ص :2

ص :3

ص :4

هو الشهید الثانی زین الدین العاملی الذی ألّف فی بدایة المطاف رسالة «البدایة فی علم الدرایة» ثمّ شرحها لاحقا . ثمّ اقتفی أثره تلمیذه حسین بن عبد الصمد الحارثی (المتوفی عام 984ق ) الذی ألّف کتاب «وصول الأخیار إلی أصول الأخبار».

ومن الذین لمعت أسماؤهم فی هذا المیدان نشیر إلی العلاّمة المحقّق المیر محمّد باقر الحسینی الأسترآبادی المعروف باسم المیرداماد العالم الشیعی الألمعی فی القرن الحادی عشر للهجرة الذی تناول بحث ودراسة علم درایة الحدیث بکلّ دقّة، وألّف کتابا نافعا فی هذا العلم تحت عنوان «الرواشح السماویة» .

وقد تولّی قسم تحقیق وتنقیح النصوص الحدیثیة فی مرکز دراسات دار الحدیث مهمة تحقیق وتنقیح هذا الکتاب الثمین؛ لیکون فی متناول أیدی طلبة الحوزات العلمیة والباحثین فی حقل علوم الحدیث.

ونعرب فی ختام المطاف عن جزیل شکرنا وتقدیرنا إلی الشیوخ الأفاضل : غلام حسین قصیریه ها و نعمت اللّه جلیلی ، و عباس محمّدی ، و غلام رضا نقی الذین تبنّوا مهمّة تحقیقه وتنقیحه . ونسأل اللّه أن یتقبّل منّا ویجعله ذخرا لنا ولهم لیوم المعاد.

قسم إحیاء التراث

فی مرکز بحوثِ دارالحدیث

14 شعبان المعظم 1422ق

علی أوسط الناطقی

ص :6

وقال الثانی :

واللّه إنّ الزمان بمثله لعقیم ، وإنّ مکارمه لا یتّسع لبثّها صدر رقیم ، وأنا بریءٌ من المبالغة فی هذا المقال ، وبرّ قسمی یشهد به کلّ وامق وقالٍ .

وإذا خفیتُ علی الغبیّ فعاذرٌ***أن لا ترانی مقلةٌ عمیاءُ

إن عدّت الفنون فهو منارها الذی یُهتدی به ، أو الآداب فهو موئلها الذی یتعلّق بأهدابه ، أو الکرم فهو بحره المستعذب النهل والعلل ، أو الشیم فهو حمیدها الذی یدبّ منه نسیم البرء فی العلل ، أو السیاسة فهو أمیرها الذی تجمّ منه الأسود فی الأجم ، أو الرئاسة فهو کبیرها الذی هاب تسلّطه سلطان العجم .

وکان الشاه عباس أضمر له السوء مرارا ، وأمرّ حبل غیلته إمرارا ؛ خوفا من خروجه علیه ، وفرقا من توجّه قلوب الناس إلیه فحال دونه ذو القوّة والحول ، وأبی إلاّ أن یتمّ علیه المنّة والطَول . (1)

کان معاصرا للشیخ البهائی ، وکان بینهما خلطة تامّة ومؤاخاة عجیبة ، وکان مقرّبا لدی الشاه عباس الکبیر . (2)

ووجه اشتهاره ب_ «الداماد» أنّ والده السید محمّد الأسترآبادی رحمه الله لمّا تزوّج بنت الشیخ المحقّق المدقّق الشیخ علیّ _ طاب ثراه _ اشتهر بالداماد ، ثمّ لمّا تولّد من بنته السیّد السند اشتهر کما اشتهر والده بالداماد . (3)

ولقّب أیضا نفسه بالداماد فی مواضع . منها فی مقدّمة الرواشح السماویّة ، حیث قال : «أمّا بعد فإنّ أحوج المربوبین وأفقر المفتاقین إلی رحمة ربّه الحمید الغنیّ محمّد بن محمّد یُدعی باقر الداماد .

کان شاعرا وله دیوان شعر بالعربیّة والفارسیّة . ومن أشعاره بالعربیّة فی أمیر المؤمنین علیه السلام :

ص :8

کالدرّ ولدت بإیمام الشرف***فی الکعبة واتّخذتها کالصدف

فاستقبلت الوجوه شطر الکعبة***والکعبة وجهها تجاه النجف (1)

ومن أشعاره بالفارسیّة فی رسول اللّه صلی الله علیه و آله :

ای ختم رسل دو کون پیرایه تست***افلاک یکی منبر نُه پایه تست

گر شخصِ ترا سایه نیفتد چه عجب***تو نوری و آفتاب خود سایه تست (2)

هوالذی جعل حوزة أصفهان مرکزا للعلوم العقلیّة الإسلامیة ، وبیده أشرق للفلسفة رونقٌ وبهاءٌ ، جدیدٌ بعد فترة حصلت فیها .

قال الاُستاذ الشهید المطهری :

مع حملة المغول من ناحیة ، وحملات أمثال الغزالی من ناحیة اُخری طویت موائد الفلسفة من غیر إیران قلیلاً أو کثیرا ، وبقیت شعلة منها فی إیران مُتّقِدَة ، ثم تدرّجت من ضعفها إلی القوّة والکمال ولا سیّما فی حوزة فارس . ومع بزوغ شمس الصفویّة والنهضة العلمیّة والفلسفیّة فی أصفهان ظهر للفلسفة مرّة اُخری رونقٌ وبهاءٌ ، جدیدٌ علی ید صدر المتألهین والمیر داماد . (1)

وقال فی موضع آخر :

لا أعرف حوزة علمیّة تذکر بعد حملة المغول غیر حوزة فارس لعلل لیست بیّنة حتّی الآن . . . وعلی عهد الشاه عباس الکبیر ظهر شیوخ کالسیّد میرداماد والشیخ البهائی والمیر فندرسکی فأصبحت أصفهان مرکزا للعلوم العقلیّة الإسلامیّة ، حتّی أن السیّد صدر الدین یهاجر من وطنه شیراز إلی أصفهان لکسب الزیادة فی العلم . . . السیّد میرداماد إن لم یکن من الطراز الأوّل من حکماء الإسلام فلا أقلّ من أن یعدّ علی رأس الطراز الثانی منهم . کان بالإضافة إلی الفلسفة فقیها ریاضیّا وأدیبا رجالیا جامعا ، یلقّب أحیانا بالمعلّم الثالث ، أو کان یلقّب نفسه بذلک . (2)

وقال توشی هیکو ایزوتسنو الیابانی:

محمّدباقر الداماد المشهور بالمیر داماد أحد من أعلام التاریخ الفلسفة الإسلامیة علی العهد الصفوی، واشتهاره باللقب الفاخر _ یعنی المعلّم الثالث _ یدلّ علی شهرة عظیمة له فی الفلسفة الإسلامیة، شهرةً لا معارض لها. وهذا اللقب یحکی عن علوّ مرتبته فی الفلسفة الإسلامیة فی عصره وبعده. (3)

وأنت تری أنّ للمیرداماد _ قدّس سره القدّوسی _ سهم عظیم فی إحیاء الفلسفة

ص :10

الإسلامیّة ، وهو الذی شکّل حوزة دراسیّة مبارکة فی أصفهان ، وکان مرجعا لطالبی العلم ، وتزوّد من علومه کثیرون من علماء الشیعة أشهرهم الحکیم الإلهی والفیلسوف الربّانی صدر الدین محمّد الشیرازی .

قد کتبها أیّام تتلمّذه عنده ، وعلّق علیها حواشی من نفسه .

2 . السیّد أحمد العاملی ابن خال وصهر السیّد میرداماد ، وله إجازتان من المیر داماد أوردهما العلاّمة المجلسی فی البحار ، ج106 ، ص152 _ 156 .

3 . حسین بن المیرزا رفیع الدین محمّد بن محمود الأمیر شجاع الدین محمود الحسینی الآملی المازندرانی ، الملقّب مرّة بسلطان العلماء وأُخری بخلیفة السلطان ، من أعاظم الفضلاء . زوّجه الشاه عباس الماضی ابنته ، وفوّض إلیه الوزارة ، ثمّ استوزره من بعده الشاه صفیّ أیضا .

4 . شمس الدین محمّد الجیلانی المعروف بالملاّ شمسا ، وکان بینه وبین زمیله الملاّ صدرا مراسلة فی بعض مشکلات الفلسفة وأجاب عنها الملاّ صدرا . طبعت هذه الرسالة علی هامش کتاب المبدأ والمعاد (المطبوع علی الحجر) ص340 .

5 . قطب الدین الإشکوری محمّد بن شیخ علیّ الشریف اللاهیجی صاحب کتاب «محبوب القلوب فی تاریخ الفلاسفة» .

6 . ویروی عن السیّد الداماد إجازة السیّد حسین بن السیّد حیدر الحسینی الکرکی العاملی .

أورد صورة إجازته له فی البحار ج107 ، ص3 _ 5 .

4 . الأُفق المبین

5 . أمانت إلهی (تفسیر آیة الأمانة بالفارسی)

6 . أُنموذج العلوم

7 . الإیقاضات فی خلق الأعمال وأفعال العباد

8 . الإیماضات والتشریفات فی مسألة الحدوث والقدم

9 . تأویل المقطّعات فی أوائل السور القرآنیة

10 . تشریف الحقّ

11 . التصحیحات والتقویات

12 . التصحیفات

13 . تفسیر سورة الإخلاص

14 . تقدمة تقویم الإیمان

15 . التقدیسات

16 . تقدیم الإیمان

17 . الجبر والتفویض

18 . الجذوات

19 . الجمع والتوفیق بین رأیی الحکیمین فی حدوث العالم

20 . جواب الأمیر حسن الفراهانی

21 . جواب السؤال عن تنازع الزوجین فی قدر المهر وتصدیق وکیل الزوجة

22 . جیب الزوایة

23 . الحاشیة علی الاستبصار

24 . الحاشیة علی جواب السؤال عن تنازع الزوجین

25 . الحاشیة علی إلهیّات «الشفاء»

26 . الحاشیة علی «رجال الکشّی»

27 . الحاشیة علی «شرح مختصر العضدی»

ص :13

28 . الحاشیة علی «الصحیفة السجّادیة»

29 . الحاشیة علی «قواعد العلاّمة»

30 . الحاشیة علی «الکافی» وهی غیر «الرواشح»

31 . الحاشیة علی مختلف العلاّمة

32 . الحاشیة علی «من لا یحضره الفقیه»

33 . الحاشیة علی نفلیة الشهید

34 . الحبل المتین

35 . حدوث العالم ذاتا وقدما زمانا

36 . حدیث التمثیل

37 . خطب جمة لصلاة الجمعة

38 . خلسة الملکوت

39 . خلق الأعمال

40 . دفع شبهة الاستلزام

41 . دیوان شعر بالعربیّة والفارسیّة

42 . رسالة برهان المسامتة علی تناهی الأبعاد

43 . رسالة فی نفی الجبر والتفویض

44 . رسالة فی وجوب صلاة الجمعة

45 . رسالة فی الوجود

46 . رسالة فی الوضوء والصلاة

47 . الرواشح السماویّة فی شرح أحادیث الإمامیة

48 . السبع الشداد

49 . سدرة المنتهی فی تفسیر القرآن

50 . شارع النجاة

51 . شرح «الاستبصار»

ص :14

52 . شرح «تقویم الإیمان»

53 . شرح حدیث تمثیل أمیر المؤمنین علیه السلام بسورة التوحید

54 . شرح «الصحیفة»

55 . شرح «مختصر الأُصول» للعضدی

56 . شرعة التسمیة

57 . صحیفة القدس

58 . الصحیفة الملکوتیّة

59 . الصراط المستقیم فی ارتباط الحادث بالقدیم

60 . عرش التقدیس

61 . رسالة فی علم الواجب

62 . عیون المسائل

63 . الصناعیّة

64 . ضوابط الرضاع

65 . فضل سورة التوحید

66 . القبسات (1)

67 . الکلمات القصار فی المواعظ والنصائح

68 . مشرق الأنوار

69 . مسح مقدم الرأس

70 . مقالة فی تضعیف حدیث سهو النبیّ

71 . مقالة فی العلم الإلهی

72 . مقالة فی المنع عن تقلید المیّت

ص :15

73 . نبراس الضیاء فی معنی البداء . (1)

ص :18

الرواشح السماویة

للمیرداماد محمّد باقر الأسترآبادی (م 1041 ق)

ص :19

والاعتصام بالعزیز العلیم الحمد للّه ربّ العالمین حمداً ینبغی لکرم وجهه ، ویلیق بعزّ جلاله زِنَةَ عرشه ، وعددَ علمه ، ومدادَ (1) کلماته ، ومِلْ ءَ (2) أطباق ملکوته .

ص :21

والصلاة السامّة التامّة علی خِیَرته من خلیقته محمّد أکرم المصطَفَین من بریّته ، وأوصیائه الطاهرین حَمَلةِ العلم ، وخزنة الوحی من الأصفَین ، من خاصّته الأزکَین من عترته .

وبعدُ : فإنّ أحوج المربوبین وأفقر المفتاقین إلی رحمة ربّه الحمید الغنیّ محمّدَ بنَ محمّد یدعی «باقرَ الدامادَ الحسینیَّ» _ ختم اللّه له فی نشأتیه بالحسنی ، وسقاه فی المصیر إلیه من کأس المقرّبین ممّن له لدیه لَزلفی ، وجعل خیرَ یومَیْه غدَه ، ولا أوهن من الاعتصام بحبل فضله العظیم یَده _ یملی علی قلوب العقول ، ویتلو علی أسماع الألباب أنّ من المنصرح فی مَصارّه ، (1) المقترِّ فی مَقارّه أنّ المعجزة القولیّة فی العقول الصریحة أوقعُ ، والخواصّ من العقلاء المراجیح (2) لها أطوع . والقرآنُ الحکیم من التنزیل الکریم _ مع کونه أفضلَ المعجزات وأجملها ، وأعظم الآیات وأجزلها _ لبقائه من دونها أدْوَمُ البقاء مَدی الأبد ، وثَباته أقصی الثَبات بلا أمد ، فهو بما أنّه من حقائق الحکم ، ودقائق البلاغة ، وراءَ ما یتناهی ، بل ما لایتناهی بما لایتناهی أبلغُ ناطقٍ وأصدق شاهد لنفسه بنَبالة الأمر ، وجلالة القدر ؛ إذ ما من معجزة فعلیّة أتی بها الأقدمون من الأنبیاء ، والأوّلون من المرسلین إلاّ وإذا دقّق المتبصّر (3) التأمّلَ ، ولطّف التدبّر ، صادف بعقله فیما قِبَلَنا من جنسها فی أفاعیل اللّه تعالی وصنائعه ما هو آنَقُ (4) وأعجب وأحکم وأتقن .

وأمّا هو (5) فلا صودف ولن یصادَف _ فیما تناله عقولنا ، وتبلغه أوهامنا _ من

ص :22

جنسه ما یضاهیه أو یدانیه ، وکلّما ازدادت أرواع أُولی الأحلام فی أفانین مدارجه بصیرةً ، ازداد ما عداه _ ممّا یشارکه فی جنسه _ عنه بُعدا وسقوطا ونَأْیا وهبوطا .

وکذلک فیما ورد عن سادتنا الطاهرین أُمناء سرّاللّه ، وتراجِمة وحیه ، وسفراء (1) غیبه ، وألسنة أمره ونهیه _ صلوات اللّه وتسلیماته علی أرواحهم القادسة ، وأجسادهم الطاهرة _ فی دقائق الحکمة ، وحقائق التوحید ، ولاسیّما ما سبیله ذلک عن باب اللّه الصافق ، وکتابه الناطق ، أمین الرحمن ، وشریک القرآن ، الذی مثابتُه من العقلاء والأصفیاء مثابة الأحداق من الرؤوس ، ونسبته إلی العلماء والحکماء نسبة المعقول إلی المحسوس ، أمیرِ المؤمنین ، وسیّد المسلمین ، بابِ أبواب المقاصد والمطالب ، أبی السبطین علیِّ بنِ أبی طالب _ علیه من الصلوات نوامیها ، ومن التسلیمات أنامیها _ فی خطبه وأثنِیَته وأحادیثه وأدعیته علی أسالیبَ وَحیانیّةٍ ، وموازینَ فرقانیّة ، فی بلاغة تَحارفیها الأفهام ، وبراعة تدهش منها الأحلام ، ألْمَعِ المعجزات وأبهرِ الدلائل علی الرسالة والسفارة ، وأسطع الحجج وأنور البراهین علی الوصایة والوراثة ؛ لما فیها من غامضات العلوم ، ومَحارات (2) العلماء ، واُمّهات الحکمة ، واصطلاحاتِ الحکماء ، مع أنّهم علیهم السلام لم یختلفوا إلی محتشَدِ أریبٍ ، ولا احتشدوا فی محتفَل الأخذ عن أدیب ، ولا کانت العلوم فی عصرهم مدوّنةً ، ولا کتب الحکمة فی زمنهم مُتَرْجَمةً . (3)

ص :23

أُولئک آبائی فجئنی بمثلهم إذا جمعَتْنا یا جریر ! المجامعُ (1)

وإنّ کتاب الکافی لشیخ الدین ، وأمین الإسلام ، نبیه الفرقة ، ووجیه الطائفة ، رئیس المحدّثین ، حجّة الفقه والعلم والحقّ والیقین ، أبی جعفر محمّد بن یعقوبَ بنِ إسحاقَ الکلینی _ رفع اللّه درجته فی الصدّیقین ، وألحقه بنبیّه وأئمّته الطاهرین _ قد حوی من ذلک طَسْقا (2) وافیا ، وقسطا کافیا ، ولم یکن یتهیّأُ لأحد من الفقهاء والعلماء والعقلاء والحکماء من عصر تصنیفه إلی زمننا هذا _ والمدّةُ سبعمائة سنةٍ _ أن یتعاطی حلَّ غوامضه ، وشرْح مغامضه ، ویتفرّغَ لتفسیر مبهماته ، وتحریر مهیِّماته مع ما تُری الأفئدةُ فی الأدوار والأعصار هاویةً إلیه ، والأکبادُ فی الأقطار والأمصار هائمةً علیه ؛ إذ کان دخول ذلک فی مُنّة (3) المیسرة ، وقوّة المقدُرة محوجا إلی أن یکون المرء فی جوهر نفسه بحسب فطرته الأُولی المفطورةِ مطبوعا علی قریحة سماویّة ، وفطرة ملکوتیّة ، وغریزة عقلانیّة ، وجبلّة قُدْسانیّة .

ثمّ إذا هو فی فطرته الثانیة _ المکسوبة من کلّ علم من العلوم العقلیّة والنقلیّة والحِکمیّة والشرعیّة الأصلیّة والفرعیّة علی النصاب الأتمّ ، والنصیب الأوفر _ ذا تدبّر وَمِیض ، وتتبّع عریض ، غزیرَ المراجعات ، کثیرَ المباحثات ، قد راجع وروجع ، وناظر ونوظر دهرا صالحا ، وأمدا طویلاً ، مجتهدا فی إبلاغ قوّتَیْهِ العاقلةِ والعاملة میقاتَهما من الکمال ، وإسباغِ شطریه النظری والعملی فی کفّتی میزان الاستکمال ، ومع تِیکَ وتِیکَ وذا وذا ، ذا خلوات وخَلَسات (4) فی مجاهَدات قلبیّة ، ومراصَداتٍ

ص :24

قدسیّة ، دَعّاءً ، أوّاها ، مِدْماعا ، مِضراعا ، لحقوق بارئه مِذکارا ، ومن ذِکر ربّه والتبتّل إلیه والتولّع بأسمائه الحسنی مِکثارا ، فی رحمة اللّه طَموعا ، وبالوَلوع (1) بقرب الحبیب وَلوعا ، بمجامع أشواقه فی سبیل العرفان شَعُوفا ، وبشراشره وأرواقه علی سدُّة الإخلاص عَکوفا ، وقلَّما یتّفق سماح الزمان للمرء باستجماع ذلک ، ویعزّ ویندر أن یکون الرجل مُیَسَّرا لسلوک تلک المسالک .

وإذ ربّی العظیم _ عزّ مجده ، وجلّ سلطانه _ قد خصّنی بفضله ، وحفّنی بَطوْله ، ففُوقُ فیوض تلک السُحُب المَطیرة ، والمنن الکبیرة ، و وموضُ تلک الأضواء البارقة ، والأنوار الشارقة یسّرنی لشرح صدر الحکمة ، وطبخ نِیِّها ، ولَمِّ شعث المعرفة ، ودفاع شرّ العِیِ عنها .

وظنّ المتعطّشون _ المتولّعون ، أُولو أکباد ظامئة ، وأدماع حامئة ، وذووا مُهج من اللَوْعة فی وامئة ، (2) وقلوبٍ بین یدی الالتیاع جاثیة ، وهم عصابة جَمّة ، وعُصبَة کالحَمَّة ، (3) قد جمعتهم الصحابة الرُوْعیّة ، والقرابة المعنویّة _ أنّ بُغْیتهم المبتغاةَ ، واُمنیّتهم المتوخّاةَ مرتبةٌ أنا ابن بَجدتها ، (4) وعامرُ بلدتها ، وحامل لوائها ، وعامل

ص :25

رُوائها ، فطفقتْ ألسن أفئدتهم تُلحّ علیَّ بالاقتراح ، وأخذتْ ألسنة مسألتهم تقترح علیّ بالإلحاف فی الالتحاح ، وکلَّما أبیتُ إلاّ المدافعة ، أبَوْا إلاّ المراجعة ، وحیث أعیتنی التعاذیر ، وعیّتْ بی المعاذیر ، فبإذن اللّه سبحانه أجبتهم إلی مقترَحهم ، ونهجت بهم السبیلَ إلی صرحة (1) الحقّ من مطّرحهم ، (2) وشرحت المشکلات ، وأزحت المعضِلات ، وفککت العُقَد ، وهتکت الأستار ، وجلّیت الخرائد ، (3) وبُحت (4) بالأسرار فی تعلیقاتٍ أوانَ المُدارَسة تجری مجری الحواشی ، ومعلّقاتٍ تستکشط (5) عن مُحیّا الحقیقةِ الغواشیَ ، فانتشرتْ فی الأقطاع ، واشتهرت فی الأصقاع ، فعبّت (6) من مشاربها العَطْشی الشارفون (7) عبّا ، واستحبّتها الراضة العارفون حبّا ، ولقد وقعتْ إلی أفاخم العلماء ، وأکارم الفضلاء فآنقْتهم إیناقا ، وأشرقت علی مطارح أنظارهم إشراقا ، فتلمّسوا (8) منّی _ بل أشاروا إلیّ أن أجمعها جمعا وتدوینا ، وأنظمها نظما

ص :26

وترقینا ، (1) فأطلبتهم (2) بَطلِبتهم ، بل امتثلت أمرهم فی إشارتهم ، فها هی _ بفضل من اللّه ورحمة ، وعون منه وعصمةٍ _ مرصوصةُ (3) البنیان ، منصوصة (4) التبیان ، مُلقاة إلی قلوب الألبّاء من الحکماء والعقلاء ، مُملاة علی أسماع الأذکیاء من الفقهاء والعرفاء . وإذ هی آیات بیّنات عقلیّة ، هنّ أُمّ فیوضات قدسیّة ، من رَشْح سماء عالم الملکوت ، وسحاب إفاضة مَن مَنُّه الرَهَبوت ، وإلیه الرَغَبوت ، فلیکن وَسْمُها الرواشحَ السماویّةَ فی شرح أحادیث الإمامیّة ، والثقة باللّه وحدَه ، والاعتصام به آمِلاً سَیْبَه (5) ورِفْده . (6)

صفات کماله بدلالات قطعیّة تفصیلیّة غیر متناهیة ؛ فإنّ کلّ ذرّة من ذرّات الوجُود تدلّ علیه ، ولایتصوّر مثل هذه الدلالات فی الألفاظ والعبارات ؛ ومن ثَمّ قال صلی الله علیه و آله : «لا أُحصی ثناءً علیک کما أثنیتَ علی نفسک (1) » .

(للّه ) اللاّم للاختصاص ، ولام «الحمد» للجنس ، فلا یبعد أن یراد أنّ جنس الحمد مختصّ به تعالی ؛ لأنّ النعوت الکمالیّة ترجع إلیه ؛ لأنّه فاعلها وغایتها کما حُقّق فی مقامه کلُّها .

وَ ظِ_لَ__لُهُم بِالْغُدُوِّ » . (1)

قلت : بلی ولکنّ المحقوق بالاعتبار عندی ما قاله ابن الأثیر فی نهایته ، ففحْصه هنالک أضبطُ ، وقوله أثبتُ ؛ حیث یقول :

وفی حدیث الدعاء : «رغبةً ورهبةً إلیک» أعمل (1) لفظَ «الرغبة» وحدها ، ولو أعملهما معا ، لقال : «رغبةً إلیک ورهبةً منک» ولکن لمّا جمعهما فی النظر قوّی (2) أحدهما علی الآخر ، کقول الشاعر : «وزجّجن (3) الحواجبَ والعیونا» . وقولِ الآخر : «متقلّدا سیفا ورمحا» . (4)

والذی أجده أکثریّا _ فی تعاطیات المتثقّفین وتداولاتهم _ أنّه إذا کان المرهوب ما هو مخوف ؛ لکونه من غیر الملائمات ، کالآلام ، والفجائع ، ومصادرها ، ومبادئها ، قیل للراهب : رَهِبَه یرهبه رَُهبةً _ بالضمّ والفتح _ ورَُهبانا کذلک .

وإذا کان مَن هو مَخشیّ ؛ لجلالته وعظمته وقهّاریّته وجبّاریّته ؛ ولشدّة الوله والدهش من کبریائه وجبروته ، وهو فی عزّه وعُلاه محبوبُ قلبِ الراهب ، ومعشوقُه وبغیته ومبتغاه ، قیل : رهب منه یرهب رَهَبَا بالتحریک ، ورَهَبةً ورَهَبانا أیضا محرّکتین ، ومن ذلک ما عُدّی بنفسه لا ب «مِن» فیما یروی عن مولانا أمیرالمؤمنین علیه السلام :

أیَّ یومَیَّ من الموت أفرّ یومَ ما قُدِّر أم یومَ قُدِر

یومَ ما قُدِّر لاأرهبهوإذا قُدِّر لا ینجو الحَذِر (5)

والرُهبی والرَهباء _ بالضمّ مقصورةً ، وبالفتح ممدودةً _ من الرهبة کالرُغبی والرَغباءِ من الرغبةِ ، والرغبة والرهبة لازمتان فیمن له غایة العظمة والجلال ، ونهایة اللطف والجمال ، بل لا یخلو جمال عن جلال ، ولا جلال عن جمال .

ص :30

أمّا الرهبة من الجمال ، فللهَیَمان (1) الحاصل من الجمال الإلهی ، ولانقهار العقل منه وتحیّرِه فیه .

وأمّا الرغبة فی الجلال . فللّطف المستُور فی القهر الإلهی ، کما قال تعالی : « وَ لَکُمْ فِی الْقِصَاصِ حَیَوةٌ یَ_أُوْلِی الْأَلْبَ_بِ » (2) وقال أمیرالمؤمنین کما روی عنْه :«سبحان من اتّسعت رحمته لأولیائه فی شدّة نقمته ، واشتدّت نقمته لأعدائه فی سعة رحْمته» . (3) و من هنا یعلم قوله : «حُفّت الجنّة بالمکاره ، وحُفّت النار بالشهوات» . (4)

بعض ، کما یقال : السبب أعلی من المسبّب .

إذا عرفتْ ذلک فنقُول : یستحیل أن یکون بالمعنی الثانی ؛ لتنزّهه عن الکمالات الخیالیّة التی یصدق لها العلوّ الخیالی ؛ إذ هی کمالات إضافیّة تتغیّر وتتبدّل بحسب الأشخاص والأوقات ، وقد تکون کمالاتٍ عند بعض الناس ونقصاناتٍ عند آخَرین ، کدول الدنیا بالنسبة إلی العالم الزاهد ، ویتطرّق إلیه الزیادة والنقصان ، ولاشیء من کمال الأوّل الواجب سبحانه _ لتنزّهه عن النقصان والتغییر _ بوجهٍ مّا ، فبقی أن یکون علوّه علوّا عقلیّا مطلقا ، یعنی أنّه لارتبة فوق رتبته ، بل جمیع المراتب العقلیّة منحطّة عنه .

«ودنا فتعالی»

قد أورد الجامع المؤلّف _ قدّس سرّه الشریف _ «الدنوّ» مقابلاً ل «العلوّ» المستلزمِ للبُعد ، وکما علمت أنّ العلوّ یقال علی المعانی الثلاثة المذکورة بحسب الاشتراک ، فکذلک ل «الدنوّ» یقال : ثلاثة معان مقابلةً لها .

فیقال : مکانُ فلانٍ دنیّ من مکان فلان إذا کان أسفلَ منه .

ویقال : رتبة المُلک الفلانی أدونُ من رتبة السلطان الفلانی ، إذا کان فی مرتبةٍ أقلَّ منه ، ورتبةُ المعلول أدنی من رتبة علّته .

ویقال علی معنیً رابعٍ ، فیقال : فلان أدنی إلی فلان وأقربُ إلیه إذا کان خِصِّیصا به مطّلعا علی أحواله أکثرَ من غیره .

والبارئ تعالی منزّه عن أن یراد بدنوّه أحدُ المفهومات الثلاثة الأوَل ، بل المراد هو المفهوم الرابع ، فَقُرْبه فی دُنُوِّه إذن بحسب علمه الذی لایعزب عنه مثقال ذرّة فی الأرض ، ولا فی السماء ، ولا أصغرَ من ذلک ، ولا أکبرَ . (1) ف «تعالی» ردّ الأحکام الوهمیّة بأنّ ما قرب منها فقد ساواها فی أمکنتها ، فیقال : قُرْبه لیس منافیا لبُعدِه عن مخلوقاته ؛ لاجتماع العلوّ والدنوّ فی شیء واحد بهذا المعنی .

ص :32

«الواو» المفتوحة _ مثال التَرْقُوَة ، فهو المُلک والعزّ .

ومنه یقال : له ملکوة العراق ، فهو ملیک أی مُلکه وعزّه .

وعالم الملکوت _ کعالم الأمر ، وعالم الغیب ، وعالم النور ، وعالم الحمد _ اسم لعوالم العقلیّات والقدسیّات ، أعنی المجرّدات والمفارقات بأسرها ، کما عالم المُلک _ کعالم الخلق ، وعالم الشهادة ، وعالم الظلمات _ اسم لعوالم الحسّیّات والوضعیّات بجملتها أعنی الجسمانیّات والهیولائیّات بقَضّها وقضیضها ، (1) ومنها : «سبحان ذی الملک والملکوت ، له الخلق والأمر ، عالِم الغیب والشهادة ، جَعَل الظلمات والنور ، له المُلک ، وله الحمدُ» .

والمعنی ، أنّ حکمته تعالی اقتضت إظهار الحجج علی الخلائق ببعثة الأنبیاء ، ونصبِ الأوصیاء علیهم السلام ؛ لیکمل الخلقة ، ویتمّ النعمة ؛ إذ بدون ذلک لایتمشّی النظام ، ویقع الهَرْج والمَرْج کما بیِّن فی موضعه .

إخراج الأَیْس من اللَیْس المطلق من غیر أن یکون مسبوقا (1) بمادّة ومدّة ، لا سبقا بالزمان ، ولا سبقا بالدهر ، ولا سبقا بالذات ، ولایتعلّق إلاّ بمفارقات المادّة ، وعلائقها مطلقا ، فهذا هو الذائع المشهور .

وفی الفلاسفة مَن (2) یقول : إنّ ذلک لایکون إلاّ مع عدم سبق اللیس المطلق علی الأیس سبقا دهریّا ، بل سبقا بالذات فقط .

ومنهم من لایجعل کلَّ ما هذه صفته مبدَعا ، بل یخصّ «الإبداعَ» بالصادر الأوّل لاغیر ، ویقول : إذا توهّمنا شیئا وُجد عن الأوّل الجاعل الحقّ بتوسّط علّة وُسطی هی من تتمّات العلّة الفاعلیّة ، وإن لم یکن هو عن مادّة ، ولا کان لعدمه فی متن الواقع سلطان ، ولکن کان وجوده عن الجاعل الأوّل الحقیقی بعد وجودِ آخَرَ قد انساق إلیه بعدیّةً بالذات ، فهو لیس بمُبدَع ؛ إذ لیس تأییسه عن لیسٍ مطلقا ، بل عن أیسٍ مّا وإن لم یکن مادّیّا .

فهذا أیضا اصطلاح فلسفی شائع مذکور فی إلهیِّ کتاب الشفاء (3) وغیره ، و«الاختراع» علی هذا : الإخراجُ من اللیس من غیر مسبوقیّة بمادّة ومدّة أصلاً ، ولکن مع سبق موجودٍ آخَرَ أیضا غیرِ الجاعل الحقّ سبقا بالذات فقط ، فهو یعمّ ما عدا الصادر الأوّل من سائر المفارقات المحضة جمیعا ، وعلی الأوّل التأییس من غیر سبق مدّة بشیء من أنواع السبق أصلاً ، ولکن مع سبق المادّة سبقا بالذات لاغیر ، فیختصّ بما عدا المفارقات ، من الصور الجوهریّة المادّیّة والأعراض الجسمانیّة والهیولائیّة إلاّ الحوادثَ الکونیّة الزمانیّة .

ص :36

و«التکوین» : الإیجاد مع سبق المادّة والمدّة جمیعا سبقا بالزمان ، فهو مختصّ بالحوادث الزمانیّة لاغیر .

وربما یقال : (1) «الإبداع» یقال بالاشتراک علی إیجادٍ لا یکون مسبوقا بزمان ، وهو مقابل للإحداث ، وعلی ما یقابل التکوین والإحداث معا ؛ فإنّ الإیجاد إمّا أن یکون مسبوقا بمادّة أو زمان أولا ، فإن لم یکن مسبوقا فهو «الإبداع» وإن کان ، فإن کان مسبوقا بزمان ، فهو «الإحداث» وإلاّ (2) فهو «التکوین» .

ف «الإحداث» : إیجادٌ مسبوقٌ بمادّة وزمان کالأجسام المحدَثة .

و«التکوین» : إیجادٌ مسبوق بمادّة دون زمان کالأفلاک ، ولیس هناک قسم آخَرُ ، وهو إیجاد مسبوق بزمان دون مادّة ؛ لأنّ کلّ محدَث زمانی فهو مسبوق بمادّة ومدّة .

وتارة أُخری یحقَّق الفحصُ ویدقَّق التأمّل ، ویُبنی علی سلوک سبیل (3) الحکمة الحقّة السویّة ، فیقال : الجعل والتأثیر إحداث فی الدهر ، وهو إمّا «الإبداع» أو «الاختراع» وإحداث فی الزمان وهو التکوین .

ف «الإبداع» _ وهو أفضل الضروب _ : تأییس مطلق عن لیسٍ مطلق ، یسبق الأیسَ فی متن الواقع سبقا دهریّا ، وفی لحاظ العقل سبقا بالذات من دون مسبوقیّة بمادّة أو مدّة أصلاً .

ثمّ أفضل ما یسمّی مبدَعا ما لم یکن بواسطة عن جاعله الحقّ الأوّل مطلقا مادیّةً کانت أو فاعلیّة أو غیر ذلک .

و«الاختراع» : إخراج من کتم العدم الصریح الدهری السابق سبقا بالدهر من

ص :37

غیر سبق مدّة أصلاً ، ولامادّةٍ سبقا صریحا دهریّا ، وإن کانت المادّة سابقة فی لحاظ العقل سبقا بالذات فقط .

وأمّا «الصنع» : فبالحریّ أن یعمَّم بحیث یعمّ الإبداع والاختراع دون التکوین ، ولو خصّ بالتکوین دونهما فلا شطط . فهذا ما آثرنا عقْدَ الاصطلاح علیه فی کتابینا : الإیماضاتِ والتشریقات ، وهو الصیحفة الملکوتیّة ، وتقویمِ الإیمان ، وهو کتاب التقویمات والتصحیحات ، وفی غیرهما من کتبنا العقلیّة ، وصحفنا الحِکمیّة .

وإذا تعرّفتَ الأمر ، فقوله : «لا من شیء فیبطلَ الاختراع» معناه : لا من مادّة سابقة سبقا بالزمان ، أو سبقا صریحا دهریّا . وقوله : «ولا لعلّة فلایصحّ الابتداع» مَغزاه (1) القول فی النظام الجملی للوجود کلّه ، أعنی زُمَرَ (2) الجائزات من المجرّدات والمادّیّات قاطبةً .

وبالجملة : ما سوی ذات اللّه الأحد الفرد سبحانه ، یعنی ولا لعلّة غیر نفس ذاته سبحانه لا فاعلیّةٍ ولا تتمّةٍ لها ولا غائیّةٍ _ وهی العلّة الکمالیّة _ ولا غیرِ ذلک من أنواع العلل وأقسامها أصلاً ، فذاک ، الضربُ الفاضل من الإبداع . والنظامُ الجملی هو أحقُّ ما یسمّی مبدَعا ؛ إذ لیس یُعقل وراءه إلاّ اللّه سبحانه ، فهو _ عزّ سلطانه _ بنفس ذاته الأحدیّة جاعلُه الحقُّ ، وموجبه التامّ ، ولا یتصوّر أیضا هناک علّة غائیّة وراء ذات الجاعل المبدِع الذی هو بعین مرتبة ذاته علمُه التامّ بالنظام الأکمل . فالنظام الجملی _ الذی لا یتصوّر له علّة أصلاً إلاّ نفس ذات الجاعل الحقّ _ فائض عن صرف ذاته الأحدیّة ، ومنبعث عن نفس علمه وإرادته اللذین هما عین مرتبة ذاته ، فَیَضانا بالذات ، وانبعاثا أوّلیّا بالقصد الأوّل ، ولکن حیث إنّ سبیل إیجاد المرکّب إیجاد

ص :38

أجزائه بالأسر ، ولا یعقل للجملة المفروضة (1) _ لاعتبار الجملیّة والهیئةِ المجموعیّة _ صدورٌ إلاّ بصدور الأجزاء بالأسر ، من دون صدورٍ آخَرَ مستأنفٍ وراء ذلک ، وأفضل المجعولات أقربُ فی المرتبة من الجاعل المبدع ، فلا محالة کان أکرمُ المبدعات من أجزاء النظام هو المتعیّنَ بأن یکون الصادرَ الأوّل فی مرتبة الصدور من غیر توسّطِ أمر من الأُمور ، وعلّةٍ من العلل أصلاً ، فضلاً عن المادّة .

