن (3)، استنادا إلى أدلّة عدم استقلال العبد في شي ء.

و يضعّف بما عرفت من أنّه إن أريد عدم استقلاله حقيقة بحيث يكون مسلوب العبارة كالحيوانات لزم بطلان شرائه مطلقا و لو لحقته الإجازة، بل و لو سبقه الإذن و هو باطل بالوفاق، فالملزوم مثله.

و إن أريد عدم استقلاله حكما- بحيث لا يجوز ترتّب الآثار على عقده من باب التعبّد و إن كان صحيحا ما لم يأذن به السيّد- كان المتيقّن من تخصيص عموم أدلّة الوفاء بالعقود بأدلّة عدم استقلال العبد بهذا المعنى هو صورة ما إذا عقد لنفسه لا لغيره، فيقتصر على المتيقّن من التخصيص و يرجع في ما عداه إلى عموم أدلّة الوفاء، فالأقرب إلى القواعد و العمومات حينئذ هو إلحاق اشتراء العبد نفسه للغير عن وكيل المولى باشترائه عن نفس المولى في الصحّة عندنا، للوجوه المتقدّمة في دفع موهمات المنع طرّا، من توهّم الاتّحاد و عدم الاستقلال، أو اقتضاء النهي الفساد.

[من شرائط المتعاقدين أن يكونا مالكين أو مأذونين من المالك]
اشارة

قوله: «بعد اتفاقهم على بطلان إيقاعه».

أقول: بل الأصل الأصيل الخالي عن ورود الدليل صحّة الفضولي حتّى في العبادات فضلا عن الإيقاعات، كما هو المنصوص (4) في التصدّق باللقطة عن صاحبها فضولا.

قوله: «و لعلّ مراد الشهيد .. إلخ» (5).


1- انظر جامع المقاصد 4: 68.
2- انظر مسالك الأفهام 3: 158.
3- المكاسب: 124.
4- الوسائل 17: 357 ب (7) من أبواب اللقطة.
5- غاية المراد: 178.

ص: 59

أقول: هذا ترجّ منه، لتوجيه الإيراد بالمصادرة على الاستدلال بأنّه عقد صدر عن أهله وقع في محلّه بعد نفيه تحقّق وجه له، و تقريب توجيه الإيراد: هو أن يكون المراد أنّه إن أريد الاستدلال على صحّة الفضولي بمجرّد كونه عقدا صدر عن أهله فهو أوّل الكلام، نظرا إلى أنّ أهليّة ما عدا المالك و الوليّ و الوكيل في العقد على شي ء أوّل الكلام. و إن أريد الاستدلال بمقدّمة مطويّة تكون هي الدليل على أهليّة الفضولي، أعني: عموم أدلّة الوفاء بالعقود فهو مسلّم، إلّا أنّه استدلال بالعموم لا بدليل مستقلّ آخر.

ثمّ إنّ وجه دلالة عموم الوفاء بالعقود على إحراز أهليّة الفضولي هو دلالته على صحّة كلّ عقد و لزوم الوفاء بكلّ ما يصدق عليه عرفا أنّه عقد، و لازم ذلك إحراز أهليّة كلّ ما يصدق عليه عرفا أنّه عاقد من عبد أو صبيّ أو فضولي، بل و إحراز أهليّة كلّ ما يصدق عليه عرفا أنّه معقود عليه من نجس أو ما لا منفعة فيه إلّا ما خرج بالدليل.

و دعوى انصراف عموم الآية عن إحراز أهليّة العاقد و المعقود عليه إلى بيان أصل وجوب الوفاء بالمحرز فيه الأهليّة من العقود بحسب الخارج مدفوعة.

أوّلا: بأنّ الانصراف من خصائص الإطلاق، لا لعموم.

و ثانيا: بأنّ الانصراف محتاج إلى بيان صارف، و إذ ليس فليس.

قوله: «ليس هذا من معاملة الفضولي».

[أقول:] فيه: أنّه لا فرق بين العقد و المعاطاة إلّا في اعتبار الإنشاء القوليّ في العقد، و الفعليّ في المعاطاة و هو لا يوجب انتفاء الفضوليّة في المعاطاة، بل غايته أنّ المعاطاة لا يتوقّف على عاقد بل على فاعل ما بأيّ وجه اتّفق، لا أنّ فاعله لا يكون فضوليّا من دون أن يعلم رضا المالك من شاهد أو مقال، مع أنّ أصل علم الفضولي برضا المالك بالفعل أو فيما بعد خلاف الأصل، فضلا عن

ص: 60

شاهد الحال أو المقال المخرج له عن الفضوليّة.

قوله: «إلّا أنّها ربما توهن بالنصّ الوارد في الردّ على العامّة (1) .. إلخ».

أقول: يمكن منع موهنيّة النصّ للأولويّة بأنّ ظاهره بل صريحه هو الدلالة بالمطابقة على أولويّة النكاح بالاحتياط من البيع، و بالملازمة على أولويّة النكاح بالصحة من البيع المفروض استناد صحّته إلى الاحتياط، دون الدلالة بالأصالة على أولويّة النكاح بالصحّة من البيع حتّى يوهن أولويّته من البيع بالاحتياط، كما زعمه الماتن (2).

نعم، لوهن أولويّة الاحتياط في النكاح وجه آخر غير النصّ المذكور، و هو الاستظهار من التتبّع في أحكام النكاح عدم أولويّة النكاح من البيع بالاحتياط من جميع الجهات، بل الظاهر من الاستقراء اكتفاء الشارع في النكاح من جهة الوصل و الإيصال بما لا يكتفي به في غير النكاح من البيع، كما يظهر من اكتفائه في النكاح من جهة الوصل بالسكوت من البكر و بعدم تعيين المهر، و بتقديم القبول على الإيجاب و بلفظ المستقبل في الإيجاب على ما في بعض الروايات (3) المفتي بها، بل و في تحقّق الرجوع إلى المطلّقة الرجعيّة بمجرّد النظر إليها بشهوة، فضلا عن اللمس و الضمّ و التقبيل بشهوة، إلى غير ذلك مما يقف عليه المتتبّع من الموارد الدالّة على أهونيّة النكاح من غيره من جهة الوصل و الاتّصال، و أنّ أحوطيّته إنّما هو من جهة الفكّ و الانفكاك، لا من جميع الجهات.

فتلخّص مما ذكرنا: أنّ الموهن لأولويّة النكاح بالاحتياط و عدم الصحّة إنّما هو الاستقراء و التتبّع المذكور، و أمّا النصّ الوارد في ردّ العامّة (4) فيمكن منع


1- الوسائل 13: 286 ب «2» من أبواب أحكام الوكالة ح 2.
2- المكاسب: 126.
3- انظر الوسائل 14: 466 ب «18» من أبواب المتعة.
4- الوسائل 13: 286 ب «2» من أبواب أحكام الوكالة ح 2.

ص: 61

موهنيّته بالتقريب المتقدّم.

[صور البيع الفضولي]
[المسألة الأولى أن يبيع للمالك مع عدم سبق المنع من المالك]

قوله: «الحكم بالمضي إجازة إلهيّة لاحقة للمعاملة. فتأمّل».

[أقول:] إشارة إلى احتمال اختصاص النصّ بمورد اتّجار غير الوليّ في مال اليتيم و إجازة الولاية الإلهيّة له.

قوله: «فإذا احتمل مورد السؤال لهذه الوجوه و حكم الإمام عليه السّلام بعدم البأس (1) من دون استفصال عن المحتملات أفاد ثبوت الحكم على جميع المحتملات».

أقول: لا يقال: إنّ ترك الاستفصال المفيد للعموم على القول به إنّما هو ترك الاستفصال عن أفراد المطلق- كالإنسان بالنسبة إلى المسلم و الكافر- و أمّا ترك الاستفصال عن المشتركات اللفظيّة للفظ- كالعين بالنسبة إلى الجارية و الباكية كما فيه نحن فيه- فلا يفيد العموم كما نقله شيخنا العلّامة عن سيّد أساتيذه صاحب الضوابط (2).

لأنّا نجيب أوّلا: بمنع الصغرى، و أنّ الفرق بين ترك الاستفصال عن أفراد المطلق أو عن المشتركات اللفظيّة للفظ في إفادة العموم غير فارق، بعد جواز استعمال المشترك في أكثر من معنى و لو على سبيل عموم الاشتراك، كجواز استعمال المطلق في جميع أفراده.

إلّا أن يقال: إنّ الفارق هو توقّف استعمال المشترك في معانيه على القرينة المعيّنة، فبدونها لا يفيد مجرد ترك الاستفصال في جوابه العموم، بخلاف المطلق فإنّ جواز استعماله في جميع أفراده لا يتوقّف على القرينة المعيّنة فيفيد مجرّد ترك الاستفصال في جوابه العموم. و هو حسن.


1- الوسائل 12: 394 ب «20» من أبواب أحكام العقود ح 2.
2- ضوابط الأصول: 201.

ص: 62

و لعلّ نظر المفرّق إلى هذا الوجه من الفرق، أو إلى أنّ المشترك لمّا كان استعماله في كل من معانيه محفوفا بقرينة التعيين غالبا انصرف الجواب إلى ما عيّنته القرينة فلا يفيد ترك استفصاله العموم، بخلاف المطلق فإنّ استعماله في أفراده لم يكن في الغالب محفوفا بالقرينة حتّى ينصرف الجواب إلى ما عيّنته القرينة فيفيد مجرّد ترك استفصاله العموم.

و ثانيا: بمنع الكبرى، و أنّ ترك الاستفصال فيما نحن فيه عن شراء السمسار و من قبيل ترك الاستفصال عن أفراد المطلق، لا من قبيل ترك الاستفصال عن المشتركات اللفظيّة للفظ، ضرورة أنّ نسبة شراء السمسار إلى الشراء لنفسه أو لغيره فضولا هو نسبة المطلق إلى أفراده، لا نسبة اللفظ إلى مشتركاته اللفظيّة، كما لا يخفى.

إلّا أنّ الأظهر من خبر السمسار (1) و من كلّ ما تقدّمه من الأخبار كون الشراء فيها مأذونا، لا فضوليّا في شي ء.

أمّا خبر ابن أشيم (2) فلكون العبد المأذون مأذون من طرف الآذن و الدافع و مولى الأب البائع، و ليس بفضولي من طرف، إلّا أنّ وجه الحكم بردّ المملوك رقّا لمولاه قبل البيّنة من جهة اختصاص مدّعيه بمزيّة موافقة الظاهر و أصالة عدم النقل.

و أمّا صحيحة الحلبي (3) فلعدم انطباق ردّ الزيادة إلّا على أنّ الرضا بالوضيعة رضا بالزيادة بفحوى الأولويّة.

قوله: «هذا غاية ما يمكن أن يحتجّ به أو يستشهد به للقول بالصحّة».

أقول: بل زاد عليها شيخنا العلّامة أخذا من مشايخه وجوه أخر:


1- تقدّم ذكر مصدره في هامش (1) ص: 61.
2- الوسائل 13: 53 ب «25» من أبواب بيع الحيوان ح 1.
3- الوسائل 12: 392 ب «17» من أبواب أحكام العقود ح 1.

ص: 63

منها: الأخبار (1) الواردة في تحليل الأئمة عليهم السّلام على شيعتهم شراء ما فيه خمسهم من الإماء و المساكن و المتاجر لتطيب مولدهم و يزكوا، نظرا إلى أنّ تحليل شراء ما فيه حقّهم على الشيعة مع تصريحهم بتحريمه على غير الشيعة البائعين له ليس إلّا كإجازة المغصوب منه شراء المغصوب من الغاصب في كون فضوليّا من طرف البائع.

و منها: تحليلهم عليهم السّلام (2) شراء الخراج من سلطان الجور المستحلّ له، مع أنّ البيع من طرف الغاصب و المستحلّ فضوليّ.

و منها: احتساب ما في ذمّة المديون المستحق عليه من باب الزكاة و المظالم و الخمس و الفطرة و الصدقة بمجرّد النيّة و الإجازة اللاحقة.

و منها: تقاصّ الغريم عمّا في ذمّة غريمه من الدين و العين.

و منها: العدول من صلاة إلى صلاة أخرى في مواردها المقرّرة شرعا.

و منها: صوم يوم الشك و صلاة الاحتياط، فإنّه بعد انكشاف مصادفتها الوجوب الواقعي احتسبت عن الواقع.

و منها: الأخبار (3) الواردة في التصدّق باللقطة و مجهول المالك عن صاحبه عند اليأس عن ظهوره، فإذا ظهر و أجاز احتسب لمالكه المجيز و إلّا احتسب لدافعة، و ضمن الدافع لمالكه المثل أو القيمة، نظرا إلى أنّ احتساب التصدّق و ردّ المظالم بمال الغير عن نفس ذلك الغير بعد فرض إجازته ليس إلّا من جهة صحّة الفضوليّ.

بل ربّما يستشهد أو يستأنس بتلك الأخبار على أهليّة جميع وجوه البرّ و التصدّقات و العبادات المندوبة الواقعة عن الغير على وجه الفضوليّ أو النيابة أو


1- الوسائل 6: 378 ب (4) من أبواب الأنفال و ما يختصّ بالإمام.
2- الوسائل 12: 161 ب «52» من أبواب ما يكتسب به.
3- الوسائل 17: 349 ب (2) من أبواب اللقطة.

ص: 64

الوكالة للنقل عمّن وقعت له إلى نفس الفاعل أو غيره، بعوض أو غيره بعد الفسخ أو عدم الإجازة.

فلو أوقع الفضوليّ أو الوكيل حجّا أو قراءة أو زيارة أو غيرها من العبادات المندوبة عن شخص بمبلغ معيّن ثمّ لم يجز من له الإجازة أو فسخ الموكّل صحّ للفاعل نقل ثواب العمل الذي عمله عن الغير إلى نفسه أو إلى غيره بعوض أو غيره، كما يصحّ نقل الأعيان الخارجيّة و الذهنيّة الّتي في الذمم إلى الغير ببيع و نحوه، و ذلك لعدم المانع عن صحّة النقل و الانتقال في مثل العبادات الواقعة عن الغير بعد عموم أَوْفُوا بِالْعُقُودِ (1)، سوى احتمال الفرق بينهما و بين الأعيان و ما في الذمم في عدم أهليّتها للنقل و الانتقال عن الوجه الواقع عليه إلى وجه آخر.

و احتمال عدم الأهليّة لذلك إن لم يكف في رفعه عموم الوفاء بالعقود، نظرا إلى فرض الشكّ في صدق العقد حينئذ، فلا أقلّ من الاكتفاء في رفعه بإحراز الأهليّة و لو بالأخبار (2) الواردة في خصوص الموارد كما في مورد التصدّق باللقطة و مجهول المالك، نظرا إلى اتّحاد الطريق. هذا في العبادات المندوبة.

و أمّا الواجبة الواقعة عن الغير فعموم الوفاء بالعقود و الأخبار الدالّة (3) على أهليّة نقلها إلى الغير بعد الوقوع أقصى ما يقتضي هو أهليّة نقل أجرها و ثوابها إلى الغير، و أمّا نقل سائر آثارها من براءة الذمّة و حصول الامتثال فمشكل جدّا، مع احتماله أيضا على ضعف.

قوله: «و أمّا السنّة فهي أخبار .. إلخ».

أقول: طائفة من هذه الأخبار واردة بلسان النهي بمثل قوله صلّى اللّٰه عليه و آله: «لا تبع ما


1- المائدة: 1.
2- تقدّم ذكر مصدره في الهامش (3) ص: 63.
3- الوسائل 5: 365 ب (12) من أبواب قضاء الصلوات.

ص: 65

ليس عندك» (1)، و طائفة أخرى منها واردة بلسان النفي بمثل قوله صلّى اللّٰه عليه و آله: «لا بيع إلّا فيما يملك» (2).

أمّا وجه الاستدلال على فساد الفضولي بالطائفة الناهية فمبنيّ على ما هو المشهور عند المتأخّرين من دلالة النهي في المعاملات على الفساد إذا لم يتعلّق بأمر مفارق، لكن لا عقلا و لا عرفا- حتّى تختصّ الدلالة على ذلك بالنهي في العبادات- بل بالاستقراء الحاصل من التتبّع في نواهي الشرع، حيث وجدنا من التتبّع أنّ المراد من أغلب نواهيه المتعلّقة بالمعاملات هو الإرشاد إلى مثل قولك:

«لا تفعل لأنّه لم يحصل، لا لأنّي لم أقبل» و إن كان ظاهر النهي التعبّد و الظنّ يلحق المشكوك بالأعمّ الأغلب.

و ربّما تؤيّد الدلالة على الفساد أيضا بمفهوم تعليله عليه السّلام صحّة نكاح العبد المجاز «بأنّه لم يعص اللّٰه و إنّما عصى سيّده» (3).

و أمّا وجه الاستدلال على فساد الفضوليّ بالطائفة النافية فمبنيّ على ما هو الواضح من أنّ أقرب المجازات إلى الحقيقة- و هي نفي الماهيّة المتعذّر فيما نحن فيه- هو نفي الصحّة.

و ما عن القوانين (4) من شيوع استعماله في نفي الكمال في المحاورات غالبا بحيث صار مجازا مشهورا يساوي الحقيقة ليجمل في الإطلاق ممنوع جدّا.

لأنّ شيوع استعمال اللفظ في المعنى المجازي تارة يبلغ في الكثرة مرتبة صحّة اعتماد المتكلّم في التفهيم على مجرّد الشهرة و تجريد اللفظ عمّا عداها من


1- الوسائل 12: 374 ب (7) من أبواب أحكام العقود ح 2.
2- المستدرك للحاكم 2: 17، عوالي اللئالي 2: 247 ح 16.
3- تقدّم ذكر مصدره في الهامش (1) ص: 52.
4- قوانين الأصول 1: 338.

ص: 66

سائر القرائن الحاليّة و المقاليّة المتّصلة و المنفصلة.

و تارة لا يبلغ الشيوع بهذه المرتبة بأن كان استعمال اللفظ في المعنى المجازي باقيا على ما كان من ملازمة غير الشهرة من سائر القرائن الحاليّة أو المقاليّة المتّصلة أو المنفصلة.

و الّذي يصيّر اللفظ مجازا مشهورا مساويا للحقيقة و يحمل اللفظ معه إنّما هو القسم الأوّل من الشيوع، دون القسم الثاني من الشيوع و إن بلغ شيوعه أضعاف شيوع الأوّل، و الّذي هو فيما نحن فيه إنّما هو القسم الثاني من الشيوع لا الأوّل؛ لوضوح أنّ استعمال نفي الماهيّة في نفي كمالها و إن بلغ شيوعه في المحاورات العرفيّة و الشرعيّة ما بلغ- مثل: «لا صلاة لجار المسجد إلّا في المسجد» (1) و «ليس منّا من ترك صلاة الليل» (2) و «ليس من شيعتنا من ترك تهجّد الليل» (3)، إلى غير ذلك من الاستعمالات الشرعيّة في نفي الكمال، و مثل:

لا درس، و لا زوج، و لا رجل، و لا امرأة، و لا كتاب، و لا طعام، و لا أكل، إلى غير ذلك من المحاورات العرفيّة المستعملة في نفي الكمال- إلّا أنّه مع ذلك ملازما بعد في كلّ من تلك الاستعمالات، لقرينة حاليّة أو مقاليّة متّصلة أو منفصلة، و لم يبلغ حدّ الاستغناء عنها بالشهرة ليصير بذلك مجازا مشهورا يساوي الحقيقة و يجمل اللفظ.

مضافا إلى أنّا لو سلّمنا الشكّ فالأصل عدم بلوغ الاستعمال إلى حدّ الشهرة المستغنى بها عن سائر القرائن. هذا كلّه في بيان وجه الاستدلال بكلّ من طائفتي الأخبار، الّتي استدلّ بها صاحب الحدائق من الأخباريّة و غيرهم على فساد عقد


1- الوسائل 3: 478 ب «2» من أبواب أحكام المساجد ح 1.
2- الوسائل 5: 280 ب «40» من أبواب بقيّة الصلوات المندوبة ح 8.
3- انظر الوسائل 5: 280 ب «40» من أبواب بقيّة الصلوات المندوبة ح 10.

ص: 67

الفضولي (1).

و لكن مع ذلك كلّه لنا الجواب عنها إمّا بتضعيف السند فيها لكونه عاميّا في أكثرها.

و إمّا بمنع الدلالة بدعوى ظهورها في أحد المعاني الأربعة من حرمة بيع الفضولي لنفسه لا لمالكه، أو لمالكه مع ترتيب آثار البيع عليه، أو مع قصده ترتيب الآثار عليه، أو مع شراء المبيع لنفسه بعد بيعه فضوله عن مالكه من دون إعلام المالك. مع احتمال معنى خامس في الطائفة النافية للبيع إلّا فيما يملك، و هو حرمة بيع ما لا يقبل الملكيّة كبيع الخمر و الخنزير، لا ما ليس يملك فعلا.

كما يحتمل معنى آخر في الطائفة النافية لبيع ما ليس عندك، و هو بيع ما لا يقدر على تسليمه كبيع العبد الآبق و نحوه، فإنّه لا يصحّ بيعه و إن كان مملوكا.

و إمّا بتخصيص عموم أخبار المنع من صحّة الفضولي بصورة عدم الإجازة، بناء على أنّ النسبة بين أخبار المنع و الجواز عموم و خصوص مطلقا، فإنّ أخبار المنع مانعة من صحّة الفضولي و لو لم تلحقه الإجازة، و أخبار الجواز دالّة على صحّة ما تلحقه الإجازة، فيتخصّص عموم الأوّل بالثاني، تقديما للخاصّ على العامّ و النصّ على الظاهر.

و إمّا بحمل أخبار المنع على صورة عدم لحوق الإجازة، و أخبار الجواز على صورة لحوقها، لكن لا من باب التخصيص المتقدّم.

بل إمّا من باب أنّ المستفاد عرفا من جمع طائفتي أخبار الجواز و المنع هو ذلك، نظير ما قيل: من أنّ المستفاد عرفا من الجمع بين الأمر و النهي هو حمل الأمر على الاستحباب، و النهي على الكراهة.

و إمّا من باب أنّ هذا المحمل أقرب المجازات عرفا إلى ما نحن فيه بعد


1- الحدائق الناضرة 18: 386- 391.

ص: 68

تعذّر إبقاء المتعارضين على ظاهرهما.

و إمّا من باب ترجيح أخبار الجواز على أخبار المنع من الفضولي بالشهرة الفتوائيّة، نظرا إلى أنّ الجواز هو الأشهر فتوى، فتكون الشهرة الفتوائيّة جابرة لدلالة أخبار الجواز، و موهنة لدلالة أخبار المنع.

و إمّا من باب ترجيح أخبار الجواز على أخبار المنع سندا، لأقوائيّتها بأحد وجوه التقوية إن لم يكن بكلّها أو جلّها، فتطرح حينئذ أخبار المنع، أو تحمل على ما لا ينافي الجواز من المعاني المتقدّمة من باب الجمع التبرّعي.

هذا غاية ما يمكن من الأجوبة عن أخبار منع صحّة الفضولي، و لكن الشأن كلّ الشأن في تشخيص الأسدّ منها عن غير الأسدّ، و الأوفق إلى قواعد الأصول.

فنقول: أمّا القدح في سندها بالعاميّة فضعيف؛ لوجود الصحيح و المستفيض فيها، مضافا إلى ما في كثرتها و تراكم بعضها مع بعض من الجبران، و نوع من التبيّن الظنّي الكافي في حجّيتها المنوط بمظنون الصدور عندنا معاشر المشهور.

و أمّا منع دلالتها بدعوى ظهورها في منع البيع لنفسه و ترتّب الآثار على بيعه- كما أجاب به الماتن (1) أوّلا- فهو تقييد في ظهور الظاهر، و عموم العامّ من دون قرينة في المقام.

و دعوى انصراف ظهورها إلى منع ترتّب الآثار فيه:

أوّلا: بمخالفته الأصل لو فرض الشكّ.

و ثانيا: باختصاص الانصراف بالإطلاق لا العموم.

و ثالثا: بفقدان شي ء من سببي الانصراف فيما نحن فيه.


1- المكاسب: 127.

ص: 69

و رابعا: بأنّ سياقها سياق سائر أخبار المنع من بيع الربوي (1)، و بيع الغرر (2) و الحصاة (3)، و غيرها من البيوع المحرّمة في الدلالة و لو بالاستقراء و الغلبة على عدم صحّة نفس البيع لا خصوص ترتيب الآثار، و على رفع قابليّته و تأهّله للصحّة، لا رفع فعليّة الصحّة.

نعم، لا نابي من انصراف خبر حكيم بن حزام (4) إلى صورة بيع الدلّال المال عن مالكه ثمّ يذهب و يشتريه من مالكه بأقلّ مما باعه من دون إعلامه بالحال، بقرينة احتفافه بسبق السؤال عن تلك الصورة.

و أمّا تخصيص عمومها بأخبار جواز الفضولي- كما ارتضاه المصنّف (5) جوابا ثانيا- ففيه: عدم ظهور تعارضهما في العموم و الخصوص المطلق بالنسبة إلى محلّ النزاع؛ لدلالة أخبار المنع على المنع من صحّة الفضولي سواء أجاز أم لم يجز، و أخبار الجواز على صحّة الفضولي بعد الإجازة، و محلّ النزاع في صحّته التأهليّة قبل الإجازة، لا في صحّته الفعليّة بعد الإجازة الّذي هو مضمون أخبار الجواز حتّى يخصّص بها أخبار المنع.

إلّا أن يقال: بأنّ دلالتها على الصحّة الفعلية بعد الإجازة يستلزم الدلالة على الصحّة التأهليّة قبل الإجازة، و هو حسن، إلّا أنّه رجوع عن الجواب بمجرّد التخصيص إلى ضميمة التزام التخصيص للمدّعى.

و بعبارة أخرى: أنّ مدلولي أخبار المنع و الجواز إمّا أن يتوافقا في التعرّض لحكم الصحّة الفعليّة أو التأهليّة، أو يختلفا، فإن اعتبر التأهّل في الطرفين لم يكن


1- الوسائل 12: 422 ب «1» من أبواب الربا.
2- الوسائل 12: 330 ب «40» من أبواب آداب التجارة ح 3.
3- الوسائل 12: 266 ب (12) من أبواب عقد البيع و شروطه ح 13.
4- سنن أبي داود 3: 283 ح 3503، سنن البيهقي 5: 267.
5- المكاسب: 127.

ص: 70

وجه لدلالة أخبار الجواز على الصحّة التأهليّة فيما قبل الإجازة التي هي محلّ الكلام، و إن اعتبرت الصحّة الفعليّة فيهما لم يكتف في الجواز بمجرّد أخصّية أخبار الجواز من أخبار المنع، بل يحتاج إلى ضميمة دلالة الالتزام المتقدّم، و إن اعتبرت الصحّة الفعليّة في أحد الطرفين و التأهّل في الطرف الآخر خرج تعارضهما عن تعارض العموم و الخصوص المطلق و الاستثناء المتّصل إلى التباين و الاستثناء المنقطع.

فالأولى و الأسدّ في الجواب عن أخبار المنع هو حملها على صورة ترتيب الآثار و البيع لنفسه، دون مجرّد التلفّظ بالعقد و البيع لمالكه، لكن لا من باب الانصراف، و لا من باب التخصيص- حتّى يرد عليهما ما أورد- بل من باب أنّ المستفاد عرفا من الجمع بين طائفتي الأخبار إرادة ذلك، كما قيل: إن المستفاد من جمع الأمر و النهي على شي ء واحد عرفا هو إرادة الاستحباب من الأمر، و الكراهة من النهي، أو من باب أنّ ذلك الجمع هو أقرب المجازات عرفا إلى ما نحن فيه بعد تعذّر الحقيقة، أو من باب ترجيح أخبار الجواز بالشهرة أو القوّة، و طرح أخبار المنع، أو حملها على ما لا ينافي الجواز تبرّعا.

[المسألة الثانية أن يسبقه منع المالك]

قال طاب ثراه: «المسألة الثانية: أن يسبقه منع المالك .. إلخ».

أقول: أما محلّ النزاع في المسألة الثانية ففيما عقد الفضولي العقد عن الغير لا عن نفسه، و إلّا لم يفترق عن المسألة الثالثة الآتية، فالمائز الفارق بين هذه المسألة عن المسألة الآتية في العقد عن الغير لا عن نفس العاقد، كما أنّ المائز الفارق بينهما عن المسألة الأولى السابقة في سبق المنع و عدمه.

و أمّا الأصل الجاري في المسألة فهو الأصل الجاري في المسألة الاولى من العملي و اللفظي، فالكلام الكلام، و الوجه الوجه، و المشهور المشهور، و المختار طابق النعل بالنعل.

ص: 71

فالفرق بين المسألتين اسما غير فارق بينهما حكما بوجه من الوجوه، عدا ما تخيّل من أنّ العقد إذا وقع منهيّا عنه فالمنع الموجود بعد العقد و لو آنا ما كاف في الردّ، فلا ينفع الإجازة اللاحقة. و التحقيق في خصوص المقام أن نسوق الكلام إلى كلّي ما يندرج فيه نظائر المسألة بالتمام تشريحا للمرام، و تعميما للفوائد في الأحكام.

فنقول: هل يعتبر في تحقّق كلّ من الإجازة و التوكيل و الإذن و الردّ و العزل و الفسخ خصوص الإنشاء، أم يكفي في تحقّقها مجرّد الرضا الباطني في الثلاثة الأول، و عدم الرضا الباطني في الثلاثة الأخر و لو علم بذلك الرضا و عدم الرضا من شاهد حال أو قضاء عادة؟ وجوه فقهيّة و إن لم تكن أقوالا تصريحيّة.

ثالثها: التفصيل بين تحقّق الكاشف اللفظي عن وجود الرضا النفسي أو عدمه فيكتفى به فيها و لو كان ذلك الكاشف من مقولة الإخبار لا الإنشاء، و بين عدم تحقّق الكاشف اللفظي فلا يكتفي بمجرّد الرضا و عدم الرضا فيها.

و رابعها: التفصيل بين ما يفيد العقد كالإجازة و التوكيل و الإذن فيكتفى في تحقّقها مجرّد الرضا الباطني، و بين ما يفيد الحلّ كالردّ و العزل و الفسخ فلا يكتفي في تحقّقها مجرّد عدم الرضا بمقتضى العقد.

و خامسها: التفصيل بين استمرار عدم الرضاء الباطني إلى ما بعد العقد و لو آنا ما فيكفي بمجرّده في تحقّق الردّ و الفسخ و العزل، و بين زواله و عدم استمراره إلى ما بعد العقد فلا يكتفي بمجرّده.

و أوجه الوجوه الخمسة إلى الأصول و القواعد هو الأوّل، أعني: اعتبار الإنشاء في تحقّقها مطلقا، و عدم كفاية مجرّد الرضا و عدم الرضا؛ لأصالة الفساد و عدم تحقّق شي ء منها بمجرّد الرضا و عدم الرضا، و استصحاب عدم ترتّب آثار شي ء منها بمجرّد الرضا و عدم الرضا، مضافا إلى ظهور ما استظهره شيخنا العلّامة

ص: 72

من الإجماع على ذلك من تتبّع موارد الفقه.

و أمّا وجه الاكتفاء في تحقّقها مطلقا بمجرّد الرضا النفساني و عدمه فلعلّه لفحوى اكتفائهم في توكيل الباكرة أو إجازتها التزويج و عقد النكاح بالسكوت، و في تحقّق الرجوع إلى المطلقة الرجعيّة بمجرّد الوطء أو التقبيل أو الضمّ أو النظر بشهوة إليها.

و يضعّفه اختصاص الاكتفاء في هذه المواضع بالدليل الخارج و النصّ الخاصّ، فلا يتعدّى عنها.

و أمّا وجه التفصيل بين وجود الكاشف اللفظي و لو من مقولة الإخبار فيكتفي به و بين عدمه فلا يكتفي به فلعلّه لفحوى حكم بعضهم بأنّه إذا حلف الموكّل لشخص في شي ء على نفي توكيله انفسخ عقد التوكيل، لأنّ الحلف عليه أمارة عدم الرضا.

و فيه: أنّ فسخ التوكيل بمجرّد الحلف لو سلّم فلعلّه مختصّ بمرحلة الظاهر، لأجل التعبّد بعموم أدلّة فصل الخصومة بالحلف، فلا يتعدّى إلى غير الحلف من سائر الكواشف عن عدم الرضا، يعني حلف المنكر على إنكار نفي صدور العقد منه، لا نفي الصادر منه. و لو سلّم فهو تعبّد خاصّ بمورده. و تظهر الثمرة في صحّته بالإجازة على الأوّل، دون الثاني.

و أمّا وجه التفصيل بين ما يفيد العقد- كالتوكيل و الإجازة و الإذن- فيكفي في تحقّقها الرضا الباطني، و بين ما يفيد الحلّ- كالفسخ و العزل و الردّ- فلا يكتفي في تحقّقها بمجرّد عدم الرضا الباطني، و هو الظاهر من الماتن (1)، حيث أخرج بيع الفضولي العالم برضا المالك عن تحت الفضولي سابقا مع اختياره هنا (2)


1- المكاسب: 125.
2- المكاسب: 128.

ص: 73

عدم تحقّق الردّ بمجرّد عدم الرضا النفسي فمرجعه في الشقّ الثاني هو ما ذكرنا.

و أمّا في الشقّ الأوّل فلعلّ مرجعه إلى إطلاق تِجٰارَةً عَنْ تَرٰاضٍ و عموم «التحليل بطيب النفس». و فيه: أنّه لو سلّم إطلاق التراضي و الطيب بالنسبة إلى ما ذكر فإنّما هو خاصّ بحلّية الأكل، لقوله تعالى لٰا تَأْكُلُوا أَمْوٰالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبٰاطِلِ إِلّٰا أَنْ تَكُونَ تِجٰارَةً عَنْ تَرٰاضٍ (1)، و قوله عليه السّلام: «لا يحل مال امرئ مسلم إلّا عن طيب نفسه» (2). و أمّا حلّية المناكح و الفروج فلم يعلم من الآية و الحديث الاكتفاء فيها أيضا بمجرّد الرضا و الطيب النفساني. و توهّم عدم القول بالفصل مدفوع بوجوده من المكتفين بالمعاطاة في أكثر المعاملات دون النكاح.

و أمّا وجه التفصيل بين استمرار عدم الرضا الباطني إلى ما بعد العقد و لو آنا ما فيفسخ و بين عدم استمراره فلا يفسخ فمرجعه في الشقّ الثاني هو ما ذكرنا، من عموم أَوْفُوا بِالْعُقُودِ (3)، و استصحاب بقاء آثار العقد، و أصالة عدم انفساخه بمجرّد عدم الرضا الباطني.

و أمّا في الشقّ الأوّل فهو ما زعم من أنّ مجرّد استمرار عدم الرضا الباطني إلى ما بعد العقد و لو آنا ما موجب لانفساخ العقد.

و فيه: ما تقدّم من المنع. و اللّٰه العالم بحقيقة الأمر.

[المسألة الثالثة أن يبيع الفضولي لنفسه]

قال طاب ثراه: «المسألة الثالثة: أن يبيع الفضولي لنفسه .. إلخ».

أقول: أمّا محلّ النزاع في هذه المسألة فأعمّ من جهة الغاصب و غيره الزاعم ملكيّة المبيع لنفسه، و أمّا من جهة كون النزاع في صحّة البيع بإجازة المالك


1- النساء: 29.
2- الوسائل 3: 424 ب «3» من أبواب مكان المصلّي ح 1.
3- المائدة: 1.

ص: 74

لنفسه أو للبائع فعن الجواهر (1) التعميم، و ظاهر المتن (2) التخصيص بصورة ما إذا أجازه المجيز لنفسه لا لبائعه، و أيّده شيخنا العلّامة بأنّ شهرتهم على بطلان ما لو اشترى المشتري بماله شيئا لغيره، مع شهرتهم على صحّة بيع الفضولي مال الغير لنفسه يقتضي اختصاص النزاع بصورة ما إذا أجاز المجيز لنفسه لا لبائعه، و إلّا لزم التعارض بين الشهرتين، نظرا إلى تعاكس المسألتين، فيقتضي اتّحادهما في الحكم. و فيه: ما يظهر من المتن (3) من منع تعاكس المسألتين و إبراز الفارق بينهما، فلا مقتضى لاتّحادهما في الحكم، و مقايسة أحدهما على الآخر.

فالأظهر حينئذ تعميم محلّ النزاع أيضا من جهة إجازة المجيز لنفسه أو لبائعه و إن كان ظاهر المتن بل صريحه التخصيص. هذا في تحرير محلّ النزاع.

و أمّا الأقوال في المسألة، فثالثها: التفصيل الظاهر من المتن بين بناء البائع على ملكيّة المثمّن بالجعل و الادّعاء فيصحّ، و بين عدم بنائه على ذلك فيفسد (4).

و رابعها: التفصيل الآخر الظاهر من المتن (5) أيضا بين أن تؤخذ خصوصيّة البائع في مفهوم الإيجاب على الجهة التعليليّة فلا يصحّ بإجازة المجيز لنفسه، و بين أن تؤخذ فيه على الجهة التقييديّة أو التعدّد المطلوبي فيصحّ. هذا في الأقوال.

و أمّا الحكم و الوجوه و الأقوال فالكلام في هذه المسألة من الفضولي هو الكلام في المسألة السابقة طابق النعل بالنعل، فالوجه الوجه و القول القول، و التوجيه التوجيه، و المشهور المشهور، و المقتضي المقتضي، و المانع المانع، فلا فارق بين المسألتين من حيث المقتضي و المانع، سوى اختصاص هذه المسألة بتوهّم مانعيّة ما لا يصلح للمانعيّة من عدم تحقّق قصد المعاوضة من الفضولي في


1- جواهر الكلام 22: 309.
2- المكاسب: 128.
3- المكاسب: 128.
4- المكاسب: 128.
5- المكاسب: 129.

ص: 75

هذه المسألة، و من عدم تعلّق الإجازة بمتعلّق الإنشاء السابق بالتقريب الّذي في المتن (1).

أمّا توهّم عدم تحقّق قصد المعاوضة في الفضولي في أموال الناس فيدفعه المنع منه جدّا؛ أمّا إذا قصد الفضولي البيع لمالك المبيع فلأنّ تحقّق قصد المعاوضة منه أوضح من تحقّق قصده المعاوضة في ماله؛ ضرورة أنّ نقل مال الغير على الشخص أهون و أطيب من نقل مال نفسه، كما أنّ أكله أو بذله أهنأ إليه من أكل مال نفسه أو بذله، و ما يكون أهون و أطيب و أهنأ إلى النفس كيف يكون القصد إليه أشكل؟ فما هو إلّا توهّم لا يليق ذكره بأحد.

و أمّا قصد المعاوضة منه فالجواب عن توهّم عدم تحقّقه من الفضولي مضافا إلى ما في المتن (2)- من اختصاصه بيع الغاصب الفضولي مع عموم محلّ النزاع في المسألة، و من أنّ قصد المعاوضة الحقيقيّة مبنيّ على جعل الغاصب نفسه مالكا حقيقيّا بالادّعاء نظير المجاز الادّعائي- أنّ المعاوضة الحقيقيّة مبنيّ على جعل المعوّض عن الثمن هو رفع اليد و التسلّط عن المثمن، لا نفس المثمن حتّى تتوقّف المعاوضة الحقيقيّة بينه و بين الثمن على ما قاله الماتن (3)، من جعل الغاصب نفسه مالكا حقيقيّا بالجعل و الادّعاء ليخرج عن تحت صحّة الفضولي صورة ما إذا باع الغاصب لنفسه من دون البناء على ملكيّة المثمن بالجعل و الادّعاء، بل مطلق بيع الغاصب المشكوك في صدوره عن الجعل و الادّعاء.

فإن قلت: إذا كانت المعاوضة في المغصوب بين الثمن و رفع يد الغاصب عن المثمن لا بين الثمن و نفس المثمن لزم صحّة رجوع المشتري إلى الغاصب فيما دفع إليه من الثمن إذا انتزع المالك منه المثمن و إن كان حين الشراء عالما بغصبيّة المثمن، بل و لو تلف الثمن المدفوع إلى ذلك الغاصب، و اللازم باطل عند


1- المكاسب: 128.
2- المكاسب: 128.
3- المكاسب: 128.

ص: 76

المشهور فالملزوم مثله.

قلت: أمّا أوّلا: فبمنع الملازمة بأنّ صحّة رجوع المشتري العالم إلى الغاصب فيما دفع إليه بإزاء المغصوب و لو بعد تلف ذلك المدفوع فعلى تقدير تسليمه إنّما هو لازم ما اختاره المصنّف (1) في الجواب من جعل المعاوضة بين نفس الثمن و المثمن، و أمّا على ما اخترناه نحن في الجواب من فرض الثمن بإزاء رفع اليد عن المثمن فاللازم هو عدم صحّة الرجوع لا صحّة الرجوع، كما لا يخفى على المتأمّل.

و ثانيا: لو سلّمنا الملازمة قلنا الجواب بأنّ بطلان اللازم على تقدير تسليمه إنّما هو للدليل الشرعي الخارجي، إذا لا بعد في أنّ الشارع تعبّدنا بعدم رجوع المشتري العالم إلى الغاصب إذا انتزع المالك منه المغصوب، عقوبة له حيث أقدم على شراء المغصوب و دفع الثمن بإزائه مع علمه بعدم استحقاقه.

فتلخّص مما ذكرنا: عدم صلوح ما توهّم من عدم تحقّق قصد المعاوضة من الغاصب البائع لنفسه للمانعيّة من الصحّة.

و أمّا توهّم مانعيّة تصحيح إجازة المجيز لنفسه بيع الغاصب لنفسه مع استلزامه بقاء الجنس مع انتفاء فصله و بقاء المقيّد مع انتفاء قيده- نظرا إلى تغاير متعلّق الإجازة لمتعلّق العقد و كون النقل من المنشئ غير مجاز و المجاز غير منشئ- فمدفوع أيضا بعدم صلوحه للمانعيّة.

أمّا أوّلا: فلأنّا و إن سلّمنا مغايرة ما وقع لما أجيز، إلّا أنّ لنا أن نجيب عن مانعيّة الصحّة بما عن المحقّق القميّ قدّس سرّه.

من أنّ إجازة المجيز بيع الغاصب لنفسه راجع إلى تبديله ماهيّة العقد لنفسه- كما لو باع فضولة ثمّ ملك المبيع بإرث أو بيع- لا تبديل قيده و فصله مع بقاء


1- المكاسب: 128.

ص: 77

جنسه و مقيّده، حتّى يستحيل عقلا بقاء الجنس مع انتفاء فصله و المقيّد مع انتفاء قيده، فتكون الإجازة حينئذ عقدا جديدا بمنزلة قوله: بدّلت بيع الغاصب لنفسه إلى البيع لنفسي (1).

و استشكال بعض الرفقاء على كونه عقدا جديدا مع اشتراطهم الصراحة في ألفاظ العقود مدفوع، بأنّه لو سلّمنا اعتبار الصراحة فما نحن فيه خارج بالدليل المصحّح لعقد الغاصب بمجرّد الإجازة، فإنّ الدليل على اعتبار الصراحة في العقود على تقدير تسليمه ليس إلّا الشهرة، و بعد فرض كون الشهرة على صحّة الفضولي بهذا المعنى متحقّقا كان ذلك دليلا على خروجه عن تحت اعتبار الصراحة و كفاية المجاز و الكناية فيه، كما لا يخفى.

و كذا استشكال بعض الرفقاء عن كون الإجازة عقدا جديدا نازلا منزلة الإيجاب و القبول المستقلّين مع أنّه إنشاء واحد مدفوع، بأنّ الإشكال إن كان في إمكانه فمن المعلوم أنّه كما يمكن أن يكون اللفظ الواحد دالّا على إنشاء واحد كذلك يمكن أن يكون دالّا على إنشاءين، كإمكان استعمال اللفظ في معنى واحد و في معنيين.

و إن كان الإشكال في وقوعه فمن الواضح أنّه كما لا إشكال في وقوع استعمال اللفظ الواحد في معنيين إذا كان بينهما جامعا قريبا و قامت القرينة على إرادته كذلك لا إشكال في وقوع استعمال «أجزت لنفسي» في إنشاء الإنشاء و القبول السابقين لنفس المتبائعين، بعد وجود الجامع القريب بينهما، و هو مضمون العقد السابق لنفس المجيز، بعد قيام القرينة الصريحة على إرادته، و هي تعقّب الإجازة بالضمير الراجع إلى العقد السابق و بقوله: «لنفسي».

هذا كلّه، مع أنّ مدلول الإجازة معنى بسيط وحداني، و تعدّده إنّما هو


1- جامع الشتات 1: 155.

ص: 78

بحسب الانحلال في الخارج، كانحلال مدلول الأمر إلى طلب الفعل مع المنع من الترك، مع كونه بحسب العقل معنى بسيط، من غير فرق بين أن يكون مدلولها إمضاء العقد السابق لنفس البائع، أو تبديله لنفس المجيز.

غاية الفرق أنّه إن اتّحد مضمونه لمضمون العقد السابق في الجنس و الفصل و الإطلاق و التقييد وقع إمضاء له، و إن اختلف له في الجنس و الفصل كما لو قيّد الفضولي البيع لنفسه و أجازه المجيز لنفسه لا لبائعه وقع عقدا جديدا.

و كذا استشكال بعض الرفقاء في كونه عقدا جديدا مع ذهاب المشهور إلى كونه كاشفا لا ناقلا مدفوع، بأنّ فرضه عقدا جديدا من جهة مخالفته لمضمون العقد السابق في التقييد لا يقتضي كونه عقدا جديدا من سائر الجهات، لأنّ الضرورة إنّما تقدّر بقدرها. و كونه عقدا جديدا مخالفا للسابق في الفصل، و القيد لا ينافي كونه باقيا على الاتّحاد و المتابعة للعقد السابق في غير ذلك.

و كذلك إيراد المصنّف على كونه عقدا جديدا: بأنّه خلاف العقل (1) مدفوع، بأنّ مخالفته للعقل مبنيّ على رجوع الإجازة إلى تبديل قيد العقد و فصله، و قد عرفت أنّ اعترافه بكون الإجازة عقدا جديدا صريح أو كالصريح في إرادته من هذا الجواب تبديل ماهيّة العقد السابق بالإجازة، لا تبديل خصوص قيده و فصله مع بقاء الجنس على حاله حتّى يستحيله العقل.

مع أنّ المستحيل إنّما هو بقاء الجنس بعد انتفاء فصله، و المقيّد بعد انتفاء قيده مع الوصف و الارتباط الّذي كان له سابقا بالفصل و القيد المنتفيين، و أمّا مع انتفاء ذلك الوصف و الربط فلا مانع من بقاء الجنس و المقيّد بعد انتفاء فصله و قيده، كما تشاهد بالعيان بقاء جنس الإنسان من الجوهريّة و الجسميّة بعد انتفاء فصله و قيده المقوّم له و هو الناطقيّة و الحياة بالموت.


1- المكاسب: 129.

ص: 79

بل كيف يستحيل عقلا فرض الإجازة عقدا جديدا و قد وقع له نظائر شرعا؟! فمن النظائر الواقعة له شرعا ما تقدّم من الأخبار الدالّة (1) على أنّ ربح تجارة غير الولي في مال اليتيم لليتيم.

و من صحيحة الحلبي المتقدّمة (2) في الإقالة بوضيعة الدالّة على عدم تحقّق الإقالة بالوضيعة، و أنّه إذا أقال المبيع بوضيعة ثمّ باعه لنفسه بأكثر من ثمنه فأجاز المشتري الأوّل كان الثمن الزائد له لا لبائعه.

و من الأخبار الدالّة (3) على استحقاق الشريك الحصّة المبيعة في شركته بمجرّد الشفعة، فإنّ الشفعة كالإجازة حينئذ. إلى غير ذلك من النظائر و الأشباه المتقدّمة الواقعة للمسألة شرعا.

و توهّم خروج هذه النظائر عمّا يقتضيه القاعدة بالتعبّد الشرعي و الدليل الخارج مدفوع، بأنّه إن اقتضت القاعدة استحالة شي ء عقلا استحال تعبّد الشارع بعدم استحالته، كما يستحيل تعبّده باجتماع الضدّين و نحوه و لنعم ما قاله شيخنا العلّامة في ردّ بعض الرفقاء: من أنّ الالتزام باستحالة كونه عقدا جديدا مع وجود تلك النظائر و الأشباه له لا يقصر من التزام العامّة باستحالة وجود إمام العصر إلى هذا الزمان الطويل، مع وجود الأشباه و النظائر له من الأنبياء و غيرهم.

و كذا إيراده الآخر الذي أورده الماتن (4) على الفاضل القمي: بأنّ كون إجازة المجيز لبيع الغاصب عقدا جديدا بالتقريب المتقدّم خلاف الإجماع مدفوع، بأنّه أحد الأقوال في مطلق بيع الفضولي، فضلا عن هذا الفرد منه.


1- الوسائل 12: 190 ب «75» من أبواب ما يكتسب به.
2- في ص: 62.
3- انظر الوسائل 17: 320 ب (7) من أبواب الشفعة.
4- المكاسب: 129.

ص: 80

بل كيف يكون خلاف الإجماع؟! و قد حكى (1) هو أيضا عن كاشف الرموز (2) بأنّ مطلق الإجازة عقد جديد، أي و لو لم يغاير العقد السابق فضلا عما لو غايره، نظرا إلى أنّ تقييد البائع البيع لنفسه كما يقتضي أن تكون الإجازة عقدا جديدا حذرا من بقاء الجنس مع انتفاء فصله و قيده كذلك تقييد البائع البيع بإجازة مالكه فيما لو باعه لمالكه أيضا يقتضي أن تكون الإجازة عقدا جديدا.

و بعبارة أخرى: أنّ المغايرة بين ما أجيز و بين ما وقع موجود في كلا فرضي الإجازة لنفسه أو لبائعه، فيقتضي الالتزام بكونه عقدا جديدا في كلا فرضيه. و لكن في نظره نظر للفرق الواضح بين المغايرتين، لإمكان منع كون الإجازة شرطا في نفس عقد الفضولي للمالك، و إنّما هو أمر خارج مستفاد من الدليل الخارجي، الّذي لولاه لقلنا بما قيل: من كون عقد الفضولي بمنزلة الإتلاف الموجب للضمان، لا الاحتياج إلى الإجازة.

و لو سلّم فإنّما هو شرط شرعيّ اعتبره الشارع في الخارج، لا اعتبره العاقد في ضمن عقده. و لو سلّم أيضا فإنّما هو شرط مأخوذ في متعلّق العقد، لا في نفس العقد؛ فإنّ نفس البيع و النقل من الفضوليّ غير معلّق على الإجازة، و إنّما المعلّق عليها على تقدير التعليق هو انتقال المبيع، و ترتيب آثار البيع عليه، نظير اعتبارهم في ضمن عقد النكاح تعليق توكيل الزوجة أو غيرها في الطلاق على غياب الزوج أو شي ء آخر حيث لا يفسد العقد إن فرض المعلّق على غياب الزوج- مثلا- هو متعلّق التوكيل، أعني: الطلاق، و يفسد إن فرض المعلّق على ذلك هو نفس التوكيل لا متعلّقه. هذا كلّه في الجواب أوّلا عن مانعيّة المغايرة المدّعاة بين ما أجيز و ما وقع.


1- المكاسب: 129.
2- كشف الرموز 1: 445- 446.

ص: 81

و يضاف إلى ذلك إمكان الجواب ثانيا بما ارتضاه الماتن (1): من منع أصل المغايرة بين ما أجيز و ما وقع بناء منه على أنّ قصد البائع البيع لخصوص نفسه غير مأخوذ في مفهوم الإيجاب على وجه العلّية حتّى يقتضي انتفائها انتفاء المعلول، و هو أصل البيع، أو تردّد الأمر على تقدير الصحّة بين محذوري مغايرة ما أجيز لما وقع، أو عدم اشتراط أن يكون كلّ من العوضين ملكا لكلّ من المتعاوضين في انتقال بدله إليه، بل إمّا مأخوذ على وجه التعدّد المطلوبي فكأنّ البائع قصد أصل البيع بقصد مستقلّ ثمّ قصده لخصوص نفسه بقصد مستأنف مستقلّ لا يقتضي انتفائه انتفاء الأوّل، و إمّا مأخوذ على وجه التقييد بكونه المالك فكأنّه قصد البيع لخصوص نفسه بقصد واحد، لكن لا من حيثيّة مقيّدة بكونه المالك، فإذا انتفت المالكيّة له في الواقع استتبع الحكم لمن ثبت له الملكيّة الواقعيّة من غيره.

قوله: «إنّه خلاف الإجماع و العقل».

[أقول:] أمّا مخالفته الإجماع ففيه أوّلا: ما عرفت من أنّه أحد الأقوال في مطلق بيع الفضولي، فضلا عن هذا الفرد منه.

و ثانيا: سلّمنا، لكن المراد من فرضه عقدا جديدا من جهة مخالفته لمضمون العقد السابق في التقييد، لا من سائر الجهات.

و أمّا مخالفته العقل ففيه ما عرفت أيضا من أنّه مبنيّ على رجوع الإجارة إلى تبديل قيد العقد و فصله مع بقاء جنسه على الوصف و الربط السابق بالفصل و القيد المنتفيين، و قد عرفت منع كلّ من المبنيين.

قوله: «أمّا الفضولي فهو أجنبيّ عن المالك .. إلخ».

[أقول:] فيه: أنّه كما يمكن فرض العاقد أعمّ من الأصالة و النيابة كذلك


1- المكاسب: 129.

ص: 82

يمكن فرضه أعمّ من الأصلي و الفضولي بلا فرق.

قوله: «التزمنا بلغويّته».

[أقول:] فيه أوّلا: أنّه لو لغا ذلك للغا عند مطلق الوكيل و الفضولي بل المالك الغير القاصد في تمليكه و تملّكه مالكيّة نفسه، كما هو الغالب من الاكتفاء بقصد التمليك و مطلق المبادلة من غير التفات إلى مالكية نفسه، فضلا عن تنزيل نفسه منزلة المالك الأصليّ.

و ثانيا: أنّ العلم بالباطل و لو كان جهلا مركّبا فضلا عن اعتقاده أو توهّمه أو ادّعائه أو قصده إن لم يضر لا ينفع في صدق العقد، و لا في صحّته، و لا في حكمه، عرفا و لا شرعا، حقيقة و لا مجازا، من غير علاقة مسوّغة مصدّقة، ضرورة لغويّة الفاسد من العقائد و المقاصد، بل كفريّته، إلّا إذا فرض معذوريّته بقصور لا تقصير، لأنّ الأحكام تابعة لأساميها الواقعيّة.

قوله: «فلأنّ صحّة الإذن في بيع المال لنفسه أو الشراء لنفسه ممنوعة، كما تقدّم في بعض فروع المعاطاة».

أقول: قد تقدّم منّا الإيراد عليه أيضا بأنّه إن كان عدم صحّته من جهة عدم قابليّة المحلّ لنفوذ التوكيل فيه شرعا- كعدم قابليّة وطء الجارية لنفوذ التوكيل فيه شرعا- فيكفي في ردّه و بطلان مقايسته على التوكيل في وطء الجارية وجود الأشباه و النظائر المتقدّمة له شرعا:

منها: الأمر بالعمل العائد نفعه إلى ثالث، فإنّه يستحقّ العامل الأجرة من الأمر و إن لم يرجع نفع عمله إلى الأمر.

و منها: حقّ الجعائل لردّ ضالة الغير، كما لو قال الجاعل: من أتى بضالّة فلان فله عندي كذا، فإنّ الآتي بها يستحقّ حقّ الجعالة من الجاعل و إن لم يرجع النفع إليه.

ص: 83

و منها: الهبة المعوّضة بعوض مشروط لثالث، فإنّ الظاهر صحّته و إن لم يدخل كلّ من العوضين في ملك المالك الآخر.

و منها: تزويج الناس أولادهم، أو غير أولادهم بجعل المهر في ذممهم، أو في أعيان أموالهم مع عدم دخول العوض إلى أنفسهم على وجه تقدّم.

و إن كان عدم صحّته من جهة عدم وجود الدليل الشرعي على صحّته، فيكفي في ردّه وجود إطلاق أَوْفُوا بِالْعُقُودِ (1)، و عموم أَحَلَّ اللّٰهُ الْبَيْعَ (2) و «تسليط الناس على أموالهم» (3)، بعد إحراز صدق البيع و العقد و قابليّة المحلّ بالأشباه و النظائر الثابتة له شرعا.

قوله: «مع أنّ قياس الإجازة على الإذن قياس مع الفارق .. إلخ».

أقول: أقصى الفرق بين الإجازة و الإذن هو السبق و اللحوق، فالإجازة إذن لاحق، و الإذن إجازة سابقة، و لا ريب أنّ هذا الفرق غير فارق بينهما في اقتضاء ما يقتضيه من تقدير الملك آنا ما قبل البيع، فإن أوجب الإذن في البيع من باب الاقتضاء تقدير الملك آنا ما قبله فكذا الإجازة ينبغي أن توجبه.

و احتمال الماتن قدّس سرّه (4) الاقتضاء في الإذن دون الإجازة معلّلا بأنّها لا تتعلّق إلّا بما يقع سابقا و المفروض أنّه لم يقع إلّا مبادلة مال الغير بمال آخر فيه إجمالا:

أنّ الإذن أيضا لا يتعلّق إلّا بما يقع لاحقا، و المفروض أنّه لم يقع إلّا مبادلة مال الغير بمال آخر.

و تفصيلا: بأنّ الملك التقديري المتوقّف عليه البيع فيما نحن فيه إن كان عبارة عن حصول الملك القهري بجعله تعالى آنا ما قبل البيع- كما هو المختار


1- المائدة: 1.
2- البقرة: 275.
3- عوالي اللئالي 1: 222 ح 99.
4- المكاسب: 130.

ص: 84

فيما تقدّم (1)، نظير حصوله القهري بمجرّد شراء العمودين و إن لم يقصده المشتري- فلا حاجة في تصحيح العقد بالإجازة إلى إيقاع ما يزيد على مبادلة مال الغير بمال آخر في المفروض. و إن كان عبارة عن تحصيل الملك بالقصد- كما هو ظاهر المتن (2) فيما تقدّم- فهو و إن احتاج تصحيح العقد بالإجازة إلى ما وراء مبادلة مال الغير بمال آخر من قصد التمليك و تحصيله قبل البيع آنا ما إلّا أنّ الاحتياج إلى ذلك لا يختصّ بتصحيح الإجازة للعقد، بل يعمّ تصحيح الإذن له أيضا.

و بالجملة: فالإذن المصحّح لبيع مال الغير لنفسه إن لم يتوقّف على تحصيل الملك بالقصد قبل البيع آنا ما فكذلك الإجازة المصحّحة لبيع مال الغير لنفسه لم يتوقّف على تحصيله بالقصد و إن توقّف الإذن على ذلك توقّفت الإجازة أيضا عليه، فالفرق بين الإذن و الإجازة بالسبق و اللحوق غير فارق، كما زعم.

قوله: «إذ لو صحّ وقوعه للفضولي لم يحتج إلى إجازة».

[أقول:] فيه: أنّ عدم صحّة وقوعه للفضولي ليس لأجل أنّه لو صحّ لم يحتج إلى الإجازة، كيف! و صحّة كلّ فضوليّ يحتاج إلى الإجازة، بل عدم صحّة وقوعه للفضولي إنّما هو لعدم قصده في العقد بحيث لو قصد الفضولي و لو على وجه عموم قصد العقد لكلّ من أجاز صحّ للفضوليّ المجيز أيضا.

قوله: «لو دلّ لدلّ على عدم ترتّب الأثر .. إلخ».

[أقول:] أي: لو دلّ على الفساد لدلّ على الفساد المراعى بعدم الرضا؛ لأنّ قوله عليه السّلام: «لا يحلّ مال امرئ مسلم إلّا عن طيب نفسه» (3) نهي إرشاديّ ما دام لا تعبّديّ مستدام.


1- في ص: 83.
2- المكاسب: 130.
3- الوسائل 3: 424 ب «3» من أبواب مكان المصلّي ح 1.

ص: 85

قوله: «إذا انكشف عنها الإجازة. فافهم».

[أقول:] إشارة إلى أنّ الفرق بين الفرضين فارق، من حيث إنّ التصرّفات السابقة على الإجازة على تقدير الكشف لا تضمن، و على تقدير النقل تضمن.

[القول في الإجازة و الرد]
اشارة

قوله: «و فيه ما لا يخفى من المخالفة للأدلّة».

[أقول:] أي: الدالّة بالعقل و النقل على حرمة الوطء و التصرّف و التمليك و التملّك في مال المسلم قبل رضاه و إن علم بأنّه سيرضى بعد.

و فيه أوّلا: منع التفريع المذكور و التصرّف في الفضولي على الكاشفيّة قبل الإجازة الكاشفة.

و ثانيا: لو سلّم فليس المانع عقليّا حتّى يأبى من التخصيص بنصوص كاشفيّة الإجازة عن صحّة الفضولي، خصوصا صحيحة محمّد بن قيس (1) و ما بعده (2)، كما خصّص بحقوق المارّة و حقوق الاخوّة و القرابة و الصداقة و الضيافة، و حقّ إجبار الممتنع و حقوق الولاية و الأولويّة.

قوله: «ترتيب الإيجاب (3) من حين الإيجاب فتأمّل».

[أقول:] إشارة إلى الفرق الفارق بين المقيس و المقيس عليه من حيث إنّ عدم ترتّب الوفاء على مجرّد الإيجاب قبل القبول من جهة عدم تحقّق موضوع العقد، بخلاف عدم ترتّبه على عقد الفضولي قبل الإجازة، فإنّه ليس إلّا لمانع عدم الرضا، لا لعدم صدق موضوع العقد بالوفاء.

قوله: «الأنسب بالقواعد و العمومات هو النقل ثمّ بعده الكشف الحكمي».


1- الوسائل 14: 591 ب «88» من أبواب نكاح العبيد و الإماء ح 1.
2- الوسائل 13: 182 ب «1» من أبواب أحكام المضاربة ح 9، و تقدّم باقي المصادر في هامش (1) ص: 62 و هامش (2 و 3) ص: 62.
3- في المكاسب: «ترتيب الآثار».

ص: 86

أقول: بل الأمر بالعكس و أنّ الموافق لعمومات أَحَلَّ اللّٰهُ الْبَيْعَ (1) و أَوْفُوا بِالْعُقُودِ (2) و قاعدة «العقود تابعة للقصود» ليس إلّا الكشف الحكميّ ثمّ الكشف الحقيقيّ، و أمّا النقل الحقيقيّ فلا يوافق شيئا سوى عمومات: «لا يحلّ مال امرئ مسلم إلّا عن طيب نفسه» (3) و تِجٰارَةً عَنْ تَرٰاضٍ (4) و «لا بيع إلّا في ملك» (5) مما لم يأب من التخصيص بنصوص صحّة الفضولي بالإجازة على وجه الكاشفيّة، فالقول بالنقل الحقيقيّ دونه خرط القتاد، بخلاف الكشف الحقيقيّ فإنّ الرضا اللاحق و إن لم يكشف عن الرضا السابق حقيقة- كيف! و المفروض عدمه ظاهرا- إلّا أنّ صدوره في اللاحق لمّا كان كاشفا عن تقدير سبقه في علم اللّٰه و مشيئته و إرادته لم يبعد الحكم بكونه كاشفا.

مضافا إلى أنّ صحّة نصوص الفضولي و صراحتها في الكاشفيّة- خاصّة صحيحة محمّد بن قيس (6) و ما بعدها (7)، خصوصا صحيحة أبي عبيدة الواردة في تزويج الصغيرين (8)- حجّة قاطعة في صحّة الفضولي بالإجازة على وجه الكاشفيّة، فالكلام بعدها في الفضولي فضول و تضييع للعمر.

قوله: «و للشهيد الثاني في الروضة عبارة».

[أقول:] و أمّا عبارته فهي: و تظهر الثمرة في النماء، فإن جعلناها كاشفة فنماء المبيع المنفصل المتخلّل للمشتري و نماء الثمن المعيّن للبائع، و لو جعلناها


1- البقرة: 275.
2- المائدة: 1.
3- تقدم ذكر مصدر الهامش (3) ص: 84.
4- النساء: 29.
5- المستدرك للحاكم 2: 17، عوالي اللئالي 2: 247 ح 16.
6- تقدّم ذكر مصدره في هامش (1 و 2) ص: 85.
7- تقدّم ذكر مصدره في هامش (1 و 2) ص: 85.
8- الوسائل 17: 527 ب (11) من أبواب ميراث الأزواج ح 1.

ص: 87

ناقلة فهما للمالك المجيز (1)، انتهى. و لمّا كان مقتضى النقل أن يكون نماء كلّ من الملكين لكلّ من المالكين السابقين لا لمالك المجيز احتاج إلى توجيه المراد من المجيز أو حكمه له.

أمّا توجيه المراد من المجيز فبأن يفرض كون العقد فضوليّا من الطرفين لا من طرف واحد، أو من طرف واحد في صورتين لا في صورة واحدة، بأن يكون نماء المبيع للبائع المجيز إذا كان فضوليّا من قبله، و نماء الثمن للمشتري المجيز إذا كان فضوليّا من قبله، و لم يتعرّض لنماء الطرف الآخر الأصيل، لوضوحه بالمقايسة.

و أمّا توجيه حكم ظاهرها فبأنّ نماء الطرف الأصيل و إن كان له بقاعدة «تبعيّة النماء للأصل»، إلّا أنّ النقل من طرف الأصيل لمّا كان منجّزا غير معلّق على الإجازة انتقل نماء المنقول عنه، كنماء المنقول إليه إلى المجيز.

و أمّا وجه أولويّة توجيه المراد عن المجيز من توجيه حكمه الظاهري فلعدم التأمّل بالناقل بهذا الحكم، و هو انتقال نماء الأصيل المتخلّل بين النقل و الناقل إلى المجيز، و عدم الإقدام المطلق.

قوله: «لا يخلو عن إشكال».

[أقول:] وجهه: عدم تحقّق صدق العقد قبل الإجازة على فرض الناقليّة.

قوله: «و [الظاهر أنّ] الأصحاب لا يلتزمون بذلك».

[أقول:] فيه: منع عدم التزام الأصحاب بملازمة أنّ ما يكتفى به في الرضا اللاحق يكتفى به في السابق، كيف! و الأولويّة قطعيّة و نصوص الاكتفاء بالرضا مطلقة، و ما لم يلتزم به الأصحاب إنّما هو ملازمة الاكتفاء بالرضا في اللزوم للاكتفاء بالكراهة في الفسخ الّذي جعله المصنّف مؤيّدا لما لم يلزموا به.


1- الروضة البهية 3: 229.

ص: 88

و فيه أوّلا: أنّه غير مؤيّد.

و ثانيا: أنّه غير ملتزم به؛ لنصوص (1) صحّة الفضولي المكره و الغاصب و المنهي بالإجازة.

قوله: «فلا يبقى ما يلحقه الإجازة. فتأمّل» (2).

[أقول:] إشارة إلى أنّ انتفاء محلّ الإجازة بسبق الردّ مبنيّ على كون الإجازة ناقلة لا كاشفة، فتخلّل الفرد بينها و بين العقد كتخلّله بين الإيجاب و القبول في نفي قابليّة لحوقه به، و تخلّل الفصل بين ركني العقد في نفيه به. و أمّا على الكشف- خصوصا الكشف الحقيقي- فالردّ لا ينفي موضوع العقد السابق كالحلّ و الفسخ و الإقالة، و إنّما ينفي حكمها ما دام باقيا على الردّ و الكراهة فإذا أجاز جاز، فيكون الردّ اللاحق للعقد كالنهي السابق عليه لا يؤثّر بطلان العقد و سلب صحّته بالرضا اللاحق.

لا يقال: لا فرق بين سبق الرضا أو الردّ، فكما أنّ سبق الرضا مانع عن تأثّر الردّ بعده كذلك سبق الردّ مانع عن تأثير الرضا بعده.

قلنا: عدم الفرق مبنيّ على القول بكون الإجازة ناقلة و الردّ فسخ. و أمّا على الكاشفيّة الصريحة من النصوص (3) الصحيحة فالفرق الفارق أنّ الرضا اللاحق كاشف شرعيّ كالبيّنة عن تحقّق موضوع العقد السابق، أو عن حكم لزوم للوفاء به على الخلاف في الحقيقي و الحكمي، و على كلّ من تقديرية لم يبق محلّ للردّ بعده، بخلاف سبق الردّ حيث لم يثبت شرعا حلّه و فسخه العقد السابق على


1- لم نجد هكذا نصوص، خصوصا في المكره و الغاصب، و أمّا المنهي فانظر الوسائل 14: 522 و 523 ب «23 و 24» من أبواب نكاح العبيد و الإماء.
2- هذه الكلمة غير موجودة في المكاسب.
3- الوسائل 17: 527 باب (11) من أبواب ميراث الأزواج ح 1، و لاحظ ما تقدّم من المصادر في هامش «1 و 2» ص: 85.

ص: 89

وجه لا يؤثّر الرضا بعده أبدا، بل يحتمل عدم التأثير الدائم و العدم ما دام كالنهي السابق على عقد المكره بحيث يزول بزواله، و الأصل بقاء العقد و عدم زوال قابليّة صحّته بالرضا و الإجازة و القدر المتيقّن من معقد الإجماع اللبّي على فساد العقد المردود هو المردود بالردّ المستدام لا الردّ المتعقّب بالرضا و الإجازة، و يحتمل في المسألة التفصيل بين الردّ بإنشاء حلّ العقد و فسخه فيبطل فلا يؤثّر الرضا بعده، و بين الردّ بعدم الرضا و عدم القبول فلا يبطل و يؤثّر الرضا بعده. كما يحتمل في المسألة وجه رابع: و هو التفصيل المختار من ظاهر الأخبار بين ناقليّة الإجازة فيبطله الردّ المتخلّل بينه و بين الإجازة و كاشفيّته فلا يبطل بالردّ.

قوله: «الرابع: الإجازة أثر من آثار سلطنة المالك .. إلخ».

أقول: في توضيح المرام أنّه لا إشكال في أنّه إذا مات من له الإجازة في الفضولي توقّف صحّة ذلك العقد الفضولي على إجازة وارث من له تلك الإجازة، إنّما الإشكال بدوا في أنّ ذلك من جهة توريث الإجازة بالأصالة، أو من جهة توريثه بالتبع لتوريث المال الّذي عقد عليه الفضولي الحقّ هو الثاني لا الأوّل؛ لأنّ الإجازة من آثار سلطنة المالك على ما له فموضوعه المالك فإذا مات انقطعت السلطنة الّتي كانت له على ماله من البيع و غيره فينقطع ما كان له من آثار تلك السلطنة كالإجازة و غيرها. مضافا إلى أنّ الإجازة حكم وضعي و حقّ من الحقوق الشرعيّة التوظيفيّة، و الأصل فيما شكّ في قابليّته للتوريث العدم حتّى يثبت بالدليل، كحقّ الخيار و اختيار الفسخ. كما أنّ الأصل فيما يشكّ في قابليّته للنقل و الانتقال منها العدم أيضا حتّى يثبت بالدليل، و أمّا الحقوق المشكوك قابليّتها شرعا للنقل و الانتقال أو التوريث كحقّ الإجازة و نحوها فملحقة بالحقوق الغير القابلة لذلك شرعا، كحقّ المضاجعة و المقاسمة و نحوها من الحقوق الغير القابلة للنقل و الانتقال.

ص: 90

قوله: «و الفرق بين إرث الإجازة و إرث المال يظهر بالتأمّل».

أقول: الفرق بينهما في غاية الوضوح لا حاجة فيه إلى التأمّل، و المحتاج إلى التأمّل هو الثمرة المترتّبة على الفرق، و لعلّه المراد أيضا.

و كيف كان فمن جملة ثمرات الفرق: استيراث الزوجة من زوجها إجازة العقد الواقع منه على الأراضي و العقار على تقدير إرث الإجازة و عدم استيراثها ذلك على تقدير إرث المال الّذي عقد عليه الفضوليّ، بناء على القول باستيراث الزوجة من الزوج ما عدا الأراضي من الأموال.

و من جملة ثمرات الفرق أيضا: عدم انفساخ عقد الفضوليّ بردّ بعض الورثة إلّا في حصّة ذلك البعض دون حصّة الباقين إذا أجازوا على تقدير إرث المال الّذي عقد عليه الفضوليّ، و انفساخه رأسا على تقدير إرث الإجازة، بناء على القول بكون الإجازة كالفسخ أمر بسيط لا يقبل التجزئة.

و من جملة الأمور الّتي ينبغي التنبيه عليها في المقام: تحقيق كون الإجازة كما يمضي العقود الفضوليّة- على القول بصحّتها- هل يمضي غير العقود من سائر المعاملات الفضوليّة كالقبض في البيع عن البائع، و في الوقف عن الواقف. و كذا العبادات كإعطاء الخمس و الزكاة و الفطرة عمّن في ذمّته ذلك فضولة، أم لا يمضي غير العقود مطلقا فلا يترتّب على إجازة غير العقود من سائر الأمور المتوقّفة على الاذن آثار الاذن السابق بالإجازة اللاحقة لها، أم التفصيل بين العبادات فلا يترتّب على فعلها عن غير فضولة آثار الإذن السابق بها بالإجازة اللاحقة- نظرا إلى جهة اعتبار اقترانها بالقربة- و بين غيرها فيترتّب على الإجازة اللاحقة لها آثار الاذن السابق فيها، أم التفصيل بين القول بكون الإجازة ناقلة فيترتّب عليها آثار الإذن السابق و بين القول بكونها كاشفة فلا يترتّب؟ وجوه، بل أقوال، ذهب

ص: 91

إلى الأوّل صاحب الجواهر (1).

و يمكن الاستدلال له عليه بفحوى الأدلّة الدالّة على إمضاء العقود بالإجازة، و عدم الفرق بين الإذن السابق و اللاحق في صحّة العقود، و ترتيب آثار العقد فيدلّ بفحواها على إمضاء غير العقود من المعاملات و القبوضات و العبادات، بل و الإيقاعات ما لم يقم عليها الإجماع بالإجازة اللاحقة، و ترتيب آثار الإذن السابق فيها على الإجازة اللاحقة للفضوليّ لها.

اللّٰهمّ إلّا أن يقال: بظنّيّة هذه الفحوى، و عدم حجّيّة مطلق الظنّ. فتأمّل.

و قد استدلّ عليه الأستاد دام ظلّه بعموم تعليل صحّة نكاح العبد الغير المأذون بقوله عليه السّلام: «لم يعص اللّٰه و إنّما عصى سيّده فإذا أجاز جاز» (2)، مستشعرا منه عموم تدارك الإجازة بكلّ ما يقبل التدارك من الأمور المتوقّفة على الإذن.

و كذا استدلّ عليه بفحوى الأخبار (3) الواردة في التصدّق بمجهول المالك و اللقطة عن صاحبه و مالكه عند اليأس عن ظهوره، فإذا ظهر و أجاز احتسب لمالكه، و إلّا احتسب لدافعة و ضمن الدافع لمالكه المثل أو القيمة، نظرا إلى أنّ احتساب التصدّق و ردّ المظالم بمال الغير عن نفس ذلك الغير بعد فرض إجازته ليس إلّا من جهة تصحيح الإجازة ما وقع عن المجيز، مع كونه من العبادات لا المعاملات، فضلا عن كونه من العقود.

و بالجملة فالمستفاد من هذه الأدلّة بحسب الظاهر أنّ كلّ ما يصحّ التوكيل فيه يصحّ الفضوليّ فيه و كلّ ما يترتّب على التوكيل و الإذن السابق في الشي ء من الآثار و الأحكام الشرعيّة يترتّب أيضا على الإجازة و الإمضاء اللاحق له، فيمضي الإجازة اللاحقة في كلّ ما يمضي فيه الإذن السابق، سواء كان من العقود


1- جواهر الكلام 22: 280.
2- الوسائل 14: 523 باب «24» من أبواب نكاح العبيد و الإماء ح 1.
3- الوسائل 17: 349 و 357 ب «2 و 7» من أبواب اللقطة.

ص: 92

أم غيرها من سائر المعاملات و القبوضات و العبادات، بل و الإيقاعات ما لم تخرج بالإجماع، وفاقا للجواهر (1)، و ما مال إليه شيخنا العلّامة دام ظلّه.

[القول في المجيز]

قوله: «و لو قال: أجزت العقد دون القبض ففي بطلان العقد أو بطلان ردّ القبض وجهان».

أقول: أمّا وجه الأوّل: فناظر إلى كون المفروض لغويّة ذلك العقد بلا قبض فتلغو الإجازة في مثله. و أمّا وجه الثاني: فناظر إلى صون الإجازة عن اللغويّة و إن استلزم لغويّة ردّ القبض، و استوجبه شيخنا العلّامة التفصيل بين تقديم الإجازة على ردّ القبض في الذكر فيصحّ العقد و يلغي الردّ و بين العكس فبالعكس، و هو وجيه.

قوله: «عدم قابليّة العقد للتبعيض من حيث الشرط و إن كان قابلا للتبعض من حيث الجزء».

[أقول:] فيه: عدم قابليّة العقد المشروط للتبعيض على تسليمه إنّما يقتضي نفي المشروط بنفي شرطه إذا لم يتدارك بتعقّب إجازة الشارط إسقاط شرطه و بالعكس، و أمّا إذا تدرك بتعقّب إجازته فلا مانع من صحّته بإطلاق نصوص (2) صحّة الفضوليّ بالإجازة.

قوله: «بخلاف [بطلان] الشرط».

[أقول:] فيه أوّلا: منع الفرق، أي: منع بطلان المشروط ببطلان شرطه كالجزء، و لو سلّم ففيما لم يتدارك بتعقّب الإجازة، و لو سلّم فالفارق النصّ الخاصّ بالشرط، و هو قوله عليه السّلام: «كلّ شرط جائز إلّا ما خالف الكتاب» (3).

قوله: «لا مانع عقلا و لا شرعا من كون الإجازة كاشفة من زمان قابليّة


1- جواهر الكلام 22: 280.
2- لاحظ ما تقدّم من ذكر المصادر في هامش «1، 2» ص: 75.
3- انظر الوسائل 12: 352 ب (6) من أبواب الخيار.

ص: 93

تأثيرها».

[أقول:] فيه: ما قبل المانع هو لزوم تخصّص كشف الإجازة بزمان القابليّة، و تخصيص عموم أَوْفُوا بِالْعُقُودِ (1) بالتزام بطلان هذا النحو من البيع أولى؛ لأنّ عمومه أكثر أفرادا من عموم أدلّة الكشف، و متى دار الأمر بين تخصيص ما هو أكثر أفرادا و أقلّ أفرادا فلا ريب في ترجيح الأوّل على الثاني، و لا أقلّ من التساوي و لزوم الإجمال، فيرجع إلى أصالة الفساد في المعاملة و استصحاب عدم النقل و الانتقال. و لكن قد عرفت ما في المتن من الإشارة إلى هذا الوهم بقوله:

«إذ التخصيص إنّما يقدح مع القابليّة» و أمّا مع عدمها فدوران الأمر بين التخصيصين ممنوع، بل الدوران بين تخصيص عموم «الوفاء بالعقود» و بين تخصيص أدلّة الكشف، و لا ريب أنّ التخصّص أولى من التخصيص قطعا.

قوله: «و الجواب أنّ فسخ عقد الفضوليّ هو إنشاء ردّه .. إلخ».

[أقول:] فيه: أنّ فسخ العقد هو حلّه الأعمّ من الحلّ الإنشائي، ك «حللته» و «فسخته»، و الفعليّ الأعمّ ممّا يفوت محلّ الإجازة عرفا كإتلافه، أو شرعا كوطئه أو تمتّعه أو تزويجه من الأفعال الصريحة شرعا في حلّ العقد السابق مطلقا، سواء كان فضوليّا، أو جائزا كالهبة، بخلاف ما ليس بصريح في حلّ العقد فليس بفاسخ حتّى يمنع من قابليّة الإجازة بعده، سواء كان قولا: ك «كرهت العقد السابق» و «لم أرض به»، أو فعلا كبيعه خصوصا فضوله أو مع عدم التفاته إلى الفضوليّ السابق، و سواء كان العقد السابق فضوليّا متزلزل الحدوث كما فيما نحن فيه، أو جائزا متزلزل البقاء كبيع الواهب الهبة عن المتهب، لا عن نفسه فإنّه ليس بفسخ حتّى يمنع من قابليّة الإجازة بعده. و ذلك كلّه إنّما هو للفرق في الفاسخ من حيث الصراحة و غيره، لا من حيث القوليّ و الفعليّ، و لا من حيث


1- المائدة: 1.

ص: 94

المفوّت لمحلّ الإجازة و عدمه، و لا من حيث العقد الفضوليّ و الجائز، كما في المتن.

قوله: «أو يحلّل إذا وقع بعد الشراء».

[أقول:] و قد فسّرنا الحديث سابقا بما هو أقرب من هذه المعاني الثلاثة، و هو أنّ العقد يحرم على أحد المتعاقدين ما كان حلالا و يحلّل ما كان حراما من العوضين.

قوله: «لا أنّه لغو من جميع الجهات. فافهم».

[أقول:] إشارة إلى أنّ إطلاق النهي الدالّ على الفساد و إن اقتضاه من جميع الجهات إلّا أنّ وجه الفساد و الصحّة لما كان منوطا برضا المالك و عدمه خصّص النهي و الفساد بما إذا لم يجزه المالك أصلا، أو ما دام لم يجزه، فإذا أجاز جاز.

قوله: «لا يوجب طرح مفهوم التعليل رأسا. فتدبّر».

[أقول:] إشارة إلى أنّ التقيّة ضرورة تقدّر بقدرها و خلاف الأصل، فيقتصر على موضع اليقين.

قوله: «لم يحتج إلى الاستفصال».

[أقول:] فيه: لعلّ احتياجه إلى الاستفصال عن ردّ المولى عقده الفضوليّ و عدم الردّ حتّى يحتاج إلى تجديد العقد و عدمه، و الاحتمال يبطل الاستدلال.

قوله: «و استدلاله بالغرر و عدم القدرة على التسليم ظاهر بل صريح في وقوع الشراء (1) غير مترقّب لإجازة مجيز».

[أقول:] فيه: منع، بل الظاهر أنّ غرره من جهة أنّ البائع الفضوليّ القاصد الشراء لنفسه لا يجيز المالك ببيع ملكه فضولة و لا بالثمن الّذي باعه به حتّى يشتريه منه بأنقص و يستربح به، و هو معرض الغرر و الإغراء، و مثار البغضاء


1- في المكاسب: «الاشتراء».

ص: 95

و الشحناء، و خلاف الإنصاف و الإخاء و الصدق و الصفاء في البيع و الشراء، فيكون نواهي بيع ما لم يملك فضولة ثمّ شراؤه أصالة ليستربح بالإجازة، كنواهي «الدخول في سوم أخيه» (1)، و نواهي «تلقّي الركبان» (2)، و نواهي «توكّل الحضري عن البدوي في الشراء» (3)، إلى غير ذلك ممّا هو ظاهر في الكراهة لا التقيّة، و لا في تقييد المنهيّ بالفضولي المقصود به ترتيب آثار البيع اللازم قبل الشراء و قبل الإجازة، كما استظهره المصنّف تبعا للعلّامة (4).

قوله: «فأجازه المالك لنفسه. فتأمّل».

[أقول:] إشارة إلى الفرق بينهما من حيث إنّ متعلّق الإجازة في المشبّه به هو ملك مالكه المجيز حين العقد و حين الإجازة بخلافه في المشبّه، إلّا أن يقال غير فارق، و أنّ الإجازة تابعة للملك حين الإجازة و لو لم يكن مالكا حين العقد.

قوله: «و المقام مقام استصحاب حكم الخاصّ لا مقام الرجوع إلى حكم العامّ. فتأمّل».

أقول: لعلّه أراد بالتأمّل الإشارة إلى ما فيه من المنع، بتقريب: أنّه إن صدق الطيب و الرضا عرفا على الرضا و الطيب السابقين من البائع قبل تملّكه فالمقام مقام الرجوع في تصحيح العقد المذكور من دون إجازة جديدة إلى إطلاق الطيب و الرضا المخصّص عموم: «الوفاء بالعقود»، و إن لم يصدق فالمقام مقام الرجوع في بطلان العقد المذكور من دون إجازة أيضا إلى إطلاق المخصّص لا إلى استصحاب حكمه، و إن شكّ في صدقه و عدم صدقه فالمقام مقام الرجوع في


1- الوسائل 12: 338 باب «49» من أبواب آداب التجارة ح 3.
2- الوسائل 12: 326 باب «36» من أبواب آداب التجارة.
3- انظر الوسائل 12: 327 ب «37» من أبواب آداب التجارة، و مستدرك الوسائل 13:
4- تذكرة الفقهاء 1: 463.

ص: 96

تصحيح العقد المذكور من دون إجازة جديدة إلى عموم العامّ، لحكومة عموم العامّ على إجمال المخصّص على ما هو المقرّر في محلّه.

و على أيّ من التقادير ظهر أنّ المقام ليس مقام استصحاب حكم الخاصّ، سواء أردنا تصحيح العقد المذكور من دون إجازة جديدة أو أردنا إبطاله، بل المقام مقام الرجوع إلى عموم المخصّص- بالكسر- أو عموم المخصّص- بالفتح.

قوله: «يوجب عدم وقوع البيع على الوجه المأذون. فتأمّل».

[أقول:] إشارة إلى أنّ إجازة الوليّ البيع للمولى عليه لا يخرجه عمّا وقع عليه من الوجه للغير المأذون إلى الوجه المأذون.

قوله: «فالدليل على اشتراط تعقّب الإجازة في اللزوم هو عموم: «تسلّط الناس على أموالهم» (1) و «عدم حلّها لغيرهم إلّا بطيب النفس» (2) .. إلخ».

أقول: الرجوع في اشتراط تعقّب الإجازة إلى عموم أدلّة الاحتياج إلى الطيب و الرضا مبنيّ على تقدير عدم صدق الرضا و الطيب عرفا على الرضا و الطيب من المالك قبل انكشاف كونه المالك، و أمّا على تقدير صدقه عرفا أو الشكّ في صدقه فالمقام مقام الرجوع في عدم اشتراط تعقّب الإجازة على التقدير الأوّل إلى إطلاق المخصّص- بالكسر- أعني: إطلاق الرضا و الطيب المخصّص عموم: «الوفاء بالعقود»، و على التقدير الثاني إلى عموم المخصّص- بالفتح- أعني: عموم الوفاء بالعقود بناء على ما هو المقرّر في محلّه من حكومة عموم العامّ المخصّص بالمجمل على إجمال مخصّصة.

و ربما احتمل شيخنا العلّامة كون المقام من قبيل مقام تعارض الاسم


1- عوالي اللئالي 1: 222 ح 99 و ج 2: 138 ح 383.
2- الوسائل 3: 424 باب (3) من أبواب مكان المصلّي ح 1.

ص: 97

و الإشارة، فالمرجع فيه هو المرجع فيه من أنّه إن قصد البائع البيع عن المالك على وجه التقييد بمالكيّة الغير ثمّ انكشف كونه المالك اشترط تعقّب الإجازة في اللزوم على تقدير صحّة عقده، و إن لم يقصده على وجه التقييد فلا يشترط تعقّبها، و هو حسن.

قوله: «لأنّ العتق لا يقبل الوقوف».

[أقول:] فيه: ما تقدّم من أنّ الأصل الأصيل الخالي من الدليل قبول الوقوف حتّى في العبادات فضلا عن الإيقاعات، كما في صوم يوم الشكّ، و صلاة الاحتياط، و النذر، و الصدقة عن صاحب اللقطة. و أمّا نقل الاتّفاق على عدم الوقوف في الإيقاع لو سلّم فلعلّه لمصلحة التوقيف و التحفّظ عن انفتاح باب فساد دعوى الفضوليّ الإيقاع كذبا مع عدم القابل و قلّة الحاجة.

[القول في المجاز]

قوله: «ثمّ هل يشترط بقاء الشرائط المعتبرة حين العقد إلى زمان الإجازة، أم لا؟ .. إلخ».

أقول: محصّل الوجوه و الأقوال في المسألة: أنّه هل يشترط في صحّة الفضوليّ استمرار شرائط العقد و المتعاقدين إلى زمان الإجازة مطلقا، أم لا، أم التفصيل بين الكشف فيعتبر و النقل فلا، أم التفصيل بين شروط العقد فلا و المتعاقدين فنعم، أم التفصيل بين كون الإجازة عقدا جديدا فلا و بين عدمه فنعم؟ وجوه، بل أقوال:

أمّا الوجه الأوّل: فهو مقايسة الإجازة بالقبول، فكما يعتبر استمرار الشروط فيما بين الإيجاب إلى زمان القبول بحيث لا يتخلّل بينهما بفقد شي ء من تلك الشروط و إلّا كان التخلّل مفسدا للعقد بالإجماع، فكذلك يعتبر استمرارها فيما بينهما إلى زمان الإجازة بحيث يكون التخلّل بينهما و بين الإجازة مفسدا للعقد.

ص: 98

و فيه: منع الحكم في المقيس عليه، لعموم «الوفاء بالعقود»، و أصالة عدم التخصيص و التقييد باشتراط الموالاة و بقاء الشروط إلى زمان القبول.

نعم، نقل شيخنا العلّامة عن شيخه صاحب الجواهر (1) قدّس سرّه الإجماع على اشتراط الموالاة و استمرار الشروط بين الإيجاب و القبول، إلّا أنّه موهون بفتوى جماعة على عدم قدح تخلّل الردّ بين إيجاب الوصيّة و قبولها فضلا عن تخلّل غيره، و على تقدير تسليم الإجماع مطلقا أو فيما عدا الوصيّة على استمرار الشروط إلى زمان القبول فهو دليل لبيّ لا ينبغي التعدّي عن مورده إلى اعتبار الاستمرار إلى زمان الإجازة.

و أمّا وجه التفصيل و الالتزام في تقدير كون الإجازة عقدا جديدا باشتراط استمرار الشروط إلى زمان الإجازة: فلفرض كون الإجازة عقدا جديدا فيعتبر فيها ما يعتبر في العقود.

و يضعّف أوّلا: بأنّ القائل بكونها عقدا جديدا إنّما يقول به فيما لو قيّد الفضوليّ البيع لنفسه و أجازه المجيز لنفسه، لا أنّه يقول به مطلقا.

و ثانيا: بأنّ المراد بكونها عقدا جديدا: أنّها عقد جديد من جهة خصوص مخالفتها لمضمون العقد السابق في التقييد، و هو لا يقتضي كونها عقدا جديدا من سائر الجهات، لأنّ الضرورة إنّما تقدّر بقدرها حسب ما تقدّم تفصيل ذلك في بيع الغاصب من الفضوليّ.

و ثالثا: لو سلّمنا كونها عقدا جديدا من جميع الجهات، مع أنّه لا قائل، بل لا موهم به، فمقتضاه اعتبار شروط العقد في خصوص حين الإجازة، لا اعتبار استمرارها من زمان العقد إلى زمان الإجازة الّذي هو المدّعى، كما لا يخفى.

قال: «هل يشترط في المجاز كونه معلوما للمجيز بالتفصيل .. إلخ».


1- انظر جواهر الكلام 22: 254- 255.

ص: 99

أقول: أمّا الكلام في موضوع المسألة و صغراه فتفصيله: أنّه ينقسم المجاز باعتبار اعتقاد المجيز له إلى المعلوم بالتفصيل، و المعلوم بالإجمال و المظنون بالتفصيل، و المظنون بالإجمال و المشكوك.

و أمّا الكلام في حكم المسألة و كبراه فتفصيله: أنّ في اشتراط معلوميّة المجاز للمجيز تفصيلا، أم الكفاية بمعلوميّته و لو إجمالا، أم الكفاية بمظنونيّته و لو إجمالا، أم الكفاية بمشكوكيّته أيضا، وجوه، و مقتضى الأصل العملي الاشتراط، و اللفظي عدمه. و لمّا كان مرجع المانع المتصوّر من صحّة المعلوم الإجمالي ليس إلّا إلى الغرر في العقد، و من المظنون و المشكوك ليس إلّا إلى التعليق في العقد و كانت الإجازة اللاحقة بمنزلة الاذن و التوكيل السابقين في الحكم، فلا جرم من رجوع الكلام في اشتراط العلم في الإجازة، و عدمه إلى الكلام في مانعيّة الغرر و التعليق من صحّة الإذن و التوكيل السابقين و عدمه.

فلنسوق الكلام إلى الإذن و التوكيل، و نقول: إنّ الإذن و التوكيل كما يفترقان في الاسم حيث إنّ الإذن من الإيقاعات الغير المتوقّفة على القبول و التوكيل من العقود المتوقّفة عليه، كذلك قد يفترقان في بعض الأحكام المقرّرة في محلّها مثل صحّة عمل الموكّل- بالفتح- إلى أن يصل إليه خبر العزل و عدم جواز نقض شي ء من أعماله الموكول فيها قبل وصول خبر العزل إليه و إن كان معزولا في الواقع.

ثمّ الغرر في التوكيل يتصوّر موضوعه في كلّ ما إذا دار الموكول فيه بين ما يريده الموكل و ما لا يريده الموكل، كما لو قال الموكّل للموكّل: أنت وكيلي في إيقاع عقد على جاريتي أو بنتي أو مالي مثلا، حيثما يحتمل إرادة عقد البيع و العتق و الوقف مثلا.

و أمّا حكمه فهو حكم الغرر في سائر العقود من اقتضائه فساد العقد

ص: 100

و إبطاله، فإنّه و إن اختصّ بالبيع النصّ النبويّ و هو: «لا غرر في بيع» (1) إلّا أنّ الإجماع ظاهرا قائم على تنقيح كون المناط في نفي الغرر عن البيع هو حزم مادّة الضرر و قطع منشأ النزاع و الخصومة، و هو عامّ سائر في جميع العقود الغرريّة، فلا اختصاص لنفيه بالبيع.

و ربما توهّم بعض الرفقاء أنّ الإقدام على الغرر كالإقدام على الضرر غير مضمّن و يدفعه: أنّ مجرى قاعدة الإقدام الغير المضمّن هو الإقدام على ما يعلم المقدّم ضرريّته، لا الإقدام على ما يجهل المقدم ضرريّته، كما هو من موارد الغرر.

و أمّا طريق التخلّص عن الغرر في التوكيل فهو بتعيين الموكول فيه من بين المحتملات بنصوص اللفظ على خصوص أو عموم أو إطلاق أو تقييد و لو بمعونة ضمّ القرائن الحاليّة أو المقاليّة.

و أمّا التعليق في عقد التوكيل فحكمه حكم التعليق في سائر العقود أيضا، فقد قيل بإفساده العقد بزعم منافاته للإنشاء المعتبر في العقود، أو بمقايسته على التعليق في العبادات حيث يقتضي الفساد، أو بزعم استلزامه التفكيك بين المتلازمين و السبب و المسبّب، أو استلزامه التشريع و الخروج عمّا هو وظيفة التوقيفيّات من الاقتصار على المتيقّن، أو بزعم الإجماع على إفساده العقد. و قد تقدّم في شروط البيع ضعف الأوّل: بأنّ المنافي لإنشاء العقد هو التعليق في نفس الإنشاء، كما لو علّق أصل التوكيل على أمر مترقّب لا التعليق في المنشئ و هو الموكول فيه. و ضعف الثاني: بوجود الفارق، و هو تحقّق القربة الّتي بها قوام العبادات دون المعاملات. و الثالث: بمنع الملازمة، و لو سلّمت ففي خصوص التعليق على أمر مترقّب مستقبل دون التعليق على أمر متحقّق. و الرابع: بمنع


1- الوسائل 12: 330 باب «40» من أبواب آداب التجارة ح 3.

ص: 101

الملازمة أيضا بعد فرض إطلاق العقد عرفا على العقد المعلّق، و عموم «الوفاء بالعقود». و الخامس: بأنّ الإجماع لبّي فيقتصر على تقدير تسليمه على خصوص المورد المتيقّن له.

و إذا عرفت ذلك فمن الحكم بعدم إفساد التعليق الوكالة يعلم عدم فساد ما هو بمنزلة الوكالة، أعني: الإجازة بما هو بمنزلة التعليق فيها معنى، أعني:

الإجمال و الشكّ في متعلّقها. و من الحكم بإفساد الغرر الوكالة يعلم فساد ما هو بمنزلة الوكالة، أعني: الإجازة بما يلزم منه الغرر فيها، أعني: الإجمال و الشكّ في المجاز. و لكن من المعلوم أنّ مطلق الإجمال و الجهل بالمجاز غير مانع، بل المانع هو الإجمال أو الجهل المؤدّي إلى الغرر فيه، بواسطة دوران المجاز بين العقد الضرري و غيره و لو بحسب الإرادة، و أمّا الدائر بين الأمرين أو الأمور الغير الضرريّة، فلا يمنع الإجمال و لا الجهل بالتعيين عن صحّة العقد عليه، و لا عن صحّة الإجازة له.

قوله: «لا يكون إلّا في حقّ العاقد. فتأمّل».

[أقول:] إشارة إلى ما سبق أوّلا: من أنّ التعليق المذكور إنّما هو في المنشئ لا الإنشاء، و في المجاز لا الإجازة، و في المأذون لا الإذن.

و ثانيا: لو سلّم كون الإجازة في معنى العقد فإنّما هو على النقل. و أمّا على الكشف فالكاشف غير المكشوف عنه لا بمعناه.

قوله: «و يجمع الكلّ .. إلخ».

[أقول:] و هي صور ثمانية حاصلة من ضرب قسمي المجاز و هما العقد الواقع على نفس مال الغير، أو على عوضه في أقسامه الثلاثة الأخر، و هي:

الأوّل و الآخر و الوسط المنقسم إلى ما يكون واسطة بين عقدين واقعين على مورد مال الغير، أو بدله، أو بالاختلاف.

ص: 102

أمّا وقوع العقد الفضوليّ على نفس مال الغير فالجامع لأمثلته الثلاثة قوله:

«ما إذا باع عبدا لمالك بفرس، ثمّ باعه المشتري بكتاب، ثم باعه الثالث بدينار».

و أمّا وقوع العقد الفضوليّ على عوض مال الغير فيجمع أمثلته الثلاثة قوله:

«و باع البائع الفرس بدرهم (1)، و باع بائع الفرس الدرهم برغيف (2)، و بيع الرغيف بعسل».

و أمّا وقوع العقد الفضوليّ على ما يكون واسطة بين عقدين واقعين على مورد مال الغير فمثاله هو الوسط بين الثلاثة الأول من الأمثلة، كما أنّ مثال ما يكون واسطة بين عقدين واقعين على بدل مال الغير هو الوسط من الثلاثة الآخر من الأمثلة المذكورة. و أمّا الواسطة بين المختلفين فأحدها قوله: «بيع الدينار بجارية» و الآخر «بيع الدرهم بحمار»، و إنّما مثّل للواسطة بين المختلفين بمثالين تنبيها على ما يصحّ بإجازة ما قبله كالأول منهما، و ما لا يصحّ بإجازة ما قبله كالثاني منهما. هذا كلّه في أقسام تعدّد العقود.

و أمّا أحكامها: فمجملة أنّه إذا وقعت عقود متعدّدة على مال المجيز فإن وقعت من أشخاص متعدّدة و لو بالاعتبار صحّ المجاز منها و ما بعده، سواء كان تعدّد العقود على نفس مال المجيز أو على عوضه. أمّا صحّة المجاز فبالإجازة.

و أمّا صحّة ما بعده من العقود فبالاستلزام، و إن وقعت من شخص واحد- و لا يتحقّق هذا الفرض إلّا في الثمن دون المثمّن، بخلاف الفرض الأوّل- صحّ المجاز و ما قبله. أمّا صحّة المجاز فبالإجازة. و أمّا ما قبله فبالتوقّف و المقدّميّة، فمرجع أقسام تعدّد العقود إلى ثلاثة:

أحدها: وقوع العقود المتعدّدة من أشخاص متعدّدة على المثمّن، و حكمه


1- توجد زيادة جملة في المكاسب هي: «و باع الثالث الدينار بجارية».
2- توجد زيادة جملة في المكاسب هي: «ثمّ بيع الدرهم بحمار».

ص: 103

تصحيح الإجازة المجاز منها و ما بعده دون ما قبله.

و ثانيها: وقوع العقود المتعدّدة من أشخاص عديدة أيضا على الثمن، و حكمه حكم الأوّل، و لهذا لم يتعرّض جماعة منهم لذكره بالخصوص، بل أدرجوه في حكم الأوّل اتّكالا على الوضوح.

و ثالثها: وقوع العقود المتعدّدة من شخص واحد على الثمن، و حكمه عكس حكم الأوّل في تصحيح المجاز و ما قبله.

و هنا قسم رابع: و هو وقوع العقود المتعدّدة من شخص واحد على المثمّن الواحد أسقطوه عن عداد الأقسام اتّكالا على وضوح حكمه، و هو تصحيح المجاز نفسه دون ما قبله و لا ما بعده.

و لكن تصحيح المجاز نفسه فقط في هذا القسم و مع أحد طرفيه كالما بعد في الأوّل، و ألما قبل في الثاني، ليس فسخا للطرف الآخر، لا من طرف من ملك بالإجازة، و لا من طرف المجيز.

أمّا من طرف من ملك بالإجازة فلوجود قابليّته فعلا للإجازة، بناء على ما هو الأقوى من عدم اشتراط ملك المجيز حين العقد.

و أمّا من طرف المجيز فلوجود قابليّته شأنا للإجازة و إن انتفت القابليّة فعلا، و ذلك لأنّ إخراج المال عن ملك المجيز بالإجازة لأحد المشترين و إن نفي قابليّته لإجازة الآخر فعلا إلّا أنّه لم ينفي قابليّته الشأنيّة لإجازة الآخر لو رجع إلى ملكه بإرث أو شراء جديد.

و من هنا يظهر لك ما في كلام الروضة (1) من إطلاق كون المصحّح لأحد طرفي العقود المتعدّدة مبطل لطرفه الآخر، و ما في كلام المتن (2) أيضا من إطلاق


1- الروضة البهيّة 3: 230.
2- المكاسب: 143.

ص: 104

كون المصحّح لأحد الطرفين مبطل للطرف الآخر بالنسبة إلى المجيز لا بالنسبة إلى من ملك بالإجازة؛ لما عرفت من أنّ تصحيح أحد الطرفين ليس فسخا للطرف الآخر، لا من طرف المجيز، و لا من طرف المجاز له، فكلّ من الإطلاقين سيّما الأوّل ليس في محلّه، كما لا يخفى و إن كان لكلّ من إطلاقي الفسخ سيّما الأخير وجه سيأتي في باب الردّ.

قوله: «ثمّ إنّ هنا إشكال في شمول الحكم لجواز (1) تتبّع العقود لصورة علم المشتري بالغصب».

أقول: أمّا تقريب الإشكال فمن جهة المنافاة بين إطلاق حكمهم بصحّة العقد المجاز و بجواز تتبّع المجيز العقود الواقعة على ماله و اختياره في إجازة أيّ منها، و بين إطلاق حكمهم بعدم رجوع للمشتري العالم بالغصب على الغاصب في ثمن المغصوب الّذي دفعه إليه مطلقا أو بعد تلفه على الخلاف، فإن فرض تملّك الغاصب ثمن المغصوب من العالم بالغصب مطلقا أو بعد تلفه و لو بشراء شي ء به مناف لفرض تملّك المجيز ذلك الثمن بإجازة ذلك الثمن أو بدله بإجازة البدل، بل مضافا إلى أنّ فرض تملّك الغاصب ثمن المغصوب المدفوع إليه في صورة علم المشتري بالغصب مشكل، من جهة منافاته لإطلاق حكمهم بأنّ للمالك تتبّع العقود، و إجازة أيّ منها مشكل في نفسه أيضا من جهة أخرى، و هي منافاته للقواعد و الأصول الشرعيّة و العقليّة، إذ كيف يتعقّل تخلّف محلّي الثمن و المثمّن- أعني: توجّه الثمن إلى غير محلّ المثمن- مع أنّ مقتضى القاعدة كون الثمن و المثمّن نظير الحركتين المتضادّتين في تخلّف كلّ منهما محلّ الآخر و عدم استقراره إلّا في محلّ الآخر؟ و مع ذلك كيف يباح للغاصب ثمن ما هو مستحقّ للغير، بل كيف يتملّك ما يشتري بذلك الثمن؟


1- في المكاسب: «بجواز».

ص: 105

فتلخّص و تبيّن من ذلك: أنّ في القول بعدم رجوع المشتري إلى الغاصب فيما يدفعه إليه ثمنا للمغصوب إذا كان عالما بالغصب إشكال و منافاة للأصول و القواعد من جهات عديدة:

أحدها: من جهة إباحة ثمن المغصوب على الغاصب مجانا، مع أنّه مدفوع إليه بعنوان المعاوضة و المبادلة.

و ثانيها: من جهة تملّك الغاصب ما يشتريه بذلك الثمن، مع أنّ مقتضى القاعدة عدم توجّه الثمن إلّا إلى محلّ المثمّن، و عدم تخلّف كلّ منهما إلّا في محلّ الآخر نظير الحركتين المتضادّتين، فلا يصحّ في العقد ذهاب الثمن من شخص و رجوع المثمّن إلى غيره.

و ثالثها: من جهة انتفاء محلّ إجازة المالك لما يشتريه الغاصب بثمن المغصوب بعد فرض تملّكه الغاصب بالشراء، مع أنّ مقتضى إطلاق حكمهم بأنّ للمالك تتبّع العقود و إجازة ما يريد منها هو بقاء محلّ الإجازة.

هذا، و لكن يمكن رفع كلّ من الإشكالات الثلاث و تطبيق القول بعدم رجوع المشتري إلى الغاصب في صورة علمه بالغصب على القواعد إذا التزمنا بصحّة هذا القول و اختياره.

أمّا الإشكال الأوّل: فلإمكان دفعه بقاعدة الإقدام، أعني: إقدام المشتري على تسليط الغاصب على ماله المبذول بإزاء المغصوب عند علمه بالغصب و عدم استحقاقه الثمن هو المبيح له مجّانا، و المأذون له في إتلافه، فلا يكون ثمنا حتّى يتوقّف إباحته عليه على إباحة ربّ العين له ذلك وراء تسليط المشتري إيّاه عليه، و بهذا وجّهوا القول بعدم رجوع المشتري العالم بالغصب على ما دفعه إلى الغاصب بإزاء المغصوب.

و أمّا الإشكال الثاني: فيمكن أيضا دفعه أوّلا: بمنع كون الثمن و المثمّن

ص: 106

نظير الحركتين المتضادّتين في عدم تخلّف كلّ منهما إلّا في محلّ الآخر، و الالتزام بصحّة ذهاب الثمن من شخص و رجوع المثمن إلى غيره في العقد أخذا بعموم «الوفاء بالعقود»، و عدم مانعيّة كون الثمن من شخص و المثمن لآخر لا عقلا و لا نقلا، كما مرّ تفصيله سابقا.

و ثانيا: بمنع كون الثمن المدفوع إلى الغاصب باقيا على ملك المشتري في صورة علم المشتري بالغصب، لكن لا للالتزام بتخصيص ملكيّة ملكه، بل للالتزام بأنّ دليل القول بتملّك الغاصب ما يشتريه بثمن المغصوب- على تقدير صحّته- كاشف عن تقدير تملّك الغاصب الثمن قبل الشراء آنا ما، و دخول ذلك الثمن في ملكه قبل الشراء آنا ما بتقدير ملك قهري بجعله تعالى كتقدير الملك القهري بجعله تعالى في عتق العمودين بمجرّد الشراء، و عتق العبد عن الغير بمجرّد التوكيل و تملّك ما يشتري بثمن المعاطاة عند القائلين بإفادتها الإباحة لا الملك.

فكما أنّ دليل صحّة عتق العمودين بمجرّد الشراء، و عتق العبد عن الغير بمجرّد التوكيل، و تملّك ما يشتري بثمن المعاطاة كاشف عن تقدير ملك قهري بجعله تعالى، و دخول كلّ منها في ملك دافع الثمن قبل الدفع آنا ما تقديما للتخصّص على التخصيص في أدلّة: «لا عتق إلّا في ملك» (1) و «لا بيع إلّا في ملك» (2)، كذلك دليل تملّك الغاصب ما يشتريه بثمن المغصوب في صورة علم المشتري بالغصب كاشف عن دخول ذلك الثمن في ملك الغاصب قهرا قبل الشراء آنا ما بجعله تعالى تقديما للتخصّص على التخصيص في ملكيّة ملك المالك الأوّل.

و أمّا الإشكال الثالث: و هو منافاة تملّك الغاصب ما يشتريه بثمن


1- الوسائل 15: 286 ب (12) من أبواب مقدمات الطلاق و شرائطه.
2- المستدرك الحاكم 2: 17، عوالي اللئالي 2: 247 ح 16.

ص: 107

المغصوب في صورة علم المشتري بالغصب لإطلاق حكمهم بجواز تتبّع المالك العقود و إجازة أيّ منها شاء، فيمكن أيضا دفعه.

لكن لا بما احتمله الإيضاح (1) من تقديم حقّ المجيز لأسبقيّته و أولويّته حتّى يرد عليه المنع بحسب ما أشار إليه الماتن (2).

و لا بما اختاره الإيضاح (3) من حمل إطلاق جواز تتبّع العقود على القول بالكشف دون النقل، لما يرد عليه من لزوم حمل قول المشهور بعدم استرداد المشتري ثمن المغصوب إذا كان عالما بالغصب حين الدفع على تقدير ناقليّة الإجازة، و هو قول نادر غير مشهور، فكيف يقول المشهور بقول يبتني على تقدير لا يقول به المشهور؟ فتوجيه كلام المشهور بالابتناء على مثله توجيه للشي ء بما لا يرضى صاحبه، و حمل للإطلاق على الفرد النادر.

و لا بما احتمله الماتن (4) من أنّ عدم استرداد الثمن لعلّه لأجل أنّ التسلّط عليه مرعى بعدم إجازة مالك المبيع، لا لأنّ نفس التسلّط علّة تامّة لاستحقاق الغاصب على تقديري الردّ و الإجازة، لما يرد عليه من منافاة المراعاة لإطلاق تعليلهم عدم الاسترداد بقاعدة التسليط و الإقدام، مضافا إلى رجوع المراعاة و ابتنائه على كاشفيّة الإجازة، فيرد عليه ما ورد على سابقه من التوجيه بالكاشفيّة، لرجوعه إليه، و عدم كونه توجيها آخر.

فتبيّن أنّ دفع الإشكال الثالث: و هو منافاة تملّك الغاصب ما يشتريه بثمن المغصوب في صورة علم المشتري بالغصب، لإطلاق حكمهم بجواز تتبّع المالك العقود ليس بشي ء من التوجيهات المذكورة لبعدها، بل إنّما هو بأمر آخر أقرب منها، و هو منع إطلاق جواز تتبّع العقود، و حمل إطلاق جوازه على صورة جهل


1- إيضاح الفوائد 1: 418.
2- المكاسب: 144.
3- إيضاح الفوائد 1: 417- 418.
4- المكاسب: 144.

ص: 108

المشتري بالغصب. و أمّا في صورة علمه بعدم استحقاق ما يدفع إلى الغاصب ثمنا للمغصوب فنلتزم بعدم صحّة إجازة المالك، بل بعدم بقاء مورد لإجازته على تقدير صحّة القول بتملّك الغاصب ما يشتريه بثمن المغصوب، نظرا إلى ذهاب أحد طرفي العقد بذهاب الثمن مجّانا، فلا يبقى معه مورد للإجازة بعد.

لكن هذا التوجيه كلّه إنّما هو على تقدير قبول قول المشهور بعدم استرداد الثمن من الغاصب. و أمّا على تقدير عدم قبوله- كما هو الأقرب إلى القواعد و الأصول- فلا ورود لشي ء من تلك الإشكالات، فضلا عن الاحتياج في دفعها إلى تلك التوجيهات.

[مسألة في أحكام الردّ]

قال: «مسألة: في أحكام الردّ .. إلخ».

أقول: أمّا موضوع الردّ فينقسم إلى الردّ بالقول و إلى الردّ بالفعل. ثمّ القوليّ ينقسم إلى العربي و غيره، و على كلّ منهما إمّا أن يكون الردّ بالألفاظ الدالّة عليه حقيقة أو مجازا أو كناية، كما أنّ الفعليّ أيضا ينقسم إلى ما يفوت محلّ الإجازة عقلا كإخراج المبيع فضولة عن ملكه بالإتلاف، أو شرعا كإخراجه عن ملكه بالنقل، و إلى ما ليس بمفوّت لمحلّه.

ثمّ الثاني ينقسم إلى ما ينافي العقد الفضوليّ كاستيلاد الجارية و إجارة الدار و تزويج الأمة، و إلى ما لا ينافيه كتعريضه للبيع أو بيعه بالبيع الفاسد، و كلّ منهما ينقسم أيضا إلى ما يقصد به إنشاء الردّ و ما لا يقصد.

ثمّ الثاني من هذا أيضا ينقسم إلى ما يقع حال التفات المالك إلى وقوع العقد من الفضوليّ، و إلى ما يقع حال عدم الالتفات، فبلغ أقسام موضوع الردّ القوليّ إلى ستّة، و الفعليّ إلى تسعة.

و أمّا أحكامه فأمّا بحسب الأصل العملي و الاستصحاب فهو بقاء اللزوم من طرف الأصيل و قابليّته من طرف المجيز إلى أن يحصل المتيقّن من أقسام الردّ.

ص: 109

فمقتضى هذا الأصل و الاستصحاب عدم انرداد العقد الفضوليّ بالمشكوك كونه ردّا من أقسام الردّ.

لا يقال: إنّ استصحاب بقاء اللزوم من طرف الأصيل و القابليّة من طرف المجيز معارض بأصالة عدم تأثير الإجازة اللزوم من طرف المجيز بعد سبقها بهذا النحو من الردّ المشكوك انرداده به.

لأنّا نقول: بعدم المعارضة بينهما؛ لأنّ مجرى الأوّل مزيل لموضوع الثاني، و موضوع الثاني و هو الشكّ مسبّب عن الأوّل، و قد تقرّر في الأصول حكومة الأصل في الشكّ السببي على الأصل في الشكّ المسبّبي.

و أمّا بحسب الأصول اللفظيّة فمقتضى إطلاق له الردّ هو عدم اشتراط أصل القول و اللفظ في الردّ، فضلا عن اشتراط كونه عربيّا و إن اشترطناهما في إيجاب العقد و قبوله، نظرا إلى عدم صدق العقد، أو انصرافه إلى اللفظ العربيّ دون غيره، بل و إن اشترطناهما أيضا في الإجازة، نظرا إلى احتمال توهّم الإجماع على اعتبار اللفظ في الإجازة دون توهّم اعتباره في الردّ و إن كان مقتضى ورود الردّ و الإجازة في إطلاق واحد و سياق واحد- أعني: قوله: «له الردّ و له الإجازة- هو مساواتهما في الإطلاق عن اعتبار اللفظ، فضلا عن اعتبار العربيّة.

نعم، المعتبر فيهما هو الإنشاء و لو في النفس، فلا يكفي في صدق الردّ بمجرّد عدم الرضا المستمرّ من حين العقد أو ممّا قبله، و لهذا يلزم عقد المكره بلحوق الإجازة و لا يزد باستمرار الكره السابق ما لم ينشئ كره آخر و لو في النفس.

و هل يعتبر في صدق الردّ عرفا اقتران ذلك الإنشاء النفسانيّ بما يكشف عنه من لفظ صريح أو فعل صريح، أم يكفي في صدقه مجرّد إنشاء الردّ في النفس و لو لم يقارنه الرادّ بكاشف صريح ليكتفي بمجرّده في تحقّق الفسخ و عدم

ص: 110

صحّة لحوق الإجازة بعده بالنسبة إلى نفس الرادّ فيما بينه و بين اللّٰه تعالى و بالنسبة إلى غيره إذا علم ذلك من الرادّ بإخبار مخبر صادق، أو نحوه من الكواشف الغير المقترنة بذلك الإنشاء النفساني؟ وجهان.

جزم بالأوّل شيخنا العلّامة دام ظلّه، كما جزم به أيضا في صدق الإجازة، حيث لم يكتف فيها أيضا بمجرّد إنشاء الرضاء النفساني ما لم يقترن بكاشف صريح، و لكنّه غير صريح.

و كيف كان فكما أنّ مقتضى إطلاق «له الردّ» هو عدم اعتبار العربيّ فيه كذلك مقتضاه عدم اعتبار ما عدا الصراحة في ألفاظه، فيكفي الردّ القوليّ و لو بلفظ المجاز أو الكفاية، كقوله: «لم أعط المبيع بتلك القيمة» أو «لم أرض به» أو «لا بارك اللّٰه فيه» أو نحو ذلك. كما يكفي بهما أيضا في لفظ الإجازة و لو لم يكتف بهما في لفظي الإيجاب و القبول، فضلا عمّا استقويناه في محلّه من الاكتفاء بهما فيه أيضا.

و أمّا الردّ الفعلي فالكلام تارة في حكمه الكبرويّ المتعلّق بكلّيّ الأفعال، و تارة في حكمه الصغرويّ المتعلّق بجزئيّاتها.

أمّا الكلام في المقام الأوّل فمحصّله: أنّ كلّ فعل اقترن بإنشاء الردّ النفساني فقد تحقّق في ضمنه الردّ عرفا و صدق عليه الردّ قطعا، سواء كان مفوّتا لمحلّ الإجازة عقلا كإتلاف المبيع فضولة، أو شرعا كنقله عن الملك، أم غير مفوّت له، و على الثاني سواء كان منافيا لمقتضى الفضوليّ كاستيلاد الجارية، أم غير مناف كتعريضه معرض البيع و كلّ ما لم يقترن من الأفعال بإنشاء الردّ لم يتحقّق به الردّ عرفا، سواء كان مفوّتا أم غير مفوت، و على الثاني سواء كان منافيا أم غير مناف، و سواء صدر في حال التفات الفاعل إلى وقوع الفضوليّ، أم صدر في حال عدم التفاته إليه.

