المناهج الروائیه عند الشریف المرتضی

اشارة

سرشناسه : خطاوی، وسام

عنوان و نام پديدآور : المناهج الروائیه عند الشریف المرتضی/وسام الخطاوی.

مشخصات نشر : قم:موسسه فرهنگی دار الحدیث، سازمان چاپ و نشر، 1427ق.، =1385.

مشخصات ظاهری : 358 ص.

فروست : مرکز بحوث دار الحدیث؛ 119.

شابک : 28000 ریال:964-493-128-9

وضعیت فهرست نویسی : فهرستنویسی توصیفی

يادداشت : عربی.

یادداشت : کتابنامه: ص. [349] - 353؛ همچنین به صورت زیرنویس.

یادداشت : نمایه.

شماره کتابشناسی ملی : 1073495

ص: 1

اشاره

ص: 1

ص: 2

ص: 3

ص: 4

ص: 5

ص: 6

ص: 7

تصديرمن المعروف أنّ الحديث الشريف قد مَرَّ منذ نشأته إلى يومنا هذا بمنعطفات وتقلّبات ، والذي يتكفّل بتسليط الضوء على هذا المسار وبيان خصائصه هو تاريخ الحديث ، ومن المباحث المهمّة الاُخرى التي يتناولها تاريخ الحديث أيضا كيفية ظهور الحديث ، وطريقة تعاطي أصحاب رسول اللّه والأئمّة الأطهار _ صلوات اللّه عليهم _ معه ، وكذا الاُسلوب الذي تلقّى به العلماء الكبار هذا المصدر المهمّ والأساسي للشريعة . إنّ دراسة تاريخ الحديث شرط لازم للنهوض بعملية التحقيق الصحيح في الحقول المختلفة لعلوم الحديث ؛ وذلك لأنّ موضوع الحديث ظاهرة تاريخية ولا يمكن إجراء بحث دقيق دون أخذ مساره التاريخي بنظر الاعتبار ، ومن المؤكّد أنّ دراسة سند الحديث أو متنه وكلّ ما يتعلّق به دراسة جزئية لا تأخذ بنظر كلّ تاريخ الحديث أو جوانب منه ، وتعدّ في الواقع دراسة افتراضية وانتزاعية ، وفي الكثير من الحالات تكون هناك خشية أن تأتي نتيجة هذه الدراسات بعيدة عن الواقع . وعلى صعيد آخر تعرّض الحديث _ باعتباره ظاهرة تاريخية _ لهجوم الشبهات التاريخية أيضا ، ولا يمكن تفنيد هذه الشبهات دون إجراء دراسة في تاريخ الحديث . ومن الطبيعي أنّ اتصال الحديث بعصر المعصوم وبقائه مصونا من تحريف الأعداء الصريحين والمبطّنين ، ممّا يجب إثباته بالدراسة التاريخية من أجل أن يكون للحديث دعامة علمية رصينة . وانطلاقا من هذه الضرورة فقد عقد قسم تاريخ الحديث في مركز بحوث دار الحديث ، العزم على النهوض بدراسة شاملة في هذا المجال ، ولكن بما أنّ الأساليب القديمة في تدوين تاريخ الحديث لم تكن ذات شمولية كافية ، ولهذا قررنا إجراء دراسة لآثار كبار محدّثي الشيعة الذين طرحوا على مدى القرون المختلفة للثقافة الإسلامية آراءً أساسية في موضوع الحديث للتعرّف على المنعطفات في تاريخ الحديث ، ونطرح في أعقابها اُسلوبا جديا في تدوين تاريخ الحديث . وبما أنّ الشريف المرتضى المعروف بعَلَم الهدى ( ت 436ه ) كان من المحقّقين الكبار وصاحب مدرسة في العلوم الإسلامية ، واضطلع بدور لا يُستهان به في عهد ازدهار المدرسة الحديثية في بغداد ، فقد اقترحنا على فضيلة الباحث وسام الخطاوي إجراء تحقيق في المنهج الحديثي عند السيّد الشريف المرتضى قدس سره فتَقَبَّل المقترح وتكفّل بإنجاز هذه الدراسة . وهذا الكتاب الذي بين أيديكم هو حصيلة لما قام به من جهد وتحقيق في هذا المضمار ، واستُكمِل هذا العمل في قسم تاريخ الحديث إلى أن أعطى هذه الثمرة . ونودّ أن نَعرِبَ ضمن شكرنا للباحث المحترم والزملاء في القسم المذكور ، عن أمانينا لهم بمزيد من الموفقية ، كما نرجو من القرّاء الكرام وأصحاب النظر الأعزاء أن يجودوا علينا بما لديهم من إرشادات وآراء . محمّد كاظم رحمان ستايش معاونية البحوث والتعليم في مركز بحوث دار الحديث

.

ص: 8

. .

ص: 9

المقدّم_ة

المقدّم_ةالحمد للّه ربّ العالمين ، والصلاة والسلام على محمّد وآله الطيبين الطاهرين . الكلام خصب عن المناهج الروائية عند المُحدثين ؛ لأجل سعة بحر الأحاديث والأخبار، إذ هما أحد العدلين (الكتاب والعترة)،ومامن شكّ أنّ الرؤى تختلف مابين محدث وآخر نتيجة مقدار وعيه المعرفي من المنظومة الثقافية المتنوعة ، وبالأحرى هي ثقافة نسبية تتعمّق وتتسطح نتيجة الجذور والاُسس العلمية عند الفرد. وإن أمكن وضع الركائز والاُسس العلمية على الفقه والكلام والأدب وفروعها من حقول المعارف الإلهية ، وبمقدار التعمّق فيها يتأصّل ويتجذّر الشخص في نظرته ، ومنه تأتي قراءات النصّ المختلفة حتّى تنتهي إلى طرق دقيقة في الوعي الدّيني. ومن بين العلماء الّذين يمكن البحث عن مناهجهم الحديثية هو السيّد المرتضى عَلم الهدى قدس سره(300 _ 246 ه. ق) والّذي تصدّر في المنظومة المعرفية عند علماء الإسلام ، وعرفه جهابذة الطرفين ، واعتنى به كلّ من الفريقين حتّى نسبه الفقهاء إلى أنفسهم ، والمتكلّمون والاُدباء والشعراء إلى طرائقهم ، والحقّ مع الكلّ في دعواهم كما يتّضح ذلك من سِبر كتبه . واحتوى البحث على بابين وخاتمة : الباب الأوّل : احتوى هذا الباب على نبذة مختصرة عن حياة الشريف المرتضى قدس سرهوعصره وآرائه وكتبه ومنزلته العلمية والاجتماعية والسياسية ، مأخوذة على نحو الاختصار من ترجمة المحامي رشيد رضا مع تعديل وإضافة منّا ، وهي المطبوعة في أول ديوان المرتضى قدس سره. الباب الثاني : ينقسم هذا الباب إلى أربعة فصول : الفصل الأوّل : تحدّثنا عن البحوث القرآنية في المنهج الروائي ، واشترك هذا الفصل مع الفصل الرابع المخصّص لآرائه الاُصولية ، حيث طرح الشريف المرتضى قدس سرهبحوثا تتعلّق بالقرآن الكريم من قبيل التخصيص والتعميم والمطلق والمقيد ، فيمكن للقارئ أن يكمل معلوماته في منهجية القرآن الكريم من المباحث الاُصولية. الفصل الثاني : تكلّمنا فيه حول المنهجية الحديثية في المنظومة الفقهية ، مُحيلين بعض مباحثها على البحوث الاُصولية في الفصل الثالث . الفصل الثالث : تحدّثنا عن المنهجية الاُصولية ومقدار معطياتها الثرية. الفصل الرابع : تناولنا فيه المنازلات والاُسس العقلية الكلامية في البحوث العقائدية . الخاتمة : تحتوي على النتائج التي توصّلنا إليها في المناهج الروائية عند الشريف المرتضى قدس سره . نرجو من المولى أن يسدد جميع الأفاضل الّذين ساعدونا في هذا العمل وبالخصوص حجّة الإسلام والمسلمين الشيخ محمّد كاظم رحمان ستايش والاُستاذ المدقّق قاسم الجوادي _ دام ظلّهما _ فإنّهما واكبا العمل معي إلى آخر لحظاته ، وأخصّ بالشكر زوجتي وابناي محمّد حسين وزهراء ، الّذين صبروا معي على هذا الوقت ، جزاهم اللّه خير الجزاء . والحمد للّه ربّ العالمين ، والصلاة والسلام على محمّد وعلى آله الأطهار الميامين . وِسام الخَطاوي قم المقدّسة/ 1426 ه .ق

.

ص: 10

. .

ص: 11

الباب الأوّل : الشريف المرتضى حياته، ثقافته ، عصره

اشاره

الباب الأوّل : الشريف المرتضى قدس سره حياته ، ثقافته ، عصره

.

ص: 12

. .

ص: 13

تمهي_د

تمهي_دبعد وفاة زعيم الطائفة الحقّة الشيخ المفيد قدس سره انتهت الزعامة الفكرية للشيعة الإمامية إلى عميد الطائفة الإمامية الشريف المرتضى قدس سره ( 335 _ 436 ه. ق ) ، والّذي كان في وقتها يتولّى نقابة الطالبين (1) وإمارة الحجّ ، وديوان المظالم، (2) ومنصب قاضي القضاة، (3) كما وأنّه يتصل من حيث النسب بالإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام ، ومع هذا كلّه فهو يمتلك من الثقافة والمعارف والعلوم ما تجعله مؤهلاً لأن يحظى بمكانة خاصّة على الصعيدين الشعبي والرسمي، إذ إنّه كان قد حاز على العلوم ما لم يدانه فيه أحد في زمانه، وكان أكثر أهل زمانه أدبا وفضلاً . كما أنّه أخذ يجري على تلامذته رزقا كلّ بنسبته، (4) فقد كان يجري على شيخ الطائفة قدس سرهاثني عشر دينارا شهريا ، بينما كان راتب القاضي ابن البرّاج عبدالعزيز قدس سرهثمانية دنانير شهريا. (5) وكان للمرتضى مجلس يناظر فيه كلّ المذاهب، 6 ممّا وفّر له الأجواء الفكريّة المشبّعة بالإبداع والمهارة في فن الخطابة والحوار ، وطرح الرأي والدفاع عنه. فالشريف المرتضى رحمه الله كان يعيش أجواء الانفتاح الفكري بين مختلف المذاهب الإسلاميّة، يناظر العلماء ، ويردّ الشبهات، ويدافع عن مذهبه بكلّ ما اُتي من علمٍ ومعرفةٍ ، وقد كانت للشريف المرتضى قدس سرهمكتبة عامرة ، يقول عنها أبو قاسم التنوخي: « حصرنا كتبه فوجدنا ثمانين ألف مجلّد من مصنفاته ومحفوظاته ومقروءاته »، (6) حتّى قيل: إنّها قد قومت بثلاثين ألف دينار، بعد أن أخذ منها الوزراء والرؤساء شطرا عظيما . (7) ومعلوم أنّ الشريف المرتضى قدس سره كان شاعرا مجيدا ، له ديوان شعر سطر فيه أروع القصائد . وإنّ كلّ تلك المؤهلات الّتي اتّصف بها الشريف المرتضى قدس سره والجو الفكري السائد في ذلك العصر ، وتوفّر النادر من الكتب والمخطوطات أثرت تأثيرا مباشرا وكبيرا على شخصية مترجمنا، ومنحته القدرة في أن يبلغ مرحلة النضوج العلمي، وأهلته لأن يكون فيما بعد علما من أعلام التشيع . وكان لحلقات الدروس والأمالي الّتي كان يميلها السيّد المرتضى قدس سره على جهابذة مفكري الإسلام للمذاهب الإسلاميّة المختلفة أثراً كبيراً في تكوين شخصيته العلمية، والإحاطة بالآراء العلمية عن قرب، ومعرفتها من ألسنة أئمتها وأعلامها المشهورين. والمتتبع لحياة السيّد المرتضى قدس سره في أيّام دراسته الاُولى ببغداد وفيما بعد ذلك ، يستطيع القول بأنّ عوامل عديدة استطاعت أن تصقل ثقافته، وتمنحه هذه المكانة العلمية الكبيرة والمتميزة الّتي يمكننا إجمالها فيما يلي: 1 . المؤهلات الذاتية الّتي يمتلكها السيّد المرتضى قدس سره من ذكاء وفطنة وسرعة حافظة ، ولعلّ نظرة واحدة في كتابه الأمالي توضح للقارئ ما حظي به من موهبة وعقلية عالية، فهو يروي خطبا ، أو رسائل كاملة ، أو أحاديث مطوّلة على ظهر قلبه ، وأشعارا كثيرة ولغات واشتقاقات دقيقة، الأمر الّذي يؤكّد قوة الحافظة لديه، وتمكنه من الاستيعاب، وقدرته على الإلقاء والتلقّي. 2 . توفّر للسيّد المرتضى قدس سره من الأساتذة ما لم يتوفّر لغيره من الأعلام، فاغترف من علومهم الكثير من المعارف الإسلامية . 3 . توفّرت للسيّد المرتضى قدس سره مكتبات ودور علم زاخرة بجميع المصنفات النفيسة، وفي مختلف الفنون والعلوم والآداب ما أهله لأن يغترف من محتوياتها وكتبها ، وهذا ما اكتسبه ثقافة واسعة . ومن أهمّ تلك المكتبات مكتبة الوزير البويهي شابور بن أردشير، والّتي كانت تضم أكثر من عشرة آلاف مجلّد، (8) والمكتبة الاُخرى هي المكتبة الّتي أسّسها هو قدس سره ، والّتي كانت تمنح الطلاب ما يحتاجون إليه من وسائل مادية، والّتي كان فيها ثمانون ألف مجلّد. (9) 4 . التقارب بين علماء المذاهب الإسلاميّة المختلفة، وما سبب ذلك من انفتاح فكري بين مختلف الطوائف الإسلاميّة ، يظهر جليا من خلال المناظرات والمناقشات وشيوع الجدل والحوار في المسائل المختلف عليها، وهذا ما يشجع على التعمّق والاستقصاء لإثراء الموضوعات وإشباعها بحثا وتفصيلاً ، وكان للشريف المرتضى أيضا مجلس يناظر عنده في كلّ المذاهب. (10) 5 . نشوؤه في بغداد ، هو الّذي هيِئ له أن يكون موفقاً في دراسته ، حيث كانت هذه المدينة في وقتها ملتقى لرجال الفكر والعلم والأدب ، وعاصمة للدولة ، ومقرّا للخلافة ، ومركزا للحضارة الإسلاميّة العظيمة ، (11) وكان التنافس فيها بين الدارسين على أشده ؛ لذلك نبغ فيها الكثيرون من الفقهاء، بالإضافة إلى ذلك فقد كانت التسهيلات للطلبة الوافدين إلى بغداد مبذولة ، حيث يجد الطلاب المقام والمأوى. وعلى كلّ حال فالإفاضة في ترجمة السيّد الشريف المرتضى قدس سره أمر تقتضيه بديهة التعريف به، وتمليه طبيعة البحث للوقوف على جوانب هامّة من عناصر شخصيته الفذّ، تلك الشخصية الملمة، الجامعة لخصال الخير، ومزايا العلم والأدب والفضل والفقه والاُصول والكلام. فالشريف المرتضى قدس سرهعالم واسع المعرفة دقيق النظر، واسع المعرفة بطرق الاستدلال ومداخلات الكلام ، غزير الاطّلاع ، ملم بفنون جَمّة من الثقافة الإسلاميّة والشيعية بالخصوص . والمعرفة الإنسانية في عصره بلغت فيه الحضارة الإسلاميّة بشتّى فروعها وأفانينها مبلغا عظيما من الرقي والازدهار في العلوم والفنون والآداب والكلام والفقه والاُصول والفلسفة والشعر، حتّى تميز القرن الرابع الهجري بطابع خاص، صنفت في خصائصه الكتب الكثيرة، وأفردت فيه المؤلّفات الضخمة ، فهو فقيه مسلم بين فقهاء الإمامية ، وأحد أعمدتها في الفتيا والاستدلال ، ومتكلّم محافظ على اُصول المذهب الاثني عشري ، وأديب وشاعر مفلق. والشريف المرتضى قدس سره عاش في تلك الحقبة من ذلك الزمن الزاهر، والزاخر بالعلوم والمعارف والآداب. كان رحمه الله فقيه الإمامية ومتكلّمها وأديبها ومرجعها في ذلك العصر بعد وفاة اُستاذه الجليل الفقيه المتكلّم محمّد بن محمّد بن النعمان، المعروف بابن المعلم، والمشهور بالشيخ المفيد قدس سره ، وهو المبرز بين تلامذته حتّى على الشيخ الطوسي قدس سرهوأشباهه . ولنا من كتابه الشافي في الإمامة أبلغ حجّة على تعمّقه في علم الكلام، وأوضح دلالة على براعته في فن الحِجاج والمناظرة في كلّ المذاهب ، كما قال ذلك ابن الجوزي في المنتظم. (12) أمّا في الفقه والاُصول، ففي كتبه الانتصار ومسائل الخلاف والناصريات ، ورسائله الوافرة ، ومسائله الجمّة وكتبه النادرة ، خير مثال على فقهه الواسع وتعمّقه الدقيق وتتبعه الشامل. وأمّا في الأدب واللغة والتفسير والتاريخ والتراجم، فكتابه الأمالي المسمّى : غرر الفوائد ودرر القلائد ، أسطع برهان على سعة معرفته في هاتيك الفنون. وليست بنا حاجة إلى التدليل على شدّة عارضته في الشعر ، وتفننه في أغراضه ، وتفهمه لمعانيه ومقاصده، بعد سِبر ديوانه الّذي يضم بين دفتيه قرابة أربعة عشر ألف بيت من الشعر، فضلاً عمّا جمعه ونظمه في أبواب خاصّة، وأغراض مفردة ، مثل مجموعته في الشيب والشباب المسمّاة « الشهاب » ، وما جمعه ونظمه في « طيف الخيال » و « صفة البرق » ، إلى غير ذلك . فالإسهاب في ترجمته محلها غير هذه المقدّمة ، ولا تتسم به ظروف هذا العصر من ميسم السرعة وطابع الاختصار، فالّذي سنتعرض لذكره يكون مفتاحا لمصاريع واسعة، أو رمزا إلى مباحث مترامية الأطراف تطلّ على آفاق رحبة من مزايا هذا العالِم المتكلّم، والفقيه الأوحد، والفيلسوف الإسلامي البارع، والأديب الألمعي، والشاعر المفلق ، وأخيرا المفسّر الإلهي والمحدّث العقلي ، والمتتبع مجال آخر، وكم ترك الأوّل للآخر !

.


1- . المنتظم : ج 8 ص 120 ، تاريخ بغداد : ج 11 ص 402 .
2- . مستدرك الوسائل : ج 3 ص 516 ، عمدة الطالب : ص 194.
3- . مستدرك الوسائل : ج 3 ص 16.
4- . لؤلؤة البحرين : ص 259.
5- . روضات الجنات (رحلي) : ص 383 ، لؤلؤة البحرين : ص 317 .
6- . مقدّمة أمالي الطوسي للسيّد بحر العلوم : ج 1 ص 9.
7- . دمية القصر : ص 75 .
8- . خطط الشام لمحمّد كرد علي : ج 6 ص 185.
9- . عمدة الطالب : ص 195 .
10- . المصدر السابق : ص 53 .
11- . محاضرات في الشعر الفارسي لعلي أكبر الفيّاض : ص 97 .
12- . المنتظم : ج 8 ص 120.

ص: 14

. .

ص: 15

. .

ص: 16

. .

ص: 17

. .

ص: 18

نُبذة عن حياة الشريف المرتضى

مولده

نسبه واُسرته من أبيه واُم_ه

وال_ده

نُبذة عن حياة الشريف المرتضى قدس سرهمولدهوُلِد الشريف المرتضى قدس سره في دار أبيه بمحلّة باب المحوّل في الجانب الغربي من بغداد « الكرخ » الواقعة بين نهر الصراة غربا ونهر كرخايا شرقا ، ومحلّة الكرخ جنوبا، (1) في رجب سنة خمس وخمسين وثلاثمئة في خلافة المطيع للّه العباسي .

نسبه واُسرته من أبيه واُم_ههو السيّد الشريف علي بن الشريف أبي أحمد الحسين نقيب الطالبيين بن موسى الأبرش محمّد « الأعرج » بن موسى « أبي سبحة » بن إبراهيم « المرتضى » بن الإمام موسى بن جعفر عليهماالسلام.

وال_دههو الشريف أبو أحمد الحسين الملقّب بالطاهر الأوحد ذي المناقب، لقبه بذلك الملك بهاء الدولة البويهي ؛ لجمعه مناقب شتّى ، ومزايا رفيعة جمّة ، وفضلاً عن كونه علوي النسب، هاشمي الأرومة، انحدر من تلك السلسلة الطاهرة ؛ فإنّه كان نقيب الطالبيين وعالمهم وزعيمهم، جمع إلى رئاسة الدّين زعامة الدنيا لعلو همّته، وسماحة نفسه، وعظيم هيبته، وجليل بركته ، وإلى ذلك أشار ابن مهنا بنقله عن الشيخ أبي الحسن العمري النسّابة : « كان بصريا ، وهو أجلّ من وضع على رأسه الطيلسان ، وجرّ خلفه رمحا ، ( أراد : أجلّ من جمع بينهما ) ، وكان قوي المنّة ، شديد العصبة، يتلاعب بالدول، ويتجرّأ على الاُمور » (2) . ويستفاد من هذا القول : إنّ الشريف أبا أحمد كان بطل حرب وسياسة، فضلاً عن كونه رجل عِلمٍ وزعيم قوم ، إلاّ أنّنا لم نقف له في التاريخ على أنّه خاض حربا أو دخل معركة. فلهذه الملكات الحميدة، والصفات المجيدة، والهيبة الشديدة، خشيه عضد الدولة البويهي ؛ ولأنّه كان منحازا لابن عمّه بختيار بن معز الدولة، فحين قدم العراق قبض عليه في صفر سنة (369 ه)، (3) وحمله إلى قلعة بشيراز اعتقله فيها ، فلم يزل بها إلى أن مات عضد الدولة سنة (373 ه)، فأطلقه أبو الفوارس شرف الدولة بن عضد الدولة ، واستقدمه معه إلى بغداد فأكرمه ، وأعظمه ، وأعاد إليه نقابة الطالبيين _ الّتي عزل عنها ووليها مرارا _ وقلّده قضاء القضاة سنة (394 ه) زيادة إلى ولاية الحجّ والمظالم ونقابة الطالبيين، وكان التقليد له بشيراز، وكتب له عهده على جميع ذلك ، ولقّب بالطاهر الأوحد ذي المناقب، فلم ينظر في قضاء القضاة ؛ لامتناع القادر باللّه من الإذن له بذلك. (4) وكان الشريف أبو أحمد كثير السعي في الإصلاح ، ميمون الوساطة ؛ لذا كثرت سفاراته لبركة وساطته بين خلفاء بني العباس وملوك بني بويه والاُمراء من بني حمدان وغيرهم. وتوفّي الشريف المذكور بعد أن حالفته الأمراض وذهب بصره ببغداد سنة أربعمئة، ليلة السبت لخمس بقين من جُمادى الاُولى، ودُفن في داره، ثمّ نقل منها إلى مشهد أبي عبداللّه الحسين بن علي عليهماالسلام في كربلاء المقدّسة ، ودُفن في تلك الروضة المقدّسة عند جدّه إبراهيم بن الإمام موسى عليهماالسلام ، بعد إن عمّر سبعا وتسعين سنة، وقد رثته الشعراء مرّات كثيرة، وممّن رثاه ابنه بالقصيدة الّتي مطلعها : ألا يا قوم للقدر المتاحوللأيّام ترغب عن جراحي

.


1- . انظر الخارطة رقم (7) مقابل ص 198 من تاريخ بغداد في العهد العباسي .
2- . عمدة الطالب : ص 192.
3- . المنتظم : ج 7 ص 198.
4- . المصدر السابق : ص 226 _ 227.

ص: 19

. .

ص: 20

والدت_ه

ألقابه وكنيته

سماته الخلقية وصفاته الخلقي_ة

والدت_ههي فاطمة بنت أبي محمّد الحسن (أو الحسين) الملقّب بالناصر الصغير ابن أحمد بن أبي محمّد الحسن الملقّب بالناصر الكبير أو الأطروش ، أو الأصم ، صاحب الدَّيلم بن علي بن عمر الأشرف بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب عليهم السلام ، وهي والدة شقيقه الرضي، ويلقّب الناصر الأصم بالناصر للحقّ ، وكان شيخ الطالبيين، وعالمهم، وزاهدهم ، وشاعرهم، ملك بلاد الدَّيلم والجبل، وجرت له حروب عظيمة مع السامانية ، وتوفّي بطبرستان سنة (304 ه). (1) وقد توفيت فاطمة بنت الناصر المذكورة رحمهماالله في ذي الحجّة سنة (385 ه)، ورثاها الشريف الرضي بالقصيدة الّتي مطلعها : أبكيكِ لو نقع الغليل بكائيوأقول لو ذهب المقال بدائي

ألقابه وكنيتهاشتهر الشريف المرتضى قدس سره بلقب السيّد، والشريف، والمرتضى، وذي المجدين، وعَلم الهدى، وأوّل من وسمه بهذا اللقب الأخير، هو الوزير أبو سعد محمّد بن الحسين بن عبد الصمد سنة عشرين وأربعمئة، وسبب التسمية مذكورة في كتب التاريخ والتراجم. (2) ويكنّى بأبي القاسم.

سماته الخلقية وصفاته الخلقي_ةكان الشريف رحمه الله ربع القامة ، نحيف الجسم ، أبيض اللّون ، حسن الصورة ، اشتهر بالبذل والسخاء ، والإغضاء عن الحساد والأعداء، وقد مُني بكثير من هؤلاء، وديوانه طافح بالشكوى منهم ، والإيصاء بالتجاوز عنهم ، والكف عن مقارعتهم : تجاف عن الأعداء بقيا فربّماكفيت فلم تجرح بناب ولا ظفر ولا تبر منهم كلّ عود تخافهفإنّ الأعادي ينبتون مع الدهر (3) إلاّ أنّ أعداءه ومناوئيه وحاسدي نعمته وصموه بالبخل وقلّة الإنفاق بهتانا وحسدا ؛ وكلّ ذي نعمة محسود، وإنّا لم نجد فيما كتب عنه في التراجم من وسمه بهذه الصفة المنزه عنها، إلاّ ما نقله بعض المؤرخين بروايات متضاربة وأسانيد مضطربة، ملخّصها: إنّ أحد الوزراء _ قيل هو : محمّد بن خلف _ قد وزع ضريبة على الأملاك ببادوريا ؛ (4) وذلك لصرفها في حفر النهر المعروف بنهر عيسى، فأصاب ملكا للشريف المرتضى رحمه اللهبالناحية المعروفة بالداهرية، فوقع عليه من التقسيط عشرون درهما ، فكتب المرتضى قدس سرهإلى الوزير يسأله أسقاط ذلك عنه. والقضية مذكورة في شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد، يرويها أبو حامدأحمد بن محمّد الإسفراييني الفقيه الشافعي، قال: كنت يوما عند الوزير فخر الملك أبي غالب محمّد بن خلف، وزير بهاء الدولة وابنه سلطان الدولة، فدخل عليه الرضي أبو الحسن فأعظمه وأجلّه ورفع منزلته . . . ، ثمّ دخل بعد ذلك عليه المرتضى أبو القاسم رضى الله عنه ، فلم يعظمه ذلك التعظيم، ولا أكرمه ذلك الإكرام، وتشاغل عنه برقاع يقرأها وتوقيعات يوقع بها ، فجلس قليلاً وسأله أمرا فقضاه ، ثمّ انصرف. قال أبو حامد: فتقدّمت إليه ، وقلت: أصلح اللّه الوزير ، هذا المرتضى هو الفقية المتكلّم صاحب الفنون، وهو الأمثل الأفضل ، وإنّما أبو الحسن (يعني الرضي)شاعر، قال: وكنت مجمعا على الانصراف ، فجاءني أمر لم يكن في الحساب، فدعت الضرورة إلى ملازمة المجلس إلى أن تقوض الناس واحدا فواحدا ، ولم يبق عنده غيري، ثمّ سرد القصة ، وقضي الضريبة بما يشعر بالغض من منزلة المرتضى، هذا ما ذكره ابن أبي الحديد. (5) والرواية تختلف بسندها ومتنها مع رواية صاحب عمدة الطالب (6) حيث أسندها إلى أبي إسحاق الصابئ إبراهيم بن هلال الكاتب المشهور. قال: كنت عند الوزير أبي محمّد المهلبي ذات يوم، فدخل الحاجب واستاذنه الشريف المرتضى فأذن له، فلمّا دخل قام إليه وأكرمه وأجلسه معه في دسته، وأقبل عليه يحدثه حتّى فرغ من حكايته ومهمّاته، ثمّ قام إليه وودعه وخرج ، فلم يكن ساعة حتّى دخل عليه الحاجب واستاذن للشريف الرضي . ثمّ أورد القصّة بفروق في المتن أيضا. فنحن نقف إزاء هذه الرواية المضطربة في متنها وسندها موقف الارتياب والاستغراب، فبينما ونجد ابن أبي الحديد يسندها لأبي حامد الإسفراييني مع الوزير محمّد بن خلف، نجد رواية ابن مهنا مسندة إلى أبي إسحاق الصابئ مع الوزير المهلبي مع فروق في المتن كما أسلفنا. فإذا علمنا أنّ الوزير المهلبي أبا أحمد الحسن بن محمّد بن هارون _ وزير معز الدولة البويهي _ قد توفّي سنة (352 ه)، وهاتيك السنة هي قبل مولد المرتضى بثلاث سنين حيث كان مولده رحمه الله سنة (355 ه) ، هان علينا تفنيد الرواية بَداهة. زيادة على ذلك : أنّ الرواية الاُولى تجعل الداخل الأوّل على الوزير هو الشريف الرضي ، بينما الرواية الثانية تجعله المرتضى. هذا ما يشير إمّا إلى اختلاق الرواية ووضعها من الأساس، أو إلى تحريفها ، أو المبالغة فيها على أقرب الاحتمالات ، لما سنوضحه قريبا . والشريف المرتضى قدس سره في سعة عن التوسّل بهذه الوسائل الركيكة الّتي لا تناسب منزلته ومقامه لدى الوزير ولدى الخلفاء أنفسهم ؛ لرفع هذه الضريبة اليسيرة، وذلك لما رزق من عزّة في النفس ، وحظّ وافر من الجاه ؛ زيادة على النعمة والثراء المصحوب بالبذل والسخاء ، الّذي دلّتنا عليه سيرته الحميدة ، وكرمه المعروف ، وبذله الفذّ، حتّى لِيم على كثرة الإنفاق والعطاء مرارا ، فقال في ذلك مجيبا لهم بقصائد مذكورة في ديوانه نذكر منها على سبيل الشاهد قوله : دعي منظري إن لم أكن لك رائعاًولا تنظري إلاّ إلى حسن مخبري فإنّي وخير القول ما كان صادقاًلدى الفخر سبّاق إلى كل مفخر وأيضاً: واعلم أنّ الدهر يعبث صرفهبما شاء من مال البخيل المقتر وأيضا: عذلت على تبذير مالي وهل ترىنجمع إلاّ للجؤور المبذر أفرقه من قبل أن حال دونهرحيلي عنه بالحمام المقدر مضى قيصر من بعد كسرى وخلياالتلاعب في أموال كسرى وقيصر وغير ذلك ممّا سيأتي ذكره . وقد استفاض عنه إنفاقه على مدرسته العلمية الّتي تعهد بكفاية طلابها مؤونة ومعاشا ، حتّى أنّه وقف قرية من قراه تصرف مواردها على قراطيس الفقهاء والتلاميذ، وأنّه كان يجري الجرايات والمشاهرات الكافية على تلامذته وملازمي درسه، مثل الشيخ الطوسي قدس سره، فقد كان يعطيه اثني عشر دينارا في الشهر، ويعطي للقاضي عبدالعزيز بن البرّاج قدس سره ثمانية عشر دينارا وغيرهما، وذلك بفضل ما يرد عليه من دخل أملاكه الخاصة الّتي قدر باربعة وعشرين ألف دينار بالسنة، (7) ولما يمتلكه من قرى وضياع قيل : إنّها ثمانون قرية بين بغداد وكربلاء، يجري خلالها نهر له، غرست الأشجار الوارفة على حافتيه ، فتهدلت غصونها بثمارها اليانعة، فكان ذلك الانعطاف يسهّل على أصحاب السفن والسابلة العابرين قطف تلك الأثمار الّتي أباحها المرتضى لهم. (8) وبعد هذا ، فالرواية إن لم تكن موضوعة ومفتعلة من أصلها، فهي محرفة، أو مبالغ فيها على أقرب الاحتمالات ؛ لما رأيت من اختلال أسانيدها ومتونها. وعلى فرض القول بصحّتها، فإنّ للشريف المرتضى قدس سره مخرجا منها ومندوحة عنها، بحملها على محامل التعديل ومخارج التأويل. أفلا يحتمل أنّ السيّد الشريف قدس سره قد رأى بثاقب رأيه وسديد اجتهاده أنّ ما اُلقي عليه من ضريبة لحفر النهر إنّما هو من المصالح العامة الّتي يتحتم على الدولة القيام بها، والإنفاق عليها؟! ولم يرد الشريف المرتضى قدس سره بدفعها عنه سوى دفع مظلمة أو إزالة ضرر، وكلاهما يجب أن يدفعا، كبيرين كانا أو صغيرين، وقد يكون السكوت عنهما يجرّ إلى مغارم، والرضا بهما يؤدي إلى مآثم، والكلّ محظور في الشريعة، والراضي بعمل قوم كالداخل معهم فيه. وقد ذكر المحقّق الخوانساري قدس سره عن السيّد نعمة اللّه الجزائري قدس سره ما يفيد معنى ما ذكرناه ، وهذه صورته: أقول: كان الوزير فخر المُلك لم يتحقّق علو الهمّة؛ فلذا عاب الأمر على الشريف المرتضى رضى الله عنه ، وأمّا كان عليه غضاضة في ذلك الكتاب (يعني الكتاب الّذي بعثه المرتضى إلى الوزير يسأله تخفيف الضربية وإسقاطها)، لو كان سائلاً لها من أموال الوزير، وما فعله الشريف عند التحقيق من علو الهمّة، وذلك أنّه دفع عن ملكه بدعة لو لم يتداركها لبقيت على ملكه، وربّما وضعت من قدره لو بقيت عند أهل الأملاك وغيرهم، كما أنّه ورد في الحديث: المؤمن ينبغي له الحرص على حيازة (لعلّها حياطة) ماله الحلال، كي ينفقه في سبيل الطاعات. كما كانت عادة جدّه أبي طالب بن عبدالمطلب عليه السلام ، فإنّه كان يباشر جبر ما انكسر من مواشيه وأنعامه، فإذا جاء الوافد إليه وهبها مع رعاتها له. وقد نقل عن الشريف (عطّر اللّه مرقده) أنّه اشترى كتبا قيمتها عشرة آلاف دينار أو أزيد، فلمّا حملت إليه وتصفحها رأى في ظهر كتاب منها مكتوبا : وقد تخرج الحاجات يا اُم مالكإلى بيع أوراق بهن ضنين فأمر بإرجاعها إلى صاحبها ، ووهبه الثمن . فأين همّته هذه من الوزير الّذي حمل إلى الرضي ألف دينار واستغنم ردّها إليه ؟ ! (9) فأمّا إعظام الوزير للشريف الرضي وتبجيله له أكثر من أخيه المرتضى، فواضح لكلّ من وقف على سيرة الشريفين، وعرف نفسية كلّ من الشخصين، وسلكوهما ونزوعهما في الحياة. فالشريف المرتضى قدس سره كان ولا ريب ينزع إلى الخلافة ، ويمني نفسه بها ، بل كان يترقّبها صباحا ومساءً، وكان يعتقد أنّه سينالها ما بقي له جنان يخفق أو لسان ينطق بعد أمد قصير أو طويل .

.


1- . شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد : ج 1 ص 13 ، وهامش ص 76 من مقدّمة حقائق التأويل .
2- . انظر روضات الجنات : ص 383.
3- . معجم الاُدباء : ج 13 ص 257 .
4- . بادوريا : طسوج من كورة الاستان بالجانب الغربي من بغداد ، وهو اليوم محسوب من كورة نهر عيسى . قالوا : ما كان في شرقي الصراة فهو « بادوريا » ، وما كان في غربها فهو « قطربل » ( معجم البلدان : ج 2 ص 29 ) .
5- . شرح نهج البلاغة : ج 1 ص 13 .
6- . عمدة الطالب : 198.
7- . معجم الاُدباء : ج 13 ص 154.
8- . روضات الجنات : ص 383.
9- . روضات الجنات : ص 577 .

ص: 21

. .

ص: 22

. .

ص: 23

. .

ص: 24

. .

ص: 25

. .

ص: 26

زه_ده

زه_دهكان الشريف المرتضى قدس سره ميّالاً إلى الزهد في الدنيا راغبا عنها، ذامّا لها ، داعيا إلى الاعتبار فيها، سالكا سبيل أجداده الكرام عليهم السلام ، من جعلها مجازا للآخرة ، ومزادا لدار القرار ؛ لذا نجد ديوانه يفيض بالقصائد في ذمّ الدنيا ، والحث على الزهد فيها ، والاعتبار بتقلّب أحوالها، وفناء نعيمها، ثمّ هو يصف مقابرها، ويرثي مقبوريها، ويدعو كذلك إلى تكميل النفس وتهذيبها، وغرس مواد العزّة فيها بنبذ الحرص، وترك الطمع، والتحلّي بجمال العلم وخصال الخير، فمن ذلك قوله في ذمّ الدنيا ، والحث على الزهد فيها: أفي كلّ يوم ليمنى استجدهاوأسباب دنيا بالغرور أودها ونفس تنزى ليتها في جوانحلذي قوة يسطيعها فيردها تعامه عمدا وهي جد بصيرةكما ضل عن عشواء باللّيل رشدها إذا قلت يوما تناهى جماحهاتجانف لي عن منهج الحقّ بعدها وأيضاً: كالدنيا تصدّ عن الّذييود محبوها فيحسن صدّها وتسقيهم منها الاجاج مصردافكيف بها لو طاب للقوم عدها وأيضاً: وحبّ بني الدنيا الحياة مسيئةبهم ثلمة في النفس أعوز سدها وأيضاً: سقى اللّه قلبا لم يبت في ضلوعههواها ولم يطرق نواحيه وجدها وأيضاً: تخفف من ازوادها مل ء طوقهفهان عليه عند ذلك فقدها وهو مع زهده الشديد في الدنيا وتقشفه فيها، كان ذا مقام سياسي في الدولة خطير يفوق مقام أخيه الرضي بكثير، وذلك بفضل ما اُوتي من أصالة الرأي ووفارة العلم والمال، مع عز العشيرة وكثرة الرجال ، وهذا ما نتعرّض له لاحقا عند الحديث عن منزلته الاجتماعية والسياسية .

.

ص: 27

شغفه بالعلم ، مدرسته العلميّة ، خزانة كتب_ه

شغفه بالعلم ، مدرسته العلميّة ، خزانة كتب_هكان الشريف المرتضى رحمه الله مشغوفا بالعلم ، مصرفا إليه بين دراسة وتدريس ، محبّا لتلاميذه وملازميه ، حتّى أنّه كان يجري عليهم الجرايات الشهرية، وقد مرّ ذكر ذلك . وقد اتّخذ من داره الواسعة مدرسة عظيمة تضمّ بين جدرانها ثُلة من طلاب الفقه والكلام والتفسير واللغة والشعر والعلوم الاُخرى كعلم الفلك والحساب وغيره ، حتّى سميت أو سمّاها : «دار العلم» ، وأعدّ له مجلسا للمناظرات فيها. غير إنّ الّذي هو جدير بالملاحظة والاعتبار ، أنّ مجلس الشريف المرتضى قدس سرهأو مدرسته العلمية _ بتعبير أصح _ كانت جامعة إنسانية تلمّ شتات كثير من طلاب العلم ومريديه من مختلف المذاهب والنحل، دون تفرقة بين ملّة وملّة ، أو مذهب ومذهب . وقد مرّت عليك قصة اليهودي الّذي درس عليه علم النجوم _ أعني الفلك _ ، كما لم تخف عليك أيضا اتصالاته الوثيقة بأبي إسحاق الصابئ الكاتب المشهور، وللسيّد المرتضى قدس سره في رثائه قصيدة رائعة تعدّ من غرر قصائده ومطلعها: ما كان يومك يا أبا إسحاقإلاّ وداعي للمنى وفراقي وهذا إن دلّ على شيء فإنّما يدلّ على رحابة صدر المرتضى قدس سره وسعة أفقه وشريف نظرته الإنسانية ، الّتي تعبر عن قلبه الشفيق الرحيم العطوف على هذه النفوس البشرية المعذبة بويلات العصبية الرعناء ، والطائفية البغضية، والعنعنات الباطلة، المنبعثة من الجهل المطبق، وضيق الاُفق المحدود، فالشريف المرتضى قدس سرهكان له اُسوة حسنة في جدّه الرسول الأعظم وأهل بيته الكرام صلى الله عليه و آله وسلموأصحابه الأجلّة، المرددين قول ربّ الخلق أجمعين: «يَ_أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَ_كُم مِّن ذَكَرٍ وَ أُنثَى وَ جَعَلْنَ_كُمْ شُعُوبًا وَ قَبَآل_ءِلَ لِتَعَارَفُواْ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَ_ل_كُمْ» . (1) أمّا شغف الشريف المرتضى قدس سره بجمع الكتب وولعه باقتنائها فيكفينا أن نذكر أنّ خزانته ضمّت ثمانين ألف مجلّد من مصنفاته ومحفوظاته ومقروءاته، على ما حصره وأحصاه صديقه أبو القاسم التنوخي. (2) وقد قوّمت هذه الكتب بثلاثين ألف دينار على ماذكره الثعالبي في كتابه يتيمة الدهر ، هذا بعد أن أهدى الشريف المرتضى قدس سره من هذه الكتب إلى الرؤساء والوزراء شطرا .

.


1- . الحجرات: 13.
2- . روضات الجنات : ص 383 . والتنوخي: هو أبو القاسم علي بن المحسن القاضي صاحب المرتضى وتلميذه، ولد بالبصرة سنة (365 ه) وولي القضاء بالمدائن ، وكان متحفظا في الشهادة محتاطا صدوقا في الحديث توفي سنة (447 ه ) ودفن في داره بدرب التل، وقد كتب عنه الخطيب البغدادي وصلى على جنازته .

ص: 28

منزلته الاجتماعية والسياسي_ة

منزلته الاجتماعية والسياسي_ةكان الشريف رحمه الله مقرّبا لدى خلفاء بني العباس ، أثيرا عندهم ومعظما ؛ وذلك لما يتحلّى به من كريم الصفات وعظيم الملكات ؛ ولما تربطه بهم من وشائج النسب ، ووسائل القربى ، مع جليل المكانة والمنزلة عند الخاصّ والعام ؛ ولذا قلّد نقابة الطالبين ، وأمر الحجّ والمظالم ، وجميع ما كان لأخيه الرضي _ وهي مناصب خطيرة جدّا _ وذلك في يوم السبت الثالث من صفر سنة (406 ه)، وهي سنة وفاة أخيه الرضي في عهد الخليفة القادر باللّه ، وجمع الناس لقراءة عهده في الدار الملكية، وحضر فخر المُلك «الوزير أبو غالب محمّد بن خلف» والأشراف والقضاة والفقهاء. وكان العهد الّذي عهده الخليفة القادر باللّه هذا نصّه : «هذا ما عاهد عبداللّه أحمد القادر باللّه أمير المؤمنين إلى علي بن الحسين بن موسى العلوي، حين قرّبته إليه الأنساب الزكية، وقدّمته لديه الأسباب القوية، واستظلّ معه بأغصان الدوحة الكريمة، واختصّ عنده بوسائل الحرمة الوكيدة، فقلّده الحجّ والنقابة ، وأمره بتقوى اللّه . . . » . (1) وفي فاتحة ديوان الشريف المرتضى قدس سره مرثية جيّدة يرثي بها الخليفة القادر باللّه المتوفى ( 422 ه ) ، ويذكر فجعته به ، وهلعه ببلوغ نعيه إليه، ثمّ يصفه بالعفاف والتقى ونقاوة الإزار ، قد كان القادر يدعى راهب بني العباس ، ويهنئ بها أيضا ابن الخليفة القائم لتوليه الخلافة عند أخذ البيعة له، وكان المرتضى قدس سره أوّل من بايعه. فلهذه العلاقات الوثيقة والوشائج العريقة الّتي تربط المرتضى قدس سره بالخلفاء ، فكان كثير الرفقة لهم ، شديد الاتصال بهم، يأنسون في أغلب الاُمور برأيه، ويجعلون منه حافظ سرّهم الأمين، مشيرهم الناصح، وسفيرهم المصلح في أكثر ملماتهم وعظائم اُمورهم إلى الملوك والوزراء ، وكافة عمال الدولة ، وطبقات الناس. فلا غرابة أن تكون دار المرتضى الوَزَرَ المنيع ، والحصن الحصين ، يلجأ إليها الملوك والوزراء عندما تعروهم المحن ، ويحيق بهم البلاء على أثر الفتن الحادثة في ذلك العصر، وما أكثرها ! فيحدّثنا التاريخ : بنزول الملك جلال الدولة في دار المرتضى قدس سره بدرب جميل بعد أن تغيّرت قلوب الجند عليه ، فشغبوا ونهبوا حتّى اضطر الملك إلى نقل ولده وحرمه وما بقي من ثيابه وآلاته ودوابه وفرش داره إلى جانب الغربي ليلاً، وذلك على أثر استيزار الوزير أبي القاسم ابن ماكولا، ثمّ جرت مكاتبات بين العسكر والخليفة في شأنه، وكان الوسيط في عرض مطاليب هؤلاء هو الشريف المرتضى قدس سره ، وذلك في سنة (424 ه ) . (2) كما نجد فتن العَيارين تشغل بال السلطان ، فيراسل المرتضى رحمه الله بإحضارهم إلى داره ، وأن يقول لهم: من أراد منكم التوبة قبلت توبته ، واقر في معيشته ، ومن أراد منكم خدمة السلطان استخدم مع صاحب البلد، ومن أراد الانصراف عن البلد كان آمنا على نفسه ثلاثة أيّام . . . وذلك في سنة (425 ه). (3) ويروي لنا التاريخ أيضا: (4) إنّه في ربيع الآخر سنة (427 ه) نقل أبو القاسم ابن ماكولا الوزير بعد أن قبض عليه وسلم إلى المرتضى قدس سرهإلى دار المملكة ، فمرض ويئس منه، وراسل الخليفة في معنى أخيه قاضي القضاة أبي عبداللّه ابن ماكولا، وقيل : هو يعرف أمواله، فدفع عنه الخليفة، ثمّ إنّ الجند شغبوا على جلال الدولة ، وقالوا : إنّ البلد لا يحتملنا وإياك، فأخرج من بيننا، فإنّه أولى لك، فقال: كيف يمكنني الخروج على هذه الصورة ؟ أمهلوني ثلاثة أيّام حتّى أخذ حرمي وولدي وأمضي، فقالوا: لا نفعل، ورموه بآجرة في صدره فتلقاها بيده، واُخرى في كتفه، فاستجاش الملك الحواشي والعوام، وكان المرتضى والزينبي والماوردي عند الملك، فاستشارهم في العبور إلى الكرخ كما فعل في المرّة الاُولى، فقالوا: ليس الأمر كما كان وأحداث الموضع قد ذهبوا، وحوّل الغلمان خيمهم إلى ما حول الدار إحاطة بها، وبات الناس على أصعب خطّة، فخرج الملك نصف اللّيل إلى زقاق غامض، فنزل إلى دجلة، وقعد في سميرية فيها بعض حواشيه ، فغرقوها تقديرا أنّه فيها ، ومضى الملك مستترا إلى «دار المرتضى »، وبعث حرمه إلى دار الخليفة، ونهب الجند دار المملكة وأبوابها وساجها ورتّبوا فيها حفظة، فكانت الحفظة تخربها نهارا وتنقل ما اجتمع من ذلك ليلاً. ولابدَّ أن يصيب الشريف المرتضى قدس سره من جراء ذلك كثير من الأذى من رشاش تلك الحوادث وشظايا تلك الفتن ، الّتي قلّما يسلم منها الوسطاء، أو يفلت منها المصلحون، وقد يجرّ عليهم ذلك أحيانا ارتياب الخليفة ، أو تغيّر قلبه لانقداح الشكّ فيه ؛ لعارض شبهة قد لايكون لها أصل. فيحدّثنا التاريخ: إنّ الوزير أبا القاسم المغربي (5) جمع الأتراك والمولدين ؛ ليحلفوا لمشرف الدولة البويهي، وكلّف مشرف الدولة الشريف المرتضى قدس سره ونظام الحضرتين أبا الحسن الزينبي وقاضي القضاة أبا الحسن بن أبي الشوارب، وجماعة من الشهود والحضور، فأحلفت طائفة من القوم، فظنّ الخليفة أنّ التحالف لنيّة مدخولة في حقّه، فبعث من دار الخليفة من منع الباقين بأن يحلفوا، وأنكر على الشريف المرتضى والزينبي وقاضي القضاة حضورهم بلا إذن، واستدعوا إلى دار الخلافة في (6) سرح الطيّار، وأظهر عزم الخليفة على الركوب، وتأدى ذلك إلى مشرف الدولة وانزعج منه ، ولم يعرف السبب فيه، فبحث عن ذلك ، إذ إنّه اتصل بالخليفة هذا التحالف عليه، فترددت الرسائل باستحالة ذلك، وانتهى الأمر إلى أن حلف مشرف الدولة على الطاعة والمخالصة للخليفة . . . . (7) وقد لا يقف الأمر عند هذا الحد من الارتياب والشكّ الّذي يمحوه استكشاف الحال بالاستجواب أو العتاب، بل قد يصل إلى أكثر من ذلك من الإضرار بالأنفس والأموال. أمّا ما كان يصيب الشريف المرتضى قدس سره من فتن العامّة وأمر الطغام، فشيء ليس بالأمر اليسير استقصاؤه ، ويحدّثنا التاريخ أيضا : عن استفحال أمر العيارين وكبسهم لدور الناس نهارا، وفي اللّيل بالمشاعل والموكبيات، وكانوا يدخلون على الرجل فيطالبونه بذخائره ويستخرجونها منه بالضرب ، كما يفعل المصادرون ، ولا يجد المستغيث مغيثا مع القتل والنهب ، حتّى اُحرقت دار الشريف المرتضى قدس سره على الصراة ، وقلع هو باقيها ، وانتقل إلى درب جميل . (8) كما نجد قبل ذلك في حوادث سنة ( 422 ه ) إنّ دار الشريف المرتضى قدس سرهتنقب فيخرج منها مرتاعا منزعجا ، حتّى جاد جيرانه من الأتراك ، فدافعوا عنه وعن حرمه ، واُحرقت سميريتيه على أثر فتن كانت تحدث بين السنّة والشيعة . (9) وهكذا نجد السيّد المرتضى قدس سره يموج في خضم زاخر من تلك الأحداث والفتن ، الّتي لا يبتلي بها إلاّ رؤساء القوم وعلّيتهم، هذا إذا باخت آراء الخلفاء، وسفهت أحلام الملوك، وأساء الحاكمون استعمال السلطة، واختل الأمن ، وأُخذ البريء بذنب المسيء، وسقطت هيبة السلطان ؛ لتفريطه في اُمور الرعية، وانهمك أرباب المملكة وولاة الأمر باللّذات الشخصية، وارتفعت مراقبة الدّين من قلوب المؤمنين، فلا مُحاسَب ولا مُحاسِب، فالأمر منذر حينذاك بخطر وشرّ عميم. ومع كلّ هذا كان المرتضى رحمه الله في ذلك العصر المشحون بالفتن والشَّغب، والهمّ والنصب لايخلو من ظرف ودعابة مع أصدقائه ومعاشريه بما لايخرج عن حدود الحشمة ومسالك الأدب، فقد اطّلع يوما من روشنه فرأى المطرز (10) الشاعر قد انقطع شراك نعله ، وهو يصلحه ، فقال له: قدت ركائبك، وأشار إلى قصيدته الّتي أولها : سرى مغرما بالعيس ينتجع الركبايسائل عن بدر الدجى الشرق والغربا على عذبات الجزع من ماء تغلبغزال يرى ماء القلوب له شربا إذا لم تبلغني إليكم ركائبيفلا وردت ماء ولا رعت العشبا فقال مسرعا : أتراها ما تشبه مجلسك وخلعك وشربك، أشار بذلك إلى أبيات الشريف المرتضى قدس سره الّتي منها: يا خليلي من ذؤابة قيسفي التصابي رياضة الأخلاق غنياني بذكرهم تطربانيواسقياني دمعي بكأس دهاق وخذا النوم من جفوني فإنّيقد خلعت الكرى على العشاق

.


1- . المنتظم : ج 7 ص 276 .
2- . المنتظم : ج 7 ص 72 _ 74.
3- . المصدر السابق : ج 8 ص 79 .
4- . المصدر السابق : ج 15 ص 253-254 .
5- . هو أبو القاسم الحسين بن علي بن الحسن المتوفى سنة « 418 ه » وزر لمشرف الدولة بعد أبي علي الرخجي . ( المنتظم : ج 8 ص 32 ) .
6- . في المصدر : «و» والصحيح ما أثبتناه .
7- . المنتظم : ج 15 ص 163 .
8- . المنتظم: ج 8 ص 22 .
9- . المنتظم : ج 8 ص 55 .
10- . المطرز: لقب أبي القاسم عبد الواحد بن محمّد بن يحيى بن أيوب الشاعر، وكان يسكن ناحية الدجاج، المتوفى في جمادى الآخرة سنة 439 ه ( المنتظم : ج 8 ص 134 ) .

ص: 29

. .

ص: 30

. .

ص: 31

. .

ص: 32

. .

ص: 33

معاص_روه وأصحاب_ه

معاص_روه وأصحاب_هكان للشريف المرتضى رحمه الله بفضل ما اُوتي من شرف العلم والنسب، وما تحلّى به من زكاة الطبع والأدب ، مع عزّة النفس ، ووفارة المال، وجميل الخصال، وسمو الرتبة ، وجليل المكانة، أصدقاء كثر جلّهم من أهل العلم والأدب، والفضل والشرف ممّن لايمكننا الإتيان على ذكرهم جميعا، وسنكتفي بعرض أسماء بعضهم من عليّة القوم ورؤسائهم، تاركين التعليق عليهم، أو الإسهاب في شرح أحوالهم؛ لأنّ ذلك لايناسب هذه الترجمة الموجزة : فمن الخلفاء: الطائع لأمر اللّه ، والقادر وابنه القائم بأمر اللّه ، ثمّ ابنه ذخيرة الدين أبو العبّاس محمّد بن القائم بأمر اللّه . وكان الشريف المرتضى رحمه الله قد عاصر أربعة خلفاء هم: المطيع ، وكانت خلافته منذ سنة (334 _ 363 ه) وكان عمر الشريف المرتضى قدس سره حين وفاة المطيع لم يتجاوز ثمانية أعوام . ثمّ ولي الخلافة الطائع إلى سنة (381 ه) حيث وليها القادر إلى سنة (422 ه) إذ وليها ابنه القائم وهو شاب، وللمرتضى في تهنئته في الخلافة سنة (422 ه) وتعزيته بوفاة والده القادر قصيدة في أوّل ديوانه ، وكان هذا الخليفة _ القائم _ آخر من عاصره الشريف المرتضى قدس سره ، حيث توفّي المرتضى سنة (436 ه) ، وبقي القائم إلى سنة (467 ه). أمّا الملوك ، فهم: بهاء الدولة البويهي وأبناؤه شرف الدولة، وسلطان الدولة، وركن الدين جلال الدولة، ثمّ الملك أبو كاليجار المرزبان بن سلطان الدولة بن بهاء الدولة. ومن الوزراء: الوزير أبو غالب محمّد بن خلف، والوزير الرخجي، والوزير أبو علي الحسن بن حمد، والوزير أبو سعد بن عبدالرحيم، والوزير أبو الفتح والوزير أبو الفرج محمّد بن جعفر بن فسانجس، والوزير أبو طالب محمّد بن أيوب بن سليمان البغدادي، والوزير أبو منصور بهرام بن مافنة وزير الملك أبي كاليجار وغيرهم. ومن النقباء : والده الشريف أبو أحمد الموسوي، وخاله الشريف أحمد بن الحسن الناصر، وأخوه الشريف أبو الحسن محمّد الرضي، والشريف أبو علي عمر بن محمّد بن عمر العلوي، والشريف نقيب النقباء أبو الحسن الزينبي، والشريف أبو الحسين بن الشبيه العلوي وغيرهم. ومن الاُمراء: الأمير أبو الغنائم محمّد بن مزيد المقتول (401 ه)، وعميد الجيوش أبو علي أستاذ هرمز المتوفّى في هذه السنة أيضا، وأمير الأمراء أبو منصور بويه بن بهاء الدولة، والأمير أبو شجاع بكران بن بلفوارس ، والأمير عنبر الملكيالمتوفّى (420 ه ) ، وأمير عقيل غريب بن مقفى المتوفّى (425 ه ) ، وغيرهم. ومن العلماء والقضاة والاُدباء: اُستاذه العلاّمة الشيخ المفيد المتوفّى (413 ه )، والشيخ أبو الحسن عبد الواحد بن عبد العزيز الشاهد المتوفّى (419 ه )، وسعد الأئمّة أبو القاسم وابنه معتمد الحضرة أبو محمّد المتوفّى (417 ه)، وأبو الحسين بن الحاجب المتوفّى (428 ه)، وأبو إسحاق الصابي الكاتب المشهور المتوفّى (384 ه)، وأبو الحسن هلال بن المحسن بن أبي إسحاق الصابي المتوفّى (448 ه ) وابن شجاع المتوفّى (423 ه) ، وأبو الحسين الأقساسي العلوي ، الّذي تولي إمارة الحجّ نيابة عن الشريف المرتضى مرارا المتوفّى (415 ه ) ، ورثاه السيّد المرتضى بالفائية الّتي مطلعها: عرفت ويا ليتني ما عرفتفمر الحياة لمن قد عرف وأبو الحسين البتي أحمد بن علي الكاتب المتوفّى (403 ه) ، والقاضي أبو القاسم عبد العزيز بن محمّد العسكري القطّان المتوفّى (458 ه)، والقاضي أبو القاسم علي بن المحسن التنوخي المتوفّى (447 ه) ، وأبو الحسين السمسمي تلميذ أبي علي الفارسي المتوفّى (415 ه) ، والشاعر الظريف أبو بكر محمّد بن عمر العنبريالمتوفّى (412 ه) الّذي رثاه الشريف المرتضى بقصيدة مطلعها: أبا بكر تعرضت المنايالحتفك حين لا أحد منوع وغير هؤلاء كثير وكثير ، ومن أراد التفصيل فليراجع ديوانه القيم وتراجم الرجال .

.

ص: 34

. .

ص: 35

مشايخ_ه

مشايخ_هتتلمذ السيّد المرتضى قدس سره على كثير من علماء عصره في مختلف العلوم والفنون، ومنهم : 1 . الشيخ المفيد أبوعبداللّه محمّد بن محمّد بن النعمان ، وقد درس عنده الفقه والاُصول . 2 . أبوالحسين أحمد بن علي بن سعيد الكوفي . 3 . الحسين بن علي بن بابويه أخي الصدوق . 4 . أبو محمّد هارون بن موسى التلعكبري. 5 . أبو عبداللّه محمّد بن عمران الكاتب المرزباني الخراساني ، وقد درس عنده الشعر والأدب . 6 . أبو الحسين علي بن محمّد الكاتب . 7 . أبو الحسن أحمد بن الحسين العطّار أو الشطّار . 8 . أبو العبّاس الجوهري . 9 . أبو علي أحمد بن زيد بن دارا . 10 . أبو التحف علي بن محمّد بن إبراهيم المصري . 11 . أحمد بن سهل الديباجي . 12 . أبو القاسم عبيداللّه بن عثمان بن يحيى . 13 . الشيخ الصدوق محمّد بن علي بن الحسين بن بابويه . 14 . أبو يحيى ابن نباتة عبدالرحيم بن الفارقي . 15 . نجيح بن اليهودي الصائغ الحلبي . 16 . الشيخ أبو محمّد الحسن بن محمّد بن محمّد بن نضر . 17 . الحسن بن أبي الحسن السوداني . 18 . القاضي أبو الحسن علي بن القاضي الطبراني . 19 . ابن نباتة السعدي ، وقد درس عنده علوم اللغة العربية .

.

ص: 36

. .

ص: 37

تلامذت_ه وال_راوون عن_ه

تلامذت_ه وال_راوون عن_هويروي عنه جماعة كثيرة من العامّة والخاصّة ، وهم : 20 . شيخ الطائفة محمّد بن الحسن الطوسي . 21 . أبو يعلى سلاّر بن عبدالعزيز الديلمي . 22 . أبو يعلى الهاشمي العباسي . 23 . أبو الصلاح التقي الحلبي . 24 . أبو يعلى محمّد بن الحسن بن حمزة الجعفري . 25 . الشيخ أبو الفتح محمّد بن علي الكراجكي . 26 . الشيخ أبو القاسم عبدالعزيز بن نحرير بن البرّاج . 27 . ابن روح . 28 . الشيخ هبة اللّه بن الوراق الطرابلسي . 29 . السيّد أبو زيد عبداللّه بن علي الكبابكي بن عبداللّه بن عيسى بن زيد بن علي الكحي الحسيني الجرجاني. 30 . ابن الشريف المرتضى ، الذي صلّى على أبيه عند وفاته . 31 . الخطيب البغدادي صاحب تاريخ بغداد . 32 . الشيخ أبو عبداللّه الدوريستي . 33 . القاضي ابن قدامة . 34 . الشيخ محمّد بن محمّد البصروي . 35 . الشيخ الصدوق أبو منصور العكبري . 36 . الشيخ أبو غانم العصمي الهروي . 37 . الشيخ أبوالفضل ثابت بن عبداللّه بن ثابت اليشكري . 38 . الشيخ أحمد بن الحسن بن أحمد النيسابوري الخزاعي . 39 . السيّد نجيب الدّين أبو محمّد الحسن بن محمّد بن الحسن بن علي بن محمّد بن علي بن القاسم بن موسى بن عبداللّه بن موسى الكاظم عليه السلام . 40 . الشيخ المفيد أبو محمّد عبدالرحمن بن أحمد بن الحسين النيسابوريالخزاعي . 41 . السيد الداعي الحسيني . 42 . أبو الفرج المظفر بن علي بن الحسين الحمداني . 43 . الشيخ عز الدّين عبدالعزيز بن أبي كامل الطرابلسي القاضي . 44 . أبو الصمصام ذوالفقار بن محمّد بن معبد الحسني المروزي . 45 . الشيخ سليمان بن الحسن بن سليمان الصهرشتي . 46 . الشيخ محمّد بن علي الحمداني أو الحلواني . 47 . الحسين بن ثابت بن هارون الفراء البزاعي . 48 . الحسين بن عقبة بن عبداللّه البصري الضرير . 49 . الحسين بن أحمد بن محمّد القطّان البغدادي . 50 . يعقوب بن إبراهيم الفقيه البيهقي . 51 . الشيخ أبو عبداللّه محمّد بن عبدالملك ابن التبان المتكلّم . 52 . الشيخ أبو العبّاس النجاشي . 53 . السيّد أبو تراب المرتضى . 54 . أبو الحسن محمّد بن أبي الغنائم . 55 . أبو الفتح عثمان بن جني . 56 . زربي بن عين . 57 . أبو الحسن الطيوري .

.

ص: 38

. .

ص: 39

مؤلّف_ات السيّ_د المرتض_ى

مؤلّف_ات السيّ_د المرتض_ى قدس سرهاستطاع السيّد المرتضى قدس سره _ بما يملك من ثقافة وموهبة وسعة اطّلاع _ أن يثري المكتبة الإسلاميّة بمؤلّفات هي غاية في الأهمية والجودة، حيث استقى مادة مؤلّفاته من تصانيف القدماء ، الّتي تتميز بأهمية خاصّة بسبب قربها من عصر الرسالة، والتحامها بفترة وجود الأئمّة من أهل البيت عليهم السلام ، وتأثّرها بأجواء العلم والمعرفة الّتي كانوا يشيعونها في الأوساط الإسلاميّة آنذاك ، ومن هنا اتّسمت مؤلّفاته بميزات خاصّة لاتوجد فيما عداها من مؤلّفات السلف ، ومن تلك المميزات: 1 . أصبحت بمثابة المنبع الأوّل ، والمصدر الوحيد لمعظم مؤلّفي القرون الوسطى، حيث استقوا منها مادتهم وصنّفوا كتبهم . 2 . حوت مؤلّفات السيّد المرتضى قدس سره خلاصة الكتب المذهبية القديمة، حيث كانت مكتبة شابور في الكرخ ومكتبات بغداد الاُخرى تحتضن الكتب القديمة الصحيحة ، الّتي هي بخطوط مؤلّفيها وأقلامهم، وقد كانت استفادته من تلك الكتب والمكتبات كبيرة جدّا ، إذ لم يدع كتابا فيها إلاّ وعمد إلى مراجعته واستخراج ما فيه من منفعة، وبهذا يكون الشريف المرتضى قدس سره قد أسدى للعلم خدمة جلى من خلال انتفائه لأفضل ما حوى عصره من علوم، ومن ثَمّ عرضها بلغة ميسرة ، وفي كتب مبوّبة ، وباُسلوب متين، فحفظ بذلك إرثا ثقافيا وتراثا حضاريا نادرا، خاصّة بعد أن تحوّلت مكتبة شابور في الكرخ إلى طعمة للنار أبان العهد السلجوقي. 3 . كما وتميّزت مؤلّفات السيّد المرتضى قدس سره بالتنوع والكثرة، حيث بلغ تعداد ما توصل إليه الباحثون من كتبه مئة وعشرين مؤلّفا تقريبا في مختلف الفنون والعلوم الآداب، إذ لم يدع بابا من العلم إلاّ وطرقه، فقد كتب في الفقه والاُصول وعلم الكلام والتفسير. كما كتب السيّد المرتضى قدس سره كتابين قيمين في الفقه المقارن ، وهما مسائل الناصريات والانتصار ، وكانت أجواء الانفتاح في بغداد ، هي الّتي دفعت السيّد المرتضى قدس سره لكتابة هذين الكتابين، حيث كانت المناظرة والجدل والحوار سمة من سمات الحركة العلمية في بغداد آنذاك ، وبذلك كان كتابا الانتصار ومسائل الناصرياتقد تضمنا الكثير من آراء المذاهب الإسلاميّة إضافة إلى ما اجتمعت عليه الفرقة الإمامية من مسائل الدِّين. وفي الانتصار ومسائل الناصريات تألّق نجم السيّد المرتضى قدس سره في دنيا الاجتهاد، حيث كان يناقش الآراء، وينقدها مستندا إلى الأدلّة العلمية، وقد بيّن ذلك في مقدّمة الكتابين. وعلى كلّ حال فأوّل من فهرس لكتب الشريف المرتضى هو تلميذه محمّد بن محمّد البصروي رحمه الله، حيث قدم القائمة الّتي كتبها إلى اُستاذه ملتمسا الإجازة منه، فأجازه في شعبان سنة (417 ه). (1) ثمّ ذكر جانبا من مؤلّفاته تلميذه الآخر الشيخ أبو جعفر الطوسي قدس سره في كتاب الفهرست والنجاشي في رجاله (2) وابن شهرآشوب في معالم العلماء، (3) كما ذكر الشيخ آقا بزرك الطهراني مؤلّفات الشريف المرتضى قدس سره وبعض التفصيل عنها في موسوعته الكبرى الذريعة إلى تصانيف الشيعة. ويلاحظ أنّ كثيرا من الأسماء وردت في المصادر محرّفة أو مختصرة أو مغيّرة بعض التغيير، ممّا أدّى إلى الاشتباه عند الباحثين لآثار الشريف المرتضى قدس سره. كما أنّ بعض الرسائل أو المسائل المذكورة في قائمة مؤلّفاته هي جزء من كتبه ، أفردها بعض الناسخين فحسبها المنقّبون أنّها مستقلة كتبت برأسها. ونحن في هذا البحث نحاول أن نجمع آثار الشريف المرتضى قدس سره مع التنويه إلى مايلزم التنويه عنه من الملاحظات على كلام من سبقنا، ونهتمّ بذكر ما هو مطبوع منها. ومن اللازم الإشارة إلى أنّ هناك أربعة أجزاء أو مجاميع طبعت بتحقيق العلاّمة السيّد أحمد الحسيني _ دام ظله _ ، وسوف نشير إلى الرسائل الّتي تدخل تحت هذه المجامع : 58 . إبطال العمل بأخبار الآحاد، طبع في المجموعة الثالثة من رسائل الشريف المرتضى قدس سره. 59 . إبطال القياس. 60 . أجوبة المسائل القرآنية، أربع عشرة مسألة طبعت في المجموعة الثالثة. 61 . أجوبة مسائل متفرّقة من الحديث وغيره ، طبعت في المجموعة الثالثة. 62 . أحكام أهل الآخرة، طبعت ضمن المجموعة الثانية. 63 . الاعتراض على من يثبت حدود الأجسام، طبع ضمن المجموعة الثالثة. 64 . أقاويل العرب في الجاهلية، طبع ضمن المجموعة الثالثة. 65 . الانتصار، تحقيق ونشر: مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين بقم المقدّسة ، (1415 ه). 66 . إنقاذ البشر من القضاء والقدر ، أو إنقاذ البشر من الجبر والقدر، أو إيقاظ البشر . . . ، طبع ضمن المجموعة الثانية . 67 . البرق ، وسمّاه الطوسي وابن شهرآشوب : المرموق في أو صاف البروق . 68 . تتبع الأبيات الّتي تكلّم عليها ابن جني في إثبات المعاني للمتنبي. 69 . تتمّة أنواع الأعراض من جمع أبي رشيد النيشابوري. 70 . تفسير الآيات المتشابهات في القرآن، طبع ضمن المجموعة الاُولى. 71 . تفسير آية: «لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّ__لِحَ_تِ جُنَاحٌ» (4) ، وهو من فصول تكملة أمالي المرتضى. 72 . تفسير آية: «قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ» (5) ، وهو من فصول تكملة أمالي المرتضى . 73 . تفسير الخطبة الشقشقية، طبع ضمن المجموعة الثانية. 74 . تفسير القرآن الكريم، نجز منه سورة الفاتحة و (125) آية من بداية سورة البقرة. 75 . تفسير قصيدة السيّد الحميري: البائية المعروفة بالقصيدة المذهبية ، طبعت في المجموعة الرابعة. 76 . تفسير القصيدة الميمية من شعره. 77 . تفضيل الأنبياء عليهم السلام على الملائكة، مأخوذ من تكملة أمالي المرتضى، طبع ضمن المجموعة الثانية. 78 . تقريب الاُصول، لعلّه المطبوع بعنوان : مقدّمة في الاُصول الاعتقادية. 79 . تكملة الغرر والدرر، وهو المعبّر عنه بتكملة أمالي المرتضى، طبع بالقاهرة مع الأصل بتحقيق الاُستاذ محمّد أبو الفضل إبراهيم. 80 . تنزيه الأنبياء والأئمّة عليهم السلام ، تحقيق : فارس حسون كريم ، نشر مركز الأبحاث والدراسات الإسلاميّة التابع لمركز النشر لمكتب الإعلام الإسلامي ، قم المقدّسة ، الطبعة الاُولى ( 1422 ه) . 81 . جمل العلم والعمل، طبع ضمن المجموعة الثالثة. 82 . الجواب عن الشبهات في خبر الغدير، طبع ضمن المجموعة الثالثة. 83 . جواب الكراجكي في فساد العدد، لعلّه الّذي سيذكر بعنوان : الفرائض في قصر الرؤية... . 84 . جواب الملحدة في قدم العالم من أقوال المنجمين. 85 . جواز الولاية من جهة الظالمين. 86 . الحدود والحقائق، طبع ضمن المجموعة الثانية . 87 . حكم الباء في آية : «وَامْسَحُواْ بِرُءُوسِكُمْ» (6) ، طبع ضمن المجموعة الثانية. 88 . الخطبة المقمّصة. 89 . الخلاف في اُصول الفقه. 90 . ديوان شعره، طبع بالقاهرة في ثلاث مجلّدات سنة (1958 م) بتحقيق المحامي رشيد الصفّار. 91 . الذخيرة في علم الكلام، حقّقه: السيّد أحمد الحسيني، طبع ونشر: مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين بقم المقدّسة، سنة (1411 ه). 92 . الذريعة إلى اُصول الشريعة ، حقّقه الدكتور أبو القاسم الكرجي ، وطبع في جامعة طهران . 93 . الرد على أصحاب العدد ، طبع ضمن المجموعة الاُولى، ولعلّه الّذي سيأتي بعنوان : الفرائض في قصر الرؤية . . . . 94 . الرد على يحيى بن عدي النصراني في اعتراض دليل الموجد في حدوث الأجسام . 38 . الرد على يحيى بن عدي النصراني فيما يتناهى. 39 . الرد على يحيى بن عدي النصراني في مسألة سمّاها طبيعة الممكن، وفي بعض المصادر : طبيعة المسلمين. 40 . الرسالة الباهرة في العترة الطاهرة، وفي بعض المصادر : الآيات الباهرة . . . ، طبع ضمن المجموعة الثانية . 41 . الشافي في الإمامة، طبع في أربعة أجزاء بتحقيق وتعليق العلاّمة السيّد عبدالزهراء الحسيني الخطيب ، ومراجعة السيّد فاضل الميلاني. 42 . شرح مسائل الخلاف. 43 . الشهاب في الشيب والشباب، طبع ضمن المجموعة الرابعة. 44 . طيف الخيال، طبع بمصر سنة (1374 ه )، وطبع ببغداد سنة (1957 م ) بتحقيق الدكتور صلاح صبحي ، وبالقاهرة سنة (1381 ه ) بتحقيق الاُستاذ حسن كامل الصيرفي. 45 . عدم تخطئة العامل بخبر الواحد، طبع ضمن المجموعة الثالثة . 46 . عدم وجوب غسل الرجلين في الطهارة، طبع ضمن المجموعة الثالثة. 47 . علّة امتناع علي عليه السلام من محاربة الغاصبين، طبع ضمن المجموعة الثالثة. 48 . علّة خذلان أهل البيت عليهم السلام ، طبع ضمن المجموعة الثالثة . 49 . علّة مبايعة علي عليه السلام ، طبع ضمن المجموعة الثالثة. 50 . العمل مع السلطان، طبع ضمن المجموعة الثانية ، وهو المذكور بعنوان : جواز الولاية من جهة الظالمين . 51 . غرر الفرائد ودرر القلائد، وهو المعروف بأمالي المرتضى، طبع بالقاهرة سنة (1954 م) بتحقيق الاُستاذ محمّد أبو الفضل إبراهيم. 52 . الفرائض في قصر الرؤية وإبطال القول بالعدد، وسمّاه بعض : مختصر الفرائض . . . ، أو نقض الرؤية . . . ، أو نقض الرواية . . . . 53 . الفقه الملكي. 54 . قول النبي صلى الله عليه و آله : نية المؤمن خير من عمله، طبع ضمن المجموعة الثالثة. 55 . الكلام على من تعلّق بقوله تعالى: «وَ لَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي ءَادَمَ» . (7) 56 . ما تفرد به الإمامية. 57 . مجموعة في فنون من علم الكلام، طبعت ببغداد سنة (1955 م) في سلسلة نفائس المخطوطات بتحقيق الشيخ محمّد حسن آل ياسين، ولعلّها من جملة مسائله الموصوفة ب المفردات في علم الكلام. 58 . المحكم والمتشابه . 59 . مسائل الآيات. 60 . مسائل أهل مصر الاُولى، خمس مسائل. 61 . مسائل أهل مصر الثانية، تسع مسائل. 62 . مسائل البادريات، أربع وعشرون مسألة. 63 . المسائل التباينات، عشرة مسائل، طبعت ضمن المجموعة الاُولى. 64 . المسائل الجرجانية. 65 . المسائل الحلبية الاُولى، ثلاث مسائل . 66 . المسائل الحلبية الثانية، ثلاث مسائل. 67 . المسائل الحلبية الثالثة، ثلاثون مسألة. 68 . مسائل الخلاف في الفقه، لم يتمّه . 69 . المسائل الدمشقية، وهي ثلاثون مسألة ، وتسمّى المسائل الناصرية. 70 . المسائل الرازية، خمس عشرة مسألة ، طبعت ضمن المجموعة الاُولى . 71 . جوابات المسائل الرسية الاُولى، طبعت ضمن المجموعة الثانية. 72 . جوابات المسائل الرسية الثانية، طبعت ضمن المجموعة الثانية. 73 . المسائل الرمليات، سبع مسائل. 74 . المسائل السلارية، والظاهر أنّها الواردة في بعض المصادر بعنوان : أجوبة المسائل الديلمية. 75 . المسائل الصيداوية. 76 . المسائل الطبرية، مئتان وسبع مسائل ، طبعت ضمن المجموعة الاُولى ، وهي فيها إحدى عشرة مسألة . 77 . المسائل الطرابلسية الاُولى، سبع عشرة مسألة. 78 . المسائل الطرابلسية الثانية ، عشرة مسائل ، طبعت ضمن المجموعة الاُولى . 79 . المسائل الطرابلسية الثالثة، خمس وعشرون ، طبعت ضمن المجموعة الاُولى ، وهي تحتوي حاليا على ثلاث وعشرين مسألة. 80 . المسائل الطوسية، ويقال لها : المسائل البرمكية، وهي خمس مسائل. 81 . المسائل المحمّدية، خمس مسائل. 82 . مسائل مفردات، نحو مئة مسألة من فنون شتى. 83 . مفردات من اُصول الفقه. 84 . المسائل الموصليات الاُولى. 85 . المسائل الموصليات الثانية، تسع مسائل ، طبعت ضمن المجموعة الاُولى. 86 . المسائل الموصليات الثالثة، مئة وعشر مسائل ، طبعت ضمن المجموعة الاُولى. 87 . مسائل الميافارقيات، وهي مئة مسألة كما في فهرس البصروي ، وفي بعض الفهارس خمس وستّون مسألة، طبعت ضمن المجموعة الاُولى. 88 . المسائل الناصريات في الفقه ، قمنا بتحقيقه وتصحيحه مع جملة من الأفاضل ، وطبعه مركز البحوث والدراسات العلمية رابطة الثقافة والعلاقات الإسلاميّة سنة ( 1417 ه ) . 89 . المسائل الواسطية، مئة مسألة. طبعت ضمن المجموعة الرابعة. 90 . مسألة في الإجماع، طبعت ضمن المجموعة الثالثة. 91 . مسألة في الإرادة. 92 . مسألة في إرث الأولاد، طبعت ضمن المجموعة الثالثة. 93 . مسألة في الاستثناء، طبعت ضمن المجموعة الثانية. 94 . مسألة في استلام الحجر، طبعت ضمن المجموعة الثالثة. 95 . مسألة في الاعتراض على أصحاب الهيولى. 96 . مسألة في الإمامة، في دليل الصفات. 97 . مسألة في التأكيد. 98 . مسألة في توار الأدلّة، طبعت ضمن المجموعة الثانية. 99 . مسألة في التوبة. 100 . مسألة في الحسن والقبح العقلي، طبعت ضمن المجموعة الثالثة. 101 . مسألة في خلق الأعمال، طبعت ضمن المجموعة الثالثة. 102 . مسألة في دليل الخطاب، لعلّها متحدة مع مسألة في الإمامة. 103 . مسألة في الرد على المنجمين، طبعت ضمن المجموعة الثانية. 104 . مسألة في العصمة، في تكملة أمالي المرتضى ، مسألة في عصمة الأنبياء عليهم السلام ، طبعت ضمن المجموعة الثالثة. 105 . مسألة في قتل السلطان، كذا في الفهارس ، والظاهر أنّها رسالته في جواز الولاية من قبل السلطان ، فحرّف . 106 . مسألة في كونه تعالى عالما . 107 . مسألة في المتعة ، طبعت ضمن المجموعة الرابعة. 108 . مسألة في فيمن يتولى غسل الإمام عليه السلام ، طبعت ضمن المجموعة الثالثة. 109 . مسألة في المنامات، طبعت ضمن المجموعة الثانية. 110 . مسألة في نفي الرؤية، أي رؤية اللّه تعالى، طبعت ضمن المجموعة الثالثة. 111 . مسألة في وجه التكرار في الآيتين، طبعت ضمن المجموعة الثانية. 112 . المصباح في اُصول فقه، لم يتمه ، ولا يوجد أثر مخطوط لهذا الكتاب إلاّ مقتطفات منه في كتب العلاّمة ، وبعض الأعلام المتقدّمين. 113 . مقدّمة في الاُصول الاعتقادية، طبعت ببغداد في المجموعة الثانية من نفائس المخطوطات ، تحقيق الشيخ محمّد حسن آل ياسين. 114 . المقنع في الغيبة، طبع ضمن المجموعة الثانية . 115 . الملخّص في الكلام، لم يتمّه. وهناك نسخة خطّية عند سماحة المحقّق السيّد أحمد الأشكوري (دام مجده) . 116 . مناظرة الخصوم وكيفية الاستدلال عليهم ، طبع ضمن المجموعة الثانية . 117 . المنع من تفضيل الملائكة على الأنبياء عليهم السلام ، طبع ضمن المجموعة الثانية . 118 . الموضّح عن وجه إعجاز القرآن، ويسمّى كتاب الصرفة ، تحقيق الشيخ محمّد رضا الأنصاري ، مؤسّسة الطبع والنشر التابعة للحضرة الرضوية المقدّسة ( 1424 ه ) . 119 . نفي الحكم بعدم الدليل على، طبع ضمن المجموعة الثانية. 120 . النقص على ابن جني في الحكاية والمحكي. 121 . نكاح أمير المؤمنين عليه السلام ابنته من عمر، طبع ضمن المجموعة الثانية . 122 . وجه العلم بتناول الوعيد كافة الكفار، طبع ضمن المجموعة الثانية. 123 . الوعيد، لعلّه في فهرس البصروي بعنوان : المسألة الثانية من المسائل الموصليات .

.


1- . الفوائد الرجالية : ج 3 ص 141 .
2- . رجال النجاشي: ص 270.
3- . معالم العلماء: ص 69.
4- . المائدة: 93.
5- . الأنعام: 151.
6- . المائدة: 6.
7- . الإسراء: 70.

ص: 40

. .

ص: 41

. .

ص: 42

. .

ص: 43

. .

ص: 44

. .

ص: 45

. .

ص: 46

. .

ص: 47

. .

ص: 48

. .

ص: 49

وفاته ومدفنه

وفاته ومدفنهتوفّي المرتضى قدس سره لخمس بقين من شهر ربيع الأوّل سنة (436 ه) ببغداد، وصلّى عليه ابنه في داره، ودفن فيها عشية ذلك اليوم، ثمّ نقل بعد ذلك إلى كربلاء المقدّسة ، ودفن بجوار أجداده عند قبر أبيه وأخيه الرضي وجدّه إبراهيم بن الإمام موسى بن جعفر عليهماالسلام. قال النجاشي رحمه الله: وتوليت غسله ومعي الشريف أبو يعلى محمّد بن الحسن الجعفري وسلاّر بن عبد العزيز» . ونقل عنه أنّه قال عند وفاته : لئن كان حظي عاقني عن سعادتيفإنّ رجائي واثق بحليم وإن كنت في زاد التقية والتقىفقيرا فقد أمسيت ضيف كريم فأمّا أي دار من دوره توفي فيها ودفن بها ، ثمّ نقل عنها ؟ فهذا ما لايمكننا تعيينه؛ لأنّ الدور الّتي استوطنها الشريف المرتضى رحمه الله على ما نعلم هي أربعة : أوّلها : دار أبيه ، وهي الّتي في محلة «باب المحوّل» في الجانب الغربي من بغداد، كما أشرنا إليها عند ذكر ولادته . ثانيها: الدار الّتي تقع على «الصراة» الّتي اُحرقت على أثر فتن حدثت سنة (416 ه). ثالثها : داره ب_ « درب جميل » الّتي سكنها بعد أن أحرقت داره الّتي على « الصراة » السالفة الذكر ، وهذه الدار كان الشريف المرتضى قدس سره مستوطنها سنة ( 424 ه ) . رابعها : الدار الّتي بناها على شاطئ دجلة . ولا نعرف أين موقع هذه الدور الآن بالضبط، كما لا نعلم هل سكن المرتضى قدس سرهغير هذه الدور أم لا ؟

.