ومن لایستطیع سبیلاً إلی تعرّف الحقیقة ، یتوهّم أنّ المراد بهذه العلّة المَنفیّةِ العلّةُ المادّیّة ، ولا یَشعر أنّ المستعمل ب «اللام» أو «الباء» لایکون إلاّ العلّةَ الفاعلیّة وما مِن حزبها ، والعلّةَ الغائیّة وما فی سبیلها . وأمّا المادّة والعلّة المادّیّة والاُسطقسّیّة ، فإنّما یسند الشیء إلیها ب «من» أو «عن» .

ثمّ لیعلم أنّ الشیء الحادث الکیانیَّ الذاتِ وإن کان هو مسبوقَ الوجود لا محالة بالمادّة مسبوقیّةً بالزمان ، إلاّ أنّ ذلک لیس إلاّ بقیاس أحدهما إلی الآخَر بحسب نفسهما ، لا بالقیاس إلی ذات الصانع الحقّ جلّ سلطانه ، حتّی یکون المادّة متوسّطةً بالزمان بین ذاته سبحانه وبین ذی المادّة ، وذو المادّة أشدُّ تأخّرا فی الوجود من المادّة بالنسبة إلیه سبحانه وتعالی عن ذلک علوّا کبیرا ؛ ولعلّک سوف تتحقّق ذلک بما نتلوه علی سمعک من ذی قَبَلٍ (2) إن شاء اللّه العزیز .

مقدوره لتعلّق الإرادة به ، فکانت ذاته مستکملةً بذلک المرجّح ؛ لحصول أولویّة لها بسببه ، وإلاّ لم یفعل به ، وکلّ مُستکمل بغیره ناقص فی ذاته ، واللّه منزَّه عن النقصان .

وأیضا إذا کانت المشیّة زائدةً علیه ، یلزم فی ذاته تعالی جهتا قوّةٍ وفعلٍ ، وحیثُ إمکانٍ ووجوبٍ ، فلم یکن واحدا حقّا .

وأشار إلی نفی الزیادة بقوله : (متوحّدا بذلک ؛ لإظهار حکمته ، وحقیقة ربوبیّته) .

یعنی خلق ما شاء حالَ کونه وحدانیّا ذاتا وصفةً ؛ إذ لم یخلق إلاّ لإظهار علمه بالنظام الأکمل الذی هو حقیقةُ إلهیّته وربوبیّته لالغایة أُخری وداعٍ آخَرَ یدعوه إلی الخلق والإیجاد .

یرید نفی کونه مدرَکا لغیره بنحو من الأنحاء الثلاثة . والبرهان علیه : أنّ کلّ ما له صورة مساویة لحقیقته فهو محتمل الشرکة بین کثیرین ، واللّه منزّه عن المثل والشریک . وممّا ورد فی الحدیث : «إنّ اللّه احتجب عن العقول کما احتجب عن الأبصار» . (1) «وإنّ الملأ الأعلی یطلبونه کما أنتم تطلبونه» . (2)

ثمّ المدرَک بالحسّ لایخلو من حیّز ومقدار ، وإلیه أشار بقوله : (ولایحیط به مقدار) ؛ لتنزّهه عن الجسمیّة ومایکنفها .

«کلّ ما میّزتموه بأوهامکم فی أدقّ معانیه» (1) إلی آخره .

وذلک معنی ما فی الأدعیة السجّادیّة فی الصحیفة الکاملة من قوله علیه السلام : «ضلّت فیک الصفات ، وتفسّخت فیک النعوت» . (2)

وأُولاتُ العُهَد (1) والاستعدادات .

وأمّا الجواهر الثابتة القدسیّة المنزّهة عن عوارض المادّة رأسا ، وعن القوّة الاستعدادیّة مطلقا ، فلایتصحّح ولا یتصوّر بالقیاس إلیها تعاقبُ الإضافات العارضة لذواتها ، وإن کان تبدّل الإضافات المحضة وتغیّرها غیرَ مستوجب تبدّلاً فی ذات الموضوع ، ولا تغیّرا فی شیء من جهات ذاته وصفاته الحقیقیّة أصلاً ، وإذا کان الأمر فی المبدَعات الباطلة الذوات فی حدّ أنفسها علی هذا السبیل ، فما قولک فی المبدِع الحقّ من کلّ جهة جلّ قدسه وعزّ مجده؟

قوله : (احتجب بغیر حجاب محجوب ، واستتر بغیر ستر مستور) .

«حجابٍ محجوب» و «سترٍ مستور» إمّا من باب : «حجابا مستورا» أی حجابا علی حجاب ، بناءً علی أنّ أقصی مراتب شدّة الاحتجاب _ لو کان من تلقاء حجاب _ کان لامحالة بحجاب علی حجاب ، فنفی ذلک علی قوانین البُلغاء وسنّة البلاغة لایکون ذا نضارة إلاّ بنفی حجاب علی حجاب کما أمْر « وَ مَا رَبُّکَ بِظَ_لَّ_مٍ لِّلْعَبِیدِ » . (2) أو من باب النعت بوصف الجار ، والوصف بحال المتعلّق ، أو من باب التوصیف بالغایة المترتّبة .

وأمّا أن یؤخذ علی قیاس : «صیفٌ صائفٌ» و «دهر داهر» و «بون بائن» فغیر مغنٍ عن الالتحاق ببعض تلک الأبواب ، لمکان صیغة المفعول .

الفکر البرهانی ، بل إمّا مجهول مأیوس عن معرفته . وإمّا مستدلّ علیه من جهة الآثار والأفعال ، والعلمُ الحاصل من طریقها علم ناقص لا یُعلم به خصُوصیّة ذات المعلوم ، بل بوجه عامّ مشترکٍ بینه وبین غیره ، إذ الأثُر والمعلول لایستدعی إلاّ سببا مّا وعلّة مّا مطلقا . وإمّا معروف بالمشاهدة الحضوریّة لا بصورة زائدة کما هو حال العرفاء الکُمَّل من الأنبیاء والأولیاء علی نبیّنا و علیهم السلام عند انخلائهم عن هذه النشأة ، ولکن لا علی سبیل الإحاطة والاکتناه ؛ لأنّها ممتنعة کما مرَّ .

وفی بعض النسخ :«بغیر رؤیة» _ بالهمزة والتخْفیف _ یرید نفی الإبصار ، ومعناه ظاهر ، ویلائم الأوّلَ .

لا بآلة ولا بقوّة زائدة ، بل سمعه عبارة عن علمه بالمسموعات وکذا بصره علمه بالمبصرات ، وعلمه عبارة عن إحاطة ذاته بالأشیاء علی وجه الانطواء ، من غیر أن تصیر أجزاء ذاته ، کما هو التحقیق .

لمّا ذکر من المعارف ما یدلّ علی الإلهیّة والتوحید ، أخذ فیما یدلّ علی الرسالة والبعثة ، فقال :

(احتجّ علی خلقه برسله ، وأوضح الأمور بدلائله) .

ولمّا کلّف اللّه العباد بمعرفته وعبادته ؛ لأنّ المعرفة غایة وجودهم وغرض خلقهم ، کما فی قوله تعالی : « وَ مَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَ الاْءِنسَ إِلاَّ لِیَعْبُدُونِ » . (1) أی لیعرفونِ ، ومعرفتهم باللّه وبالیوم الآخر لاتحصل إلاّ من طریق النبوّة والرسالة ؛ لأنّ عقُولهم غیر کافیة فیها ، سیّما ما یتعلّق منها بأحوال المعاد وحشر الأجساد ، فیحتاجون إلی معلّمٍ بشری وهو النبیّ والرسول أو مَن یستخلفه ، فالمعرفة موقوفة علی بعثة الرسل ؛ لأنّ ما لایتمّ الواجب المطلق إلاّ به فهو واجب .

أرسله علی حین فترة من الرسل ، وطول هجعة من الأُمم ، وانتقاض من المبرم ، فجاءهم بتصدیق الذی بین یدیه ، والنور المقتدَی به ، ذلک القرآن فاستنطقوه ، ولن ینطق ، ولکن أُخبرکم عنه : ألا إنّ فیه علمَ ما یأتی ، والحدیثَ عن الماضی ، ودواء دائکم ، ونظمَ ما بینکم . (1)

وقال فی خطبة أُخری له علیه السلام :

أرسله علی حین فترة من الرسل ، وطول هجعة من الأُمم ، واعترام (2) من الفتن ، وانتشار من الأُمور ، وتلظٍّ من الحروب ، والدنیا کاسفة النور ، ظاهرة الغرور ، علی حین اصفرار من ورقها ، وإیاس من ثمرها ، واغورار من مائها ، قد درست أعلام الهدی ، وظهرت أعلام الردی ، (3) فهی متجهّمة (4) لأهلها ، عابسة (5) فی وجه طالبها ، ثمرها الفتنة ، وطعامها الجیفة ، وشعارها الخوف ، ودثارها السیف . فاعتبروا یا عباد اللّه ، واذکروا تِیک التی آباؤکم وإخوانکم بها مرتَهَنون ، وعلیها محاسَبون . (6)

قلت : باعُ (7) المقام قاصر عن شرح دقائق عباراته الحکیمة ، وذرعُ المجال ضائق عن کشف حقائق إشاراته الکریمة ، وکیف ؟ وکأنّ فنَّیِ المعانی والبیان بجملتهما شطر من تقریر بلاغة قوله ، ونَزْر (8) من تفسیر صیاغة کلامه صلوات اللّه وصلوات

ص :46

ملائکته وأنبیائه وأُولی العلم من عباده علی نبیّه وعلیه وعلی اُولادهما الطاهرین وأوصیائهما المعصومین .

وبجمعه جاء الحدیث : «بعث سریّة نهی عن قتل العُسفاء (1) والوُصفاء» . (2)

علی تضمین معنی الدعوة والاستدعاء .

وکذلک سبیل القول فی دعاء الاستخارة : «اللهمّ خِرْلی» . (1) أی اختر لی أصلح الأمرین ، واجعل لی الخیرة فیه خیرة فی عافیة .

فی درجة صیغة المفرد لشیء واحد هو إحدی تلک المراتب ، علی سیاق ما فی التنزیل الکریم من قوله عزّ قائلاً : «یَ_نِسَآءَ النَّبِیِّ لَسْتُنَّ کَأَحَدٍ مِّنَ النِّسَآءِ إِنِ اتَّقَیْتُنَّ» (1) أی کجماعة واحدة من جماعات النساء . وکذلک الأمر فی «مصابیحا» و«مفاتیحا» و«دعائما» . وعلی هذا السبیل فی التنزیل الکریم قوله سبحانه : « سَلَ_سِلاَْ » (2) و « قَوَارِیرا » (3) « قَوَارِیرا » علی القراءة بالتنوین فیها جمیعا . وهذا ألطفُ وأدقّ وأعذب وأحقّ من قول الکشّاف : «وهذا التنوین بدل من ألف الإطلاق ؛ لأنّه فاصلة . وفی الثانی ؛ لإتّباعه الأولَّ» . (4) کیف؟ ولیس هو فی حیّز مسیس الحاجة إلی صرف الإطلاق ألبتّة ، وغایة ما یستحقّ أمر الإتّباع من الاعتبار إتّباع مقام الوصل لمقام الوقف لاأزیدَ من ذلک . وحذاءَ ممشایَ مشی ، ونظیرَ مسیری سار حاذق تفتازانَ فی تنوین «أوّلاً» ولو کان مشفوعا بالموصوف فی الذکر ؛ حیث قال فی کتاب التلویح : «إنّ انتصاب أوّلاً وثانیا علی الظرفیّة» . (5)

وأمّا التنوین فی «أوّلاً» _ مع أنّه أفعل التفضیل بدلیل الأُولی والأوائل ، کالفُضلی والأفاضل _ فلأنّه هاهنا ظرف بمعنی قبلُ ، وهو حینئذٍ منصرف لا وصفیّة له أصلاً . وهذا معنی ما قال فی الصحاح :

إذا جعلته صفة لم تصرفه ، تقول : لقیته عاما أوّلَ ، وإذا لم تجعله صفة صرفته ، تقول : لقیته عاما أوّلاً ، ومعناه فی الأوّل : أوّل من هذا العام ، وفی الثانی : قبل هذا العام . (6)

هذا قوله بألفاظه .

ص :51

قلت : و هذا من قبیل المشترک لا من المنقول حتّی یتّجه أن یقال : هلاّ اعتبرتَ الوصفیّة الأصلیّة فلم تصرفه أصلاً ؛ إذ إنّما اعتبارها فی المنقول لا فی المشترک . ثمّ من تضاعیف هذا الباب ما یقال مثلاً : صمت رمضانا من الرمضانات ، ولقیت أحمدا من الأحمدَیْن .

قوله رحمه الله : (التهجّم علی القول بما لایعلمون) . (1)

تفعّلٌ من الهجوم وهو الإتیان بغتةً ، والدخول من غیر استیذان . وفی بعض النسخ بالعین مکان الهاء من العُجمة _ بالضمّ والتسکین _ وهی اللکنة فی اللسان ، وعدم القدرة علی الکلام ، وعدم الإفصاح بالعربیّة . و«الأعجم» : الذی لایُفصح ، ولایُبیّن کلامه وإن کان عربیّا . واستعجم علیه الکلامُ : استبهم ، وکلّ من لم یُفصح بشیء فقد أعجمه ، وکلّ من لایقدر علی الکلام الفصیح البیّن فهو أعجمُ ومستعجِم ، ومؤنّثه العَجْماء ، وقد غلبت علی البهیمة غلبةَ الدابّة علی الفرس . وفی الحدیث : «صلاةُ النَهار عجماء» ، (2) أی لایُجهر فیها ، فلا تُسمع قراءةٌ .

بالکسر . وفی القاموس : مثلّثة الراء (1) أرَزا بالتحریک وأُرُوزا بالضمّ فهو أَروز بالفتح ، و«أرِز» کعسِر : إذا تقبّض من بخله ، ولم ینبسط بلسانه ویده للمعروف ، وأرز الشیء یأرز مکسورةَ الراء أیضا ، وقیل : بل مثلّثتها أَرْزا بالتسکین : إذا تجمّع وتقبّض وتضامّت أجزاؤه وأبعاضه ، ومنه الحدیث : «إنّ الإسلام لیأرز إلی المدینة کما تأرز الحیّة إلی جُحْرِها» ، (2) أی ینضمّ إلیها ، ویجتمع بعضه إلی بعض فیها .

فأمّا «المُقامة» _ بالضمّ _ فبمعنی الإقامة لاغیر . ومنه فی التنزیل الکریم : « دَارَ الْمُقَامَةِ » . (1)

«والمَقامة» _ بالفتح _ : المجلس والجماعة من الناس .

«الزمن : الذی طال مرضه زمانا» . (1)

وفی القاموس : «السَدی _ بالسین المهملة المفتوحة _ : المهملة من الإبل ، والضمّ أکثر ، وکلاهما للواحد والجمیع (1) کالسادی ، وأسداه : أهمله» . (2)

وفی النهایة الأثیریّة : «یقال : إبل سُدی أی مهملة ، وقد تفتح السین» . (3)

الذات المسلوبةِ الضرورةِ بحسب نفسها فی کلا طرفی التقرّر واللا تقرّر ، وإنّما النظر فی اتّساق النظام ، وغرائب الصنع ، وعجائب التدبیر یسوق العقلَ إلی توحید صانعها وجاعلها ، وإثباتِ أنّ الصانع الجاعل الواحد الحقّ _ جلّ مجده _ تامُّ العلم ، عظیم الخُبْر ، لطیف التدبیر ، بالغ الحکمة .

فإذن قوله رحمه الله : (لما فیها من آثار صنعه ، وعجائب تدبیره) .

فیه : أنّ تعلیل الشهادة بذلک اعتبار فی حیّز السقوط ، إلاّ أن یکون قد رام بالربوبیّة والإلهیّة ما یشمل إثباتَ الذات والتوحید والعلم والحکمة جمیعا .

تکن الشهادة مقبولة ؛ فلذلک قال عزّ من قائل : « شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُو لاَ إِلَ_هَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلَ_ل_ءِکَةُ وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ » (1) أی أُولو العقل المضاعف الذی هو الیقین الحقّ . قوله رحمه الله : (تبارک وتعالی : « وَ مِنَ النَّاسِ مَن یَعْبُدُ اللَّهَ عَلَی حَرْفٍ » (2) ) .

«الحرف» فی الأصل الطرف والجانب ، وبه سمّی الحرف من حروف الهجاء . أی علی طرف وجانب من الاعتقاد ، یُمیله کلُّ ممیل ، ویُزیغه (3) کلُّ مزیغ ، ویُزعجه (4) کلّ مزعج ، لاقارَّ البصیرة ، ثابتَ التبصّر علی حاقّ الیقین ، ومستقرِّ العلم ، ومتنِ العقل المضاعف کالجبال الرواسی ، فلایستطیعَ أن یقلقله صوت هائل ، ولا أن یزلزله ریح عاصف .

أُمّ إسماعیل علیه السلام «فغمز بعقِبه الأرض فانبثق الماء» أی انفجر وجری» . (1)

وقال المطرّزی فی المُغرب :

بثق الماء بثقا : فتحه بأن خَرقَ الشَطَّ أوالسِکْر ، وانبثق هو : إذا جری بنفسه من غیر مُجرٍ ، والبَِثْق _ بالفتح والکسر _ الاسم . (2)

وفی صحاح الجوهری : «بثق السیل موضعَ کذا أی خرقه وشقّه فانبثق أی انفجر» . (3)

وفی أُمّ قری الحواسّ ، والسیرِ فی ریاض عالم القدس ، واستیطان بُطنان (1) عرش التعقّل معا ، فیکون جوهر الروح العاقل حین تدبیر دار الجسد ، والتعلّقِ الطبیعی بأرض الهیولی أکیدَ العلاقة جدّا بقَطَنَة (2) عالم الأمر ، شدیدَ الاتّصال بروح القدس ، المعبّر عنه فی لسان حکمة ما فوق الطبیعة بالعقل الفعّال ، وواهبِ الصور بإذن ربّه ؛ ومن هناک یستوجب النبیّ أن یکون فی جوهر نفسه العاقلة ذا خصائص ثلاثٍ ألبتّة :

أُولاها : الاستغناء عن مُؤَن الاقتناص والتعلّم ؛ لکونه مؤیَّدَ النفس بشدّة الصفاء وشدّة الاتّصال بالمبادئ العقلیّة إلی أن یشتعل حدسا وقبولاً من روح القدس فی کلّ شیء ، فینعقدَ فی ذهنه القیاسُ بلا معلّم ، وتکونَ علومه وتعقّلاته حدسیّاتٍ ، فتنطبعَ فیه الصور التی فی العقل الفعّال ، ویحصلَ له مایمکن أن یحصل لنوعه من العلوم بحسب الکمّ دفعةً ، أو قریباً من دفعة بحسب الکیف ، لا ارتساماً تقلیدیّا ، بل انطباعاً من سبیل العقل المضاعف ، بترتیبٍ مشتمل علی الحدود الوسطی ؛ فإنّ التقلیدیّاتِ (3) فی أُولات أسباب إنّما تُعرف بأسبابها ، لاتکون عقلیّةً یقینیّة ، فهذا ضرب من النبوّة بل أعلی قوی النبوّة ، ویسمّی عقلاً قدسیّاً وقوّةً قدسیّة ، وهی أعلی مراتب القوی الإنسانیّة فی جانب الکمال .

وفی مقابلتها فی جانب النقصان مَن لاحدس له منتهیاً إلی عُدم الحدس وفقد الاتّقاد (4) رأساً ، کما مقابله ینتهی فی طرف الزیادة إلی الحدس والاشتعال فی کلّ

ص :61

المعقولات والمطلوبات أو أکثرها فی أسرع وقت وأقصره ، من دون تخریجِ مخرِّجٍ ، وتعلیم معلّم ، بل بفضل من اللّه وتأیید من رحمته .

وثانیتها : أن یشتدّ لسرّه الاعتلاقُ والاتّصال بذلک العالم ، فیسمع کلام اللّه ، ویتشبّح له ملائکة اللّه ، وقد تمثّلت له علی صورة یراها بإذن اللّه سبحانه ، فیحدث له فی سماعه صوت من قِبَل اللّه تعالی وروحِ القدس والملائکة ، فیسمعه من غیر أن یکون ذلک کلاماً إنسانیّاً ، وقولاً بشریّاً ، وصوتاً من حیوان أرضی ، بل هو إیحاء وتنزیل من لدن عزیز علیم به ، صاحبُ الوحی والتنزیل ، ذو معجزة قولیّة کریمة ، وآیات علمیّة حِکْمیّة .

وثالثتها : أن تکون نفسه المقدّسة الربّانیّة _ لقوّتها القدسیّة _ قویّةً بهیّة فعّالة ، کادت تکون متصرّفةً فی العوالم الأُسطقسّیّة ، تصرُّفَ النفوس فی أبدانها ، فتکاد هیولی عالم العناصر تطیعه بإذن اللّه تعالی ، فیکون بذلک ذا معجزات فعلیّة ، وأفاعیلَ خارجةٍ عن طور العادة ، خارقةٍ لضوابط مذهب الطبیعة .

ثمّ مرتبة الوراثة والوصایة تجری فی کمال جوهر النفس ، واشتعال قوّتها القدسیّة ، وشدّة اعتلاقها واتّصالها ، وتأکّد علاقتها بذلک العالم مَجری مرتبةِ النبوّة ، وتستنّ بسنّتها ، وتتلو درجتَها ، وتنوب عنها منابَها ، إلاّ أنّها لیست بمثابة تصحّح للوصیّ تشبّحَ الملائکة ، وتُمثِّل روحَ القدس له علی صورة یراها ویعاینها ، حتّی یکون یتصحّح له من ذلک سماع کلام اللّه تعالی بالوحی والإیحاء ، علی أن یکون هو الموحی إلیه من دون توسیط الرسول ، بل إنّما الأوصیاء والأئمّة بعقولهم محدَّثون مفهَّمون _ علی البناء للمفعول من التحدیث والتفهیم _ فربما یسمعون الصوت ولکنّهم لایعاینون شخصاً متشبّحاً .

وسیستبین لک فی کتاب الحجّة _ إن شاء اللّه العزیز _ بابُ الفرق بین الرسول والنبیّ والمحدَّث ، وهم الوارثون معادنَ العلم ، وولاةُ الأمر ، وشهداءُ اللّه ، وحججُه علی خلقه ، وخلفاؤه فی أرضه ، وأبوابه التی یؤتی منها من بعد النبیّ ، فالوصیّ خلیفة

ص :62

النبیّ ، والقائم بالأمر مقامه ، کما النفس خلیفة العقل ، والقلب خلیفة النفس ، والدماغ خلیفة القلب ، والنخاع خلیفة الدماغ ، والرئیس والمَلِک سلطانهما علی الظاهر فقط ، والعالم المعلّم سلطانه علی الباطن فقط ، والنبیّ سلطانه علی الظاهر والباطن جمیعاً ، وکذلک وصیّه الذی یقوم مقامه .

فکما القلب أشرف الأعضاء ورئیسها فی البدن وخلیفته الدماغ ، فکذلک النبیّ صلی الله علیه و آلهکالقلب فی العالم وخلیفته کالدماغ . وکما من الدماغ تفیض وتنبثّ الأرواح الساریة والقوی المدرکة علی المشاعر والأعضاء ، وعلی جمیع جوانب البدن وأطرافه ، فکذلک قوّة البیان والتعلیم إنّما تفیض عنه صلی الله علیه و آله بواسطة خلیفته ووصیّه علی جمیع أهل العالم ، وهو صاحب التأویل ، وخازن الوحی ، وحافظ الدین ، وحامل عرش الحکمة ، وعیبة علم الحقیقة ، ونور اللّه فی ظلمات الأرض .

فأمّا مرتبة الحکمة والعرفان فلها عرض عریض ، فأقصی درجاتها أعلی مراتب النبوّة ، وأوسطها الوصایة والخلافة ، وأدناها أن تکون النفس غیرَ قویّة الجوهر بحیث تستطیع أن تجمع بین معاینة عالم الغیب ، ومشاهدة عالم الشهادة معاً ، بل إنّما قصاری قدسها وبهائها وصقالتها وصفائها أن تقوی علی رفض البدن ، ونَضْوِ الجلباب الجسدانی ، وفکِّ عُقَد حبائل الطبیعة ، والانصرافِ إلی عالم القدس والبهاء ، والاتّصال بالجواهر المشرقة العقلیّة ، ومطالعة صور علومها ، والاستضاءة من إشراقات أنوارها ، فالإنسان لایعدّ من الحکماء مالم تحصل له ملکة خلع البدن ، حتّی یصیر البدن بالنسبة إلیه کقمیص یلبسه تارة ویخلعه أُخری .

وبالجملة : أفضل الناس من استجمع أُصول الأخلاق والملکات ، التی هی رؤوس الفضائل العملیّة وینابیعها ، واستکملت نفسُه بقوّته النظریّة عقلاً مستفاداً بالفعل ، فصارت عالماً عقلیّاً مضاهیاً لعوالم الوجود ، کأنّها وحدها ونظامَ الوجود وعالمَ التقرّر جملةً نسختان مطابقتان غیرُ مختلفتی الأرقام زیادةً ونقیصةً .

وأفضل هؤلاء المستعدُّ فی جوهر نفسه وقواه النفسانیّةِ لمرتبة النبوّة ، ثُمّ مَن

ص :63

فاز _ مع الخواصّ النبویّة _ بدرجة الختمیّة ، فعلی ما قد قاله شریکنا السالف شیخ فلاسفة الإسلام فی إلهیّات الشفاء (1) کاد یصیر ربّا إنسانیّاً ، یکاد (2) أن تحلّ عبادته بعد طاعة اللّه تعالی ، وهو سلطان ساهرة العالم الأرضی ، وخلیفة اللّه فیها ، ودرجةُ عقله القدسی المستکمل بالفعل عالماً عقلیّاً _ وهو آخر سلسلة العود إلی مبدإ الوجود ، ومَعاده تعالی شأنه _ درجةَ أکرم المبدَعات أعنی العقل الذی هو أوّل سلسلة البدو فی الصدور عنه جلّ سلطانه .

فلعلّه صلی الله علیه و آله لحاظاً لذلک قال مرّة : «أوّل ما خلق اللّه العقل» . (3) وأُخری : «أوّل ما خلق اللّه نوری» (4) وتتلو مرتبتَه فی عرض تلک الدرجة مرتبةُ وصیّه وخلیفته وحافظِ دینه علیه الصلاة والسلام ؛ فلذلک قال صلی الله علیه و آله : «أنا وعلیّ من نور واحد» . (5)

وما أوردناه _ من عرض الحکمة وشمولها المراتبَ جمیعاً _ قد وردت به الأخبار عن أصحاب القدس والعصمة علیهم السلام ، فمن طریق الکافی فی کتاب الإیمان والکفر ، (6) ومن طریق الصدوق ، عروة الإسلام ، أبی جعفر بن بابویه رضی اللّه تعالی عنه فی کتاب الخصال ، (7) وفی کتاب التوحید جمیعاً فی الصحیح عن محمّد بن إسماعیل بن بزیع ، عن محمّد بن عذافر ، عن أبیه ، عن أبی جعفر علیه السلام قال :

بینا رسولُ اللّه صلی الله علیه و آله فی بعض أسفاره إذ لقیه رَکْب ، فقالوا : السلام علیک یا رسول اللّه ، فقال : ما أنتم؟ فقالوا : نحن مؤمنون یا رسول اللّه ، فقال : فما حقیقة إیمانکم؟ قالوا :

ص :64

الرضاء بقضاء اللّه ، والتفویض إلی اللّه ، والتسلیم لأمر اللّه ، فقال رسول اللّه صلی الله علیه و آله : علماءُ حکماءُ کادوا أن یکونوا من الحکمة أنبیاءَ ، إن کنتم صادقین فلاتبنوا ما لاتسکنون ، ولا تجمعوا مالا تأکلون ، واتّقوا اللّه الذی أنتم إلیه ترجعون . (1)

ومن طریق الکافی فی کتاب الحجّة بسنده عن هشام بن الحکم ، عن أبی عبداللّه علیه السلامأنّه قال للزندیق الذی سأله : من أین أثبتَّ الأنبیاءَ والرسل؟ :

إنّا لمّا أثبتنا أنّ لنا خالقاً صانعاً متعالیاً عنّا وعن جمیع ما خلق ، وکان ذلک الصانع حکیماً متعالیاً ، لم یجز أن یشاهده خلقه ، ولایلامسوه ، فیباشرهم ویباشروه ، ویحاجّهم ویحاجّوه ، ثبت أنّ له سفراءَ فی خلقه ، یعبّرون عنه إلی خلقه وعباده ، ویدلّونهم علی مصالحهم ومنافعهم ، وما به بقاؤهم وفی ترکه فناؤهم ، فثبت الآمرون والناهون عن الحکیم العلیم فی خلقه ، والمعبّرون عنه جلّ وعزّ ، وهم الأنبیاء علیهم السلاموصَفوته من خلقه ، حکماءَ مؤدَّبین بالحکمة مبعوثین بها ، غیر مشارکین للناس _ علی مشارکتهم لهم فی الخلق والترکیب _ فی شیء من أحوالهم مؤیَّدین من عند الحکیم العلیم بالحکمة ، ثمّ ثبت ذلک فی کلّ دهر وزمان ، ممّا أتت به الرسل والأنبیاء من الدلائل والبراهین ؛ لکیلا تخلوَ أرض اللّه من حجّة یکون معه علم یدلّ علی صدق مقالته ، وجواز عدالته . (2)

قوله : (قال : وفیهم جری قوله : فمستقَرّ ومستودَع) .

بفتح القاف والدال ، علی أنّهما اسما مکانٍ علی قراءة الکوفیّین والحجازیّین . أی فمنکم محلّ استقرار العلم والحکمة فیه ، وموضع ثَبات الیقین والإیمان ، ومنکم موضع استیداع ذلک .

وأمّا البصریّان ، فإنّما قراءتهما «مستقِرّ» _ بکسر القاف _ علی أنّه اسم فاعل ، و«مستودَع» _ بفتح الدال _ علی أنّه اسم مفعول .

وابن کثیر (3) أیضاً ذلک سبیله ؛ لأنّ الاستقرار منّا دون الاستیداع أی فمنکم قارّ فی

ص :65

مقرّ العلم الیقینی والعرفان الحقیقی ، ومنکم مستودع فی منزل الاعتقاد الذی قصاراه (1) أن یکون شبهَ الیقین ، وشبیهَ العقل المضاعف ، مع أنّکم کلَّکم مُنشأون من نفس واحدة ، هذا علی تفسیره وتأویله علیه السلام .

وفی الکشّاف :

مَن فتح قافَ «المستقرِّ» ، کان «المستودع» اسمَ مکانٍ مثلَه أو مصدراً . ومن کسرها ، کان اسمَ فاعلٍ ، و«المستودع» اسمَ مفعول ، والمعنی : فلکم مستقرّ فی الرحم ، ومستودع فی الصلب ، أو مستقرّ فوق الأرض ، ومستودع تحتها ، أو فمنکم مستقِرّ ، ومنکم مستودع ، قال : فإن قلت : لم قیل : «یعلمون» مع ذکر النجوم و«یفقهون» مع ذکر إنشاء بنی آدم؟ قلت : کأنّ إنشاءَ الإنس من نفس واحدة ، وتصریفَهم بین أحوال مختلفة ألطفُ وأدقّ صنعةً وتدبیراً ، فکان ذکر الفقه _ الذی هو استعمال فطنة وتدقیق نظر _ مطابقاً له . (2)

قوله رحمه الله : (مَن تُذاکره وتفاوضه) .

مفاوضة العلماء : محادثتهم ومذاکرتهم فی العلم ، مفاعلة من التفویض بمعنی المشارکة والمساومة (3) کأنّ کلّ واحد من المتفاوضَیْن یردّ ما عنده إلی صاحبه ویأخذ ما عند صاحبه . قیل (4) لدَغْفَل بن حنظلة النسّابة من بنی شیبان : بم ضبطت ما أری؟ قال : بمفاوضة العلماء . قیل : ما مفاوضة العلماء؟ قال : کنت إذا لقیت عالماً أخذت ما عنده وأعطیته ما عندی .

قوله : (بالآثار الصحیحة عن الصادقین علیهم السلام) .

ص :66

«الآثار» جمع الأثر _ بالتحریک _ من قولک : أثرتُ الحدیث ، إذا ذکرتَه عن غیرک ، وحدیث مأثور ، ینقله خلف عن سلف ، ومصدره الأثْر بالتسکین .

و«الحدیث» _ ویرادفه «الخبر» بل «الأثر» أیضاً فی الأشهَر الأعرف _ أعمُّ من أن یکون قولَ النبیّ صلی الله علیه و آله ، أو الإمام علیه السلام ، أو الصحابی ، أو التابعین . وفی معناه فعلهم وتقریرهم .

وقد یخصّ الحدیث بما عن المعصوم ، والخبرُ بما عن غیره ، فیقال للمشتغلین بالسنّة النبویّة _ وما فی حکمها ومعناها ، وهو ماجاء عن الأئمّة المعصومین علیهم السلام _ : المحدّثون ، ولمن عداهم : الخبریّون أو الإخباریّون _ بالکسر _ وربما یستصحّ أن یقال : الأخباریّون _ بالفتح _ تسویغاً للنسبة إلی الجمع من غیر الردّ إلی المفرد . والأثر أعمُّ منهما مطلقاً .

وقد یجعل الحدیث أعمَّ من الخبر مطلقاً . وبعضهم یجعل الأثر مساویاً للخبر ومرادفاً له . ومنهم من یقول : إنّما الحدیث ما جاء عن النبیّ صلی الله علیه و آله ، والأثر ما جاء عن الإمام علیه السلام أو الصحابی ، والخبر هو الأعمّ منهما .

وفی أصحابنا رضوان اللّه علیهم مَن یُؤْثِر هذا الاصطلاحَ ویخصّ الأثر بما عن الأئمّة علیهم السلام ، والمحقّق نجم الدین بن سعید _ رحمه اللّه تعالی _ فی مصنّفاته الاستدلالیّة کثیراً مّا یسیر ذلک المسیرَ ، فأمّا رئیس المحدّثین _ رضی اللّه تعالی عنه _ فقد عنی ب «الآثار الصحیحة» أحادیثَ رسول اللّه صلی الله علیه و آله وأوصیائه الصادقین صلوات اللّه علیهم .

فإن قلت : کیف یستقیم قوله : «الصحیحة» وما فی الکافی کثیراً بل أکثریّاً من طرق موثّقة أو ضعیفة؟!

قلت : أمّا بناءاً علی أنّه ومَن فی طبقته من الأقدمین _ رضوان اللّه تعالی علیهم _ لهم فیما یروون طرق متعدّدة ، فیوردون الطریق الضعیف ولایکترثون (1) له ؛ ثقةً بما

ص :67

لهم فی ذلک من الطریق الصحیح .

أو لأنّهم _ من ثقافتهم (1) وتبصّرهم وقرب عهدهم وتمییزهم أحوالَ الطبقات بعضِها عن بعض _ عارفون بقرائنَ وأمارات یتصحّح معها الحکم بالصحّة ، فلا یستضرّون (2) بالإسناد إلی غیر الثقات .

أو أنّهم _ بتعدّد طرقهم المتساندة ، وتکثّر أسانیدهم المتعاضدة فی روایة روایة _ استغنوا عن الإسناد إلی سند صحیح ، فکانوا یتحرَّون (3) إیرادَ ما عندهم علی إسناده إلی المعصومین حجّةً ثابتة ومحجّة (4) واضحة . ویعنون بالصحیح المقبولَ الثابتَ المعوّلَ علیه بالصحّة ، لا المعنی المعقودَ علیه الاصطلاحُ فی هذه السنین الأخیرة . (5) والمتأخّرون المُحْدَثُونِ _ حیث هم فی سُحقٍ (6) ونَأْیٍ عن ذلک کلّه _ محتاجون لا محالة فی استیثاق (7) الطرق واستصحاح الأسانید إلی مَؤونة زائدة ومعونة جاشمة . (8)

قوله : (اعرضوها علی کتاب اللّه ) .

معناه : إذا تَعارَضُ (9)

الروایات المختلفة فی أمر عنّا أهلَ البیت ، ولم یکن فی أحد الطرفین علی المسلک المعتبر فی طریق الروایة ترجیحٌ فاعرضوها علی کتاب اللّه ، فما وافقه فاستمسکوا به ، وما خالفه _ بحیث لایمکن التوفیق _ فردّوه ، لا أنّه إذا

ص :68

وردت روایة صحیحة معتبرة عنهم علیه السلامتوجب تخصیص ظاهر الکتاب الکریم _ کما فی حرمان الزوجة غیر ذات الولد من أن ترث زوجَها فی رقبة الأرض عیناً (1) مثلاً _ لم یصحّ العمل بها .

وکذلک القول فیما یروی عن النبیّ صلی الله علیه و آله من قوله : «إذا رُویتم عنّی حدیثاً فاعرضوه علی کتاب اللّه ، فإن وافق فاقبلوه ، وإن خالف فردّوه» (2) فطَعْنُ بعض علماء العامّة فیه بأنّه موضوع ؛ إذ یدفعه قوله صلی الله علیه و آله : «إنّی قد أُوتیت الکتابَ وما یعدله» . (3) وفی روایة : «أُوتیت الکتاب ومثله معه» (4) ساقط .