ص: 111

نعم، غاية الفرق: أنّ الفعل المفوّت لمحلّ الإجازة كنقل المالك المبيع فضولة عن ملكه و أنّ المنافي لمقتضى الفضوليّ كاستيلاد الجارية مخرجان للملك عن قابليّة وقوع الإجازة عليه فعلا، لا مخرجاه عنها مطلقا، فالقابليّة الفعليّة و إن انتفت بفعل المفوّت أو المنافي إلّا أنّ القابليّة الشأنيّة باقية، فلو رجع المخرج إلى ملك مالكه الأوّل بإرث أو شراء أو رجعت الجارية المستولدة إلى الحال الأوّل بموت ولدها أو سقطه كان مقتضى القواعد إمكان لحوق الإجازة للفضوليّ الفائت محلّه فعلا، لرجوع القابليّة الفائتة حينئذ فرجع صحّة لحوق الإجازة.

أمّا على تقدير كون الإجازة ناقلة فلا إشكال.

و أمّا على تقدير كونها كاشفة، فهو و إن منع المصنّف (1) من صحّة الإجازة بزعم استلزام صحّتها على هذا التقدير لبطلان الأفعال السابقة في الواقع و ابتنائها قبل الإجازة على الظاهر، و أمّا بعدها فينكشف عدم مصادفتها للملك، فيبطل هي و تصحّ الإجازة، و اللازم باطل بالإجماع على صحّة الأفعال السابقة على الإجازة. و إذا فرض الإجماع على صحّة الأفعال السابقة منع ذلك من صحّة الإجازة اللاحقة؛ لأنّ وقوع أحد المتنافيين صحيحا مانع من وقوع الآخر صحيحا، إلّا أنّه يمكن منع ما ذكر من ملازمة صحّة الإجازة على تقدير الكشف لبطلان الأفعال السابقة عليها، بتقريب: ما سبق من المصنّف (2) من أنّه لا مانع عقلا و لا شرعا من كون الإجازة على تقدير الكشف كاشفة عن التأثير من زمان قابليّة تأثيرها لا من زمان العقد مطلقا، فلو عرض فيما بين زمانيّ العقد و الإجازة رفع القابليّة بنقل المعقود عليه أو استيلاده ثمّ رجعت القابليّة برجوع المنقول بإرث أو غيره صحّت الإجازة بعده، و حكم على الكشف بتأثير الإجازة من


1- المكاسب: 144.
2- تقدّم في ص: 92.

ص: 112

زمانيّ القابليّة، و خروج زمان رفع القابليّة المتوسّط بين زمانيّ القابليّة عن التأثير بالإجازة.

و أمّا توهّم كون ذلك تخصيصا للإجازة بزمان القابليّة- و هو ليس بأولى من تخصيص عموم أَوْفُوا بِالْعُقُودِ (1) بالتزام بطلان هذا النحو من البيع و العقد إن لم يكن هذا أولى- فمدفوع بما مضى عن قريب من كون ذلك تخصّصا لا تخصيصا، فتذكّر.

أمّا دعوى الماتن (2) في المقام إجماع أهل الكشف على أنّ إجازة المالك حين العقد مؤثرة من حينه فأيضا مدفوع نقضا: بتصحيح جماعة، كما تقدّم إجازة المالك الجديد فيمن باع شيئا ثمّ ملكه. اللّٰهمّ إلّا أن يخصّص معقد إجماعه المدّعى بإجازة المالك الأوّل- كما فيما نحن فيه- ليخرج من معقده إجازة المالك الجديد، كما استقربه شيخنا العلّامة. و هو كما ترى.

و حاصل الكلام في الحكم الكبرويّ: أنّ المناط في صدق الردّ عرفا على الإنشاء النفسيّ، و اعتبار اقترانه بأحد الكواشف اللفظيّة أو الفعليّة لمجرّد الكشف، و هو إنّما يثمر بالنسبة إلى غير الرادّ إذا أراد إجراء أحكام الردّ من عدم صحّة الإجازة بعده و غيره.

و أمّا بالنسبة إلى نفسه فلا يبعد الاكتفاء في ترتيب أحكام الردّ بمجرّد إنشائه النفسيّ، فإنّ المظنون صدق الردّ عرفا على مجرّد ذلك الإنشاء، كما أنّ المظنون في صدق الإجازة مثله.

و لو سلّمنا اعتبار اقتران ذلك الإنشاء بكاشف فالأظهر الاكتفاء بمطلق الكاشف و لو لم يكن صريحا في الكاشفيّة عنه.


1- المائدة: 1.
2- المكاسب: 144.

ص: 113

و لو سلّمنا اعتبار الصراحة أيضا كما اعتبرها الأستاد دام ظلّه فإنّما نعتبرها في الردّ القوليّ دون الفعليّ، لأنّ الفعل و إن كان مفوّتا لمحلّ الإجازة، أو منافيا له، أو صادرا في حال الالتفات بوقوع الفضوليّ، إلّا أنّه من حيث هو فعل لا صراحة له في الدلالة على إنشاء الردّ إلّا بضميمة إشارة أو نحوها.

و لو سلّمنا اعتبار الصراحة حتّى في الردّ الفعليّ، نظرا إلى أنّ الفعل من حيث هو فعل و إن لم يكن له صراحة في إرادة إنشاء الردّ النفسي منه، إلّا أنّ الفعل المفوّت بل و المنافي بل و كذا الصادر في حال الالتفات إلى وقوع الفضوليّ بملاحظة عدم انفكاكه غالبا عن إرادة إنشاء الردّ النفسانيّ يكون صريحا أو كالصريح في إرادة إنشاء الردّ فإنّما هو من باب الكشف عن إنشاء الردّ، لا من باب اعتبارها في صدق موضوع الردّ عرفا، كما يظهر من المتن (1) و غيره.

و على تقدير اعتبار الصراحة من باب الكشف لا يعتبر بعد إنشاء الردّ نفسا صراحة ما يكشف عنه بالنسبة إلى نفس الرادّ، فيجوز له فيما بينه و بين اللّٰه ترتيب أحكام الردّ على مجرّد إنشائه الردّ و لو لم يصدر ما يكشف عنه صريحا. و كذا بالنسبة إلى غير الرادّ إذا اطلع على ذلك الردّ من غير كاشف صريح عن الرادّ، كإخبار صادق أو نحوه، بخلاف اعتبارها من باب الموضوعيّة فإنّه على هذا التقدير لا يجوز ترتيب شي ء من أحكام الردّ على الإنشاء المجرّد على الكاشف الصريح، لا بالنسبة إلى نفس الرادّ، و لا بالنسبة إلى غيره، و حكم الشكّ في تحقّق ما يعتبر في الردّ هو حكم الشكّ في أصل الردّ من استصحاب بقاء اللزوم من طرف الأصيل و قابليّته من طرف المجيز، كما تقدّم. هذا كلّه في بيان حكم كلّي الردّ من حيث الكبرى.

و أمّا حكم جزئيّاته من حيث الصغرى فنقول: أمّا الفعل المفوّت لمحلّ


1- المكاسب: 144.

ص: 114

الإجازة كإتلاف المبيع فضوله أو نقله عن ملكه فقد عرفت أنّ مقتضى القاعدة و الأصل عدم تحقّق الردّ به إلّا من باب كشفه الغالبيّ عن إرادة إنشاء الردّ به، و إلّا فهو و إن كان مفوّتا و رافعا لقابليّة المحلّ للإجازة فعلا إلّا أنّه لم يرفع القابليّة الشأنيّة للحوق الإجازة إذا رجعت القابليّة بعد الفوت.

و كذا الفعل المنافي لمقتضى العقد الفضوليّ كاستيلاد الجارية و إجارة الدار و تزويج الأمة فإنّه أيضا كذلك، بل هو أولى بعدم تحقّق الردّ به، إلّا من باب الكشف الغالبي.

و كذا الفعل الغير المنافي إذا صدر عن الالتفات بوقوع الفضوليّ كتعريض المبيع فضولة للبيع أو بيعه فاسدا، بل هو أولى بعدم تحقّق الردّ به من سابقه إلّا من باب الكشف الغالبي، كما أنّ سابقه أولى منه إلّا من ذلك الباب؛ لأنّ المفروض عدم تفويته لمحلّ الإجازة، و عدم منافاته لمقتضى الفضوليّ، و عدم دلالته على إنشاء الردّ إلّا من باب الكشف الغالبي عن إرادته.

و ظاهر من يدّعي تحقّق الردّ بكلّ من هذه الثلاثة كالماتن (1) و غيره إرادة تحقّقه بها من ذلك الباب أيضا، لا من باب الموضوعيّة، كما يوهمه الإطلاق.

و أمّا الفعل الغير المفوّت و الغير المنافي و الغير الصادر عن الالتفات عن الفضوليّ فمقتضى الأصل و الظاهر عدم تحقّق الردّ و الفسخ به، لا من باب الكشف، و لا من باب الموضوعيّة. أمّا من باب الموضوعيّة فلانسداد بابها في سوابقه، الّتي هي أولى به منه، و أمّا من باب الكشف فلانسداد بابه فيما فرض صدوره من دون التفات إلى المكشوف عنه و إن لم ينسد في سوابقه.

و أمّا الفعل المغيّر للاسم كطحن الحنطة، أو عجن الطحين، أو خبز العجين، ففي ارتفاع محلّ الإجازة و فوات القابليّة به كالإتلاف و عدمه وجهان، من


1- المكاسب: 144.

ص: 115

استصحاب بقاء اللزوم من طرف الأصيل و القابليّة من طرف المجيز، و من تبعيّة الأحكام لأسمائها، و كون الشكّ في المقتضى و استعداد قابليّة بقاء اللزوم من طرف الأصيل، فلا يستصحب.

أقول: أمّا الشكّ في المقتضى و الاستعداد فلا يمنع الاستصحاب عندنا.

و أمّا تبعيّة الحكم للاسم المانع من استصحاب الحكم بعد تغيّر الاسم- كما هو المشهور في ألسنة الفقهاء- فالمراد به الاسم المأخوذ عنوانا، و علّة لذلك الحكم كالكلب و الخنزير و العذرة و غيرها ممّا أخذ عنوانا و علّة للحكم بالنجاسة.

و أمّا الأسماء الغير المأخوذة عنوانا لأحكامها فلا يمنع تغييرها من استصحاب أحكامها الثابتة عليها، و لهذا تراهم يستصحبون نجاسة الحنطة بعد صيرورتها طحينا، و الطحين بعد صيرورته عجينا، و العجين بعد صيرورته خبزا.

و كذا يستصحبون نجاسة الحصرم بعد صيرورته عنبا، و العنب بعد صيرورته زبيبا مع تغيّر الاسم، بل الحقيقة فيها، و لم يستصحبوا نجاسة الكلب و الخنزير بعد صيرورتهما ملحا بالوقوع في المملحة، و لا نجاسة العذرة بعد صيرورتها رمادا أو دخانا.

و بالجملة: فاستصحابهم نجاسة الأعيان المتنجّسة بعد تغيّر أسمائها، بل و تغيّر حقائقها و عدم استصحابهم نجاسة الأعيان النجسة بمجرّد تغيّر أسمائها- حسب ما عرفت- أقوى شاهد و دليل. مضافا إلى تصريح غير واحد على أنّ المراد من تبعيّة الحكم للاسم المانع من استصحاب الحكم بعد تغيّر الاسم هو الاسم المأخوذ عنوانا للحكم، دون الاسم الغير المأخوذ عنوانا.

و إذا عرفت ذلك فاعلم أنّ أخذ اسم المعقود عليه عنوانا في العقد حتّى لا يستصحب الحكم بعد تغيّره و عدم أخذه عنوانا حتّى يستصحب الحكم أمر مختلف باختلاف الأغراض المختلفة باختلاف المقامات و العقود، ففي مثل

ص: 116

الوصيّة بالحنطة- مثلا- لعلّ ما يبطل الوصيّة بطحنها- مثلا- نظرا إلى غلبة تعلّق الغرض من الوصيّة بالأسماء، بخلاف بيع الحنطة فإنّه لا يبطل ظاهرا، لعدم تعلّق الغرض من البيع غالبا بالأسماء، إلّا إذا علم من الخارج تعلّق الغرض بأخذها عنوانا في العقد على وجه ينتفي بطحنها و تغيير اسمها.

و أمّا مزج المبيع فضولة بغيره أو خلطه بغيره على وجه يوجب الاشتباه بينهما فحكمه حكم الفعل الغير المنافي لمقتضى إجازة الفضوليّ، لعدم منافاته لها، و عدم دلالته على إنشاء الردّ، إلّا من باب الكشف المتقدّم لو صدر عن التفات، بل غاية ما يقتضيه المزج هو الاشتراك و الخلط هو الاشتباه، و لا شي ء منهما بمناف للحوق الإجازة، مع إمكان التخلّص بعد الإجازة بقسمة أو صلح أو قرعة.

إشكال اعترض في البين- نقله عن صاحب الحدائق (1)- على الفقهاء في عدّهم عقد الشركة من أسباب الشركة في الأموال بأنّه: إن امتزج المالين فهو السبب المستقلّ في تأثير الشركة، و إن لم يمتزجا بعد فلا تأثير لنفس العقد في حصول الشركة، بل غاية تأثيره هو إذن كلّ من الشريكين للآخر في التصرّف فهو أقرب إلى عقد الوكالة. فينبغي أن يعدّ من شئون الوكالة، لا من أسباب الشركة.

حلّ: يمكن الجواب عن هذا الإشكال بوجوه:

فأوّلا: بما نقل عن ابن جنيد (2) من التزامه بتأثير نفس عقد الشركة و إن لم يمتزج المالين بعد، و لكن ضعف بعدم التزام غير العامّة (3) به سوى ابن جنيد منّا.

و ثانيا: بالالتزام بسببيّة كلّ من العقد و الامتزاج في تأثير الشركة، و دفع إشكال توارد الأسباب العديدة على مسبّب واحد بأنّ الأسباب الشرعيّة معرّفات فلا يمنع تواردها على مسبّب واحد، إذ ليست كالأسباب العقليّة في امتناع


1- الحدائق 21: 152- 153.
2- نقل عنه العلّامة في مختلف الشيعة: 480.
3- المجموع 14: 69.

ص: 117

تواردها على مسبّب واحد.

و ثالثا: بحمل تأثير عقد الشركة على الشركة في منافع المالين الممتزجين و أرباحهما لا في نفس الممتزجين حتّى يمنع توارد الأسباب العديدة على مسبّب واحد.

و رابعا: بحمل تأثير عقد الشركة على الشركة في المال الّذي اشتراه شخص لنفسه ثمّ جاءه آخر و بذل له نصف الثمن الّذي اشترى به المال على أن يكون شريكا معه في ذلك المال، فإنّ عقد الشركة في ذلك يؤثّر الشركة في جميع المال بينهما على وجه الإشاعة إن كان المبذول نصف ثمنه، و في نصفه المشاع إن كان المبذول ربع ثمنه، و في ربعه المشاع إن كان المبذول ثمن ثمنه، و هكذا.

قوله: «و أمّا لو كان تالفا فالمعروف عدم رجوع المشتري .. إلخ».

أقول: المحصّل لعدم رجوع المشتري إلى الفضوليّ و عدم ضمان الفضوليّ له ما قبض منه وجوه:

منها: مقايسة ما يدفعه المشتري إلى الفضوليّ ثمنا بما يدفعه إلى أجنبي ثالث استمالة، فكما أنّه لا رجوع لمن يريد النكاح فيما يدفعه إلى أقرباء من يريد نكاحها استمالة لهم، و لا يضمن المدفوع إليه للدافع شي ء ممّا يدفعه إليه استمالة و نحوه، كذلك لا رجوع للمشتري فيما يدفعه إلى الفضوليّ مع علمه بعدم كونه المالك إذا تلف ذلك المدفوع. و على هذا الوجه اعتمد الماتن حيث قال بعد جواب إن قلت: «و حاصله: انّ دفع المال إلى الغاصب ليس إلّا كدفعه إلى ثالث يعلم عدم كونه مالكا للمبيع (1) .. إلخ». و يضعّف- مع كونه قياسا- بأنّه مع الفارق.

و منها: الاستدلال عليه بقاعدة التسليط، و هو الّذي استند به المشهور في نفي ضمان الفضوليّ لما قبضه من المشتري العالم بعدم كونه مالكا، حيث استدلّوا


1- المكاسب: 146.

ص: 118

على ذلك بقولهم: لأنّه سلّطه على ماله بلا عوض.

و يضعّف نقضا: بضمان القاضي ما يتعاطى رشوة لمعطيه و لو بعد تلفه، و بضمان كلّ من المتبائعين للآخر ما يقبضانه بالبيع الفاسد، و بضمان ثمن الكلب و الخمر و مهر البغي، و نحو ذلك من أثمان ما حرّم اللّٰه، و بضمان ما يتلفه الشخص على الوجه المحرّم من مال غيره إذا أمره ذلك الغير بإتلافه على ذلك الوجه، كأمره بإلقاء ماله في بحر، أو قتل غلامه، أو الجناية على نفسه، و من ذلك ضمان الطبيب و لو أسقط العليل ضمان نفسه عنه.

و حلّا: بأنّ التسليط المجانيّ المسقط ضمان المسلّط عليه عن المسلّط إنّما هو التسليط مجّانا على ما يباح للمسلّط قبوله و فعله شرعا، كالتسليط على أكل ماله، أو وطء جاريته، أو صرف ماله فيما يباح شرعا.

و أمّا التسليط على ما لا يباح للمسلّط قبوله و لا فعله شرعا- كالتسليط على إلقاء ماله في البحر، أو قتل غلامه، أو الجناية على نفسه، أو أخذ ماله رشوة أو ثمنا للبيع الفاسد، أو للخمر و الكلب، أو مهرا للبغي، أو غير ذلك ممّا حرّم اللّٰه تعالى- فلا يسقط مجرّد ذلك التسليط ضمان المسلّط عليه عن المسلّط قطعا، و ما نحن فيه من قبيل الثاني لا الأوّل، لأنّ تسليط الغاصب على ثمن المغصوب تسليط على ما لا يباح له شرعا و لو بأصالة حرمة التصرّف في مال الغير، كما التزم به الماتن أيضا، و بعد الالتزام بذلك يستغرب منه الالتزام بإسقاط التسليط المجّاني الضمان، كما لا يخفى.

و منها: الاستدلال عليه بفحوى ما دلّ على عدم ضمان من استأمنه المالك و دفعه إليه لحفظه كما في الوديعة، أو الانتفاع به كما في العارية، أو استيفاء المنفعة منه كما في العين المستأجرة، فإنّ الدفع على هذا الوجه إذا لم يوجب الضمان فالتسليط على التصرّف فيه و إتلافه له ممّا لا يوجب ذلك بطريق أولى.

ص: 119

و يضعّف: بأنّه إن أريد سقوط ضمان أصل العين المستأمنة و العارية و المستأجرة فممنوع، فضلا عن أولويّة سقوطه فيما نحن فيه، و إن أريد سقوط ضمان منافعه المستوفاة و الفائتة فمسلّم، لكن مقايسة ما نحن فيه ممنوع؛ لأنّه مضافا إلى كونه قياسا فهو مع الفارق.

قال: «و مع الإقدام لا غرور .. إلخ».

أقول: مع الإقدام إنّما لا يكون غرورا بالنسبة إلى خصوص المقدم عليه و هو عشرة الثمن في المثال المذكور. و أمّا بالنسبة إلى غير المقدم عليه و هو العشرة الزائدة على عشرة الثمن فلا ينبغي الإشكال في تحقّق الغرور، و إلّا لزم تخصيص دليل الغرور بخصوص الموارد المجّانيّة الصرفة دون غيرها. و من الواضح على من له خبرة بالعرف و اللغة عدم توقّف صدق الغرور على مورد المجان.

و بالجملة: فكما لا يتوقّف صدق الغرور عرفا على مورد الضرر- كما زعمه الرياض (1)- كذلك لا يتوقّف صدقه عرفا على مورد المجان كما زعمه الجواهر (2)، و إذا لم يتوقّف الصدق العرفي عليهما فتخصيص الحكم الشرعي و هو الضمان بهما خلاف الأصل و الظاهر.

و على ذلك فإذا باع الغاصب ما سوى عشرين بعشرة فتلف فأخذ المالك من الشاري بعشرين كان للشاري الرجوع على البائع في العشرة الزائدة على عشرة الثمن لغروره فيها، بخلاف ما إذا اعتبرنا في ضمان الغار المجّانيّة- كما عن الجواهر (3) اعتبارها- فإنّه لا يرجع إليه في العشرة الزائدة، إلّا إذا فرض عشرة الثمن ليس في إزاء تمام ما سوى عشرين، بل بإزاء نصفه، على أن يكون نصفه


1- رياض المسائل 8: 359.
2- جواهر الكلام 37: 183.
3- جواهر الكلام 37: 183.

ص: 120

الآخر مجّانا حتّى يتأتّى الغرور، و قد عرفت ضعفه، و أنّه لا يعتبر في صدق الغرور عرفا المجّانيّة، كما لا يعتبر في صدقه الاجتماع مع الضرر، و كما لا يعتبر في صدقه أيضا قصد التعزير من الغارّ فيصدق الغرور من دون أن يقصد الغارّ التغرير، كما في صورة جهله أو سهوه أو نسيانه بكون فعله موجبا لتغرير الغير و تغريمه.

و بالجملة: فلم يعتبر في التغرير المضمن شي ء من القيود المتوهّمة سوى جهل المغرور، فلو علم المغرور كذب الغارّ في ادّعاء ملكيّة ما يدفع إليه لم يرجع إليه فيما يغرمه لعدم صدق الغرور، و سوى استناد الغرور عرفا إلى نفس الغارّ.

لا أقول: باعتبار إكراه المغرور على المغرور فيه على وجه يخرج عن اختياره عرفا حتّى يقال: بأنّ الإكراه موجب لضمان المكره- بالكسر- و مسقط لضمان المكره- بالفتح.

بل أقول: باعتبار استناد غرور المغرور إلى تسبيب الغارّ، كما في ضيافته على أكل ما ليس له، فإنّ أكل المغرور ذلك المال و إن كان باختيار الأكل لا بإكراهه إلّا أنّه مع ذلك يستند الغرور إلى الغارّ، بخلاف ما إذا آمنه من سلوك طريق مخوف أتلف ماله فإنّه لا يضمن، لعدم استناد غروره في سلوك ذلك الطريق المتلف إلى الغارّ، بل إنّما يستند إلى نفسه، و لهذا لو راجعت العرف و العقلاء رأيت توجّه المؤاخذة إلى نفس المغرور بمجرّد تأمينه الغارّ، لا إلى نفس الغارّ، كما في ضيافته على طعام الغير.

نعم، لو فرض تأمين المؤمن من سلوك الطريق المخوف على وجه يجوز الركون إليه عند العرف و العقلاء بحيث يعدّ الراكن إليه معذورا فيما يغرمه و يتلفه فيه لم نأب من استناد الغرور فيه إلى الغارّ و جواز رجوع المغرور إليه فيما غرمه و تلفه فيه.

ص: 121

فتلخّص ممّا ذكرنا: أنّه لا يعتبر في صدق الغرور ما زعمه الرياض (1) من الاجتماع مع الضرر، كما في تغرير الشخص بإنفاق ماله على الغير، بل و يصدق من دون الاجتماع مع الضرر، كما في تغريره بأكل مال نفسه، فإنّه يرجع على الغارّ في قيمته و إن لم يضر بأكله، كما يرجع إليه في بذله على الغير الّذي هو صورة الانضرار به. و لا ما زعمه الجواهر (2) من اعتبار المجان في إيجاب الغرور الضمان، بل يضمن الغارّ و إن لم يغر بوجه المجّانيّة بأن غرّ الشخص ببيع ما سوى عشرين من مال الناس بعشرة فإنّ له الرجوع في العشرة الزائدة إلى الغارّ إذا أغرمه المالك بعشرين.

نعم، إنّما يعتبر في التغرير المضمن جهل المغرور بصدق الغارّ و استناد غروره إلى الغارّ عرفا لا إلى سفاهة نفسه في التغرر بتغريره.

و قد اعتبر شيخنا العلّامة دام ظلّه علاوة على اعتبار الأمرين في تضمين الغارّ ما يغرمه المغرور استناد الغرور إلى جهل المغرور بالموضوع، كجهله بملكيّة الملك لغير الغارّ، لا إلى جهله بالحكم، كجهله بمضمنيّة المقبوض بالبيع الفاسد أو بفساد العقد بالفارسي مثلا، فلو غرّ الغارّ أحدا في بيع ماله عليه بالعقد الفاسد لأجل تغريمه المبيع و منافعه المستوفاة فلا رجوع للمغرور إليه فيما غرمه له. و كذا لا رجوع له إليه فيما غرمه للغير، كما إذا كان المبيع بالبيع الفاسد مستحقّا للغير، فالغرور المستند إلى جهل المغرور بالحكم لا يوجب الرجوع إلى الغارّ و إن اجتمع مع الجهل بالموضوع أيضا.

أمّا في صورة عدم اجتماعه معه فلاستناد الغرور إلى الجهل بالحكم الّذي لم يعذر فيه الجاهل و الغافل، سيّما في الأحكام الوضعيّة الّتي يستوي فيه الجاهل


1- رياض المسائل 8: 359.
2- جواهر الكلام 37: 183.

ص: 122

و العالم، و العامد و الساهي و الناسي.

و أمّا في صورة اجتماعه معه فلأنّ الغرامة لم تجئ من تغرير البائع في دعوى الملكيّة، و إنّما جاء من جهة فساد البيع، فلو فرضنا البائع صادقا في دعواه لم تزل الغرامة، غاية الأمر كون المغروم له هو البائع على تقدير الصدق، و المالك على تقدير كذبه، فحكمه حكم نفس الثمن في التزام المشتري به على تقديري صدق البائع و كذبه.

نعم، إذا كان الجهل بالحكم أيضا ناشئا عن تغرير البائع و كذبه على وجه يستند التغرير إليه عرفا و عند العقلاء، كما في صورة ما لو غرّه بدعوى صحّة البيع بالفارسي- عند من يصحّ تقليده- على وجه يعذر الركون إلى دعواه عند العرف و العقلاء صحّ الرجوع إلى الغارّ فيما يغرمه المغرور.

فتلخّص: أنّ غرور المغرور إمّا أن يستند إلى جهله بالموضوع، أو إلى جهله بالحكم، أو إلى جهله بكليهما، و تضمين الغارّ و رجوع المغرور إليه إنّما هو في الأوّل دون الأخيرين، لاستناد الغرور و التقصير عند العرف و العقلاء إلى تغرير الغارّ في الأوّل، و إلى تغرّر المغرور بتغرير الغارّ في الأخيرين، فإنّ من راجع العرف و العقل و الوجدان السليم رأى أنّ المعرض للتقصير و صحّة المؤاخذة هو الغارّ في الأوّل و المغرور في الأخيرين، كما لا يخفى.

بقي الكلام في إشكالات ناشئة عن ضمان كلّ من الأيدي المتعاقبة للمغصوب، و رجوع كلّ من تلك الأيدي فيما اغرم إلى ما بعده دون ما قبله، إلّا إذا كان غارّا من وجوه:

أحدها: من جهة تعدّد الضمانات في الأيدي المتعاقبة لمضمون واحد، و اشتغال ذمم عديدة لشي ء واحد لشخص واحد.

و ثانيها: من جهة الإشكال في وجه رجوع كلّ من تلك الأيدي فيما أغرمه

ص: 123

المالك إلى من بعده التالف، لا إلى من قبله، إلّا إذا كان غارّا له.

و ثالثها: من جهة الإشكال في وجه جواز رجوع المغروم إلى من بعده الغير التالف من الأيدي المتوسّطة بين الغاصبين، مع أنّ التلف إنّما حصل بيد غيره.

و حلّ ذلك كلّه أن يقال:

أمّا الإشكال الأوّل فيندفع بما دفعه الماتن (1) نقضا: بوجود الأشباه و النظائر له شرعا، كضمان المال على طريقة الجمهور (2)، حيث إنّه ضمّ ذمّة إلى ذمّة، و ضمان عهده العوضين لكلّ من البائع و المشتري عندنا كما في الإيضاح (3)، و ضمان الأعيان المضمونة على ما استقربه في التذكرة (4)، و ضمان الاثنين لواحد، و نظيره في العبادات الواجب الكفائيّ و التخييريّ.

و حلّا: بأنّ تعدّد الضمانات لمضمون واحد إنّما هو على وجه البدليّة، فالمالك إنّما يملك ما في ذمّة كلّ منهم على البدل، بمعنى: أنّه إذا استوفى أحدهما سقط الباقي لخروج الباقي عن كونها تداركا؛ لأنّ التدارك لا يتدارك .. إلخ.

فإن قلت: إنّ المالك إذا كان مالكا لما في ذمّة كلّ من الغاصبين على البدل فما وجه تسلّطه على الرجوع في أخذ المغصوب من جميعهم على وجه التوزيع و التقسيط عليهم بأن يأخذ قدره من بعضهم و قدره الآخر من بعضهم الأخر على وجه التساوي أو التخالف؟

قلت: إنّ تسلّط المالك على الرجوع في كلّ المغصوب إلى كلّ منهم على البدل لازمة التسلّط على الرجوع في بعض المغصوب إلى كلّ منهم على الاستقلال، لا مناف له، فإنّ التسلّط على الرجوع في كلّ الشي ء يتضمّن التسلّط


1- المكاسب: 148.
2- المغني لابن قدامة 5: 70.
3- لم نعثر عليه.
4- انظر تذكرة الفقهاء 2: 92.

ص: 124

على الرجوع في بعضه، كما لا يخفى.

و أمّا الإشكال الثاني: فيندفع أيضا، لكن لا بما نقل عن الجواهر: من أنّ ذمّة من تلف المغصوب بيده مشغولة للمالك بالبدل، و إن جاز له إلزام غيره باعتبار الغصب بأداء ما اشتغل ذمّته به، فيملك حينئذ من أدّى بأدائه ما للمالك في ذمّته بالمعاوضة القهريّة. و بذلك اتّضح الفرق بين من تلف المال بيده و بين غيره الّذي خطابه بالأداء شرعيّ لا ذمّي (1) .. إلخ، حتّى يرد عليه ما أورده الماتن (2):

من أنّ تملّك غير من تلف المال بيده؛ لما في ذمّة من تلف المال بيده بمجرّد دفع البدل لا يعلم له سبب اختياريّ و لا قهريّ.

مضافا إلى عدم الوجه للفرق المذكور، و إلى أنّ اللازم منه استقرار الإشكال الثالث: و هو عدم رجوع الغارم فيمن لحقه في اليد العاديّة إلى من تلف في يده، و إلى غير ذلك ممّا أورده الماتن عليه.

و لا بما ارتضاه الماتن (3) من أنّ مفاد قوله: «على اليد ما أخذت» هو وجوب تدارك المأخوذ، على أن يكون الأخذ ضامنا لأحد الشخصين على البدل من المالك و من سبقه في اليد، ليستقل ذمّته: إمّا بتدارك العين، و إمّا بتدارك ما تداركه حتّى يرد عليه ما أورده شيخنا العلّامة: من أنّه و إن اندفع به إشكال رجوع المغروم فيما غرمه إلى من تلف بيده، بل و الإشكال الآخر: و هو رجوعه إلى مطلق من بعده و لو كان غير من تلف بيده، إلّا أنّ استفادة تدارك المأخوذ من على اليد على أن يكون الأخذ ضامنا لأحد الشخصين على البدل من المالك و من سبقه، دون كونه ضامنا للمالك فقط على وجه لو تداركه السابق سقط تداركه عن اللاحق محلّ نظر إن لم يكن محلّ منع، إلّا أن يدّعي استفادته من عموم حذف


1- جواهر الكلام 37: 34.
2- المكاسب: 149.
3- المكاسب: 149.

ص: 125

المتعلّق من قوله: «حتى تؤدّي» على أنّ لازمة عدم تسلّط السابق على الرجوع إلى اللاحق قبل التدارك و لو طالبه المالك.

بل الدفع إنّما هو بما أفاده شيخنا العلّامة: من أنّ وجه رجوع المغروم إلى من بعده من الأيادي المتعاقبة هو كون اليد اللاحقة هي الموجبة لغرم السابقة و اضرارها بالغرامة، إذ لو لا اليد اللاحقة لم يغرم السابقة سوى ردّ العين المغصوبة، فغرامة الغاصب السابق للمغصوب منه إنّما جاء من قبل غصب اللاحق منه، إذ لو لم يغصب اللاحق من الغاصب السابق لم يغرم السابق منه سوى ردّ المغصوب شيئا.

و من وجاهة هذا التوجيه يتّجه وجه عدم رجوع اللاحق من الأيدي فيما يغرمه للمالك إلى سابقه ما لم يكن السابق غارّا له، و رجوع كلّ سابق فيما يغرمه إلى لاحقه مطلقا، سواء كان اللاحق ممّن تلف المغصوب في يده، أم ممّن لم يتلف، كالمتوسّط بين الغاصبين، فاستغنى بدفع الإشكال الثاني بهذا الوجه عن دفع الإشكال الثالث أيضا، فلا يخفى لطفه.

و لكن قد يشكل: باستلزامه أن يكون رجوع كلّ سابق فيما يغرمه إلى لاحقه، مستفادا من ضميمة قاعدة التسبيب، لا من مجرّد عموم قاعدة اليد، و الحال أنّه خلاف الظاهر من الأصحاب. و أيضا باستلزامه عدم تسلّط السابق على الرجوع إلى اللاحق قبل التدارك و لو طالبه المالك، و الحال أنّه خلاف الظاهر من الأصحاب. و أيضا باستلزامه اختصاص الرجوع إلى اللاحق بصورة غصب اللاحق من سابقه عدوانا دون صورة دفع السابق له إليه رضاء ببيع و نحوه؛ لاختصاص تسبيب اليد اللاحقة لغرم السابقة و اضرارها عرفا و عقلا بالصورة الأولى دون الثانية، و الحال أنّ للسابق الرجوع إلى لاحقه مطلقا، سواء كان غاصبا من السابق، أم آخذا بإذنه.

ص: 126

و يمكن دفع الأوّل: بمنع بطلان اللازم، و منع كونه خلاف ظاهر الأصحاب.

كما يمكن دفع الآخرين: بمنع الملازمة في أوّلهما.

بتقريب: أنّ تسلّط السابق على الرجوع إلى لاحقه لو طالبه المالك مع عدم غرمه شيئا، من جهة أنّ اللاحق و إن لم يتسبّب لغرم السابق بعد إلّا أنّه تسبّب لقصور يده عن أداء المغصوب و الخروج عن عهدته، فيتسلّط السابق عليه في ردّ المغصوب إليه ليتمكّن من أدائه، أو إلى مالكه ليخرج عن عهدته.

و منع الملازمة في آخرهما. بتقريب: أنّ تسبّب اليد اللاحقة لغرم السابقة لا يختصّ بصورة غصبها عن السابقة عدوانا كما توهّم، بل يتحقّق تسبّب اللاحق و صدق استناد الغرم و إضرار السابق إليه عرفا و عقلا بمجرّد أخذ المغصوب منه، سواء كان بعنوان الغصب و العدوان، أم بعنوان الاذن و الأمان، إلّا إذا كان الأخذ جاهلا بغصبيّة المأخوذ و مغرورا في أخذه فإنّه لا رجوع للغارّ فيما يغرمه للمالك إلى المغرور، بل الرجوع للمغرور فيما يغرمه إلى الغارّ.

قوله: «نظير ذلك ضمان المال .. إلخ».

[أقول:] أمّا ضمان المال من الديون فليس له نظر إلّا ضمان الدين على طريقة العامّة (1)، حيث إنّه عندهم مأخوذ من الضمّ، و هو ضمّ ذمّة إلى ذمّة، و النون زائدة. بخلافه على طريقة الخاصّة، فإنّه انتقال ذمّة إلى ذمّة، و النون أصليّة.

و أمّا من الأعيان فنظره عندنا ضمان الأعيان المضمونة، و ضمان عهدة العوضين لكلّ من المتعاوضين ثالث فإنّه ضمّ ذمّة إلى ذمّة.

قوله: «لا يكاد يفهم الفرق .. إلخ».

[أقول:] و فيه: وضوح الفرق بين خطاب الأداء كخطاب المولى بنفقة عبده،


1- تقدّم ذكر مصدره في هامش (2) ص: 123.

ص: 127

و بين خطابه الذمّي بنفقة زوجته.

[مسألة لو باع الفضوليّ مال غيره مع مال نفسه]

قوله: «لو باع الفضوليّ مال غيره مع مال نفسه .. إلخ».

[أقول:] يعني: لا إشكال في صحّة بيع ما يملك و ما لا يملك- بالكسر- مطلقا، لا أنّه مورد نصّ، كما لا إشكال في صحّة بيع ما يملك و ما لا يملك- بالفتح- و إن لم يكن مورد نصّ، إنّما الإشكال في أمور أخر:

منها: الإشكال في تطبيق صحّته على القواعد عند عدم إجازة الغير فيما له من المبيع، و رفع هذا الإشكال و بقاؤه مبنيّ على تشخيص كون صحّة العقد المتبعّض فيه الصفقة هل هو مطابق للقواعد ليلتزم بصحّة التبعّض في جميع العقود و الإيقاعات و النذور و العبادات و الأحكام، كما لو جمع في الطلاق بين ما يصحّ طلاقها و ما لا يصحّ، و في النذور بين ما يصحّ النذر به و ما لا يصحّ، و في الزكاة بين ما يصحّ و ما لا يصحّ، و في التذكية بين ما يقبل التذكية و ما لا يقبل، و في التغسيل و التكفين بين ما يصحّ و ما لا يصحّ، أم مخالف للقواعد ليقتصر في صحّته على مورد اليقين؟ وجهان، بل قولان. و قد يعبّر عن ذلك بأنّ الأسباب الشرعيّة كالعقد و الإيقاع و نحوهما هل هي كالأسباب العقليّة في تأثيرها لا محالة فيما يتأثّر و عدم تأثيرها فيما لا يتأثّر من جهة عدم قابليّة المحلّ و قصور القوابل دون عدم تماميّة السبب و قصور السببيّة، أم ليست كالأسباب العقليّة في ذلك؟ و قد يعبّر أيضا بأنّ العقد الواحد هل ينحل إلى عقود متعدّدة باعتبار قابليّة المحلّ و عدمه، أم لا؟ إلّا أنّ ظاهر هذا التعبير خاصّ بالعقود دون غيرها.

و بالجملة: ففي المسألة وجهان، بل قولان، أقواهما الأوّل، وفاقا للمشهور، و أخذا بعموم أَوْفُوا بِالْعُقُودِ (1)، و أصالة عدم التقييد و التخصيص، و بفحوى الاتّفاق ظاهرا في الطلاق على صحّة الجمع بين ما يصحّ طلاقها و ما لا


1- المائدة: 1.

ص: 128

يصحّ، و في التذكية على صحّة الجمع بين ما يصحّ تذكيته و ما لا يصحّ، و في الزكاة على صحّة الجمع بين ما يقع زكاة و ما لا يقع، و في البيع على ما يقبل التملّك و ما لا يقبل.

و أمّا ما يقال: من أنّ الأسباب الشرعيّة معرّفات و ليست كالأسباب العقليّة، فليس المراد نفي استقلال كلّ منهما في التسبيب و التأثير و منع تماميّة تسبيب كلّ منها برأسه، بل المراد نفي كونها كالأسباب العقليّة في خصوص امتناع تواردها على محلّ واحد، فإنّها و إن كانت أسبابا تامّة مستقلّة في التسبيب و التأثّر إلّا أنّها أسباب لمعرفة المسبّب لا لنفس المسبّب، فلا يمتنع تواردها على محلّ واحد، كما لا يمتنع توارد المعرّفات العديدة على معرّف واحد.

ثمّ إنّه يتفرّع على تطبيق تبعّض الصفقة على القواعد جواز تبعيض الصفقة أيضا، أعني: جواز تبعيض من له الإجازة في بعض ماله الإجازة فيه دون بعضه الآخر فيجوز التبعيض في الصفقة، كما يجوز التبعّض، بل ربما قيل بجواز التبعيض في الإقالة بأن يقبل بعض الصفقة دون بعضها. بل قد نقل شيخنا العلّامة عن شيخه صاحب الجواهر جزمه في المبحث بصحّة إقالة الإقالة بلفظ الإقالة إلى ما شاء من ترامي الإقالات، تمسّكا بعموم قوله: «من أقال مؤمنا أقال اللّٰه عثرته» (1)، فجوّز إقالة فسخ العقد و الرجوع إلى انعقاده بعد الفسخ بمجرّد الإقالة و التواطؤ من دون إعادة صيغة العقد. و كذا إقالة هذه الإقالة و الرجوع إلى انحلاله بعد الانعقاد بمجرّد الإقالة أيضا. و هكذا إلى ما شاء من الترامي.

و لكن يضعّف بأنّه- مضافا إلى انصراف إطلاق الإقالة إلى إقالة نفس العقد دون إقالة فسخه بمجرّد الإقالة من دون إعادة الصيغة- ثبوت الشكّ في قابليّة المحلّ بعد الفسخ للانعقاد بمجرّد إقالة الفسخ من دون إعادة صيغة العقد، و عموم


1- الوسائل 12: 287 باب (3) من أبواب آداب التجارة ح 4.

ص: 129

العامّ و إطلاق المطلق لا يحرزان القابليّة. و هذا معنى ما قيل: من أنّ عموم العامّ و إن بلغ في العموم ما بلغ لكنّه لا يشخّص الموضوع، فعموم الإقالة و إن اقتضى صحّة كلّ إقالة إلّا أنّه ساكت عن موضوع ما يتحقّق به الإقالة هل هو مجرّد لفظ الإقالة و التواطؤ على الرجوع عمّا صدر و وقع مطلقا سواء كان الواقع عقدا أو فسخ عقد أو فسخ فسخه و هكذا، أم هو في خصوص عقد البيع ليعتبر في إقالة فسخه إعادة صيغة العقد دون الاكتفاء بمجرّد لفظ الإقالة و التواطؤ على الرجوع؟

و كيف كان فقد تبيّن انطباق صحّة تبعّض الصفقة على القواعد.

و أمّا ما يمكن الاستناد إليه للمنع فأمران:

أحدهما: منافاة تطبيق صحّته على القواعد لقاعدة «أنّ العقود تابعة للقصود»، فإنّ ما وقع من بعض الصفقة لم يقصد و ما قصد من مجموع الصفقة لم يقع، فيقتضي بطلان تبعّض الصفقة.

و يندفع نقضا: بصحّة ما يشترى بوصف الصحّة فيظهر فاسدا، و بشرط سائغ فلا يسلم لمشترطه، و بصحّة ما تقدّم من بيع الغاصب لنفسه، فإجازة المالك لنفسه لا للغاصب.

و دعوى الفرق بين تخلّف وصف المطلق و جزئه في الارتباط بالمطلق مدفوع بأنّ الوصف أشدّ ارتباطا بالمطلق من الجزء. ألا ترى أنّ الفاسد في ما يشتريه بشرط غير مقصود للمشتري بوجه من الوجوه، بخلاف بعض الصحيح فإنّه مقصود لا محالة و لو ضمنا فإذا لم يقدح تخلّف وصف المعقود عليه مع شدّة ارتباطه به على وجه هو عينه، فتخلّف الجزء أولى منه في عدم القدح لا محالة.

و حلّا: بالمنع من منافاته لتبعيّة العقود للقصود.

أمّا أوّلا: فلأنّ بعض المقصود أيضا مقصود لا محالة و لو ضمنا، فإنّ قصد الهيئة الاجتماعيّة- و هو تمام الصفقة- بوصف التمام من الدواعي الخارجيّة

ص: 130

الموجبة لتعدّد المطلوب و المقصود غالبا، لا من القيود الداخلة الموجب انتفائها انتفاء المقيّد و هو قصد البعض.

و بعبارة اخرى: أنّ المقصود غالبا في شراء الصفقة هو المجموع في حال الاجتماع، لا بقيد الاجتماع على وجه ينتفي قصد المقيّد بانتفاء القيد.

و أمّا ثانيا: فلأنّا و إن فرضنا هيئة اجتماع الصفقة مأخوذ في قصد المتعاقدين على وجه التقييد، بل و لو فرضنا التصريح باشتراط التقييد إلّا أنّ تخلّفها أيضا كتخلّف سائر الشروط المأخوذة في العقد غير قادح في صحّته، نظرا إلى أنّ قصد المقيّد و المشروط و إن تقيّد بحيثيّة كونه مقيّدا و مشروطا و بوصف كونه مقيّدا و مشروطا، إلّا أنّه مع ذلك لا ينفكّ عن قصد الموصوف المجرّد عن الوصف لا محالة و لو بقصد تبعيّ مقدّميّ، و به الكفاية في صحّة العقد بالنسبة إليه، فإنّ تبعيّة العقود للقصود إنّما ينفي صحّة الغير المقصود رأسا دون الغير المقصود أصلا و لو قصد تبعا. ألا ترى قولهم: يعتبر في العقد القصد فيخرج الهازل و الساهي دون تعرّضهم لإخراج غيرهما به.

الثاني من وجهي المنع: أنّ الجهل بتبعّض الصفقة عند العقد يوجب الجهل بمقدار المبيع و مقدار حصّته من الثمن، فيبطل للجهل و الغرر.

و يندفع أيضا أوّلا: بمنع الجهل بمقدار المثمن و مقدار حصّته من الثمن، فإنّ الجهل بهما بدويّ، و تعيين تمام المثمن و ما في إزاء تمامه من الثمن تعيين إجمالي لكلّ من أبعاض المثمن و لما في إزاء كلّ من أبعاضه من ذلك الثمن المعيّن. و بهذا التعيين الإجماليّ المنحلّ إلى التفصيل بعد التأمّل الكفاية في الصحّة.

و ثانيا: سلّمنا الجهل، لكنّ الموجب لبطلان العقد هو الجهل من جميع الجهات، و أمّا الجهل من بعض الجهات فموجب لجبران ضرره بالخيار لا البطلان.

ص: 131

ثمّ إنّ هذا كلّه في رفع إشكال انطباق صحّة تبعّض الصفقة على القواعد.

و أمّا الخيار بعد التبعّض فلا إشكال أيضا في ثبوته للمشتري إذا جهل حين العقد بتبعّضه، و لا في ثبوته للبائع إذا جهله كذلك، لأنّ ضرر التبعيض نسبته إلى الثمن الّذي هو حقّ البائع و المثمن الّذي هو حقّ المشتري على حدّ سواء، فينجبر بثبوت الخيار لكلّ منهما إذا جهلاه معا، و لأحدهما إذا جهله خاصّة. فلا وجه للفرق بثبوت الخيار للمشتري دون البائع بتوهّم عدم تضرّر البائع في تبعّض حقّه، فالجازم بعدم ثبوت الخيار للبائع- كما عن الغنية (1)- ينبغي حمل إطلاقه على ما هو الغالب من علم البائع، كما ينبغي حمل إطلاق ما عن الشيخ في الخلاف (2) من تقوية ثبوت الخيار للبائع على ما ذكر من صورة الجهل.

و أمّا الإشكال الآخر في المسألة ففي طريق معرفة حصّة كلّ منهما من الثمن في غير المثليّ حيث اختلف فيه ظاهر كلام الأصحاب على وجهين، و المتصوّر فيه عقلا وجوه:

أحدها: تقويم الجزء الباقي من المثمن بانفراده و أخذه بتلك القيمة من الثمن.

و الثاني: تقويم الجزء المرتفع من المثمن بانفراده و نقص قيمته من الثمن، و هما متعاكسان؛ لأنّ ما يستحقه البائع من الثمن في إزاء الجزء الباقي من المثمن عند المشتري هو قيمة الجزء الباقي بانفراده على الأوّل و بقيّة قيمة المجموع بعد إسقاط قيمة الجزء المرتفع منها الّتي قد تحيط بها، فلا تبقى بقيّة على الثاني، و التفاوت المتّفق في إزاء وصف الاجتماع من الزيادة على قيمتي الانفراد أو


1- غنية النزوع: 230.
2- لم نعثر عليه في الخلاف بل الموجود إنكاره، راجع الخلاف 3: 146 مسألة 235، نعم قوّاه في المبسوط كما هو المحكي في الجواهر، راجع المبسوط 2: 145، جواهر الكلام 22: 316.

ص: 132

النقصان عنه واقع في طرف البائع على الأوّل و في طرف المشتري على الثاني.

الثالث: تقويم كلّ من الجزءين منفردا ثمّ ملاحظة التفاوت بينهما و الأخذ من الثمن بنسبة التفاوت لكلّ منهما لا بنفس التفاوت، فإنّه قد يحيط بالثمن فيلزم اجتماع محذور اجتماع العوض و المعوض. و الفرق بينه و بين الأوّلين أنّ التفاوت المتّفق في إزاء وصف الاجتماع من الزيادة أو النقصان موزّع على كلّ من الجزءين بنسبته على الثالث، بخلافه على الأوّلين فإنّه واقع بأجمعه في طرف واحد.

و من هنا يعلم تعيين الطريق الثالث في تشخيص الحصص، وفاقا لتصريح المتن (1) و الإرشاد (2)، دون الأوّلين و إن وافقهما ظهور تعبير الشرائع (3) و القواعد (4) و اللمعة (5) بأنّهما يقوّمان جميعا، ثم يقوّم أحدهما، ثم تنسب قيمته.

بتقريب ما ذكره المتن (6) في الاستظهار فإنّ في طريق تشخيص الحصص إذا لم يرد نصّ خاصّ كان مرجع تشخيصها إلى طريق العدل و الإنصاف، و ما يقتضيه العقل و يساعده الاعتبار من التحرّز عن الإجحاف، و معلوم أنّ صرف التفاوت المتّفق في إزاء وصف الاجتماع المفروض انتفائه إلى طرف واحد من طرفي البائع و المشتري- كما يقتضيه الأوّلان- إجحاف بأحد المتبائعين لا محالة، بواسطة استلزامه اجتماع العوض و المعوّض بأجمعه و ان ندرا و بأكثره و قد كثر في طرف واحد، و هو خلاف ما يقتضيه العدل و الإنصاف، فإنّ هذا الإجحاف و إن أمكن جبرانه بالخيار إلّا أنّه مع ذلك لا يخلو من نوع إجحاف، خصوصا فيما


1- المكاسب: 149.
2- إرشاد الأذهان 1: 360.
3- شرائع الإسلام 2: 14.
4- قواعد الأحكام 1: 125.
5- اللمعة الدمشقيّة: 62.
6- المكاسب: 149.

ص: 133

ليس لهما خيار كصورة علمهما بحال المبيع دون الجهل حتّى يثبت لهما الخيار.

هذا، مع أنّ إلزام المشتري بذلك الإجحاف دون البائع كالعكس ترجيح بلا مرجّح، و هو قبيح. اللّٰهمّ إلّا أن يمنع ذلك بترجيح إلزام المشتري، من جهة أنّ إجحافه في صورة جهله منجبر بالخيار، و في صورة علمه ناشئ عن الإقدام، و هو غير تمام، كما لا يخفى على الأعلام.

فتلخّص ممّا ذكرنا: أنّ الطريق في تشخيص الحصص في تبعّض الصفقة المطابق لقاعدة العدل و الإنصاف السليم عن الظلم و الإجحاف هو تقسيط الثمن المسمّى على مجموع الحصص، على وجه يوزّع ما بإزاء هيئة الاجتماع من تفاوت زيادة القيمة و نقصانه على كلّ من الحصص بنسبته، لئلّا يلزم ظلم و إجحاف في طرف دون طرف، و طريق معرفة ذلك على وجه يطّرد في جميع الموارد منحصر فيما ذكرنا من تقويم كلّ من الحصّتين منفردا، ثمّ ملاحظة نسبة كلّ من القيمتين إلى مجموع القيمتين و الأخذ بتلك النسبة من الثمن لكلّ واحد من الحصّتين.

ثمّ إنّه لم يظهر من المتن هنا دليل لتعيين هذا الطريق المختار في تشخيص الحصص سوى ما يوهم المصادرة من قوله: و الحاصل أنّ البيع إنّما يبطل في ملك الغير من الثمن يستحقّها الغير مع الإجازة، و يصحّ في نصيب المالك بحصّة، كأن يأخذها مع إجازة مالك الجزء الآخر (1)، يعني: كما أنّ الثمن المسمّى في صورة إجازة الغير يوزع على كلّ من المالكين بنسبة ملكه على السويّة من دون إجحاف، كذلك يوزّع الثمن المسمّى في صورة ردّ الغير على كلّ من الملكين بنسبته على السوية من دون إجحاف فيبطل البيع في ملك الغير بحصّته من الثمن الّتي كان يستحقّها مع الإجازة، و يصحّ في نصيب المالك بحصّة، كأن يأخذها مع


1- المكاسب: 149.

ص: 134

إجازة مالك الجزء الآخر.

و هو و إن كان توجيه وجيه و تنظير حسن إلّا أنّك خبير بأنّه كالمصادرة في إثبات المطلوب، لإمكان منع الخصم من الملازمة في الحكم بين فرضي الإجازة و الردّ و إن كان ضعيفا، بل و إمكان تسليم الحكم في فرض الردّ دون الإجازة و إن كان أضعف. هذا كلّه فيما يقتضيه العقل و الإنصاف في تشخيص معرفة الحصص.

و أمّا ما يقتضيه الأصل و البراءة عند فرض الشكّ فهو عدم استحقاق البائع الزائد على قيمة ما يملكه منفردا، و عدم انتقال الزائد من المشتري إليه، إلّا على القول بعدم جريان أصل البراءة في حقوق الناس، و اختصاص موردها بحقوق اللّٰه تعالى، كما عن صاحب الكفاية.

و هو مردود نقضا: بكلّ ما إذا شكّ في اشتغال ذمّته بحقّ الغير، سيّما في الشكوك البدويّة.

و حلّا: بعموم «أدلّة البراءة» و إطلاقها، و أصالة عدم التخصيص و التقييد فيها.

[مسألة لو باع من له نصف الدار نصف تلك الدار]

قال: «مسألة: لو باع من له نصف الدار .. إلخ».

أقول: أمّا ذكر النصف فمن باب المثل، فإنّ الخلاف عامّ لكلّ من الكسور التسعة، و هي: النصف و الثلث و الربع و الخمس و السدس و السبع و الثمن و التسع و العشر.

و أمّا المراد من النصف: فهو النصف المشاع على ما هو صريح بعض عباراته الآتية و إن كان الخلاف شامل لغير المشاع، فمحلّ النزاع فيما لو كان البائع للنصف مثلا مالكا للنصف المشاع و إن كان الحكم و الخلاف جار فيما كان مالكا للنصف المعين حرفا بحرف.

و أمّا شقوق المسألة فهي الثلاثة المذكورة في المتن بزيادة شقّ رابع، و هو

ص: 135

ما إذا علم أنّه قصد أحد النصفين لكن خفي تعيينه على نفسهما أو الثالث.

و أمّا محلّ النزاع ففي الشقّ الثالث و إن لحق به الرابع في الحكم و الوجه؛ لعدم الفرق بينهما إلّا في كون الأوّل من قبيل الشبهة الموضوعيّة و نزاع في مفهوم النصف، و الثاني من قبيل الشبهة الحكميّة و نزاع في تعيين المقصود منه.

و أمّا وجوه المسألة فيجمعها الحكم ببطلان أصل البيع للجهل و الغرر أو صحّته، و الحمل على نصفه المملوك له لغلبة التصرّف و انصرافه إلى التصرّف في مال نفسه لا مال غيره، أو على النصف المشاع في النصفين لظهور النصف في الإشاعة، أو على أحد النصفين و الحقّين على الوجه الكلّي، ليتوقّف تعيّنه على تعيين البائع إيّاه في نصف نفسه. أو نصف شريكه فيتوقّف على إجازته. و لكن لا وجه له، كما أشار إليه المصنّف بقوله: «و أمّا ملاحظة حقّ المالكين و إرادة الإشاعة في الكلّ من حيث إنّه مجموعهما فغير معلومة، بل معلومة العدم» (1)، بخلاف الوجوه الثلاثة الأول فإنّ لكلّ منها وجه.

و أمّا أوسط تلك الوجوه الثلاثة فهو الوسط، وفاقا للمتن و شيخنا العلّامة، قياسا له على بيع الكلّي الدائر مصداقه بين مال البائع و مال موكله، أو المولى عليه في الانصراف إلى خصوص مال نفسه دون مال موكله و لا المولى عليه، إلّا أن يدّعي الفرق بعدم معارضة ظهور الكلّي مع غلبة تصرّف المتصرّف في مال نفسه، بخلاف ظهور النصف في الإشاعة فإنّه معارض مع تلك الغلبة.

و بالجملة: ففيما سلمت الغلبة عن المعارض- كما في صورة بيع الكلّي أو المشترك اللفظي الدائر مصداقه بين مال البائع و غيره- فلا إشكال في حمل المبيع على مال البائع، كما لا إشكال في الحكم بالعكس في صورة العكس، أعني:

صورة سلامة ظهور النصف في الإشاعة عن معارضة غلبة تصرّف المتصرّف في


1- المكاسب: 150.

ص: 136

مال نفسه، كما في جميع الأقارير و الإخبارات و الشهادات المتعلّقة بالنصف أو سائر الكسور التسعة، لعدم كون الإقرار و الإخبار عن الشي ء تصرّفا فيه حتّى يلحق بالغالب، بخلاف الإنشاء المتعلّق به فإنّه تصرّف فيه لا محالة.

إنّما الإشكال في صورة المعارضة كما في سائر صور الإنشاء الّتي منها ما نحن فيه، فإنّه لا ترجيح لتقديم غلبة تصرّف المتصرّف في مال نفسه على ظهور النصف في الإشاعة، بل الترجيح مع العكس، نظرا إلى أنّ ظهور المقيّد- بالكسر- و هو النصف وارد على ظهور المقيّد- بالفتح- و هو البيع، ثمّ الوجه في تقديم ظهور القيد على ظهور المطلق المقيّد به هو الوجه في تقديم ظهور ذيل الكلام على ظهور صدره، فإنّ نسبة القيد إلى المقيّد به و الذيل إلى صدره نظير نسبة العلّة إلى معلولها في قولك: «لا تأكل الرّمان لأنّه حامض»، فكما يقدّم خصوص العلّة على عموم معلولها كذلك يقدّم ظهور ما هو بمنزلة العلّة على ظهور ما هو بمنزلة المعلول.

قوله: «كان الحكم كما في القيميّ من ملاحظة قيمتي الحصّتين و تقسيط الثمن على المجموع. فافهم».

[أقول:] إشارة إلى أنّ الفرق في قسمي المثلي بين الجزء المشاع فيقسّط الثمن فيه على المجموع من دون ملاحظة النسبة، و بين الجزء المقسوم فيلاحظ النسبة، و تقسيط الثمن على المجموع ممنوع، لأنّ اختلاف الجزء المقسوم في القيمة أحيانا من حيث وصف الاجتماع و الافتراق كما يقتضي ملاحظة النسبة ثمّ تقسّم الثمن على المجموع ليحصل التعديل في القيمة، كذلك الجزء المشاع قد يختلف أحيانا من تلك الحيثيّة المقتضية ملاحظة النسبة لتحصيل التعديل.

أو إشارة إلى أنّه إن قيل: إنّ المثليّ الناقص مضمون بمثله كما لو نقص المبيع المثليّ لجزء فيضمن تكميله. قلنا: إنّ المبيع المضمون نقصه بالتكميل إنّما

ص: 137

هو المقدار الكلّيّ لا الكلّيّ الشخصيّ، كما فيما نحن فيه.

قوله: «الأقوى [هو] الأوّل».

[أقول:] أي: الأوّل من مبنى احتماليّ أصل المسألة، أعني: الأوّل من تعارض ظاهر النصف في الحصّة المشاعة في مجموع النصفين مع ظهور انصرافه في مثل المقام من مقامات التصرّف إلى نصفه المختصّ، لا الأوّل من احتماليّ أصل المسألة، أعني: حمل النصف على النصف المملوك له أو على المشاع، و لا الأوّل من نفس احتمالي المسألة الثانية، أعني: كون الوكيل و الوليّ كالأجنبي أم لا، و لا الأوّل من مبنى احتماليها، أعني: كون المعارض لظهور النصف في الإشاعة هو انصراف لفظ المبيع إلى مال البائع أو ظهور التمليك في الأصالة كما يوهمه الأقربيّة، و ذلك لعدم انطباق تعليله القوّة بورود ظهور المقيّد على ظهور المطلق إلّا على الأوّل من مبنى احتمالي أصل المسألة، لا على الأوّل من احتمالي أصل المسألة، و لا على الأوّل من غيره مطلقا، كما لا يخفى على المتأمّل.

قوله: «للحرج أو السيرة».

[أقول:] فيه: منع الحرج في جعل الحاصل من المشاع المشترك لهما و التاوي عليهما. و أمّا السيرة على خلافه لو سلمت فإنّما هو سيرة الجهّال و أهل الضلال، كسيرتهم على توريث تركة الظالم قبل أداء مظالمه.

قوله: «إلّا أنّه صرّح جماعة ممّن تأخّر عنهم بمخالفته للقاعدة».

أقول: يمكن تطبيق النصوص الواردة في الإقرار بالنسب المشترك و دين المورث على القاعدة بحمل الإقرار على صورة إقرار المقرّ باشتراك المقرّ له معه فيما أخذه من المنكر على غير وجه الإشاعة بأن كان المأخوذ بدلا عن الحقّ المشترك مقاصّة لا من عينه المشاعة، أو كان المقرّ له قانعا بما دون النصيفة عن

ص: 138

المقرّ، أو كان الشارع قانعا به عنه لمصلحة تسهيل الإقرار بالضرر على المقرّ و رفع تعسّر التنصيف عليه و شحّ النفس المولعة بالإنكار.

قوله: «و يدلّ عليه [إطلاق] مكاتبة الصفّار المتقدّمة».

أقول: أمّا المكاتبة فهي قوله عليه السّلام: «لا يجوز بيع ما ليس يملك» (1) و قد وجب الشراء فيما يملك. و أمّا وجه إطلاقها فهو شمول ما لا يملك- بكسر اللام- لما لا يملك من جهة أنّه غير قابل، و لما لا يملك من جهة أنّه غير حاصل.

و دعوى انصراف إطلاقها إلى الثاني ممنوع و إن اختصّ به مورد السؤال.

قوله: «و لعلّه أراد بنصّ القرآن آية الركون إلى الظالم».

أقول: و لعلّه أراد به «آية النبإ» (2) أو آية لٰا يَنٰالُ عَهْدِي الظّٰالِمِينَ (3)، و لكن في دلالة كلّ منها نظر.

أمّا وجه النظر في الأولى: فهو انصراف الركون إلى الميل إلى الظلمة في ظلمهم دون توليتهم على غير الظلم، أو انصراف الظلم إلى الظلم بالغير، لا الظلم بالنفس.

و أمّا وجه النظر في الثانية: فهو ظهورها في عدم الاعتناء بقول الفاسق، لا عدم الاعتناء بشأن الفاسق مطلقا لا بقوله و لا بفعله.

و أمّا وجه النظر في الثالثة: فلأنّ المراد من العهد على ما في الآثار هو عهد الإمامة دون التولية.

[مسألة من جملة أولياء التصرّف في مال من لا يستقلّ بالتصرّف في ماله الحاكم]
اشارة

قال: «مسألة: من جملة أولياء التصرّف في مال من لا يستقلّ بالتصرّف في ماله الحاكم .. إلخ».

أقول: الكلام في كيفيّة ولاية الأولياء و كميّة منصب ذوي المناصب و مقدار


1- الوسائل 12: 252 باب «2» من أبواب عقد البيع و شروطه ح 1.
2- الحجرات: 6.
3- البقرة: 124.

ص: 139

سلطنتهم و ولايتهم من حيث الإطلاق و التقيّد و العموم و الخصوص و الكلّية و الجزئيّة، أعني: ولاية الربوبيّة على المربوبين، و الرسالة على المرسول إليهم، و الإمامة على المأمومين، و حكومة الحاكم على العوام، و عدول المؤمنين على مال الميّت و الأيتام، و الأبوّة على الأبناء، و الوصاية على الموصى له، و المولويّة على المماليك من العبيد و الإماء، و الزوجيّة على الزوجة، و الوكالة على الموكّل.

أمّا كيفيّة ولاية الربّ على المربوبين، و كميّة قدرته على المقدورين، و مقدار سلطنته على خلقه، و شمول قدرته على بلاده، فيكفي في عموم حكومته التامّة و إطلاق ولايته و سلطنته العامّة بالذات و الاستقلال وضوح كلّ من الأدلّة الأربع على أنّه عَلىٰ كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ (1) و أنّه «يسأل عمّا يفعل و لا يسأل عما يفعل»، فقدرته بالأشياء قدرة عامّة ذاتية بالأصالة بجميع الأشياء من دون تخصيص و لا تقييد أصلا و أبدا. و أمّا عدم قدرته على خلق مثله أو على اجتماع الضدّين فهو من قبيل التخصّص لا التخصيص في قدرته؛ لأنّه من قصور قابليّة المحلّ لا قصور العلّة الفاعليّة، فإنّ كلّ عدم مستند إلى عدم قابليّة المحلّ للانفعال لا يخصّص عموم قدرة الفاعل على الفعل، و عدم قابليّة المحلّ للتأثّر لا يقيّد شمول قدرة المؤثّر على التأثير.

و أمّا منصب الرسول فله مرجعيّة الأحكام، و الحكومة بين الخصام، و ولاية التصرّف في الأموال و نفوس الأنام، بنفسه أو بإذنه الخاصّ أو العامّ، فإنّ مقتضى الأصل و إن كان عدم ثبوت شي ء من الوجوه المذكورة لكنّه خرجنا عن هذا الأصل في خصوص النبي صلّى اللّٰه عليه و آله بكلّ من الأدلّة الأربع و في خصوص سائر الأئمّة بها أيضا. مضافا إلى عدم القول بالفصل بين الخاصّة بينهما، حسب ما أشار في المتن إلى تفصيل الأدلّة الأربع إلى

قوله: «و المقصود من جميع ذلك دفع ما


1- البقرة: 20.

ص: 140

يتوهّم .. إلخ» (1).

أقول: وجه التوهّم زعم المتوهّم أنّ قوله تعالى النَّبِيُّ أَوْلىٰ بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ (2) معناه أنّه أحقّ بهم من أنفسهم في الاتّباع؛ لأنّه لا يأمر إلّا عن وحي و مصلحة من المصالح، بخلاف النفس فإنّه كثيرا ما تأمر بالقبيح و المفاسد.

و وجه دفعه- مضافا إلى عموم الآيات و الأخبار، و إلى ظهور اقتران طاعتهم بطاعة اللّٰه في قوله تعالى أَطِيعُوا اللّٰهَ وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ وَ أُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ (3) و قوله عليه السّلام: «إنّ أدنى ما يكون به العبد مؤمنا أن يعرف اللّٰه تبارك و تعالى إيّاه فيقرّ له بالطاعة، و يعرّفه نبيّه صلّى اللّٰه عليه و آله فيقرّ له بالطاعة، و يعرّفه إمامه و حجّته في أرضه و شاهده على خلقه فيقرّ له بالطاعة» (4)- تفسير الآية في الأخبار الخاصّة بأنّها نزلت في الإمارة، أي: أحقّ بهم من أنفسهم حتّى لو احتاج إلى مملوك لأحد محتاج إليه جاز له أخذه.

و في كتاب بصائر الدرجات للشيخ الجليل الملقّب بالصفّار من أصحاب العسكري عليهم السّلام باب مشتمل على الأخبار المستفيضة، بل المتواترة الدالّة على أنّ «ما فوّضه اللّٰه تعالى إلى النبيّ صلّى اللّٰه عليه و آله» بقوله أَطِيعُوا اللّٰهَ وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ و بقوله مٰا آتٰاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَ مٰا نَهٰاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا (5) فوّضه النبيّ صلّى اللّٰه عليه و آله إلى الأئمّة من أوصيائه عليهم السّلام (6) و فيه أيضا باب مشتمل على الأخبار المستفيضة الدالّة على أنّه «ما من إمام يمضي إلّا و اوتي من بعده من الأئمّة كلّ ما اوتي


1- المكاسب: 153.
2- الأحزاب: 6.
3- النساء: 59.
4- انظر معاني الأخبار: 393 ح 41.
5- بصائر الدرجات: 378.
6- بصائر الدرجات: 383.

ص: 141

و بزيادة خمسة أجزاء» (1).

و بالجملة: إذا لم يثبت وجوب طاعتهم في الاقتراحيّات و الأوامر العرفيّة لم يبق لوجوب الإقرار بطاعتهم و افتراض طاعتهم علينا و تفويض اللّٰه تعالى الأمر إليهم معنى و شأنا فوق شأن نقلة الحديث و نقلة الفتاوى عن المجتهدين منّا.

و من البيّن أنّ سياق الآيات و الأخبار الدالّة على وجوب طاعتهم و عموم خلافتهم و اقتران طاعتهم بطاعته إنّما يعطى فوق ذلك المعنى، و آب عن الاقتصار على هذا المعنى جدّا؛ لأنّ هذا المعنى ليس شأنا من الشأن، بل هو من شئون نقلة الفتاوى، و نظير شأن حملة طومار من السلطان إلى رعيّته و ليس من معنى الخلافة عن السلطان، و بمنزلة السلطان في افتراض طاعته و وجوب إطاعته.

و هل ترى من نفسك حسنا و وجها لتسمية الحامل أو الناقل طومار السلطان إلى أحد خليفة ذلك السلطان و افتراض طاعته و وجوب إطاعته سوى الاستهجان البعيد عن الأذهان.

قوله: «و بين موارد الوجهين عموم من وجه».

[أقول:] يجتمعان في تصرّف مال اليتيم حيث يستقلّ الحاكم به و تصرّف غيره مشروط بإذنه، و يفترق الحاكم في الحدود و غير الحاكم في تصرّف مال السفيه و المحجور عليه بإذنه.

قوله: «الحقّ هنا أعظم بمراتب. فتأمّل».

[أقول:] إشارة إلى احتمال منع الأولويّة باحتمال كون وجوب طاعة الأب من باب المصلحة التعبّديّة لا الحقوق الماليّة، كوجوب طاعة الأمّ على الابن، و الزوج على الزوجة، مع عدم الولاية الماليّة لهما عليه شرعا. أو إلى رفع هذا الاحتمال بدليل السياق و اقتران شكرهم بشكر اللّٰه، و طاعتهم بطاعة اللّٰه،


1- بصائر الدرجات: 423.

ص: 142

و نصوص «أنّهم أوّل ما خلق اللّٰه، و من نورهم فتق و اشتقّ خلق العلى و ما تحت الثرى» (1)، إلى غير ذلك ممّا لا يخفى من عمومات أدلّة رئاستهم الضابط الكلّي كمّا و كيفا إلّا ما خرج من الخصائص تخصيصا أو تخصّصا.

قوله: «مثل: أنّ العلماء ورثة الأنبياء .. إلخ» (2).

أقول: في الاحتجاج بمثل هذه الأخبار (3) الواردة في شأن العلماء و بيان منصبهم كلامان: أحدهما المناقشة في سندها، و الآخر في دلالتها بأنّ الصحيح منها غير صريح، و الصريح منها غير صحيح، و لكن هذا إيراد غير مليح.

أمّا سندها فلأنّه و إن أمكن المناقشة فيه بأنّها مع كثرتها ليس في مسانيدها سند صحيح. إلّا أنّ هذا الإيراد صريح بأنّه على تقدير تسليم ضعفها منجبرة أوّلا:

بالشهرة. و ثانيا: بغلبة الصدق في الأخبار بعد اعتبار الغلبة بفحوى الأمارات المعتبرة. و ثالثا: بعدم الداعي العقلائي عادة للجعل و الوضع فيما يوافق الشهرة من المطالب فإنّه كاللغو.

و من هنا يعلم انجبار كتاب فقه الرضا عليه السّلام (4) أيضا على تقدير تسليم ضعف سنده.

و أمّا المناقشة في دلالتها بما قاله الماتن (5)- من أنّ الإنصاف بعد ملاحظة سياقها أو صدورها أو ذيلها يقتضي الجزم بأنّها في مقام بيان وظيفتهم من حيث


1- انظر الكافي 1: 389.
2- الوسائل 18: 53 باب (8) من أبواب صفات القاضي ح 2.
3- انظر الكافي 1: 33 و 46 ح 5، تحف العقول: 238، عوالي اللئالي 4: 77 ح 67، فقه الرضا عليه السّلام: 338، نهج البلاغة: 484 حكمة 96، الوسائل 18: 98 ب (11) من أبواب صفات القاضي، إكمال الدين: 483 ب «45» ح 4، كتاب الغيبة: 290 الفصل «4» ح 247.
4- فقه الرضا عليه السّلام: 338.
5- المكاسب: 154.

ص: 143

الأحكام الشرعيّة، لا كونهم كالنبيّ صلّى اللّٰه عليه و آله و الأئمّة عليهم السّلام في كونهم أولى بالناس في أموالهم- ففيه: أنّه و إن سلّمنا ضعف دلالتها على العموم بملاحظة نفسها، إلّا أنّ ذلك أيضا منجبر بالشهرة و الإجماع المنقول، بل المحصّل على عموم سلطنة الفقيه على ما للإمام عليه السّلام من السلطنة و قيام مقامه إلّا فيما خرج، كقيام وليّ العهد مقام السلطان إلّا في الخصائص. و لا إشكال في انجبار دلالة الأخبار المذكورة (1) بتلك الشهرة و الإجماع المنقول القائمين على عموم وظيفة الفقيه. أمّا على تقدير كشفها بالكشف القطعي عن مدرك قطعي أو ظنّي فلاندراجها في الأدلّة الخاصّة قطعا. و أمّا على تقدير كشفها بالكشف الظنّي عن مدرك ظنّي أو قطعي فلتعلّقها بدلالة الألفاظ و الظنون المتعلّقة بدلالة الألفاظ حجّة بالسيرة المستمرّة بين المستدلّين و إن كانت الألفاظ موردا لتلك الظنون لا منشأ لها، كما لا يخفى على المتتبّع الخبير.

إنّما الإشكال و الخلاف في اندراج الظنون التي تكون الألفاظ موردا لها لا منشأ في عداد الظنون الخاصّة أو المطلقة، و أمّا أصل اتّباعها فممّا لا كلام فيه.

فتبيّن ممّا ذكرنا: قيام الفقيه مقام الإمام في كلّ ماله من السلطنة و الولاية عموما إلّا ما خرج بالدليل كالخصائص حيث لا يجب إطاعة الفقيه فيها و إن وجب إطاعة الإمام فيها.

فتلخّص ممّا ذكرنا: ثبوت دلالة الأخبار المذكورة (2) على أنّ منصب النبيّ صلّى اللّٰه عليه و آله الخلافة المطلقة من قبل اللّٰه تعالى في كلّ ما له تعالى من السلطنة و القدرة إلّا ما خرج من خصائصه تعالى من غير فرق بين السلطنتين، سوى كون الأوّل بالأصالة و الاستقلال، و الثاني بالتبع و الاستقبال من حضرة ذي الجلال.


1- تقدّم ذكر مصادره في هامش (3) ص: 142.
2- تقدّم ذكر مصادره في هامش (3) ص: 142.

ص: 144

و كذلك منصب الأئمّة هي الخلافة المطلقة عن النبيّ صلّى اللّٰه عليه و آله في كلّ ما له من السلطنة و الولاية إلّا ما خرج بالدليل كالخصائص، من غير فرق بين السلطنتين أيضا إلّا في تلقّي الاولى من حضرة المولى بلا واسطة، و الثانية بواسطة.

و كذلك منصب الفقيه هي الخلافة المطلقة عن الأئمّة عليهم السّلام في كلّ ما لهم من السلطنة و الولاية إلّا ما خرج كالخصائص، من غير فرق بين السلطنتين إلّا في تلقّي الاولى من اللّٰه تعالى بواسطة، و الثانية بواسطتين.

فالمناصب المذكورة للنبيّ و الأئمّة عليهم السّلام و الفقهاء مناصب مطلقة عامّة كلّ لا حق على نمط سابقه، من غير فرق إلّا في الخصائص الخارجة بالدليل الخارجي، لثبوت كلّ لاحق منها بما ثبت به سابقه من ألفاظ العموم و الإطلاق، فلا يقصر ما لثبوت كلّ لاحق من تلك المناصب عمّا لثبوت سابقه من لفظ الخلافة و الولاية و الحجّة و الحكومة و القضاوة و الخيرة و الأفضليّة و عموم المنزلة.

فلا وجه للفرق بين اللاحق و السابق إلّا في الخصائص الخارجة بالدليل الخارجي.

و على ذلك فالمرجع في كلّ ما يشكّ من التصرّفات في اندراجه تحت سلطنة الفقيه إنّما هو إلى إطلاق الأخبار الدالّة (1) على سلطنته لا إلى الأصول العمليّة.

نعم، ما يشكّ من التصرّفات في قابليّة السلطنة عليه كان المرجع فيه إلى الأصول العمليّة لا إلى إطلاق السلطنة، كما هو الحال في موارد الشكّ من سلطنة الإمام عليه السّلام و النبيّ صلّى اللّٰه عليه و آله من غير فرق، ضرورة أنّ العموم و الإطلاق لا يحرزان القابليّة و إن بلغا ما بلغا، و إنّما يحرزان جمع الأفراد بعد إحراز القابليّة.

و بالجملة: فكما أنّ لقدرته تعالى و سلطنته أفراد معلومة الاندراج تحت


1- تقدّم ذكر مصادره في هامش (2) ص: 142.

ص: 145

سلطنته كخلق العالم و إفنائه فتندرج في عموم سلطنته، و أفراد معلومة الخروج كاجتماع الضدّين فلا تندرج، و أفراد مشكوكة لقابليّة عليها فترجع إلى الأصول العلميّة، و أفراد مشكوكة الاندراج بعد إحراز القابلية فيرجع فيها إلى عموم السلطنة.

كذلك سلطنة النبيّ صلّى اللّٰه عليه و آله أيضا على ذلك النمط لها أفراد معلومة الاندراج كتبليغ الأحكام فتندرج في سلطنته، و أفراد معلومة الخروج كتمليك الأحرار و تحرير الأملاك فلا تندرج، و أفراد مشكوكة القابليّة كالخلاقيّة و الرزّاقية فيرجع فيها إلى الأصول العمليّة، و أفراد مشكوكة الاندراج كالاقتراحيّات فتندرج في عموم الولاية و السلطنة.

و كذلك سلطنة الأئمّة على هذا النمط لها أفراد معلومة الاندراج تحت سلطنتهم كإقامة الحدود و فصل الخصومات فتندرج، و أفراد معلومة الخروج كخصائص النبيّ صلّى اللّٰه عليه و آله فلا تندرج، و أفراد مشكوكة القابليّة فيرجع فيها إلى الأصول العمليّة، و أفراد مشكوكة الاندراج بعد إحراز القابليّة كالاقتراحيّات فتندرج في عموم سلطنتهم و خلافتهم عنه صلّى اللّٰه عليه و آله.

و كذلك سلطنة الفقيه على هذا النمط و النهج لها أفراد معلومة الاندراج كالإفتاء و الحكومة فلا إشكال في اندراجها، و أفراد معلومة الخروج الّتي هي من خصائص الأئمّة كوجوب الاعتقاد بإمامتهم و عصمتهم و حجّية فعلهم كحجّية قولهم و حرمة التقدّم عليهم، و أفراد مشكوكة القابليّة كحجّية رؤياهم كحجّية رأيهم فلا تندرج بل يرجع فيها إلى الأصول العمليّة، و أفراد مشكوكة الاندراج تحت ولايتهم كإقامة الحدود، و الجهاد، و بيع الأراضي المفتوحة عنوة، أو أخذ الأجرة عليها، و كذا أخذ الأجرة من المخالفين على أراضي الأنفال من بطون الأودية و قلل الجبال، إلى غير ذلك من التصرّفات المندرجة تحت ولاية

ص: 146

الأئمّة عليهم السّلام.

فتندرج في عموم «ما دلّ على خلافه الفقيه و ولايته» (1) عن قبلهم.

فكما أنّ خروج خصائصه تعالى عن عموم خلافة نبيّه عنه غير قادح في بقاء عموم خلافته عنه و إطلاق سلطنته منه في كلّ ما له من السلطنة و الولاية، كذلك خروج خصائص النبيّ صلّى اللّٰه عليه و آله عن عموم خلافة الأئمّة عنه صلّى اللّٰه عليه و آله و إطلاق ولايته منه غير قادح في بقاء عموم خلافتهم عنه و إطلاق سلطنتهم منه في كلّ ما له من السلطنة و الولاية، و كذلك خروج خصائص الأئمّة عن عموم خلافة الفقيه عنهم و إطلاق نيابته منهم غير قادح في بقاء عموم خلافته و إطلاق نيابته عنهم في كلّ ما لهم من السلطنة و الولاية.

و على ذلك لم يبق إجمال و لا إشكال في أنّ السلطنة المطلقة الثابتة للأئمّة عليهم السّلام من قبل النبيّ صلّى اللّٰه عليه و آله بتنصيصه على خلافتهم عنه ثابتة للفقيه من قبل الأئمّة عليهم السّلام بتنصيصهم على خلافته عنهم أيضا، إلّا فيما كان من خصائص الأئمّة عليهم السّلام فإنّها خارجة عن إطلاق خلافة الفقيه عنهم، كما أنّ خصائص النبيّ صلّى اللّٰه عليه و آله أيضا خارجة عن إطلاق خلافة الأئمّة عنه.

و الحاصل: أنّ الإشكال في شمول سلطنة الفقيه لبعض التصرّفات ناشئ إمّا عن الشكّ في قابليّة السلطنة عليه كهبة مدّة المنقطعة للغير إذا كان صغيرا أو غائبا و فسخ ما فيه الخيار عمّن له الخيار و ردّ العقد الفضوليّ الواقع عن الغير ولاية عليه، إلى غير ذلك من التصرّفات المشكوك تسلّط الإمام عليها فضلا عن الفقيه.

و إمّا عن الشكّ في اندراجه تحت عموم السلطنة بعد إحراز قابليّة السلطنة عليه كإقامة الحدود، و الجهاد، و بيع الأراضي المفتوحة عنوة و قلل الجبال و بطون


1- تقدّم ذكر مصادره في هامش (2) ص: 142.

ص: 147

الأودية، و نحوها من التصرّفات الثابتة للإمام المشكوك ثبوتها للفقيه بإطلاق الخلافة عنه.

و إمّا عن الشكّ في اشتراط ذلك التصرّف بشرط حضور إمام الأصل أو غيره من الشروط المفقودة في الفقيه كتعيين الجمعة حيث يشكّ في اشتراطها بواجد الإمام.

و إمّا عن الشكّ في حجّيّة عموم سلطنته المخصّصة بخروج الخصائص في الباقي ممّا عدا الخصائص.

أمّا إشكال ما شكّ من التصرّفات في قابليّة تسلّط الفقيه عليها فقد عرفت دفعه بمرجعيّة الأصول العمليّة فيه، أعني: أصالة عدم تسلّطه عليه.

و أمّا إشكال ما شكّ من التصرّفات في اندراجه تحت عموم (1) «سلطنة الفقيه» بعد إحراز القابليّة فقد عرفت دفعه أيضا بمرجعيّة عمومات سلطنته و ولايته.

و أمّا إشكال ما شكّ من التصرّفات في اشتراطه بحضور إمام الأصل و نحوه فمندفع أيضا بالرجوع إلى ملاحظة حال دليل الاشتراط مع حال دليل المشروط هل هما لفظيّان، أو لبيّان، أو مختلفان؟ فإن كانا لفظيين كان المرجع إلى إطلاق أدلّة الاشتراط، و إن كانا لبّيّين كان المرجع إلى أصالة عدم الاشتراط فيما عدا المتيقّن من قدر الاشتراط، و إن كانا مختلفين، فإن كان دليل الاشتراط لفظيّا و المشروط لبيّا كان المرجع إلى إطلاق الاشتراط، و إن كان بالعكس فبالعكس.

و أمّا إشكال حجّية عموم سلطنة الفقيه المخصّصة في الباقي ممّا عدا خصائص الإمام الخارجة فمندفع أوّلا: بما عرفت من أنّ خروج خصائص الإمام عن تحت سلطنة الفقيه إنّما هو من باب التخصّص لا التخصيص.


1- تقدّم ذكر مصادره في هامش (2) ص: 142.

ص: 148

و ثانيا: بما قرّر في محلّه من حجّية العامّ المخصّص في الباقي و ضعف قول المخالف فيه.

فتلخّص ممّا ذكرنا: ارتفاع الإشكال في عموم ولاية الفقيه على شي ء من التصرّفات من جميع الجهات المذكورة للإشكال.

و على ذلك فيثبت للفقيه من قبل الإمام عليه السّلام مناصب عديدة:

منها: الإفتاء فيما يحتاج إليه العاميّ في عمله، و مورده المسائل الفرعيّة و الموضوعات الاستنباطيّة من حيث ترتّب حكم فرعيّ عليها، و لا إشكال و لا خلاف في ثبوت هذا المنصب للفقيه إلّا ممّن لا يرى جواز التقليد للعامّي.

و تفصيل الكلام في هذا المقام موكول إلى مباحث الاجتهاد و التقليد.

و منها: الحكومة، فله الحكم بما يراه حقّا في المرافعات و غيرها كالهلال و نحوه في الجملة، و هذا المنصب كمنصب الإفتاء ثابت له بلا خلاف فتوى و نصّا (1)، إلّا ممن يرى الحكومة نوعا من الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر فلا يكون من المناصب المختصّة بالفقيه، بل جاز القيام به لكلّ من عرف أحكام القضاء و لو بالتقليد، كما عليه الجواهر (2) و الفاضل القمّي (3) قدّس سرّه في جواب سؤاله و الفاضل المقداد في التنقيح (4) و ظاهر الشيخ في المبسوط (5) و الشهيد في الدروس (6) و الأردبيلي (7) و ابن فهد (8). و إبداء الفرق بين الحكم و الأمر بالمعروف


1- الوسائل 18: 101 باب (11) من أبواب صفات القاضي ح 9.
2- جواهر الكلام 40: 15- 16.
3- جامع الشتات 2: 647.
4- التنقيح الرائع 4: 238.
5- المبسوط 8: 82.
6- الدروس الشرعيّة 2: 67.
7- مجمع الفائدة و البرهان 12: 17.
8- المهذب البارع 4: 452.

ص: 149

من حيث المورد بالعموم من وجه، و من حيث المفهوم بالتباين لا ينافي اتّحادهما في الحكم بعدم الاختصاص بالفقيه كالأمور الحسبيّة، و إن كان الأحوط الاختصاص بالفقيه، سيّما عند عدم تعذّر قيام الفقيه به، و عدم تعسّر الوصول إليه، و عدم لزوم الاختلال و الفساد من تعطيله.

و منها: توقّف تصرّف غير الفقيه على إذنه فيما كان متوقّفا على إذن الإمام عليه السّلام، و حيث إنّ موارد التوقّف على إذن الامام عليه السّلام غير مضبوط فلا بدّ من ذكر ما يكون كالضابط لها.

فنقول: ربما قيل أو يقال: إنّ ضابطه موكول إلى العرف و العقلاء، فكل ما كان من شأنه الرجوع فيه عند العرف و العقلاء إلى نظر الرؤساء رأي الكبراء هو ضابط ما يتوقّف من التصرّفات على إذن الإمام أو أنّ ضابطه التصرّف في أموال الغير و أمورهم أو أنّ ما يتوقّف على إذن الإمام أمور محصورة- كالتصرّف في أموال القاصرين و نحوها ممّا سيأتي- فلا يتوقّف معرفتها على ضابط كلّي، كما حكي هذا عن قواعد (1) الشهيد «رحمه اللّٰه»، و لكنّ الأقرب في ضابطه ما ذكره الماتن (2)، أخذا من العوائد (3) بزيادة تنقيح و توضيح: من أنّ كلّ معروف علم من الشارع إرادة وجوده في الخارج عقلا ككلّ ما يلزم من تعطيله اختلال النظام أو الفساد أو خلاف اللطف، أو شرعا ككلّ ما يلزم من تعطيله الضرر و الضرار أو العصر و الحرج المنفيّين في الشريعة إن علم كونه وظيفة شخص خاصّ كنظر الأب في مال ولده الصغير أو صنف خاصّ كالإفتاء و القضاء أو كلّ من يقدر على القيام به كالأمر بالمعروف فلا إشكال في ذلك. و إن لم يعلم ذلك و احتمل كونه مشروطا في وجوده أو وجوبه بنظر الفقيه وجب الرجوع إليه. ثمّ إن علم الفقيه


1- القواعد و الفوائد 1: 405.
2- المكاسب: 154.
3- عوائد الأيّام: 539.

ص: 150

من الأدلّة جواز توليته لعدم إناطته بنظر خصوص الإمام أو نائبه الخاصّ تولّاه مباشرة أو استنابة إن كان ممّن يرى الاستنابة فيه، و إلّا عطّله إلى آخر ما أشار إليه الماتن.

أقول: بل الأشبه بالأصول كون الألفاظ الضابط الكلّي لكلّي ما يتوقّف على إذن الإمام عليه السّلام إنّما هو عموم رئاسته و خلافته و سلطنته الإلهيّة الأصليّة الكلّية العامّة التامة كمّا و كيفا إلّا ما خرج بتخصيص أو تخصّص، لعموم ابوّتهم و عليتهم و ولايتهم على نحو ولاية العلّة على المعلول، و المولى على العبد، و المالك على المملوك، و عموم عَبْداً مَمْلُوكاً لٰا يَقْدِرُ عَلىٰ شَيْ ءٍ (1) و عموم «أنّهم اولي الأمر» (2) و «تنزّل الملائكة عليهم بكلّ أمر، و استئذان الملائكة منهم في كلّ أمر» (3)، كما أنّهم و عبوديّتهم بالنسبة إلى المعبود الحقيقي كذلك و على هذا النهج لٰا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَ هُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ (4).

و الدليل على ثبوت هذا المنصب للفقيه وجهان:

أحدهما: الأصل اللفظي و هو عموم: «و أمّا الحوادث» (5) و غيره من سائر العمومات الدالّة على ثبوت النيابة المطلقة للفقيه الحاكمة على عموم قوله: «كلّ معروف صدقة» (6)، و إطلاق وَ تَعٰاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَ التَّقْوىٰ (7)، إلى آخر تقريب الماتن قدّس سرّه (8).


1- النحل: 75.
2- إشارة إلى الآية 59 من سورة النساء.
3- انظر الكافي 1: 393.
4- الأنبياء: 27.
5- الوسائل 18: 101 باب (11) من أبواب صفات القاضي ح 9.
6- الوسائل 11: 521 ب «1» من أبواب فعل المعروف ح 2.
7- المائدة: 2.
8- المكاسب: 154.

ص: 151

و الآخر: الأصل العملي، بتقريب: أنّ كلّ من يفرض جواز مباشرته للأمور العامّة كالعدول أو الأمناء أو الثقات دخل الفقيه في صنفهم و لا عكس، فجواز ذلك للفقيه متيقّن بخلاف غيره من الأصناف، فالأصل عدم جوازه لغيره، لعدم الدليل عليه.

ثمّ إنّ تفصيل ذلك الضابط الكلّي للأمور العامّة الّتي مرجعها إلى نظر الامام ثمّ الفقيه يتوقّف على معرفة جزئيّاته.

فنقول: من جملة الجزئيّات المندرجة تحت ذلك الضابط الكلّي: التصرّف في أموال القاصرين من اليتامى و المجانين على الوجه الصالح، و تجهيز الأموات الّتي لا وليّ لها، من تعيين الغاسل و الغسل، و تعيين شي ء من تركته للكفن، و تعيين المدفن، لاندراجها في كلّ معروف علم من الشارع إرادة وجوده في الخارج مع عدم كونه وظيفة شخص خاصّ، و لا صنف خاصّ، و لا كلّ من يقدر على القيام به.

و من جملة: الجزئيّات المندرجة تحت ذلك الضابط الكلّي! جبر الممتنع على أداء الحقّ الواجب عليه ببيع ملكه و قبض ثمنه و أداء دينه، و كذا القيام بمصالح الغائب و المفقود و المريض و المغمى عليه الّذي لا وليّ له، و قاطبة المسلمين إذا كان لهم ملك كالمفتوح عنوة و الموقوف عليهم في الأوقاف العامّة و نحو ذلك، فيجوز للفقيه القيام بجميع مصالح الطوائف المذكورين لاندراجه تحت ذلك الضابط الكلّي.

و أمّا المقاصّات، أعني: تقاصّ الحقّ من المنكر له عند عجز صاحب الحقّ عن إقامة البيّنة عليه، و كذا التصدّق بمجهول المالك و اللقطة عن صاحبه، ففي توقّف مشروعيّته على إذن الفقيه و عدمه وجهان، بل قولان. من الشكّ في ورود إطلاق الأمر الوارد عنهم عليهم السّلام بالتصدّق و المقاصّة مورد حكم آخر فيندرج في

ص: 152

عموم الضابط الكلّي للأمور العامّة الّتي مرجعها إلى نظر الرئيس و رأيه، أعني:

عموم «كلّ معروف علم من الشارع إرادة وجوده في الخارج مع عدم تعيينه الموجد له. و من أنّ الأصل في الإطلاق المشكوك وروده مورد حكم آخر هو الإطلاق و عدم الصارف عنه بالورود مورد بيان حكم آخر، فيندرج في عموم كلّ معروف علم من الشارع إرادة وجوده في الخارج مع تعيينه الموجد له، لا مع عدم تعيينه ليندرج في عموم وظائف الفقيه.

و أمّا التصرّف في سهم الإمام من الخمس و غيره بالحفظ أو الصرف على أقربائه أو على مطلق مصالح المسلمين بإذن شاهد حال الإمام أو فحواه على اختلاف الآراء في ذلك ففي توقّفه على إذن الفقيه لاندراجه في الضابط الكلّي المتقدّم، أو عدم توقّفه على إذنه ليجوز لغير الفقيه أن يتولّاه، أم التفصيل بين حقّه المعيّن كأعيان من لا وارث له، فيتوقّف التصرّف فيها على الإذن، و بين الغير المعيّن كالجزء المشاع من أعيان ما يتعلّق بها الخمس كالمعادن و الغنائم و الكنوز فلا يتوقّف على إذن الفقيه، وجوه، أظهرها الأوّل، لعموم (1) ما دلّ على النيابة المطلقة و الخلافة العامّة للفقيه عن قبل الإمام عليه السّلام في كلّ ما له من السلطنة و الولاية من تعليل الرجوع إليهم بقوله عليه السّلام: «فإنّهم حجّتي عليكم» (2)، و قوله: «مجاري الأمور و الأحكام على يد العلماء» (3)، و إطلاق قوله صلّى اللّٰه عليه و آله «خلفائي عليهم» (4).

و قد تقدّم لك أنّ ما يشكّ في كونه من وظائف الفقيه تارة يكون منشأه الشكّ في كونه من وظائف الامام و عدمه، و تارة يكون منشأه الشكّ في ثبوته


1- تقدّم ذكر مصادره في هامش (2) ص: 142.
2- الوسائل 18: 101 ب (11) من أبواب صفات القاضي ح 9.
3- تحف العقول: 238.
4- الوسائل 18: 100 ب (11) من أبواب صفات القاضي ح 7.

ص: 153

للفقيه بعد إحراز كونه من وظائف الإمام عليه السّلام، فما كان الشكّ فيه ناشئا عن الشكّ في كونه من وظائف الإمام عليه السّلام كتزويجه العاقلة الرشيدة من دون رضاها، و تطليق زوجة الغير من دون رضاه، حيث يحتمل إناطة صحّتهما برضا خصوص الطرفين، فالأصل عدم ثبوته للفقيه، بل و لا للإمام، لما عرفت من أنّ ولاية الإمام عليه السّلام على التصرّف في أموال الأنام و أنفسهم و إن بلغ ما بلغ إلّا أنّه إنّما يشمل من التصرّفات ما يقبل تولية الغير عليه، و أمّا ما لا يقبل أو يشكّ في قابليّته لتولية الغير فلا يشمله عموم التولية للغير، و كان خروجه عن تحت عموم التولية بالتخصّص لا التخصيص، كما أنّ عموم «أكرم العلماء» و إن بلغ ما بلغ لا يشمل غير العالم و لا المشكوك عالميّته و كان خروجهما عن تحت العموم بالتخصّص لا التخصيص.

و أمّا ما كان الشكّ فيه ناشئا عن الشكّ في إناطته بنظر خصوص الإمام أو نائبه الخاصّ- أعني: الشكّ في كونه من المناصب الخاصّة بالإمام كتعيين وجوب الجمعة لئلّا يكون للفقيه حظّا فيها، أم من مناصبه العامّة القابلة لتفويضها إلى الفقيه- فالأصل العملي الأوّلي و إن كان أيضا عدم ثبوتها للفقيه إلّا أنّ الأصل اللفظي الثانوي- أعني: العمومات و الإطلاقات المتقدّمة- يقتضي ثبوتها للفقيه، و ما نحن فيه من قبيل القسم الثاني لا الأوّل، فيكون من مناصب الفقيه أيضا، و اللّٰه العالم.

قوله: «و إلّا لزم تخصيص أكثر أفراد العامّ .. إلخ».

[أقول:] فيه: منع لزومه أوّلا: بأنّ ما يمكن إخراجه من عموم ولاية الفقيه هو الأوامر الاقتراحيّة النادرة الاندرة صدورها من الفقيه الموصوف بقوله: «من كان من الفقهاء صائنا لنفسه من العصيان، حافظا لدينه من الشيطان، مخالفا

ص: 154

لهواه، مطيعا لأمر مولاه» (1) الحديث الشريف، الدالّ على أنّ العدالة المعتبرة في مرجعيّة الفقيه تالية تلو العصمة المانعة من الاقتراح، و المقتضية لعموم المنزلة، و تنزيله منزلة النبوّة و إن كان مثل التراب بالنسبة إلى ربّ الأرباب، و مثل البعوضة في عرض مقادير اللّٰه تعالى، إلّا أنّ أمثال قوله عليه السّلام: «ربّ التراب هو ربّ الماء» (2) نزّل التراب منزلة الأرباب، كما نزّل الأرباب منزلة ربّ الأرباب.

و ثانيا: لو سلّم خروج اقتراحيّات الفقيه عن عموم سلطنته، لكن لا يسلّم خروجها عن عموم (3) وجوب إطاعته، أو لا يقصر حقوقه و حرمة عقوقه عن حقوق الامّ، فضلا عن حقوق الأبوّة و الاخوّة الإيمانيّة الواجبة حتّى في إجابة دعوته، و قضاء حاجته، و قبول معذرته، و حسن صحبته، و حفظ خلّته، إلى آخر ما تقدّم من قوله صلّى اللّٰه عليه و آله: «للمسلم على أخيه ثلاثون حقّا لا براءة له منها إلّا بأدائها أو العفو» (4) الحديث.

و ثالثا: لو سلّمنا خروج اقتراحيّات الفقيه عن وجوب طاعته، و لكن خروجها عن طاعته بعنوان واحد، كخروج تبعيّة الشيطان بقوله تعالى إِنَّ عِبٰادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطٰانٌ إِلّٰا مَنِ اتَّبَعَكَ (5) و إن كان من التخصيص بالأكثر، إلّا أنّه ليس من التخصّص بالأكثر المستهجن عرفا قطعا.

قوله: «من لا وليّ له- في المرسلة (6) [المذكورة]- ليس مطلق من لا وليّ له .. إلخ».


1- الوسائل 18: 94 باب (10) من أبواب صفات القاضي ح 20.
2- الوسائل 2: 984 باب (14) من أبواب التيمم ح 13.
3- تقدّم ذكر مصادره في هامش (2) ص: 142.
4- الوسائل 8: 550 باب «122» من أبواب أحكام العشرة ح 24.
5- الحجر: 42.
6- مسند أحمد بن حنبل 1: 250 و ج 6: 260.

ص: 155

أقول: و إن لم يكن المراد مطلق من لا وليّ له كما لم يكن المراد منه من له وليّ كالأب و الجدّ إلّا أنّ مفهوم إثبات الشي ء ليس نفي ما عداه، حتّى يناقض و يعارض منطوق النَّبِيُّ أَوْلىٰ بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ (1) و أنّ الحاكم وليّ الممتنع الصريح في عموم ولايته على من دونه من سائر الأولياء فضلا عمّن هو وليّ نفسه أو مولى عليه أو لا وليّ له. مضافا إلى ما عرفت من ضرورة العقل و النقل من أنّ الولاية كسائر الإضافات الإلهيّة ليست كإضافة بعضنا بعضا، بل لا ينقص منه شي ء و لا يزيده كثرة العطاء إلّا جودا و كرما، فتخصيص ولايته بمن لا وليّ له لا لتخصيص الولاية به، بل لأحوجيّته، و بلاغة الكلام مطابقته لمقتضى الحال؛ لأنّ جعل الولاية لغيره لا يوجب نقصا في ولايته الّتي كانت له قبل جعله.

قوله: «و ينبغي أن يكون له هو السلطان. فافهم».

[أقول:] إشارة إلى ظهور «وليّ من لا وليّ له» (2) كظهور وليّ الممتنع في عموم الولاية له، و عليه فلا وجه لتخصيصه بالمصلحة الراجعة إليه لا إلى غيره.

و من جملة مناصب الفقيه و وظائفه إقامة الحدود و التعزيرات و الجهاد مع الكفّار في دعواهم إلى دين الإسلام، أو ضرب الجزية عليهم على المشهور المنصور، لكن ثبوت هذا المنصب للفقيه ليس مستنده عموم أدلّة وجوب إقامة الحدود، مثل عموم «أقيموا الحدود» (3)، و عموم قوله تعالى فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمٰا (4) أي: السارق و السارقة، و عموم فَاجْلِدُوا كُلَّ وٰاحِدٍ مِنْهُمٰا مِائَةَ جَلْدَةٍ (5) أي: الزاني و الزانية، و عموم الآيات (6) الدالّة على وجوب الجهاد مع


1- الأحزاب: 6.
2- تقدّم ذكر مصدره في هامش (6) ص: 154.
3- إشارة إلى الآية: 229 من سورة البقرة.
4- المائدة: 38.
5- النور: 2.
6- التوبة: 29.

ص: 156

الكفّار حتّى يعطوا الجزية عن يد حتّى يمنع دلالة صيغة الجمع على العموم.

و لا عموم الخطاب الشفاهي للمعدومين حتّى يمنع القول به عند المشهور، و لا لإطلاق وجوب إقامتها حتّى يمنع الإطلاق بوروده مورد الغالب، أعني:

توجّه الإطلاق إلى الحاضرين الواجدين حضور الإمام غالبا و الواجب المشروط مطلق بالنسبة إلى الواجدين للشرط، فإذا كان المفروض عدم اتّحادهم مع الحاضرين لا في الخطاب و لا في الصنف لم يجز لهم التمسّك بإطلاق الخطاب في نفي الاشتراط؛ لاحتمال أن يكون عدم تقييد الخطاب المختصّ بالحاضرين لأجل الحمل على الغالب من أفراد المطلق، حيث إنّ حالة حضور المخاطبين خدمة الإمام عليه السّلام أغلب من حالة فقدهم إيّاه بالمسافرة و نحوه، فلا يجوز استدلال المعدومين بإطلاق الخطاب المختصّ بالحاضرين على الوجوب المطلق على المعدومين مع الاختلاف في الصنف، كما لا يجوز استدلال الحاضرين أيضا بإطلاقه على الوجوب المطلق عليهم في حال فقدهم الإمام المتّفق لهم نادرا، لانصراف الإطلاق إلى غالب أحوالهم المفروض وجدان الشرط حسب ما قرّر ذلك في محلّه من الأصول.

و لا لأجل اندراج إقامة الحدود فيما يتوقّف عليه حفظ نظام العالم و يترتّب عليه بقاء عيش بني آدم.

و يلزم من تعطيله اختلال النظام و فساد أمور الأنام حتّى يمنع الملازمة إجمالا: بأنّه لو كان مستند إقامة الحدود هو لزوم اختلال النظام من تعطيله لوجب إقامته على عدول المؤمنين عند تعذّر الفقيه أو تعسّره، كما يجب ذلك في كلّ ما يلزم من تعطيله اختلال النظام من حفظ أموال القصر و غيره من كلّ ما يندرج في الضابط الكلّي للأمور العامّة الواجبة وجودها من دون تعيين الشارع الموجد لها.

ص: 157

و تفصيلا: بأنّ في وجوب الأمر بالمعروف الكفاية في حفظ النظام، سيّما إذا قلنا بجميع مراتبه في زمان الغيبة و إن أدّى إلى القتل و الجرح، كما يقتضيه عموم أدلّته.

و لا مجرّد الشهرة المنقولة و المحصّلة حتّى يناقش في حجّيّتهما أو جبرانهما، لدلالة الأدلّة الدالّة على ثبوت النيابة المطلقة للفقيه عن قبل الإمام عليه السّلام، بل المستند لنا على ثبوت منصب إقامة الحدود و الجهاد للفقيه- مضافا إلى الشهرة- هو عموم أدلّة خلافته عن الإمام عليه السّلام، كعموم «مجاري الأمور و الأحكام على يد العلماء» (1)، و عموم «و أمّا الحوادث» (2)، و غير ذلك من العمومات المتقدّمة فإنّ المانع من ثبوت هذا المنصب للفقيه.

أمّا الشكّ في قابليّة سلطنة الفقيه لمثله و المفروض عدم هذا الشكّ لعدم الموهم له عقلا و لا عرفا و لا شرعا، لمنع قابليّة سلطنة الفقيه على مثله بعد ثبوت قابليّة سلطنة الإمام عليه السّلام على مثله.

و أمّا الشكّ في شمول أدلّة خلافته عن الإمام لمثله بعد إحراز القابليّة لاحتمال كونه من خصائص الإمام، و المفروض عموم الأدلّة و إطلاقها على وجه لا يقصر عن عموم أدلّة خلافة الإمام عن النبيّ، فكيف يبقي المجال لاحتمال التفكيك فضلا عن الجزم بمنع ثبوت هذا المنصب للفقيه، كما زعمه الماتن (3) رحمه اللّٰه، تبعا لبعض المتورّعين في الاحتياط مع اعترافه بثبوته للإمام و كون الشكّ في الاندراج تحت عموم الولاية بعد إحراز القابليّة؟

و من جملة وظائف الفقيه: جواز تزويجه الصغيرة لغير الأب و الجدّ، و ولاية المعاملة على مال الغائب بالعقد عليه، و فسخ العقد الخياري عنه كالبيع الشرط،


1- تحف العقول: 238.
2- الوسائل 18: 101 باب (11) من أبواب صفات القاضي ح 9.
3- المكاسب: 155.

ص: 158

و أخذ الشفعة له. و لكن فيه: أنّه إن كان في هذه التصرّفات مصالح عامّة يلزم من تعطيلها الضرر على الصغير و الغائب المنفي في الشريعة فمرجعها إلى الضابط الكلّي الواجب وجوده، المتقدّم كون القيام به من وظائف الإمام عليه السّلام، ثمّ الفقيه، ثمّ عدول المؤمنين على الترتيب، لا أنّها من الوظائف الخاصّة بالفقيه كالإفتاء.

و إن لم يكن في تلك التصرّفات مصالح عامّة يلزم من تعطيلها ما هو منفيّ في الشريعة فليست من وظائف الفقيه الخاصّة و لا العامّة المشارك فيها عدول المؤمنين مع الترتيب، بل و لا من وظائف الإمام عليه السّلام فضلا عن الفقيه.

ثم إنّ هذا كلّه في ولاية الفقيه. و أمّا ولاية عدول المؤمنين فالكلام فيه تارة في بيان أدلّة ولايته، و اخرى في بيان معنى ولايته هل هو على وجه الاستنابة عن الفقيه أو غيره؟ و مقدار ولايته و بيان مواردها و الفرق بينهما و بين ولاية الفقيه، و بيان المراد من عدول المؤمنين هل هو الجنس أو الجمع؟ و على الأوّل هل المراد جنس المفرد أو الجمع؟ و هل المراد من العدالة المشروط بها الولاية فيهم هو الملكة أو مجرّد الوثاقة؟ فالكلام إذن في مطالب:

أمّا أدلّة ولايته في الجملة فهي الأدلّة الأربع:

أمّا من الكتاب فيكفي ما تمسّك الشهيد به عليه في القواعد (1) من عموم:

وَ تَعٰاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَ التَّقْوىٰ (2).

و أمّا من السنّة فيكفي ما تمسّكوا به من قوله صلّى اللّٰه عليه و آله: «كلّ معروف صدقة» (3)، و قوله عليه السّلام: «و اللّٰه تعالى في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه» (4)، و صحيحة محمد بن إسماعيل: «رجل مات من أصحابنا بغير وصيّة فرفع أمره إلى قاضي


1- القواعد و الفوائد 1: 406.
2- المائدة: 2.
3- الوسائل 11: 521 باب «1» من أبواب فعل المعروف ح 2.
4- الوسائل 11: 586 باب «29» من أبواب فعل المعروف ح 2.

ص: 159

الكوفة فصيّر عبد الحميد القيّم بماله، و كان الرجل خلّف ورثة صغارا و متاعا و جواري فباع عبد الحميد المتاع، فلما أراد بيع الجواري ضعف قلبه عن بيعهنّ إذ لم يكن الميّت صيّر إليه وصيّته و كان قيامه فيها بأمر القاضي لأنّهن فروج فما ترى في ذلك؟ قال: إذا كان القيّم مثلك و مثل عبد الحميد فلا بأس» (1) الخبر.

و أمّا من الإجماع فيكفي وقوع ولاية العدول في الجملة معقد الفتاوى و الإجماعات.

و أمّا من العقل فيكفي استقلال العقل بجواز تولية آحاد المكلّفين لكلّ ما كان واجب الوجود عقلا أو شرعا من دون تعيين الموجد الخاصّ لها شرعا و لا عقلا.

ثمّ إنّ مقتضى عموم الأدلّة المذكورة و إن كان جواز تولية العدول مطلقا و لو مع عدم تعذّر الفقيه و لا تعسّره إلّا أنّ عمومات ولاية الفقيه من قوله عليه السّلام: «و أمّا الحوادث» (2) إلخ و «مجاري الأمور بيد العلماء» (3) حاكمة على عمومات ولاية العدول، فتقتضي ترتّب ولايتهم على تعذّر الفقيه أو تعسّره، كما أنّ عموم (4) ولاية الإمام عليه السّلام حاكمة على عموم ولاية الفقيه، فتقتضي ترتّب ولايته على تعذّر الإمام أو تعسّره. مضافا إلى أنّ المرجع بعد تعارض العمومين إلى أصالة عدم مشروعيّة ذلك المعروف مع عدم وقوعه عن رأي اولي الأمر أو من يخلفه في الولاية أخذا بالمتيقّن إلّا في مقام التعذّر أو التعسّر.

[ولاية العدول]

ثمّ إنّ ولاية العدول هل هي على وجه التكليف الوجوبي أو الندبي كما استظهره الماتن (5) قدّس سرّه، أم على وجه الاستنابة عن حاكم الشرع- كما استظهره


1- الوسائل 12: 270 باب «16» من أبواب عقد البيع و شروطه ح 2.
2- تقدّم ذكر مصدرهما في هامش (2 و 1) ص: 157.
3- تقدّم ذكر مصدرهما في هامش (2 و 1) ص: 157.
4- الوسائل 18: 101 باب (11) من أبواب صفات القاضي ح 9.
5- المكاسب: 156.

ص: 160

شيخنا العلّامة- ليثبت لهم عند تعذّر الفقيه كلّما كان للفقيه من التولية حتى على الحكومة و إقامة الحدود؟ وجهان، من ظهور الآيات (1) و الأخبار المتقدّمة (2) على ولايتهم في التكليف الوجوبي أو الندبي، و من ظهور تعدادهم ولاية العدول عقيب ولاية الفقيه في الولاية على وجه الاستنابة عنه. و يضعّف بعدم دلالة شي ء من أدلّة ولاية العدول على الاستنابة، و مغايرة لسانها للسان أدلّة ولاية الفقيه من قوله عليه السّلام: «خلفائي و حجّتي و ورثتي» (3) حتّى يدلّ على الاستنابة، بل لسانها كلسان أدلّة الأمر بالمعروف في بيان الحكم التكليفي لا الاستنابة.

و من هنا يعلم انحصار مقدار ولاية العدول و مواردها في كلّ معروف واجب الوجود عقلا أو شرعا من دون تعيين الموجد له بالخصوص.

و من هنا يعلم الفرق أيضا بين ولاية الفقيه و العدول، فإنّ ولاية العدول و إن ساوى ولاية الفقيه من حيث الوقوع في طول ما سبقه من سائر الولايات لا في عرضها، إلّا أنّه خالفه في الوقوع على وجه التكليف لا الاستنابة.

و أمّا المراد من عدول المؤمنين فهو و إن وقع في معقد الفتاوى بلفظ الجمع إلّا أنّ الظاهر من أدلّته بل صريح الأخبار المتقدّمة و تصريح الأصحاب هو إرادة جنس المفرد، لا أقل الجمع من الأفراد، و لا من جنس الأفراد، كما يوهمه ظاهر التعبير بعدول المؤمنين.

و أمّا المراد من العدل ففي كونه مجرّد الوثاقة أو عدالة الملكة الاجتناب عن الكبائر وجهان، من إطلاق الوثاقة في موثّقة (4) زرعة، و من تقييد العدل في


1- انظر الأحزاب: 6 و النساء: 59 و المائدة: 55.
2- تقدّم ذكر مصادرها في هامش (2) ص: 124.
3- الظاهر أنّها متصيّدة من عدّة روايات، انظر ما تقدّم في هامش (2) ص: 124.
4- الوسائل 13: 474 باب «88» في أحكام الوصايا ح 2.

ص: 161

صحيحة (1) إسماعيل بن سعد، و أصالة الأخذ بالمتيقّن، و حمل المطلق على المقيّد هو الاقتصار على ولاية العدل إلّا إذا تعذّر أو تعسّر فيجوز لغير العدل من الثقات تولية ما للعدل، كما يجوز لغير الثقات من سائر المسلمين تولية ما للثقات فيما تعذّر الثقات من الأمكنة و الأقطار، كما يجوز لغير المسلمين من أصناف الكفّار تولية ما للمسلمين فيما تعذّر المسلمين من الأمكنة.

قوله: «العدالة ليست معتبرة في منصب المباشرة، لعموم (2) أدلّة [فعل] ذلك المعروف .. إلخ».

[أقول:] فيه: احتمال أن يكون عموم الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر في مباشرة الأمر و النهي القولي لا الفعلي كالوعظ و النصيحة و التواصي بالحقّ و التهديد و التوعيد و الإنذار القولي، أو في مباشرة ما يتعذّر فيه العدل و العدالة، أو فيما يتعلّق بمال المباشر كالتصدّق بماله على اليتيم لا العكس ممّا هو خارج عن محلّ النزاع.

و أمّا مباشرة ما يتعلّق بمال اليتيم مع تمكّن العدل أو العدالة الّذي هو محلّ النزاع لا غير فقد عرفت تخصيصه بقوله في صحيحة (3) محمد بن إسماعيل: «إذا كان القيّم مثلك و مثل عبد الحميد فلا بأس».

قوله: «أنّها محمولة على صحيحة (4) علي بن رئاب».

فيه: لا وجه لحمل العدالة المعتبرة في مذهب المباشرة و غيرها على مطلق الأمانة، بل الوجه العكس.


1- الوسائل 12: 269 باب «16» من أبواب عقد البيع و شروطه ح 1.
2- الأنعام: 152، و الأسراء: 34، و الوسائل 11: 108 ب «59» من أبواب جهاد العدوّ ح 2.
3- تقدّم ذكر مصدره في هامش (1) ص: 159.
4- الوسائل 12: 269 باب «15» من أبواب عقد البيع ح 1.

ص: 162

قوله: «و لو شكّ في حدوث الفعل منه و أخبر به ففي قبوله إشكال .. إلخ».

[أقول:] وجه الإشكال: احتمال اختصاص مجرى أصالة الصحّة بفعل المسلم دون قوله.

و يدفعه: إمكان تصحيح قوله بعموم: «من ملك شيئا ملك الإقرار به».

قوله: «كما لو شكّ [المشتري] في بلوغ البائع. فتأمّل- إلى قوله- فتدبّر».

[أقول:] إشارة إلى ما فيه من أنّ فعل المسلم إن حمل على الصحّة الفاعليّة فقط المستندة إلى الأصل العملي كقوله: «احمل فعل أخيك على أحسنه» لم يسقط فعله عن الغير. و أمّا إن حمل على الصّحة الحامليّة المستندة إلى مثل قوله:

ما غلب عليه المسلمون فلا بأس من الأمارة الواقعيّة، كما يقتضيه قولك بسقوط فعله عن الغير، فيثبت به سائر لوازمه الواقعيّة، فلا فرق بين اللوازم.

قوله: «بنفس ذي المقدّمة. فتأمّل».

[أقول:] إشارة إلى عدم الفرق في مزاحمة الوكلاء بين الوكالة المتعلّقة بنفس ذي المقدّمة أو بالأعمّ منه و من المقدّمة، بعد فرض أنّ الإذن في الشي ء إذن في لوازمه.