ص: 50

عقب الشريف المرتضى

عقب الشريف المرتضى قدس سرهقال ابن مهنا في عمدة الطالب (1) : أعقب المرتضى من ابنه أبي جعفر محمّد بن علي المرتضى ، [ و ] من ولده ، أبو القاسم علي بن الحسن الرضي بن محمّد بن علي بن أبي جعفر [ يعني محمّدا ] بن علي المرتضى، النسّابة صاحب كتاب ديوان النسبوغيره، أطلق قلمه ووضع لسانه حيث شاء، كما طعن في آل أبي زيد العبيدليين نقباء الموصل، وهو شيء تفرّد به ولم يذكره أحد سواه من النسّابين ، وحدّثني الشيخ النقيب تاج الدّين بن معية الحسيني، قال: قال لي الشيخ عَلم الدّين المرتضى علي بن عبد الحميد بن فخّار الموسوي: إنّه انفرد بالطعن في نيف وسبعين بيتا من بيوت العلويين لم يوافقه على ذلك أحد ، ثمّ قال لي النقيب تاج الدّين : لا شكّ أنّه تفرّد بالطعن في بيوت العلويين ، فأمّا هذا المقدار، فإنّه يكتب في مشجرته الّتي سمّاها ديوان النسب من سمع به ولم يتحقّقه بعد إلاّ أنّه تحقّق فيه شيئا ، (ولا يخفى) أنّ هذا اعتذار من النقيب عنه ، واللّه أعلم. وكان للنسّابة ابن اسمه أحمد درج ، وانقرض علي بن الحسن الرضي النسّابة (2) ، وانقرض بانقراضه الشريف المرتضى علم الهدى بن أبي أحمد الموسوي . وكتب الاُستاذ الدكتور حسين محفوظ في ذيل ما كتبه في فهرست كتب السيّد المرتضى رحمه الله : إنّ للسيّد بنتا، وكانت فاضلة جليلة ، تروي عن عمّها السيّد الرضيكتاب نهج البلاغة، ويروي عنها الشيخ عبد الرحيم البغدادي المعروف بابن الاُخوة _ على ما أورده القطب الراوندي في آخر شرحه على نهج البلاغة. وذكر الدكتور عبد الرزاق محيي الدين (3) : إنّ للمرتضى بنتين غير هذه ، وقد توفيتا في حياته، ولأخيه الرضي مرثيتان وهما مذكورتان في ديوانه ، مطلع الاُولى : لا لوم للدهر ولا عتاباتغاب أنّ الجلد من تغابى والثانية: فلا تحسبن رزء الصغائر هيّنافإن وجى الأخفاف ينضي الغواربا قال الدكتور عبدالرزاق محيي الدّين أيضا (4) : أنجب المرتضى ولدا كنّاه : «أبا محمّد » ، وكان حريصا على تربيته ، ولكنّه فيما ظهر لي لم يكن على شيء من العلم ؛ لأنّه لم يُذكر في تراجم أعلام الإمامية، وقد ذكره ابن خلكان بين المتوفّين في حوادث (443 ه) وأسماه أبا عبداللّه الحسين، تزوّج أبو محمّد هذا في حياة أبيه فأعقب ولدا ، وظلّ عقب المرتضى يطرد من ابنه هذا حتّى وصل إلى أبي القاسم النسّابة صاحب كتاب ديوان النسب . قال صاحب عمدة الطالب: والعقب للمرتضى من ابنه أبي محمّد ... . أقول : راجعنا كتب الأنساب ، ومنها الّتي أشار إليها مؤلّف الكتاب ، وهو كتاب عمدة الطالب ، فلم نجد للمرتضى ولدا بهذه الكنية ، وإنّما الّذي ذكر صاحب كتاب العمدة هو أبو جعفر محمّد ، وهذا نصّ قوله : « وأعقب المرتضى من ابنه أبي جعفر محمّد [الّذي ]من ولده أبو القاسم النسّابة ، [وهو] علي بن الحسين الرضي بن محمّد بن علي بن أبي جعفر محمّد بن علي المرتضى. وأغلب الظن أنّ الكنية الّتي ذكرها الدكتور عبد الرزاق لولده جاءته ممّا ورد في الديوان من قوله: وقال يرثي والدة الشريف : «أبي محمّد فتاه» ، وكما لمح إلى ذلك الدكتور عبد الرزاق في كتابه بقوله : ورثاؤه المتعدد لزوجته اُم فتاه «أبي محمّد» . . . إلخ . وأنت ترى أنّ «الفتى» إذا اُضيفت لا تطلق على الابن الصلبي مطلقا ، فلا يقال لابن فلان أو ولده فتاه، بل يقال : ابنه أو ولده، قد جاء ذلك بصريح القرآن وفقه اللغة . فلا يمكننا والحالة هذه أن نستنتج من قوله في الديوان: يرثي والدة الشريف أبي محمّد فتاه، لا أنّها زوجته هي المرثية ، ولا أنّ أبا محمّد هو ابنها ، ولعلّ لفظة «فتاه» جاءت مصفحة عن «فتاة» منصوبة على الحالية لا البدلية ، فكأنّه يريد أن يقول : وقد ماتت فتاة لم تبلغ من العمر أشدها . ولذا يرجّح لدينا هذا الرأي قول المرتضى نفسه في القصيدة المشار إليها الّتي يرثي بها والدة الشريف أبي محمّد: بلغت أشدي لا بلغت وجزتهوعاجلتها من أن تجوز أشدها (5) فهل ترى أكثر من هذا ما يدعو إلى الارتياب وعدم معرفة الصواب؟ فنحن وإن كنّا لا نمنع _ عقلاً _ أن يكون لشخص واحد عدّة أسماء وكنى وألقاب ، ولكن لا نجوز ذلك بالنسبة لابن المرتضى المعروف بكنيته واسمه في عمدة الطالب ، وهو أبو جعفر محمّد، وما عدا ذلك مجرد احتمالات ضعيفة واستنتاجات مبهمة ليست من التحقيق أو الحقيقة في شيء. أمّا قوله: (6) «وأنجب (يعني المرتضى) من البنات زينب وخديجة» مسندا ذلك إلى روضات الجنات، فقول في غاية الغرابة ، إذ اللاتي ذكرهنّ صاحب الروضات هنّ أخوات المرتضى لا بناته ألاّ تفقه قوله: « فولد أبو أحمد (يعني والد الشريفين) زينب وعليا (يعني المرتضى) ومحمّدا (يعني الرضي) وخديجة، وأربعة أولاد، فأمّا علي ، فهو الشريف الأجل . . . » . (7)

.


1- . عمدة الطالب : ص 195 _ 196 .
2- . في المصدر (علي المرتضى النسّابة) وهو من خطأ الناسخين وغفلة المصححين.
3- . أدب المرتضى : ص 79.
4- . أدب المرتضى : ص 78 .
5- . راجع القسم الأوّل من الديوان : ص 249 .
6- . أدب المرتضى : ص 79.
7- . روضات الجنات : ص 386.

ص: 51

. .

ص: 52

. .

ص: 53

. .

ص: 54

. .

ص: 55

الباب الثاني : مناهج الشريف المرتضى

اشاره

الباب الثاني : مناهج الشريف المرتضىتمهي_دالفصل الأول : منهجه في المباحث القرآنيةالفصل الثاني : منهجه في المباحث الفقهيةالفصل الثالث : منهجه في المباحث الاُصوليةالفصل الرابع : منهجه في المباحث العقائدية والكلامية

.

ص: 56

. .

ص: 57

تمهيد

اشاره

تمهيدفي هذا البحث المتواضع العلمي سوف نعرض مناهج الشريف المرتضى قدس سرهالروائية في عدّة فصول ، مركّزين على وعيه الأخباري والحديثي في جوانب متعددة ، آملين أن نوفّق في إجلاء هذا الواقع الأصيل في هذا المقطع الحساس من القرنين الرابع والخامس ومقدار معطياته . إن شاء اللّه تعالى. وقبل أن ندخل إلى صلب الموضوع لابدّ من علمي لمنهج الحديث ، ومقدار معطيات الشريف المرتضى في هذا المجال ، فنقول : إنّ البحث عن تاريخ منهج الحديث والرواية وعلومه ليس بحثا نظريا صرفا ، بل هو في الواقع وسارٍ في ثقافة الإسلام ، وذلك أنّ النصّ يمثل الروح الّتي تجعل الواقع يتنفّس ويتحرّك من خلال فكرة مبدئه. لذلك يعتبر البحث عن الحديث والرواية والمنهج الروائي بحثا من أجل معرفة الواقع ، وبالتالي من أجل صياغته بصورة جديدية تناسب تطورات الحياة ، وهذا يعني أنّ هذا الكون يحتاج لمعرفة واقعية من خلال فرز الواقعي ونبذ الآخر. (1) ونذكر هنا عدّة اُمور قبل البدء بالبحث :

.


1- . انظر في هذا الصدد : تأمّلات في الحديث عند السنّة والشيعة للأستاذ زكريا عبّاس داوود : ص 7 .

ص: 58

أوّلاً : النصّ بين الواقع والتشريع

أوّلاً : النصّ بين الواقع والتشريعالحديث عن منهج السنّة الشريفة يضفي علينا طريقة مستقيمة في فهم النصّ الدّيني ، فإنّ معرفة المنهج بحدّ ذاته في كلّ علم هو صيانة منطقية صحيحة ومنضبطة للعلم ذاته حتّى لا يدخل في متاهات وإشكالات . فمن هذه الرؤية الثاقبة استدعى كلّ علم وضع منهج صحيح له يصونه عن الانحرافات . وتكون هذه المناهج بمثابة رؤوس أقلام لسير هذا العلم نحو العقلائية الصحيحة. والرواية والحديث أو بالأحرى السنّة الشريفة لها ارتباط وثيق بالثقافة والتشريع الإسلامي ، بل لها ارتباط بجميع العلوم الإسلامية ؛ لأنّها الحجر الأساس في هندسة الثقافة الإلهية وصياغة واقعها الأصل . فمكانة السنّة الشريفة وبمعنى أدقّ النصّ التشريعي يحتلّ مكانا محوريا في التشريع الإسلامي ، إذ إنّه أحد محوري تجلية النصّ الشرعي ، وله التأثير العميق في الواقع الشرعي سواء تأثيره في التوجيه العام للنصّ أو تأثيره على المكوّنات الفكريّة للنصّ أو تأثيره في الخطاب الإعلامي للنصّ. (1) وفي هذا المجال سعى الشريف المرتضى قدس سره في بحوثه أن يضع منهجية للنصّ الإسلامي وخصوصا بحوثه الروائية والحديثية إلى صبغ الواقع التشريعي بالتوجّهات والهموم الّتي صاغها وآمن بها قرابة نصف قرن من الزمان ، وقد أحدثت المناهج الروائية منها بالخصوص انقلابا واضحا وعميقا في البنية الروائية خصوصا ما ذكره في عدم حجّية خبر الواحد . وكان هذا المنهج قد مهّد لصياغة نفسية وعقلية واعية تدرك أهداف النصّ الشرعي على جميع الأصعدة الفكرية. هكذا أثّرت المنهجية الروائية على النصّ الدّيني في البنية العلمية في الحوزة العلمية عبر القرون وإلى يومنا الحاضر ، دون أن تنعكس عليه التأثيرات سلبيا ، بل أخذ الجميع بآرائه الفقهية والاُصولية وغيرهما . نعم ، عند التحوّلات العظيمة في علم الاُصول والفقه كانت منهجيته تحدث بعض التغيرات وفقا للواقع ؛ لأنّ كلّ مرحلة زمنية تحتاج إلى نوعية معينة من الفكر والتوجّه العقلائي. وفي كثير من نصوصه المنهجية ركّز على صفاء النصّ الشرعي وظهوره ، وأسس منهجية واضحة للنصّ الإلهي يرجع إليها العقل عند الاشتباه والغموض ، فكانت هذه الاُصول المنهجية والعقلية بمثابة السدود المنيعة الّتي تحافظ على النصّ . والنصّ الإلهي والشرعي عند الشريف المرتضى قدس سره لم يتأثّر بتأثّر الزمان ومرور العصور ؛ لأنّ خطاب النصّ _ عنده _ يشمل الواقع والعصور بجميع مراحله .والشارع المقدّس خاطب عامّة الناس على جميع طبقاتهم وفي جميع العصور ، فلابدَّ من الأخذ بظاهر النصّ في كلّ زمان خصوصا في القرون الاُولى . نعم ، بعض الاُمور المبهمة أصابت النصّ والخطاب الشرعي وأخرجته عن حالته التنزيلية ، كما إذا ذكر القَيد ولم يذكر المُقيّد أو ذكر المطلق ولم يذكر المقيد ، وما شابه هذه الاُمور . وواجه الباحث في النصّ الشرعي صعوبات وعقبات كثيرة تعترضه فلابدَّ أن يحيط بمناهج عقلية وغيرها كي يدرك ما يريد أن يقوله النصّ الشرعي.

.


1- . المصدر السابق : ص 9 .

ص: 59

ثانيا : النصّ والتشريع وآلياتهما

ثانيا : النصّ والتشريع وآلياتهماهناك ارتباط وثيق بين النصّ والتشريع بحيث لا يمكن التفريق بينهما ، وهكذا بدأت مسيرة التشريع مع النصّ إذ كان هو بمثابة الواقع ، ولهذا توجّه المسلمين منذ الأيّام الاُولى للتشريع لفهم الواقع من خلال إدراك آليات النصّ ، ولهذا أخذت الأسئلة تتاكثر حول تفسير الرأي وما هو مقدار شرعيته ومعطياته، وليس هذا إلاّ إرادة معرفة مناهج النصّ الشرعي ؛ لأنّ النصّ أخذ يتطوّر ويمثّل موقعية متقدّمة في صعيد الرسالة الشرعية ، مع الأخذ بعين الاعتبار قداسة النصّ الدّيني والخوف عليه من الانحرافات والتزويرات ، وإزداد الأمر خطورة في الاعتقادات الدّينية ، لأنّ العقيدة الدّينية استمدّت شرعيتها وفهمها وإدراكها من خلال وعي النصّ وإدراكه. وكان الشريف المرتضى قدس سره كثير الأهمية لفهم آليات النصّ الدّيني وما تتركه من تأثيرات على النصّ ودرجة فهمه ووعيه ، فلذلك نرى إزدهاره في حقول المعرفة الإسلامية وبالتالي وضع منهجية مبرمجة سارية في جميع حقول المعرفة ، فكان له حضور في جميع الانتاجات المعرفية الإسلامية الّذي كونه من العقل والجهد والمثابرة العلمية عبر هذه السنوات الطوال. فلو تفحصنا التراث العلمي للشريف المرتضى قدس سره لرأينا أنّ آليات النصّ ومناهجه كان المحور فيها ، وكذلك الإبداعات على كافة الأصعدة المعرفية رأينا النصوص الشرعية والاُسس العقلية عاملين أساسيين فيهما. وقد درسنا مناهج الرواية ، وذلك لمعرفة النصّ الشرعي الّذي هو المصدر الثاني للتشريع الإسلامي بعد القرآن الكريم بجميع أقسامه ، بحيث يصبح صالحا لاستمداد الأحكام الشرعية منه _ على مباني الشريف المرتضى قدس سره _ .

.

ص: 60

ثالثا : السنّة من مصادر التشريع الإسلامي

ثالثا : السنّة من مصادر التشريع الإسلاميالرواية والحديث في السنّة الشرعية عضدان مهمّان في المنظومة المعرفية بعد القرآن الكريم ؛ لأنّ السنّة الشرعية تكمل القرآن الكريم ، بمعنى أنّها تبين المجمل وتخصص العام وتقيّد المطلق منه ، فهناك الكثير من الأحكام الشرعية وردت في القرآن الكريم ، لكنّها مجملة غير مفصّلة ولولا السنّة الشرعية وشموليتها لجميع أركان الحياة ، لما اتّضحت من القرآن الكريم معالم التشريع الإسلامي ، ولأصبح القرآن الكريم معطّلاً لا يمكن الاستفادة منه ومن معطياته . فالسنّة هي المفصّلة لهذا البعد الإجمالي من الشرع الإلهي. من هذه الجهة وثقلها اهتمّ بها المحدثون باعتبارها المصدر الثاني من التشريع الإسلامي بتدوينها وجمعها وتبويبها ، إذ تعتبر السنّة عاملاً أساسيا لفهم وإدراك التشريع الإسلامي بصورة عامّة . ولهذا سعى جهابذة من الأعلام لوضع منهج دقيق وواسع الأطراف لفهم النصّ الدّيني بعيدا عن التحيزات والموضوعات والإسرائيليات الّتي تشوّه صفاء النصّ الدّيني .وكان هذا العلم لم تتضح معالمه في الوقت المتقدّم ، بل هو من انتاجات العصور المتأخّرة الّذي أضاف الصفات المنهجية والعلمية على التوجيه العام للمسيرة المعرفية. (1) نعم ، واضع اُسسه هو الشريف المرتضى قدس سره في كثير من كتاباته في جميع الحقول الإسلامية ، إذ إنّه يعتبر العقل هو الركيزة الأساسية في المنظومة الإلهية ، بل هو الحاكم والسيف البتّار في رفع الابهامات والإشكالات بين الأدلّة بجميع أطرافها (قرآنا وسنّة ) ؛ لأنّه الدعامة الرئيسة في واقع التشريع الإسلامي ، طبعا اُخذ في آلياته الصراحة والوضوح ، فاذا احتمل الدليل العقلي الاحتمال والمجاز سقطت حجّيته عن الاعتبار . هذا منهج دقيق في فذلكة الواقع الدّيني وهو آلية وصريحة في صرف كلّ ما ورد بظاهره خلاف ذلك من كتاب وسنّة إلى ما يطابق الأدلّة ويوافقها ، فالمرجع الأوّل والأخير في المعرفة الدّينية هو أدلّة العقول ، وهذا المنهج قد أثّر كثيرا في رسالته ، وأبعاد ثقافته في فهم النصّ الدّيني . نعم ، هو يؤمن بأنّ المعطيات والمشتركات كثيرة بين القرآن الكريم والسنّة الشريفة ، بل تعاضد بعضها للبعض الآخر في إنارة الواقع والشريعة ، ولكن كلاهما بمثابة برهان عقلي صريح يجب الأخذ به. وهذا العلم المنهجي لفهم النصّ الشرعي هو الّذي وضع مفرداته واُسسه وجزئياته استمدادا من الآيات القرآنية وما احتوته السنّة الشريفة ، فهو يعتقد أنّ هناك بالوهلة الاُولى تعارضا واضحا في بعض الأدلّة الشرعية ، ويرجع ذلك إلى عدم التصوّر الصحيح للمسألة ، وعدم معرفة واضحة لأحد طرفي التضادّ والنزاع ، وهنا لابدَّ على رأيه من الاحتفاظ بظاهر الأدلّة ولا نستسلم لطرحها ، إذا كان لها محمل صحيح ووجه جمع يمكن من خلاله تصحيح الواقع ورفع التناقض. فهذا المنهج العقلي هو الأساس في فهم النصّ الدّيني ، وهذا استمدّ شرعيته من كونه علما وموجبا لليقين وإرجاع نقد الحديث وعرضه على العقل ، ويكون العقل من الأدلّة القاطعة فإذا دلّ على أمر وجب إثباته والقطع عليه ، وألاّ يرجع عنه بخبر محتمل ، ولا بقول معترض للتأويل ، بل هو صرّح في مواضع متعددة _ سوف تأتي بعد ذلك _ أنّ الأخبار يجب أن تبنى على أدلّة العقول ، ولا تقبل في خلاف ما تقتضيه أدلّة العقول ، فما ورد بخلاف ذلك من الأخبار لا يلتفت إليه ويقطع على كذبه إن كان لا يحتمل تأويلاً صحيحا لائقا بأدلّة العقول ، فإن احتمل تأويلاً يطابقها تأوّل ووافق بينه وبينها. ويتوّج الشريف المرتضى قدس سره هذا المنهج بقوله : «وبصحّة هذه الطريقة يرجع عن ظواهر آيات القرآن الكريم الّتي تتضمّن إجبارا أو تشبيها». وعن طريق هذا المنهج ينفتح على مناهج اُخرى ، تكون روافد لهذا المنهج الدقيق ، فهو يعتبر الحقيقة مقدّمة على المجاز ، ولذلك يحاول مهما أمكن ألاّ يبتعد عن الحقيقة خصوصا في القرآن الكريم الّذي نزل على الحقيقة دون المجاز. فالشريف المرتضى قدس سره يؤسّس منهجية أصيلة عقلية تعتمد العلم والمعرفة والدليل ، فهو يصرّح أنّ ما عليه دليل يعضده وحجّة تعمده فهو الحقّ المبين ، ولا يضرّه الخلاف فيه ، وقلّة عدد القائل به ، كما لا ينفع في الأوّل الاتفاق عليه ، وكثرة عدد الذاهب إليه ، وإنّما يسأل الذاهب إلى مذهب عن دلالته على صحّته وحجّته القائدة إليه لا عمّن يوافقه فيه أو يخالفه. فالأساس في منهجه هو العقلائية ، فلذلك اعتبر أصحاب الحديث هم الّذين لم يعرفوا الحقّ في الاُصول ولا اعتقدوها بحجّة ولا نظر ، بل هم مقلّدون فيها ، فهم ليسوا بأهل نظر ولا اجتهاد ، ولم يصلوا إلى الحقّ بالحجّة ، وإنّما تعديلهم على التقليد والتسليم والتفويض ، وغير ذلك من الاُسس الّتي اشتقها من منهجيته العقلائية. حتّى إنكاره لحجّية أخبار الآحاد وأنّها لا توجب علما ولا تقتضي قطعا ناشئ من أساسه العقلي ، فإنّ العقلي لا يعطي الشرعية لخبر الواحد بحيث يجعله علما وطريقا إلى الواقع ، فهو يقول : إنّها لا توجب عملاً كما لا توجب علما ، وإنّما تقتضي الأحكام بما يقتضي العلم ، وأكثر ما توجبه _ مع السلامة التامّة _ الظن ، ولا يجوز الرجوع عن الأدلّة الشرعية ممّا يوجب العلم واليقين ، وهكذا يطيح بالقياس على أساس نزاله العقلي ، فإنّه لا يكون طريقا إلى العلم بشيء من الأحكام البتة ، بل صرّح في موضع آخر بأنّ أخبار الآحاد لا يجوز العمل بها ولا التعبّد بأحكامها من طريق العقول. نعم ، يعترف بأنّ المذهب الصحيح هو : تجويز ورود العبادة بالعمل بأخبار الآحاد من طريق العقول ، ولكن ذلك ما ورد ولا تعبّدنا به ، فهو لا يعمل بها ؛ لأنّ التعبّد بها مفقود وإن كان جائزا ، وعلى هذا الأساس لا يتأوّل خبرا لا يقطع به ولا يعلم صحّته. وعن طريق هذه المنهجية العقلائية يعرّج على رافد آخر وهو عدم تخصيص القرآن الكريم بأخبار الآحاد ؛ لأنّها لا توجب الظن ولا يخصّص ولا يرجع عمّا يوجب العلم من ظواهر الكتاب . فالعقل يؤكّد على أنّ تخصيص الظواهر يحتاج إلى قرينة أقوى وأكثر متاخمة للعلم وظواهر القرآن هي حجّة وعلمية فتحتاج إلى أقوى منها . ومن هذا الباب ما يقع في السنّة الشريفة من باب النسخ والإطلاق والتقييد وغيرها كلّها تحتاج إلى جنبة علمية يرجّحها العقل في مورد التعارض . وهذا كلّه يرجع إلى منهجيته في باب العقل. وسوف يرى القارئ إعمال المنهجية العقلية في جميع المناهج الروائية وفي جميع الحقول الإسلامية ، وإن تنوّعت أدوار العقل ومناهجه في مختلف البحث الروائي ، لكن الجميع يستمدّ شرعيته من العقل ، فعندما يعتقد الشريف المرتضى قدس سرهأنّه لا يمكن تخصيص ظاهر نفس الخبر، بل يبقى على إطلاقه وعمومه ، وعليه فيقدّم من الأخبار ما هو أظهر وأقوى وأولى وأوضح طريقا، ومرجع هذا إلى أنّ العقل يضفي الحجيّة على الظهور والأقوائية والأولوية . فهذا المنهج يستمدّ روحه من المنهجية العقلية ، وكذلك عند ما يذكر المرجّحات الدلالية في الخبر يذكر ما كان له تأويل معقول ، وقريب منه القرينة القطعية وحالات التعارض والترجيحات كلّها تنتهل من منهل واحد عقلائي .

.


1- . تأمّلات في الحديث عند السنّة والشيعة : ص 14 .

ص: 61

. .

ص: 62

. .

ص: 63

. .

ص: 64

. .

ص: 65

الفصل الأول : منهجه في المباحث القرآنية

اشاره

الفصل الأوّل : منهجه في المباحث القرآنيةتمهيدمنهج المحدثين في تفسير القرآنحدود القرآن والسنّة الشريفةالمنهج العقلي وظواهر الكتاب والسنّةالأخذ بالعمومات والظواهر القرآنيةالمنهج المشترك بين القرآن الكريم والسنّة الشريفةالتعارض بين القرآن الكريم والسنّة الشريفة

.

ص: 66

. .

ص: 67

تمهي_د

تمهي_دمن أخصب حقول التفسير هو التفسير الروائي ؛ لأ نّه أصل التفسير القرآني ، وعليه فُسر القرآن الكريم ، فإنّ السنّة الصادرة من النّبي وآله عليهم السلام هي المفسّر الكبير لكتاب اللّه تعالى. وفي هذا المجال نتطرّق إلى المنهج الروائي في التفسير عند الشريف المرتضى قدس سره، 1 ورغم الأهمية الكبرى الّتي أولاها الشريف المرتضى قدس سره للنقل والأثر في تفسيره إلاّ أنّه لم يكن ممّن يقبل الرواية والحديث دون تمحيص وتدقيق ومحاكمة وترجيح ؛ لأنّه كان يرى اُولئك الّذين قال عنهم لم يتلق سائر ما روي عنهم بالقبول ، ولم يجز لنفسه الانسياق مع سائر مروياتهم إلاّ بعد الاطمئنان لصحّة ما يروون ، ومن هنا نجده يضعّف بعض آراء هؤلاء ويرد أقوالهم ، أو يرجّح غيرهم عليهم . وإذا كان موقف الشريف المرتضى قدس سره من أقوال الطبقة الاُولى على هذا النحو من الدقّة في التحري والتمحيص والغربلة ، فإنّ موقفه من أقوال المفسّرين المعاصرين له لا يقل شأنا عن موقفه ممّن سبقهم ؛ لأنّه كان يتهمهم بالانحياز لمذاهبهم ، وهو أمر في غاية الخطورة ؛ إذ لم يكن طلب الحقيقة هو المقصود في تفاسيرهم ؛ ولذلك نجده يقف من تفاسيرهم موقف المتأمّل. فيأخذ منها ما يأخذ بعد رؤية وتمعن ، ويرفض منها ما يستحقّ الرفض ، ويناقش ماينبغي مناقشته من أقوالهم وآرائهم ، كما فعل مع الطبري والبلخي وغيرهما . ومن متابعة موقف الشريف المرتضى قدس سره من الاعتماد على المأثور يتّضح لنا أنّ للتفسير بالمأثور عنده حدودا ثابتة قائمة على تدقيق الروايات وتمحيصها ، وقبول الأثر الصحيح منها ، دون الشعور بضرورة السير وراء النقول والمرويات في كلّ الفروض ، وبهذا يكون قدس سرهقد أرسى قواعد أساسية في قبول الرواية لمَن جاء بعده من المفسّرين ، وأسهم إلى حدٍّ كبير في عملية تطوير المنهج التفسيري المعتمد أساسا على النقل والأثر. ومن أهمّ كتب الشريف المرتضى قدس سره في هذا المجال هو كتاب الأمالي ، الّذي حاز القسم الأكبر من التفسير الروائي وخصوصا الجزء الأوّل منه . وهو من الكتب المهمّة في حقل الأدب والتاريخ والتفسير والرواية ، يقول الاُستاذ محمّد أبو الفضل إبراهيم في مقدّمته على كتاب الأمالي: وحيثما يستعرض الباحث كتب العربية النفيسة الّتي حوت ألوان المعارف، وزخرت بأشتات الطرائف، وحفظت بين دفتيها نتاج القرائح، وحقائق السير والتاريخ والأخبار، ونصوص الشعر واللغة والغريب ، فإنّه بلا مراء يعد منها كتاب أمالي المرتضى _ أو كما يسميه مؤلّفه غرر الفوائد ودرر القلائد _ وينظمه في العقد الّذي يضمّ كتاب الكامل للمبرد، والبيان والتبيين للجاحظ، وعيون الأخبار لابن قتيبة، والعقد لابن عبد ربّه، والأغاني لأبي الفرج ، وغيرها من الكتب الّتي حلّقت في سماء الآداب العربية كالنجوم، وأرست قواعدها كالأطواد، وعمّرت بها مجالس العلماء ، وسوامر الاُدباء ، وتدارسها المتأدّبون جيلاً بعد جيل ، وتداولها النسّاخ، وعُدّت في مكتبات الدارسين من أكرم الذخائر وأنفس الأعلاق. وهي مجالس مختلفة، أملاها في أزمان متعاقبة ، تنقل فيها من موضوع إلى موضوع، ومن غرض إلى آخر ، اختار بعض آي القرآن الكريم ، ممّا يغمّ تأويله على الخاصّة بل العامّة ، ويدور حولها السؤال، ويُثار الاستشكال، وعالج تأويلها وتوجيهها على طريقة أصحابه من المعتزلة (1) ، أو أصحاب العدل كما كان يسميهم ، وحاول جهده أن يوفِّق بين تأويل الآيات المتشابهة، وما دار على ألسنة العرب من نصوص الشعر واللغة ، وفي هذا أبدى تفوّقا عجيبا ، وأبان عن ذهن وقّادٍ ، وذكاء متلهبٍ ، وبَصَر نافذٍ ، وأعانه فيما فسّر وأوّلَ ووجّه وفرة محفوظه من الشعر واللغة ومأثور الكلام . وكان الطابع الّذي يغلب عليه عرض الوجوه المختلفة ، والآراء المحتملة، مجوّزا في ذلك إمكان الأخذ بالآراء جميعا . وترجع قيمة ما عرض له الشريف في هذا المجالس من تأويل الآيات إلى أنّها تعدّ صورة لتفسير القرآن الكريم عند علماء المعتزلة ، ممّا لم يصل إلينا من كتبهم إلاّ القليل النادر. واختار أيضا طائفة من الأحاديث الّتي يختلف العلماء في تأويلها ، ويبدو التعارض فيما بينها ، وحاول تفسيرها وتأويلها ، بالمنهج الّذي عالج به تأويل آي القرآن ، مستعينا بشواهد الشعر واللغة ، موضّحا مذهب أصحابه من أهل العدل؛ مُدليا بحجّتهم على من خالف تأويلهم من جماعة أهل السنّة، أو أهل الجبر كما كان يسميهم ، وناقش ابن قتيبة وأبا عبيد القاسم بن سلام وابن الأنباري في ذلك على الخصوص. ثمّ عرض لمسائل في علم الكلام ممّا اشتجر فيها الرأي، ودار حولها الجدل ، واصطرعت الأقلام ، واُقيمت المناظرات ، مثل القول برؤية اللّه ، وخلق أفعال العباد ، وإرادة اللّه للقبائح، والقول بوجوب الأصلح، وقرر رأي أصحابه ، وحاجّ عنهم ، واحتجّ على خصومهم ، وكان فيما جادل وناقش رفيقا في الجدل ، عفيفا في المقال. وأودع في الكتاب بجانب ما بسّط من تأويل الآيات والأحاديث وعرض المسائل مختارات من المصطفى المنخول من الشعر وحرّ الكلام ، تناولها بالشرح والنقد والموازنة، وذكر صدرا من تراجم الشعراء والعلماء والاُدباء وأصحاب الأهواء والآراء الخاصّة ، وأورد طائفة من أشعارهم وأقوالهم ونوادرهم، ثم استروح بذكر فيض من الطرائف النادرة، والأجوبة الحاضرة المسكتة، والأفاكيه الرفيعة ، معتمدا فيما أورده على ما وصل إليه من كتب الجاحظ وابن قتيبة والمبرد وأبي حاتم والآمدي وغيرهم، أو ما رواه عن شيوخه، وأبي عبيداللّه المرزبانيّ على الخصوص. واختار أيضا بعض الموضوعات الّتي كانت مقاصد شعراء العربية في الجاهلية وصدر الإسلام ، كالمدائح والأهاجي والمراثي والسير ووصف الشيب والطيف وغيرها، وأورد ما قاله الشعراء فيها ، ووازن بين الكثير منها، وتناولها بالنقد في كثير من الأحيان. وبهذه الفنون المتنوّعة ، والفصول المختلفة ، والمباحث الجليلة اجتمع للكتاب ميزة كبرى بين الكتب العربية ، وعدّ مصدرا ينقل عنه العلماء، ويحتجّ به الاُدباء ، ويرد شرعته القارئون على ممرّ الأجيال. ويبدو أنّ هذه المجالس أملاها الشريف في داره على تلاميذه ومريديه ، في أزمنة مختلفة متعاقبة . (2)

.


1- . في هذه العجالة لا نريد ردّ هذا الاُستاذ في هكذا مزاعم ونأمل أن نطرح ذلك في مقدّمة التفسير إن شاء اللّه تعالى .
2- . أمالي المرتضى (غرر الفوائد ودرر القلائد ) : ج 1 ص 18 _ 20 من المقدّمة .

ص: 68

. .

ص: 69

. .

ص: 70

. .

ص: 71

منهج المحدثين في تفسير القرآن

منهج المحدثين في تفسير القرآنالمُحدثون لهم مناهجهم في تفسير القرآن الكريم وآرائهم واعتقاداتهم في هذه المنظومه المعرفية واختلاف أهوائهم ومناحيهم ، وهذا لم يشكل عند الشريف المرتضى قدس سره مانعا من عرض تفاسيرهم ووجهات أنظارهم وسوف نأتي بنماذج منهجية من هؤلاء المفكّرين لنعرف مطبّات فكر هؤلاء المفسّرين وإشكالاتهم . ولابدّ أن ننبه على أنّ البحث ينصبّ حول المفسّرين من أهل الحديث لا كلّ مفسّر ، بل الّذين لهم أنظار في الأخبار التفسيرية . فمنهم: ابن قتيبة الّذي اعتنى به الشريف المرتضى قدس سره في مواضع كثيرة من أماليه حول تفسيراته الروائية ، كما نشاهد ذلك في رواية عقبة بن عامر ، عن النّبي صلى الله عليه و آله _ عندما قال _ : « لو كان القرآن في إهاب ما مسّته النار » . يقول الشريف المرتضى قدس سره: وقد ذكر متأوّلو حديث النّبي صلى الله عليه و آله في هذا الخبر وجوها كثيرة، كلّها غير صحيحٍ ولا شافٍ، وأنا أذكر ما اعتمدوه، وأبيّن ما فيه، ثمّ أذكر الوجه الصحيح : قال ابنُ قتيبة : ذهب الأصمعي إلى أنّ من تعلّم القرآن من المسلمين لو اُلقِي في النار لم تُحرِقه، فكنّى بالإهاب _ وهو الجِلد _ عن الشخص والجسم ، واحتجّ على تأويله هذا الحديث بما روي عن سليمان بن محمّد قال: سمعت أبا أمامة يقول : اقرؤوا القرآن ولا تغرنّكم هذه المصاحف المعلَّقة؛ فإنّ اللّه لا يعذب قلبا وعى القرآن . قال ابن قتيبة: وفي الحديث تأويل آخر، وهو أنّ القرآن لو كتب في جلد ، ثمّ اُلقِي في النار على عهد رسول اللّه صلى الله عليه و آله تحرقه النار؛ على وجه الدّلالة على صحّة أمر النبيّ عليه وآله السلام، ثمّ انقطع ذلك بعده، قال: وجرى هذا مجرى كلام الذئب وشكاية البعير وغير ذلك من آياته عليه السلام . وقال: وفيه تأويل ثالث ، وهو أن يكون الإحراق إنّما نفى عن القرآن لا عن الإهاب ، ويكون معنى الحديث: لو جعل القرآن في إهاب ، ثمّ اُلقي في النار ما احترق القرآن ، فكأنّ النار تحرق الجلد والمداد ولا تحرق القرآن؛ لأنّ اللّه تعالى ينسخه ويرفعه من الجلد، صيانة له عن الإحراق. وقال أبو بكر محمّد بن القاسم الأنباري ردّا على ابن قتيبة ، ومعترضا عليه : اعتبرت ما قاله ابن قتيبة من ذلك كلّه، فما وجدت فيه شيئا صحيحا. أمّا قوله الأوّل فيردّه ما روي عنه عليه السلام من قوله: « يخرج من النار قوم بعد ما يحرقون فيها ، فيقال: هؤلاء الجهنّميون طلقاء اللّه عز و جل » . قال: وقد روى أبو سعيد عن النّبي صلى الله عليه و آله أنّه قال: «إذ دخل أهل الجنّة الجنّة ، وأهل النار النار ، قال اللّه عز و جل : انظروا من كان في قلبه مثقال حبّة من خردل من إيمان فأخرجوه منها » . قال أبو بكر: وكيف يصحّ قول ابن قتيبة في زعمه أنّ النار لا تحرق من قرأ القرآن ، ولا خلاف بين المسلمين أنّ الخوارج وغيرهم ممّن يلحد في دين اللّه تعالى ويقرأ القرآن أن تحرقهم النار بغير شكّ ، واحتجاجه بخبر أبي أمامة : «إنّ اللّه لا يعذِّب قلبا وعى القرآن» معناه: قرأ القرآن ، وعمل به ؛ فأمّا من حفظ ألفاظه وضيّع حدوده ؛ فإنّه غير واعٍ له. قال: فأمّا قوله : إنّه من دلائل النبوة الّتي انقطعت بعده. فما روى هذا الحديث أحد أنّه كان في دلائله عليه السلام ، ولو أراد ذلك دليلاً لكان صلى الله عليه و آله يجعل القرآن في إهاب ، ثمّ يلقيه في النار فلا يحترق . قال: وقول ابن قتيبة الثالث : « لاحترق الجلد والمداد، ولم يحترق القرآن» غير صحيح؛ لأنّ الّذي يصححّ هذا القول يوجب أنّ القرآن غير المكتوب ، وهذا محال ؛ لأنّ المكتوب في المصحف هو القرآن . والدليل على هذا قوله تعالى: « إِنَّهُو لَقُرْءَانٌ كَرِيمٌ * فِي كِتَ_بٍ مَّكْنُونٍ * لاَّ يَمَسُّهُو إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ » (1) ، ومنه الحديث: «لا تسافروا بالقرآن إلى أرض العدو» ، وإنّما يريد المصحف. قال أبو بكر: والقول عندنا في تأويل هذا الحديث أنّه أراد: لو كان القرآن في جلد ، ثمّ اُلقي في النار ما أبطلته ؛ لأنّها وإن أحرقته فإنّها لا تدرُسه؛ إذ كان اللّه قد ضمَّنه قلوب الأخيار من عباده. والدليل على هذا قول اللّه تعالى للنبي صلى الله عليه و آله فيما روي عنه : « إنّي منزل عليك كتابا لا يغسله الماء، تقرأه نائما ويقظان » ، فلم يرد تعالى أنّ القرآن لو كتب في شيء ، ثمّ غسل بالماء لم ينغسل ، وإنّما أراد أنّ الماء لا يبطله ولا يدرسه إذا كانت القلوب تعيه وتحفظه . قال: ومثل هذا كثير في كتاب اللّه تعالى وفي لغة العرب ، قال اللّه تعالى : «يَوْمَ_ل_ءِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَعَصَوُاْ الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ وَلاَ يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا» (2) ، فهم قد كتموا اللّه تعالى لمّا قالوا: «وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ» (3) ، وإنّما أراد تعالى ولا يكتمون اللّه حديثا في حقيقة الأمر؛ لأنّهم وإن كتموه في الظاهر فالذي كتموه غير مستتر عنه. وبعد هذا الاستعراض السريع لرائدي من رواد المحدثين يقول الشريف المرتضى قدس سره : والوجه الصحيح في تأويل الخبر غير ماتوهّمه ابن قتيبة وابن الأنباريجميعا، وهو أنّ هذا من كلام النبيّ صلى الله عليه و آله على طريق المثل والمبالغة في تعظيم شأن القرآن والإخبار عن جلالة قدره وعظم خطره، والمعنى أنّه لو كتب في إهاب، واُلقي في النار ، وكانت النار ممّا لا تُحرِق شيئا لعلو شأنه وجلالة قدره لم تحرِّفه النار. ولهذا نظائر في القرآن وكلام العرب وأمثاله كثيرة ظاهرة على من له أدنى أنس بمذاهبهم، وتصرف كلامهم. فمن ذلك قوله تعالى: «لَوْ أَنزَلْنَا هَ_ذَا الْقُرْءَانَ عَلَى جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُو خَ_شِعًا مُّتَصَدِّعًا مِّنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَ تِلْكَ الْأَمْثَ_لُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ» (4) ، ومعنى الكلام: إنّنا لو أنزلنا القرآن على جبل، وكان الجبل ممّا يتصدّع إشفاقا من شيء ، أو خشية لأمر لتصدَّع مع صلابته وقوّته؛ فكيف بكم يا معاشر المكلّفين، مع ضعفكم وقلّتكم ؟! وأنتم أَولى بالخشية والإشفاق ، وقد صرح اللّه تعالى بأنّ الكلام خرج مخرج المثل بقوله: «وَ تِلْكَ الْأَمْثَ_لُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ» ، ومثله قوله تعالى: «تَكَادُ السَّمَ_وَ تُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَ تَنشَقُّ الْأَرْضُ وَ تَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا» (5) . ومثله قول الشاعر : أمَا وجلالِ اللّه لوْ تذكُريننيكذكراك ما نهنهتِ للعين مدمعا فقالت: بلى واللّه ذِكرا لو أنَّهتضمّنه صُمّ الصفا لتصدّعا ومثله : فلو أنّ مابي بالحصى فَلق الحَصىوبالريح لم يسمع لهنّ هُبوب ومثله : وقفت على ربع لِميّة ناقتيفما زلت أبكى عِندَهُ وأخاطِبُه وهذه طريقة للعرب مشهورة في المبالغة ، يقولون: هذا كلام يفلّق الصخر ، ويهدّ الجبال ، ويصرع الطير، ويستنزل الوعول ، وليس ذلك بكذب منهم ، بل المعنى أنّه لحسنه وحلاوته وبلاغته يفعل مثل هذه الاُمور لو تأتت ، ولو كانت ممّا يسهل ويتيسر لشيء من الأشياء لتسهلت به من أجله. فأمّا الجواب الأوّل المحكيّ عن ابن قتيبة فالذي يفسده زائدا على ماردّه ابن الأنباريّ أنّه لو كان الأمر على ما ذكره ابن قتيبة وحكاه عن الأصمعي لكان النّبي صلى الله عليه و آله قد أغرانا بالذّنوب؛ لأنّه إذا أمِنَ حافظ القرآن ومتعلّمه من النار والعذاب فيها ، ركن المكلّفون إلى تعلّم القرآن والإقدام على القبائح آمنين غير خائفين ، وهذا لا يجوز عليه صلى الله عليه و آله ، والمعنى في قول أبي أمامة «إنّ اللّه لا يعذّب قلبا وعى القرآن» على نحو ما ذكره ابن الأنباري. فأمّا جواب ابن قتيبة الثاني، فمن أين له أن ذلك مختصّ بزمانه صلى الله عليه و آله ، وليس في اللفظ ولا في غيره دلالة عليه ؟ ! وأقوى ما يبطله أنّه لو كان كما ذكر لما جاز أن يخفى على جماعة المسلمين الّذين رووا جميع معجزاته عليه وآله السلام وضبطوها. وفي وجداننا من روى ذلك وجمعه وعُني به غير عارف بهذه الدّلالة والآية إبطال لما توهمه . فأمّا جوابه الثالث فباطل ؛ لأنّ القرآن في الحقيقة ليس يحلّ الجلد، ولا يكون فيه حتّى ينسب الاحتراق إلى الجلد دونه ، وإذا كان الأمر على هذا لم يكن في قوله: إنّ الإهاب هو المحترق دون القرآن فائدة؛ لأنّ هذه سبيل كلّ كلام كتب في إهاب أو غيره إذا احترق الإهاب لم يضف الاحتراق إلى الكلام ؛ لاستحالة هذه القضيّة عليه. ومن عجيب الاُمور قول ابن الأنباري: «وهذا يوجب أنّ القرآن غير المكتوب»؛ لأنّ كلام ابن قتيبة ليس يوجب ما ظنّه ؛ بل يوجب ضده من أنّ المكتوب هو القرآن؛ ولهذا علّق الإحراق بالكتابة والجلد دون المكتوب الّذي هو القرآن ، وإذا كان المكتوب في المصحف هو القرآن على ما اقترح ابن الأنباري، فما المانع من قول ابن قتيبة أنّ الجلد يحترق دونه؟ لأنّ أحداً لا يقول: إنّ الجلد هو القرآن ، وإنّما يقول قوم : إنّه مكتوب فيه . وإذا كان غيره لم يمتنع إضافة الاحتراق إلى أحدهما دون الآخر ، وهذا كلّه تخليط من الرجلين؛ لأنّ القرآن غير حال في الجلد على الحقيقة ، وليست الكتابة غير المكتوب ، وإنّما الكتابة أمارة للحروف ، فأمّا أن تكون هي الكلام على الحقيقة أو يوجد معها الكلام مكتوبا فمحال . فأمّا استشهاده على ذلك بالآية وبقوله: « لا تسافروا بالقرآن » فذلك تجوّز وتوسّع، وليس يجب أن يجعل إطلاق الألفاظ المحتملة دليلاً على إثبات الأحكام والمعاني ، ومعترضة على أدلّة العقول ، وقد تجوّز القوم بأكثر من هذا ، فقالوا : في هذا الكتاب شعر امرئ القيس وعلم الشافعي وفقه فلان، ولم يقتضِ ذلك أن يكون العلم والكلام على الحقيقة موجودين في الدفتر . وقد بين الكلام ، في هذا الباب في مواضع هي أولى به . فأمّا جواب ابن الأنباري الّذي ارتضاه لنفسه، فلا طائل أيضا فيه ؛ لأنّه لا مزيّة للقرآن فيما ذكره على كلّ كلام وشعر في العالم ؛ لأنّا نعلم أنّ الشعر والكلام المحفوظ في صدور الرجال إذا كتب في جلد ، ثمّ اُحرق أو غسل لم يذهب مافي الصدور منه ، بل يكون ثابتا بحاله، فأي مزيّة للقرآن في هذا على غيره؟ وأيّ فضيلة؟ فإن قال: وجه المزيّة أنّ غير القرآن من الشعر وغيره يمكن أن يندرس ويبطل بإحراق النار ، والقرآن إذا كان هو تعالى هو المتولّى لإبداعه الصدور لا يتمّ ذلك فيه؟ قلنا: الكلّ سواء لأنّ غير القرآن إنّما يبطل باحتراق الإهاب المكتوب فيه متى لم يكن محفوظاً مودعاً للصدور، ومتى كان بهذا الصفة لم يبطل باحتراق الجلد ، وهكذا القرآن لو لم يحفظ في الصدور لبطل بالاحتراق ، ولكنّه لا يبطل بهذا بالشرط ، فصار الشرط في بطلان غير القرآن وثباته كالشرط في بطلان القرآن وإثباته، فلا مزيّة على هذا الجواب للقرآن فيما خصّ به من أنّ النار لا تمسّه ، وهذا يبيّن أنه لا وجه غير ما ذكرناه في الخبر ، وهو أشبه بمذاهب العرب وأولى بتفضيل القرآن وتعظيمه. (6) بعد هذا العرض الطويل نخرج بالمنهجية الكلية لهذا المقطع ، وهي : إنّ النزاع في هذه المنهجية ينصبّ حول المجاز والحقيقة في تفسير القرآن ؛ فإنّ ما طرحه الشريف المرتضى قدس سره من الوجهين الثاني والثالث عن ابن قتيبة يتّضح أنّ تفسيره الثاني حمل على الحقيقة ، وتفسيره الثالث حمل على المجاز ، وما نقله من التفسير الأوّل عن الأصمعي فهو مجاز بعيد. وكأنّ ابن قتيبة أراد إيضاح حقيقة ، وهي مقدار عطاء المفسّرين قبله ومنهم الأصمعي الّذي بَعُد تفسيره بهذا المقدار ، بل حتّى على مجازه ، فأتى ابن قتيبة بتفسير مجازي قبال تفسير الأصمعي لينبه القارئ على مقدار العطاء التفسيري المجازي الّذي أدركه وأدركه الأصمعي ، ثمّ جاء بتفسير حقيقي ليؤكّد ثراء معرفته الحقيقية للتنزيل. ولكن الأنباري يضع بصمات الخطأ على جميع أجوبة ابن قتيبة ، سواء المجازان الأوّلان أو الثالث الحقيقي. حيث يعتبر المجاز الأوّل عن الأصمعي _ والّذي نقله ابن قتيبة وكأنّه يرتضيه مجازاً _ بعيد جدّاً ، وهو خلاف المأثور ، فيرده بخبرين ، ويأتي باستبعاد حسي . ويرد التفسير الثاني المجازي باستبعاد عقلي بسيط. ويكرس همّه على الرد الثالث باستحالة عقلية ، ومصادمة بعض الأخبار. ولكن الأنباري يلتمس لنفسه وجهاً تأويليا مقبولاً في ظاهر الحال ، ويأتي بعدّة شواهد على ذلك. وكأنّه يريد أن يفهّم القارئ إلى أنّ تأويله وإن كان ليس حملاً على حقيقته ، لكنّه أكثر مقبولية ؛ فإنّه _ كما على حدّ تعبيره _ كثير في كتاب اللّه تعالى . والشريف المرتضى قدس سره يعتبر الجميع قد وقعوا في الوهم ، وليست هذه التأويلات هي حقيقية ولا مجازية تأويلية ، وإنّما إذا أردنا تأويل الخبر لابدَّ من التمسك بآيات اُخرى ، هي بمثابة تفسيرات لهذا الخبر ، ويرى أنّ لتأويله نظائر كثيرة في القرآن الكريم ظاهرة على من له أدنى دربة بمذاهبهم وتصرف كلامهم. ولكن الحقيقية أنّ ردّ الأنباري والشريف المرتضى قدس سره على الجواب الأوّل الّذي نقله ابن قتيبة عن الأصمعي فيه نوع من التمحل ؛ فإنّ مقصود الأصمعي هو نفس ما طرحه الأنباري أي : « من قرأ القرآن وعمل به ، فأمّا من حفظ ألفاظه وضيع حدوده ؛ فإنّه غير واعٍ له » .

.


1- . الواقعة: 77 _ 79.
2- . النساء: 42.
3- . الأنعام: 23.
4- . الحشر: 21.
5- . مريم: 90.
6- . أمالي المرتضى (غرر الفوائد ودرر القلائد ) : ج 1 ص 426 _ 431 .

ص: 72

. .

ص: 73

. .

ص: 74

. .

ص: 75

. .

ص: 76

. .

ص: 77

. .

ص: 78

حدود القرآن الكريم والسنّة الشريفة

حدود القرآن الكريم والسنّة الشريفةحدود القرآن الكريم والسنّة الشريفة واحدة ، فإنّ ما دلّ عليه القرآن الكريم تدلّ عليه السنّة الشريفة وكذا العكس. فالحدود بينهما مشتركة والعطاء متبادل ، والأحكام واحدة ، والمنطلق متحد ؛ ولذلك يقول النبيّ صلى الله عليه و آله : « كتاب اللّه وأهل بيتي لا يفترقان » . وعلى هذا المبنى يؤكّد الشريف المرتضى قدس سره على هذه الحقيقة ، وهي : إنّه لا تعد للقرآن من السنّة الشريفة ؛ فإنّ القرآن دال على وجوب اتباع السنّة وغيرها من أدلّة الشرع ، فمن اعتمد على أدلّة الشرع لا يكون متجاوزاً للقرآن ولا متعدياً . ولنأتي بمثال تطبيقي على هذه الفكرة ، وهو ما روي عن النبيّ صلى الله عليه و آله : «ليس منّا من لم يَتغنَّ بالقرآن» فيذكر الشريف المرتضى قدس سره عدّة وجوه تفسير لهذا الخبر ، وكان رابعها هو : « أن يكون قوله عليه السلام : «من لم يتغنّ» من غنى الرجل بالمكان إذا طال مقامه به، ومنه قيل: المغني المغاني ، قال اللّه تعالى: «كَأَن لَّمْ يَغْنَوْاْ فِيهَا » (1) أي لم يقيموا بها . وقال الأسود بن يعفر الأيادي : ولقد غنوا فيها بأنعم غنيةفي ظلّ ملك ثابت الأوتاد وقول الأعشى الّذي أنشده أبو عبيد ، وهو : وكنت امرا زمناً بالعراقعفيف المناخ طويل التّغن بطول المقام أشبه منه بالاستغناء؛ لأنّ المقام يوصف بالطول ، ولا يوصف الاستغناء بذلك، فكأنّ الأعشى أراد : إنّني كنت ملازماً لوطني ، مقيماً بين أهلي، لا أسافر للانتجاع والطَّلب ، ويجري قوله هذا مجرى قول حسان بن ثابت الأنصاري: أولاد جفنة حول قبر أبيهمقبر ابن مارية الكريم المُفْضِلِ أراد بقوله: «حول قبر أبيهم» أنّهم ملوك لا ينتجعون، ولا يفارفون محالّهم وأوطانهم ، فيكون معنى الخبر على هذا الوجه: من لم يُقِمْ على القرآن فلا يتجاوزه إلى غيره، ولا يتعدّاه إلى سواه، ويتخذه مَغْنىً ومنزلاً ومُقاما فليس منّا. فإن قيل: أليس قد يتعدّى القرآن إلى السنّة والإجماع وسائر أدلّة الشرع؟ فكيف يحظر علينا تعدّيه؟ قلنا: ليس في ذلك تَعَدٍّ للقرآن ؛ لأنّ القرآن دالّ على وجوب اتّباع السنّة وغيرها من أدلّة الشرع، فمن اعتمد بعضها في شيء من الأحكام لا يكون متجاوزا للقرآن، ولا متعديا . فأمّا قوله عليه السلام : « ليس منّا » فقد قيل فيه : إنّه لا يكون على أخلاقنا ، واستشهد ببيت النابغة : إذا حاولت في أسد فجورافإنّي لست منك ولست منّي وقيل إنّه أراد : ليس على ديننا . وهذا الوجه لا يليق إلاّ بجوابنا الّذي اخترناه. وهو بعده بجواب أبي عُبيد أليق؛ لأنّه محال أن يخرج عن دين النبيّ صلى الله عليه و آله وملّته من لم يحسن صوته بالقرآن، ويرجّع فيه، أو من لم يتلذذ بتلاوته ويستحلِيها. (2) فليس هناك تعدٍّ للقرآن الكريم ، ومن أراد ذلك فقد تجاوز الحقيقة ، ووقع في محاذير يأباها النصّ القرآني الكريم . إنّ للقرآن الكريم حدودا وكذلك للسنّة حدودا ، وأحد حدود القرآن هي أنّه لابدَّ من حمل القرآن الكريم على الحقيقه دون المجاز ، خصوصا إذا عضدت هذه الحقيقة بالسنّة الشريفة. وهذا المعنى أكدته الآية «40» من سورة هود عليه السلام قال تعالى : «حَتَّى إِذَا جَآءَ أَمْرُنَا وَ فَارَ التَّنُّورُ» . يقول الشريف المرتضى قدس سره بهذا الصدد : « أمّا التنور فقد ذكر في معناه وجوه: وثالثها: أن يكون المراد ب_ «فَارَ التَّنُّورُ» أي برز النور ، وظهور الضوء ، وتكاثفت حرارة دخول النهار ، وتقضّي اللّيل . وهذا القول يروى عن أمير المؤمنين عليه السلام . ورابعها : أن يكون المراد بالتنوّر الّذي يختبز فيه على الحقيقة ، وأنّه تنوّر كان لآدم عليه السلام ... والّذي روي عنه أنّ التنوّر هو تنوّر الخبز الحقيقي ابن عبّاس والحسن ومجاهد وغيرهم. وخامسها : أن يكون معنى ذلك : اشتدّ غضب اللّه تعالى عليهم، وحلّ وقوع نقمته بهم ، فذكر تعالى التنّور مثلاً لحضور العذاب، كما تقول العرب: قد حمى الوطيس ؛ إذا اشتد الحرب، وعظم الخطب . والوطيس هو التنّور . وتقول العرب أيضاً: قد فارت قِدْر القوم إذا اشتد حربهم ، قال الشاعر : تفور علينا قدرهم فنديمهاونفثؤها عنّا إذا حميها غلا أراد بقِدْرهم حربهم، ومعنى نديمها: نسكِّنها. ومن ذلك الحديث المروى عن النبيّ صلى الله عليه و آله : أنّه نهى عن البول في الماء الدائم ، يعني : الساكن . ويقال: قد دوّم الطائر في الهواء، إذا بسط جناحيه وسكنهما ولم يخفق بهما . ونفثؤها معناه: نسكِّنها ؛ يقال: قد فثأتُ غضبه عنّي، وفثأت الحارّ بالبارد إذا كسرته به . وأولى الأقوال بالصواب قول من حمل الكلام على التنّور الحقيقي؛ لأنّه الحقيقة وما سواه مجاز؛ ولأنّ الروايات الظاهرة تشهد له ، وأضعفها وأبعدها من شهادة الأثر قول من حمل ذلك على شدة الغضب ، واحتداد الأمر تمثيلاً وتشبيها ؛ لأنّ حمل الكلام على الحقيقة الّتي تعضدها الرواية أولى من حمله على المجاز والتوسع مع فقد الرواية. وأي المعاني اُريد بالتنّور فإنّ اللّه تعالى جعل فوران الماء منه علماً لنبيّه ؛ وآيةً تدلّ على نزول العذاب بقومه؛ لينجو بنفسه وبالمؤمنين (3) . فحمل الآية على الحقيقة أولى وأوجب من الحمل على المجاز حتّى دعا الشريف المرتضى قدس سره أن يترك الوجه الثالث الوارد عن أمير المؤمنين عليه السلام ، لأجل أنّه على نحو المجاز ، أو أنّه من بطون القرآن الكريم.

.


1- . الأعراف : 92 .
2- . أمالي المرتضى (غرر الفوائد و درر القلائد) : ج 1 ص 35 _ 36 .
3- . أمالي المرتضى (غرر الفوائد ودرر القلائد ) : ج 2 ص 171 .

ص: 79

. .

ص: 80

. .

ص: 81

المنهج العقلي وظواهر الكتاب والسنة

المنهج العقلي وظواهر الكتاب والسنّةيعتبر العقل الركيزة الأساسية والمهمّة في المنظومة المعرفية عند الشريف المرتضى قدس سره ، بل جعله الحاكم الرئيسي في رفع التنازع بين الأدلّة بجميع أطرافها (قرآناً وسنة ) ؛ لأنّه يعتقد أنّ هذه الموهبة الإلهية إذا هذبت يمكن جعلها الدعامة الرئيسة في واقع التشريع الإلهي. ويلتفت الشريف المرتضى قدس سره إلى أنّ المأخوذ في أدلّة العقول هو الصراحة الواضحة ، الّتي لا مناص من العدول ، فإذا احتمل الدليل العقلي الاحتمال والمجاز سقطت حجّيته عن الاعتبار ، بل يتجاوز المرحلة الاحتمال والمجاز إلى مرحلة أدق ، وهي وجوه التأويلات الّتي يمكن استكشافها من أدلّة العقول. فليست أدلّة العقول لوحدها تتجاوب مع حاجات الواقع ، بل لها قيود وشروط من عدم الاحتمال، فاذا ارتضينا ذلك سوف نحصل على مفهوم ومناط كلي يتعاطف معنا على كلّ الأدلّة ، ويكون دليلاً وحاكماً تخضع له جميع المدارك الشرعية ، وسوف نصرف كلّ ما ورد ما ظاهره بخلاف الحقّ من كتاب وسنّة إلى ما يطابق الأدلّة ويوافقها. يقول الشريف المرتضى قدس سره: _ نقلاً عن لسان بعض _ : «أو ليس من مذهبكم أنّ الأخبار الّتي يخالف ظاهرها الاُصول، ولاتطابق العقول لايجب ردّها، والقطع على كذب رواتها إلاّ بعد ألاّ يكون لها في اللغة مخرج ولا تأويل؟ وإن كان لها ذلك فباستكراه أو تعسف». (1) وأوضح جَلاءً من هذا المتن ما قاله قدس سره: «إذا ثبت بأدلّة العقول الّتي لا يدخلها الاحتمال والمجاز ووجوه التأويلات أنّ المعاصي لا تجوز على الأنبياء عليهم السلام صرفنا كلّ ما ورد ظاهره بخلاف ذلك من كتاب أو سنة إلى ما يطابق الأدلّة ويوافقها، كما نفعل مثل ذلك فيما يرد ظاهره مخالفاً لما تدلّ عليه العقول من صفاته تعالى، وما يجوز عليه أو لايجوز». (2) فعلى هذا الميزان الموحّد ( وهو العرض على الواضح من أدلّة العقول) سوف تكون الانطلاقة واضحة . وكذلك ما جاء في قوله تعالى : «وَ لَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا . . .» (3) . فقد قال : هل يسوغ ما تأوّل بعضهم هذه الآية عليه من أنّ يوسف عليه السلام عزم على المعصية وأرادها، وأنّه جلس مجلس الرجل من المرأة . ثمّ انصرف عن ذلك بأن رأى صورة أبيه يعقوب عليه السلام عاضاً على إصبعه، متوعّداً له على مواقعة المعصية، أو بأن نؤدي له بالنهي والزجر في الحال على ما ورد به الحديث؟ وينقل الشريف المرتضى قدس سره النصّ الثاني المتقدّم الّذي نقلناه قبل قليل ليبني عليه الجواب ، ثمّ يقول : «ولهذه الآية وجوه من التأويل؛ كلّ واحد منها يقتضي نزاهة نبيّ اللّه تعالى من العزم على الفاحشة وإرادة المعصية». (4) وبعد أن ينقل الشريف المرتضى قدس سره عدّة أجوبة في تفسير الآية ، يقول : « وإنّما أنكرنا ما ادّعاه جهلة المفسّرين ومخرّفو القصّاص ، وقرفوا به نبي اللّه عليه السلام ، لما في العقول من الأدلّة على أنّ مثل ذلك لا يجوز على الأنبياء عليهم السلام ؛ من حيث كان منفّراً عنهم، وقادحاً في الغرض المجرى إليه بإرسالهم ، والقصَّة تشهد بذلك ؛ لأنّه تعالى قال: «كَذَ لِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَ الْفَحْشَآءَ» ؛ ومن أكبر السوء والفحشاء العزم على الزنا، ثمّ الأخذ فيه، والشروع في مقدّماته ، وقوله تعالى أيضا: «إِنَّهُو مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ» يقتضي تنزيهه عن الهمّ بالزنا ، والعزم عليه. وحكايته عن النسوة قولهنّ: «حَ_شَ لِلَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِن سُوءٍ» ، (5) تدلّ أيضا على براءته من القبيح . فأمّا البرهان الّذي رآه فيحتمل أن يكون لطفاً لطف اللّه له به في تلك الحال أو قبلها، اختار عنده الانصراف عن المعاصي ، والتنزه عنها. ويحتمل أيضا ما ذكره أبو علي، وهو أن يكون البرهان دلالة اللّه تعالى له على تحريم ذلك عليه، وعلى أنّ من فعله يستحقّ العقاب . وليس يجوز أن يكون البرهان ما ظنّه الجهّال من رؤية صورة أبيه يعقوب عليه السلام متوعّداً له ، أو النداء له بالزجر والتخويف ؛ لأنّ ذلك ينافي المحنة، وينقض الغرض بالتكليف، ويقتضي ألاّ يستحقّ على امتناعه وانزجاره مدحاً ولا ثواباً ، وهذا سوء ثناء على الأنبياء، وإقدام على قرفهم بما لم يكن منهم » . (6) وهكذا نرى الشريف المرتضى قدس سره يبرز مقدرته العقلية في الحديث الّذي روي عن النبيّ صلى الله عليه و آله وسلم : «إنّ قلوب بني آدم كلّها بين إصبعين من أصابع الرحمن، يصرفهما كيف شاء». فبعد أن ينقل النصّ الأوّل الّذي نقلناه سلفاً ويذكر عدّة تأويلات لتخريج الخبر ، يقول: ويمكن أن يكون في الخبر وجه ، آخر على تسليم ما يقترحه المخالفون، من أنّ الإصبعين هما المخلوقتان من اللّحم والدم ، استظهاراً في الحجّة ، وإقامةً لها على كلّ وجه ، وهو أنّه لا ينكر أن يكون القلب يشتمل عليه جسمان على شكل الإصبعين ، يحرّكه اللّه تعالى بهما ، ويقلّبه بالفعل فيهما ، ويكون وجه تسميتهما بالأصابع من حيث كانا على شكلهما . والوجه في إضافتهما إلى اللّه تعالى _ وإن كانت جميع أفعاله تضاف إليه بمعنى الملك والقدرة _ أنّه لا يقدر على الفعل فيهما وتحريكهما منفردين عمّا جاورهما غيره تعالى ، فقيل إنّهما إصبعان له ، من حيث اختصّ بالفعل فيهما على هذا الوجه ؛ لأنّ غيره إنّما يقدر على تحريك القلب، وما هو مجاور للقلب من الأعضاء بتحريك جملة الجسم، ولا يقدر على تحريكه وتصريفه منفرداً ممّا يجاوره غيره تعالى ، فمن أين للمبطلين المتأوّلين هذه الأخبار بأهوائهم وضعف آرائهم أنّ الأصابع هاهنا إذا كانت لحماً ودماً فهي جوارح للّه تعالى ؟ ! وما هذا الوجه الّذي ذكرناه ببعيد ، وعلى المتأوّل أن يورد كلّ ما يحتمله الكلام ممّا لا تدفعه حجّة ، وإن ترتّب بعضه على بعض في القوّة والوضوح. (7)

.


1- . أمالي المرتضى (غرر الفوائد ودرر القلائد ): ج 1 ص 318 .
2- . أمالي المرتضى (غرر الفوائد ودرر القلائد ) : ج 1 ص 477 .
3- . يوسف : 24 .
4- . أمالي المرتضى (غرر الفوائد ودرر القلائد ) : ج 1 ص 477 .
5- . يوسف : 51 .
6- . أمالي المرتضى (غرر الفوائد و درر القلائد) : ج 1 ص 481 _ 482 .
7- . المصدر السابق : ج 1 ص 321 .

ص: 82

. .

ص: 83

. .

ص: 84

. .

ص: 85

الأخذ بالعمومات والظواهر القرآنية

الأخذ بالعمومات والظواهر القرآنيةالأدلّة العقلية الواضحة الّتي لا يدخلها الاحتمال ولا الاتساع والمجاز لابدّ أن يصرف ما ظاهره بخلاف هذه الأدلّة إلى ما يطابقها ، هكذا يعتقد الشريف المرتضى قدس سره . ومن هذا المنطلق نرى تأويل الخبر الّذي روي عن النبيّ صلى الله عليه و آله وسلم: «إنّ الميت ليعذب ببكاء الحي عليه» . وفي رواية اُخرى: «إنّ الميت يعذب في قبره بالنياحة عليه» . وهكذا روايات اُخرى بهذين المضمونين . وكمنت المشكلة في هذه الروايات عند ما رأينا تعارضها مع صريح الآيات مثل قوله تعالى: «وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى» . (1) فإنّ قبح مؤاخذة أحد بذنب غيره يدلّ عليه صريح النصّ العقلي. ويؤسّس الشريف المرتضى قدس سره قاعدته العقلية المعروفة ، وهي : أنّ المرجع الأوّل والأخير في المعرفة الدينية أدلّة العقول، يقول في ذلك : «إنّا إذا كنّا قد علمنا بأدلّة العقل الّتي لا يدخلها الاحتمال والاتساع والمجاز قبح مؤاخذة أحد بذنب غيره، وعلمنا أيضا ذلك بأدلّة السمع مثل قوله تعالى: «وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى» فلابدّ أن نصرف ما ظاهره بخلاف هذه الأدلّة إلى ما يطابقها» (2) . ثمّ يشرع الشريف المرتضى بتوجيه هذه الأخبار بما يطابق الأدلّة العقلية الواضحة الّتي لاغبار ولاغش عليها.

.


1- . الأنعام : 164 .
2- . أمالي المرتضى (غرر الفوائد ودرر القلائد ): ج 1 ص 340.

ص: 86

المنهج المشترك بين القرآن الكريم والسنّة الشريفة

المنهج المشترك بين القرآن الكريم والسنّة الشريفةالمعطيات والمشتركات بين القرآن الكريم والسنّة الشريفة كثيرة ويعضد بعضها البعض الآخر في إنارة الواقع ، وتقوية السبل في توضيح وتركيز المفاهيم الإسلاميّة الصحيحة. وفي هذا المجال نرى الشريف المرتضى قدس سره ينطلق من ركائزه العقلية في وضع منهج مشترك موحد بين القرآن الكريم والسنّة الشريفة . فعندما أسس بنيانه على القواعد العقلية الواضحة اعتبر القرآن الكريم أحد الأدلّة الواضحة الّتي تقوم سائر الأدلّة عليها في تشخيص الواقع. ولم يفت الشريف المرتضى قدس سره أن ينبّه على السنّة الشريفة الواضحة هي بمثابة البرهان العقلي ، كما كان القرآن الكريم والبرهان العقلي . ومن ذلك نرى الشريف المرتضى قدس سره يعاضد الأدلّة بعضها مع البعض الآخر ، فيأتي بالحديث ويعضده بالقرآن وهكذا بالعكس ، وهذا إذا دلّ على شيء فإنّما يدلّ على المعطيات المشتركة بين القرآن الكريم والسنّة الشريفة. فيقول بين الحين والآخر: «يشهد بذلك قوله تعالى . . . » أو يقول: «ومنه قوله تعالى . . . » أو يقول: «وعلى هذا المعنى يتأوّل المحقّقون قوله تعالى . . . » أو يقول: «وهل يطابق معنى الآيتين والمراد بالنفس فيهما ما رواه ... ». هذه الاُمور الصريحة وما شابهها هي المنهج الّذي يتبعه الشريف المرتضى قدس سرهفي الاشتراك العلمي بين القرآن الكريم والسنّة الشريفة ، بحيث إنّ واقع المسألتين شيء واحد وذو معطى موحّد يمكن من خلاله أن نخرج بنتائج موحّدة.

.

ص: 87

التعارض بين القرآن الكريم والسنّة الشريفة

التعارض بين القرآن الكريم والسنّة الشريفةقد يبدو التعارض واضحاً في بعض الأدلّة الشرعية ، كما يبدو التضادّ بين القرآن الكريم والسنّة الشريفة ، نتيجة عدم تصوّر صحيح للمسألة ، أو عدم معرفة واضحة لأحد طرفي التضادّ والنزاع ، ومن هذا سوف تلوح علامات الاستغراب في رؤية الأدلّة من دون تحقيق وتمحيص. وهذا شيء متعارف في عرف الشريعة المقدّسة إذا لم يعمل النظر إلى المخصصات والعمومات . . . ولكن بنظرة دقيقة ترتفع هذه الإشكالات وإمكان التغلب عليها . ويستند الشريف المرتضى قدس سره على دعامته المعروفة بانّه لابدَّ من الاحتفاظ بظاهر الأدلّة ، ولا يمكن طرحها إذا كان لها محمل صحيح ووجه جمع يمكن من خلاله تصحيح الواقع ورفع التناقض. ومن هذا المنطلق يقول الشريف المرتضى قدس سره: « إن قال قائل : ما تأويل قوله تعالى : «وَ مَا كَانَ لِنَفْسٍ أَن تُؤْمِنَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَ يَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يَعْقِلُونَ» . (1) وظاهر هذا الكلام يدلُّ على أنّ الإيمان إنّما كان لهم فعله بإذنه وأمره ، وليس هذا مذهبكم ، وإن حمل الإذن هاهنا على الإرادة اقتضى أنّ من لم يقع منه الإيمان لم يرده اللّه منه، وهذا أيضا بخلاف قولكم . ثمّ جعل الرِّجس الّذي هو العذاب على الّذين لا يعقلون ، ومن كان فاقدا عقله لا يكون مكلّفاً ، فكيف يستحقُّ العذاب؟ وهذا بالضدّ من الخبر المرويّ عن النبيّ صلى الله عليه و آله أنّه قال: «أكثر أهل الجنة البُلْه» . الجواب، يقال له في قوله تعالى: «إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ» وجوه: منها : أن يكون الإذن الأمر، ويكون معنى الكلام: إنّ الإيمان لا يقع إلاّ بعد أن يأذن اللّه فيه، ويأمر به، ولا يكون معناه ما ظنّه السائل من أنّه لا يكون للفاعل فعله إلاّ بإذنه، ويجري هذا مجرى قوله تعالى: «وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَن تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ» (2) . ومعلوم أنّ معنى قوله: ليس لها في هذه الآية هو ما ذكرناه، وإن كان الأشبه في هذه الآية الّتي فيها ذكر الموت أن يكون المراد بالإذن العلم . ومنها : أن يكون الإذن هو التوفيق والتيسير والتسهيل، ولا شبهة في أنّ اللّه يوفّق لفعل الإيمان ويلطف فيه، ويسهّل السبيل إليه . ومنها : أن يكون الإذن العلم من قولهم : أذنت لكذا وكذا إذا سمعته وعلمته ، وأذنت فلانا بكذا إذا أعلمته ، فتكون فائدة الآية الإخبار عن علمه تعالى بسائر الكائنات ، فإنّه ممّن لا يخفى عليه الخفيّات... وقد أنكر بعض من لابصيرة له أن يكون الإذن (بكسر الألف وتسكين الذال) عبارةً عن العلم، وزعم إنّ الّذي هو العلم الأذَنُ (بالتحريك)، واستشهد بقول الشاعر: إِنَّ هَمَّي في سَمَاعٍ وَأَذَنْ وليس الأمر على ما توهّمه هذا المتوهّم ؛ لأنّ الأذن هو المصدر ، والإذن هو اسم الفعل؛ فيجري مجرى الحذر في أنّه مصدر ؛ والحذر (بالتسكين) الاسم ، على أنّه لو لم يكن مسموعاً إلاّ الأذَن (بالتحريك) لجاز التسكين، مثل مَثَلٍ ومِثْلٍ وشَبَهٍ وشبْهٍ ونظائر ذلك كثيرة. ومنها: أن يكون الإذن العلم، ومعناه إعلام اللّه المكلّفين بفضل الإيمان وما يدعو إلى فعله، ويكون معنى الآية: وما كان لنفسٍ أنْ تؤمن إلاّ بإعلام اللّه لها بما يبعثها على الإيمان، وما يدعوها إلى فعله. فأمّا ظنّ السائل دخول الإرادة في محتمل اللفظ فباطل؛ لأنّ الإذن لا يحتمل الإرادة في اللّغة، ولو احتملها أيضا لم يجب ما توهّمه ؛ لأنّه إذا قال : إنّ الإيمان لا يقع إلاّ وأنا مريد له لم ينف أن يكون مريداً لما لم يقع، وليس في صريح الكلام ولا دلالته شيء من ذلك . وأمّا قوله تعالى: «وَ يَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يَعْقِلُونَ» فلم يعن بذلك الناقصي العقول، وإنّما أراد الّذين لم يعقلوا ويعلموا ماوجب عليهم علمه من معرفة اللّه خالقهم، والاعتراف بنبوّة رسله والانقياد إلى طاعتهم، ووصفهم تعالى بأنّهم لايعقلون تشبيها ، كما قال تعالى: «صُمُّم بُكْمٌ عُمْىٌ» (3) ، وكما يصف أحدنا من لم يفطن لبعض الاُمور ، أو لم يعلم ما هو مأمور بعلمه بالجنون وفقد العقل. فأمّا الحديث الّذي أورده السائل شاهداً له فقد قيل : إنّه عليه وآله السلام لم يرد بالبُلْهِ ذوي الغفلة والنقص والجنون، وإنّما أراد البُلْه عن الشرّ والقبيح ، وسمّاهم بُلْهاً عن ذلك من حيث لا يستعملونه ولا يعتادونه، لا من حيث فقدوا العلم به . ووجه تشبيه من هذه حاله بالأَبْله ظاهر ؛ فإنّ الأَبْلَهَ عن الشيء هو الّذي لا يعرض له ولا يقصد إليه، فإذا كان المتنزِّه عن الشرّ معرضاً عنه ، هاجرا لفعله جاز أن يوصَف بالبَلَه للفائدة الّتي ذكرناها ، ويشهد بصحّة هذا التأويل قول الشاعر : ولَقَدْ لَهَوْتُ بِطَفْلَةٍ مَيَّادَةٍبلْهَاءَ تُطْلُعنِي علَى أَسْرَارِها أراد أنّها بَلْهاء عن الشرّ والريبة ،وإن كانت فطنةً لغيرهما ؛وقال أبو النجم العجلي: مِنْ كُل عَجْزَاءَ سَقُوطِ البرقُعِبَلهاءَ لَمْ تُحْفَظ وَلَمْ تُضَيَّعِ أراد بالبلهاء ما ذكرناه . فأمّا قوله : «سقوط البرقع» فأراد أنّها تبرز وجهها ولا تستره، ثقة بحسنه وإدلالاً بجماله ، وقوله : «لم تحفظ» أراد أنّ استقامة طرائقها تغني عن حفظها ، وأنّها لعفافها ونزاهتها غير محتاجة إلى مسدّد وموقّف؛ وقوله: «لم تضيع» أراد أنّها لم تهمل في أغذيتها وتنعيمها وترفيهها فتشقى، ومثل قوله: «سقوط البرقع» قول الشاعر : فَلَمَّا تَوَاقَفْنا وَسَلَّمْتُ أَقْبلَتْوُجُوهُ زَهَاهَا الحُسْنُ أَنْ تَتَقَنَّعَا ومثله أيضا: بهَا شَرَقٌ مِنْ زَعْفَرَانٍ وَعَنْبَرٍأَطَارَتْ منَ الحُسْنِ الرِّدَاءَ المُحَبَّرا أي رمتْ به عنها ثقة بالجمال والكمال، ومثله وهو مليح : لَهَوْنَا بمنْجُولِ البَرَاقعِ حِقْبَةًفَمَا بَالُ دَهْرٍ لَزَّنَا بِالوَصَاوِصِ أراد ب__ «منجول البراقع» اللاتي يوسعن عيون براقعهنّ ثقةً بحسنهنّ، ومنه الطعنة النّجلاء ، والعين النّجلاء ، ثمّ قال: ما بال دهر أحوجنا واضطرنا إلى القباح، اللواتي يضيقن عيون براقعهن لقبحهنّ، والوصاوِص: هي النّقب الصّغار للبراقع، وممّا يشهد للمعنى الأول الّذي هو الوصف بالبَلَه لا بمعنى الغفلة قول ابن الدّمينة: بِمالِي وَأَهْلِي مَنْ إذَا عَرَضُوا لَهُبِبَعْضِ الأَذى لَمْ يَدْرِ كَيْفَ يُجيبُ ويروى : بنفسي وأهلي . وَلَمْ يَعْتَذِرْ عُذْرَ البَرِىّ وَلَمْ تَزَلْبِه ضعفةٌ حَتَّى يُقَالَ مُرِيبُ ومثله: أُحِبُّ اللَّوَاتي في صَباهُنَّ غِرَّةٌوَفيهنَّ عَنْ أَزْوَاجِهِنَّ طِمَاحُ مُسِرَّاتِ حُبٍّ مُظْهِرَاتِ عَداوَةًتَرَاهُنَّ كَالمَرْضَى وَهُنَّ صحاحُ ومثله: يكتَبينَ اليَنْجُوجَ في كَبَدِ الْمَشْتى وَبُلْهٌ أَحْلاَمُهُنَّ وِسَامُ أما قوله: «يكتبين» فمأخوذ من لفظ الكِباء، وهو العود، أراد يتبخّرن به، والينجُوج هو العود، وفيه ست لغات: يَنْجُوج، وأَنْجُوج، ويَلْنجُوج، وألَنْجُوج، وألَنْجَج، ويَلَنْجَج. فأمّا كَبَد المشْتى، فهو ضَيْقَتُه وشدّته، ومنه قوله تعالى: «لَقَدْ خَلَقْنَا الاْءِنسَ_نَ فِى كَبَدٍ» (4) ، وقد روي: «في كَبّة المشتى» والمعنى متقارب ؛ لأنّ الكَبّة هي الصدمة والحملة، مأخوذ من كَبّةِ الخيل؛ وأمّا الوسام فهنّ الحسان من الوسامة، وهي الحسن . ويمكن أن يكون في البَلَهِ جواب آخر ، وهو أن يحمل على معنى البَلَه الّذي هو الغفلة والنقصان في الحقيقة، ويكون معنى الخبر أنّ أكثر أهل الجنة الّذين كانوا بُلها في الدنيا، فعندنا أنّ اللّه ينعّم الأطفال في الجنّة والمجانين والبهائم، وإنّما لم نجعلهم بُلها في الجنّة ، وإن كان ما يصلُ إليهم من النعيم على سبيل العِوَض أو التفضّل لا يفتقر إلى كمال العقل ؛ لأنّ الخبر ورد بأنّ الأطفال والبهائم إذا دخلوا الجنّة لم يدخلوها إلاّ وهم على أفضل الحالات وأكملها، ولهذا صرفنا البُله عنهم في الجنّة، ورددناه إلى أحوال الدنيا، وإلاّ فالعقل لا يمنع من ذلك كمنعه إياه في باب الثواب والعقاب. (5)

.


1- . يونس : 100 .
2- . آل عمران : 145 .
3- . البقرة: 18 .
4- . البلد : 4 .
5- . أمالي المرتضى (غرر الفوائد و درر القلائد): ج 1 ص 38 _ 42.

ص: 88

. .

ص: 89

. .

ص: 90

. .

ص: 91

. .

ص: 92

. .

ص: 93

الفصل الثاني : منهجه في المباحث الفقهية

اشاره

الفصل الثاني : منهجه في المباحث الفقهيةتمهيدإشكالات المحدثينابن الجنيد وإشكالات المراسيل والشذوذ في الأخبارإشكالات آرائه النادرةأخبار الآحادملاكات ضعف الخبرالتحقيق حول رواة الخبرالظواهر والعموم في الأخبارالنسخ في الأخبار

.

ص: 94

. .

ص: 95

تمهي_د

تمهي_دالفقه الموجود والموروث عن الشريف المرتضى قدس سره هو فقه الخلاف لا المقارن (1) وقمّته هو كتابا الانتصار و مسائل الناصريات ، وفقدنا من فقهه كتابا المصباحو الخلاف، والظاهر أنّهما من أروع الكتب حسب الموصفات الّتي يطرحها الشريف المرتضى قدس سرهبين الآونة والاُخرى في بحوثه الفقهية حول هذين الكتابين ، وحسبما نقل من نصوص من هذين الكتابين . ولا نبخس الشريف المرتضى قدس سره حقّه في باقي رسائله الفقهية ( الّتي طبعت في مجموعة رسائله ) فبين ثناياها أروع النصوص الاجتهادية والحاسة الفقاهتية . والّذي يهمّنا في هذا الفصل هو إلقاء نظرة منهجية إلى التراث الروائي الفقهي ومقدار معطياته ومساحته وأبعاده وأساليبه وطرقه مقتصرين على كتابيه المتقدّمين ، وما أودعه في ثنايا رسائله المختصّ منها بالتراث الفقهي. وقبل أن ندرس منهج الكتابين الانتصار والناصريات لابدَّ من طرح سعة أبعاد الكتابين ؛ لنحيط _ بعض الشيء _ بمساحة وعي الشريف المرتضى قدس سره ، ونلم بالجوانب الفقهية والتاريخية بهذين الكتابين ، كلّ ذلك بنحو الاختصار : يحمل كتاب الانتصار في طيّاته نوعا من الشموخ الفقهي الإمامي ، فهو يصادر النتيجة لوعيه الفقهي ، ويجعل الفقه الإمامي والإمامية وآراءهم وفتواهم _ الّتي انفردوا بها ، وصارت سببا لتشنيع المخالفين _ وهو الفقه المؤيد بالدليل والبرهان ، وأنّ بحثهم الاستدلالي معتمد على أسمى الادلّة الاجتهادية والأنظار الدقيقة ، والرؤى الثاقبة والّتي استطاعت أن تثبت حقّيتها وصحّتها ، ويقول الشريف المرتضى قدس سره في مقدّمة كتابه : «فإنّي ممتثل . . . بيان المسائل الفقهية الّتي شنع بها على الشيعة الإمامية ، وأدعي عليهم مخالفة الإجماع وأكثرها موافق فيه الشيعة غيرهم من العلماء والفقهاء المتقدّمين أو المتأخّرين ، وما ليس لهم فيه موافق من غيرهم فعليه من الأدلّة الواضحة والحجج اللائحة ما يغني عن وفاق الموافق ، ولا يوحش معه خلاف المخالف ، وأن اُبين ذلك وأفصله وأزيل الشبهة المعترضة فيه». (2) هذه هي خلاصة خطّة الكتاب وما يحتويه جميع أبعاده . والشريف المرتضى قدس سرهيصرّ ببسالة على أنّ الشناعة إنّما تجب في المذهب الّذي لا دليل عليه يعضده، ولا حجّة لقائله فيه ، فهو ينطلق من ركيزة يصحّ على أساسها أن ينجح في أطروحته هذه حتّى أنّه يؤكد على سمو فكره وشموخه حيث يقول: «فأمّا ماعليه دليل يعضده وحجّة تعمده فهو الحقّ اليقين ، ولا يضرّه الخلاف فيه ، وقلّة عدد القائل به ، كما لا ينفع في الأوّل الاتفاق عليه ، وكثرة عدد الذاهب إليه ، وإنّما يسأل الذاهب إلى مذهب عن دلالته على صحّته وحجّته القائدة له إليه لا عمّن يوافقه فيه أو يخالفه». (3) هذه هي الركيزة في سمو ذات الشريف المرتضى قدس سره في بحثه الاستدلالي ، وله مناحي اُخرى في دعامته الفكرية ، والّتي يأتي تفصيلها في هذا الفصل بغية الإحاطة ببعض معالم مدرسته والروائية منها بالخصوص . هذا بالنسبة إلى كتاب الانتصار. أمّا بالنسبة إلى مسائل الناصريات فإنّ دائرة البحث تتضيق ويقع السِّجال بين المذهب الإمامي والزيدي بالخصوص ، ولكنّه في مطاوي البحث يحتوي جلّ الخلافات الفقهية على مستوى المذاهب الاُخرى ، فإنّ الكتاب هو المسائل المنتزعة من فقه جدّه الناصر _ من جهة والدته رحمها اللّه _ الذي يعبر عنه الشريف المرتضى قدس سرهبالفاضل البارع كرم اللّه وجهه . يقول الشريف المرتضى قدس سره في خاتمة الكتاب : «ولم نورد فيما اعتمدناه إلاّ ما هو طريق للعلم وموجب لليقين إلاّ ما استعملته في خلال ذلك من ذكر الأخبار الّتي ينقلها الفقهاء ويتداولونها في كتبهم ، محتجّين بها دون الأخبار الّتي تنقلها الشيعة الإمامية . وإنّما أوردنا هذه الاخبار _ وهي واردة من طريق الآحاد ، ولا علم يحصل عندها بالحكم المنقول _ على طريق المعارضة للخصوم ، والاستظهار في الاحتجاج عليهم بطرقهم واستدلالاتهم ، كما فعلناه مثل ذلك في كتابنا مسائل الخلاف، وإن كنّا قد ضمّنا في ذلك الكتاب إلى الاحتجاج على المخالفين لنا بأخبار الآحاد الاحتجاج عليهم بالقياس على سبيل المعارضة لهم». (4) وأكّد في مواضع عديدة من كتبه على هذه القضية : «ويجوز أن نعارض مخالفينا ونلزمهم على اُصولهم أن يرجعوا به عن مذاهبهم ، وإن لم يكن على سبيل الاستدلال منّا ، بالخبر الّذي يرويه... [و ]هذا الخبر ليس بدليل لنا في هذه المسألة ، فيلزمنا أن يكون مطابقا للمذهب ، وإنّما أوردناه على سبيل الإلزام والمعارضة». (5) ومن خلال البحث المركّز على هذين الكتابين تتضح المدرسة المنهجية في فقه الشريف المرتضى قدس سرهذاكرين ذلك على نقاط ، ومذيلينها بشواهد ليأنس القارئ ، ويخرج البحث من جفافه ووعره .

.


1- . لا يخفى أنّ الفقه المقارن: هو جمع آراء الفقهاء في شتى المسائل الفقهية على صعيد واحد من دون إجراء موازنة بينها ، أمّا الخلاف فهو جمع الآراء الفقهية المختلفة وتقييمها والموازنة بينها بالتماس أدلّتها ، وترجيح بعضها على بعض .
2- . الانتصار : ص 76.
3- . المصدر السابق .
4- . المصدر السابق : ص 144 .
5- . مسائل الناصريات: ص 446.

ص: 96

. .

ص: 97

. .