قوله : (دعوا ما وافق القوم) .

یعنی علیه السلام بهم أُولئک الأقوامَ المخالفین ، الناکبین (5) عن الصراط ، القائسین بآرائهم الفاسدة ، وأهوائهم المضلّة ، بل جملةَ مَن عدا الفرقةِ المحقّة من سائر الفرق کلّها .

قوله رحمه الله : (أن یکون بحیث توخّیت) .

بلام التأکید فی أکثر النسخ ، وفی بعضها ب «الباء» مکان «اللام» .

قوله رحمه الله : (إذ کان العقل هو القطبَ الذی علیه المدار ، وبه یُحتجّ ، وله الثواب ، وعلیه العقاب) .

الحجّة العقلیّة لایکون ائتلافها وانتظامها إلاّ من مقدّمات عقلیّة صرفة ، وعقود بیّنة یقینیّة ، والدلیل النقلی یُستند فی بعض مقدّماته إلی النقل ، ولایتصوّر استغناؤه

ص :69

عن الانتهاء أوّلاً أو بأخَرَةٍ إلی السبیل العقلی قطعاً .

والعقل هو السالک إلی عالم القدس ، والصادعُ (1) بالنظر فی معرفة الربّ والمعارف الربوبیّة ، المدرکُ للکلّیّات والطبائع المرسلة بذاته ، وللجزئیّات والشخصیّات الجسمانیّة باستخدام المشاعر والحواسّ الجسدانیّة ، فلاجرم إلیه الخطاب وعلیه الحساب وله المثوبات وعلیه العقوبات ، فهو القطب والمحور والشراع واللنجر ، (2) فلا محالة هو أحقّ ما به فی الکلام یبتدأُ ، وفی الکتاب یفتتح .

و إذ قد بلغْنا بالقول مبلغَ الأخذ فی المطلب ، وحان (3) لنا فی الشرح حینُ الشروع فی المقصود ، فنقول :

إنّ ما نحن فی سبیله الآنَ قواعدُ فحصیّة ، وفوائدُ علمیّة ، لامَحید (4) عنها لمن یتوخّی (5) أن یکون فی علم الحدیث من المتمهّرین ، ویتحرّی أن یُعدّ فی الاستدلال علی الأحکام من سبیل الأخبار من المتبصّرین . وإذ لاسبیل إلی تحصیلها إلاّ من سبیلی ، ولاوصول إلی تحقیقها إلاّ من طریقی ، إمّا بالأخذ عنّی ، أو بالاستفادة من مصنَّفاتی ، ومحقَّقاتی ومقالاتی ومعلَّقاتی ، فلا عَلَینا لو قدّمنا عِضَة (6) من تلک المراشح فی عدّة رواشحَ .

ص :70

والثانی : مالایکون کذلک ولو فی بعض الطبقات .

فلذلک آثرنا هذا الاصطلاح ، وهو الذی یقتضیه مشرب الفحص والتحقیق ؛ إذ لوصِیرَ إلی الإطلاق الأکثری ، وسِیر علی الاصطلاح الأشهری ، لزم إمّا إهمال هذا القسم ، أو تجشّم اعتمالٍ مستغنیً عنه فی التسمیة بإحداث اسمٍ آخَرَ یوضع له غیرِ تلک الأسماء ؛ فإنّه قسم آخَرُ برأسه ، مباین لتلک الأقسام ، فلا یصحّ إدراجه فی أحدها ، ولا هو بشاذِّ الحصول ، نادرِ التحقّق حتّی یسوغَ إسقاطُه من الاعتبار رأساً ، بل إنّه متکرّر الوجود ، متکثّر الوقوع جدّاً مثل : مسکین السمّان ، ونوح بن درّاج ، وناجیة بن عَمارة الصَیداوی ، وأحمد بن عبد اللّه بن جعفر الحمیری ، والحکم بن مسکین ، وأضرابهم وأترابهم ، وهم کثیرون .

ثمّ إنّ شیخنا الشهید _ قدّس اللّه نفسه الزکیّة _ فی الذکری بعد إیراد الموثّق وذِکْر إطلاق اسم القویّ علیه قال :

وقد یراد بالقویّ مرویُّ الإمامی غیرِ المذموم ولا الممدوح ، أو مرویُّ المشهور فی التقدّم غیرُ الموثّق . (1)

یعنی به المشهورَ فی التقدّم (2) غیرَ الموثّق ولا الإمامی فیکون هذا القسم بالنسبة إلی الموثّق کالحسن بالنسبة إلی الصحیح . وفی عدّة نسخ معوّل علی صحّتها مکانَ «غیر الموثّق» «عن الموثّق» وعلی هذه النسخة فالمشهور بالتقدّم یُعنی به الإمامی المشهور تقدّماً .

قلت : إن کان المشهور فی التقدّم ممّن نقل أحد من أئمّة التوثیق والتوهین إجماعَ العصابة علی تصحیح ما یصحُّ عنه (3) فمرویُّه عن الموثّق مُدرَجٌ فی الصحیح _ علی ما سنُطْلعک علیه إن شاء اللّه العزیز _ وإلاّ فذلک یندرج فی الموثّق وإن کان هو

ص :73

عدلاً إمامیّاً والطریق إلیه صحیحاً ، فإذن لم یتصحّح قسم آخَرُ خارج عن الأقسام الثلاثة السابقة إلاّ مرویّ الإمامی غیرِ المذموم ولا الممدوح ، فهو المحقوق باسم القویّ لاغیر .

الخامس : «الضعیف» وهو ما لا یستجمع شروط أحد الأربعة المتقدّمة ، بأن یشتمل طریقه علی : مجروح بالفسق ، أو بالکذب ، أو بالحکم علیه بالجهالة ، أو بأنّه وضّاع ، أو بشیء من أشباه ذلک ، فهو یقابل الصحیح والحسن والموثّق والقویّ جمیعاً .

وربما یقال : إنّه یقابل الموثّق والقویّ کلیهما ، أو یقابل القویّ فقط . (1)

فهذا ما قدخرّجه استقصاء التفتیش فی تخمیس القسمة ، وإنّ جماهیر من فی عصرنا هذا ، بل أکثرَ مَن فی هذه العصور (2) مغبِّبون (3) فی الفحص ، ومربِّعون للأقسام بإسقاط القسم الرابع من البین .

وربما سبق إلی بعض الأذهان أن یتجشّم إدراجَه فی الحسن _ وهو القسم الثانی _ تعویلاً علی أنّ عدم الذمّ مرتبه مّا من مراتب المدح . وکأنّه وهم بیّن الوهن والسقوط ، کماتری فلیدرَک .

ص :74

والقویّات عندنا صِحاحاً عندهم ، مع اعتبار القیود الثلاثة المذکورة .

قال بعض الشهداء من أصحابنا المتأخّرین فی شرح بدایة الدرایة :

والخلاف فی مجرّد الاصطلاح ؛ وإلاّ فقد یقبلون الخبر الشاذّ والمعلّلَ ، ونحن فقد لا نَقْبلُهما وإن دخلا فی الصحیح بحسب العوارض . (1)

قلت : صحّ ما قاله ، والخبر الّذی لایُقبل ولایُعمل به عندنا لعوارضَ تعتریه (2) مع کونه صحیحاً غیرُ قلیل ، ومن ذلک ما قال بعض متأخّری الأصحاب _ نوّر اللّه تعالی ضریحه _ فی المهذّب فی تسبیحات الرکعتین الأخیرتین مکانَ القراءة :

تتمّة : وهنا روایتان أُخریان _ ولم یقل بمضمونهما من الأصحاب قائل _ :

فالأُولی : صحیحة عبید بن زرارة ، قال : سألت أبا عبد اللّه علیه السلام عن الرکعتین الأخیرتین من الظهر ، قال : «تسبّح وتحمّد اللّه وتستغفر لذنبک ، وإن شئت فاتحة الکتاب فإنّها تحمید ودعاء» . (3)

والثانیة : روایة علیّ بن حنظلة عن أبی عبد اللّه علیه السلام ، قال : سألته عن الرکعتین الأخیرتین : ما أصنع فیهما؟ قال : «إن شئت فاقرأ فاتحة الکتاب ، وإن شئت فاذکر اللّه » . (4)

قلت : قد ألقیتُ إلی أسماع المتدبّرین فی مصنّفاتی الدینیّة ، ومعلّقاتی الفقهیّة أنّ هناک محملاً صحیحاً سویّاً یصار إلیه ، فلایکون فیه اطّراح الحدیث الصحیح ، ولاخرقُ إجماع العصابة وشقُّ عصاهم ، (5) وهو أن تکون «واو» و«تستغفر لذنبک» بمعنی «حتّی» للغایة، وذلک باب واسع فی مذهب البلاغة، کما إذا قلت : تحتمی من

ص :76

النَهَم (1) وتصحَّ فی بدنک ، وتتعبّد للّه وتکونَ حرّاً ، وتعبده وتکونَ مَلِکاً ، أی احْتَمِ من الإفراط فی شهوة الطعام وفی تناوله حتّی تکون بذلک صحیحاً فی بدنک ، وتعبَّد للّه عزّ وجلّ واعبده حتّی تکون حرّاً من الأحرار وملکاً من الملوک .

والتسبیح والتحمید عَلَم للتسبیحات الأربع ، وکذلک هی المراد من «ذکر اللّه » فی الروایه الثانیة ، فمعناه تأتی بالتسبیحات الأربع حتّی تکون بذلک فی حکم المستغفر لذنبک ، وتکونَ (2) هی فی قوّة الاستغفار منک ، والکفّارةِ لآثامک ، وفیها (3) مغفرة لذنوبک ، لا أنّک تأتی بالتسبیحات ، (4) وتضمّ إلیها کلمةَ الاستغفار ، أو دعاءه علی ما یتبادر إلی الوهم حتّی تنسب الروایة إلی الشذوذ .

ولیعلم أنّه یستفاد من الخبر تفضیل التسبیحات علی الفاتحة ، وهو کذلک فی حقّ المنفرد علی الأقوی وقد بسطنا القول فیه فی کتاب عیون المسائل . (5)

ثمّ من غرائب هذا العصر أنّ ثُلَّةً من أهله ظفروا بهذا الخبر _ الذی قد ودّعه الأصحاب عن آخرهم فی مُطَّرَح تَرْکِ العمل بمضمونه ؛ لأسباب تأدّت بهم إلی ترکه _ فحسبوا أنّهم قد فازوا بما فاتهم ضبْطُه ، وأحاطوا بما لم یحیطوا بعلمه ، فأحدثوا القول بوجوب الاستغفار بعد التسبیحات .

ففریق منهم کانوا یقولون : «اللهمّ اغفر لذنبی» فنبّهتُهم وأطلعتهم علی لحنٍ فیه مخالفٍ لقوانین العربیّة ؛ إذ الذنب حینئذٍ یکون مفعولاً له ، فیحتاج إلی تقدیر المفعول به ، ویصیر الکلام فی قوّة : اللهمّ اغفر لذنبی ذنبه ، وتضحک منه وعلیه الثَْکلی . وفریق : «اللهمّ اغفر ذنبی» وفریق «أستغفراللّه » .

وبالجملة : انتشرت الآراء وتفرّقت الأهواء علی غیر بصیرة ، واللّه سُبحانه أعلم .

ص :77

وعبد اللّه بن مُسکان ، وعبد اللّه بن بُکیر ، وحمّاد بن عیسی ، وأبان بن عثمان ، وحمّاد بن عثمان ، قالوا : وزعم أبو إسحاق الفقیه _ یُعنی ثعلبة بن میمون _ أنّ أفقه هؤلاء جمیل بن درّاج ، وهم أحداث أصحاب أبی عبد اللّه علیه السلام . (1)

قبلت منها وإن کان ارتدادها عن فطرة عند الأصحاب ؛ لصحیحة الحسن بن محبوب ، عن غیر واحد من أصحابنا ، عن أبی جعفر وأبی عبد اللّه علیهماالسلام . (1)

عیسی بن عبید ، عن یونس ولم یروه غیره . (1)

تنصیص علی أنّ مرویّات إبراهیم بن هاشم التی ینفرد هو بروایتها عن یونس صحیحة . وهذا نصّ صریح فی توثیقه .

وبالجملة : فمسلکی ومذهبی جعْل الطریق من جِهته صحیحاً . وفی أعاظم الأصحاب ومحقّقیهم مَن یؤثرِ فی ذلک سَنَناً آثرتُه ، ویَستنّ بسنّة استریتُها (2) فها شیخنا المحقّق الشهید الفرید قدّس اللّه نفسه القدسیّة یقول فی شرح الإرشاد فی کتاب الأیمان :

إنّه لایمین للعبد مع مالکه وهو مستفاد من أحادیثَ : منها : صحیحة منصور بن حازم أنّ الصادق علیه السلامقال : «قال رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم : لایمین للولد مع والده ، ولا للمملوک مع مولاه ، ولا للمرأة مع زوجها» . (3)

انتهی کلامه .

وفی طریقها إبراهیم بن هاشم ؛ ولذلک یعدّها أکثر المتأخّرین حسنةً .

والعلاّمة _ رحمه اللّه تعالی _ قد حکم فی کتبه علی عدّة من أسانید الفقیه والتهذیب بالصحّة ، وهو فی الطریق ؛ ولذلک عَدَّ طریق الصدوق إلی کردویه (4) وإلی إسماعیل بن مهران (5) مثلاً من الصحاح وطریقه _ رضی اللّه تعالی عنه _ إلیهما من إبراهیم بن هاشم .

وقال شیخ الطائفة فی الفهرست : «أصحابنا ذکروا أنّه لقی الرضا علیه السلام» . (6)

ص :83

وفی کتاب الرجال أیضاً أورده فی أصحاب الرضا علیه السلام فقال : إبراهیم بن هاشم القمّی تلمیذ یونس بن عبد الرحمن . (1)

وقال فی باب «لم» : (2) «إسماعیل بن مرّار روی عن یونس بن عبد الرحمن ، وروی عنه إبراهیم بن هاشم» . (3)

وفی التهذیب (4) والاستبصار فی أحادیث الخُمس : أنّه أدرک أبا جعفر الثانی علیه السلام . (5)

وذکر النجاشی فی ترجمة محمّد بن علیّ بن إبراهیم بن محمّد الهَمَذانی : أنّ إبراهیم بن هاشم روی عن إبراهیم بن محمّد الهَمَذانی ، عن الرضا علیه السلام» . (6)

قلت : نعم ، ولکنّه خِصّیص بیونس بن عبد الرحمن وتلمیذ له .

ثمّ بقی هناک شیء وهو أنّه ربما وردت فی الکافی روایة إبراهیم بن هاشم عن أبی عبد اللّه علیه السلام (7) مشافهةً من غیر واسطة .

وفی کتابی الأخبار _ التهذیب (8) والاستبصار (9) _ محمّد بن یعقوب ، عن علیّ بن إبراهیم ، عن أبیه ، قال : سألت أبا عبداللّه علیه السلام عن صدقات أهل الذمّة ومایؤخذ من ثمن خمورهم ولحم خنازیرهم ومیتتهم ، قال : «علیهم الجزیة فی أموالهم» الحدیث .

فبعض من عاصرناه _ ممّن قد فاز بسعادة الشهادة فی دین اللّه _ قد استبعد

ص :84

ذلک أشدَّ الاستبعاد وقال فیما له من الحواشی علی التهذیب :

الظاهر أنّ هذا مُرسل ؛ فإنّ إبراهیم بن هاشم ذکروا أنّه لقی الرضا علیه السلاموهو تلمیذ یونس بن عبد الرحمن ویونس من أصحاب الکاظم والرضا علیهماالسلام . وفی رجال ابن داود : أنّ إبراهیم بن هاشم أصله کوفی انتقل إلی قمّ من أصحاب الجواد علیه السلامکما فی الکشّی . وسیأتی أنّه روی إبراهیم بن هاشم قال : کنت عند أبی جعفر الثانی علیه السلام ، فروایته عن أبی عبد اللّه بغیر واسطة لاتخلو من بُعد . (1)

ونحن نقول : الإرسال فی الروایة بلفظ السؤال _ حیث یقول الراوی : سألته عن کذا ، فقال : کذا _ ساقط عن درجة الاحتمال ، وإنّما یکون من المحتمل لو کان عن أبیه عن أبی عبد اللّه علیه السلام . وما استبعده لیس من البُعد فی شیء . أ لیس أبو عبد اللّه علیه السلامقد توفّی سنة ثمان وأربعین ومائة ، وهی بعینها سنة ولادة مولانا الرضا علیه السلام ، وقبض أبو الحسن الرضا علیه السلام بطوس سنة ثلاث ومائتین ، ومولانا الجواد علیه السلام إذ ذاک فی تسع سنین من العمر؟ فیمکن أن یکون لإبراهیم بن هاشم إذ یروی عن مولانا الصادق علیه السلامعشرون سنة من العمر ، ثمّ یکون قد بقی إلی زمن الجواد علیه السلام فلقیه وروی عنه من غیر بِعاد .

ص :85

أحمد ، قال : حدّثنا حمزة بن القاسم العلوی رحمه اللّه ، قال : حدّثنا محمّد بن یحیی العطّار ، عمّن دخل علی أبی الحسن علیّ بن محمّد الهادی علیه السلام من أهل الریّ ، قال : دخل علی أبی الحسن العسکری علیه السلام فقال : «أین کنت؟» قلت : زرت الحسین علیه السلام ، فقال : «أما إنّک لو زرت قبر عبد العظیم عندکم ، لکنت کمن زار قبر الحسین علیه السلام» . (1)

ولأبی جعفربن بابویه کتاب أخبار عبد العظیم بن عبداللّه الحسنی ذکره النجاشی فی عدّ کتبه . (2)

وبالجملة : قول ابن بابویه (3) والنجاشی (4) وغیرهما فیه : «کان عابداً ورعاً مرضیّاً» ، (5) یکفی فی استصحاح حدیثه ، فضلاً عمّا أوردناه ، فإذن الأصحّ الأرجح ، والأصوب الأقوم أن یعدّ الطریق من جِهته صحیحاً ، وفی الدرجة العلیا من الصحّة ، واللّه سبحانه أعلم .

ص :87

وقال أبو عمرو الکشّی فی ترجمته :

ذکر حمدویه عن محمّد بن عیسی : أنّ ثعلبة بن میمون ، مولی محمّد بن قیس الأنصاری ، وهو ثقة خیّر فاضل مقدّم معدود (1) فی العلماء والفقهاء الأجلّة من هذه العصابة . (2)

قلت : والذی عهدناه من سیرة الکشّی وسنّته فی کتابه أنّه لایورد «الثقة» و«العلم» و«الفضل» و«التقدّم فی أجلّة فقهاء العصابة وعلمائها» إلاّ فیمن یحکم بتصحیح مایصحّ عنه .

وبالجملة : فی تضاعیف تتبّع فهارس الأصحاب ، وطرقهم وأُصولهم وجوامعهم ، واستقصاء أحوال طبقات الأسانید ، ومراتبها ودرجاتها یستبین استصحاح ما صحّ عن ثعلبة ، کأُولئک المعدودین ، فیبلغ مَن یقال بتصحیح ما یصحّ عنه ، ویعبّر عمّا صحّ عنه إذا رواه عن غیر معروف الحال بالصحّی ، علی ما قد عقدنا الاصطلاح علیه اثنین وعشرین ، بل ثلاثةً وعشرین ، ومع ذلک فإنّ رهطاً من أهل هذا العصر مهما وجدوا طریقاً صحیحاً حقیقیّاً فیه أبو إسحاق ثعلبة ، أشکل علیهم الأمرُ ، وضاق علیهم المُنْتَدَح ، (3) وجعلوه حسناً غیر صحیح ؛ لکون أبی إسحاق ممدوحاً غیر موثّق بالتصریح فی خلاصة العلاّمة (4) وکتاب تقیّ الدین الحسن بن داود ، (5) فلیُسْبَر (6) تفاوت ما بین الأمرین وبُعدُ ما بین المنزلتین ، ثمّ لیتدبّر .

ص :89

ثمّ إنّه فی شرحه هذا وفی شرح الشرائع نقل عن الشیخ قوله :

یجوز أن یکون ابن بکیر أسند ذلک إلی زرارة ؛ نصرةً لمذهبه الذی کان أفتی به ، وأنّه لمّا رأی أصحابه لایقبلون مایقوله برأیه أسنده إلی من رواه عن أبی جعفر علیه السلام ، ولیس عبد اللّه بن بکیر معصوماً لایجوز علیه هذا ، بل وقع منه من العدول عن اعتقاد مذهب الحقّ إلی اعتقاد مذهب الفطحیّة ما هو معروف من مذهبه ، والغلط فی ذلک أعظم من الغلط فی إسناد فتیا (1) یعتقد صحّتها ؛ لشبهة دخلت علیه إلی بعض أصحاب الأئمّة علیهم السلام . _ ثمّ قال _ : والعجب مع هذا القدح العظیم من الشیخ فی عبد اللّه بن بکیر أنّه قال فی کتاب الرجال : إنّ العصابة أجمعت علی تصحیح ما یصحّ عنه ، وأقرّوا له بالفقه والثقة ، وذکر غیره من علماء الرجال کذلک . وهذا الخبر ممّا صحّ عن عبد اللّه بن بکیر ؛ لأنّ الشیخ فی التهذیب رواه عن محمّد بن [علی بن ]محبوب ، عن أحمد بن محمّد ، عن الحسن بن محبوب ، عنه ، عن زرارة والجمیع ثقات . (2)

قلت : دریتَ أنّ شذود الخبر لیس ینافی صحّته ، وهذا الخبر الشاذّ المنافی لعموم القرآن الکریم یجب الإعراض عنه مع صحّته ؛ لکونه علی خلاف ما علیه سائر علماء الإسلام ، وأیضاً لیس یبعد أن یکون الشیخ مشترطاً فی صحّة مرویّ الثقة غیر الإمامی أن لایکون هو محتاجاً إلی روایته إیّاه فی تقویة رأیه وترویج معتقده ، کما اشترطه غیره . ومغزی کلامه تجویز أن یکون ابن بکیر قد أسند ذلک إلی زرارة نصرةً لمذهبه ؛ لشبهة دخلت علیه فزیّنت له رأیه ورَوَّجَتْهُ علیه فتأکّد فی ذلک ظنّه إلی حیث قد ظنّ استناده فیه إلی زرارة عن أبی جعفر علیه السلام ، فسوّغ ذلک الإسنادَ ؛ لمجرّد هذا الظنّ ، وهذا کثیراً مّا یقع للإنسان فیما یعتقده ویراه ویحبّه ویهواه ؛ إذ حبّک للشیء یعمی ویصمّ ، لاتجویز وقوع ذلک منه علی سبیل الاختلاق والوضع ، فإذن لاتصادم بین هذا التجویز ، وبین نقل ذلک الإجماع ، ولابین صحّة هذا الحدیث ،

ص :91

وبین وجوب الإعراض عنه أصلاً .

وأمّا عدّ شیخنا إیّاه من أصحابنا ، ونسبة القول إلیه ، واعتبار خلافه فی المسألة فبناءاً علی ما قاله الکشّی : «قال محمّد بن مسعود : عبداللّه بن بکیر وجماعة من الفطحیّة هم فقهاء أصحابنا» . (1) ولشدّة اختلاطه بأصحابنا ، ودخوله فی عصاهم مع تبالغهم فی التحرّز عن مخالطة الواقفیّة والفطحیّة والناووسیّة والزیدیّة وأمثالهم .

ص :92

ولایستحیون من إنکار ضوء الشمس ضاحیةَ النهار ، ویقولون :

الظاهر أنّ هذه المذاهب _ أعنی دعوی النصّ الجلیّ _ ممّا وضعه هشام بن الحکم ، ونصره ابن الراوندی ، وأبو عیسی الورّاق ، وإخوانهم .

وبالجملة : لامطعن ولاغمیزة فی أبی عیسی أصلاً ، وإنّما الطاعن فیه مطعون فی دینه ، والغامز (1) مغموز فی إسلامه .

وقال السیّد المرتضی فی کتاب الشافی : «إنّه رماه المعتزلة مثلَ ما رموا ابن الراوندی القاضی» . (2) ونقله العلاّمة فی الخلاصة ؛ (3) ولذلک ذکر الشیخ تقیّ الدین الحسن بن داود فی کتابه فی قسم الممدوحین (4) ولم یذکره فی قسم المجروحین ، مع التزامه إعادةَ ذکر مَن فیه غمیزة مّا _ وهو من الثُّبَّت (5)

الثقات _ فی المجروحین أیضاً حتّی سعد بن عبد اللّه الأشعری وهشام بن الحکم وبرید بن معاویة العجلی وغیرهم من الوجوه والأعیان .

وقال شیخنا النجاشی وغیره من الشیوخ فی ترجمة ثبیت بن محمّد أبی محمّد العسکری مدحاً له وتوقیراً لأمره :

صاحب أبی عیسی الورّاق ، متکلّم حاذق ، من أصحابنا العسکریّین وکان له اطّلاع (6)

ص :94

بالحدیث والروایة والفقه . له کتب ، منها : کتاب تولیدات بنی أُمیّة فی الحدیث ، وذکر الأحادیث الموضوعة ، والکتاب الذی یُعْزی إلی أبی عیسی الورّاق فی نقض العثمانیّة له ، وکتاب الأسفار ، ودلائل الأئمّة علیهم السلام . (1)

فإذن قد انصرح أنّ الطریق من جِهة محمّد بن هارون أبی عیسی الورّاق یجب أن یُعدّ حسناً ؛ لأنّه من الممدوحین الحُذّاق ، ومن المتکلّمین الأجلاّء ، وهو من طبقات من لم یرو .

وأمّا محمّد بن هارون الذی روی عن مولانا أبی محمّد العسکری علیه السلام ، ویروی عنه محمّد بن أحمد بن یحیی ، وأورده الحسن بن داود فی المجروحین (2) فضعیف ، وقد ذکره النجاشی فی ترجمة محمّد بن أحمد بن یحیی ، وعدّه فیمن کان محمّد بن الحسن بن الولید یستثنی من روایة محمّد بن أحمد بن یحیی ما رواه عنهم ، ویستثنیهم من رجال نوادر الحکمة . (3)

وهناک ثالث هو محمّد بن هارون بن عمران الهَمدانی صاحب حکایة الحوانیت (4) رواها رئیس المحدّثین بسنده عنه فی کتاب الحجّة فی باب مولد

ص :95

الصاحب علیه السلام ، (1) والصدوق أیضاً رواها بسنده عنه فی کتاب کمال الدین وتمام النعمة فی باب ذکر التوقیعات ، (2) وابنه الحسن بن محمّد بن هارون بن عمران وکیل .

ص :96

هذه رواها السکونی عن جعفر ، عن أبیه علیهماالسلام فی رجل أعتق أمةً وهی حبلی ، واستثنی ما فی بطنها ، قال : «الأمة حرّة ، وما فی بطنها حرّ ؛ لأنّ ما فی بطنها منها» . (1) ولا أعمل بما یختصّ به السکونی . لکنّ الشیخ رحمه اللّه یستعمل أحادیثه ، وثوقاً بما عرف من ثقته . (2)

و فی المسائل العزیّة أورد روایةَ : «الماءُ یُطهِّر ولایُطهَّر» . (3) ونقل قول الطاعن فیها : «الروایة ضعیفة ؛ فإنّ الراوی لها السکونی وهو عامّی ، ولو صحّت روایته لکانت منافیة لمسائلَ کثیرة اُتُّفق علیها ، فیجب اطّراحها أو تخصیصها» ، (4) ثمّ قال فی الجواب عنه بهذه العبارة :

قوله : الروایة مستندة إلی السکونی وهو عامّی . قلنا : هو وإن کان عامّیّاً فهو من ثقات الرواة . قال شیخنا أبوجعفر _ رحمه اللّه تعالی _ فی مواضع _ من کتبه : إنّ الإمامیّة مجمعة علی العمل بما یرویه السکونی وعمّار _ ومن ماثلهما من الثقات ، ولم یقدح بالمذهب فی الروایة مع اشتهار الصدق ، وکتب أصحابنا مملوءة من الفتاوی المستندة إلی نقله . (5)

وفی المعتبر أیضاً قال :

إنّ الشیخ ادّعی فی العدّة إجماع الإمامیّة علی العمل بروایة عمّار وروایة أمثاله ممّن عدّدهم . (6)

ومنهم السکونی ؛ ولذلک تراه فی المعتبر کثیراً مّایحتجّ بروایة السکونی ، (7) مع

ص :98

تبالغه فی الطعن فی الروایات بالضعف .

وتدلّ علی قبول خبر العدل الواحد _ وإن کان عامّیّاً _ صحیحةُ أبی بصیر عن الصادق علیه السلامفیمن لم یصم یوم ثلاثین من شعبان ، ثمّ قامت الشهادة علی رؤیة الهلال : «لاتقضه إلاّ أن یثبت شاهدان عدلان من جمیع أهل الصلاة» . (1)

وجه الدلالة أنّ شهادة عدلین فی باب الشهادة ، کإخبار عدلٍ واحد فی باب الروایة علی ما سیستبین لک إن شاء اللّه العزیز ، فإذا کانت شهادة عدلین من جمیع أهل الصلاة معتبرةً ، فکذلک تکون روایة عدل واحد معتبرةً منهم جمیعاً .

وبالجملة : ثمّ یبلغنی من أئمّة التوثیق والتوهین فی الرجال رمْیُ السکونی بالضعف ، وقد نقلوا إجماع الإمامیّة علی تصدیق ثقته والعمل بروایته ؛ فإذن مرویّاته لیست ضعافاً ، بل هی من الموثّقات المعمول بها ، والطعن فیها بالضعف من ضعف التمهّر ، وقصور التتبّع .

ص :99

الحسن بن الحسین بن بابویه قدّس اللّه روحه وأرواحَ سُلاّفه (1) وأسلافه _ فهرستُ علماء الشیعة الإمامیّة ومصنّفیهم (2) من عصر شیخ الطائفة أبی جعفر الطوسی إلی زمنه مستندٌ إلیه معتمد علیه ، أرویه بسندی عن شیخنا الشهید أبی عبد اللّه محمّد بن مکّی _ نوّر اللّه تعالی رمسه _ بسنده عنه .

ص :101

وساغ الطعن فی الطریق .

فأمّا «المجهول» و«المهمل» _ لابمعنی المصطلح علیه عند أرباب هذا الفنّ ، بل بالعرف العامّی أعنی المسکوت عن ذکره رأساً أو عن مدحه وذمّه _ فعلی المجتهد أن یتتبّع مظانَّ استعلام حاله من الطبقات والأسانید والمَشیخات والإجازات والأحادیث والسِیَر والتواریخ وکتب الأنساب (1) ومایجری مجراها ، فإن وقع إلیه مایصلح للتعویل علیه فذاک ، وإلاّ وجب تسریح الأمر إلی بقعة التوقّف ، وتسریح القول فیه إلی موقف السکوت عنه .

ومن غرائب عصرنا هذا أنّ القاصرین عن تعرّف القوانین والأُصول سُوَیعاتٍ من العمر یشتغلون بالتحصیل ، وذلک أیضاً لاعلی شرائط السلوک ، ولا من جوادّ السبیل ، ثمّ یتعدَّوْن الحدَّ ویتجرّؤون فی الدین ، فإذا تصفّحوا وُرَیقاتٍ قد استنسخوها ، وهم غیر متمهّرین فی سبیل علمها ومسلک معرفتها ، ولم یظفروا بالمقصود منها بزعمهم ، استحلّوا الطعن فی الأسانید ، والحکمَ علی الأحادیث بالضعف ، فتری کتبهم وفیها فی مقابلة سندٍ سندٍ علی الهامش : «ضعیفٌ ضعیف» وأکثرها غیر مطابق للواقع .

وبما أدریناک دریتَ فقه کلام شیخنا الشهید السعید فی الذکری فی أقلّ عدد تنعقد به الجمعة ، فقال :

الأظهر فی الفتوی أنّه خمسة أحدهم الإمام ، رواه زرارة عن الباقر علیه السلام ، (2) ورواه منصور فی الصحیح عن الصادق علیه السلام . (3)

ص :105

وروی محمّد بن مسلم عنه علیه السلام : «أنّه سبعة» . (1) ثمّ قال _ ناقلاً عن العلاّمة _ : وقال الفاضل رحمه اللّه فی المختلف : فی طریق روایة محمّد بن مسلم الحکمُ بن مسکین ولایحضرنی الآنَ حالُه ، فنحن نمنع صحّة السند ، ونعارضه بما تقدّم من الأخبار . ثمّ اعترض علیه ، فقال : الحَکَمُ ذکره الکشّی ولم یتعرّض له بذمّ ، والروایة مشهورة جدّاً بین الأصحاب ، لایطعن فیها کونُ الراوی مجهولاً عند بعض الناس . (2)

هذا ما قاله بألفاظه ، وصریح معناه أنّ الجهالة الطاعنة فی الروایة إنّما هی الجهالة المصطلحة ، وهی المحکوم بها من تلقاء أئمّة التوثیق والتوهین ، لاکونُ الراوی غیرَ معلوم الحال لکونه ممّن لاحکم علیه من تلقائهم بجرح ولاتعدیل .

ومن هناک قال بعض شهداء المتأخّرین فی شرح مقدّمته فی (3) الدرایة :

وقد کفانا السلف الصالح من العلماء بهذا الشأن مؤونةَ الجرح والتعدیل غالباً فی کتبهم التی صنّفوها فی الضعفاء ، کابن الغضائری ، أو فیهما معاً کالنجاشی ، والشیخ أبی جعفر الطوسی ، والسیّد جمال الدین أحمدَ بنِ طاوس ، والعلاّمة جمال الدین بن المطهّر ، والشیخ تقیّ الدین بن داود وغیرهم . (4)

ولکن ینبغی للماهر فی هذه الصناعة ومَن وهبه اللّه تعالی أحسنَ بضاعةٍ تدبُّرُ ما ذکروه ، ومراعاةُ ماقرّروه ؛ فلعلّه یظفر بکثیر ممّا أهملوه ، ویطّلع علی توجیهٍ فی المدح والقدح قد أغفلوه ، کما اطّلعنا علیه کثیراً ، ونبّهنا علیه فی مواضعَ کثیرةٍ ، ووضعناها علی کتب القوم ، خصوصاً مع تعارض الأخبار فی الجرح والتعدیل ؛ فإنّه وقع لکثیر من أکابر الرواة ، وقد أودعه الکشّی فی کتابه من غیر ترجیح ، وتکلّم مَن بعده فی ذلک ، واختلفوا فی ترجیح أیّهما علی الآخر اختلافاً کثیراً ، فلاینبغی لمن

ص :106

قدر علی البحث تقلیدُهم فی ذلک ، بل ینفق ما آتاه اللّه ، فلکلّ مجتهد نصیب .

قلت : قد علّمناک ضابطاً یفصّل بین ما یتعیّن فیه قبول قولهم ، ومایتعیّن فیه إنْفاق الرویّة وبذل الاجتهاد .

ثمّ إنّ ماتیسّر لنا بفضل اللّه سبحانه _ من الفحص والتحقیق والاستدراک علی السابقین فی مواضع الإهمال والإغفال ، ومواضع النظر فی الترجیح والتخریج والاستنباط والاستدلال _ أکثرُ من أن یُعدّ ، وأجلُّ من أن یحصی . والحمدللّه ربّ العالمین حقُّ حمده .

ص :107

الصادق علیه السلامالقاسم بن محمّد الجوهری من أصحاب الکاظم علیه السلام لقاءاً وروایةً ، ولم یلق أبا عبد اللّه علیه السلام اتّفاقاً ، فأورده فی أصحاب الکاظم علیه السلام ، علی أنّه من أصحاب اللقاء له والروایة عنه جمیعاً ، فقال : «القاسم بن محمّد الجوهری له کتاب ، قفی» . (1) وفی أصحاب الصادق علیه السلام علی أنّه من أصحابه لالقاءاً له وسماعاً منه ، بل روایةً بالإسناد عنه ، فقال :

القاسم بن محمّد الجوهری مولی تیم اللّه کوفی الأصل روی عن علیّ بن أبی حمزة وغیره ، له کتاب . (2)

وقال فی أصحاب الصادق علیه السلام فی باب «الغین» : «غیاث بن إبراهیم أبومحمّد التمیمی الأسدی أسند عنه ، وروی عن أبی الحسن علیه السلام» . (3)

قلت : وقال النجاشی فی ترجمته :

بصری ، سکن الکوفة ، ثقة ، روی عن أبی عبد اللّه وأبی الحسن علیهماالسلام ، له کتاب مبوّب فی الحلال والحرام یرویه جماعة . (4)

ولم ینقل فیه طعناً ، لابفساد العقیدة ، ولابغمیزة ما أصلاً . وکذلک فی الفهرست . (5)

فالذی یستبین أنّه غیر غیاث بن إبراهیم (6) الذی أورده فی کتاب الرجال فی أصحاب أبی جعفر الباقر علیه السلاموقال : «بُتْری» . (7)

وأیضاً فی أصحاب الصادق علیه السلام فی باب «العین» عبد اللّه بن مسکان . (8)

ص :109

وفی باب «الحاء» حریز بن عبد اللّه السجستانی مولی الأزد . (1)

وفی کتب الأحادیث فی مسانیدَ کثیرةٍ عن عبد اللّه بن مسکان ، عن أبی عبد اللّه علیه السلام ، وعن حریز بن عبد اللّه ، عن أبی عبد اللّه علیه السلام . مع أنّه قد ثبت وصحّ عن أئمّة الرجال :

أنّ حریز بن عبد اللّه لم یسمع من أبی عبد اللّه علیه السلامإلاّ حدیثاً أو حدیثین ، وکذلک عبد اللّه بن مسکان لم یسمع إلاّ حدیث : «من أدرک المشعر فقد أدرک الحجّ» . وهو قد کان من أروی أصحاب أبی عبداللّه علیه السلام _ قال أبو عمرو الکشّی _ وذلک ؛ لأنّ عبد اللّه بن مسکان کان رجلاً موسراً ، وکان یتلقّی أصحابه علیه السلام إذا قدموا ، فیأخذ ما عندهم . وزعم أبو النضر محمّد بن مسعود : أنّ ابن مسکان کان لایدخل علی أبی عبد اللّه علیه السلام شفقَة أن لایوفّیَه حقَّ إجلاله ، فکان یسمع من أصحابه ویأبی أن یدخل علیه إجلالاً وإعظاماً له علیه السلام . (2)

وهو ممّن [ ثبت ] إجماع العصابة علی تصحیح ما یصحّ عنهم ، وتصدیقهم لما یقولون ، والإقرار لهم بالفقه والعلم . وعنه یروی ابن أبی عمیر وصفوان بن یحیی وغیرهما من أجلاّء فقهاء أصحاب الحدیث وکبرائهم .