و أمّا قوله: «حكم الوكيل حكم الموكّل» فإنّما يقتضي عدم مزاحمة غير الوكيل للوكيل، لا عدم مزاحمة الوكيل، لمشاركة المساوي له في الوكالة بالفرض.

و أمّا قوله: «بلزوم اختلاف النظام» (1) ممنوع أيضا نقضا: بتعدّد الأنبياء و الأوصياء و العلماء و السفراء و الوكلاء في أمر واحد و عصر واحد و شريعة واحدة و امّة واحدة، كما بعث ألف نبيّ مع الكليم عليه السّلام منهم هارون و يوشع و شعيب و الخضر، و نصب إمامين كالحسنين مع اشتراكهم في الرئاسة و الولاية عن الثقلين.


1- في المكاسب: «إلى لزوم اختلال نظام».

ص: 163

و حلّا: بأنّ اعتبار العصمة و العدالة و رعاية الغبطة و المصلحة في تعدّد المتزاحمين في أمور الأيتام يوجب مزية الاستحكام و الانتظام لا اختلال النظام، فالمزاحمة بهذا الوصف معاونة على البرّ و التقوى، كما قال تعالى سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَ نَجْعَلُ لَكُمٰا سُلْطٰاناً (1) و أَرْسَلْنٰا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمٰا فَعَزَّزْنٰا بِثٰالِثٍ (2).

نعم، إنّما يلزم اختلال النظام من مزاحمة المبطل مع المحقّ كمزاحمة خلفاء الجور و قضاة الجور مع خلفاء الحقّ و قضاة العدل، و هو الشائع الذائع في كلّ زمان و مكان، خصوصا في فتن آخر الزمان، و نزغ الشيطان بين الإخوان، و امتحان الكفر و الإيمان و الظلم و العدوان.

قوله: «القرب في الآية يحتمل معاني أربعة .. إلخ».

أقول: بل القرب في خصوص لٰا تَقْرَبُوا مٰالَ الْيَتِيمِ (3) بقرينة سائر الآيات الواردة في تفسيرها و تفسير يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْيَتٰامىٰ قُلْ إِصْلٰاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَ إِنْ تُخٰالِطُوهُمْ فَإِخْوٰانُكُمْ- إلى قوله- وَ لَوْ شٰاءَ اللّٰهُ لَأَعْنَتَكُمْ (4) لا يحتمل إلّا معنى واحد، و هو الكناية مبلغة عمّا يعدّ تصرّفا فعليّا عرفا كالاقتراض و البيع، و الإجارة لا القرب الحقيقي مكانا، و لا الفعلي كالنظر و اللمس و الحركة، و لا الأعمّ منه و من الترك إلّا بتنقيح المناط، بخلاف لٰا تَقْرَبُوا الْفَوٰاحِشَ مٰا ظَهَرَ مِنْهٰا وَ مٰا بَطَنَ (5) و لٰا تَقْرَبُوا الزِّنىٰ (6)، فإنّ المنهي في


1- القصص: 35.
2- يس: 14.
3- الأنعام: 152.
4- البقرة: 220.
5- الأنعام: 151.
6- الأسراء: 32.

ص: 164

لٰا تَقْرَبُوا الْفَوٰاحِشَ هو مطلق القرب حتّى الركون و المجاورة و المصاحبة و المجانسة و جميع أنحاء القرب، أخذا بأصل الحقيقة، و ظاهرها الخالي عن القرينة، بخلاف لٰا تَقْرَبُوا مٰالَ الْيَتِيمِ، و الفارق النصّ و القرينة الصارفة عن مطلق التقلّب و التقرّب إلّا ما يقصد به التوصّل إلى التصرّف المنهيّ فإنّه منهيّ من باب المقدّمة لا مطلقا و بالأصالة، كما في لٰا تَقْرَبُوا الْفَوٰاحِشَ.

قوله: «المراد من منفعة الدخول ما يوازي عوض ما يتصرّفونه (1) .. إلخ».

[أقول:] فيه: أنّ التجوّز في منطوق المنفعة بحمله على عدم الضرر ليس بأولى من تقييد إطلاق مفهوم «إن كان فيه ضرر فلا» بصورة ما فيه منفعة دون ما ليس فيه منفعة و لا مضرّة، بل الأولى العكس، لأظهريّة المنطوق من المفهوم، و أولويّة التقييد من المجاز و إن كان تقييد مفهوم «إن كان فيه ضرر فلا» بصورة ما فيه منفعة ليس بأولى من العكس و هو تقييد مفهوم «إن كان فيه منفعة فلا بأس» بصورة ما فيه ضرر. مضافا إلى أنّ الأصل و الاحتياط و خصوص المستثنى و عموم المستثنى منه من قوله لٰا تَقْرَبُوا مٰالَ الْيَتِيمِ إِلّٰا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ (2) اعتبار المصلحة و المنفعة، بل الأصلحيّة.

قوله: «فيه وجهان، نعم».

[أقول:] تصديق للوجه الأوّل، و هو اعتبار الأصلحيّة «لمثل ما قلنا» من الوجوه الثلاثة.

كما أنّ قوله: «لا» ردّ للوجه الأوّل، أي لا يعتبر الأصلحيّة «لأنّه (3) لا يتناهى».

فيه: أن ما يعتبر من الأصلحيّة يتناهى و ما لا يتناهى لا يعتبر.


1- في المكاسب: «ما يتصرّفون».
2- الأنعام: 152.
3- في المكاسب: «لأنّ ذلك».

ص: 165

[قابلية العاقد للتملك]
[مسألة يشترط في من ينتقل إليه العبد المسلم ثمنا أو مثمنا أن يكون مسلما]

قوله: «بل لأنّ الغرض من الأمر لا يحصل إلّا به. فافهم».

[أقول:] إشارة إلى أنّ الاحتمال يبطل الاستدلال، أو إلى أنّ الأمر ببيع المسلم قهرا على الكافر دليل منع بيعه منه ابتداء بالأولويّة القطعيّة، كما أنّ قوله تعالى طَهِّرْ بَيْتِيَ (1) و قوله صلّى اللّٰه عليه و آله: «جنّبوا مساجدكم النجاسة» (2) دليل حرمة إحداثها بالأولويّة القطعيّة. مضافا إلى أنّ جواز بيع المسلم للكافر ابتداء مع الأمر ببيعه عليه قهرا نقض للغرض، و يلزم من إحداثه إعدامه.

فإن قلت: عموم نفي سلطنة الكافر ينافي ما نرى من سلطنة الكافر على المؤمنين، بل على الأنبياء و المرسلين بالقتل و الحرق و أنواع الظلم.

قلت: عموم نفي سلطنته كعموم نفي العسر و الحرج و الضرر و الضرار و نفي سلطنة الشياطين بقوله تعالى وَ أَنَّ اللّٰهَ لَيْسَ بِظَلّٰامٍ لِلْعَبِيدِ (3) وَ مَا اللّٰهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعٰالَمِينَ (4) إِنَّ عِبٰادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطٰانٌ إِلّٰا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغٰاوِينَ (5) إِنَّمٰا سُلْطٰانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَ الَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ (6) لم يخصّص بشي ء من تلك الموارد الظلميّة و الجوريّة، إلّا على وجه التخصّص لا التخصيص، و الاستثناء المنقطع لا المتّصل.

لأنّ الظلم و الجور إمّا من نفس الظالم، كاستيلاء الجائر و السارق و الغاصب على مال المظلوم و حاله بجعل نفسه و سوء اختياره، لا يجعل اللّٰه و إجباره و إرادته، كما يتوهّمه الجبريّة، ضرورة أنّ الجور و السرق و الغصب لا يستند إلى


1- الحج: 26.
2- الوسائل 3: 504 باب «24» من أبواب أحكام المساجد ح 2.
3- آل عمران: 182، الأنفال: 51، الحج: 10.
4- آل عمران: 108.
5- الحجر: 42.
6- النحل: 100.

ص: 166

جعل اللّٰه، و لا يجعل السارق و الغاصب مالكا و لا المظلوم مملوكا.

و إمّا عن سوء اختيار المظلوم و المغصوب و تسبيبه لاستيلاء الظالم على نفسه و غيره بإعانته و استعباده و تولّاه، كما يستعبدون الأصنام، و يستحلّون الحرام، و يتولّون الأزلام، و يسلّطون الظلام على الإسلام و عموم الأنام، بجعلهم و سوء اختيارهم دون جعل اللّٰه و اختياره. و هذا القسم من الاستيلاء أيضا كسابقه إنّما يستند إلى فاعله المباشر أو السبب القاهر، دون مدخليّة الشارع فيه مباشرة، و لا تسبيبا، و لا جعلا بوجه من الوجوه تعالى اللّٰه عمّا يقول الظالمون علوّا كبيرا.

قوله: «و أمّا الآية فباب الخدشة فيها واسع .. إلخ».

أقول: محلّ هذه الآية في الآية المائة و الأربعون من سورة النساء، و هي السورة الرابعة من القرآن، و صدرها الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِنْ كٰانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللّٰهِ قٰالُوا أَ لَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ وَ إِنْ كٰانَ لِلْكٰافِرِينَ نَصِيبٌ قٰالُوا أَ لَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَ نَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَاللّٰهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيٰامَةِ وَ لَنْ يَجْعَلَ اللّٰهُ لِلْكٰافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا، و ذيلها إِنَّ الْمُنٰافِقِينَ يُخٰادِعُونَ اللّٰهَ وَ هُوَ خٰادِعُهُمْ الآية.

و أمّا دلالتها: فمن الواضح اللائح ظهورها بل نصوصها في الدلالة بنفسها على عموم نفي الشارع للكافر على المسلم سلطنة شرعيّة، لا خصوص نفي السلطنة العاديّة الحاصلة بمقتضى الأسباب العادية.

و بعبارة أخرى: المنفي شرعا هو استيلاؤه الشرعيّ لا القهريّ، و ذلك لأنّ المناسب بوظيفة الشارع هو بيان نفي السلطنة الشرعيّة لا خصوص نفي السلطنة العادية. كما أنّ مراعاة هذه المناسبة قرينة حمل قوله عليه السّلام: «الاثنان فما فوقهما جماعة» على الحكم الشرعي، و هو انعقاد الجماعة بهما، لا على الحكم اللغوي، و هو بيان صدق لفظ الجماعة عليهما، فهذه الآية نظير آية مٰا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي

ص: 167

الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ (1) في الدلالة و العموم و النصوص و السياق و الأسلوب و الإباء عن التخصيص بنفسها، لكون المنفيّ نكرة في سياق النفي. مضافا إلى انجبارها على تقدير الضعف بالشهرة، بل الإجماع المنقول، بل المحصّل من ملاحظة أنّ تجويز كلّ من يجوّز بعض التمليكات للكافر إنّما يستند إلى منع موضوع سلطنته به، لا إلى منع حكم نفي سلطنته، و هو كاشف عن إجماعهم على تسليم الحكم الكبرويّ، و هو عموم نفي السلطنة بعد تحقّق موضوعه و صغراه.

فتبيّن تماميّة دلالة الآية على عموم نفي استيلاء الكافر على المسلم شرعا من جميع الجهات بنفسها و بمعونة قرينة المناسبة و الانجبار بالشهرة و الإجماع بقسميه، و عدم بقاء المجال و المسرح للإيراد و المناقشة.

لأنّ الإيراد إن كان من جهة احتمال نفي الاستيلاء في الآخرة فهو و إن احتمله الماتن (2) قدّس سرّه و الصافي (3) من المفسّرين بقرينة ما قبلها بل و بموافقتها آية وَ الَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيٰامَةِ (4)- نظرا إلى أنّ القرآن يفسّر بعضه بعضا- إلّا أنّ عموم النفي بنفسه يدفع احتمال التخصيص بهذا المعنى، فضلا عن الانجبار بالشهرة و الإجماع المتقدّمين.

و إن كان من جهة احتمال إرادة نفي الاستيلاء القهري و العادي فهو و إن احتمله الماتن (5) أيضا- وفاقا لتفسير الجلالين (6) بنفي استيلاء الكفّار على استيصال المسلمين بقرينة ما قبل ما قبلها، بل و بموافقتها لقوله صلّى اللّٰه عليه و آله: «دعوت اللّٰه


1- الحجّ: 78.
2- المكاسب: 158.
3- تفسير الصافي 1: 512.
4- البقرة: 212.
5- المكاسب: 159.
6- تفسير الجلالين: 132.

ص: 168

تعالى ليلة المعراج أن لا يسلّط على أمّتي من سوى أنفسهم ظالم» (1)- إلّا أنّ عموم النفي بنفسه مضافا إلى الشهرة و الإجماع يدفع احتمال التخصيص بهذا المعنى أيضا.

و إن كان من جهة تفسيرها في بعض الأخبار (2) بنفي الحجّة للكفّار على المؤمنين فهو و إن كان حقّا إلّا أنّه إمّا من البطون، أو فرد من أفراد ظهورها العامّ.

و كيف كان فلا موجب لتخصيصها به.

و بالجملة: فسياق صدر الآية في الخصوص لا يخصّص ظهور ذيلها في العموم، كما أنّ خصوص المعلوم لا يخصّص ظهور العلّة في العموم، و كذا خصوصيّة شأن النزول لا تخصّص عموم النازل، كما أنّ خصوص المورد لا يخصّص عموم الوارد، و كذا البطون لا تخصّص الظواهر، كما أنّ إرادة كلّ من معنيي المشترك لا يعارض المعنى الآخر في إرادة واحدة على سبيل عموم الاشتراك. و في إرادات عديدة على سبيل تعدّد الاستعمال.

و إن كان من جهة تعارض عموم الآية (3) لعموم «ما دلّ على صحّة البيع» (4) و لزوم «الوفاء بالعقود» و «حل أكل المال بالتجارة و التراضي» (5) و عموم «تسلّط الناس على أموالهم» (6) فهو و إن احتمله الماتن أيضا- مستبعدا الحكومة الآية عليها- إلّا أنّه يكفيه وضوح مماثلة الآية لقاعدة نفي الحرج و الضرر في السياق و الأسلوب و الحكومة على جميع العمومات، بحيث يعدّ التفكيك بينهما تحكّم


1- انظر سنن ابن ماجة 2: 1303 باب (9) ما يكون من الفتن ح 3951.
2- عيون أخبار الرضا عليه السّلام 2: 203 ح 5.
3- النساء: 141.
4- البقرة: 275.
5- النساء: 29، الوسائل 3: 474 باب «3» من أبواب مكان المصلّي ح 1.
6- عوالي اللئالي 1: 222 ح 99.

ص: 169

بحت.

و إن كان من جهة ما قاله الماتن أيضا- من أنّ إباء سياق الآية عن التخصيص مع وجوب الالتزام به في طرف الاستدامة و في كثير من الفروع في الابتداء يقرب تفسير السبيل بما لا يشمل الملكيّة بأن يراد من السبيل السلطنة فيحكم بتحقّق الملك و عدم تحقّق السلطنة (1) إلخ- ففيه: المنع من الالتزام به في شي ء من الفروع في الابتداء، فضلا عن دعوى الالتزام به في كثير من الفروع في الابتداء.

لأنّه إن أراد من موارد الالتزام به في الابتداء مورد الاستدانة من الكافر فمن المعلوم عدم كون الاستدانة من الكافر تسليط له على المسلم باعترافه أيضا، بل إنّما هو تسليط له على نفس ماله، و تسليطه على المستدين تسليط خفي بالتبع للمال لا تسليط بالأصالة.

و إن أراد منه الالتزام به في مورد ما إذا كان العبد المسلم ملكا لكافر مات فورثه كافر آخر حيث يلتزم بدخوله ابتداء في ملك الوارث الكافر ففيه: المنع من دخوله في ملكه، و إنّما يدخل ثمنه في ملكه فيكون حقّ الكافر على العبد المسلم، نظير حقّ الرهانة متعلّق بثمن العين المرهونة لا بنفسها. و ليت شعري ما ذا أراد الماتن قدّس سرّه من الالتزام بالتخصيص في كثير من الفروع ابتداء.

و أمّا الالتزام بالتخصيص في طرف الاستدامة كما لو أسلم عبدا لكافر حيث يلتزم باستدامة ملكه للكافر و إن وجب على المسلمين شراؤه و دفع ثمنه إليه ففيه أوّلا: إمكان منع بقاء ملكه للكافر بعد الإسلام و اختصاص حقّ الكافر بثمنه كحقّ الرهانة لا بعينه، كما نقل الماتن (2)- فيما سيأتي (3)- تصريح الفخر في


1- المكاسب: 159.
2- المكاسب: 160.
3- في ص: 172.

ص: 170

الإيضاح بزوال ملك السيّد عنه و بقاء حقّ استيفاء الثمن له منه.

و ثانيا: بأنّ استدامة ملكه السابق للكافر تخصّص لا تخصيص في نفي جعل السلطنة له أمّا بناء على ظهور نفي الجعل في نفي الجعل الابتدائي لا الاستدامتي، لأنّ استدامة ما سبق إمضاء لما سبق لا جعل آخر، كما قيل به في لزوم ما يلتزم به الشخص من قبل نفسه من الأمور الشاقّة العسرة في ضمن العقود و الإيقاعات اللازمة. و أمّا بناء على أنّ نفي جعل السلطنة مختلف في كلّ شي ء بحسبه فنفيه في الابتداء هو نفي منشئه و هو تحقّق الملكيّة، و في الاستدامة هو نفي آثاره لا نفي أصله، جمعا بين الحقّين.

و ثالثا: سلّمنا، لكن الالتزام بتخصيص نفي الجعل في طرف الاستدامة فقط غير عزيز و إن بلغ في الإباء عن التخصيص ما بلغ، كالتزام غير واحد بتخصيص قاعدة نفي الحرج و قاعدة لا ضرر بأكثر من ذلك، مع إباء سياقها عن التخصيص أيضا.

و إن كان الإيراد من جهة ما ذكره الماتن (1) قدّس سرّه أيضا من «أنّ استصحاب الصحّة في بعض المقامات .. إلخ» ففيه أوّلا: المنع من عدم الفصل لشهرة الفصل، بل الإجماع باعترافه.

و ثانيا: بأنّ استصحاب الصحّة إنّما يقدم على أصالة الفساد في مورد اجتماعهما، لا في مورد عدمه، كما فيما نحن فيه، كما لا يخفى و ثالثا: بأنّ الأصل دليل حيث لا دليل، و عموم نفي السلطنة أقوى دليل عليه.

قوله: «فتأمّل».

[أقول:] هنا إشارة إلى تلك الوجوه، و إن كان الإيراد على الآية من جهة احتمال أن يكون معنى الآية: لن يجعل اللّٰه لمجموع الكافرين على مجموع


1- المكاسب: 159.

ص: 171

المؤمنين سبيلا يدفعه ما ذكره في قواعد مجمع (1) البحرين من أنّ تقابل الجمع بالجمع ينحل مفاده إلى تقابل كلّ فرد بكلّ فرد، كما في يُوصِيكُمُ اللّٰهُ فِي أَوْلٰادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ (2).

فتلخّص ممّا ذكر: صحّة التمسّك بالآية (3) على عدم صحّة بيع العبد المسلم من الكافر، و عمومها ينفي سلطنة الكافر على المسلم من جميع طرق السلطنة و الاستيلاء الشرعي، و اندفاع جميع الإيرادات عنه.

ثمّ إنّ هذا كلّه في بيان الحكم الكبرويّ لنفي سلطنة الكافر على المسلم.

و أمّا تشخيص جزئيّات موضوع السلطنة المنفيّة فتفصيله أن يقال: أمّا تمليك العين فبجميع أنواعه من البيع و الصلح و الهبة و الوصيّة داخلة في التسليط و الاستيلاء. و أمّا تمليك المنافع فما ثبت منها في العين كان حكمه حكم تمليك العين، و ما ثبت منها في الذمّة كان حكمه حكم الدين، إلى آخر ما في المتن (4) من تفاصيل القسمين. و أمّا التمليك المستعقب بالانعتاق قهرا بحسب الواقع كتمليك من ينعتق على الكافر من الأقارب، أو بحسب الظاهر كتمليك من أقرّ الكافر بحرّيته قبل التملّك، أو التزاما بحسب اشتراط عتقه على الكافر بعد التملّك في ضمن العقد، فيبتني تشخيص اندراجه تحت السبيل و عدمه على تشخيص كون السبيل هل هو مجرّد الملك ليترتّب عليه عدم استثناء ما عدا صورة الإقرار بالحرّية، أم الملك المستقرّ و لو بالقابليّة كمشروط العتق ليترتّب عليه استثناء ما عدا صورة اشتراط العتق، أم المستقرّ فعلا ليترتّب عليه استثناء الجميع؟ وجوه


1- مجمع البحرين 6: 373.
2- النساء: 11.
3- النساء: 141.
4- المكاسب: 159.

ص: 172

ثلاثة، و «خير الأمور أوسطها» (1). و وجه ذلك: إمّا عدم صدق السبيل على غير الملك المستقرّ و لو بالقابليّة، و إمّا انصراف إطلاق السبيل على غير السبيل المستقرّ.

فإن قلت: الانصراف من خصائص الإطلاق و نفي السبيل فيما نحن فيه على وجه العموم لا الإطلاق.

قلت: الانصراف الخاصّ بالمطلقات إنّما هو الانصراف عن الأفراد النادرة، و أمّا الانصراف عن الأفراد الأندرة المعبّر عنها بمبين العدم فلا يختصّ بالمطلقات، بل يشترك فيه المطلقات و العمومات، و ما نحن فيه- أعني: الملك الغير المستقرّ لا بالفعل و لا بالقابليّة- من أندر أفراد السبيل و العلوّ، فلا يشمله العموم، كما لا يشمل عموم (2) حرمة حلق اللحى لحلق لحية المرأة لشدّة ندورها، و فيه نظر.

و أمّا التملّك القهري ابتداء ففي نفي ثبوته للكافر و عدمه وجهان، من أنّه سبيل فينفى بعموم النفي كما هو الأقوى المصرّح به الفخر في الإيضاح (3)، و من مخالفته لظاهر الفتوى الكاشف عن تخصيص عموم النفي أو تخصّصه بعدم صدق السبيل عليه، أو عدم انصرافه إليه. ثمّ و على تقدير عدم استيراث الكافر العبد المسلم ففي استيراثه الإمام تحكيما لعموم «نفي السبيل» على عموم «أدلّة الإرث» المقتضي نفي الوارث الّذي هو مورد إرث الإمام، أو استيراث الكافر حقّ استيفاء الثمن منه جمعا بين العمومين المتعارضين. وجهان، أوجههما الثاني. كما أنّه على تقدير استيراثه الكافر ففي ثبوت ولاية بيعه للحاكم مطلقا، أو في خصوص مورد امتناع الكافر من بيعه أيضا وجهان، من أنّ الولاية على بيعه


1- عوالي اللئالي 1: 296 ح 199.
2- الوسائل 1: 422 باب «67» من أبواب آداب الحمام.
3- إيضاح الفوائد 1: 414.

ص: 173

سبيل عليه فينفيه عموم النفي، و من انصراف إطلاق السبيل عن الولاية على البيع فلا ينفيه.

قوله: «إجارة الحرّ تمليك الانتفاع لا المنفعة. فتأمّل».

[أقول:] إشارة إلى أنّ الفرق و إن ظهر في قابليّة المنفعة للنقل و الانتقال و التضمين و الضمان كمنفعة استخدام الجارية و الاستمتاع منها، بخلاف الاستنفاع فإنّه لا يقبل النقل و الانتقال و التضمين و الضمان كالاستنفاع من العارية و الاستمتاع من الزوجة. إلّا أنّ هذا الفرق بين استئجار منفعة الحرّ و العبد غير مسلّم، و لو سلّم فهو غير فارق في صدق السبيل المنفي عموما، كما يدلّ عليه بينونة الزوجة بارتداد الزوج (1)، و النهي عن تزويج المؤمنة بالمخالف (2)، و عن متعة العلويّات، و كراهة الاقتراض بالأصالة (3)، و أن يؤجر نفسه (4).

قوله: «لم يعتبر الملكيّة إلّا مقدّمة للانعتاق».

أقول: بل لم يعتبر إلّا للتحفّظ على أصالة عموم «لا عتق إلّا في ملك» (5) أو أصالة كون البيع الحقيقي و المعاوضة الحقيقيّة أن يدخل كلّ من العوضين في ملك من خرج منه المعوّض، و من المعلوم حكومة عموم نفي السبيل على الأصل.

قوله: «إلّا أن يمنع اعتبار مثل هذا العلم الإجمالي. فتأمّل».

[أقول:] إشارة إلى عدم إمكان المنع من اعتبار العلم الإجمالي، إلّا أنّ يمنع العلم أمّا على تقدير صدقه: فلمنع فساد البيع بدخول المعوّض في ملك غير من خرج منه العوض. و أمّا على تقدير كذبه: فلأنّ عموم نفي سبيله عنه إنّما يقتضي


1- الوسائل 15: 399 ب «30» من أبواب أقسام الطلاق و أحكامه.
2- الوسائل 14: 423 ب (10) من أبواب ما يحرم بالكفر و نحوه.
3- الوسائل 13: 76 ب «1» من أبواب الدين و القرض.
4- الوسائل 13: 243 ب «2» من أبواب أحكام الإجارة.
5- الوسائل 16: 6 ب «5» من أبواب العتق.

ص: 174

انعتاقه بدون تملّك، و لا دليل على فساده سوى عموم «لا عتق إلّا في ملك» المحكوم بعموم (1) نفي السبيل.

قوله: «يرجع إلى أصالة الملك و عدم زواله بالفسخ [و الرجوع]. فتأمّل».

[أقول:] إشارة إلى تأمّله إلى حجّية الاستصحاب في الشكّ في المقتضى دون الرافع على ما هو عليه في الأصول دون الفقه، و قد رفعناه في محلّه.

قوله: «و لذا حكموا بسقوط الخيار في من ينعتق على المشتري.

فتأمّل».

[أقول:] إشارة إلى الفرق بين ما نحن فيه و بين مانعيّة التلف و الانعتاق من الخيار و إسقاطه، إلّا أنّه غير فارق.

ثمّ و على تقدير ثبوت ولاية البيع للكافر ففي ثبوت الخيارات بعد البيع مطلقا له و عليه و عدمه مطلقا كذلك، أو التفصيل بين الخيار عليه فيثبت و له فلا، أو التفصيل بين الخيارات الناشئة عن الضرر المنفيّ في الشريعة كالغبن و العيب فتثبت و غيرها كخيار المجلس فلا، أو التفصيل بين كون الزائل العائد كالّذي لم يزل أو كالّذي لم يعد، وجوه:

الوجه الأوّل: عموم (2) أدلّة الخيار و كون الخيار من مقتضى العقد فلا يخرج العقد عن مقتضاه. و يضعّف بمعارضة عمومها بعموم (3) نفي السبيل.

الوجه الثاني: تحكيم عموم نفي السبيل على عموم أدلّة الخيار. و يشكل في الخيارات الناشئة عن الضرر من جهة قوّة أدلّة نفي الضرر.

الوجه الثالث: قضاء أدلّة نفي الضرر ثبوت الخيار للمسلم المتضرّر من لزوم البيع على الكافر، بخلاف ما لو تضرّر الكافر فإنّ هذا الضرر إنّما حصل من كفره


1- النساء: 141.
2- الوسائل 12: 345 باب «1» من أبواب الخيار.
3- النساء: 141.

ص: 175

الموجب لعدم قابليّته تملّك المسلم. و يضعّف بعموم (1) أدلّة نفي الضرر الشامل لنفي قسمي الضرر و لو حصل من قبل نفس المكلّف و سوء اختياره.

الوجه الرابع: تحكيم عموم أدلّة نفي الضرر على عموم نفي السبيل.

و يضعّف بأنّ تحكيم عموم نفي الضرر على عموم نفي السبيل ليس بأولى من العكس، بل الأولى الجمع بين العمومين بإثبات الخيار و الحكم بالقيمة، فإنّه مقتضى الجمع بين نفي الضرر و نفي السبيل، و هو الأقرب إلى القواعد.

و بالجملة: فمقتضى قواعد الجمع بين الأدلّة و العمومات المتعارضة ليس ثبوت الخيارات للكافر في بيعه العبد المسلم مطلقا، و لا عدم ثبوتها له مطلقا، بل هو ثبوت الخيارات الضرريّة له و عليه دون الخيارات التعبّدية، لكن لا على وجه يوجب الخيار رجوع عين العبد المسلم إلى الكافر حتّى ينافيه عموم نفي السبيل، بل على وجه يرجع قيمته إليه، جمعا بين عمومي نفي السبيل و الضرر. هذا كلّه فيما يقتضيه القواعد و الأصول حسب ما هو مسلك الأساطين و الفحول، دون المتعسّفين في المناقشة و الفضول.

[مسألة المشهور عدم جواز نقل المصحف إلى الكافر]

قوله: «و ما ذكره (2) حسن و إن كان وجهه لا يخلو من (3) تأمّل».

أقول: فيه أوّلا: أنّ حسن المدّعى بعد فرض قصور دليله غير واقع أو غير نافع إلّا عند أصحاب الرأي و الاستحسان.

و ثانيا: أنّ أقصى وجه التأمّل في الاستدلال على عدم جواز نقل المصحف إلى الكافر، إمّا بفحوى المنع من بيع العبد المسلم على الكافر فهو ملابسته القياس، أو ما هو في حكمه من الأولويّة الظنّية. و إمّا بوجوب احترام المصحف فهو أعميّة الدليل من المدّعى.


1- الوسائل 17: 340 باب (12) من أبواب إحياء الموات.
2- في المكاسب: «و ما ذكروه».
3- في المكاسب: «عن».

ص: 176

بتقريب: أنّ وجوب احترام المصحف و تعظيم شعائر اللّٰه عبارة عن حرمة ترك التعظيم و الاحترام و هو أعمّ من فساد البيع الملازم لخلاف التعظيم و الاحترام إمّا من جهة عدم دلالة النهي في المعاملات على الفساد مطلقا، و إمّا من جهة أنّه إن دلّ بقرينة الاستقراء فإنّما هو فيما لو لم يتعلّق النهي بالأمر الخارج عن المعاملة، و أمّا المتعلّق به فلا يدلّ عليه بالاستقراء في النواهي الشرعيّة، كما لا يدلّ عليه وضعا و لا عرفا، و كلا وجهي التأمّل غير وجيهين.

أمّا عدم وجاهة الأوّل: فلأنّ المراد من فحوى المنع من بيع العبد المسلم على الكافر ليس مجرّد المقايسة و لا الأولويّة الظنّية، بل المراد إنّما هو الأولويّة القطعيّة، لتنقيح كون المناط القطعي في منع بيع العبد المسلم على الكافر ليس إلّا علوّ الإسلام و دنوّ الكفر، و هو الوجه في إباء آية (1) نفي السبيل في التخصيص، كما قيل، و بعد تنقيح هذا المناط القطعي في منع بيع العبد المسلم من الكافر، بل و تنصيصه بقوله: «الإسلام يعلو و لا يعلى عليه» (2)، فلا مجال للتأمّل في دلالة فحواه على منع نقل المصحف إليه بالأولويّة القطعيّة، لا بمجرّد المقايسة، و لا الأولويّة الظنيّة، كما يتوهّم.

و أمّا عدم وجاهة الوجه الثاني للتأمّل: فلما فيه من أنّ أعميّة دلالة النهي في المعاملات على الفساد المدّعي- خصوصا إذا تعلّق بالخارج عن المعاملة، كما فيما نحن فيه- مجبورة بالشهرة الفتوائية، بل الدلالتيّة الكاشفة عن استناد فهمهم ذلك من الدليل إلى القرينة.

[القول في شروط العوضين]

[يشترط في كلّ منهما أن يكون متموّلا بعد أن يكونا مملوكين]

قال: «يشترط في كلّ من العوضين (3) كونه متموّلا .. إلخ».

أقول: قبل الدليل على اشتراط الملك و المال في العوضين ينبغي أوّلا:


1- النساء: 141.
2- الوسائل 17: 376 باب «1» من أبواب موانع الإرث ح 11.
3- في المكاسب: «منهما» بدل «من العوضين».

ص: 177

تشخيص معنى المال و الملك و بيان الفرق بينهما.

و ثانيا: تحرير محلّ النزاع في اشتراطهما.

و ثالثا: تأسيس الأصل في اشتراطهما.

فنقول: أمّا الملك فعبارة عن الربط و العقلة و الاختصاص العامّ التامّ الحاصل بين الشخص و شي ء من الأشياء بالحيازة أو بغيرها و لو بالغصب و النهب لو لا حكم الشارع عن عدم حصوله به، و هو أعني: الملك من الأمور الخارجيّة كالنار و الشمس و نحوهما لا من الأحكام الوضعيّة كملكيّة الملك المتنازع في كونها مجعولة بجعل مستقلّ، أو منجعلة بجعل الأحكام التكليفيّة، كانجعال الزوجية بجعل الأربعة لا بجعل آخر، و هو الأصحّ، للغويّة جعلها بجعل آخر وراء جعل الأحكام التكليفيّة، إلّا إذا أريد من جعلها هو مجرّد النقل و الكشف عن وجودها الخارجي فيعود النزاع لفظيّا، كما احتمله شيخنا العلّامة.

و كيف كان فقد تبيّن أنّ معنى الملك عرفا الربط و علقة الاختصاص العامّ التامّ الحاصل بين الشخص و شي ء بالحيازة و نحوها مطلقا، سواء كان متموّلا أم لا، و المتموّل سواء كان متموّلا شرعا كالأطعمة أو عرفا كالخمر و الخنزير و سائر النجاسات، و الغير المتموّل سواء استند عدم تموّله إلى خسّته كالحشرات و الفضلات، أم إلى قلّته كحبّة حنطة، بخلاف المال فإنّه أخصّ من الملك، لاختصاصه عرفا بما يتموّل في السوق و لو بالانضمام كحبّة الحنطة، فإنّ في إزائها قسط من ثمن الكلّ لو توزّع الثمن على كلّ الحبّات، غايته تعسّر العلم بمقدار ذلك القسط الّذي بإزاء تلك الحبّة من ثمن الكلّ، كما لا يخفى.

و أمّا محلّ النزاع في اشتراط الملك و المال فإنّما هو في خصوص النقل بالبيع، و أمّا النقل بسائر النواقل كالصلح و الهبة فلا يشترط فيها تموّل المنقول و إن اشترط التملّك، و على ذلك فلا نزاع في صحّة انتقال ما لا يتموّل عرفا

ص: 178

كالخنافس، أو شرعا كالخمر و الخنزير و سائر النجاسات بصلح أو هبة أو قرض و إن نوزع في صحّة انتقالها بالبيع، بل الظاهر اختصاص النزاع في اشتراط تموّل العوضين بخصوص لزوم الانتقال بالبيع دون صحّة أصل البيع، فيصحّ البيع على الغير المتموّل إذا اجتمع سائر شروط الصحّة من الرضا و فقد الموانع من البيع السفهي، كما إذا اشترى الخمر أو غيره ممّا لا يتموّل عرفا أو شرعا، لأجل مصلحة عقلائيّة مخرجة للمعاملة عن المعاملة السفهيّة، فتصحّ تلك المعاملة بالبيع، لعموم تِجٰارَةً عَنْ تَرٰاضٍ (1) و إن لم يلزم، و كذلك ضمان ما يضمن بغصب أو غيره لا يختصّ بالمتموّل عرفا، بل يعمّ المتموّل و المتملّك، و لهذا يحرم غصب الملك و إن لم يتموّل كالفضلة و حبّة الحنطة، غايته وجوب ردّ المثل على ضامنه، كما صرّح به كلّ من تأخّر عن العلّامة رادّا عليه.

و أمّا تأسيس الأصل فتفصيله أن يقال: أمّا الأصل العملي فهو مع اشتراط كلّ ما يشكّ في اشتراطه في المعاملة، لأصالة الفساد في المعاملات، و استصحاب عدم النقل و الانتقال. و أمّا الأصل اللفظي و هو عموم تِجٰارَةً عَنْ تَرٰاضٍ و عموم أَوْفُوا بِالْعُقُودِ (2) وَ أَحَلَّ اللّٰهُ الْبَيْعَ (3) فمع عدم اشتراط تموّل كلّ من العوضين في البيع، لأصالة عدم التقييد و التخصيص. إلّا أن يقال: إنّ البيع لغة (4) مبادلة مال بمال، فلا يصدق على مبادلة غير المال، كما استدلّوا به على اشتراط التموّل، بل لو سلّمنا صدق البيع على ما لا يتموّل من العوضين فلا إشكال في أنّه من أندر أفراد البيع المنصرف عنه العموم و الإطلاق بالاتّفاق، فيعود المرجع فيه إلى أصالة الفساد، و استصحاب عدم النقل و الانتقال.


1- النساء: 29.
2- المائدة: 1.
3- البقرة: 275.
4- المصباح المنير 1: 69.

ص: 179

و أمّا دليلهم على اشتراط تموّل العوضين في البيع فهو تحديد البيع لغة، كما عن المصباح (1)، و عرفا، كما استقرّ عليه اصطلاح الفقهاء بمبادلة مال بمال، فلا يصدق على مبادلة غير المال، كما صرّحوا به.

أقول: تحديد البيع بذلك و إن لم يكن اتّفاقيا- بل عرّفه بعضهم بمبادلة عين بعوض و إن احتمل أن يراد من العين ما يقابل المنفعة لا الأعمّ من المال، بل و على تقدير كونه اتّفاقيا كما استظهره شيخنا العلّامة وفاقا للمتن (2) يحتمل كونه تعريفا بالأعمّ لأغلب أفراد البيع، نظرا إلى أنّ أغلب أفراد البيع هو تموّل العوضين بحيث يعدّ بيع غير المتموّل من أندر أفراد البيع المنصرف عنه إطلاق البيع أو من أفراد بيع السفهي غالبا المخرج عن حكم البيع- إلّا أنّه لا أقل من إفادة ظاهر تحديدهم المذكور لغة، و استقرار اصطلاح الفقهاء عليه الظنّ باعتبار تموّل العوضين في معنى البيع و صدقه، و هو كاف في إثبات ما يكون من الموضوعات المستنبطة اتّفاقا، و لو لم يكف في إثبات مثله فلا أقل من كفايته في وهن عمومات صحّة البيع و وهن نهوضها إلى صحّة بيع غير المتموّل، بل و لو لم يكف ذلك الظنّ في وهن نهوض عمومات صحّة البيع إلى الغير المتموّل، كما هو لازم القائلين باعتبار ظواهر الألفاظ من باب الظنّ النوعي أو التعبّد المطلقين، فلا أقل من انصراف العمومات عنه بواسطة شدّة ندوره.

و أمّا ما قاله الماتن بقوله: «و الأولى أن يقال .. إلخ» (3) ففيه أوّلا: أنّ استدلاله على عدم جواز وقوع غير المال أحد العوضين بقوله: «لا بيع إلّا في ملك» (4) استدلال على المدّعي بالأعمّ منه باعترافه أيضا قبل ذلك، إلّا أن يوجّه


1- المصباح المنير 1: 69.
2- المكاسب: 79.
3- المكاسب: 161.
4- عوالي اللئالي 2: 247 ح 16.

ص: 180

بأنّ عدم الخلاف في المسألة جابر لعموم دليله، و لكنّه توجيه بما لا يرضى به صاحبه، لعدم بناء الماتن قدّس سرّه في أصوله على الجبر بمطلق الظنّ.

و ثانيا: أنّ تفصيله الّذي أشار إليه بقوله: «و ما لم يتحقّق فيه ذلك .. إلخ» (1) تفصيل في غير محلّه، لأنّ القرار و المدار في كلّ مسألة البحث عنه من حيث هو، مع الإغماض عن سائر الأمور الخارجة المعتبرة وجودا أو عدما، كما لا يخفى على من له خبرة.

قوله: «و يمكن حملها على بيان الاستحقاق .. إلخ».

أقول: لا يخفى أنّ نصوص (2) وجوب خصوص الطسق و الخراج في الأراضي للإمام مخصّصة لعمومات «ما كان لنا فهو لشيعتنا» (3)، فتخصيص هذه النصوص المخصّصة لتلك العمومات بخصوص زمان حضور الإمام أو مطالبة الخراج بتخصيص بلا مخصّص و بغير محلّ الابتلاء و زمان عموم البلوى، بل المنصوص (4) تخصيص الإباحة للشيعة بخصوص الأطيبين من الشيعة أو المخاطبين بالتحليل و الإباحة، أو بخصوص ما استثنى من عمومات الخمس من المساكن لتصحيح صلاتهم و المتاجر لتزكية أموالهم و المناكح لتطيب ولادتهم.

قوله: «و إلّا فالظاهر عدم الخلاف .. إلخ».

[أقول:] فيه: ما عرفت من الخلاف من التابعين لنا عن خلف، حتّى من الأصحاب المؤيّد بفهم ثقاتهم.


1- المكاسب: 161.
2- الوسائل 6: 382 و 383 ب «4» من أبواب الأنفال و ما يختصّ بالإمام ح 12 و 13 و ج 17: 329 ب «3» من أبواب إحياء الموات ح 2.
3- الوسائل 6: 384 ب «4» من أبواب الأنفال و ما يختصّ بالإمام ح 17.
4- الوسائل 6: 379 ب «4» من أبواب الأنفال و ما يختصّ بالإمام.

ص: 181

قال: «الثاني: ما كانت عامرة بالأصالة أي لا من معمر، و الظاهر أيضا أنّه للإمام عليه السّلام .. إلخ».

أقول: بل الظاهر من الأخبار المستفيضة بل المتواترة المسطورة في الوسائل (1) و الجواهر (2) و البحار (3) تعميم الأنفال لجميع الأراضي و ما فيها من المغابر و المعاصر و المعادن و الكنوز و العيون و الأشجار و الأنهار و الإصحار و البراري و البحار كلّها من أنفال اللّٰه تعالى، الّتي أعطاها لآدم عليه السّلام لمّا جعله خليفة الأرض، و أورثها المصطفين من خلفاء ذرّيّته، و أنّها مغصوبة في أيدي الجائرين و الكفّار، محرّمة على من عدا شيعتهم، كما يدلّ عليه من الكتاب تفسير قوله تعالى إِنَّ الْأَرْضَ لِلّٰهِ يُورِثُهٰا مَنْ يَشٰاءُ مِنْ عِبٰادِهِ (4)، و كما يومئ إليه تسمية ما جعل اللّٰه لهم من الأنفال فيئا في قوله تعالى مٰا أَفٰاءَ اللّٰهُ عَلىٰ رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرىٰ فَلِلّٰهِ وَ لِلرَّسُولِ وَ لِذِي الْقُرْبىٰ (5)، إذ الفي ء بمعنى الرجوع، أي أنّه كان في أيدي الكفّار مغصوبا ثمّ أرجعه اللّٰه إليهم.

و من الأخبار: خبر ابن الريّان: كتبت إلى العسكري عليه السّلام: «جعلت فداك، روي لنا أن ليس لرسول اللّٰه صلّى اللّٰه عليه و آله من الدنيا إلّا الخمس، فجاء الجواب: أنّ الدنيا و ما عليها لرسول اللّٰه» (6)، و مرسل محمد بن عبد اللّٰه المضمر: «الدنيا و ما فيها للّٰه و لرسوله و لنا» (7) الحديث.

و في آخر في أخبار الوسائل: دخلت على أبي جعفر عليه السّلام فقلت له: «إنّي


1- انظر الوسائل 6: 364 باب «1» من أبواب الأنفال.
2- جواهر الكلام 16: 116- 121.
3- انظر البحار 96: 204 ب «25».
4- الأعراف: 128، انظر تفسير البرهان 2: 570- 571.
5- الحشر: 7.
6- الكافي 1: 409 ح 6.
7- الكافي 1: 408 ح 2.

ص: 182

وليت البحرين فأصبت بها مالا كثيرا، و اشتريت متاعا، و اشتريت رقيقا، و اشتريت أمّهات أولاد ولدي، و أنفقت، و هذا خمس ذلك المال، و هؤلاء أمّهات أولادي و نسائي قد أتيتك به، فقال عليه السّلام: أما إنّه كلّه لنا و قد قبلت ما جئت به، و قد حللتك من أمّهات أولادك و نسائك و ما أنفقت، و ضمنت لك عليّ و على أبي الجنّة» (1). و رواه المفيد في المقنعة (2): عن ابن أبي عمير.

و في خبر آخر فيه عن الباقر عليه السّلام: «قال رسول اللّٰه: خلق اللّٰه تعالى آدم و أقطعه الدنيا قطيعة، فما كان لآدم فلرسول اللّٰه، و ما كان لرسول اللّٰه فهو للأئمّة من آل محمد» (3).

و المعتبرة كالصحيح عن عمر بن يزيد قال: «رأيت أبا يسار مسمع بن عبد الملك بالمدينة و قد كان حمل إلى أبي عبد اللّٰه مالا في تلك السنة فقلت له:

و لم ردّ عليك أبو عبد اللّٰه عليه السّلام المال الّذي حملته إليه؟ فقال: إنّي قد قلت له حين حملت المال إليه: إنّي كنت وليت الغوص فأصبت أربعمائة درهم و قد جئت بخمسها ثمانين ألف درهم و كرهت أن أحبسها عنك و أعرض لها و هي حقّك الّذي جعله اللّٰه لك في أموالنا. فقال: و ما لنا من الأرض و ما أخرج اللّٰه منها إلّا الخمس.

يا أبا يسار، إن الأرض كلّها لنا، فما أخرج اللّٰه من شي ء فهو لنا، فقلت له:

و أنا أحمل إليك المال كلّه. فقال: يا أبا يسار، قد طيّبناه لك و أحللناك منه، فضم إليك مالك، و كلّ ما في أيدي شيعتنا من الأرض فهم فيه محلّلون يحلّ لهم حتّى يقوم قائمنا فيجبيهم طسق ما كان في أيديهم و يترك الأرض في أيديهم، و أمّا ما كان في أيدي غيرهم فإنّ كسبهم من الأرض حرام عليهم حتّى يقوم قائمنا، فيأخذ


1- الوسائل 6: 368 باب «1» من أبواب الأنفال ح 13.
2- المقنعة: 281.
3- الكافي 1: 409 ح 7.

ص: 183

الأرض من أيديهم و يخرجهم عنها صغرة.

قال عمر بن يزيد: فقال لي أبو يسار: ما أرى أحدا من أصحاب الضياع و لا ممّن يلي الأعمال يأكل حلالا غيري إلّا من طيّبوا له» (1).

و خبر آخر: «قلت لأبي عبد اللّٰه عليه السّلام: ما لكم من هذه الأرض؟ فتبسّم، ثمّ قال:

إنّ اللّٰه تعالى بعث جبرئيل و أمره أن يخرق بإبهامه ثمانية أنهار في الأرض، منها: سيحان و جيحان و هو نهر بلخ، و الخشوع و هو نهر الشاش، و مهران و هو نهر الهند، و نيل مصر، و دجلة، و فرات، فما سقت أو استقت فهو لنا، و ما كان لنا فهو لشيعتنا، و ليس لعدوّنا منه شي ء إلّا ما غصب عليه، و إنّ وليّنا لفي أوسع فيما بين ذه و ذه يعني بين السماء و الأرض- ثمّ تلا هذه الآية قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيٰاةِ الدُّنْيٰا- المغصوبين عليها- خٰالِصَةً يَوْمَ الْقِيٰامَةِ (2) بلا غصب» (3).

و قوله عليه السّلام: «نحن أصحاب الخمس و الفي ء، و قد حرّمناه على جميع الناس ما خلا شيعتنا» (4).

و المرويّ عن العسكري عليه السّلام، عن آبائه، عن أمير المؤمنين عليه السّلام «أنّه قال لرسول اللّٰه صلّى اللّٰه عليه و آله: قد علمت يا رسول اللّٰه أنّه سيكون بعدك ملك غضوض و جبر فيستولى على خمسي من السبي و الغنائم، و يبيعونه و لا يحلّ لمشتريه، لأنّ نصيبي فيه، و قد وهبت نصيبي لكلّ من ملك شيئا من ذلك من شيعتي لتحلّ لهم منافعهم من مأكل و مشرب، و لتطيب مواليدهم و لا يكون أولادهم أولاد حرام.


1- الكافي 1: 408 ح 3.
2- الأعراف: 32.
3- الوسائل 6: 384 باب «4» من أبواب الأنفال ح 17.
4- الوسائل 6: 385 باب «4» من أبواب الأنفال ح 19.

ص: 184

فقال رسول اللّٰه صلّى اللّٰه عليه و آله: ما تصدّق أحد أفضل من صدقتك، و قد تبعك رسول اللّٰه صلّى اللّٰه عليه و آله في فعلك أحلّ للشيعة كلّ ما كان فيه من غنيمة أو بيع من نصيبه على واحد من شيعتي، و لا أحلّها أنا و أنت لغيرهم» (1).

و قوله عليه السّلام: «يا أبا محمد، أما علمت أنّ الدنيا و الآخرة للإمام يضعها حيث يشاء، و يدفعها إلى من يشاء؟ جائز له ذلك من اللّٰه» (2).

إلى غير ذلك من تضافر الأخبار المؤيّدة بالتدبّر و الاعتبار بأنّ الدنيا بأسرها لهم و من أنفالهم، لا خصوص الموات و الآجام و ما لا ربّ له من العمار، كما زعمه علّامة مشايخنا الأعلام، وفاقا لأكثر مشايخه العظام.

و من جملة المؤيّدات لعموم أخبار تعميم الأنفال فهم جملة من أجلّاء خواصّ المشافهين بها العموم منها مثل: أبي يسار المتقدّم حيث قال بعد ذكر الحديث المتقدّم: «ما أرى أحدا من أصحاب الضياع و لا من يلي الأعمال يأكل حلالا غيري إلّا من طيّبوا له» (3) و مثل ابن أبي عمير على ما حكى عنه في الجواهر من أنّه «لم يكن يعدل بهشام بن الحكم شيئا، و كان لا يغب إتيانه ثمّ انقطع عنه و خالفه، و كان سبب ذلك أنّ أبا مالك الحضرمي كان أحد رجال هشام وقع بينه و بين ابن أبي عمير ملاحاة في شي ء من الإمامة. قال ابن أبي عمير: إنّ الدنيا كلّها للإمام على جهة الملك، فإنّه أولى بها من الّذين هم بأيديهم. و قال أبو مالك: أملاك الناس لهم إلّا ما حكم اللّٰه به للإمام من الفي ء و الخمس و المغنم، و ذلك له. و ذلك أيضا قد بيّن [اللّٰه] للإمام أين يضعه و كيف يصنع به، فتراضيا بهشام بن الحكم و صارا إليه فحكم هشام لأبي مالك على ابن أبي عمير، فغضب ابن أبي


1- الوسائل 6: 385 ب (4) من أبواب الأنفال ح 20.
2- الكافي 1: 408 ح 4.
3- تقدّم ذكر مصدره في هامش (1) ص: 183.

ص: 185

عمير و هجر هشاما بعد ذلك» (1).

لا يقال: إنّ فهم أبي يسار و ابن أبي عمير معارض بفهم هشام و أبي مالك.

لأنّا نقول: فهم المثبت مقدّم على فهم النافي لأغلبيّة الخطأ في النفي على الخطأ في الإثبات.

و من جملة المؤيّدات لتعميم الأنفال أيضا ما ورد من الأخبار (2) المفتي به الأصحاب من أنّ غنائم دار الحرب كلّها للإمام إذا اغتنمت بغير إذنه، إلّا إذا اغتنمت بإذنه فيختصّ به خمسها، نظرا إلى أنّ استحقاق المأذون الزيادة كأنّه من قبيل حقّ الجعالة في إزاء عمله المأذون فيه.

و من جملة المؤيّدات أيضا لتعميم الأنفال خبر زرارة المفتي به قال:

«الإمام يجزي و ينفل و يعطي ما يشاء قبل أن تقع السهام، و قد قاتل رسول اللّٰه صلّى اللّٰه عليه و آله بقوم لم يجعل لهم في الفي ء نصيبا و إن شاء قسّم ذلك بينهم» (3). و قوله عليه السّلام في الوسائل: «و للإمام صفو المال أن يأخذ من هذه الأموال صفوها؛ الجارية الفارهة، و الدابّة الفارهة، و الثوب، و المتاع، ممّا يحبّ أو يشتهي، فذلك له قبل القسمة و قبل إخراج الخمس، و له أن يسدّ بذلك المال جميع ما ينوبه من مثل إعطاء المؤلّفة قلوبهم، و غير ذلك ممّا ينوبه، فإن بقي بعد ذلك شي ء أخرج الخمس منه فقسّمه في أهله و قسّم الباقي على من ولي ذلك، و إن لم يبق بعد سدّ النوائب شي ء فلا شي ء لهم» (4) الحديث. إلى غير ذلك من الأخبار الدالّة على أنّ


1- جواهر الكلام 16: 4.
2- الوسائل 6: 365 و 369 ب «1» من أبواب الأنفال ح 3 و 16.
3- الوسائل 6: 365 باب «1» من أبواب الأنفال ح 2.
4- الوسائل 6: 365 باب «1» من أبواب الأنفال ح 4.

ص: 186

للإمام أن يصطفي من الغنيمة ما شاء قبل القسمة. و نقل في الذخيرة (1) عن المنتهى (2) نسبته إلى علمائنا أجمع.

و من جملة المؤيّدات أيضا لتعميم الأنفال مخالفة إخباره لمذاق العامّة جدّا، و موافقة أخبار التخصيص لمذاقهم في الجملة.

و من جملة مؤيّدات تعميم الأنفال أيضا مخالفة إخباره للأصل بناء على تقديم الناقل على المقرّر.

و من جملة مؤيّدات تعميم الأنفال بالجملة تعميم الفتوى به في الجملة عن المفيد (3) و الكليني (4) و الشيخ (5) و الديلمي (6) و القاضي (7) و القميّ (8) في تفسيره و الذخيرة (9) و الكشف (10) حيث عمّموا الأنفال للمعادن. و عن المفيد (11) و الكليني (12) على ما في الذخيرة (13) تعميم الأنفال إلى البحار أيضا.

لا يقال: تعميم معمّم الأنفال للمعادن و البحار مستند إلى خصوص أخبار عدّ المعادن و البحار من الأنفال بالخصوص، لا أنّه مستند إلى عموم أخبار (14) أنّ الأرض كلّها لنا حتّى يكون مؤيّدا للعموم.


1- ذخيرة المعاد: 489، س 38.
2- المنتهى 1: 553.
3- المقنعة: 278.
4- الكافي 1: 538.
5- المبسوط 1: 263- 364.
6- المراسم: 140.
7- المهذب 1: 186.
8- تفسير القمي 1: 254.
9- ذخيرة المعاد: 489.
10- كشف الغطاء: 364.
11- المقنعة: 278.
12- الكافي 1: 538.
13- ذخيرة المعاد: 490.
14- الكافي 1: 407.

ص: 187

لأنّا نقول: تعميم الفتوى في الجملة كاف في تأييد الفتوى بالجملة و إن اختلف المستند، كما أنّ أخبار التعميم في الجملة كاف في تأييد أخبار التعميم بالجملة و إن اختلفا من حيث العمل و الفتوى.

و بالجملة: فالمقصود من ذلك كلّه بيان أنّ ما استقر به شيخنا العلّامة وفاقا للجواهر و غيره من إبطان ظاهر أخبار تعميم الأنفال و إظهار باطنها بتخريج ظاهرها عن إثبات السلطنة المالكيّة للإمام على أملاك الدنيا بالجملة إلى إثبات سلطنة الرئاسة له على الملّاك نظير قول القائل: «إنّ المملكة الفلانيّة ملك للسلطان الفلاني» مريدا به سلطنة الرئاسة لا السلطنة المالكيّة، أو إلى إثبات العلّة الغائيّة لهم في خلق الأملاك، بل الأفلاك خلاف ظاهر تلك الآيات و الأخبار المتضافرة المؤيّد بالتدبّر و الاعتبار من غير موهن و لا موهم.

لأنّ الموهن لوهن ظهورها في تعميم الأنفال إن كان من جهة اختصاص تفسير الأنفال في أكثر الأخبار (1) بخصوص الموات و الآجام و بطون الأودية و رءوس الجبال و البادي و المنجلي عنها أهلها دون مطلق الأرض و ما فيها ففيه نقضا: باقتصار بعض الأخبار (2) المفسّرة للأنفال على ذكر الأرض البادي أو المنجلي عنها أهلها فقط، و اقتصار بعضها (3) الآخر على ذكر الموات فقط، و بعضها (4) الآخر على ذكر الموت و صفايا و بطون الأودية و رءوس الجبال و ما لم يوجف عليه بخيل و لا ركاب فقط، و بعضها (5) الآخر على إلحاق المعادن بها.


1- الوسائل 6: 364 باب «1» من أبواب الأنفال.
2- الوسائل 6: 365 و 372 ب «1» من أبواب الأنفال و ما يختصّ بالإمام ح 4 و 25.
3- الوسائل 6: 372 ب «1» من أبواب الأنفال و ما يختصّ بالإمام ح 24 و 26 و 29.
4- الوسائل 6: 365 و 371 ب «1» من أبواب الأنفال و ما يختصّ بالإمام ح 4 و 22.
5- الوسائل 6: 371 و 372 ب «1» من أبواب الأنفال و ما يختصّ بالإمام ح 20 و 28 و 32.

ص: 188

و حلّا: بأنّ إثبات شي ء لا يقتضي نفي ما عداه، لعدم اعتبار المفهوم للألقاب، فكما أنّ اقتصار تفسير الأنفال في بعض هذه الأخبار لا ينافي تعميمها في بعض الأخبار الأخر في الجملة، حملا له على التمثيل، كذلك لا ينافي تعميمها في بعضها الآخر بالجملة، حملا له على التمثيل.

هذا، مع أنّ اقتصار أكثر أخبار تفسير الأنفال على الخصوصيّات لعلّه من جهة مراعاة نوع من التقيّة، أو من جهة قلّة الجدوى في تعميم الأنفال لما هو مغصوب في يد أهل الجور و الضلال، أو لما هو مباح لشيعتهم على كلّ حال.

و إن كان الموهم لوهن عمومها توهّم إعراض الأصحاب عن عموماتها و استقرار فتواهم على أنّ المياه و العيون و المعادن و نحوها من المباحات بالأصالة الّتي ليست ملكا لأحد سوى اللّٰه؛ لقوله صلّى اللّٰه عليه و آله: «الناس شركاء في ثلاث: النار و الماء و الكلاء» (1) ففيه أوّلا: منع أصل تحقّق الإعراض، بعد ما عرفت من نقل العمل بعمومها عن مثل ابن أبي عمير و غيره من خواصّ أجلّاء الصحابة و التابعين كالمفيد و الكليني، و تابعي التابعين كبعض الأعلام من مشايخنا و بعض الأفاضل من معاصرينا.

و ثانيا: لو سلّمنا أصل تحقّق الإعراض، إلّا أنّه لا نسلّم وهن العمومات بمثل هذا الإعراض، لكن لا من جهة عدم اعتبار الظنّ الفعليّ في اعتبار الظواهر، بل من جهة ما عرفت من اعتضاد تلك العمومات بالمؤيّدات المانعة من وهنها بمجرّد الإعراض، خصوصا مع احتمال استناد ذلك الإعراض إلى نوع من التقيّة أو قلّة الجدوى في عمومها.

و إن كان الموهم لوهن العموم أصالة عدم اختصاص الإمام عليه السّلام بما عدا المتيقّن من الأنفال اقتصارا فيما خالف الأصل على المتيقّن فيندفع بعدم مقاومة


1- الوسائل 17: 331 باب (5) من أبواب إحياء الموات ح 1.

ص: 189

الأصل لنصوص الباب.

و إن كان الموهم لوهنها توهّم منافاة الأخبار الدالّة على وجوب الخمس في المعادن و الكنوز و الغنائم لكونها بأسرها من الأنفال إذ لا معنى لوجوب الخمس في مال الإمام عليه السّلام على الغير.

فنقول في دفعه: إن كان المنافي لكون المعادن و الغنائم بأسرها من الأنفال هو استحقاق الإمام الخمس منها لا الكلّ فيدفعه: منع استحقاق الحائز الزائد على الخمس بمجرّد الحيازة و بالأصالة، بل إنّما يستحقّه بالتبع لإذن الإمام في حيازته، فكأنّ استحقاق الحائز الزائد على الخمس في إزاء عمله من باب حقّ الجعالة لا من باب الأصالة، نظير استحقاق الملتقط من اللقيط المملوك للغير ما ينفقه عليه بنيّة الرجوع. كما يرشد إلى ذلك جواب الذخيرة عن ذلك الإشكال بقوله: و معنى كون الإمام مالكا لمجموع المعادن أنّ له التصرّف في المجموع بالإذن و المنع (1)، و هو لا ينافي النصّ (2) و الفتوى بأن ما أخرج بإذنه كان خمسه للإمام الآذن و الباقي للمخرج المأذون. و كما يرشد إلى ذلك أيضا قيام النصّ (3) و الفتوى على اختصاص الإمام بجميع المغتنم من دار الحرب بدون إذنه، و على أنّ له أن يصطفي كلّ ما شاء من المغتنم بإذنه قبل القسمة أيضا.

و إن كان المنافي له هو وجوب الخمس في مال الإمام على الغير- كما لعلّه الموهوم من عبارة الموهم- فيدفعه: أنّ وجوب الخمس في مال الإمام ليس على مطلق الغير، بل على خصوص الحائز لماله من قبيل وجوب ردّ الأمانات على أهلها.

و إن كان المنافي له هو جواز إبدال خمس العين بقيمته دون تعيين الخمس


1- ذخيرة المعاد: 490.
2- الوسائل 6: 365 ب «1» من أبواب الأنفال و ما يختصّ بالإمام ح 3.
3- الوسائل 6: 369 ب «1» من أبواب الأنفال و ما يختصّ بالإمام ح 16.

ص: 190

في العين- كما لعلّه الموهوم من عبارة الموهم أيضا- فيدفعه: أنّ جواز إبدال الخمس بقيمته من قضاء الدليل الخارجي المحتمل أن يكون سرّه التسهيل و المواسعة على شيعتهم في تأدية حقوقهم.

و إن كان الموهم لوهن عموم النوافل هو ظهور النبويّ «الناس شركاء في ثلاث: النار و الماء و الكلاء» (1) في كون الثلاث من المباحات الأصليّة ففيه- على تقدير تسليم سنده-: منع ظهوره في بيان الإباحة الأصليّة، لاحتمال إرادته صلّى اللّٰه عليه و آله إباحتها على الناس من قبل نفسه صلّى اللّٰه عليه و آله لا بالأصل من قبله تعالى. و لو سلّم ظهوره أيضا في الإباحة الأصليّة فالأخبار المتقدّمة على العموم أقوى منه ظهورا و أكثر عددا و أقرب تأييدا بالتدبّر و الاعتبار فتقدّم عليه، حملا للظاهر على الأظهر.

و إن كان الموهم لوهن عموم النوافل هو منافاة عمومها للإجماع المنقول على تملّك الحائز شيئا من الماء و الكلاء بمجرّد الحيازة ففيه: المنع بأنّه لا منافاة بين تملّك الحائز شيئا من الماء و الكلاء بمجرّد الحيازة، و بين الملكية السابقة على الحيازة للإمام عليه السّلام بالأصالة، كما لا منافاة بين الإجماع المنقول أيضا على تملّك الموات بمجرّد الإحياء مع الاتّفاق على كونها من الأنفال، و بين الملكيّة السابقة للإمام على إحيائها بالأصالة اتّفاقا.

هذا، مع أنّ الإجماع المدّعى على تملّك نوافل الإمام في زمن الهدنة بمجرّد الحيازة أو الإحياء ممنوع جدّا، فإنّ الإجماع إنّما هو على إباحتهم للشيعة خصوص التصرّف دون التملّك بالشراء، بل و خصوص التصرّفات اللابدّية الّتي لا يتمّ التخلّص من المأثم بدونها كالمناكح و المساكن و المتاجر، كما في الجواهر (2) عن التهذيب (3).


1- تقدّم ذكر المصدر في هامش (1) ص: 188.
2- الجواهر 16: 146.
3- التهذيب 4: 142.

ص: 191

و أمّا الأنفال و ما يجري مجراها فليس يصحّ تملّكها بالشراء و إنّما أبيح لنا التصرّف فحسب كما في المرسل من الصادق عليه السّلام حيث سئل: «يا بن رسول اللّٰه، ما حال شيعتكم فيما خصّكم اللّٰه به إذا غاب غائبكم و استقر قائمكم؟ فقال عليه السّلام: ما أنصفناهم إن أخذناهم، و لا أجبناهم إن عاقبناهم، نبيح لهم المساكن لتصحّ عباداتهم، و نبيح لهم المناكح لتطيب ولادتهم، و نبيح لهم المتاجر ليزكّوا أموالهم» (1).

و كما عن السرائر بعد ذكره الأنفال و اختصاصها بالنبيّ صلّى اللّٰه عليه و آله ثمّ بالقائم مقامه، قال: و أمّا في حال الغيبة فقد رخّصوا لشيعتهم التصرّف في حقوقهم ممّا يتعلّق بالأخماس و غيرها ممّا لا بدّ لهم منه من المناكح و المتاجر و المساكن. و أمّا ما عدا الثلاثة فلا يجوز التصرّف فيه على حال (2)، إلى غير ذلك من تعبيرات القدماء، بل و جميع المتأخّرين على ما حكاها الجواهر (3)، المصرّحة بنفي تمليكهم الأنفال للشيعة، و انحصار تحليلهم الشيعة في إباحة التصرّف في مطلق الأنفال، أو خصوص المناكح و المساكن و المتاجر على اختلاف النصوص و الفتاوى، الّتي عرفتها في الجملة على وجه لو لم يفد الإجماع على خصوص الإباحة دون التمليك فلا أقلّ من وهنها الإجماع المنقول على العكس.

لا يقال: إنّ مقتضى عموم «لا وطء إلّا في ملك» عدم تحليل المناكح إلّا بتمليكها.

لأنّا نقول: أوّلا: أنّ عموم «لا وطء إلّا في ملك» (4) قد خصص بجواز


1- مستدرك الوسائل 7: 303 باب «4» من أبواب الأنفال ح 3.
2- السرائر 1: 498.
3- جواهر الكلام 16: 145- 149.
4- لم نعثر عليه بهذا اللفظ، انظر الوسائل 15: 12 ب (7) من أبواب المهور ح 1، و عوالي اللئالي 1: 233 ح 136، و ج 3: 205 ح 37، و البحار 103: 297 ح 1.

ص: 192

الوطء شرعا بالتحليل، كما لو قلت للغير: أحللت لك جاريتي فإنّه يجوز وطئها إجماعا من دون ملك، فليكن تحليل الإمام عليه السّلام المناكح لنا (1) من هذا الفرد، الغير المتوقّف على التمليك.

و ثانيا: لو سلّمنا توقّفه على الملك من جهة الوطء فإنّما هو تملّك قهريّ حاصل من تقدير الملك قبل الوطء آنا ما، لا تملّك اختياريّ حاصل من مجرّد الحيازة أو الإحياء.

و من جملة مؤيّدات أن يكون تحليل أنفالهم على الشيعة على وجه الإباحة لا التمليك: هو خلوّ جميع أخبار الباب- مع كثرتها و تواترها و اختلاف تعابيرها- عن ترتّب التمليك و ما يؤدّي مؤدّاه صريحا و لا ظهورا على حيازة شي ء من الأنفال، أو إحيائها.

نعم، عمدة ما يوهم ظهوره التمليك لفظ اللام في مثل قوله عليه السّلام: «ما كان لنا فهو لشيعتنا» (2)، و لفظ الهبة في قوله عليه السّلام: «و قد وهبت نصيبي لكلّ من ملك شيئا من ذلك من شيعتي لتحلّ لهم منافعهم من مأكل و مشرب لتطيب مواليدهم، و لا يكون أولادهم أولاد حرام» (3) الخبر، و ظهور هذين اللفظين معارض بأظهريّة لفظ التحليل و الإباحة، المقيّدين بأداء الطسق و اجرة الأرض من بعض الأخبار (4)، و بزمان الهدنة من بعضها الآخر (5)، و بقيام القائم عليه السّلام من بعضها الآخر (6) في مجرّد الإباحة و نفي التمليك. و من البيّن حكومة الأظهر على الظاهر، و حمل الظاهر


1- الوسائل 6: 378 ب «4» من أبواب الأنفال و ما يختصّ بالإمام.
2- الوسائل 6: 384 ب «4» من أبواب الأنفال و ما يختصّ بالإمام ح 17.
3- الوسائل 6: 385 ب «4» من أبواب الأنفال و ما يختصّ بالإمام ح 20.
4- الوسائل 6: 382 ب «4» من أبواب الأنفال و ما يختصّ بالإمام ح 12.
5- الوسائل 6: 383 ب (4) من أبواب الأنفال و ما يختصّ بالإمام ح 13.
6- الوسائل 6: 381- 383 ب (4) من أبواب الأنفال و ما يختصّ بالإمام ح 11 و 12 و 13.

ص: 193

على الأظهر.

و من جملة المؤيّدات أيضا لحمل التحليل على الإباحة لا التمليك: هو مخالفة التمليك للأصل و استصحاب عدم النقل، و لتقييد التحليل في بعض الأخبار بزمان الهدنة، و في بعضها الآخر بأداء الطسق و اجرة الأرض، و في بعضها الآخر بقيام القائم عليه السّلام، فإنّ التمليك لا يقبل التقييد بزمان دون زمان، و لا بأداء عوض منافع الملك.

فتحصّل مما ذكرنا تحقيق الكلام في الأنفال من جهتين: إحداهما: من جهة تعميم الأنفال، و عدم تخصيصها بما زعم. و الأخرى: من جهة كيفيّة تحليلها على الشيعة في زمن الهدنة إنّما هو على وجه الإباحة، لا التمليك.

و مما يتفرّع على الأوّل: تحريم الماء و النار و الكلاء كسائر الأنفال على من عدا الشيعة، بناء على تعميم الأنفال لها، و تحليلها على الكلّ بناء على تخصيص الأنفال بما عداها، فالحائز ممن عدا الشيعة شيئا من الماء و النار و الكلاء لا يتملّكه و لا يستباح له، بناء على التعميم لا التخصيص، فيجوز للمتمكّن من الشيعة استنقاذه منه قهرا، إلّا لتقيّة و نحوه، بناء على التعميم لا التخصيص، بل جاز لنائب الإمام أخذ الخراج من غير المسلمين على إباحة ما يجيزونه من الماء و الكلاء أو يحيونه من موات الأراضي و نحوها على التعميم لا التخصيص.

و مما يتفرّع على الثاني: هو عدم جواز التصرّفات المالكيّة من البيع و الشراء و نحوهما فيما عدا المستثنيات الثلاث من الأنفال للحائز أو المحيي شيئا منها إلّا تبعا للآثار الحادثة، بناء على التحليل، و جوازها بناء على التمليك.

و مما يتفرّع على الثاني أيضا: هو تملّك الحائز أو المحيي شيئا من الأنفال بمجرّد الحيازة أو الإحياء، بناء على أنّ تحليلها على الشيعة على وجه التمليك، و عدم تملّكه بمجرّد الحيازة و الإحياء و إن لم يجز للغير مزاحمته، بناء على أنّ

ص: 194

تحليلها على وجه الإباحة، كما هو الأظهر. فلا يترتّب أحكام الغصب على من يزاحم الحائز و المحيي في أخذ ما حازه أو أحياه و إن فعل حراما في مزاحمته حقّ الاختصاص و الأولويّة، بناء على إباحتها، و يترتّب أحكام الغصب من بطلان العبادات المزاحمة لحق اختصاص الحائز و المحيي بما حازه أو أحياه من الأنفال، بناء على تملّكها بمجرّد الحيازة و الإحياء.

و لعلّ من مؤيّدات أن يكون تحليل الأنفال على وجه الإباحة لا التمليك:

الأخبار الواردة في: «أنّ للناس من الأرض حقّ في الصلاة و أنّ شيعتنا لفي أوسع فيما بين السماء و الأرض» (1) و إن كان الفتوى بمثل هذه الآثار من الأخبار ينبغي أن يعدّ من الأسرار الّتي لا تودع إلّا إلى الأخيار، سدّا لأبواب الظلم و الغصب على الأشرار و الفجّار، و لعلّه سرّ تحاشي فقهائنا الأبرار من الإفتاء بمثلها في الجهار.

قاعدة فقهيّة يعمّ البلوى بها: في تشخيص ما يتحقّق به حقّ الاختصاص و الأولويّة في المشتركات بين الناس، المعروف كونها ستّة منافع: المرابط و المساجد و المشاهد و المدارس و مقاعد الأسواق و الشوارع.

فنقول: لا إشكال و لا خلاف بحسب النصّ و الفتوى في تحقّق حقّ الاختصاص و الأولويّة لمن سبق إلى مكان من تلك الأمكنة الستّة المشتركة ما دام باقيا فيه، للنبوي: «من سبق إلى ما لم يسبقه إليه مسلم فهو أحقّ به» (2)، و قوله عليه السّلام: «سوق المسلمين كمسجدهم فمن سبق الى مكان فهو أحقّ به إلى الليل» (3)، و لا في سقوط حقّ اختصاصه بمجرّد مفارقة المكان بنيّة إسقاط حقّه


1- لم نعثر على صدر الحديث، و لكن ذكر آخره في الوسائل 6: 384 ب (4) من أبواب الأنفال و ما يختصّ بالإمام ح 17.
2- السنن الكبرى 6: 142، ج 10: 139، تلخيص الحبير 3: 63.
3- الوسائل 3: 542 ب «56» من أبواب أحكام المساجد ح 2، و ج 12: 300 ب «17» من أبواب آداب التجارة ح 1.

ص: 195

و عدم العود إليه.

إنّما الإشكال و الخلاف في بقاء حقّه بعد المفارقة مطلقا ما لم ينو رفع الأولويّة و إسقاط الحقّ، استصحابا لحقّ الاختصاص، و اعتمادا على عموم من سبق. أو سقوط حقّه بعد المفارقة مطلقا، اقتصارا فيما خالف الأصل من اختصاص المشترك على القدر المتيقّن من اختصاصه لبطلان الاستصحاب بتبدّل موضوعه، و مجازيّة المشتقّ فيما انقضى عنه المبدأ. أو التفصيل بين المفارقة بنيّة العود فيبقى حقّ الاختصاص، و بين عدمه فلا. أو التفصيل بين المفارقة القصيرة زمانها و الطويلة. أو التفصيل بين المفارقة لحاجة ضروريّة من ضروريّات البقاء في مكان- كمفارقة المسجد لتجديد طهارة أو إزالة نجاسة، و كمفارقة المدرسة و المرابط و مقاعد الأسواق لحاجة من الحوائج الضروريّة لبقاء الإنسان فيها- فيبقى اختصاص السابق نظرا إلى أنّ المفارقة الضروريّة للبقاء في حكم البقاء عرفا، و بين عدمه فلا. أو التفصيل بين إبقاء رحله في المكان بنيّة العود فيبقى الحق، و بين عدمه فلا، نظرا إلى ما عن الشيخ (1) من نقله مرسلة في ذلك التفصيل.

أو التفصيل بين أن يكون الرحل الباقي شاغلا لمحلّ الجلوس فيبقى الحق، و بين عدمه فلا، نظرا إلى بقاء حقّ الاختصاص في الشاغل من حيث عدم جواز رفعه بغير إذن مالكه، و كونه في محلّ المشترك كالمباح و ان احتمل سقوط حقّه مطلقا على ذلك التقدير، و صحة رفع الشاغل لأجل غيره دفعا لتعطيل بعض المسجد- مثلا- ممن لا حقّ له. أو التفصيل بين ما يلزم ارتفاع حقّ السابق الضرر عليه فيبقى نفيا للضرر، و بين عدمه فلا. وجوه ثمانية مقتضى القاعدة عدم بقاء حقّ اختصاص السابق المفارق، إلّا أنّ الأقوى التفصيل الثالث، ثمّ الرابع، ثمّ


1- المبسوط 3: 276.

ص: 196

السادس، ثمّ الأوّل، بل الأولى و الأحوط منها عدم الحكم بالبقاء إلّا في مورد اجتماع الشقوق الستّة ثنائيّا، بل ثلاثيّا، بل رباعيّا، بل خماسيّا، بل سداسيّا.

و تظهر الثمرة في الحكم ببقاء حقّ الاختصاص بعد المفارقة و عدمه في الحكم التكليفي، و هو تأثّم المزعج غيره السابق إلى مكان على تقدير بقاء حقّه، و عدمه على تقدير العدم. و في الحكم الوضعي و هو جواز أخذ المفارق الثمن على إسقاط حقّه بعد المفارقة على تقدير البقاء، و عدمه على تقدير العدم.

ثمّ و على تقدير بقاء حقّ السابق لو أزعجه المزعج على وجه الإثم و الحرمة فهل يصير المزعج أولى منه بعد ذلك؟ يحتمله، لسقوط حقّ الأوّل بالمفارقة، و عدمه للنهي، فلا يترتّب عليه حقّ. و الوجهان آتيان في رفع كلّ أولويّة. و أقوى الوجهين الأوّل، لا الثاني، لعدم اقتضاء النهي الفساد في غير العبادات لا وضعا و لا عرفا، سيّما فيما نحن فيه.

و يتفرّع على ذلك: صحة صلاة الثاني في ذلك المكان و عدمها، و اللّٰه أعلم.

قوله: «كما يملك الموات».

[أقول:] فيه: أوّلا: بمنع الحكم في المقيس عليه، لما عرفت.

و ثانيا: بمنع الحكم في المقيس لو سلم في المقيس عليه؛ للفرق الفارق بين الحكم في الموات بقوله: «فهي له» (1)، و بين قوله في العمار «فهو أحقّ» (2).

[الثالث من شروط العوضين أن يكون طلقا]
اشارة

قوله: «و غير ذلك مما سيقف عليه المتتبع».

[أقول:] كبيع المصحف و دور مكة و التربة الحسينيّة و تركة المديون و الموصى قبل أداء الدين و الوصيّة، إلّا أنّ أكثر موانع نفس الملك من التمليك المذكورة في المتن كبيع المنذور و المحلوف و المشروط عدم بيعه من الأحكام لا


1- الوسائل 17: 327 ب «1» من أبواب إحياء الموات ح 5 و 6.
2- الوسائل 17: 326- 327 ب «1» من أبواب إحياء الموات ح 3 و 4 و 7، ب (3) من أبواب إحياء الموات ح 2.

ص: 197

الحقوق المانعة حتّى يقتضي الفساد.

[مسألة لا يجوز بيع الوقف إجماعا]

قوله: «فإنّ العلم بعدم طروّ مسوّغات البيع في التخصيص (1) لا يغني عن تقييد إطلاق الوصف في النوع .. إلخ».

[أقول:] فيه أوّلا: منع العلم بعدم طروّ مسوّغات البيع، فإنّ طروّها معلوم في الخارج بالوجدان و قضاء العادة بالظلم و العدوان.

و ثانيا: أنّ تقييد إنّما يغني عن تقييد الوارد به؛ لأنّه تحصيل للحاصل، و لا يغني عن تقييد اللازم مطلقا فإنّ المورد لا يخصّص عموم الوارد، غاية الأمر تأخير بيانه عن غير محلّ الحاجة اللازم على التقديرين.

قوله: «ثمّ إنّه (2) جواز البيع لا ينافي بقاء الوقف إلى أن يباع».

أقول: تفصيل الحال أنّ في منافاة جواز البيع للوقف فيما يجوز بيعه على أن يكون الجواز بنفسه مبطلا لوقفيّة الوقف، كما عن الجواهر (3) و شرح القواعد، استنادا إلى منافاة جواز البيع لحقيقة الوقف لأخذ الدوام فيه، فيكون جواز بيعه مع كونه وقفا من التضاد.

و في عدم منافاة الجواز لبقاء الوقف إلى أن يباع على أن يكون البيع مبطلا للوقف بنفسه- كما هو ظاهر مختار المتن- استصحابا لبقاء الوقف على الوقفيّة إلى أن يباع، أو بكشفه عن سبق بطلان الوقف قبل البيع آنا ما- كما هو مختار شيخنا العلّامة- جمعا بين استصحاب الوقفيّة و عموم «لا بيع إلا في ملك» (4)، وجوه، أوجهها الأخير، كما لا يخفى على الخبير.

و تظهر الثمرة في بقاء الوقف على حاله قبل البيع لو فرض اندفاع الضرورة


1- في المكاسب: «في الشخص».
2- في المكاسب: «ثمّ إنّ».
3- جواهر الكلام 22: 358.
4- عوالي اللئالي 2: 247 ح 16.

ص: 198

المسوّغة للبيع، أو عدم اتفاق البيع بعد الحكم بجوازه على الأخيرين، و عدم البقاء على الأوّل.

و ربما يظهر من استشهاد الماتن (1) على عدم منافاة الجواز للوقف بما صرّح به جامع المقاصد- من عدم جواز رهن الوقف، و إن بلغ حدّا يجوز بيعه (2) تفريع جواز رهن الوقف على بطلانه بنفس جواز البيع لا بالبيع.

و فيه نظر، بل منع، إذ لو لا القاعدة الكلّية المستفادة من حكمه الرهن أن كلّما جاز بيعه جاز رهنه صحّ تفريع القول بعدم جواز رهن الوقف على عدم بطلان الوقف بنفس جواز البيع. و أمّا بعد تلك القاعدة الكلّية بأنّ كلّما جاز بيعه جاز رهنه فلا يصحّ تفريعه، و ذلك لجواز رهن الوقف الجائز بيعه مطلقا أمّا على القول ببطلان الوقف بمحض الجواز فلبطلان الوقف، و أمّا على القول بعدم بطلانه بمحض الجواز فلملازمة جواز البيع لجواز الرهن. و أمّا تعليل المانع من جواز رهن الوقف الجائز بيعه باحتمال طروّ اليسار للموقوف عليهم عند إرادة بيعه في دين المرتهن فعليل، بأنّ احتمال طروّ المانع من جواز بيع الوقف المرهون في دين المرتهن بيسار الموقوف عليهم غير مانع من جواز رهنه بعد أصالة عدم طروّ ذلك، كما أنّ احتمال طروّ المانع من بيعه ابتداء بموت القابل أو جنونه قبل القبول غير مانع من جواز بيعه، بعد أصالة عدم طروّ مانعة، من غير فرق بين الاحتمالين، إلّا فيما هو غير فارق، كشدّة الاحتمال و ضعفه.

قوله: «و قطع سلطنته عنه. فتأمّل».

[أقول:] إشارة إلى الفرق بين الوقف الجائز بيعه و العقد الجائز فسخه، خصوصا الوقف العام، و المساجد على القول بخروجه عن ملك الواقف و عدم


1- المكاسب: 164.
2- جامع المقاصد 5: 51.

ص: 199

دخوله في ملك أحد كالعتق و التحرير.

قوله: «و لعلّه من شدّة مخالفته القواعد لم يرتض بظاهره».

[أقول:] فيه: منع مخالفته لشي ء من القواعد سوى مخالفة لا يباع الوقف المخصص بالنصوص (1) و الإجماعات.

قوله: «و الظاهر أنّ المراد بتأدية بقاء الوقف إلى خرابه حصول الظنّ بذلك».

[أقول:] فيه: إن كان مستند تخصّص عمومات لا يباع الوقف الفتايا المذكورة فالأظهر و الأحوط الاقتصار في تخصيصها المخالف للأصل على المتيقّن، و هو التأدية على وجه القطع لا الظنّ. و إن كان مستنده خبر جعفر بن حنان (2) و صحيحة مهزيار (3) و عموم تعليله: «بأنّه ربما جاء فيه تلف الأموال و النفوس» فالأظهر تعميم مسوّغات بيع الوقف بطروّ مطلق ما فيه مظنّة الضرر و معرضة تلف المال و النفس، سواء بلغ حدّ الخوف و الظن أم لم يبلغ، و سواء كان من اختلاف أربابه أو قصورهم أو ظهور الآفة أو جور الظلمة و السرقة، الغالبة في زماننا على انسداد أبواب المعروف و الصدقات و غصب الموقوفات، أو صرفها في وجوه المحرّمات المناقضة لغرض الواقف و صحّة بقائه، بل المانعة من صحّة الوقف بدوا، فضلا عن استدامته.

قوله: «أحدهما: ما يكون ملكا للموقوف عليهم .. إلخ».

أقول: تفصيل الحال في المسألة أن يقال: هل الوقف مخرج للعين الموقوفة عن ملك واقفها كإخراج منافعها عنه كما يقتضيه خروج جميع آثار ملكيّته عن تحت سلطنته، أم غير مخرج لها عن ملك واقفها كما يقتضيه استصحاب بقاء


1- الوسائل 13: 303 ب (6) من أبواب أحكام الوقوف و الصدقات.
2- الوسائل 13: 306 ب (6) من أبواب أحكام الوقوف و الصدقات ح 8.
3- الوسائل 13: 305 ب (6) من أبواب أحكام الوقوف و الصدقات ح 6.

ص: 200

العين على ملك الواقف؟

و على تقدير الإخراج فهل يدخلها في ملك الموقوف عليهم، كإدخال منافعها في ملكهم، كما يقتضيه ظاهر اشتراط تعيين الموقوف عليهم في بعض النصوص (1) و الفتاوى، و جواز قسمة ثمن الوقف المبيع للمصلحة المقتضية له على الموقوف عليهم، من دون تبديله بما يماثلها من الأوقاف. أم يدخلها في ملكه تعالى، كما يقتضيه اشتراط بعضهم فيه القربة دون القبول، مع البناء على أنّه من العقود لا الإيقاعات. أم يخرجها عن ملك واقفها من غير أن يدخلها في ملك الموقوف عليهم، و لا في ملك الباري تعالى، نظير التحرير، كما يقتضيه الأخذ بالمتيقّن، و هو خروجها عن ملك مالكه، و أصالة عدم دخولها في ملك أحد. أم التفصيل بين الأوقاف الخاصّة فتدخل في ملك الموقوف عليهم، و العامّة فلا تدخل، كما لعلّه المراد من تفصيل الماتن (2) بين ما هو كالمساجد و المدارس و الربط فهي تفكيك، و بين غيرها فهي تمليك للموقوف عليهم، و لعلّ وجهه استظهار الإجماع عليه؟ وجوه خمسة.

و قد عرفت أنّ مقتضى الاستصحاب البقاء على ملك واقفة و إن خرجت منافعها عنه كالعين المستعارة و كالسكن و العمرى و الرقبى، و مقتضى زوال جميع آثار الملكيّة عنه شرعا هو الخروج. و لكن الأصل عدم دخوله بعد الخروج في ملك أحد و إن استظهر شيخنا العلّامة الدخول في ملك الموقوف عليهم مطلقا، من غير فرق بين الأوقاف الخاصّة و العامّة.

و تظهر الثمرة: أمّا بين القول ببقاء الوقف على ملك واقفة و بين سائر الأقوال الأخر، ففيما لو زالت منافع العين الموقوفة بتخريب و نحوه فإنّه يرجع الى


1- انظر الوسائل 13: 307 ب (7) من أبواب أحكام الوقوف و الصدقات.
2- المكاسب: 166.

ص: 201

ملك الواقف أو ورثته، بحيث جاز لهم تصرّف الملّاك فيه ببيع و نحوه على القول ببقاء عين الوقف على ملك واقفة، و لا يرجع على سائر الأقوال.

و أمّا بين القول بعدم دخوله في ملك أحد أو دخوله في ملك الباري تعالى، و بين سائر الأقوال، ففي تعلّق أجرة مثل المنافع المستوفاة بل الفائتة بذمّة الغاصب للوقف للموقوف عليهم على القول بتفكيك الوقف عن الملكيّة، أو دخوله في ملك الباري تعالى و عدم تعلّق أجرة المثل بذمّة الغاصب للموقوف عليهم على سائر الأقوال.

و أمّا بين القول بدخوله في ملك الموقوف عليهم و بين سائر الأقوال، ففي جواز بيعه للموقوف عليهم عند الضرورة المحوجة اليه بناء على القول بدخوله في ملك الموقوف عليهم، و عدم جوازه بناء على سائر الأقوال.

ثمّ لا يقال: إنّ استقرار النصّ (1) و الفتوى على جواز بيع الوقف إذا وقع الخلف بين أرباب الموقوف عليهم كاشف عن صحّة مبنى هذا الفرع، و هو دخول الوقف في ملك الموقوف عليهم، لاحتمال استناد جواز البيع إلى التعبّد بالنصّ و إن لم يدخل في ملك الموقوف عليهم، لا إلى دخوله في ملكهم حتّى يستكشف هذا الدخول في ملكهم.

ثمّ إنّ توليه بيع الوقف و قبض ثمنه هل هو للواقف كما يقتضيه استصحاب بقائه في ملكه، أو للموقوف عليهم كما لهم منافعه، أم لناظره الخاصّ كما له النظر في العين فكذا في بدله، أو لحاكم الشرع كما له الرئاسة في الأمور العامّة؟ وجوه أربعة. و إذا انضمّت إليها سائر الوجوه المركّبة من الرباعيّ و الثلاثيّ و الثنائيّ بلغت أربعة عشر وجها.

أوجهها كون التولية للبطن الموجود من الموقوف عليهم، بضميمة الحاكم


1- الوسائل 13: 305 ب (6) من أبواب أحكام الوقوف و الصدقات ح 6.

ص: 202

القيّم من قبل سائر البطون.

و يحتمل أنّ هذا إلى الناظر إن كان؛ لأنّه المنصوب لمعظم الأمور الراجعة إلى الوقف. إلّا أن يقال: بعدم انصراف وظيفته المجعولة من قبل الواقف إلى الصرف في نفس العين. و الظاهر سقوط نظارته عن بدل الوقف. و يحتمل بقائه لتعلّق حقّه بالعين الموقوفة، فيتعلّق بمبدلها.

ثمّ النظر في الوقف المطلق إلى الحاكم الشرعي. و في الوقف المجعول في ضمنه النظر لشخص خاصّ إلى ذلك المجعول له النظر.

ثمّ إنّ وظيفة الناظر مع الإطلاق العمارة و الإجارة و تحصيل الغلّة و قسمتها على مستحقّيها.

و هل من وظيفته أيضا توقّف تناول الموقوف عليهم شيئا من منافع الوقف على إذنه مطلقا، كما يقتضيه الاحتياط و الاقتصار على المتيقّن. أم ليس من وظيفته ذلك مطلقا، كما يقتضيه إطلاق الوقف. أم التفصيل بين تعيين الموقوف عليه لتناول منفعة الوقف فلا يتوقّف تناوله على إذن الناظر، و بين عدم تعيينه فيتوقّف تعيينه على إذنه، بناء على اعتبار إذنه من باب الطريقة و الكشف غير الرضا، لا من باب الموضوعيّة حتّى يتبع حتّى في مقام التعيين و عدم الحاجة إلى الإذن. أم التفصيل بين الحكم التكليفي و هو جواز التناول و عدم الجواز فيتوقّف على إذنه، و بين الحكم الوضعي و هو ضمان المتناول و عدم ضمانه فلا يتوقّف، كما عن المسالك (1). أم التفصيل بين الناظر المجعول له النظارة في ضمن الوقف فيتوقّف التناول على إذنه، و بين الغير المجعول له النظارة في ضمن الوقف كالحاكم الشرعي فلا يتوقّف على إذنه؟ وجوه. أوجهها الأخير؛ لأنّ إطلاق جعل النظارة في ضمن عقد الوقف ظاهر في اعتبار إذن الناظر مطلقا، و من باب


1- مسالك الأفهام 5: 326.

ص: 203

الموضوعيّة لا الطريقيّة، حتّى يستغنى عنه في مقام تعيين الموقوف عليه و العلم برضا الناظر، بل يعتبر إذنه مطلقا في الحكم التكليفي و هو الجواز، و في الحكم الوضعي و هو سقوط الضمان، و ذلك لأنّ الموهم لعدم اعتبار إذنه.

أمّا عدم جعل النظارة له في ضمن العقد فالمفروض خلافه.

و أمّا عدم لزوم النظارة المجعولة في ضمنه فيندفع بقوله عليه السّلام: «المؤمنون عند شروطهم» (1)، و قوله عليه السّلام: «الأوقاف على حسب ما يوقفها أهلها» (2).

و أمّا احتمال اختصاص النظارة المجعولة له بغير ذلك من المصالح فيندفع بفرض إطلاق الجعل، و النظارة، و أصالة عدم انصرافهما عن الإطلاق.

و أمّا احتمال اعتبار جعل النظر له من باب الطريقيّة و الكشف عن الرضا لا من باب الموضوعيّة حتّى يستغنى عن إذنه في مقام تعيين الموقوف عليه و العلم برضاه فيندفع بظهور الجعل للنظارة المأخوذة شرطا في ضمن العقد اللازم في الموضوعيّة، و كون المقصود اعتبار إذنه مطلقا.

فان قلت: فما ثمرة إذنه بعد العلم برضاه أو عدم المناص له شرعا من الإذن، كما في صورة تعيين الموقوف عليه.

قلت: الأغراض و الدواعي مختلفة فلعلّما الغرض الداعي إلى جعل النظر للناظر في ضمن عقد الوقف على وجه يتوقف إباحته للموقوف عليهم على اذنه هو تكريم الناظر و تعظيمه و اهابته في أنظار الموقوف عليهم، ليطيعوه و ينقادوا أمره، و لا يخالفوه فيتشتت أمرهم و يفترق جمعهم.

فان قلت: إباحة المال الطلق إذا لم يتوقّف على الإذن الصريح بعد إحراز مجرّد الرضا فكيف يتوقّف عليه إباحة الوقف، مع خروجه عن الطلقيّة بعد إحراز


1- الوسائل 15: 30 ب «20» من أبواب المهور ح 4.
2- الوسائل 13: 295 ب «2» من أبواب أحكام الوقوف و الصدقات.

ص: 204

الرضا.

قلت: القياس مع الفارق، لأنّ المال الطلق الّذي لم يتوقّف إباحته للغير على إذن صاحبه بعد إحراز رضاه إنّما هو المال الغير المشروط في ضمن العقد اللازم توقّف إباحته على الإذن الخاصّ، و أمّا المشروط في ضمن العقد اللازم فيتبع شرطه. ألا ترى أنّه لو نذر شخص أو اشترط على نفسه في ضمن عقد لازم أن لا يبيح أو لا يعير شيئا من ماله على أحد إلّا في وقت خاصّ أو مكان خاصّ توقّف أباحة ذلك الشي ء على ذلك الوقت أو ذلك المكان و إن رضي قبله بجميع أنحاء الرضا، فما نحن فيه من هذا القبيل.

ثمّ إنّ ثمن الوقف المبيح للضرورة المسوّغة بيعه للواقف بناء على بقائه في ملك الواقف، و للموقوف عليهم بناء على دخوله في ملكهم، و للإمام بناء على دخوله في ملك الباري تعالى، و لكلّ من استبق إلى حيازته بناء على أنّه تفكيك عن الملكيّة لا تمليك لأحد.

ثمّ و على القول بكون ثمنه للإمام ففي زمن الهدنة و الغيبة هل هو مباح لمطلق من استبق إلى أخذه كالمال المعرض عنه صاحبه لعموم قوله عليه السّلام: «ما كان لنا فهو لشيعتنا» (1)، أم موكول إلى نظر نائب الإمام عليه السّلام في صرفه في مصالح المسلمين أو حفظه للإمام بدفن أو إيداع على اختلاف الآراء في مصرف سائر أموال الإمام عليه السّلام في زمن الغيبة، أم لا بدّ من صرف ثمن الوقف فيما يماثله من الأوقاف مقدّما للأقرب فالأقرب إلى غرض الواقف، فإن تعذّر صرف إلى غير المماثل كذلك، فان تعذّر صرف في مصالح المسلمين؟ وجوه، أقواها الأوّل، و أحوطها الثاني، بل الأحوط منه الثالث، بل لعلّ ما الأقوى هو ذلك على جميع الأقوال، حتّى على القول بدخوله في ملك الموقوف عليهم.


1- الوسائل 6: 384 ب (4) من أبواب الأنفال و ما يختصّ بالإمام ح 17.

ص: 205

فإنّ دخول العين الموقوفة في ملكهم على تقدير صحّته لا ينافي تقييده الملكيّة في رأي الواقف بالمصرف المماثل لها على تقدير تعذّر الانتفاع من نفسها، و قد قال عليه السّلام: «الأوقاف على حسب ما يوقفها أهلها» (1).

و مجرّد عدم منافاة الملكيّة لتقييدها في نظر الواقف بالمصرف المماثل و إن لم يثبت التقييد إلّا أنّ ظاهر حال الواقف سيّما في الوقف المبني على التأييد بحسب العادة أو الغلبة شاهد حال على التقييد و لو ظنّا.

ثمّ و على تقدير لزوم صرف ثمن الوقف في مماثله فهل يحتاج وقف المماثل إلى صيغة على حدة، أم يكفي في وقفه مجرّد صرف ثمن الوقف فيه؟

وجهان، أقواهما الثاني، و أحوطهما الأوّل. و ذلك لتبعيّة الثمن لمثمنه في الطلقيّة و عدم الطلقيّة، و لهذا لو باع أحدهما- أي الراهن أو المرتهن- الرهن من دون إذن الآخر كان الثمن رهنا كأصله، و لم يبطل الرهن من الثمن، كما أنّه تابع له في الملكيّة و الغصبيّة، و لهذا لو اشترى بعين المغصوب شيئا جرى عليه أحكام الغصب أيضا.

قوله: «فإنّها تصير ملكا للمسلمين. فتأمّل».

[أقول:] إشارة إلى عدم الفرق بين أرض المسجد و أجزاء بنيانه في عدم الخروج عن أصالة عدم دخوله في ملك المسلمين.

قوله: «و يضعّف (2) قول من قال ببطلان العقد إذا حكم بجواز بيعه».

[أقول:] وجه هذا القول: أنّ اشتراطه مناف لمقتضى العقد. و وجه ضعفه أنّ منافاته لمقتضاه قبل طروّ مسوّغاته لا مطلقا، فاشتراطه المسوّغ غير مناف.

قوله: «و الحاصل أنّ الأمر دائر بين تعطيله حتّى يتلف بنفسه- الى قوله-


1- الوسائل 13: 295 ب «2» من أبواب أحكام الوقوف و الصدقات.
2- في المكاسب: «و تضعيف».

ص: 206

و الثالث هو المطلوب».

أقول: و يدلّ على الثالث المطلوب- أعني: على جواز بيع الوقف المخروب بحيث لا يمكن الانتفاع به مع بقاء عينه- بعد اندفاع استصحاب المنع بتبدّل الموضوع أو يكون الشكّ في القابليّة و الاستعداد دخول بيع مثله في الأشياء النافعة الخالية عن أمارة المضرّة، الّتي هي مورد أصالة الإباحة على ما هو المقرّر في محلّه مضافا إلى مسيس الحاجة إلى بيع مثله في كثير من الفروض، و هي القاعدة المعوّل عليها في براءة ذمّة الطبيب باستبراء ذمّته من الضمان قبل الطبابة، فإنّ الاستبراء عمّا لم يجب و إن لم يبرأ عمّا يجب بحسب القاعدة إلّا أنّ جماعة قالوا: بإبرائه في هذه المسألة، تمسّكا بمسيس الحاجة فيه و في ضمان الآمر ذي المتاع بإلقاء متاعه في الماء عند الخوف من الغرق على أن يكون عليه ضمانه، فإنّ مقتضى القاعدة و إن كان عدم لزوم ما لم يجب إلّا أنّ جماعة منهم العلّامة في القواعد (1) التزموا بلزومه في المقام، تمسّكا بمسيس الحاجة. و لعلّ مأخذه قاعدة نفي الحرج، أو رفع ما اضطرّوا إليه، أو قاعدة اللطف الواجب على الحكيم في رفع ما يلزم منه اختلال نظام الناس معادا أو معاشا.

قوله: «فينتهي ملكه إلى من أدرك آخر أزمنة بقائه. فتأمّل».

[أقول:] إشارة إلى أنّ عدم بقاء شخص العين لا ينافي إمكان بقاء نوعه و منفعته المقصودة بالتبديل عادة للبطون اللاحقة، فيستصحب بقائها بالتبديل إلى أن ينتهي إلى عدم إمكان التبديل أيضا فيختصّ إتلافه بمن انتهى إليه.

قوله: «و الجواب أمّا عن رواية جعفر .. إلخ».

أقول: هذه الروايات الثلاث- أعني: رواية جعفر (2) و الحميري (3) و ابن


1- قواعد الأحكام 2: 321.
2- الوسائل 13: 306 ب (6) من أبواب أحكام الوقوف و الصدقات ح 8.
3- الوسائل 13: 306 ب (6) من أبواب أحكام الوقوف و الصدقات ح 9.

ص: 207

مهزيار (1)- كلّها- مضافا إلى ضعف دلالتها و معارضتها بما هو أقوى من الأخبار (2) الصريحة بعدم جواز شراء الوقف و استتباع الوقف رأي واقفها- موهونة بإعراض الأصحاب من العمل بها. فلا بدّ إمّا من طرحها، أو حمل لفظ الوقف فيها على الوصيّة، لأنّه معنى لغوي مستعمل في الأحاديث، كما يومئ إليه رواية جعفر، أو على عدم حصول القبض في الوقف كما هو ظاهر رواية ابن مهزيار، أو على النذر كما لعلّه ظاهر مكاتبة الحميري، أو على مقاولة الوقف من دون تحقق ما يلزمه مع كون الموقوف عليهم وارثين، كما هو أحد محامل الروايات في الوسائل (3).

قوله: «فعلى الإمام أن يستفصل إذا كان بين المؤيّد و غيره فرق في الحكم. فافهم».

[أقول:] إشارة إلى احتمال الاستفصال بقوله عليه السّلام: «إذا كان الوقف على إمام المسلمين فلا يجوز» (4).

قوله: «أو بجعل الوقف (5) كالاشتراط في متن العقد. فتأمّل».

[أقول:] إشارة إلى أنّ منافاة شرط بيع الوقف لمقتضى الوقف حتّى لا يجوز أو لإطلاق الوقف حتّى يجوز مرجعه إلى عموم نصوص (6) المنع من بيع الوقف، أو تخصيصها بغير الاشتراط، كما هو الصحيح في الصحاح (7).

قوله: «بخلاف المال. فتأمّل».

[أقول:] إشارة إلى أنّ المال و العين و إن لم يكن كالحقّ و الدين في السقوط


1- الوسائل 13: 304 ب «6» من أبواب أحكام الوقوف و الصدقات ح 5.
2- الوسائل 13: 303 ب «6» من أبواب أحكام الوقوف و الصدقات.
3- الوسائل 13: 305 ب «6» من أبواب أحكام الوقوف و الصدقات ذيل الحديث 6.
4- الوسائل 13: 306 ب «6» من أبواب أحكام الوقوف و الصدقات ح 9.
5- في المكاسب: «الواقف».
6- الوسائل 13: 303 ب «6» من أبواب أحكام الوقوف و الصدقات.
7- الوسائل 13: 303 و 304 ب «6» من أبواب أحكام الوقوف و الصدقات ح 2 و 3 و 4.

ص: 208

بالإسقاط و الإبراء إلّا أنّه يسقط أيضا بمحض الإعراض القلبي الّذي هو أقلّ من الإسقاط اللفظي، و لا يتوقّف على إيجاب و لا قبول.

قوله: «ربما تأمّل فيما قبله. فتأمّل».

[أقول:] إشارة إلى أنّ المدفوع إلى البائع في الأوّل عين ثمن الجارية و في الثاني غيره؛ لأنّ المفروض أنّ ثمن الجارية كلّي في الذمّة و المدفوع إلى البائع بدله المسقط عنه، إلّا إذا قلنا أنّ الكلّي عين أفراده.

قوله: «المراد به غير هذا القسم».

[أقول:] و هو الملك التقديريّ الالتزاميّ، تفصّيا من لزوم الملك بلا مالك.

فان قلت: إنّ مقطوعة يونس المتقدّمة: «إن كان لها ولد و ليس على الميّت دين فهي للولد، و إذا ملك الولد عتقت بملك ولدها» (1) صريحة في ملكها الحقيقي.

قلت: المقطوع على الراوي ليس برواية، بل دراية من فتوى الراوي و فهمه.

قوله: «و يبقى الترجيح بين الوجهين محتاجا إلى التأمّل».

[أقول:] و الترجيح للوجه الأوّل؛ لأنّ منافع الحرّ لا يضمن، فليس عليه إلّا الاستسعاء، كما في مديون الغرماء.

قوله: «فالمرجع فيه إلى فساد (2) بيعها قبل الحاجة إلى الكفن. فتأمّل».

[أقول:] إشارة إلى أنّ الشكّ في طروّ ما هو مقدّم على حقّ الاستيلاد و الأصل عدمه، أو ترجيح الرجوع إلى قاعدة عموم المنع من بيع أمّ الولد، أو إطلاق من ليس له كفن دفن عاريا، فليس له حقّ على المستولدة، كما ليس له على الأجانب.


1- الوسائل 16: 106 ب (5) من أبواب الاستيلاد ح 3، و لم تتقدّم منه قدّس سرّه.
2- في المكاسب: «فالمرجع إلى أصالة فساد».

ص: 209

قوله: «و عن الشيخ في التهذيب (1) و الاستبصار (2) الجمع بينهما بغير ذلك».

[أقول:] أي: حمل مرسلة حمّاد (3) على ما إذا كان الخطأ شبه عمد لا خطأ محض.

قوله: «و منها: ما إذا خرج مولاها عن الذمّة و ملكت أمواله الّتي هي منها».

[أقول:] فيه: أنّ خروج المولى عن الذمّة أشبه شي ء بارتداده المحكوم بموته الموجب انعتاقه فلا تملك هي كسائر أمواله، مضافا إلى أصالة عدم طروّ ما يقدّم على حقّ الاستيلاد، و إلى عموم قاعدة المنع من تملك أمّ الأولاد.

قوله: «و منها: ما إذا كان مولاها ذمّيا فقتل (4) مسلما فإنّه يدفع هو و أمواله إلى أولياء المقتول».

[أقول:] و فيه: أنّ قتل الذمّي المسلم أشبه شي ء بدين القاتل غير ثمن رقبتها، فيلحقه حكمه المتقدّم.

قوله: «حقّ إسلامها ... أولى من حقّ الاستيلاد».

أقول: و إن كان أولى إلّا أنّه يمكن الجمع بين الحقّين بنفي سلطنة الكافر عنها بغير البيع عليه، بأن يخلّي سبيلها، أو يودعها عند مسلم.

لا يقال: إنّ الجمع بين حقّ الإسلام و حقّ الاستيلاد ليس أولى من الجمع بين حقّ الإسلام و حقّ المالك بالبيع عليه.

لأنّا نقول: أولويّته من جهة أظهريّة قاعدة عموم المنع من بيع المستولدة


1- التهذيب 10: 200 ذيل الحديث 793.
2- الاستبصار 4: 276 ذيل الحديث 1047.
3- الوسائل 19: 159 ب (11) من أبواب ديات النفس ح 1.
4- في المكاسب: «و قتل».

ص: 210

في العموم من إطلاق بيع العبد المسلم على مولاه الكافر، فإنّه منصرف إلى غير المستولدة، كما في مطلق اجتماع الأمر و النهي العامّين من وجه، مثل تصدّق و لا تسرق، و صلّ و لا تغصب.

قوله: «و المفروض أنّ حقّ أمّ الولد مانع شرعا- إلى قوله- فتأمّل».

[أقول:] إشارة إلى أنّ حقّ الاستيلاد مانع من الردّ لا الاسترداد، مضافا إلى استصحاب جواز الاسترداد قبل الاستيلاد.

[مسألة و من أسباب خروج الملك عن كونه طلقا كونه مرهونا]

قوله: «ربما يتّجه الصحّة فيما كان الغرض من الحجر [رعاية] مصلحة كالشفعة».

[أقول:] فيه أوّلا: أنّ مصلحة حجر الشريك من التصرّف في المال المشترك من دون إذن شريكه إنّما هو رفع الضرر لا الشفعة، كما أنّ مصلحة الشفعة أيضا هو رفع الضرر.

و ثانيا: أنّ حجر الراهن بل كلّ حجر لا محالة يكون له مصلحة دفع الضرر الشخصيّ أو النوعيّ، فيتّجه الصحّة في الكلّ الراهن و غيره.

قوله: «و تعلّق الحقّ هنا بالعين. فتأمّل».

[أقول:] إشارة إلى أنّ الحقّ هناك بالأصالة و إن تعلّق بالذمّة إلّا أنّه يجوز استيفائه من العين، كما أنّه هنا و إن تعلّق بالعين إلّا أنّه يجوز استيفائه من غيره، و الفرق غير فارق.

قوله: «و في بعض كلامه تأمّل».

[أقول:] منها: تخصيصه الغرر بجهل الحصول (1)، و من الواضح عرفا و شرعا تعميمه.


1- القواعد و الفوائد 2: 137 قاعدة 199.

ص: 211

و منها: قوله: بين الغرر و الجهل عموم من وجه (1)، و من الواضح اتّفاقهم على أخذ الجهالة في الغرر، و كون الجهالة معتبرة في صدق الغرر، و هو أخصّ منه مطلقا فتعميمه في العبد الآبق المعلوم الصفة خلاف العرف و الشرع و اللّغة.

و منها: تعميمه الغرر إلى مجهول الوجود و تقسيمه إلى الجهل بالجنس و إلى الجهل بالنوع و إلى الجهل بالقدر و العين (2)، فإنّه كالتهافت و التناقض، لما ذكره أوّلا: من تخصيصه بجهل الحصول، و تقسيم الشي ء إلى نفسه و غيره.

و منها: قوله: و لو شرط في العقد أن يبدو الصلاح لا محالة كان غررا عند الكلّ (3)، فإنّ الشرط و إن خرج عن قدرة الشارط إلّا أنّه لا يزيده غررا على عدم اشتراطه.

[مسألة الرابع من شروط العوضين القدرة على التسليم]
اشارة

قوله: «إلّا أنّه أخصّ من المدّعي».

[أقول:] بل قيل: إنّه مباين للمدّعى، نظرا إلى اعتبار القدرة على التسليم في الواقع، لا العلم بالقدرة حتّى يكون أخصّ من المدّعي. فكيف كان فدلالة النبوي (4) على المدّعى بالفحوى كاف في الاستدلال، و أولى.

قوله: «و في الاعتراض و المعارضة نظر واضح».

[أقول:] أمّا في الاعتراض: فلأنّ تقييد الوجوب بالقدرة دليله عقليّ لبّيّ لا لفظيّ صرف حتّى يدفع بالأصل.

و أمّا في المعارضة: فلأنّ أصالة عدم تقييد البيع بهذا الشرط لا يقاوم أصالة عدم تقييد الوجوب به، لحكومة الأصل في المقيّد- و هو أَوْفُوا بِالْعُقُودِ (5)-


1- القواعد و الفوائد 2: 137 قاعدة 199.
2- القواعد و الفوائد 2: 137 قاعدة 199.
3- القواعد و الفوائد 2: 137 قاعدة 199.
4- الوسائل 12: 266 ب (12) من أبواب عقد البيع و شروطه ح 13، و 330 ب «40» من أبواب آداب التجارة ح 3.
5- المائدة: 1.

ص: 212

على الأصل في المطلق، و هو أَحَلَّ اللّٰهُ الْبَيْعَ (1).

قوله: «و فيما لم يعتبر التسليم فيه رأسا، كما إذا اشترى من ينعتق عليه».

[أقول:] فيه: أنّ انعتاقه عليه الموجب لعدم استحقاقه التسليم من أحكام صحّة البيع و آثاره المتأخّرة عنه رتبة فلا تترتّب عليه إلّا بعد اجتماع شرائط الصحّة، و منها القدرة على التسليم، فكيف يسقط ما يعتبر في صحّته بما يترتّب عليه من الآثار، خصوصا بعد إطلاق النصّ (2) بعدم صحّة بيع الآبق إلّا بالضميمة.

قوله: «لصدق الغرر عرفا- إلى قوله- فتأمّل».

[أقول:] إشارة إلى ما تقدّم من اعتبار الجهل في صدق الغرر عرفا، أو أنّ القدرة شرط لا العجز مانع.

قوله: «و فيه ما فيه».

[أقول:] أي: مما سبق من أنّ الجهل و إن اعتبر في الغرر إلّا أنّ دلالته بالفحوى على الفساد مع علم المشتري كاف في الاستدلال، مضافا إلى دلالة الأكل بالباطل عليه.

قوله: «مع علم المشتري بذلك إذا علم بعجز العاقد، فإن اعتقد قدرته لم يشترط علمه».

[أقول:] اشتراط العلم في الأوّل و اعتقاد قدرته في الثاني لأجل التفصّي عن صدق الغرر مع الجهل.

قوله: «و في بعض كلامه تأمّل» (3).

أقول: موقع التأمّل أمّا دعوى العموم من وجه بين الغرر و الجهل. و وجهه هو ما ذكره الماتن سابقا من اتّفاق تعاريفهم على اعتبار أخذ الجهالة في معنى


1- البقرة: 275.
2- الوسائل 12: 262 ب (11) من أبواب عقد البيع و شروطه.
3- تقدّم ذكر هذا المتن بعينه في ص: 210، إلّا أنّ تعليقة المصنّف عليها مختلفة، فراجع.

ص: 213

الغرر، فهو أخصّ منه مطلقا، فتعميمه في العبد الآبق المعلوم الصفة خلاف العرف و اللّغة و كلمات المتشرّعة.

و أمّا ظهور التنافي بين تخصيصه الغرر في صدر كلامه بمجهول الصفة و تعميمه بعد ذلك لمجهول الوجود المشار إليه بقوله: «و يتعلّق الغرر تارة بالوجود و تارة بالحصول .. إلخ» (1). و وجه التأمّل في هذا الموقع هو وضوح التناقض و التهافت البيّن بين العبارتين. و يمكن رفع التناقض بحمل الأوّل: على الغرر المبطل، و الثاني: على الغرر المطلق.

و أمّا في تقسيمه الغرر بثلاثة أقسام و ادعائه الخلاف في القسم الثالث.

و وجه التأمل فيه هو عدم الخلاف بين العامّة و الخاصّة في بطلان البيع بعد تسليم صدق الغرر عليه. نعم، إن كان خلاف فهو في صدق موضوع الغرر لا في حكمه بعد إحراز صدق الموضوع.

أمّا الموقع الأوّل: فليس محلّا للتأمّل، بل هو محلّ المنع جدّا، كما أشار إليه الماتن فيما قبل، فلا يصحّ إرادته محلّا للتأمّل بعد منعه، فتعيّن إرادة أحد الموقعين الآخرين للتأمّل، كما لا يخفى.

ثمّ المحصّل من التحقيق في المسألة: أنّ الغرر لا ينفكّ في الصدق عن الجهل لا محالة، بخلاف الجهل فإنّه قد ينفكّ عن الغرر، و أنّ العنوان المنهيّ عنه شرعا المبطل للبيع هو الغرر لا الجهل.

و أمّا ما يتخيّل من نقض ذلك باتّفاقهم على فساد بيع أحد الأشياء المتماثلة من جميع الجهات، حيث إنّه لا وجه لفساده سوى الجهل، ضرورة انتفاء الغرر بعد فرض التماثل من جميع الجهات. فيدفعه منع انتفاء الغرر عن المثال بمجرّد التماثل النافي للضرر حتّى يكون نقضا لما ذكر، و ذلك لاختلاف أغراض


1- المكاسب: 185.

ص: 214

الأشخاص و الدواعي في المبيع المطلق و عدم اقتصار الغرر على مورد الضرر حتّى ينتفي بانتفائه.

و لو سلّمنا فلنا أن ندّعي أنّ الفاسد من المعاملات الغرريّة هو ما كان نوعه معرضا للغرر و إن لم يكن شخصه غرريّا، كما في بيع أحد المتماثلين من جميع الجهات من غير تعيين.

و لو سلّمنا فلنا أن نسند الفساد في المثال إلى أنّ ما قصد منه لم يقع و ما وقع لم يقصد، نظرا إلى أنّ ما وقع عليه العقد هو مفهوم ذهني منتزع من المتماثلين، و ما قصد هو فرد خارجي منهما، و أحدهما غير الآخر قطعا. فالفساد من هذه الجهة لا من جهة الغرور.

و لو تنزّلنا عن ذلك أيضا فلنا منع الإجماع على بطلان البيع في مثله بعد فرض انتفاء المستند له، كما استقرب جماعة منهم الشهيد في اللمعة صحّة نظير المسألة من باب الإجارة، و هو ما لو عقد الإجارة على أجرتين على تقديرين كعقده الإجارة على نقل المتاع في يوم بعينه بأجرة و في يوم آخر بأجرة أخرى (1).

لا يقال: مستند الصحّة على القول بها في باب الإجارة هو النصّ (2) المفقود في باب البيع مثله، فهو الفارق.

لأنّا نقول: لا ينحصر مستندهم في النصّ، بل قد استندوا في الصحّة أيضا بوجود المقتضي، و هو الإجارة المعيّنة المشتملة على الأجرة المعيّنة و إن تعدّدت و اختلفت، لانحصارها و تعيّنها.

و لو تنزّلنا عن ذلك كلّه فلنا استناد فساد البيع المذكور إلى الإجماع لا


1- اللمعة الدمشقية: 94.
2- الوسائل 13: 253 ب (13) من أبواب الإجارة.

ص: 215

القاعدة، فإن استناد صحّة الإجارة المذكورة على القول بها إلى النصّ لا القاعدة ليس بأولى من استناد فساد البيع المذكور على القول به إلى الإجماع دون القاعدة.

قوله: «و في الاعتراض و المعارضة نظر .. إلخ» (1).

[أقول:] أمّا وجه النظر في الاعتراض فلأنّ وجوب التسليم حكم تكليفيّ و الأحكام التكليفيّة لا زالت مقيّدة بالقدرة بالدليل العقليّ الغير المتخلّف أبدا، فلا مورد للشكّ في تقييدها به، حتّى يكون موردا لأصالة عدم تقييده.