ص: 98

إشكالات المحدثين

إشكالات المحدثينالمحدثون هم الّذين يكتفون بظواهر نقل الأخبار والرواية وقد تسربت عليهم مواضع كثيرة من الخلل والنقص ، وتطرّق إليهم الضعف والوهن في كثير من مأثوراتهم ونقولهم الروائية ، إلى حدٍّ كاد يفقدنا الثقة التامّة بكلّ مارووا وما استظهروه في ثنايا بحوثهم الروائية، (1) حيث وفرة أسباب الضعف والوهن في ذلك الخضم من المرويات في كتب الحديث والرواية ، حيث خلط سليمها بسقيمها بحيث خفي وجه الصواب. ولقد كانت كثرة المروي من ذلك الحشد الهائل من الأخبار والروايات جاوزت الحد في منظومة التراث الروائي ، وبخاصّة ما إذا وجدنا التناقض وتضارب الأقوال والمعتقدات والتزمت في الرأي والاعتقاد ، وما شابه ذلك من تبعات وويلات. وكثيرا ما نشهد تضادّ ما نسب إلى راوي واحد ، كما نسب إلى بعض المحدثين ، كلّ ذلك كان من أكبر عوامل زوال الثقة بهم أو بالأكثرية الساحقة منها، الأمر الّذي استدعى التثبت وإمعان النظر والبحث والتمحيص. (2) وقد كان أصحاب المسلك العقلي _ والّذين عليهم المدار في السجالات العقلية ، وخصوصا رواد المسلك الكلامي ، الّذين أشبعت توجيهاتهم بالمداق والفذلكات الدقيقة والمتشعبة _ الدور الرئيسي في مواجهة المحدثين منذ بزوغ الرسالة حتّى يومنا الحاضر ، وقد نسبوهم إلى التقليد والتسليم والتفويض. ومن بين هؤلاء الأعلام الشريف المرتضى قدس سره المنخرط في المسلك الكلامي والعقلي ، فقد كانت مسالكه معروفة في هذا المجال، وكان يعتقد أنّ الحجج العقلية والظواهر القرآن ية هي خير سبيل لحفظ الأصالة الإسلاميّة من الوقوع في ورطة السذاجة والبساطة. يقول الشريف المرتضى قدس سره: « إنّ المعول فيما يعتقد على ما تدلّ الأدلّة عليه من نفي وإثبات، فإذا دلّت الأدلة على أمر من الاُمور وجب أن نبني كلّ وارد من الأخبار إذ كان ظاهره بخلافه عليه، ونسوقه إليه، ونطابق بينه وبينه، ونجلي ظاهرا إن كان له، ونشرط إن كان مطلقا، ونخصّه إن كان عاما، ونفصله إن كان مجملاً، ونوفق بينه وبين الأدلّة من كلّ طريق اقتضى الموافقة وآل إلى المطابقة . وإذا كنّا نفعل ذلك ولا نحتشمه في ظواهر القرآن المقطوع على صحّته المعلوم وروده، فكيف نتوقّف عن ذلك في أخبار آحاد لا توجب علما ولا تثمر يقينا ؟ ! فمتى وردت عليك أخبار فاعرضها على هذه الجملة وابنها عليها، وافعل فيها ما حكمت به الأدلّة وأوجبته الحجج العقلية ، وإن تعذر فيها بناء وتأويل وتخريج وتنزيل فليس غير الإطراح لها وترك التعريج عليها» (3) فهذا المقياس الّذي أشار اليه قدس سره قلّما تفلت منه رواية أو خبر . وقبل أن ندخل إلى صلب الموضوع لابدَّ أن نعرف أنّ الخبر والرواية ينتميان إلى المحدثين ، وهؤلاء الثُلة بما أنّهم محدثون قد نسب إليهم الشريف المرتضى قدس سرهالتقليد والتسليم والتفويض ، وعلى هذا المنطق في الرؤية سوف تخرج أقوال هؤلاء عن منطق البحث العلمي . فقد جعلهم الشريف المرتضى قدس سره من المنتسبين إلى أصحابه الإمامية ، ولا اعتبار بخلافهم ؛ لأنّ الخلاف _ كما يقول _ إنّما يفيد إذا وقع ممّن بمثله اعتبار في الإجماع من أهل العلم والفضل والرواية والتحصيل. يقول الشريف المرتضى قدس سره _ في مسألة رؤية الهلال وخلاف المحدث _ : «والّذين خالفوا من أصحابنا في هذه المسألة عدد يسير ممّن ليس قوله بحجّة في الاُصول ولا في الفروع ، وليس ممّن كلف النظر في هذه المسألة ، ولا ما في أجلى منها ؛ لقصور فهمه ، ونقصان فطنه . وما لأصحاب الحديث الّذين لم يعرفوا الحقّ في الاُصول ولا اعتقدوها بحجّة ولا نظر ، بل هم مقلدون فيها ، والكلام في هذه المسائل وليسوا بأهل نظر فيها ، ولا اجتهاد ، ولا وصول إلى الحقّ بالحجّة ، وإنّما تعديلهم على التقليد والتسليم والتفويض». (4) وهذا قريب من الحقّ خصوصا على مباني الشريف المرتضى قدس سرهالّذي توزّعت جميع جهوده بين العقل ومنطق ظواهر القرآن الكريم وصريح الظواهر، فما يحمله أصحاب الحديث من الجمود على النصوص من غير أن يشهدوا العقل وقرائنه ، وخير دليل على ما يقوله الشريف المرتضى قدس سره: «إنّ الصحيح من المذهب اعتبار الرؤية في الشهور كلّها دون العدد، وأنّ شهر رمضان كغيره من الشهور في أنّه يجوز أن يكون تامّا وناقصا. ولم يقل بخلاف ذلك من أصحابنا إلاّ شذاذ خالفوا الاُصول وقلّدوا قوما من الغلاة تمسّكوا بأخبار رويت عن أئمتنا عليهم السلام غير صحيحة ولا معتمدة ولا ثابتة . . . » (5) . وهذا الاعتقاد في أهل الغلو يتماشى مع مسلك الشريف المرتضى قدس سره ، فإنّ هؤلاء من الثُلة تأخذ بالخبر على علاته من دون تمحيص وتدقيق ، وهو لا يلائم عرض الأخبار على العقل والسِّجالات المنطقية.

.


1- . التفسير والمفسرون للذهبي : ج 1 ص 156 .
2- . انظر: التفسير والمفسرون للشيخ محمّد هادي معرفة : ج 2 ص 30 _ 29.
3- . أمالي المرتضى (غرر الفوائد ودرر القلائد) : ج 2 ص 351.
4- . رسالة في الرد على أصحاب العدد : ص 18 ( رسائل الشريف المرتضى، المجموعة الثانية) .
5- . جوابات المسائل الطبرية : ص 157 ( رسائل الشريف المرتضى ، المجموعة الاُولى ) .

ص: 99

. .

ص: 100

ابن الجنيد وإشكالات المراسيل والشذوذ في الأخبار

ابن الجنيد وإشكالات المراسيل والشذوذ في الأخباريعتبر ابن الجنيد الإسكافي من فقهاء المسلمين ومن أعلامهم وأعاظم مجتهديهم. وكان من الطليعة الأوائل الّذين أسهموا في صياغة وتأسيس الإطار العلمي للمذهب ، وحفظ هويته في المدرسة الفقهية البغدادية الكبرى في القرن الرابع الهجري. وهذا الجليل كان وجه في الطائفة الإمامية ، ثقة جليل _ كما وصفه النجاشي قدس سره _ في رجاله (1) . نعم ، قال الشيخ الطوسي قدس سره : كان جيّد التصنيف حسنه إلاّ أنّه كان يرى القول بالقياس ، فتركت لذلك كتبه ، ولم يعوّل عليها. (2) إلاّ إنّ الّذي يهمّنا في المقام أنّ الشهيد الأوّل قدس سره اعتبر مراسيله لوثاقته، (3) وقبله الشيخ المفيد قدس سرهعندما قال: «فأمّا كتب أبي علي بن الجنيد فقد حشاها بأحكام عمل فيها على الظن، واستعمل فيها مذهب المخالفين في القياس الرَّذل ، فخلط بين المنقول عن الأئمّة عليهم السلام وبين ما قال برأيه». (4) فهناك إشكال المراسيل والخلط في المنقولات في فكر ابن الجنيد قدس سره ، وهذا ما نظر اليه الشريف المرتضى قدس سره عندما نسبه إلى الشذوذ وإلى فاحش الاستنتاج،كما سيأتي .

.


1- . رجال النجاشي : ص 385 الرقم 1047 .
2- . الفهرست للطوسي : ص 134 الرقم 590 .
3- . ذكرى الشيعة (حجري) : ص 253 .
4- . المسائل السروية : ص 55 .

ص: 101

إشكالات آرائه النادرة

إشكالات آرائه النادرةربّما تعد مخالفات الإسكافي في آرائه النادرة لمشهور الإمامية أمرا طبيعيا ؛ فإنّ له مباني خاصّة في الفقه ، وأنّه كان يحتفظ بحرية الرأي واستقلاله من دون تأثر بفقه الآخرين واجتهاداتهم. (1) مضافا إلى أنّ شيخنا الإسكافي قدس سره خالف رأي معاصريه ، فذهب إلى حجّية خبر الواحد ، وقد عمل بهذا الرأي ، وأستند إليه في جملة واسعة من فتواه، (2) وأشار السيّد المرتضى قدس سره إلى وجود هذا الرأي عنده في بحث الشهادات من كتاب الانتصار. (3) بيد أنّا لم نقف على دليل لشيخنا الإسكافي قدس سرهفي مسلكه هذا. وعلى أي تقدير بوسعنا القول : إنّه أوّل فقيه واُصولي من الإمامية يؤمن بحجّية خبر الواحد بشكل مطلق، ومن ثمّ انفتح الباب على مصراعيه لدى باقي الاُصوليين ، فآمنوا أيضا بذلك، وصار هو الرأي السائد والمشهور لديهم. (4) ولا بدَّ من وقفة مع هذه الإشكالات ؛ لأنّ الفقيه الإسكافي لم يكن محدثا صرفا _ بالمعنى المعهود لاصطلاح المحدث _ إذا كانت طريقته تختلف عن طريقه مدرسة الحديث وفقهها ، فلم يكن ينظر إلى الحديث على أنّه كلّ شيء ؛ لتكون غايته في ضبطه وجمعه حسب ؛ ولذا لم نعهد له مؤلّفا في الحديث. بيد أنّ هذا لا يعني انقطاعه عن هذا العلم ، كيف ؟ ! وقد كان له شيوخ وطرق في الرواية، كما أنّ له روايات أسندها الفقهاء إليه نقلاً عن كتبه ، وفيها ما ينحصر طريقه به ، ولم ترد به الرواية عن غيره. (5) وقد ذكرنا نقول فقهائنا قدس سره حول روايات هذا الفقيه خصوصاً ما نقل عن الشهيد الأوّل قدس سرهوما نقله الشريف المرتضى قدس سره عنه من النقول بأسانيد متّصلة إلى أئمة العصمة والطاهرة عليهم السلام حيث نقل الشريف المرتضى قدس سره ، عن ابن الجنيد ، عن ابن محبوب ، عن محمّد بن مسلم ، عن أبي جعفر عليه السلام : إنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله قضى أن يتقدّم صاحب اليمين في المجلس بالكلام. (6) وقال السيّد المرتضى قدس سره في كتابه الانتصار : «قال ابن الجنيد : إلاّ أنّ ابن محبوب فسّر ذلك _ أي الحديث السابق _ في حديث رواه عن عبداللّه بن سنان ، عن أبي عبداللّه عليهم السلام أنّه قال: إذا تقدّمت مع خصم إلى والٍ أو قاضٍ فكن عن يمينه». (7) فعبارة الشريف المرتضى قدس سرهبالنسبة إلى الفقيه الإسكافي قدس سرهفيها نوع تسامح. وقد كرّر الشريف المرتضى قدس سره نقضه على الإسكافي في مواضع مختلفة : أ _ قال الشريف المرتضى قدس سره: وممّا انفردت به الإمامية : القول بأنّ الإبل إذا بلغت خمساً وعشرين ففيها خمس شياه ؛ لأنّ باقي الفقهاء يخالفون في ذلك ، ويوجبون في خمس وعشرين ابنة مخاض . . . . فإن قيل: قد خالفها أبو علي بن الجنيد في ذلك ، وقال: إنّ في خمس وعشرين ابنة مخاض . . . . قلنا: إجماع الإمامية قد تقدّم ابن الجنيد وتأخّر عنه،وإنّما عول ابن الجنيد في هذا المذهب على بعض الأخبار المروية عن أئمتنا عليهم السلام ،ومثل هذه الأخبار لايعوّل عليها. (8) ب _ قال الشريف المرتضى قدس سره: وممّا انفردت به الإمامية: القول بأنّ مَن فرّ بدراهم أو بدنانير من الزكاة فبَكها أو أبدل في الحول جنساً بغيره هرباً من وجوب الزكاة ، فإنّ الزكاة تجب عليه ، إذا كان قصده بما فعله الهرب منها، وإن كان له غرض آخر سوى الفِرار من الزكاة فلا زكاة عليه.... فإن قيل : قد ذكر أبو علي ابن الجنيد أنّ الزكاة لا تلزم الفار منها ببعض ما ذكرناه . قلنا : . . . إنّما عوّل ابن الجنيد على أخبار رويت عن أئمتنا عليهم السلام تتضمّن أنّه لا زكاة عليه وإن فرّ بما له . وبإزاء تلك الأخبار ما هو أظهر وأقوى وأولى وأوضح طريقاً تتضمّن أنّ الزكاة تلزمه. (9) وأصرح من هذين النصّين: ج _ قال الشريف المرتضى قدس سره في مسألة بيع الوقت: لا اعتبار بابن الجنيد . . . وإنّما عوّل في ذلك على ظنون وحسبان وأخبار شاذة لا يلتفت إلى مثلها. (10) فنسبة القول إليه على الظنون والحسبان والأخبار الشاذة هو نوع من تسطيع الوعي عن ابن الجنيد . د _ وكذلك الأمر بالنسبة إلى الزكاة وأنّها واجبة في جميع الحبوب الّتي تخرجها الأرض ، وإن زادت على التسعة الأصناف ، وأنّه روى في ذلك أخباراً كثيرة عن الأئمة الأطهار عليهم السلام . يقول الشريف المرتضى قدس سره: لا اعتبار بشذوذ ابن الجنيد.... (11) وفي نصّ آخر يجرح الشريف المرتضى قدس سره أكثر بالفقيه ابن الجنيد وينسبه إلى الغلط الفحش قائلاً : «وكان أبو علي بن الجنيد من جملة أصحابنا يمتنع من شهادة العبد وإن كان عدلاً، ولمّا تكلّم على ظواهر الآيات في الكتاب الّتي تعمّ العبد والحر ادّعى تخصيص الآيات بغير دليل، وزعم أنّ العبد من حيث لم يكن كف ءً للحرّ في دمه ، وكان ناقصاً عنه في أحكامه لم يدخل تحت الظواهر. وقال أيضاً: إنّ النساء قد تكنّ أقوى عدالة من الرجال ، ولم تكن شهادتهنّ مقبولة في كلّ ما يقبل فيه شهادة الرجال . يقول الشريف المرتضى قدس سره : وهذا منه غلط فاحش ؛ لأنّه إذا ادّعى أنّ الظواهر اختصّت بمن تتساوى أحكامه في الأحرار كان عليه الدليل؛ لأنّه ادّعى ما يخالف الظواهر، ولا يجوز رجوعه في ذلك إِلى أخبار الآحاد الّتي يرويها؛ لأنّا قد بيّنا ما في ذلك. فأمّا النساء فغير داخلات في الظواهر الّتي ذكرناها مثل قوله تعالى: « ذَوَيْ عَدْلٍ مِّنكُمْ » (12) ، وقوله تعالى: « شَهِيدَيْنِ مِن رِّجَالِكُمْ » (13) فما أخرجنا النساء من هذه الظواهر ؛ لأنهنّ ما دخلن فيها ، والعبيد العدول داخلون فيها بلا خلاف ، ويحتاج في إخراجهم إلى دليل». (14) نلاحظ في هذا النصّ المذكور _ الّذي نقله الشريف المرتضى قدس سره _ إنّ الإسكافيقام بتخصيص العمومات الكتابية ، مثل قوله تعالى: « ذَوَىْ عَدْلٍ مِّنكُمْ » وقوله تعالى: « شَهِيدَيْنِ مِن رِّجَالِكُمْ » بنكتة استفادها من الأخبار المروية في العبد ، وأنّه لا يساوي الحرّ في أحكامه ، ولذا افتى بخروجه من هذه العمومات ، وبعدم قبول شهادته . ويستفاد من هذا النصّ أيضا مسلكه في تخصيص العام الكتابي بخبر الواحد الأمر الّذي رفضه غيره من الاُصوليين . ولا يتبادر إلى ذهن القارئ من كلمة المحدثين هو : شمول البحث لوالد الشيخ الصدوق قدس سرهالمعروف بابن بابويه _ مثلاً _ وأشباهه الّذي يعدّ من المحدثين . وهذا واضح من السؤال الّذي سئل به الشريف المرتضى قدس سره : ما يشكل علينا من الفقه نأخذه من رسالة علي بن موسى بن بابويه القمّي ، أو من كتاب الشلمغاني ، أو من كتاب عبيداللّه الحلبي؟ فأجاب الشريف المرتضى قدس سره: «الرجوع إلى كتاب ابن بابويه وإلى كتاب الحلبي (15) أولى من الرجوع إلى كتاب الشلمغاني على كلّ حال». (16) ويعتبر هذا النصّ من الشريف المرتضى قدس سره بمثابة منهج اعتمده على كتب الحديث الّذي يتماشى مع المعروف ، من أنّ الأصحاب إذا أعوزتهم النصوص رجعوا إلى رسالة علي بن بابويه ؛ لأنّها بمثابة الحديث المأثور. وعلى كلّ لا يعتبر الفقيه ابن بابويه من عداد أصحاب الحديث الصرف ، وكذلك ابنه الجليل الفقيه الشيخ الصدوق قدس سره ؛ فإنّه قد ذكره الشريف المرتضى قدس سرهفي عدّة مواضع ، وذكر كتابه كتاب من لا يحضره الفقيه ، نعم ، في موضع واحد خدش في التفاته الفقهي ، بأنّ الأولى عليه أن يذكر بعض الروايات من الطرف المقابل مع أنّها موجودة في كتابه هذا. (17)

.


1- . انظر : مقالة الشيخ الخزرجي حول الفقيه الإسكافي في مجلة فقه أهل البيت عليهم السلام العدد ( 10 ) ص 229 _ 230 .
2- . انظر على سبيل المثال : الانتصار : ص 247 ، مختلف الشيعة : ج 7 ص 35 و ج 2 ص 171 ، 307 و ج 3 ص 44 .
3- . الانتصار : ص 247 .
4- . انظر مقالة الفاضل الخزرجي ، (المصدر السابق) : ص 227.
5- . انظر المصدر السابق : ص 228 .
6- . الانتصار : ص 244.
7- . المصدر السابق.
8- . المصدر السابق : ص 214 _ 215.
9- . المصدر السابق : ص 219 _ 220 .
10- . المصدر السابق : ص 470 .
11- . المصدر السابق : ص 210 .
12- . الطلاق : 2.
13- . البقرة : 282.
14- . الانتصار : ص 500 _ 501.
15- . يشير صاحب الجواهر رضى الله عنه إلى هذا المقطع ، قال: «الشيخ الثقة الجليل الفقيه عبيد اللّه بن علي بن أبي شعبة الحلبي في أصله الّذي أثنى عليه الصادق عليه السلام عند عرضه عليه وصحّحه واستحسنه ، وقال: «إنّه ليس لهؤلاء _ أي المخالفين _ مثله» وعدّه الصدوق . من الكتب المشهورة الّتي عليها المعول وإليها المرجع ، بل أمر المرتضى بالرجوع إليه وإلى رسالة ابن بابويه مقدما لهما على كتاب الشلمغاني ، لمّا سُئل عن أخذ ما يتشكل من الفقه من هذه الثلاثة». ( جواهر الكلام : ج 13 ص 58) .
16- . جوابات المسائل الميافارقيات : ص 279 ( رسائل الشريف المرتضى، المجموعة الاُولى).
17- . جوابات المسائل الموصليات الثانية : ص 176 _ 180 ( رسائل الشريف المرتضى ، المجموعة الاُولى ) .

ص: 102

. .

ص: 103

. .

ص: 104

. .

ص: 105

. .

ص: 106

. .

ص: 107

أخبار الآحاد

أخبار الآحادأكّد الشريف المرتضى قدس سره في عدّة مواضع في فقهه الاجتهادي ، وفي مواضع اُخرى كثيرة من بحوثه وكتبه : على أنّ أخبار الآحاد لا توجب علما ولا تقتضي قطعا ، (1) أو أنّها لا توجب عملاً كما لا توجب علما، (2) وإنّما تقتضي الأحكام بما يقتضي العلم، (3) أو أنّه ثبت أنّها لا توجب عملاً في الشريعة ، ولا يرجع بمثلها عمّا علم وقطع عليه (4) أو لا توجب علما ولا يقينا ، وأكثر ما توجبه _ مع السلامة التّامة _ الظن ، ولا يجوز الرجوع عن الأدلّة . . . ممّا يوجب العلم اليقين، (5) أو أنّها لا توجب الظن ، ولا تنتهي إلى العلم، (6) وما شابهها من التعابير الّتي هي صريحة في نفي صفة العلمية والعملية عن أخبار الآحاد ، بل صرّح أنّها لا يعمل عليها في الشريعة. (7) وصرّح في موضع آخر باقتران القياس وخبر الآحاد بأنّهما لا يمكن أن يكونا طريقا إلى العلم بشيء من الأحكام البتة ، والحال على ما نحن عليه من فقد دليل التعبد بهما . (8) ويعلل الشريف المرتضى قدس سره هذا الإصرار على هذه القضية بقضية منطقية تتألّف من صغرى وكبرى ونتيجة ، فهو يقول : 1 . إنّا لا نَأمن فيما تقدّم عليه من الحكم الّذي تضمّنه خبر الآحاد أن تكون مفسّرة . 2 . ولا نقطع على أن خبر الآحاد مصلحة . 3 . والإقدام على مثل العمل بخبر الآحاد قبيح. (9) ثمّ يترقّى الشريف المرتضى قدس سره في البحث حتّى ينسب إلى أصحابه من الإمامية: «أنّ أخبار الآحاد لا يجوز العمل بها ولا التعبد بأحكامها من طريق العقول». ولكنّه يتراجع قليلاً عن هذا الاختيار ويقتصر على القول: « وقد بيّنا في مواضع كثيرة : أنّ المذهب الصحيح هو تجويز ورود العبادة بالعمل بأخبار الآحاد من طريق العقول ، لكن ذلك ما ورد ولا تعبدنا به ، فنحن لا نعمل بها ؛ لأنّ التعبد بها مفقود ، وإن كان جائزا ». (10) وقد يبدو تهافتا في البين نتيجة لقوله يستلزم العمل بخبر الآحاد المفسدة ، وبين قوله بجواز ورود العبادة بالعمل بأخبار الآحاد من طريق العقول، ولكنّه يجيب عن هذا الإشكال قائلاً: «إذا فرضنا ورود العبادة بالعمل بأخبار الآحاد أمنا أن يكون الإقدام عليها مفسدة ؛ لأنّه لو كان مفسدة أو قبيحا لما وردت العبادة به من الحكيم تعالى بالعمل بها ، فصار دليلاً على العمل بها ، يقطع معه أنّ العمل مصلحة وليس بمفسدة، كما يقطع على ذلك مع العلم بصدق الراوي. وإذا لم ترد العبادة بالعمل بأخبار الآحاد وجوّزنا كذب الراوي فالتجويز لكون العمل بقوله مفسدة ثابتة، ومع هذا التجويز لا يجوز الإقدام على الفعل، لإنّا لا نأمن من كونه مفسدة، فصارت هذه الأخبار الّتي تروى في هذا الباب غير حجّة ، وما ليس كذلك لا يعمل به ، ولا يلتفت إليه». (11) ويلخّص الشريف المرتضى قدس سره في نهاية البحث : إنّ الاعتماد على أخبار الآحاد ، هو التعويل على سراب بقيعة، (12) حتّى إنّه في رسالته في الرد على أصحاب العدد يخالف مقاطع كثيرة من عباراته الاُخرى الّتي صرح فيها أنّه لو كان الخبر لا بأس بتأويله بوجه لا ينافي العقول _ كما يأتي الإشارة إليها في بحوثه مع القاضي عبدالجبار المعتزلي ، وفي تأسيساته في تنزيه الأنبياء عليهم السلام _ ولكنّه يقطع هنا قائلاً : « ولا يجب علينا أن نتأوّل خبرا لا نقطع به ولا نعلم صحّته »؛ (13) وليس ذلك إلاّ لأجل أنّ هذه تدخل تحت البحوث الفقهية والاجتهادية ، ولا معنى للتأويل . نعم ، هو يستدرك قائلاً بأنّه يمكن على سبيل التسهيل ذكر تأويلاً للخبر وإن لم يكن ذلك واجبا، (14) وهذا التنبيه ، وهو ما تعورف عليه الآن في مباحث الاُصول بالتسامح في أدلّة السنن . ولكن الإصرار الشديد على هذه المسألة ؛ لأجل أنّ المخالفين اعتمادهم على أخبار الآحاد ، كما يقوله الشريف المرتضى قدس سره. (15) ولا استغراب في ذلك ؛ فإنّ العمل من الإمامية كان برفض خبر الواحد حتّى زمان الشريف المرتضى قدس سرهوبعد زمانه بكثير ، كما يأتي بحث ذلك مفصّلاً في خبر الواحد في الفصل الاُصولي إن شاء اللّه تعالى.

.


1- . الانتصار : ص 214، 217، 351، وجوابات المسائل الموصليات الثالثة : ص 235، 242 ( رسائل الشريف المرتضى، المجموعة الاُولى).
2- . الانتصار : ص 235، 519، وجوابات المسائل الموصليات الثالثة : ص 260 _ 261 ( رسائل الشريف المرتضى ، المجموعة الاُولى) .
3- . الانتصار : ص 351، 519.
4- . المصدر السابق : ص 269 .
5- . المصدر السابق : ص 391.
6- . المصدر السابق : ص 498.
7- . المصدر السابق : ص 120، 182.
8- . مناظرة الخصوم وكيفية الاستدلال عليهم : ص 123 _ 124 ( رسائل الشريف المرتضى ، المجموعة الثانية ) .
9- . رسالة في الرد على أصحاب العدد : ص 30 ( رسائل الشريف المرتضى ، المجموعة الثانية ) .
10- . المصدر السابق.
11- . المصدر السابق : ص 30 _ 31.
12- . المصدر السابق : ص 47 .
13- . المصدر السابق .
14- . المصدر السابق .
15- . الانتصار : ص 117 ، 385 ، 408 ، 434 .

ص: 108

. .

ص: 109

. .

ص: 110

ملاكات ضعف الخبر

ملاكات ضعف الخبرهناك بعض الوجهات الرجالية في تضعيف سند بعض الأخبار تنمّ عن دقّة الشريف المرتضى قدس سرهالرجالية ، فهو يقول: «وهذا خبر لم يروه أحد من أصحاب الحديث إلاّ من طريق ابن طاووس ، ولا رواه ابن طاووس إلاّ عن أبيه عن ابن عبّاس ، ولم يقل ابن عبّاس فيه : سمعت ولا حدّثنا ». (1) ويتوسّع البحث أكثر عند الشريف المرتضى قدس سره ليشمل صورة اختلاف لفظ الحديث مع وحدة الطريق ، فيجعل ذلك علامة على ضعف الخبر يقول بعد البحث السابق : وطاووس يسنده تارةً إلى ابن عبّاس في رواية وهيب ومعمر . وتارةً اُخرى : يرويه عنه الثوري وعليّ بن عاصم ، عن أبيه مرسلاً غير مذكور فيه ابن عبّاس، فيقول الثوري وعليّ بن عاصم ، عن ابن طاووس ، عن أبيه ، قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله . ثمّ هو مختلف اللفظ ؛ لأنّه يروي : فما أبقت الفرائض فلأولي ذكر. وروي أيضا : فلأولي عصبة قرب . وروي أيضا : فالأولي عصبة ذكر . وفي رواية اُخرى : فلأولي رجل ذكر عصبة، واختلاف لفظه والطريق واحد يدلّ على ضعفه. وقد خالف ابن عبّاس الّذي يسند هذا الخبر إليه ما أجمع متقبّلو هذا الخبر عليه في توريث الاُخت بالتعصيب ؛ إذا خلّف الميت ابنة واُختا على ما قدّمناه وحكيناه عنه، وراوي الخبر إذا خالف معناه كان فيه ماهو معلوم. (2) فنرى الشريف المرتضى قدس سره هنا يطرح ملاكين في ضعف الخبر: 1 . اختلاف لفظ الخبر ، والطريق واحد يدلّ على ضعفه. 2 . إذا كان راوي الخبر يخالف ما رواه كان فيه ماهو معلوم. ويشير الشريف المرتضى قدس سره إلى الملاك الأوّل في موضع آخر قائلاً: «وقد روى هذا الحديث بعينه الزهري فقال: عن عمرو بن عثمان ، ولم يذكر علي بن الحسين عليهماالسلامواختلاف الرواية أيضا فيه ممّا يضعفه». (3) ويؤكّد الشريف المرتضى قدس سره على ملاكات اُخرى ، وهي : 3 . تفرد الراوي بالخبر ، فهو يقول بهذا الصدد : «فأمّا خبر اُسامة فمقدوح فيه؛ لأنّ اُسامة تفرد به عن النبيّ صلى الله عليه و آله . وتفرد به أيضا عنه عمرو بن عثمان . وتفرد به الزهري عن علي بن الحسين عليهماالسلام . وتفرد الراوي بالحديث ممّا يوهنه ويضعفه لوجوه معروفة». (4) ويقول أيضا : «فأمّا خبر شهر بن حوشب . . . فإنّه تفرد به عن عبدالرحمن بن عثمان ، وتفرد به عبد الرحمن عن عمرو بن خارجة ، وليس لعمرو بن خارجة عن النبي صلى الله عليه و آله إلاّ هذا الحديث ، ومن البعيد أن يخطب النبيّ صلى الله عليه و آله في الموسم ، بأنّه لا وصية لوارث ، فلا يرويه عنه المطيفون به من أصحابه ، ويرويه أعرابي مجهول ، وهو عمرو بن خارجة ، ثمّ لا يرويه عن عمرو إلاّ عبدالرحمن ، ولا يرويه عن عبدالرحمن إلاّ شهر بن حوشب ، وهو ضعيف متّهم عند جميع الرواة ». (5) نعم ، يستدرك السيّد المرتضى قدس سره أمرا مهمّا قائلاً : « إنّه لايلتفت إلى ما يروى ممّا يخالف هذه الظواهر من الطرق الشيعية ولا الطرق العامية وإن كثرت ؛ لأنّها تقتضي الظن ، ولا تنتهي إلى العلم . وهذه الظواهر الّتي ذكرناها توجب العلم ، ولا يرجّح عنها بما يقتضي الظن ، وهذه الطريقة هي الّتي يجب الرجوع إليها والتعويل عليها ، وهي مزيلة لكلّ شغب في هذه المسألة ». (6) 4 . وأحد المضعفات في حاق الخبر : هو معارضة أخبار الشيعة لأخبار الجمهور ، يقول الشريف المرتضى قدس سره : « فإن ذكروا في ذلك أخبارا يروونها ، فكلّها أخبار آحاد . . . وهي معارضة بأخبار ترويها الشيعة تتضمّن أنّ الطلاق . . . ». (7) ويتنبه الشريف المرتضى قدس سره إلى تهافت صريح في هذا المعتقد ، فيقول: « وليس لهم أن يقولوا : هذه أخبار لا نعرفها ولا رويناها ، فلا يجب العمل بها . قلنا: شروط الخبر الّذي يوجب العمل عندكم قائمة في هذه الأخبار ، فابحثوا عن رواتها وطرقها لتعلموا ذلك ، وليس كلّ شيء لم تألفوه وترووه لا حجّة فيه ، بل الحجّة فيما حصلت له شرائط الحجّة من الأخبار ». (8) هذا ويؤكّد الشريف المرتضى قدس سره على التمسّك بأخبار أهل البيت عليهم السلام ، وعن طريقهم تقام دعائم المذهب الإمامي ، فليس أخبار الإمامية بما هم فرقة لها الحجّية والاعتبار ، وإنّما لأجل تمسّكهم بأهل البيت عليهم السلام وهم الوسائط إلى الحقّ الصريح ؛ فإنّهم النجوم الزاهرة كزين العابدين والباقر والصادق والكاظم عليهم السلام يقول الشريف المرتضى قدس سرهمعقباً على هذا : « وهؤلاء عليهم السلام أعرف بمذهب أبيهم _ صلوات اللّه عليه _ ممّن نقل خلاف ما نقلوه ». (9) وعن طريق هذا الاستدلال استطاع الشريف المرتضى قدس سره أن يوجّه أخبار الإمامية ، حيث إنّ هناك أخبارا روتها ، وهي مأخوذة عن أئمتهم عليهم السلام ولابدّ أنّ مصدر الأئمّة عليهم السلام هو جدّهم الإمام علي عليه السلام الّذي تسالم الفريقين بالأخذ بأقواله وأفعاله . 5 . ينفرد الشريف المرتضى قدس سره _ على الظاهر _ بتضعيف آخر حائز على أهمية بالغة ، ولكنّه يحتاج إلى شامة وذوق فقهي دقيق قلّما يصل إليه الفقيه إلاّ بتمعّن ودراسة واسعة لجميع فروع الحكم ، وهو أنّ بعض الرواة وضع بعض الأخبار ورتّبها على حسب توجهه الفقهي ، وقد احترس هذا الراوي عن المطاعن الموجّهة إليه بعد ذلك ، واستعمل من الألفاظ ما لايدخله الاحتمال والتأويل . وتوضيح ذلك : بعض الأخبار تدلّ على مذهب أصحاب العدد ، وأنّه هل هو ثلاثون أو تسعة وعشرون يوماً ؟ وقد سئل الشريف المرتضى قدس سره سائلاً ، فقال: دليل آخر من جهة الأثر : وهو ماروى الشيخ أبو جعفر محمّد بن بابويه القمّي رضى الله عنهفي رسالته إلى حمّاد بن علي الفارسي في الردّ على الجنيدية . وذكر بإسناده عن محمّد بن يعقوب بن شعيب ، عن أبيه، عن أبي جعفر عليه السلام قال: قلت له: إنّ الناس يروون أنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله صام شهر رمضان تسعة وعشرين يوماً أكثر ممّا صامه ثلاثين . فقال : كذبوا ماصام رسول اللّه صلى الله عليه و آله إلاّ تامّاً ، ولا يكون الفرائض ناقصة ، إنّ اللّه تعالى خلق السنّة ثلاثمئة وستّين يوماً، وخلق السماوات والأرض في ستّة أيام يحجزها من ثلاثمئة وستّين يوماً، فالسنّة ثلاثمئة وأربعة وخمسون يوماً. وهو : شهر رمضان ثلاثون يوماً لقول اللّه تعالى « وَلِتُكْمِلُواْ الْعِدَّةَ » (10) والكامل تامّ، وشوال تسعة وعشرون يوماً، وذوالقعدة ثلاثون يوماً ، لقول اللّه تعالى « وَوَ عَدْنَا مُوسَى ثَلَ_ثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَ_هَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَ_تُ رَبِّهِى أَرْبَعِينَ لَيْلِةً » (11) والشهر هكذا شهر تامّ وشهر ناقص، وشهر رمضان لا ينقص أبداً، وشعبان لا يتمّ أبداً. وهذا الخبر يغني عن إيراد غيره من الأخبار ؛ لما يتضمّنه من النصّ الصريح على صحّة المذهب ويحويه من البيان . قال الشريف المرتضى قدس سره : « أمّا هذا الخبر فكأنّه موضوع ومرتب على مذهب أصحاب العدد ؛ لأنّه على ترتيب مذهبهم ، وقد احترس فيه من المطاعن ، واستعمل من الألفاظ مالايدخله الاحتمال والتأويل ، ولا حجّة في هذا الخبر ولا في أمثاله على كلّ حال». (12) 6 . وأحد الملاكات في ضعف الخبر : هو عدم وضوح منطق الخبر في أنّه تفسير أو توقيف ، كما ورد عن عبداللّه بن عبّاس رضى الله عنه في تفسير قوله تعالى: « حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَ_تُكُمْ...وَأُمَّهَ_تُ نِسَآل_ءِكُمْ وَرَبَ_ل_ءِبُكُمُ الَّ_تِي فِى حُجُورِكُم مِّن نِّسَآل_ءِكُمُ الَّ_تِي دَخَلْتُم بِهِنَّ» . (13) يقول الشريف المرتضى قدس سره: «وقد روي عن ابن عبّاس أنّه قال في تفسير هذه الآية : ابهموا ما أبهم اللّه . (14) وروي أيضا أنّه قال: تحريم اُمهات النساء مبهم ». (15) ويعلّق الشريف المرتضى قدس سره قائلاً : «فأمّا أن يكون قاله تفسيراً أو توقيفاً ، فإن قاله توقيفاً فالمصير إليه واجب ، وإن قاله تفسيراً من قبل نفسه فلم يخالفه مخالف ». (16) وهذا الملاك بروحه يرجع إلى الشامة الفقهية للفقيه ، ويتّحد مع الملاك السابق الّذي يحتاج إلى دراسة دقيقة وواسعة في منطق الأخبار ، ليعرف الفقيه التفسير من التوقيف حتّى أنّ الشريف المرتضى قدس سره توقّف في دلالة هذا الخبر عن ابن عبّاس رضى الله عنه. 7 . ويمكن عدّ التعارض بين أخبار الجمهور فيما بينها هو أحد المضعّفات على مسالك الجمهور حيث يقول الشريف المرتضى قدس سره: « وبعد فهذه الأخبار معارضة بأخبار مثلها تجري مجراها في ورودها من طرق المخالفين لنا، وتوجد في كتبهم وفيما ينقلونه عن شيوخهم ، ونترك ذكر ما ترويه الشيعة وتنفرد به في هذا الباب ؛ فإنّه أكثر عدداً من الرمل والحصى». (17) وقريب من هذا المعنى ما قاله: «إنّ أخبارهم معارضة بأخبار موجودة في رواياتهم وكتبهم...». (18) وفي خاتمة هذا التضعيف نرى الشريف المرتضى قدس سره يؤكّد على أنّ هذا الاضطراب يستوعب جميع التراث الروائي لأهل السنّة، قائلاً : «وهذه الطريقة الّتي سلكناها يمكن أن تنصر [تطرد ، خ] في جميع أخبارهم الّتي يتعلّقون بها ممّا يتضمّن وقوع طلاق ثلاث ، فقد فتحنا طريق الكلام على ذلك كلّه ونهجناه ، فلا معنى للتطويل بذكر جميع الأخبار». (19) 8 . وهناك تضعيف آخر قد يعتبر جزئياً ، ولكنّه إذا توجّه إليه يعتبر كلياً ، وهو سرايته إلى جميع الأخبار : وهو غلط الراوي في بعض ألفاظ الرواية ، يقول قدس سره : «فإن تعلّق المخالف بما روي: من أنّ امرأة جاءت إلى النبيّ صلى الله عليه و آله فقالت: يا رسول اللّه ، إنّي قد وهبت لك نفسي. فقال صلى الله عليه و آله : « مالي في النساء من حاجة » . فقام إليه رجل فقال: زوجنيها يا رسول اللّه . فقال : « ملكتكها بما معك من القرآن ». (20) ويجيب الشريف المرتضى قدس سره على هذا الخبر قائلاً: «والجواب عن هذا الخبر بعينه ما روي : أنّه عليه السلام قال له : « زوجتكها » . وقيل : إنّ الراوي غلط في نقله: «ملكتكها » ، فأقل ما في الباب أن نتوقّف مع الاشتباه، فلايكون في الخبر دليل لهم». (21) وهناك بعض الملاكات في ضعف الخبر ، ولكنّها ليست هي قواعد عامّة يمكن جعلها مناهج كلّية في هذا المجال ، مثل: 9 . الإرسال : كما ورد ذلك في خبر الضحّاك ، الّذي ادعى الشريف المرتضى قدس سرهأنّه روى عن النبيّ صلى الله عليه و آله مرسلاً. (22) 10 . قد جعل الشريف المرتضى قدس سره إنكار الزهري للحديث أحد المضعّفات للخبر ، يقول في هذا المجال: «فالجواب عنه أنّ هذا هو خبر واحد ، وهو مع ذلك مطعون في طريقه ، والزهري قد أنكره ، ومداره عليه». (23) 11 . طرح الشريف المرتضى قدس سره بعض الأخبار وأورد على مضامينها أنّها مخالفة للصور والقياسات المنطقية ، كما ورد في كيفية الترتيب بين اليدين ، قال الشريف المرتضى قدس سره : «ويمكن أيضا أن يحتجّ في ذلك عليهم بما يروونه من قوله عليه السلام : «وقد توضأ مرّة مرّة: هذا وضوء لايقبل اللّه الصلاة إلاّ به » . ويقول الشريف المرتضى قدس سره : « فلا يخلو أن يكون قدم اليمنى أواخرها، فإن كان قدّمها وجب نفي إجزاء تأخيرها ، وإن كان أخّرها وجب نفي إجزاء تقديمها ، ولى سهذا بقول لأحد من الاُمّة ». (24) وفي مطاف البحث يشير الشريف المرتضى قدس سره إلى مسألة في غاية الأهمية ، وهي أنّه قد تطرح بعض الأخبار وتجعل في خانة المضعّفات ؛ نتيجة لغرابتها على أذهاننا ، ولكن بأدنى توجّه نستسيغ الخبر ونقبله . ويقول الشريف المرتضى قدس سره: « وممّا انفردت به الإماميّة: استحبابهم أن يدّرج مع الميّت في أكفانه جريدتان خضراوان رطبتان من جرائد النخل ، طول كلّ واحدة عظم الذراع. وقد روي من طرق معروفة : إنّ سفيان الثوري سأل يحيى بن عبادة المكّي عن التخضير، فقال: إنّ رجلاً من الأنصار هلك ، فاُوذن رسول اللّه صلى الله عليه و آله ، فقال: خضّروا صاحبكم فما أقلّ المتخضّرين يوم القيامة، قالوا: وما التخضير؟ قال: جريدة خضراء توضع من أصل اليدين إلى أصل الترقوة. وقد قيل: إنّ الأصل في الجريدة أنّ اللّه تعالى لمّا هبط آدم عليه السلام من الجنّة إلى الأرض استوحش وشكا ذلك إلى جبرئيل عليه السلام وسأله أن يسأل اللّه _ جلّ ثناؤه _ أن يؤنسه بشيء من الجنّة، فأنزل اللّه _ جلّ وعلا _ عليه النخلة ، فعرفها ، وأنس بها ؛ ولذلك قيل: إنّ النخلة عمّتكم؛ لأنّها كانت كالاُخت لآدم عليه السلام ، فلمّا حضرته الوفاة ، قال لولده: اجعلوا معي من هذه النخلة شيئاً في قبري ، فجعلت معه الجريدة ، وجرت السنّة بذلك. وليس ينبغي أن يعجب من ذلك، فالشرائع المجهولة العلل لا يعجب منه ، وما التعجب من ذلك إلاّ كتعجب الملحدين من الطواف بالبيت ، ورمي الجمار ، وتقبيل الحجر ، ومن غسل الميت نفسه وتكفينه مع سقوط التكليف عنه». (25)

.


1- . المصدر السابق : ص 554 .
2- . المصدر السابق : ص 55، وانظر: مسائل الناصريات : ص 408.
3- . الانتصار : ص 589 _ 590.
4- . المصدر السابق : ص 589 .
5- . المصدر السابق : ص 599 _ 600 .
6- . المصدر السابق : ص 500 .
7- . المصدر السابق : ص 303 .
8- . المصدر السابق : ص 263 .
9- . المصدر السابق : ص 565 _ 566 .
10- . البقرة : 185 .
11- . الأعراف : 142 .
12- . رسالة في الرد على أصحاب العدد : ص 29 _ 30 ( رسائل الشريف المرتضى ، المجموعة الثانية ) .
13- . النساء : 23 .
14- . البحر الزخار : ج 4 ص 32.
15- . الجامع لأحكام القرآن للقرطبي : ج 5 ص 106.
16- . مسائل الناصريات : ص 318.
17- . الانتصار : ص 111.
18- . المصدر السابق : ص 313 ، 424 .
19- . المصدر السابق : ص 312 .
20- . سنن الترمذي : ج 3 ص 421 ح 1114 .
21- . مسائل الناصريات: ص 326 _ 327.
22- . الانتصار : ص 538.
23- . المصدر السابق : ص 283 .
24- . المصدر السابق : ص 102 .
25- . المصدر السابق : ص 131 _ 132 .

ص: 111

. .

ص: 112

. .

ص: 113

. .

ص: 114

. .

ص: 115

. .

ص: 116

. .

ص: 117

. .

ص: 118

التحقيق حول رواة الخبر

التحقيق حول رواة الخبرالسند وسلامته يشكل الحجر الأساس في المنظومة الاجتهادية ، والشريف المرتضى قدس سرهله اليد الطولى في هذا المجال ، ونأتي على ذلك بنماذج لنرى مقدار معطيات هذا المنهج عنه ، ثمّ بالقاسم المشترك بينها لنخرج بنتيجة منهجية في ذلك : 1 . يرى الشريف المرتضى قدس سره أنّ أبابكر بن أبي سبرة _ عند نقّاد الحديث _ : من الكذّابين. وما يرويه عن الحسين بن عبيداللّه بن عبداللّه بن عبّاس فهو أيضا عندهم من الضعفاء المطعون في روايتهم. (1) 2 . وينقل الشريف المرتضى قدس سره عن الساجي قوله: إنّ يزيد بن أبي زياد كان رفّاعاً ، ثمّ يفسّر كونه رفّاعاً ، أي يرفع إلى النبيّ صلى الله عليه و آله مالا أصل له. (2) 3 . ما ينقله الشريف المرتضى قدس سره عن المخالفين بما رووه عن قتادة ، عن سمرة ، عن الحسن بن محمّد . . . ، يقول : وقد طعن في هذا الخبر بأنّ قتادة دلّسه ، وقال: عن سمرة ولم يقل: حدّثني. (3) 4 . لا يقطع الشريف المرتضى قدس سره على أنّ هذيل بن شرحبيل مجهول ضعيف ؛ لأنّه ينقل ذلك بعنوان: قيل. (4) 5 . يقول الشريف المرتضى قدس سره: إنّ الحسن بن عمارة ضعيف عند أصحاب الحديث، ولمّا ولي المظالم ، قال سليمان بن مهران الأعمش : ظالم ولي المظالم. (5) 6 . وصرّح الشريف المرتضى قدس سره بأنّ عمرو بن شعيب مضعّف عند أصحاب الحديث. (6) 7 . يطرح الشريف المرتضى قدس سره في مسألة الوصية للوارث ثلاثة أخبار: الخبر الأوّل: ما رواه شهر بن حوشب ، عن عبدالرحمن بن عثمان ، عن عمرو بن خارجة ، عن النبيّ صلى الله عليه و آله وسلم . . . . الخبر الثاني: ما رواه إسماعيل بن عيّاش ، عن شرحبيل بن مسلم ، عن أبي أمامة الباهلي ، قال: سمعت النبيّ صلى الله عليه و آله وسلم ، يقول . . . . الخبر الثالث: ما رواه إسحاق بن إبراهيم الهروي ، عن سفيان بن عيينة ، عن عمرو بن دينار ، عن جابر بن عبداللّه ، عن النبيّ صلى الله عليه و آله وسلم أنّه قال : . . . . يقول الشريف المرتضى قدس سره: فأمّا خبر شهر بن حوشب فهو عند نقاد الحديث مضعّف كذّاب ، ومع ذلك فإنّه تفرد به عن عبدالرحمن بن عثمان ، وتفرد به عبدالرحمن عن عمرو بن خارجة ، وليس لعمرو بن خارجة عن النبيّ صلى الله عليه و آله إلاّ هذا الحديث. ومن البعيد أن يخطب النبيّ صلى الله عليه و آله في الموسم بأنّه لا وصيّة لوارث، فلا يرويه عنه المطيفون به من أصحابه، ويرويه أعرابي مجهول وهو عمرو بن خارجة، ثمّ لا يرويه عن عمرو إلاّ عبدالرحمن، ولا يرويه عن عبدالرحمن إلاّ شهر بن حوشب ، وهو ضعيف متّهم عند جميع الرواة. فأمّا حديث أبي أمامة فلا يثبت ، وهو مرسل؛ لأنّ الّذي رواه عنه شرحبيل بن مسلم، وهو لم يلق أبا اُمامة، ورواه عن شرحبيل إسماعيل بن عياش وحده ، وهو ضعيف. وحديث عمرو بن شعيب أيضاً مرسل، وعمرو ضعيف لا يحتجّ بحديثه . وحديث جابر أسنده أبو موسى الهروي ، وهو ضعيف متّهم في الحديث، وجميع من رواه عن عمرو بن دينار لم يذكروا جابراً ولم يسندوه. وما روي عن ابن عيّاش لا أصل له عند الحفّاظ، وراويه حجّاج بن محمّد ، عن ابن جريح ، عن عطاء الخراساني، وعطاء الخراساني ضعيف، ولم يلق ابن عيّاش وإنّما أرسله عنه. وربّما تعلّق بعض المخالفين بأنّ الوصيّة للوارث إيثار لبعضهم على بعض ؛ وذلك ممّا يكسب العداوة والبغضاء بين الأقارب، ويدعو إلى عقوق الموصي ، وقطيعة الرحم. وهذا ضعيف جدّاً ؛ لأنّه إن منع من الوصيّة للأقارب ما ذكروه منع من تفضيل بعضهم على بعض في الحياة بالبرّ والإحسان؛ لأنّ ذلك يدعو إلى الحسد والعداوة، ولاخلاف في جوازه ، وكذلك الأوّل. (7) والقاسم المشترك بين هذه التضعيفات هي ضعف الراوي ، ولكن كانت صور التضعيف على عدّة أشكال: أ _ كذّاب . و _ مجهول . ب _ ضعيف . ز _ ظالم . ج _ مطعون فيه . ح _ مضعّف . د _ رفّاع . ط _ متّهم في الحديث . ه_ _ مدلّس . ي _ لا يحتجّ بحديثه . وهذا المقدار من التضعيفات ممّا يستحقّ البحث والتحقيق ، وهي تنم على سعة اُفق الشريف المرتضى قدس سرهالرجالية خصوصاً ما رأيناه في النقطة السابعة ، فقد ردّ الخبر بأسانيده الثلاثة بتفصيل دقيق . نعم ، في بعض الأحيان يجمل الشريف المرتضى قدس سره القول في تضعيف الخبر ، ولايتعرّض إلى تفصيل الطعن ، أمّا لأجل وضوحه ، أو لأجل أسباب اُخرى ، كما يقول قدس سره : «إنّ هذا الخبر مطعون عليه عند أصحاب الحديث ، مقدوح في راويه». (8) مع أنّ الشريف المرتضى قدس سره لم يصرّح باسم الراوي ، وأصرح من هذا حيث يقول قدس سره: «على أنّ هذه الأخبار كلّها قد طعن أصحاب الحديث ونقاده على رواتها ، وضعّفوهم ، وقالوا في كلّ واحد منهم ما هو مسطور لامعنى للتطويل بإيراده». (9) وصرّح في مواضع اُخرى قائلاً : « إنّ هذا خبر واحد ، وإن كنّا لا نعرفه ولا ندري عدالة راويه ، وقد بيّناه في غير موضع أنّ أخبار الآحاد العدول لا تقبل في أحكام الشريعة » . (10) وأصرح من هذا النصّ قوله : « إنّ هذه أخبار آحاد تنفردون بها ، ولا نعرف عدالة رواتها ، ولا صفاتهم » . (11)

.


1- . المصدر السابق : ص 391 .
2- . المصدر السابق : ص 498، واُنظر تهذيب التهذيب : ج 11 ص 288.
3- . المصدر السابق : ص 517.
4- . المصدر السابق : ص 558.
5- . المصدر السابق : ص 566، واُنظر تهذيب الكمال : ج 6 ص 275.
6- . المصدر السابق : ص 590.
7- . المصدر السابق : ص 599 _ 600.
8- . مسائل الناصريات : ص 410.
9- . الانتصار : ص 269.
10- . المصدر السابق : ص 376 .
11- . المصدر السابق : ص 408 .

ص: 119

. .

ص: 120

. .

ص: 121

الظواهر والعموم في الأخبار

الظواهر والعموم في الأخبارأكّد الشريف المرتضى قدس سره في عدّة مواضع على أنّه لا يرجع عن ظواهر الكتاب المعلومة بما يقتضي الظن. (1) وأنّ اللجوء إلى الخبر الواحد أو القياس ما فيهما مايوجب العلم فيترك له ظاهر القرآن. (2) نعم ، في بعض تعابيره أنّ العمل بالكتاب أولى من العمل بالخبر، (3) لكنّه هو الاُسلوب المتبع في الناصريات الّذي فيه شيء من الرقّة واللطافة بالنسبة إلى الجمهور ، فحينئذٍ لاتصحّ مخالفة الكتاب بالخبر الواحد . (4) ولا يخصّ عموم الكتاب بأخبار الآحاد ولو ساغ العمل بها في الشريعة؛ (5) لأنّها توجب الظن ولايخصّ ولا يرجع عمّا يوجب العلم من ظواهر الكتاب. (6) وهذا الكلام من الشريف المرتضى قدس سره ما هو إلاّ تعريضاً بأخبار المخالفين ؛ لأنّهم يذهبون إلى تخصيص ظواهر القرآن الكريم بآخبار الآحاد ، أو أنّهم ينتقلون عن حكم الأصل في العقول بأخبار الآحاد ، أو أنّهم يعملون في الشريعة بأخبار الآحاد. (7) نعم ، غير خبر الواحد من الأخبار الّتي هي معلومة فهي تخصّ الكتاب ؛ لأنّ العموم قد يختصّ بدليل ، ويترك ظاهره بما يقتضي بتركه الظاهر. (8) يقول الشريف المرتضى قدس سره: « وليس لهم أن يقولوا : إنّنا نخصّ الآية الّتي ذكرتموها بالسنّة ؛ وذلك أنّ السنّة الّتي لا تقتضي العلم القاطع ، لا نخصّ بها القرآن كما لا ننسخه بها ، وإنّما يجوز بالسنّة أن نخصّ أو ننسخ إذا كانت تقتضي العلم اليقين . (9) وعلى هذا الأساس إذا تعارضت الأخبار سقط الاحتجاج بها ، ورجعنا إلى ظاهر نصّ الكتاب. (10) يقول الشريف المرتضى قدس سره : « أمر النبي صلى الله عليه و آله بالرجوع إلى الكتاب فيما التبس من الأخبار وعرضها عليه». (11) ويفصّل قدس سره في موضع آخر قائلاً : « إنّ الرسول أمرنا بالرجوع إلى الكتاب عند التباس الأخبار ، وقال : ستكثر عليّ الكذابة من بعدي فما ورد من خبر فاعرضوه على الكتاب . . . . والأخذ بما يوافقه دون ما يخالفه . . . ؛ لأنّ الكتاب أصل ودليل على كلّ حال ، وحجّة في كلّ موضع ، والأخبار ليست كذلك ، فعرضنا مالم نعلم صحّته منها على الكتاب الّذي هو الدليل والحجّة على كلّ حال وفي كلّ وقت». (12) ومن هذا المنظار والمنطلق ينجرّ البحث إلى نفس الخبر وحده فلايمكن تخصيص ظاهره ، بل يبقى على إطلاقه وعمومه ، يقول الشريف المرتضى قدس سره : « وليس لأحد أن يصرف ذكر النوم في الأخبار الّتي ذكرناها . . . ؛ وذلك أنّ الظاهر يقتضي عموم الكلام وتعلّقه بكلّ من يتناول الاسم ، وتعلّقه بنوم دون نوم تخصيص للعموم بلا دلالة»، (13) فيقدّم من الأخبار ما هو أظهر وأقوى وأولى وأوضح طريقاً. (14) وكذلك البحث في تعارض الخبرين ، كما إذا ورد خبر عام اللفظ وآخر خاص ، فيبنى العام على الخاص ؛ لكي يستعمل الخبرين ولا يطرح أحدهما. (15) يقول الشريف المرتضى قدس سره: وهذه الرواية أولى من روايتهم ؛ لأنّها تثبت الإعادة وتلك تنفيها». (16) فأصالة الإثبات مقدّمة على أصالة النفي. نعم ، لم يرتض الشريف المرتضى قدس سره تقديم تأويلات بعض الأخبار على بعض ؛ لأجل أنّ هذا ترك للظاهر بعيد التأويل ؛ فإنّ الظاهر يقضي عليه. (17) يقول الشريف المرتضى قدس سره : « إذا تعارضت الأخبار سقط الاحتجاج بها ورجعنا إلى ظاهر نصّ الكتاب ». (18) فالظاهر عند الشريف المرتضى قدس سرهبمكان من الأهمية ، ويقول أيضا : «وهذان الوجهان فيها على كلّ حال ترك لظاهر الخبر ؛ لإدخال زيادة ليست في الظاهر والتأويل الأوّل . . . مطابق للظاهر وغير مخالف له». (19) ومن هذا المساق يلحق ادعاء الحذف في الأخبار ، حيث يقول قدس سره : «الكلام على ظاهره، ولا له أن يدعي حذفا في الخبر . . . ؛ لأنّ الظاهر لا يقتضي الحرف، ونحن مع الظاهر». (20) وأكّد الشريف المرتضى قدس سره على قيدين آخرين ، واعتبرهما أحد المرجّحات الدلالية في الخبر ، وهما : 1 . ما كان له مخرج في اللغة . 2 . ما كان له تأويل معقول . يقول الشريف المرتضى قدس سره في هذا المجال : «ولا أرى لإحدى الروايتين على الاُخرى رجحانا ؛ لأنّ كلّ واحدة منهما قد أتت من جهة من يسكن إلى قوله، ولكل منهما مخرج في اللغة ، وتأويل يرجع إلى معنى واحد ». (21)

.


1- . الانتصار : ص 111، 432، 518، 583، مسائل الناصريات : ص 423.
2- . الانتصار : ص 397.
3- . مسائل الناصريات : ص 408.
4- . الانتصار : ص 552، 557 .
5- . مسائل الناصريات : ص 276 ، 423 ، جوابات المسائل الموصليات الثالثة : ص 257 ، ( رسائل الشريف المرتضى ، المجموعة الاُولى ) .
6- . الانتصار : ص 588، 502، 517.
7- . الانتصار : ص 262 _ 263، جوابات المسائل الرازية : ص 100 ( رسائل الشريف المرتضى، المجموعة الاُولى ) .
8- . جوابات المسائل الموصليات الثانية : ص 190 ( رسائل الشريف المرتضى، المجموعة الاُولى).
9- . الانتصار : ص 554.
10- . المصدر السابق : ص 92 .
11- . المصدر السابق : ص 54 .
12- . رسالة في الرد على أصحاب العدد : ص 56 ( رسائل الشريف المرتضى، المجموعة الثانية).
13- . مسائل الناصريات : ص 319 ، 135؛ الانتصار : ص 426.
14- . الانتصار : ص 219.
15- . المصدر السابق : ص 92 .
16- . مسائل الناصريات : ص 244 .
17- . الانتصار : ص 531.
18- . المصدر السابق : ص 92 .
19- . جوابات المسائل الرازية : ص 120 ( رسائل الشريف المرتضى، المجموعة الاُولى ) .
20- . مسائل الناصريات : ص 196 _ 197.
21- . أمالي المرتضى (غرر الفوائد ودرر القلائد ) : ج 1 ص 457.

ص: 122

. .

ص: 123

. .

ص: 124

النسخ في الأخبار

النسخ في الأخبارفي هذا المقطع نجمل القول في نسخ الأخبار مقتصرين على ما ورد في الموروث الفقهي عند الشريف المرتضى قدس سره ، تاركين تفصيل المباحث إلى فصول اُخرى خصوصا الفرع الاُصولي . ويجزم الشريف المرتضى قدس سره في عدّة من مباحثه الفقهية بأنّ نسخ الكتاب بأخبار الآحاد غير جائز، فهو يقول: «فأمّا الأخبار الّتي رووها من أنّ النبيّ صلى الله عليه و آله مسح على خفيه . . . فلا تعارض ظاهر الكتاب ، لأنّ نسخ الكتاب أو تخصيصه بها _ ولابدَّ من أحدهما _ غير جائز». (1) وأصرح من هذا النصّ ما قاله قدس سره : «ولا يجوز أن ينسخ بما يقتضي الظن كتاب اللّه تعالى الّذي يوجب العلم ، وإذا كنّا لانخصص كتاب اللّه تعالى بأخبار الآحاد فالأولى ألاّ ننسخه بها، وقد بيّنا ذلك في كتابنا في أصول الفقه وبسطناه». (2) ويستدرك الشريف المرتضى قدس سره قائلاً : إنّ النسخ يصحّ لو كانت هناك دلالة ، ومقصوده بالدلالة هي القرينة القطعية ، وإلاّ فإنّ أخبار الآحاد حالها حال القرائن الظنية ، ويقول بهذا الصدد : «وممّا انفردت به الإمامية: أن تقول في الأذان والإقامة بعد قول: «حي على الفلاح»: « حي على خير العمل . . . » . وقد روت العامّة : إنّ ذلك ممّا كان يقال في بعض أيّام النبيّ صلى الله عليه و آله ، وإنّما ادعي أنّ ذلك نسخ ورفع ، وعلى من ادّعى النسخ الدلالة وما يجدها». (3) وفي مطاف بحثنا هذا يعرّج الشريف المرتضى قدس سره على توضيح حقيقة النسخ ، فيقول: « ليس كلّ زيادة في النصّ نسخا ، وإنّما تكون نسخا إذا غيرت حال المزيد عليه وأخرجته من كلّ أحكامه الشرعية . . . . على أنّه لو كان الأمر على ما ذهب إليه أصحاب أبي حنيفة : في أنّ الزيادة في النصّ نسخ على كلّ حال (4) _ من غير اعتبار بما ذكرناه _ لما جاز أن يحكم في الزيادة إنّما نسخ إلاّ إذا تأخّرت عن دليل الحكم المزيد عليه ، فأمّا إذا صاحبته أو تقدمت عليه لم يكن نسخا ؛ لأنّ اعتبار تأخّر الدليل في الناسخ واجب عند كلّ محصّل». (5) فمن النصّ نستفيد: 1 . إنّ حقيقة النسخ هي: أنّها تغيّر حال المزيد عليه ، وتخرجه من كلّ الأحكام الشرعية . 2 . إنّ حقيقة النسخ هي: إنّها تتأخّر عن دليل الحكم المزيد عليه، وإلاّ إذا صاحبته أو تقدّمت عليه لم يكن نسخا.

.


1- . مسائل الناصريات : ص 131.
2- . الانتصار : ص 599 .
3- . المصدر السابق : ص 137 .
4- . انظر فواتح الرحموت (هامش المستصفى) : ج 2 ص 92.
5- . مسائل الناصريات : ص 430.

ص: 125

. .

ص: 126

. .

ص: 127

الفصل الثالث : منهجه في المباحث الاُصولية

اشاره

الفصل الثالث : منهجه في المباحث الاُصوليةتمهيدالنسخنسخ القرآن الكريم بالسنّة الشريفةنسخ السنّة الشريفة بالقرآن الكريمنسخ الشريعة بعضها بالبعض الآخرتخصيص عموم الكتاب الكريم بالسنّة الشريفة وبأخبار الآحادتخصيص العموم بأقوال الصحابةالفوارق المنهجية بين التخصيص والنسخخبر الواحد عند الشيعةعدم العلم بخبر الواحدجواز التعبّد بخبر الواحد وعدمه عقلاًالتعبّد بخبر الواحد وعدمه شرعاالخبر المتواترالمتحمل للخبر ، والمتحمل عنه ، وكيفية ألفاظ الرواية عنهحجية ظواهر السنّة في إثبات الأحكام الشرعيةعدم حجّية الأخبار المنقولة عن طريق أصحاب الحديثالعمل بأخبار الجمهور

.

ص: 128

. .

ص: 129

تمهيد

اشاره

تمهيدفي هذا الفصل نتعرّض للمنهج الاُصولي ، وسوف نقصر البحث عمّا ورد في كتاب الذريعة ، إذ يعتبر كتاب الذريعة إلى اُصول الشريعة من الكتب الفاخرة في اُصول الفقه الشيعي الإمامي ، وهو مطبوع في مجلّدين ، بتحقيق دقيق في أربعة عشر بابا . وقد اشتمل كلّ باب على عدّة فصول ، وهذا الكتاب في غاية الأهمية لعدّة اُمور : 1 . إنّه أوّل كتاب كامل في اُصول الفقه الشيعي الإمامي ، وما كتب قبله إنّما كان من قبيل فصول متناثرة ، وأغلبها مستلّة من اُصول الجمهور . نعم ، وإن طرحت في الذريعة عدّة كبيرة من آراء أهل السنّة وفحولهم في باب الاُصول ، ولكن عمق آراء الشريف المرتضى قدس سره وسعة نقده جعل من هذا الكتاب منظومة اُصولية مستقلّة توازي ، بل تفوق في كثير من مباحثها اُصول الجمهور . 2 . يصرّح الشريف المرتضى قدس سره في مقدّمة كتاب الذريعة بأنّ مقصوده من تأليف الكتاب هو إملاء كتاب متوسط في اُصول الفقه لاينتهي بتطويل إلى الإملال ، ولا باختصار إلى الإخلال ، بل يكون للحاجة سدادا ، وللبصيرة زنادا ، ويخصّ مسائل الخلاف بالاستيفاء والاستقصاء ؛ لأنّ مسائل الوفاق تقل الحاجة فيها إلى ذلك . 3 . يذكّر الشريف المرتضى قدس سره القارئ على أنّ في هذا الكتاب قد فصل بين علم الكلام وعلم الاُصول ، يقول قدس سره في مقدّمة كتابه : « فقد وجدت بعض من أفرد في اُصول الفقه كتابا ، وإن كان قد أصاب في كثير من معانيه وأوضاعه ومباينه، قد شرّد من قانون اُصول الفقه واُسلوبها، وتعدّاها كثيرا وتخطّاها، فتكلّم على حدّ العلم والظّنّ وكيف يولّد النظر العلم ، والفرق بين وجوب المسبّب عن السّبب ، وبين حصول الشّيء عند غيره على مقتضى العادة ، وما تختلف العادة وتتّفق ، والشّروط الّتي يعلم بها كون خطابه تعالى دالاًّ على الأحكام وخطاب الرسول صلى الله عليه و آله وسلم ، والفرق بين خطابيهما بحيث يفترقان أو يجتمعان ، إلى غير ذلك من الكلام الّذي هو محض صرف خالص للكلام في اُصول الدّين دون اُصول الفقه . فإن كان دعا إلى الكلام على هذه المواضع أنّ اُصول الفقه لا تتمُّ ولا تثبت إلاّ بعد ثبوت هذه الاُصول، فهذه العلَّة تقتضي أن يتكلَّم على سائر اُصول الدّين من أولها إلى آخرها وعلى ترتيبها، فإنّ اُصول الفقه مبنيَّة على جميع اُصول الدّين مع التَّأمُّل الصَّحيح، وهذا يوجب علينا أن نبتدئ في اُصول الفقه بالكلام على حدوث الأجسام ، وإثبات المحدث وصفاته وجميع أبواب التَّوحيد، ثمَّ بجميع أبواب التَّعديل والنُّبوات، ومعلومٌ أنَّ ذلك ممّا لا يجوز فضلاً عن أن يجب . والحجّة في إطراح الكلام على هذه الاُصول من الحجّة في إطراح الكلام على النَّظر وكيفيِّة توليده وجميع ما ذكرناه . وإذا كان مضى ذكر العلم والظَّنِّ في اُصول الفقه اقتضى أن يذكر ما يوَلِّد العلم ، ويقتضي الظَّن ، ويتكلّم في أحوال الأسباب ، وكيفيَّة توليدها ، فألاّاقْتضانا ذكرنا الخطاب الّذي هو العمدة في اُصول الفقه والمدار عليه أن نذكر الكلام في الأصوات وجميع أحكامها، وهل الصَّوت جسم أو صفة لجسمٍ أو عرض؟ وحاجته إلى المحلّ وما يُولِّده وكيفيّة توليده . وهل الكلام معنىً في النَّفس ، أو هو جنس الصَّوت ، أو معنى يوجد مع الصَّوت ؟ على ما يقوله أبو عليّ . فما التشاغل بذلك كلّه إلاّ كالتشاغل بما أشرنا إليه ممّا تكلّفه،وماتركه إلاّ كتركه . والكلام في هذا الباب إنّما هو الكلام في اُصول الفقه بلا واسطة من الكلام فيما هو اُصول لاُصول الفقه . والكلام في اُصول الفقه بلا واسطة من الكلام فيما هو اُصول لاُصول الفقه . والكلام في هذا الفنّ إنّما هو مع من تقرّرت معه اُصول الدّين وتمهّدت ، ثُمّ تعدّاها إلى غيرها ممّا هو مبني عليها . فإذا كان المخالف لنا مخالفا في اُصول الدّين ، كما أنّه مخالف في اُصول الفقه ، أحلناه على الكتب الموضوعة للكلام في اُصول الدّين ، لم نجمع له في كتاب واحد بين الأمرين». (1) وقد سعى الشريف المرتضى قدس سره أن يذكر آراء العلماء في كلّ مسألة مع أدلّتهم بالتفصيل ، ويردّهم بروح علمية موضوعية ، بغض النظر عن توجّهاتهم العقائدية وآرائهم الدّينية ، ومضيفا إليها أدلّة جديدة وبحوثا تحقيقية ، كما نشهد ذلك في بحثه في القياس والإجماع . نعم ، يقول الشريف المرتضى قدس سره في مقدّمة كتابه: « ولعلّ القليل التافه من مسائل اُصول الفقه ، ممّا لم أملل فيه مسألة مفردة مستوفاة مستقلّة مستقصاة، لاسيّما مسائله المهمّات الكبار. فأمّا الكلام في الإجماع فهو في الكتاب الشافي والذخيرة مستوفىً ، وكذلك الكلام في الأخبار ، والكلام في القياس والاجتهاد بسطناه وشرحناه في جواب مسائل أهل الموصل الاُولى. وقد كنّا قديما أمللنا قطعة من مسائل الخلاف في اُصول الفقه، وعلّق عنّا دفعات لاتُحصى من غير كتاب يقرأه المعلّق علينا من مسائل الخلاف على غاية الاستيفاء دفعات كثيرة. وعلّق عنّا كتاب العمدة مرارا لاتُحصى. والحاجة مع ذلك إلى هذا الكتاب الّذي قد شرعنا فيه ماسة تامّة ، والمنفعة به عامّة ؛ لأنّ طالب الحقّ من هذا العلم يهتدي بأعلامه عليه ، فيقع من قرب عليه ، ومن يعتقد من الفقهاء مذهب بعينه تقليدا أو إلفا في اُصول الفقه ينتفع بما أوضحناه من نصرة ما يوافق فيه. ممّا كان لايهتدي إلى نصرته وكشف قناع حجّته. ولا يجده في كتب موافقيه ومصنفيه ، ويستفيد أيضا فيما يخالفنا فيه، إنّا حررنا في هذا الكتاب شبهه الّتي هي عنده حجج وقررناها، وهذّبناها، وأظهرنا من معانيها ودقائقها ما كان مستورا ، وإن كنّا من بعد عاطفين على نقضها وإبانة فسادها، فهو على كلّ حال متقلّب بين فائدتين متردّدتين منفعتين. (2) 4 . ويقول الشريف المرتضى قدس سره في مقدّمة هذا الكتاب أيضا : « فهذا الكتاب إذا أعان اللّه تعالى على إتمامه وإبرامه، كان بغير نظير من الكتب المصنّفة في هذا الباب ، ولم نعن في تجويد وتحرير وتهذيب، فقد يكون ذلك فيما سبق إليه من المذهب والأدلّة، وإنّما أردنا أنّ مذاهبنا في اُصول الفقه ما اجتمعت لأحد من مصنّفي كتب اُصول الفقه ، وعلى هذا فغير ممكن أن يستعان بكلام أحد من مصنّفي الكلام في هذه الاُصول ؛ لأنّ الخلاف في المذاهب والأدلّة والطرق والأوضاع يمنع من ذلك، ألاترى أنّ الكلام في الأمر والنهي الغالب على مسائله والأكثر والأظهر اُخالف القوم فيه، والعموم والخصوص فخلافي لهم وما يتفرّع عليه أظهر، وكذلك البيان والمجمل والإجماع والأخبار والقياس والاجتهاد ممّا خلافي جميعه أظهر من أن يحتاج إلى إشارة، فقد تحقّق استبداد هذا الكتاب بطرق مجددة لا استعانة عليها بشيء من كتب القوم المصنّفة في هذا الباب . وما توفيقنا إلاّ باللّه تعالى ». (3) 5 . وقد كان هذا الكتاب محط نظر العلماء أخذا من الشيخ الطوسي قدس سره في عدّته حتّى صاحب قوانين علم الاُصول الميرزا القمّي قدس سره وإلى يومنا هذا . حتّى أنّا نرى تأثير آراء الشريف المرتضى قدس سرهعلى نظرات العلماء فيما بعده ، وفي كثير منها قد نقلت صفحات وبحوث طويلة من هذا الكتاب ، وفي بعضها قد غيرت بعض صور الاستدلال التي استدلّ بها الشريف المرتضى قدس سره ، أو بعض تراتيب البحوث ، كما نشهد ذلك جليا في العدّة للشيخ الطوسي قدس سره ، وهذا ليس غريب ؛ لأنّ هناك نظريات جديدة قد احتواها هذا الكتاب ، كما في استعمال اللفظ في أكثر من معنى ، أو أنّ من علائم الحقيقة هو استعمال المجرد ، من أراد الإحاطة بها فعليه مراجعة مقدّمة الذريعة بقلم الدكتور أبو القاسم الكرجي ؛ فإنّه قد أجاد وأحسن . 6 . وأخيرا فقد أتحفنا الشريف المرتضى قدس سره بتحفة في مقدّمة كتابه ، وهي وجه تسمية كتابه قائلاً : « وقد سمّيته بالذريعة إلى اُصول الشريعة ؛ لأنّه سبب ووصلة إلى علم هذه الاُصول . وهذه اللفظة في اللغة العربية وما تتصرّف إليه تفيد هذا المعنى الّذي أشرنا اليه ؛ لأنّهم يسمّون الحبل الّذي يحتبل به الصائد للصيد : ذريعة، واسم الذراع من هذا المعنى اشتقّ ؛ لأنّ بها يتوصّل إلى الأغراض والأوطار، والذراع أيضا صدر القناة . وذرع القيء إذا غلب ، وبلغ من صاحبه الوطر ، فبان أنّ التصرّف يعود إلى المعنى الّذي ذكرناه». (4) وقد اقتصرنا في هذا الفصل على البحوث الروائية ، وتوضيح المنهجية الّتي سار عليها في الأخبار من نسخ القرآن بالسنّة وبالعكس ؛ أو نسخ بعض الشريعة بالبعض الآخر ، أو تخصيص الكتاب بالسنّة ، وما شاكلها من البحوث الّتي توخّت جلاء المنهج الروائي في هذا المجال عند الشريف المرتضى قدس سره ، وقد ألحقنا بها بعض الاُصول الّتي تضمّنتها رسائله ملخصين مباحثه ومهذبين مطالبه ، ولم ننس أو نتناسى شيء من المباحث بقدر الإمكان إن شاء اللّه تعالى ، تاركين التعليق عليها للفصول الآتية من الأبواب الاُخرى ؛ لنرى مقدار معطياته وإفاداته .

.


1- . الذريعة إلى اُصول الشريعة : ج 1 ص 2 _ 4 .
2- . المصدر السابق : ص 4 _ 5 .
3- . المصدر السابق : ص 5 _ 6 .
4- . المصدر السابق : ص 6 _ 7 .

ص: 130

. .

ص: 131

. .

ص: 132

. .

ص: 133

. .

ص: 134

النس_خ

النس_خالنسخ في اللغة : هو الاستكتاب كالاستنساخ والانتساخ ، وبمعنى النقل والتحويل ، ومنه تناسخ المواريث والدهور ، وبمعنى الإزالة ، وقد كثر استعماله في هذا المعنى في ألسنة الصحابة والتابعين ، فكانوا يطلقون على المخصص والمقيد لفظ الناسخ. ولكن النسخ في الاصطلاح: هو رفع أمر ثابت في الشريعة المقدّسة بارتفاع أمده وزمانه، سواء أكان ذلك الأمر المرتفع من الأحكام التكليفية أم الوضعية، وسواء أكان من المناصب الإلهية أم من غيرها من الاُمور الّتي ترجع إلى اللّه تعالى بما أنّه شارع ، وهذا الأخير كما في نسخ القرآن من حيث التلاوة فقط . وإنّما قيّدنا الرفع بالأمر الثابت في الشريعة ليخرج به ارتفاع الحكم بسبب ارتفاع موضوعه خارجاً،كارتفاع وجوب الصوم بانتهاء شهر رمضان ،وارتفاع وجوب الصلاة بخروج وقتها ، وارتفاع مالكية شخص لماله بسبب موته ؛ فإنّ هذا النوع من ارتفاع الأحكام لا يسمّى نسخاً ، ولا إشكال في إمكانه ووقوعه، ولا خلاف فيه من أحد. ولتوضيح ذلك نقول: إنّ الحكم المجعول في الشريعة المقدّسة له نحوان من الثبوت: أحدهما : ثبوت ذلك الحكم في عالم التشريع والإنشاء ، والحكم في هذه المرحلة يكون مجعولاً على نحو القضية الحقيقية، ولا فرق في ثبوتها بين وجود الموضوع في الخارج وعدمه ، وإنّما يكون قوام الحكم بفرض وجود الموضوع، فإذا قال الشارع: شرب الخمر حرام _ مثلاً _ فليس معناه أنّ هنا : خمراً في الخارج ، وأنّ هذا الخمر محكوم بالحرمة ، بل معناه أنّ الخمر متى ما فرض وجوده في الخارج فهو محكوم بالحرمة في الشريعة سواء أكان في الخارج خمر بالفعل أم لم يكن. ورفع هذا الحكم في هذه المرحلة لا يكون إلاّ بالنسخ. وثانيهما: ثبوت ذلك الحكم في الخارج، بمعنى أنّ الحكم يعود فعلياً بسبب فعلية موضوعه خارجاً، كما إذا تحقّق وجود الخمر في الخارج، فإنّ الحرمة المجعولة في الشريعة للخمر تكون ثابتة له بالفعل، وهذه الحرمة تستمر باستمرار موضوعها، فاذا انقلب الخمر خلاًّ فلاريب في ارتفاع تلك الحرمة الفعلية الّتي ثبتت له في حال خمريته، ولكن ارتفاع هذا الحكم ليس من النسخ في شيء، ولا كلام لأحد في جواز ذلك ولا في وقوعه، وإنّما الكلام في القسم الأول، وهو رفع الحكم عن موضوعه في عالم التشريع والإنشاء . (1) ويوضّح الشريف المرتضى قدس سره حقيقة النسخ قائلاً: 1 . إنّها تغيّر حال المزيد عليه وتخرجه من كلّ أحكامه الشرعية. 2 . إنّها تتأخّر عن دليل الحكم المزيد عليه، وإلاّ إذا صاحبته أو تقدّمت عليه لم يكن نسخاً (2) .

.


1- . علوم القرآن عند المفسرين : ج 2 ص 575 ؛ البيان : ص 295 _ 297 .
2- . الذريعة إلى اُصول الشريعة : ج 1 ص 460 .

ص: 135

نسخ القرآن الكريم بالسنّة الشريفة

نسخ القرآن الكريم بالسنّة الشريفةيقسّم الشريف المرتضى قدس سره السنّة إلى قسمين : 1 . قسم مقطوعة معلومة. 2 . وقسم واردة من طريق الآحاد . والقسم الأوّل : لا ينسخ القرآن بها كما عن الشافعي ومن وافقه . والقسم الثاني : فأكثر الناس على أنّه لا يقع بها نسخ القرآن . نعم ، خالف أهل الظاهر وغيرهم في ذلك وادعوا وقوعه. (1) ويقول الشريف المرتضى قدس سره بالنسبة إلى القسم الثاني : « والّذي يبطل أن ينسخ القرآن بما ليس بمعلوم من السنّة أنّ هذا فرع مبني على وجوب العمل بخبر الواحد في الشريعة ؛ لأنّ من يجوّز النسخ يعتمد على أنّه كما جاز التخصيص به وترك الظاهر لأجله، والعمل به في الأحكام المبتدأة، جاز النّسخ _ أيضاً _ به . وأنّ دليل وجوب العمل بخبر الواحد مطلق غير مختصّ، فوجب حمله على العموم، وإذا بطل العمل بخبر الواحد في الشّرع، بما سنتكلّم عليه عند الكلام في الأخبار بمشيئة اللّه تعالى، بطل النسخ؛ لأنّ كلّ من لم يعمل به في غير النسخ لا ينسخ به، فالقول بالنّسخ مع الامتناع من العمل أصلاً خارج عن الإجماع . وهذا أولى ممّا يمضي في الكتب من أنّ الصحابة ردّت أخبار الآحاد إذا كان فيها ترك للقرآن ؛ لأنّ الخصوم لا يسلّمون ذلك ، ولأنّه يلزم عليه ألاّ يخصّص الكتاب بخبر الواحد ، لأنّ فيه تركاً لظاهره . وليس يجب من حيث تعبّدنا اللّه بالعمل بخبر الواحد في غير النّسخ _ إذا سلمنا ذلك وفرضناه _ أن نعدّيه إلى النّسخ بغير دليل ؛ لأنّ العبادة لا يمتنع اختصاصها بموضع دون موضع ، فمن أين إذا وقعت العبادة بالعمل به في غير النّسخ ، فقد وقعت في النّسخ ، وأحد الموضعين غير الآخر ، وليس هاهنا لفظ عام يدّعى دخول الكلّ فيه ». (2) ثمّ إنّ الشريف المرتضى قدس سره يضعّف قول الشافعي الّذي ذهب إلى أنّ السنّة الشريفة لا ينسخ بها القرآن الكريم ، حتّى أنّه يدعي أنّه كيف استمرت الشبهة بالشافعي في ذلك ؟ ! (3) ويستدلّ الشريف المرتضى قدس سره بدليلين على فساد دعوى الشافعي ، وإثبات أنّ السنّة المعلومة المقطوعة ينسخ بها القرآن الكريم : الدليل الأوّل : على شكل قياس منطقي ، يقول : أ _ إنّ السنّة المعلومة تجري مجرى الكتاب الكريم في وجوب العلم والعمل. ب _ إنّ الكتاب الكريم ينسخ بعضه بعضا. ج _ فيجوز النسخ بالسنّة المعلومة. الدليل الثاني: كذلك مركب من قياس منطقي ، وهو: أ _ إنّ النسخ يتناول الحكم. ب _ والسنّة في الدلالة عليه كدلالة القرآن الكريم. ج _ فيجب جواز النسخ بها . ثمّ يطرح الشريف المرتضى قدس سره تسائلاً في البين ، يؤكّد فيه على أنّه ليس لأحد أن يقول: إنّ السنّة تدلّ كدلالة القرآن ؛ لأنّها إذا وردت بحكم يضاد القرآن أنزل اللّه تعالى قرآنا يكون هو الناسخ . يقول الشريف المرتضى قدس سره ردّا على هذا الإشكال : «إنّ هذه دعوى لابرهان لمدعيها ، ومن أين أنّ الأمر على ذلك ؟ ! ولو قدرنا أنّه تعالى لم ينزل ذلك القرآن كيف كان يكون حال تلك السنّة ، فلابدَّ من الاعتراف باقتضائها النسخ ، ثمّ إذا اجتمعا لِمَ صار الناسخ هو القرآن دون السنّة ، وحكم كلّ واحد من الدليلين حكم صاحبه ؟ ! وإذا كان نسخ الحكم بحكم يضاده فلا فرق بين أن يكشف عن ذلك الحكم المضاد سنة أو القرآن» (4) . ثمّ ينقل الشريف المرتضى قدس سره أربعة أدلّة قرآنية على أنّ السمع منع من نسخ الكتاب الكريم بالسنّة الشريفة : الدليل الأوّل : قوله تعالى: «وَ إِذَا بَدَّلْنَآ ءَايَةً مَّكَانَ ءَايَةٍ» (5) فبيّن تعالى أنّ تبديل الآية إنّما يكون بالآية . وأجاب الشريف المرتضى قدس سره: «أنّ الظاهر لادلالة فيه على أنّه لا يبدل الآية إلاّ بالآية ، وإنّما قال تعالى: «وَ إِذَا بَدَّلْنَآ ءَايَةً مَّكَانَ ءَايَةٍ» ؛ ولأنّ الخلاف في نسخ حكم الآية ، والظاهر يتناول نفس الآية ». (6) وقريب من هذا الدليل الثاني، (7) والدليل الثالث. (8) نعم ، الدليل الثالث فيه شيء من التفاصيل التوضيحية حيث أكّد على أنّ قوله تعالى : «وَ أَنزَلْنَآ إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ» (9) ، فجعله اللّه تعالى مبينا للقرآن ، والبيان ضدّ النسخ والإزالة. يقول الشريف المرتضى قدس سره: « والجواب عن الثاني أنّه _ أيضا _ لا يتناول موضع الخلاف ؛ لأنّه إنّما نفى أن يكون ذلك من جهته ، بل بوحي من اللّه تعالى سواء كان ذلك قرآنا أو سنّة. والجواب عن الثالث : أنّ النسخ يدخل في جملة البيان ؛ لأنّه بيان مدّة العبادة ، وصفة ماهو بدل منها . وقد قيل : إنّ المراد هاهنا بالبيان التبليغ والأداء ، حتّى يكون القول عامّا في جميع المنزّل، ومتى حمل على غير ذلك كان خاصّا في المجمل . على أنّ النسخ لو انفصل عن البيان ، لم نمنع أن يكون ناسخا وإن كان مبيّنا ، كما لم يمنع كونه مبيّنا من كونه مبتدئا للأحكام، وقد وصف اللّه تعالى القرآن بأنّه بيان ، ولم يمنع ذلك من كونه ناسخا » (10) . ثمّ يتعرّض الشريف المرتضى قدس سره إلى الدليل الرابع وهو قوله تعالى : «مَا نَنسَخْ مِنْ ءَايَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَآ أَوْ مِثْلِهَآ» . (11) وقد وجهت الآية على المدعى بأربعة وجوه: الوجه الأوّل : أنّه لما قال تعالى: « نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَآ أَوْ مِثْلِهَآ » كان الكلام محتملاً للكتاب وغيره ، فلمّا قال بعد ذلك : «أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَىْ ءٍ قَدِيرٌ» (12) ؛ علم أنّه أراد مايختصّ هو تعالى بالقدرة عليه من القرآن المعجز . ومنها : أنّه قال تعالى : « نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَآ » ، فأضاف ذلك إلى نفسه ، والسنّة لاتضاف إليه حقيقة . ومنها : أنّ الظاهر من قول القائل : «لا آخذ منك ثوبا إلاّ وأعطيك خيرا منه» أنّ المراد أعطيك ثوبا من جنس الأوّل . ومنها : أنّ الآية إنّما تكون خيرا من الآية بأن تكون أنفع منها، والانتفاع بالآية يكون بتلاوتها وامتثال حكمها ، فيجب أن يكون ما يأتي به يزيد في النفع على ما ينسخه في كلا الوجهين، والسنّة لا يصحّ لها إلاّ أحدهما . والجواب عمّا تعلّقوا به أولاً : هو أنّ الظاهر لا دلالة فيه على أنّه لا يبدل الآية إلاّ بالآية ، وإنّما قال تعالى: « وَ إِذَا بَدَّلْنَآ ءَايَةً مَّكَانَ ءَايَةٍ » ؛ ولأنّ الخلاف نسخ حكم الآية ، والظاهر يتناول نفس الآية. (13) وأجاب عنه الشريف المرتضى قدس سره بجواب مفصّل قائلاً : والجواب عن الرابع : أنّ الآية أيضا لا تتناول موضع الخلاف ؛ لأنّها تتناول نفس الآية ، والخلاف في حكمها . على أنّ الظاهر لا يدلّ على إنّ الّذي يأتي به يكون ناسخا ، وهو موضع الخلاف ، وهو إلى أن يدلّ على أنّه غير ناسخ أقرب ، لأنّه تعالى قال : «مَا نَنسَخْ مِنْ ءَايَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ » ، وهذا يدلّ على تقدّم النسخ على إنزال ما هو خير منها، فيجب ألاّ يكون النسخ بها وهو متقدّم عليها، ومعنى « بِخَيْرٍ مِّنْهَآ » أي أصلح لنا ، وأنفع في ديننا، وأنا نستحقّ به مزيد الثواب . وليس يمتنع على هذا أن يكون مايدلّ عليه السنّة من الفعل الناسخ أكثر ثوابا وأنفع لنا ممّا دلّت عليه الآية من الفعل المنسوخ . والشناعة بأنّ السنّة خير من القرآن تسقط بهذا البيان، وبأنّ القرآن أيضا لا يقال بأنّ بعضه خير من بعض بالإطلاق ، وقد ينسخ بعضه ببعض ، فإذا فصّلوا وفسّروا فعلنا مثل ذلك . فأمّا إضافة ذلك إليه تعالى وأنّ ذلك بالكتاب أليق منه بسنّة ؛ فالإضافة صحيحة على الوجهين ؛ لأنّ السنّة إنّما هي بوحيه تعالى وأمره ، فإضافتها إليه كإضافة كلامه . وقوله تعالى : « أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَىْ ءٍ قَدِيرٌ » (14) لا يدلّ على ما يكون به النسخ ، وإنّما يقتضي أنّه تعالى قادر على أن ينسخ الفعل بما هو أصلح في الدّين منه، كان الدليل على ذلك كتابا أو سنّة . وغير مسلم أنّ القائل إذا قال لأحد: لا آخذ منك كذا وكذا إلاّ وأعطيك خيرا منه، أنّ الثاني يجب أن يكون من جنس الأول ، بل لو صرّح بخلاف ذلك لحسن ؛ لأنّه لو قال: « لا آخذ منك ثوبا إلاّ وأعطيك فرسا خيرا منه » لما كان قبيحا ، وقد بيّنا معنى «خيرا منها». فليس يمتنع أن نكون السنّة وانتفع بها من وجه واحد أصلح لنا من الآية ، وإن كان الانتفاع بها من وجهين؛ لأنّ الانتفاع الّذي هو الثواب قد يتضاعف فلا ينكر أن يزيد ، والوجه واحد على الوجهين ، على أنّ في درس السنّة وتلاوتها أيضا ثوابا وقربة وعبادة. (15)

.