وبالجملة : قد أورد الشیخ فی أصحاب الصادق علیه السلام جماعة جمّة إنّما روایتهم عنه علیه السلامبالسماع من أصحابه الموثوق بهم ، والأخذِ من أُصولهم المعوّل علیها . ذَکَر کلاًّ منهم ، وقال : «أسند عنه» فمنهم من لم یلقه ولم یدرک عصره علیه السلام ، ومنهم من أدرکه ولقیه ولکن لم یسمع منه رأساً أو إلاّ شیئاً قلیلاً . واستقصاءُ ذلک طویل المسافة جدّاً ، فإن اشتهیت فعلیک بمراجعة کتاب الرجال وإحصاء ما فیه علی تدبّر وتدرّب وبصیرة .

وکذلک فی أصحاب الباقر علیه السلام عدّة من هذا القبیل ، وعلی هذا السبیل ، فإذن

ص :110

قد استبان من ذلک کلّه حقَّ الاستبانة الفرقُ هنالک بین أصحاب الروایة بالإسناد عنه ، وأصحابِ الروایة بالسماع منه ، وأصحابِ اللقاء من دون الروایة مطلقاً ، إلاّ أنّ ذلک المسلک فی کتاب الرجال یُبتدأُ من لدن أصحاب الباقر علیه السلام . فهذه راشحة جلیلة النفع ، عظیمة الجَدْوی فی هذا العلم ، فکن منها علی ذِکرَی عسی أن تستَجْدِیَها (1) فی مواضعَ عدیدةٍ .

ص :111

الرضا علیه السلام ، کان یصلّی کلّ یوم مائة وخمسین (1) رکعة ، ویصوم فی السنة ثلاثة أشهر ، ویخرج زکاة ماله کلّ سنة ثلاث مرّات ؛ لما قد سبق من التعاقد بینه وبین عبد اللّه بن جندب وعلیّ بن النعمان فی بیت اللّه الحرام وفاءاً لهما بذلک ، وکلّ شیء من البرّ والصلاح یفعله لنفسه کان یفعله عن صاحبیه . (2)

وقد قال أبو الحسن الرضا علیه السلام فیه :

ماذئبان ضاریان (3) فی غنم غاب عنها رعاؤها بأضرّ فی دین المسلم من حبّ الرءاسة ، لکن صفوان لایحبّ الرءاسة . (4)

«والرِعاء» _ بکسر الراء قبل العین المهملة وبالمدّ _ جمع راعٍ . (5) ومنه فی التنزیل الکریم : « حَتَّی یُصْدِرَ الرِّعَآءُ وَأَبُونَا شَیْخٌ کَبِیرٌ » . (6)

وأمّا الذی بمعنی صوت الإبل ، فهو بالضمّ وبالغین المعجمة . ومن العجیب الغریب وقوع بعض شهداء المتأخّرین هناک فی ذهول ثقیل ومساهاة کبیرة . (7)

وبالجملة : من الثابت المستبین أنّ صفوان بن یحیی _ رضوان اللّه تعالی علیه _ لیس یروی الحدیث عن أبی عبد اللّه علیه السلام إلاّ بسند صحیح ، وأنّ إسقاطه الواسطة أبلغ وأقوی فی التصحیح من توسیط واحد معیّن منصوص علیه بالتوثیق ، وإنّ ذلک من قبل صفوان بن یحیی کاد لایخرج الحدیث عن الصحّة الحقیقیّة إلی الصّحیّة ، فضلاً عن إخراجها عن دائرة الصحّة راساً .

ص :113

وفی خلاصة العلاّمة : «قال : خاصّة الخاصّة» . (1) کما فی کتاب الحسن بن داود . (2)

قلت : فاعلُ «قال» الثانی أیضاً ابن مسعود ، یعنی : أبو عمرو الکشّی قال : «قال ابن مسعود : حمدان بن أحمد من الخِصّیص» ثمّ أکّد ذلک وبیّنه فقال : «الخاصّ الخاصّ» . والسیّد جمال الدین أحمد بن طاوس رضی اللّه تعالی عنه فی کتابه نقل عن کتاب الکشّی من قولَیْ محمّد بن مسعود قولَه الأوّل ، مقتصراً علیه من دون ما قاله أخیراً فی التأکید والبیان . وهذه صورة خطّ ابن طاوس : «قال ابن مسعود : حمدان بن أحمد من الخِصّیص» .

وإذ قد وضح الأمر حقَّ الوضوح ، فلیُتعجّب ممّا قد وقع فیه بعض شهداء المتأخّرین حیث قال _ فیما وضعه علی الخلاصة _ :

قوله : «خاصّة الخاصّة» یشعر بکون قوله : «حمدان من الخِصّیص» استفهاماً ، وأنّ الآخَر جوابه ، وحینئذٍ فالمجیب مجهول ، فلا دلالة فیه علی مایوجب الترجیح . (3)

أشدَّ التعجّب ؛ ولیُستغرب ذلک من الذاهن الذَهِن والفاطن الفَطِن غایةَ الاستغراب .

ثمّ إنّ الشیخ أیضاً رحمه اللّه تعالی قال فی الاستبصار فی باب عدد التکبیرات علی المیّت : «محمّد بن أحمد الکوفی حمدان ثقة» . (4)

فأمّا ما قال النجاشی فی کتابه : «محمّد بن أحمد بن خاقان النهدی أبو جعفر القلانسی المعروف بحمدان ، کوفی مضطرب» ، (5) فلیس ممّا یوجب الضعف ولاالطعنَ ، مع شهادة العیّاشی والکشّی له بالفقه و الثقة والخیّریّة ، وبأنّه من

ص :117

الخِصّیص ، ومن خاصّ الخاصّ ، وحُکمِ الشیخ له بالثقة ، ولا هو بمدافع للإجماع المنقول ؛ إذ مقتضی ذلک الإجماعِ أنّه لایرسل ، ولا یسوِّغ القطع والإسقاط إلاّ مع کون الواسطة ثقةً صحیحَ الحدیث ، لا أنّه لا یروی الاّ عن ثقة .

ومعنی الاضطراب هناک کونه مضطربَ الحدیث ، أکثریَّ الروایة عن الضعفاء ، وذلک لیس ینافی کون الإرسال منه أبدا بإسقاط الواسطة الثقة لا غیر ، لاأنّه مضطرب المذهب ، کیف؟ وهو من الخِصّیص و خاصّ الخاصّ بشهادة مَن حُکمه القطبُ ، وقوله المدار . علی أنّ فساد المذهب لایثلم فی الإجماع المذکور فضلاً عن الاضطراب فیه ، لکن کتاب الکشّی ساذج ، ولسانه ساکت عن ادّعاء هذا الإجماع إلاّ أن یقال : إنّ المعهود من سیرته والمأثور من سنّته (1) أنّه لایُطلِق القول بالفقه والثقة والخیّریّة والعدِّ من خاصّ الخاصّ ، إلاّ فیمن یحکم بتصحیح ما یصحّ عنه ، وینقل علی ذلک الإجماعَ ؛ فلذلک نسب الحسن بن داود هذا الادّعاء إلیه .

أو یقال : لعلّ ابن داود یکون قد ظفر بهذا الادّعاء فی أصل الکتاب الذی هو کتاب أبی عمرو الکشّی فی معرفة الرجال ، والشیخ رحمه اللّه تعالی لم یورده فی اختیاره الذی هو المعروف فی هذا الزمان من کتاب الکشّی .

ص :118

«بَنْدَفَرُّ» البَند _ بفتح الباء الموحّدة ، وتسکین النون ، والدال المهملة أخیرا _ العَلَمُ الکبیر جمعه بُنُود .

وهو فرّ القوم _ بفتح الفاء وتشدید الراء _ وفُرَّتهم _ بضمّ الفاء _ وعلی قول صاحب القاموس «کلاهما بالضمّ» ، (1) والحقّ الأوّل أی من خیارهم ووجههم الذی یفترّون عنه أی یتحادثون ویتشافهون ویستکثرون من کشف أسنانهم بالحدیث عنه والبحث عن أُموره .

ویقال له أیضا : «بَنْدَوَیْهِ» . وربما یقال : ابن «بندویه» بانضمام «ویهِ» إلی «بند» ، کبابَوَیْهِ ونَفْطَوَیْهِ .

قال فی الصحاح :

إذا تعجّبتَ من طِیب الشیء ، قلتَ : واها له ما أطْیَبَه! وإذا أغریته بالشیء ، قلت : ویها یا فلان ، و«وَیْهِ» کلمة تقال فی الاستحثاث .

وأمّا «سِیبَوَیْهِ» ونحوه من الأسماء فهو اسم بُنی مع صوت ، فجعلا اسما واحدا ، وتثنیته سیبویهان ، وجمعه سیبویهون . (2)

وقال فی القاموس : «البند العلم الکبیر ومحمّد بن بِنْدُویَةَ من المحدّثین» . (3)

فهذا الرجل شیخ کبیر فاضل جلیل القدر ، معروف الأمر ، دائر الذکر بین أصحابنا الأقدمین رضوان اللّه تعالی علیهم ، فی طبقاتهم وأسانیدهم وإجازاتهم .

والشیخ رحمه اللّه تعالی ذکره فی کتاب الرجال فی باب «لم» ، فقال :

محمّد بن إسماعیل یکنّی أبا الحسین (4) نیسابوری یدعی بَنْدَفَرَّ . ومکّی بن علیّ بن سختویه فاضل . (5)

ص :120

ونقل عنه فی الفهرست فی ترجمة أبی یحیی الجرجانی أحمد بن داود بن سعید الفزاری ، فقال :

وذکر محمّد بن إسماعیل النیسابوری أنّه هجم علیه محمّد بن طاهر ، وأمر بقطع لسانه ویدیه ورجلیه ، وبضرب ألف سوط ، وبصلبه ؛ لسعایةٍ کان سُعی بها إلیه معروفةٍ ، سعی بها محمّد بن یحیی الرازی وابن البغوی وإبراهیم بن صالح ؛ لحَدیث روی محمّد بن یحیی لعمر بن الخطّاب ، فقال أبو یحیی : لیس هو عمرَ بن الخطّاب وإنّما هو عمر بن شاکر ، فجمع الفقهاء ، فشهد مسلم أنّه علی ما قال : هو عمر بن شاکر ، وأنکر ذلک أبو عبد اللّه المروزی ، وکتمه بسبب محمّد بن یحیی منه ، وکان أبو یحیی قال : هما یشهدان لی فلمّا شهد مسلم قال : غیر (1) هذا شاهدٌ إن لم یشهد ؟ فشهد بعد ذلک المجلس عنده رجل علمه . (2)

وبالجملة : طریق أبی جعفر الکلینی ، وأبی عمرو الکشّی ، وغیرهما من رؤساء الأصحاب وقدمائهم إلی أبی محمّد الفضل بن شاذان النیسابوری من النیسابوریّین الفاضلین تلمیذَیْه وصاحبَیْه أبی الحسین (3)

محمّد بن إسماعیل بَنْدَفَرَّ ، وأبی الحسن علیّ بن محمّد القتیبی ، وحالهما وجلالة أمرهما عند المتمهّر الماهر فی هذا الفنّ أعرفُ من أن یوضَح وأجلُّ من أن یُبیَّن ، إلاّ أنّ أبا الحسن علیّ بن محمّد بن قتیبة کما تُکثر الروایة عن شیخه الفضل بن شاذان ، فکثیرا مّا یکون روایته عن عدّة من الثقات غیره أیضا . وأمّا أبو الحسین محمّد بن إسماعیل فقلّما توجد له روایة عن غیر أبی محمّد الفضل بن شاذان النیسابوری .

وربّما یبلغنی من بعض أهل العصر أنّه یذکر أبا الحسین فیقول : «محمّد بن

ص :121

إسماعیل البُنْدُقی النیسابوری» . وآخرون أیضا یحتذون مثالَه .

وإنّی لستُ اُراه (1) مأخوذا عن دلیل معوّل علیه ، ولا أری له وجها إلی سبیل مرکون إلیه ؛ فإنّ بندقةَ _ بالنون الساکنة بین الباء الموحّدة ، والدال المهملة المضمومتین قبل القاف _ أبو قبیلة من الیمن ، ولم یقع إلیّ فی کلام أحد من الصدر السالف من أصحاب الفنّ أنّ محمّد بن إسماعیل النیسابوری کان من تلک القبیلة ، غیر أنّی وجدت فی نسخة وقعت إلیّ من کتاب الکشّی فی ترجمة الفضل بن شاذان حکایة عنه بهذه الألفاظ :

ذکر أبوالحسین (2) محمّد بن إسماعیل البندقی النیسابوری : أنّ الفضل بن شاذان بن الخلیل نفاه عبد اللّه بن طاهر عن نیسابور ، بعد أن دعا به ، واستعلم کتبه فذکر : أنّه یحبّ أن یقف علی قوله فی السلف ، فقال أبو محمّد : أتولّی أبابکر وأتبرّأ من عمر ، فقال له : ولِمَ تتبرّأ من عمر؟ فقال : لإخراجه العبّاس من الشوری ، فتخلّص منه بذلک . (3)

وظنّی أنّ فی الکتاب : البَنْدَفَرَّ _ بالفاء والراء المشدّدة _ کما فی کتاب الرجال للشیخ (4) وسائر الکتب ، و«القاف» و«الیاء» تصحیف وتحریف من عمل الناسخ ، فبعض الآخذین فی هذه الصناعة علی غیر حذاقة وتمهّرٍ بنی علی هذا التصحیف والتحریف .

وقال الکشّی أیضا فی ترجمة أبی یحیی الجرجانی :

کان من أجلّة أصحاب الحدیث ، ورزقه اللّه هذا الأمرَ ، وصنّف فی الردّ علی أصحاب الحشو مصنّفاتٍ کثیرةً ، وألّف من فنون الاحتجاجات کتبا مِلاحا . وذکر محمّد بن إسماعیل أنّه هجم علیه محمّد بن طاهر ، فأمر بقطع لسانه ویدیه ورجلیه ،

ص :122

وبضرب ألف سوط وبصلبه _ فساق الحکایة علی ما نقلناها عن الفهرست إلی حیث قال _ : فشهد مسلم وعرف أبو عبد اللّه البزوفری ، ولکن کتمه بسبب محمّد بن یحیی ، وکان أبو یحیی قال : هما یشهدان لی فلمّا شهد مسلم قال : غیر هذا شاهدٌ إن لم یشهد ، فشهد بعد ذلک المجلس عنده وخلّی عنه ولم یصبه ببلیّة _ ثمّ قال الکشّی _ : وسنذکر بعض مصنّفاته ، فإنّها مِلاح _ فقال الشیخ هناک _ : ذکرناها نحن فی کتاب الفهرست ، فنقلناها (1) فی کتابه . (2)

ومن التصحیفات المعنویّة ما قد وقع للحسن بن داود (3) فی هذا المقام ؛ إذ نظر فی باب «لم» من کتاب الرجال وما نقلنا عنه من قول الشیخ ، فغفل عن «الواو» بعد قوله : یدعی بَنْدَفَرَّ فظنّ «مکّی بن علیّ بن سختویه فاضل» ، (4) ترجمةً أُخری منفصلة عن ترجمة محمّد بن إسماعیل ، و«فاضلٌ» (5) متعلّقا بمکّی بن علیّ ، لا بمحمّد (6) بن إسماعیل .

وله فیه تصحیف لفظی أیضا ؛ إذ بدّل «السین» المهملة ب «الشین» المعجمة ، فتبعه علی تصحیفه القاصرون من بعده .

ثمّ لیعلم أنّ طریق الحدیث بمحمّد بن إسماعیل النیسابوری هذا صحیح لاحسن ، کما قد وقع فی بعض الظنون .

ولقد وصف العلاّمة وغیره من أعاظم الأصحاب أحادیثَ کثیرةً هو فی طریقها بالصحّة .

ص :123

وکذلک شقیقه (1) علیّ بن محمّد بن قُتَیبة النیسابوری أیضا صحیح لاحسن .

وللأوهام التائهة _ الذاهبة هناک إلی محمّد بن إسماعیل البرمکی صاحب الصومعة ، أو محمّد بن إسماعیل بن بزیع أو غیرهما من المحمّدین بَنِی إسماعیل باشتراک الاسم ، وهم اثنا عشر رجلاً _ احتجاجاتٌ عجیبة ، ومحاجّات غریبة لولا خوف إضاعة الوقت وإشاعة اللغو لاشتغلنا بنقلها وتوهینها ، وعسی أن نُعید القول فی هذا الباب حیث یحین حینُه إن شاء اللّه تعالی .

ص :124

وأمّا «الشیخة» _ بفتح الشین وسکون الیاء _ فکلمة تأنیث للمرأة ک «الشیخ» للرجل کما «العَوْد» للمُسِنِّ من الإبل ، و«العَودَة» للناقة المُسِنّة .

وکذلک «الشیخان» _ بالکسر _ جمع «شیخ» ، و«شَیخانِ» _ بالفتح _ اسم موضع . قال ابن الأثیر فی نهایته :

فیه _ أی فی الحدیث _ ذِکرُ : «شِیخانِ [ قریشٍ ] » جَمع شَیخ ، کضَیفٍ وضیفان . وفی حدیث أُحد ذکرُ «شَیخانِ» _ بفَتح الشین] وکسر النون ] _ : موضع بالمدینة عَسْکَرَ به رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم لیلة خرج إلی أُحد وبه عَرَض الناسَ . (1)

قلت : فأمّا صاحب القاموس فکأنّه قد أخطأ فیما قال : «شیخانُ : لقب مصعب بن عبد اللّه المحدّث ، وموضع بالمدینة معسکره صلی الله علیه و آله یوم أُحد» ؛ (2) فإنّ الموضع «شَیخانِ» بتسکین الیاء بعد الشین المفتوحة ، واللقبَ «شَیَّخانُ» بتشدیدها مفتوحةً ، وهو فَیْعَلان من شاخ یشیخ کما «تَیَّهان» أیضا _ بتشدید الیاء وفتحها بعد التاء المفتوحة _ فیعلان من تاه یتیه ، معناه الجَسور . (3)

قال فی المغرب : «و به سمّی والد أبی الهیثم مالک بن التَیَّهان ، وهو من الصحابة . (4)

وکما «ابن الهیّبان» _ بفتح الهاء والیاء المشدّدة _ فیعلان من الهیبة والخوف .

واعلمنْ أنّ أبا عمرو محمّدَ بن عمر بن عبد العزیز الکشّی _ شیخَنا المتقدّمَ الثقة الثَبَت العالم البصیر بالرجال والأخبار ، صاحبَ أبی النضر محمّد بن مسعود العیّاشی السُلَمی السمرقندی _ وکثیرا من وجوه شیوخنا وعلمائنا کانوا من «کشّ» البلدِ المعروف علی مراحلَ من سمرقند .

ص :126

قال الفاضل البارع المهندس البرجندی فی کتابه (1) المعمول فی مساحة الأرض وبُلدان الأقالیم :

«کَشُّ» _ بفتح الکاف وتشدید الشین المعجمة _ من بلاد ماوراء النهر بلد عظیم ثلاثة فراسخَ فی ثلاثة فراسخَ والنسبة إلیه کَشّیٌّ» .

وأمّا ما فی القاموس : «الکُشّ _ بالضمّ _ الذی یُلقَح به النخل ، وکَشّ _ بالفتح _ قریة بجرجانَ» . (2) فعلی تقدیر الصحّة فلیست هذه النسبة إلیها ، ولا فی المعروفین من العلماء من یُعدّ من أهلها .

و«کُشانیة» _ بکاف مضمومة ، وشینٍ معجمة مخفّفة بعدها ألف ، ونونٍ مکسورة بعدها مخفّفة مثنّاة من تحتُ ثمّ هاءٍ _ بلدة بنواحی سمرقند ، منها زمرة من أهل العلم ، والنسبة إلیها «کُشانیّ» بضمّ الکاف وتخفیف الشین .

واعلمنْ أنّ أبا العبّاس النجاشی _ شیخَنا الثقةَ الفاضلَ الجلیلَ القدر ، السند المعتمد علیه ، المعروف ، صاحبَ کتاب الرجال _ أحمدُ بنُ علیّ بن أحمدِ بنِ العبّاس بن محمّد بن عبد اللّه بن إبراهیم بن محمّد بن عبد اللّه بن النجاشی الذی وُلِّی الأهوازَ ، وکتب إلی مولانا أبی عبد اللّه علیه السلام یسأله ، (3) وکتب مولانا علیه السلام إلیه رسالةَ عبد اللّه بن النجاشی المعروفة ، (4) ولم یُرَ لأبی عبد اللّه علیه السلام مُصَنَّف غیرها .

«النَّجَش» _ بفتحتین وبالسکون أیضا _ أن تستام (5) السلعة بأزیدَ منها ، وأنت لاترید شراءها ؛ لیراک الآخَرُ فیقعَ فیه . وکذلک فی النکاح وغیره ، وأصله من «نَجْش

ص :127

الصید» وهو إثارته . (1)

والصواب : «النجاشی» بتخفیف الجیم والیاء جمیعا .

قال فی المغرب : «والنجاشی مَلِک الحبشة بتخفیف الیاء (2) سماعا من الثقات» . (3) وهو اختیار الفارابی . (4)

وعن صاحب التکملة : «بالتشدید» . (5) وعن الغوری : «کلتا اللغتین ، وأمّا تشدید الجیم فخطأ _ ثمّ قال _ : واسمه أصحمة ، والسین تصحیف» . (6)

وقال صاحب القاموس : «اَصْحَمَةُ بن بحر ملک الحبشة» . (7)

النجاشی أسلم علی عهد النبیّ صلی الله علیه و آله .

وفی النهایة الأثیریّة : «وفیه ذِکرُ النجاشی فی غیر موضع ، وهو اسم ملک الحبشة وغیره ، والیاء مشدّدة ، وقیل : الصواب تخفیفها» . (8)

وفی القاموس : «وتخفیفها أسرع ، وتُکسر نونها وهو أفصح» . (9)

ص :128

فی بعض فصول الباب العاشر بهذه الألفاظ .

وفی کتاب أبی عبد اللّه بن عیّاش : (1)

حدّثنی أحمد بن یحیی ، قال : حدّثنا سعد بن عبد اللّه ، قال : حدّثنی محمّد بن أحمد بن محمّد العلوی العُریضی ، قال : حدّثنی أبو هاشم داود بن قاسم الجعفری ، قال : سمعت أبا الحسن صاحب العسکر علیه السلامیقول : «الخلف بعدی ابنی الحسن ، فکیف لکم بالخلف بعد الخلف؟» قلت : لم ، جعلت فداک؟ قال : «لأنّکم لاترون شخصه ، ولایحلّ لکم تسمیته ولاذکره باسمه» . قلت : کیف نذکره؟ قال : «قولوا : الحجّة من آل محمّد علیه السلام» . (2)

ومن القاصرین من أحداث هذا العصر _ ممّن لیس علی بضاعة المحصّلین _ مَن لم یعرف الرجل فحار فی أمره وذهب وهمه فی تعیینه إلی ماتضحک منه الثکلی وتسخر منه العجماء .

ثمّ هذا الحدیث من أحادیث النهی عن تسمیة القائم علیه السلام . ورواه الصدوق فی

ص :130

کتاب کمال الدین وتمام النعمة فی الصحیح عن محمّد بن أحمد العلوی ، عن أبی هاشم الجعفری قال : «سمعت أبا الحسن العسکری علیه السلام» . (1) الحدیث . وکذلک رواه شیخنا المفید فی إرشاده ، (2) ورئیس المحدّثین فی کتابه الکافی هذا فی کتاب الحجّة فی باب : «فی النهی عن الاسم» . (3)

وروایات هذا الباب فی کتب الأصحاب کثیرة ، صحاح وحسان وموثّقات وقویّات . قد أحصینا قسطاً صالحاً منها فی کتاب شرعة التسمیة فی زمان الغیبة .

ص :131

الراشحة الثانیة والعشرون

[ فی ترجمة الأعمش الکوفی ]

الأعمش الکوفی المشهور ، ذکره الشیخ فی کتاب الرجال فی أصحاب الصادق علیه السلام (1) وهو أبو محمّد سلیمان بن مهران الأزْدی مولاهم ، معروف بالفضل والثقة والجلالة والتشیّع والاستقامة . والعامّة أیضاً مُثْنوُن علیه ، مطبقون علی فضله وثقته ، مقرّون بجلالته مع اعترافهم بتشیّعه .

ومن العجب (2) أنّ أکثر (3) أرباب الرجال قد تطابقوا علی الإغفال عن أمره ولقد کان حَریّاً بالذکر والثناء علیه ؛ لاستقامته وثقته وفضله ، والاتّفاق علی علوّ قدره وعِظَم منزلته . له ألف وثلاثمائة حدیث . مات سنة ثمان وأربعین ومائة عن ثمان وثمانین سنة .

واعلم : أنّ فی طریق رئیس المحدّثین فی الکافی کثیراً عن هشام بن الحکم ، (4) وفی طریق الصدوق عروة الإسلام أبی جعفر بن بابویه فی الفقیه فی سند بلال المؤذّن : عبّاس بن عمرو الفقیمی ، (5) وهو فی کتب الرجال مسکوت عن ذکره ؛ إذ لم یکن یثبت له کتاب .

ص :132

وأمّا ابن البغوی وإبراهیم بن صالح الداخلان فی تلک السعایة فعامّیّان اتّفاقاً ؛ وذلک لأنّ أبا عبد اللّه العامّیَّ من أصحاب کتب الحدیث المعتمدة عندهم هو أبو عبد اللّه النیسابوری . والطیّبی قال فی شرح مشکاة المصابیح ، (1) وفی خلاصته فی معرفة الحدیث :

إنّه مات بنیشابور فی صفر سنة خمس وأربعمائة ، وولد بها فی شهر ربیع الأوّل سنة إحدی وعشرین وثلاثمائة . وکان قد مات مسلم بنیشابور لخمس بقین من رجب سنة إحدی و ستّین ومأتین وهو ابن خمس وستّین . (2)

فهو ممّن لم یدرک عصر مسلم ، فکیف یصحّ اجتماعه مع مسلم فی ذلک المجلس ؟! بل الذی عاصره وقاطنه بنیسابور من أئمّة أصحاب الحدیث هو أبو عبد اللّه البزوفریّ الخاصّیّ هذا ، فلیکن هو صاحبَ ذلک المجلس .

فإن قلت : فإذن کتمانه الشهادة لأبی یحیی الجرجانیّ ممّا یوجب القدح فیه .

قلت : مدلول کلام الکشّی أنّ أبا عبد اللّه البزوفریّ هو الذی شهد لأبی یحیی الجرجانی بما قاله بعد ذلک المجلس ، فخلّی محمّد بن طاهر عنه ولم یصبه بأذیّة ، فلعلّ الکتمان أوّلاً فی ذلک المجلس لغرض صحیح وسبب شرعیّ ، فإذن لاقدح فیه أصلاً . وأمّا ما یفهم من الفهرست أنّ الشاهد أخیراً رجل آخر ، فلیس بصحیح . واللّه سبحانه أعلم .

ص :134

وهی مفاعلة من السعی ، کأنّها تسعی ذاهبةً عنه ، وهو یسعی مُجدّاً فی طلبها ، فکلّ منهما یطلب الغلبة فی السعی . وفی حدیث ابن عبّاس : «الساعی لغیر رَشْدَةٍ» . أی الذی یسعی بصاحبه إلی السلطان لیُؤْذِیَهُ ، یقول : لیس هو ثابتَ النسب ولا ولدَ حلالٍ . ومنه حدیث کعبٍ : «الساعی مُثَلِّثٌ» . أی یُهلک بسعایته ثلاثةَ نفر : السلطانَ ، والمَسْعِیَّ به ، ونفسَه . (1)

انتهی کلامه بألفاظه .

قلت : وقوله : «لغیر رَشدة» بفتح الراء وکسرها قبل الشین المعجمة الساکنة ثمّ الدال المهملة المفتوحة والتاء أخیراً .

قال فی النهایة فی باب الراء مع الشین :

یقال : هذا ولد رشدة إذا کان لنکاح صحیح ، کما یقال فی ضدّه : ولد زِنْیَة بالکسر فیهما . وقال الأزهریّ : المعروف فلان ابن زَنْیة وابن رَشْدة . وقیل : زِنیةٍ ورِشْدةٍ . والفتح أفصح اللغتین . (2)

وفی مُغْرب المطرّزی : «هو ولد زنیة ولزنیة بالفتح والکسر ، وخلافه ولد رشدة ولرشدة» . (3) وکذلک یقال مکان زنیة : ولد غَِیّة ولغَِیّة _ بفتح الغین المعجمة وکسرها ، وتشدید المثنّاة من تحتُ مفتوحةً ، والتاءِ أخیراً _ إذ الغیّ خلاف الرشد علی ما فی نصّ التنزیل الکریم . (4)

قال فی الصحاح : «یقال فلان لغیّة ، وهو نقیض قولک : لرَشْدةٍ» . (5) وقال فی القاموس : «ولدغَیّة وتکسر أی زنیة» . (6)

ومنه فی الحدیث من طرق العامّة والخاصّة وقد أخرجناه فی کتاب شرح التقدمة

ص :136

وهو شرح تقدمة کتابنا تقویم الإیمان عن جابر بن عبد اللّه الأنصاری _ رضی اللّه تعالی عنه _ قال ، قال رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم : «بوروا أولادکم بحبّ علیّ بن أبی طالب ، فمن أحبّه فاعلموا أنّه لِرَشدةٍ ، ومن أبغضه فاعلموا أنّه لغیّة» . (1)

وعن عُبادة قال : «کنّا نبور أولادنا بحبّ علیّ بن أبی طالب علیه السلام ، فإذا رأینا أحدهم لایُحبّه علمنا أنّه لغیر رشدة» . (2)

وفی الحدیث الخاصّی من طریق رئیس المحدّثین بإسناده عن أبانِ بنِ أبی عیّاش ، عن سلیم بن قیس ، عن أمیر المؤمنین علیّ علیه السلامقال ، قال رسول اللّه صلی الله علیه و آله : «إنّ اللّه حرّم الجنّة علی کلّ فحّاش بَذِیٍّ قلیل الحیاء لایبالی بما قال ولا بما قیل له ، فإنّک إن فتّشته لم تجده إلاّ لِغَیّةٍ أو شرک شیطانٍ» . (3) الحدیث

ومن أعاجیب الأغالیط وتَعاجیب التوهّمات مایقرع السمعَ هناک من حسبان (4) اللام أصلیّةً ، وتَحامُلِ أن تکون الکلمة بضمّ اللام وإسکان الغین المعجمة وفتح الیاء المثنّاة من تحتُ ، أی ملغی . أو أن تکون بالعین المهملة المفتوحة أو الساکنة والنون ، أی مَنْ دأبه أن یلعن الناس أو یلعنوه .

ثمّ من هذا الباب فی التصحیف أنّ الشیخ فی کتاب الرجال قال فی ترجمة أبی عبد اللّه أحمد بن محمّد بن عیّاش : «کثیر الروایة إلاّ أنّه أخْبَلَ فی آخر عمره» . (5) علی بناء الإفعال من الخبال ، بالخاء المعجمة المفتوحة والباء الموحّدة . وهمزةُ القطع للصیرورة ، یعنی صارذا خبال ، أی ذا فساد فی عقله أو فی روایته .

و«الخبال» فی الأصل بمعنی الفساد . وأکثر ما یستعمل فی العقول والحواسّ

ص :137

والأبدان والأعضاء ، وفی التنزیل الکریم « لاَ یَأْلُونَکُمْ خَبَالاً » (1) فجماهیر المصحّفین من ضعف التحصیل وقلّة البضاعة بدّلوه إلی «اختلّ» بالتاء المثنّاة من فوقُ وتشدید اللام من الاختلال .

واعلم : أنّ بین الظفر بالمطلوب بمعنی الفوز به ، وبین الظفر علی الخصم بمعنی الغلبة علیه فُرقاناً عند أرباب التحقیق فی علوم اللسان ، فإذا کنت لاتجد بعض السند فی کتب الرجال فقل : «لم أظفر به فیها» ولاتقل : «لم أظفر علیه» کما ربّما یقول من لیس له درجة الخوض فی مداقّ الأُمور .

ص :138

وقال الجوهری فی الصحاح فی باب القاف : «الخِرباق اسم رجل من الصحابة یقال له : ذوالیدین» . (1) وفی باب الواو والیاء : «ذوالیدین رجل من الصحابة . یقال : سمّی بذلک ؛ لأنّه کان یعمل بیدیه جمیعاً ، وهو الذی قال للنبیّ صلی الله علیه و آله : «اَقُصِرت الصلاة أم نسیتَ؟» (2)

وفی القاموس فی الباب الأوّل : «خرباق : کِسْربالٍ ، . . . [و ]اسم ذی الیدین الصحابیّ فی قول» . (3) وفی الباب الأخیر : «ذوالیدین ، خرباق السُلَمِی الصحابیّ» . (4)

وفی بعض شروح صحیح مسلم : «قیل : فی یده طول أی سَعَة وسخاوة» .

وقال بعضهم : «قیل له : ذوالیدین ؛ لأنّه هاجر هجرتین» .

وقال النووی فی کتاب الأذکار :

ذوالیدین ، واسمه الخِرباق _ بکسر الخاء المعجمة وبالباء الموحّدة وآخره قاف _ کان فی یدیه طول . ثبت فی الصحیح أنّ رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلمکان یدعوه : ذا الیدین . رواه البخاری بهذا اللفظ فی أوائل کتاب البرّ والصلة . (5)

وشیخنا الصدوق عروة الإسلام أبو جعفر بن بابویه فی کتاب من لایحضره فقیه روی فی باب أحکام السهو فی الصلاة حدیث سهو النبیّ صلی الله علیه و آله عن سعید الأعرج . قال : سمعت أبا عبداللّه علیه السلام یقول :

إنّ اللّه تبارک وتعالی أنام رسوله علیه السلام عن صلاة الفجر حتّی طلعت الشمس ، ثمّ قام فبدأ فصلّی الرکعتین اللتین قبل الفجر ، ثمّ صلّی الفجر ، وأسهاه فی صلاته فسلّم فی رکعتین . ثمّ وصف ما قاله ذوالشمالین . وإنّما فعل ذلک به رحمةً لهذه الأُمّة . الحدیث .

قال : ویقول الدافعون لسهو النبیّ علیه السلام : إنّه لم یکن فی الصحابة من یقال له : ذوالیدین ،

ص :140

وإنّه لاأصل للرجل ولا للخبر ، وکذبوا ؛ لأنّ الرجل معروف وهو أبو محمّد عمیر بن عبد عمرو المعروف بذی الیدین ، فقد نقل عنه المخالف والموافق . (1)

قلت : ذوالشمالین صحابی معروف اسمه عمیر بن عبد عمرو . وذکره أیضاً صاحب القاموس (2) وغیره .

ولکن ذوالیدین واسمه الخرباق أعرف منه عند الکلّ ، وما وصل إلینا عن المخالف والموافق فی روایته هذا الحدیثَ ، إنّما الأمر فیه مَعْزِیٌّ إلی الملقّب بذی الیدین الذی اسمه خرباق . ففی کتابی مصابیح البغوی ، (3) ومشکاة الطیّبیّ :

من المتّفق علی روایته فی صحیحی البخاری ومسلم عن أبی هریرة قال : صلّی بنا رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلمصلاة العصر ، فسلّم فی رکعتین ، فقام إلی خشبةٍ معروضة فی المسجد فاتّکأ علیه کأنّه غضبان ، ووضع یده الیمنی علی الیسری ، وشبّک بین أصابعه ، ووضع خدّه الأیمن علی ظهر کفّه الیسری ، وفی القوم أبوبکر وعمر فهاباه أن یکلّماه ، وفی القوم رجل فی یدیه طول یقال له : ذوالیدین ، قال : یا رسول اللّه ، أقُصِرَتِ الصلاة أم نسیتَ؟ فقال : «کلّ ذلک لم یکن» ، فقال : قد کان بعض ذلک ، فأقبل علی الناس فقال : «أکما یقول ذوالیدین؟» . قالوا : نعم ، فتقدّم فصلّی ما ترک [ثمّ سلّم] ثمّ کبّر وسجد مثل سجوده أو أطولَ ، ثمّ رفع رأسه وکبّر ، ثمّ کبّر وسجد مثل سجوده أو أطول ، ثمّ رفع رأسه وکبّر ، فربّما سألوه ثمّ سلّم ، فیقول : «نُبِّئْتُ أنّ عمران بن حُصَین قال : ثمّ سلّم» . (4)

ومن المختصّ بروایته مسلم فی صحیحه عن عمران بن حُصَین : أنّ رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلمصلّی العصر ، وسلّم فی ثلاث رَکعات ، ثمّ دخل منزله فقام إلیه رجل یقال له : الخِرباق ، وکان فی یدیه طول ، فقال : یا رسول اللّه ، فذکر له صنیعَه ، فخرج غضبان

ص :141

یجرّ رداءه حتّی انتهی إلی الناس فقال : «أصدق هذا؟» . قالوا : نعم ، فصلّی رکعة ، ثمّ سلّم ، ثمّ سجد سجدتین ، ثمّ سلّم . (1)

وکذلک أیضاً رواه من رواه من أصحابنا مَعْزِیّاً إلی ذی الیدین وهو الخِرباق ، لا إلی ذی الشمالین وهو عمیربن عبد عمرو . (2)

وبالجملة : ذلک هو الأصحّ الأصوب ، سواء کان الاسمان واللقبان لرجلین _ کما هو ظاهر أکثر البصراء الناقدین _ أو لرجل واحدٍ کما یدلّ علیه کلام بعضٍ .