و أمّا وجه النظر في المعارضة فلأنّ أصالة عدم تقييد صحّة البيع بالقدرة على التسليم أصل أصيل لفظيّ، غير معارض لا بأصل و لا بغيره.

أمّا عدم معارضته بأصل فلما عرفت من انتفاء موضوع ما يعارضه من الأصول.

و أمّا عدم معارضته بتقييد وجوب التسليم بالقدرة فلأنّ وجوب التسليم المقيّد بالقدرة من أحكام صحّة البيع المتأخّر طبعا و رتبة، و من البيّن أنّ التقييد في الحكم المتأخّر رتبة لا يعارض عدم اعتبار ذلك التقييد في موضوع ذلك الحكم، لاختلاف رتبتي الموضوع و الحكم بالتقدّم و التأخّر. و محلّ النزاع فيما نحن فيه إنّما هو في تقييد صحّة البيع بالقدرة، و قد عرفت أنّ الأصل الأصيل اللفظي هو عدم تقييده من غير معارضته بشي ء من الأصول، و لا من غيرها.

فان قلت: إنّه معارض بأصالة عدم تقييد اشتراط القدرة.

قلت: اشتراطها إن كان مستندا إلى وجوب التسليم فقد عرفت عدم معارضته بأصالة عدم تقييد صحّة البيع.

و إن كان مستندا إلى أدلّة النهي عن بيع الغرري و البيع السفهي فمن البيّن أنّ


1- تقدّم ذكر هذا المتن بعينه في ص: 211، إلّا أنّ تعليقة المصنّف عليها مختلفة، فراجع.

ص: 216

لسان النهي عن بيع الغرر بقولهم: نهى النبي عن بيع الغرر (1) و عن السفهي بقوله تعالى لٰا تَأْكُلُوا أَمْوٰالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبٰاطِلِ (2) إنّما هو ظاهر في مانعيّة العجز لا اشتراط القدرة.

نعم، لو وردتا بلسان الإيجاب- كما لو قال: بيع الغير الغرري و الغير السفهي صحيح أو مطلوب- لدلّ ظاهرا على اشتراط القدرة، و إذ ليس فليس.

و إن كان مستندا إلى الإجماع فمن المعلوم أنّه لبّي يقتصر فيه على القدر المتيقّن من مفاده، و هو مانعيّة العجز، لا اشتراط القدرة. فتبيّن أنّ أصالة عدم تقييد صحّة البيع باشتراط القدرة سليم عن المعارض، و أنّه لا معارض له أصلا.

فتسليم المعارض له- كما فعله المجيب بالمعارضة- محلّ نظر، كما عرفت وجهه.

و أمّا ما أورد عليه المتن بقوله: «و فيه ما عرفت من أنّ صريح .. إلخ» (3) فيمكن الجواب عن الأوّل منها: بأنّ إجماعهم المذكور على تقدير تسليم صراحة معقده في اشتراط القدرة موهون، بعد استنادهم في الاشتراط إلى النهي عن بيع الغرري و السفهي، الّذي قد عرفت عدم دلالته على ما عدا مانعيّة العجز.

نعم، لو أطلقوا الإجماع و لم يستندوه إلى ما نعلم عدم دلالته على معقد الإجماع و احتملنا استناده إلى ما فيه دلالة على المطلق لم نتخلّف عن ظاهر معقده، و إذ ليس فليس.

و الجواب عن إيراده الثاني: بأنّ المراد من مانعيّة العجز هو المانع اللغويّ المتحقّق في ضمن الأمر العدمي أيضا لا المانع الاصطلاحي حتّى ينحصر تحقّقه في ضمن الأمر الوجودي دون العدمي.


1- الوسائل 12: 330 ب «40» من أبواب آداب التجارة ح 3.
2- البقرة: 188.
3- المكاسب: 186.

ص: 217

و الجواب عن الثالث: بأنّ ما قلت: من أنّ التردد بين شرطيّة الشي ء و مانعيّة مقابله إنّما يصحّ و يثمر في الضدّين مثل الفسق و العدالة مما يمكن الواسطة بينهما لا فيما نحن فيه مما يكون تقابلهما تقابل العدم و الملكة في عدم الواسطة بينهما، فيه: أنّه و إن كان كذلك إلّا أنّه يمكن فرض مورد للثمرة، و هي ما إذا شكّ في تحقّق القدرة و العجز مع الشكّ في سبق القدرة و عدمه، فإنّه على اشتراط القدرة يكون الأصل عدمها و لا يصحّ البيع، و على مانعيّة العجز يكون الأصل عدمه فيصحّ البيع، فتبيّن للتردّد ثمرة و إن كانت نادرة.

ثمّ و على تقدير اشتراط القدرة على التسليم في صحّة البيع فهل يشترط وجود القدرة حين البيع، أم حين التسليم، أم في الحينين، أم يكفي في أحد الحينين سواء كان حين العقد، أم حين التسليم؟ وجوه، أقواها الأخير؛ لأنّه الأقلّ تخصيصا في أدلّة صحّة العقد من سائر الوجوه، كما أنّ الثالث أكثر تخصيصا منها، فهو أضعفها.

و يتفرّع على هذا صحّة بيع المقدور حين التسليم و لو لم يكن مقدورا حين العقد. و كذا صحّة بيع المقدور حين العقد و لو لم يكن مقدورا حين التسليم.

و زعم بطلانه بواسطة الغرر مدفوع بفرض علم المشتري و عدم جهالته بالحال. و كذا زعم بطلانه بواسطة أنّه سفهيّ في معنى أكل مال بالباطل مدفوع أيضا بفرض أن يترتّب على البيع ثمرة عقلائيّة غير التسليم، كعتق و نحوه، فإن المنافع و الأغراض المترتّبة على الشراء لا تتوقّف على التسليم دائما، أو بفرض الثمن قليلا، بحيث تقدّم العقلاء على بذله عند رجاء المنفعة المحتملة.

ثمّ و على تقدير اشتراط القدرة أيضا فهل يعتبر قدرة المالك على التسليم، أم البائع و لو كان وكيلا أو فضوليّا، أم قدرة أحدهما، أم يكفي بقدرة المشتري على التسليم و لو لم يكن المالك و لا العاقد بقادرين على التسليم؟ وجوه، أقواها

ص: 218

الأخير، لعين ما ذكر من أقليّة التخصيص الناشئ منه في عموم أدلّة صحّة العقود من التخصيص الناشئ من سائر الوجوه.

و يتفرّع عليه صحّة بيع المقدور للمالك تسليمه و إن لم يكن مقدور التسليم لبائعه و لا لمشتريه، أو مقدور التسليم لبائعه و إن لم يكن مقدور التسلم لمالكه و لا لمشتريه، أو مقدور التسليم لمشتريه و إن لم يكن مقدور التسليم لمالكه و لا لبائعه.

ثمّ الشرط هل هو القدرة المعلومة للمتبايعين، أم القدرة الواقعيّة و إن لم تكن معلومة لهما و لا لأحدهما؟ وجهان، أقواهما الأوّل، لكن لا لكون الألفاظ موضوعة للمعاني المعلومة حتّى يندفع بأنّه خلاف مذهب التحقيق، بل لأنّ الجهل بالقدرة على التسليم موجب لكون المعاملة غرريّة، فتبطل من هذه الجهة، لا من جهة اعتبار العلم من باب الموضوعيّة، فلو باع ما يعتقد التمكّن من تسليمه فبان عجزه في زمان البيع صحّ، سواء تجدّدت القدرة بعد البيع، أم لم تجدّد، غاية الأمر ثبوت خيار تعذّر القبض للمشتري في صورة عدم تجدّدها، كما يثبت هذا الخيار له فيما لو تجدّد تعذّر القبض بعد البيع، هكذا رجّح شيخنا العلّامة.

خلافا للمتن (1)، حيث صرّح ببطلان البيع في صورة عدم تجدّد القدرة بعد البيع.

و اعترض عليه شيخنا العلّامة: بأنّه إن اعتبر العلم بالقدرة في صحّة البيع فما وجه اعتبار تجدّد القدرة في صورة ما لو بان عدمها حين العقد، و إن اعتبر نفس القدرة الواقعيّة و لو تجدّدت بعد البيع فما وجه اعتبار العلم بها حين البيع.

و يمكن أن يكون الوجه في اعتبار العلم بالقدرة هو الاحتراز عن الجهل الموجب للغرر، كما صرّح به. و الوجه في اعتبار القدرة و لو كانت متجدّدة هو الاحتراز عن السفاهة، و أكل المال بالباطل فإنّها تندفع و لو بالقدرة المتجدّدة الغير


1- المكاسب: 187.

ص: 219

الثابتة حين البيع إذا اعتقدها حين البيع. فظهر أنّ الوجه لاعتبار الأمرين هو الاحتراز عن المحذورين، و هو الأقوى.

و منه يظهر الفرق أيضا بين تعذّر القبض المتجدّد بعد البيع فيوجب الخيار لا البطلان، و بين تعذّر القبض المنكشف ثبوته حين البيع فيكشف عن البطلان، فلا يقاس على الأوّل.

قوله: «و فيما ذكره من مبنى مسألة الفضولي ثمّ تفريع الفضولي ثمّ في الاعتراض الّذي ذكره ثمّ في الجواب عنه أوّلا و ثانيا تأمّل، بل نظر».

أقول: أمّا وجه النظر في مبنى مسألة الفضولي فلأنّه إن أراد من تقييد الحكم بكفاية قدرة الموكّل بما إذا رضي المشتري بتسليم الموكّل و رضي المالك برجوع المشتري إليه تحقّق قدرة المشتري على التسليم، المراد من اشتراط القدرة على التسليم، حيث إنّه لو لم يرض المشتري بتسليم الموكّل أو لم يرض المالك برجوع المشتري عليه لم يتحقّق معنى القدرة على التسليم المشروط فيه، فمن المعلوم عدم إناطة القدرة على التسليم، و نفي الغرر بشي ء من الرضاءين لا عرفا و لا شرعا. أمّا عرفا فظاهر. و أمّا شرعا فلكفاية مجرّد الرضا بأصل العقد في لزوم لوازم العقد قطعا، و لهذا يجبر كلّ من المتبائعين بترتيب لوازم البيع لو امتنعا عن ترتيبهما بعد تحقّق البيع.

و إن أراد من تقييد الحكم غير ذلك فلا دليل على التقييد، و تخصيص عمومات أدلّة صحّة العقود.

و أمّا وجه النظر في تفريع بطلان الفضولي على ذلك المبنى فلأنّ صحّة الفضوليّ مورد النصّ (1) و الإجماع. و على ذلك فلو سلّم صحّة المبنى المذكور لم يصحّ أن يفرّع عليه بطلان ما يكون صحّته مورد النصّ و الإجماع كالفضولي


1- المستدرك 13: 245 ب «18» من أبواب عقد البيع ح 1.

ص: 220

فكيف إذا يسلّم المبنى المذكور؟

و أمّا وجه النظر في الاعتراض فلأنّ وثوق الفضولي بإرضاء المالك في المستقبل لا يعتبر المالك راضيا بالفعل و لا الفضولي وكيلا بالفعل، و لا يخرجه عن الفضولي في الحال، و إلّا لصحّ وطء المعقودة أو المبتاعة فضولة قبل الإجازة بمجرّد الوثوق و العلم بالإجازة و الرضا المستقبل.

و أمّا وجه النظر في الجواب الأوّل: فلما عرفت من منع صيرورة الفضولي وكيلا خارجا عن الفضولي بمجرّد الوثوق بتعقّب الإجازة و إرضاء المالك في المستقبل.

و أمّا وجه النظر في الجواب الثاني: فلما عرفت من ضعف التفريع و البناء على الأصل، للفرق بين الأصل و هو اعتبار القدرة، و بين الفرع و هو الفضولي، و الفارق النصّ و الإجماع.

[مسألة لا يجوز بيع الآبق منفردا]

قوله: «مسألة: لا يجوز بيع الآبق منفردا .. إلخ».

أقول: الكلام المناسب في المقام هو بيان أقوالها ثمّ بيان التنافي بين عبائرهم في ذلك و رفع ذلك التنافي ثمّ تأسيس الأصل فيها و الترجيح بينهما.

فنقول: أما الأقوال فأوّلها: المنع من بيعه منفردا مطلقا، و هو المشهور المنقول عليه الإجماع عن الخلاف (1) و الغنية (2) و الرياض (3).

و ثانيها: القول بجواز بيعه منفردا مطلقا، و هو أندرها، حتّى لم نعرف له قائلا منّا و إن نسبه في التذكرة إلى بعض علمائنا و بعض العامّة (4).


1- الخلاف 3: 168 مسألة 274.
2- غنية النزوع: 211.
3- رياض المسائل 5: 88.
4- تذكرة الفقهاء 1: 466.

ص: 221

و ثالثها: تفصيل الإسكافي (1) بين ما يقدر عليه المشتري أو يضمنه البائع فيجوز، و بين عدمهما فلا.

و رابعها: تفصيل الفاضل القطيفي بين ما يرضى به المشتري أو يعلم به أو يتمكّن منه عرفا فيجوز، و بين عدم ذلك كلّه فلا.

و أمّا التفصيل الآخر بين جوازه مع الضميمة و عدمه مع عدمها فراجع إلى المنع المطلق في المسألة؛ لأنّه تفصيل بين محلّ النزاع و غيره، لا تفصيل في محلّ النزاع. فلا تزيد الأقوال عن أربعة.

و أمّا العبائر المتنافية فمنها عبارة اللمعة (2)، حيث تردّد في جعل الآبق ثمنا بعد الجزم بمنع جعله مثمنا و الحكم بصحّة بيع الضال و المجحود، فإنّ كلّ من فقرأتها الثلاثة- أعني: التردّد في أحدها مع الجزم بالمنع في الثانية و الصحّة في الثالثة- متنافية من جهة خفاء الفرق بينها.

و يمكن توضيح الفرق و رفع المنافاة بما أشار إليه في المتن: من أنّ الاستناد في المنع عن جعله مثمنا لعلّه إلى النصّ و الإجماع الممكن دعوى اختصاصهما بالمثمن إلخ (3).

و نظيرها عبارة التذكرة (4) حيث ينافي ظاهر صدرها المدّعى عليه الإجماع لذيلها المنقول فيه الخلاف. و يمكن رفع المنافاة بفرض الخلاف غير قادح في الإجماع، أو بفرض الخلاف في بيع الآبق المقدور عليه المشتري أو المضمون عليه البائع، و الإجماع فيما عداهما حتّى يختلف موردهما.

و أمّا تأسيس الأصل في المسألة فمن المعلوم أنّ الأصل العمليّ الأوّليّ هو


1- حكاه عنه العلّامة في مختلف الشيعة 5: 216.
2- اللمعة الدمشقيّة: 63.
3- المكاسب: 188.
4- تذكرة الفقهاء 1: 466.

ص: 222

الفساد في المعاملات، لأصالة عدم النقل و الانتقال، و الأصل اللفظيّ الثانويّ هو الصحّة، لعموم أدلّة (1) لزوم الوفاء بالعقود، فإنّ القدر المتيقّن هو تخصيصه بنهي النبي عن الغرر (2) المخرج للبيع، و نهيه تعالى عن أكل المال بالباطل (3) المخرج للبيع السفهي. فالمرجع فيما عداهما من التخصيص الزائد إلى عموم العام.

و على ذلك فإذا شككنا في إطلاق نصوص (4) المنع من بيع الآبق منفردا- الموجب لتخصيص عموم أدلّة صحّة البيع بأزيد. من التخصيص المتيقّنين، و في انصراف إطلاقها إلى ما هو الغالب المتيقّن تخصيص البيع به، و هو صورتيّ الغرر و السفه- كان المرجع المعوّل عليه هو عموم أدلّة صحّة العقود، و حمل إطلاق نصوص المنع من بيع الآبق على صورة لزوم الغرر أو السفه، كما هو الغالب، فيصحّ بيع الآبق منفردا فيما عدا الصورتين، أخذا بعموم أدلّة صحّة العقود، و الاقتصار في تخصيصها على القدر المتيقّن.

و أمّا إطلاق معقد الإجماعات المنقولة على المنع و على اشتراط القدرة على التسليم فمضافا إلى وهنها بوجود المخالف و نقل الخلاف أولى بالحمل على منصرف إطلاق نصوص المنع، كما لا يخفى.

و لو سلّمنا إطلاق نصوص المنع و معقد الإجماع المنقول فمقتضى الأصل المذكور هو الاقتصار في المنع على خصوص موردها، و هو جعل الآبق مثمنا، فلا يتعدّى إلى جعله ثمنا، فضلا عن التعدّي عن الآبق إلى الضالّ و المجحود.

فتبيّن مما ذكر أنّ الأظهر صحّة بيع الآبق منفردا إذا تجرّد عن الغرر بفرض علم المشتري و عن السفه بقصد الانتفاع بعتقه، أو بضمان البائع له، أو بقلّة ثمنه


1- المائدة: 1.
2- الوسائل 12: 330 ب «40» من أبواب آداب التجارة ح 3.
3- البقرة: 188.
4- الوسائل 12: 262 ب (11) من أبواب عقد البيع و شروطه.

ص: 223

بحيث يقدّم العقلاء على ضرره، أو غير ذلك ممّا يخرج المعاملة عن السفهي.

نعم، يبقى الكلام في الصغروي هو أنّ إرادة المشتري من شراء الآبق عتقه أو ضمان البائع له هل يخرجه عن الغرر المبطل، أم لا؟ وجهان، بل قولان مبنيّان على تشخيص كون المراد من نفي الغرر نفيه عن نفس البيع على أن يكون البيع بنفسه خاليا عن الغرر مع الإغماض عن الأحكام و الشروط و القصود اللاحقة الرافعة لغرره الأصلي، أم المراد من نفي الغرر نفيه و لو بواسطة الأحكام و الطوارئ اللاحقة الرافعة لغرره الأصلي، فيصحّ بيع الآبق منفردا فيما يراد عتقه، لأنّ هذه الإرادة رافعة لغرره الأصلي. و كذا بيع المضمون على البائع دركه شرعا أو شرطا فان هذا الضمان رافع لغرره الأصلي المفروض بالإباق أو الضلال، و لعلّ الظاهر من عموم النهي عن الغرر هو الأوّل، كما لعلّ الظاهر من نصوص (1) تعليم بيع الآبق مع الضميمة و تعليل الجواز فيها بمضمون كون الضميمة مقلّلة للغرر هو الثاني. و هو الأقوى، لاعتضاده بعموم أدلّة صحّة البيع و الاقتصار في تخصيصه على المتيقّن. و قد عرفت أنّه الأصل الأصيل الّذي عليه التعويل عند اشتباه السبيل. و على ذلك فيجدي في رفع الغرر الحكم بصحّة البيع مراعى بالتسليم، فإن تسلّم قبل مدّة لا يفوت الانتفاع المعتدّ به و إلّا تخيّر بين الفسخ و الإمضاء، كما استقربه اللمعة (2) في بيع الضالّ و المجحود.

و لا يرد عليه ما أورده الماتن: من أنّ ثبوت الخيار حكم شرعيّ عارض للبيع الصحيح الّذي فرض فيه العجز عن تسليم المبيع، فلا يندفع به الغرر الثابت عرفا في البيع المبطل له- إلى قوله- فتأمّل (3).

إشارة إلى ما عرفت من انتقاضة بصحّة بيع الآبق مع الضميمة بالتعليل


1- الوسائل 12: 262 ب (11) من أبواب عقد البيع و شروطه.
2- اللمعة الدمشقية: 63.
3- المكاسب: 188.

ص: 224

المشير فيه إلى كون الضميمة مقلّلة للغرر، و إلى كونها كالحيل الشرعيّة الرافعة له.

مضافا إلى أنّ المرجع المعوّل عليه لو فرض الشكّ و الاشتباه في المقام هو عمومات أدلّة صحّة العقود، و إلى إمكان منع إطلاق العرف الغرر على ذلك البيع، بعد اطّلاعهم على الحكم الشرعيّ اللاحق للمبيع من ضمانه قبل العلم، و من عدم التسلّط على مطالبة الثمن، سيّما إذا أخذ المتبائعان هذا الخيار في متن العقد فباعه على أن يكون له الخيار إذا لم يحصل المبيع في يده إلى مدّة معلومة، و لهذا لا يعدّ بيع العين الغير المرئيّة الموصوف بالصفات المعيّنة من بيع الغرر، إلى آخر ما أشار إليه الماتن (1) قدّس سرّه.

بقي الكلام في أنّه هل يلحق بالبيع الصلح و الإجارة و غيرها من سائر المعاوضات في اعتبار القدرة على التسليم و بطلان الغرري و السفهيّ منها، أم لا؟

وجهان، أشار إليهما الماتن (2)، أقواهما و أشهرهما الأوّل؛ لأنّ الغرر المنفيّ في النبويّ (3) و إن قيّد بالبيع إلّا أنّ الظاهر من فهم الأصحاب و غيره هو ورود القيد مورد الغالب، فلا عبرة به، كما لا عبرة بالإطلاق الوارد مورد الغالب، بل ادّعى شيخنا العلّامة إجماعهم على أنّ الغرر مبطل في جميع العقود، حتّى في عقد الوكالة و الوصيّة، و أنّه إن كان لهم كلام و خلاف في بعض العقود فهو في تشخيص الصغرى، و هو تحقّق الغرر و عدمه.

نعم، الغرر في الصلح يرتفع بمجرّد المشاهدة و الوصف، و ليس كغرر البيع في عدم ارتفاعه إلّا بالتقادير، لاختصاص أخبار عدم رفعه بالتقادير بالبيع دون الصلح و في المسألة وجوه و أقوال أخر، ثالثها: التفصيل بين الصلح المحاباتي و غيره فيغتفر الغرر في الصلح المحاباتي لا غيره.


1- المكاسب: 188- 189.
2- المكاسب: 188.
3- الوسائل 12: 330 ب «40» من أبواب آداب التجارة ح 3.

ص: 225

و لكن هذا التفصيل راجع إلى عدم اغتفاره في الصلح مطلقا و ذلك لأجل اغتفاره في المحاباتي من جهة عدم تصوير الغرر فيه أصلا، لعدم تعلّق الغرض بالعوض فيه إلّا للخروج عن شبهة الخلاف و نحوه و رابعها التفصيل بين العوض و المعوّض أعني: التفصيل بين المصالح به فلا يغتفر الغرر و الجهل فيه و بين المصالح عنه فيغتفر فيه ذلك و خامسها بالتفصيل بين المصالحة على استمرار بقاء الموجود كالمصالحة على (1) إبقاء عروق الشجر الساري إلى دار الغير مثلا فيغتفر فيه الغرر و الجهل، و بين المصالحة على انتفاء إحداث شي ء كإحداث تراب و نحوه في دار الغير الذي يغتفر فيه الغرر و الجهل، و يرجع هذين التفصيلين إلى انتفاء الغرر فيما اغتفر فيه، لا انتفاء حكمه.

و سادسها: التفصيل بين الصلح المتعذّر أو المتعسّر فيه رفع الغرر و الجهل فيغتفر فيه و بين الغير المتعذّر فيه ذلك و المتعسّر.

و سابعها: التفصيل بين العوض المصالح به فلا يغتفر فيه الغرر و الجهل مطلقا، و بين المعوّض المصالح عنه فيغتفر فيه ما تعذّر أو تعسّر رفعه من الغرر و الجهل دون ما لم يتعذّر و لا يتعسّر منهما. و هو الأقوى، وفاقا لما استقواه شيخنا العلّامة، و جمعا بين عمومات أدلّة الصلح، و بين عموم نفي الغرر، مع عموم نفي العسر و الحرج.

قوله: «لئلّا يخلو الثمن عن المقابل. فتأمّل».

[أقول:] لعلّ التأمّل إشارة إلى ما يقال: من أنّ ظاهر جوابه عليه السّلام عن شراء الآبق بقوله: «لا يصلح إلّا أن يشتري معه ثوبا أو متاعا» (2) هو عموم المنع قضاء لوقوع النكرة في سياق النفي، إلّا في مورد التنصيص و التخصيص، و هو اعتبار


1- هذا هو المقدار الذي تمكّنا أن نقرأه من هامش النسخة الخطّيّة.
2- الوسائل 12: 262 ب (11) من أبواب عقد البيع و شروطه ح 1.

ص: 226

كون الضميمة ممّا يصلح للبيع بعد التموّل، فلا يصلح ضميمة المنافع كسكنى الدار أو ركوب الدابّة إلى الآبق، فضلا عن ضميمة الحقوق، كحقّ الشفعة، و حقّ القسمة و المضاجعة، و حقّ الاختصاص، لخروجها عن مورد التنصيص بالتخصيص، فيلحقها عموم منع العامّ، لأنّ المرجع المعوّل عليه عند إجمال المخصّص و دوران التخصيص بين الأقلّ و الأكثر.

و لكن يدفعه ظهور قوله عليه السّلام في ذيل الخبر: «فإن لم يقدر على العبد كان الّذي نقده فيما اشترى معه» (1) في تعليل الحكم بوجود ما يمكن مقابلته بالثمن، فيكون ذكر اشتراء الضميمة معه من باب المثال، أو كناية عن نقل مال، أو حقّ إليه مع الآبق، لئلّا يخلو الثمن عن المقابل.

مضافا إلى إمكان دعوى تنقيح المناط القطعي، و عدم الفرق في الضميمة، بعد اعتبار التموّل فيه بين المال و المنفعة و الحقّ.

و إلى أنّه لو سلّمنا تعارض ظهور ذيل الخبر الدالّ على اكتفاء مطلق الضميمة مع ظهور صدره الدال على عموم المنع و عدم حكومة ظهور ذيل الكلام على ظهور صدره كان المرجع إلى الأصل الأصيل، الّذي عليه التعويل عند اشتباه السبيل، و هو عموم أدلّة صحّة العقود.

قوله: «لا إشكال في انتقال الآبق إلى المشتري».

أقول: بل و لا في عدم رجوع المشتري إلى البائع و لو لم يقدر عليه و تعذّر تحصيله.

إنّما الإشكال في أنّ الثمن المدفوع في شراء الآبق مع الضميمة هل يحتسب بحسب الواقع في إزاء الضميمة كما لعلّه الظاهر من استناد صحّة البيع إلى الضميمة، أم يحتسب مجموعه في إزاء الآبق كما لعلّه الأقرب إلى قصد


1- الوسائل 12: 263 ب (11) من أبواب عقد البيع و شروطه ح 2.

ص: 227

المتبائعين للآبق، أم يحتسب الثمن في إزاء كلّ من الآبق و الضميمة على وجه التوزيع و التقسيط فيوزّع على كلّ منهما في الواقع مقدار ما يقابله من الثمن كما يقتضيه ظاهر وقوع العقد على مجموعهما معا، أم يكون احتساب الثمن مراعى بأنّه إن حصل الآبق توزّع على كلّ منهما بمقدار ما قابله من الثمن و إن لم يحصل وقع مجموعه في إزاء الضميمة، كما هو الظاهر من قوله في ذيل الخبر: «فإن لم يقدر على العبد كان الّذي نقده فيما اشترى معه» (1)، فإنّ مفهومه أنّه إن قدر عليه لم يكن الّذي نقده فيما اشترى؟ وجوه، أظهرها الأخير.

و تظهر الثمرة في فروع كثيرة:

منها: ظهورها فيما لو كانت الضميمة المنضمّة إلى الآبق في البيع مالكها الغير فأجاز، فإنّه على الوجه الأوّل: يستحقّ مالك الضميمة المجيز للبيع مجموع ثمن الآبق و الضميمة، و على الثاني لا يستحقّ شيئا من الثمن، و على الثالث يستحق من الثمن مقدار قيمة الضميمة، و على الرابع التفصيل بين ما إذا حصل الآبق فيستحقّ صاحب الضميمة مقدار قيمتها، و بين ما إذا لم يحصل فيستحقّ المجموع.

و منها: ظهور الثمرة في صيرورة الحكم بعدم رجوع المشتري على البائع عند عدم حصول الآبق في يده، الّذي هو في حكم التلف قبل القبض، مخصّصا لعموم «إذا تلف المبيع قبل قبضه فهو من مال بائعه» (2) على الوجهين الوسطين، و عدم صيرورته مخصّصا على الوجهين الآخرين.

و منها: ظهور الثمرة أيضا فيما لو تلف الضميمة قبل القبض، فعلى الوجه الأوّل: يسترجع مجموع الثمن، و على الثاني: لا يسترجع منه شيئا، و على


1- الوسائل 12: 263 ب (11) من أبواب عقد البيع و شروطه ح 2.
2- الوسائل 12: 358 ب (10) من أبواب الخيار، و المستدرك 13: 303 ب (9) من أبواب الخيار.

ص: 228

الثالث: يسترجع منه ما قابل الضميمة، و على الرابع: التفصيل بين ما إذا حصل الآبق في اليد فيسترجع منه بما قابل الضميمة و بين ما إذا لم يحصل فيسترجع مجموع الثمن.

و منها: ظهور الثمرة فيما لو تلف الآبق قبل قبضه من غير جهة الإباق، فعلى الأوّل: لا رجوع للمشتري على البائع بشي ء من الثمن لكونه في إزاء الضميمة، و على سائر الوجوه: له الرجوع بكلّ الثمن على الوجه الثاني، و بما يقابله منه على الوجهين الأخيرين. و ذلك لأنّ المتيقّن من تخصيص قوله عليه السّلام: «كل مبيع تلف قبل قبضه فهو من مال بائعه» (1) إنّما هو تلف الآبق من جهة إباقه، أي من جهة عدم القدرة على استرجاعه من الإباق، فإنّه من مال مشتريه لا بائعه.

و أمّا لو تلف بسائر الجهات كموته في زمان رجاء الوجدان فهو من مال بائعه قطعا.

و منها: ظهور الثمرة فيما لو وجد المشتري في الآبق عيبا سابقا فإنّ له الرجوع بأرشه على بعض الوجوه دون بعضها. فنسبة المصنّف إطلاق الرجوع بأرشه إلى القيل (2) لعلّه إشارة إلى تمريضه من هذه الجهة.

و منها: ظهور الثمرة أيضا فيما لو وجد في الضميمة عيبا سابقا فإنّ له الرجوع بأرشه على بعض الوجوه دون بعض.

ثمّ الطريق في أخذ الأرش أيضا يتفاوت على بعض الوجوه، فإنّه على تقدير وقوع الثمن في إزاء ما ظهر معيبا فقط هو تقويم المعيب منفردا و الأخذ من المسمّى بنسبة التفاوت الموجود بينه و بين صحيحه منفردا، و على تقدير وقوعه في إزاء المجموع المركّب من الآبق و الضميمة هو تقويم المجموع المركّب منهما


1- انظر الهامش «2» في الصفحة السابقة.
2- المكاسب: 189.

ص: 229

و الأخذ من المسمّى بنسبة التفاوت الموجود بين المركّب من المعيب و المركّب من الصحيح. و لعلّ نسبة المصنّف إطلاق الرجوع بالأرش في عيب الآبق إلى القيل (1) إشارة إلى تمريضه من هذه الجهة أيضا.

[مسألة المعروف أنه يشترط العلم بالثمن قدرا و كذا المثمن]
اشارة

قال: «فلو باع بحكم أحدهما بطل إجماعا .. إلخ».

أقول: لا إشكال و لا خلاف في بطلان البيع بحكم أحد المتبائعين على وجه الإطلاق لو كان الإطلاق مقصودا لهما للغرر و الجهالة. و إنّما الإشكال و الخلاف في البيع بحكم أحدهما على وجه التقييد، أعني: تقييد الحكم بالثمن السوقيّة، حيث إنّ في بطلانه كما هو ظاهر المشهور، أو جوازه كما عن الحدائق (2) وجهان، من عموم لا غرر، و من منع كونه غررا، بعد تقييد الحكم بالثمن السوقيّة بحسب القصد بالفرض، و انصراف الحكم إليه أيضا بحسب اللفظ في العرف بواسطة أنّه أقرب مجازات المعنى الحقيقي، و هو مطلق الحكم المتعذّر إرادته بقرينة الحال و الاعتبار، كما يشهد به الاختبار في العرف، إذا لا يخفى على المخبر الخبير من حال العرف أنّ مقصودهم من إكالة الثمن إلى الحكم ليس مطلق الحكم و لو كان بأقلّ من القيمة السوقيّة قطعا، فتعيّن انصرافه إلى أقرب مجازاته، و هو القيمة السوقيّة عرفا. فتبيّن أنّ صحّة البيع بحكم أحد المتبائعين المتقيّد بالثمن السوقيّة بشاهد الحال قويّ بالغاية، لوجود المقتضي و هو عموم أدلّة صحّة البيع، و انتفاء المانع و هو الغرر المنفي.

و أقوى منه ما عن الإسكافي (3) من تجويز قول البائع بعتك بسعر ما بعت على أن يكون للمشتري الخيار. و وجه الأقوويّة هو انتفاء الغرر فيه من أحد الجانبين بالفرض، و من الجانب الآخر بالخيار، و لكنّه مبنيّ على ما مرّ في


1- المكاسب: 189.
2- الحدائق الناضرة 18: 460.
3- حكاه عنه العلّامة في مختلف الشيعة 5: 244.

ص: 230

المسألة السابقة من اختيار انتفاء الغرر عرفا بالخيار و إن كان حكما عرفيّا عارضا للبيع.

و أمّا ما قاله المصنّف: من أنّ صحّة البيع بحكم المشتري و انصراف الثمن إلى القيمة السوقيّة بهذه الرواية- كما عن ظاهر الحدائق- ضعيف و أضعف منه ما عن الإسكافي إلخ (1) فمبنيّ على تقدير ثبوت الغرر، و فرض الرواية (2) مخصّصة لعموم نفيه.

و من المعلوم على هذا التقدير أنّ ضعف صحّة البيع بحكم المشتري للرواية هو إباء عموم نفي الغرر المؤيّد بالعقل و الاعتبار عن التخصيص بمثل الرواية، الموهونة بإعراض الأكثر، و أنّ أضعفيّة صحّة ما عن الإسكافي هو خروج مدّعاه عن مورد تلك الرواية أيضا، مع ثبوت الغرر فيه.

و أمّا على التقدير الآخر- و هو منع موضوع الغرر في البيع بحكم المشتري- فمن المعلوم قوّة الصحّة، و أقوائيّة ما عن الإسكافي حسب ما ذكر.

فتلخّص: أنّ صحّة البيع بحكم المشتري على تقدير انتفاء موضوع الغرر بالتقريب المذكور قويّ، و أقوى منه ما عن الإسكافي، و على تقدير بقاء الغرر و إرادة تخصيصه بالرواية ضعيف، و أضعف منه ما عن الإسكافي.

و مما ذكرنا: ظهر لك أنّ تضعيف الرواية بأنّ البيع بحكم المشتري إن صحّ على إطلاقه فلا وجه لتقييد الرواية إطلاقه بالقيمة السوقيّة، و إن لم يصحّ فلا وجه لتصحيح الرواية إيّاه ضعيف بما عرفت من تقييد صحّته بعدم إرادة إطلاقه.

فالرواية (3) الدالّة على صحّة البيع بحكم المشتري، نظير الرواية الدالّة على أنّ الشي ء الموصى به لشخص هو السدس (4) من غير تعليل، و السهم هو الثمن،


1- المكاسب: 190.
2- الوسائل 12: 271 ب «18» من أبواب عقد البيع و شروطه ح 1.
3- الوسائل 12: 271 ب «18» من أبواب عقد البيع و شروطه ح 1.
4- الوسائل 13: 450 ب «56» من أبواب أحكام الوصايا ح 1.

ص: 231

معلّلا إيّاه عليه السّلام بأنّه أصناف الزكاة الثمانية، و أنّ النبي صلّى اللّٰه عليه و آله قسّمها على ثمانية أسهم (1)، و الجزء هو العشر، ممثلا عليه السّلام بقوله تعالى لَهٰا سَبْعَةُ أَبْوٰابٍ لِكُلِّ بٰابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ (2). و نظير الروايات (3) الدالّة على أنّ القائل كلّ عبد قديم لي فهو حرّ تحرير لكلّ من استخدمه ستة أشهر من عبيده، معلّلا بقوله تعالى:

وَ الْقَمَرَ قَدَّرْنٰاهُ مَنٰازِلَ حَتّٰى عٰادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ (4). فان من المعلوم أنّ التعليل بتلك التعليلات تعليل بالاستعمال، و هو لا يصلح للعليّة، و إنّما ذكروها عليهم السّلام على وجه التقريب و التمثيل للمنصرف، الصحيح شرعا من اللفظ، المجمل لغة، الغير المراد إجماله قصدا. و نظير الرواية (5) الواردة فيمن نذرت الطواف على أربع يديها و رجليها أنّ عليها طوافين، حيث عمل بمضمونها المشهور، مع مخالفتها للأصل، و كون الهيئة المنذورة غير متعبّد بها شرعا.

فكما أنّ في أمثال هذه الروايات إيماء و إشعار و إرشاد إلى أنّ مدلول اللفظ اللغويّ فيها إذا كان مجملا مفسدا للعقد المتعلّق به المقصود صحّته بشاهد حال و نحوه فلا بدّ من انصرافه إلى معنى مبيّن يصحّ معه العقد شرعا، و هو السدس في الشي ء، و الثمن في السهم، و العشر في الجزء، و استخدام ستة أشهر في العبد القديم، و الطوافين في الطواف على أربع. كذلك الرواية الدالّة على صحّة البيع


1- الوسائل 13: 448 ب «55» من أبواب أحكام الوصايا ح 2.
2- لا يخفى أنّه لا ينطبق قوله: «و الجزء هو العشر» مع الآية المذكورة؛ لأنّه إمّا أن يكون الجزء هو واحد من سبعة فينطبق مع الآية المذكورة، و توجد روايات بهذا المعنى، انظر الوسائل 13: 442 ب «54» من أبواب أحكام الوصايا. أو أن يكون الجزء هو واحد من عشرة فينطبق مع قوله تعالى ثُمَّ اجْعَلْ عَلىٰ كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءاً، و توجد روايات بهذا المعنى أيضا، انظر الوسائل 13: 442 ب «54» من أبواب أحكام الوصايا.
3- الوسائل 16: 34 ب «30» من أبواب العتق.
4- يس: 39.
5- الوسائل 9: 478 ب «70» من أبواب الطواف.

ص: 232

بحكم المشتري و تقييده الحكم بالقيمة السوقيّة لا تخلو عن الإيماء بل الإرشاد إلى أنّ مدلول حكم المشتري لمّا كان إطلاقه في اللغة مجملا مفسدا للبيع المتعلّق به المقصود صحّته بشاهد حال و نحوه فلا بدّ من انصرافه إلى معنى مبيّن يصحّ معه العقد شرعا، و هو القيمة السوقية، نظير انصراف اللفظ إلى أقرب مجازاته العرفيّة عند تعذّر إرادة الحقيقة منه، كما لا يخفى.

و بالجملة: فالرواية لا تقصر في الدلالة على المطلوب عن أشباهها و نظائرها المذكورة.

قوله: «و الإيراد على دلالة الصحيحة (1) بالإجمال .. إلخ».

أقول: أمّا وجه الإجمال فلأنّ سمّيت كيلا محتمل لاشتراط الكيل فيه، كما لعلّه الظاهر من التسمية، فيكون وجه قوله عليه السّلام: «فإنّه لا يصلح مجازفة» (2) من جهة تخلّف الشرط، لا من جهة تخلّف اعتبار الكيل في المكيل. و محتمل لتسمية كيل مجهول كما لعلّه ظاهر تنكير الكيل المسمّى، ليكون وجه عدم صلوح المجازفة هو الغرر، لا انتفاء الكيل. و محتمل لكون التسمية كناية عن كون الطعام مكيلا في العادة، فيكون وجه عدم صلوح المجازفة هو اعتبار الكيل في كلّ مكيل.

و أمّا وجه عدم وجاهة هذا الإيراد فلأنّ تسمية الكيل و إن احتمل لكلّ من المعاني الثلاثة إلّا أنّه بمعونة فهم المشهور و صراحة سائر الأخبار الأخر (3)- الّتي هي كالقرآن يفسّر بعضها بعضها- تنجبر الدلالة، و نستقرب الإرادة، و تتعيّن في المعنى الأخير، و هو كون التسمية كناية عن كون الطعام مكيلا في العادة، فيتمّ دلالة الخبر، كدلالة سائر الأخبار الأخر على اعتبار الكيل في المكيل.


1- الوسائل 12: 254 ب (4) من أبواب عقد البيع و شروطه ح 2.
2- الوسائل 12: 254 ب (4) من أبواب عقد البيع و شروطه ح 2.
3- الوسائل 12: 254 ب (4) من أبواب عقد البيع و شروطه.

ص: 233

و حينئذ فيندفع ما يقال: من أنّ توصيف الطعام بكونه مكيلا الظاهر في التنويع، مع أنّه ليس من الطعام ما لا يكال و لا يوزن، إلّا مثل الزرع قائما يبعد إرادة المعنى الأخير من الرواية و يقرب إرادة ما عداه. و وجه الاندفاع ليس مجرّد إمكان منع ظهور التوصيف في التنويع، و لا مجرّد احتمال إرادة المطعوم من الطعام، بل إنّما هو ما ذكرنا من انجبار ضعف الدلالة على تقدير ضعفه، بمعونة فهم المشهور، و صراحة سائر الأخبار الأخر المفسّرة بعضها بعضها. و لعلّ وجه تأمّل الماتن (1) إشارة إلى ذلك، كما لا يخفى.

قوله: «فإناطة الحكم بوجوب معرفة وزن المبيع و كيله مدار الغرر الشخصي قريب في الغاية».

أقول: بل هو المتعيّن من ظاهر الأدلّة أمّا من أخبار (2) اعتبار الكيل و الوزن فلأنّها و إن كانت مطلقة إلّا أنّ منصرف إطلاقها هو الدوران مدار الغرر الشخصيّ صرفا للمطلق إلى الأفراد الغالبة لا النادرة. و أمّا عموم لا غرر فإنّ مفاده بحسب العرف و اللغة ليس إلّا نفي الغرر الشخصي و الفعلي، أعني: فساد كلّ ما اشتمل من المعاملات على غرر فعلا، دون ما اشتمل عليه نوعا و شأنا، أعني: ما من شأنه الاشتمال على الغرر المتحقّق فعليّته في غالب الأفراد و إن لم يشتمل عليه شخصه فعلا، فإنّ إلحاق ما لم يشمل شخصه على غرر فعلا على ما اشتمل عليه يحتاج إلى قرينة خارجة تنضمّ إلى نفي الغرر حتّى تدلّ على اطّراد الحكم، و عدم الفرق بين الأفراد أو عدم الفصل بين حكمها لمصلحة التسهيل أو غيره من المصالح العامّة أو الخاصّة، كما في نفي العسر و الحرج، الدافع لنجاسة الحديد عن جميع المكلّفين، حتّى عمّن لا يتعسّر عليه الاجتناب، و الرافع لوجوب الاجتناب عن


1- المكاسب: 190.
2- الوسائل 12: 254 ب (4) من أبواب عقد البيع و شروطه.

ص: 234

الشبهة الغير المحصورة، حتّى عمّن لا يتعسّر عليه الاجتناب، حيث أنّه بضميمة الإجماع المركّب و عدم القول بالفصل بين أفراد المكلّفين في الاجتناب و عدم الاجتناب عنهما، و إلّا فمجرّد نفي العسر و لحرج لو لا تلك الضميمة الخارجيّة إنّما هو كعموم نفي الضرر (1) و الغرر (2) لا يدلّ بمدلوله اللفظي و بمتفاهمه العرفيّ على التعدّي عن موضوعه الشخصيّ و الفعليّ إلى النوعيّ و الشأنيّ.

و من هنا كان مختارنا في الأصول على إناطة نفي العسر و الحرج على العسر و الحرج الشخصيّ و الفعليّ في جميع موارده، إلّا في الموردين المتقدّمين الخارجين بضميمة الخارج، و كذلك نفي الضرر و الغرر منوطان بالضرر و الغرر الشخصيّ، فلا يتعدّى منه إلى النوعيّ إلّا بضميمة شي ء من الضمائم الخارجيّة، و إذ ليست فليس.

ثمّ لو سلّمنا كون المناط في الغرر على الغرر النوعيّ فلنا تصحيح تلك المعاملة المفروض سلامتها عن الغرر الشخصيّ بعد إحراز أنّ التمليك المقصود للمتعارضين فيها غير مقيّد بصحّة البيع شرعا، على وجه لا ينتفي بانتفائها، كما يدلّ عليه شاهد حالهما، و فحوى تقاولهما بتخصيص اشتراط انتفاء الغرر النوعيّ.

بخصوص عقد البيع، و تخريج ما نحن فيه عن عقد البيع إلى البيع المعاطاتي.

و لو سلّمنا أيضا اشتراطه في مطلق البيع فلنا تخريج ما نحن فيه عن البيع إلى معاملة مستقلّة يدلّ على صحتها عموم تِجٰارَةً عَنْ تَرٰاضٍ (3) و «لا يحل مال امرء مسلم إلّا عن طيب نفسه» (4)، فإنّ عمومهما يدلّ على صحّة كلّ ما اشتمل على الرضا و الطيب و إن لم يندرج في أحد العقود المتعارفة الثمانية عشر،


1- الوسائل 12: 364 ب «17» من أبواب الخيار ح 3 و 4 و 5.
2- الوسائل 12: 330 ب «40» من أبواب آداب التجارة ح 3.
3- النساء: 29.
4- عوالي اللئالي 2: 113 ح 309.

ص: 235

بل و إن اندرج في ضمن المعاملة الربويّة أو القماريّة إذا رجع التعاطي فيها إلى الطيب و الرضا، لا الالتزام بخصوص عنوان الربا و القمار، كما خصّص بعض العلماء قوله عليه السّلام: «ثم العذرة سحت» (1) بخصوص ما إذا استند تعاطيه إلى الالتزام ببيع العذرة، بخلاف ما لو استند إلى الرضا و الطيب فلا سحت فيه، بل لعلّ ما يثاب الراضي على رضائه بعموم لٰا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ (2).

بل لو سلّمنا تخصيص عموم الرضا و الطيب بخصوص ما يوجد في ضمن أحد المعاملات المشروعة و سلّمنا أيضا تخصيص عموم «الوفاء بالعقود» بخصوص العقود المتعارفة المعهودة الثمانية عشر بدعوى الانصراف أو الاحتراز عن توهّم لزوم التخصيص بالأكثر فلنا تصحيح ما نحن فيه أيضا بإرجاعه إلى الهبة المعوّضة أو المصالحة بعوض أو غير ذلك، مما يغتفر فيه الغرر في الجملة، فضلا عن الغرر النوعيّ السليم شخص المعاملة عنه فعلا.

قال: «اختلفوا في جواز بيع المكيل وزنا و بالعكس و عدم جوازه على أقوال .. إلخ».

أقول: الكلام المناسب في المسألة هو تحرير محلّ النزاع أوّلا، ثمّ تأسيس الأصل، ثمّ بيان الأقوال، ثمّ تحقيق الحقّ.

فنقول: أمّا تحرير محلّ النزاع فمن جهات:

الاولى: أنّ النزاع في جواز بيع المكيل وزنا و بالعكس مبنيّ على تقدير كون المناط في الغرر المنفيّ هو الغرر النوعيّ، و إلّا فعلى كون المناط هو الغرر الشخصيّ فلا إشكال و لا خلاف في دوران الجواز مدار رفع الغرر الشخصيّ وجودا و عدما، من غير مدخليّة للكيل و الوزن، إلّا التوصّل الغالبي الحاصل منهما


1- الوسائل 12: 126 ب «40» من أبواب ما يكتسب به ح 1.
2- البقرة: 237.

ص: 236

إلى رفع الغرر، فضلا عن مدخليّة خصوص الكيل في المكيل و الوزن في الموزون.

الثانية: أنّ محلّ النزاع في كفاية الكيل في الموزون و بالعكس إنّما هو في كفايته من باب الموضوعيّة و الأصالة، أي و إن لم يكشف الوزن كيل المكيل و الكيل وزن الموزون. و أمّا من باب الطريقيّة و كشف الكيل في الموزون عن وزنه و الوزن في المكيل عن كيله فلا إشكال في جوازه حيثما كشف، بل و لا في جواز الاكتفاء بالمشاهدة الكاشفة عن وزن الموزون و كيل المكيل، كمشاهدة الماهر في التخمين من اولى الحدس الصائب.

و الحاصل: أنّ أخبار اعتبار الكيل في المكيل و الوزن في الموزون إنّما هو من باب الطريقيّة و الكشف عن مقدار المبيع؛ لأنّه الغالب، فيحمل عليه إطلاق اعتبارها، لا من باب التعبّد و الموضوعيّة. و يتفرع عليه صحّة بيع المستعلم مقداره بحدس صائب أو متخالف بما يتسامح به عرفا و إن كان من المكيل و الموزون، و عدم صحّة بيع المستعلم مقداره بكيل مجهول أو وزن مجهول لا يعرفه أحد المتعاملين و إن علمه الآخر، كالحقّة و الرطل و الوزنة في اصطلاح أهل العراق بالنسبة إلى الأعاجم، و كذا المنّ و السير و الخروار باصطلاح الأعاجم بالنسبة إلى الأعراب، لانتفاء الغرر الشخصيّ في الأوّل بمجرّد ذلك الحدس، و عدم انتفائه في الثاني بمجرّد معرفة اسم الوزن مع الجهل بمقدار مسمّاه، إلّا إذا اندفع غرر الجهل بمقدار ذلك الاسم بمعرفة ثمنه السوقيّة في بلد الشراء، كما جزم به شيخنا العلّامة.

و كيف كان فعلى تقدير اعتبار الكيل في المكيل و الوزن في الموزون من باب الطريقيّة لا إشكال و لا نزاع في صحّة قيام كل منهما مقام الآخر حيثما كشف عن مقدار المبيع. و إنّما الإشكال و النزاع في الاكتفاء بتقدير أحدهما عن الآخر

ص: 237

مبنيّ على تقدير اعتبارهما من باب الموضوعيّة و الأصالة.

و أمّا تأسيس الأصل في المسألة فمع المجوّز المطلق في المسألة، أعني مع جواز الاكتفاء في المكيل بالوزن و بالعكس حيثما انتفى الغرر الشخصي، و المراد من هذا الأصل هو عموم أدلّة (1) صحّة العقود و حلّية البيع بمجرّد الطيب و التراضي.

و أمّا ما قاله شيخنا العلّامة من أنّ الأصل مع المانع من اكتفاء أحدهما عن الآخر فقد اعترضت عليه بأنّه إن أردت منه الأصل العمليّ- و هو استصحاب عدم النقل و الانتقال به- فمن المعلوم ورود عموم أدلّة الصحّة و حلّية البيع بمحض الطيب و التراضي عليه، و إن أردت منه الأصل اللفظي- أعني إطلاق أدلّة اعتبار الكيل في المكيل و الوزن في الموزون- فقد عرفت استظهار انصرافها إلى الطريقيّة بالغلبة، و إلى المنع عن بيع المجازفة و الغرر لا غير.

فأجاب دام ظلّه: بأنّ البناء على الموضوعيّة و الجمود على إطلاق أخبار اعتبار التقدير القاضي أصالة عدم جواز كفاية أحد التقديرين عن الآخر لتخصيصه و حكومته على أصالة الجواز، المستند إلى عموم أدلّة صحّة العقد، و عموم حلّية البيع بمجرّد الطيب و التراضي.

و أمّا الأقوال في المسألة فثالثها: التفصيل بين وقوع المعاملة على المتاع الكثير المتعذّر أو المتعسّر تقدير المكيل منه بالكيل و الموزون بالوزن، فيجوز الاكتفاء بالوزن في المكيل و الكيل في الموزون، و لعلّه مستظهر من رواية عبد الملك (2) المذكورة في المتن (3). و بين عدم التعذّر و التعسّر فلا يجوز، للأصل المتقدّم.


1- المائدة: 1، و البقرة: 275، و عوالي اللئالي 2: 113 ح 309، و النساء: 29.
2- الوسائل 12: 255 ب (5) من أبواب عقد البيع و شروطه ح 1.
3- المكاسب: 191.

ص: 238

و رابعها: التفصيل بين تقدير المكيل بالوزن فيجوز، للشهرة المستفيضة، الّتي كادت تكون إجماعا، و لأنّ الوزن أضبط و أرفع للغرر، و لأنّه الأصل في التقدير. و بين العكس- أعني: تقدير الموزون بالكيل- فلا يجوز، للأصل. و هو الأقوى، بناء على اعتبار الكيل في المكيل و الوزن في الموزون من باب الموضوعيّة، و إلّا فعلى ما هو المختار من اعتبارها من باب الطريقيّة و التوصّل إلى رفع الغرر الشخصيّ- كما هو ظاهر الشهيدين في الروضة (1)- فالأقوى في المسألة هو الجواز المطلق، لعموم أدلّة صحّة البيع إلّا فيما لم يرتفع الغرر، كالكيل في بعض الموزونات العزيزة ماليّتها كالذهب و الفضة.

قوله: «قصور الرواية سندا بوهب (2)-

أي بين الثقة و غيره- و دلالة بأنّ الظاهر منها [جواز] إسلاف الموزون في المكيل- أي مبادلة الموزون بالمكيل- و بالعكس لا [جواز] تقدير [المسلم فيه] المكيل بالوزن و بالعكس».

قوله: «بحسب الضبط المتعارف لا بحسب الحقيقة. فافهم».

[أقول:] إشارة إلى أنّ ضبط كلّ شي ء بحسب متعارفة، و ليس له حقيقة سوى ذلك، إلّا أن يكون له متعارف سابق، فيكون حقيقة بالنسبة إلى لاحقه.

قوله: «بقي الكلام في تعيين المناط في كون الشي ء مكيلا أو موزونا .. إلخ».

أقول: الّذي يناسب المسألة الكلام أوّلا: في تحرير محلّ النزاع. و ثانيا:

في بيان مبنى المسألة و ما يتفرّع عليه النزاع فيها. و ثالثا: في بيان وجوه المسألة و أقوالها. و رابعا: في تحقيق الحقّ منها.

أمّا الكلام في محلّ النزاع فمن جهات:


1- الروضة 3: 266.
2- الوسائل 13: 63 ب (7) من أبواب السلف ح 1.

ص: 239

الاولى: أنّه لا ينبغي الإشكال في أنّ النزاع في هذه المسألة ليس في مفهوم المكيل و الموزون و تشخيص معنى اللفظ، و إلّا لكانت من الموضوعات المستنبطة المتّفق على كون المرجع في تشخيصها إلى عرف الشارع، أو العرف العام، أو الظنّ المطلق، على وجه الترتيب، أعني: تقديم عرف الشارع إن وجد، و العرف العامّ إن لم يوجد، و الظنّ المطلق إن لم يوجدا، من غير نزاع فيه، و لا في ترتّبه بالترتيب المتقدّم.

كما لا ينبغي الإشكال أيضا في عدم كون النزاع في تشخيص كون التقدير الموجود في زماننا مثلا للشي ء بالكيل أو أحد أخويه هل هو التقدير الموجود في زمان الشارع لذلك الشي ء ليكون المدار في صحّة المعاملة عليه، أم غيره؟ لئلّا يصحّ التقدير به، بناء على كون العبرة على تقدير زمان الشارع، لأنّ النزاع في ذلك نزاع في تشخيص الموضوع الصرف، و مبنيّ على تقدير صحّة الشقّ الأوّل من النزاع الأوّل، المفروض عدم الفراغ عنه بعد، بل النزاع في المسألة إنّما هو فيما هو المعتبر في تحقيق ذلك المفهوم، و هو المكيل و الموزون، أعني: في تعيين الاصطلاح الّذي يتعارف فيه هذا المفهوم.

و من هنا يعلم أنّ النزاع في المسألة من جزئيّات مسألة الاختلاف في تقديم عرف السائل أو المسئول أو بلد السؤال عند التعارض.

و أمّا مبنى المسألة و ما يتفرّع النزاع عليه فيها فهو القول باعتبار الكيل في المكيل و الوزن في الموزون من باب الموضوعيّة و الأصالة، و البناء في الغرر المنفي على الغرر النوعيّ لا الشخصيّ، كما عليه الماتن (1)، جمودا على إطلاق النصوص (2) و الفتاوى، المعتبرة للكيل في المكيل و الوزن في الموزون.


1- المكاسب: 191.
2- الوسائل 12: 254 ب (4) من أبواب عقد البيع و شروطه.

ص: 240

و أمّا على القول باعتبار التقدير المقدّر في المبيع من باب الطريقيّة و التوصّل إلى رفع الغمد الشخصيّ- كما هو الأظهر من إطلاق النصوص (1) و الفتاوى المعتبرة للتقدير، حملا لإطلاقها على إرادة ما هو الغالب من نفي الغرر الشخصيّ به، سيّما بملاحظة تفريع نفي صحّة الجزاف على اعتبار التقدير في بعض النصوص و الفتاوى- فمن الواضح تعيين كون المناط في التقدير المعتبر إنّما هو في كلّ زمان بالنسبة إلى عرف المتبائعين فيه، فإنّه الرافع للغرر المفروض إناطة اعتبار التقدير به.

و لا يبقى وجه لتوهّم اعتبار التقدير المقدر في زمانه صلّى اللّٰه عليه و آله، فضلا عن دعوى الشهرة بل الإجماع على اعتباره. و لا لمقايسة التقدير المعتبر في مسألة البيع على التقدير المعتبر في مسألة الربا إن سلّمنا الحكم في المقيس عليه، لما عرفت من وجود الفارق البيّن بينهما حينئذ، و هو إناطة اعتباره في البيع بنفي الغرر، المعلوم عدم المدخليّة لزمانه صلّى اللّٰه عليه و آله في رفعه، و عدم إناطة اعتباره في الربا بنفي الغرر.

فكيف لو لم نسلّم الحكم في المقيس عليه، و قلنا بإناطته اعتبار التقدير فيه على نفي الضرر الشخصيّ الغير المتسامح فيه عرفا، المعلوم عدم المدخليّة لزمانه صلّى اللّٰه عليه و آله في رفعه؟ كما هو الأقوى أيضا لو لا مخافة الإجماع.

فتلخّص أنّه لا وجه لاعتبار تقرير زمان الشارع على تقدير اعتبار التقدير من باب الطريقيّة و التوصّل إلى نفي الغرر، و أنّ النزاع المذكور مبنيّ على تقدير اعتباره من باب الموضوعيّة و الأصالة.

و أمّا وجوه المسألة و أقوالها فمنها: تقدير المبيع بالتقدير الثابت له في عهد النبي صلّى اللّٰه عليه و آله، فلا يصحّ بغيره، كما عن مجمع البرهان (2) نسبته إلى الأصحاب، بل


1- هامش (2) من الصفحة السابقة.
2- مجمع الفائدة و البرهان 8: 177.

ص: 241

استظهر الماتن (1) الوفاق عليه من كلماتهم.

و منها: عدم اعتبار ذلك مطلقا، و كفاية تقديره بالتقدير الرافع للغرر الشخصيّ، المختلف باختلاف الأعصار و الأمصار، فالعبرة في كلّ عصر و مصر على التقدير المتعارف لرفع الغرر في ذلك العصر و المصر، كما استحسنه الشهيد الثاني في الروضة (2)، و عليه الجواهر (3)، نافيا لوجدان خلافه في كلام أحد من الأساطين.

و منها: التفصيل بين جواز بيع المكيل في عهد الشارع وزنا دون العكس، كما استظهره الماتن (4) في المسألة السابقة، ناسبا إيّاه إلى المشهور.

و منها: التفصيل الظاهر من عبارة المبسوط (5) المحكيّة في المتن (6) من أنّ المكيال مكيال أهل المدينة، و الميزان ميزان أهل الحجاز.

و أمّا تحقيق الحقّ من تلك الوجوه و الأقوال فمبنيّ على تشخيص كون الأخبار (7) المعتبرة للكيل في المكيل و الوزن في الموزون معتبرة من باب الموضوعيّة فيتبع فيها عهد الشارع تقديما لعرف المسئول على عرف السائل عند تعارض العرفين في اللفظ، أو من باب الطريقيّة و التوصّل إلى رفع الغرر الشخصيّ فلا يتبع عهد الشارع، بل يكفي البناء في كلّ عصر أو مصر على المتعارف فيه، و قد مرّ غير مرّة أنّه الأقوى و الأظهر، حملا لإطلاق النصوص (8) و الفتاوى المعتبرة للكيل في المكيل و الوزن في الموزون على الغالب من خواصّهما، و هو


1- المكاسب: 192.
2- انظر الروضة البهيّة 3: 266.
3- جواهر الكلام 22: 427.
4- المكاسب: 191.
5- المبسوط 2: 90.
6- المكاسب: 192.
7- الوسائل 12: 254 ب «4» من أبواب عقد البيع و شروطه.
8- الوسائل 12: 254 ب «4» من أبواب عقد البيع و شروطه.

ص: 242

التوصّل إلى نفي الغرر الشخصيّ المعلوم عدم مدخليّة اتّباع عهد الشارع في رفعه.

و يؤيّد ذلك بل يشهد عليه أمور:

منها: قيام الشهرة بل الوفاق ظاهرا حتّى من المصرّحين بلزوم اتّباع عهد الشارع في المكيل و الموزون على صحّة الوزن في المكيل و إن لم يصحّ العكس، معللين إيّاه بأضبطيّة الوزن من الكيل. و وجه الاستشهاد: أنّ اعتبار تقدير المكيل بالكيل و الموزون بالوزن في النصوص و الفتاوى لو كان من باب الموضوعيّة لما جاز تفكيكهم بين صحّة الوزن في المكيل دون العكس، و لما صحّ تعليلهم الصحّة بأضبطيّة الوزن، فتفكيكهم بينهما و تعليلهم بالأضبطيّة أقوى شاهد على اعتبار التقدير بما ذكر من باب الطريقيّة لا الموضوعيّة.

و منها: أنّه لو كان اعتباره من باب الموضوعيّة لا الطريقيّة للزم اعتبار تقدير المكيل و الموزون بخصوص الكيل و الوزن المعتادين في زمن الشارع و بلد الشارع، كما لزم اتّباع عهده في كونه مكيلا أو موزونا. و وجه الملازمة: أنّ تقديم عرف المسئول على عرف السائل، كما يقتضي البناء في مكيليّة المكيل و موزونيّة الموزون على عهده، كذلك يقتضي البناء في كيله و وزنه على الكيل و الوزن المعتادين في عهده، بل و في بلده، و من المعلوم من السيرة و غيره بطلان هذا اللازم، فينبغي أن يكون الملزوم مثله.

و منها: أنّه لو اعتبر في مكيليّة المكيل و موزونيّة الموزون ما هو المعتاد في عهده صلّى اللّٰه عليه و آله للزم على الصحابة و العلماء بل و على المعصوم الأمر بضبط ما هو المعتاد في عهده لتقدير الأشياء، حذرا من تغيير المعتاد بغيره، و انقلاب الموزون أو المعدود مكيلا و بالعكس، كما ضبطوا الأخبار و الرسوم المطلق اتّباعها بأشدّ ضبط، و من المعلوم الواضح على كلّ متتبّع عدم أثر لضبط المعتاد في عهده في شي ء من كتب الخلف و لا السلف. و هو أقوى شاهد أيضا على عدم اعتبار المعتاد

ص: 243

لتقدير الأشياء في عهده صلّى اللّٰه عليه و آله.

و منها: قيام السيرة القطعيّة المستمرة خلفا عن سلف في البيع و الشراء في كلّ من الأعصار و الأمصار المختلفة على ما هو المتعارف في نفسها من التقادير، من دون ملاحظة انطباقها على المعتاد في عهده صلّى اللّٰه عليه و آله و عدم انطباقها عليه. و هو أيضا أقوى شاهد من الشواهد على عدم اعتبار اتّباع عهده صلّى اللّٰه عليه و آله، لما ذكرنا سابقا من تفصيل أنّ الأصل في سيرة المسلمين هو الحجّية و الكشف عن تقرير المعصوم عليه السّلام، و عدم استنادها إلى المسامحة، و عدم المبالاة إلّا ما ثبت خروجه بدليل.

فان قلت: لعلّ ما يكون جريان السيرة في كلّ عصر و مصر- على ما هو المتعارف في نفسه من التقادير- ناشئا عن إحراز تطابق التقدير الموجود في كلّ عصر و مصر على التقادير الموجودة في عهده صلّى اللّٰه عليه و آله، بواسطة غلبة التطابق، و عدم التغيير، و تشابه الأزمان، و استصحاب القهقرى.

قلت: أوّلا: أنّ الشكّ في تطابق تقدير هذا الزمان مع تقدير عهده صلّى اللّٰه عليه و آله شكّ في الموضوع الصرف، و ما ذكر من غلبة التطابق و أصالة عدم التغيير لا يفيد سوى الظنّ، الغير الثابت حجّيته في الموضوعات الصرفة إلّا في مثل إثبات الضرر و الوقف و العدالة و نحوها مما أحرز من الخارج عدم رضا الشارع بمرجعيّة الأصول فيها عند الظنّ، كمرجعيّتها عند الشكّ بواسطة لزوم تفويت الغرض المقصود منها. و ما نحن فيه ليس من تلك الموضوعات.

و ثانيا: سلّمنا، لكن السيرة المستمرة جارية على عدم ملاحظة تطابق التقديرين و عدم تطابقهما، لا أنّها جارية على مجرّد البيع بما هو المتعارف في كلّ عصر و مصر، حتّى يحتمل استنادها إلى إحراز التطابق، و هل وجدت من نفسك في البيع و الشراء منذ نشأت في الإسلام إلى يومك هذا ملاحظة تطابق التقدير

ص: 244

الّذي تبيع أو تشتري به مع التقدير المعتاد في عهده صلّى اللّٰه عليه و آله؟

ثمّ و بالجملة: فالموهم لاعتبار اتّباع تقدير عهده صلّى اللّٰه عليه و آله في صحّة شراء ماله تقدير إن استند إلى الجمود على إطلاق اعتبار الكيل في المكيل و الوزن في الموزون،- الظاهر في اعتبار التقدير على وجه الموضوعيّة- فقد عرفت دفع هذا الوهم بالنقوض و الإبرامات المقتضية لاعتباره من باب الطريقيّة لا غير.

و إن استند الوهم المذكور إلى الوفاق على تقديم عرف الشارع في الموضوعات المستنبطة إذا وجد على العرف العامّ فقد عرفت دفعه أيضا في تحرير محلّ النزاع بمنع الصغرى، و هو كون المسألة من الموضوعات المستنبطة و إن سلّمت الكبرى.

و إن استند إلى القول بتقديم عرف المسئول على عرف السائل عند تعارض العرفين فهو و إن سلّم في محلّه تقديم عرف المسئول، إلّا فيما علم المسئول اختلاف عرف السائل و جهله بعرف المسئول فيقدّم عرف السائل، حذرا من لزوم الإغراء بالجهل. و لكن كلّ ذلك فيما لم يقم على الخلاف قرينة خارجيّة، و قد عرفت من تلك النقوض و الإبرامات قرينة صرف اللفظ عن إرادة خصوص عرف المسئول بما لا مزيد عليه.

و إن استند إلى ما استظهره الماتن من الوفاق و الإجماع (1) فيكفي في دفعه تصريح مثل صاحب الجواهر (2) مع كثرة باعه و طول ذراعه على نفي وجدان القول به، فضلا عن الإجماع عليه. مضافا إلى اندفاعه بتلك النقوض و الإبرامات المتقدّمة.

و إن استند إلى مقايسة المكيل و الموزون في مسألة البيع عليهما في مسألة


1- المكاسب: 192.
2- الجواهر 22: 427.

ص: 245

الربا فمضافا إلى إمكان منع الحكم في المقيس عليه يدفعه بطلان القياس في مذهبنا، خصوصا مع وجود الفارق.

و إن استند إلى ما ادّعاه المتن (1) أيضا من اتّحاد الموضوع و هو المكيل و الموزون في كلتا المسألتين فيدفعه ما عرفت من اختلاف المناط فيهما، و هو استناد اعتبار التقدير في مسألة البيع إلى نفي الغرر، و عدم استناد اعتباره في مسألة الربا إلى ذلك.

قوله: «لمقطوعة ابن هاشم (2) الآتية. فتأمّل».

[أقول:] إشارة إلى أنّ المقطوعة دراية لا رواية.

قوله: «فإذا سئل عن مقدار ما عنده .. إلخ».

[أقول:] فيه: أنّ كلام الفقيه و الفقه إنّما هو في تعيين العوضين، لا في جواب السؤال. و ثانيا: أنّ جواب السؤال عن مقدار الشي ء إنّما هو بالمقدار المتعارف فيه إن وزنا فوزن، و إن كيلا فكيل، و إن عدّا فعدّ. و عن مقدار ماليّته الجواب بمقدار قيمته، لا مقدار وزنه.

قوله: «و الأقوى بناء على اعتبار التقدير و إن لم يلزم الغرر الفعليّ هو عدم الاعتبار».

أقول: بل الأقوى الاعتبار مطلقا. أمّا على عدم اعتبار التقدير إلّا من باب دفع الغرر الشخصيّ فلأنّ المفروض اندفاعه بثبوت خيار التخلّف له، إلّا على توهّم كون المطلوب خلوّ نفس المعاملة عن الغرر بالذات، لا بعروض الحكم عليه بالخيار. و أمّا على اعتبار التقدير من باب الموضوعيّة فلأنّ المفروض كفاية الأخبار عنه فيه.


1- المكاسب: 192.
2- الوسائل 12: 435 ب (6) من أبواب الربا ح 6.

ص: 246

لا يقال: إنّ القدر المتيقّن كفاية الخبر المفيد للظنّ فيه لا مطلق الخبر، فيرجع فيما عدا المتيقّن من تخصيص عموم أخبار (1) اعتبار التقدير إلى عموم اعتبار التقدير.

لأنّا نقول: أوّلا: أنّ عموم أخبار اعتبار التقدير قد عرفت أنّه عموم حكمتي وارد مورد الغالب، و هو نفي الغرر الشخصي.

و ثانيا: سلّمنا، لكن أخبار كفاية الأخبار عن التقدير ليست بمجملة حتّى يرجع فيما عدا المتيقّن من تخصيصها الاعتبار إلى عموم الاعتبار، بل هي أيضا مطلقات، و المرجع في المشكوك إلى إطلاقها.

قوله: «فتأمّل فإنّ المتعيّن الصحّة و الخيار».

أقول: قد اعترضت على شيخنا العلّامة: بأنّ الأوجه التفصيل بين ما يكون مقصود المشتري في الشراء الموجود الخارجي بالذات و الأصالة و يكون العنوان المقدّر مقصودا بالبيع لزعم انطباقه عليه فيتعيّن الصحّة و الخيار بالتخلّف، و بين ما يكون المقصود العكس، أعني: شراء العنوان المقدّر بالذات و الأصالة و يكون الموجود الخارجي مقصودا بالتبع لزعم تحقّق العنوان في ضمنه، فيتعيّن البطلان بالتخلّف.

فأجاب دام ظلّه: بأنّ البناء على هذا التفصيل في تخلّف الجزء يستلزم البناء عليه أيضا في تخلّف الوصف و الجنس، و من الاتّفاق الصحّة في تخلّف الوصف مطلقا، و البطلان في تخلّف الجنس مطلقا، من غير تفصيل.

و اعترضت عليه: بأنّ إطلاق الحكم بالصحة في تخلّف الوصف و بالبطلان في تخلّف الجنس لعلّه مبنيّ على الظاهر دون الواقع، نظرا إلى أنّ القصد إلى الوصف تابع لقصد الموصوف في الظاهر، و القصد إلى الموصوف متبوع في


1- الوسائل 12: 254 ب (4) من أبواب عقد البيع و شروطه.

ص: 247

الظاهر، و هو لا ينافي أن يدين المشتري بنيّته في الواقع.

قوله: «و أمّا الملحوظ في عنوان المبيع .. إلخ».

[أقول:] و تفصيل الحال: أنّ الملحوظ في عنوان المبيع تارة مفسد له كالربا مطلقا، و غير المفسد تارة يكون مجرّد ملاحظته كاف في صحّته و لا يحتاج إلى ذكره كتعيين مقدار العوضين، و تارة يكون صحّته منوطا بذكره كتعيين جنسه، و تارة لا يكون صحّته منوطا بملاحظته و لا بذكره، بل يكفي بناء أصل العقد عليه كوصف الصحّة. و أمّا حكم ما لو بان تخلّف العنوان فهو الصحّة و الخيار مطلقا، إلّا في تخلّف الجنس فإنّه يبطل لقاعدة «العقود تابعة للقصود».

قوله: «الإبهام في البيع مبطل له، لا من حيث الجهالة».

[أقول:] الفرق كون المبهم هو المجهول في الواقع و الظاهر، و المجهول معلوم في الواقع دون الظاهر.

قوله: «فالدليل هو الإجماع .. إلخ».

أقول: بل لم يثبت الإجماع.

أمّا أوّلا: فلما عرفت آنفا من ذكره (1) مخالفة جماعة منهم المحقق الأردبيلي (2).

و أمّا ثانيا: فلأنّ الإجماع على عدم جواز بيع الكلّيّ المنتزع على تقدير تسليمه لبّيّ، و المتيقّن من معقده هو صورة تفاوت الأفراد الّتي هي منشأ الانتزاع، لا صورة تساويها.

و أمّا ثالثا: فلأنّ من المعلوم أنّ مدرك إجماعهم لو ثبت ليس سوى ما ذكر من تلك الوجوه الأربعة، الموهونة نقضا بجواز بيع الكلّي و الإسلاف في الكلّي


1- المكاسب: 195.
2- مجمع الفائدة و البرهان 8: 182.

ص: 248

اتّفاقا، و جواز بيع الكلّي على وجه الإشاعة- كصاع من صبرة- اتّفاقا، و بجواز بيع الباقي من أحد العبدين المتلوف أحدهما مع الجهل بالباقي على ما عن التذكرة، و بجواز بيع الكلّي المنحصر مصاديقه في أفراد متصوّرة كبيع ربع من الأرباع المقسمة، الّذي هو الوجه الثالث من وجوه بيع البعض من الكلّ، الّذي استظهر عدم الخلاف في جوازه، فإذا جاز كلّ ذلك من بيع الكلّي المطلق و الكلّي المشاع و الكلّي المنحصر مصاديقه في أفراد فينبغي أن يجوز بيع الكلّي المتنزع، إذ لا فارق بين الكلّي المنتزع و غيره، بل و لا فرق بينهما على أقرب الرأيين من عدم وجود الكلّي الطبيعي.

توضيح ذلك: أنّ الكلّي الموجود في الذهن أمّا أن يكون له ما بإزاء في الخارج، ليكون وجوده في الذهن تاليا لوجوده في الخارج، كالجزئيّات، و يعدّ من هذه الجهة من المعقولات الثانويّة، فهو الكلي الحقيقي، بناء على القول بوجوده في الخارج. و أمّا أن لا يكون له ما بإزاء خارجي، بل يكون له منشأ انتزاع، كالمفاهيم الكلّية المنتزعة من الجزئيّات من مثل أحد الأفراد أو أحد الفردين، ليكون وجوده في الذهن متلوّا لوجوده الخارجي، و يعدّ من هذه الجهة من المعقولات الأوّليّة، فهو الكلّي الانتزاعي. و أمّا أن لا يكون له ما بإزاء و لا منشأ انتزاع، كالبحر المتّصف بأمواج الذهب و الإنسان المتّصف بذي الرءوس، فهو كلّي فرضيّ.

و الّذي لا يجوز بيعه من تلك الكلّيات هو الكلّي الفرضي. و أمّا الكلّيان الآخران فينبغي جواز بيع كلّ منهما، لعدم الفارق، بل و عدم الفرق بينهما، بناء على عدم الوجود الكلّي الطبيعي، و أمّا بناء على وجوده فهو و إن حصل بينهما فرق إلّا أنّه غير فارق فيما هو مناط جواز البيع من نفي الغرر.

و بالجملة: فبيع أحد الأشياء الجزئيّة الخارجيّة يتصوّر على ثلاثة وجوه

ص: 249

أحدها: إرادة الكلّي المشاع في تلك الجزئيّات الخارجيّة المشار إليها، و الفرق بينه و بين الكلّي المطلق في الإطلاق و التقييد.

و ثانيها: إرادة الكلّي المنتزع من تلك الجزئيّات. و هو على وجهين:

أحدهما: إرادة مصداق أحدها، و هو جزئيّ مبهم، كالنكرة على رأي المشهور.

و ثانيهما: إرادة مفهوم أحدها، و الفرق بينه و بين سابقه، و هو مصداق أحدهما. أمّا إجمالا فهو كالفرق بين الكلّي المقيّد بالوحدة و بين الفرد المنتشر، و كالفرق بين المطلق في إنشاء الواجب الكفائي و بين المطلق في إنشاء الواجب التخييري، و كالفرق بين الموضوع في الوضع العامّ و الموضوع له العام مثل وضع المشتقّات، و بين الموضوع في الوضع العامّ و الموضوع له الخاصّ كوضع المبهمات، حيث إنّ الكلّي العامّ كهيئة فاعل مثلا في المشتقّات هو الموضوع له في الأوّل و آلة لملاحظة الموضوع له في الثاني، و كذلك مفهوم أحد الأفراد في الثاني هو المبيع أصالة و أوّلا و بالذات، و في الأوّل هو آلة و واسطة لملاحظة المبيع الجزئيّ المردّد.

أمّا الوجه الأوّل- من وجوه أحد الأفراد و هو الكلّي على وجه الإشاعة-:

فلا إشكال و لا خلاف في جواز بيعه، لانتفاء جميع ما يصلح للمانعيّة من الغرر و الجهل و الإبهام في أصل المبيع، و لعدم الفرق بينه و بين بيع الكلّي إلّا في الإطلاق و التقييد، حيث إنّ المبيع الكلّي على وجه الإطلاق متعلّق بالذمّة، فضمان دركه على صاحب الذمّة، بخلاف المبيع الكلّي على وجه الإشاعة فإنّه متعلّق بالموجود الخارجي، و ضمان دركه على .. الموجود و الذمّة .. بمعنى العهد و الأمان و .. و الحرمة و الحقّ (1).


1- هذا هو المقدار الذي تمكّنا أن نقرأه من هامش النسخة الخطّيّة.

ص: 250

و أمّا الوجه الثالث: فكذلك على ما هو الظاهر المصرّح به في المتن أيضا، لخلوّ أصل المبيع فيه أيضا عن كلّ ما يصلح للمانعيّة من الغرر و الجهل و الإبهام، و لعدم الفرق بينه و بين بيع الكلّي المشاع، إلّا في تقييد كلّية الكلّي بما في ضمن أفراد منه في الإشاعة، و تقييد مصاديق الكلّي بأفراد منه في غير الإشاعة، و هو غير فارق.

و أمّا الوجه الثاني- من وجوه بيع أحد الأفراد و هو مصداق أحدها-: فهو و إن ادّعى الإجماع على عدم جواز بيعه إلّا أنّ قد عرفت ما ينبغي من تخصيص معقده بصورة تفاوت الأفراد بما يستلزم الغرر المنفي. و أمّا صورة تساوي الأفراد فلا مانع من جواز بيعه لا من الغرر و لا من الجهل سوى الإبهام، الّذي لا دليل على مانعيّته. كما لا مانع من جواز بيع الباقي من أحد العبدين المتساويين المتلوف أحدهما لا من الغرر و لا من الإبهام سوى الجهل، الّذي لا دليل على مانعيّته، فكما أنّ جهل المبيع في شراء العبد الباقي من العبدين غير مانع من جواز بيعه على ما عن التذكرة، كذلك إبهام المبيع في مصداق أحدها غير مانع بمجرّده عن جواز البيع، بل كما لا مانع كذلك لا فرق بين مفهوم أحدها و مصداقه، إلّا في كون الإبهام في نفس المبيع على إرادة المصداق من أحدها، و في مصاديق المبيع على إرادة المفهوم، و هو غير فارق بمجرّده، كما لا يخفى.

قوله: «و إن كان بين المصطلحين عموم من وجه (1)».

[أقول:] لاجتماعهما في ابتياع مجهول المقدار بأكثر مقاديره، و افتراق الغرر الشرعيّ عن العرفيّ في ابتياعه بأقلّ ما يحتمل من مقاديره، و العكس في ابتياع الآبق مع الضميمة.


1- في المكاسب: «عموم و خصوص من وجهين».

ص: 251

قوله: «و أصالة الصحّة لا تصرف الظواهر».

أقول: هذا مبنيّ على ما هو مذهبه في الأصول من اعتبار الظواهر من باب الظنّ النوعيّ و الشأنيّ (1). و أمّا على ما هو المختار- وفاقا لمشايخنا الأعلام من اعتبارها من باب الظنّ الفعليّ- فمن المعلوم إضرار أصالة الصحّة بالظواهر.

و مستند هذا الأصل ليس مجرّد أخبار (2) حمل فعل المسلم على الصحّة حتّى ينحصر مجراها في معاملة المسلمين، بل هو الغلبة القويمة المستقيمة المستمرّ عليها بناء الفقهاء طرّا في المعاملات الصادرة، حتّى من الكفّار، فضلا عن المسلمين. و لهذا استمر بناؤهم على الصحّة في كلّ ما يحتمل الصحّة و الفساد من المعاملات، بل و في العبادات الصادرة، حتّى من الجهّال، فضلا عن العالمين.

و لهذا استمرّ بناؤهم على الصحّة في كلّ ما يحتمل الصحّة و الفساد من عبادات الجاهل بالمسألة، فضلا عن العالم، بل و في مطلق ما يمكن وقوعه من الأفعال على وجه الصحّة و الفساد يحمل على الصحّة و إن لم يقصد بها وجه الصحّة، بل و إن قصد بها الفساد، كما لو وطء الأمة الموهوبة أو المطلقة الرجعيّة من غير قصد الرجوع، بل و مع قصد عدمه، فإنّه يعدّ رجوعا و إن لم يقصد به الرجوع، بل و إن قصد عدمه، كما لو قصد الزنا عند بعض، تقديما لأصالة الصحّة على أصالة العدم و استصحابه في تلك المواضع.

و هو كاشف عن قوّة مدرك أصالة الصحّة بالغاية و النهاية، بحيث لا ينحصر في أفعال المسلمين، بل و لا في أفعال القاصدين، بل و لا في فعل من الأفعال، و كأنّ مأخذه غلبة الصحّة على الفساد و غلبة التمام على الناقص في جميع


1- فرائد الأصول: 41.
2- الوسائل 8: 614 ب «161» من أبواب أحكام العشرة ح 3، و المستدرك 9: 144 ب «141» من أبواب أحكام العشرة ح 7، و الاختصاص: 226، نهج البلاغة: 538 حكمة 360.

ص: 252

الأشياء، بحيث يكون الغالب في الأشياء بحسب الذات و الطيبة و الفطرة هو الميل إلى جانب الصحّة دون الفساد و إلى جانب التمام و الكمال دون النقصين و الضلال.

و لعلّ إلى ذلك يشير قوله عليه السّلام في الحديث المشهور بين الفريقين: «كلّ مولود يولد على الفطرة حتّى يكون أبواه يهوّدانه و ينصرانه و يمجّسانه» (1)، أي يولد على المعرفة حتّى ينقلانه عنها أبواه.

و في كتاب التوحيد للصدوق مسندا إلى زرارة عن أبي جعفر عليه السّلام قال:

«سألته عن قول اللّٰه حُنَفٰاءَ لِلّٰهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ (2)، و عن الحنيفيّة، فقال: هي الفطرة الّتي فطر اللّٰه الناس عليها لا تبديل لخلق اللّٰه، قال: فطرهم اللّٰه على المعرفة، قال زرارة: و سألته عن قول اللّٰه وَ إِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ (3) الآية، قال: أخرج من ظهر آدم ذريّته إلى يوم القيامة فخرجوا كالذرّ فعرفهم و أراهم، و لو لا ذلك لم يعرف أحد ربّه»، و قال: قال رسول اللّٰه: كلّ مولود يولد على الفطرة يعني على المعرفة بأنّ اللّٰه تعالى خالقه فذلك قوله وَ لَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمٰاوٰاتِ وَ الْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللّٰهُ (4)» (5) و إِنْ مِنْ شَيْ ءٍ إِلّٰا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَ لٰكِنْ لٰا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ (6)، خصوصا على قراءة لا يفقهون.

و كما علم مما ذكرنا أصالة الصحّة في الأشياء كذلك يعلم منه أصالة الصدق في الأخبار، و هو و إن خصّص عندنا بمنطوق قوله تعالى:


1- الوسائل 11: 96 ب «48» من أبواب جهاد النفس و ما يناسبه ح 3، و السنن الكبرى 6: 202 و 203.
2- الحجّ: 31.
3- الأعراف: 172.
4- لقمان: 25، الزمر: 38.
5- التوحيد: 330، ح 9.
6- الأسراء: 44.

ص: 253

إِنْ جٰاءَكُمْ فٰاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا (1).

إلّا أنّه تبقى ثمرة هذا الأصل في عدم احتياج حجيّة خبر غير الفاسق إلى إثبات مفهوم لآية النبإ أو إثبات دليل آخر على حجيّة الخبر لكفاية الأصل عنه.

و كما علم منه أصالة الصحّة في المعاملات و الأقوال كذلك يعلم منه أصالة الصحّة في العقائد و الأفعال، من غير فرق بين فعل الجاهل و العالم، و لا بين البالغ و الصبيّ، و لا بين العادل و الفاسق.

و من فروع هذا الأصل الأصيل: أنّ الشاكّ في انطباق عباداته أو أفعاله الماضيّة على الواقع و عدمه يبنى فيها على الانطباق و الصحّة و لو كان الفاعل جاهلا بشرائط الصحّة، تقديما لأصالة الصحّة على قاعدة الاشتغال و استصحابه، بخلاف المحروم من فوائد هذا الأصل، فإنّه يبنى على الاشتغال.

و من فروعه أيضا: أنّ من كان في ذمّته عبادة عن الميّت فأجّر شخصا على التعبّد بها عن الميّت فرغ ذمّته عنها بمجرّد اشتغال الأجير و إن لم يكن الأجير عادلا؛ لأنّ عدم مأمونيّة الفاسق في أنّ ينوي العبادة عن غير الميّت المأجور له أو ينوي فيها الربا أو غيره من المبطلات مدفوع بغلبة الصحّة المذكورة، بخلاف المحروم من فوائدها فإنّه يبنى على الاشتغال ما لم يقطع بصحّة عبادة المتعبّد عنه حقيقة أو شرعا، كما لو كان المتعبّد عادلا.

و من فروع هذا الأصل الأصيل أيضا: صحّة اكتفائك في تطهير المتنجّس، و البناء على تطهيره بتوكيل الغير في تطهيره و لو كان فاسقا أو صبيا أو جاهلا بشرائط التطهير على ما هو حقّه، فإنّه يجوز الاعتماد على تطهيره بأصالة الصحّة و غلبتها من غير حاجة إلى عدالة المباشر و الوكيل، و لا إلى بلوغه، و لا إلى معرفته بكيفيّة التطهير شرعا، و لا إلى قاعدة «من ملك شيئا ملك الإقرار به»، بخلاف


1- الحجرات: 6.

ص: 254

المحروم من فوائد هذا الأصل فإنّه يبنى على استصحاب النجاسة لا محالة.

ثمّ إنّ هذه الفروع كلّها مبتنية على استناد أصالة الصحّة إلى الغلبة، و كونها من الأصول الاجتهاديّة المقدّمة على الأصول العمليّة من الاستصحاب و غيره.

و هل هي معتبرة من باب الظنّ النوعيّ و الشأنيّ كاليد و السوق و البينة، أم من باب الظنّ الفعليّ كظواهر الألفاظ و سند الأخبار عندنا؟ وجهان، أحوطهما الثاني.

و محصّل الكلام في تعارض هذا الأصل مع غيره من سائر الأصول العمليّة: أنّه إن تعارض مع ظواهر الألفاظ فأمّا أن يتّحدا في اعتبار كلّ منهما من باب الظنّ الفعليّ كما هو المختار، أم من باب الظنّ الشأنيّ كما هو وجه. و أمّا أن يختلفا بأن اعتبر أحدهما من باب الظنّ الفعليّ، و الآخر من باب الظنّ الشأنيّ.

أمّا على الأوّلين: فالمرجع في تعارضهما إلى المرجّحات الخارجيّة من شهرة و نحوه إن وجدت، و إلّا فإلى التساقط و الرجوع في مورد التعارض إلى ما فوقه من الأصول.

و أمّا على الأخير: فالمرجع إلى ما اعتبر منهما من باب الظنّ الشأنيّ فيقدّم على ما اعتبر من باب الظنّ الفعليّ؛ لأنّ المعتبر من باب الظنّ الفعليّ ينتفي فعليّة الظنّ منه بالمعارضة فيسقط عن الاعتبار، و يسلم عنه معارضة المعتبر من باب الظنّ الشأنيّ.

و إن تعارض مع الأصول العمليّة فأمّا أن يتّحدا في اعتبار كلّ منهما من باب الظنّ و النظر إلى الواقع أو من باب التعبّد و عدم النظر إلى الواقع، أو يختلفا فيعتبر أحدهما من باب الظنّ و الآخر من باب التعبّد.

أمّا على الأوّل: فالمرجع إلى التساقط و الرجوع إلى ما فوق.

و أمّا على الثاني: فالمرجع إلى أصالة الصحّة، بناء على تقديم الأصل في

ص: 255

الشكّ السببي على الأصل في الشكّ المسببي، و ذلك لأنّ أصالة صحّة المعاملة- مثلا- مزيل للشكّ في تعيين المبيع و تقديره، بخلاف أصالة عدم تعيينه و تقديره فإنّه غير مزيل للشكّ في صحّة المعاملة.

و بعبارة اخرى: أنّ أصالة الصحّة أثره إثبات تعيين المبيع، بخلاف أصالة عدم تعيينه فإنّه لا أثر له، لأنّ فساد المعاملة إنّما هو من آثار العدم الأزلي المستمرّ- أعني: عدم وجود مقتضى الصحّة- لا من الآثار الحادثة الناشئة عن عدم تعيين المبيع و تقديره، كما أنّ أصالة طهارة الماء المغسول به الثوب المتنجّس أثره طهارة الثوب المغسول به، بخلاف استصحاب نجاسة المغسول فإنّ أثر نجاسة الماء حينئذ لا يستند إلى نجاسة المغسول، كما لا يخفى.

و أمّا على الأخير: و هو اعتبار أحدهما من باب الظنّ و الآخر من باب التعبّد فمن المعلوم تقديم الأوّل على الثاني، لورود الأدلّة الاجتهاديّة على الأصول العمليّة قطعا. هذا كلّه في التقدير.

و أمّا التحقيق: فهو اعتبار أصالة الصحّة من باب الظنّ فيه الناظر به إلى الواقع، فلا يقاومه شي ء من الأصول العمليّة، و ذلك لأنّ أصالة الصحّة إنّما اعتبر في مورد الأصول العمليّة، إذ ما من مورد اعتبر فيه أصالة الصحّة إلّا و هو مورد لأصل من الأصول العمليّة، فلو لم يكن من الأدلّة الاجتهاديّة المقدّمة على الأصول لم يعتبر في مورد أصلا، و لا يبقى له مورد رأسا.

قوله: «أمّا أصالة عدم التعيين فلم أتحقّقها».

[أقول:] إذ ليس الشكّ في الحدوث، بل في الحادث، و هو كون المراد المشاع أو المعيّن، و لا أصل في البين في تعيين أحد المعنيين.

قوله: «و حينئذ يقع الإشكال في الفرق بين المسألتين .. إلخ».

أقول: الفرق بين المسألتين واضح عرفا و شرعا، مطّرد في جميع الموارد

ص: 256

العرفيّة و الشرعيّة، بحيث لا يكاد يظهر التخلّف في مورد من الموارد العرفيّة، و لا في باب من أبواب الفقهيّة. لكن الفارق ليس شي ء و لا بوجه من الوجوه الّتي ذكرها الماتن (1) على طولها و كثرتها، بل إنّما هو لوضوح الفرق و الفارق بين بعتك صاعا من صبرة و بين بعتك صبرة إلّا صاعا، حيث إنّ المستثنى و إن دخل في المستثنى منه صورة لحكمة و نكتة إلّا أنّه غير داخل فيه معنا و حقيقة، فإذا لم يدخل فيه كان باقيا على ملك البائع، فإذا أقبضه المشتري كان المستثنى منه ملكا لقابضه و المستثنى أمانة في يده، فيحصل الاشتراك بينهما من باب الشركة، لا من باب الإشاعة في الكلّي، فيكون الباقي لهما و التالف عليهما.

قوله: «لم يعلم من الأصحاب في مسألة الاستثناء الحكم بعد العقد بالاشتراك، و عدم جواز تصرّف المشتري إلّا بإذن البائع».

[أقول:] فيه: منع واضح، لوضوح أنّ الحكم بكون التالف عليهما حكم باشتراكهما، و أنّ إقباض البائع المستثنى إذن بتصرّف المشتري له.

قوله: «و لا يزاحمه عنوان ملك البائع. فتأمّل».

[أقول:] إشارة إلى أنّه إذا فرض المبيع صاعا من صبرة كلّيا كنفس الصاع فبيع الصبرة إلّا صاعا أولى بأن يكون كلّيا، و لا يزاحمه ملك البائع بالاشتراك.

قوله: «إلّا أن يقال: إنّ وجود الناقل لا يكفي في سلطنة البائع على الثمن [بناء] على ما ذكره العلّامة (2) .. إلخ».

أقول: وجه ذلك على ما استفدنا من بحث الأستاد دام ظلّه: هو كون النقل الصحيح لمّا كان على قسمين: قسم: كاف في إثبات السلطنة التامة للبائع على وجه اللزوم و هو ما لا خيار فيه، و قسم: يثبت السلطنة الناقصة للبائع على وجه


1- المكاسب: 197.
2- تذكرة الفقهاء 1: 537.

ص: 257

التزلزل و هو ما فيه الخيار لم يكن مجرّد تحقّق الناقل الصحيح كاف في إثبات السلطنة التامّة اللّازمة، فيستصحب في مقام الشكّ عدمها للبائع، و إبقائها للمشتري، نظرا إلى أنّ العامّ لا يدلّ على الخاصّ.

و بعبارة أوضح: أنّ سلطنة المدّعي على ماله كيده عليه أمر عرفيّ خارجيّ قابل باعتبار أسبابه للنقص و الكمال و التمام، فمتى شكّ في كماله و تمامه كان الأصل عدمه، و لو أحرز حدوثه في الجملة- كما لو شكّ في أصل حدوثه- كان الأصل عدمه رأسا.

و لكن يعود عليه أيضا إيراد الماتن (1) بأنّ الشكّ في المقام ليس في الحدوث حتّى يكون الأصل عدم حدوث تماميّة السلطنة و كماله و إنّما هو في الحادث. و الأصل فيه أمّا غير جار لعدم الحالة السابقة له إن رجع الشكّ إلى تقييد متعلّق العقد و عدمه، و أمّا جار غير نافع، لكونه مثبتا إن رجع الشكّ إلى عدم وقوع العقد على المقيّد، نظير الشكّ في كرّية الماء المخلوق دفعه من أصله، فإنّ أصالة عدم كرّيته بالخصوص نافعة في ترتيب آثار القلّة على الماء المذكور. إلّا أن يفرّق بين هذا المثال و بين ما نحن فيه بخفاء الواسطة. و هو كما ترى.

قوله: «و لأجل ما ذكرنا قوّى بعض تقديم قول البائع».

أقول: الظاهر أنّ المراد من البعض صاحب الجواهر (2). و يؤيّد أيضا تقديم قول البائع على المشتري لو اختلفا في التغيير مضافا إلى ما ذكر هنا تقديم قوله:

لو اختلفا في العيب أو الغبن أو الدلس أو اشتراط الخيار، فكما أنّ الأصل هو لزوم البيع و عدم الخيار للمشتري في دعوى العيب و الغبن و الدلس أو اشتراط الخيار، فليكن الأصل أيضا لزوم البيع و عدم الخيار للمشتري في دعوى التغيير،


1- المكاسب: 199.
2- جواهر الكلام 22: 431.

ص: 258

لاتّحاد الطريق في الكلّ، من غير فرق بيّن و لا مبيّن. و لعلّ وجه الحكم بتقدّم قول البائع في تلك الموارد هو البناء في تشخيص المنكر و المدّعي على العرف، لا المطابقة للأصل و عدمه، و إلّا فقد عرفت عدم سلامة الأصول عن موانع القبول.

قوله: «و تأخّره عنه على وجه لا يوجب الخيار .. إلخ».

أقول: احترز بذلك القيد عن التأخّر الموجب للخيار. و قد مثّل له شيخنا العلّامة بتأخّر الهزال في مثل بيع الحيوان قبل مضي ثلاثة أيّام، فإنّ الهزال و إن تأخّر عن البيع فيه موجب للخيار قبل مضي الثلاثة، بخلاف تأخّره في بيع غير الحيوان أو في بيع الحيوان بعد مضي الثلاثة فإنّه لا يوجب الخيار.

أقول: بل له أيضا مثال آخر في بيع غير الحيوان: و هو بلوغ الهزال و التغير إلى حدّ مشرف على تلف المبيع قبل قبضه فإنّه و إن تأخّر عن البيع بالفرض إلّا أنّه أيضا موجب للخيار. بل و له مثال ثالث: و هو ما إذا كان التغيير بتسبيب البائع أو بتفريطه، فإنّه أيضا موجب للخيار.

قوله: «مقتضى الأصل في المقامين عدم اللزوم».

[أقول:] فيه: ما عرفت من أنّ أصالة عدم اللزوم و عدم وصول حقّ المشتري لا يثبت الجواز و الخيار إلّا على الأصل المثبت للضرر، الموجب للخيار و الجواز.

قوله: «و بالجملة الفاسد شرعا الّذي تنزّه عنه فعل المسلم .. إلخ».

أقول: محصّل الكلام و توضيحه: أنّ أصالة الصحّة في المعاملات إنّما يجري بعد إحراز القابليّة العقليّة لتأثير المحلّ، و أمّا قبله فلا، و ذلك لأنّ صحّة العقد عبارة ترتيب الأثر الشرعيّ عليه، فإذا فرضنا أنّه عقد على معدوم في الواقع فلا تأثير له عقلا، ففساده مستند إلى عدم وجوده في الحقيقة، لا إلى وجوده الناقص أو المعيب شرعا. و من البيّن أنّ أصالة الصحّة كالعموم و الإطلاق و سائر

ص: 259

الأحكام الظاهريّة إنّما تجري بعد إحراز موضوعاتها لا قبله، فهي إنّما تجدي إحراز كيفيّة الموضوع و حكمه، دون إحراز الموضوع و القابليّة، كما فيما نحن فيه.

لا يقال: إذا لم يجري أصالة صحّة الرجوع فيما نحن فيه فليجري أصالة صحّة البيع، حيث إنّ الشكّ أيضا راجع إلى صحّته و فساده.

لأنّا نقول: أوّلا: أنّه لا يلزم من فساد الرجوع فيما نحن فيه فساد البيع حتّى يقال: الأصل صحّة البيع، بل غاية الأمر وقوع البيع فضوليّا على تقدير فساد الرجوع، لا وقوعه فاسدا أو البيع الفضوليّ صحيح لا فاسد، و إلّا لما لزم بالإجازة.

و لو سلّمنا فساده أيضا- كما هو قول بعض- فمع ذلك لم يجر أصالة صحّة البيع في المقام، لاستناد فساده إلى عدم إحراز موضوعه، و هو القابليّة لتأثّر العقد.

هذا، و لكن يمكن توجيه مجرى أصالة صحّة الرجوع المشكوك وقوعه بعد البيع أو قبله- كما هو قول بعض- بأنّ مستند هذا الأصل الغلبة و لم يفرّق وجود هذه الغلبة بين ما أحرز موضوع العقد و قابليّة محلّه للتأثّر و بين ما لم يحرز ذلك، كما فيما نحن فيه. فكما أنّ الغالب في العقود، بل الأفعال و العقائد و الأقوال الصحّة، كذلك الغالب في الرجوع المشكوك وقوعه لغوا فيما نحن فيه عدم اللغويّة، و وقوعه صحيحا مؤثّرا. و لكن في ثبوت عموم تلك الغلبة تأمّل.

[مسألة لا بدّ من اختبار الطعم و اللون و الرائحة فيما يختلف قيمته باختلاف ذلك]

قوله: «مسألة: لا بدّ من اختبار الطعم .. إلخ».

أقول: محصّل هذا المبحث تشخيص جزئيّات ما يرفع الغرر المنفي في البيع، الّتي منها الاختبار، و منها الوصف، و منها اشتراط الصحّة، و منها الإطلاق المبنيّ على أصالة الصحّة أو غلبتها، و منها البراءة من العيوب على ما حكي عن

ص: 260

النهاية (1) و غيرها.

أمّا الغير المنضبط وصفه مما يختلف قيمته و الغرض منه باختلاف الوصف شدّة و ضعفا كبعض المطعومات و الروائح فلا يرتفع غرره إلّا باختبار الطعم و اللون و الرائحة، فينحصر المجوّز لبيع هذا الصنف في الاختبار، إلّا ما كان الاختبار مفسدا له- كالبيض و البطّيخ- فيجوز بغيره، أو الاعتماد على أصالة السلامة، من غير إشكال و لا خلاف في شي ء من شقّيه.

و أمّا المنضبط وصفه المختلف به القيمة و الغرض فيجوز بالوصف مطلقا، سواء أمكن فيه الاختبار كبيع العين الحاضرة، أم لم يمكن كالعين الغائبة. و هذا أيضا مما لا ينبغي الإشكال و الخلاف فيه، إلّا ما احتمله السرائر (2) من عدم جواز بيع العين الحاضرة بالوصف. و يضعّف بما في المتن: من أنّ المقصود من الاختبار رفع الغرر، فإذا رفع بالوصف كان الفرق بين الغائب و الحاضر تحكّم إلخ (3)، و إلّا ما نسب إلى المفيد (4) و القاضي (5) و سلّار (6) و أبي الصلاح (7) و ابن حمزة (8) من عدم جواز بيع ما يمكن اختباره من غير إفساده بلا اختبار مطلقا حسب ما ذكر الماتن (9) عبائرهم الدالّة على ذلك، ثمّ وجهها بأبلغ وجه، بعد تأويلها و حملها على إرادة ما لا ينضبط بالوصف.

و أمّا اشتراط الصحّة فيما ينضبط بها فيجوز البيع به من غير اختبار و لا


1- النهاية: 404.
2- السرائر 2: 331.
3- المكاسب: 201.
4- المقنعة: 609.
5- لم نعثر عليه في كتابه و حكاه العلامة في المختلف 5: 260.
6- المراسم: 180.
7- الكافي في الفقه: 354.
8- الوسيلة إلى نيل الفضيلة: 246.
9- المكاسب: 201.

ص: 261

وصف و إن أمكن الاختبار و الوصف بالاتّفاق ظاهرا، لارتفاع الغرر به.

و أمّا الإطلاق المنصرف إلى الصحّة لأصالة السلامة أو غلبتها فكذلك ظاهرا يجوز البيع به، سواء حصل الوثوق من الأصل و الغلبة بالصحّة و السلامة، أم لم يحصل، لارتفاع الغرر العرفي مطلقا على الظاهر.

و أمّا اشتراط البراءة من العيب فهو و إن كان الظاهر من الفتاوى المنقولة في المتن (1) و غيرها هو جواز البيع به مطلقا و ارتفاع الغرر به- و بناء المتعاملين كثيرا ما يكون على ذلك أيضا حيث تراهم كثيرا ما يشرطون في البيع إسقاط جميع الخيارات و الإبراء منها بزعم سقوطها عنهم بذلك الشرط و الإبراء- إلّا أنّ الأظهر أنّ مجرّد اشتراط التبرّي من العيب غير رافع للغرر العرفيّ بل هو عينه.

نعم، لو اشترط البراءة من العيب ببيع الشي ء على أنّه معيب و بعنوان أنّه معيب صحّ، و لزم و سقط خيار عيبه، لارتفاع غرره بعد إقدام المشتري على قبول شراء المعيب بعنوان أنّه معيب. و أمّا بيعه بعنوان الصحيح أو لا بعنوان الصحيح و لا بعنوان المعيب بل على وجه الإطلاق و الإهمال فمجرّد تبرّي البائع عن عيبه لا يرفع غرره، بل معين و مكثّر لغرره عرفا، فلا يلزم مثله.

قوله: «و كيف كان فإذا تبيّن فساد المبيع (2) .. إلخ».

أقول: محصّل شقوق المسألة و الكلام في حكم كل منهما: أن تبيّن فساد المبيع أمّا أن يتّفق قبل تصرّف المشتري فيه بكسر و نحوه، أو بعده بمقدار الاختبار و الاستعلام عن فساد المبيع، أو بأزيد من ذلك المقدار.

أمّا الشقّ الأوّل: فحكمه صحّة البيع و تخيير المشتري بين الردّ و الأرش، إلّا فيما فرض بلوغ فساد المبيع إلى حيث لا يعدّ الفاسد من أفراد ذلك الجنس


1- المكاسب: 201.
2- في المكاسب: «البيع».

ص: 262

كالجوز الأجوف الّذي لا يصحّ إلّا للإحراق فيحتمل قويّا فساد البيع.

و أمّا الشقّ الثاني: فحكمه سقوط الردّ و تخيير المشتري بين أخذ الأرش و القبول من غير أرش، على ما يظهر من الشهيدين في الروضة و شرحها (1). خلافا لما عن ظاهر المبسوط (2) من عدم سقوط الردّ، و هو و إن كان مقتضى الاستصحاب إلّا أنّ مقتضى الجمع بين دفع ضرريّ المشتري و البائع معا هو سقوط الردّ و تعيين الأرش، كما لا يخفى قوّته.

و أمّا الشقّ الثالث: فالظاهر الاتّفاق على سقوط الردّ فيه و تعيين الأرش.

هذا كلّه إذا كان لفاسد المبيع أو مكسوره قيمه. و إلّا ففي فساد البيع من أصل أو من حين تبيّن الفساد أو صحّته و تخيير المشتري بين الردّ و أخذ الأرش المستوعب وجوه، و قولان، من وقوع البيع على ما لا قيمة له كالحشرات كوقوعه على ما لا يملّك مثل الخمر و الخنزير، و من توهّم أن تموّل العوضين علميّ لا واقعيّ و أنّ احتمال التموّل يتموّل عرفا ما دام الاحتمال باقيا، و من توهّم نهوض أصالة صحّة العقد فيه. و الأشهر الأظهر بل كاد يكون إجماعا هو الأوّل، و يظهر وجه الخلاف و ثمراته من إعمال التأمّل، أو مراجعة المتن.

[مسألة لا فرق في عدم جواز بيع المجهول بين ضمّ معلوم إليه و عدمه]

قوله: «مسألة: لا فرق في عدم جواز بيع المجهول بين ضمّ معلوم إليه و عدمه».

أقول: الكلام في المسألة يناسب أن يكون تارة: في مقتضى الأصل و العمومات، و تارة: في تشخيص ورود وارد على الأصل و العموم من دليل أو تخصيص و عدمه، و تارة ثالثة: في تشخيص كيفيّة التخصيص و كميّته على تقديره. فالكلام إذن في مراحل:


1- الروضة البهيّة 3: 277.
2- المبسوط 2: 135.

ص: 263

أمّا المرحلة الاولى: فمحصّل الكلام فيها: أنّه لا إشكال و لا خلاف في أنّ مقتضى الأصل العمليّ بل اللفظيّ- و هو عموم (1) النهي عن الغرر- هو عدم افتراق بيع المجهول بين ضمّ المعلوم إليه و عدمه، من حيث أصل الغرر و إن افترق من حيث القلّة و الكثرة، لأنّ ضمّ المعلوم إليه و إن قلّ غرره في الجملة إلّا أنّه لا يخرجه عن أصل موضوع الغرر و الجهالة، فيكون المجموع غررا مجهولا، إذ لا نعني بالمجهول ما كان كلّ جزء منه مجهولا.

و أمّا المرحلة الثانية: فمحصّل الكلام فيها: أنّه لا ينبغي الإشكال و الخلاف في ورود الأخبار (2) المستفيضة، بل المتواترة، المقتضية لتخصيص الأصل، و عموم النهي عن بيع المجهول إذا انضمّ إلى المعلوم في سمك الآجام و لبن الضرع و العبد الآبق و ما في بطون الحيوان و غيرها، مما هو مجهول المقدار أو الوصف أو الحصول و التسليم حسب ما ذكرت تلك الأخبار في المتن (3) و الجواهر (4) و غيرهما. هذا مما لا خلاف و لا إشكال فيه.

و إنّما الخلاف في ورود تلك الأخبار على الأصل، و تخصيصها عموم القاعدة المسلّمة، المجمع عليها من منع بيع المجهول، حيث منعه بعض، تبعا لما عن المشهور و الحدائق (5).

و هو ضعيف و مخالف لأكثر القدماء و كثير من المتأخّرين، بل و للإجماع المحكي عن الخلاف (6) و الغنية (7).


1- الوسائل 12: 330 ب (11) من آداب التجارة ح 3.
2- الوسائل 12: 259 ب «8 و 10 و 11» من أبواب عقد البيع و شروطه.
3- المكاسب: 204.
4- جواهر الكلام 22: 441.
5- الحدائق الناضرة 18: 487.
6- الخلاف 3: 155 المسألة 245.
7- غنية النزوع: 212.

ص: 264

لأنّ المانع من ورود تلك الأخبار على الأصل و عموم المنع إن كان ضعف سندها- كما ادّعاه الشهيد في الروضة (1)- فمضافا إلى ما فيها أيضا من الصحاح و الموثّقات و المراسيل المعتبرة منجبر بشهرة القدماء، بل المتأخّرين، بل الإجماعين المحكيين عن الغنية و الخلاف.

و إن كان المانع ضعف دلالتها فمضافا إلى عدم العثور بتوهّم أحد به من الواضح وضوح دلالة جلّها إن لم يكن كلّها.

و إن كان المانع هو إباء عموم النهي عن بيع المجهول من التخصيص فمن البيّن عدم كونه قاعدة عقليّة قطعيّة كقبح الظلم و نحوه حتّى يمتنع تخصيصها بالظنّي، بل هو كسائر القواعد الشرعيّة التعبّديّة القابلة للتخصيص و التقييد البتة.

و أمّا المرحلة الثالثة: فتفصيل الكلام فيها: أنّ لتجويز الضميمة بيع المجهول إطلاق و تقييد من جهات: أحدها: من حيث الجهل بالمقدار أو الوصف أو الحصول. و الآخر: من حيث اعتبار ذلك المجهول شرطا أو تابعا في البيع و عدمه. و الثالث: من جهة الاقتصار على مورد تلك النصوص (2) المجوّزة لبيع المجهول مع الضميمة، أعني: خصوص سمك الآجام و لبن الضرع و العبد الآبق، أو التعدّي إلى مطلق بيع المجهول مع الضميمة و إن خرج عن مورد النصوص.

فنقول في اعتبار إطلاق تلك الأخبار من تلك الجهات الثلاث و عدمه: أمّا إطلاقها من الجهة الاولى: فلا ينبغي الإشكال بل و لا الخلاف في اقتضاء تلك الأخبار تجويز الضميمة لبيع المجهول مطلقا، من حيث كون الجهل في مقداره أو وصفه أو حصوله. و ذلك لأنّه و إن اختصّ مورد بعضها ببعض ذلك إلّا أنّه لمّا كان المفروض اعتبار جميعها كان المعتبر جميع ذلك.


1- الروضة البهيّة 3: 282.
2- تقدّم ذكر مصادره في هامش (2) ص: 263.

ص: 265

و أمّا من جهة ثانية: فهو و إن اختلف الأصحاب في تجويز الضميمة لبيع المجهول مطلقا، أو تقييده بخصوص ما إذا أخذ المجهول شرطا في المبيع المعلوم لا جزء كما عن العلّامة في القواعد (1) و التذكرة (2) في غيره، أو تقييده بخصوص ما إذا كان المجهول تابعا للمعلوم بحسب العرف كالحمل مع الأمّ و اللبن مع الشاة و البيض مع الدجاج كما عن ظاهر الشهيدين (3)، أو بحسب الشخص أي بحسب قصد المتبائعين و إن كان بحسب العرف متبوعا في البيع كما هو محتمل عبارة بعضهم، أو تقييده بخصوص ما إذا كان المعلوم المنضمّ إلى المجهول في البيع مقاربا للثمن في القيمة كما عن ظاهر مواضع من المختلف (4). إلّا أنّ إطلاق الأخبار (5) يضعّف تقييدها بشي ء من تلك التقييدات الأربعة، مضافا إلى ما في بعضها من تقييد المطلق بالفرد النادر، و ما في جلّها من عدم التأثير في رفع الغرر، بل و عدم الفرق بينه و بين ضدّه، من حيث لزوم الغرر و الجهالة حسب ما في المتن تفصيله.

و أمّا إطلاقها من الجهة الثالثة:- أعني: من جهة التعدّي إلى مطلق بيع المجهول مع الضميمة- فهو و إن احتمل منعه- اقتصارا فيما خالف الأصل على مورد النصّ (6)، و هو خصوص بيع الآبق و سمك الآجام و لبن الضرع و ما في بطن الحيوان من الحمل، دون ما خرج عن مورد النصّ- إلّا أنّ الظاهر من إطلاق تعليل بيع الآبق و اتّحاد الطريق و تنقيح المناط هو الإطلاق أيضا من تلك الجهة،


1- قواعد الأحكام 1: 127 و 150 و 153.
2- تذكرة الفقهاء 1: 493.
3- الدروس الشرعيّة 3: 216، اللمعة الدمشقيّة: 67، الروضة البهيّة 3: 282 و 313.
4- مختلف الشيعة 5: 248 و 251.
5- تقدّم ذكر مصادرهما في هامش (2) ص: 263.
6- تقدّم ذكر مصادرهما في هامش (2) ص: 263.

ص: 266

كالإطلاق من الجهتين الأوّليّتين.

فإن قلت: لعلّ الوجه و الحكمة في جواز بيع المجهول مع الضميمة في موارد النصّ هو شدّة احتياج الناس بخصوصها، بخلاف الخارج عن مواردها فلا يتعدّى إليه.

قلت: أوّلا: نمنع الفرق. و ثانيا: نمنع فارقيّته، نظرا إلى إمكان التوصّل إلى نقلها بصلح و نحوه، و عدم انحصار المخلص في البيع حتّى يشر الاحتياج إليه.

قوله: «و أمّا رواية معاوية- إلى قوله- فتأمّل».

[أقول:] إشارة إلى أنّه لا يمكن حمل رواية معاوية (1) على رواية البزنطي (2)، فضلا عن أن يكون قرينة عليها، لوضوح المنافاة بينهما، من حيث اعتبار القصب في إحداهما و عدمه في الأخرى.

[مسألة يجوز أن يندر لظرف ما يوزن مع ظرفه]

قوله: «و يمكن أن تحرر المسألة على وجه آخر .. إلخ».

[أقول:] الفرق بين الوجهين بعد اشتراكهما في أنّ المبيع هو المظروف دون ظرفه أنّ الإندار و الإسقاط للظرف بعد البيع في الأوّل و قبله في الثاني، و لتعيين التسعير و حقّ البائع من الثمن على الأوّل، و لتعيين المظروف و جعل المثمن في حكم المعلوم على الثاني. و تظهر الثمرة بينهما أنّ تعيين حقّ البائع من الثمن يمكن إصلاحه بالتراضي، و الخطب فيه أسهل من الخطب في تعيين المثمن.

قوله: «إذ الإندار حينئذ لتعيين الثمن. فتأمّل».

[أقول:] إشارة إلى أنّ تفريع استثناء المجهول على جواز الإندار، لا على جواز بيع المظروف دون الظرف و إن استظهر منه الوجه الثاني، إلّا أنّ استثناء المجهول من المبيع ظاهر في الوجه الأول، إلّا أن يريد من المبيع ما يراد بيعه


1- الوسائل 12: 264 ب (12) من أبواب عقد البيع و شروطه ح 5.
2- الوسائل 12: 263 ب (12) من أبواب عقد البيع و شروطه ح 2.

ص: 267

مجازا.

قوله: «لأنّ هذا ليس من أفراد المطلق حتّى ينصرف .. إلخ».

[أقول:] لأنّ العادة كالغلبة إذا تعلّقت باستعمال اللفظ كانت صارفة له، بخلاف العادة في الفعل فإنّها كغلبة الوجود، لا بوجوب انصراف اللفظ بنفسه.

[تتمة كتاب البيع في استحباب التفقه في مسائل التجارات]

قوله: «ارتطم في الربا» (1).

[أقول:] من ارتطم الحمار في الوحل إذا حبس فيه، و لم يقدر على الخروج.

قوله: «تورّط في الشبهات» (2).

[أقول:] أي وقع في الورطة، أي البليّة و الهلاكة.

قوله: «بناء على أنّ الخارج من العموم ليس إلّا ما علم».

[أقول:] و فيه: أنّ هذا المبنى خلاف الأصل الأصيل في أنّ الموضوعات اسم للمعاني الواقعيّة، لا لخصوص المعلومة إلّا ما خرج لصارف خارجي، و لعلّ البناء عليه في المقام.

قوله: «و يشهد للغاية الأولى».

[أقول:] و هي الاطّلاع على المسائل الربا الخفيّة، فإنّ معرفة الأخفى من دبيب النملة يناسب الاستحباب لا الوجوب.

قوله: «و للغاية الثانية».

[أقول:] و هي قوله: و يطّلع على موارد الشبهة، لكن ظاهر صدره الوجوب، و هو قوله «من أراد التجارة فليتفقّه في دينه» (3).