1- . المصدر السابق : ص 461 .
2- . المصدر السابق : ص 461 _ 462 .
3- . المصدر السابق : ص 462.
4- . المصدر السابق : ص 463.
5- . النحل : 101 .
6- . الذريعة إلى اُصول الشريعة : ج 1 465 _ 467.
7- . المصدر السابق : ج 1 ص 465 _ 467 .
8- . المصدر السابق : ج 1 ص 465 _ 467 .
9- . النحل : 44 .
10- . المصدر السابق : ج 1 ص 465 _ 467 .
11- . البقرة : 106 .
12- . البقرة : 106 .
13- . الذريعة إلى اُصول الشريعة : ج 1 ص 466 .
14- . البقرة : 106 .
15- . المصدر السابق : ص 468 _ 470 .

ص: 136

. .

ص: 137

. .

ص: 138

. .

ص: 139

. .

ص: 140

. .

ص: 141

نسخ السنّة الشريفة بالقرآن الكريم

نسخ السنّة الشريفة بالقرآن الكريمهذا البحث مقابل البحث السابق ، ولكن بنفس الأدلّة السابقة ، ويعتقد الشريف المرتضى قدس سره أنّ كلّ شيء دلّ على أنّ السنّة مقطوع بها تنسخ القرآن الكريم تدلّ على هذه المسألة ، بل هو هاهنا آكد وأوضح . ويعلّل وجه الآكدية والأوضحية : أنّ للقرآن الكريم المزية على السنّة الشريفة. (1) « وخالف الشافعي في جواز نسخ السنّة بالكتاب ، والناس كلّهم على خلاف قوله » . ويستدلّ الشريف المرتضى قدس سره على جواز نسخ السنّة بالكتاب بدليل وجداني ، وبثلاثة أدلّة سمعية تاريخية. أمّا الدليل الوجداني فهو الوقوع ، أي : أنّ هذه القضية قد وقعت ، ومن المعلوم أنّ الوقوع دلالته على الجواز آكد . أمّا الأدلة السمعية ، فهي: الدليل الأوّل: ذكر أنّ تأخير الصلاة في وقت الخوف كان هو الواجب أوّلاً ثمّ نسخ بقوله تعالى: «فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالاً أَوْ رُكْبَانًا» . (2) يقول الشريف المرتضى قدس سره : « وإنّما كان ذلك نسخا من حيث كان جواز التأخير مع استيفاء الأركان كالمضاد للأداء في الوقت مع الإخلال ببعض ذلك» . الدليل الثاني: أنّ قوله تعالى: « فَلاَ تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ » (3) نسخ مصالحته صلى الله عليه و آله قريشا على ردّ النساء . الدليل الثالث : ويعتقد الشريف المرتضى قدس سره أنّ هذا الدليل أقوى ممّا تقدّم ؛ لأنّه يقوم على مسألة مسلمة في التاريخ ، وهي نسخ القبلة الاُولى الّتي كانت ثابتة بالسنّة بالقبلة الثانية ، وهي معلومة بالقرآن . (4)

.


1- . الذريعة إلى اُصول الشريعة : ج 1 ص 470.
2- . البقرة : 239 .
3- . الممتحنة : 10 .
4- . الذريعة إلى اُصول الشريعة : ج 1 ص 70.

ص: 142

نسخ الشريعة بعضها بالبعض الآخر

تخصيص عموم الكتاب الكريم بالسنّة الشريفة وبأخبار الآحاد

نسخ الشريعة بعضها بالبعض الآخريعتقد الشريف المرتضى قدس سره أنّ كلّ دليل أوجب العلم والقطع واليقين فجائز النسخ به ، وأوضح مصداق لذلك هو نسخ الكتاب مع الكتاب ، ويلحق بهذا السنّة المقطوع بها مع السنّة المقطوع بها. إنّما الكلام والبحث في السنّة الّتي لا يقطع بها ، يقول الشريف المرتضى قدس سره : « فالكلام في نسخ بعضها ببعض مبني على وجوب العمل بأخبار الآحاد فمن عمل بها في الشريعة نسخ بعضها ببعض ، ومن لم يعمل بها لم ينسخ بها ؛ لأنّ النسخ فرع وتابع لوجوب العمل ». (1)

تخصيص عموم الكتاب الكريم بالسنّة الشريفة وبأخبار الآحاديعتقد الشريف المرتضى قدس سره أنّه لاشبهة في تخصيص العموم بكلّ دليل أوجب العلم من عقل وكتاب وسنّة مقطوع عليها وإجماع ، ويضيف أنّ هذا لاخلاف محقّق في مثله ؛ لأنّ الدليل القاطع إذا دلّ على ضدّ حكم العام لم يجز تناقض الأدلّة ، فلابدَّ من سلامة الدليلين ، ولا يسلمان إلاّ بتخصيص ظاهر العموم. (2) ثمّ يقول الشريف المرتضى قدس سره بالنسبة إلى تخصيص القرآن الكريم بالسنّة الشريفة: «وأمّا تخصيصه بالسنّة فلاخلاف فيه ، وقد وقع كثير منه ؛ لأنّه تعالى قال: «يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَ_دِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنثَيَيْنِ » ، (3) وخصّص عموم هذا الظاهر قوله عليه السلام : «لا يرث القاتل ، ولا يتوارث أهل ملتين». وجملة القول في هذا الباب : أنّ كلّ شيء هو حجّة في نفسه لابدّ من تخصيص العموم به ، وإنّما الخلاف في عبارة أو في وقوع ذلك ، ولا حاجة بنا إلى ذكر الوقوع في هذا الموضع ». (4) أمّا تخصيص عموم الكتاب الكريم بأخبار الآحاد ، فيقول الشريف المرتضى قدس سره: «اختلف العاملون في الشريعة بأخبار الآحاد في تخصيص عموم الكتاب بها : فمنهم : من أبى أن يخصّ بها على كلّ حال. ومنهم : من جوز تخصيصه بأخبار الآحاد إذا دخله التخصيص بغيرها . ومنهم : من راعى سلامة اللفظة في كونها حقيقة، ولم يوجب التخصيص بخبر الواحد مع سلامة الحقيقة، وأجازه إذا لم تكن سالمة، وإنّما تسلم الحقيقة عنده إذا كان تخصيصه بكلام متّصل به. ومنهم : من يجيز تخصيص العموم بأخبار الآحاد على كلّ حال بغير قسمة. والّذي نذهب إليه : أنّ أخبار الآحاد لايجوز تخصيص العموم بها على كلّ حال، وقد كان جائزا أن يتعبّد اللّه تعالى بذلك، فيكون واجبا، غير أنّه ماتعبدنا به . والّذي يدلّ على صحّة ما ذهبنا اليه : أنّ الناس بين قائلين، ذاهب إلى وجوب العمل بخبر الواحد في الشريعة ونافٍ لذلك، وكلّ من نفى وجوب العمل بها في الشرع نفى التخصيص بها، وليس في الاُمة من جمع بين نفي العمل بها في غير التخصيص وبين القول بجواز التخصيص، فالقول بذلك يدفعه الإجماع . وسندلّ بمشيئة اللّه تعالى _ إذا انتهينا إلى الكلام في الأخبار _ على أنّ اللّه تعالى ما تعبدنا بالعمل بأخبار الآحاد في الشرع، فبطل التخصيص بها لما ذكرناه، ولا شبهة في أنّ تخصيص العموم بأخبار الآحاد فرع على القول بالعمل بأخبار الآحاد . على أنّا لو سلمنا أنّ العمل بها لاعلى وجه التخصيص واجب قد ورد الشرع به، لم يكن في ذلك دلالة على جواز التخصيص بها ؛ لأنّ إثبات العبادة بالعمل في موضع لا يقتضي تجاوزه إلى غيره . ألا ترى أنّهم لم ينسخوا بها وإن عملوا بها في غير النسخ، وكذلك يجوز ثبوت العمل بها في غير التخصيص وإن لم يثبت التخصيص ، لا ختلاف الموضعين ؛ لأنّ خبر الواحد ليس بحجّة من جهة العقل ، وإنّما كان حجّة عند من ذهب إلى ذلك بالشرع، فغير ممتنع الاختصاص في ذلك. واعلم أنّ شبهة من أحال التعبد بالعمل بخبر الواحد في تخصيص أو غيره _ الّتي عليها المدار ومنها يتفرع جميع الشبه _ : أنّ العموم طريقه العلم ، فلا يجوز أن يخصّ بما طريق إثباته غالب الظن. والّذي يفسد أصل هذه الشبهة أنّ التعبد إذا ورد بقبول خبر الواحد في تخصيص أو غيره ، فطريق هذه العبادة العلم ، دون الظن ، فإنّما خصصنا معلوما بمعلوم ، وأدلّة العقول شاهدة بذلك . وسنشبع هذا في الكلام على نفي جواز العبادة بخبر الواحد عقلاً عند الانتهاء إليه بعون اللّه [ تعالى ] . وبعد ، فلاخلاف بين الفقهاء في جواز الرجوع إلى أخبار الآحاد في الاسم العام، فما الّذي يمنع من الرجوع إليها في الحكم المعلّق بالاسم ؟ ! ألا ترى إنّا عند الاختلاف نثبت الأسماء بالرجوع إلى أهل اللغة، فما الّذي يمنع من الرجوع إلى الآحاد في تخصيص الأحكام ؟! وأمّا من جوز التخصيص بأخبار الآحاد بشرط دخول التخصيص قبل ذلك ، أو بشرط سلامة الحقيقة، فشبهته في ذلك : أنّ التخصيص يصيّر اللفظ مجازا ، وقد بيّنا أنّ الأمر بخلاف ذلك». (5)

.


1- . المصدر السابق : ج 1 ص 455 _ 456 .
2- . المصدر السابق : ص 277 _ 278 .
3- . النساء: 10.
4- . الذريعة إلى اُصول الشريعة : ج 1 ص 279 .
5- . المصدر السابق : ج 1 ص 280 _ 283 .

ص: 143

. .

ص: 144

. .

ص: 145

تخصيص العموم بأقوال الصحابة

تخصيص العموم بأقوال الصحابةمن المتسالم عليه أنّ كلّ ما هو حجّة في نفسه يصحّ تخصيص العموم به ، ومن هذا الباب أقوال الصحابة فقد ادعى الشريف المرتضى قدس سره أنّ ذلك لا خلاف فيه . ولكن رأي الجمهور كما هو مختار الشافعي وغيره عدم جواز التخصيص ، بناءً على عدم حجّية قولهم . نعم ، ذهب بعض إلى جواز التخصيص. (1) والظاهر أنّ قولهم: « أقوال الصحابة» المراد منه المجموع لا كلّ فرد فرد منهم ؛ لأنّهم ذكروا أنّ ذلك يرجع إلى وجه الإجماع ، أمّا أنّ الصحابة اجتمعت على مسألة كذا فيدخل هذا في قسم الإجماع ، ومن هذا الباب يصبح قولهم حجّة ، ومن المعلوم أنّ الإجماع يخصّ به العموم ، وهذا ممّا لا إشكال فيه . إنّما الإشكال في انفراد أحد الصحابة بقول أو رأي هل يخصّ به العموم؟ الظاهر أنّ ذلك لا يصحّ ، ولكن الشريف المرتضى قدس سره يجعل بعض أقوال الصحابة حجّة ويخصّ به العموم ، ويذكر أنّه هو الإمام أمير المؤمنين عليه السلام . يقول الشريف المرتضى قدس سره بهذا الصدد: « اعلم أنّه لا خلاف في أنّ كلّ ما هو حجّة في نفسه يصحّ تخصيص العموم به ، وإجماع الصحابة حجّة فيجب التخصيص به ». وهذا المقطع يحمل في طياته صورة منطقية واضحة للدليل . ثمّ يقول قدس سره : « ونحن وإن كنّا نخالفهم في تعليل كون ذلك حجّة أو في دليله فالحكم لا خلاف فيه بيننا ». ويعرج على توضيح مصداق لذلك قائلاً : « وإنّما نحن فنذهب إلى أنّ في الصحابة من قوله بانفراده حجّة ، وهو أمير المؤمنين عليه السلام ؛ لقيام الدليل على عصمته ، وقد دللنا على ذلك في كتب الإمامة ، وليس هذا موضع ذكره ، فقوله عليه السلام منفردا يخصّ به العموم». (2) ولكن من الواضح أنّ حجّية قوله عليه السلام من باب الاعتقاد بعصمته لا لأجل شيء آخر.

.


1- . انظر: التبصرة : ص 149، اُصول السرخسي : ج 2 ص 5، الابهاج: ج 2 ص 120 .
2- . الذريعة إلى اُصول الشريعة : ج 1 ص 288 _ 289 .

ص: 146

الفوارق المنهجية بين التخصيص والنسخ

خبر الواحد عند الشيعة

الفوارق المنهجية بين التخصيص والنسخبعدما عرفنا موارد التخصيص والنسخ ، فالآن لابدَّ من التمييز بينهما ، يقول الشريف المرتضى قدس سرهفي هذا المجال : «إنّ التخصيص في الشريعة يقع بأشياء لا يقع النسخ بها ، والنسخ يقع بأشياء لايقع التخصيص بها : فالأوّل: القياس وأخبار الآحاد عند من ذهب إلى العبادة بهما. والثاني: نسخ شريعة باُخرى وفعل بفعل ، وإن كان التخصيص لا يصلح في ذلك». (1)

خبر الواحد عند الشيعةفي هذه الجولة الصغيرة سوف نستعرض وجهات نظر بعض الأعلام قبل الشريف المرتضى قدس سرهلمعرفة المسير التاريخي لنظرية خبر الواحد. يقول الشيخ المفيد قدس سره _ وهو من مشايخ الشريف المرتضى قدس سره _ : «لا يجوز تخصيص العام بخبر الواحد ؛ لأنّه لا يوجب علما ولا عملاً ، وإنّما يخصّه من الأخبار ما انقطع العذر بصحّته عن النبيّ صلى الله عليه و آله وعن أحد الأئمّة عليهم السلام ». (2) وهذا نصّ صريح من الشيخ المفيد قدس سره يفيد أنّه لا يرى العمل بخبر الواحد أصلاً علما وعملاً ، كما يأتي ذلك من تلميذه المرتضى قدس سره. ويعلّل الشيخ المفيد قدس سره عدم عمله بخبر الواحد قائلاً : « والحجّة في الأخبار ما اُوجبه العلم من جهة النظر فيها بصحّة مخبرها ، ونفي الشكّ فيه والارتياب ، وكلّ خبر لا يوصل إلى صحّة مخبره فليس بحجّة في الدين، ولا يلزم به عمل على حال». (3) ولكن الشيخ المفيد قدس سره يحدد معالم خبر الواحد وشروط قبوله ، فيقول: «فأمّا خبر الواحد القاطع العذر فهو الّذي يقترن اليه دليل يفضي بالناظر فيه إلى العلم بصحّة مخبره ، وربّما كان الدليل حجّة من عقل، وربّما كان شاهدا من غرق، وربّما كان إجماعا بغير خلف، فمتى خلا خبر الواحد من دلالة يقطع بها على صحّة مخبره، فإنّه _ كما قدّمناه _ ليس بحجّة، ولا موجب علما ولا عملاً على كلّ وجه». (4) فالخبر الحجّة عند الشيخ المفيد قدس سره هو المعلوم صحّة مخبره وهو لأجل: 1 . العقل 2 . العرف 3 . الإجماع. هذه بعض نكت الشيخ المفيد قدس سره جئنا بها ؛ لأجل رفع استيحاش الوحدة الّتي مني بها رأي الشريف المرتضى قدس سره، بل يصرّح الشيخ المفيد قدس سره بأنّ عدم العمل بأخبار الآحاد كان مختار جمهور الشيعة، فيقول: «لا يجب العلم ولا العمل في شيء من أخبار الآحاد، ولا يجوز لأحد أن يقطع بخبر الواحد في الدين ، إلاّ أن يقترن به مايدلّ على صدق راويه على البيان . وهذا مذهب جمهور الشيعة وكثير من المعتزلة والمحكمة ، وطائفة من المرجئة ، وهو خلاف لما عليه متفقهة العامّة وأصحاب الرأي ». (5) فهذا نصّ صريح في نسبة المنع من العمل بأخبار الآحاد إلى جمهور الشيعة وقبالهم أهل السنّة. وهناك نصوص كثيرة ميدانية اجتهادية نشهدها في الفقه الاستنباطي للشيخ المفيد قدس سرهتصبّ كلّها في مصبّ واحد ، وهو سلب الحجّية العلمية والعملية من خبر الواحد . ثمّ يأتي بعده الشريف المرتضى قدس سره وهو يمثل قمة الرفض في موضوع خبر الواحد ، وقد نقلناه جميع ما يتعلّق بخبر الواحد ، وقد ادعى الإجماع على عدم حجّية الخبر الواحد . وإن قال بإمكان التعبد بخبر الواحد عقلاً ولم ير ذلك أمرا مستحيلاً. وقد نقلنا كلّ ذلك بصورة مفصّلة في الفصل السابق ، والّذي يهمّنا في هذا البحث هو : تركيز الشريف المرتضى قدس سره في موارد متعددة على نسبة عدم العمل بخبر الواحد إلى الطائفة الشيعية ، يقول في هذا المجال : « إنّا نعلم علما ضروريا لا ينحل في مثله ريب ولا شكّ ، أنّ علماء الشيعة الإمامية يذهبون إلى أنّ أخبار الآحاد لا يجوز العمل بها في الشريعة ، ولا التعويل عليها ، وأنّها ليست بحجّة ولا دلالة . وقد ملؤوا الطوامير وسطروا الأساطير في الاحتجاج على ذلك ، والنقص على مخالفيهم . ومنهم من يزيد على هذه الجملة ويذهب إلى أنّه مستحيل من طريق العقول أن يتعبد اللّه تعالى بالعمل بأخبار الآحاد. ويجري ظهور مذهبهم في أخبار الآحاد مجرى ظهوره في إبطال القياس في الشريعة وخطره وتحريمه ، وأكثرهم يحظر القياس والعمل بأخبار الآحاد عقلاً . وإذا كان الأمر على ما ذكرناه من الظهور والتجلي ، فكيف يتعاطى متعاطي ضربا من الاستدلال في دفع هذا المعلوم ، إلاّ كمن تكلّف وضع كلام في أنّ الشيعة الإمامية لاتبطل القياس في الشريعة أو لاتعتقد النصّ على أمير المؤمنين عليه السلام بالإمامة. (6) ثمّ يقول الشريف المرتضى قدس سره: «فلمّا كان هذا كلّه معلوما اضطرارا لم يجز الالتفات إلى من يتعاطى استدلالاً على خلافه ، ولم يبق بعد ذلك إلاّ أنّ هؤلاء الّذين علمنا واضطررنا إلى اعتقادهم فساد العمل بخبر الآحاد ، إنّما عملوا بها في كتبهم وعوّلوا عليها في مصنّفاتهم لأحد أمرين : أمّا الغفلة ، أو العناد واللعب بالدّين ، وما في ذلك إلاّ ماهم مرفوعون عنه ومتنزهون عن مثله ». (7) ويقول في موضع آخر : « إنّ أصحابنا كلّهم سلفهم وخلفهم ومتقدّمهم ومتأخّرهم يمنعون من العمل بأخبار الآحاد ومن القياس في الشريعة ، ويعيبون أشد عيب الذاهب إليهما، والمتعلّق في الشريعة بهما ، حتّى صار هذا المذهب _ لظهوره وانتشاره _ معلوما ضرورة منهم، وغير مشكوك فيه من المذاهب». (8) وهناك نصوص كثيرة تؤكّد على ذلك. (9)

.


1- . الذريعة إلى اُصول الشريعة : ج 1 ص 236.
2- . التذكرة باُصول الفقه ( سلسلة مؤلّفات الشيخ المفيد ) ج 9 ص 38.
3- . المصدر السابق : ص 44.
4- . المصدر السابق : ص 44 _ 45.
5- . أوائل المقالات في المذاهب والمختارات : ص 142.
6- . جوابات المسائل التبانيات : ص 24 _ 25 ( رسائل الشريف المرتضى، المجموعة الاُولى ).
7- . المصدر السابق : ص 25.
8- . جوابات المسائل الموصليات الثالثة : ص 203 ( رسائل الشريف المرتضى، المجموعة الاُولى).
9- . انظر: المصدر السابق : ص 211. وأيضا: مسألة في إبطال العمل بأخبار الآحاد : ص 309 ( رسائل الشريف المرتضى، المجموعة الثالثة).

ص: 147

. .

ص: 148

. .

ص: 149

عدم العلم بخبر الواحد

عدم العلم بخبر الواحديعتبر الشريف المرتضى قدس سره العماد الأكبر في نظرية خبر الواحد ، فقد ادعى الإجماع على عدم العلم بالخبر الواحد ، وإنّما يقتضي غلبة الظن بصدقه إذا كان عدلاً. وينقل الشريف المرتضى قدس سره ثلاثة أقوال في المقام: القول الأوّل: إنّ النظّام كان يذهب إلى أنّ العلم يجوز أن يحصل عنده ، وإن لم يجب؛لأنّه اتبع قرائن وأسبابا،وجعل العمل تابعا للعلم،فإذا لم يحصل علم فلا عمل . القول الثاني: ما نقل عن البعض من أنّ خبر الواحد يوجب العلم الظاهر ، وقسّم العلم إلى قسمين . القول الثالث: مانقل عن الناس _ كما عبّر الشريف المرتضى قدس سره _ قولهم: إنّ كلّ خبر وجب العمل به فلابدَّ من إيجابه العلم ، ويجعل العلم تابعا للعمل. (1) ورد الشريف المرتضى قدس سره هذه الأقوال بالتفصيل قائلاً : [ أمّا ردّ القول الأوّل ]: «وأقوى ما أبطل به قول النظّام : إنّ الخبر مع الأسباب الّتي يذكرها لو حصل عندها العلم ، كما ادعى لما جاز انكشافه عن باطل . وقد علمنا أنّ الخبر عن موت إنسان بعينه مع حصول الأسباب الّتي يراعيها من البكاء عليه والصراخ وإحضار الجنازة والأكفان ، قد ينكشف عن باطل ، فيقال : إنّه اُغمي عليه، أو لحقته السكتة، أو ما أشبه ذلك ، والعلم لا يجوز انكشافه عن باطل . ويلزم على هذه الطريقة الفاسدة أن يجوز ألاّ يقع العلم بالتواتر لفقد هذه الأسباب، فكنّا نصدّق من خبّرنا بأنّه لا يعلم شيئا بالأخبار بألاّ تكون الأسباب حاصلة . وأمّا إلزام النظام أنّه لو أوجب خبر الواحد العلم في موضع لأوجبه في كلّ موضع، فكان النبيّ صلى الله عليه و آله وسلم يستغنى عن علم معجز ، والحاكم متى لم يعلم صدق المدعي ضرورة ، أن يعلم أنّه كاذب ؛ فإنّ ذلك لا يلزمه ؛ لأنّ له أن يقول: من أين لكم أنّ كلّ خبر يجب عنده العلم؟ بل لابدَّ من وجوب ذلك عند أمثاله، ثمّ العلم عند النظام لايجب عند مجرد الخبر، بل عنده وعند أسباب يذكرها، وليس مثل ذلك في خبر مدعي النبوة ولا في الحاكم. (2) [ أمّا ردّ القول الثاني:] يقول الشريف المرتضى قدس سره: « فأمّا من يقول : إنّه يقتضي العلم الظاهر ، فخلافه في عبارة ؛ لأنّه سمّى غالب الظن علما ». (3) [أمّا ردّ القول الثالث:] يقول الشريف المرتضى قدس سره: «وأمّا من جعل العلم تابعا للعمل، فقوله باطل ؛ لأنّه عكس الشيء ، والعمل يجب أن يتبع العلم لا أن يتبع العلم العمل، وقد وجب العمل بأخبار كثيرة من غير حصول العلم كالمخوف من سبع في طريق والشهادات وغيرها». (4) ثمّ يقول الشريف المرتضى قدس سره: «وقد تجاوز قوم من شيوخنا رحمهم الله في إبطال القياس في الشريعة والعمل بأخبار الآحاد، أن قالوا: إنّه مستحيل من طريق العقول العبادة بالقياس في الأحكام، وأحالوا أيضا من طريق العقول العمل بأخبار الآحاد، وعوّلوا على أنّ العمل يجب أن يكون تابعا للعلم، وإذا كان غير متيقّن في القياس ، وأخبار الآحاد لم نجد العبادة بها . والمذهب الصحيح هو غير هذا، لأنّ العقل لايمنع من العبادة بالقياس والعمل بخبر الواحد، ولو تعبد اللّه تعالى بذلك لساغ ولدخل في باب الصحّة ؛ لأنّ عبادته تعالى بذلك يوجب العلم الّذي لابدَّ أن يكون العمل تابعا له. فإنّه لا فرق بين أن يقول عليه: قد حرّمت عليكم كذا وكذا فاجتنبوه، وبين أن يقول: إذا أخبركم مخبر له صفة العدالة بتحريمه فحرموه، في صحّة الطريق إلى العلم بتحريمه. وكذلك لو قال : إذا غلب في ظنكم تشبه بعض الفروع ببعض الاُصول في صفة تقتضي التحريم فحرموه فقد حرمته عليكم، لكان هذا أيضا طريقا إلى العلم بتحريمه وارتفاع الشكّ والتجويز. وليس متناول العلم هاهنا هو متناول الظن على مايعتقده قوم لايتأمّلون ؛ لأنّ متناول الظن هاهنا هو صدق الراوي إذا كان واحدا ، ومتناول العلم هو تحريم الفعل المخصوص الّذي تضمّنه الخبر ممّا علمناه . فكذلك في القياس متناول الظن شبه الوضع بالأصل في علّة التحريم، ومتناول العلم كون الفرع محرما». (5) ويفصّل الشريف المرتضى قدس سره الأدلّة على فساد العمل بأخبار الآحاد في الشريعة قائلاً : « فيما يجب الاعتماد في فساد العمل بأخبار الآحاد في الشريعة قوله تعالى : «وَ لاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِى عِلْمٌ» (6) ، وقوله تعالى : «وَ أَن تَقُولُواْ عَلَى اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ» (7) ، وكلّ آية تنهى فيها عن الفعل من غير علم، وهي كثيرة. ولمّا كان بخبر الواحد في الشريعة عاملاً به الظن من غير علم لصدق الراوي يوجب أن يكون داخلاً تحت النهي . فإن قالوا : في العامل بخبر الواحد علم ، وهذا العلم بصواب العمل بقوله وحسنه وإن لم يكن عالما بصدقه ، فلم يجب العلم من العمل، وإنّما نهى تعالى عن العمل الّذي لا يستند إلى شيء من العلم . قلنا: اللّه تعالى نهى عن اتّباع ما ليس لنا به علم، ولو عملنا بخبر الواحد فقد قفونا ما ليس له علم ؛ لأنّا لا ندري أصدق هو أم كذّب، والعلم بصواب العمل عنده هو علم به، وأقوى العلوم به العلم بصدقه، وليس ذلك بموجود في العمل بخبر الواحد، فيجب أن يكون النهي متناوله. فإن قيل : نهينا عن أن نقتفي ما ليس لنا به علم، ونحن إذا عملنا بخبر الواحد فانّما اقتفينا بخبر قول الرسول صلى الله عليه و آله يعبدنا بالعمل به ، والدليل الدالّ على ذلك ولم نتبع قول الخبر الواحد. قلنا: ما اقتفينا إلاّ بقول الخبر الواحد ، ولا عملنا إلاّ على قوله ؛ لأنّ عملنا مطابقا لما أخبرنا به مطابقة يقتضي تعلّقها به . وإنّما الدليل في الجملة عند من ذهب إلى هذا المذهب إلى وجوب العمل بخبر الواحد العدل ، وعلى طريق التفصيل إنّما نعمل بقول من أخبرنا بتحليل شيء بعينه أو تحريمه . وبعد ، فلو سلمنا إنّا مقتفون قول النبيّ صلى الله عليه و آله لكان لابدَّ من كوننا مقتفين أيضا قول المخبر لنا بالتحليل أو التحريم ، ألا ترى أنّ قوله عليه السلام لو انفرد عن خبر المخبر . فإن قيل : هذا سيبطل بالشهادات، وقيم المتلفات، وجهة القبلة، ومسائل لا تحصى . قلنا: أخرجنا هذه المواضع كلّها من ظاهر الآية بدليل ، وبقي موضع الخلاف متناولاً حكمه للظاهر. ويمكن أيضا أن يستدلّ على أنّ الظن عند خبر الواحد في الشريعة لايجوز العمل عنده، وكذلك في القياس الشرعي، بأنّ اللّه تعالى ينهى في الكتاب عن اتّباع الظن والعمل به، وظاهر ذلك يقتضي العمل به ، ولا عنده في موضع من المواضع، ولما دلّت الأدلّة الظاهرة على العمل عند الظنون في مواضع من الشريعة خصصنا ذلك بتناوله النهي ، وبقيت مسائل الخلاف يتناولها الظاهر ، ولا نخرجها منه إلاّ بدليل ، ولا دليل يوجب إخراجها». (8)

.


1- . الذريعة إلى اُصول الشريعة : ج 2 ص 519 .
2- . المصدر السابق : ص 518 _ 519.
3- . المصدر السابق : ص 519 .
4- . المصدر السابق .
5- . جوابات المسائل الموصليات الثالثة : ص 202 _ 203 ( رسائل الشريف المرتضى، المجموعة الاُولى).
6- . الإسراء: 36.
7- . البقرة: 169.
8- . مسائل شتى : ص 336 _ 337 ( رسائل الشريف المرتضى، المجموعة الرابعة).

ص: 150

. .

ص: 151

. .

ص: 152

. .

ص: 153

. .

ص: 154

جواز التعبد بخبر الواحد وعدمه عقلاً

جواز التعبد بخبر الواحد وعدمه عقلاًيتطرّق الشريف المرتضى قدس سره في هذا المبحث إلى فذلكة المسألة من الناحية الكلامية ، ويذكر أنّ بعض المتكلّمين يذهب إلى أنّ خبر الواحد لا يجوز من جهة العقل ورود العبادة بالعمل به . ولكن الشريف المرتضى قدس سره ، يقول: « والصحيح أنّ ذلك جائز عقلاً ، وإن كانت العبادة ماوردت به». (1) ثمّ يقيم الشريف المرتضى قدس سره ثلاثة أدلّة على جواز ورود العبادة بالعمل بخبر الواحد ، ولا استحالة في ذلك ، وملخّصها مايلي : الدليل الأوّل : إنّ خبر الواحد يمكن أن يكون طريقا إلى معرفة الأحكام ، وأنّه يجري في جواز كونه دلالة مجرى الأدلّة الشرعية كلّها من كتاب وسنة وإجماع، وإنّما جاز أن يكون لخبر الواحد دلالة بأن يدلّ القرآن أو السنّة على وجوب العمل به ، إذا كان المخبر به على صفة مخصوصة. (2) ويتنبه الشريف المرتضى قدس سره إلى مطلب مهم في البين ، وهو : أنّ خبر الواحد مختلف وجه دلالته ، ولكنه يرجع وجه هذا الاختلاف وصورته إلى نفس الاختلاف في وجه ودلالة الكتاب والإجماع ، ويؤكّد على أنّ هذا الاختلاف في دلالاتها لم يخرجها عن كونها أدلّة. (3) الدليل الثاني : وهو دليل نقضي ، يقول : إنّ العمل في كثير من العقليات قد يتبع غلبة الظن ، فما المانع عن مثل ذلك في الشرعيات ؟ ! (4) الدليل الثالث : وهو دليل حلي ، يقول: إنّه ورد التعبد بقبول بعض العبادات مثل قبول الشهادات وغيرها ، وهي من باب واحد. (5) ثمّ يقيم الشريف المرتضى قدس سره سبعة أدلّة على منع جواز التعبد بالخبر الواحد، (6) وكلّها أدلّة أشبه ما تكون عقلية ، تناسب مسالك البحوث الكلامية ، وتقدّم أنّ بعض المتكلّمين كان يذهب إلى أنّ خبر الواحد لا يجوز من جهة العقل . ولا بأس بالإشارة إلى الأوّل منها ، وهو: أنّ الشرائع لا تكون إلاّ مصالح لنا ، وبخبر الواحد لا نعلم أنّ ذلك مصلحة ، ولا نأمن كونه مفسدة. (7) وهذا أشبه مايكون بالدليل المنطقي القائم على صغرى وكبرى ونتيجة . ويردّ الشريف المرتضى قدس سره كبرى القياس بقضية لا تخلو من أمرين ، فيقول : « الشرائع لابدَّ من كونها مصالح على ما ذكرتم، ولابدَّ من طريق للمكلّف إلى العلم بذلك ، إمّا على الجملة أو التفصيل ، فإذا دلّ الدليل على وجوب العمل بخبر الواحد إذا كان على صفة وإذا غلب في الظن صدقه علمنا كون ما اُخبر به صلاحا ، وأمنا من الإقدام على المفسدة ، كما نعلم كون قطع يد السارق عند البينة أو الإقرار صلاحا ولولا ذلك لكان مفسدة ، وتنتقض أيضا هذه الطريقة بالشهادات إذا عمل بها في الحدود». (8) ثمّ يقول الشريف المرتضى قدس سره _ في مسألة عدم تخطئة العامل بخبر الواحد _ : « إنّ أخبار الآحاد ممّا لم تقم دلالة شرعية على وجوب العمل بالأقلّ ولا القطع العذر بذلك ، وإذا كان خبر الواحد لا يوجب عملاً ، فإنّما يقتضي إذا كان راويه على غاية العدالة ظنا ، فالتجويز لكونه كاذبا ثابت ، فالعمل بقوله يقتضي الإقدام على ما يعلم قبحه . فأمّا الاستدلال على أنّ الحجّة ثابتة بقبول أخبار الآحاد، بألاّ نكفر من خالفنا في بعض الأحكام الشرعية من الإمامية ولا يخرج عن موالاته، فلا شبهة في بعده ، لإنّا لا نكفر ولا نرجع عن موالاة من خالف من أصحابنا في بعض الشرعيات، وإن اُستند في ذلك المذهب إلى التقليد، أو يرجع فيه إلى شبهة معلومة بطلانها. ولم يدلّ عدولنا عن تكفيره وتمسكنا بموالاته على أنّ التقليد الّذي تمسك به واعتمد في مذهبه ذلك عليه حقّ ، وأنّ فيه الحجّة ، فكذلك ماظنه السائل . وبعد، فلو كنّا إنّما عدلنا عن تكفيره وأقمنا على موالاته من حيث استند من أخبار الآحاد إلى ما قامت الحجّة في الشريعة، لكنّا لا نخطئه ، ولا نأمره بالرجوع عمّا ذهب إليه ؛ لأنّ من عوّل في ذهب على ما فيه الحجّة ولا يشتمل عليه. (9) بل يصرّح أكثر من ذلك بأنّ العلماء الّذين عليهم المعوّل ، ويدرون ما يأتون به وما يذرون ، ولا يجوزون أن يحتجّوا بخبر واحد لا يوجب علما ، ولا يقدر أحد أن يحكي عنهم في كتابه ولا غيره خلاف ما ذكرناه. (10)

.


1- . الذريعة إلى اُصول الشريعة : ج 2 ص 519.
2- . المصدر السابق : ص 520.
3- . المصدر السابق.
4- . المصدر السابق : ص 522.
5- . المصدر السابق .
6- . المصدر السابق .
7- . المصدر السابق : ج 2 ص 522 .
8- . المصدر السابق : ص 524 _ 525.
9- . مسألة عدم تخطئة العامل بخبر الواحد : ص 269 _ 270 ( رسائل الشريف المرتضى ، المجموعة الثالثة ) .
10- . جوابات المسائل الموصليات الثالثة : ص 211 ( رسائل الشريف المرتضى، المجموعة الاُولى).

ص: 155

. .

ص: 156

التعبد بخبر الواحد وعدمه شرعا

التعبد بخبر الواحد وعدمه شرعاما تقدّم من البحث السابق كان منصبّا على الناحية العقلية في جواز التعبد بخبر الواحد وعدمه ، والآن نبحث ذلك من الناحية الشرعية العبادية. ويعتقد الشريف المرتضى قدس سره : إنّ العبادة ماوردت بالتعبد بخبر الواحد ، وإن كان العقل يجوز التعبد بذلك وغير محيل له. (1) ثمّ يستعرض الشريف المرتضى قدس سره الخلاف في هذه المسألة قائلاً: «ووافق على ذلك كلّ من منع عقلاً من العبادة به من النظّام وغيره من المتكلّمين. وذهب الفقهاء وأكثر المتكلّمين إلى أنّ العبادة قد وردت بالعمل بخبر الواحد في الشريعة. وكان أبو علي الجبائي لا يعمل بخبر الواحد في الشريعة ، ويعمل بخبر الاثنين فصاعدا ، ويجريه مجرى الشهادة». (2) وعمدة دليل الشريف المرتضى قدس سره في هذا الباب هو دليل واحد ، مركب من صغرى وكبرى ونتيجة بصورة قياس منطقي ، يقول قدس سره فيه : «العمل بالخبر لابد من أن يكون تابعا للعلم ، فأمّا أن يكون تابعا للعلم بصدق الخبر أو العلم بوجوب العمل به مع تجويز الكذب ، وقد علمنا أنّ خبر الواحد لا يحصل عنده علم بصدقه لا محالة ، فلم يبق إلاّ أن يكون العمل به تابعا للعلم بالعبادة بوجوب العمل به ، وإذا لم نجد دليلاً على وجوب العمل به نفيناه». (3) هذا عمدة الدليل الّذي يعتمد عليه . نعم ، قبل هذه الصيانة النهائية للدليل يصوغه بصياغة اُخرى لا تتسم بسمات القضايا المنطقية. ويجمل الشريف المرتضى قدس سره عمدة آراء المخالفين جميعا إلى تسعة أدلّة ، وسوف نتعرّض إلى معظمها مع ردودها للإحاطة بمنهجها الّذي يتبعه الشريف المرتضى قدس سرهفي ذلك . وركّز الدليل الأوّل والثاني والثالث على الاستدلال بالآيات القرآن ية ، واقتصر الرابع على الدليل العقلي ، بينما كان الخامس والسادس يبحث المسألة من الجهة الأخبارية والروائية ، أما الدليل السابع والثامن والتاسع فهي أدلّة غير وضاءة في هذا المجال ، لم نتعرّض إليها . وسوف نقتصر على دليل واحد لكلّ وجهة: فأمّا دليل الوجهة القرآنية فانصع دليل فيها هو آية النفر ، وهي قوله تعالى: «فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَ_آل_ءِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِى الدِّينِ وَ لِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ» . (4) ويجمل الشريف المرتضى قدس سره استدلالهم بهذه الآية قائلاً: « وليس يكونون منذرين لهم إلاّ ويلزمهم القبول منهم ». (5) نعم ، هو يضيف وجها آخر للاستدلال بالآية الكريمة ، فيه شيء من الدقّة أكثر ، وهو : « وربّما قالوا : إنّ معنى الآية ولينذر كلّ واحد منهم قومه ، وإذا صحّ لهم ذلك استغنوا عن التشاغل بأنّ اسم طائفة يقع على الواحد ، كما يقع على الجماعة...». (6) ويردّ الشريف المرتضى قدس سره على هذا الاستدلال بكلتا صورتيه قائلاً: «إذا سلمنا أنّ اسم الطائفة يقع على الواحد والاثنين فلا دلالة لكم في الآية ؛ لأنّه تعالى سمّاهم منذرين، والمنذر هو المخوف المحذر الّذي ينبّه على النظر والتأمّل ، ولا يجب تقليده ولا القبول منه بغير حجّة ؛ ولهذا قال تعالى: « لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ » ومعنى ذلك : ليحذروا ، ولو أراد ما ادعوا لقال تعالى : « لَعَلَّهُمْ يَعْمَلُونَ أَوْ يَقْبَلون » والنبيّ صلى الله عليه و آله وإن سمّيناه منذرا وكان قبول قوله واجبا فمن حيث كان في ابتداء دعوته يكون مخوفا ، ثمّ إذا استقرّ دليل نبوته وجب العمل بقوله». (7) كان هذا نموذج قرآني لأدلّة القائلين بورود التعبد بخبر الواحد ، وقريب منها الدليل الثاني والثالث ، تاركين للقارئ مراجعة الباقي. أما الدليل العقلي الّذي يتعقّب الأدلّة القرآن ية يتكون من قضية منطقية مركبة من صغرى وكبرى _ كما سيأتي _. ولابدَّ أن نلفت رأي القارئ إلى أنّ هذا الدليل العقلي جاء بعد الأدلّة القرآن ية ؛ لأجل أنّ الترتيب الفكري عند الشريف المرتضى قدس سره هو على هذا المنوال ، فالقرآن مقدم ثمّ العقل ثمّ الدليل الاجتهاد. أمّا الدليل العقلي فيقول الشريف المرتضى قدس سره فيه : « إنّ اللّه تعالى قد أمر رسوله صلى الله عليه و آله بالإبلاغ في مواضع من الكتاب لاتحصى،والإبلاغ يكون بالتواتر والآحاد معا ؛ لأنّه لو اختصّ بالتواتر وما يوجب العلم لوجب أن يكون العلم بفروع العبادات كالعلم باُصولها ، وكذلك فروع المعاملات كلّها ، ومعلوم ضرورة خلاف ذلك ». (8) ويضيف الشريف المرتضى قدس سره قائلاً : « ليس يجوز أن يؤمر بأن يبلغ إلاّ بما هو حجّة في نفسه يجب العمل به ، وهذا يقتضي أن يدلّ على أنّ الخبر الواحد بهذه الصفة حتّى يصحّ الإبلاغ به، ومن مذهب من خالفكم في هذه المسألة أنّ الإبلاغ لا يصحّ إلاّ بما هو حجّة توجب العلم ، أو بتواتر ، أو إجماع ، أو قول إمام معصوم نائب عنه عليه السلام وخليفة له بعد وفاته ». (9) أمّا الدليل الاجتهادي (الأخبار) من أدلّة القائلين بورود التعبد بخبر الواحد فعمدته : «إنّ الصحابة مجمعة على العمل بأخبار لا تبلغ التواتر». (10) ثمّ يذكر بعض الأخبار في هذا المجال تطبيقا لتلك الكبرى ، ويعتبرها الشريف المرتضى قدس سره أخبار آحاد لا توجب العلم ، ويرجعها إلى أنّها مصادرة على الموضوع. (11) وفي آخر مطاف البحث يقول الشريف المرتضى قدس سره: «وبعد فإذا كنتم تعملون على الجملة أنّ القوم عملوا على أخبار الآحاد فلا فائدة في ذكر هذه الأخبار المعينة وتدوينها في الكتب ؛ لأنّها تقتضي الظن على أجل أحوالها ، وأي تأثير للظن مع العلم الضروري ؟!». (12) ويمكن للقارئ أن ينظر للأدلّة وأجوبة الشريف المرتضى قدس سره عليها في الذريعةبنحو التفصيل. وأكثر تفصيلاً ماذكره في جوابات المسائل التبانيات ، حيث ذكر كلّ إشكال على حدّة مع جوابه بنحو التفصيل. (13)

.


1- . الذريعة إلى اُصول الشريعة : ج 2 ص 528 _ 529.
2- . المصدر السابق : ص 529.
3- . المصدر السابق : ص 530 _ 531.
4- . التوبة : 122 .
5- . الذريعة إلى اُصول الشريعة : ج 2 ص 531.
6- . المصدر السابق.
7- . المصدر السابق : ص 534 _ 535.
8- . المصدر السابق : ص 536.
9- . المصدر السابق .
10- . المصدر السابق : ص 532 .
11- . المصدر السابق : ص 532 _ 533، 538 _ 539.
12- . المصدر السابق : ص 541.
13- . رسائل الشريف المرتضى ( المجموعة الاُولى ) : ص 21 _ 96 .

ص: 157

. .

ص: 158

. .

ص: 159

. .

ص: 160

الخبر المتواتر

الخبر المتواتريعتقد الشريف المرتضى قدس سره أنّ القائلين بالتواتر على ضربين : الضرب الأوّل: من يذهب إلى أنّ الخبر المتواتر فعل اللّه تعالى عنده للسامعين العلم الضروي بمخبره. الضرب الثاني: من يذهب إلى أنّ العلم بمخبره مكتسب. ويعتقد أصحاب الضرب الأوّل : أنّ وقوع العلم ضروري له ، فإذا وجد نفسه عليه علم أنّ صفة المخبرين له صفة المتواترين ، فهؤلاء عندهم أنّ حصول العلم بصفة المخبرين . ويعتقد أصحاب الضرب الثاني : أنّ الطريق إلى العلم بصفة المخبرين هو العادة ؛ لأنّ العادة قد فرّقت بين : أ _ الجماعة الّتي يجوّز عليها أن يتّفق منها الكذب من غير تواطئ وما قام مقامه . ب _ من لا يجوّز ذلك عليه. ج _ من إذا وقع منه التواطئ جاز أن ينكتم. د _ من لا يجوّز انكتام التواطئ. (1) يقول الشريف المرتضى قدس سره بعد كلّ ذلك: «فإذا علم أنّ وجود كون الخبر كذبا لا يصحّ على هذه الجماعات فليس بعد إرتفاع كونه كذبا إلاّ أنّه صدق وأي عجب واستبعاد ؛ لأنّ يكون أحدنا يلقى بنفسه ويسمع الخبر ممّن هو على صفة المتواترين » . (2) ويذكر الشريف المرتضى قدس سره صفة وشرط مهم في التواتر ، وهو : إنّه ليس من شرط الخبر المتواتر أن يكون رواته متباعدي الديار ؛ لأنّ التواطئ قد يحصل بأهل بلد واحد. (3)

.


1- . جوابات المسائل الرسية الاُولى : ص 337 _ 338 ( رسائل الشريف المرتضى ، المجموعة الثانية ) .
2- . المصدر السابق : ص 338.
3- . المصدر السابق.

ص: 161

المتحمل للخبر ، والمتحمل عنه ، وكيفية ألفاظ الرواية عنه

المتحمل للخبر ، والمتحمل عنه ، وكيفية ألفاظ الرواية عنههذا البحث وإن كان يرتبط ارتباطا رئيسيا بعلم الدراية ، لكن يمكن بنحو وآخر جرّه إلى علم الحديث ، فمن هذا البحث تعرّضنا إليه بنحو الإشارة . يتطرّق الشريف المرتضى قدس سره _ هنا تحت هذا الفرع _ إلى عدّة محاور لتوضيح بعض المناهج الروائية : المحور الأوّل : المتحمل للخبر ، وهو على قسمين : القسم الأوّل: الذاهب إلى وجوب العمل بخبر الواحد في الشريعة يراعي في العمل بالخبر صفة المخبر في عدالته وأمانته. القسم الثاني : والّذي يذهب إلى عدم وجوب العمل بخبر الواحد في الشريعة ، يقول : إنّ العمل في مخبر الأخبار تابع للعلم بصدق الراوي، فالشرط الوحيد عنده هو كون الراوي صادقا ، ولا فرق عنده بين أن يكون الراوي مؤمنا أو كافرا أو فاسقا أو عدلاً. واختار الشريف المرتضى قدس سره القسم الثاني طبعا. (1) المحور الثاني: راوي الحديث ، فإنّه لا يجوز أن يروي إلاّ ما سمعه عمن حدّث عنه أو قرأه عليه فأقرّ له به . يقول الشريف المرتضى قدس سره : « فإذا سمع الحديث من لفظه فهو غاية التحمل ». (2) المحور الثالث: ألفاظ الرواية ، وهي على أقسام ثلاثة : 1 . المناولة 2 . المكاتبة 3 . الإجازة. وأوضح الشريف المرتضى قدس سره المناولة: وهي أن يشافه المحدّث غيره ، ويقول له في كتاب أشار إليه: «هذا الكتاب سماعي من فلان» . أمّا المكاتبة فهي: أن يكتب إليه وهو غائب عنه إنّ الّذي صحّ من الكتاب الفلاني هو سماعي. (3) وعلى هذه التفرقة التعريفية تصبح المناولة أقوى من المكاتبة ، كما هو واضح. أمّا الإجازة: فيقول الشريف المرتضى قدس سره فيها: « لا حكم لها ؛ لأنّ ما للمتحمل أن يرويه له ذلك ، أجازه له أو لم يجزه ، وما ليس له أن يرويه محرم عليه مع الإجازة وفقدها » . (4)

.


1- .راجع : المكانة عند رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم ، القرابة القريبة .
2- . الذريعة إلى اُصول الشريعة : ج 2 ص 555 _ 556.
3- . المصدر السابق : ص 556.
4- . المصدر السابق : ص 560 _ 561.

ص: 162

حجّية ظواهر السنّة في إثبات الأحكام الشرعية

حجّية ظواهر السنّة في إثبات الأحكام الشرعيةحجّية ظواهر القرآن الكريم أو السنّة النبوية مقطوع بها معلوم صحّتها، ويلحق بها الشريف المرتضى قدس سرهبعض ما اتّفق في بعض الأحكام أن تكون معلومة من مذاهب أئمتنا المتقدّمين على الإمام الغائب عليهم السلام ، الّذين ظهروا وعرفوا وسُئِلوا وأجابوا وعلّموا الأحكام ، وما جرى مجرى هذه المسائل من الاُمور الّتي ظهرت عنهم واشتهرت _ كما عبر الشريف المرتضى قدس سره . يقول الشريف المرتضى قدس سره : « وإذ علمت مذهبهم وكانوا عندنا حجّة معصومين كفى ذلك في وقوع العلم بها والقطع على صحّتها ، ولا اعتبار بمن خالفنا في العمل بشيء ممّا عددناه عنهم ، ووقع أن يكون مشاركا في المعرفة بذلك ؛ لأنّ المخالف في هذا : إمّا أن يكون معاندا ، أو مكابرا ، أو يكون ممّن لم تكثر خلطته لنا، أو تصفحه لأخبارنا ، أو سماعة من رجالنا ؛ لأنّ العلم الضروري ربّما وقف على أسباب من مخالطته ، أو مجالسة ، أو سمع أخبار مخصوصة ». (1)

.


1- . جوابات المسائل الموصليات الثالثة : ص 209 ( رسائل الشريف المرتضى، المجموعة الاُولى).

ص: 163

عدم حجّية الأخبار المنقولة عن طريق أصحاب الحديث

عدم حجّية الأخبار المنقولة عن طريق أصحاب الحديثيطرح الشريف المرتضى قدس سره عدّة إشكالات،ويرجع معظمها إلى مسالك أهل الحديث ، والّذين كان يعتقد بأنّهم رووا ما سمعوا ، وحدّثوا به ، ونقلوا عن أسلافهم ، يقول قدس سره في حقّهم: «وليس عليهم أن يكون حجّة ودليلاً في الأحكام الشرعية أو لايكون كذلك؛ فإن كان في أصحاب الحديث من يحتجّ في حكم شرعي بحديث غير مقطوع على صحّته فقد زل وزور،ومايفعل ذلك من يعرف اُصول أصحابنا في نفي القياس والعمل بأخبار الآحاد حقّ معرفتها، بل لايقع مثل ذلك من عامل ، وربّما كان غير مكلّف » . (1) هكذا يطعن الشريف المرتضى قدس سره بأهل الحديث ، بل قد يحمل عليهم أكثر من هذا ، ويعتبرهم قد خرجوا عن الاُصول العقلية الصحيحة ؛ وذلك لأنّهم قد يحتجّون في اُصول الدين من التوحيد والعدل والنبوّة والإمامة بأخبار الآحاد. (2) ويقول الشريف المرتضى قدس سره أكثر من ذلك: «وربّما ذهب بعضهم إلى الجبر وإلى التشبيه اغترارا بأخبار الآحاد المروية ، ومن أشرنا إليه بهذه الغفلة يحتجّ بالخبر الّذي مارواه ولا حدث به ولا سمعه من ناقله فيعرفه بعدالة أو غيرها ، حتّى لو قيل له في بعض الأحكام: من أين أثبته وذهبت إليه؟ كان جوابه: لأنّي وجدته في الكتاب الفلاني ، ومنسوبا إلى رواية فلان بن فلان ، ومعلوم عند كلّ من نفى العلم بأخبار الآحاد ومن أثبتها وعمل بها أنّ هذا ليس بشيء يعتمد ، ولا طريق يقصد ، وإنّما هو غرور وزور ». (3)

.


1- . المصدر السابق : ص 211 .
2- . المصدر السابق.
3- . المصدر السابق : ص 212.

ص: 164

العمل بأخبار الجمهور

العمل بأخبار الجمهورعن الأئمة عليهم السلام أنّه عند حصول التعارض بين الأخبار يؤخذ ماهو أبعد من قول الجمهور والرأي العام . يقول الشريف المرتضى قدس سره: « ليس ينبغي أن ترجع عن الاُمور المعلومة والمذاهب المشهورة المقطوع عليها بما هو مشتبه ملتبس محتمل». (1) وعلى هذا الأساس فيعتقد قائلاً قدس سره : « فأمّا الرّواية بأن يعمل بالحديثين المتعارضين بأبعدهما من مذهب العامّة ، فهذا لعمري دوري، (2) فإذا كنّا لم نعمل بأخبار الآحاد في الفروع كيف نعمل بها في الاُصول الّتي لا خلاف بيننا في أنّ طريقها العلم والقطع». (3) ولا نمتلك أكثر من هذين النصّين حتّى نفصل هذا البحث ، ونشرح اُصوله .

.


1- . جوابات المسائل الموصليات الثالثة : ص 211 ( رسائل الشريف المرتضى، المجموعة الاُولى).
2- . ينبغي التنبيه على مسألة مهمّة وهي أنّه نقل الفقيه ابن إدريس قدس سره هذا المقطع القيّم في كتابه السرائر ، ولكن بهذه الصورة : «قد روي» بدل : «دوري» فحينئذٍ يختلف المعنى الّذي توخيناه تماما ، والظاهر أنّ نسخة السرائر أصحّ (السرائر : ج 1 ص 50) .
3- . جوابات المسائل الموصليات الثالثة : ص 212 ( رسائل الشريف المرتضى ، المجموعة الاُولى) .

ص: 165

الفصل الرابع: منهجه في المباحث العقائدية والكلامية

اشاره

الفصل الرابع : منهجه في المباحث العقائدية والكلاميةتمهيدتقييم طريقة العمل في الأخبار العقائديةالتوحيد والعدل الكلاميتأويل ظواهر الأخبارمنهج العدول عن الظواهر المحالةالمنهج العملي في ظواهر الأخبارأساس المنهج الظاهري في الأدلّة القطعيةالقياس المنطقي في الأدلّة العقائديةالمناهج المنطقية في المسائل العقائديةالأسس العقلية الشيعية في مواجهة المغالطة والجدل الاعتزاليالدلالة العقلية التنزيهيةمنهج قياس الأولوية في الأحكامالجمع بين المناقشات السندية والدلاليةمنهجية الاُسس الدلاليةالمنطق الروائي في تقييم الرواةالتضعيفات السنديةالبحوث السندية في التراث العقائديالخبر المتواتر والنص الجلي في المسائل العقائديةاللغة والاُسس الكلاميةمعطيات اللغة العربية في المناهج العقائديةمنطوق الأخبار والقضايا العلميةالدقّة التاريخية في واقع الأخبار العقائديةالحقائق الشيعية ونزاهتها من الغلومداخلات في الآراء العقائديةحجية الخبر الّذي قامت الحجّة به على أصله

.

ص: 166

. .

ص: 167

تمهي_د

تمهي_دركّز الشريف المرتضى قدس سره على منحيين في منظومته الكلامية: المنحى الأوّل: منازلاته مع القاضي عبدالجبّار المعتزلي ، المنظّر الكبير للفكر الاعتزالي ، وبالخصوص في كتابه المغني في أبواب التوحيد والإمامة وبالأخصّ ما يتعلّق منه بالإمامة ( المجلد العشرون بقسميه الأوّل والثاني ) . المنحى الثاني : منهج المنطق التنزيهي المطابق للاُصول العقلية عند الأنبياء والأئمة عليهم السلام ، وبالخصوص في كتابه القيّم تنزيه الأنبياء والأئمة عليهم السلام . وهناك الكثير من التفاتاته العقلية في الاُصول الاعتقادية مبثوثة في رسائله وذخيرته وأماليه ، وهي مجموعة كبيرة من الاُسس والمناهج الاعتقادية . والكلّ _ مع المنحيين السابقين _ مجموعة عقائدية متكاملة في باب الاُصول الاعتقادية الشيعية . ونحن في هذا العرض سوف نتوخى الاُسس الروائية في المنهجية الاعتقادية للشريف المرتضى قدس سره ونذكر تعريفا مختصرا لكلّ من الشافي والمغني وتنزيه الأنبياء والأئمة عليهم السلام والذخيرة ؛ لنحيط بالأجواء العلمية لكلّ كتاب. ثمّ نعرّج على أصل الاعتقادات وننقّح المطالب بصورة كلّية ؛ لنخرج باُصول كلّية تشخّص لنا المنهج العقائدي والروائي ، ومقدار معطيات اُصول العقائد الشيعية ، ومدى استجوابها _ في فكر الشريف المرتضى قدس سره طبعا _ للإشكالات المذهبية والرؤي العقلية والروائية. فنقول _ وباللّه التوفيق _ : يعتبر كتاب الذخيرة في علم الكلام من الكتب المهمّة في علم الكلام والشيعي منه بالخصوص ، وقبله قد كتب الشريف المرتضى قدس سرهالملخّص _ الّذي لازال مخطوطا _ ولكن هناك بعض الفوارق بين الكتابين ، فإنّ كتاب الذخيرة شديد الاختصار في أوائله تعويلاً على ماجاء في الملخّص ، وفيه بسط في أواخره سدّا للفراغ الموجود بسبب عدم إتمام الكتاب الأوّل. مع امتياز الثاني بشموله على جلّ الأبواب الكلامية من التوحيد والنبوة والإمامة والمعاد ، وما يتّصل بها من سائر المسائل المبحوث عنها في الكتب المعنية بعلم الكلام. يقول الشريف المرتضى قدس سره في آخر كتاب الذخيرة: «وبين أوائل هذا الكتاب وأواخره تفاوت ظاهر ، فإنّ أوّله على غاية الاختصار، والبسط والشرح معتمدان في أواخره . والعذر في ذلك : أنّا بدأنا بإملائه والنية فيه الاختصار الشديد تعويلاً على أنّ الاستيفاء والاستقصاء يكونان في كتاب الملخّص ، فلمّا وقف تمام إملاء الملخّص_ لعوائق الزمان الّتي لا تملك _ تغيّرت النية في كتابنا هذا ، وزدنا في بسطه وشرحه، وإذا جمع بين ماخرج من كتاب الملخّص وجعل ما انتهى إليه كأنّه لهذا الكتاب وجه بذلك الكلام في جميع أبواب الاُصول مستوفي مستقصى». (1) في صدر الكتاب قد ذكر اسم الذخيرة هكذا : كتاب ذخيرة العالم وبصيرة المعلم ، وهو من تتمة كتاب الملخّص في أصول الدين » . ويحتوي كتاب الذخيرة على أسمى المناهج الروائية _ كما يأتي البحث عنها في ذلك مفصّلاً _ من قبيل ضروب الأخبار ومنهج الخبر المتواتر ، والقياس المنطقي في الأدلّة الاعتقادية ، والاتّفاق على أصل الخبر ، والاختلاف في التأويل. أمّا بالنسبة إلى رسائله فقد خرجت مجاميع أربعة منها وقد احتوت على أغنى المباحث المنهجية في العلوم العقائدية . وسوف يأتي من خلال البحث تفصيل هذه المناهج كالعمل بالظواهر إلاّ لضرورة ، والعدول عن الظاهر ؛ لأنّه يلزم منه المحال ، وكذلك العمل بالظواهر ، وترك التأويل ، والمسائل العلمية ، ومنطق الأخبار وغيرها من المباحث المنهجية. والمهمّ هنا هو التنبيه على أنّ الشريف المرتضى قدس سره لم يخالف اُسسه المنهجية المتعارفة في جميع كتبه ورسائله إلاّ في طريقة البحث والعرض. وقد انفرد بمناهج لا نشاهدها في الفصول والفروع السابقة واللاحقة. نعم ، هناك تهافت مصداقي في بعض المباحث الّتي يطرحها الشريف المرتضى قدس سره ، وقد نقدنا بعض مناهجه المعرفية الاعتقادية في هذا الفصل ؛ لأهميتها وتأثيراتها على الرأي العام . نعم في الاُصول الثابتة لم يعدل الشريف المرتضى قدس سرهعن شيء من مباينه ، وخصوصا الاُصول العقلية الثابتة عنده ، ولكن في تطبيق المصاديق يقع في بعض الإشكالات _ كما يأتي ذلك _. وهذا التهافت نشهده في أماليه غرر الفوائد ودر القلائد ، ولكن الرصانة والتحقيق الدقيق نلمسها في كتاب الذخيرة وبعض مباحث رسائله ، ويمكن القول أنّ الأماليكان مجلسها عامّا يحضره جمع كثير من مختلف المذاهب الاسلامية ؛ ولذلك راعى فيه الجمع العام بخلاف الذخيرة والرسائل فهي للرعيل الشيعي الإمامي ، فلذلك تختلف مبانيها كما في الأمالي. أمّا بالنسبة إلى كتاب تنزيه الأنبياء والأئمة عليهم السلام ، فهو من الكتب النادرة في التراث الإمامي ، فقد أوّلَ في هذا الكتاب الآيات والأحاديث الدالّة على وقوع كبيرة أو صغيرة من الأنبياء والأئمّة عليهم السلام بتأويلات حسنة ، وبتعبير الشريف المرتضى قدس سره : «عن الذنوب والقبائح كلّها» ، والردّ على من خالف في ذلك على اختلافهم وضروب مذاهبهم. وتأمّل السيّد الكنتوري قدس سره في ذلك مدعيا أنّه «ربّما أوّلَ الشريف المرتضى قدس سرهبعض الآيات على مذهب غير الإمامية القائلين بعصمة الأنبياء عليهم السلام بعد البلوغ ، أو بعد النبوّة لاقبلها . . . . واستشهد لذلك : «كما وقع لاُخوة نبي اللّه يوسف عليهم السلام حيث ذكر بعد ذكر ماهو الموافق لمذهبنا أنّه قد قيل: إنّ تلك الأفعال صدرت عنهم في الصغر ، فإن ثبت ذلك يسقط المسألة ، وإنّما أراد سقوط المسألة عند القائلين بعصمة الأنبياء عليهم السلام بعد البلوغ لا قبله» (2) . 3 هذه المفارقة العقائدية من الشريف المرتضى قدس سره ليست المفردة الوحيدة في حياته ، فقد نرى الكثير ما هو خلاف مباني الإمامية في جميع مناحيه الفكرية ، وسوف نسلط الضوء عليها إن شاء اللّه في هذا الفصل ، ولنرى مقدار معطيات هذه البحوث في الوسط الشيعي ، ومقدار تفاعل الأطراف معه. أمّا بالنسبة إلى كتاب المغني في أبواب التوحيد والعدل للقاضي عبدالجبّار 4 المنظّر الكبير للفكر المعتزلي ، وهو من الزعماء الّذين بلغوا النهاية في جمع الشبه _ على حدّ تعبير الشريف المرتضى قدس سرهفي مقدّمة كتابه الشافي _ ورصدها في صالح مذهبه وطعن الطائفة الإمامية. وكتابه المغني يعدّ من الموسوعات الضخمة والمطوّلة العلمية خصوصا باب الإمامة منه ، فقد أورد فيه قوي ما اعتمده شيوخه مع زيادات يسيرة سبق إليها ، وتهذيب مواضع تفرّد بها. (3) من هنا أحسّ بالأهمية البالغة في ذلك العصر لمواجهة هذه الموجة العارمة والمنتشرة في آفاق ربوع الأصقاع الإسلامية ، حتّى نجد أنّ كتاب المغني بإضافة ردّ الشريف المرتضى قدس سره يلخّصه شيخ الطائفة الطوسي قدس سره مرّة اُخرى في تلخيص الشافيبسبك جديد وطرز حديث. ولا نغالي إذا قلنا : إنّ ردّ الشريف المرتضى قدس سره أفضل أنواع الردّ والمناظرة ، ولولا هذا الردّ من الشريف المرتضى قدس سره لما أمكن ركب هذه الصعبة ؛ فإنّه اعتمد على أقوى الشبه الاعتقادية _ كما هو دأب المعتزلة في تدقيقاتهم العقلية _ ، ولكن القوة الفكرية العقائدية للشريف المرتضى قدس سره استطاعت أن تواجه هذه العاصفة. فتصدى الشريف المرتضى قدس سره لردّ هذا الكتاب بكلّ مناحيه وإشكالاته العقائدية وسجالاته العقلية بكتاب جامع لاُصول الإمامة وفروعها ، ومحيطا بالطرق الاستدلالية والنكت المحررة بما لا يوجد في شيء من الكتب المصنّفة على حدّ تعبير الشريف المرتضى قدس سره ؛ ولذلك قد قال فقيد العلم والأدب الشيخ محمّد جواد مغنية رحمه الله: فتصدى لنقضه الشريف المرتضى في كتاب ضخم أسماه: الشافي ، وقد جاء فريدا في بابه ، وبصورة صادقة لمعارف المرتضى ومقدرته ، أو لمعارف علماء الإمامية وعلومهم في زمنه _ على الأصحّ _ [ وقد ] عالج المرتضى مسألة الإمامة من جميع جهاتها كمبدأ ديني واجتماعي وسياسي ، وأثبت بدليل العقل والنقل الصحيح أنّها ضرورة دينية واجتماعية ، وأنّ عليا هو الخليفة الحقّ.... (4) وقد قسّم القاضي عبدالجبّار اعتراضاته إلى قرآنية وحديثية ، ونحن تعرّضنا إلى القسم الثاني لأجل إخراج المنهجية الحديثية بينه وبين الشريف المرتضى قدس سره ؛ لنرى مقدار المستنقع الّذي وقع فيه القاضي عبدالجبّار، مراعين شمول البحث للجهات العقائدية، ومقتصرين على محاور الرواية باختصار. فإنّ الشاخص البارز في حياة الشريف المرتضى قدس سره _ كما قلنا : _ هو إطاحته بعميد المعتزلة القاضي عبدالجبّار ، وما تضمّنه كتابه المغني _ قسم الإمامة _ وبالأحرى أنّ دعامة إشكالات المعتزلة قد انهارت بانهيار القاضي ، فلم تقم لهم قائمة بعد الشريف المرتضى قدس سرهإلاّ بمقتطفات لابن أبي الحديد. (5) ونحن في استعراضنا المنهجي لكتاب الشافي سوف نرى سجالاته الروائية في كلّ موضع ، ونأخذ كلّ قضية تضمّنت الحديث عن رواية من الروايات ؛ لنرى كيفية منهجه في الاستفادة من الروايات. ولابدَّ أن نؤكّد مرّة اُخرى على أن تعاملنا هو في تفسير الروايات الواردة عن النبيّ صلى الله عليه و آله والأئمّة المعصومين عليهم السلام فقط ، ولا نذكر كلّ خبر عن غيرهم ، بل كان مقصودنا في هذه الدراسة هي رؤية وجهات هذين العلمين في الروايات والأخبار الاعتقادية ومقدار تفسيراتها ومعطياتها ، ولا نتطرّق إلى الحوادث والأخبار التاريخية وغيرها واختلاف وجهات النظر فيها ، وكيف يتم الاستدلال بها أو ردّها . نعم ، لم يراع الشريف المرتضى قدس سره كباقي المحقّقين التفريق بين الخبر والرواية ، ولكن اقتصرنا هنا على الرواية الواردة عن المعصوم عليه السلام دون الخبر الّذي يشمل غير الإمام المعصوم عليه السلام .

.


1- . الذخيرة في علم الكلام : ص 607.
2- . كشف الحجب والأستار : 14، رقم 714.
3- . انظر : مقدمة كتاب الشافي في الإمامة : ج 1 ص 33.
4- . انظر مقدّمة الشافي في الإمامة : ج 1 ص 19.
5- . لابدَّ أنّ يعلم أنّ أبا الحسن البصري قد كتب ردّا على الشافي ، وهناك ردود مطوّلة مهمّة للشارح ابن أبي الحديد المعتزلي في كتابه شرح نهج البلاغة علما أنّ هناك ردّا على جميع إشكالات شرح نهج البلاغة للمحدّث الجليل الشيخ البحراني باسم: سلاسل الحديد في تقييد ابن أبي الحديد ، وهو كبير مخطوط.

ص: 168

. .

ص: 169

. .

ص: 170

. .

ص: 171

. .

ص: 172

. .

ص: 173

تقييم طريقة العمل في الأخبار العقائدية

تقييم طريقة العمل في الأخبار العقائديةالشريف المرتضى قدس سره دقيق النظرة في الأخبار ، ويعرف مطبّات البحوث فيها ، فهو يقول: «اعلم أنّه لا يجب الإقرار بما تضمّنه الروايات ؛ فإنّ الحديث المروي في كتب الشيعة وكتب جميع مخالفينا يتضمّن ضروب الخطأ وصنوف الباطل : 1 . من محال لا يجوز أن يتصوّر. 2 . ومن باطل قد دلّ الدليل على بطلانه وفساده ، كالتشبيه والجبر والرؤية والقول بالصفات القديمة ، ومن هذا الّذي يحصي أو يحصر ما في الأحاديث من الأباطيل. ولهذا وجب : أ _ نقد الحديث بعرضه على العقول. ب _ فإذا سلم عليها جوّز أن يكون حقّا والمخبر به صادقا. وليس كلّ خبر جاز أن يكون حقّا وكان واردا من طريق الآحاد يقطع على أنّ المخبر به صادقا. ثمّ يقول الشريف المرتضى قدس سره: «ثمّ ما ظاهره من الأخبار مخالف للحقّ ومجانب للصحيح على ضربين: 1 . فضرب يمكن فيه تأويل له مخرج قريب لما يخرج إلى شديد التعسف وبعيد التكلّف ، فيجوز في هذا الضرب أن يكون صادقا، فالمراد به التأويل الّذي خرّجناه. 2 . فأمّا ما لا مخرج له ولا تأويل إلاّ بتعسف وتكلّف يخرجان عن حدّ الفصاحة ، بل عن حدّ السداد ، فإنّا نقطع على كونه كذبا لاسيّما إذا كان عن نبي أو إمام مقطوع فيهما على غاية السداد والحكمة ، والبعد عن الألغاز والتعمية». (1) وبعد هذا التقييم المفصّل لمسلك الأخبار العقائدية يأتي الشريف المرتضى قدس سرهبمثال لهذا الضابط الكلّي حول الحديث المروي في كتاب اُصول الكافي _ كتاب التوحيد منه _ فيقول : إنّ هشام بن الحكم سأل الصادق عليه السلام عن قول الزنادقة له: أيقدر ربّك يا هشام على أن يدخل الدنيا في قشر البيضة من غير أن تصغر الدنيا ولا تكبر قشر البيضة ؟ وأنّ الصادق عليه السلام قال له: يا هشام ، اُنظر أمامك وفوقك وتحتك وأخبرني عمّا ترى. وأنّه قال: أرى سماءً وأرضا وجبالاً وأشجارا وغير ذلك، وأنّه قال له: الّذي قدر أن يجعل هذا كلّه في مقدار العدسة _ وهو سواد ناظرك _ قادر على ما ذكرت . وهذا معنى الخبر وإن اختلف بعض اللفظ. (2) وكيف يصحّ من الإمام المعصوم تجويز المحال ؟ ! ولا فرق في الاستحالة بين دخول الدنيا في قشر البيضة وهما على ما هما عليه، وبين كون المحل أسود أبيض ساكنا متحرّكا في حال. وهل يجيء من استحالة الإحاطة بالجسم الكبير من الجسم الصغير مقابلة سواد الناظر لما قابله ، مع اتصال الهواء والشعاع بينه وبينه ؟ ! وأين حكم الإحاطة على ذلك الوجه من حكم المقابلة على هذا الوجه ؟ ! وهل لإزالة معرة هذا الخبر الّذي رواه هذا الرجل في كتابه وجعله من عيون أخباره سبيل بتأويل يعتمد عليه جميل ؟ ! وبعد الضابطة الّتي نقلها عن الشريف المرتضى قدس سره يقول: «وهذا الخبر المذكور بظاهره يقتضي تجويز المحال المعلوم بالضرورات فساده وإن رواه الكليني رحمه الله في كتاب التوحيد ، فكم روى هذا الرجل وغيره من أصحابنا _ رحمهم اللّه تعالى _ في كتبهم ما له ظواهر مستحيلة أو باطلة، والأغلب الأرجح أن يكون هذا خبرا موضوعا مدسوسا. ويمكن فيه تخريج على ضرب من التعسف ، وهو أن يكون الصادق عليه السلام سئل عن هذه المسألة بحضرة قوم من الزنادقة والملحدين للأنبياء ، الّذين لا يفرّقون بين المقدور والمستحيل ، فأشفق عليه السلام أن يقول : إنّ هذا ليس بمقدور ؛ لأنّه يستحيل، فيقدر الأغبياء أنّه عليه السلام قد عجزه تعالى، ونفي عن قدرته شيئا مقدورا، فأجاب به ، وأراد أنّ اللّه تعالى قادر على ذلك لو كان مقدورا، ونبّه على قدرته على المقدورات بما ذكره من العين، وأنّ الإدراك يحيط بالاُمور الكثيرة، وإلاّ فهو عليه السلام أعلم بأنّ ما أدركه بعيني ليس بمنتقل إليها ولا حاصل فيها، فيجري مجري دخول الدنيا في البيضة. وكأنّه عليه السلام قال: من جعل عيني على صفة أدرك معها السماء والأرض وما بينهما لابدَّ أن يكون قادرا على كلّ حال مقدورا ، وهو قادر على إدخال الدنيا في البيضة لو كان مقدورا. وهذا أقرب ما يؤل عليه هذا الخبر الخبيث الظاهر. (3)

.


1- . جوابات المسائل الطرابلسيات الثالثة : ص 409 _ 410 ( رسائل الشريف المرتضى ، المجموعة الاُولى).
2- . رواه في اُصول الكافي : ج 1 ص 79 ح 4.
3- . جوابات المسائل الطرابلسيات الثالثة : ص 408 _ 411 ( رسائل الشريف المرتضى ، المجموعة الاُولى ) .

ص: 174

. .

ص: 175

. .

ص: 176

التوحيد والعدل الكلامي

التوحيد والعدل الكلاميالتوحيد والعدل أصلان من الاُصول الإسلامية ، ومن ركائز العقيدة الإسلامية ، وقد خاض فيهما كلّ فريق بالتأليف والتصنيف ، ومن بين هؤلاء يأتي دور المتكلّمين الّذين كان لهم القسط الأكبر من المعارف الإسلامية الكلامية ، وقد كتب جمعٌ غفيرٌ قبل الشريف المرتضى قدس سره وبعده ، وأطالوا في التصنيف والتأليف في خصوصهما ، وقد كتب الشريف المرتضى قدس سره كتبا كثيرةً في هذا المجال كالملخّص والذخيرة وشرح جمل العلم والعمل والشافي ، وبثّ الكثير من بحوثه الكلامية في أماليه ورسائلة، بل لا نغالي القول بأنّ الشاخص الأكبر في بحوثه هو المسائل الكلامية. وقد أتى الشريف المرتضى قدس سره بمسألة نافعة في المقام ، وهي : «اعلم أنّ اُصول التوحيد والعدل مأخوذة من كلام أمير المؤمنين _ صلوات اللّه عليه _ وخطبه ؛ فإنّها تتضمّن من ذلك ما لا زيادة عليه ، ولا غاية وراءه. ومن تأمّل المأثور في ذلك من كلامه علم أنّ جميع ما أسهب المتكلّمون من بعد في تصنيفه وجمعه إنّما هو تفصيل لتلك الجمل وشرح لتلك الاُصول ، وروي عن الأئمّة من أبنائه عليهم السلام من ذلك ما يكاد لا يحاط به كثرة ، ومن أحبّ الوقوف عليه وطلبه من مظانه أصاب منه الكثير العزيز ، الّذي في بعضه شفاء للصدور السقيمة ونتاج للعقول العقيمة » . (1) ولا يكتفي الشريف المرتضى قدس سره بهذا القدر من القاعدة الكلّية حتّى يأتي بأقوال مجموعة من المتكلّمين ، والّذين انتشرت آرائهم في عالم الإسلام ؛ ليؤكّد صحّة وسقم أقوالهم ، منهم : الأوّل : الحسن بن أبي الحسن البصري. يقول الشريف المرتضى قدس سره في حقّه: وأحد من تظاهر من المتقدّمين بالقول بالعدل . . . فمن تصريحه بالعدل مارواه علي بن الجعد . . . وكان الحسن بارع الفصاحة ، بليغ المواعظ ، كثير العلم ، وجميع كلامه في الوعظ وذمّ الدنيا ، أو جلّه مأخوذ لفظا ومعنى ، أو معنى دون لفظ من كلام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام فهو القدوة والغاية. (2) ثمّ ينقل عدّة أخبار في ذلك ويقول قدس سره : «وهذا الباب إن ولجناه اغترفنا من ثبج (3) بحر زاخر ، أو شؤبوب (4) غمام ماطر ، وكلّ قول في هذا الباب لقائل إذا اضيف إليه، أو قُويِسَ به كان كإضافة القطرة إلى الغمرة ، أو الحصاة إلى الحرة، وإنّما أشرنا إليه إشارة وأومأنا إليه إيماء ، ثمّ نعود إلى ما كنّا فيه». (5) الثاني: يقف الشريف المرتضى قدس سره وقفة المتأمّل من الشيخ الكليني رحمه الله وكتابه الكافي ، وخصوصا أبواب التوحيد منه، يقول الشريف المرتضى قدس سره في ضمن أحد تفاسيره التوحيدية والّتي تقدّمت في تقييم طريقة العمل في الأخبار العقائدية: «وهذا الخبر المذكور ... وإن رواه الكليني رحمه الله في كتاب التوحيد فكم روى هذا الرجل وغيره من أصحابنا _ رحمهم اللّه تعالى _ في كتبهم ما له ظواهر مستحيلة أو باطلة». (6) الثالث: قد نقل الشريف المرتضى قدس سره عدّة تفاسير خبرية وروائية عن ابن قتيبة في عدّة مباحث عقائدية ، وأنّه _ كما يقول الشريف المرتضى قدس سره _ قد خلط وأتى بما ليس لمرضي _ وقد هاجمه الشريف المرتضى قدس سرهمهاجمة شديدة، وأوضح مطبّات بحثه وفكره، حتّى أنّه يقول في بعض استظهارات ابن قتيبة في إحدى الأخبار: «ليس الّذي طعن به ابن قتيبة على تأويل الخبر بشيء». (7) فتحتم علينا أن نذكر بعض نماذج مطبّاته ؛ لنعرف منهجية الشريف المرتضى قدس سرهفي نقاشه مع بعض مفسري العقائد الإسلامية: المطبّة الاُولى: في الإشكال الواقع في الخبر الّذي روي عن النبيّ صلى الله عليه و آله ، حينما قال: «لعن اللّه السارق يسرق البيضة فتقطع يده ، ويسرق الحبل فتقطع يده» . يقول الشريف المرتضى قدس سره: «فأوّل ما نقوله: إنّ الخبر مطعون عند أصحاب الحديث على سنده، وقد حكى ابن قتيبة في تأويله وجها عن يحيى بن أكثم، طعن عليه، وضعّفه، وذكر عن نفسه وجها آخر، نحن نذكرهما، وما فيهما، ونتبعهما بما نختاره. قال ابن قتيبة: كنت حضرت يوما مجلس يحيى بن أكثم بمكّة، فرأيته يذهب الى أنّ البيضة في هذا الحديث بيضة الحديد الّتي تغفر الرأس في الحرب، وأنّ الحبل من حبال السفن، قال: وكلّ واحد من هذين يبلغ ثمنه دنانير كثيرة، قال: ورأيته يعجب بهذا التأويل، ويبدي فيه ويعيد، ويرى أنّه قطع به حجّة الخصم. قال ابن قتيبة: وهذا إنّما يجوز على من لا معرفة له باللغة ومخارج الكلم ، وليس هذا موضع تكثيرٍ لما يأخذه السارق فيصرفه إلى بيضةٍ تساوي دنانير، وحبلٍ لا يقدر السارق على حمله، ولا من عادة العرب والعجم أن يقولوا: قبح اللّه فلانا ! عرّض نفسه للضرر في عقد جوهر، وتعرّض لعقوبة الغلول في جراب مسك، وإنّما العادة في مثل هذا أن يقال: لعنه اللّه ، تعرّض للقطع في حبل رثٍّ، أو إداوة خلق، أو كبّة شعر؛ وكلّ ما كان من ذلك أحقر كان أبلغ. قال: والوجه في الحديث أنّ اللّه تعالى لمّا أنزل على رسوله صلى الله عليه و آله : «وَالسَّارِقُ وَ السَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا جَزَآءَم بِمَا كَسَبَا» (8) ، قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله : « لعن اللّه السارق يسرق البيضة فتقطع يده » ، على ظاهر ما أنزل عليه في ذلك الوقت، ثمّ أعلمه اللّه تعالى بعد أنّ القطع لا يكون إلاّ في ربع دينار فمافوقه، ولم يكن عليه السلام يعلَم من حكم اللّه تعالى إلاّ ما علّمه اللّه تعالى، وما كان اللّه يعرّفه ذلك جملة جملة، بل بيّن شيئا بعد شيء. قال الشريف المرتضى قدس سره: ووجدت أبا بكر الأنباري يقول: ليس الّذي طعن به ابن قتيبة على تأويل الخبر بشيء، قال: لأنّ البيضة من السلاح ليست علما في كثرة الثمن ونهاية علوّ القيمة، فتجري مجرى العقد من الجوهر، والجراب من المسك؛ اللّذين هما ربّما ساويا الألوف من الدنانير، والبيضة من الحديد ربّما اشتريت بأقلّ ممّا يجب فيه القطع، وإنّما أراد عليه السلام أنه يكتسب قطع يده بما لا غنى له به؛ لأنّ البيضة من السلاح لايستغني بها أحد، والجوهر والمسك في اليسير منهما غنىً. قال الشريف المرتضى قدس سره: والّذي نقوله: إنّ ما طعن به ابن الأنباريّ على كلام ابن قتيبة متوجّه، وليس في ذكر البيضة والحبل تكثير كما ظنّ، فيشبه العقد والجراب من المسك، غير أنّه يبقى في ذلك أن يقال: أيّ وجهٍ لتخصيص البيضة والحبل بالذكر، وليس هما النهاية في التقليل ؟! وإن كان كما ذكره ابن الأنباريّ، من أنّ المعنى أنّه يسرق ولا يستغنى به؛ فليس ذكر ذلك بأَولى من غيره، ولابدَّ من ذكر وجه في ذلك. وأمّا تأويل ابن قتيبة فباطل؛ لأنّ النبيّ صلى الله عليه و آله لا يجوز أن يقول ما حكاه عند سماع قوله تعالى: «وَالسَّارِقُ وَ السَّارِقَةُ» ؛ لأنّ الآية مجملة مفتقرة إلى بيان ، ولا يجوز أن يحملها أو يصرفها إلى بعض محتملاتها دون بعض بلا دلالة، على أنّ أكثر من قال: إنّ الآية غير مجملة، وأنّ ظاهر القول يقتضي العموم يذهب إلى أنّ ما اقتضى تخصيصها بسارق دون سارق لم يتأخّر عن حال الخطاب بها، فكيف يصحّ ما قاله ابن الأنباري أنّ الآية تقدّمت، ثمّ تأخّر تخصيص السارق، ولو كان ذلك كما ظنّ لكان المتأخّر ناسخا للآية. وعلى تأويله هذا يقتضي أن يكون كلّ الخبر منسوخا، وإذا أمكن تأويل أخباره عليه السلام على ما لايقتضي رفع أحكامها ونسخها كان أولى. والأشبه أن يكون المراد بهذا الخبر أنّ السارق يسرق الكثير الجليل فتقطع يده، ويسرق الحقير القليل فتقطع يده، فكأنّه تعجيز له، وتضعيف لاختياره، من حيث باع يده بقليل الثمن، كما باعها بكثيره. وقد حكى أهل اللغة أنّ بيضة القوم وسطهم ، وبيضة الدار وسطها ، وبيضة السنام شحمته ، وبيضة الصيف معظمه ، وبيضة البلد الّذي لا نظير له ، وإن كان قد يستعمل ذلك في المدح والذم على سبيل الأضداد ، وإذا استعمل في الذم فمعناه : أنّ الموصوف بذلك حقير مهين ، كالبيضة الّتي تفسدها النعامة فتتركها ملقاةً لا تلتفت إليها. (9) المطبّة الثانية: الحديث الّذي رواه أبو هريرة عن النبيّ صلى الله عليه و آله : « كلّ مولود يولد على الفطرة حتّى يكون أبواه يهودانه أو ينصرانه » . قال الشريف المرتضى قدس سره: قلنا: أمّا أبو عبيد القاسم بن سلاّم فإنّه قال في تأويل هذا الخبر: سألت محمّد بن الحسن عن تفسيره فقال: كان هذا في أوّل الإسلام قبل أن تنزل الفرائض، ويؤمر المسلمون بالجهاد. قال أبو عبيد: كأنّه يذهب إلى أنّه لو كان يولد على الفطرة، ثمّ مات قبل أن ينصّره أبواه ويهوّداه ما ورّثاه، وكذلك لو ماتا قبله ماورّثهما؛ لأنّه مسلم وهما كافران. وماكان أيضا يجوز أن يسبى، فلمّا نزلت الفرائض وجرت السنن بخلاف ذلك علم أنّه يولد على دين أبويه. قال أبو عبيد: وأمّا عبداللّه بن المبارك فإنّه قال: هو بمنزلة الحديث الآخر الّذي يتضمّن أنّه عليه السلام سئل عن أطفال المشركين فقال: «اللّه أعلم بما كانوا عاملين» يذهب إلى أنّهم يولدون على ما يصيرون إليه من إسلام أو كفر، فمن كان في علمه تعالى أنّه يصير مسلما؛ فإنّه يولد على الفطرة، ومن كان في علمه أنّه يموت كافرا ولد على ذلك. قال أبو عبيد: وممّا يشبه هذا الحديث حديثه الآخر أنّه قال: «يقول اللّه عز و جل : إنّي خلقتُ عبيدي جميعا حُنَفَاه، فاجتالتهم الشياطين عن دينهم، وجعلت ما أحللته لهم حراما». قال أبو عبيد: يريد بذلك البحائر والسُّيّب وغير ذلك ممّا أحلّه اللّه تعالى، فجعلوه حراما. وأمّا ابن قتيبة فقال _ وقد حكى ما ذكرناه عن أبي عبيد _ : لست أرى ما حكاه أبو عبيد عن عبداللّه بن المبارك ومحمّد بن الحسن مقنعا لمن أراد أن يعرف معنى الحديث؛ لأنّهما لم يزيدا على أن ردّا على ما قال به من أهل القدر. (10) ثمّ قال الشريف المرتضى قدس سره : فأمّا الجواب الّذي ذكره ابن قتيبة فقد بينا فساده فيما تقدّم من الأمالي عند تأويلنا قوله تعالى: «وَ إِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنم بَنِىءَادَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ» (11) وأفسدنا قول من اعتقد أنّه مسح ظهر آدم، واستخرج منه الذرّية، وأشهدها على نفوسها، وأخذ إقرارها بمعرفته بوجوه من الكلام فلا طائل في اعادة ذلك». (12) ويشير مرّة اُخرى إلى ما رواه في ذيل الآية ، حيث قال قدس سره: «وقد ظنّ بعض من لا بصيرة له ولا فطنة عنده أنّ تأويل هذه الآية أنّ اللّه تعالى استخرج من ظهر آدم عليه السلام جميع ذرّيته، وهم في خلق الذرّ، فقرّرهم بمعرفته، وأشهدهم على أنفسهم. وهذا التأويل _ مع أنّ العقل يبطله ويحيله _ ممّا يشهد ظاهر القرآن بخلافه؛ لأنّ اللّه تعالى قال: «وَ إِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنم بَنِىءَادَمَ» ، ولم يقل: من آدم، وقال: «مِن ظُهُورِهِمْ» ، ولم يقل: من ظهره، وقال: «ذُرِّيَّتَهُمْ» ، ولم يقل: ذرّيته؛ ثمّ أخبر تعالى بأنّه فعل ذلك لئلاّ يقولوا يوم القيامة: إنّهم كانوا عن ذلك غافلين، أو يعتذروا بشرك آبائهم، وأنّهم نشؤوا على دينهم وسنّتهم؛ وهذا يقتضي أنّ الآية لم تتناول ولد آدم عليه السلام لصلبه، وأنّها إنّما تناولت من كان له آباء مشركون، وهذا يدلّ على اختصاصها ببعض ذرّية بني آدم، فهذه شهادة الظّاهر ببطلان تأويلهم، فأمّا شهادة العقول فمن حيث لا تخلو هذه الذرّية الّتي استخرجت من ظهر آدم عليه السلام فخوطبت وقرّرت من أن تكون كاملة العقول، مستوفيةً لشروط التكليف، أو لا تكون كذلك . فإن كانت بالصفة الاُولى وجبَ أن يذكر هؤلاء بعد خلقهم وإنشائهم، وإكمال عقولهم ما كانوا عليه في تلك الحال، وما قرّروا به، واستشهِدوا عليه؛ لأنّ العاقلَ لا ينسَى ماجرى هذا المجرى، وإن بَعُد العهدُ وطال الزمان؛ ولهذا لا يجوزُ أن يتصرَّف أحدُنا في بلدٍ من البلدان وهو عاقل كامل ، فينسَى مع بعد العهد جميع تصرّفِه المتقدّم وسائر أحواله. (13) فالإشكال في هذه المطبّة هي أنّ هذا التأويل مع أنّ العقل يبطله ويحيله ممّا يشهد ظاهر القرآن الكريم بخلافه.