ولیعلم أنّ حکم المیزان العقلیّ والبرهان الحِکْمی وجوب عصمة النبیّ صلی الله علیه و آلهالسّانِّ للسنّة الإلهیّة عن السهو فیما یتعلّق بأُمور الدین وأحکام الشرع ، ولذلک شریکنا السالف فی رئاسة فلاسفة الإسلام قال فی ثامن اُولی إلهیّات الشفاء :

إنّ من الفضلاء من یرمز برموز ویقول ألفاظاً ظاهرةً مستشنعةً أو خطأ وله فیها غرض خفیّ ، بل أکثر الحکماء بل الأنبیاء _ الذین لایؤتون من جِهة غلطاً أو سهواً _ هذه وُتَیرتهم . (3)

فهذا مذهب أصحابنا ، أعنی أعیان الفرقة الناجیة الإمامیّة رضوان اللّه علیهم .

ومسلک الصدوق _ فی قوله : «وکان شیخنا محمّدبن الحسن بن أحمد بن (4) الولید یقول : أوّل درجةٍ فی الغلوّ نفی السهو عن النبیّ» (5) _ بعیدٌ عن مسیر الصحّة . بل الصحیح عندی علی مشرب العقل ومذهب البرهان أنّ أوّل درجة فی إنکار حق النبوّة إسناد السهو إلی النبیّ فیما هو نبیّ فیه. ولا مُغالاة فی إثبات العصمة فیما لتبلیغه وتکمیله البعثةُ؛ إذ هذه الملکة لنفس النبیّ إنّما هی بإذن اللّه وعصمته وفضله ورحمته

ص :142

وتأییده وتسدیده . وتمام تحقیق الأمر هناک علی ذمّة حیّزه الطبیعیّ من کتابنا تقویم الإیمان.

فإذن ما تضمّنته الروایة عنه صلی الله علیه و آله إنّما کان من باب تشریع السنّة وتعلیم الأُمّة لا لتدارک ما قد فاته من الصلاة المفروضة بالسهو .

[ الثالثة : ] ثمّ مقتول أمیرالمؤمنین علیه السلام بنَهرَوان _ وقد ثبت وصحّ واستفاض وتواتر مرویّ الأُمّة عن المخالف والمؤالف فیه عن النبیّ صلی الله علیه و آله : «یقتله خیر هذه الأُمّة» . و :«یقتله خیر الخلق والخلیقة» . و :«یخرج علی خیر فرقة من الناس ویقتله خیر خلق اللّه » . (1) وقد أوردنا ذلک فی کتاب شرح التقدمة _ هو علی قول الأکثر : «ذوالثُدَیَّةِ» بضمّ الثاء المثلّثة ، وفتح الدال المهملة قبل الیاء المثنّاة من تحتُ ، المشدّدةِ مفتوحةً ، والهاءِ الملفوظة فی الوصل «تاء» علی تصغیر الثدی ، سمّی بذلک ؛ لِما لَه فی أحد جنبیبه شبه ثدی المرأة .

وعلی قول رهط من العلماء : «ذو الیُدَیَّةِ» مضمومةَ الیاء المثنّاة من تحتُ ، والحروف الباقیة علی حالها إلاّ أنّ التاء اللاحقة للتأنیث ؛ لکونها تصغیر الید بمعنی الجارحة وهی مؤنّثة .

قال ابن الأثیر فیالنهایة فی باب الثاء المثلّثة مع الدال :

فی حدیث الخوارج : «فیهم رجل مُثَدَّن الید» . (2) ویروی : «مُثَدْوَن الید» . (3) أی صغیر الید مُجْتَمِعها . [ والمُثَدَّن ] والمُثَدْوَن : . ما فی المصدر _ و هو الصحیح _ : «مَثْدُون» و «المَثْدُون» اسمَ المفعول من الثلاثی المجرّد . و بدل «الید» : «الخلق» . الناقص الید . ویروی : «مُوتَن الید» . من أیْتَنَتِ

ص :143

المرأةُ ، (1) إذا ولدت یَتْنا ، وهو أن تخرج رِجلا الولدِ فی الأوّل . وقیل : «المُثَدَّن» مقلوب مُثَنَّدٍ ، (2) یرید به أنّه یُشبه ثُنْدُوَة الثدی ، وهی رأسه ، فقدّم الدال علی النون مثل جَذَب وجَبَذ .

وفی حدیث الخوارج : «ذو الثُّدَیَّة» . وهو تصغیر [الثدی ]وإنّما أُدخل فیه الهاء وإن کان الثَدی مذکّرا ، کأنّه أراد قطعة من ثدی . وقیل : هو تصغیر الثَدوّة ، (3) بحذف النون ، من ترکیب الثدی ، وانقلابُ الیاء فیها واوا ؛ لضمّة ما قبلها ، ولم یضرّ ارتکاب الوزن الشاذّ ؛ لظهور الاشتقاق . ویروی : «ذو الیُدَیَّة» . بالیاء بدلاً من الثاء تصغیر الید ، وهی مؤنّثة . (4)

وقال المطرزی فی المُغرب :

الثدی مذکّر . وأمّا قولهم فی لقب عَلَم الخوارج : «ذو الثّدیّة» فإنّما جیء بالهاء فی تصغیره علی تأویل البضعة . وأمّا ما روی عن علیّ علیه السلام أنّه قال یومَ قَتَلَهم : «انظر فإنّ فیهم رجلاً إحدی ثدییه مثل ثدی المرأة» . فالصواب : «إحدی یدیه» . وذلک أنّه کانت مکانَ یده لَحْمةٌ . مجتمعة علی منکبه ، فإذا مُدّت امتدّت حتّی توازی طولَ یده الأُخری ، ثمّ تُترک فتعود . (5)

وقال فی باب الیاء مع الدال : «ذو الیُدَیَّةِ فی ثد» . (6)

فأمّا الجوهری فقد قال فی الصحاح :

الثدی یذکّر ویؤنّث ، وهی للمرأة والرجل أیضا . و«ذو الثّدیّة» لقب رجل . و«الثّندوة» بفتح أوّلها غیرَ مهموز ، وهی مَغْرِزُ الثدی . وقیل یُهمز . (7)

ص :144

وقال فی فصل الیاء : «ذو الیدیّة هو المقتول بنهروان» . (1)

والفیروز آبادی قال فی القاموس :

الثَدْی ویُکسر کالثَرَی خاصّ بالمرأة ، أو عامّ ، ویؤنّث . «وذو الثّدیّة» کسُمیَّةَ ، لقب کبیر من الخوارج . أو هو بالمثنّاة تحتُ . ولقب عمرو بن عبدِوُدّ قتله علیّ بن أبی طالب. (2)

وقال أیضا فیه : «ذو الیدیّة کسمیّة . وقیل : هو بالثاء المثلّثة قتل بنهروان» . (3)

وفی صحیحی البخاری (4) ومسلم : «ذو الخویصرة» . (5)

قال فی القاموس : «إنّه حُرْقوص بن زهیر ، ضئضئ ، الخوارج . وقال فیه : «حرقوص بن زهیر کان صحابیّا فصار خارجیّا» .

قلت : هو ذو الیدیّة . (6)

وفی موضع من صحیح البخاری : «فأتاه عبد اللّه بن الزهیر ذو الخویصرة» . (7)

وفی حدیث أمیرالمؤمنین علیه السلام وقد ذکر الخوارج فقال : «أتاهم رجل أدعجُ إحدی یدیه مثل ثدی المرأة تَدَرْدَرُ» . وفی روایة : «له ثُدَیَّة مثل البضعة تدردر» . (8) تروی بالمثلّثة وبالمثنّاة من تحتُ .

و«الأدعج» الأسود . و«تدردر» أی تَرَجْرَجُ وتضطرب وتجیء وتذهب . والأصل : «تَتدردَرُ» فحذفت إحدی التاءین تخفیفا .

ص :145

الاختلاق ؛ (1) فإنّ محمّد بن خالد البرقی قد ذکره الشیخ فی کتاب الرجال فی أصحاب الکاظم علیه السلام ، (2) وأورده أیضا فی أصحاب الرضا ووثّقه . وقال : «إنّه ومحمّد بن سلیمان الدیلمی البصری ، ومحمّد بن الفضل الأزدیّ الکوفیّ الثقة جمیعا من أصحاب أبی الحسن موسی علیه السلام» . (3)

وذکره أیضا فی أصحاب أبی جعفر الجواد علیه السلام وقال : «محمّد بن خالد البرقی من أصحاب موسی بن جعفر والرضا علیهماالسلام» . (4) فأیّ استبعاد فی لقائه أصحابَ أبی عبد اللّه الصادق علیه السلام کعبد اللّه بن سنان وغیره ممّن فی طبقته؟

وأیضا من الثابت بنقل الکشّی (5) والنجاشی وغیرهما : «أنّ عبد اللّه بن سنان کان خازنا للمنصور والمهدیّ والهادی والرشید» . (6) فیکون هو والبرقی متعاصِرَین متشارِکَین فی طبقة لامحالة .

وأیضا طریق الشیخ إلی عبد اللّه بن سنان فی الفهرست ینتهی إلی علیّ بن إبراهیم ، عن أبیه ، عن ابن أبی عمیر ، عنه . ومن طریقٍ آخَرَ إلی ابن بطّة ، عن أبی عبد اللّه محمّد بن أبی القاسم محمّد بن علیّ الهمدانی ، عنه . ومن طریق آخَرَ إلی الحسن بن الحسین السکونی ، عنه . (7)

ص :147

وطریق النجاشی إلیه إلی عبداللّه بن جَبَلَة ، عنه .

فإذا کان ابن أبی عمیر وهو من أصحاب الرضا علیه السلام ، ومحمّد بن علیّ الهمدانی وهو من أصحاب العسکری علیه السلام ، والحسن بن الحسین السکونی وهو من طبقة مَن لم یرو عنهم علیهم السلام ، وعبد اللّه بن حَبَلَة وهو أیضا ممّن لم یرو عنهم علیهم السلام قد أدرکوا عبد اللّه بن سنان ورووا عنه ، فما البُعد فی إدراک مَن هو مِن أصحاب الکاظم علیه السلام إیّاه وروایته عنه؟

وأیضا قد حکم بعض أئمّة الرجال بروایة عبد اللّه بن سنان عن أبی الحسن الکاظم علیه السلامولقائه إیّاه ، وقد نقله النجاشی . (1) فیکون طبقته بعینها طبقة ثعلبة بن میمون ، وإسحاق بن عمّار ، وداود بن أبی یزید العطّار ، وزرعة ، وغیرهم من أصحاب الصادق والکاظم علیهماالسلاموالبرقی یروی عنهم کثیرا . فإذن استصحاح روایة البرقی عن عبد اللّه بن سنان لیس یعتریه شوبُ شبهةٍ أصلاً .

ثمّ کیف یحلّ أن یُظنّ بشیخ الطائفة الشیخ الأعظم أبی جعفر الطوسی رحمه اللّه تعالی أنّه یُتَرْجِمُ عن ابن سنان بعبد اللّه فی موضع لا یکون فیه إلاّ محمّد . وما الصادُّ عن أن یکون محمّد وعبد اللّه یرویان حدیثا بعینه عن إسماعیل بن جابر ، ثمّ البرقی بعینه عنهما عنه .

وعلی هذا السبیل یتصحّح أیضا روایة الحسین بن سعید عن عبد اللّه بن سنان علی ما احتمله شیخنا الفرید الشهید فی الذکری ، (2) وروی الشیخ فی غیر موضع واحد من التهذیب بإسناده عن الحسین بن سعید ، عن عبداللّه بن سنان . ولا یتطرّق إلیه ما ربّما یتشکّک علیه أصلاً بل المشکّک شاکّ فی حکمه ، والمغلّط غالط فی قوله .

ص :148

وربما أخَذتَ بعضَ الأوّل وبعضَ الثانی فرکّبتَهما وجعلتَ بینهما اسما واحدا ، ففی عبد القیس وعبدِ الدار مثلاً : «عَبْقَسِی وعَبْدَرِیّ» . ومن ذلک قولهم : «عثمان عَبْشَمی» . (1) وهذا لیس بقیاسٍ بل إنّما یُقتصر فیه علی ما یُسمع فحسب .

وفی المرکّبة یُنسب إلی الصّدر ، فیقال : «حَضْرِیّ» و «مَعْدِیّ» فی حَضْرَمَوْتَ ، ومَعْدِیْکَرِبَ . وکذا فی نحو خمسةَ عشرَ ، واثنا عشر اسمَیْ رجلین : «خَمسیٌّ» و«اثنِیٌ» أو «ثَنَویٌّ» . وأمّا إذا کان للعدد فلا یجوز .

ومن التغییر الشاذّ فی النسبة نحو : «إسکورانی» (2) إلی إسکندریّة . و«حروری» إلی حرورا (3) و«دمٌ بحرانیّ» _ وهو شدید الحمرة _ إلی بحر الرحم ، وهو عمقها . وأمّا «البحرانیّ» إلی البحرین ، فعلی قول مَن جعل النون مُعْتَقَبَ الإعراب . (4)

وممّا غُیِّر للفرق «الدَهْریّ» بالفتح للقائل بقِدَم الدَهر ، و«الدُّهْریّ» بالضمّ للشیخ المسِنّ .

وقد یعوّض من إحدی یاءی النسبة ألفٌ ، فیقال فی النسبة إلی الیمن : «الیمنیّ» بالتشدید ، أو : «الیمانی» بالتخفیف ، کإبراهیم بن عمر الیمانی وغیره ، والتشدید فیه غلط . ومنه «الثَّمانی» و«الرَّباعی» (5) بالتخفیف

ویجب حذف تاء التأنیث ف : «السجدة الصلاتیّة» و«الأموال الزکاتیّة» . و«الحروف الشفتیّة» کلّها لحن . والصواب : «الصَلَوِیّة» . و«الزکویّة» و«الشفهیّة» أو«الشفویّة» . والجوهری لیس یستصوب فی الأخیر إلاّ «الشفهیّة» بالهاء ویقول : الشفویّة بالواو

ص :150

کالشفتیّة بالتاء فی الخطأ . (1)

ومن القیاسی فتح المکسور ک«نَمَری» و«دُؤَلِی» فی نَمِر ، ودُئِل . وحذفُ یاء فَعِیلَة ک «حنفِیّ» و«مدَنیّ» إلی حنیفة والمدینة «والفَرَضیِّ» إلی الفریضة ، إلاّ ما کان مضاعفا أو معتلَّ العین ک «شدِیدیّ» و«طوِیلیّ» .

وکذا فُعَیلة بالضمّ ک «جُهَنیّ» فی جُهَینة «وعُرَنیّ» فی عُرَیْنة ، وهما قبیلتان .

وأمّا فَعِیل بلا هاء فلا یغیّر ک«حنیفی» إلی الحنیف . وکذا فُعَیل بالضمّ ک «هُذَیْلیّ» إلی هُذَیل .

و«شیبة الهُذَلی» من بنی هذیل . وله حدیث معروف فی دعاء التعقیب . (2)

و«القُرَشیّ» فی النسبة إلی قُرَیش من الشاذِّ ، علی خلاف القیاس .

وکذا فُعَیل وفُعَیلة من المعتلّ ، ک : «قُصَوِیّ» بضمّ القاف و«أُمَوِیّ» بضمّ الهمزة إلی قُصَیّ ، واُمَیَّة .

و«ابن بُحَینَةَ» الصحابی راوی حدیث سجود السهو ، هو عبد اللّه بن مالک الأسدی نُسب إلی أُمّه ، وهی بُحَینَةُ بنت الحارث بن عبدالمطّلب ، علی تصغیر بَحْنَة ، ضرب من النخل . وقیل : المرأة العظیمة البطن . والنسبة إلیه «بُحَنیّ» .

وإذا نسب إلی الجمع ، رُدَّ إلی واحده ، فیقال : «فَرْضِیّ» و«صَحْفیّ» و«مَسجدِیّ» للعالم بمسائل الفرائض ، وللذی یقرأ من الصُحُف ، ویلازم المساجد . وإنّما یُردّ ؛ لأنّ الغَرض الدلالةُ علی الجنس ، والواحد یکفی فی ذلک .

وقد رأیت فی الکشّاف «الآفاقی» کما فی کلام الفقهاء إذا ورد «آفاقیّ مکّة» یعنون به مَن هو خارجَ المواقیت . والصواب فیه علی المشهور «اُفُقی» بضمّتین . وعلی ما عن الأصمعی وابن السکّیت «أَفَقی» بفتحتین .

وأمّا ما کان عَلَما ک «أنماری» و«کلابیّ» و«مدائنیّ» فإنّه لایردّ . وکذا ما یکون

ص :151

جاریا مجری العَلَم ک «أنصاریّ» و«أعرابیّ»

وممّا لیس یعرفه قاصر التتبّع الفرقُ بین «العُمَانی» بضمّ العین وتخفیف المیم ، وبین «العَمَّانی» بفتح الأُولی وتشدید الثانیة .

فالأوّل : نسبة إلی «عُمَان» بالضمّ والتخفیف بلد علی ساحل بحر فارس بینه وبین البحرین مسیرة شهر بحسبه . یقال لهذا البحر : بحر عُمَان ، مضموما مخفّفا . ویقال : أعْمَن الرجل . أی صار إلی عُمان ودخل فیه . ومنه الشیخ المتکلّم الفقیه الثقة المعظّم الحسن بن علیّ : ویقال : ابن عیسی أبو محمّد . ویقال : أبو علیّ المعروف بابن أبی عقیل العُمانی صاحب کتاب المتمسّک بحبل آل الرسول .

والثانی : نسبة إلی «عَمَّان» بالفتح والتشدید بلد بالشام . ویقال : قصبة کانت بلدة کبیرة بناها لوط النبیّ _ علی نبیّنا علیه السلام _ فخربت قبل زمان الإسلام ، بینها وبین أذْرُعات أربعة وخمسون میلاً .

وکذلک ممّا یلتبس علی القاصر «القاسانی» بالقاف والسین المهملة ، نسبةً إلی «قاسان» تعریب «کاسان» بالکاف والسین المهملة ، بلد من بلاد ماوراء النهر . منه أحمد بن سلیمان القاسانی من علماء الأصول ، وقوم من رجال الحدیث . وأیضا نسبةً إلی «قاسان» بالسین المهملة ناحیة بأصفهان . منها علیّ بن محمّد القاسانیّ الأصفهانی الضعیف . (1)

و«القاشانی» بالشین المعجمة ، نسبةٌ إلی معرَّب «کاشان» البلدِ المعروف من عراق العجم بین قمّ وأصفهان . منه جماعة من معاریف العلماء کصاحب التأویلات ، وفاضل المهندسین الراصد بسمرقند ، وغیرهما ، ورهط من ثقات رواة الحدیث کعلیّ بن سعید بن رِزام الثقة المأمون فی الحدیث ، وعلیّ بن شیرة الثقة . ، وغیرهما .

ص :152

وأیضا ممّا یلتبس علی القاصر أمرُ «جیحان» و«جیحون» و«سیحان» و«سیحون» وکثیرا مّا یقع فی الرجال و فی الحدیث أیضا . وسیأتی ذکر ذلک إن شاء اللّه تعالی فی المدلّس .

وکذلک «الشعیریّ» فی الرجال _ کما فی عبد اللّه بن محمّد الشعیری الیمانی من أصحاب الکاظم علیه السلام ، وإسماعیل بن أبی زیاد السکونیّ الشعیریّ العامیّ الموثّق المشهور بین أصحاب الصادق علیه السلام _ نسبةٌ إلی موضع ببلاد هذیل ، حیٌّ من مُضَر . وقد یکون نسبةً إلی إقلیم ببلاد الأندلس . ویکون أیضا نسبةً إلی محلّة ببغداد .

قال فی القاموس : «منها الشیخ عبد الکریم بن الحسن بن علیّ» . (1) والذی یستبین لظنّی أنّه من أغلاطه ، والصحیح الحسن بن علیّ بن عبد الکریم الزعفرانی . من زعفرانیّة ببغداد التی منها الحسن بن محمّد صاحب الشافعی ، لا من زعفرانیّة هَمذان التی منها القاسم بن عبدالرحمن شیخ أبی الحسن الدارقطنی .

وشیخ الطائفة شیخنا الطوسیّ _ رحمه اللّه تعالی _ ذکر الحسن بن علیّ بن عبد الکریم الزعفرانی فی الفهرست فی ترجمة إبراهیم بن محمّد بن سعید بن هلال بن عاصم بن سعد بن مسعود أبی إسحاق الثقفی المنتقل من الکوفة إلی أصفهان . (2) وحکایته فی ذلک معروفة ذکرها النجاشی (3) وغیره .

وطریق الشیخ إلی إبراهیم أبی إسحاق الثقفی من بعض الطرق السیّدُ الأجلُّ المرتضی والشیخ المفید جمیعا عن علیّ بن الحبشیّ الکاتب عن الحسن بن علیّ بن عبد الکریم الزعفرانی عنه . (4)

ومّما لایعرفه القاصرون ولا ینبغی جهله أنّ «السَلَمی» مطلقا بالسین المهملة

ص :153

واللاّم المخفّفة ، وتشدیدُها من أغلاط أحداث القاصرین أینما وقع ، ثمّ قد یکون بفتحهما جمیعا ، کما کعب بن مالک الخزرجیّ السَّلَمی ، وأبو قَتادة _ بفتح القاف _ الحارث بن ربعی السَّلَمی الخزرجی

قال فی المُغرب :

السَلَم بفتحتین من العِضاه ، وبواحدته سمّی سلمة بن صخر البیاضیّ ، وکُنِّی أبو سَلَمة زوج أُمّ سَلَمة قبل النبیّ صلی الله علیه و آله ، وأبو سَلَمة بن عبدالرحمن بن عوف الزهری . (1)

وفی القاموس :

سَلَمة محرَّکةً ، أربعون صحابیّا ، وثلاثون محدِّثا . وفی بنی قشیر سَلَمتان : إحداهما سَلَمة الخیر ، والآخری سلمة الشرّ . وقد یکون بفتح السّین وکسر اللاّم نسبةً إلی بطن من الأنصار بنی سَلِمة . (2)

قال فی المُغرب :

استلم الحجر تَناوله بالید ، أو بالقُبلة ، أو مسحَه بالکفّ من السَّلِمة بفتح السین وکسر اللام ، وهی الحجر . وبها سمّی بنو سَلِمَة بطن من الأنصار . (3)

وقال الجوهری فی الصحاح :

وسَلِمة أیضا بکسر اللام اِسم رجل . وبنو سَلِمَة بطن من الأنصار ، ولیس فی العرب سَلِمة غیرهم . (4)

فخطّأه فی ذلک الفیروز آبادی فی القاموس ، وعدّ عَمرو بن سلمة الهَمْدانیّ ، وعبد اللّه بن سلِمة المُرادی ، وعبید اللّه بن سلِمة المرادی ، وعبید اللّه سلِمة البدری وغیرهم _ کلُّهم بالکسر _ غیرَ البطن من الأنصار . (5)

ص :154

ولم یستبن لی سبیل أثق به فی تصحیح قوله .

وقد یکون بضمّ السین وفتح اللام نسبةً إلی «سُلَیم» قبیلة من قیس عَیلان بفتح المهملة وإسکان المثنّاة من تحتُ .

وإلی «سُلَیمٍ» أیضا قبیلة فی جُذامَ من الیمن . ومن ذلک أبو النضر محمّد بن مسعود العیّاشی السُّلَمیّ السمرقندی . وسُلَیمٌ خمسة عشر صحابیا ، وأُمّ سُلَیم بنت مِلْحان ، وبنت سُحَیم صحابیّتان .

ومن الغریب المستغرَب أمر الإخوة الأربعة بنی راشد أبی إسماعیل السلمیّ وُلدوا جمیعا تَوائمَ فی بطن واحدةٍ ، وکانوا علمآءَ ، وَهم : محمّدٌ ، وعُمَر ، وإسماعیلُ ، ورابعٌ لم یسمّوه . ومحمّد منهم هو أبو عبد اللّه بن محمّد السُّلَمیّ راوی حدیث جابر المستفیض المشهور من بعض طرقه فی الصحیفة النازلة من السماء فی أسماء الأئمّة علیهم السلاموکُناهم . رواه الصدوق أبو جعفر بن بابویه _ رضوان اللّه تعالی علیه _ فی کتاب عیون أخبار الرضا بسنده عنه مسندا عن جابر بن عبد اللّه الأنصاری رضی اللّه تعالی عنه . (1)

ثمّ إنّ الجوهری قال فی الصحاح : «ومَعَدٌّ أبو العرب ، وتَمَعْدَدَ الرجل أی تزیّا بزیّهم وانتسب إلیهم ، أو تصبّر علی عیش مَعَدٍّ» . (2)

وقال أیضا : «وقیس أبو قبیلة من مُضَر . یقال : تقَیَّسَ فلان ، إذا تشبّه بهم» . (3)

قلت : ومن هذا السبیل تَلَقمَنَ الرجل أی تزیّا بزیّ لقمان وتشبّه به ، وتَسَلْمَنَ أی تزیّا بزیّ سلمان وتشبّه به ، وتَمَقْدَد أی تزیّا بزیّ مقداد وتشبّه به .

یقال الأوّل لأبی حمزةَ الثمالی إشارةً إلی قول أبی الحسن الرضا علیه السلام فیه :

ص :155

«أبو حمزةَ فی زمانه کلقمانَ فی زمانه» . (1)

والثانی لیونس بن عبد الرحمن ، إشارةً إلی قوله علیه السلام : «یونس بن عبد الرحمن هو سلمان فی زمانه» . (2)

والثالث لأبی سلیمان داود بن کثیر الرقّی ، إشارةً إلی قول أبی عبد اللّه الصادق علیه السلاملأصحابه : «أنزلوا داود الرقّی منّی بمنزلة المقداد من رسول اللّه صلی الله علیه و آله» . (3)

ص :156

خالد بن عبد اللّه بن سدیر ، وکان یقول : وضع هذه الاُصول محمّدُ بن موسی الهمدانی . (1)

یعنی محمّد بن علیّ بن الحسین بن بابویه ومحمّد بن الحسن بن الولید لم یُرخِّصا للرواة فی روایة الأصلین ونقلهما عنهما ؛ لکونهما موضوعین .

وجماهیر القاصرین من أصحاب عصرنا غالطون فی هذه الصیغة وغافلون عن حقّها وخائضون عن سمت الصواب فی لفظها ومعناها .

ثمّ الشیخ فی الفهرست قال بعد ذلک : «وکتاب زید النَرسی رواه ابن أبی عمیر عنه» . یعنی بذلک أنّ روایة ابن أبی عمیر لهذا الکتاب تدفع ما قاله محمّد بن الحسن بن الولید : «إنّه موضوع» ؛ لما قد استبان من أمر ابن أبی عمیر ، وروایته إیّاه عنه تدفع ما قاله : «إنّه وضعه محمّد بن موسی الهمدانی» وکذلک قال ابن الغضائری فیه وفی کتاب زید الزرّاد : «إنّه أیضا مسموع من محمّد بن أبی عمیر عنه» . (2)

وبالجملة : قول محمّد بن الحسن بن الولید لیس طعنا فی الزیدَین بل فی کتابیهما . وکذلک القول فی خالد بن عبد اللّه بن سدیر . وأنّ قول محمّد بن الحسن بن الولید فی الکتاب المنسوب إلیه :«لا أُرَوّیه _ بتشدید الواو ، أی لا أُرخّص فی روایته _ لأنّه موضوع وضعه محمّد بن موسی الهمدانی» . لیس طعنا فیه بل فی کتابه .

والترویة بهذا المعنی تتعلّق بالأصل أو الکتاب أو الحدیث المرویّ مع عزل النظر عن خصوص الراوی وحاله .

الثانی : من الترویة بمعنی حثّ الراوی وتحریصه علی الروایة ، أو الرخصة والإذن له فیها ، وذلک متعلّق بالراوی ولحاظه حاله مع عزل النظر عن خصوص حال المرویّ .

ص :158

قال فی الصحاح : «رویت الحدیث والشعر روایة فأنا راوٍ ، وروّیته الشعر ترویة ، حملته علی روایته ، وأرویتُه أیضا» . (1)

وفی المُغرب :

راویةٌ فیها ماء ، أصلها بعیر السقّاء ؛ لأنّه یروی الماء أی یحمله . ومنه راوی الحدیث ، وراویته ، والتاء للمبالغة یقال : روی الحدیث والشعر روایة ، وروّیته إیّاه ، حملته علی روایته . ومنه إنّا رُوِّینا (2) فی الأخبار . (3)

ص :159

أبی الحسن الرضا علیه السلام أحد الاثنین والعشرین المجمع علی فقههم وعلمهم وثقتهم وتصحیح ما یصحّ عنهم . روی عن ستّین رجلاً من أصحاب أبی عبد اللّه الصادق علیه السلام ، وهو صاحب کتاب المشیخة ، والمعدود فی الأرکان الأربعة فی عصره .

وکذلک کتاب الجامع المعوّل علیه لأحمد بن محمّد بن أبی نصر البزنطی غیر معدود فی الاُصول بل معدود فی الکتب .

فأمّا الصحیفة الکریمة السجّادیّة فأعلی رتبةً وأجلّ خَطْبا من أن تعدّ وتدخل فی الکتب المصنّفة والاُصول المدوّنة المرویّة . وکذلک الصحیفة المبارکة الرضویّة . وکذلک الرسالة المقدّسة الرضویّة المعروفة بالذهبیّة . وفی فهرست الشیخ : «الرسالة المذهّبة (1) عن الرضا علیه السلام» . وذکره إیّاها عند عدّ کتب جماعة کان یرویها محمّد بن الحسن بن جمهور العمّیّ البصری من أصحاب الرضا علیه السلام (2) _ ینسب إلی بنی العمّ من تمیم _ لِما أنَّه کان یُدْخِلها فی مَرویّاته عنه علیه السلام . وذلک کما ذکر فی ترجمة المتوکّل بن عمیر بن المتوکّل : «روی عن یحیی بن زید بن علی علیه السلامدعاءَ الصحیفة» . (3)

ولْیُعلم أنّ الأخذ من الأُصول المصحّحة المعتمدة أحد أرکان تصحیح الروایة .

ص :161

الفحصیّ فیه (1) لیستبین اندراج هذا الجزئی فی موضوعه . وهذا معنی قولهم : تعدیة الحکم من المنطوق إلی المسکوت عنه من غیر أن یکون قیاسا .

ویقابله الإخراج ، وهو مطلق تبیین أحوال الأدلّة والمدارک _ وإن لم تکن هی من الغوامض _ بمطلق النظر الصحیح وإن کان علی سبیل الاقتضاب لا علی سبیل التعقّب ، ومطلقُ استنباط الفرع من الأصل بالفعل _ وإن لم یکن من الخفیّات _ بمطلق إنفاق الرویّة من سبیل القوانین المقرّرة العلمیّة وإن لم یکن بتدقیق الفحص البالغ وبذل أقصی المجهود بالنظر الأوفی السابغ . (2)

ولیعلم أنّ تخریج متن الحدیث إنّما یجوز فیما لایرتبط بعضه ببعض بحیث یکون الجمیع فی قوّة کلام واحدٍ ، وأمّا ما هو کذلک فلا یجوز تخریجه ، وذلک کأن یکون المتروک قیدا للمنقول أو استثناءً منه مثلاً . (3)

ص :163

مشروطه ، أی لایُحتاط فیه أزیدَ ممّا یُحتاط فی أصله ، کغیره من الشروط التی للمشاریط ، وقد اکتفی فی أصل الروایة بواحد وفی الشهادة باثنین ، فیکون تعدیل کلّ واحد کأصله ؛ إذ فرع الشی ء¨ لا یزید علیه (1) وهذا حقّ العبارة عنه . (2)

وأمّا أنّ اشتراط العدالة فی المزکّی فرع اشتراطها فی الراوی ، فکیف یُحتاط فی الفرع بأزیدَ ممّا یحتاط فی الأصل ؟! فلیس بمنتظم ؛ إذ الاحتیاط فی تعدیل الراوی بأزیدَ من المزکّی الواحد لیس احتیاطا بأزیدَ من العدالة المعتبرة ، بل هو احتیاط فی تحصیل أصل العدالة التی هی الشرط فی الراوی .

وما یقال : إنّ بعض مَن لایکتفی فی مطلق تزکیة الشاهد إلاّ بعدلین یذهب إلی ثبوت هلال شهر رمضانَ بعدلٍ واحدٍ ، (3) فقد زاد الفرعُ علی الأصل عنده ، وهو ممّن

ص :165

یحکم فی هذا الاستدلال بامتناع ذلک ، ساقط ؛ (1) لما دریتَ أنّ مطلق الشهادة مقتضاها أن لایکتفی فیها إلاّ باثنین ، فاعتُبر فی مزکّی الشاهد أیضا التعدّدُ ؛ لیکون الفرع کالأصل .

ثمّ ربما خولف ذلک المقتضی فی هلال شهر رمضان ؛ لمزید اهتمام بالصوم واحتیاطه فی إیجاب العبادة . وأُبقی ما کان قد اعتُبر فی تزکیة الشاهد علی حاله ؛ لیکون الأمر فی الفرع علی وفق مقتضی الأصل _ أعنی مطلق الشهادة _ غیرَ زائد علیه وإن کان قد خولف فی رؤیة هلال الصوم بخصوصها لخصوصیّة المادّة . (2) وکذلک فی شهادة المرأة الواحدة فی ربع الوصیّة ، (3) وربع میراث المستهلّ ؛ لدلیل خارج ونصّ خاصّ . (4)

وقد خولف أیضا بزیادة الأصل علی الشرط ؛ احتیاطا لِدَرْءِ العقوبات ، فالزنا لایثبت إلاّ بأربعة لخصوصیّة خطب الدَّرْء ، والإحصان یثبت بشاهدین ، وکذلک تعدیل کلّ من الأربعة باثنین ؛ لمقتضی مطلق الأصل مع أنّه لاشطط فی ذلک ؛

ص :166

إذ الخُلف أن یزید شرط الشیء _ الذی هو فرعه _ علی أصله دون العکس . (1)

وتارة (2) بأنّ آیة التثبّت ، وهی قوله عزّ من قائل : « إِن جَآءَکُمْ فَاسِقُم بِنَبَإٍ فَتَبَیَّنُواْ » (3) تدلّ بمفهوم الشرط علی التعویل علی نبأ جاء به عدل واحد . وسواء فی ذلک أکان النبأ روایةً ، أم تزکیةَ راوٍ . وهذا أیضا واضح لاغبار علیه .

ومن یَعتبر العدد مطلقا یتمسّک بأنّ الجرح والتعدیل شهادة ، فیجب التعدّد کسائر الشهادات .

ویجاب بالمنع ، وبالمعارضة بأنّهما إخبارٌ ، فیکفی الواحد کسائر الأخبار ، وبأنّ فی اعتبار العدد زیادةَ احتیاط ، فیکون أولی .

ویجاب بأنّ عدم اعتبار العدد أحوطُ ؛ إذ فیه تبعید عن ترک العمل بما هو سنّة ، والأوّل مَظِنّة احتمال إهمال الحدیث ، ومَئِنّة (4) الإخلال بالشرع وتضییعِ أوامر اللّه تعالی ونواهیه ، فیکون لا محالة هذا أرجحَ وذاک مرجوحا .

ومن یُسقط اعتبار العدد فی تزکیة الشاهد أیضا کالراوی یقول : إنّها نوع إخبار ، فیکفی الواحد ، وقد بان لک أنّها فی الشاهد فرع قبول الشهادة ، وفی الراوی فرع قبول الروایة ، وشتّانَ ما بین المقامین .

وبالجملة : أمر الشهادة أضیقُ وبالاحتیاط أخلقُ ؛ لقوّة البواعث علی الطمع والشَرَه ، وشدّة الاهتمام بدواعی المُشارّات والخصومات ؛ ولأنّه خاصّ ، فالمُحابَّة والمُباغَضَة تؤثّران فیه ، بخلاف أمر الروایة ؛ فإنّه عامّ لامدخل فیه لحبّ أو بغض .

ص :167

وإذ قد استبان الأمر فاعلم أنّ من یجعل الجرح والتعدیل ملحقین بالشهادة مطلقاً ، یلزمه عدم قبول تزکیة العبد والمرأة مع التعدّد فی باب الروایة کما فی باب الشهادة . ومن ألحقهما بالروایة مطلقاً أو فی الراوی دون الشاهد ، یعوّل علی تزکیة العبد الواحد أو المرأة الواحدة للراوی مع عدالتهما ، کما یقبل روایتهما .

ولبعض ضعفاء التحصیل من ذوی بضاعة مُزجاة فی العلوم مُلفَّقاتٌ مشوّشة فی هذه المقامات لاتستحقّ الاشتغالَ بنقلها وتسخیفها .

ص :168

یعقوب الکلینی وغیرهم صحیحاً ، وأُولئک الأشیاخ فی الطریق . (1) واستصحّ فی مواضعَ کثیرةٍ عدّةً جمّةً من الأحادیث وهم فی الطریق .

وابن أبی جید أعلی سنداً من الشیخ المفید ؛ فإنّه یروی عن محمّد بن الحسن بن الولید بغیر واسطةٍ ، والمفیدُ یروی عنه بواسطةٍ .