قوله: «طلب العلم و طلب الرزق ينقسم إلى الأحكام الأربعة أو


1- الوسائل 12: 283 ب «1» من أبواب آداب التجارة ح 2.
2- الوسائل 12: 283 ب «1» من أبواب آداب التجارة ح 4.
3- الوسائل 12: 283 ب «1» من أبواب آداب التجارة ح 4.

ص: 268

الخمسة».

[أقول:] وجه الترديد، الترديد في كونهما من العبادات- كما هو الأصل في مطلق الأوامر الشرعيّة- فلا يتأتّى فيهما الإباحة، أم لا، فيتأتّى. إمّا إيراد التعارض و عدم اجتماع طلب العلم و طلب الرزق فيندفع في اجتماعهما.

أمّا إجمالا: فلقوله تعالى وَ الَّذِينَ جٰاهَدُوا فِينٰا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنٰا (1)، و قوله وَ أَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسٰانِ إِلّٰا مٰا سَعىٰ (2).

و أمّا تفصيلا: فأمّا في زمان الحضور فكما في زمان الظهور غير مانعة الجمع، بل الاجتماع في غاية اليسر، كما كان أكثر الصحابة جامعين لفضيلتي العلم و الكسب بأكمل وجه، بل جامعون لأقصى مراتب العلم و العمل و طلب المال الحلال و العبادات الشاقّة و المجاهدات الفائقة، كما لا يخفى على الخبير بأحوال كلّ طبقة من أصحاب الأئمّة عليهم السّلام، بل التابعين و أنّ إفاضتهم عليهم السّلام لقابلي الاستفاضة مما لا غاية له و لا نهاية. و قد ورد في تفسير وَ مٰا أَرْسَلْنٰاكَ إِلّٰا كَافَّةً لِلنّٰاسِ (3) أنّه صلّى اللّٰه عليه و آله لم يخرج من المدينة، و لكن جعلت له جميع طبقات الناس و نقاط الأرض بمنزلة راحة كفّه صلّى اللّٰه عليه و آله فبلغ الجميع بنفسه (4)، و كان أصحاب الأئمة عليهم السّلام يضمرون المسائل فيبلغهم الجواب، و ينقذونهم من الهلكات بأبلغ وجه، و أسرع من طرفة عين. و أمّا في الغيبة الكبرى خصوصا في زماننا هذا و إن تعسّر بل تعذّر الجمع بين تحصيل المعاد و المعاش بل تعذّر الانفراد بكلّ منهما لكن المانع منّا بسوء الاختيار، الّذي لا ينافي الاختيار، كما قال تعالى:


1- العنكبوت: 69.
2- النجم: 39.
3- سبأ: 28.
4- انظر تفسير القميّ 2: 202- 203.

ص: 269

وَ لَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرىٰ آمَنُوا وَ اتَّقَوْا لَفَتَحْنٰا عَلَيْهِمْ بَرَكٰاتٍ مِنَ السَّمٰاءِ وَ الْأَرْضِ (1) وَ أَنْ لَوِ اسْتَقٰامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنٰاهُمْ مٰاءً غَدَقاً (2).

و لنعم ما قيل: وجوده لطف و تصرّفه لطف آخر و عدمه منا، فحينئذ إذا دار الأمر بين تحصيل المعاد و المعاش و لم يمكن الجمع تعيّن الترجيح بالأهمّ فالأهمّ المختلف باختلاف المقامات، كما لا يخفى.

قوله: «لا إشكال في اعتبار القصد، إذ بدونه لا يصدق عنوان التلقي».

[أقول:] فيه: أنّ صدق عنوان النهي من قوله: «لا تلق و لا تشتر و لا تأكل» (3) لا يحتاج إلى القصد، لتحقّق صدقه في الخارج و الواقع بمجرّد وجوده، لأنّه ذو جهة واحدة في ضرب اليتيم و قتله، فإنّ صدق عنوان الضرب و القتل في الواقع و الخارج لمّا كان ذو جهة واحدة لم يحتج إلى القصد في صدق العنوان و ثبوت الجناية به و لو صدر عن خطأ من دون قصد و عمد، بخلاف عنوان كونه للإحسان أو العدوان فإنّه لمّا كان ذو جهتين احتاج إلى القصد في البين.

نعم، كلّ عنوان منهيّ إذا صدر لا عن قصد و علم لم يكن منهيّا، لكن لا من باب السالبة بانتفاء الموضوع- كما توهّم- بل لحديث الرفع (4)، و من باب السالبة بانتفاء المحمول. و من هنا سرى الوهم في اعتبار القصد في صدق العنوان الخارجي.


1- الأعراف: 96.
2- الجنّ: 16.
3- الوسائل 12: 326 ب «36» من أبواب آداب التجارة ح 2 و 3.
4- الوسائل 11: 295 ب «56» من أبواب جهاد النفس و ما يناسبه.

ص: 270

ص: 271

الخيارات

اشارة

ص: 272

ص: 273

بسم اللّٰه الرّحمن الرّحيم في الخيارات

[المقدمتان]

[الأولى في تعريف الخيار]

قال: «الخيار اسم مصدر من الاختيار .. إلخ».

أقول: و قيل: من التخيّر، كالطيرة من التطيّر. و قيل: هما لغتان بمعنى واحد.

و على الأوّلين فالفرق بين المصدر و اسم المصدر كالفرق بين الفعل و أسماء الأفعال، و كالفرق بين المشتقّ- كضارب مثلا- و بين الجامد الموضوع لمعنى المشتقّ، كزيد مثلا. فيظهر الفرق بينهما في كون أحدهما مشتقّا أو مبدأ للاشتقاق، دون الآخر. أو في دلالة أحدهما على المعنى بلا واسطة، و الآخر بواسطة الدلالة على لفظه. أو في دلالة المصدر على الحدث، و اسم المصدر على الأثر المحصّل منه، أو على الهيئة المحصّلة منه. أو في الإجمال و التفصيل. إلى غير ذلك من الفروق المنقولة عن حاشية آقا جمال على الروضة في معنى الطهر و الطهور (1).

قال: «الخيار من الحقوق لا من الأحكام».

أقول: أمّا الفرق بين الحقّ و الحكم فهو: أنّ الحقّ في اصطلاح المتشرّعة ما كان قابلا للنقل و الانتقال، و يصحّ الصلح عليه، و يورث، و يسقط بالإسقاط، كحقّ الاختصاص و الشفعة و المضاجعة و خيار الشرط و المجلس و الحيوان و الغبن و العيب، و غير ذلك من الحقوق، بخلاف الحكم، فإنّه في اصطلاح المتشرّعة غير


1- حاشية الروضة 1: 11.

ص: 274

قابل للنقل و الانتقال، و لا يصحّ الصلح عليه، و لا يورث، و لا يسقط بالإسقاط، كالإجازة و الردّ لعقد الفضولي، و التسلّط على فسخ العقود الجائزة.

و أمّا المشخّص المائز بين الحقّ و الحكم فمرجعه إلى نظر الفقيه، و ما يستنبطه الفقيه من آثار الشي ء و لوازمه، أو من التعبير عنه في لسان الشارع بلفظ الحقّ أو الحكم، أو الشهرة، أو غير ذلك ممّا يرجّح نظر الفقيه إلى كون الشي ء حقّا أو حكما.

و أمّا مع شكّه و عدم المرجّح عنده لأحد الطرفين فالمرجع إلى الأصل الأصيل، و هو أصالة عدم الحقّ و إن كان الشكّ في الحادث، لأنّه في حكم الشكّ في الحدوث، نظرا إلى أنّ لأحد المشكوكين أثرا دون الآخر، أو أثرا زائدا على أثر الآخر. و كلّما كان الشكّ في الحادث من هذا القبيل فهو في حكم الشكّ في الحدوث في مجري الأصل و اعتباره.

قوله: «و لذا لا تورث و لا تسقط بالإسقاط .. إلخ».

أقول: و يمكن النقض طردا و عكسا على الفرق المذكور بين الحكم و الحقّ- بأنّ الحكم لا يورث و لا يسقط بالإسقاط بخلاف الحقّ- فإنّ من جملة الأحكام الموروثة حكم قضاء الوالدين على الولد الأكبر، و حكم أداء الدّين على الوصيّ و الودعيّ و الوارث من تركة الميّت.

و من جملة الأحكام المسقطة بالإسقاط نذر الأولاد المسقط بإحلال الوالدين، و الزوجة بإحلال الزوج.

و من جملة الحقوق غير الموروثة و غير المسقطة بالإسقاط حقّ ولاية النبوّة و الإمامة على جميع الأمّة، و ولاية الأب و الجدّ على الأولاد، و التولية على الأوقاف، و الوصاية على الموصى به، و حقّ نفقة الوالدين على الأولاد و بالعكس، فإنّها لا تورث و لا تسقط بالإسقاط شرعا، بخلاف حقّ نفقة الزوجة على الزوج،

ص: 275

فإنّه يستورث و يسقط بالإسقاط، و حقّ المضاجعة، فإنّه يسقط و لا يستورث، و حقوق الأخوة من الاحترام و الحرمة و قبول الشفاعة و الإجابة و المعذرة و المواساة و حرمة الغيبة و الأذيّة و الخيانة، فإنها تسقط بالإسقاط و لا تستورث.

فتبيّن أن كلّا من الأحكام و الحقوق الشرعيّة في قابليّة الإسقاط و الوراثة و عدمها تابعة للمأثور المقرّر في كيفيّتها و كميّتها، المختلف باختلاف المأثور المقرّر فيها، و ليست القابليّة للإسقاط و الوراثة في الحقوق و عدمها في الأحكام بضابطة كلّية مطّردة من الطرفين، بل الضابط و الفارق الكلّي المطّرد إنّما هو في كون الحكم الشرعي ما يتعلّق بفعل المكلّف ابتداء و أصالة مطلقا، سواء لم يستورث و لم يسقط بإسقاطه، كحكم التسلّط على فسخ العقود الجائزة، أم استورث و لم يسقط، كوجوب أداء الدّين، أم أسقط و لم يستورث، كوجوب إطاعة الوالدين، بخلاف الحقّ الشرعي، فإنّه ما تعلّق بنفس المكلّف لا بفعله أصالة، سواء استورث و أسقط بالإسقاط، كحقوق الخيارات و الشفعة و حقوق المالكيّة على المملوك، أم استورث و لم يسقط بالإسقاط، كحقّ التولية في الطبقات، فإنّه يستورث من السابق إلى اللاحق و لا يسقط بالإسقاط، أم أسقط و لم يستورث، كحقوق الأخوّة الإيمانيّة و حقوق الوالدين، فإنّها تسقط بالإسقاط و لا تستورث.

ثمّ الحكم من الأحكام التكليفيّة، و الحقّ من الأحكام الوضعيّة. و من لوازم الحكم ترتّب أحكام حقوق اللّٰه عليه، و الحقّ ترتّب أحكام حقوق الناس عليه.

و كون الجزاء في الإطاعة و المخالفة لحقوق اللّٰه إنّما هو على اللّٰه، و في حقوق الناس على الناس. و كون المكفّر لمخالفة اللّٰه مجرّد التوبة، و مخالفة الناس مجرّد إرضائهم. و كثيرا ما يختلف في كونه من الأحكام أم الحقوق.

منها: حرمة الأبوين و إطاعتهما.

ص: 276

و منها: حرمة المؤمن و حرمة غيبته و حرمة عرضه، حيث اختلف في أن مكفّرها و مسقطها الاستحلال أو مجرّد التوبة و الاستغفار، و النصوص (1) فيه متعارضة، و مقتضى الأصل كونها من حقوق اللّٰه، و الجمع كونها من حقوق الناس، و يرجّح مقتضى الأصل فيها وجود الفرق بين حقّ الأبوّة و الأخوّة و بين حقّ المالكيّة و حقّ النبوّة و الإمامة.

و منها: حقّ الحكومة الشرعيّة بالنيابة للفقيه العادل، فإنّه من جهة عدم الانتقال بالوراثة و عدم الإسقاط بالإسقاط قد يتوهّم كونه من الأحكام، كولاية عدول المؤمنين في الأمور الحسبيّة. و لكن الفرق واضح، من حيث إنّ حكم الفقيه متعلّق بالأصالة بنفس المكلّف بقوله تعالى فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ (2)، و «ارجعوا إلى رواة أحاديثنا، فإنّهم حجّتي عليكم و أنا حجّة اللّٰه» (3). و حكم عدول المؤمنين متعلّق بنفس التكليف و فعل المكلّف، كقوله تعالى تَعٰاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَ التَّقْوىٰ (4) و «عونك الضعيف من أفضل الطاعات» (5).

[الثانية الأصل في البيع اللزوم]

قوله: «و هو مبائن له».

[أقول:] و ذلك لأنّ الخيار مسبّب، و العيب سبب الخيار، و بين السبب و المسبّب تباين لا عموم، إلّا أن يعطف العيب على أسباب الخيار المقدّرة لا على نفسه. و لكن المغايرة بالتباين أولى من المغايرة بالعموم بين المعطوف و المعطوف عليه، فلا وجه للاعتراض به.


1- الوسائل 8: 605 ب «155» من أبواب أحكام العشرة.
2- النحل: 43.
3- الوسائل 18: 101 ب (11) من أبواب صفات القاضي ح 9.
4- المائدة: 2.
5- الوسائل 11: 108 ب «59» من أبواب جهاد العدو و ما يناسبه ح 2، و فيه: من أفضل الصدقة.

ص: 277

قوله: «و المراد بوجوب الوفاء العمل بما اقتضاه العقد في نفسه بحسب الدلالة اللفظيّة .. إلخ».

[أقول:] يعني: العمل بما اقتضاه العقد في نفسه من الالتزام و التباني المطلق أو المشروط بحسب الدلالة اللفظيّة.

و عن العلامة في بعض كتبه أنّ معنى الآية وجوب الوفاء بمقتضى العقد، إن لازما فلازم، و إن جائزا فجائز (1).

و هو محتمل لوجهين:

أحدهما: أن يكون معنى الآية (2) لمحض التأكيد و الإمضاء و الإرشاد إلى ما للعقد شرعا أو عرفا من الاتّصاف باللزوم أو الجواز أو الصحّة أو البطلان، إن معلوما فمعلوم، و إن مشكوكا فمشكوك.

و الآخر: أن يكون المعنى للتأسيس، و جعل ما ليس للعقد من الاقتضاء للعقد.

و على أيّ من الوجهين فالأظهر هو المعنى الأوّل دون الثاني بأحد وجهيه.

لكن لا لما في المتن من استظهار ضعف الثاني بأنّ اللزوم و الجواز من الأحكام الشرعيّة للعقد، و ليسا من مقتضيات العقد في نفسه مع قطع النظر عن حكم الشارع. حتّى يمكن اندفاعه بفرض المعنى هو وجوب الوفاء بحكم العقد من لزوم أو جواز، لا بمقتضى العقد.

و لا لما توهّم من استلزام الثاني لاستعمال الآية في معنى التأكيد و التأسيس معا- بتقريب أنّ العقود العامّة على قسمين: قسم ثبت لها في العرف مقتضى في العرف من لزوم أو جواز، كالعقود المعهودة، فيكون وجوب الوفاء بالنسبة إلى


1- مختلف الشيعة 6: 255.
2- المائدة: 1.

ص: 278

هذا القسم تأكيدا و إمضاء. و قسم ليس لها في العرف مقتضى أصلا، كالعقود المخترعة، فيكون وجوب الوفاء بالنسبة إلى هذا القسم تأسيسا- حتّى يمكن اندفاعه بفرض التناسي و التغمّض عن مقتضى ما ثبت لبعضها.

و لا لما توهّم أيضا من استلزام الثاني لاستعمال لفظ الأمر بالوفاء في معنى الوجوب و الجواز معا حتى يمكن اندفاعه أيضا بإمكان فرض التعدّد في متعلّق الأمر دون معنى الأمر، على أن يكون معنى الأمر هو وجوب الوفاء و إن اختلف متعلّقه، و هو مقتضى العقد باللزوم تارة و الجواز اخرى، نظرا إلى أنّ الجائز أيضا ممّا يجب الوفاء- أي: الاعتقاد- بجوازه. بل أظهريّة المعنى الأوّل إنّما هو لإطلاق وجوب الوفاء بمقتضى العقد، حسب ما في المتن تقريبه. مضافا إلى أشهريّة هذا المعنى بناء على جابريّة الشهرة للدلالة، خصوصا هذه الشهرة العظيمة التي كادت تكون اتّفاقا.

و ربما استقرب شيخنا العلامة المعنى الثاني و استبعد الأوّل (1)، بأنّ الظاهر من وجوب الوفاء بالعقد ليس العمل بمقتضاه مطلقا، بل العمل بمقتضاه ما دام عقدا، مع السكون عن تعرّض حال العقد من زواله بالفسخ و عدم زواله به. كما أنّ الحكم على كلّ موضوع من الموضوعات لا يقتضي ترتّب ذلك الحكم على ذلك الموضوع مطلقا، بل ما دام الموضوع باقيا، من غير تعرّض لمقدار بقاء الموضوع و المزيل له. ألا ترى أنّ وجوب الاجتناب عن النجس مثلا لا يقتضي الاجتناب عنه إلّا ما دام موضوع النجاسة باقية، من غير تعرّض لمقدار بقاء النجاسة و تعيين المزيل له و عدمه.

و على ذلك، فمعنى وجوب الوفاء بالعقد هو العمل بمقتضاه ما دام العقد باقيا، و أمّا انفساخه بالفسخ و عدم انفساخه به فمسكوت عنه لا تعرّض في


1- المكاسب: 215.

ص: 279

الآية (1) له. و هذا هو الذي يساعد عليه التبادر و ملاحظة سائر الأشباه و النظائر المساوقة للآية. مضافا إلى أصالة عدم التخصيص فضلا عن كثرته، و ذلك لأنّ تفسير الآية بما يقتضي أصالة لزوم العقد يستلزم تخصيصها بالإقالة من الطرفين، و بالعقود الجائزة كالقرض و المشاركة و المضاربة، و بذي الخيار من العقود، بخلاف تفسيرها بما ذكرناه من عدم التعرّض لحال العقد من الانفساخ بالفسخ و عدمه، فإنّه لا يستلزم التخصيص بشي ء ممّا ذكر، و إنّما يقتضي أن تكون العقود الجائزة و ذو الخيار و الإقالة من العقود اللازمة خارجة عن عموم الوفاء بالعقود من بين التخصّص و انتفاء موضوع العقد عنها بالرجوع و الفسخ، لا من باب التخصيص و بقاء موضوع العقد. و من المعلوم أنّه كلّما دار الأمر بين التخصيص و التخصّص كان الأصل مع التخصّص دون التخصيص. انتهى تقريبه البعيد على طوله.

و لكن لا يخفى ما فيه من المغالطة، فإن دوام الموضوع المنوط بدوامه الحكم هو دوامه عرفا لا دوامه شرعا وراء دوامه العرفي، حتّى يتوقّف في بقاء الحكم عند الشكّ في بقاء موضوعه شرعا، كما فيما نحن فيه. و ما ذكر من الأشباه و النظائر المنوط فيها الحكم ببقاء الموضوع كلّها من قبيل ما أنيط فيه الحكم ببقاء موضوعه عرفا، فلا يقاس عليه إناطة حكم ببقاء موضوعه شرعا، كما فيما نحن فيه، فإنّ الشكّ في ثبوت الخيار و عدمه لعقد و انفساخه بفسخ أحد المتعاقدين و عدمه مستند إلى الشكّ في بقاء موضوع ذلك العقد شرعا و عدمه، لا إلى الشكّ في بقاء موضوعه عرفا، فإنّ موضوع العقد عرفا- و هو التباني و الالتزام السابق- لا ينتفي بانتفاء اللزوم قطعا، كما لا يخفى.

و من هنا ظهر لك أن عدم استلزام القول بعدم دلالة الآية على أصالة


1- المائدة: 1.

ص: 280

اللزوم التخصيص في عموم الآية (1)، إنّما هو من باب عدم خروج شي ء من العقود الجائزة عن عموم الآية، لا من باب خروجها تخصّصا لا تخصيصا، كما توهّم.

فتلخّص ممّا ذكرنا: أنّ القول بأصالة اللزوم في العقود و إن استلزم التخصيص في الآية في الجملة، بخلاف القول بعدم دلالتها على اللزوم، فإنّه لا يستلزم تخصيصا و لا تخصّصا، إلّا أنّه مع ذلك كلّه هو الأظهر، لظهور وجوب الوفاء بالعقد في وجوب الوفاء بالالتزام و التباني مطلقا و لو فسخ أحد الطرفين من دون رضا الآخر، و هو المعنيّ بأصالة اللزوم، و لشهرة ذلك المعنى بين الفقهاء خلفا عن سلف، بناء على جابريّة الشهرة للدلالة كما أنّها جابرة للسند، كما قرّر في محلّه.

هذا كلّه مضافا إلى أنّ الأصل العملي- و هو الاستصحاب أيضا- يقتضي اللزوم بالتقريب المذكور في المتن.

بل ربما يستدلّ على أصالة اللزوم أيضا بأصالة عدم المانع عن اللزوم في مشكوك اللزوم.

و لكنّه مبنيّ على تقادير بعيدة:

أحدها: إحراز استناد خروج الخارج عن العموم إلى وجود المانع دون عدم المقتضي، و هو لا يتأتّى إلّا فيما لو تعلّق حكم العامّ على الوصف المناسب المشعر بالعلّية، كأكرم العلماء إلّا زيدا، دون أكرم الناس إلّا زيدا.

و ثانيها: أنّ أصالة عدم المانع الكلّي لا يثمر في المشكوك الجزئي إلّا على حجّية الأصل المثبت. و عدم المانع الجزئي لم يكن له حالة سابقة، لكونه من قبيل الشكّ في الحادث. فالأصل النافع غير جار، و الجاري غير نافع.

كما أنّه ربما يستدلّ على أصالة اللزوم أيضا بأنّ مجرّد الشك في مشكوك


1- المائدة: 1.

ص: 281

الخروج عن تحت عموم اللزوم كاف في بقائه، بناء على انصراف الخارج عن العموم إلى معلوم الخروج دون مشكوكه. و هو مبنيّ على تقدير عدم وضع اللفظ للمعاني الواقعيّة، و هو أبعد من سابقه.

ثمّ إنّ ثمرة أصالة اللزوم بالمعنى الأوّل- و هو عموم الوفاء و مرجعيّته- إنّما تظهر في الشبهات الحكميّة، و الشكّ في حكم الشارع باللزوم و عدمه في عقد من العقود. و أمّا في الشبهات الموضوعيّة و الشكّ في المصداق، كما لو شكّ في كون العقد الواقع في الخارج هل هو مصداق لعقد البيع ليلزم أو لعقد الهبة لئلّا يلزم؟

فلا مرجعيّة للعموم في كونه عقد بيع لا هبة، نظرا إلى [أنّ] خروجه عن عموم الوفاء لا يستلزم تخصيص عمومه بما وراء تخصيصه بخروج الهبة حتّى تكون أصالة عدم التخصيص محرزا لعدم خروجه، حسب ما حرّر في محلّه من الأصول، من أنّ العموم لا يشخّص الموضوع، و أنّ العامّ المخصّص بالمجمل المصداقي لا حكومة له على رفع الإجمال.

نعم، أصالة اللزوم بمعنى استصحابه إن تمّ جرت في الشبهات الموضوعيّة كجريانها في الشبهات الحكميّة.

قوله: «لم يمكن التمسّك في رفعه إلّا بالاستصحاب، و لا ينفع الإطلاق».

[أقول:] ضرورة أنّ إطلاق حكم حلّية البيع و تِجٰارَةً عَنْ تَرٰاضٍ (1) إنّما يجري بعد إحراز صدق موضوع البيع و تِجٰارَةً عَنْ تَرٰاضٍ، و المفروض الشكّ في بقاء صدقه بعد فسخ أحد المتعاقدين، فلا يجري فيه إلّا استصحاب بقاء صدق الموضوع و حكمه، دون إطلاق الحكم المتوقّف على صدق الموضوع.

مضافا إلى أنّ أَحَلَّ اللّٰهُ الْبَيْعَ (2) وارد مورد تشريع حليّة البيع في مقابل حرمة


1- النساء: 29.
2- البقرة: 275.

ص: 282

الربا و قٰالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبٰا (1)، فلا إطلاق له يشمل صورة الشكّ في تأثير الفسخ.

قوله: «حتّى في مثل قوله عليه السّلام في دعاء التوبة: و لك [يا ربّ] شرطي أن لا أعود» (2).

[أقول:] أي: ذلك التراضي في ضمن التوبة بقوله: «اللّٰهم إنّي أتوب إليك .. إلخ» (3).

قوله: «في أوّل دعا الندبة: بعد أن شرطت عليهم الزهد».

[أقول:] أي: في ضمن قوله: «اخترت لهم جزيل ما عندك من النعيم المقيم» (4).

قوله: «فيبقى ذلك الاستصحاب سليما عن الحاكم. فتأمّل».

[أقول:] إشارة إلى أنّ نصوص (5) انقطاع الخيار بعد الافتراق كما أنّها حاكمة على الأصل المخالف لها، كذلك حاكمة على الأصل الموافق، فلا مجرى للاستصحاب الحاكم، كما لا مجرى للاستصحاب المحكوم بعد نصوص انقطاع الخيار بالافتراق.

قوله: «هو حسن في خصوص المسابقة و شبهه ممّا لا يتضمّن «تمليكا» كالبيع «أو تسليطا» كالإجارة».

[أقول:] و أمّا تضمّنه السبق بالفتح- و هو العوض- فيما كانت المسابقة معوّضة فإنّما هو بعد السبق بالسكون، من قبيل حقّ الجعالة الذي لا يتملّك إلّا بعد إتمام العمل، فليس لها أثر سابق على الفسخ كالبيع و الإجارة حتّى يقال


1- البقرة: 275.
2- الصحيفة السجادية: 166 و 165.
3- الصحيفة السجادية: 166 و 165.
4- مفاتيح الجنان: 653.
5- الوسائل 12: 347 ب «2» من أبواب الخيار.

ص: 283

الأصل بقاؤه و عدم زواله بعد الفسخ، حتّى يستصحب لزومه كأثر البيع.

[القول في أقسام الخيار]

اشارة

قوله: «إذ ليس له أحكام مغايرة لسائر أنواع الخيار».

[أقول:] بل و لا هي خلافيّة، و إنّما هو مجرّد جمع و استقصاء.

[الأول في خيار المجلس]
اشارة

قوله: «و لا خلاف بين الإماميّة في ثبوت هذا الخيار .. إلخ».

أقول: بل الإجماع منّا بقسميه عليه، بل النصوص عليه متواترة، منها صحيحا زرارة (1) و ابن مسلم (2) عن النبيّ صلّى اللّٰه عليه و آله: «البيّعان بالخيار حتى يفترقا و ما لم يفترقا، فإذا افترقا فلا خيار، أو وجب البيع» إلى غير ذلك.

قوله: «مطروح أو مؤوّل».

[أقول:] أمّا وجه الطرح فلشذوذه، و معارضته بما هو أصحّ و أصرح و أشهر و أكثر و أبعد عن مخالفة العامّة.

و أمّا كيفيّة التأويل فبحمل الوجوب على الثبوت لا اللزوم، أو تخصيص لزومه- كعموم أَوْفُوا بِالْعُقُودِ (3)- بأدلّة الخيار، أو تقييد إطلاقه بإسقاط الخيار أو سقوطه بالافتراق أو اشتراط السقوط، أو الحمل على التقيّة من أبي حنيفة و أتباعه المنكرين به على النبيّ صلّى اللّٰه عليه و آله، و لذا عدّت في مطاعنه.

قوله: «و هل يثبت لهما مطلقا؟ خلاف».

أقول: بل أقوال، ثالثها التفصيل بين الوكيل في مجرّد إيقاع العقد فلا يثبت لهما الخيار، و بين الوكيل في مطلق المعاملة فيثبت لهما الخيار.

رابعها: التفصيل في المسالك بقوله: «و أمّا الوكيلان فإن لم ينصّ لهما الموكّل على الخيار لم يكن لهما الفسخ، فينتفي الحكم عنهما، و إن وكّلهما فيه، فإن كان قبل العقد بني على التوكيل فيما لا يملكه الموكّل هل يصحّ بوجه أم لا؟


1- الوسائل 12: 345 ب «1» من أبواب الخيار ح 2 و 1، و ليس فيهما من قوله: «و ما لم يفترقا .. إلخ»، بل هو موجود في روايات اخرى، انظر نفس الباب.
2- الوسائل 12: 345 ب «1» من أبواب الخيار ح 2 و 1، و ليس فيهما من قوله: «و ما لم يفترقا .. إلخ»، بل هو موجود في روايات اخرى، انظر نفس الباب.
3- المائدة: 1.

ص: 284

و سيأتي في بابه، فإن لم نجوّزه لم يكن لهما ذلك أيضا، و إن جوّزناه أو كان التوكيل فيه بعد العقد في المجلس كان لهما الخيار ما لم يفترقا، عملا بإطلاق الخبر» (1).

كما أنّ وجه القولين الأوّلين هو إطلاق البيّعين على الوكيلين، أو انصرافه إلى خصوص العاقد المالك.

قوله: «و إن عمّمناه لبعض أفراد الوكيل».

[أقول:] و هو الوكيل في مطلق التصرّف المالي بالاستقلال، لا خصوص إيقاع العقد أو التصرّف على وجه المعاوضة لا الاستقلال.

قوله: «مفاد أدلّة الخيار إثبات حقّ و سلطنة لكلّ من المتعاقدين على ما انتقل إلى الآخر بعد الفراغ عن تسلّطه على ما انتقل إليه».

[أقول:] أي: بعد إحراز تسلّطه و مفروغيّة تسلّطه عليه، لا قبل الإحراز و الشكّ في تسلّطه.

و فيه: أنّ إحراز تسلّطه إنّما هو معنى الخيار و هو استحقاق فسخ العقد، لا في مرتبة موضوع الحكم بالخيار حتّى يلزم إحراز صدقه و المفروغيّة عن إحرازه قبل الحكم بالخيار، لأنّ إطلاق الحكم و عمومه إنّما يجري في مشكوك الحكم بعد إحراز صدق موضوعه، لا في مشكوك الموضوع قبل إحراز صدق موضوعه، ضرورة أنّ موضوع الخيار البيّعان ما لم يفترقا، و صدقهما على الوكيلين مطلقا و لو في إيقاع العقد معلوم بالفرض من المصنّف لا مشكوك، و ليس الموضوع البيّعين المقيّد بثبوت التسلّط لهما على الفسخ، حتّى يقال إنّه مشكوك الصدق على الوكيلين في إيقاع العقد، و لا يفيده أدلّة الخيار.

نعم، لو كان الشكّ في خيار الوكيلين في إيقاع العقد من جهة الشكّ في


1- المسالك 3: 194.

ص: 285

صدق البيّعان عليهما، أو انصرافه إلى العاقد المالك كما قيل، لم يفده عموم أدلّة الخيار (1)، لأنّ الشكّ في موضوعه، و عموم الحكم لا يجز الموضوع. إلّا ذلك خلاف مفروض المصنّف و صريح تعبيره عن المشكوك في محلّ الكلام بقوله:

«مفاد أدلّة الخيار إثبات حقّ و سلطنة لكلّ من المتعاقدين على ما انتقل إلى الآخر بعد الفراغ عن تسلّطه .. إلخ».

قوله: «فإنّ المقام و إن لم يكن من تعارض المطلق و المقيّد».

[أقول:] أي: تقييد البيّعين بالخيار بالعاقد المالك و إن لم يكن من تعارض المطلق و المقيّد، لعدم الدليل على التقييد و الانصراف، إلّا أنّ سياق الجميع يشهد باتّحاد المراد من البيّعين.

قوله: «يتحقّق في عقد واحد الخيار لأشخاص كثيرة .. إلخ».

[أقول:] من الموكّل و الوكلاء المترتّبين في الوكالة، كالوكيل و وكيل الوكيل، و هكذا، و المتعدّدين في الوكالة على وجه الاجتماع أو الاستقلال، لكن اتّفقوا جميعا في إيقاع المعاملة، أو وكّلوا غيرهم في إيقاع العقد.

قوله: «و ليس المقام من تقديم الفاسخ .. إلخ».

[أقول:] و الحاصل: أنّ حقّ الخيار إمّا حقّ واحد، أو متعدّد. و كلّ منهما إمّا ثابت لشخص واحد، أو لأشخاص عديدة.

فالخيار الواحد الثابت لشخص واحد حكمه سقوط الفسخ بالإجازة، و بالعكس و هو سقوط الإجازة بالفسخ، و ذلك لأنّ الحقّ الوحداني لا يتبعّض، و ذو الحقّ الواحد لا يتناقض.

الثاني: الخيار الواحد المنتقل إلى متعدّدين، بإرث أو تفويض أو توكيل.

و حكمه: أنّه إن سبق الفسخ من أحدهم سقط خيار الباقين، لكن لا من باب


1- الوسائل 12: 345 ب «1» من أبواب الخيار.

ص: 286

تقديم الفاسخ على المجيز، بل من باب انتفاء موضوعه- و هو عقد البيع- بالانفساخ و الانحلال، بخلاف ما لو سبق الإجازة و اللزوم من أحدهم، فإنّه لم يسقط الفسخ من الباقين، بل كان لهم الفسخ من باب تقديم الفاسخ على المجيز، و ذلك لفرض الخيار فيه حقّا وحدانيّا لا يتبعّض، و لمّا كان المجيز في المعنى مسقطا لحقّه و إن تقدّم لم يزاحم الفاسخ و إن تأخّر، بل قدّم الفاسخ، لأنّه آخذ بحقّه، و الآخذ بحقّه لا يزاحمه المسقط لحقّه.

الثالث: الخيارات العديدة الثابتة لواحد، كخيار المجلس و الحيوان و العيب و الغبن و الشرط من المتعدّدة جنسا، و خيارات المجالس و الحيوانات و العيوب و الشروط العديدة أفرادا، الثابتة كلّها لشخص واحد، حكمه أنّه لا يسقط شي ء منها بإسقاط آخر، و لا يلزم شي ء منها بإلزام آخر، و لا ينفسخ شي ء منها بفسخ آخر، و لا بفاسخ آخر، بل لكلّ من الخيارات العديدة حكم نفسه و بالنسبة إلى نفسه مستقلّا مستقلّا، لفرض تعدّد كلّ منها على وجه الاستقلال.

و كذلك القسم الرابع و هو الخيارات العديدة جنسا أو فردا الثابتة لمتعدّدين، كما لو كان المبيع ملكا لمتعدّدين، فإنّ إجازة كلّ منهم لا يسقط فسخ الآخرين، و لا فسخ كلّ منهم يمنع من إجازة الباقين، بل يتعلّق بكلّ من الفسخ و الإجازة بالنسبة إلى كلّ من الفاسخ و المجيز حكم نفسه لا غير، و من غير مزاحمة للغير، لفرض تعدّد كلّ من الفسخ و الإجازة و الفاسخ و المجيز مستقلّا مستقلّا.

و ممّا ذكرنا يظهر لك أنّ قوله: «فإنّ تلك المسألة» أي: مسألة لزوم العقد أو انفساخه بخيار الباقين «فيما إذا ثبت للجانبين، و هذا فرض من جانب واحد» فيه نظر واضح، لأنّ المسألة فيما ثبت الخيارات العديدة لمتعدّدين، و لا مدخليّة لثبوته للجانب الواحد أو الجانبين. فتدبّر جدّا.

قوله: «الأقوى العدم، لأنّ المتيقّن من الدليل ثبوت الخيار للعاقد في

ص: 287

صورة القول به عند العقد، لا لحوقه [له] بعده».

أقول: و في كلّ من المعلول و تعليله نظر. أمّا المعلول- و هو عدم انتقال خيار الموكّل بتفويضه إلى الوكيل- فلمنافاته ما تقدّم منه من الفرق بين الحقّ و الحكم، بكون الحقّ قابلا للنقل و الانتقال دون الحكم.

و أمّا تعليله بقوله: «لأنّ المتيقّن من الدليل ثبوت الخيار .. إلخ» فلأنّ عدم انتقال خيار الموكّل بتفويضه إلى وكيله- على القول به- إنّما يستند إلى عدم قابليّة الخيار للنقل و الانتقال، لا عدم دلالة أدلّة ثبوت الخيار إلّا للخيار الثابت عند العقد لا اللاحق بعده، كما لا يخفى.

قوله: «يمكن توكيله في الفسخ».

[أقول:] و الفرق بين التفويض و التوكيل أنّه على التفويض يصير الوكيل ذا حقّ مستقلّ يجوز له الاقتراح فيه بإسقاط و فسخ و نقل بعوض و غيره، و على التوكيل لا يجوز له إلّا ما أذن به الموكّل أو عزله و رفع يده.

قوله: «خصوصا إذا كانت بلفظ: التزمت. فتأمّل».

[أقول:] إشارة إلى أنّ «التزمت» بمعنى: أجزت و التزمت بأصل البيع، لا بلزومه و إسقاط خياره، فلا يزيد في قدر الدلالة على معنى «بعت» حتّى يسقط الخيار. مضافا إلى أصالة عدم سقوطه.

قوله: «و منه يظهر سقوط القول بأنّ كلمة «حتّى» تدخل على الممكن و المستحيل».

[أقول:] وجه السقوط أنّ دخوله على المستحيل إنّما هو فيما أريد منه استحالة المغيّا بغاية مستحيلة، كقوله تعالى في عذاب الكفّار حَتّٰى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيٰاطِ (1) و «يعذّب المصوّر حتّى ينفخ في الصورة» (2). و من المعلوم


1- الأعراف: 40.
2- الوسائل 12: 221 ب «94» من أبواب ما يكتسب به ح 7 و 9.

ص: 288

أنّ المراد فيما نحن فيه بقوله: «البيّعان بالخيار حتّى يفترقا» (1) إنّما هو إمكان المغيّا و الغاية، لا استحالتهما حتّى يحمل على المستحيل.

قوله: «لكنّه حسن مع علمهما. فتأمّل».

[أقول:] إشارة إلى أنّ كلّا من إقدام المتبايعين و علمهما إنّما يتعلّق بانعتاق المبيع و فكّه في الجملة، و أمّا سقوط حقّ الرجوع و الخيار فيه حتّى من طرف البائع أو من طرف المشتري، حتّى بردّ المثل و القيمة دون العين، فممّا لم يعلم به المتبايعان فضلا عن إقدامهما عليه، حتّى يسقط خيارهما مطلقا. مضافا إلى أصالة عدم سقوطه و استصحاب بقائه.

قوله: «و قد يقال».

[أقول:] القائل صاحب المقابيس (2).

قوله: «و لو تقديرا».

[أقول:] أراد بقوله: «و لو تقديرا» الملك الذي يفرض آنا ما.

قوله: «لا يقبل المنعتق عليه».

[أقول:] و لفظة «عليه» زائدة، بل غلط مخلّ بالمعنى.

قوله: «فدفع الخيار به أولى و أهون من رفعه. فتأمّل».

[أقول:] إشارة إلى أنّ أولويّة دفعه من رفعه إنّما هو فيما لم يثبت الخيار بالأصل و الأخبار، و قد عرفت ثبوته بهما، فلا مجال لدفعه، بل يتعيّن حينئذ رفعه كما قيل.

قوله: «لأنّه لا يسقط به إذا ثبت قبله. فتأمّل».

[أقول:] تعليل المصنّف بقوله: «لأنّه» تعليل لعدم ارتفاع إشكال اعتبار


1- الوسائل 12: 345 ب «1» من أبواب الخيار ح 1 و 2.
2- مقابس الأنوار: 240.

ص: 289

قابليّة بقاء العين في خيار فسخه، بما في جامع المقاصد (1) من أنّ الخيار لا يسقط بالتلف.

و أمره بالتأمّل إشارة إلى إمكان منع عدم ثبوت الخيار قبل التلف فيما نحن فيه- و هو شراء الجمد في شدّة الحرّ- لو فرضنا بقاء عينه بمعالجة أو ندرة.

أو إشارة إلى انتقاض قوله: «لا يسقط الخيار بالتلف إذا ثبت قبله» بقاعدة انفساخ البيع بالتلف قبل قبضه، إلّا أن يقال بخروج ذلك بالنصّ لا (2) يناقض أصالة عدم سقوط الخيار بالتلف.

قوله: «و هو محتمل كلام الشيخ. فتأمّل».

[أقول:] إشارة إلى أنّ هذا الاحتمال لا يجامع تصريح الشيخ بعدم دخول خيار المجلس في غير البيع (3).

قوله: «إمّا للزوم الربا .. إلخ».

[أقول:] نظرا إلى أن قبض أحد الطرفين دون الآخر موجب للربا و زيادة المقبوض على غير المقبوض. و أنت خبير بأنّ تعليل اشتراط التقابض في صحّة الصرف في السلم بلزوم الربا لولاه و إن صرّح به في صرف التذكرة (4)، إلّا أنّ فيه أوّلا: بمنع الملازمة، و كون الزيادة الحكميّة ليست كالزيادة الحسّية الحقيقيّة ربا.

و قولهم: للأجل قسط من الثمن، معناه اشتراط التأجيل لا مطلق تأخير قبض أحد العوضين عن الآخر، و إلّا لاشترط التقارن في تقابض العوضين.

و ثانيا: لو سلّمنا الملازمة فهو أخصّ من المدّعى، لعدم لزومه إلّا في الصرف دون السلم المبنيّ على قبض الثمن لا المثمن، بل في خصوص ما اتّحد


1- جامع المقاصد 4: 287.
2- كذا في النسخة الخطّية، و لعلّ الصحيح: فلا.
3- الخلاف 3: 13 المسألة 11 و 12.
4- التذكرة 1: 511.

ص: 290

جنس الصرفين و قبض أحدهما دون الآخر، دون ما إذا اختلف الجنسان أو اتّحدا و لكن لم يقبض شيئا منهما. و إنّما المتعيّن عندنا في دليل اشتراط التقابض في كلّ من الصرف و السلم ليس إلّا النصوص الخاصّة المستفيضة بل المتواترة، كقوله عليه السّلام: «لا يباع الذهب و الفضّة إلّا يدا بيد» (1) «لا تفارقه حتّى تأخذ منه، و إن نزا حائطا فانز معه» (2). كما أنّ الظاهر منها كون حكمة اشتراط التقابض في الصرف من الطرفين إنّما هو خطر فرار القابض بالمقبوض عن صاحبه، أو دعوى الإفلاس بعد قبضه عن الإقباض بعد المجلس، و في السلم من طرف البائع انتفاء فائدة معجّلة فيه لو لم يقبض الثمن.

قوله: «مع احتمال كونه من زمان العقد».

[أقول:] و احتمل الجواهر (3) احتمالا ثالثا، و هو ثبوت الخيار للفضوليّين، بل و رابعا و هو عدم الخيار رأسا لا للفضوليّين و لا للمجيزين.

أقول: بل و يحتمل خامسا ثبوت الخيار لكلّ من الفضوليّين و المجيزين من حين العقد أو حين الإجازة.

[القول في مسقطات الخيار]

قوله: «و قد يتخيّل معارضته بعموم أدلّة الخيار».

[أقول:] و هذا المتخيّل و ما بعده المتمسّك بعموم أَوْفُوا بِالْعُقُودِ (4) هو الجواهر، بعد نفيه الخلاف و نقله الإجماع على سقوط هذا الخيار باشتراط سقوطه، [و] بأصالة اللزوم، مع الشكّ في تناول أدلّة الخيار له، قال: «و لعموم الأمر بالوفاء بالعقود، و صحيح: «المؤمنون عند شروطهم» الذي هو أرجح ممّا


1- الوسائل 12: 458 ب «2» من أبواب الصرف ح 3.
2- الوسائل 12: 459 ب «2» من أبواب الصرف ح 8.
3- الجواهر 23: 9.
4- المائدة: 1.

ص: 291

دلّ على الخيار من وجوه، فيحكّم عليه، و إن كان التعارض من وجه (1) .. إلخ».

قوله: «فلزومه الثابت بمقتضى عموم الوفاء بالشرط عين لزوم العقد .. إلخ».

أقول: رفع الإشكال بذلك عدول عن الاستدلال بعموم: «المؤمنون عند شروطهم» (2) إلى الاستدلال بعموم الوفاء بالعقد المتضمّن للشرط و الاشتراط، الذي ضعّفه هو بتخصيصه بعموم دليل الخيار. مضافا إلى أنّ العدول عن الاستدلال دافع لا رافع عن الإشكال المبتني على الاستدلال.

فالصواب الجواب عن الإشكال بظهور: «المؤمنون عند شروطهم» في وجوب الوفاء بالشروط مطلقا، كما هو الشأن في سائر الجمل الخبريّة القائمة مقام الإنشاء، و أنّ الشروط غير الواجبة الوفاء- كالوعد و الشروط الابتدائيّة و التي في ضمن العقد الجائز- [خارجة] بالتخصّص أو التخصيص، فيبقى الباقي فيه كما نحن فيه. فلزوم الشرط موقوف على عموم: «المؤمنون عند شروطهم» لا على لزوم العقد المأخوذ فيه حتّى يلزم الدور، فاندفع الدور بمنع التوقف من جانب لزوم الشرط.

قوله: «المقتضي للخيار العقد بشرط لا، لطبيعة العقد من حيث هي .. إلخ».

أقول: بل المقتضي للخيار حكم الشارع بقوله: «البيّعان بالخيار» (3) لا نفس العقد، بل مقتضى نفس العقد عدم الخيار لا الخيار، و إلّا لم يكن الخيار مخالفا للأصل الأصيل، و لم يتوقّف ثبوته على دليل، بل كان الدليل المثبت له


1- جواهر الكلام 23: 11- 12.
2- الوسائل 15: 30 ب «20» من أبواب المهور ح 4.
3- الوسائل 12: 345 ب «1» من أبواب الخيار ح 1 و 2 و 3.

ص: 292

تحصيلا للحاصل المحال، بل لم يكن مخصّصا لعموم أَوْفُوا بِالْعُقُودِ (1)، و لا مخصّصا هو بالافتراق.

هذا كلّه، مضافا إلى أنّه لو لم يكن فرق بين هذا الجواب و جواب المصنّف إلّا كالفرق بين الدفع و الرفع، أولويّة الدفع على الرفع كافيا في الأرجحيّة.

قوله: «و أمّا عن الثالث فبما عرفت من أنّ المتبادر من النصّ المثبت للخيار صورة الخلوّ عن الاشتراط .. إلخ».

[أقول:] و بعبارة: أنّ دليل الخيار لم يوجب وجوب خيار الفسخ حتّى يكون إسقاطه في ضمن البيع إسقاط ما لا يجب، كإسقاطه قبل البيع، و إنّما يوجب جواز الخيار لا وجوبه، فإسقاطه في ضمن البيع إسقاط ما لا يجب، لا إسقاط ما لم يجب ممّا سيجب، و الذي لا يسقط بالإسقاط إسقاط ما لم يجب ممّا يجب، كإسقاط حقّ تملّك الثمن أو المثمن في ضمن البيع، و إسقاط حقّ المضاجعة و المهريّة و النفقة في ضمن عقد النكاح، كقولك: بعتك هذا بكذا بشرط إسقاط الثمن أو المثمن، أو: زوّجتك فلانة على كذا بشرط إسقاط حقّ المهريّة أو المضاجعة أو النفقة. و أمّا إسقاط ما لا يجب ممّا لا يجب- كخيار الفسخ- فلا مانع من سقوطه بعموم: «المؤمنون عند شروطهم» في ضمن بعتك هذا بهذا بشرط إسقاط الخيار.

و بعبارة اخرى: انّ إسقاط خيار البيع لمّا كان في ضمن ذلك البيع لا قبله، كان باعتبار وجود المقتضي له كإسقاطه بعده لا إسقاطه قبله، فالعبرة في صحّة إسقاط ما يجب و عدم صحّة إسقاط ما لم يجب بوجود المقتضي له و عدمه لا بوجوده الفعلي السابق، كما يشهد عليه صحيحة مالك بن عطيّة المتقدّمة.

قوله: «نعم، يحتمل أن يريد الصورة الأولى».


1- المائدة: 1.

ص: 293

[أقول:] هذا استدراك من قوله: «فهذا هو ظاهر كلام الشيخ» أي: ظاهر كلام الشيخ (1) هو المعنى الثاني الذي استدرك المختلف صحّته، فلم يتوجّه إيراده عليه بقوله: «و عندي في ذلك نظر» (2). و كان الأنسب تبديله الاستدراك بقوله:

«نعم .. إلخ» بالترقّي بقوله: بل يحتمل أن يريد الشيخ المعنى الأوّل، لئلّا يبقى وجه لإيراد المختلف عليه بوجه من محتملي كلامه، خصوصا المحتمل الأخير.

قوله: «فحاصل الشرط إلزام في التزام .. إلخ».

أقول: و هو المعنى الظاهر من منصرف إطلاقات الشرط، و استقراء موارد استعمالاته، و تفسير اللغويّين (3) له بأنّه التزام في بيع و نحوه، فلا يشمل الشروط الابتدائيّة. مضافا إلى أصالة عدم لزوم الشرط الابتدائي الخارج عن ضمن العقد، و أصالة عموم دليل الخيار، و عدم تخصيصه و سقوطه بالخيار الخارج عن ضمن الملزم الشرعي. مضافا إلى فحوى أو عموم النصوص النافية للشروط السابقة على النكاح بقوله عليه السّلام في المستفيضة: «ما كان من شرط قبل النكاح هدمه النكاح، و ما كان بعد النكاح فهو جائز» (4). و قوله عن قول اللّٰه: «لا جناح عليكم فيما تراضيتم به من بعد الفريضة» قال عليه السّلام: «ما تراضوا به من بعد النكاح فهو جائز، و ما كان قبل النكاح فلا يجوز إلّا برضاها» (5). قيل: المراد ممّا بعد النكاح بعد إيجابه فيكون داخلا.

هذا، و لكن مقتضى قاعدة «العقود تابعة للقصود» أنّ الشرط الخارج إذا قصد في ضمن العقد كان في حكم الداخل كسائر القيود المقصودة، غاية الفرق


1- الخلاف 3: 21 المسألة 28.
2- المختلف 5: 63.
3- لسان العرب 7: 329.
4- الوسائل 14: 468 ب «19» من أبواب المتعة ح 2.
5- الوسائل 14: 469 ب «19» من أبواب المتعة ح 3.

ص: 294

أنّه يدان بنيّته و يقبل قوله بيمينه، بل الظاهر صدق الشرط و صحيحة مالك بن عطيّة (1) المتقدّمة عليه.

قوله: «يلغو الشرط و يصحّ [أي] (2) البيع».

[أقول:] و لازم هذا القائل من جهة صحّة النذر وجوب شراء الناذر العبد بعد بيعه، من باب تحصيل مقدّمة العتق المنذور و هو الملك. كما أنّ لازم صحّة البيع و بقاء خياره هو وجوب الفسخ بالخيار، مقدّمة لوجوب العتق المنذور المعلّق تنجّزه على البيع المفروض تحقّقه. و أمّا على فساد البيع رأسا، من جهة اشتراطه بنفي الخيار الفاسد المفسد لمشروطه و هو بيع المنذور، فهل يجب عتقه وفاء للنذر المعلّق على البيع أم لا؟ وجهان مبنيّان على كون المراد من البيع المتعلّق به النذر هل هو البيع الصحيح، أم الأعمّ منه و من الفاسد؟

قوله: «فحوى ما سيجي ء من النصّ الدالّ على سقوط الخيار بالتصرّف».

[أقول:] أي: ما دلّ على إسقاطه بالأفعال الكاشفة عن الرضا يقتضي أولويّة إسقاطه بالأقوال الكاشفة عن الرضا، كما قيل أيضا إنّ فسخ اللازم بالتقايل يقتضي أولويّة لزوم الجائز بالتخاير، لأنّه أصرح، مضافا إلى فحوى أو عموم ما دلّ على إسقاط حقّ المهريّة و النفقة و المضاجعة و غيرها بالإسقاط، كقوله تعالى:

إِلّٰا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَا الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكٰاحِ (3)، و قوله تعالى لٰا جُنٰاحَ عَلَيْكُمْ فِيمٰا تَرٰاضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ (4).

قوله: «و وجهه واضح».

[أقول:] لأنّ السكوت أعمّ من الرضا، فلا يدلّ عليه بإحدى الدلالات،


1- الوسائل 16: 95 ب (11) من أبواب المكاتبة ح 1.
2- ما بين المعقوفتين لم يرد في المكاسب.
3- البقرة: 237.
4- النساء: 24.

ص: 295

و استصحاب بقاء الخيار، و أصالة عدم سقوطه و إسقاطه.

قوله: «ما لم يفترقا أو يقول [أحدهما] لصاحبه: اختر» (1).

أقول: صرّح الجواهر بأنّ هذه الزيادة لم تثبت من طرقنا (2)، بل هي من طرق العامّة (3).

قوله: «لأنّه مقتضى ثبوت الخيار .. إلخ».

[أقول:] أي: انفساخ البيع بالفسخ المتأخّر عن إجازة المجيز إنّما هو من باب أخذ الفاسخ بمقتضى حقّ خياره غير المزاحم بإجازة المجيز السابق، لأنّه إسقاط لخصوص حقّه، و إسقاط الحقّ الخاصّ من ذي الحقّ الخاصّ لا يزاحم أخذ الغير- و هو الفاسخ- بحقّه. كما أنّه لو تقدّم الفاسخ على المجيز كان الانفساخ من باب انتفاء موضوع الإجازة المتعقّبة بعد الانفساخ المتقدّم سببه، و هو الفسخ. كما أنّه لو ثبت الخيار للطرف الواحد أو الطرفين لمتعدّد كالوكيلين أو الأصيل و الوكيل، فأجاز أحدهما و فسخ الآخر دفعة واحدة، أو تصرّف ذو الخيار في العوضين دفعة واحدة، كما لو باع عبدا بجارية ثمّ أعتقهما جميعا دفعة واحدة كان ذلك من باب تعارض الفاسخ و المجيز.

و الحاصل أنّ ذا الخيار المتعدّد بالأصالة كخيار الطرفين، أو الوراثة كخيار الوارثين، أو الوكالة كخيار الوكيلين أو الأصيل و الوكيل، إن اتّفقا جميعا على الفسخ أو الإجازة فلا كلام.

و إن اختلفا، فإن تقدّم الفسخ انفسخ العقد و انحلّ، من باب انتفاء موضوع المتعقّبة لانفساخ العقد و انحلاله.

و إن انعكس، فقدّم الإجازة على الفسخ فكذلك ينفسخ العقد، لكن لا


1- المستدرك 13: 299 ب «2» من أبواب الخيار ح 3.
2- جواهر الكلام 23: 16.
3- السنن الكبرى 5: 269.

ص: 296

بواسطة انتفاء موضوعه، بل من باب عدم مزاحمة إسقاط حقّ الخيار- الذي هو معنى الإجازة- لأخذ الفاسخ بحقّه، و هو الانفساخ بفسخه بمقتضى ثبوت حقّ الخيار له.

و إن فرض وقوعهما دفعة واحدة بالقول أو الفعل فهو من باب تعارض الفاسخ و المجيز، المقدّم فيه الفاسخ مطلقا عند العلامة (1)، الذي وجهه غير بيّن و لا مبيّن.

قوله: «و إن كان ظاهر بعض الأخبار ذلك، مثل قوله: فإذا افترقا فلا خيار [لهما] بعد الرضا».

[أقول:] أمّا وجه ظهوره فلأنّ مفهوم اشتراط نفي الخيار بما بعد الافتراق المقيّد بما بعد الرضا عدم نفيه بمجرّد الافتراق قبل ظهوره في الرضا.

و أمّا وجه عدم اعتبار ظهوره في المقام مع كونه من مفاهيم الشرط و القيد ورود القيد مورد الغالب، أعني: بيان كون الافتراق كاشفا نوعيّا غالبيّا عن الرضا لا فعليّا دائميّا، كمفهوم تقييد حرمة الربائب بالحجور في قوله تعالى:

وَ رَبٰائِبُكُمُ اللّٰاتِي فِي حُجُورِكُمْ (2)، كما يقتضيه ظهور النصّ (3) و الفتوى في عدم اعتبار قصد الإسقاط بالافتراق، بل و عدم الفرق بين حصوله من الجاهلين أو العالمين أو المختلفين، و لا بين الناسيين للبيع و الخيار و غيرهما، و لا بين الافتراق له أو لغرض آخر، بل و لا بين الافتراق المستند إلى الاختيار أو الاضطرار، على ما سيأتي في المسألة الآتية.

هذا مضافا إلى أنّ اشتراط كون الافتراق عن رضا الاحتراز (4) عن الافتراق


1- تذكرة الفقهاء 1: 518.
2- النساء: 23.
3- الوسائل 12: 345 ب «2» من أبواب الخيار.
4- كذا في النسخة الخطيّة، و لعلّ الصحيح: للاحتراز.

ص: 297

الإكراهي الناشئ عن غير رضا، لا اشتراط كشفه عن رضا لا غفلة، خصوصا بملاحظة أصرحيّة قوله عليه السّلام في المستدركات: «المتبايعان بالخيار فيما يتبايعاه حتّى يفترقا عن رضا» (1).

قوله: «و فيه منع الانصراف، و دلالة الرواية».

[أقول:] أمّا المتأمّل في كفاية الخطوة بدعوى الانصراف إلى الأزيد منه فهو الرياض (2). و أمّا منع الانصراف فلعدم الصارف، و أصالة عدمه. و أمّا منع دلالة الرواية (3) فلأنّها حكاية فعل مجمل لا قول مطلق، بل و لعدم صراحتها في الزيادة، لأنّ «خطا» و إن احتمل كونه جمع خطوة كغرف جمع غرفة، إلّا أنّ جمعه الصريح خطوات كغرفات. و «خطا» (4) في الحديث محتمل لأن يكون مصدر: خطا يخطو خطأ، أي: مشى مشيا، و الاحتمال يبطل الاستدلال.

قوله: «فإذا دخل الاختياري المكره عليه دخل الاضطراري، لعدم القول بالفصل».

[أقول:] أي: لأنّ كلّ من قال بدخول الافتراق الإكراهيّ في حكم الافتراق الاختياريّ قال بدخول الاضطراريّ فيه، كما أنّ كلّ من قال بخروج الافتراق الاختياريّ عن حكمه قال بخروج الاضطراريّ عنه أيضا.

ثمّ إنّ عدم القول بالفصل بينهما بهذا المعنى- أي: من حيث الدخول و الخروج في الحكم دون الاسم، أي: من حيث الحكم بمسقطيّة الافتراق للخيار و عدمه- لا ينافي ما تقدّم منه من الفرق بينهما من حيث الاسم و الصدق العرفي، و استناد الإكراه غير البالغ حدّ سلب الفعل عن الفاعل المكره بالفتح إلى المكره


1- المستدرك 13: 297 ب «1» من أبواب الخيار ح 1.
2- رياض المسائل 5: 107.
3- الوسائل 12: 348 ب «2» من أبواب الخيار ح 3.
4- كذا في النسخة الخطّية، و لكن مصدر هذا الفعل: الخطو، انظر لسان العرب 14: 231.

ص: 298

بالكسر، إلى الاختيار و نفس المختار، لا إلى الاضطرار و قيام صورته بجسم المختار، بخلاف البالغ حدّ السلب عرفا عن المكره بالفتح إلى المكره بالكسر، فإنّه لا يستند عرفا إلى الاختيار، و لا إلى قيام الفعل بنفس الفاعل المختار، لتبادر الافتراق عرفا إلى الاختيار.

قوله: «مستدلّين عليه بحصول التفرّق المسقط للخيار .. إلخ».

[أقول:] توجيه الاستدلال به إمّا بما نقله عن المبسوط، من أنّ المفترق إذا كان متمكّنا من الإمضاء و الفسخ فلم يفعل حتّى وقع التفرّق كان ذلك دليلا على الرضا و الإمضاء (1). و إمّا بما نقله عن جامع المقاصد، من تحقّق صدق الافتراق مع التمكّن من الاختيار (2).

و في كلّ من الوجهين كأصل الدعوى منع واضح.

أمّا الوجه الأوّل فبما قاله الجواهر، و لنعم ما قال، و فيه: «أن ترك اختيار الفسخ مع التمكّن منه بعد الإكراه على الافتراق، الذي نزّله الشارع منه بمنزلة العدم بالنسبة إلى الإسقاط، كالسكوت في المجلس لا دلالة فيه عليه، و لا وضع له شرعا كما هو واضح» (3).

و أمّا الثاني فأوّلا: بمنع صدق تحقّق الافتراق عرفا على كلّ من قسمي الإكراه، خصوصا المضطرّ على الافتراق. بحمل أو دفع لا يسند الافتراق عرفا إلّا إلى الحامل لا المحمول و إلى الدافع لا المدفوع، كما عرفت التصريح به من المصنّف.

و ثانيا: لو سلّمنا تحقّق صدق الافتراق على الافتراق الإكراهي، كما لو لم


1- المبسوط 2: 84.
2- جامع المقاصد 4: 283.
3- جواهر الكلام 23: 10.

ص: 299

يبلغ حدّ سلب الاختيار، و لكن من البيّن و المبيّن أنّ عموم حديث الرفع (1) لآثار الإكراه و الاضطرار حاكم قطعا على إطلاق الافتراق و مخصّص لحكمه، و منزّل له شرعا منزلة عدم الافتراق في عدم مسقطيّة الخيار، كما أنّه حاكم على عموم الوفاء بالعقود (2) و العهود (3)، و رافع لآثار عقد المكره و فسخه و لزومه و إلزامه و إمضائه و إسقاطه، و إن لم يبلغ حدّ سلب العقد و الفسخ و الإمضاء و الإلزام و الإسقاط قطعا. بل من المعلوم شرعا أنّ المكره في كلّ من إنشاءاته و إخباراته و أقاريره و أفعاله و أقواله معذور و مأجور، و موضوع و مرفوع عن حكم المكره و آثاره، حتّى لو أسقط الخيار بالقول الصريح الصحيح كرها لم يسقط خياره قطعا، فكيف يسقط بالإكراه على فعل الافتراق، الذي هو فعل مجمل لا قول صريح و لا ظاهر في الإسقاط عرفا و لا شرعا، بل هو أعمّ من الإسقاط، كالسكوت الذي هو أعمّ من الرضا و الإمضاء؟! و ممّا ذكرنا يظهر لك وجه الاستدلال بعموم حديث الرفع على كون المكره على الافتراق كالمكره على ترك التخاير، معذورا و مرفوع الحكم، و نازلا شرعا منزلة عدم الافتراق. و المنع من قوله: «لا وجه للاستدلال بحديث رفع الحكم عن المكره، للاعتراف بدخول المكره و المضطرّ إذا تمكّنا من التخاير».

وجه المنع: ما عرفت من منع دخولهما في اسم الافتراق الاختياريّ و صدقه عرفا، بل و من منع دخولهما فيه حكما، أي: في حكم مسقطيّتهما الخيار. مضافا إلى أنّ دخول المكره في عموم اسم الاختيار و صدقه لا ينافي تحقّق صدق المكره الموضوع لحديث الرفع، و لا للاستدلال به على الرفع أيضا.

نعم، لو كان بين الافتراق الاختياريّ و الإكراهي تباين كلّي كالضدّين


1- الوسائل 5: 345 ب «30» من أبواب الخلل ح 2.
2- المائدة: 1.
3- الأسراء: 34.

ص: 300

اللّذين لا ثالث لهما، كان الاعتراف بدخول الإكراه في موضوع الاختيار مانعا من الاستدلال بحديث رفعه، لعدم تحقّق موضوع الإكراه- كموضوع الاضطرار- بعد فرض الدخول في الاختيار. و لكن قد عرفت منع كلّ من المقدّمتين جدّا بأبلغ وجه وجيه.

و ممّا ذكرنا يظهر الجواب عن سائر الوجوه التي استدلّ بها المصنّف على ما اختار، من إلحاق المكره من الافتراق بالمختار في إسقاط الخيار.

منها قوله: «مضافا إلى الشهرة المحقّقة الجابرة للإجماع».

[أقول:] فيه أوّلا: إمكان منع الشهرة، بل نسبه الجواهر (1) إلى جماعة رادّا لهم بما تقدّم.

و ثانيا: نمنع حجّيتها و جابريّتها بعد معلوميّة استنادها إلى ما عرفت من ضعف المدركين.

و منها قوله: «إن المتبادر من التفرّق ما كان عن رضا بالعقد .. إلخ».

[أقول:] فيه أوّلا: أنّ مفهوم اشتراط التفرّق بما كان عن رضا بالعقد في سقوط الخيار إنّما هو عدم اعتبار التفرّق الإكراهي الصادر عن غير رضا، و إلّا فلا معنى لاشتراط الرضا بالعقد الموجود من حين صدوره، لأنّه تحصيل للحاصل، فهو على خلاف المطلوب أدلّ.

و ثانيا: أنّ اشتراط التفرّق بما كان عن رضا بالعقد لا يمنع من حكومة عموم دليل الرفع عليه، كما أنّه حاكم على سائر أدلّة الأحكام التي منها سقوط الخيار.

و منها قوله: «أو يقال: إن قوله: بعد الرضا (2) إشارة .. إلخ».


1- جواهر الكلام 23: 10.
2- الوسائل 12: 346 ب «1» من أبواب الخيار ح 3.

ص: 301

[أقول:] فيه أوّلا: ما تقدّم منه من منع دلالته على اشتراط الرضا في التفرّق المسقط للخيار، لوروده مورد الغالب.

و ثانيا: سلّمنا، لكن لا معنى لاشتراط هذا الشرط الحاصل إلّا الاحتراز عن التفرّق الإكراهي الصادر عن غير رضا.

و ثالثا: سلّمنا اشتراط الخيار بالتفرّق الكاشف عن الرضا بالعقد، لكن لا يسلّم في تفريق المكره الكشف الحقيقيّ الفعليّ الدائمي- بل و لا الظنّيّ النوعيّ الغالبي- عن الرضا بالعقد المسقط للخيار.

نعم، لو فرضنا تفرّق من تمكّن من التخاير بالكرة كاشفا جعليّا نزّله الشارع منزلة الرضا و الإمضاء بالعقد تعبّدا، كتنزيله المشكوك منزلة المتيقّن السابق في الاستصحاب، لم يفرّق في كاشفيّة التفرّق عن الرضا و مسقطيّة الخيار بين الاختياري و الإكراهي.

و لكن هذا التنزيل مخالف للأصل الأصيل، فلا يصار إليه إلّا بدليل. مضافا إلى أنّه مع ذلك غير مانع أيضا من تحكيم دليل رفع الإكراه على دليل سقوط الخيار بالتفرّق. مضافا إلى استصحاب بقاء الخيار و عموم دليله، مع الشكّ في نهوض إطلاق تخصيصه بمطلق الافتراق الإكراهي، خصوصا البالغ حدّ سلب الاختيار بحمل أو دفع يسند التفرّق إلى الحامل لا المحمول و إلى الدافع لا المدفوع، خصوصا بملاحظة أنّ حكمة الخيار شرع للإرفاق المفقود مع الإجبار.

قوله: «و إن قلنا بعدميّة الافتراق و العدم ليس بمعلّل فكذلك».

[أقول:] أي: في عدم سقوط خياره، لكن لا لما علّل به تقدير ثبوتيّة الافتراق من أنّه لم يفعل شيئا، بل لأنّه على تقدير عدميّة الافتراق و عدم معلّل و مؤثّر له لا ميز بين الأعدام، حتّى يعدّ مصاحبته الماكث و عدم افتراقه المجلس افتراقا ممتازا عن العدم الكلّي.

ص: 302

قوله: «و إن قلنا إنّه يعلّل سقط».

[أقول:] لامتياز المفارقة عن سائر الأعدام بمعلّله، و هو عدم إرادة الفسخ مع اختياره.

قوله: «فينتفي القول المحكي عن الخلاف (1) و الجواهر (2)».

[أقول:] و هو القول الثالث المفصّل بين سقوط خيار المختار دون غيره، لرجوعه إلى القول الرابع المفصّل بين بقاء المختار في المجلس فالثبوت لهما، و مفارقته فالسقوط عنهما. بل هو راجع إلى القول الثاني و هو ثبوته لهما، لما في الإيضاح (3) من أنّ محلّ الخلاف ما إذا لم يفارق الآخر المجلس اختيارا، و إلّا سقط خيارهما اتّفاقا. و لكن فيه أنّ ظهور كلام الإيضاح و والده (4) في نفي القول المحكيّ عن الخلاف و الجواهر- و هو القول الثالث المفصّل بحسب نظرهما- لا يستلزم انتفاء القول به من غيرهما في الواقع، إلّا أن يستظهر منهما نفي الخلاف بحسب الواقع لا بحسب نظرهما. و هو محلّ نظر.

قوله: «لاقتصر على قوله بطل خيارهما. فتأمّل».

[أقول:] إشارة إلى أنّ مراد الشيخ (5) من العطف بقوله: «أو خيار من تمكّن» على قوله: «بطل خيارهما» لعلّه أراد سقوط خيار المتمكّن من التخاير من حيث تمكّنه لا من حيث اختصاص السقوط به، فلا ينافي سقوط خيار الآخر من حيث آخر، و هو التلازم بين الخيارين من حيث اتّحادهما في غاية الافتراق.

قوله: «حكي هذا القول عن ظاهر التذكرة أو صريحها، و فيه تأمّل».


1- الخلاف 3: 26 المسألة 35.
2- جواهر الفقه: 55 المسألة 197.
3- هذا الكلام من استظهار الماتن في المقام، انظر المكاسب: 223، و الإيضاح 1: 482.
4- تحرير الأحكام 1: 166.
5- الخلاف 3: 26 المسألة 35.

ص: 303

[أقول:] أمّا الحاكي فمفتاح الكرامة (1). و أمّا الحكاية فقوله في التذكرة: «لو أكرها على التفرّق و ترك التخاير لم يسقط خيار المجلس، و كان الخيار باقيا- إلى أن قال:- و كذا لو حمل أحد المتعاقدين و أخرج عن المجلس مكرها، و منع من الفسخ بأنّ سدّ فوه» (2).

و أمّا وجه التأمّل فيه فلأنّ دلالته على ما فهمه الحاكي موقوف على أن يريد بقوله: «و كذا لو حمل أحد المتعاقدين» أنّه لا يسقط خياره وحده، لا أنّه لا يسقط الخيار أصلا من الطرفين، أمّا من طرف المكره فلإكراهه على التفرّق و إن تفرّق، و أمّا من طرف المختار فلعدم تفرّقه المجلس و إن لم يكره.

قوله: «و يمكن التفصّي عن الأصل بصدق تفرّقهما».

[أقول:] و فيه: ما عرفت من منع صدقه. أمّا من طرف المختار فلفرض عدم تفرّقه المجلس. و أمّا من طرف المكره فلأنّه إن بلغ إكراهه حدّ سلب الاختيار فلا يستند التفرّق إلّا إلى المكره بالكسر لا المكره بالفتح، و إلّا فتفرّقه بمنزلة عدم التفرّق شرعا، بعموم حديث رفع أثر الإكراه الحاكم على إطلاق سائر الأحكام التي منها المقام.

نعم، لو تفرّق المختار المجلسي بعد تفرّق المكره صدق تفرّقهما المسقط للخيار، لما عرفت من تحقّق صدق غاية الافتراق بافتراق أحدهما عن الآخر عرفا. و لكنّه خارج عن محلّ الفرض و الخلاف.

قوله: «بل المتيقّن اعتبار رضا أحدهما».

[أقول:] و فيه: ما عرفت من أنّه لا معنى لاشتراط الرضا بالبيع الحاصل إلّا الاحتراز عن الافتراق الإكراهي الصادر عن غير رضا، كما أنّ الخبر السابق (3)


1- مفتاح الكرامة 4: 551.
2- تذكرة الفقهاء 1: 518.
3- تقدّم مصدره في هامش (3) ص: 297.

ص: 304

الحاكي لمشي الإمام عليه السّلام لإلزام بيعه دليل إطلاق الافتراق، و عدم اشتراطه بالرضا، كما يؤيّده الفتوى بعدم اعتبار شي ء زائد على الافتراق، من القصد و لا العلم و لا الالتفات و لا قصد الإسقاط، و لا غير ذلك سوى عدم الإكراه.

قوله: «مثل ما إذا مات أحدهما و فارق الآخر اختيارا، فإنّ الظاهر منهم عدم الخلاف في سقوط الخيارين».

[أقول:] و أمّا الخلاف في سقوط الخيار بموت أحدهما في المجلس فمسألة أخرى مفروضة فيما كان الآخر باقيا في المجلس لا مفارقا له، كما فيما نحن فيه.

قوله: «و إلّا بقيا. فتأمّل».

[أقول:] إشارة إلى إمكان التفكيك، بأن يكون افتراق كلّ منهما غاية لسقوط خياره فقط دون صاحبه، لإمكان القول بأنّ غاية خيار كلّ منهما رضاه المنكشف باختيار المفارقة، فالغاية متعدّدة حسب تعدّد الخيار.

قوله: «شمول عبارته لبعض الصور التي لا يختصّ بطلان الخيار فيه بالمتمكّن ممّا لا بدّ منه».

[أقول:] كالمفوّض خياره قبل عدم تمكّنه إلى صاحبه المتمكّن، ثم أكره على الافتراق على وجه يتمكّن صاحبه من التخاير فلم يختر، فإنّه يبطل خياره و خيار غير المتمكّن المفوّض إليه الخيار، فلم يختص بطلان الخيار بالمتمكّن.

قوله: «أولى من تخصيصها ببعض الصور».

[أقول:] و هو ما إذا فوّض المتمكّن الماكث خياره إلى المكره المتفرّق قبل إكراهه وجه الأولويّة: أنّ تعميم الخاصّ أولى من تخصيصه بالفرد النادر عرفا، لأنّ ذكر الخصوصيّة قد يكون لغلبة الخصوصيّة لا لتخصيص الحكم، بخلاف النادر، فإنّه لا يراد من غيره بالخصوص.

ص: 305

قوله: «و لم يجعل مجلس زوال الإكراه بمنزلة مجلس العقد».

[أقول:] فيه: أنّ جعل الشارع الافتراق الإكراهي للمجلس بمنزلة عدم افتراقه جعل لتنزيل مجلس زوال الكره منزلة العقد و بدله.

و لنعم ما قال الجواهر: «لو زال الإكراه ففي فوريّة الخيار و تراخيه إلى حصول الافتراق قولان، أقواهما الثاني، للأصل، و لأنّ خيار المجلس موضوع على التراخي و هذا منه أو بدله، بل إن لم يقم إجماع على أنّ غاية الافتراق بعد الزوال، أمكن القول ببقائه مطلقا في بعض الصور التي لم يبق معها بعد الزوال صدق الافتراق، فيكون الخيار حينئذ باقيا بقوله: «البيّعان بالخيار .. إلخ»، و لم يحصل الغاية حال إمكانها، و بعد الإكراه لم يبق لها مصداق، فتأمّل جدّا و لو زال الإكراه و هو مارّ، ففي التذكرة انقطع خياره ببقائه سائر .. إلخ» (1).

قوله: «فإنّ المنفيّ يشمل شرط المجلس و الحيوان. فتأمّل».

[أقول:] إشارة إلى إمكان منع شمول شرطه لشرط المجلس، و انصراف المنفيّ إلى خصوص المعهود من شرط الحيوان لا المجلس، فإنّ تمام الرواية قوله عليه السّلام: «الشرط في الحيوان- أي: الخيار- ثلاثة أيّام للمشتري اشترط أم لم يشترط، فإن أحدث المشتري فيما اشترى حدثا قبل الثلاثة الأيّام فذلك رضا منه، فلا شرط له، قيل له: و ما الحدث؟ قال: إن لامس أو قبّل أو نظر منها إلى ما كان يحرم عليه قبل الشراء» (2).

إلّا أنّ عموم النكرة في سياق النفي لسائر الشروط المشتركة بين الحيوان و غيره- التي منها خيار مجلسه- شامل خيار مجلس غيره بعدم القول بالفصل. أو يقال: عموم العلّة المنصوصة فيه بأنّ تصرّفه رضا منه حجّة على اتّحاد مناط


1- الجواهر 23: 11.
2- الوسائل 12: 350 ب (4) من أبواب الخيار ح 1.

ص: 306

السقوط في مطلق الرضا و لو لم يكن بقول صريح، بل بمطلق التصرّف الدالّ عليه، و لو احتمل صدوره عن سهو و نسيان و غفلة، لأصالة عدمه.

ثمّ إنّ مقتضى عموم العلّة المنصوصة كون المدار في سقوط الخيار حصول الرضا النفسي، و لو لم يقترن بدالّ قوليّ و لا فعليّ يدلّ عليه. فيحرم عليه فيما بينه و بين ربّه العمل على ما وقع منه من الرضا، و لو لم يعلم به إلّا هو، كما هو ظاهر النصّ (1) المعلّل له بالرضا. إلّا أنّه خلاف الاستصحاب و ظاهر الأصحاب.

[الثاني خيار الحيوان]

قوله: «و في منتهى خياره مع عدم بقائه إلى الثلاثة وجوه».

[أقول:] و هي الفوريّة، و الامتداد إلى الموت، أو فيما بعد الموت إلى الثلاثة، أو إلى أن ينتن فيخرج عن الماليّة أو ينقص، أو أقرب الأجلين.

قوله: «بالحكمة غير الجارية في الكلّي الثابت في الذمّة».

[أقول:] أمّا حكمه خيار الحيوان في ثلاثة أيّام فهو عدم ظهور خفايا ما تتفاوت به الرغبات في شراء الحيوانات فيما دون الثلاثة غالبا، و إن لم توجب خيار العيب و الغبن.

و أمّا عدم جريان تلك الحكمة في شراء الحيوان الكلّي الثابت في الذمّة فممنوع، لعدم الفرق، فإنّ الكلّي قبل تعيينه كالشخصيّ قبل قبضه لا يجري فيه حكمة استظهار حاله في الثلاثة، و بعد تعيينه بالقبض و الإقباض كالشخصيّ من جميع الجهات يجري فيه الحكمة. ففيما لا يجري فيه الحكمة من الكلّي لا يجري في مثله من الشخصيّ أيضا، و فيما يجري فيه من الشخصيّ يجري في مثله من الكلّي أيضا. فلا فرق بين شراء الحيوان الكلّي و الشخصيّ في مجرى خيار الثلاثة. مضافا إلى إطلاق النصوص (2) و استصحاب الخيار.


1- تقدّم ذكر مصدره في هامش (2) ص: 305.
2- الوسائل 12: 348 ب (3) من أبواب الخيار.

ص: 307

قوله: «لأنّ الغلبة قد تكون بحيث توجب تنزيل التقييد عليها، و لا توجب تنزيل الإطلاق».

[أقول:] أي: لا يقيّد المطلق ما يطلق المقيّد من أيّ غلبة كانت، إلّا إذا كانت غلبة تامّة لا ناقصة، كغلبة الاستعمال الصارفة للمطلق إلى الغالب، لا مجرّد غلبة الوجود الحاملة للقيد على الغالب، و ذلك لأظهريّة المطلق في الإطلاق من المقيّد في التقييد، خصوصا على القول بكون المطلق مجازا في المقيّد.

و السرّ في ذلك أنّه لا فائدة في ذكر المطلق غالبا إلّا الإطلاق، بخلاف ذكر القيد، فإنّ فوائده كثيرة لا تنحصر في التقييد، بل قد تكون نكتة اخرى مخرجة له عن اللغويّة.

هذا كلّه، مضافا إلى أنّ حمل المطلق على المقيّد إنّما هو في الأحكام التكليفيّة الإلزاميّة، بقرينة اتّحاد المراد من المطلق و المقيّد فيها، بخلاف الأحكام الندبيّة، لقابليّة تعدّد مراتب الكمال فيها. و ما نحن فيه من الأحكام الوضعيّة القابلة للتعدّد، و هو ثبوت الخيار لكلّ من البيعين، و سببيّة البيع لكلّ من الخيارين.

قوله: «و لم أقف لهم على دليل».

[أقول:] لأنّ النصوص (1) الدالّة على وجوب استبراء الأمة الموطوءة على بائعها قبل البيع أو بعده، و على مشتريها إذا لم يستبرئها البائع، حكم تكليفيّ لا ربط له بالضمان و الخيار.

نعم، إنّما يضمنها البائع إذا أمكسها للاستبراء بعد البيع و قبل القبض. و لكنّه على تقدير جوازه بعد البيع فهو ضمان قبل القبض، لا ضمان مدّة الحيوان قطعا.

كما أنّ ضمانها البائع لو لم يستبرئها فظهر لها حملا إنّما هو من جهة ضمان


1- الوسائل 13: 36 ب (10) من أبواب بيع الحيوان.

ص: 308

العيب، لا ضمان مدّة الاستبراء.

قوله: «لأنّ الأسباب معرّفات».

[أقول:] أي: لا مؤثّرات، فلا استحالة في اجتماعها، كالعلامات العديدة على معلوم واحد، فإنّ الممتنع العلل العديدة على معلول واحد، لا العلامات العديدة على معلوم واحد، كما اجتمعت في المجلس و العيب و خيار الرؤية باعتراف الخصم.

قوله: «فهي علل تامّة إلّا من هذه الجهة».

[أقول:] و هو اتّحاد التأثير و التداخل في التأثير عند الاجتماع و الاتّفاق لا الاختلاف و الافتراق. و فائدته البقاء بإحدى الجهتين مع سقوط الأخرى.

قوله: «إلّا أنّه لا يعلّل بما ذكر».

[أقول:] أي: بلزوم اختلاف مفردات الجمع في استعمال واحد. و ذلك لمنع لزوم افتراق أفراد الجمع، بل يعلّل اتّحاد حكمي الليل و اليوم مع كمال الافتراق بالإجماع و الاتّفاق على خصوص الإلحاق مع اتّحاد السياق و عدم الافتراق، فإنّ اليوم و إن كان حقيقة فيما بين الطلوعين دون الليل، إلّا أنّ إلحاق الليلتين المتوسّطتين بل الليلة السابقة إذا وقع العقد فيها، بل الليلة الرابعة إذا توقّف تكميل الملفّق من الأوّل منها أو من اليوم الرابع، إنّما هو للإلحاق الحكمي و الإجماع على استمرار حكم ثلاثة أيّام لتلك الليالي المتّصلة بها، و عدم انقطاع خيار الثلاثة أيّام من مبدأ وقوع البيع، و لو من مبدإ الليلة السابقة إلى غاية ثلاثة أيّام، و لو أكملت من اليوم الرابع، تحكيما لدليل الإلحاق- و هو الاتّفاق- على ظاهر اللفظ و السياق. فاستمرار الحكم و عدم تخلّله بتخلّل الليالي المتوسّطة إنّما هو إلحاق حكمي لا اسمي، لمخالفة اسم اليوم الليل لغة و عرفا و شرعا قطعا.

قوله: «توجب زهادة المشتري».

ص: 309

[أقول:] في المصباح: «زهد في الشي ء و زهد عنه أيضا زهدا و زهادة، بمعنى: تركه و أعرض عنه» (1). و عن الخليل: «الزهادة في الدنيا، و الزهد في الدين» (2).

و في بعض النسخ بدل «يوجب زهادة المشتري»: يوجب ضرر المشتري.

و هو غلط، لأنّ ما يوجب ضرر المشتري موجب لخيار آخر من عيب أو غبن لا لخيار الحيوان.

قوله: «فقوله: فذلك رضا منه و لا شرط له، يحتمل وجوها».

أقول: الفرق العلمي بينهما، ففي كون الرضا في الأوّل حكما شرعيّا للتصرّف، و في الثاني حكمة للحكم عليه بسقوط الخيار بقوله: لا شرط له، و في الثالث علّة نوعيّة غالبيّة للحكم المذكور، و في الرابع علّة فعليّة شخصيّة يناط الحكم بنفسه فعلا.

و أمّا الفرق العملي فيظهر في أنّ الحكم بسقوط الخيار على الأوّلين مترتّب على مطلق التصرّف، بل مطلق الحدث و لو لم يكن تصرّفا، كالنظر و التعريض للبيع، بل و لا كاشفا عن الرضا به، كالغافل و الناسي للبيع، بل و لو كان للاختيار و التحفّظ.

و على الثالث مبنيّ على التصرّف الكاشف نوعا و غالبا عن الرضا بالبيع و لو لم يكشف عنه فعلا، كتصرّف الغافل و الناسي، بخلاف تصرّف المختبر و المستحفظ، فإنّه غير مسقط إلّا على الأوّلين.

و على الرابع مبنى الحكم على نفس الرضا الفعلي، و منوط بنفس الرضا الفعلي و لو لم يدلّ عليه تصرّف، بل و لا دالّ آخر قوليّ و لا فعليّ كاشف عنه،


1- المصباح المنير: 257.
2- العين 4: 12.

ص: 310

كالنظر و التعريض، و لا غير كاشف، كالرضا القلبي فيما بينه و بين ربّه.

قوله: «و إن كان أظهر الاحتمالات».

[أقول:] وجه الأظهريّة: أمّا من حيث اللفظ فلظهور كون الرضا بحسب الإطلاق علّة تامّة فعليّة شخصيّة لسقوط الخيار و نفيه شرعا، كظهور أدلّة نفي العسر في علّيته التامّة لنفي العسر الفعليّ الشخصي لا النوعيّ الغالبيّ.

و أمّا من حيث الخارج فللنصوص (1) الدالّة على سقوط الخيار بمجرّد التعريض للبيع، أو النظر إلى ما يحرم من الأمة قبل الشراء، لمجرّد كشفه عن الرضا الفعلي و لو لم يكن تصرّفا فيه، بل و النصوص (2) الدالّة على توجّه اليمين على الفاسخ بنفي رضاه به.

قوله: « [إلّا] (3) أنّ المستفاد من تتبع الفتاوى الإجماع على عدم إناطة الحكم بالرضا الفعلي».

أقول: لو سلّم الإجماع على عدم إناطة الحكم بالرضا الفعلي و إلحاق غيره من موارد الرضا الشأني به، فإنّما هو بالنصّ (4) المخرج و الإجماع على الإلحاق بحكم الرضا الفعلي لا باسمه. كما أنّ موارد نفي العسر النوعي في الشرع على كثرتها، من القصر في السفر و طهارة الحديد و غسالة الاستنجاء، ألحقت بحكم العسر الفعليّ الشخصي لا باسمه، بأدلّتها الخارجيّة النافية لها. و كإلحاق الليالي المتوسّطة بأيّام الخيار حكما لا اسما، بعدم القول بالفصل، و تخلّل الخيار بتخلّل الليالي بين أيّام الخيار شرعا.

قوله: «كان تعليل الحكم على المطلق بهذه العلّة الغير الموجودة إلّا في


1- الوسائل 12: 350 ب «4» من أبواب الخيار.
2- الوسائل 12: 351 ب (5) من أبواب الخيار.
3- لم ترد «إلّا» في المكاسب.
4- الوسائل 12: 350 ب «4» من أبواب الخيار.

ص: 311

قليل من أفراده مستهجنا».

أقول: لو سلّم عدم غلبة لزوم مطلق التصرّف الرضا، أو غلبة عدم لزومه، و لكن مع ذلك يمكن رفع استهجان تعليل مسقطيّة مطلق التصرّف بأنّه رضا، بحمل التعليل على ضرب من التنزيل، أعني: تنزيل غالب التصرّفات التي من شأنها الكشف عن الرضا بمنزلة الرضا بالبيع شرعا المنوط به الحكم أوّلا و أصالة، كتنزيله المشكوك الفعلي بمنزلة المتيقّن السابق بقوله: «لأنّ اليقين لا ينقض بالشك» (1)، و تنزيله حسن الظاهر بمنزلة ملكة العدالة شرعا، كقوله عليه السلام فيمن يصلّي الخمس جماعة: «فظنّوا فيه كلّ الخير» (2). فتدبّر.

قوله: «ففيه ما سيجي ء».

[أقول:] ممّا قيل: من أنّ عدم مسقطيّة التصرّف إنّما هو قبل الردّ و هو قبل زمان الخيار، لا بعده الذي هو بعد زمان الخيار ليسقط الخيار. أو إنّما هو التصرّف في الثمن المشروط بردّ عينه الخيار، لا بردّ الأعمّ منه و من بدله الخيار، كما هو المخصوص و المنصوص في بيع الخيار.

قوله: «مع أنّ ترك العمل به لا يوجب ردّ الرواية. فتأمّل».

[أقول:] فإنّ ترك العمل ببعض مداليل الخبر بقرينة سهو الراوي أو ثبوت غفلته لا يوجب ردّ كلّه، كالعامّ المخصّص حجّة في الباقي.

«فتأمّل» إشارة إلى أنّ التبعيض الجائز إنّما هو في مداليله المستقلّة، لا غير المستقلّة، كالمدلولين لدالّ واحد، كما فيما نحن فيه، لأنّ جواز أصل ردّ الشاة مدلول التزاميّ لقوله: «يردّ معها ثلاثة أمداد»، و لا يترك المدلول المطابقي و يؤخذ بلازمه.


1- الوسائل 5: 321 ب (10) من أبواب الخلل ح 3.
2- الوسائل 5: 372 ب «1» من أبواب صلاة الجماعة ح 6.

ص: 312

[الثالث خيار الشرط]

قوله: «لا فرق بين كون زمان الخيار متّصلا بالعقد أو منفصلا».

[أقول:] و متى جاز الانفصال جاز التعاقب، كاشتراط الخيار شهرا يوما و يوما، لا لعموم المقتضي و عدم المانع. لكن في المسالك (1) احتمال العدم بعد قطعه بجواز الانفصال.

قوله: «لا يسلم إلى دياس أو إلى حصاد».

[أقول:] أي: لا يصحّ السلم إلى وقت مجهول كوقت الدياس و الحصاد، و هو وقت دقّ الطعام بالفدان (2) و قطع الزرع بالمنجل، فالدياس هنا مصدر داس أي: دقّ، و الحصاد مصدر حصد أي: قطع.

قوله: «و قد (3) يستدلّ على ذلك».

[أقول:] أي: على اشتراط تعيين المدّة و فساد الشرط المجهول المخالف للكتاب و السنّة الناهية عن الغرر (4). و المستدلّ الجواهر (5) مفرّعا عليه فساد البيع المشروط بالشرط المجهول المدّة.

قوله: «و فيه: أنّ كون البيع بواسطة الشرط مخالفا للكتاب و السنّة غير كون نفس الشرط مخالفا».

[أقول:] يعني: أنّ فساد الاشتراط المخالف للكتاب- كما هو لفظ المستدلّ مفرّعا عليه فساد البيع المشروط بالشرط المجهول المدّة- غير فساد نفس الشرط المجهول الذي هو المدّعى. إلّا أن يراد من فساد الاشتراط فساد نفس الاشتراط بالشرط الفاسد و إن لم يكن في ضمن بيع، لا فساد البيع المشروط به. أو يراد من


1- مسالك الأفهام 3: 201.
2- الفدان بالتخفيف: الآلة التي يحرث بها. لسان العرب 13: 321.
3- في المكاسب: و ربما يستدلّ ..
4- الوسائل 12: 330 ب «40» من أبواب آداب التجارة ح 3.
5- جواهر الكلام 23: 32.

ص: 313

فساد البيع المشروط بالشرط المجهول فساد شرطه المجهول، من باب الاستدلال بالمسبّب على السبب و بالفرع على أصله.

قوله: «كالأكل من القفا».

[أقول:] أي: كترك أقرب الطرق و الأخذ بأبعدها، فإنّ الاستناد في فساد البيع المشروط بالشرط المجهول المخالف للكتاب و السنّة الناهية عن الغرر (1) في البيع، أقرب من الاستناد على فساده بفساد شرطه المجهول المخالف للكتاب و السنّة الناهية عن مطلق الغرر.

قوله: «فجعلوا مدّة الخيار في الصورة الأولى (2) ثلاثة أيّام، و يحتمل حمل الثانية (3) عليها».

[أقول:] أراد بالأولى أولى الآخرتين، و بالثانية الأخيرة من الثلاثة، لتصريح الكلّ على ما حكي عن المقنعة (4) و الانتصار (5) و الخلاف (6) و الغنية (7) و الكافي (8) و المبسوط (9) و المراسم (10) و التحرير (11) و التذكرة (12) و المختلف (13)


1- الوسائل 12: 330 ب «40» من أبواب آداب التجارة ح 3.
2- في المكاسب: الثانية .. الثالثة، و التعليقة تبتني على نسخته من المكاسب.
3- في المكاسب: الثانية .. الثالثة، و التعليقة تبتني على نسخته من المكاسب.
4- المقنعة: 592.
5- الانتصار: 210- 211.
6- الخلاف 3: 20 المسألة 25.
7- غنية النزوع: 219.
8- الكافي في الفقه: 353.
9- المبسوط 2: 83 و 85.
10- المراسم: 172.
11- تحرير الأحكام: 166.
12- تذكرة الفقهاء 1: 520.
13- مختلف الشيعة: 350.

ص: 314

و مفتاح الكرامة (1) و الجواهر (2)، حتّى المصنّف (3)، بل كلّ من تعرّض للمسألة صرّح بعقد الخلاف في الآخرتين، و جعل الأولى مسألة مستقلّة مسلّمة الفساد فيها، كالأصل المقيس (4) عليها الآخرتين، بنفي الفرق بينها و بين الأخيرتين. بل صرّحوا بأنّ إطلاق الخيار- كقولهم: بعتك و لي الخيار- كإناطته بمدّة مجهولة غير مضبوطة، بل هذه أولى بالفساد، لأنّ الإطلاق أغرق في الجهالة، بل لأنّه إن صحّ فإمّا أن يعيّن و لا معيّن، أو يدوم الخيار و هو معلوم البطلان.

قوله: «أو يكون حكما شرعيّا ثبت في موضوع خاصّ، و هو إهمال مدّة الخيار».

أقول: الفرق بينهما أنّ تحديد الخيار المهمل بالثلاثة و إن كان على كلّ من تقديري كونه تحديدا تعبّديّا أو حكما شرعيّا لموضوع خاصّ، تخصيصا لعموم نفي الضرر (5) لا تخصّصا، كما صرّح به، إلّا أنّه على الأوّل خارج عن عموم الغرر (6) بلسان الخروج الموضوعي و التخصيص الادّعائي، و على الثاني خارج عنه بلسان الخروج الحكمي و التخصيص الحقيقي، نظير الفرق بين قولك: أكرم العلماء و الفاسق ليس بعالم، و أكرم العلماء و لا تكرم الفاسق.

قوله: «لا ينهض لتخصيص قاعدة الغرر».

[أقول:] و ذلك لأنّ التخصيص رفع يحتاج إلى دليل رافع، و الأصل عدمه، بخلاف التخصّص فإنّه دفع لا يحتاج إلى كلفة رافع، بل يكفي في نفيه الأصل،


1- مفتاح الكرامة 4: 561.
2- جواهر الكلام 23: 33.
3- المكاسب: 228.
4- كذا في النسخة الخطّية، و الظاهر أن الصحيح: المقيسة عليه الآخرتان.
5- الوسائل 17: 341 ب (12) من أبواب إحياء الموات.
6- الوسائل 12: 329 ب «40» من أبواب آداب التجارة.

ص: 315

فإذا فرض أنّ موضوع الغرر المنفيّ عرفيّ عامّ لغرر الشرط المهمل المجهول المدّة، فلا محالة من توقّف تخصيصه و نفي جوازه على المخصّص المعلوم، و الأصل عدمه، بخلاف ما لو فرضنا موضوعه معنى شرعيّا و شكّ في دخول الشرط المهمل فيه فإنّ الأصل بالعكس هو جوازه و عدم دخوله في الغرر المنفيّ.

قوله: «و في دلالته فضلا عن سنده ما لا يخفى».

[أقول:] أمّا سنده فلأنّه من طرق العامّة (1) لا غير.

و أمّا دلالته فلأنّ نفي الخلابة بمعنى الخديعة- كما في المتن- لا دلالة له على تعيين الخيار في الثلاثة. و جعل النبيّ له الخيار ثلاثا من باب قضايا الأحوال المقرونة بالإجمال، أو من باب الولاية الشرعيّة بعد تحقّق السفه و الانخداع من حنان بواسطة شجّة رأسه.

و أمّا بالمعنى المحكيّ عن التذكرة من أنّ «لا خلابة» عبارة في الشرع عن اشتراط الخيار ثلاثا (2)، فلو سلّم فتختصّ دلالتها على خيار الثلاثة بما هو خارج عن محلّ النزاع، و هو فرض اللفظ صريحا في تعيين مدّة الخيار لا مجملا و لا فظه عالما بمعناه الشرعي لا جاهلا، قاصدا له لا ذاهلا.

قوله: «و إن لم يرض كان المبتاع بالخيار بين الفسخ و الإمضاء».

[أقول:] و فيه: أنّ عدم رضا ذي الخيار الأجنبي لا يرجع إلى خيار المبتاع، إلّا على تقدير أن يكون خيار الأجنبيّ وكالة من طرف المبتاع لا أصالة مجعولة.

قوله: «لم يكن لذكره فائدة».

[أقول:] لا يقال: يمكن أن يفرض له فائدة الوكالة، بأن يكون اعتبار فعله منوطا بالتقدّم على فعل الأصيل لا مطلقا، فيمضي المتقدّم من الفسخ و الإمضاء


1- سنن الدارقطني 3: 54 ح 217.
2- تذكرة الفقهاء 1: 520.

ص: 316

من كلّ منهما.

لأنّا نقول: فائدة فعل الوكيل هو بعينه فائدة فعل الأصيل، و ليست فائدة جعل الأصيل خيار نفسه للأجنبيّ و تحكيمه على نفسه، كما هو المفروض.

قوله: «لا يخلو عن نظر».

[أقول:] وجه النظر: أنّ مراعاة الوكيل مصلحة الأصيل إنّما هو من جهة أنّ فعله عين فعل الأصيل و بمنزلته و تابع له، و كون الوكالة استنابة في التصرّف، بخلاف المجعول له الخيار بالأصالة، فإنّه في عرض الجاعل لا تابع له.

قوله: «الاستئمار، بأن يستأمر المشروط عليه الأجنبيّ في أمر العقد فيأتمر بأمره، أو بأن يأتمره إذا أمره ابتداء».

[أقول:] الفرق بين شرط الاستئمار و الائتمار: أنّ اشتراط الاستئمار هو اشتراط خيار للمستأمر بالكسر بعد أمر المستأمر بالفتح و طلبه منه، و الائتمار هو اشتراطه به له ابتداء.

و الفرق بينهما و بين اشتراط الخيار للأجنبي: أنّ خيار الأجنبي اشتراط خيار للأجنبي بنفس الاشتراط من غير توقّف على أمر آمر، و خيار الاستئمار و الائتمار اشتراط الخيار لنفس المشترط مشروطا بأمر الأجنبي، من غير أن يكون للأجنبيّ خيار سوى الأمر به.

و يتميّز فيما لو فسخ أو أجاز المستأمر بالكسر قبل أمر المستأمر بالفتح لم يلزم و لم ينفسخ، لانتفاء المشروط قبل تحقّق شرطه، بخلاف ما لو أجاز أو فسخ بعد أمره، فإنّه يلزم و ينفسخ، لتحقّق شرطه.

و أمّا وجوب الالتزام بما أمره من الفسخ و الإجازة فليس حقّا للآمر على المستأمر، إلّا إذا كان اشتراط الاستئمار من المتبايعين معا، و قد أمرهما الآمر بالفسخ، ففسخ أحدهما دون الآخر، فإنّه ينفسخ، لكنّه بواسطة فسخ صاحب

ص: 317

خيار الفسخ من أحد المتبايعين، لا بواسطة أمر المستأمر الأجنبيّ به الذي لا خيار له سوى الأمر به.

و يقرب من الاستئمار خيار شرط الاستشارة و المشاورة، حيث يتوقّف خيار المشير على إشارة المستشار و أمره.

قوله: «و إلّا فالبيع لك» (1).

[أقول:] أي: البيع أو الشراء لك، فإنّه من الأضداد، كما عن الحدائق (2) و اللغة (3)، إلى غير ذلك من النصوص المتقاربة لتلك النصوص لفظا و معنى و قدرا في المستدركات (4).

قوله: «الثاني: أن يؤخذ قيدا للفسخ».

[أقول:] و الفرق: أنّ ردّ الثمن في الأوّل قيد و شرط لحصول الخيار قهرا، و لا يحصل قبله، و في الثاني لتحصيل الفسخ اختيارا و حصول الخيار قبله، فيصحّ له إسقاطه قبله، و لا يكون من قبيل إسقاط ما لم يجب، بخلافه على الأوّل.

قوله: «و إلّا استقيل (5) بالفسخ».

[أقول:] أي: إن لم يكن حاكم استقيل البائع أو استقلّ بالفسخ. و الفرق: أنّ الإقالة من العقود الموقوفة على طرفي الإيجاب و القبول، و الفسخ إيقاع يحصل بالإيجاب فقط. و من هنا يتوجّه المنع على قوله: «و إلّا استقيل بالفسخ»، فإنّه عند تعذّر الحاكم و تحقّق الإقالة من الطرفين لا يكتفى بفسخ الفاسخ، بل لا بدّ من تولية طرفي الإقالة: الإيجاب و القبول.


1- الوسائل 12: 354 ب (7) من أبواب الخيار ح 2.
2- الحدائق الناضرة 19: 34.
3- لسان العرب 8: 23.
4- المستدرك 13: 301 ب (6) من أبواب الخيار.
5- في المكاسب: استقلّ.

ص: 318

قوله: «و يحتمل العدم».

[أقول:] أي: عدم الخيار و لزوم البيع، لا عدم لزوم البيع و ثبوت الخيار، كما يدلّ عليه مبناه المذكور.

قوله: «من حيث اقتضاء الفسخ شرعا و لغة ردّ العين .. إلخ».

[أقول:] و فيه: أنّ الفسخ المقتضي ردّ العين دون بدله لو سلّم إنّما هو في البيع بشرط خيار الفسخ، لا في اشتراط الفسخ بشرط زائد و هو ردّ الثمن، فإنّه تابع لمقتضى الشرط، و منصرف المشروط الزائد- و هو ردّ الثمن- هل هو عينه أو الأعمّ منه و من بدله؟

قوله: «و في جواز اشتراط ردّ القيمة في المثليّ و بالعكس وجهان».

[أقول:] من أنّ هذا القسم فرد من خيار الشرط فيعمّه عموم: «المؤمنون عند شروطهم» (1)، و من خروج هذا الفرد من الشرط الزائد عن منصرف الروايات الخاصّة بهذا القسم من أفراد خيار الشرط، فلا يجوز. و الأظهر الجواز، لكفاية عمومات أدلّة الشرط فيه.

قوله: «مع اعترافهم بتحقّق الفسخ فيما هو أخفى من ذلك دلالة».

[أقول:] كالنظر و التعريض للبيع، فإنّه من البائع في زمان خياره فسخ فعليّ. و الفرق بين فرض الردّ فسخا معاطاتيّا أو فعليّا يظهر في اختلاف أحكامهما، من حيث إنّ المعاطاة لا تتحقّق إلّا بالتقابض، و لا تلزم إلّا بالتصرّف، بخلاف غيرها، كما لا يخفى.

قوله: «إلّا أن يفرّق هنا بأنّ المشروط له مالك للخيار قبل الردّ، و لو من حيث تملّكه للردّ الموجب له».

[أقول:] و فيه: إمكان أن يقال: ذو الخيار في الشرط و الحيوان أيضا مالك


1- الوسائل 15: 30 ب «20» من أبواب المهور ح 4.

ص: 319

للخيار قبل التفرّق، و لو من حيث تملّكه للتفرّق الموجب له.

قوله: «لكن الفرق يظهر بالتأمّل».

أقول: كلّما تأمّلنا لم يظهر لنا الفرق بين اشتراط الخيار بالتفرّق أو بالردّ، من حيث لزوم محذور جهالة مبدأ الخيار و الغرر المنفيّ، إلّا من حيث اغتفار الشارع جهل مبدأ الردّ و إمضائه الخيار المشروط به، فيخرج عن عموم الغرر المنفيّ (1)، بخلاف جهل مبدأ التفرّق، فإنّه غير مغتفر شرعا.

قوله: «و يحتمل عدم الخيار، بناء على أنّ مورد هذا الخيار .. إلخ».

[أقول:] و فيه: أنّ احتمال عدم الخيار بعد تلف المبيع بناء على ما ذكر مناف لعموم أدلّة الخيار (2)، و استصحاب بقائه، و أصالة عدم سقوطه بتلف المبيع.

قوله: «لا تنافي بين شرطيّة البقاء و عدم جواز تفويت الشرط».

[أقول:] فيه: أنّ شرطيّة البقاء و عدم جواز تفويت الشرط بمعنى واحد لا بينونة بينهما توهم التنافي، إلّا أن يقدّر قوله المتقدّم بقوله: لا تنافي بين تملّك المشتري المبيع و بين شرطيّة بقائه.

قوله: «و لم أعرف وجه الاستظهار».

[أقول:] وجهه ظاهر من تعليل كون نماء الثمن للبائع و غلّة المثمن للمشتري بأنّ تلف المبيع من مال المشتري، القاضي بأنّ تلف الثمن من مال البائع أيضا، و أنّ من كان عليه الغرم كان له الغنم، و بالعكس، و أنّ غنم النماء لمن عليه غرم الفناء.

قوله: «و إنّما المخالف لها [هي] قاعدة أن الخراج بالضمان».

[أقول:] يعني: قاعدة الغنيمة لمن عليه الغريمة بالمثل و القيمة، و بالعكس،


1- تقدّم ذكر مصدره في هامش (6) ص: 314.
2- الوسائل 12: 355 ب (8) من أبواب الخيار.

ص: 320

أعني: مفهومها، و هو كون الغريمة و ضمان المتلف على من له الغنيمة و منفعة النماء.

قوله: «لو فرض قولهم بحصول الفسخ بمجرّد ردّ الثمن. فافهم».

[أقول:] إشارة إلى وجه الفرق بين الردّ و الفسخ، حيث إنّ الردّ حقّ للمشتري فيعتبر حضوره، و الفسخ حقّ للبائع فلا يعتبر حضور المشتري.

قوله: «مدفوعة بأنّ هذا ليس تصرّفا اختياريّا من قبل الوليّ حتّى يناط بالمصلحة .. إلخ».

[أقول:] يعني: أنّ أخذ الحاكم الثمن الموجب لتسلّط البائع على الفسخ كأخذ المشتري له ليس باختياره، بل هو بواسطة حقّ ذي حقّ الخيار، و لهذا لا يعتبر قبول الآخذ و رضاه بالأخذ كائنا من كان، بل هو محكوم بتمكين خيار ذي الخيار و الأخذ بحقّه، النافذ قهرا إلى المشتري أو من يقوم مقامه. فكما أنّه لو امتنع المشتري من قبول ردّ من له الخيار و هو حاضر أجبره الحاكم أو قبض عنه، فكذلك أخذ الحاكم و قبضه عنه إذا كان غائبا ممتنعا عليه القبض و الأخذ، من باب الولاية الحسبيّة الشرعيّة.

هذا، مضافا إلى أنّ تصرّف الحاكم المنوط بالمصلحة إنّما يناط بالمصلحة النوعيّة الشرعيّة، لا خصوص المصلحة الشخصيّة غير الشرعيّة. ألا ترى أنّ الحاكم يجبر الممتنع على الحقّ كما يحكم للمحقّ بالحقّ؟! فكما له الأخذ بخيار من يمتنع منه الأخذ بصغر أو جنون، كذلك عليه القبض و قبول الردّ عمّن عليه القبض و قبول الردّ الممتنع منه بغيبة و نحوه.

قوله: «و الظاهر (1) أنّها مزاحمة عرفا».

[أقول:] و فيه أوّلا: أنّ المرجع في حكم مزاحمة الحاكم في المقام من


1- في المكاسب: لكن الأظهر ..

ص: 321

حيث الجواز و عدمه ليس إلى إجمال النصّ و عدمه، من حيث العموم و الخصوص، حتّى يكون المرجع فيه إلى العرف، و إنّما المرجع فيه إلى ما يستفاد من الشرع بالأدلّة الاجتهاديّة، من إنفاذ حكم الحاكم إلى الكلّ في الكلّ، و عدم جواز نقضه و ردّه و عدم قبوله، أو بالأصول العمليّة، من أصالة البراءة، و عدم حرمة المزاحمة بهذا المعنى المشكوك عند فرض عدم الدليل.

و ثانيا: سلّمنا، لكن من المعلوم شرعا و عرفا أنّ مزاحمة الحاكم غير الجائزة إنّما هو نقض حكمه، و الحكم بعدم جواز ما هو صحيح جائز و عدم لزوم ما هو لازم من عقوده و إيقاعه، و أمّا القبض عنه ممّا هو لازم عليه، من قبول ردّ الثمن عليه بحقّ خيار من له الخيار، فليس بمزاحمة له أصلا و رأسا، لا شرعا و لا عرفا.

نعم، لو كانت معاملة الحاكم السابق لازمة شرعا أو عرفا لا جائزة خياريّة، كان قبول الآخر ردّ ثمنه أو فسخه أو إقالته من غير حقّ و لا وجه مزاحمة له شرعا و عرفا، و نقضا له.

قوله: «أمكن الجواز، لأنّه بمنزلة اشتراط إبقاء (1) ما في الذمّة بغير جنسه».

[أقول:] أي: إثبات ما في الذمّة بغير جنسه، كتحويل الدراهم بدنانير في الذمّة، و بالعكس.

و تصحيح نسخة «الإبقاء» بإيفاء ما في الذمّة، أي: إسقاط و إبراء ما في الذمّة بغير جنسه، هو الصحيح المصحّح، و المصحّح للتنزيل و التعليل المذكورين، و إلّا لم يصح تعليل جواز ضمان التالف بغير جنسه بإثبات ما في الذمّة بغير جنسه، فإنّه غير جائز، فلا يصحّ تعليل الجواز به، بل و لا تنزيله به مطلقا، للفرق


1- في المكاسب: إيفاء.

ص: 322

بينهما، من حيث إنّ ضمان التالف بغير جنسه فيما نحن فيه إسقاط ما لم يجب بعد حين الشرط و الضمان، فلا ينبغي أن يصحّ، بخلاف إسقاط ما في الذمّة بغير جنسه، فإنّه إسقاط ما وجب و ثبت في الذمّة فعلا، فيصحّ إسقاطه بغير جنسه.

قوله: «و لا اشتراط رجوع غير ما اقتضاه العقد إلى البائع. فتأمّل».

[أقول:] لعلّه إشارة إلى المنع من التنزيل المذكور، لما عرفت من الفرق.

أو إشارة إلى المنع من عدم منافاة ضمان التالف بغير مثله لمقتضى العقد، بدعوى منافاته له.

و لكن هذه الدعوى ممنوعة جدّا، لوضوح أنّ ضمان التالف المثلي بالقيمي و بالعكس إنّما ينافي مقتضى العقد لو لا الشرط، لا أنّه ينافيه مطلقا.

قوله: «لأنّ الخيار لكلّ منهما دائما، فلا معنى لدخول خيار الشرط».

[أقول:] و فيه: أنّ ثبوت الخيار الدائمي للعقد الجائز لا يمنع من اجتماع خيار الشرط معه، كما لا يمنع خيار المجلس و خيار الحيوان من اجتماع خيار آخر معه- من شرط أو غيره- و إن اتّحدا زمانا، فيفيد الاجتماع عند إسقاط أحدهما جواز الأخذ بالآخر.

قوله: «دخول [خيار] الشرط في كلّ عقد سوى النكاح و الوقف و الإبراء و الطلاق و العتق».

[أقول:] أمّا استثناء الوقف و ما بعده من العقود فمبنيّ على تعميم العقد لمطلق الإنشاء، أو جعل الاستثناء منقطعا. و أمّا صحّة استثناء ما استثني فسيجي ء ما فيه من المنع و النقض.

قوله: «أمّا الإيقاعات فالظاهر عدم الخلاف في عدم دخول الخيار فيها، كما يرشد إليه استدلال الحلّي (1) .. إلخ».


1- السرائر 2: 246.

ص: 323

[أقول:] و في كلّ من المدّعى و دليله منع و نقض. أمّا المدّعي فلانتقاضه بصحّة اشتراط البذل في الخلع، و الخدمة في العتق، و بالشرط المعلوم الوقوع في الطلاق، كأنت طالق إن كان الطلاق يقع بك، و بالتخيير للزوجة بين الطلاق و البقاء إن اختارت نفسها في الحال، و لو على كونه من خصائص النبيّ صلّى اللّٰه عليه و آله، أو على قول ابن الجنيد (1)، و الوقف و الصدقة بشرط عوده إلى مالكه إن احتاج، على قول السيّد (2) و جماعة (3).

و أمّا الاستدلال عليه بخروجه عن العقود، أو بتوقّفه على الإيجاب و القبول، أو بقوله: «الشرط ما كان قائما بشخصين: المشروط له، و المشروط عليه».

ففيه انتقاضة أيضا بإيقاع النذر و العهد و اليمين مشروطا بشرط قائم بشخص واحد، و الوقف مشروطا بعوده ملكا بعد مدّة معلومة أو بشرط الاحتياج، و الطلاق بشرط البذل، و العتق بشرط الخدمة، إلى غير ذلك.

قوله: «خصوصا على ما تقدّم عن القاموس».

[أقول:] أي: من تفسيره بالإلزام و الالتزام في البيع (4).

قوله: «فالأولى الاستدلال عليه .. بعدم مشروعيّة الفسخ في الإيقاعات».

[أقول:] و فيه: النقض بفسخ الوقف المنقطع، و مشروعيّة فسخ الأبوين نذر الولد و المالك نذر المملوك و الزوج نذر الزوجة، و الرجوع في عدّة الطلاق الرجعي، بل و في الخلع إذا رجعت في البذل.


1- ذكر قوله العلامة في مختلف الشيعة: 565.
2- الانتصار: 226.
3- منهم المفيد في المقنعة: 652، و سلّار في المراسم: 197 و الشيخ في النهاية: 595.
4- القاموس المحيط 2: 368.

ص: 324

قوله: «و الرجوع في العدّة ليس فسخا للطلاق، بل هو حكم شرعيّ للطلاق (1)».

[أقول:] فيه: ما تقدّم (2) في أول الخيار من المنع و النقض، و تحقيق الفرق بين الحكم و الحقّ.

فالتحقيق: أن عموم المقتضي لصحّة الشرط بقوله صلّى اللّٰه عليه و آله: «المسلمون عند شروطهم، إلّا ما خالف كتاب اللّٰه» (3) «و كلّ شرط جائز و لازم، إلّا ما حرّم حلالا أو أحلّ حراما» (4) حاكم و شامل جميع العقود اللازمة و الجائزة و الإيقاعات، و أنّ المانع المخصّص لعموم هذا المقتضي لصحّة الشرط ينحصر فيما خالف المشروع من الشروط، و هو مختلف لا يطّرد في كلّي الإيقاعات. كما أنّ عموم المقتضي لصحّته أيضا مختلف لا يطّرد في كلّي العقود، بل مختلف باختلاف موارد المشروع و غير المشروع من الشروط كمّا و كيفا.

و بالجملة، المتّبع هو المانع الشرعي المختلف كمّا و كيفا باختلاف موارد العقود و الإيقاعات، غير المطّرد و لا المضبوط فيما زعمه الأصحاب من الوجوه و الموارد، تبعا لما عليه العامّة من الأقيسة و المقرّبات المرسلة.

قوله: «و لو كان عقدا، كالصلح المفيد فائدة الإبراد».

[أقول:] كأن يقول: صالحتك ما في ذمّتك، أو على ما في ذمّتك. و كون هذا المثال عقدا متضمّنا للإيقاع مبنيّ على ما هو المشهور بكون الصلح من العقود لا تابعا لما تضمّنه، و على كون الإبراء من الإيقاع لا يحتاج إلى القبول، و إلّا فالمثال لا يطابق الحال.


1- لم ترد «للطلاق» في المكاسب.
2- في ص: 273 و 274.
3- الوسائل 12: 353 ب (6) من أبواب الخيار ح 2.
4- الوسائل 12: 353 ب (6) من أبواب الخيار ح 5، و لم يرد فيه صدر الحديث.

ص: 325

قوله: «لم يدخله، لأنّ مشروعيّته لقطع المنازعة فقط .. إلخ».

[أقول:] فيه [أولا] (1): أنّ مشروعيّة الصلح لقطع المنازعة لا ينافي انفساخه بمقتضى شرط خيار الفسخ، كانفساخه بسائر الخيارات كالعيب و الغبن و الحيوان، لاشتراك مصلحة قطع المنازعة في مشروعيّة كلّ مشروع من العقود و الإيقاعات و الخيارات.

و ثانيا: لو سلّمنا ذلك كان المانع من دخول الخيار هو نفس عقد الصلح و مطلق المصالحة، لا ما تضمّنه من الإيقاع و الإبراء الذي في ضمنه كما هو المدّعى.

قوله: «و لا أقلّ من الشكّ في ذلك، الراجع إلى الشكّ في سببيّة الفسخ لرفع الإيقاع».

أقول: فيه أنّ أصالة عدم سببيّة الفسخ لرفع الإيقاع عند الشكّ في سببيّته دليل حيث لا دليل، من عموم المقتضي لسببيّة الشرط بقوله عليه السّلام: «كلّ شرط جائز و لازم» (2).

قوله: «فالأوّل النكاح فإنّه لا يدخله اتّفاقا».

أقول: فيه أنّ الذي لا يدخل النكاح اتّفاقا من الشروط إنّما هو شرط نفس الخيار على النحو الداخل في البيع، الموجب لفسخه بمجرّد الاختيار و الإقالة.

و أمّا اشتراط غير الخيار من الشروط الأخر الموجبة انتفاؤها لخيار الفسخ، كاشتراط البكارة أو بنت مهيرة في الزوجة أو اشتراط الحرّية في كلّ من الزوجين، فلا خلاف في دخولها في النكاح على وجه لو ظهر خلاف الشرط كان للمشترط الفسخ قضيّة للشرط.