.


1- . أمالي المرتضى ( غرر الفوائد ودرر القلائد ) : ج 1 ص 148 .
2- . أمالي المرتضى (غرر الفوائد ودرر القلائد ): ج 1 ص 153.
3- . ثبج البحر: وسطه أو معظمه.
4- . الشؤبوب: الدفعة من المطر.
5- . أمالي المرتضى (غرر الفوائد ودرر القلائد ): ج 1 ص 154.
6- . جوابات المسائل الطرابلسيات الثالثة : ص 410 ( رسائل الشريف المرتضى، المجموعة الاُولى).
7- . أمالي المرتضى (غرر الفرائد ودرر القلائد ): ج 2 ص 6.
8- . المائدة: 38.
9- . أمالي المرتضى (غرر الفوائد ودرر القلائد ) : ج 2 ص 5 _ 7 .
10- . أمالي المرتضى (غرر الفوائد ودرر القلائد ) : ج 2 ص 82.
11- . الأعراف : 172.
12- . المصدر السابق : ص 86.
13- . أمالي المرتضى (غرر الفوائد ودرر القلائد ) : ج 1 ص 28.

ص: 177

. .

ص: 178

. .

ص: 179

. .

ص: 180

. .

ص: 181

. .

ص: 182

. .

ص: 183

تأويل ظواهر الأخبار

تأويل ظواهر الأخبارفي هذا الحقل يبرز الشريف المرتضى قدس سره نكتة في غاية الأهمية وهي : أنّ التأويل والتفسير يتطرّق إلى الأخبار ولا يتطرّق إلى إجماع وغيره . كما ذكر ذلك في حقيقة الرجعة عندما سئل عن حقيقتها وبالخصوص يضع اليد على ما قاله شذاذ من الإمامية القائلين : بأنّ الرجعة رجوع دولتهم في أيّام القائم عليه السلام من دون رجوع أجسامهم. يقول الشريف المرتضى قدس سره في جواب هذا السائل: «اعلم إنّ الّذي تذهب الشيعة الإمامية إليه أنّ اللّه تعالى يعيد عند ظهور إمام الزمان المهدي عليه السلام قوما ممّن كان قد تقدّم موته من شيعته؛ ليفوزوا بثواب نصرته ومعونته، ومشاهدة دولته، ويعيد أيضا قوما من أعدائه لينتقم منهم، فيلتذوا بما يشاهدون من ظهور الحقّ وعلو كلمة أهله». (1) وبعد بحث قصير حول إثبات ذلك يعرّج على المسألة المهمّة في بحثنا قائلاً قدس سره: «فأمّا من تأوّلَ الرجعة من أصحابنا على أنّ معناها رجوع الدولة والأمر والنهي من دون رجوع الأشخاص وإحياء الأموات ، فإنّ قوما من الشيعة لمّا عجزوا عن نصرة الرجعة وبيان جوازها وأنّها تنافي التكليف ، وعوّلوا على هذا التأويل للأخبار الواردة بالرجعة». (2) ثمّ يقول الشريف المرتضى قدس سره: «وهذا منهم غير صحيح ؛ لأنّ الرجعة لم تثبت بظواهر الأخبار المنقولة فيتطرّق التأويلات عليها، فكيف يثبت ماهو مقطوع على صحّته بأخبار الآحاد الّتي لاتوجب العلم؟ ! وإنّما المعقول في إثبات الرجعة على إجماع الإمامية على معناها بأنّ اللّه تعالى يحيي أمواتا عند قيام القائم عليه السلام من أوليائه وأعدائه على ما بيّناه فكيف يطرق التأويل على ما هو معلوم، فالمعنى غير محتمل». (3) فعلى هذا المبنى: إنّ الشيء الّذي لا يثبت بظواهر الأخبار ، بل يثبت باُمور معلومة قطعية كالإجماع في المقام لا يمكن أن يتطرّق إليها التأويل ، وهذا شيء يتلائم مع الاُسس الكلّية الّتي سار عليها الشريف المرتضى قدس سره وهو اعتماده على المعلوم ، وقد اعتبر الإجماع من المعلوم. وكذلك يقول الشريف المرتضى قدس سره: «و [ما] كان له ظاهر ينافي المعلوم المقطوع به تأوّلنا ظاهره على ما يطبق الحقّ ويوافقه إن كان ذلك سهلاً ، وإلاّ فالواجب إطراحه وإبطاله». (4) وما قدّمناه من مقطوع المذكور جاء به الشريف المرتضى قدس سره في الإشكال الواقع في الخبر المنسوب إلى الإمام الصادق عليه السلام عندما قال: «لقد آخى رسول اللّه صلى الله عليه و آله بين سلمان وأبي ذرّ، ولو اطّلع أبوذرّ على ما في قلب سلمان لقتله». وكيف يجوز أن يؤاخي النبيّ عليه السلام بين رجلين يستحلّ أحدهما إذا اطّلع على ما في قلب الآخر دمه ؟! وما القول فيمن تأوّل هذا القول وهو «قتله» على أنّ الهاء راجعة على ما في قلبه، وأراد: لقتله علما؟ وهل ذلك تأويل جائز أم لا؟ وما القول أيضا فيمن تأوّله على غير هذا الوجه ، فقال: إنّ معنى قوله: «لقتله » ، أي لكدّ فكره وخاطره كدّا يجهده، وأنّه عبّر بالقتل هاهنا على سبيل المبالغة في تعبيره عن شدة المبالغة والمشقّة، كما يقول القائل: قتلني انتظار فلان، ومتّ إلى أن رأيتك، وإلى أن تخلّصت من الشدة الّتي كنت فيها عدّة دفعات، وهو يريد الإخبار عن شدة الكلفة والمشقّة والمبالغة في وصفها. الجواب _ وباللّه التوفيق _ : إنّ هذا الخبر إذا كان من أخبار الآحاد الّتي لا توجب علما ولا تُثلج صدرا، وكان له ظاهر ينافي المعلوم المقطوع به تأوّلنا ظاهره على ما يطابق الحقّ ويوافقه إن كان ذلك سهلاً، وإلاّ فالواجب إطراحه وإبطاله. وإذا كان من المعلوم الّذي لا يحيل سلامة سريرة كلّ واحد من سلمان وأبي ذر، ونقاء صدر كلّ واحد منهما لصاحبه، وأنّهما ما كانا من المدغلين في الدّين ولا المنافقين ، فلا يجوز مع هذا المعلوم أن يعتقد أنّ الرسول عليه السلام يشهد بأنّ كلّ واحد منهما لو اطّلع على ما في قلب صاحبه لقتله على سبيل الاستحلال لدمه، ويعلم أنّه كان قال ذاك فله تأويل غير هذا الظاهر الّذي لا يليق بهما. ومن أجود ما قيل في تأويله: إنّ الهاء في قوله: «لقتله» راجع إلى المطَّلِع لا إلى المطَّلَع عليه؛ كأنّه أراد: أنّه إذا اطّلع على ما في قلبه، وعلم موافقة باطنه لظاهره، وشدة إخلاصه له اشتدّ ضنّه ومحبته له، وتمسّكه بمودّته ونصرته، فقتله ذلك الضنّ والودّ، بمعنى أنّه كاد يقتله، كما يقولون: فلان يهوى غيره، وتشتد محبته له حتّى إنّه قد قتله حبه وأتلف نفسه، وما جرى مجرى هذا من الألفاظ. وتكون فائدة هذا الخبر حسن الثناء من النبيّ عليه السلام على الرجلين، وأنّه آخى بينهما ، وباطنهما كظاهرهما، وسرّهما في النقاء والصفاء كعلانيتهما، حتّى لو أنّ أحدهما اطّلع على ما في قلب الآخر لأعجب به، وكاد يقتله محبّة له، وضنّا به، وهذا أشبه بمنزلة الرجلين في نفوسهما وعند النبيّ عليه السلام ، وأليق بأن يكون مدحا وتقريضا، وذلك الوجه الآخر يقتضي غاية الذم، ونهاية الوصف بالنفاق، وسوء الدخيلة ؛ لأنّ من يظهر جميلاً _ ولو اطّلع على باطنه لاستحلّ دمه _ هو عين المنافق المداهن . فأمّا تأويل هذه اللفظة وحملها على العلم فغير مرضيّ؛ لأنّ المطّلع على ما في قلب غيره لا يكون إلاّ عالما بما اطّلع عليه. وأيّ معنىً للفظة «قتله» في هذا الموضع ؟! وهل ذلك إلاّ تكرير، وممّا لا فائدة فيه ؟! فأمّا حمله على أنّه كدّ خاطره، وقسّم فكره فكاد يقتله فممّا المسألة عنه قائمة. ولِمَ يكون مثل كلّ واحد من هذين الرجلين متى اطّلع على قلب صاحبه كدّ خاطره وأتعب قلبه، حتّى كاد يقتله، لولا أنّه يطَّلع على سوء ومكر ؟! وهذا هو النفاق الّذي ننزّه الرجلين عنه ، ولا يليق بهما، ولا بالنبيّ عليه السلام أن يصفهما به. (5) ولا يخفى التمحّل الواقع في كلام الشريف المرتضى قدس سره ، وهذا دأبه في الأخبار الّتي فيها جهة روحية ، فهو يتعامل معها معاملة الظاهر الصرف ، ولا يتبنّى أي بطن للخبر .

.


1- . جوابات المسائل الرازية : ص 125 ( رسائل الشريف المرتضى المجموعة الاُولى).
2- . المصدر السابق : ص 26.
3- . المصدر السابق.
4- . أمالي المرتضى (غرر الفوائد ودرر القلائد ): ج 2 ص 396.
5- . أمالي المرتضى (غرر الفرائد ودرر القلائد ) : ج 2 ص 396 _ 397.

ص: 184

. .

ص: 185

. .

ص: 186

منهج العدول عن الظواهر المحالة

منهج العدول عن الظواهر المحالةيقع الشريف المرتضى قدس سره في هذا الفرع في بعض التهافت المصداقي الروائي ، ولابدَّ من توضيح ذلك بصورة دقيقة حتّى ينجلي منهجه ، وينكشف تهافته الروائي . يعتقد الشريف المرتضى قدس سره: إنّه إذا وردت رواية تنافي العقل لابدَّ من تأويلها ، وهذا كلام صحيح على مبانيه قدس سره ، وكذلك على الاُسس الشيعية ، حتّى أنّ هذا كان معروفا في الوسط الشيعي في زمن الشريف المرتضى قدس سرهحيث سأله سائل في سبب القول بأنّ الشهداء أحياء ؟ يقول السائل في آخر سؤاله: «وذلك واجب المضي على ظاهره ؛ لأنّ الانصراف عنه مع خروجه عن الاستحالة بحياتهم المقطوع عليها غير جائز ، وإنّما ينصرف عن الظواهر إذا استحالت ، أو منع منها دليل». (1) ولكن عند تطبيقه على المصداق يقع في تناقض واضح ؛ فإنّه قد روي أنّ النبيّ صلى الله عليه و آله والإمام أمير المؤمنين عليه السلام يحضران عند كلّ ميت وقت قبض روحه في شرق الأرض وغربها ، فالسؤال وقع في أنّه هل المحتضر يشاهد في تلك الحال نفس جسم النبيّ والإمام عليهماالسلام أو غير ذلك؟ ولا يرتضي الشريف المرتضى قدس سره أنّ المحتضر يشاهد نفس النبيّ والإمام عليهاالسلامبل يصر في موضعين على أنّ اللّه تعالى يعلم المحتضر ويبشّره إذا كان من أهل الإيمان بما له من الحظ والنفع ؛ لموالاته وتمسكه بمحمّد وعلي عليهماالسلام ، فكأنّه يراهما ، وكأنّهما حاضران عنده ، لأجل هذا الإعلام ، وكذلك إذا كان من أهل العداوة ؛ فإنّه يعلمه بما عليه من الضرر بعداوتهما ، والعدول عنهما. (2) أو يقول قدس سره في موضع آخر : إنّه يعلم في تلك الحال ثمرة ولايته عليه السلام وانحرافه عنه ؛ لأنّ المحتضر قد روي : إنّه إذا عاين الموت وقاربه اُري في تلك الحال مايدلّه على أنّه من أهل الجنة أو من أهل النار . (3) فهو بهذا المقطع المعرفي يؤول الخبر ولا يحمله على أنّ النبيّوالإمام عليهاالسلام يحضران عند الميت ، حتّى أنّه يصرّح بذلك قائلاً : « وإنّما اخترنا هذا التأويل ؛ لأنّ أمير المؤمنين عليه السلام جسم فكيف يشاهده كلّ محتضر ؟ ! والجسم لايجوز أن يكون في الحال الواحدة في جهات مختلفة » . (4) ويلمح إلى هذا قائلاً أيضا : « فكيف يجوز أن يكون شخصان يحضران على سبيل المحاورة والحلول في الشرق والغرب عند كلّ محتضر ؟ ! وذلك محال». (5) ويستدلّ الشريف المرتضى قدس سره على تأويله هذا قائلاً : « ولهذا قال المحصلون : إنّ ملك الموت الّذي يقبض الأرواح لايجوز أن يكون [جسما] ، لأنّه جسم ، والجسم لا يصحّ أن يكون في الأماكن الكثيرة ، وتأوّلوا قوله تعالى : «قُلْ يَتَوَفَّ_ل_كُم مَّلَكُ الْمَوْتِ الَّذِى وُكِّلَ بِكُمْ» (6) أنّه أراد بملك الموت الجنسي دون الشخص الواحد ، كما قال اللّه تعالى : «الْملْكُ عَلَى اَرْجائِها» (7) وإنّما أراد جنس الملائكة ». (8) وهذا بالحقيقة تهافت مصداقي قد وقع فيه الشريف المرتضى قدس سره ، وهو قياس المحتضر على الحضور الحسي الّذي ينافي تصوّر الحضور المتعدد . ولكن هذا يواجه عدّة إشكالات على عدّة مباني ليس هنا موضع ذكرها ، وأبسطها هو أنّه قد يكون الحضور مجرد ، وهو يجتمع مع عدّة حضورات في وقت واحد ، كما نشاهد ذلك في جهاز التلفاز الّذي يرى منه صورة الشخص في مواضع كثيرة. وعلى كلّ حال فهذا الإشكال هو الإشكال مصداقي لا مبنائي معرفي وهو ينافي اُسسه قدس سره الّتي سار عليها ، والّتي أو اُسس المذهب الإمامي طبقها . وهذا التهافت المصداقي يقع فيه الشريف المرتضى قدس سره _ أيضا _ في مسألة من يتولّى غسل الإمام المعصوم عليه السلام . فقد سأل عن المتولّي لغسل الإمام الماضي والصلاة عليه؟ وهل ذلك موقوف على تولّي الإمام بعده له أم يجوز أن يتولاه غيره؟ وقد أجاب الشريف المرتضى قدس سره عن ذلك قائلاً : قد روت الشيعة الإمامية: أنّ غسل الإمام والصلاة عليه موقوف على الإمام الّذي يتولّى الأمر من بعده، وتعسّفوا لها فيما ظاهره بخلاف ذلك، وهذه الرواية المتضمّنة لما ذكرناه واردة من طريق الآحاد الّتي لا توجب علما ولا يقطع بمثلها. وليس يمتنع في هذه الأخبار _ إذا صحّت _ أن يراد بها الأكثر الأغلب، ومع الإمكان والقدرة ؛ لأنّا قد شاهدنا ماجرى على خلاف ذلك ؛ لأنّ موسى بن جعفر عليهماالسلامتوفّي بمدينة السلام ، والإمام بعده علي بن موسى الرضا عليهماالسلام بالمدينة، وعلي بن موسى الرضا [ عليهماالسلام ]توفّي بطوس ، والإمام بعده ابنه محمّد [ عليهماالسلام ] بالمدينة ، ولا يمكن أن يتولّى من بالمدينة غسل من يتوفّى بطوس، أو بمدينة السلام. وقد تعسّف بعض أصحابنا فقال: غير ممتنع أن ينقل اللّه تعالى الإمام من المكان الشاسع في أقرب الأوقات ، ويطوى له البعيد، فيجوز أن ينتقل من المدينة إلى مدينة السلام وطوس في الوقت. والجواب عن هذا: إنّا لا نمنع من إظهار المعجزات وخرق العادات للأئمة عليهم السلام إلاّ أنّ خرق العادة إنّما هو في إيجاد المقدور دون المستحيل ، والشخص لا يجوز أن يكون منتقلاً إلى الأماكن البعيدة إلاّ في أزمنة مخصوصة ، فأمّا أن ينتقل إلى البعيد من غير زمان محال، وما بين المدينة وبغداد وطوس من المسافة لايقطعها الجسم إلاّ في أزمان لايمكن معها أن يتولى من هو بالمدينة غسل من هو ببغداد. فإن قيل: ألاّ انتقل كما ينتقل الطائر من البعيد في أقرب مدّة. قلنا: ما ننكر اختلاف انتقال الأجسام بحسب الصور والهيئات، فإن أردتم أنّ الإمام يجعل له جناح يطير به، فهو غير منكر، إلاّ أنّ الثقيل الكبير من الأجسام لا يكون طيرانه في الخفة مثل الصغير الجسم ؛ ولهذا لا يكون طيران الكراكي وما شاكلها في عظم الأجسام كسرعة الطيور الخفاف، فإذا كان الطائر الخفيف الجسم إنّما لم يقطع في يوم واحد من المدينة إلى طوس، فأجدر ألاّ يتمكن من ذلك الإنسان إذا كان له جناح. ولا يمكن أن يقال: إنّ اللّه تعالى يعدم الإمام من هناك ويوجده في الحال الثانية هاهنا ؛ لأنّ هذا مستحيل من وجه آخر ؛ لأنّ عدم بعض الأجسام لا يكون إلاّ بالضد الّذي هو الفناء، وفناء بعض الجواهر فناء لجميعها، وليس يمكن أن يفنى جوهر مع بقاء جوهر آخر على ما دللنا عليه في كثير من كلامنا، لاسيّما في كتابي المعروف بالذخيرة. إلاّ أنّه يمكن من ذهب من أصحابنا إلى ما حكيناه أن يقول نصرة لطريقته: ما الّذي يمنع من أن ينقل اللّه تعالى الإمام من المدينة إلى طوس بالرياح العواصف الّتي لانهاية لما يقدر اللّه تعالى عليه من فعلها وأنّ فيها. (9) وما المنكر من أن يقول في هذه الريح الّتي تنقله ما يزيد معه على سرعة الطائر الخفيف المسرع، فينتقل في أقرب الأوقات؟ والّذي يبطل هذه التقديرات _ لو صحّت أو صحّ بعضها _ أنّا قد علمنا أنّ الإمام لو انتقل من المدينة إلى بغداد أو طوس لغسل المتوفّى والصلاة عليه لشوهد في موضع الغسل والصلاة ؛ لأنّه جسم ، والجسم لابدَّ من أن يراه كلّ صحيح العين ، ولو شهد لهم لعلمه ، وعرف حاله ، ونقل خبره ، ولم يخف على الحاضرين، فكيف يجوز ذلك ، وقد نقل في التواريخ من تولى غسل هذين الإمامين والصلاة عليهما وسمّي وعين، وهذا يقتضي أنّ الأمر على ما اخترناه. (10) فلنتأمّل في هذا النصّ ، ونرى الإشكالات الواقعة في مصاديقه ، وهي: 1 . قول الشريف المرتضى قدس سره: «إنّ خرق العادة إنّما هو في إيجاد المقدور دون المستحيل... وما بين المدينة وبغداد . . . لا يقطعها الجسم . . . » وهذا منه غريب حتّى أنّ محقّق الكتاب سماحة العلاّمة المحقّق السيّد الأشكوري _ دام مجده _ استغرب من ذلك ، وقال في هامش الكتاب: «ويردّه قوله تعالى: «أَنَا ءَاتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَءَاهُ مُسْتَقِرًّا عِندَهُ قالَ هَ_ذَا مِن فَضْلِ رَبِّى» (11) وقد احضر عرشها في أقل من طرفة عين». 2 . والعجب من الشريف المرتضى قدس سره في قوله: «إلاّ انتقل كما ينتقل الطائر من البعيد في أقرب مدّة ؟ ! » كيف أنزل البحث إلى هذه الركاكة ؟ ! فإنّ بحث حضور الإمام عليه السلام في غاية الأهمية والشرافة. وهكذا بقية الاحتمالات الّتي طرحها كلّها ضعيفة ، لا قيمة علمية تحقيقية لها ؛ ولعلّها منسوبة إليه ، إذ يعسر علينا القطع بما في هذه الرسائل ونسبتها إليه . وإن كانت هذه العبارات بمجموعها تلائم مباني الشريف المرتضى قدس سره. وقريب من هذا البحث ماورد في المسوخ ، حيث تأوّلَ الشريف المرتضى قدس سرهماورد في المسوخ _ مثل الدّب والفيل . . . _ وما شابه ذلك . على أنّها كانت على صور مخلوقات جميلة غير منفور عنها ؛ ثمّ جعلت على شكل هذه الصور السيئة على سبيل التنفير عنها ، والزيادة في الصد عن الانتفاع بها. وقال الشريف المرتضى قدس سره ناقلاً عن بعض السائلين : « لأنّ بعض الأحياء لايجوز أن يصير حيّا آخر غير، وإذا اُريد بالمسخ هذا فهو باطل، وإن اُريد غيره نظرنا فيه». (12) ثمّ قال السائل: فما جواب من سأل عند سماع هذا عن الأخبار الواردة عن النبيّوالأئمة عليهم السلام بأنّ اللّه تعالى يمسخ قوماً من هذه الاُمة قبل يوم القيامة ، كما مسخ في الاُمم المتقدّمة . . . . وقد سلم الشيخ المفيد رحمه الله صحّتها ، وأحال القول بالتناسخ ، وذكر أنّ الأخبار المعوّل عليها لم يرد إلاّ بأنّ اللّه تعالى مسخ قوماً قبل يوم القيامة ، ثمّ نقل عدّة أخبار في ذلك. إلى أن قال السائل : والأخبار في هذا المعنى كثيرة قد جازت حدّ الآحاد ، فإذا استحال النسخ، وعوّلنا على أنّه الحقّ بها، ودلس فيها، واُضيف إليها ، فماذا يحيل المسخ؟ وقد صرّح به فيها ، وفي قوله : «أُنَبِّئُكُم بِشَرٍّ مِّن ذَ لِكَ مَثُوبَةً عِندَ اللَّهِ مَن لَّعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ» (13) ، وقوله : «فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُواْ قِرَدَةً خَ_سِ_ئينَ » (14) ، وقوله : «وَ لَوْ نَشَآءُ لَمَسَخْنَ_هُمْ عَلَى مَكَانَتِهِمْ» (15) . والأخبار ناطقة بأنّ معنى هذا المسخ هو إحالة التغيير عن بنية الإنسانية إلى ماسواها. وفي الخبر المشهور عن حذيفة أنّه كان يقول: أرأيتم لو قلت لكم أنّه يكون فيكم قردة وخنازير، أكنتم مصدقي ؟ فقال رجل: يكون فينا قردة وخنازير ؟ ! قال: وما يؤمنك لا اُم لك. (16) وهذا تصريح بالمسخ. وقد تواترت الأخبار بما يفيد أنّ معناه: تغيير الهيئة والصورة. (17) وفي الأحاديث: أنّ رجلاً قال لأمير المؤمنين عليه السلام وقد حكم عليه بحكم: واللّه ما حكمت بالحقّ . فقال له: اخسأ كلباً، وأنّ الأثواب تطايرت عنه وصار كلباً يمصع بذنبه. (18) وإذا جاز أن يجعل اللّه _ جلّ وعزّ _ الجماد حيواناً، فمن ذا الّذي يحيل جعل حيوان في صورة حيوان آخر ؟ ! فأجاب الشريف المرتضى قدس سره قائلاً : « اعلم إنّا لم نحل المسخ، وإنّما أحلنا أن يصير الحي الّذي كان إنساناً نفس الحي الّذي كان قرداً أو خنزيراً» . والمسخ أن يغير صورة الحي الّذي كان إنساناً يصير بهيمة، لا أنّه يتغيّر صورته إلى صورة البهيمة. والأصل في المسخ قوله تعالى : «كُونُواْ قِرَدَةً خَ_سِ_ئينَ » ، وقوله تعالى «وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّ_غُوتَ» . وقد تأوّلَ قوم من المفسرين آيات القرآن الّتي في ظاهرها المسخ، على أنّ المراد بها أنّا حكمنا بنجاستهم، وخسة منزلتهم، وإيضاع أقدارهم ؛ لما كفروا وخالفوا، فجروا بذلك مجرى القرود الّتي لها هذه الأحكام، كما يقول أحدنا لغيره: ناظرت فلاناً وأقمت عليه الحجّة حتّى مسخته كلباً على هذا المعنى. وقال آخرون: بل أراد بالمسخ : أنّ اللّه تعالى غيّر صورهم ، وجعلهم على صور القرود على سبيل العقوبة لهم والتنفير عنهم ، وذلك جائز مقدور لا مانع له، وهو أشبه بالظاهر وأمر عليه. والتأويل الأوّل ترك للظاهر، وإنّما تترك الظواهر لضرورة وليست هاهنا. فإن قيل: فكيف يكون ما ذكرتم عقوبة؟ قلنا: هذه الخلقة إذا ابتدأت لم تكن عقوبة، وإذا غيّر الحي المخلوق على الخلقة التامّة الجميلة إليها كان ذلك عقوبة ؛ لأنّ تغيّر الحال إلى ما ذكرناه يقتضي الغمّ والحسرة. فإن قيل: فيجب أن يكون مع تغيّر الصورة ناساً قردة، وذلك متنافٍ. قلنا: متى تغيرت صورة الإنسان إلى صورة القرد، لم يكن في تلك الحال إنساناً، بل كان إنساناً مع البنية الاُولى، واستحقّ الوصف بأنّه قرد لما صار على صورته ، وإن كان الحي واحداً في الحالين. ويجب فيمن مسخ على سبيل العقوبة أن يذمّه مع تغيّر الصورة على ما كان منه من القبائح ؛ لأنّ تغيّر الهيئة والصورة لا يوجب الخروج عن استحقاق الذم ، كما لا يخرج عن استحقاق الذم ، كما لا يخرج المهزول إذا سمن عمّا كان يستحقّه من الذم ، وكذا السمين إذا هزل. فإن قيل: فيقولون إنّ هؤلاء الممسوخين تناسلوا ، وأنّ القردة في أزماننا هذه من نسل اُولئك. قلنا: ليس يمتنع أن يتناسلوا بعد أن مسخوا ، لكن الإجماع على أنّه ليس شيء من البهائم من أولاد آدم ، ولولا هذا الإجماع لجوّزنا ما ذكروا على هذه الجملة الّتي قررناها لا ينكر صحّة الأخبار الواردة من طرقنا بالمسخ ؛ لأنّها كلّها تتضمّن وقوع ذلك على من يستحقّ العقوبة والذم من الأعداء والمخالفين. فإن قيل: أفتجوزون أن يغيّر اللّه تعالى صورة حيوان جميلة إلى صورة اُخرى غير جميلة ، بل مشوّه منفور عنها ؟ أم لا تجوزون ذلك؟ قلنا: إنّما أجزنا في الأوّل ذلك على سبيل العقوبة لصاحب هذه الخلقة الّتي كانت جميلة ثمّ تغيّرت ؛ لأنّه يغتمّ بذلك ويتأسّف ، وهذا الغرض لايتمّ في الحيوان الّذي ليس بمكلف ، فتغيّر صورهم عبث ، فإن كان في ذلك غرض يحسن لمثله جاز». (19) والكلام الأخير من الشريف المرتضى قدس سره دقيق؛فإنّ التأويل الأوّل ترك للظاهر، وهو خلاف المبنى السابق الّذي كان يؤكّد على أنّه لا نلتزم بظاهر الخبر في المحتضر.

.


1- . جوابات المسائل الطرابلسيات الثالثة : ص 407 ( رسائل الشريف المرتضى، المجموعة الاُولى).
2- . جوابات المسائل الميافارقيات : ص 281 ( رسائل الشريف المرتضى المجموعة الاُولى ) .
3- . أجوبة مسائل متفرقة من الحديث وغيره : ص 133 ( رسائل الشريف المرتضى ، المجموعة الثالثة ) .
4- . المصدر السابق .
5- . جوابات المسائل الميافارقيات : ص 281 ( رسائل الشريف المرتضى، المجموعة الاُولى).
6- . السجدة : 11.
7- . الحاقة: 17.
8- . أجوبة مسائل متفرقة من الحديث وغيره : ص 133 _ 134 ( رسائل الشريف المرتضى، المجموعة الثالثة).
9- . في نسخة اُخرى : «من فعل الاعتمادات فيها» بدلاً من «من فعلها وأنّ فيها» .
10- . مسألة في من يتولى غسل الإمام : ص 155 _ 157 ( رسائل الشريف المرتضى، المجموعة الثالثة).
11- . النمل : 40 .
12- . جوابات المسائل الطرابلسيات : ص 350 ( رسائل الشريف المرتضى ، المجموعة الاُولى).
13- . المائدة: 60.
14- . البقرة: 65.
15- . يس : 67.
16- . الدرّ المنثور : ج 2 ص 295.
17- . أورد العلاّمة المجلسي جملة منها في بحار الأنوار : ج 76 ص 220 _ 245.
18- . يمصع بذنبه: أي يحركه، كأنّه يتملّق بذلك.
19- . جوابات المسائل الطرابلسيات الثانية : ص 350 _ 354 ( رسائل الشريف المرتضى، المجموعة الاُولى).

ص: 187

. .

ص: 188

. .

ص: 189

. .

ص: 190

. .

ص: 191

. .

ص: 192

. .

ص: 193

. .

ص: 194

. .

ص: 195

المنهج العملي في ظواهر الأخبار

المنهج العملي في ظواهر الأخبارظواهر الأخبار هي الأساس في المنهج العملي العقائدي وقد طلب منّا الشارع المقدّس أن نعمل بظواهر الأحوال ، ولا نلتفت إلى التدقيقات العقلية ؛ لأنّ الأدلّة الاعتقادية وإن قامت على الأسس العقلية الدقيقة ، ولكن بعض الأدلّة الاعتقادية لا تتمّحل الفذلكات والتدقيقات العقلية ، الّتي يرى القارئ في مضامينها شيء من التمحل. بل لابدَّ من الآخذ بظواهر الأحوال والصورة الواضحة في الأدلّة الاعتقادية ؛ فإنّ الشريعة جاءت لتخاطب الرعيل العام لا أنّها تخاطب علماء الكلام أو أصحاب التدقيقات العقلية ، وهذا ما يؤكّد عليه الشريف المرتضى قدس سره في مواضع متعددة من بحوثه. منها في بحث المنامات حيث تطرّق الشريف المرتضى قدس سره إلى مسائل كثيرة ، وقال ناقلاً عن البعض: «فإن قيل: فما تأويل ما يروى عنه عليه السلام من قوله: من رآني فقد رآني ، فإنّ الشيطان لا يتخيل بي ، وقد علمنا أنّ المحق والمبطل والمؤمن والكافر قد يرون النبيّ عليه السلام في النوم ، ويخبر كلّ واحد منهم عنه بضدّ ما يخبر به الآخر ، فكيف يكون رائياً له في الحقيقة مع هذا؟ قلنا: هذا خبر واحد ضعيف من أضعف أخبار الآحاد ، ولا معوّل على مثل ذلك ، على أنّه يمكن مع تسليم صحّته أن يكون المراد به : من رآني في اليقظة فقد رآني على الحقيقة ؛ لأنّ الشيطان لا يتمثّل بي لليقظان؛ فقد قيل: إنّ الشياطين ربّما تمثّلت بصورة البشر. وهذا التأويل أشبه بظاهر الخبر ؛ لأنّه قال: «من رآني فقد رآني» فأثبت غيره رائياً له، ونفسه مرئية ، وفي النوم لا رائي في الحقيقة ولا مرئي ، وإنّما ذلك في اليقظة. ولو حملناه على النوم لكان تقدير الكلام: من اعتقد أنّه يراني في منامه ، وإن كان غير راءٍ لي على الحقيقة فهو في الحكم كأنّه رآني ، وهذا عدول عن ظاهر لفظ الخبر وتبديل لصيغته». (1) فقوله قدس سره: «وهذا التأويل أشبه بظاهر الخبر» وقوله: «وهذا عدول عن ظاهر لفظ الخبر وتبديل لصيغته» هو بمثابة منهج واحد روائي في الحفاظ على ظواهر الأخبار وتفسيرها ، وعدم تبديل لحقائقها وتبادرها وإطلاقها وعمومها وظهورها. ويقول الشريف المرتضى قدس سره في مسألة استلام الحجر الأسود : فقد ورد أنّه يقال عند استلامه: «أمانتي أديتها ، وميثاقي تعاهدته ؛ لتشهد لي بالموافاة غداً ». فقد سئل الشريف المرتضى قدس سره عن المخاطب به؟ ومن المستمع له؟ فإنّ هذا يقتضي أن يكون المخاطب بهذه المخاطبة سامعاً رائياً مشاهداً مبلغاً. يقول الشريف المرتضى قدس سره: فأمّا الغرض في استلام الحجر : فهو أداء العبادة ، وامتثال أمر الرسول صلى الله عليه و آله ، والتأسي بفعله ؛ لأنّه أمر عليه السلام باستلامه الحجر، ولمّا حجّ عليه السلام رؤي مستلماً له، وقد أمر بالتأسي بأفعاله في العبادات، كما أمر بالتأسي بأقواله. والعلّة في هذه العبادة على سبيل الجملة : مصلحة للمكلفين ، وتقويتهم للواجب ، وترك القبيح، وإن كنّا لا نعلم الوجه على سبيل التفصيل. وما السؤال عن معنى ذلك إلاّ كالسؤال عن معنى الطواف ، وكونه سبعة أشواط ، ورمي الجمار ، والسعي بين الصفا والمروة ، والوقوف بعرفات. فأمّا ماروي من القول الّذي يقال عند استلام الحجر الّذي هو: أمانتي أديتها ، وميثاقي تعاهدته ؛ لتشهد لي بالموافاة غداً. والسؤال مَن المخاطب به والمستمع له، فالوجه في ذلك بيّن ؛ لأنّ ذلك هو دعاء اللّه تعالى وخطبات له، وهو المستمع له ، والمجازي عليه، وإنّما علقه بالحجر وأضافه إليه ؛ لأنّه عمل عنده ، وعبادة فيه ، وقربة إلى اللّه تعالى، فكأنّه قال: أمانتي في استعلائك أديتها. ومعنى «لتشهد لي بالموافاة» أي ليكون عملي عندك شاهداً عند اللّه تعالى بموافاتي بما ندبت إليه من العبادة المتعلّقة بك المفعولة فيك. وقد روى في معنى استلام الحجر وخطابه وفي علل كثير من العبادات أشياء يرغب عن ذكرها ؛ لأنّها مستفتحة خارجة عن العقول، يحمل التأويل والتخريج على الوجوه الصحيحة، فعلى بعد وتعسّف وتكلّف، وقد أغنى اللّه بالظواهر الصحيحة عن البواطن السقيمة. (2)

.


1- . أمالي المرتضى ( غرر الفوائد ودرر القلائد ) : ج 2 ص 394 _ 395 . وانظر البحث بعينه في : مسألة في المنامات : ص 12 _ 13 ( رسائل الشريف المرتضى ، المجموعة الثانية ) .
2- . مسألة في استلام الحجر : ص 276 _ 277 ( رسائل الشريف المرتضى ، المجموعة الثالثة ) .

ص: 196

. .

ص: 197

أساس المنهج الظاهري في الأدلّة القطعية

أساس المنهج الظاهري في الأدلّة القطعيةالأدلّة القطعية والّتي لا شكّ في محتواها إذا دلّت على قضية معرفية يجب ثبوتها وتسالم على قطعها. ولا يحقّ لأحد الرجوع عن الأدلّة القطعية بخبر محتمل ومظنون ، ولا يسوغ لأحد أن يتأوّل هذه الاُمور. أمّا الأخبار المحتملة الّتي كانت مضامينها بخلاف هذه الأدلّة القطعية فلابدَّ من حملها على ما يوافق تلك الأدلّة القطعية. وهذا نوع رجوع عن ظواهر الأخبار المحتملة. وهذه الطريقة الّتي قدّمناها هي الأساس المتبع في جميع الاُمور العلمية، فالادلّة القطعية هي الأساس في المعارف الإسلاميّة ، حتّى أنّ الشريف المرتضى قدس سرهيعدّي ذلك إلى ظواهر آيات القرآن الّتي تتضمّن جبرا أو تشبيهاً ، فلابدَّ من تأويلها وإرجاعها إلى الأدلّة القطعية ، الّتي هي صريحة المضمون وقطعية المعرفة. ومن هذا القبيل ماورد في مسألة الذرّ وحقيقته ؛ فإنّه وردت أخبار عديدة نقلت من جهة المخالف والموافق في الذرّ وابتداء الخلق ، وقد سئل الشريف المرتضى قدس سرهعن صحّتها؟ وهل لها مخرج من التأويل يطابق الحقّ؟ قبل أن يجب الشريف المرتضى قدس سره عن الجواب يؤسس قاعدة كلّية تدلّ على أنّ الأساس في المنهج الظاهري هو الرجوع إلى الأدلّة القطعية ، يقول قدس سره: «إنّ الأدلّة القاطعة إذا دلّت على أمر وجب إثباته والقطع عليه، وألاّ يرجع عنه بخبر محتمل ، ولا بقول معترض للتأويل ، وتحمل الأخبار الواردة بخلاف ذلك على ما يوافق تلك الأدلّة ويطابقه ، وإن رجعنا بذلك عن ظواهرها . وبصحّة هذه الطريقة نرجع عن ظواهر آيات القرآن الّتي تتضمّن إجباراً أو تشبيهاً». (1) هذه هي قاعدة كلّية يجعلها الشريف المرتضى قدس سره الأساس في أساس منهجه الظاهري ، ثمّ يضيف قاعدة اُخرى يأخذها من مسلّمات القطعيات الإسلاميّة ، وهي: «وقد دلّت الأدلّة أنّ اللّه تعالى لا يكلّف إلاّ البالغين الكاملين العقول ، ولا يخاطب إلاّ من يفهم عند الخطاب». (2) وبعد أن يذكر هذه القاعدة المسلّمة المعرفية يوضّح قائلاً : وهذه الجملة تدلّ على أنّ من روي أنّه خوطب في الذرّ وأخذت عنه المعارف فأقرّ قوم وأنكر قوم كان عاقلاً كاملاً مكلّفاً ؛ لأنّه لو كان بغير هذه الصفة لم يحسن خطابه ، ولا جاز أن يقرّ ولا أن ينكر. ولو كان عاقلاً كاملاً لوجب أن يذكر الناس ماجرى في تلك الحال من الخطاب والإقرار والإنكار ؛ لأنّ من المحال أن ينسى جميع الخلق ذلك، حتّى لا يذكروا ولا يذكره بعضهم. هذا ما جرت العادات به، ولولا صحّة هذا الأصل لجوّز العاقل منّا أن يكون أقام في بلد من البلدان متصرّفاً، وهو كامل عاقل ثمّ نسي ذلك كلّه، مع تطاول العهد، حتّى لا يذكر من أحواله تلك شيئاً. وإنّما لم نذكر ماجرى منّا وأنّا في حال الطفولية ؛ لفقد كمال العقل في تلك الحال به من تخلل أحوال عدم وموت من تلك الحال وأحوالنا هذه ويجعلونه سبباً في عدم الذكر غير صحيح ؛ لأنّ اعتراض العدم أو الموت بين الأحوال لا يوجب النسيان بجميع ماجرى مع كمال العقل. ألاترى أنّ اعتراض السُّكر والجنون والأمراض المزيلة للمعلوم بين الأحوال لا يوجب النسيان للعقلاء بما جرى بينهم. فهذه الأخبار: إمّا أن تكون باطلة مصنوعة، أو يكون تأويلها _ إن كانت صحيحة _ ما ذكرناه في مواضع كثيرة من تأويل قوله : « وَ إِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنم بَنِىءَادَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ » (3) . وهو أنّ اللّه تعالى لما خلق الخلق وركّبهم تركيباً وأراهم الآيات والدلائل والعِبر في أنفسهم وفي غيرهم، يدلّ الناظر فيها المتأمّل لها على معرفة اللّه والهيته ووحدانيته ووجوب عبادته وطاعته، جاز أن يجعل تسخيرها له وحصولها على هذه الصفات الدالّة على ما ذكرناه ، اقراراً منها بالوحدانية ، ووجوب العبادة، ويجعل تصييرها على هذه الصفات الدالّة على ما ذكرنا استشهاداً لها على هذه الاُمور. وللعرب في هذا المعنى من الكلام المنثور والمنظوم مالا يحصى كثرة، ومنه قول الشاعر: امتلأ الحوض وقال قطنيمهلاً رويداً قد ملأت بطني ومعنى ذلك: أنّني ملأته حتّى أنّه ممّن يقول : حسبي قد اكتفيت، فجعل ما لو كان قائلاً لنطق، كأنّه قال ونطق به. وهذا تأويل الآية والأخبار المروية في الذرّ . وفي هذه الجملة كفاية. (4) ويتعرّض الشريف المرتضى قدس سره : إلى مسألة مهمّة وهي في الأخبار الواردة في عدّة كتب من الاُصول والفروع بمدح أجناسٍ من الطير والبهائم والمأكولات والأرَضين ، وذم أجناس منها ، كمدح الحمام والبلبل والقنبر والحجل والدراج وما شاكل ذلك من فصيحات الطير ، وذم الفواخت والرخم ، وما يحكى من أنّ كلّ جنس من هذه الأجناس المحمودة ينطق بثناء على اللّه تعالى وعلى أوليائه ، ودعاء لهم ، ودعاء على أعدائهم ، وأنّ كلّ جنس من هذه الأجناس المذمومة ينطق بضدّ ذلك من ذم الأولياء عليهم السلام كذم الجرّي وما شاكله من السمك ، وما نطق به الجريّ من أنّه مسخ بجحده الولاية ، وورود الآثار بتحريمه لذلك ، وكذم الدبّ والقرد والفيل وسائر المسوخ المحرّمة ، وكذم البطيخة الّتي كسرها أمير المؤمنين عليه السلام فصادفها مرّة فقال : «من النار إلى النار » ، ورمى بها من يده ، ففار من الموضع الّذي سقطت فيه دخان ، وكذم الأرضين السبخة ، والقول بأنّها جحدت الولاية أيضا. وقد جاء في هذا المعنى ما يطول شرحه ؛ وظاهره منافٍ لما تدلّ العقول عليه من كون هذه الأجناس مفارقةً لقبيل ما يجوز تكليف ، ويسوغ أمره ونهيه. وفي هذه الأخبار الّتي أشرنا إليها أنّ بعض هذه الأجناس يعتقد الحقّ ويدين به ، وبعضها يخالفه ، وهذا كلّه منافٍ لظاهر ما العقلاء عليه. ومنها ما يشهد أنّ لهذه الأجناس منطقا مفهوما ، وألفاظا تفيد أغراضا ، وأنّها بمنزلة الأعجمي والعربي اللذين لا يفهم أحدهما صاحبه ، وأنّ شاهد ذلك من قول اللّه سبحانه فيما حكاه عن سليمان عليه السلام : « يَ_أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنطِقَ الطَّيْرِ وَ أُوتِينَا مِن كُلِّ شَىْ ءٍ إِنَّ هَ_ذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ » (5) . وكلام النملة أيضا ممّا حكاه سبحانه ، وكلام الهدهد واحتجاجه وجوابه وفهمه ؛ فينعم بذكر ما عنده في ذلك مثابا إن شاء اللّه . يقول الشريف المرتضى قدس سره : اعلم أنّ المعوّلَ فيما يعتقد على ما تدلّ الأدلّة عليه من نفي وإثبات ، فإذا دلّت الأدلّة على أمرٍ من الاُمور وجب أن نبنيَ كلّ وارد من الأخبار إذا كان ظاهره بخلافه عليه ، ونسوقه إليه، ونطابق بينه وبينه، ونجلّي ظاهرا إن كان له، ونشرط إن كان مطلقا، ونخصّه إن كان عاما، ونفصّله إن كان مجملاً؛ ونوفّق بينه وبين الأدلّة من كلّ طريق اقتضى الموافقة وآل إلى المطابقة ، وإذا كنّا نفعل ذلك ولا نحتشمه في ظواهر القرآن المقطوع على صحّته، المعلوم ورودُه ، فكيف نتوقّف عن ذلك في أخبار آحاد لا توجب عِلْما ، ولا تثمر يقينا ؟! فمتى وردت عليك أخبار فاعرضها على هذه الجملة وابنها عليها، وافعل فيها ما حكمت به الأدلّة، وأوجبته الحجج العقلية، وإن تعذّر فيها بناء وتأويل وتخريج وتنزيل، فليس غير الإطراح لها، وترك التعريج عليها ، ولو اقتصرنا على هذه الجملة لاكتفينا فيمن يتدبّر ويتفكّر. وقد يجوز أن يكونَ المراد بذمّ هذه الأجناس من الطير أنّها ناطقة بضدّ الثناء على اللّه وبذم أوليائه، ونقص أصفيائه معناه ذمّ متخذيها ومرتبطيها، وأنّ هؤلاء المغرين بمحبّة هذه الأجناس واتخاذها هم الّذين ينطقون بضدّ الثناء على اللّه تعالى، ويذمّون أولياءه وأحبّاءه، فأضاف النطق إلى هذه الأجناس، وهو لمتخذيها أو مرتبطيها ؛ للتجاوز والتقارب، وعلى سبيل التجوّز والاستعارة، كما أضاف اللّه في القرآن السؤال إلى القرية، وإنّما هو لأهل القرية، وكما قال تعالى: «وَ كَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَ رُسُلِهِى فَحَاسَبْنَ_هَا حِسَابًا شَدِيدًا وَ عَذَّبْنَ_هَا عَذَابًا نُّكْرًا * فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا وَ كَانَ عَ_قِبَةُ أَمْرِهَا خُسْرًا » (6) ؛ وفي هذا كلّه حذوف . وقد اُضيف في الظاهر الفعل إلى من هو في الحقيقة متعلّق بغيره ، والقول في مدح أجناسٍ من الطير، والوصف لها بأنّها تنطق بالثناء على اللّه تعالى والمدح لأوليائه يجري على هذا المنهاج الّذي نهجناه. فإن قيل: كيف يستحقّ مرتبط هذه الأجناس مدحاً بارتباطها، ومرتبط بعضٍ آخر ذماً بارتباطه حتّى علقتم المدح والذم بذلك؟ قلنا: ما جعلنا لارتباط هذه الأجناس حظّا في استحقاق مرتبطيها مدحاً ولا ذما، وإنّما قلنا: إنّه غير ممتنع أن تجري عادة المؤمنين الموالين لأولياء اللّه تعالى والمعادين لأعدائه بأن يألفوا ارتباط أجناسٍ من الطير. وكذلك تجري عادة بعض أعداء اللّه تعالى باتخاذ بعض أجناس الطير ، فيكون متخذ بعضها ممدوحاً ، لامن أجل اتخاذه ، لكن لما هو عليه من الاتخاذ الصحيح ، فيضاف المدح إلى هذه الأجناس وهو لمرتبطيها، والنطق بالتسبيح والدعاء الصحيح إليها وهو لمتخذها تجوّزا واتساعا ، وكذلك القول في الذم المقابل للمدح. فإن قيل: فلمَ نُهي عن اتخاذ بعض هذه الأجناس إذا كان الذم لا يتعلّق باتخاذها، وإنّما يتعلّق ببعض متخذيها لكفرهم وضلالهم؟ قلنا: يجوز أن يكون في اتخاذ هذه البهائم المنهىّ عن اتخاذها وارتباطها مفسدة ، وليس يقبح خلقها في الأصل لهذا الوجه؛ لأنّها خلقت لينتفع بها من سائر وجوه الانتفاع سوى الارتباط والاتخاذ الّذي لا يمنع تعلّق المفسدة به. ويجوز أيضا أن يكون في اتخاذها هذه الأجناس المنهيّ عنها شؤم وطيرة ، فللعرب في ذلك مذهب معروف. ويصحّ هذا النهي أيضا على مذهب من نفى الطّيرة على التحقيق؛ لأنّ الطّيرة والتشاؤم ، وإن كان لا تأثير لهما على التحقيق ؛ فإنّ النفوس تستشعر ذلك، ويسبق إليها ما يجب على كلّ حال تجنّبه والتوقّي عنه ، وعلى هذا يحمل معنى قوله عليه السلام : «لا يورد ذو عاهة على مُصِحّ». فأمّا تحريم السمك الجِرّي وما أشبهه فغيرُ ممتنع لشيء يتعلّق بالمفسدة في تناوله ، كما نقول في سائر المحرمات. فأمّا القول بأن الجِرّي نطق بأنّه مسخ بجحده الولاية فهو ممّا يُضحك منه ، ويتعجب من قائله، والملتفت إلى مثله. فأمّا تحريم الدّب والقرد والفيل فكتحريم كلّ محرّم في الشريعة، والوجه في التحريم لا يختلف ، والقول بأنّها ممسوخة إذا تكلّفنا حملناه على أنّها كانت على خَلِق حميدة غير منفور عنها، ثمّ جعلت على هذه الصّورة الشّنيئة على سبيل التنفير عنها، والزيادة في الصّدّ عن الانتفاع بها؛ لأنّ بعض الأحياء لا يجوز أن يكون غيره على الحقيقة. والفرق بين كلّ حيين معلومٌ ضرورة، فكيف يجوز أن يصير حيّ حيّا آخر غيره؟ وإذا اُريد بالمسخ هذا فهو باطل، وإن اُريد غيره نظرنا فيه. وأمّا البطيخة فقد يجوز أن يكون أمير المؤمنين عليه السلام لمّا ذاقها ونفر عن طعمها ، وزادت كراهيته لها قال: «من النار وإلى النار»، أي هذا من طعام أهل النار، وما يليق بعذاب أهل النار، كما يقول أحدنا ذلك فيما يستوبئه ويكرهه. ويجوز أن يكون فوران الدّخان عند الإلقاء لها كان على سبيل التصديق ؛ لقوله عليه السلام : «من النار إلى النار» وإظهار معجز له. وأمّا ذم الأرضين السّبخة، والقول بأنّها جحدت الولاية ، فمتى لم يكن محمولاً معناه على ما قدّمناه من جحد أهل هذه الأرض وسكانها الولاية لم يكن معقولاً ؛ ويجري ذلك مجرى قوله تعالى: «وَ كَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَ رُسُلِهِ» . (7) وأمّا إضافة اعتقاد الحقّ إلى بعض البهائم ، واعتقاد الباطل والكفر إلى بعض آخر ، فممّا تخالفه العقول والضرورات؛ لأنّ هذه البهائم غير عاقلة ولا كاملة ولا مكلّفة، فكيف تعتقد حقّا أو باطلاً ؟! وإذا ورد أثر في ظاهره شيء من هذه المحاولات ، إمّا اطّرح أو تؤوّل على المعنى الصحيح ، وقد نهجنا طريق التأويل، وبيّنا كيف التوصل إليه. فأمّا حكايته تعالى عن سليمان عليه السلام : «يَ_أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنطِقَ الطَّيْرِ وَ أُوتِينَا مِن كُلِّ شَىْ ءٍ إِنَّ هَ_ذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ » (8) فالمراد به أنّه علّم ما يفْهم به ما ينطق به الطير ، وتتداعى في أصواتها وأغراضها ومقاصدها بما يقع منها من صياحٍ على سبيل المعجزة لسليمان عليه السلام . فأمّا الحكاية عن النملة بأنّها قالت: «يَ_أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُواْ مَسَ_كِنَكُمْ لاَ يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَ_نُ» (9) ؛ فقد يجوز أن يكون المراد به أنّه ظهر منها دلالة القول على هذا المعنى، وأشْعَرَت باقي النمل، وخوّفهم من الضرر بالمقام، وأنَّ النجاة في الهرب إلى مساكنها؛ فتكون إضافة القول إليها مجازا واستعارة؛ كما قال الشاعر: وشكا إليّ بعبرة وتحمحم وكما قال الآخر: وقالت له العينان سمعا وطاعة ويجوز أيضاً أن يكون وقع من النملة كلام ذو حروف منظومة _ كما يتكلّم أحدنا _ يتضمّن المعاني المذكورة، ويكون ذلك معجزةً لسليمان عليه السلام ؛ لأنّ اللّه تعالى سخّر له الطّير، وأفهمه معاني أصواتها على سبيل المعجزة له. وليس هذا بمنكر؛ فإنّ النطق بمثل هذا الكلام المسموع منّا لا يمتنع وقوعه ممّن ليس بمكلّف ولا كامل العقل؛ ألاّ ترى أنّ المجنون ومن لم يبلغ الكمال من الصبيان قد يتكلّمون بالكلام المتضمّن للأغراض ؛ وإن كان التكليف والكمال عنهم زائلين. والقول فيما حكي عن الهدهد يجري على الوجهين اللذين ذكرناهما في النملة ، فلا حاجة بنا إلى إعادتهما . وأمّا حكايته أنّه قال: «لَأُعَذِّبَنَّهُو عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ لَأَاْذْبَحَنَّهُو أَوْ لَيَأْتِيَنِّى بِسُلْطَ_نٍ مُّبِينٍ » (10) ، وكيف يجوز أن يكون ذلك في الهدهد وهو غير مكلّف ولا يستحقّ مثله العذاب. فالجواب : أنّ العذاب اسم للضّرر الواقع، وإن لم يكن مستحقّا؛ وليس يجري مجرى العقاب الّذي لا يكون إلاّ جزاء على أمر تقدّم . وليس بممتنع أن يكون معنى «لَأُعَذِّبَنَّهُ» أي لأولمنّه، ويكون اللّه تعالى قد أباحه الإيلام له؛ كما أباحه الذبح لضربٍ من المصلحة، كما سخّر له الطير يصرفها في منافعه وأغراضه ؛ وكلّ هذا لا ينكر في نبيّ مرسل تخرق له العادات ؛ وتظهر على يده المعجزات ؛ وإنّما يشتبه على قومٍ يظنون أنّ هذه الحكايات تقتضي كون النملة والهدهد مكلّفين؛ وقد بيّنا أنّ الأمر بخلاف ذلك. (11) ولا يخفى على القارئ الملاحظات الكثيرة في هذا المقطع وما فيه من الإشكال ، ونشير إلى بعضها: 1 . حمل ذم هذه الأجناس من الطير على ذم متخذيها ومرتبطيها ، وهذا خلاف جمع من المباني الصحيحة الحكمية ؛ فإنّ تسبيح الطير _ كما ورد في القرآن الكريم _ محمول على الحقيقة ، ولا مانع عقلي من هذا الاعتقاد ، وإن كانت ظاهرة أنّها عجماء لا تنطق ، لذلك فقد وقع في عدّة إشكالات من القيل والقال. 2 . ويمكن تعقل كون الجِريّ مسخ لجحده الولاية ، ولا استحالة عقلية في ذلك ، فلا غرابة فيه ، وقد دلّت عليه روايات كثيرة بعضها صحيحة السند. 3 . وكذلك قول أمير المؤمنين عليه السلام في البطيخ: «من النار إلى النار »، فإنّ البطيخ هو أحد الكائنات الحية النباتية وهو يقبل بعض التكليفيات الشرعية أو التكوينية ، فيحمل كلام الإمام عليه السلام على الحقيقة. ولا نطيل بسرد جميع الإشكالات في هذا المقطع ؛ لأنّها واضحة لا تخفى على القارئ . ولكن بما أنّ الشريف المرتضى قدس سره مسلكه ظاهري فهو يقع في هذه الإشكالات المصداقية كما وقع فيها سابقاً ، ويقع فيها بعد ذلك.

.


1- . جوابات المسائل الرازية : ص 13 ( رسائل الشريف المرتضى ، المجموعة الاُولى ) .
2- . المصدر السابق.
3- . الأعراف : 172 .
4- . جوابات المسائل الرازية : ص 113 _ 115 ( رسائل الشريف المرتضى، المجموعة الاُولى).
5- . النمل : 16.
6- . الطلاق : 8 _ 9.
7- . الطلاق : 8 .
8- . النمل : 16 .
9- . النمل : 18 .
10- . النمل : 21.
11- . أمالي المرتضى (غرر الفوائد ودرر القلائد ) : ج 2 ص 349 _ 353.

ص: 198

. .

ص: 199

. .

ص: 200

. .

ص: 201

. .

ص: 202

. .

ص: 203

. .

ص: 204

. .

ص: 205

. .

ص: 206

القياس المنطقي في الأدلّة العقائدية

القياس المنطقي في الأدلّة العقائديةيعتبر القياس المنطقي من أقوى الحجج العقلية،وهو موضع قبول جميع الفرق الإسلاميّة، بل مطلق الدّيانات السماوية وغيرها . وقد ملئت كتب الشريف المرتضى قدس سرهمن هذا النوع من القياس المركب من الصغرى والكبرى والنتيجة ، أو مانعة الجمع والخلو ، وكذا باقي الأشكال المنطقية ، وإليك نماذج على صورة القياس المنطقي :

.

ص: 207

النموذج الأوّل

النموذج الثاني

النموذج الأوّلممّا دلّ على ولاية الإمام أمير المؤمنين عليه السلام ما روي عن النبيّ صلى الله عليه و آله قال: «أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلاّ أنّه لا نبي بعدي» . يقول الشريف المرتضى قدس سره: «وأمّا الّذي يدلّ على أنّ هارون عليه السلام لو بقي بعد موسى عليه السلام لكان خليفته على اُمته فهو: إنّه قد ثبتت خلافته له عليهم في حال حياته ، فلو بقي إلى حال الوفاة لم يجز خروجه عن هذه المنزلة ، وتغيّر حاله فيها ؛ لأنّه يقتضي التنفير عنه عليه السلام ، ولابدَّ من أن يجنب اللّه تعالى أنبياءه _ صلوات اللّه عليهم _ كلّ ما يقتضي التنفير . ولا شبهة في اقتضاء ذلك لما ذكرناه ؛ لأنّ خلافة هارون عليه السلام لأخيه _ صلوات اللّه عليهما _ منزلة في الدّين جليلة ورتبة فيه رفيعة توجب تعظيماً وتبجيلاً ، وفي خروجه عنها لا محالة تنفير لا شبهة في حصوله». (1)

النموذج الثانيفي قضية فدك أنّ النبي صلى الله عليه و آله نحل السيّدة الزهراء عليهاالسلام فدك ، وملكها إياها ، وجعلها في يدها، يقول الشريف المرتضى قدس سره: «والّذي يدلّ على استحقاقها عليهماالسلاملفدك من جهة النحلة: أنّها ادعت ذلك بغير شكّ، وقد اجتمعت الاُمة على أنّها _ صلوات اللّه عليها _ ما كذبت في هذه الدعوى، ومن ليس بكاذب لابدَّ من أن يكون صادقاً، وإنّما اختلفوا في هل يجب مع العلم بصدقها تسليم ما ادعته بغير بينة أو لا يجب ذلك؟ وممّا يدلّ أيضاً على صدقها _ صلوات اللّه عليها _ في دعواها قيام الدلالة على عصمتها، ويدلّ على ذلك قوله تعالى : « إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَ يُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا » (2) ، وقد روى أهل النقل بغير خلاف بينهم أنّ النبيّ صلى الله عليه و آله جلّل علياً وفاطمة والحسن والحسين _ صلوات اللّه عليهم _ بكساء ، وقال صلى الله عليه و آله : « اللّهمّ إنّ هؤلاء أهل بيتي ، فاذهب عنهم الرجس ، وطهرهم تطهيراً » ، فنزلت الآية ، وكان ذلك في بيت اُمّ سلمة _ رضي اللّه عنها _ ، فقالت له صلى الله عليه و آله : ألست من أهل بيتك؟ فقال صلى الله عليه و آله : « لا ، إنّك على خير » . وليس تخلو الإرادة المذكورة في الآية من أن تكون إرادة محضة لم يتبعها الفعل، أو تكون إرادة وقع الفعل عندها، وقطع انتفاء الرجس والقبائح بعد نزولها. والمعنى الأوّل باطل ؛ لأنّ لفظة « إِنَّمَا » تفيد الاختصاص ، ونفي الحكم عمّن عدا من تعلّقت به، وقد بيّنا ذلك في قوله جل وعلا : « إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ » ، ولا اختصاص لأهل البيت _ صلوات اللّه عليهم _ بهذه الإرادة ، بل هي عامّة لكلّ مكلّف، فثبت أنّها إرادة وقع مرادها». (3)

.


1- . الذخيرة في علم الكلام : ص 452 _ 453.
2- . الأحزاب : 33 .
3- . الذخيرة في علم الكلام : ص 478 _ 479.

ص: 208

النموذج الثالث

النموذج الثالثما ذكره الشريف المرتضى قدس سره في محاربي أمير المؤمنين عليه السلام ، وتوبة من يرى توبته قال قدس سره: «لا خلاف بين المحصّلين المنصفين من الاُمة في أنّ من حارب أمير المؤمنين عليه السلام وبغى عليه ، ونكث بيعته ، وفرق عن طاعته فاسق صاحب كبيرة. واختصّت الشيعة الإمامية بتكفير مقاتله عليه السلام . وحجّتها على ذلك إجماعها عليه، فلا خلاف بينهم فيه. وقد بيّنا أنّ إجماع الإمامية حجّة في غير موضع». وقال أيضاً : «فإنّ الّذين حاربوه وبغوا عليه كانوا منكرين لإمامته ودافعين لها، ودفع الإمامة كدفع النبوّة في الحكم؛ لأنّ الجهل بالإمامة كالجهل بالنبوّة، وقد روي أنّه صلى الله عليه و آله [قال]: من مات ولم يعرف إمام زمانه مات ميتة جاهلية. وروي عنه صلى الله عليه و آله أنّه قال: يا علي حربك حربي وسلمك سلمي. ومعلوم أنّه صلى الله عليه و آله إنّما أراد أنّ أحكام حربك تماثل أحكام حربي، ولم يرد صلى الله عليه و آله أنّ أحد الحربين هي الاُخرى ؛ لأنّ المعلوم ضرورة خلاف ذلك، وإذا كان حربه صلى الله عليه و آله كفراً وجب مثل ذلك فيما جعل له مثل حكم حربه » . (1) ويمكن تصوير القياس بصورة أوضح وهي : « ويمكن أن يستدلّ على ذلك بما روي عن رسول اللّه صلى الله عليه و آله أنّه قال: «يا علي حربك حربي وسلمك سلمي». ووجه الاستدلال من هذا الخبر هو: أنّه لا يخلو أن يكون النبيّ صلى الله عليه و آله أراد أن نفس حربك حربي ، وذلك لا يجوز ؛ لأنّه كذب. أو يكون أراد عليه السلام : أنّ حكم حربك حكم حربي، وإذا كان حكم حرب النبيّ صلى الله عليه و آله وسلمحكم الكافر بلا خلاف وجب أن يكون حكم حرب أمير المؤمنين عليه السلام مثله وإلاّ لم يفد » . (2)

.


1- . الذخيرة في علم الكلام : ص 495.
2- . شرح جمل العلم والعمل : ص 236.