وکابن شاذان القاضی القمّی أبی الحسن أحمد بن علیّ بن الحسن ، (2) وابن الجندی أحمد بن محمّد بن عمران موسی الجرّاح ، شیخَیِ الشیخ أبی العبّاس النجاشی ، یستند إلیهما ویُعظِم ذکرهما کثیراً ؛ (3) وعلیِّ بن أحمد بن العبّاس النجاشی شیخِه ووالده ، ذکره فی ترجمة الصدوق أبی جعفر بن بابویه _ رضی اللّه تعالی عنه _ وطریقَه إلیه ، وذکر أنّه قرأ بعض کتب الصدوق علیه . (4)

وکأحمد بن محمّد بن الحسن بن الولید ، وأبی علیّ أحمد بن جعفر بن سفیان البزوفری شیخَیِ الشیخ المفید أبی عبد اللّه محمّد بن محمّد بن النعمان _ رضی اللّه تعالی عنه _ أمرُهما أجلّ من الافتقار إلی تزکیة مزکٍّ وتوثیق موثّقٍ .

وکأشیاخ الصدوق ابن الصدوق عروة الإسلام أبی جعفر محمّد بن علیّ بن بابویه رضوان اللّه تعالی علیهما : الحسینِ بن أحمد بن إدریس أبی عبد اللّه الأشعری القمّی أحدِ أشیاخ التَلِّعُکْبُرِی أیضاً ، ذکره الشیخ فی کتاب الرجال . (5)

ومحمّدِ بن علیّ ماجِیلُویَة القمّی ذکره الشیخ فی کتاب الرجال (6) وأبی العبّاس محمّد بن إبراهیم بن إسحاق الطالقانی ، وأحمدَ بنِ علیّ بن زیاد ، ومحمّد بن موسی بن المتوکّل ، وأحمد بن محمّد بن یحیی العطّار أحدِ شیوخ التلّعکبری ذکره

ص :171

الشیخ فی کتاب الرجال (1) وجعفرِ بن محمّد بن مسرور ، وعلیّ بن أحمد بن محمّد بن عمران الدقّاق ، والمظفّر بن جعفر بن المظفّر العمری العلوی أحدِ أشیاخ التلّعکبری أیضاً ذکره الشیخ فی کتاب الرجال . (2) ومحمّدِ بن محمّد بن عصام الکلینی ، وعلیّ بن أحمد بن موسی .

فهولاء کلَّما سمَّی الصدوق واحداً منهم فی مسْنَدَة الفقیه ، وفی أسانیده المعنعنة فی کتاب عیون أخبار الرّضا ، وفی کتاب عَرض المجالس ، وفی کتاب کمال الدین وتمام النعمة ، قال : «رضی اللّه تعالی عنه» . و کلّما ذکر اثنین منهم أو قرن أحدا منهم بمحمّد بن الحسن بن الولید أو بأبیه الصدوق ، قال : «رضی اللّه تعالی عنهما» . وکلّما سمّی ثلاثة منهم ، أو قرن أحداً منهم بهما ، أو اثنین منهم بواحد منهما ، قال : «رضی اللّه تعالی عنهم».

وکذلک أشیاخه : عبدُ الواحد بن محمّد بن عبدوس النیسابوری ، والحسین بن إبراهیم بن أحمد بن هاشم المؤدّب ، وحمزة بن محمّد بن القزوینی العلویّ _ الذی یروی عن علیّ بن إبراهیم ونُظرائه ، ذکره الشیخ _ رحمه اللّه تعالی _ فی کتاب الرجال (3) _ والحسینُ بن إبراهیم بن بابایه ، (4) ومحمّدبن أحمد السّنانی . (5)

ص :172

ومن أشیاخه : علیّ بن أحمد بن عبد اللّه بن أحمد بن أبی عبد اللّه البرقی ، وعلیُّ بن عبد اللّه الورّاق ، وأبو محمّد الحسن بن [محمّد بن] (1) حمزة بن علیّ بن عبد اللّه بن محمّد بن الحسن بن الحسین بن علیّ بن الحسین بن أبی طالب علیهم السلامالمرعشی الطبری الأدیب العالم الفاضل الورع الزاهد الفقیه العارف ، وهو أحد شیوخ التلّعکبری ، والشیخ المفید ، وابن الغضائری ، وابن عبدون ، أیضاً ذکره الشیخ فی کتاب الرجال ، (2) وفی الفهرست ، ووقّره وعظّمه (3) وإن لم ینصّ علیه بالتوثیق . وجعفرُ بن علیّ بن الحسن بن علیّ بن عبد اللّه بن المغیرة الکوفی ، ومحمّد بن أحمد الشیبانی .

وتشهد بالنباهة والجلالة لأبی محمّد المرعشی علی الخصوص کتبُ النّسب والتواریخ ولهم جمیعاً تضاعیفُ الأخبار ، وطبقاتُ الأسانید ، ومَرانَةُ (4) عروة الإسلام علی الدعاء لهم بالرضْیَلَة والرَحْمَلَة .

وکأشیاخ رئیس المحدّثین أبی جعفر الکلینی رضی اللّه تعالی عنه : علیِّ بن الحسین السعدآبادی ، وهو أبو الحسن القمّی مؤدّب شیخ العصابة ووجههم فی زمنه أبی غالب الزراری أحمدَ بنِ محمّد بن سلیمان بن الحسن بن الجهم . أورده الشیخ فی کتاب الرجال فی باب من لم یرو عن الأئمّة علیهم السلام ، (5) وذکره فی الفهرست فی ترجمة أحمد بن أبی عبد اللّه البرقیّ ، (6) وکذلک ذکره النجاشی فی ترجمة أحمد بن محمّد

ص :173

البرقیّ . (1) والحسینِ بن محمّد بن عامر الأشعری القمّی أبی عبد اللّه ، وعلیِّ بن محمّد بن إبراهیم بن أبانٍ وهو أبو الحسن المعروف بعلاّن الکلینی ، خاله علی ما هو المشهور فی عصرنا ، وابن خاله کما هو الواقع . وغیرهم من مَشْیخته الذین یصدِّر بهم الأسانید . وسنعرّفکهم إن شاء اللّه العزیز .

ص :174

ولست أجد هناک محمّد بن أُورُمة أو أُرومة أصلاً .

وبالجملة ، الحسین بن الحسن بن أبانٍ یروی عن الحسین بن سعید الأهوازی کتبه وروایاتِه کلَّها ، وهو ثقة ، ثَبَت ، صحیح الحدیث إلاّ فیما یرویه عن محمّد بن أُورمة ؛ فإنّ فی ذلک تفصیلاً .

وکاستثناء ما ینفرد بروایته محمّد بن عیسی العبیدیّ من روایات یونس بن عبد الرحمن وکتبِه عند من یبنی ذلک علی تضعیف محمّد بن عیسی .

وکما یُستثنی من أحادیث سلیم _ مصغّرا _ بن قیس الهلالی ما یروی عنه من کتابه المشهور الموضوع المنسوب إلیه . یقال : وضعه علیه أبان بن أبی عیّاش . وذلک کثیر لیس مقامنا هذا حیِّزَ استقصائه .

فکذلک ربما یستثنی من روایة الضعیف أو المغموز الخارجة عن دائرة الصحّة وحریم التعویل ما یرویه عن ثقة ، ثَبَت ، صحیح الحدیث جدّا ، أو یأخذه من أصله الصحیح ، أو کتابه المعوّل علیه ، أو یورده فی کتاب له محکومٍ علیه بالصحّة وإن کان هو فی نفسه ضعیفا مطعونا فی دینه وأمانته ، أو فی حدیثه وروایته . وهذا أیضا فی تضاعیف أبواب الرجال غیر یسیر عند المتتبّع :

فمن ذلک أحمد بن هلال العبرتائی _ بإهمال العین قبل الباء الموحّدة بعدها راءٌ ، ثمّ التاءِ المثنّاة من فوق ، وبالمدّ _ نسبةً إلی عبرتا ، قریةٌ بناحیة إسکاف بنی جنید ، مرمیّ بالغلوّ ، مطعون بما روی فیه من الذَّمّ عن سیّدنا أبی محمّد العسکریّ علیه السلام . (1) وقد قال ابن الغضائری :

«أری التوقّف فی حدیثه إلاّ فیما یرویه عن الحسن بن محبوب من کتاب المَشِیخَة ، وعن محمّد بن أبی عمیر من نوادره ،وقد سمع هذین الکتابین منه جُلُّ أصحابنا واعتمدوه فیهما» . (2)

ص :176

وکذلک قال النجاشی : «صالح الروایة ، یعرَف منها وینکَر» . (1)

وفی فهرست الشیخ : «وقد روی أکثرَ أُصول أصحابنا» . (2)

قلت : ومن هناک ما قد اعتمد أکثر کُبراء الأصحاب وعظمائهم _ کالشیخ فی النهایة (3) والمبسوط ، (4) وابن إدریس فی السرائر ، (5) والمحقّق فی کتبه ، (6) وشیخنا الشهید فی الذکری ، (7) وجدّی المحقّق فی شرح القواعد (8) _ علی مدلول ما رواه الحلبیّ عن أبی عبد اللّه علیه السلام : «کلّ ما لایجوز الصلاة فیه وحدَه ، فلا بأس بالصلاة فیه مثل التکّة الأبریسم ، والقلنسوة ، والخفّ ، والزنّار یکون فی السراویل ویصلّی فیه» . (9) وهو المعتمد علیه عندی مع أنّ فی الطریق أحمدَ بن هلال هذا .

ومن ذلک الحسین بن عبید اللّه السعدی أبو عبد اللّه بن عبید اللّه بن سهل ممّن طُعن علیه ورمی بالغلوّ . والأصحاب یستصحّون أحادیثه فی بعض کتبه کما قال النجاشی : «له کتب صحیحة الحدیث منها : التوحید والإیمانُ ، وصفة المؤمن والمسلم ، المقت والتوبیخ ، الإمامة ، النوادر ، المزار ، المتعة» (10)

وکذلک طلحة بن زید أبو الخزرج النَهْدی الشامی من أصحاب الصادق علیه السلام . قال الشیخ فی الفهرست : «وهو عامّی المذهب إلاّ أنّ کتابه معتمد» . (11)

ص :177

وقال النجاشی : «له کتاب ترویه جماعة تختلف بروایاتهم» . (1)

بل إنّ غیر واحد من الواقفیّة والزیدیة لیسوا من عداد جماعة قد انعقد إجماع العصابة علی تصحیح ما یصحّ عنهم ، ومع ذلک فإنّا نری الأصحاب یرکنون إلیهم ، ویعتمدون علی روایتهم ، وینزّلون أحادیثهم منزلة الصحاح ؛ لما قدلاح لهم من فقههم وثقتهم وجلالة أمرهم وأمانتهم فی الحدیث .

فمنهم : علیّ بن محمّد بن علیّ بن عمر بن رباح بن قیس بن سالم أبو القاسم النحوی ، ویقال : أبوالحسن السوّاق ، ویقال : القلاّء . یروی عنه علیّ بن همّام علی ما فی الفهرست ، (2) وفی باب من لم یرو عن الأئمّة علیهم السلام من کتاب الرجال : «روی عنه أبو همّام» . (3)

قال النجاشی : «کان ثقة فی الحدیث ، واقفا فی المذهب ، صحیحَ الروایة ، ثَبَتا ، معتمدا علی روایته ، وله کتب . وعمر بن رباح روی عن أبی عبد اللّه علیه السلام . ویقال فی الحدیث : عمر بن رباح القلاّء» . (4)

ومنهم : علیّ بن الحسن بن محمّد الطائی الجرمی أبو الحسن الکوفی المعروف بالطاطری . سمّی بذلک ؛ لبیعه ثیابا یقال لها : الطاطریّة . کان فقیها ، ثقةً فی حدیثه ، وکان من وجوه الواقفة وشیوخهم . وهو أُستاد الحسن بن محمّد بن سماعة الصیرفیّ الحضرمی الثقة ، الکثیر الحدیث ، من شیوخ الواقفة وفقهائهم . کان یعاند فی الوقف ویتعصّب ، وکان یتعلّم منه مذهب الوقف ولایروی عنه شیئا . وکان علیّ أیضا شدید العناد فی مذهبه ، صعبَ العصبیّة علی من خالفه من الإمامیّة . ومع ذلک فقد شاع بین الأصحاب الوثوق بروایاته ، والتعویل علی کتابه فی الأوقات ، وکتابِه فی القبلة

ص :178

وغیرهما من کتبه المعدودة . ویقال : إلی قریب من ثلاثین کتابا ، لما فیها من الروایات الموثوق بطرقها ، أو لکون تلک الکتب لثقات أصحابنا وهو رواها عنهم .

قال الشیخ فی الفهرست : «له کتب فی نصرة مذهبه ، وله کتب فی الفقه رواها عن الرجال الموثوق بهم وبروایتهم ، فلأجل ذلک ذکرناها» . (1)

ومنهم : الشیخ الثقة الراویة ، الناقد ، الحافظ ، القدوة ، الکبیر ، المعروف بابن عقدة أحمد بن محمّد بن سعید بن عبد الرحمن أبو العبّاس السبیعیّ الهمدانی الکوفی . قال الشیخ فی الفهرست ، (2) وفی باب من لم یرو عن الأئمّة علیهم السلاممن کتاب الرجال :

جلیل القدر ، وعظیم المنزلة ، أمره فی الثقة والجلالة وعِظَم الحفظ أشهرُ من أن یذکر . وکان زیدیا جارودیّا وعلی ذلک مات ، إلاّ أنّه روی جمیع کتب أصحابنا وصنّف لهم وذکر أُصولَهم . وإنّما ذکرناه فی جملة أصحابنا ؛ لکثرة روایاته عنهم وخلطته بهم وتصنیفه لهم . وکان حَفِظَةً ، سمعتُ جماعة یحکون أنّه قال أحفظ مائة وعشرین ألف حدیث بأسانیدها ، وأُذاکر بثلاثمائة ألف حدیث . روی عنه التّلّعکبری من شیوخنا وغیره (3)

وقال النجاشی :

رجل جلیل فی أصحاب الحدیث ، مشهور بالحفظ ، والحکایاتُ تختلف عنه فی الحفظ وعِظَمه . وکان کوفیّا ، زیدیّا ، جارودیّا . وذِکره فی أصحابنا لاختلاطه بهم ، ومداخلته إیّاهم ، وعِظَم محلّه ، وثقته ، وأمانته (4)

ومنهم : ابنه ذکره الشیخ فی کتاب الرجال فقال :

محمّد بن أحمد بن محمّد بن سعید بن عُقده الهمدانی یکنّی أبا نعیم ، جلیل القدر ، عظیم الحفظ . روی عنه التّلّعکبری وسمع منه فی حیاة أبیه . وکان یروی عن حُمَید .

ص :179

جمیع روایاته . وکذا أجاز للنجاشی» . (1)

بل إنّ صاحب کتاب الرجال الدائر علی الألسنة ، الشائع نقل التضعیف والتوثیق عنه هو سلیل هذا الشیخ المعظّم ، أعنی أبا الحسین أحمد بن الحسین بن عبید اللّه بن إبراهیم الغضائری ، وکان شریکَ شیخنا النجاشی فی القراءة علی أبیه أبی عبد اللّه الحسین بن عبید اللّه . علی ما قد ذکره النجاشی فی ترجمة أحمد بن الحسین بن عمر بن یزید الصیقل ، حیث قال :

أبو جعفر کوفی ، ثقة ، من أصحابنا ، جدّه عمر بن یزید بیّاع السابری . روی عن أبی عبد اللّه وأبی الحسن علیهماالسلام . له کتب لایعرف منها إلاّ النوادر ، قرأتُه أنا وأحمد بن الحسین رحمه اللّه علی أبیه ، عن أحمد بن محمّد بن یحیی . (2)

ویعلم من قوله هذا أنّ شریکه أحمدَ بن الحسین بن الغضائری قد توفّی قبله .

والسیّد المعظّم المکرّم جمال الدین أحمد بن طاوس قال فی کتابه فی الجمع بین کتب الرجال والاستطراف منها :

وذکر بعض المتأخّرین أنّه رأی بخطّه عند نقله عن ابن الغضائری ما هذه عبارته : «من کتاب أبی الحسین أحمد بن الحسین بن عبید اللّه الغضائری ، المقصورِ علی ذکر الضعفاء المرتّب علی حروف المعجم» ثمّ فی آخر ما استطرفه من کتابه قال : «أقول : إنّ أحمد بن الحسین _ علی مایظهر لی _ هو ابن الحسین بن عبید اللّه الغضائری رحمهماالله » فهذا الکتاب المعروف لأبی الحسین أحمد ، وأمّا أبوه الحسین أبو عبد اللّه شیخ الطائفة فتلمیذاه النجاشی والشیخ ذکرا کتبه وتصانیفه ولم یَنْسِبا إلیه کتاباً فی الرجال . وإنّما فی کلامهما وکلام غیرهما : أنّه کثیر السماع ، عارف بالرجال . (3)

وبالجملة : لم یبلغنی إلی الآنَ عن أحد من الأصحاب أنّ له فی الرجال کتاباً .

ص :181

ثمّ إنّ أحمد بن الحسین بن الغضائری صاحب کتاب الرجال هذا مع أنّه فی الأکثر مسارع إلی التضعیف بأدنی سبب قال فی محمّد بن اُوْرُمة :

اتّهمه القمّیّون بالغلوّ ، وحدیثه نقیّ لا فساد فیه . ولم أرشیئاً ینسب إلیه تضطرب فیه النفس إلاّ أوراقاً فی تفسیر الباطن ، وأظنُّها موضوعةً علیه . ورأیت کتاباً خرج عن أبی الحسن علیه السلام إلی القمّیّین فی براءته ممّا قُذف به . (1)

فإذن حیث إنّ الشیخ والنجاشی لم یشهدا علی محمّد بن أُوْرُمة بالغلوّ بل إنّما ذکرا أنّه رُمِیَ به ، وابن الغضائری قد شهد له بالبراءة عمّا رُمی به وأسند ذلک إلی الإمام علیه السلام ، فالوجه عندی قبول روایته لا التوقّف فیه کما ذهب إلیه العلاّمة فی الخلاصة . (2)

وکذلک النوفلی الذی یروی عن السکونی واسمه الحسین بن یزید بن محمّد بن عبدالملک النوفلی ، نوفل النخع ، مولاهم الکوفی أبو عبد اللّه ، فإنّه لیس بضعیفٍ اتّفاقا . قد ذکره الشیخ فی الفهرست وقال : «له کتاب عن السکونی أخبرنا به عدّة من أصحابنا ، عن أبی المفضّل ، عن ابن بطّة ، عن أحمد بن أبی عبد اللّه ، عنه» . (3)

وذکره أیضاً فی کتاب الرجال فی أصحاب أبی الحسن الرضا علیه السلاممن غیر إیراد طعنٍ وغمزٍ فیه أصلاً . (4)

وقال الکشّی : «رمی بالغلوّ» . (5) من غیر أن یشهد أو یحکم بذلک .

والنجاشی قال :

کان شاعراً أدیباً ، سکن الریّ ومات بها ، وقال قوم من القمّیّین : إنّه غلا فی آخر عمره . واللّه أعلم _ ثمّ قال _ : ومارأینا له روایة تدلّ علی هذا . له کتاب التقیّة ،

ص :182

أخبرنا به ابن شاذان ، عن أحمد بن محمّد بن یحیی ، قال : حدّثنا عبداللّه بن جعفر الحمیری ، قال : حدّثنا إبراهیم بن هاشم عن الحسین بن یزید النوفلیّ به . وله کتاب السنّة . (1)

وابن الغضائری أیضا لم یطعن فیه أصلاً .

وبالجملة : إنّما النوفلی المجروح بالضعف الحسن بن محمّد بن سهل النوفلی ذکره النجاشی وقال : «ضعیف ، لکن له کتاب حسن کثیر الفوائد ، جمَعه وقال : ذِکْر مجالس الرضا علیه السلام مع أهل الأدیان» . (2)

وأمّا النوفلی هذا صاحب الروایة عن السکونی ، فلم یقدح فیه أحدٌ من أئمّة الرجال . وماینقل عن بعض القمّیّین ممّا لایوجب مَغمزاً فیه کما فی کثیر من الثقات الفقهاء الأثبات کیونس بن عبد الرحمن وغیره .

والمحقّق نجم الدین بن سعید أبوالقاسم مع تبالغه فی الطعن فی الأسانید بالضعف قد تمسّک فی المعتبر وغیره من کتبه ورسائله ومسائله فی کثیر من الأحکام بروایات السکونی وعمل بها والنوفلی هذا فی الطریق .

وکذلک الشیخ وغیره من عظماء الأصحاب قد عملوا بها واعتمدوا علیها وجعلوها من الموثّقات .

فإذن هذا الرجل مقبول الروایة وإن لم یکن حدیثه معدوداً من الصحاح . وقول العلاّمة فی الخلاصة : «عندی توقّف فی روایته بمجرّد مانقل عن القمّیّین وعدم الظفر بتعدیل الاصحاب له» (3) خارج عن مسلک الصحّة والاستقامة .

وکذلک علیّ بن محمّد بن شیرة القاسانی _ بالسین المهملة _ أبو الحسن ، قال النجاشی :

ص :183

کان فقیهاً ، مُکثراً من الحدیث ، فاضلاً ، غمز علیه أحمد بن محمّد بن عیسی ، وذَکر أنّه سَمِع منه مذاهبَ منکرة ، ولیس فی کتبه مایدلّ علی ذلک . (1)

والحقّ أنّ مجرّد غمز أحمد بن محمّد بن عیسی علیه مع شهادة النجاشی وغیره من عظماء المَشْیَخَة له بالفقه والفضل ، وعدم استناد ذلک الغمز إلی دلیل یدلّ علیه فی کتبه وأقواله ممّا لایوجب القدح فیه ، والحدیث من جهته یکون فی عداد الحسان .

وأمّا علیّ بن شیرة القاشانی _ بالشین المعجمة _ فثقة والحدیث من جهته صحیح بلا کلام ، ومن یتوقّف فی ذلک فمن التباس الأمر علیه .

ص :184

وإذ نسبة الطریق إلی ما یترتّب علیه من الأقسام تُشبه نسبةَ مقدّمتی القیاس المیزانیّ إلی النتیجة من وجه ، فکما النتیجة تتبع أخسَّ المقدّمتین ، فکذلک کلّ من الأقسام الأربعة بعد الصحیح الشریف علی الإطلاق یتبع أخسَّ مَن فی الطریق . فإذا کان فی رجال السند واحد مثلاً عدلاً فاسدَ المذهب وواحد إمامیّاً مسکوتاً عن مدحه وذمّه ، وسائر السند جمیعاً علی استجماع وصفی الإمامیّة والعدالة فعلی قول من یجعل الموثّق أعلی وأرجحَ من القویّ یکون الحدیث قویّاً ، وعلی رأی من یعکس یکون موثّقاً ؛ لکون مَن عدا الذی به الطریق قویّ أو موثّق علی هذا التقدیر أعلی منزلةً وأرجحَ مرتبةً ممّا قد اعتُبر فی حدّ أحدهما ، فلا یکون فی إدراجه فی أحدهما اهتضامٌ لجانب الدین ، وإهمال لجهة الاحتیاط ، وتساهلٌ فی اعتبار حال الروایة وحینئذٍ لایلزم اختلاط (1) الحصر باحتمال حصول قسم سادس کما ربما یقع فی بعض الأذهان .

وکذلک إذا کان واحد فی السند عدلاً غیرَ صحیح العقیدة ، وواحدٌ إمامیّاً ممدوحاً غیر منصوص علیه بالتعدیل ، ومَن عداهما مستجمع نصَّ التوثیق ووصف الإمامیّة ، فمن یقول : الحَسَن أعلی وأشرفُ من الموثّق یعتبرْ موثّقاً ، ومَن یعکس یجعله حَسَناً . ولا هناک لجانب الاحتیاط فی الدین إهمال ، ولا فی أقسام القسمة الأُولی الأصلیّة حصول قسم سابع .

ولکلّ من الأقسام الخمسة إلاّ القسم الرابع _ وهو القویّ _ درجات متفاوتة تفاوتاً تشکیکیّاً بالشدّة والضعف ، والکمال والنقص ، فصحیحة الإمامیّ الثقة الفقیه العالم المتقِن الضابط الورع الزاهد _ کأبانِ بنِ تغلبَ بن رباح ، وزرارة بن أعین الشیبانی ، وزکریّا بن آدم بن عبد اللّه بن سعد الأشعری القمّی زمیل الرضا علیه السلاممن المدینة إلی مکّة _ أصحُّ وأرجحُ وأشدُّ صحّةً وأقوی رجحاناً من صِحاح مَن نقص فی بعض الأوصاف . وعلی ذلک یقاس الأمر فی سائر الأقسام .

ص :186

والصحیح أنّ الضبط _ وهو فی الاصطلاح کون الراوی متحفّظاً ، متیقّظاً غیرَ مغفَّل علی لفظ اسم المفعول من التفعیل لا علی لفظ اسم الفاعل من الإغفال کما توهّمه بعض المغفَّلین من العامّة ومن الخاصّة _ لیس من شرط أن یکون الحدیث حسناً أو (1) موثّقاً علی قیاس الأمر فی الصحیح . بل إنّ ذلک فیهما من المکمّلات والمرجّحات .

وربّما یجعل کلّ من تلک الأقسام بحسب الکمال والنقص علی درجات ثلاث . واستقصاء القول هنالک مضمون لک فی معمول لنا فی الدرایة إن شاء اللّه سبحانه .

وأمّا القویّ _ وهو القسم الرابع _ فلا یتصحّح فیه درجات متفاوتة بالقوّة والضعف إلاّ بتفاوت درجات الإیمان قوّةً وضعفاً عند من یقول : إنّ الیقین قابل للشدّة والضعف .

وفی الحدیث الضعیف والعمل به وروایته من دون بیان ضعفه أقوال :

فالأشهر الذی علیه الأکثر من أصحابنا ومن العلماء العامّیّة : أنّه یجوز ذلک فی نحو المواعظ ، والقصص ، وفضائل الأعمال الواجبة ، وسنن الأذکار المندوبة والأفعال المستحبّة .

وبالجملة ، فی العبادات المندوبة مثوباتُها ، لا فی صفات اللّه تعالی وأسمائه وأفعاله وسائر المعارف الربوبیّة والعقائد الإیمانیّة ، ولا فی أحکام الحلال والحرام من أقسامها الخمسة التکلیفیّة ، والثلاثة أو الأربعة أو الخمسة أو الستّة الوضعیّة .

یقال : وفی حریم التسویغ حیث لایبلغ الضعف حدَّ الوضع والاختلاق ؛ قاله قوم من العامّة ورهط من أصحابنا ، ولا اعتداد بجدواه ؛ إذ الموضوع المختلَق إذا ثبت کونه موضوعاً مختلقاً خرج عن المقسم رأساً ، وإلاّ کان فی حریم التسویغ بَتَّةً .

وذهب فریق قلیلون إلی المنع عن العمل به وروایته لا علی التصریح بالضعف مطلقاً.

وفی إزائهم فِئون مجیزون مطلقاً فی الأحکام وغیرها ولکن حیث یکون له

ص :187

اعتضادٌ إمّا بالشهرة روایةً ، وإمّا بإفتاء العلماء بمضمونه .

والحقّ أنّ روایته _ علی التساهل فی ذکر ضعف السند _ إنّما المنع عن تسویغها فی الإلهیّات ومسالکها والربوبیّات ومعارفها، وبالجملة، حقائقِ العدل والتوحید وما یتعلّق بالعقائد الإیمانیّة وحِکَمها وأسرارها . وأمّا فی أبواب الشرائع والأحکام ومایتعلّق بالأعمال والأفعال فسائغة علی الإطلاق ، لکنّ العمل به غیر سائغ فیما عدا المسنونات والمندوبات والترهیبات والترغیبات إلاّ مع معاضدة الشهرة أو الفتوی .

وفی علماء العامّة وفی أصحابنا أیضاً مَن یُخرج عن کلّ مَن لم یُجمَع علی ترکه ، ویسوّغ العملَ بالمخرَج عنه ، وفیهم من یسوّغ إخراج الضعیف ولو عن مُجْمَع علی ترکه ، ویُجَوِّز العملَ به إذا لم یوجَد فی الباب غیرهُ ؛ لأنّه یراه أقوی من العمل بالقیاس والرأی .

وروی الدارِمیّ عن الشَّعبی قال : «ما حدّثک هؤلاء عن النبیّ صلی الله علیه و آله وسلمفخذبه ، وما قالوه برأیهم فألقه فی الحشّ (1) » . (2)

وقال النوویّ فی کتاب الأذکار : «قال العلماء من الفقهاء والمحدّثین (3) . . . »

ص :188

وهناک سؤال مشهور وهو أنّ العمل بالحدیث الضعیف فی المسنونات والمستحبّات ینافی ما تقرَّر عند العلماء واستقرّت علیه الآراء ، من عدم ثبوت الأحکام بالأحادیث الضعیفة ، وعدم جواز العمل بما لادلیل علیه من الشرع .

والجواب عنه : أنّ التعویل فی هذا الباب علی ما ورد فی المستفیض المشهور من طرق العامّة (1) والخاصّة عن النبیّ صلی الله علیه و آله وسلمأنّه قال : «من بلغه شیء من أعمال الخیر فعمل به أعطاه اللّه ذلک وإن لم یکن علی ما بلغه» . (2)

ومن طریق آخر :

من بلغه عن اللّه فضیلة فأخذها وعمل بها إیماناً باللّه ورجاءَ ثوابه ، أعطاه اللّه تعالی ذلک وإن لم یکن کذلک . (3)

وما رواه رئیس المحدّثین فی الصحیح _ ویعدّه غیر المتثقّف حسناً بإبراهیم بن هاشم _ عن هشام بن سالم ، عن أبی عبد اللّه الصادق علیه السلامقال ، قال : «من سمع شیئاً من الثواب علی شیءٍ فصنعه ، کان له أجره وإن لم یکن علی ما بلغه» . (4)

فالعمل والتمسّک هناک فی الحقیقة علی العموم بهذا الحدیث الصحیح ، وذاک المستفیض المشهور لابخصوصیّات الأحادیث الضعیفة .

وإذ هذا الصحیح وذاک المستفیض متخصّصا المنطوقِ والمفهومِ بالفضائل والمثوبات والنوافل والمندوبات ؛ فلذلک اختصّ جواز العمل بالحدیث الضعیف بما یکون فی مستحبّات أبواب العبادات ؛ ومن ثَمّ تری الأصحاب _ رضوان اللّه تعالی علیهم _ فی کتبهم الاستدلالیّة ربّما یحتجّون فی سنن العبادات ووظائف المستحبّات بأحادیثَ من طرق العامّة .

ص :189

وقال بعض المعروفین بالتنطّع فی العلوم النظریّة ممّن ظاهره المسیر علی مذهب الشافعی :

الذی یصلح للتعویل أنّه إذا وجد حدیثٌ ضعیف فی فضیلة عملٍ من الأعمال ولم یکن هذا العمل ممّا یحتمل الکراهة والحرمة فإنّه یجوز العمل به ویستحبّ ؛ لأنّه مأمون الخطر و مرجوّ النفع ؛ إذ هو دائر بین الإباحة والاستحباب ، فالاحتیاط العمل به برجاء الثواب .

وأمّا إذا دار بین الحرمة والاستحباب ، فلاوجه لاستحباب العمل به .

وإذا دار بین الکراهة والاستحباب ، فمجال النظر فیه واسع ؛ إذ فی العمل دغدغة الوقوع فی المکروه ، وفی الترک مَظِنّة ترک المستحبّ . فلینظر إن کان خطر الکراهة أشدَّ ، بأن یکون الکراهة المحتملة شدیدةً والاستحباب المحتمل ضعیفا ، فحینئذٍ یترجّح الترک علی الفعل ، فلا یستحبّ العمل به . وإن کان خطر الکراهة أضعفَ ، بأن تکون الکراهة _ علی تقدیر وقوعها _ کراهةً ضعیفةً دون مرتبة ترک العمل علی تقدیر استحبابه ، فالاحتیاط العمل به . وفی صورة المساواة یُحتاج (1) إلی نظر تامٍّ ، والظنّ أنّه مستحبّ أیضا ؛ لأنّ المباحاتِ تصیر بالنیّة عبادةً فکیف ما فیه شبهة الاستحباب لأجل الحدیث الضعیف .

فجواز العمل واستحبابه مشروطان . أمّا جواز العمل ، فبعدم احتمال الحرمة . وأمّا الاستحباب ، فبما ذکرنا مفصّلاً

لکن بقی هاهنا شیءٌ وهو أنّه إذا عُدِم احتمال الحرمة فجواز العمل لیس لأجل الحدیث ؛ إذ لو لم یوجد الحدیث یجوز العمل ؛ لأنّ المفروض انتفاء الحرمة .

لا یقال : الحدیث ینفی احتمال الحرمة ؛ لأنّا نقول : الحدیث الضعیف لایثبت به شیء من الأحکام ، وانتفاء احتمال الحرمة یستلزم ثبوت الإباحة ، والإباحة حکم شرعی ، فلا یثبت بالحدیث الضعیف . ولعلّ مراد النووی ما ذکرنا ، وإنّما ذکر جواز العمل توطئةً للاستحباب .

ص :190

وحاصل الجواب أنّ الجواز معلوم من خارج ، والاستحباب أیضا معلوم من القواعد الشرعیّة الدالّة علی استحباب الاحتیاط فی أمر الدین ، فلم یثبت شیء من الأحکام بالحدیث الضعیف ، بل أوقع الحدیث الضعیف شبهةَ الاستحباب فصار الاحتیاط أن یعمل به . واستحباب الاحتیاط معلوم من قواعد الشرع . (1) انتهی قوله بعبارته .

قلت : لیتَه کان من الصحّة والاستقامة علی سمت الجادّة وفی حریم السبیل فضلاً عن حصافة المتانة والصلوح للتعویل . ألیس من المتّضح المنصرح أنّه إن رام بإیقاع الحدیث الضعیف الشبهةَ إیقاعَه (2) الوهمَ أو الشکّ ، کان علی ما ادّعاه لکنّه غیر مُجْدٍ ؛ إذ لیس ذلک موجبَ استحباب العمل أصلاً ، کما لیس وهم الجنابة أو النوم مثلاً والشکُّ فی أحدهما بعد تیقّن الغسل أو الوضو یوجب استحباب ترک العمل باستصحاب حکم الیقین لتوهّم استحباب الاحتیاط فی الدین .

وإن رام به إیقاعَه (3) العلمَ أو الظنَّ ، فهو أوّل المسألة وحریمُ النزاع ، بل من المستبین أنّه لیس کذلک ، ولو کان لکان یتمّ إثبات الحکم به ، والمفروض المتّفق علی تسلیمه وإذعانه خلافُه .

وأیضا فی تسویغ الاحتیاط مطلقا بحث مستمرّ ، وکلام دائر علی ألسنة الفقهاء والأُصولیین .

وإذا قلنا بالتسویغ فذلک مختصّ بسبق ثبوت شغل الذمّة بالتکلیف لدلیل ناهض ومَدرک شرعی ، حتّی یکون الاحتیاط لحصول البراءة والخروج عن العهدة علی الیقین . والنظر هنا فی أصل ثبوت الاستحباب بالحدیث الضعیف ، والعمل بمقتضاه من بدو الأمر ، ولاخلاف فی عدم جواز الاحتیاط فی الدین بالعمل بمقتضی الاحتمال الموهوم أو المشکوک فیه ابتداءً من غیر نهوض دلیل شرعی إجماعا .

وأیضا ، المباح إنّما یصیر عبادةً بالنیّة إذا کان له من جهته المنویّة استحبابٌ ثابت

ص :191

من تلقاء الشرع ، لا إذا ما لم یکن مستحبّا شرعیّا بجهة من الجهات أصلاً .

وأیضا ، الدوران بین الحرمة أو الکراهة أو الإباحة وبین الاستحباب إنّما یتصحّح إذا کان الحدیث الضعیف الناطق بالاستحباب معارَضا بحدیث آخَرَ ضعیفٍ فی جانب الحرمة أو الکراهة أو الإباحة ، أو بأصالة الإباحة الأصلیّة وبراءة الذمّة من التکلیف الاستحبابی . وبالجملة ، بدلیل آخر شرعیّ یقاومه ولا یکون أقوی منه . وأمّا من دون ذلک فلایصحّ احتمال شیء من الحرمة والکراهة ؛ إذهما جمیعا علی خلاف الأصل .

وأیضا ، الأمن من الخطر لایتصوّر هناک عوض ؛ إذ العمل به علی سبیل الاستحباب الشرعی أو الإباحة الشرعیّة لاینسلخ أبدا عن اقتران احتمال الوقوع فی التشریع البدعی ، والبدعة التشریعیّة .

وأیضا ، معنی جواز العمل بالحدیث الضعیف الدالّ علی الاستحباب جواز الإتیان بما یفید استحبابَه علی جهة الاستحباب وقصد القربة ، لا الجواز الإباحی . وهذا لایکفی فیه مجرّد انتفاء الحرمة ، بل ذلک إنّما یفید عدم ترتّب الإثم والعقوبة علی العمل لاغیر . فقوله : «إذ لو لم یوجد الحدیث یجوز العمل» . باطل ، فلیتبصّر .

ص :192

ینقل عن أحمد بن حنبل أنّه قال :

أربعة أحادیثَ تدور علی الألسن فی الأسواق لیس لها أصل فی الاعتبار : «من بشّرنی بخروج آذار بشّرته بالجنّة» . و«من أذی ذمّیّا فأنا خصمه یوم القیمة» . و«یوم نحرکم یوم صومکم» . و«للسائل حقّ وإن جاءکم علی فرس» . (1)

قلت : «یوم نحرکم یوم صومکم» له أصل أصیل عندنا وإن لم یکن مسندا عن النبیّ صلی الله علیه و آله .