1- ما بين المعقوفتين أضفناه بقرينة قوله بعد أسطر: و ثانيا.
2- تقدّم في الصفحة السابقة الهامش رقم (4) ص: 324.

ص: 326

و كذا يدخل في النكاح مطلق كلّ شرط سائغ مشروع، كاشتراط العدل في القسمة و النفقة، و التسرّي و التزويج عليها متى شاء، و اختيار السكنى، و شرط الخيار أو التأجيل في المهر، و شرط التوارث، و الإتيان ليلا أو نهارا مرّة أو مرارا في المنقطع، إلى غير ذلك من الشروط الداخلة في النكاح أيضا، إلّا أنّ مخالفتها لا توجب ما توجبه الشروط الأوّل من حقّ خيار الفسخ و الحكم الوضعي، بل يوجب اشتراطها مجرّد الحكم التكليفي، و هو وجوب الوفاء بالشرط.

قوله: «و الكبرى في الصغريين ممنوعة».

[أقول:] لانتقاض كلّية الكبريين بصحّة اشتراط خدمة مدّة في إعتاق العبيد، مع اشتراطه بالقرية، و كونه فكّ ملك بغير عوض. و بصحّة اشتراط انقطاع الوقف و رجوعه ملكا بعد مدّة في ضمن التحبيس و الوقف و الصدقة و السكنى و العمرى، مع اشتراطها بالقربة، و كونها فكّ ملك بغير عوض.

قوله: «و في دلالتها على المدّعى تأمّل».

[أقول:] وجه التأمّل: أنّ عود الوقف و الصدقة إلى الميراث بسبب الاشتراط، كما يحتمل أن يكون من جهة عدم دخول الشرط في الوقف و الصدقة، و فساد الشرط المفسد للمشروط، و هو أصل الوقف و الصدقة، كذلك يحتمل أن يكون من جهة صحّة دخول الشرط و انفساخ المشروط به بعد تحقّق شرطه، و هو احتياج الواقف و المشترط إلى ما وقف و تصدّق.

قوله: «لعموم ما دلّ (1) على أنّه لا يرجع فيما كان للّٰه، بناء على [أنّ] المستفاد منه كون اللزوم حكما شرعيّا لماهيّة الصدقة».

[أقول:] إنّما قيّد الدلالة بالبناء على الإفادة لاحتمال كون النهي عن


1- الوسائل 6: 294 ب «24» من أبواب الصدقة، و ج 13: 315 ب (11) من أبواب أحكام الوقوف و الصدقات.

ص: 327

الرجوع لمجرّد التحريم أو التنزيه، لا الحكم الوضعي و هو عدم صحّة الشرط و عدم تأثيره الفسخ و الرجوع. أو تقييد النهي عن الرجوع فيما كان للّٰه بصورة عدم شرط الرجوع، لا مطلقا حتّى مع اشتراط الرجوع، نظرا إلى خروج الرجوع.

بمقتضى الشرط عن الرجوع المنهيّ فيما كان للّٰه من باب التخصّص أو التخصيص، بتحكيم عموم: «كلّ شرط جائز» (1) على عموم النهي عن الرجوع فيما كان للّٰه (2).

قوله: «و توهّم إمكان إثبات السببيّة بنفس دليل الشرط واضح الاندفاع».

[أقول:] لا وجه لوضوح اندفاعه سوى تحكيم عموم: «لا يرجع فيما كان للّٰه» (3) على عموم دليل الشرط (4)، و إلّا فعلى تقدير العكس أو كون النهي لمجرّد الحرمة أو التنزيه فيمكن إثبات السببيّة بعموم دليل الشرط.

قوله: «الشرط القولي لا يمكن ارتباطه بالإنشاء الفعلي».

أقول: هذا مبنيّ على القول بانصراف صدق الشرط إلى الشرط الضمني في ضمن الإنشاء القولي، كما عرفت عن القاموس (5) و مختار المصنّف، و إلّا فعلى تعميم الشرط يمكن ارتباطه بالإنشاء الفعلي أو بالأخبار القولي، بأن يقول: لي الخيار حال اشتغاله بفعل التعاطي، أو حال إخباره عنه بأنّي أتعاطى البيع ولي فيه الخيار، بل و يمكن صدقه على الشرط الابتدائي من غير ضمن أيضا.

قوله: «كما إذا زوّجها الوليّ بدون مهر المثل، و فيه نظر».

[أقول:] وجه النظر: أنّ مشروعيّة فسخ المولّى عليه عقد الوليّ بدون مهر المثل دفعا لضرره و جبرا لكسره لا يستلزم دخول خيار الشرط فيه و مشروعيّة


1- تقدّم ذكر مصدره في هامش (4) ص: 324.
2- تقدّم ذكر مصدره في هامش (1) ص: 326.
3- تقدّم ذكر مصدره في هامش (1) ص: 326.
4- الوسائل 12: 352 ب (6) من أبواب الخيار.
5- في هامش (4) ص: 323.

ص: 328

الفسخ به، للفرق بين الفسخين، أو النصّ الفارق في البين.

[الرابع خيار الغبن]

قوله: «هو بالتسكين في البيع، و بالتحريك في الرأي».

[أقول:] و فيه: أنّ تخصيص اختلافهما بالمتعلّق يوهم اتّحادهما في معنى الخدعة و الباب و التعدية، كما صرّح بهذا التوهّم في آخر المسألة بقوله:

«فيحتمل- أي: في نصوص النهي عن الغبن- كون الغبن بفتح الباء»، فيكون غابن الرأي كغابن البيع بمعنى خادعه، أي: صرفه عن الحقّ إلى الباطل، و الحال أنّ الصحاح (1) و القاموس (2) و المصباح (3) مصرّحون بأنّ «غبنته في البيع» من باب «ضرب» بفتح العين بمعنى: خدعته، و «غبن رأيه» من باب «تعب» بكسر العين بمعنى: نقص رأيه و ضعف عقله و قلّ ذكاؤه و فطنته، و بينهما بون بعيد من حيث الباب و الفدية و اللزوم و التعدية، فإنّ الغابن في البيع قويّ الرأي و العقل متعدّ، و الغابن في الرأي بالعكس ضعيف الرأي و العقل و لازم.

قوله: «و الظاهر أنّ كون الزيادة ممّا لا يتسامح به شرط خارج عن مفهومه».

[أقول:] أي عن منصرف صدقه تخصّصا، أو عن إطلاق حكمه تخصيصا.

قوله: «و لا يعدّ ذلك خلافا في المسألة».

لتصريحه به هو في شرائعه بقوله: «الرابع: خيار الغبن (4) .. إلخ». و لأنه مسبوق بإجماع الغنية (5)، و ملحوق بإجماع المختلف (6) من زمانه إلى يومنا هذا.


1- الصحاح 6: 2172.
2- القاموس المحيط 4: 253.
3- المصباح المنير: 442.
4- شرائع الإسلام 2: 23.
5- غنية النزوع: 224.
6- مختلف الشيعة: 346.

ص: 329

قوله: «عن الإسكافي (1) منعه لبناء البيع على المغالبة».

[أقول:] و فيه أوّلا: منع البناء.

و ثانيا: لو سلّم فإنّما هو في خصوص التجارة لا مطلق المبايعة. و ثالثا: لو سلّم فإنّما هو بما يتسامح فيه لا الغبن الفاحش.

و رابعا: لو سلّم البناء مطلقا في مطلق لكن البناء على المغالبة لا ينافي الحكم الشرعيّ بالخيار.

قوله: «المغبون لو عرف الحال لم يرض».

[أقول:] و فيه: أنّ المدار على الرضا الفعلي الحاصل، لا على عدمه الشأني. فالاستدلال بالرضا على خلاف المدّعى أدلّ، و هو من أدلّة العامّة (2)، و تبعهم العلّامة (3).

قوله: «و عدم (4) وجودها في الكتب المعروفة».

أقول: و إن لم يوجد في الأصول المعروفة إلّا أنّه يكفي في انجبارها ما في الغنية (5): «نهى صلّى اللّٰه عليه و آله عن تلقّي الركبان». و قال صلّى اللّٰه عليه و آله: «فإن تلقّى متلقّ فصاحب السلعة بالخيار إذا دخل السوق» (6). مضافا إلى الشهرة و إجماع الغنية (7) و المختلف (8)، و نفي الخلاف عنه. و عموم لا ضرر (9) و لا غرر (10). و خصوص ما


1- حكاه عنه الشهيد الأوّل في الدروس الشرعيّة 3: 275.
2- المغني لابن قدامة 4: 93، الشرح الكبير 4: 88.
3- تذكرة الفقهاء 1: 522.
4- في المكاسب: لعدم.
5- غنية النزوع: 224.
6- جامع الأصول 1: 445، السنن الكبرى 5: 348.
7- غنية النزوع: 224.
8- مختلف الشيعة: 346.
9- الوسائل 12: 364 ب «17» من أبواب الخيار.
10- الوسائل 12: 330 ب «40» من أبواب آداب التجارة ح 3.

ص: 330

في المستدركات عن الصادق: «إذا باع رجل من رجل سلعة ثمّ ادّعى أنّه غلط في ثمنها، و قال: نظرت في بارنامجاتي فرأيت فوتا من الثمن و غبنا بيّنا، قال: ينظر في حال السلعة، فإن كان مثلها يباع بمثل ذلك الثمن أو بقريب منه، مثل ما يتغابن الناس بمثله، فالبيع جائز، و إن كان أمرا فاحشا و غبنا بيّنا حلف البائع باللّه الذي لا إله إلّا هو على ما ادّعاه من الغلط، إن لم يكن له بيّنة، ثمّ قيل للمشتري: إن شئت خذها بمبلغ القيمة، و إن شئت فدع» (1).

قوله: «و قد يستنكف عن اقتناء ذات القيمة اليسيرة للتجمّل. فتأمّل».

[أقول:] إشارة إلى أنّ تعلّق غرض الغابن بما انتقل إليه أمر غالب بل دائم لا يعارض بما هو نادر بل أندر، من أنّ غرض المغبون قد يتعلّق بتملّك عين ذات قيمة لاقتنائها للتجمّل، على وجه يستنكف عن اقتنائها بقيمة يسيرة للتجمّل.

أو إشارة إلى أنّ الخيار جبر للضرر لا لنقض الغرض، و من المعلوم أنّ مطلق نقض الغرض- سيّما الغرض النادر الأندر- ليس في العرف بضرر حتّى ينفيه عموم لا ضرر (2)، سيّما إذا أقدم عليه باختيار.

فالأقوى و الأظهر- سيّما من نصّ المستدركات (3)، و أدلّة نفي الغبن (4) و الضرر (5) و الغرر (6)، و إن كان مخالفا للأشهر- هو انجبار ضرر المغبون بردّ الزيادة الغبنيّة، و عدم خيار الردّ له على الغابن، إلّا بعد الامتناع عن ردّ الزيادة الغبنيّة. و هذا المقدار من الخيار جمع بين الحقّين، و دفع لضرر الجانبين، و إنصاف في البين.


1- المستدرك 13: 307 ب (13) من أبواب الخيار ح 2.
2- الوسائل 12: 364 ب «17» من أبواب الخيار.
3- المستدرك 13: 307 ب (13) من أبواب الخيار ح 2.
4- الوسائل 12: 363- 364 ب «17» من أبواب الخيار ح 1 و 2.
5- الوسائل 12: 364 ب «17» من أبواب الخيار.
6- الوسائل 12: 330 ب «40» من أبواب آداب التجارة ح 3.

ص: 331

قوله: «و يظهر منه أنّ ما ذكره أوّلا حديث رابع». (1)

أقول: بل في المستدركات حديث خامس، و هو: «غبن المسترسل ربا» (2). و سادس صريح في الخيار الجامع بين الحقّين، قد نقلناه وراء الصفحة (3).

قوله: «فيحتمل كون الغبن بفتح الباء».

[أقول:] فيه: ما بيّنّاه في أوّل المسألة (4) من أنّ الغبن بالفتح من باب لازم، بمعنى: نقص الرأي و العقل و قلّة الذكاء و الفطانة، لا بمعنى الغبن بالسكون و هو الخدعة، فلا يمكن إرادة الغبن بالفتح من تلك النصوص (5) الناهية عنه، بل يتعيّن إرادة الغبن بالسكون منها قطعا.

قوله: «ففي الخيار وجه».

[أقول:] وجهه ليس تقييد المقدار المقدم عليه من الضرر بشرط عدم الزيادة حتّى يردّه عدم تقييده بشرط، بل لأنّ المتيقّن من الإقدام في الخروج عن إطلاق الغبن و عموم حكمه بالخيار و نفي الضرر هو صورة تقييد المقدم عليه بصورة عدم الزيادة، لأنّه فعل مجمل لا قول مطلق حتّى يؤخذ بإطلاقه و يخصّص به عموم دليل الخيار و الضرر.

نعم، لو صرّح لفظا في ضمن العقد بأنّي مقدم على قدر من الزيادة، فبان أنّه أزيد بزيادة لا يصدق الغبن بها منفردا إلّا بانضمام الساقط إليه، لم يكن وجه لخياره.


1- مجمع البحرين 5: 383.
2- المستدرك 13: 307 ب (13) من أبواب الخيار ح 1.
3- تقدّم ذكره في ص: 329.
4- في ص: 328.
5- الوسائل 12: 363 ب «17» من أبواب الخيار.

ص: 332

قوله: «و بأنّ موكّله (1) يعقد على أزيد».

[أقول:] الصحيح أنّ وكيله يعقد على أزيد، لأنّ الكلام في عقد الوكيل و تقريره له، أي: تقرير الموكّل له.

قوله: «لجهله بالحال. فتأمّل».

[أقول:] إشارة إلى أنّ جهل المغبون و إن لم يحس و يعسر الاطّلاع عليه إلّا لعلّام الغيوب، إلّا أنّه ليس ممّا لا يحسّ مطلقا لا بنفسه و لا بآثاره كعلم النجوم و آثاره، حتّى لا يقبل قول مدّعيه، و يتعذّر الاطّلاع فيه، بل هو كالعلم و الخبريّة و ملكة العدالة و الاجتهاد من الأمور غير الحسّيّة التي هي في حكم الحسّيّة، من جهة أنّ لها آثارا حسّيّة يمكن الاطّلاع بها و يقام البيّنة عليها، كإقرار المغبون بعلمه أو معلوميّة خبريّته بحيث لا تخفى عليه الزيادة الغبنيّة، أو فرحه و انبساطه بالبيع الكاشف عن جهله بغبنه، و تكدّره و ندامته من البيع بعد ظهور غبنه.

أو إشارة إلى أنّ اتّفاق تعسّر إقامة البيّنة على الجهل و إن أثّر قبول قول مدّعيه في مورده، إلّا أنّه لا يوجبه مطلقا على وجه الكلّية التي هي محطّ النظر.

أو إشارة إلى أنّ الاحتياج في قبول قول مدّعي الجهل إلى تعسّر إقامة البيّنة إنّما هو على تقدير كون مدّعي الجهل مدّعيا لخلاف الأصل و الظاهر، و المفروض خلافه، و كونه منكر العلم بالغبن، فلا يتوقّف قبول قوله على تعسّر إقامة البيّنة عليه. هذا، إذا حلف حلف المنكر. و أمّا إذا حلف اليمين المردودة ثبت به غبنه على كلّ من تقديري كونه منكرا أو مدّعيا.

قوله: «مع أنّ عموم تلك القاعدة ثمّ اندراج المسألة فيها محلّ تأمّل».

[أقول:] أمّا وجه التأمّل في عموم قاعدة قبول قول ما تعسّر فيه البيّنة لكلّ


1- في المكاسب: وكيله، و إشكال المحشّي «قدّس سرّه» يبتني على نسخته من المكاسب.

ص: 333

ما هو حسّيّ أو في حكم الحسّيّ و إن كان له آثار حسّيّة، فلاحتمال اختصاصها بما ليس بحسّي و لا له آثار حسّيّة، كالإقرار و ظهور الآثار.

و أمّا وجه التأمّل في اندراج المسألة فيها على تقدير عمومها، فلإمكان منع تعسّر البيّنة على جهل المغبون.

قوله: «لا [دليل] نفي الضرر، فنفي الضرر المالي في التكاليف لا يكون إلّا إذا كان تحمّله حرجا».

[أقول:] و ذلك لما فرضنا من حكومة دليل التكليف بالضرر الماليّ- كتضاعيف قيمة ماء الوضوء، و الحجّ و الزكاة و الخمس، و نفقة واجبي النفقة- على عموم نفي الضرر، بل و كذلك دليل التكليف بالضرر النفسيّ و البدنيّ في الحجّ و الجهاد و الصيام حاكم على دليل نفي الضرر.

و بعد فرض تحكيم أدلّة التكليف بالضرر الماليّ أو البدنيّ أو النفسيّ على دليل نفي الضرر لم يبق للمحكوم على حاكمه حكومة، بل ينحصر الحاكم على هذا الحاكم شرعا في دليل نفي الحرج و العسر النافي للضرر المجحف لا مطلق الضرر.

قوله: «و هو محال. فتأمّل».

[أقول:] لعلّ وجهه أنّ المحال هو اعتبار الأقلّية و الأكثريّة بالنسبة إلى المال، و أمّا بالنسبة إلى الحال فليس بمحال.

قوله: «فصار البائع مغبونا من كون الثمن أقلّ من القيمة السوقيّة بخمس تومان».

[أقول:] اعترض عليه الفاضل المامقاني في شرحه بأنّ أقلّ ما يوجب خيار الغبن هو الزيادة بقدر خمس الثمن أو القيمة، و هو تومان لا خمس تومان، كما نقله المصنّف عن صريحه.

ص: 334

فأجاب بأنّ قرار المصنّف بالخمس المحكيّ عنه التصريح بغبنه هو ما ذكره في طرف غبن المشتري، من زيادة الدنانير على أربعة توامين بخمس توامين إلّا خمسا، و هو ثمانية قرانات التي هي خمس أربعة توامين (1).

و فيه: أنّ هذا الجواب لا يوافق رأي المصنّف الحاكي و لا رأي المحكيّ عنه التصريح بغبن الخمس في المثال. أمّا المحكيّ عنه فلتصريحه الصريح بكون الغبن في المثال من الطرفين لا من طرف واحد. و أمّا المصنّف فلتصريحه الصريح أيضا في الجواب عنه بقوله: «الحقّ ما ذكرنا من وحدة المعاملة، و كون الغبن من طرف واحد» (2) يعني: من طرف البائع الشارط لا المشتري المشترط عليه.

بل الصواب في الجواب: أنّ مراد كلّ من الحاكي و المحكيّ عنه مثال غبن من الطرفين إنّما هو غبنه بمقدار الخمس، و هو في المثال تومان من طرف غبن البائع، و تومان إلّا خمسا من طرف غبن المشتري، كما صرّح به بقوله: «ثمّ تبيّن أنّ المتاع المشتري بأربعة توامين يسوى خمسة .. إلخ» إلّا أنّ البائع لمّا استوفى من غبنه المشتري مقدار أربعة أخماس غبن المشتري له، كان له حقّ مطالبة الباقي من مال الغبن، و هو خمس الباقي، أعني: خمس التومان، كما هو صريح عبارته الفارسيّة (3) المحكيّة بالعربيّة.

قوله: «و إنّما نزّلت قيمته بقبض المشتري و نقله إيّاه إلى مكان الرخص».

[أقول:] فيه: أنّ العبرة في القيمة إن كان على مكان البائع و المبيع فالمشتري مغبون لا البائع، لوجود المبيع في مكان الرخص فعلا لا تقديرا بأقلّ قيمته، فلا يتوقّف غبنه بأقلّ القيمتين على تقدير قبضه و نقله إلى محلّ الرخص بعد فرض وجوده فعلا فيه. و إن كان العبرة في القيمة على مكان المشتري،


1- نهاية المقال في تكملة غاية الآمال: 77.
2- المكاسب: 237.
3- جامع الشتات 1: 111.

ص: 335

فلا غبن في شي ء من الطرفين.

أمّا من طرف المشتري فواضح. و أمّا من طرف البائع فلأنّه مغبون على تقدير قبض المشتري و نقله إلى الغلاء.

قوله: «و ممّا يؤيّد الأوّل أنّهم اختلفوا .. إلخ».

[أقول:] وجه كونه مؤيّدا لا دليلا أنّ حكمهم. بصحّة تصرّفات الغابن حين جهل المغبون و إنفاذها، كما يحتمل أن يكون من جهة عدم خيار المغبون حين جهله، كذلك يحتمل أن يكون من جهة عدم منافاة صحّة تصرّفات الغابن في الظاهر لثبوت فسخ المغبون في الواقع فضلا عن خياره، لإمكان انتقال المغبون بعد ظهور غبنه إلى البدل.

قوله: «و يؤيّده أيضا الاستدلال .. إلخ».

[أقول:] وجه كونه مؤيّدا لا دليلا: أنّ دخول السوق و ظهور الغبن، كما يحتمل أن يكون شرط حدوث الخيار، كذلك يحتمل أن يكون شرط إعماله و انكشافه.

قوله: «لا يخفى إمكان إرجاع الكلمات إلى أحد الوجهين .. إلخ».

[أقول:] إن أراد إرجاع النزاع في المسألة إلى النزاع اللفظي بهذا التوجيه، فهو الذي ينبغي، لكنّه بعيد عن فهم العلماء و مقاصدهم. و إن أراد إرجاع النزاع إلى النزاع في الصغرى و المبنى و الموضوع، فلا جدوى فيه، بل الجدوى و الغاية القصوى إنّما هو في ترجيح أحد المبنيين و أحد الوجهين على الآخر.

فنقول: أظهر الوجهين هو الوجه الثاني، و كون خيار الغبن كسائر الخيارات، و حقّه كسائر الحقوق الشرعيّة حكم شرعيّ و حقّ واقعيّ مترتّب على نفس الغبن، علم به المغبون أم لم يعلم، و إنّما المتوقّف على العلم إعماله و الأخذ به لا أصل ثبوته الواقعي.

ص: 336

و منه يظهر لك وجه النظر بل المنع من قوله: «ثمّ إنّ الآثار المجعولة للخيار بين ما يترتّب على تلك السلطنة الفعليّة، كالسقوط بالتصرّف .. إلخ» فإنّ فيه: أنّ مسقطيّة التصرّف للخيار لم يرتّب على ظهور الغبن، و لا على فعليّة الخيار شرعا، و إنّما علم من تعليل مسقطيّة التصرّف بأنّه «رضي بالعقد» اشتراط مسقطيّة التصرّف بكونه كاشفا عن الرضا، و لا كشف عنه إلّا بعد العلم بغبنه، و أين هذا من ترتّب مسقطيّة التصرّف على العلم بالغبن و كونه من آثاره؟ و لهذا لم يعتبر في المسقط القولي كونه بعد العلم بالغبن، بل يسقط الخيار به مطلقا.

قوله: «و أمّا خيار الرؤية فسيأتي أنّ ظاهر التذكرة (1) حدوثه بالرؤية».

[أقول:] فيه: أنّ هذا الاستظهار من ظاهر إضافة الخيار إلى الرؤية، و المفروض خلافه، و أنّ معنى خيار الرؤية هو خيار تخلّف الوصف المنكشف بالرؤية لا الحادث المشروط به قطعا.

قوله: «و القذف و ما دونه حقّان مختلفان».

[أقول:] فيه: إمكان منع الفرق بين القذف و ما دونه من الشتم و بين المائة و ما دونه من العشرة، سوى كون النسبة بين الأوّلين التباين و بين الآخرين الأقلّ و الأكثر. فإن كان ملحوظ المسقط حقّه أصالة ما دون الآخر من الفردين فلا يعمّ الآخر، و إن كان ملحوظة أصالة إسقاط كلّي حقّه فيسقط و إن زعمه ما دون.

قوله: «و هذا هو الأقوى. فتأمّل».

[أقول:] إشارة إلى أنّه يغتفر في المصالحة ما لا يغتفر في غيرها، من جهة أنّها مشروعة لمصلحة رفع الخصومة، فلا تكون مثارا لها.

قوله: «كإبراء [المالك] الودعيّ المفرّط عن الضمان، و كبراءة البائع من العيوب».


1- التذكرة 1: 523.

ص: 337

[أقول:] و فيه: أنّ الحكم في المقيس عليه فضلا عن المقيس ممنوع، فإنّ ظهور حقّ الضمان و حقّ الخيار إن كان شرطا لحدوثه في المقيس عليه- كما فرض في المقيس- كان إسقاطه قبل ظهوره في المقيس عليه ممنوعا فضلا عن المقيس، لأنّه إسقاط ما لم يجب، فلا يسقط بإسقاطه قبل وجوبه. و إن كان ظهوره كاشفا عن سبق ثبوته بالعقد كان هو الفارق بين المقيس و المقيس عليه في مسقطيّة إسقاطه قبل ظهوره و عدمه.

قوله: «فإنّ الممنوع منه هو التعليق على ما لا يتوقّف تحقّق مفهوم الإنشاء عليه .. إلخ».

[أقول:] و في الروضة جعل الفارق بين الشرط الممنوع من الإنشاء و غيره في معلوم الوقوع له و غيره، قال: «و لا يقع الطلاق معلّقا على شرط أو صفة، إلّا أن يكون الشرط معلوم الوقوع حالة الصيغة، كأنت طالق إن كان الطلاق يقع بك، و هو يعلم وقوعه» (1).

و كلّ من الفرقين غير فارق، لانتفاضه في العقود بصحّة اشتراط البكارة و بنت المهيرة في الزوجة و الحرّيّة في كلّ من الزوجين، بل و بصحّة كلّ شرط سائغ، من اشتراط السكنى و العدل في النفقة و القسمة و أن يتسرّى أو يتزوّج عليها متى شاء، و بصحّة تعليق العتق على الموت، و النذر و شبهه على شفاء مريض أو هلاك عدوّ، إلى غير ذلك من الشروط السائغة في الإنشاء باتّفاق و تصريح منهم، مع أنّها ليست بمعلوم الوقوع و لا بمتوقّف عليها تحقّق الإنشاء.

فالتحقيق: جعل الفارق بين الممنوع و المانع من الشروط في الإنشاء و عدمه فيما قدّمناه من الضابط الكلّي المطّرد في جميع الشروط غير المنتقض بشي ء منها، من أنّ كلّ شرط تعلّق بنفس الإنشاء منع من تحقّقه مطلقا، و لو توقّف


1- الروضة البهية 6: 16.

ص: 338

عليه تحقّقه و كان معلوم التحقّق، كأنت طالق إن كنت زوجتي أو صحّ طلاقك، و أنت حرّ إن كنت ملكي أو رقّي، و بعتك هذا إن كان ملكي أو صحّ بيعي، و كلّ شرط تعلّق بالمنشإ و آثار الإنشاء لا نفس الإنشاء لم يمنع منه مطلقا، و لو لم يتوقّف عليه تحقّق الإنشاء و لم يكن معلوم التحقّق أيضا، كتعليق العقد و الإيقاع بما تقدّم من الشروط الناقضة للفارقين.

قوله: «احتمل الفرق بين الخيارين بأنّ الغرر في الغبن سهل الإزالة».

[أقول:] وجه الفارق: أسهليّة إزالة خيار الغبن بالاختيار و استعلام الحال قبل الرؤية، بخلاف خيار الرؤية، فإنّ غرره لا يزول إلّا بالرؤية.

و وجّه الفاضل المامقاني الفرق بينهما بأنّ الغبن زيادة ماليّة يمكن جبره بالأرش، بخلاف خيار الرؤية، فإنّه مخالفة وصفيّة لا يمكن جبره بالأرش (1).

و فيه أوّلا: أنّ المخالفة الوصفيّة الموجبة للخيار أيضا راجعة إلى ما تختلف به القيمة و إن لم يبلغ حدّ الغبن، و إلّا لم يوجب الخيار.

و ثانيا: لو سلّمنا الفرق المذكور كان غرر خيار الرؤية أقلّ من غرر الغبن، لعدم بلوغه حدّ الغبن، فيكون هو أسهل في رفع الاشكال لا الغبن.

و ثالثا: أنّ الكلام إن كان قبل اشتراط إسقاط الخيار فهو خارج عن محلّ إشكال اشتراطه، فلا يتوقّف رفع إشكاله على الفرق المذكور بينهما. و إن كان بعد اشتراط إسقاطه فلا خيار أصلا، فضلا عن الفرق المذكور بينهما.

قوله: «لأنّه حكم شرعيّ لا يرتفع به موضوع الغرر .. إلخ».

[أقول:] لا يقال: و إن لم يرتفع بالخيار موضوع الغرر المبطل للبيع، إلّا أنّه يرفع به موضوع الضرر أو يجبر به كسره و يرفع به حكم الضرر و الغرر، و هو البطلان.


1- نهاية المقال في تكملة غاية المراد: 79.

ص: 339

لأنّا نقول: الضرر المبطل هو موضوع الغرر، و أمّا ما عدا الغرر من الضرر فغير مبطل، خصوصا المقدم عليه اختيارا بإسقاط خياره المفروض فيما نحن فيه.

قوله: «و لا تنافي بين أن يقدم على اشتراء العين بانيا على وجود تلك الأوصاف، و بين الالتزام بعدم الفسخ لو تخلّفت. فتأمّل».

[أقول:] إشارة إلى أنّ إسقاط الحقّ و إن لم يناف استحقاقه، بل استلزمه و أكّده، كالتوبة و العفو حيث لا تنافي الذنب بل تستلزمه، إلّا أنّ الابتياع بشرط الوصف ينافي اشتراط إسقاطه خياره، لأنّه في معنى إلغائه تأثير الشرط الخيار، فاشتراط إسقاطه مناف لمقتضى اشتراطه في كلام واحد.

نعم، لو ابتاع بالوصف لا على وجه الشرطيّة، بل على وجه التعدّد (1) المطلوب، أو اشترط إسقاط خياره في ضمن عقد آخر، صحّ الإسقاط و لم يتناقضا قطعا.

قوله: «إلّا أن يقال: إنّ الشكّ في الرفع لا الدفع، فيستصحب. فتأمّل».

[أقول:] إشارة إلى إمكان منع الاستصحاب بفرض كون الشكّ في المقتضي و تبدّل موضوع الاستصحاب، لأنّ المتيقّن من الإجماع هو ثبوت الخيار قبل التصرّف، و أمّا بعده و بعد العلم بالغبن فلم يعلم المقتضي له حتّى يستصحب، بل موضوع ما قبل التصرّف عن علم- الذي هو معقد الإجماع على الخيار- متبدّل بالتصرّف عن علم، فلا يستصحب قطعا. فتأمّل.

قوله: «و في لحوق الامتزاج مطلقا أو في الجملة بالخروج عن الملك وجوه».

[أقول:] اللحوق مطلقا، و عدمه مطلقا، و اللحوق في الجملة، و هو التفصيل


1- كذا في النسخة الخطّية، و لعلّ الصحيح: تعدّد.

ص: 340

بين الامتزاج بالزيادة الممكنة فلا يلحق بالتلف، و الزيادة العينيّة فيلحق به.

قوله: «بناء على حصول الشركة في غيرها المانعة عن ردّ العين. فتأمّل».

[أقول:] هكذا نقلت عن نسخة الأصل و صحّحت به. إشارة إلى إمكان منع الردّ في الوسطى أيضا بمنع مبناه، و هو الفرق بينها و بين غيرها في الشركة المانعة من الردّ.

أو إشارة إلى أنّ الشركة مطلقا و لو كانت عينيّة لا تمنع من الردّ إذا رضي بها الغابن أو عافها المغبون.

قوله: «و مقتضى فسخ البيع الأوّل تلقّي الملك من الغابن».

[أقول:] أي: مقتضى فسخ المغبون البيع الأوّل انفساخ البيع الثاني من أصله، فيتلقّى المغبون المبيع من الغابن، لا فسخ المغبون البيع الثاني بعد فسخ الأوّل حتّى يتلقّى المبيع من المشتري الثاني.

قوله: «و يمكن النظر فيه بأن فسخ المغبون إمّا بدخول العين في ملكه .. إلخ».

[أقول:] يعنى: إن انفسخ البيع الثاني من الغابن و دخل العين في ملكه بمجرّد فسخ المغبون بيعه الأوّل، فلا حاجة إلى فسخ البيع الثاني حتّى يعيّن فاسخة في الغابن و إلّا فالحاكم و إلّا فالمغبون. و إن لم يوجب فسخ المغبون دخول العين في ملكه، بل أوجب استحقاق بدله، فلا وجه للعدول ممّا استحقّه بالفسخ إلى غيره و هو العين.

قوله: «و سيجي ء ما يمكن أن يكون فارقا بين المقامين».

[أقول:] و هو كون الفارق بين التفاسخ و الفسخ بالخيار: أنّ الإجارة المستتبعة للمنفعة الفائتة من المالك عند المستأجر بعد الفسخ حدث في محلّ معرض الزوال بالخيار فلا يجب تداركها، و بعد التفاسخ لم يحدث في محلّ

ص: 341

معرض الزوال، لأنّ التفاسخ أمر طار اتّفقا عليه من دون سبق سبب الخيار، فيجب تداركها بأجرة المثل.

قوله: «مضافا إلى مفهوم قوله صلّى اللّٰه عليه و آله: ليس لعرق ظالم حقّ» (1).

[أقول:] استدلّ بمفهومه على ثبوت حقّ بقاء الغرس في الأرض لغير غاصبها، فليس لمالك الأرض قلع ما غرس فيها غير غاصب بل بإذن شرعيّ.

كما استدلّ بمنطوقه على عدم حقّ بقاء الغرس فيها للغاصب، بل للمغصوب منه قلع ما غرس الغاصب في أرضه. و العرق واحد عروق الشجر. و روايته بالإضافة أبلغ منه بالتنوين.

قوله: «فعليه أرش طمّ الحفر».

[أقول:] أي: أجرة طمّه للطّامّ. و أمّا أرش نقص الأرض لمالكها بواسطة الحفر و الطمّ و إن كان على قالع الغرس أيضا، إلّا أنّه خلاف الظاهر من أرش الطمّ، لأنّه أرش الحفر و نقص الأرض لا أرش الطمّ.

قوله: «فليس هذا من باب استحقاق الغرس للمكان. فافهم».

[أقول:] إشارة إلى دقّة أنّه ليس من باب استحقاق الغرس المكان أصالة، بل من باب مقدّمة وجوب محافظة كلّ من الملكين بالمكان و بالعكس، من باب الملازمة التبعيّة و المقدّميّة لا الحقوق الأصليّة، كما لا يخفى.

قوله: «لطول مدّة البقاء. فتأمّل».

[أقول:] إشارة إلى منع فارقيّة طول مدّة البقاء و عدمه بين المسألتين غالبا، لأنّ الإبقاء بالأجرة إن رفع ضرر مالك الأرض ارتفع مانع إبقاء كلّ من الزرع و الغرس بالأجرة، و إن لم يرفع ضرره لم يرتفع مانع الإبقاء منها من غير فارق.

و أمّا اتّفاق مانعيّة طول مدّة الغرس من بعض التصرّفات المقصودة لمالك الأرض،


1- عوالي اللئالي 2: 257 ح 6.

ص: 342

فيعارض بأنّه قد يتّفق أحيانا أنّ عدم طول مدّة الزرع و إن قلّ جدّا قد يمنع من بعض التصرّفات المقصودة لمالك الأرض أحيانا.

أو إشارة إلى أنّ ضرر المالك بإبقاء الغرس معارض بضرر الغارس في قلع غرسه مع كون الغرس بحقّ. إلّا أن يقال: إنّه أقدم على ضرره بوضع غرسه في معرض الزوال.

قوله: «و في استحقاقه لأرش النقص، أو تفاوت الرداءة [من] الجنس الممتزج، أو من ثمنه وجوه».

[أقول:] الفرق بين أرش النقص و تفاوت الرداءة: أنّ امتزاج الأجود بالأردإ يسلب عنه وصف الأجوديّة المضمونة على المازج، و يحدث فيه بواسطة التركيب و سلب وصف الأجوديّة وصف ناقص ثالث متوسّط من الأجود و الأردأ.

فإن كان المضمون على المازج أرش وصف الأجوديّة المسلوبة مطلقا لزمه أرش تفاوت الأجوديّة و الأردئيّة. و إن كان المضمون عليه هو أرش وصف الأجوديّة المسلوبة بالنسبة إلى وصف الأردئيّة المتوسّطة الحادثة، لزمه أرش نقصانه بأرش التفاوت الذي بينه و بين الأجود، و هو أقلّ دائما أو غالبا من أرش تفاوت الرداءة، و أوجه وجهي ضمان غير الغاصب، و أعدل وجهي الضمان في أرش النقصان، سيّما إذا كان النقصان على وجه العدل لا العدوان.

كما أنّ أوجه وجهي ضمانه من الجنس الممتزج أو من ثمنه هو ضمانه من ثمنه لا جنسه، لكن لا لما قيل من استلزام ضمانه من جنسه الربا، بل لأنّ وصف الأجوديّة المضمونة على المتلف من القيميّ لا المثليّ حتّى يضمن بالمثل و الجنس.

قوله: «و التلف إمّا أن يكون فيما وصل إلى الغابن، أو فيما وصل إلى المغبون».

ص: 343

[أقول:] و حاصل صور التلف منتهية إلى ثمان، أربع صور تلف ما وصل إلى الغابن، و أربع صور تلف ما وصل إلى المغبون. و قد أشار المصنّف إلى حكم كلّ منها.

قوله: «صريح في أنّ العبرة بقيمة يوم الانفساخ، دون تلف العين».

[أقول:] و ذلك لأنّ المضمون قيمته هو المقبوض المبيع ثانيا، حيث إنّ بيعه الثاني بمنزلة تلفه المضمّن لقيمته، و لو كان المضمون قيمته يوم تلفه لكان قيمته يوم بيعه الثاني لا يوم انفساخ بيعه الأوّل، بواسطة تلف عوضه غير المقبوض.

قوله: «و الفرق بين المسألتين مشكل».

[أقول:] يمكن الفرق بأنّ الضمان تابع لسببه الأصلي الأوّلي، فإن كان سببه الأصلي هو الانفساخ لا الإتلاف بالبيع- كما في المسألة الثانية- كان المضمون على المتلف ضمانه يوم الانفساخ لا البيع. و إن كان سببه الأصلي هو التلف- كما فيما نحن فيه، فإنّ تلفه في زمان خيار الفسخ و زوال البيع و تزلزله السابق سبب أصليّ لكلّ من الفسخ و الضمان- كان المضمون على المتلف قيمته يوم التلف لا الفسخ. فتدبّر جدّا.

قوله: «و لذا صرّح في الشرائع (1) بجواز المصالحة على ذلك المتلف».

أقول: جواز المصالحة علّة كون المال المتلف في ضمان متلفه و ذمّته، لا علّة رجوع المغبون بعد فسخ المتلف إلى متلفه دون غابنه الذي هو المدّعى ظاهرا، فإنّ هذا التعليل لا يمنع من رجوع المغبون إلى غابنه، لاستحقاقه البدل على المتلف، و رجوع الغابن إلى متلفه، لأنّ التلف حين هو في ملكه، أو تخيير المغبون إلى أيّهما شاء.

قوله: «و فيه ما لا يخفى».


1- شرائع الإسلام 2: 143.

ص: 344

[أقول:] فإنّ مشروعيّة العلم لقطع المنازعة حكمة لا علّة مطّردة.

و ثانيا: لو سلّم علّيته فلا ينافيه جبران ضرر المغبون بخياره، و عدم الملازمة بين مشروعيّته لقطع النزاع و بين التزام المغبون بضرر الغبن.

و ثالثا: لو سلّم فهو مناف لجعل الخيار فيه بالشرط لا للخيار المشروع بالأصل.

قوله: «مقام جريان الاستصحاب لا يجوز فيه الرجوع إلى العموم، و لو على فرض عدم الاستصحاب».

[أقول:] و ذلك لفرض عدم العموم الأزماني، و كون الزمان ظرفا للحكم لا موضوعا له. فإذا فرض مع ذلك مانع من الاستصحاب رجع فيه إلى أصل آخر من براءة أو اشتغال. كما أنّه في مقام جريان العموم، و هو موضوعيّة الزمان للحكم لا ظرفيّته له، كقولك: أكرم العلماء كلّ يوم يوم، لا يجوز الرجوع إلى الاستصحاب و لو فرض عدم العموم، لتبدّل موضوعه، فيتعيّن الرجوع إلى أصل آخر من براءة أو اشتغال أو غلبة اللزوم.

قوله: «لم يجز التمسّك بالعموم أيضا، نعم يتمسّك فيه [حينئذ] بأصالة اللزوم الثابتة بغير العمومات».

[أقول:] و ذلك لا لأنّ اللزوم الثابت بالعموم مخصّص بالخيار، فلا يجوز الرجوع فيما عدا المتيقّن من زمانه إلى العموم، حتّى يرد عليه بأنّ تخصيص اللزوم بالخيار إن منع من الرجوع في مشكوكه إلى العموم منع من الرجوع فيه إلى أصالة اللزوم أيضا، بل لأنّ المفروض انتفاء العموم الأزماني في اللزوم الثابت بالعموم حتّى يرجع إليه، فنفي الرجوع إليه من قبيل السالبة بانتفاء الموضوع، بخلاف اللزوم الثابت بغير العموم كالغلبة و نحوها، فلا مانع من الرجوع إليه.

قوله: «لو أحرز الموضوع من دليل لفظيّ على المستصحب»- كما لو قال

ص: 345

للمغبون الخيار- إلى قوله: «اتّجه التمسّك بالاستصحاب».

[أقول:] فيه أوّلا: ثبوت موضوع الخيار بدليل لفظيّ من غير واحد من أدلّة تلقّي الركبان (1) و غيره (2) ممّا قدّمناه، فلا وجه لتعليق ثبوته على «لو» الامتناعيّة.

و ثانيا: على تقدير ثبوت موضوع الخيار بدليل لفظي لا حاجة إلى الاستصحاب، بل لا مجرى له مع إطلاق الحكم في الدليل اللفظي، لأنّ الأصل دليل حيث لا دليل، و المفروض وجود الدليل.

قوله: «و الأوّل أقوى».

[أقول:] أي: عموم دوام لزوم العقد و استمراره المبنيّ عليه فوريّة الخيار، و الاقتصار على المتيقّن منه، أقوى من القول بإهمال لزومه و دوامه المبنيّ عليه استصحاب الخيار و تراخيه.

و قد علّل هذا التفصيل بتعليل مركّب لإثبات أقوائيّة مبنى فوريّة الخيار، و نفي مبنى تراخيه و استصحابه، بقوله: «لأنّ حدوث الحادث» أي: الخيار «مع زوال العلّة السابقة» تصحيحها: مع زوال علّة السابق، أي مع زوال علّة اللزوم السابق، و هو عموم اللزوم و استمراره المبنيّ عليه تراخي الخيار و استصحابه «يقضي بعدم اعتبار السابق» أي: يقتضي زوال معلوله السابق و هو اللزوم «أمّا مع بقائها» أي: مع بقاء علّة السابق، و هو عموم اللزوم و استمراره المبنيّ عليه فوريّة الخيار «فلا يلغو اعتبار السابق» أي: اللزوم السابق و الاقتصار في تخصيصه على المتيقّن، و هو فوريّة الخيار لا تراخيه.

قوله: «و هذا ليس كاستصحاب الخيار، لأنّ الشكّ هنا في الرافع (3)، فالموضوع محرز، كما في استصحاب الطهارة بعد خروج المذي. فافهم».


1- انظر الوسائل 12: 326 ب «36» من أبواب آداب التجارة.
2- انظر الوسائل 12: 363 ب «17» من أبواب الخيار.
3- في المكاسب: الواقع.

ص: 346

[أقول:] إشارة إلى دفع ما يقال: من أنّ استصحاب الخيار و إن كان شكّا في المقتضي و الموضوع فيه غير محرز، إلّا أنّه استصحاب تقديريّ، و هو على تقدير حجّيته- كما عليه المصنّف في أصوله (1)- مقدّم و حاكم على استصحاب اللزوم السابق، كتقدّم استصحاب نجاسة عصير الزبيب بعد الغليان على استصحاب طهارته قبل الغليان، خصوصا على تقدير كون الزمان ظرفا للحكم، فإنّ تغييره أقلّ من تغيير وصف العنب بالزبيب لموضوع المستصحب، فلا يكون مانعا من استصحاب الخيار. و لا يقاس استصحاب اللزوم فيما نحن فيه باستصحاب الطهارة بعد خروج المذي، بل ينبغي أن يقاس باستصحاب طهارة الزبيب بعد غليانه.

و طريق دفعه أن يقال: إنّ المراد بأصالة لزوم العقد و عدم انفساخه بفسخ المغبون بعد الفور و التراخي إنّما هو الأصل بمعنى الغلبة و أمارة الواقع الوارد على استصحاب الخيار، لا مجرّد استصحاب لزوم العقد و عدم انفساخه بالفسخ المتراخي حتّى يكون محكوما باستصحاب الخيار. إلا أن يقال: إنّ أصالة اللزوم بمعنى الغلبة لو سلّمت فإنّما هي فيما لو شكّ في أصل طروّ الخيار و عدمه، لا فيما طرأ عليه الخيار قطعا و شكّ في بقاء الطاري و عدمه، فإنّ الأقوى فيه استصحاب الخيار و تراخيه مطلقا في جميع الخيارات، لا الاقتصار على الفور.

قوله: «تجويز التأخير فيها ضرر على من عليه الخيار. و فيه تأمّل».

[أقول:] إشارة إلى منع ضرريّة التأخير على من عليه الخيار بعد فرض تسلّطه و نفوذ جميع تصرّفاته حتّى الوطء و البيع و العتق، غايته رجوع ذي الخيار إلى البدل.

أو إشارة إلى إمكان تحديد الخيار بما لم يتضرّر منه من عليه الخيار، لكن


1- فرائد الأصول: 380.

ص: 347

لا بما يرجع تحديده إلى الفور العرفي، بل بما هو أوسع منه و أعمّ منه.

[الخامس خيار التأخير]

قوله: «ظهور الأخبار في الفساد في محلّه».

[أقول:] فيه أوّلا: إمكان منع أظهريّة الأخبار (1) في نفي الصحّة من نفي اللزوم بعد تعذّر نفي الحقيقة التي هي الحقيقة، للمساواة و عدم الأقربيّة.

و ثانيا: سلّمنا أقربيّة نفي الصحّة من نفي اللزوم بعد تعذّر نفي الحقيقة، إلّا أنّ في خصوص المقام قرائن صارفة له عن نفي الصحّة إلى نفي اللزوم.

منها: ورود النفي فيها مورد توهّم اللزوم المقتضي لنفي اللزوم لا الصحّة.

و منع المستند (2) ورودها مورد توهّم اللزوم بقوله: «بل يمكن أن يكون مورد توهّم الصحّة» ممنوع جدّا، كما يشهد به محاجّة ابن الحجّاج المتقدّمة (3).

و منها: حمل سائر نصوص الخيارات- التي منها خيار ما يفسد ليومه، بقوله: «فإن جاء بالثمن ما بينه و بين الليل و إلّا فلا بيع له» (4)- على نفي اللزوم لا الصحّة قرينة حمل نصوص الباب (5) أيضا على نفي اللزوم لا الصحّة، لأنّ الأخبار كالقرآن يفسّر بعضه بعضا. بل لم يعهد في شي ء من الخيارات الانفساخ القهري بدون فسخ فعلي و لا قولي حتى تحمل نصوص الباب عليه، إلّا في تلف المبيع قبل قبضه الخارج بالتخصيص أو التخصّص عمّا نحن فيه.

و منها: الشهرة المحقّقة و الإجماعات المنقولة على فهم خيار الفسخ لا الانفساخ القهري من نفي البيع بعد الثلاثة.

قوله: «فلا أقلّ من الشكّ، فيرجع إلى استصحاب الآثار المترتّبة على


1- الوسائل 12: 356 ب (9) من أبواب الخيار.
2- مستند الشيعة 2: 387.
3- الوسائل 12: 356 ب (9) من أبواب الخيار ح 2، و لم يتقدّم منه «قدّس سرّه الشريف».
4- الوسائل 12: 358 ب (11) من أبواب الخيار ح 1.
5- الوسائل 12: 356 ب (9) من أبواب الخيار.

ص: 348

البيع».

[أقول:] فيه: أن استصحاب صحّة البيع لا يجامع فرض ظهور نصوص الباب (1) في نفي الصحّة، و لا صرفها عنه إلى نفي اللزوم قطعا، إلّا بالعدول عن فرض الظهور.

قوله: «مندفع بأنّ اللزوم ليس من قبيل الفصل له» (2).

أقول: كيف و لو كان اللزوم من قبيل الفصل له لانتفى الخيار بل الجواز في شي ء من العقود رأسا، حتّى ما كان جائزا بأصل الشرع، و اقتضى حمل كلّ خيار من الخيارات بل و جواز كلّ عقد من العقود الجائزة على فسادها و انفساخها القهري، لا جواز فسخها الاختياري، و هو كما ترى خلاف الضرورة.

قوله: «لا خلاف في اشتراطه ظاهرا».

أقول: بل في المستند (3) و الجواهر (4) نقل الاتّفاق على اشتراط هذا الخيار بعدم إقباض المثمن كاشتراطه بعدم قبض الثمن، فلو تقابضا أو أحدهما فلا خيار بعد الثلاثة و إن أبقاه عند صاحبه، خلافا لما عن الشيخ من عدم اشتراطه، و القول بالخيار عند تعذّر قبض الثمن و إن قبض المثمن (5). و قوّاه في الدروس (6)، لنفي الضرر. و لم يستبعده في المسالك (7).

أقول: و يقوّيه إطلاق نصوص الباب (8) عن اشتراطه، إلّا ما في سؤال بعض


1- الوسائل 12: 356 ب (9) من أبواب الخيار.
2- في المكاسب: الفصل للصحّة.
3- مستند الشيعة 2: 387.
4- جواهر الكلام 23: 53.
5- انظر المبسوط 2: 87 و 148.
6- الدروس الشرعيّة 13: 274.
7- مسالك الأفهام 3: 209.
8- الوسائل 12: 356 ب (9) من أبواب الخيار.

ص: 349

الموارد الذي لا يخصّص عموم الوارد، و الأصل عدم اشتراط شرط زائد وراء اشتراط عدم قبض الثمن، و حجّية العامّ المخصّص في الباقي.

و أمّا تضعيفه في الجواهر بأنّ البائع هو أدخل الضرر على نفسه بتسليم (1) المبيع.

ففيه: أنّ تسليم البائع المثمن مقدّمة لتسليم ثمنه و جهله بأنّه لا يسلّمه ليس بإقدام على ضرر نفسه قطعا. نعم، مع علمه بأنّه يقبض المثمن و لا يسلّم الثمن إقدام على ضرر نفسه، و لكنّه خارج عن محلّ الفرض و الخيار.

و أمّا تضعيف الجواهر (2) و المستند (3) الخيار أيضا بنفي الضرر بعد قبض المبيع، بأنّه إن أمكن استرداد البائع المبيع حينئذ أخذه مقاصّة عن الثمن، فلا ضرر يوجب نفيه الخيار، و إلّا فلا فائدة في فسخه.

ففيه أيضا: أنّ أخذه مقاصّة قد يوجب ضرر اشتراك المشتري أو غرمائه في العين المقاصّة، بخلاف ما في فسخها من التخصيص بالفاسخ.

و أمّا فائدة الفسخ فلم تنحصر في استرداد المفسوخ، فقد يحصل في القدرة على إعتاقه أو إيقافه أو احتسابه على من في يده أو ذمّته، عن دين أو زكاة أو صدقة أو مظلمة، أو القدرة على نقله إلى من يقدر على استرداده، أو استحقاق ضمانه و ضمان نمائه و غراماته و لو في الآجل دون العاجل.

قوله: «و لا أعلم له وجها غير سقوط هذه الفقرة».

أقول: لعلّ وجهه البناء على أنّ قوله عليه السّلام: «إن قبّضه بيعه» (4)- بقرينة انطباق جوابه على السؤال عمّن يبيع البيع و لا يقبّضه الثمن و لا المثمن- بمعنى: إن


1- جواهر الكلام 23: 53.
2- المصدر السابق.
3- مستند الشيعة 2: 387.
4- الوسائل 12: 357 ب (9) من أبواب الخيار ح 3، و فيه: قبّض.

ص: 350

و في ببيعه و تقابضا الثمن و المثمن، لا قبض المبيع فقط، و إلّا لم ينطبق الجواب على السؤال.

أو البناء على أنّ قبض المبيع فقط مسقط لخيار الفسخ من حيث نفي ضرر ضمانه على البائع، و لا ينافيه بقاء خياره الفسخ من حيث بقاء ضرر عدم قبض ثمنه، بناء على أن يكون كلّ من عدم قبض الثمن و إقباض المثمن ضررا مستقلّا على البائع و سببا مستقلّا لخياره، و لا يسقط أحدهما بسقوط الآخر، و هو ظاهر عموم نفي الضرر، و محتمل النصوص الخاصّة بخيار ما نحن فيه، كما لا يخفى على المتأمّل.

قوله: «و كلاهما ممكن الارتفاع (1) بأخذ المبيع مقاصّة».

[أقول:] و فيه: قد لا يكون ارتفاع الضرر بأخذه مقاصّة فيما لو استلزم المقاصّة اشتراك المشتري أو غرمائه في العين المقاصّة، فيتعيّن الفسخ لنفي الضرر دون المقاصّة حينئذ.

قوله: «و فيه نظر».

[أقول:] نظرا إلى عدم حجّية فهمي ابني الحجّاج و العيّاش (2) من عدم قبض الثمن عدم قبض مجموعه، و أنّ قبض البعض كلا قبض، لاحتماله عدم قبض شي ء منه، إلّا أنّ عموم نفي الضرر (3) جعل قبض البعض كلا قبض.

قوله: «و القبض بدون الإذن كعدمه، لظهور الأخبار (4) في اشتراط وقوعه بالإذن».


1- في المكاسب: الاندفاع.
2- الوسائل 12: 356 ب (9) من أبواب الخيار ح 2.
3- الوسائل 12: 364 ب «17» من أبواب الخيار.
4- انظر الوسائل 12: 357 ب (9) من أبواب الخيار.

ص: 351

[أقول:] فيه: إمكان منع الظهور، لأنّه إن كان من خبر ابن يقطين (1) بناء على تشديد «قبّضه» فهو محتمل التخفيف، بل ظاهر فيه و لو بالأصل. و إن كان من اعتبار مجي ء المشتري في سائر أخبار الباب (2) فلا ظهور لها في اعتبار أصل القبض، فضلا عن اعتبار الإذن فيه، إلّا من باب إقامة السبب مقام المسبّب، و هو أعمّ، فلا ظهور في الأخبار.

نعم، هو مقتضى العقل و الاعتبار و الأصل و الآثار، بل القرار و المدار بين المتعاوضين في استحقاق كلّ من العوضين على وجه التقابض من الطرفين، أو اعتبار الإذن من الجانبين، لاتّحاد المقتضي و عدم الفارق في البين.

قوله: «لو كان القبض بدون الإذن حقّا، كما لو عرض المبيع على المشتري فلم يقبضه، فالظاهر عدم الخيار، لعدم دخوله في منصرف الأخبار، و عدم تضرّر البائع بالتأخير».

[أقول:] فيه أوّلا: أنّ مجرّد إقباض المبيع فضلا عن مجرّد عرضه على المشتري لا يوجب حقّية قبض البائع الثمن بلا إذن، إلّا إذا كان عينا شخصيّا، و أمّا إذا كان دينا كلّيا فيتوقّف تعيّنه على تعيين مالكه أو إذنه أيضا.

و ثانيا: المقصود من قوله: «لو كان القبض بدون الإذن حقّا» إن كان قبض البائع الثمن بلا إذن المشتري على وجه الحقّانيّة، فلا وجه لاستظهاره عدم الخيار، لمعلوميّة عدمه، و لا لتعليل عدمه بعدم دخوله في منصرف الأخبار، و بعدم تضرّر البائع بالتأخير، لكون المفروض عدم موضوع لتأخير الثمن مع سبق قبضه بالفرض، إلّا من باب السالبة بانتفاء موضوعه.

و إن كان المقصود به مجرّد إقباض البائع المبيع للمشتري أو تمكينه من


1- الوسائل 12: 357 ب (9) من أبواب الخيار ح 3.
2- الوسائل 12: 356 ب (9) من أبواب الخيار.

ص: 352

القبض و إن لم يقبض، فلا وجه لفرض موضوع المسألة بقوله: «لو كان القبض بدون الإذن» لزيادة ذلك، و كفاية موضوع المسألة بقوله: «لو عرض المبيع على المشتري فلم يقبضه» (1)، و لا للحكم باستظهار عدم الخيار، لعموم دليل الحكم بالخيار، إلّا في سؤال مورد لا يخصّص عموم الوارد، و لا لتعليل عدم خياره بعدم تضرّره بالتأخير، لأنّ عدم تضرّر البائع بتأخير قبض المشتري المبيع، مع فرض عرضه عليه بواسطة ارتفاع ضمانه عنه، لا ينفي تضرّره بتأخير الثمن الذي هو عمدة سبب الخيار، الظاهر من نصوص الأخبار في المضمار.

قوله: «لأنّ هذا النحو من التعبير من مناسبات عنوان المسألة».

[أقول:] يعني: أنّ تغيير التعبير بقبض البائع و إقباضه ليس من جهة اعتبار الإذن في قبض المبيع و عدم اعتباره في قبض الثمن، بل هو من جهة اختلاف معنى الفعلين المستندين إلى فاعل واحد باللزوم و التعدية، كالتسليم و التسلّم و التعليم و التعلّم، و لهذا لو أسندتهما إلى البائع قلت: قبض البائع الثمن و أقبض المبيع، و لو أسندتهما إلى المشتري انعكس التعبير و قلت: قبض المشتري المبيع و أقبض الثمن، و لو أسند كلّ من الفعلين إلى فاعله لم يختلف التعبير و قلت: قبض البائع الثمن و قبض المشتري المبيع، أو أقبض البائع المبيع و أقبض المشتري الثمن. فعلم أنّ اختلاف التعبير لاختلاف معنى الفعلين المسندين إلى فاعل واحد، لا لاعتبار الإذن في قبض المثمن دون الثمن، و لهذا ينعكس التعبير بانعكاس الفاعل، و يتّحد التعبير باختلاف الفاعل.

قوله: «و هو القبض في الأوّل، و الإقباض في الثاني. فتأمّل».

[أقول:] إشارة إلى أنّ اختلاف الفعلين و لو فرض لأجل اختلاف الشرط في البين لا اختلاف نفس الفعلين المسندين، إلّا أنّ تنقيح المناط المفهوم و اتّحاد


1- المكاسب: 245.

ص: 353

السبب المعلوم يقتضي اتّحاد الحكم من الجانبين، و اعتبار الإذن في القبضين، لاتّحاد السببين، و انتفاء الفرق في البين، و عدم استحقاق البيّعين قبض أحد العوضين إلّا بالتقابض من الطرفين، أو الإذن من أحد الجانبين.

قوله: «و هل هي كاشفة، أو مثبتة؟ أقواهما الثاني».

[أقول:] لعدم سبق هذه الإجازة بما يصلح كونه مكشوفا عنها من الأسباب و النواقل الشرعيّة، بخلاف إجازة الفضولي، فإنّها مسبوقة بما يصلح له من العقد الفضولي و الناقل الشرعي و السبب الجعلي.

قوله: «و هو ظاهر جامع المقاصد حيث قال: لا فرق في الثمن بين كونه عينا أو في الذمّة» (1).

[أقول:] فيه: أنّ نفي الفرق في الثمن، ظهوره (2) في ثبوت الفرق في المثمن مبنيّ على ثبوت المفهوم لما هو غير معلوم، لعدم ظهور إثبات شي ء في نفي ما عداه.

قوله: «و قال في الغنية (3) .. إلخ».

أقول: استظهار اعتبار العينيّة و عدم الكليّة في مبيع خيار التأخير من لفظ القبض في قوله: «المشتري إذا لم يقبض المبيع»، و من لفظ البقاء في قوله: «إذا كان المبيع يصحّ بقاه»، و من لفظ التلف في قوله: «إن تلف المبيع قبل الثلاثة» الظاهرة هذه الألفاظ المتعلّقة بالمبيع، بل الصريحة جدّا فضلا عن الظهور، في المبيع العينيّ الشخصي لا الكلّي.

و لكن مع ذلك يرد عليه بأنّ إثبات خيار التأخير للمبيع الظاهر بل الصريح


1- جامع المقاصد 4: 298.
2- كذا في النسخة الخطّية، و لعلّ الصحيح: و ظهوره.
3- غنية النزوع: 219.

ص: 354

في الشخصي لا يستلزم نفيه عن المبيع الكلّي، بعد عموم نفي الضرر و الضرار (1)، و إطلاق نصوص الخيار (2)، و كون خصوص المورد لا يخصّص عموم الوارد.

مضافا إلى أنّ تقييد المبيع في خيار التأخير بالعين الشخصي لو سلّم فهو وارد مورد الغالب، فلا مفهوم له عرفا في نفي خياره عن المبيع الكلّي، لا في شي ء من الفتاوى و لا في معاقد الإجماع، بل و لا في نصوص الباب (3) مطلقا.

قوله: «و أمّا حديث نفي الضرر (4) فهو مختصّ بالشخصي، لأنّه المضمون على البائع- إلى قوله- بخلاف الكلّي.

[أقول:] و فيه: منع اختصاصه بالشخصي، لما عرفت من أن ضرر الضمان و إن اختصّ بالمبيع الشخصي، إلّا أنّ ضرر تأخير الثمن الذي هو عمدة الضرر و الضرار و سبب ثبوت الخيار باق في الكلّي، فيعمّه النفي، لعموم المنفي.

قوله: «و المطلق المنصرف إلى بعض أفراده انصرافا لا يحوج إرادة المطلق [منه] (5) إلى القرينة».

[أقول:] فيه: أنّ كلمة «لا» من قوله: «لا يحوج» زائدة، لأنّ المطلق المنصرف إلى بعض أفراده يحتاج إرادة المطلق منه إلى القرينة، إلّا أن يراد من المطلق لفظه أو الفرد الشائع منه المنصرف إليه.

قوله: «فلا يمكن هنا دفع احتمال إرادة خصوص الموجود الخارجي بأصالة عدم القرينة. فافهم».

[أقول:] إشارة إلى أنّ إرادة الخصوصيّة الموقوفة على القرينة، و المدفوعة


1- وسائل 12: 364 ب «17» من أبواب الخيار.
2- انظر الوسائل 12: 356 ب (9) من أبواب الخيار.
3- الوسائل 12: 356 ب (9) من أبواب الخيار.
4- الوسائل 12: 364 ب «17» من أبواب الخيار ح 3 و 4 و 5.
5- ما بين المعقوفتين لم يرد في المكاسب.

ص: 355

بأصالة عدم القرينة و عدم الانصراف و عدم الصارف، إنّما هي الخصوصيّة و الانصراف الطارئ على عموم اللفظ و إطلاقه، و أمّا الخصوصيّة و الانصراف الأصلي أو الوضعي الطارئ عليه العموم و إطلاق اللفظ، كما هو المفروض و الظاهر من تنظيره بالمجاز المشهور و المطلق المنصرف إلى بعض أفراده لا جعله منها، فلا يتوقّف على القرينة، و لا يمكن دفعه بأصالة عدم القرينة و عدم الانصراف و عدم بلوغه حدّ الشياع و الشهرة. فتأمّل، فإنّ الشأن في ثبوت كون خصوصيّة الشي ء و انصرافه إلى خصوص الموجود الخارجيّ الشخصي بالوضع الأوّلي و الانصراف الأصلي، بعد فرض صحّة إطلاق لفظ الشي ء على الكلّي أو على ما يعمّه، و أصالة عدم النقل.

قوله: «و ربما ينسب التعميم إلى ظاهر الأكثر».

أقول: و إن نسب الجواهر (1) التعميم إلى الأكثر، حملا لعباراتهم المقيّدة بالمعيّن على النقد لإخراج النسيئة لا الكلّي، إلّا أنّ الأظهر نسبة التعميم إلى الكلّ، و حمل المقيّد بالمعيّن ظاهرا أو صريحا من الفتاوى و النصوص (2) كلّها على الورود مورد الغالب، لأنّ الغالب المتعارف في المبايعات و المعاملات بيع الأعيان الشخصيّة لا الكلّيات، إلّا ما شذّ من بيع السلف، و من المعلوم كما أنّ المطلق المنصرف إلى الغالب لا إطلاق فيه بل يعمّ الضرر و النادر، كذلك التقييد الوارد مورد الغالب لا مفهوم له يخرج الفرد النادر، بل يعمّه عموم الحكم.

قوله: «لدلالة النصّ (3) و الفتوى على لزوم البيع في الثلاثة، فيختصّ بغير صورة ثبوت الخيار له».

[أقول:] حذرا من لزوم اجتماع الحكمين المختلفين المتضادّين، و هو


1- جواهر الكلام 23: 55.
2- انظر الوسائل 12: 356 ب (9) من أبواب الخيار.
3- الوسائل 12: 356 ب (9) من أبواب الخيار.

ص: 356

اللزوم في الثلاثة مع ثبوت الخيار فيها الذي هو عدم اللزوم.

قوله: «و دعوى أن المراد من الأخبار اللزوم من هذه الجهة».

[أقول:] أي: من جهة تأخير الثمن في الثلاثة، لا مطلقا حتّى ينافي الخيار فيها من جهة أخرى، كشرط أو غبن أو عيب.

قوله: «مدفوعة بأنّ التأخير سبب للخيار، و لا يتقيّد الحكم».

[أقول:] يعني: التأخير جهة تعليليّة للحكم بالخيار، لا جهة تقييديّة حتّى يقيّد الحكم به، و يوجب تقييده تنوّع الحكم و تكثّره الموجب لرفع التناقض، كجهتي حكم العالم بالإكرام و عدم الإكرام من جهة العدالة و الفسق، الجامعة للحكمين المختلفين، و الرافعة للتناقض في البين، بخلاف الجهة التعليليّة، فإنّ تقييد الحكم بها لا يصحّح الاجتماع بين المتناقضين، و لا يرفع التناقض عن البين، كأكرم العالم من جهة علمه و لا تكرمه من جهة فسقه. و لكن ذلك ممنوع جدّا.

قوله: «و أمّا ما ذكره من عدم تقييد الحكم بالسبب، فلا يمنع من كون نفي الخيار في الثلاثة من جهة التضرّر بالتأخير».

[أقول:] وجه عدم منعه: أنّ الممنوع تقييد الحكم به هو الجهة التعليليّة التي لا تكثّر الحكم، و لا توجب تعدّده، و صحّة اجتماع المتناقضين باختلاف الجهتين، و أمّا جهة حكم الخيار فهي جهة تقييديّة لا تعليليّة، و لهذا يصحّ اجتماع كلّ خيار مع خيار آخر و عدمه بواسطة تعدّد الجهات الموجبة لها نفيا و إثباتا، فكذلك يجتمع لزوم العقد في الثلاثة مع خيار خاصّ من جهة وجود سببه، و عدم خيار آخر من جهة عدم وجود سببه، جمعا بين السببين، و عدم المانع في البين، و تقييد الحكم بالجهتين.

قوله: «مع أنّه أولى بالجواز».

ص: 357

[أقول:] وجه الأولويّة: تقدّم سبب خيار الشرط، و هو الشرط في ضمن العقد، و إن تأخّر حكمه عن التفرّق بالفرض، بخلاف خيار التأخير، فإنّه متأخّر عن الثلاثة سببا و مسبّبا، فإسقاطه قبل الثلاثة إسقاط ما لم يجب.

قوله: «بأن لا يعود لازما أبدا. فتأمّل».

[أقول:] إشارة إلى أنّ التعويل على هذه الأنسبيّة الاعتباريّة دون العرفيّة في مقابل ما يفضي بالفور بعيد. هكذا نقل بعض الأساتيد (1) عن أستاده المصنّف في وجه التأمّل.

و فيه: أن الأنسبيّة عرفيّة لا محيص عنها عرفا، و أنّ عموم نفي اللزوم بالتأخير حاكم على عموم لزوم الوفاء. مضافا إلى أنّ استصحاب حال المخصّص مقدّم على استصحاب حال المخصّص، حسب ما تقدّم، بل و أولى.

قوله: «فإذا أخرجه من بيته فالمبتاع ضامن لحقّه حتى يردّ إليه حقّه».

[أقول:] أي: المشتري ضامن لحقّ البائع حتّى يردّ عليه حقّه، أي: الثمن.

قوله: «كأنّه جعل الفقرة الثالثة مقابلة للفقرتين».

[أقول:] أي: في إفادة تقييد الأولى بما قبل القبض و الثانية بما بعده تعميم الثالثة لصورتي الهلاك قبله أو بعده، خصوصا مع التصريح بالتعميم على كلّ حال.

قوله: «مناف لتعليل الحكم .. إلخ».

أقول: بل هو مناف لمقتضى التعليل أيضا، لأنّ ثبوت الخيار للبائع بعد الثلاثة يقتضي أن يكون ضمان المبيع على المبتاع لا البائع، بقاعدة أنّ تلفه في زمان الخيار ممّن لا خيار له، إلّا أن يريد من التعليل بالخيار الفسخ به.

قوله: «و أحسن تلك العبارات عبارة الصدوق .. إلخ».


1- غاية الآمال في شرح كتاب المكاسب: 504.

ص: 358

[أقول:] فإنّ تعبيره بأنّ: «العهدة فيما يفسد ليومه يوم» (1) بمعنى: عهدة الضمان و الصبر على لزوم البيع يوم على البائع، أحسن من تعبيراتهم الأخر في النهاية (2) و غيرها (3) بأنّ خيار ما لا يصحّ عليه البقاء يوم، فإنّ التعبير عن عدم خيار الفسخ للبائع يوما بخيار المشتري يوما- بمعنى اختياره تأخيره القبض و الإقباض- خلاف ما اصطلح عليه عرفا بل و شرعا، من كون الخيار إمّا جواز تأخير القبض و الإقباض، و إمّا ملك حقّ الفسخ، و ليس للمشتري خيار يوم بأحد المعنيين، إلّا بتأويل كون المراد من خياره هو عدم خيار البائع في اليوم على الفسخ، و لزوم البيع عليه فيه، و إن أخّر المشتري حقّه فيه عصيانا من غير حقّ له في التأخير.

و منه علم أنّ أبلغ التعابير و إن بلغت في البلاغة ما بلغت إنّما هو تعبير النصوص بأنّ: «ما يفسد ليومه فإن جاء بالثمن ما بينه و بين الليل، و إلّا فلا بيع له» (4)، فإنّه لسان (5) الخالق و فوق لسان المخلوقين إِنْ هُوَ إِلّٰا وَحْيٌ يُوحىٰ (6).

[السادس خيار الرؤية]

قوله: «خيار الرؤية، و استدلّ عليه بأخبار .. إلخ».

أقول: و إن كان ما ذكر المصنّف منها هو الأصحّ، إلّا أنّ الأصرح منها ما في المستند من النبويّ المنجبر «من اشترى شيئا لم يره فهو بالخيار» (7)، و ما عن التذكرة عن طريق الخاصّة: «سألوا عن بيع الجرب الهرويّة، فقال: لا بأس به إذا


1- الفقيه 3: 127 ح 555.
2- النهاية: 385- 386.
3- الوسيلة: 238.
4- الوسائل 12: 358 ب (11) من أبواب الخيار ح 1.
5- كذا في النسخة الخطّية، و لعلّ في الكلام سقطا، و الصحيح: دون لسان الخالق ..
6- النجم: 4.
7- مستند الشيعة 2: 388.

ص: 359

كان لها بارنامجه، فإن وجدها كما ذكرت و إلّا ردّها» (1).

قوله: «في الصحيح: عن عبد الرحمن بن الحجّاج، عن منهال القصّاب (2)، و هو مجهول».

[أقول:] هذا تعريض على كون التصحيح غير صحيح. أو أن المراد بالصحيح الصحيح إلى ابن الحجّاج، لا الصحيح إلى آخر السند.

قوله: «و لم أعلم (3) وجه الاستشهاد به لما نحن فيه .. إلخ».

أقول: وجهه و لو بقرينة فهم الأصحاب و استشهاد المحدّثين به- كالوسائل (4) و غيره (5)- هو حمله على شراء سهم معيّن و لكن بالوصف لا الرؤية و لا المشاع، و حمل «لا تشتري» و «لا يصلح» على الإرشاد أو على الكراهة جمعا، خصوصا بقرينة قوله عليه السّلام: «يكره شراء ما لم تره» (6)، و كون الأخبار كالقرآن يفسّر بعضه بعضا.

قوله: «و لا يخفى بعده، و أبعد منه دعوى عموم الجواب».

[أقول:] وجه الأبعديّة: أنّه- مضافا إلى بعد حمل المشتري في السؤال على البائع- يكون إرجاع الضمير في الجواب بقوله: «لكان له فيها خيار الرؤية» (7) إلى الأعمّ من البائع و المشتري بعدا في بعد، بل خارجا عن قانون العرف و الاستعمال.

نعم، لا بأس بإلحاق البائع بالمشتري في خيار الرؤية بعموم نفي الضرر:


1- تذكرة الفقهاء 1: 524.
2- الكافي 5: 223 ح 2، التهذيب 7: 79 ح 339.
3- في المكاسب: لم يعلم.
4- الوسائل 12: 62 ب «15» من أبواب الخيار ح 2.
5- الكافي 5: 223 ح 3، و الفقيه 3: 146 ح 643، التهذيب 7: 79 ح 340.
6- الوسائل 12: 365 ب «18» من أبواب الخيار ح 2.
7- الوسائل 12: 361 ب «15» من أبواب الخيار ح 1.

ص: 360

و تنقيح المناط، و الإجماع المركّب، و عدم القول بالفصل عندنا.

قوله: «إذا باع ما يملك و ما لا يملك و غير ذلك. فتأمّل».

[أقول:] إشارة إلى إمكان الفرق بين المقيس و هو شراء العين المفقود وصفه أو شرطه، و بين المقيس عليه و هو المفقود صحّته أو تبعّض صفقته، بأنّ المبيع في المقيس عليه من قبيل تعدّد المطلوب، ينحلّ بحسب أوصاف المبيع و أجزائه إلى بيوع عديدة، بخلاف المقيس فيما نحن فيه، فإنّه متّحد المطلوب، و المقصود منه مبيع واحد، فما قصد لم يقع و ما وقع لم يقصد، فيبطل.

إلّا أنّ هذا الفرق على تقدير تسليمه غير فارق، بعد فرض النصّ و الإجماع على صحّة البيع في الفرضين، و تسوية الحكم على التقديرين، و انتفاء الفارق في البين.

نعم، يبقى إشكال الفرق بين الشرط الفاقد و الفاسد، حيث إنّ فاقد الشرط غير مبطل للبيع، و فاسدة مفسد له.

و يندفع هذا الإشكال على تقدير هذا الفرق بأنّ فارقة النصّ، بأنّ كلّ شرط جائز إلّا ما حرّم حلالا أو حلّل حراما (1)، إلى غير ذلك.

قوله: «و إن خالف ضابطة التغاير المذكورة في باب الربا. فتأمّل».

[أقول:] إشارة إلى إمكان منع مخالفة الضابط التغاير في باب الربا أوّلا.

و استناد المخالفة على تقديرها إلى المخرج الخارجي من إجماع أو نصّ ثانيا.

قوله: «يسقط هذا الخيار بترك المبادرة عرفا».

أقول: هذا مبنيّ على فوريّة هذا الخيار، و إلّا فعلى التراخي، كما هو الأظهر، و إن لم يكن الأشهر- فلا يسقط بترك المبادرة.

قوله: «لم يلزم، لتعلّق الخيار بالرؤية».


1- الوسائل 12: 353 ب (6) من أبواب الخيار ح 5.

ص: 361

[أقول:] و فيه: ما تقدّم من أنّ ظهور كلّ خيار متعلّق بظهور سببه المتأخّر من عيب أو غبن أو تأخير أو رؤية أو خلف شرط، و لكن على وجه الكاشفيّة عن السبب الواقعيّ المتقدّم، و هو العقد أو ما في ضمنه من وصف أو شرط أو غبن أو عيب، لا على وجه السببيّة المحدثة.

قوله: «ثمّ إنّه قد يثبت فساد هذا الشرط .. إلخ».

أقول: بل يمكن أن يثبت بوجه ثالث أيضا، و هو مخالفة هذا الشرط للسنّة. و لكن الإنصاف أنّ كلّا من وجوه بطلان هذا الشرط ضعيفة جدّا، فضلا عن إبطاله المشروط، بل الأقوى الصحّة، و دونه القول بالتفصيل الثالث، و هو فساد الشرط دون المشروط، لوجود المقتضي للصحّة، و هو عموم أدلّة الشرط (1)، و عدم ما يصحّ للمانعيّة من وجوه الفساد.

أمّا وجه (2) مخالفة اشتراط سقوط هذا الخيار للسنّة- كما استند إليه المستند (3)- فلمنع المخالفة، لقوله عليه السّلام: «كلّ شرط جائز إلّا ما حرّم حلالا أو حلّل حراما» (4) كيف و لو كان اشتراط سقوط هذا الخيار مخالفا للسنّة لكان اشتراط سقوط سائر الخيارات بأسرها مخالفا لها؟ و لزم الاستناد في صحّتها إلى فارق النصّ المخصّص، بل التخصيص بالأكثر.

و أمّا وجه كون اشتراط سقوطه اشتراطا لما لم يجب، فمبنيّ على مثبتيّة الرؤية للخيار، و قد عرفت كاشفيّته.

و أمّا وجه مخالفة هذا الشرط لمقتضى العقد، من حيث إنّ المصحّح النافي لغرره المفسد إنّما هو الوصف، فاشتراط عدم الاعتداد به رجوع إلى الغرر


1- الوسائل 12: 352 ب (6) من أبواب الخيار.
2- كذا في النسخة الخطّية، و لعلّ الصحيح: .. وجه منع مخالفة ..
3- مستند الشيعة 2: 388.
4- الوسائل 12: 353 ب (6) من أبواب الخيار ح 5.

ص: 362

المفسد، كما عن جامع المقاصد (1)، أو رجوع إلى الالتزام بالعقد على تقديري وجود الصفات و عدمها، كما قرّره الماتن (2).

ففيه: منع المخالفة و المنافاة بين اشتراط الوصف و اشتراط عدم الفسخ به، ضرورة أنّ المنافي لاشتراط الوصف المسوّغ للبيع و النافي للغرر و الجهل المانع عنه إنّما هو اشتراط سقوط موضوع الوصف الثابت به، و إثبات الغرر و الجهل المنفيّ عنه، الخارج عن محلّ الكلام. و أمّا اشتراط عدم الفسخ و سقوط حكم الخيار عنه، و إثبات حكم اللزوم و الالتزام بالبيع الموصوف المعلوم بالوصف الذي هو محلّ الكلام، فليس بمناف و لا بمخالف إلّا للحكم بالخيار، لا لموضوعه المعلوم بالوصف المسوّغ حتى يرجع إلى الغرر و الجهل المانع. فاشتراط السقوط المنافي خارج عن محلّ الكلام، و الذي هو داخل في محلّ الكلام غير مناف قطعا، كيف و لو كان منافيا لصحّح اشتراط الخيار كلّ بيع مجهول غرريّ باطل، و أبطل اشتراط سقوطه كلّ بيع معلوم صحيح، و لزم أن يكون اشتراط سقوط كلّ خيار- حتّى خيار المجلس و الحيوان و الغبن و التأخير و غيرها، خصوصا خيار العيب، خصوصا ما ليس لمعيوبه قيمة- شرطا فاسدا و مفسدا للبيع، و اللازم باطل فالملزوم مثله.

و أمّا دعوى المصنّف الفرق بينهما بقوله: «بأنّ نفي العيوب ليس مأخوذا في البيع على وجه الاشتراط» إلى أن جعل الضابط الكلّي في الفرق. قوله: «كلّ وصف تعهّده البائع و كان رفع الغرر به لم يجز اشتراط سقوط خيار فقده، و كلّ وصف اعتمد المشتري في رفع الغرر على أمارة أخرى كالأصل (3) أو الغلبة جاز


1- جامع المقاصد 4: 303.
2- المكاسب: 251.
3- في المكاسب جملة: «كالأصل أو غلبة مساواة ..» متأخّرة عن: «خيار فقده» في نهاية العبارة.

ص: 363

اشتراط سقوط خيار فقده».

ففيه: أنّ الفرق المذكور غير فارق بين التعهّدين، لانتفاء الفرق في البين، و عدم التنافي بين الشرطين، لاختلاف متعلّقي النفي و الإثبات في البين، و لهذا لو بيع بوصف الصحّة مشترطا سقوط خيار عيبه لو ظهر معيبا صحّ البيع و الشرط أيضا، و لم يكن وجها لبطلانه فضلا عن إبطاله.

و كما أنّ هذا الفارق غير فارق بينهما، كذلك جعل النصّ و الإجماع فارقا بين الشرطين من حيث الصحّة و الفساد المشار إليه بقوله: «مع إمكان التزام فساد اشتراط عدم الخيار على تقدير فقد الصفات المعتبر علمها في البيع، خرج اشتراط التبرّي من العيوب بالنصّ (1) و الإجماع، لأنّ قاعدة نفي الغرر قابلة للتخصيص».

فيه: منع فارقيّة هذا الفرق أيضا أوّلا: بأن حكمهم بصحّة كلّ ما يصحّ اشتراط سقوط خياره من الخيارات على كثرتها مستند إلى قاعدة عموم أدلّة الشرط، لا إلى الخروج عن قاعدة نفي الغرر بنصّ أو إجماع مخصّص، كما لا يخفى على الخبير.

و ثانيا: بأنّ الالتزام بخروج اشتراط سقوط كلّ خيار- من المجلس و الحيوان و الغبن و التأخير و العيب- بالتخصيص عن عموم فساد اشتراط سقوط الخيار و عموم قاعدة نفي الغرر، من قبيل التخصيص بالأكثر المستهجن عرفا.

قوله: «و بذلك ظهر ضعف ما في الحدائق- إلى قوله- (2) انتهى».

[أقول:] أي: انتهى اعتراض الحدائق. وجه ضعفه: أنّ تفصيله في الفساد و عدمه بين ظهور الموصوف على الوصف و عدمه إنّما يناسب لو أريد من الفساد


1- الوسائل 12: 419- 420 ب (8) من أبواب أحكام العيوب.
2- الحدائق الناضرة 19: 59.

ص: 364

فساد البيع المشروط، و أمّا إذا أريد به فساد الشرط و لو أفسد المشروط، كما صرّح به المصنّف (1)، و استظهره المعترض بقوله: «و الأظهر رجوع الحكم بالفساد في العبارة إلى الشرط المذكور، حيث لا تأثّر له مع الظهور و عدمه» (2)، فلا يتفاوت مع ظهور الوصف و عدمه.

و لكن مقتضى الفقاهة كون المسألة ذات وجوه ثلاثة: فساد الشرط المفسد للمشروط، و عدمه، و صحّته.

أمّا فساد الشرط فلمنافاة اشتراط البدل، مع ظهور مخالفة الوصف لمقتضى العقد الواقع على البدل الموصوف الشخصي لا الكلّي القابل للبدل.

و أمّا وجه إفساد المشروط فلقاعدة الملازمة الآتية في أن الشرط الفاسد مفسد لمشروطه.

و أمّا وجه عدم إفساد المشروط فلمنع الملازمة كلّية، أو في خصوص المقام، فيلغو الشرط دون المشروط، فيصحّ البيع دون شرطه. أمّا مع ظهور الوصف فلعموم الوفاء بالعقد (3)، و أمّا مع مخالفة الوصف فلعموم دليل خيار الرؤية له.

و أمّا وجه القول بصحّة الشرط فلعموم أدلّة كلّ شرط جائز، و عدم مانعيّة ما قيل بمانعيّته من قوله: «لأنّ البدل المستحقّ عليه بمقتضى الشرط .. إلخ».

لما فيه أوّلا: من إمكان كون البدل من مقتضيات اشتراطه، لا بإزاء المشروط المخالف للوصف حتّى يرجع إلى معاملة تعليقيّة غرريّة، و لا بإزاء عوضه حتّى يرجع إلى معاوضة جديدة عند المخالفة.

و ثانيا: بإمكان فرض اشتراط البدل عند المخالفة قرينة وقوع العقد على الموصوف الكلّي القابل للتبديل، لا الشخصي غير القابل.


1- المكاسب: 252.
2- المكاسب: 252.
3- المائدة: 1.

ص: 365

و ثالثا: لو سلّمنا فساد هذا الشرط، و سلّمنا ملازمة فساده لفساد المشروط كلّية، إلّا أنّه مع ذلك يمكن تصحيح هذا المشروط بخصوصه، بتخصيص ملازمة فساد الشرط لفساد المشروط بعموم أدلّة خيار الرؤية (1) مع خلف الوصف.

فظهر ممّا ذكرنا أنّ أظهر وجوه المسألة هو القول بصحّة الشرط و المشروط، لعموم أدلّة الشرط (2)، و صحّة العقود المشروطة. و دونه القول بصحّة المشروط و لو فسد شرطه و لغا، لعموم أدلّة صحّة العقود و وجوب الوفاء، و عموم أدلّة خيار الرؤية عند المخالفة، لشمول العمومين للمقام.

قوله: «لأنّه لو لم يحكم بالخيار مع تبيّن المخالفة، فإمّا أن يحكم ببطلان العقد .. إلخ».

أقول: لا حاجة إلى كلفة الاستدلال بذلك على عموم خيار الرؤية لكلّ عقد، بل يكفي الدليل عليه إطلاق أدلّة الخيار، و عموم: «لا ضرر و لا ضرار» (3)، و تنقيح المناط و المدار، و عدم الفرق في المضمار.

قوله: «و اللزوم من أحكام البيع المتعلّق بالعين على الوجه الثاني، و الأصل عدمه».

[أقول:] فيه أوّلا: أنّه لا مجرى لأصالة عدم وجود الوصف في العين المبيعة إذا كان من الأوصاف غير المسبوقة بالعدم، كحسن الجارية و جمالها و شبابها و بكارتها و ذكائها و عقلها و شعورها، و سائر أوصافها الذاتيّة التي يكون الشكّ فيها شكّا في الحادث، لا الحدوث المسبوق بالعدم، من الأوصاف العرضيّة كالكتابة و المعرفة و الخياطة، حتّى يكون الأصل عدمه عند الشكّ.

و ثانيا: لو سلّمنا مجرى الأصل، لكنّه مثبت لموضوع الخيار، و هو عدم


1- الوسائل 12: 361 و 364 ب «15 و 18» من أبواب الخيار.
2- الوسائل 12: 352 ب (6) من أبواب الخيار.
3- الوسائل 12: 364 ب «17» من أبواب الخيار.

ص: 366

كون المبيع على الوصف، و عدم وجدانه عليه، و من المقرّر عدم حجّية الأصل المثبت.

و ثالثا: أنّ أصالة عدم كون المبيع على الوصف معارض بأصالة عدم خيار المشتري، و عدم انفساخ البيع اللازم بفسخه، خصوصا على القول بحدوث خياره بالرؤية دون كاشفيّة الرؤية عنه.

و رابعا: لو سلّمنا كون الأصل مع المشتري، إلّا أنّ المنكر في المقام في العرف و الشرع هو البائع لا المشتري، فيقدّم قوله بيمينه.

قوله: «و لو لم ينسجه كذلك في الصورة الأخيرة لم يلزم القبول، و بقي على مال البائع، و كان للمشتري الخيار في المنسوج، لتبعّض الصفقة عليه».

أقول: فيه و إن كان الفرق من حيث الموضوع بين الصورتين كون الأخيرة من قبيل ضمّ المبيع الكلّي الموصوف إلى الشخصيّ المشاهد المحسوس، و غيرها من قبيل ضمّ المبيع الشخصيّ الموصوف إلى الشخصيّ المحسوس، إلّا أنّه لا فرق بينهما من حيث الحكم بالصحّة، لانتفاء مانع الغرر و الجهل في المبيع المعيّن بالوصف و لو كان كلّيا، و لا في ثبوت خيار الرؤية فيه مع تخلّف الوصف و لو كان كلّيا أيضا، و لا في خيار تبعّض الصفقة لو فسخ بالرؤية البعض غير الموصوف بالوصف و لو كان شخصيّا أيضا، من غير فرق سوى أن للمشتري مع تخلّف وصف الكلّي مطالبة الفرد الواجد للوصف منه، و عدم قبول بدله الفاقد منه، كما له القبول و الفسخ بخيار الرؤية، و مع تخلّف وصف الشخصيّ ليس له مطالبة البدل الواجد للوصف، لخروجه عن المبيع الشخصيّ بالفرض، بل يتعيّن عليه القبول أو الفسخ بخيار الرؤية، كما أنّه لو فسخ بخيار الرؤية البعض الفاقد للوصف كان له خيار تبعّض الصفقة في البعض الآخر الواجد للوصف، في كلّ من الصورتين، لعموم دليل الخيارين، و عدم الفرق في البين.

فتخصيص المصنف خيار تبعّض الصفقة بالصورة الأخيرة، و خيار الرؤية

ص: 367

بغيرها، لا وجه له بعد عموم الخيارين.

[السابع خيار العيب]
اشارة

قوله: «و إن لم ينصرف إليه في غير [هذا] المقام. فتأمّل».

[أقول:] إشارة إلى أنّ الانصراف إن استند إلى خصوص المقام رجع إلى ظاهر الإقدام، و إلّا فلا يختصّ بالمقام.

أو إشارة إلى أنّ الانصراف إلى الصحيح إن استند إلى الإرادة و الدلالة كان مقتضاه عدم وقوع العقد رأسا على المعيب، فلا يصحّ قبوله عن الصحيح، كما لا يصحّ قبول ما خرج عن جنس المبيع عنه، فكيف يخيّر بينه و بين الردّ؟ و إن استند الصحّة إلى الأمر الخارج عن القصد، كأصالة الصحّة و غلبتها و استصحابها و الحمل عليها تعبّدا، فلم يلزم إرادة الصحيح، بل لزم الغرر و الجهل في نفس المبيع، المانع من صحّة العقد بحسب القصد، إلّا أن يستفاد من نصوص (1) خيار العيب اغتفار هذا النحو من الغرر و الجهل المانع، و استثناؤه من عموم النهي عن الغرر المانع، كما هو الصواب في الجواب عن هذا الريب و الارتياب، لا مجرّد دعوى الانصراف إلى الصحيح، إذ ليس بصريح بل و لا صحيح، و إنّما هو من جهة حكم الشارع عليه بالتصحيح، و حمله على الصحيح كالتصريح.

و لهذا أورد عليه في الجواهر بأنّ اقتضاء الإطلاق السلامة من العيوب شرعا، و أمّا عرفا فلا يخلو من إشكال، خصوصا بعد عدم الانصراف في مثل التكاليف و الوصايا و نحوها، و أصالة السلامة لا تقتضي إرادة السالم من الإطلاق، و إلّا لاقتضت في الجميع، بل لم يكن المعيب بعض أفراد المبيع لو كان كلّيا (2).

قوله: «اشتراط الصحّة في متن العقد يفيد التأكيد .. إلخ».

[أقول:] و فيه: المنع وفاقا لما استوجهه الجواهر (3) بعد [ما] حكاه


1- الوسائل 12: 362 ب «16» من أبواب الخيار.
2- جواهر الكلام 23: 235.
3- المصدر السابق.

ص: 368

عن المسالك (1) من ثبوت خيار الشرط علاوة على خيار العيب، لأنّ الأصل في تعدّد الأسباب تعدّد المسبّبات و عدم التداخل، و كون التأسيس خيرا من التأكيد، و الإفادة خيرا من الإعادة، ضرورة أنّه لا مانع من اجتماع الجهتين، و العمل بالدليلين غير المتنافيين، بعد تعدّد المقتضي المفروض في البين.

و تظهر فائدة اشتراط الصحّة في جواز الفسخ بعد التصرّف لو ظهر عيب، و في ثبوت خيار العيب لو أسقط خيار الصحّة.

قوله: «لأنّه تصريح بما يكون الإطلاق منزّلا عليه».

[أقول:] فيه أوّلا: منع ذلك، لأنّه تصريح بما يكون الإطلاق مساويا له حكما و شرعا، لا اسما و عرفا حتّى يكون تأكيدا.

و ثانيا: سلّمنا، لكن كونه تصريحا بمقتضى الإطلاق اسما لا يمنع من تعدّد مقتضاهما حكما، أعني: تعدّد الخيار بتعدّدهما، كما هو مقتضى الظاهر و الأصل الأصيل في الأخبار و الآثار و الاعتبار.

قوله: «و هو صعب جدّا».

[أقول:] وجه صعوبته: أنّه مبنيّ على أن يدلّ استحقاق أرش المعيب بعد التصرّف على استحقاقه قبل التصرّف أيضا بالفحوى و الأولويّة. و هو ممنوع جدّا، لوضوح الفرق بإمكان جبر ضرر العيب قبل التصرّف بالردّ، و عدم إمكانه به بعده، فلعلّه الفارق. كما يحتمل أن يكون الفارق هو تعيين الأرش بعد التصرّف، و التخيير بينه و بين الردّ قبله.

قوله: «ينافيه إطلاق الأخبار (2) بجواز أخذ الأرش. فافهم».

[أقول:] إشارة إلى دفع ما يقال: من إمكان حمل مطلقات أخذ الأرش على


1- مسالك الأفهام 3: 282.
2- الوسائل 12: 362 ب «16» من أبواب الخيار.

ص: 369

المقيّدات بما بعد التصرّف في المعيب لا قبله بأنّ تخيير المطلق بين الردّ و أخذ الأرش مانع من تقييده بما بعد التصرّف، بل معيّن لتقييده بما قبله لامتناع الردّ بعده شرعا أو عادة.

قوله: «و المرجع فيما لا يستفاد من دليله أحد الأمرين إلى (1) القواعد.

فافهم».

[أقول:] إشارة إلى أنّ مقتضى قاعدة لزوم العقد و أصالة عدم الخيار إلّا بظهور العيب لا يقاوم أخبار الخيار و ترتّب الآثار و ما يقتضيه الاعتبار في ثبوته بنفس السبب السابق لا بظهوره اللاحق.

أو إشارة إلى دفع ما يقال: من عدم ترتّب فائدة الخيار قبل ظهور سببه بالمنع و ثبوت فوائد كثيرة عليه، منها: إسقاط الردّ بالتصرّف و الخيار بالإسقاط و انفساخه بالفسخ قبل ظهوره على القول بثبوته قبله، و عدم ذلك على القول بعدمه.

[القول في مسقطات هذا الخيار]
[مسألة يسقط الرد خاصة بأمور]

قوله: «إقامة البيّنة على اتّحاد معنى الحدث في المقامين مع عدم مساعدة العرف على ظهور الحدث في هذا المعنى مشكلة».

[أقول:] وجه الإشكال: أنّ اختلاف الخيارين و افتراق السببين و الجهتين مانع من اتّحاد المسقطين بالمقايسة في البين، بل يقتضي الرجوع في كلّ من المسقطين إلى ما يقتضيه دليله الخاصّ به من النصّين.

أمّا اختلاف السببين و الجهتين فلأنّ سبب خيار الحيوان الإرفاق على المشتري بما قد يبدو له من اختلاف الأغراض و الرغبات، و سبب خيار العيب رفع الضرر المعيب الّذي قد يستوعب تمام قيمة الصحيح، و لا يبقى للمعيب قيمة أصلا، و لعلّه لأجل اختلاف السببين اختلف حكم الخيارين بإضافة خيار الأرش


1- في المكاسب: «هي القواعد».

ص: 370

إلى خيار الردّ في خيار العيب دون خيار الحيوان و غيره، و عدم إسقاط الردّ في خيار العيب بمطلق التصرّف المسقط لخيار الحيوان و غيره، بل يختصّ سقوطه بالتصرّف المغيّر له اسما كقطع الثوب، أو وصفا كصبغه، أو حكما كبيعه و وقفه، كما هو ظاهر المرسل (1) و الصحيح (2)، فأحدث فيه شيئا، فإنّ ظاهر إطلاق الحدث فيه المسقط لخيار الردّ في العيب لا يشمل ما عدا هذا النحو من التصرّفات المغيّرة، خصوصا إذا كانت بقصد الاختيار، أو لا عن قصد و لا عن رضا.

و أمّا إطلاق الحدث عليها و إسقاط الخيار بها في خيار الحيوان و نحوه فإنّما هو من باب الإلحاق بالحدث المسقط للخيار حكما لا اسما، كإلحاق النظر به أيضا تنزيلا له منزلة الرضا مع عدم صدق الحدث و التصرّف عليه قطعا، فيقتصر في الحكم المخالف على موضعه، فإسقاط الردّ بمطلق التصرّف و لو لم يغيّر في خيار الحيوان و إن استلزم إسقاطه في خيار الشرط و نحوه لاتّحاد المناط لكنّه لا يستلزم إسقاطه به في خيار العيب للفرق، كما أنّ إسقاط الردّ في خيار العيب بمطلق التصرّف المغيّر و لو لم يدل على الرضا في خيار العيب لا يستلزم إسقاطه به في خيار الحيوان و نحوه، لوجود الفارق.

فظهر من ذلك أنّ التصرّف المسقط للردّ في خيار العيب و إن قيّد في نصوصه (3) بالمغيّر لا الأعمّ منه لكنّه مطلق من حيث الدلالة على الرضا و عدمه، و في خيار الحيوان بالعكس فإنّه مقيّد بما يدلّ على الرضا، لكنّه مطلق من حيث المغيّر و عدمه.

قوله: «و في نهوض ذلك كلّه لتقييد إطلاق أخبار الردّ- إلى قوله:- نظر،


1- الوسائل 12: 363 ب «16» من أبواب الخيار ح 3.
2- الوسائل 12: 362 ب «16» من أبواب الخيار ح 2.
3- الوسائل 12: 362 ب «16» من أبواب الخيار.

ص: 371

بل منع».

[أقول:] وجه النظر بل المنع هو ما عرفت من أنّ اختلاف السببين و الجهتين بين الخيارين مانع من اتّحاد المسقطين و المقايسة في البين، كما هو ظاهر الأخبار، و اختلاف الآثار في حكم الخيار و قضاء الحكمة و الاعتبار فَاعْتَبِرُوا يٰا أُولِي الْأَبْصٰارِ (1) للأحكام أنظار و أسرار، لا يحيط بها الأفهام و الأفكار، فكيف يحاط بالقياس و الأنظار؟

قوله: «و هو أيضا لا يخلو عن شي ء، لعدم صدق التصرّف و الإحداث المسقط للخيار على مثل الانعتاق القهري».

[أقول:] و فيه: أنّه و إن لم يصدق عليه التصرّف و الإحداث إلّا أنّه يصدق عليه أنّه غير قائم بعينه بعد الانعتاق القهري، كما يصدق عليه لو مات قهرا بآفة سماويّة.

قوله: «هذا ما يخطر بالبال عاجلا (2) في معنى هذه الفقرة».

أقول: حمل كلام أمير المؤمنين على ما ابتدعه الثاني من البدعة المخالفة لنصّ الكتاب (3) و السنّة (4) في تحريم المتعة و إن كان نظير تقرير الناس على زعمهم الفاسد- كقوله في الخمر و الميسر فِيهِمٰا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَ مَنٰافِعُ لِلنّٰاسِ (5) و قوله ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ (6) و قول الخليل هٰذٰا رَبِّي (7) هٰذٰا رَبِّي- لكنّه شاذّ نادر، لا يحمل عليه الظاهر من كلام الملك القادر إلّا لضرورة،


1- الحشر: 2.
2- في المكاسب: «عاجلا بالبال».
3- النساء: 24.
4- الوسائل 14: 437 ب «1» من أبواب المتعة ح 4.
5- البقرة: 219.
6- الدخان: 49.
7- الأنعام: 77 و 78.

ص: 372

أو تقيّة، أو مصلحة ملزمة يأبى عنها شواهد الحال و قرائن الأحوال في أمثال هذا المقال و التعليل و الإعلال، فالأولى بل المتعيّن حلّها على الظهور، بأنّ أجرها شرعا أجر فجور لا أجور، و اعتياد السفاح لا النكاح، و الفساد لا الصلاح، كأجر الزانية و المغنّية و القمار، و أكل المال بالباطل، و ثمن العذرة و الميتة و الخمر و الخنزير و الربا، إلى غير ذلك ممّا هو حلال جائز، بل واجب على وجه، و حرام سحت خبيث على وجه آخر.

فلا يقال: ما الفرق بين الربا و البيع، و بين أجر السفاح و النكاح، و بين ما يميته الرحمن أو يميته الإنسان من الحيوان، و بين إبليس و آدم عليه السّلام؟

لأنّا تقول: و اللّٰه أعلم حيث يجعل رسالته و رئاسته و حلاله و حرامه وَ مٰا كٰانَ لِمُؤْمِنٍ وَ لٰا مُؤْمِنَةٍ إِذٰا قَضَى اللّٰهُ وَ رَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ (1) أنّ اللّٰه أجلّ من أن يدرك، أو يوصف، أو يتناهى حكم أحكامه، و مصالح حلاله أو حرامه، جلّت حكمته و تعالى عمّا يقول الظالمون علوّا كبيرا.

قوله: «و هو ظاهر الشيخ في النهاية (2)، حيث قال .. إلخ».

[أقول:] و محلّ هذا الاستظهار هو قوله: «فيلزمه ردّها»، فإنّ لزوم ردّ الحبلى لا يكون إلّا مع بطلان البيع و كون الحبل من المولى حرّا و الجارية أمّ ولد، و إلّا كان له خيار الردّ لا لزومه.

و فيه: أنّ الردّ كما يحتمل أن يكون من جهة اختصاص الردّ بأمّ الولد، كذلك يحتمل أن يكون من جهة إرادتها أو غلبتها بالخصوص لا اختصاص حكم الردّ بها في الفتوى و النصوص، و إذا جاء الاحتمال بطل الاستدلال.


1- الأحزاب: 36.
2- النهاية: 393.

ص: 373

و منه يعلم أنّ تفصيل الإسكافي (1) و المختلف (2) و الوسيلة (3) فضلا عن إطلاق المبسوط (4) بين تخصيص وجوب الردّ بأمّ الولد و عدم وجوب الردّ بغيرها لا يدلّ على التفصيل المدّعى بين وجوب الردّ و سقوطه، بمعنى حرمته الّذي هو مدّعى المفصّل.

و ممّا ذكرنا ظهر عدم معلوميّة المفصّل و لا التفصيل فضلا عن عدم الدليل عليه في المسألة، و استظهار الإجماع فضلا عن الشهرة، و إطلاق النصوص (5) المستفيضة بل الصريحة على ردّ الحبل و عدم سقوطه بالوطء مطلقا.

قوله: «أحدها: من حيث مخالفة ظهورها في وجوب ردّ الجارية أو تقييد الحمل بكونه من غير المولى .. إلخ».

[أقول:] و فيه أوّلا: إمكان الخروج عن ظهورها في وجوب الردّ بالحبل إذا لم يكن حرّا بقرينة خارجيّة خاصّة من إجماع و نحوه، أو عامّة كوقوعه عقيب توهّم الحظر من غير تقييد الحمل بغير المولى، لأنّ شمول الإطلاق له أيضا كاف في انصرافه عن الوجوب كلّية، أو بالنسبة إلى مورد التوهّم كونه من غير المولى.

و ثانيا: سلّمنا عدم إمكان الخروج عن ظهورها في وجوب ردّ الحبل و لو لم يعلم من المولى، لكن لا ضير فيه و لا محذور في الالتزام به بقاعدة الفراش، و أصالة صحّة الحبل، و غلبة الحرّية، و القواعد الظاهريّة، و المصالح الشرعيّة، و الحكم الكلّيّة، التي هي أجلّ من أن يدركها العقول و الأوهام و أن يحيط بها الأفكار و الأفهام وَ مٰا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلّٰا قَلِيلًا (6).

و ثالثا: سلّمنا، لكن الظاهر يحمل على الأظهر، كما يحمل المجمل على


1- نقل عنه العلّامة في مختلف الشيعة 5: 178.
2- مختلف الشيعة 5: 179.
3- الوسيلة: 256.
4- المبسوط 2: 126.
5- الوسائل 12: 415 ب «5» من أبواب أحكام العيوب.
6- الأسراء: 85.

ص: 374

المبيّن، و المتشابه على المحكم. و من المعلوم أنّ نصوص ردّ الحبل في العموم أظهر من ظهور الردّ في الوجوب، فيحمل عليه، خصوصا بعد التصريح بتعميم الحبلى بقوله: «إن كانت بكرا فعشر قيمتها، و إن كانت ثيّبا فنصف عشر قيمتها» (1) لا يمكن تخصيصها بالحبل من المولى، بخلاف ظهورها في الوجوب.

قوله: «الثاني: مخالفة لزوم العقر على المشتري لقاعدة عدم العقر في وطء الملك .. إلخ».

[أقول:] العقر- بالضمّ- دية الفرج المغصوبة، أو دية وطء الشبهة، ثمّ كثر استعماله في المهر. و فيه: أنّ تخصيص عموم القاعدة بنصوص (2) لزوم العقر على خصوص الرادّ بالحبل غير عزيز، بل ما من عامّ إلّا و قد خصّ، و العامّ المخصّص حجّة في الباقي.

قوله: «الثالث: مخالفة (3) ما دلّ .. إلخ».

[أقول:] و فيه ما في الثاني: من أنّ تخصيص العامّ و تخصيص المخصّص أيضا ليس بعزيز، و العامّ المخصّص حجّة في الباقي.

قوله: «و إلّا لم يكن لذكر جهل البائع في السؤال فائدة».

أقول: لعلّ فائدته الاعتذار بجهل البائع عن إغراء المشتري بالجهل و تدليسه و غبنه الموجب لإثمه و حرمة بيعه و خيار المشتري عليه.

و ثانيا: لو سلّمنا ظهور بعض الأخبار (4) في الحبل من المولى، لكن لا يوجب تخصيص عموم الباقي، خصوصا الصريح منها في العموم، على ما


1- الوسائل 12: 416 باب (5) من أبواب أحكام العيوب ح 4.
2- الوسائل 14: 238 ب «3» من أبواب النكاح المحرم و ما يناسبه ح 2. و ج 18: 202 ب «19» من أبواب كيفية الحكم و احكام الدعاوي ح 1.
3- في المكاسب: «مخالفته».
4- الوسائل 12: 417 ب (5) من أبواب أحكام العيوب ح 8 و 9.

ص: 375

عرفت.

قوله: «إشارة إلى تشبّثها بالحرّيّة للاستيلاد».

[أقول:] فيه: أنّ تشبّثها بالحرّيّة للاستيلاد لا يوجب استحقاقها الكسوة، بل استحقاقها الكسوة إشارة إلى عدم قيام المولى نوعا أو في خصوص المقام بحقوقها الواجبة فيكسوها من ثمنها الراجع إلى المولى، تقاصّا عن حقّها الواجب عليها ولاية عمّن هو أولى بالمؤمنين، كما يباع المملوك في ثمن نفقته شرعا كذلك.

قوله: «الخامس: ظهور هذه الأخبار في كون الردّ بعد تصرّف المشتري في الجارية بغير الوطء».

[أقول:] أي علاوة على الوطء فيعارض ظهور الأخبار لنصوص (1) مانعيّة التصرّف من الردّ.

أقول: هذا الإيراد راجع إلى الإيراد الثالث، ففيه ما فيه من أنّ تخصيص العمومات المتعدّدة بل المختلفة بمخصّص واحد ليس بعزيز، كتخصّص «أكرم العلماء» و «أضف الفقهاء» و «أطعم الفقراء» بمثل «و لا تعبأ بالفاسق» فكما أنّ أخبار ردّ الحبل مخصّصة لمانعيّة الوطء من الردّ كذلك مخصّصة لمانعيّة التصرّف من الردّ على تقدير تسليم ظهورها في الردّ بعد التصرّف، و إلّا فلا تخصّص سوى نصوص الردّ بعد الوطء.

قوله: «تعارض هذه الأخبار مع ما دلّ على منع الوطء عن الردّ بالعموم من وجه .. إلخ».

[أقول:] وجه العموم من وجه بينهما ناظر إلى افتراق أخبار (2) ردّ الحبلى


1- الوسائل 12: 413 ب (4) من أبواب أحكام العيوب.
2- الوسائل 12: 415 باب (5) من أبواب أحكام العيوب.

ص: 376

الموطوءة عن أخبار مانعيّة الوطء من الردّ في الحبل من المولى، كافتراق العكس في الموطوءة الغير الحبلى و اجتماعهما في الموطوءة الحبلى من غير المولى.

و فيه أوّلا: منع أن يكون ردّ الحبلى الموطوءة من المولى مادة افتراق مغاير لعموم ردّ الحبلى الموطوءة، لكونه فردا منه لا صنفا آخر، و كون ردّه من جهة الوجوب و بطلان البيع لا من باب الخيار و صحّة البيع لا يوجب تغايرهما في صدق الردّ عرفا، و لا تفارقهما اسما، و إلّا لكان اختلاف جهات الفسق المخصّص لعموم «أكرم العلماء» من حيث الكذب و الظلم و الكفر أو غيره من أسباب الكبائر موجبا لتعارضهما بالعموم من وجه، و هو معلوم الفساد.

و ثانيا: لو سلّمنا العموم من وجه لكن قد عرفت عدم مرجّحيّة الوجوه المتقدّمة لتقييد أخبار (1) ردّ الحبلى الموطوءة بالحبل من المولى، بل عدم إمكان تقييد الصريح منها في العموم.

قوله: «أو ظهور اختصاصها (2) بما لم يكن من المولى وجب الرجوع إلى عموم ما دلّ على أنّ إحداث الحدث مسقط .. إلخ».

[أقول:] فيه أوّلا: أنّه بعد فرض اختصاصها لا مناص من تخصيصها العموم، لا الرجوع إلى العموم.

و ثانيا: لو سلّمنا فرض إطلاقها و عدم اختصاصها فلا يتعيّن الرجوع إلى عموم مانعيّة الحدث (3) و التصرّف من الردّ، لإمكان الرجوع إلى عموم جواز الردّ مع قيام العين، بل لو فرض تكافؤ المرجعين أو منع العمومين وجب الرجوع إلى استصحاب جواز الردّ الثابت قبل الوطء.

قوله: «لا دليل عليه إلّا الإجماع المركّب و عدم الفصل بين الردّ و العقر.


1- الوسائل 12: 415 باب (5) من أبواب أحكام العيوب.
2- في المكاسب: «اختصاصه».
3- الوسائل 12: 350 ب (4) من أبواب الخيار.

ص: 377

فافهم».

[أقول:] إشارة إلى أنّه لو قيل: إنّ الدليل على العقر نصوصه المتقدّمة (1).

قلنا: المفروض تعارض النصّين، و سقوط المتعارضين، و الرجوع إلى الأصل في البين.

قوله: «مقتضى الإطلاق جواز الردّ و لو مع الوطء في الدبر .. إلخ».

أقول: لا يصحّ معنى جواز الردّ في المقام إلّا بكونه عدم جواز الردّ، ليكون معناه مقتضى إطلاق لا يردّ الموطوءة عدم الردّ بالوطء و لو في الدبر، و يمكن دعوى انصرافه إلى غير الوطء بالدبر، فيقتصر في مخالفة عمومات خيار العيب، و جواز الردّ به على منصرف إطلاق الوطء المخصّص لها، و هو الوطء بالقبل لا الدبر.

قوله: «وجهان: من الخروج عن مورد النصّ».

[أقول:] أي خروج التقبيل و اللمس عن مورد النصّ (2)، و هو مانعيّة الوطء من الردّ، فلا يلحق به.

«و من الأولويّة».

أي أولويّة اللمس و التقبيل من الوطء في الدبر في عدم اللحوق و التنزيل منزلة الوطء في القبل. فالوجهان وجها عدم اللحوق لا اللحوق، فلفظ العدم ساقط عن اللحوق، كما سقط عن جواز الردّ آنفا.

قوله: «بل هو سبب مستقلّ موجب للردّ».

[أقول:] أي العيب الحادث وراء العيب السابق، و مع قطع النظر عنه سبب مستقلّ للردّ، لا مسقط له في زمان الخيار قطعا و إجمالا.


1- المكاسب: 256.
2- الوسائل 12: 413 باب (4) من أبواب أحكام العيوب.

ص: 378

قوله: «ربما يجعل قول المحقّق عكسا لقول شيخه. و يضعّف .. إلخ».

أقول: الجاعل و المضعّف هو الجواهر، حيث قال: فما عن المصنّف من أنّ له الردّ بأصل الخيار لا بالعيب الحادث و ابن نما بالعكس في غير محلّه، بل مقتضى الجمع بين الدليلين الحكم بالسببين (1).

أقول: بل و بكلّ من شقّي الخيارين الردّ و الأرش في كلّ من الفرعين، أي العيبين السابق و اللاحق.

قوله: «فيعمّ عيب الشركة و تبعّض الصفقة إذا اشترى اثنان».

[أقول:] أو واحدا صفقة فأراد أحدهما بعد ظهور العيب ردّ حصّته خاصّة أو ردّ المعيب خاصّة لم يجز له ذلك، بل لزمه ردّهما معا أو أخذ الأرش. لكن لا لمجرّد تضرّر البائع بالتبعيض أو الشركة، لإمكان جبره بتسلّط البائع على الخيار، أو فرض عدم تضرّره بالتبعيض و الشركة. و لا لمحض معارضة خيار الشركة و التبعيض من طرف البائع مع خيار العيب من طرف المشتري ليجمع بين الخيارين و الحقّين بردّهما معا أو أخذ الأرش، لاحتمال منع المعارضة باختصاص خيار الشركة و التبعيض بالبيع، لا مطلق الانتقال و فسخ البيع. و لا لما استظهره الجواهر من تعلّق حقّ الخيار في ردّ المعيب بالمجموع لا بكلّ جزء، لمنع الظهور، و عدم الانصراف، و لا أقلّ من الشكّ (2). و الأصل عدمه، بل إنّما هو لصدق المرسل (3) المبيع غير قائم بعينه على عيب الشركة و تبعّض الصفقة، من غير فرق بين ما ينقصه التفريق و الشركة كأحد مصراعي الباب و أحد فردي النعل و الخفّ، أو لم ينقصه كأحد الثوبين و المركوبين. هذا هو المشهور، بل المجمع عليه في عيب التفريق.


1- جواهر الكلام 23: 242.
2- الجواهر 23: 248.
3- الوسائل 12: 363 ب «16» من أبواب الخيار ح 3.

ص: 379

خلافا للمحكيّ عن شركة المبسوط (1) و الخلاف (2) و أبي علي (3) و القاضي (4) و الحلّي (5) و البشري (6) و فخر الإسلام (7) و التذكرة (8) و المسالك (9) فجوّزوا اختلاف المشتريين في الردّ بالعيب، لإطلاق الأدلّة، و تنزيل تعدّد المشتري منزلة تعدّد العقد.

و للتحرير (10) و الكركي (11) فيجوز مع علم البائع بالتعدّد لا مع جهله، لإقدام البائع على الشقص.

و ضعف الكلّ واضح، لمنع التنزيل و تخصيص الإطلاق و الإقدام بعيب الشركة و عدم صدق قيام المبيع بعينه عليه، كما لا فرق بمقتضى نقص العيب و خيار الردّ به بين النقص الحسّي كصبغ الثوب و خياطته و نسجه و نحوه من أصناف نقص الشركة الموجبة لشركة البائع مع المشتري في الزيادة الصبغية و الخياطة و النساجة على تقدير الردّ، و بين النقص الغير الحسي و الغير الموجب للشركة كفساد اللحوم و الفواكه و الخضرويات بنفسها.

قوله: «الظاهر من قيام العين بقاؤه، بمعنى أن لا ينقص ماليّته، لا بمعنى أن لا يزيد .. إلخ».


1- المبسوط 2: 351.
2- الخلاف 3: 333 المسألة 10.
3- حكاه عنه العلّامة في المختلف 5: 187.
4- لم نعثر عليه في كتبه المتوفرة لدينا، و لكن نقله عنه العلّامة في مختلف الشيعة 5: 187.
5- السرائر 2: 345.
6- لم نعثر على كتابه، و حكا عنه النجفي في جواهر الكلام 23: 249.
7- إيضاح الفوائد 1: 494.
8- تذكرة الفقهاء 1: 536.
9- مسالك الأفهام 3: 286.
10- تحرير الأحكام 1: 274.
11- جامع المقاصد 4: 334.

ص: 380

[أقول:] لا يقال: ما الفرق بين الزيادة الصبغية المسقطة للردّ و الزيادة السمنيّة الغير المسقطة له؟

قلنا: الفارق ظهور النصّ (1) المقيّد للمسقط بإحداث شي ء فيه، و عدم قيامه بعينه الصادق على زيادة مثل الصبغ و الخياطة و إن لم تعد عيبا، و على نقص مثل الشركة و تبعّض الصفقة و نقص الهزال و المرض و فساد اللحوم و الفواكه و يبس الخضرويات ممّا يعدّ عيبا، و الغير الصادق على الزيادة الحادثة بنفسها، كالسمن و بلوغ الكمال و العقل و الرشد و العلم و القوّة و النشاط و تعلّم الصنعة و الكتابة و الحرفة، لعدم عدّها عيبا و لا حدثا أحدثه المشتري فيه و لا صار المبيع به غير قائم بعينه عرفا، بل و غير صادق أيضا على نقص أمثال هذه الزيادات المنتفية بنفسها، كنسيان صنعة أو كتابة أو حرفة أو زوال قوّة أو قدرة أو نشاط أو شباب أو شجاعة أو سجيّة، أو نحو ذلك ممّا لا يوجب نقصه أرشا و لا يعدّ عيبا و لا حدثا أحدثه المشتري فيه و لا صار العين به غير قائم بعينه عرفا.