ص: 209

المناهج المنطقية في المسائل العقائدية

المناهج المنطقية في المسائل العقائديةالقضايا المنطقية ترفع كثير من الجدليات والإيهامات التشكيكية في البحوث العقائدية الدقيقة ، وهي من أقوى الأدلّة ؛ لأنّ قياساتها معها ، ومن هذا المنطق العلمي يستفيد الشريف المرتضى قدس سره عدّة معادلات عقائدية في دعم الأخبار. ونحن نشير إلى بعضها ، وكيفية تشكيل قياساتها: منها ما تعلّق بنصرة الإجماع بقوله عليه السلام : « لا تجتمع اُمتي على خطأ » الّذي استفيد منه تصحيح الموقف العقائدي لجماعة أهل السنّة في بعض موافقها. والشريف المرتضى قدس سره يتطرّق إلى مسألة الإجماع بصورة مفصلة ، ويفند آراء القوم في ذلك ، مدعياً انّ هذا الخبر لا شبهة في فساد التعلّق به . وذلك : أولاً: أنّه من أخبار الآحاد الّتي لا توجب الظن، ولا توجب علماً ، ولا عملاً ، فلا يسوغ القطع بمثلها. ثمّ يترقّى الشريف المرتضى قدس سره في البحث ويدعي أنّه لا خلاف أنّ نقل هذا الخبر من طريق الآحاد. ثانياً: أنّ أكثر ما يتعلّق به الخصم في تصحيح هذا الخبر هو أمران : الأمر الأوّل: هو تقبل الاُمة له. الأمر الثاني: تركهم الرد على راويه. ولكن الشريف المرتضى قدس سره يرد على الأمرين قائلاً: «وليس كلّ الاُمة تقبله، ولو تقبلته أيضا لم يكن في تقبلها دلالة بأنّ الخطأ ودخول الشبهة جائزان عليها وكلامنا في ذلك». (1) إلى هنا نرى الشريف المرتضى قدس سره يبحث في الخبر جرياً على المتعارف ، ولا نرى سمة الأثر العقلي فيه ، ولكنه يقضي بعد ذلك بقضية استحالة الدور في الخبر بصورة منطقية ، حيث يقول: «وليس يجوز أن يجعل المصحح للخبر إجماع الاُمة الّذي لا نعلم صحّته إلاّ بصحّة الخبر». (2) فما طرحه ليس إلاّ تصوير استحالة الدور في الخبر ، ثمّ يعرّج على مسألة اُخرى اُصولية عقلية ، وهي أنّ الخبر يحمل في طيّاته إجمالاً مفتقراً إلى البيان ، ويصوّر ذلك الإجمال بعدّة اُمور: 1 . إذا لاحظنا الكلام في إثبات الخبر نفسه لم يكن فيه دلالة على ما ذهب إليه القوم ؛ لأنّه نفى أن يجتمعوا على خطأ ، ولم يبين ما الخطأ الّذي لا يجتمعون عليه. 2 . وليس في اللفظ دلالة على نفي كلّ الخطأ ، ولا نفي بعض معين. ويقول الشريف المرتضى قدس سره نتيجة لهذين الأمرين: «فالخبر إذا كان المجمل المفتقر إلى البيان». (3) بهذه الصورة المنطقية استطاع أن يضع بصمات التشكيك على هذا الخبر بعدما فنده سنداً. ولم يقتصر الشريف المرتضى قدس سره على هذا القدر من الاستحالة العقلية ، بل أتى بقضية مانعة الخلو للقسمين معاً بهذه الصورة: «ليس يخلو قوله: «لا تجتمع اُمتي» أمّا أن يكون عني به: أ _ جميع المصدّقين. ب _ أو بعضاً منهم، وهم المؤمنون المستحقّون للثواب. فإن كان الأوّل وجب بظاهر الكلام ألاّ يختصّ أهل كلّ عصر ، بل يشيع في جميع المصدقين إلى قيام الساعة حتّى لا يخرج عنه أحد منهم؛ لأنّ مذهب خصومنا _ في حمل القول المطلق على عمومه _ يقتضي ذلك. وإن جاز لهم حمل الكلام على المصدقين في كلّ عصر كان هذا تخصيصاً بغير حجّة ، ولم يجدوا فرقاً بينهم وبين من حمله على فرقة من أهل كلّ عصر. وإذا وجب حمله على جميع المصدقين في سائر الأعصار لم يكن دليلاً على ما يذهبون إليه من كون إجماع أهل كلّ عصر وحجّة. وإن كان على ما ذكرناه ثانيا بطل بمثل ما أبطلنا الأوّل من وجوب حمله على كلّ المؤمنين المستحقّين الثواب في كلّ عصر على سبيل الجمع ، وأنّ من خصص أهل كلّ عصر بتناول القول له كمن خصّ فرقة من أهل العصر». (4) هذه الصورة المنطقية للإشكال في غاية الأهمية ، إذ القسمة حاصرة عقلية لا تخلو من أمرين لا ثالث لهما. ثمّ إنّ الشريف المرتضى قدس سره يورد بعض الإشكالات على هذه الصورة المنطقية ، ويذبّ عنها ، وفي آخر الأمر يذكر الصورة الصحيحة للخبر بقوله قدس سره : «وقد روي معنى هذا الخبر بلفظ آخر وهو: لم يكن اللّه ليجمع اُمتي على ضلال، وهذا صحيح غير مدفوع ، وهو يدلّ على أنّهم لا يختارون الإجماع على الضلال من قبل أنفسهم » . (5) ونأتي بمثال آخر من المناهج المنطقية في المسائل العقائدية ، وهو أنّ من الاُمور المهمّة في أواخر حياة النبيّ صلى الله عليه و آله وسلمصلاة الخليفة أبي بكر فعندما اعتلّ النبيّ صلى الله عليه و آله تصدّر أبو بكر للصلاة ، وهذا ما دعا البكرية وجماعة أهل السنّة عموماً ان يجعلوا ذلك أحد الامتيازات المهمّة في حياة الخليفة الأوّل، وقرنوا بين صلاته وإمامته المستقبلية . وهذا ما أثار حفيظة الطائفة الإمامية أن تقف أمام هكذا تصوّر ، وترى أنّ حقّها قد غبن نتيجة ما تملكه من نصوص واضحة وجليلة قد أنكرت من قبل الرأي العام ، واعتبرت ذلك ظلماً بحقّ الإمام علي عليه السلام وحقّها . وأكّد الشريف المرتضى قدس سره على أنّ أصحابنا بيّنوا في غير موضع الكلام على خبر الصلاة المنسوبة إلى أبي بكر ودلّوا على أنّه لا نسبة بين الصلاة والإمامة. ويؤكّد الشريف المرتضى قدس سره على أنّ هذا الخبر فيه إشكالان : 1 . أنّه خبر واحد . 2 . أنّ الأمر بالصلاة والإذن فيها لأبي بكر وارد من جهة عائشة، وهو أمر ممكن . ثمّ إنّ الشريف المرتضى قدس سره يعزز الإشكال الثاني بدليلين: الدليل الأوّل: أنّه قد ثبت بالرواية قول النبيّ صلى الله عليه و آله _ لما عرف تقدّم أبي بكر في الصلاة وسمع قراءته في المحراب _ : «إنكنّ كصويحبات يوسف». الدليل الثاني: أنّ النبيّ صلى الله عليه و آله خرج متحاملاً من الضعف ، معتمداً على أمير المؤمنين عليه السلام والفضل بن العبّاس ، وعزل أبي بكر عن إقامة الصلاة وتقدّم بنفسه في الصلاة. (6) وبهذا المقدار يستفيد الشريف المرتضى قدس سره ما أورده أصحابه من الطائفة الإمامية مع بعض النكات ، ويردّ على من أبدى بعض الشبه والإشكالات في البين. ولكنّه قدس سره في آخر سجاله _ حول هذا الخبر _ يطرح قضية عقلية ، تكون بمثابة منهج عقلي متّبع في تفسيراته الروائية ، كما اتّبع ذلك في المثال السابق بهذه الصورة: لو كانت ولاية الصلاة دالّة على النصّ لم يخل من: 1 . أن تكون دالّة من حيث كانت تقديماً في الصلاة. 2 . أو من حيث اختصت مع أنّها تقديم فيها بحال المرض. فإن دلّت على الوجه الأوّل وجب أن يكون جميع من قدمه الرسول صلى الله عليه و آله في طول حياته للصلاة إماماً للمسلمين ، وقد علمنا أنّ الرسول صلى الله عليه و آله قد ولى الصلاة جماعة لا يجب شيء من هذا فيهم. وإن دلّت من الوجه الثاني فالمرض لا تأثير له في إيجاب الإمامة ، ولو دلّ تقديمه في الصلاة في حال المرض على الإمامة لدلّ على مثله التقديم في حال الصحّة . . .. (7) ثمّ إنّ الشريف المرتضى قدس سره يؤنّس بعض المقدّمات (خصوصاً الكبرى منها) ببعض الاُمور ، كتولية اُسامة بن زيد على الجيش ، أو صلاة النبيّ صلى الله عليه و آله خلف عبدالرحمن بن عوف ، مؤكّداً عدم ثبوت ولايتيهما بمثل هذه الاُمور ؛ فإنّ الزعامة والخلافة منصب ربّاني يحتاج إلى جملة من الاُمور والمقدّمات حتّى يستحقّ الشخص إدارة شؤون الاُمة والأخذ بزمام قيادتها ، وهؤلاء فقدوا هذه المواصفات. وعلى كلّ حال فالمنهج والطريقة الّتي اتّبعها الشريف المرتضى قدس سرهفي هذا الخبر تتلاقى في روحها مع الخبر السابق ، وذلك بأدنى مراجعة. وعليه نعرف بأنّ الشريف المرتضى قدس سره صاحب مدرسة عقلية ، وذو أساس دقيق مبني على جهود سنوات كبيرة ، استطاع من خلالها أن يضع منهجية صحيحة وثابتة. وكذلك تشهد المناهج المنطقية في المسائل العقائدية فيما تنقله الطائفة الحقّة الإمامية كبعض النصوص الصريحة الّتي تدلّ على ولاية المولى أمير المؤمنين عليه السلام ، مثل قوله صلى الله عليه و آله : «هذا إمامكم من بعدي» وما ظاهاها من العبارات. وقد تصدّى القاضي عبدالجبار لها ، ووضع بصمات الاتهام عليها بنحو وآخر ، فذكر قائلاً: «فغير مسلم ولا نقل فيه ، فضلاً أن يدعى فيه التواتر». (8) واعتبر هذه النقول من الألفاظ غير منقولة ، وإنّما الّذي يصحّ فيه النقل الأخبار الّتي تذكر كخبر غدير خم وغيره. ثمّ أدعى أنّ الإشكال المهم في هكذا نصوص هو إجمالها وعدم وضوحها ؛ فلذلك يقول: «فمتى لم يعلم مراده صلى الله عليه و آله باضطرار أمكن أن يقال: إنّ هذا القول لا يعمّ الإمامة ؛ لأنّه لا يمتنع أن يريد أنّه إمامكم في الصلاة ، أو الإمامة في العلم ، الّتي هي أجل من الإمامة الّتي تتضمّن الولاية ، وأمكن أن يقال فيه : إنّ هذا القول لا يعمّ الإمامة... فلابدَّ من بيان إذا لم يكن هناك تعارف يحمل الكلام عليه...». (9) وقد نقل الشريف المرتضى قدس سره عبارة اُخرى عن القاضي عبدالجبار المعتزليقائلاً: «إنّ جميع ما نعتمده من النصوص إذا لم يعلم منه قصد النبيّ صلى الله عليه و آله باضطرار فلابدَّ أن يكون محتملاً». (10) وهكذا يتوسّل بكلّ شيء حتّى يخرج الخبر من وضوحه إلى إجمال وغموض فيه ؛ لعلّه يستطيع أن يسقط الخبر عن اعتباره وحجّيته. ويحاكمه الشريف المرتضى قدس سره بصورة منطقية لا تأبى التشكيك ، حيث يقول ما مضمونه : إنّ نقل مثل هذه النصوص إمّا من طريق الخصم أو غيرهم ، ولا يستلزم عدم نقل الخصم للخبر سقوطه ، إذ قد ينقله غيرهم ، وهو يكفي في وثاقة الخبر. ويورد الشريف المرتضى قدس سره عليه _ كما هو عادته _ باُسس عقلية _ : «فليس يخلو الاحتمال الّذي عناه من أن يريد به مالم يمكن القطع فيه على وجه دون وجه... فالنصّ عندنا معزول عنه . . . وإن أراد بالاحتمال جواز دخول الشبهة وعدم العلم الضروري فهو غلط ؛ لأنّه ليس كلّ ما لم يعلم ضرورة ، وأمكن المبطل صرفه عن ظاهره بالشبهة محتملاً ؛ لأنّه لو كان ما هذه صفته موهوماً بالاحتمال لوجب أن تكون أدلّة العقل كلّها محتملة . . . . وإن أراد بالاحتمال جواز العدول عن الظاهر ، أو عن الحقيقة على وجه من الوجوه ؛ فإنّ ذلك ممكن في الكلام خاصّة دون أدلّة العقول ، فهذا أيضا مؤدٍ إلى أنّ جميع أدلّة الكتاب والسنّة محتملة». (11) وهذا الّذي نقلناه خلاصة لجوابه المبني على اُسس عقلية رصينة ، تقدّم بعضها في المناهج السابقة، ويأتي بعضها الآخر ، فلم يترك الشريف المرتضى قدس سرهمفرّا للقاضي عبدالجبّار في إدعائه إجمال النصّ ، وعدم وضوحه في الإمامة الكبرى. ثمّ يتعرّض الشريف المرتضى قدس سره إلى بعض توجيهات أصحابه من الإمامية، (12) ويقول: « وهذا الجواب غير معتمد عندنا ؛ لأنّه مخالف لاُصولنا ، ومبني على أصل نعتقد فساده وبطلانه ». ثمّ هو يجيب بجواب محصور بين أمرين لا ثالث لهما شبيه بالقسمة الحاصرة العقلية ، قائلاً: «قد وجدنا الاُمة في هذا الخبر المخصوص الّذي تدعيه الشيعة بين قولين: أحدهما: قول من نحاه وحكم ببطلانه. والآخر: قول من أثبته وقطع على صحّته. ووجدنا كلّ من قطع على صحّته لا يفرق في تناوله للإمامة بين ولاية وغيرها ، بل يحكم باستيعابه لجميع الولايات الّتي تدخل تحت الإمامة الشرعية ، ولا يميز بين علم وصلاة وغيرهما ، فالقول بإثبات الخبر مع التخصيص قول خارج عن أقوال الاُمة المستقرّة فوجب إطراحه. (13) وبهذا يتمّ دفع إيهام القاضي عبدالجبّار المعتزلي ، ويفضي ذلك ببعض التوجيهات والردود الجانية الّتي تضمّنها إشكال المستشكل، ويستعين بالظهور القرآني في بعض الآيات ، وكيف فهم منها متشرعة ذلك العصر الظهور والتبادر. ونؤكّد على بعض المناهج المنطقية في المسائل العقائدية لترسيخ الصور المنطقية ، وهو أنّ المتعارف عليه بين المفسّرين أنّ قوله تعالى: «إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُو وَالَّذِينَ ءَامَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَوةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَوةَ وَهُمْ رَ كِعُونَ » ، (14) نزلت في أمير المؤمنين عليه السلام ؛ لأنّه وصفه _ على حدّ قول القاضي عبدالجبّار _ بصفة لم تثبت إلاّ له ، وهي إيتاء الزكاة في حال الركوع. وهناك أخبار كثيرة دلّت على أن نزول الآية كان في هذا المورد. ويرد القاضي عبدالجبّار الخبر بصورة منطقية بهذه الصورة: المراد بالولي في الإمامة لا يخلو من وجهين: إمّا أن يراد من التولي في باب الدّين. أو يراد نفاذ الأمر وتنفيذ الحكم. ولا يجوز أن يراد به الأوّل؛ لأنّ ذلك لا يختصّ بالرسول صلى الله عليه و آله وسلموأمير المؤمنين عليه السلام ؛ لأنّ الواجب تولي كلّ قوم فلا يكون لهذا الاختصاص وجه ، إلاّ أنّ المراد ما ذكرناه. (15) وينطلق الشريف المرتضى قدس سره من جهة اُخرى في الاستدلال بالآية الكريمة بقضية منطقية بهذه الصورة: 1 . ثبت أنّ المراد بلفظة «وَلِيُّكُمُ» من كان متحقّقاً بتدبيركم ، والقيام باُموركم ، ويجب طاعته عليكم. 2 . وثبت أنّ المعنى ب_ «وَالَّذِينَ ءَامَنُواْ» أمير المؤمنين عليه السلام 3 . وفي ثبوت هذين الوصفين دلالة على كونه عليه السلام إماماً لنا. (16) ويمكن تصوير كلام الشريف المرتضى قدس سره بصورة صغرى وكبرى ونتيجة. ثمّ إنّ الشريف المرتضى قدس سره يأتي بأدلّة ومناقشات حول الآية ، ولا يتعرّض إلى استدلال القاضي عبدالجبار المعتزلي بخصوص المقطع المتقدّم ، إذ يعتبر أنّ الآية لابدَّ من طرحها على أساس النصوص الواردة ، ولا تنقض بالتشكيكات والإيهامات العقلية ، حتّى أنّه بعد صفحات من بحثه يذكر الأدلّة والوجوه الدالّة على توجّه لفظة «الَّذِينَ ءَامَنُواْ» إلى أمير المؤمنين عليه السلام من إجماع الأمة على اختلافها على توجّه الخطاب إليه عليه السلام ، وأنّ الخبر ورد بنقل طريقتين مختلفتين من الخاصّة والجمهور وأطبق عليه أهل النقل. (17) من هنا نعرف أنّ البحث مع القاضي عبدالجبار بمقدار معطيات كلامه المتقدّم لا يحمل في طيّاته البحث العقلي ؛ ولذلك أعرض الشريف المرتضى قدس سره أن يدلي بدليله العقلي صراحةً ، وإنّما أشار إليه ضمناً، واستعان بالأدلّة الشرعية النقلية ، وطرحها بطريقة منطقية كما ذكرنا سابقا. نعم ، لا يترك القاضي عبدالجبار هذا الإشكال يثبت عليه بسهولة ، بل يستدركه بدليل آخر يشبه بصورته الخطابات المنطقية ، وبروحه يرجع إلى التشكيك في الأدلّة النقلية ، بهذه الصورة: «واعلم أنّ المتعلّق بذلك لا يخلو من أن يتعلّق بظاهره أو باُمور تقارنه. فإن تعلّق بظاهره فهو غير دالٍ على ما ذكر. وإن تعلّق بقرينة فيجب أن يبينها ، ولا قرينة في ذلك من إجماع أو خبر مقطوع به». (18) وهذا الاستدلال أنسب بالمقام ، إذ البحث هو قرآني وروائي ، ولا مجال للظهورات العقلية الصرفة البحتة، ومن خلال هذا يتّضح المنهج الّذي توخّاه. ومن هنا يعرف الشريف المرتضى قدس سره اللغز في هذا العدول ، ولا يعتبره دليلاً ثانيا للقاضي عبدالجبّار حتّى تجعل إطاحة النصّ ممكنه، فهو يقول _ بعد أن ذكر كلام القاضي السابق _ : «قد بيّنا كيفية الاستدلال بالآية على النصّ ، ودللنا على أنّها متناولة لأميرالمؤمنين عليه السلام دون غيره ، وفي ذلك إبطال لما تضمّنه صدر هذا الفصل والجواب عنه». (19) ثمّ يتعرّض الشريف المرتضى قدس سره إلى بحوث مهمّة تتعلّق بالآية الكريمة ، ومقدار معطياتها ، ويرد على الإشكالات الموجّه اليها ، الّتي توخّت حرف التنزيل عن المنزل فيه. وتأسف للقاضي عبدالجبّار في مقولته الّتي قالها قدحاً بالخبر وبالآية عندما قال: «ليس من المدح إيتاء الزكاة مع الاشتغال بالصلاة ، وأنّ الواجب على الراكع أن يصرف همّته إلى ما هو فيه». ويستاء الشريف المرتضى قدس سره من هذا التسطيع في فهم الآية والخبر منه بالخصوص ، حيث يقول: «ويقال له في قوله... إنّما لا يكون ما ذكرته مدحاً إذا كان قطعاً للصلاة ، وانصرافاً عن الاهتمام بها ، والإقبال عليها. فأمّا إذا كان مع القيام بحدودها والأداء بشروطها فلا يمتنع أن يكون مدحاً ، على أنّ الخبر الّذي بيّنا وروده من طريقين مختلفين مبطل لتأويله هذا». (20) ثمّ يأتي بنصّ الرواية والخبر ، ويصحح ما قاله ، ويردّ على القاضي عبدالجبّار في تهافته، وبعد ذلك يأتي بعدّة إشكالات على الآية ووجهات بعض الأعلام والمفكّرين في ذلك. وكذلك من المناهج المنطقية في المسائل العقائدية هو: أنّ الفكر الإمامي أصيل في معتقداته وطرقه ، وينظّر لواقع الأمر ولا يهمّه ثبوت الحقّ لأحد بعينه ، وإنّما المهم عنده ثبوته للإنسان المحقّ ولا يتخبط في أدلّته عشوائياً ، كما يتّضح ذلك جليّاً في قوله تعالى: «وَ إِن تَظَ_هَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَ_ل_هُ وَ جِبْرِيلُ وَ صَ__لِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَ الْمَلَ_ل_ءِكَةُ بَعْدَ ذَ لِكَ ظَهِيرٌ » (21) . في هذا المقطع القرآن ي الكريم تظاهرت الروايات في نزوله _ وخصوصاً قوله تعالى: «وَ صَ__لِحُ الْمُؤْمِنِينَ» _ في أمير المؤمنين عليه السلام ، وهو واضح لمَن راجع كتب الأخبار عن الفريقين. وتصوّر القاضي عبدالجبّار أنّ الإمامية تستدلّ بهذه الآية على إمامة الإمام علي عليه السلام ، حيث قال: «ولا يجوز أن يخصّه بذلك إلاّ لأمر يختصّ به دون سائر المؤمنين ، وذلك الأمر ليس إلاّ طريقة الإمامة». (22) ثمّ إنّ القاضي عبدالجبّار أتعب نفسه في إبطال ذلك كلّه ، مدعياً أنّ الآية لا تدلّ على إمامة الإمام علي عليه السلام ، ولكن الشريف المرتضى قدس سره لا يتعسّف في الموقف ، فهو يقول قدس سره : إنّ الآية الّتي تلاها لا تدلّ عندنا على النصّ على أمير المؤمنين عليه السلام بالإمامة ، ولا اعتمدها أحد من شيوخنا في هذا الموضع. وكيف يصحّ اعتمادها في النصّ من حيث تتعلّق بلفظة مولاه ، ونحن نعلم أنّ هذه اللفظة لو اقتضت النصّ في الإمامة لوجب أن يكون أمير المؤمنين عليه السلام إماماً للرسول صلى الله عليه و آله ؛ لأنّ المكنّى عنه بالهاء الّتي في لفظة «مولاه» هو الرسول صلى الله عليه و آله . ولو اقتصر صاحب الكتاب في إبطال دلالة الآية على النصّ على ما ذكرناه لكفاه ولاستغنى عن غيره. (23) هذه هي نزاهة البحث العلمي الّتي يتخلّق بها علماء الإمامية ، فقد كان يمكن أن يجرف الآية في إمامة الإمام علي عليه السلام ولاأقل يشكل الظن في ذلك ، خصوصا مع تظافر الأخبار بذلك ، ولكن ذلك يكون على حساب دينه وعقيدته وعقله وإنصافه ، وهذا ما يأباه شيمة هذا المحقّق العظيم. وهذا بحدّ ذاته منهج علمي وأخلاقي يتبع في تحقيق البحوث العلمية وخصوصا العقائدية الّتي تدخل فيها أغراض غير نزيهة. وبالمطاف الأخير يصحح الشريف المرتضى قدس سره الآية الشريفة ، ويصوّرها بما يطابق الحقّ حيث يقول: «وإنّما يعتمد أصحابنا هذه الطريقة من الآية في الدلالة على فضل أمير المؤمنين عليه السلام وتقدّمه وعلو رتبته ، فإن جعل لها تعلّق بالنصّ على الإمامة من حيث دلّت على الفضل المعتبر فيها ، وكان الإمام لايكون إلاّ الأفضل جاز ، وذلك لا يخرجها من أن يكون غير دالّة بنفسها على الإمامة ، بل يكون حكمها في الدلالة على الفضل حكم غيرها من الأدلّة عليه ، وهي كثيرة». (24) ولا يحيد الشريف المرتضى قدس سره عن الاستدلال بهذه الآية بالدليل المنطقي (الصغرى والكبرى والنتيجة) ، ليسير طبقا للمنهجية العلمية المتّبعة ، ونلخّص ذلك بصورة مختصرة: ثبت أنّ صالح المؤمنين هو الإمام علي عليه السلام ، وناصر المؤمنين لابدَّ أن يكون أقوى الخلق في نصرة نبيه صلى الله عليه و آله ، وليس ذلك إلاّ أمير المؤمنين عليه السلام . (25) بهذه الصورة المنطقية الملخّصة يثبت أنّ المعنى هو الإمام علي عليه السلام . وكذلك من المناهج المنطقية في المسائل العقائدية هو : من الآيات الدالّة على فضل أمير المؤمنين عليه السلام هي آية المباهلة ، وهي قوله تعالى: «فَقُلْ تَعَالَوْاْ نَدْعُ أَبْنَآءَنَا وَأَبْنَآءَكُمْ وَنِسَآءَنَا وَنِسَآءَكُمْ وَأَنفُسَنَا وَأَنفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل لَّعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكَ_ذِبِينَ» (26) . وقد وردت أخبار كثيرة من الطرفين أنّها نزلت في الإمام أمير المؤمنين عليه السلام والصديقة الكبرى عليه السلام والحسنين عليهماالسلاموعلى رأسهم النبيّ الأكرم صلى الله عليه و آله . وقد دخل الإمام علي عليه السلام تحت قوله تعالى: «وَأَنفُسَنَا» ولا يجوز للنبيّ صلى الله عليه و آله وسلمأن يجعله من نفسه إلاّ وهو يتلوه في الفضل. وقد أشار القاضي عبدالجبّار إلى ذلك في صدر تعرضه إلى هذه الكريمة ، وأورد عليها بثلاثة إشكالات: الإشكال الأوّل: أنّ الإمامة قد تكون فيمَن ليس بأفضل. الإشكال الثاني: أنّ بعض مشايخ القاضي كان يذكر عن بعض أصحاب الآثار أنّ الإمام علي عليه السلام لم يكن في المباهلة. الإشكال الثالث: أنّ أبا هاشم كان يقول: إنّما خصّص صلى الله عليه و آله من تقرّب منه في النسب ، ولم يقصد الإبانة عن الفضل ، ودلّ على ذلك بأنّه عليه السلام أدخل فيها الحسن والحسين عليهماالسلاممع صغرهما ؛ لما اختصا به من قرب النسب ، وقوله: «وَأَنفُسَنَا وَأَنفُسَكُمْ» . . . ، ولا ينكر أن يدلّ ذلك على لطف محله . . . ، وإنّما أنكرنا أن يدلّ ذلك على أنّه الأفضل ، أو على الإمامة. (27) وقد أجاب الشريف المرتضى قدس سره عن الإشكالين الأوّلين بجواب واحد بقضية منطقية ، ثمّ عقّب عن الإشكال الثاني ، وقال: «وهذا الضرب من الاستدلال كالمستغني عن تكلّف إطباق أهل الحديث كافة على دخول أمير المؤمنين عليه السلام في المباهلة ، وإنّما أوردناه استظهاراً في الحجّة». (28) والقضيّة الّتي أشرنا إليها من كلام الشريف المرتضى قدس سره ، هي: 1 . إنّ آية المباهلة تدلّ على فضل من دعي إليها. 2 . ومن دعي فهو مقدّم على غيره. 3 . إذا مَن دعي فهو أفضل ومقدّم على غيره. ويستدلّ على المقدّمة الثانية بتظاهرت الرواية بحديث المباهلة ، وأنّ النبيّ صلى الله عليه و آله دعا إليها أمير المؤمنين عليه السلام ... وقد أجمع أهل النقل وأهل التفسير على ذلك. (29) بهذه الصورة المنطقية المرتبة استطاع الشريف المرتضى قدس سره أن يتغلّب على الإشكال الأوّل والثاني ، وإن ندد بصورة خاصّة على الإشكال الأوّل ؛ لعظمة دعواه وبشاعة نقله ، حيث قال قدس سره: «ولسنا نعلم إلى أي أصحاب الآثار أشار بدفع أمير المؤمنين عليه السلام في المباهلة ، وما نظنّ أحداً يستحسن مثل هذه الدعوى». (30) ويخصّص الشريف المرتضى قدس سره الحديث عن الإشكال الثالث ؛ لأهميته العلمية ، خصوصاً وأنّ الإشكال قد ورد عن أبي هاشم المعتزلي من زعماء أهل الاستدلال والعقل ، حتّى أنّه يردّ على إشكاله الثالث _ المتقدّم _ بقضيتين منطقيتين يمكن استخراجها من كلام الشريف المرتضى قدس سره بهذه الصورة: 1 . إنّ القصد إلى إحضار من يقرب منه في النسب لو كان إلى ما ادعاه لوجب أن يدعو العبّاس وولده. 2 . والنبيّ صلى الله عليه و آله خصّص أمير المؤمنين عليه السلام بالحضور. 3 . فأمير المؤمنين عليه السلام له الفضل بحضوره. والقضية الثانية: 1 . إنّ صغر السن ونقصانهما لاينافي العقل ؛ لتعلّق الأحكام الشرعية. 2 . إنّ الحسنين عليهماالسلام في تلك الحال لا يمتنع معهما أن يكونا كاملي العقل. 3 . ولا منافاة عقلاً لتعلّق الأحكام الشرعية بهما عليهماالسلام. (31) طبعاً استخراج هاتين القضيتين من كلام الشريف المرتضى قدس سره فيه شيء من التمحل ، ولكن روحهما كما ذكرناه ، وإن أمكن تصوير ذلك بصور اُخرى. نعم كلّ من صغرى وكبرى القضيتين يستدلّ عليهما الشريف المرتضى قدس سره بعدة أدلّة وشواهد يمكن مراجعة كتاب الشافي في ذلك . والمهم هنا هو أنّ رد الشريف المرتضى قدس سره نابع من اُسس عقلية منطقية خصوصاً الإشكال الثالث الّذي حظي بأهمية بالغة عنده ، كما هي إشكالات أبي هاشم وأبي علي الجبائي. ويقول الشريف المرتضى قدس سره في آخر المطاف : «وليس يجوز أن يكون المعنى في قوله تعالى: «وَأَنفُسَنَا وَأَنفُسَكُمْ» قرب القرابة حسب ما ظن ، بل لابدَّ أن تكون هذه الإضافة مقتضية للتخصيص والتفضيل». (32) ويؤنس الشريف المرتضى قدس سره بعدّة روايات وأخبار في البين في فضل الإمام أمير المؤمنين عليه السلام وفضل الحسنين عليهماالسلام. ويؤكّد مرّة ثانية ، ويقول قدس سره: «ولا شبهة في أنّ الإضافة فيما ذكرناه من الأخبار إنّما تقتضي التفضيل والتعظيم والاختصاص دون القرابة». (33) وكذلك من المناهج المنطقية في المسائل العقائدية هي: حديث المؤاخاة الّتي انعقدت بين النبيّ صلى الله عليه و آله والإمام أمير المؤمنين عليه السلام ممّا اشتهرت بين الفريقين ، واحتجّ بها الإمام علي عليه السلام بقوله : «أفيكم أحد آخى رسول اللّه صلى الله عليه و آله بينه وبين نفسه غيري» وغيرها من النصوص القريبة من هذا المضمون ، وأنّه صلى الله عليه و آله قصد إلى أمر زائد على ما تقتضيه الاُخوة في الدّين ؛ لأنّه لو أراد ذلك لم يكن ليخصّ بعضاً دون بعض باُخوة غيره ، وإذا صحّ أنّ المقصد أمر زائد فليس إلاّ إبانة الاختصاص ، والتقارب بين من آخى بينهما ، فإذا آخى بين الإمام عليه السلام وبينه صلى الله عليه و آله فقد دلّ على أنّه أخصّ الناس به ، وأقربهم إليه ، وأفضلهم بعده ، وذلك يقتضي أنّه أولى بالإمامة. (34) وهذا البيان اللطيف والجميل هو للقاضي عبدالجبّار المعتزلي ، ولكنّه مع الأسف يتمحّل لخلق الإشكالات على هذا الخبر ، بحيث يخرج هذا المفهوم الصريح إلى متاهات ومطبّات عميقة يأباها المنطق الواضح ، وسوف نستعرضها لنرى مقدار معطياتها ، ومقدار منازلة الشريف المرتضى قدس سره لها ، وهي: ليس في ظاهر المؤاخاة ولافي معانيها ما يقتضي الإمامة ، وإن دلّ الخبر على أنّ الإمام علي عليه السلام أفضل من غيره ، أو على أنّه أقربهم إلى قلبه ، وأحبهم إليه ، أو على جميع ذلك. (35) هذه هي المطبّة الأساس في عمق الإشكال ، ويأتي القاضي عبدالجبّار بشواهد لا تنهض بذلك ، يتعرّض لها الشريف المرتضى قدس سره بدقّة وموضوعية. ولكن الشريف المرتضى قدس سره يقف أمامه بقضية منطقية مركبة من صغرى وكبرى ، ثمّ يستنتج منها قضية الإمامة في آخر القياس ؛ لأنّه قسّم النصّ الوارد عن النبي صلى الله عليه و آله إلى قسمين: القسم الأوّل: ما يدلّ بلفظه وصريحه على الإمامة. القسم الثاني: ما يدلّ فعلاً كان أو قولاً على الإمامة بضرب من الترتيب والتنزيل. وبعد هذا التقسيم الثاني للخبر يضمّ مقدّمة اُخرى إليهما ، وهي: إنّ كلّ أمر وقع من النبيّ صلى الله عليه و آله وسلم من قول أو فعل يدلّ على تميز أمير المؤمنين عليه السلام واختصاصه من الرتب العالية ، فهو دالّ على النصّ بالإمامة من حيث كان دالاًّ على عظم المنزلة وقوة الفضل ، فمن كان كذلك فهو أولى بالإمامة. (36) بهذه القضية المنطقية استطاع الشريف المرتضى قدس سره أن يرد هذا الإشكال للقاضي عبدالجبّار . ثمّ ردّ على الشواهد الّتي جعلها مدركا لهذا الإشكال ، وفي مطاف البحث يصرّح الشريف المرتضى قدس سره أنّ هذه المؤاخاة ذريعة قوية إلى الإمامة ، وسبب وكيد في استحقاقها ، لأنّه قال الإمام عليّ عليه السلام يوم الشورى _ لمّا عدد فضائله إلى استحقاق الإمامة قال في جملة كلام _ : «أفيكم أحد آخى ...» ثمّ يأتي بعدّة روايات صريحة في دلالة المؤاخاة على الفضل والإمامة وبطلان قول من ظن خلاف ذلك. (37) فحينئذٍ لايبقى وجه لماقاله أبو هاشم (شيخ القاضي عبدالجبّار) عندما قال: «إنّما قصد صلى الله عليه و آله بالمؤاخاة: التأليف ، والاستنابة، (38) والبعث على المعونة ، والمؤاساة » . (39) لأنّ هذه المؤاخاة كانت تقتضي تفضيلاً وتعظيماً ، وأنّها لم تكن على سبيل المعونة والمؤاخاة ؛ فإنّه تظافر الخبر عن أمير المؤمنين عليه السلام في غير مقام بقوله مفتخراً متبجّحاً . . . فلولا أنّ في الآخرة تفضيلاً وتعظيماً لم يفتخر عليه السلام بها، مضافاً إلى قرائن الأحوال الّتي تشكّل قرينة على الإمامة الكبرى والخلافة العظمى. وكذلك من المناهج المنطقية في المسائل العقائدية : هو ما روي عن النبيّ صلى الله عليه و آله وسلمأنّه قال في أبي بكر وعمر: «هذان سيدا كهول أهل الجنّة» وما شاكل ذلك من الأخبار الّتي استدلّ بها على إثبات خلافة الأولين. وقيّدها أبو علي شيخ القاضي عبدالجبار بأنّهما سيّدا من يدخل الجنّة من شباب الدنيا. (40) يواجه الشريف المرتضى قدس سره هذا الاستدلال بقضية منطقية ، حيث يقول: لا يخلو من أن يريد بقوله: «سيّد كهول . . . » أنّهما سيّدا الكهول في الجنّة. أو يريد أنّهما سيّدا من يدخل الجنّة من كهول الدنيا. فإن كان الأوّل فذلك باطل ؛ لأنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله قد وقّفنا ، وأجمعت الاُمة على أنّ أهل الجنّة جرد مرد ، وألاّ يدخلها كهل. وإن كان الثاني فذلك دافع ومناقض للحديث المجمع على روايته من قوله صلى الله عليه و آله في الحسنين عليهماالسلام: «أنّهما سيّدا شباب أهل الجنّة » ؛ لأنّ هذا الخبر يقتضي أنّهما سيّدا كلّ من يدخل الجنّة إذا كان لايدخلها إلاّ شباب وأبو بكر وعمر ، وكلّ كهل في الدنيا داخلون في جملة من يكونان عليهماالسلام سيديه ، والخبر الّذي رووه يقتضي أنّ أبا بكر وعمر سيّداهما من حيث كانا سيّدي الكهول في الدنيا ، وهما من جملة من كان كهلاً في الدنيا». (41) ثمّ يذكر الشريف المرتضى قدس سره بعض المداخلات على هذا الخبر ، ويردّ جميعها بطريقة منطقية مشابهة لما تقدّم ، ويأتي ببعض الأخبار الّتي تعارض هذا الخبر الوارد في الشيخين. (42) ولا يكتفي الشريف المرتضى قدس سره بهذا القدر من نقد الخبر ، بل يأتي بقرينة داخلية في مضمون الخبر تؤكّد بطلانه ، وهي أنّه جاء في بعض صور الخبر أنّ الإمام علي عليه السلام كان جالساً بمحضر النبيّ صلى الله عليه و آله ، وقد سمع هذا الخبر في حقّ الشيخين ، فأوصاه النبيّ صلى الله عليه و آله ألاّ يخبر بذلك أحدا. وقد استاء الشريف المرتضى قدس سره من حجم هذا الغلو المفرط ، وأكّد على أنّه لا داعي لهذه الإضافات في الأخبار ، فقد جاء أجلّ وأعظم من هذه الأخبار من غير أن يأمر صلى الله عليه و آله أحداً بكتمانه ، بل اُمر بإذاعته ونشره، يقول قدس سره خاتماً على هذه المكابرة: «فما بال هذه الفضيلة من بين سائر الفضائل تكتم وتطوى عنهما؟ !» (43) . ومن المناهج المنطقية في المسائل العقائدية : هي الأخبار الّتي تدلّ على خلافة أبي بكر ، ومنها قول النبيّ صلى الله عليه و آله : «إنّ الأئمّة من قريش» . فقد اعتقد بعض من مشيخة المعتزلة: «إنّ ذلك كان سبباً لصرف الأنصار عمّا كانوا عزموا عليه ، ولم ينكره في تلك الحال ، وأنّ أبا بكر استشهد في ذلك الحاضرين فشهدوا به على النبيّ صلى الله عليه و آله ، حتّى صار خارجاً عن باب خبر الواحد إلى الاستفاضة ، وقووا ذلك بأنّ ما جرى هذا المجرى إذا ذكر في ملأ من الناس وادعى عليهم المعرفة فتركهم النكير يدلّ على صحّة الخبر المذكور». (44) ونحن لانتعرّض إلى جميع تهافتات هذا النصّ المنقول عن مشيخة المعتزلة ، بل ننقل ما يتعلّق بصميم الخبر ومنهجيته الروائية ، ولكن لا بأس بالإشارة إلى الطريقة الّتي ينقلها الشريف المرتضى قدس سرهوالّتي تتضمّن أنّ أبا بكر لم يحتجّ بهذا الخبر ، بل نقل أصحاب السير في خبر السقيفة وجوهاً وطرقاً ليس من جملتها هذا الخبر المدعى ، بل تضمّنت الأخبار الروائية الّتي رواها الزهري كلّها على اختلافها أنّ أبا بكر لمّا سمع كلام سعد بن عبادة وخطبته الّتي رواها الطبري ، قال: « أمّا بعد فما ذكرتم فيكم من خير فأنتم أهله ، وأنّ العرب لن تعرف هذا الأمر إلاّ لهذا الحي من قريش ، هم أوسط العرب نسباً وداراً». (45) ولكن الشريف المرتضى قدس سره لا يسلم بالخبر ؛ لأنّه خبر محض ، ومن المعلوم أنّ الخبر المحض لا يجوز صرفه إلى معنى الأمر إلاّ بدلالة ، وأكثر ما يقتضيه : أن يكون كلّ إمام يعقد له من غير قريش ، فمن أين له أنّه لا يجوز عقدها لغير قريش ؟ ! وبعدما يردّ الشريف المرتضى قدس سره بعض التهافتات على الخبر يبرز مقدّمة تحقيقية ، يقول فيها: «فأمّا اللفظ الآخر الّذي رواه من قوله: «إنّ هذا الأمر لا يصلح إلاّ في هذا الحي من قريش» فضعيف لايكاد يعرف... وقد روينا في خبر الزهري من طرقه المختلفة أنّ هذا اللفظ إنّما حكاه أبو بكر عن نفسه ولم يسنده إلى الرسول صلى الله عليه و آله ، وأنّه قال: «إنّ العرب لن تعرف . . . ولو سلم هذا اللفظ على علاّته لم يكن أيضاً فيه حجّة ودليل ؛ لأنّ القائل قد يقول هذه الولاية لا تصلح إلاّ لفلان إذا كان أقوم بها من غيره وأولى ، وإن جازت في غيره. وهذا اللفظ لايكاد يستعمل إلاّ في التفضيل والترجيح ، ولا يستعمل في الأغلب في التحريم ونفي الجواز . وهذه الجملة تأتي على ما ذكره». (46) بهذه الشفافية ينقد الخبر ، ويعتبر أنّ المستدلّ على الإمامة بهذا الخبر كأبي عليركيك الاستدلال ، وإن طغت على عبارة أبي علي الصبغة المنطقية عندما قال: «إنّهم أجمعوا قديماً على أنّ قريشاً تصلح للإمامة، ولا إجماع أنّ الإمامة تصلح في غيرها . ولا يجوز إثبات الإمامة بغير حجّة سمعية ، فيجب لذلك أن يكون الإمام من قريش». (47) ويردّه الشريف المرتضى قدس سره بأنّ هذا الاستدلال ركيك وضعيف، مدعيا أنّ المقدّمة الاُولى (الصغرى) وإن صحّت _ أي قريش تصلح للإمامة _ إلاّ أنّ إجماعهم على أنّ غيرها لايصلح هو موضع الخلاف. ثمّ يقول الشريف المرتضى قدس سره: «ولا يلزم إذا لم يكن في غير قريش إجماع وجب نفي الإمامة عنهم ؛ لأنّ الحقّ قد ثبت بالإجماع وغيره ، وليس مقصورا على الإجماع». ويردّ المقدّمة الثانية (الكبرى): إنّها وإن كانت صحيحة إلاّ أنّه لم يبق من صلاح غير قريش للإمامة من الحجج السمعية إلاّ الإجماع دون ماعداه ، فمن أين أنّه لا حجّة سمعية في ذلك؟! ثمّ يقول الشريف المرتضى قدس سره : « على أنّه يلزمه على هذه الطريقة _ إذا كانت صحيحة _ أن تكون الإمامة مقصورة على ولد الإمامين الحسن والحسين عليهماالسلام ؛ لأنّ فيمَن عداهم من الناس اختلافا ، ولا إجماع على صلاح غيرهم للإمامة ، ولا اختلاف فيهم ، ولا أحد يدفع أنّهم يصلحون للإمامة . . . » (48) .

.


1- . المصدر السابق: ص 236 _ 237.
2- . المصدر السابق : ص 237.
3- . المصدر السابق.
4- . المصدر السابق: ص 237 _ 238.
5- . المصدر السابق : ص 238.
6- . المصدر السابق : ج 2 ص 158 _ 159.
7- . المصدر السابق : ص 160 _ 161.
8- . المصدر السابق : ص 192 _ 193.
9- . المصدر السابق : ص 193، وانظر المغني في أبواب التوحيد والعدل ( القسم الأوّل ) : ج 20 ص 129 .
10- . الشافي في الإمامة : ج 2 ص 195.
11- . المصدر السابق : ص 195 _ 196.
12- . المصدر السابق : ص 196 _ 197.
13- . المصدر السابق : ص 197.
14- . المائدة: 55.
15- . الشافي في الإمامة : ج 2 ص 217، المغني في أبواب التوحيد والعدل ( القسم الأوّل ) : ج 20 ص 133 .
16- . المصدر السابق : ص 217.
17- . المصدر السابق : ص 222.
18- . المغني في أبواب التوحيد والعدل ( القسم الأوّل ) : ج 20 ص 134 .
19- . الشافي في الإمامة ج 2 ص 224.
20- . المصدر السابق : ص 232.
21- . التحريم : 4.
22- . المغني في أبواب التوحيد والعدل ( القسم الأوّل ) : ج 20 ص 139 .
23- . الشافي في الإمامة : ج 2 ص 249.
24- . المصدر السابق : ص 249 _ 250.
25- . المصدر السابق : ص 250.
26- . آل عمران: 61.
27- . المغني في أبواب التوحيد والعدل ( القسم الأوّل ) : ج 20 ص 142 .
28- . الشافي في الإمامة : ج 2 ص 254 _ 255.
29- . المصدر السابق : ص 254.
30- . المصدر السابق.
31- . المصدر السابق : ص 255.
32- . المصدر السابق : ص 255 _ 256 .
33- . المصدر السابق : ص 257.
34- . المغني في أبواب التوحيد والعدل ( القسم الأوّل ) : ج 20 ص 187 ، وانظر المصدر السابق : ج 3 ص 81 .
35- . المصدر السابق، وانظر الشافي في الإمامة : ج 3 ص 82.
36- . الشافي في الإمامة : ج 3 ص 82 _ 83 .
37- . المصدر السابق : ص 84 _ 86.
38- . يقصد بالاستنابة من أبي بكر في الخلافة.
39- . المغني في أبواب التوحيد والعدل ( القسم الأوّل ) : ج 20 ص 187 .
40- . الشافي في الإمامة : ج 3 ص 93 .
41- . المصدر السابق : ص 106 _ 107.
42- . المصدر السابق : ص 107 _ 108.
43- . المصدر السابق : 109.
44- . المصدر السابق : ص 183 _ 184.
45- . المصدر السابق : ص 184، 192.
46- . المصدر السابق : ص 195 _ 196.
47- . المغني في أبواب التوحيد والعدل ( القسم الأوّل ) : ج 20 ص 236 .
48- . الشافي في الإمامة : ج 3 ص 199 _ 200 .

ص: 210

. .

ص: 211

. .

ص: 212

. .

ص: 213

. .

ص: 214

. .

ص: 215

. .

ص: 216

. .

ص: 217

. .

ص: 218

. .

ص: 219

. .

ص: 220

. .

ص: 221

. .

ص: 222

. .

ص: 223

. .

ص: 224

. .

ص: 225

. .

ص: 226

. .

ص: 227

. .

ص: 228

. .

ص: 229

. .

ص: 230

الاُسس العقلية الشيعية في مواجهة المغالطة والجدل الاعتزالي

الاُسس العقلية الشيعية في مواجهة المغالطة والجدل الاعتزاليطرق المغالطة كثيرة ، ولا يمكن بسهولة ردّها إلاّ لمَن تحذلق في فن المنطق والجدل ، ومارس الطرق العقلية كثيرا ، وكان له ذهن وقاد يعرف أين الخلل في المقدّمات ؛ لأنّه قد يتكوّن القياس من صغرى وكبرى ونتيجة ، ولكن يدسّ المغالط بعض مغالطته في أحدها ، ولا يعرف ذلك بسهولة ووضوح إلاّ على الممارس لفن المغالطة . وهذا ما نجده كثيرا في بحوث المغني في أبواب التوحيد والعدل ، ولكن الشريف المرتضى قدس سرهيضع بصمات البحث على كلّ موضع ، وسوف نتعرّض لقسم كثير منها بغية أن نحصل على جميع الاُسلوب المغالطي الّذي يحتويه المذهب الاعتزالي ، ويرأسه عميدها القاضي عبدالجبّار في كتابه المغني. فمن الأُسس العقلية الشيعية في مواجهة المغالطة والجدل الاعتزالي : هو ما تطرّق إليه القاضي عبد الجبّار في قضية حساسة أطاحت بآمال الاعتزال خصوصا وأهل السنّة عموما ، وهي صراحة الحديث النبوي الواضح الدلالة الّذي احتج أبو بكر به يوم السقيفة على الأنصار ، عندما روى عن النبيّ صلى الله عليه و آله : «الأئمّة من قريش» . دعا الجلاء الّذي في هذه الرواية علماء الجمهور إلى منازلتها ، والتخلّص من تبعاتها ، واصطدمت بقول عمر بن الخطاب عندما قال _ قبيل وفاته _ : «لو كان سالم مولى أبي حذيفة حيّا لاستخلفته»، ومن المعلوم أنّ سالما لايمت إلى قريش بصلة ولا كرامة. هذا الإشكال المعمق الروائي تخبط بها القاضي المعتزلي فرارا منها ؛ فإنّها على حدّ قوله: «إنّه إذا أوجب فيها هذه الصفة دلّ على وجوبها». (1) فأخذ القاضي عبد الجبّار يتمحّل لتوجيه هذه الرواية ويلين جوانبها بغية تضييق عمومها ، ووضع الحصار على إطلاقها ، فقال: «من أين أنّه أراد الإمامة الواجبة من قريش دون غيرهم ؟ !». (2) بهذه الطريقة اللطيفة والجدلية استطاع زعزعة الرواية من موضعها ، وقال مضيفا إلى ذلك : «إنّه قد يريد صلى الله عليه و آله الإمامة المستحبّة والّتي ندبتم اليها » . (3) ولا يكتفي بهذا المقدار حتّى يلتاف على الرواية بوجه آخر ، فيقول: «أو الّتي يلزمكم في حال دون حال». (4) بهذه المغالطة الأخيرة نفّس القاضي عبدالجبّار على مذهبه الاعتزالي ، واستطاع أن يبرز مقدرته المنطقية في حرف الرواية عن ظهورها. والآن فلنرى مقدار وعي الشريف المرتضى قدس سره في منازلاته العقائدية ، وطرقه المنهجية الروائية في احتواء الواقع ، فهو يناقش الرجل على ضوء معتقداته العقلية ، وطرقه الّتي سار عليها مع أسلافه من طرائق المعتزلة. فأوّل ما يوجهه إليه هو أنّ قوله صلى الله عليه و آله : «الأئمة من قريش» وإن كانت بصورة الخبر ولكنّه أمر. (5) هذه هي منهجية عقلية أخذت الرواية إلى مسارها الصحيح بعد ما انحرفت لجدلية القاضي عبدالجبّار المعتزلي. ويظهر الشريف المرتضى قدس سره الرواية بمحتواها الواضح ، فيقول: «وتقدير الكلام، اختاروا من قريش ، أو إذا اخترتم إماما فليكن من قريش». (6) فهنا يردّ الشريف المرتضى قدس سره وضوح الرواية على مسارها الأوّل ، ويتبع منهجية العقل في توجيه الرواية ، وهذا ما صرّح فيه في عدّة مواضع على أصالة العقل بعد كتاب اللّه عز و جل . ولا يكتفي بهذا المقدار من الظهور العقلي حتّى يرغمه بتوجيه آخر، وهو: «ولو لم يكن بمعنى الأمر _ وإن كان له لفظ الخبر _ لما سانح الاحتجاج به على الأنصار، ولا يكون الحجّة ثابتة عليهم إلاّ إذا كان أمرا في الحقيقة ، أو له معنى الأمر». (7) هذا النقض الثاني تابع في منهجيته للنقض الأوّل الّذي كانت مبانيه عقلية ؛ فإنّ كلّ من الخبر يحمل على الأمر ، أو أنّ المخاطبين يفهمون منه الأمر على الحقيقة هو من سلك واحد جذوره أصالة العقل في التوجيهات الأخبارية الّتي أصبحت رهينة بيد الجدليين. ثمّ يأصّل الشريف المرتضى قدس سره مبانيه العقلية المتقدّمة ، الّتي وجّهت الرواية توجيها صحيحا بالتمسّك بآية من القرآن الكريم ، وهي قوله تعالى: «وَالسَّارِقُ وَ السَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا » (8) ، يقول بهذا الصدد: «فإذا لم يمتنع عنده أن يريد بذلك إذا أقمتم ، إماما فليكن من قريش ، فيكون الخبر مفيدا لصفة الإمام الّذي هم مخيرون في إقامته غير مقتضٍ لوجوب إقامته ، فكذلك قوله تعالى: «وَالسَّارِقُ وَ السَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا» وتوجيهه تعالى هذا الخطاب إلى الأئمة ، دون غيرهم لا يقتضي وجوب إقامة الأئمة ، بل هو خطاب لمن كان إماما بقطع السراق ، ويكون تقدير الكلام: والسارق والسارقة فليقطع أيديهما من كان إماما». (9) ثمّ إنّ الشريف المرتضى قدس سره يورد إشكالاً على كلام القاضي عبدالجبّار بنفس طريقة طرحه للإشكال ، وهي: «قال: من أين أنّ الإمامة الواجبة من قريش دون المستحبّة ، أو الّتي ندبتم إليها؟!». يقول الشريف المرتضى قدس سره: «من أين أنّ خطابه تعالى بقطع السارق متوجّه إلى الأئمة الّذين تجب إقامتهم دون الّذي ندب إلى إقامتهم أو دلّ على استحبابها ، وهذا ما لا فصل فيه». (10) وحقّا هذا الّذي طرحه من الاحتمال لافصل فيه ، أي لاتفريق فيه. فتمسّك أوّلاً بظاهر العقل ، ثمّ أجرى ذلك على آيات القرآن الكريم ، وبذلك سلم عنده مبناه ، وهو تقديم إشارة العقل والعرض على كتاب اللّه تعالى ؛ فلذلك يقول: «دليلنا على وجوب الإمامة ، ووجه وجوبها من طريق العقل». (11) ومن الاُسس العقلية الشيعية في مواجهة المغالطة والجدل الاعتزالي هي مسألة الاختلاف والاجتهاد في الشريعة الاسلامية ، ومقدار معطياتها المعرفية وتعتبر هذه من المسائل المهمّة على صعيد الفكر الإسلامي ، وقد وقع السجال في ذلك ، وعن هذا الطريق أراد القاضي عبدالجبّار المعتزلي أن يصحح وجها من عقيدته ، مدعيا : إنّ ما تقدّم من حال الأئمة كانوا لايمنعون من الاختلاف والاجتهاد ، وجعل هذا بمثابة الصغرى في القياس. ثمّ عرّج إلى كبرى اُخرى وهي : إنّ الثابت عن أمير المؤمنين عليه السلام أنّه كان لا يمنع من ذلك ، بل كان يجيز لمن يخالفه في المذاهب أن يحكم ويفتي ويوليه الاُمور ، وكان ينقل من اجتهاد ، إلى اجتهاد، وتختلف مذاهبه على ما ظهرت الرواية به. (12) ويعترف الشريف المرتضى قدس سره أنّ البحث بهذا المقدار حول قضية الاجتهاد من الاُمور غير الصحيحة ، ولكن بما أنّ المشكل يريد أن يوظّف القضية لصالحه فلابدَّ من الوقف أمامه ورد مزاعمه ومغالطاته. وقبل أن نرى المنهج المتّبع الروائي في هذه القضية لابدَّ أن نعرف إنّ الّذي دعا القاضي عبدالجبّار إلى التفوه بهذا الأمر حتّى جعل ظهور الرواية بذلك ، هو ما ينقله الشريف المرتضى قدس سره في أثناء ردّه، وهو قوله: «وأكثر ما يدعيه المخالفون من ذلك ما روي من قول عبيدة السلماني وقد سأله عن بيع اُمهات الأولاد ، فقال [ الإمام علي عليه السلام ] : «كان رأيي ورأي عمر ألاّ يبعن، ورأيي الآن أن يبعن» . (13) بهذا المضمون والصيغة استطاع القاضي أن يوحي إلى قرائه ما يتوخّاه من نظرياته الاعتقادية ، ويتّبع اُسلوبه الرائج في مغالطاته ، ويركّز دعائم مذهبه الاعتزالي. وقد وجّه الشريف المرتضى قدس سره النقد اللاذع إلى هذا الخبر من حيث السند ومن حيث الدلالة: أمّا من حيث السند فقد جعله في حيز الخبر الواحد الّذي لايؤمن به، حتّى ذكر أنّ أكثر الناس رد هذا الخبر وطعنوا في طريقه، وحقّ للشريف المرتضى قدس سره أن يستعين بهذا الطرح من الإشكال ؛ لأنّ مسألة الاجتهاد واختلاف الرأي ترجع بروحها إلى فروع الشريعة ، وتتحكم بها المناهج الأخبارية والروائية. ثمّ يحاول من حيث الدلالة هدم كيان الخبر القائم ، فيقول: «ولو صحّ لم يكن مصححا للاجتهاد الّذي يدعيه المخالفون ؛ لأنّه يمكن _ على مذهبنا في حسن التقية ، بل على وجوبها في بعض الأحوال _ أن يكون عليه السلام أظهر موافقة عمر لما علمه في ذلك من الاستصلاح ، ولمّا زال ما أوجب إظهار الموافقة أظهر المخالفة». (14) بهذا المقدار الإشكالي في السند والدلالة اتّبع مشهور العلماء في نقاشهم واستدلالاتهم وردودهم ، ولكن هذا المقدار يطرحه في أثناء البحث ، وإنّما صدّر البحث بإشكالات اُخرى منهجية ، وهي النقض عليه بنفس منهجيته الجدلية ، فهو يؤكّد أنّ المعلوم من حال الأئمة الّذين حكموا البلاد وكذلك الإمام أمير المؤمنين عليه السلام خلاف ما ادعاه ؛ فإنّ الثابت عنهم وعن أمير المؤمنين عليه السلام خاصّة مناظرة المخالفين ، ومطالبتهم بالرجوع إلى الحقّ ، ويستدلّ على نقضه هذا ما تظاهرت به الرواية عن ابن عبّاس من قوله: «من شاء بأهلته في باب العول» وقوله: «ألاّ يتقي اللّه زيد بن ثابت يجعل ابن الابن ابنا ، ولا يجعل أبا الأب أبا؟ !». (15) وأصرح من ذلك إتيانه بأخبار وردت عن الإمام علي عليه السلام تصرّح بأنّه قال: _ وقد سأله قضاته عمّا يقضون به _ : «اقضوا كما كنتم تقضون حتّى يكون الناس جماعة أوأموت ، كما مات أصحابي». (16) كلّ ما تقدّم من مناهج البحث في ردّ هذه الدعوى كانت تساير القوم عند ردّهم ، ولم يصرّح الشريف المرتضى قدس سره بمنهجه الروائي العقلي المتّبع في دحض هذه الشبهة من أساسها ، نعم في آخر التفاتاته للخبر يأتي ببيت القصيد ، حتّى يضع منهجيته الروائية على اُصولها العقلية الصحيحة ، فهو يقول: «على أنّا لو عدلنا عن هذا الجواب . . . لم يكن فيما يدعيه من الخبر دلالة على صحّة الاجتهاد ؛ ولأنّه لاينكر أن يرجّح من قول إلى قول بدليل قاطع». (17) انظر إلى قوله: « بدليل قاطع » هذا هو المنهج الدقيق الّذي يسير عليه في منازعة خصمه ، ثمّ يضيف قائلاً: «وإنّما كان في الخبر متعلّق لو ثبت أنّه لا يمكن أن يرجع من قول إلى قول إلاّ بالاجتهاد ، فأمّا إذا كان ممكنا فلا فائدة في التعلّق به . ثمّ يقول الشريف المرتضى قدس سره : « وهذا الجواب وإن كان غير صحيح ؛ لأنّ أمير المؤمنين عليه السلام لايجوز أن يخفى عليه الحقّ المعلوم بالدليل في وقت حتّى يرجّح إليه في وقت آخر ، فإنّما ذكرناه ؛ لأنّ اُصول من تعلّق بهذا الخبر في صحّة الاجتهاد لاتنافيه ، وإذا كانت اُصولهم تقتضي جواز ما ذكرناه بطل تعلّقهم به ، ولم يكن لهم أن يستدلّوا بما اُصولهم تقتضي أنّ لا دلالة فيه». (18) ويرجّح القاضي عبدالجبّار المعتزلي مرّة اُخرى إثارة هذا الإشكال ليستفيد منه بأنّه غير لازم أن تصير الشريعة محفوظة إلاّ بإمام. فهو ينفي ذلك بصورة ترجع في مضمونها ومحتواها إلى بحثه السابق ، ويشير الشريف المرتضى قدس سره إلى ذلك بالتفاتة خاطفة . يقول القاضي عبدالجبّار المعتزلي: «على أنّ المتعالم من حال أمير المؤمنين عليه السلام _ وهو الإمام الأوّل [طبعا عند الإمامية] أنّه كان قد يرجع في معرفة بعض الشرائع إلى غيره من الصحابة ، وقد يرجع من رأي إلى رأي ، فكيف يمكن ادّعاء ما ذكروه من أنّ الشريعة لا تصير محفوظة إلاّ بالإمام ؟ ! والمتعالم من حاله أنّه كان يجوز لغيره مخالفته في الفتاوى والأحكام ، وكان لا ينكر على من لا يتبع قوله ، كما ينكر على من لا يتبع قول الرسول صلى الله عليه و آله ». (19) ففي هذا المقطع عدّة إشكالات بعضها فنية ، واُخرى علمية: أمّا الفنية فهي _ كما أشار الشريف المرتضى قدس سره إلى ذلك _: 1 . إنّ القاضي عبدالجبّار لم يشر إلى شيء رجع فيه عليه السلام إلى غيره من الأحكام. 2 . أرسل القاضي عبدالجبّار القول به إرسالاً فعل من لا خلاف عليه ولا نزاع في قوله. (20) أمّا العلمية ، فقد أشار الشريف المرتضى قدس سره إليها بقوله : ما ذكره القاضي عبدالجبّار يواجه إشكالاً في المنهج ؛ فإنّ ما تظاهرت به الرواية أنّ النبيّ صلى الله عليه و آله قال: «أنا مدينة العلم وعلي بابها» وما ظاهاها من الأخبار الكثيرة الّتي وردت عن النبيّ صلى الله عليه و آله ، فلا معنى لرجوعه عليه السلام إلى غيره في الأحكام ، وليس يرجع في الأحكام إلى غيره إلاّ من ذهب عنه بعضها وافتقر إلى معرفة غيره فيها. (21) وبهذه المنهجية المنطقية العقلية استطاع الشريف المرتضى قدس سره أن يفحم خصمه المعتزلي الّذي أسّس عقيدته على قواعد منطقية من صغرى حسية ومن كبرى عقلية ، فهو بالتالي رجوع إلى اُسسه العقلية من عرض الخبر على العقول. ثمّ يذكر الشريف المرتضى قدس سره مغالطة اُخرى وقع فيها القاضي عبدالجبّار في منهجيته الّتي سار عليها في الأخبار ، وهي: كيف ساغ له أن يعكس الأمر ويقلبه ويجعل ما هو ظاهر من الافتقار إليه عليه السلام والرجوع إلى فتاويه وأحكامه رجوعا منه إلى غيره. (22) فالقاضي عبدالجبّار المعتزلي بهذا القول أراد أن يدير الأنظار إلى جهته ، ويستفيد من المغالطات لدعم مذهبه وإن كان على حساب الحقّ ، حتّى أنّه يعيد المغالطة بعدة وجوه في عدّة دعاوى ، وهي غاية في فن الجدل والمغالطة. ولكن الشريف المرتضى قدس سره لايبدل منهجيته المتبعة في هذه المغالطة الثانية وإن كان يذكر مزالقه في ذلك قائلاً : «فأمّا الرجوع من رأي إلى آخر فقد بينا أنّه باطل ، وأن أكثر ما يتعلّق به خبر عبيدة السلماني ، وقد قلنا ما عندنا فيه». (23) وأحد مناهج الاُسس العقلية في مواجهة المغالطة الاعتزاليه ، هي أنّ أحد الطعون الّتي وجهت إلى أبي بكر هو تخلفه عن جيش اُسامة بن زيد ، وذكروا أنّه لم يكن في جيشه ، وأنّ النبيّ صلى الله عليه و آله كرر حين موته بتنفيذ جيش اُسامة، وهذا ممّا لا شكّ فيه بين المؤرخين. واعتقد البعض: إنّه جعل في جيش اُسامة هؤلاء القوم ليبعدوا بعد وفاته عن المدينة ، ولا يقع منهم توثيب على الإمامة ؛ ولذلك لم يجعل أمير المؤمنين عليه السلام في ذلك الجيش ، وجعل فيه أبا بكر وعمر وعثمان وغيرهم ، وذلك من أوكد الدلالات على أنّه لم يرد أن يختاروا للإمامة. وهذا الأمر أوقع الكثير في الشكّ والترديد ، وتمحلوا له من المخارج الباردة : أوّلاً: لم يكن أبو بكر في جيش اُسامة ، وأحالوا ذلك على كتب المغازي . ثانيا: الالتزم بخلاف المباني الاُصولية الّتي تقول : إنّ أوامره صلى الله عليه و آله على الفور دون التراخي ، ولأجل هذا . جعل القاضي عبدالجبّار يميل عن الحقّ والصواب ، ويعتقد بأنّ أمر النبيّ صلى الله عليه و آله لا يلزم الفور ، وعليه لا يلزم من تأخّر أبي بكر عن النفوذ أن يكون عاصيا. ثالثا: أنّ خطابه صلى الله عليه و آله بتنفيذ الجيش يجب أن يكون متوجّها إلى القائم بعده بالأمر ؛ لأنّه خطاب الأئمة ، وهذا يقتضي ألاّ يدخل المخاطب بالإنفاذ في الجملة. رابعا: بل توسّعت جدلية القاضي عبدالجبّار في هذا المجال بحيث جعل هذا الخبر دالاً على إمامة أبي بكر بعد أن صمم لها أن تكون طعنا على الرجل ، وهو أنّ خطابه صلى الله عليه و آله بذلك يدلّ على أنّه لم يكن هناك إمام منصوص عليه ؛ لأنّه لو كان كذلك لأقبل بالخطاب عليه وخصّه بالأمر بالإنفاذ دون الجميع. (24) خامسا: استعان بمبحث اُصولي ، وهو أنّ أمره صلى الله عليه و آله بالإنفاذ لابدَّ أن يكون مشروطا بالمصلحة ، وألاّ يعرض ما هواهم منه؛ لأنّه لا يجوز أن يأمرهم صلى الله عليه و آله بالنفوذ وإن أعقب ضررا في الدين، واستشهد على ذلك بأنّه صلى الله عليه و آله لم ينكر على اُسامة تأخّره. وذكر القاضي عبدالجبّار المعتزلي بعض المسائل الّتي تتعلّق بتوافق الصالح العام الإسلامي والمصلحة الّتي تستلزم النفع. وردّ إشكال الإمامية _ الّذي كان مفاده : أنّ إلحاقهم بجيش اُسامة ؛ لأجل ألاّ يقع منهم توثيب على الإمامة _ بأنّ بعدهم لا يمنع من أنّ يختاروا للإمامة ؛ ولأنّه صلى الله عليه و آله لم يكن قاطعا على موته لا محالة ؛ لأنّه لم يرد تنفيذ جيش اُسامة في حياته. (25) وردّه الشريف المرتضى قدس سره بجواب علمي دقيق ، يتّضح من خلاله منهجيته في نقد الخبر والأثر. فأمّا بالنسبة للإشكال الأوّل: فإنّ كون أبي بكر في جملة جيش اُسامة ظاهر لا غبار عليه ، وقد ذكره أصحاب السير والتاريخ. ويجعل الشريف المرتضى قدس سره البلاذري في تاريخه بأنّه معروف الثقة والضبط ، وبرئ من مماثلة الشيعة ومقاربتها ، وذكر أنّ أبا بكر وعمر كانا معا في جيش اُسامة. (26) ويجيب عن الإشكال الثاني : بأنّ هذا خروج عن المباني الصحيحة ؛ لأنّ المقصود به الفور دون التراخي ، أمّا من حيث مقتضي الأمر على مذهب من رأى ذلك لغة أو شرعا من حيث وجدنا جميع الاُمة من لدن الصحابة إلى هذا الوقت يحملون أوامره ونواهيه صلى الله عليه و آله على الفور. وأكّد الشريف المرتضى قدس سره أنّ تكرار النبيّ صلى الله عليه و آله الأمر وترداده القول في حال يشغل عن المهمّ أبلغ دليل على ذلك. (27) ويدحض الإشكال الثالث : بأنّه وإن سلمنا أنّ أمره عليه السلام كان متوجّها إلى القائم بالأمر بعده لتنفيذ الجيش بعد الوفاه لم يلزم ما ذكره من خروج المخاطب بالإنفاذ عن الجملة ، فكيف يصحّ ذلك وهو من جملة الجيش ، والأمر متضمّن لتنفيذ الجيش ؟! يقول الشريف المرتضى قدس سره : فلابدّ من خروج كلّ من كان في جملته ؛ لأنّ تأخّر بعضهم يسلب الخارجين اسم الجيش على الإطلاق، أوليس من مذهب صاحب الكتاب أنّ الأمر بالشيء أمر بما لايتمّ إلاّ معه، وقد اعتمد على هذا في مواضع كثيرة، وإن كان خروج الجيش ونفوذه لايتمّ إلاّ بخروج أبي بكر ، فالأمر بخروجه أمر لأبي بكر بالنفوذ والخروج ، وكذلك لو أقبل عليه على سبيل التخصيص وقال صلى الله عليه و آله وسلم: «نفذوا جيش اُسامة» وكان هو في جملة الجيش ، فلابدَّ من أن يكون ذلك أمرا له بالخروج واستدلالاً له ، على أنّه لم يكن هناك إمام منصوص عليه ، لعموم الأمر بالتنفيذ، ليس بصحيح ؛ لأنّا قد بيّنا أنّ الخطاب إنّما توجّه إلى الحاضرين ولم يتوجّه إلى الإمام بعده، على أنّ هذا لازم له ؛ لأنّ الإمام بعده لا يكون إلاّ واحدا فلم عمم صاحب الكتاب الخطاب ولم يفرد به الواحد، فيقول: لينفّذ القائم بالأمر بعدي جيش اُسامة ؛ فإنَّ الحال لايختلف في كون الإمام بعده عليه السلام واحدا بين أن يكون منصوصا عليه أو مختارا». ويردّ على الإشكال الرابع والخامس: وأمّا ادّعاؤه الشرط في أمره عليه السلام بالنفوذ فباطل ؛ لأنّ إطلاق الأمر يمنع من إثبات الشرط، وإنّما يثبت من الشروط ما يقتضي العقل إثباتها من التمكّن والقدرة ؛ لأنّ ذلك شرط ثابت في كلّ أمر ورد من حكيم ، والمصلحة بخلاف ذلك ؛ لأنّ الحكيم لا يأمر بشرط المصلحة ، بل إطلاق الأمر منه يقتضي ثبوت المصلحة وانتفاء المفسدة، وليس كذلك التمكّن وما يجري مجراه، ولهذا لا يشترط أحد في أوامر اللّه تعالى ورسوله بالشرائع المصلحة وانتفاء المفسدة، وشرطوا في ذلك التمكّن ورفع التعذّر، ولو كان الإمام منصوصا عليه بعينه واسمه ، لما جاز أن يسترد جيش اُسامة بخلاف ما ظنّه ، ولا أن يعزل من ولاّه صلى الله عليه و آله ، ولا يولّي من عزله للعلّة الّتي ذكرناها. (28) هذه الإشكالات الخمسة من القاضي عبدالجبّار وردود الشريف المرتضى قدس سرهعليها ، تشكّل المركزية في هذا الخبر ، وما يتطرّق له في الأثناء هو بمثابة هوامش نقدية على الخبر ، ولا تشكّل بمحتواها الأساسي الواقعي للخبر. ويجابه الشريف المرتضى قدس سره القاضي عبدالجبّار في ردّه إشكال الإمامية قائلاً : « فأمّا قول صاحب الكتاب _ رادا على من جعل إخراج القوم في الجيش ليتمّ أمر النصّ: «إنّ بعدهم لايمنع من أن يختاروا للإمامة » _ فيدلّ على أنّه لم يتبين معنى هذا الطعن على حقيقته ؛ لأنّ الطاعن به لا يقول إنّه أنفذهم لئلاّ يختاروا للإمامة ، وإنّما يقول إنّه أبعدهم حتّى ينتصب بعده في الأمر من نصّ عليه ، ولا يكون هناك من يخالفه وينازعه. فأمّا قوله: «إنّه صلى الله عليه و آله لم يكن قاطعا على موته» فذلك لا يضرّ تسليمه ، أليس كان خائفا ومشفقا ؟ وعلى الخائف أن يتجرّد ممّا يخاف منه». (29) من قول الشريف المرتضى قدس سره هذا جميعا يتّضح العمق والدقّة والمقدرة العلمية. ومن خلال هذه الأجوبة اتّضحت كثيرا من المناهج الروائية الّتي أسسها ، سواء ما صرّح به حول البلاذري ، أو بناء الخبر على المباني الاُصولية والّتي قد استدلّ عليها أثناء بحوثه الاُصولية الاستدلالية ، ولم نره يحايد تأسيساته العقلية وغيرها بوجه من الوجوه . وأحد الاُسس العقلية الشيعية في ترصيع الحقائق ورد المغالطات والجدليات الاعتزالية ، هو ماورد من الطعون الّتي وجهت على الخليفة الأوّل : إنّ النبيّ صلى الله عليه و آله لم يوله الأعمال، وولّى غيره عليه ، ولمّا ولاّه الحجّ بالناس ويقرأ عليهم سورة براءة [ و ] عزله عن ذلك ، وجعل الأمر إلى أمير المؤمنين عليه السلام ، وقال صلى الله عليه و آله : «لا يؤدي عنّي إلاّ أنا ورجل منّي» حتّى رجع أبو بكر إلى النبيّ صلى الله عليه و آله . ويجعل القاضي عبدالجبّار _ كما هو المتعارف بمقدرته الجدلية _ يجعل ذلك فضيلة للرجل _ وإن صوّر ذلك بصورة القيل ، حيث قال: «بل لو قيل : إنّه لم يوله لحاجته إليه بحضرته ، وأنّ ذلك رفعة له لكان أقرب ، سيّما وقد روي عنه صلى الله عليه و آله ما يدلّ على أنّهما وزيراه ، فكان صلى الله عليه و آله محتاجا إليهما ، وإلى رأيهما ، فلذلك لم يولهما». (30) ولكنه يغالط في البين ويجعل ولاية عمرو بن العاص وخالد بن الوليد وغيرهما أفضل من أكابر الصحابة ، إلى غير ذلك من المخارج الّتي يرى القارئ بعدها عن منطوق الخبر. ويخالف المتسالم التاريخي في ذلك ، ويدعي أنّ ولاية أبي بكر على الموسم والحجّ قد ثبتت بلاخلاف بين أهل الأخبار. ولا يجعل رجوع أبي بكر إلى النبيّ صلى الله عليه و آله مستفهما عن القصة على العزل. ثمّ يأتي بخبر لم يسمع به ، وهو أنَّ عبّاد وطبقته أنكر على الإمام علي عليه السلام سورة براءة من أبي بكر. ثمّ يذكر وجها عن أبي علي يوجّه فيه أخذ البراءة منه ؛ ليخرج بذلك منتصرا في تحقيقه ، وهو: إنّ العرب كانت عادتها أنّ سيّدا من سادات قبائلهم إذا عقد عقد القوم ؛ فإنّ ذلك العقد لا ينحل إلاّ أن يحلّه هو أو بعض سادات قومه ، فلمّا كان هذا عادتهم ، وكان رسول اللّه صلى الله عليه و آله قد عاهدهم على اُمورهم، وأراد أن ينبذ إليهم عهدهم وينقض ماكان بينه وبينهم علم أنّه لا ينحل ذلك إلاّ به أو بسيّد من سادات رهطه ، فعدل عن أبي بكر إلى أمير المؤمنين عليه السلام القرب في النسب. (31) هذه عمدة إشكالات الخبر من القاضي عبدالجبّار وبعض مشائخه من المعتزلة ، ويجيب عليها الشريف المرتضى قدس سرهبروح علمية قائلاً : « يقال له: قد بيّنا أنّ تركه عليه السلام الولاية لبعض أصحابه ، مع حضوره وإمكان ولايته ، والعدول عنه إلى غيره ، مع تطاول الزمان وامتداده لابدَّ من أن يقتضي غلبة الظن بأنّه لايصلح للولاية، فأمّا من يدّعي أنّه لم يوله لافتقاره إليه بحضرته ، وحاجته إلى تدبيره ورأيه فقد بيّنا أنّه صلى الله عليه و آله ما كان يفتقر إلى رأي أحد ؛ لكماله ورجحانه على كلّ واحد ، وإنّما كان يشاور أصحابه على سبيل التعليم لهم والتأديب أو لغير ذلك ممّا قد ذكر. وبعد، فكيف استمرّت هذه الحاجة واتصلت منه إليهما، حتّى لم يستغن في زمان من الأزمان عن حضورهما فيولّيهما، وهل هذا إلاّ قدح في رأي الرسول صلى الله عليه و آله ونسبته إلى أنّه كان ممّن يحتاج إلى أن يلقن، ويوقف على كلّ شيء، وقد نزهه اللّه تعالى عن ذلك. فأمّا ادّعاؤه أنّ الرواية وردت بأنّهما وزيراه، وقد كان يجب أن يصحح ذلك قبل أن يعتمده ويحتجّ به، فإنّا ندفعه عنه أشدّ دفع. فأمّا ولاية عمرو بن العاص وخالد بن الوليد فقد تكلّمنا عليها من قبل، وبيّنا أنّ ولايتهما تدلّ على صلاحهما لما وليا، ولا يدلّ على صلاحهما للإمامة ؛ لأنّ شرائط الإمامة لم تتكامل فيهما، وبيّنا أيضا أنّ ولاية المفضول على الفاضل لاتجوز بخلاف ما ظنّه صاحب الكتاب. فأمّا تعظيمه واستكباره قول من يذهب إلى أنّ أبا بكر عزل عن أداء سورة براءة والموسم معا ، وجمعهما لأمير المؤمنين عليه السلام ، وجمعه بين ذلك في البعد وبين إنكار عبّاد أن يكون أمير المؤمنين عليه السلام ارتجع سورة براءة من أبي بكر، فأوّل ما فيه : إنّا لا ننكر أن يكون أكثر الأخبار واردة بأنّ أبا بكر حجّ بالناس في تلك السنة، إلاّ أنّه قد روى قوم من أصحابنا خلاف ذلك، وأنّ أمير المؤمنين عليه السلام كان أمير الموسم في تلك السنة، وأنّ عزله الرجل كان عن الأمرين، فاستكبار ذلك وفيه خلاف لا معنى له. فأمّا ما حكاه من عبّاد فإنّا لا نعرفه ، ولا أظنّ أحد يذهب إلى مثله، وليس يمكنه بإزاء ذلك جحد مذهب أصحابنا الّذي حكيناه، وليس عبّاد ولو صحّت الحكاية عنه بإزاء من ذكرناه، فهو مليء بالجهالات ودفع الضرورات. وبعد، فلو سلّمنا أنّ ولاية الموسم لم تفسخ لكان الكلام باقيا ؛ لأنّه إذا كان ما ولّي مع تطاول الزمان إلاّ هذه الولاية ثمّ سلب شطرها ، والأفخم الأعظم منها فليس ذلك إلاّ تنبيها على ما ذكرناه. فأمّا ما حكاه عن أبي علي من أنّ عادة العرب ألاّ تحلّ ما عقده الرئيس منهم إلاّ هو أو المتقدّم من رهطه، فمعاذ اللّه أن يجري النبيّ صلى الله عليه و آله سنته وأحكامه على عادات الجاهلية، وقد بيّن عليه السلام سببه لمّا رجع إليه أبوبكر ، فسأله عن أخذ السورة منه، فقال: « اُوحي إلي ألاّ يؤدّي إلاّ أنا أو رجل منّي » ولم يذكر ما ادّعاه أبو علي على أنّ هذه العادة قد كان يعرفها النبيّ صلى الله عليه و آله قبل بعثة أبي بكر بسورة براءة ، فما باله لم يعتمدها في الابتداء ، ولم يبعث من يجوز أن يحلّ عقده من قومه. (32) ومن الموارد الاُخرى الّتي نرى فيها قوة الاُسس العقلية الشيعية في مواجهة مغالطات المعتزلة، هو: حديث المنزلة الّذي أخرجه جماعة من الحفّاظ وأرباب المسانيد واشتهر بين علماء الفريقين ، وهو أنّ النبيّ صلى الله عليه و آله قال: «أنت منّي بمنزلة هارون من موسى إلاّ أنّه لا نبي بعدي» . يقول القاضي عبدالجبّار المعتزلي: «فاقتضى هذا الظاهر أنّ له كلّ منازل هارون من موسى ؛ لأنّه أطلق ولم يخصّ إلاّ ما دلّ عليه العقل والاستثناء المذكور ، ولولا أنّ الكلام يقتضي الشمول لما كان للاستثناء معنى ، وإنّما نبّه عليه السلام باستثناء النبوّة على أنّ ماعداه قد دخل تحته إلاّ ما علم بالعقل أنّه لا يدخل فيه نحو الاُخوة في النسب . . . وقد ثبت أنّ أحد منازله من موسى عليه السلام أن يكون خليفته من بعده ، وفي حال غيبته ، وفي حال موته ، فيجب أن يكون هذه حال أمير المؤمنين عليه السلام من بعد النبيّ صلى الله عليه و آله ». (33) هكذا كان استدلال القاضي عبدالجبّار المعتزلي بهذه المتانة في تقرير الخبر على ولاية الإمام أمير المؤمنين عليه السلام ، ولكن الشريف المرتضى قدس سره بعد أن يذكر هذا النصّ للقاضي عبدالجبّار المعتزلي يرتئي أنّه لابدَّ من بيان الخبر بالصورة الّتي يرتضيها ، ثمّ يذكر مناقشات القاضي ، فيقول : «إنّ الخبر دال على النصّ من وجهين مافيهما إلاّ قوي معتمد». (34) ثمّ إنّ الشريف المرتضى قدس سره بعد أن يذكر الوجهين يعرّج على جملة من المداخلات والإشكالات الّتي تتبادر إلى الذهن كصحّة الخبر ، فهو يقول بهذا الصدد: « إنّ علماء الاُمة مطبقون على قبوله . . . والشيعة تتواتر به ، وأكثر رواة الحديث يرويه... وهو ظاهر بين الاُمة شائع كظهور سائر ما نقطع على صحّته من الأخبار ، واحتجاج أمير المؤمنين عليه السلام على أهل الشورى يصحّحه...». (35) كلّ هذا في السند ووضوحه ؛ ولذلك لايضع القاضي عبدالجبّار بصمات الإتهام عليه ، وإنّما يرده من جهة اُخرى دلّت على تمحله في نقض الخبر ، وهو الدخول من طريق : أنّ الخبر لايتناول إلاّ منزلة ثابتة منه ، ولا يدخل تحته منزلة مقدّرة ؛ لأنّ المقدر ليس بحاصل ، ولا يجوز أن يدخل تحت الكلام ما لم يحصل لهارون من المنزلة البتة ، وقد علمنا أنّه لم تحصل له الخلافة بعده ، فيجب ألاّ يدخل ذلك تحت الخبر. (36) بهذه المقدرة الجدلية استطاع القاضي عبدالجبّار المعتزلي أن يتغلّب على سطوة الخبر وجلائه ، ولكن الشريف المرتضى قدس سره يرد على مزاعمه قائلاً: «يقال له . . . ما نراك ذكرت إلاّ ما يجري مجرى الدعوى ، وما أنكرت من أن يوصف المقدّر بالمنزلة إذا كان سبب استحقاقه وجوبه حاصلاً ، وليس يخرج بكونه مقدرا من أن يكون معروفا يصحّ أن يشار إليه ، ويشبّه به غيره ؛ لأنّه إذا صحّ وكان مع كونه مقدورا معلوما حصوله ووجوبه عند وجود شرطه ، فالإشارة إليه صحيحة والتعريف فيه حاصل » . (37) ثمّ يأتي الشريف المرتضى قدس سره بمثالٍ حسّيٍّ مقرّبٍ للفكرة ، ومؤنسٍ لدعواه هذه الّتي ردّ بها القاضي عبدالجبّار ، ولا يجعل وفاة هارون عليه السلام خدشا في استحقاق الإمام علي عليه السلام الإمامة الكبرى بعد وفاة النبيّ صلى الله عليه و آله . (38) ثمّ يقول الشريف المرتضى قدس سره: إنّ هارون وإن لم يكن خليفة لموسى بعد وفاته فقد دللنا على أنّه لو بقي لخلّفه في اُمته ، وأنّ هذه المنزلة وإن كانت مقدرة يصحّ أن تعدّ في منازله ، وأنّ المقدّر لو تسامحنا بأنّه لا توصف المنزلة ، لكان لابدَّ من أن يوصف ما هو عليه من استحقاق الخلافة بعده بأنّه منزلة ؛ لأنّ التقدير وإن كان في نفس الخلافة بعده فليس هو في استحقاقها وما يقتضى وجوبها ، وإذا ثبت ذلك فالواجب فيمَن شبهت حاله بحاله وجعل له مثل منزلته إذا بقي إلى بعد الوفاة أن تجب له الخلافة ، ولا يقدح في ثبوتها له أنّها لم تثبت لهارون بعد الوفاة». (39) ويضيف الشريف المرتضى قدس سره بجواب عقلي قائلاً : «إنّ هارون عليه السلام خلّفه في حياته واستحقّ ذلك بعد وفاته ، ولم تحصل هاتان المنزلتان ليوشع عليه السلام ، فعندما يريد النبيّ صلى الله عليه و آله العدول هو إخلال بالغرض». (40) ويمكن للقارئ الكريم مراجعة أجوبة اُخرى عقلية. (41)

.


1- . المصدر السابق : ص 124.
2- . المصدر السابق.
3- . المصدر السابق.
4- . المصدر السابق.
5- . المصدر السابق : ج 1 ص 124 .
6- . المصدر السابق.
7- . المصدر السابق: ص 7.
8- . المائدة : 38.
9- . الشافي الإمامة : ج 1 ص 124 _ 125.
10- . المصدر السابق : ص 125.
11- . المصدر السابق : ص 137.
12- . المغني في أبواب التوحيد والعدل ( القسم الأوّل ) : ج 20 ص 67 .
13- . الشافي في الإمامة : ج 1 ص 176.
14- . المصدر السابق : ص 176.
15- . المصدر السابق : ص 174، 175.
16- . المصدر السابق : ص 176.
17- . المصدر السابق : ص 177.
18- . المصدر السابق : ص 177.
19- . المغني في أبواب التوحيد والعدل ( القسم الأوّل ) : ج 20 ص 73 .
20- . المصدر السابق : ص 201.
21- . المصدر السابق : ص 201 _ 203.
22- . المصدر السابق : ص 203.
23- . المصدر السابق : ص 204.
24- . المغني في أبواب التوحيد والعدل ( القسم الأوّل ) : ج 20 ص 345 .
25- . المصدر السابق : ص 346.
26- . الشافي في الإمامة ج 4 ص 147.
27- . المصدر السابق : ص 147 _ 148.
28- . المصدر السابق : ص 148 _ 149.
29- . المصدر السابق : ص 151.
30- . المغني في أبواب التوحيد والعدل ( القسم الأوّل ) : ج 20 ص 350 .
31- . المصدر السابق : ص 350 _ 351.
32- . الشافي في الإمامة : ج 4 ص 154 _ 155.
33- . المغني في أبواب التوحيد والعدل ( القسم الأوّل ) : ج 20 ص 159 .
34- . الشافي في الإمامة : ج 3 ص 7.
35- . المصدر السابق : ج 3 ص 8.
36- . المغني في أبواب التوحيد والعدل ( القسم الأوّل ) : ج 20 ص 159 .
37- . الشافي في الإمامة : ج 3 ص 20.
38- . المصدر السابق : ص 24.
39- . المصدر السابق : ص 34 .
40- . المصدر السابق : ص 36.
41- . المصدر السابق : ص 36 _ 37.

ص: 231

. .

ص: 232

. .

ص: 233

. .

ص: 234

. .

ص: 235

. .

ص: 236

. .

ص: 237

. .

ص: 238

. .

ص: 239

. .

ص: 240

. .

ص: 241

. .

ص: 242

. .

ص: 243

. .

ص: 244

. .

ص: 245

. .

ص: 246

. .

ص: 247

الدلالة العقلية التنزيهية

الموضع الأوّل

الدلالة العقلية التنزيهيةالأدلّة العقلية في المنطق التنزيهي تحتل الجانب الأساسي في فكر الشريف المرتضى قدس سرهوقد أكّد عليها في عدّة مواضع:

الموضع الأوّلفي الشبهة الّتي عرضت في حياة نبي اللّه آدم عليه السلام ، وهي إيحاء إبليس لحواء عليهاالسلامبتسمية ولدها عبدالحارث، وذلك أنّه قد ورد في قوله تعالى: «هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَ حِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا فَلَمَّا تَغَشَّ_ل_هَا حَمَلَتْ حَمْلاً خَفِيفًا فَمَرَّتْ بِهِى فَلَمَّآ أَثْقَلَت دَّعَوَا اللَّهَ رَبَّهُمَا لَ_ل_ءِنْ ءَاتَيْتَنَا صَ__لِحًا لَّنَكُونَنَّ مِنَ الشَّ_كِرِينَ * فَلَمَّآ ءَاتَ_ل_هُمَا صَ__لِحًا جَعَلاَ لَهُو شُرَكَآءَ فِيمَآ ءَاتَ_ل_هُمَا فَتَعَ__لَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ» . (1) واستوثق هذا الإشكال في حياة نبي اللّه آدم عليه السلام لما روي في الحديث : إنّ إبليس لعنه اللّه تعالى لمّا إن حملت حواء عليهاالسلام عرض لها ، وكانت ممّن لايعيش لها ولد ، فقال لها: إن أحببت أن يعيش ولدك فسمّيه عبدالحارث ، وكان إبليس قد يسمّى بالحارث ، فلما ولدت سمّت ولدها بهذه التسمية ؛ فلهذا قال تعالى: «جَعَلاَ لَهُو شُرَكَآءَ فِيمَآ ءَاتَ_ل_هُمَا» . وتتضح منهجية الشريف المرتضى قدس سره في هذه الرواية بشكل جلي، حيث يورد على هذا الخبر عدّة ملاحظات مهمّة منها: إنّ الدلالة العقلية دلّت على أنّ الأنبياء عليهم السلام لا يجوز عليهم الكفر والشرك والمعاصي غير المحتملة ولا يصحّ دخول المجاز فيها. (2) وهذا أصل دقيق بنى الشريف المرتضى قدس سره عليه كثير من الاُمور ، حيث إنّه لو كان يصحّ فيه الاحتمال وضروب المجاز فلابدَّ من بناء المحتمل على مالا يحتمل ، فلو لم نعلم تأويل هذه الآية على سبيل التفصيل لكنّا نعلم في الجملة أن تأويلها مطابق لدلالة العقل. وعلى هذا الأساس فما يدعى في هذا الباب من الحديث يعتقد الشريف المرتضى قدس سره: إنّه لا يلتفت إليه ؛ لأنّ الأخبار يجب أن تبنى على أدلّة العقول ، ولا تقبل في خلاف ما تقضيه أدلّة العقول ؛ ولهذا لا تقبل أخبار الجبر والتشبيه ، بل نردها أو نتأولها إن كان لها مخرج سهل. (3) وهذا أصل يتبع في قياس صحّة الأخبار . نعم ، يؤكّد الشريف المرتضى قدس سره أنّ هذا لولم يكن الخبر الوارد مطعونا على سنده مقدوحاً في طريقة. (4)

.


1- .راجع : القسم الحادي عشر .
2- . الأعراف : 189 _ 190.
3- . تنزيه الأنبياء والأئمّة عليهم السلام : ص 49 .
4- . المصدر السابق : ص 53.

ص: 248

الموضع الثاني

الموضع الثانيقد يستفهم عن قوله تعالى: «ءَأَنتَ فَعَلْتَ هَ_ذَا بِ_ئالِهَتِنَا يَ_إِبْرَ هِيمُ * قَالَ بَلْ فَعَلَهُو كَبِيرُهُمْ هَ_ذَا فَسْ_ئلُوهُمْ إِن كَانُواْ يَنطِقُونَ» ، (1) وترد في الذهن عدّة إشكالات على مفاد الآية ، وأبرز إشكال في صميم هذه الآية هو: إنّما عنى بالكبير الصنم الكبير ، وهذا التأويل كذب لا شكّ فيه ؛ لأنّ نبي اللّه إبراهيم عليه السلام هو الّذي كسر الأصنام ، فإضافته تكسيرها إلى غيره ممّن لا يجوز أن يفعل شيئاً لا يكون إلاّ كذباً. ووقع السجال والرد والبدل حول هذه الآية الكريمة ، وقد كان الشريف المرتضى قدس سرهالسّباق في هذا المجال في توجيهاته العلمية ، وقد حمل هذه الآية على أنّ الخبر مشروط غير مطلق ، يقول قدس سره: « الخبر مشروط غير مطلق ؛ لأنّه قال: «إِن كَانُواْ يَنطِقُونَ» ومعلوم أنّ الأصنام لا تنطق، وأنّ النطق مستحيل عليها ، فما علّق بهذا المستحيل من الفعل أيضاً مستحيل، وإنّما أراد إبراهيم عليه السلام بهذا القول تنبيه القوم وتوبيخهم وتعنيفهم بعبادة من لايسمع ولايبصر ولاينطق ولايقدر أن يخبر عن نفسه بشيء، فقال: إن كانت هذه الأصنام تنطق فهي الفاعلة للتكسير ؛ لأنّ من يجوز أن ينطق يجوز أن يفعل ، وإذا علم استحالة النطق عليها علم استحالة الفعل عليها، وعلم باستحالة الأمرين أنّها لايجوز أن تكون آلهة معبودة، وأنّ من عبدها ضالّ مضلّ، ولافرق بين قوله: إنّهم فعلوا ذلك إن كانوا ينطقون، وبين قوله: إنّهم ما فعلوا ذلك ولا غيره ؛ لأنّهم لاينطقون ولايقدرون. وأمّا قوله عليه السلام : «فَسْ_ئلُوهُمْ إِن كَانُواْ يَنطِقُونَ» ، فإنّما هو أمر بسؤالهم أيضاً على شرط، والنطق منهم شرط في الأمرين، فكأنّه قال: إن كانوا ينطقون فاسألوهم ؛ فإنّه لا يمتنع أن يكونوا فعلوه. وهذا يجري مجرى قول أحدنا لغيره: «من فعل هذا الفعل؟» فيقول زيد: «إن كان فعل كذا وكذا» ويشير إلى فعل يضيفه السائل إلى زيد، وليس في الحقيقة من فعله. ويكون غرض المسؤول نفي الأمرين جميعاً عن زيد ، وتنبيه السائل على خطئه في إضافة ما أضافه إلى زيد ». (2) ثمّ يذكر الشريف المرتضى قدس سره بعض التهافتات في البين قائلاً : « فإن قيل : أليس قد روي بشر بن مفضّل، عن عوف، عن الحسن قال: بلغني أنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم قال: إنّ إبراهيم عليه السلام ما كذب متعمّداً قطّ إلاّ ثلاث مرّات ، كلّهنّ يجادل بهنّ عن دينه ، قوله: «إِنِّى سَقِيمٌ» (3) ، وإنّما تمارض عليهم ؛ لأنّ القوم خرجوا من قريتهم لعيدهم ، وتخلّف هو ليفعل بآلهتهم مافعل، وقوله: «بَلْ فَعَلَهُو كَبِيرُهُمْ» (4) ، وقوله لسارة: «إنّها اُختي» لجبّار من الجبابرة ؛ لما أراد أخذها. قلنا: قد بيّنّا بالأدلّة العقليّة الّتي لا يجوز فيها الاحتمال ولا خلاف الظاهر : أنّ الأنبياء عليهم السلام لا يجوز عليهم الكذب ، فما ورد بخلاف ذلك من الأخبار لا يلتفت إليه، ويقطع على كذبه إن كان لا يحتمل تأويلاً صحيحاً لائقاً بأدلّة العقل، فإن احتمل تأويلاً يطابقها تأوّلناه ، ووافقنا بينه وبينها. وهكذا نفعل فيما يروى من الأخبار الّتي تتضمّن ظواهرها الجبر أو التشبيه. فأمّا قوله عليه السلام : «إِنِّي سَقِيمٌ» ، فسنبيّن بعد هذه المسألة بلا فصل وجه ذلك ، وأنّه ليس بكذب . وقوله «بَلْ فَعَلَهُو كَبِيرُهُمْ» قد بيّنّا معناه ، وأوضحنا عنه. وأمّا قوله عليه السلام لسارة: «إنّها اُختي»، فإن صحّ فمعناها : أنّها اُختي في الدين، ولم يرد اُخوّة النسب. وأمّا ادّعاؤهم على النبيّ صلى الله عليه و آله أنّه قال: ما كذب إبراهيم عليه السلام إلاّ ثلاث كذبات، فالاُولى : أن يكون كذبوا عليه ؛ لأنّه كان أعرف بما يجوز على الأنبياء عليهم السلام وما لايجوز عليهم منّا، ويحتمل إن كان صحيحا أن يريد : أنَّه ما أخبر بما ظاهره الكذب إلاّ ثلاث دفعات ، فأطلق عليه اسم الكذب ؛ لأجل الظاهر ، وإن لم يكن على الحقيقة كذلك ». (5) فهذه المنهجية الّتي اتبعها ، وهي : أنّ الأدلّة العقلية لا يمكن تجاوزها ، والّتي صرحت أن الأنبياء عليهم السلام لا يجوز عليهم الكذب ، لا يمكن تخطيها وتجاوزها إلاّ إذا استطعنا أن نأتي بتأويلاً لائقا ومناسبا للأدلّة العقلية ، فحينئذٍ يرتفع التهافت. وهذا أصل ثابت لا يمكن تجاوزه ، وهو بمثابة الخطّ المستقيم الّذي توزن به الأخبار ، كما كانت توزن به الآيات الكريمة.

.


1- . الأنبياء : 62 _ 63.
2- . الأنبياء: 62 _ 63.
3- . الصافات: 89.
4- . الأنبياء: 63.
5- . تنزيه الأنبياء والأئمّة عليهم السلام : ص 67 .

ص: 249

. .

ص: 250

. .