فقد روی رئیس المحدّثین فی خواتیم کتاب الحجّ فی باب النوادر عن محمّد بن یحیی وهو أبو جعفر العطّار ، عن محمّد بن الحسین وهو ابن الخطّاب ، عن محمّد بن إسماعیل وهو ابن بزیع ، عن الحسین بن مسلم ، عن أبی¨ الحسن الأوّل موسی الکاظم علیه السلام قال :«یوم الأضحی فی الیوم الذی یصام فیه ، ویوم عاشوراء فی الیوم الذی یفطر فیه» . (2)

وقال شیخنا الشهید _ رحمه اللّه _ فی الدروس : «روی الحسین بن مسلم عن أبی الحسن علیه السلام :«یوم الأضحی یوم الصوم ، ویوم عاشوراء یوم الفطر» . (3)

فأمّا بیان الحدیث فمن سبیلین :

أوّلهما : أن یُسار علی المسیر الظاهر ، فیعتبر یوم النحر موضوعا ویوم الصوم محمولاً ، وکذلک یوم عاشوراء موضوعا ویوم الفطر محمولاً ، ویرام فی معناه أنّه إذا ما غُمّت علیکم الأهِلّة وکنتم متحیّرین فی یوم نحرکم وقد کان هلال شهر رمضان ثابتا عندکم ثمّ غمّت الأهلّة من بعده ، فما کان یومَ صومکم الثابتَ عندکم ، فاتّخذوه بعینه یومَ نحرکم ، مثلا إذا کان أوّل شهر صومکم یومَ الجمعة ، فاتّخذوا یومَ الجمعة یوم نحر لکم ؛ وذلک لأنّ فرضکم أن تعتبروا شهر رمضان ثلاثین یوما ، فیکون یوم

ص :194

عیدکم یومَ الأحد ، ثمّ اعتبروا شهر شوّال تسعة وعشرین یوما ، وشهرَ ذی القعدة ثلاثین یوما ، أو بالعکس ؛ إذ لایکون ثلاثة شهور متتالیة ثلاثین ثلاثین ، فیکون غرّة شهرَ ذی الحجّة الحرام یومَ الأربعاء ویوم النحر یومَ الجمعة لا محالة .

وعلی هذا القیاس ، إذا غمّت الأهلّة وتحیّرتم فی یوم عاشوراء وقد کان هلال شوّال ثابتا ویوم العید متعیّنا عندکم ، فاتّخذوا یوم عیدکم بعینه یومَ عاشوراء ؛ وذلک لأنّ الأصل فی ذلک الشهر الثابتِ أوّلُه أن یکون ثلاثین یوما ، وفی الشهرین الأخیرین من بعده أن یکون أحدهما ثلاثین ، والآخَرُ تسعة وعشرین یوما ، وذلک فرضکم ؛ فإنّه وإن کان من المحتمل أن یکون کلٌّ منهما تسعة وعشرین إلاّ أنّه لایسوغ فی الشرع اعتبارُ ذلک بمجرّد الاحتمال فلیُفْقَه .

وثانیهما : أن یعکس اعتبار الوضع والحمل ، فیعتبرَ تقدیم الخبر تنبیها علی ادّعاء حصر مفهومه فی المبتدأ مطلقا ، أو علی الکمال وبالحقیقة ویقالَ : لایبعد أن یکون معناه أنّ یوم الصوم _ أعنی أوّل شهر رمضان _ هو المحقوق عند المؤمن ، والحقیق فی مذهب خلوص الإیمان بأن یُعدّ یومَ العید ، وهو یوم الأضحی .

وأمّا عید الفطر _ وهو أوّل شوّال _ فحقّه إذا ما کمل قسط الإیمان وتمّ نصاب استلذاذ العبادات والالتذاذ بها ولا سیّما الصّلاة التی هی معراج رُوع المؤمن ، والصوم الذی جزاء العاشق العارف به لقاءُ القدّوس الأحد الحقّ ، ووصالُ المعشوق الجمیل البهیّ القیّوم النور المطلق أن لایُعدَّ (1) عیدا ، بل یحسب کأنّه یوم عاشوراء ، ومأتما لمضیّ شهر الرحمة لفیوض أرواقه ، وحزنا علی فواته ، ووَجْدا علی فراقه . فها دعاء الصحیفة الکریمة السجّادّیة فی وداع شهر رمضان لبیان هذا المعنی موضِحٌ ما أوضحَه! ومبیّنٌ ما أبْیَنه!

حیث سمّاه سیّد الساجدین العیدَ الأعظم لأولیاء اللّه ، فقال علیه السلامفی وداعه :

ص :195

السلام علیک یا شهر اللّه الأکبر ، و یا عیدَ أولیائه الأعظمَ . السلام علیک یا أکرم مصحوب من الأوقات ، ویا خیر شهرٍ فی الأیّام والساعات . السلام علیک من شهرٍ قربت فیه الآمال ، ونُشرت فیه الأعمال . السلام علیک من قرینٍ جلّ قدره موجودا ، وأفجع فقده مفقودا ، ومرجوٍّ آلَمَ فراقه . السلام علیک من ألیفٍ آنس مقبلاً فسرّ ، وأوحش منقضیا فمضّ . السلام علیک غیرَ کریه المصاحبة ، ولا ذمیمَ الملابسة . السلام علیک کما وفدتَ علینا بالبرکات ، وغسلت عنّا دنس الخطیئات . السلام علیک غیر مودّع بَرَما ، ولامتروکٍ صیامه سأما . السلام علیک من مطلوبٍ قبل وقته ، ومحزونٍ علیه قبل فوته . السلام علیک ما کان أحرَصَنا بالأمس علیک ! وأشدَّ شوقَنا غدا إلیک! . السلام علیک وعلی فضلک الذی حُرِمناه ، وعلی ماضٍ من برکاتک سُلبناه .

وقال علیه السلام :فنحن مودّعوه وداعَ مَن عزّ فراقه علینا ، وغَمَّنا وأوحشنا انصرافُه عنّا .

وقال علیه السلام :اللهمّ صلّ علی محمّد وآله واجْبُر مصیبتَنا بشهرنا (1)

ولقد رأیت فی بعض آثار الصوفیّة :

أنّ الحسین بن منصور الحلاّج کان ینوی فی أوّل شهر رمضان ویفطر یوم العید ، ویختم القرآن فی کلّ لیلة فی رکعتین ، وکلّ یوم فی مأتی رکعة ، وکان یلبس السواد یوم العید ویقول : هذا لباس مأتم مَن یُردّ عملُه .

فلعلّ هذا فی مذهب استحقار الطاعة واستکبار المعصیة فی سبیل العبودیّة وجهٌ آخَرُ لاتّخاذ عید الفطر یومَ مأتمٍ .

وبالجملة : العارف إنّما یتعیّد بضاحیة نهار العرفان ، والعاشق إنّما یَتَنَوْرِزُ بطلوع شمس وجه الحبیب فی نیروز خلع الأجساد ورفض الأبدان .

جعلنا اللّه سبحانه من أهل سعادة لقائه . ومن المتبهّجین ببهجة الاستضاءة بنوره والابتهاء ببهائه ، بحرمة أخلاّئه من سفرائه ، وأصفیائه من أولیائه .

ص :196

وإمّا بکون ما یرویه المحدّث بسنده النظیف من أحادیث أحد الأُصول المعتبرة ، والکتب المعتمدة ، ککافی أبی جعفر الکلینی ، والفقیه والتوحید وعیون أخبار الرضا وعرض المجالس للصدوق ، والتهذیب والاستبصار والأمالی للشیخ لنا . وکصحیحی البخاری ومسلم ، وموطّأ مالک ، وصحیحی أبی عیسی الترمذی وأبی عبدالرحمن النسائی ، وسنن أبی داود السجستانی ، ومستدرک أبی عبد اللّه الحاکم ، وجامع الأُصول لابن الأثیر ، ومصابیح البغوی ، ومشکاة الطیبیّ للعامّة .

وهناک قسمان آخَران دون هذه الأقسام فی الرتبة :

أحدهما : بتقدّم وفاة مَن فی طبقة أحد الإسنادین المتساویین بالعدد بالنسبة إلی مَن فی طبقة مثلها فی الإسناد الآخر .

والآخر : بتقدّم السماع فی أحدهما مع اتّفاقهما فی وقت الوفاة .

وقال الحاکم من العامّة : «لایسمّی مرسلاً بل منقطعا» . (1)

وهذا الوجه أیضا خارج عن سبیل الاستواء . والصواب عندی أن یُصطلح علیه بالإبهام أو الاستبهام ، فیعتبرَ قسم آخَرُ ، ویسمّی المبهمَ والمستبهمَ . (2)

هشام عن الصادق علیه السلام ، ثمّ فی ساقة الکتاب یذکر متروکی أسانیدِه المعلّقة جمیعا .

وأمّا رئیس المحدّثین فأقلّ التعلیق جدّا . وسیرته الأکثریّةُ فی جامعه الکافی أنّه یذکر السند بتمامه ، أو یکتفی فی عِضة من أوّله بالإشارة إلی إسناد سبق .

والبخاری من العامّة آثر الإکثار من التعلیق فی صحیحه ، وهو قلیل جدّا فی صحیح مسلم ، کقوله فی التیمّم : روی اللیث بن سعد .

ولایَخرج المعلَّق عن حریم الصحّة إذا کان معروفا من جهة ثقات عُلّق عنهم أو کان لایصحبه خَلَل الانقطاع ؛ لما قد علم من التزام المحدّث أن لایکون تعلیقه إلاّ عن ثقاتٍ .

فی صحاحهم . (1)

وثالثها : أن یختلف متنٌ واحد بعینه بالزیادة والنقیصة فی سندین ، فیدرَج الراوی الزائدُ فی سند الناقص .

ورابعها : أن یسمع حدیثا واحدا من جماعة مختلفین فی سنده مع اتّفاقهم علی متنه ، أو فی متنه مع اتّفاقهم علی سنده ، فیدرج روایتَهم جمیعا علی الاتّفاق فی المتن أوالسند ، ولا یتعرّض لذلک الاختلاف .

وتعمّد هذه الأقسام أیَّها کان حرام .

ومنه غرائب الشیوخ فی أسانید المتون الصحیحة غیر الشواذّ . قال الطیّبی (1) وغیره :

وهذا ما یعنیه الترمذی بقوله : «غریب من هذا الوجه» _ قالوا _ : ولایوجد ما هو غریب متنا لا إسنادا إلاّ إذا اشتهر الحدیث المفرد ، فرواه عمّن تفرّد به جماعة کثیرة فإنّه حینئذٍ یصیر غریبا مشهورا ، أو غریب المتن ، غیرَ غریب الإسناد إلاّ بالنسبة إلی أحد طرفیه ، فإنّ إسناده متّصف بالغرابة فی طرفه الأوّل ، وبالشهرة فی وسطه وفی طرفه الآخر . (2)

وقد یطلق الغریب فیقال : هذا حدیث غریب . ولایرام هذا الاصطلاح بل یراد غرابته من حیث التمام والکمال ، فی بابه ، أو غرابة أمره فی الدقّة والمتانة واللطافة والنفاسة ، ولاسیّما ما إذا قیل : (3) حسن غریب ، وذلک کما یقال : هذا حدیث حسن . ولا یراد المعنی الاصطلاحی ، ولاسیّما ما إذا قیل : حسن صحیح . وإن کان ربما یعنی بذلک أنّه حسن من طریق ، صحیح من طریق آخر ؛ فلذلک قال الطیّبی فی شرح مشکاة المصابیح :

وقول الترمذی : «حدیث حسن صحیح» یرید أنّه روی بإسنادین ، أحدهما یقتضی الصحّة ، والآخرُ الحسنَ ، أو یرید اللغویّ ، وهو ما تمیل إلیه النفس وتستحسنه . (4)

ومن هذا الباب الحدیث الصحیح المستفیض من طرق العامّة عن أبی سعید قال ، قال رسول اللّه صلی الله علیه و سلم : «یا علیّ لایحلّ لأحدٍ أن یجنب فی هذا المسجد غیری وغیرک» .

قال علیّ بن المنذر : «فقلت لضرار بن صُرَد : ما معنی هذا الحدیث ؟ قال :

ص :203

لایحلّ لأحدٍ یستطرقه جنبا غیری وغیرک» . (1)

أورده صاحب المشکاة ثمّ قال : «رواه التِرمذی وقال : هذا حدیث حسن غریب» .

قلت : ولذلک سمّاه البغوی فی المصابیح غریبا ، (2) لا لأنّه من الأحادیث الصحیحة الغریبة الإسناد اصطلاحا ففی کتبهم المعتمدة بأسانیدهم المعتبرة مسندا عن أُمّ سلمة _ رضی اللّه عنها _ أنّ النبیّ صلی الله علیه و آلهقال بأعلی صوته : «ألا إنّ هذا المسجد لایحلّ لجنب إلاّ للنبیّ وعلیّ وفاطمة بنت محمّد» . (3)

ومن الطرق الخاصّة رُوِیناه من طریق الصدوق فی عیون أخبار الرضا من المسانید عن سیّدنا أبی الحسن الرضا علیه السلام عن آبائه الطاهرین صلوات اللّه علیهم أجمعین (4)

ولیعلم أنّ حدیث : «إنّما الأعمال بالنیّات» . (5) قد عدّه کثیر من علماء الحدیث غریبَ الإسناد فی الأوّل ، مشهورَه فی الآخِر ؛ (6) حیث رواه عن یحیی بن سعید أکثرُ من مأتی راوٍ . ویحکی عن أبی إسماعیل الهرویّ أنّه کتبه من سبعمائة طریق عن یحیی بن سعید . (7) وذکر رهط من العلماء أنّه کما رواه الصحابة عن عمر عن النبیّ صلی الله علیه و آلهفقد رَوَوه أیضا عن أنس ، وعن أبی سعید الخُدْری أیضا _ رضی اللّه تعالی عنه _

ص :204

وأیضا عن أمیرالمؤمنین علیّ علیه السلام . (1) ومن حدیث جمع من الصحابة بمعناه . فإذن لیس هو من حریم حدّ الغرابة فی شیء أصلاً .

الباقر علیه السلامفی توحید اللّه تعالی وتمجیده وتوصیفه وتقدیسه :

هل سمّی عالما وقادرا إلاّ لأنّه وهب العلم للعلماء ، والقدرة للقادرین؟ وکلّ ما میّزتموه بأوهامکم فی أدقّ معانیه مخلوق مصنوع مثلکم مردود إلیکم . والبارئ تعالی واهب الحیاة ، ومقدّر الموت ، ولعلّ النمل الصغار یتوهّم أنّ للّه تعالی زُبانَیَیْن ، فإنّهما کمالهما ، ویتصوّر أنّ عدمهما نقصان لمن لایکونان له . هکذا حال العقلاء فیما یصفون اللّه تعالی به فیما أحسب . وإلی اللّه المفزع (1)

فأهل العصر حرّفوا «زُبانَیین» بتثنیة الزُبانَی _ وزُبانَیا النملِ أو العقربِ قرناها ، و«الزُبانَیان» کوکبان نیّران علی أحد منازل القمر _ ب «زَبانیتین» بزیادة التاء ، وإدخالِها بین الیاءین ، مثنّاة الزبانیة . و«الزبانیة» ملائکة العذاب واحدها «زِبْنِیَة» بکسر الزای کعِفْرِیة من الزَّبْن _ بالفتح _ وهوالدفع . وقیل : «زِبْنِیّ» وکأنّه نُسب إلی الزَّبْن ثمّ غیّر للنسب ، کقولهم : «إمسیّ» مکسورَ الهمزة فی النسبة إلی أمسِ . وأصل «الزَبانیة» فی جمع «زِبْنِیٍّ» ، «زَبانِیٌّ» بالتشدید ، فقیلت : «زبانیة» بالتخفیف ، علی تعویض التاء عن إحدی الیاءین . و«الزَبانِی» _ بالفتح والتخفیف المنسوبُ إلی الزبن _ «کالزِبْنِیّ» _ بالکسر والتشدید _ علی تعویض الألف عن الیاء ، کالیمانی والنجاشی . وقد أسمعناک من قبل .

وبالجملة : ضعف التحصیل بَذْرٌ زرْعُه العثرة ، وسوء التدبّر (2) شجرة ثمرتها السَقْطَة . وفی المَثَل السائر : تعثر بقدمک خیر من أن تعثر بلسانک ، وتعثر بلسانک خیر من أن تعثر بقلمک . ومن اللّه العصمة ، وبیده أزمّة الفضل ، ومقالید الرحمة .

والمحسوس اللفظی : إمّا من تصحیف البصر ، أو من تصحیف السمع فی موادّ الألفاظ وجواهر الحروف ، أو فی صورها الوزنیّة وکیفیّاتها الإعرابیّة وحرکاتها اللازمة . وکلّ منهما إمّا فی الإسناد ، أو فی المتن .

أبوبکر الصولی فقال : «شیئا» بالشین المعجمة . (1)

وکحدیثه لنسائه صلی الله علیه و آله وسلم : «أیّتکنّ صاحبة الجمل تنبحها کلاب الحوأب» . (2) وفی روایة : «کیف بإحداکنّ إذا تنبحها کلاب الحوأب؟» . (3)

وأمّا الذی من تلقاء السمع فی الإسناد فکحدیث یُروی عن «عاصم الأحول» . (1) رواه بعضهم فقال : «واصل الأحدب» . وقال الدار قطنی : «هذا من تصحیف السمع دون البصر» ؛ (2) لأنّه لا التباس ولا اشتباه بینهما فی الکتابة .

قال الکرمانی فی شرح صحیح البخاری :

قال النووی : هو بهمزة الاستفهام الإنکاری ، أی أنْکِروا علی من قال : لاتکتبوه ، أی لاتجعلوا [ أمره ]کأمرِ مَنْ هذی فی کلامه . وإن صحّ بدون الهمزة فهو أنّه لمّا أصابه الحیرة والدهشة لعِظَم ما شاهده من هذه الحالة الدالّة علی وفاته وعظم المصیبة ، أجری الهجر مجری شدّة الوجع .

أقول : هو مجاز ؛ لأنّ الهذیان الذی للمریض مستلزم لشدّة الوجع فأطلق الملزوم وأراد اللازم ، أو هو من الهجر ضدّ الوصل ، أی هجر من الدنیا . وأطلق بلفظ الماضی ؛ لما رأوا فیه من علامات الهجرة من دار الفناء . وفی بعضها أهْجر من باب الإفعال . (1) انتهی کلامه .

قلت : ممّا لایخفی علی المتدرّب فی الفنون العربیّة ، والعلوم اللسانیّة أنّ ما بمعنی «الهجرة» من مکان إلی آخر إنّما هو «هاجَرَ» علی وزن فاعَلَ من المفاعلة ، لا «هجر» علی وزن فعل ، أو «أهجر» علی وزن أفعل ، فإنّهما من الهُجْر بمعنی الهذیان ، والإهجارِ بمعنی الفحش والتخلیط ، کما أنّ الفِعل من ضدّ الحَضَر من بلد مثلاً إلی آخَرَ : سافر یسافر ، لا سفر یسفر ، أو أسفر _ یُسفر ، فإنّهما من السفارة بمعنی الرسالة والکتابة ، والإسفارِ بمعنی الإضاءة والإشراق .

وأمّا «الهَجْر» ضدّ الوصل ، فالصحیح فیه : هجر فلانٌ فلانا یهجره هجرا ، لا هجر فلان من بلد کذا أو من مقام کذا ، وکذلک «سفر» فهو سافِرٌ ، فالصحیح فیه أنّه من السَفْر _ بالتسکین _ بمعنی الخروج إلی السفَر لا بمعنی السفَر والمسافرة من بلد إلی بلد .

فتوجیه الکرمانی تصحیف غلط معنوی . وإنّما کان یتصحّح له وجه لو کان قال عمر : ما شأنه؟ أهَجَرَنا؟ علی أنّ فیه أیضا من البشاعة ما لایتکلّفه ذو ذوق صحیح .

وأمّا تأویل النووی ففیه تصحیفان غلطان : لفظی ومعنوی ، وکیف یصحّ صوغ

ص :211

الاستفهام الإنکاری هناک مع ما قد جری الحال علیه من المنع والردع من تمشیة قول النبیّ صلی الله علیه و آله وعن امتثال أمره صلی الله علیه و آله بالإتیان بالدواة والقرطاس؟!

ثمّ مَن کان تصوّر مصیبة النبیّ صلی الله علیه و آله _ مع حیاته _ یغیّر علیه الحالَ ، ویسلب عنه الاختیار إلی حیث یوقعه فی إطلاق الهذیان علی کلامه صلی الله علیه و آله ، والحیلولةِ بین الأُمّة وبین کتابه العاصم عن الضلال بعده ، لیتَه یکون بعد موته صلی الله علیه و آله والوقوعِ فی فجیعة مأتمه ورزیّة فراقه مشدوها (1) بعِظَم المصیبة عن تدبیر الخلافة والسعیِ فی سبیل تقمُّصها ، وبتجهیز الحبیب ودفنه وتسلیته أصحاب مصیبته ، من عترته وحامّته وأهله وأولاده عن حضور السقیفة وطلب الرئاسة ، وتزویر البیعة لها وسلّ السیف علیها .

فأمّا ما قال ابن الأثیر فی نهایته :

منه حدیث مرض النبیّ «قالوا : ما شأنه؟ أهَجَر؟» أی اختلف کلامه بسبب المرض ، علی سبیل الاستفهام ، أی هل تغیّر کلامه واختلط لأجل ما به من المرض؟ هذا أحسن ما یقال فیه ، ولایُجعل (2) إخباراً فیکونُ إمّا من الفحش أو الهذیان . والقائل کان عمر ولایُظنّ . فی «أ» و «ب» : «لا تجعل» و «لا تظنّ» . به ذلک . (3)

فهو وإن کان أحسنَ من کلام النووی وغیره علی ما قاله ؛ لکنّه أیضاً لیس ممّا ینفع عمر ویجدیه أصلاً ؛ لأنّ تسویغ احتمال الفحش أو الهذیان فی کلام النبیّ صلی الله علیه و آله_ کما هو مقتضی مقام الاستفهام _ یکفی فی حروف المستفهم عنه عن حریم حرم الإسلام .

ثمّ مخالفة أمره وعصیان حکمه و مَنْعُ المأمورین من جنابه بالإتیان بالدواة والقرطاس عن الامتثال _ مع ما قد نصّ علی أنّه یرید أن یکتب لهم کتاباً یعصمهم عن الضلال _ ممّا لاتسعه دائرة صلوح التأویل ، ولایحویه نطاق تجشّم الاعتذار .

ص :212

ولقد أغرب مهذّب علومهم وعلاّمة علمائهم محمّد بن عبد الکریم الشهرستانی _ مع شدّة عتوّه فی تعصّبه وفرط عناده فی مذهبه _ فیما صنع فی کتاب الملل والنحل حیث قال فی بیان أوّل شبهة وقعت فی الخلیقة ، ومَن مصدرُها فی الأوّل ومَن مظهرها فی الآخر :

اعلم أنّ أوّل شبهة وقعت فی الخلیقة : شبهة إبلیسَ ، ومصدرها استبداده بالرأی فی مقابلة النصّ ، واختیاره الهوی فی معارضة الأمر _ وساق القول فی ذکرها إلی حیث قال _ : إنّ الشبهاتِ الساریةَ فی أذهان الناس کلّها ناشئة من شبهات اللعین الأوّل .

_ ثمّ قال _ : المقدّمة الرابعة فی بیان أوّل شبهة وقعت فی الملّة الإسلامیّة ، وکیف انشعابها ، ومَنْ مصدَرُها ، ومَنْ مُظهرها ؟ وکما قرّرنا أنّ الشبهات التی وقعت فی آخر الزمان هی بعینها تلک الشبهات التی وقعت فی أوّل الزمان ، کذلک یمکن أن نقرّر فی زمان کلّ نبیٍّ ، ودور صاحب کلّ ملّة وشریعة : أنّ شبهات أُمّته فی آخر زمانه ناشئة من شبهات خصماء أوّل زمانه من الکفّار والمنافقین ، وأکثرها من المنافقین وإن خفی علینا ذلک فی الأُمم السالفة ؛ لتمادی الزمان .

فلم یخف من هذه الأُمّة أنّ شبهاتها کلَّها نشأت من شبهات منافقی زمن النبیّ صلی الله علیه و آله وسلم ؛ إذ لم یرضوا بحکمه فیما یأمر وینهی . _ وذکر حدیث ذی الخوَیصِرة التمیمی وساق البیان إلی أن قال _ : والمنافقون یخادعون ، فیظهرون الإسلام ویبطنون النفاق ، وإنّما یظهر نفاقهم فی کلّ وقت بالاعتراض علی حرکات النبیّ صلی الله علیه و آله وسلم وسکناته فصارت الاعتراضات کالبذور ؛ فظهرت منها الشبهات کالزروع .

_ ثمّ ذکر اختلافات الواقعة فی حال مرضه وبعد وفاته صلی الله علیه و آله وسلم بین الصحابة فقال _ : فأوّل تنازع وقع فی مرضه صلی الله علیه و آله وسلم فیما رواه محمّد بن إسماعیل البخاری بإسناده عن عبد اللّه بن عبّاس رضی اللّه عنه ، قال : لمّا اشتدّ بالنبیّ مرضه الذی توفّی فیه قال : «ائتونی بدواةٍ وقرطاس أکتبْ لکم کتاباً لن تضلّوا بعدی» فقال عمر : إنّ رسول اللّه قد غلبه الوَجَع ، حسبنا کتابُ اللّه ، وکثر اللَغَطُ ، فقال النبیّ صلی الله علیه و آله : «قوموا عنّی لاینبغی عندی التنازع» .

قال ابن عبّاس : الرزیّة کلُّ الرزیّة ما حال بیننا وبین کتاب رسول اللّه .

ص :213

والخلاف الثانی أنّه صلی الله علیه و آله وسلم قال : « جهّزوا جیش أُسامة ، لعن اللّه من تخلّف عنها» . فقال قوم : یجب علینا امتثال أمره _ وأُسامة قد برز عن المدینة _ وقال قوم : اشتدّ مرض رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم فلا تسع قلوبَنا مفارقتُه ، فنصبر حتّی نَبصرَ أیّ شیء (1) یکون آخره . (2) هذا کلام الشهرستانی بعبارته .

ویقرب منه ما قال الآمدی :

کان المسلمون عند وفاة رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم علی عقیدة واحدة وطریقة واحدة إلاّ من کان یبطن النفاق ، ویظهر الوفاق . ثمّ نشأ الخلاف بینهم ، وذلک کاختلافهم عند قول النبیّ صلی الله علیه و آله وسلم فی مرض موته : «ائتونی بقرطاس أکتبْ لکم کتاباً لاتضلّوا بعدی» . حتّی قال عمر : إنّ النبیّ قد غلبه الوجع ، حسبنا کتاب اللّه . وکثر اللغَطُ فی ذلک حتّی قال النبیّ : «قوموا عنیّ لاینبغی عندی التنازع» .

قلت : اللغَطُ _ بإعجام الغین وإهمال الطاء وبالتحریک _ : أصوات مبهمة غیر مفهومة المعنی بضجّة وهُوْشة ، یقال : لغط القوم یلغطون لغَطاً ، وألغَطُوا یُلْغِطُون إلغاطاً . ومن بِدْع التصاحیف بحسب المعنی ماحکوه عن أبی موسی الأشعری أنّه قال : «نحن قوم لنشرف ، ونحن من عَنَزَةٍ صلّی إلینا رسول اللّه صلی الله علیه و آله» . (3) یرید بذلک ما روی «أنّه صلی الله علیه و سلم صلّی إلی عَنَزَةٍ» . وهی _ بالتحریک _ : حربةٌ أطول من العصا وأقصر من الرمح مثل نصفه أو أزید من النصف یسیراً ، وفیها سنان کسنان الرمح ینصبها المصلّی بین یدیه سُتَیْرةً ، فتوهّم أنّه صلی الله علیه و آله صلّی إلی قبیلتهم بنی عنزة .

قالوا : وهذا تصحیف معنوی عجیب . (4)

ثمّ من تتمّات المقام أنّه قد وقعت من الذین شارکونا فی الصناعة ، ولم

ص :214

یساهمونا فی البضاعة ، أدرکوا عصرنا من الدهر والمدّة ، ولم یلحقوا شَأْوَنا (1) فی التصلّب من العلم والحکمة تحریفاتٌ غریبة ، وتصحیفات عجیبة ، لفظیّة ومعنویّة ، فی أفانین العلوم وطبقات الصناعات .

وکذلک «التَتایُع» التهافت فی الشرّ والتسارع إلیه ، مفاعلةً وتفاعلاً من التَیَعان ، یقال : تاع القیء یتیع تَیْعاً وتَیَعاناً : خرج . وتاع الشیء : ذاب وسال علی وجه الأرض . وتاع إلی کذا یتیع : إذا ذهب إلیه وأسرع . وبالجملة : بناء المفاعلة والتفاعل منه لایکون إلاّ للشرّ .

ضیّعت اللغة؟

ومنها : فی الآثار : «اختبر مَن تقتاس به من الحکماء ، والزَم خیرتک من العلماء ، ولاتکن الإمَّعَةَ» .

ومنها : فی الحدیث : «اُغد عالماً أو متعلّماً ولاتکن إمَّعَةً» (1) فسّره أئمّة الفنّ بالذی یقول لکلّ أحد : أنا معک .

الإمّعة _ بکسر الهمزة وتشدید المیم _ الذی لا رأی معه ، فهو یتابع کلّ أحد علی رأیه ، و«الهاء» فیه للمبالغة . ویقال فیه : إمَّعٌ أیضاً ، ولایقال للمرأة : إمَّعة . وهمزته أصلیّة ؛ لأنّه لایکون إفْعَلٌ وصفاً» . (1)

اللَّهُ رَبِّی » . (1) أصله : لکن أنا هو اللّه ربّی . فحُذفت الألف فجاء التشدید ؛ لالتقاء النونین .

ومن هذا الباب قولهم : «لیس لابَعدَ له» کان فی الأصل : هذا لیس ممّا بعده غایة فی الجودة أو الرداءة ، فاختُصر فقیل : لیس بعده ، ثمّ أُدخل علیه «لا» النافیةُ للجنس واستُعمل استعمالَ الاسم المتمکّن .

وکذلک قولهم فی مقام المدح أو الذمّ : «إنّه وإنّه» أی إنّه عالم وإنّه کریم ، وإنّه أمین مثلاً ، أو إنّه جاهل ، وإنّه لئیم وإنّه خائن . ومن هذا السبیل قولهم : «وهذا دلیل علی أنّه» .

ومنها فی الحدیث من طریق رئیس المحدّثین فی الکافی ، ومن طریق الصدوق فی کتاب من لایحضره الفقیه عن القاسم بن یحیی ، عن جدّه الحسن بن راشد ، قال : قلت لأبی عبداللّه علیه السلام : إنّ الناس یقولون : إنّ المغفرة تنزل علی من صام شهر رمضان للیلة القدر ، فقال : «یا حسن إنّ الفاریجان إنّما یُعطی أُجرتَه عند فراغه وذلک للیلة العید» . (2)

فمن أصحاب التصحیف من أبناء العصر مَن صحّف «النون» ب «الراء» .

ومنهم من زاد فی طنبور التصحیف نغمةً فصحّف «الفاء» أیضاً ب «القاف» ولم یکن له سبیل إلاّ إلی أن یتقوّل ، فیقولَ : «القاریجار» معرّبُ «کاریکر» .

وما ذلک کلّه إلاّ من قلّة البضاعة وضعف التحصیل . واللفظة عربیّة ، تلیدة (3) غیر مولَّدة ، وهی بالفاء قبل الألف ، والراءِ قبل الیاء المثنّاة من تحتُ ، ثمّ الجیمِ قبل الألف ، والنونِ أخیراً ، من «الفِرْجَوْن» ، أی من یعمل بالفرجون ، والفرجون : المِجَسَّة _ بکسر المیم ، ثمّ الجیم المفتوحة قبل المهملة المشدّدة _ وکذلک المِحَسّة _ بالمیم

ص :220

المکسوره قبل الحاء المهملة المفتوحة ، ثمّ تشدید السین المهملة _ وهی ما تُفَرْجَنُ به الدابّةُ .

والفرجون أیضاً : المحشّ والمحشّة _ بکسر المیم قبل الحاء المهملة المفتوحة ، ثمّ الشین المشدّدة _ أی آلة حدیدیّة تستعمل فی الحصاد ، ویقطع بها الحشیش ، وأیضاً ما تُحرَّک به النار من حدید .

ومنها : عنه صلی الله علیه و سلم فی خطبة الجمعة : «طول صلاة الرجل وقِصَر خطبته مَئِنَّةٌ (1) من فقهه ، فأطیلوا الصلاة وأقصروا الخطبة» . (2)

وعن أبی عبیدة : «معناه أنّ هذا ممّا یُعرف به فقه الرجل» . (1)

وهی مَفْعِلة من «إنّ» التوکیدیّة وحقیقتُها مکانٌ لقول القائل : إنّه عالم ، وإنّه فقیه .

ومنها : فی الحدیث : «أوّل جمعة جَمَّعها رسول اللّه صلی الله علیه و سلمبالمدینة» . (2)

وفی صحیحة منصور عن أبی عبد اللّه الصادق علیه السلام : «یجمِّع القوم الجمعة إذا کانوا خمسةً فمازاد» . (3) وفی کتب الأصحاب : ویجمّع الفقهاء فی زمان الغیبة .

وبالجملة : ذلک متکرّر جدّا فی الأحادیث ، وفی أقاویل الفقهاء .

و«الجمّیع» بالتشدید من التجمیع وهو الإتیان بصلاة الجمعة . وعامّة أهل العصر یغلطون فیقرؤونها بالتخفیف من الجمع ، ولایفطنون لفساد ذلک مع شدّة وضوحه .

قال الجوهری فی الصحاح : «وجمّع القوم تجمیعا أی شهدوا بالجمعةَ وقضَوا الصلاة فیها» . (4)

وقال ابن الأثیر فی النهایة :

جمّعت _ بالتشدید _ صلّیت ، ومنه حدیث معاذ : أنّه وجد أهل مکّة یجمِّعون فی الحِجْر فنهاهم عن ذلک _ أی یصلّون صلاة الجمعة فی الحجر _ ونهاهم ؛ لأنّهم کانوا یستظلّون بفیء الحجر قبل أن تزول الشمس ، فنهاهم . (5)

وفی مغرب المطرّزی : «وجمّعنا ، أی شهدنا الجُمعة ، أو الجماعة وقضینا الصلاة فیها» . (6)

ثمّ إنّ العلاّمة رحمه اللّه تعالی قال فی کتاب الاعتکاف من کتابه المختلف :

ص :223

مسألة : قال المفید رحمه اللّه تعالی فی کتاب الاعتکاف : المساجد التی جمّع فیها نبیّ أو وصیّ نبیّ أربعة _ ثمّ قال _ : والمراد بالجُمَع فیما ذکرناه هاهنا صلاةُ الجمعة بالناس جماعةً ، دون غیرها من الصلوات . (1)

«من بیته کذا» بالموحّدة قبل المثنّاة من تحتُ قبل المثنّاة من فوقُ ، وإعجامِ «ذال» کلمة الإشارة من بعد کاف التشبیه . ثمّ لم یقنع بفضائح هذه القراءة ، بل زاد فی طنبور الفضیحة نغمةً ، فقال فی شرحها : إنّه صلی الله علیه و آلهکان عند دخول بیته یقدِّم رجله الیمنی ، وعند الخروج من داره رجله الیسری .

یختصّ بالمدنی والشامی . (1)

ثمّ ممّا یَهْفُو فیه المصحّفون «بَدَّن» و«جَمَل» .

فاعلم أنّ الصحیح فی الأوّل التشدید من التبدین بمعنی الکِبَر فی السنّ ، یقال : بَدَّنت ، أی کَبرتُ وأسننتُ ، لا بالتخفیف من البدانة وهی السِمَن والضخامة ؛ لأنّ ذلک خلاف صفته صلی الله علیه و آله .

وقیل : هو الممتنع امتناعَ طَلِبةٍ ، لا امتناعَ إباءٍ ، یقال : احبنطأت واحبنطیت ، والحَبَنْطَی : القصیر البطن وأصله من الحَبَط _ بالتحریک _ والنون والهمزة والألف والیاء زوائدُ للإلحاق . (1)

وإمّا بالکاف بمعنی التمصمص بالمهملتین ، ومعناه الاغتسال من الدَنَس للتنظّف والتطهّر ، کغسل الجمعة وسائر الأغسال المسنونة لِلنظافة لا لرفع الحدث ،وأصله من مَصْمَصَ إناءه : إذا غسله وجعل فیه الماء وحرّکه للتنظیف .

«واتیتُ» من المُواتاة الموافقة وحسن المطاوعة . وأصله الهمز فخفّف وکثر حتّی صار یقال بالواو الخالصة ولیس بالوجه .

سِنون ، والغافلون عن ذلک غالطون .

_ بالکسر _ فهو الذی أفلس وعلیه دَین .

و«أحصن» الرجل بمعنی تزوّج ، وکذلک أحصنت المرأة بمعنی تزوّجت ، فهو مُحْصَن وهی مُحْصَنة _ بالفتح فیهما لاغیر _ أی متزوّج ومتزوّجة .

فأمّا من الإحصان بمعنی الإعفاف : فهی مُحصِنة ومُحصَنة بالکسر والفتح جمیعا علی القیاس . أمّا الکسر فبمعنی أنّها عافّة عفیفة أحصنت وأعفّت فرجَها . وأمّا الفتح فبمعنی أنّها عفیفة أحصنها زوجُها وأعفّها . وقد نصّ علی ذلک المطرّزی فی کتابیه المعرب والمغرب (1) والجوهری فی الصحاح . (2)

وقال ابن الأثیر فی باب «حصن» من کتابه النهایة _ بعد تحقیق القول فی الاحصان _ : «والمحصَن _ بالفتح _ یکون بمعنی الفاعل والمفعول وهو أحد الثلاثة التی جئن نوادرَ ، یقال : أحصن فهو محصَن ، وأسهب فهو مسهَب وألفج فهو ملفَج» . (3)

وفی باب «سه» منه : «یقال أسهب فهو مسهب _ بفتح الهاء _ وهو أحد الثلاثة (4) التی جاءت کذلک» . (5)

وفی باب «لف» منه :

أطعموا ملفجیکم _ الملفج بفتح الفاء _ : الفقیر ، یقال : ألفج الرجل فهو ملفَج علی غیر قیاس ، ولم یجئ إلاّ فی ثلاثة أحرف : أسهب فهو مُسهَب ، وأحصن فهو مُحصَن ، وألفج فهو مُلفج ، الفاعل والمفعول سواء . ومنه حدیث الحسن :«قیل له : أ یُدالِکُ الرجلُ المرأةَ؟ قال : نعم ، إذا کان مُلفَجا» أی یَمْطُلها بمَهرها إذا کان فقیرا .