قوله: «إلّا أنّ الإنصاف أنّ المستفاد من التمثيل في الرواية بالصبغ و الخياطة إنّما هو إناطة الحكم بمطلق النقص».

[أقول:] فيه: أنّ استفادة إناطة الحكم بمطلق النقص و لو لم يوجب أرشا و لا عيبا و لا حدثا أحدثه المشتري فيه و لا صار العين به غير قائم بعينه عرفا ظاهر عرفا، و لا أقلّ من الشكّ. و المرجع إلى استصحاب بقاء خيار الردّ، و أصالة عدم مسقطيّة هذا القسم من النقص.

قوله: «المراد بالأرش الّذي يغرمه المشتري عند الردّ قيمة العيب، لا الأرش الّذي يغرمه البائع».

[أقول:] الأرش هو تفاوت ما بين قيمتي المعيب و الصحيح بالنسبة إلى


1- الوسائل 12: 363 ب «16» من أبواب الخيار ح 3.

ص: 381

قيمته الواقعيّة إذا كان مضمونا بضمان اليد، و بالنسبة إلى قيمته المسمّى لا الواقع إذا كان مضمونا بضمان المعاوضة و المبايعة، حذرا من اجتماع المبيع و قيمته المسمّى العوض و المعوّض معا عند المشتري.

قوله: «فهو أولى بالمنع عن الردّ من نسيان الدابّة الطحن».

[أقول:] وجه الأولويّة أنّ نقص التبعيض كأحد الخفّين و مصراعي الباب نقص ذاتي كثيرا ما يسلب القيمة و المنفعة، بخلاف نسيان الصنعة و الحرفة.

قوله: «و هذا الضرر و إن أمكن جبره .. إلخ».

[أقول:] يعني أنّ مدرك خيار نقص التبعيض هو النصّ، و إلّا فمجرّد تضرّر البائع و إن أمكن جبره بخيار البائع إلّا أنّه معارض بتضرّر المشتري بعد جبره بمنعه من ردّ المعيب خاصّة و إمساك الصحيح خاصّة.

و فيه: أنّ تضرّر المشتري بعد جبره بردّ الكلّ أو أخذ الأرش لا يقاوم تضرر البائع.

قوله: «فإنّ المانع فيهما ليس إلّا حصول الشركة في الثوب .. إلخ».

[أقول:] فيه: أنّه لو انحصر تمثيل المانع في النصّ (1) بالصبغ و الخياطة لم يكن للمانع وجه إلّا حصول الشركة، و لكن بعد تصدّر التمثيل فيه بتقطيع الثوب يعلم كون المانع هو مطلق تغيّر الهيئة و صدق الأحداث فيه، و كونه غير قائم بعينه و لو لم يوجب الشركة، و لذا لو أسقط المشتري حقّ شركته عن صبغ الثوب و خيوطه لم يرتفع مانع ردّه قطعا، و لم يجب على البائع استرداده جزما.

قوله: «و لذا لو تغيّر بما يوجب الزيادة- كالسمن- لم يمنع عن الردّ».

أقول: عدم مانعيّة السمن من الردّ لو سلّم فإنّما هو من جهة عدم صدق


1- الوسائل 12: 363 ب «16» من أبواب الخيار ح 3.

ص: 382

المانع المنصوص (1) عليه بإحداث شي ء فيه، أو صيرورة العين غير قائمة بعينها، و لذا لو فرضنا تغيّر الهيئة بالسمن الكثير أو الهزال الشديد أو غيرهما على وجه يصدق معه عدم قيام المبيع بعينه منع من الردّ قطعا.

قوله: «لأنّ المراد بالشي ء هو المعيب، و لا شكّ في قيامه هنا بعينه».

[أقول:] و فيه: أنّ المراد به هو المبيع لا المعيب بانفراده، و إلّا لم يتأتّ الشركة و نقص التبعيض في المعيب المانع من ردّه، و من الواضح عدم قيام المبيع عند ردّ المعيب منه بعينه.

قوله: «منع سلطنته على الردّ أوّلا أولى .. إلخ».

[أقول:] وجه الأولويّة أسهليّة الدفع من الرفع.

قوله: «و بالجملة فالأصل كاف في المسألة».

[أقول:] فيه: أنّ أصالة اللزوم في المقام معارض باستصحاب خيار ردّ المعيب منفردا، كما كان يجوز مجتمعا مع الصحيح، بناء على أصله المقرّر في حجّية الاستصحاب التقديري، خصوصا مع انقطاع أصل اللزوم بأدلّة الخيار و استصحابه، مضافا إلى عدم اكتفاء أحد من المستدلّين على سقوط خيار الردّ فيه بمجرّد الأصل، إلّا من باب التأييد للاستدلال عليه بالإجماع و الأخبار.

قوله: «و لا دليل على تعدّد الخيار هنا».

[أقول:] فيه أوّلا: أنّ الدليل عليه هو الدليل على تعدّد الخيار في القسم الأوّل، و هو التعدّد المنصور فيه التبعيض في العوض ثمنا كان أو مثمنا لرجوع الثاني و هو تعدّد المشتري إليه بعينه. و قد عرفت أنّ الدليل على مانعيّته في الأوّل هو صدق كلّ من النصّين (2) المانعين من ردّ المعيب بالإحداث فيه، أو صدق عدم


1- الوسائل 12: 362 ب «16» من أبواب الخيار.
2- الوسائل 12: 362 و 363 ب «16» من أبواب الخيار ح 2 و 3.

ص: 383

قيامه بعينه على كلّ من التعدّدين تعدّد العوض أو المشتري. كيف و لو لم يكن دليل على مانعيّة ردّه و سلم انصراف الخيار عنه إلى غيره، أو تقوّم خيار واحد بالمشتريين لا بكلّ منهما لم يجز الردّ حتّى مع قبول البائع أيضا، لعدم المقتضى له، و من المعلوم جوازه قطعا و جزما؟

قوله: «و من ذلك يعلم قوّة المنع و إن قلنا بتعدّد العقد».

[أقول:] لأنّ تنزيل تعدّد المشتري منزلة تعدّد العقد لو سلّم لا يوجب اتّحاد المشتري، و انتفاء تعدّده المنوط به انتفاء التبعيض الحاصل في العوض من ردّ أحد المشتريين حصّة دون صاحبه.

قوله: «الفرق بين هذه المسألة و المسألة الأولى غير وجيه».

أقول: بل هما متّحدان اسما، كما ينبغي اتّحادهما حكما، لرجوع الثاني إلى الأوّل قسما، فلا وجه للخلاف فيه أصلا، كما لا وجه للتفصيل علما.

[مسألة يسقط الأرش دون الرد في موضعين]

قوله: «بعد أن حكاه وجها ثالثا».

[أقول:] و لعلّ كونه ثالثا باعتبار احتمال التفصيل في أخذ الأرش من غير الجنس لا من الجنس، و إلّا فالمسألة ذات وجهين.

قوله: «و لا بدّ من مراجعة أدلّة الربا و فهم حقيقة الأرش».

أقول: أمّا أدلّة الربا- كالمستفيضة (1) في المتجانسين و لو اختلفا صنفا كالشعير بالحنطة أو الدقيق، أو وصفا كالجيّد بالردي ء، لا يباع إلّا مثلا بمثل، و لا يستبدل وسقا بوسقين- فظاهره الانصراف إلى حرمة الربا في نفس المعاوضة و الابتداء، لا الغرامة و الانتهاء، و على الوجه المعهود في عهد الشرك و الجاهليّة من الربا و المزية، و ترك القرض و صنائع المعروف و الهديّة، على وجه الزيادة و النقصان، لا الأرش و الضمان، و الفضل و الإحسان، و على وجه الظلم و العدوان،


1- الوسائل 12: 437 ب (8) من أبواب الربا.

ص: 384

لا العدل و الميزان، و الحقّ و الحسبان، و حقّ مطالبة الديّان، في كلّ زمان و مكان.

كما يدلّ عليه ما في المستدركات عن النبيّ صلّى اللّٰه عليه و آله: «إلّا إنّ كلّ ربا في الجاهليّة موضوع» (1)، و أنّه صلّى اللّٰه عليه و آله كتب في آخر المصالحة على أهل نجران: «فمن أكل الربا منهم بعد عامه فذمّتي منهم بريئة» (2)، و تعليل تحريم الربا في المستفيضة بقوله صلّى اللّٰه عليه و آله: «لما فيه من الفساد و الظلم، و فناء الأموال، و ترك التجارات و القرض و صنائع المعروف، و استخفاف الحرام المدخل في الكفر و العصيان، بعد البيّنة و البيان» (3)، أي بعد نصوص السنّة و القرآن.

و كما يدلّ عليه أيضا حمل الشيخ نصوص المنع من بيع التمر بالرطب و الزبيب بالعنب لأوّله إلى النقص بعد اليبس على الكراهة (4). و ما رواه الحرّ عن المحمدين في جواز التفاضل في بيع الثوب بالغزل (5)، و جواز التخلّص عن الربا بضميمة شي ء إلى الناقص من غير جنسه، أو بمبايعة شي ء آخر (6).

نعم، يحتمل دخول أخذ الأرش على المعيب من المتعاوضين المتجانسين في خفايا الربا من قوله صلّى اللّٰه عليه و آله: «الربا في هذه الأمّة أخفى من دبيب النملة في الليلة الظلماء على الصخرة الصماء» (7)، و لكن مجرّد الاحتمال يبطله الاستدلال بأدلّة أصل البراءة من عموم لٰا يُكَلِّفُ اللّٰهُ نَفْساً إِلّٰا مٰا آتٰاهٰا (8) و «رفع عن أمّتي ما


1- المستدرك 13: 345 ب «17» من أبواب الربا ح 4.
2- المستدرك 13: 345 ب «17» من أبواب الربا ح 5.
3- الوسائل 12: 425 ب «1» من أبواب الربا ح 11.
4- الاستبصار 3: 93 ذيل الحديث 316.
5- الوسائل 12: 454 ب «19» من أبواب الربا ح 1.
6- الوسائل 12: 455 ب «20» من أبواب الربا.
7- الوسائل 12: 282 ب «1» من أبواب آداب التجارة ح 1، و فيه أن أمير المؤمنين عليه السلام.
8- الطلاق: 7.

ص: 385

لا يعلمون» (1) و «الناس في سعة ممّا لا يعلمون» (2) و «ما حجب اللّٰه علمه فهو موضوع» (3).

مضافا إلى ظواهر الأدلّة، و أصالة صحّة العقود و لزومها، و عموم أرش المعيب الحاكم على عموم حرمة الربا بالتحكيم و التخصيص بخلاف العكس، فإنّه بالتخصيص لا التخصّص و إن رجّح العقل حسن الاحتياط عن مطلق الشبهات.

و أمّا حقيقة الأرش فالظاهر من نفس البيع و دليله و خياراته و أحكامه إنّما هو جعل الثمن في إزاء المثمن على أن يكون كلّ من أبعاض الثمن و العوض في إزاء كلّ من أبعاض المثمن و أجزائه، لا في إزاء أوصافه و صفاته، خصوصا الأوصاف الغير المشروطة على البائع و الغير المأخوذة في البيع، بل الغير الموجودة حين العقد أو المفقودة بعده، فإنّها و إن كانت مضمونة على البائع بضمان شرعي إلّا أنّه من باب الغرامة الشرعيّة لا تبعيض المعاوضة الأوّلية على الأبعاض الجزئية، و لذا كان للمشتري الفاقد جزء المثمن جزء من عين ثمنه طالب البائع به أو لم يطالبه، بخلاف الفاقد وصفه. فإمّا لم يكن له أرش أصلا كخيار الرؤية و ما عدا العيب من سائر الخيارات، و إمّا أن يكون له مطالبة أرشه، لا نفس الأرش بل قيمة التفاوت، لا جزء من عين ثمنه.

قوله: «و قد مثلوا لذلك بالخصاء في العبيد».

أقول: بل الصواب التمثيل له بالخصاء في الغنم و البقر و الديوك و العقم و قطع الحيض و التوالد في الإماء و نحوه ممّا لا يوجب هذه العيوب أرشا شرعا، بل قد يزيد في قيمتها عرفا لأغراض صحيحة شرعيّة، بخلاف الخصاء في العبيد فإنّه


1- الوسائل 11: 295 ب «56» من أبواب جهاد النفس و ما يناسبه ح 1.
2- الوسائل 2: 1073 ب «50» من أبواب النجاسات ح 11.
3- الوسائل 18: 119 ب (12) من أبواب صفات القاضي ح 28.

ص: 386

مثلة محرّمة يوجب انعتاقها شرعا و خروجها عن الماليّة رأسا، كتخمّر العصير أو غليانه أو تنجيسه شرعا، فكيف لا يوجب عيبه أرشا؟ ففرض جواز بيع الخصي شرعا إنّما هو إذا كان خلقة أو قصاصا أو خصي قبل التملّك شرعا.

قوله: «كعنب معيوب يرغب فيه لجودة خمرة».

[أقول:] أي لجودة خمرة لونه في التحليل أو لجودة خمرة التحليل أو التخمير به، و هو المناسب لتمثيل المصنّف به لما لا يوجب زيادة الماليّة من الأغراض الفاسدة، فإنّ الأغراض الفاسدة المنهيّة شرعا و إن بلغت في الكثرة و الرغبة و ازدياد القيمة ما بلغت لا يصحّح فعلها شرعا، و لا يغيّر حكمها قطعا، و لا يسقط أرشها واقعا، إذ الشارع الحكيم جلّت حكمته لم يزل حكيما مطاعا لا سقيما مطيعا.

[مسألة يسقط الرد و الأرش معا بأمور]

قوله: «و قد يستدلّ بمفهوم صحيحة زرارة المتقدّمة، و فيه نظر».

[أقول:] وجه النظر: أنّ مفهوم قوله عليه السّلام: «أيّما رجل اشترى شيئا و به عوار أو عيب و لم يتبرّأ إليه و لم ينبّه فأحدث فيه- بعد ما قبضه- شيئا و علم بذلك العوار و العيب فإنّه يمضي عليه البيع و يردّ عليه بقدر ما ينقص» (1) مفهوم وصف ضعيف، من جهة الحجّية و الأخصيّة من المدّعي، و هو سقوط كلّ من الردّ و الأرش معا. و لكن يمكن تقوية حجّيته بمنطوق ما رواه الحرّ عن المحمدين في الصحيح عن ابن أبي عمير عن الصادق عليه السّلام: «عمّن اشترى زقّ زيت فوجد فيه درديّا، قال: إن كان يعلم أنّ ذلك يكون في الزيت لم يرده، و إن لم يكن يعلم أنّ ذلك يكون في الزيت ردّه على صاحبه» (2).

و تعميم أخصّيته من المدّعي بعدم القول بالفصل بين مسقطيّة العلم للردّ


1- الوسائل 12: 362 ب «16» من أبواب الخيار ح 2.
2- الوسائل 12: 418 ب (7) من أبواب أحكام العيوب ح 1.

ص: 387

و الأرش معا، و بالقطع الحاصل من مطاوي النصوص و الفتاوى به من غير خلاف.

قوله: «و أمّا التبرّي من العيوب المتجدّدة (1) فيدلّ على صحّته و سقوط الخيار به عموم: «المؤمنون عند شروطهم» (2)».

أقول: بل و يدلّ عليه أيضا عموم مفهوم الصحيح المتقدّم (3) بقوله: «و لم يبرء إليه فله الردّ». و قوله عليه السّلام في المستدركات (4) و غيره (5): «من ردّ المملوك بالعيوب المتجدّدة من أحداث السنة إلّا أن يشرط ألّا عهدة عليه»، و هو كاف في تخصيص عموم أدلّة الخيار (6)، و استصحاب بقائه، و عدم سقوطه بإسقاطه ما لم يجب في المتجدّد من العيوب.

قوله: «لم يزل ضمان البائع لعموم النصّ» (7).

[أقول:] و هو كلّ مبيع تلف قبل قبضه فهو من مال بائعه، و كلّما تلف في زمان الخيار فهو ممّن لا خيار له.

قوله: «فالقول بثبوت الأرش و سقوط الردّ قويّ».

أقول: الحكم بخيار الأرش و الردّ في العيب مترتّب على موضوع العيب نصّا الزائل فعلا كالنجاسة و الحرمة المترتّبة على تغيّر الكرّ بالنجاسة الزائل تغيّره من قبل نفسه، فإن جرى استصحاب الحكم بعد تغيّر موضوعه و كون الشكّ في المقتضي- كما هو المختار- ثبت كلّ من شقي خياره، و إلّا لم يثبت شيئا من شقيه، فلا وجه للتفصيل مع اتّحاد الدليل.


1- في المكاسب: «المتجددة الموجبة للخيار».
2- الوسائل 15: 30 ب «20» من أبواب المهور ح 4.
3- تقدّم في ص: 386.
4- المستدرك 13: 325 ب «2» من أبواب أحكام العيوب ح 2.
5- الوسائل 12: 411 ب «2» من أبواب أحكام العيوب ح 2.
6- انظر الوسائل 12: 362 ب «16» من أبواب الخيار.
7- انظر الوسائل 12: 362 و 419 ب «16 و 8» من أبواب الخيار.

ص: 388

قوله: «مع أنّ اختصاص النصّ بصورة التصرّف قبل العلم ممنوع».

[أقول:] لإطلاق أكثر النصوص (1) في إناطة ردّ المعيب و سقوط ردّه بكونه قائما بعينه و عدم كونه قائما بعينه، و بحدوث حادثة فيه و عدمه، من غير أن يقيّد مسقطيّة التصرّف و حدوث الحادثة للردّ و تعيين الأرش بما إذا كان قبل العلم إلّا من حيث المورد في بعض الموارد الّذي لا يخصّص عموم الوارد بحسب القاعدة.

قوله: «كما لو رضي بالعبد المشروط كتابته مع تبيّن عدمها فيه».

[أقول:] لا يقال: إنّ سقوط خيار شرط كتابة العبد بمجرّد الرضا به بعد تبيّن عدم الشرط لا يستلزم سقوط خيار العيب بمجرّد التصرّف، لأنّ المسقط لخيار الشرط مسقط للردّ لا إلى بدل، و لخيار العيب مسقط له إلى بدليّة الأرش و تعيينه، فعند عدم بدل ما يوجب الأرش من العيب المفروض لا يسقط الردّ.

لأنّا نقول: إطلاق مسقطيّة الحدث و الإحداث الردّ في المقامين كاف فيما هو المدّعي من سقوط الردّ بالتصرّف في البين، و صحّة التشبيه و المقايسة بين المسألتين. و أمّا سقوط الأرش فبالغرض الخارج عن البين.

قوله: «و منها ثبوت أخذ مانع (2) الردّ .. إلخ».

[أقول:] و لا معنى لهذه العبارة و إن اتّفقت في جميع النسخ المطبوعة، و تصحيحها على ما يشهد به قوله فيما بعد: «أمّا المانع الأوّل .. و أمّا المانع الثاني»، و على ما صحّحه بعض الأعلام من تلامذة المصنّف هو «ثبوت أحد مانعي الردّ في المعيب الّذي لا يجوز أخذ الأرش فيه». و المراد من «مانعي الردّ» هو ما تقدّم من التصرّف أو الحدث المانعين من الردّ.

قوله: «و الأوّل أولى».


1- الوسائل 12: 362 ب «16» من أبواب الخيار.
2- في المكاسب: «أحد مانعي».

ص: 389

[أقول:] يعني أنّ لزوم الربا في أخذ البائع من المشتري أرش العيب الحادث عند المشتري في الفسخ باعتبار لزومه في أصل المعاوضة بفرض أبعاض الثمن في مقابل أوصاف المثمّن أولى من لزومه في الفسخ باعتبار فرض أنّه قوبل فيه الثمن بمقداره من المثمن، و زيادة وجه الأولويّة أنّ أرش العيب في المعاوضة أشبه إلى الربا منه في الإقالة، و في الإقالة أشبه إلى الغرامة منه في المعاوضة بناء على الفرق بينهما اسما بكون التقايل تفاسخ لا معاوضة، و لهذا يبطل التقايل باشتراط الزيادة أو النقيصة، أو حكما بفرض حرمة الربا في المعاوضات لا الضمانات، كما عرفت بأتمّ وجه.

قوله: «إذ فيه وضوح الفرق، فإنّ المقبوض بالسوم إنّما يتلف في ملك مالكه .. إلخ».

[أقول:] و فيه: أنّ الفرق بين أن يكون تلف الوصف في ملك الغارم أو ملك الغير غير فارق بين أن يكون ضمان الوصف غرامة أو عوضي جزء الثمن، لأنّ الموجب لغرامة الزيادة هو إناطة ضمان الزيادة بردّ الموصوف من غير وصف سواء كان تلف الوصف في ملك الرادّ أو المردود إليه.

نعم، لو أنيطت الغرامة بتلف الوصف كان تلفه في ملك الرادّ و المردود إليه فارقا بين الغرامة و عدمه.

قوله: «فيكون تلفها في يد المشتري كنسيان العبد الكتابة لا يستحقّ البائع عند الفسخ قيمتها».

[أقول:] فيه أوّلا: إمكان منع الحكم في المقيس عليه، و كون نسيان العبد الكتابة غير مضمون على المشتري.

و ثانيا: لو سلّمنا فإنّما هو للفرق من حيث إنّ نسيان الكتابة غير مانع من الردّ و لا موجب للأرش، بخلاف حدوث سائر ما يمنع الردّ و يوجب الأرش،

ص: 390

كهزال المبيع و فساده و تعفّنه و سلب منافعه المقصودة منه.

قوله: «لأنّ تقدير الموجود معدوما خلاف الأصل».

[أقول:] أي تقدير الموصوف الموجود معدوما بمجرّد انعدام وصفه لأجل تضمينه ببدل سليم خلاف الأصل، لأنّ الوصف المنفي إن كان مضمونا على المشتري فضمانه الأرش، كما هو مقتضى الوجه الأوّل، و إلّا فالأصل عدم ضمانه بالسليم و هو موجود لا عديم.

قوله: «و لا يعارضه ما في المسالك و الحدائق .. إلخ».

[أقول:] أي لا يعارض الفور ما في المسالك (1) و الحدائق (2) و الكفاية (3) من التراخي.

نعم، يعارضه ما في الرياض (4) من أنّه- أي التراخي- ظاهر أصحابنا المتأخّرين كافّة، كما لا يخفى على من راجع الكتب المذكورة، و كان الإضمار في المضمار لوضوح الظهور، أو لمصلحة الاستظهار و مراجعة الاختبار.

[مسائل متفرقة]

قوله: «فإنّ البيع لا يبطل في ملكه و إن كان مجهولا قدره وقت العقد .. إلخ».

[أقول:] فيه: أنّه إنّما يسلم عدم بطلان مجهول القدر وقت العقد من بيع الخليط بغير جنسه و بيع ما يملك و ما لا يملك إذا تعيّن مقداره وقت العقد بظاهر حال أو مقال و لو بأصل صحّة يعتمد عليه وقت العقد ثم انكشف خلافه بعد العقد.

و أمّا المجهول قدره و تعيينه وقت العقد من غير معين أصلا فهو الغرر


1- مسالك الأفهام 3: 302.
2- الحدائق الناضرة 19: 117.
3- كفاية الأحكام: 94.
4- رياض المسائل 5: 167.

ص: 391

الباطل المبطل نصّا (1) و فتوى، و إن كانت الجملة معلومة المقدار، لأنّ الجملة المركّبة من الجزء الخليط المجهول المقدار غرر عرفي مانع شرعي من صحّة بيع الجملة المركّبة منه و من غيره، و إن كانت الجملة معلومة المقدار، لأنّ معلوميّة مقدار الجملة و إن رفع غرر مقدار الجملة من حيث الجملة في الجملة، إلّا أنّه لا يرفع غرره من حيث الجزء الخليط المجهول المقدار بالجملة، فلا يجدي معلوميّته. غاية الأمر أنّ غرر الجملة الغير المعلومة المقدار من جهتين و المعلومة المقدار من جهة واحدة، و هذا المقدار غير رافع لمصداق الغرر عرفا المانع من الصحّة شرعا.

قوله: «نعم، لو فرض المزج على وجه يوجب تعيّب الشي ء من دون أن يستهلك فيه بحيث يخرج عن حقيقته إلى حقيقة ذلك الشي ء توجّه ما ذكروه في بعض الموارد».

[أقول:] فيه: أنّ الخليط الممزوج بالمبيع إن كان قليلا بحيث يتسامح بمثله عادة و لا يعبأ به لقلّته و عدم تعيّب المبيع به عرفا فمن المعلوم أنّه ليس بغرر يمنع من الصحّة، و لا بعيب يمنع من اللزوم استهلك كشوب اللبن بالماء، أم لم يستهلك كخلط الحنطة بما لا ينفكّ منه عادة من التبن و التراب.

و أمّا إن كان الخليط في الكثرة ممّا لا يتسامح بمثله عادة فلا محالة إن استهلك في المخلوط به كازدياد الملح في الخبز و الماء في اللبن و المخيض و الدرد في الدهن و الزيت كان عيبا مانعا من اللزوم، و إن لم يستهلك كالتبن و التراب في الحنطة و الشعير كان غررا مانعا من الصحّة لا محالة، فمدار المانع و عدمه عن الخليط إنّما على قلّة الخليط على وجه يتسامح فيه و عدمه و إن استهلك لا على مجرّد الاستهلاك و عدمه و إن لم يتسامح فيه.


1- الوسائل 12: 330 ب «40» من أبواب آداب التجارة ح 3.

ص: 392

نعم مدار كون المانع منه تعيّبا مانعا من اللزوم أو غررا مانعا من الصحّة مبنيّ عرفا على استهلاك الخليط و عدمه، كما لا يخفى. و استوجه الجواهر (1) تفصيل آخر: بين ما إذا اشترى اللبن المشوب بالماء على أنّه لبن فيبطل، و على أنّه المشاهد فيصحّ للعلم بالجملة حينئذ و لو كان بعنوان أنّه لبن. و فيه: أنّ وصف المشاهدة لا يجعله معلوم المقدار و لا يرفع صدق الغرر و الجهل المانع من صحّته شرعا، غايته الرضا بوصف المشاهدة و الجهالة المانعة من الصحّة شرعا. هذا الخلاف كلّه في صحّة بيع اللبن الممزوج بالماء مع الاتّفاق على حرمة بيعه، و بطلان كلّي مسألة بيع الغرري المخلوط فيه المبيع بغير جنسه، و قد عرفت أنّ الأظهر بطلان الكلّيّة مطلقا في جميع جزئيّاته.

و أمّا بيع المعيب مع كتمان عيبه و عدم إظهاره فالأظهر الأشهر صحّة بيعه و إن كان أظهر أقوالها الخمسة في حكمه التكليفي هو الحرمة كالبيع الغرري، لأنّ النهي عن أمر خارج، مضافا إلى عدم اقتضائه الفساد في المعاملات. شرعا و لا عرفا، بل احتمل الماتن ذلك، وفاقا لجامع المقاصد (2) و المسالك (3) و الجواهر (4)، حتّى في بيع اللبن الممزوج.

[مسائل في اختلاف المتبايعين]

قوله: «كان القول قول منكر تقدّمه للأصل».

[أقول:] و المراد من هذا الأصل هو أصالة عدم ضمان البائع للعيب و عدم خيار المشتري به، لا مجرّد أصالة عدم تقدّم العيب و أصالة تأخّره، لأنّ هذا الأصل- مضافا إلى معارضته بالمثل و هو أصالة عدم العقد و القبض عليه و أصالة تأخّره عنهما- أصل مثبت لا يثبت وقوع العقد على الصحيح حتّى لو علم تاريخ


1- جواهر الكلام 23: 246- 247.
2- جامع المقاصد 4: 333.
3- مسالك الأفهام 3: 285.
4- جواهر الكلام 23: 246.

ص: 393

العقد و جهل تاريخ الحدوث، كما أنّ أصالة عدم العقد حتّى حدوث العيب لا يثبت وقوع العقد على المعيب أيضا كذلك لذلك.

قوله: «و لعلّه لأصالة عدم تسليم البائع العين إلى المشتري على الوجه المقصود و عدم استحقاقه الثمن كلّا .. إلخ».

[أقول:] و فيه: أنّ هذا النوع من الأصول محكوم لأصالة الصحّة و لزوم البيع و أصالة السلامة في المبيع. فتوجيه كون المشتري منكرا بموافقته و البائع مدّعيا بمخالفته بعد المحكوميّة لغيره غير وجيه. و كذلك التنظير له بقوله: «نظير ما إذا ادّعى البائع تغيير العين عند المشتري و أنكر المشتري» تنظير بغير نظير، كما لا يخفى على الخبير.

قوله: «و فيه كلام في محلّه».

[أقول:] و هو إمكان إرجاع النزاع بينهما في تقدّم العيب و تأخّره إلى التحالف، كالنزاع في تعيين كون الثمن درهما أو دينارا، أو المثمن عبدا أو جارية، من حيث إنّ كلّا منهما مدّع و منكر.

قوله: «و هذا أوفق بالقواعد».

[أقول:] أي قاعدة إسقاط اليمين بدعوى المدّعين مطلقا أصلا و رأسا.

قوله: «لا أنّ اليمين على نفي العلم لا يكفي من البائع مع الاختبار.

فافهم».

[أقول:] إشارة إلى أنّ ظاهر عبارة التذكرة (1) و من خالفه و إن كان طرح الخلاف في كفاية عين نفي العلم و عدمه مع الاختبار، إلّا أنّ عدم كفايته مع الاختبار لما كان من باب السالبة بانتفاء الموضوع، فلا بدّ من جعل الخلاف في صورة الحاجة إليه، و هو صورة عدم الاختبار.


1- تذكرة الفقهاء 1: 541.

ص: 394

قوله: «و لكن للنظر في إثبات أحد المتلازمين بالأصل الجاري في الآخر مجال».

[أقول:] وجه للنظر: النظر في حجّية المثبت.

قوله: «أقواها الأوّل».

[أقول:] و ذلك لحكومة استصحاب بقاء العيب و عدم زواله المسقط للخيار على أصالة لزوم العقد، و عدم ثبوت الخيار و عدم سببه أو شرطه حال وجوده.

قوله: «قال الشافعي: يحلفان على ما يقولان، فإذا حلفا استفاد البائع بيمينه رفع الردّ، و استفاد المشتري بيمينه أخذ الأرش».

أقول: فيه أوّلا: أنّ التحالف بحسب القاعدة إنّما هو في المتبائنين اللذين لا أصل بينهما في البين، كالنزاع في كون الثمن درهما أو دينارا، أو المثمن عبدا أو جارية. و أمّا ما نحن فيه فمن المعلوم وجود استصحاب بقاء الخيار و أصالة عدم زواله المسقط الموجب، لكون البائع منكرا لموافقته، و المشتري مدّعيا لمخالفته، فلا وجه للتحالف.

و ثانيا: لو سلّمنا التحالف فمقتضاه التفاسخ، لا تقسيم الخيار بين المتحالفين.

و ثالثا: فلم يرفع يمين البائع الردّ، و يقتضي يمين المشتري الأرش دون العكس مع أغلبيّة العكس، و هو سقوط الأرش دون الردّ في أغلب الخيارات.

قوله: «و في كلّ منهما نظر».

[أقول:] أمّا الكتابة فلأنّها مكاتبة جعفر بن عيسى (1) المخصوص بحسن الحال، و المنصوص بالتوثيق و صدق المقال. و أمّا موافقته لقاعدة «البيّنة على المدّعي و اليمين على من أنكر» فمن الواضح خلافه و مخالفته لها، إلّا بتوجيه


1- الوسائل 12: 420 ب (8) من أبواب أحكام العيوب ح 1.

ص: 395

الحدائق (1) أو المصنّف (2).

قوله: «و يبقى قدر الأرش مستحقّا على التقديرين».

[أقول:] و فيه: أنّ مقتضى عموم «نفوذ إقرار العقلاء على أنفسهم» في الضرر دون النفع سقوط الأرش بإقراره الردّ و عدم الردّ لعدم ثبوته و أصالة عدمه، جمعا بين مقتضى الأصل و الإقرار، و التفكيك بين المتلازمين غير عزيز في البين كجمع المختلفات، و تفريق المؤتلفات في الشرعيّات، كدعوى العبد على مولاه الانعتاق فإنّه مسقط لنفقته بالإقرار و باق على ملكيّته بعدم ثبوت الانعتاق و أصالة عدمه.

قوله: «لا يثبت وقوع الفسخ في أوّل الزمان».

[أقول:] فيه: أنّه و لو لم يثبته إلّا على الأصل المثبت، لكنّه كاف في إثبات صحّة الفسخ و استصحابها، مضافا إلى أنّ أصالة صحّة الفسخ بنفسه كاف في صحّة الفسخ من باب ظهور الحال و غلبة الصحّة في الأفعال، كما أنّ أصالة تأخّر الطلاق عن الزمان المشكوك وقوعه فيه و إن لم يثبت وقوع الرجوع في العدّة لكونه مثبتا إلّا أنّه كاف في استصحاب بقاء العدّة و صحّة الفسخ فيه، مضافا إلى أنّ أصالة صحّة الفسخ بنفسه كاف في صحّة الفسخ من باب ظاهر الحال و غلبة الصحّة في الأفعال، كما هو المعوّل في كلّ نقل و انتقال، و قيل و قال.

قوله: «و الجهل بالفوريّة فيعذر .. إلخ».

[أقول:] و فيه: أنّ الجهل بالموضوع يعذر، و أمّا الجهل بالحكم سيّما الحكم الوضعي فلا يعذر مطلقا، سواء كان بالخيار أو الفوريّة، كالجهل بمدّة الخيار أو الصحّة و البطلان.


1- الحدائق الناضرة 19: 91.
2- المكاسب: 265.

ص: 396

قوله: «و تظهر الثمرة في طروّ موانع الردّ بالعيب بناء على عدم منعها عن الردّ بخيار (1) الشرط. فتأمّل».

[أقول:] إشارة إلى ما أشار إليه في الآخر بقوله: «و للنظر في كلا شقّي الثمرة مجال».

أمّا وجه النظر في ثبوت الردّ بالعيب على الأوّل- و هو تقدير العيب غير مالي- فلأنّ تقدير استلزام العيب الغير المالي الردّ يستلزم سائر أحكام العيب الّتي منها المنع من الردّ بطروّ موانعه، و كونه مضمونا على البائع قبل القبض و في مدّة الخيار بالعيب لا الخيار.

و أمّا وجه النظر في عدم ثبوت الردّ به على الثاني- و هو تقدير إناطة العيب بالمالي- فلاحتمال تبعيض أحكام العيب، بدعوى انصراف خيار العيب الغير المالي إلى خصوص الردّ فقط دون سائر أحكام خياره من جواز الردّ مع طروّ موانعه، و كونه مضمونا على البائع قبل القبض و في مدّة الخيار بالعيب لا الخيار، كما احتمله المصنّف في الجواب الثاني عن مرسلة السيّاري (2) الآتية.

و بعبارة: أنّ العيب الغير المالي إن كان عيبا عرفا ترتّب عليه جميع أحكام العيوب شرعا لا الردّ فقط، و إن لم يكن عيبا لم يترتّب عليه الردّ، إلّا أن يقال:

بتبعيض أحكام خيار العيب و انصراف خياره إلى خيار الردّ فقط، لكن ينبغي أن يقال: لا مجال لهذا الإشكال و الاحتمال في موضوع العيب و لا في أحكامه.

أمّا موضوع العيب بحسب النصّ فضابطه الكلّي المنصوص في المرسلة قوله: «كلّما كان في أصل الخلقة فزاد أو نقص فهو عيب» (3)، و قوله في فقه الرضا: «كلّ زائدة في البدن ممّا هو في أصل الخلقة أو ناقص منه يوجب الردّ في


1- في المكاسب: «بخيار تخلّف الشرط».
2- الوسائل 12: 410 ب «1» من أبواب أحكام العيوب ح 1.
3- الوسائل 12: 410 ب «1» من أبواب أحكام العيوب ح 1.

ص: 397

البيع» (1).

و من الواضح عرفا أنّ أصل الخلقة المرتّبة المتوسّطة بيّن لحمل الشي ء و نقصه المعبّر عنها بالصحّة و السلامة، و عمّا عداها بالعيب و النقص، و كما يكون في غالب أفراد أصل الخلقة كالحيض ممن من شأنها الحيض كذلك قد يكون في النادر كالطهر في سيّدة النساء، فإنّ الحيض فيها عيب، كما أنّ عدمه في غيرها عيب، و الحكم بخيار ردّ المعيب شرعا إنّما هو من جهة التزام المتبايعين بالصحّة في المبيع و إقدامهم عليه، لأنّه جهة انصراف المطلق إلى الصحيح كما يوهم، و يوهمه استكشاف الصحّة من حال غالب أفراده.

و من هنا يختصّ خيار العيب بالمعاملات دون الأقارير و الإيقاعات. و أمّا حكمه الشرعي بخيار الردّ و الأرش فأيضا لا إشكال في عمومه و اطّراده في جميع ما وقع عليه العقد من موضوع المعيب، إلّا في خصوص موضوع الثيبوبة حيث خصّ الشارع خيار الردّ و الأرش فيها بما إذا اشترط البكارة دون ما لم يشترط، و هو تخصيص لا تخصّص، كما يوهمه التعليل بأنّه قد يذهب بالمرض أو الخطوة، و التفصيل بين الصغيرة الغير المجلوبة و غيرها فإنّ التفصيل عليل، و التعليل تقريب لا علّة، بل حكمة ملزمة جلت من حكمه تحفّظا لمراتب العفّة و العصمة من سوء الظنّ و التهمة و التعريض للأعراض و الحرمة، كما أنّ تعليل العدّة بحفظ المياه تقريب لحكمة الاطّراد.

[القول في ماهية العيب]

قوله: «الكاشف عن مرض في العضو أو في [أصل] المزاج».

[أقول:] و فيه نظر: لأنّ عدم الشعر من أصل الخلقة لا يستلزم تمرّض العضو أو المزاج في الرجال فضلا عن استلزامه في النسوان و الصبيان، بل و لا في رجال بعض أهل البلدان، بل هي طبيعة ثانويّة و إن كانت نادرة الوجود خارجة


1- فقه الإمام الرضا عليه السّلام: 251.

ص: 398

عن الخلقة الأصليّة الأوّلية الغالبيّة، كاللحية في المرأة و عدمها في الرجل ليست من تمرّض العضو و المزاج، بل هي مزاج آخر من مظاهر عموم القدرة و المشيئة جلّت قدرته.

قوله: «كما يدلّ عليه عدم اكتفائه في عذر الردّ بقوله: «لم أجد على ركبها شعرا» (1) حتّى ضمّ إليه دعواه أنّه لم يكن لها قط».

أقول: استناد الردّ بمعيبه عدم شعر العانة بقوله: «لم يكن لها قطّ» (2) يدلّ على أنّ عدمه و نقصه بالأصل لا بعروض مرض، فهو على خلاف المدّعى أدلّ منه على المدّعي، خصوصا بملاحظة أغلبيّة زوال العارض بمرض، و عدم زوال الأصلي، و أدونيّة العارض من الأصلي، مع عدّه من العيوب الموجبة للأرش، و لذا أسند الرادّ الردّ إلى نفس العيب لا المرض، و إلى الأصلي منه لا العارضي بقوله: «و زعمت أنّه لم يكن لها قطّ- إلى أن قال:- أيّها القاضي إن كان عيبا فاقض لي به» (3).

قوله: «فلا يظهر من الرواية ترتّبها على العيب. فتأمّل».

[أقول:] إشارة إلى عدم الصارف و الانصراف من ظهور العيب و إطلاقه في عموم الخيار إلى خصوص حكم الردّ.

أمّا أوّلا: فلظهور قوله: «كلّما كان في أصل الخلقة فزاد أو نقص فهو عيب» (4) في بيان حقيقة العيب اسما لا مجرّد التشبيه و الإلحاق به حكما حتّى ينصرف إلى أظهر خواصّ المشبه به.

و ثانيا: لو سلّمنا التشبيه و الإلحاق، لكنّ السياق يقتضي العموم و الإطلاق، لأنّه في مقام إعطاء القاعدة الكلّيّة لا المسألة الجزئيّة.

قوله: «لا مثل هذه الرواية الضعيفة بالإرسال. فافهم».


1- الوسائل 12: 410 ب «1» من أبواب أحكام العيوب ح 1.
2- الوسائل 12: 410 ب «1» من أبواب أحكام العيوب ح 1.
3- الوسائل 12: 410 ب «1» من أبواب أحكام العيوب ح 1.
4- الوسائل 12: 410 ب (1) من أبواب أحكام العيوب ح 1.

ص: 399

[أقول:] إشارة إلى أنّ الخبر و إن رواه الكليني (1) و الشيخ (2) عن الحسين بن محمد الّذي هو من أجلّاء مشايخ الكليني إلّا أنّ ضعفه بواسطة استناده إلى مرسلة أحمد بن محمد السيّاري البصري الضعيف الحديث فاسد المذهب مجفوّ الرواية كثير المراسيل، لكنّ الظاهر انجبارها بالشهرة فتوى و رواية حتّى جعلت قاعدة من القواعد المسلّمة و بالموافقة لما عن فقه الرضا عليه السّلام، و روى: أنّ كلّ زائدة في البدن ممّا هو في أصل الخلقة أو ناقص منه يوجب الردّ في البيع» (3). فتأمّل.

قوله: «و لعلّ من عمّم العيب لما لا يوجب نقص الماليّة- كما في المسالك (4) و عن جماعة (5)- أراد به مجرّد موجب الردّ لا العيب الّذي ترتّب (6) عليه كثير من الأحكام- و إن لم يكن فيه أرش- كسقوط خياره بتصرّف أو حدوث عيب، و غير ذلك .. إلخ».

[أقول:] و فيه: أنّ إرادة موجب الردّ من العيب لا ينفي ما عداه من سائر أحكام العيب، كما أنّ نفي موجب الردّ من قولهم عدم الختان في المجلوب من بلاد الشرك ليس عيبا لعلم المشتري بجلبه لا يثبت ما عداه، إذ من المعلوم أنّ الثابت بعض أحكام العيب و نفي بعض أحكامه لا ينفي الحقيقة الثابتة من عموم القاعدة المنصوصة المسلّمة، نصّا (7) و فتوى كلّما كان في أصل الخلقة فزاد أو نقص فهو عيب.


1- الكافي 5: 215 ح 12.
2- التهذيب 7: 65 ح 282.
3- فقه الإمام الرضا عليه السّلام: 251.
4- مسالك الأفهام 3: 290.
5- منهج العلّامة في قواعد الاحكام 1: 145، و فخر المحققين في إيضاح الفوائد 1: 491، و المحقق الثاني في جامع المقاصد 4: 323.
6- في المكاسب: «يترتّب».
7- الوسائل 12: 410 ب «1» من أبواب أحكام العيوب ح 1.

ص: 400

[الكلام في بعض أفراد العيب]

قوله: «و الحول و الحوص و السبل».

[أقول:] بالتحريك في الثلاثة، و الحول حيلولة بياض العين محلّ سواده و منه الأحول. و الحوص ضيق مؤخّر العين، يقال للرجل: أحوص، و المرأة:

حوصاء. و السبل بالتحريك و السبال سبلان رطوبة الفمّ إلى خارجه الغالب في المرضع. و في الجواهر: هو زيادة الأجفان (1)، و لعلّه اصطلاح الأطبّاء.

قوله: «لأنّ ذلك غير منقص (2) للقيمة».

[أقول:] فيه أوّلا: منع عدم منقصيّة حمى اليوم القيمة، غايته منقصيّة حمى اليوم قيمة اليوم و الأكثر للأكثر.

و ثانيا: سلّمنا، لكن ما لا ينقص القيمة من العيوب لا يوجب الأرش، لا أنّه لا يوجب ما عدا الردّ من سائر أحكام العيب الّذي هو المدّعى.

قوله: «و إلّا فالأمر أوضح».

[أقول:] أي و إن لم يكن الحمل للبائع بأن كان ملكا لثالث أو حرّا بتحليل أو شبهة فعيبه أوضح. أمّا أوضحيّة عيب الحمل الحرّ فلانتفاء ماليّة الحمل و نفقته في مقابل كلفة حمله و تحمّله، و أمّا الحمل المملوك فلم يعلم وجه أوضحيّة عيب المملوك للبائع من المملوك لغيره، خصوصا إذا كان ذلك الغير المشتري فإنّ عدم عيبيّته لا عيبيّته أوضح، لأنّه حينئذ زيادة مالية لا نقيصة، خصوصا في مثل حمل الخيل.

قوله: «فالأقوى في مسألة حدوث حمل الأمة عدم جواز الردّ .. إلخ».

أقول: بل الأظهر من عموم: «كلّما كان في أصل الخلقة فزاد أو نقص فهو عيب» (3) هو عيبيّة الحمل و الحبل مطلقا في الإماء و البهائم، إلّا في حمل بيض


1- جواهر الكلام 23: 259.
2- في المكاسب: «ليس منقصا».
3- الوسائل 12: 410 ب «1» من أبواب أحكام العيوب ح 1.

ص: 401

الدجاج و الطيور فإنّه زيادة مالية محضة من غير شائبة نقص أصلا. و أمّا في غيرها فهو و إن كان زيادة ماليّة من جهة إلّا أنّه نقص من جهة معرضيّته للهلاك و التلف و مانعيّته من بعض الخدمات و الاستنفاعات.

و لا فرق في نقصه و عيبه بين الإماء و الدوابّ، غاية الأمر أنّ عدم إيجابه النقص المالي لو سلّم في بعض الدوابّ كالخيل فهو مانع من خصوص الأرش دون الردّ و سائر أحكام العيب و لو لم يكن ماليا.

بل و لا فرق بين عيبه و نقصه بين ما قبل الوضع و ما بعده، بل و لا بين ما يوجب الوضع فيه النقص و عدمه، غاية الأمر أنّه قبل الوضع أو بعده الغير الموجب لنقصه يوجب الأرش من جهة واحدة و بعده الموجب لنقصه يوجبه من جهتين، من جهة نقص الحمل و نقص الوضع.

بل و لا فرق أيضا في نقص الحمل و عيبه بين القول بتبعيّة الحمل للحامل و ملكيّته للمشتري، و بين القول بعدمه و ملكيّته للبائع، غاية الفرق أنّه على الأوّل يوجب الردّ من جهة واحدة و هو نقص العيب، و على الثاني يوجبه من جهتين، من جهة نقص العيب و نقص تبعّض الصفقة بين البائع و المشتري بالحمل و الحامل.

بل و لا فرق أيضا في نقصه و عيبه بين الحادث قبل القبض أو بعده، غاية الفرق أنّ الحادث قبل القبض مضمون على البائع و مثبت للمشتري خيار الردّ و الأرش، و بعد القبض مضمون على المشتري و مانع من خصوص الردّ بالعيب السابق دون الأرش إذا كان نقصا ماليا، كما هو الغالب خصوصا في الإماء.

قوله: «و قدح هذا الاحتمال أمّا لجريانه بعد قبض المشتري فلا يكون مضمونا على البائع، و أمّا لأنّ اشتراط البكارة كناية عن عدم وطء أحد لها .. إلخ».

أقول: تنزيل الخبر على كلّ من المعنيين لا يخلو عن شين.

ص: 402

أمّا المعنى الأوّل: فلأنّه تخصيص لعموم نفي الردّ و الأرش من قوله: «لا تردّ و لا شي ء عليه» (1) بخصوص ما إذا اشترط البكارة بعد القبض، و هو مناف لعموم الحكم و صريح تعليله بقوله: «قد يكون يذهب في حال مرض أو أمر يصيبها» (2).

و أمّا المعنى الثاني: فلأنّه و إن لم يناف التعليل إلّا أنّه تقييد عليل ينافي إطلاق الدليل و عدم التفصيل، بل الأظهر في معنى الخبر هو تعليل نفي العيبوبة و نقص الثيبوبة اسما و صدقا، أو نفي خياريّة الردّ و الأرش حكما و حقّا و إن كان الأوّل أظهر عرفا و الثاني شرعا، بعلّية أنّ إذهابها قد يكون بمقتضى أصل الخلقة، كسقوط أسنان الصبيان في أوان عدم العيب و النقصان و في غير أوان عيب و نقصان، و يعضده شهرة النصّ و الفتوى: «في الرجل يتزوّج المرأة على أنّها بكر فيجدها ثيّبا أ يجوز أن يقيم عليها؟ قال عليه السّلام: قد تفتق البكر من المركب و من النزوة» (3)، و لا قصور في سند الخبر و لا في دلالته بعد انجباره سندا و دلالة بالشهرة، إلّا من جهة المعارضة بمقطوعة يونس: «عن رجل اشترى جارية على أنّها عذراء فلم يجدها عذراء، قال: يردّ عليه فضل القيمة إذا علم أنّه صادق» (4)، المعاضدة بمكاتبة محمد بن جزك: «عمّن تزوّج جارية بكرا فوجدها ثيّبا، هل يجب لها الصداق وافيا أم ينقص؟ قال: ينقص» (5)، و لكنّ رواية يونس و إن كانت صحيحة إلّا أنّها هنا موقوفة لا تقاوم خبر زرعة (6) و إن كان واقفيّا، لكونه ثقة عن سماعة و إن كانت مضمرة، لكونها من سماعة موثقة. مضافا إلى إمكان الجمع


1- الوسائل 12: 418 ب «6» من أبواب أحكام العيوب ح 2.
2- الوسائل 12: 418 ب «6» من أبواب أحكام العيوب ح 2.
3- الوسائل 14: 605 ب (10) من أبواب أحكام العيوب و التدليس ح 1.
4- الوسائل 12: 418 ب «6» من أبواب أحكام العيوب ح 1.
5- الوسائل 14: 605 ب (10) من أبواب العيوب و التدليس ح 2.
6- تقدّم مصدرهما في هامش (3) هنا.

ص: 403

بحمل خبر يونس على اشتراط البكارة و خبر زرعة على اشتراطها و إن ظنّها، كما أنّ المكاتبة أيضا لا يقاوم ما عارضها من الخبر المعلّل بقوله: «قد تفتق البكر من المركب و من النزوة» (1).

قوله: «و مثل هذين و إن لم يكن نقصا في الخلقة الأصليّة إلّا أنّ عروض هذا النقص- أعني الخوف- مخالف لمقتضى ما عليه الأغلب في النوع».

[أقول:] و بعبارة أوضح: أنّ عدم الجدري و الختان و إن لم يكن نقصا في العيان و الأركان لكنّه نقصان في المعنى و العرفان، كخوف الجبان، و كثرة السهو و النسيان، و الخراج و العدوان، على الضياع و البلدان، بل و سوء خلق الإنسان، و شؤم الملك و الأعيان، و وسوسة الشيطان، من جملة العيوب و النقصان، لخروجها عن المجاري الطبيعيّة و الفطرة الأصلية، و المحاسن الشرعيّة الخلقيّة و الخلقيّة.

قوله: «عدم الحيض ممّن شأنها الحيض بحسب السنّ و المكان و غيرهما من الخصوصيّات الّتي لها مدخليّة في ذلك عيب تردّ معه».

[أقول:] فخرج عن العيبيّة عدم حيض من شأنها عدم الحيضيّة، لعدم بلوغ أوانها، أو تجاوز سنّها، أو علوّ شأنها بالاصطفاء و التطهير، كسيّدة نساء العالمين مريم و فاطمة عليهما السّلام، حيث لم تريا ما تراه النساء من الحيض و النفاس، كعدم البول و الغائط و الجنابة و الاحتلام و النوم و السهو و النسيان، في سائر الأنبياء و الأوصياء المصطفين المطهّرين بنصوص القرآن من كلّ عيب و ريب و نقصان، حتّى من نقص عدم الختان و الهوان، بل وجود هذه الصفات الطبيعيّة فيهم بملاحظة الشأنية الأصليّة الأوّلية الضفيّة المصطفويّة، كعدمها في غيرهم من العيوب و النقصان، الممتنع في خلفاء الرحمن بالدليل و البرهان.


1- تقدّم مصدرهما في هامش (3) ص: 402.

ص: 404

قوله: «و ظاهر الحلّي في السرائر (1) عدم العمل بمضمون الرواية رأسا».

[أقول:] بناء على أصله الغير الأصيل و هو عدم حجّية سند الدليل، و إلّا فلا قصور في دلالته على عيبيّة عدم الحيض و موجبيّة الردّ و إن اقتضى العادة في تلك المدّة المديدة عدم انفكاكه عن التصرّف المسقط للردّ، و إلّا أنّه استبعاد بحت و خارج عن منصرف السؤال و الجواب عن أصل عيبيّة عدم الحيض و حكمه مع الإغماض عن حدوث مانع الردّ و عدمه. و لو سلّمنا فلا أقلّ من العمل بمضمونه في أصل عيبيّة عدم الحيض و موجبيّة الخيار، غايته تبديل خيار الردّ فيه بالأرش إذا حصل مانع الردّ، و هو لا يقتضي بطرحه من أصل.

قوله: «صحيحة أبي هشام الآتية».

أقول: الصحيح أبي همام لا هشام، ثمّ إنّه ترك ذكرها في ضمن عيوب السنة الآتية في ضمن الصحيحة و إن أوعد، و هي قوله عليه السّلام: «ليس الإباق من ذا- أي من أحداث السنة- إلّا أن يقيم البيّنة أنّه كان آبق عنده» (2) أي عند البائع لا المشتري.

قوله: «و الأقوى ذلك».

[أقول:] أي كون الإباق عيبا، وفاقا لظاهر الشرائع (3)، و صريح التذكرة (4) من الاكتفاء في نقص عيبه بالمرّة، «لكون ذلك» أي المرّة «بنفسه» أي لا بالاعتياد «نقصا عرفا»، لمخالفته الفطرة الأصليّة و المحاسن العقليّة، لأنّ الإقدام و لو مرّة على الحرام يوجب التجرّي و الاقتحام في الموبقات العظام، كما يقتضيه إطلاق الصحيحة المتقدّمة.


1- السرائر 2: 304- 305.
2- الوسائل 12: 411 ب «2» من أبواب أحكام العيوب ح 2.
3- شرائع الإسلام 2: 44.
4- تذكرة الفقهاء 1: 538.

ص: 405

قوله: «و توجيهها بما يطابق القواعد مشكل».

أقول: يمكن رفع الإشكال بتطبيقها القواعد بالحمل على كون المبتاع ليس عين ما في العكّة الشخصيّة من مقدار السمن حتّى يقتضي القاعدة بطلان بيعها على تقدير مخالفة المبيع و هو السمن للربّ المنكشف جنسا، و خيار الردّ و الأرش على تقدير كون المخالفة تعيب المبيع به وصفا، بل المبتاع إنّما هو مقدار ما تسعه العكّة من السمن الكلّي لا الشخصي، فيوافق القاعدة الحكم بقوله عليه السّلام:

«لك بكيل الربّ سمنا»، كما يصدقه تعلّل البائع بقوله: «إنّما بعته حكرة»، و تعليل ردّه عليه السّلام بقوله: «إنّما اشترى منك سمنا» (1)، أي كلّيّا لا شخصيّا.

قوله: «لأنّ الدردي غير متموّل».

[أقول:] و فيه أوّلا: المنع، لأنّ الدردي هو سفل الزيت و غليظة الباقي في أسفله، و هو متموّل يصلح للطلاء و الاستصباح و أكل البقر، فلا يقصر تموّله عن تموّل الظرف لمظروفه، فضلا عن قصوره عن تموّل النواة للتمر و القشور للبّ قشور الجوز و اللوز و النارجيل و الأرز و نحوه.

و ثانيا: لو سلّمنا عدم تموّله، لكنّه لا يخرج المبيع عن جنسه عرفا و إن أخرجه عن وصف الصحيح، فلا يبطل أصل البيع، بل يوجب خيار العيب.

و ثالثا: لو سلّمنا خروجه عن التموّل و إخراج المبيع به عن الجنسيّة، لكن مع ذلك لا يستلزم بطلان بيعه، إلّا إذا باع زقّ الزيت الجزئي الشخصي، و هو غرر مجهول المقدار بالدردي، و أمّا إذا باعه مقدار ما يسعه الزقّ من الزيت الكلّي (2).

قوله: «فيشكل الحكم بالردّ في باقي الأخبار» (3).


1- الوسائل 12: 419 ب (7) من أبواب أحكام العيوب ح 3.
2- كذا في النسخة الخطيّة، و الظاهر أنّ الكلام غير تام.
3- الوسائل 12: 411 ب «2» من أبواب أحكام العيوب.

ص: 406

أقول: يدفع الإشكال، لكن لا بما في المسالك (1) ليردّ عليه ما أورده الماتن، بل بأنّ انعتاق المجذوم بمجرّد الجذام قرينة كون المراد ليس الردّ إلى الملك و التمليك السابق، بل الردّ لاسترداد الثمن و عدم الامتناع منه.

قوله: «و كلاهما مشكل».

[أقول:] وجهه: أنّ كلّا من جواز الأرش و تعيّنه إنّما هو العيب القديم لا أحداث السنة.

[خاتمة في عيوب متفرقة]

قوله: «لعدم صدق العيب عليه عرفا و عدم كونه نقصا [أو زيادة] في أصل الخلقة».

[أقول:] و فيه: أوّلا: منع عدم صدق العيب على الكفر و عدم كونه نقصا أو زيادة في أصل الخلقة. كيف! و لو كان كذلك لم يجز الردّ أيضا، كما لم يجز الأرش، و ذلك لما عرفت من عدم انحصار النقص عن أصل الخلقة في النقص الحسّي في الأعضاء و الكمّية، بل هو أعمّ منه و من المعنويّ في الأوصاف و الكيفيّة، بل و في الأفعال الخارجية الشامل لما دون الكفر من الشؤم المشئوم و العين المسموم، بل و لكثير السهو و النسيان، و الخوف و الجبان، و لمثل وسوسة الشيطان، بل و لمثل السفه و الإباق من العصيان.

و ثانيا: لو سلّمنا عدم إطلاق العيب عرفا على الكفر، لكن يكفي إلحاقه به شرعا بقوله عليه السّلام: «كلّ مولود يولد على الفطرة حتّى أنّ أبواه يهوّدانه» (2)، و فحوى نصّ (3) كون الإباق عيبا.

قوله: «لأنّه لا يعدّ نقصا بالنوع .. و ليس نقصا عند كلّ الناس».

أقول: تحريم الأمة على المشتري برضاع أو نسب أو إيلاء أو ظهار أو


1- مسالك الأفهام 3: 305.
2- الوسائل 11: 96 ب «48» من أبواب جهاد العدو و ما يناسبه ح 3.
3- الوسائل 12: 411 ب «2» من أبواب أحكام العيوب ح 2.

ص: 407

نحوه و إن لم يكن عيبا قطعا، إلّا أنّه ليس لأجل إناطة النقص و التعيّب بالنوع لا الشخص و عند كلّ الناس لا المشتري، بل إنّما هو لأجل اعتبار التلبّس الفعلي في صدق المشتقّ لا الشأنيّ. و من المعلوم أنّ تحريم الأمة على المشتري و إن كان نقصا في نفسه عند الكلّ إلّا أنّه ليس نقصا فعليّا قائما بنفس الأمة حتّى يوجب تعيّبها و استناد العيب إليها عرفا، بل هو نقص شأنيّ قائم بأمر خارجيّ و هو شراء المشتري من تحرم عليه، فلا يستند عرفا إلى نفس الأمة المبتاعة.

قوله: «الأقوى عدمه».

[أقول:] و ذلك لأنّ خطر فساد البيع بالنيابة كخطر فساده بالأصالة احتمال مدفوع بأصالة صحّة فعل المسلم و عدم حدوث كاشف الفساد له شرعا.

قوله: «و كذا لو اشترى ما عليه أثر الوقف».

[أقول:] لأصالة عدم تحقّق شرائط لزومه من الصيغة و تصرّف الوقفيّة، بل و كذا لو اشترى ما هو محقّق الوقفيّة فإنّه و إن لم يصح بالأصالة إلّا أنّ أصالة صحّة فعل المسلم عند احتمال طروّ المسوّغ شرعا يصحّح بيعه و يقدّم على أصالة عدم حدوث المسوّغ له، لأنّها أمارة شرعيّة تتقدّم على الأصول العمليّة، إلّا إذا عورضت بغلبة الفساد في بعض الأزمنة و البلاد. نعم، خطر الفضولي بمعرضية الردّ و التعطيل عيب لا سبيل لرفعه.

قوله: «أقربه العدم».

[أقول:] أقربيّة العدم مبنيّ على انحصار العيب في النقص الحسي الخلقي لا الخلقي و لا الفعلي، و قد عرفت منعه. مضافا إلى فحوى النصّ (1) و الفتوى بعيبيّة الإباق و لو مرّة عند البائع، فإنّه يدلّ بالأولويّة على نقص المقامرة و النّماميّة و الخمّاريّة و السحر و القذف و نحوه من العيوب الموجبة للفساد و الإفساد و إربه


1- الوسائل 12: 411 ب (2) من أبواب أحكام العيوب ح 2.

ص: 408

العباد و تخريب البلاد و إيجاب الحدود. نعم، لو تاب المحدود قبل شرائه زال عنه نقص موجبه و عيبه الموجب لخيار المشتري.

قوله: «أو زهيدا فلا ردّ و يردّ الدابّة بالزهادة».

[أقول:] فيه: عدم الفرق بين الزهادة في الرقيق و الدابّة في كونه قليل الأكل مقابل الأكول فإنّه إن بلغ حدّ النقص أوجب الردّ في كلاهما و إلّا لم يوجبه في كلاهما، فلا وجه للتفصيل.

[القول في الأرش]

قوله: «و لم يقدر له في الشرع مقدّر».

[أقول:] لأنّ ماله مقدّر شرعي يسمّى في الشرع بالدّية لا الأرش.

قوله: «و ضمان (1) النقص تابع [في الكيفيّة] لضمان المنقوص».

[أقول:] يعني ضمان العيب تابع لضمان وصف الصحّة، فإن كان وصف الصحّة مضمونا بقيمته الواقعيّة- كضمان اليد في مثل المغصوب و المستام- كان ضمان نقصه مضمونا بقيمته الواقعيّة فيضمّ قيمة الصحّة الواقعيّة إلى نقص المعيب جبرا لضمانه باليد المضمونة بالقيمة الواقعيّة، و إن كان مضمونا بقيمة المسمّى- كما في ضمان المعاوضة- كان نقصه مضمونا بقيمة المسمّى الموزوع على مجموع الناقص و المنقوص، فيضمّ قيمة الصحّة بالنسبة إلى قيمة المسمّى لا الواقع إلى نقص المعيب جبرا لضمانه بالمعاوضة و قيمة المسمّى لا الواقع، و إلّا لجمع في بعض الأحوال بين العوض و المعوض المنهيّ عنه بقوله صلّى اللّٰه عليه و آله: «لا يجمع بين العوض و المعوض لواحد» (2)، على أنّ المراد جبر ما فاته بالعيب لا بغيره ممّا أقدم عليه بغيره و نحوه، و الّذي فاته بالعيب في المعاوضات هو ضمان قيمة المسمّى لا القيمة الواقعية. مضافا إلى ظهور المعتبرة: «يردّ عليه بقدر ما نقص من


1- في المكاسب: «ثمّ إنّ ضمان».
2- لم نجد بهذا المضمون عن النبي صلّى اللّٰه عليه و آله و لا عن غيره، و إنّما هي قاعدة فقهيّة واقعة مورد قبول عند الفقهاء و إن أسنده في الجواهر إلى النبي صلّى اللّٰه عليه و آله، انظر جواهر الكلام 23: 288.

ص: 409

ذلك الداء و العيب من ثمن ذلك» (1)، في تقييد سائر المطلقات بثمن المسمّى، و إلّا لم يكن وجه للتقييد بالثمن.

قوله: «كالمغصوب و المستام و شبههما».

[أقول:] أمّا المغصوب فهو المأخوذ غصبا. و المستام هو المقبوض بالسوم، أي بالقيمة الواقعيّة، لا المسمّى و شبههما ما يضمن باليد لا بالمعارضة، سواء قبض بالسوم أو بالمعاوضة فاسدة أو بعارية مضمونة، أو نحوها.

قوله: «على مجموع الناقص و المنقوص».

[أقول:] الناقص: المعيب. و المنقوص: هو وصف الصحّة. و النقص هو العيب.

قوله: «فإنّه لا يجب بذل نفس التفاوت بين صحيحها و معيبها».

[أقول:] بل يجب بذل مقدار نسبة التفاوت لا نفسه، و كلّه من قيمة عوض الجارية و هو العبد، لكونه بمنزلة ثمنها المسمّى و عوضها في الفرض المذكور.

قوله: «فالردّ باعتبار النوع لا الشخص».

[أقول:] أي باعتبار نوع الثمن و كلّيته لا جزئيّة الثمن و شخصيّته، و لكنّ الظاهر انصراف الردّ و المردود إلى المعهود من الثمن، إن كان كلّيا فكلّيا، و إن كان جزئيّا فجزئيّا، إلّا أنّ اعتبار الأوصاف كالأجزاء في توزيع الثمن عليها لما استلزم الربا المحرّم بين المتجانسين الصحيح و المعيب كان ذلك قرينة شرعيّة على كون الأرش غرامة شرعيّة، لا عوض الوصف المنقوص في الناقص.

قوله: «و يمكن دفع (2) هذا الإشكال بأنّ المضمون بالنقدين هي الأموال المتعيّنة المستقرّة، و الثابت هنا ليس مالا في الذمّة .. إلخ».


1- الوسائل 12: 362 ب «16» من أبواب الخيار ح 2.
2- في المكاسب: رفع.

ص: 410

[أقول:] فيه أوّلا: أنّ المضمون بالنقدين إنّما هو خصوص النقدين، و أمّا غيرهما من الأموال المضمونة فإنّما تعيين مقدارها بالنقدين، و أمّا تضمينها فبالأقرب فالأقرب إلى العين لا بخصوص النقدين. و قد عرفت أنّ نقص الأوصاف ليس كنقص الأجزاء مضمونا بجزء الثمن، و إنّما هو مضمون بكلّي الأرش الأعمّ من النقدين و غيره، و تعيين الأرش المضمون كلّية إنّما هو إلى ضامنه لا المضمون له. فكما لا حقّ للمضمون له خصوص أحد النقدين كلّية مطالبة أحد فرديه المعين الجزئي، و إنّما له مطالبة الحقّ الكلّي من النقدين دون أحد فرديه الراجع تعيينه إلى ضامنه لا غير، حتّى لو أقرضه عينا و هو موجود لم يكن للمدين مطالبة عين ماله بعد تملّكه الديّان بالدين، و إنّما له مثله أو قيمته على وجه الكلّية.

كذلك لا حقّ للمضمون له الأرش الكلّي سوى مطالبة كلّيه، و إنّما تعيينه من حيث النقد و غيره، و كذا من حيث أفراد كلّ من النقدين و غيرهما ليس إلّا إلى ضامنه، فليس للمضمون له مطالبة فرد معيّن لا من أفراد كلّي الأرش و لا من أفراد أحد النقدين، و لو طالبه المعين كان للضامن الامتناع منه، لعدم تعيين الفرد الجزئيّ عليه، و إنّما المتعيّن عليه هو الكلّي، فله تعيينه في أي فرد من أفراد كلّيه شرعا.

و ثانيا: لو سلّمنا كون المضمون بالنقدين هي الأموال، فأيّ فرق بين المستقرّ في الذمّة، و بين المعلّق على مطالبته بحقّ الخيار أو الضمان بعد الاستقرار بالمطالبة.

و ثالثا: لو سلّمنا الفرق، فليس بفارق بين ضمان الاروش و ضمان الأموال من حيث كون المضمون النقدين و غيره.

قوله: «و لا يعقل أن يكون مستغرقا له، لأنّ المعيب إن لم يكن ممّا يتموّل

ص: 411

و يبذل في مقابلة شي ء من المال يبطل بيعه، و إلّا فلا بدّ أن يبقى له من الثمن قسط».

أقول: فيه: أنّه لا مانع عقلا و لا شرعا من استغراق العيب الثمن و لا من صحّة بيعه حينئذ، بل و لا من تضمينه أضعاف الثمن لو ردّه المشتري مع مئونة الردّ و نفقة المردود، و هذا لا يستلزم عدم تموّله المبطل بيعه من أصل عرفا أو شرعا، كبيع العذرة. كيف! و قد ظهر ما تقدّم أنّ الأرش غرامة شرعيّة لا استرداد زيادة عوضية، و إلّا لبطل ما قابل العيب من أجزاء الثمن من المبيع، كما يبطل ما قابل النقص الجزئي منه.

نعم، يستلزم انفساخ بيعه قهرا لو طلب المشتري أرشه المستغرق للثمن شرعا بعموم قوله صلّى اللّٰه عليه و آله: «لا يجمع العوض و المعوض لواحد» (1).

قوله: «بل لو فرضنا حدوث العيب على وجه أخرجه عن الملك فلا دليل على إلحاقه بالتلف».

أقول: الدليل على إلحاق العيب المخرج عن الملك بالتلف، بل و إلحاق العيب المستغرق للثمن به أيضا في انفساخ البيع و رجوع المبيع إلى البائع هو تنقّح المناط و إطلاق النصّ بقوله صلّى اللّٰه عليه و آله: «لا يجتمع بين العوض و المعوض لواحد» (2)، فإنّه لو لم يمنع اجتماع العوض و المعوض للمشتري من بقاء الملك له و لم يقتض انفساخ البيع و رجوع المبيع إلى بائعه إذا استغرق عيبه الثمن أو أخرجه عن الملكيّة لم يمنع اجتماع العوض و المعوض له من بقاء المتلف على ملك المشتري، و لم يقتض انفساخ بيع المتلف في ضمان البائع و رجوعه إلى بائعه أيضا. و لكنّ النصّ المانع من اجتماع العوض و المعوض لمّا كان مانعا من بقاء


1- تقدّمت الإشارة إليه في هامش (2) ص: 408.
2- تقدّمت الإشارة إليه في هامش (1) ص: 409.

ص: 412

المتلف في ملك المشتري لا محالة كان مانعا من بقاء المعيب في ملكه إذا استغرق أرش عيبه الثمن كلّه أو أخرجه عن الملكيّة أيضا، و ملحقا له بالتلف في انفساخ البيع، و رجوع المبيع مطلقا إلى بائعه، و اختصاص حقّ اختصاصه و مئونات حفظه أو دفنه، و رفع مضارّه و مفاسده بالبائع لا المشتري، إلى غير ذلك من موارد ظهور الثمرة.

قوله: «و هذا في الحقيقة لا يدخل في المقوّم».

[أقول:] لإخباره عن موضوع ما هو محفوظ القيمة و معلومه أي عن موضوع المعيب و الصحيح لا عن قيمتهما، كما أنّ الأوّل إخبار عن المحسوس في التعاطي من القيمة و المقوّمي كالمعرّف من الصفات الباطنيّة لا يصدق عليه المقوّم، إلّا إذا أخبر عن معرفته لا حسّه كالفقيه لا يصدق عليه الفقاهة إلّا إذا أخبر عن اجتهاده لا حسّه، فالأوّل و إن أخبر عن القيمة لكنّه خارج عن المقوّم من جهة إخباره عن حسّه لا عن حدسه، و الثاني و إن أخبر عن حدسه إلّا أنّه خارج عنه في جهة إخباره عن موضوع القيمة لا عن نفس القيمة.

قوله: «و يحتمل الجمع بطريق آخر و هو أن يرجع إلى البيّنة في مقدار التفاوت».

[أقول:] و الفرق أخذ الأرش على الطريق الأوّل بنسبة التفاوت الملحوظ بين قيمتي الصحيح و المعيب بعد تنصيف المجموع المختلف فيه، و على الثاني بالعكس و هو أخذه بنصف التفاوتين بين القيمتين المختلفين. و الأسهل أخذ النسبة بين كلّ صحيح و معيب من نصف الثمن.

و بعبارة: أعمل كلّ من البيّنتين في نصف الثمن إن كانتا اثنين، و ثلثه إن كانتا ثلاثة، و ربعه إن كانتا أربعة، و هكذا.

قوله: «و بنصف المجموع أعني ستّة و نصف».

ص: 413

[أقول:] و ذلك لأنّ سدس الاثني عشر اثنان و ثلاثة أثمانه لا أربعة و نصف.

قوله: «و نصفهما السدس و الربع».

[أقول:] أي نصف الثلث السدس و هو الاثنان من اثني عشر المفروض قيمة الصحيح و نصف النصف الربع و هو الثلاثة منه. «و هذا» أي المجموع من السدس و الثلث و هي الخمسة من اثني عشر «بعينه تفاوت السبعة و الاثني عشر».

قوله: «أعني العشرة و الستّة (1) و نصف».

[أقول:] فيه: غلط إذ كما صحّح أنّ مجموع قيمتي الصحيح من العبد و الجارية هو العشرة كذلك المجموع في الطرف الآخر، لملاحظة النسبة و التفاوت ينبغي أن يكون مجموع قيمتي المعيب من العبد و الجارية أيضا و هو السبعة و نصف لا الستّة و نصف، لأنّ الستّة و نصف هو مجموع قيمتي الصحيح و المعيب من العبد، لا المعيب منهما المعتبر طرفا للصحيح منهما لملاحظة نسبة التفاوت و أخذه أرشا و يشهد عليه أيضا.

قوله: «و أخذ التفاوت و هو الربع من الثمن و هو ثلاثة إذا فرض الثمن اثنى عشر، كما هو طريقة المشهور».

[أقول:] إذ من المعلوم أنّ التفاوت بالربع إنّما هو بين العشرة و السبعة و نصف، لا الستّة و نصف.

قوله: «فإذا أخذ المشتري ربع الثمن أرشا».

[أقول:] أي الثلاثة من اثني عشر فقد أخذ للعبد ثلاثة أثمان قيمته، أي الواحد و النصف من الأربعة الّتي هي قيمة صحيح العبد المضاف إلى قيمة معيبة الاثنين و نصف أرشا و هو ثلثا الربع المأخوذ من اثني عشر، أي الاثنين من الثلاثة المأخوذة من اثني عشر.


1- في المكاسب: «و السبعة».

ص: 414

قوله: «و للجارية سدسه» (1).

[أقول:] و هو ثلث الربع المأخوذ من اثني عشر، أي الواحد من الثلاثة المأخوذة من اثني عشر.

قوله: «لأنّه أخذ من مقابل الجارية أعني سبعة و خمسا سدسه و هو واحد و خمس، و من مقابل العبد، أعني أربعة و أربعة أخماس ثلاثة أثمان و هو واحد و أربعة أخماس».

[أقول:] و ذلك لأنّ مقابل الجارية من قيمة المسمّى المفروض اثني عشر بعد توزيع العشر على ستّة الجارية و أربعة العبد ستّة أخماس الاثنين الباقية، و هو واحد و خمس على ستّة الجارية، فيبلغ سبعة و خمس و أربعة أخماس الباقية على أربعة العبد، فيكون المأخوذ له ثلاثة أثمان و هو واحد و أربعة أخماس، لأنّ ثلاثة أثمان الأربعة واحد و نصف و ثلاثة أثمان الأربعة و الأربعة أخماس واحد و أربعة أخماس.

قوله: «فالثلاثة [التي] هي ربع الثمن».

[أقول:] أي ربع الاثني عشر «منطبق على السدس و ثلاثة أثمان» أي على سدس السبعة و الخمس و هو واحد و خمس و على ثلاثة أثمان الأربعة و الأربعة أخماس و هو واحد و أربعة أخماس، و لكنّ الانطباق بالتكسير، كما لا يخفى.

قوله: «فيصير مجموع الأرش ثلاثة و ربع».

[أقول:] لأنّه نصف مجموع التفاوتين المنصف على طريق الشهيد (2)، أعني سدس الاثني عشر و هو اثنان و ثلاثة أثمانه و هو أربعة و نصف إذا أخذ نصفها


1- في المكاسب: «سدسها».
2- لم نجده في كتبه المتوفرة لدينا و نقله إيضاح النافع، كما عن صاحب جواهر الكلام 23: 291.

ص: 415

أرشا- على ما مرّ (1) من طريقة الشهيد- صار مجموع الأرش ثلاثة و ربع.

قوله: «و صار كلّ واحد من التفاوتين بعد التعديل سدسا».

[أقول:] و هو اثنان «و نصف سدس» و هو واحد «و ثمنه» أي ثمن السدس المفروض اثنان «و هو» ربع الواحد فبلغ مجموع الأرش «من الثمن المفروض اثني عشر ثلاثة و ربع» فراد على طريق المشهور بربع أيضا.

قوله: «الوسط من حيث النسبة لا من حيث العدد».

[أقول:] أي الوسط بين الجميع بحيث لا يكون نسبته إلى واحدة أقرب منها إلى الأخرى لا الوسط بالمعنى المنساق، ضرورة انتفائه في نحو القيمتين و الأربعة و نحوها ممّا لا وسط له، هذا فيما اختلفت القيم عند أهل الخبرة، و كذا إذا اختلفت القيم لأفراد ذلك النوع المساوية للمبيع؛ كما في الأضاحي.

قوله: «و قد عرفت أنّ الجمع بتعديل التفاوت، لأنّه الحقّ دون [خصوص] القيمتين المحتملتين».

أقول: نعم، إلّا أن يستند بطريق المشهور- مضافا إلى الشهرة- إلى خبر عبد اللّٰه بن عمر، و لعلّه الحنّاط الثقة، و لو كان الليثي الضعيف فهو مجبور بعمل الأصحاب به في محلّه، قال: «كنّا بمكّة فأصابنا غلاء في الأضاحي فاشترينا بدينار ثمّ بدينارين ثمّ بلغت سبعة ثم لم توجد بقليل و لا كثير، فوقع هشام المكاري إلى أبي الحسن فأخبره بما اشترينا و انّا لم نجد، فوقّع عليه السّلام: «انظروا إلى الثمن الأوّل و الثاني و الثالث فاجمعوا ثم تصدّقوا بمثل ثلثه» (2)، و قد عمل به الأصحاب في محلّه، بل قالوا: الضابط أن يجمع القيمتان أو القيم و يتصدّق بقيمة منسوبة إلى القيم بالسويّة، فمن الثلاثة الثلث، و من الأربعة الربع، و هكذا،


1- لم يتقدّم منه «قدّس سرّه الشريف».
2- الوسائل 10: 172 ب «58» من أبواب الذبح ح 1.

ص: 416

و اقتصار بعض على الثلث تبعا للرواية، و إلّا فالمراد ذلك، و هو قريب إلى طريقة المشهور، بل لعلّ اختلاف البيّنات هو تعدّد القيم باعتبار تفاوت الرغبات، فيكون كالشي ء الواحد الّذي له قيم متعدّدة. و مقتضى العدل الجامع بين حقّي البائع و المشتري هو ما ذكره المشهور، و تضمّنه الخبر المزبور، فليست المسألة حينئذ من تعارض البيّنات كي يجري فيها حكمه.

قوله: «و اشتقاق المشروط منه ليس على الأصل كالشارط».

[أقول:] أي كاشتقاق الشارط على خلاف الأصل، أي على غير القياس، كاشتقاق المضحّي لمن أضحى الأصحيّة في يوم الأضحى، و المعرّف لمن أقام عرفات، و المشعر لمن بات المشعر، إلى غير ذلك ممّا يشتقّ من الجوامد على خلاف الأصل.

[القول في الشروط التي يقع عليها العقد و شروط صحتها و ما يترتب على صحيحها و فاسدها]
اشارة

قوله: «و لذا ليسا بمتضايفين في الفعل و الانفعال».

[أقول:] كالخالق و المخلوق، و الصانع و المصنوع، و القاتل و المقتول، بل كان الشارط بالمعنى الثاني هو الشارع، و الشرط هو الطهارة و القبلة، و المشروط له الصلاة.

و فيه: أنّ عدم التضايف بين الفاعل و المفعول لا ينحصر بالمشتقّ من الجوامد حتّى يستدلّ به على جمود مبدأ اشتقاقه، بل قد يأتي في المشتقّ من مبدأ الحدوث أيضا، كالنازل و المنزول، و العادل و المعدول، إلّا أن يخرج الأفعال اللازمة بقوله: «في الفعل و الانفعال».

قوله: «و على كلّ تقدير ففي الأخبار عنه بثلاثة أيّام مسامحة».

أقول: لا مسامحة عرفا في حمل الزمان على نفس الخيار، أو ثبوته بتقدير حرف في أو إلى، كقوله عليه السّلام: «الحيض ثلاثة أيّام» (1) و «خيار ما يفسد ليومه


1- الوسائل 2: 551 ب (10) من أبواب الحيض.

ص: 417

يوم» (1) فإنّه بليغ شائع كثير النظائر في العرف.

[الكلام في شروط صحة الشرط]

قوله: «فأسند الجعل إلى نفسه بهذا الاعتبار. فافهم».

[أقول:] إشارة إلى أنّه لا يقال: إنّ الإلزام و الالتزام باشتراط الشرط الغير المقدور باعتبار الأصل و بالذات غير مقدور و غير متوهّم الجواز، كذلك باعتبار الواسطة مقدور جائز غير متوهّم عدم جوازه، فأين محلّ الكلام و الخلاف ممّا يتوهّم فيه الجواز و العدم؟

لأنّا نقول: إنّ محلّه المقدور بالواسطة الغير المحتمل وجوده بالفعل، بل في المستقبل، فمن حيث إنّه غير مقدور بالأصل و الذات يوهم الغرر المانع من جوازه، و من حيث إنّه مقدور بالواسطة في المستقبل شبيه المشروط به في الحال يوهم إلحاقه بالمشبه به في الصحّة، لأصالة الصحّة شرعا، و عدم معلوميّة المانع من صدق الغرر عرفا، كما عن الشيخ (2) و القاضي (3) و التذكرة (4).

قوله: «و بيدها الجماع و الطلاق» (5).

أقول: الصحيح في نسخ كتب الأصول «بيده» لا «بيدها»، كما يشهد عليه قوله فيما بعد: «و ذلك السنّة» و فيما قيل: «خالفت السنّة و وليت حقّا ليست بأهله»، من ولي يلي، أي تبعت و اتبعت حقّا ليست بأهله.

قوله: «فإنّ التزام ترك المباح و إن لم يخالف الكتاب المبيح له إلّا أنّه التزامه (6) فعل الحرام يخالف الكتاب المحرّم له».


1- الوسائل 12: 358 ب (11) من أبواب الخيار.
2- المبسوط 2: 156.
3- جواهر الفقه: 60 مسألة 219.
4- تذكرة الفقهاء 1: 493.
5- الوسائل 15: 40 ب «29» من أبواب المهور ح 1.
6- في المكاسب: «إلّا أنّ التزام».

ص: 418

[أقول:] بقوله لِمَ تُحَرِّمُ مٰا أَحَلَّ اللّٰهُ لَكَ (1) و قوله قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللّٰهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبٰادِهِ (2) و قوله آللّٰهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللّٰهِ تَفْتَرُونَ (3)، و لا ينقضه صحّة اشتراط توارث المتعة، و لا رقية ولد الحرّ من مملوكه الغير بالشرط، و لا اختيار السكنى للزوجة، و لا اشتراط ما دون الوطء أو ما دون الليل أو النهار أو ما دون القسم لها، و لا اشتراط ما يخالف الكتاب في العقود و لو كانت المخالفة لعموم الوفاء بالعقود (4)، إلى غير ذلك ممّا يخالف عموم جوازه بالكتاب للزومه بالشرط أو بالعكس، و هو مخالفة جوازه بخيار الشرط للزوم الوفاء به بالكتاب، لإمكان الجواب بأنّ النصوص (5) المثبتة للزوم الشرط في أمثال تلك الموارد المخالفة لعمومات الكتاب إمّا أن تكون قاصرة عن الحجّية و تخصيص عموم الكتاب و عموم قوله عليه السّلام: «إلّا شرطا يخالف الكتاب» (6)، و إمّا أن لا تقصر عن الحجّية و تخصيص عموم الكتاب و القاعدة.

أمّا على الأوّل فلا تنهض لنقض قاعدة فساد الشروط المخالفة للكتاب.

و أمّا على الثاني فلا مانع من تخصيصها عموم فساد الشرط المخالف بالكتاب، فكما جاز تخصيص عموم الكتاب القطع و هو عموم أَوْفُوا بِالْعُقُودِ بالخبر الظنّي و هو «المؤمنون عند شروطهم» (7)، و كذلك جاز تخصيص عموم: «المؤمنون عند شروطهم» بقوله عليه السّلام: «إلّا شرطا خالف الكتاب» فكذا جاز تخصيص عموم: «إلّا ما خالف الكتاب» (8) بمثل إلّا توارث


1- التحريم: 1.
2- الأعراف: 32.
3- يونس: 59.
4- المائدة: 1.
5- الوسائل 12: 30 ب «20» من أبواب المهور ح 4.
6- الوسائل 12: 352 ب «6» من أبواب الخيار ح 2.
7- الوسائل 12: 30 ب «20» من أبواب المهور ح 4.
8- انظر الوسائل 12: 353 ب «6» من أبواب الخيار ح 3.

ص: 419

المتعة (1)، أو رقيّة الولد (2)، أو اختيار السكنى (3)، و نحوه ممّا يصلح للتخصيص بالفرض.

قوله: «فيمكن حمل رواية محمد بن قيس (4) على إرادة عدم سببيّته للطلاق بحكم الشرط. فتأمّل».

[أقول:] إشارة إلى استبعاد الحمل المذكور في الرواية من جهات:

أحدها: من جهة أنّ في سياق نفي سببيّته للطلاق نفي سببيّته للجماع أيضا بحكم الشرط و عموم النكرة في سياق النفي من قوله عليه السّلام: «خالفت السنّة و وليت حقّا ليست بأهله» (5)، فلا وجه لحمله على ففي سببيّته للطلاق خاصّة من غير مخصّص.

و ثانيا: من جهة عدم نهوض الحمل المذكور في سائر النصوص (6) المستفيضة النافية لاشتراط التسرّي و التزويج بمخالفة الكتاب، خصوصا في مثل قوله: «سألت الصادق عليه السّلام عن رجل تزوّج امرأة و شرط لها أن لا يتزوّج عليها و رضيت أنّ ذلك مهرها، فقال عليه السّلام: هذا شرط فاسد» (7)، و خبر زرارة «أنّ ضريسا كانت تحته بنت حمران فجعل لها أن لا يتزوّج عليها و لا يتسرّى أبدا في حياتها و لا بعد موتها على أن جعلت له هي أن لا تتزوّج بعده أبدا، و جعلا عليهما من الحجّ و العمرة و الهدي و النذور و كلّ مال لهما في المساكين إن لم يف كلّ واحد منهما لصاحبه، فقال عليه السّلام: إنّ لابنة حمران لحقّا، و لن يحملنا ذلك على أن لا نقول


1- الوسائل 14: 485 و 486 ب «32» من أبواب المتعة ح 1 و 5.
2- الوسائل 14: 578 ب «67» من أبواب نكاح العبيد و الإماء ح 2 و 3 و 4.
3- الوسائل 15: 48 ب «40» من أبواب المهور.
4- الوسائل 15: 40 ب «29» من أبواب المهور ح 1.
5- الوسائل 15: 40 ب «29» من أبواب المهور ح 1.
6- الوسائل 15: 29 ب «20» من أبواب المهور.
7- الوسائل 15: 29 ب «20» من أبواب المهور ح 1.

ص: 420

الحقّ لك فاذهب و تسرّ، فإنّ ذلك ليس بشي ء، و ليس شي ء عليك و لا عليها» (1)، الخبر.

و ثالثا: من جهة أنّ تأويل خبر ابن قيس ليس بأولى من تأويل خبر منصور: «فليف للمرأة شرطها» (2) بالحمل على استحباب الوفاء بالشرط و الوعد و لو لم يلزم، أو على التقيّة كما عن الشيخ (3)، و يعاضده خبر منصور بن حازم:

«سألته عمّن حلفت لزوجها بالعتاق و الهدي إن هو مات لا تتزوّج بعده أبدا ثمّ بدا لها أن تتزوّج، قال: تبيع مملوكتها فإنّي أخاف عليها السلطان، و ليس عليها في الحقّ شي ء» (4)، الخبر.

قوله: «المخالف للكتاب هو الشرط الوارد على القسم الثاني لا الأوّل».

[أقول:] فيه: ما عرفت من أنّ عموم تعليل ترك التسرّي و التزويج و الجماع و العتاق و الصدقة و الحجّ و العمرة و نحوها بالمخالفة ظاهر، بل صريح في كون المخالف للكتاب هو الشرط بقسميه، بل مورد جميع نصوص (5) الشرط و الاشتراط ليس إلّا الشرط المخالف بالمعنى الأوّل لا الثاني.

قوله: «فينبغي للمجتهد ملاحظة الكتاب و السنّة الدالّين على الحكم الّذي يراد تغيّره بالشرط و التأمّل فيه حتّى يحصل له التميز و عرف أنّ الشروط (6) من قبيل ثبوت الولاء لغير المعتق .. إلخ».

[أقول:] فيه: أنّ إحالة تميّز الأحكام من حيث قابليّة التغيير بالشرط


1- الوسائل 15: 29 ب «20» من أبواب المهور ح 2.
2- الوسائل 15: 30 ب «20» من أبواب المهور ح 5.
3- الاستبصار 3: 232 ذيل الحديث 835.
4- الوسائل 15: 30 ب «20» من أبواب المهور ح 5.
5- الوسائل 15: 29 ب «20» من أبواب المهور.
6- في المكاسب: «المشروط».

ص: 421

و عدمه، و من حيث مخالفة الشرط فيه للكتاب و السنّة و عدمه إلى نظر المجتهد و تأمّله و تتبّعه في الموارد المذكورة لا يكاد أن يضبط و لا أن يظهر، لاختلاف النظر، و إنّما الضابط و الأظهر الرجوع في جميع موارد الاشتراط المشكوكة الصحّة إلى ملاحظة النصوص الواردة في الاشتراط، فإن كانت قاصرة سندا أو دلالة عن الحجّيّة و تخصيص المخالف له في الكتاب و السنّة من عموم الوفاء بالعقود (1) و العهود (2) و عموم «ما خالف السنّة ردّ إلى السنّة» (3)- كما في ثبوت الولاء لغير المعتق- كان المرجع فيها إلى عموم الكتاب و السنّة المخالف للزوم الشرط و الاشتراط شرعا، لغرض قصور المخصّص له بالشرط عن التخصيص، و إلّا فالمرجع إلى عموم دليل الاشتراط المخصّص لعموم: «ردّ ما خالف الكتاب و السنّة إلى الكتاب و السنّة».

و حاصل الضابط: أنّ مورد الشرط إن لم يخالف عموم الكتاب و السنّة كان المرجع فيه إلى عموم الوفاء بالعهود و «المؤمنون عند شروطهم» (4)، و إن خالفه كان المرجع فيه إلى عموم الكتاب و السنّة، إلّا إذا خصّصه مخصّص رجع إليه. فلم يبق من مورد للشكّ في صحّة الشروط حتّى يحتاج فيه إلى تتبّع المجتهد أو الرجوع إلى الأصل، على أنّ ما يتراءى من التعارض و تخصيص المخالف للكتاب سيّما في التحريم و التحليل فهو على شذوذه و على تقدير ثبوته مؤوّل إلى الموافقة للكتاب في الواقع و الباطن، لأنّ للقرآن سبعون (5) بطون


1- المائدة: 1.
2- النحل: 91.
3- انظر الوسائل 15: 311 ب «29» من أبواب مقدّمات الطلاق و شرائطه.
4- الوسائل 15: 30 ب «20» من أبواب المهور ح 4.
5- لم نعثر على الحديث بهذا اللفظ، و لكن وجد بألفاظ اخرى، راجع البحار 92: 91 و 95 ح 37 و 48.

ص: 422

وَ لٰا رَطْبٍ وَ لٰا يٰابِسٍ إِلّٰا فِي كِتٰابٍ مُبِينٍ (1) وَ مٰا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللّٰهُ وَ الرّٰاسِخُونَ (2). فحينئذ فلا معارض للقاعدتين الكلّيتين «كلّ شرط جائز إلّا ما حرّم حلالا» (3)، بل و لا تخصيص في البين فضلا عن التخصيص بالأكثر، بل هو آب عن التخصيص، لقوله تعالى فيه: تبيان لكلّ شي ء (4) مٰا فَرَّطْنٰا فِي الْكِتٰابِ مِنْ شَيْ ءٍ (5) وَ لٰا رَطْبٍ وَ لٰا يٰابِسٍ إِلّٰا فِي كِتٰابٍ مُبِينٍ و لٰا يَأْتِيهِ الْبٰاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَ لٰا مِنْ خَلْفِهِ (6). و قوله صلّى اللّٰه عليه و آله: «لن يفترقا حتّى يردا عليّ الحوض» (7)، و قوله صلّى اللّٰه عليه و آله:

«ما جاءكم عنّي لا يوافق القرآن فهو باطل» (8) «فهو زخرف» (9) إلى [غير ذلك] من نصوص «العرض على الكتاب» (10) المتواترة الصحيحة الصريحة في كون الكتاب ضابط كلّي لتميّز الحقّ و الباطل، و الصدق و الكذب، و مع ذلك كيف يعقل المخالفة للقرآن ممّن هو نفس القرآن؟!

قوله: «فإن لم يحصل له بنى على أصالة عدم المخالفة .. إلخ».

[أقول:] و فيه أوّلا: ما عرفت من الضابط الكلّي أنّ مورد الشرط إن لم يخالف عموم الكتاب و السنّة كان راجعا إلى عموم: «المؤمنون عند شروطهم» (11)، و إن خالفه كان مرجعه إلى عموم الكتاب و السنّة، إلّا إذا خصّص بمخصّص رجع


1- الأنعام: 59.
2- آل عمران: 7.
3- الوسائل 12: 353 ب «6» من أبواب الخيار ح 5.
4- النحل: 89.
5- الأنعام: 38.
6- فصّلت: 42.
7- الوسائل 18: 19 ب «5» من أبواب صفات القاضي ح 9.
8- الوسائل 18: 79 ب «9» من أبواب صفات القاضي ح 15.
9- الوسائل 18: 79 ب «9» من أبواب صفات القاضي ح 14.
10- الوسائل 18: 84 ب «9» من أبواب صفات القاضي ح 29.
11- الوسائل 15: 30 ب «20» من أبواب المهور ح 4.

ص: 423

إليه. فلم يبق مورد للشكّ حتّى يرجع فيه إلى الأصول.

و ثانيا: لو سلّمنا فالأصل الأصيل في مورد الشكّ في صحّة الشرط و عدمه هو أصالة عدم تأثير الشرط، و استصحاب بقاء العقد على لزومه، و بقاء المشروط على عدم لزومه، و الشرط على عدم تأثيره، لا أصالة عدم المخالفة و أصالة قابليّة الحكم الحادث للتغيّر بالشرط.

لأنّ الشكّ في ذلك أوّلا: كالشكّ في ذكوريّة المولود و أنوثيّته شكّ في الحادث لا الحدوث فلا يجري فيه الأصل.

و ثانيا: أنّه مثبت لا يثبت بأصالة عدم المخالفة تأثير الشرط لزوم المشروط.

و ثالثا: بأنّ أصالة عدم تأثير الشرط و الاشتراط لزوم المشروط و عدم تغيّر المشروط بالشرط، و استصحاب بقاء العقد المشروط على ما كان قبل الشرط حاكم على أصالة عدم المخالفة و أصالة قابليّة الحكم المشروط للتغيّر بالشرط.

كما أنّ استصحاب طهارة المتيمّم و أصالة عدم انتقاضة بوجدان الماء في أثناء الصلاة حاكم على أصالة عدم ثبوت التيمّم، و حكم الطهارة على وجه لا يقبل الانتقاض بوجدان الماء في أثناء الصلاة.

قوله: «و فيه من الضعف ما لا يخفى».

أقول: أمّا المفصّل المذكور فهو ظاهر المستند (1) و عن صريح العوائد (2).

و أمّا تفصيله فهو تخصيص الشرط المخالف للكتاب الممنوع عنه بما كان الحكم المشروط لا شرطه، و التزامه مخالفا للكتاب، و ظاهره إرادة ما لو اشترط حلّ الحرام أو حرمة الحلال، لا فعل الحرام أو ترك الحلال، كما مثّل له باشتراط عدم


1- انظر مستند الشيعة 2: 389.
2- عوائد الأيام: 49.

ص: 424

خيار ما فيه الخيار لا سقوط الخيار.

و أمّا وجه ضعفه فلما فيه أوّلا: بأنّه لا مخصّص لتخصيصه الشرط المخالف للكتاب الممنوع عنه باشتراط حلّ الحرام لا فعله، بل لا موقع له في الشروط و الالتزامات الغالبة.

و ثانيا: بأنّ نسبة الشرط المخالف للكتاب الممنوع عنه بالنسبة إلى عموم:

«المؤمنون عند شروطهم» (1) و وجوب الوفاء بالشرط خاصّ مقدّم عرفا و مستثنى من العموم، فأين التعارض المحوج إلى المرجّح الخارجي من إجماع و نحوه.

و ثالثا: بما في المتن من قوله: «مع أنّ اللازم (2) .. إلخ».

قوله: «و أدلّة الشروط حاكمة على القسم الأوّل دون الثاني».

[أقول:] و فيه: ما عرفت من أنّ حكومة أدلّة الشرط على الأوّل مبنيّ على ما اختاره من تخصيص المخالف للكتاب المخصّص لعموم أدلّة الشروط بالقسم الثاني دون الأوّل، و إلّا فعلى تعمّم المخالف للقسمين- كما عرفت- ينعكس الأمر و يكون المخالف بقسميه مخصّص لأدلّة الشروط لا محالة.

قوله: «و الوقوف مع الدليل الخارج الدالّ على فساد الاشتراط يخرج الرواية عن سوقها لبيان ضابطة الشروط عند الشكّ .. إلخ».

أقول: أصل هذا الإشكال على طوله من الجواب و السؤال، و القيل و القال، مبنيّ على تخصيص المخالف للكتاب الممنوع فيه الاشتراط بخصوص الأحكام الإلزاميّة دون غيرها، و أمّا على تعمّم المخالف للقسمين فلا إشكال في البين، لانحصار المشكوك في ضابطتين كلّيتين، لأنّ مشكوك الصحّة من جميع موارد


1- الوسائل 15: 30 ب «20» من أبواب المهور ح 4.
2- المكاسب: 279.

ص: 425

الاشتراط حينئذ إن لم يخالف الكتاب بشي ء من قسمي المخالفة شرطا أو مشروطا اندرج في عموم كلّية ضابطة صحّة الاشتراط و وجوب الوفاء بالشرط، لعموم: «المؤمنون عند شروطهم» (1). و إلّا بأن خالفه بشي ء من قسمي المخالفة شرطا أو مشروطا اندرج في عموم كلّية ضابطة ممنوعيّة اشتراط المخالف من الصحّة، إلّا ما أخرجه الدليل المخصّص فانضبط ضابطيّة الرواية من الجهتين و ارتفع الإشكال في البين.

إذ كما لا إشكال في تخصيص عموم قاعدة أَوْفُوا بِالْعُقُودِ بعموم قاعدة «المؤمنون عند شروطهم» و لا في تخصيص عموم هذا المخصّص بعموم:

«كلّ شرط خالف الكتاب فهو باطل» «مردود» (2) كذلك لا ينبغي الإشكال في تخصيص القاعدة الثانية ببعض المخصّصات الخاصّة المنصوصة لصحّة اشتراط بعض ما خالف الكتاب من توريث المتعة (3) و رقيّة ولد المملوكة من الحرّ (4)، و نحوه ممّا أخرجه النصّ المخرج عن القاعدة على تقدير ثبوته، و حاملهم على تكليف تخصيص الشرط الجائز و الغير الجائز بأحد المخصّصات المذكورة على طولها توهّم التعارض أو لزوم التخصّص بالأكثر بين قوليه: «كلّ شرط أو صلح جائز إلّا ما حرّم حلالا (5) .. إلخ»، حيث إنّ الشرط كالنذر و العهد و اليمين كثيرا ما يحرّم الحلال.

و يدفعه: أنّ النذر و العهد و اليمين خارج عن موضوع الشرط تخصّصا، و الشرط المحرّم للحلال خارج عن حكمه تخصيصا في خصوص ما أخرجه


1- الوسائل 15: 30 ب «20» من أبواب المهور ح 4.
2- الوسائل 13: 43 ب «15» من أبواب بيع الحيوان ح 1.
3- الوسائل 14: 485 و 486 ب «32» من أبواب المتعة ح 1 و 5.
4- الوسائل 14: 578 ب «67» من أبواب نكاح العبيد و الإماء ح 2 و 3 و 4.
5- الوسائل 12: 353 ب (6) من أبواب الخيار ح 5.

ص: 426

الدليل الدالّ على الوفاء بالشرط المحرّم للحلال في موارد قليلة لا تستلزم التخصيص بالأكثر و لا غيره، بل المعلوم من نصوص «العرض على الكتاب» (1) و «إنّي تارك فيكم الثقلين: كتاب اللّٰه و عترتي، و أنّهما لن يفترقا» (2) أنّ المخالف للكتاب سيّما في التحريم و التحليل على شذوذه و على تقدير ثبوته مؤوّل في الواقع و الباطن إلى الموافق، لأنّ «للقرآن سبعون بطن» (3) وَ لٰا رَطْبٍ وَ لٰا يٰابِسٍ إِلّٰا فِي كِتٰابٍ مُبِينٍ (4) وَ مٰا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللّٰهُ وَ الرّٰاسِخُونَ (5).

قوله: «بل يلزم كون الكلّ لغوا».

[أقول:] أي يلزم من تعميم المستثنى بقوله: «إلّا ما حرّم حلالا» (6) لعموم تحريمه الحلال بنفسه أو بغيره لغوية عموم المستثنى منه بقوله: «المؤمنون عند شروطهم» (7) «و كلّ شرط جائز»، لانحصار المستثنى منه حينئذ في اشتراط الواجب فعله أو تركه بعد تعمّم المستثنى لمطلق المحرّم للحلال بنفسه أو بغيره، بخلاف ما لو خصّصناه بالمحرّم بلفظ التحريم لا غير. و فيه منع الملازمة، لأنّ لغويّة الكلّ إنّما هو في التخصيص بالأكثر.

قوله: «و للنظر في مواضع من كلامه مجال. فافهم».

[أقول:] لما فيه أوّلا: من أنّه لا مخصّص للشرط المخالف بالمخالفة الكلّية دون الجزئيّة في فرد من الكلّي.


1- الوسائل 18: 84 ب (9) من أبواب صفات القاضي ح 29.
2- الوسائل 18: 19 ب «5» من أبواب صفات القاضي ح 9.
3- لم نعثر على الحديث بهذا اللفظ و لكن وجد بألفاظ اخرى، راجع البحار 92: 91 و 95 ح 37 و 48.
4- الأنعام: 59.
5- آل عمران: 7.
6- الوسائل 12: 353 ب «6» من أبواب الخيار ح 5.
7- الوسائل 15: 30 ب «20» من أبواب المهور ح 4.

ص: 427

و ثانيا: بأنّ المنع عن كلّي شي ء منع عن كلّ فرد من جزئيّاته بخلاف العكس، و المنع عن كلّي ترك التسرّي و التزويج منع عن كلّ فرد من جزئيّاته أيضا، فأين التفكيك؟

و ثالثا: بأنّ مخالفة الشرط و مبدعيّة الالتزام و عدمه منوط بمشروعيّة الشرط و الالتزام و عدمه لا بكلّية الملتزم و جزئيّته.

و قد تلخّص ممّا ذكرنا أنّ مشروعيّة الشرط و عدمه و صحّة الالتزام به و عدمه و مخالفة الشرط للكتاب و عدمه لا يناط و لا يحاط بشي ء من المخصّصات المذكورة بأسرها، لا بمخالفة المشروط دون الشرط للكتاب، و لا بمخالفة الحكم المشروط له و عدمه كما عن العوائد (1)، و لا بقابليّة المشروط للتغيّر بالشرط و عدمه كما عليه المصنّف (2)، و لا باستناد حلّيته إلى الحكم الوضعي دون التكليفي، و لا بتحريم الشرط الحلال بلفظ التحريم لا بنفس الشرط كما قيل أو يقال، و لا باشتراط المخالفة الكلّية للكتاب و الجزئيّة كما عن القميّ (3).

نعم، إنّما يناط و يحاط صحّة الاشتراط و عدمه بما اخترناه من الضابط الكلّي و القانون الشرعي، و هو كون الشرط إن لم يخالف حكمه حكم الكتاب بشي ء من قسمي المخالفة شرطا أو مشروطا كان مرجعه إلى عموم قاعدة «لزوم الوفاء بالشرط» بعموم «كلّ شرط جائز»، و إلّا فإن خالف حكمه بشي ء من قسمي المخالفة كان مرجعه إلى عموم قاعدة «فساد الشرط المخالف للكتاب»، إلّا ما أخرجه النصّ المخرج.


1- عوائد الأيام: 48.
2- المكاسب: 279.
3- لم نحصل على كتابه المسمّى «الرسالة الشرطية».

ص: 428

و في الجواهر (1) تخصيص الشرط المخالف للكتاب بالمثبت للحكم المخالف له دون الملزوم للجائز منه، و لعلّه راجع إلى أحد التفاصيل الستّة أو السابع المختار.

قوله: «فيستحيل الوفاء بهذا العقد مع تقييده بهذا الشرط».

[أقول:] لأنّ الجمع بين ضدي النفي و الإثبات و هو الوفاء بالعقد الّذي هو العمل بمقتضاه و الوفاء بالشرط الّذي هو عدم الوفاء به تكليف بالمحال، بل في نفسه محال، لرجوعه إلى الجمع بين الضدّين، بل المتناقضين.

قوله: «فإنّه شرط مناف كالعتق ليس مبنيّا على التغليب».

[أقول:] و فيه أوّلا: أنّ الوقف أيضا كالعتق عبادة مبنيّة على التغليب.

و ثانيا: أنّ التغليب في العتق و إن بلغ ما بلغ لا يصحّح اشتراطه المنافي بالفرض لمقتضى العقد و وقوع التنافي المفروض بين الأخذ بمقتضى العقد أو الشرط المنافي له بالفرض و كون التكليف به من قبيل التكليف المحال أو في نفسه محال، إلّا إذا فرض تخصيص عموم (2) بطلان الشرط المنافي لمقتضى العقد، كالمنافي للكتاب بالنصّ (3) المخرج لاشتراط العتق أو نحوه عن عموم بطلان المنافي.

قوله: «فجعل اشتراط كون الجماع بيد الزوجة في الرواية (4) السابقة منافيا لهذه الآية (5)، و لم يجعل اشتراط عدم الإخراج من البلد منافيا».


1- جواهر الكلام 23: 201.
2- الوسائل 12: 352 ب (6) من أبواب الخيار.
3- الوسائل 13: 43 ب «15» من أبواب بيع الحيوان.
4- الوسائل 15: 40 ب «29» من أبواب المهور ح 1.
5- في المكاسب: «لهذا الأثر».

ص: 429

أقول: فيه أنّ عموم الرِّجٰالُ قَوّٰامُونَ عَلَى النِّسٰاءِ (1) مناف لكلّ من الجعلين، لعدم الفارق في البين، إلّا على ما فرضنا من تخصّص عموم بطلان الشرط المنافي لمقتضى العقد بالنصّ (2) المخرج لاشتراط السكنى دون اختيار الجماع عن عموم الرِّجٰالُ قَوّٰامُونَ.

قوله: «و قد فهم الفقهاء من قوله صلّى اللّٰه عليه و آله: «البيّعان بالخيار حتى يفترقا فإن افترقا وجب البيع» (3) التنافي».

[أقول:] أي للشرط المنافي لما قبل التفرّق باشتراط سقوط الخيار، و لما بعده باشتراط ثبوته.

قوله: «فاجمعوا على صحّة اشتراط سقوط الخيار الّذي هو من الآثار الشرعيّة للعقد و كذا [على صحّة] اشتراط الخيار بعد الافتراق».

أقول: إنّ رفع التنافي لمقتضى العقد بين صحّة اشتراط سقوط خيار ما فيه الخيار، و إثبات خيار ما ليس فيه الخيار، لو استند إلى الإجماع أو نظر الفقيه و فهمه، مضافا إلى ما عرفت من اختلافه و عدم انضباطه يستلزم الإشكال و الاختلال في انضباط الضوابط الشرعيّة و القواعد الكلّية في باب الشروط من أنّ كلّ شرط جائز إلّا كلّ شرط خالف الكتاب، بل هو مستند إلى الضابط الكلّي في باب الشروط من تخصيص عموم أَوْفُوا بِالْعُقُودِ، و بخصوص «البيّعان بالخيار ما لم يفترقا» (4)، و حكومة «المؤمنون عند شروطهم» (5) على عموم:

أَوْفُوا بِالْعُقُودِ، و إلّا لم يبق لعموم الحاكم و هو «كلّ شرط جائز» مورد إلّا


1- النساء: 34.
2- الوسائل 15: 48 ب «40» من أبواب المهور.
3- الوسائل 12: 346 ب «1» من أبواب الخيار.
4- الوسائل 12: 346 ب «1» من أبواب الخيار.
5- الوسائل 15: 30 ب «20» من أبواب المهور ح 4.

ص: 430

و نافى عموم المحكوم و هو وجوب الوفاء بالعقد و مقتضاه، و دخل في عموم المخالف للكتاب الممنوع اشتراطه. فوروده مورد عموم الوفاء بالعقد قرينة حكومته و تقدّمه عليه و انحصار الشرط المخالف للكتاب و المنافي لمقتضى العقد المستثنى من عموم جواز الشروط و صحّتها بقوله: «إلّا ما خالف الكتاب» أو «أحلّ حراما أو حرّم حلالا فهو باطل» «مردود» في خصوص المنافي بغير عموم الوفاء بالعقد و المخالف لغيره من سائر العمومات و المقتضيات الأخر، لأنّ عموم الوفاء محكوم لعموم: «كلّ شرط جائز» و هو محكوم قوله عليه السّلام: «إلّا ما خالف الكتاب» (1) و نافى مقتضى العقد. و من المعلوم أنّ محكوم المحكوم محكوم للحاكم فلا ينافيه و لا يخالفه، بل المراد ممّا يخالفه و ينافيه الممنوع و الموضوع للحاكم، إنّما هو غير مخالفة المحكوم من سائر المخالفات و العمومات الغير المحكومة للحاكم المخالفة له على وجه التعارض.

فتبيّن أنّ المرجع و المستند في تميّز المخالف للكتاب و عدمه و المنافي لمقتضى العقد و عدمه ليس إلى ما ذكره المصنّف من الرجوع إلى نظر الفقيه و فهمه، أو إلى الدليل الخارج من إجماع أو غيره ممّا يقيّد قابلية العقد للتغيّر بالشرط و عدمه، و منافاة الشرط لمقتضى العقد و عدمه، بل المرجع فيه إلى الضابطتين الشرعيّتين و القاعدتين الكلّيتين في باب المشروط من أنّه إن لم يخالفه عموم غير عموم أَوْفُوا بِالْعُقُودِ المحكوم له من سائر عموماته المخالفة كان مرجعه إلى عموم: «كلّ شرط جائز»، و إن خالفه شي ء من سائر عمومات الكتاب المخالفة له على وجه المعارضة لا المحكوميّة كان مرجعه إلى عموم: «كلّ ما خالف الكتاب فهو باطل» «مردود» (2) إلّا ما أخرجه النصّ (3) المخصّص لعموم


1- انظر الوسائل 12: 353 ب (6) من أبواب الخيار.
2- الوسائل 13: 43 ب «15» من أبواب بيع الحيوان ح 1.
3- تقدّم مصدره في هامش (1- 3) ص: 419 و هامش (2) ص: 420.

ص: 431

المخالفة، و حينئذ فلم يبق مورد للشكّ المحوج إلى الأصل، فضلا عن الإشكال في جواب السؤال، و تطويل المقال عن مقتضى الحال بالقيل و القال.

هذا كلّه مضافا إلى ما عرفت من أنّ عموم بطلان مخالفة الكتاب و ردّه قاعدة كلّية و ضابط كلّي جعله الشارع تميّز الحقّ و الباطل و الصدق و الكذب آب عن التخصّص، فضلا عن التخصيص بالأكثر، و فضلا عن المعارض. و ما تراءى من المعارض و المخالف للكتاب كالمتشابهات مؤوّل إلى الموافقة القطعيّة للكتاب عند من عنده علم الكتاب، و قد قال عليه السّلام في تفسير اللّٰهُ الصَّمَدُ: «لو وجدت لعلمي الّذي أتاني اللّٰه عزّ و جلّ حملة لنشرت التوحيد و الإسلام و الإيمان و الدين و التشريع من الصمد» (1).

قوله: «لعموم نفي الغرر (2) إلّا أن يعدّ المشروط (3) في العرف تابعا غير مقصود بالبيع كبيض الدجاج».

أقول: و كذلك ثياب المملوك، و جلّ الفرس، و شعر المعز، و صوف الشاة، و وبر الإبل، و نحوها من توابع المبيع الغير المقصودة فيه ممّا لا يعدّ الجهل في كمّها و كيفها غررا عرفا، و يقرب منه جهالة مدّة الخيار فإنّ اشتراطه في عقود المعاوضة يوجب الغرر الباطل، بل المبطل، و في عقود المصالحة المبتنية على الصلح لا المعاوضة لا يوجب غررا عرفا و إن بلغ الجهل فيه ما بلغ.

قوله: «و صرّح بجواز اشتراط رهن المبيع على الثمن مع جريان الدور فيه».

أقول: تقرير الدور في جميع صور اشتراط نقل المنقول عن الناقل إلى الناقل مبنيّ على توقّف نقل المنقول إلى الناقل على سبق نقله عنه لعموم: «لا بيع


1- مجمع البيان 5: 566.
2- الوسائل 12: 330 ب «40» من أبواب آداب التجارة ح 3.
3- في المكاسب: «إلّا إذا عدّ الشرط».

ص: 432

إلّا في ملك» (1)، و توقّف نقله عنه على سبق نقله إليه لقضاء الشرطيّة و هو الدور.

و يدفعه: أنّ معنى اشتراط العقد بشرط إن كان التعليق في إنشائه لزم الدور، بل و عدم تحقّق الإنشاء و عقده من أصل في جميع أقسام الشروط و لو شرط الانتقال إلى غير الناقل، فضلا عن اشتراط نقله إليه قبل الانتقال عنه، لأنّ الإنشاء و التعليق ضدّان لا يجتمعان، فيبطل الإنشاء المشروط بأيّ شرط كان في جميع صوره، و إن كان التعليق في المنشئ و أحكام الإنشاء و آثاره المترتّبة عليه صحّ المشروط بأيّ شرط كان في جميع صوره، حتّى لو اشترط على المبتاع بيعه على البائع، فضلا عن بيعه على غيره، أو رهنه عند البائع في ثمن المبيع، لعدم استلزام الشرط في المنشئ كالنذورات ما استلزمه الشرط في الإنشاء من الدور و لا الخلف.

قوله: «لكنّ الظاهر من كلمات الأكثر عدم لزوم الشرط الغير المذكور في متن العقد .. إلخ».

أقول: بل الأظهر من منصرف معقد الإجماع و ظواهر عدم لزوم الشرط الغير المذكور في متن العقد الانصراف إلى عدم لزوم الغير المقصود المتباني عليه في العقد، و إلّا فمن قواعدهم المسلّمة كون «العقود تابعة للقصود» و «المرء يدان بنيّته» و «إنّما يحشر الناس على نيّاتهم».

قوله: «بجواز أن يبيع الشي ء من غيره بثمن زائد مع قصدهما نقله بعد ذلك إلى البائع .. إلخ».

أقول: فيه لا أقل من احتمال أن يراد من قصدهما نقله بعد ذلك إلى البائع قصدهما بقصد مستقلّ لا بقصد تبعي على وجه الشرطيّة التبعيّة المقصودة من نفس العقد الّذي هو محلّ النظر، و الاحتمال يبطل الاستدلال.


1- عوالي اللئالي 2: 247.

ص: 433

قوله: «لكنّه تقييد لإطلاق كلماتهم».

أقول: بل لعلّه بيان منصرف إطلاقاتهم، خصوصا بقرينة الجمع بينهما و بين قواعدهم المسلّمة من «أنّ العقود تابعة للقصود» و «كلّ يدان بنيّته».

قوله: «حكي عن المشهور أنّ عقد النكاح المقصود فيه الأجل و المهر المعيّن إذا خلا عن ذكر الأجل ينقلب دائما».

أقول: الاستشهاد به إنّما يتمّ لو لم يستند فتوى المشهور به إلى خصوص النصّ (1) الدالّ على انقلابه دائما و تغليب الدوام على الانقطاع، و إلّا فلا شهادة فيه على القاعدة الكلّية، و هو عدم اعتبار الشرط المتباني عليه في العقود التابعة للقصود.

قوله: «لأنّ الشرط من أركان العقد المشروط، بل قد (2) عرفت أنّه كالجزء من أحد العوضين».

أقول: ركنيّة الشرط للمشروط بل لو فرض جزئيّته أيضا في خصوص اختلال حكم المشروط و هو اللزوم باختلاله لا يوجب فساد العقد بعدم ذكره لفظا مع التباني عليه قصدا، بعد فرض صدق العقد و صحّة إطلاقه عليه عرفا، و عدم مدخليّته في صدق العقد و إطلاقه عرفا و إن كان له مدخليّة في اللزوم و عدمه على وجه عرفت ضعفه.

قوله: «و لذا اعترف بعضهم بأنّ مرجع قوله: «أنت وكيلي إذا جاء رأس الشهر في أن تبيع» و «أنت وكيلي في أن تبيع إذا جاء رأس الشهر» إلى واحد، مع الاتّفاق على صحّة الثاني و بطلان الأوّل».