ص: 251

الموضع الثالث

الموضع الثالثمحنة نبي اللّه أيوب عليه السلام كبيرة سواء كانت في القرآن الكريم أو السنّة الشريفة أو كتب التاريخ ، وفي هذا المناخ الساخن تتفتح قريحة القصصي لتفعيل هذا الجو ، سواء كان بحقّ أو باطل ، حتّى أنّه قد يريد إسداء الفضيلة فيتخبط في الرذيلة. قال اللّه تعالى: «وَ أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُو أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَ أَنتَ أَرْحَمُ الرَّ حِمِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُو فَكَشَفْنَا مَا بِهِى مِن ضُرٍّ وَ ءَاتَيْنَ_هُ أَهْلَهُو وَ مِثْلَهُم مَّعَهُمْ رَحْمَةً مِّنْ عِندِنَا وَ ذِكْرَى لِلْعَ_بِدِينَ» . (1) وهناك عدّة روايات حول هذه الآيات يضع الشريف المرتضى قدس سره ، إبهام التشكيك على جملة كبيرة منها ، ويقول بهذا الصدد: «فأمّا ما روي في هذا الباب عن جهلة المفسّرين فممّا لا يلتفت إلى مثله ؛ لأنّ هؤلاء لا يزالون يضيفون إلى ربّهم تعالى وإلى رسله عليهم السلام كلّ قبيح ومنكر ويقذفونهم بكلّ عظيم، وفي روايتهم هذه السخيفة ما إذا تأمّله المتأمّل علم أنّه موضوع باطل مصنوع ؛ لأنّهم رووا أنّ اللّه تعالى سلّط إبليس على مال أيّوب عليه السلام وغنمه وأهله، فلمّا أهلكهم ودمّر عليهم، ورأى من صبره عليه السلام وتماسكه، قال إبليس لربّه : يا ربّ، إنّ أيّوب قد علم أنّك ستخلف عليه ماله وولده فسلّطني على جسده، فقال تعالى: قد سلّطتك على جسده كلّه إلاّ قلبه وبصره . قال: فأتاه فنفخه من لدن قرنه إلى قدمه ، فصار قرحة واحدة، فقذف على كناسة لبني إسرائيل سبع سنين وأشهرا تختلف الدوابّ على جسده . . . إلى شرح طويل نصون كتابنا عن ذكر تفصيله. فمن يقبل عقله هذا الجهل والكفر كيف يوثّق بروايته ؟ ! ومن لا يعلم أنّ اللّه تعالى لايسلّط إبليس على خلقه، وأنّ إبليس لايقدر على أن يقرح الأجساد ، ولا أن يفعل الأمراض كيف يعتمد على روايته؟! فأمّا هذه الأمراض العظيمة النازلة بأيّوب عليه السلام فلم تكن إلاّ اختبارا وامتحانا، وتعريضا للثواب بالصبر عليها، والعوض العظيم النفيس في مقابلتها، وهذه سنّة اللّه تعالى في أصفيائه وأوليائه عليهم السلام . فقد روي عن الرسول صلى الله عليه و آله أنّه قال وقد سئل: أيّ الناس أشدّ بلاءً؟ فقال: «الأنبياء ، ثمّ الصالحون ، ثمّ الأمثل من الناس » ، فظهر من صبره عليه السلام على محنته وتماسكه ما صار به إلى الآن مثلاً، حتّى روي : إنّه كان في خلال ذلك كلّه صابرا شاكرا محتسبا ناطقا بما له فيه من المنفعة والفائدة، وأنّه ما سمعت له شكوى ولا تفوّه بتضجّر ولا تبرّم، فعوّضه اللّه تعالى مع نعيم الآخرة العظيم الدائم أن ردّ عليه ماله وأهله ، وضاعف عددهم في قوله تعالى: «وَ ءَاتَيْنَ_هُ أَهْلَهُو وَ مِثْلَهُم مَّعَهُمْ» ، وفي سورة ص «وَ وَهَبْنَا لَهُو أَهْلَهُو وَ مِثْلَهُم مَّعَهُمْ» ، ثمّ مسح ما به من العلل وشفاه وعافاه ، وأمره على ماوردت به الرواية : بأن اركض برجلك الأرض ، فظهرت له عين فاغتسل منها، فتساقط ما كان على جسده من الداء ، قال اللّه تعالى: «ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَ_ذَا مُغْتَسَلُم بَارِدٌ وَ شَرَابٌ» والركض هو التحريك، ومنه: ركضت الدابّة. فإن قيل: أفتصحّحون ما روي من أنّ الجذام أصابه حتّى تساقطت أعضاؤه؟ قلنا: إنّ العلل المستقذرة الّتي تنفّر من رآها وتوحشه، كالبرص والجذام فلايجوز شيء منها على الأنبياء عليهم السلام ؛ لما تقدّم ذكره في صدر هذا الكتاب ؛ لأنّ النفور ليس بواقف على الاُمور القبيحة، بل قد يكون من الحسن والقبيح معا. وليس ينكر أن تكون أمراض أيّوب عليه السلام وأوجاعه، ومحنته في جسمه ، ثمّ في أهله وماله بلغت مبلغا عظيما يزيد في الغمّ والألم على ما ينال المجذوم، وليس ننكر تزايد الألم فيه عليه السلام ، وإنّما ننكر ما اقتضى التنفير». (2) من هذا البحث نستقصي منهجين ، يمكن أن يصيرا مسلكا في معيار الرواية: 1 . لايمكن الاعتماد على كلّ آراء أهل التفسير ؛ لأنّ بعضها لا يقبله العقل ، وإن وردت به الرواية. 2 . إنّ بعض العلل المستقذرة لايجوز شيء منها على الأنبياء عليهم السلام ، وإن وردت به الرواية. فنزاهة الأنبياء عليهم السلام لايمكن الخدشة في مضمونها ، ولا يمكن للشيطان أن يضعهم تحت الفتنة الّتي تنال من نزاهتهم وطهارتهم ، فما ورد من هذا القبيل عن أي أحد سواء كانت رواية أو دراية لابدَّ من طرحه أو رفع بعض إبهاماته حتّى لا يصادم صريح العقل والنقل. ومن هذا المنطق التنزيهي في أبعاد شخصيات الأنبياء عليهم السلام يرفع الشريف المرتضى قدس سرهالتهافتات الاُخرى عن شخصية نبي اللّه موسى عليه السلام عن تبرئته بهتك عورته ، حيث روي في تفسير قوله تعالى: «يَ_أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ لاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ ءَاذَوْاْ مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُواْ وَ كَانَ عِندَ اللَّهِ وَجِيهًا» . (3) فقد رموا بنو إسرائيل موسى عليه السلام بأنّه آدَر (4) ، وبأنّه أبرص حتّى أنّه عليه السلام ألقى ثيابه على صخرة ليغتسل ، فأمر اللّه تعالى تلك الصخرة بأن تسير فسارت ، وبقي موسى عليه السلام مجردا يدور على محافل بني إسرائيل، حتّى رأوه ، وعلموا أنّه لاعاهة به. هذا النوع من التفسير الوضيع لحالات الأنبياء عليهم السلام مع كمال نزاهتهم وطهارتهم أدّى بالشريف المرتضى قدس سره أن يقف أمامه ، ويقول: «ليس يجوز أن يفعل اللّه تعالى بنبيه عليه السلام ماذكروه من هتك العورة ؛ ليبرئه من عاهة اُخرى ، فإنّه تعالى قادر على أن ينزهه ممّا قذفوه به على وجه لايلحقه معه فضيحة اُخرى ، وليس يرمي بذلك أنبياء اللّه تعالى من يعرف أقدارهم». (5) ثمّ يأتي الشريف المرتضى قدس سرهبالرواية الصحيحة الّتي توافق مقتضى العقول ونزاهة الأنبياء عليهم السلام ، وهي: «إنّ بني إسرائيل لمّا مات هارون عليه السلام قذفوا موسى بأنّه قتل هارون ؛ لأنّهم كانوا إلى هارون عليه السلام أميل ، فبرأه اللّه تعالى من ذلك ، بأن أمر الملائكة حتّى حملت هارون عليه السلام ميتا ، فمرّت به على محافل بني إسرائيل ناطقة بموته ، ومبرئة لموسى عليه السلام من قتله». (6) ويضفي الشريف المرتضى قدس سره القداسة على هذه الرواية ، مضافا إلى صحّة جريها العقلي طبقا على ما عليه نزاهة الأنبياء عليهم السلام ، فيقول: «وهذا الوجه يروى عن أمير المؤمنين عليه السلام ». (7) وكذلك البحث بعينه ممّا روي في نبي اللّه داوود عليه السلام وتنزيهه عن المعصية ، حيث ورد في تفسير قوله تعالى: «وَ هَلْ أَتَ_ل_كَ نَبَؤُاْ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُواْ الْمِحْرَابَ * إِذْ دَخَلُواْ عَلَى دَاوُودَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قَالُواْ لاَ تَخَفْ خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ فَاحْكُم بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلاَ تُشْطِطْ وَ اهْدِنَآ إِلَى سَوَآءِ الصِّرَ طِ * إِنَّ هَ_ذَآ أَخِي لَهُو تِسْعٌ وَ تِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَ حِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَ عَزَّنِي فِي الْخِطَابِ * قَالَ لَقَدْ ظَ_لَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِى وَ إِنَّ كَثِيرًا مِّنَ الْخُلَطَ_آءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلاَّ الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَ عَمِلُواْ الصَّ__لِحَ_تِ وَ قَلِيلٌ مَّا هُمْ وَ ظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّ_هُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُو وَ خَرَّ رَاكِعًا وَ أَنَابَ * فَغَفَرْنَا لَهُو ذَ لِكَ وَ إِنَّ لَهُو عِندَنَا لَزُلْفَى وَ حُسْنَ مَ_ئابٍ» . (8) فقد روى أكثر المفسّرين أنّ داوود عليه السلام قال : ربّ قد أعطيت إبراهيم وإسحاق ويعقوب من الذكر ما وددت أنّك أعطيتني مثله، فقال اللّه تعالى: إنّي ابتليتهم بما لم أبتلك بمثله، وإن شئت ابتليتك بمثل ما ابتليتهم وأعطيتك كما أعطيتهم؟ قال: نعم، فقال اللّه _ جلّ وعزّ _ له: فاعمل حتّى أرى بلاءك، فكان ماشاء اللّه أن يكون، وطال عليه ذلك حتّى كاد ينساه. فبينا هو في محرابه ، إذ وقعت عليه حمامة، فأراد أن يأخذها فطارت إلى كوّة (9) المحراب، فذهب ليأخذها فطارت من الكوّة ، فأطلع من الكوّة فإذا امرأة تغتسل فهواها وهمّ بتزويجها ، وكان لها بعل يقال له: «اُوريا »، فبعث به إلى بعض السرايا ، وأمر بتقديمه أمام التابوت الّذي فيه السكينة ، وكان غرضه أن يقتل فيتزوّج بامرأته ، فأرسل اللّه تعالى إليه المَلكين في صورة خصمين ليبكتاه على خطيئته ، وكنيا عن النساء بالنعاج. (10) ويعلّق الشريف المرتضى قدس سره بعدّة ملاحظات منهجية على هذا الخبر: 1 . يمكن تفسير الآية بما لا دلالة في شيء منها على وقع الخطأ من داوود عليه السلام . 2 . الرواية ساقطة مردودة ؛ لتضمنها خلاف ما تقتضيه العقول في الأنبياء عليهم السلام . 3 . إنّ رواتها مطعون فيهم، (11) وعليه لايمكن وضع بصمات الصحّة على هذه الأخبار. ونفس الحديث ينطلق منه الشريف المرتضى قدس سره لتوضيح مسار الآية الكريمة الواردة في سليمان عليه السلام في قوله تعالى: «وَ وَهَبْنَا لِدَاوُودَ سُلَيْمَ_نَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُو أَوَّابٌ * إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّ_فِنَ_تُ الْجِيَادُ * فَقَالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَن ذِكْرِ رَبِّى حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ * رُدُّوهَا عَلَىَّ فَطَفِقَ مَسْحَام بِالسُّوقِ وَ الْأَعْنَاقِ» (12) فقد دلّت هذه الآيات على أنّ مشاهدة الخيل ألهته وشغلته عن ذكر ربّه، حتّى روي أنّ الصلاة فاتته. وقيل: إنّها صلاة العصر، ثمّ إنّه عرقب الخيل ، وقطع سوقها وأعناقها غيظا عليها، وهذا كلّه فعل يقتضي ظاهره القبح. يقول الشريف المرتضى قدس سره : « أمّا ظاهر الآية فلا يدلّ على إضافة قبيح إلى سليمان عليه السلام ، والرواية إذا كانت مخالفة لما تقتضيه الأدلّة لايلتفت إليها لو كانت قويّة صحيحة ظاهرة، فكيف إذا كانت ضعيفة واهية ؟ ! والّذي يدلّ على ما ذكرناه على سبيل الجملة : إنّ اللّه تعالى ابتدأ الآية بمدحه وتقريظه والثناء عليه، فقال: «نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُو أَوَّابٌ» ، وليس يجوز أن يثني عليه بهذا الثناء ، ثمّ يتبعه من غير فصل بإضافة القبيح إليه ؟ ! وأنّه تلهّى بعرض الخيل عن فعل المفروض عليه من الصلاة، والّذي يقتضيه الظاهر : أنّ حبّه للخيل وشغفه بها كان بإذن ربّه وبأمره وتذكيره إياه ؛ لأنّ اللّه تعالى قد أمرنا بإرباط الخيل وإعدادها لمحاربة الأعداء . . . ». (13) وكذلك الإشكال الآخر الّذي في قوله تعالى: «وَ لَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَ_نَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِى جَسَدًا ثُمَّ أَنَابَ» . (14) فقد روي في تفسير هذه الآية : أنّ جنّيا كان اسمه : « صخرا » تمثّل على صورة سليمان عليه السلام وجلس على سريره، وأنّه أخذ خاتمه الّذي فيه النبّوة، فألقاه في البحر، فذهبت نبوّته ، وأنكره قومه حتّى عاد إليه من بطن السمكة؟ يقول الشريف المرتضى قدس سره معلّقا على الخبر : « أمّا ما رواه القصّاص الجهّال في هذا الباب فليس ممّا يذهب على عاقل بطلانه، وأنّ مثله لا يجوز على الأنبياء عليهم السلام ، وأنّ النبوّة لاتكون في خاتم، ولا يسلبها النبيّ عليه السلام ، ولا تنزع عنه، وأنّ اللّه تعالى لا يمكّن الجنّي من التمثيل بصورة النبيّ عليه السلام ولا غير ذلك ممّا افتروا به على النبيّ عليه السلام ، وإنّما الكلام على ما يقتضيه ظاهر القرآن، وليس في الظاهر أكثر من أنّ جسدا اُلقي على كرسيّه على سبيل الفتنة له وهي الاختبار والامتحان، مثل قوله تعالى: «الم *أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُواْ أَن يَقُولُواْ ءَامَنَّا وَ هُمْ لاَ يُفْتَنُونَ * وَ لَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُواْ وَ لَيَعْلَمَنَّ الْكَ_ذِبِينَ» ، والكلام في ذلك الجسد ما هو إنّما يرجع فيه إلى الرواية الصحيحة الّتي لا تقتضي إضافة قبيح إليه تعالى». (15) وهكذا يصرّح الشريف المرتضى قدس سره في موضع آخر قائلاً : «وأمّا الأحاديث المروية في هذا الباب فلا يلتفت إليها من حيث تضمّنت ما قد نزهت العقول الرسول عليهم السلام عنه ، هذا لو لم تكن في أنفسها مطعونة مضعفة عند أصحاب الحديث بما يستغني عن ذكره ». (16) فجميع هذه النصوص صبّت مصبّا واحدا ، وسقيت من جدول واحد ، وهو أنّ المبنى في الجميع هو : المناط العقلي في تقييم الرواية والخبر. وقريب من هذا المنهج ما جاء حول قوله تعالى: «وَ إِذْ تَقُولُ لِلَّذِى أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَ اتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِى فِى نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَ تَخْشَى النَّاسَ وَ اللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَ_ل_هُ» . (17) فقد عوتب النبيّ صلى الله عليه و آله من حيث أضمر ما كان ينبغي أن يظهره ، وراقب من لا يجب أن يراقبه. ووجّه الشريف المرتضى قدس سره الآية الكريمة بجواب دقيق يقول فيه: « وجه هذه الآية معروف، وهو أنّ اللّه تعالى لمّا أراد نسخ ما كانت عليه الجاهليّة من تحريم نكاح زوجة الدعيّ، والدعيّ هو الّذي كان أحدهم يجتبيه ويربّيه ويضيفه إلى نفسه على طريق النبوّة، وكان من عادتهم أن يحرّموا على أنفسهم نكاح أزواج أدعيائهم كما يحرّمون نكاح أزواج أبنائهم، فأوحى اللّه تعالى إلى نبيّه صلى الله عليه و آله أنّ زيد بن حارثة _ وهو دعيّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله _ سيأتيه مطلّقا زوجته ، وأمره أن يتزوّجها بعد فراق زيد ؛ لها ليكون ذلك ناسخا لسنّة الجاهليّة الّتي تقدّم ذكرها. فلمّا حضر زيد مخاصما زوجته عازما على طلاقها، أشفق الرسول صلى الله عليه و آله من أن يمسك عن وعظه وتذكيره، لاسيّما وقد كان يتصرّف على أمره وتدبيره، فرجف المنافقون به صلى الله عليه و آله إذا تزوّج المرأة ، ويقذفونه بما قد نزّهه اللّه تعالى عنه، فقال له: «أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ» تبرّؤا ممّا ذكرناه وتنزّها، وأخفى في نفسه عزمه على نكاحها بعد طلاقه لها ؛ لينتهي إلى أمر اللّه تعالى فيها. ويشهد بصحّة هذا التأويل قوله تعالى: «فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِّنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَ_كَهَا لِكَىْ لاَ يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِى أَزْوَ جِ أَدْعِيَآل_ءِهِمْ إِذَا قَضَوْاْ مِنْهُنَّ وَطَرًا وَ كَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولاً » فدلّ على أنّ العلّة في أمره بنكاحها ما ذكرناه من نسخ السنّة المتقدّمة ! (18) وهناك رواية اُخرى خدشت في تنزيه النبيّ صلى الله عليه و آله وهي: أنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله رأى في بعض الأحوال زينب بنت جحش فهواها، فلمّا أن حضر زيد لطلاقها أخفى في نفسه عزمه على نكاحها بعده وهواه لها. يقول الشريف المرتضى قدس سره معلّقا على هذا الخبر الآخر: أو ليس الشهوة عندكم الّتي قد تكون عشقا على بعض الوجوه من فعل اللّه تعالى وأنّ العباد لا يقدرون عليها؟ وعلى هذا الوجه لا يمكنكم إنكار ما تضمّنه السؤال؟ ويجيب عن ذلك : «لم ننكر ما وردت به هذه الرواية الخبيثة من جهة أنَّ الشهوة تتعلّق بفعل العباد ، وأنّها معصية مليحة، بل من جهة أنّ عشق الأنبياء عليهم السلام لمَن ليس يحلّ لهم من النساء منفّر عنهم ، وحاط من مرتبتهم ومنزلتهم، وهذا ممّا لاشبهة فيه، وليس كلّ شيء يجب أن يجتنبه الأنبياء عليهم السلام مقصورا على أفعالهم ، ألا ترى أنّ اللّه تعالى قد جنّبهم الفظاظة والغلظة والعجلة، وكلّ ذلك ليس من فعلهم، وأوجبنا أيضا أن يجنّبوا الأمراض المنفّرة والخلق المشينة كالجذام والبرص وتفاوت الصور واضطرابها، وكلّ ذلك ليس من مقدورهم ولا فعلهم؟ وكيف يذهب على عاقل أنّ عشق الرجل زوجة غيره منفّر عنه معدود في جملة معائبه ومثالبه ؟ ! ونحن نعلم أنّه لو عرف بهذه الحال بعض الاُمناء أو الشهود لكان ذلك قادحا في عدالته، وحاطّا من منزلته، وما يؤثر في منزلة أحدنا أولى من أن يؤثر في منازل من طهّره اللّه وعصمه وأكمله وأعلى منزلته، وهذا بيّن لمن تدبّر ». (19)

.


1- . الأنبياء : 83 _ 84 .
2- . تنزيه الأنبياء والائمة عليهم السلام : ص 114 _ 116.
3- . الأحزاب : 69.
4- . الأُدرَةُ _ بالضم _ : نفخة في الخُصية ، يقال : رجل آدَرُ ، بيّن الأدَر (لسان العرب : ج 1 ص 94-95 «أدر»).
5- . تنزيه الأنبياء والأئمّة عليهم السلام : ص 151.
6- . المصدر السابق.
7- . المصدر السابق.
8- . ص : 21 _ 25 .
9- . الكَوَّةُ : الخرق في الحائط ، والثقب في البيت ونحوه (لسان العرب : ج 12 ص 198 « كوي » ) .
10- . تنزيه الأنبياء والأئمّة عليهم السلام : ص 153 _ 154 .
11- . المصدر السابق : ص 154.
12- . ص : 30 _ 33.
13- . تنزيه الأنبياء والأئمّة عليهم السلام : ص 154.
14- . ص : 34.
15- . تنزية الأنبياء والأئمة عليهم السلام : ص 182.
16- . المصدر السابق : ص 164 .
17- . الأحزاب : 37.
18- . تنزيه الأنبياء والأئمّة عليهم السلام : ص 184 _ 185.
19- . المصدر السابق : ص 186 _ 187 .

ص: 252

. .

ص: 253

. .

ص: 254

. .

ص: 255

. .

ص: 256

. .

ص: 257

. .

ص: 258

. .

ص: 259

الموضع الرابع

الموضع الرابعكان للشريف المرتضى قدس سره اعتناءخاص بآراءالمؤرخ الكبير محمّد بن جرير الطبريوتفسيره جامع البيان ، فقد نقل عنه عدّة آراء تفسيرية وضمّنها بالشرح والتعليق والدراسة ، ونشهد ذلك كثيرا في إشكالات تنزيه الأنبياء عليهم السلام ، فقد روى بإسناده إلى أبي هريرة عن النبيّ صلى الله عليه و آله : إنّ النار تقول: هل من مزيد؟ إذ اُلقي فيها أهلها حتّى يضع الربّ تعالى قدمه فيها، وتقول: قط قط، فحينئذ تمتلئ وينزوي بعضها إلى بعض. وقد روى مثل ذلك عن أنس بن مالك. (1) واعتبر هذا الخبر من الأخبار الّتي حمل في طيّاته نوعا من الغموض والإبهام ، ووقع موقع السؤال والاستفسار؟ ويردّ الشريف المرتضى قدس سره الخبر بشدة ، وإن كان في آخر المطاف يوجّه ذلك بصورة قريبة يحتملها اللسان العربي الأصيل ، فهو يقول بهذا الصدد: « لا شبهة في أنّ كلّ خبر اقتضى ما تنفيه أدلّة العقول فهو باطل مردود، إلاّ أن يكون له تأويل سائغ غير متعسّف، فيجوز أن يكون صحيحا، ومعناه مطابقا للأدلّة. وقد دلّت العقول ومحكم القرآن والصحيح من السنّة على أنّ اللّه تعالى ليس بذي جوارح، ولا يشبه شيئا من المخلوقات، وكلّ خبر ينافي ما ذكرناه وجب أن يكون إمّا مردودا أو محمولاً على ما يطابق ما ذكرنا من الأدلّة، وخبر القدم يقتضي ظاهره التشبيه المحض، فكيف يكون مقبولاً ؟ ! وقد قال قوم : إنّه لا يمتنع أن يريد بذكر القدم القوم الّذين قدّمهم لها، وأخبر أنّهم يدخلون إليها ممّن استحقّها بأعماله » . (2) ويقرب من هذا البحث المنهجي ما روي عن النبيّ صلى الله عليه و آله : «إنّ الميت ليعذب ببكاء الحي عليه » وما شابه ذلك من الأخبار. ويتبع الشريف المرتضى قدس سره نفس المنهجية السابقة في نقد الخبر وتمحيصه ، ويقول بهذا الصدد: « هذا الخبر منكر الظاهر ؛ لأنّه يقتضي إضافة الظلم إلى اللّه تعالى، وقد نزّهت أدلّة العقول الّتي لا يدخلها الاحتمال والاتّساع والمجاز اللّه تعالى من الظلم وكلّ قبيح. وقد نزّه اللّه تعالى نفسه بمحكم القول مضى ذلك فقال _ جلّ وعزّ _ : «وَ لاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى » . (3) ولابدَّ من أن نصرف ما ظاهره بخلاف هذه الأدلّة إلى ما يطابقها إن أمكن، أو نردّه ونبطله. وقد روي عن ابن عبّاس في هذا الخبر أنّه قال: وَهَل ابن عمر، إنّما مرّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله على قبر يهودي أهله يبكون عليه ، فقال: إنّهم ليبكون عليه وإنّه ليعذّب » . (4) وقد روي إنكار هذا الخبر عن عائشة أيضا، وأنّها قالت لما خبّرت بروايته، وَهَل أبو عبدالرحمن كما وَهَل يوم قليب بدر، إنّما قال صلى الله عليه و آله : إنّ أهل الميّت ليبكون عليه، وإنّه ليعذّب بجرمه. (5) فهذا الخبر مردود ومطعون عليه كما ترى . ومعنى قولهما: وَهَل: أي ذهب وهمه إلى غير الصواب، يقال: وهلت إلى الشيء أو هل وهلاً: إذا ذهب وهمك إليه . وقد وهلت عنه أو هل وهلاً: إذا نسيته وغلطت فيه ، ووهل الرجل يوهل وهلاً: إذا فزع ، والوهل: الفزع. وموضع وهله في ذكر القليب أنّه روي أنّ النبيّ صلى الله عليه و آله وقف على قليب بدر ، فقال: هل وجدتم ما وعد ربّكم حقّا ؟ ثمّ قال : إنّهم ليسمعوا ما أقول ، فأنكر ذلك عليه. وقيل : إنّما قال صلى الله عليه و آله : إنّهم الآن ليعلمون إنّ الّذي كنت أقول لهم هو الحقّ. واستشهد بقوله تعالى: «إِنَّكَ لاَ تُسْمِعُ الْمَوْتَى» . (6) ويمكن في الخبر إن كان صحيحا وجوه من التأويل.... (7) ويتوسّع الشريف المرتضى قدس سره بمنهجيته في الخبر المروي عن النبيّ صلى الله عليه و آله : «إنّ قلوب بني آدم كلّها بين إصبعين من أصابع الرحمن يصرفها كيف يشاء» وما ظاهاه من الأخبار ، فهو يقول قدس سره: «ما تأويل هذه الأخبار على ما يطابق التوحيد وينفي التشبيه؟ أو ليس من مذهبكم أنّ الأخبار الّتي يخالف ظاهرها الاُصول ولا تطابق العقول لا يجب ردّها والقطع على كذب رواتها إلاّ بعد ألاّ يكون لها في اللغة مخرج ولا تأويل؟ وإن كان لها ذلك فباستكراه أو تعسف ، ولستم ممّن يقول ذلك في مثل هذه الأخبار فما تأويلها؟ . (8) يقول الشريف المرتضى قدس سره مجيبا عن ذلك : « قلنا: لمن تكلّم في تأويل هذه الأخبار ولم يدفعها لأدلّة العقول» (9) ثمّ بعد توجيهات عديدة للخبر ، يقول: «وفي هذه الأخبار وجه آخر وهو أوضح من الوجه الأوّل ، وأشبه بمذهب العرب وتصرف ملاحن كلامها». (10) فجعل ملاحن كلام العرب هو المقياس في معرفة الخبر ، والألطف من هذا ، يقول بعد توجيه الخبر: «وعلى هذا المعنى يتأوّل المحقّقون قوله تعالى . . . ». (11) فمن طريق ملاحن كلام العرب يعرف الخبر ، ومن طريق معرفة الخبر يتأوّل المحقّقون كلام اللّه تعالى. وقد يتبادر إلى الذهن أنّه بعد منافاة الخبر لصريح العقل ، وماهي الفائدة في ذكر هذه الوجوه بهذا المقدار الّذي قد يصل إلى عشرة ؟ وما هذا الرد والبدل في داخل هذه الأجوبة؟ يقول الشريف المرتضى قدس سره في ذلك: «وهذا التأويل وإن كان دون ما تقدّمه فالكلام يحتمله ، ولابدَّ من ذكر القوي والضعيف إذا كان في الكلام أدنى احتمال». (12) ينطلق الشريف المرتضى قدس سره بأنّ الخبر لايمكن التفريط به ، ولابدَّ أن يتمحّل له من الأجوبة بالمقدار الكافي. وسيأتي ما يوضّح الإجابة عن هذا الإشكال في بحوث لاحقة إن شاء اللّه تعالى. وفي خاتمة بحث تنزيه النبيّ صلى الله عليه و آله ، يقول الشريف المرتضى قدس سره: « واعلم إنّ لهذه الأخبار المضافة إلى النبيّ صلى الله عليه و آله ممّا يقتضي ظاهرها تشبيها للّه تعالى بخلقه، أو جورا له في حكمه، أو إبطالاً لأصل عقليّ، نظائر كثيرة، وإن كانت لاتجري في الشهرة مجرى ما ذكرناه، ومتى تقصّينا الكلام على جميع ذلك طال الكتاب جدّا وخرج عن الغرض المقصود به ؛ لأنّا شرطنا أن نتكلّم ولا نتأوّل فيما يضاف إلى الأنبياء عليهم السلام من المعاصي إلاّ على أنّه من الكتاب، أو خبر معلوم، أو مشهور يجري في شهرته مجرى المعلوم، وفيما ذكرناه بلاغ وكفاية ». (13)

.


1- . تفسير الطبري : ج 26 ص 106 .
2- . تنزيه الأنبياء والأئمّة عليهم السلام : ص 203.
3- . الأنعام: 164 .
4- . مسند أحمد بن حنبل: ج 6 ص 281 .
5- . المصنّف لابن أبي شيبة: ج 3 ص 392 .
6- . النمل : 80 .
7- . تنزيه الأنبياء والأئمّة عليهم السلام : ص 203.
8- . أمالي المرتضى (غرر الفوائد ودرر القلائد ): ج 1 ص 318.
9- . تنزيه الأنبياء والأئمة عليهم السلام : ص 205.
10- . المصدر السابق : ص 207.
11- . المصدر السابق.
12- . تنزيه الأنبياء والأئمّة عليهم السلام : ص 207 ، أمالي المرتضى (غرر الفوائد ودرر القلائد ) : ج 1 ص 318 .
13- . تنزيه الأنبياء والأئمّة عليهم السلام : ص 213.

ص: 260

. .

ص: 261

. .

ص: 262

. .

ص: 263

منهج قياس الأولوية في الأحكام

منهج قياس الأولوية في الأحكامالتقية أمر تسالمت عليها الإمامية في مسيرتها الرسالية ، وقد استفادت الشيعة كثيرا من واقع التقية حتّى جعلها الإمام الصادق عليه السلام من دينه ودين آبائه عليهم السلام . وقد كانت التقية المحور الأساسي في حياة الإمام أمير المؤمنين عليه السلام ، وليس ذلك منه إلاّ حفاظا على الدّين الحنيف والقيم السماوية المقدّسة. ولا فرق بين واقع التقية في كبار الاُمور وصغارها ، فهي المنهاج المستقيم لجميع الخطوات ، وبهذه الأبعاد ينطلق الشريف المرتضى قدس سره: معتقدا أنّه إذا صحّت التقية في إحراز الدّين الحنيف فالمسائل الصغيرة تصبح التقية فيها أولى ، كما في قضية نكاح أمير المؤمنين عليه السلام ابنته اُمّ كلثوم عليهاالسلاملعمر بن الخطاب. فقد سئل الشريف المرتضى قدس سره عن موجب الفقه المجيز لأمير المؤمنين عليه السلام تزويج ابنته أم كلثوم عليهاالسلام. وقالوا : أوضحي النساء من طريق يوجبه الدّين ويتجه ولا يمنعه ، وهو مستعمل التقية ومظهر المجاملة أن ينتهي إلى الحد الّذي لا مزيد عليه في الخلطة ، وهو التزويج. قال الشريف المرتضى قدس سره قائلاً : « اعلم أنّا قد بيّنا في كتابنا الشافي في الجواب عن هذه المسألة، وأزلنا الشبهة المعترضة بها ، وأفردنا كلاما استقصيناه واستوفيناه في نكاح اُم كلثوم، ونكاح بنته صلى الله عليه و آله من عثمان بن عفّان، ونكاحه هو أيضا عائشة وحفصة، وشرحنا ذلك فبسّطناه. والّذي يجب أن يعتمد في نكاح اُم كلثوم، أنّ هذا النكاح لم يكن عن اختيار ولا إيثار، ولكن بعد مراجعة ومدافعة كادت تفضي إلى المخارجة والمجاهرة. فإنّه روي أنّ عمر بن الخطاب استدعى العبّاس بن عبدالمطلب، فقال له: مالي ، أبي بأس؟ فقال له: ما يجيب أن يقال لمثله في الجواب عن هذا الكلام. فقال له: خطبت إلى ابن أخيك علي بنته أم كلثوم، فدافعني ومانعني وأنف من مصاهرتي، واللّه لأعورن زمزم، ولأهدمن السقاية، ولا تركت لكم يا بني هاشم منقبة إلاّ وهدمتها، ولأقيمن عليه شهودا يشهدون عيله بالسرق ، وأحكم بقطعه. فمضى العبّاس إلى أمير المؤمنين عليه السلام فأخبره بما جرى ، وخوّفه من المكاشفة الّتي كان عليه السلام يتحاماها ويفتديها بركوب كلّ صعب وذلول، فلمّا رأى ثقل ذلك عليه، قال له العبّاس : رد أمرها إليّ حتّى أعمل أنا ما أراه، ففعل عليه ذلك ، وعقد عليها العبّاس. وهذا إكراه يحلّ له كلّ محرم ، ويزول معه كلّ اختيار . ويشهد بصحّته ما روي عن أبي عبداللّه عليه السلام من قوله وقد سئل عن هذا العقد؟ فقال عليه السلام : « ذلك فرج غصبنا عليه ». وما العجب من أن تبيح التقية والإكراه والخوف من الفتنة في الدّين ووقوع الخلاف بين المسلمين لمَن هو الإمام بعد الرسول صلى الله عليه و آله والمستخلف على اُمته أن يمسك عن هذا الأمر، ويخرج نفسه منه، ويظهر البيعة لغيره، ويتصرّف بين أمره ونهيه، وينفذ عليه أحكام، ويدخل في الشورى الّتي هي بدعة وضلال وظلم ومحال، ومن أن يستبيح لأجل هذه الاُمور المذكورة على من لو ملك اختياره لما عقد عليه. وإنّما يتعجب من ذلك من لايفكر في الاُمور ولا يتأمّلها ولا يتدبّرها، دليل على جواز العقد، واقتضى الحال له مثل أمير المؤمنين عليه السلام ؛ لأنّه عليه السلام لا يفعل قبيحا ، ولا يرتكب مأثما. وقد تبيح الضرورة أكل الميتة وشرب الخمر، فما العجب ممّا هو دونها؟ فأمّا من جحد من غفلة أصحابنا وقوع هذا العقد ونقل هذا البيت، وأنّها ولدت أولادا من عمر معلوم مشهور ، ولا يجوز أن يدفعه إلاّ جاهل أو معاند. وما الحاجة بنا إلى دفع الضرورات والمشاهدات في أمر له مخرج من الدّين؟ ! ». (1)

.


1- .راجع : القسم العاشر / الخصائص العقائدية / الإيمان مخالط لحمه و دمه .

ص: 264

. .

ص: 265

الجمع بين المناقشات السندية والدلالية

الجمع بين المناقشات السندية والدلاليةقد يجمع الشريف المرتضى قدس سره بين المناقشات السندية والدلالية ، ولا يقتصر على أحدهما ، كما هو دأب الرعيل الأغلب من المحقّقين ، وذلك في عدّة مواضع منهجية :

.

ص: 266

الموضع الأوّل

الموضع الأوّلما ورد عن الإمام أمير المؤمنين عليه السلام أنّه قال : «كنت إذا حدّثني أحد عن رسول اللّه صلى الله عليه و آله بحديث استحلفته باللّه أنّه سمعه من رسول اللّه صلى الله عليه و آله ، فإن حلف صدقته وإلاّ فلا، وحدّثني أبو بكر وصدقني » . (1) وهذا الحديث دعا النظّام لأن يتأمّل فيه ويورد عليه بقضية منطقية لا تخلو من أمرين : إنّه لا يخلو المحدث عنده عليه السلام من أن يكون ثقة أو متّهما؟ فإن كان ثقة فما معنى الاستحلاف؟! وإن كان متّهما فكيف يتحقّق قول المتّهم بيمينه؟! وإذا جاز أن يحدث عن رسول اللّه صلى الله عليه و آله بالباطل جاز أن يحلف على ذلك بالباطل. (2) ويتصدّى الشريف المرتضى قدس سره لبحث سند هذا الخبر ، ثمّ التعريج على دلالته. أمّا البحث السندي ، فيقول الشريف المرتضى قدس سره في ذلك : إنّ هذا الخبر ضعيف مدفوع مطعون على إسناده ؛ لأجل أنّ جميع طرقه ضعيفة مطعون فيها : أ _ لأنّ أحد طرقه عن عثمان بن المغيرة ، عن علي بن ربيعة الوالبي ، عن أسماء بن الحكم الفزاري، عن الإمام علي عليه السلام . ومن المعلوم أنّ أسماء بن الحكم مجهول عند أهل الرواية لا يعرفونه ، ولا روي عنه شيء من الأحاديث غير هذا الخبر الواحد. (3) ب _ وطريقه الثاني عن سعد بن سعيد بن أبي سعيد المقبري ، عن أخيه ، عن جدّه أبي سعيد، رواه هشام بن عمّار [أو عمارة _ خ ل] والزبير بن بكّار ، عن سعد بن سعيد بن أبي سعيد ، عن أخيه عبداللّه بن سعيد ، عن جدّه ، عن الإمام علي عليه السلام . ومن المعلوم أنّ الزبير قال عن سعد بن سعيد: إنّه ما رؤي أخبث منه. وقال أبو عبدالرحمن الشيباني: عبداللّه بن سعيد بن أبي سعيد المقبري متروك الحديث. وقال يحيى بن معين: إنّه ضعيف الحديث. ج _ وطريقه الثالث: ما رووه عن أبي المغيرة المخزومي، عن ابن نافع، عن سليمان بن يزيد، عن المقبري عن الإمام علي عليه السلام . ومن المعلوم أنّ أبا مغيرة المخزومي مجهول لايعرفه أكثر أهل الحديث. د _ وطريقه الرابع: ما رووه عن عطا بن مسلم، عن عمارة، عن محرز، عن أبي هريرة ، عن الإمام علي عليه السلام . ومن المعلوم أنّ محرزا لم يسمع من أمير المؤمنين علي عليه السلام بل لم يره. وعمارة هو: عمارة بن جوين أبو هارون العبدي. وقيل : إنّه متروك الحديث. (4) بهذا البحث الرجالي العميق في السند يستطيع الشريف المرتضى قدس سره أن يطيح بالخبر ، وهو تفصيل دقيق ينمّ عن اطّلاعه الواسع على مساند الأخبار والرواية. أمّا البحث الدلالي: نرى الشريف المرتضى قدس سره هنا في هذه الجهة يذكر بعض القرائن الداخلية في متن الدلالة ، ويذكر بعض التهافتات الخارجية ، وهي: 1 . المعروف والظاهر أنّ الإمام علي عليه السلام : لم يرو عن أحد قط حرفا غير النبيّ صلى الله عليه و آله . 2 . وينقل الشريف المرتضى قدس سره تأويلاً عن الزبير بن بكّار ، وهو أنّ أبا بكر وعمرإذا جاء حديث عن النبيّ صلى الله عليه و آله لا يعرفانه لم يقبلاه حتّى يأتي مع الّذي ذكره آخر ، فيقوما مقام الشاهد ، وكذلك أقام الإمام علي عليه السلام اليمين مع دعوى المحدث مقام الشاهد مع اليمين في الحقوق ، كما أقاما الرواية في طلب شاهدين عليهما مقام باقي الحقوق. ويردّ الشريف المرتضى قدس سره على النظّام تهافته المنطقي بأنّه يمكن أن يكون عرض اليمين على الراوي ؛ لأجل أن يتهيب من الكذب والافتراء ؛ فإنّ اليمين تذكره باللّه تعالى وتخوفه من عقابه ، سواء كان من تعرض عليه اليمين ثقة أو ظنينا، وقد ألحق الشريف المرتضى قدس سرهبما يدعم هذا الاستظهار. (5)

.


1- . مسند أحمد بن حنبل : ج 1 ص 2 .
2- . تنزيه الأنبياء والأئمّة عليهم السلام : ص 239 .
3- . التاريخ الكبير : ج 2 ص 54 ح 1663 ، ميزان الاعتدال : ج 1 ص 255 .
4- . تنزيه الأنبياء والأئمة عليهم السلام : ص 239 _ 240 .
5- . المصدر السابق : ص 240 _ 242.

ص: 267

. .

ص: 268

الموضع الثاني

الموضع الثانيمن الحوادث والأخبار الّتي وقع الاختلاف فيها هو أنّه روي أنّ أمير المؤمنين عليه السلام خطب بنت أبي جهل بن هشام في حياة النبيّ صلى الله عليه و آله حتّى بلغ ذلك السيّدة الزهراء عليهاالسلام ، وشكته إلى النبيّ صلى الله عليه و آله ، فقام على المنبر قائلاً : « إنّ عليا آذاني يخطب بنت أبي جهل بن هشام ، ليجمع بينها وبين ابنتي فاطمة ، ولن يستقيم الجمع بين بنت ولي اللّه وبين بنت عدوّه . أما علمتم _ معشر الناس _ أنّ من آذى فاطمة فقد آذاني ، ومن آذاني فقد آذى اللّه تعالى». (1) والشريف المرتضى قدس سره طبقا لمنهجه التحقيقي في تنزيه الأئمّة عليهم السلام نقح المسألة سندا ودلالةً ، فصرّح بعدّة اُمور من الناحية السندية: 1 . إنّ هذا خبر باطل موضوع غير معروف، ولا ثابت عند أهل النقل. 2 . إنّ هذا الخبر هو طعن من الكرابيسي في الإمام أمير المؤمنين عليه السلام ذكره معارضا لبعض ما يذكره شيعته من الأخبار في أعدائه. (2) إمّا من ناحية الدلالة فنرى الشريف المرتضى قدس سره يرد الخبر على مبانيهم لا مبانينا الشيعية ، حيث يعتقد أنّ ما فعله الإمام علي عليه السلام ما كان محظورا في الشريعة ، لأنّ نكاح الأربع جائز في الشريعة ، فكيف ينكره النبيّ صلى الله عليه و آله ؟ ولا يخفى على القارئ أنّ هذا التوجيه يستقيم على مباني جمهور أهل السنّة دون المتعارف بين عقائد الإمامية ؛ فإنّه لا يجوز للإمام علي عليه السلام أن يتزوّج في حياة السيّدة الزهراء عليهاالسلام عليها . وعلى هذا الاعتقاد رتّب الشريف المرتضى قدس سره عدّة لوازم ومحاذير عليه. (3) وفي مطاف البحث يحمل الشريف المرتضى قدس سره على الخبر بشدة ، ويجعل ما تضمّن هذا الخبر الخبيث أعظم من الطعن على أمير المؤمنين عليه السلام ، ويعتقد أنّ صانع هذا الخبر إلاّ ملحد قاصد للطعن عليها ، أو ناصب معاند ، لا يبالي أن يشفي غيظه بما يرجع على اُصوله بالقدح والهدم ؛ لأنّه كيف يخالفه صلى الله عليه و آله إذ لم يعد من أمير المؤمنين عليه السلام خلاف ولا كان قط بحيث يكره على اختلاف الأحوال ، وتقلّب الأزمان ، وطول الصحبة. (4)

.


1- . روي هذا الحديث في عدّة مصادر ، راجع : تنزيه الأنبياء والأئمة عليهم السلام : ص 258 .
2- . المصدر السابق : ص 258.
3- . المصدر السابق : ص 258 _ 259.
4- . المصدر السابق : ص 260.

ص: 269

منهجية الاُسس الدلالية

منهجية الاُسس الدلاليةالدلالة هي الأساس والرصيد في المنظومة المعرفية عند الشريف المرتضى قدس سره ؛ ولهذا يسعى في موارد عديدة من كتبه وبحوثه خصوصا الأدلّة التنزيهية منها أن يجد لها مخرج ولا يطيح بالدلالة ، فهو يقول بهذا الصدد: «ولهذا لا تقبل أخبار الجبر والتشبيه ونردّها أو نتأوّلها إن كان لها مخرج سهل». (1) وعلى هذا الأساس يندر أن نجد في كتبه ردّا للخبر بالمرّة ، بل سعى قدس سره في كلّ حديث أن يتمحّل له من الوجوه والتأويلات قد بلغ بعض منها إلى خمسة تقريبا ، وليس هذا إلاّ نحو تصحيح للخبر بوجه من الوجوه. وفي نفس الوقت الّذي يصحح دلالة الخبر يجعل ضعف الدلالة هي أحد المضعّفات ، فهو يستفيد من ضعف دلالة الخبر وإن صحّح سنده ، وسوف نشير إلى ذلك في عدّة نقاط:

.


1- . المصدر السابق : ص 53.

ص: 270

النقطة الاُولى

النقطة الاُولىقد صحّ أنّه لا رأي لمَن لايطاع ، ومن هذا النحو قضية التحكيم الّتي ابتلى الإمام أمير المؤمنين عليه السلام بها، وأنّه انطلق من بصيرة ، ولم يندم على التحكيم : نعم ، قد روي في هذا الباب : إنّه كان يردد عليه السلام بعض الأشعار الدالّة على أنّ التحكيم جرى على خلاف الصواب ، قال عليه السلام : لقد عثرت عثرة لا أعتذرسوف أكيسُ بعدها وأستمرّ وأجمع الأمر الشتيت المنتشر (1) ويدقّق الشريف المرتضى قدس سره في هذا الخبر ، ويحتمل فيه عدّة وجوه : الوجه الأوّل: أنّ هذا الخبر شاذ ضعيف. الوجه الثاني: أن يكون هذا الخبر باطلاً موضوعا. الوجه الثالث: أن يكون الغرض من هذا الخبر غير ما ظنّه القوم من الاعتراف بالخطأ في التحكيم . ويوضّح الشريف المرتضى قدس سره الغرض والهدف الأصلي من هذا الخبر ، قائلاً : « قد روي عنه عليه السلام معنى هذا الخبر ، وتفسير مراده منه ، ونقل من طرق معروفة موجودة في كتب أهل السِّير، أنّه عليه السلام لمّا سئل عن مراده بهذا الكلام، قال: كتب إليّ محمّد بن أبي بكر بأن أكتب له كتابا في القضاء يعمل عليه، فكتبت له ذلك وأنفذته إليه، فاعترضه معاوية ، فأخذه منه ، فأسف عليه السلام على ظفر عدوّه بذلك، وأشفق من أن يعمل بما فيه من الأحكام، وتوهّم ضعفة أصحابه : إنّ ذلك من علمه ومن عنده، فتقوى الشبهة به عليهم. وهذا وجه صحيح يقتضي التأسّف والتندّم، وليس في الخبر المتضمّن للشعر ما يقتضي أن تندّمه كان على التحكيم دون غيره، فإذا جاءت رواية بتفسير ذلك عنه عليه السلام ، كان الأخذ بها أولى. (2) فهو بهذا المقدار من التوجيه الأخباري استطاع أن يحافظ على صياغة الخبر ، ويرد على ظنون القوم الّذين ظنّوا من الخبر غير ما يظهر منه لأوّل وهلة .

.


1- . الغارات للثقفي : ص 162 ، شرح نهج البلاغة : ج 6 ص 73 .
2- . تنزيه الأنبياء والائمّة عليهم السلام : ص 233 _ 234 .

ص: 271

النقطة الثانية

النقطة الثانيةيلفت الشريف المرتضى قدس سره إلى أنّ هناك تهافتا داخليا في أحد الأخبار ، وهو ما روي عن الحسن البصري في الحديث: إنّ إبليس لعنه اللّه تعالى لما أن حملت حواء عرضها _ وكانت ممّن لا يعيش لها ولد _ فقال لها: إن أحببت أن يعيش ولدك فسمّيه عبدالحارث ، وكان إبليس قد يسمّى بالحارث ، فلمّا ولدت سمّت ولدها بهذه التسمية ؛ فلهذا قال اللّه تعالى: «جَعَلاَ لَهُو شُرَكَآءَ فِيمَآ ءَاتَ_ل_هُمَا» (1) . (2) وقد صرّح الشريف المرتضى قدس سره: بأنّ هذا الخبر لايصحّ بتاتا ؛ فإنّ المنظومة المعرفية الموروثة عن الحسن البصري غير ذلك ؛ لأنّ الحسن نفسه يقول بخلاف هذه الرواية ، كما رواه خلف بن سالم ، عن إسحاق بن يوسف ، عن عروة [عوف _ خ ل] ، عن الحسن في قوله تعالى: «فَلَمَّآ ءَاتَ_ل_هُمَا صَ__لِحًا جَعَلاَ لَهُو شُرَكَآءَ فِيمَآ ءَاتَ_ل_هُمَا» قال: هم المشركون. وبإزاء هذا الحديث ما روي عن سعيد بن جبير وعكرمة والحسن وغيرهم من أنّ : الشرك غير منسوب إلى آدم وزوجته عليهماالسلام ، وأنّ المراد به غيرهما. (3) من هنا نرى المنهجية الّتي يتبعها الشريف المرتضى قدس سره في ردّه هذا الخبر ، فإنّه درس أحاديث الحسن بمجموعها ورأى التناقض الداخلي في هذا الموروث العقائدي ، وهي دقّة تحقيقية ناجحة ومثمرة في مواضع عديدة.

.


1- . الأعراف : 190 .
2- . تنزيه الأنبياء والأئمّة عليهم السلام : ص 48 _ 49 .
3- . المصدر السابق : ص 53.

ص: 272

المنطق الروائي في تقييم الرواة

المنطق الروائي في تقييم الرواةالمنطق الروائي الوارد عن أهل العصمة عليهم السلام خير سبيل إلى معرفة وجلاء كثير من الإبهامات العلمية ؛ لأنّ روايات أهل العصمة عليهم السلام هي المنبع الصافي والعين الزلال في المعارف الإلهية والفقهية وبالخصوص ما يطرحه أهل البيت عليهم السلام في تقييم الرواة وسند الأخبار. ومن هنا ينطلق الشريف المرتضى قدس سره لتقييم بعض الرواة ، وبالتالي إضافة القداسة على أقوالهم ومعتقداتهم ، فقد وردت بعض الإشكالات على بعض رواة الشيعة وحملة أخبار الشيعة فردّها الشريف المرتضى قدس سره بمنهج أخباري بارع. حيث أكّد القاضي عبدالجبّار المعتزلي على قضية مهمّة يتوخّى من ورائها الإطاحة بالمذهب الشيعي ، وهي : أنّ أكثر من نصر المذهب الإمامي كان قصده الطعن في الدّين والإسلام ، واتّخذ ذريعة إلى القدح فيهما، ومثالاً على ذلك الراوي الجليل والمفكّر الإمامي العظيم هشام بن الحكم الشيباني من أصحاب الإماميين الصادق والكاظم عليهماالسلام ، فقد اتّهمه بالتجسيم ، وبحدوث العلم ، وبجواز البداء والجبر إلى غير ذلك ممّا لايصحّ معه التوحيد ، وما يتّصل بتكليف ما لا يطاق ، ولا يصحّ معه التمسّك بالعدل. (1) وقد استاء الشريف المرتضى قدس سره من هذا الإتهام الّذي ذكره القاضي عبدالجبّار وما نسبه إلى شيخه أبي علي ، واعتبره عدول عن النظر والحجاج ، وإنّما هو قذف وسباب وافتراء . . . . ولا يعتبر هذا نقضا لأصل المقالة ، ولا قادحا في صحّة النحلة ، وقلّما يستعمل ذلك إلاّ عند نفاذ الحجّة وقلّة الحيلة _ على حدّ تعبير الشريف المرتضى قدس سره _ (2) . ويتمسّك ببراءة هشام من هذا القذف والتهمة ، مستدلاًّ بعدّة روايات: أحدها: ما روي عن الإمام الصادق عليه السلام : «لا تزال يا هشام مؤيدا بروح القدس ما نصرتنا بلسانك» . ثانيها: قول الصادق عليه السلام _ أيضا _ : _ حين دخل عليه وعنده مشايخ الشيعة ، فرفعه على جماعتهم ، وأجلّه إلى جانبه في المجلس ، وهو إذ ذاك حديث السن _ : «هذا ناصرنا بقلبه ويده ولسانه» . وهكذا يتسلل في منهجيته الروائية إلى ذكر رواية ثالثة ورابعة ؛ ليزيل هذه الشبهة الصادرة الّتي أطاحت بهشام بن الحكم وتراثه الروائي العقائدي. يقول الشريف المرتضى قدس سره: «فكيف يتوهّم عاقل _ مع ما ذكرناه _ على هشام هذا القول بأنّ ربّه سبعة أشبار بشبره؟! وهل ادّعاء ذلك عليه _ رضوان اللّه عليه _ مع اختصاصه المعلوم بالصادق عليه السلام وقربه منه ، وأخذه عنه إلاّ قدح في أمر الصادق عليه السلام ونسبة له إلى المشاركة في الاعتقاد الّذي نحلوه هشاما؟! وإلاّ كيف لم يظهر عنه من التنكير عنه والتبعيد له ما يستحقّه المقدّم على هذا الاعتقاد المنكر والمذهب الشنيع؟!». (3) فاعتبر الشريف المرتضى قدس سره التوثيق الروائي أوّلاً الملاك في جلالة الرجل ، بل اعتبر أنّ الجرح فيه جرح في الإمام الصادق عليه السلام وقدح فيه ، وقد صرّح الشريف المرتضى قدس سرهبهذه الجهة أكثر قائلاً : «وما قدّمناه من الأخبار المروية عن الصادق عليه السلام ، وما كان يظهر من اختصاصه به ، وتقريبه له ، واجتبائه إيّاه من بين صحابته يبطل كلّ ذلك ، ويزيّف حكاية روايته». (4) ثمّ بعد أن يردّ واحدا واحدا من ادّعاءات القاضي عبدالجبّار المعتزلي بلغة علمية من التجسيم وحدوث العلم والجبر يذكر إشكال جواز البداء على هشام بن الحكم ، بأنّ هشاما وأكثر الشيعة قولهم قول المعتزلة بعينه في النسخ في المعنى ؛ لاتحاد مرادهم في هذه المسألة ، وإنّما الخلاف الواقع بينهم في تلقّبه بالبداء ؛ للأخبار الّتي رووها الشيعة ، فيقول الشريف المرتضى قدس سره: «ولا معتبر في الألفاظ والخلاف فيها». (5) بهذا الاُسلوب يدافع عن أحد رواة أهل البيت عليهم السلام ، ويتّخذ منهجية روائية من كلامهم عليهم السلام ؛ للذبّ عنه ، ومن ثَمّ يوجه الضربة النهائية إلى أبي علي الجبائي ( شيخ القاضي عبدالجبّار ) بأنّه يملي آرائه بكلّ تحامل وعصبية ، وأنّ هذه الحكايات ككثيرها لم تنقل من جهة الثقة ، وإنّما المرجع فيها إلى قول الخصوم المتّهمين ، الّتي لم يحفل بهم ولم يلتفت اليها. (6) ولا نرى الشريف المرتضى قدس سره يطرح خبر الواحد هنا ، وأنّه لا يعمل به ، لا لأجل أنّ هذا عدول عن مذهبه ، بل مشهورية هذه الروايات بين الطائفة الإمامية هو الّذي دعاه لأن ينتصر للرجل ، ويصحح عقيدته ومذهبه الكلامي. ومن اللطيف في البين : أنّ الروايات الّتي رواها هي مروية عن الطائفة الإمامية الشيعية ، فهو يريد أن يلمّح أنّ الشيعة الإمامية تعتقد بآراء هذا الرجل وتوثّقه ، وتجعل رأيه هو السند في انطلاقتها العقائدية ؛ فإنّ إمامهم الصادق عليه السلام أكّد على وثاقة الرجل ، وحسن سيرته ، وبالتبع هو قبول لآرائه ، وتصحيح لاعتقاداته ، فالشيعة تأخذ بآراء الرجل وجلالته ، وبالتبع تتبع منهجه وعقيدته وطرقه العقائدية ، فعقيدة هذا الرجل هي عقيدة الشيعة وهكذا العكس.

.


1- . المغني في أبواب التوحيد والعدل ( القسم الأوّل ) : ج 20 ص 38 .
2- . الشافي في الإمامة : ج 1 ص 83.
3- . المصدر السابق : ص 86.
4- . المصدر السابق : ص 87.
5- . المصدر السابق.
6- . المصدر السابق .

ص: 273

. .

ص: 274

. .

ص: 275

التضعيفات السندية

النقطة الاُولى

التضعيفات السنديةلم نجد ما كتب بالخصوص في التوثيقات والتضعيفات السندية من الشريف المرتضى قدس سره . نعم ، في ثنايا كتبه الكثير من ذلك حتّى أنّا نرى بعض الاصطلاحات ممّا تفرّد بها من بين الطائفة الشيعية ، بل نرى تداخلات علمية في منظومته الرجالية ما بين الجمهور والشيعة ، وذلك على عدّة نقاط:

النقطة الاُولىيشير الشريف المرتضى قدس سره إلى مسألة حساسة ، ولم نر من تعرّض لها من علمائنا في كتبهم الرجالية الشيعية إلاّ ما ندر ، وهي ما روي في الحديث : إنّ إبليس _ لعنه اللّه تعالى _ لمّا حملت حواء عرض لها ، وكانت ممّن لا يعيش لها ولد ، فقال لها: إن أحببت أن يعيش ولدك فسمّيه عبدالحارث ، وكان إبليس قد يسمّى بالحارث ، فلمّا ولدت سمّت ولدها بهذه التسمية ؛ فلهذا قال تعالى: «جَعَلاَ لَهُو شُرَكَآءَ فِيمَآ ءَاتَ_ل_هُمَا» (1) . (2) يقول الشريف المرتضى قدس سره: « إنّ هذا الخبر يرويه قتادة عن الحسن ، عن سمرة ، وهو منقطع ؛ لأنّ الحسن لم يسمع من سمرة شيئا في قول البغداديين ». (3) يا ترى من هؤلاء البغداديين ، وما هي آرائهم الرجالية؟ وما هي كتبهم؟ الحقيقة ومن خلال التتبع الّذي حصل حول هذه الكلمة في مقدار كبير من الكتب المتنوعة اتّضح أنّ البغداديين هم الرواة الساكنين في بغداد _ كما هو واضح _ وهم جماعة كبيرة أحصى أكثرهم الخطيب البغدادي في تاريخه ، وأشار إليهم _ أيضا _ جماعة من الرجاليين ، ولهم مشيخة معروفة، مبثوتة أخبارهم وتوثيقاتهم في كتب الرجال ومعاجم الرواة .

.


1- . الأعراف : 190.
2- . تنزيه الأنبياء والأئمة عليهم السلام : ص 48 _ 49 .
3- . المصدر السابق.

ص: 276

النقطة الثانية

النقطة الثانيةيتعرّض الشريف المرتضى قدس سره إلى بعض الأخبار النبوية الّتي حاطتها بعض الشبهات كقول النبيّ صلى الله عليه و آله : «سترون ربّكم كما ترون القمر ليلة البدر ، لا تضامون في رؤيته» . (1) فقد تبادر إلى الذهن إلى أنّ هذا الخبر مشهور لا يمكن تضعيفه ونسبته إلى الشذوذ؟ يجيب الشريف المرتضى قدس سره: وأمّا هذا الخبر فمطعون عليه ، ومقدوح في راويه ؛ فإنّ راويه قيس بن أبي حازم ، وقد كان خولط في عقله في آخر عمره مع استمراره على رواية الأخبار. وهذا قدح لا شبهة فيه ؛ لأنّ كلّ خبر مروي عنه لا يعلم تاريخه يجب أن يكون مردوداً ؛ لأنّه لا يؤمن من أن يكون ممّا سمع منه في حال الاختلال ، وهذه في قبول الأخبار وردها ينبغي أن يكون أصلاً ومعتبراً فيمَن علم منه الجرح ولم يعلم تاريخ ما نقله عنه . على أنّ قيساً لو سلم من هذا القدح لكان مطعونا فيه من وجه آخر ، وهو : أنّ قيس بن أبي حازم كان مشهوراً بالنصب والمعاداة لأميرالمؤمنين _ صلوات اللّه وسلامه عليه _ ، والانحراف عنه ، وهو الّذي قال: رأيت علي بن أبي طالب عليه السلام على منبر الكوفة يقول: «انفروا إلى بقية الأحزاب» فبغضه حتّى اليوم في قلبي . إلى غير ذلك من تصريحه بالمناصبة والمعاداة ، وهذا قادح لا شكّ في عدالته ». ثمّ وجّه الشريف المرتضى قدس سره الإشكال في هذا الخبر بتوجيه مقبول ، ثمّ يرد على بعض الإبهامات والتساؤلات في أبعاد الخبر. (2)

.


1- . مسند أبي عوانة : ج 1 ص 376.
2- . تنزيه الأنبياء والأئمّة عليهم السلام : ص 209 _ 210 .

ص: 277

البحوث السندية في التراث العقائدي

البحوث السندية في التراث العقائديمن الأدلّة الاعتقادية الأدلّة الروائية والأخبار السمعية ، وهي لابدّ من البحث حول سنداها وطرقها ، ولا يفوت الشريف المرتضى قدس سره أن يبحث هذه الأخبار برقة ، وله نظريات رجالية جميلة تنم عن إحاطته في هذا الباب ، وسوف نستعرض قسم منها ، وقد استعرضنا في كلّ فصل قسم من هذه التحقيقات الرجالية ، وهنا نذكر البعض الآخر ، وهي: منها : الأخبار الّتي استشهد بها على إمامة أبي بكر كقول النبيّ صلى الله عليه و آله لأبي بكر: «اتركو إلي أخي... » ، أو قوله صلى الله عليه و آله : «لو كنت متخذاً خليلاً... »، أو قوله صلى الله عليه و آله : «اقتدوا باللذينِ...». (1) يقول الشريف المرتضى قدس سره : « إنّ الإضراب عن ذكرها وترك تعاطي الانتصاف من المستدلّين بخبر الغدير لها استر على موردها». ولكنه مع ذلك كلّه يتعرّض إلى سنداتها ومقدار صحّتها ، فيقول: « إنّهم طعنوا في رواية الخبر ، بأنّ راويه عبدالملك بن عمير ، وهو من شيع بني اُمية ، وممّن تولّى القضاء لهم ، وكان شديد النصب والانحراف عن أهل البيت أيضا ظنيناً في نفسه وأمانته. وروي إنّه كان يمرّ على أصحاب الحسين بن علي عليهماالسلام وهم جرحى فيجهز عليهم ، فلمّا عوتب على ذلك قال: إنّما اُريد أن اُريحهم». (2) ومنها : ما ينقله القاضي عبدالجبّار عن شيخه أبي علي بأنّ هناك أخبارا اُخر يمكن أن يستدلّ بها على إثبات خلافة أبي بكر ، وهي ما روي عن النبيّ صلى الله عليه و آله إنّه قال في أبي بكر وعمر: «هذان سيّدا كهول أهل الجنّة». ولا يفوت أبو علي أن يقيد ذلك بأنّهما سيّدا من يدخل الجنّة من شباب الدنيا. (3) ويردّه الشريف المرتضى قدس سره ، قائلاً : 1 . إنّ هذا الخبر موضوع في أيّام بني اُمية ؛ لأجل أن يعارض الخبر الآخر الوارد في الحسنين عليهماالسلام: «إنّهما سيدا شباب أهل الجنة» . (4) ويتّضح من خلال هذا الرد الجزئي أنّ زمان بني اُمية هو زمن معارضة فضائل أهل البيت عليهم السلام ، وهذا ليس بغريب ؛فإنّ معاوية _ لعنه اللّه تعالى _ وضع من الأحاديث قبال فضائل أمير المؤمنين عليه السلام ما لا يخفى على من سبر التاريخ والأخبار. 2 . ويخدش الشريف المرتضى قدس سره بإسناد هذا الخبر ؛ فإنّ راويه عبيداللّه بن عمر ، وحاله ومواقفه معروفة في أهل البيت عليهم السلام . (5)

.


1- . الشافي في الإمامة : ج 2 ص 306 _ 307 ، المغني في أبواب التوحيد والعدل ( القسم الأوّل ) : ج 20 ص 151 .
2- . الشافي في الإمامة : ج 2 ص 307 _ 308.
3- . المصدر السابق : ص 93.
4- . المصدر السابق : ص 106.
5- . المصدر السابق.

ص: 278

الخبر المتواتر والنصّ الجلي في المسائل العقائدية

الخبر المتواتر والنصّ الجلي في المسائل العقائديةتحتاج المسائل العقائدية إلى حصول العلم والقطع ؛ فانَّ الاُصول أساسها هو الاطمئان ونبذ الشكّ والريب ، والتواتر عملية علمية ناجحة ، وقد اُخذ به في كثير من المسائل. يقول الشريف المرتضى قدس سره في هذا المجال: «إنّ الأخبار على ضربين: 1 . ضرب لا يعتبر في نقله بالأسانيد المتّصلة كالأخبار عن البلدان والحوادث العظام. 2 . والضرب الآخر يعتبر فيه اتصال الأسانيد». (1) وفي هذا المجال يصحح الشريف المرتضى قدس سره خبر غدير خم عندما قال النبيّ صلى الله عليه و آله : «ألست أولى بكم من أنفسكم؟ » . فلمّا أجابوه بالإقرار، رفع بيد أمير المؤمنين عليه السلام ، وقال _ عاطفاً على كلامه الأوّل _ : «فمن كنت مولاه فهذا مولاه» . فأتى صلى الله عليه و آله وسلم بكلام ثانٍ يحتمل لفظه معنى الجملة الاُولى الّتي قدمها ، وإن كان محتملاً لغيره، فوجب أن يريد باللفظة المحتملة المعنى المصرّح به في الكلام المتقدّم الّذي قرره صلى الله عليه و آله . وإذا أوجب صلى الله عليه و آله وسلم كونه أولى بهم من أنفسهم فهو إيجاب لطاعته ونفوذ أمره فيهم ، وهو تصريح بنصّ الإمامة. يقول الشريف المرتضى قدس سره : « فإن قيل: دلّوا على صحّة الخبر ، ثمّ على أنّ لفظة «مولى» يحتمل «الأولى». ثمّ على أنّ المراد في الخبر بهذه اللفظة هو «الأولى» دون سائر الأقسام. ثمّ على أنّ فائدة «أولى» ترجع إلى معنى الإمامة. قلنا: أمّا العلم بصحّة هذا الخبر فهو كالعلم بسائر الاُمور الظاهرة من الحوادث والغزوات، وحجّة الوداع نفسها، فإن كان العلم به ضرورياً على ما قطع عليه قوم فالخبر بالغدير مثله، وكلّ من خالط أهل الأخبار وسمع الروايات لا يفرّق في وقوع العلم له بين جميع ما ذكرناه. وبعد، فالشيعة الإمامية تتواتر خلفاً عن سلف بهذا الخبر، وأكثر رواة أصحاب الحديث يرويه بالأسانيد المتّصلة، وجميع أصحاب السير نقلوه، ومصنّفو صحيح الأحاديث ذكروه ، فقد شارك هذا الحديث الأخبار الظاهرة واستبدّ بما ليس لها ». (2) وبعد هذه الضابطة المتقدّمة من الشريف المرتضى يقول قدس سره: وأيضاً فإنّ علماء الاُمة مطبقون على قبوله، وإنّما اختلفوا في تأويله، وما فيهم من دفعه وتشكك فيه». (3) وكذلك يؤكّد الشريف المرتضى قدس سره على المعنى السابق ، ويشير إلى مصطلح : « النصّ الجلي » في نصوص اُخرى وردت عن النبيّ صلى الله عليه و آله تنصّ على أنّ المولى أمير المؤمنين عليه السلام بالإمامة ، واستخلافه على الاُمة ، حيث قال صلى الله عليه و آله وسلم: «هذا خليفتي من بعدي» . واُخرى: «سلموا عليه بأمرة المؤمنين» وما جرى مجرى ذلك من الفاظ النصّ الصريح الّذي يسميه الشيعة: «جلياً». يقول الشريف المرتضى قدس سره: «وقد علمنا أنّ الشروط الّتي ذكرناها في الخبر الصدق حاصلة فيهم ، بل في أهل بلد واحد من بلدانهم ؛ فانّهم قد بلغوا في الكثيرة إلى حد لا يجوز معه أن يتّفق منهم الكذب عن مخبر واحد ، ولا أن يتواطأ على الكذب عنه ؛ لأنّ كثرتهم تحيل ذلك ؛ ولأنّهم لو تواطؤوا مع بعد الدِّيار بالمكاتبات والمراسلات لظهر ذلك وعرف وما خفي ، لا سيّما مع تتبع أعدائهم لهم ، وتنفيرهم عن أحوالهم ، وطلبهم لمعايبهم». (4) ويتطرّق الشريف المرتضى قدس سره إلى خبر غدير خم وتنصيب المولى أمير المؤمنين عليه السلام مرّة اُخرى ؛ لأنّه من أوضح الأدلّة على إمامته عليه السلام ، وقد ورد متواتراً بجميع طبقاته ، ولا يمكن لأحد إنكاره بسهولة، حيث إنّه احتل هذا الحديث القسم الكبير في المغني ، وكذا في الشافي ، قال القاضي عبدالجبّار: «دليل لهم آخر من طريق السنّة ، قالوا : قد ثبت عنه صلى الله عليه و آله يوم الغدير خم ما يدلّ على أنّه نصّ على أمير المؤمنين عليه السلام بالإمامة ؛ لأنّه مع الجمع العظيم في ذلك المقام قام فيهم خطيباً ، فقال: «ألست أولى بكم منكم بأنفسكم؟ » . فقالوا: اللّهم ، نعم. فقال _ بعد إشارة إليه _ : «فمن كنت مولاه فهذا علي مولاه ، اللّهم وال من ولاه ،وعاد من عاداه ، وانصر من نصره ، واخذل من خذله» حتّى قال عمر بن الخطاب له: بخ بخ أصبحت مولاي ومولى كلّ مؤمن ومؤمنة ». ثمّ قال القاضي عبدالجبّار: «ولا يجوز أن يريد بقوله: «من كنت مولاه» إلاّ ما تقتضيه مقدّمة الكلام ، وإلاّ لم يكن لتقديمها فائدة، فكأنّه صلى الله عليه و آله قال: فمن كنت أولى به من نفسه فعليّ أولى به ؛ لتكون المقدّمة مطابقة كما تقدّم ذكره ، وما قصد إليه من الذكر بعد المقدّمة يكون مطابقاً لها ، وقد علمنا أنّه لم يرد بقوله: «ألست أولى بكم منكم بأنفسكم» إلاّ في الطاعة والاتباع والانقياد ، فيجب فيما عطف عليه أن يكون هذا مراده به ، وذلك لا يليق إلاّ بالإمامة». (5) ثمّ يقرر القاضي عبدالجبّار المعتزلي الخبر بعدة وجوه ، كلّها صالحة للاستدلال على إمامة الإمام أمير المؤمنين عليه السلام ، مضافاً إلى تقريره الأوّل ، ويترك الشريف المرتضى قدس سرهتقريرات القاضي عبدالجبّار من دون يمسّها بإشكال وتأمّل ، ويذكر الوجه المعتمد عنده في ترتيب الخبر. ثمّ يذكر الدلالة على صحّة الخبر ، وأنّ لفظة «مولى» محتملة للاُولى ، وأنّه أحد أقسام ما يحتمله ، ثمّ إنّ المراد بهذه اللفظة في الخبر هو الاُولى دون سائر الأقسام ، ثمّ أنّ الأولى تفيد معنى الإمامة. هذا هو العرض المختصر لسند الخبر ودلالته ، ويذكر الشريف المرتضى قدس سرهعدّة مطارحات فكريّة حول الخبر ، يتّضح من كلّ منها طريقة منهجية في فكر الشريف المرتضى قدس سره:

.


1- . الذخيرة في علم الكلام : ص 443.
2- . الذخيرة في علم الكلام: ص 442 _ 443.
3- . الذخيرة في علم الكلام: ص 442 _ 443.
4- . الذخيرة في علم الكلام : ص 463.
5- . المغني في أبواب التوحيد والعدل ( القسم الأوّل ) : ج 20 ص 144 .

ص: 279

. .

ص: 280

. .

ص: 281

. .

ص: 282

المطارحة الاُولى

المطارحة الثانية

المطارحة الاُولىإنّ الشيعة قاطبة تنقل هذا الخبر وتتواتر بنقله ، وقد رواة أكثر رواة أصحاب الحديث بالأسانيد المتّصلة وأرّخه جميع أصحاب السير وتلقوه عن أسلافهم خلفاً عن سلف نقلاً بغير إسناد مخصوص ، كما نقلوا الوقائع والحوادث الظاهرة ، وقد أورده مصنّفو الحديث في جملة الصحيح ، فقد استبدّ هذا الخبر بما لا يشركه فيه سائر الأخبار _ على حدّ تعبير الشريف المرتضى قدس سره. (1)

المطارحة الثانيةيقول الشريف المرتضى قدس سره : « إنّ الأخبار على ضربين: أحدهما: لا يعتبر في نقله الأسانيد المتّصلة،كالخبر عن وقعة بدر وحنين والجمل وصفين وماجرى مجرى ذلك من الاُمور الظاهرة الّتي نقلها الناس قرناً بعد قرن بغير إسناد معين وطريق مخصوص. والضرب الآخر: يعتبر فيه اتصال الأسانيد كأكثر أخبار الشريعة ». (2)

.


1- . الشافي في الإمامة : ج 2 ص 261.
2- . المصدر السابق : ص 261 _ 262.

ص: 283

المطارحة الثالثة

المطارحة الثالثةيقول الشريف المرتضى قدس سره: « اجتمع في خبر الغدير الطريقان (الضربان) معاً مع تفرقهما في غيره من الأخبار ، على أنّ ما اعتبر في نقله من أخبار الشريعة اتصال الأسانيد لو فتشت جميعه لم تجد رواته إلاّ الآحاد ، وخبر الغدير قد رواه بالأسانيد الكثيرة ، المتّصلة الجمع الكثير ، فمزيته ظاهرة ». (1) هذه المطارحات الثلاثة في هذا الخبر الشريف جعلته ذا أهمية بالغة في المعرفة العقائدية والشيعية منها بالخصوص ، حتّى صرّح الشريف المرتضى قدس سرهبأنّه لم يعلم أنّ فرقة من فرق الاُمة ردّت هذا الخبر ، واعتقدت بطلانه ، وممّا يدلّ على صحّة الخبر إطباق علماء الاُمة على قبوله. (2) ويلفت الشريف المرتضى قدس سره إلى نكتة في غاية الأهمية ، وتعتبر الأساس في بحثه من ناحية تواتر الأخبار وهي : «إنّ الأخبار قد تكون أخبار آحاد على التفصيل ، بحيث إذا نظر إلى كلّ منها يرى أنّه خبر واحد ، لكن معانيها قد رواه عدد كثير وجم غفير ، فصار المعنى متواتراً به ، وإن كان اللفظ والتفصيل يرجع إلى الآحاد». (3) ويصرّح الشريف المرتضى قدس سره في موضع آخر قائلاً _ وهو أنّ بيعة أمير المؤمنين عليه السلام لأبي بكر وغيره لم تكن عن رضا واختيار _ : « وقد روى هذا المعنى من طرق مختلفة ، وبألفاظ متقاربة المعنى ، وإن اختلفت ألفاظها، وأنّه عليه السلام كان يقول في ذلك اليوم _ لما أكره على البيعة وحذّر من التقاعد عنها _ : «ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِى وَكَادُواْ يَقْتُلُونَنِى فَلاَ تُشْمِتْ بِىَ الأَْعْدَآءَ وَلاَ تَجْعَلْنِى مَعَ الْقَوْمِ الظَّ__لِمِينَ» (4) ، ويردد ذلك ويكرره، وذكر أكثر ماروى في هذا المعنى يطول فضلاً عن ذكر جميعه، وفيما أشرنا إليه كفاية ودلالة على أنّ البيعة لم تكن عن رضا واختيار . فإن قيل : كلّما رويتموه في هذا المعنى أخبار آحاد لا يوجب علماً . قلنا : كلّ خبر ممّا ذكرناه _ وإن كان من طريق الآحاد _ فإنّ معناه الّذي تضمّنه متواتر، والمعوّل على المعنى دون اللفظ، ومن استقرى الأخبار وجد معنى إكراهه على البيعة ؛ فإنّه دخل فيها مستدفعاً للشر ، وخوفاً من نفور الناس، وتفرّق الكلمة، وقد وردت به أخبار كثيرة من طرق مختلفة تخرج عن حدّ الآحاد إلى التواتر. وبعد، فأدون منزلة هذه الأخبار إذا كانت آحاد أن تقتضي الظن وتمنع من القطع، على أنّه لم يكن هناك خوف ولا إكراه، وإذا كنّا لا نعلم أنّ البيعة وقعت عن رضا واختيار مع التجويز لأن يكون هناك أسباب إكراه فأولى ألاّ نقطع على الرضا والاختيار مع الظن لأسباب الإكراه والخوف. (5) وكذلك من الأخبار المتواترة في المسائل الاعتقادية ما نقله القاضي عبدالجبّارالمعتزلي على إمامة الإمام أمير المؤمنين عليه السلام : حديث الوصية ، وقد أرسله القاضي إرسال المسلمات ، وقد أخرجه كثير من حفظة الآثار النبويّة ، وجهابذة الحديث ، وهو : أنّ النبيّ صلى الله عليه و آله قال لأمير المؤمنين عليه السلام : «أنت أخي ، ووصيي ، وخليفتي من بعدي ، وقاضي ديني» . وقد أورد القاضي عبدالجبّار جملة إشكالات على هذا الخبر بعضها سندية ، والأخرى دلالية ، أمّا السندية ، فهي: إنّ شيوخ القاضي عبدالجبّار من زعماء المعتزلة يجرون هذا الخبر مجرى أخبار الآحاد. (6) ولكن الشريف المرتضى قدس سره يعتبر هذا الخبر من المتواترات ، وأرده مورد الحجّة ، وأنّه أحد ألفاظ النصّ الّذي يلقّبه علماء الإمامية بالجلي. يقول الشريف المرتضى قدس سره : « لا نعتبر قول شيوخهم واعتقادهم في الخبر أنّه جار مجرى الآحاد ؛ لأنّ ذلك إذا لم يكن مستنداً إلى حجّة لم يكن قادحاً » . ثمّ يقول: « وهذا الخبر ممّا قد رواه العامّة والخاصّة ولم يتفرّد به الشيعة ، غير إنّا لا ندفع أن يكون تواتر النقل به ، ووروده مورد الحجّة ، وما يقتضي العلم مما يختصّ طرق الشيعة ». (7) بهذه الصورة من السجال العقائدي السندي _ وما يخصّ منه التواتر _ بين العلمين يتّضح مفهوم « الجلي » من الأخبار ، والظاهر من القاضي عبدالجبّار أنّه يرتضي السند بصورة أولية حيث عبر «واعلم أنّ عند شيوخنا . . . . (8) ونشهد معطيات التواتر في قضية اُخرى عقائدية ، وهي : الأخبار المتفرّقة الّتي دلّت على ولاية الإمام أمير المؤمنين عليه السلام ، منها: 1 . إنّ النبيّ صلى الله عليه و آله تقدّم إلى الصحابة بأن يسلموا على علي عليه السلام بإمارة المؤمنين. 2 . إنّ النبيّ صلى الله عليه و آله قال للإمام أمير المؤمنين عليه السلام : «إنّه سيّد المسلمين ، وإمام المتقين ، وقائد الغرّ المحجّلين». وغيرها من الأخبار الّتي هي ظاهرة في الإمامة ، صريحة في النصّ الجلي . وقد نقل القاضي عبدالجبّار عن شيخه أبي علي قوله: إنّ هذه الأخبار لم تثبت من وجه يوجب العلم... وأنّ ادّعاءهم . . .أنّها ثابتة بالتواتر لا يصحّ . . . . (9) وهذا الكلام من الشيخ أبي علي قد أثار حفيظة الشريف المرتضى قدس سره ، وقد خصّص له بحثاً مفصّلاً وعميقاً ، وبه تتفتح منهجية الشريف المرتضى قدس سره ، حيث قال: «إنّ الخبر الّذي يتضمّن الأمر بالتسليم على أمير المؤمنين عليه السلام بإمرة المؤمنين تتواتر الشيعة بنقله ، وأنّه أحد ألفاظ النصّ الجلي الّذي دللنا على حصول شرائط التواتر فيه . . . ، وإن كانت هذه الأخبار _ مع أنّ الشيعة تنقلها _ قد نقلها أكثر رواة العامّة من طرق مختلفة وصححوها ، ولم نجد أحداً من رواة العامّة ولا علمائهم طعن فيها ولا دفعها ، وإن كان خبر التسليم بإمرة المؤمنين نقل في روايتهم ولا يجري في التظاهر بينهم مجرى باقي الأخبار الّتي ذكرناها ، وإن كان الكلّ من طريق العامّة لا يبلغ التواتر ، بل يجري مجرى الآحاد ، ولا معتبر بإدعاء أبي علي : أنّ للتواتر شروط لم تحصل في هذه الأخبار ؛ لأنّا قد بيّنا فيما تقدّم من هذا الكتاب أنّ الشروط المطلوبة في التواتر حاصلة في ذلك». (10)

.


1- . المصدر السابق : ص 262.
2- .راجع : القسم الثالث / أحاديث العصمة / عليّ مع الحقّ .
3- .راجع : القسم الثالث / أحاديث العصمة / عليّ مع القرآن .
4- . المصدر السابق : ص 262.
5- . المصدر السابق : ج 3 ص 199 _ 200 .
6- . الأعراف : 150 .
7- . الشافي في الإمامة : ج 3 ص 244 _ 245.
8- . انظر : المصدر السابق : ص 77.
9- . الشافي في الإمامة : ج 3 ص 79.
10- . انظر : المصدر السابق : ص 77 .

ص: 284

. .

ص: 285

. .

ص: 286

اللغة والاُسس الكلامية

اللغة والاُسس الكلاميةاللغة قد تخالف الاُسس الكلامية حتّى أنّه يلزم في بعض الأحيان أنّ الالتزام باللغة قد ينافي المعتقدات العقائدية ؛ فإنّ ظهور الكلمة قد يستبطن شيء ، وما تدلّ عليه الروايات شيء آخر قد يكون عامّاً أو خاصّاً ، فلابدَّ على الباحث من تحرير اللغة والتدقيق في الأدلّة الاعتقادية ، ورؤية مدى سعتها وضيقها وعمومها وخصوصها. وهذا ما نشهده في مسألة البداء وحقيقته ، فقد سئل الشريف المرتضى قدس سره عن إطلاق لفظ « البداء » على اللّه تعالى؟ وهل هو لفظ له معنى مطابق للحقّ ، أم لا يجوز إطلاق هذه اللفظة على حال؟ ويحدد الشريف المرتضى قدس سره معنى اللفظة لغوياً ثمّ كلامياً ، ويذكر تأويل المتكلّمين لذلك ، ويقول: أمّا «البداء» في لغة العرب: هو الظهور، من قولهم: بدا الشيء إذا ظهر وبان. والمتكلّمون تعارفوا فيما بينهم أن يسمّوا ما يقتضي هذا البداء باسمه، فقالوا: إذا أمر اللّه تعالى بالشيء في وقت مخصوص على وجه معين بمكلف واحد، ثمّ نهى عنه على هذه الوجوه كلّها، فهو بداء ؛ لأنّه يدلّ عليه من حيث لم تظهر أمر لم يكن ظاهرا أمّا جاز أن يطابق المنهي أمر بهذه الطائفة. وفرّقوا بين النسخ والبداء باختلاف الوقتين في الناسخ والمنسوخ. والبداء على ما حدّدناه لايجوز على اللّه تعالى ؛ لأنّه عالم بنفسه، لايجوز له أن يتجدّد كونه عالما، ولا أن يظهر له من المعلومات مالم يكن ظاهرا. ولهذا قالوا: إذا كان البداء لايجوز عليه لم يجز أيضا عليه ما يدلّ على البداء، أو يقتضيه من النهي عن نفس ما اُمر به على وجهه في وقته، والمأمور والمنهي واحد. وقد وردت أخبار آحاد لاتوجب علما، ولا تقتضي قطعا، بإضافة البداء إلى اللّه تعالى، وحملوها محققو أصحابنا على أنّ المراد بلفظة البداء فيها النسخ للشرائع، ولا خلاف بين العلماء في جواز النسخ للشرائع. وبقي أن نبين هل لفظة «البداء» إذا حملت على معنى النسخ حقيقة أو مستعارة؟ ويمكن أن ينصّ أنّها حقيقة في النسخ غير المستعارة ؛ لأنّ البداء إذا كان في اللغة العربية اسما للظهور. وإذا سمّينا من ظهر له من المعلومات ما لم يكن ظاهرا، حتّى اقتضى ذلك أن يأمر بنفس ما نهى عنه، أو ينهي عن نفسه ما أمر به، أنّه قد بدا، لم يمتنع أن يسمّي الأمر بعد النهي والحظر بعد الإباحة على سبيل التدريج ؛ فإنّه بداء له ؛ لأنّه ظهر من الأمر ما لم يكن ظاهرا، وبدأ ما لم يكن بائنا، بمعنى البداء الّذي هو الظهور والبروز حاصل في الأمرين. فما المانع على مقتضى الاشتقاق أن يسمّي الأمرين بداءً ؛ لأنّ فيهما معا ظهور أمر لم يكن ظاهرا. فإن قيل: هذا إنّما يسوغ إذا أطلق لفظة «البداء» ولم تضف، فأمّا إذا اُضيفت وقيل: «بدا له في كذا» فلايليق إلاّ بما ذكرناه دون ما خرجتموه ؛ لأنّ اطّلاع من أمر بعد نهي، أو نهي بعد أمر على أمر ماكان مطلقا خصّه، فلايتعدّى إلى غيره، فيجوز أن يقال على سبيل التخصيص: بدا له. وليس كذلك النسخ ؛ لأنّ الأمر وإن كان متجدّدا بعد النهي، وكذلك الحظر بعد الإباحة، فذلك ممّا لايقتضي الإضافة على سبيل التخصيص ؛ لأنّ الأمر المتجدّد ظاهر الأمر، ولكلّ سامع له ومخاطب به. قلنا: هذا فرق ضعيف ؛ لأنّه قد يجوز أن يضاف من البداء الّذي هو الظهور ما شارك فيه غيره، ولا يمنع مشاركته في أنّ ذلك بأدلّة من إضافته إلى الأمر. ألا ترى أنّه قد يجوز أن يظهر لي ولغيري من حسن الفعل أو قبحه ما لم يكن ظاهرا، فأمر بعد نهي أو نهي بعد أمر، فدلّ أنّه قد بدا له ويضاف إليه. وإن شاركه في أنّه ظاهر له غيره، فالمشاركة ليس تنفي هذه الإضافة، ويجوز له أن يكون القوي بهذه الاضافة، وأنّ الأصل في ظهور هذا الأمر هو الفاعل له، دون كلّ من سمعه ؛ لأنّهم وإن اشتركوا في العلم به عند ظهوره، فالأصل في ظهوره هو الفاعل له، فيقوم الإضافة لذلك. وليس ينبغي أن ينكر هذا التخريج ؛ لأنّ أهل اللغة ما وافقونا على أنّ البداء لا يكون إلاّ في الموضع الّذي ذكره بعض المتكلّمين، وشرط بتلك الشرائط المشهورة . بل قال أهل اللغة : إنّ البداء هو الظهور، ولم يزيدوا على ذلك، والمتكلّمون قصروه على موضع بحسب ما اختاروه ؛ لأنّ معنى البداء الّذي هو الظهور، فيجوز لغيرهم أن يعديه إلى موضع آخر فيه أيضا معنى الظهور في اللغة لاقصر عليه ذلك. ثمّ لو سلمنا لخصوص اللغة أنّ لفظ البداء يختصّ حقيقة بما ذكروه، جاز أن يستعار في غيره ، وهو النسخ ؛ لأنّ فيه معنى الظهور على كلّ حال. وقد بان بهذه الجملة جميع ما يحتاج في هذه المسألة. (1)

.


1- .راجع : القسم الرابع عشر : خصائص محبّيه / الأيمان .

ص: 287

. .

ص: 288

. .