ص :231

والمُلفِج _ بکسر الفاء _ الذی أفلس وعلیه دَین .

إلی کلام مثلاً علی الإطلاق ، ولم یبیّن علی البتّ أنّ ذلک علی أیّ وجه ومن أیّ سبیل؟ _ قولُهم : (1)

«اَمَیْدِیٌّ أم مَرجول» .

فأُذهبُها بالتسوّک .

والجزّ _ بالزای _ مِن جَزِّ الرأس بمعنی حلْقِه وتحلیقه .

ومستقرّ شوکة الإسلام وقوّته من بعد ضعفه ونَأنَأَته (1) طَیْبةِ (2) المبارکة ، والخمس التی هی مدّة اللبث فی الدوران المستأنف أخیرا هی زمان خلافة أمیر المؤمنین علیه السلاموستّة أشهر من زمان أبی محمّد الحسن علیه السلام .

هذا ما استفدته من سیاق الحدیث وأوردته فی معلّقات الصحیفة الکریمة وأفدت المتعلّمین إیّاه ملاوة (3) من الدهر . وإنّ قاطبة أصحاب عصرنا وأبناء زمننا _ إذ لم یکن لهم قسطٌ صالح من التحصیل _ ضلّوا هنالک عن السبیل ، وتاهوا تیهانا بعیدا ، فصحّفوا معناه تصحیفا سحیقا ، وحرّفوا مَغزاه تحریفاً محیقا . (4)

ولْنَطْوِ الآنَ کشفَ الذکر عن هذا النمط من القول ، ولنرجع إلی حیث فارقناه ممّا نحن فی سبیله .

أصابعه ، وکذلک یقول مَن بعد التابعی (1) إلی الطرف الأوّل من الإسناد .

ومنه العدّ بالید فی حدیث تعلیم الصلاة علی آل النبیّ صلّی اللّه علیه وعلیهم . (2)

أو علی حالة ، کالقیام فی الراوی ، أو الاتّکاء حال الروایة من مبدأ السند إلی منتهاه .

أو علی قول وفعل جمیعاً ، کالمسلسل بالمصافحة المتضمّن لفعل المصافحة من کلّ واحد من رجال الإسناد ، وقولِ کلّ واحد منهم : «صافحنی بالکفّ التی صافح بها فلاناً فما مَسَستُ خزّاً ولاحریراً ألینَ من کفّه» .

ومنه المسلسل بالتلقیم ؛ لتضمّنه فعلَ التلقیم ، وقولَ کلّ واحد : «لقّمنی فلانٌ بیده لقمة» . وکذلک المسلسل ب «قرَّبَ إلیّ جُبناً وجَوزاً» . والمسلسل ب «الضیافة علی الأسودین : التمر والماء» .

وأمّا حدیث : «اللهمّ أعنّی علی شکرک وذکرک وحسن عبادتک» ، ففی أکثر طرق الروایة مسلسل بقولهم : «إنّی اُحبّک فقل» . وفی روایة أبی داود وأحمد ، والنسائی : «أخذ بیدی فقال : «إنّی لاُحبّک فقل : اللهمّ أعنّی علی ذکرک وشکرک وحسن عبادتک» . (3)

فیکون علی هذا مسلسلاً بالنوعین : القولِ والفعل .

ومن أقسام «المسلسل» المسلسل فی سند الروایة کالحدیث المتسلسل باتّفاق أسماء الرواة ک «المحمّدین ، أو الأحمدین ، أو بأسماء آبائهم ، أو کُناهم ، أو أنسابهم ، أو بلدانهم» .

وکالمتسلسل بروایة الأبناء عن الآباء ، کالروایة المتسلسلة باثنتی عشرة طبقةً فیما

ص :236

رُوّینا بإسنادنا موصولاً عن رزق اللّه بن عبد الوهّاب بن عبد العزیز بن أسد بن اللیث بن سلیمان بن الأسود بن سفیان بن یزید بن اُکَیْنة بن الهیثم بن عبد اللّه التمیمی من لفظه ، قال :

«سمعت أبی یقول : سمعت أبی یقول : سمعت أبی یقول : سمعت أبی یقول : سمعت أبی یقول : سمعت أبی یقول : سمعت أبی یقول : سمعت أبی یقول : سمعت أبی _ یعنی اُکَینة _ یقول : سمعت أبی _ یعنی الهیثم _ یقول : سمعت أبی _ یعنی عبد اللّه التمیمی _ یقول : سمعت رسول اللّه صلی الله علیه و آلهیقول : «ما اجتمع قوم علی ذکر اللّه (1) إلاّ حفّتهم الملائکة وغشیتهم الرحمة» . (2)

وروّینا بالإسناد عنه موصولاً حدیثاً یرویه متسلسلاً بتسع طبقات من الآباء ، قال :

سمعت أبی یقول : سمعت أبی یقول : سمعت أبی یقول : سمعت أبی یقول : سمعت أبی یقول : سمعت أبی یقول : سمعت أبی یقول : سمعت أبی یقول : سمعت أبی _ وهو اُکَینة _ یقول : سمعت علیّ بن أبی طالب علیه السلام_ وقد سئل عن الحنّان والمنّان _ فقال : «الحنّان هو الذی یُقبِل علی من أعرض عنه ، والمنّان الذی یبدأ بالنوال قبل السؤال» .

ومن المسلسل برجال الطریق المسلسلُ باتّفاق الصفة ، کحدیث فقیه ، عن فقیه إلی منتهی السند : «المتبایعان بالخیار» . (3)

وکالحدیث القدسی المتسلسل بروایة عالم عن عالم مسنداً عن أبیذرّ : «یا عبادی کلّکم ضالّ إلاّ من هدیته» . (4)

ص :237

وقد یتسلسل السند باتّفاق الآباء وباتّفاق الصفة جمیعاً ، کما فیما رُوّینا بالإسناد _ من المتسلسل بخمسة آباء کلُّهم فقهاءُ بُصراءُ بالحدیث والرجال _ روایةُ الشیخ الجلیل بابویه بن سعد بن محمّد بن الحسن بن الحسین بن علیّ بن الحسین بن بابویه ، عن أبیه سعد ، عن أبیه محمّد ، عن أبیه الحسن ، عن أبیه الحسین ، وهو أخو الشیخ الصدوق عروة الإسلام أبی جعفر محمّد .

وقد وُلِدا للصدوق علیّ بن بابویه بدعاء مولانا الصاحب القائم صلّی اللّه علیه وعجّل فرجه ، وإیّاهما عنی فی قوله له بسفارة أبی القاسم بن روح : «دعونا اللّهَ لک سَتُرزق ولدین ذکرین خیّرین» (1) عن أبیه الصدوق علیّ بن بابویه .

ومن المتسلسل بستّة آباء کذلک روایة الشیخ الإمام الکثیر الروایة ، الواسع المعرفة ، صاحب الأربعین عن الأربعین من الأربعین منتجب الدین أبی الحسن علیّ بن عبید اللّه بن الحسن بن الحسین بن الحسن بن الحسین بن علیّ بن الحسین بن بابویه ، فإنّه یروی عن أبیه ، عن أبیه ، عن أبیه ، عن أبیه ، عن أبیه ، عن أبیه الصدوق علیّ بن الحسین بن موسی بن بابویه القمّی رضی اللّه عنهم أجمعین .

فهذه أقسام التسلسل بحسب ما فی جمیع السند بطبقاته . وهناک قسم آخَرُ بحسب معظم الإسناد دون جمیعه . قالوا : وذلک کالحدیث المتسلسل بالأَوّلیّة منقطعا تسلسلُه فی الطبقة الأخیرة التی هی منتهی الإسناد یعنون به الحدیث المسلسل ب «أوّل حدیث سمعتُه» یقول الصحابی : أوّل حدیث سمعته من رسول اللّه صلی الله علیه و آله هذا ، ویقول التابعی : أوّل حدیث سمعته من الصحابی هذا ، وهلمّ جرّا إلی الطبقة الأُولی التی هی مبدأ الإسناد ؛ فإنّه مستمرّ المتسلسلیّة إلی الصحابی ، منقطعها عنده ؛ إذ لیس یتصحّح ذلک من رسول اللّه صلی الله علیه و آله ، فلایصحّ عدّه من المسلسل من المبدأ إلی المنتهی کما قد توهّمه بعض .

ص :238

قلت : رسول اللّه صلی الله علیه و آله لیس هو منتهی الإسناد بمعنی الطبقة الأخیرة من السند ، حتّی لایصحّ ما قاله ذلک البعض ؛ بل بمعنی مَن إلیه ینتهی إسناد المتن ، وعنه تُبتدأ روایته فی آخر الإسناد ، وإنّما ساقة السند وآخره هو الصحابی لاغیر ، فکلام البعض لیس وهما.

نعم ، لو کان المتن فی مثل ذلک المتسلسل حدیثا قدسیّا یسنده النبیّ صلی الله علیه و آله إلی اللّه سبحانه اتّجه ما قالوا ، (1) واتّضح الوهم فی کلامه .

ومنهم مَن (2) یقول : المتسلسل بأوّل حدیث سمعته منقطع وصفُ التسلسل فی الوسط ؛ فإنّه ینتهی إلی سفیان بن أبی عُیَینة ولا یتعدّاه ، وغلط من رواه مسلسلاً إلی منتهاه .

والحقّ فی مثل هذا القسم ما أن یقول الذی هو طرف الإسناد : أخبرنی فلان ، قال : أخبرنی فلان ، قال : أخبرنی التابعی ، قال : أخبرنی الصحابی ، قال : سمعت رسول اللّه صلی الله علیه و آلهیقول ، الحدیث .

ولیعلم أنّ التسلسل لیس ممّا له مدخل فی قبول الروایة وعدمه ، وإنّما هو فنّ من فنون الضبط ، وضرب من ضروب المحافظة ، وفیه فضل للحدیث من حیث الاشتمال علی مزید ضبط الرُواة ، وأفضل ذلک ما فیه دلالة علی اتّصال السماع .

ثمّ المسلسلات قلّ ما یَسلم منها عن طعن فی وصف تسلسله ، لا فی أصل متنه أو فی رجال طریقه .

المزید علی ما فی معناه (3)

والزیادة فیه إمّا فی المتن بأن تُروی فیه کلمة ،أو کلمات زائدة تفید معنیً زائدا غیرَ مستفاد من الناقص المرویّ فی معناه .

ص :239

وزیادة الثقة _ الواحد المتفرّد بروایتها _ مقبولة _ إذا لم تکن منافیةً لما رواه غیره من الثقات من دونها ، ولامخالفةً له أصلاً اتّفاقا من العلماء قولاً واحدا _ ومردودة قولاً واحدا إذا کانت منافیة لمرویّ سائر الثقات جمیعا ، منافاةً باتّةً صرفة من کلّ وجه .

فأمّا إذا کانت علی مرتبة بین المرتبتین ، والتخالف بینهما نوعا مّا من الاختلاف لمجرّد مخالفة العموم والخصوص ، بأن یکون المرویّ بغیر زیادةٍ عامّا بدونها ، فیصیرَ بها خاصّا ، أو بالعکس ، فمذهب أکثر علماء الأُصول وأهل الحدیث من الخاصّة والعامّة أنّها مقبولة معمول بها مطلقا ، سواء علیها أکانت من شخص واحد _ بأن رواه مرّةً علی النقصان وأُخری بالزیادة _ أم کانت من غیر مَن رواه ناقصا .

وذلک کحدیث : «وجُعلت لنا الأرض مسجدا وترابها طهورا» . (1) أو«جعلت تربتها طهورا» . فهذه الزیادة قد تفرّد بها بعض الرواة . (2) وروایة الأکثر ؛ بل من عدا ذلک الفارد قاطبةً لفظها : «وجعلت لنا الأرض مسجدا وطهورا» . (3)

فما رواه الجماعة عامّ یتناول أصناف الأرض من التراب ، والرمل ، والحجر . ومرویّ الفارد المنفرد بالزیادة مختصّ بالتراب .

وفریق من علماء علم الحدیث یردّها مطلقا .

وفِرْقٌ یردّها إذا کانت ممّن قد کان رواه ناقصا ، ویقبلها من غیره .

وإمّا هی فی الطریق ، بأن یرویه بعضهم بإسنادٍ ذی طبقات ثلاث من رجال ثلاثة مثلاً ، فیزید آخَرُ فی الإسناد طبقة أُخری ، ویُضیف إلیهم رابعا ویرویه بإسناد مشتمل علی طبقات أربع ، فهذا هو «المزید» فی الإسناد .

ص :240

والطیبی صاحب المشکاة من علماء العامّة فی خلاصة معرفة الحدیث ، وبعض شهداء المتأخّرین من أصحابنا فی الدرایة قالا :

إذا أسنده وأرسلوه ، أو وصله وقطعوه ، أو رفعه ووقفوه فهو کالزیادة ، ومقبول کما یقبل «المزید» فی المتن زیادةً غیر منافیة لجامع عدم المنافاة ؛ إذ یجوز أن یکون المسنِد ، أو الواصل ، أو الرافع قد اطّلع علی ما لم یطّلع علیه المرسِل ، والقاطع ، والواقف ، فیقبل منه . (1)

قلت : الناقص یکون موجودا فی «المزید» بالزیادة ، والمرویُّ بالزیادة ، والمرویّ بالنقصان یکون کلاهما مقبولین ؛ (2) لعدم التقابل بینهما ، ولا کذلک الإرسال بالقیاس إلی الإسناد ، ولا القطع بالقیاس إلی الوصل ، ولا الوقف بالقیاس إلی الرفع ؛ لکونهما من المتقابلین تحقّقا .

وأیضا «المزید» فی الإسناد إنّما یکون بزیادة عدد الطبقات فی السند ، ولایتصحّح ذلک إلاّ باشتماله علی جمیع طبقات الناقص إسنادا وزیادةً .

وأیضا القطع فی المقطوع بإزاء طبقة فی الموصول ، فإذن إنّما الصحیح أن یقال : إنّ الإسناد مقبول من المسنِد ، وکذلک الوصل من الواصل ، والرفع من الرافع ، لا أنّها کالزیادة فی السند بالقیاس إلی الإرسال والقطع والوقف .

فلیتثبّت ولیحتفظ ، ولیعلم أنّه إذا تعارض إسناد وإرسال ، أو قطع ووصل ، أو وقف ورفع فی حدیث بعینه من شخصین ، أو من شخص واحد فی وقتین ، فالذی هو الحقّ وعلیه الأکثر ترجیح الإسناد ، والوصل ، والرفع .

وفیهم من یقول : الإرسال نوعُ قدحٍ فی روایة المسنِد ، والقطعُ فی روایة الواصل ، والوقفُ فی روایة الرافع ، فمن یذهب إلی تقدیم الجرح علی التعدیل یلزمه هاهنا أیضا تقدیم المرسَل علی المسنَد ، والمقطوع علی الموصول ،

ص :241

والموقوف علی المرفوع .

ویجاب بمنع الملازمة _ مع تحقّق الفارق _ بل بإبطالها ؛ لأنّ الجرح إنّما یقدّم ؛ لما فیه من زیادة العلم ، والزیادة هنا مع من أسند ووصل ورفع . علی أنّ تقدیم الجرح مطلقا لیس بصحیح علی ما قد أسلفناه فی الرواشح السالفة .

وأمّا داود بن الحصین الأسدی فموثّق اتّفاقا .

نعم ، قد قیل فیه بالوقف ولم یثبت ، ولذلک کم من حدیث قد استصحّه العلاّمة رحمه اللهوهو فی الطریق ، ومن ذلک فی منتهی المطلب فی باب قنوت صلاة جمعة . (1) وسیستبین لک جلیّةً الأمرُ فی مقامه إن شاء اللّه وحده .

أیضا _ مصدر تطیّر بالشیء : إذا تشامّ به ، واسم لما یُتَشامّ به من الفال الردئ . ولا«طَیِرَة» نهی عن ذلک أو نفی ؛ لتأثیره .

و«الهامة» _ من الهوم کماقاله ابن الأثیر (1) لا من الهَیم کما ظنّه الجوهری (2) _ : الرأسُ ، واسم طائر من طیر اللیل : الصَدی ، أو البُومة .

وقیل : کانت العرب فی الجاهلیّة تزعُم أنّ روح القتیل الذی لا یُدرَک بَثأْره تصیر هامةً ، فیقول : اسقونی _ من سقاه الشرابَ ، أو أسقاه ، أو أشقونی من أشقیتک الشیء أی أعطیتکه _ فإذا أُدرک بثأره طارت . (3) و«لاهامة» للنهی ، أو للنفی .

و«الصفر» _ بالمهملة قبل الفاء والتحریکِ _ فیما تزعم العرب حیّة تکون فی البطن تعَضّ الإنسان إذا جاع .

وقیل : «هو دود یقع فی الکبد وفی شراسیف الأضلاع ویصفرّ الإنسان منه جدّا وربما قتله» . (4)

وقال ابن الأثیر :«هو اجتماع الماء فی البطن ، کما یعرض للمستَسقی» . (5) و«لاصفر» نفی کما «لاعدوی» .

و«الرمل» _ بالتحریک _ : الهرولة .

و«الظباء» _ بالکسر والمدّ _ : جمعُ کثرةٍ للظبی .

و«لایورد» _ بکسر الراء _ من الإیراد .

و«مُمرض» _ بضمّ أُولی المیمین وإسکان ثانیتهما وکسر الراء _ من الإمراض ، یقال : أمرض الرجل : إذا وقع فی ماله العاهةُ .

ص :245

و«المُصِحّ» _ بضمّ المیم وکسر الصاد _ الذی صحّت وسلمت ماشیته وإبله من الأمراض والعاهات .

ووجه الجمع بین الحدیثین حَمْل الأوّل علی أنّ «العَدْوی» المنفیّةَ عَدوی الطبع ، أی ما کان یعتقده الجاهلون من أنّ ذلک یتعدّی من جنبة فعل الطبیعة من غیر استناد إلی إذن اللّه سبحانه وأمره وإرادته جلّ سلطانه . ولذلک قال صلی الله علیه و آله : «فمَن أعدی الأوّلَ؟» . (1) وذلک کما أنّ الجاهلین کانوا یُسندون الأمطار إلی الأنواء کالثریّا والدَبَران ، لا إلی إفاضة اللّه تعالی ورحمته ، فنهی النبیّ صلی الله علیه و آله عن ذلک وقال : «من قال : مُطِرنا بنَوْء کذا ، فقد کفر» أو «فهو کافر» . (2)

و«الأنواء» منازل القمر الثمانیةُ والعشرون وإیّاها عنی إذ قال عزّ قائلاً : «وَ الْقَمَرَ قَدَّرْنَ_هُ مَنَازِلَ حَتَّی عَادَ کَالْعُرْجُونِ الْقَدِیمِ » . (3) یکون کلّ منها مختفیا تحت شعاع الشمس ثلاث عشرة لیلةً ویظهر من بعد طلوعُ الفجر ، و یسمّی ذلک الظهور طلوعَ ذلک المنزل ، فتسقط فی أُفق الغرب بعد کلّ ثلاث عشرة لیلةً منزلةٌ ویطلع من أُفق الشرق رقیبها مع طلوع الفجر .

وحَمْل الثانی علی التحذیر من ضرر التعدیة الغالبِ حصولُها عند المخالطة والإیذان ، بأنّ اللّه _ عزّ وجلّ _ جعل المخالطة سببا للإعداء ، وأمَرَ الطبیعةَ بالإقدام علی ذلک ، والفعّال المهیمن علی الأمر کلّه _ الذی بیده مقالید الأُمور کلِّها _ هو اللّه سبحانه .

ومن هذا السبیل قوله صلی الله علیه و آله : «فِرَّ من المجذوم فرارَک من الأسد» . (4) ونهیُه عن

ص :246

دخول بلد فیه الطاعون والوبا . (1) ونحو ذلک .

وقال بعضهم : کأنّه صلی الله علیه و سلم کره ذلک مخافةَ أن یحدث فی مال المُصِحّ ، أو فی بدن الصحیح ما بمال الممرض أو ببدن المَعیُوه من العاهة والمرض ، فالجاهل یسمّی ذلک «عَدوی» ویجعله إعداءً من فعل الطبیعة ، لا قضاءً وقَدَرا بإذن اللّه سبحانه ، فیأثم بذلک .

وإذا کان المتضادّان بحیث لایتیسّر الجمع بینهما ، فإن علمنا أنّ أحدهما ناسخ قدّمناه ، وإلاّ رجعنا إلی المرجّحات المقرّرة فی علم الأُصول ، وهذا أهمّ فنون علم الحدیث یُضطَرّ إلیه طوائف العلماء عموما ، والفقهاء خصوصا . وإنّما یملک القیامَ به الأئمّة المتثقّفون من المتضلّعین فی الحکمة والأُصول والفقه ، والغوّاصین فی المنطق والمعانی والبیان .

وقد صنّف فیه من فقهاء العامّة الشافعیُّ کتابَه المعروف (2) ولم یقصد استیعابه ، بل زعم أنّه ذکر جملةً تُنبِّه العارفَ علی طریق الجمع بین الأحادیث فی غیر ما ذکره .

ثمّ ابن قتیبة صنّف کتابه المشهور . (3)

ومن أصحابنا شیخ الطائفة أبو جعفر الطوسی رحمه الله صنّف کتاب الاستبصار فیما اختلف من الأخبار ، ولنا بفضل اللّه سبحانه وجوه لطیفة ونکات دقیقة فی تضاعیف أبواب هذا الفنّ.

وبالجملة: کلٌّ یتکلّم فیالجمع علی مقدار فهمه، وقلَّما یتّفق فهمان علی جمعٍ واحد.

الحکم وإبطالُه وبیانُ ارتفاعه عن الواقع ؛ إذ رفع الواقع فی نفس الأمر وارتفاعُه عن حدّ وقوعه ووقت ثبوته غیر متصحّح _ وإلاّ احتشد النقیضان فی الواقع واجتمعا فی الوقوع _ وعن الوقت العاقب والحدّ اللاحق غیر معقول أصلاً ؛ إذ لم یوجد فیه حتّی یرتفع عنه .

فالحدیث «الناسخ» حدیث دلّ علی نهایة استمرار حکم شرعی ثابت بدلیل سمعی سابق .

و«بالجنس» _ وهو الحدیث _ خرج منه الناسخ من القرآن .

و«بالدلالة علی نهایة الاستمرار» خرج الحدیث الدالّ علی أصل الحکم ابتداءً (1) والدالّ علی تخصیصه ، أو تقییده .

و«الحکم الشرعی» المدلول علی انتهائه یشمل الوجودی والعدمی .

و«بالثبوت بدلیل سمعی» یخرج الحکم الشرعی المبتدأ بالحدیث إذا کان قاطعا لاستمرار الإباحة الأصلیّة ؛ لأنّ دلیلها _ علی القول بها _ عقلی وهو عدم تضرّر المالک _ وهو اللّه سبحانه _ وغناه عنه کما یباح الاستظلال بحائط الغیر مثلاً عقلاً .

و«بالسابق» یخرج الاستثناء والشرط والغایة الواقعة فی متن الحدیث ، فإنّها تَبُثُّ استمرارَ حکم شرعیٍ ثابت بنفس هذا الحدیث لا بدلیل سابق .

و«المنسوخ» : منه حدیث بُتَّ استمرارُ حکمه الشرعی بدلیل شرعی متأخّر عنه .

وهذا فنّ صعب مهمّ جدّا ، وأدخل بعض أهل الحدیث فیه ما لیس منه ؛ لخفاء معناه کتخصیص العامّ وتقیید المطلق ، والزیادة علی النصّ .

وطریق معرفته إمّا نصّ النبیّ صلی الله علیه و آله مثل : «کنت نهیتکم عن زیارة القبور ، ألا فزوروها» . (2)

ص :248

فالفاء فیه فصیحة ، وهو من أفراد لحن الخطاب ، أی أبحتُ لکم الآنَ فزوروها ، کما قوله عزّ من قائل : «فَقُلْنَا اضْرِب بِّعَصَاکَ الْحَجَرَ فَانفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَیْنًا » . (1) أی فضرب فانفجرت أو نقلُ الصحابی مثل : «کانَ آخرُ الأمرین من رسول اللّه صلی الله علیه و آلهترک الوضوء ممّا مسّته النار» . (2)

أو معرفةُ التاریخ لما روی من الصحابة : «کنّا نعمل بالأحدث فالأحدث» . (3) کحدیث : «أفطر الحاجم والمحجوم» . (4) وحدیث : «احتجم وهو صائم» . (5) فقد ورد أنّ الأوّل کان سنة ثمان ، والثانی سنة عشر .

أو الإجماعُ کحدیث : قتلِ شارب الخمر فی الرابعة . (6) عُرِف نسخه بالإجماع علی خلافه حیث لایتخَلَّل الحدّ .

والإجماع لایُنسَخ ولایَنسِخ بنفسه ، وإنّما یدلّ علی النسخ .

المتثبّت غزیرَ (1) البضاعة ، عریضَ التتبّع .

وقد صنّف فیه رهط من العلماء .

وأوّل من دوّنه وأفرده فنّا مفردا أبو عبیدة معمّر بن المثنّی (2) تلمیذ أبان بن عثمان الأحمر البجلّی الکوفی ، من رجال أبی عبداللّه الصادق وأبی الحسن الکاظم علیهماالسلام . وقد کان أبان بن تغلب بن رَباح _ رضی اللّه تعالی عنه _ الفقیهَ اللغوی القارئ ، من أصحاب السجّاد والباقر والصادق علیهم السلام ، قد أنْهَجَ هذا المنهج من قبلُ ، وصنّف کتاب الغریب فی القرآن وذکر شواهده من الشعر . فأبو عبیدة حذا حذوه ونَهَجَ نهْجَه فی غریب الحدیث .

وقیل : أوّل من صنّف فی غریب الحدیث ودوّنه فنّا ، النضر بن شُمیل (3) ثمّ من بعدهما أبو عبید القاسم بن سلاّم ، ثمّ ابن قتیبة ما فاته ، ثمّ الخطّابی ما فاتهما .

فهؤلاء أُولو أُمّهات هذا الفنّ ، ثمّ تبعهم غیرهم بزوائدَ وفوائدَ . وفاق الزمخشری فی فائقه کلّ فائق ، ونال الهروی فی غریبی القرآن والحدیث أوفرَ النصیب ، وأدرک المطرّزی بإسباغ الفحص فی کتابیه المعرب والمغرب أمدَ کلّ غایة . وبلغ ابن الأثیر بالتحقیق فی نهایته النهایةَ .

وأمّا «غریب الفقه» : فهو ما یتضمّن بظاهر المتن وباطنه نکتةً غامضة ، إمّا من حقائق المعارف ودقائق الأسرار ، أو من شرائع الأحکام ووظائف الآداب المستنبطة منه ، ببالغ النظر ودقیق التأمّل .

فهذه أحد وعشرون ضربا من أقسام الحدیث الفرعیّة تجری فی کلّ من أقسامه الخمسة الأصلیّة ، وهناک ضروب أُخَرُ فرعیّة (4) یقال فی الأشهر : إنّها لاتصحّ فی

ص :250

الصحیح علی المعنی اللغوی المعقود علیه الاصطلاحُ ، بل لایتصحّح إلاّ فی الضعیف ولکن بالمعنی الأعمّ لا بالمعنی الحقیقی المصطلحِ علیه الذی هو أحد الأقسام الخمسة الأصلیّة ، وها هی هذه :

المقطوع _ ویقال له : المنقطع _ قسم بخصوصه من المرسل . وهو ما یکون الإرسال فیه بإسقاط طبقة واحدة فقط من الإسناد ، سواء کان من أوّله ، أو من وسطه ، أو من آخره ، إلاّ أنّ أکثر ما یوصف بالانقطاع فی غالب الاستعمال روایةُ مَنْ دون التابعی ، عن الصحابی فی حدیث النبیّ صلی الله علیه و آله ، أو روایة مَنْ دون مَن هو فی منزلة التابعی عمّن هو فی منزلة الصحابی فی حدیث أحد من الأئمّة علیهم السلام .

ویعرف الانقطاع بمجیئه من وجه آخر بزیادة طبقة أُخری فی الإسناد ، وصورته أن یکون حدیث له إسنادان ، فی أحدهما زیادة رجل ، فإن کان ذلک الحدیث لیس یتمّ إسناده إلاّ مع تلک الزیادة ولایصحّ من دونها فالإسناد الناقص مقطوع ، وإلاّ کان الأمر من باب «المزید» علی ما فی معناه بحسب الإسناد .

المتعدّی هو بمعنی الإعیاء ، یقال : الداء العُضال ، ما أعضل الأطبّاءَ ، أی أعیاهم . فأمّا الذی معناه الاستغلاق والاستبهام ، والشدّة والصعوبة فهو لازم ، یقال : أعضل بی الأمرُ : إذا ضاقت علیک فیه الحِیَلُ ، وأمرٌ مُعضِل _ بکسر الضاد _ : صعب عسر لایهتدی لوجهه ، وأعضلتِ الحاملُ عند الطلق : إذا عسرت علیها الولادة وصعب خروج ولدها ، والمُعضِلات _ بالکسر _ : الشدائد ، والمسائلُ العویصة ، المشکلة ، ومنه قول عمر بن الخطّاب : «أعوذ باللّه من کلّ معضلة لیس لها أبوحسن» . (1) وقول معاویة إذ جاءته مسألة مشکلة فقال : «معضلة ولا أباحسن» . (2)

قال ابن الأثیر : «أبو حسن» معرفة وُضعت موضعَ النکرة ، کأنّه قال : ولا رجل کأبی حسن ؛ لأنّ «لا» النافیةَ لا تدخل إلاّ علی النکرات دون المعارف . (3) وأصل العَضْل المنع وهو متعدٍّ ، یقال : عضل الولیّ أیِّمَة (4) یعضلها عضلاً ، إذا منعها من التزویج ، فصار بالنقل إلی باب الإفعال لازما ، کما اللازم فی أصله یصیر بالنقل إلی باب الإفعال متعدّیا ، إلاّ أنّ ذلک أکثریّ وذلک أقلّیّ .

ومن هناک اعترف ابن الصلاح من قدماء علماء العامّة بأنّ «أخذ هذا من اللغة مشکل» . لکنّه قال بعد هذا الاعتراف : «إنّه مأخوذ من قولهم : أمر عضیل أی مستغلق شدید» . (5)

وقد دریت بما أدریناک أنّ أخذ ذا من ذاک أیضا غیر مستقیم ؛ إذ إنّما العضیل فیه بمعنی المعضِل _ بکسر الضاد _ علی صیغة الفاعل ، فإذن الحقّ فی ضبط لفظتنا هذه إمّا فتح المهملة والمعجمة ، وتشدید المعجمة _ علی المفعول _ من التعضیل ، یقال :

ص :253

عضّلتُ علیه تعضیلاً : إذا ضیّقتَ علیه وحُلْتَ بینه وبین ما یرید ، وإمّا إسکان المهملة وکسر المعجمة _ علی الفاعل _ بمعنی الإعضال ، بمعنی المستغلق المشکل . والأصوب هو الأوّل .

جلیل غَلْو (1) فی الثقة والجلالة ، وصحّةِ الحدیث وضبط الروایة ، قُبِل ، وإلاّ لم یقبل .

واحتجاجهم علی ذلک أمّا علی مسلک العامّة فبما فی المختصر الحاجبی و شرحه العضدی أنّ إرسال الأئمّة من التابعین کان مشهورا مقبولاً فیما بینهم ولم ینکره أحد ، فکان إجماعا کإرسال ابن مسیّب ، والشعبی ، وإبراهیم النخعی ، والحسن البصری .

وأمّا من سبیل أصحابنا فبما نُقل من إجماع الطائفة علی استصحاح ما یصحّ عن جماعة _ عددناهم فیما قد سبق من الرواشح _ إذا أرسلوه ، أو أسندوه إلی غیر معلوم الحال .

واحتجّوا علیه أیضا بأنّه لو لم یکن الوسط الساقط عدلاً عند المرسل ، لما ساغ له إسناد الحدیث إلی المعصوم ، وکان جزمه بالإسناد الموهم لسماعه إیّاه من عدلٍ تدلیسٌ فی الروایة ، وهو بعید من أئمّة النقل .

وإنّما یتمّ إذا ما کان الإرسال بالإسقاط رأسا والإسناد جزما کما لو قال المرسل : «قال النبیّ صلی الله علیه و آله» ، أو : «قال الإمام علیه السلام» . وذلک مثل قول الصدوق عروة الإسلام رضی اللّه تعالی عنه فی الفقیه : قال علیه السلام : «الماء یُطَهِّر ولا یُطَهَّر» . (2) إذ مفاده الجزم ، أو الظنّ بصدور الحدیث عن المعصوم ، فیجب أن یکون الوسائط عدولاً فی ظنّه ، وإلاّ کان الحکم الجازم بالإسناد هادِما لجلالته وعدالته ، بخلاف ما لو التزم العَنْعَنَة وأبْهَمَ الواسطة کقوله : «عن رجل» أو «عن صاحبٍ لی» أو «عن بعض أصحابه» مثلاً .

وذهب العلاّمة رحمه اللّه تعالی فی النهایة (3) _ وطابَقَه شیخنا الشهید قدّس اللّه تعالی لطیفه فی الذکری (4) _ إلی الثالث ، ویُشبه أنّ التحقیق یساعده ، والفحصَ

ص :255

یستصحّه ؛ إذ لو کان مرسله معلومَ التحرّز عن الروایة عن مجروح ، کان لا محالة فی قوّة المسند عن الثَبَت الثقة .

قال فی الذکری : «ولهذا قبلت الأصحاب مراسیل ابن أبی عمیر ، وصفوان بن یحیی ، وأحمد بن محمّد بن أبی نصر البزنطی ؛ لأنّهم لایرسلون إلاّ عن ثقة» . (1)

قلت : وعلی هذا فلایختصّ الأمر بجماعة معدودة نقل الکشّی إجماعَ العصابة علی تصحیح ما یصحّ عنهم (2) بل کلّ من یثبت بشهادة النجاشی ، أو الشیخ ، أو الصدوق أو غیرهم من أضرابهم ، أنّه فی الثقة والجلالة بحیث لایروی عن الضعفاء ، ولایحمل الحدیث إلاّ عن الثقات ، فإنّ مراسیله یجب أن تکون مقبولة . فما قال بعض المستسعدین بالشهادة من المتأخّرین فی شرح بدایة الدرایة :

إنّ فی العلم بکون المرسل لا یروی إلاّ عن الثقة نظرا ؛ لأنّ مستند العلم إن کان هو الاستقراءَ لمراسیله بحیث یجدون المحذوف ثقةً ، فهذا فی معنی الإسناد ، ولا بحث فیه.

وإن کان حسنَ الظنّ به فی أنّه لایرسل إلاّ عن ثقة ، فهو غیر کافٍ شرعا فی الاعتماد علیه ، ومع ذلک غیر مختصّ بمن یخصّونه به .

وإن کان استناده إلی إخباره بأنّه لایُرسل إلاّ عن الثقة ، فمرجعه إلی شهادته بعدالة الراوی المجهول ، وسیأتی ما فیه ، وعلی تقدیر قبوله فالاعتماد علی التعدیل .

وظاهر کلام الأصحاب فی قبول مراسیل ابن أبی عمیر هو المعنی الأوّل ، ودون إثباته خَرْطُ القَتادِ ؛ وقد نازعهم صاحب البشری فی ذلک ، ومنع تلک الدعوی . (3)

فإنّما الصواب فیه من وجه هو خصوص قوله : «غیر مختصّ بمن یخصّونه به» لاغیره ، فإنّ المستند هناک لا هو استقراء المراسیل ، ولا هو مطلق حسن الظنّ غیر الکافی شرعا ، بل هو حصول الظنّ من طریقه الشرعی الذی سبیله أن یشهد بذلک مَنْ أمرُ التعدیل والجرح موکول إلیه . وأصل التوثیق والتوهین منوط بقوله : «ثابت

ص :256

بشهادته» کما قد نبّهناک علیه .

فکما أصل ثقة الرجل وجلالته أمر یثبت شرعا بشهادة مثل النجاشی ، أو الشیخ ، أو الکشّی ، أو الصدوق ، أو ابن الولید ، أو غیرهم _ مع السلامة عن المعارض _ فکذلک کونه فی الثقة وصحّة الروایة بحیث لایروی إلاّ عن الثقة ولایرسل إلاّ عن صحیح الحدیث أمر یثبت بذلک ثبوتا یعتمد علیه فی الشرع بتّةً ، وکأنّ هذا حکم یستبین سبیله بطفیف تأمّل . فإذن لایختصّ هذا الحکم وهذه المنزلة من السبیل الشرعی ، أو العقلی باُولئک المعدودین ، بل یثبت لغیرهم بشهادة مَن شهادته ملاک الأمر فی ذلک .

نعم ، یختصّ ذلک باُولئک من سبیل الإجماع المنقول فی حقّهم ، وکأنّ الأصحاب لایخصّون بهم إلاّ هذا علی ما بلغنا من أقاویلهم ، وعباراتهم .

وإخبار المرسل الثقة بأنّه لایرسل إلاّ عن ثقة مقبولٌ کما روایته مقبولة . وسیستبین لک عن کَثَب (1) إن شاء اللّه .