أقول: لا وجه لما ذكره من اتّحادهما معنى و اختلافهما حكما بالصّحة


1- الوسائل 14: 469 ب «20» من أبواب المتعة.
2- هذه الكلمة غير موجودة في المكاسب.

ص: 434

و البطلان، إلّا بإرجاع الشرط و التعليق في صورة البطلان إلى أصل الإنشاء، و في صورة الصحّة إلى المنشئ و أحكام الإنشاء و آثاره المترتّبة عليه، و هو راجع إلى اختلاف المعنيين، لا إلى مجرّد اختلاف لفظ المثالين مع اتّحاد المعنى في البين، كما زعم.

[مسألة في حكم الشرط الصحيح]

قوله: «و أمّا توقّف الملك [و شبهه] على أسباب خاصّة فهي دعوى غير مسموعة».

[أقول:] و فيه: كيف تكون الدعوى غير مسموعة و الحال أنّ الشرط لا يزيد على النذر و العهد و اليمين الّتي ليست بنحو أقلّ شرعيّة لتمليك معلقاتها؟ بل الخلف و الحنث يوجب الكفّارة لا النقل و الانتقال، فكيف يكون الشرط ناقلا مملكا خصوصا شرط الصدقة و العتق ممّا يتوقّف على الإنشاء و القربة بالاتّفاق ممّن عدا العامّة (1)؟

قوله: «و الأظهر في كلمات الأصحاب وجود الخلاف في المسألتين».

[أقول:] أي وجود الخلاف في وجوب الوفاء بالشرط و عدمه، و في وجوب إجبار الممتنع من الوفاء بالشرط و عدمه، و لكن مقتضى القاعدة و الملازمة مع الغضّ عن كلمات الأصحاب هو ابتناء الخلاف في المسألة الثانية على الخلاف في الاولى لا غير، إذ كلّ من التزم بوجوب الوفاء بالشرط كوجوب الوفاء بالعقد، كما هو الأظهر الأشهر من قوله عليه السّلام: «و من شرط شرطا فليف به» (2) و «المؤمنون عند شروطهم» (3) لزمه القول بوجوب إجبار الممتنع بالشرط قطعا، كما هو القاعدة الكلّية في إجبار كلّ ممتنع عن حقّ واجب من الوفاء بالعقد أو الشرط أو غيرهما. و كلّ من قال بعدم وجوب الوفاء بالشرط و كون الشرط هو


1- المغني لابن قدامة 12: 234، الشرح الكبير 12: 234- 235.
2- الوسائل 12: 353 ب (6) من أبواب الخيار ح 5.
3- الوسائل 15: 30 ب «20» من أبواب المهور ح 4.

ص: 435

الإلزام و الالتزام وعدا من جانب الشارط لا حكما من جانب الشارع لزمه القول بعدم وجوب إجبار الممتنع منه، لأنّه وعد لا يجب الوفاء به و إلزام من الشارط لا من الشارع حتّى يجب الالتزام به.

نعم، الانجبار بالخيار في موارد تعذّر الإجبار جبرا للضرر و الضرار.

قوله: «فيكون ذلك بمنزلة التقايل من الطرفين عن تراض».

[أقول:] و فيه: عدم الدليل على هذا التنزيل مع وجود الفرق و الفارق بينهما، و هو وجود التراضي في التقايل من الطرفين و عدمه فيما نحن فيه إلّا من طرف الشارط دون المشروط عليه، لأنّ مجرّد امتناعه عن الشرط لا يستلزم رضاءه بفسخ العقد المشروط، و رضاء الشارط بفسخ العقد مع عدم رضاء المشروط عليه لا يكون فسخا، لأصالة عدمه و عدم الانفساخ به و استصحاب بقاء لزوم العقد و الشرط و عدم الخيار، إلّا مع تعذّر الإجبار جبرا للضرر و الضرار.

قوله: «فيجوز للمشروط له أيضا نقضه. فتأمّل».

[أقول:] إشارة إلى ما ذكرنا من الفرق بين التقايل و ما نحن فيه، أو إلى منع ما ذكره هو من الفرق بين الامتناع عن أحد العوضين و بين الامتناع عن الشرط المفروض فعلا في البين، إلّا في كون المملوك في العوضين هو العين بالعقد، و في المشروط هو الفعل بالشرط، و هو غير فارق لتنقيح المناط و اتحاد الملك بالأصالة بينهما.

فكما أنّ المملوك بالعقد هو أحد العوضين بالأصالة سواء كان عينا أو فعلا أو منفعة و لا ينفسخ العقد بالفسخ و لا يتأتّى الانجبار لرفع الضرر و الضرار إلّا بعد تعذّر الإجبار، فكذلك المملوك بالشرط إنّما هو المشروط بالأصالة سواء كان عينا أو وصفا أو فعلا أو منفعة، و لا ينفسخ بالفسخ و لا ينجبر بالخيار لرفع الضرر و الإضرار إلّا بعد تعذّر الإجبار؛ لأصالة عدم الانفساخ و عدم الخيار إلّا بعد تعذّر

ص: 436

الإجبار.

قوله: «ثمّ على المختار من عدم الخيار مع تعذّر الإجبار».

[أقول:] و الصحيح سقوطه إلّا مع تعذّر الإجبار.

قوله: «إذ كلّ شرط كذلك،

أي: كلّ شرط يتفاوت به قيمة المشروط عن غير المشروط، كتوصيف العبد بالكتابة و الشجاعة المشروطة في اتباعه و إن لم يتقوّم في نفسه، كفعل الكتابة و الخياطة.

قوله: «و ما ذكره لا يخلو من وجه».

أقول: لا وجه إلّا قياس الفائت من الشرط بالعيب في الأرش و بالجزء في المقابلة بالمال، و هو لو تمّ لتمّ في مطلق الشرط و القيد، فلا وجه لتفصّله بين الوصف و العمل المقابل بالمال و عدمه في أخذ الأرش.

قوله: «و تخالف هذه العتق بشرط الخدمة».

[أقول:] و فيه: منع الخلف و الفرق بين هذه العقود و بين العتق بشرط الخدمة و تعليل الفرق بقوله: «لأنّ العتق مبنيّ على التغليب» (1) إنّما هو في موارد النصّ بالسراية، لأنّه خلاف الأصل فيقتصر عليه و لا يقاس عليه غيره.

قوله: «فيه احتمال».

أقول: احتمالاته أربعة:

أحدها: إمضاء البائع لكلّ من بيعه و بيع المشتري.

الثاني فسخهما معا.

و الثالث و الرابع: إمضاء بيعه دون بيع المشتري و العكس أقواها الملازمة، و أنّ إمضاء بيع البائع إمضاء لبيع المشتري، كما أنّ فسخه يستلزم انفساخ ما تعقّبه من بيع المشتري.


1- المكاسب: 286.

ص: 437

و أمّا التفكيك بإمضاء أحدهما دون الآخر فهو ضعيف، سيّما إمضاء البائع بيعه دون ما تعقّبه من بيع المشتري.

قوله: «و ظاهره ما اخترناه».

[أقول:] أي: ظاهر قوله: «للبائع فسخ ذلك كلّه» ما اخترناه من الصحّة بالإمضاء لا البطلان مطلقا فإنّه ضعيف.

قوله: «لا يسقط بالتصرّف فيها».

[أقول:] أي: بتصرّف ذي الخيار و هو المشروط له لا المشروط عليه، بقرينة قوله بعده: «نعم، إذا دلّ التصرّف على الالتزام بالعقد لزم و سقط الخيار» (1)، فإنّ المراد من هذا التصرّف المستدرك المسقط للخيار هو تصرّف الشارط فيما انتقل إليه قطعا.

قوله: «المطلوب غير هذا. فافهم».

[أقول:] إشارة إلى أنّه لا يقال: ما الفرق بين نذر العتق و اشتراطه؟ فكما أنّ نذره يوجب الحق للّٰه تعالى بعموم يُوفُونَ بِالنَّذْرِ (2) وَ الْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذٰا عٰاهَدُوا (3) و لٰا يُؤٰاخِذُكُمُ اللّٰهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمٰانِكُمْ وَ لٰكِنْ يُؤٰاخِذُكُمْ بِمٰا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمٰانَ (4) و عموم «لا عتق إلّا لوجه اللّٰه» (5) و «لا يمين و لا نذر إلّا لوجه اللّٰه» (6) و «لا نذر إلّا في طاعة» (7)، فكذلك شرطه يوجب الحقّ للّٰه تعالى بعموم:


1- المكاسب: 286.
2- الإنسان: 7.
3- البقرة: 177.
4- المائدة: 89.
5- الوسائل 16: 6 ب «4» من أبواب العتق ح 1 و 2.
6- الوسائل 16: 138 ب (14) من أبواب الأيمان ح 1 و 2.
7- كنز العمال 16: 713 ح 46478، مجمع الزوائد 4: 186.

ص: 438

«من شرط لامرأته فليف» (1) و «المؤمنون عند شروطهم» (2) وَ الَّذِينَ هُمْ لِأَمٰانٰاتِهِمْ وَ عَهْدِهِمْ رٰاعُونَ (3) و عموم أَوْفُوا بِالْعُقُودِ.

لأنّا نقول: و إن كان الأصل الأصيل في كلّي الأوامر التعبّد لا التوصّل إلّا أنّا خرجنا عن هذا الأصل بالدليل المعلوم، بل المفهوم من أدلّة الشروط الفرق الفارق بين الشرط و النذر، فإنّ المطلوب من الوفاء بالشرط هو صرف التوصّل إلى حقّ الناس و حقّ الشارط لا غير، بخلاف النذر، فإنّه حقّ للّٰه تعالى لا غير، كما يفهم ذلك من كون الشرط في النذر مع اللّٰه تعالى و في خلفه الكفّارة و في الشرط مع الناس، و لا كفّارة في خلفه و اعتبار القربة في متعلّق النذر و انحلاله بعروض المرجوحيّة بعده، بخلاف الشرط.

قوله: «و العرف حاكم في هذا الشرط بالمقابلة. فتأمّل».

[أقول:] إشارة إلى عدم المقابلة الحقيقيّة في الصيغة المؤثّرة في توزيع الثمن على الشرط، لوقوع العقد على هذا المحسوس المشروط بالشرط.

و أمّا المقابلة الحكميّة الموجودة في كلّ عقد مشروط نظرا إلى كون الشرط بمنزلة جزء العوض في نظر المتعاقدين، فلا يوزع عليه الثمن شرعا.

نعم، لو أحرز المقابلة بحسب قصد المتعاقدين وزع عليه الثمن بقاعدة «تبعيّة العقود للقصود»، لكنّه خلاف المعهود من ظاهر الشرطيّة عرفا.

قوله: «و فيه مع منع كون نحو الأرض مثليّا أنّ الفائت لم يقع المعاوضة عليه .. إلخ».

أقول: يمكن الجواب عن الأوّل: بفرض مثلية الأرض خصوصا المتقاربة المتلاصقة منها فإنّه غالب المثليّة.


1- الوسائل 12: 353 ب (6) من أبواب الخيار ح 5.
2- الوسائل 15: 30 ب «20» من أبواب المهور ح 4.
3- المؤمنون: 8.

ص: 439

و عن الثاني: بفرض وقوع المعاوضة على الجزء الفائت أيضا بفرض وقوعها على كلّي الأرض المشروطة بعشرة أجربة المتبيّنة خمسة، لا الأرض الشخصيّة المعيّنة في الواقع في خمسة أجربة حتّى يكون الجزء الفائت خارجا عن المعاوضة، و إذا جاء الاحتمال بطل الاستدلال بالخبر على المدّعى.

مضافا إلى احتمال آخر في الخبر (1) على كلّ من تقدير كون الأرض المبتاعة كلّيا أو شخصيّا و هو احتمال أن يكون السؤال في الخبر عن الفائت من العشرة أجربة على وجه الجزئيّة لا الشرطيّة و لو بحسب القصد الّذي يتبعه العقد.

و يقوّي الاحتمال في هذا الخبر الخبر الآخر المتقدّم (2): «فيمن اشترى عكّة بسمن احتكرها حكرة- أي جملة- فوجد فيها ربا، فخاصمه إلى علي عليه السّلام، فقال له عليّ عليه السّلام: لك بكيل الربّ سمنا، فقال الرجل: إنّما بعته حكرة. فقال له عليّ عليه السّلام: إنّما اشترى منك سمنا و لم يشتر ربا» (3).

و على أيّ حال فالاحتمال في كلّ من الجواب و السؤال مبطل للاستدلال.

قوله: في الثالث من أقسام الشرط المتبيّن خلافه: «فإن دلّت القرينة على أنّ المراد اشتراط بلوغه بهذا المقدار لا بشرط عدم الزيادة فالظاهر أنّ الكلّ للمشتري».

[أقول:] و مقابل الظاهر ما نقله بعض الأساتيد عن استاد المصنّف من احتمال بطلان المبيع من جهة أنّ إرادة اشتراط مقدار لا بشرط عدم الزيادة غرر مبطل، و لكن يضعّفه أنّ تعيين المقدار و لو بشرط كاف في رفع الغرر شرعا و صحّة سلبه عنه عرفا.

[القول في حكم الشرط الفاسد]

قوله: «استحبّ الوفاء به على القول بعدم فساد [أصل] العقد».


1- الوسائل 12: 361 ب (14) من أبواب الخيار ح 1.
2- و لم يتقدّم منه «قدّس سرّه الشريف».
3- الوسائل 12: 419 ب (7) من أبواب أحكام العيوب ح 3.

ص: 440

أقول: استحباب الوفاء بالوعد يعمّ صورة فساد الشرط و المشروط.

قوله: في آخر القسم الثالث من أقسام الشرط المتبيّن خلافه:

«و المشتري لم يقصد شراء البعض. و فيه تأمّل».

[أقول:] وجهه: أنّ مقتضى شرطه عدم زيادة المبيع على القدر المشروط كون كلّ من المتبائعين الشارطين عدم الزيادة قاصدين بيع ما عدا الزيادة و عدم بيع الزيادة، فلا وجه لبطلانه المستند إلى عدم قصد المعيّن.

قوله: «النقض بالشرط الفاسد في النكاح».

[أقول:] فيه أوّلا: منع النقض في النكاح، لتصريح المشهور- كما في المسالك (1)- بفساد النكاح بالشرط الفاسد، و تبديل المسمّى فيه بمهر المثل.

و ثانيا: لو سلّمنا النقض في النكاح، فلعلّه للفرق و الفارق النصّ، أو تغليب جانب العبادة على المعاوضة.

قوله: «الشرط الغير المقصود للعقلاء في السلم و غيره عدم فساد العقد به».

[أقول:] و فيه: ما تقدّم من المنع أوّلا، و الفرق ثانيا، و الفارق العقد و كون الشرط اللغو، و الغير المذكور غير مقصود و «العقود تابعة للقصود».

قوله: «فإنّ العرف يحكم في هذه الموارد بكون الفاقد نفس المطلوب .. إلخ».

أقول: العرف لا يفرّق بين الموردين و قضيّة الشرط متّحد الدلالة في البين، و هل يجد العرف الفرق في قول الشارع: «اغسل الميّت بماء السدر و الكافور» و «اغسله بماء الفرات» إلّا من الخارج. مضافا إلى قاعدة «العقود تابعة للقصود» و إلى «إطلاق الحكم الشرعي بفساد الشرط الشامل للمشروط عرفا»، إلى غير


1- مسالك الأفهام 8: 245- 246.

ص: 441

ذلك من النصوص الآتية، و إلى حكم العقل بأنّ المشروط ينتفي بانتفاء شرطه، كما أنّ الكلّ ينتفي بانتفاء جزئه.

لا يقال: إنّ المنتفي بانتفاء شرطه هو وصف المشروط لا ذاته و حكمه و مطلوبيّته، فلم يعلم انتفاؤه، فيستصحب بقاؤه بأصالة عدم انتفائه.

لأنّا نقول: الشكّ فيما نحن فيه ليس في بقاء صحّة المشروط حتّى يستصحب الصحّة، بل في أصل صحّته، و الأصل فيه الفساد و عدم النقل و الانتقال. مضافا إلى ما عرفت من حكم العرف و الشرع و العقل.

قوله: «على أن ليس منه عليّ و ضيعة» (1).

[أقول:] أي: يشترط المبتاع على البائع أن ليس عليه و ضيعة المتاع أي نقيصته و خسارته، كما هو المتعارف في الغارس شراء الزرع و ثمر الأشجار و الأراضي و الأملاك بشرط أن تكون الخسارة و الآفات السماويّة و الأرضيّة حتّى النهب و الغصب و الغرق و السرق على البائع، و هو فاسد مناف لمقتضى العقد.

قوله: «فيطلب منّي العينة» (2).

[أقول:] بكسر العين المهملة و الياء المثنّاة التحتانيّة و فتح النون من العين كلينة من اللين، و هي بيع السلعة بثمن مؤجّل ثمّ يشريها منه بأقلّ تخلّصا عن الربا المحرّم الّذي زعمه أهل المسجد، أي العامّة.

قوله: «و حملها على الشرط الخارج عن العقد مخالف لتعليل فساده ..

بكونه مخالفا لكتاب».

أقول: يحتمل أن يكون التعليل بمخالفة الكتاب تعليل له و الاشتراط و إسقاطه و عدم قبوله في ضمن العقد، لا لردّه بعد القبول و التباني عليه في ضمن


1- الوسائل 12: 409 ب «35» من أبواب أحكام العقود ح 1.
2- الوسائل 12: 370 ب (5) من أبواب أحكام العقود ح 4.

ص: 442

العقد فإنّ الاشتراط من طرف الشارط لا يستلزم القبول، بل الغالب من طرف القابل الردّ و النكول و التباني على عدمه.

قوله: «فإنّ الحكم بوجوب الوفاء بالأوّلين دون الثالث مع اشتراط الجميع في العقد لا يكون إلّا مع عدم فساد العقد بفساد شرطه».

أقول: لعلّ الأمر بالوفاء في الأوّلين دون الثالث، لاستحباب الوفاء بالوعد و لو كان فاسدا فيما كان حقّا للموعد لا حقّا لغيره كالميراث، أو أنّ الوفاء بالأوّلين دون الثالث من جهة عدم اجتماع الشروط الثلاثة معا، أو عدم قبول الفاسد، فمعنى قوله عليه السّلام: «قضى بذلك إذا اشترط لهم إلّا الميراث» (1)، لأنّه حقّ الوارث لا المشروط عليه، أو لانفراده عن الأوّلين في الاشتراط و عدم اجتماعه معهما في الاشتراط. و على أيّ حال فالاحتمال مبطل للاستدلال.

قوله: «فإنّها تورث (2) يدلّ على بقاء البيع الّذي شرط فيه أن لا تورث على الصحّة».

أقول: لعلّ قوله: «فإنّها تورث» ردّ لاشتراط أن لا تورث قبل قبوله لا بعد قبوله، و التباني عليه في العقد فإنّ الاشتراط لا يستلزم القبول، بل الغالب فيه النكول.

و ممّا ذكرنا يعلم أنّ معنى قوله عليه السّلام في المهور: «ما خالف السنّة ردّ إلى السنّة» (3) معناه: الردّ قبل القبول لا بعده، كما عن السيّد (4). و هل تجد من شاهد حال النبيّ الصادق الوعد ردّ ما اشترطوا عليه من الشرط بعد قبوله في العقد و الأخذ بالعقد المشروط، و هل هو إلّا أشبه بالزور.


1- انظر الوسائل 13: 44 ب «15» من أبواب بيع الحيوان ح 2 و ذيله.
2- الوسائل 13: 43 ب «15» من أبواب بيع الحيوان ح 1.
3- الوسائل 15: 311 ب «29» من أبواب مقدّمات الطلاق و شرائطه.
4- لم نعثر عليه في مظانّه.

ص: 443

قوله: «عدم الإجبار (1) في تركها إنّما يتحقّق باشتراط فعلها في ضمن العقد الأوّل».

[أقول:] و فيه: أنّ عدم الإجبار في تركها إنّما هو بعدم اشتراط فعلها لا باشتراط فعلها؛ لأنّ عدم الإجبار هو القدرة، و نسبة القدرة إلى طرفي الوجود و العدم متساوية، إذ تأثير صفة القدرة في العدم فقط امتناع لا قدرة، كما أنّ تأثيرها في الوجود وجوب لا قدرة كحرارة الغار، كما هو صريح منطوق: «إذا كان هو بالخيار إن شاء باع، و إن شاء لم يبع» (2).

قوله: «و دلالتها أوضح من الأولى».

[أقول:] وجه الأوضحيّة مع اشتراكها في الدلالة على المدّعى بالمفهوم لا المنطوق أنّه أصرح من الاولى.

قوله: «لزم الدور».

[أقول:] و فيه: ما لا يخفى من أنّه على تقديره دور معي حال، لا توقّفي محال.

قوله: «لا يعرف وجه لما ذكره من احتمال الإيقاف».

أقول: وجهه أنّ صحّة عقد البيع و إن توقّف على التراضي الواقع عليه العقد إلّا أنّ صحّة مطلق البيع و لو على سبيل المعاطاة لا يتوقّف على التراضي الواقع عليه البيع، بل يكفي فيه مطلق التراضي و لو كان لاحقا و متعقّبا لتعاطيه، و هو وجه وجيه.

قوله: «و يظهر من المسالك هنا قول ثالث .. إلخ» (3).

أقول: و إن كان ظاهر عبارة المسالك التفصيل بين علم المتبائعين بتأثير الشرط المتقدم أثره و عدمه، إلّا أنّه لا يبعد و لو بقرينة فضل المفصّل، و ضعف


1- في المكاسب: «الاختيار».
2- الوسائل 12: 370 ب (5) من أبواب أحكام العقود ح 4.
3- مسالك الأفهام 3: 224 و 308- 309.

ص: 444

التفصيل أن يكون مراده ابتناء وجهي المسألة على ما تقدّم من الخلاف في تأثير الشرط قبل العقد و عدمه، لا التفصيل بقول ثالث بين علمهما بتأثير الشرط و عدمه، فالتفصيل في البين ناشئ من بيان منشئ القولين.

قوله: «فلا وجه للفرق بين من يعلم فساد الشرط و غيره، فإنّ العالم بالفساد لا يمنعه علمه عن الإقدام على العقد .. إلخ».

[أقول:] و فيه أوّلا: ما عرفت من احتمال أن يكون مراد المفصّل و لو بقرينة فضله و ضعف تفصيله ابتناء وجهي المسألة على ما تقدّم من الخلاف في تأثير الشرط قبل العقد و عدمه، لا التفصيل بقول ثالث بين العلم بأنّ الشرط المتقدّم لا حكم له فلا أثر له، و إلّا اتّجه البطلان، لأنّهما لم يقدما إلّا على الشرط و لم يتم لهما فيبطل [العقد].

و ثانيا: لو سلّمنا التفصيل المذكور، فلعلّ وجهه هو مدخليّة العلم بفساد الشرط و عدمه في الحكم بالفساد و عدمه لا في الإقدام على الفاسد و عدمه، لأنّ إناطة الأحكام الوضعيّة بالعلم و الجهل، خصوصا بناء على انتزاعها من الأحكام التكليفيّة ليس في البعد بمثابة توهّم مانعيّة العلم بالفساد من الإقدام على الفاسد و قصد الفاسد.

[الكلام في أحكام الخيار]

قوله: «ما يحرم الوارث عنه منتقلا إلى الميّت أو عنه».

[أقول:] فالأوّل: كما لو اشترى الميّت أرضا أو حبوة و الثاني: كما لو باع أرضا أو حبوة فهل للوارث المحروم من إرثه ما انتقل إلى الميّت بالابتياع، أو عنه بالبيع الخيار مطلقا نظرا إلى عموم: و لكم ما ترك آباؤكم (1) و «ما كان للميّت من حقّ فهو لوارثه» (2)، أو ليس له الخيار مطلقا نظرا إلى حرمانه من


1- النساء: 7.
2- الوسائل 17: 548 ب (3) من أبواب ولاء ضمان الجريرة و الإمامة ح 4.

ص: 445

الملك المفروض فكذا من خياره للتبعيّة، أو التفصيل بين ما ينتقل فيثبت له الخيار في الأوّل ليرث من ثمنه بعد الفسخ دون الثاني، أو بالعكس؟ و الأقرب الأوّل، لعموم: «ما كان للميّت من حقّ فهو لوارثه» خرج منه ما اختصّ بغيره من الأرض و الحبوة فيبقى خياره للمحروم منهما. و دعوى تبعيّة الخيار للملكيّة منقوض بخيار الوكيل و الأجير. و دعوى الفرق غير فارق.

قوله: «كما مرّ نظيره في عكس هذه الصورة».

[أقول:] و هي ما لو كان الميّت انتقلت عنه الأرض بإزاء ما انتقل إليه الثمن المشارك فيه الزوجة لسائر الورثة.

قوله: «المشار إليه بقوله ذلك هو عدم الإرث».

[أقول:] وجه هذا الظهور أنّ قوله: «الأقرب ذلك» (1) ظاهر في الإشارة إلى الظاهر و هو عدم الإرث لا إلى المضمر في الإشكال و هو الإرث، لكن الأقرب بالإشارة و دليل المسألة و تعليله بقوله: «لترث» هو الإرث، كما فسّره الشارحان (2)، لا كما شرحه الثالث بقوله: «الأقرب عدم إرثها إن اشترى الميّت بخيار فأرادت الفسخ لترث من الثمن» (3) فإنّ فيه تكلّف زيادة تقدير.

قوله: «فإنّ الأرض حقّ لباقي الورثة».

أقول: كلّ من الحقّ و الاستحقاق و الملك المتزلزل ممّن عليه الخيار لا ينافي إبطاله بخيار ذي الخيار، فالشأن في إثبات الخيار بعموم: «ما ترك الميّت من حقّ فهو لوارثه» (4)، و هو العمدة.

قوله: «و هو أولى من [إبطال] إرثها حقّ غيرها».


1- قواعد الأحكام 1: 143.
2- كنز الفوائد 1: 451، إيضاح الفوائد 1: 487.
3- جامع المقاصد 4: 306.
4- الوسائل 17: 548 ب «3» من أبواب ولاء ضمان الجريرة و الإمامة ح 4.

ص: 446

[أقول:] وجه الأولويّة نظرا إلى أولويّة الدفع من الرفع و إنّ إبطال حقّها دفع لحقّها الغير الثالث و إرثها حقّ غيرها رفع للحقّ الثابت، لكنّه إغماض عن عموم ما ترك الميّت من حقّ فلوارثه، و إلّا فلا أولويّة، بل الأولويّة في عكس القضيّة.

قوله: «فلا يجوز لأحدهم الاستقلال بالفسخ لا في الكلّ و لا في حصّته.

فافهم».

[أقول:] إشارة إلى أنّه لا يقال: إنّ حقّ الفسخ و إن لم يقبل التعدّد و لا التجزئة في نفسه إلّا أنّه يقبله باعتبار متعلّقه و هو الفاسخ أو المفسوخ.

لأنّا نقول: و لكنّ الظاهر و المتيقّن أنّ المنقول إلى الورثة هو نفس حقّ الفسخ الواحد الشخصي الغير القابل للتعدّد و التجزئة، لا شي ء من متعلقيّة الفاسخ و المفسوخ، و الحقّ الواحد الشخصي مستحيل التعدّد، بل التجزئة عقلا و عرفا.

قوله: «و هو (1) غير موجود فيما نحن فيه. فتأمّل».

[أقول:] إشارة إلى أنّ تضرّر غير المسقط للخيار بإسقاط أحد الشركاء فيه أيضا موجود في أكثر الخيارات، خصوصا فيما كان جبرا للضرر كخيار الغبن و العيب، لا لمصلحة أخرى كخيار الشرط و المجلس.

قوله: «و في اشتراط ذلك بمصلحة الديّان وجهان».

أقول: أوجهها اشتراطه، بل يتوقّف نفوذ فسخ الوارث على إذن الديّان أو أداء الدين، كتصرّفه في سائر تركة المديون، لعموم: «و لكم ما ترك آباؤكم من بعد وصية أو دين» (2).

قوله: «لأنّه حقّ لهم فلا يجبرون على أعماله».

أقول: و إن كان حقّ لهم إلّا أنّ عموم قوله تعالى مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ ..


1- في المكاسب: «و هذا غير».
2- اقتباس من سورة النساء: 7 و 11 و 12.

ص: 447

أَوْ دَيْنٍ دين ظاهر في تعلّق حقّ الديّان به أيضا على وجه حقّ الرهانة أو الجناية.

قوله: «ولاية الوارث لا كولاية الوالي أو الوكيل».

[أقول:] و الأصحّ تبديل الوالي بالولي أو الأصيل، و أنّ الجمع بين الأدلّة و الحقوق يقتضي أن يكون ولاية الوارث كولاية الأصيل، إلّا أنّ حكومة عموم (1) نفي الضرر عليه يقتضي جبران ثمن المفسوخ من مال الميّت إن كان له مال، و من مال الفاسخ إن لم يكن، جمعا بين الحقّين، و دفعا للضرر من الطرفين.

و على ذلك فاستحقاق الشفيع لتملّك الحصّة بثمن من ماله لا من مال الميّت مطلقا إنّما هو من جهة أنّ حقّ الشفعة حقّ استرداد المبيع عن المشتري إلى نفس الشفيع لا إلى الميّت، و ليس فسخا ليرجع إلى البائع. و أمّا ردّ ثمن المفسوخ بخيار من مال فاسخة إذا لم يكن للميّت فهو و إن كان فسخا راجعا إلى الميّت، إلّا أنّ جبران ضرره على الفاسخ من باب وجوب دفع الضرر.

فظهر أنّ تملّك الشفيع و الفاسخ لما يملكه بثمن من ماله لا من مال الميّت ليس على خلاف الأصل و القاعدة كما يتوهّم، بل هو على وفق قاعدة الجمع بين الحقّين.

قوله: «فظهر (2) من ذلك فساد الوجه المذكور نقضا و حلّا. فافهم».

[أقول:] أمّا نقضه فلانتقاض عدم مدخليّة نفس الأصيل في الخيار بالخيار المجعول العبد الأجنبي حيث لم ينتقل إلى مولاه.

و أمّا حلّه: فلعدم ملك المولى من العبد ما عدا استخدامه من سائر الحقوق، كما لا يملك طلاقه و رجوعه، و لا قعوده و قيامه، و لا سكوته و كلامه، ما لم يمنع حقّ مولاه.


1- الوسائل 12: 363 ب «17» من أبواب الخيار.
2- في المكاسب: «فيظهر».

ص: 448

و أمّا قوله: «فافهم» فإشارة إلى أنّه لا يقال: بالفرق بين الخيار المجعول للعبد فلا ينتقل إلى مولاه بالملك و بين الخيار المجعول للحرّ فينتقل إلى وارثه بالموت.

لأنّا نقول: لو لم يكن لنفس الأصيل مدخليّة في الخيار المجعول للأجنبي لم يكن الفرق بالموت و الملك فارقا في الانتقال و عدمه قطعا.

قوله: «مع أنّه لو أريد به أصالة عدم قصد العقد عن الغير فهو حاكم على أصالة عدم الفسخ».

[أقول:] وجه حكومة أحد الأصلين على الآخر مع استنادهما إلى الاستصحاب، و الأصل العملي أنّ الشكّ في فسخ البيع و عدمه ناشئ عن الشكّ في بيع البائع عن نفسه أو غيره، و الأصل في الشكّ السببي و هو أصالة عدم قصد البيع عن غيره حاكم على الأصل في المسبّب، و هو قصد عدم الفسخ.

قوله: «يلزم من ذلك أن لا يحصل الفسخ باللفظ أصلا- أي: بنفس اللفظ و إنشائه- لأنّ اللفظ أبدا مسبوق بالقصد .. إلخ».

[أقول:] أي لأنّ الإنشاء أيضا مسبوق بالإرادة فيلزم به كون الإنشاء القولي كالفسخ الفعلي كاشفا من مقولة الاخبار لا إنشاء من مقولة الفعل. و يمكن منع الملازمة بإبداء الفرق في البين بين الإرادتين من حيث المتعلّقين، على أن يكون الفسخ الفعلي مسبوقا بإرادة الفسخ، و القولي مسبوقا بإرادة اللفظ الفاسخ، نظير قصد الإفطار و قصد المفطر، فلا يلزم من كاشفيّة الفسخ الفعلي عن الفسخ دون سببيّته له كاشفيّة القولي عنه أيضا، و عدم فاسخيّة اللفظ له أصلا، كما زعمه الماتن. مضافا إلى إمكان منع الملازمة بفرق آخر و هو دلالة الإنشاء القولي على الفسخ بنفس الإنشاء أوّلا، و بالكشف أيضا ثانيا، مضافا إلى إمكان منع بطلان اللازم أيضا.

ص: 449

قوله: «بمنع عدم صحّة حصول الفسخ و العقد بشي ء واحد بالنسبة إلى شيئين».

أقول: و بالنسبة إلى شي ء واحد في زمانين أو مكانين أو جهتين تقييديّتين.

نعم، إنّما لا يحصل الضدّان بشي ء واحد من جميع الجهات لاستحالة اجتماع الضدّين، و أمّا عدم صحّة الصلاة اللاحقة بالتكبير المبطل للسابقة فلأنّ النهي عن الإبطال نهي فاسد مفسد في العبادة. أمّا عدم النهي- كما في حال السهو أو النافلة بناء على جواز إبطالها- فلا مانع من حصول الأمرين الإبطال و الصحّة به، كما في الفقه.

قوله: «الأصل استمرار العقد و بقاء الخيار و عدم حصول العتق أصلا، و هو الأقوى».

أقول: لا مجرى لشي ء من الأصول بعد فرض الدليل على الفسخ و العتق و انتفاء العقد و الخيار، فلا وجه لشي ء من الوجوه الثلاثة، بل الأوجه وجه رابع، و هو نفود عتقهما على المشتري العتق، و كذا على البائع المجز عتقهما، و إلّا فله أحدهما الجارية، نظرا إلى أنّ عتق العبد إمضاء بيع الجارية أو العبد، لأنّ عتق الجارية فسخه.

قوله: «امتناع التصرّف في زمن الخيار مسلّما بين القولين .. إلخ».

أقول: و إن كان الظاهر من مبنى الخلاف في الدروس (1) و إطلاق المنع و تعليله باستلزام نفوذ التصرّف بطلان حقّ الخيار هو ذلك- أعني: مسلّميّة امتناع التصرّف في زمن الخيار مطلقا- إلّا أنّ الأظهر من كلام المجوّزين و ردّهم دليل المانعين باستلزام النفوذ إبطال حقّ الخيار تارة بمنع الملازمة، و اخرى بمنع بطلان اللازم هو عدم صحّة الامتناع، فضلا عن إطلاقه و مسلّميته بين القولين. ألا ترى


1- الدروس الشرعيّة 3: 270.

ص: 450

المانعين هنا- كالشهيد في الدروس (1) و الفاضل في القواعد (2)- عدلوا في باب آخر من الدروس (3) و في كتاب آخر كالتذكرة (4) و المختلف (5) إلى الجواز و نفوذ التصرّف في زمن الخيار مطلقا، أو النفوذ على وجه الضمان و استدراكه بالفسخ، أو غير الإتلاف من التصرّفات، أو في خصوص خيار المجلس، إلى غير ذلك من الاضطراب و الاختلاف في الفتوى و المبنى و المعنى على وجه لا يكاد المسلّمية و الاتّفاق منهم على رأي في كتاب واحد، فضلا عن الكتب و الأبواب العديدة، فيحتمل أن يكون مراد المانعين من نفوذ التصرّف نفوذه على وجه لا يملك بطلانه و تداركه بفسخ ذي الخيار، كما لعلّه الظاهر في خيار المجلس دون سائر الخيارات، و لعلّ الفرق أنّ خيار المجلس ليس بمثابة سائر الخيارات جبرانا أو شرطا، فكان التصرّف بمحضر ذي الخيار قبل التفرّق بمنزلة التفرّق مسقطا للخيار، أو كالإذن و الرضا بسقوطه.

و يحتمل أيضا أن يكون مراد المانعين من التصرّف الممنوع في زمن الخيار التصرّف بالبدار في معرض الضرر و الإضرار بذي الخيار، كإتلاف المفلس و عتق الجارية و استيلادها في زمن الخيار، كما يحتمله تعليل بطلان العتق بوجوب صيانة حقّ البائع في العين.

قوله: «بالتصرّف الّذي [أذن] فيه [ذو] الخيار فلدلالة العرف لا للمنافاة».

[أقول:] أي لدلالة الإذن عرفا على إسقاط خياره لا لمنافاة الخيار لتصرّف غير المأذون حتّى لا يجوز تصرّف غير المأذون، و لا ينافي الإذن ضمان المأذون. و في إطلاقه نظر، فإنّ الدلالة العرفيّة مختلف بين الإذن في تصرّف المال


1- الدروس الشرعيّة 3: 270 و 302.
2- قواعد الأحكام 1: 159.
3- الدروس الشرعيّة 3: 270 و 302.
4- تذكرة الفقهاء 1: 514.
5- مختلف الشيعة 5: 117.

ص: 451

اليسير و الكثير الفسخ الفعلي مسبوقا بإرادة الفسخ، و القولي مسبوقا بإرادة اللفظ الفاسخ، نظير الفرق بين قصد الإفطار المفطر للصوم و قصد المفطر الغير المفطر له بنفسه، فلا يلزم من كاشفيّة الفسخ الفعلي عن الفسخ دون سببيّته له كاشفيّة القولي عنه أيضا و عدم فاسخيّة اللفظ له أصلا، كما زعمه الماتن آنفا.

قوله: «فالجواز لا يخلو من (1) قوّة في الخيارات الأصليّة».

أقول: بل الأقوى الجواز في مطلق الخيارات، لعموم: «أدلّة سلطنة الناس على أموالهم» (2)، و تحكيم أدلّة الخيار على عموم أدلّة السلطنة، و لزوم الوفاء بالعقود لا يقتضي بأزيد من تبديل لزوم الوفاء بها بجواز الفسخ فيها دون المنع من التصرّف قبل الفسخ، و هو لا ينافي جواز التصرّف قبله.

و دعوى أنّه مانع من حقّ الخيار ممنوع بأنّه مانع من استرداد خصوص العين عند خصوص التلف، لا من مطلق الاسترداد، و لا من سائر التصرّفات الغير المتلفة، فالمانع غير واقع و الواقع غير مانع.

قوله: «و أمّا الخيارات المجعولة بالشرط فالظاهر من اشتراطها إرادة إبقاء الملك ليستردّه عند الفسخ .. إلخ».

[أقول:] فيه أوّلا: منع ظهور اشتراط الخيار إلّا في بقاء جواز الاسترداد لا إبقاء العين المستردّة إلّا إذا اشترط إبقاء العين و عدم التصرّف لا خيار فسخه و هو خارج عن الفرض.

و ثانيا: لو سلّمنا ظهور الإرادة، فالمتبع إنّما هو ظهور الدلالة، و ليست إلّا في اشتراط إبقاء العين و عدم التصرّف، لا خيار فسخه المفروض.

قوله: «انفسخ البيع الأوّل دون الثاني».


1- في المكاسب: «عن».
2- عوالي اللئالي 1: 222 ح 99، و ص 457 ح 198، و ج 2 ص 138 ح 383.

ص: 452

[أقول:] و فيه أوّلا: إمكان منع الشهرة على التفكيك بين انفساخ الأوّل دون الثاني، و عدم الملازمة و التبعيّة بينهما.

و ثانيا: لو سلّمنا الشهرة، لكن نمنع المشهور و هو التفكيك بين انفساخ الأوّل دون الثاني.

و ثالثا: لو سلّمنا الشهرة و المشهور و هو التفكيك بين انفساخ الأوّل دون الثاني فيما لو تلف أحد العوضين قبل قبضه و بعد بيع العوض الآخر المقبوض، لكن يمكن الفرق بينه و بين ما نحن فيه بتزلزل البيع الثاني حين البيع فيما نحن فيه فيتبع الأوّل في الانفساخ، و عدم تزلزله حين البيع في غيره فلا يتبع الأوّل.

و دعوى أنّه غير مجد ممنوع، بل هو مجد جدّا و فارقا ظنّا.

نعم، المثال الغير الفارق لما نحن فيه هو الأخذ بالشفعة فإنّه مبطل لتصرّفات المشتري اتّفاقا، فليكن ما نحن فيه كذلك، لعدم الفارق.

قوله: «ثمّ على القول بانفساخ العقد الثاني فهل يكون من حين فسخ الأوّل أو من أصله؟ قولان».

أقول: و يظهر الثمرة في أنّ نتاج المفسوخ و منافعه السابقة على الفسخ للمشتري الأوّل على الثاني و للثاني على الأوّل، و في أن تلقّى الفاسخ و المفسوخ من الأوّل على الثاني و من الثاني على الأوّل.

قوله: «و ردّه القائل (1) بعدم معروفيّة التملّك الموقّت في الشرع. فافهم».

[أقول:] إشارة إلى أنّه إن قيل: كيف ينكر معروفيّة و مشروعيّة التملّك المؤقّت في المشتري الثاني و الحال أن تملّك الأوّل أيضا مؤقّت إلى حين الفسخ؟

بل و جميع التملّكات الخياريّة مؤقّتة إلى حين الفسخ؟ قلنا: لم ننكر التوقيت في أصل التملّك حتّى ينتقض بجميع التملّكات الخياريّة المؤقّتة إلى حين الفسخ، بل


1- هذه الكلمة غيره موجودة في المكاسب.

ص: 453

إنّما ننكر التوقيت في الآثار و الثمرات المترتّبة على التملّك الموقّت من تملّك المشتري النتاج و المنافع السابقة على الفسخ و رجوع الفاسخ إلى المشتري الثاني لا الأوّل في تلقّي المفسوخ بحيث يرجع جميع آثار تملّك المشتري الثاني من النتاج و المنافع و غيرها بعد الفسخ إلى المشتري الأوّل، بل إلى الفاسخ فإنّه المراد بعدم معروفيّته مشروعيّته في شي ء من التملّكات المؤقّتة الخياريّة و غيرها شرعا.

قوله: «و يمكن الفرق بين الخيار المتوقّف على حضور الزمان .. إلخ».

أقول: كما يمكن القول بعدم الفرق بينهما إلّا في كون المتوقّف على حضور الزمان متحقّق الوقوع في الزمان الآتي و المتوقّف على غيره محتمل الوقوع، و هو غير فارق؛ لأنّ الخيار إن أنيط عرفا على الوصف الفعلي- كما هو الظاهر- فليس بموجود على التقديرين، و إن أنيط على الوصف الشأني المتزلزل فعلا فهو موجود على التقديرين.

قوله: «و لذا لم يقل أحد بالمنع من التصرّف في أحد من العوضين قبل قبض الآخر».

[أقول:] فيه: أنّ عدم المنع من التصرّف في أحد العوضين المقبوض دون الآخر ليس لعدم مانعيّة الخيار المتوقّف على الزمان المعلوم الوقوع، بل إنّما هو على ما نقله المصنّف (1) عن المشهور آنفا، لأجل عدم انفساخ التصرّف في المقبوض بانفساخ تلف عوضه الغير المقبوض. و أمّا على غير المشهور فلاحتمال أن يستند انفساخ المقبوض بانفساخ تلف عوضه الغير المقبوض إلى أنّ معرضيّة انفساخه بالتلف مخالف للأصل و الظاهر، بخلاف معرضيّة الانفساخ المتوقّف على الزمان المعلوم الوقوع و كفى به فرقا فارقا شرعا و عادة.

قوله: «و من إبطال هذا التصرّف لتسلّط الفاسخ على أخذ العين .. إلخ».


1- المكاسب: 297.

ص: 454

[أقول:] فيه أوّلا: منع إبطال الإجارة تسلّط الفاسخ على استرداد العين إلّا في خصوص مدّة الإجارة لا مطلقا، بل و في خصوص ما قبل الفسخ لا فيما بعده فيسترجع العين بعد الفسخ، كما يسترجع البطن الثاني ما استأجره البطن الأوّل بعد قوته، جمعا بين الحقّين.

و ثانيا: لو سلّمنا، لكن لا دليل على بطلان المبطل تسلّط الفاسخ على استرداد العين، بل الدليل إنّما هو على تسلّط الفاسخ على مطلق الاسترداد لا استرداد خصوص العين حتّى يبطله المبطل له.

قوله: «و ليس الملك هنا نظير ملك البطن الأوّل».

أقول: الفرق بينهما مبنيّ على أن يكون الفسخ كالتفاسخ ناقلا لعين المفسوخ إلى الفاسخ، فلا يستتبعه المنفعة المسلوبة عنه بالإجارة و نحوه قبل الانتقال، كما لو باع العين بعد الإجارة فلم يبطل الإجارة، لا كموت البطن الأوّل من الموقوف عليه من حيث إنّه مزيل لملك البطن الأوّل السابق و كاشف عن منتهى ملكه و مضيّ مدّته فيستتبعه المنفعة، و إلّا كان الملك هنا نظير ملك البطن الأوّل من غير فرق؛ لأنّ البطن الأوّل إن آجر الموقوف عليه من البطن الثاني أو بإذنه فمات لم تبطل إجارته أيضا، و إن آجره من ثالث بغير إذنه فمات بطلت الإجارة فيما بعد موته، كما بطلت فيما بعد الفسخ لو آجره المالك من غير ذي الخيار بغير إذنه أيضا.

و أمّا صحّة الإجارة هنا دون الملك البطن الأوّل فيما فرضه المصنّف فلو سلم فلعلّه مستند إلى التفرقة الخارجيّة بين المسألتين، من حيث الإجارة بإذن ذي الخيار في الأوّل و عدمه في الثاني، و إلّا فلو فرض الإذن في كليهما صحّت الإجارة في كليهما أو عدمه في كليهما بطلت في كليهما، فنفي التنظير بينهما مبنيّ على الفرق المذكور، و هو محلّ نظر.

ص: 455

قوله: قلت: أوّلا: أنّه منقوض بما إذا وقع التفاسخ بعد الإجارة مع عدم التزام أحد ببطلان الإجارة. و ثانيا: أنّه يكفي في ملك المنفعة الدائمة تحقّق الملك المستعدّة (1) للدوام لو لا الرافع آنا ما».

أقول: يمكن الجواب عن النقض بالفرق بين الفسخ من طرف واحد و التفاسخ من الطرفين، كما يمكن الجواب عن حلّه بكونه الملكيّة المستعدّة للدوام لو لا الرافع و لو آنا ما في ملكيّة المنفعة الدائمة، و عدم زوالها بزوال الملكيّة، بمنع الكفاية نقضا بملكيّة البطن الأوّل من الموقوف عليه، مع استتباع زوال منافعه لزوال ملكيّته بمجرّد موته. فلعلّ فسخ الفاسخ من قبيل فوت البطن الأوّل في بطلان إجارته، لا من قبيل موت المؤجر منافع ملكه حيث لم تبطل إجارته بموته، بل يستورثها الوارث مسلوبة المنافع قطعا.

قوله: «مع أنّ الأصل عدم الانفساخ .. إلخ».

[أقول:] و فيه: أنّ الشكّ في الانفساخ مسبب عن الشكّ في تملّك المشتري منافع ما بعد الفسخ و عدمه، و في انفكاك المنفعة عن العين و عدمه، و في صحّة الإجارة و النقل و الانتقال لمنافع ما بعد الفسخ و عدمه، و الأصل العدم و الفساد في كلّ ذلك. و من المعلوم نقدّم الأصل في السبب عليه في المسبب كما عن القميّ (2).

مضافا إلى أنّ الخيار و الفسخ إنّما شرّع لجبر الضرر لا لجرّه، و أيّ ضرر و غرر و خطر أعظم من ردّ العين على الفاسخ مسلوب المنفعة؟ فلو عكس بل لو ردّ أصل الخيار و الفسخ حينئذ كان أقلّ ضررا قطعا.

قوله: «الظاهر كون إذن ذي الخيار في التصرّف المخرج فيما انتقل عنه فسخا بحكم (3) العرف .. إلخ».


1- في المكاسب: «المستعدّ».
2- جامع الشتات 1: 289.
3- في المكاسب: «لحكم».

ص: 456

[أقول:] و فيه أوّلا: أنّ الإذن في التصرّف إذا لم يكن إجازة عرفا لم يكن فسخا عرفا بالأولويّة، للاكتفاء بالرضا في الإجازة دون الفسخ.

و ثانيا: لو سلّمنا حكم العرف بكونه فسخا لم يفترق بين التصرّف المخرج و غيره.

قوله: «و لأنّ إباحة بيع مال الغير لنفسه غير جائز شرعا فيحمل على الفسخ».

[أقول:] و فيه ما تقدّم في محلّه: من أنّه لا نمنع من جوازه، بل هو منصوص في «أعتق عبدك عنّي».

و ثانيا: سلّمنا، لكن صحّة الإذن في بيع ما فيه الخيار لا ينحصر في الحمل على الفسخ، بل الحمل على الإجازة أيضا صحيح إن لم يكن أصحّ.

و ثالثا: سلّمنا، لكن الحمل على الصحّة إنّما هو الفعل للمأذون، لا الإذن المجرّد المفروض فيما نحن فيه الرجوع عنه.

قوله: «فقوله: ليس هو متاعك (1) إشارة إلى ما ينقل (2) إليك بالشراء .. إلخ».

[أقول:] فيه: أنّ عموم الوارد لا يخصّ بالمورد، و عموم العلّة لا يخصّص بالمعلول، بل الأمر بالعكس.

و بعبارة: أنّ عموم النفي المؤكّد بالتكرار بأنّه: «ليس هو متاعك و لا بقرك و لا غنمك» (3) بجواز الشراء لا يخصّص بمورد السؤال، و هو خصوص حال تواطئهما على الشراء الثاني لا الشراء الأوّل. مضافا إلى عموم ترك الاستفصال في جواب السؤال.


1- الوسائل 12: 370 ب (5) من أبواب أحكام العقود ح 3.
2- في المكاسب: «ما ينتقل».
3- الوسائل 12: 370 ب (5) من أبواب أحكام العقود ح 3.

ص: 457

قوله: «مع أنّ الشيخ لم يثبت منه هذا القول في الخيار المختصّ بالمشتري».

[أقول:] بل لم يثبت منه ذلك أيضا في المختصّ بالبائع، كما يعلم من شواهد حال شيخ الطائفة، بل الثابت من حال الشيخ و حال الطائفة المعدّة على كثرتهم مقلّده له هو الإجماع (1)، و عدم الاختلاف في المسألة بينهم، و لو كان لبان.

و منه يعلم الإجماع المحصّل بجميع أقسامه في المسألة حتّى من الشيخ فضلا عن المنقول، فكيف يليق بمثل شيخ الطائفة مخالفة جميع الطائفة على كثرتهم؟!

قوله: «فالعقد مدلوله مجرّد التمليك و التملّك مجرّدا عن الزمان .. إلخ».

[أقول:] لا يقال: إنّ بيع النسيئة من طرف الثمن و السلف من طرف المثمن مقيّد بالزمان المتأخّر، كما أنّ بيع النقد و الصرف بالعكس مقيّد من الطرفين بالحال.

لأنّا نقول: نفس مدلول العقد و هو التمليك و التملّك مجرّد عن الزمان و عن كلّ تقييد و تعليق، و الّذي يقيّد بالزمان و الزمانيّات هو الحكم بالوفاء به و ترتّب الآثار عليه، و التقييد في المنشئ و الحكم لا يوجب التقييد في الإنشاء و الموضوع، إلّا أنّ تصريح الماتن بقوله: «لكنّه علّة تامّة لمضمونه و إمضاء الشارع تابع له» (2) ينافي قياسه ببيع الصرف و السلم و الفضولي في تأخير أثره عنه، لأنّه مناف لغرض العلّيّة التامّة و قياس مع الفارق.

نعم، ما قيل مقصود المتعاقدين التمليك و التملّك في الحال و العقود تابعة


1- انظر الخلاف 3: 22 المسألة 29.
2- المكاسب: 299.

ص: 458

للقصود، فيمكن الجواب عنه بأنّ المعلوم من القصود يتبعها العقود، كما أنّ المفهوم من العقود يتبعها القصود، بل المجمل كلّية تابع للمبين من كلّي الدلالة و الإرادة.

و أمّا الإرادة و الدلالة المجملان معا فلا تبعيّة بينهما، كمفهوم الألقاب و السياق و الوصف و إن دلّت بالإشعار، كما أنّ القصود الخارجة عن مداليل العقود ليست بمعتبرة و إن قصدت، كالأغراض و الغايات المترتّبة على أسبابها الشرعيّة و العرفيّة المقصودة منها، كقصد الاسترباح من البيع فيخسر و الاستنتاج من ابتياع الجارية و إناث الخيل فتعقم، و قصد المتبائعين من التمليك و التملّك المطلق خصوص الحال من القصود الخارجة عن مدلول العقد المجرّد عن الزمان، كالأغراض و الغايات المتخلّفة عن أسبابها المعدّة عرفا أو شرعا، فلا تنتفي السببيّة بانتفاء تلك الغاية و الفائدة المتخلّفة عن سببها و إن كانت مقصودة منها قطعا.

قوله: «استنادا إلى عموم (1) قاعدة تلف المبيع قبل الضمان» (2).

[أقول:] أي: قبل القبض فهو من مال بائعه، فإنّ عمومه يشمل ما إذا كان خيار التأخير للبائع.

قوله: «و الشرط و لو كان منفصلا بناء على أنّ البيع متزلزل و لو قبل حضور زمان الشرط».

[أقول:] و فيه: أنّ الخيار إن كان منوطا و مشروطا بالتزلزل الفعلي لم يشمل الشرط المنفصل و لو كان معلوم التحقّق فيما بعد و إن كان منوطا بمطلق التزلزل و لو شأنا، كما استظهر من قوله: «حتّى ينقضي شرطه» (3)، أي خياره شمل كلّ


1- الوسائل 12: 358 ب (10) من أبواب الخيار.
2- في المكاسب: «تلف المال قبل القبض».
3- الوسائل 12: 352 ب (5) من أبواب الخيار ح 2.

ص: 459

خيار و لو كان عيبا أو غبنا، خصوصا على المختار من تعلّق خياره بنفس العيب و الغبن الواقعي و لو لم يعلم به لا على ظهوره، خصوصا على احتمال أن يكون ضمان غير ذي الخيار موقوفا على فسخ ذي الخيار بعد التلف أو عدم منافاته لبقاء خيار ذي الخيار بعد التلف، لا على انفساخ المتلوف بنفس التلف و دخوله في ملك من يضمنه آنا ما قبل التلف، فإن تفرقة الخيار بعد الاستقرار من حيث الأسباب و الآثار خلاف الأصل و الاعتبار، بخلاف الانفساخ القهري بالتلف و تقدير الملك قبله فإنّه لما كان مخالفا للأصل جدّا أمكن الاقتصار فيه على المتيقّن من أسبابه و آثاره. فتأمّل.

قوله: «على تأمّل في خيار المجلس».

[أقول:] وجه التأمّل: انصراف الشرط من قوله: «حتّى ينقضي شرطه» (1) إلى خيار الشرط، و قد عرفت منعه و إطلاق الشرط في الأخبار على كلّ خيار، خصوصا خيار الحيوان و المجلس. إلّا أنّ الشرط في قوله: «حتّى ينقضي الشرط، أو شرطه» (2) إشارة إلى المعهود الذكري في السؤال الخاصّ بخيار الشرط، بل الحيوان، بل المشتري دون غيره من الخيارات و أفرادها المخالفة، للأصل، و قاعدة «تلف الملك من مالكه»، فالمرجع فيما عدا المتيقّن من الأفراد المخالفة لقاعدة «التلف من المالك» إلى هذه القاعدة، لا إلى عموم: «أنّ التلف في زمان الخيار ممّن ليس له الخيار» (3)، لعدم العموم و إن كان بعض أفراده مطابق للقاعدة كما لو تلف في يد المشتري و خيار البائع، و لعلّ تسهيل الخطب عليهم في عمومه و تسميته قاعدة. مضافا إلى توهّم العموم و مطابقة بعض أفراده القاعدة أنّ ضمان المتلوف في يد ذي الخيار على من ليس له الخيار لما كان مخالفا للأصل


1- الوسائل 12: 352 ب (5) من أبواب الخيار ح 2.
2- الوسائل 12: 352 ب (5) من أبواب الخيار ح 2.
3- الوسائل 12: 355 ب (8) من أبواب الخيار.

ص: 460

و لقاعدة «أنّ التلف من المالك» و لمفهوم «كلّ مبيع تلف قبل قبضه فهو من مال بائعه» (1)، و كان تخصيصا في تخصيص في تخصيص، كان بيانه كالأمر الواقع عقيب توهّم الحظر فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنٰاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا (2) و فَكُلُوا مِمّٰا أَمْسَكْنَ (3) من الظواهر الواردة في مقام التشريع و لمجرّد رفع توهّم الحظر. فلا ينبغي الجمود على ظواهرها و الغضّ عن مقتضيات مواردها. و لا يقاس التلف في يد ذي الخيار على من ليس له الخيار على قاعدة «كلّ مبيع تلف قبل قبضه فهو من مال بائعه» الفرق من جهات و إن اتّحدا من جهة أنّ كلّ من القاعدتين مخصّص لقاعدة «التلف من المالك».

قوله: «لأنّ المراد به انفساخ العقد و دخول العوض في ملك صاحبه الأصلي و تلفه من ماله».

[أقول:] فيه أوّلا: أنّ إرادة ذلك من ضمان المتلوف و إن نسبه المصنّف- فيما سيأتي آنفا- إلى ظاهر الأصحاب إلّا أنّ دليله و هو قوله عليه السّلام: «إذا تلف المبيع قبل قبضه فهو من مال بائعه» (4) كما يحتمل لإرادة كون التلف كاشفا شرعيّا عن انفساخ العقد و تقدير دخول المتلوف في ملك ضامنه قبل التلف ليكون التلف من ماله، كذلك يحتمل لإرادة كونه كاشفا عن الفسخ الفعلي القلبي و هو عدم الغرض و الرضا العقلائي بالمتلوف غالبا إلّا لبعض الأغراض و المنافع النادرة، كالانتفاع بعتق الآبق أو ماله أو إرثه أو ولاء عتقه، أو جلد الميتة و صوفه و شعره ممّا يقدر


1- انظر الوسائل 12: 358 ب (10) من أبواب الخيار، المستدرك 13: 303 ب (9) من أبواب الخيار.
2- النساء: 101.
3- المائدة: 4.
4- انظر الوسائل 12: 358 ب (10) من أبواب الخيار، المستدرك 13: 303 ب (9) من أبواب الخيار.

ص: 461

اكتفاء العاقل به غالبا. فإطلاق قوله: «فهو من مال بائعه» لعلّه منصرف إلى الفرد الغالب لا النادر، و الاحتمال يبطل الاستدلال.

و ثانيا: لو سلّمنا ذلك، فإنّما يسلم فيما قبل القبض لا بعده، اقتصارا فيما خالف الأصل على موضع اليقين.

قوله: «و حيث ثبت المخالفة قبل القبض فالأصل بقاؤها بعد القبض في مدّة الخيار».

[أقول:] فيه أوّلا: احتمال تبدّل موضوع الأصل. و ثانيا: انقطاعه بمفهوم قوله: «إذا تلف المبيع قبل القبض فهو من مال بائعه» (1)، المقتضي كونه بعد القبض من مال قابضه. فلا مجرى لاستصحاب ضمانه الثابت قبل القبض على غير قابضه، لكن النسبة بين عموم ضمان المقبوض و لو في زمان خيار القابض و بين عموم ضمان المتلوف في زمان الخيار ممّن لا خيار له و لو كان مقبوضا لذي الخيار و إن كان عموما من وجه. إلّا أنّ عموم المنطوق و لو بواسطة الشهرة مقدّم و مخصّص لعموم المفهوم و هو الصواب في الجواب عن توهّم عدم جريان عموم المنطوق، و عدم جريان استصحاب ضمان المشتري له الثابت قبل القبض، لكن قد عرفت منع العموم جدّا.

قوله: «فتلف الثمن في مدّة الخيار إنّما يتحقّق بعد ردّه قبل الفسخ لا قبله».

[أقول:] أي تلف الثمن في مدّة الخيار قبل الفسخ إنّما يتحقّق بعد ردّ الثمن لا قبله. و حاصل هذا الإيراد أنّ تلف ثمن بيع الخيار إن كان قبل ردّ الثمن فليس في زمان الخيار حتّى يكون من غير ذي الخيار، و إن كان بعده كان التلف في ملك


1- انظر الوسائل 12: 358 ب (10) من أبواب الخيار، المستدرك 13: 303 ب (9) من أبواب الخيار.

ص: 462

غير ذي الخيار، فضمانه حينئذ على الأصل و قاعدة التلازم بين الضمان و الخراج، لا على خلاف الأصل و القاعدة.

قوله: «مدفوع بما أشرنا [إليه] سابقا من منع ذلك».

[أقول:] أي منع حدوث الخيار في بيع الخيار بعد ردّ الثمن، بل هو متّصف بالخيار و محكوم بحكم الخيار شرعا قبل ردّ الثمن باعتبار تزلزله الفعلي و إن كان أثره و هو الفسخ أو الانفساخ بعد ردّ الثمن، بل و إن انفصل زمن الخيار عن العقد أيضا.

قوله: «لأنّ مقتضى ضمان المبيع في مدّة الخيار على من لا خيار له على ما فهمه غير واحد بقاءه على ما كان عليه قبل القبض».

[أقول:] فيه: منع اقتضاء ضمان المبيع بقائه على ما كان، بل مقتضاه عدم تغيّره بالتغيير المسقط لخياره لا مطلق التغيير حتّى تغيّر الكلّي و فرده الّذي هو عين الكلّي أو المتضمّن له الغير المسقط لخياره. ألا ترى أنّ خيار من له الخيار في بيع الكلّي و شرائه لا يسقط بتعيين الكلّي في فرد و لا بالقبض و الإقباض فيه قطعا، فكيف يسقط ضمانه المنوط بخياره وجودا و عدما؟ فتغيير المبيع المسقط لضمانه هو تغييره المسقط لخياره لا مطلق تغييره، و لو كان من قبيل الكلّي المقبوض بالنسبة إلى غير المقبوض فإنّه لا يعدّ تغييرا عرفا و لا شرعا قطعا.

قوله: «و هذا أي صيرورة الكلّي المقبوض (1) كغير المقبوض [و هذا] ممّا لا يدلّ عليه الأخبار المتقدّمة- أي أخبار (2) ضمان المتلوف في زمان الخيار على غير ذي الخيار- فتأمّل».

[أقول:] إشارة إلى أنّ مدلول الأخبار إناطة ضمان المبيع على غير ذي


1- لم ترد كلمة «المقبوض» في المكاسب.
2- الوسائل 12: 355 ب (8) من أبواب الخيار.

ص: 463

الخيار بخيار ذي الخيار وجودا و عدما، فما دام خيار ذي الخيار باقيا غير ساقط بالتغيير المسقط للخيار كان ضمانه على غير ذي الخيار باقيا أيضا، و ما دام خياره ساقطا بالتغيير المسقط له كان ضمانه ساقطا أيضا.

قوله: «فإنّا إذا قدّرنا المبيع في ملك البائع آنا ما لم يلزم مخالفة شي ء من القاعدتين».

[أقول:] أي قاعدتي عدم ضمان ما يتلف في ملك الغير و تلازم الضمان للخراج و هو الملك. و فيه: أنّ تقدير المبيع في ملك البائع ليس بأولى في المخالفة للقاعدة من تخصيص قاعدة تلازم الضمان للخراج، و لا بأولى من فرض التلف فسخ قهري أو سبب اختياري لخيار فسخ فعليّ قلبيّ و هو عدم الرضا بالمتلوف و الأخذ بعوضه، لعدم فائدة و غرض عقلائي فيه غالبا.

قوله: «و العبارة محتاجة إلى التأمّل من وجوه».

[أقول:] أحدها: التأمّل من جهة الفرق في بطلان البيع و الخيار إذا تلف المبيع قبل القبض، و عدم بطلان الخيار إذا تلف بعده، مع اتّحاد سياق ضمان البائع المبيع قبل القبض لضمانه بعده في زمان الخيار على من ليس له الخيار، و لعلّ وجهه الاقتصار في مخالفة الأصل و القاعدة على موضع التعيّن.

ثانيها: قوله: «و بعده لا يبطل الخيار و إن كان التلف من البائع، كما إذا اختصّ الخيار بالمشتري» (1).

فإنّ كون التلف من البائع مبطل للحكم بالخيار، بل رافع لموضوعه، بناء على قاعدة التلازم بين الضمان و الخراج و هو الملكيّة، و لعلّ وجهه الجمع بين الدليلين، و هو كون المتلوف في زمان الخيار من غير ذي الخيار، و استصحاب بقاء خيار ذي الخيار فيه على وجه يقدر على الالتزام بالمتلوف، و استرداده من


1- المكاسب: 302.

ص: 464

غير الخيار إلى ذي الخيار باستصحاب بقاء ما كان له قبل التلف من الخيار بعد التلف.

ثالثها: قوله: «و لو أوجبه المشتري في صورة التلف قبل القبض لم يؤثّر في تضمين البائع».

و في انسحابه فيما لو تلف بيده في خياره نظر، وجهه من استصحاب بقاء خياره فيؤثر إيجابه بالخيار تضمين البائع المثل أو القيمة، و من أنّ تلفه من البائع مبطل لخياره، بل رافع لموضوعه، بناء على التلازم بين الضمان و الخراج.

قوله: «و الظاهر أنّه غير مراد».

أقول: و إن كان بحسب ظاهر اللفظ المحكي غير مراد إلّا أنّ من المعلوم أنّ خيار الفسخ خصوصا المنفصل عن العقد لا يمنع من عموم (1) «السلطنة على المال»، و لا من «وجوب الوفاء بالعقود»، إلّا على وجه التخيير بين أحد الأمرين من الفسخ أو الوفاء، أو على القول بتوقّف الملك على مضي زمان الخيار، لا على مجرّد العقد. كيف! و لو كان كذلك لم يجز التصرّف في بيع الخيار و لا شي ء من التصرّفات المالكيّة.

قوله: «و من المعلوم أنّ تلف العين حينئذ موجب لانفساخ العقد».

[أقول:] و فيه: ما عرفت من قوله عليه السّلام: «كلّ مبيع تلف قبل قبضه فهو من مال بائعه» (2) لم يعلم الانفساخ، بل الفسخ القهري بل الاختياري أوفق بالأصول و القواعد.

قوله: «شرّع الخيار لدفع ضرر الصبر على نفس العين .. إلخ».

[أقول:] و فيه: أنّ تشريع الخيار لدفع ضرر الصبر و الالتزام بالمبيع مطلقا،


1- عوالي اللئالي 1: 222 ح 99، و ص 457 ح 198، و ج 2 ص 138 ح 383.
2- الوسائل 12: 358 ب (10) من أبواب الخيار، مستدرك الوسائل 13: 303 ب (9) من أبواب الخيار.

ص: 465

سواء كان على نفس المبيع أو بدله. كيف! و ضرر الالتزام بالبدل لا يقصر عن ضرر الالتزام بالعين، بل هو عينه.

قوله: «إذا كان دليل الخيار معنونا بجواز الردّ لا بالخيار اختصّ ثبوت الخيار بصورة تحقّق الردّ المتوقّف على بقاء العين».

أقول: و إن علّق الخيار في بعض الأخبار على جواز الردّ لكن جواز الردّ و عدمه باعتبار أنّ للجواز طرفان. مضافا إلى التصريح في بعضها بقوله: «إن شاء ردّ و إن شاء أخذ» (1) صريح في الخيار. مضافا إلى أنّ الردّ بنفسه أيضا أعمّ من ردّ العين أو البدل.

قوله: «مع قيام الدليل على سقوط الخيار بتلف المعيب .. إلخ».

[أقول:] فيه أوّلا: أنّ إلحاق سائر الخيارات بخيار العيب في السقوط بالتلف قياس.

و ثانيا: مع الفارق؛ لأنّ سقوط الردّ بالتلف في العيب يستدرك بخيار الأرش و الإمضاء، بخلاف سائر الخيارات فلا جابر لتدارك ضرر الإلزام بها سوى ردّ البدل بعد تلف العين. مضافا إلى استصحاب بقاء الخيار بعد التلف، و إلى أنّ سقوطه بنفس التلف نقض للغرض من جعله دفعا للضرر و جبرا للحظر.

قوله: «إذا فرض الغرض من الخيار الردّ و الاسترداد (2) فلا يبعد اختصاصه بصورة البقاء و التمكّن من الردّ».

[أقول:] فيه: إن كان تخصيص الخيار بردّ العين لا غير في ضمن الشرط فهو إسقاط لنوع من خياره كإسقاط أصله، و كلّه تابع للشرط و خارج عن محلّ الكلام، و إلّا فيبعد سقوط الردّ بالتلف بمجرّد التواطي عليه إلّا إذا رجع التواطي


1- الوسائل 12: 361 ب (14) من أبواب الخيار ح 1.
2- في المكاسب: «أو الاسترداد».

ص: 466

عليه إلى اشتراط سقوطه به، نظرا إلى عموم «العقود تابعة للقصود».

قوله: «و لكن المسألة لا تخلو عن إشكال».

[أقول:] وجه الإشكال أنّ تلفه قبل الفسخ من غير ذي الخيار يقتضي أن يكون تلفه بعد الفسخ من غير ذي الخيار و سقوط ضمانه عن ذي الخيار بالطريق الأولى، فيكون عموم دليل ضمانه في زمن الخيار على غير ذي الخيار مسقطا لضمانه عن ذي الخيار، و مخصّصا لعموم: «على اليد ما أخذت» (1).

لا يقال: الأصل عدم تخصيص عموم يد الضمان.

لأنّا نقول: أوّلا: إنّ الأصل دليل حيث لا دليل، و قد عرفت أنّ نصوص ضمان المتلوف في زمن الخيار من غير ذي الخيار دليل سقوط ضمانه عن ذي الخيار قبل الفسخ و بعده بالأولويّة، فلا مجرى للأصل معه.

و ثانيا: أنّ تخصيص عموم يد الضمان بعد الفسخ و رفع ضمان الفاسخ عن المفسوخ بعد الفسخ ليس بتخصيص زائد على تخصيصه المعلوم بيد الأمانة، فإنّ يد الفاسخ بعد فسخه الشرعي يد أمانة شرعيّة مقطوع عن اليد المضمونة السابقة على الفسخ، فلا مجرى لاستصحابها. مضافا إلى ما عرفت من الإشكال في ضمان اليد السابقة.


1- عوالي اللئالي 1: 224 ح 106.

ص: 467

القول في النقد و النسيئة

قوله: «ينقسم البيع .. إلخ».

أقول: أمّا انقسامه إلى أربعة فعقليّ؛ لدورانه بين النفي و الإثبات.

قوله: «المراد بالحاضر أعمّ من الكلّي و بالمؤجّل خصوص الكلّي».

[أقول:] يعني في عرف الشرع حيث خصّ أحكام السلم من اشتراط القبض و غيره بالكلّي، و إلّا فيتبعه حكم الحاضر شرعا.

قوله: «لكنّه خلاف متفاهم ذلك الشرط».

[أقول:] لأنّ التأسيس خير من التأكيد، و الإفادة خير من الإعادة، فاشتراط التعجيل ليس معناه عدم التأجيل كالنقد في مقابل النسيئة، بل معناه المبادرة قبل المطالبة و استحقاقها، بخلاف تأكيد منصرف الإطلاق فإنّ معناه المبادرة بعد المطالبة و بعد استحقاقها.

قوله: «و قوّى الشهيد الثاني ثبوت الخيار مع الإطلاق (1) أيضا .. إلخ».

أقول: وجهه انصراف الإطلاق إلى اشتراط تعجيل الوفاء بموجب العقد عند وجوبه و المطالبة به في أوّل أوقات الإمكان عرفا فالتأخير و المماطلة عنده حينئذ من غير عذر شرعي تخلّف و مخالفة للشرط المنصرف إليه إطلاق العقد عرفا بحسب الظاهر، مضافا إلى أنّ التأخير عن أوّل أوقات الإمكان عند اجتماع شروط التعجيل من الإيجاب و الموجب و الوجوب و المطالبة لو لم يوجب الخيار لم يوجبه إلى الأبد، و هو مظنّة الضرر المنفي بالخبر.

فإن قلت: ما الفرق بين اشتراط التعجيل و الإطلاق؟


1- مسالك الأفهام 3: 223.

ص: 468

قلت: الفرق أنّ الاشتراط صريح في الشرط، و الإطلاق ظاهر، و تخلّف الشرط موجب لخيار ذي الشرط مطلقا، تمكّن من الإجبار أم لم يتمكّن، وجب البيع أم لم يجب، قبض المبيع أم لم يقبض، طولب بالشرط أم لم يطالب، تمكّن من التعجيل و إجابة الشرط أم لم يتمكّن، تأخّر التعجيل عن أوّل أوقات الإمكان أم لم يتأخّر، بخلاف تخلّف الإطلاق فإنّه لا يوجب الخيار إلّا بعد اجتماع جميع القيود المذكورة أخذا بإطلاق الشرط في الأول و منصرف الإطلاق في الثاني.

فإن قلت: مفهوم نصوص (1) خيار تأخير ما يفسد ليومه و خيار تأخير ثلاثة أيّام تنفي خيار التأخير فيما قبله.

قلت: إثبات خيار التأخير لا ينفي خيار التعجيل، خصوصا بعد اشتراط خيار التأخير بعدم قبض شي ء من الثمن و لا المثمن و اشتراط خيار التعجيل بقبض أحدهما دون الآخر، و عدم اشتراط خيار التأخير بالمطالبة و عدم التمكّن من الإجبار، بخلاف خيار التعجيل فإنّه مشروط بهما.

قوله: «و إن أراد المقدار المحتمل للبقاء كان اشتراط مدّة مجهولة.

فافهم».

[أقول:] إشارة إلى إمكان اندفاع هذا الإشكال عن الإفراط في التأجيل نقضا: بوروده في مطلق التأجيل المتّفق حلوله بموت المشتري، فإن أراد المشترط الزيادة عليه كان لغوا مخالفا للمشروع فاسدا بل مفسدا، و إن أراد المقدار الحال بموته دون الزيادة كان اشتراط مدّة مجهولة.

و حلّا: بالمنع من بطلان إرادة كلّ من الأجلين الحال بالموت على تقديره و الزيادة عليه على تقدير عدمه و لو كان محالا عادة، إلّا أنّ الالتزام به تقديرا مقدّمة لتصحيح العقد لا مانع منه شرعا سوى شائبة كونه سفهائيا خارجا عن


1- الوسائل 12: 358 ب (11) من أبواب الخيار، و ص 356 ب (9) من أبواب الخيار.

ص: 469

منصرف العقود و القصود العقلائية المعروفة عرفا و شرعا.

قوله: «إلّا أنّ فساد المقابلة لا يقتضي فساد الإسقاط».

[أقول:] و فيه: أنّ الأصل الأصيل الملازمة عرفا و شرعا بين فساد السبب و فساد المسبّب، سواء كان حقّا أو إسقاطا أو مالا أو فعلا، فلا يسقط الإسقاط بعد فساد سببه استصحابا لبقائه على ما كان.

قوله: «فيقع الإشكال في نهوض الروايتين (1) لتأسيس هذا الحكم المخالف للأصل .. إلخ».

[أقول:] أي أصالة عموم: «لا يحلّ مال امرئ مسلم إلّا عن طيب نفسه» (2)، و اشتراط الطيب و التراضي في المؤجّل بأكثر الثمنين لا أقلّهما المقتضي انتفاء المشروط بانتفاء شرطه، فما قصد من أكثر الثمنين في المؤجّل لم يقع و ما وقع من أقلّهما فيه الّذي هو مضمون الروايتين لم يقصد.

و لكن يمكن رفع هذا الإشكال في نهوضهما لتأسيس هذا الحكم، و هو صحّة المعاملة المخيّرة بأقلّ الثمنين في أبعد الأجلين على وجه يوافق الأصل، و لا يخالفه في البين بعد تصحيح سندهما بالشهرة و الاعتبار، و عدم قصورهما سندا عن نواهي: «بيع في بيعين» (3)، و عن: «بيع في شرطين» (4)، و تحكيم دلالتهما على عموم النهي المذكور، و تخصيصه بخصوص المؤجّل بأكثر الثمنين دون أقلّهما، إذ لا مانع من صحّة كلّ من المعجّل و المؤجّل بانفراده، بل و لا مجتمعا في بيع واحد إلّا شائبة الربا المحرّم في المؤجّل، بظهور الزيادة في إزاء الأجل بعد الرضا بالأقلّ، فيصحّ بأقلّ الثمنين للرضا به في أبعد الأجلين، لعدم


1- الوسائل 12: 367 ب «2» من أبواب أحكام العقود ح 1 و 2.
2- الوسائل 3: 424 ب «3» من أبواب مكان المصلّي.
3- الوسائل 12: 368 ب «2» من أبواب أحكام العقود ح 4 و 5.
4- الوسائل 12: 367 ب «2» من أبواب أحكام العقود ح 2 و 3.

ص: 470

صحّة ما بإزاء الأجل في البين، فيرجع صحّة بيع الشي ء الواحد بشرطين على ما هو مضمون الروايتين من صحّته بأقلّ الثمنين في أبعد الأجلين إلى بيعه أوّلا:

مؤجّلا و معجّلا بالأقلّ. و ثانيا: مؤجّلا بالأكثر، فيبطل الثاني لجعله الزيادة في إزاء الأجل المحرّم ربا، و يصحّ الأوّل بالأقلّ، لوجود المقتضي من عموم الوفاء بالعقود، و عدم المانع من مخالفة أصل و لا معارضة قاعدة، سوى كون الأقلّ في إزاء التعجيل لا التأجيل في فرض، و هو تخلّف شرط موجب لخيار الشارط، لا لفساد المشروط.

فتبيّن رفع الإشكال عن مضمون الروايتين (1) بتطبيقهما على الأصول و القواعد في البين.

قوله: «و أمّا ما عداه- كما إذا جعل له الأقلّ في أجل و الأكثر في أجل آخر- فلا ينبغي الإشكال (2) في بطلانه، لحرمة القياس، خصوصا على مثل هذا الأصل».

[أقول:] و فيه: ما عرفت من رفع الإشكال و اتّحاد المسألتين في مقتضى الصحّة و عدم المانع في البين. و ما أبعد بينه و بين ما عن التحرير (3) من البطلان هنا قولا واحدا.

قوله: «و فيه تأمّل».

[أقول:] وجه التأمّل: احتمال أن يكون حقّ التأجيل للمشتري من قبيل حقّ الجعالة لو ردّه المجعول له على الجاعل و حقّ مال الوصاية لو ردّه الموصى له على الموصي، لا من قبيل الزيادة التبرّعية حتّى لا يجب قبوله.

قوله: «مرجع التأجيل في العقد اللازم إلى إسقاط حقّ المطالبة فلا يعود


1- تقدّم مصدرهما في هامش (1) ص: 469.
2- في المكاسب: «الاستشكال».
3- تحرير الأحكام 1: 173.

ص: 471

الحقّ بإسقاط التأجيل .. إلخ».

[أقول:] فيه: أنّ مرجع كلّ من الضدّين الوجودين كالتأجيل و التعجيل إلى عدم الآخر و إسقاطه، لا العدم المطلق كإبراء الدين الغير القابل للعود بالإسقاط.

و أمّا مقايسة إسقاط المشتري التأجيل بإسقاط البائع التعجيل أو التبرّي عن العيوب، ففيه: أوّلا: إمكان الفرق. و ثانيا: إمكان منع الحكم في المقيس عليه.

نعم، هذا الحكم مسلّم في إبراء الدين حيث لا يعود بإسقاط الإبراء، لكنّه مع الفارق لما نحن فيه حيث إنّ أجل الدين وصف تابع لا يفرد بالإسقاط بخلاف الدين.

قوله: الظاهر تعدّد الحقّ. فتأمّل».

[أقول:] إشارة إلى منع ظهور التعدّد نقضا: بحقّ الرهانة حيث يختصّ بالمرتهن لا الراهن، و حقّ الجناية بالمجني عليه لا الجاني، و حقّ الجعالة بالمجعول لا الجاعل.

و حلّا: بأنّ استظهار التعدّد إن كان من وقوع الاشتراط بينهما فظاهره كونه حقّا للشارط على المشروط عليه، و إن كان من غيره فالأصل عدم تعدّده.

قوله: «و هذا لا دخل له بما ذكره جامع المقاصد» (1).

[أقول:] إشارة إلى الفرق بين التعليلين من حيث الضعف و القوّة، لا إلى مجرّد الفرق و رفع توهّم الاتّحاد كما توهّم فإنّه بعيد.

قوله: «و هو الّذي رجّحه جامع المقاصد» (2).

[أقول:] و ذلك لعموم ولاية الحاكم (3)، و عموم الممتنع عرفا و شرعا


1- جامع المقاصد 5: 41.
2- جامع المقاصد 4: 248.
3- الوسائل 18: 98 ب (11) من أبواب صفات القاضي، و ص 94 ب (10) ح 20، النساء: 59.

ص: 472

و إجماعا و سيرة في موارد أعماله.

قوله: «و المحكيّ (1) عن إطلاق جماعة عنهم عدم اعتبار الحاكم».

[أقول:] أي من إطلاق العزل، و لكنّه ناظر إلى ما هو الغالب من عدم التمكّن من الحاكم.

قوله: «و قاعدة مقابلة الخراج بالضمان غير جارية هنا».

[أقول:] و ذلك لتخصيص عمومها بقاعدة «نفي الضرر و الضرار»، و مقتضاه بقاء المال المعزول في ملك عازله و نمائه له استصحابا لما قبل عزله، و لكن ضمانه بواسطة العزل منفي بنفي الضرر، جمعا بين الحقّين، و أخذا بمقتضى القاعدتين، و هو أقرب وجوه الجمع في رفع الإشكال في البين.

قوله: «و في دلالتها نظر».

[أقول:] وجه النظر: عدم دلالتها على كون الطعام المأخوذ هو عين الطعام المبيع أوّلا، بل يحتمل أن يكون غيره، بخلاف الروايات (2) السابقة (3) فإنّها دالّة على محلّ النزاع.

قوله: «أورده (4) في الاستبصار (5) دليلا على مختاره، و حكي عن بعض ردّها بعدم الدلالة بوجه».

[أقول:] أمّا وجه الاستدلال فبظاهر: «لا تأخذ منه حتّى يبيعه و يعطيك».

و أمّا وجه عدم دلالتها فلاحتمال أن يكون «لا تأخذ» خصوصا بقرينة

قوله أوّلا «خذ منه» نهي تخييري، أي إن شئت خذ منه و إن لم تشأ و تستكره أخذ ما بعته فلا تأخذ.


1- انظر مفتاح الكرامة 5: 65.
2- الوسائل 12: 69 ب «5» من أبواب أحكام العقود.
3- و لم يسبق منه قدّس سرّه.
4- في المكاسب: «أوردها».
5- الاستبصار 3: 77 ح 257.

ص: 473

أو نهي كراهة بقرينة الجمع بينه و بين نصوص (1) الحلّ و الجواز.

أو نهي إرشاد إلى أنّه لا نفع في شراء ما باعه، كما يومئ إليه تعليله في خبر خالد بأنّه «لا خير فيه» (2).

أو نهي إرشاد إلى أنّ فساد ابتياع ما باعه بالتفاضل ليس لأجل فساد الابتياع، بل لأجل فساد البيع الأوّل لعلم الإمام به في خصوص مورد السؤال أو غالب موارد السلف من جهة الإخلال بشرائط صحّته من الجهّال، كما يومئ إليه تفريع تعليل الفساد في رواية عليّ بن جعفر بقوله عليه السّلام: «فلا يصحّ دراهم بدراهم» (3)، و إلّا لقال: «فلا يصحّ المعوّض الدراهم بدراهم»، مضافا إلى ضعف أخبار (4) المنع و شذوذها و موافقتها العامّة و التقيّة و مخالفتها الكتاب و السنّة، حيث «قالوا إنّما البيع مثل الربا»، و ردّهم بقوله أَحَلَّ اللّٰهُ الْبَيْعَ وَ حَرَّمَ الرِّبٰا (5)، بخلاف نصوص (6) الحلّ و الجواز و نصوص (7) التخلّص عن الربا فإنّها موافقة للكتاب و السنّة و الشهرة بين الخاصّة، بل القواعد المسلّمة المنصوصة للفرار عن الربا المحرّم، لا أنّه من الربا المحرّم، و قاعدة كلّية على أنّ عوض العوض في حكم العوض في حرمة التفاضل، كما توهّم تبعا للعامّة (8)، و ضعاف الأخبار الشاذّة النادرة المخالفة للكتاب و السنّة.


1- الوسائل 12: 369 ب «5» من أبواب أحكام العقود.
2- الوسائل 13: 74 ب (12) من أبواب السلف ح 3.
3- الوسائل 13: 71 ب (11) من أبواب السلف ح 12.
4- الوسائل 13: 73 ب (12) من أبواب السلف.
5- البقرة: 275.
6- الوسائل 12: 369 ب «5» من أبواب أحكام العقود.
7- الوسائل 12: 455 ب «20» من أبواب الربا.
8- حلية العلماء 4: 384.

ص: 474

قوله: «لا يظهر من رواية خالد (1) دلالة على مذهب الشيخ» (2).

[أقول:] وجه عدم دلالتها: أنّه لم يعلم كون الطعام المنهيّ عن شرائه هو عين الطعام الّذي باعه عليه أوّلا فيخرج المنهيّ به عن محلّ النزاع، و يكون الإيراد به مشترك الورود لوجه آخر غير ما نحن فيه.

قوله: «أمّا لو شرط أن يبيعه على غيره صحّ عندنا .. إلخ».

أقول: البيع بشرط البيع لا يخلو إمّا أن يريد حصول الشرط مع المشروط دفعة، و إمّا أن يريد حصوله بعد المشروط بالتقديم و التأخير. لا ينبغي الخلاف و لا الإشكال في صحّة الثاني، لوجود المقتضى، و عدم المانع، كما يشهد عليه تعليل الصحّة و فساد ما زعمه أهل المسجد من فساده بقوله عليه السّلام: «إنّما هذا تقديم و تأخير و لا بأس» (3).

كما لا ينبغي الخلاف و لا الإشكال في فساد الأوّل، للدور و التحصيل الحاصل المحال، من غير فرق بين شرط البيع على البائع أو على غيره، و لا بين شرط البيع، أو شرط الرهن، أو شرط الوقف، أو شرط العتق، أو شرط الشراء، أو شرط غيرها من موارد زعم النقض أو الفرق، فلا وجه لأصل الخلاف و الإشكال و لا للنقض و الجواب بالفرق، بل ينبغي أن يكون النزاع في مثل المسألة لفظيّا بعد كشف المراد من الصحّة و الفساد، كما لا يخفى.

قوله: «فالحكم بفساد العقد الثاني في الروايتين لا يصحّ أن يستند إلى فساد الأوّل».

أقول: بل يمكن حمل الروايتين (4) على فساد العقدين من جهة قصد البائع الشراء المتوقّف على البيع، فيضمن إنشاء البيع دفعة واحدة لا على وجه التقديم و التأخير، كما يشهد عليه تعليل الصحّة و عدم فساد ما زعمه أهل المسجد من


1- الوسائل 13: 74 ب (11) من أبواب السلف ح 3.
2- الاستبصار 3: 77 ذيل الحديث 256.
3- الوسائل 12: 370 ب (5) من أبواب أحكام العقود ح 4.
4- الوسائل 12: 370 و 371 ب (5) من أبواب أحكام العقود ح 4 و 6.

ص: 475

فساده في اولى الروايتين بقوله عليه السّلام: «إنّما هذا تقديم و تأخير و لا بأس» (1)، و استدلالهم على بطلانه بالدور و بعدم قصد البائع حقيقة الإخراج عن ملكه و قطع علاقة الملكيّة عن نفسه.

[القول في القبض]

قوله: «و إن فسّرت برفع جميع الموانع و إذن المشتري في التصرّف .. إلخ».

[أقول:] فيه أوّلا: لا يكاد يظهر الفرق بين تفسيري التخلية، فإنّ تفسيرها الأوّل بقوله: «فعل البائع بالنسبة إلى المبيع و هو جميع ما يتوقّف عليه من طرفه و وصوله إلى المشتري و يعبّر عنه مسامحة بالإقباض و التسليم، و هو الّذي يحكمون بوجوبه على البائع و الغاصب و الراهن في الجملة، و يفسّرونه بالتخلية الّتي هي فعل» (2) إنّما هو عين التفسير الثاني.

نعم، لو فسّر التخلية في الأوّل بالترك لا الفعل- أعني: مجرّد رفع اليد عن تسلّط نفسه دون تسليط صاحبه- افترق المعنيين، و لكنّه خلاف ظاهر التفسير و خلاف ما هو الواجب على البائع و الغاصب و الراهن، بل و خلاف ما هو مراد المفسّرين له بالتخلية حتّى في غير المنقول، إذ من المعلوم أنّ التخلية بمعنى مجرّد رفع اليد عن تسلّط نفسه يعدّ إعراضا لا قبضا اسما و لا حكما، أمّا اسما فواضح، و أمّا حكما فلعدم الاكتفاء به فيما يجب على البائع و الراهن و الغاصب في الوفاء بالعقود و إسقاط الضمان قطعا حتّى في غير المنقول، بل التخلية المجزية في إسقاط الضمان و أداء الواجب على البائع و الغاصب و الراهن إنّما هو «تسليط الناس على أموالهم».

نعم، هو إمّا فعليّ، كوضعه أو وضع مفتاحه أو عنانة في يده أو بين يديه أو سوق الدابّة معه أو إلى داره، أو قولي كالإشارة أو الكتابة أو التصريح بقوله


1- الوسائل 12: 370 ب (5) من أبواب أحكام العقود ح 4.
2- المكاسب: 309.

ص: 476

«خذه» أو «تصرّف فيه» أو «سلّطتك عليه» أو «حوّلته» أو «نقلته إليك» أو نحو ذلك ممّا يفيد التسليط فعلا أو قولا على القبض مطلقا، سواء قبضه و قبله الطرف المقابل، أم لم يقبضه.

و من هنا يحتمل جدّا أن يكون اختلاف تفاسير القبض على كثرتها اختلاف في اللفظ و التمثيل لا المعنى و التحديد، و أنّ مراد المتّفقين على اكتفاء التخلية هو الاكتفاء بالتخلية الفعليّة و هو التسليط على القبض، و مراد المنكرين هو إنكار الاكتفاء بالتخلية بمعنى الترك لا الفعل، و هو مجرّد رفع اليد عن التسلّط من غير أن يسلّط صاحبه عليه.

و ثانيا: لو سلّمنا الفرق بين معني التخلية، لكنّه غير فارق بما ذكره من أنّ التخلية بالمعنى الأوّل ليس بقبض و بالمعنى الثاني قبض، بل التقبيض على المعنيين ليس بقبض حقيقي و إنّما يلحقه حكم القبض شرعا، دفعا لضرر الضمان و كلفة الأمانة فيما مكّن القابض من القبض فلم يقبض من غير عذر شرعي، كما قد يلحق القبض حكم عدم القبض شرعا فيما لو قبضه كرها و له عذر شرعيّ من قبضه كتقيّة أو خوف غصب أو نهب أو معرض سرقة، للإكراه و الضرر المنفيين شرعا.

قوله: «و لعلّ تفصيل الشهيد (1) في البيع بين حكم الضمان و غيره من حيث إنّ الحكم الأوّل منوط بالإقباض و غيره منوط بفعل المشتري».

[أقول:] و فيه: ما عرفت من أنّ حكم الضمان و غيره من جواز التصرّف و تعيين ما في الذمّة من الكلّي و بيع ما لم يقبض كلّها منوطة بالقبض، إلّا أنّ مجرّد التقبيض قد يلحقه حكم القبض شرعا، كما أنّ القبض قد يلحقه حكم عدم القبض شرعا، و هذا لا يوجب ما ذكره المصنّف (2) من اختلاف أحكام القبض و لا


1- الدروس الشرعيّة 3: 213.
2- المكاسب: 310.

ص: 477

اختلاف أدلّة الأحكام.

قوله: «و إن استند إلى قوله في رواية عقبة بن خالد: «حتّى يقبض المتاع و يخرجه من بيته» (1) ففيه (2) إناطة الحكم بالتخلية».

أقول: وجه إناطة الحكم بالتخلية أنّ إقباض المتاع قد يفارق القبض، و لكن فيه أنّ عدم قبض القابض عند التقبيض و التمكين من القبض إن كان لا لعذر شرعي فهو في حكم القبض شرعا و إجماعا بدليل خارج عن هذا المستند و هو دليل «لا ضرر و لا ضرار» (3)، و إن كان لعذر شرعيّ فلا يناط الحكم بالتخلية، بل يحمل الرواية على النبويّ (4). و حينئذ فلا منشئ لما ذكره المصنّف (5) من اختلاف المستند في تفسير القبض بالتخلية و غيره.

قوله: «و ليس إلّا لكون (6) ذلك قبضا».

[أقول:] و فيه نظر، إذ لعلّه لكونه تعيينا لما في الذمّة من الحقّ الكلّي و التعيين به أعمّ من القبض، بل هو الأنسب، لأنّ مدخليّة القبض و عدمه في صحّة البيع بعيد جدّا، بخلاف التعيين فإنّ فيه مصالح و في عدمه مفاسد لا تعدّ، و يحتمل أيضا أن يكون اعتبار الكيل في البيع الثاني من المكيل لأجل التخلّص من شائبة الربا فيما ربح عليه البائع ليقع الربح في إزاء كيله و وزنه، كما يشهد عليه صحيحة عليّ بن جعفر (7) المتقدّمة (8).


1- الوسائل 12: 358 ب (10) من أبواب أحكام الخيار ح 1.
2- في المكاسب: احتمل فيه.
3- الوسائل 12: 364 ب «17» من أبواب الخيار.
4- المستدرك 13: 303 ب (9) من أبواب الخيار.
5- المكاسب: 310.
6- في المكاسب: «إلّا كون».
7- الوسائل 12: 389 ب «16» من أبواب أحكام العقود ح 9.
8- لم يتقدّم منه قدّس سرّه.

ص: 478

قوله: «و منه يظهر ما في المسالك».

[أقول:] و محلّ النظر من كلام المسالك قوله: «لأنّ الاعتبار بهما قبض و زيادة» (1)، إذ قد ظهر كون الاعتبار بهما تعبّد لأجل النصّ (2)، أو تعيين لرفع الجهل، أو تخلّص عن شائبة الربا لا قبض و زيادة، و مراده من الزيادة تعيينه.

قوله: «إن لم يكن إحداث [قول]».

[أقول:] و ذلك لتوقّف كلّ من نقل الضمان و البيع ثانيا على القبض، فالتفكيك بتوقيف نقل الضمان عليه دون البيع الثاني إحداث قول.

قوله: «و هذا كما أنّ إتلاف المشتري يرفع ضمان البائع».

[أقول:] و فيه: أنّ مقايسة التخلية بالإتلاف في رفع الضمان في غير محلّه، لأنّ الإتلاف إن كان بنحو القبض فالقياس مع الفارق، و إلّا فالحكم في المقيس عليه غير مسلّم.

قوله: «و هو ما ذكرنا من الاستيلاء و السلطنة».

[أقول:] و فيه: أنّ الاستيلاء كالتملّك و المالكيّة من الشئونات و الصفات الأعمّ من القبض و إن بلغ ما بلغ. ألا ترى أنّ القدرة و السلطنة الكليّة التامّة الإلهيّة على قبض الأرواح غير قبضها و أخذها الغير الصادق عرفا إلّا بالإماتة؟ فتفسير القبض بكلّ من المعاني المذكورة على اختلافها و كثرتها تفسير بالأخفى و الأدنى، و ليس له معنى أجلى و أعلى و أضبط و أقوى من الحوالة إلى ما هو معروف، و ليس لفظ أعرف و أبلغ و أفصح و أضبط عرفا و شرعا بحيث لا يحتاج إلى تفسير أصلا، و لا يختلف في قبض الضمان و رفعه، و لا في تعيين ما في الذمّة من الكلّي و قبضه، و لا بين قبض المنقول و غيره، إلّا أنّ القبض في كلّ شي ء بحسبه. و ما يتراءى من الاختلاف فهو في حكمه لا في اسمه أي فيما بحكمه.


1- مسالك الأفهام 3: 243.
2- الوسائل 12: 389 ب «16» من أبواب أحكام العقود ح 11.

ص: 479

قوله: «لأنّ البيع يوجب استحقاق المبيع فيكفي التمكين منه و هنا لا استحقاق، بل القبض سبب في الاستحقاق».

[أقول:] فيه أوّلا: منع الفرق، لأنّ عقد الرهن أيضا كعقد البيع سبب لازم لاستحقاق المرتهن العين المرهونة بعموم (1) «وجوب الوفاء بالعقود». نعم، في العقود الجائزة كالقرض و الهبة و الصدقة لا استحقاق إلّا بالقبض.

و ثانيا: سلّمنا، لكن الفرق المذكور غير فارق، لأنّ استحقاق المبيع بمجرّد عقد البيع لا يستلزم كفاية التمكين منه في سقوط ما رتّب الشارع على قبضه من الضمان و غيره. نعم، إنّما يستلزم جواز تصرّف المشتري فيه.

قوله: «و إن كان في موضع يختصّ به فالنقل من زاوية إلى أخرى بغير إذن البائع لا يكفي، لجواز التصرّف، و يكفي لدخوله في ضمانه .. إلخ».

[أقول:] فيه: منع هذا الفرق على إطلاقه، لأنّ المشتري إن أدّى الثمن استحقّ المبيع و جواز التصرّف فيه من غير توقّف على قبض و لا على إذن، و إلّا لم يستحقّه بلا استئذان، من غير فرق بين النقل من مكان خاصّ دون مكان و إن سقط الضمان بتصرّف الإثم و العصيان.

قوله: «و من أنّ الظاهر أنّ ذلك لأجل القبض».

[أقول:] فيه: ما عرفت من أنّ الأظهر كونه لأجل التعيين أو التخلّص من شائبة الربا فيما لو استريح البائع عليه، لا لأجل خصوص القبض، خصوصا و اعتبار ما هو معلوم الاعتبار تحصيل للحاصل المحال و لغو لا يليق بحكم الحكيم المتعال.

قوله: «يراد به ما ذكرنا لا ما عرفت من جامع المقاصد».

[أقول:] أمّا الفرق فهو كون المراد على ما ذكرنا من قوله: «لو اشترى


1- المائدة: 1.

ص: 480

مكايلة و باع مكايلة فلا بدّ لكلّ بيع من كيل جيد ليتمّ القبض» (1) إنّما هو الشراء و البيع بمكيال معيّن مسمّى في العقد في مقابل الشراء و البيع جزافا، أو ما علم كيله سابقا من دون تسمية الكيل المعيّن في العقد لكونه لغوا.

و أمّا على ما ذكره جامع المقاصد (2) فالمراد به: لو اشترى أو باع ما من شأنه أن يباع، أو يشترى مكايلة في مقابل ما ليس من شأنه المكايلة فلا بدّ فيه من الكيل.

و أمّا وجه ترجيح إرادة ما ذكرنا فلأنّ المعنى على ما ذكره جامع المقاصد من قبيل توضيح الواضحات، و هو كون المكيل لا يباع و لا يشترى إلّا بكيل، بخلاف المعنى على ما ذكرنا فإنّ معناه أنّ الكيل المعيّن تسميته في عقد البيع و الشراء لا يتعيّن قبضه إلّا بكيله.

قوله: «مع أنّه اختار عدم جواز بيع الصبرة جزافا. فافهم».

[أقول:] إشارة إلى أنّه لا يقال: إنّ قبض المرهون جزافا بنقله من مكانه لا يقتضي أن يكون قبض المبيع جزافا كذلك بنقله من مكانه لا بتجديد كيله.

لأنّا نقول: نعم، لا يقتضي ذلك، و لكن يعلم منه بتنقيح المناط أنّه لو أجاز بيع الصبرة جزافا لم يكن له سبيل إلى قبضه إلّا بنقله من مكانه أيضا لا محالة، فيعلم أنّ اعتبار قبض المبتاع بكيل معيّن بكيله إنّما هو لأجل التوصّل إلى تعيّنه المسمّى في بيعه، لا لأجل التعبّد به حتّى يلزم تجديد كيله مرّة أخرى مع حصوله و العلم به.

قوله: «و لذا يقبّحون مطالبة الثمن قبل دفع المبيع».

[أقول:] و فيه نقضا: أنّه كما يستقبحون ذلك يستقبحون العكس أيضا، و هو مطالبة المثمّن قبل الثمن.


1- قواعد الأحكام 1: 150.
2- جامع المقاصد 4: 393.

ص: 481

و حلّا: بأنّ المستقبح إنّما هو مطالبة كلّ من العوضين مع الامتناع من بذل الآخر، و أمّا مع عدم الامتناع من التقابض معا فلا يستقبح، بل هو واجب يجر عليه الممتنع شرعا.

قوله: «و الأقوى ما عليه الأكثر».

[أقول:] و ذلك لانعقاد العقد على تعويض كلّ من الثمن و المثمّن بالآخر فلا تقديم لأحدهما على الآخر، و نسبة وجوب الوفاء بالعقد إلى كلّ من المتعاقدين مساوية. و دعوى انصراف العقد إلى تقديم المثمّن ممنوع، و الأصل عدمه.

قوله: «و لعلّ وجهه أنّ غير المؤجّل قد التزم بتسليمه من دون تعليق على تسليم المؤجّل أصلا».

[أقول:] أي: لا حالّا و لا بعد الحلول، و هو ممنوع، ضرورة أنّ مبنى عقود المعاوضات كلّية على التقابض يدا بيد و تسليم أحد العوضين على تقدير تسلّم الآخر، من غير فرق بين المؤجّل و المعجّل غايته في المؤجّل بعد حلول الأجل.

نعم، المبنى في غير المعاوضات من عقود الصلح و الهبات على تسليم المعقود عليه، من غير تعليق أصلا و رأسا دون المعاوضات و لو كان مؤجّلا، فإذا لم يسلم المعجّل من المثمن و لو عصيانا حتّى الأجل كان له حبس المعجّل لدخوله فيما التزمه المتعاقدان من حقّ المعاوضة و التقابض، بل لو علم البائع بعد البيع مؤجّلا من حال المشتري عدم أدائه الثمن عند حلول أجله لإفلاس، أو عذر جار له في الحال حبس المبيع و الامتناع من تسليمه معجّلا دفعا للضرر المنفيّ.

قوله: «و المالك قد ملك [الزرع] غير مستحقّ للبقاء».

[أقول:] و فيه منع، لأنّ سبق ملك الزرع على ملك المشتري للأرض ملك لبقائه فلم يبق للمشتري إلّا الخيار مع الجهل، و هو أقوى الوجوه المذكورة هنا.

قوله: «و المراد بالأرش [نفس] (1) قيمة الهدم لا أرش العيب».


1- هذه الكلمة غير موجودة في المكاسب.

ص: 482

[أقول:] نظرا إلى أنّه لو حدث بالهدم عيب كان حدوثه في ملك المشتري، و لأجل مصلحته و مقدّمة لإيصال حقّه فلا يضمنه البائع. إلّا أن يقال: إنّ العيوب الحادثة قبل القبض في ضمان البائع و لو كان إحداثها مقدّمة لإيصال حقّ المشتري و لأجل مصلحته.

قوله: «ففي [وجوب] إجابته وجهان».

[أقول:] من أنّ الامتناع حقّ لمالكه المشتري الممنوع من العين بالامتناع فلا مانع من الانتفاع، و من أنّ الانتفاع وصف تابع فلا ينفكّ كما في العين المرهونة.

قوله: «و لعلّ الرواية (1) أظهر دلالة على الانفساخ».

[أقول:] وجه الأظهريّة نسبة التالف فيها إلى صاحب المتاع الّذي هو في بيته، و في النبويّ (2) إلى بائعه.

قوله: «و في غير موضع ممّا ذكره تأمّل».

[أقول:] منها: قوله في الهارب المعسر قبل وزن الثمن: «يملك البائع الفسخ» (3)، فإنّ الهارب مرجوّ العود و المعسر مرجوّ اليسار فكيف يلحق بالتلف؟

و منها: قوله في الهارب المؤسر: «أثبت البائع ذلك عند الحاكم .. إلخ» (4)، فإنّه موضع خيار الفسخ بعد ثلاثة أيّام.

قوله: «لا يخلو السقوط عن (5) قوّة و إن لم نجعله قبضا».

[أقول:] فيه ما تقدّم من أنّ عدم قبض القابض مع التخلية و التقبيض إن كان لا لعذر فهو في حكم القبض قطعا و إجماعا، و إن كان لعذر فلا يسقط الضمان


1- الوسائل 12: 358 ب «1» من أبواب الخيار ح 1.
2- المستدرك 13: 303 ب (9) من أبواب الخيار.
3- تذكرة الفقهاء 1: 473.
4- في المكاسب: «من».
5- تذكرة الفقهاء 1: 473.

ص: 483

قطعا أيضا. فليست المسألة ذات قولين و لا ذات وجهين، كما زعم.

قوله: «و لو لا شبهة الإجماع على عدم تعيين (1) القيمة تعيّن الرجوع إليها بعد فرض انصراف دليل الانفساخ إلى غير ذلك».

[أقول:] و ذلك لأنّه بعد انصراف دليل الانفساخ لم يبق للمسألة مرجع إلّا إلى قاعدة إتلاف مال الغير، و أصالة عدم الفسخ، و عدم انتقال الثمن من البائع إلى المشتري.

قوله: «لو أكلت الشاة ثمنها المعيّن».

[أقول:] بأن كان ثمنها شعيرا أو علفا أو شيئا معيّنا آخر فأكلته أو شربته أو أتلفته، فإن كانت- أي الشاة- في يد المشتري فكإتلافه، أي إتلاف المشتري، و إن كان في يد البائع فكإتلافه، أي كإتلاف البائع، لتفريطه في حفظ ما في يده المسبّب للإتلاف المضمن للتالف إلى قوله: «لأنّ المبيع هلك قبل القبض»، و هو الشاهد من عبارة التذكرة (2) هنا حيث أطلق المبيع على ثمن الشاة المأكول لها.

قوله: «و ظاهر هذا الكلام كونه مسلّما».

[أقول:] أي ظاهر كلام التذكرة (3) حيث لم يفرق في جواز بيع ما لم يقبض بين ما انتقل ببيع أو غيره من سائر المعاوضات كالصلح و الإجارة، معلّلا بقوله:

لتمام الملك فيه و كذا ظاهر المحكيّ عن الشافعي من عدم جواز صلح ما لم يقبض من حيث لم يفرق أيضا بينه و بين البيع، معلّلا له بتوهّم الانفساخ بتلفه كالبيع (4). و إن كان محلّ نظر، بل منع، لأنّ توهّم طروّ الانفساخ بطروّ تلفه مضافا إلى أنّه خلاف الأصل لا يمنع من بيعه قبل طروّ المانع، كما لا يمنع من شرائه قبله


1- في المكاسب: «تعيّن».
2- تذكرة الفقهاء 1: 474.
3- تذكرة الفقهاء 1: 475.
4- تذكرة الفقهاء 1: 475.

ص: 484

قطعا.

قوله: «و فيه تأمّل».

[أقول:] وجه التأمّل: أنّ نقصان البعض و إن كان أظهر من نقصان الوصف إلّا أنّه موجب لخيار تبعّض الصفقة و هو الردّ لا الأرش، بخلاف الوصف.

قوله: «ظاهر الشرائع (1) عدم الأرش هنا مع قوله به في العيب. فتأمّل».

[أقول:] إشارة إلى أنّ عدم الأرش هنا و إن كان مقتضى الأصل إلّا أنّ القول به في العيب يستلزم القول به هنا، لأنّ مقطوع اليد من أظهر أفراد العيب المقرّر شرعا بكلّ ما زاد أو نقص عن الخلقة الأصليّة.

قوله: «و هو أولى من حمل تلك الأخبار على الكراهة».

[أقول:] و قد يرجّح الحمل على الكراهة في خصوص المقام لوجوه:

منها: أنّ حمل المطلق على المقيّد و إن كان أقرب المجازات الشائعة إلّا أنّ حمل النواهي على الكراهة من المجاز الشائع جدّا، خصوصا على قول المعالم (2)، خصوصا بقرينة الجمع بينهما و بين نصوص (3) «لا بأس».

و منها: استئناس الكراهة من نفس النواهي، و كون النهي عن بيع ما لم يقبض لأجل شائبة الجهل و الغرر المنفي في البيع، أو رفع شائبة الربا فيما استربح عليه من غير قبض و كلفه يقابل الربح، كما يشهد به تفصيل بعض النصوص (4) الناهية بين المكيل و الموزون و غيرهما، و بين ما استربح عليه و عدمه، بل و يحتمل قويّا عدم دلالة النواهي على الفساد، بل و لا الحرمة، بل و لا الكراهة، و كونها لمحض الإرشاد إلى حسم ماله التشاجر و التنازع المنجرّ إلى الفساد بين


1- شرائع الإسلام 2: 35 و 43.
2- معالم الدين: 241.
3- الوسائل 12: 387 ب «16» من أبواب أحكام العقود.
4- الوسائل 12: 387 ب «16» من أبواب أحكام العقود.

ص: 485

المتبائعين في القبض و الإقباض في المبيع الّذي بيع قبل قبضه فالميسور من القبض قبله قد يتعسّر بعده للشحّ و البخل في إقباض ما لم يقبضه البائع و في قبضه و كيله و وزنه على ما بيع قبل قبضه، كما يؤيّده التفصيل في بعض النواهي بين بيع التولية و المرابحة، و بين بيعه على البائع الأوّل و غيره، و بين ما يكال من الطعام و غيره، كما [في] صحيحة الفقيه المتقدّمة: «أ يصلح لأحد بيع بزّه قبل أن يقبضه؟ قال عليه السّلام: لا بأس» معلّلا ب «أنّ هذا ليس بمنزلة الطعام» (1)، يعني: أنّ البزّ و هو ثوب البزّاز و متاع التاجر ليس بمنزلة الطعام الّذي يكال حتّى يحصل التشاجر و التنازع في قبضه و كيله.

قوله: «و هنا قول سادس».

أقول: بل ربّما يبلغ الوجوه، بل الأقوال في المسألة إلى اثني عشر، حاصله من ضرب محتملات إطلاق النهي الأربعة: التحريم و الكراهة و الفساد و الإرشاد في محتملات التفاصيل الثلاثة، تارة بين التولية و المرابحة، و اخرى بين المكيل و الموزون و غيره، و ثالثة بين الطعام و غيره، و أقوى محتملات الإطلاق الإرشاد، و دونه الكراهة، و دونه الحرمة، و دونه الفساد، فإنّه في غاية الضعف. كما أنّ أخفّ مراتب النهي بأيّ من معانيه الأربعة التفصيل بين التولية و المرابحة، و دونه التفصيل بين المكيل و الموزون و غيره، و دونه التفصيل بين الطعام و غيره.

قوله: «نهي عن بيع الطعام بالطعام حتّى يجري فيه صاعان: صاع البائع، و صاع المشتري».

أقول: هذا مضمون النواهي المأثورة و إن لم تكن بهذه العبارة، إلّا أنّ المخالفين نقلوه بالمعنى، كما أنّ رأيهم المخالفة مهما أمكن و كيف كان فالمعنى نهي عن بيع الطعام بالطعام حتّى يجري فيه صاعان، أي كيل البائع و كيل المشتري. و فيه ما عرفت من أنّ دلالته على الفساد مبنيّ على اعتبار الكيل


1- الوسائل 12: 389 ب «16» من أبواب أحكام العقود ح 10، و لم يتقدّم منه قدّس سرّه.

ص: 486

للقبض. و أمّا لو احتمل كونه لتعيين المبيع و رفع الجهل و الغرر أو كون النهي للكراهة أو الإرشاد فلا يدلّ على الحرمة فضلا عن الفساد.

قوله: «لأنّ محلّ (1) الكلام فيما [إذا] كان المالان سلمين».

أي محلّ الكلام هنا «فيما كان المالان»، أي المال الّذي اشتراه و المال الّذي الباعة «سلمين». و أمّا لو كان أحدهما دون الآخر خرج عن محلّ هذا النزاع لانتفاء النزاع المركّب بانتفاء أحد أجزائه.

لا يقال: إذا كان أحدهما شخصيّا- فضلا عن كلاهما- دخل في النزاع أيضا.

قلت: نعم، و لكن لمّا كان دخول فرض الشخصي في محلّ النزاع أوضح من فرض الكلّي قدّم و أخّر فرض الكلّي بعد قوله: «ثمّ هذا كلّه .. إلخ» (2).

قوله: «أمكن خروجه عن المسألة، لأنّ الظاهر هنا كون السلم (3) ثمنا».

أقول: بل الأظهر أنّ خروجه من جهة الفرق و عدم صدق بيع ما لم يقبض على بيع الكلّي مع الإيفاء بالشراء الشخصي للفرق بين الكلّي و الفرد.

قوله: «كما يلزمهم القول بذلك في وطء الجارية».

أقول: الالتزام بذلك لأجل التحفّظ على عموم: «لا وطء إلّا في ملك» (4)، و أصالة عدم الملكيّة في المعاطاة ليس بأولى من تخصيص العموم، كما خصّصه التحليل، أو تخصيص الأصل بأدلّة البيع و إطلاقات إفادته الملك، بل اللزوم.

قوله: «فالمعاوضة لا يعقل بدون قيام كلّ عوض مقام معوّضة».

[أقول:] فيه نقضا: ما عرفت من عموم: «لا بأس في الشراء لنفسه بمال


1- هذه الكلمة غير موجودة في المكاسب.
2- المكاسب: 317.
3- في المكاسب: «كون المسلم».
4- انظر البحار 103: 297 ح 1.

ص: 487

الغير» (1) و «أعتق عبدك عنّي» و «تمليك البضع بصداق من الغير» (2) و «تملّك العامل ربح المضاربة» (3).

و حلّا: بأنّ قيام كلّ عوض مقام معوّضه في «العقود تابع للقصود»، فإن قصد المعاوضة بين العوضين قام كلّ منهما مقام معوضه، مثل: «بعت هذا المال بهذا المال»، و إن قصد المعوّض لغير من له العوض اتبع قصده في قيام كلّ منهما مقام الآخر في أصل العوضيّة دون الكيفيّة، ك «بعت مالي بمال الغير» و «التزويج بصداق من الغير» و «الخلع يبذل الغير» و «الأجير لغير من عليه الأجرة»، كما أنّه لو قصد التمليك بلا عوض اتبع قصده كالصلح و الهبة بلا عوض و مفوّضة البضع.

قوله: «فلا بدّ من توجيهه إمّا بانتقال أحد العوضين إلى غير مالكه قبل المعاوضة، و إمّا بانتقال العوض الآخر [إليه] بعدها».

أقول: التوجيه بالانتقال قبلها أو بعدها مع عدم الدليل عليه ليس بأولى من ظهور الانتقال بنفس المعاوضة لإطلاق «لا بأس» في الجواب عن «اشر لنفسك» (4) و «أعتق عبدك عنّي» عموم ترك الاستفصال.

قوله: «و حيث كان استمراره بيد المشتري قبضا فقد قبض ماله على مالك الطعام. فافهم».

[أقول:] إشارة إلى أنّه لا يقال: إن استند الشراء إلى نفسه بمال الغير إلى ما سبق من إذن الغير له فهو باطل لا فضولي، و إن قطع النظر في شرائه عن سبق الإذن له فهو فضولي، لكن لم يلحقه إجازة الشراء و القبض المصحّح له.

لأنّا نقول: و إن لم يلحقه إجازة الشائبة قوليّة إلّا أنّ استمراره بيد المشتري


1- الوسائل 13: 73 ب (12) من أبواب السلف.
2- انظر الوسائل 12: 58 ب «3» من أبواب ما يكتسب به ح 2.
3- الوسائل 13: 185 ب «3» من أبواب أحكام المضاربة.
4- الوسائل 13: 73 ب (12) من أبواب السلف ح 1.

ص: 488

إجازة فعليّة كاشفة عن الرضا بالقبض و الشراء، و هو كاف خصوصا على القول بكون الإجازة كاشفة لا ناقلة، كما هو الأظهر.

قوله: «فلا إشكال في عدم وجوب أدائه في ذلك البلد».

[أقول:] في إطلاقه منع إذا فرضنا تعذّر الأداء أو تعسّره في البلد خصوصا من طرف الديون، فيتعيّن الأداء حينئذ في بلد المطالبة بالمثل أو القيمة لدفع الضرر.

قوله: «فتعذّر البراءة مستند إلى غيبته».

[أقول:] في إطلاقه منع فيما إذا كان للغائب في بلد الاستحقاق وكيل في الأداء فليس للغريم قيمة بلد الاستحقاق.

قوله: «في المسألة الثانية: «و فيه تأمّل. فتأمّل».

[أقول:] إشارة إلى أنّ القيمة إنّما تتعيّن عند تعذّر المثل في بلد القرض لا في بلد المطالبة.

قوله: «أو احتاج تسليم المثل إلى مضيّ زمان. فتأمّل».

[أقول:] إشارة إلى أنّ الاحتياج في تسليم المثل إلى مضيّ زمان إنّما لا يوجب تعذّر المثل و تعيّن القيمة إذا كان الاحتياج إلى مضي زمان يسير بحيث لا ينافي الفوريّة العرفيّة في وجوب الوفاء بالمثل. و أمّا إذا كان الاحتياج إلى مضي زمان طويل ينافي الفوريّة العرفيّة في أداء المثل- كما هنا- فهو في حكم تعذّر المثل و تعيين القيمة عرفا و عقلا.

هذا آخر ما علّقناه على المكاسب.

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.