ص: 289

معطيات اللغة العربية في المناهج العقائدية

معطيات اللغة العربية في المناهج العقائديةاللغة العربية هي لسان القرآن الكريم والسنّة الشريفة ، والفصاحة والبلاغة لها القسط الأكبر في منطوق القرآن والسنّة ، وقد كان الشريف المرتضى قدس سره واسع الباع باللغة العربية ، ملمّا بأقوال كثير من علماء العربية أمثال أبو عبيد القاسم بن سلام وابن قتيبة وغيرهما . وهذه المقدرة اللغوية يندر أن نراها بين المحدثين السابقين خصوصا ما طرحه في معنى حديث أبي هريرة عن النبيّ صلى الله عليه و آله قال : «إن سأل سائل عن معنى الخبر الّذي رواه أبو هريرة عن النبيّ صلى الله عليه و آله أنّه قال: «لا يموت لمؤمن ثلاثة من الأولاد فتمسّه النارإلاّ تَحِلَّةَ القسم» . الجواب، قيل له: أمّا أبو عبيد القاسم بن سلام ، فإنّه قال: يعني بتحلَّة القسم قوله تعالى: «وَ إِن مِّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَّقْضِيًّا» (1) ، فكأنّه قال عليه السلام : لا يرد النار إلاّ بقدر ما يبرّر اللّه قسمه. وأمّا ابن قتيبة ، فإنّه قال في تأويل أبي عبيد: هذا مذهب حسن من الاستخراج ، إن كان هذا قسما. قال: وفيه مذهب آخر أشبه بكلام العرب ومعانيهم ، وهو أنّ العرب إذا أرادوا تقليل مكث الشيء وتقصير مدّته شبهوه بتحلّه القسم ؛ وذلك أن يقول الرجل بعد حلفه : إن شاء اللّه ، فيقولون: ما يقيم فلان عندنا إلاّ تحلّة القسم، وما ينام العليل إلاّ كتحليل الأليّة، وهو كثير مشهور . قال ابن أحمر ، وذكر الريح : إذا عصفت رسما فليس بدائمبه وتد إلاّ تحلّة مقسم يقول: لايثبت الوتد إلاّ قليلاً كتحلّة القسم ؛ لأنّ هبوب الريح يقلعه. وقال آخر يذكر ثورا: يخفى التراب بأظلاف ثمانيةفي أربع مسّهن الأرض تحليل يقول: هو سريع خفيف ، فقوائمه لاتثبت في الأرض إلاّ كتحليل اليمين. وقال ذو الرّمة: طوى طيه فوق الكرى جفن عينهعلى رهبات من جنان المحازر قليلاً كتحليل الألي ثمّ قلصتبه شيمة روعاء تقليص طائر والألي: جمع ألوة، وهي اليمين. قال: ومعنى الخبر على هذا التأويل : أنّ النار لا تمسّه إلاّ قليلاً كتحليل اليمين ، ثمّ ينجّيه اللّه منها. وقال أبو بكر محمّد بن القاسم الأنباريّ: الصواب قول أبي عبيد، لحجج ثلاث : منها : أنّ جماعة من كبار أهل العلم فسّروه على تفسير أبي عبيد . ومنها : أنّه ادّعى أنّ النار تمسّ الّذي وقعت منزلته عند اللّه جليلة، لكن مسّا قليلاً ، والقليل لا يقع به الألم العظيم؛ وليس صفة الأبرار في الآخرة صفة من تمسّه النار لا قليلاً ولا كثيرا . ومنها : أنّ أبا عبيد لم يحكم على هذا المصاب بولده بمسّ النار، وإنّما حكم عليه بالورود، والورود لا يوجب ألاّ يكون من الأبرار ؛ لأنّ «إلاّ» معناه الاستثناء المنقطع، فكأنّه قال: فتمسّه النار لكن تحلّة اليمين، أي لكن ورود النار لابدَّ منه، فجرى مجرى قول العرب: سار الناس إلاّ الأثقال، وارتحل العسكر إلاّ أهل الخيام، وأنشد الفرّاء: وسمحة المشي شملالٍ قطعت بهاأرضا يحار بها الهادون ديموما مهامها وحزونا لا أنيس بهاإلاّ الصوائح والأصداء والبُوما وأنشد الفرّاء أيضا: ليس عليك عطش ولا جوعإلاّ الرقادَ والرقاد ممنوع فمعنى الحديث: لايموت للمسلم ثلاثة من الولد فتمسّه النار البتة، لكن تحلّة اليمين لابدَّ منها، وتحلّة اليمين الورود، والورود لايقع فيه مسّ. وقال أبو بكر: وقد سنح لي فيه قول آخر: وهو أن تكون «إلاّ» زائدة دخلت للتوكيد، و«تحلّة» اليمين منصوب على الوقت والزمان، ومعنى الخبر: فتمسّه النار، وقت تحلّة القسم، و«إلاّ» زائدة. قال الفرزدق شاهدا لهذا: هم القوم إلاّ حيث سلوا سيوفهموضحوا بلحم من محل ومحرم معناه: هم القوم حيث سلوا سيوفهم، و«إلاّ» مؤكّدة. وقال الأخطل: يقطّعنَ إلاّ من فروع يردنهابمدحة محمود نَثاهُ ونائله معناه : يقطعون من فروع يردنها، والفروع: الواسعة من الأرض . يقول الشريف المرتضى قدس سره : والوجوه المذكورة في تأويل الخبر كالمتقاربة، إلاّ أنّ الوجه الّذي اختصّ به ابن الأنباري فيه أدنى تعسّف وبعد ، من حيث جعل «إلاّ» زائدة، وذلك كالمستضعف عند جماعة من أهل العربية. وقد تبقى في الخبر مسألة التشاغل بالجواب عنها أولى ممّا تكلفه القوم، وهي متوجّهة على كلّ الوجوه الّتي ذكروها في تأويله. وهو أن يقال: كيف يجوز أن يخبر عليه السلام بأنّ من مات له ثلاثة من الولد لاتمسّه النار ، إمّا جملة أو مقدار تحلّة القسم ، وهو النهاية في القلّة؟! أو ليس ذلك يوجب أن يكون إغراء بالذنوب لمن هذه حاله ؟! وإذا كان من يموت وله هذا العدد من الأولاد غير خارج عن التكليف، فكيف يصحّ أن يؤمن من العقاب! والجواب عن ذلك : أنّا قد علمنا أوّلاً خروج هذا الخبر مخرج المدحة لمن هذه صفته ، والتخصيص له والتمييز، ولا مدحة في مجرد موت الأولاد؛ لأنّ ذلك لايرجع إلى فعله، فلابدَّ من أن يكون تقدير الكلام: إنّ النار لاتمسّ المسلم الّذي يموت له ثلاثة أولاد ، إذا حسن صبره واحتسابه وعزاؤه، ورضاه بما جرى به القضاء عليه؛ لأنّه بذلك يستحقّ الثواب والمدح ، وإذا كان إضمار الصبر والاحتساب لابدَّ منه لم يكن في القول إغراء؛ لأنّ كيفية وقوع الصبر والوجه الّذي إذا وقع عليه تفضل اللّه سبحانه بغفران ما لعلّه أن يستحقّه من العقاب في المستقبل ، وإذا لم يكن معلوما فلا وجه للإغراء. وأكثر ما في هذا الكلام أن يكون القول مرغّبا في حسن الصبر، وحاثّا عليه رغبة في الثواب، ورجاء لغفران ما لعلّه أن يستحقّ في المستقبل من العقاب . وهذا واضح لمَن تأمله». (2) وكذلك ينصف الشريف المرتضى قدس سره القول حول خبر: «نحن معاشر الأنبياء لانورث ما تركناه صدقة» حيث نقل عنه أنّه كان ينكر ما كان يذكره بعض الإمامية في منع الاحتجاج بهذا الخبر ، وأنّه إنّما قال: «ما تركناه صدقة» بنصب «ما» فلا يرتضي هذه الطريقة ؛ لأنّ من نقل هذه الكلمة إنّما نقلها موقوفة غير معربة. ثمّ إنّ النصب ينافي هذا الخبر ، وواضعيه أنّهم لاينصبون هذه الكلمة ، ولم يقصدوا إلى معنى النفي ؛ لظهور التناقض والتنافي بين أولها وآخرها. (3) وكذلك نشهد العطاء الفكري من الشريف المرتضى قدس سره في البحث اللغوي في كلمة «مولى» الواقعة في صميم خبر الغدير ، فقد تمحّل لها الكثير ، وجعلوها إحدى المضعفات الدلالية في حاق الخبر مع وضوحها على ولاية أمير المؤمنين عليه السلام ، حتّى أنّنا نرى الإيهامات والتشكيكات في كتب اللغة ، والخبط العشوائي الأمر الّذي يسأم منه أي مطالع لكتب اللغة . ويقف الشريف المرتضى قدس سره أمام هكذا جرف لغوي متأثّر بالوضع السياسي ، ويصرّ على أن يبين وظيفة اللغة لابدَّ أن تكون أسمى من أن يتطرّق إليها انحراف أهواء بعض ، بل عليها أن تحفظ صحّة أصالتها ، يقول قدس سره: «وأمّا الدليل على أنّ لفظ «مولى» تغيّر في اللغة « أولى » فظاهر ؛ لأنّ من كان له أدنى اختلاط باللغة وأهلها يعرف أنّهم يضعون هذه اللفظة مكان أولى ، كما أنّهم يستعملونها في ابن العم ، وما المنكر لاستعمالها في الأوّل إلاّ كالمنكر لاستعمالها في غيره من أقسامها، ومعلوم أنّهم لايمتنعون من أن يقولوا في كلّ من كان أولى بالشيء أنّه مولاه، فمتى شئت أن تفحم المطالب بهذه المطالبة فأعكسها ، عليه ثمّ طالبه بأن يدلّ على أنّ لفظة مولى تفيد في اللغة ابن العلم والجار أو غيرهما من الأقسام ؛ فإنّه لا يتمكّن إلاّ من إيراد بيت شعر أو مقاضاة إلى كتاب أو عرف لأهل اللغة، وكلّ ذلك موجود ممكن لمن ذهب إلى أنّها تفيد الأولى، على أنّا نتبرّع بإيراد جملة تدلّ على ما ذهبنا إليه ، فنقول : قد ذهب أبو عبيدة معمّر بن المثنى ومنزلته في اللغة منزلته، في كتابه في القرآن المعروف بالمجاز لما انتهى إلى قوله « مَأْوَل_كُمُ النَّارُ هِىَ مَوْلَ_ل_كُمْ » (4) أولى بكم، وأنشد بيت لبيد عاضدا لتأويله: فغدت كلا الفرجين تحسب أنّهمولى المخافة خلفها وأمامها وليس أبو عبيدة ممن يغلط في اللغة، ولو غلط فيهما أو وهم لما جاز أن يمسك عن النكير عليه والردّ لتأويله غيره من أهل اللغة ممّن أصاب ما غلط فيه على عادتهم المعروفة في تتبع بعضهم لبعض، وردّ بعض على بعض ، فصار قول أبي عبيدة الّذي حكيناه مع أنّه لم يظهر من أحد من أهل اللغة ردّ له، كأنّه قول للجميع » . (5) ويستعين بشواهد قرآنية قد أكّد المفسّرون على أنّ المراد بالمولى : من كان أملك بالميراث ، وأولى بحيازته ، وأحقّ به، ويجعلها في حيز اللغة ومعطياتها. وينقل بيتا عن الأخطل والعجاج والمبرّد والفرّاء من كتابه معاني القرآن ، وأبي بكر محمّد بن القاسم الأنباري في كتابه في القرآن المعروف ب المشكل ، وأبي عمروغلام ثعلب ، وهؤلاء كلّهم من أعلام أهل اللغة والّذين يحطّ عندهم الرحال. فالبحث اللغوي يلعب الدور الكبير في الأدلّة الاعتقادية وخصوصا العقائد الشيعية الّتي كثرت التشكيكات حولها ، وأغلبها قد قصد منها تمويه الحقائق ، والتعمية على الرأي العام ، وإخراج الأدلّة عن وضوحها وجلائها وروعتها ، حتّى أنّ الشريف المرتضى قدس سره يقول في آخر بحثه اللغوي في كلمة « المولى » : « ولو ذهبنا إلى ذكر جميع ما يمكن أن يكون شاهدا فيما قصدناه لأكثرنا ، وفيما أوردناه كفاية ومقنع». (6) ثمّ يأتي بعدّة شواهد اُخرى تفيد أنّ لفظة « أولى » تفيد معنى الإمامة، وأنّه عليه السلام أولى بهم في تدبيرهم وأمرهم ونهيهم ، وليس أولى بأن يوالوه ويحبّوه... . (7) ولكن القاضي عبدالجبّار المعتزلي يختزل الإشكال من ناحية اُخرى دقيقة وظريفة ، ينقلها عن أبي علي الجبائي وأبي هاشم الكعبي ، حيث ذهبا إلى أنّ المراد بالخبر : الإبانة عن فضل مقطوع به لا يتغير على الأوقات ؛ لأنّ وجوب الموالاة على القطع يدلّ على أنّ من وجب ذلك له باطنه كظاهره ، وإذا أوجب النبيّ صلى الله عليه و آله موالاته عليه السلام ، ولم يقيّده بوقت، فيجب أن يكون هذه حاله في سائر الأوقات، ولو لم يكن هذا هو المراد لوجب ألاّ يلزم سائر من غاب عن الموضع موالاته ، ولمّا وجب بعد ذلك الوقت عليهم موالاته، وبطلان ذلك يبيّن أنّه يقتضي الفضل الّذي لايتغير، وهذه منزلة عظيمة تفوق منزلة الإمامة، ويختصّ هو بها دون غيره ؛ لأنّه صلى الله عليه و آله لم يبيّن في غيره هذه الحالة كما بيّن فيه ؛ ولأنّ الإمامة إنّما تعظم من حيث كانت وصلة إلى هذه الحالة، فلو لم تكن هذه من أشرف الأحوال لم تكن الإمامة شريفة، ودلّوا على أنّ المراد بمولى ما ذكروه بقوله تعالى: « أَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ ءَامَنُواْ » وأنّ المراد بذلك موالاة الدّين والنصرة فيه، وبقوله عز و جل : «فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَ_ل_هُ وَ جِبْرِيلُ وَ صَ__لِحُ الْمُؤْمِنِينَ» ، (8) وأنّ المراد بذلك النصرة في الدّين ، وبيّنوا أنّ الموالاة في اللغة وإن كانت مشتركة فقد غلب عرف الشرع في استعمالها في هذاالوجه ». (9) ويردّه الشريف المرتضى قدس سره بعنف ، ويعتبر إشكال شيخيه ساقطا ، ومزيلاً للاعتراض به على حسب ما قرر وبيّن في البيانات السابقة ، ولا بأس بنقل الجواب عن هذا الاعتراض بطوله ؛ لفائدته المنهجية في فكر الشريف المرتضى يقول قدس سره : « يقال له: أمّا الدلالة الأولى الّتي رتّبناها وبيّنا كيفية الاستدلال بها فهي مسقطة لكلامك في هذا الفصل، ومزيلة للاعتراض به ؛ لأنّا قد بيّنا بما لا يتمكّن من دفعه أنّ المراد بلفظة : «مولى» يجب أن يكون موافقا للمقدّمة، وأنّه لا يسوغ حمله إلاّ على معناها، ولو صحّ أن يراد بلفظة : «مولى» ما حكيته عن شيخيك، وكان ذلك من بعض أقسامها في اللغة، وليس بصحيح في الحقيقة، لكان حكم هذا المعنى حكم سائر المعاني الّتي تحتملها اللفظة في وجوب صرف المراد عنها، وحمله على ما تضمّنته المقدّمة على ما دلّلنا عليه، فلم يبق إلاّ أن يبيّن أنّه غير قادح أيضا في دلالة التقسيم. والّذي يُبيّنه أنّك لا تخلو فيما ادّعيته من حمل الكلام على إيجاب الموالاة مع القطع على الباطن من أن تسنده إلى ما يقتضيه لفظة : «مولى» ووضعها في اللغة ، أو في عرف الشريعة ، أو إلى إطلاق الكلام من غير تقييد بوقت ، وتخصيص بحال ، أو إلى أنّ ما أوجبه عليه السلام يجب أن يكون مثل ما وجب له ، وإذا كان الواجب له هو الموالاة على هذا الوجه وجب مثله فيما أوجبه ؛ فإن أردت الأوّل فهو ظاهر الفساد ؛ لأنّ من المعلوم أنّ لفظة : «مولى» لاتفيد ذلك في اللغة ولا في الشريعة، وأنّها إنّما تفيد في جملة ما يحتمله من الأقسام تولي النصرة والمحبّة من غير تعلّق بالقطع على الباطن، أو عموم سائر الأوقات، ولو كانت فائدتها ما ادّعيته لوجب ألاّ يكون في العالم أحد مواليا لغيره على الحقيقة إلاّ أن يكون ذلك الغير نبيّا أو إماما معصوما، وفي علمنا بإجراء هذه اللفظة حقيقة في المؤمن وكلّ من تولّى نصرة غيره ، وإن لم يكن قاطعا على باطنه دليل على أنّ فائدتها ما ذكرناه دون غيره. وإن أردت الثاني فغير واجب أن يقطع على عموم القول بجميع الأوقات من حيث لم يقيّد بوقت ؛ لأنّه كما لم يكن في اللفظ تخصيص بوقت بعينه، فكذلك ليس فيه ذكر قد استوعب الأوقات، فادّعاء أحد الأمرين لفقد خلافه من اللفظ كادّعاء الآخر لمثل هذه العلّة، وقد بيّنا فيما مضى من الكتاب أنّ حمل الكلام على سائر الأوقات، والحمل على سائر محتملاته لفقد ما يقتضي التخصّيص غير صحيح ، وقد قال اللّه تعالى : «وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَ_تُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ» ولم يخصص بعضا دون بعض من الأوقات، كما لا تخصيص في ظاهر خبر الغدير، ولم يقل أحد أنّه تعالى أوجب بالآية موالاة المؤمنين على الظاهر دون الباطن، وفي الأحوال الّتي يظهر منهم فيها الإيمان، وما يقتضي الموالاة، فلاينكر أن يكون ما أوجب من الموالاة في خبر الغدير جاريا هذا المجرى . وليس لأحد أن يقول: متى حملنا ما أوجب من الموالاة في الخبر على الظاهر دون الباطن لم نجعله مفيدا ؛ لأنّ وجوب هذه الموالاة لجميع المؤمنين معلوم قبل الخبر، فيجب أن يكون المراد ما ذكرناه من الموالاة المخصوصة، وذلك إنّ الّذي ذكره يوجب العدول عن حمله على الموالاة جملة ؛ لأنّه ليس هو بأن يقترح إضافته إلى الموالاة المطلقة الّتي يحتملها اللفظ وزيادة فيها ليجعل للخبر فائدة أولى ممّن أضاف إلى الموالاة ما نذهب إليه من إيجاب فرض الطاعة، وقال إنّه عليه السلام إنّما أراد من كان يواليني موالاة من يجب طاعته، والتدبّر بتدبيره فليوال عليّا على هذا الوجه، واعتلّ في تمحّله من الزيادة أيضا طلب الفائدة للخبر، وإذا حاول دعوى من ادّعى الموالاة المخصوصة غيرها وجب إطراحها، والرجوع إلى ما يقتضيه اللفظ، فإذا علمنا أنّ حمله على الموالاة المطلقة الحاصلة بين جميع المؤمنين يسقط الفائدة ، وجب أن يكون المراد ما ذهبنا إليه من كونه أولى بتدبيرهم وأمرهم ونهيهم. وإن أردت القسم الثالث قلنا لك: لمَ زعمت أنّه عليه السلام إذا كان ممّن يجب له الموالاة على الظاهر والباطن وفي كلّ حال فلابدَّ أن يكون ما أوجبه في الخبر مماثلاً للواجب له ؟ أولستم تمنعونا ممّا هو آكد من استدلالكم ، هذا إذا أوجبنا حمل لفظة «مولى» على ما تقتضيه المقدّمة ، وأحلنا أن يعدل بها عن المعنى الأوّل وتدّعون إنّ الّذي أوجبناه غير واجب ، وأنّ النبيّ صلى الله عليه و آله لو صرّح بخلافه حتّى يقول بعد المقدّمة: فمَن وجب عليه موالاتي فليوال عليّا، أو فمن كنت أولى به من نفسه فليفعل كذا وكذا، ممّا لا يرجع إلى المقدّمة لحسن وجاز فألا التزمتم مثل ذلك في تأويلكم ؟ ! لأنّا نعلم أنّه عليه السلام لو صرّح بخلاف ما ذكرتموه ، حتّى يقول فمَن ألزمته موالاتي على الباطن والظاهر فليوال عليا في حياتي أو ما دام متمسكا بما هو عليه لجاز وحسن، وإذا كان جائزا حسنا بطل أن يكون الخبر متقضيا لمماثلة ما أوجبه من الموالاة فيما وجب له منها ». (10) ثمّ إنّ القاضي عبدالجبّار المعتزلي عرج على آراء معتزلة أهل البصرة ، فذكر رأيا لشيخ البصريين في الاعتزال ، وهو أبو الهذيل المعروف بالعلاف ، وهو : إنّ المراد بالخبر هو المولاة في الدّين. فقد ذكر أبو الهذيل عن بعض أهل العلم : إنّه حمل الخبر بأنّ قوما نقموا على علي عليه السلام بعض اُموره ، فجاء الخبر لذلك، أو نتيجة لمشاحة وقعت بين الإمام علي عليه السلام واُسامة بن زيد ، وهكذا من الأغاليط الّتي توخت أن تسلب الخبر من محتواه ، وتضعه نتيجة حاجة بعض الظروف الجزئية، ولكن القاضي عبدالجبّار ينصف بعض الشيء في ذلك ، ويقول : « والمعتمد في معنى الخبر على ما قدّمناه ، لأنّ كلّ ذلك لو صحّ ، وكان الخبر خارجا فلم يمنع من التعلّق بظاهره وما يقتضيه لفظه ، فيجب أن يكون الكلام في ذلك دون بيان السبب الّذي وجوده كعدمه في أنّ وجود الاستدلال بالخبر يتغيّر». (11) ويذكر الشريف المرتضى قدس سره سبعة ردود على دعوى العلاّف ، بعضها داخلية تشكل تناقضا مضمونيا في هذه الأخبار ، وبعضها خارجية تنقض هذه الأخبار بطريقة علمية نزيهة. (12) وفي مطاف البحث يتطارح البحث اللغوي مع القاضي عبدالجبّار المعتزليحول كلمة «مولى» ومعانيها وما ينقله عن الأعلام كأبي مسلم والشيخ ابن قبة رحمه اللهفي ذلك. (13) ومن البحوث اللغوية المنهجية والّتي وقع فيها الاغتشاش من زعماء المعتزلة هو : حديث الوصية ، وقد أرسله القاضي عبدالجبّار إرسال المسلمات ، وإن حاول لغويا أن يصرفه على ما يراد منه ، وهو قول النبيّ صلى الله عليه و آله «أنت أخي ووصيي وخليفتي من بعدي وقاضى ديني» . ويقرر القاضي عبدالجبّار عن لسان الشيعة بأنّهم يعتقدون: ألاّ يكون كذلك إلاّ وهو الّذي يقوم عنه القيام مقامه. ثمّ نقل عنهم أنّهم قالوا: أفليس في تفويض الأمر إليه دلالة له أوكد من ذلك _ حتّى قال :_ وقد روي : «وقاضي ديني» بكسر الدال ، وذلك يدلّ على أنّه الإمام بعده ، بأقوى ممّا يدلّ ما تقدّم ؛ لأنّه قد أبان بذلك إنّه الّذي يقوم بأداء شريعته بعده. (14) هذه هي الصراحة اللغوية في صعيد الخبر ، والحقّ مع الشيعة في استظهارهم في للخبر ، ولكن القاضي عبدالجبّار يضع بصمات التشكيك على بعض عبارات الخبر حتّى يجرفه في مطبّات لغوية اُخرى ، وهي: 1 . إنّ ألفاظ هذا الخبر مختلفة ، ففيه ما هو أظهر من بعض ، ويعتبر قوله: «أنت وصيي» أظهر من غيره. ومن ثمّ يورد على هذا الاستظهار أنّه لا يدخل تحت الوصية إلاّ ما يختصّ الموصي من الأحوال دون ما يتعلّق بالدَّين والشرع ، ولا يدخل تحتها الإمامة. (15) ولكن الشريف المرتضى قدس سره يقول: «إنّ المعتمد من لفظ الخبر في الدلالة على النصّ بلفظ الاستخلاف دون باقي الألفاظ ، ويعتبر البحث في ذلك من التشاغل في الكلام ؛ لبداهة أنّ الوصية تختص في العرف بأمور مخصوصة لاتعلق للإمامة بها ، فذلك مسلم لاخلاف فيه ، وكذلك قضاء الدَّين». (16) وهذه النقطة الّتي أبرزها الشريف المرتضى قدس سره وهي الظهور الصريح في الخبر ممّا يستحقّ التأمّل فيه. ثمّ إنّ القاضي عبدالجبّار يعلّق على قوله: «وقاضي ديني» قائلاً : « فهو بعض ما تناولته الوصية ، فإذا كانت لاتدلّ على الإمامة فبالاّ يدلّ ذلك عليها أولى ، وإنّما أشبهه في الوصية المطلقة ، فأمّا إذا خصصت بأمر مخصوص فلاشبهة فيها ». ثمّ يقول: «فأمّا من روى ذلك بكسر الدال ، فقد أبعد من جهة الرواية ؛ لأنّ المشهور ما قدّمناه. وقد قال شيخنا أبو هاشم: إنّ هذا اللفظ مضطرب ؛ لأنّ القضاء لايستعمل إلاّ في الدَّين ، فأمّا في أداء الشرائع والدَّين فلا يستعمل ، فإذا اُريد به معنى الأخبار ، قالوا : قضينا إليه ، كما قال تعالى: «وَ قَضَيْنَآ إِلَى بَنِى إِسْرَ ءِيلَ فِى الْكِتَ_بِ» ، (17) فلو كان صلى الله عليه و آله أراد ذلك لقال: القاضي ديني إلى اُمّتي ، ولا يجوز في هذا الموضع أن يحذف ذكر «إلى» ؛ لأنّ ذلك ليس بمختار. فهذا الوجه أيضا يضعف الخبر من جهة اللفظ. ثمّ قال: وقال _ يعني أبا هاشم _ : إنّ المراد بذلك إن كان أنّه يؤدي عنه ما تحمّله من الشرائع غير ما لم يتحمّله من الشرائع فحكم غيره من الصحابة حكمه ، فكيف يدلّ على الإمامة ؟ ! ». (18) ويردّه الشريف المرتضى قدس سره بأنّ الرواية _ بكسر الدال _ غير معروفة ، ويترقّى الشريف المرتضى قدس سرهمسلّما أنّه حتّى لو كانت الرواية بذلك معروفة ، فهي أيضا تدلّ على معنى الإمامة والاستخلاف ، ويأتي بشاهد على هذا الأمر ، ومن ثَمّ يتطرّق إلى إشكال أبي هاشم قائلاً: «فأمّا قول أبي هاشم: _ إنّ الكلام يحتاج إلى زيادة ، وأنّه كان يجب أن يقول القاضي : ديني إلى اُمتي _ فهذا إنّما كان يجب لو أراد بلفظ القضاء الأخبار ؛ لأنّ لفظة «إلى» إنّما يحتاج إليها من هذا الوجه ، فأمّا إذا اُريد بالقضاء الحكم فذلك غير واجب». (19) ثمّ إنّ القاضي عبدالجبّار يضعّف الخبر من جهة اُخرى كما هو ديدنه، فيقول: إنّ قوله صلى الله عليه و آله : «خليفتي من بعدي» غير معروف ، والمعروف : «خليفتي في أهلي » ، وذلك لا يدلّ على الإمامة ، بل تخصيصه بالأهل يدلّ على أنّه أراد عليه السلام أن يقوم بأحوالهم...». (20) ويصرّح الشريف المرتضى قدس سره _ بعد بحث قصير مع القاضي عبدالجبّار _ بأنّه حتّى لو أخذنا بالرواية غير المعروفة : «خليفتي في أهلي» فإنّها نصّ في الإمامة ، ويأتي بشاهد على هذا الأمر. (21) وفي نهاية البحث في هذا الخبر يتطرّق القاضي عبدالجبّار إلى نكتة ، قائلاً : «لو كان ما تعلّقوا به حقّا لقد كان عليه السلام يدعي به النصّ ، ولا يستجيز ترك ذكره عند اختلاف الأحوال في باب الإمامة على ما قدّمنا القول به ، وقد بيّنا أنّ ما ثبت من إمامة أبي بكر ، ثمّ عمر يقتضي صرف ما ظاهره الإمامة عن ظاهره ، فبأن يجب لأجل ذلك إبطال التعلّق بالمحتمل من القول أولى». (22) يقول الشريف المرتضى قدس سره _ معلّقا على هذا النصّ _ : « إنّ هذا الخبر وأمثاله من ألفاظ النصّ غير محتمل ، وأنّ ظواهرها وحقائقها تقتضي النصّ بالإمامة ، ولم يثبت ما ادّعاه من إمامة من ذكره على وجه فضلاً عن ثبوتها على وجه غير محتمل ، فينصرف لذلك في ظواهر النصوص». (23) بهذه الشفافية في البحث والتعليق استطاع الشريف المرتضى قدس سره أن يردّ على التهافتات في المتن، حتّى على جميع الاحتمالات الّتي طرحها الخصم بجرف الخبر لصالحه ومعتقداته.

.


1- .راجع : القسم الرابع عشر : بركات حبّه / الاهتداء .
2- . مريم : 71 .
3- . أمالي المرتضى (غرر الفرائد ودرر القلائد ): ج 2 ص 50 _ 53 .
4- . أجوبة مسائل متفرقة من الحديث وغيره : ص 146 _ 147 ( رسائل الشريف المرتضى، المجموعة الثالثة).
5- . الحديد : 15 .
6- . الشافي في الإمامة : ج 2 ص 268 _ 269.
7- . المصدر السابق : ص 279 _ 283.
8- . المصدر السابق : ص 273.
9- . التحريم : 4 .
10- . المغني في أبواب التوحيد والعدل ( القسم الأوّل ) : ج 20 ص 146 ، وانظر : الشافي في الإمامة : ج 2 ص 283 _ 284 .
11- . الشافي في الإمامة : ج 2 ص 284 _ 286.
12- . المغني في أبواب التوحيد والعدل ( القسم الأوّل ) : ج 20 ص 54 .
13- . الشافي في الإمامة : ج 2 ص 312 _ 314.
14- . المصدر السابق : ص 314 _ 325.
15- . المغني في أبواب التوحيد والعدل ( القسم الأوّل ) : ج 20 ص 181 .
16- . المغني في أبواب التوحيد والعدل ( القسم الأوّل ) : ج 20 ص 181، الشافي في الإمامة : ج 3 ص 77 .
17- . الشافي في الإمامة : ج 3 ص 79.
18- . الإسراء : 4.
19- . الشافي في الإمامة : ج 3 ص 77 _ 78.
20- . المصدر السابق : ص 79 _ 80 .
21- . المغني في أبواب التوحيد والعدل ( القسم الأوّل ) : ج 20 ص 185 .
22- . الشافي في الإمامة : ج 3 ص 80 .
23- . المغني في أبواب التوحيد والعدل ( القسم الأوّل ) : ج 20 ص 185 .

ص: 290

. .

ص: 291

. .

ص: 292

. .

ص: 293

. .

ص: 294

. .

ص: 295

. .

ص: 296

. .

ص: 297

. .

ص: 298

. .

ص: 299

. .

ص: 300

. .

ص: 301

. .

ص: 302

منطوق الأخبار والقضايا العلميّة

منطوق الأخبار والقضايا العلميّةواكب الشريف المرتضى قدس سره حضارة زمانه العلميّة ، وجعلها إحدى العوامل في قبول الخبر وردّه ، كما نشاهد ذلك : في خبر ردّ الشمس على المولى أمير المؤمنين عليه السلام الّذي لهجت به الشعراء في مقطوعاتهم، 1 ووردت به الروايات الكثيرة ، واعتبر ذلك فضيلة ومزية اختصّ بها من بين سائر الصحابة. فقد روي إنّ النبيّ صلى الله عليه و آله كان نائما ورأسه في حجر أمير المؤمنين عليه السلام ، فلمّا حان وقت صلاة العصر كره أمير المؤمنين عليه السلام أن ينهض لأدائها فيزعج النبيّ صلى الله عليه و آله من نومه ، فلمّا مضى وقتها وانتبه النبيّ صلى الله عليه و آله دعا اللّه تعالى بردّها له فردّها فصلّى عليه السلام في وقتها. وقد ورد على هذا الخبر بعض الإشكالات الفقهية ، بأنّه عليه السلام كان عاصيا بترك الصلاة، وأجاب الشريف المرتضى قدس سره بجوابين ، وقد دعم الوجه الثاني منهما بمنهجية روائية ، قائلاً : إنّ الصلاة لم تفته بمضي جميع وقتها ، وإنّما فاته ما فيه الفضل والمزية من أوّل وقتها. يقول الشريف المرتضى قدس سره: « ويقوي هذا الوجه شيئان: أحدهما: الرواية الاُخرى ؛ لأنّ قوله: «حين تفوته» صريح في أنّ الفوت لم يقع ، وإنّما قارب وكاد. والأمر الآخر: قوله: «وقد دنت للمغرب» يعني الشمس ، وهذا أيضا يقتضي أنّها لم تغرب ، وإنّما دنت للغروب». (1) بهذه المنهجية الروائية استطاع الشريف المرتضى قدس سره أن يصحح الجواب الثاني، ولكن الأمر والإشكال لا تنختم بهذا المقدار ، وهناك بعض الأسئلة العلميّة تتبادر إلى الذهن في هذا الباب ، وتترسخ بمرور تطوّر الحضارة والتقدّم الفضائي ، يقول الشريف المرتضى قدس سره : « كيف يصحُّ ردّ الشمس وأصحاب الهيئة والفلك يقولون : إنّ ذلك محال لاتناله قدرة ؟ ! وهبه كان جائزا على مذاهب أهل الإسلام، أليس لو ردّت الشمس من وقت الغروب إلى وقت الزوال لكان يجب أن يعلم أهل الشرق والغرب بذلك؛ لأنّها تبطئ في الطلوع على بعض البلاد ، فيطول ليلهم على وجه خلاف العادة، ويمتد من نهار قوم آخرين ما لم يكن ممتدّا؟ ولا يجوز أن يخفى على أهل البلاد غروبها ، ثمّ عودها طالعة بعد الغروب، وكانت الأخبار تنتشر بذلك، ويؤرّخ هذا الحادث العظيم في التواريخ، ويكون أبهر وأعظم من الطوفان. قلت: قد دلّت الدلالة الصحيحة الواضحة على أنّ الفلك وما فيه من شمس وقمر ونجوم غير متحرّك لنفسه ولا طبيعة على مايهذي به القوم، وأنّ اللّه تعالى هو المحرّك له، والمتصرّف باختياره فيه ، وقد استقصينا الحجج على ذلك في كثير من كتبنا ، وليس هذا موضع ذكر. فأمّا علم أهل الشرق والغرب والسهل والجبل بذلك على ما مضى في السؤال فغير واجب؛ لأنّا لا نحتاج إلى القول بأنّها ردّت من وقت الغروب إلى وقت الزوال وما يقاربه على ما مضى في السؤال ، بل نقول: إنّ وقت الفضل في صلاة العصر هو ما يلي، بلا فصل زمان أداء المصلّي فرض الظهر أربع ركعات عقيب الزوال ، وكلّ زمان وإن قصر وقل يجاوز هذا الوقت ، فذلك الفضل فائت فيه . وإذا ردّت الشمس له هذا القدر اليسير الّذي نفرض أنّه مقدار ما يؤدي فيه ركعة واحدة خفى على أهل الشرق والغرب ولم يشعروا به ، بل هو ممّا يجوز أن يخفى على من حضر الحال وشاهدها ، إن لم ينعم النظر والتنقير عنها، فبطل السؤال على جوابنا الثاني المبني على فوت الفضيلة . فأمّا الجواب الآخر المبني على أنّها كانت فاتت بغروبها للعذر الّذي ذكرناه فالسؤال أيضا باطل عنه؛ لأنّه ليس بين مغيب جميع قرص الشمس في الزمان وبين مغيب بعضها وظهور بعضها إلاّ زمان يسير قصير ، يخفى فيه رجوع الشمس بعد مغيب جميع قرصها إلى ظهور بعضها على كلّ قريب وبعيد . ولا يفطن إذا لم يعرف سبب ذلك على وجه خارق للعادة ، ومن فطن بأنّ ضوء الشمس غاب، ثمّ عاد بعضه جوّز أن يكون ذلك لغيم أو حائل ». (2) بهذا المقدار من الوعيالعلميردّ الإشكال الّذيتبادر إلى الذهن معتمدا على بعض الاستظهارات الّتي يقتضيها المقام في وقوع هذه الحادثة الّتي تكون محطّا للنظر.

.


1- . أمالي المرتضى (غرر الفوائد ودرر القلائد ): ج 2 ص 341 .
2- . أمالي المرتضى (غرر الفوائد ودرر القلائد ): ج 2 ص 342.

ص: 303

. .

ص: 304

الدقّة التاريخيّة في واقع الأخبار العقائديّة

الدقّة التاريخيّة في واقع الأخبار العقائديّةالتمويه الّذي حصل لمجموعة من الأخبار أخرجها عن واقعها الأصيل ، بحيث أسيى ء الفهم منها ، فهناك عدّة أخبار صحيحة ، ولكن قد قطع عنها بعض الفصول ، أو اُضيف إليها بعض المقاطع ، أو لم تنقل بحذافيرها ، وهذا ما شكّل عدم شفافية في واقعها . حتّى أنّ الشريف المرتضى قدس سره ذكر قسما كبيرا منها ، وحلّلها تحليلاً دقيقا تاريخيا ، كما في الأخبار الّتي أضافها أبو علي داعما خلافة الشيخين ، وهو ماروي عن أبي جحيفة ومحمّد بن علي وعبد خير وسويد بن غفلة وأبي حكيمة وغيرهم ، وقد قيل : إنّهم أربعة عشر رجلاً قالوا : إنّ عليا عليه السلام قال في خطبة: « خير هذه الاُمة بعد نبيها أبو بكر وعمر »، وفي بعض الأخبار: «ولو شاء أن اُسمي الثالث لفعلت». (1) وفي هذا المجال نرى دقّة الشريف المرتضى قدس سره في ردّ الخبر ردّا تحقيقيا يدلّ على إحاطته بمطبّات الأخبار ، وسوف نشرح الردّ بصورة علمية ؛ لنرى مقدار جلالة الشريف المرتضى قدس سره في ذلك : يعتقد الشريف المرتضى قدس سره أنّ الخبر المنقول صحيح ، وقد قاله أمير المؤمنين عليه السلام ، وقد ذكره كلّ من الرواة الّذين أشار إليهم أبو علي ، ولكن خلال نقل الخبر في العصور المتأخّرة وبالتحديد زمن بني اُمية استغلّ بعض الرواة _ نتيجةً لاتجاهم العقائدي _ جرف الخبر ، بحيث أدّى إلى جعله منقبة للشيخين بعد أن كان من القوادح بهما ؛ فإنّ أصل الخبر كان بهذه الصورة : أنّ هؤلاء الرواة المذكورين سمعوا الإمام علي عليه السلام يقول على المنبر: « ما هذا الكذب الّذي يقولون ، ألا إن خير هذه الاُمة بعد نبيها أبو بكر وعمر ؟ ! » فكان كلامه عليه السلام إنكار على من يعتقد ذلك ، وتشنيع على المتفوّه بذلك . ولكن كلّ من الرواة أدناه حرّفوا الخبر ، وأسقطوا مقدّمة الخبر ، وهم: 1 . جعفر بن عبدالرحمن البلخي ، الّذي كان عثمانيا. 2 . أبو الخباب الكلبي كذلك. 3 . الشعبي ورأيه في الانحراف عن أهل البيت عليهم السلام معروف. (2) هؤلاء استطاعوا أن يخدموا الرأي العام ، وأنّ المسبب الرئيسي في هذه المغالطة هو الشعبي ، حيث إنّ تحريف الخبر وقع في زمانه ، وإن كان كلّ من هؤلاء خدش فيهم علماء الرجال ، ومن أراد ذلك فليراجع ليعرف حقيقة الأمر. وعلى كلّ حال فقد أدّى إسقاط مقدّمة الخبر لقلب الخبر إلى فضيلة بعد ما كان قدحا ، وهذه لعبة كبيرة كان عمّال السلطان يلعبها في حرف الأخبار عن واقعها ؛ للحصول على شيء من حطام الدنيا . ثمّ ينقل الشريف المرتضى قدس سره عدّة توجيهات للخبر من أصحابه الإمامية ، وعدّة إشكالات على الخبر ، ولكنه يتركها على حالها ، وفي مطاف ردّ هذا الخبر ينقض الشريف المرتضى قدس سره على الخبر بصورة استهزائية قائلاً : «ومن ظريف الاُمور : أن يستشهد القوم بهذا الخبر على التفضيل ، وهم يروون أنّ أبا بكر قال: «وليتكم ولست بخيركم» فصرّح باللفظ الخاصّ بأنّه ليس بالأفضل ، ثمّ يتأوّلون ذلك على أنّه خرج مخرج التخاشع والتخاضع فألاّ استعملوا هذا الضرب من التأويل فيما يدعونه عن قوله: « ألا إنّ خير هذه الاُمة ؟ ! » ، ولكن الإنصاف عندهم مفقود». (3)

.


1- . المصدر السابق : ص 94.
2- . المصدر السابق : ص 112 _ 113.
3- . المصدر السابق : ص 116.

ص: 305

. .

ص: 306

الحقائق الشيعيّة ونزاهتها من الغلو

الحقائق الشيعيّة ونزاهتها من الغلوتراثنا الإمامي الشيعي وقع تحت ظلم الأقلام المستأجرة ، وقد اُطلقت التهم واحدة تلو الاُخرى على الحقائق المسلّمة ، وخبط بينها وبين عقائد أهل الغلو والمتنصلين على المذهب ، وأبرز ما ابتلينا به هو عقائد الغلاة ، والّذين حرّفوا الحقائق ، وذهبوا المذهب البعيد عن الحقائق العقليّة. وهذه التهم قد وجهت لمذهب الشيعة حتّى من عظماء المذاهب الاُخرى _ كما يأتي عن أبي علي مثلاً _ ولم يرعوا أي حرمة للحقائق ومقدار صحّتها ، ويقف الشريف المرتضى قدس سرهأمام هذه التهم ، حتّى أنّه يواجه القاضي عبدالجبّارمجابهة شديدة ، ويقول في صدر كلامه : «فممّا كنّا نظن أنّ مثل صاحب الكتاب يتنزّه عن ذكره . . . ؛ لأنّا لانعرف عاقلاً يحتجّ عليه وله». بل يعتبر هذه الاُمور من الغلاة ماهي إلاّ كفر وزندقة ، والّذي دعا الشريف المرتضى قدس سره أنّ يعقد لهذه البحوث فروعا هو ما قاله أبو علي من ضرب عمر بأنّه لا أصل له حتّى قال: «وهل هذه الرواية إلاّ كروايتهم عن جعفر في أخبار لهم أنّ علي بن أبي طالب هو إسرافيل ، والحسن ميكائيل ، والحسين جبرئيل ، وفاطمة ملك الموت ، وآمنة اُمّ النبيّ ليلة القدر ، فإن صدقوا ذلك صدقوا هذا أيضا». (1) هكذا اتّهم أبو علي الشيعة في معتقداتهم وآرائهم ، وحرّف عليهم ، ونسب إليهم ما هم أبرياء منه، ولكن الشريف المرتضى قدس سره يقف أمامه ، ويعقد له فرعا لمواجتهه ، فيقول : « فأمّا قوله: إنّ هذه الرواية كروايتهم أنّ عليّ بن أبي طالب عليه السلام هو إسرافيل ، وأنّ الحسن هو ميكائيل إلى آخر كلامه . فممّا كنّا نظنّ أنّ مثل صاحب الكتاب ينتزّه عن ذكره، والتشاغل بالاحتجاج به ؛ لأنّا لا نعرف عاقلاً يحتجّ عليه وله، ولا يذهب إلى ما حكاه، ومن ينتسب إلى التشيع رجلان مقتصد وغالٍ ، فالمقتصد معلوم نزاهته عن مثل هذا القول، والغالي لم يرض إلاّ بالإلهية والربوبيّة، ومن قصر منهم ذهب إلى النبوّة، فهذه الحكاية خارجة عن مذهب المقتصد، والغالي قد كان يجب لمّا أودعها كتابه محتجّا بها أن يذكر قائلها، والذاهب إليها بعينها، والراوي لها باسمه، والكتاب الّذي نقلها منه إن كان من كتاب. وبعد فلو كانت هذه الحكاية صحيحة، وقد ذهب إليها ذاهب لكان من جملة مذاهب الغلاة الّذين نبرأ إلى اللّه تعالى منهم، ولا نعدّهم شيعة ولا مسلمين، فكيف تجري هذه الرواية مجرى ما حكاه عنّا ؟ ! ثمّ يقال له: ألست تعلم أنّ هذا المذهب يذهب إليه أصحاب الحلول، والعقل دالّ على بطلان قولهم؟ فهل العقل دالّ على استحالة ما روي من ضرب فاطمة عليهاالسلام . فإن قال : هما سيّان، قيل له: فبيّن استحالة ذلك في العقل ، كما بيّنت استحالة الحلول، وقد ثبت مرادك، ومعلوم عجزك عن ذلك. وإن قال: العقل لا يحيل ما رويتموه ، وإنّما يعلم فساده من جهة اُخرى . قيل له:فلم جمعت بين الروايتين ، وشبهت بين الأمرين ، وهما مختلفان متباينان؟ وبعد، فكما غلا قوم في أمير المؤمنين عليه السلام هذا الضرب من الغلو ، فقد غلا آخرون فيه بالعكس من هذا الغلو ، فذهبوا إلى ما تقشعرّ من ذكره الجلود، وكذلك قد غلا قوم ممّن لايرتضي صاحب الكتاب طريقته في أبي بكر وعمر وعثمان، وأخرجهم غلوّهم إلى التفضيل لهم على سائر الملائكة، ورووا روايات معروفة تجري في الشناعة مجرى ما ذكره عن أصحاب الحلول، فلو عارضه معارض ، فقال له: ما روايتكم في عليّ ما تروونه إلاّ كرواية من روى كيت وكيت ، وذكر ما ترويه الشراة، وتدين به الخوارج، وما روايتكم في أبي بكر وعمر وعثمان ما تروونه من التفضيل والتعظيم إلاّ كمن روى كذا وكذا، وذكر طرفا ممّا يروونه الغلاة ما كان يكون جوابه، وعلى أيّ شيء يكون معتمده؟! فإنّه لاتنفصل عن ذلك إلاّ بمثل ما انفصلنا عنه ». (2)

.


1- . الشافي في الإمامة : ج 4 ص 111.
2- . الشافي في الإمامة : ج 4 ص 117 _ 118 .

ص: 307

. .

ص: 308

مداخلات في الآراء العقائدية

المداخلة الاُولى

مداخلات في الآراء العقائديةهناك بعض المداخلات في الرأي العقائدي يشير الشريف المرتضى قدس سره إلى بعضها :

المداخلة الاُولىمن الأخبار الدالّة على أنّ أفضل الناس وخيرهم بعد النبيّ صلى الله عليه و آله هو الإمام أمير المؤمنين عليه السلام ، كما هو في خبر الطائر المشوي ، يقول الشريف المرتضى قدس سره: « وهذا الخبر _ وإن روي من طرق مختلفة وأسانيد كثيرة _ فالاُمة متفقة على تقبله ، وإنّما اختلفوا في تأويله ، وما فيهم من أنكره ودفعه ». (1)

.


1- . الذخيرة في علم الكلام : ص 492.

ص: 309

المداخلة الثانية

المداخلة الثالثة

حجّية الخبر الّذي قامت الحجّة به على أصله

المداخلة الثانيةيقول الشريف المرتضى قدس سره: «وأمّا الأخبار المدعاة فنحو ما يروونه عنه صلى الله عليه و آله من قوله: «لا تجتمع اُمتي على خطأ » ، وهذا خبر ينقله الآحاد ، وليس بموجب للعلم ولا قامت به الحجّة ، فكيف يعتمد في هذا الأصل الكثير على مثله ؟ ! وإنّما يرجعون في تخصيصه إلى إجماع الصحابة عليه وعملهم به، وأنّهم له يردّوه ، وأنّ عادتهم جرت بالتشكيك فيما لا يعرفونه». (1)

المداخلة الثالثةيقول الشريف المرتضى قدس سره: «ومن العجائب أن يكون مثل هذا الخبر الّذي يتضمّن النصّ بالخلافة ، وكلّ فضيلة غريبة موجودة في الكتب للمخالفين ، وفيما يصحونه من روايتهم ، ويصفونه من سيرتهم ، ولا يتبعونه ، لكن القوم رووا ما سمعوا ، وادعوا كتبهم ما حفظوا ، ونقلوا ولم يتخيّروا ، ويتبيّنوا ما وافق مذهبهم دون ما خالفهم ، وهكذا يفعل المسترسل المستسلم للحقّ». (2) وأنّ هناك بعض المداخلات الجزئية أعرضنا عنها ، واكتفينا بهذه الثلاثة ، وهي وإن كانت جزئية ، ولكنها تحتوي مضمون كلّ منها على ذكر منهجية في فكر الشريف المرتضى قدس سره.

حجّية الخبر الّذي قامت الحجّة به على أصلهمن الأدلّة على صحّة الخبر : هو ما كان موردا لقبول الاُمة له ، بل يمكن أن نقول: إنّ عدم اختلاف الاُمة في تأويله وتفسيره هو أحد الأدلّة على صحّته ، فتسالم الجميع على خبر هو نوع توثيق له ، وبعبارة الشريف المرتضى قدس سره: « وهذا يدلّ على أنّ الحجّة قامت به في أصله ». وأحد هذه الأخبار هو تواتر حديث الثقلين ، فقد اُحصيت طرقه فبلغت أكثر من عشرين صحابيا ، قال النبيّ صلى الله عليه و آله : «إنّي تارك فيكم ما إن تمسّكتم به لن تضلّوا: كتاب اللّه وعترتي أهل بيتي ، وأنّهما لن يفترقا حتّى يردا عليَّ الحوض »، وهو يدلّ على إمامتهم وعصمتهم عليهم السلام ، وكذلك على عمادهم الإمام علي عليه السلام ضمنا . وهذا الحديث خصب من ناحية المنهج ،ومن حيث معطياته الأخبارية والروائية . يقول الشريف المرتضى قدس سره: « إنّ هذا الخبر دالّ على ثبوت إمامة الإمام علي عليه السلام بعد النبيّ صلى الله عليه و آله بلا فصل بالنّص . ودالّ على أنّه لابدَّ في كلّ عصر في جملة أهل البيت عليهم السلام من حجّة معصوم مأمون يقطع على صحّة قوله. وتلقته الاُمة بالقبول ، ولم يخالف أحد في صحّته ، وهو يدلّ على أنّ الحجّة قامت به في أصله ، وأنّ الشكّ مرتفع عنه». (3) وهذا الكلام الأخير من الشريف المرتضى قدس سره يستحقّ الإمعان ؛ ولأنّ المتعارف عليه بين علماء الاُمة أنّه إذا ورد عليهم خبر مشكوك في صحّته أن يقدّموا الكلام في أصله ، ثمّ يشرعوا في تأويله . وهذا الخبر الّذي نقلناه عن النبيّ صلى الله عليه و آله عدلوا عن هذه الطريقة فيه ، فدلّ على سلامة أصله . فنحن نواجه هذا الاستدلال بهذه الصورة على سلامة الخبر ، وهي بمثابه منهج معرفي في صحّة الخبر وسقمه طرحه الشريف المرتضى قدس سره في بحثه هذا، وخالف فيه طرقه السابقة الّتي أكّد فيها على تواتر الخبر بين المحدثين وما شابهها .

.


1- . المصدر السابق: ص 427 _ 428.
2- . شرح القصيدة المذهبة : ص 68 ( رسائل الشريف المرتضى، المجموعة الرابعة).
3- . المصدر السابق : ص 122 _ 123.

ص: 310

. .

ص: 311

الخاتم_ة

الخاتم_ةوفيما يلي النتائج الّتي توصّلنا إليها في منهجية الشريف المرتضى قدس سره الروائية في المباحث الّتي تطرّقنا إليها في الكتاب :

أوّلاً : المبحث القرآني1 . يعتبر الحقيقة مقدّمة على المجاز ؛ ولذلك يحاول مهما أمكن ألاّ يبتعد عن الحقيقة خصوصا في القرآن الكريم الّذي هو نازل على الظواهر دون التأويلات والمجازيات. 2 . حدود القرآن والسنّة واحدة فأحدهما يدلّ على الآخر، فالعطاء واحد والأحكام واحدة. 3 . يعتبر العقل الركيزة الأساسية في المنظومة المعرفية، بل هو الحاكم في رفع التنازع بين الأدلّة بجميع أطرافها (قرآنا وسنّة) ؛ لأنّه الدعامة الرئيسة في واقع التشريع الإسلامي. 4 . المأخذ في أدلّة العقول هو الصراحة والوضوح ، فإذا احتمل الدليل العقلي الاحتمال والمجاز سقطت حجّيته عن الاعتبار. 5 . ثبت عنده أنّ أدلّة العقول لايدخلها الاحتمال والمجاز ووجوه التأويلات فلابدَّ من صرف كلّ ماورد بظاهره خلاف ذلك من كتاب وسنّة إلى مايطابق الأدلّة ويوافقها. يعتقد أنّ الأدلّة العقلية الواضحة الّتي لا يدخلها الاحتمال والإتباع والمجاز لابدَّ أن يصرف ما ظاهره بخلاف هذه الأدلّة إلى ما يطابقها، فالمرجع الأوّل والأخير في المعرفة الدينية هي أدلّة العقول. 7 . المعطيات والمشتركات بين القرآن الكريم والسنّة الشريفة كثيرة ويعضد بعضها البعض الآخر في إنارة الواقع والشريعة، وأنّ كلاهما لو كان واضحان هما بمثابة برهان عقلي صريح يجب الآخذ به. 8 . قد يبدو التعارض واضحا في بعض الأدلّة الشرعية ، كما هو كثير بين القرآن الكريم والسنّة الشريفة ، وذلك لعدم تصوّر صحيح للمسألة وعدم معرفة واضحة لأحد طرفي التضادّ والنزاع ، وهنا لابدَّ من الاحتفاظ بظاهر الأدلّة ولا يمكن طرحها إذا كان لها محمل صحيح ووجه جمع ، يمكن من خلاله تصحيح الواقع ورفع التناقض.

.

ص: 312

ثانيا : المبحث الفقهي1 . يعتبر المسائل الفقهية _ الّتي شنع بها على الشيعة وادّعي عليهم مخالفة الإجماع _ أكثرها موافق فيه الشيعة غيرهم من العلماء والفقهاء المتقدّمين والمتأخّرين وما ليس لهم فيه موافق من غيرهم فعليه من الأدلّة الواضحة والحجج اللائحة ما يغني عن وفاق الموافق ولا يوحش معه خلاف المخالف. 2 . يجعل من مسلماته العقلية، ما عليه دليل يعضده وحجّة تعمده فهو الحقّ المبين ولا يضرّه الخلاف فيه، وقلّة عدد القائل به، كما لا ينفع في الأوّل الاتفاق عليه، وكثرة عدد الذاهب إليه، وإنّما يسأل الذاهب إلى مذهب عن دلالته على صحّته وحجّته القائدة له إليه لا عمّن يوافقه فيه أو يخالفه. 3 . لم يورد إلاّ ما اعتمده ، وهو عن طريق العلم وموجبا لليقين، وما ورد من طريق الآحاد _ والّتي لا علم يحصل عندها بالحكم المنقول _ فهو على طريق المعارضة للخصوم والاستظهار في الاحتجاج عليهم بطريقهم واستدلالهم، وقد ضمّ إليها الاحتجاج عليهم بالقياس فهو على سبيل المعارضة. 4 . إنّ المعوّل فيما يعتقد _ على ما تدلّ الأدلّة عليه من نفي وإثبات _ فإذا دلّت الأدلّة على أمر من الاُمور وجب أن يبنى كلّ وارد من الأخبار _ إذا كان ظاهره بخلافه عليه _ على ذلك، ويساق إليه، ويطابق بينهما، ويجلى ظاهرا إن كان له، ويشترط إن كان مطلقا ويخصّ إذا كان عامّا، ويفصّل إذا كان مجملاً، ويوفق بينه وبين الأدلّة من كلّ طريق اقتضى الموافقة وآل إلى المطابقة، فإذا وردت أخبار فلابدَّ من عرضها على هذا المقياس والبناء عليها، ويفعل فيها ما حكمت به الأدلّة وأوجبته الحجج العقلية، وإذا تعذر فيها بناء وتأويل وتخريج وتنزيل فليس غير الإطراح لها وترك التعريج عليها. 5 . يعتبر أصحاب الحديث هم الذين لم يعرفوا الحقّ في الاُصول ولا اعتقدوها بحجّة ولا نظر، بل هم مقلّدون فيها، فهم ليسوا بأهل نظر، ولا اجتهاد، ولم يصلوا إلى الحقّ بالحجّة، وإنّما تعديلهم على التقليد والتسليم والتفويض. 6 . يعتبر الغلاة كان ديدنهم أو منطقهم هو التمسّك بأخبار غير صحيحة ولا معتمدة ولا ثابتة. 7 . يقول : إنّ كتب ابن الجنيد قد حشاها بأحكام عمل فيها على ظن، واستعمل فيها مذهب المخالفين في القياس الرذل فخلط بين المنقول عن الأئمّة عليهم السلام وبين ما قال برأيه، أو أنّه عوّل في ذلك على ظنون وحسبان وأخبار شاذة لا يلتفت إليها. 8 . الرجوع إلى كتاب ابن بابويه الصدوق قدس سره وهو كتاب من لا يحضره الفقيه أو إلى كتاب الحلبي أولى من الرجوع إلى كتاب الشلمغاني على كلّ حال. 9 . يطرح ملاكات في ضعف الخبر: الأوّل : اختلاف لفظ الخبر ، والطريق واحد يدلّ على ضعفه. الثاني : إذا كان راوي الخبر يخالف ما رواه كان فيه ما هو معلوم. الثالث : تفرد الراوي بالخبر. الرابع : معارضة أخبار الشيعة لأخبار الجمهور . نعم ، يستدرك بأنّ أخبار الإمامية بما هم فرقة ليس لها الحجّية والاعتبار، وإنّما لأجل تمسّكهم بأهل البيت عليهم السلام ؛ لأنّهم الوسائط إلى الحقّ الصريح. الخامس : إنّ بعض الرواة وضع بعض الأخبار ورتّبها على حسب توجهه الفقهي، وقد احترس هذا الراوي عن المطاعن الموجّهة إليه بعد ذلك، واستعمل من الألفاظ ما لا يدخله الاحتمال والتأويل. السادس: عدم وضوح منطق الخبر في أنّه تفسير أو توقيف؛ لأنّه لو كان توقيفا فالمصير إليه واجب ، وإن كان تفسيرا من قبل نفسه فلم يخالفه مخالف . السابع : التعارض بين أخبار الجمهور فيما بينها هو أحد المضعّفات على مسالكهم ، بل يؤكّد أنّ هذا الاضطراب يستوعب جميع التراث الروائي لأهل السنّة . الثامن : غلط الراوي في نقل الخبر هو بمثابة إسقاط له عن الحجّية . التاسع : يعتبر إنكار الزهري للخبر أحد المضعّفات له . العاشر : بعض الأخبار الّتي تخالف مضامينها للصور المنطقية . 10 . يتعرّض في كتبه إلى عدّة مصطلحات درايتية : أ _ الكذّاب . ب _ الضعيف . ج _ المطعون فيه . د _ الرفّاع . ه _ المدلّس . و _ المجهول . ز _ الظالم . ح _ المضعّف . ط _ المتّهم في الحديث . ي _ لا يحتجّ بحديثه . 11 . لا يرجع عن ظواهر الكتاب المعلومة بما يقتضيالظن،وأنّ اللجوء إلى الخبر الواحد أو القياس ما فيهما ما يوجب العلم ، فيترك له ظاهر القرآن . نعم ، في بعض تعابيره في بحوثه المقارنة مع الجمهور أنّ العمل بالكتاب أولى من العمل بالخبر. 12 . لا يخصّ عموم الكتاب بأخبار الآحاد ولو ساغ العمل بها في الشريعة، لأنّها لا توجب الظن ولا يخصّ ولا يرجع عمّا يوجب العلم من ظواهر الكتاب. نعم ، غير خبر الواحد من الأخبار الّتي هي معلومة فهي تخصّ الكتاب؛ لأنّ العموم قد يختصّ بدليل، ويترك السنّة لا تقتضي العلم القاطع فلا يخصّ ولا ينسخ بها، وإنّما يجوز بالسنّة أن يخصّ أو ينسخ إذا كانت تقتضي العلم اليقين، وعلى هذا الأساس إذا تعارضت الأخبار سقط الاحتجاج بها، ورجعنا إلى ظاهر نصّ الكتاب. 13 . أمّا نفس الخبر فلا يمكن تخصيص ظاهره، بل يبقى على إطلاقه وعمومه، وعليه فيقدّم من الأخبار ما هو أظهر وأقوى وأولى وأوضح طريقا. نعم ، في تعارض الخبرين كما إذا ورد خبر عامّ اللفظ وآخر خاصّ ، فيبنى العامّ على الخاصّ لكي يستعمل الخبرين ولا يطرح أحدهما، ولكن تقديم بعض التأويلات على البعض الآخر في الأخبار بعيد عن الواقع، لأجل أنّ هذا ترك للظاهر بعيد التأويل، فإنّ الظاهر يقضي عليه، وفي حالة التعارض بين الأخبار يسقط الاحتجاج بها ، ويرجع إلى ظاهر نصّ الكتاب. 14 . أحد المرجّحات الدلالة في الخبر ما كان له مخرج في اللغة أو ما كان له تأويل معقول. 15 . نسخ (1) الكتاب بأخبار الآحاد غير جائز ،وذلك عن طريق الأولوية ؛ لأنّه إذا لم يخصص كتاب اللّه تعالى بأخبار الآحاد فالأولى أن ينسخ بها. نعم ،يصحّ النسخ لو كانت هناك دلالة وهي القرينة القطعية ، وإلاّ فإنّ أخبار الآحاد حالها حال القرآن الظنيّة.

.


1- . يوضّح الشريف المرتضى قدس سره حقيقة النسخ بأنّها: تغير حال المزيد عليه، وتخرجه من كلّ الإحكامات الشرعية، وأنّها تتأخّر عن دليل الحكم المزيد عليه، وإلاّ إذا صحبته أو تقدّمت عليه لم يكن نسخا .

ص: 313

. .

ص: 314

. .

ص: 315

ثالثا : المبحث الاُصولي1 . إتماما للنقطة الاُولى في النسخ يعتقد الشريف المرتضى قدس سره أنّ النسخ هو رفع أمر ثابت في الشريعة المقدّسة بارتفاع أمده وزمانه. سواء أكان ذلك الأمر المرتفع من الأحكام التكليفية أم الوضعية، وسواء أكان من المناصب الإلهية أم من الاُمور الّتي ترجع إلى اللّه تعالى بما أنّه شارع. 2 . إنّ الحكم المجعول في الشريعة له نحوان من الثبوت: أ _ ثبوت ذلك الحكم في عالم التشريع والإنشاء، والحكم في هذه المرحلة يكون مجعولاً على نحو القضية الحقيقة، ولا فرق في ثبوتها بين وجود الموضوع في الخارج وعدمه، وإنّما يكون قوام الحكم بفرض وجود الموضوع ، ورفع هذا الحكم في هذه المرحلة لا يكون إلاّ بالنسخ. ب _ ثبوت ذلك الحكم في الخارج بمعنى أنّ الحكم يعود فعليا بسبب فعلية موضوعه خارجا، فالحكم يعود فعليا بسبب فعلية موضوعه خارجا، وارتفاع هذا الحكم ليس من النسخ في شيء. 3 . أمّا نسخ القرآن بالسنّة الشريفة ، فإنّ السنّة تقسم إلى قسمين: أ _ قسم مقطوعة معلومة. ب _ قسم واردة من طريق الآحاد. والقسم الأوّل لا ينسخ القرآن بها. والقسم الثاني لا ينسخ القرآن بما ليس معلوم من السنّة؛ لأنّه مبني على وجوب العمل بخبر الواحد في الشريعة؛ لأنّ من يجوز النسخ يعتمد على أنّه كما جاز التخصيص به وترك الظاهر لأجله والعمل به في الأحكام المبتدأة ، جاز النسخ أيضا به وأنّ دليل وجوب العمل بخبر الواحد مطلق غير مختصّ، فوجب حمله على العموم، وإذا بطل العمل بخبر الواحد في الشرع بطل النسخ، ويقيم على ذلك عدّة أدلّةً سمعية وعقلية. 4 . أمّا نسخ السنّة الشريفة بالقرآن الكريم فكلّ شيء دلّ على أنّ السنّة مقطوع بها تنسخ القرآن الكريم يدلّ على هذه المسألة، بل هو هاهنا آكد وأوضح؛ لأنّ للقرآن الكريم المزية على السنّة الشريفة. وتقام على ذلك ثلاثة أدلّة سمعية تاريخية. 5 . أمّا نسخ الشريعة بعضها بالبعض الآخر فهو كذلك، أي أنّ كلّ دليل أوجب العلم والقطع واليقين فجائز النسخ به، وهنا مبني على وجوب العمل بأخبار الآحاد، فمن عمل بها في الشريعة نسخ بعضها ببعض، ومن لم يعمل بها لم ينسخ بها؛ لأنّ النسخ فرع وتابع لوجوب العمل. 6 . أمّا تخصيص عموم الكتاب بالسنّة الشريفة وبأخبار الآحاد، فإنّه لا شبهة في تخصيص العموم بكلّ دليل أوجب العلم من عقل وكتاب وسنة مقطوع عليها وإجماع. وأمّا تخصيصه بالسنّة فلا خلاف فيه، وقد وقع كثير منه ، وأمّا تخصيص عموم الكتاب الكريم بأخبار الآحاد فلا يجوز تخصيص العموم بها على كلّ حال، وإن كان جائزا أن يتعبّد اللّه تعالى بذلك فيكون واجبا غير أنّه تعالى ما تعبّدنا به. 7 . أمّا تخصيص العموم بأقوال الصحابة ، فإنّه حجّة في نفسه يصحّ تخصيص العموم به بلا خلاف في ذلك ، وإنّما الاشكال في انفراد أحد الصحابة بقول أو رأي فهل يخصّ العموم؟ والظاهر أنّ ذلك لا يصحّ . نعم ، بعض أقوال الصحابة حجّة ويخصّ به العموم ، كما لو كان هو الإمام أمير المؤمنين عليه السلام . 8 . هناك عدّة فوارق منهجية بين التخصيص والنسخ؛ لأنّ التخصيص في الشريعة يقع بأشياء لا يقع النسخ بها، والنسخ يقع بأشياء لا يقع التخصيص بها، فالأوّل كالقياس وأخبار الآحاد عند من ذهب إلى العبادة بهما، والثاني كنسخ شريعة باُخرى وفعل بفعل، وإن كان التخصيص لا يصلح في ذلك. 9 . ادّعى الشريف المرتضى قدس سره الإجماع على عدم العلم بالخبر الواحد، وإنّما يقتضى غلبة الظن بصدقه إذا كان عدلاً. نعم ، لا يمنع العقل من العبادة به ولو تعبّد اللّه تعالى بذلك لساغ ولدخل في باب الصحّة؛ لأنّ عبادته تعالى بذلك يوجب العلم الّذي لابدَّ أن يكون العمل تابعا له، وإن كانت العبادة ما وردت به، ويقيم على ذلك عدّة أدلّة مفصّلة. 10 . القائلون بالتواتر على ضربين: أ _ إنّ الخبر المتواتر فعل اللّه تعالى عنده للسامعين العلم الضروري بمخبره. ب _ إنّ العلم بمخبره مكتسب. اعتقد أصحاب الضرب الأوّل أنّ وقوع العلم ضروري له، فإذا وجد نفسه عليه علم أنّ صفة المخبرين له صفة المتواترين، فهؤلاء عندهم أنّ حصول العلم بصفة المخبرين. ويعتقد أصحاب الضرب الثاني: إنّ الطريق إلى العلم بصفة المخبرين هو العادة؛ لأنّ العادة قد فرقت بين: الأوّل: الجماعة الّتي يجوز عليها أن يتّفق منها الكذب من غير تواطئ وما قام مقامه. الثاني: من لا يجوز ذلك عليه. الثالث: من إذا وقع منه التواطئ جاز أن ينكتم. الرابع: من لا يجوّز انكتام التواطئ . وعلى هذا فإذا علم أنّ وجود كون الخبر كذبا لا يصحّ على هذه الجماعات، فليس بعد ارتفاع كونه كذبا إلاّ أنّه صدق. 11 . أحد الصفات والشرائط في التواتر أنّه ليس من شرط الخبر المتواتر أن يكون رواته متباعدي الديار؛ لأنّ التواطئ قد يحصل بأهل بلد واحد. 12 . أمّا بالنسبة إلى المتحمّل للخبر، والمتحمّل عنه، وكيفية ألفاظ الرواية عنه: فالمتحمّل للخبر على قسمين: أ _ القسم الذاهب إلى وجوب العمل بخبر الواحد في الشريعة يراعي في العمل بالخبر صفة المخبر في عدالته وأمانته. ب _ القسم الذاهب إلى عدم وجوب العمل بخبر الواحد في الشريعة ، يقول: إنّ العمل في مخبر الأخبار تابع للعلم بصدق الراوي، فالشرط الوحيد عنده هو كون الراوي صادقا، ولا فرق عنده بين أن يكون الراوي مؤمنا أو كافرا أو فاسقا أو عادلاً. وأمّا راوي الحديث؛ فإنّه لا يجوز أن يروي إلاّ ما سمعه عمّن حدّث عنه أو قرأه عليه فأقر له به، ولكن إذا سمع الحديث من لفظه فهو غاية التحمّل. وأمّا ألفاظ الرواية ، فهي على أقسام ثلاثة: _ المناولة، وهي أن يشافه المحدّث غيره بالسماع. _ المكاتبة، وهي أن يكتب إليه ذلك. _ الإجازة، وهي لا حكم لها؛ لأنّ ما للمتحمّل أن يرويه له ذلك، أجازه له أو لم يجزه، وما ليس له أن يرويه محرم عليه مع الإجازة وفقدها. 13 . يعتقد الشريف المرتضى قدس سره أنّ معظم إشكالات عدم حجّية الأخبار المنقولة إلى مسالك أهل الحديث؛ لأنّهم خرجوا عن الاُصول العقلية الصحيحة، فإنّهم قد يحتجّون في اُصول الدّين من التوحيد والعدل والنبوّة والإمامة بأخبار الآحاد، بل ربّما ذهب بعضهم إلى الجبر وإلى التشبيه اغترارا بأخبار الآحاد المروية. 14 . إنّ اخبار الآحاد لا توجب علما ولا تقتضي قطعا، وأنّها لا توجب عملاً كما لا توجب علما، وإنّما تقتضي الأحكام بما يقتضي العلم، وقد تثبت أنّها لا توجب عملاً في الشريعة، ولا يرجع بمثلها عمّا علم وقطع عليه ، وأنّها لا توجب علما ولا يقينا، وأكثر ما توجبه _ مع السلامة التامّة _ الظن ، ولا يجوز الرجوع عن الأدلّة ممّا يوجب العلم واليقين، وأنّها لا توجب الظن ، ولا تنتهي إلى العلم ، وما شابهها من التعابير الّتي هي صريحة في نفي صفة العلميّة والعمليّة عن أخبار الآحاد، بل صرح أنّها لا يعمل عليها في الشريعة. 15 . يقرن بين القياس وخبر الآحاد بأنّهما لا يمكن أن يكونا طريقا إلى العلم بشيء من الأحكام البتة مع فقد دليل التعبّد بهما . 16 . إنّ أخبار الآحاد لا يجوز العمل بها ولا التعبّد بأحكامها من طريق العقول . نعم ، يعترف بأنّ المذهب الصحيح هو: تجويز ورود العبادة بالعمل بأخبار الآحاد من طريق العقول، ولكن ذلك ما ورد ولا تعبّدنا به، فهو لا يعمل بها ؛ لأنّ التعبّد بها مفقود وإن كان جائزا ، وعلى هذا الأساس لا يتأوّل خبرا لا يقطع به ولا يعلم صحّته . نعم ، يمكن على سبيل التسهيل ذكر تأويلاً للخبر وإن لم يكن ذلك واجبا ، ويمكن إرجاعه إلى التسامح في أدلّة السنن .

.

ص: 316

. .

ص: 317

. .

ص: 318

. .

ص: 319

. .

ص: 320

رابعا : المبحث العقائدي والكلامي1 . يوجب الشريف المرتضى قدس سره نقد الحديث ويعرضه على العقول، فإذا سلم عليها جاز أن يكون حقّا والمخبر به صادقا، وليس كلّ خبر جاز أن يكون حقّا وكان واردا من طريق الآحاد ، ويقطع على أنّ المخبر به صادقا. 2 . ويقسم طريقة العمل في الأخبار العقائدية إلى أنّ ما ظاهره من الأخبار مخالف للحقّ ومجانب للصحيح على ضربين : أ _ فضرب يمكن فيه تأويل له مخرج قريب لما يخرج إلى شديد التعسف وبعيد التكلّف ، فيجوز في هذا الضرب أن يكون صادقا . ب _ وأمّا ما لا مخرج له ولا تأويل إلاّ بتعسف وتكلّف يخرجان عن حدّ الفصاحة، بل عن حدّ السداد فإنّا نقطع على كونه كذبا ، لا سيّما إذا كان عن نبي أو إمام مقطوع فيهما على غاية السداد والحكمة والبعد عن الألغاز والتعمية. 3 . يصرّح الشريف المرتضى قدس سره على أنّ اُصول التوحيد والعدل مأخوذة من كلام أمير المؤمنين عليه السلام وخطبه ، فإنّها تتضمّن من ذلك ما لا زيادة عليه ولا غاية من ورائه، وأنّ جميع ما أسهب المتكلّمون من بعد في تصنيفه وجمعه ، إنّما هو تفصيل لتلك الجمل وشرح لتلك الاُصول. 4 . في تأويل ظواهر بعض الأخبار الاعتقادية ، يصرح بأنّ التأويل والتفسير يتطرّق إلى الأخبار ولا يتطرّق إلى إجماع وغيره ، وعلى هذا الأساس يبني أن ما كان له ظاهر ينافي المعلوم المقطوع به تأوّل ظاهره على ما يطابق الحقّ ، ويوافقه إن كان ذلك سهلاً وإلاّ فالواجب طرحه وإبطاله. 5 . الأدلّة القاطعة إذا دلّت على أمر وجب إثباته والقطع عليه، وألاّ يرجع عنه بخبر محتمل، ولا بقول معترض للتأويل، وتحمل الأخبار الواردة بخلاف ذلك على ما يوافق تلك الأدلّة ويطابقه، وإن رجع بذلك عن ظواهرها، وبصحّة هذه الطريقة يرجع عن ظواهر آيات القرآن الّتي تتضمّن إجبارا أو تشبيها. 6 . إنّ الدلالة العقلية دلّت على أنّ الأنبياء عليهم السلام لا يجوز عليهم الكفر والشرك والمعاصي غير المحتملة ولا يصحّ دخول المجاز فيها، لأنّه لو كان يصحّ فيه الاحتمال وضرب المجاز ، فلابدَّ من بناء المحتمل على ما لا يحتمل، فلو لم نعلم تأويل هذه الآية على سبيل التفصيل لكنّا نعلم في الجملة أنّ تأويلها مطابق لدلالة العقل؛ وذلك لأنّ الأخبار يجب أن تبنى على أدلّة العقول، ولا تقبل في خلاف ما تقضيه أدلّة العقول، فما ورد بخلاف ذلك من الأخبار لا يلتفت إليه ويقطع على كذبه إن كان لا يحتمل تأويلاً صحيحا لائقا بأدلّة العقل، فإن احتمل تأويلاً يطابقها تأوّل، ووافق بينه وبينها. 7 . لا يمكن الاعتماد على كلّ آراء أهل التفسير؛ لأنّ بعضه لا يقبله العقل وإن وردت به رواية . 8 . إنّ بعض العلل المستقذرة لايجوز شيء منها على الأنبياء عليهم السلام ، وإن وردت به رواية . 9 . من الأدلّة على صحّة الخبر هو ما كان موردا لقبول الاُمة له، وأنّ عدم اختلاف الاُمة في تأويله وتفسيره هو أحد الأدلّة على صحّته، فتسالم الجميع على خبر هو نوع توثيق له. هذا آخر ما أردنا إيراده، والحمد للّه ربّ العالمين والصلاة والسلام على محمد وآله الطاهرين.

.

ص: 321

. .

ص: 322

. .

ص: 323

. .

ص: 324

. .

ص: 325

. .

ص: 326

. .

ص: 327

. .

ص: 328

. .

ص: 329

. .

ص: 330

. .

ص: 331

. .

ص: 332

. .

ص: 333

. .

ص: 334

. .

ص: 335

. .

ص: 336

. .

ص: 337

. .

ص: 338

. .

ص: 339

. .

ص: 340

. .

ص: 341

. .

ص: 342

. .

ص: 343

. .

ص: 344

. .

ص: 345

. .

ص: 346

. .

ص: 347

. .

ص: 348

. .

ص: 349

فهرس المصادر

فهرس المصادر1 . الاءبهاج في شرح المنهاج للبيضاوي ، علي بن عبدالكافي السُّبكي . 2 . أدب المرتضى ، عبدالرزّاق محيى الدين ، بغداد : مكتبة المعارف ، 1957 م . 3 . اُصول السرخسي ، أبو بكر محمّد بن أحمد بن أبي سهل السرخسي (م 490 ه . ق ) ، تحقيق : أبو الوفاء الأفغاني ، نشر لجنة إحياء المعارف النعمانية . الهند : حيدرآباد _ الدكن / بيروت : دار الكتب العلمية ، الطبعة الاُولى ، 1414ه . ق . 4 . أمالي السيّد المرتضى (غرر الفرائد و درر القلائد) ، أبو القاسم عليّ بن الحسين الموسوي المعروف بالسيّد المرتضى (ت 426 ه . ق ) ، تحقيق : محمّد أبو الفضل إبراهيم ، بيروت : دار إحياء الكتب العربيّة . 5 . أمالي الطوسي ، محمّد بن الحسن الطوسي ( ت 460 ه . ق ) ، تحقيق : مؤسّسة البعثة ، قم : دار الثقافة ، الطبعة الاُولى ، 1414 ه ش . 6 . الانتصار ، أبو القاسم علي بن الحسين ، المعروف بالسيّد المرتضى علم الهدى (م 436 ه . ق) ، مطبعة الشريف الرضي ، قم ، سنة 1391 ه . ق . 7 . أوائل المقالات في المذاهب والمختارات ، أبو عبداللّه محمّد بن النعمان العكبري المعروف بالشيخ المفيد (ت 413 ق ) ، تحقيق : إبراهيم الأنصاري ، قم : المؤتمر العالمي لألفية الشيخ المفيد ، 1413 ق . 8 . بحار الا?وار الجامعة لدرر أخبار الا?مّة الا?هار عليهم السلام ، محمّد باقر بن محمّد تقي المجلسي (ت 1110 ه . ق) ، تحقيق : دار إحياء التراث ، بيروت : دار إحياء التراث ، الطبعة الاُولى ، 1412 ه . ق . 9 . البداية والنهاية ، أبو الفداء إسماعيل بن عمر بن كثير الدمشقي (ت 774 ه. ق ) ، تحقيق : مكتبة المعارف ، بيروت : مكتبة المعارف . 10 . البيان والتبين ، عمرو بن بحر الجاحظ ( ت 255 ه . ق ) ، تحقيق : عبدالسلام محمّد هارون ، القاهرة : مكتبة الخانجي ، الطبعة الخامسة ، 1414 ه . ق . 11 . تاريخ بغداد أو مدينة السلام ، أبو بكر أحمد بن علي الخطيب البغدادي (ت 463 ه . ق ) ، المدينة المنوّرة : المكتبة السلفيّة . 12 . التاريخ الكبير ، أبو عبداللّه محمّد بن إسماعيل البخاري (ت 256 ه . ق ) ، بيروت : دار الفكر . 13 . تأمّلات في الحديث عند السنّة والشيعة، زكريا عباس داوود ، بيروت : دار النخيل . 14 . التبصرة ، أبو الفرج عبدالرحمن بن الجوزي ، تحقيق : مصطفى عبدالواحد ، بيروت : دار الكتاب اللبناني . 15 . تفسير الطبريّ (جامع البيان في تفسير القرآن) ، أبو جعفر محمّد بن جرير الطبريّ (310 ه . ق ) ، بيروت : دار الفكر . 16 . التفسير والمفسرون ، محمّد هادي معرفة ، مشهد : الجامعة الرضوية للعلوم الإسلامية . 17 . التفسير والمفسرون ، محمّد حسين الذهبي ، بيروت : دار إحياء التراث العربي . 18 . تنزيه الا?بياء والا?مّة عليهم السلام أبو القاسم عليّ بن الحسين الموسوي المعروف بالسيّد المرتضى (ت 436 ه . ق ) ، قم : منشورات الشريف الرضي . 19 . تهذيب التهذيب ، أبو الفضل أحمد بن عليّ بن حجر العسقلانيّ (ت 852 ه . ق ) ، تحقيق : مصطفى عبدالقادر عطا ، بيروت : دار الكتب العلميّة ، الطبعة الاُولى ، 1415 ه . ق . 20 . تهذيب الكمال في أسماء الرجال ، يونس بن عبدالرحمن المزّيّ (ت 742 ه . ق ) ، تحقيق : الدكتور بشّار عوّاد معروف ، بيروت : مؤسّسة الرسالة ، الطبعة الاُولى ، 1409 ه . ق . 21 . الجامع لأحكام القرآن (تفسير القرطبي) ، أبو عبداللّه محمّد بن أحمد الأنصاري القرطبي (ت 671 ه . ق ) ، تحقيق: محمّد عبدالرحمن المرعشلي ، بيروت : دار إحياء التراث العربي ، الطبعة الثانية ، 1405 ه . ق . 22 . جواهر الكلام في شرح شرائع الاءسلام ، محمّد حسن النجفي (ت 1266 ه . ق ) ، بيروت : مؤسّسة المرتضى العالميّة ، 1412 ه . ق . 23 . حقائق التأويل في متشابه التنزيل، الشريف محمّد بن الحسين الرضي ، تحقيق : محمّد الرضا آل كاشف الغطاء ، بيروت : دار المهاجر . 24 . خطط الشام ، محمّد كرد علي ، بيروت : مكتبة النوري . 25 . الدُرّ المنثور في التفسير المأثور ، جلال الدين عبدالرحمن بن أبي بكر السيوطي (ت 911 ه . ق ) ، بيروت : دار الفكر ، الطبعة الاُولى ، 1414 ه . ق . 26 . الذخيرة في علم الكلام ، أبو القاسم علي بن الحسين المعروف بالسيّد المرتضى علم الهدى ( ت 436 ه .ق ) ، تحقيق : أحمد الحسيني ، قم : مؤسّسة النشر الإسلامي . 27 . الذريعة إلى تصانيف الشيعة ، آغا بزرگ الطهراني (ت 1348 ه . ق ) ، بيروت : دار الأضواء ، الطبعة الثالثة ، 1403 ه . ق . 28 . ذكرى الشيعة ، أبو عبد اللّه محمّد بن مكّي العاملي الجزّيني المعروف بالشهيد الأوّل (ت 786 ه . ق ) ، قم : مكتبة بصيرتي . 29 . رجال النجاشيّ = فهرس أسماء مصنّفي الشيعة ، أبو العبّاس أحمد بن عليّ النجاشيّ (ت 450 ه . ق ) ، بيروت : دار الأضواء ، الطبعة الاُولى ، 1408 ه . ق . 30 . رسائل الشريف المرتضى ، علي بن الحسين الموسوي ( الشريف المرتضى ) (م436 ه . ق ) ، تحقيق : السيّد مهدي الرجائي ، دار القرآن الكريم ، قم ، 1405 ه . ق . 31 . روضات الجنّات في أحوال العلماء والسادات ، للعلاّمة محمّد باقر الخوانساري ، تحقيق : أسد اللّه إسماعيليان ، قم : مكتبة إسماعيليان . 32 . سنن الترمذي (الجامع الصحيح) . أبو عيسى محمّد بن عيسى بن سورة الترمذي(ت 279) ، تحقيق : أحمد محمّد شاكر ، بيروت : دار إحياء التراث . 33 . الشافي في الاءمامة ، أبو القاسم عليّ بن الحسين الموسوي المعروف بالسيّد المرتضى (ت 436 ه . ق ) ، تحقيق : عبدالزهراء الحسيني الخطيب ، طهران : مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام ، الطبعة الثانية ، 1410 ه . ق . 34 . شرح جمل العلم والعمل ، أبو القاسم علي بن الحسين الموسوي المعروف بالسيّد المرتضى علم الهدى ( ت 436 ه . ق ) ، تحقيق : يعقوب الجعفري المراغي ، طهران : دار الاُسوة . 35 . شرح نهج البلاغة ، عزّ الدين عبدالحميد بن محمّد بن أبي الحديد المعتزلي المعروف بابن أبي الحديد (ت 656 ه . ق ) ، تحقيق : محمّد أبوالفضل إبراهيم ، بيروت : دار إحياء التراث ، الطبعة الثانية ، 1387 ه . ق . 36 . علوم القرآن عند المفسرين ، مركز الثقافة والمعارف القرآنية ، قم : مكتب الإعلام الإسلامي . 37 . عمدة الطالب في أنساب آل أبي طالب ، لابن عنبة أحمد بن عليّ الحسني (ت 828 ه . ق ) ، تحقيق : آل الطالقاني ، قم : منشورات الرضي ، الطبعة الثانية ، 1362 ش . 38 . الغارات ، أبو إسحاق إبراهيم بن محمّد بن سعيد المعروف بابن هلال الثقفي (ت 283 ه . ق ) ، تحقيق : السيّد جلال الدين المحدّث الأرموي ، طهران : أنجمن آثار ملّي ، الطبعة الاُولى ، 1395 ه . ق . 39 . فقه أهل البيت عليهم السلام ، مؤسّسة دائرة المعارف للفقه الإسلامي على مذهب أهل البيت ، قم . 40 . الفوائد الرجالية ، للوحيد البهبهاني محمّد بن أكمل ( ت 1255 ه . ق ) ، مقدمة رجال الميرزا الإسترآبادي الكبير . 41 . الفوائد الرجالية ، محمّد إسماعيل بن محمّد رضا المازندراني الخواجوئي ( م ت 1173 ه . ق ) ، تحقيق : مهدي الرجائي ، مشهد : مجمع البحوث الإسلاميّة ، 1413 ه . ق . 42 . الفوائد الرجالية = رجال السيّد بحر العلوم ، محمّد مهدي بن السيّد مرتضى بحر العلوم الطباطبائي ، تحقيق : محمّد صادق بحر العلوم ، طهران : مكتبة الصادق ، 1363 ش . 43 . الفهرست ، أبو جعفر محمّد بن الحسن الطوسي (ت 460 ه . ق ) ، تحقيق : جواد القيّومي ، قم : مؤسّسة نشر الفقاهة ، الطبعة الاُولى ، 1417 ه . ق . 44 . كشف الحجب والا?تار عن أسماء الكتب والا?فار ، إعجاز حسين النيشابوري الكَنتوري ، قم : مكتبة آية اللّه السيّد المرعشي النجفي العامّة . 45 . لسان العرب ، أبو الفضل جمال الدين محمّد بن مكرم بن منظور المصري (ت 711 ه . ق ) ، بيروت : دار صادر ، الطبعة الاُولى ، 1410 ه . ق . 46 . لؤلؤة البحرين في الاءجازة لقرّتي العين ، يوسف بن أحمد البحراني ، تحقيق : السيّد محمّد صادق بحرالعلوم ، قم : مؤسّسة آل البيت عليهم السلام . 47 . مجموعة مصنّفات الشيخ المفيد ، أبو عبداللّه محمّد بن محمّد بن النعمان العكبري الملقّب بالشيخ المفيد ، قم : مؤسّسة النشر الإسلامي ، 1414 ه . ق . 48 . محاضرات في الشعر الفارسي ، علي أكبر فيّاض ، مصر : جامعة الإسكندرية . 49 . مختلف الشيعة ، أبو منصور الحسن بن يوسف بن المطهر الحلّي (ت 726 ه . ق ) ، قم : مؤسّسة النشر الإسلامي . 50 . المسائل الناصرية = الناصريات ، لأبي القاسم علي بن الحسين الموسوي ، المعروف بالسيّد المرتضى و العلم الهدى (م 436 ه . ق ) ، الطبعة الحجرية ، ضمن الجوامع الفقهية. 51 . مستدرك الوسائل ومستنبط المسائل ، الميرزا حسين النوري (ت 1320 ه . ق ) ، تحقيق : مؤسّسة آل البيت عليهم السلام قم : مؤسّسة آل البيت عليهم السلام ، الطبعة الاُولى ، 1408 ه . ق . 52 . مسند أبي عوانة ، يعقوب بن إسحاق الاسفرائيني المعروف بأبي عوانة ، بيروت : دار المعرفة . 53 . مسند أحمد ، أحمد بن محمّد بن حنبل الشيباني (ت 241 ه . ق ) ، تحقيق : عبد اللّه محمّد الدرويش ، بيروت : دار الفكر ، الطبعة الثانية ، 1414 ه . ق . 54 . مسند البزّار (البحر الزخّار) ، أبو بكر أحمد بن عمرو العتكي البزّار (ت 292 ه . ق ) ، تحقيق : محفوظ الرحمن زين اللّه ، بيروت : مؤسسة علوم القرآن ، الطبعة الاُولى ، 1409 ه . ق . 55 . المصنّف في الا?اديث والاثار ، أبو بكر عبداللّه بن محمّد بن أبي شيبة العبسي الكوفي (ت 235 ه . ق ) ، تحقيق : سعيد محمّد اللّحام ، بيروت : دار الفكر . 56 . معالم العلماء ، ، أبو جعفر محمد بن علي السروي المازندراني « ابن شهرآشوب » (ت 588 ه .ق ) ، النجف الأشرف : المطبعة الحيدرية ، 1380 ه . ق . 57 . معجم الاُدباء ، أبو عبداللّه ياقوت بن عبداللّه الحموي (ت 626 ه . ق ) ، تحقيق : إحسان عباس ، بيروت : دار الغرب الإسلامي ، 1993 م . 58 . معجم البلدان ، أبو عبداللّه شهاب الدين ياقوت بن عبداللّه الحمويّ الروميّ( ت 626 ه . ق ) ، بيروت : دار إحياء التراث العربيّ ، الطبعة الاُولى ، 1399 ه . ق . 59 . المغني في أبواب التوحيد والعدل ، أبو الحسين عبدالجبار الأسدآبادي ، تحقيق : عبدالحليم محمود سليمان دنيا ، القاهرة : الدار المصرية . 60 . المنتظم في تاريخ الاُمم والملوك ، أبو الفرج عبد الرحمن بن عليّ بن الجوزي (ت 597 ه . ق ) ، تحقيق : محمّد عبد القادر عطا ، بيروت : دار الكتب العلميّة ، الطبعة الاُولى ، 1412 ه . ق . 61 . ميزان الاعتدال في نقد الرجال ، أبو عبد اللّه محمّد بن أحمد بن عثمان الذهبي (ت 275 ه . ق ) ، تحقيق : عليّ محمّد البجاوي ، بيروت : دار الفكر .

.

ص: 350

. .

ص: 351

. .

ص: 352

. .

ص: 353

. .

ص: 354

الفهرس التفصيلي

الفهرس التفصيلي

.

ص: 355

. .

ص: 356

. .

ص: 357

. .

ص: 358

. .

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.